شرح الأربعين النووية - العباد

عبد المحسن العباد

[1]

شرح الأربعين النووية [1] لقد جمع الإمام النووي رحمه الله تعالى أربعين حديثاً من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكل حديث منها قاعدة من قواعد الدين، ويحتوي على كثير من الفوائد العظيمة والعلوم المفيدة، فمن وفّق لحفظها وفهمها وتبليغها فقد حصل على نصيب عظيم من ميراث النبوة، وصار له نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها).

مقدمة بين يدي الأربعين

مقدمة بين يدي الأربعين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: فنبدأ مستعينين بالله عز وجل، متوكلين عليه، سائلين منه العون والتوفيق والتسديد، بشرح (الأربعين النووية) لـ أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى. وهذه الأحاديث الأربعون أحاديث عظيمة، وهي من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أُعطي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، حيث يأتي بالكلام القليل في المبنى ولكنه يكون واسع المعنى، فالكلمات قليلة، ولكن المعاني واسعة، فهي قواعد كلية، وقواعد عامة اشتملت عليها الأحاديث التي اختارها الإمام النووي رحمه الله تعالى. ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء في حفظ أربعين حديثاً، وما جاء في ذلك فهو حديث ضعيف، وقد ذكر الإمام النووي نفسه في مقدمته للأربعين أنه لم يثبت الحديث في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنه قال إن حديث: (نضر الله امراءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، وكذلك أيضاً: (ليبلغ الشاهد الغائب) يدعوان لذلك. وإن جمع شيء من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والاشتغال به، ولفت الأنظار إليه فيه قيام بحفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الاعتماد في ذلك على الحديث الضعيف المروي في ذلك.

ذكر مناقب الإمام النووي وبعض مؤلفاته

ذكر مناقب الإمام النووي وبعض مؤلفاته كان النووي -رحمه الله- معروفاً بالزهد والورع والصلاح، والحرص على إفادة الناس، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتابه هذا -الأربعون النووية- اشتهر دون غيره من الكتب الأخرى التي كتبت وجمعت في هذا الموضوع، وهي كثيرة، ولكن لم يشتهر كتاب في الأربعين مثلما اشتهر كتابه؛ فإنه لقي عناية خاصة من العلماء، وصار هو الكتاب الذي يبدأ بحفظه في الحديث عند طلبة العلم. وعدد هذه الأحاديث اثنان وأربعون حديثاً جمعها الإمام النووي، وأضاف إليها الحافظ ابن رجب ثمانية أحاديث، فأكملها خمسين حديثاً، وشرحها في كتاب واسع قيم عظيم، وهو (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم). والإمام النووي -رحمه الله- ليس من المعمرين، فقد عاش خمساً وأربعين سنة، فولادته كانت في سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وتوفي في سنة ست وسبعين وستمائة، ومع ذلك خلف مؤلفات وثروة عظيمة: فيما يتعلق بالحديث، وفيما يتعلق بالفقه، وفيما يتعلق بالمصطلح، وفيما يتعلق بعلوم القرآن، وفيما يتعلق باللغة، فمع قصر عمره وقلة مدته نفع الله تعالى بعلومه، وحصلت منه هذه الثروة العظيمة الواسعة. وكتاباه (الأربعون النووية) و (رياض الصالحين) كتابان مشهوران يعرفهما الخاص والعام، وكتابه (المجموع شرح المهذب) من أحسن الكتب التي ألفت في الفقه، فإنه كتاب واسع، وهو من أوسع الكتب التي اعتنت بأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك استيعاب المسائل، والتحقيق فيها والتدقيق مع الاجتهاد. وقد كان شافعي المذهب، ولكنه يرجح على حسب ما يدل عليه الدليل، وذلك لجمعه بين الفقه والحديث، فكان فقيهاً محدثاً رحمه الله، وكتابه مع كتاب (المغني) لـ ابن قدامة هما الكتابان المشهوران في الفقه في سعة العلم وفي الفقه العام الذي ليس متقيداً بمذهب معين، وإن كان قد شرح فيه (كتاب المهذب) لـ أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، إلا أنه مثل ابن قدامة الذي شرح (مختصر الخرقي) في كتابه (المغني)، حيث ذكرا أقوال الصحابة والتابعين، وكذلك أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم مع الترجيح، وبيان الأدلة في ذلك، وهما كتابان لا يستغني عنهما طالب العلم، فهما كتابان واسعان ومفيدان وعظيمان. وللإمام النووي كتب أخرى كثيرة، مثل (الأذكار)، (تهذيب الأسماء واللغات) وغيرهما، ومع كثرة هذه المؤلفات كان عمره قصيراً، فهذه أعمار بارك الله تعالى لأصحابها فيها، حيث عمروها بخدمة العلم وتحقيقه وتدوينه ونشره، فصار من بعدهم يرجع إلى كتبهم ويستفيد منهم، ويدعو لهم في مختلف العصور والأوقات.

ذكر حديث النية

ذكر حديث النية وأول حديث بدأ به من الأحاديث الأربعين حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فقال: [عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة]. هكذا كما أورده النووي رحمه الله، وقد كان من عادته في كتابه هذا وفي كتابه (رياض الصالحين) أنه عندما يذكر الصحابي يذكره بكنيته، وكذلك يذكر وصفه، كما قال هنا: (عن أمير المؤمنين أبي حفص).

ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من لقب بأمير المؤمنين، وذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عندما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وبايعه المسلمون خليفة لرسول الله عليه الصلاة والسلام كان يخاطب بلقب (خليفة رسول الله) فيقولون له: يا خليفة رسول الله. فلما توفي أبو بكر رضي الله عنه وجاء بعده عمر صار يلقب بأمير المؤمنين، وذلك حتى لا تكثر الإضافات فـ أبو بكر خليفة رسول الله، وعمر خليفة خليفة رسول الله، وعثمان خليفة خليفة خليفة رسول الله، وعلي خليفة خليفة خليفة خليفة رسول الله، وكل من جاء بعدهم سيضاف إليه لفظ، فتكثر الإضافات، فاستبدلوا ذلك بكلمة (أمير المؤمنين) التي تطلق على كل من يتولى إمرة المؤمنين. وأبو حفص كنيته، وليس له ولد اسمه حفص، ولكنه اشتهر بهذه الكنية، ولعلها أطلقت عليه قبل أن يولد له فلزمته واستمرت معه، وإلا فإنه ليس له ولد يقال له: حفص. كما أن أبا بكر رضي الله عنه ليس له ولد يقال له: بكر. ولكنه اشتهر بهذه الكنية. ومثلها خالد بن الوليد؛ فإنه يكنى بـ أبي سليمان، وليس له ولد اسمه سليمان، فلعل التكنية هذه حصلت في أول الأمر واستمرت، فجاء الأولاد بعد ذلك فغلبت الكنية الأولى، كما أن بعض الأشخاص الذين لم يتزوجوا ولم يولد لهم يُكنون ويكرمون بكناهم، مثل ابن تيمية، فإن كنيته أبو العباس، مع أنه لم يتزوج، ومثل النووي، فهو أبو زكريا، مع أنّه لم يتزوج، وغيرهم كثير. فلعل ما حصل لأمير المؤمنين أبي حفص هو من هذا القبيل، أعني أن الكنية وجدت قبل وجود الولد واستمرت، ثم جاء الأولاد فلم تعلق الكنية بهم، وإنما بقيت الكنية الأولى. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

تخريج حديث النية مع فوائد إسنادية

تخريج حديث النية مع فوائد إسنادية وأما تخريج الحديث فقد خرجه جماعة كثيرون، وفي مقدمتهم أصحاب الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، بل إن المعلق على جامع العلوم والحكم -وهو الشيخ شعيب الأرناءوط - ذكر تخريجه عن تسعة عشر إماماً، وفي مقدمتهم أصحاب الكتب الستة، وفي مقدمة الذين خرجوه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة. والإمام النووي رحمه الله لما ذكر الحديث عازياًَ إليهما ذكر ذلك في أول الأمر فقال: (رواه إماما المحدثين: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي)، ونسبته إلى الجعفي نسبة ولاء، ونسبة الولاء تكون أحياناً بالعتق، وتكون -أيضاً- بسبب الإسلام، ونسبة البخاري إلى الجعفيين نسبة ولاء بسبب الإسلام؛ لأن أحد أجداده دخل في الإسلام على يد رجل من الجعفيين، ولهذا يقولون في ترجمته: الجفعي مولاهم. وأما مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري فهو قشيري، وهو منهم نسبة أصل وليست نسبة ولاء، ولهذا يقولون عنه: القشيري من أنفسهم، فإذا كان الشخص ينسب نسبة ولاء قالوا: مولاهم. وإذا كان فيهم أصلاً أتوا بكلمة (من أنفسهم) أي أنه ينتسب إليهم نسبة أصل، وليست نسبة ولاء، فـ مسلم بن الحجاج من بني قشير، وأما البخاري فنسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء، وليست نسبة أصل. وهذا الحديث من غرائب (صحيح البخاري)، فقد جاء من طريق واحدة، فهو فرد مطلق، فرواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة بن وقاص الليثي إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون والراوون له عن يحيى بن سعيد حتى قيل: إن الذين رووه عنه يبلغون السبعين وقيل: إنهم يبلغون المائتين. وقيل: أكثر من ذلك. وهو غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يحيى بن سعيد. ومثله الحديث الذي ختم به البخاري (صحيحه)، وهو حديث أبي هريرة (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فإنه -أيضاً- غريب، فلم يروه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أبو هريرة، ولم يروه عن أبي هريرة إلا أبو زرعة بن عمرو بن جرير، ولم يروه عن أبي زرعة إلا عمارة بن القعقاع، ولم يروه عن عمارة بن القعقاع إلا محمد بن فضيل بن غزوان، ثم انتشر بعد ذلك وكثر الآخذون والراوون له عن محمد بن فضيل بن غزوان، ففاتحة صحيح البخاري وخاتمته حديثان من غرائب الصحيح، فلم يأتيا إلا من طريق واحدة، وقد قال الترمذي عندما خرج الحديث الأخير في جامعه -وهو: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن) - قال: حديث حسن غريب صحيح. ويعني بقوله: (غريب) أنه جاء من طريق واحدة. وقد افتتح البخاري -رحمه الله- صحيحه بحديث عمر السابق، وكذلك الإمام النووي رحمه الله بدأ به الأربعين إشارة إلى تصحيح النية، وأن الإنسان إذا عمل عملاً فإنه يستحضر الإخلاص، ويستحضر حسن القصد، وأن يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، وابتغاء مرضاته سبحانه. فقد بدأ الأربعين بحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث عمر في قصة جبريل، فبدأ بأول حديث في البخاري، وثنى بأول حديث في صحيح مسلم، فحديث عمر الذي في قصة جبريل هو أول حديث في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، وأول حديث في صحيح البخاري هو حديث (إنما الأعمال بالنيات). وقد سبق المؤلف إلى هذا الصنيع الإمام البغوي في كتابيه (شرح السنة) و (مصابيح السنة)، فإنه بدأ كلا الكتابين بحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث جبريل في تعليم الدين. وكذلك -أيضاً- بدأ المؤلف كتابه (المجموع شرح المهذب) بهذا الحديث؛ لأنه بعدما انتهى من المقدمة عقد فصلاً في إخلاص النية وحسن القصد، وأن يكون ذلك في الأمور الواضحة والجلية، ثم ذكر ثلاث آيات من كتاب الله، ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب (إنما الأعمال بالنيات). وقد فعل ذلك -أيضاً- بعض المؤلفين فبدءوا بما بدأ البخاري به صحيحه، ومنهم: السيوطي، فقد بدأ كتابه (الجامع الصغير) بهذا الحديث، وكذلك: عبد الغني المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام)، فإنه بدأ بهذا الحديث، وكل هذا إشارة منهم إلى هذا الغرض النبيل الذي هو حسن القصد، والبدء بشيء يذكر الإنسان وهو يعمل عملاً ما بضرورة الإخلاص وحسن النية، وأن يريد الإنسان بعمله ذلك وجه الله عز وجل والتقرب إليه سبحانه وتعالى.

الأحاديث التي قيل إن الدين يدور عليها

الأحاديث التي قيل إن الدين يدور عليها وقد ذكر بعض أهل العلم أنّ هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الدين. فمن العلماء من قال: إن الدين يدور على حديثين: حديث (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). ومنهم من قال: إنه يدور على ثلاثة. وأضاف إلى الأولين حديث النعمان بن بشير (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وقال بعضهم: إنها أربعة. واختلفوا بعد ذلك، فمنهم من جعل الرابع حديث: (الدين النصيحة)، ومنهم من جعله حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة). ومنهم من قال: خمسة. والأحاديث التي وردت في ذلك بعد حديث (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) منها الأحاديث التي أشرت إليها سابقاً، ومنها حديث: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، ومنها حديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، ومنها حديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ومنها حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وكل هذه الأحاديث التي ذكر الحافظ ابن رجب آثاراً عن السلف في أن الدين يدور عليها هي من جملة الأحاديث التي اشتملت عليها (الأربعون النووية)، وهي من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

معنى قوله: (إنما الأعمال بالنيات)

معنى قوله: (إنما الأعمال بالنيات) قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) قصر وحصر، و (إنما) تأتي لهذا الغرض، وكذلك كون المبتدأ والخبر يأتيان محليان بالألف واللام، فذلك من هذا القبيل، مثل (الدين النصيحة)، ومثل: (الحج عرفة)، ومثل (الأعمال بالنيات)، وقد جاء في بعض الراويات بدون (إنما)، وذلك بلفظ (الأعمال بالنيات)، وكل منهما يفيد الحصر والقصر. والأعمال هنا مطلقة، فقد حليت بالألف واللام للاستغراق، وقيل: إن المقصود من ذلك الأعمال التي هي قربة؛ فإنها لا تعتبر إلا بنياتها، ولا يعول عليها إلا بنياتها، وكل عمل فيها لا بد فيه من نية، وإذا خلا من النية فإنه لا عبرة به، والنية تأتي لتمييز العبادات بعضها عن بعض، ولتميز العبادات عن العادات، ولتمييز العبادات عن العادات. فمنهم من قال: إن المقصود به العموم، ويدخل في ذلك القُرَب وغير القُرَب، فأما القرب فأمرها معلوم، وأما غير القرب من الأمور التي يفعلها الناس -كالأكل والشرب والنوم والجماع وما إلى ذلك- إذا حسن المرء قصده فيها، ونوى بذلك التقوي على طاعة الله عز وجل فإن الله تعالى يأجره، كما جاء في الحديث: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم إذا لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، وقد جاء في ذلك حديث [نية المؤمن خير من عمله] ولكنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. و (النيات) جمع نية، والمراد بها القصد، والألف واللام في (النيات) بدل من الضمير (الهاء)، ومعنى ذلك أن أصل العبارة هكذا (الأعمال بنياتها)، أي: الأعمال معتبرة بنياتها. فحذف المضاف إليه -وهو الهاء- وأتي بـ (أل) مكانه، فصارت العبارة (الأعمال بالنيات). وهذا الاختصار يأتي كثيراً في الاستعمال، ولا سيما في أسماء الكتب، فيقولون -مثلاً-: البلوغ. ويعنون (بلوغ المرام)، ويقولون: النيل. ويعنون (نيل الأوطار)، وهكذا، فيأتون بالمضاف ويحذفون المضاف إليه، ويجعلون (أل) قائمة مقامه، فالألف واللام هنا عوض عن المضاف إليه، فالمراد: الأعمال بنياتها. فالمقدر الذي يتعلق به الجار والمجرور هو (معتبرة)، أي: الأعمال معتبرة بالنيات. فهي بدون نية غير معتبرة، فالإنسان إذا كان عليه غسل جنابة فاغتسل للتبرد أو للجمعة ولم ينو رفع الحدث فإنه باقٍ على حدثه، ولو صلى لم تصح صلاته، وعليه الغسل للجنابة وإعادة الصلاة ولو كان قد تنظف؛ لأن هذه عبادة، ولا بد في العبادة من نية، وليس المقصود مجرد النظافة فقط، بل هي عبادة تفتقر إلى نية. إذاً: فالجار والمجرور متعلق بمحذوف، والتقدير: (معتبرة)، أو (نافعة)، أو (مقبولة) أو ما إلى ذلك من العبارات المناسبة.

تعلق العمل بالنية خيرا وشرا

تعلق العمل بالنية خيراً وشراً قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يعني أن الإنسان يحصل من الثواب والأجر على نيته؛ فإن العمل لا بد فيه من نية، والإنسان يحصل الأجر والثواب على حسب ما نواه. ثم إن هاتين الجملتين (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قاعدتان عامتان، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعدهما مثالاً يوضح المقصود، وأن الأمر يتبع النية، وأنه متعلق ومرتبط بها، وذلك المثال هو الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله). أي: إذا كان قصده حسناً -وهو الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من أجل أن يأتي بشعائر دينه، ومن أجل أن يحافظ على دينه، ومن أجل أن يتعلم الدين وأن يتفقه فيه- فهجرته إلى الله ورسوله. فإن قيل: الأصل في الشرط والجزاء أنهما يكونان متغايرين، فيقال: (من جد وجد، ومن زرع حصد)، فالجزاء غير الشرط، وهنا اتحد الجزاء مع الشرط، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)! فالجواب أنّ الجزاء وإن كان هنا نفس الشرط إلّا أن الحكم يختلف باختلاف المتعلق، فقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله) أي: نية وقصداً، (فهجرته إلى الله ورسوله) أي: ثواباً وأجراً. فبهذا يختلف الشرط والجزاء، فالأول يتعلق بالنية والقصد، والثاني يتعلق بالثواب والأجر. فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في صدر هذا التمثيل الشيء الذي فيه أجر وثواب، وهو كون الإنسان يريد بعمله وجه الله عز وجل والدار الآخرة. وأما إذا كانت الهجرة من أجل غرض دنيوي من تجارة أو زواج فقد قال فيها عليه الصلاة والسلام: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فلم يقل: فهجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها وإنما جاء بلفظ عام ليبين أن من هاجر لشيء فإن هجرته إلى ما هاجر إليه، فإذا كان من أمور الدنيا لتحصيل المال، أو تحصيل الزواج أو غير ذلك فهجرته إلى ما هاجر إليه، فأتى بالجواب بلفظ عام؛ لأن أغراض الناس ومقاصدهم في أعمالهم المتعلقة بالدنيا لا تنحصر، فجاء بالجواب بلفظ يشمل كل شيء يقصد به الإنسان شيئاً من الدنيا. وأيضاً ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المثال ليوضح به أن من يكون قصده حسناً فله الثواب والأجر، ومن كان قصده غير ذلك فهجرته إلى ما هاجر إليه.

الهجرة معناها وأنواعها

الهجرة معناها وأنواعها الهجرة لغة: الترك. وتكون الهجرة من بلد الخوف إلى بلد الأمن، مثل الهجرة من مكة إلى الحبشة، فإنها هجرة من بلد خوف إلى بلد أمن، وتكون من بلد شرك إلى بلد إسلام، كالهجرة من مكة -قبل الفتح- إلى المدينة، فإن المهاجرين تركوا بلادهم، وتركوا أموالهم، وتركوا دورهم، ومتاعهم من أجل نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا جمع الله للمهاجرين بين الهجرة والنصرة في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، وبهذا كانوا أفضل من الأنصار؛ لأنهم عندهم النصرة التي عند الأنصار، وزادوا بالهجرة التي ليست عند الأنصار، فالمهاجرون أنصار، وزيادة على ذلك هم مهاجرون، والأنصار أنصار فقط، والذين جمعوا بين الهجرة والنصرة أفضل من الذين حصلوا النصرة فقط. والهجرة من مكة انتهت بفتح مكة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، وأما الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فهي باقية ومستمرة إلى قيام الساعة.

[2]

شرح الأربعين النووية [2] حديث عمر في النية من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وأول دعائم الإيمان، حتى قيل: إنه ثلث العلم. وقد عظم العلماء هذا الحديث تعظيماً كبيراً حتى رأوا البداءة به في مصنفاتهم، وذلك تنبيهاً لطالب العلم إلى تصحيح نيته، وإخلاص قصده لله تبارك وتعالى في خفي عمله وظاهره، وفي قليله وكثيره، ليجازى بالجزاء الحسن عند الله تبارك وتعالى.

حديث النية من الأحاديث الغريبة

حديث النية من الأحاديث الغريبة الحديث الأول هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ونذكر ما كتبناه عن هذا الحديث: أولاً: أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وقد تفرد براويته عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد به عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد به عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم كثر الآخذون عنه، فهو من غرائب صحيح البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن).

فضل حديث النية وافتتاح الكتب به

فضل حديث النية وافتتاح الكتب به افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبهم به، منهم الإمام البخاري، فقد افتتح (صحيحه) به، وعبد الغني المقدسي في كتابه (عمدة الأحكام)، والبغوي، في كتابيه (مصابيح السنة)، و (شرح السنة) به، وافتتح السيوطي كتابه (الجامع الصغير) به. وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه: (فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية) وأورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث: (إنما الأعمال بالنيات). ثم قال: (حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان). قال الشافعي رحمه الله: (يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه)، وقال أيضاً: (هو ثلث العلم)، وكذا قاله -أيضاً- غيره. وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدها، فقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة. وقيل: اثنان. وقيل: حديث. وقد جمعتها كلها في (جزء الأربعين) فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متدين عن معرفتها؛ لأنها كلها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنما بدأت بهذا الحديث تأسياً بأئمتنا ومتقدمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث -بلا مدافعة- أبو عبد الله البخاري صحيحه. ونقل جماعة أن السلف كانوا يستحبون افتتاح الكتب بهذا الحديث تنبيهاً للطالب على تصحيح النية وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفية. وروينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله أنه قال: (لو صنفت كتاباً بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث)، وروينا أيضاً عنه أنه قال: (من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث). وقال الإمام أبو سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) أمام كل شيء يُنشأ ويبتدأ من أمور الدين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها). انتهى كلام النووي -رحمه الله تعالى- في شرح المهذب.

تخريج حديث النية

تخريج حديث النية جاء في حاشية (جامع العلوم والحكم): أخرجه البخاري، ومسلم، والحميدي، والطيالسي، وأحمد، وابن المبارك في الزهد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه ومالك في الموطأ برواية محمد بن الحسن، وابن حبان، وابن الجارود، والطحاوي في شرح معاني الآثار، والدارقطني في السنن وفي العلل، والقضاعي في مسند الشهاب، والبيهقي في السنن الكبرى وفي المعرفة، وأبو نعيم في الحلية وفي أخبار أصبهان، والخطيب البغدادي في تاريخه، والبغوي في شرح السنة. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، وبه صدّر البخاري كتابه الصحيح، وأقامه مقام الخطبة له؛ إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.

حديث النية من الأحاديث التي يدور الدين عليها

حديث النية من الأحاديث التي يدور الدين عليها قال ابن رجب: وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، فروي عن الشافعي أنه قال: (هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفقه). وعن الإمام أحمد قال: (أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر (الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة رضي الله عنها (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما (الحلال بين والحرام بين)). وقال ابن رجب أيضاً في توجيه كلام الإمام أحمد: (فإن الدين كله يرجع إلى فعل المأمورات، وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات)، وهذا كله تضمنه حديث النعمان بن بشير، وإنما يتم ذلك بأمرين: أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد). والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل، كما تضمنه حديث عمر (الأعمال بالنيات). وأورد ابن رجب نقولاً عن بعض العلماء في الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، وأن منهم من قال: إنها اثنان ومنهم من قال: أربعة. ومنهم من قال: خمسة. والأحاديث التي ذكرها عنهم بالإضافة إلى الثلاثة الأولى هي: حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)، وحديث (من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)، وحديث (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وحديث (لا ضرر ولا ضرار)، وحديث (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، وحديث (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، وحديث (الدين النصيحة)، وكل هذه الأحاديث من الأحاديث التي أوردها النووي في (الأربعين).

شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)

شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) قوله: (إنما الأعمال بالنيات). (إنما): أداة حصر. والألف واللام في (الأعمال) قيل: إنها خاصة بالقُرَب، وقيل: إنها للعموم في كل عمل، فما كان منها قُربة أثيب عليها فاعلها، وما كان منها من أمور العادات كالأكل والشرب والنوم فإن العامل يثاب عليها إذا نوى بها التقوي على الطاعة. والألف واللام في (النيات) بدلاً من الضمير، والأصل: الأعمال بنياتها، ومتعلق الجار والمجرور محذوف تقديره (معتبرة) أي: الأعمال معتبرة بنياتها. والنية في اللغة: القصد، وتأتي للتمييز بين العبادات كتمييز فرض عن فرض، أو فرض عن نفل، وتمييز العبادات، عن العادات كالغسل من الجنابة، والغسل للتبرد والتنظف.

العمل تابع للنية خيرا وشرا

العمل تابع للنية خيراً وشراً خامساً: قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى). قال ابن رجب: هذا إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه، فإن نوى خيراً حصل له خير، وإن نوى شراً حصل له شر، وليس هذا تكراراً محضاً للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلّت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحاً، فلا يحصل له به ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب نيته التي صار العمل صالحاً أو فاسداً أو مباحاً بها.

الهجرة وأنواعها

الهجرة وأنواعها قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). الهجرة: مأخوذة من الهجر، وهو الترك، وتكون بترك بلد الخوف إلى بلد الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وتكون من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، كالهجرة من مكة إلى المدينة، وقد انتهت الهجرة إليها بفتح مكة، والهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام باقية إلى قيام الساعة. وقوله: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) اتحد فيه الشرط والجزاء، والأصل اختلافهما، والمعنى: من كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله ثواباً وأجراً، وبهذا يحصل التغاير. قال ابن رجب: لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالاً من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال. وقال أيضاً: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه الذي قد يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً، وكفاه شرفاً وفخراً أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله، ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة، ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول: تاجر، والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر. وفي قوله: (إلى ما هاجر إليه) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه. وأيضاً فالهجرة إلى الله ورسوله واحدة، فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة أخرى، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: كائناً ما كان. وهذا هو آخر ما كتبناه حول هذا الحديث، والله تعالى أعلم.

شرح مقدمة الإمام النووي على الأربعين

شرح مقدمة الإمام النووي على الأربعين قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، مدبر الخلائق أجمعين، باعث الرسل صلواته وسلامه عليهم إلى المكلفين؛ لهدايتهم وبيان شرائع الدين، بالدلائل القطعية وواضحات البراهين، أحمده على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه. وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، الكريم الغفار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، أفضل المخلوقين، المكرم بالقرآن العزيز المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، وبالسنن المستنيرة للمسترشدين، المخصوص بجوامع الكلم وسماحة الدين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وآل كل وسائر الصالحين، أما بعد:

ما جاء في أجر حفظ أربعين حديثا

ما جاء في أجر حفظ أربعين حديثاً فقد رُوَّينا عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم من طرق كثيرات، بروايات متنوعات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء)، وفي رواية: (بعثه الله فقيهاً عالماً)، وفي رواية أبي الدرداء: (وكنت له يوم القيامة شافعاً وشهيداً)، وفي رواية ابن مسعود: (قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت)، وفي رواية ابن عمر: (كتب في زمرة العلماء، وحشر في زمرة الشهداء). وقد اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثُرت طرقه]. ومعلوم أنّ كثرة الطرق لا يتقوى بعضها ببعض دائماً، وإنما ذلك إذا كان الضعف خفيفاً يجبر، وأما إذا كان الضعف شديداً فإنّ كثرتها لا تفيدها شيئاً، فتفيده الطرق الكثيرة حيث يكون الضعف يسيراً، فإن ضم بعضها إلى بعض فإن ذلك يرفعها إلى الحسن لغيره كما هو معلوم، وأما إذا كانت الطرق المتعددة كلها ضعفها شديد فإن وجودها كعدمها لا يفيد الحديث شيئاً.

العلماء الذين صنفوا في الأربعين

العلماء الذين صنفوا في الأربعين قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [وقد صنف العلماء -رضي الله تعالى عنهم- في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات، فأول من علمته صنف فيه: عبد الله بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطوسي العالم الرباني، ثم الحسن بن سفيان النسائي، وأبو بكر الآجري، وأبو بكر بن إبراهيم الأصفهاني، والدارقطني، والحاكم، وأبو نعيم، وأبو عبد الرحمن السلمى، وأبو سعيد الماليني، وأبو عثمان الصابوني، وعبد الله بن محمد الأنصاري، وأبو بكر البيهقي، وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين، وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثاً اقتداء بهؤلاء الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام، وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال]. هذا الكلام ليس مسلّماً به؛ ففضائل الأعمال وغير فضائل الأعمال كلها لا بد فيها من التعويل على الأحاديث الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونسبة الشيء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والإتيان به تعبداً لا يكون إلا بالصحيح الثابت، ولا فرق في ذلك بين فضائل الأعمال وغير فضائل الأعمال. نعم: إذا كان الحديث في فضائل الأعمال، وكانت هناك أحاديث تدل على معناه فإنّ المعول على غيره، فوجوده مع غيره ليس اعتماداً عليه، وإنما الاعتماد على غيره، وذلك مثل صلاة الجماعة، فقد جاءت فيها أحاديث صحيحة وأحاديث ضعيفة، والعمل على الأحاديث الصحيحة، وليس العمل على الحديث الضعيف الذي يأتي فيها. وأما إذا كان الحديث لم يثبت، أو لم يأت إلا عن طريق ضعيف، فعند ذلك لا يتعبد الله عز وجل بشيء لم يأت إلا بطريق ضعيف، سواء في فضائل الأعمال أو غير فضائل الأعمال.

عمدة النووي في تأليفه الأربعين

عمدة النووي في تأليفه الأربعين قال رحمه الله تعالى: [ومع هذا فليس اعتمادي على هذا الحديث، بل على قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)]. إنّ أول شيء يسمعه طلاب العلم من الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو هذه الأحاديث، فقد صارت مشهورة، ولها شهرة لم تحصل لشيء من الكتب التي ألفت في الأربعين على كثرتها، كما ذكره النووي، وقد حصل لهذه الأربعين قبول، كما حصل لكتابه (رياض الصالحين) أيضاً قبول عند الناس، واشتهرا عند الناس، وصار الخواص والعوام كلهم بحاجة إلى مثل هذين الكتابين.

الأبواب التي جمع فيها العلماء الأربعين

الأبواب التي جمع فيها العلماء الأربعين قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم في الفروع، وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد]. يعني أنّ من الناس من حصرها في موضوع معين، فمنهم من جعلها في أصول الدين -أي: في العقيدة-، ومنهم من جعلها في الجهاد، ومنهم من جعلها في الفروع -يعني: في المسائل الفقهية-، ومنهم من جعلها عامة جامعة في الأخلاق والعبادات وغير ذلك. قال رحمه الله تعالى: [وبعضهم في الآداب، وبعضهم في الخطب، وكلها مقاصد صالحة رضي الله تعالى عن قاصديها، وقد رأيت جمع أربعين أهم من هذا كله، وهي أربعون حديثاً مشتملة على جميع ذلك، وكل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وقد وصفه العلماء بأن مدار الإسلام عليه، أو هو نصف الإسلام، أو ثلثه، أو نحو ذلك، ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، ومعظمها في صحيحي البخاري ومسلم]. هذا الكلام على اعتبار أنه يراها كلها صحيحة، وسنذكر عند كل حديث بيان حاله، فكلها صحيحة وثابتة إلا بعضها ففيها كلام لبعض العلماء، وهو شيء يسير منها. قال رحمه الله تعالى: [وأذكرها محذوفة الأسانيد؛ ليسهل حفظها ويعم الانتفاع بها إن شاء الله تعالى، ثم أتبعها بباب في ضبط خفي ألفاظها. وينبغي لكل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث؛ لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهر لمن تدبره، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة]. رحم الله الإمام النووي فهذا كلام جميل، وقصد طيب، فقد بين رحمه الله أن الحديث -أي: حديث فضل حفظ أربعين حديثاً- اتفق الحفاظ على ضعفه، وأنه ليس بثابت، وأنه إنما فعل ذلك اقتداء بالذين سبقوه، وتعويلاً على الأحاديث الصحيحة الدالة على فضل حفظ السنة، ومن ذلك الدعاء لمن حفظها وبلغها بأن ينضر الله وجهه، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد الغائب). وإن الإمام النووي بفعله هذا رحمه الله، وانتفاع الناس بهذه الأحاديث التي جمعها، وتتابعهم عليها، واشتغال الخاص بها والعام، وكون الطلاب ينشئون عليها حصل له خير كثير وفضل كبير رحمه الله؛ فإن كل من يقرأ هذه الأحاديث يدعو له، ويستفيد منها، ولا شك في أن هذا من العلم الذي ينتفع به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

الأسئلة

الأسئلة

سبب ورود حديث: (إنما الأعمال بالنيات)

سبب ورود حديث: (إنما الأعمال بالنيات) Q يقول ابن دقيق العيد رحمه الله عن حديث الأعمال بالنيات: وهذا الحديث ورد على سبب، وهو أنهم نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، فكان يقال له: مهاجر أم قيس، والله أعلم فهل هذا صحيح؟ A لم يثبت أن هذا الحديث ورد بسبب هذا القصة، وقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله هذا، فقال رحمه الله: إنه اشتهر عند العلماء كذا وكذا، فلم يثبت في ذلك شيء صحيح عن رسول الله.

تعلق النية بالإخلاص لله تعالى

تعلق النية بالإخلاص لله تعالى Q في شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ذكرتم أنّ النية تكون لتمييز الفرائض في العبادات بعضها عن بعض، والعبادات عن العادات، فلو ذكرتم لنا ما تتعلق به النية من الإخلاص لوجه الله تبارك وتعالى في الأعمال. A هذا معنى آخر يتعلق بالتوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، وهو أحد الركنين اللذين يقوم عليهما دين الإسلام، وهما: إخلاص العمل لله، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكل عمل من الأعمال لا بد من أن يكون خالصاً لله، وأن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى كونه خالصاً لله أن لا يشرك فيه مع الله غيره. لكن الذي يذكر في كتب الفقه وفي كتب الحديث هو ما يتعلق بهذين الأمرين: تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز: صلاة الظهر عن صلاة العصر، وكذلك الصوم في كونه فرضاً، أو نذراً، أو كفارة، ونحو ذلك من العبارات الواجبة، وكذلك تمييز العبادة في كونها فرضاً أو نافلة، فهذا كله تمييز للعبادات بعضها عن بعض، سواءٌ كانت العبادات كلها فروضاً، أم كان بعضها فرضاً وبعضها نفلاً. والأمر الثاني: تمييز العبادات عن العادات، كالاغتسال من الجنابة، والاغتسال للتبرد والتنظف، فإن الاغتسال من الجنابة شيء واجب ولازم وفرض وعبادة، والاغتسال للتنظف والتبرد عادة. فلو أن إنساناً اغتسل للتبرد وعليه جنابة ولم يكن مستحضراً رفع الجنابة ولم ينو عند الاغتسال رفع الحدث فإن الحدث يبقى ولو حصلت له النظافة، ولو حصل له التبرد؛ لأن النية لا بد منها في العمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، وهذا الاغتسال لم يُرد به رفع الحدث، فلا يرتفع الحدث، بل هو باق، ولا يرتفع إلا إذا اغتسل الإنسان بعد ذلك ناوياً رفع الحدث لتمييز العبادات عن العادات. ويمكن أن يجمع بين العبادات، ويمكن أن تفرد كل عبادة على حدة، فمثل الجنابة والجمعة يكفيهما غسل واحد ينوي به هذا وهذا، ولهذا قال الإمام أبو داود رحمه الله بعد ذكره حديثاً من أحاديث الجمعة في كتابه (السنن) قال: ولو أن إنساناً أصبح وعليه جنابة واغتسل بعد طلوع الفجر ناوياً غسل الجنابة وناوياً غسل الجمعة فإنه يجزئه عن الجمعة، مع كونه اغتسل للجنابة.

الأجر تابع للاحتساب

الأجر تابع للاحتساب Q ذكر في الحديث: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فأكل منه الطير أو الدواب أو الإنس إلا كان له صدقة)، فهذا الغرس لم يتعلق به نية؛ لأن من يزرع زرعاً فإنّه لا ينوي أن يأكل منه الطير والدواب؟ A معلوم أن كل ما يخرج من الإنسان مما ينفع غيره يعود عليه بالفائدة، مثل النفقة، فيكون الإنسان قد أدى ما عليه ولو لم ينو، وأما من ناحية الأجر فلا يكون إلا بالنية، ولكن إذا غرس الإنسان هذا الغرس وفي نيته أنه يستفيد منه ويفيد غيره فكل من يستفيد منه -سواءٌ أكان مقصوداً أم غير مقصود، وسواء أراد أن يصل إليه أو لم يرد، ككونه يعطي الفقراء والمساكين، أو تأتي الحيوانات وتأكل منه- فإنه يحصل الأجر على ذلك.

الجمع بين حديث الأعمال بالنيات وقصة إسلام أبي طلحة ليتزوج بأم سليم

الجمع بين حديث الأعمال بالنيات وقصة إسلام أبي طلحة ليتزوج بأم سليم Q كيف نجمع بين الحديث: (فمن كانت هجرته إلى الله)، وبين قصة أبي طلحة رضي الله عنه حين دخل في الإسلام بسبب أم سليم، فقد كانت شرطت عليه الإسلام لتتزوجه؟ A معلوم أنّ ذاك انتقال من الكفر إلى الإسلام، ولا شك في أنه كان منهم من يدخل في الإسلام رغبة في الدنيا ثم لا يمسي إلا والدين أحب إليه من الدنيا وما فيها، كما جاء عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: فهذا دخول في الإسلام، ومعلوم أنّ الإنسان إذا خرج من الكفر إلى الإسلام فلا شك في أنه قد حصل له السلامة من الكفر، ولو كان دخل الإسلام من أجل غرض، ثم هذا الغرض الذي دخل من أجله لا يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام خيراً له من الدنيا وما فيها، فهناك فرق بين الدخول في الإسلام من أجل غرض ثم يصير الغرض سبباً في إنقاذه وسلامته من النار ومن الخلود فيها أبد الآباد، وبين كون الإنسان المسلم يعمل عملاً صالحاً لم يرد به القربة، وإنما أراد به الدنيا.

حفظ العلم للمشاركة في المسابقات

حفظ العلم للمشاركة في المسابقات Q إذا نوى الإنسان بحفظ الأربعين المشاركة في إحدى المسابقات ليشتري بالجائزة كتباً يستعين بها على طلب العلم، فهل تصلح هذه النية؟ A هذا يدخل تحت قوله: (لكل امرئ ما نوى)، ويدخل تحت قوله: (من كانت) فإذا حفظها وكان حفظه لها، واستذكاره لها ومرور تلك المعاني على نفسه وقلبه من أجل أن يستفيد وأن يؤثر ذلك فيه فلا بأس بذلك، وأما إذا كان يريد من ذلك الدنيا فإنه لا يحصل إلا الدنيا.

قصد الإمام البخاري بابتدائه بحديث غريب، وختمه بحديث غريب

قصد الإمام البخاري بابتدائه بحديث غريب، وختمه بحديث غريب Q ما قصْد الإمام البخاري بابتدائه بحديث غريب وختمه بحديث غريب؟ A لعله استنتج ذلك من حديث: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، فلا أدري هل لاحظ هذا المعنى، أو أنّ له غرضاً آخر لا أعرفه.

[3]

شرح الأربعين النووية [3] حديث جبريل حديث عظيم اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه؛ لما تضمنه من مراتب الدين، فهو كالأم للسنة، كما سمّيت الفاتحة أم القرآن؛ لما تضمنته من جمعها معاني القرآن.

شرح حديث جبريل في مراتب الدين

شرح حديث جبريل في مراتب الدين قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -أيضاً- قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم والصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وتؤمن باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق، فلبثت ملياً، قال: أتدري من السائل؟ قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)].

فضل حديث جبريل

فضل حديث جبريل هذا حديث عظيم من الأحاديث الجامعة الواسعة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي حصل من جبريل بأنه تعليم للدين، ووصف جبريل بأنه معلم؛ لكونه سأل عن أمور يسمع الصحابة الجواب عنها، فأضيف التعليم إليه؛ لأنه إنما جاء سائلاً ليعلم غيره لا ليتعلم هو، فهو عالم بذلك، ولهذا كان يقول: (صدقت) بعد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المسئول عنها.

تخريج حديث جبريل

تخريج حديث جبريل وهذا الحديث أورده الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وهو أول حديث عنده في كتاب الإيمان، وسبق أن ذكرت أن الإمام النووي رحمه الله ابتدأ الأربعين بأول حديث في صحيح البخاري، وثنى بأول حديث في صحيح مسلم، وأن البغوي رحمه الله قد سبقه إلى ذلك في كتاب (مصابيح السنة)، وكتاب (شرح السنة)، فبدأ بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وثنى بحديث جبريل. فحديث جبريل حديث عظيم بيّن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام والإحسان، وبين فيه شيئاً من أشراط الساعة وعلاماتها، وبيّن أن جبريل إنما سأل ليعلم الناس الدين.

سبب تحديث ابن عمر بحديث جبريل

سبب تحديث ابن عمر بحديث جبريل وهذا الحديث يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو من رواية صحابي عن صحابي، ومن رواية ابن عن أب. وسبب تحديثه به أنه جاء رجلان من العراق حاجين أو معتمرين وهما يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري، يقول يحيى بن يعمر -وهو الذي يروي القصة، كما في صحيح مسلم -: (كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: فنسأله، ونبدي له ما حصل في بلدنا من هذا الرأي الباطل والقول المحدث، وهو أنه لا قدر. قال: (فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفاه، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ) يعني أن صاحبه سكت ولم يتكلم، ففهم يحيى بن يعمر أنه يريد منه أن يتكلم. فبدأ يحيى بن يعمر بالكلام، فقال: (إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم) يعني: أن عندهم اجتهاداً في القرآن وفي العلم (ويقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف) أي أنه لم يسبق قدر، فلم يسبق كتابة وتقدير، ولم يسبق علم بالأشياء التي يأتي بها الناس، وأن العباد يخلقون أفعالهم. قال: (فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنني بريء منهم، وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لا يؤمن أحدهم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره). ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس)، وأتى بالحديث بطوله، وذلك من أجل جملة: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) وأنه أصل من أصول الإيمان.

الرجوع إلى أهل العلم في أمور الدين

الرجوع إلى أهل العلم في أمور الدين وهذا يبين لنا أن سلف هذه الأمة هم المرجع، فالصحابة كانوا هم المرجع للتابعين، فيرجعون إليهم في أمور الدين، فالواجب في كل زمان ومكان الرجوع إلى أهل العلم عندما تحصل الأمور المشكلة الأمور المعضلة، ولا يتخرص كل متخرص ويقول كل قائل ويتحدث كل متحدث، وإنما يرجع في ذلك إلى أهل العلم، كما أن الأمور الدنيوية من الصناعات والمهن والحرف إنما يرجع فيها إلى أصحاب الاختصاص، ولا يقدم عليها بدون علم، فأمور الشريعة أولى بأن يكون المرجع فيها إلى أهلها ومن عندهم علم بها. فكان هذا شأن سلف هذه الأمة، فالتابعون يرجعون إلى الصحابة في معرفة ما يجد وما ينزل من أمور تظهر مخالفتها لما هو معروف في الكتاب والسنة، أو يكون فيها اشتباه، يقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. فـ عبد الله بن عمر عندما أجاب أجاب أولاً ببيان منزلة هؤلاء وحالهم، وأنه بريء منهم، وأنهم برآء منه، وأن من لا يؤمن بالقدر فلا يقبل منه شيء من العمل، ولا يدخل الجنة حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم أتى بالدليل، وهذا فيه -أيضاً- بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من بيان الحكم بدليله.

ميزة الإمام مسلم في طريقة رواية الأحاديث

ميزة الإمام مسلم في طريقة رواية الأحاديث إن طريقة الإمام مسلم رحمه الله أنه يأتي بالأحاديث كما هي، ويأتي بالألفاظ كما وردت، ولا يختصر الأحاديث، ولا يفرقها ويجزئها في أماكن متعددة كما يصنع البخاري، ولهذا أورده الإمام مسلم رحمه الله هنا بتمامه ولم يختصره، ولم يأت بمحل الشاهد فقط، وهذه من ميزاته التي تميز بها عن غيره كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمته من (تهذيب التهذيب)، فبعد أن ذكر كلاماً نقله المزي في تهذيب الكمال قال: قلت: وقد حصل حظ عظيم مفرط للإمام مسلم لم يحصل لغيره، وذلك بعنايته بالمحافظة على الألفاظ، وعدم الرواية بالمعنى، وعدم الاختصار، وأنه يأتي بالشيء كما كان، فلا يحصل منه شيء من التغيير والتبديل بروايته بالمعنى أو باختصار أو بغير ذلك، وهذه من ميزاته التي تميز بها. وهذه طريقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فعندما يأتون بالحكم فإنهم يأتون بدليله ولو لم يطلب منهم، وذلك لأن الدليل هو الأساس الذي يبنى عليه، والسائل عندما يسمع الدليل من الكتاب أو السنة يطمئن، فالناس متعبدون بالالتزام بالكتاب والسنة، فإذا أجاب المسئول السائل عن مسألته، وأتى بعد ذلك بالدليل فهذا من تمام الإجابة ومن تمام الإحسان، فيطمئن السائل إلى أن الجواب الذي أجيب به مبني على نص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور البدع والاختلاف والفرقة

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهور البدع والاختلاف والفرقة

تاريخ بدعة القدر

تاريخ بدعة القدر لقد حدثت بدعة القدر في عصر الصحابة، وقد أشار إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية بقوله وهو يخاطب أصحابه: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) أي أن من تطول به الحياة فسيرى اختلافاً وخروجاً عن الجادة، وانحرافاً عن الصراط المستقيم، وهذا الاختلاف ليس بالقليل، بل هو كثير، فأخبر عليه الصلاة والسلام عن أمر فوقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام. ثم إنه عليه الصلاة والسلام أرشد عند هذا الاختلاف إلى لزوم السنة -وهي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه-، فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).

ظهور كثير من البدع من جهة المشرق

ظهور كثير من البدع من جهة المشرق وقد ظهرت هذه البدعة في العراق، وكثير من البدع والشرور نشأت من تلك الجهة، وهذا يبين لنا معنى الحديث الذي فيه: (اللهم! بارك لنا في شامنا وبارك لنا في يمننا. قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال: هناك الزلازل والمحن)، وقد جاءت آثار وأحاديث تدل على أن المقصود بذلك جهة العراق. وما وراءها من بلاد فارس، وأول شيء حصل هو أنّ ملكهم مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليه. وهذا بخلاف فعل ملك الروم، فإنه احتفظ بالكتاب، وكان يبحث عمن يأتي إلى بلاده من العرب ليسألهم عن هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقصة هرقل مشهورة، وهي في أول صحيح البخاري فلما جاء أبو سفيان ومن معه قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الأمور التي كان يعلمها عن الأنبياء، فوجدها في هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد بين ذلك أبو سفيان رضي الله تعالى عنه؛ حيث تحمل هذا في حال كفره، ثم أدى ذلك بعد إسلامه.

ظهور كثير من الخير من جهة المشرق

ظهور كثير من الخير من جهة المشرق فالحاصل أن كثيراً من البدع وكثيراً من الشرور إنما خرجت من تلك الجهة، ولا تزال -على مختلف العصور- كثير من الشرور تأتي من تلك الجهة، ولا يعني ذلك أنه ليس فيها إلا الشر، بل هناك الخير الكثير، فإن الكثير من العلماء من المحدثين والفقهاء هم من تلك الجهة، وأكثرهم من العجم، فأصحاب الكتب الستة: - البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه - كلهم من تلك الجهة، والإمام أحمد وأبو حنيفة، وسفيان الثوري وكثير من الفقهاء والمحدثين من تلك الجهة، وقد بين بعض أهل العلم -كـ الخطابي وابن حجر - المقصود بنجد في الحديث السابق، وأنه ليس المقصود به -كما يقوله بعض الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- نجد اليمامة؛ فإن اليمامة لم تكن معروفة، وليس لها ذكر ولا شأن، وإنما يراد بنجد الأماكن المرتفعة المختلفة، وجاء في الحديث: (وقت لأهل نجد قرن المنازل)، وليس المقصود به اليمامة، بل المقصود به كل الجهات المرتفعة التي تكون من تلك الجهة من الطائف وما وراء الطائف. فالحاصل أن هذه البدعة أول ما ظهرت في العراق في البصرة، وأول من أظهرها معبد الجهني، كما جاء في إسناد هذا الحديث الذي عند الإمام مسلم، وهذا يدلنا على ظهور كثير من الشرور من تلك البلاد، وإن كان قد حصل فيها كثير من الخير، وخرج منها كثير من أهل العلم في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك من سائر العلوم، فلما خرج معبد الجهني - وهو أول من قال بالقدر- خرج يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، قال يحيى فقلنا: (لو وفق لنا أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم) وهذا يدل على أن التابعين كانوا يستغلون فرصة الحج والعمرة لتحصيل العلم والاشتغال بالعلم، والرجوع إلى العلماء، وأنهم يجمعون بين أداء النسك وأداء العبادة والرجوع إلى أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الحجاج والمعتمرين والزائرين عندما يأتون إلى مكة والمدينة عليهم أن يحرصوا على التفقه في الدين، وعلى معرفة الأحكام الشرعية؛ لأن هذا هو شأن سلف هذه الأمة كما في إسناد هذا الحديث، ويدل لذلك لقياهم بـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وفرحهم بذلك، واكتنافهم إياه، فجاء كل واحد منهما من جهة، حتى يستوعب كل واحد منهما ما يصدر منه، ويسمعان ما يقول، فإذا كان هذا من جهة وهذا من جهة، وتكلم وحدث فإن هذا يسمعه كما يسمعه الآخر، ولم يأت كلاهما في جهة واحدة ليكون هذا وراء هذا، بل صار هذا من جهة وهذا من جهة، ومرادهما من ذلك أن يقربا من هذا الصحابي الجليل، وأن يسمعا حديثه وفتواه في ذلك الأمر الذي سألاه عنه.

خطر انحراف من كان معروفا بالعلم والعبادة

خطر انحراف من كان معروفاً بالعلم والعبادة وإن لم يبدأ يحيى بن يعمر بالكلام لأنه ما حصل منهما اتفاق -فيما يبدو- في أول الأمر على أن واحداً منهما يتولى الكلام، وكأنه فاجأهم وجود عبد الله بن عمر، ففرحا واكتنفاه وهو جالس بينهما، فإذا كان هناك اتفاق على أن واحداً منهما يتولى الكلام فهذا جيد، وحيث لا يكون هناك اتفاق فينبغي التريث، ولا يقدم الإنسان على الكلام قبل غيره إلا إذا حصل استئذان منه، أو حصل منه سكوت عرف منه أنه يريد من الآخر أن يتكلم؛ ولهذا قال: (فظننت أنه سيكل الكلام إليّ) فتكلم مع ابن عمر وقال: (إنه ظهر قبلنا أناس) وذكر شيئاً من عبادتهم، وشيئاً من قراءتهم للقرآن، وهذا شيء غريب؛ لأنه لو كان هذا الذي اعتقدوه في القدر من أناس ليس لهم اشتغال بالقرآن، وليس لهم اشتغال بالعلم لكان الأمر أهون، فيقال: هؤلاء جهال يتكلمون عن جهل، لكن الأدهى أن هذا الذي حصل منه هذا الشيء يشتغل بالقرآن والعلم، فتكون المصيبة به أكبر والبلية به أعظم؛ لأنه عنده شيء من المعرفة وشيء من الاشتغال بالقرآن وبالعلم، فمثل هذا هو الذي يحصل به الضرر بخلاف الجاهل؛ فإن الأمر فيه هين؛ لأنه لا يعلم، فإذا عُلّم تعلم، وأما الإنسان الذي يقدم على شيء عن علم ومعرفة عليه ظاناً أنه حق وهو باطل فهذا هو الذي يصعب أمره، ويكون محل خطر على الناس، قبل ذلك على نفسه، أما ضرره على الناس فلأنهم يغترون به، ويظنون أنه صاحب علم، وأن هذا الذي قاله إنما قاله عن علم ومعرفة، وإنما هو -في الحقيقة- ضلال وانحراف في العلم. وأما خطره على نفسه فلأنه يعتقد أنه على حق، فيستمر على باطله، وقد يموت وهو على باطله؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الله تعالى حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يتوب من بدعته) ومعنى ذلك أن الإنسان إذا كان مبتدعاً فقد يستمر على بدعته إلى أن يموت عليها، ولا تحصل له التوبة؛ لأنه يظن نفسه على حق، وأما إذا كان صاحب معصية ويعرف أن هذا ذنب وأنه عاص لله فيه فهذا هو الذي يرجى له التوبة؛ لأنه يشعر بالخطأ، ويشعر بالتقصير، وأما ذاك فإنه لا يشعر بالتقصير بل يظن أنه على حق، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، فهو يبقى على باطله. فإذا كان لديه علم ومعرفة فإنه يكون أشد ضرراً على نفسه وعلى غيره، أما على نفسه فبابتعاده عن التوبة، وأنه قد يموت على بدعته، وأما على غيره فباغترار الناس به، فإنهم يظنون أن مقالته تلك قالها بناء على علم. ثم قال بعد ذكر شيء من صلاحهم في الظاهر ومن عباداتهم: (يقولون: (لا قدر وأن الأمر أنف))، يعنون أنه لم يسبق قضاء ولا قدر، وأن الناس يستأنفون أعمالهم، وأن هذه الأفعال التي توجد لم يسبق تقدير الله عز وجل لها، ولا علم الله عز وجل بها، وهذه -كما يقول بعض أهل العلم- طريقة الغلاة الذين ينكرون العلم القديم -أو العلم الأزلي- بالأشياء قبل خلقها، وينكرون أيضاً أن الله تعالى قدر الأشياء وكتبها، ولهذا قال ابن عمر: (أخبرهم بأني بريء منهم، وأنهم برآء مني) يعني: لست منهم وليسوا مني؛ لأنهم أنكروا أمراً معلوماً من دين الإسلام بالضرورة، وهو خبر صادق لا بد منه، بل هو من أصول الإيمان التي بينها جبريل للناس بسؤاله النبي عليه الصلاة والسلام عنها، إذن: فالأمر ليس هيناً وليس سهلاً.

ذكر بعض ما يستفاد من حديث جبريل

ذكر بعض ما يستفاد من حديث جبريل وبعد أن ذكر ابن عمر رضي الله عنه الحكم بيّن الدليل على ذلك، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سأل فيه جبريل الرسول عليه الصلاة والسلام فأجابه، ومن جملة ما أجابه عنه تفسير الإيمان وبيان المراد به، وأركانه الستة التي آخرها الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من الله سبحانه تعالى، ثم ساق الحديث عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني أنهم كانوا جالسين يسألونه ويتعلمون منه، وينتظرون من يأتي ليسأله، وقد كانوا يحرصون على أن يأتي بعض الأعراب فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين، فيسمعون الجواب، وفي تلك المرة التي كانوا جالسين فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم رجل غريب، وتظهر غرابته من جهتين: من جهة أنه غير معروف، ومن جهة أن ثيابه حسنة، وشعره شديد السواد، وليس بأشعث ولا أغبر، ولا ثيابه بالمدنسة من الغبار بسبب السفر، فهذا شيء غريب عليهم، فالرجل غير معروف، والهيئة التي هو عليها ليست بهيئة المسافر ولا بهيئة الغريب الذي يأتي من مسافة بعيدة، فإن من كانت حاله كذلك يظهر على وجهه التعثر، ويصير أشعث أغبر بسبب سفره ومعاناته الطريق، فهذا الأمر يختلف عن الذي كانوا يعرفونه ويألفونه. وقد جاء في بعض الروايات -كما في سنن أبي داود وغيره- أنه سلم من طرف البساط، ورواية مسلم ليس فيها ذكر السلام، ومن المعلوم أن الرواة كل منهم يروي ما بلغه وما سمعه، وقد يحفظ بعضهم ما لم يحفظه الآخر، وقد يحصل من بعض الرواة اختصار للحديث، فهناك أسباب لكون الحديث فيه زيادة عند بعض الرواة ونقص عند بعض الرواة، فقد يحفظ هذا ما لم يحفظه هذا، أو أن بعض الرواة حفظها ولكنه اختصر عند الرواية، والحاصل أن حديث عمر في صحيح مسلم ليس فيه ذكر السلام، ولكنه موجود في سنن أبي داود وغيره. ثم إنه جاء وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، أي: قَرُب منه قرباً شديداً، ووضع يديه على فخذيه، وجاء في بعض الروايات أنها على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على شدة القرب والإصغاء إليه، واهتمامه بتلقي ما يسمعه.

تشكل الجن والملائكة

تشكل الجن والملائكة وهذا الذي جاء هو جبريل، وجبريل من الملائكة، والملائكة خلقوا من نور، كما جاء في حديث عائشة: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من تراب، ومن طين، ومن صلصال كالفخار، كما جاء وصف ذلك في القرآن. وقد خلق الله عز وجل الملائكة ذوي أجنحة، كما قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، وقد ثبت في السنة أن جبريل له ستمائة جناح. وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في السماء لما عرج به عند سدرة المنتهى، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق من كبر حجمه وله ستمائة جناح، فهذا الخلق الذي هو بهذا الحجم الكبير يجعله الله تعالى يتحول ويصغر إلى أن يكون بصورة إنسان، فالملائكة تتشكل على خلق الإنسان، كما أن الجن -أيضاً- يتشكلون على خلق الإنسان، وعلى خلق الحيوان، ولذا جاء في الحديث النهي عن قتل عوامر البيوت من الحيات قبل إيذانها، فلابد من تحذيرها؛ لأنها قد تكون من الجن. فالجن قد تشكل على صورة الإنسان، كما في قصة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مع ذلك الشيطان الذي كان يحثو من الطعام، ثم علمه قراءة آية الكرسي، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب). الملائكة يأتون على صورة البشر، كما في هذا الحديث، وكما جاء جبريل على صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان رجلاً من أجمل الصحابة رضي الله تعالى عنه، وجاء ضيوف إبراهيم إلى إبراهيم وإلى لوط على صورة بشر، وقصتهم معروفة في القرآن، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]، فهم ملائكة جاءوا على صورة بشر، وجبريل جاء إلى مريم بصورة بشر كما في سورة مريم، فنزول جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحوله من خلق إلى خلق، كل ذلك يدل على عظمة الله تعالى، والله على كل شيء قدير، ولا يقال: إن هذا خلق آخر. بل هو جبريل عليه السلام، وإنما تحول من كونه يسد الأفق إلى رجل عليه لحية شديدة السواد، ولباسه أبيض شديد البياض، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده الجواب، وقصده من السؤال إسماع الناس. وهذا يدلنا على أن الإنسان له أن يسأل وإن كان يعلم الجواب، وذلك من أجل أن يسمع الناس الجواب، وليس بلازم أن يكون السؤال عن جهل بالجواب، بل يمكن للعالم أن يسأل عالماً، أو أن يسأل سائل عالماً من أجل أن يسمع الناس الجواب، فيكون بذلك معلماً للخير، فهذا جبريل عليه السلام لم يكن مسترشداً، ولم يأتِ متعلماً، وإنما جاء ليعلم الصحابة بجواب النبي صلى الله عليه وسلم عن أسئلته التي يسأل عنها، فنسب إليه التعليم؛ لأنه عالم بالجواب، ولأنه تسبب في السؤال فظهر الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على سؤاله، فنسب إليه التعليم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم على سؤال جبريل عن الإسلام هو الذي اشتمل عليه الحديث الثالث الذي سيأتي بعد هذا، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، فهذا الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم جبريل هو نفسه البيان الذي جاء في الحديث الذي حدث به عبد الله بن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام في بيان الأسس التي بني عليها دين الإسلام، وسنرجئ الكلام على ما يتعلق ببيان هذه الأركان إلى شرح الحديث الثالث، وهو حديث ابن عمر. قوله: (فقال له: صدقت) أي: لما أعطاه الجواب قال: (صدقت)، وهذا -أيضاً- يدعو إلى الاستغراب، ويضاف هذا الاستغراب إلى ما تقدم من كونه شديد بياض الثياب، وشديد سواد الشعر، ولا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منهم أحد، والمعروف من السائل الذي لا يعلم أنه لا يقول: صدقت. وإنما يقول: (صدقت) من كان عنده علم بالجواب، وأما الإنسان الذي ليس عنده علم بالجواب فإنه إذا أفتي يسكت، أو يدعو لمن أجابه وأفتاه، فيقول: جزاك الله خيراً، وأحسن الله إليك. أما أن يقول: (صدقت)، فهذا الجواب جواب العارف والعالم بالسؤال وبالجواب، وكان هذا محل استغراب من الصحابة، ولهذا قال: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) يعني أن السائل من شأنه أن يكون غير عالم بالجواب فيفرح بالجواب، ويدعو لمن أجابه، أما أن يقول: (صدقت)، فهذا يدل على أن عنده علماً بالجواب.

معنى الإسلام والإيمان اتحادا وافتراقا

معنى الإسلام والإيمان اتحاداً وافتراقاً ثم قال: (فأخبرني عن الإيمان. فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، وهذه هي أركان الإيمان، وقد سأل في السؤال الأول عن الإسلام فأجابه عن أمور ظاهرة، وسأله في الثاني عن الإيمان فأجابه عن أمور باطنة، وذلك لأن الإسلام أصله مأخوذ من الاستسلام، وهو الانقياد والإذعان بالطاعة، والاستسلام لله بالتوحيد، والخلوص من الشرك، فهذا هو الإسلام، فيكون فيه استسلام وإظهار للانقياد والسمع والطاعة، والامتثال للأوامر والاجتناب عن النواهي، فلما سئل عن الإسلام فيما يتعلق بأمور ظاهرة صار الجواب مماثلاً لمادة السؤال والمسئول عنه، وهو الإسلام؛ لأنه الاستسلام والانقياد، فصار الجواب عن الإسلام يتعلق بأمور ظاهرة؛ لأن الإسلام مأخوذ من الاستسلام، وهو يكون في الأمور الظاهرة. ولما جاء السؤال عن الإيمان -وهو أمر باطني- جاء الجواب عن أمور باطنه، فصار الجواب عن الإسلام بما يناسب أصله ومادته، والجواب عن الإيمان بما يناسب أصله ومادته. ثم إن الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، وإذا أفرز أحدهما عن الآخر شمل المعاني المفرقة عند الاجتماع، ولهذا عندما يأتي ذكر الإسلام وحده فإنه يشمل الأمور الظاهرة والباطنة، وإذا جاء الإيمان وحده يشمل الأمور الظاهرة والباطنة، لكن إذا جمع بينهما -كما في حديث جبريل هذا- فإن الإسلام يفسر بالأمور الظاهرة، والإيمان يفسر بالأمور الباطنة. فهذه من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر وزع المعنى عليها، وإذا أفرز أحدهما عن الآخر واستقل عن صاحبه شمل المعاني كلها، ومثل ذلك لفظ الفقير والمسكين، والبر والتقوى، فإنها من هذا القبيل، فإن الفقير والمسكين إذا جمع بينهما في الذكر فرق بينهما في المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر شمل معنى الجميع، ففي مثل قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، جمع بين الفقراء والمساكين، ففسّر الفقير بأنه من لا يجد شيئاً أصلاً، والمسكين من يجد شيئاً لكن لا يكفيه، فكل منهما محتاج، إلا أنهما متفاوتان في الحاجة، وجاء في حديث معاذ بن جبل، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أنه قال له: (فإن هم أطعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يقل: ومساكينهم؛ وإنما قال: (على قرائهم)، فالفقير هنا يشمل من لا شيء عنده أصلاً، ومن عنده شيء لا يكفيه؛ لأنه جاء هنا مفرداً فشمل المعنيين، ولما جاء ذكر الفقير والمسكين في موضع واحد وفي آية واحدة قسم المعنى بينهما. وكذلك ما في حديث جبريل، فإنه لما جاء الإسلام على حدة والإيمان على حدة جاء المعنى مقسماً بينهما، فأعطي الإسلام ما يناسبه وهو الأمور الظاهرة، وأعطي الإيمان ما يناسبه وهو الأمور الباطنة، ومثل ذلك البر والتقوى، فإذا جاء البر وحده شمل الأوامر والنواهي، وإذا جاءت التقوى وحدها شملت الأوامر والنواهي، وإذا جمع بينهما فسر البر بامتثال الأوامر وفسرت التقوى باجتناب النواهي، فالمراد أنه عندما يحصل الجمع بينهما يفرق المعنى، وعندما يستقل كل واحد منهما عن الآخر بالذكر فإنه يستوعب المعنيين المفرقين عند الاجتماع، وبهذا يتبين الفرق بين الإيمان والإسلام.

الإيمان بالله تعالى هو أصل الإيمان

الإيمان بالله تعالى هو أصل الإيمان قوله: (قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله) الإيمان بالله: هو أصل الأصول، وهذه الأمور التي ذكرت معه هي تابعة له، والذي لا يؤمن بالله لا يؤمن بها، بل إن كثيراً منها أضيف إليه، حيث قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله) فقوله: (وملائكته)، وكذلك ما بعده أضافه إلى الله عز وجل، فالإيمان بها تابع للإيمان به، فمن لم يؤمن بالله عز وجل لم يؤمن بهذه الأمور، ومن آمن بالله فيمكن أن يؤمن بشيء منها، ويكفر بالشيء الآخر، ولكن إن لم يؤمن بالله فلن يؤمن بها؛ لأن الملائكة ملائكة الله، والرسل رسل الله، والكتب كتب الله، فالذي لا يؤمن بالله لا يؤمن بكتبه، ولا برسله، ولا بملائكته. إذاً: فهذا الأصل -وهو الإيمان بالله- هو الأساس لكل ما يؤمن به من هذه الأمور وغير هذه الأمور، فكل الأمور المغيبة التي جاء الخبر بها عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم يجب الإيمان والتصديق بها، فإن كانت أموراً ماضية فنؤمن بأنها قد وقعت كما جاء الخبر في الكتاب والسنة، وإن كانت مستقبلة فنؤمن بأنها ستقع وفقاً لما جاء به الخبر، وكذلك إن كانت الأمور موجودة ولكنها غير مشاهدة ولا معاينة فإننا نؤمن بأنها موجودة وأنها حق، كما أُخبرنا عن السماوات، وعن الملائكة وعن خلقهم، وعن الجن وعن خلقهم مع أننا لا نراهم ولا نشاهدهم، لكن جاءنا الخبر بذلك. إذاً: فالإيمان بالله هو الأساس، كما أن الشهادتين هما الأساس، والصلاة والزكاة والصيام والحج تابع لهما، فكذلك الإيمان بالله هو الأساس للإيمان بالملائكة والكتب والرسل وغير ذلك، فكل هذه الأركان الخمسة للإسلام والستة للإيمان الركن الأول منها هو الأصل والأساس لغيره، فهو أساس في نفسه وأساس لغيره، فما وراءه من الأركان تابع له، وإذا لم يوجد هذا الأساس فلا يوجد ما وراءه، فإذا لم توجد الشهادتان فلن يوجد ما وراءهما، وإن وجد فإنه لا عبرة به، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، أي: من عمل طيب. فلم ينفع صاحبه عند الله عز وجل مع وجود الشرك، فالمشرك ليس له إلا النار، ولا سبيل له إلى السلامة منها، بل هو باق فيها أبد الآباد إلى غير نهاية.

أقسام توحيد الله

أقسام توحيد الله قوله: (أن تؤمن بالله) الإيمان بالله عز وجل يكون بالإيمان بربوبيته، وإلاهيته، وأسمائه وصفاته. أما الإيمان بربوبيته: فأن تؤمن بأنه واحد في الخلق والإيجاد والتدبير والتصرف في الكون، أي: واحد في أفعاله، فليس لله شريك في ذلك، فتوحيد الربوبية هو توحيده في أفعاله، فهو واحد فيها ولا شراكة لغيره فيها، فهو المتفرد بخلق السموات والأرض، وبخلق المخلوقات كلها، وهو رب كل شيء ومليكه والمتصرف فيه كيف يشاء، فهذا هو توحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية توحيد الله تعالى في أفعاله، أي أنه واحد في أفعاله لا شريك له فيها، فهو الذي خلق السموات والأرض وخلق كل شيء، ولم يشاركه في ذلك مشارك، بل هو مستقل بالخلق والإيجاد سبحانه وتعالى. وأما توحيد الإلهية فهو توحيده بأفعال العباد من دعاء واستعاذة واستغاثة واستعانة وذبح ونذر وتوكل ورغبة ورهبة وإنابة وغير ذلك من أفعال العباد، أي أنهم يجعلونها لله خالصة، ولا يجعلون مع الله تعالى شريكاً فيها، فيكون الله سبحانه وتعالى هو المفرد بالعبادة كما أنه المتفرد بالخلق والإيجاد، فكما أنه لا شريك له في الخلق والإيجاد فيجب أن لا يكون له شريك في العبادة، والكفار الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولكنهم جاحدون لتوحيد العبادة، وقد جاء في القران آيات كثيرة فيها اعترافهم بأن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والإيجاد، ولكنهم أنكروا تفرده بالإلهية، لذلك بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك، وكذلك الرسل السابقون أيضاً أرسلوا إلى أقوام ينكرون عليهم دعوتهم إلى إفراد الله بالعبادة، فهم جاحدون لتوحيد الإلهية ومنكرون له، لذلك بعث الله عز وجل الرسل بدعوتهم إليه، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فما طلب منهم أن يقروا بوجود الله وبربوبيته؛ لأنهم كانوا مقرين بذلك، ولكن الشيء الذي أنكروه هو توحيد الإلهية، ولهذا قال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فمهمة كل رسول أن يأمر قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة غيره، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، فكل رسول أرسله الله عز وجل يوحي إليه بأن يُعبد اللهُ وحده لا شريك له، وهاتان الآيتان تدلان على أن كل رسول هذه مهمته، ثم جاءت آيات مفصلة مع كل نبي يدعو قومه، فكل نبي يقول: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فكل رسول -سواء قٌص علينا خبره أو م يقص، وسواء جاء ذكره في القرآن أو لم يجيء- كان يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة غيره، وجاء ذلك إجمالاً وتفصيلاً، إجمالاً في هاتين الآيتين وأشباههما، وتفصيلاً في قصة كل رسول من الرسل. إذاًَ: فهذه هي مهمة الرسل، وهذا هو الذي أوقع الخصومة بين الرسل وأقوامهم؛ لأن أقوامهم أنكروا أن تكون العبادة لله وحده، فهم يعبدونه ويعبدونه معه آلهة أخرى، فلم يخصوه بالعبادة؛ لأنهم نشئوا على عبادة غير الله عز وجل، وسواء عبدوه مع غيره أو عبدوا غيره فحسب، لكنهم مقرون بأن الله تعالى هو المتفرد بالخلق والإيجاد.

العلاقة بين أقسام التوحيد الثلاثة

العلاقة بين أقسام التوحيد الثلاثة فتوحيد الإلهية هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، فيجب أن يفرد فيها، ويأتي في القرآن كثيراً تقرير توحيد الربوبية، لا لإثباته؛ فإنه ثابت عند المنكرين للإلهية، ولهذا يجيبون بالاعتراف به، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم معترفون مقرون به، فيأتي في القرآن تقرير توحيد الربوبية للانتقال منه إلى الإلزام بتوحيد الإلهية، كما قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] أي: كيف تعبدون مع الله آلهة إذا كان هو المتفرد في الخلق والإيجاد؟! فإنه يلزمكم أن تفردوه في العبادة، وأن تخصوه بذلك وحده دون من سواه، وأن لا تجعلوا مع الله آلهة أخرى؟! وقد حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] أي أنّهم استنكروا هذا الشيء الذي يناقض ما وجدوا عليه الآباء والأجداد، ولهذا لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى التوحيد وإلى الإيمان بالله -وذلك في آخر حياته- وكان عنده بعض الكفار في ذلك المجلس قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقالوا: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فما عندهم إلا تقليد الآباء واتباعهم على ما هم عليه من تلك المعبودات، ولهذا قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، فتوحيد الربوبية يقرَّر في القرآن مع أن المنكرين للإلهية مقرون به، وذلك من أجل إلزامهم بأن يقروا بالإلهية كما أقروا بالربوبية، فتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، ومن أقر بالربوبية فيلزمه أن يقر بالإلهية، فمن أقر بأن الله هو الخالق الرزاق وحده فعليه أن يعبد الله وحده، حيث يلزم من فعل هذا أن يفعل هذا. وأما من وجد عنده توحيد الإلهية فهو مقر بالربوبية؛ لأنه لا يعقل أن يعبد الله وحده وهو جاحد لوجوده وربوبيته، بل إنّ عبد الله وحده فإنه يقر بأن الله هو الخالق وحده، فتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية. فالخلاصة: أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن من وجد عنده توحيد الإلهية فقد وجد عنده توحيد الربوبية ضمناً، فلا يعقل أن يعبد الله وحده ويجحد ربوبيته، ولكن يمكن أن يقر بأن الله الخالق وحده ويعبد مع الله غيره، كما هو شأن الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وأما توحيد الأسماء والصفات فهو إثبات ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات، على وجه يليق بكماله وجلاله سبحانه وتعالى، دون تكييف أو تشبيه أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، بل على حد قول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، فهذه الآية الكريمة فيها الإثبات والتنزيه، الإثبات في قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) والتنزيه في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فهو تعالى له سمع وبصر؛ لقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، لكن سمعه ليس كالأسماع، وبصره ليس كالأبصار؛ لقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فالآية مشتملة على الإثبات والتنزيه، أي: إثبات الصفات مع التنزيه عن مشابهة المخلوقات، فالمشبهة يقولون: له سمع كأسماعنا، وبصر كأبصارنا. فهذا هو التشبيه، وأهل السنة يقولون: له سمع وبصر ليس كأسماع المخلوقين ولا كأبصارهم؛ لأن الله تعالى يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فيثبتون وينزهون، ولا يكيفون مع إثباتهم، فلا يقولون: صورته كذا وكذا ولا يتحدثون عن الكيفية، فإنه لا يعلم أحد عن ذلك شيئاً، وأما المعنى فإنه معلوم؛ لأن الناس خوطبوا بكلام يفهمون معناه، ولم يخاطبوا بكلام غير معلوم ولا مفهوم، ولهذا عندما يأتي مثل قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) فإنهم يعلمون معنى السميع ومعنى البصير، وأن البصر يتعلق بكل المرئيات، والسمع يتعلق بكل المسموعات دقت أو جلت، ويعلمون أنّ (سمع) معناها غير البصر، فالبصر شيء والسمع شيء آخر، ويعلمون أن الكلام غير السمع والبصر، وأن القدرة غير اليد، وهكذا، فكل صفة لها معنى، ولهذا يقولون: إن الصفات متحدة من حيث الذات، ومتباينة من حيث المعنى. فهي متحدة من حيث الذات بمعنى أن الله تعالى هو واحد بذاته وصفاته، ومتباينة من حيث المعنى، فمعنى السمع غير معنى البصر، ومعنى البصر غير معنى الكلام، ومعنى الكلام غير معنى القدرة، ومعنى القدرة غير معنى العزة، ومعنى العزة غير معنى الحكمة، وهكذا، فهذه كلها صفات متباينة من حيث المعنى، ومتحدة من حيث الذات؛ لأن الموصوف بها واحد، ولهذا إذا نفيت الصفات عن الله فلا يبقى له وجود، ولهذا يقول أهل السنة عن الذين ينفون الصفات: إنهم نافون للمعبود، فلا يتصور وجود ذات مجردة عن جميع الصفات، وعلى هذا فإن أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات، على وجه يليق بكمال الله وجلاله، دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، بل إثبات مع تنزيه، ولهذا كان أهل السنة والجماعة وسطاً بين المشبهة والمعطلة، فالمشبهة أثبتوا وشبهوا، والمعطلة نزهوا وعطلوا، وأهل السنة أثبتوا ونزهوا، فالمشبهة عندهم إثبات وتشبيه، والمعطلة عندهم تنزيه وتعطيل لازمه أنه لا وجود للرب، وأهل السنة أثبتوا ونزهوا، أثبتوا فلم يعطلوا؛ لأن الإثبات يقابل التعطيل، فبإثباتهم جانبوا طريقة المعطلة الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل حتى صار المعبود عندهم عدماً لا وجود له، فهم مثبتة وليسوا بمعطلة، ومع إثباتهم لم يكونوا مشبهة، بل منزهة، فقد فارقوا المعطلة بالإثبات، وفارقوا المشبهة بالتنزيه. لذلك فأهل السنة هم المستمسكون بقول الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، فقد أثبتوا لقوله سبحانه وتعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، ونزهوا لقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، والله تعالى أعلم.

تحسين الهيئة عند الدخول على الفضلاء

تحسين الهيئة عند الدخول على الفضلاء يقول ابن دقيق العيد: وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك؛ فإن جبريل أتى معلماً للناس بحاله ومقاله. فهذا كلام جميل من هذا الإمام، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتجمل، وقصة عمر رضي الله عنه في الجبة التي عرض عليه أن يشتريها ليتجمل بها للعيدين وللوفود معروفة، فإذا كان الإنسان قادراً على أن يكون على هيئة حسنة فلا شك في أن هذا مطلوب منه، والأحاديث والسنة في ذلك واضحة جلية في هدي رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في ذلك. ويقول ابن دقيق العيد أيضاً: هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه؛ لما تضمنه من جمعه علم السنة، فهو كالأم للسنة، كما سميت الفاتحة أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن. ويقول ابن رجب: وهو حديث عظيم الشأن جداً، يشتمل على شرح الدين كله، قال أحد العلماء: يصلح أن يقال عن هذا الحديث: إنه أم السنة كما أن الفاتحة أم القرآن؛ لاشتماله إجمالاً على ما اشتملت عليه السنة تفصيلاً. فهذا كلام جيد، يبين -أيضاً- شأن هذا الحديث ومنزلته وقيمته.

الأسئلة

الأسئلة

الموازنة بين الحسنات والسيئات وحالاتها

الموازنة بين الحسنات والسيئات وحالاتها Q ذكر في سبب رواية الحديث عند مسلم أن حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر قد مدحا القائلين بنفي القدر، فهل فيه العمل بقاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات؟ وكيف يكون الرد على هذه الشبة؟ A قضية الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست في كل وقت وفي كل حين، ففي بعض الأحيان يمكن أن يكون للموازنة بذكر الحسنات والسيئات وجه، وذلك مثلما جاء في هذا الحديث؛ لأن هذا تمهيد لبيان الشيء الذي وجد، وأنهم عندهم في الظاهر استقامة وعبادة، وأنّ الناس قد يغترون بهم، وذلك لما يرى من هيئتهم، فهذا قالوه كالتمهيد لبيان الشيء العظيم الذي أنكر عليهم، فهم ليسوا أناساً مجهولين أو أناساً غير معروفين بعبادة أو معرفة، وإنما عندهم معرفة، ولهذا يحصل الاغترار بهم، فذكر ذلك من أجل أن يبينا أن الناس يغترون بهم، وأن هذا من أسباب الاغترار بهم؛ لأن الذي عنده معرفة يغتر به، والذي عنده جهل لا يلتفت إليه ولا يغتر به، وهناك حالات لا يكون معها ذكر الحسنات، وذلك كما جاء في قصة المرأة التي استشارت الرسول صلى الله عليه وسلم في معاوية وأبي جهم الذين خطباها، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه)، ولم يذكر شيئاً من حسانتهما؛ لأن المقام مقام بيان الشيء الذي يناسبها معرفته، فهي تريد أن تتزوج، فالقضية ليست قضية بيان المحاسن، وإنما القضية هي بيان الشيء الذي يعاب به الرجل حتى تكون على بينة من أمرها، فقال: أما معاوية فكذا، وأما أبو جهم فكذا. فلم يذكر شيئاً من حسناتهما، مع أن معاوية رضي الله عنه له محاسن، فقد كان من كتاب الوحي، وكان من أذكياء الصحابة ودهاتهم، ومع ذلك لم يذكر محاسنه؛ لأن المقام ليس مقام مدح، وإنما هو مقام بيان حاله، وذكر الشيء الذي قد لا يناسب المرأة منه، ككونه فقيراً ليس عنده شيء ينفقه على نفسه ولا عليها، وكون أبي جهم ضراباً للنساء، أو أنه كثير الأسفار لا يمكث عند المرأة، ولا يكون على صلة بها باستمرار، فتارة تذكر الحسنات، وتارة تذكر السيئات، وتارة يجمع بينهما.

العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاثة

العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاثة Q هل العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مثل العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية؛ أي: علاقة تضمن؟ A توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات مستلزم لتوحيد الإلهية أيضاً؛ لأن من عرف الله بأسمائه وصفاته فإنه يلزمه أن يتعبد بمقتضاها، وبما تدل عليه، فكل منهما مستلزم لتوحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية متضمن لهما؛ لأن من عبد الله عز وجل حق عبادته فهو يقر بما يثبت له من الأسماء والصفات، ويقر -أيضاً- بكونه الخالق الرازق وحده لا شريك له.

الفرق بين التشبيه والتمثيل

الفرق بين التشبيه والتمثيل Q ما الفرق بين التشبيه والتمثيل؟ A التشبيه والتمثيل معناهما واحد، فتارة يقال: تشبيه. وتارة يقال: تمثيل. لكن التمثيل والمثل هو الذي جاء في تعبير القرآن.

إشكال وجواب

إشكال وجواب Q جاء في الحديث: (بني الإسلام على خمس)، ففيه ذكر الإسلام فقط، ومع ذلك فسره بالأعمال الظاهرة، مع أن القاعدة أن الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمعا؟ A هذا إخبار، ولم يأتِ لفظ الإسلام مفرداً، وأما المفرد فمثل قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، فهنا جاء مفرداً، فيشمل الأمور الظاهرة والباطنة، وأما في الحديث فجاء تفسيره بأمور ظاهرة، وهو تفسير للإسلام بالشيء الذي يناسب، فهو مطابق لما جاء في حديث جبريل، وأما إذا جاءت كلمة الإسلام عامة فإنه يدخل فيها الدين كله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] والإسلام هو أمور ظاهرة وأمور باطنة.

جزم عمر بعدم معرفة أحد لجبريل عليه السلام عندما جاء يعلمهم أمر دينهم

جزم عمر بعدم معرفة أحد لجبريل عليه السلام عندما جاء يعلمهم أمر دينهم Q كيف جزم عمر رضي الله عنه بأنه لا يعرفه منهم أحد فقال: لا يعرفه منا أحد؟ A جاء في بعض الروايات أنه نظر بعضهم إلى بعض، فهذا يدل على أنه غريب لا يُعرف.

[4]

شرح الأربعين النووية [4] الإيمان بالله تعالى هو أصل الدين وأسّه، وهو أن تؤمن بربوبيته وأنه هو الخالق الرازق المحيي المميت المتصرف في الكون، لا شريك له في ذلك ولا ند، وأن تؤمن بإلاهيته، وأنه هو المستحق للعبادة من دعاء ونذر وذبح وتوكل واستغاثة وغير ذلك، وأن تؤمن بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. ومن لوازم هذا الإيمان أن يؤمن المرء بما أوجب الله تعالى الإيمان به من الملائكة والكتب والرسل والقدر واليوم الآخر، فكل ذلك من أركان الإيمان، ولا يستقيم الإيمان بدونها.

الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى على منهج سلف الأمة

الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى على منهج سلف الأمة سبق بعض الكلام على حديث جبريل المشهور في قصة مجيئه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وسؤاله عن أسئلة أجاب عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي آخر الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وقد كنا بدأنا بالكلام على الإيمان بالله، وعرفنا أن الإيمان بالله يشمل الإيمان بربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وعرفنا توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وانتهى الكلام إلى الحديث عن توحيد الأسماء والصفات، وقلنا: إنه الإيمان بكل ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام من الأسماء والصفات المضافة إلى الله تعالى، على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف، ودون تعطيل أو تأويل أو تحريف، بل على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وذكرنا أن أهل السنة وسط بين المعطلة والمشبهة، فالمشبهة أثبتوا وشبهوا، والمعطلة نفوا وعطلوا، وقصدوا بذلك التنزيه، ولكنهم فروا من تشبيه سيئ تصوروه في أذهانهم -وهو التشبيه بالمخلوقات- وصاروا إلى تشبيه أسوأ منه، وهو تشبيهه بالمعدومات، وأهل السنة أثبتوا ونزهوا، فهم مثبتة وليسوا بمعطلة، ومع إثباتهم فهم منزهة وليسوا مشبهة، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء، يقول أبو سليمان الخطابي: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالحق وسط بين الطرفين المتناقضين: الطرف الذي أثبت وشبه، والطرف الذي نفى وعطل حتى صار المعبود بهذا النفي لا وجود له، وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه (التمهيد) أن الذين ينفون الصفات يصفون المثبتة بأنهم مشبهة، ثم قال ابن عبد البر: وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. أي أنَّ المعطلة يصفون المثبتة بأنهم مشبهة بينما، والذين يثبتون الصفات يصفون الذين ينفون الصفات بأنهم نافون للمعبود، أي أنه لا وجود للمعبود ما دام أنه قد نفيت عنه جميع الصفات. هكذا قال ابن عبد البر في كتابه (التمهيد)، حيث ذكر عن المعطلة أنهم يصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأنهم لا يتصورون إثباتاً إلا مع تشبيه، ففروا من الإثبات خوفاً من التشبيه، ولكن النتيجة أنهم فروا من تشبيه سيئ فوقعوا في تشبيه أسوأ، وهو التشبيه بالمعدومات. ولهذا تجد الذهبي رحمه الله في كتابه (العلو للعلي الغفار) لما نقل كلام ابن عبد البر علق عليه بقوله: قلت: صدق والله؛ فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد: إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة. فقيل لهم: ألها سعف؟! قالوا: لا. فقيل: ألها كرب؟! قالوا: لا. قيل: ألها رطب وقنو؟! قالوا: لا. قيل: ألها ساق؟! قالوا: لا. فسألوهم عن كل صفة من صفات النخل وهم يقولون: إنها لا توجد في هذه النخلة. فقيل لهم: فما في داركم نخلة! فكذلك من ينفي عن الله صفاته! ومن الأمثلة التي توضح وتبين هذا التصور الذي تصوروه وبنوا عليه نفي الصفات عن الله أنهم قالوا: إننا لو أثبتنا أن الله يتكلم بصوت وحرف لزم أن يكون مشابهاً للإنسان الذي يتكلم بحرف وصوت، ويلزم أن يكون له لهاة وشفتان وحنجرة ومخارج حروف؛ لأننا لا نتصور كلاماً إلا بهذه الآلات الموجودة في المخلوق. فهم لم يتصوروا إثباتاً إلا مع تشبيه، فما وفقوا إلى تصور إثبات مع تنزيه، ففروا من ذلك إلى التشبيه بالمعدومات، وهذا الكلام الذي قالوه من أنه لا يتصور كلام إلا وفقاً لما هو موجود في المخلوقين باطل وغير صحيح. ومما يدل على بطلانه. أولاً: أنه لا تلازم بين الإثبات والتشبيه، فهناك إثبات مع تشبيه، وإثبات مع تنزيه، والإثبات مع التشبيه هو المحرم والباطل، والإثبات مع التنزيه هو الحق الذي لا ريب فيه، فالله يتكلم ولا نعلم كيفية تكلمه، ولا يشبه الخلق، ولا الخلق يشبهونه، فجميع صفات الباري تليق بكماله وجلاله، وجميع صفات المخلوقين تليق بضعفهم وافتقارهم، ولا تشابه بين الخالق والمخلوق، كما قال الله عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، فأثبت السمع والبصر، ونفى المشابهة، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، ويتكلم لا كتكلمنا، بل كلامه سبحانه وتعالى يليق به، فلا تلازم بين الإثبات والتشبيه. الأمر الثاني: أنَّ قولهم: إننا لا نتصور كلاماً إلا أن يكون بهذه الطريقة المعروفة في المخلوقين من أنه يكون بحنجرة ولهاة ومخارج حروف وشفتين ولسان غير سديد؛ إذ ليس بلازم أن يكون الكلام بهذه الطريقة التي نعرفها ونعقلها، فقد وجد الكلام في الدنيا -وسيوجد في الآخرة- بدون هذه الطريقة التي نعقلها، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، فكان إذا مر به قال: السلام عليك يا محمد. فقد تكلم الحجر وليس له لسان ولا شفتان ولا حنجرة ولا مخارج حروف. ومثله الذراع الذي وضعت فيه اليهودية السم، ولما نهس منه الرسول صلى الله عليه وسلم نهسة تكلم وقال: إنه مسموم. فقد تكلم وليس له لهاة ولا حنجرة ولا لسان ولا شفتان ولا مخارج حروف؟! لقد أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء. وبهذا نعرف أنه وجد الكلام في الدنيا على وجه غير الذي نعقله ونعرفه، وإذا حصل هذا من مخلوق ولم نعرف كيف تكلم فالله عز وجل يتكلم ولا نعرف كيف يتكلم. فنثبت الكلام ولا نسأل عن الكيف، كما قال مالك رحمه الله تعالى عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. فالمعنى معلوم لنا؛ لأننا خوطبنا بلسان عربي مبين، ونحن نعقل معاني ما خوطبنا به، ولكن الكيفية لا نعلمها، بل نجهلها. وهذا يقال في جميع الصفات، فكل صفة يقال فيها: إن الكيف مجهول. فكيفية التكلم مجهولة بالنسبة لنا، وإذا كنا لم نعقل كيفية تكلم المخلوق فمن باب أولى أن لا نعقل كيفية تكلم الخالق، ولا نفكر في ذلك. وأما في الآخرة فقد أخبر الله عز وجل أنه يختم على الأفواه، وتنطق الأيدي والأرجل والجلود بما عمل به الإنسان، وهذا شيء على غير الكيفية التي نعقلها، وهي أن الكلام لا يكون إلا بحنجرة ولهاة ومخارج حروف. وعلى هذا فالذين ينفون الصفات عن الله عز وجل بحجة أنهم لو أثبتوا لكانوا مشبهين قد وقعوا في تشبيه أسوأ، وهو التشبيه بالمعدومات، فلازم قولهم أنه لا وجود للخالق سبحانه؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات، كما عرفنا ذلك بالمثال الذي ذكره الذهبي عن حماد بن زيد. وعلى هذا فيتضح لنا أن الحق وسط بين الطرفين المتناقضين: الطرف الذي أثبت وشبه، والطرف الذي نفى وعطل، والحق مع الذي أثبت ونزه، وهو الذي دل عليه القرآن في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فإن قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) إثبات، وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنزيه، فله سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وكذلك يقال في جميع الصفات.

صحة تقسيم توحيد الله تعالى إلى ثلاثة أقسام وأدلة ذلك

صحة تقسيم توحيد الله تعالى إلى ثلاثة أقسام وأدلة ذلك وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات أنكره بعض المفتونين في هذا الزمن، وقال: إن هذا تقسيم محدث ليس عليه دليل. ومن المعلوم أن هذا التقسيم دل عليه الاستقراء من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد دل الاستقراء والتتبع على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وليس ذلك بغريب ولا بعجيب، بل الأمر في ذلك واضح، فنصوص الكتاب والسنة دلت على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهو مثل تقسيم النحويين الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وليس هناك دليل يدل عليه من الكتاب والسنة، وإنما هو بالاستقراء، فقد استقرءوا كلام العرب وعرفوا أنّه كله لا يخرج عن الثلاثة الأقسام. إذاً: فكما حصل هذا بالاستقراء فقد حصل هذا بالاستقراء أيضاً، ولا إشكال في ذلك، فالاعتراض على مثل هذا يحصل من الذين لم يوفقوا لاتباع الكتاب والسنة، ولم يوفقوا للسير على ما كان عليه سلف هذه الأمة، وإنما ابتلوا بكونهم من أهل الأهواء والبدع والانحراف، فصاروا ينكرون ما يذكره أهل السنة وما يثبته أهل السنة استنباطاً من الكتاب والسنة واستقراء منهما، والإنسان إذا تتبع نصوص الكتاب والسنة يجد أن هذه الأقسام موجودة، ويكفي مثالاً على ذلك أول سورة في المصحف وآخر سورة في المصحف، وهما الفاتحة والناس، فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يشمل أنواع التوحيد الثلاثة؛ لأن نسبة الحمد إلى الله هي فعل العبد، فكون العبد يحمد الله عز وجل ويضيف الحمد إليه ويقول: (الحمد لله) عبادة، وهذا هو توحيد الإلهية، وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيه توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فالربوبية في قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فمعنى: (رب العالمين) خالقهم ومربيهم بالنعم، وموجدهم من العدم، ومن أسماء الله الرب، وهو وإن كان هنا مضافاً إلا أنه قد جاء مفرداً في القرآن، كما في قول الله عز وجل: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فهو من الأسماء والصفات، وكذلك لفظ الجلالة، وهو (الله) في قوله: (الحمد لله) فهو علم الأعلام، وأوضح الأسماء، وهو الذي تضاف إليه الأسماء، وتأتي الأسماء أوصافاً له، حيث يأتي في القرآن كثيراً ثم تأتي بعده الأسماء، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر:23]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، فتأتي الأسماء أوصافاً له، فهو أوضح الأسماء وأبينها، وقد اشتملت عليه هذه الآية الكريمة. وكل اسم من الأسماء يدل على صفة من الصفات، وكل اسم يشتق منه صفة، وليست كل صفة يشتق منها اسم، فالرحمن والرحيم يؤخذ منهما الرحمة، ومن العزيز العزة، ومن اللطيف اللطف، ومن القوي القوة، ومن الحكيم الحكمة، ومن الخبير الخبرة، ومن العليم العلم، وهكذا كل اسم يشتق منه صفة. إذاً: فهذه الآية الكريمة اشتملت على توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات. وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] اسمان من أسماء الله، يدلان على صفة الرحمة، وهذا من توحيد الأسماء والصفات. وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وفي قراءة {ملك يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيه توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيوم الدين هو يوم القيامة، وهو يوم الجزاء والحساب، والله تعالى مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء، وإنما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يخضع فيه الجميع لرب العالمين، بخلاف الدنيا، فإنه يوجد فيها من يتجبر ويتكبر، بل وجد من قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وأما الآخرة فما فيها إلا الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى. قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيه توحيد الإلهية. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فيه توحيد الإلهية؛ لأن (اهْدِنَا) دعاء، والدعاء من العبادة، كما قال ذلك رسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم أهل التوحيد، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهم الذين فارقوا التوحيد. فسورة الفاتحة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، ومثلها سورة الناس، فقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] مثل قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] مشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقوله: ((أَعُوذُ)) فيه توحيد الإلهية؛ لأن الاستعاذة من أفعال العباد، وهي لله عز وجل وحده، وقوله: ((رب الناس)) مثل (رب العالمين) فيه ذكر الربوبية، وفيه اسم وصفة، وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2] فيه ربوبية، وفيه اسم وصفة، وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] فيه ذكر الإلهية، وفيه اسم وصفة. إذاً: فهذا التقسيم موجود في الكتاب والسنة، وقد عرف بالاستقراء والتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وهذا هو الإيمان بالله عز وجل: أن يؤمن المرء بربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته. والإيمان بالله عز وجل هو أس الأسس، وكل ما بعده تابع له، كما أن الشهادتين في أركان الإسلام هما أس هذه الأركان، وكل ما بعدهما تابع لهما، فكذلك الإيمان بالله كل ما وراءه تابع له، وكل ما يجب الإيمان به فهو تابع له، ومن لم يؤمن بالله فإنه لا يؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. إذاً: الإيمان بهذه الأمور تابع للإيمان به سبحانه، فهو الأساس، ولهذا أضيف كثير من هذه الأمور الباقية بالضمير العائد إليه، حيث قيل: وملائكته وكتبه ورسله.

الإيمان بالملائكة الكرام عليهم السلام

الإيمان بالملائكة الكرام عليهم السلام الملائكة خلق من خلق الله، ولا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاء في السنة بيان أنهم خلقوا من نور، كما جاء فيها بيان أن الجان خلق من مارج من نار، وأن الإنسان خلق مما وصف لنا في القرآن، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من طين وتراب وصلصال كالفخار، كما جاء ذلك في القرآن. فإذاً: أصل الملائكة من نور، وأصل البشر من تراب، وأصل الجن من مارج من نار، كما جاء ذلك في القرآن وكما جاء مبيناً في السنة في هذا الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى خلق الملائكة ذوي أجنحة، كما قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، وقد ثبت في السنة أن جبريل له ستمائة جناح، وقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام مرتين على هيئته التي خلقه الله عليها: مرة عند سدرة المنتهى لما عُرج به إلى السماء، ومرة رآه في الأرض وقد سد الأفق لضخامة حجمه، وهذا المخلوق الذي هو بهذه العظمة يتحول بقدرة الله عز وجل فيصير على صورة إنسان، كما مر بنا في أول الحديث، حيث جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم على صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد، فالملائكة يتشكلون من خلقهم إلى خلق آخر كخلق الإنسان، كما حصل لجبريل حيث كان يأتي بصورة رجل مجهول، وجاءه في صورة دحية بن خليفة الكلبي أيضاً، وجاء جبريل إلى مريم في صورة بشر، وكما جاء ضيوف إبراهيم إلى إبراهيم في صورة بشر، وكذلك ذهبوا إلى لوط وهم على صورة البشر، فالله عز وجل يجعلهم يتحولون من خلقهم الذي هم عليه إلى خلق آخر، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وهذا الذي يحصل منهم لا يقال: إنه دليل على جواز التمثيل. وهذا الحديث لا يدل على جواز التمثيل؛ فإن التمثيل محرم، وهو من الكذب الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له ثم ويل له)، فلا يدل الحديث على جواز التمثيل؛ لأن هذا المخلوق هو نفسه الذي سد الأفق، فجاء على هذه الصورة والله تعالى هو الذي جعله عليها. فلا يقال: إنه يجوز للإنسان أنه يمثل شخص غيره، وأن يتكلم على أساس أنه فلان من الناس، أو يقال: هذا يمثل كذا، وهذا يمثل كذا. حتى وصل الأمر إلى أنهم يمثلون الشيطان، والعياذ بالله. فالخلاصة أن هذا الحديث لا يدل على التمثيل؛ لأن هذا شيء حصل بقدرة الله عز وجل، وهو الذي قلبه من حال إلى حال، وأما هذا الذي يحصل من هؤلاء الممثلين فهو تكلف وكذب وإتيان بشيء ليس له أساس في الدين. والإيمان بالملائكة يكون بالإيمان بمن سمي منهم باسمه كجبريل وميكائل وإسرافيل، وكخازن الجنة، وخازن النار، وهو مالك، كما جاء في القرآن، واشتهر أن خازن الجنة اسمه رضوان، وأن ملك الموت اسمه عزرائيل، ولا نعرف شيئاً ثابتاً في ذلك، والذي ثبت في الكتاب والسنة هو اسم جبريل وميكائل وإسرافيل ومالك خازن النار. فنحن نؤمن بمن سمي باسمه، ومن لم يسمَّ نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، ونصدق بكل ما أخبر الله تعالى به -وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم- من بيان أعمالهم، والأمور التي كلفوا بها، وما يتعلق بعباداتهم، وما إلى ذلك من أحوالهم، فكل ما ثبت به الكتاب والسنة يجب التصديق به، وهذا من الإيمان بالغيب؛ لأننا لم نعرف ذلك إلا عن طريق الكتاب والسنة، فلم نشاهدهم ولم نعاينهم حتى نعرفهم، وإنما عرفناهم عن طريق الوحي، بل إنّ الإيمان بالله عز وجل هو من الإيمان بالغيب؛ لأننا لا نعرف عن الله عز وجل إلا ما بينه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان بالله من الإيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب، والإيمان بالكتب من الإيمان بالغيب، والإيمان بالرسل من الإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالغيب، والإيمان بالقدركذلك، فكل أركان الإيمان الستة الإيمان بها من الإيمان بالغيب، أي أننا ما عرفنا ذلك إلا عن طريق الوحي من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في الكتاب والسنة بيان كثير من أعمالهم، فمنهم الموكل بالوحي، ومنهم الموكل بالقطر، ومنهم الموكل بالموت، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم الموكل بالأرحام، ومنهم الموكل بالجنة، ومنهم الموكل بالنار، ومنهم الموكل بالحفظ، ومنهم الموكل بالكتابة، فهذه أعمال كثيرة ذكرها الله سبحانه وتعالى وبينها في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وكل ما جاء في الكتاب والسنة من أخبارهم يجب التصديق به. وهم كثرة لا يعلمهم إلى الله سبحانه وتعالى، ومما يدل على كثرتهم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا وله قرين من الجن وقرين من الملائكة)، فهذا يدل على كثرتهم؛ لأن كل إنسان له قرين من الملائكة، ومما يدل على كثرتهم -أيضاً- أن البيت المعمور -وهو في السماء السابعة، وهو فوق الكعبة، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ومن دخله لا يعود إليه مرة أخرى، فالدخول مرة واحدة لكل ملك، فهذا يدل على كثرتهم. ومما يدل على كثرتهم -أيضاً- ما جاء في الحديث من أن النار لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فهؤلاء الذين يجرون النار فقط، فالملائكة جند لا يعلمهم إلّا الله سبحانه وتعالى، والواجب الإيمان بكل ما جاء من الأخبار عنهم في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقدموا في الذكر على ما بعدهم من الكتب والرسل لأن الملك هو الذي يسمع ويأخذ عن الله، فينزل الرسول الملكي -وهو جبريل- على الرسول البشري، وهو محمد صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، وقد وصف الله تعالى جبريل بأنه رسول كريم في سورة التكوير، ووصف نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه رسول كريم في سورة الحاقة، فكل منهما رسول كريم، فهذا رسول ملكي، وهذا رسول بشري، والرسول الملكي هو الذي يأخذ كلام الله عز وجل وينزل به على الرسول البشري. فقدٍّم ذكر الملائكة لأن جبريل يأخذ عن الله عز وجل، فينزل به على الرسل صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم.

الإيمان بالكتب السماوية

الإيمان بالكتب السماوية الكتب هي التي تلقاها جبريل عن الله تعالى ونزل بها على رسل الله، ويراد بها كل كتاب أنزله الله على رسول من رسله، وهذه الكتب منها ما سمي لنا ومنها ما لم يسمَّ، والذي سمي لنا القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، على خلاف في صحف موسى هل هي التوراة أو غير التوراة، فهذا كل ما سمي لنا في القرآن، وأما غير ذلك فلم يسَّم لنا، ونحن نؤمن بالمسمى وغير المسمى. وقد أخبر الله عز وجل أنه أنزل الكتاب على رسله، فقال كما في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد:25]، ومعلوم أن الله لم ينزل كتاباً واحداًَ فقط على رسله، بل أنزل كتباً، فـ (أل) هنا للجنس وليست للإفراد، أي أن المقصود الكتب، وليس المقصود بذلك كتاباً واحداً مفرداً، وإنما يراد بذلك عموم الكتب وجنسها. وقد جاء في القرآن في مواضع عديدة ذكر الكتاب يراد بها المفرد، وجاء يراد به الجنس، ومن الآيات ما جمعت بين هذا وهذا، ومما جمع بين الاثنين قول الله عز وجل في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136]، فذكر الكتابين: الكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل، أي: الكتب التي أنزلت من قبل، وفي سورة المائدة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة:48] وهو القرآن، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة:48] أي: الكتب السابقة. فقد جمع الله عز وجل في هاتين الآيتين بين لفظ الكتاب مراداً به الكتاب المفرد -وهو القرآن- ومراداً به الكتب السابقة. ومثل ذلك قوله تعالى في البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ} [البقرة:177]، فقوله: ((وَالْكِتَابِ)) أي: الكتب. والألف واللام فيه لاستغراق الجنس. والمراد بالكتب الكتب المنزلة على الرسل التي منها ما سمي ومنها ما لم يسمَّ، والمراد بالإيمان بها أن نؤمن بأنها حق، وأنها كلام الله، وأنها منزلة غير مخلوقة، وأنها مشتملة على كل ما فيه سعادة من أُنزلت عليهم، وأن من أخذ بها سعد وظفر، ومن أعرض عنها خاب وخسر، وكذلك نؤمن بالكتب السابقة على سبيل الإجمال، أي: من ناحية المحتويات، فنحن لا نعرف عنها شيئاً إلا ما جاء في كتاب ربنا أو سنة نبينا من أخبار عنها، فإننا نؤمن بما جاء مضافاً إلى تلك الكتب المنزلة، وبما أخبرنا عنه القرآن والسنة فيها، سواء أكان ذلك موجوداً في الكتب التي في أيدي اليهود والنصارى الآن، أم ليس بموجود، وقد جاء في القرآن بيان بعض الأحكام الموجودة في التوراة، مثل قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] أي: في التوراة، {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فهذا موجود في الكتب السابقة وبنص إخبار القرآن الكريم بذلك، وكذلك الرجم في الزنا، فإنه موجود في الكتب السابقة، كما جاء في ذلك الحديث بأنه موجود في التوراة التي كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حصل التحريف والتبديل قبل زمنه صلى الله عليه وسلم، إلّا أن هذا الحكم بقي موجوداً فيها في ذلك الوقت، كما جاءت بذلك السنة. إذاً: فما كان فيها مما جاء في القرآن مضافاً إليها فنحن نؤمن بأنه فيها، ونصدق به، وأما ما هو موجود في كتبهم ولم يضف إليها في القرآن والسنة فإن كان لا يليق بالله عز وجل ولا يليق بالملائكة فهو كذب، وهو مما بّدل وحّرف، وإن كان كلاماً جميلاً حسناً وعبراً وعظات فنحن لا نصدق به ولا نكذب به؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى هذه الطريقة وإلى هذا المنهج بقوله -كما ثبت في صحيح البخاري -: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، فهذا القسم لا نصدق به ولا نكذّب به؛ لأننا لو صدقنا به فقد يكون بعضه محرفاً فنصدق بالمحرف، ولو كذبنا به فقد يكون حقاً أو بعضه فنكذب بالحق، ولكن إذا قلنا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} ولا نصدق ولا نكذب به فإننا نكون قد أخذنا بطريق السلامة وطريق النجاة. ومما هو موجود في القرآن ولكنه لا يوجد في الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى الآن ما ذكره الله في سورة الفتح من أوصاف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن هذا لا يوجد في الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى، ومع ذلك فكل ما جاء في القرآن يجب الإيمان بأنه موجود فيها، وما لم يكن في القرآن ولا في السنة فإن الأمر فيه يكون بالمنهج الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وذلك بأن لا يكذبوا ولا يصدقوا، وإنما يقال: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}. وأما بالنسبة للقرآن فيجب الإيمان به جملة وتفصيلاً؛ لأنه موجود بين أيدينا من أوله إلى آخره، ومن فاتحته إلى خاتمته، وقد حفظه الله عز وجل من التحريف والتبديل، والقرآن الذي بأيدينا جمعه ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا فإن من مناقبه رضي الله عنه أن الله وفقه لجمع القرآن، فحفظ الله به على هذه الأمة كتابها، حيث جمعه وصار بأيدي الناس يتناقلونه ويتوارثونه، وهو باق ومحفوظ بحفظ الله عز وجل، فنحن نؤمن بكل ما جاء فيه، فنصدق أخباره، ونمتثل أوامره، وننتهي عن نواهيه، ونعتقد بأنه معجز، وأنه تحدى أهل الفصاحة والبلاغة بأن يأتوا بمثله، ثم نزل في التحدي إلى عشر سور من مثله، ثم إلى سورة، وأقصر سور القرآن سورة العصر، وسورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وسورة الكوثر، ولا أحد يستطيع أن يأتي بمثل هذا المقدار كلاماً يماثله، بل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما استطاعوا، كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل، مع أن الذي أتى به رجل أمي لم يكن يقرأ ولا يكتب، فهذا دليل على أنه من عند الله. فنؤمن بالقرآن إجمالاً وتفصيلاً، وأما تفاصيل الكتب السابقة فما جاء ذكره في القرآن مضافاً إليها يؤمن به ويصدق بأنه موجود فيها، وما لم يكن كذلك فإنه يسلك معه الطريقة التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بالرسل عليهم السلام

الإيمان بالرسل عليهم السلام الرسل هم الذين اختارهم الله للرسالة من البشر، وفضلهم على غيرهم، وأنزل عليهم الوحي بواسطة جبريل، فيجب الإيمان بهم، والتصديق بما جاء من أخبارهم، ومن سمي منهم نؤمن به باسمه، ومن لم يسمَّ نؤمن به وإن لم نعرف اسمه، والله عز وجل بين لنا أن منهم من قص علينا ومنهم من لم يقصص علينا، فنحن نؤمن بمن قص باسمه، ومن لم يقص فنؤمن به وإن لم نعرف اسمه. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه بعث في كل أمة رسولاً فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، فكل رسول أرسله الله عز وجل للدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والتحذير من عبادة غيره سبحانه وتعالى، سواء عُبد غيره استقلالاًً، أو عُبد الله وعُبد غيره معه، فإنّ العبادة لا تنفع إلا إذا كانت خالصة لله سبحانه وتعالى لا شريك له فيها. فإذاً: نحن نؤمن بمن سمي وبمن لم يسمَّ، وبمن قص علينا ومن لم يقص، وقد سمى القرآن خمسة وعشرين منهم، فنحن نؤمن بهم وبأسمائهم، وغيرهم نؤمن به وإن لم نعرف اسمه. ونعتقد -أيضاً- أنهم بلغوا البلاغ المبين، وأن كل واحد منهم أدى ما عليه على التمام والكمال، كما قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]؛ لأن هذه مهمتهم، وقد أدوها على التمام والكمال، كما جاء عن الزهري -رحمة الله عليه- أنه قال: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. فالذي من الله هو الإرسال، وقد حصل، والذي على الرسل هو البلاغ، وقد حصل، والذي على أتباعهم هو الاستسلام والانقياد لما جاءوا به، وهنا ينقسم الناس إلى موفق ومخذول، وإلى شقي وسعيد، فالموفق والسعيد هو الذي يستسلم وينقاد لما جاءوا به، والمخذول الشقي الطريد هو الذي يعرض عما جاءوا به ولا يقبله ولا يعمل به. وقد جاء وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، وخاطبه الله تعالى بهذين الوصفين فقال: (يا أيها الرسول) وقال: (يا أيها النبي) وذلك في آيات كثيرة.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول وقد جاء في القرآن ذكر الرسل والأنبياء، فمن العلماء من قال: إنه لا فرق بين النبي والرسول. ولكن الأدلة دلت على الفرق بين النبي والرسول، وأن الرسل هم الذين أنزل عليهم الكتب، وأرسلوا برسالة مستقلة ابتداء، كما حصل لموسى الذي أنزلت عليه التوراة، وإبراهيم الذي أنزلت عليه الصحف، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن، ومنهم من أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، ولم ينزل عليه كتاب، كأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى الذين كانوا يحكمون بالتوراة، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44]، فالأنبياء من بعد موسى كانوا يحكمون بالتوراة، ولم ينزل عليهم كتاب، وإنما أمروا بأن يبلغوا هذا الكتاب، وأن يحكموا به، وأن يدعوا إليه، وعلى هذا فالرسول هو الذي أوحي إليه بشرع ابتداء، وأنزل عليه الكتاب، كموسى الذي أنزلت عليه التوراة، والنبي هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة ولم ينزل عليه كتاب، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يحكمون بالتوراة من بعد موسى، كما جاء ذلك في سورة المائدة، لكن قد جاء وصف نبينا بأنه نبي وأنه رسول، وجاء وصف إسماعيل بأنه نبي ورسول، وجاء وصف موسى بأنه نبي ورسول. أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد خوطب بـ (يا أيها الرسول) و (يا أيها النبي)، فهو -صلى الله عليه وسلم- نبي ورسول، وموسى قال الله عز وجل عنه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51]، وقال الله تعالى عن إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، فوصفهم جميعاً بالنبوة والرسالة. فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولاً ولم يؤمر بالتبليغ، وذلك عندما أنزل عليه (اقرأ) قبل أن تنزل عليه سورة المدثر، فهو نبي وليس رسولاً في ذلك الوقت، وبعدما أنزلت عليه سورة المدثر صار نبياً رسولاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب (الأصول الثلاثة): نبئ بـ (اقرأ) وأرسل بالمدثر يعني: صار نبياً بنزول (اقرأ) عليه، وصار رسولاً بنزول سورة المدثر عليه. وعليه فيمكن أن يقال: إنّ النبي هو الذي أوحي إليه بشرع في وقت ما ولم يؤمر بتبليغه، وهذا مثل الحالة التي كانت قبل نزول المدثر في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو هو الذي أمر بأن يبلغ رسالة سابقة، كما حصل في حق أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى، فإنهم كانوا يحكمون بالتوراة، وأما التفريق المشهور الذي يقول: إنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فإنه لا يستقيم فيما يتعلق بالنبي؛ لأنه جاء في القرآن أن النبي مرسل، كما قال الله عز وجل: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6]، فوصف النبي بأنه مرسل، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] فعطف الرسول على النبي معناه أنهما شيئان وليسا شيئاً واحداً. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المعطلة ولازم قولها

المعطلة ولازم قولها Q هل تلتقي المعطلة مع الشيوعية التي تنكر وجود الله؟ A المعطلة لا ينكرون وجود الله، بل يقولون: إن الله موجود. ولكن مقتضى طريقتهم في النفي أنه لا وجود له تعالى، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن المعطل يعبد عدماً، وإنّ المشبه يعبد صنماً.

حكم التعمق في البحث عن أسماء الله وصفاته

حكم التعمق في البحث عن أسماء الله وصفاته Q هل التعمق في الصفات يفتح على الإنسان باب الوسوسة، حيث يقال: إن الأولى أن يبقى المرء على دين العجائز في الصفات فقط؟ A كون الإنسان يبحث في الكتاب والسنة عن أسماء الله وصفاته هو حق، فهذا هو الطريق الصحيح لمعرفة ما يوصف الله به وما لا يوصف به، فإن ذلك لا يعرف إلا عن طريق الكتاب والسنة، فالعلماء وطلبة العلم هم الذين يبحثون عما يضاف إلى الله عز وجل من الأسماء والصفات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا -كما هو معلوم- من فروض الكفايات، ولا يلزم ذلك كل إنسان، فقد يؤمن الإنسان بأسماء الله وصفاته إجمالاً، وهذا هو الذي يحصل لعموم الناس، وأما المشتغلون بالعلم فهم الذين يرجع إليهم، وهم الذين يمكنهم أن يعرفوا ما أضيف إلى الله عز وجل وما ثبت لله عز وجل من الأسماء والصفات، وذلك بالرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم

سلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم Q هل نقول: إنّ الحجر عندما سلم على النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد فيه نوع حياة، وكذلك جبل أحد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (جبل أحد نحبه ويحبنا)؟ A كل ما في السموات والأرض من المخلوقات يسبح بحمد الله تعالى، وأما ذكر الحجر فالمقصود من الاستدلال به أن هؤلاء الذين يقولون: إنه لا يتصور كلام إلا بلسان ولهاة ونحو ذلك كلامهم باطل، بدلالة سلام الحجر على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما كون المخلوقات تسبح فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].

معنى الصفات الفعلية وتطبيق ذلك على صفة الاستواء

معنى الصفات الفعلية وتطبيق ذلك على صفة الاستواء Q معلوم أنّ الاستواء صفة فعلية خبرية، ومعلوم -أيضاً- أن الصفات الفعلية متعلقة بالمشيئة، فمتى شاء الله تعالى فعلها ومتى شاء لم يفعلها، فعلى هذا هل يقال: إن ربنا لا يكون مستوياً على العرش في بعض الأوقات؟ A لا يقال: إن كل صفة فعلية لا بد من أن تتكرر وأن تتعدد، بمعنى أنه يشاء وجودها فيحصل، ثم يشاء عدمها فلا يحصل، فقد شاء أن يستوي على العرش فهو مستوٍ على العرش، وما عندنا شيء يدل على خلاف ذلك، فليست كل صفة فعلية تثبت لله عز وجل يقال عنها: إنه يحصل لها كذا ويحصل لها كذا. فالاستواء صفة فعلية لله تعالى، فقد استوى على العرش، وما عندنا شيء ينفي هذا أو يدل على أنه حصل هذا في وقت دون وقت، نعم هو حصل بعد عدمه، لكنَّه بعد ذلك حاصل، فليس هناك إلا ذكر استوائه على العرش.

تشكل الملائكة على غير صورة البشر

تشكّل الملائكة على غير صورة البشر Q هل تتشكل الملائكة على غير صورة البشر؟ A لا نعلم دليلاً يدل على ذلك، والذي ثبت أنهم يتشكلون على صورة البشر، وأما الجن فيتشكلون على صورة البشر وعلى صورة غير البشر، كما جاء ذلك الشيطان إلى أبي هريرة على صورة بشر، وكما جاء في حديث النهي عن قتل الحيات في البيوت لأنها قد تكون من الجن.

الأنبياء المذكورون في القرآن بين النبوة والرسالة

الأنبياء المذكورون في القرآن بين النبوة والرسالة Q هل الخمسة والعشرون الذين ذكروا في القرآن رسل أم أنبياء؟ A فيهم من هو رسول، وفيهم من هو نبي، وفيهم من عرف بأنه أنزل عليه كتاب، وفيهم من لم يعرف. والله أعلم.

إشكال وجواب

إشكال وجواب Q كيف يكون آدم عليه السلام نبياً ولم تكن قبله كتب؟ A معلوم أنه أوحي إليه بما يتعبد الله تعالى به، وكذلك بنوه، فهو رسول إلى بنيه، فهم لم يعرفوا ما يتعبدون الله به إلا عن طريقه.

ثبوت أسماء بعض الملائكة

ثبوت أسماء بعض الملائكة Q هل ثبتت لبعض الملائكة اسم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ومنكر ونكير، رقيب وعتيد، ورضوان؟ A أما منكر ونكير فقد جاءت بهما السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث سؤال القبر، وأما اسم عزرائيل فما نعلم أنه ثبت فيه شيء، وأما رقيب وعتيد فمعناه أنهما موكلان بالكتابة وأنهما موجودان، وليسا اسمي ملكين، وإنما ذلك من رقابة الملك على ما يصدر من العبد فيكتبه من خير أو شر. وأما إسرافيل فقد جاء في صحيح السنة: (اللهم! رب جبريل وميكائيل وإسرافيل) وأما رضوان فهو مشهور، ولا أعلم فيه دليلاً خاصاً يدل عليه.

هاروت وماروت من الملائكة

هاروت وماروت من الملائكة Q هل هاروت وماروت من الملائكة؟ A نعم هما من الملائكة.

الجمع بين حديث أجر المسلم على النفقة على أهله يحتسبها وحديث أجره على مطلق الإنفاق

الجمع بين حديث أجر المسلم على النفقة على أهله يحتسبها وحديث أجره على مطلق الإنفاق Q كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة)، وحديث: (مهما أنفقت فهو لك صدقة)، حيث إن الأول ورد فيه الاحتساب، والآخر لم يرد فيه الاحتساب؟ A يحمل المطلق على المقيد، فلا يكون له صدقة ولا يؤجر على ذلك إلا إذا احتسب ذلك، وأما إذا فعل ذلك بدون احتساب، أو ألزمه القاضي بأن ينفق، فلم ينفق إلا بحكم القاضي وإلزامه، فمثل هذا لا يحصّل أجراً؛ لعدم وجود الاحتساب، فهذا مطلق وهذا مقيد، فيكون هذا محمولاً على هذا.

عصمة الرسل من الصغائر والكبائر

عصمة الرسل من الصغائر والكبائر Q هل الرسل معصومون من الصغائر والكبائر؟ A أما الكبائر فلا شك في أنهم معصومون منها، وأما الصغائر ففيها خلاف بين أهل العلم.

تفسير ما حصل من الأنبياء من المعاصي

تفسير ما حصل من الأنبياء من المعاصي Q بماذا يفسر ما حصل من الأنبياء في حياتهم عليهم السلام، مثل قتل موسى لذلك الرجل، وعصيان آدم ربّه في الجنة؟ A معلوم أنّ هذا القتل كان خطأً من موسى عليهم السلام، فلم يرد قتله، وإنما أراد دفعه عن الإسرائيلي فمات من تلك الدفعة، وأما آدم عليه السلام فإن الشيطان هو الذي غرّر به وجعله يقدم ويرغب في هذا البقاء، فأكل من هذه الشجرة يريد البقاء، وقد قال الله تعالى عنه بعد ذلك: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122].

البيت المعمور فوق الكعبة

البيت المعمور فوق الكعبة Q هل القول بأن البيت المعمور لو سقط لوقع على الكعبة جاء في حديث مرفوع؟ A نعم هو فوق الكعبة، ولو سقط لوقع عليها.

اتصاف الله تعالى بالاستواء بعد خلق العرش

اتصاف الله تعالى بالاستواء بعد خلق العرش Q قبل أن يخلق الله العرش هل كان ربنا موصوفاً بالاستواء؟ A الاستواء -كما هو معلوم- لم يحصل إلا بعد خلق العرش، وكان الله قبل ذلك موصوفاً بالعلو، وأما الاستواء على العرش فهو بعد خلقه، والاستواء من صفات الأفعال.

نسخ الإنجيل للتوراة

نسخ الإنجيل للتوراة Q هل الإنجيل ناسخ للتوراة؟ A ليس ناسخاً لها، بل فيه إقرار لبعض أحكامها، وهو ناسخ لبعض أحكامها، فهو إقرار لشيء ونسخ لشيء، وليس ناسخاً لها كلها.

تقديم الملائكة على الرسل في الذكر كما في حديث جبريل وغيره

تقديم الملائكة على الرسل في الذكر كما في حديث جبريل وغيره Q ألا يكون تقديم ذكر الملائكة في أركان الإيمان على ذكر الرسل دليلاً على أن الملائكة أفضل من الرسل؟ A التقديم والتأخير والعطف بالواو لا يفيدان التفضيل.

ذكر عدد الأنبياء والرسل في السنة

ذكر عدد الأنبياء والرسل في السنة Q هل ورد في السنة الصحيحة ذكر لعدد الأنبياء والرسل؟ A نعم، فقد ورد حديث أبي ذر في هذا.

تقسيم التوحيد إلى اعتقادي وعملي

تقسيم التوحيد إلى اعتقادي وعملي Q ما قولكم فيمن قسم التوحيد إلى قسمين: اعتقادي وعملي؟ A ليس هناك منافاة؛ فالاعتقادي لتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، وأما العملي فهو لتوحيد الإلهية، وذلك مثل قضية الإيمان، فبعضهم يقول: إنه قول وعمل واعتقاد، ومنهم من يقول: إنه قول وعمل. ويُدخل في ذلك الاعتقاد.

حكم من قال إن الملائكة قوى معنوية لا حقيقة لها

حكم من قال إن الملائكة قوى معنوية لا حقيقة لها Q ما حكم قول الشخص: إن الملائكة عبارة عن قوى معنوية وليست لها حقيقة؟ A هذا كلام باطل، وهذا إنكار للقرآن، وكيف لا يكون لها حقيقة وجبريل عليه السلام قد جاء عنه أنه له سبمائة جناح؟! فمعنى ذلك أنّ ذلك أوهام وليس حقيقة، فهذا فيه إنكار للملائكة، وقد ذكر الله أنه خلقهم ذوي أجنحة، فهل صاحب الأجنحة ليس له حقيقة؟!

حكم الإقسام على الله تعالى بإلاهيته وربوبيته

حكم الإقسام على الله تعالى بإلاهيته وربوبيته Q ما حكم أن يسأل العبد ربه بهذا الدعاء: اللهم! إني أقسم بإلهيتك وربوبيتك على أن تعطيني كذا وكذا؟ A لا يقسم الإنسان على الله عز وجل، وإنما يسأله بالطرق المشروعة في الدعاء، مثل: اللهم! رب جبريل وميكائيل وإسرافيل! أسألك كذا. كما جاء في الحديث.

لا أجر إلا باحتساب

لا أجر إلّا باحتساب Q جاء في الحديث أن الرجل يؤجر على اللقمة يضعها في في امرأته، مع أنه لم يذكر الاحتساب، فهل يؤجر مع عدم الاحتساب أم يحمل الحديث على الأحاديث الوارد فيها ذكر الاحتساب؟ A معلوم أن الأجر والثواب مبني على الاحتساب، وكل ما جاء في الأحاديث من ذكر الأجر والثواب فإنما يكون حاصلاً لوجود الاحتساب، ومعلوم أن وضعه اللقمة في فيها إنما قصده من ذلك الإحسان إليها وتأنيسها، وأنه ما فعل ذلك إلّا لأنه مشروع كما جاء ذلك في السنة.

الرقية والقراءة في الماء ثم صبه على الجمادات المصابة بالعين

الرقية والقراءة في الماء ثم صبه على الجمادات المصابة بالعين Q إذا كانت القراءة في الماء ثم صبه على المريض صحيحة فهل يمكن أن يعمل هذا مع الجمادات، كشخص يظن أن سيارته قد أصيبت بعين؟ A لا يعمل هذا مع الجمادات، وإنما يسأل الله أن يحفظه في أهله وماله، أما أن يقرأ ويصب عليها فلا.

[5]

شرح الأربعين النووية [5] من أركان الإيمان وأصوله: الإيمان باليوم الآخر، وهو شامل لكل غيب بعد الموت، فيدخل فيه الإيمان بالبرزخ، والإيمان بأحداث البعث والنشور، والإيمان بالعرض على الله تعالى، والإيمان بالحساب، والإيمان بالميزان، وبالصحف، وبالجزاء بالجنة أو النار. ومن أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، وهو أن يسلم العبد ويوقن بأن كل شيء خلقه الله تعالى بقدر.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر

الجمع في القرآن والسنة بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر

الجمع في القرآن والسنة بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر هو أحد الأصول الستة التي جاءت في حديث جبريل، ويأتي في القرآن والسنة الجمع بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وذلك لأن الإيمان بالله هو الأصل الذي تنبني عليه كل الأصول، والإتيان بالإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله للتنبيه على الجزاء، وعلى ما يلقاه الإنسان في الدار الآخرة من الثواب والعقاب، ويأتي في الترغيب والترهيب الجمع بينهما، ويكون المقصود من ذلك في مجال الترغيب العمل بالأمور المشروعة من أجل أن يحصل الإنسان على الثواب، والمقصود من ذلك في الترهيب أن يحذر الإنسان من الوقوع في الأمور المحرمة؛ لئلا يحصل له العقاب. ومما جاء في القرآن من الجمع بينهما قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] وهذا في الترغيب؛ لأنه يتعلق بالرد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وجاء في سورة الطلاق: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2]. وأما في السنة فقد جاء ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم) وكذلك جاء في الحديث الآخر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وهذا الحديث من أحاديث الأربعين النووية كما سيأتي، وهو من حديث أبي هريرة، وكل جملة فيه فيها الجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وذلك إما ترغيباً في فعل الخير ليحصل الأجر، وإما ترهيباً من فعل الشر حتى يسلم من الوزر. إذاً: فالجمع بين الإيمان بالله واليوم الآخر من أجل التنبيه على الاستعداد لذلك اليوم، فيقدَّم الإنسان الأعمال الصالحة، ويحذر من أن يقع في المحرمات؛ ليحصَّل له الثواب في الدار الآخرة وليسلم من العقاب فيها أيضاً. ويأتي في القرآن -أيضاً- الجمع بين أكثر من أصلين، وذلك بأن يذكر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وذلك كما في قوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]، فقد اشتملت الآية على خمسة أصول من أصول الإيمان. والمقصود بالكتاب الكتب، و (أل) فيه لاستغراق الجنس، وليست للأفراد، ثم إن هذه الخمسة جاءت في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:136]. وجاء ذكر هذه الخمسة في آخر سورة البقرة في قول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، والخامس أشار إليه بقوله: ((وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))، والمقصود من ذلك هو اليوم الآخر. فجاءت هذه الأصول الخمسة في هذه الآيات الثلاث مجتمعة: في البقرة في آيتين، وفي النساء في آية واحدة، وأما الإيمان بالقدر فقد جاء مستقلاً في قول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]. وأكثر ما اجتمع من هذه الأصول خمسة، وأقلها اثنان: الإيمان بالله واليوم الآخر، وتلك الأصول الخمسة التي اجتمعت هي ما دون الإيمان بالقدر.

للإنسان بعد موته داران: دار البرزخ، ودار ما بعد البعث والنشور

للإنسان بعد موته داران: دار البرزخ، ودار ما بعد البعث والنشور واليوم الآخر هو مقابل الدنيا، والحد الفاصل بين الدنيا والآخرة بالنسبة لكل إنسان هو موته، فإنه إذا مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والذين يكونون في آخر الزمان فإن الساعة تقوم عليهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى التي تعقبها نفخة البعث فإن كل من كان حياً يموت، فيتساوى بالموت من مات في أول الدنيا ومن مات في آخرها، فالكل يموتون، وهناك بعد الموت داران: دار البرزخ، ودار ما يكون بعد البعث والنشور، فالإنسان إذا كان موفقاً فهو منعم في قبره وبعد ذلك، وإذا كان على خلاف ذلك فإنه يكون معذباً في قبره وبعد ذلك، وقد يكون نصيبه من العذاب هو ما يكون في قبره. وعلى هذا فكل إنسان في هذه الدار هو في سفر إلى الآخرة، وكل يوم يمضي من عمره فإنه يقربه من الأجل والنهاية، فكل إنسان له أجل ينتهي إليه قد قدره الله وقضاه، وإذا جاء الأجل فليس هناك تقدم ولا تأخر، وإنما يكون في الوقت الذي شاءه الله تعالى، وبأي سبب من الأسباب، فإما أن يموت بالغرق، أو بالحرَق، أو بالقتل، أو يموت على فراشه، أو بغير ذلك من الأسباب، وبذلك ينتهي من دار العمل وينتقل إلى دار الآخرة.

إعداد الزاد للآخرة

إعداد الزاد للآخرة والزاد للآخرة هو تقوى الله عز وجل، كما الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، فكما أن الناس في أسفارهم الدنيوية يحتاجون إلى الزاد فكذلك هم في سفرهم إلى الآخرة، بل هم هنا أشد حاجة إلى الزاد، وقد أورد البخاري في صحيحه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في كتاب الرقاق أنه قال: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل)، فما ذهب ومضى من حياة المرء فقد ذهب بما فيه من عمل، وإنما عليه أن يصلح حاله في المستقبل، وأن يتدارك أموره إذا كان عنده تقصير؛ لأن كل يوم يمضي عليه يباعده من الدنيا ويقربه من الآخرة، فهناك أناس يشتغلون بالدنيا ويغفلون عن الآخرة، وهناك أناس يشتغلون بالآخرة ولا تكون الدنيا همهم. يقول رضي الله تعالى عنه: (فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب) أي: في الدنيا (وغداً -يعني: بعد الموت- حساب ولا عمل) أي أن الإنسان ليس عليه عمل في الآخرة، وإنما هي دار جزاء، إن عمل خيراً فجزاؤه خير، وإن عمل شراً فجزاؤه شر، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه ذلك.

المداومة على الأعمال الصالحة

المداومة على الأعمال الصالحة وبما أن الإنسان لا يدري متى يموت فإن الموفق هو من داوم على الأعمال الصالحة، وكان على صلة وثيقة بالله باستمرار، فإذا وافاه الأجل فإنه يكون على حال طيبة، بخلاف الإنسان الذي يهمل ويغفل في بعض الأوقات وينشط في بعض الأوقات، فإنه قد يأتيه الموت في حال الإهمال والتقصير، وأما إذا داوم على العمل ولو كان قليلاً فإنه يعود عليه بالنفع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أي: داوموا على الإسلام، وعلى الطاعة، وعلى التقى. ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الطويل: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) فقوله: (فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر) هو من جنس قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] أي: أن يكون الإنسان مستقيماً وملازماً للتقوى، وقد ذُكر في ترجمة منصور بن زاذان -وهو من رجال الكتب الستة، وكان من الملازمين للعبادة- أنه قال فيه أحد أصحابه أو العارفين به: لو قيل لـ منصور بن زاذان: إن ملك الموت بالباب لما أمكنه أن يزيد شيئاً عن الذي كان يفعله. لأنه ملازم للعبادة، ففي أي وقت يأتيه الأجل فهو على حالة طيبة من ملازمة التقوى والطاعة لله تعالى، فعلى الإنسان أن يكون مستعداً ومتهيئاً في أي لحظة من اللحظات للموت، فإذا فاجأه الموت فإنه يكون على حالة حسنة طيبة. وإنّ الإنسان في حال خروج روحه يبشر أو يُخوُّف، فإذا كان من أهل السعادة فإن الملائكة تبشره، ولهذا فإن روحه تخرج بسرعة كما تخرج القطرة من في السقا، وإذا كان بخلاف ذلك وبشر بالعذاب فإن الروح تأبى الخروج من الجسد، فيستخرجونها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، ولهذا جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم -وهو أول حديث عند الإمام مسلم في كتاب الزهد- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، فالكافر لا يريد أن يخرج من هذه الدنيا؛ لأنه ليس عنده نعيم إلا فيها، فما بعدها إلا العذاب الدائم المستمر، وأما المؤمن فإنه في الدنيا في سجن، أي أنه تحصل له المصائب والنكبات، ومع ذلك فإنه يصبر ويحتسب، ولكنه عندما ينتقل من هذه الدار إلى دار النعيم فكأنه خرج من السجن، فينطلق في نعيم الجنة وخيراتها وما أعده الله له فيها.

حال الإنسان في قبره والإيمان والتسليم بذلك

حال الإنسان في قبره والإيمان والتسليم بذلك وإذا مات الإنسان ووضع في قبره فإنه يأتيه منكر ونكير -وهما ملكان- يسألانه عن ربه ودينه ونبيه، وهذه الأسئلة الثلاثة يمتحن بها الإنسان في قبره، فإذا كان موفقاً أجاب بأن ربه هو الله، وأن دينه هو الإسلام، وأن نبيه هو محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان بخلاف ذلك فإنه يقول: هاه هاه، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. وهذه الأسئلة التي يسأل عنها العبد في القبر اشتمل عليها كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله المسمى (الأصول الثلاثة وأدلتها)، وهو كتاب مختصر مفيد، وموضوعه هو هذه الأسئلة الثلاثة التي يسأل عنها العبد في القبر، حيث تكلم عما يتعلق بالإيمان بالله، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وعما يتعلق بالدين، وهذه الأمور الثلاثة جاءت في الحديث الذي في صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً)، وكذلك جاء هذا الدعاء عند الأذان، وجاء -أيضاً- في أذكار الصباح والمساء: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً)، وكتاب (الأصول الثلاثة) كتاب نفيس لا يستغني عنه الخواص ولا العوام، ولا يستغني عنه العامي ولا طالب العلم؛ لأنه يتكلم عن هذه الأسئلة الثلاثة التي يسأل عنها الميت في قبره، وقد تكلم عنها بكلام مختصر ومفيد، فلهذا ينبغي لكل إنسان أن يحرص عليها بنفسه، وأن يدل عليها غيره ليستفيد منها. ثم إن من كان مؤمناً -كما جاء في حديث البراء- وأجاب بالجواب السديد فإنه يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، وإذا كان بخلاف ذلك فتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، فيكون الإنسان منعماً بنعيم الجنة وهو في قبره، أو معذباً بعذاب النار وهو في قبره. وعذاب القبر ونعيمه من أمور الغيب التي يجب التصديق والإيمان بها، فيجب على الإنسان أن يصدق بكل ما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام من أمور غائبة، سواء أكانت ماضية أم مستقبلة أم موجودة لا تشاهَد ولا تعايَن، كالملائكة والجن الذين يكونوا حولنا، وكما في أخبار ما في السموات مما أخبر به الله عز وجل وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل ذلك يجب الإيمان به، فالإيمان بعذاب القبر ونعيمه من جملة الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهله وأثنى عليهم بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2 - 3]. أصول الإيمان الستة التي نتكلم عليها كلها داخلة في الإيمان بالغيب، فالإيمان بالله من الإيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب، والإيمان بالرسل من الإيمان بالغيب، والإيمان بالكتب من الإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر من الإيمان بالغيب، والإيمان بالقدر من الإيمان بالغيب، وجميع أعمال اليوم الآخر داخلة في الإيمان بالغيب، والحياة في البرزخ تختلف عن الحياة قبل الموت، وعن الحياة بعد البعث، ولهذا فهي برزخ وحد فاصل بين هذا وهذا، فكل ما أخبر الله تعالى به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بالقبر والدار الآخرة يجب الإيمان به، وقد ذُكر عذاب القبر في القرآن، كما قال الله عز وجل في حق فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. وقيام الساعة يطلق على معنيين: أحدهما: نهاية الدنيا التي تقوم عليها الساعة، والثاني: البعث، فإنه يقال له: قيام الساعة. فالمقصود بقيام الساعة في الآية هو البعث، فقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] أي: في القبور {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] أي أنه عندما يكون البعث والنشور بعد ذلك فإنهم ينتقلون من عذاب شديد إلى عذاب أشد، وعلى هذا فمن كان موفقاً فإنه يصل إليه نعيم الجنة من قبره، ومن كان بخلاف ذلك فإنه يصل إليه عذاب النار في قبره، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، فالكتاب كما في هذه الآية التي في شأن آل فرعون، وأما السنة فكما جاء في حديث البراء بن عازب الذي أشرت إليه، وكذلك غيره من الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإيمان والتسليم بما يكون في القبر وما بعد ذلك

الإيمان والتسليم بما يكون في القبر وما بعد ذلك ثم إن عذاب القبر -كما هو معلوم- أمر غيبي، فلو فتحنا القبر فإنا لا نجد فيه جنة ولا ناراً، فلا يُنكر ذلك بحجة عدم رؤيته، فأمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا، وأمور البرزخ تختلف عن أمور الدنيا، فقد حجب الله تعالى عنا ذلك، كما حجب عنا -أيضاً- ما يجري في القبور من الأصوات ومن العذاب والصياح، وقد أطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على بعض ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، والحكمة في ذلك -والله أعلم- أن يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن به، فلو كانت أمور الآخرة علانية لما تميَّز من يؤمن بالغيب ومن لا يؤمن به، ولهذا ستحصل أمور الآخرة في الآخرة ولا تحصل في الدنيا، فهناك أناس يصدقون بكل خبر، وهناك أناس يقولون: هذا غير معقول. وهذا مثل حال بعض الفرق الضالة التي تقول: إن الجنة والنار ليستا موجودتين؛ لأنهما لو كانتا موجودتين لكان وجودهما عبثاً؛ لأنه لا يستفاد منهما. وهذا كلام باطل؛ لأن الآية أخبرت بأن العذاب حاصل قبل يوم القيامة في عذاب النار نفسه، وأن المنعم يصل إليه النعيم وهو في قبره، فيفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فمعنى ذلك أن النعيم والعذاب حاصلان، ومما يبين هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس صلاة الكسوف عُرضت عليه الجنة والنار، فرأى عناقيد العنب متدلية، فمد يده ليتناول عنقوداً ثم ترك، وكان الصحابة رضي الله عنهم وراءه يرون يده تمتد ولا يرون الذي مُدَّت إليه اليد، وعرضت عليه النار فتكأكأ، أي: رجع القهقرى، ولما فرغ من صلاته قالوا: يا رسول الله! رأيناك تقدمت وكأنك تتناول شيئاً، ورأيناك تكأكأت! فقال: (عرضت علي الجنة، ورأيت عناقيد العنب، فأردت أن آخذ عنقوداً ثم تركت، ولو أخذت منه لأكلتم ما بقي من الدنيا) ولكنه ترك ذلك حتى تبقى أمور الآخرة غيباً، وحتى يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن بذلك، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يروا هذا الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أسمع الله نبيه ما يجري في القبور، وحجب ذلك عنهم فلم يسمعوه. فالله تعالى على كل شيء قدير، وله أن يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من غيبه، وأن يحجب ذلك عمن يشاء. وقد نص الشارع في ذكر العذاب على القبر؛ لأن الغالب على الناس أن يقبروا، ومن الناس من لا يقبر، فبعضهم يحترق ولا يبقى لجسمه أثر، ومن الناس من يغرق وتأكله الحيتان، لكن الغالب أن الناس يقبرون، ولهذا جاءت النصوص في الكتاب والسنة على عذاب القبر، فذكر القبر من باب الغالب، فمن لم يقبر وهو مستحق للنعيم فإنه يصل إليه، ومن لم يقبر وهو مستحق للعذاب فإنه يصل إليه العذاب، والله على كل شيء قدير. وقد جاء في السنة أن الأنبياء حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، فالذين أكلتهم الأرض وصاروا مختلطين بالتراب يصلهم النعيم والعذاب، والذي يحترق ويتفرق في الهواء يصل إليه النعيم والعذاب، فمن كان مستحقاً للنعيم وصل إليه، ومن كان مستحقاً للعذاب وصل إليه. وقد يقبر اثنان في قبر واحد ويكون أحدهما في نعيم والثاني في جحيم، وهذا لا يصل إليه نعيم هذا، وهذا لا يصل إليه عذاب الآخر، والله تعالى على كل شيء قدير. وهناك في أمور الدنيا من الشواهد ما يوضح هذا المعنى، فقد يكون الاثنان نائمين في مكان واحد، ثم يقومان من النوم وأحدهما مسرور لأنه رأى في منامه أموراً سارة، وأما الثاني فيقوم وهو حزين؛ لأنه رأى الوحوش تلاحقه، أو رأى الحيات تطارده، فيحصل له من البلاء والعذاب ما الله به عليم، ومع ذلك لم يدر أحدهما عن صاحبه شيئاً. فأمور الآخرة وأمور البرزخ جهلها من باب أولى، فلا تقاس على أمور الدنيا، وإنما هي أمور مخفية. وجاء في الحديث أن الإنسان الكافر عندما يضرب بمرزبة يصرخ صرخة يسمعها كل شيء من الحيوانات إلا الثقلين؛ لأنهما مكلفان، فلذلك أخفى الله عليهم ذلك، والحيوانات نفسها تسمع ما يجري في القبر، فالله تعالى أسمع من شاء من خلقه، وأخفى ذلك عمن شاء من خلقه -وهم المكلفون- حتى يتميز من يؤمن بالغيب ممن لا يؤمن به، وعلى هذا فإن الواجب هو الإيمان بكل ما جاء في القرآن والسنة مما يتعلق باليوم الآخر، ومن ذلك -أيضاً- ما يتعلق بالبرزخ، فالبرزخ تابع لليوم الآخر، فكل ذلك داخل في دار الجزاء، فما بعد الموت كله جزاء، وما قبل الموت كله عمل، كما مر في أثر علي رضي الله عنه (اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).

إعادة الأجساد بعد البعث كما كانت في الدنيا

إعادة الأجساد بعد البعث كما كانت في الدنيا فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية خرج الناس من قبورهم وقد أكلت الأرض ما أكلت منهم، فيعيد الله عز وجل كل الخلق الذين كانوا في الدنيا بأجسادهم وأرواحهم نفسها؛ حتى يحصل لها النعيم أو العذاب في الآخرة، ولا يخلق أجساداً جديدة، بل يعذب أو ينعم نفس تلك الأجساد التي كانت موجودة في الدنيا، ولهذا أخبر الله عز وجل عن ذلك بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] أي: فنحن نعيده، فنستخرج تلك الذرات التي دخلت التراب حتى ترجع كل ذرة إلى مكانها. إذاً: فالبعث ليس إعادة أجسام جديدة لم تكن موجودة في الدنيا، بل يعيد نفس الأجسام التي كانت في الدنيا، وقد جاء في القرآن والسنة أدلة تدل على هذا المعنى، وذلك في قصة إبراهيم التي ذكرها الله في القرآن، وذلك حينما طلب أن يريه الله كيف يحيي الموتى، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة:260] قيل في معنى ذلك: إنه أخذ أربعة من الطيور فذبحها وقطعها وخلط لحمها حتى صارت كتلة واحدة، ثم قسمها إلى أربعة أقسام، فجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم دعاهن، فانطلقت هذه القطع حتى وقعت كل قطعة في المكان الذي خرجت منه، فعاد الجسم كما كان، فهذه كيفية إحياء الموت، أي أن الأجزاء المتفرقة تعود إلى أماكنها، ومثل ذلك الحديث الذي ذكر فيه أن رجلاً من بني إسرائيل أوصى بنيه فقال: (إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا رمادي في البر والبحر، فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين) وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أمر البحر بأن يخرج ما فيه، والبر أن يخرج ما فيه، حتى عادت كل ذرة من الذرات إلى مكانها وعاد الجسم كما كان، فهذا هو الخلق الثاني، فالله عز وجل يعيد الخلق الثاني كالخلق الأول، قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]. ولهذا فالناس يخرجون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، أي: غير مختونين، فكما كانوا في أول خلقهم غير مختونين فإنهم يكونون في الآخرة غير مختونين، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] حتى القطعة التي قطعت فإنها تعود كما كانت أولاً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها (الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! الأمر أعظم من ذلك) أي أنهم لا يفكرون في العورات من شدة ما عندهم من الهول والفزع والخوف من الله سبحانه وتعالى، ثم إن هذا الأجزاء التي تجمع وتعود كما كانت هي التي كانت في الدنيا، فهي التي أحسنت وأساءت، فيكون العذاب والنعيم على الروح والجسد جميعاً؛ لأن الإساءة حصلت من مجموع الروح والجسد، والإحسان حصل من مجموع الروح والجسد، فالجزاء يكون لمجموع الروح والجسد، والروح تنعم متصلة بالبدن ومنفصلة عنه، وقد جاء في الحديث أن: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة، يأكل من أشجارها وثمارها) فتكون على صورة طير، ولها اتصال بالبدن والجسد، وكل ذلك من الأمور التي لا نعلم كيفيتها، والله عز وجل على كل شيء قدير، ومما يدل على أن هذا الخلق هو الذي كان في الدنيا وأنه ينعم ويعذب ما جاء في القرآن في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] أي: التي كانت في الدنيا. ولو كانت أجساماً جديدة لم يكن عندها شهادة، وإنما تشهد تلك الأجسام التي كانت في الدنيا، وقد جاء في الحديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد غدا من طريق، ورجع من طريق آخر)، وفسر ذلك بعدة تفسيرات، من أوضحها أن يشهد له الطريقان، فالجسم الذي وقع منه هذا المشي وهذا العمل هو الذي تحصل له الشهادة من الأرض، وفسر قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] أنها تشهد على ما حصل على ظهرها من خير وشر. إذاً: فهذه الآيات التي فيها أن الله تعالى يختم على الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عمل الإنسان فيها توضيح وبيان أن الذي يكون في الآخرة هو نفس الجسد الذي كان في الدنيا وليس جسداً جديداً، ولذلك لم يستغرب الكفار المنكرون للبعث من وجود خلق جديد، وإنما استنكروا واستغربوا من أن ذلك الجسم المتفرق سيجتمع، ولهذا قال الله عز وجل: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2 - 3] أي: كيف يكون هذا؟ فقال الله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] أي: فنحن سنعيد هذه الذرات التي اختلط بالتراب ونجمعها، فتعود كما كانت، وهذا هو الذي استبعده الكفار.

ظهور سؤدد النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على جميع الخلق

ظهور سؤدد النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على جميع الخلق وإذا نفخ في الصور النفخة الثانية خرج الناس من قبورهم، وأول قبر ينشق عن صاحبه هو قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة- أنه قال: (أنا سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع) ثم بعد ذلك يذهب الناس إلى أرض المحشر، فيموج بعضهم في بعض، ويبحثون عن طريق الخلاص من هذا الموقف الشديد، فيقول بعضهم لبعض: اذهبوا إلى آدم أبي البشر، فيأتون إليه ويذكرون صفاته وخصائصه، فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا إلى ربك. فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح. فيحيلهم إلى نوح، فيذهبون إليه ويقولون له: يا نوح! أنت سماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك. فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إلى إبراهيم فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى. فيقول موسى: نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى. فيقول عيسى: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها. ثم يتقدم، ويسجد لله عز وجل فيحمده بمحامد يفتح الله تعالى بها عليه، فيقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فيشفعه الله عز وجل في ذلك الموقف، ويأتي الله لفصل القضاء، ويذهب الناس إلى منازلهم من الجنة والنار بعد الحساب. وقد سميت هذه الشفاعة بالمقام المحمود لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ولهذا جاء في حديث الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، ثم ذكر حديث الشفاعة، وأن الناس يموج بعضهم في بعض، فذكر أنه سيد الناس يوم القيامة، مع أنه صلى الله عليه وسلم سيد الناس في الدنيا والآخرة، وذلك أنه في ذلك اليوم يظهر سؤدده على الجميع، ويظهر فضله وإحسانه إلى الجميع، وشفاعته تحصل للجميع.

فصل الله بين البشر في يوم المحشر

فصل الله بين البشر في يوم المحشر ثم يأتي الله لفصل القضاء، ثم يكون الحساب، ويكون الميزان فتوزن الأعمال، ثم يذهبون إلى الجنة والنار، والنار تكون قبل الجنة، فالوصول إلى الجنة لا يكون إلا عن طريق النار؛ لأن الجسر منصوب على متن جهنم، والذي يذهب إلى الجنة يمر بهذا الجسر الذي فوق النار، ومن شاء الله عز وجل أن يقع في النار وقع وخطفته الكلاليب التي على جوانبها، ومن وفقه الله عز وجل تجاوز ذلك، والناس يمرون على الصراط على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، ودعوى الرسل يومئذٍ: (اللهم! سلم سلم) وهذه الشفاعة فيها دليل على أن من استحق النار يشفع له بأن لا يدخلها، فقولهم: (اللهم! سلم سلم) معناها أن يستحق النار يدعى له أن يسلم منها، فهي شفاعة لمن استحق النار أن يسلم منها، وهذه من أنواع الشفاعة. ويقول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71] والورود هو المرور على الصراط؛ لأن من مر على الصراط يكون قد ورد النار؛ لأنه مر في سمائها، لكن ذلك يكون بتفاوت السرعة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي ذكرناه سابقاً. فيقع في النار من يقع، ومن يتجاوز النار فإنه يكون من أهل الجنة، والذين يتجاوزونها يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص من بعضهم لبعض، وهذا الاقتصاص لا يترتب عليه عذاب؛ لأنهم قد تجاوزا النار، وإنما يترتب عليه التفاوت في الدرجات في الجنة، فيؤخذ من هذا لهذا، ومن هذا لهذا، ثم يكون الناس في الجنة على الدرجات التي انتهوا إليها وليس عليهم حقوق للآخرين، فالإيمان باليوم الآخر يدخل تحته كل ما يكون بعد الموت، وما يكون في الموقف، وما يكون في الحساب، وما يكون عند الميزان من وزن الأعمال وتطاير الصحف باليمين والشمال، وكذلك الحوض الذي يكون في عرصات القيامة، فمن يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ثم بعد ذلك الذهاب إلى الجنة، والوصول إلى الجنة إنما هو عن طريق النار، فيقع في النار من يقع، ويسلم منها من يسلم، ثم يكون الناس في الجنة أو في النار، ومن دخل الجنة فإنه يبقى فيها أبد الآباد وليس بمخرج منها، كما قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:47 - 48] فقال تعالى: ((وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ))، ولم يقل: (خارجين) لأنهم لا يفكرون في الخروج، وإنما الذي يخشى منه أن يُخرجوا، فجاء التعبير ((وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ))، وأما أهل النار فقد قال الله تعالى عنهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37]؛ لأنهم يبغون الخروج، ولكن لا يكون لهم ذلك، وهذا في الكفار، وأما من كان من أهل الإيمان ودخل النار فإنه يعذب فيها على مقدار معصيته، ولكنه لا بد من أن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار إلا الكفار الذين هم أهلها، والذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (الوابل الطيب): الدور ثلاث: داران باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان: دار الطيب المحض، وهي الجنة، ودار الخبث المحض، وهي النار التي فيها الكفار، ودار جمعت بين خبث وطيب، وهي النار التي فيها العصاة وأصحاب الكبائر، فإن هذه يخرج منها من كان فيها ويذهب إلى الجنة، وتبقى ليس فيها أحد من العصاة، وعلى هذا فتكون الجنة باقية إلى غير نهاية، والنار التي فيها الكفار باقية إلى غير نهاية. والحاصل أن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أخبار عن هذه الأمور المغيبة، من حين الموت إلى دخول الجنة والنار والبقاء فيهما إلى غير نهاية، فهذا هو الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر إن الله عز وجل قدر مقادير الخلائق، فالناس يشتغلون في أمر مقدر، وليس عملهم في شيء لم يسبق له تقدير، بل إن كل شيء قد سبق به القضاء والقدر، قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وخمول الخامل، وكسل الكسول، فكل شيء مقدر حتى العجز والكيس، وقال الله عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقال عليه الصلاة والسلام في وصيته لـ ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا الحديث من أحاديث (الأربعين النووية)، وهو الحديث التاسع عشر، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس، فقد سبق القدر بكل ما هو كائن، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن العمل فأخبرهم أن كل شيء بقدر قالوا: (ألا نتكل على كتابنا وندع العمل؟!) أي: ما دام أنه قد سبق القضاء والقدر، وأن كل سيصير إلى ما قدر له: ألا نتكل على كتابنا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة. وقد بيّن الله تعالى طريق الخير من الشر، وأعطى الناس عقولاً يميزون بها بين ما ينفع وما يضر، وأنهم إن سلكوا الطريق الذي فيه السلامة سلموا، وإن سلكوا الطريق الذي فيه الشقاوة فإنهم يشقون، وتكون تلك الشقاوة قد حصلت بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته.

مراتب القدر الأربع

مراتب القدر الأربع وكل أمر مقدر لا بد فيه من أمور أربعة: الأول: الإيمان بعلم الله الأزلي الذي لا بداية له، فالله تعالى ليس له بداية، وليس لعلمه بداية، والله تعالى علم كل ما هو كائن، علم الله تعالى ذلك في الأزل قبل أن يخلق اللوح المحفوظ. الأمر الثاني: الكتابة في اللوح المحفوظ، فقد خلق الله تعالى اللوح المحفوظ، وخلق القلم فأمره بكتابة كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد جرى القلم بكتابة ما هو كائن، وذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، يقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]. الأمر الثالث: الإرادة والمشيئة، وهو أن الله عز وجل أراد أن يوجد هذا الذي علمه، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالشيء الذي شاءه الله لا بد من أن يوجد، والشيء الذي لم يشأه الله لا يمكن أن يوجد، ولهذا فعقيدة المسلمين في القدر مبنية على هاتين الكلمتين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ولهذا يقول الشاعر: ما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن فما شئتَ -يا الله! - كان وإن لم أشأ، وما شئتُ أنا إن لم تشأ لم يكن، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ومشيئة الله عز وجل نافذة. الأمر الرابع: الخلق والإيجاد طبقاً لما علمه أزلاً، وطبقاً لما كتبه في اللوح المحفوظ ولما شاء الله عز وجل، والله تعالى هو خالق العباد، وخالق أفعال العباد، قال الله عز وجل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] إذاً: فلا بد في الإيمان بالقدر أن يؤمن الإنسان بهذه المراتب الأربع، وكل أمر مقدر يكون في هذه الأمور الأربعة، مثاله: وجودنا في مكان معين مجتمعين، فالهيئة التي نكون عليها والكيفية قد سبق بها علم الله عز وجل أزلاً، فقد سبق علمه تعالى بأننا سنجتمع في ذلك الوقت وفي هذا المكان، وكتب الله ذلك في اللوح المحفوظ، وشاء الله أن نجتمع، ثم حصل اجتماعنا وأوجد الله ذلك الذي علمه وكتبه وشاءه، فتجتمع هذه الأمور الأربعة في كل مقدر.

الأسئلة

الأسئلة

الكتب السماوية السابقة ووصفها بالإعجاز

الكتب السماوية السابقة ووصفها بالإعجاز Q هل توصف الكتب السماوية السابقة بالإعجاز؟ A لا توصف بذلك؛ لأن الإعجاز ثبت في حق هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حفظ وصار المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم، فرسالته خالدة، ومعجزته خالدة، والتحدي موجود، ولا يستطيع أحد أن يأتي بسورة من مثله، وأما الكتب السابقة فلم يأت شيء يدل على أنها موصوفة بالإعجاز.

عدد النفخات في الصور

عدد النفخات في الصور Q كم عدد النفخات في الصور؟ A هي ثلاث نفخات، النفخة الأولى: نفخة الفزع، وهي التي تحصل قبل النفخ في الصور النفخة الثانية، وهي التي يفزع فيها الناس ويدهشون، فكل واحد منهم يصغي ليتاً ويأخذ ليتاًَ، أي: يستغرب مما حصل، ثم تأتي النفخة الثانية التي هي نفخة الموت، ثم النفخة الثالثة وهي نفخة البعث.

أول رسول إلى البشر

أول رسول إلى البشر Q قال بعض أهل العلم إن أول رسول هو نوح عليه السلام. وقد استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] فهل هذا هو الصحيح أم أن آدم عليه السلام هو أول رسول؟ A نوح هو أول رسول بعدما وجد الشرك، وأما آدم فإنه كان هو وأولاده قبل أن يوجد الشرك، وكانوا على الفطرة، وقد أوحي إليه بأن يعمل الأعمال التي يعملها، فلا تنافي بين كون آدم مكلفاً، وأنه يعمل بما أوحي إليه وبين كون نوح أول رسول أرسله الله بعدما وجد الشرك وحصل التغير والانحراف عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

اعتراض ورد عليه

اعتراض وردٌّ عليه Q إذا كان الفرق بين الرسول والنبي هو أن الرسول أنزل إليه كتاب، وأما النبي فلم ينزل عليه كتاب فكيف نقول في قوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ} [البقرة:213]؟ A المقصود بالكتاب هنا الكتب، وكما هو معلوم فالرسل يطلق عليهم أنهم نبيون، كما أطلق على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي مع أنه رسول، فكذلك الرسل أنبياء، أي أنهم أوحي إليهم.

شمولية سؤال القبر لجميع الأمم

شمولية سؤال القبر لجميع الأمم Q هل سؤال القبر خاص بهذه الأمة أم أنه شامل لجميع الأمم؟ A الذي يبدو أنه شامل وليس خاصاً بهذه الأمة.

موضع دعاء: (رضيت بالله ربا) في الأذان

موضع دعاء: (رضيت بالله رباً) في الأذان Q عند أي جملة من الأذان يقول الإنسان: رضيت الله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؟ A عندما الشهادتين.

من تلحق به المرأة في الآخرة من أزواجها

من تلحق به المرأة في الآخرة من أزواجها Q هل صحيح أن المرأة التي تزوجت بزوجين أو أكثر في الدنيا تخير في الجنة تتزوج بمن شاءت؟ A الذي جاء أنها تكون للآخر، وأما ما جاء من أنها تخيّر فهو ضعيف.

مكان حشر الناس

مكان حشر الناس Q هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أرض المحشر هي الشام؟ A أما في الدنيا فيساق الناس إلى الشام، وأما بعد الموت فإنهم يكونون في أرض أخرى، فقد جاء أن الناس يساقون في آخر الزمان إلى الشام، ويجتمعون هناك، وجاء في الحديث: (أن ناراً تخرج من عدن، فتسوق الناس إلى الشام)، وأما الحشر يوم القيامة فإنه يكون في أرض مستوية ليس فيها مرتفعات ولا منخفضات.

إشكال وجواب

إشكال وجواب Q إذا كان نفس الجسد هو الذي يبعث ويعذب فما معنى أن ضرس الكافر مثل أحد؟ A ليس هناك تنافٍ؛ لأن الجسم يكبر، فيكون جسم الكافر في النار صخماً، كما أن الذين يدخلون الجنة يدخلونها على طول أبيهم آدم ستين ذراعاً كما جاء بذلك الحديث، فلا يدخلون وهم على حجمهم في الدنيا.

[6]

شرح الأربعين النووية [6] الإيمان بالقدر من أركان الإيمان وأصوله، وهو أن يؤمن العبد بأن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم، وجعل أفعالهم كسباً لهم باختيارهم ولا تتم إلا بمشيته تعالى وإرادته، فالعباد لهم في كسبهم مشيئة وإرادة فليسوا مجبورين عليها، إلا أن ذلك لا يخرج عن مشيئة الله تعالى، فليسوا خالقين لأفعالهم.

مسائل في القدر

مسائل في القدر القدر من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، وأصول الإيمان الستة كلها من الإيمان بالغيب، وهي: الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره. ويمكن للناس أن يعرفوا المغيَّب من القدر بأمرين اثنين: أحدهما: وقوع الشيء، فإن وقوعه دليل على أنه مقدر؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما قدره الله وشاءه، وأما ما لم يشأه فإنه لا يقع، وأما ما شاءه فلا بد من أن يكون. الأمر الثاني: الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور مستقبلة، فإن هذا الإخبار الذي ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا المخبَر به لا بد من أن يوجد، ولا يكون كذلك إلّا وقد سبق به القضاء والقدر؛ لأنه لا يوجد ولا يقع إلا شيء مقدَّر.

وسطية أهل السنة في باب القدر

وسطية أهل السنة في باب القدر هناك أمور أخرى تتعلق بالإيمان بالقدر، منها: أن أهل السنة والجماعة وسط في القدر بين الجبرية والقدرية، بين الجبرية الغلاة في الإثبات، وبين القدرية الذين نفوا القدر وجعلوا العباد خالقين لأفعالهم، فأهل السنة والجماعة توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، فالجبرية قالوا: إن الإنسان مجبور على أعماله وحركاته الاختيارية وغيرها، وأنه مثل الشجرة التي تحركها الرياح، ومثل الريشة التي تطير في الهواء، وإن الإنسان ليس له إرادة ولا مشيئة، بل هو مجبور على ما يحصل منه من أفعال. ولم يفرقوا بين أفعال الإنسان الاختيارية وأفعاله الاضطرارية. ويقابل هؤلاء القدرية الذين قالوا: إن الله عز وجل لم يقدَّر أعمال العباد على العباد؛ لأنه منزه عن الشر، وإنما العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهم الذين يوجدون أعمالهم. وأما أهل السنة فقالوا: إن أعمال العباد هي كسب لهم، فهي واقعة بمشيئتهم وإرادتهم، ومشيئتهم وإرادتهم تابعة لمشيئة الله وإرادته؛ لأنه لا يقع في الكون إلا مقدّر، وعلى هذا فهم وسط بين الذين غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: إن الإنسان مجبور على أفعاله الاختيارية. وبين الذين نفوا القدر وقالوا: إن الإنسان هو الذي يخلق فعله ويوجده. فهم متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء. ويقول أهل السنة: إن أفعال العباد تنقسم إلى قسمين: أفعال اضطرارية، وأفعال اختيارية، فالأفعال الاضطرارية هي التي لا مشيئة ولا إرادة لهم فيها، فهي خارجة عن إرادتهم ومشيئتهم، وذلك مثل ارتعاش يد الإنسان، فهذا الارتعاش ليس من فعل الإنسان، وإنما هو صفة له، وهو يريد أن يفعل الأسباب التي تجعله يَسلَم من هذا الشيء، فإنه ليس من فعله، وليس بإرادته ومشيئته، فهذه الأفعال من الله وليس للإنسان كسب فيها. أما الأفعال الاختيارية فهي الأكل والشرب والذهاب والإياب والبيع والشراء والصلاة والصيام، وغير ذلك من الأفعال التي هي كسب من العبد وتحصل بمشيئة العبد وإرادته، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته؛ لأن الله تعالى هو خالق العباد، وهو خالق أفعال العباد، وكل ما يقع في الوجود من حركة أو سكون فهو بمشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهذه الأفعال الاختيارية يثاب عليها العبد ويعاقب. وبهذا يتبين أن هناك فرقاً بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية، ولهذا نجد النحاة يعرفون الفاعل فيقولون: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو اتصف به. فهذا التفصيل في هذا التعريف يشمل القسمين من أفعال العباد: الاختيارية والاضطرارية، فالذي حصل منه الحدث هو أن يأكل ويشرب ويبيع ويشتري ويصلي ويصوم، فهذه أفعال اختيارية، وتحصل من الإنسان بمشيئته وإرادته، وأما من قام به الحدث واتصف به فهو مثل: (مرض فلان)، و (مات فلان)، و (ارتعش فلان)، فإن هذه ليست من أفعاله، وليست من كسبه؛ لأن الموت ليس بإرادته ومشيئته، وهو لا يريد الموت، وكذلك المرض، فهو لا يريده، فإذا قيل: مرض زيد فـ (مرض) فعل ماضي، و (زيد) فاعل، قيل له: (فاعل)؛ لأن الحدث قام به، وهو الموت، وكذلك المرض قام به، وكذلك الارتعاش قام به، وهو لم يفعله باختياره، ففرق بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية. ويقول أهل السنة: إن أفعال العباد خلق الله وكسب من العباد؛ لأنها تقع بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، فأثبت للعبد مشيئة، ثم أخبر بأن مشيئته لا تكون مستقلة عن مشيئة الله، بل هي تابعة لها، وما يوجد من العبد بمشيئته وإرادته فإنه يكون بمشيئة الله وإرادته؛ لأنه لا يمكن أن يشاء العبد شيئاً ويقع والله تعالى لم يشأ وقوعه، وقد عرفنا أن الكلمتين اللتين تشتملان على بيان عقيدة المسلمين وعقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر هما: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقد جاء في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، فليس معنى ذلك أن الشر ليس بمشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده، بل كل شيء بمشيئة الله تعالى وإرادته وخلقه وإرادته، سواء أكان خيراً أم شراً، ولكن المقصود من ذلك أنه لا يخلق شراً خالياً من حكمة وفائدة، بل كل ما يخلقه الله من الشرور فإن من ورائه حكمة عظيمة. فليس المراد أن هذه الأفعال ليست من الله، أو أنها خارجة عن مشيئة الله، وأن العباد هم الذين يوجدونها، ولم يقدرها الله تعالى، بل الله خالق كل شيء، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، فيدخل في ذلك كل شيء مخلوق، وكذلك قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، أي: خلقكم وخلق أعمالكم. فهو خالق الذوات، وخالق الصفات، وخالق الأفعال، أي أنه خالق العباد وخالق أفعالهم.

تسيير الإنسان وتخييره، وقول أهل السنة في ذلك

تسيير الإنسان وتخييره، وقول أهل السنة في ذلك يظهر من خلال ما ذكرته آنفاً أن أهل السنة متوسطون بين الجبرية وبين القدرية، وأنهم يثبتون لله مشيئة وإرادة، ويثبتون للعبد مشيئة وإرادة، وأن مشيئة العبد وإرادته تابعة لمشيئة الله تعالى وإرادته وهي: هل الإنسان مخير أو مسير؟ والجواب أنه لا يصلح أن نجيب بواحد من المسئول عنهما، بل الجواب شيء ثالث غير الاثنين، فلا يقال: هو مخيَّر مطلقاً ولا مسيَّر مطلقاً، بل يفصل في ذلك، فهو مسيَّر ومخيَّر، مخير باعتبار أن الله تعالى جعل له عقلاً وتمييزاً، وبيّن له طريق الخير من طريق الشر، وأن هذا الطريق يوصله إلى الجنة وهذا الطريق يوصله إلى النار، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أي: بيّنّا له طريق الخير وطريق الشر، وعنده من العقل ما يميّز ويعرف به ما ينفع وما يضر، فهو يختار ما يريد بمشيئته وإرادته، وبذلك يستحق الجزاء من ثواب أو عقاب، ولكن هذا الذي يحصل منه لا يكون خارجاً عن مشيئة الله وإرادته، بل هو تابع لمشيئة الله وإرادته. فالعبد مخيّر باعتبار أن له مشيئة وإرادة وعقلاً وتمييزاً، وأنه قد بُيَّن له طريق الخير ومآله، وطريق الشر ومآله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لما سألوه: فيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). ولذلك يثاب العبد ويعاقب، فتقام عليه الحدود ويعزر بناءً على ما يحصل منه من الوقوع في أمور لا يجوز له أن يقع فيها. وهو مسيَّر باعتبار أنه لا يقع منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته، بل لا يحصل منه شيء إلّا وقد قدّره الله وقضاه؛ لأنه لا يقع في الكون إلا مقدَّر، ولا يكون في الكون إلا ما سبق به قضاء الله وقدره. ولهذا فالجواب عن سؤالهم: هل الإنسان مخير أو مسير لا يكون بالإطلاق على أنه مخيّر أو مسيّر، وإنما يقال: هو مخير ومسيّر، مخير باعتبار، ومسير باعتبار آخر، فهذا هو الجواب السديد والسليم. ويشبه هذا الجواب في عدم تعيين واحد من شيئين مسئول عنهما وأنه يُجاب بالجمع بينهما مسألة (هل الحدود زواجر أو جوابر) فلا يقال: الحدود زواجر فقط، ولا جوابر فقط، وإنما يقال: فهي جوابر وزواجر، فجوابر باعتبار أن الإنسان إذا فعل معصية عليها حد في الدنيا، وأقيم عليه الحد في الدنيا فإنه قد حصّل جزاءه على هذا الذنب في الدنيا، فلا يعذب به مرة أخرى؛ لأن النقص الذي حصل قد جُبر بالحد. وقد ثبت من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصاب شيئاً من هذه الحدود فأقيم عليه الحد كان كفارة له)، فقوله: (كان كفارة له) أي أنه جبر هذا النقص الذي حصل منه بهذا الحد الذي أقيم عليه وصار كفارة له. وهي زواجر لمن أقيم عليه الحد حتى لا يعود إليه مرة أخرى، وزواجر لغيره حتى لا يقع فيما وقع فيه ذلك الإنسان الذي أقيم عليه الحد. والذين يقولون: إنها زواجر وليست بجوابر هم الخوارج، فهم الذين يرون أن الإنسان إذا لم يتب ولم يقم عليه الحد فإنه يكون مخلداً في النار؛ لأن أصحاب الكبائر على مذهبهم مخلدون في النار، وأنه لا ينفع في ذلك إلا التوبة، وأن الإنسان إذا أقيم عليه الحد ولم يتب فإنه يخلد في النار. وقد بيَّن حديث عبادة بن الصامت السابق أنها كفارة له، أي: كأن الذنب لم يكن، وإن لم يحصل منه توبة، فأما إذا حصل منه توبة فالتوبة تجب ما قبلها، لكن إذا أقيم الحد على إنسان ما فلا يعاقب عليه مرة أخرى في الدنيا ولا في الآخرة، فهذا الذنب الذي وقع منه قد كفَّر عنه بهذه العقوبة التي حصلت له في الدنيا، وهي إقامة الحد عليه.

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي من المسائل المتعلقة بالقضاء والقدر أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور أو فعل محظور، فبعض الناس إذا لم يحصل منه فعل المطلوب ثم عوتب على ذلك يقول: قضاء وقدر، وهذا الأمر مقدَّر عليَّ. وإن وقع في معصية فعوتب على ذلك قال: هذا مقدر! والجواب أن كل شيء مقدر، فالعقوبة مقدرة والفعل مقدر، فيعاقب على فعله، ويعزر إذا كان يستحق التعزير، أو يقام عليه الحد، ويقال له: وهذا -أيضاً- مقدر. فالله تعالى قد قدر وقوع هذه الأعمال، وقدر العقوبة عليها، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور أو فعل محظور. وأما قصة احتجاج آدم وموسى الثابتة في الصحيحين فإن ذلك ليس احتجاجاً على المعايب والمعاصي, وإنما هو احتجاج على المصائب التي نتجت عن هذه المعايب. ثم إن اللوم على المعصية إنما يكون قبل التوبة، وأما إذا وجدت التوبة فإن الإنسان لا يلام على فعله الذي تاب منه، ولا يتعرض له، وإنما يلام الإنسان ما دام مستمراً على معصيته. وهناك مسائل أخرى تتعلق بالإيمان بالقضاء والقدر، وقد أوضحتها في كتاب (قطف الجنى الداني في شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني).

[7]

شرح الأربعين النووية [7] الطمأنينة والسعادة هي في التسليم بأقدار الله تعالى، والعلم بأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإذا سلم العبد بذلك انشرح صدره، واطمأن قلبه؛ لأنه يعلم علم اليقين أنه بين يدي رحيم رحمان، لا يظلم أحداً من الإنس والجان، حكيم في أفعاله، رءوف بعباده. وللقدر مراتب يجب على العبد الإيمان بها، وقد دلت عليها الآيات المتوافرة من الكتاب العزيز، والأحاديث الكثيرة من السنة النبوية، والإجماع من سلف هذه الأمة.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه. وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه استدلالاً به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه. وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)]. وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما. وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول. فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب. فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب. ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله عز وجل، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله عز وجل. والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله عز وجل على حصول المسبب. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالتوكل على الله عز وجل ليس بترك الأسباب، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل. فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفواً، ولو أن إنساناً قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهاً؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق. فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله عز وجل ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعاً، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله). فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء. وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب. وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تغدو خماصاً ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطاناً) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون. فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنساناً -مثلاً- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعاً آخر لحصل كذا وكذا. فهذا كلام باطل، فالله عز وجل أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعاً آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان). فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله عز وجل في جميع شئونه.

أعمال العباد خيرها وشرها بقضاء وقدر

أعمال العباد خيرها وشرها بقضاء وقدر وروى مسلم بإسناده إلى طاوس أنه قال: (أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: كل شيء بقدر)، قال: وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو: الكيس والعجز). العجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكَيّس قد قُدِّر كَيسه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحسنى} [الليل:5 - 6] إلى قوله {لِلْعُسْرَى} [الليل:10]). رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه. وهذا الحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وأنها تؤدي إلى حصول السعادة، وأن أعمالهم السيئة مقدرة، وأنها تؤدي إلى الشقاوة، وقد قدّر الله سبحانه وتعالى الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضائه]. لقد قدّر الله الأسباب وهي الأعمال، والمسببات وهي النهايات، فإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً فهذا العمل سبب من الأسباب، وهو مقدّر، والغاية هي دخول الجنة، وهي -أيضاً- مقدرة، وكذلك العكس، فعمل السيئات مقدر، وهو يوصل إلى النار، وذلك مقدر، فالسعادة والشقاوة مقدّرتان، والأسباب التي توصل إليهما مقدرة أيضاً.

كل شيء بقضاء وقدر

كل شيء بقضاء وقدر وكل شيء لا يخرج عن قضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح]. جاء في بعض الروايات: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) أي أن ما أصابك وحصل لك لا يمكن أنه يتخلف، وأن ما أخطأك لا يمكن أنه يقع، وهذا هو معنى (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، فجملة (ما شاء الله كان) بمعنى (ما أصابك لم يكن ليخطئك)، وجملة (وما لم يشأ لم يكن) بمعنى (وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهاتان الجملتان -أعني: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن- عليهما تنبني عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر. وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه: (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم)، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه. وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه استدلالاً به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه. وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)]. وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما. وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول. فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب. فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب. ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله عز وجل، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله عز وجل. والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله عز وجل على حصول المسبب. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالتوكل على الله عز وجل ليس بترك الأسباب، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل. فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفواً، ولو أن إنساناً قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهاً؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق. فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله عز وجل ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعاً، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله). فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء. وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب. وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تغدو خماصاً ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطاناً) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون. فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنساناً -مثلاً- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعاً آخر لحصل كذا وكذا. فهذا كلام باطل، فالله عز وجل أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعاً آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان). فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله عز وجل في جميع شئونه.

علم الله الأزلي بكل ما هو كائن

علم الله الأزلي بكل ما هو كائن الإيمان بالقدر له أربع مراتب لابد من اعتقادها: المرتبة الأولى: علم الله الأزلي بكل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق علم الله به أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً. وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة العلم في الفقرة رقم (7)]. فالمخلوقون يتجدد علمهم بالشيء عندما يحصل وعندما يحصِّلون العلم، أما الله عز وجل فقد علم كل شيء أزلا، ولا يتجدد لله العلم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل شيء معلوم له أزلاً. وأما ما جاء في بعض الآيات مثل قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] فليس المقصود أنه يتجدد لله علم بذلك، وإنما المقصود ظهور ذلك العلم ظهوراً يترتب عليه ثواب وعقاب، وليس معنى ذلك أنه يحصل لله علم لم يكن حاصلاً من قبل، بل كل شيء معلوم لله أزلاً. وقد سبق إيضاح ذلك في الفقرة السابقة من الفقرات التي اشتمل عليها الكتاب. انظر الفقرة رقم (7). [علْم الله محيط بكل شيء، فقد علم أزلاً ما كان وما سيكون، ومالم يكن أن لو كان كيف يكون]. علم الله تعالى: ما كان وما سيكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لا يكون قد علمه الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، فهم يَسألون أن يرجعوا إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، والله تعالى يقول: إنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا الشيء لم يكن، ومع ذلك علم لو كان كيف سيكون، فعلمه محيط بكل شيء. [كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28]. فأخبر عن أمر لا يكون، وهو رجوع الكفار إلى الدنيا، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهو عنه]. ونظير هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا يكون، ولو أنه سيكون فقد علم الله تعالى كيف يكون. فقولنا: (عن أمر لا يكون) هو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً من الناس، فلو كان متخذاً خليلاً لكان المتخَذ أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه لا يتخذ خليلاً، فهذا لا يتعلق بالعلم، ولكنه يتعلق بالشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون. [وقال الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت:47]، وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:8 - 10]، وقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13 - 14]، وقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3]. وكل ما هو كائن في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علم الله، ولا يحصل لله علم بشيء لم يكن معلوماً له من قبل أزلاً. قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (أضواء البيان) عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] قال: ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون. وقد بيّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار. وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة:143] أي: علماً يترتب عليه الثواب والعقاب. فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما العلم بالسر والنجوى فهو سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.

الكتابة لكل كائن في اللوح المحفوظ

الكتابة لكل كائن في اللوح المحفوظ الثانية من مراتب القدر: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء). روه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

مشيئة الله تعالى وإرادته

مشيئة الله تعالى وإرادته الثالثة: مشيئة الله وإرادته، فإنّ ما هو كائن إنما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].

الخلق والإيجاد

الخلق والإيجاد الرابعة: إيجاد كل ما هو كائن وخلْقه بمشيئة الله، وفقاً لما علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، فإن كل ما هو كائن من ذوات وأفعال هو بخلق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].

قد يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد طريقين

قد يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد طريقين وما قدره الله وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ويمكن أن يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد أمرين: الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر؛ لأنه لولم يقدر لم يقع، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغير ذلك من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد لها من أن تقع، وأنه قد سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور ستقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين). رواه البخاري. وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام واحد وأربعين للهجرة، حيث اجتمعت كلمة المسلمين فسمي عام الجماعة، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من هذا الحديث أن الحسن رضي الله عنه لن يموت صغيراً, وأنه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلح.

كينونة الشر بقضاء الله تعالى وقدره

كينونة الشر بقضاء الله تعالى وقدره [والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا، جاء في حديث جبريل: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)، والله سبحانه خالق كل شيء ومقدُّره، قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. فكل ما هو كائن من خير أو شر فهو بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته، وأما ما جاء في حديث علي رضي الله عنه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الطويل، وفيه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) رواه مسلم فلا يدل على أن الشر لا يقع بقضائه وخلقه، وإنما معناه أن الله لا يخلق شراً محضاً لا يكون لحكمة ولا يترتب عليه فائدة بوجه من الوجوه، وأيضاً فالشر لا يضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت العموم، كما قال الله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فيُتأدب مع الله بعدم نسبة الشر وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجن من تأدبهم في نسبة الخير إليه، وذكر الشر على البناء لما لم يسم فاعله، قال الله عز وجل عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].

المشيئة والإرادة

المشيئة والإرادة من مراتب القدر الأربع مشيئة الله وإرادته. والفرق بين المشيئة والإرادة أن المشيئة لم تأتِ في الكتاب والسنة إلا لمعنى كوني قدري، وأما الإرادة فإنها تأتي لمعنى كوني ومعنى ديني شرعي. ومن مجيئها لمعنى كوني قدري قوله تعالى: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]. ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعي قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]. والفرق بين الإرادتين أن الإرادة الكونية تكون عامة فيما يحبه الله ويسخطه، وأما الإرادة الشرعية فلا تكون إلا فيما يحبه الله ويرضاه، ثم إن الكونية لابد من وقوعها، وأما الدينية فتقع في حق من وفقه الله، وتتخلف في حق من لم يحصل له التوفيق من الله. وهناك كلمات تأتي لمعنى كوني وشرعي -منها: القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر، وغير ذلك- ذكرها ابن القيم، وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنة في كتابه (شفاء العليل) في الباب التاسع والعشرين منه.

وجود الخلق على وفق ما قدره الله وقضاه

وجود الخلق على وفق ما قدره الله وقضاه ما قدره الله وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ لابد من وقوعه، فلا تغيير فيه ولا تبديل، كما قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقال صلى الله عليه وسلم: (رُفعت الأقلام وجفت الصحف). وأما قوله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فقد فُسِّر بأن ذلك يتعلق بالشرائع، فينسخ الله منها ما يشاء ويثبت ما يشاء، حتى خُتمت برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الشرائع قبلها، وفُسِّر بالأقدار التي هي في غير اللوح المحفوظ، كالتي تكون بأيدي الملائكة. وانظر (شفاء العليل) لـ ابن القيم في الأبواب: الثاني، والرابع، والخامس، والسادس، فقد ذكر في كل باب تقديراً خاصاً بعد التقدير في اللوح المحفوظ. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) أخرجه الترمذي وحسنه -وانظر السلسلة الصحيحة للألباني - فلا يدل على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وإنما يدل على أن الله قدر السلامة من الشرور، وقدر أسباباً لتلك السلامة، والمعنى أن الله دفع عن العبد شراً وذلك مقدر بسبب يفعله وهو الدعاء، وهو -أيضاً- مقدر، وكذلك قدر أن يطول عمر الإنسان، وقدر أن يحصل منه سبب لذلك، وهو البر وصلة الرحم. فالأسباب والمسببات كلها بقضاء الله وقدره، وكذلك يقال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه). رواه البخاري ومسلم. فأجل كل إنسان مقدر في اللوح المحفوظ، فلا يتقدم عنه ولا يتأخر، كما قال الله عز وجل: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]، وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]. وكل من مات أو قتل فهو بأجله، ولا يقال كما قالت المعتزلة: إن المقتول قُطع عليه أجله، وإِنه لولم يقتل لعاش إلى أجل آخر. فإن كل إنسان قدّر الله له أجلاً واحداً، وقدر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموت بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموت بالقتل، وهكذا.

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على ترك المأمورات أو فعل المحظورات

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على ترك المأمورات أو فعل المحظورات لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور لا فعل محظور، فمن فعل معصية لها عقوبة محددة شرعاً، واعتذر عن فعله بأن ذلك كتب عليه وقدر فإنه يعاقب بالعقوبة الشرعية، ويقال له: إن معاقبتك بهذه العقوبة قدر. وأما ما جاء في حديث محاجة آدم وموسى في القدر فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنما هو على المصيبة التي كانت بسبب المعصية. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة! فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى. مرتين). وقد خصّ ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) الباب الثالث بالكلام على هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذكر الآيات التي فيها احتجاج المشركين على شركهم بالقدر، وأن الله أكذبهم بأنهم باقون على شركهم وكفرهم، وأن ما قالوه هو من الحق الذي أريد به باطل، ثم ذكر توجيهين لمعنى الحديث: أولهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال في (ص35): إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنّا لا نلوم آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجه من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيهاً على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، وفي لفظ: (خيبتنا)، احتج آدم بالقدر على المصيبة وقال: (إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي). والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟! فهذا جواب شيخنا رحمه الله. وقد يتوجه جواب آخر، وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدْفَع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة. يوضحه أن آدم قال لموسى: (أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق)، فإذا أذنب الرجل ذنباًَ ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنبه مؤنب عليه أو لامه ملامةً فإنه يحَسُن له أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق. فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكر حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، كأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]. فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، فلم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله. ونكتة المسألة سبب اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان سبب اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.

مذهب أهل السنة في أفعال العباد، والرد على القدرية والجبرية

مذهب أهل السنة في أفعال العباد، والرد على القدرية والجبرية قوله: [تعالى أن يكون في ملكه مالا يريد، أو يكون لأحد عنه غنى، خالقاً لكل شيء إلا هو، رب العباد ورب أعمالهم، والمقدر لحركاتهم وآجالهم]. الظاهر أن في قوله: [خالقاً لكل شيء إلا هو] سقطاً يدل عليه ما قبله، والتقدير: وأن يكون خالقاً لكل شيء إلا هو، وفي هذه الجمل كلها رد على القدرية الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، وإن الله لم يقدرها عليهم. فإن مقتضى قولهم هذا أن أفعال العباد وقعت في ملك الله وهو لم يقدرها، وأنهم بخلقهم لأفعالهم مستغنون عن الله، وأن الله ليس خالقاً لكل شيء، بل إنّ العباد خلقوا أفعالهم، وهذا غير صحيح، فالله سبحانه وتعالى خالق العباد وخالق أفعال العباد، وهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16]، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. ويقابل نفاة القدر فرقة أخرى ضالة، وهم الجبرية، فقد سلبوا عن العبد الاختيار، ولم يجعلوا له مشيئة ولا إرادة، وسووا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أن كل حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار، وأن حركة الآكل والشارب والمصلي والصائم كحركة المرتعش، فليس للإنسان فيها كسب ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدة إرسال الرسل، وإنزال الكتب؟! ومن المعلوم قطعاً أن للعبد مشيئة وإرادة، فيحمد على أفعاله الحسنة ويثاب عليها، ويذم على أفعاله السيئة ويعاقب عليها، وأفعاله الاختيارية ينسب إليه فعلها وكسبها، وأما الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش فلا يقال: إنها فعل له، وإنما هي صفة له. ولهذا يقول النحويون في تعريف الفاعل: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو قام به. والمراد بحصول الحدث الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادهم بقيام الحدث ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أكل زيد وشرب وصلى وصام فزيد فيها فاعل، وقد حصل منه الحدث، وهو الأكل والشرب والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيد، أو مات زيد، أو: ارتعشت يده فإن الحدث ليس من فعل زيد، وإنما هو وصف قام به. وأهل السنة والجماعة وسط بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة، فإنهم أثبتوا للعبد مشيئة، وأثبتوا للرب مشيئة عامة، وجعلوا مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]. فلا يقع في ملك الله ما لم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إن العباد يخلقون أفعالهم. ولا يعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة كما هو قول الجبرية. وبهذا يجاب عن السؤال الذي يتكرر طرحه، وهو: هل العبد مسير أو مخير؟ فلا يقال: إنه مسير بإطلاق، ولا مخير بإطلاق، بل يقال: إنه مخير باعتبار أن له مشيئة وإرادة، وأن أعماله كسب له يثاب على حسنها ويعاقب على سيئها، وهو مسير باعتبار أنه لا يحصل منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده.

الهداية والإضلال من الله سبحانه

الهداية والإضلال من الله سبحانه قوله: [يضل من يشاء فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد]. أي أن هداية المهتدين وضلال الضالين كل ذلك حاصل بمشيئة الله وإرادته، وقد بين الله للعباد طريق السعادة وطرق الضلال، وأعطاهم عقولاً يميزون بها بين النافع والضار، فمن اختار طريق السعادة وسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضل من الله وإحسان، ومن اختار طريق الضلال وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدل من الله سبحانه، قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10]، أي: طريقي الخير والشر، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].

أقسام الهداية

أقسام الهداية الهداية هدايتان: هداية الدلالة والإرشاد، وهذه حاصلة لكل أحد، وهداية التوفيق، وهي حاصلة لمن شاء الله هدايته. ومن أدلة الهداية الأولى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: إنك تدعو كل أحد إلى الصراط المستقيم. ومن أدلة الهداية الثانية قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وقد جمع الله بين الهدايتين في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، فقوله: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعو كل أحد فحذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أظهر فيه المفعول لإفادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.

مناظرة بين سني ومعتزلي

مناظرة بين سني ومعتزلي أورد شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الشمس حكايتين توضحان فساد مذهب المعتزلة في باب القضاء والقدر، فقال: ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي، قال عبد الجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء! وقصْده أن المعاصي كالسرقة والزنا بمشيئة العبد دون مشيئة الله؛ لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم. فقال أبو إسحاق: كلمةُ حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟! فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه؟ أي: أأنت الرب وهو العبد؟! فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى عليّ بالردى، أتراه أحسن إلي أم أساء؟! فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكاً لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب. وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال: ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني. فقال: اللهم! إن حمارته سرقت ولم تُرد سرقتها، فارددها عليه. فقال الأعرابي: يا هذا! كفِّ عني دعاءك الخبيث؛ فإنه إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها فلا ترد! وبهذا ينتهي الكلام على القضاء والقدر. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى حديث: (إذا ذكر القدر فأمسكوا)

معنى حديث: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) Q ما معنى حديث: (إذا ذُكر القدر فأمسكوا)، وهل يدل على عدم الخوض في مسائل القدر؟ A يدل هذا على عدم التعمق في مسائل القضاء والقدر، وأن الإنسان لا يسأل أسئلة لا يجوز له أن يسألها، فيقول: لماذا حصل لفلان كذا، ولماذا حصل لفلان كذا، ولماذا صارت السعادة لفلان والشقاوة لفلان. فالإنسان ليس له أن يسأل عن مثل هذه الأمور، والمقصود هو التعمق، فهذا هو الذي ينهى عنه، وأما الكلام فيه وفقاً للنصوص من غير ارتكاب أمر محظور فهذا أمر مطلوب، ولا بأس به.

معنى حديث: (اللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء وسوء القضاء

معنى حديث: (اللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء وسوء القضاء Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أعوذ بك من درك الشقاء وسوء القضاء)؟ A معلوم أن كل خير مقدر، وأن كل شر مقدر، فهو يطلب السلامة من سوء القضاء، أي أنه يسأل الله الخير ويستعيذ به من الشر، وكلاهما مقدر.

الدعاء بلفظ: (اللهم إني أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا)

الدعاء بلفظ: (اللهم إني أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً) Q هل يجوز للإنسان أن يقول: اللهم! إني أسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً؟ A لا أدري هل ثبت مثل هذا الدعاء أم لا، فعلى الإنسان أن لا يقدم على شيء لم يرد، وليحرص على أن تكون أدعيته في حدود ما ورد، فإن ثبت هذا فيشرع الدعاء به.

الفرق بين القضاء والقدر

الفرق بين القضاء والقدر Q هل هناك فرق بين كلمة (القضاء) وكلمة (القدر)؟ A بعض العلماء يقول: إن القضاء في الكليات والقدر في الجزئيات. والذي يظهر أنه لا فرق بينهما، فإنه يؤتى بهما متعاطفتين وهما مترادفتان.

[8]

شرح الأربعين النووية [8] للدين مراتب، وأعلى مراتبه الإحسان، والإحسان نفسه مراتب، وله أنواع، وعلى المسلم أن يسعى لتحقيق كمال دينه ببلوغ أعلى مراتبه ليجد الجزاء عند الله تعالى.

درجة الإحسان

درجة الإحسان

الإحسان أعلى درجات الدين

الإحسان أعلى درجات الدين انتهى الكلام في شرح حديث جبريل إلى درجة الإحسان، وقد ذكر قبل ذلك درجة الإسلام والإيمان، فالدرجات ثلاث: أولها: درجة الإسلام، ثم تليها درجة الإيمان، ثم تليها درجة الإحسان. وكل درجة أكمل من الدرجة التي قبلها، وكل درجة داخلة في التي قبلها، فكل مؤمن مسلم، وكل محسن مؤمن ومسلم؛ لأن درجة الإحسان هي درجة كمال، وأقل منها درجة الإيمان، وأقل منهما درجة الإسلام. فالإنسان بمجرد دخوله في الإسلام وإتيانه بما يعصم به دمه من الدخول في الإسلام يقال له: مسلم. ويلي ذلك درجة الإيمان. ولهذا فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، وقد جاء في القرآن في قصة الأعراب الذين ذكر قصتهم في سورة الحجرات قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]. فالإيمان أكمل من الإسلام؛ لأن الإسلام يحصل لكل من دخل في الإسلام، وأما الإيمان فيكون لمن حصل منه شيء من الكمال في إسلامه، فهي درجة أعلى، وأعلى منها درجة الإحسان. وكذلك الحديث الذي فيه قصة الجماعة الذين جاءوا -كما في حديث سعد بن أبي وقاص - أن جماعة أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم إلا رجلاً، وكان ذلك الرجل أمثلهم عنده، فقال له سعد بن أبي وقاص: أعطيت الجماعة الفلانية وفيهم فلان لم تعطه وهو مؤمن. فقال عليه الصلاة والسلام: (أو مسلم؟!) أي أنه يرشده إلى أن يقول الدرجة الدنيا، فكرر عليه سعد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أو مسلم؟!) ثم ذكر أنه يعطي أقواماً يرجو تألفهم لما عندهم من الضعف، وأنه يترك أناساً لما عندهم من قوة الإيمان، فلا يعطيهم مثلما يعطي من كان إسلامهم يحتاج إلى أن يرسخ في قلوبهم وأن يؤلفوا على الإسلام وأن يتمكن الإيمان من قلوبهم. والإحسان هو أكمل الدرجات الثلاث، وقد ذكر الله عز وجل الإحسان في القرآن وأن جزاءه الإحسان فقال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل، كما جاء ذلك مفسراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي أخرجه مسلم في صحيحه. وفي القرآن أن الحسنى إنما تكون للمحسنين، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. وفي مقابل ذلك فإن السوأى للمسيئين، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم:10]. فقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] يقابله قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم:10]، والسوأى هي النار، والمراد أنهم أساءوا أعمالهم حتى أوصلتهم إلى النار، فكانوا من أهلها، والآية في حق الكفار؛ لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها.

مراتب الإحسان

مراتب الإحسان لقد سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسئلة التي يريد من ورائها تعليم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمور التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها الدين، فقال في آخر الحديث: (هذا جبريك أتاكم يعلمكم دينكم). وكان السؤال الثالث الذي سأله عنه قوله: (أخبرني عن الإحسان؟) فقال صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه)، أي: أن تكون مقبلاً عليه بقلبك وقالبك، وأن تكون مستحضراً عظمة الله وكأنك واقف بين يديه سبحانه. ومعلوم أن الإنسان إذا كان بهذه المنزلة والدرجة، ويدخل في العبادة بهذا الوصف وبهذه الهيئة التي يستشعر فيها أنه واقف بين يدي الله فلاشك في أنه سيحسن فيما يقوم في قلبه، وفيما يجري على لسانه، وفيما يقوم بجوارحه، بحيث تسير هذه الأمور والأحوال كلها على السداد وعلى الاستقامة؛ لأنه يعبد الله عز وجل وكأنه بين يديه سبحانه وتعالى، وينظر إلى الله عز وجل وكأنه بين يديه، فهو مستحضر لعظمته وجلاله. وقوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أي: فإذا كان الإنسان لا يعبد الله بهذه الطريقة والهيئة التي تجعله وكأنه واقف بين يدي الله، فيحسن عمله ويتقنه ويؤديه على التمام والكمال لأنه واقف بين يدي الله فإن عليه أن يستشعر بأن الله تعالى يراه، وأن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه خافية، وأنه سيثيبه إن أحسن، ويعاقبه إن أساء، فذلك يكون دافعاً له إلى الخوف والرهبة من الله، وعلى البعد من الوقوع في معاصي الله تعالى. فالحالة الأولى هي الحالة التي يؤدي فيها الإنسان الأعمال على التمام والكمال وكأنه واقف بين يدي الله، فإن لم تكن فيه هذه الهيئة والصفة فإن عليه أن يستشعر أن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه خافية، وأنه يحاسبه ويجازيه على ما يحصل منه، فتكون هاتان الجملتان الأولى منهما في مقام الترغيب، والثانية في مقام الترهيب.

أنواع الإحسان

أنواع الإحسان ثم إن الإحسان قد يكون لازماً للإنسان لا يتعداه إلى غيره، وذلك بأن يحسن في عمله، وقد يكون متعدياً إلى غيره، وذلك بأن يحسن إلى غيره، وكل ذلك يدخل تحت الإحسان، وعلى الإنسان في عمله -سواءٌ أكان في العبادات البدنية، أم العبادات المالية المتعدية إلى غيره- أن يفعل ذلك وهو يرجو ثواب الله عز وجل ويخشى عقابه سبحانه وتعالى. والإحسان يكون بعدة وجوه: يكون بالمال، ويكون بالجاه، ويكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون بالدلالة على الخير، كل ذلك من الإحسان المتعدي، فيكون النفع للفاعل ولغيره؛ لأنه أحسن إلى نفسه وأحسن إلى غيره.

علم الساعة ومرده إلى الله تعالى

علم الساعة ومرده إلى الله تعالى ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: (أخبرني عن الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وفي هذا بيان أن علم الساعة مما اختص الله تعالى به. وقد جاء في القرآن ما يدل على أن علم الساعة من خصائص الله سبحانه وتعالى، وجاء -أيضاً- أنها من جملة الخمسة الأمور التي هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى، فقد أخفاها عن الناس ولم يعلمهم بها، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة في أي سنة، ولا في أي شهر، ولا في أي يوم من الشهر، لكن جاء في السنة أن الساعة تقوم يوم الجمعة، وعلى هذا فالساعة لا تقوم في الأيام الأخرى غير يوم الجمعة، فلا تقوم يوم السبت أو الأحد أو الأيام الأخرى، وإنما تقوم في يوم الجمعة فقط كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأما في أي سنة، وفي أي شهر، وفي أي جمعة من الشهر فهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل أن قال له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي أن الخلق استوى علمهم فيها، وهو أنهم لا يعلمون وقت قيامها، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لست أعلم بها منك. وإنما قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وهذا كلام عام يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، ويشمل غيرهما. ثم سأل جبريل النبي عليهما السلام فقال: (فأخبرني عن أماراتها؟ فقال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).

أشراط الساعة

أشراط الساعة وللساعة أشراط، فبعض أشراطها تكون قريبة من قيامها، وبعض الأشراط تكون قبل ذلك، وهذه الأشراط التي قبل ذلك منها ما قد مضى، ومنها ما لم يأت، وكل هذا قبل أن تأتي العلامات الكبرى التي تكون بين يديها، مثل طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وكذلك خروج المهدي، فهذه من الأشراط التي هي قريبة من قيام الساعة. وأما العلامات الأخرى فهناك علامات أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما قد مضى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصري)، وقد ذكر في كتب التاريخ أنه في سنة ستمائة وأربع وخمسين خرجت هذه النار، وحصل هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل سقوط بغداد بسنتين على أيدي التتار، فقد كان سقوط بغداد على أيدي التتار سنة ستمائة وست وخمسين، ذكر ذلك ابن كثير وغيره. وهناك أمور أخرى أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقع إلى الآن، كقوله في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيقتتل عليه الناس، فينجو من كل ألف رجل واحد، ويهلك تسعمائة وتسعة وتسعون). وهؤلاء المقتتلون يعلمون بأن النجاة تكون لواحد من ألف، وأن الهلاك سيكون حليف تسعمائة وتسعة وتسعين، ومع ذلك يقتتلون ويرجو كل واحد منهم أن يكون هو ذلك الفائز الناجي، وهذا من شدة الحرص على الدنيا في ذلك الوقت، وهذا الأمر لم يحصل حتى الآن، وأما تفسير بعض الناس لذلك الجبل من ذهب بالبترول الذي في العراق فهو كلام باطل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه جبل من ذهب، والبترول ليس بذهب، فالذهب -كما هو معروف- معدن من المعادن، وهو مع الفضة يكونان العملة التي يتعامل بها الناس، والذهب هو أنفس هذين النوعين. وهذا كله قبل أن تأتي العلامات الكبرى التي تكون بين يدي الساعة. ونسمع بين الحين والآخر الناس يتحدثون عن خروج المهدي، وبعض هؤلاء المدّعين لذلك من المجانين وأشباه المجانين، فيزعم بعض الناس أنه المهدي، وهذا كله من الخطأ البين الواضح. وقد حصل هذا في أزمان مختلفة من التاريخ، وآخر شيء حصل ووقعت فيه فتنة هلاك وقتل ما كان في سنة 1400هـ في الحرم المكي، وكل ذلك بسبب هذا السفه، وهو ادعاء المهدوية، فتكون هناك عواطف وحماسة مبنية على غير أساس، وقد يبنى ذلك على منامات ورؤى تحصل من الشيطان ليزج بهؤلاء إلى ما يكون فيه هلاكهم وهلاك أتباعهم. وأذكر أنه قبل أن تحصل الفتنة التي وقعت في الحرم في غرة محرم سنة 1400هـ كان الناس يتحدثون قبل ذلك عن أن المهدي سيخرج، وأذكر أنه جاء إلي طالب لا أعرفه وأنا في مكتبة الدراسات العليا، وقال: إنهم يقولون: إن المهدي سيخرج. وكانوا يذكرون أن قحطان محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي، وأنه سيخرج. وهناك كتاب اسمه (كتاب المتألهين والمتنبئين والمتمهدين) فقلت: إنه سيضاف إلى هذا الكتاب إن خرج. ثم إنه خرج فصار ممن ذكر في هذا الكتاب، ويحصل بين وقت وآخر محاولة من بعض الناس إدعاء المهدوية، وكل هذا سفه من بعض العقول. وأذكر أنه مرة من المرات جاءني كتاب من رجل في لندن، وقال: إني المهدي، وإنني أرى أن علامات المهدي موجودة فيّ، فماذا تقترح علي؟ وبماذا تشير علي؟ فقلت له: لا يسمع أحد أبداً هذا الكلام منك حتى تموت؛ لأنك إن حدثت به أحداً فستتهم بضعف في عقلك، فأرى من الخير لك أن تترك هذا الأمر، وأن لا يخطر منك على بال، فكتبت له هذا الكتاب، ولا أدري ما حصل له، ولعله استفاد من هذا الإرشاد. فالحاصل أن الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ولكنه سيقع في الوقت الذي يشاء الله عز وجل أن يقع فيه، وأما تلك الأمور التي تحصل بين حين وآخر ممن يدعي أنه المهدي، أو يدعى فيه أنه المهدي فكل هذه الأمور لا تأتي بخير، وإنما تأتي بالضرر، وتدل على سفه من حصلت منه، وتدل على قلة عقله وبصيرته. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر بأمور عديدة، والإنسان إذا قرأ الكتب التي رتبت على الحروف، كالجامع الصغير، أو صحيح الجامع الصغير فإنه يجد عدة أحاديث كلها مبدوءة بـ: (لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا). فمن هذه الأمور ما حصل، ومنها مالم يحصل، والمسلم يصدق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يجر ولا يسوق الأحاديث أو النصوص التي وردت إلى شيء لا يصلح أن تساق إليه، أو يفسرها بشيء وقع على أن اعتبار أن هذا هو ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كالمثال الذي ذكرته في قصة الكنز الذي في الفرات، وتفسيره بالبترول، فكل هذا من التخرص، وهو كلام على غير هدى وبصيرة. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن أماراتها أخبره بأمارتين، أخبره بقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، وكان عليه الصلاة والسلام يُسأل أسئلة متعددة عن الساعة، فكان أحياناً يجيب بشيء من أماراتها، وأحياناً يجيب بما هو أهم من السؤال عن الساعة. فمما سئل عنه وكان الجواب بلفت النظر إلى ما هو أهم من المسئول عنه ذلك الحديث الذي فيه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها)، أي: أن الساعة قائمة، وكل آت قريب، ولكن ما الذي أعددته لنفسك إذا قامت الساعة؟ فالسائل صدقه في الجواب (فقال: أعددت لها حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب)، فصرفه عن السؤال، ولفت نظره إلى الأمر الذي ينبغي أن يشتغل به، وهو أن يستعد للساعة وللموت، فالإنسان لا يجد أمامه إلا ما قدم، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وهذا من كمال بيانه ونصحه عليه الصلاة والسلام لهذا السائل الذي سأله. ومن ذلك -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه يحدثهم، فجاء رجل ووقف على الحلقة وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، واستمر فيما هو فيه من تحديث أصحابه، فلما فرغ قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله. فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). قال الحافظ ابن حجر وهو يتكلم على استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم في الكلام مع أصحابه، وإعراضه عن هذا السائل، وفي هذا دليل على أن أخذ العلم بالسبق. أي أن الذي كان الحديث معه أولى بالتحديث من شخص يأتي بعده ويقطع الحديث. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن جرير الطبري في (لسان الميزان) أن ابن جرير الطبري رحمه الله كان يجلس في مجلس العلم، فحضر مجلسه مرة من المرات ابنُ الوزير ابن الفرات، فتوقف الذي له الدور والنوبة هيبة من ابن الوزير، وظن أن ابن جرير سيقدم ابن الوزير، فقال له ابن جرير: إذا كانت النوبة لك فابدأ ولا تعبأ بدجلة ولا بالفرات. يعني بالفرات ابن الفرات، ومعنى ذلك أن صاحب السبق والأولية أولى من غيره. وهذا هو الذي يسمونه في هذا الزمن الطوابير، أي: أن يكون الناس بعضهم وراء بعض، فهذا موجود في الإسلام قبل أن يوجد في هذا الزمان عند المسلمين أو عند الكفار.

علامات الساعة

علامات الساعة فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يجيب في بعض الأوقات ببعض الأمارات كما أجاب في حديث جبريل فقال: (أن تلد الأمة ربتها)، وفُسِّر ذلك بأنه يكون عند كثرة الفتوح، وأن الأسياد يطئون الإماء، فإذا ولدت الأمة فإنها تكون أم ولد، وأحكام أمهات الأولاد معروفة، والقول الصحيح أنها لا تباع، وأنها تعتق بموت سيدها، ولهذا فإنهم كانوا يكرهون أن تلد الإماء؛ لأن الأمة إذا ولدت لم يتمكن سيدها من بيعها، فتضيع عليه ماليتها، ولذا فإنهم كانوا يعزلون عنهن عند الجماع. فمعنى (أن تلد الأمة ربتها)، هو أن تلد لسيدها ولداً يكون الولد بمنزلة أبيه، فكأنه بمنزلة سيدها. وهذه الأمارة والعلامة ليست مذمومة، فليست كل أمارات الساعة فيها ذم، فمنها ما هو مذموم، ومنها ما ليس مذموماً، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز) ليس فيه ذم، وهو أمر سيقع، ولا يعتبر من قبيل الأشياء المذمومة. ومن هذا الوجه -أيضاً- ما جاء من أن المسلمين يجاهدون الكفار، فتكثر الفتوحات ويكثر السبي، فهذا شيء جيد، ولا يعتبر مذموماً، وإنما الذم فيما يحصل من كون الولد يعامل أمه معاملة لا تليق، لذلك قال بعض أهل العلم: إن المقصود من الحديث السابق هو العقوق. وهذا الذي رجحه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)، فذهب إلى أن المراد أنه يكثر العقوق، فيكون الولد بمنزلة السيد، فلا يعامل أمه معاملة لطيفة، بل يكون بمنزلة الآمر الناهي، فتنعكس الأمور والأحوال، فيصير من هو أهل للاحترام والتوقير يسعى إلى أن يوقر من كان يجب عليه أن يوقره هو، فيكون على هذا التفسير مذموماً. فالحاصل أن هذه العلامة على التفسير السابق ليست مما يُذم، وقيل: إن المقصود من ذلك أن يكثر السبي، فيترتب عليه أن الولد يملك ثم يعتق، ثم بعد ذلك يشتري أمّه وهو لا يدري أنها أمّه، فيسيء إليها، ويكون سيداً لها، فيكون مذموماً على هذا التفسير. وقيل في معناه: إن الأمة تلد ابن سيدها، ثم يصير ذلك المولود ملكاً، فيكون رئيساً عليها وعلى غيرها ممن هو تحت ولايته. وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان)، أي أن الذين كانوا فقراء وعراة الأجسام وحفاة الأرجل، وكانوا لا يجدون من النعال واللباس ما يكفيهم تتغير بهم الأحوال، وتكثر الأموال، فينتقلون من الحالة التي كانوا عليها إلى أن يتطاولوا في البنيان ويتباهوا به، فكل واحد يريد أن يكون أطول من غيره، وهذا فيه ذم، فقد كان مقصودهم المباهاة والتطاول، وهاتان الخصلتان مذمومتان، والرسول صلى الله عليه وسلم أجابه بهاتين الأمارتين والعلامتين من علامات الساعة. ثم قال عمر: (فلبث ملياً) وفي بعض الروايات (فلبثت ملياً، ثم قال: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ردوا السائل. فذهبوا فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وجاء في قصة عمر أنه كان بعد ثلاث، أي: بعد ثلاثة أيام، ويجمع بين هذا وبين ما جاء من أنه أخبره في الحال أن عمر لم يكن في ذلك المجلس بعد انصرافه وانتهائه، وإنما خرج ولقي النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث عن الرجل الذي جاء وسأل هذه الأسئلة.

حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الأسئلة

حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الأسئلة وتقديم السؤال بهذه الطريقة فيه تمكين للسؤال في وعي وذهن المسئول، ففي ذلك لفت لنظره، بخلاف ما لو قيل: إن السائل هو فلان. فإنه لا يكون له ذلك الوقع في نفس من وجّه إليه السؤال، فإذا جاء الجواب بعد ذلك فإنه يكون أوقع في نفسه، وأثبت في قلبه، وأمكن في استيعاب الشيء الذي يُخبَر به. وهذا من الأساليب التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها مع أصحابه ليمكنهم من استيعاب ما يصدر منه، ومثل ما جاء في قصة معاذ بن جبل لما كان راكباً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال له: (يا معاذ! فقال له معاذ: لبيك -يا رسول الله- وسعديك. فقال: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إن حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق الله على العباد أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) فمهد للجواب بهذه الأسئلة وهذا الخطاب حتى يكون عند معاذ الحرص والاهتمام تتلقي ما يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بالنسبة لـ عمر رضي الله عنه هنا، فقد قال له: (أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليل على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم. وأما في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم. فيعطيهم الجواب، وأما بعد ذلك فليس لأي إنسان إذا سئل عن أي شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم. فقد يسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم. لأن الرسول صلى عليه وسلم لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعلم كل غيب، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، فلا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فأضاف إليه التعليم؛ لأنه متسبب فيه وإن لم يكن مباشراً للتعليم، فالذي باشر التعليم هو رسول صلى الله عليه وسلم، فصار المتسبب في حكم المباشر. فسؤال الإنسان لا يكون دائماً عن الأشياء المجهولة فقط، بل قد يسأل عن الشيء يعلمه من أجل أن يسمع الناس جواب هذا السؤال، فهذا من الأمور المستحسنة، وليس هذا من الأمور التي لا تنبغي، بل هذا مما ينبغي؛ لأن فائدته أن يعلم غيره مثلما علم، ولهذا فقد أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم التعليم إلى جبريل -مع أنه إنما كان سائلاً- لكونه حصلت الفائدة للصحابة من جراء سؤاله. ولقد كان سؤال جبريل وإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمور كلية وقواعد عامة، وهذه هي أصول الدين، وأما تفاصيله وجزئياته فلا تنحصر، ولكن هذه هي الأمور الكلية والقواعد العامة، وذلك في تفسير الإسلام والإيمان والإحسان، مثل تفسير الإسلام بأنه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، وكذلك أيضاً تفسير الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والإحسان وبيان معناه، وكذلك السؤال عن الساعة، وبيان أنه لا يعلمها إلا الله، فلتقطع الآمال عن التفكير فيها والبحث عن وقتها؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأماراتها وعلاماتها كثيرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من علاماتها. وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام على حديث جبريل الطويل من رواية عمر بن الخطاب رضي الله، وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنتكلم على حديث: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) والكلام عليه داخل في الكلام على حديث جبريل السابق؛ لأن هذه الأمور الخمسة هي التي اشتمل عليها جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا أرجأنا الكلام عليها إلى الحديث الآتي؛ لأنه مشتمل عليها، ولم نجعل الكلام عليها ضمن هذا الحديث، فيعتبر الكلام على الحديث الآتي ضمن الكلام على حديث جبريل، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من يقول: إن الأئمة يعلمون متى يموتون، وإنهم لا يموتون إلا باختيارهم

حكم من يقول: إن الأئمة يعلمون متى يموتون، وإنهم لا يموتون إلّا باختيارهم Q حديث جبريل يدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، فكيف بمن يقول: إن الأئمة -عليهم السلام-يعلمون متى يموتون، وإنهم لا يموتون إلا باختيار منهم، وإنهم إذا شاءوا أن يعلموا علموا، وإنهم يعلمون علم ما كان وما يكون، وإنه لا يخفى عليهم شيء؟ A ليس هذا من كلام أهل السنة، بل هو من كلام الرافضة الذين يغلون في أئمتهم الاثني عشر، ويضيفون إليهم مثل هذا الكلام، والذي قال هذا الكلام هو الكليني صاحب (الكافي)، وهذا الكتاب (الكافي) يعتبر عند الرافضة مثل (صحيح البخاري) عند أهل السنة. وهذه الأمور التي يضيفونها إلى الأئمة الاثني عشر لا تضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا من باطلهم وانحرافهم وغلوهم وإسرافهم وتجاوزهم الحدود، حيث أتوا بمثل هذا الكلام الذي يضحك كل من يسمعه من سوء ما هم عليه من الباطل، فكيف يكون الأئمة بهذا الوصف وبهذه الهيئة والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يوصف بشيء من ذلك؟! فأئمتهم يعلمون ما كان وما سيكون، يعلمون متى سيموتون، ولا يموتون إلا باختيارهم، والأئمة عندهم الكتب المنزلة على المرسلين كلها، ويعرفونها بلغاتها، فما هذا الهراء؟! وكذلك -أيضاً- عندهم أخطر وأسوأ ما يكون، حيث يقول: (باب أنه ليس شيء من الحق إلا ما خرج من الأئمة، وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل) فعلى قولهم هذا يعتبر صحيح البخاري وصحيح مسلم باطلان؛ لأنهما لم يخرجا من عند الأئمة الاثنى عشر، بل والقرآن لم يخرج من عند أئمتهم، فقد جمعه أبو بكر ثم عثمان، والمصحف الموجود الآن هو من جمْع عثمان رضي الله عنه، فهو لم يخرج من الأئمة الاثنى عشر. وهذا يبين لنا انحرافهم وبعدهم عن الحق والهدى، وأنهم من أسوأ فرق الضلال إن لم يكونوا أسوأها، وبعض الناس إذا ذكرنا لهم مثل هذه الاعتقادات الباطلة قالوا: هذا كلام أناس متقدمين، وأما الموجودون في هذا الزمان فليس عندهم مثل هذا الكلام. وأقول: بل عندهم مثل هذا الكلام أو أسوأ منه، فهذا هو الخميني -الذي هلك قبل سنوات- له كتاب اسمه (الحكومة الإسلامية)، يقول فيه في (ص52): وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرّب، ولا نبي مرسل. والضروريات معناها: البديهيات التي لا تقبل النظر والتفكير. ويقول أيضاً: إن الإمام -يعني: من الأئمة- له خلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون. ويذكر -أيضاً- أن الأئمة محدقون بالعرش، وأنهم أنوار محدقة بالعرش، وأن جبريل قال: لو قربت أنملة لاحترقت. فيقصدون أن لهم كاناً ما وصله جبريل، فكل هذا من الإفك والكذب والباطل، والإنسان عندما يسمع مثل هذا الكلام فإنه يقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. وأما فيما يتعلق بعلم الغيب فالرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب على الإطلاق، فلا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله إياه، يقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] أي أن ما أظهره الله من غيبه وأوصى به إلى رسله فإن الله تعالى يحفظه حتى يصل إلى ذلك الرسول، لكن ليس كل غيب يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن الأمور التي لا يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت قيام الساعة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك، وعلمها إنما هو عند الله تعالى، وهناك أمور وقعت وحصلت يتبين من خلالها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فمن ذلك أمر عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، فقد رُميت زوجته بالإفك، فتألم وتأثر وأصابه ما أصابه من الشدة، وكان يستشير أصحابه فيها، ويستشير في طلاقها، وكان يقول لها: (يا عائشة! إنْ كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفري)، وبقي خمسين يوماً أو قريباً من ذلك وهو على هذه الحال حتى نزل القرآن ببراءتها، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فإنه بمجرد قول الناس: إنه حصل كذا سيقول: أنا أعلم الغيب، فلم يحصل شيء من هذا، فلا تتكلموا. فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، بل خفي عليه الأمر ولم يعلمه إلا بعد نزول الآيات من أول سورة النور، وعند ذلك عرف براءتها وسلامتها، وقبل ذلك ما كان يدري حقيقة الأمر. ومن ذلك أنهم كانوا في سفر ففقدت عائشة رضي الله عنها عقداً لها، ولما أرادوا الرحيل ذكرت أنها فقدت عقدها، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبحث عن هذا العقد، وجلسوا يفتشون عنه حتى أصبحوا وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله تعالى آيات التيمم، فتيمموا، وعندما ارتحلوا وجدوا العقد تحت الجمل الذي كانت تركب عليه عائشة، فلو كان عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب لعلم مكان ذلك العقد الضائع، ولم يبقوا ليلة كاملة يبحثون عن العقد، فهذا الأمر غاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يذاد أناس من أصحابي عن الحوض فأقول يا ربّ! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فلو كان عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب لم تكن هناك حاجة إلى أن يقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وليس به حاجة إلى أن يقول: (أصحابي)، ولو كان يعلم الغيب لعرف السبب الذي طردوا من أجله. فعلم الغيب لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، فلا يعلم الغيب على الإطلاق إلا هو سبحانه وتعالى، وأما الملائكة والبشر والجن فلا يعلمون من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، فقد أخبر الله تعالى عن الملائكة في أول سورة البقرة أنهم قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]. وأخبر الله تعالى عن الجن -كما في قصة موت سليمان عليه الصلاة والسلام- أنهم لا يعلمون الغيب، وأنهم لم يعلموا موته حتى دلتهم على ذلك دابة الأرض، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14]، وقال الله عز وجل حكاية عن الجن في سورة الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، وقال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، أي: أن كل ما في السموات من الجن والملائكة والبشر لا يعلمون الغيب على الإطلاق، وأن الذي يعلم ذلك هو الله سبحانه وتعالى. وهذا الاستثناء في هذه الآية منقطع، فليس معنى ذلك أنّ الله في السموات، بل هو فوق السموات على العرش، فالله تعالى هو خالق الخلق، ولا يحويه شيء من مخلوقاته، بل هو مباين للمخلوقات.

الجمع بين قولنا: إن الحدود جوابر وبين قوله تعالى: (لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)

الجمع بين قولنا: إن الحدود جوابر وبين قوله تعالى: (لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) Q إذا كانت الحدود زواجر وجوابر على الصحيح فكيف نوفق بين هذا القول وبين آية حد الحرابة، إذ فيها قوله تعالى: {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]؟ A تحمل هذه الآية على أن هناك كفراً يقتضي العذاب في الدنيا والآخرة، وأما الحدود التي تكون مع الإيمان فمن أقيمت عليه في الدنيا فإنه لا يعذب في الآخرة.

أول علامات الساعة

أول علامات الساعة Q هل طلوع الشمس من مغربها يعتبر أول علامات الساعة الكبرى؟ A ليس عندي علم بكونها أول شيء، فهناك علامات قبلها كما هو معلوم، مثل خروج المهدي، ومثل نزول عيسى عليه السلام، وخروج يأجوج ومأجوج، فكل هذه قبلها؛ لأن طلوع الشمس من مغربها إذا وقع: لا ينفع نفساً إيمانها حينئذٍ.

تدرج الإنسان في مرتبة الإحسان

تدرّج الإنسان في مرتبة الإحسان Q هل يصح القول بأن الإنسان يعبد الله بالرجاء، فإن لم يكن كذلك فإنه يعبد الله بالخوف، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه) يدل على الرجاء، وقوله: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) يدل على الخوف؟ A هذا قريب من الذي ذكرته، فالإنسان يعبد الله عز وجل ويطلبه ويتقرب إليه بالأعمال الصالحة وكأنه واقف بين يديه، فإن لم يكن كذلك فليعلم بأن الله تعالى يراه، فليخفه وليخشه.

حكم ادعاء علم الساعة عن طريق الحساب الأبجدي

حكم ادعاء علم الساعة عن طريق الحساب الأبجدي Q ما حكم ادعاء علم الساعة بالحساب الأبجدي؟ A علم الساعة -كما هو معلوم من كثير من النصوص- من خصائص الله عز وجل، فلا يمكن أن يتوصل أحد إلى ذلك، وكل من تكلم في ذلك فإنما يرجم بالغيب، وهو من الدخول فيما ليس له؛ لأن مثل ذلك لا يعرف إلا عن طريق الشرع، ولو كان أحد يعلم ذلك لعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو خير البشر، فقد قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل).

حكم ارتفاع المباني والعمائر

حكم ارتفاع المباني والعمائر Q قوله صلى الله عليه وسلم: (يتطاولون في البنيان)، هل في ذلك ذم لارتفاع المباني والعمائر؟ A لا بأس بذلك عند الحاجة، ولكن المذموم هو التفاخر والتباهي، حين تجد كل واحد يريد أن يغلب الآخر وأن يتفوق عليه، فإذا وجد هذا المعنى فهو مذموم.

المراد بالساعة في حديث: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)

المراد بالساعة في حديث: (إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله) Q جاء في الحديث: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فبعض الناس يقول: إن المراد بالساعة هنا الهلاك، وليس اليوم الآخر. فهل هذا صحيح؟ A إذا قربت نهاية الزمان -ومعلوم أن القرب نسبي، فليس كل قُرب معناه الوصول إلى النهاية- فإن ذلك من العلامات على ذم ما يحصل في ذلك الزمان، وهذا يدل على قرب الساعة، ويدل -أيضاً- على قرب ساعة أولئك الذين حصل منهم ذلك الشيء، فكل إنسان تقوم قيامته وساعته عندما يموت، لكن لا يقال: إن هذا لا علاقة له بقيام الساعة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنها؛ لأن الأحاديث التي فيها قيام الساعة المراد بها نهاية الدنيا. ولاشك في أن مثل هذه الأمور تدل على فساد أهل ذلك الزمان، وأن هذه من الأمور التي تقرب من النهاية وإن كان القرب -كما هو معلوم- نسبياً، فليس كل قرب معناه النهاية، فهناك أمور كبار لابد من أن توجد قبل أن تقوم الساعة.

حكم تعليق مجسم للحجرة النبوية

حكم تعليق مجسَّم للحجرة النبوية Q ما حكم تعليق مجسم للحجرة النبوية؟ وهل هذا يعتبر هذا من تعظيم القبور؟ A إظهار ذلك وإبرازه غير سائغ، وكون الناس يقصدون هذا ويتعمدونه شيء مذموم.

الحكمة من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم أن يردوا السائل مع علمه أنهم لن يجدوه

الحكمة من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم أن يردوا السائل مع علمه أنهم لن يجدوه Q ما الحكمة من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يردوا السائل وهو يعلم أنه ملك وأنهم لن يروه؟ A يحتمل أنه أراد أن يبين لهم أن السائل من الملائكة، فإذا اتبعوه لن يجدوه، وأما إذا كان من البشر فإنهم سيجدونه ويرونه، وأما اختفاؤه بسرعة فإنه يدل على أنه ليس من قبيل ما يعهدون.

معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)

معنى قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض) Q ما معنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، وهل فيه هذه الآية مجاز؟ A ليس في القرآن مجاز، وهذا هو الذي حققه العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وهناك رسالة اسمها: (منع جواز المجاز في المنزل للتحدي والإعجاز)، وهي لشيخنا محمد أمين الشنقيطي رحمة الله عليه، وكذلك ابن القيم في كتابه (الصواعق)، فإنه بحث هذه المسألة وأطال فيها، وبين فساد القول بالمجاز، وأن هذا كله من قبيل الحقيقة مع التفاوت في الحقيقة، فالحقيقة قد تأتي على أحوال: منها ما تكون فيه واضحة جلية، ومنها ما يكون استعمالها فيه قليل، وكل هذا من قبيل الحقيقة. وقد بحث ابن القيم رحمه الله هذه المسألة في كتابه (الصواعق) وذكر عشرة أدلة اُدعِيَ فيها المجاز، وقد ردها من أوجه كثيرة، ومنها: ادعاء المجاز في هذه الآية التي هي قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35].

[9]

شرح الأربعين النووية [9] أركان الإسلام الخمسة هي أول ما يطالب به المسلم، وهي تختلف من حيث الأهمية والتقديم، فأهميتها على حسب ترتيبها في حديث جبريل، فيجب على المسلم الاهتمام بها وأداؤها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (بني الإسلام على خمس)

شرح حديث: (بني الإسلام على خمس) يقول الإمام النووي رحمه الله: [عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، رواه البخاري ومسلم]. هذا الحديث هو الحديث الثالث من الأربعين التي اختارها الإمام النووي وأودعها في كتابه (الأربعين)، وقد أتى به بعد حديث جبريل الذي فيه سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وقد أجاب عليه الصلاة والسلام جبريل بقوله: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً). والخمس الموجودة في حديث: (بني الإسلام على خمس)، هي نفس الخمس التي جاءت في حديث جبريل، وإيراد الإمام النووي رحمه الله لهذا الحديث لا يعتبر من قبيل التكرار، وذلك لأن في حديث عبد الله بن عمر معنى زائداً على ما جاء في حديث جبريل؛ لأن حديث جبريل فيه تفسير الإسلام بذكر هذه الأمور الخمسة، وأما حديث ابن عمر ففيه بيان أهمية هذه الأمور الخمسة وعظيم شأنها، وأن الإسلام بني عليها. ففيه معنى زائد على ما جاء في حديث جبريل، فلا يقال إنه تكرار. وإنما فيه معنى زائد على ما جاء فيه.

عظم شأن أركان الإسلام

عظم شأن أركان الإسلام وقوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) فيه بيان عظيم شأن هذه الأركان الخمسة في الإسلام، وأنها هي الأمور التي تعتبر الأصل والأساس، وغيرها وإن كان مطلوباً فإنه تابع لها، فذكر هذه الأسس الخمسة التي ينبني عليها دين الإسلام، وغيرها يكون تابعاً لها. وهذا فيه تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية؛ لأن ذلك أقرب إلى الأذهان، فإن الإنسان يتصور أهمية هذا المعنى كما يشاهد البنيان الذي يقوم على أعمدة، وإذا سقطت أعمدته أو اختلت أعمدته فإنه يسقط ويقع، فهذه الأمور الخمسة هي بمثابة الأركان وبمثابة العمد التي يقوم عليها البنيان. فهذا تنبيه على أن هذا الإسلام مبني على هذه الخمسة، وأنها شبيهة بالأعمدة التي يقوم عليها البيت، والتي يقوم عليها البناء، فإن ذلك يدل على أهميتها وعلى عظيم شأنها.

فائدة ذكر العدد في أول المعدود

فائدة ذكر العدد في أول المعدود ثم إن ذكر الخمس في أول الحديث وذكر العدد فيه فائدة، وهي التنبه للمعدود، وذلك أنه عندما يأتي ذكر العدد في الأول يتهيأ السامع ويستعد لمعرفة المعدود، فلو سقط شيء أو نسي العاد شيئاً فمعنى ذلك أنه حصل عنده نقص، فيحتاج إلى البحث عنه لتحصيله وتداركه، بخلاف ما إذا أتي بالشيء من غير ذكر العدد، فإن ذلك لا يكون مثل ما مما إذا ذكر العدد. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي بمعدودات ويشير إلى عددها قبل أن يأتي ذكرها، ومن ذلك ما يكون اثنين، ومنه ما يكون ثلاثة، ومنه ما يكون أربعة، ومنه ما يكون خمسة، ومنه ما يكون ستة، ومنه ما يكون سبعة، فيأتي بذكر العدد في الأول ثم يأتي بالمعدودات، وهذا فيه -كما قلت- تنبيه للسامع إلى أن يعي ويستوعب المعدودات التي ذكر له عددها. فهذه من الفوائد التي فيها تحفيز السامع على استيعاب المعدود ومطالبة نفسه بتحصيله، وأنه إذا فاته منه شيء فمعناه أنه حصل عنده نقص. وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة فيما يتعلق بمعدودين، كما جاء في آخر حديث في صحيح البخاري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) يعني أنهما هاتان الكلمتان. فقد ذكر العدد أولاً، ثم ذكر المعدود آخراً، وكذلك جاء ذكر الثلاث في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) الحديث، فذكر العدد ثلاثة، ثم ذكر المعدود بعد ذلك، وكذلك جاء ذكر أربع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) الحديث، وجاء: (حق المسلم على المسلم خمس) الحديث، وكذلك جاء ذكر غيرها من الأعداد. وهذا من المنهج والطريقة التي كان يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعليم أصحابه، وفائدة ذلك -كما أشرت- هي تحفيز السامع إلى أن يستوعب الشيء الذي يلقى عليه، وأن يطالب نفسه بالعدد، فإذا فاته شيء منه فمعناه أنه نقص عليه العدد، وأنه لم يستوعب، ويحتاج إلى أن يبحث عما يكمل به العدد.

التلازم بين الشهادتين

التلازم بين الشهادتين ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس)، ثم بدأها بالشهادتين، والشهادتان ركن واحد، وهما اثنان، ولكنهما متلازمان، فهاتان الشهادتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ومن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة فإن ذلك لا ينفعه، بل لابد من شهادة أن لا إله إلا الله ولابد من شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام. وهذا لازم لجميع الجن والإنس من حين بعثته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى قيام الساعة، فلابد من الجمع بين الشهادتين، ولو شهد المرء أنه لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله فإن ذلك لا ينفعه عند الله، بل لابد من الشهادتين؛ لأنهما متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فالمتعين علىٍ كل من الإنس والجن من حين بعثته إلى قيام الساعة أن يأتوا بهاتين الشهادتين، ولو أتى أحد بشهادة أن لا إله إلا الله ولم يأت بشهادة أن محمد رسول الله فإن ذلك لا ينفعه، ولو قال: إنه تابع للأنبياء السابقين، كاليهود الذين يزعمون أنهم أتباع موسى، والنصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى، فإذا لم يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام بعد بعثته فإن إيمانهم الذي يزعمونه لا يعتبر، ولا يعتد به، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) أخرجه مسلم في صحيحه، وهذا الحديث يدل على أن اليهود والنصارى يعتبرون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة الدعوة، أي أن الدعوة موجهة إليهم، بل هي موجهة إلى كل أنسي وجني من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة. فإذاً: الشهادتان متلازمتان، لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولابد من الجمع بينهما، ولا يكفي الإنسان أن يشهد أن لا إله إلا الله دون أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شمول الشهادتين لجميع الدين

شمول الشهادتين لجميع الدين ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام أو بين أن الإسلام مبني على هذه الأسس، وفسره في حديث جبريل بهذه الأسس الخمسة، ويدخل في ذلك كل ما هو مطلوب من الإنسان، سواء ما يتعلق بالقلب، أو ما يتعلق بالجوارح، وذلك لأن هذه الأمور التي ذكرت -وهي الأمور الخمسة- هي أمور ظاهرة، ولكن الأمور الباطنة هي داخلة تحت شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقتضى الشهادة أن يصدق في كل خبر، وأن يطاع في كل أمر، وأن ينتهى عن كل ما نهي عنه، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. فإذاً: دخل الدين كله من أوله إلى آخره في شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما يتعلق بالإيمان من الأمور الاعتقادية ومن الأمور القلبية فإنه داخل تحت شهادة أن محمد رسول الله؛ لأنه لابد من التصديق بكل خبر، فيدخل تحت هذه الشهادة كل ما يتعلق بالقلوب ويتعلق بالجوارح. فعلى هذا يكون الحديث شاملاً للأمور الاعتقادية والأمور العملية التي تظهر على الجوارح، فكل ما يقوم بالقلوب وما يقوم بالجوارح داخل تحت هذه الخمس، بل داخل تحت شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معنى الشهادتين ومقتضاهما

معنى الشهادتين ومقتضاهما شهادة أن لا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله. وهي تشتمل على ركنين: نفي، وإثبات، نفي في أولها، وإثبات خاص في آخرها، وهذا النفي هو نفي العبادة عن كل ما سوى الله، وهذا هو النفي العام، والإثبات الخاص إثباتها لله وحده لا شريك له. والمقصود من هذه الشهادة أو من هذه الكلمة: توحيد الإله الذي هو حق، وأما الآلهة التي غير حق فهي كثيرة، وهي موجودة، ولكن الذي ينفى بهذه الشهادة وبهذه الكلمة عن هذه الألهة الباطلة إنما هي الإلهية الحقة، وأما الإلهية الباطلة المدعاة فهي موجودة وكثيرة. ولهذا فإن الكفار الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم أن يفردوا الله بالعبادة قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، ومعنى ذلك أنهم يعتقدون أن هناك آلهة، وإنما الذي أنكروه هو كون الإله واحداً. وعلى هذا فإن الشهادة أو النفي الذي في كلمة الإخلاص وكلمة التوحيد هو نفي الإلهية الحقة، فهذه هي المنفية عن كل ما سوى الله. وأما الإلهية الباطلة فإنها موجودة، ولكن إذا أتي بـ (لا إله إلا الله) -ومعناها: لا معبود حق إلا الله- فمعنى ذلك أن الذي نفي هو الإلهية الحقة، وليس النفي لوجود الآلهة، بل الآلهة موجودة، ولكنها آلهة باطلة. فمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ومقتضى شهادة أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدق بكل ما جاء به، ويمتثل كل ما جاء به من الأوامر، وينتهى عن كل ما نهى عنه من النواهي، وأن لا يعبد الله إلا طبقاً لشريعته، وطبقاً لما جاء به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وهذا هو مقتضى الشهادتين؛ لأن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمد رسول الله أن لا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ووفقاً لما جاء به الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فلابد من تجريد الإخلاص لله وحده، فلا يعبد مع الله غيره، ولابد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون المتابعة والاتباع والعمل فعلاً وتركاً طبقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. والعمل الصالح هو ما كان خالصاً لله ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو اختل الركنان أو الشرطان أو اختل أحدهما فإن العمل يكون مردوداً على صاحبه، فلو أتي بالإخلاص دون المتابعة فإن العمل مردود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ومن أتى بالعبادة مطابقة للسنة ولكن أشرك مع الله تعالى فيها غيره فإنها تكون مردودة على صاحبها؛ لعدم الإخلاص، والله تعالى يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وفي الحديث القدسي: (يقول الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). إذاً: الركن الأول مؤلف من أمرين: الشهادة لله بالوحدانية والإلهية، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فلابد منهما، وكل عمل لابد من أن يكون مستنداً إليهما. فالشهادتان هما أساس في ذاتيهما، وهما أساس لبقية الأركان ولكل عمل يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا لم يكن العمل مبنياً على الشهادتين فإنه يكون مردوداً على صاحبه وغير مقبول، ولا ينفع صاحبه عند الله عز وجل. فهما أس الأسس، وهما اللتان يبنى عليهما غيرهما من بقية الأركان، وكل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى. وقد بدأ بهما في هذه الخمس لأنهما الأساس لغيرهما، كما أنه بدأ بالإيمان بالله في أركان الإيمان لأن الإيمان بالله هو الأساس، وكل شيء وراءه تابع له، وكذلك هنا بدأ بالشهادتين لأن كل شيء وراءهما تابع لهما.

أهمية الصلاة وبيان فضلها وعظمتها

أهمية الصلاة وبيان فضلها وعظمتها الصلاة هي أهم الأركان بعد الشهادتين، وهي التي يتميز بها في فترة وجيزة من يكون مطيعاً ومن يكون عاصياً، فإن الإنسان إذا رافق إنساناً أو عامل إنساناً أو خالط إنساناً يستطيع أن يكتشفه في خلال أربع وعشرين ساعة بأنه على الحق أو على الضلال، فإن رآه محافظاً على الصلاة وحريصاً على الصلاة فهي علامة خير، وإن رآه مضيعاً للصلاة فهي علامة شر، ويتبين ذلك في فترة وجيزة، بخلاف بقية الأركان، فإن بعضها لا يأتي في السنة إلا مرة واحدة، وبعضها لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة. أما الصلاة فإنها تأتي في اليوم والليلة خمس مرات، ولهذا فإنها صلة وثيقة بين العبد وربه، وبها يكون الإنسان على صلة وثيقة بالله عز وجل. ولأهميتها جاء ذكرها بعد الشهادتين، فهي أهم الأركان بعد الشهادتين، وقد جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على عظيم شأن الصلاة، فقد جاء أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وجاء أن أهل النار أول ما يسألون عن الذي أوصلهم إلى سقر لجيبون بأنهم كانوا لا يصلون، وجاء أنها فرضت ورسول صلى الله عليه وسلم في السماء ليلة المعراج، ولم تفرض عليه وهو في الأرض، وجاء أنها آخر ما يفقد من الدين في هذه الحياة، وجاء أنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وجاء أنها الحد الفاصل بين المسلم والكافر، وجاء أنها من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فإنه كان أوصى بالصلاة، وما ملكت الإيمان. فلأهميتها ولعظيم شأنها ولكونها مستمرة ولكون الإنسان بها يكون على صلة وثيقة بالله دائماً وأبداً قدمت على غيرها، وصار لها هذه الميزات وهذه الأمور التي جاءت في هذه الأحاديث التي أشرت إليها.

أهمية الزكاة وبيان فضلها

أهمية الزكاة وبيان فضلها ثم بعد ذلك يأتي ذكر الزكاة، والزكاة هي عبادة مالية تأتي في السنة مرة واحدة عند حولان الحول أو عند خروج الثمار ونضوجها، ولا تتكرر الزكاة، وإنما تجب في السنة مرة واحدة، ونفعها متعدٍ، ولهذا قدمت على الصيام، وجاءت بعد الصلاة. ويأتي كثيراً القرن بين الزكاة والصلاة في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، وقال سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. فيقرن الله عز وجل بين الصلاة والزكاة في آيات كثيرة من كتابه، وهذا يدلنا على أن شأنها عظيم، وأنها تلي الصلاة، وأنها متقدمة على بقية الأركان، وذلك لأن نفعها متعدٍ، حيث ينتفع صاحبها وينتفع غيره، فصاحبها ينتفع بالأجر والثواب، وغيره ينتفع بالمال الذي هو محتاج إليه لفقره ولعوزه ولقلة ذات يده، فيكون نفعها متعدياً إلى الآخرين، مع أنه يحصل للإنسان الثواب على ذلك.

فضل الصيام وسبب تقديمه على الحج

فضل الصيام وسبب تقديمه على الحج ويلي الزكاة الصيام؛ لأنه نفع قاصر وعبادة بدنية ليست متعدية، والصيام يجب في السنة شهراً، ولهذا جاء الترتيب بتقديمه على الحج في الحديث على غير هذه الرواية التي أوردها المصنف، وهذه الرواية التي قدم فيها الحج على الصوم هي رواية البخاري، لكن الرواية التي جاءت في صحيح مسلم فيها بيان أن الصوم مقدم على الحج، وأن ابن عمر رضي الله عنه نفسه لما أعاد الذي أسمعه الكلام وقدم الحج على الصوم قال: (لا، الصوم والحج، هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وعلى هذا فتكون هذه الرواية التي أوردها المصنف هنا والتي تابع فيها البخاري -وقد أوردها البخاري في أول صحيحه- من تقديم الحج من قبيل الرواية بالمعنى، ومن قبيل تصرف بعض الرواة، وإلا فإن اللفظ الذي سمعه ابن عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الصوم مقدم على الحج. والصوم أهم وأعظم من الحج من جهة أن الصوم يتكرر ويأتي كل سنة، ويكون شهراً كاملاً، وأما الحج فإنه لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة، ولهذا جاء تقديمه على الحج كما جاء في حديث جبريل، وكما جاء حديث ابن عمر في الرواية الأخرى التي أخبر ابن عمر بأنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم الصوم على الحج، كما جاء في حديث جبريل. وبذلك تكون هذه الأمور متتابعة على حسب أهميتها، أي: تقدم الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج. والإمام البخاري رحمه الله أورد حديث ابن عمر هذا في أول كتاب الإيمان من صحيحه، فأول حديث عنده في كتاب الإيمان هو حديث ابن عمر، وأورده بهذه الرواية التي فيها تقديم الحج على الصوم، وبنى عليها البخاري رحمه الله ترتيب كتابه، فإنه قدم كتاب الحج على كتاب الصوم، بناءً على هذا الحديث الذي أورده في أول كتاب الإيمان. ولكن الرواية الأخرى بينت أن ابن عمر قال: (هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك لما أعاد عليه الرجل الحديث الذي سمعه منه فذكر الحج وقدمه على الصيام، فقال: (لا، الصوم والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وعلى هذا يكون الترتيب مطابقاً للترتيب الذي جاء في حديث جبريل، وأن كل واحد أهم من الذي يليه وأعظم شأناً من الذي يليه، وإن كانت كلها أمور لازمة وواجبة. وقد جاء في صحيح مسلم أن ابن عمر رضي الله عنه حدث بالحديث لمناسبة، وهي أنه سئل فقيل له: ألا تغزو؟ فروى الحديث وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس) ليبين أن أركان الإسلام هي هذه الخمسة، وأن الجهاد ليس من الأركان. ومعلوم أن غير الأركان الخمسة تابع لها، وأن الإسلام ليس منحصراً فيها، ولكن ذكرت لأهميتها، ولتقدمها على غيرها، وأن غيرها تابع لها، والجهاد هو من أعظم وأفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، ولكنه ليس من الأركان، وذلك لأن هذه الأمور لازمة لكل مكلف، وأما الجهاد فإنه فرض كفاية، ويكون في أوقات دون أوقات، بخلاف هذه الأمور، فإنها لازمة ومستقرة وثابتة في حق كل مكلف، ولهذا بين ابن عمر رضي الله عنه أن الجهاد ليس من الأركان، وحدث بهذا الحديث الذي قال فيه النبي الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).

تقديم الأهم على غيره

تقديم الأهم على غيره عرفنا أن حديث ابن عمر ليس متعارضاً مع حديث جبريل، وعرفنا أن الترتيب الذي جاء في الحديث -لا سيما على الوجه الذي ذكره ابن عمر أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم- يدل على أنها مرتبة على حسب أهميتها، وفيه دليل على أنه يبدأ بالأهم فالأهم، كما جاء في هذا الحديث ترتيبها، وكما جاء -أيضاً- في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل، فإنه لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، فذكر هذه الأمور الثلاثة، ورتبها بادئاً بالأهم فالذي يليه في الأهمية. وهكذا جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه ترتيبها على النحو الذي ذكر ابن عمر: أنه سمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام عليه، وهكذا جاء ترتيبها في حديث جبريل: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).

أنواع العبادات

أنواع العبادات وهذه الأركان الأربعة بعد الشهادتين منها ما هو عبادة بدنية، وهو الصلاة والصيام، ومنها ما هو عبادة مالية، وهو الزكاة، ومنها ما هو عبادة مالية بدنية وهو الحج، فهو بدني لأن الإنسان يفعله بنفسه، وتجزئ فيه النيابة في حق من يجوز له أن يناب عنه، وهو -أيضاً- عبادة مالية؛ لأنه يحتاج فيه إلى مال، ويحتاج فيه إلى الزاد، ولهذا جاء في القرآن: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وجاء في حديث جبريل: (وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وذلك لأنه يحتاج إلى القوة البدنية، وذلك بأن يستطيع السفر، ويحتاج إلى القوة المالية، وهي كون الإنسان يملك الزاد والوسيلة التي توصله، إما بالملك وإما بالاستئجار.

اشتراط الاستطاعة في العبادات

اشتراط الاستطاعة في العبادات وذكر الاستطاعة مع الحج وإن كان كل عمل يؤتى به على قدر الاستطاعة، كما قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] لأن الحج يحتاج فيه إلى استطاعة مالية واستطاعة بدنية، وذلك أمر واضح، بخلاف غيره، فإنه وإن كان الأمر مطلوباً فيه الاستطاعة إلا أن الاستطاعة في الحج أعظم من غيره، ولهذا قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]؛ لأنه قد لا يستطاع إليه سبيلاً، بخلاف الصلاة، فالإنسان له أن يصلي على حسب قدرته، فإن استطاع أن يقوم قام، وإن لم يستطع صلى جالساً، والزكاة لا تجب إلا على من كان له مال، والصوم لا يجب إلا على من كان قادراً، وإذا كان له عذر طارئ كالمرض والسفر فإنه يفطر، ولكن يقضي، والحج هو الذي يحتاج إلى الكل، فهو الذي فيه المشقة، ولهذا قيل: إنه يجمع بين العبادة المالية والعبادة البدنية. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

[10]

شرح الأربعين النووية [10] الإسلام هو دين الله عز وجل الذي ختم به الأديان، ولا يقبل الله عز وجل من أحد ديناً سواه، ودين الإسلام مشتمل على أمور كثيرة، ولكن أهمها الأركان الخمسة، فإنها الأساس فيه، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالبناء القائم عليها، فعلى المسلم أن يحرص على إقامتها والمحافظة عليها حتى يستقيم له دينه؛ ليجد الجزاء عند ربه جزيلاً.

مسائل في حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس)

مسائل في حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) رواه البخاري ومسلم. قوله: (شهادة) يحتمل أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة. وهذا على الرفع، وعلى الكسر تكون بدلاً من قوله: (خمس). وهذا الحديث فيه عدة مسائل: أولاً: قوله: (بني الإسلام على خمس) فيه بيان عظم شأن هذه الخمس، وأن الإسلام مبني عليها، وهو تشبيه معنوي بالبناء الحسي، فكما أن البنيان الحسي لا يقوم إلا على أعمدته فكذلك الإسلام إنما يقوم على هذه الخمس، واقتصر على هذه الخمس لكونها الأساس لغيرها، وما سواها فإنه يكون تابعاً لها. ثانياً: أورد النووي هذا الحديث بعد حديث جبريل -وهو مشتمل على هذه الخمس- لما اشتمل عليه هذا الحديث من بيان أهمية هذه الخمس، وأنها الأساس الذي بني عليه الإسلام، ففيه معنىً زائد على ما جاء في حديث جبريل. ثالثاً: هذه الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام أولها الشهادتان، وهما أس الأسس، وبقية الأركان تابعة لها، فلا تنفع هذه الأركان وغيرها من الأعمال إذا لم تكن مبنية على هاتين الشهادتين، وهما متلازمتان، فلابد من شهادة أن محمداً رسول الله مع شهادة أن لا إله إلا الله. ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا يعبد إلا الله، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله أن تكون عبادة الله وفقاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان أصلان لابد منهما في قبول أي عمل يعمله الإنسان. فلابد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولابد من تجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. رابعاً: قال ابن حجر في الفتح: فإن قيل: لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل عليه السلام! أجيب بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول بما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات. وقال الإسماعيلي ما محصله: هو من باب تسمية الشيء ببعضه، كما تقول: قرأت الحمد وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول: شهدت برسالة محمد وتريد جميع ما ذكر. والله أعلم. خامساً: أهم أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين الصلاة، وقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها عمود الإسلام، كما في وصيته صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل، وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه الأربعين، وأخبر أنها آخر ما يفقد من الدين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وأن بها يحصل التمييز بين المسلم والكافر. وإقامتها تكون على حالتين: إحداهما: واجبة، وهي الإتيان بها على وجه مجزٍ أدي فيه الواجب. الثانية: مستحبة، وهي تكميلها وتتميمها بالإتيان بكل ما هو مستحب فيها. سادساً: الزكاة هي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في قول الله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وهي عبادة مالية نفعها متعدٍ، وقد أوجبها الله في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير ولا يضر الغني؛ لأنها شيء يسير من مال كثير. سابعاً: صوم رمضان عبادة بدنية، وهي سر بين العبد وبين ربه؛ لأن الصوم لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن من الناس من يكون في شهر رمضان مفطراً وغيره يظن أنه صائم، وقد يكون الإنسان صائماً في نفل وغيره يظن أنه مفطر؛ ولهذا ورد في الحديث الصحيح أن الإنسان يجازى على عمله الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: (إلا الصوم فإنه له وأنا أجزي به)، أي: بغير حساب. والأعمال كلها لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمسلمينَ} [الأنعام:162 - 163]. وإنما خص الصوم في هذا الحديث بأنه لله لما فيه من خفاء هذه العبادة، وأنه لا يطلع عليها إلا الله. ثامناً: حج بيت الله الحرام عبادة مالية بدنية، وقد أوجبها الله في العمر مرة واحدة، وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضلها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (رمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). تاسعاً: هذا الحديث بهذا اللفظ جاء فيه تقديم الحج على الصوم، وهو بهذا اللفظ أورده البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، وبنى عليه ترتيب كتابه الجامع الصحيح، فقدم كتاب الحج فيه على كتاب الصيام، وقد ورد الحديث في صحيح مسلم بتقديم الصيام على الحج وتقديم الحج على الصيام. وفي الطريق الأولى تصريح ابن عمر بأن الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديم الصوم على الحج، وعلى هذا يكون تقديم الحج على الصوم في بعض الروايات من قبيل تصرف بعض الرواة، فرواه بالمعنى، وسياقه في صحيح مسلم: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج. فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ قال: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم). عاشراً: هذه الأركان الخمسة وردت في الحديث مرتبة حسب أهميتها، وبدئ فيها بالشهادتين اللتين هما أساس لكل عمل يتقرب به إلى الله عز وجل، ثم بالصلاة التي تكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربه، ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى عليه حول؛ لأن نفعها متعدٍ، ثم الصيام الذي يجب شهراً في السنة، وهو عبادة بدنية نفعها غير متعدٍ، ثم الحج الذي لا يجب في العمر إلا مرة واحدة. الحادي عشر: ورد في صحيح مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما حدث بهذا الحديث عندما سأله رجل فقال له: ألا تغزو؟ فساق الحديث، وفيه الإشارة إلى أن الجهاد ليس من أركان الإسلام، وذلك لأن هذه الخمس لازمة باستمرار لكل مكلف، بخلاف الجهاد، فإنه فرض كفاية، ولا يكون في كل وقت. الثاني عشر: مما يستفاد من الحديث: أولاً: بيان أهمية هذه الخمس؛ لكون الإسلام بني عليها. ثانياً: تشبيه الأمور المعنوية بالحسية لتقريرها في الأذهان. ثالثاً: البدء بالأهم فالأهم. رابعاً: أن الشهادتين أساس في ذاتيهما، وهما أساس لغيرهما، فلا يقبل عمل إلا إذا بني عليهما. خامساً: تقديم الصلاة على غيرها من الأعمال؛ لأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه. سادساً: ذكر العدد أولاً ثم المعدود بعد ذلك مما يجعل السامع يستوعب ما يلقى عليه، ويعي ما يلقى عليه، وهو منهج سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم في إيضاحه وبيانه لأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q تعرض الحافظ ابن رجب لقضية خروج المرء من دائرة الإسلام بترك هذه الأركان الخمسة أو ترك بعضها، وبعد أن ذكر القول الأول في ترك الصلاة قال: وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم، وقال محمد بن نصر المروزي: هو قول جمهور أهل الحديث. ثم قال: وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر بذلك، وروي ذلك عن سعيد بن جبير ونافع والحكم. ويقول الحافظ ابن رجب أيضاً: واعلم أن هذه الدعائم الخمسة بعضها مرتبط ببعض، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض، كما في مسند الإمام أحمد عن زياد بن نعيم الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لم يغنين عنه شيئاً حتى يأتي بهن جميعاً: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، وهو مرسل، فما توجيه هذا؟ A هذا غير واضح، إلا إذا كان المقصود به الجحود، أما إذا كان المقصود به عدم الجحود فإنه لا يعتبر كافراً، فإن الكفر إنما هو في الصلاة، كما جاء عن عبد الله بن شقيق العقيلي أنه قال: إنهم كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وأما بالنسبة للجحود فكل ما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة إذا جحده الإنسان فإنه يكفر، وكذلك إذا استحل أمراً معلوماً تحريمه من دين الإسلام بالضرورة فإنه يكفر. وعلى هذا فإن مجرد الترك ليس جحوداً، وعلى هذا فإنه لا يعتبر كفراً، ولهذا جاء في قصة الرجل الذي لا يؤدي الزكاة: (إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وظهره، ويكون هذا شأنه حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). وكذلك صاحب الإبل وصاحب البقر والغنم الذي لا يؤدي زكاتها: (يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه بأظلافها، إذا مر عليه أخراها عاد عليه أولاها، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) فقوله: (إما إلى الجنة وإما إلى النار) يدل على أنه ليس بكافر؛ لأن الكافر لا سبيل له إلى الجنة، بل مصيره إلى النار، والذي له سبيل إلى الجنة هو الذي يكون مسلماً وليس بكافر. فهذا يدل على أن غير الصلاة إذا تركه العبد من غير جحود لا يكون كافراً، وأما الصلاة فهي التي فيها الخلاف، فمنهم من قال: إنه يكفر بتركها تكاسلاً. وهذا القول دلت عليه الأدلة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)، وقوله في الحديث الآخر: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وكذلك الحديث في الأمراء الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وفي الحديث الآخر قال: (لا ما صلوا). ففي قوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) استثنى به الكفر البواح، وفي قوله: (لا، ما صلوا) استثنى الصلاة، فدل على أنهم إذا كانوا من المصلين فقد سلموا من الكفر، وأن من لم يصل فإنه يكون كافراً.

اشتراط النطق بالشهادتين باللغة العربية

اشتراط النطق بالشهادتين باللغة العربية Q إذا أراد الآدمي أن يسلم وهو لا يعرف اللغة العربية فهل ينطق بالشهادتين بلغته؟ A يُفَهَّمُ الشهادتين بلغته، وينطق بهما باللغة العربية، أي: يفهم المقصود من الشهادتين بلغته، ثم يطلب منه النطق بهاتين الشهادتين باللغة العربية.

المعنى الزائد في حديث ابن عمر في أركان الإسلام عن حديث جبريل في مراتب الدين

المعنى الزائد في حديث ابن عمر في أركان الإسلام عن حديث جبريل في مراتب الدين Q ما هو المعنى الزائد في حديث ابن عمر عن حديث جبريل؟ A ذكر البناء في الأول، وذلك في قوله: (بني الإسلام على خمس)، وأما حديث جبريل فليس فيه ذكر بناء، وإنما فسر الإسلام بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة إلخ، وأما قوله: (بني الإسلام على خمس) فهذا التعبير وهذا الأسلوب يدل على أهمية هذه الخمس، وأنها هي التي بني عليها الإسلام.

تقييد تفسير كلمة التوحيد بقول: (في الوجود)

تقييد تفسير كلمة التوحيد بقول: (في الوجود) Q هناك من العلماء من قيد تفسير كلمة التوحيد بقوله: (لا معبود بحق في الوجود إلا الله) فما تعليقكم؟ A كلمة الوجود تحصيل حاصل، وإنما المقصود أنه لا معبود بحق، ومن المعلوم أن كل شيء في الوجود موجود، فالله تعالى موجود، وغيره موجود.

بيان شرط العمل الذي ينفع صاحبه

بيان شرط العمل الذي ينفع صاحبه Q نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله أن المبتدع إذا كان عنده إخلاص في العمل الذي ابتدعه فإنه يؤجر على تلك النية، فما مدى صحة هذا الكلام؟ A ما أدري، لكن من المعلوم أن العمل الذي ينفع صاحبه عند الله هو العمل الذي يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان مخالفاً للسنة فإنه داخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر Q ذكر بعض أهل العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر الركن السادس، فما صحة ذلك؟ A نعم ذكرهما بعض أهل العلم، وهذا يدل على أهميتهما، لكنه لم يرد شيء يدل على إضافتهما إلى الأركان، ولا شك في أهميتهما؛ لأن بهما قيام الدين.

حكم قتال مانع الزكاة

حكم قتال مانع الزكاة Q إذا كان لا يخرج من الإسلام إلا من ترك الصلاة فكيف قاتل أبو بكر رضي الله عنه من امتنع عن أداء الزكاة؟ A أبو بكر رضي الله عنه قاتلهم لأنهم امتنعوا عن أدائها، فهو قاتلهم من أجل أن يؤدوا هذا الواجب الذي لابد من إخراجه، لكن لو تمكن من أخذها منهم من غير قتال فإنها تجزئ، أي: أن الإنسان إذا امتنع وأخذت منه قهراً من غير قتال حصل المقصود، لكن هؤلاء امتنعوا، وقوتلوا على أنهم لم يدفعوها.

تقديم الشهادتين على الصلاة في حق من دخل في الإسلام

تقديم الشهادتين على الصلاة في حق من دخل في الإسلام Q هل يؤمر الكافر الذي يسلم بالصلاة مع الشهادتين، أو يؤمر بالشهادتين ثم يؤمر بالصلاة بعد ذلك عندما يتمكن التوحيد من قلبه؟ A يؤمر بالشهادتين، وإذا جاء وقت الصلاة يؤمر بالصلاة، فيؤمر بالشهادتين لأنهما هما الأساس، وهما المدخل والمفتاح، وبعد ذلك إذا جاء وقت الصلاة يؤمر بالصلاة.

حكم قرن الشهادتين عند الدخول في الإسلام بشهادة أن عيسى رسول الله

حكم قرن الشهادتين عند الدخول في الإسلام بشهادة أن عيسى رسول الله Q بعض من يسلم يأمره بعضهم بأن يقول عند الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن عيسى رسول الله، فهل هذا سائغ؟ A هذا يمكن أن يكون مع النصارى الذين يعبدون عيسى ويجعلونه إلهاً، فإنهم إذا شهدوا أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله فمعنى ذلك أنهم تركوا ما كانوا يعتقدونه من إلاهيته، وعلموا أنه عبد ورسول، فهو عبد الله يعبد الله، ورسول لا يكذب. ولكن المقصود الذي هو الأساس ويغني ويكفي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

إقامة الحجة على تارك الصلاة

إقامة الحجة على تارك الصلاة Q هل يلزم في تكفير تارك الصلاة ما يلزم في تكفير مرتكب المكفرات غير ترك الصلاة من إقامة الحجة وانتفاء الموانع، أم يكفي الرجل بمجرد تركه للصلاة أن يكفر من غير إقامة الحجة عليه؟ A إذا حكم بكفره يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا يتطلب إقامة الحجة، فإن تاب بعد إقامة الحجة عليه يترك، فإذا لم يتب فإنه يقتل.

أهمية توحيد الإلهية وبيان أن الخلاف بين الأنبياء والكفار كان بسببه

أهمية توحيد الإلهية وبيان أن الخلاف بين الأنبياء والكفار كان بسببه Q قرأت في كتاب (الظلال) قولاً في معنى (لا إله إلا الله) أن معناها: لا حاكم إلا الله، وأن الإلهية معناها الحاكمية، والخلاف مع كفار قريش كان في الربوبية وليس في الإلهية، فما تعليقكم؟ A هذا كلام غير صحيح، وإذا كان هذا الكلام موجوداً في الكتاب المذكور فهذا كلام باطل، وذلك أن الخلاف مع كفار قريش إنما كان في الإلهية، وهذا نص في القرآن، كما حكى الله جل وعلا عنهم قولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، والآيات في سورة النمل: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، كلها سيقت في توحيد الربوبية الذي أقروا به من أجل إلزامهم بتوحيد الإلهية الذي جحدوه. ثم إن الله تعالى أخبر أن الرسل أرسلوا لعبادة الله وحده، وترك عبادة الطاغوت، وجاء ذلك في القرآن إجمالاً وتفصيلاً، أما الإجمال ففي قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكل رسول كانت هذه مهمته. فقوله تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا))، أي: مهمة كل رسول ((أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))، يعني توحيد الإلهية، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، والأمر بالعبادة من توحيد الإلهية. وأما التفصيل فإن كل رسول أرسله الله عز وجل كان يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكل رسول كان يقول هذا الكلام لقومه وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولا يدعوهم إلى أن يعتقدوا أن الله رب وأن الله تعالى موجود؛ لأنهم لم ينكروا ذلك، وإنما الشيء الذي أنكره الكفار والذي قامت الخصومة بين الأنبياء والأمم من أجله إنما هو في توحيد الإلهية وليس في توحيد الربوبية.

حكم من أفطر يوما من رمضان متعمدا

حكم من أفطر يوماً من رمضان متعمداً Q ورد فيمن أفطر يوماً من رمضان عامداً متعمداً أنه لن يجزيه صيام الدهر وإن صامه، ألا يدل ذلك على كفره؟ A لا أعلم أولاً عن ثبوت الحديث، وأما قضية الكفر فإنه لا يدل على الكفر، إلا إذا لم يصمه جاحداً.

حكم الجهاد في سبيل الله عز وجل

حكم الجهاد في سبيل الله عز وجل Q سمعت من خطيب مسجد أن الجهاد فرض عين في كل بلد حتى يخرج منه كل كافر أو مشرك، فهل هذا الكلام صحيح؟ A يكون الجهاد فرض عين في حالتين: إحداهما: إذا داهم العدو المسلمين، فإن كل واحد من المسلمين عليه أن يجاهد؛ لأن هذا قدر مشترك بين الجميع. وكذلك إذا استنفر الإمام، فإنه يتعين على الجميع أن ينفروا، مثلما حصل في غزوة تبوك، فإنه استنفر الناس ولم يبق إلا أهل الأعذار الذين لم يجدوا ما يحملهم، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه) فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع. وقال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى تبوك: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) يعني أنهم معكم بنياتهم وقلوبهم، ولكنهم ما استطاعوا أن يصلوا بأجسامهم؛ لأنه لا ظهر لهم يركبون عليه، ولا يجدون من يحملهم على ظهر له حتى يتمكنوا من المشاركة بالجهاد بالنفس، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر). فالجهاد هو فرض كفاية، وذلك لأنه يؤخذ من الناس أفراد حتى يجتمع جيش ويذهب للغزو، ولكنه إذا داهم الناس العدو فإن جميع أهل البلد عليهم أن ينفروا، وعليهم أن يقاتلوا. فيكون فرض عين في هذه الحالة وحالة، وكذلك إذا استنفر الإمام، وفي غير هاتين الحالتين هو فرض كفاية وليس فرض عين.

حكم تارك الحج

حكم تارك الحج Q جاء في الحج قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، فهل فيه دليل على حمله على الكفر الأصغر؟ A لا، فمن لم يعتقد وجوبه فإنه لا شك في أنه يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، وأما إذا لم يجحد وجوبه وكان مقراً بوجوبه وهو قادر عليه فمعلوم أنه إذا كان غير قادر على الحج لا يجب عليه، لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، فإذا كان قادراً ولم يفعل فإن ذلك لا شك في أنه من الشيء الذي يؤاخذ عليه؛ لأن الحج على الفور وليس على التراخي.

حصول المنفعة بإخراج الزكاة للفقير ولصاحب المال

حصول المنفعة بإخراج الزكاة للفقير ولصاحب المال Q هل يمكن أن نقول: إن الزكاة يعود نفعها على الفقير وعلى صاحب الزكاة بدليل الآية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]؟ A الزكاة نفعها يعود على صاحبها، فيؤجر ويثاب على ذلك، وتكون سبباً في نماء ماله وطهارة ماله. وأيضاً نفعها متعدٍ إلى الفقراء والمساكين، فهو نفع متعدٍ، ومع ذلك فإن الإنسان المزكي هو مأجور، وفي ذلك طهارة ماله وزكاؤه ونماؤه.

حكم قتال مانعي الزكاة

حكم قتال مانعي الزكاة Q هل يمكن أن نقول: إن أبا بكر رضي الله عنهم قاتل مانعي الزكاة لأنهم جحدوا أمراً معلوماً من الدين بالضرورة؟ A إذا كانوا جحدوه فإنهم يكونون مرتدين، والواقع أن بعضهم لم يجحدها، بل بخلوا وقالوا: إن هذا إنما يكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا يدفع لغيره. فأخطئوا وفهموا فهماً خاطئاً، فقوتلوا على ذلك.

الفرق بين من ترك أربعة من أركان الإسلام مجتمعة وبين من ترك واحدا منها

الفرق بين من ترك أربعة من أركان الإسلام مجتمعة وبين من ترك واحداً منها Q هل هناك فرق بين من ترك الأركان الأربعة على الآحاد ومن تركها مجتمعة؟ وهل السلف مجمعون على كفر التارك لها؟ A لم يجمع السلف على كفره إذا كان تركها تكاسلاً؛ لأن الصلاة نفسها هناك من يقول بأنه لا يكون كافراً من تركها، فما دونها من باب أولى، فليس هناك إجماع، فمن ترك الأربعة الأركان متكاسلاً وليس جحوداً فليس هناك إجماع على كفره، وإنما الصلاة هي التي فيها الخلاف، والبقية -كما هو معلوم- الخلاف فيها غير واضح، كما جاء في الحديث الذي أشرت إليه: (فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار).

بيان أن إثبات توحيد الإلهية أولى من إثبات توحيد الربوبية

بيان أن إثبات توحيد الإلهية أولى من إثبات توحيد الربوبية Q هناك من قال: إن توحيد الربوبية أولى من توحيد الإلهية، بدليل أن أول سؤال في القبر: من ربك. فما تعليقكم؟ A معلوم أن الشيء الذي هو أهم من غيره هو الشيء الذي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله وأنزلت الكتب من أجله، وكل رسول أرسل للقيام به والدعوة إليه، والله عز وجل ما قال: أرسلنا في كل أمة رسولاً أن أقروا بوجود الله، أو اعتقدوا أن الله رب العالمين. وإنما الشيء الذي أرسلهم من أجله هو عبادة الله وحده لا شريك له؛ لأن هذه الأمور كلها مطلوبة: الربوبية والإلهية والأسماء والصفات. ولكن الذي أرسلت الرسل من أجله وأنزلت الكتب من أجله هو الذي يقدم على غيره. وأما الشيء الذي أقر به الكفار فيجب الإقرار به، ويجب التصديق بكل ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لكن العناية تكون بتوحيد العبادة الذي خلقت من أجله الخليقة وأرسلت من أجله الرسل، والله عز وجل يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليؤمروا وينهوا. وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فهذا هو الذي يجب أن يعتنى به، وأما أن يشغل الناس بتوحيد الربوبية فإن هذا يعتبر تحصيل حاصل؛ لأن من كان مقراً بالربوبية فلا حاجة به إلى أن يعتنى بإثبات توحيد الربوبية، كما أن الكفار الذين كانوا مقرين بالربوبية كان يأتي تقرير توحيد الربوبية من أجل إلزامهم بتوحيد الإلهية، أي: كان يأتي تقرير الربوبية ثم يأتي بعده إنكار وجود إله مع الله، ويبين لهم أنه كيف تعتقدون بأنه كذا وكذا مع ذلك؟ فإذاً: الشيء الذي أقر به الكفار لا يعتنى به ويهمل الشيء التي بعثت من أجله الرسل وأنزلت من أجله الكتب، بل ينبغي العناية بهذا الأمر العظيم، وأما ذاك فهو شيء قد أقر به الكفار الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم تأخير الصلاة عن وقتها

حكم تأخير الصلاة عن وقتها Q إذا كان الشخص لا يصلي إلا بعد خروج الوقت، كأن يصلي الفجر بعد طلوع الشمس، أو يخل بأركان الصلاة، فهل يعتبر تاركاً للصلاة كافراً بذلك؟ A لا شك في أن الإنسان الذي يتعمد ترك شيء من أركان الصلاة لا يعتبر أنه صلى؛ لأنه لابد من الإتيان بالأركان، فإذا لم يأت بالأركان فصلاته وجودها مثل عدمها، وأما تأخير الصلاة عن وقتها فذلك أمر خطير، ولكنه ليس مثل تركها. وقد جاء في بعض الأحاديث أن الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها يُصلى وراءهم، ولكن على الإنسان أن يصلي الصلاة في وقتها ويجعل الثانية نفلاً، وهذا يدل على أن الأمر أهون، ولا شك في أن الأمر خطير، والإنسان لا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها.

حكم من أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة

حكم من أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة Q ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى قاعدة، وهي أن من أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة كشعائر الإسلام مثل الأذان والزكاة والصلاة في العيد وغيرها فإنه يقاتل، لا لكفره ولكن لمنعه، فما تعليقكم؟ A لا أدري بصحة هذا الكلام المنقول، فإن الإنسان إذا أنكر أمراً معلوماً من دين الإسلام بالضرورة فإنه يكفر، فالزكاة من أنكرها ومن أنكر وجوبها كفر، ويقتل لكفره وردته، وأما إذا كان منعها كسلاً أو منعها بخلاً وشحاً فهذا هو الذي لا يقتل، ولكنها تؤخذ منه قهراً، وإن قاتل، أو إن لم يحصل أخذها منه إلا بالقتال فإنه يقاتل، كما حصل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة.

حكم التعميم في الدعاء

حكم التعميم في الدعاء Q إمام مسجد يدعو في الصلاة ويقول: اللهم! إن أعراض المسلمين قد انتهكت في كل مكان. فهل يجوز مثل هذا الدعاء؟ A التعميم لا يصلح، وكل شيء فيه تعميم لا يصح أن يؤتى به، ولا يصلح للإنسان أن يأتي بشيء ليس بلائق، وإنما يسأل الله عز وجل أن يحفظ المسلمين ويحفظ أعراضهم وأموالهم وأبدانهم وقبل ذلك دينهم، أما أن يقول: إنه حصل كذا وكذا فالله تعالى أعلم بالواقع، فمثل هذا التعميم لا يصلح.

وجوب النطق بالشهادتين

وجوب النطق بالشهادتين Q هل يمكن أن تعتبر الشهادتان من العبادات القولية إن جاز هذا التعبير؟ A الشهادتان لا شك في أنه لابد من التلفظ بهما، ولا يكفي أن الإنسان يسرهما ويقولهما بقلبه، ولهذا لابد من النطق بهما حتى يعتبر الإنسان من جملة المسلمين، فيدخل الإنسان في الإسلام بأن ينطق بالشهادتين مع الإقرار بما في قلبه، لكن عصمة الدم تكون بحصول ظهور ذلك منه وإن كان باطنه يخالف ظاهره، كما هو شأن المنافقين. فمن أظهر شيئاً أخذ بظاهره، وسريرته إلى الله عز وجل.

الأجر على حسن النية في الخطأ

الأجر على حسن النية في الخطأ Q من وقع في البدعة من حيث إنه لا يريد أن يبتدع -كالحافظ ابن حجر والنووي في مسألة التبرك بالصالحين- هل يؤجر على نيته؟ A يؤجر على أعماله الطيبة الكثيرة التي قام بها في خدمة الإسلام، ومثل هذا الخطأ يرجى من الله عز وجل أن يتجاوز عنه.

حكم الذهاب بالمرأة إلى طبيب أسنان

حكم الذهاب بالمرأة إلى طبيب أسنان Q هل يجوز أن أذهب بزوجتي إلى طبيب أسنان، علماً بأنه لا يوجد في المستوصف الذي في حينا طبيبة، ولا أقدر على أن أذهب إلى المستشفيات الخاصة؛ لأن تكاليفها باهضة؟ A إذا كان الأمر يحتاج إلى هذا فلا بأس بذلك.

حكم الأخذ مما أوصى به الوارث

حكم الأخذ مما أوصى به الوارث Q هل يجوز أخذ شيء من مال والدي الذي توفي وأوصى بأن الثلث من ماله سبيل؟ A الثلث أو الوقف يصرف وفقاً لما أوصى به الواقف، ويكون على نظر الذي جعل ناظراً أو جعل مسئولاً عن الوقف، فلا يأخذ الإنسان منه شيئاً، إلا إذا كان وضع للمحتاج وكان هذا محتاجاً وأعطاه ناظر الوقف فلا بأس؛ لأن إعطاء الأقارب المحتاجين أولى من إعطاء غيرهم، وأما كون الإنسان يقبض ويأخذ شيئاً وهو ليس مسئولاً فلا، بل يرجع في ذلك إلى الناظر؛ لأن الشخص الناظر هو الذي يقدر الحاجة، وأما كون الإنسان يأتي ويأخذ بنفسه فقد يكون غير محتاج، ويأخذ وهو غير محتاج.

حكم بناء سور المقبرة من أموال الزكاة

حكم بناء سور المقبرة من أموال الزكاة Q في قريتي مقبرة للمسلمين وليس لها سور، فهل يجوز أن نجمع أموال الزكاة من المسلمين ونبني للمقبرة سوراً؟ A لا؛ فإن الزكاة لا تصرف في بناء هذه الأعمال، فلا تنفق في بناء أسوار المقابر، ولا بناء أربطة، ولا المساجد، ولا تعبد منها الطرق، وإنما تصرف الزكاة في مصارفها، لكن يمكن أن يجمع لسور المقبرة من التبرعات التي هي إحسان وليست زكاة واجبة. والحمد لله رب العالمين.

[11]

شرح الأربعين النووية [11] ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أطوار خلق الإنسان الثلاثة وهو في بطن أمه، وما يحدث له من تغير في الخلقة أثناء هذه الأطوار بمشيئة الله وقدرته، وقد ربطت هذه الأطوار بخاتمة الإنسان، فذكر فيها كتابة الملك لأجل العبد وعمله، وشقي أو سعيد، وهذا كله لحكمة أرادها الله عز وجل وارتضاها لعباده.

شرح حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)

شرح حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) الحديث الرابع من أحاديث الأربعين النووية -حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه- الذي يقول فيه الإمام النووي: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فيؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري ومسلم. هذا الحديث بدأه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند إخباره بتحديث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: (وهو الصادق المصدوق). أولاً: قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه بيان أصل تسمية السنة حديثاً، أي: أنه يقال لها: حديث؛ لأنها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهنا قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي حديثه الذي يحدث به أصحابه؛ ولهذا يقولون: إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته معناهما واحد، فإذا قال الفقهاء أو شراح الحديث: وهذه المسألة ثابتة بالسنة والإجماع، فإن المراد بالسنة ما يرادف الحديث، فإذاً: قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا هو بيان الأساس الذي بني عليه تسمية السنة حديثاً، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه، وهنا يخبر أنه حدثهم، فقال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قوله: (وهو الصادق المصدوق) هذا الكلام قاله ثناءً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك أن المقام مقام احتمال أن يكون هناك شك، وأن من الناس من يشك في هذا الخبر، بل كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق وصدق، ويجب تصديقه، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناها: تصديقه بكل ما أخبر، وامتثال ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، وألا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإنما قال ذلك تعظيماً وثناءً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذا من جملة أمور الغيب التي لا تعرف إلا عن طريق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن هذا الذي أخبر به أمور غيبية لا تعرف إلا عن طريق الوحي، وقوله: (الصادق) يعني: الصادق في قوله، فهو صادق فيما يقول عليه الصلاة والسلام، المصدوق فيما يخبر به مما جاء به من الوحي، فهو صادق في قوله، وتصديقه متعين بكل ما أخبر به من خبر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

ما يكون منه خلق الإنسان

ما يكون منه خلق الإنسان ثم ذكر هذا الذي حدثهم به: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك) يعني: أربعين (ثم يكون مضغة مثل ذلك) يعني: أربعين، فتكون عدة هذه الأطوار الثلاثة مائة وعشرين يوماً، كل طور عدته أربعون يوماً، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يجمع خلقه) المقصود بالخلق هنا: ما يكون منه الخلق، وهو الماء الذي يخرج من الرجل والمرأة، فإن هذا يجمع في الرحم، ويكون الولد من هذا الماء المجموع الذي حصل من الرجل والمرأة، لكن ليس المقصود أن الإنسان يخلق من كل الماء، بل ثبت في صحيح مسلم في أحاديث العزل أنه ليس من كل المني يكون الولد، وإنما الحمل يكون من قطرة يسيرة من المني، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في العزل؛ لأن الذين يعزلون حتى لا تحمل المرأة -وذلك غالباً إنما يكون في الإماء- إنما يريدون أن يستمتعوا بهن، ولكن لا يريدون أن يحملن؛ لأنهن إذا حملن صرن أم ولد لا يتمكنون من بيعهن والتصرف في ماليتهن؛ ولهذا كانوا يعزلون خشية أن تحمل فتضيع عليه تلك المالية، فلا يتمكن من بيعها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله تعالى إذا قدر الولد فإنه يوجد ولو حصل العزل؛ لأنه قد تأتي قطرة تنطلق من غير إرادة الإنسان ولو حتى أخرج وأفرغ في الخارج ويكون منها الولد؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في صحيح مسلم: (ليس من كل المني يكون الولد) يعني: أنه يكون الولد من شيء يسير من المني، وليس المقصود من ذلك أنه يكون من جميع المني، وأن الإنسان إذا أخرج وأفرغ في الخارج فإنه يكون بذلك قد عزل. فإذاً: قوله: (يجمع في بطن أمه) يعني: ما يكون منه خلقه، والذي منه خلقه هو الماء كما قال الله عز وجل: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات:20 - 22] يعني: هو من هذه النطفة، وهذه النطفة هي الماء القليل اليسير جداً، فقد تكون في الرحم مدة أربعين يوماً وهي نطفة، ثم بعد ذلك تتحول إلى قطعة دم متجمد يسير، ثم تكون علقة، ثم بعد ذلك تتحول إلى مضغة وهي قطعة من اللحم على قدر ما يأكله الآكل، وقيل لها مضغة لأنها تكون على قدر المضغة من الطعام. ثم إذا وصلت إلى هذه المرحلة -التي هي الطور الثالث: المضغة- تكون بعد ذلك مخلقة أو غير مخلقة كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] والمخلقة: هي التي حصل فيها التصوير، وغير المخلقة: هي قطعة اللحم التي لم يحصل فيها تصوير، وفي هذه الحال تخلق، ثم بعد ذلك تستمر ويكون النفخ في الروح بعد كمال الأربعين الثالثة، وقد تسقط قبل ذلك ويكون دماً فاسداً أو قطعة لحم ليس فيها خلق إنسان، ولا يترتب على سقوطها حكم من الأحكام التي ترتبت على سقوطها بعد نفخ الروح، فبعد أن تكمل المائة والعشرين يوماً، وينفخ فيها الروح، ثم بعد ذلك تسقط، فإن الحال يختلف عن سقوطها قبل ذلك.

نفخ الروح في الجنين بعد مروره بالأطوار الثلاثة

نفخ الروح في الجنين بعد مروره بالأطوار الثلاثة فهذه الأطوار الثلاثة تنتهي بمائة وعشرين يوماً، ثم بعد ذلك تنفخ الروح في هذا الجسم والجسد الذي صور وخلق، وصار على هيئة الإنسان، وبذلك يكون حياً، وقبل ذلك هو ميت، يعني: من وقت ما صار نطفة إلى أن نفخت فيه الروح لا يعتبر حياً، وإنما يعتبر ميتاً، وهذه هي الموتة الأولى التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، ذكر الله أن الناس لهم موتتان وحياتان كما قال الله عز وجل عن الكفار: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] فالموتة الأولى هي هذه الحالة التي يكون عليها الإنسان في بطن أمه قبل أن تنفخ فيه الروح، فيقال له: ميت، وهذه هي الموتة الأولى من الموتات الأربع التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية من سورة غافر، وهاتان الموتتان والحياتان فصلهما الله عز وجل في أول سورة البقرة، حيث قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28]، يعني: أنكم كنتم نطفة وعلقة ومضغة ليس فيكم حياة، فأحياكم بأن نفخ فيكم الروح بعد تمام المائة والعشرين يوماً كما جاء في حديث ابن مسعود فهذه الموتة الأولى في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] أي: حصل نفخ الروح، ثم هذه الحياة تستمر إلى بلوغ الأجل، ثم يأتي الموت عند نهاية الأجل، وهذه الموتة الثانية، ولكن هذه الموتة لا ينافيها أن يكون الإنسان حياً حياة برزخية، وأنه ينعم في قبره يعني: الروح والجسد كل منهما يعذب في القبر أو ينعم؛ لأن هذه الحياة التي هي الحياة البرزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله سبحانه وتعالى، والإنسان بمغادرته هذه الحياة يكون قد مات، ولكن لا ينافيه ما جاء من النصوص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن الإنسان ينعم في قبره أو يعذب؛ لأن هذه حياة برزخية الله أعلم بكيفيتها. ثم الحياة الثانية وهي الحياة بعد البعث، وهي التي تكون مستمرة إلى غير نهاية، والإنسان فيها إما منعم وإما معذب، إما من أهل الجنة ويكون مستمراً فيها إلى غير نهاية، وإما من أهل النار ويكون مستمراً فيها إلى غير نهاية، وإن كان من المسلمين فإنه يعذب في النار على قدر جرمه إن لم يتجاوز الله عنه، ولكنه يخرج من النار ويدخل الجنة، وبعد ذلك الحياة مستمرة من حين البعث والنشور إلى غير نهاية.

الموتات الأربع التي فصلها الله عز وجل في القرآن

الموتات الأربع التي فصلها الله عز وجل في القرآن فإذاً: قبل نفخ الروح فيه هي الموتة الأولى التي جاءت في القرآن في سورة غافر في ذكر الموتتين والحياتين، وفي سورة البقرة بالتفصيل لهذه الموتات الأربع، والموتة الأولى هي التي تكون قبل نفخ الروح، حيث يكون الشخص فيها نطفة وعلقة ومضغة، وكما فصل الله عز وجل هذه الموتات الأربع في آية البقرة، وكذلك الآية التي في سورة الحج: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج:66] ((وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ)) أي: بعدما كنتم أمواتاً، والموت: هو الذي كان بعد وجود خلق الإنسان ولم تنفخ فيه الروح، وليس المقصود بذلك العدم قبل أن توجد النطفة؛ لأن العدم لا يوصف بالموت، والله عز وجل أخبر بأن الموت مخلوق فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2] فهو من الصفات الوجودية، وليس من الصفات العدمية؛ ولهذا أخبر أنه خلق الموت. إذاً: فإن الموتة الأولى هي الحالة التي يكون الإنسان فيها في بطن أمه قبل أن تنفخ فيه الروح، وقبل أن تحصل له الحياة باجتماع الروح والجسد؛ لأنه باجتماع الروح والجسد تحصل له الحياة، وقبل ذلك الحياة غير موجودة، وإذا نزعت الروح من الجسد في آخر عمره ودفن الميت خرجت الروح من الجسد فصار الموت، ولكن الروح لها اتصال بالجسد، فتنعم وتعذب وهي متصلة بالجسد، ومنفصلة عنه، وأمور البرزخ من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في سورة المؤمنون ذكر الأطوار وكيفية خلق الإنسان أكثر مما جاء في هذا الحديث وفي آية الحج، وذلك في قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:12 - 14] فذكر سبعة أحوال في هذه الآية من خلق آدم إلى أن خلق الإنسان على هيئته الكاملة التي قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وهنا كلمة: ((الْخَالِقِينَ)) لا يراد بها الموجدين؛ لأن الموجد هو الله وحده لا شريك له، وغيره لا يوصف بالإيجاد، ولكن المقصود بالخلق هنا: التقدير؛ لأن التقدير يمكن أن يكون من الإنسان والله تعالى يقدر وهو خير الخالقين، وأما الموجودون فلا أحد يوجد إلا الله عز وجل؛ ولهذا يأتي الخلق بمعنى التقدير، كما يقول الشاعر: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري يخلق أي: يقدر، وهو الذي يرسم شيئاً ثم ينفذه وفقاً لما رسم، فهذا يقال له: خلق، لكن الإيجاد من العدم إلى الوجود هذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا فقوله: ((فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) ذكر الخالقين والمقصود بههم المقدرون لا الموجودون، فهذه أطوار سبعة جاءت في هذه الآية: أولها: خلق آدم من تراب، ونهايتها كون الإنسان يكون على هذه الهيئة، وهي الخلق السوي الذي هو الخلق الآخر بعد مضي هذه الأطوار التي قبله.

الرحم والجنين وكل به ملائكة مختصون

الرحم والجنين وكل به ملائكة مختصون قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح) وفي هذا الإيمان بالملائكة، وأن الرحم وكل به ملائكة مهمتهم أنهم يكتبون رزقه وأجله، ذكراً أو أنثى، وشقياً أو سعيداً، وهذه الكتابة هي غير الكتابة السابقة التي هي في اللوح المحفوظ؛ لأن الله عز وجل كتب في اللوح المحفوظ كل شيء كائن، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، والله تعالى يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَاٌ} [الحديد:22] يعني: في اللوح المحفوظ، فهذه كتابة أخرى غير الكتابة السابقة، والملك يسأل عن الأجل والرزق، وعن: ذكر أو أنثى، وشقي أو سعيد ويكتب ذلك. ثم في هذا دليل على أنه بعدما يكتب الملك هذه الكلمات، ويسأل الله عز وجل عنها فيجاب -وهي بيان رزقه وأجله، وذكر أو أنثى، وشقي أو سعيد- ويكون الإنسان خلق ذكراً أو أنثى فإنه لا يبقى علم الذكورة والأنوثة من العلم الذي اختص الله به؛ لأن الملك قد علم، فلم يبق من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؛ وإذا كان الملك قد علم فإنه يمكن أن يعرف ما في البطن هل هو ذكر أو أنثى بواسطة وسائل؛ لأنه لم يبق من خصائص علم الغيب الذي يختص الله تعالى به؛ فقد علمه الملك والشيء الذي علمه غير الله عز وجل لم يكن من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا هو، نعم أنه قبل ذلك لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن بعدما سأل الملك وأجيب، وعرف أنه ذكر أو أنثى صار ذلك مما علمه بعض المخلوقات، وهو الملك، فيمكن للناس أن يتمكنوا من معرفته؛ لأنه لم يبق من علم الغيب الذي اختص الله تعالى به، وفي هذا بيان أن الشقاوة والسعادة مقدرة، وأن كل شيء قد قدر، وسبق به القضاء والقدر، وأن الناس يصيرون إلى ما قدر لهم، ولكن ذلك بأفعالهم وأعمالهم، وليس قسراً لهم وقهراً وجبراً، وإنما يقدمون على ما يقدمون عليه بإرادتهم ومشيئتهم، فيتحقق بذلك ما سبق أن قدره الله عز وجل وقضاه من كون الإنسان شقي أو سعيد.

مآل الناس إلى ما قدر الله من السعادة أو الشقاوة

مآل الناس إلى ما قدر الله من السعادة أو الشقاوة ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن الملك يكتب هذا وهذا، ومنها: أن الإنسان يكون شقياً أو سعيداً وهو في بطن أمه، وأن الله عز وجل قد علم ذلك وكتبه، وأن العبرة تكون بالخواتيم والنهايات، والناس لا يعلمون ما قدره الله عز وجل، ولا يعرفون الخواتيم والنهايات، وإنما مطلوب منهم أن يعملوا، فلما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (شقي أو سعيد) بعد ذلك أخبر بأن هذا الذي كتبه الله عز وجل من الشقاوة والسعادة سيصير الناس إليه، وسينتهون إلى السعادة أو الشقاوة، إما إلى السعادة التي قد قدرها الله عز وجل وقضاها، وإما إلى الشقاوة التي قدرها الله عز وجل وقضاها، ولا بد أن يصيروا إلى ذلك. ثم قال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: (فو الله الذي لا إله إلا هو) وهذا فيه الحلف لتأكيد الأمر في نفس السامع، وإن لم يستحلف على ذلك، وهذا لزيادة تأكيد تحققه، وإلا فإن الخبر يجب تصديقه -حلف عليه أو لم يحلف- من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا من زيادة التأكيد؛ لأن القسم يؤتى به للتأكيد، فهو صادق سواء حلف عليه أو لم يحلف، لكن الإتيان بالحلف زيادة في تأكيد حصوله ووقوعه طبقاً لما أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة) أي: بأعمال البر التي هي خير، والتي ثمراتها ونتائجها الوصول إلى الجنة. (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) أي: ما يكون بينه وبين بلوغ الأجل إلا شيء يسير قليل جداً، فهذا فيه إشارة إلى جزء من الوقت إذا بقي هذا الوقت فإنه يحصل والعياذ بالله للإنسان انحراف عن ذلك الذي كان عليه من الخير والبر، وكان عليه من العمل الصالح، (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) يعني: فيختم له بسوء والعياذ بالله، وتكون النهاية أنه ختم له بخاتمة السوء، ثم إن حصول هذا الذي حصل له في النهاية إنما حصل بعمله؛ ولهذا قال: (فيعمل بعمل أهل النار) هو نفسه يعمل بعمل أهل النار باختياره وإرادته يوم القيامة، وفي هذا بيان أنه لا بد من حصول واعتقاد الأمرين: الأول: أن الإنسان يعمل، وأن عمله سبب في دخوله النار، وسبب في دخوله الجنة. الثاني: أن الإنسان مخير، فهو يفعل باختياره ومشيئته وإرادته. ومع ذلك الجملة التي قبله: (فيسبق عليه الكتاب) تفيد أنه مخير أيضاً، بمعنى: أنه لا بد وأن يحصل له ما قدره الله عز وجل وقضاه، فلا يقال: الإنسان مخير غير مسير، ولا مسير غير مخير، وإنما هو مخير مسير، مخير: باعتبار أن عنده إرادة ومشيئة وعقل يميز بين النافع والضار، وأنه قد يقدم إلى ما ينفعه أو إلى ما يضره، وعلى ضوء ذلك يثاب ويعاقب. ومسير: أنه لا يحصل منه شيء لم يسبق به قضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته؛ لأنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما شاءه الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا في هذه الجملة ذكر القدر، وذكر أيضاً كون الإنسان يصل إلى ما قدر عليه من النهايات بالأعمال التي يعملها وهي مقدرة، وتلك الأعمال إما أن تكون صالحة، وإما أن تكون طالحة. (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) يعني: بينه وبين بلوغ الأجل، ومعلوم أن الإنسان إذا بلغ الأجل انتقل إلى الدار الآخرة، وهو إن كان من أهل السعادة يصل إليه النعيم في قبره، وإن كان من أهل الشقاوة يصل إليه عذاب النار في قبره.

تقدير الأعمال والخواتيم بمشيئة الله الموافقة لفعل العبد المختار

تقدير الأعمال والخواتيم بمشيئة الله الموافقة لفعل العبد المختار إذاً: في الحديث ذكر عمل يحصل به دخول الجنة، والعمل مقدر، ودخول الجنة مقدر، وكل من الأسباب والمسببات مقدرة، والإنسان عمل باختياره ومشيئته وإرادته ما يعود عليه بالخير، وعمل بمشيئته واختياره ما يعود عليه بالضرر، فجمع في هذا الحديث بين الأمرين، كون العباد يعملون ويكتسبون، وأنهم إن عملوا خيراً وجدوه أمامهم، وإن عملوا شراً وجدوه أمامهم، وأيضاً لا يحصل منهم شيء ما قدره الله وقضاه، بل الذي قدره الله وقضاه نافذ، فإذاً: عملهم الذي عملوه قبل ذلك هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وقد حصل من العبد مشيئته وإرادته، ثم حصل بعد ذلك تغير حال الإنسان، وانحرافه عن طريق الصواب إلى طريق السوء، وعمله باختياره ومشيئته بعمل أهل النار، فمات على عمل أهل النار، وختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله! ففي هذا الحديث بيان الأعمال، وأنها تكون مضافة إلى الإنسان، وأنهم يثابون عليها ويعاقبون، وأنها تكون بمشيئتهم وإرادتهم، وأن القدر لا بد منه، وأنه المقدر لا بد منه؛ ولهذا تكون مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، وليست مستقلة عنها، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].

أحوال الناس في البداية والنهاية

أحوال الناس في البداية والنهاية وفي هذا الحديث بيان حالتين من الحالات الأربع التي تكون فيها أحوال الإنسان في البداية والنهاية؛ لأن أحوال الناس تنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: منهم من يكون ولد على الخير ونشأ عليه، وختم له به، فتكون بدايته ونهايته كلها حسنة، مثل الشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (وشاب نشأ في طاعة الله) فهو نشأ على خير واستمر عليه، ومات على خير، فتكون بدايته ونهايته كلها خير. القسم الثاني: العكس، وهو الكافر الذي ولد بين كفار ونشأ على الكفر، واستمر ومات عليه، فالبداية والنهاية سيئة، فهاتان الحالتان المتقابلتان في السعادة والشقاوة من البداية حتى النهاية، وينتج عن ذلك دخول الجنة أو دخول النار. القسم الثالث: من تكون بدايته حسنة، ونهايته سيئة، وهو الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة الأولى بقوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها) يعني: الأعمال بالخواتيم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإنما الأعمال بالخواتيم) وهذا يكون في مثل الذين كانوا مسلمين، ودخلوا في الإسلام، واستمروا عليه، وفي آخر الأمر أدركهم الخذلان فارتدوا عن الإسلام، وماتوا على الردة. القسم الرابع: العكس، من تكون بدايته سيئة، ثم نهايته حسنة، أي: أنه يعمل بعمل أهل النار طيلة حياته، ثم في آخر الأمر يوفق فيدخل في الإسلام، وبعد فترة وجيزة يموت، فتكون حياته معمورة بالسوء، ثم في آخر الأمر حيث لم يبق إلا اليسير تحول وانتقل من حال سيئة إلى حال حسنة. وختم له بها، ومن أمثلة هذا القسم السحرة الذين كانوا سحرة مع فرعون، فإنهم كانت حياتهم كلها مبنية على الكفر والسحر، وفي آخر الأمر آمنوا برب هارون وموسى، وبعد ذلك ماتوا على هذا وانتهوا إليه، فكانت حياتهم كلها شر قبل الإيمان، وفي الآخر ابتلوا وصارت نهايتهم حسنة وطيبة، ومثل ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: (أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال له: أسلم وعرض عليه الإسلام، وكان أبوه موجوداً عنده، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم مات، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) يعني: كان على ما كان عليه أبواه، كان على دين اليهودية، وبعد ذلك ختم له بخاتمة السعادة، ولم يكن بينه وبين الموت إلا شيء يسير جداً، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومات ولم يعمل عملاً، فختم له بخاتمة السعادة. فهذه هي الأقسام الأربعة التي لا يخرج الناس عنها بالنسبة للبدايات والنهايات، وقريب من هذا التقسيم خلق الناس من الذكر والأنثى، فإن القسمة أيضاً رباعية؛ لأن المخلوقات أربعة أقسام: منهم من خلق من غير ذكر وأنثى وهو آدم، فإنه خلق من تراب، ومنهم من خلق من ذكر كحواء، ومنهم من خلق من أنثى كعيسى عليه السلام، وبقية الخلق خلقوا من ذكر وأنثى. ومثلها أيضاً انقسام الناس في تحصيل الأولاد إلى أربعة أقسام: منهم من يكون له ذكور وإناث، ومنهم من يكون له ذكور خلص، ومنهم من يكون له إناث خلص، ومنهم من يكون عقيماً ليس له شيء من هذا ولا من هذا، فهي أيضاً قسمة رباعية. الحاصل: أن الحديث في نهايته اشتمل على هاتين الحالتين من الأحوال الأربع، وهي: من بدايته حسنة ونهايته سيئة، ومن بدايته سيئة ونهايته حسنة.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الرؤيا المنامية في تصحيح الأحاديث وتضعيفها

حكم الرؤيا المنامية في تصحيح الأحاديث وتضعيفها Q ذكر ابن رجب عن الرؤيا قال: وقد روي عن محمد بن يزيد الأسفاطي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم، فقلت: يا رسول الله! حديث ابن مسعود الذي حدث عنك، فقال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) فقال صلى الله عليه وسلم: والذي لا إله إلا هو لحدثته به أنا، يقوله ثلاثاً، ثم قال: غفر الله للأعمش كما حدث به، وغفر الله لمن حدث به قبل الأعمش، ولمن حدث به بعده. ما حكم الرؤى المنامية في تصحيح الأحاديث أو تضعيفها؟ A لا يعول عليها، والحديث صحيح بدون رؤى، وهذه الرؤيا إن صحت أنها رؤيا، وأنها وقعت فقد وقعت مطابقة، لكن كونه يبنى على الرؤى شيء لم تثبت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعول على ذلك أبداً، فإذا كان هناك حديث ضعيف، ثم رأى أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني حدثت به، لا يعول على ذلك، وإنما هذه رؤيا مطابقة لحديث صحيح، والعبرة إنما هو بصحة الحديث الرؤيا، وجدت الرؤيا أو لم توجد، لكن إن وجدت، وكانت صحيحة فهي مؤكدة، فالتأكيد بها يمكن؛ لأنه ما في مانع، لكن كونه يؤسس عليها أحكام، فالتأسيس غير التأكيد كحديث ضعيف يأتي إنسان ويقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه صحيح فهذا لا يعول عليه.

ذكر رواية مرفوعة في بيان طريقة اجتماع ماء الرجل وماء المرأة

ذكر رواية مرفوعة في بيان طريقة اجتماع ماء الرجل وماء المرأة Q روي في تفسير الجمع بين ماء المرأة والرجل حيث مرفوع بمعنى آخر: خرج الطبراني وابن منده في كتاب التوحيد من حديث مالك بن الحويرث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد، فجامع الرجل المرأة، طار ماؤه في كل عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله، ثم أحضره كل عرق له دون آدم: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]) وقال ابن منده: إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما. A الاتصال كما هو معلوم غير الصحة، ويمكن أن يتصل الحديث أو الإسناد ولكن لا يكون صحيحاً؛ لأن الصحة شيء آخر غير الاتصال؛ فالصحيح: ما روي بنقل عدل تام الضبط متصل السند، غير معلل ولا شاذ، وهناك شيء آخر وراء الاتصال؛ لأنه قد يحصل الاتصال ويكون معه ضعف، وقد يحصل الاتصال ومعه ثقة الرجال، ويكون مع هذا كله الشذوذ الذي هو: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه. على كل: كونه ثابت أو غير ثابت لا أدري، لكن إذا كان ثابتاً فيكون ما اقتضاه صحيحاً من ناحية، وهذا قاله بعض الشراح، يعني: الماء يطير في جسد المرأة، ثم بعد ذلك يرجع، فإذا صح لا يوجد فيه إشكال، لكن حيث لم يصح ولم يثبت فإنه يكون الأقرب والله أعلم أن هذا الاجتماع الذي يكون بين ماء الرجل وماء المرأة، والذي يتكون منه خلق الإنسان.

الأحكام المترتبة على إسقاط الجنين

الأحكام المترتبة على إسقاط الجنين Q ما هي الأحكام المترتبة على الإسقاط قبل نفخ الروح أو بعده؟ A قبل نفخ الروح لا يكون إنساناً؛ لأن الإنسان هو المكون من الروح والجسد، وليس من واحدة منهما، وهو إنما كان إنساناً في نفخ الروح، وكونه حصل اجتماع الأمرين فيه فهو الروح والجسد، فلذلك لا يكون إنساناً حتى تأتي الروح وتدخل في الجسد، وإنما يعتبر قطعة من اللحم لا توصف بحياة، بل هي موصوفة بالموت كما ذكرت أنها الموتة الأولى التي كان الإنسان فيها في بطن أمه، وكان لحماً ليس فيه روح، فيكون بذلك في حال الموتة الأولى، والحياة تبدأ بنفخ الروح؛ ولهذا تترتب الأحكام على نفخ الروح فيه، فإذا أكمل مائة وعشرين يوماً وأسقط بعد ذلك، فإنه تترتب عليه الأحكام التالية: يغسل ويصلى عليه، وتكون به أمه أم ولد إذا كانت أمة، وكذلك أيضاً تخرج المرأة من العدة إذا كانت حاملاً، سواء كانت عدة وفاة أو عدة طلاق، وتكون المرأة نفساء أيضاً، ولا تصلي ولا تصوم في حال نفاسها حتى ينقطع الدم وإذا كان قبل ذلك فإنه لا تعتبر نفساء، ولا تمتنع من الصلاة والصيام، وهذا دم فساد ولا يقال له دم نفاس، وكذلك الأمور الأخرى لا يترتب عليه أنه يصلى عليه إذا كان قبل هذا السن أو هذا المقدار من مدة مكثه في البطن، ولو حصل فيه التخلق؛ لأن التصوير يمكن أن يكون قبل ذلك؛ لأن حديث ابن مسعود ما فيه تعرض للتصوير، لكن جاء في القرآن: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] في المضغة، والمخلقة قيل: هي المصورة، وغير المخلقة: هي غير المصورة، لكنه لا يعتبر إنساناً إلا إذا نفخت فيه الروح، فبعد مائة وعشرين يوماً تترتب عليه الأحكام، وقبل ذلك فالأحكام تختلف عن الأحكام قبل ذلك؛ لأنه قبل ذلك يعتبر ميتاً، وبعد ذلك يعتبر حياً، فإذا حصلت الولادة بعد أن صارت فيه الحياة أجريت عليه كل الأحكام، وإذا كان قبل ذلك فإنه يعتبر دماً فاسداً خرج من المرأة فلا يغسل ولا يصلى عليه إذا كان مخلقاً، وكذلك أيضاً لا تعتبر المرأة ولدت، وإنما يكون ذلك بعد المائة والعشرين. وإذا نزل وفيه ملامح أعضاء فإن كان قبل المائة والعشرين فهو يصير في حكم الميت من أهل الموتة الأولى التي تكون قبل نفخ الروح فيه؛ لأنه لا يكون إنساناً إلا إذا نفخت فيه الروح، والإنسان مكون من مجموع الروح والجسد، كما أن العبد مكون من مجموع الروح والجسد؛ ولهذا قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به بروحه وجسده؛ لأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] والعبد: إنما هو اسم لمجموع الروح والجسد، فلا يقال: إن الإسراء بالروح دون الجسد، وإنما هو بمجموع الأمرين؛ لأن العبد اسم لمجموعهما، والإنسان اسم لمجموعهما، كما أن الكلام اسم للفظ والمعنى، لا يقال: إنه اسم للمعنى دون اللفظ، ولا يقال: للفظ دون المعنى، وإنما هو لمجموع الأمرين، الكلام اسم للفظ والمعنى، والإنسان اسم للروح والجسد.

توجيه حديث حذيفة بن أسيد (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة)

توجيه حديث حذيفة بن أسيد (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة) Q ما توجيه حديث حذيفة بن أسيد في مسلم: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)؟ A حديث ابن مسعود ثبت في الصحيحين وحديث حذيفة بن أسيد هذا لم يخرجه البخاري وإنما خرجه مسلم، بل أعرض عنه البخاري، وأما مسلم فإنه أخرجه. فمن العلماء من قال: إن المعول هو ما جاء في حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة ما تعرض لنفخ الروح، وإنما جاء نفخ الروح في حديث ابن مسعود وهو بعد مائة وعشرين يوماً، فيمكن أن يجمع بينهما بأن التصوير -كما هو معروف- يتم في الطور الثالث؛ لأن الطور الثالث فيه قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5]، يعني: أنها مصورة وغير مصورة، وذلك قبل نفخ الروح فيه، فيكون بذلك إما أن الكتابة حصلت مرة واحدة، والمعول في ذلك على ما جاء في حديث ابن مسعود أو أنها حصلت مرتين، مرة في الأربعين الثانية، ومرة بعد الأربعين الثالثة، وبعض أهل العلم قال بهذا، وبعضهم قال بهذا، وأظن ابن رجب رجح أن تكون الكتابة واحدة، وهي الكتابة التي تكون عند نفخ الروح فيه. فيمكن أن يكون التصوير بعد الأربعين الثانية، لكن لا يترتب عليه حكم من الأحكام؛ لأنه ما جاء أنه تنفخ فيه الروح إلا بعد المائة والعشرين في حديث ابن مسعود. ويمكن أن يكون هناك تخليق متفاوت، فإذا لم يرجح حديث ابن مسعود على حديث حذيفة بن أسيد يكون هذا وهذا، وكل منهما قد حصل.

حكم من قال: إن في حديث ابن مسعود في سوء الخاتمة أو حسنها إدراجا

حكم من قال: إن في حديث ابن مسعود في سوء الخاتمة أو حسنها إدراجاً Q قوله في آخر الحديث: (فو الله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخر الحديث قيل: إن هذا مدرج من كلام ابن مسعود؟ A هذا ليس صحيحاً؛ لأنه جاء ما يبين أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعده: كذلك رواه سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن ابن مسعود من قوله. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أيضاً، والأصل عدم الإدراج حتى يثبت الإدراج.

ما يحمل عليه حديث ابن مسعود في سوء الخاتمة أو حسنها

ما يحمل عليه حديث ابن مسعود في سوء الخاتمة أو حسنها Q هل يمكن أن نحمل هذا الحديث في آخره بالنسبة للخاتمة على ما جاء في الصحيح من ذلك الرجل الذي قد أبلى بلاءً حسناً، ثم لما جرح جزع فقتل نفسه، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه من أهل النار) ثم قال في آخر القصة: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)؟ A نعم، هذا مثاله، هذا من جملة الحالات التي يكون فيها الإنسان عمل أعمالاً طيبة فيما يظهر للناس، ولكن الشروط عنده ما توافرت، فلا تقبل لوجود خلل فيها، وإن كان ليس بهذا الوصف الذي جاء في الحديث أنه راءى. وابن رجب أو غيره ذكر هذين المعنيين في قوله عز وجل: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] قال: التوفيق بين ما جاء في الآية وما جاء في الحديث بجوابين: أحدهما: أن يكون هذا الذي عمله فيما يظهر للناس، ويكون عنده مراءاة تمنع من قبول عمله، وأنه في ظاهر أمره من عمل أهل الجنة، ولكن الواقع أنه من عمل أهل النار؛ لأن الظاهر خلاف الباطن، ويكون هذا من جنس النفاق، الذي يظهر صاحبه للناس شيئاً والواقع بخلافه، أو أنه لم تحصل له اكتمال الشروط في قبول العمل الذي لا يضيعه الله عز وجل.

استحالة الاطلاع على الجنين وتمييزه أهو ذكر أم أنثى قبل الأطوار الثلاثة

استحالة الاطلاع على الجنين وتمييزه أهو ذكر أم أنثى قبل الأطوار الثلاثة Q هل يمكن أن يعرف خلق الجنين قبل المائة والعشرين يوماً أهو ذكر أو أنثى، وذلك عن طريق الأجهزة الحديثة؟ وهل هذا يعتبر من الاطلاع على علم الغيب؟ A بعد المائة والعشرين التي حصل فيها نفخ الروح يمكن، وبعد أن علم الملك أنه ذكر أو أنثى لا يعتبر من علم الغيب الذي اختص الله به، وقبل أن يعلم أحد من خلقه فإنه يكون من خصائصه سبحانه، لكن بعدما علم الملك يمكن أن يعلم الناس ذلك، ولا يقال: إن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؛ لأنه علمه غير الله.

حكم إسقاط الجنين لوجود عيب فيه

حكم إسقاط الجنين لوجود عيب فيه Q هل يجوز إسقاط الجنين؛ لأنه عرف أن فيه عيب؟ A الذي لا إشكال فيه أن الجنين لا يتعرض له بإسقاط، وبعض أهل العلم قال: إذا كان في الشهر الأول يجوز إسقاطه، والأصل أنه لا يتعرض له بإسقاط حتى في الشهر الأول؛ لأن الحمل وجد، فالحمل يحافظ عليه، وهذا هو الذي لا إشكال فيه.

معرفة الجنين قبل مائة وعشرين يوما

معرفة الجنين قبل مائة وعشرين يوماً Q هل يمكن معرفة الذكر والأنثى قبل المائة والعشرين يوماً؟ A إذا كان كما جاء في حديث ابن مسعود قال: ذكر أو أنثى، وذلك بعد مائة وعشرين يوماً فلا إشكال، وأما على حديث ابن أسيد فممكن، والتعويل هو على حديث ابن مسعود والله أعلم، لكن بعد المائة وعشرين يوماً ما فيه إشكال، وكما هو معلوم قبل ذلك لما كان علقة كيف يطلع عليه الناس بواسطة هذه الأجهزة وكيف يمكن أن يتوصلوا إلى معرفة شيء ولا ندري هل حصل التخليق أو لم يحصل في هذه المدة؟ لأن الذي جاء في القرآن: ((مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) بالنسبة للمضغة، لكن قبل ذلك ما جاء إلا في حديث حذيفة بن أسيد.

المقصود بالظلمات في قوله تعالى: (ظلمات ثلاث)

المقصود بالظلمات في قوله تعالى: (ظلمات ثلاث) Q قول الله تبارك وتعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] ما هي هذه الظلمات؟ A ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة، وهي الغشاء الذي يكون حول الجنين؛ لأنه يوجد ثلاث أغطية، أول شيء: المشيمة التي هي الغطاء الخفيف الذي يكون في داخله الجنين، ثم الرحم، ثم البطن، فهذه ثلاث ظلمات.

تخصيص ملك واحد للأجنة

تخصيص ملك واحد للأجنة Q هل كل إنسان موكل به ملك ينفخ فيه الروح، ويكتب ما يتعلق به، أم هو ملك واحد، ملك الأجنة؟ A الظاهر أنه ملك واحد موكل بالأجنة، مثل ملك الموت.

معرفة الشقاوة والسعادة خارجة عن حدود طاقة الإنسان

معرفة الشقاوة والسعادة خارجة عن حدود طاقة الإنسان Q هل يمكن القول: بأنه يمكن أن يعرف بعض الناس شقاوة الإنسان وسعادته، ورزقه مادام قد علمه الملك وهو مخلوق؟ A لا، ما يمكن؛ لأن هذا شيء وهذا شيء، الشقاوة والسعادة وإن علمها الملك ليس بإمكان الناس أن يعرفوها، وليس كل ما يعلمه الملك يمكن أن يعلمه الناس؛ لأن الملائكة يعلمون ما في السماوات، ونحن لا نعلمه، الملائكة يعلمون أموراً في السماوات، ونحن لا نعلمها ولا نعرف عنها شيئاً، فليس كل ما يعلمه الملك يعلمه الناس، لكن قيل في الذكورة والأنوثة بالوسائل والأجهزة الحديثة يمكن أن يعرف أنه ذكر أو أنثى، وبهذا يخرج لو قال أحد: إن الذي في هذه البطن هو ذكر أو أنثى، فلا يقال: إن هذا من علم الغيب؛ لأن هذا يمكن أن يعرف ما دام أنه علم الملك بأنه ذكر أو أنثى، لكن هناك أمور تعلمها الملائكة وهي من الأمور الغيبية، فهي غيب بالنسبة لنا وليس لنا أن نتكلم فيها ونحن ما عندنا منها علم، والملائكة يعلمونه، فلا يقال: إن كل ما يعلمه الملائكة يمكن أن نعلمه، ففرق بين كون الملك عرف الشقاوة والسعادة، وعرف أن ما في البطن ذكر أو أنثى؛ لأن الشقاوة والسعادة لا يمكن أن يتوصل إليها أحد، وأما الذكورة والأنوثة فيمكن أن يتوصل إلى معرفتها بأجهزة وبوسائل وما إلى ذلك.

جواز الحلف على الفتوى

جواز الحلف على الفتوى Q هل يمكن أن يستدل بهذا الحديث على جواز الحلف على كل فتوى يفتي بها؟ A الأمر جائز، ولكن رسول الله ما حلف في كل شيء، وإنما حلف في بعض الأحوال دون بعضها، لكن كون الإنسان يلتزم هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما التزمه. ثم أيضاً كون الإنسان يحلف على ما يفتي به يحلف على ماذا؟ يقول: إن هذا حق! قد يكون اجتهد فأخطأ، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المجتهدين ينقسمون إلى قسمين: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتهدين ينقسمون إلى مصيب ومخطئ، وليس كل مجتهد مصيب، أي: ليس كل مجتهد مصيب حقاً، أما كون كل مجتهد مصيب أجراً فنعم مع التفاوت في الأجر، المجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، فكل من المجتهدين مصيب ومحصل أجراً، وأما كون كل مجتهد يصيب الحق، فالحديث يدل على عدم ذلك، وعلى أن ذلك غير صحيح؛ لأنه قسم المجتهدين إلى مصيب ومخطئ، فلا يقال: إن كلهم مصيبون. وقد ذكر ابن القيم عدة أيمان النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت في الأحاديث كلها، وأظنها سبعين أو فوق السبعين في هذه الحدود، فذكر كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلف به، وهو ما ذكر الأيمان، وإنما ذكر عددها، وكون الإنسان يحلف على شيء يجزم به واضح مثلما جاء في حديث ابن مسعود هذا، أو شيء ثبت به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن منسوخاً ولا مرجوحاً أي: أنه محكم، فإذا حلف الإنسان على ما جاء في الحديث فيمكن، لكن كون الإنسان يحلف على فتواه، أو على كل ما يفتي به يحلف به، فهذا غلط، وقد يكون مخطئاً.

إثبات عذاب القبر ونعيمه

إثبات عذاب القبر ونعيمه Q على ما يرجع الضمير: (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)؟ A يرجع إلى الجنة والنار: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها) أي: الجنة والمقصود من ذلك كما عرفنا، الموت الذي وراءه نعيم الجنة أو عذاب النار؛ لأن الإنسان ينعم في قبره بنعيم الجنة، ويعذب بعذاب النار وهو في قبره، كما قال الله عز وجل في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] يعني: تقوم الساعة، ويحصل البعث، فهم يعذبون في قبورهم بعذاب النار، وكذلك حديث البراء بن عازب: (يفتح له باب من الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها يفتح له باب من النار فيأتيه من حرها وسمومها).

الحكمة من ذكر بدء خلق الإنسان وخاتمته في حديث ابن مسعود

الحكمة من ذكر بدء خلق الإنسان وخاتمته في حديث ابن مسعود Q ما الرابط بين ذكر بدء حياة الإنسان في أول الحديث، ثم في آخره خاتمة الإنسان؟ A أنه لما ذكر أطوار الإنسان، ثم ذكر الشقاوة والسعادة، بعد ذلك ذكر قضية السعادة والشقاوة، وأن العبرة بالنهاية؛ لأنه أولاً خلق الإنسان وكيف تم خلقه، ولما جاء عند ذكر شقي أو سعيد، عقبها بقوله: بأن الشقاوة والسعادة سبق بها القضاء والقدر، وأن كل شيء سينتهي إلى ما قدر له، وأن العبرة بالخواتيم؛ ولهذا كان بعض العلماء يلعن المعين مقيداً بالموت مثلما كان يفعله ابن كثير رحمه الله، فإنه كان إذا كان شخص معين فيه خبث وفيه كذا، قيد اللعن بكونه مات على الكفر، مثلما قال في الفارابي عندما ذكر ترجمته في البداية والنهاية، قال: إنه كان يقول بمعاد الأرواح دون الأجساد ثم قال: إن كان مات على ذلك فعليه لعنة رب العالمين؛ لأن العبرة بالنهاية.

موت الفجأة ليس من سوء الخاتمة

موت الفجأة ليس من سوء الخاتمة Q هل موت الفجأة يعتبر من سوء الخاتمة؟ A لا، لا يقال: إنه من سوء الخاتمة، قد يكون الإنسان مستمراً على حالة طيبة، ومات فجأة، وقد يكون الإنسان على حالة سيئة ومات فجأة، فلا يقال: إن موت الفجأة من سوء الخاتمة؛ لأنه قد يموت إنسان مستقيم على طاعة الله وملازم لتقوى الله فجأة.

قراءة في كتاب شفاء العليل

قراءة في كتاب شفاء العليل هذا كتاب شفاء العليل فيه ذكر الجمع بين حديث ابن مسعود السابق، وحديث حذيفة بن أسيد، يقول ابن القيم رحمه الله: ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوماً من حصول النطفة في الرحم، ثم قال: وحديث أنس غير مؤقت، وأما حديث حذيفة بن أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوماً، وفي لفظ: (بأربعين ليلة)، وفي لفظ: (اثنتين وأربعين ليلة)، وفي لفظ: (بثلاث وأربعين ليلة)، وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين، ولا تعارض بينهما بحمد الله. وإن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدر الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة، وأما الملك الذي ينفخ فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة، فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقاوته أو سعادته، وهذا تقدير آخر. يعني: إذا كانا ملكين مختلفين فلا إشكال، فالإشكال إذا كان الذي يكتب ملكاً واحداً؛ لأنه إذا كتب في الأول فكيف يسأل في المرة الثانية عند الكتابة الثانية؟! أما إذا كانت الكتابة الأولى حصلت من ملك، والكتابة الثانية حصلت من ملك آخر، فالأمر واضح. قال: وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتب بالنطفة، ولهذا قال في حديث ابن مسعود: (ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات)، وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راكب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال، فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق، ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوماً، فهو تقدير بعد تقدير، فاتفقت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق بعضها بعضاً، ودلت كلها على إثبات القدر السابق، ومراتب التقدير، وما يؤتى أحد إلا من غلط الفهم أو غلط في الرواية، ومتى صحت الرواية وفهمت كما ينبغي تبين أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة متضمنة لنفس الحق، وبالله التوفيق. اهـ والعلماء اختلف تفسيرهم لهذا الحديث كما ذكر ذلك ابن رجب وغيره، وذكر كلاماً غير هذا الكلام، فالمسألة اجتهادية، ولكن إذا ثبت أن الملك الأول غير الملك الثاني فيكون الأمر واضحاً. والله تعالى أعلم.

[12]

شرح الأربعين النووية [12] حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) من أعظم الأحاديث أهمية؛ إذ هو أصل في وزن جميع الأعمال الظاهرة، وفي رد جميع البدع المحدثة، وقد اشتغل العلماء به شرحاً واستنباطاً.

أهمية حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)

أهمية حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) الحديث الخامس من الأحاديث الأربعين النووية: عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). هذا حديث عظيم من جوامع الكلم التي أوتيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد مر عند الكلام على الحديث الأول، وهو حديث: (إنما الأعمال بالنيات) أن هناك أحاديث قيل فيها إنه يدور عليها العلم، وهي من جوامع الكلم، وهذه الأحاديث قيل: هي حديثان، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: أكثر، ولكن حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) يأتيان فيها، فالذي قال: إن الدين يرجع إلى حديثين ذكرهما، ومن قال: هي ثلاثة، ذكرهما، ومن قال: أربعة، ذكرهما، فهذان حديثان تكرر كلام العلماء في بيان أهميتهما، وأنهما من الأصول التي يبنى عليها هذا الدين. وحديث عائشة هذا أصل في وزن الأعمال الظاهرة، وأن المعتبر منها ما كان وفقاً لما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا كان على خلاف ما جاء به بأن كان مبنياً على بدع، وأمور محدثه، فإنه لا يعتبر، ولا يعول عليه، ولا يلتفت إليه، ويكون باطلاً حيث كان مبنياً على بدعة، وليس مبنياً على سنة. وحديث: (إنما الأعمال بالنيات) أصل في وزن الأعمال الباطنة. إذاً: الحديث الأول في الأمور الباطنة، وهذا الحديث في الأمور الظاهرة. قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني: من أتى بشيء لم يكن مما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومما جاءت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من محدثات الأمور؛ فإنه مردود على صاحبه، ولا عبرة به ولا قيمة له.

الإخلاص والمتابعة شرطان لقبول الأعمال

الإخلاص والمتابعة شرطان لقبول الأعمال كل عمل يتقرب به إلى الله عز وجل لا ينفع صاحبه إلا إذا توافر فيه شرطان: أحدهما: أن يكون خالصاً لله. الثاني: أن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشرط الثاني هو مقتضى هذا الحديث، فكل عمل من الأعمال لابد فيه من إخلاص العمل لله، وأن يكون مطابقاً لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا توافر هذان الشرطان فإن العمل يكون مقبولاً، وإذا اختل أحدهما فإن العمل لا عبرة به، ولا قيمة له. فإذا كان العمل خالصاً لله، ولكنه مبني على بدعة، ولم يكن مبنياً على سنة فهو مردود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وإذا كان العمل مبنياً على سنة، ولكن أشرك مع الله غيره فيه، فإنه يكون مردوداً على صاحبه، وقد قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). إذاً: لا بد من هذين الشرطين، وهما مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، فإن الإخلاص لله هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، فالعبادة يجب أن تكون خالصة لله، وإذا أشرك مع الله غيره فيها فإنه لا عبرة بها، ولا قيمة لها، وترد على صاحبها، فلا بد أن يكون العمل خالصاً لله حتى يكون معتبراً، ومقتضى شهادة أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام: ألا يعبد الله إلا طبقاً لما جاء به عليه الصلاة والسلام، فلا يعبد بالبدع والمحدثات والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي هي مخالفة لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام؛ ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع السنن، وحذر من البدع، كما في حديث العرباض بن سارية وهو الحديث الثامن والعشرون من الأربعين النووية، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

صفات شريعة الإسلام

صفات شريعة الإسلام هذه الشريعة متصفة بثلاث صفات: الصفة الأولى: أنها عامة للثقلين: فلا يسع أحداً من الجن والإنس الخروج عنها، من حين بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به، إلا كان من أصحاب النار)، فإن اليهود والنصارى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أمة الدعوة، والدعوة موجهة للجن والإنس جميعاً، وكل إنسي وجني من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هو من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، أعني من أمة الدعوة، فالدعوة موجهة للجميع، وكل يدعى إلى الدخول في هذا الدين. الصفة الثانية: أنها خالدة وباقية ومستمرة. فالشرائع السابقة كان لها أمد تنتهي إليه، وأما شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنها باقية ومستمرة؛ ولهذا كانت معجزته باقية ومستمرة، وهي القرآن الذي عجز الفصحاء والبلغاء عن أن يأتوا بشيء من مثله، فشريعته مستمرة، ومعجزته مستمرة، والتحدي مستمر وموجود، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن، بخلاف الرسل السابقين فإن رسالاتهم لها أمد ولها وقت ثم تنسخ، ومعجزاتهم وقتية لا يشاهدها إلا من كان في زمانهم، وأما معجزة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام -وهي القرآن- فإنها باقية ومستمرة؛ لأن شريعته باقية ومستمرة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. الصفة الثالثة: الكمال. فهي كاملة لا نقص فيها، ولا تحتاج إلى إضافات تلحق بها وتضم إليها، ولا تحتاج إلى ترقيع وإلى ترميم، بل هي في غاية الكمال والتمام، لا نقص فيها حتى يضاف إليها شيء، فالبدع التي تضاف إليها مردودة على صاحبها.

ليس في الإسلام بدعة حسنة

ليس في الإسلام بدعة حسنة جاء عن الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه أنه قال: من قال إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]. ومعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بلغ هذه البدعة التي قالوا إنها تضاف إلى الشريعة، فالبدع ليست من سنته وليست من هديه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بين للناس كل ما يحتاجون إليه، فلا تحتاج الشريعة إلى أمور تضاف إليها وتلحق بها، بل هي كاملة. وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا ودل الأمة عليه، وما ترك أمراً يباعد من الله إلا وحذر منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ ولهذا قال الإمام مالك بعد ذلك: فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً. فالشيء الذي لم يكن ديناً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون بعدهم ديناً، وهذا يبين لنا أن هذه الفرق التي حدثت بعده صلى الله عليه وسلم، وصار لها عقائد خاصة، ليست من دين الإسلام، بل دين الإسلام الحق هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. يقول الإمام مالك رحمه الله: مالم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً، يعني: مالم يكن ديناً في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون بعد ذلك ديناً؛ لأن الدين هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعقائد التي أحدثت ونبتت وولدت بعد زمنه صلى الله عليه وسلم باطلة، فمنها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها ما كان بعد ذلك، ولا شك أنها باطلة، ولا يمكن أن يعقل ولا أن يقبل أن يكون هناك حق حجب عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وادخر لأناس يجيئون بعدهم، بل هذه العقائد المحدثة داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) يعني: اختلافاً كثيراً في الأهواء والبدع، وقد أرشدنا عليه الصلاة والسلام عند هذا الاختلاف والتفرق إلى المنهج القويم والصراط المستقيم في قوله: (فعليكم بسنتي) يعني أن طريق السلامة، وطريق النجاة أمام هذا الاختلاف كائن في سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. ويكفي في معرفة بطلان العقائد المحدثة أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما كانوا يعتقدونها ولا كانوا يعرفونها، ولا يعقل أن يكون حق قد حجب عن الصحابة وخفي عليهم، وادخر لأناس يجيئون بعدهم، بل هذه المحدثات التي حصلت لهؤلاء الذين من بعدهم شر، وقد حمى الله أصحاب رسوله من الوقوع في ذلك الشر، ووفقهم لسلوك الصراط المستقيم الذي جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. فالطريق إلى الله عز وجل واحد، وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمناهج والطرق الأخرى مجانبة ومخالفة لهذا الطريق، وهي باطلة ومردودة على أصحابها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي معنا: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).

النية الصالحة لا تنفع مع مخالفة السنة

النية الصالحة لا تنفع مع مخالفة السنة الحديث يدل بعمومه على أن أي عمل يخالف السنة، ويكون مبنياً على بدعة؛ لا عبرة به ولو كان قصد صاحبه حسناً، فلا يكفي في العمل أن يكون قصد صاحبه حسناً، بل لا بد مع حسن القصد أن يكون على وفق السنة، وإلا كان مردوداً؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد). وبيان ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما فصل ولا قال: من كان قصده حسناً فحكمه كذا، ومن ليس قصده حسناً فحكمه كذا، بل عمم وأطلق فقال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وكثير من الناس يقدمون على البدع وقصدهم حسن، ولكن حيل بينهم وبين التوفيق وصرفوا عنه، إذ ليس كل من يكون قصده حسناً يكون عمله مقبولاً، بل لا بد من توافر شرط القبول بأن يكون العمل على وفق السنة، وقد جاء في السنة ما يدل على ذلك: وذلك أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيته قبل صلاة العيد، وكان يريد من وراء ذبحها في هذا الوقت أن تطبخ، ويكون اللحم عند الفراغ من صلاة العيد جاهزاً، فتكون أضحيته أول ما يأكله الناس وهم بحاجة إلى الطعام واللحم، فقصده طيب؛ لأنه يريد أن يكون أسبق من غيره في تقديم الطعام للمحتاجين، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: (شاتك شاة لحم) يعني: ليست أضحية؛ لأنها لم تقع على وفق السنة، والعمل لا بد في اعتباره أن يكون على وفق السنة، فإذا ذبحت قبل صلاة العيد فمعناه أنها ذبحت في غير وقت الذبح، فلا تكون أضحية، بل تكون شاة لحم، أي من جنس الذبائح التي يذبحها الناس ليأكلوا اللحم، ولا يعتبر ذبحها أضحية وقربة وطاعة؛ لأن الذبح إنما يبدأ بعد صلاة العيد، ولا يكون قبل صلاة العيد؛ ولهذا روي أن صلاة العيد في الأضحى تعجل بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت الذبح، وصلاة عيد الفطر تؤخر شيئاً بعد دخول الوقت ليتسع للناس وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت لإخراج زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة، فإذا أخرت الصلاة شيئاً يسيراً بعد دخول وقتها اتسع للناس وقت إيتاء زكاة الفطر. وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح هذا الحديث عن بعض أهل العلم أنه قال: وفي هذا دليل على أن العمل لا يعتبر إلا إذا كان موافقاً للشرع، ولا يكفي حسن قصد الفاعل. يعني: إذا كان قصد صاحبه حسناً لا يكفي لقبوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهذا الصحابي: (شاتك شاة لحم)، ولم يعتبر حسن قصده. ومما يدل على ذلك أيضاً: أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً متحلقون في المسجد، وبأيديهم حصى، وفي كل حلقة شخص يقول لهم: كبروا مائة، هللوا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة، فإذا قال: كبروا مائة، صاروا يعدون بالحصى: الله أكبر، الله أكبر، مائة، ثم يقول: هللوا مائة، فيقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ويعدون بالحصى مائة، ثم يقول: سبحوا، فيقولون: سبحان الله، سبحان الله، ويعدون بالحصى مائة، وهكذا. فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن رضي الله عنه وقال: ما هذا يا هؤلاء؟! عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة! يعني: إما أنكم أحسن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندكم طريقة أحسن من طريقة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، ففهموا أن الطريقة الأولى لا سبيل لهم إليها، ولا يمكن أن يكونوا أحسن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقيت الثانية، وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا: سبحان الله! يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه، كم من مريد للخير لم يصبه، كم من مريد للخير لم يصبه. قال الإمام مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. ومعلوم أن أولها -وهم الصحابة- إنما صلحوا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والعمل وفقاً لسنته، مع حذرهم من البدع، ولا يمكن لغيرهم أن يصلح إلا بسلوك هذا المسلك الذي سلكوه، والمنهج القويم الذي طرقوه.

روايات حديث: (من أحدث في أمرنا)

روايات حديث: (من أحدث في أمرنا) هذا الحديث جاء بالروايتين: رواية في الصحيحين وهي: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ورواية في صحيح مسلم وهي: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). والرواية الثانية أعم من الأولى وأشمل؛ لأن الأولى مختصة بالإحداث، وأما الثانية فهي تتعلق بالعمل، وهي أعم من أن يكون الإنسان محدثاً للعمل أو متابعاً لغيره فيه ومسبوقاً إليه، فقوله (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني سواء كان هو الذي أحدثه، أو أنه مسبوق إلى إحداثه ولكنه تابع من أحدثه قبله.

ما بني على مخالفة السنة فهو مردود

ما بني على مخالفة السنة فهو مردود قوله: (رد) بمعنى مردود، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، فرد بمعنى مردود، كخلق بمعنى مخلوق، ونسخ بمعنى منسوخ. والمعنى أن ما بني على مخالفة السنة فإنه يرد، وإذا وجدت عقود مخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنها مردودة على صاحبها، والعقد الذي بني على ذلك يكون فاسداً. ومما يوضح هذا قصة العسيف الذي جاء أبوه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ومعه خصمه الذي هو زوج المرأة، وقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: كان أجيراً عنده- فزنى بامرأته، وهذا يبين أن الشر يحصل بسبب المخالطة والاحتكاك من بعض الناس لبعض، فإن هذا العامل لاتصاله بالمرأة جرى الكلام معها، ووقع الشيطان بينهما حتى زنى بها، فقوله: (إن ابني كان عسيفاً) يعني أنه ما تسلق الجدران، وليس غريباً على البيت، وإنما زنى بها بسبب هذا الاختلاط وهذا الاحتكاك. قال: وإنني أخبرت أن على ابني الرجم. يعني: أخبره بعض من لا علم عنده بأن ابنك سيقتل وسيرجم، قال: فذهبت إليه واصطلحت معه على مائة شاة ووليدة، يعني: أعطيه هذا حتى يسامح ابني، ولا يحصل الرجم، ولما جاء هذان الاثنان قال الزوج: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأقضين بينكما بكتاب الله)، فقال والد العسيف: (يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي) يعني: ائذن لي في الحديث، وهذا فيه أدب، وحسن مخاطبة، ثم قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، وإنني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديته بمائة شاة ووليدة، وإنني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني الجلد وتغريب سنة، وأن على زوجة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والغنم رد عليك)، وهذا هو محل الشاهد، يعني مما يطابق الحديث الذي معنا أن العقود إذا كانت مبنية على أمر محرم وعلى مخالفة الشرع فإنها تنقض وترد، ولا تعتبر، وأن الصلح إذا كان مبنياً على أمر مبتدع محرم فإنه لا يجوز الوفاء به، بل يتعين إبطاله وإلغاؤه، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل هذا الصلح الذي جرى بينهما وقال: (الوليدة والغنم رد عليك) أي: مردودة عليك، وهذا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فإن هذا عمل من الأعمال المخالفة لما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم، وذلك الحكم أو ذلك الاتفاق يكون باطلاً ويكون لاغياً ولا عبرة به ولا قيمة له. قوله: (الوليدة والغنم رد عليك) دليل على أن العقود إذا أبرمت وكانت مخالفة للسنة فإنها تلغى وتبطل، ويرجع إلى اتباع السنة، وإلى اتباع ما جاء به الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، أي: أنه لا يحصل الإنسان ثمرات العقد إذا كان مبنياً على باطل، بل يلغى ذلك العقد، ويرجع الأمر إلى الحكم الذي جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن على ابنه جلد مائة وتغريب عام، وأن امرأة هذا عليها الرجم ثم قال: (واغد يا أنيس إليها، فإن اعترفت فارجمها). ومحل الشاهد منه: أن الصلح الذي وقع بين والد العسيف وبين زوج المرأة لاغ وباطل، وبين النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الشرعي وهو الرجم على المحصنة، والجلد مائة جلدة، والتغريب لمدة سنة على من كان بكراً ولم يكن محصناً. ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) يدل بمنطوقه على أن كل ما أحدث مما هو خلاف الشرع فإنه مردود على صاحبه، ويدل بمفهومه على أن كل ما وقع مطابق للشرع فإنه معتبر يتعين العمل به.

ترجمة عائشة رضي الله عنها

ترجمة عائشة رضي الله عنها طريقة الإمام النووي رحمه الله أنه عندما يذكر الصحابي يذكر كنيته، وهنا ذكر عن أم المؤمنين عائشة أنها أم عبد الله، ولم يكن لها ولد، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثماني عشرة سنة، وإنما كنيت بكنية أختها أسماء أم عبد الله بن الزبير، فإن عائشة خالته فكنيت به. ووصفه لها بأنها أم المؤمنين هذا الوصف ثابت لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى ذكر ذلك في كتابه فقال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وهن رضي الله عنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، ويكن معه في الجنة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن. ويطلق عليهن أمهات المؤمنين؛ لأنهن يحرمن على كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة رضي الله عنهن وأرضاهن.

فوائد حديث: (من أحدث في أمرنا هذا)

فوائد حديث: (من أحدث في أمرنا هذا) هناك بعض الفوائد كتبتها حول هذا الحديث، وهي كما يلي: الحديث الخامس عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لـ مسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). 1 - هذا الحديث أصل في وزن الأعمال الظاهرة، وأنه لا يعتد بها إلا إذا كانت موافقة للشرع، كما أن حديث (إنما الأعمال بالنيات) أصل في الأعمال الباطنة، وأن كل عمل يتقرب فيه إلى الله لا بد أن يكون خالصاً لله، وأن يكون معتبراً بنيته. 2 - إذا فعلت العبادات كالوضوء، والغسل من الجنابة، والصلاة، وغير ذلك على خلاف الشرع فإنها تكون مردودة على صاحبها غير معتبرة، وأن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه ولا يملك، ويدل لذلك قصة العسيف الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: (الوليدة والغنم رد عليك). 3 - ويدل الحديث على أن من ابتدع بدعة ليس لها أصل في الشرع فهي مردودة، وصاحبها مستحق للوعيد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: (من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين). ولا يقال عمله مردود فقط، بل هو مع ذلك آثم؛ لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه. 4 - الرواية الثانية التي عند مسلم أعم من الرواية التي في الصحيحين، لأنها تشمل من عمل البدعة سواء كان هو المحدث لها أو كان مسبوقاً إلى إحداثها وتابعاً لمن أحدثها. 5 - معنى قوله في الحديث (رد) أي: مردود عليه، وهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول مثل: خلق بمعنى مخلوق، ونسخ بمعنى منسوخ، والمعنى: أنه مردود باطل غير معتد به. 6 - لا يدخل تحت الحديث ما كان من المصالح في حفظ الدين، أو موصلاً إلى فهمه ومعرفته، كجمع القرآن في المصاحف، وتدوين علوم اللغة والنحو، وغير ذلك. فمثلاً: جمع القرآن في مصحف واحد عمله عثمان، بعد زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم، ولكنه من الأمور التي لا بد منها؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وهذا من حفظ القرآن، فلا يقال إنه من البدع غير الجائزة، حيث لم يكن موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه احتيج إليه حتى لا يضيع القرآن، وحتى لا يذهب بذهاب حملته؛ ولهذا اعتبر جمع عثمان هذا من مناقبه وفضائله رضي الله عنه، لأنه حفظ على هذه الأمة القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بجمعه في هذا المصحف، وفي ذلك تنفيذ وتطبيق وتحقيق لقوله الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وبعض الناس يأتي بالبدعة ثم يستدل عليها بجمع القرآن! و A أن هذا إضافة في الدين مما ليس منه، فهو بدعة، وأما جمع القرآن فهو تنفيذ لما جاء في القرآن من حفظ الكتاب. وكذلك تدوين العلوم التي فيها إعانة وتسهيل للوصول إلى معرفة الكتاب والسنة مثل علم اللغة وعلم النحو لا يقال: هذه من محدثات الأمور، بل هذه من الأمور التي توصل إلى غايات، وفيها تسهيل الوصول إلى معرفة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الكتاب والسنة جاءا بلغة العرب، ففي جمع اللغة وتدوينها تسهيل لمعرفتها، وكذلك علم النحو يدون حتى يعرف نظم الكلام ومعناه، فالمرفوع يرفع، والمكسور يكسر، والمفتوح يفتح، وهذا لا يعرف إلا عن طريق علم النحو. قبل تدوين علم النحو كان الناس على السليقة يتكلمون على ما جبلوا عليه، لكن بعد ذلك حصل تغير الألسنة، وصار الناس بحاجة إلى أن يدون علم النحو، فلا يقال إن هذا من البدع التي لا تجوز، أو لا يقال إن البدع التي تحدث في الدين هي من جنس إحداث علم النحو وإحداث علم اللغة وما إلى ذلك، فإن هذا شيء وهذا شيء، فلا يقاس هذا على هذا، ولا يمنع هذا من أجل هذا. 7 - الحديث يدل بإطلاقه على رد كل عمل مخالف للشرع ولو كان قصد صاحبه حسناً، ويدل له قصة الصحابي الذي ذبح أضحيته قبل صلاة العيد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم). وكذلك أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي أشرت إليه، فإنه واضح أن المعتبر هو ما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن العمل إذا وقع على خلاف الشرع فإنه لا يسوغ. 8 - هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمعنى: أن من كان عمله جارياً تحت أحكام الشرع موافقاً لها فهو مقبول، ومن كان خارجاً عن ذلك فهو مردود.

قواعد مستنبطة من حديث: (من أحدث في أمرنا هذا)

قواعد مستنبطة من حديث: (من أحدث في أمرنا هذا) يستفاد من الحديث ما يلي: 1 - تحريم الابتداع في الدين. 2 - أن العمل المبني على بدعة مردود على صاحبه. 3 - أن النهي يقتضي الفساد، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإحداث مردود، ومعنى ذلك أنه إذا وجد شيء مبني على ذلك فإن العقد يكون فاسداً إذا كان من قبيل العقود، وإن كان من قبيل الأعمال كالغسل من الجنابة، والصلاة وغير ذلك فإنه يكون فاسداً، ويكون لاغياً وباطلاً. 4 - أن العمل الصالح إذا أتي به على غير الوجه المشروع كالتنفل في وقت النهي بغير سبب، وصيام يوم العيد ونحو ذلك فإنه باطل لا يعتد به. فهناك أعمال هي في أصلها مشروعة مثل صلاة النافلة، لكن كون الإنسان يأتي به في وقت النهي وهو ليس من ذوات الأسباب، فهذا التنفل يعتبر مردوداً؛ لأنه مخالف لما جاءت به السنة، لأن السنة جاءت بالنهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس. ومن جنس ذلك: قصة ابن مسعود المتقدمة، فإن كون كل رجل يذكر الله عز وجل مشروع، لكن كونه يؤتى به على هذه الطريقة الجماعية وبعد الحصى، وكون واحد منهم يقول: سبحوا مائة. فيعدون سبحان الله، سبحان الله فهذه الهيئة وهذه الكيفية مبتدعة. أما كون الإنسان يسبح ويكثر من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد، ويكون لسانه رطباً من ذكر الله عز وجل؛ فهذا مشروع، ولكن إذا أتى به على وجه مخالف للشرع صار العمل بدعة، وإن كان في أصله جائزاً. 5 - أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر لقوله: (ليس عليه أمرنا)، فإذا حكم الحاكم بشيء، والمحكوم له يعلم بأنه ليس محقاً في الشيء الذي حكم له به، بأن يكون مبنياً مثلاً على شهادة الزور، لم يجز له أن يأخذه، ولا أن يقول: ما دام قد حكم الحاكم فهذا المال يكون حلالاً لي، فنقول: ليس حلالاً لك، بل هو حرام وإن حكم به الحاكم، لأن الحاكم لا يعلم الغيب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذها أو ليدعها) ومعنى ذلك أن حكم الحاكم لا يحل ما كان حراماً، وإذا حكم بشيء على وجه يعلم المحكوم له بأنه مبطل، وأنه ليس محقاً في ذلك، فإن ذلك الحكم لا يغير شيئاً، ولا يفيد الإنسان، وليس عذراً للإنسان في أكل الحرام. 6 - أن الصلح الفاسد باطل، والمأخوذ عليه مسترد. ويوضح ذلك قصة العسيف التي ذكرناها.

سبب رواية حديث: (من أحدث في أمرنا هذا)

سبب رواية حديث: (من أحدث في أمرنا هذا) ذكر ابن رجب سبب رواية الحديث فقال: وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد لما سئل عن رجل له ثلاثة، فأوصى بثلث هذه الثلاثة مساكن، فهل تجمع له بمسكن واحد؟ فقال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) خرجه مسلم. وهذه المسألة اجتهادية، وقد تكون المصلحة في جمع الثلث في بيت من البيوت الثلاثة، وقد تكون في غير ذلك، وذلك بأن يفرق على البيوت الثلاثة، فهذا يرجع فيه إلى القاضي وإلى الحاكم، فإذا رأى المصلحة في الجمع فإنه يجمعها بحيث إن الثلث يكون في بيت، والورثة يكون لهم بيتان يشتركون فيهما، أو يتصرفون فيهما بالبيع واقتسام الثمن، وذلك إذا كان البيت لا يقبل القسمة فيما بينهم بسبب ضيقه، وليس كل بيت يمكن أن يقسم بينهم للسكن، ويمكن أن يكون بعضهم محتاجاً إلى السكنى وبعضهم غير محتاج، لكنه يحتاج إلى أن يأخذ الإيجار، فهذا يرجع فيه إلى القاضي.

الأسئلة

الأسئلة

البدعة الحقيقية والإضافية والمكفرة والمفسقة

البدعة الحقيقية والإضافية والمكفرة والمفسقة Q ما هي البدعة الحقيقة والبدعة الإضافية؟ وما هي البدعة المكفرة والبدعة المفسقة؟ A البدعة الحقيقية مستقلة، وليست مرتبطة بشيء، ولا مضافة إلى شيء. وأما البدعة الإضافية فهي مضافة إلى شيء مشروع، وليست مستقلة كالبدعة الحقيقية. وكذلك البدعة تنقسم إلى مفسقة وإلى مكفرة، هناك بدعة تصل إلى حد الكفر، فيكون هذا المبتدع كافراً فلا يصلى وراءه، وإذا كانت البدعة مفسقة، فإن صاحبها لا يكون كافراً، بل هو مسلم عنده فسق، وهذا إذا صلى إماماً صحت صلاته، وصحت إمامته، لكن لا ينبغي أن يكون إماماً، وإنما يولى الإمامة من يكون سليماً من البدع، لكن لو حصل أن فاسقاً تقدم وصلى، أو كان مبتدعاً بدعة مفسقة وليست مكفرة؛ فالصلاة وراءه صحيحة، ولا يقال باطلة؛ لأنه تصح صلاته، ومن صحت صلاته صحت إمامته، وأما الذي بدعته مكفرة فصلاته غير صحيحة، وصلاة من وراءه لا تكون صحيحة.

أضرار البدعة على الفرد والمجتمع

أضرار البدعة على الفرد والمجتمع Q ما أضرار البدعة على الفرد والمجتمع؟ A أضرار البدع على الأفراد والجماعات كثيرة؛ لأن فيها خروجاً عن الكتاب والسنة، واتهاماً للشريعة بالقصور، واتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ كما قال مالك: من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة. يعني: أنه ما بلغ شيئاً يحتاج الناس إليه، بل الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله تعالى له الدين، وأتم به النعمة، وأتم عليه النعمة، وبلغ الناس كل ما يحتاجون إليه. وصف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشريعة بتمامها وكمالها فقال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وأعطانا منه علماً. وقال أحد أهل الكتاب لبعض الصحابة: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: نعم، أمرنا إذا ذهبنا لقضاء الحاجة ألا نستنجي برجيع ولا عظم، وأن نستنجي بثلاثة أحجار. فإذا كانت شريعة الله عز وجل أتت على كل شيء حتى آداب قضاء الحاجة، ولم تترك ما يحتاج الناس إليه، فكيف تترك الناس في باب الأصول وفي باب العقيدة بغير إيضاح وبيان؟! لا شك أن الشريعة في غاية الكمال وفي غاية التمام. أيضاً: من آثار البدع أن الناس يتعبدون الله بشيء لا يحصلون من ورائه ثمرة؛ لأن العمل يكون مردوداً لاغياً، فعمله يعتبر تضييعاً للوقت في غير فائدة بل في مضرة، كما عرفنا أن الإنسان الذي يأتي بالبدعة لا يكون الأمر مقصوراً على أنه قد ألغي عمله وبطل عمله؛ بل حصل إثماً بالإضافة إلى كونه لم يحصل فائدة، فكل هذه من الآثار التي تترتب على البدع. أيضاً: من الآثار هجران السنن، والغفلة عنها؛ لأن من الناس من يحرص على البدع ويتهاون بالسنن.

كيفية التعامل مع المبتدع

كيفية التعامل مع المبتدع Q كيف يتعامل مع المبتدع؟ A التعامل مع المبتدع أن يجانب ويحذر، ولا يصار إلى مخالطته إلا لضرورة ولحاجة تلجئ إلى ذلك، فلا يتهاون بشأنه بحيث يكون التعامل معه كما يتعامل مع الناس الذين فيهم سلامة؛ بل المطلوب هو البعد عنه والحذر منه، ولكن إذا حصل أمر يقتضي الاتصال به فإنه يتصل به، ولكن مع الاتصال ينبغي أن يحرص على البيان والتوضيح، ويحرص على دعوته إلى السنة، ويبين أن البدع المحدثة لا تعود على أصحابها بالخير، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين ظفروا بسلوك الصراط المستقيم، وأن من يسلك غير مسالكهم يكون منحرفاً عن الجادة، ولا يمكن أن يحجب عن الصحابة حق ويدخر لمن بعدهم، ويبين أن العقائد الباطلة حدثت بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيبين له مثل هذا البيان لعل الله تعالى أن يهديه. وأما إذا كان من أهل السنة، وحصلت منه أمور أخطأ فيها، فإنه لا تنفض اليد منه، ولا يحمل عليه، ولا يشن عليه، وإنما ينصح، ويحرص على هدايته ورجوعه إلى الصواب، ويبين له الحق إذا كان الحق واضحاً جلياً، ويجب عليه حينئذٍ أن يرجع، وإما إذا كان الذي اعترض عليه فيه محل نظر ومحل إشكال فينبغي أن يرجع إلى جهة علمية تفصل بين المتنازعين في ذلك.

توبة المبتدع

توبة المبتدع Q ما حكم توبة المبتدع؟ A من ابتدع بدعة وتاب منها، فالتوبة تجب ما قبلها ومن تاب تاب الله عليه. ثم إن الإنسان إذا أضاف إلى آخر بدعة سواء كان بدعة مسلماً بها أو غير مسلم بها، فإذا رد عليه وبين فقد أدى ما عليه، ولا يجوز أن يشغل الوقت كله بمتابعته، وبامتحان الناس به، وأن من لم يبدعه يعتبر مبتدعاً، ثم يتهاجر الناس، وتعم الفتنة كل مكان بسبب هذا الامتحان في موقف الإنسان من فلان الفلاني الذي اعترض عليه فلان الفلاني بكذا وكذا، فمثل هذا لا يجوز، وليست هذه طريقة السلف، والله عز وجل يقول: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، والإنسان ليس عليه إلا البلاغ، ولا ينبغي أن يشغل وقته في متابعة من يرد عليه، ثم يذهب الوقت كله في ردود واعتراضات وسباب، ثم ينقسم الناس إلى مجموعتين، مجموعة تؤيد هذا، والمجموعة الأخرى تؤيد هذا، ومن لا يبدع هذا يهجر، فتنتقل هذه العدوى إلى مختلف الأماكن وإلى مختلف البلاد. ومثل هذا العمل كله من الجهل، ومن المعلوم أن أهل السنة ليس هذا عملهم، ومن أقرب من أدركناه وشاهدناه من أهل السنة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليهما، فإن شأنهم أنهم يبينون الحق، ويشتغلون بالعلم، ولا يكون شغلهم الشاغل متابعة الشخص الذي ردوا عليه. الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رد على مبتدع كان يقرر مذهب الأشاعرة، وكان من جملة كلامه: فلان هداه الله، ثم اشتغل بالعلم وإفادة الناس، وما كان شغله الشاغل أنه يتابع هذا الشخص الذي رد عليه. ثم الأدهى والأمر من ذلك أن يأتي بعض الناس يؤيدون هذا، وبعض الناس يؤيدون هذا، ثم إذا لم يكن للإنسان موقف من هذا الشخص فإنه يبدع ويهجر! ولا شك أن هذا من عمل الشيطان، وهذا الأمر من الفتن الذي شغلت أهل السنة بعضهم ببعض، وشغلتهم عن الاشتغال بغيرهم ممن ينبغي أن يشتغل ببيان بدعهم والتحذير منهم ومن طرقهم ومناهجهم التي هي مخالفة للحق والهدى. لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام جميل في مجموع الفتاوى يتعلق بـ يزيد بن معاوية قال فيه: إن جماعة يمدحون يزيد بن معاوية، وجماعة يذمونه، والصواب الذي عليه الأئمة أنه لا يخص بمحبة، ولا يلعن، وإن كان ظالماً فاسقاً، وقد يكون له أعمال يغفر الله له بسببها، وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)، وأول جيش غزاها كان أميره يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري. ثم قال: والصواب أنه لا يجوز أن يمتحن الناس به؛ فإن هذا من أعمال أهل البدع.

الفرق بين البدع والمصالح المرسلة

الفرق بين البدع والمصالح المرسلة Q ما الفرق بين البدع والمصالح المرسلة؛ لأن الكثير يخلط بين الأمرين؟ A البدع هي أمور محدثة في الدين، وأما المصالح المرسلة فهي وسائل تؤدي إلى حفظ شيء من الدين أو إلى معرفة شيء من الدين كجمع القرآن وغيره من العلوم. ومثال البدعة أن يسبح بالطريقة الجماعية التي أنكرها ابن مسعود، فمثل هذه الأعمال من الأمور المبتدعة، وكذلك كون الإنسان يصلي صلاة معينة على وجه معين في وقت معين، فهذه بدعة في الدين، وإضافة إلى الدين. وأما المصالح المرسلة مثل جمع القرآن فهذا من أجل مناقب عثمان رضي الله عنه، وهو تنفيذ لقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فهو لم يخرج عن السنة، بل فيه حفظ للكتاب الذي هو وحي الله عز وجل إلى رسوله. وكذلك الأمور التي توصل إلى فوائد وإلى مصالح مثل جمع الدواوين، فإن عمر رضي الله عنه كتب أسماء الجند في دواوين، وكتب أعطياتهم، حتى يتميز منهم الذين يغزون، والذين يحتاج إليهم في الغزو، فمثل هذا لا بأس به؛ لأن هذا يؤدي إلى معرفة الناس، ومن يحتاج إليهم عند الغزو، ومعرفة من يعطى ومن لا يعطى، ومن وصلت إليهم أعطياتهم ومن لم تصل، وبيان أن هذا له كذا، وهذا له كذا، وهذا التدوين وكتابة أسماء الجند لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولكنه فعله عمر رضي الله عنه، ونحن مأمورون باتباع سنته حيث قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). وكذلك تدوين علم النحو وعلم اللغة هو وسيلة إلى فهم القرآن وإلى فهم السنة، فليس إحداثاً في دين الله، وليس إحداث عبادة لله عز وجل لم يأذن بها الله، وإنما هو إحداث شيء فيه خدمة للدين، وهو مهم، وفيه تسهيل فهم الكتاب والسنة.

[13]

شرح الأربعين النووية [13] لقد أحل الله لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، فتبين الحلال من الحرام، وثم أمور تشتبه على الناس ما بين الحل والحرمة، فأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتنابها؛ لأن التساهل فيها يؤدي إلى الوقوع في المحظور دون أن يشعر العبد، ولذا كان السلف رضوان الله عليهم يتركون بعض المباحات -فضلاً عن المشتبهات- تورعاً منهم وبُعداً عن الحرام وحذراً منه.

شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)

شرح حديث: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن) الحديث السادس من الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله: عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). هذا حديث عظيم من جملة الأحاديث التي ذكر العلماء أن مدار الإسلام عليها؛ وذلك لما اشتمل عليه الحديث من بيان الحلال والحرام، وما يشتبه بالحلال وبالحرام، وما يكون فيه الاحتياط والسلامة، ثم بيان عظيم لشأن القلب، وأنه ملك الأعضاء، فبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد. والحديث رواه النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه كان خطب به النعمان على المنبر، قيل: بالكوفة، وقيل: بحمص، وكان أميراً عليهما، فيمكن أن يكون ذلك حصل هنا أو هنا، وكان قد أكد سماعه أنه أهوى بيديه إلى أذنيه -يعني: مؤكداً السماع- مع قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون جمع بين التأكيد للسماع بالقول وبالإشارة الدالة على ذلك الفعل، الذي هو سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. والنعمان بن بشير من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثمان سنوات، وفي هذا دليل على أن الصبي المميز يصح تحمله في صغره، ويؤدي في حال كبره، وهذا معتبر عند العلماء، ومن ذلك ما جاء في هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي سمعها النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما، وكذلك غيره من صغار الصحابة الذين سمعوا من النبي عليه الصلاة والسلام في حال صغرهم وأدّوا في حال كبرهم، ومثل ذلك الكافر الذي تحمل في حال كفره وأدى في حال إسلامه، فإن تأديته في حال الإسلام معتبرة لما تحمله في حال كفره؛ لأنه في حال الكفر غير مأمون، فإذا أدى حال كفره فلا يعتد بكلامه، ولكن إذا أدى بعد إسلامه فإنه مؤتمن على ما يأتي به؛ لأنه مسلم يخبر عن شيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

الحلال البين ومثاله

الحلال البيّن ومثاله دل الحديث على أن الأشياء -من حيث الحِلّ والحرمة- تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: حلال بيّن واضح لا خفاء في حِلّه، وكل يعرف أنه حلال؛ وذلك لوضوحه، -من حيث الحِلّ والحرمة- مثل: الزروع، والحبوب، والثمار، وبهيمة الأنعام، فإن هذه من الأمور التي يشترك الناس في معرفة أنها حلال، فما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار وبهيمة الأنعام، فهذه من الحلال البين الواضح الذي لا إشكال فيه، ولكنها لا تكون حلالاً إلا إذا كان وصولها إلى الإنسان بطريق مشروع، بأن يكون بعمل يده، أو وصلت إليه بشراء أو بميراث، أو ما إلى ذلك، فإنها حينئذٍ من الحلال البين. وأما إذا وصلت بطريق غير مشروع كسرقة أو اغتصاب فإنها لا تكون حلالاً، إذ ليس للإنسان أن يستعمل بهيمة الأنعام أو ينتفع بها أو يذبحها ويأكلها وقد سرقها، فإن هذا من الحرام البين؛ لأن هذا المال الذي هو في أصله حلال إذا وصل بطريقة محرمة فإنه يكون حراماً، ولكنه إذا وصل إلى الإنسان بطريق من الطرق المشروعة لوصول الشيء إلى الإنسان فإنه يكون حلالاً.

الحرام البين ومثاله

الحرام البين ومثاله القسم الثاني: حرام بين أي: أنه واضح الحرمة لا خفاء فيه، مثل: شرب الخمر، وأكل الميتة، ونكاح ذوات المحارم، كل هذا من الحرام البين الذي هو واضح لا خفاء فيه، ويعرفه الخاص والعام. فهذان صنفان لا إشكال فيهما، إذ لا إشكال في حل الحلال وحرمة الحرام، لأن هذا بين وهذا بين.

المشتبهات

المشتبهات القسم الثالث: المشتبهات التي لا يتضح كونها من الحلال البين أو من الحرام البين، وإنما هي واقعة بين هذا وهذا، ويحتمل أن تكون من الحلال أو الحرام. فما اشتبه ولم يتضح فيه الدليل والحكم الشرعي فإن الورع اجتنابه وعدم الوقوع فيه، وأما إذا اتضح حله أو حرمته بالدليل فعند ذلك يكون من الشيء الذي يشتبه على بعض الناس أو على كثير من الناس ويعلمه بعض الناس، لكن حيث لا يتضح الدليل على حرمة الشيء أو على إباحته وحله فإن الورع يكون بتركه، كما جاء في الحديث الآخر: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) فما دام أنه متردد بين أن يكون حلالاً وأن يكون حراماً فالاحتياط والورع للإنسان أن يتركه. وأما إذا كان من الأمور التي فيها خفاء بحيث يخفى الدليل على بعض الناس ويعلمه بعضهم، فإن الحديث دل على أن الكثير من الناس لا يعلمها، ومفهوم ذلك أن بعض الناس يعلمها؛ لأن الدليل قد يكون فيها خفياً ولا يطلع عليه كل الناس، وليست مثل: بهيمة الأنعام، فمن المعلوم أنها حلال، وليست مثل: حرمة الخمر، حيث إن بيان حرمتها واضح، وإنما يكون الأمر متردداً بين الحل والحرمة، حيث يوجد في ذلك دليل يدل على الحل، ويخفى على بعض الناس مثل: لحوم الخيل، فما كل الناس يعلم أن لحوم الخيل حلال، وهذا الحكم يخفى على بعض الناس، وقد جاء في الحديث ما يدل على أنها حلال، لكنها ليست من الحلال البين عند كل أحد، وإنما هي من الحلال البين عند من عرف الدليل، لكن الإنسان الذي لم يبلغه الدليل ولم يعرف الحكم في المسألة ثم دار بين هذا وهذا فالاحتياط له بأن يترك ولا يقدم على ذلك الشيء المحتمل للحل والتحريم. وأما إذا عرف الدليل على أن ذلك سائغ وليس بحرام فإنه يأخذ بالدليل، والذي لا يعرف هذا الدليل ولا يعرف شيئاً يدل على حل لحوم الخيل، ولا يدري هل ثبت أم لم يثبت، فإن الاحتياط والورع -كما جاء في الحديث- هو الترك وليس الإقدام على الفعل؛ لأن الإنسان إذا فعل، ذلك فيحتمل أن يكون قد فعل أمراً محرماً أو أن يكون فعل أمراً حلالاً، ولكنه إذا ترك ذلك سلم من أن يكون فعل أمراً محرماً. قوله: (وبينهما أمور مشتبهات) يعني: مشتبهة في كونها من الحلال البين أو من الحرام البين، فهذه لا يعلمها كثير الناس وبعضهم يعلمها؛ لأن المفهوم معناه: أن بعض الناس يفهمها وقد يقف على الدليل الذي خفي على بعض الناس، فمن وقف على الدليل أخذ به، ومن لم يقف عليه وكان متردداً بين أن يكون حلالاً أو حراماً، فالاحتياط والمطلوب في حقه أن يتركه وألا يقدم عليه. قوله: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس). معنى ذلك: أن بعض الناس يعلمها، وهناك أمور أخرى تشتبه ولا يعلم الناس حقيقتها، مثل: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة وكان لا يدري هل هي من الصدقة أو من غير الصدقة، ولذلك تركها فلم يأكلها لأن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، ومن المعلوم أن مثل هذا من علم الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله، فإذا وجد إنسان من أهل البيت تمرة وقعت في الطريق فلا يدري هل هي من الصدقة أم لا؟ فهذا لا يمكن الوصول إلى معرفته؛ لأنه شيء مجهول، لكن ما دام أن فيه احتمال ولم يتبين فيه لا هذا ولا هذا فالسلامة إنما تكون في الترك وليست في الفعل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأقسام الثلاثة فرع الكلام الذي يأتي متعلقاً بالقسم الثالث وهو: الأمور المشتبهة، فبين عليه الصلاة والسلام حكم الأمور المشتبهة فقال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه). الشبهات أي: الأشياء المشتبهة التي لا يدرى أهي حلال أم حرام. قوله: (فقد استبرأ لدينه وعرضه) أي: عمل على براءة نفسه من أن يكون عليه نقص في دينه، وأيضاً سلم من أن يعرض نفسه للوم الناس ووقوعهم في عرضه، والإنسان يحرص على أن تحصل له السلامة في دينه وعرضه، فدينه لا يكون فيه نقص، وعرضه لا ينال أحد منه ولا يتكلم فيه بسوء. فالاستبراء للدين يتعلق بما بينه وبين الله. والاستبراء للعرض يتعلق بما بينه وبين الناس. قوله: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي: الذي يتساهل في الوقوع في أمر مشتبه لا يعلم حله وحرمته قد يؤدي به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم.

أقسام الناس في الأمور المشتبهة

أقسام الناس في الأمور المشتبهة والناس بالنسبة للأمور المشتبهة ينقسمون إلى قسمين: الأول: قسم يستبرىء منها ولا يقع فيها، وهذا يسلم دينه وعرضه. الثاني: (من وقع في الشبهات) يعني: أقدم على هذا الأمر المشتبه، ولم يتركه مع اشتباهه واحتماله لأن يكون حلالاً وأن يكون حراماً، بل هان عليه أن يقدم على شيء لا يطمئن إلى كونه حلالاً، وإذا أقدم الإنسان على مثل هذا وتساهل فيه فقد يؤدي به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم. وهذا لم يستبرئ من الشبهات، بل وقع فيها واستهونها وأقدم عليها، فإن ذلك قد يجره إلى أن يقع في الأمر المحرم؛ لأنه دخل في شيء لم يتبين له حله، وقد يكون هذا الشيء حراماً، فإذا سهل عليه ذلك فإنه قد يسهل عليه أن يقدم على الأمر المحرم. فالقسم الأول محمود والثاني مذموم.

المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للوقوع في الشبهات

المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للوقوع في الشبهات ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر هذين القسمين من الناس في موقفهم من الأمور المشتبهة ضرب لذلك مثلاً يقرب فيه الأمور المعنوية، بحيث تكون مشابهة للأمور الحسية، وذلك من كمال البيان والنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يضرب الأمثال لأصحابه ولأمته حتى يظهر الأمر المعنوي في صورة الأمر الحسي الذي هو مشاهد ومعاين، فضرب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) لأن الرعاة الذين يرعون الغنم والإبل لهم حالتان بالنسبة للحمى، والإنسان إذا قرب منه صار عرضة لوقوع ماشيته فيه؛ لأنها ترى الخضرة أمامها، فتنطلق إليها، وتصل إلى هذه الخضرة التي قد حميت، ومنع الناس والبهائم من الوصول إليها فمن يرعى حول الحمى الذي حمي ومنع من الوصول إليه، وصارت أرضه معشبة ومخصبة، فإن الراعي الذي يكون حول الحمى قد يغفل فتنطلق دوابه وتصل إلى ذلك المكان الأخضر فترعى فيه، فيتعرض للعقوبة. وأما الذي يبتعد عن الشبهات فإنه كالراعي الذي يرعى بعيداً عن الحمى ويجعل غنمه أو إبله في مكان بعيد عن الحمى بحيث لا تصل إليه؛ لأنه بذلك احتاط وابتعد، فلم يعرض نفسه لأن يقع في أمر يعود عليه بالمضرة، وأما من تهاون وقرب من الحمى وصار على حافته وليس هناك شيء يحجب عنه كجدار أو شيء يمنع من وصول الدواب إليه، فإنها تنطلق وتقع في ذلك الشيء الذي منع منه. والرسول صلى الله عليه وسلم قد وضح هذا لمن يتهاون في الأمر ويقع في الأمور المشتبهة، وجعله كالراعي الذي يرعى حول الحمى، فذلك يؤدي به إلى الوقوع في الأمر الممنوع. وأما الذي يبتعد عن الحمى، وتكون غنمه أو ماشيته في أماكن بعيدة بحيث لو نبت واحدة منها فلن تصل إلى الحمى؛ لأن بينها وبينه مسافة يستطيع أن يردها وأن يلحقها بنظيراتها ومثيلاتها، فإنه يكون بذلك سلم وعمل على الاحتياط والسلامة. إذاً: هذان القسمان أو الصنفان اللذين مضيا -وهما: الذي اتقى الشبهات والذي وقع في الشبهات- مثلهما كمثل راعيين: أحدهما: يأتي إلى مكان محمي ويجعل غنمه على حافته، فتكون بذلك عرضة لأن تقع في الأمر الممنوع. والثاني: الذي ابتعد عن الحمى ورعى غنمه في أماكن بعيدة، فإنه بذلك يسلم من أن تصل غنمه إلى هذا الأمر الممنوع منه. وهذا التمثيل للأمور المعنوية بالأشياء الحسية يعتبر من نصحه صلى الله عليه وسلم وبيانه وفصاحته وبلاغته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. والأمثال يكون فيها تقريب الأمر المعنوي بقياسه وإلحاقه بالأمر الحسي المشاهد المعاين مثلاً: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، الشبهات: مثلاً لما حول الحمى، والحرام مثلاً للحمى، فالذي يقرب من الحمى ويصير في الشبهات التي هي حول الحمى يصل إلى الممنوع منه (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه). ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأشياء المعنوية والحسية التي ضربها في المثل هي: أن لكل ملك من ملوك الدنيا حمى، يعني: قد يحمي له مكاناً يختص به، وسواء كان له أو لما يتعلق بالمنفعة العامة كأن يجعل مكاناً للصدقة أو لماشية الصدقة، فالإنسان إذا قاربه فإنه يقع في ذلك الشيء الذي حمي ومنع، وإذا ابتعد عنه فإنه يكون قد سلم وابتعد عن المشتبهات. قوله: (ألا وإن لكل ملك حمى): الحمى: هو ما يحميه الإنسان من أرض خصبة لا يأتي إليها أحد، وهذا حمى حسي. قوله: (ألا وإن حمى الله محارمه): وهذا حمى معنوي، وهو الذي أريد تقريبه بضرب المثل بالحمى الحسي عندما ذكر الراعي يرعى حول الحمى، وهذا هو المشبه به. وأما المشبه فهو محارم الله عز وجل، والمحارم: الحرام البين الذي لا يجوز الوقوع فيه. وأن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عنها وعن الشبهات التي توصل إليها. فقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى) هذا هو التشبيه الحسي، والذي ذكر فيه أن الراعي يرعى حول الحمى. وقوله: (ألا وإن حمى الله محارمه) هذا هو المشبه، لأن الأمور المعنوية التي هي حرام لا يجوز للإنسان أن يقدم عليها أو أن يكون قريباً منها بالشبهات التي ليست من الحلال البين ولا من الحرام البين، فمن تساهل في الوصول إليها والوقوع فيها -أي: المشتبهات- سهل عليه أن يقع في المحرم، كما تقدم في أثناء الحديث: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).

أهمية القلب في سائر أعضاء الجسم

أهمية القلب في سائر أعضاء الجسم ثم بين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك عظم شأن القلب، وأنه بمثابة الملك للأعضاء، وأنها تابعة له، وأنه بصلاحه تصلح الأعضاء، وبفساده تفسد الأعضاء. فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وقد ذكر هذه الجملة بعدما تقدم من ذكر وجوب ترك المحرمات وترك الأمور المشتبهة؛ لئلا يصل الإنسان إلى الأمر المحرم، وهذا فيه إشارة إلى أن سلامة المكاسب الطيبة والحرص على أن تكون بعيدة من المحرمات ومن الأمور المشتبهات -كل ذلك- له دخل في صلاح القلب وفساده؛ لأن استعمال الحرام والوقوع فيه مما يؤدي إلى فساد القلب، وكسب الحلال والابتعاد عن الحرام هو الذي يكون به صلاح القلب؛ لأن القلب يصلح باستقامة صاحبه على طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يفعل المأمورات ويجتنب المنهيات، وهذه هي تقوى الله عز وجل؛ لأن تقوى الله: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وعذابه وقاية تقيه منه، وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات، وهذه هي مناسبة ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم للقلب بعد ذكر الحلال والحرام. فإن ترك المحرم والمشتبه يعتبر من أسباب صلاح القلب، والعكس بالعكس، فإن الوقوع في الحرام والمشتبهات وترك المأمورات من أسباب فساد القلب، فعلى الإنسان أن يجعل بينه وبين الحرام مسافة بأن يترك الشيء الذي لا بأس به حذراً مما به بأس، ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بذكر القلب بعد هذه الأمور، وهذا هو وجه ذكره بعدها. ثم فيه بيان عظم شأن القلب وأنه ملك الأعضاء، وأنها بصلاحه تصلح وبفساده تفسد، وقد مهد لذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيان عظم شأن القلب بهذا التمهيد، لأن الإنسان إذا سمع هذا التمهيد وهذا التقديم - (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) - فإنه يتطلع ويحرص على معرفة هذه المضغة. ثم ما هي هذه المضغة؟ قال: (ألا وهي القلب) فبعد أن بين عظم شأنها وعظم فائدتها في حال صلاحها، وشدة خطورتها في حال فسادها، بعد ذلك جاء البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها القلب، وأتى في ذلك بأداة التنبيه التي هي: (ألا) لأن (ألا) في حد ذاتها أداة تنبيه (ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة ألا وهي القلب) فهذه أداة تنبيه تجعل الإنسان يتنبه ويعرف أهمية ما بعدها؛ لأن ذلك مما ينبغي الالتفات إليه والاهتمام والعناية به. وبهذا يتبين لنا أن حديث النعمان بن بشير حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد اشتمل على هذا الإيضاح وهذا البيان وهذا الحصر للأشياء إلى ما هو حلال بين، وإلى ما هو حرام بين، وإلى ما هو مشتبه، ثم بيان الذي على الإنسان أن يسلكه لسبيل المشتبه، وأنه إذا تركه فقد أخذ بأسباب السلامة لدينه وعرضه، وإذا لم يفعل ذلك فإنه قد عرّض عرضه للقدح، وعرض دينه للنقص، وأدى به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم، ثم هذا البيان والإيضاح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لضرب هذا المثل العظيم الذي قرب فيه الأمر المعنوي بتشبيهه بهذا الأمر الحسي، وهو من كمال بيانه ونصحه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

المشتبهات في العقائد

المشتبهات في العقائد Q هل المشتبهات تكون في العقائد، مثل: كيفية الله، وكيفية ذاته، وصفاته؟ A ما يتعلق بالله عز وجل هو كيفية ومعنى. فالمعنى: ليس من قبيل المشتبه، بل هو من قبيل الواضح؛ لأن الناس خوطبوا بكلام يفهمون معناه، ولهذا فالمعنى يكون معلوماً، ولكن الكيف يكون مجهولاً، فالله تعالى يعلمه والناس لا يعلمونه، ولا يجوز أن يقال: إنه مشتبه يعلمه بعض الناس، فإنه لا يعلمه أحد، فهو من أمر الغيب الذي لا يعلمه الناس، وليس من قبيل المشتبه الذي يعلمه بعض الناس، ولهذا جاء عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. ولهذا فأهل السنة يفوضون في الكيف، فيقولون: الله أعلم بكيفية ذلك، وكيفيته لا يعلمها إلا الله، وأما بالنسبة للمعنى فلا يفوضونه، وإنما يفهمون المعاني على وفق ما خوطبوا به. فالسمع معلوم، والبصر معلوم، والكلام معلوم، والحياة معلومة، والاستواء معلوم، وكل هذه الصفات معانيها معلومة، لكن كيفيتها التي هي عليها في نفس الأمر لا يعلم بها إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يقال هي من المتشابه! فالنصوص في ذاتها ليست من المتشابه التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، بل الناس خوطبوا بكلام يفهمونه، وهم يعلمون ذلك بمقتضى اللغة، وأما الكيفية فهي التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كيف هو، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين للناس ما يمكنهم أن يعلموه ويعرفوه، وهو ما يتعلق بالمعاني، وأما الكيفيات فلا سبيل له إليها، فلا يقال: إنها من قبيل المشتبهات التي جاءت في هذا الحديث؛ لأن المشتبه الذي جاءت فيه أحاديث يعلمه بعض الناس، ويجهله كثير من الناس فكيفية الصفات ليست من هذا القبيل. وأهل السنة والجماعة مفوضة في الكيف وليسوا مفوضة في المعنى، وأما الذين يفوضون في المعنى يقولون: إننا لا نعرف ما معنى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فيزعمون أنها مثل: {الر} [يونس:1] و {الم} [البقرة:1] ومثل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ومثل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]. وهذا يعني: أنهم لا يعلمون معنى هذه الآية كما أنهم لا يعلمون المراد بقوله: ((الر)) [يونس:1]؛ لأن {الم} [البقرة:1] ليس كلاماً مركباً حتى يفهم بالتركيب، فالكلام يفهم بتركيبه وباتصال الكلمات بعضها ببعض، لكن هذه حروف مقطعة، والمشهور عند العلماء أنهم يقولون: الله أعلم بمراده بها، لكن بعضهم يقول: لعل المقصود من إيرادها بيان إعجاز القرآن، وذلك أنه يأتي بعد ذكر الحروف المقطعة ذكر القرآن ((الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، {الم} [البقرة:1]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:2 - 3]، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف:1 - 2]، {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]، وهكذا إلا في مواضع يسيرة جاءت في القرآن ليس فيها ذكر القرآن مثل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت:1 - 2] ومثل: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] فإنه لم يأت بعدها ذكر القرآن. قالوا: فإن مجيء ذكر القرآن بعد هذه الحروف فيه إشارة إلى أن القرآن معجز، ووجه الإشارة أن القرآن مؤلف من الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، ومع ذلك فأنتم لا تستطيعون أن تؤلفوا من هذه الحروف كلاماً مثل هذا الكلام. نعم، القرآن مؤلف من الحروف، ومع ذلك فأهل الفصاحة والبلاغة لا يستطيعون أن يؤلفوا من هذه الحروف كلاماً مثل هذا الكلام، قالوا: إذاً فيه إشارة إلى إعجاز القرآن. ف الذين يقولون إن المعاني في الصفات مجهولة وأنهم يفوضون فيها، يقولون: إن {الر} [هود:1]، مثل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فلا نعرف معنى {الر} [هود:1]، ولا نعرف معنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهذا كلام باطل وغير صحيح، ومن قال: إن هذا هو مذهب السلف؟! ولهذا فعلماء الكلام معروفون بالتأويل، وسلفهم القائلون بالتفويض، كما يقول صاحب الجوهرة: وكل لفظ أوهم التشبيهَ أَوَّلْه أو فَوّضْ ورُمْ تنزيهاً فعندهم أن المعاني لا يتكلم في معناها، فيقولون: الله أعلم بالمراد بها. ونسبة ذلك إلى سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم هذا قول باطل وغير صحيح؛ فالسلف ليسوا مفوضة في المعنى، وإنما هم مفوضة في الكيف، ولهذا يقول بعض أهل العلم: من زعم أن مذهب السلف في الصفات هو التفويض في المعنى فقد ارتكب ثلاثة محاذير: المحذور الأول: أنه لا يعرف مذهب السلف، ومذهب السلف هو الذي بينه مالك في قوله: الاستواء معلوم. معنى ذلك: أن المعنى معروف وليس بمجهول، فالمعنى لا يفوض، فيقال: الله أعلم بمراده بـ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذا جاهل بمذهب السلف. المحذور الثاني: أنه مجهّل للسلف، يعني: نسبهم إلى الجهل، وأنهم قد خوطبوا بكلام لا يفهمون معناه. المحذور الثالث: أنه كاذب على السلف؛ لأنه نسب إليهم شيئاً لم يقولوه ولم يعتقدوه وهو التفويض بالمعنى، فإنهم لا يفوضون المعنى وإنما يفوضون الكيف، وهم قد خوطبوا بكلام يفهمون معناه.

حكم المسائل العلمية التي تنازع فيها المجتهدون

حكم المسائل العلمية التي تنازع فيها المجتهدون Q هل يدخل في حد المشتبهات المسائل العلمية التي تنازع فيها المجتهدون لعدم ظهور أدلتها، أو لقوة الأدلة عند الفريقين، وعدم ظهور مرجح؟ A نعم، هذه تدخل في الأمور المشتبهة التي هي دائرة بين الحِلّ والحرمة، وبين الجواز والمنع، وليس هناك شيء واضح يدل عليه، لكن من علم أو وصل إلى شيء يتبين به الحل أو الحرمة فإنه يعمل بما توصل إليه من الدليل، ومن لم يقف على دليل يفصل فيه أو يميز فيه بين أن يكون حلالاً أو يكون حراماً فالاحتياط هو الترك، كما جاء في الحديث: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (استفت قلبك وإن أفتاك الناس)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم (استفت قلبك وإن أفتاك الناس) Q قوله صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس) هل يجوز على ذلك أن أفعل ما ترتاح إليه نفسي فيما اختلف فيه؟ A لا، الذي اختلف فيه الإنسان يرجع إلى أهل العلم ممن يثق بعلمه ودينه في أمر يعمل به، فإذا أرشده من يثق بعلمه ودينه أخذ به، وأما استفتاء القلب فالمقصود بذلك: أن الإنسان إذا كان سأل عن شيء وأُخبر بأنه حلال، وكان في نفسه شيء منه أو غير مطمئن إليه أو أنه يعلم في هذا الأمر الخاص به ما يجعله غير مطمئن، فإن السلامة في ذلك أن يترك هذا الشيء الذي هو غير مطمئن إليه، مثل أن يكون الإنسان عنده حجة في أمر من الأمور غير مطمئن إليها، فقدمها إلى الحاكم، والحاكم حكم له بها وهو غير مطمئن ولا مرتاح إليها، فإن هذا لا يأخذ بحكم الحاكم ما دام أن عنده الريبة أو الشبهة التي في نفسه، فالاحتياط أنه يترك هذا الأمر المشتبه حتى ولو أفتاه الناس، وهذا مثلما جاء في الحديث: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فمن حكمت له بحق أخيه وهو يعلم أنه ليس حقاً له فإنما هي قطعة من نار، إن شاء فليأخذها، وإن شاء فليتركها). وهذا لا يعارض القاعدة المشهورة عند العلماء: أن الأصل في الأشياء الإباحة، فالأشياء التي لا يعلم حرمتها الأصل فيها الإباحة، لكن إذا تردد الإنسان في شيء، ولم يكن مرتاحاً إليه، بحيث خشي أن يكون مما هو محرم أو قد يكون فيه شيء، فعليه أن يتنزه عنه، ولا شك أن هذا فيه السلامة.

محل العقل من الإنسان

محل العقل من الإنسان Q هل محل العقل هو القلب أم الدماغ؟ A محله القلب، قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] فأضاف العقل إلى القلب، ولم يضفه إلى الدماغ.

وجوب تبيين ما أحله الله للناس إذا ظنوا حرمته

وجوب تبيين ما أحله الله للناس إذا ظنوا حرمته Q هل للإنسان أن يترك ما دل الدليل على حله مخافة الوقوع في عرضه، كأكل لحم الخيل في البلد الذي لا يرى حل لحم الخيل؟ A لا، وإنما عليه أن يبين لهم الحكم الشرعي، وأن يأتي بالدليل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن يترك الحلال فهذا معناه أنهم يحرمون هذا الشيء مع أنه حلال، فعليه أن يبين لهم وأن يوضح لهم هذا الحكم الشرعي، وأنه ليس من الحرام، بل هو من الحلال، وقد ثبتت فيها الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ضابط العمل بالأحوط

ضابط العمل بالأحوط Q ما هو ضابط العمل بالأحوط، هل هو في كل أمر يشك فيه؟ A نعم، الذي يتردد فيه بين الحل والحرمة فلا شك أن الاحتياط يكون في تركه.

بيع التورق من الأمور المشتبهة

بيع التورق من الأمور المشتبهة Q هل بيع التورق من الأمور المشتبهة التي يجب الحذر منها؟ A بعض العلماء يقول: إن ذلك البيع من هذا القبيل، وبعضهم يرى أنه جائز، ولا شك أن الإنسان إذا تنزه عنه فهذا خير له.

حكم من قال إن التصوير من الأمور المشتبهة

حكم من قال إن التصوير من الأمور المشتبهة Q يقول بعض الإخوة: إن التصوير من الأمور المشتبهة؛ بسبب أن بعض العلماء أجازوا وبعضهم منعوا، فهل هذا يعتبر من المشتبهات؟ A الدليل معلوم وواضح، وكون بعض أهل العلم رأى أنه من الأمور المشتبهة والإنسان ما دام يرى أنه من الأمور المشتبهة فطريق السلامة الترك، ومن ظهر له أنه حرام وأنه ليس من قبيل المشتبه فهو عنده حرام، وهذا مثل ما لا يعلمه كثير من الناس، والمشتبهات لا يعلمها الكثير من الناس، فمن علم أن الحكم للتحريم فلا يجوز له أن يقدم على فعله، ومن كان متردداً بين هذا وهذا فلا شك أن الاحتياط الترك وعدم الفعل.

حكم ترك الشبهات

حكم ترك الشبهات Q إذا دار الأمر بين الحل والحرمة أليس الأولى أن يقال: إن اتقاءه للشبهات في هذه الحال والدافع له على تركها واجب، لا أن الحامل له على ذلك هو مجرد الورع؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ومعنى ذلك: أنه يسلم دينه من النقص، ويسلم عرضه من النَّيل، لكن كون الإنسان ترك ذلك من أجل أنه بتركه إياه ظفر بالسلامة، وتحقق أن السلامة قد حصلت له فهذا أمر واضح، ثم أيضاً كون الإنسان حصل منه ذلك فلا شك أن هذا من الورع.

حكم تعمد استفتاء بعض المتساهلين مع العلم به

حكم تعمد استفتاء بعض المتساهلين مع العلم به Q من سأل أو استفتى عالماً معروفاً بالتساهل في الفتوى فهل يكون السائل قد استبرأ لدينه وعرضه؟ A إذا كان يعرف أنه متساهل وليس مطمئناً إليه، وإنما سأله من أجل أن يبرر له الشيء الذي يريد، فكون الإنسان يتتبع الرخص ويبحث عنها فهذا يؤدي به إلى الهلاك، كما يقول بعض العلماء: من تتبع الرخص تزندق. لأنه إذا عرضت له المسألة ويعرف أن فلاناً الفلاني يحلها فذهب يسأله ولا يسأل غيره، فيسأل هذا فيما يناسبه وهذا فيما يناسبه فمعنى ذلك أنه يتوصل إلى الأشياء التي تهواها وتميل إليها نفسه، فعليه أن يرجع إلى من يثق بعلمه ودينه ويسأله فيما يعرض له، ولا يبحث عمن يتساهل.

بعض القواعد المستنبطة من حديث (إن الحلال بين)

بعض القواعد المستنبطة من حديث (إن الحلال بين) Q تقول القاعدة: (التابع له حكم المتبوع) و (ما قارب الشيء يأخذ حكمه) يستدلون ويستنبطونها من حديث النعمان بن بشير فما صحة ذلك؟ A ( التابع له حكم المتبوع) هذا فيما يتعلق بالقلب؛ لأن الأعضاء تابعة والقلب متبوع، وبصلاح القلب الذي هو المتبوع يصلح التابع وهي الأعضاء. وقاعدة (ما قارب الشيء يأخذ حكمه) هذا في قوله: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).

حكم استعمال بعض الأشياء المشكوك فيها من قبل الكفار

حكم استعمال بعض الأشياء المشكوك فيها من قبل الكفار Q اختلف الناس في استخدام بعض المشروبات مثل: البيبسي، وبعض المصنوعات مثل: الصابون، ويقولون في هذه الأشياء أنها يستخدم في صناعتها بعض الأشياء المحرمة، وكثير منهم لا يعلم الحقيقة فهل هذا يدخل في المشتبهات؟ A مثل هذا قد يكون بعض الناس يشوش على نفسه وعلى الناس في أن يشك في كل شيء، والأصل في مثل هذا أنه يرجع فيه إلى جهات الاختصاص الذين يحللون ويعرفون أن هذا فيه كذا أو ليس فيه كذا، ولا يكون بمجرد أنه انقدح في نفسه شيء من هذا؛ لأنه من توسع في هذا التحريم وأقدم عليه فإنه يمكن أيضاً أن يتوسع في تحريم كل شيء، فلو جاءه لباس من ألبسة الكفار أو شيء قد صنعه الكفار فإنه يقول: إن الاحتياط أن أغسله لأنني أخشى أن يكون فيه نجاسة! ومعلوم الصحابة كانوا يتبايعون مع الكفار ويشترون منهم اللباس وغيره ولا يعمدون إلى غسله.

حكم شراب الشعير

حكم شراب الشعير Q هل شراب الشعير من المشتبهات وما حكمه؟ A الشيء الذي فيه احتمال الإسكار أو مظنة الإسكار لا يجوز، والشيء الذي ليس فيه ذلك فإنه سائغ، والرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر منع الناس في أن ينتبذوا في أوعية معينة فيها سماكة وغلظ، وأنه قد يبلغ الشيء في داخلها إلى حد الإسكار، فنهى عن الانتباذ فيها كالدُّبّاء والحَنْتَم والنقير والمُزَفَّت كما جاء في حديث وفد عبد القيس، ولكنه في آخر الأمر كما جاء في حديث بريدة بن الحصيب الذي ذكر فيه ثلاثة أموراً فيها ناسخ ومنسوخ، فقال: (كنت نهيتكم أن تنتبذوا في الأوعية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تنتبذوا مُسكراً) يعني: انتبذوا في كلها لكن بشرط ألا تشربوا مسكراً. فما دام أنه لم يصل إلى حد الإسكار فإنه مباح، فسواء انتبذتم في وعاء غليظ أو وعاء رقيق أو خفيف، المهم ألّا تشربوا مسكراً، وقد جاء في حديث بريدة بن الحصيب ذكر ثلاثة أمور، فقال: (وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ألا فادّخروا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكراً). الخلاصة: أن ما عُرف إسكاره في الكثير منه فإنه يحرم قليله وكثيره، والذي لم يعرف إسكاره أو تحقق بأنه ليس بمسكر فإنه حلال.

حكم اجتناب العطور التي فيها الكحول

حكم اجتناب العطور التي فيها الكحول Q هل العطور التي فيها الكحول تعتبر من المشتبهات؟ A نعم، ولا شك أن كون الإنسان يجتنب الأشياء المشتبهة التي فيها الكحول يعتبر من اجتناب المشتبهات؛ لأن الطيب كثير بحمد الله، فالإنسان يأخذ من الطَّيْب الطّيّب، ويترك الشيء الذي فيه شبهة.

حكم أكل اللحم المستورد

حكم أكل اللحم المستورد Q ما حكم أكل الدجاج أو اللحم الذي يستورد من الخارج كالبرازيل وفرنسا، والمعروف لديهم أنهم لا يُذكّون مثل هذه الحيوانات، بل يستخدمون طرقاً أخرى مثل الصعق وغيره، وقد أتت من هذه الدول مكتوب عليها: ذبحت بالطريقة الإسلامية، فهل تعتبر هذه المسألة من المشتبهات؟ A الأصل جواز أكل اللحوم التي تأتي من الكفار الذين هم: اليهود والنصارى، فهم أهل كتاب، وأما الوثنيون الذين هم ليسوا أهل كتاب فلا يجوز أكل ذبائحهم، وإنما أحل لنا طعام أهل الكتاب، فهو حلال لنا إلا إذا علمنا بأن الذبح يكون بطريقة غير شرعية، وإلا فالأصل هو الحل، وحتى المسلم نفسه لو ذبح بطريقة غير شرعية كالخنق أو نحوه فلا تحل ذبيحته، فالكافر إذا عُلم بأنه يحصل منه هذا الأمر المحرم الذي حرمه الإسلام فهي لا تحل، لكن إذا لم نعرف ذلك فإننا نأكل من هذه الأشياء التي جاءتنا منهم. وهم يقولون: إن الصعق أو الضرب لا يجعلها تموت وإنما يخدرها، مثل: الإنسان إذا ضُرب أو أعطي بنجاً وتخدر، فإنه لم يمت، بل هو حي، فهذا الضرب أو الصعق الذي يعطونها إياه إذا كان يؤدي إلى أنها تموت فإنها حرام، وأما إذا حصل ضربها بحيث ينهي قوتها وشدتها التي يخافون منها والحياة لا تزال موجودة فيها ثم ذبحوها وهي حية، فإن الذبيحة في هذه الحال تكون حلالاً. ثم هناك أمر آخر: وهو أنه ما دام أن هناك الآن الدجاج الوطني الذي يطمع أن يكون موجوداً، وهذا الدجاج الذي يأتي من الخارج موجود، وكل منهما حلال، إلا أن الإنسان ينبغي له أن يقدم الدجاج الوطني الذي قد ذبح في البلاد الإسلامية، وفي ذلك فائدتان: الفائدة الأولى: كونه مطمئناً إلى هذا. الفائدة الثانية: أنه تسويق للسلع التي تكون من الداخل، وأنها أولى مما يأتي من الخارج، ما دام أن عندنا شيئين: شيء من الداخل، وشيء من الخارج، فاستعمالنا لما في الداخل أولى من استعمال ما يأتي من الخارج. مثل: أن الله عز وجل أحل لنا نكاح الكتابيات، لكن المسلمة أولى من الكتابية، مع أن الكتابية حلال وليست بحرام، لكن أيهما أولى: أن يتزوج المسلم مسلمة أو يتزوج كتابية؟ الجواب: يتزوج مسلمة حتى ولو كان الزواج من الكتابية حلالاً، وكذلك أيضاً لحم الدجاج الذي يكون من الداخل والخارج، فالذي من الداخل أولى؛ لما فيه من الاطمئنان، ولما فيه أيضاً من تشجيع السلع الداخلية وتسويقها، وكونها تنفق ويحصل عليها إقبال، وفي ذلك تشجيع لوجود مثل هذه الأشياء التي تهيأ في الداخل، ومما ينبغي أن يستغنى فيه عن الإتيان من الخارج إذا حصل به تغطية لما يحتاجه الناس.

الأصل في اللحوم وما شابهها الحل

الأصل في اللحوم وما شابهها الحل Q من وجد لحماً لا يدري أذُكّي أو لم يُذكَّ، فهل يتركه اتقاءً للشبهات، أم أن الأصل الحل، وهل الأصل في اللحوم الحل أم الحرمة؟ A إذا كانت في بلاد المسلمين وكذلك أيضاً في بلاد أهل الكتاب فالأصل فيها الحل، كما في الحديث الذي فيه أنهم لما كانوا محاصرين في بلد، فرمي بصرّة فيها شيء، فأخذها بعض الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم نظر إليه، فجعل يضحك، فهذا يدل على أنها حلال، وأن الأصل فيها الحل، ما دام أنه من المسلمين أو من أهل الكتاب، إلا إذا علم الحرمة.

الشبهات طريق إلى الحرام

الشبهات طريق إلى الحرام Q كيف يكون الجمع بين أول الحديث وآخره، حيث وإن في أوله ذكر المشتبهات، وهي كما ذكرتم إما حلال وإما حرام، وفي آخر الحديث ذكر أن الوقوع في الشبهات وقوع في الحرام، فهل هو جزم بالوقوع في الحرام؟ A لا، هذا معناه أنه يؤدي إليه، وقد يقع الإنسان في المشتبه ولا يقع في الحرام، لكن من تساهل في المشتبه أداه ذلك إلى الوقوع في الحرام، ومن احتاط لدينه وابتعد عن المشتبه فهو من باب أولى أن يكون أبعد عن الحرام، يقال: وقع في الحرام بالنسبة لما يئول إليه.

معنى حديث: (لا حمى إلا لله ورسوله)

معنى حديث: (لا حمى إلا لله ورسوله) Q ما معنى حديث: (لا حمى إلا لله ورسوله) وكيف يمكن الجمع بينه وبين فِعْل عمر في أنه حمى الربذة؟ A معلوم أن عمر رضي الله عنه حمى الربذة لإبل الصدقة، ولم يحمها لنفسه، والمقصود بذلك أنه إذا كان الحمى للرسول صلى الله عليه وسلم ولمن يقوم مقامه وهو إمام المسلمين، فيحميه لمصالح المسلمين وللشيء الذي فعله من أجله عمر، فلا شك أن هذا مثلما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يحمي لإبل الصدقة، وعمر رضي الله عنه يحمي لإبل الصدقة ولا يحمي لنفسه، وهذا فيه اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعل شيئاً للمصلحة العامة، حيث خص مكاناً تكون فيه إبل الصدقة وغنم الصدقة في حمى ولا يتعرض لها، فهذا فيه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.

ضابط الأمور المشتبهة التي تجر إلى فعل الحرام

ضابط الأمور المشتبهة التي تجرّ إلى فعل الحرام Q ابن رجب رحمه الله ذكر أمثلة للأمور المشتبهة مثل: الضب والخيل وغيرها، ومعلوم أن هذه الأمور قد وقع الخلاف فيها، لكن في الحديث (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، فهل الأشياء الممثل بها -وهي المشتبهة- تكون أشياء محرمة بناءً على هذا الحديث؟ A من لم يعلم الحل ولم يقف عليه، وأقدم على فعل شيء لا يعلم حكمه، فمعنى ذلك أنه قد عرض نفسه للوقوع في الحرام، وأما الإنسان الذي عرف الحل فإنه قد خرج من كونه مشتبهاً إلى كونه واضحاً، فتمثيله بهذه المشتبهات لأنها ليست واضحة، ولا يعلمها كل الناس، فليست مثل بهيمة الأنعام، أو مثل الحبوب والرطب والتمر، فهذه لا شك أنها حلال، ولهذا فإن أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم -وهو خالد بن الوليد - استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أكل لحم الخيل، حيث كانوا متوقفين فيه، فلما أذن له عُلم أنه حلال، فالإنسان الذي لم يعرف الدليل فهو بالنسبة له يعتبر مشتبهاً، وأما من عرف الدليل فقد خرج من كونه مشتبهاً إلى كونه واضحاً. وقد جاء في الحديث أن من وقع في الشبهات وقع في الحرام، أما المثال ففيه أنه لم يقع في الحرام، بل أوشك أن يقع فيه (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه). وهذا هو توضيح؛ لأن الإنسان الذي حول الحمى يمكن أن يقع فيه، وكذلك الإنسان الذي فعل الأمر المشتبه، الذي ليس بحلال، فمعناه أنه من جنس ذلك؛ لأن هذا يجرّه إلى أن يقع في الأمر المحرم.

حكم الصدقة على أهل البيت في الوقت المعاصر

حكم الصدقة على أهل البيت في الوقت المعاصر السؤال: هل تحرم الصدقة على أهل البيت في هذا الزمان حيث أنه لا يوجد فيء؟ A ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (فضل أهل البيت وحقوقهم) أن أهل البيت إنما مُنعوا الصدقة؛ لأنهم أُغنوا عنها بما يعطون من الخُمس، فإذا لم يحصل لهم هذا الشيء الذي منعوا من الصدقة من أجله وهم بحاجة إلى ذلك فإن لهم أن يأخذوا من الصدقة؛ لأن الشيء الذي منعوا من أخذ الصدقة من أجله لم يحصل لهم، فلهم أن يأخذوا.

السلسلة الإسنادية في ضرب الأمثال لدى الشيخ

السلسلة الإسنادية في ضرب الأمثال لدى الشيخ السؤال: نقل عنك يا شيخ أن معك سلسلة إسنادية غالباً تأتي في ضرب الأمثال وهي غالباً تأتي عند الأشعريين؟ A جاء في صحيح البخاري حديث أبي سعيد وأبي موسى الأشعري الذي فيه: مثل الجليس الصالح والجليس السوء، وكذلك أيضاً حديث: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم)، وهي بإسناد واحد، وهي كلها أمثلة، هذا الذي في ذهني الآن، ولعل هذا هو الذي نُقل عني، ولا أدري هل ذكرت هذا في الفوائد المنتقاة أو في مكان آخر، لكني أذكر أن فيه إسناد عن أبي موسى الأشعري وهو بإسناد واحد، أوله أبو كريب محمد بن العلاء بن كريب وينتهي إلى أبي موسى الأشعري وهي تتعلق كلها بضرب الأمثلة. وكذلك حديث: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة). فيمكن أن يرجع إليها في صحيح البخاري وفي فتح الباري الإسنادان اللذان أذكر أنهما من أولهما إلى آخرهما، وكلاهما يتعلق بضرب الأمثلة، لكنها موجودة في هذا الحديث الذي هو في فضل العلم.

حكم قتل المنصرين في بلاد المسلمين

حكم قتل المنصرين في بلاد المسلمين Q هل يجوز لنا قتل المنصرين الذين يفسدون في الأرض ويدعون إلى غير دين الإسلام الذين هم موجودون في بلاد مختلفة؟ A القتل والاغتيالات لا تأتي إلى المسلمين بخير؛ لأنهم إذا قتلوا شخصاً واحداً يقتل منهم بالأعداد، ولهذا لا يفعل الشيء الذي يجلب الضرر على المسلمين.

حكم الاشتغال بسماع الأناشيد

حكم الاشتغال بسماع الأناشيد Q هل عدم سماع الأناشيد تورعاً محمود أو مذموم؟ A إذا كان المقصود هذه الأناشيد التي يقال أنها أناشيد إسلامية؛ والتي هي مجموعة يأتون ويقفون أمام المكبر ويسجلون أناشيد يتغنون بها، وتكون غالباً يعجب بما فيها من حماس أو ترنيم أو تلحين أو ما إلى ذلك فلاشك أن هذا لا ينبغي أن يقدم عليه الإنسان ولا أن يشغل نفسه به، وإنما عليه أن يشغل نفسه بما يعود عليه بالخير، لاسيما أن بعض الأناشيد يأتون بها على أشياء كلها أماني، وليس لها أساس من الواقع، مثل بعض الأناشيد التي يقولون: الصين لنا والهند لنا والكل لنا، وهم ما عندهم إلا الضياع.

حكم إرث المصحف ونحوه

حكم إرث المصحف ونحوه السؤال: هل إذا ترك مصحفاً يعتبر تبعاً للورثة أم يمكن التصدق به؟ A لا شك أن التصدق به هو الأولى، ولكن جميع ما يخلفه الميت يكون تبعاً للورثة، أما إذا وجد الورثة مثل هذه الأمور كالمصحف فإنه لو تصدق به أو أوقف في مسجد أو في مكان يحتاج إليه فلا شك أن هذا هو الأولى، وإلا فالأصل أنه ميراث؛ لأن كل ما يخلفه الإنسان من كتب ومصاحف وغير ذلك فهو مال، والمال ينتقل إلى الورثة.

حكم مقاطعة المنتجات الأجنبية

حكم مقاطعة المنتجات الأجنبية Q ما حكم مقاطعة المنتجات الأجنبية؟ وهل للمقاطعة أصل؟ A هذا يرجع إلى الدولة، وهي التي تقاطع، وإذا قوطعت هي فهل تتحقق المقاطعة؟ أما كون الشيء موجود في البلد فالإنسان يأخذ ما يشاء ويتصرف فيما يشاء، ولا يمنعه من ذلك مانع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[14]

شرح الأربعين النووية [14] الدين كله مبني على أركان وأعمدة لا يقوم إلا بها، وأساس ذلك كله النصيحة التي بها تتم المحافظة على جميع شعائر الإسلام وأركانه، ولذا كانت النصيحة شاملة لكل طبقات المجتمع، حتى يكون المجتمع متماسكاً متناصحاً متعاوناً على الخير، وبهذا ترسو سفينة النجاة في بر الأمان، وينجو أهلها من غضب الرحمن.

شرح حديث الدين النصيحة

شرح حديث الدين النصيحة الحديث السابع من أحاديث الأربعين النووية: عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. هذا حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أخرجه مسلم في صحيحه ولم يخرجه البخاري، وإنما ذكره في ترجمة باب على صيغة التعليق، فقال: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). فذكر الحديث كله في ترجمة باب على صورة التعليق، ولم يذكر إسناده، ثم ذكر تحته حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي في معناه في الجملة وهو قوله رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم). ولم يورد البخاري الحديث مسنداً في كتابه؛ لأنه ليس على شرطه فهو من رواية سهيل بن أبي صالح وسهيل لم يخرج له استقلالاً، ولكن إيراده وذكره إياه بالتعليق يدل على صلاحيته للاحتجاج. والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة)، وقد جاء في مستخرج أبي عوانة قالها ثلاثاً يعني: كررها، قال: (الدين النصيحة! الدين النصيحة! الدين النصيحة!) وفي النسخة التي شرح عليها الحافظ ابن رجب ذكر ثلاثاً، وهناك في صحيح مسلم الحديث خال من ذكر التكرار، وإنما فيه أنه قال: (الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).

منزلة النصيحة من الدين

منزلة النصيحة من الدين قوله: (الدين النصيحة)، هذه الجملة تدل على عظم شأن النصيحة والاهتمام بها، وكأنها هي الدين، وأن الدين محصور فيها، وهذا يدل على عظم شأنها، وعلى ما جاء في رواية أبي عوانة المستخرج على صحيح مسلم من أنه قالها ثلاثاً، فيكون ذلك زيادة في التأكيد. وبيان عظم شأن النصيحة كونه جاء في هذا اللفظ: (الدين النصيحة)، وكأن الدين هو النصيحة؛ وذلك لشمولها وعمومها. والحافظ ابن رجب قال: إنه يدخل تحت هذه الجملة ما جاء في حديث جبريل من تفسير الإسلام والإيمان والإحسان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فسماها ديناً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة). إذاً: ما جاء في حديث جبريل يكون داخلاً تحت هذه الجملة، ومعنى الدين النصيحة، أي: أن عماد الدين وأساسه إنما هو النصيحة؛ وذلك لشمولها لتلك الأمور التي أخبر بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيدخل في الإيمان بالله عز وجل كل ما يتعلق بالإيمان، وكل ما يتعلق بالشهادتين، وكل ما يتعلق بما أوجبه الله عز وجل، فهي كلمة عامة وجامعة من أجمع الكلام، ونظيرها قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، مبيناً أهمية الوقوف بعرفة، وأنه الركن الأعظم في الحج، وذلك أن الحج يفوت الإنسان بفواته ولو جاء من أقطار بعيدة، ولو تعب وخسر ما خسر، إذا طلع الفجر من ليلة النحر فإن الوقوف انتهى، والحج قد فات من وصل متأخراً عن هذا الوقت، ومن أدرك هذا الوقت فقد أدرك الوقوف. أما غيره من بقية الأركان مثل: الطواف والسعي فيمكن تداركه ولو بعد مدة طويلة، ولكن الوقوف بعرفة إذا فات الإنسان فاته الحج، ولا مجال لأحد أن يحج وقد انتهى وخرج وقت الوقوف، وذلك بطلوع الفجر من ليلة العيد، لكن يحج في سنة أخرى فهذا الحصر في قوله: (الحج عرفة)، يدل على أهمية هذا الركن. فقوله: (الدين النصيحة)، يدل على أهمية النصيحة وعظيم شأنها، وأن دين الإسلام هو النصيحة؛ وذلك لشموله من كل النواحي التي تتعلق بكل ما يتعلق بالله عز وجل، وما يتعلق بكتاب الله عز وجل، وما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأئمة المسلمين وولاتهم، وما يتعلق بعامتهم. وقيل: إن النصيحة مأخوذة من نصحت العسل إذا خلصته وإذا صفيته ونقيته من الشمع، حتى يكون عسلاً خالصاً مصفى نقياً، وقيل: إنها من النصح وهي الخياطة تكون بالمنصحة وهي الإبرة؛ وذلك لأن الإبرة يحصل بها لمَّ أجزاء الثوب والقماش حتى يكون ثوباً، وإذا حصل تمزق وتشقق ثم خيط بالإبرة فإنه يضم بعضه إلى بعض، فكذلك النصيحة فيها لم الشعث وحصول الخير والمطلوب في المنصوح ومن حصل له النصح. وقيل: مأخوذة من التوبة النصوح وهي الخالصة الصادقة، فكأن الذنوب تمزق والتوبة تلم الشعث وتزيل ذلك التمزق الذي حصل بسبب الذنوب. فإذاً: النصيحة تشمل ما بين العبد وربه، وما بين العبد والناس، سواء كان هؤلاء الناس حاكمين ومحكومين أو رعاة أو رعية، فهذا يدل على أهمية النصيحة وأن منزلتها من الدين عظيمة، وكأن الدين هو النصيحة.

حرص الصحابة على معرفة الحق والهدى

حرص الصحابة على معرفة الحق والهدى لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، بادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال لمن تكون النصيحة، وهذا يدلنا على حرصهم على معرفة الحق والهدى، وعلى معرفة السنن ومعرفة أحكام الدين، وذلك بسؤالهم النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم عن النصيحة لمن تكون؟ يعني: حتى يقوموا بالتمثيل والتطبيق للشيء الذي أظهر النبي صلى الله عليه وسلم عظيم شأنه بحصر الدين فيه وقصر الدين عليه، وهو النصيحة، قالوا: (لمن يا رسول الله؟) هذا يدلنا على عنايتهم وحرصهم، على معرفة الحق والهدى، وهذا هو شأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا حريصين على استيعاب ووعي ما يسمعونه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيعنون في تعليم الدين ومعرفة أحكام الشرع؛ ليتعبدوا الله عز وجل هم بها ولينقلوها إلى غيرهم، وهم أخص الناس بالدعاء الذي دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أخذ سنته وحفظها وأداها إلى من بعده حيث قال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهم الذين ظفروا بذلك أشد من غيرهم؛ لأنهم المباشرون لسماع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يكون من أقواله، وهم المشاهدون لأفعاله وحركاته وسكناته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله عنهم وأرضاهم.

أدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم

أدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم إن من كمال تأدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم عندما سألوه خاطبوه بوصف الرسالة، فقالوا: يا رسول الله! لمن تكون النصيحة؟ فسؤالهم يدل على حرصهم على معرفة الأحكام الشرعية والتفقه في الدين، ونقل الحق والهدى عنه وإيصالها إلى الناس، ولهذا يقول الحافظ ابن حجر: إن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكنيته حسن، وذكره بوصف الرسالة أحسن. يعني: كونه إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، بكنيته فهذا حسن، ولكن لو ذكره بوصف الرسالة لكان أحسن، بأن يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم هنا قالوا: (لمن يا رسول الله؟). ثم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) يجعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يشعرون ويدركون الاهتمام بهذا الأمر؛ لأنه جاء على هذا الوصف الذي هو الحصر، ولهذا بادروا إلى السؤال، ومبادرتهم للسؤال مع وجود الكلام الذي يشعر بالأهمية ويجعلهم يستعدون ويحرصون على معرفة المواطن أو الجهات التي تكون النصيحة فيها، فأجابهم النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم بالجواب، وأنها لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهي في الحقيقة نصح للإنسان نفسه؛ لأن كونه يحافظ على النصيحة ويأتي بما هو مطلوب منه في هذه الأمور الخمسة فمعنى ذلك أن النصح إنما هو راجع لنفسه؛ لأنه إذا نصح لله وللرسول صلى الله عليه وسلم وللكتاب، ولأئمة المسلمين وعامتهم، فهذا العمل إنما وترجع فائدته على نفسه، حيث أتى بما يعود عليها بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة.

معنى النصيحة لله عز وجل

معنى النصيحة لله عز وجل إن النصيحة لله عز وجل تكون بتوحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والثناء عليه بما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، وتنزيهه عن كل نقص، وأنه متصف بكل كمال، وكذلك عبادته على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إثبات ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكمال الله وجلاله، ثم الامتثال لما جاء عن الله سبحانه وتعالى من الأوامر فتفعل، ومن النواهي فتجتنب، ومن الأخبار فتصدق، وأن تكون عبادة الله عز وجل مطابقة لما جاء بها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكل ذلك داخل وتابع للإيمان بالله، ويدخل في ذلك أيضاً الشهادتان وكل ما هو مطلوب في الدين، ولهذا كما عرفنا الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إليه جبريل وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بهذا الجواب الذي أجاب به جبريل قال في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعملكم دينكم)، أي: أن هذه الأمور كلها داخلة تحت هذا الدين، وداخلة في مسمى الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

معنى النصيحة لكتاب الله

معنى النصيحة لكتاب الله إن النصيحة لكتاب الله عز وجل تقوم بتعظيمه وتوقيره واحترامه وتلاوته، وتأمل ما فيه، وتأمل معانيه والاعتبار بما فيه من العبر والعظات، وامتثال أوامره، واجتناب النواهي التي جاءت فيه، وتصديق ما فيه من أخبار، واعتقاد بأنه كلام الله، وأنه منزل منه سبحانه وتعالى، وأنه غير مخلوق، وأن فيه الخير والسعادة لمن أخذ به، وأن من تمسك به ظفر بسعادة الدنيا والآخرة، ومن أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة، فكل ذلك متعلق به، وكذلك اعتقاد بأنه معجز وفي غاية الفصاحة والبلاغة، وأن فصحاء العرب الذين هم مشهورون بالفصاحة والبلاغة لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بشيء مثله، وهذا يدل على أنه من عند الله عز وجل جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وجاء بهذا الكلام المعجز من عند الله عز وجل، وبقيت هذه المعجزة مستمرة والتحدي قائماً. ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقد تحدى أهل البلاغة أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم حصل التنزل في التحدي إلى عشر سور فعجزوا، ثم حصل التحدي في التنزل إلى سورة فعجزوا، وأقصر سورة في القرآن هي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] و {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذا الكلام بهذا المقدار الذي هو أقصر سورة التي تأتي في سطر أو سطر ونصف. وهذه المعجزة ليست كمعجزة الأنبياء السابقين التي هي وقتية والتي لا يشاهدها إلا من كان في زمانهم، مثل: العصا التي قلبت حية تسعى، ما رآها إلا الذين كانوا في زمن موسى وبعد ذلك لا يعرفون عنها إلا أخبارها، وكذلك عيسى وكونه يحصل منه إبراء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، هذا شاهده من شاهده في زمانه، وأما معجزة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام التي هي القرآن فهي قائمة ومستمرة، وكان ما اشتمل عليه من فصاحة وبلاغة هو مناط إعجاب أهل الفصاحة والبلاغة، مع شدة عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه قبل أن يسلم، كان سبب إسلامه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حال كفره يقرأ بسورة الطور وهو يصلي بالناس، فلما جاء عند قول الله عز وجل {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، قال: كاد قلبي أن يطير. يعني: من حسن هذا الكلام وإعجازه، ثم أسلم ودخل في الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

معنى النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم

معنى النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم أما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم تكون بالإيمان به وتعظيمه وتوقيره، ومحبته محبة تفوق محبة النفس والوالدين والناس أجمعين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)؛ وذلك لأن النعمة التي ساقها الله على يديه أعظم من أي نعمة تحصل للإنسان ألا وهي نعمة الهداية على الصراط المستقيم، ودعوتهم إلى ما فيه الخروج من الظلمات إلى النور، فهذه أجل وأعظم النعم التي لا يماثلها نعمة ولا يساويها نعمة، وتكون أيضاً بتصديقه في كل ما يخبر به من أمور غائبة سواء كانت ماضية أو مستقبلة أو موجودة، وكذلك امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وكذلك أن تكون عبادة الله عز وجل طبقاً لشريعته عليه الصلاة والسلام فيتابع النبي عليه الصلاة والسلام، كما أنها تكون خالصة لله فتكون أيضاً مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان هما الشرطان الأساسيان في قبول كل عمل. فإذاً: لا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول شارح الطحاوية: هنا توحيدان لا بد منهما: توحيد الرسول وتوحيد المرسل، وتوحيد المرسل وهو الله سبحانه وتعالى يقوم بعبادته وإخلاص العبادة له، وتوحيد الرسول بالمتابعة له عليه الصلاة والسلام؛ لأن العمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا إذا كان خالصاً لله، وأن يكون المتبع فيه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وألا يكون العمل مبنياً على بدع ومحدثات ومنكرات، فإنه إذا كان كذلك يكون مردوداً على صاحبه كما مر في حديث عائشة رضي الله عنها: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهذا لفظ متفق عليه كما عرفنا، ولفظ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). كذلك من النصح لرسوله صلى الله عليه وسلم النصح لسنته ولما جاء به من الحق والهدى، وذلك يكون بتعلمه والتفقه فيه ونشره وإذاعته وهداية الناس إليه، ودعوتهم إليه وتبشيرهم به، كما قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، لأن هذا داخل تحت النصح للرسول صلى الله عليه وسلم، والعمل على كل ما فيه توصيل أصولها إلى الناس سواء عن طريق التدريس أو عن طريق الكتابة، أو غير ذلك من الوسائل التي توصل هذا الحق إلى الناس.

معنى النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم

معنى النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم أما النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم فالولاة يكون النصح لهم بالسمع والطاعة لهم بالمعروف، ويكون بدلالتهم على الخير والتعاون معهم على البر والتقوى، وإرشادهم إلى ما ينبغي إرشادهم إليه مما يحصل تنبيههم عليه ولفت أنظارهم إليه، وكذلك الدعاء لهم وترك الخروج عليهم ولو حصل منهم الجور، وكذلك تعليم الناس وتوجيههم إلى السنة الدالة على أنه يجب ويتعين مناصحة الولاة والدعاء لهم، وألا يخرج الإنسان عليهم، وألا يؤلب الناس عليهم، وألا يأتي بالأمور التي تهيج الناس عليهم وتفسد قلوبهم عليهم، وإنما يسعى لجمع القلوب عليهم والدعاء لهم وعدم الدعاء عليهم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة، ولهذا جاء عن الإمام أحمد رحمة الله عليه وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أن كلاً منهما قال: لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها في السلطان؛ لأن السلطان إذا صلح يحصل بصلاحه الخير الكثير، وإذا فسد يحصل بفساده الشر الكثير. يعني: يكون بصلاحهم إظهار أمر الدين وإظهار الشرع وقمع أهل الفساد وإقامة حدود الله، وإقامة شرع الله، ويكون الإحسان إلى الناس ووصول الخير لهم، فينبغي أن يدعو لهم المسلم بالصلاح والتوفيق والتسديد، وأن يمكنهم وأن يوفقهم الله عز وجل لكل ما فيه رفعة الإسلام وإعلاء شأن المسلمين، كل هذا من الأمور التي تجب للولاة على الرعية. أما النصح لعامة المسلمين وهم الرعية يكون ذلك بإرشادهم وتعليمهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودلالتهم على الخير، وأن يحب الإنسان لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) يعني: أن يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، فكما أنه يحب أن يعامل معاملة طيبة عليه أن يعامل الناس معاملة طيبة، ويدخل في ذلك تعليمهم وتوجيههم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والحرص على إيصال الخير إليهم، ودفع الأذى عنهم، فيصل إليهم خيره ويندفع عنهم ضرره، فيكون نصيبهم منه الفائدة والمصلحة مع سلامتهم مما يكون فيه من شر.

كلام ابن الصلاح فيما يتعلق بالنصيحة

كلام ابن الصلاح فيما يتعلق بالنصيحة ذكر العلماء وفصلوا فيما يتعلق ببيان هذه النصيحة، ولمن تكون هذه النصيحة، ومن أحسن من جمع الكلام في هذه النصيحة كلام لـ أبي عمرو بن الصلاح في كتاب له يتعلق بصحيح مسلم، وقد نقله الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث، فنقرأ كلام أبي عمرو بن الصلاح في ذلك وهو في آخر شرح هذا الحديث. قال أبو عمرو بن الصلاح: النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً، فالنصيحة لله تعالى توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال، وتنزيهه عما يضادها ويخالفها، وتجنب معاصيه والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص والحب فيه والبغض فيه وجهاد من كفر به تعالى وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك والحث عليه. والنصيحة لكتابه الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه، وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهم علومه وأمثاله وتدبر آياته والدعاء إليه، وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه. والنصيحة لرسوله الإيمان به وبما جاء به، وتوقيره وتبجيله والتمسك بطاعته، وإحياء سنته، واستثارة علومها ونشرها، ومعاداة من عاداه وعاداها، وموالاة من والاه ووالاها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك. والنصيحة لأئمة المسلمين وبمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به، وتنبيههم برفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق. والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه وما شابه ذلك. هذا كلام مختصر وواضح في بيان هذه الأمور الخمسة، والعلماء تكلموا فيها بألفاظ متقاربة كما هو معلوم، كلها ألفاظ وعبارات تدور في شيء واحد وتتعلق بشيء واحد، فاختلفت العبارات والمعنى واحد، ولكن هذا الكلام الذي نقله الحافظ ابن رجب هو من أخصر وأجمع الكلام فيما يتعلق ببيان هذه الأمور الخمسة التي اشتمل عليها حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله تعالى عنه، وأنا ذكرت في كتاب: قطف الجنى الداني فيما يتعلق بطاعة ولاة الأمور، وقد ذكر ذلك ابن أبي زيد في جملة مسائل العقيدة، فأنا نقلت نقولاً عديدة عن العلماء تتعلق بنصب الولاة وبما يتعلق بالولاة من النصيحة لهم، وأن السنة جاءت بذلك في أحاديث عديدة، ومن بين ذلك هذا الحديث الذي هو حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.

الأسئلة

الأسئلة

النصيحة للسنة النبوية

النصيحة للسنة النبوية Q هل يشمل النصح للرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة لسنته؟ A نعم، نحن قلنا: إن من النصح للرسول صلى الله عليه وسلم النصح لسنته، وذلك بتعظيمها وتعلمها وتعليمها ونشرها ودعوة الناس إليها، كل هذا داخل تحت النصح للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بعثه الله بالحق والهدى، والعناية بالحق والهدى الذي جاء به هو من النصح له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى بعثه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتبصيرهم بالطرق التي توصل إليه، كما قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. فمن النصح له النصح لسنته، وسنته هي الأحاديث والآثار المروية عنه عليه الصلاة والسلام، فهي التي يجب تعظيمه فيها ويجب الحرص عليها وإشاعتها، وحث الناس على تعلمها وتعليمها والتفقه فيها والعمل بها؛ لأن هذا هو المقصود من الرسالة، يعني: المقصود من الرسالة العلم والعمل، كون الإنسان يعلم الحق ويعمل به، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].

حكم التكني بالأنثى

حكم التكني بالأنثى Q هل في حديث أبي رقية (الدين النصيحة) دليل على من ينكر التكنية بالأنثى؟ A معلوم أن التكني إنما يكون بالأكبر من الأولاد، كما جاء في حديث أبي شريح الذي كان يكنى بـ أبي الحكم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل لك من ولد؟ قال: نعم، فقال: من هم؟! قال: فلان وفلان وشريح قال من أكبرهم؟ قال: شريح، قال: أنت أبو شريح)، فكناه بالأكبر، لكن إذا كان الإنسان ليس عنده ذكور وكنى نفسه ببنت من بناته ليس في ذلك مانع، لكن كونه يتكنى بأنثى ويترك الأولاد هذا فيه محذور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يتكنى بالذكور وبأكبر الذكور، وقد يتكنى الإنسان قبل أن يولد له. فالحاصل أنه في الأصل لا محذور فيه، وإنما المحذور أن يترك البنين ويتكنى بالإناث.

وجه دخول العلماء والأمراء في النصيحة لأئمة المسلمين

وجه دخول العلماء والأمراء في النصيحة لأئمة المسلمين Q ألا يمكن تفسير: (أئمة المسلمين) في الحديث كما فسر في الآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فيدخل فيهم العلماء والأمراء؟ A لقد ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره أن من العلماء من فسر ولاة الأمر بالعلماء والأمراء، ومنهم من فسرها بالعلماء فقط، ومنهم من فسرها بالأمراء فقط، ولاشك أن العلماء ولاة الأمر والمرجع فيما يتعلق بأمور الدين وبيان أحكامه، وأما ولاة الأمر الذين هم الأمراء فهم المناط بهم التنفيذ والتطبيق للأحكام، ولهذا يسمع لهم ويطاعوا في حدود المعروف، وأما العلماء فإنهم المرجع في بيان أحكام الشرع وفيما يتعبد الله عز وجل به، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، الذين هم العلماء، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يورث عنه العلم ولا يورث عنه المال، والموفق هو الذي يحرص على أن يكون له نصيب من هذا الميراث الذي هو العلم النافع، وهذا من أعظم الشرف الذي يحصل للعلماء أن يحصل لهم هذا الوصف، وأنهم وارثو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالحق والهدى، وهذا الميراث هو الحق والهدى. فحديث أبي الدرداء المشتمل على خمس جمل كلها تدل على فضل العلم، وآخرها هذه الجملة، وقد شرحها ابن رجب رحمه الله في جزء لطيف، وابن رجب رحمه الله له أجزاء حديثية يتكلم فيها على حديث معين في جزء، فيذكر ما فيه من الآثار، وهذه طريقة ابن رجب في شرح الحديث أنه يعنى بالآثار كما في كتاب (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم) فإنه اعتنى بالآثار رحمة الله عليه، وقد شرح حديث أبي الدرداء هذا الذي فيه: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)، ولهذا فإن سائر الناس الذين هم غير الأنبياء يجمعون المال ويرثه عنهم أقرباؤهم، وأما الرسل والأنبياء فإنهم لا يورث عنهم المال بل المال يتركونه صدقة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) ولكن ميراثهم العلم النافع، كما جاء في هذا الحديث: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً)، فالأنبياء إنما جاءوا بالحق والهدى، فميراثهم مبذول لكل من أراده وليس لأحد دون أحد، فمن أراد نصيبه من هذا الميراث فالباب مفتوح، لا يحول بينه وبينه شيء، وإنما يعزم ويتوكل على الله ويقبل ويجد ويجتهد، والميراث أمانة.

كيفية النصيحة لولاة الأمر إذا كان المراد بهم العلماء

كيفية النصيحة لولاة الأمر إذا كان المراد بهم العلماء Q كيف تكون النصيحة لولاة الأمر إذا كان المراد بهم العلماء؟ A النصيحة للعلماء تكون بمحبتهم والدعاء لهم وتوقيرهم، والاستفادة من علمهم، والرجوع إليهم في أمور الدين، وعدم الولوغ في أعراضهم؛ لأن الولوغ في أعراضهم ليس كالولوغ في أعراض سائر الناس، كما قال ابن عساكر: إن لحوم العلماء مسمومة. يعني: أن الإنسان الذي يقع فيهم إنما يقع في الهلاك وما فيه الضرر، فتوقيرهم واحترامهم والرجوع إليهم وإرشاد الناس إلى الاستفادة من علمهم، وعدم قطع الطريق التي توصل إلى الاستفادة منهم، كل ذلك من النصيحة لعلماء المسلمين.

معنى كلام ابن رجب في النصيحة لرسول الله

معنى كلام ابن رجب في النصيحة لرسول الله Q يقول ابن رجب في النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: وحب من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به في زيه ولباسه؟ A كما هو معلوم فيما يتعلق باللباس الأمر فيه واسع، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الألبسة المختلفة، فيلبس القميص ويلبس الإزار ويلبس الرداء، والأمر في ذلك واسع.

حكم النصيحة للمبتدع

حكم النصيحة للمبتدع Q ما حكم النصيحة للمبتدع؟ A النصح لمن أخطأ سواء في اعتقاد أو عمل مطلوب، وذلك ببيان خطئه فيما يتعلق بالعقيدة والنصح له وتوجيهه وإرشاده، وبيان الحق الذي هو خلاف ما هو عليه، وحثه على الالتزام والرجوع إلى الحق، وعدم التمادي في الباطل، فهذه هي النصيحة التي تكون للمبتدع إذا كان يرجى رجوعه، أما إذا كان من الموغلين في البدع، ومن المحاربين للسنة والجماعة والمناوئين لهم، بل يكفرون من يكون عليها ويعتبرون أنه ليس على حق، فهؤلاء الواجب المباعدة منهم وعدم مخالطتهم، وبغضهم من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل، مثل بعض فرق الضلال الذين يحصل منهم النيل من السنة وأهلها؛ لأنها تتلقى العلم على وجه يختلف عن تلقيها الذي يكون من أهل السنة، بل يكون لتلقيها شيء آخر لا يتفق مع أهل السنة ولا علاقة له بالسنة، فمثل هؤلاء الواجب الحذر منهم والبعد عنهم، وبيان شدة ما هم عليه من الخطأ حتى يحذرهم الناس ولا يغترون بهم.

ردود العلماء على أهل الأهواء والبدع من النصح لعامة المسلمين

ردود العلماء على أهل الأهواء والبدع من النصح لعامة المسلمين Q هل يدخل في النصح لعامة المسلمين ردود العلماء على أهل الأهواء والبدع والتحذير من مناهجهم؟ A نعم، يدخل من النصح للمسلمين بيان البدع والرد على أهلها، ولكنه إذا كان الخطأ من أهل السنة، فإنه يجب أن يختلف الرد عن المحاربين للسنة والمناوئين لها، فيكون برفق ولين وحرص على هداية ذلك المردود عليه، وشفقة عليه، مع رغبة وحرص على أن يستفيد وأن يرجع، ولكن لا ينصرف الإنسان عن كل ما ينبغي أن يكون عليه، إلى أن يكون شغله الشاغل ذلك المردود عليه، فالإنسان يرد وينتهي ويشتغل بالعلم وتعلمه ونشره والتأليف فيه ودعوة الناس إليه، أما الانشغال بمتابعة المردود عليه فهذا لا يعود على ذلك الذي أشغل نفسه بالخير، ولا يعود أيضاً على غيره بالخير، بحيث يشغل نفسه بعمل يعود عليه وعلى المسلمين بالنفع العظيم والعميم.

الدين النصيحة من جوامع الكلم

الدين النصيحة من جوامع الكلم Q هل من الممكن أن يقال: الدين النصيحة كقوله: الدعاء هو العبادة؟ A نعم هذا من جنس قول: الدعاء هو العبادة يعني: هذا من الكلمات الجامعة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ومعناه: أن هذا الدعاء يدل على عظم شأنه بالعبادة وكأنه هو العبادة، مع أن العبادة لها أشياء أخرى غير الدعاء.

العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي لكلمة النصيحة

العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي لكلمة النصيحة Q ما العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي لكلمة (النصيحة)؟ A معلوم أن المعنى اللغوي مأخوذ من تخليص العسل من الشوائب بحيث يكون خالصاً مصفى، والنصيحة هي السعي للخير إلى المنصوح ودفع الضرر عنه، فيما إذا كان يتعلق مثلاً بأئمة المسلمين وعامتهم، ففيه تصفية الشخص المنصوح وتخليصه لأن يكون على سداد وهدى، وأن يكون سليماً من الشوائب ومن الأشياء التي هي مخالفة للصواب. كذلك المعنى الثاني: مأخوذ من النصح وهو الخياطة، وذلك أن المنصحة يكون فيها لم شتات الثوب والشقوق إلى بعضها حتى يكون الثوب مستقيماً، فكذلك النصح للإنسان والنصح للغير يكون بتسديده وبالعمل على إصلاح الخلل الذي حصل منه، وذلك بحصول السداد والاستقامة فيه، والتطابق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي واضح وجلي.

حكم نصح الذمي

حكم نصح الذمي Q يقول ابن رجب في آخر شرحه: وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي وعليه نصح المسلم، هل هذا على عمومه؟ A لا، ليس على عمومه، بل نصح الذمي يكون بدعوته إلى الإسلام وترغيبه فيه، وبيان محاسنه، والحرص على هدايته، وأن يخرج من الظلمات إلى النور، وكذلك أيضاً يكون بعدم الغش له، لا يغشه كما أنه لا يغش المسلم، وفي قيام المسلمين بالمعاملة الطيبة التي جاء بها الإسلام وهي الدعوة إلى الإسلام بالأفعال، ومن المعلوم أن الدعوة إلى الإسلام تكون بالأقوال والأفعال، وهي القدوة الحسنة والمعاملة الطيبة، وقد يحصل بكون الإنسان يدعو بفعله ويقصد بمعاملته ما يحصل من وراء ذلك من الانتفاع؛ ليكون ذلك سبباً في قبول من يدعوه ويرشده ويبصره، فالنصيحة تكون للمسلمين والكفار، ومن النصح للكفار دعوتهم إلى الإسلام.

كيفية النصيحة للإمام

كيفية النصيحة للإمام Q كيف تكون النصيحة للإمام خصوصاً إذا كانت امرأة، هل لا بد من طاعتها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). A المتسلط ولو كان كافراً ليس أمام الناس إلا أن يسمعوا ويطيعوا فيما هو معروف، ومن ليس أهلاً للإمامة والولاية إذا أمكن التخلص منه بعدم ارتكاب مضرة أكبر فإن هذا مطلوب، فالكافر إذا تسلط على المسلمين وأمكنهم التخلص منه بأن لا يحصل ضرر أكبر من القيام للتخلص منه فإن ذلك مطلوب؛ لأن الحاكم المسلم لا يجوز الخروج عليه، والكافر إذا تسلط والحاكم المسلم إذا ارتد فإنه يجوز الخروج عليه، لكن لا يجوز الخروج إذا كانوا جماعة قليلين لا يؤبه لهم ولا يستطيعون التخلص من ذلك الوالي، فإن هذا ليس من المصلحة؛ لأن نتيجته راجعة على الخارجين ويبقى الكافر في مكانه، وكذلك المرأة ليست أهلاً للولاية ولا يصلح أن تكون للولاية، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أن تتولى المرأة الولاية، بل من شرط الوالي أن يكون ذكراً ولا يجوز أن يكون أنثى، وكما هو معلوم أن الوالي له أمور لا يمكن للأنثى أن تقوم بها، الوالي هو الذي يصلي بالناس إذا حضر، والمرأة تقف بآخر الصفوف لا تكون إمامة، والمرأة تحتاج إلى محرم إذا أرادت أن تسافر، هكذا الحكم الشرعي، المرأة لا يخلو بها الرجل، ولا تجلس امرأة مع رجل إلا كان الشيطان ثالثهما، ولما ولى الفرس امرأة بعد موت كسرى وبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فالمرأة ليست من أهل الولاية، ولكنها إذا تسلطت فهي أهون من الكافر، والتخلص منها مطلوب لكن بشرط ألا يحصل بالعمل على التخلص منها مضرة أكبر، والكافر نفسه يعامل بهذه المعاملة وكذلك المرأة.

حكم نقل النساء مسافة قصر دون محرم وحكم الجمع في هذا السفر

حكم نقل النساء مسافة قصر دون محرم وحكم الجمع في هذا السفر Q أنا أقوم بإيصال مدرسات من المدينة إلى السويرقية والمسافة قرابة مائتين وعشرة كيلو متر، فهل يجوز لي جمع الظهر مع العصر طيلة الفترة التي أعمل بها؟ A كان ينبغي له أن يسأل عن حكم إيصال المعلمات قبل أن يسأل عن الجمع، فكأن الحكم عنده مسلم به، وإنما السؤال عن الجمع، فنقول: أولاً هذا العمل الذي يعمله لا يجوز له أن يفعل ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم). هذا هو الحكم الشرعي بالنسبة لهذا، وأما فيما يتعلق بالجمع فكثيراً ما يسأل عن هذا، فكثير من الناس تجده يصل إلى المدينة قبل العصر بمدة، ولكنه يجمع من أجل أن يصل لينام، والمؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح وهو نائم، فهذا لا ينبغي ولا يصلح، إلا إذا كان الإنسان يعلم أنه لا يصل إلا بعد أن تفوته الصلاة أو بعد أن يصلي الناس فليجمع، وأما إذا كان يعلم أنه سيأتي قبل ذلك بمدة ولكنه يريد أن يجمع من أجل أن ينام، فليس له ذلك، وإنما يصلي تلك الصلاة في وقتها، ويصلي العصر في وقتها مع الناس، ما دام أنه يصل بعد الظهر وقبل العصر.

كلام ابن تيمية في امتحان الناس بيزيد بن معاوية

كلام ابن تيمية في امتحان الناس بيزيد بن معاوية Q نريد ذكر المرجع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في امتحان الناس بـ يزيد بن معاوية؟ A نعم، هذا الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثالث من مجموع الفتاوى صفحة (413)، وهو كلام جيد، وأنا قد أحضرته حتى يقرأ بلفظه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له عن يزيد بن معاوية: والصواب هو ما عليه الأئمة من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن، ومع هذا فإن كان فاسقاً أو ظالماً فالله يغفر للفاسق والظالم، لاسيما إذا أتى بحسنات عظيمة وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له)، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فالواجب الاقتصاد في ذلك. هنا قال: الاقتصاد، وفي الأصل الاقتصار، لكن الذي يبدو أنه الاقتصاد، وهو التوسط والاعتدال؛ لأنه قال قبل ذلك: لا يخص بمحبة ولا يلعن، يعني: لا في جانب المدح ولا في جانب الذم، وإنما يعتدل ويتوسط في ذلك. ثم قال: فالواجب الاقتصاد في ذلك والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان الناس به، فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة. وقال: في الجزء الثالث صفحة (415): وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا هو كلام شيخ الإسلام الذي في المجموع.

حكم الدعاء للحكام الذين لا يحكمون بشريعة الله

حكم الدعاء للحكام الذين لا يحكمون بشريعة الله Q الحكام الذين لا يحكمون بشريعة الله تعالى، هل يدعى لهم ويوقرون ويحترمون وينصح لهم، أم أنهم كفار يدعى عليهم ويبغضون؟ A إذا كانوا يحكمون بالقوانين الوضعية معتبرين أنها أولى وأحسن من الشريعة الإسلامية، أو أن الشريعة الإسلامية لا تصلح لهذا الزمان، أو أن أحكامها لا تناسب الحضارة المزعومة في هذا العصر، وأن الشريعة إنما صلحت في زمان متقدم وأما الأزمنة المتأخرة هذه لا تصلح فيها الشريعة، فهذه ردة وكفر بالله عز وجل وخروج من الدين، وأما إذا كان الحكم بغير ما أنزل الله مبنياً على احترام الشريعة وتوقيرها، وكون الإنسان يعلم بأنه مخطئ، وأنه يحب أن يطبق الشريعة أو يسعى إلى أن يطبقها فهذا كفر دون كفر، وعلى كل حال: فالدعاء يكون للجميع بالهداية.

حكم النصيحة علانية

حكم النصيحة علانية Q متى تكون النصيحة علانية؟ A النصيحة في الأصل تكون سرية؛ لأن الإنسان هو نفسه لا يحب أن ينصح علانية، ولكن إذا حصل أمر فيه مخالفة للسنة وظهر وصارت المصلحة في إظهاره فإنه يكون علانية، مثل ما حصل من أبي سعيد الخدري مع مروان لما جاء يوم العيد وقدم الخطبة على الصلاة وصعد المنبر، وكان أبو سعيد يظن أنه قد نسي أو غفل؛ لأن العيد كما هو معلوم لا يأتي في السنة إلا مرتين، فقد يغفل الإنسان عن أيهما يقدم، فظن أنه نسي أو كذا فسحبه؛ فعلم أنه متعمد فتركه وجلس ولم ينصرف، قال الحافظ ابن حجر في شرحه في فتح الباري قال: وفي هذا دليل على أن العمل إذا حصل غير موافق للسنة فإنه يمكن للإنسان أن يبقى وألا يترك، لأنه ليس بواجب، ولهذا بقي ولم يخرج من المكان ويترك الصلاة، فهذا دليل على أن مثل ذلك أنه إذا بذلت ووجهت النصيحة فالإنسان لا يترك ذلك الشيء الذي هو مشروع؛ بسبب أنه حصل فيه أمر مخالف للسنة.

حكم مناصحة ولاة الأمر على المنابر والجرائد والمجلات

حكم مناصحة ولاة الأمر على المنابر والجرائد والمجلات Q هل تجوز مناصحة ولاة الأمر على المنابر أو الجرائد والمجلات وغيرها من المحافل العامة، حيث يستدل بعض الناس بفعل العز بن عبد السلام وكذلك فعل ابن تيمية مع جنكيز خان أو نائبه؟ A أولاً كل إنسان يعرف من نفسه أنه لا يحب أن ينصح علانية، والحافظ ابن رجب ذكر في آخر الكلام عن هذا الحديث، قال: كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سراً حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رءوس الناس فإنما وبخه، وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. ويوضح هذا تماماً كون الإنسان ينظر إلى نفسه ويقيس الناس على نفسه، وأنه يحب أن يعامله الناس معاملة طيبة، فإذا كان هذا الإنسان الذي ينصح على المنابر إذا حصل منه خطأ لا يحب أن يتكلم عليه في حضرة الناس. إذاً: فهو يعامل الناس مثل ما يحب أن يعاملوه به، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، لا يكون شأنه مثل المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. إذا كان الحق له يريد أن يصل إليه كاملاً، وإذا كان لغيره لا يعطيه إياه كما يحب أن يعطى هو، وكذلك الحديث الذي فيه: (إن الله ينهاكم عن ثلاث: عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات)، (منع وهات) يعني: يريد الشيء لنفسه ولكن لا يريد أن يعطيه لغيره. فإذاً: النصح بهذه الطريقة لا يأتي بخير وإنما يأتي بشر، كما أن الإنسان نفسه لو أنه نصح على المنبر ما استفاد من هذه النصيحة بل عمل كل ما يمكنه في إدخال الأذى إلى هذا الناصح الذي فضحه على المنبر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[15]

شرح الأربعين النووية [15] بالقيام بأركان الإسلام تحقن الدماء، وتحفظ الأموال، وتصان الأعراض، وتبقى الأخوة، وبترك أركان الدين أو جحودها تسفك الدماء، وتهدر الأموال، وتستباح الأعراض، وتنتفي الأخوة، فالإسلام كرامة للمؤمن وعز له واستعلاء على الكافر وإذلال له.

شرح حديث (أمرت أن أقاتل الناس)

شرح حديث (أمرت أن أقاتل الناس) الحديث الثامن من الأربعين النووية: عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، رواه البخاري ومسلم.

الشهادتان ومكانتهما من الإسلام

الشهادتان ومكانتهما من الإسلام هذا حديث عظيم من أحاديث النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت)، هذه الصيغة من النبي عليه الصلاة والسلام، يكون الآمر له فيها هو الله عز وجل، لأنه لا آمر للرسول صلى الله عليه وسلم إلا الله، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرت بكذا أو نهيت عن كذا فالذي أمره ونهاه هو الله عز وجل، أما إذا قال أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فالآمر والناهي لهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه هو من عند الله، لأن السنة هي من عند الله كما أن القرآن من عند الله؛ لكن الذي يخاطبهم بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وهذا يدل على أنهم يدعون إلى الإسلام، وإذا لم تحصل الاستجابة بالدعوة وبالكلام فإنه ينتقل إلى القتال، ولفظة (حتى) للغاية، فالقتال ينتهي بهذه الغاية، وهي كونهم يأتون بالشهادتين، ويأتون بالصلاة والزكاة. ثم الحديث بدأ فيه بالشهادتين، وذلك أن الشهادتين هما الأساس وهما المدخل والمفتاح، وقد جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام أنه كان أول ما بعثه الله عز وجل يأتي إلى العرب في أماكن اجتماعهم، ويقول لهم: (يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فالدعوة أول ما تكون إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل، ولهذا بدأ بالشهادتين قبل ذكر غيرهما، وذلك أنهما هما الأساس الذي يبنى عليهما غيرهما، وأي عمل لا يكون نافعاً ولا يكون مقبولاً إلا إذا كان مبنياً عليهما. وفيه أيضاً التلازم بين الشهادتين وأنه لا بد من كليهما، فيجب على كل إنسي وجني من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة الإتيان بهما، لا ينفعه دين ولا يستقيم له أمر إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الكتاب لا ينفعهم إيمانهم بنبيهم الذي ينتسبون إليه ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فاليهود المنتسبون إلى موسى والنصارى المنتسبون إلى عيسى لا ينفعهم إيمانهم بموسى ولا إيمانهم بعيسى بعد بعثته صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا بمحمد ويتبعوه، ولا يتابعوا أحداً ممن كانوا قبله بعد بعثته؛ لأن شريعته نسخت كل الشرائع، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار). وذلك أن اليهود والنصارى من أمة الدعوة، أي الذين توجه إليهم الدعوة ويطلب منهم الدخول في الإسلام، ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة الناس جميعاً، بل هي إلى الثقلين الإنس والجن، لا يسع أحداً الخروج عن هذه الشريعة وعدم الدخول فيها، ولا ينفع أحداً أن يكون تابعاً لنبي من الأنبياء بعد بعثته عليه الصلاة والسلام، ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في موسى الذي يزعم اليهود أنهم أتباعه: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) وأخبر عليه الصلاة والسلام أن عيسى الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه، سينزل في آخر الزمان، ويحكم بهذه الشريعة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ولا يحكم بالإنجيل الذي أنزله الله إليه لأنه قد أمر بهذه الشريعة وهي شريعة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فإذاً: لا بد من الشهادتين، الشهادة لله بالوحدانية، ولنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وهما شهادتان متلازمتان لا بد منهما جميعاً، ولا بد مع شهادة أن لا إله الله من شهادة أن محمداً رسول الله، ولا يكتفى بواحدة عن الأخرى، بل يتعين الإتيان بهما جميعاً، وذلك أن الرسالة عامة لكل أحد من حين بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة.

الصلاة والزكاة ومنزلتهما من الإسلام

الصلاة والزكاة ومنزلتهما من الإسلام ثم إنه ذكر الصلاة والزكاة فقال: (حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) وهذا يدلنا على أهمية هاتين العبادتين. ذكر الصلاة لأنها رأس العبادات البدنية، ثم الزكاة لأنها رأس العبادات المالية، ولا يعني ذلك أنه لا يطالب بغيرها، بل هو مطالب به، وإنما اقتصر عليها لأن من أتى بها يسهل عليه أن يأتي بغيرها، فإذا سهل عليه أداء الصلاة، والزكاة، سهل عليه أن يصوم ويحج ويأتي بالأفعال الأخرى من باب أولى، فإنه ذكر ما هو أهم وما هو أولى من غيره، وأن من أتى به فإنه يأتي بغيره، ولا يعني ذلك أن ما لم يذكر في الحديث ليس كذلك، بل كله مهم، وكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي مطلوب ومتعين، ولا بد منه، ولا يقال: إنه يكتفى بهذه عن غيرها. ثم إن الحديث جاء في المقاتلة وهي غير القتل، فإذاً: فالكفار يجاهدون في سبيل الله ويقاتلون على الكفر، ولكنهم يدعون إلى الإسلام أولاً، وإذا لم ينفع الكلام انتقلنا إلى السنان، كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]. فإن هناك كتاباً وجهاداً وقتالاً، فإذا نفع الكتاب ونفعت الدعوة استغني عن القتال ولم يكن هناك حاجة إليه، وإن حصل الامتناع فإنه ينتقل من الدعوة والكلام إلى القتال. ولهذا يقول شيخنا الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله حول معنى هذه الآية من سورة الحديد: من لم تقومه الكتب قومته الكتائب، أي: من لم يقومه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى الله عز وجل بالكلام، فإنه ينتقل بعد ذلك إلى السنان، وقد جمع الله تعالى بين القوة المعنوية والقوة الحسية في هذه الآية، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد:25]. فالبينات هي الحجة وهذا هو البيان المعنوي، ثم الحسي في قول الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، فهناك قتال على الإسلام. وإذا وجد الإسلام ولكن حصل امتناع عن أداء الفرائض والواجبات فإنهم أيضاً يقاتلون على ذلك، كما حصل من قتال أبي بكر رضي الله عنه لمانعي الزكاة مع كونهم يصلون، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم امتنعوا عن الزكاة وتأولوا، وقالوا: إن الله عز وجل يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِم} [التوبة:103]، قالوا: فغيره صلى الله عليه وسلم لا يقوم مقامه. فـ أبو بكر رضي الله عنه عزم على قتالهم، وكان رضي الله عنه معروفاً باللين والرأفة والرحمة، وعمر رضي الله عنه معروف بالشدة والقوة، ولكن أبا بكر رضي الله عنه في هذا المقام صار أقوى منه، ولما ناظره عمر وراجعه وقال: (كيف تقاتل الناس وهم يقولون لا إله إلا الله؟ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، أنهم يصلون ولكنهم امتنعوا من أداء الزكاة، فمن صلى فعليه أن يزكي، وإذا امتنع من الزكاة، فإن كان هذا الامتناع من قوم لهم منعة وشوكة فإنهم يقاتلون، وأما إذا كان الامتناع من شخص أو أشخاص يمكن أخذ الزكاة منهم من غير قتال، فإنها تؤخذ الزكاة منهم. أي أن الشخص إذا امتنع من الزكاة لا يقتل، وإنما تؤخذ منه قهراً، وإذا امتنع قوتل مثلما حصل لمانعي الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه فإنه قاتلهم وقال: (لو منعوني عقالاً كان يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه). يعني: أن الشيء الذي كان موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم لابد أن يستمر بعده، ولابد وأن يوجد بعده، ولا ينتهي الأمر عند زمنه صلى الله عليه وسلم، بل شريعته باقية ومستمرة، والزكاة فرض كما أن الصلاة فرض، فالصلاة أهم العبادات البدنية، والزكاة أهم العبادات المالية، فإذا امتنعوا عن أدائها فإنهم يقاتلون حتى يؤدونها، وإذا كان الامتناع من أشخاص مقدوراً عليهم لم يقاتلوا عليها وتؤخذ منهم قهراً، ويكون بذلك قد حصل المطلوب. فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وقف هذه الوقفة العظيمة، ولما راجعه عمر ولم يكن هناك نص يتعلق بخصوص القتال على منع الزكاة؛ لأنه لو كان عندهم شيء ما احتاج أبو بكر إلى أن يقيس الزكاة التي امتنعوا منها على الصلاة التي يؤدونها، ولم يحتج إلى أن يستدل بالعموم في قوله: (إلا بحقها، قال: والزكاة من حقها). ولهذا يقول الحافظ ابن حجر: هذا فيه دليل على أن السنة قد تخفى على أكابر الصحابة ويعلم بها من دونهم، ولا يعد ذلك نقصاً أو قدحاً؛ لأنه معلوم أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تؤخذ عنه في مجالسه، ويحضر هذا المجلس من يحضر ويغيب عنه من يغيب، فتأتي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، ويكون بعض الصحابة الكبار قد غابوا عن ذلك المجلس، ثم يكون قد حضر من هو دونهم. فـ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يبلغهم الحديث في ذلك، وقد بلغ ابن عمر، وكذلك أبو هريرة، فإنه ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين؛ ولهذا حصل ما حصل من المناظرة بين عمر وأبي بكر رضي الله عنه، فاعتمد أبو بكر على القياس، وعلى الأخذ من العموم في قوله: (إلا بحقها). وبذلك أقدم أبو بكر على ما أقدم عليه، ثم تبين أن الحديث مطابق لهذا الشيء الذي عزم عليه أبو بكر، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بالقتال إلى حصول الشهادتين مع الصلاة والزكاة. ثم إن الحديث يدل على البدء بالأهم فالأهم، فقد بدأ بالشهادتين، ثم ثني بعدهما بالصلاة، ثم ذكر الزكاة، وهذا الترتيب قد جاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما بعثه إلى اليمن، قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم). وهذه الأركان الثلاثة هي التي جاءت في حديث ابن عمر هذا وحديث أبي هريرة في بعض طرقه الذي جاء فيها ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين. وهذا العموم في المقاتلة مستثنى منه أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، فإنهم إذا أدوا الجزية قبلت منهم، ولم يقاتلوا، وذلك أنهم إذا دخلوا تحت حكم الإسلام كان ذلك من أسباب دخولهم في الإسلام، لأنهم يشاهدون عدل الإسلام، ويشاهدون ما اشتمل عليه الإسلام من الخير، وما فيه من المحاسن؛ فيكون ذلك من أسباب دخولهم بدون أن يقاتلوا؛ لأن المقصود هو الهداية، والدخول في الإسلام. ولهذا جاز للمسلمين أن ينكحوا الكتابيات، ولم يجز للكتابيين أن يتزوجوا المسلمات، وذلك أن الكتابية إذا كانت تحت المسلم كان قواماً عليها، وهي تحت إمرته وولايته، فيكون ذلك سبباً في دخولها في الإسلام، بخلاف العكس. وكذلك جاءت السنة في أهل الكتاب أنها تؤخذ منهم الجزية، وجاءت السنة أيضاً بأخذ الجزية من غيرهم، كما جاء في حديث بريدة بن الحصيب الطويل في صحيح مسلم، الذي يقول فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً)، ثم ذكر في آخره: (الدعوة إلى الإسلام أو إلى الجزية وإلا المقاتلة). فإذن يستثنى من هذا العموم في هذا الحديث أخذ الجزية، فإن من حصل منه ذلك ودخل تحت ولاية المسلمين وحكمهم، فإنه تؤخذ منه الجزية ويمتنع من قتله وقتاله، حتى يكون دخوله تحت ولاية المسلمين وحكمهم، ويرضخ لما هم عليه؛ فيكون ذلك سبباً في دخوله الإسلام وخروجه من الكفر الذي هو عليه إلى دين الله عز وجل. وكما قلت: إن هذه الصلاة والزكاة، وكذلك الصيام والحج وكل أمر معلوم من الإسلام بالضرورة، من جحده يكون كافراً بإجماع المسلمين، ولكن من امتنع منه ولم يكن جاحداً له، مثل أولئك الذين كانوا يصلون ولكنهم لا يدفعون الزكاة لظنهم أن الحكم يختص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يدفعون الزكاة لـ أبي بكر رضي الله عنه لفهمهم الخاطئ، بأن ذلك إنما هو من خصائص الكريم صلى الله عليه وسلم، فامتنعوا وقوتلوا على ذلك، فكذلك أيضاً غيرها من شعائر الدين، إذا امتنع الناس منها وقاتلوا على امتناعهم فإنهم يقاتلون. ولكن من كان غير جاحد للصيام وغير جاحد للحج وقدر عليه فإنه يعاقب بالحبس وبالعقوبة التي تجعله يقدم على الشيء الذي امتنع منه، إلا أن فرض الحج قد قال بعض العلماء إنه على التراخي، وإن الإنسان يمكن أن يؤخر الحج ثم يحج فيما بعد. والحاصل أن من جحد أمراً معلوماً من الإسلام بالضرورة فهو كافر مرتد عن الإسلام، ومن لم يجحده فإن كان قاتل دونه وحصلت لهم منعة قوتل، وإن لم تكن منعة وأمكن الإلزام بالشيء المطلوب ألزم به من دون قتال.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام) يدل على أن ما سوى الصلاة والزكاة مما هو حق الإسلام حكمه حكم الصلاة والزكاة، فإن من امتنع من الأمور الواجبة المتعينة ومن شعائر الدين الظاهرة يقاتل؛ لأن ذلك داخل في حقها. ولهذا رضي الله عنه لما لم يكن عند أبي بكر ذكر الصلاة والزكاة، وكان عنده ذكر الشهادتين وذكر: (إلا بحقها)، قال: إن هذا من حق الإسلام؛ وكان الذين أراد أن يقاتلهم ونوظر من أجلهم كانوا يصلون ولكنهم امتنعوا عن الزكاة لشبهة ولتأويل عرض لهم، فقال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وقال: إنه قال: (إلا بحقها)، والزكاة حق المال. وقوله: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقوموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك) يعني: ما تقدم، والذي تقدم هو أقوال وأفعال؛ لأن الأقوال هي الشهادتان، والأفعال هي الصلاة والزكاة. ففي هذا إطلاق الفعل على القول؛ لأن قوله: (فعلوا ذلك) يرجع إلى القول والفعل، وحركة اللسان فعل.

معنى قوله: (وحسابهم على الله)

معنى قوله: (وحسابهم على الله) قوله: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، يعني: أن الإنسان يدخل في الإسلام بالشهادتين، وهؤلاء الذين يشهدون منهم من تكون شهادته في الظاهر والباطن على حد سواء، فيكون صادقاً في إيمانه وإسلامه، ومنهم من ليس كذلك، لكن يقبل منه الظاهر، والسرائر لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن شهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله كففنا عن قتاله، مع أنه قد يكون هذا القول صادقاً وقد تواطأ لسانه مع قلبه على ذلك، وقد يكون قال ذلك خوفاً من السيف، فأظهر الإسلام وهو مبطن للكفر كما هو شأن المنافقين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)، يعني: أن من أتى بهذه الأمور في الظاهر فإنه يكتفى منه بهذا، وأما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقاً وكان ظاهره متفقاً مع باطنه فذلك ينفعه عند الله عز وجل؛ لأن الله سيحاسبه وسيحصل له الخير، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]. وإذا كان ظاهره يخالف باطنه، بمعنى أنه أظهر الإيمان وأبطن الكفر، وقال ذلك نفاقاً وخوفاً من السيف، فإن هذا كذلك يكف عنه ويعصم دمه وماله بذلك، ولكنه من أهل الدرك الأسفل من النار. ثم إن في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله) دليلاً على أن أول واجب على المكلف هو الشهادتان، ولا يطلب منه أمور أخرى قبلها، خلافاً لبعض المتكلمين القائلين إن أول واجب على المكلف النظر، أي أن ينظر في الأدلة وينظر في الكون، ثم بعد ذلك يشهد أن لا إله إلا الله. فنحن نقول: ما دام أنه يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه عليه أن يأتي بها ابتداء، ولا يحتاج الأمر إلى أمور تفعل قبل الشهادتين، وقد يؤخر الشهادتين ثم يموت قبل أن يشهد في المدة التي كان مطلوب منه أن ينظر، مثل ما حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم زار غلاماً من اليهود في مرض موته وعرض عليه الإسلام وكان أبوه جالساً عنده، فنظر إلى أبيه فقال له: أطع أبا القاسم، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم مات، وقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار). فإذاً أول واجب على المكلف الشهادتان، وليس أول واجب أن ينظر ويفكر ويتأمل، فإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، خرج من الكفر ودخل في الإسلام، وبذلك يخرج من الظلمات إلى النور، ولا يجعل بينه وبين الخروج من الظلمات إلى النور مسافة.

فوائد حديث (أمرت أن أقاتل الناس)

فوائد حديث (أمرت أن أقاتل الناس) والحاصل أن هذا الحديث -حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد كتبت بعض الفوائد حول هذا الحديث فنقرؤها. بسم الله الرحمن الرحيم، الحديث الثامن: [عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى)، رواه البخاري ومسلم]. 1 - قوله: (أمرت)، الآمر للرسول صلى الله عليه وسلم هو الله؛ لأنه لا آمر له غيره، وإذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، فالآمر والناهي لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه، وارتد من ارتد من العرب، وامتنع من امتنع من دفع الزكاة، عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتالهم، بناءً على أن من حق الشهادتين أداء الزكاة، ولم يكن عنده الحديث بإضافة الصلاة والزكاة إلى الشهادتين كما في هذا الحديث. فناظر عمر أبا بكر في ذلك، وجاءت المناظرة بينهما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر العرب، قال عمر بن الخطاب لـ أبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحق وحسابهم على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق). قال الحافظ في الفتح (1/ 76): وقد استبعد قوم صحته، بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله). وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس، إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله. و A أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عن ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضراً له فقد يحتمل ألا يكون قد حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد. ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضاً من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه: (إلا بحق الإسلام)، قال أبو بكر: والزكاة حق الإسلام. ولم ينفرد ابن عمر رضي الله عنهما بالحديث المذكور، بل رواه أبو هريرة أيضاً بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في كتاب الزكاة. وفي القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم؛ ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفي ذا على فلان؟ والله الموفق. 3 - يستثنى من عموم مقاتلة الناس حتى الإتيان بما ذكر في الحديث أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية لدلالة القرآن، وغيرهم إذا دفعها لدلالة السنة على ذلك، كما في حديث بريدة بن الحصيب الطويل في صحيح مسلم وأوله: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً)، الحديث. وهذا حديث طويل يتعلق بالجهاد والوصية التي يكون عليها المجاهدون في سبيل الله. وقد أخرجه مسلم في صحيحه وشرحه ابن القيم في كتابه (أحكام أهل الذمة). وأنا قد أشرت إلى أنه تؤخذ منه الجزية؛ لأن الحديث هذا نفسه فيه أخذ الجزية، فأنا ذكرت أوله وهو حديث طويل، قال: (ادعهم إلى ثلاث خصال فإنهم أجابوك)، وذكر منها الجزية. 4 - يكفي للدخول في الإسلام الشهادتان، وهما أول واجب على المكلف، ولا التفات لأقوال المتكلمين في الاعتماد على أمور أخرى، كالنظر أو القصد إلى النظر. قال ابن دقيق العيد في شرح هذا الحديث: وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف، أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقاداً جازماً لا تردد فيه كفاه ذلك، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله بها. 5 - المقاتلة على منع الزكاة تكون لمن امتنع عنها وقاتل عليها، أما إذا لم يقاتل فإنها تؤخذ منه قهراً. 6 - قوله: (وحسابهم على الله)، أي: من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين فإنه يعصم ماله ودمه، فإن كان صادقاً ظاهراً وباطناً نفعه ذلك عند الله، وإن كان الباطن بخلاف الظاهر وكان أظهر ذلك نفاقاً فهو من أهل الدرك الأسفل من النار. 7 - ما يستفاد من الحديث:- - الأمر بالمقاتلة إلى حصول الشهادتين والصلاة والزكاة. - إطلاق الفعل على القول، لقوله: (فإذا فعلوا ذلك)، ومما ذكر قبله الشهادتان، وهما قول. - إثبات حساب الأعمال يوم القيامة. - أن من امتنع من دفع الزكاة قوتل على منعه حتى يؤديها. - أن من أظهر الإسلام قبل منه ووكل أمر باطنه إلى الله. - التلازم بين الشهادتين وأنه لابد منهما معاً. - بيان عظم شأن الصلاة والزكاة، والصلاة حق البدن، والزكاة حق المال.

الأسئلة

الأسئلة

نوع قتال الصحابة للمرتدين

نوع قتال الصحابة للمرتدين Q إذا حصل القتال من مانعي الزكاة على منعها كما حصلت في عهد أبي بكر رضي الله عنه، فهل يكفرون لقتالهم على منعها ويكون قتالهم دليلاً على أنهم جاحدون لوجوبها أو مستحلون لتركها، كما سمى الصحابة رضي الله عنهم قتالهم لهم بحروب المرتدين، ولم يفرقوا بين من منعها جحوداً أو منعها بخلاً ما دام الجميع قاتلوا على منعها؟ A كما هو معلوم، الذين قوتلوا منهم من ارتد عن الإسلام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من تبع مانع الزكاة ومنهم من تبع مدعي النبوة. ومعلوم أن هذه ردة عن الإسلام، لكن من شهد أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، ولكن عرضت له شبهة في الزكاة، هل هي من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم أم أنها تكون لمن بعده؟ فهذا تأويل؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا ليس كفراً، وإنما هو امتناع من الواجب لشبهة عرضت في ذلك. وبعض أهل العلم ألحق هذا بحروب الردة؛ لأنه حصل منهم الامتناع والخروج على الولاة، وإن كان يعتبر من قبيل البغي والامتناع عن أداء الواجب. ولهذا لو قدر عليهم لأخذت منهم، كالشخص الذي يمتنع ويقدر عليه فإنها تؤخذ منه، ولا يقال إنه كافر، إلا إذا جحد وقال إنها غير واجبة، وهؤلاء فيهم شبهة، لأن الجحود وجد منهم ولكن بفهم خاطئ؛ لأنهم ظنوا أن الحكم إنما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، قالوا: هذه أمور لا تكون إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، ففهموا هذا الفهم الخاطئ، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنهم معذورون في هذا التأويل.

أمر جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم هو من أمر الله

أمر جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم هو من أمر الله Q في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) فمن الآمر هنا؟ A الآمر هو الله، وجبريل مبلغ عن الله، فهو لا يأتي بشيء من عنده وإنما يأتي بالوحي من الله؛ لأنه رسول ملكي فهو واسطة بين الله عز وجل والرسول البشري؛ لأنه يأخذ الوحي من الله ويأتي به إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولهذا جاء في القرآن الكريم إضافة القرآن إلى جبريل لأنه مبلغ له، كما قال في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]. وكذلك قال الله عز وجل في حق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في سورة الحاقة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، يعني: باعتبار أنه مبلغ لا باعتبار أنه منشئ وأن بدايته منه.

توجيه كلام ابن رجب في أن الرسول كان يقبل من الكفار بعض الشروط لدخولهم في الإسلام

توجيه كلام ابن رجب في أن الرسول كان يقبل من الكفار بعض الشروط لدخولهم في الإسلام Q نريد توجيهاً لما ذكره ابن رجب، قال: ولم يكن صلى الله عليه وسلم يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي: (أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا)، ففي مسند الإمام أحمد عن جابر قال: (اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيصدقون ويجاهدون). وفيه أيضاً: عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين فقبل منه)، يقول: كيف يكون هذا؟ A معلوم أن الإنسان الكافر الذي يريد أن يسلم، ولكنه يريد أن يسلم من بعض التكاليف، إذا مكن من الدخول في الإسلام، فإن الأمر يتحول ويتغير ويتبدل إلى كونه يستسلم لأوامر الإسلام، ولما جاء في الإسلام. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بناءً على ما جاء في هذه الأحاديث يحرص على الدخول في الإسلام، والإنسان إذا دخل فيه وصار من أهله سهل عليه بعد ذلك أن يأتي بالأمور الواجبة. فكان المقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل منهم ولكن الشرط الفاسد يترك، وذلك أنهم إذا دخلوا سيتغير حالهم، ويكون الإسلام هو غايتهم ومقصودهم ويأتون بالأمور التي يؤتى بها في الإسلام، كما جاء عن أنس: (كان الواحد يسلم يريد الدنيا ثم لا يمسي إلا والإسلام عنده خير من الدنيا وما فيها)، يعني: فكانت لهم مقاصد، ولكن إذا دخلوا في الإسلام تغيرت أحوالهم.

كيفية الجمع بين قوله: (لا إكراه في الدين) وحديث: (أمرت أن أقاتل الناس)

كيفية الجمع بين قوله: (لا إكراه في الدين) وحديث: (أمرت أن أقاتل الناس) Q كيف يجمع بين حديث (أمرت أن أقاتل الناس)، وقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؟ A معلوم أن قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، ليس المقصود به أنه لا يوجد جهاد، وإنما الآية لها سبب مر بنا في سنن أبي داود عن ابن عباس قال: كانت المرأة يكون لها ولد فتنظر، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] وبهذا يتضح المعنى وأن ذلك لا يتنافى مع الأمر بالجهاد. ثم أيضاً: يمكن أن يكون من معانيها أن الإنسان الكافر إذا قدر عليه لا يقال له: إما أن تسلم وإما أن أقتلك، لكن إذا دخلوا تحت الدين وأعطوا الجزية فإنهم يتركون؛ وذلك لأنهم إذا كانوا تحت حكم الإسلام كانت هناك وسيلة إلى قبولهم في الإسلام ودخولهم فيه. فالكافر إذا كان مقدوراً عليه وكان بين يدي المسلم، لا يقال له: إما أن تسلم وإما أن أقتلك، وإنما يبقى تحت حكم الإسلام ويكون له عهد. لكن الممتنعين الذين يريدون أن يقاتلوا المسلمين يقاتلون، وليس معنى قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] أنه لا يقاتل الكفار، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا الكفار في ديارهم، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم غزوا الكفار في ديارهم، وذهبوا إلى بلاد الفرس والروم، وذهبوا إلى جهات مختلفة ليقاتلوا في سبيل الله.

حكم من أتى بشيء من الشرك وهو حديث عهد بجاهلية

حكم من أتى بشيء من الشرك وهو حديث عهد بجاهلية Q رجل دخل في الإسلام بالشهادتين، ثم أتى بشيء من الشرك والبدعة بسبب جهله، هل عذره مقبول؟ A يبين له وتقام عليه الحجة، فلابد من إقامة الحجة. لاسيما إذا كان الإنسان حديث عهد بالإسلام فإنه قد يحصل منه شيء من ذلك؛ ولهذا جاء في الحديث أنهم من قبل كانوا يحلفون باللات، مثل: (من حلف فقال في حلفه واللات فليقل: لا إله إلا الله) لأن الناس إذا اعتادوا شيئاً فإنه يجري على ألسنتهم، فطلب ممن وقع منه ذلك أن يأتي بشيء ينسخ ذلك ويعود لسانه على كلمة التوحيد بدلاً من الكلمة التي كان يعتادها، وهي كلمة الشرك. ولهذا جاء في الحديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، وكانوا حدثاء عهد بالكفر.

توجيه حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني قريظة وهم غارون)

توجيه حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني قريظة وهم غارون) Q كيف يوجه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه غزا بني قريظة وهم غارون)؟ A معلوم أن دعوتهم كانت موجودة قبل أن يأتي إليهم، ومعنى كونهم غارين أنهم كانوا في غفلة، فالدعوة إلى الإسلام كانت موجودة من قبل ولكنهم أبوا الدخول فيها.

ثبوت السنة في أخذ الجزية من المجوس

ثبوت السنة في أخذ الجزية من المجوس Q من المعلوم أن المسلمين لا يقبلون من عبدة الأوثان الجزية، فلماذا قبل عمر رضي الله عنه الجزية من المجوس (الفرس)؟ A أنا قلت: إن الكفار غير أهل الكتاب قد جاء في السنة قبول الجزية منهم، ففي حديث عبد الرحمن بن عوف: (أنه أخذ الجزية من مجوس هجر). وفي حديث بريدة بن الحصيب أنه كان إذا جهز جيشاً أو سرية أوصاهم بتقوى الله وبالمسلمين خيراً، وقال: (اغزوا في سبيل الله وقاتلوا من كفر، ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً ولا وليدة، فإن هم طلبوا منك أن تنزلهم على حكم الله)، ثم قال: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، وذكر منها: الجزية).

العلة في مقاتلة من امتنع عن دفع الزكاة مع عدم كفره

العلة في مقاتلة من امتنع عن دفع الزكاة مع عدم كفره Q إذا كان تارك الزكاة لا يكفر، فلماذا يقاتل إذا امتنع عن دفع الزكاة، والله عز وجل يقول: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]؟ A القتال لا يكون للكفر فقط، وإنما يكون للكفر ولغير الكفر. والزكاة إذا جحد وجوبها كان ذلك كفراً وردة، وأما إذا لم يجحد الوجوب ولكن لم يؤدها من أجل البخل والطمع في المال، فإن هذا لا يقال له كفر؛ ولهذا جاء في السنة عدم كفر الذي لا يخرج الزكاة إذا لم يكن جاحداً لوجوبها، فإنه قال: (ما من صاحب ذهب أو فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها ظهره وجبينه وجنبه حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار). فهذا يدل على أنه يوجد سبيل إلى الجنة، والذي له سبيل إلى الجنة هو المسلم؛ لأن الكافر لا سبيل له إلى الجنة أبداً، فهذا يدل على أنه إذا منعها بخلاً فإنه يعذب بها يوم القيامة حتى يقضى بين العباد، وينتهي إما إلى الجنة وإما إلى النار. والقتال لا يكون للكفر فقط، بل قد يكون للبغي كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فهؤلاء متقاتلون ومع ذلك جعلهم إخوة.

حكم أهل الأوثان إذا أخذت منهم الجزية

حكم أهل الأوثان إذا أخذت منهم الجزية Q إذا أخذت الجزية من عبدة الأوثان، فهل يقرون على عبادة الأوثان فيبقى الشرك قائماً؟ A النصارى يعبدون الأوثان! وهم الذين قالوا: {اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، فالشرك موجود حتى عند النصارى، وهم كفار ومشركون، ولهذا قال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190]، وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]. لكن من أحكام أهل الذمة إذا دخلوا تحت الحكم الإسلامي أنهم يسرون بأفعالهم ولا يظهرونها، فكنائسهم الموجودة يذهبون إليها ويدخلون فيها ويعملون شعائرهم داخلها، ولكن لا يظهرون الناقوس والصليب، فهؤلاء كفار ويعبدون غير الله عز وجل ويدخلون في كنائسهم.

حكم من لا يصلي ولا يزكي

حكم من لا يصلي ولا يزكي Q في مجتمعنا يوجد الكثير من الناس لا يصلون ولا يؤدون الزكاة، فماذا نحكم عليهم؟ وكيف نتعامل معهم؟ A أما ترك الصلاة فإذا كان كسلاً، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من قال بكفره، ومنهم من قال بعدم كفره، والذين قالوا بكفره يستدلون بأدلة تدل على ذلك، منها: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وحديث: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الأمراء: (لا، ما صلوا)، ومعنى ذلك: أنهم إذا لم يصلوا فإنه يجوز أن يخرج عليهم؛ لأن ذلك كفر. وأما منع الزكاة فإن كان جحوداً فهو كفر وردة، وإذا كان منعها بخلاً فإن كان المانع مقدوراً عليه وأمكن أخذها منه بالقوة أخذت منه بالقوة، وإن قاتل دونها فإنه يقاتل كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.

استمرار دعوة أهل الجزية إلى الإسلام

استمرار دعوة أهل الجزية إلى الإسلام Q إذا دعي قوم إلى الإسلام فرفضوا، وقبلت الجزية منهم، فهل يستمر المسلمون في دعوتهم إلى الإسلام أو يتركونهم؟ A يستمرون في دعوتهم؛ لأنهم سيكونون تحت حكمهم وولايتهم، فالمسلمون هم المتولون عليهم، وهم سيشاهدون المسلمين وأحكام الإسلام ولا يتركونهم بدون دعوة.

حكم من يسب الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم

حكم من يسب الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم Q إذا سمعت شخصاً يسب الله أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يستتاب أو يقتل مباشرة، علماً أنه عند قوله ذلك مكلف عاقل؟ A هذا الخلاف في الزنديق، هل تقبل توبته أو لا تقبل، وأما كونه كافراً فهو كافر بلا شك، فليس له إلا التوبة أو السيف.

مقاتلة من اجتمعوا على ترك الصيام

مقاتلة من اجتمعوا على ترك الصيام Q إذا كان هناك جماعة لهم منعة وقوة أجمعوا كلهم على ترك الصيام، هل يقاتلون؟ A نعم يقاتلون.

حكم الخروج على الحاكم الكافر أو المرأة

حكم الخروج على الحاكم الكافر أو المرأة Q ذكرتم أنه إذا حكم المسلمين من ليس بأهل للحكم واستطاع المسلمون أن يزيلوه دون أن يترتب على ذلك مفسدة أكبر فإنه يجوز لهم ذلك، ومثلتم بالحاكم إذا كان كافراً أو امرأة. وهل هذه قاعدة عامة تشمل الحاكم الفاسق؟ وهل إذا أزلنا المرأة بالشرط المذكور ألا يكون ذلك من باب الخروج على الحاكم المسلم؟ A المرأة ليست من أهل الولاية أصلاً، بل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). لكن إذا تسلط الكافر ولم يمكن التخلص منه إلا بضرر أكبر، فإنه يسمع له ويطاع بما هو معروف، يعني: في الأمور التي تتعلق بالتنظيم، مثل تنظيمات المرور والأمور التنظيمية، وإذا أمر بمخالفة الشريعة لا يوافق. وكذلك المرأة إذا تسلطت وقهرت وغلبت، فهي ليست أهلاً للولاية، وقد أجمع المسلمون على أنها لا تكون أهلاً للولاية؛ وذلك لأمور كثيرة لا تناسب المرأة: أولاً: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). الأمر الثاني: كون الإمام هو الذي يصلي بالناس، والمرأة لا تصلي مع الرجال، بل تكون في آخر الصفوف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها). ثم أيضاً: الحاكم يحتاج إلى أن يخلو بمن يريد من الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما). أيضاً: المرأة تحتاج إلى محرم إذا أرادت أن تسافر. فهذه الأمور ليست من أهليتها، ولكن كما أنه إذا لم يقدر على التخلص من الكافر يبقون تحت أمره إذا لم يندفع ضرره إلا بمنكر أكبر، فكذلك يبقون معها، أما إذا كان أمكن التخلص من الكافر بدون ضرر أكبر يترتب على الخارجين، وكذلك على المرأة، فإنه يخرج عليها وعليه؛ لأنها ليست من أهل الولاية.

معنى قول عمر (ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)

معنى قول عمر (ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) Q ما معنى قول عمر رضي الله عنه: (ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق)؟ معناه أن الرأي الذي كان يراه عمر رضي الله عنه قد تغير، ورأى أن هذا الذي رآه أبو بكر وعزم عليه هو الحق، فتغير رأيه إلى أن صار موافقاً لرأي أبي بكر.

المراد بالنظر عند المتكلمين

المراد بالنظر عند المتكلمين Q ما مراد المتكلمين بالنظر الذي جعلوه أول واجب على المكلفين؟ A المراد أن الإنسان يفكر في الأدلة، ويفكر في ملكوت السماوات وغير ذلك من الأشياء التي يقولونها، فهذا قبل أن يشهد.

[16]

شرح الأربعين النووية [16] دين الإسلام دين الرحمة واليسر، فلم يكلف العبد إلا بما يستطيع، وإذا حصلت على المكلف مشقة فإن الشرع يخفف عنه من التكليف نفسه، كما في القصر والإفطار في السفر. وقد رفع الله عز وجل عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فإنهم شددوا على أنفسهم وأكثروا من مساءلة أنبيائهم، فشدد الله عليهم وأهلكهم؛ ولذا يجب أن نحذر من طريقتهم حتى لا نقع فيما وقعوا فيه.

ترجمة أبي هريرة وبيان سبب إكثاره من رواية الحديث

ترجمة أبي هريرة وبيان سبب إكثاره من رواية الحديث قال الإمام النووي رحمه الله: [عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثيرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم). رواه البخاري ومسلم]. هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو مشهور بكنيته، واسمه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وهو رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق. والأحاديث التي أحصيت ودونت كان أكثر الرواة فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو هريرة، والذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة، هم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس وجابر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم، ستة رجال وامرأة واحدة، وأبو هريرة هو أكثر السبعة؛ لأن أحاديثه بلغت الآلاف. ومن المعلوم أن أبا هريرة إنما أسلم عام خيبر في السنة السابعة، ومعلوم أن من الصحابة من كان إسلامه بمكة، ومنهم من كان إسلامه بالمدينة وقد سبق أبا هريرة، ولكن ليس هناك أحد من الصحابة بلغ بالكثرة مثلما بلغ أبو هريرة ويرجع ذلك لأمور منها: الأمر الأول: ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه منذ أسلم لازم النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يذهب معه إذا ذهب، ويأكل معه إذا أكل، ويحضر مجلسه إذا جلس، فكان ملازماً له صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ فذلك من أسباب كثرة حديثه؛ لأن كثيراً من الصحابة كانوا يحضرون مجالسه أحياناً ويغيبون أحياناً لجمع الأرزاق ولقضاء الحاجات، وأما أبو هريرة فإنه كان ملازماً له يأكل معه إذا أكل، ويشرب معه إذا شرب، ويسمع منه حديثه صلى الله عليه وسلم، ولذا صارت روايته بهذه الكثرة. والأمر الثاني: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. والأمر الثالث: أنه كان ممن بقي بالمدينة وعُمّر ومكث فيها مدة طويلة، وكان الناس يفدون إلى المدينة ويصدرون منها، ومن المعلوم أن المدينة يأتيها الناس بسبب إلى المسجد المبارك الذي هو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، ومن المعلوم أنه إذا كان في المدينة أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الوافد إليها سواء كان من الصحابة أو التابعين يحرص على لقاء ذلك الصحابي المقيم في المدينة، وإذا لقيه أخذ منه ما عنده من الحديث، وكل يحدث بما عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ أبو هريرة كان يحدث وغيره كان يحدثه. ومعلوم أن رواية الصحابة بعضهم عن بعض مثل رواية بعضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كلها مضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أضاف الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً سواء سمعه منه مباشرة أو من غيره، فإن ذلك الحديث مضاف إلى رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. فهذه أسباب ثلاثة تبين السبب في كون أبي هريرة كان كثير الحديث مع أنه لم يسلم إلا في السنة السابعة، ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا من تلك السنة. وهؤلاء السبعة المكثرون جمعهم السيوطي في الألفية في علوم الحديث، فقال: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس البحر كالخدري وجابر وزوجة النبي.

بيان بعض الكتب التي اعتنت بذكر عدد روايات الصحابة في الكتب الستة

بيان بعض الكتب التي اعتنت بذكر عدد روايات الصحابة في الكتب الستة وصاحب (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال) وهو الخزرجي له عناية في بيان أعداد الأحاديث لكل صحابي في الكتب الستة، ثم الإشارة إلى العدد المتفق عليه بين البخاري ومسلم والعدد الذي انفرد به البخاري والعدد الذي انفرد به مسلم، فمثل هذا يمكن أن يستفاد من كتاب الخلاصة (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال) للخزرجي وهو تلخيص لكتاب (تذهيب تهذيب الكمال) للذهبي؛ لأن كتاب (تهذيب الكمال) هو للمزي، وتفرع عنه خطان بعضهما متصل بالآخر، فـ الذهبي هذبه في كتاب سماه (تذهيب تهذيب الكمال) والحافظ ابن حجر هذبه بكتاب سماه (تهذيب تهذيب الكمال)، واختصر الحافظ كتابه بخلاصة مختصرة في كتاب سماه (تقريب تهذيب تهذيب الكمال) والخزرجي لخص كتاب الذهبي (تذهيب تهذيب الكمال) بالخلاصة المسماة (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال). ومن فوائد هذه: عنايته ببيان أعداد الأحاديث التي للصحابة في الكتب الستة، فعندما يأتي بترجمة الراوي يقول: له كذا حديث، اتفق البخاري ومسلم على كذا وانفرد البخاري بكذا ومسلم بكذا.

تكليف الشرع بالمستطاع

تكليف الشرع بالمستطاع قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، وهذه الجملة من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه دخل فيها الأمر بفعل كل مأمور به على قدر الطاقة وعلى قدر الاستطاعة، والنهي عن الإتيان أو الإقدام على كل منهي عنه مطلقاً، بدون تقييد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، وما قال: ما استطعتم، وإنما أطلق؛ لأن المناهي تروك والتروك مستطاعة، فالإنسان يستطيع ألا يفعل، وأما الأوامر فقيدت بالاستطاعة؛ لأنها تكليف بفعل مطلوب الإتيان به، فقد يستطاع وقد لا يستطاع، ولكن الإنسان يأتي به على قدر استطاعته، كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]؛ فلهذا قيد الأمر بفعل المأمورات بالاستطاعة، ولم يقيد ترك المنهيات بالاستطاعة؛ لأن تركها مستطاع، وكل يستطيع ألا يفعل، لكن ليس كل يستطيع أن يفعل؛ لأن الفعل هو تكليف وأوامر. فمثلاً: الصلاة مطلوب من الإنسان أن يأتي بها قائماً إذا كان في الفريضة، ولا يجوز ولا يصح الإتيان بها جالساً إذا كان قادراً على القيام، والإنسان مأمور بأن يصلي، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الإنسان يصلي على قدر طاقته، كما جاء في حديث عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب). وهذا من أمثلة قوله: (فأتوا منه ما استطعتم)، يعني: أن الإنسان يأتي بالعمل على قدر طاقته، كما قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، يأتي به على قدر طاقته، ولا يلزم بأن يعمل شيئاً لا يطيقه، فإنسان لا يستطيع أن يقوم لا يلزمه أن يقوم. وأما النواهي فهي التروك، والتروك مستطاعة، فإذا قيل: لا تشع بالخبر فلا تشعه، لا تزن فلا تزن لا تراب فلا تراب لا تسرق فلا تسرق لا تخن فلا تخن لا تغتب فلا تغتب فهذه كلها تروك، فإذا قيل: اترك فاترك، لأن الترك مستطاع. وأما الأمر: فهو الذي قد يستطاع وقد لا يستطاع، والإنسان يأتي به على قدر طاقته، قال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وهنا يقول عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فالإنسان مأمور أن يتوضأ، فإذا لم يجد ماءً يكفي للوضوء ولكنه يجد شيئاً يكفي للبعض، فإنه يتوضأ بالموجود ويتيمم للباقي؛ لأن هذا هو الذي يستطيعه، وكذلك الإنسان لابد أن يخرج زكاة الفطر، فمن وجبت عليه زكاة الفطر وهو يستطيع الصاع يدفع صاعاً، لكن من لم يستطع إلا نصف الصاع فيدفع نصف الصاع؛ لقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فيأتي بقدر ما يستطيعه، ولا يقال: إنه إن حصل صاعاً فإنه يفعل وإن لم يحصل إلا أقل من صاع لا يفعل؛ لأن نصف الصاع يكفي ويغني وفيه فائدة للمحتاجين. فإذا كان عنده زيادة عن حاجته بمقدار نصف الصاع وليس عنده صاع فإنه يدفع نصف الصاع، ونصف الصاع يكفي لمن هو محتاج إليه، ولمن ليس بيده شيء أصلاً، لكن الحد المطلوب والقدر المطلوب هو صاع، لكن من لا يستطيع الصاع واستطاع دونه فإنه يفعله، لكن لا يقال هذا في كل شيء، فالإنسان إذا لم يستطع أن يصوم إلا نصف النهار فهل نقول: إنه يصوم نصف النهار ويفطر النصف الآخر؟ A لا؛ لأن الصوم لا يتجزأ، وإنما له بداية وله نهاية. فالإنسان الذي يأتي به، والإنسان الذي لا يأتي به {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، ولا يقال: إن الإنسان يمكن أن يصوم بعض الوقت ويفطر في أثناء النهار؛ لأنه يستطيع أن يصوم نصف النهار ولكن لا يستطيع صيام النهار كاملاً، فليس هذا من هذا القبيل الذي يجوز؛ لأن ذلك يقبل التجزئة وهذا لا يقبل التجزئة، وإن كان الإنسان قدم مسافراً وكان مفطراً لكونه مسافراً، فقد وصل البلد وانتهى حكم السفر، فإنه يمسك البقية، ولا يجوز له أن يأكل ما دام أنه مقيم ولو كان بعض النهار الذي هو آخره؛ لأن الأكل أبيح له لعارض، فلما انتهى ذلك العارض وصار من المقيمين صار حكمه حكم المقيمين، ويلزمه أن يمسك بقية اليوم، كما أن القضاء متعين عليه؛ لأنه لم يصم ذلك اليوم، لكنه لا يأكل ولا يشرب وهو حاضر، ولو أنه كان في أول النهار من أهل الأعذار الذين لهم أن يأكلوا، لكن العذر زال فعليه أن يمسك، ولا يستفيد من هذا الإمساك شيئاً، بمعنى: أنه لا يمكن أن يغني عن الواجب، بل لابد أن يقضي يوماً مكان ذلك اليوم. وكما قلت: إن هذا مقيد بالاستطاعة، والترك لم يقيد بالاستطاعة، فهذا هو الفرق؛ لأن هذه تروك وهذه أفعال، يتضح ذلك في الأمور الحسية، والأمور المشاهدة المعاينة، فمثلاً: لو قال إنسان: لا تدخل من هذا الباب. فإنه يستطيع أن لا يدخل من هذا الباب، ولا يصعب عليه، بل يستطيع ألا يدخل، فهذا ترك وهو مستطاع، لكن لو قال له: احمل هذه الصخرة. فقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع، فهذا فعل وتكليف، وقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع حملها. فالأوامر قد تستطاع وقد لا تستطاع، والنواهي مستطاعة، ولا يقال: إنها غير مستطاعة، بل هي مستطاعة، فعلى الإنسان أن يمتثل المأمور على حسب استطاعته، وأن يترك المنهي مطلقاً.

أنواع الأوامر والنواهي

أنواع الأوامر والنواهي من الأوامر ما يكون واجباً، ومنها ما يكون مستحباً ومندوباً، فالواجب: لابد من الإتيان به، ولولم يأت به فإنه يأثم، ويستحق العقوبة، وأما المندوب: ففيه تكميل، وفيه فضل وثواب، وتكمل الفرائض بالنوافل إذا حصل فيها نقص، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت العبادة واجبة فيتعين الإتيان بها، وإذا كانت مستحبة فيستحب الإتيان بها، ومن تركها فإنه لا يأثم؛ لأن المندوب هو: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم. ويدل على ذلك الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فإن المقصود بهذا الأمر، ولكن لم يأمر به لخوف المشقة، وأما الاستحباب فإنه مأمور به وحاصل، ولكن الذي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من المشقة على أمته هو الإيجاب عند كل صلاة. فقوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، يعني: أمرتهم أمر إيجاب؛ لأن أمر الاستحباب موجود، والترغيب فيه موجود، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب). وعلى هذا فإن الأوامر منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، والواجب: يتعين الإتيان به ويأثم من تركه، والمستحب: مطلوب ومندوب للإنسان أن يفعله، وأن يأتي به وتكمل به الفرائض، والنوافل هي كالسياج للفرائض، والإنسان الذي يتساهل في النوافل قد يجره ذلك إلى التساهل في الفرائض، لكن الإنسان إذا فعل المندوبات وحرص عليها فهو على الفرائض أحرص من باب أولى، فتكون النوافل كالوقاية لها، بمعنى: أن الإنسان يكون مطمئناً إلى فعلها لحرصه على ما دونها، ويكمل النقص الذي في الفرض من النفل، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك المنهيات: ما كان منها على سبيل التحريم ويتعين تركه، ولا يجوز الإقدام عليه، ويعاقب فاعله، وما كان من قبيل المنهيات للتنزيه فيكون تركها أولى من فعلها، ولا شك أن هذا هو الأولى وهو الأفضل، ولكنه لو فعل ذلك لم يكن فعل أمراً محرماً، وإنما فعل أمراً جائزاً، فهو يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها، فالمكروه كراهة تنزيه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله؛ لأنه جائز. فإذاً: الأوامر منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، والمكروهات منها ما هو محرم لا يسوغ الإتيان به، ومنها ما جاء ما يدل على أنه للتحريم، وأن عدم فعله هو الأولى، مثل: الشرب عن قيام، فقد جاء النهي عن الشرب عن قيام، ولكنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وكذلك جاء عن أصحابه الكرام مثل علي رضي الله عنه، فهذا يدل على أن شرب الإنسان جالساً هو المطلوب والذي ينبغي، وأن الإنسان لو شرب قائماً فإن ذلك سائغ وليس بحرام.

كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء سبب من أسباب هلاك الأمم السابقة

كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء سبب من أسباب هلاك الأمم السابقة ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أسباب هلاك الأمم السابقة: كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء، فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، والمراد بكثرة المسائل: المسائل التي تكون من غير حاجة، والتي تكون تعنتاً، أو يكون ما فيها قد يترتب عليه في زمن النبوة أن يحرم شيئاً بسبب تلك المسألة، أو يوجب شيئاً يكون فيه مشقة كبيرة. وحديث أبي هريرة هذا جاء ذكر سبب له في صحيح مسلم وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، فغضب وقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم). فهذا الحديث في صحيح مسلم يبين سبب الحديث، وأن الأسئلة التي تكون من هذا القبيل هي المنهي عنها وهي الممنوع منها، وهي التي كانت من أسباب هلاك الأمم السابقة، وكذلك جاء في الحديث: (إن أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، يعني: الأسئلة التي يترتب عليها مضرة في زمن النبوة؛ لأن الزمن زمن تشريع، فقد يوجب ما فيه مشقة، وقد يحرم ما فيه مصلحة ومنفعة وفائدة؛ فلهذا ذمت الأسئلة التي فيها تكلف وتشديد، فالأسئلة التي يترتب عليها تشديد على هذه الأمة مذمومة، والرسول صلى الله عليه وسلم حرمها، وبين أن تلك من أسباب هلاك الأمم السابقة. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أفي كل عام؟)، يعني: هل أحج كل عام؟ ولو فرض الحج في كل عام لما استطاع الناس أن يحجوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كيف سيستطيعون أن يحجوا؟ وكيف سيسعهم المكان إذا كان واجباً عليهم جميعاً؟ فهذا فيه صعوبة شديدة، ومشقة عظيمة، ولا يستطاع؛ ولهذا قال: (فأتوا منه ما استطعتم)، ونهى عليه الصلاة والسلام عن مثل هذه الأسئلة، وغضب لذلك، وأخبر أن من أسباب هلاك الأمم السابقة ما كان مثل ذلك. وقد جاء في الشريعة أمثلة من أسئلة الأمم السابقة والأشياء التي يسألون عنها وفيها تكلف وتعسف، منها ما قاله عز وجل في القرآن عن أهل الكتاب: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]. فهذا من الأسئلة التي فيها تعنت، وتكلف، ومن الإتيان بأمور لا يصلح أن يسأل عنها أو يتشاغل بها. وكذلك قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها، فكان يجزيهم أن يأخذوا أي بقرة فيذبحوها، ثم يضربوا بلحمها على القتيل الذي قتل، ولكنهم سألوا أسئلة متعددة، وتعنتوا وشددوا فشدد الله عليهم، وكان يكفيهم أي بقرة، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، أي بقرة، لكنهم سألوا عن سنها ولونها وصفاتها، وبعد ذلك صاروا إلى نوع معين بعد تلك الأسئلة المتكلفة، فشددوا فشدد الله عليهم. فهذا من جملة ما أثر وما جاء عن الأمم السابقة من التكلف، ومن الأسئلة التي كانت من أسباب هلاكهم، وحذرت هذه الأمة أن تفعل مثلما فعلوا. ثم إن المسائل منها ما يكون الإنسان بحاجة إليه، كمعرفة الأمور التي لابد منها، كمعرفة كيف يتوضأ، وكيف يصلي، وكيف يزكي إذا كان عنده مال، وكيف يصوم، حيث إن هذه الأمور مطلوب أن يسأل عنها. وأما إذا سئل عن أسئلة فيها تكلف، أو أمور مغيبة، مثل Q متى تقوم الساعة؟ وعن عمر الدنيا: كم مقدار عمرها؟ وعن الأشياء التي هي أمور مغيبة لا يعلمها إلا الله عز وجل، أو السؤال عن كيفيات أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها، مثل الذي سأل مالكاً عن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فمثل هذه الأسئلة لا يجوز السؤال عنها، بل على الإنسان أن يسأل عما يحتاج إليه في أمور دينه، ثم عن أمور يحتاج الإنسان إليها في أعماله اليومية وباستمرار، أما أن يسأل عن أمور خيالية أو نادرة الوقوع، أو لا يتصور وقوعها، فإن ذلك شغل وقت في غير طائل، ومن التكلف غير المحمود.

فوائد من حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)

فوائد من حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) هذا الحديث حديث عظيم، وقد كتبت عليه بعض الفوائد فنقرؤها:

معنى قول المحدثين والمخرجين: (متفق عليه)

معنى قول المحدثين والمخرجين: (متفق عليه) الفائدة الأولى: قول المحدثين والمخرجين للأحاديث: رواه البخاري ومسلم، المقصود من ذلك: الاتفاق على المعنى، ولا يلزم أن يكون الاتفاق في الألفاظ؛ ولهذا بعض العلماء يقول: رواه فلان وفلان واللفظ لفلان. وهذا هو الذي فيه بيان أن اللفظ لفلان، ولكن الثاني موافق له في المعنى. وهذا الحديث بهذا اللفظ هو من أفراد مسلم؛ لأن الحديث عند غير مسلم برواية أخرى بلفظ: (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه). هذا اللفظ هو التي تعددت به الروايات، فجاءت هذه الرواية عند البخاري وكذلك عند مسلم، ولكنه جاء في بعض الطرق عند مسلم في كتاب (الفضائل) بهذا اللفظ: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم). إذاً: إذا قيل: رواه البخاري ومسلم، فمعنى ذلك: أنهما اتفقا على المعنى، ولا يلزم أن الألفاظ متفق عليها، ولا يلزم أنهما اتفقا على التقديم والتأخير، أو على الهيئة التي هي موجودة، بل قد يكون هناك تقديم وتأخير، مثل هذا الحديث، فإنه عند البخاري بلفظ فيه تقديم وتأخير، وعند مسلم أيضاً بخلاف هذه الصورة، ولكنه أيضاً جاء بهذه الصيغة. فالإمام النووي رحمه الله أتى بها من صحيح مسلم، وعنده صيغة أخرى وعند البخاري أيضاً صيغة أخرى ليست مثل هذه الصيغة، التي هي تقديم هذه الجملة الكلية الجامعة التي فيها: امتثال كل ما هو مأمور على قدر الاستطاعة، والانتهاء عن كل منهي مطلقاً بدون تقييد، وكان الأولى في هذه الحال أن يقول: واللفظ لفلان. إذاً: اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث، وهو بهذا اللفظ عند مسلم في كتاب (الفضائل)، وقد جاء بيان سبب الحديث عنده في كتاب (الحج)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه).

تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة

تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة الفائدة الثانية: قوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فيه تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة دون النهي، وذلك أن النهي من باب التروك وهي مستطاعة، فالإنسان مستطيع ألا يفعل، وأما الأمر: فقد قيد بالاستطاعة؛ لأنه تكليف بفعل، فقد يستطاع ذلك الفعل وقد لا يستطاع، فالمأمور يأتي الإنسان به حسب استطاعته. فمثلاً: نهي عن شرب الخمر، والمنهي مستطيع لعدم شربها. والصلاة مأمور بها، وهو يصليها على حسب استطاعته عن قيام وإلا فعن جلوس، وإلا فمضطجع، ومما يوضحه في الحسيات ما لو قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب؟ فإنه مستطيع ألا يدخل؛ لأنه ترك، ولو قيل له: احمل هذه الصخرة؟ فقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع؛ لأنه فعل.

ضابط فعل المأمورات وترك المنهيات

ضابط فعل المأمورات وترك المنهيات الفائدة الثالثة: ترك المنهيات باقٍ على عمومه، ولا يستثنى منه إلا ما تدعو الضرورة إليه، كأكل الميتة لحفظ النفس، ودفع الغصة بشرب قليل من الخمر. الفائدة الرابعة: النهي الذي يجب اجتنابه ما كان للتحريم، وما كان للكراهة فيجوز فعله، وتركه أولى من فعله. الفائدة الخامسة: المأمور به يأتي به المكلف على قدر طاقته؛ لقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فإذا كان لا يستطيع الإتيان بالفعل على الهيئة الكاملة أتى به على ما دونها، فإذا لم يستطع أن يصلي قائماً صلى جالساً، وإذا لم يستطع الإتيان بالواجب كاملاً أتى بما يقدر عليه منه، فإذا لم يكن عنده من الماء ما يكفي للوضوء توضأ بما عنده وتيمم للباقي، وإذا لم يستطع إخراج صاع لزكاة الفطر وقدر على إخراج بعضه أخرجه.

بيان نوع المسائل المنهي عنها

بيان نوع المسائل المنهي عنها الفائدة السادسة: قوله: (فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)، المنهي عنه في الحديث: ما كان من المسائل في زمنه يترتب عليه تحريم شيء على الناس بسبب هذا السؤال، وما يترتب عليه إيجاب شيء فيه مشقة كبيرة وقد لا يستطاع، كالحج في كل عام. والمنهي عنه بعذر ما كان فيه تكلف وتنطع واشتغال به عما هو أهم منه. يعني: ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم مما قد يترتب عليه إيجاب ما فيه مشقة أو تحريم أمر فيه مصلحة ومنفعة هذا خاص بزمن النبوة؛ لأنه زمن تشريع، وأما بعد ذلك فالسؤال الذي فيه تكلف وتنطع هو السؤال عن أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها، مثل: قيام الساعة، وعمر الدنيا، ومتى تنتهي؟ وكذلك: السؤال عن كيفيات الصفات، وكيف اتصف الله تعالى بها؟ وغير ذلك من أمور الغيب التي لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي، فهذه لا يسأل عنها، أو يشتغل بأشياء نادرة الوقوع، وأشياء ليس الإنسان بحاجة إليها، ثم يتشاغل بها عما هو أهم منها، هذا هو الذي يمنع منه.

أنواع الناس في الاشتغال بالمسائل

أنواع الناس في الاشتغال بالمسائل الفائدة السابعة: قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساماً: فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل، حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه. ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها؛ ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات والجدال عليه حتى يتولد من ذلك انفراق القلوب، ويستقر بها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيراً بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه. وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان بأنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة، والزهد، والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، إنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال، وكلام الإمام أحمد كثيراً إذا سئل عن شيء من المسائل المولدة أو المولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة. إلى أن قال: ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولابد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كـ الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقتهم وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به. وملاك الأمر كله: أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28] ومن الراسخين في العلم. يقصد رحمه الله بهذا: أن الإنسان عليه أن يشتغل بالكتاب والسنة والتفقه فيها بمعرفة ما جاء به القرآن من الأمور العامة والخاصة، وكذلك السنة ومعرفة ما يصح وما لا يصح، وكذلك معرفة القواعد التي تستنبط من الكتاب والسنة، لأن النوازل والأشياء التي تجب إنما تعرف بهذا الطريق؛ لأن الحوادث لا نهاية لها، وتستجد في كل وقت وحين مسائل، ولكن حلها موجود في الكتاب والسنة، وذلك بالقواعد العامة، وبالجمل الكلية، والقياس وما إلى ذلك؛ لأنه ليس كل أمر يحدث لابد أن يكون فيه نص؛ لأن النصوص استقرت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الإنسان الذي يشتغل بالقرآن ومعرفة ما فيه، وكذلك يشتغل بالسنة وما فيها من القواعد والكليات والأصول الجامعة حين تستجد المسائل يبحث عن حلها في هذه الأمور الكلية العامة؛ لأنه ليس في كل مسألة نص، ولا يمكن أن يكون الأمر كذلك. فمثلاً: الدخان الآن من الأشياء التي استجدت، فحصلت في أزمنة قريبة، وعرف العلماء حرمته، واستنبطوا حرمته من نصوص الكتاب والسنة، فأخذوها من قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]؛ لأن فيه قتلاً للنفس؛ فإن الإنسان يهلك نفسه باستعماله، وكذلك أيضاً أخذوه من أن فيه إضاعة مال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، وأيضاً أخذوه من كون النبي صلى الله عليه وسلم يحل الطيبات ويحرم الخبائث، وليس هو من الطيبات، إذاً هو من الخبائث، وأخذوه أيضاً من النهي عن أكل الثوم والبصل، وأن ذلك يؤذي الناس ويؤذي الملائكة، ومعلوم أن الدخان أشد من ذلك، فهذه المسألة من المسائل التي جدت، ومع ذلك يوجد في عمومات نصوص الكتاب والسنة بيان حكمها، وأنها لا تسوغ ولا تجوز مع أنها ما وجدت إلا في الأزمنة المتأخرة. فكلام ابن رجب رحمه الله يبين أنه بسلوك هذا المسلك تتضح المسائل، ثم أيضاً الإنسان عندما يسلك هذا المسلك لا يفعل ذلك استقلالاً دون أن يرجع إلى كلام العلماء، ودون أن يرجع إلى من سبقه، بل الإنسان يرجع إلى أهل العلم، ويستفيد من علمهم، ولا يقل: هم رجال ونحن رجال، فنأخذ بكذا وإن لم نرجع إلى كلامهم، فهذا غلط، فالناس بالنسبة للعلماء بين طرفي نقيض ووسط: طرف يقول: هم رجال ونحن رجال، وهذا جفاء. وطرف يتعصب ويتابع رجلاً معيناً في المسائل المختلفة، وإذا عرض عليه أو ذكر له الدليل بخلاف قوله: لو كان هذا صحيحاً ما خفي على فلان! وقد مر بنا كلام ابن حجر رحمه الله عند مسألة مناظرة عمر رضي الله عنه لـ أبي بكر، وأنه لم يكن عند أبي بكر وعمر -وهما من كبار الصحابة- الحديث الذي فيه ذكر الصلاة والزكاة مع الشهادتين في المقاتلة، وكان عند ابن عمر وعند أبي هريرة، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت إذا وجدت سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفي هذا على فلان؟ فإذاً: هناك طرف فيه جفاء وطرف فيه تعصب، والحق وسط بين هذا وهذا، فيرجع إلى كلام العلماء ويستفاد من علمهم، ويعرف وجه الاستدلال، وأنه قد يكون في المسألة دليل ذكروه عن طريق القياس أو عن طريق الاستنباط أو عن طريق الإلحاق بقاعدة كلية، فالإنسان لايتنبه لذلك إلا إذا رجع إلى كلامهم، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب (الروح) كلاماً جميلاً قال فيه: إن العلماء يجب توقيرهم وتعظيمهم والاستفادة من علمهم، وعندما لا يوجد الدليل الواضح في المسألة يرجع إلى كلامهم وإلى استنباطهم، وإلى مآخذهم، فقد يتبين له من كلامهم ما ينير له الطريق وما يتبصر به، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: مثل الإنسان إذا كان في الفلاة وهو لا يعرف جهة القبلة فإنه يستدل لذلك بجهة النجوم، مطالعها ومغاربها، فيعرف أين اتجاه القبلة بالنظر في النجوم، وأما إذا كان عند الكعبة وصار تحتها والقبلة أمامه فإنه لا ينظر في السماء ليبحث عن القبلة؛ لأن القبلة أمامه. فإذاً: الإنسان إذا خفي عليه الدليل وصار ليس واضحاً، والحكم ليس واضحاً؛ فلاشك أن الرجوع للعلماء فيه تمكين له بأن يعرف الحق في ذلك، فكلام ابن رجب رحمه الله هو من هذا القبيل، ومعناه: أن الإنسان يشتغل بتفهم القرآن والحديث، ويرجع إلى كلام العلماء ويستفيد منهم. قال ابن رجب: وفي الجملة فمن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهى عما نهى عنه وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن خالف ذلك واشتغل بخاطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم.

خلاصة الفوائد المأخوذة من حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)

خلاصة الفوائد المأخوذة من حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) إذاً: يستفاد من الحديث: 1 - وجوب ترك كل ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - وجوب الإتيان بكل ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. 3 - التحذير من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب مما كان سبباً في هلاكهم. 4 - أنه لا يجب على الإنسان أكثر مما يستطيع. 5 - أن من عجز عن بعض المأمور يكفيه أن يأتي بما قدر عليه منها. 6 - الاقتصار في المسائل عما يحتاج إليه، وترك التنطع والتكلف في المسائل. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

كراهة الاشتغال بالمسائل الافتراضية

كراهة الاشتغال بالمسائل الافتراضية Q هل يدخل تحت المسائل المذكورة في الحديث المسائل الافتراضية، مثل أن يقول القائل: لو افترضنا كذا، مع أن ذلك لم يحصل بعد؟ A نعم يدخل؛ لأن في هذا انشغالاً عن شيء أهم منه، لكن إذا كان بعض العلماء ذكر شيئاً من هذا حتى يعين من وقع له ذلك ويجد حلاً فلا بأس بذلك، لكن كون الإنسان يتشاغل به عما هو أهم منه وما هو أولى منه لاشك أن هذا غير سائغ.

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في التشريع

اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في التشريع Q قال ابن دقيق العيد: قوله: (لو قلت: نعم لوجبت) دليل للمذهب الصحيح في أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، وأنه لا يشترط في حكمه أن يكون بوحي، فما معنى كلامه؟ A هذا غير واضح، بل الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يأتي به هو عن وحي، لكن كما هو معلوم أنه يقول: وجبت بإيحاء من الله عز وجل، ومن المعلوم أن الوحي كان يأتيه بسرعة، وليس معناه أنه يحتاج إلى وقت، ولهذا جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء، ثم إنه قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً) يعني: أنه جاء جبريل وقال له: إلا الدين، وجبريل جاء بهذا من عند الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فالتشريع ليس من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من عند الله سبحانه وتعالى.

وقت إسلام أبي هريرة رضي الله عنه وصحبته

وقت إسلام أبي هريرة رضي الله عنه وصحبته Q ذكر بعض العلماء أن إسلام أبي هريرة رضي الله عنه كان قديماً عند دعوة الطفيل بن عمرو لقومه، وإنما هاجر إلى المدينة في السنة السابعة، فهل هذا صحيح؟ A لا أدري عن قضية إسلامه من قبل، ولكنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة السابعة، والذي ذكرته من ناحية أخذه للحديث ما كان أخذه إلا من السنة السابعة وما بعدها، وأما كونه أسلم قديماً وإنما جاء في السنة السابعة للهجرة بعد إسلامه فلا أدري.

حكم الصلاة في أوقات النهي

حكم الصلاة في أوقات النهي Q هل هذا الحديث يكون مرجحاً لقول من يقول بعدم جواز أي صلاة في أوقات النهي عن الصلاة، فإن النهي مقدم على الأمر، وقد أمرنا بترك واجتناب كل ما نهينا عنه من غير تقسيم، أما الأمر ففيه على حسب الاستطاعة، ومن عدم الاستطاعة الإتيان بالصلاة في أوقات النهي؟ A الشيء الذي ليس له سبب هذا أمره واضح، ولا إشكال فيه، وليس داخلاً تحت النهي، وأما الشيء الذي له سبب فهذا هو الذي خرج من النهي، ومن الأشياء ما هو واضح ومستثنى ومنها ما فيه خلاف، مثل تحية المسجد؛ فإن فيها خلافاً هل يجب الإتيان بها أم لا؟ لعموم قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) أو أنها لا تفعل أخذاً بعموم قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، فالأمور التي ليس لها سبب هذه أمرها واضح، فلا يجوز للإنسان أن يفعلها في أوقات النهي، لكن كونه يفعل شيئاً له سبب -يعني: جاء ما يدل عليه- فلا بأس، مثل ركعتي الفجر، فقد جاء نص أن الإنسان يقضيها، وجاء كذلك أيضاً أن الفوائت تقضى في أي وقت، ومثل ذلك صلاة الكسوف تصلى إذا جاءت في أي وقت، والجنازة أيضاً يؤتى بها فيصلى عليها في أي وقت.

ضرر كثرة المسائل

ضرر كثرة المسائل Q كون كثرة المسائل من المهلكات، هل هو مقيد بحياة النبي صلى الله عليه وسلم أو مستمر إلى ما بعد وفاته؟ A من ناحية حصول أضرار ليس مقيداً بزمنه صلى الله عليه وسلم. ثم أيضاً هذه الأمة كما هو معلوم لا تهلك كما هلكت الأمم السابقة، وإنما هذه الأمة الله تعالى أبقاها وجعلها تستمر إلى قيام الساعة، لكن قد يحصل من أحد مخالفة في شيء فيناله ما يناله من الضرر، ويحصل له ما يحصل له من العقوبة في الدنيا.

التدرج في تحريم الخمر

التدرج في تحريم الخمر Q هل بين هذا الحديث وبين قضية تحريم الخمر تعارض؛ من حيث إن الخمر كان فيها تدرج، ولم يُنه عنها مرة واحدة، فتكون داخلة في قوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)؟ A هذا كان في أول الأمر، فقد تدرج بهم وما أعطاهم الأمر النهائي في أول مرة وإنما أعطاهم الأمر شيئاً فشيئاً؛ لأنهم ألفوا هذا الشيء، فحصل التدرج به، وجاء في الآخر: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] الذي هو قاضٍ على كل خمر؛ بحيث لا يجوز قربها في أي حال من الأحوال.

إمساك المسافر عن الطعام إذا قدم من سفره

إمساك المسافر عن الطعام إذا قدم من سفره Q إذا أمر القادم من السفر أن يمسك بقية اليوم يكون قد كلف وقتاً زائداً عن الوقت الشرعي المطلوب، وهذا مفتقر إلى دليل، فأفيدونا مأجورين؟ A معلوم أن الإنسان الحاضر ليس له أن يأكل ويشرب، وإنما أبيح له ذلك في السفر، وإذا حضر البلد فإنه يتعين عليه أن يمسك، وأن يكون حكمه حكم المقيمين وإن كان يلزمه القضاء، بل لو لم يكن مسافراً، يعني: لو أن إنساناً ما علم الشهر إلا بعد طلوع الفجر فإنه يجب عليه أن يمسك وأن يقضي، وقد ورد ما يدل على ذلك.

ذكر الخلاف في كون الأمر يحمل على الفور أو على التراخي

ذكر الخلاف في كون الأمر يحمل على الفور أو على التراخي Q ذكر ابن دقيق العيد في شرحه أن الحديث فيه مطلق الأمر، فهل يحمل على الفور أم على التراخي؟ ومن أين أخذ هذا؟ A قضية الأمر كونه على الفور أو على التراخي مأخوذ من نفس الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا)، فالأصل أن الإنسان يبادر إلا إذا وجد ما يدل على التراخي؛ لأن الأمر إذا جاء فمطلوب من الإنسان أن يبادر إليه، ولكن بعض أهل العلم قال: إنه على التراخي، وفهم ذلك من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج في السنة التاسعة، وإنما أمر أبا بكر أن يحج بالناس، ولكن قال أهل العلم الذين قالوا بأنه على الفور: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن تكون تلك السنة يطهر فيها البيت من الأمور المنكرة التي كانت موجودة في الجاهلية والتي كانوا يفعلونها، ككونهم كانوا يطوفون عراة، وكان يحج المشركون، ولهذا أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون تلك السنة فيها إبلاغ الناس بحيث لا يحصل بعد هذا العام شيء من هذه الأمور المحرمة، ولهذا حج عليه الصلاة والسلام في السنة العاشرة.

عدم اقتضاء الأمر للتكرار

عدم اقتضاء الأمر للتكرار Q هل الأمر يقتضي التكرار؟ A لا يقضى التكرار إلا إذا وجد شيء يدل عليه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) هذا الأمر يفهم منه أنه لا يلزم إلا حجة واحدة، وليس فيه أن الحج كل سنة، ولهذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال الذي فيه التكرار.

الزكاة على أموال الجمعيات الفردية

الزكاة على أموال الجمعيات الفردية Q نحن مجموعة في عمل واحد، أقمنا جمعية، كل سهم قيمته ثلاثة آلاف ريال، ويستطيع الشخص أن يدفع ربع سهم أو نصف سهم، وبعد ستة أشهر يستطيع أن يقترض من الصندوق على حسب سهمه، فلو اقترض عشرة آلاف ريال يرد كل شهر ألف ريال، ولو اقترض خمسة عشر ألف ريال يرد ألف وخمسمائة ريال كل شهر، وله الحق أن يسترد كامل مبلغه إذا أراد الخروج من الجمعية على أن يمهلهم عدة أشهر حتى يستطيعوا أن يجمعوا المبلغ، فهل على هذه الجمعية زكاة، وهل تدخل في نص: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) علماً بأن هذا المبلغ لا يتاجر به أبداً؟ A أما الزكاة ففي مال هذه الجمعية؛ لأنه مال، وصاحبه محتفظ به، وذمته وما خرج عن ملكه وإنما هو كالمودع ثم يرجع إليه، فكل واحد سيرجع إليه ماله فهو في ملكه، أما إذا كان تبرع به، ووضع لمن يحتاج إليه، وقد خرج من ملك صاحبه فهذا ليس فيه زكاة؛ لأنه ليس مملوكاً له حتى يزكيه، وأما مادام أنه مودع وأنه قد يحتاج هو وقد يحتاج غيره فهذا باقٍ في ملكه؛ لأن هذا المبلغ داخل في ملكه، سواء استدانه غيره أو رجع إليه فهو باقٍ في ملكه، فمادام أنه أعطاهم هذا المبلغ فهو محتفظ بملكه إياه، وما أعطاهم إياه على سبيل التبرع، أما إذا كان أعطاهم على سبيل التبرع وأن من يحتاج يأخذ من هذا الصندوق، مثلما تفعله بعض القبائل وبعض الجهات عندما يتفقون على أن كل واحد يدفع في كل شهر أو سنة مقداراً من المال، وأنه إذا حصلت نكبة لأحد من الأفراد يأخذ من ذلك الصندوق، وكل واحد منهم خرج هذا المبلغ من ملكه متبرعاً به، فهذا أمره واضح ليس فيه إشكال. وأما قضية كونه قرضاً جر نفعاً فلا يظهر لي فيه شيء، وما أستطيع أقول فيه شيئاً.

حكم الشرب قائما

حكم الشرب قائماً Q قولكم حفظكم الله: إن شرب الماء قائماً مكروه، لكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه أنهم شربوا وهم قائمون، فما توجيه ذلك؟ A كونهم شربوا قائمين هذا يدل على أن النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم شرب قائماً من زمزم، وعلي رضي الله عنه شرب وهو قائم، وقال: إنما أردت أن تعلموا أن هذا شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدل على أن النهي للتنزيه وليس للتحريم، وأن الشرب قياماً جائز، ولكن كونه مع الجلوس أولى.

حكم السؤال عن حال الإنسان

حكم السؤال عن حال الإنسان Q السؤال عن الأشخاص حال فلان وحال فلان، هل هذا داخل في الحديث؟ A إذا كان يسأل عن حال إنسان لأنه يريد أن يتعامل معه أو يتصاهر معه أو ما إلى ذلك فهذا ليس فيه إشكال، وهو أمر سائغ، وأما إذا كان لغير مصلحة ولغير فائدة أو لتجميع نقائص أو معايب أو ما إلى ذلك فهذا لكل امرئ ما نوى.

حكم التقيد والالتزام بمذهب معين

حكم التقيد والالتزام بمذهب معين Q الحافظ ابن رجب له رسالة اسمها: (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة)، وفيها تحريم الخروج عن المذاهب الأربعة، فما قولكم؟ A هذا خطأ وليس بصحيح، فمعلوم أن أبا حنيفة رحمة الله عليه -وهو أول الأئمة الأربعة- ولد سنة (80هـ) فقبل سنة (80هـ) كيف كان الناس؟ فالواجب أن يكون الناس بعد سنة (80هـ) مثلما كانوا قبل سنة (80هـ)، والذي عنده معرفة بالدليل لا يجوز له أن يقلد أحداً، والذي لا يستطيع عليه أن يسأل أهل العلم ومن يثق بعلمه ودينه ويأخذ بفتواه، وإذا لم يجد أحداً يفتيه فله أن يتعلم مذهباً من المذاهب الأربعة ويتعبد الله به، والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، أما كون أي إنسان يلزم بأن يكون تابعاً فهذا غير صحيح، وكثير من العلماء من بعد الأئمة الأربعة وفيهم من هو من أتباع الأئمة الأربعة وممن تفقهوا في مذاهب الأئمة الأربعة كانوا إذا جاءت إليهم مسائل يقولون: الحق فيها كذا وإن كان المذهب على كذا، يعني: هم أنفسهم تفقهوا في مذهب معين، ومع ذلك إذا وجدوا الدليل خارج المذهب فإنهم يتركون المذهب ويتبعون الدليل، وهذا فيه نقول متعددة موجودة في الفتح، وأنا ذكرت جملة منها في الرد على الرفاعي والبوطي فيما يتعلق ببعض الأمور التي أنكروها على أهل السنة وعابوا بها أهل السنة، ومنها ما يتعلق بالمذاهب، وقد نقلت نقولاً عن المالكية، والحنفية، والشافعية، وأصحاب المذاهب التي تبين أن المعول عليه هو الدليل. ثم أيضاً هذا العمل فيه أخذاً بوصايا الأئمة؛ لأن كل واحد من الأئمة كان يوصي بأنه إذا وجد الدليل فإنه يترك قوله ويصار إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

الترك أو الفعل بالتدرج

الترك أو الفعل بالتدرج Q قد يقول قائل: إني لا أستطيع أن أترك هذا الفعل المحرم، فهل يجوز له التدرج في ترك هذا الشيء، مثل من أدمن شرب الدخان أو الخمر أو نحو ذلك؟ A الواجب عليه أن يتركه ابتداءً، وإذا لم يتمكن فلاشك أن كونه يسعى إلى تركه بالتدريج أولى من أن يقال له: إنك إذا كنت لا تستطيع تركه جملة فيمكن أن تبقى على ما أنت عليه، بل إذا ما أمكن الإنسان أن يأتي به بالتدريج فعليه أن يأتي به بالتدريح، لكن الواجب عليه أن يفعل المأمور ويترك المنهي في أول وهلة. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

[17]

شرح الأربعين النووية [17] إن الله تعالى طيب لا يقبل من الأعمال والأقوال إلا ما كان طيباً، وقد أمر الله تعالى المرسلين والمؤمنين جميعاً بأن تكون مكاسبهم كلها طيبة حلالاً؛ لأن المكاسب الخبيثة المحرمة لها عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أنها سبب من أسباب عدم قبول الدعاء والعياذ بالله. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتحري في جميع الأمور، والأخذ بما تطمئن إليه النفس وما لا ريبة فيه، وترك ما فيه شبهة وريبة، كما ذكر أن من حسن إسلام المرء أن يترك الأمور التي لا تعنيه، وأن ينشغل بما يعنيه وينفعه في دنياه وأخراه.

شرح حديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)

شرح حديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!). هذا حديث عظيم بين فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عظم شأن المكاسب الطيبة، وخطورة المكاسب الرديئة الخبيثة المحرمة، وأن المكاسب الطيبة مأمور بها، وفي الإتيان بها الخير والسلامة والعافية، وأن أكل الحرام فيه الضرر الكبير والخطر العظيم؛ حيث يكون ذلك مانعاً من قبول دعاء الداعي.

دلالة أسماء الله على صفاته تعالى

دلالة أسماء الله على صفاته تعالى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، يدل على أن الطيب من أسماء الله، ومعناه مثل القدوس، أي: المنزه عن كل نقص وعيب، فهو في غاية الكمال سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن أسماء الله عز وجل كلها مشتقة وليس فيها اسم جامد، وهي تدل على معاني هي الصفات، فالطيب يدل على الطيب، والجميل يدل على الجمال، والحكيم يدل على الحكمة، واللطيف يدل على اللطف، والعزيز يدل على العزة، والقوي على القوة، والحكيم على الحكمة، والسميع على السمع، والبصير على البصر وهكذا، فكل اسم تشتق منه صفة، ولا يشتق من كل صفة اسم، وهناك صفات ذاتية مثل اليد والوجه لا يؤخذ منها أسماء، وصفات فعلية مثل الكيد والمكر ولا يؤخذ منها أسماء، ولكن كل اسم يؤخذ منه صفة؛ لأن أسماء الله عز وجل كلها مشتقة، ولهذا فإن الدهر ليس من أسماء الله، وقد نقل عن ابن حزم أنه قال: إنه من أسماء الله، وهذا غير صحيح؛ لأن الدهر اسم جامد وليس مشتقاً، والحديث الذي جاء فيه: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، وهو لا يدل على أن الدهر من أسماء الله، والدهر هو الزمان، وهو مقلّب، والله تعالى هو الذي يقلبه، فليس من أسماء الله؛ لأنه اسم جامد، وأسماء الله كلها مشتقة تدل على معاني هي الصفات.

لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان طيبا

لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان طيباً كما أنه تعالى طيب في ذاته وصفاته وأفعاله فهو لا يقبل إلا طيباً، أي: لا يقبل من الأعمال والمكاسب إلا طيباً، ومن المعلوم أن الإنسان لو تصدق من مال حرام فإن ذلك لا ينفعه، وهو داخل تحت هذه الجملة العامة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا يقبل إلا طيباً)، وما كان حراماً فإنه غير مقبول عند الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، فكل كسب حرام يتصدق منه الإنسان فإن ذلك لا ينفعه ولا يقبله الله سبحانه وتعالى، لكنه إذا فعل العبادة بمال حرام؛ كأن حج بمال حرام، أو صلى في ثوب مغصوب، أو في ثوب حرير يحرم على الإنسان لبسه؛ فإن الحج يصح، وهو آثم على استعمال الحرام في حجه وفي غير حجه، وكذلك الصلاة تصح، وهو آثم على الغصب وعلى لبس الحرير إذا كان رجلاً.

أمر الله تعالى للرسل وللمؤمنين بأكل الطيبات

أمر الله تعالى للرسل وللمؤمنين بأكل الطيبات قوله: (وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال -أي: في حق المرسلين-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51])، فأمرهم بأن يأكلوا من الطيبات، وهو كل ما كان حلالاً مباحاً، (وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]) فالله تعالى أمر باستعمال الطيب وبأكل الطيب، وهذا الأمر للرسل وللمؤمنين. ومن المعلوم أن الرسل لا يحصل منهم الأكل إلا مما كان طيباً، وعلى المؤمنين أن يتبعوا الرسل فلا يأكلوا إلا ما كان طيباً، إذ الرسل أمروا بأن يأكلوا من الطيبات وهم لا يأكلون إلا الطيبات، والمؤمنون أمروا كذلك بما أمر به المرسلون، وعليهم أن يتبعوا المرسلين، وأن يقتدوا بهم في أنهم لا يأكلون إلا الطيب، وأن لا يأكلوا الحرام، وقد ذكر الله عز وجل من صفات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل: أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين من الأكل من الطيبات؛ لأنه ذكر أنه تعالى طيب ولا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر أنه أمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات.

أكل الحرام من أسباب عدم قبول الدعاء

أكل الحرام من أسباب عدم قبول الدعاء ذكر الله تعالى أن من لا يمتثل ولا يحصل منه الانقياد لما أمر به من الأكل من الطيبات، وإنما يأكل من المال الحرام الذي هو خبيث وغير طيب، ذكر أن من كان كذلك فإنه يعمل على أن لا يقبل دعاؤه، وأخذ بالأسباب التي تمنع من قبول الدعاء، ومنها: كون الإنسان يأكل الحرام، قال: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)، أي: أن الأكل من الطيبات ينفع صاحبه، فإذا دعا وهو يأكل الطيبات؛ فإنه يكون قد ابتعد عن مانع من موانع قبول الدعاء وهو أكل الحرام، لكن هناك أمور أخرى تمنع من قبول الدعاء، مثل كون الإنسان يدعو وقلبه غافل، أو يستبطئ الإجابة، ويقول: دعوت ودعوت ولم يستجب لي! كل هذا من أسباب عدم قبول الدعاء، لكن الذي ورد في الحديث: أن من أسباب عدم قبول الدعاء كون الإنسان يأكل الحرام. والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذا الرجل الذي ضرب به المثل أنه لا يقبل دعاؤه؛ وذلك لأنه اكتسب الحرام وكان مأكله ومشربه حراماً مع أنه وجد منه عدة أسباب من أسباب قبول الدعاء، ومع ذلك فإن الأكل من الحرام صار صارفاً ومانعاً من القبول.

أسباب قبول الدعاء

أسباب قبول الدعاء اشتمل الحديث على خمسة أمور من أسباب قبول الدعاء: الأمر الأول: السفر: وهذا الرجل الذي ضرب به المثل مسافر، وسفره طويل أيضاً؛ لأنه قال: (يطيل السفر)، وقد جاء في الحديث ذكر المسافر ضمن أشخاص تستجاب دعوتهم، وإذا كان المسافر مطيلاً للسفر، وفي غربة ووحشة لبعده عن أهله، وقلبه منكسر، وعنده هم وغم لبعده عنهم؛ فقد جاء ما يدل على أنه ممن يقبل ويستجاب دعاؤه. الأمر الثاني: أشعث أغبر: وقد جاء في الحديث عن أهل عرفة أن الله تعالى يباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً). الأمر الثالث: رفع اليدين بالدعاء: فإنه قال: (يمد يديه إلى السماء)، أي: إلى الله عز وجل، وفي هذا بيان أن الله تعالى في العلو، والمقصود بالسماء العلو، والله تعالى فوق العرش، وهو في العلو وليس في داخل السماوات؛ لأن السماوات مخلوقة لله عز وجل، وهي ضئيلة أمام عظمة الله عز وجل، فلا يكون في داخل السماوات أو الأرضين؛ بل هو فوق العرش سبحانه وتعالى، فالمراد بالسماء هنا: العلو، كما قال الله عز وجل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: في العلو، ومن المعلوم أن كل ما علا فهو سماء، وكل ما كان داخل السماوات ودون العرش فهو سماء ولكنه مخلوق، وما فوق العرش فهو سماء، والله سبحانه وتعالى هو في السماء التي فوق العرش، أي: في العلو. ومعنى أنه يمد يديه إلى السماء أي: يرفع يديه إلى الله عز وجل، وقد جاء في الحديث: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، أي: أن الله تعالى يجيب دعاءه إذا رفع يديه. الأمر الرابع: سؤال الله عز وجل بربوبيته: وأنه الرب الذي هو خالق كل شيء، والمربي لخلقه بالنعم، والمتفضل عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، ولهذا كثيراً ما يأتي في القرآن ذكر الدعاء مبدوءاً بربنا، كقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201]، {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] آيات كثيرة فيها دعاء الله عز وجل باسم الرب وبوصف الربوبية لله سبحانه وتعالى. الأمر الخامس: الإلحاح في الدعاء: وذلك حينما قال: يارب! يارب! وهذا التكرار فيه إلحاح. إذاً: هذه الأمور الخمسة كلها من أسباب قبول الدعاء، ومع ذلك فإن هذا الذي حصلت منه هذه الأمور لم تحصل له الاستجابة؛ لأنه يأكل ويتعاطى الحرام في مأكله وملبسه ومشربه وغذائه وفي جميع تصرفاته، كل استخدامه واستعماله للمال الحرام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام بعدما ذكر هذه الأحوال التي اتصف بها هذا الرجل الذي سأل الله عز وجل، ولكن جاءت الأمور التي تمنع وهي: كون مأكله حراماً ومشربه وملبسه وغذي بالحرام، قال بعد ذلك: (فأنى يستجاب لذلك؟!) أي: كيف يستجاب له؟! هذا بعيد أن يستجاب له وقد حصل منه الأخذ بهذه الأسباب التي تمنع قبول الدعاء، ولكن مع ذلك فإن الاستجابة لمن هذه حاله غير مستحيلة؛ فإن الله عز وجل إذا شاء أن يستجيب لمن حصلت منه الذنوب فإنه يستجيب، ولكن هذه الأمور من أسباب عدم قبول الدعاء.

هيئة رفع اليدين في الدعاء

هيئة رفع اليدين في الدعاء قال ابن رجب رحمه الله: (وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة رفع يديه في الدعاء أنواع متعددة، فمنها: أنه كان يشير بأصبعه السبابة فقط، وروي عنه أنه كان يفعل ذلك على المنبر، وفعله لما ركب راحلته). معلوم أن الإشارة بالسبابة تكون عند ذكر الله تعالى، كما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في التشهد يحرك أصبعه يدعو بها، وكذلك في الخطبة كان لا يزيد على أن يشير بإصبعه، فما كان يرفع يديه، كما جاء أن عبد الملك بن مروان كان يخطب وقد رفع يديه، فأنكر عليه بعض الصحابة وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على أن يقول بإصبعه هكذا) إذاً: الخطبة لا ترفع فيها الأيدي وإنما يشار بالإصبع فقط، إلا في الاستسقاء إذا حصل في الخطبة فترفع الأيدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استسقى في خطبة الجمعة رفع يديه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ولعل إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه كانت تكون عند التكبير وعند ذكر الله عز وجل، كما في التشهد حين كان يحركها يدعو بها عند ذكر الله. قال رحمه الله: (وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه بإصبعه، منهم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق بن راهويه، وقال ابن عباس وغيره: هذا هو الإخلاص في الدعاء، وعن ابن سيرين: إذا أثنيت على الله فأشر بإصبع واحدة). فيما يتعلق بقنوت النوازل: كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء، وأما قنوت الوتر فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه، وجاء عن أبي هريرة، ولا أعلم فيه حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن -كما هو معلوم- إذا ثبت عن الصحابة فإنه يؤخذ بما جاء عن الصحابة، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه، وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا في قنوت الوتر، وأما قنوت النوازل فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه. قال: (ومنها أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه، وقد رويت هذه الصفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء، واستحب بعضهم الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة منهم الجوزجاني. ومنها عكس ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أيضاً، وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك، وقال بعضهم: الرفع على هذا. ومنها عكس ذلك أي: كون ظهورهما إلى جهة وجهه وبطونهما إلى جهة القبلة على الهيئة التي تكون عند التكبير، فعندما يكبر يجعل بطونهما إلى جهة القبلة وظهورهما إلى جهة وجهه، هذا هو عكس الكلام الأول. وقد جاء من حديث أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه). وهذه الصفة معناها: أنه جعل بطونهما إلى جهة الأرض، كأنه رفع يديه هكذا فصارت البطون إلى جهة الأرض. قال: (ومنها: إذا رفع يديه جعل كفيه إلى السماء وظهورهما إلى الأرض، وقد ورد الأمر بذلك في سؤال الله عز وجل في غير حديث، وعن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين أن هذا هو الدعاء والسؤال لله عز وجل. ومنها عكس ذلك: وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء، وبطونهما مما يلي الأرض. وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء)، وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه: (فبسط يديه وجعل ظاهرهما مما يلي السماء). يمكن أنه بدل ما يثني يديه جعلهما مبسوطتين، ولكن بطونهما إلى الأرض وظهورهما إلى السماء. قال: (وخرجه أبو داود ولفظه: (استسقى هكذا) يعني: مد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض). وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة يدعو هكذا، ورفع يديه حيال ثندوته، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض)، وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة. وهذا خرجه الإمام أحمد في المسند، ورواه ابن أبي شيبة، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: فيه بشر بن حرب وهو ضعيف. قال: وروي عن ابن سيرين أن هذا في الاستخارة، وقال الحميدي: هذا هو الابتهال.

شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)

شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) عن أبي محمد الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. هذا الحديث هو أول حديث ذكره النووي خارج الصحيحين، والأحاديث العشرة التي مرت كلها في الصحيحين أو أحدهما، وقد خرج الإمام مسلم الأحاديث العشرة الماضية كلها، والإمام البخاري خرجها كلها إلا الثاني والسابع والعاشر، فالثاني هو حديث عمر حديث جبريل، ولكنه رواه من حديث أبي هريرة فلم يروه من حديث عمر، والنووي إنما أورد حديث عمر ولم يورد حديث أبي هريرة، والحديث السابع حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري: (الدين النصيحة)، والحديث العاشر حديث أبي هريرة: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). إذاً: مسلم روى العشرة الماضية كلها، والبخاري روى سبعة منها فقط، فلم يروِ الثاني والسابع والعاشر، والحديث الحادي عشر هو أول الأحاديث التي ليست في الصحيحين، ولكنه صحيح وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

ترجمة الحسن بن علي رضي الله عنه

ترجمة الحسن بن علي رضي الله عنه راوي الحديث هو الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وأمه وعن الصحابة أجمعين، وهو أكبر أولاد علي رضي الله عنه، وبه يكنى، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حقه وحق أخيه الحسين أنهما: (سيدا شباب أهل الجنة) وقال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد) وأخبر أن الله تعالى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وقال ذلك وهو يخطب الناس على المنبر ومعه الحسن، وكان ينظر إليه وينظر إلى الناس، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقد تحقق ذلك في سنة إحدى وأربعين، حيث تنازل عن الخلافة لـ معاوية رضي الله عنهما، واجتمعت كلمة المسلمين، وصار لهم إمام واحد، وقد تحقق بهذا ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه من هذا الإصلاح الذي اتحدت فيه الكلمة، فسمي ذلك العام: عام الجماعة؛ لاجتماع كلمة المسلمين. وهو سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ابن بنته؛ فإن الأسباط هم أبناء البنات، والأحفاد أبناء البنين، وذرية الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي من البنات؛ بل من أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهم الذين بقي النسل فيهم من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وله من غير فاطمة مثل أمامة بنت زينب، التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة، فإنها عاشت بعده، ولكن النسل إنما حصل من هذين السبطين الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما ريحانتاي من الدنيا) يعني الحسن والحسين، والريحان: هو النبت الذي رائحته طيبة، فهما شبيهان بالريحان لحسنهما ولقربهما منه، ولطيبهما وطيب رائحتهما عنده صلى الله عليه وسلم، فكانا بمثابة ذلك الريحان الذي ترتاح وتطمئن إليه النفوس.

وجوب ترك الأمور المشتبهة إلى ما لا شبهة فيه

وجوب ترك الأمور المشتبهة إلى ما لا شبهة فيه قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقد مر في حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما جملة توافق هذه الجملة وتتفق معها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الأمور المشتبهة: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، فإن قوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) هو مثل: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) أي: دع ما لا تطمئن إليه وتشك فيه ولا ترتاح إليه من الأقوال والأعمال إلى الشيء الذي ترتاح وتطمئن نفسك إليه؛ لأنك بذلك تسلم وتغنم لكونك أتيت إلى ما لا يريبك، وتركت ما يريبك، أي: ما فيه ريبة وشك وعدم ارتياح. فالنفس تكون قلقة مضطربة إذا كان الشيء مما يريب، وعلى الإنسان أن يذهب إلى ما لا يريبه، وتطمئن وترتاح نفسه إليه، ويقدم الإنسان عليه وهو مرتاح، فيكون قوله: (دع ما يريبك) مثل قوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، وقوله: (إلى ما لا يريبك) مثل قوله: (إن الحلال بين)، فإن الإنسان عندما يأتي إلى شيء واضح جلي ليس فيه خفاء، فإنه يكون قد أخذ بما هو واضح وبما هو حلال بين، وأما إذا كان في شيء مشكوك فيه، وفي أمر غير مرتاح إليه؛ فإن هذا يكون من قبيل الشيء الذي أقدم عليه وكان المطلوب منه أن يتركه؛ لأن (دع) بمعنى اترك، وهي فعل أمر، وهي مادة يأتي منها الأمر والمضارع ولا يأتي منها الماضي إلا نادراً، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم). وهذا الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام؛ فإنها جملة وجيزة قصيرة، مبناها قليل ولكن معناها واسع، وهذه من الكلمات الجامعة التي أعطيها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

شرح حديث: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)

شرح حديث: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) رواه الترمذي وغيره. هذا الحديث أيضاً من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الإنسان المتمسك بإسلامه تمسكاً صحيحاً يترك ما لا يعنيه إلى ما يعنيه، ويشتغل بما يعود عليه بالخير، ويشغل وقته ويصرف ساعاته فيه، ويترك الشيء الذي لا يعنيه والذي لا علاقة له به؛ سواء كان متعلقاً بأعمال أو أقوال، أو كان متعلقاً بأحوال الناس وأعمالهم وما يكونون عليه؛ فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وذلك بأن يشتغل بنفسه وتهذيبها وتنقيتها وتصفيتها وتربيتها على الخير، وتعويدها على ما يعود عليه بالخير، ويشغل وقته في ذلك، ولا يشتغل بأمور أخرى لا تعنيه. وهذا الحديث يدلنا على أن الناس يتفاوتون في الإسلام، وأن فيهم من يكون بهذا الوصف الذي تكون نتيجته أنه يترك ما لا يعنيه، ومفهوم ذلك: أنه يعنى بما يعنيه، وهو ما يهمه وما هو مطلوب منه، سواء كان متعلقاً بأمور الدين أو الدنيا، بأمور الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة، كل ما يعنيه من ذلك فإنه يشتغل به، وما لا يعنيه فإنه يكف عنه ويبتعد عنه. وهذا من الآداب النبوية التي جاءت عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في عبارة وجيزة وفيها حث الإنسان على أن يشتغل بما يعنيه، وأن يحذر الاشتغال بما لا يعنيه.

كلام ابن رجب في شرحه لهذا الحديث

كلام ابن رجب في شرحه لهذا الحديث للحافظ ابن رجب رحمه الله كلام جميل حول شرح هذا الحديث، يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: (وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال: جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، وقوله للذي اختصر له في الوصية: (لا تغضب)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). وكل هذه الأربعة الأحاديث من الأربعين، وبعضها مماثل لبعض؛ لأن قوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) من جنس: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)؛ لأن كونه يقول خيراً من الاشتغال بما يعنيه، وكونه يصمت، فقد صمت عن الكلام فيما لا يعنيه، وعن الاشتغال بما لا يعنيه، واشتغل بما يعنيه، وكذلك الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فهو يقدم على الشيء الذي يعود على غيره بالخير، كما أنه يقدم على ما يعود عليه بالخير. قال رحمه الله: (ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، والاقتصار على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى (يعنيه): أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس؛ بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، وإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات، كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه، كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يستحي من الله كما يستحي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه، وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: (الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما وحوى، وتذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). قال بعضهم: استحِ من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك، وقال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكت فاذكر نظره إليك. وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18]، وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]. وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني: حفظ اللسان من لغو الكلام، كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ق، وفي المسند من حديث الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه)، وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: (يا رسول الله! إني مطاع في قومي فما آمرهم؟ قال: مرهم بإفشاء السلام، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم)، وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو حرفة لمعاش، أو لذة في غير محرم). وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه). ثم قال رحمه الله: وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه، وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه، وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته، والظاهر أن كثرة المضاعفة بحسب حسن الإسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)، فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله؛ كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما روي عن عطية عن ابن عمر أنه قال: نزلت {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] في الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]). والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

وسائل جعل الأعمال والأقوال طيبة

وسائل جعل الأعمال والأقوال طيبة Q في الحديث الأول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) عرفنا أن طيب الطعام والشراب بأن يكون حلالاً، لكن كيف تطيب الأعمال والأقوال؟ A كونه يؤتى بها كاملة على وفق الشرع، وإذا أتي بها على خلاف الشرع بأن تكون مبتدعة، أو أن يخل بالإتيان بها على كيفيتها وهيئتها المطلوبة، فإنها تكون بحسبها، وعلى هذا فإن العمل إذا كان هكذا يعتبر غير كامل؛ لأن الكامل لابد أن يكون طيباً، وإن كان أصله فيه السلامة ويعتبر مجزئاً، إلا أنه إذا حصل فيه إخلال فيكون هذا مقابل الإتيان به على وجه طيب.

حكم الصلاة في مسجد بني من الربا

حكم الصلاة في مسجد بني من الربا Q يوجد في بلدنا تاجر معروف بالربا والقمار وغير ذلك، وبعد موته بنى ورثته له مسجداً بناء على وصيته من أمواله المحرمة، فهل يجوز لنا الصلاة في هذا المسجد؟ A نعم، يجوز للإنسان أن يصلي في المسجد ولو كان قد بني من الحرام؛ فإن لكم غنمه ولكم الفائدة من الصلاة في هذا المكان، وأما هو فعليه إثمه وعليه غرمه.

حكم من توظف بشهادة حصل عليها بطريق الغش في الاختبار

حكم من توظف بشهادة حصل عليها بطريق الغش في الاختبار Q رجل غش في الاختبار في المرحلة الجامعية في بعض المواد الدراسية وتخرج، والآن يعمل في الدوائر الحكومية ويأخذ راتباً، فإن كان عمله ذلك حراماً فكيف يعمل؟ هل يخرج من وظيفته أم ماذا يفعل؟ A إذا كانت هذه الشهادة مبنية على هذا الغش، وهذا الراتب إنما يعطى على هذه الشهادة، فمعناه أنه وصل إلى ما وصل إليه بغير طريق مشروع، وعليه إذا كان دخل بهذه الشهادة أن يسعى لأن يحصل عملاً بشيء دونها؛ لأن هذا بني على سبب محرم وعلى وسيلة محرمة، وهي وسيلة تحصيل تلك الشهادة.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به) Q ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)؟ A معنى ذلك: أنه يعذب بالنار نتيجة لأكله الحرام، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، لكن هذا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، كما في السلسلة الضعيفة، وذكر شعيب الأرنؤوط أنه رواه ابن مردويه في تفسيره عن الطبراني كما في تفسير ابن كثير، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الصغير، وفيه من لم أعرفه.

حكم التسمي بأسماء الله تعالى

حكم التسمي بأسماء الله تعالى Q هل يجوز أن يسمى أحد باسم الله مثل الطيب؟ A يجوز؛ لأن الأسماء التي لا يسمى إلا الله تعالى بها ذكرها العلماء ومنهم ابن كثير في أول تفسيره ومنها: الله، والرحمن، والصمد، والخالق. إلخ، وأما بعضها مثل الرحيم، فقد جاء وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رءوف رحيم، وجاء ذكر العزيز والعظيم إلى أسماء أخرى مضافة إلى غير الله عز وجل، أما الصمد والرحمن والخالق والله، فهذه لا تضاف إلا إلى الله سبحانه وتعالى.

حكم التسمي بعبد الطيب

حكم التسمي بعبد الطيب Q ذكرتم أن من أسماء الله الطيب، وفي حالة ما إذا تسمى الشخص بعبد الطيب، فقد يعتقد البعض أن الذي هو عبد له هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الأولياء، فهل نقول: لا يتسمى به سداً للذريعة؟ A التعلم وزوال الجهل بالعلم هو المطلوب، وإذا استشكل أحد هذا فيقال له: قد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم التصدق بالزيادة المأخوذة من الربا

حكم التصدق بالزيادة المأخوذة من الربا Q من يرابي ويتصدق بالزيادة هل يكون ممن يأكل الحرام، علماً أنه لم يأكل ذلك النفع ولم ينتفع به؟ A يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل الله صدقة من غلول)، فلا يتصدق بمال حرام، ولا يأخذه ولا يكون من أهله، ولا يدخل في ماليته، بل عليه أن يبتعد عنه، ولكنه إذا وقع في حوزته وابتلي به فيمكن أن يتخلص منه بأمور ممتهنة، مثل بناء حمامات، أو تعبيد طرق، أو ما أشبه ذلك، أما كونه يتصدق به، فهذا كما يقول الشاعر: أمطعمة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

الطيب اسم من أسماء الله

الطيب اسم من أسماء الله Q هل ورد اسم الطيب في نص واضح؛ لأنه قد يحتج بأن هذا الحديث يدل على صفة لله لا على الاسم؟ A هذه الصيغة صيغة اسم؛ لأن الصفة هي الطِيْب والاسم هو الطَيب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، فالجميل اسم والجمال صفة، وهنا الطَيب اسم والطِيب صفة.

حكم الحج بمال أخذ من رجل كافر

حكم الحج بمال أخذ من رجل كافر Q رجل أعطاه كافر مبلغاً من المال فحج به، فما حكم حجه؟ A يصح حجه، وكون المعطي كافر ليس فيه بأس، ويصح حجه؛ لأنك لو بعت الكافر سلعة وأخذت منه النقود فهي ملكك، ولا يجب عليك أن تبحث عن أصلها وعن أشياء أخرى، فما دام أنها وصلت إليك بطريق مشروع فهي حلال، ولهذا يجوز البيع والشراء مع الكفار، والنقود التي تصل إليك هي حلال.

حكم من كان يتعامل مع بنك ربوي وهو لا يعلم بذلك

حكم من كان يتعامل مع بنك ربوي وهو لا يعلم بذلك Q من كان يتعامل مع بنك ربوي وهو لا يدري، فماذا يفعل الآن؟ A يتحول وينتقل من التعامل مع البنك الربوي إلى جهة ليس فيها ربا، وإذا أمكن أن يكون في هذا البنك الربوي خزائن تؤجر وتضع فيها نقودك، وتعطيهم أجرة لاستخدام الخزانة والانتفاع بالخزانة، فإن هذا هو الطريق الطيب المناسب؛ لأنك بذلك قد تكون أمنت من ضياع نقودك، وعملت على حفظها في مكان فيه أمان، وفي نفس الوقت أيضاً لم تمكن البنك من أن يتصرف فيها بالربا؛ لأن نقودك تجدها في تلك الخزانة كما هي، تأخذ منها ما تأخذ وتترك ما تترك، والبنك لا يتمكن من التصرف فيها، فإذا وجد في البنوك الربوية مثل هذه الخزانات فهي التي ينبغي للإنسان أن يتعامل مع البنك على ضوئها.

حكم الغش في الاختبار

حكم الغش في الاختبار Q ما حكم الغش في الاختبار؟ A مسألة الغش في الاختبار أظن أن للشيخ عبد العزيز بن باز فتوى فيها، فأنصح بالرجوع إليها.

حكم أخذ الصدقة من مؤسسة حكومية في مكاسبها أمور محرمة

حكم أخذ الصدقة من مؤسسة حكومية في مكاسبها أمور محرمة Q ما حكم قبول الصدقة من مؤسسة حكومية عرف أن لها مكاسب محرمة؟ A إذا كان أكثر ما في تلك الجهة هو من الحلال، والحرام مغمور فيها وهو قليل يسير؛ فإنه لا بأس بذلك.

حكم أخذ طالب العلم من مال أبيه المكتسب بطريقة محرمة

حكم أخذ طالب العلم من مال أبيه المكتسب بطريقة محرمة Q يكتسب أبي الأموال بطريق محرمة، وأنا أطلب العلم الشرعي بمال أبي، فهل يجوز لي أن آخذ من مال أبي، علماً بأني لا أستطيع أن أدرس إذا انقطعت عن مال أبي؟ A إذا تمكنت من الاستغناء عن مال أبيك فهذا هو الذي ينبغي لك، وإن اضطررت إليه فلا بأس، ولك غنمه وعلى أبيك غرمه، ولكن أهم من هذا كله أن تحرص على سلامة أبيك، وأن تحرص على إنقاذه من الورطة والبلاء الذي وقع فيه.

حكم أخذ الحوالة من البنك الربوي

حكم أخذ الحوالة من البنك الربوي Q إذا استقبل شخص حوالة من بنك ربوي، فهل يجوز له أن يأخذها؟ A هذا الأمر لا بأس به، إذا جاء إليك المال وهو حق لك عن طريق بنك فليس فيه بأس، فكونك تأخذ مالك المحول من البنك، كما لو حول راتبك على البنك فأنت تأخذه ولكن لا تبقيه، بادر إلى أخذه حتى لا تمكن البنك من استعماله في الربا.

حكم أخذ الهبة ممن يحصل على المال بطرق محرمة

حكم أخذ الهبة ممن يحصل على المال بطرق محرمة Q إذا كان شخص يحصل على المال بالتحايل على الناس والكذب عليهم، وماله كله من هذا الكسب، فهل يجوز لي أن أقبل هبته؟ A إذا كان المال كله مبنياً على حرام ومؤسساً على حرام، فكونك تتنزه عن هذا هو الذي ينبغي لك.

حكم أخذ الراتب كاملا مع التهاون في العمل

حكم أخذ الراتب كاملاً مع التهاون في العمل Q هل التهاون في العمل الوظيفي يجعل الراتب من غير الطيبات؟ A هو بحسبه، إذا كان بخس شيئاً من الوقت فهو لا يستحق ذلك الشيء الذي بخسه، والذي عمله وحضره لا يستحقه، فمثلاً: إذا كان الدوام ست ساعات وتأخر ساعة فيكون سدس راتب ذلك اليوم لا يستحقه. وإذا كان لا يحب أن ينقص من راتبه شيئاً، ومع ذلك يهون عليه أن يبخس العمل وأن ينقص منه، فيكون بذلك شبيهاً بالذين وصفهم الله عز وجل وهم المطففون فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3]، ثم قال: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]، يعني: ألا يتقي الله هؤلاء ويتذكرون ذلك اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وحينئذٍ لن تنفعهم إلا الأعمال الصالحة؟!

حكم رفع اليدين عند الدعاء للميت

حكم رفع اليدين عند الدعاء للميت Q هل يجوز رفع اليدين عند الدعاء للميت؟ A جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه وهم يدفنون ميتاً في المقبرة: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، فما أعلم شيئاً يدل على رفع اليدين في هذا الموضع، لكن الأمر الذي كان يقع بكثرة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، مثل رفع اليدين بعد صلاة الفريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام الناس دائما ًوأبداً، ولم يكن لهم إمام غيره إلا في أمور نادرة جداً، مثل قضية عبد الرحمن بن عوف في طريق تبوك، وقضية أبي بكر حيث صلى بالناس أول الصلاة، ثم جاء الرسول من قباء ودخل وأكملها، وكذلك في مرض موته كان هو الإمام وهو جالس عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يبلغ، ومع ذلك لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم في جميع تلك الصلوات أنه كان يرفع يديه بعد الفريضة، ومن هنا فلا ترفع الأيدي في الدعاء بعد الفريضة، لكن هناك أمور يسيرة أو نادرة ولم ينقل فيها شيء، والأمر فيها واسع، فإن رفع يديه فما نعلم شيئاً يمنعه، وإن لم يرفعها فليس هناك مانع.

حكم ضرب المعلم للطلاب بالحديد

حكم ضرب المعلم للطلاب بالحديد Q هل يجوز للمعلم أن يضرب الطالب بالحديد؟ A الضرب من المعلم ينفر الطلاب، ولكن عليه أن يتألفهم، وأن يشجعهم، أما كونه يضربهم بالحديد فهذا فيه إساءة إليهم ونفور من الدراسة، وقد يترتب على ذلك هروب وتسرب.

[18]

شرح الأربعين النووية [18] لقد حث الإسلام على الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة، ومن ذلك توطيد مبدأ وعلاقات الأخوة بين المسلمين، وهي تعني التآلف والترابط والتعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه من الخير والصلاح، وأن يكره له ما يكرهه لنفسه، فمن فعل ذلك فقد حسن إيمانه وكمل، ولأجل عظم هذا الأمر فقد حرم الإسلام دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، ولم يبح لأحد أن يستحلها مهما كان الأمر، إلا من ارتكب شيئاً يجعله حلال الدم فقد حل دمه، كالثيب الزاني، والقاتل، والمرتد عن الدين.

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) عن أبي حمزة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم. هذا حديث عظيم، بين فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن من كمال الإيمان في المؤمن والمسلم أن يكون محباً لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لها، فيكون حريصاً على الخير لنفسه ولغيره، ولا يكون شأنه متعلقاً بنفسه فقط، وأما غيره فلا يهمه شأنه، ولا يعيره اهتماماً؛ بل عليه أن يحب الخير لغيره كما يحبه لنفسه؛ وكذلك يكون الأمر فيما يقابل ذلك من الكراهة، فيكره لغيره ما يكرهه لنفسه.

الإيمان يزيد وينقص

الإيمان يزيد وينقص في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم)، نفي كمال الإيمان، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وقد جاءت الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاوتون فيه، فمنهم من يكون متصفاً بالكمال، ومنهم من يكون بين ذلك. وهذا الحديث فيه نفي الكمال عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن كمال الإيمان في حقه أن يحب لغيره ما يحب لنفسه.

المراد بالأخوة في قوله: (لأخيه)

المراد بالأخوة في قوله: (لأخيه) قوله: (لأخيه)، قيل: إن المراد بذلك أخوة الإسلام والإيمان، لما جاء في الحديث: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وحديث: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وعلى هذا فيكون ذكر الأخوة هنا المراد بها: أخوة الإسلام. وفي التنصيص على ذكر الأخوة ما يشعر بأن المطلوب من الإنسان أن يعطف على أخيه، وأن يحرص على فائدته، وأن يحب له ما يحب لنفسه، وأن يشعر بالاهتمام به، وأن يعطف عليه، وهو يختلف عما لو قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب للمؤمن ما يحب لنفسه؛ لأن التعبير بالأخوة هنا فيه إفادة هذا المعنى. ومن العلماء من قال: إن المراد بالأخوة هنا الأخوة العامة التي هي أخوة النسب البعيد العالي، ويدخل في ذلك الكفار؛ لأنهم إخوة في النسب من جهة أن أبا الجميع هو آدم عليه الصلاة والسلام، ثم نوح، ثم إبراهيم، فيكون المقصود بالأخوة ما هو أعم من الأخوة في الإسلام، ويكون المقصود من ذلك: أنه يحب لأخيه في النسب العالي البعيد الهداية والاستقامة، وأن تحصل الهداية للكافر كما حصلت الهداية له، فتكون الأخوة هنا أعم. وقد جاء في القرآن إطلاق الأخوة على هذا المعنى، كما قال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:105 - 106]، فإن هذه أخوة نسب وليست أخوة إيمان، وكذلك جاء في حق رسل الله عز وجل -مثل هود وصالح وشعيب- ذكر الأخوة، وهي بمعنى أخوة النسب وليست أخوة الإيمان. والغالب أن الأخوة إذا ذكرت مطلقة في النصوص فإنما يقصد أخوة الإيمان، فيكون التعاطف والتواد والتراحم والتواصل والألفة والمحبة بينهم بسبب أخوة الإسلام. نعم، لا شك أن الإنسان يحب لغيره من الكفار الهداية، ويدعو لهم بها، ويسأل الله عز وجل لهم ذلك؛ ولكن ما جاء في مثل هذا النص فالغالب أن يكون المراد به هو الأخ المسلم، ولهذا جاء في الحديث: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله)، فيكثر ذكر الأخوة بين المسلمين والترابط ولقوة الصلة بينهم.

وجوب معاملة الإنسان لغيره كما يجب أن يعاملوه

وجوب معاملة الإنسان لغيره كما يجب أن يعاملوه قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، أي: وكذلك أيضاً يكره له ما يكره لنفسه، ويدخل تحت ذلك كون الإنسان يحب أن يعامل معاملة طيبة، فكذلك عليه أن يعامل غيره معاملة طيبة، فيعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به. وقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في حديث طويل قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، هو بمعنى: (يحب لغيره ما يحب لنفسه)، فكما أنه يحب أن يعامل معاملة طيبة فعليه أن يعامل غيره معاملة طيبة، ولا يكون بخلاف هذا الوصف الذي أرشد إليه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه ذم من يكون كذلك فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3]، فهم عندما يأخذون حقهم يستوفونه ويأخذونه كاملاً، وعندما يؤدون الحق الذي عليهم يبخسونه وينقصونه؛ فيأخذون الحق كاملاً، ولا يعطون الحق الذي عليهم كاملاً. ويدخل تحت هذا البخس: أولئك الموظفون الذين يتأخرون عن أعمالهم، ويضيعون شيئاً من الوقت المطلوب منهم والمفروض عليهم دون أن يستعملوه فيما يعود على الناس بالخير والفائدة، فهذا من قبيل البخس ومن قبيل أخذ الحق كاملاً وتأدية ما عليه ناقصاً، فهو لا يحب أن يخصم شيء من راتبه؛ ولكنه لا يبالي إن ضيع شيئاً من الوقت المفروض عليه دون أن يصرفه فيما يعود على الناس بالخير. وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينهاكم عن ثلاث: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات)، بأن يأخذ ولا يعطي، ويكون جموعاً منوعاً، يحب أن يصل إليه الشيء ولكن لا يصل منه شيء، فهو يطلب ولكن لا يعطي، هناك دخول عليه وليس هناك خروج منه، وهذه صفات ذمها الله عز وجل، وكذلك جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ذمها ومنعها، وهي تخالف ما أخبر به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث في قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)

شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، رواه البخاري ومسلم. هذا الحديث يدل على عصمة دم المسلم، وأنه لا يجوز أن تتلف نفسه وأن يقتل إلا بواحدة من هذه الأمور الثلاثة التي جاءت في هذا الحديث، وهي:

معنى قوله: الثيب الزاني

معنى قوله: الثيب الزاني قوله: (الثيب الزاني)، الثيب: هو من حصل منه النكاح، وتمتع وذاق هذه اللذة، ثم بعد ذلك حصل منه الزنا، فإنه يكون بذلك محصناً، فيكون حكمه الرجم، ولو كان حين الزنا لا زوجة له، فليس من شرط ذلك أن يكون الزواج مستمراً، بل يكفي أن يكون قد تزوج، وأن يكون قد ذاق ذلك بطريق مشروع، فإذا ماتت المرأة أو طلقها ثم حصل منه الزنا -والعياذ بالله- فإنه محصن لكونه تمتع تمتعاً مشروعاً بعقد النكاح، ويكون حكمه الرجم بالحجارة حتى يموت. فأحد الأمور الثلاثة التي يحل بها دم المسلم: أن يكون ثيباً زانياً، أي: أن يكون محصناً وليس بكراً. والإحصان يشمل الرجل والمرأة، والمرأة حكمها في هذا حكم الرجل، إذ الأصل التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام إلا أن يأتي دليل يخص الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال، فعند ذلك يصار إلى التفريق، وحيث لا تفريق ولا تمييز بين الرجال والنساء فإن الأصل هو التساوي، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً، والغامدية، والرجم يكون بالحجارة حتى الموت. والحكمة من الرجم: قيل: إن اللذة لما حصلت للجسم جميعه، فإن العقوبة توجه إلى الجسم جميعه؛ وذلك بأن يُرمى بالحجارة من جميع الجوانب حتى يموت. هذا هو الأمر الأول من الأمور التي يكون بها خروج النفس من كونها معصومة إلى مستحقة للقتل والإتلاف.

معنى قوله: النفس بالنفس

معنى قوله: النفس بالنفس قوله: (النفس بالنفس)، المقصود بذلك: القصاص، فإذا قتل الإنسان غيره عمداً فإنه يقتص منه بأن يقتل القاتل حيث توفرت شروط القصاص، وكما أنه أزهق نفس غيره؛ فإن حكمه هو أن تزهق نفسه، ويكون ذلك قصاصاً، والله عز وجل قال في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]، ثم قال بعد ذلك: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، أي: أن هذا فيه أسباب إبقاء الإنسان على نفسه وعلى نفس غيره، فإذا علم أنه إذا قتل سيقتل فإنه يكف ويمتنع من القتل. وقد جاء في بعض الروايات التعبير بالقصاص، والمراد به أن هذا القتل قصاص نفس بنفس، أي: نفس بدل نفس، فكما قَتل قُتل، وكما أزهق نفس غيره أُزهقت نفسه. وهذه الجملة في هذه الآية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، جملة وجيزة في غاية الفصاحة والبلاغة، وهناك كلمة عند العرب مشهورة بمعنى هذه الجملة ولكنها تختلف عنها، وهي قولهم: (القتل أنفى للقتل)، ولكن هذه الجملة التي جاءت في القرآن في غاية الفصاحة والبلاغة. وأما تلك العبارة التي جاءت عن العرب والتي يذكر علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع، فإنها لم تسلم من الخلل اللفظي ولا من الخلل المعنوي؛ فمن جهة اللفظ: (القتل أنفى للقتل) فيه تكرار، مع أنه كلام وجيز مكون من ثلاث كلمات ولكن واحدة مكررة، فهذا خلل من حيث اللفظ. أما الخلل من حيث المعنى: فليس كل قتل يكون أنفى للقتل؛ بل من القتل ما يكون سبباً للقتل، والكثير من الحروب والقتال الذي جرى بين العرب وبين غيرهم في الجاهلية والإسلام سببه قتيل واحد يقتل فتنشأ الحروب بسببه، إذاً ليس كل قتل يكون أنفى للقتل، ولكن الآية الكريمة عبرت بالقصاص، وجاء التعبير بالقصاص الدال على أن هذا النوع من القتل هو الذي يكون فيه الحياة، ويكون به الإبقاء للنفوس: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]. فمن يريد القتل أو يفكر فيه، إذا علم أنه سيقتل فإنه يكف عن قتل غيره ليسلم من القتل، ويكون بذلك قد أبقى على نفسه وعلى نفس غيره. وقوله: (والنفس بالنفس)، هذا في التكافؤ، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]. وقد اختلف في بعض المسائل التي لا يكون فيها التكافؤ؛ كقتل الحر بالعبد، وقتل المسلم بالكافر، وأما قتل الرجل بالمرأة فهذا متفق عليه، فالرجل يقتل بالمرأة، والمرأة تقتل بالرجل؛ ولكن من ناحية الدية هناك فرق بين الرجل والمرأة، فالمرأة على النصف من الرجل في الدية، وأما في القتل فإنه يقتل بها وتقتل به.

معنى قوله: التارك لدينه المفارق للجماعة

معنى قوله: التارك لدينه المفارق للجماعة قوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) التارك لدينه: هو المرتد عن الإسلام -والعياذ بالله- فمن دخل في الإسلام ثم خرج منه يعتبر مرتداً، وهو يختلف عن الكافر الأصلي؛ فإن من ارتد عن الإسلام ليس أمامه إلا أن يرجع إلى الإسلام وإلا القتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)؛ وذلك لأنه دخل في الإسلام، وذاق حلاوته، وصار من أهله، فإذا خرج منه رغبة عنه فإنه لا يبقى؛ بل إما أن يرجع إلى الإسلام وإما أن يقتل، بخلاف الكافر الأصلي إذا كان معاهداً أو مستأمناً فإنه يبقى على عهده وأمانه، وكذلك الكفار الذين دفعوا الجزية وصاروا تحت حكم الإسلام، فإنهم يبقون على ما هم عليه، ولكن من كان مسلماً ثم رجع إلى الكفر -والعياذ بالله- فليس أمامه إلا أن يرجع إلى الإسلام ويتوب وإلا القتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وذلك عام يشمل الذكر والأنثى. وقوله: (المفارق للجماعة)، هو توضيح لقوله: (التارك لدينه)؛ لأنه خرج عن جماعة المسلمين بخروجه عن دينهم. هذه هي الأمور الثلاثة التي جاءت في هذا الحديث، والتي قال فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).

أمور أخرى يحل بها دم المسلم

أمور أخرى يحل بها دم المسلم جاءت نصوص في قتل أناس غير هؤلاء الثلاثة، منها ما يرجع إلى هذه الأمور الثلاثة مثل السحر، فإنه إذا كان كفراً فهو داخل تحت القسم الثالث من هذه الأقسام الثلاثة، وقد جاءت أحاديث في أناس يقتلون وهم غير هؤلاء الموجودين، مثل القتل باللواط، وكذلك إتيان البهيمة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)، وكذلك من شهر السلاح على الناس فإنه يقتل، ويكف شره بمقاتلته ومنعه، وهناك أمور أخرى أوردها الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه، وهي عشرة، ومنها: قتل شارب الخمر في المرة الثالث، وقتل السارق في المرة الخامسة، وغيرهم. وهذه الأمور فيها خلاف بين أهل العلم؛ ولكن ما ثبت منها فإنه يضاف إلى هذه الأمور الثلاثة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون الحصر فيها من قبيل الحصر الإضافي الذي فيه الإشارة إلى أهميتها ووضوحها وجلائها، وأن غيرها يكون مضافاً إليها، أي: ما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يضاف إلى هذا العدد الذي جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة). قال ابن رجب رحمه الله تعالى في ذكره لتلك الأمور العشرة التي يقتل بها المسلم: (فمنها: في اللواط، ومنها: من أتى ذات محرم، ومنها: الساحر، ومنها: قتل من وقع على بهيمة، ومنها: من ترك الصلاة، ومنها: قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، وقد رُوي قتل السارق في المرة الخامسة، ومنها ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِر منهما)، ومنها: من شهر السلاح، ومنها: قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين، ومنها: ما أخرجه أبو داود في المراسيل من رواية ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ضرب أباه فاقتلوه). هذه عشرة أمور ذكرها الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، وهي تضاف إلى الثلاثة الموجودة، والسحر إذا كان كفراً فإنه داخل تحت القسم الثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة). قال: (واعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح، ولا يعرف به قائل معتبر، كحديث: (من ضرب أباه فاقتلوه)، وحديث قتل السارق في المرة الخامسة، وباقي النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود؛ وذلك أن حديث ابن مسعود يتضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: إما أن يترك دنيه ويفارق جماعة المسلمين، وإما أن يزني وهو محصن، وإما أن يقتل نفساً بغير حق. فيؤخذ منه: أن قتل المسلم لا يستباح إلا بأحد ثلاثة أنواع: ترك الدين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها، فأما انتهاك الفرج المحرم فقد ذكر في الحديث: أنه الزنا بعد الإحصان، وهذا -والله أعلم- على وجه المثال، فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنكاح، فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه أبيح دمه، وقد ينتفي شرط الإحصان فيخلفه شرط آخر، وهو كون الفرج لا يستباح بحال: إما مطلقاً كاللواط، أو في حق الواطئ، كمن وطئ ذات محرم بعقد أو غيره، فهذا الوصف هل يكون قائماً مقام الإحصان وخلفاً عنه؟ هذا هو محل النزاع بين العلماء، والأحاديث دالة على أنه يكون خلفاً عنه، ويُكتفى به في إباحة الدم). ومعنى كلامه: أن اللواط ووطء ذات المحرم يكون بمعنى الزنا. قال: (وأما سفك الدم الحرام، فهل يقوم مقام إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء كتفريق جماعة المسلمين، وشق العصا، والمبايعة لإمام ثانٍ، ودل الكفار على عورات المسلمين. هذا هو محل النزاع، وقد رُوي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا؛ وكذلك شهر السلاح لطلب القتل، هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا؟ فـ ابن الزبير وعائشة رأياه قائماً مقام القتل الحقيقي في ذلك. وكذلك قطع الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا؟ لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة، وقول الله عز وجل: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين: أحدهما: بالنفس، والثاني: بالفساد في الأرض، ويدخل في الفساد في الأرض: الحرابة والردة والزنا؛ فإن ذلك كله فساد في الأرض، وكذلك تكرر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء المحرمة، وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر على حده ثمانين، وجعل السكر مظنة الافتراء والقذف الموجبة لجلد الثمانين، ولما قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن الأشربة والانتباذ في الظروف قال: (إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه -يعني: إذا شرب- فيضربه بالسيف)، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك، فكان يخبؤها حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم بالقتل، إقامة لظن القتل مقام الحقيقة؛ لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق؟ وهذا هو محل النزاع! وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه: الارتداد عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين، فلو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه؛ لأنه قد ترك بذلك دينه، وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات، أو جحد ما يُعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك مما يُخرج من الدين، وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام؟ هذا ينبني على أنه هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا؟ فمن رآه خروجاً عن الدين كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما، ومن لم يره خروجاً عن الدين فاختلفوا: هل يلحق بتارك الدين في القتل لكونه ترك أحد مباني الإسلام أم لا؟ لكونه لم يخرج عن الدين، ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع، فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين، وهو ذريعة ووسيلة إليه، فإن استخفى بذلك ولم يدع غيره كان حكمه حكم المنافقين إذا استخفوا، وإذا دعا إلى ذلك تغلظ جرمه بإفساد دين الأمة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتال الخوارج وقتلهم، وقد اختلف العلماء في حكمهم: فمنهم من قال: هم كفار، فيكون قتلهم لكفرهم، ومنهم من قال: إنهم يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم، وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الابتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم. ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا، وهو نص أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة، ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتال يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه، كما روي عن علي وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا. وقد رُوي من وجوه متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كان يصلي، وقال: (لو قُتل لكان أول فتنة وآخرها). وفي رواية: (لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال)، خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره). هذا الحديث رواه من حديث بريدة الإمام الطحاوي في مشكل الآثار، وابن عدي في الكامل ومن طريقه ابن الجوزي في مقدمة الموضوعات، وفيه صالح بن حيان القرشي وهو ضعيف، ورواه ابن الجوزي من حديث عبد الله بن الزبير، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عطاء بن السائب عن رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعند الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: وفيه أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف. قال: (فيستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين، ويحسم مادة الفتن، وقد حكى ابن عبد البر وغيره عن مذهب مالك جواز قتل الداعي إلى البدعة، فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود بهذا التقدير، ولله الحمد. وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا: إنها منسوخة بحديث ابن مسعود، وفي هذا نظر من وجهين: أحدهما: أنه لا يعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخراً عن تلك النصوص كلها، لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين، وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخر إسلامه كـ أبي هريرة وجرير بن عبد الله ومعاوية، فإن هؤلاء كلهم رووا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة. والثاني: أن الخاص لا ينسخ بالعام ولو كان العام متأخراً عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن دلالة الخاص على معناه بالنص، ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين، فلا يبطل الظاهر حكم النص، وقد رُوي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته)، وقال لحي من العرب: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم)، وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة، وفي بعضها: أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه، وأنه لما قال لهم هذه المقالة صدقوه ونزل على تلك المرأة، وحينئذ فإن هذا الرجل قد زنى ونسب إباحة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر وردة عن الدين. وفي صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً بقتل القبطي الذي كان يدخل على أم ولده

الأسئلة

الأسئلة

لزوم كره المسلم لأخيه ما يكرهه لنفسه

لزوم كره المسلم لأخيه ما يكرهه لنفسه Q جاء في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فهل يخرج عليه الضد: ويكره لأخيه ما يكرهه لنفسه، أم أنه يقتضي ذلك لزوماً؟ A نعم، لابد أن يكره لأخيه ما يكره لنفسه؛ لأن هذا من مقابل مفهوم هذا الأمر، فيحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فهما متلازمان، فكما أنه يكره الشر لنفسه فيكرهه لغيره، وكما أنه يحب الخير لنفسه فيحبه لغيره.

حكم فرح المسلم إذا أخطأ أخوه أو وقع في بدعة

حكم فرح المسلم إذا أخطأ أخوه أو وقع في بدعة Q ما حكم من يفرح إذا أخطأ أخوه، أو يفرح إذا وقع أخوه السني في بدعة؟ A هو نفسه يكره أن يفرح غيره إذا حصل منه خطأ، فكذلك عليه أن يعامل غيره بأن لا يفرح؛ بل يتأثر ويحب له أن يسلم من هذا الخطأ، فهو يحب أن يكون سالماً من هذا الخطأ أولاً، وبعد وقوعه فيه يحب أن يسلم منه وأن يخرج منه بسلام، هذا هو الواجب، فالإنسان لا يفرح بخطأ أخيه، وإنما يحزن لخطأ أخيه ويفرح إذا رجع عن خطئه وعاد إلى صوابه.

المراد بنفي كمال الإيمان في قوله: (لا يؤمن أحدكم)

المراد بنفي كمال الإيمان في قوله: (لا يؤمن أحدكم) Q قوله: (لا يؤمن أحدكم)، هل المراد بالنفي نفي الكمال الواجب أو الكمال المستحب؟ A المراد نفي الكمال المستحب، وعلى هذا لا يكون آثماً.

ضابط المفارق للجماعة

ضابط المفارق للجماعة Q قوله: (المفارق للجماعة)، هل فيه دليل على تكفير الخوارج حيث فارقوا الجماعة ووجب قتالهم؟ A ضابط ذلك: أن هذا وصف للتارك لدينه، فليس هو شيئاً مستقلاً، كما جاء في الرواية الأخرى: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، فقوله: (يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وصف للمسلم، وكلمة (المفارق للجماعة) وصف للتارك لدينه، والخوارج ما تركوا الدين؛ بل هم يزعمون أنهم متمسكون بالدين، وأن هذا من الدين؛ وذلك نتيجة للفهم الخاطئ للنصوص، وعدم متابعة الصحابة في الفهم؛ ولهذا كان من منهج أهل السنة والجماعة: اتباع نصوص الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وليس بالفهوم الخاطئة التي يركب الإنسان فيها رأسه، ويخرج عن الجماعة، ويتبع غير سبيل المؤمنين.

الدليل على نقصان الإيمان

الدليل على نقصان الإيمان Q توقف بعض أهل العلم في القول بنقص الإيمان، وحجته: أن أدلة زيادة الإيمان واضحة وبينة، لكن لم يأت دليل صريح على نقص الإيمان، فهل هناك دليل؟ A نعم، أولاً: من حيث المعنى: فإن ما يقبل الزيادة يقبل النقص. ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين) الحديث، وناقص الدين هو ناقص الإيمان، وهذا حديث واضح في هذا الأمر؛ فإن نقص الدين هو نفسه المقابل للزيادة، وأيضاً ما يقبل الزيادة يقبل النقص، ومن الأدلة حديث: (وذلك أضعف الإيمان).

حكم قتل الزاني المحصن رميا بالرصاص

حكم قتل الزاني المحصن رمياً بالرصاص Q ما رأيكم في الذي يستبدل الرجم بإطلاق النار على المحصن؟ A هذا لا يجوز، بل الواجب هو الرجم، والرجم جاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في كتاب الله عز وجل في الآية التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وهو أيضاً موجود في التوراة، كما جاء في قصة اليهودي واليهودية اللذين زنيا، وفيها أن حبراً من أحبارهم كان يغطي آية الرجم بيده من التوراة لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أن يأتوا بها، فهذا الحكم موجود في التوراة وموجود في القرآن، ولكن نسخت التلاوة وبقي الحكم. وجاءت الأحاديث الكثيرة في الرجم، ومنها هذا الحديث: (الثيب الزاني)، فقد جاء الرجم من قوله عليه الصلاة والسلام وفعله، فهذا قوله، وكذلك قوله: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم)، وفعله لما أمر برجم الغامدية وماعز رضي الله تعالى عنهما.

حكم التعزير بالقتل

حكم التعزير بالقتل Q هل يشرع للحاكم أن يعزر بالقتل فيمن لم يرد الدليل على قتله؟ A نعم، وذلك مثل قتل شارب الخمر، فإنه يقتل تعزيراً.

معنى قوله: (المفارق للجماعة)

معنى قوله: (المفارق للجماعة) Q هل يدخل في قوله: (المفارق للجماعة) تلك الفرق المبتدعة الذين يرون السيف على حكام المسلمين؟ A الخوارج يرون السيف ولا يقال: إنهم كفار، ومفارقة الجماعة ليست قسماً مستقلاً مما يستحل به القتل في الحديث، وإنما هو وصف للمرتد عن دينه: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذا وصف لشيء واحد، فهي ثلاثة أقسام وليست أربعة، والثالث: هو التارك لدينه المفارق للجماعة، فهو شيء واحد، وليس المفارق للجماعة وحده شيئاً مستقلاً.

حكم من قتل نفسا وهو في بلد لا يقام فيه القصاص

حكم من قتل نفساً وهو في بلد لا يقام فيه القصاص Q مسلم يريد أن يطهر نفسه؛ ولكنه يعيش في بلاد لا يطبق فيها القصاص، فهل يسافر إلى بلاد يطبق فيها القصاص، ويطلب منهم إقامة الحد؟ A لا، بل يتوب إلى الله عز وجل، ويحسن في المستقبل، والله تعالى يتوب على من تاب، فعليه أن يستتر بستر الله، ويصلح ما أفسد، ويعمل صالحاً في المستقبل، ويحذر من المحرمات، ويصبر على طاعة الله، ويصبر عن معاصي الله، وبذلك يحصل الخير والفلاح والسعادة.

حكم من تزوج أمة ثم زنى

حكم من تزوج أمة ثم زنى Q لو تزوج رجل أمة وهو حر ثم زنى، فهل يعتبر محصناً؟ A نعم؛ لأنه قام بالزواج، ومعلوم أن زواج الأمة لا يجوز إلا إذا لم يستطع أن يتزوج المحصنة الحرة، فهو الآن ذاق هذه اللذة بنكاح صحيح وبعقد شرعي.

حكم من تزوج ولم يدخل بزوجته ثم زنى

حكم من تزوج ولم يدخل بزوجته ثم زنى Q من تزوج ولم يدخل بزوجته فهل يعد محصناً؟ A لا، إذا لم يحصل إلا مجرد العقد ولم يحصل دخول فإنه لا يعتبر محصناً.

وجوب محبة الخير لجميع المسلمين

وجوب محبة الخير لجميع المسلمين Q أنا أُحب الخير لنفسي وأحب الخير لبعض إخواني القريبين مني المحبين لي، ولا أحبه لكل المؤمنين، فهل هذا نقص؟ A هذا يخالف هذا الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وهؤلاء كلهم إخوان لك.

معنى محبة الإنسان لغيره ما يحب لنفسه في باب الفوز والتفوق

معنى محبة الإنسان لغيره ما يحب لنفسه في باب الفوز والتفوق Q إذا كان أحدنا يحب مثلاً أن يكون في المرتبة الأولى بين إخوانه في الدراسة، وهذه مرتبة لا تصلح إلا لواحد منا، فكيف أحب لإخواني ما أحب لنفسي؟ A هو يحب أن يجتهد ويحب لإخوانه أن يجتهدوا، والمتفوق سيكون واحداً، سواء كان هو أو غيره، المهم أنه يحب الأسباب التي توصل إلى هذا، وأنه يحب أن يجتهدوا كلهم، وأن يصيروا أقوياء متمكنين، ومعلوم أن التفوق سيكون لواحد.

زيادة: (من الخير) زيادة تفسيرية

زيادة: (من الخير) زيادة تفسيرية Q على ماذا تحمل الزيادة في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)؟ A هذه الزيادة -كما هو معلوم- زيادة تفسير وتوضيح؛ لأن المحبة إنما تكون في الخير، وهو خير الدنيا وخير الآخرة، أي: عموم الخير، سواء كان خيراً دنيوياً أو أخروياً، فكلمة (من الخير) تبين أن المحبوبات إنما هي في الخير.

حكم قتل الإنسان لمن قتل قريبه

حكم قتل الإنسان لمن قتل قريبه Q في بلادنا حيث لا تطبق الشريعة إذا قتل شخص شخصاً آخر فإن الحكومة تترك فرصة لعائلة القتيل أن يأخذوا بالثأر، ثم تتدخل بعدها بالقبض على القاتل، ثم الصلح بين العائلتين، وهذا ليس رسمياً، فهل يجوز الأخذ بالثأر؟ A يقول: إنه غير رسمي، ومعنى ذلك أنها فوضى، فما دام أنه ليس هناك شيء رسمي وإنما هو شيء شاع وانتشر، فالقتل الذي يؤدي إلى تقاتل وفتنة لا يجوز، ثم أيضاً القصاص لابد أن يثبت بشروطه، وليس بمجرد إنسان كان قريباً للقتيل فيذهب ويأخذ بالثأر؛ بل القتيل إذا كان له ورثة وفيهم واحد صغير عمره مثلاً نصف سنة، فينتظر حتى يكمل خمس عشرة سنة، وهل يطالب أو لا يطالب؟ فليست القضية مجرد إنسان قريب يريد أن يثأر لقريبه؛ لأن هذا يتوقف على طلب أولياء القتيل، وإذا كان فيهم صغير فينتظر حتى يبلغ، فليس القتل إذاً مجرد ثأر وتشفي.

نصيحة لمن ابتلي بحسد الآخرين والحقد عليهم

نصيحة لمن ابتلي بحسد الآخرين والحقد عليهم Q أنا رجل مبتلى ومريض حقود وحسود من صغري، فكيف أحل هذه المشكلة؟ A اسأل الله عز وجل، وألح عليه في الدعاء أن يشفيك مما أنت فيه، وأن يصلح حالك، واحرص على تغيير حالك بأن يكون بدل الحقد حب، وبدل الحسد رغبة في الخير للغير، وأن لا تحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولكن اسأل الله عز وجل أن يعطيك من فضله كما أعطاهم، وفضل الله تعالى واسع، وأما كون الإنسان يحسد غيره على النعمة التي أعطاه الله تعالى إياها، فيكون مرتكباً لأمر محرم، ويترك الطريق المشروع وهي أن يسأل الله من فضله، وأن يأخذ بالأسباب التي توصل إلى تحصيل ذلك الخير. فالحاصل: أن الإنسان المبتلى بهذا البلاء عليه أن يحرص على إنقاذ نفسه وعلى سلامة نفسه، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها.

لا يقتل الوالد بولده

لا يقتل الوالد بولده Q ذكر من المستثنيات من الحديث في القتل: قتل الوالد بولده، فأرجو التوضيح؟ A نعم، إذا كان الوالد هو القاتل فإنه لا يقتل بولده؛ لأنه كان سبب وجوده، فلا يكون ولده سبباً في عدمه.

الحكم على حديث: (أيما لحم نبت من سحت) ودلالته

الحكم على حديث: (أيما لحم نبت من سحت) ودلالته Q ما حال حديث: (أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به)، وهل يدل على الخلود في النار؟ A ذكر الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب الجزء الأول عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا كعب بن عجرة! إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا من سحت فالنار أولى به، يا كعب بن عجرة! الناس غاديان، فغاد في فكاك نفسه فمعتقها وغاد فموبقها، يا كعب بن عجرة! الصلاة قربان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة)، قال الألباني: صحيح لغيره. وعن جابر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا كعب بن عجرة! إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت)، رواه ابن حبان في صحيحه، وقال الألباني في الضعيفة: (وأيما عبد نبت من سحت فالنار أولى به)، هذه الزيادة التي جاءت في آخر الحديث إنما لم ألحقها به لأنها صحيحة بشواهدها الكثيرة عن جابر وكعب بن عجرة وأبي بكر الصديق، وقد خرجها المنذري، والحديث الذي ذكره في الضعيفة: (يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة). وفيما يتعلق بمعنى الحديث إذا ثبت شيء من ذلك فهو من جنس الأحاديث الأخرى مثل: (لا يدخل الجنة قتات) يعني: نمام، فهو من جنس أحاديث الوعيد التي إذا ثبت شيء منها فيكون من هذا القبيل؛ ويكون صاحبها تحت مشيئة الله عز وجل، ويفسر بأنه لا يدخلها مع من يدخلها من أول وهلة؛ لأن من الناس من يدخلونها من أول وهلة، ومنهم من لا يدخلها من أول وهلة، فيكون الذي جاء عنه عدم دخولها وهو مسلم معناه: أنه يتأخر دخوله فيها، فيكون غيره ممن صار من أهلها يتنعم، وهو يعذب في تلك الفترة بالنار من أجل عقوبته، وإذا شاء الله عز وجل أن يتجاوز عنه وأن يدخل الجنة من أول وهلة فإنه يدخل.

معنى قول ابن رجب: وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه

معنى قول ابن رجب: وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه Q في الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، يقول ابن رجب: فيؤخذ من هذا: أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، فما معنى كلامه؟ A معناه: أنه قد يجاب الإنسان وهو عنده هذه الموانع، كما أن الكفار يحصل لهم شيء من هذا.

حكم قول: إخواننا الكفار

حكم قول: إخواننا الكفار Q ما قولكم في الذي يقول: إخواننا الكفار؟ A لا أخوة بين المسلمين والكفار، ومعلوم أن الأخوة غالب إطلاقها إنما هو على أخوة الإسلام، وأما أخوة النسب البعيدة فإنها غالباً لا تكون مقصودة في هذا الحديث وأمثاله؛ ولهذا -كما ذكرنا- فإن الصواب في قوله: (حتى يحب لأخيه)، أن المقصود: لأخيه المسلم، وابن رجب رحمه الله ذكر في شرحه: أن المقصود بالأخوة هنا الأخوة العامة، فيدخل في ذلك الكافر، وأن الإنسان يحب له الهداية؛ لكن الغالب في إطلاق النصوص في مثل هذا أن المراد بها أخوة الإسلام، وليست الأخوة العامة التي يدخل فيها الكفار.

حكم الأخذ من اللحية

حكم الأخذ من اللحية Q هل الأخذ من اللحية وتخفيفها يعتبر نقصاً في الدين؟ A يعتبر معصية، ولا شك أن المعاصي تنقص الإيمان.

مدح ونصح للشيخ ربيع المدخلي

مدح ونصح للشيخ ربيع المدخلي Q ظهرت شائعة حامل لوائها بعض أصحاب القلوب المريضة، يزعمون فيها كذباً أنك طعنتَ في الشيخ ربيع في درس من دروسك، ولا نظن أنهم يقصدون بذلك إلا ضرب العلماء بعضهم ببعض، فما قولكم في هذا؟ وما توجيهكم لهؤلاء، فنحن نريد أن يؤخذ الشريط وينتشر تبياناً لباطلهم؟ A الشيخ ربيع من المشتغلين بالعلم في هذا الزمان، وله جهود جيدة وعظيمة في الاشتغال بالسنة، وكذلك التأليف، فله تآليف جيدة وعظيمة ومفيدة؛ ولكنه في الآونة الأخيرة انشغل بأمور ما كان ينبغي له أن ينشغل بها، وكان ينبغي له أن يشتغل بما كان عليه أولاً من الجد والاجتهاد في الكتابة المفيدة، وفي الآونة الأخيرة حصل منه بعض أمور لا نوافقه عليها، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياه لكل خير، وأن يوفق الجميع لما تحمد عاقبته. وأنا لا أطعن فيه، ولا أحذر منه، وأقول: إنه من العلماء المتمكنين، ولو اشتغل بالعلم وجد فيه لأفاد كثيراً، وقبل مدة كانت جهوده أعظم من جهوده في الوقت الحاضر، فأنا أعتبر الشيخ ربيعاً من العلماء الذين يسمع إليهم، وفائدتهم كبيرة؛ ولكن كل يؤخذ من قوله ويرد، وليس أحد بمعصوم، ونحن نخالفه في بعض الأمور التي حصلت لا سيما في هذا الزمان مما حصل من الفتنة التي انتشرت وعمت، وصار طلاب العلم يتهاجرون ويتنازعون ويتخاصمون بسبب ما جرى بينه وبين غيره، حيث انقسم الناس إلى قسمين، وعمت الفتنة وطمت، وكان عليه وعلى غيره أن يتركوا الاستمرار في هذا الذي حصلت به الفتنة، وأن يشتغل الكل بالعلم النافع دون هذا الذي حصل به التفرق والتشتت، وأسأل الله عز وجل للجميع التوفيق.

المقصود بالأخوة الواردة في الأحاديث

المقصود بالأخوة الواردة في الأحاديث Q ألا يستدل بقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} [آل عمران:168]، وقوله: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18]، في معرض كلامه على المنافقين، ألا يستدل به على أن الأخوة إذا أطلقت يراد بها الأخوة العامة؟ A لا، إذا جاء قوله في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقوله: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه) وقوله: (ولا يخطب على خطبة أخيه)، فالمقصود به المسلم ولا يقصد به الأخوة العامة التي يدخل فيها الكفار، وإذا جاء في حق المنافقين أنهم قالوا لإخوانهم، فلا يعني ذلك أن الأخوة التي يأتي ذكرها بين المسلمين أنها تحمل على ما هو أعم من ذلك فيدخل فيها الكفار، نعم الكفار تحب لهم الهداية ويدعى لهم بالهداية، ولكن لا يقال: إن الأخوة التي جاءت في النصوص تكون لهم ولغيرهم، بل المسلمون كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

سقوط القصاص إذا عفا أحد ورثة القتيل

سقوط القصاص إذا عفا أحد ورثة القتيل Q لو تنازل أحد ورثة القتيل عن حقه في القصاص، فهل يقام القصاص على الجاني أم يشترط إجماع الورثة؟ A لو تنازل واحد منهم سقط القصاص، ولهذا فلو كان للقتيل ورثة، وكان له طفل صغير، فإنه ينتظر خمسة عشر عاماً حتى يبلغ وينظر هل يطالب أو لا يطالب؟ فلا يشترط الاتفاق، بل إذا تنازل واحداً منهم فإنهم يرجعون إلى الدية، ولا يحصل القصاص.

حكم الساحر

حكم الساحر Q قلتم: إن الساحر إذا كان كافراً يقتل، فهل هناك ساحر ليس بكافر؟ A نعم، بعض العلماء يقول: إن هناك سحراً لا يصل إلى حد الكفر؛ ولكن السحر كله لا خير فيه.

حكم استتابة المرتد

حكم استتابة المرتد Q هل يستتاب الساحر أم يقتل بغير توبة؟ A كل مرتد عن الإسلام فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ ولكن هناك خلاف في بعض أولئك مثل الزنديق، فإن فيه خلافاً هل تقبل توبته أم لا تقبل؟ ومثل من يسب الله عز وجل، ويسب الرسول صلى الله عليه وسلم هل تقبل توبته أم لا تقبل ويقتل بدون استتابة؟

حكم استخدام المدرسين لكهرباء المدرسة لأجل اللعب بالكرة

حكم استخدام المدرسين لكهرباء المدرسة لأجل اللعب بالكرة Q نحن مجموعة من المدرسين في قرية من القرى، ودائماً نذهب إلى المدرسة من بعد المغرب إلى العشاء، وأحياناً إلى بعد العشاء، ونلعب الكرة، ونشغل الكهرباء، وهذا العمل قد أخذنا فيه إذناً من مدير المدرسة، فهل عملنا صحيح أو فيه شبهة؟ A المناسب أن تشتغلوا بغير اللعب، وأن تكونوا من أهل الجد، ولا تكونوا من أهل الهزل، لا سيما وأنتم معلمون وكبار، والمفروض أن تكونوا قدوة لغيركم، فكونوا قدوة في الجد، ولا تكونوا قدوة في الهزل، وما ينبغي أن تستعملوا الكهرباء في مثل هذا العمل. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[19]

شرح الأربعين النووية [19] لقد حرص الإسلام على تهذيب النفوس وتربيتها على الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، ومن تلك الأخلاق الحسنة التي أمر بها الإسلام وحث عليها: تأديب اللسان وعدم الكلام إلا بالخير، فإن لم يمكن ذلك فالسكوت، ومنها إكرام الجار وعدم إيذائه، ومنها إكرام الضيف إذا كان نازلاً عند أحد في بيته، وهناك خلق ذميم نهى عنه الإسلام وحذر منه؛ لما يترتب عليه من عواقب وخيمة، وهو خلق الغضب، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم من وقع فيه أن يعمل أموراً من شأنها أن تذهبه وتبعده.

شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)

شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، رواه البخاري ومسلم.

مناسبة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في أول الحديث

مناسبة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في أول الحديث هذا الحديث مشتمل على ثلاث جمل: الجملة الأولى: تتعلق بحفظ اللسان، وألا يقول به إلا خيراً، وإلاّ يكن فالصمت. والثانية: تتعلق بإكرام الجار. والثالثة: تتعلق بإكرام الضيف. وقد جاء بين يدي ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن من يتصف بالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقوم بهذه الأمور ويفعل هذه الأفعال، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو أس الأسس، وكل شيء يجب الإيمان به فإنه تابع للإيمان بالله عز وجل؛ ولهذا جاء في حديث جبريل تفسير الإيمان بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، ومن المعلوم أن الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر كله تابع للإيمان بالله، فمن لم يؤمن بالله فلن يؤمن بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا القدر. إذاً: الإيمان بالله عز وجل هو الأساس الذي يبنى عليه كل إيمان، فكل شيء يؤمن به ويصدق فهو مبني على الإيمان بالله وتابع له، فلهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس، وأما اليوم الآخر فقد ذكره مع الإيمان بالله تنويهاً وتذكيراً بالمعاد، وأن الناس يجازون على أعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالأوامر فإنه يكون ترغيباً، وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالنواهي فإنه يكون ترهيباً. إذاً: يأتي ذكر ذلك في الترغيب والترهيب؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يعرف أنه سيلقى الله عز وجل، وأنه سيحاسبه؛ فلذلك يأتي بهذه المأمورات لأنه سيجد الثواب والأجر أمامه، وكذلك فيما إذا كانت الأمور التي ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر بين يديها تتعلق بالمنهيات، فيكون ذلك ترهيباً وتخويفاً من أن يقع الإنسان فيها في الحياة الدنيا، ثم إذا جاء يوم القيامة وجاء الحساب وجد العقاب والعذاب عليها والعياذ بالله! إذاً: هذا هو السبب الذي لأجله ذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله؛ لأن فيه التذكير باليوم الآخر، ففي ذلك ترغيب وترهيب، والإنسان إذا عرف أنه قادم على الله تعالى وأنه سيلقى الله تعالى، وأنه سيجازيه على ما قدم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فهو يستعد لذلك اليوم بفعل المأمورات المرغب فيها، وترك المنهيات المرهب والمحذر منها، وهذا يتعلق بالأمور الثلاثة كلها؛ لأن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة قدم بين يديه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر. واليوم الآخر -كما هو معلوم- يبدأ بالموت لكل إنسان، فالحد الفاصل بين الدنيا والآخرة لكل إنسان هو الموت، فمن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، فإن الإنسان يجازى في قبره إما في نعيم وإما في عذاب، إما أن يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها ونعيمها، وإما أن يفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها، كما ثبت الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.

الأمر بقول الخير أو السكوت

الأمر بقول الخير أو السكوت قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) أي: أنه يحفظ لسانه، ولا يستعمله إلا في الخير، فلا يستعمله في الشر، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ اللسان، ومنها الحديث الذي سيأتي وهو الحديث التاسع والعشرون من هذه الأربعين، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل، وفيه: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم). وكذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، وما بين اللحيين هو اللسان، وما بين الرجلين هو الفرج. وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة تدل على أن استعمال اللسان يكون إما في الخير وإما في الشر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) يعني: يتكلم بما هو خير من ذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدلالة على الخير، وإرشاد الضال، ودلالة من يحتاج إلى الدلالة على الخير، كل ذلك يكون من الأعمال التي يستعمل فيها اللسان، وإذا لم يكن يستعمل الإنسان لسانه في الخير فلا أقل من أن يصمت، وأما أن استعمله فيما يعود عليه بالضرر فإن وباله عظيم، وضرره كبير، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم). ويقولون: (كلم اللسان أنكأ من كلم السنان)، أي: الجرح الذي يكون باللسان أشد من الجرح الذي يكون بالسنان، والإنسان إذا لم يتكلم بالكلمة غير السائغة فإنه يكون مالكاً لها؛ ولكنه إذا تكلم بها ملكته ولم يملكها، فلا يستطيع ردها أو إرجاعها، وفي المثل: كم من كلمة قالت لصاحبها دعني! سواء ندم الإنسان عليها أو لم يندم عليها ولكنه تضرر بها، فكأنها قالت له: دعني قبل أن يقولها، وقبل أن يقولها لو صرفها لسلم؛ لكنه لما قالها وخرجت من فيه ترتبت عليها آثارها، ولا يتخلص الإنسان منها، فإن كانت حقاً لله عز وجل فيستغفر الله عز وجل ويتوب، وإن كانت حقاً للناس فعليه أن يطلب منهم أن يجعلوه في حِلّ مما نالهم به من الغيبة أو من الكلام الذي يسوءهم، وسواء كان ما قاله فيهم واقعاً أو غير واقع؛ لأنه إن كان قاله فيهم وهو واقع فإنه يكون غيبة، وإن كان قاله فيهم وهو غير واقع يكون بهتاناً وكذباًَ، وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: أرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته). وعلى هذا: فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحفظ لسانه من الكلام إلا في خير، كما قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، ففيه الترغيب في الكلام في الخير، والترهيب من الكلام في الشر؛ لأنه إذا لم يستعمله في الخير واستعمله في الشر، فإن مغبة ذلك ومضرته تعود عليه.

حقوق الجار

حقوق الجار قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)، وهذا من الأدلة على تأكد حق الجار، وأن حقه عظيم على جاره ومعلوم أن الجيران بينهم من الصلة والارتباط والتقارب ما يسبب بينهم الخير والشر؛ ولهذا جاء الترغيب في إكرامه، وتأكيد حقه، والترهيب من إيذائه، وإلحاق الضرر به، وهذا الحديث من أدلة إكرامه، حيث قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره). وقد ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، فمن تأكيد حقه وعظيم حقه ظن أنه سينزل عليه وحي بأن له نصيباً من الميراث، فإذا مات الإنسان فإنه يكون من جملة الورثة، وإن لم يحصل التوريث، وإن لم ينزل وحي به، إلا أن هذا يدل على أنه من آكد الحقوق. وهذا يتعلق بإكرام الجار والوصية به. وأما التحذير من إيذائه فقد جاء في بعض الروايات لهذا الحديث قال: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره. فالحاصل: أن على المسلم أن يحسن إلى جاره، ويكرمه ويوصل إليه كل خير، ويدفع عنه كل شر البر يوصله إليه والضرر يدفعه عنه، ويكون هو وإياه في راحة وطمأنينة، فلا يكون بينهما خصام ولا شحناء ولا عداوة، وإنما التآلف والتقارب، والإحسان من بعضهم لبعض. ثم إن الجيران يتفاوتون: فمنهم من يكون قريباً في النسب وهو مسلم، فله ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار، وإذا كان ليس بقريب ولكنه مسلم فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار، وإن لم يكن مسلماً ولا قريباً فله حق واحد: وهو حق الجوار، حتى ولو كان كافراً فيحسن إليه بدعوته إلى الإسلام، والحرص على هدايته، ودفع الإيذاء عنه، وكذلك يكون بالإهداء إليه وإعطائه والإحسان إليه، وإتحافه بما يحصل عنده من شيء يتحفه به، وعندما يكون هناك طعام فيعطيه منه ويحسن إليه، وهذا من أسباب دعوته إلى الإسلام بالقدوة وبالمعاملة الطيبة، فيكون الإنسان قد جمع بين الدعوة إلى الله بالفعل والدعوة بالقول؛ حيث يدعو من كان كافراً إلى الإسلام، وأيضاً يرى الكافر منه المعاملة الطيبة والأخلاق الكريمة التي يأمر بها الإسلام، فقد يكون ذلك من أسباب إسلامه ودخوله في الإسلام. ثم إن الجيران أيضاً متعددون، ولكن أولاهم بالإحسان والبر أقربهم باباً إليه، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي جيران فإلى أيهم أهدي؟ قال: إلى من كان أقربهم باباً)، فمن كان أقربهم باباً فهو الذي يهدى إليه؛ وذلك لأن من كان أقرب باباً يشاهد ويرى ما يدخل ويخرج من بيته، وقد يرى شيئاً فتتعلق به نفسه وتتطلع إليه، فكونه يحسن إليه يكون أولى من الأشخاص الذين أبوابهم متباعدة أو من خلف البيت ولا يراهم إلا بزيارتهم أو بالتلاقي معهم في المسجد، بخلاف الذي يكون بابه مجاوراً وقريباً من بابه، فإنه يرى ما يدخل على جاره وما يخرج منه، فيكون أولى من غيره بالبر والإحسان، وإن كان الأولى إذا كان هناك مجال بأن يحسن إليهم أجمعين فيحسن؛ ولكن حيث لا يتمكن الإنسان من الإحسان إلى الجميع، وإنما يقدم ويؤخر، فالذي يقدم هو من كان أقرب باباً من غيره.

إكرام الضيف

إكرام الضيف قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). الضيف الوافد على الإنسان له حق الضيافة وله حق الإكرام، والضيافة حدها ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة، وهي من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، والذي يفعلها من أهل الشيم والمروءات؛ لأن هذا حق، والإنسان قد يحتاج إلى غيره بأن يكون ضيفاً عنده، فإذا كان ضيفاً عنده فإنه يحسن إليه ويكرمه، وفي أول يوم يتحفه بمزيد عناية لإظهار إكرامه، ثم يطعمه مما يطعم وما زاد على ثلاثة أيام فإنه صدقة، ولا يبقى عنده ويثقل عليه، بل عليه إذا اضطر إلى ذلك أن يطلب منه الإذن له بالبقاء زيادة على ثلاثة أيام. إذاً: هذا حديث عظيم اشتمل على هذه الأمور الثلاثة التي أولها: يتعلق باللسان، والثاني والثالث: يتعلقان بالأفعال، فالأول قول للخير وامتناع عن الشر، والثاني والثالث: إكرام للجيران والأضياف.

شرح حديث: (لا تغضب)

شرح حديث: (لا تغضب) عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب، فكرر مراراً، قال: لا تغضب)، رواه البخاري. هذا الحديث من أقصر الأحاديث وأقلها لفظاً ومبنى؛ ولكنه عظيم وواسع وجامع، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه متكون من كلمتين: (لا تغضب). وفيه: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين على الخير؛ وذلك لطلب هذا الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه وصية يأخذ بها، فكون الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه الوصية، فإن هذا يدلنا على حرص الصحابة على الخير، وعنايتهم بمعرفة الأحاديث وتلقيهم عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ويحتمل أن يكون هذا الرجل السائل متصفاً بصفة الغضب، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ما هو متعلق ومتصف به، والنهي عن الغضب المقصود منه النهي عن الأسباب التي توصل إليه، والآثار التي تترتب عليه، وأما نفس الغضب فإن الناس يتفاوتون فيه، والله تعالى قد يطبع بعض الناس على أن يكون غضوباً، وبعضهم على أن يكون حليماً، وأن لا يستفزه الكلام، ولا يسرع إليه الغضب. والنهي عن الغضب إنما هو نهي عن الأسباب التي توصل إليه، وعدم الأخذ بها، وكذلك الآثار التي تترتب عليه، وهي كون الإنسان يعمل أعمالاً قبيحة بسبب الغضب، أو يقول أقوالاً ويتفوه بكلام بسبب الغضب، فإنه مأمور بأن يبتعد عن الأسباب التي تؤدي إلى الغضب، فإذا وجد الغضب فإنه مطلوب منه أن يكظم الغيظ، وأن لا يأتي بما يترتب عليه من مد يديه أو إطلاق لسانه في أمور تعود عليه وعلى غيره بالمضرة.

فائدة تكرار النبي صلى الله عليه وسلم للنهي عن الغضب

فائدة تكرار النبي صلى الله عليه وسلم للنهي عن الغضب إن تكرار الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يغضب دال على تأكيد هذه الوصية وعلى أهميتها؛ لأنه لما سأله وأعاد عليه السؤال وهو في كل ذلك يقول له: (لا تغضب)، هذا التكرار من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الوصية يدل على تأكدها، وأهميتها، وأن الإنسان يحرص على الابتعاد عن أسباب الغضب، وعندما يوجد الغضب يحرص على أن لا يحصل منه في وقت الغضب ما لا تحمد عاقبته من أقوال أو أفعال قبيحة، كأن يمد يده على غيره بالضرب أو بالإتلاف لشيء من ماله أو غير ذلك، فإنه مطلوب منه أن يبتعد عن الأخذ بالأسباب المؤدية إليه، وكذلك يبتعد ويحذر الوقوع في الأمور التي تترتب عليه سواء كانت قولية أو فعلية.

أمور ينبغي فعلها عند الغضب

أمور ينبغي فعلها عند الغضب من الأسباب التي تبعد الغضب وتنهيه ويسلم الإنسان من التمادي فيه: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما يغضب عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا من عمل الشيطان، فهو الذي يريد من الإنسان أن يغضب، وأن يحصل له نتيجة لهذا الغضب أضراراً عليه في دينه ودنياه، فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما ثبت بذلك الحديث في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم. أيضاً: إذا كان قائماً فعليه أن يجلس، وإذا كان جالساً فعليه أن يضطجع؛ وذلك لأنه إذا كان قائماً فإنه يكون أقدر وأنشط على أن يتصرف وعلى أن يفعل ويقدم على أمور لا ينبغي الإقدام عليها؛ لأن القائم والواقف قد يقدم على ما لا يقدم عليه الجالس، وكذلك إذا كان جالساً وبقي معه الغضب فإنه يضطجع، وقد جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان في بيته أو مع أهله وحصل منه الغضب فعليه أن يخرج من المنزل، أو يترك المكان الذي حصل فيه الغضب؛ وذلك يجعل الإنسان يخف عنده الغضب ويهدأ، كما حصل من علي رضي الله عنه لما كان مع فاطمة رضي الله عنها وحصل بينهما شيء؛ ثم إنه خرج وذهب إلى المسجد لينام فيه، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في بيته وسألها عنه، فأخبرته بالذي حصل، وأنه غضب وخرج، فبحث النبي صلى الله عليه وسلم عنه ووجده في المسجد، فجاء إليه وقد انحسر رداؤه وصار التراب على جسده، فكان يحثو عنه التراب ويقول: (قم أبا تراب، قم أبا تراب). فعلى الإنسان أن يبتعد عن أسباب الغضب، وإذا وجد فيأخذ بالأسباب التي تخلص منه، ومنها هذه الأمور وهي: إن كان قائماً يجلس، وإن كان جالساً يضطجع، أو يخرج، أو يقوم من المجلس الذي وقعت فيه تلك الخصومة وذلك الغضب، حتى لا يحصل ما لا تحمد عاقبته؛ وكذلك أيضاً يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث -كما عرفنا- مع اختصاره ووجازته يدل على هذا الأمر العظيم، وعلى أهمية تلك الوصية، وأنها عظيمة لكونها وصفت بأنها وصية، ولكون النبي صلى الله عليه وسلم كررها، فكل ذلك يؤكد أهميتها ويدل على أهيمتها. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الغضب المحمود

الغضب المحمود Q تحدثتم عن الغضب المذموم، فهل هناك غضب محمود؟ A نعم، الغضب المحمود هو الذي يكون لله، ومن أجل الله، وإذا انتهكت حرمات الله، فهو يغضب لله، هذا هو الغضب المحمود، والغضب للنفس هو الغضب المذموم.

استحباب السكوت عند الغضب

استحباب السكوت عند الغضب Q هل يستحب السكوت عند الغضب؟ A لا شك أن السكوت وعدم الكلام فيه السلامة؛ ولا أذكر فيه نصاً، كما أن السكوت يمنع الإنسان من الانطلاق في الكلام البذيء أو القبيح، وإطلاق العنان للسان، وكون الإنسان يتمكن من السكوت والصمت ويملك نفسه فهذا أمر محمود، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وقوله: (ليس الشديد بالصرعة)، الشديد: هو القوي الذي عنده قوة في جسده ويصارع الرجال ويصرعهم، فليس هذا هو الشديد حقيقة وإن كان شديداً؛ ولكن الشدة الحقيقية هي في الذي يملك نفسه عند الغضب، هذا هو الذي شدته وقوته حقيقية ولا شك أن من يملك نفسه فإنه يسكت؛ لأنه لو أطلق لسانه فقد يتكلم بكلام قبيح، وقد يتبع القول بالفعل، ولكنه إذا صمت وسكت لا شك أن هذا فيه كظم للغيظ، وفيه منع للسان من إطلاقه فيما يعود عليه بالضرر.

المقصود بنفي الإيمان الوارد في الأحاديث

المقصود بنفي الإيمان الوارد في الأحاديث Q ما المقصود بنفي الإيمان الوارد في بعض الأحاديث؟ A يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وإذا ذكر اسم الإيمان مجرداً دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، كقوله في حديث الشعب: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان. مثل الحديث الذي ذكر فيه إكرام الجار والضيف من أعمال البر، وهي من الإيمان. قال: ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دل على أنها واجبة، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبة، فإن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، ونحو ذلك، فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنه ما من عمل وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر وعمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل، فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كتاب الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع، فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئاً، لم يجز أن يقال ما فعله لا حقيقة ولا مجازاً. وهذا واضح في أن نفي الإيمان يكون في أمر واجب، لكن كما هو معلوم أن تلك الأمور مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، لا شك أن الأمور التي تحصل محبة الإنسان لها متفاوتة، ليست كلها على حد سواء، لكن الإيمان لا ينفى إلا عن شيء واجب، كما قال شيخ الإسلام في هذا الكلام. وقال في موضع آخر: وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه لم يكن معه ما أوجبه الله من الإيمان، فحيث نفى الله الإيمان عن شخص فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان، ويكون من المعرضين للوعيد، ليس من المستحقين للوعد المطلق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا)، كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله عليه، أو فعل ما حرمه الله ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفي عنه الإثم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد السالمين من الوعيد. وقال في موضع آخر: والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب، لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك، ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، ونحو ذلك كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج والصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان). كل هذا واضح في بيان أن نفي الإيمان يكون فيما هو واجب، وليس فيما هو مستحب. وعلى هذا فالحديث الذي مر بنا والذي سئلت وقلت: إنه نفي للكمال المستحب، هذا خطأ والصواب أنه نفي للكمال الواجب.

حكم الكلام في الشخص بدون ذكر اسمه

حكم الكلام في الشخص بدون ذكر اسمه Q لو قلت: رأيت رجلاً يفعل كذا وكذا، وفلان يفعل كذا وكذا ولم أذكره باسمه، فهل يعتبر ذلك غيبة؟ A إذا كان إبهامك للرجل لا يخرجه عن كونه معلوماً فهو معلوم وإن أبهم، فإن ذلك في حكم المعلوم، وأما إذا كان لا يعرف ولا ينصرف إليه الفهم في حال من الأحوال، فلا شك أن هذا لا يقال له غيبة، لكن لا ينبغي الكلام والاشتغال إلا فيما هو خير وفيما فيه منفعة، أما إذا كان لا يفهم ولا يحتمل أن يكون معلوماً فإنه لا يكون غيبة، وإنما الغيبة حيث يكون معلوماً فعلاً أو في حكم المعلوم.

حق الجار الكافر إذا كان قريبا

حق الجار الكافر إذا كان قريباً Q إذا كان الجار قريباً وكافراً، فهل له حق واحد أو حقان؟ A له حقان: حق الجوار وحق القرابة.

ما ينبغي فعله مع الجار الكافر

ما ينبغي فعله مع الجار الكافر Q هل أكرم جاري إن كان كافراً علماً بأنه لم يتكلم معي أبداً؟ A عليك أن تتكلم معه بدعوته إلى الإسلام، وترغيبه في الإسلام، وحثه على أن يدخل في الإسلام، وعليك أن تفاتحه وأن تدعوه إلى الإسلام، ولا تتركه دون أن تكون قد عملت على هدايته وعلى إخراجه من الظلمات إلى النور.

ضابط الجار

ضابط الجار Q ما ضابط الجار؟ A الجار: هو المجاور الملاصق، وكذلك أيضاً من كانوا قريبين من الإنسان فكلهم جيران سواء كانوا ملاصقين أو غير ملاصقين، لكنهم يتفاوتون، فمن كان ملاصقاً فحقه آكد من غيره، وهو الذي بسببه في الغالب مع عدم السلامة والاستقامة يكون الضرر بين الجيران، بخلاف المتباعدين الذين ليس بينه وبينهم جوار ملاصق، فالغالب أنه لا يحصل اعتداء من بعضهم على بعض أو من بعضهم إزاء لبعض، ولهذا كان الجيران الملاصقون الذين هم قريبون جداً من الإنسان آكد من غيرهم، وأما تحديده ببيوت معينة فلا أعرف نصاً في هذا.

مناسبة ذكر إكرام الجار مع الإيمان باليوم الآخر

مناسبة ذكر إكرام الجار مع الإيمان باليوم الآخر Q ما مناسبة ذكر إكرام الجار عند ذكر اليوم الآخر؟ A لأجل الترغيب في إكرامه، وقد ذكرنا أن ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر هو من باب الترغيب في المأمورات، كما أنه في المنهيات يكون من باب الترهيب، وهذا فيه ترغيب في إكرام الجار؛ لأن الإنسان إذا عرف أن عليه حقاً للجار وأنه يكرمه، فالذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يؤدي هذا المطلوب وهذا الحق الواجب عليه، وإذا كان بخلاف ذلك فإنه يفرط في هذا الحق، ولا يكون مؤدياً للواجب، فيكون مستحقاً للعقوبة في الدار الآخرة.

نقص الإيمان يكون بترك الواجبات وفعل المنهيات

نقص الإيمان يكون بترك الواجبات وفعل المنهيات Q هل يصح أن يقال: إن من لم يكرم جاره ويكرم ضيفه فهو ناقص الإيمان؟ A الإنسان إذا ترك ما هو واجب عليه يكون ناقص الإيمان؛ لأن نقص الإيمان يكون بترك المأمورات الواجبة أو ترك ما هو واجب مما لا يكون تركه مخرجاً من الملة، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالمنهيات، فكونه يقع فيها فإنه ينقص إيمانه، فنقص الإيمان يكون بترك الواجبات وبفعل المحظورات، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن المعلوم أن الطاعة هي أداء الواجب.

مناسبة ترتيب حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)

مناسبة ترتيب حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) Q ذكرتم في حديث جبريل أنه بدأ بالأهم فالأهم، فهل في هذا الحديث أنه بدأ بالأهم ثم المهم؟ A لا شك أن هذه الأمور الثلاثة متفاوتة، فاللسان في غاية الأهمية، فلابد للإنسان من أن يحفظ لسانه؛ لأنه يوقع في المهالك، وحق الجار لا شك أنه آكد من حق الضيف؛ لأن الجار دائم ومستمر وأما الضيف فهو طارئ لا يأتي إلا قليلاً أو نادراً، وأما الجار فهو ثابت وملازم فحقه متأكد، ونفي الضرر عنه مطلوب باستمرار، وأما الضيف فهو طارئ إما أن يكرم وإما أن لا يكرم، فليس هو مثل الشخص الذي إذا حصل إيذاؤه والإخلال في حقه فإن الإنسان يأثم باستمرار، فلا شك أن حق الجار يختلف عن حق الضيف باعتبار أنه مستمر ودائم، وأما حق الضيف فطارئ، فهذه الأمور الثلاثة يبدو أن بعضها متصل ببعض ومرتبة على حسب أهميتها.

الفرق بين الغضب لله والغضب للنفس

الفرق بين الغضب لله والغضب للنفس Q ما هي الأمور التي تميز بين الغضب لله والغضب للنفس؟ وكيف يعرف الإنسان أنه غضب لله أو لنفسه إذا سابه شخص مثلاً؟ A الغضب لله -كما هو معلوم- يكون إذا انتهكت محارم الله، وإذا رأى أموراً منكرة يستطيع أن يغيرها بيده فيغيرها بيده إن كان من أهل القدرة، وإن كان من غير أهل القدرة فيتحول إلى الإنكار باللسان، وإذا لم يحصل هذا فلا أقل من أن يتأثر بقلبه، وأن يظهر ذلك على وجهه من حزنه وتألمه، فلا بد أن يتأثر قلبه لهذا المنكر، حتى إنه قد يحصل له ضرر بسبب هذا التأثر، فالغضب لله عز وجل يكون إذا تركت الأمور الواجبة وفُعلت الأمور المحرمة بحيث يغضب لله عز وجل. أما الغضب للنفس فهو فيما يجري بين الناس من أمور بسبب المخالطة، فيجري بينهم شيء من الخصام، أو شيء من النزاع لأمور دنيوية، أو لشيء في النفوس، فيحصل الكلام والغضب بسبب ذلك، في هذا شيء من حظ النفس، هذا هو الذي يكون مذموماً، والذي كان من أجل الله تعالى هذا هو الذي يكون محموداً.

حكم من ترك شيئا في تركه نفي لكمال الإيمان الواجب

حكم من ترك شيئاً في تركه نفي لكمال الإيمان الواجب Q هل معنى كلام شيخ الإسلام: نفي كمال الإيمان الواجب، أن ذلك الفعل حرام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، أي: أن حب الخير للغير واجب ومن تركه فهو آثم؟ A نعم، أي: أن الإنسان الذي لا يوجد فيه هذا الوصف من المعلوم أن هذا أمر قلبي، فمجرد المحبة ليس فيها كلفة ولا مشقة عليه، وإنما كما يحب الخير لنفسه يحبه لغيره، فالإنسان الذي لا يحصل منه محبة الخير للغير، بل يكره ذلك ويوجد منه ما هو مقابل ذلك، فلا شك أنه آثم، وهو لن يخسر شيئاً، فما عليه إلا أن يكون قلبه سليماً، ويتصف بهذا الوصف.

أولى الجيران بالإحسان

أولى الجيران بالإحسان Q إذا كان لي جاران أحدهما يتهاون في الصلاة وهو الأقرب إلي باباً، والثاني محافظ على الصلوات ولكنه أبعد باباً، فمن الأولى حينئذٍ بالإحسان؟ A كلهم أولى بالإحسان، وكلهم يستحقون الإحسان، فهذا أولى بالإحسان من جهة الحرص على هدايته، فهو أولى بأن تعتني به وتحسن إليه، وأما فيما يتعلق بالمنفعة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن من يكون أقربهم باباً فهو الأولى بالمنفعة، وذلك حيث لا يمكن الإحسان للجميع وإتحاف الجميع بما يمكن إتحافهم به، فإنه يقدم من يكون أقرب باباً، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كيفية التعامل مع الجار المؤذي

كيفية التعامل مع الجار المؤذي Q لي جار كان يدخل بيتي ويأكل عندي، وفي يوم من الأيام دخل بيتي وسرق شيئاً، ورآه بعض الجيران وشهدوا عليه، فهل أهجره الآن بعدما أحسنت إليه أو ماذا أفعل؟ A لا تهجره، ولكن انصحه وكن على حذر منه.

خطورة الغيبة

خطورة الغيبة Q هل الغيبة من الكبائر؟ ولماذا لم يذكرها الذهبي في كتابه الكبائر؟ A لا أدري هل ذكرها الذهبي أو لم يذكرها، لكن الذهبي إنما ذكر في كتابه سبعين كبيرة ختمها بكبيرة سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن جاء في القرآن الكريم ما يدل على خطورة الغيبة وأنها في غاية القبح، حيث قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] ثم قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] فمثل هذا يدل على خطورة هذا الأمر.

نقص إيمان من ترك الطاعات

نقص إيمان من ترك الطاعات Q هل صحيح أن من ترك الواجب ينقص من إيمانه الواجب، ومن ترك المستحب ينقص من إيمانه المستحب؟ A من ترك الإيمان الواجب نقص إيمانه من أجل تركه الواجب، وأما المستحب فلا يعاقب تاركه، ولكن كما جاء عن السلف: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومعنى ذلك: أن الطاعات تزيده سواء كانت فيما يتعلق بالواجبات أو فيما يتعلق بالمستحبات. وأما بالنسبة لكونه ينقص بترك المستحب فليس واضحاً من جهة أن المستحب ليس بواجب، بل هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، والنقص إنما يكون بترك الواجب ففيه ترك وإخلال، ولا شك أن كون الإنسان يعمل المعصية فإنه ينقص إيمانه، ولا يقال: إن ما لم يفعل الإنسان مستحباً نقص إيمانه، ولكنه ما حصل فيه زيادة، فإن الزيادة تحصل لمن فعل أمراً متسحباً، ولكن النقص يكون بترك الواجبات، والناس في هذا متفاوتون. ومما يدل على ذلك قول ذلك الأعرابي حينما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال عليه الصلاة والسلام: (أفلح إن صدق)، ومعناه أن أتى بالأمور المطلوبة منه، لكن كونه يقع منه إخلال في واجب لا شك أن فيه نقصاً. وأما من حيث التفاوت فإن الناس متفاوتون، فمنهم من يكون كامل الإيمان، ومنهم من يكون ناقص الإيمان، لكنه إن لم يفعل أمراً مستحباً فلا يقال: إنه نقص إيمانه لعدم فعله المستحب، نعم يمكن أن يقال: نقص إيمانه إذا ترك السنة رغبة عنها وزهداً فيها، هذا هو الذي ينقص، أما إذا تركها وهي واجبة فيقال: إن عدم إتيانه بها من أسباب نقص إيمانه، لكن من ناحية التفاوت فالناس متفاوتون، فمن أتى بالمستحبات مع الواجبات فهو أكمل إيماناً من الذي اقتصر على الواجبات.

أمور تجوز فيها الغيبة

أمور تجوز فيها الغيبة Q إذا سئل رجل عن رجل من جيرانه فأخبر بما فيه، فهل هذا من الغيبة؟ A إذا كان هذا السؤال من أجل مصلحة وفائدة، والسؤال إنما هو لأمر يحتاج إليه السائل فهذا لا بأس به، مثل كونه يريد أن يصاهره، أو أن يكون بينه وبينه مشاركة في تجارة أو نحوها، فله أن يخبر بالشيء الذي يعلمه منه مما يفيد الإنسان، كما جاء في قصة المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية وعن أبي جهم، وذكرت أنهما قد خطباها، فهي سألت من أجل أمر يتعلق بصلة الزواج، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى ما في هذا وما في هذا. وهناك أمور سبعة ذكرها العلماء في المصطلح وذكرها النووي في رياض الصالحين ليست من الغيبة، فيذكر الإنسان أخاه بما يكره ولا يعتبر غيبة، وهذا في الأمور التي منها هذا الذي أشرت إليه، أي: في الاستشارة، وكذلك فيما يتعلق بقبول الروايات والأخبار والاعتماد عليها، وكذلك كون الإنسان يتكلم في حق من أساء إليه في مطل ماله، فرغم أن له قدرة على الوفاء ومع ذلك فإنه يماطله، فهذا كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)، يعني: يحل الكلام في عرضه، كأن يقول: إن هذا ظلمني، ويتكلم فيه بشيء لا يعجبه، وذلك لأن (لصاحب الحق مقالاً) كما جاء في هذا الحديث.

فضل كظم الغيظ وعظيم أجره

فضل كظم الغيظ وعظيم أجره Q قال صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين من أيهن شاء)، رواه أبو داود، ما معنى قوله: (حتى يخيره من الحور العين)؟ وهل من كظم عدة مرات يخير بعدد هذه المرات؟ A معلوم أن الإنسان الذي يكون هذا شأنه، وأنه يستطيع كظم الغيظ، هو الذي يستحق هذا الأمر الذي جاء في الحديث، وأما كونه يكظم الغيظ مرة وفي عشرات المرات يطلق لسانه ويطلق يده، فهذا قد أساء إلى نفسه وأساء إلى غيره.

حكم أخذ الإنسان من مال غيره بدون إذنه إذا لم يجد من يضيفه

حكم أخذ الإنسان من مال غيره بدون إذنه إذا لم يجد من يضيفه Q رجل نزل في قرية ولم يضيفه أحد، فهل يجوز له أن يطعم نفسه بدون إذن صاحب البيت؟ A في هذا الزمان إذا كان مع الإنسان شيء من النقود فإن عليه أن يستفيد مما معه من النقود دون أن يحتاج إلى أحد؛ لأن وصول الإنسان إلى ما يريد متيسر ما دام معه نقود، فإن المطاعم مفتوحة والفنادق كذلك مفتوحة، فلا يذهب ويأخذ من بيت أحد شيئاً إلا إذا كان محتاجاً إلى ذلك كما جاء في الحديث: (يأخذ منهم بقدر قراه)، لكن ما دام أن الأمور الآن ميسرة والنقود في جيبه، فيأخذ من نقوده، ولا يعمل على أن يأخذ شيئاً من أموال الناس.

اسم الصحابي الذي أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يغضب

اسم الصحابي الذي أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يغضب Q من الرجل الذي أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم لا تغضب؟ A ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن هذا الرجل يقال له: جارية بن قدامة كما جاء في بعض الروايات.

ما يقول الرجل لمن قال له: أوصني

ما يقول الرجل لمن قال له: أوصني Q هل يجوز أن أقول لمن قال لي أوصني: لا تغضب، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ A لا، أوصه بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله عز وجل يدخل فيها ترك الغضب.

حال حديث: (إذا غضب أحدكم فليتوضأ)، والرد على الشيخ الألباني في حجاب المرأة

حال حديث: (إذا غضب أحدكم فليتوضأ)، والرد على الشيخ الألباني في حجاب المرأة Q هل ورد حديث معناه: أنه إذا غضب الشخص فيتوضأ ويصلي ركعتين؟ A ورد حديث فيه ضعف، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن محمد السعدي أنه كلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم قال: حدثني أبي عن جدي عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). قال المحشي شعيب بن ألبان رواه أحمد وأبو داود والبخاري في تعليقه والبغوي في شرح السنة، وسنده حسن، وأخطأ من ضعفه ممن ينتحل صناعة الحديث بزماننا، -يقصد الألباني، فإنه ضعفه في السلسلة الضعيفة- ونحن نقول: لا نعلم أحداً في هذا الزمان أعلم من الألباني في الحديث، ولا أكثر اشتغالاً وعناية بالحديث، وما أفاد المسلمين أحد في هذا الزمان في علم الحديث مثلما أفادهم الشيخ الألباني رحمه الله، فإذا كان هو المقصود فقد أساء إلى هذا المتكلم نفسه. ونحن نقول هذا الكلام وإن كنا نخالفه في أمور لا تعجبنا منه، ونرى أنه غير مصيب فيها، لا سيما مثل قوله بعدم وجوب ستر المرأة وجهها، فإن هذا ننكره إنكاراً شديداً، ولكن مع ذلك نقول: إن الشيخ الألباني لا نستغني نحن ولا غيرنا من طلبة العلم عن علمه، وما يحصل منه من أمور يؤاخذ عليها فهي مغمورة في صوابه الكثير وعلمه الغزير، ونفعه العميم، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المسألة -مسألة الحجاب- من المسائل التي ما كنت أود أن الشيخ الألباني رحمه الله حرص على العناية والاهتمام بها وكثرة التأليف فيها، ومتابعة من يتكلم فيها، حتى تعددت المؤلفات فيها، ولذلك أقول: لو كان ما يقوله الألباني هو الصواب، فإن هذا من الحق الذي ينبغي إخفاؤه ولا يحرص على إظهاره؛ لأنه لا يترتب على إظهاره إلا المضرة، وذلك أن كلامه في تقرير أن ستر الوجه ليس بواجب جرأ كثيراً من النساء إلى التساهل بالحجاب، ولا شك أن مثل هذا عدم إظهاره وعدم تقريره أولى؛ لما يترتب عليه من فوات مصلحة؛ بل يترتب عليه مضرة؛ لأنه جرأ بعض النساء اللاتي يردن التفلت، ويردن الخروج عن الشيء الذي يجب على النساء أن تكون عليه؛ لأنها تجد من يفتيها ومن تعتمد عليه في انطلاقها من الشيء الذي فيه حشمتها وسلامتها، وفيه البعد عن الشرور بسبب مثل هذه الفتوى. ومن المعلوم أنه إذا كانت الشريعة الإسلامية تأمر المرأة بأن ترخي ثوبها حتى تغطي رجليها، فكيف تأمر هذه الشريعة بتغطية الرجل ثم تبيح كشف الوجه؟! والوجه هو الذي يكون فيه الجمال، والرجل ليس فيها جمال مثل ما في الوجه، والذي يبحث عن الجمال لا يبحث عنه في الرجلين، إنما يبحث عنه في الوجه، فمادام أن الشريعة أمرت بتغطية الرجلين وسترهما فلا شك أن تغطية الوجه هو أولى؛ لأن فيه الحسن والجمال، وفيه تكون الفتنة، والجمال والدمامة ترى في الوجوه لا في الأرجل. لذلك أقول: هذه المسألة في الحقيقة ما كنت أود أن الشيخ رحمه الله أشغل نفسه بها وأتعب نفسه بها، وأراح الناس مما يترتب عليها من مضرة، ولو كان الأمر كما يقول وأنه ليس بواجب، فإن عدم الاهتمام به وعدم إظهاره لا يفوت بتركه شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له معاذ: (يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، فهذا أمر حق ولكنه أمر بكتمه حتى لا يترتب عليه مضرة، ومعاذ أخبر به عند موته تحرجاً، وكذلك أيضاً الحديث الذي فيه أن الصحابة فقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم وخشوا عليه، فكان أن سبق أبو هريرة إليه -وكان في حائط- وأخبره بأن الناس فزعون، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وقال له: (اذهب ومن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة، فلقيه عمر رضي الله عنه فأخبره بالخبر فضربه عمر على صدره وانتهره، فرجع إلى رسول الله وأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: لماذا فعلت يا عمر ذلك؟ قال: يا رسول الله! دعهم يعملون، قال عليه الصلاة والسلام: دعهم يعملون)، إذاً: حتى لو كان هذا من الأمور التي هي ليست واجبة، فإن عدم إعلام الناس بأنها غير واجبة أصلح لهم في دينهم ودنياهم. فالحاصل: أن هذه الكلمة إذا كان يعني بها الشيخ ناصر فإن المتكلم بها قد ضر نفسه؛ لأنه تكلم في رجل ما نعلم أحداً خدم السنة في هذا الزمان مثل هذا الرجل رحمه الله.

التعامل مع الجار المبتدع

التعامل مع الجار المبتدع Q الجار الذي هو من أهل البدع وقد تكون بدعته مكفرة، كيف أتعامل معه؟ A تعامل معه بدعوته والحرص على إنقاذه، وكما تعامل الكافر الذي هو كافر أصلي أيضاً تعامله، وإذا كان هجرك إياه يفيده فافعل، لكن في الغالب أن الجيران لا يؤثر هجرهم، إنما الذي يؤثر مثل هجر الوالد للولد، وهجر الشيخ للتلميذ وغيرهم ممن قد يؤثر فيهم الهجر، وأما قضية الجيران فكون الإنسان يبقى على صلة به ويحرص على هدايته خير من أن يهجره ويبتعد عنه.

ما ينبغي لمن استأجر شقة بجوار أناس معهم دشوش

ما ينبغي لمن استأجر شقة بجوار أناس معهم دشوش Q استأجرت شقة في عمارة وفيها جيران لي لديهم أطباق فضائية، فهل علي إثم، وماذا يجب علي نحوهم؟ A عليك أن تحرص على نصيحتهم وتخليصهم مما هم فيه من البلاء، وإذا تمكنت من أن تبتعد عن هذه العمارة التي فيها هؤلاء فلا شك أنه أولى لك، وإذا كان بقاؤك فيها لا يترتب عليه ضرر عليك ولا على أولادك، بحيث أنه قد يحصل منهم خروج ودخول عليهم فيتضرروا، وبقيت وأنت مضطر إلى ذلك فلا بأس، لكن كونك تبحث عن الجيران قبل أن تنزل لا شك أن هذا هو الأولى، وهذا هو المطلوب منك، وأيضاً ينبغي عليك عندما تأتي أن تكلم صاحب الدار على أنه لا يكون فيها مثل هذه الأطباق التي تستقدم كل شر وتستورد كل بلاء، فإن كل قاذورات وأوساخ العالم تصل إلى الناس في بيوتهم عن طريق هذه القنوات الفضائية الضارة. والله المستعان. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[20]

شرح الأربعين النووية [20] الإسلام دين الرحمة والإحسان، وقد أمر بالإحسان في كل شيء حتى في القتل والذبح، وذلك بعدم تعذيب القتيل أو الذبيح، بل يتم القتل والذبح بأسهل الطرق التي تزهق بها النفس، فتحد الشفرة وتراح الذبيحة. وقد أمر الإسلام بتقوى الله تعالى في كل شيء، وإذا عمل الإنسان سيئة فليبادر إلى عمل حسنة حتى تمحوها، ويعامل الناس بالأخلاق الحسنة الطيبة.

شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)

شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، رواه مسلم.

وجوب الإحسان عند القتل والذبح ومعناه

وجوب الإحسان عند القتل والذبح ومعناه هذا الحديث فيه أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإحسان يكون في كل شيء، وأنه ليس خاصاً ببعض الأمور أو الأحوال وإنما هو عام، فهو يشمل أولاً إحسان العبد عمله لله عز وجل؛ فلا بد أن يكون فيه محسناً، ويكون الإحسان أيضاً في من يستحق القتل؛ وذلك بأن يقتل القتلة التي فيها خروج روح المقتول بسهولة من غير تعذيب أو تمثيل، وسواء كان ذلك في قتال الكفار، أو قتل القاتل قصاصاً، أو حداً، فإنه يراعى في ذلك أن يكون القتل على وجه يريح المقتول، دون أن يناله شيء من الإيذاء قبل قتله، إما بالتمثيل أو عدم قتله القتلة المريحة له، بأن يكون هناك تعذيب له في قتله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) يفيد العموم، وأن الإحسان عام وليس خاصاً في شيء دون شيء، و (كتب) هنا بمعنى: شرع وأوجب؛ لأن الكتابة تنقسم إلى: كونية قدرية، ودينية شرعية، وهي هنا من قبيل الكتابة الدينية الشرعية، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، فهذا كله من قبيل الكتابة الشرعية وليس من قبيل الكتابة الكونية القدرية. ومعنى ذلك أن الواجب عند القتل سواء كان قصاصاً أو حداً أن يقتل القتلة التي فيها سهولة خروج الروح، وسهولة قتله بدون أن يناله شيء من الضرر أو الإيذاء أو التمثيل الذي قد يكون عند القتل. ولما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، مثل بمثال يتعلق بالقتل والذبح، وأن ذلك كله يجب أن يكون على وجه فيه راحة للمقتول أو للذبيحة من الحيوان، فهو توضيح لتلك القاعدة العامة بمثال من أمثلتها، كما تقدم في حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، أنه مثل لذلك بالهجرة فقال: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). وهنا لما ذكر هذه القاعدة العامة، وهي أن الإحسان يكون في كل شيء، وليس خاصاً بشيء دون شيء، بين أن مما يدخل في ذلك إزهاق الروح، سواء كان قتلاً لإنسان أو ذبحاً لحيوان فإنه يجب فيه الإحسان، ويكون ذلك على وجه الإحسان للمقتول وللذبيحة، ولهذا جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في وصيته للغزاة في سبيل الله عز وجل كما في حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً ولا وليدة)، فقوله: (ولا تمثلوا)، يعني: أنه لا يحصل منهم القتل الذي فيه إيذاء وتشويه للإنسان، وإنما إذا قتل فإنه لا يمثل به.

معنى الإحسان في القصاص والحدود

معنى الإحسان في القصاص والحدود من قتل قصاصاً فإنه يقتل بالطريقة التي قتل بها فإذا كان قد مثل بالمقتول أو قتله رضاً بالحجارة، فإنه يقتل بالطريقة التي قتل بها، وهذا هو القصاص، وكونه يقتل بالطريقة التي قتل بها مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فأمر بأن يرض رأسه بين حجرين، فقتل بنفس القتلة التي قتل بها، وكذلك العرنيون الذين قتلوا الراعي ومثلوا به أمر بأن يفعل بهم كما فعلوا بالراعي، ومثل بهم كما مثلوا به. إذاًَ: الواجب أن يقتل الإنسان في القصاص بالطريقة المريحة كأن يقتل بالسيف، إلا إذا كان قد قتل بطريقة فيها تمثيل أو إيذاء للمقتول فإنه يقتل كما قتل، وهذا هو القصاص؛ لأن القصاص يعني أنه يقتص منه كما فعل، لكنه إذا قتل حرقاً بالنار، فقد جاء في الحديث: (لا يعذب بالنار إلا رب النار)، فلا يحرق بالنار، وإنما إذا حصل منه القتل بطريقة فيها شدة وفيها سوء، فإنه يعامل بتلك المعاملة التي عامل بها غيره. وكذلك إذا كان القتل حداً فإنه يقتل بسهولة وتزهق روحه بأقرب طريق يكون فيها خروج روحه بدون تعذيب وبدون تمثيل، وقد جاء في القرآن -وهو من المنسوخ تلاوته الباقي حكمه- وكذلك في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الزاني المحصن حده الرجم، والرجم كما هو معلوم فيه إزهاق للنفس بشدة، فقيل: يحتمل أن يكون هذا مستثنى من عموم قوله: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، أو يقال: إن الإحسان يكون بموافقة الشرع فيما جاء به، والشرع قد جاء بالقتل بهذه الطريقة فيكون ذلك إحساناً؛ لأن الإحسان هو موافقة الشرع فيما جاء به، ويكون ذلك داخلاً تحت هذا العموم، أو يقال: إنه مستثنى من هذا العموم الذي هو إحسان القتلة؛ لأنه جاء بطريقة خاصة في القتل، وهي أنه يرمى بالحجارة حتى يموت، وقد قيل: إن الحكمة في رميه بالحجارة أنه كما حصلت اللذة لجميع الجسد عند فعل هذا الأمر المنكر المحرم، فإن العقوبة تكون لجميع الجسد بأن يرمى بالحجارة حتى يموت وتخرج روحه.

إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد الشفرة وإراحة الذبيحة

إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حد الشفرة وإراحة الذبيحة لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل الإنسان ثم ذبح الحيوان حيث قال: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، بين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ما ينبغي ويجب أن يتخذ عند ذبح الحيوان، حتى تزهق روحه بسهولة، وذلك بأن يتفقد الإنسان الآلة التي يكون الذبح بها، وأن تكون حادة، وأن يتحقق من كونها تذبح بسهولة، فلا تكون كالة فيتعذب الحيوان عند ذبحه بها، بل يتفقد الإنسان تلك الآلة التي يكون بها الذبح وهي الشفرة أو السكين أو المدية، فيتحقق من كونها تقتل بسهولة، وأنه يحصل بها المطلوب بسهولة، لا أن تكون كالة يتعذب الحيوان بالذبح بها، ولا تخرج روحه بسهولة، فالمطلوب هو التفقد لتلك الآلة، وكون الإنسان يحدها بأن يجريها على الحديدة التي تجعلها حادة، وتجعلها تمضي عند الذبح بسهولة ويسر، بحيث لا يتعذب الحيوان عند الذبح.

كلام ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث

كلام ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث لـ ابن رجب رحمه الله كلام نفيس في شرحه لهذا الحديث، يقول رحمه الله: وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب. وأما الإحسان فيها باستكمال مستحباتها فليس بواجب، والإحسان في ترك المحرمات الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120]، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان في الصبر على المقدورات فأن يأتي بالصبر عليها على وجه من غير تسخط ولا جزع، والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأرجاها من غير زيادة في التعذيب فإنه إيلام لا حاجة إليه، وهذا النوع هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، والقتلة والذبحة بالكسر أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه. وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد:4]، وقال تعالى: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام دون الدماغ، ووصى دريد بن الصمة قاتله أن يقتله كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية تغزو في سبيل الله قال لهم: (لا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)، وخرج أبو داود وابن ماجة من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخف الناس قتلة أهل الإيمان). قال المعلق: حديث حسن رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد من حديث ابن مسعود، وابن أبي شيبة وابن الجارود وابن أبي عاصم في السنة والبيهقي والطحاوي في شرح معاني الآثار وابن حبان، ثم شرح قوله: (أخف الناس قتلة أهل الإيمان)، قال المناوي: هم أرحم الناس بخلق الله، وأشدهم بعداً عن التمثيل والتشويه بالمقتول وإطالة تعذيبه، وهذا من إجلالهم لخالقهم، وامتثال لما صدر عن صدر النبوة من قوله: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) بخلاف أهل الكفر وبعض أهل الفسوق ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، واكتفوا بمسماه بلقلقة اللسان، وأشربوا القسوة حتى أبعدوا عن الرحمن، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي: (ومن لا يرحم لا يرحم). وفي طبعة أخرى قال المعلق: أخرجه أبو داود وأحمد وابن ماجة وهو حديث ضعيف، وفي إسناده اختلاف. راجع العلل للدارقطني، والسلسلة الضعيفة (1232) وسؤالات البردعي لـ أبي زرعة، وكتاب النافلة. وعلى كل: المعنى صحيح، فأهل الإيمان هم أخف الناس قتلة؛ لأنهم متقيدون بأحكام الإسلام، لكن بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يتوقف على صحته وثبوته، وأما من حيث المعنى فهو مستقيم.

الأسئلة

الأسئلة

التوبة وتكفير الكبائر

التوبة وتكفير الكبائر Q هل الاستغفار يكفر الكبائر؟ A يكفرها مع التوبة، أما بدون توبة والإصرار عليها، ويقول بلسانه: أستغفر الله، ولم يكن ذلك وصل إلى قلبه، وإنما جرى على لسانه فلا، فمع التوبة يكفرها، وإذا استغفر تائباً منيباً إلى الله عز وجل نادماً فالتوبة تجب ما قبلها، وأما كونه يجري على لسانه الاستغفار دون أن يكون تائباً، بل هو يفكر في الكبائر ونفسه متعلقة بها ولم يتب منها، فلا يكفرها قوله: أستغفر الله.

حكم التمثيل بالكفار إذا مثلوا بالمسلمين

حكم التمثيل بالكفار إذا مثلوا بالمسلمين Q هل يجوز التمثيل بالكفار إذا كانوا هم فعلوا ذلك بالمسلمين عقاباً بالمثل؟ A كما هو معلوم أنه فيما بين المسلمين تجوز المقاصة بهذه الطريقة، أي: أن يقتل الإنسان كما قتل، فكون الكفار يعاملون معاملة حصلت منهم للمسلمين هذا أمر مطلوب، ولكن هذا إنما يكون إذا كان الأمر واضحاً، أي: إذا كان هذا الذي سيمثل به هو الذي مثل.

الفرق بين القتل حدا وتعزيرا

الفرق بين القتل حداً وتعزيراً Q ما الفرق بين القتل حداً والقتل تعزيراً؟ A القتل حداً: أن يكون القتل مبنياً على نص فيه أن هذا الفعل حكمه القتل، وذلك مثل الرجم فإنه حد بنص، وأما القتل تعزيراً: فهو كون الحاكم يرى أن المصلحة في قتل إنسان تعزيراً، كما جاء في حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فإذا رؤي قتله تعزيراً فإن ذلك سائغ؛ لأنه جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم فصل الرأس عن الجسم عند ذبح البهيمة

حكم فصل الرأس عن الجسم عند ذبح البهيمة Q أحياناً عند ذبح الذبائح ينفصل الرأس عن الجسم مباشرة بسبب كون السكين حادة، فما الحكم في ذلك، لأن هناك من يقول: إن هذه الحالة تكون الذبيحة فيها حراماً؟ A قولهم: إنها بهذا تكون حراماً، ليس بصحيح، ولكن كون الإنسان يقطع الأوداج ويقطع العروق التي فيها الدم، ثم يلقيها حتى تموت وحتى تسكن حركتها ثم بعد ذلك يقطع أوصالها، هذا هو الأولى، وأما كونه قطع رأسها وكانت السكين حادة فانفصل الرأس فلا يقال: إنها لا تحل.

الفرق بين القتل والذبح

الفرق بين القتل والذبح Q ما الفرق بين القتل والذبح؟ A القتل هو قتل الإنسان، والذبح هو ذبح الحيوان؛ لأن قوله: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، الذبح يكون في حيوان بين يدي الإنسان، وأما القتل فإنه يكون أيضاً للحيوان إذا كان صيداً بأن يرسل عليه السهم أو البندقية فيقتله، هذا يقال له: قتلاً وليس ذبحاً، وأما الذبح فهو كون الحيوان بين يديه يضجعه، ويوجهه إلى القبلة، ويمسك رأسه، ويضع رجله على صفحة عنقه، ويذبحه بحيث يقطع أوداجه إلخ، هذا هو الذبح، وأما قتل الإنسان فيقال له قتلاً، وكذلك قتل الصيد يقال له قتلاً، وكذلك الذي يند من الحيوان ولا يتمكن الناس من إمساكه فإنه يرمى ويقتل بتلك الطريقة؛ لأنه لم يتمكن من ذبحه بالطريقة المشروعة بحقه، ولهذا فرق بينهما فقال: (إذا قتلتم) أي: الإنسان (وإذا ذبحتم) أي: الحيوان، لكن من الحيوان ما يقتل كالصيد الذي يرمى ونحوه.

حكم من ذبح ونسي التسمية

حكم من ذبح ونسي التسمية Q ما الحكم إذا نسي قول باسم الله عند الذبح والصيد؟ A لو نسي التسمية حلت الذبيحة، وهناك خلاف لكن الصحيح أنها تحل.

قتل القاتل بمثل ما قتل به

قتل القاتل بمثل ما قتل به Q قول الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33]، هل تدل الآية على أن ولي المقتول هو الذي يقرر الطريقة التي يقتص بها من القاتل؟ A معلوم أن ولي الدم هو الذي يطالب بالقتل، ويتفق أولياء الدم على طلب القتل، ولو سمح واحد منهم وعفا عن القتل وتحول إلى الدية فإنه لا يقتل قصاصاً، وإذا كان القتل حصل بطريقة فيها تمثيل فإن الحكم الشرعي أنه يقتل بهذه الطريقة، سواء طلب ولي الدم أو لم يطلب، ما دام أن القتل حصل بهذه الطريقة فإنه يعامل بهذه المعاملة.

القصاص بالسيف

القصاص بالسيف Q نرى جميع حالات القصاص في هذه الأيام بالسيف وليس بالمثل، فهل القتل بالسيف يكون أهون وأسرع؟ A لا شك أنه أهون وأسرع، وغالباً أن القاتل إنما يقتل بالرمي ونحوه، لكنه إذا كان بأمر فيه تمثيل أو فيه إيذاء فإن الحكم الشرعي أنه يقتل بهذه الطريقة، لكنها ليست بلازمة، فلو رئي أنه يقتل بطريقة أخرى فيها سهولة فإن ذلك يصح، لكن كونه يعامل بمثل تلك المعاملة، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين، فأمر برض رأسه بين حجرين، وكذلك قصة العرنيين الذين مثلوا ومثل بهم.

القتل بالرصاص ليس تعذيبا بالنار

القتل بالرصاص ليس تعذيباً بالنار Q هل القتل بالبندقية النارية يدخل في التعذيب بالنار؟ A إذا كان رماه في رأسه وأدى إلى إزهاق روحه في الحال فلا يقال: إنه من التعذيب بالنار، التعذيب بالنار يكون بأن يحرق، وأما كونه يرمى بشيء خرق رأسه ومات بسبب ذلك بسهولة، فهذا لا يقال: إنه تعذيب بالنار.

حكم ذبح الأعسر بيده الشمال

حكم ذبح الأعسر بيده الشمال Q أنا رجل أعسر -أي: أيسر- فهل لي أن أذبح أم الأولى أن يذبح غيري باليمين؟ A الأولى أن يذبح غيرك باليمين، وإن احتجت إلى ذلك وأنت تستطيع أن تذبح باليمين فلك ذلك، لكن ما دام أنه يوجد غيرك فالأولى أن يذبح شخص باليمين، وإن احتجت إلى أن تذبح فلك ذلك.

جواز القتل بالسيف وبالرمي

جواز القتل بالسيف وبالرمي Q متى يكون القتل بالسيف؟ ومتى يكون القتل بالرمي؟ A القتل بالسيف والقتل بالرمي كله فيه إزهاق للروح بسهولة، فأي واحد منهما حصل فإنه يحصل به المقصود.

ذبح خالد القسري للجعد بن درهم

ذبح خالد القسري للجعد بن درهم Q هل ما قام به خالد القسري من ذبحه للجعد بن ردهم موافق للشرع وكان فيه مصيباً؟ A هذا محمود في الشرع، كونه قتل مبتدعاً ينكر ما جاء في القرآن، ويقول: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فإن هذا تخلص من شخص التخلص منه فيه الخير الكثير والمصلحة العظيمة للناس، ولهذا مدحوه وأثنوا عليه بهذا العمل، وابن القيم ذكر ذلك في نونيته وقال: إن هذا من أحسن القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل. وبعض المغفلين في هذا الزمان يتباكى على قتل مثل هذا، ويقول: إن قتله كان سياسياً من أجل السياسة وليس من أجل البدعة؛ لأنه لا يريد أن يقتل أحداً من أجل البدعة، ولهذا يجعل ذلك سياسة.

حكم ذبح الشاة المصدومة إذا كان فيها حياة

حكم ذبح الشاة المصدومة إذا كان فيها حياة Q شاة صدمت بالسيارة وكادت أن تموت، فهل نتركها حتى تموت أو نتداركها بالذبح؟ A إذا كان الضرر لاحقاً بها، ولا يرجى أن تعيش، فكونها تذبح ولا تكون ميتة لا شك أن هذا أولى إذا كانت الإصابة بالغة، وأنها لو لم تذبح لماتت، وهذا مثلما جاء في القرآن عندما ذكر الله تعالى المحرمات فقال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] أي: إلا ما أدركتموه وفيه حياة فذبحتموه فإنه يكون حلالاً، وإن خرجت روحه بتلك الضربة أو الصدمة أو السقطة إذا تردى من مكان عالٍ ولم يذبح فإنه يكون ميتة، لكن إن ذبحت في تلك الحال فإنها تكون حلالاً مباحة.

حكم توجيه الذبيحة إلى القبلة

حكم توجيه الذبيحة إلى القبلة Q ذكر بعض العلماء أن توجيه الذبيحة إلى القبلة ليس من السنة فما رأيكم؟ A لا نعلم شيئاً يمنع من هذا.

حكم القتل بإعطاء القاتل حقنة حتى يموت

حكم القتل بإعطاء القاتل حقنة حتى يموت Q ما حكم القتل بإعطاء القاتل حقنة حتى يموت؟ A إذا كانت هذه الحقنة لا تلحق به ضرراً، فهو من جنس القتل بالسيف؛ لأن هذا شيء جديد وطارئ.

توجيه تعذيب علي رضي الله عنه من غلوا فيه بالنار

توجيه تعذيب علي رضي الله عنه من غلوا فيه بالنار Q إذا كان لا يجوز التعذيب بالنار فلماذا عذب علي رضي الله عنه من غلو فيه بالنار؟ A لعله لم يبلغه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من المنع.

حكم معاملة الناس بالأخلاق الحسنة

حكم معاملة الناس بالأخلاق الحسنة Q قوله صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن) هل هو على سبيل الاستحباب أو الوجوب؟ A لا شك أنه مطلوب من الإنسان أن يعامل الناس معاملة طيبة، ولكنه إذا كان يريد أن يعامله الناس بهذه المعاملة وهو يعاملهم بخلافها فإن الحديث الذي سبق أن مر بنا يدل على نفي الإيمان عنه، وهو نفي الكمال الواجب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

درجة لفظ: (إن الله محسن فأحسنوا)

درجة لفظ: (إن الله محسن فأحسنوا) Q حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) جاء في بعض الطرق بلفظ: (إن الله محسن فأحسنوا)، فهل هذا ثابت؟ وهل فيه إثبات أن المحسن اسم لله عز وجل؟ A نعم جاء بلفظ: (إن الله محسن فأحسنوا)، وجاء أيضاً حديث بهذا عن أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما.

من الإحسان عدم حد السكين أمام الذبيحة وعدم ذبح أختها أمامها

من الإحسان عدم حد السكين أمام الذبيحة وعدم ذبح أختها أمامها Q ذكر الإمام النووي في شرحه للأربعين: أن من الإحسان إلى الذبيحة ألا يحد السكين أمامها، ولا يذبح واحدة أمام الأخرى، فما صحة ذلك؟ وما الحكمة؟ A هذا صحيح؛ لأن هذا من تعذيبها، وفيه إيذاء لها، وكونها تذبح الثانية أمامها فإنها تتعذب بذلك وتتأذى به.

شرط تكفير الصغائر بالحسنات

شرط تكفير الصغائر بالحسنات Q قوله في الحديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)، هل معناه ما دام أنه قد اجتنب الكبائر، أو إلا الكبائر؟ A تكفير الصغائر مقيد باجتناب الكبائر، فإذا كان الإنسان مقترفاً للكبائر فلا يقال: إن الصغائر كفرت ما دام مصراً على الكبائر، ولكنها تكفر باجتناب الكبائر.

كيفية التعاون على اجتناب المعاصي

كيفية التعاون على اجتناب المعاصي Q قلتم: إن التقوى إذا قرنت بالبر تكون بمعنى اجتناب النواهي كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، فكيف يكون التعاون على اجتناب النواهي أو المعاصي؟ A الإنسان يبتعد عن المعاصي بنفسه، وكذلك يرشد غيره إلى ذلك ويوصيه ويحذره، ويأمر وينهى غيره عن المنكر، وبذلك يكون التعاون على اجتناب المعاصي.

الحكم على حديث: (ما أصر من استغفر)

الحكم على حديث: (ما أصر من استغفر) Q حديث: (ما أصر من استغفر وإن عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة) هل هو صحيح؟ A لعله مر بنا في سنن أبي داود، وأظنه ليس بصحيح.

معنى أثر: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار)

معنى أثر: (لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار) Q قال أهل العلم: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، ما ضابط الإصرار على الصغائر؟ A هذا الأثر جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار). وأحسن ما قيل في تعريف الكبيرة: أنها ما كان عليه حد في الدنيا، أو توعد عليه بلعنة أو غضب أو نار أو إحباط عمل أو ما إلى ذلك، وما لم يكن كذلك فهو من الصغائر، هذا هو أحسن ما قيل في التفريق بين الصغائر والكبائر. أما معنى هذه الجملة: (لا كبيرة مع الاستغفار)، يعني: كون الإنسان يندم على الكبيرة ويتألم من حصولها، ويكون خائفاً وجلاً مشفقاً على نفسه من تبعتها، هذا يجعلها تتضاءل وتتلاشى حتى لا تكون كبيرة، وعلى العكس من ذلك الصغيرة التي يقترن معها من قلة الحياء من الله وقلة المبالاة، وأن الإنسان لا يبالي بها، فإنها تضخم وتكبر حتى تلتحق بالكبائر، وهذا هو معنى قوله ابن عباس رضي الله عنه: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار). والإصرار: هو المداومة عليها، وكون الإنسان لا يستحي من الله عز وجل، وهو متعلق بها ومداوم عليها، وهذا يلحقها بالكبائر، فالكبيرة تتضاءل وتصغر مع الاستغفار، والصغيرة تضخم وتعظم مع قلة الحياء، وقلة المبالاة، وعدم الخوف من الله عز وجل.

الصغائر تكفر بفعل الحسنات

الصغائر تكفر بفعل الحسنات Q هل يدل حديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) على أن الحسنات تمحو الصغائر وإن لم يتب منها صاحبها؟ A نعم، السيئات تمحى وإن لم يحصل منها توبة؛ لأن التي لابد لها من توبة هي الكبائر، والتوبة -كما هو معلوم- تجب كل شيء، وإذا جبت الكبائر فالصغائر من باب أولى.

حكم من سن سنة سيئة ثم تاب منها

حكم من سن سنة سيئة ثم تاب منها Q لو أن إنساناً سن سنة سيئة وعمل بها أناس من بعده، ثم تاب منها واستمر أولئك الناس على تلك السنة السيئة، فهل يكتب إثمها عليه؟ A الذي يظهر أنه إذا أتى بشيء منكر أو بضلالة ثم تاب منها؛ فإنه لا يكتب عليه عمل من عمل بها من بعده، ولكن عليه أن يوضح الحق، فكما حصل منه بيان الباطل الذي وفق للتوبة والسلامة منه فعليه أن يبين الحق ويوضحه، وأن يبين أنه رجع عن ذلك الباطل إلى ما هو حق، ولا يلحقه بعد ذلك ضرر.

حصول المقصود بالقصاص بالحقنة القاتلة

حصول المقصود بالقصاص بالحقنة القاتلة Q إذا قلنا بجواز قتل القاتل بالحقنة، فكيف تتحقق مصلحة الارتداع والانزجار لغيره من الناس؛ إذ لم يروا شدة القتل بالسيف؟ A إذا كان سيقتل أمام الناس، فمعلوم أنه إذا حصل ذلك، وأخبروا بأنه حصل له القتل، فإنه يكون قد حصل المقصود، والناس إذا عرفوا أن الإنسان قتل وخرجت روحه، سواء كان بهذه الطريقة أو بتلك، المهم أنه مات، لكن قد يكون في هذه الطريقة تدليس على الناس، بأن يعملوا له حقنة تخديرية ثم يفيق بعد ذلك، فإذا كان في المسألة تغرير بالناس أو تلبيس عليهم، فإنه لا يحصل المقصود، لكن إذا كان المقصود قد تحقق بهذا الأمر، وأنه قد مات وذهبوا به إلى المقبرة ودفنوه، فإن ذلك يكون كافياً، والناس ينزجرون إذا سمعوا أن فلاناً مات، وأنه قضي عليه بأي طريقة.

حكم قتل نساء الكفار إذا كانوا يقتلون نساء المسلمين

حكم قتل نساء الكفار إذا كانوا يقتلون نساء المسلمين Q هل يجوز قتل نساء الكفار لأنهم يقتلون نساء المسلمين؟ A لا يجوز، إذا كان قد حصل من الكفار أنهم تجاوزوا الحدود وقتلوا صبيان ونساء المسلمين، فالمسلمون ممنوعون من قتل النساء والصبيان، إلا إذا كن النساء مقاتلات ومشاركات في الحرب فيقتلن إذا قاتلن.

حكم الاستمناء

حكم الاستمناء Q هل الاستمناء من الكبائر أو الصغائر؟ A لا شك أنه عدوان وإتيان بشيء خارج عما هو مشروع، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فهو مستحق للوم وفيه عدوان، ولا أعرف نصوصاً أخرى تتعلق به، لكن هذه الآية واضحة في أنه من العدوان، وهو ليس بالأمر الهين؛ بل هو أمر خطير، والواجب على كل إنسان أن يحذره وأن يبتعد عنه.

حكم مصافحة النساء الأجنبيات

حكم مصافحة النساء الأجنبيات Q هل مصافحة النساء الأجنبيات من الكبائر أو الصغائر، وكذلك القبلة؟ الشيخ: ورد في الحديث التعذيب بالنار لمن يفعل هذا، وأنه لو غرز في رأسه مخيط من نار خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، وهذا يدل على أن أمره خطير؛ لأن هذا العمل أشد من أن يغرز في رأسه مخيط من نار، وهذا يدل على أنه من الكبائر. أما القبلة فقد جاء في حديث الرجل الذي قبل امرأة أجنبية فأنزل الله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، ولا شك أن القبلة أشد من المصافحة، وأنه يستحق العقوبة بأكثر من هذا.

حكم شرب الدخان

حكم شرب الدخان Q هل شرب الدخان من الكبائر أم من الصغائر؟ الشيخ: لا شك أن النصوص جاءت بعمومها لتدل على تحريم شرب الدخان، وأنه أمر خطير، وكما هو معلوم أنه من الأشياء التي جدت وليس فيها نص خاص، وإنما النصوص العامة مثل كون الإنسان لا يقتل نفسه، وكونه من جملة الخبائث التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه فيه إضاعة للمال، وإيذاء للناس برائحته الكريهة، فالواجب هو الحذر والابتعاد منه، سواء وصل إلى حد الكبيرة أو لم يصل.

معنى حديث: (من قال أستغفر الله غفر له)

معنى حديث: (من قال أستغفر الله غفر له) Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له ما تقدم من ذنبه ولو فر من الزحف)، مع أحاديث أخرى تدل على أن الأذكار أو بعض الأفعال يكون بها الغفران ومحو الخطايا؟ A هذا يكون مع التوبة، وأما إذا كان بدون توبة فإنه لا يفيد شيئاً ولا يجدي شيئاً، ولكن من قالها تائباً وحصل منه هذا الكلام مع التوبة فلا شك أنه يغفر له.

من شرب الخمر ثم تاب فهل يحرم منها في الجنة

من شرب الخمر ثم تاب فهل يحرم منها في الجنة Q هل شارب الخمر والمسكر في الدنيا يحرمه الله منها في الآخرة حتى ولو بعد التوبة؟ A ورد في الحديث أنه (من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة) لكن هل يعني ذلك المنع المؤبد والمطلق، أم أنه يعني المقيد في وقت من الأوقات؟ وقد ورد في بعض الأحاديث أن الجنة لا يدخلها من كان كذا، مثل: (لا يدخل الجنة قتات)، ومعلوم أنه يدخلها إذا لم يكن مشركاً بالله.

حكم قطع رأس الطير باليد من دون ذبح

حكم قطع رأس الطير باليد من دون ذبح Q هل من الإحسان ما يحصل عند صيد الحمام بنزع رأسها كاملاً لأنه أسهل وأسرع وقتاً؟ A هذا ليس ذبحاً، كونه يمسك الرأس في يد، والجسم في يد ثم يفصل هذا عن هذا، فإن هذا ليس بذبح، إنما الذبح أن يأتي بالآلة الحادة التي يجريها على الحلق حتى يخرج الدم بهذه الطريقة.

الفرق بين التوبة والاستغفار

الفرق بين التوبة والاستغفار Q ما الفرق بين الاستغفار والتوبة؟ A التوبة: أن يقلع عن الذنب ويندم عليه ويحرص على أن لا يعود، وأما الاستغفار فكونه يقول: أستغفر الله عز وجل، فإذا قال: أستغفر الله، وقد تاب من ذنبه وندم عليه، فإنه يكون بذلك حصل له مقصوده من السلامة من الذنوب والخروج من تبعتها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[21]

شرح الأربعين النووية [21] من أراد أن يحفظه الله تعالى في جميع شئونه وأحواله، وأن يسدده في كل أعماله وتصرفاته، فعليه أن يحفظ الله تعالى بأن يعمل بأوامره وينتهي عن نواهيه، وألا يسأل إلا الله، وألا يستعين إلا به، وأن يرد جميع أمره إليه سبحانه، وأن يعلم أن كل شيء إنما هو بقضاء وقدر، فليرض وليسلم بقضاء الله وقدره، فإن الأقلام قد رفعت، والصحف قد جفت، وكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة.

شرح حديث: (احفظ الله يحفظك)

شرح حديث: (احفظ الله يحفظك) عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لي: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية لغير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). هذا حديث عظيم من وصايا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أوصى به ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي وصية عظيمة جامعة نافعة، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفصل الصلاة وأتم التسليم.

ترجمة ابن عباس راوي الحديث

ترجمة ابن عباس راوي الحديث عادة الإمام النووي رحمة الله عليه أنه إذا ورد الصحابي لأول مرة فإنه يذكر كنيته، ولهذا قال هنا: عن أبي العباس، ويقال: إن الذين عُرفوا بكنية أبي العباس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان هما: عبد الله بن عباس وسهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهما، فإن هذين الاثنين هما اللذان عرفا بالتكني بهذه الكنية، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه من صغار الصحابة، وقد روى الكثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رووا من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يروه غيرهم كثرة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. ومعلوم أن رواية الصحابة للأحاديث إما أن يكونوا سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم سمعوا ذلك من غيرهم من الصحابة ولم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الصحابي إذا أضاف حديثاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -سواء كان سمعه هو أو سمعه غيره- فإن ذلك مرفوع وثابت ومتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المجهول فيهم في حكم المعلوم. وقد أخبر ابن عباس أنه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون خلفه ماشياً، أو أن يكون خلفه راكباً رديفاً له صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام بوصفه كغلام فقال: (يا غلام!) وقال: (ألا أعلمك كلمات!)، وهذا فيه التنبيه إلى أهمية ما سيلقى وما سيذكر بعد هذا الخطاب، وفي هذا حفز للهمة ولفت للانتباه حتى يعي السامع ما يلقى عليه.

معنى حفظ العبد لربه وحفظ الرب لعبده

معنى حفظ العبد لربه وحفظ الرب لعبده بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عباس بدأ يعلمه هذه الكلمات، وفي صنيع الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس ما يدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم وملاطفته للصغار، حيث قال له: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات). قال عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك)، هذه أول تلك الكلمات الجامعة المفيدة العظيمة، والمقصود بحفظ الله عز وجل: حفظ حدوده وشرائعه وأمره ونهيه، بحيث يكون الإنسان ممتثلاً للأوامر، مجتنباً للنواهي مصدقاً للأخبار، عابداً لله عز وجل وفقاً لما شرع في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المقصود بكون الإنسان يحفظ الله، أي: احفظ حدود الله وشرائعه وأوامره ونواهيه، بأن تكون ممتثلاً لكل مأمور، منتهياً عن كل محذور، وأن تكون مصدقاً للأخبار، وأن تكون متعبداً لله عز وجل بالشرع لا بالأهواء والبدع ومحدثات الأمور؛ بل تكون عبادة الإنسان خالصة لله ومطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: (يحفظك)، وهذا هو الجزاء، والجزاء من جنس العمل، فإذا كان العمل حفظاً فإن الجزاء حفظ، فإن كان الإنسان يحفظ حدود الله ويمتثل ويستسلم وينقاد فإن الجزاء هو أن الله يحفظه في أمور دينه ودنياه، وكثيراً ما يأتي في النصوص بيان أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في هذا الحديث: (احفظ الله يحفظك) وحديث: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، فكل هذا الجزاء من جنس العمل، وحديث ابن عباس الذي معنا فيه أن العمل حفظ والجزاء حفظ، فالعمل كون العبد يحفظ حدود الله، والجزاء أن الله تعالى يحفظه في أمور دينه ودنياه. ثم قال: (احفظ الله تجده تجاهك)، كرر الأمر بحفظ الله عز وجل الذي هو حفظ شريعته، فإذا فعل الإنسان ذلك فإنه يجده تجاهه يسدده ويحوطه ويرعاه ويكلؤه ويحفظه، وكذلك أيضاً يجد ثواب ذلك في العاجل والآجل، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]. فيجد الله عز وجل حافظاً له وراعياً وساتراً وكالئاً ومؤيداً، وقوله: (تجاهك) أي: أمامك، وقد جاء في الرواية الأخرى التي في غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك).

وجوب سؤال الله تعالى والاستعانة به وحده

وجوب سؤال الله تعالى والاستعانة به وحده قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وهذا مطابق لقول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، أي: أن العبد يخص الله عز وجل بالعبادة، ومنها السؤال، ويخصه بالاستعانة، فلا يعبد إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، فتكون عبادته خالصة لله وتكون استعانته بالله سبحانه وتعالى، فيسأله العون والتسديد. والسؤال هو الدعاء، والدعاء هو العبادة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة). (إذا سألت فاسأل الله)، أي: خص الله عز وجل بسؤالك والالتجاء إليه والاعتماد عليه، والإلحاح عليه في الدعاء بأن ييسر لك ما تريد من خير الدنيا والآخرة.

وجوب التوكل على الله تعالى والاستعانة به مع الأخذ بالأسباب

وجوب التوكل على الله تعالى والاستعانة به مع الأخذ بالأسباب (وإذا استعنت فاستعن بالله) قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالأخذ بالأسباب، ومع الأخذ بالأسباب أن يستعين المسلم بالله عز وجل، ولا يعتمد على الأسباب ويتكل عليها؛ بل يأخذ بها، والأخذ بها مشروع، ولكن لا يعتمد الإنسان عليها؛ بل يعتمد على الله عز وجل ويتوكل على الله عز وجل الذي هو مسبب الأسباب، والذي إذا شاء جعل تلك الأسباب مفيدة ونافعة وإذا شاء جعلها غير مفيدة ولا نافعة، فقد يوجد السبب ولا يوجد المسبَّب، ولكن الإنسان يأخذ بالسبب المشروع، ويتوكل على الله عز وجل ويعتمد عليه سبحانه وتعالى ويسأله. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، وهذا أمر بالأخذ بالأسباب، وأن الإنسان يأخذ بالأسباب المشروعة، ولكن لا يعتمد عليها، ولا يقول: إن السبب إذا وُجد وجد المسبّب، فقد يوجد السبب بدون المسبب، فمثلاً: إذا أراد الإنسان الحصول على الولد فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالزواج أو ملك اليمين، إذ لا بد للحصول على الولد من هذا السبيل، فالإنسان يفعل السبب، ولكن إذا وجد هذا السبب بقي شيء وراء ذلك، وهو كون الله عز وجل يجعل هذا السبب نافعاً ومفيداً، فإنه قد يوجد السبب ويتخلف المسبب، فالأمر يرجع إلى مشيئة الله عز وجل وإرادته وقدرته وتوفيقه وتسديده، فإنه إذا شاء أن يحصل الولد حصل بعد الأخذ بهذه الأسباب، ولكن لا يحصل ولد بدون هذه الأسباب، فلا يحصل ولد بدون زواج أو ملك يمين وتسر، وإنما يحصل بهذا الطريق فقط. فالإنسان عليه أن يفعل السبب، ولكن مع فعل السبب لا يعتمد عليه ويقول إن السبب قد وجد فلا بد أن يوجد المسبب، فإنه يمكن أن يوجد السبب ولا يوجد المسبب، ولكن كون الإنسان يضيف إلى فعل السبب التعويل على الله وسؤال الله عز وجل أن ينفع بالأسباب، فهو الذي إذا شاء نفعت الأسباب، وإذا شاء وجدت الأسباب ولكن تخلف نفعها وتخلفت ثمرتها؛ لأن الأمر يرجع إلى مشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فالحاصل: أن الإنسان عليه أن يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها؛ لأن الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد؛ لكون الإنسان يعول على غير الله عز وجل وكأن الأمور مادية وليس هناك شيء وراء المادة، بل لا بد من فعل السبب، ولا بد من التعويل على الله عز وجل وسؤاله أن ينفع بالسبب، فلا يعول الإنسان على الأسباب ويغفل عن الله، ولا يهمل الإنسان الأسباب ويقول: إذا كان الله قدر الولد فسوف يأتيني ولو لم أتزوج، فإن هذا كلام غير صحيح، بل هذا سفه ونقص في العقل؛ لكون الإنسان يهمل الأسباب ولا يأخذ بها، والله تعالى أمر بالأخذ بالأسباب، وذكر أنه لا بد مع الأخذ بها من سؤال الله عز وجل والاستعانة به سبحانه وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فلا يهمل العبد الأسباب ويقول: إذا قدر الله لي شيئاً فسوف يأتي لي بدون سبب؛ بل يسعى الإنسان لتحصيل الرزق، ويسعى لتحصيل الولد، ويسعى لتحصيل كل ما يعود عليه بالنفع في أمور دينه ودنياه، ومع سعيه وبذله للأسباب المشروعة لا يعتقد أن الأسباب هي كل شيء، وأنه إذا وجد السبب وجد المسبب. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)، وهذا داخل في الأسباب، ولهذا تظهر في الصباح خامصة البطون ليس في بطونها شيء، ثم ترجع في الرواح وقد امتلأت بطونها فقال عليه الصلاة والسلام: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فكذلك الإنسان يتوكل على الله عز وجل ويفعل السبب، ولا يكون توكله بدون فعل الأسباب، بحيث يقول: إذا الله قدر لي شيئاً فسيأتيني، ويجلس في بيته ويقول: إن رزقي سوف يأتيني وأنا في بيتي، فلا بد من الأخذ بالأسباب المشروعة، فإن ذلك يكون من السفه، ولا يكون هذا توكلاً بل هو تواكل، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل.

جواز الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه

جواز الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، هذا مثل قول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، أي: نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة، لكن إذا كان الإنسان يقدر على شيء وطلب منه أخوه المسلم الإعانة فإن ذلك لا بأس به، كأن يطلب منه أن يشفع له، أو يطلب منه أن يعينه على حمل شيء، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها صدقة)، فإذا طلب منه شيء يقدر عليه فإن هذا لا بأس به وليس بمحذور، ولكن الشيء الذي لا يجوز هو سؤال الغائبين كسؤال الجن والملائكة، فهذا هو الذي لا يجوز، بل على الإنسان أن يسأل الله عز وجل، وإذا كان المخلوق الذي معه يقدر على إعانته في شيء فلا بأس أن يطلب منه إعانته، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله -أي: تحمل متاعه- عليها صدقة)، أي: أن ذلك صدقة عليه وعلى نفسك لأنك فعلت أمراً تعود منفعته إلى نفسك، وقد أحسنت إلى نفسك وأحسنت إلى غيرك.

لا ينفع أحد ولا يضر إلا بما كتبه الله تعالى وأراده

لا ينفع أحد ولا يضر إلا بما كتبه الله تعالى وأراده ثم إنه عقب ذلك ببيان أن الأمور كلها بيد الله عز وجل، وأن الإنسان يعول على الله عز وجل بسؤاله واستعانته؛ لأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو قادر على كل شيء، وغيره لا يقدر إلا على ما قدره الله عليه، ولا يحصل منه إلا ما قدره الله تعالى وقضاه، فلما ذكر الأمر بسؤال الله عز وجل والاستعانة به عقب ذلك بأن الناس لا ينفعون الإنسان بشيء إلا وقد كتب له، ولا يضرونه بشيء إلا وقد كتب عليه، فلا يحصل في ملك الله إلا ما أراده الله، ولا يحصل في ملك الله شيء لم يرده الله عز وجل؛ بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) أي: أنه لا يحصل بهم شيء غير مقدر؛ بل كل ما يحصل منهم فهو مقدر، فما يحصل منهم من خير لك فهو مقدر لك، وما يحصل منهم من شر عليك فهو مقدر عليك، والله عز وجل سبق قضاؤه وقدره بذلك وسبقت كتابته بذلك، وهو واقع لا محالة. أي: أن ما قدره الله لك لا بد أن يحصل لك، وما قدره الله عليك من الضرر فلا بد أن يقع عليك، ولا يحصل في ملك الله إلا ما شاءه الله عز وجل، فالعباد لا ينفعون إلا إذا شاء الله عز وجل نفعهم، ولا يضرون أحداً إلا إذا شاء الله ضررهم لذلك الذي أرادوا ضرره، فالأمر كله يرجع إلى مشيئة الله وإرادته وإلى قضائه وقدره سبحانه وتعالى.

الكتابة الشرعية والكتابة الكونية القدرية

الكتابة الشرعية والكتابة الكونية القدرية قوله: (إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، الكتابة هنا بمعنى: التقدير؛ لأن الكتابة تنقسم إلى: شرعية، وقدرية كونية، وقد مر بنا في الحديث السابع عشر من الأربعين النووية أن الله كتب الإحسان على كل شيء، وتلك كتابة شرعية دينية، وهنا الكتابة كتابة قدرية كونية. فما قدره الله لا بد أن يوجد، وأما كونه عز وجل أمر بالإحسان وشرع الإحسان فإنه يحصل ما شاء الله تعالى أن يحصل منه، ويتخلف حصول ما شاء الله ألا يحصل منه؛ لأن الإرادة الدينية تقع ممن شاء الله تعالى أن تقع منه، ولا تقع ممن شاء الله ألا تقع منه، لكن الكتابة الكونية لا بد من وقوعها، فكل شيء مقدر لا بد من وجوده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]. وهذا فيه الإيمان بالقدر، وأن كل شيء مقدر سبق به القضاء والقدر، وأنه لابد من وقوع المقدر، فحيث شاء الله عز وجل أن يحصل للإنسان شيء لا بد أن يوجد، وحيث شاء ألا يحصل فإنه لا سبيل إلى وجوده.

انتهاء الكتابة بما هو كائن إلى يوم القيامة

انتهاء الكتابة بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم علل ذلك بقوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وهذا تأكيد للجملتين السابقتين اللتين فيهما إثبات القدر وأنه لا يقع من العباد إلا مقدر، سواء كان خيراً أو شراً فإنه لا يقع منهم إلا شيء قد قدره الله عز وجل. (رفعت الأقلام)، أي: انتهت الكتابة وفرغ منها في اللوح المحفوظ، وسطر في اللوح المحفوظ ما سطر، وكل ما سجل في اللوح المحفوظ لا بد وأن يقع. (وجفت الصحف)، أي: أن الكتابة التي حصلت في اللوح المحفوظ قد جف مدادها، بمعنى: أنه فرغ من ذلك وانتهي منه، وأن الله عز وجل قد قدر كل ما هو كائن، ولابد وأن يوجد ذلك المقدر وفقاً لما أراده الله عز وجل وما شاءه سبحانه وتعالى، فاللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كتب، ولا بد من وقوع ذلك المكتوب، ولا بد من وقوع ذلك المقدر على وفق ما أراد الله عز وجل أن يوجد عليه ذلك المقدر.

التعرف إلى الله تعالى في الرخاء ينفع في الشدائد

التعرف إلى الله تعالى في الرخاء ينفع في الشدائد وفي رواية لغير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك) بدل قوله: (تجده تجاهك) في الرواية الأولى، ثم قال: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). أي: أنك في حال سعتك ورخائك عليك أن تشتغل بطاعة الله عز وجل وبعبادته، حتى إذا أصابتك الشدة تجد من الله عز وجل الفرج وكشف الكرب والشدة، وذلك أن الإنسان إذا عمل في حال رخائه وفي سعته الأعمال الصالحة، فإنه في حال شدته وكربه يكشف الله عز وجل ما به من كرب ويكشف ما به من شدة، وكما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال يونس عليه السلام: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]. وقصة أصحاب الغار الثلاثة التي ثبتت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من أمثلة ذلك، وذلك أن ثلاثة ممن كانوا قبلنا كانوا يسيرون في فلاة، فآواهم المبيت إلى غار، فأرادوا أن يستريحوا فيه وأن يبيتوا فيه، فباتوا فيه، فنزلت صخرة وسدت باب الغار، فلم يستطيعوا الخروج، فصاروا كأنهم في قبر وهم أحياء لم يموتوا، وليس أمامهم إلا الموت؛ لأنهم داخل الغار وقد سدت الباب صخرة عظيمة، ففكروا واهتدوا إلى أن كل واحد منهم يتوسل إلى الله عز وجل بعمل صالح عمله في حال الرخاء، ويسأل الله عز وجل به ويتوسل إليه عز وجل به ليفرج عنهم ما هم فيه، وهذا هو ما يوضح معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فتوسل أحدهم إلى الله عز وجل ببره لوالديه، وأنه كان يأتي بالغبوق والحليب الذي كان يحلبه في الليل فيسقي أبويه قبل أن يناما، وفي ليلة من الليالي ندت الإبل وبعدت عن المكان الذي كانت ترعى فيه في غالب أحيانها مما اضطره إلى أن يتأخر، فجاء إليهما وقد ناما، فكره أن يوقظهما، وكره أن ينام خشية أن يستيقظا وقد نام فلا يتمكن من إعطائهما ذلك الغبوق، فوقف ينتظر يقظتهما حتى استيقظا وشربا، فقال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً إلا أنهم لا يستطيعون الخروج). ثم توسل الثاني بتركه الفاحشة مع قدرته عليها، وذلك أنه كان له ابنة عم، وكان يحبها حباً شديداً، ويراودها عن نفسها وهي تمتنع، فألمت بها سنة من السنين، وحصل لها ضيق وشدة وكرب، فطلبت منه أن يساعدها، فعرض عليها ذلك الذي كان يعرضه عليها من قبل، فاستجابت لشدة الحاجة وشدة الفقر والبؤس الذي حصل لها على أن يعطيها مائة دينار، فأعطاها إياها وأراد أن يفعل بها الفاحشة، ولما جلس بين رجليها قالت: يا فلان! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقام وتركها من أجل الله، وترك الذي أعطاها لها، فإنه لما ذكرته بالله عز وجل خاف من الله، مع أنه قد تمكن ولم يبق بينه وبين فعل الفاحشة شيء، ولكن خوف الله عز وجل وتخويفه بالله عز وجل أثر فيه، فقام وتركها، فقال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً إلا أنهم لا يستطيعون الخروج). فقام الثالث وتوسل إلى الله عز وجل بأنه كان له عمال يعملون عنده، فذهب أحدهم دون أن يأخذ أجرته، فحفظ الأمانة لذلك الشخص ونماها حتى كثرت ونمت، وصار له عدد كبير من الرقيق ومن بهيمة الأنعام، فجاءه بعد مدة فقال: يا فلان! أعطني حقي، فقال: هذا الذي تراه أمامك هو حقك، فظن أنه يهزأ به ويسخر به، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: هو حقك، فأخذه وساقه، فقال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون). فهذا يبين ويوضح معنى هذه الجملة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فهؤلاء عملوا هذه الأعمال الصالحة في حال رخائهم وسعتهم، والله عز وجل فرج عنهم ما هم فيه من كرب وشدة بأن أزال هذه الصخرة التي سدت باب الغار، وذلك بتوسلهم إليه بأعمالهم الصالحة التي فعلوها في حال رخائهم وفي حال سعتهم، فنفعهم ذلك عند الله عز وجل عندما كانوا في شدة، والله تعالى يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].

كل شيء بقضاء وقدر

كل شيء بقضاء وقدر ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)، هاتان الجملتان معناهما: أن كل شيء لم يقدره الله لك فلا يمكن أن يحصل لك، وكل شيء لم يكتب لك فلن يقع، وكل شيء قدر لك فلا بد وأن يوجد الشيء الذي قدر لك ولن يخطئك أبداً، بل لابد وأن يحصل لك. وهذا هو معنى الكلمتين اللتين تنبني عليهما عقيدة المسلمين في القضاء والقدر، وهما: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فإن قول: ما شاء الله كان يوافقه: (أن ما أصابك لم يكن ليخطئك) وقول: وما لم يشأ لم يكن، يوافقه: (وما أخطأك لم يكن ليصيبك)، يعني: ما لم يشأه الله فإنه لن يكون.

النصر مع الصبر والفرج مع الكرب

النصر مع الصبر والفرج مع الكرب ثم قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر)، أي: أن النصر على الأعداء إنما يكون مع الصبر على الجهاد وعدم الفرار، وقد جاء في الحديث: (لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، فقوله: (لا تتمنوا لقاء العدو)؛ لأن الإنسان قد يتمنى شيئاً ولكنه إذا حصل حقيقة تغير، فقد يؤدي ذلك إلى الفرار فيكون متعرضاً للوقوع في كبيرة من الكبائر التي جاءت في حديث السبع الموبقات، ومنها: (والفرار من الزحف)، (فإذا لقيتموه فاصبروا) أي: إذا ابتليتم فاصبروا ولا تفروا وتنهزموا؛ بل أقبلوا واصبروا. (واعلم أن النصر مع الصبر)، فلا يكون النصر مع الضعف ومع الخور وعدم التحمل، وإنما يكون بالصبر، وكون الإنسان يصبر فإنه يأتي النصر نتيجة لذلك. ثم قال: (وأن الفرج مع الكرب) أي: إذا حصلت الشدة وحصل الضيق والتجأ الإنسان إلى الله عز وجل؛ فإن الشدة يعقبها فرج من الله عز وجل. (وإن مع العسر يسراً)، فإذا حصل العسر والضيق فإنه يعقب ذلك اليسر من الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، وقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. فهذا الحديث حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد شرحه ابن رجب رحمه الله في جزء مستقل لطيف، وشرحه كذلك ضمن الخمسين حديثاً في كتابه جامع العلوم والحكم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة ما روي عن ابن عباس أنه رأى جبريل مرتين

مدى صحة ما روي عن ابن عباس أنه رأى جبريل مرتين Q يقول ابن دقيق العيد: وثبت عنه -أي: عن ابن عباس - أنه رأى جبريل مرتين، فما صحة ذلك؟ A لا أدري عن صحة هذا الكلام، لكن إذا كان المقصود به أنه رآه على هيئة البشر، فإن جبريل قد جاء في صورة رجل مجهول كما في حديث جبريل المشهور: (إذ دخل رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب، لا يظهر عليه آثار السفر ولا يعرفه منا أحد)، وجاء على صورة دحية بن خليفة الكلبي وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان المقصود أنه رآه بهذه الصورة فهذا قد حصل للصحابة، وأما كونه رآه على الهيئة التي هو عليها، وعلى خلقته التي خلقه الله عليها -وهي أن له ستمائة جناح، وأنه يسد الأفق- فلا أدري، والرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل مرتين على الهيئة التي خلقه الله عليها، مرة في الأرض وقد سد الأفق، ومرة ليلة المعراج عند سدرة المنتهى، وأما ابن عباس فلعل المقصود أنه رآه مرتين عندما كان يأتي على صورة إنسان.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (يعرفك في الشدة)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (يعرفك في الشدة) Q جاء في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فكيف يقول: يعرفك، ومن المعلوم أن الله يعلم كل شيء؟ A نعم، الله يعلم كل شيء، وهو مطلع على كل شيء، ولكن المقصود من ذلك: أنك إذا تعرفت إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، فإن الله تعالى يزيل ما حصل عنك من شدة وكرب وضيق، كما حصل للثلاثة، فالله تعالى محيط بكل شيء ولا يخفى على الله عز وجل شيء {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]. ولكن المقصود: أن الله تعالى يجازيك على أعمالك التي عملتها في حال رخائك وحال سعتك، وليس المقصود من ذلك أن الله تعالى يخفى عليه شيء، بل هو عالم بكل شيء، ولكن يحصل لك في حال رخائك كشف الكرب وكشف الضر من الله عز وجل؛ لأنك عملت بالأسباب في حال رخائك وحال سعتك.

معنى المعرفة في قوله: (يعرفك في الشدة)

معنى المعرفة في قوله: (يعرفك في الشدة) Q ذكر ابن القيم في مدارج السالكين وغيره من كتبه: أن الله تعالى لا يوصف بالمعرفة، بل يوصف بالعلم، وذكر فروقاً بين المعرفة والعلم، فكيف نوجه الحديث الذي فيه: (يعرفك في الشدة)؟ A معنى هذا الحديث أنه يحقق لك ذلك الشيء الذي تريد، ومعلوم أن نصوص الكتاب والسنة جاءت بإضافة العلم إلى الله عز وجل، وأما المعرفة فقد جاءت في هذا الحديث، ولكن معناها: حصول كشف الكرب وحصول دفع الضر عن الإنسان؛ لأنه حصل منه في حال الرخاء شيء جازاه الله عليه في حال الشدة وحال الكرب. وهذا على سبيل المقابلة، لكن المعنى -والله أعلم- هو ما ذكرت، أي: من ناحية أن الإنسان عمل أعمالاً طيبة في حال الرخاء يرجو ثواب الله، والله عز وجل كشف عنه الكرب والضر في حال شدته، وهذا من باب الإخبار وليس من باب الصفات.

الفائدة من قول ابن عباس: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم

الفائدة من قول ابن عباس: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم Q ما الفائدة من قول ابن عباس: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A هذا يدل على تمكنه من حفظ الشيء الذي ألقي عليه، وأنه يذكر الحالة التي هو عليها، وكما يقولون: مما يقوي حفظ الشيء أن يكون له قصة، فكون الإنسان يذكر القصة فمعنى هذا أنه حافظ للحديث وحافظ مع الحديث القصة التي حصل فيها الحديث؛ لأن هذا مما يفيد الضبط والإتقان. ومثله ما جاء في قصة معاذ: (كنت رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: يا معاذ! فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك) الحديث، فكونه يخبر بالحالة التي كان عليها وهو يحدث بالحديث معنى ذلك أنه ضابط للحديث، ومثله الحديث الذي سيأتي عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب)، فهو يذكر الحديث ويذكر الهيئة التي حصلت من الرسول صلى الله عليه وسلم عند تحديثه بالحديث.

حصول المسبب بدون سبب

حصول المسبب بدون سبب Q قد يوجد السبب ولا يوجد المسبب، فهل يوجد المسبب بدون سبب؟ الشيخ: نعم، الله عز وجل قد يعطي الإنسان شيئاً بدون سبب منه؛ لأن هناك أموراً تحصل للعباد بأسباب وأفعال منهم، وهناك أشياء يجعلها الله عز وجل بدون أن يحصل منهم شيء، وذلك مثل الحديث الذي فيه أنه يبقى في الجنة سعة، فينشئ الله قوماً ويسكنهم الجنة، فهؤلاء لم تحصل منهم أعمال صالحة؛ لأن من الناس من يوفق لأن يعمل أعمالاً صالحة توصله إلى الجنة، ومعلوم أن هذا من فضل الله عز وجل، حتى الأعمال الصالحة بمفردها فإن الله تعالى هو الذي تفضل بالتوفيق لها والتسديد للإنسان بأن يعملها، وقد يحصل الشيء بدون أن يعمله الإنسان، مثل هؤلاء الذين خلقوا وأدخلوا الجنة وهم لم تحصل منهم أعمال، فالمسبب وجد، ولكن ما وجدت أسباب من العباد توصلهم إلى ذلك الشيء، وكذلك أيضاً مثل المطر الذي ينزل من السماء ليستفيد منه الناس، والناس كونهم يكدحون ويعملون من أجل أن يحصلوا ما يريدون، هذا حصل بسبب من فعلهم، وأما المطر فقد حصل من الله عز وجل بدون أن يحصل منهم فعل يؤدي إلى ذلك. ولهذا تتفاوت مقادير الزكاة فيما كان يسقى من ماء الأمطار وما كان يسقى من الاستنباط من جوف الأرض بواسطة النواضح أو المضخات، فإن ما يحصل بالمشقة يجب فيه نصف العشر، وما يحصل بدون مشقة يجب فيه العشر.

حكم سؤال الله تعالى مع عدم فعل السبب

حكم سؤال الله تعالى مع عدم فعل السبب Q إذا كان الاعتماد على الأسباب قدحاً في التوحيد، فهل سؤال الله مع عدم فعل السبب يقدح في التوحيد؟ A معلوم أن كون الإنسان يسأل أو لا يسأل ما دام أنه لا يأخذ بالأسباب ويقول: أنا أجلس في بيتي وأسأل الله عز وجل أنه يرزقني، وإذا كتب الله لي شيئاً فسيأتيني، فإن النتيجة واحدة؛ لأنه ما أخذ بالأسباب، والدعاء هو سبب من الأسباب، لكن مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)، فالإنسان يسأل الله من خير الدنيا والآخرة، لكن كونه يقول: أنا لا أتزوج لكن أقول: اللهم ارزقني ولداً، معلوم أن هذا اعتداء في الدعاء؛ لأنه لن يوجد ولد إلا بالزواج، فالذي يتزوج يسأل الله أن يعطيه ولداً، أما كونه لا يتزوج ولا يتسرى ويقول: اللهم ارزقني ولداً! فهذا معلوم أنه ابتعاد عن الشيء الذي شرعه الله عز وجل وقدر أن يكون المسبب نتيجة له، كما قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)، أي: اجمع بين هذا وهذا.

حكم الاعتماد على الأسباب

حكم الاعتماد على الأسباب Q هل الاعتماد على الأسباب شرك أصغر أم أكبر؟ A كون الإنسان يعتقد أنه ليس شيء وراء الأسباب، وأن الأسباب هي كل شيء ويغفل عن الله عز وجل، ويترك عبادته في الدنيا، ويعول على غير الله عز وجل، ولا يتلفت إلى الله عز وجل، لا شك أن هذا من الشرك الأكبر، وهذا مثل الماديين الذين كل شيء عندهم المادة، وكل شيء عندهم الطبيعة، وليس هناك شيء وراء ذلك.

صفة الكتابة لله عز وجل

صفة الكتابة لله عز وجل Q هل تنسب إلى الله صفة الكتابة؟ A نعم، وذلك مثل الإرادة، فقد جاء أنه كتب التوراة بيده، وجاءت الكتابة بمعنى التقدير، وكذلك الكتابة بمعنى كتابة التوراة التي كتبها الله عز وجل.

إعراب: (رفعت الأقلام)

إعراب: (رُفعت الأقلام) Q في قوله: (رفعت الأقلام)، ما هو نائب الفاعل؟ A نائب الفاعل هو الأقلام، والفاعل الحقيقي المحذوف هو الله عز وجل، والتقدير: رفع الله الأقلام، فإن الله عز وجل هو الذي رفعها.

المقصود بالأقلام والصحف

المقصود بالأقلام والصحف Q ما هو المقصود بالأقلام والصحف؟ A المقصود بالأقلام القلم الذي جرى به كتابة المقادير، والصحف: اللوح المحفوظ.

من الذي يقوم بكتابة المقادير

من الذي يقوم بكتابة المقادير Q من هو الذي يقوم بالكتابة؟ A الله تعالى خلق القلم وأمره بالكتابة، فجرى بكل ما هو كائن.

الجمع بين حديث: (رفعت الأقلام) وبين ما جاء من سماع صرير الأقلام

الجمع بين حديث: (رفعت الأقلام) وبين ما جاء من سماع صرير الأقلام Q قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، هل في ذلك تعارض مع قوله صلى الله عليه وسلم عندما عرج به: (أنه سمع صرير الأقلام) وأن الأقلام لا زالت تكتب؟ A الأقلام لا تكتب، واللوح المحفوظ قد فرغ منه، والكتابة التي سمعها هي ما يحصل من الكتابة التي هي غير القدر، فإن القدر قد فرغ منه وانتهى، والمقصود برفع الأقلام أي: فرغ من الشيء المقدر، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في الحديث: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فهذه غير هذه، فالتي سمعها ليست هي أقلام القدر؛ بل القدر حصل قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

معنى الكتابة في حديث: (حتى يكتب عند الله كذابا)

معنى الكتابة في حديث: (حتى يكتب عند الله كذاباً) Q في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، ما نوع الكتابة في هذا الحديث، مع أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف؟ A المعنى: أنه قد كتب ذلك في اللوح المحفوظ؛ لأن كل ما هو موجود من الإنسان وكل ما هو حاصل للإنسان فإنه قد سبقت به الكتابة.

المقصود بقوله: (جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)

المقصود بقوله: (جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) Q هل كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير السماوات والأرض إلى يوم القيامة فقط أم أنه قد كتب ما سيقع بعد يوم القيامة؟ A جاء في الحديث: (جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) ومعلوم أن يوم القيامة والدار الآخرة لا نهاية لها، فلا نهاية لما في الجنة ولا نهاية لما في النار، ومن المعلوم أن اللوح المحفوظ سينتهي، وما في الجنة لا نهاية له وما في النار لا نهاية له، والحديث ورد فيه بما هو كائن إلى يوم القيامة.

تحري الصدق يبلغ منازل الصديقين

تحري الصدق يبلغ منازل الصديقين Q قوله صلى الله عليه وسلم: (وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)، هل يفهم من هذا الحديث أن الذي يصدق ويتحرى الصدق يبلغه الله منازل الصديقين؟ A نعم، هذا مما يوصل إلى هذه المنزلة.

استحباب عدم سؤال الناس شيئا

استحباب عدم سؤال الناس شيئاً Q جاء في الحديث: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نسأل الناس شيئاً)، فهل من يريد تطبيق هذا الحديث يلزمه ألا يسأل أحداً شيئاً مهما كان الأمر؟ A أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بايعوا على هذا الشيء، وكان الواحد منهم يسقط سوطه فينزل ويأخذه، ولا يقول لغيره: ناولني إياه، كل ذلك تنفيذ لهذا الذي بايعوا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

الحكمة من عدم سؤال الناس شيئا

الحكمة من عدم سؤال الناس شيئاً Q ما هي الحكمة من عدم سؤال الآخرين؟ A المقصود -والله أعلم- أن كون الإنسان يعول على الله عز وجل ويحرص على الاستغناء عن الناس، كما جاء في الحديث الذي سيأتي في الأربعين: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).

بطلان دعوى حضور روح النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجالس الذكر والموالد

بطلان دعوى حضور روح النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجالس الذكر والموالد Q هل تصح دعوى أن روح الرسول صلى الله عليه وسلم تحضر مجالس الذكر وأن روحه جوالة في الأرض، وكذلك أرواح خلص المؤمنين، فأهل الموالد يستدلون بذلك ويقولون عند الاحتفال: حضر، حضر؟ A هذه من الخرافات المحدثة، وأما كون الأرواح تصول وتجول وتذهب وتجيء فهذه أمور غيبية لا يجوز الكلام فيها إلا بدليل، ولا أعلم دليلاً يدل على ذلك.

صفة التيمم

صفة التيمم Q نريد منكم أن نرى صفة التيمم كيف تكون؟ A التيمم ضربة واحدة في الأرض يمسح بها وجهه وكفيه.

كيفية توبة من أخذ أموالا من الناس بدون علمهم

كيفية توبة من أخذ أموالاً من الناس بدون علمهم Q أريد أن أتوب ولكن لدي مشكلة وهي أني أخذت أموالاً من أشخاص بدون علمهم، فسألت أحد المشايخ فقال لي: لن يتوب الله عليك حتى ترد ما أخذت، فما رأي سماحتكم؟ A إذا كانت حقوق التوبة بين العبد وبين ربه فإنه يتوب ويتوب الله عليه، أما حقوق الناس فلا بد أن ترد إليهم أو يستسمحوا منها؛ لأن حقوق الناس لا بد فيها من المقاصّة، فإما أن يستبيحهم أو أن يردها عليهم إذا كان يعلم أشخاصهم أو يعلم وراثهم، وأما إذا كان لا يعلم الشخص ولا يعرف أحداً يرثه ولا يعلم عنه خبراً فيتصدق به عنه بحسب المقدار الذي أخذه منه، فإذا كان على الإنسان حقوق للناس فإنه يردها عليهم ويعمل على ردها عليهم، ومن فعل ذلك وتاب فإن ذلك ينفعه.

قاتل نفسه لا يخلد في النار

قاتل نفسه لا يخلد في النار Q من قتل نفسه وهو مؤمن فهل يخلد في النار أم يخرج منها؟ A لا يخلد في النار إلا الكفار الذين هم أهل النار، فهم لا يخرجون منها أبد الآباد، وأما من لم يكن كافراً فإنه لا بد أن يخرج من النار ويدخل الجنة، ولو مكث فيها ما شاء الله أن يمكث، والحديث الذي فيه: (من قتل نفسه بالتردي من شاهق فهو كذلك في النار خالداً مخلداً)، معناه: الخلود النسبي، وليس كخلود الكفار.

نصيحة لطالب علم يريد ترك طلب العلم

نصيحة لطالب علم يريد ترك طلب العلم Q أنا طالب علم في الجامعة الإسلامية، والآن لا أدري ماذا حصل لي، حيث إنني أريد أن أترك الدراسة، فانصحوني جزاكم الله خيراً. A هذا الأمر الذي تفكر فيه من جهة الدراسة هل هو أمر يتعلق بمن وراءك، أم أنه حصل لك عزوف وانصراف وقلق وضجر وأنك بذلك لا تستطيع الدراسة، فإن كان الأمر يتعلق بأناس وراءك، وأنهم بحاجة إليك ولا أحد يقوم مقامك في ذلك، وأردت أن تترك الدراسة، فهذا له وجه، وإن كان الأمر يتعلق بك أنت بأن حصل لك اضطراب وعدم ارتياح فعليك أن ترقي نفسك وتطلب من غيرك أن يرقيك، وأن تذهب إلى طبيب يعالجك، فإذا كان الأمر كذلك فيفعل هذا الفعل.

حكم إقامة درس قبل صلاة الجمعة

حكم إقامة درس قبل صلاة الجمعة Q عندنا في بلدنا معظم المساجد تقوم بالدرس قبل الجمعة إلا القليل من المساجد، فاستفتى الشباب عندنا بعض الفضلاء فأفتى بعدم الصلاة في هذه المساجد، وكما تعلمون أن إنزال هذه الفتوى على الواقع صعب جداً؛ لما سوف يحصل من المفاسد، وخاصة أن هذه المفاسد تعود على أئمة هذه المساجد، فما قولكم؟ A كون الإنسان لا يصلي في المسجد؛ لأنه فيه تحلق قبل الجمعة، هذا لا يقتضي أن الإنسان لا يصلي فيه، والضرر كما هو معلوم على من يفعل ذلك، والإنسان يمكن أن يأتي ويجلس في مكان ويقرأ القرآن أو يذكر الله عز وجل، وأما الذي فعل التحلق والمتحلقون معه هم الذين حصل منهم المخالفة، وكل من يترك الصلاة في ذلك المسجد من أجل أن فيه هذا الأمر هو غير مصيب؛ فإنه يمكن للإنسان أن يصلي ولو وجد فيه هذا الأمر.

معنى القابض والباسط والخافض والرافع من أسماء الله

معنى القابض والباسط والخافض والرافع من أسماء الله Q ما معنى أسماء الله التالية: القابض، والباسط؟ A الباسط مثل كونه يبسط الرزق لمن يشاء، والقابض: يقبضه عمن يشاء، قال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ:36] أي: يضيق. والخافض والرافع أي: يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).

حكم لبس البنطلون

حكم لبس البنطلون Q في بلادنا اللبس الرسمي هو البنطلون الذي هو لبس الكفار، فهل يجوز لي أن ألبس هذا اللبس بحكم العمل؟ الشيخ: إذا كان لباس بلدك هو هذا اللباس، وكان لا بد من لبسه فالبسه واجعله واسعاً، ولا تجعله كالهيئة التي يفعلونها بأن يكون ضيقاً.

معرفة العبد الصالح

معرفة العبد الصالح Q العبد الصالح هل يمكن للناس أن يعرفوه أم لا يعرفه إلا الله؟ A معرفة الصلاح عند الله عز وجل، فهو الذي يعلم بواطن الأمور وحقيقتها، وقد يكون الإنسان في ظاهر أمره صالحاً ويكون في باطنه بخلاف ذلك، والناس لا يعلمون الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى، لكن الناس ليس لهم إلا الظاهر، فيرجون لمن ظهر منه الإحسان ويخافون على من ظهر منه الإساءة، وكون الإنسان باطنه كظاهره في الخير والشر، لا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى.

حكم قص الحاجبين لمن كبر سنه وسقطا على عينيه

حكم قص الحاجبين لمن كبر سنه وسقطا على عينيه Q رجل تجاوز المائة من عمره وسقط حاجباه على عينيه، فهل يجوز له أن يقص منهما؟ الجوب: إذا كان سقوط الحاجب يغطي على العين فله أن يقص منه شيئاً يسيراً بقدر الحاجة.

إن نصر الله قريب

إن نصر الله قريب Q هل في هذه العبارة إشكال: أن المسلمين في هذا الوقت ليسوا بأهل لأن ينصرهم الله؟ A على الإنسان أن يحسن الرجاء بالله عز وجل، ولا ييأس ولا يقنط، وإنما يسأل الله عز وجل أن يوفقهم لأن يأخذوا بالأسباب التي تجعلهم يحصلون على النصر من الله عز وجل.

حكم عمل وليمة للمدرسين من قبل الطلاب في آخر العام

حكم عمل وليمة للمدرسين من قبل الطلاب في آخر العام Q نحن مجموعة من المعلمين نعمل بإحدى المدارس، وقد اعتاد الطلاب الخريجون أن يقوموا في آخر العام بعمل وليمة للمعلمين، فما حكم حضورها؟ A هذه رشوة.

[22]

شرح الأربعين النووية [22] لقد جاء الإسلام بالدعوة إلى كل خير، والتحذير من كل شر وضير، فأمر بكل ما هو حسن ونهى عن كل ما هو قبيح، فأمر بالحياء، وذكر أن الحياء خير كله، وأنه إذا نزع الحياء فليفعل الإنسان ما شاء فسيلاقي جزاءه عند ربه تعالى، وأمر الإسلام بالإيمان بالله تعالى ثم الاستقامة على ذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، كما ذكر أن من قام بما أوجبه الله عليه، من أداء الصلوات، وصيام رمضان، وإحلال الحلال وتحريم الحرام، فله الجنة بإذن الله تعالى.

شرح حديث: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)

شرح حديث: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، رواه البخاري]. هذا حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الإخبار عن الرسالات السابقة وأنها تواردت على بيان عظم شأن الحياء وأنه يأتي بخير، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الحياء مما توارثته الأمم وجاء في الشرائع، وهو مما لم ينسخ في الشرائع؛ بل كل شريعة تأتي وفيها بيان هذا الخلق العظيم الذي هو الحياء، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى)، أي: النبوات السابقة التي كانت قبل نبوة نبينا محمد وقبل رسالته عليه الصلاة والسلام. وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، يحتمل أن يكون المراد به مدحاً وأن يكون المراد به ذماً. فيراد به المدح إذا لم يكن هذا الفعل الذي تفعله مما لا يستحيا فيه من الله ومن الخلق فإنه يفعل، وهذا هو المحمود. ويراد به الذم إذا كان الإنسان ليس عنده حياء ولا يستحيي من الله ولا من خلقه، فإنه يقدم على أمور غير سائغة وأمور محرمة؛ لأنه ليس عنده حياء يحجبه وليس عنده هذا الخلق الكريم الذي يمنعه. وعلى هذا المعنى الثاني يكون قوله: (فاصنع ما شئت)، من قبيل التهديد والوعيد، وأن الإنسان إذا كان كذلك فإنه يصنع ما يشاء وسيلقى جزاءه، وليس المعنى أنه أذن له بأن يفعل الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز، وإنما هذا من باب التهديد نظير قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فإن هذا ليس تخييراً وليس أمراً له بأن يفعل هذا أو هذا؛ لأنه قال بعد ذلك: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]. وكل من المعنيين صحيح، فإذا كان المقصود أن الإنسان إذا لم يكن فعله مما لا يستحيا منه بل هو سائغ ومشروع، فإنه يفعله، فإن هذا معناه صحيح، وإذا كان المقصود به أن الإنسان الذي ليس عنده حياء يحجبه ويمنعه من الوقوع فيما لا ينبغي، فإنه يقدم والحالة هذه على فعل أمور لا يسوغ له فعلها، فيكون معرضاً نفسه للعقوبة، فهذا أيضاً معنى صحيح. هذا هو معنى هذا الحديث الذي هو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، والذي يدل على فضل خلق الحياء وأنه خلق كريم، وأن المتصف به يمنعه حياؤه من الوقوع في الأمور المحرمة التي لا تسوغ ولا تجوز.

كلام ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث

كلام ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث قال ابن رجب رحمه الله: «فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرن، وهذا يدل على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة، وفي بعض الروايات قال: (لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا) خرجها عبيد بن زنجويه وغيره. وقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) في معناه قولان: أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:15]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعددة، وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس ثعلب». «والطريق الثاني: أنه أمر ومعناه الخبر، والمعنى: أن من لم يستح صنع ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر». فيكون من قبيل الأمر الذي هو بمعنى الخبر، والأمر يأتي بمعنى الخبر كما أن الخبر يأتي بمعنى الأمر، وهذا من الأمر المراد به الخبر، ومثال الخبر المراد به الأمر قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] يعني: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل. قال: "وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)، فإن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، وأن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار، وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول. واعلم أن الحياء نوعان: أحدهما: ما كان خلقاً وجبلة غير مكتسب، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقى). وقال الجراح بن عبدالله الحكمي وكان فارس أهل الشام: (تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع)، وعن بعضهم قال: (رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة). والثاني: ما كان مكتسباً من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، فصار كأنه لا إيمان له. والقول الثاني في معنى قوله (إذا لم تستح فأصنع ما شئت): أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريد فعله مما لا يستحى من فعله لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنع منه حينئذ ما شئت، وهذا قول جماعة من الأئمة منهم: أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحكي مثله عن الإمام أحمد ".

أنواع الحياء

أنواع الحياء والحياء منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، والمحمود هو الذي يحجز عن المعاصي، والمذموم هو الذي فيه خور وضعف وجبن، قال ابن رجب رحمه الله: «وقد روي من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء حياءان: طرف من الإيمان، والآخر عجز)، ولعله من كلام الحسن. كذلك قال بشير بن كعب العدوي لـ عمران بن حصين: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعفاً، فغضب عمران وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه؟». وقصده الممدوح؛ لأن الذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به هو الممدوح. قال: «والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء، إنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة، والله أعلم». قال رحمه الله: «وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولاً آخر حكاه عن جرير، قال: معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس، كأنه يخاف الرياء». وهذا من عمل الشيطان؛ لأن الشيطان جلس للإنسان من الجهة التي يرى أنه متجه إليها، فإذا رأى فيه رغبه في المعاصي وعزوفاً عن الطاعات أعانه على ترك الطاعات وفي الانهماك في المعاصي والوقوع فيها، وإذا رأى أنه مقبل على العبادة ومبتعد عن المعاصي جاءه من هذه الجهة، وقال له: يمكن أن يقال إن هذا رياء، يمكن أنك تفعلها من أجل الناس، فيترك الإنسان ذلك، فالشيطان يأتي للإنسان من الجهة التي يرى أنه متجه إليها، فإن رآه مقصراً وراغباً في المعاصي مائلاً إليها أعانه على ترك الخير والوقوع في الأمر المحرم، وسول له وسوَّف، وقال: إن هذا هو الذي ينبغي لك أن تفعله، وإذا رآه بعيداً عن المعاصي مقبلاً على العبادة جاء من أجل إفساد العبادة، وقال: إن هذا فيه رياء، ولا تفعل حتى لا يقال كذا وكذا. وهذا المعنى لهذا الحديث مستبعد. يقول: «فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت، كما جاء في الحديث: (إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال: إنك ترائي، فزدها طولاً)، ثم قال أبو عبيد: وهذا الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير، ولا على هذا يحملها الناس، قلت: لو كان على ما قاله جرير لكان لفظ الحديث: إذا استحييت مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله أعلم».

شرح حديث: (قل آمنت بالله ثم استقم)

شرح حديث: (قل آمنت بالله ثم استقم) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم)، رواه مسلم]. هذا الحديث أيضاً من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وفيه حرص الصحابة رضي الله عنهم على معرفة أمور الدين وعلى معرفة الحق والهدى، وسؤالهم النبي عليه الصلاة والسلام عن أمور جامعة يعول عليها الإنسان ويستفيد منها. وهذا يدل على كمال عقل هذا الرجل السائل للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك)، ومعناه: قل لي قولاً واضحاً جلياً آخذ به وأعمل به، فهو يدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على الخير وعلى التفقه في الدين، وعلى معرفة الحق والهدى، ولا شك أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرصهم عليه، وقد اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه وأوجدهم في زمانه فشرفهم بصحبته وبالجهاد معه وبالدفاع والذب عنه، وبأخذ الشريعة منه ونقلها وتبليغها إلى الناس على التمام والكمال، فكانوا بذلك الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بالله يشمل الأمور الظاهرة والباطنة

الإيمان بالله يشمل الأمور الظاهرة والباطنة وقد أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلمتين فقال له: (قل آمنت بالله ثم استقم). فأمره بأن يقول: (آمنت بالله)، والإيمان هنا جاء مطلقاً وعاماً، فيدخل فيه الأمور الباطنة والأمور الظاهرة، ومعنى ذلك: أن الإنسان يؤمن بالله عز وجل وبما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويصدق بذلك ويؤمن به، ثم بعد ذلك يستقيم على ملازمة الحق والهدى الذي هو الإيمان بالله عز وجل الذي يكون جامعاً بين الأمور الباطنة والأمور الظاهرة. وهو قد سأله عن الإسلام فقال: (قل لي في الإسلام)، فقال: (قل: آمنت بالله)، فدلنا هذا على أن قوله: (آمنت بالله)، يدخل فيه الأمور الظاهرة والأمور الباطنة؛ لأنا قد عرفنا فيما مضى أن الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق بينها في المعنى، بحيث يكون الإيمان للأمور الباطنة ويكون الإسلام للأمور الظاهرة، وإذا جاء أحدهما مستقلاً عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، فهنا قوله: (آمنت بالله)، يدخل فيه الأمور الظاهرة والباطنة.

شرح حديث: (أرأيت إذا صليت المكتوبات)

شرح حديث: (أرأيت إذا صليت المكتوبات) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام؛ أأدخل الجنة؟ قال: نعم)، رواه مسلم]. هذا الحديث أيضاً فيه ما في الذي قبله من حرص الصحابة على معرفة الحق والهدى وملازمته، وحرصهم على معرفة ما يوصل إلى الجنة وما يبلغ أهل الجنة إلى الجنة. وهو يدل على أن الجنة مقصودة، وأن الإنسان يعمل الأعمال الصالحة ليحصل على رضا الله عز وجل وليسكنه جنته، وليس كما يقول بعض الصوفية: إنهم لا يعبدون الله رغبة في الجنة ولا خوفاً من النار، وإنما يعبدونه شوقاً إليه! فإن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يحرصون على السؤال عن الأعمال التي تبلغهم الجنة، وهذا الحديث من هذا القبيل؛ لأنه سأل: هل فعله لهذه الأفعال وهذه الأمور يؤدي به إلى الجنة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم). أي: أن هذا يبلغه الجنة، والله تعالى قد أخبر عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]. والحديث يدل أيضاً على أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وأن الإنسان يعبد الله عز وجل لتحصيل رضاه وللبعد عن سخطه ولأن يدخله الجنة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال للجنة (أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها). وجاء في صحيح مسلم في بعض الروايات عن جابر بيان السائل، وأنه النعمان بن قوقل رضي الله عنه، وقد أورد المصنف رحمه الله هذا الحديث من تلك الروايات التي في صحيح مسلم، ففي هذه الرواية أبهم السائل، وفي الرواية الأخرى بين السائل وأنه النعمان بن قوقل رضي الله عنه. وقوله: (أرأيت)، أي: أخبرني، (إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام. أأدخل الجنة؟ قال: نعم). وهذا يدلنا على عظم شأن الصلوات الخمس، وأنها أهم الأعمال وأعظم الأعمال بعد الشهادتين. ومعنى قوله (وأحللت الحلال) أي: اعتقدت حله، وفعلت ما أمكنني منه. (وحرمت الحرام) أي: تركته معتقداً حرمته. ثم إنه لم يذكر في الحديث غير الصلاة والصيام، فلم يذكر الزكاة ولم يذكر الحج، ويحتمل أن يكون الحج والزكاة داخلين تحت قوله: (وحرمت الحرام)؛ لأن كون الإنسان لا يؤدي الحج ولا يؤدي الزكاة وهو من أهل القدرة على ذلك؛ فإنه يكون قد فعل حراماً؛ لأن الحرام هو ترك المأمور وفعل المحظور، فيكون عدم ذكر الزكاة والحج لدخولهما تحت هذه الجملة العامة. ويحتمل أن يقال: يمكن أن يكون الحج لم يفرض بعد، وإن السائل سأل قبل فرض الحج، وكذلك أيضاً بالنسبة للزكاة يمكن أن يكون فقيراً ليس عنده مال، ولهذا لم يسأل عن الزكاة؛ لأنه ليس عنده مال يُزكَّى، وإنما سأل عن الشيء الذي يمكنه أن يأتي به، والذي هو قادر على الإتيان به وهو من أهله، وهو كونه يصلي الصلوات المكتوبات ويصوم شهر رمضان. وبعد أن أتم سؤاله قال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، والجواب بقوله: (نعم) يرجع إلى ما تقدم، فيكون السؤال كأنه معاد في الجواب، ومعناه: نعم إذا فعلت كذا وكذا دخلت الجنة، فلم يأت ذكر السؤال مرة أخرى، وهو مطلوب؛ وذلك لأن السؤال مبين: إذا فعلت كذا وكذا أأدخل الجنة؟ و A نعم، إذا فعلت كذا وكذا تدخل الجنة، فلم يذكره مرة أخرى اكتفاءً بإيراده في السؤال، واستغناء عن إعادته بذلك، لأنه في معنى المعاد. ومعنى قوله: (أحللت الحلال) أي: اعتقدت ما أحله الله حلالاً، وفعلت ما أمكنني فعله مما هو حلال مباح، فيكون ذلك بأن يأتي بما هو واجب، وبما هو مستحب، وبما هو مباح على حسب قدرته وطاقته، وأما تحريم الحرام فبأن يجتنبه ويبتعد عنه معتقداً حرمته. وفي هذا أيضاً: أن الإنسان يكون متبعاً وموافقاً لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في إحلال الحلال وتحريم الحرام، فيأتي ما هو سائغ له مما أحله الله، ويبتعد عما حرم الله عليه مما جاء منعه وتحريمه، فيدخل في ذلك الابتعاد عن كل محرم مع اعتقاد أنه محرم. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وهو ثاني حديث من أحاديث خمسة متوالية انفرد بإخراجها مسلم ولم يروها البخاري، وأولها الحديث الذي قبله وهو حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى: (من لا حياء له لا إيمان له)

معنى: (من لا حياء له لا إيمان له) Q يقال: من لا حياء له لا إيمان له، فهل هذا صحيح؟ A لا شك أن المعنى: أن الذي ليس عنده حياء يفعل ما يشاء، كما جاء في حديث أبي مسعود، فهو يفعل ما يشاء لأنه ليس هناك حياء يمنعه، ولا خوف من الله عز وجل يردعه، بل يقدم على الأمور المحرمة، ولا شك أنه يضعف إيمانه بذلك، وإذا استمرت معه قلة الحياء من الله عز وجل حتى وقع في أمور مكفرة فإنه يكون قد ذهب الإيمان من أصله، وإذا لم يقع في أمور مكفرة بسبب عدم الحياء فإنه يكون عنده نقص في الإيمان. وقد قال ابن عباس: (الحياء والإيمان في قرن، فإذا نزع الحياء تبعه الآخر)، وهذا يدل على أنهما مقترنان متلازمان.

حكم من يستحي من الناس ولا يستحي من الله

حكم من يستحي من الناس ولا يستحي من الله Q ما حكم الأعمال التي يستحيا فيها من الناس دون الله؟ A استحياء الإنسان يستحي من الناس دون الله من أقبح الأعمال، بل الله تعالى أحق أن يستحيا منه، ولا يكون الإنسان شأنه الخوف من الناس وعدم الخوف من الله، فإن هذا من أقبح الأعمال وأسوئها.

هل شرع من قبلنا شرع لنا

هل شرع من قبلنا شرع لنا Q ما الأحكام الواردة في الكتب السابقة وأقرها القرآن؟ وما هو المرجع الذي أرجع إليه لاستقراء هذه الأشياء؟ A ورد في القرآن الكريم وفي السنة ذكر بعضها، فقد جاء في القرآن ذكر أشياء موجودة في التوراة كقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، وهذا الأمر موجود في هذه الشريعة، وهذا يمكن أن يذكر عند مبحث شرع من قبلنا هل هو شرع لنا؟ وهو من مباحث الأصول. والمسألة فيها تفصيل: فهناك اتفاق على أنه إذا كان الحكم في شرع من قبلنا وجاء في شرعنا فهو شرع لنا. ولكن إذا جاء في شرع من قبلنا وذكر في شرعنا، ولم يبين أنه شرع لنا، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، وجمهورهم على أنه يكون شرعاً لنا؛ لأنه ما ذكر إلا لنعتبر ونعمل به. وقال بعضهم: إنه ليس شرعاً لنا حتى يأتي في شرعنا نص على أنه شرع لنا.

حكم إطلاق لفظ ملتزم ونحوه لمن عرف بالصلاح

حكم إطلاق لفظ ملتزم ونحوه لمن عرف بالصلاح Q ما حكم استخدام مصطلح ملتزم أو مستقيم أو مطوع أو متدين لمن عرف بالصلاح؟ A إذا عرف الإنسان بالصلاح فيقال: أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً.

العلم قبل القول والعمل

العلم قبل القول والعمل Q حديث: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك) هل فيه دليل على أن الإنسان يطلب العلم قبل أن يعمل؟ A لا شك أن العلم قبل القول والعمل، كما بوب البخاري رحمه الله: باب العلم قبل القول والعمل؛ لأن الإنسان يعمل بناءً على علم، وكما قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:1 - 3] يعني: آمنوا عن علم، ولهذا قال بعد ذلك: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] يعني: فهم آمنوا عن علم وعملوا الصالحات، ثم بعد ذلك فعلوا على تعدي النفع إلى غيرهم، فتواصوا بالحق، ثم لما كان التواصي بالحق قد يترتب عليه مضرة أمر بالصبر، فقال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].

ما يجب على المسلم من العلم

ما يجب على المسلم من العلم Q هل معرفة الإنسان لأحكام الأشياء التي يتلبس بها في حياته اليومية واجب عيني أم ليس بواجب، كمعرفة أحكام البيوع للتاجر، وأحكام الزواج لمن أراد أن يتزوج؟ A كل أحد عليه أنه يعرف الشيء الذي هو من أهله، فهناك أمور لا بد منها للجميع، مثل الوضوء والصلاة، فجميع الناس عليهم أن يعرفوا ما هو واجب وما هو لازم عليهم، وأما ما يتعلق بالزكاة فلا يلزم كل أحد أن يتعلمه، بل تعلم ذلك فرض كفاية، لكن من يكون من أهل المال عليه أن يعرف الأحكام الشرعية المتعلقة بماله من ناحية الزكاة وكيف يزكي، ومقدار الزكاة، وما إلى ذلك، لا بد أن يكون على علم بذلك؛ لأنه لا يستطيع أن يعمل إلا إذا عرف.

معنى قول ابن رجب: (قوله صلى الله عليه وسلم كذا منتزع من قوله تعالى كذا)

معنى قول ابن رجب: (قوله صلى الله عليه وسلم كذا منتزع من قوله تعالى كذا) Q يأتي في كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله قوله: (قوله صلى الله عليه وسلم كذا منتزع من قوله تعالى كذا) فهل هذه العبارة مستقيمة؟ A نعم، هي مستقيمة؛ لأن المعنى أنه مأخوذ من هذه الآية، أو مطابق لهذه الآية، وكما قال بعض العلماء: إنني إذا رأيت الأمر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأملت ووجدت معناه في القرآن، قال: فلما سمعت قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) تأملت فوجدت مصداقه في كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، ومعناه: أن هذا المعنى الذي جاء في السنة مطابق لما جاء في القرآن.

حكم تحية المسجد

حكم تحية المسجد Q هل يستدل بحديث جابر على أن تحية المسجد غير واجبة؟ A تحية المسجد فيها خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال بوجوبها، ومنهم من قال باستحبابها، لكن الذي يقول بوجوبها يقول: إن هذا وجوب طارئ، أي: بسبب، وليس وجوباً مستقراً ثابتاً دائماً مثل الصلوات الخمس؛ لأن الفرائض لازمة في كل يوم وليلة خمس مرات، وأما هذه فتكون بمناسبة الدخول، وهذا على قول من قال بوجوب تحية المسجد.

(إذا لم تستح فاصنع ما شئت) موجود في الكتب السابقة

(إذا لم تستح فاصنع ما شئت) موجود في الكتب السابقة Q قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) هل يدل على أن هذا الكلام كان موجوداً في الكتب السابقة؟ A نعم، هذا المعنى الذي هو: أن الإنسان إذا لم يستح يصنع ما يشاء موجود، لكن الكتب السابقة كانت بلغة أخرى، فهذا بلغتنا، وأما الكتب السابقة فهي بلغتهم، كما الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، ولكن المعنى موجود هنا وهناك، وأما بهذا اللفظ وبهذه الكلمات فهذه كلمات باللغة العربية، وهو موجود في الكتب السابقة بلغتها، وليس بهذه اللغة.

معنى قوله: (ولم أزد على ذلك شيئا)

معنى قوله: (ولم أزد على ذلك شيئاً) Q جاء في حديث جابر ذكر الصلاة والصوم لدخول الجنة، وقال السائل: (ولم أزد على ذلك شيئاً) فهل هذا يدل على أن ما سوى ذلك ليس واجباً؟ A عرفنا أن هناك أشياء أخرى ما جاءت، وعرفنا أنها داخلة تحت إحلال الحلال وتحريم الحرام؛ لأن هذا واسع، فيدخل فيه ما لم يذكر.

المقصود بقول ابن رجب: (أصحابنا)

المقصود بقول ابن رجب: (أصحابنا) Q يذكر ابن رجب رحمه الله دائماً: أصحابنا، فمن هم؟ A أصحابهم هم الحنابلة، وذلك كما يقول النووي: أصحابنا، يقصد بهم الشافعية.

الحلال منه ما هو واجب ومستحب ومباح

الحلال منه ما هو واجب ومستحب ومباح Q قال ابن رجب رحمه الله: "ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه، ويكون الحلال هنا عبارة عما ليس بحرام، فدخل فيه الواجب والمستحب والمباح" فما معنى هذا الكلام؟ A أي أن إحلال الحلال يدخل فيه هذا كله، وكما جاء في الحديث: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات)، والحلال منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو مباح مستوي الطرفين، فما لم يذكر في الحديث مثل الزكاة والحج فهو داخل في ذلك.

الفرق بين المعرفة والعلم في باب الصفات

الفرق بين المعرفة والعلم في باب الصفات Q ما هو الفرق بين المعرفة والعلم؟ A جاء من صفات الله عز وجل العلم، وما جاء أن من صفاته المعرفة، لكن باب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات، فلهذا يخبر عن الله عز وجل بما ليس صفة له، كما يقول الإنسان: نوه الله تعالى بكذا، وأشاد بكذا، فهذا إخبار عن الله عز وجل بأنه فعل هذه الأشياء، لكن لا يقال: إن هذه من صفاته.

حكم الاحتفال بالمولد

حكم الاحتفال بالمولد Q ما حكم الاحتفال بالمولد، وما يصحب ذلك من شد الرحل للمدينة للاحتفال به؟ A فيما يتعلق بشد الرحل: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وشد الرحل للمسجد هو للصلاة فيه، ولأداء العبادة فيه، وكون الإنسان يشد الرحل من أجل أن يأتي بهذا الأمر الذي لم تأت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك أن هذا مخالف للحديث من جهة، ومخالف أيضاً للحديث من جانب شد الرحل لأمر لا يسوغ شده إليه، ومع ذلك أيضاً هو أمر مبتدع محدث ما جاء شيء يدل عليه، ومعلوم أن الشريعة كاملة، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، والرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس كل ما يحتاجون إليه في أمور دينهم. ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم سائغاً لفعله النبي عليه الصلاة والسلام، ولفعله أصحابه الكرام، وفعله التابعون، وأتباع التابعين، وقد مضت قرون ثلاثة ولم يوجد فيها شيء اسمه الاحتفال بالمولد، ثلاثمائة سنة كاملة لا وجود للاحتفالات بها، والكتب المتقدمة التي ألفت في هذه الفترة التي هي قبل الثلاثمائة لا يوجد فيها شيء يتعلق بالموالد والاحتفال بالموالد، مما يدل على أنه بدعة متأخرة في الإحداث، أحدثت في القرن الرابع الهجري، ومن الذي أحدثها؟ أحدثها الرافضة العبيديون الذين حكموا مصر في القرن الرابع الهجري. وقد ذكر ذلك المقريزي في كتابه: الخطط والآثار في كلامه عن تاريخ مصر، قال: إنهم أحدثوا ستة موالد: مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد فاطمة، ومولد علي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد الحاكم الحاضر من حكامهم في ذلك الوقت. والمستند للمولد تقليد النصارى، فإن النصارى يحتفلون بميلاد عيسى ونحن لا نحتفل بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، فهي بدعة رافضية المولد والمنشأ، والعمدة تقليد النصارى في احتفالهم بعيسى. ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تكون في قلب كل مسلم فوق محبة كل مخلوق من البشر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، لكن ما هي المحبة؟ ليست المحبة إحداث شيء ما أذن الله تعالى به، ولا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام ولا عن سلف هذه الأمة، وإنما أحدث في القرن الرابع الهجري! ليست هذه هي المحبة، إنما المحبة بالاتباع، المحبة بالاستسلام والانقياد، كما بين الله عز وجل ذلك بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وهذه الآية الكريمة يسميها بعض العلماء: آية الامتحان والاختبار، وهي أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام عليه أن يقيم البينة، والبينة هي الاتباع، وليست بالإحداث، فإن الشريعة كاملة لا تحتاج إلى إضافات، لا تحتاج إلى أمور تضم إليها وتلحق بها؛ بل هي مستقلة كاملة، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، والله تعالى لم يتوف نبيه إلا وقد أكمل لنا الدين، وأنزل عليه وهو واقف بعرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. إذاً: الواجب على الإنسان أن تكون عبادته لله عز وجل مبنية على أمرين: الإخلاص والمتابعة، وكل عمل من الأعمال لا يكون مستنداً على هذين الأمرين فهو مردود على صاحبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وقال عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كبيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، والاحتفال بالموالد ليس مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما هو من محدثات الأمور، إذ لم يحدث إلا بعد مضي ثلاثمائة سنة كاملة كما قدمنا، فالقرون الثلاثة الذي قال فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ما وجد عندهم هذا الاحتفال، وما عرفوا هذا الاحتفال، وإنما عرفه من جاء بعدهم. فإذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهم خير هذه الأمة التي هي خير الأمم، وكذلك التابعون وأتباع التابعين لم يحصل منهم شيء من هذا، وإنما حصل ابتداء من القرن الرابع الهجري، وكان على يد الرافضة العبيديين الذين حكموا مصر، فهل يعقل أن يحجب حق عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ويدخر لأناس يجيئون بعدهم من القرن الرابع فما بعد؟ هذا ليس بمعقول أبداً، فعدم فعله من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يدل على أنه غير مشروع؛ لأنه لو كان حقاً لسبقوا إليه، ولكنه ليس بحق، فابتلي به من بعدهم، ومن جاء في القرن الرابع الهجري فما بعد، فلا يجوز أن يقال: إن الصحابة حرموا من هذا الفضل، وادخر لأناس يجيئون بعدهم، هذا من أبطل الباطل، وأبعد ما يكون عن الحق والعدل والإنصاف. وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قال عنهم الإمام مالك رحمة الله عليه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وقال: ما لم يكن ديناً في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه لا يكون ديناً إلى قيام الساعة. وقال رحمة الله عليه: من زعم أن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فكونه يؤتى ببدعة ويقال إنها حسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء بها، وما أثرت عنه، فمعنى ذلك أن الشريعة ليست كاملة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي ولم تكمل الشريعة، حتى احتيج إلى أن يؤتى بما يكملها، وهذا من أبطل الباطل؛ بل إن الشريعة كاملة، والرسول صلى الله عليه وسلم ترك الناس على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. قال رحمة الله عليه: من قال إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] قال: فما لم يكن ديناً في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون اليوم ديناً. ثم إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم -كما أشرت- يجب أن تكون في قلب كل مسلم فوق محبة أي مخلوق؛ لأن النعمة التي ساقها الله للمسلمين على يديه أعظم نعمة، وهي نعمة الإسلام، لكن هذه النعمة التي ساقها الله للمسلمين على يديه كيف يقابلها الناس؟ يقابلونها بحمد الله عز وجل عليها والتمسك بها، ومتابعته صلى الله عليه وسلم فيما جاء عنه. وكل عمل من الأعمال لا ينفع عند الله إلا إذا توفر فيه شرطان: أن يكون خالصاً لله، وأن يكون مطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكفي حسن قصد الفاعل، كأن يقول: أنا قصدي طيب، ولو لم يأت العمل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، ولا يفرق بين قصد حسن وغير حسن، بل البدع تترك، ويحذر منها، ولا يصار إليها، هذا هو الواجب. لا بد من الإخلاص والمتابعة، فكل عمل من الأعمال لا يكون معتبراً ولا مقبولاً عند الله إلا إذا توفر فيه شرطان: أن يكون خالصاً لله، وأن يكون موافقاً لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإذا اختل أحدهما فإن العمل مردود على صاحبه، إن اختل الإخلاص رد العمل لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وإن اختل شرط المتابعة رد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). والرسول صلى الله عليه وسلم لما ضحى رجل من أصحابه قبل صلاة العيد لم يعتبر ذبيحته أضحية، بل اعتبرها شاة لحم؛ لأنها ما وقعت طبقاً للسنة، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (شاتك شاة لحم)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن بعض أهل العلم في فتح الباري أنه قال: وفي هذا دليل على أن العمل إذا لم يكن مطابقاً للسنة لا يعتبر ولو كان قصد صاحبه حسناً. وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما جاء إلى المسجد وجد أناساً متحلقين وبأيديهم حصى، يكبرون ويسبحون ويهللون ويعدون بالحصى، فوقف على رءوسهم وقال: ما هذا؟! عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أن لا ينقص من حسناتكم شيء! ثم قال: إما أن تكونوا على أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. ومعلوم أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون أحد بعد الصحابة أحسن هدياً وخيراً منهم، إذاً: بقيت الثانية. وقد فهموها وقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! والله ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله تعالى عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه! فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم تكون باتباعه، وكما أن أمور الدنيا لا بد فيها من إقامة البينات على الدعاوى، فكذلك الدعاوى في المحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا بد فيها من إقامة البينات، والبينة هي المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على

الاحتفال بالمولد من محدثات الأمور

الاحتفال بالمولد من محدثات الأمور Q هل إحداث المولد وفعله في المدينة يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)؟ الشيخ: لا شك أنه من محدثات الأمور، قال عليه الصلاة والسلام: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).

كتاب: التنوير البشير في مولد السراج المنير

كتاب: التنوير البشير في مولد السراج المنير Q هل في كتاب المولد الذي ألفه الإمام ابن دحية باسم: (التنوير البشير في مولد السراج المنير)، شيء يخالف الإسلام كما يوجد في بعض الموالد؟ A قضية الاحتفال به في حد ذاته مخالف للإسلام، ولكنه إذا وجد مع ذلك أمور منكرة فإنه يصير ضرراً على ضرر، وبلاء على بلاء.

حكم عمل خيام ونحوها لتوعية الناس في أيام المولد لأجل صرفهم عن الاحتفال

حكم عمل خيام ونحوها لتوعية الناس في أيام المولد لأجل صرفهم عن الاحتفال Q في بعض البلاد يقوم الصوفية والمبتدعة بإقامة الخيام والسرادقات ونحوها احتفالاً بمولده صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز للسلفيين أن يقيموا مثل ذلك من أجل صرف الناس عن البدعة إلى التوحيد والسنة، بإقامة الدروس أو المحاضرات والندوات ونحوها؟ A ليس لهم أن يفعلوا هذا الفعل، وإنما عليهم أن يبينوا دون أن يقيموا؛ لأنهم إذا أقاموا بهذه المناسبة مثل هذه السرادقات ليتجمعوا فيها، فمعنى ذلك أنهم شابهوهم، وقد يقول من لا يفهم ذلك الناس كلهم متفقون على هذا.

أحسن كتاب يتكلم عن حكم الاحتفال بالمولد

أحسن كتاب يتكلم عن حكم الاحتفال بالمولد Q هل هناك كتاب ينصح به في الكلام عن الاحتفال بالمولد؟ A أحسن كتاب أعرفه في هذا كتاب للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله اسمه: (القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلى الله عليه وسلم) هذا أحسن كتاب أعرفه في هذا الموضوع، وهو كتاب نفيس ووافٍ في الموضوع، وهو من مطبوعات دار الإفتاء.

حكم مصافحة النساء الأجنبيات حياء وخوفا من الوالدين

حكم مصافحة النساء الأجنبيات حياءً وخوفاً من الوالدين Q أنا أستحي من أبي وأمي عندما يأتي عندنا ضيوف فأقوم بمصافحة النساء حياءً منهما، ومخافة أن يؤنباني، فما حكم هذا العمل؟ A الواجب عليك أن تبين لأبيك وأمك الحكم الشرعي، وأن تعمل بالحكم الشرعي، ولا تخالف السنة، ولا تخالف الحق والهدى الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تصافح النساء، وبين لأبويك أن ذلك غير جائز، وأنت إذا بينت لهم وتركت المصافحة أول مرة فبعد ذلك لا تفكر المرأة أن تمد يدها إليك إذا كانت من معارفك ومن أقاربك الذين ليسوا من محارمك، فإنها إذا عرفت منك مرة واحدة أنك لا تصافح تركت مصافحتك، وكذلك النساء لو علمن أو انتقل الخبر بينهن فلن تمد أحدهن يدها إليك لتصافحها، فالإنسان عليه أن يعرف الحق ويتبعه، وأن يبين السنة، ويبين الحق والهدى لأبويه ولغير أبويه، وأن يعمل بذلك.

نصيحة لمن يترك الدعوة إلى الله خوفا وحياء

نصيحة لمن يترك الدعوة إلى الله خوفاً وحياءً Q بعض الناس يحب الدعوة إلى الله تعالى ولكن يأخذه الحياء؛ لأنه لم يجرب هذا الأمر، فما الحل؟ A عليه أن يجرب هذا الأمر ويكون شجاعاً ويبدأ، وإذا ذهب عنه الرعب والخوف من أول مرة، فبعد ذلك يصير الأمر عادياً، وإنما الخوف يكون في أول مرة. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[23]

شرح الأربعين النووية [23] للأعمال الصالحة فضائل عظيمة، وقد تفضل الله تعالى على عباده فجعل بعضها يسير الأداء عظيم الأجر، ومن ذلك الوضوء، وقول سبحان الله والحمد لله، وكذلك الصلاة والصدقة، والعبد لا محالة واقع بين أمرين: إما أن يغتنم هذه الفضائل فيزكي بها نفسه ويقترب من ربه، وأما أن يفرط ويتبع نفسه هواها فيوردها المهالك.

شرح حديث أبي مالك الأشعري في فضائل بعض الأذكار والأعمال الصالحة

شرح حديث أبي مالك الأشعري في فضائل بعض الأذكار والأعمال الصالحة يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى في الحديث الثالث والعشرين من أحاديث الأربعين: عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم. هذا حديث عظيم من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو من جوامع الكلم، وقد اشتمل على جمل تدل على فضائل جملة من الأعمال.

معنى قوله: (الطهور شطر الإيمان)

معنى قوله: (الطهور شطر الإيمان) قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان) فسر الطهور بأنه ترك الذنوب والمعاصي والشرك بالله عز وجل، وذلك أن الإيمان منه ما هو فعل ومنه ما هو ترك، فالترك يكون للشرك والذنوب والمعاصي وسائر المنهيات، والفعل يكون بتوحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وتصديق الأخبار، وامتثال الأوامر وعبادة الله عز وجل وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة. وقيل: إن المقصود بالطهور هو: الوضوء، وقد جاء عند الترمذي هذا الحديث بنحو هذا اللفظ الذي عند مسلم، وفيه بدل (الطهور) لفظ (الوضوء)، وجاء الحديث أيضاً عن أبي مالك الأشعري في سنن ابن ماجة وفيه بدل الطهور (إسباغ الوضوء) وهذا يبين ويرجح أن يكون المقصود بالطهور هو الوضوء، وليس الطهارة الأخرى التي هي ترك الشرك والمعاصي والذنوب؛ لأن مجيء بعض الروايات بالتنصيص على الوضوء يدل على أن المقصود الطهارة التي هي الوضوء. وعلى هذا فلفظ (الإيمان) إما أن يراد به الصلاة، وإما أن يراد به عموم الإيمان الذي يشمل الصلاة وغير الصلاة، وعلى القول بأن الإيمان ليس المراد به خصوص الصلاة يكون المراد أن الطهارة طهارتان: طهارة للباطن، وطهارة للظاهر، والإيمان يكون في الظاهر وفي الباطن، والذي في الظاهر هو التطهير، أي: الطهارة الحسية، أو الطهارة بالوضوء والغسل، وعلى القول بأن المراد بالإيمان الصلاة فإن الصلاة من شرطها الطهارة، ولا تقبل الصلاة بدون طهارة، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول). وعلى هذا فيكون قوله: (الطهور شطر الإيمان) دالاً على أن الصلاة لا بد فيها من الطهارة، وكل صلاة يؤتى بها بغير طهارة فإنها لا تصح ولا تعتبر، وعلى هذا يكون المراد بالإيمان الصلاة، وقد ورد ذلك في القرآن في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] وفسر بأن المقصود به صلاة المسلمين إلى بيت المقدس، فإنهم قبل أن تنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فالذين ماتوا قبل أن يصلوا إلى القبلة كانوا يصلون إلى قبلة مشروعة وهي بيت المقدس، فلما حولت القبلة ظن بعضهم أن صلاة من مات ذاهبة سدى، فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى تلك الجهة، ومن ماتوا إنما صلوا إليها بتشريع، وما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة إلا بتشريع. وقوله: (شطر الإيمان) الشطر يطلق على النصف، ويطلق على الجزء وإن لم يكن نصفاً، والطهور -بالضم- المقصود به الفعل، وهو فعل الوضوء، ففعل الوضوء يقال له: (الطُّهور) بالضم، وأما الماء الذي يتوضأ به فيقال له: (طَهور) بفتح الطاء، فالماء المستعمل للوضوء يقال له: طَهور، وفعل الوضوء من الإنسان حيث يتطهر ويغسل وجهه، ويغسل يديه إلى المرافق، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه إلى الكعبين، هذا الفعل يقال له: طُهور. ومثل ذلك لفظ (الوُضوء) و (الوَضوء) فإن الوُضوء اسم للفعل الذي هو التوضؤ، والوَضوء بالفتح يقال للماء الذي يتوضأ به، وهناك أيضاً كلمات تشبه هاتين الكلمتين -الطهور والوضوء- مثل: السُّحور والسَّحور، فإن السَّحور اسم للطعام الذي يؤكل في السحر، والسُّحور -بالضم- الفعل الذي هو الأكل، وكذلك السُعوط والسَعوط، فالسَعوط -بالفتح-: اسم للشيء الذي يوضع في الأنف، والسُعوط -بالضم- هو: وضع ذلك الشيء، وكذلك (الوُجور) و (الوَجور) أي: ما يوضع في الحلق. فنفس الوضع يقال له: وُجور، والشيء الذي يوضع يقال له: وَجور. فالحاصل: أن هناك كلمات على هذه الصيغة، إذا كانت بالضم فالمراد بها الفعل، وإذا كانت بالفتح فالمراد بها الشيء المستعمل. وقوله: (الطهور شطر الإيمان) هذا يدلنا على فضل الوضوء، وعلى فضل الطهارة، ويدل على بيان عظيم شأنها حيث وصفت بأنها شطر الإيمان.

فضل التسبيح والتحميد

فضل التسبيح والتحميد ثم قال: (والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض). الميزان: هو الميزان الذي توزن به الأعمال. والمعنى أن حمد الله عز وجل -وهو الثناء عليه سبحانه، ووصفه بصفات الكمال- يملأ الميزان، فكلمة (الحمد لله) تملأ ميزان الأعمال، بمعنى أن الأعمال يقلبها الله أعياناً توضع في الميزان, وتكون ثقيلة في الميزان، كما جاء في الحديث الآخر الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وهذا الحديث يدل على إثبات الميزان وعلى أن الأعمال توزن، وعلى أن الأعمال تقلب أعياناً توضع في الميزان، وقد جاء أن الأعمال تقلب أعياناً، فقد جاء أن عمل الإنسان الصالح يأتي إلى الميت في قبره بصورة الشاب الحسن الهيئة ويقول: أنا عملك، وأنه إذا كان العمل على العكس فإنه يأتي بأقبح صورة. وقوله: (وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) فيه ذكر التسبيح والتحميد، وهو جمع بين تنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به، وبين الثناء عليه ووصفه بكل ما يليق بكماله وجلاله، ففيه جمع بين التنزيه والوصف بالكمال، لأن التسبيح تنزيه، والحمد وصف بالمحامد وكل ما هو كمال لائق به سبحانه وتعالى. ولهذا يأتي الجمع بينهما، كما في قول: (سبحان الله وبحمده)، وقوله: (سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) قيل: إنهما بمجموعهما يملآن ما بين السماء والأرض. وقيل: إن كل واحدة منهما تملأ ما بين السماء والأرض. والراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تملآن) بالتثنية، أو قال: (تملأ) بدون تثنية؟ فمن أهل العلم من قال: يحمل قوله: (تملآن) عليهما جميعاً، فهما يملآن ما بين السماء والأرض. وقيل: إن كل واحدة منهما تملأ ما بين السماء والأرض، وذلك لمجيء الفعل (تملأ) للمفرد وللمثنى. فسواء جاء بالتثنية بأن قيل: (سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) أو جاء بالإفراد فقيل: (سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) فالمعنى صحيح، فيكون الشك في صيغة الخبر، هل هو بالتثنية أو بالإفراد، والخبر الراجح أنه للاثنين اللذين هما: التسبيح والتحميد، وهذا كما قال بعض أهل العلم: إنه يحتمل أن تكون كل واحدة منهما تملأ، أو أن كلتيهما تملأ، ويكون الراوي قد شك هل الخبر بالتثنية أو بدون تثنية؟ وهذا يدلنا على فضل هذا الذكر، وهو حمد الله سبحانه وتعالى وتسبيحه، وقد جمع بهما بين التنزيه والإثبات، فالتنزيه هو نفي كل نقص عن الله، والإثبات هو إثبات كل كمال لله سبحانه وتعالى.

فضل الصلاة وعظيم منزلتها

فضل الصلاة وعظيم منزلتها ثم قال: (والصلاة نور) هذا يدلنا على عظم شأن الصلاة، ووصفها بأنها نور، وهي نور في القلب، ونور في الوجه، ونور هداية، ونور في الدار الآخرة، وكل هذه الصفات للنور هي حاصلة بالصلاة في الدنيا والآخرة، فهي نور في البصيرة وفي القلب، ونور في الوجه بسبب ملازمة الطاعة؛ وذلك لأن الإنسان يصلي لله عز وجل في اليوم والليلة خمس مرات، وهو يكون بهذا على صلة وثيقة بالله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً يحصل صاحبها على نور الهداية؛ لأن الإتيان بالصلاة في اليوم والليلة لا شك أنّه من الهداية، والهداية نور، كما جاء في القرآن الكريم وصف القرآن بأنه نور، أي: نور يضيء الطريق إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8] فهو نور هداية، وليس مقصوداً به نور حسي يشع، فإن المصحف لا يشع، ولا يحصل منه إشعاع، وإنما يحصل منه الهداية، وكذلك النور المضاف إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن المقصود به نور الهداية، وليس المقصود من ذلك -كما يقول بعض الصوفية- أنه نور لا ظل له؛ لأنه يعكس ضوء الشمس فلا يكون له ظل. فمن المعلوم أنه جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في حجرتها ورجلاها إلى قبلته، فإذا سجد غمزها فكفت رجليها، وإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح) فلو كان نوره نوراً حسياً يشع لكانت الحجرة مضيئة، ولا يحتاج إلى أن تقول: (والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح)، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يجلس في ظل الكعبة، ولو كان ليس له ظل كما يقولون وأنه يضيء وأنه يعكس نور الشمس لما كان هناك حاجة إلى أن يجلس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه في ظل الكعبة، فهذا غلو فيه صلى الله عليه وسلم وادعاء لأشياء لا حقيقة لها ولا وجود لها، وإنما النور الذي وصف به في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] المقصود به: نور الهداية، وليس نوراً يشع، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يمشى في الظلام، وعائشة رضي الله عنها وأرضاها لما فقدته كانت تتلمسه حتى وقعت يداها على رجليه وهو ساجد. فالمقصود بالنور المضاف إلى القرآن نور الهداية، والنور المضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نور الهداية، وعلى هذا فالصلاة نور في قلب صاحبها وفي بصيرته، وأيضاً نور في وجهه، ونور يضيء أمامه يوم القيامة.

فضل الصدقة

فضل الصدقة قوله: (والصدقة برهان) يعني: أنها دليل على صدق المتصدق وعلى إيمانه؛ لأنها علامة واضحة ودلالة بينة، كما أن الحجة يقال لها: برهان لأنها تبين عن الحق، فكذلك الصدقة برهان وعلامة واضحة على إيمان صاحبها؛ وذلك لأن النفوس تشح بالمال وتبخل بالمال، فمن تصدق وجاد بالمال فذلك دليل على سلامته من البخل وسلامته من الشح، والله عز وجل لما ذكر الأنصار وما وصفهم به من الصفات قال في ختام الآية: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فالمتصدق الذي يبذل المال ويتصدق به يكون فعله دليلاً وبرهاناً على سلامته من شح النفس ومن البخل، وأنه متصف بهذا الخلق الكريم الذي هو التصدق والإحسان إلى الناس.

الصبر فضله وأنواعه

الصبر فضله وأنواعه قوله: (والصبر ضياء) الصبر يكون على طاعة الله، ويكون عن معاصي الله، ويكون على أقدار الله المؤلمة، والصبر لا بد فيه من هذه الأمور، فيصبر الإنسان على الطاعات ولو شقت على النفوس، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكارة). فالطريق إلى الجنة ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل فيه تعب ونصب ومشقة، ولا يصل إليها إلا من جاهد نفسه وكبح جماحها وجعلها تنقاد وتستلم لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك شاقاً، ولهذا جاء في الحديث: (وإسباغ الوضوء على المكاره) يعني: في شدة البرد يتوضأ ويسبغ الوضوء ولو كان الماء بارداً. وكذلك الصبر عن معاصي الله، فيصبر الإنسان على طاعة الله ولو شقت على النفوس، ويصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس؛ فإن الجنة حفت بالمكارة، فيحتاج طالبها إلى صبر على طاعة الله عز وجل ولو شقت على النفوس، ويحتاج أيضاً إلى صبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس؛ لأن النار حفت بالشهوات، والإنسان إذا أرخى لنفسه العنان فيما تشتهي ولو كان محرماً فإن ذلك يفضي به ويوصله إلى النار. وكذلك الصبر على أقدار الله المؤلمة، كالمصائب والنكبات التي تحل بالإنسان، فيصبر ويحتسب ولا يتسخط ويجزع، فقد وصف الصبر بأنه ضياء، وذلك لكون صاحبه يصبر على طاعة الله وعن معاصي الله وعلى أقدار الله المؤلمة، فلا شك أن من صبر قد هدي، وأنه حصل له الضياء، وحصل له النور الذي يكون بسبب صبره على الطاعات وصبره عن المعاصي وصبره على أقدار الله. وعبر بالضياء مع الصبر لأن الضياء يكون معه حرارة، ولهذا وصف نور الشمس بأنه ضياء، والقمر وصف بأنه نور، فالشمس ضياء نورها معه حرارة، ومعلوم أن الصبر يحتاج إلى تحمل ويحتاج إلى احتساب وفيه مشقة، فمن صبر فإنه يحصل هذا الثواب ويحصل هذا الأجر، ويحصل هذا الضياء، ففيه الدلالة على فضل الصبر، وأن فيه هذا الثوب من الله عز وجل.

القرآن حجة للمرء أو حجة عليه

القرآن حجة للمرء أو حجة عليه ثم قال عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) أي: أن الناس ينقسمون إلى قسمين بالنسبة للقرآن: فمنهم من يكون القرآن حجة له، وهو الذي يقوم بما يجب عليه نحوه من تلاوته حق تلاوته، وتدبره، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وإذا أعرض عنه، وأهمل حدوده، ولم يحصل منه الإتيان بالأوامر وترك النواهي فإنه يكون حجة عليه، فالناس بين رابح وخاسر، فالرابح من كان القرآن حجة له، والخاسر من كان القرآن حجة عليه, فإما أن يكون القرآن حجة للمرء؛ وذلك إذا أتى بما هو مطلوب منه نحو القرآن، أو يكون حجة عليه إذا لم يأت بما هو مطلوب منه نحو القرآن بأن يخل بالأوامر والنواهي، فيقصر في المأمورات ويقع في المحظورات، ولا يحصل منه الالتزام بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون القرآن حجة عليه. وهذا الذي جاء في هذا الحديث عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) هو نظير ما جاء في صحيح مسلم -أيضاً- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فمن رفعه الله بالقرآن كان القرآن حجة له، ومن وضعه بالقرآن وخفضه بالقرآن فإنه يكون حجة عليه. وقوله: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين) هذا الحديث أخرجه مسلم عن عمر رضي الله عنه، وكان استشهاده بهذا لمناسبة، فإنه كان له أمير على مكة، فلقيه فقال له: من وليت على مكة في مدة غيبتك؟ فقال: وليت عليهم ابن أبزى. فقال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من الموالي. قال: وليت عليهم مولى؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين! إنه عالم بكتاب الله عارف بالفرائض. فقال رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين).

بيان كون العبد هو الذي يعتق نفسه أو يوبقها

بيان كون العبد هو الذي يعتق نفسه أو يوبقها ثم قال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها). الغدو هو: الذهاب في الصباح، فالناس فيه يسعون وينتشرون ويقومون من نومهم ويخرجون من بيوتهم لأعمالهم المختلفة، فمنهم من يستقيم على طاعة الله، ومنهم من ينحرف عن ذلك ويقع في المعاصي، فمن كان مستقيماً على الطاعة فإنه يكون بذلك قد باع نفسه لله، وحصل الثواب من الله، وذلك بالتزامه بما جاء عن الله عز وجل، فكان خروجه وكان عمله في هذا الخروج في سبيل الله، فيكون لذلك أعتق نفسه من أن تقع فريسة للشيطان، وأن تستسلم للشيطان، وأن تفعل الأفعال التي تؤدي إلى النار وتوصل إلى النار، فهذا هو الرابح في بيعه. ومنهم من باع نفسه للشيطان واستسلم وانقاد للشيطان، فهو يتصرف ويعمل وفقاً لما تشتهي نفسه الأمارة بالسوء، ووفقاً لما يمليه عليه الشيطان، فيكون بذلك قد أوبق نفسه بأن جعلها أسيرة للشيطان، وجعل ذلك العمل موصلاً له إلى النار التي يحصل فيها العذاب. فهذا الحديث العظيم من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والله تعالى أعلم.

بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول الموافق لمولده صلى الله عليه وسلم يحصل عند كثير من الناس إحداث الموالد والاحتفال بالمولد، وهذا ليس مما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من عمل سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كانت مدة بعثته ثلاثة وعشرين عاماً، ولم يحصل منه فيها احتفال بمولده صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون من بعده لم يحصل منهم شيء من ذلك، ومدة خلافتهم ثلاثون سنة، بل مضى عصر الصحابة ولم يحصل من أحد منهم الاحتفال بهذا المولد، والصحابة هم أسبق الناس إلى كل خير، وهم أحرص الناس على كل خير، ولو كان خيراً لسبقوا إليه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وكذلك التابعون من بعدهم لم يحصل منهم شيء من هذه الاحتفالات بالموالد، لا مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مولد غيره، وكذلك أتباع التابعين، وقد مضت ثلاثمائة سنة وزيادة على الثلاثمائة لا يوجد فيها شيء اسمه احتفال بالمولد أبداً، وكل الكتب التي ألفت في هذه الفترة قبل القرن الرابع لا يوجد فيها شيء عن الاحتفال، ولا ذكر للاحتفال، ثم وجد الاحتفال في القرن الرابع الهجري ولم يوجد قبله، وكل هذا يبين لنا أنه أمر محدث، وأنه من محدثات الأمور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وشريعة الله عز وجل كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، والنبي صلى الله عليه وسلم ما انتقل من هذه الدار إلى الدار الآخرة إلا بعد أن بلغ البلاغ المبين، وبين للناس كل ما يحتاجون إليه، ولم يكن هناك شيء ترك وقد أمر بتبليغه عليه الصلاة والسلام، بل كل ما أمر بتبليغه بلغه على التمام والكمال، والله عز وجل أخبر بأنه ليس على الرسول إلا البلاغ، وقد جاء عن الإمام الزهري رحمة الله عليه أنه قال: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. فالله تعالى أرسل الرسل، والرسل بلغوا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة التي أرسل بها، ولم يترك شيئاً أمر بتبليغه دون أن يبلغه، وليس مما بلغه الاحتفال بالمولد. وخلفاؤه الراشدون الذين أمرنا باتباع سنتهم مع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصل منهم شيء من ذلك، بل وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم من أولهم إلى آخرهم ما حصل منهم شيء من ذلك، والتابعون كلهم من أولهم إلى آخرهم ما حصل منهم شيء من ذلك، بل وأتباع التابعين كلهم من أولهم إلى آخرهم ما حصل منهم شيء من ذلك.

زمن إحداث الموالد وذكر من أحدثها ومستندهم في ذلك

زمن إحداث الموالد وذكر من أحدثها ومستندهم في ذلك أحدثت الموالد في القرن الرابع الهجري، وأول من أحدثها الرافضة العبيديون الذين حكموا مصر في القرن الرابع الهجري، فهم أول من أحدثها، وقبل إحداثهم إياها لم يكن لها وجود، فالناس كانوا لا يعرفون عنها شيئاً، وإنما عرفت بإحداث الرافضة العبيدين لها في القرن الرابع الهجري، وقد ذكر ذلك المقريزي صاحب تاريخ مصر الذي هو (الخطط والآثار في تاريخ مصر) فإنه ذكر أنهم أحدثوا ستة موالد: مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومولد فاطمة، ومولد علي، ومولد الحسن، ومولد الحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً، ومولد الحاكم الموجود من حكامهم. ثم ما هو المستند في إحداثها؟ إنه تقليد النصارى، فالنصارى يحتفلون بميلاد عيسى عليه السلام، والمسلمون لا يحتفلون بمولد محمد صلى الله عليه وسلم. فهذه بدعة أحدثت في القرن الرابع، وأحدثها الرافضة، وعمدتهم تقليد النصارى في الاحتفال بميلاد عيسى عليه السلام، فهي من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أسبق الناس إلى كل خير، وأحرص الناس على كل خير، ولو كان خيراً لسبقوا إليه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

رد دعوى المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم بفعل الموالد

رد دعوى المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم بفعل الموالد ومن الناس من يقول: إننا نفعل هذا محبة للرسول صلى الله عليه وسلم. ونحن نقول: محبة النبي عليه الصلاة والسلام يجب أن تكون في قلب كل مسلم فوق محبة كل مخلوق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) لكن ما هي علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل علامة المحبة الإتيان بالبدع وإحداث أمور ما أنزل الله بها من سلطان، أو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن علامة المحبة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم بتصديق أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن يعبد الله وفقاً لشريعته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهذه علامة المحبة، والله تعالى قال في كتابه العزيز: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقد سمى بعض أهل العلم هذه الآية آية الامتحان، وهي أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام عليه أن يقيم البينة، والبينة هي الاتباع وليست الابتداع، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فهذه البينة هي (اتبعوني) فعلامة محبة الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يكون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرع الذي جاء به، وليس بالبدع التي أحدثت من بعده، بل ومن بعد أصحابه، بل بعد القرون الثلاثة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). فهذه ما جاءت إلا بعدهم، وليس لها ذكر في الكتب السابقة التي ألفت في القرون الثلاثة الأولى؛ لأنها لم تكن موجودة، وإنما أحدثت في القرن الرابع الهجري.

طريق صلاح آخر الأمة

طريق صلاح آخر الأمة جاء عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه قال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فلا يمكن للمتأخرين أن يصلحوا بطريقة لم يصلح بها الأولون، بل الذي صلح به الصحابة هو الذي يصلح به من بعد الصحابة، قال الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] وقال صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: الجماعة) وفي لفظ: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) وعلى هذا فلا يعقل أن يكون الاحتفال بالموالد حقاً ثم يحجب عن الصحابة، فهل الصحابة يحجب عنهم حق ثم يدخر لأناس يأتون في القرن الرابع وما بعده؟! فلو كان ذلك حقاً لسبقوا إليه، ولو كان ذلك خيراً لكانوا أسبق الناس إليه، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فليس من المعقول أن يحجب حق عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين -وهم القرون المفضلة - ثم يدخر لأناس يجيئون بعد ذلك. ثم إنه لابد في كل عمل يتقرب به إلى الله من أن يكون خالصاً لله، وأن يكون موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون العمل فيه شركة لغير الله، ولا يكون العمل الذي يتقرب به إلى الله مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون مبنياً على بدع، فإن ذلك لا يسوغ ولا يجوز.

حسن القصد لا يجوز عمل البدعة

حسن القصد لا يجوز عمل البدعة ومن الناس من يقول: نحن قصدنا طيب. ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا ينفع حسن القصد بدون المتابعة، وقد فعل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عملاً طيباً فضحى قبل صلاة العيد وقصده طيب، وهو أنه يصنع لحم أضحيته ويطبخه، فإذا فرغ الناس من الصلاة يكون مهيئاً ومعداً، فيأكل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه منه بعد فراغهم من الصلاة، فهذا قصد طيب، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم بأنه لم يذبح بعد صلاة العيد قال له: (شاتك شاة لحم) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري نقلاً عن بعض أهل العلم: وفي هذه القصة دليل على أن العمل إذا وقع غير مطابق للسنة لا يعتد به ولو كان قصد صاحبه حسناً. فلا يعتبر حسن قصد الفاعل مع مخالفته للسنة، بل لا بد مع حسن القصد من أن يكون المقصود موافقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام جاء إلى جماعة متحلقين في المسجد وبأيديهم حصىً وفي كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة. فيعدون بالحصى: سبحان الله، سبحان الله. حتى يكملوا مائة، ثم يقول: هللوا مائة. فيقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. حتى يكملوا مائة، ثم يقول: كبروا مائة. فيعدون بالحصى: الله أكبر، حتى يكبروا مائة، فقال لهم رضي الله عنه: (إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة). أي: إما أنكم أحسن من الصحابة أو أنكم محدثو بدعة ومفتتحو باب ضلالة؟ ففهموا أنه لا يمكن أن يكونوا خيراً من الصحابة، فبقيت الثانية، وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة، فقالوا معتذرين: سبحان الله! يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا خيراً! فقال رضي الله عنه: (وكم من مريد للخير لم يصبه).

خطورة اعتقاد البدع واستحسانها

خطورة اعتقاد البدع واستحسانها فالحاصل: أن هذا الذي يقع في كثير من الأقطار وفي كثير من البلدان من كثير من الناس من الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم هو من البدع المحدثة التي لم تأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أتباع التابعين، وجاء عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه قال: من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة. لأنه هذا معناه: أنه ترك شيئاً الناس بحاجة إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئاً يقرب إلى الله إلا ودل أمته عليه، وما ترك شيئاً يبعد من الله إلا وحذر أمته منه، وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الناس للناس، وهو أكمل الناس نصحاً وأكملهم بياناً، ولم يرد عنه شيء من ذكر الموالد ولا عن أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، فدل ذلك على أن هذا محدث، وأنه بدعة، وأن الواجب هو اتباع السنن وترك البدع. قال الإمام مالك رحمة الله عليه: من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة، والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. ثم قال: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً. يعني: ما لم يكن ديناً في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يكون اليوم ديناً؛ لأن الدين في زمنه صلى الله عليه وسلم هو الدين بعد ذلك، وليس هناك دين جديد يأتي لم يكن في زمن الصحابة وزمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعقل أن يكون هناك حق وهدى يحجب عن الصحابة ثم يدخر لأناس يجيئون بعدهم، بل هذا من تلاعب الشيطان بالناس وصرفهم عن السنن إلى البدع.

رسالة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

رسالة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ولشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه رسالة مختصرة تتعلق بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان أنه من البدع وفيما يأتي نصها: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد. و A أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حباً لرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: مردود عليه، وقال في حديث آخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] والآيات في هذا المعنى كثيرة. وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا -بلا شك- فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم) رواه مسلم في صحيحه. ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين، وقد جاء في معناهما أحاديث أخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها؛ عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاختلاط النساء بالرجال، واستماع آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر، وظنوا أنها من البدع الحسنة، والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]. وقد رددنا هذه المسألة -وهي الاحتفال بالموالد- إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه، وقد رددنا ذلك -أيضاً- إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار؛ فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا يخلو من اشتمالها على منكرات أخرى، كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به، وطلبه المدد، واعتقاد أنه يعلم الغيب، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والغلو في الدين! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) خرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه. ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها، ويتخلف عما أوجبه الله عليه من حضور الجمع والجماعات، ولا يرفع بذلك رأساً، ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً. ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة، وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي، نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين. ومن ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد! ولهذا يقومون له محيين مرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين، عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنين: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأنا أول شافع وأول مشفع) عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين، ليس فيه نزاع بينهم. فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به. أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً)، وهي مشروعة في جميع الأوقات، ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة، منها ما

الأسئلة

الأسئلة

حكم حضور الموالد لقصد المشاهدة

حكم حضور الموالد لقصد المشاهدة Q لي صديق دعاني لحضور المولد النبوي، فهل يجوز لي أن أذهب معه للمشاهدة فقط؟ A لا تذهب، إلا أن تكون ناصحاً ومبيناً لهم أن مثل هذا العمل لا يسوغ ولا يجوز، وإلا فلا تذهب.

حكم الأكل من طعام الموالد

حكم الأكل من طعام الموالد Q في هذه الموالد البدعية تصنع الأطعمة المتنوعة، فما حكم الذهاب للأكل منها؟ A لا يذهب الإنسان إليها، ولا يأكل معهم فيها.

حكم تخصيص يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم

حكم تخصيص يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم Q ما حكم تخصيص يوم مولده صلى الله عليه وسلم بالصوم، استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن صيام يوم الإثنين: (ذلك يوم ولدت فيه)؟ A كون الإنسان يتقرب إلى الله عز وجل بالصوم أمر مطلوب، ولكن الذين يقومون بالموالد لا يحصل منهم إلا صنع الطعام، والتفنن في المآكل. وصيام الإثنين والخميس سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صام الإثنين والخميس فقد أتى بما هو سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما ما يفعله الناس من الاحتفال بالموالد وصنع الطعام فيها بحيث يكون ذلك اليوم كأنه يوم عيد ويأكلون من هذه المآكل فهذا خلاف السنة، وخلاف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي جاء عنه أن يوم الإثنين يصام فيه، وليس خاصاً بيوم معين في السنة، بل في جميع أيام السنة يستحب للإنسان أن يصوم الإثنين والخميس.

بيان ضعف القول بحصول ميلاده صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول

بيان ضعف القول بحصول ميلاده صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول Q قال الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم: إن الثاني عشر من ربيع الأول من أضعف الأقوال التي قيلت في يوم مولده. وقد وقع خلاف في هذا التاريخ، فهذا مما يزيد نكارة الاحتفال بمثل هذا اليوم، فما قولكم في هذا؟ A المسألة فيها خلاف، وتحديد اليوم ليس متفقاً عليه.

حكم تعمد فعل العمرة في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول

حكم تعمد فعل العمرة في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول Q ما حكم تعمد أداء العمرة في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول؟ A تخصيصها بنفس اليوم الذي يقال: إنه يوم مولده عليه الصلاة والسلام ليس له أصل.

حكم أخذ الباقي من طعام الموالد

حكم أخذ الباقي من طعام الموالد Q إذا جاءنا طعام صنع للمولد فهل يجوز لنا أخذه والأكل منه؟ A لا يجوز للإنسان أن يوافق أهل البدع فيما هم فيه، ولا أن يشاركهم، بل عليه أن يُحذَّرهم من أن يفعلوا هذا الفعل.

حكم الاجتماع للموالد من أجل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

حكم الاجتماع للموالد من أجل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم Q إذا أنكرت على الذين يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون: إن لم يكن هذا من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا عمل الصحابة فإنه ليس هناك ضرر في كوننا نجتمع ونصلي ونسلم عليه، أليس هذا خيراً من أن نجلس أمام التلفزيون أو نستمع إلى الأغاني؟ A لا يستمع إلى هذا ولا إلى ذلك.

نفع القرآن وشفاؤه لغير المؤمنين

نفع القرآن وشفاؤه لغير المؤمنين Q قوله سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] مفهوم الآية أن الشفاء يكون للمؤمن فقط، مع أن الرقاة قد يرقون بالقرآن من هو من أهل البدع، أو وقع في الشرك، ومع ذلك تنفعه الرقية فما تعليقكم؟ A الأصل أن نفع القرآن للمؤمنين؛ لأنهم الذين يؤمنون به ويصدقون، وهم الذين يستسلمون وينقادون، وكونه ينفعهم وينفع غيرهم من ناحية الرقية لا ينافي كونه شفاءً للمؤمنين.

المقصود بكون القرآن يأتي على هيئة يوم القيامة

المقصود بكون القرآن يأتي على هيئة يوم القيامة Q قوله صلى الله عليه وسلم عن سورتي: البقرة وآل عمران: (تأتيان يوم القيامة كأنها غمامتان)، وكذلك إخباره أنه يؤتى بالقرآن يحاج عن صاحبه ثم يأخذ بيده فيدخله الجنة، فهل معناه أن القرآن يكون عيناً أم أن المقصود الثواب والأجر؟ A المقصود العمل، فالعمل هو الذي يقلب عيناً، وهو القراءة، وهناك فرق بين القراءة والمقروء، فالمقروء هو كلام الله، والقراءة هي فعل العبد، وفعل العبد كسب له يثاب عليه، فكما أن الأعمال تقلب أعياناً وتوضع في الميزان فإن قراءة الإنسان هي من عمله، وهي التي تقلب، وليس نفس القرآن؛ لأن هناك قراءة ومقروءاً، وقد جاء في القرآن ذكر أن لفظ القرآن يراد به المقروء، ويراد به القراءة، فمما جاء في القرآن يقصد به المقروء قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء:82] فهذا المقصود به المقروء، ومما جاء يراد به القراءة قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] يعني: القراءة في الفجر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم) يعني: زينوا القراءة. فبنص القرآن نفسه يأتي القرآن بمعنى القراءة ويأتي بمعنى المقروء، والقراءة التي هي فعل العبد وكسبه هي التي تأتي على هيئة غمامة تظل صاحبها يوم القيامة، وكذلك عمله من حيث قراءة القرآن هو الذي يأتي شافعاً له، وهو الذي ينفعه، وليس معنى ذلك أن القرآن نفسه يتحول وينقلب إلى عين، وإنما القراءة التي هي العمل هي التي تقلب إلى عين.

معنى لسان الميزان

معنى لسان الميزان Q هل للميزان لسان يتكلم به؟ A لا نعلم شيئاً يدل على ذلك، ومعلوم أن الميزان الذي له كفتان له لسان بينهما، بحيث إذا استوت الكفتان يستوي اللسان، وإذا مالت إحداهما مال إلى أحد الجهتين، فهذا هو الذي يطلقون عليه لسان الميزان. والميزان له كفتان، كما جاء في الحديث.

حكم البيع قبل حيازه المبيع

حكم البيع قبل حيازه المبيع Q إذا عرضت أرضاً في مكتب للعقار للبيع، ثم أتى لها مشترٍ وكلم صاحب المكتب فيها، فأخبره بأنها عرضت بمائتي ألف ريال، ثم وافق على الشراء، ولم يبق سوى الإفراغ، فدخل مشترٍ ثانٍ لشرائها فأخبره صاحب المكتب أن الأرض قد بيعت من هذا الشخص -وهو لا يزال في المكتب- فقال المشتري الثاني للأول: هل اشتريتها بهذا المبلغ؟ قال: نعم. قال له: خذ عشرة آلاف ريال زيادة ثم دعها لي. فهل هذه الصورة جائزة، أم أن هذه الزيادة تكون من حق صاحب الأرض الأول؟ A ليس للإنسان أن يبيع إلا إذا ملك، فما دام أنه لم يملك فإنه لا يبيع، فهذا الذي اشترى وحصل التفاهم معه قبل أن يتم البيع وقبل أن يملكها وتنتقل إلى ملكه ليس له أن يبيعها.

حكم أخذ المال المجموع بطريق ما يسمى بالجمعية

حكم أخذ المال المجموع بطريق ما يسمى بالجمعية Q نحن جماعة نعمل في مؤسسة، ونجمع في آخر كل شهر مبلغاً من المال يأخذه كل مرة واحد، فما حكم الشرع في هذه العملية؟ A هذه هي التي يسمونها الجمعية، وهي أن يتفق عشرة أشخاص -مثلاً- على أن يدفع كل واحدٍ منهم في كل شهر -مثلاً- مائة ريال أو ألف ريال، ثم في كل شهر يأخذ المبلغ واحد من هؤلاء العشرة حتى يأتي إلى تمام العشرة، وهذه من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم في هذا الزمان، فمنهم من يجيزها ومنهم من يمنعها، ولا شك أن الاحتياط والسلامة للإنسان ألا يدخل فيها؛ لأن فيها شبهة، وهي أن كل إنسان يَقْرِض ليُقْرَضَ، وقد أجمع المسلمون على أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا.

الراجح في الحكم على حديث: (الطهور شطر الإيمان)

الراجح في الحكم على حديث: (الطهور شطر الإيمان) Q بعض أئمة الحديث ضعفوا الحديث الذي رواه مسلم: (الطهور شطر الإيمان) كـ الدارقطني وغيره، فهل هذا الحديث من الأحاديث المنتقدة على مسلم فيكون ضعيفاً؟ وما القول الراجح فيه؟ A الحديث صحيح.

[24]

شرح الأربعين النووية [24] لقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه ونزه نفسه عنه، وحرمه على عباده، فالذي ينبغي للمسلم أن يبتعد عن الظلم؛ لأن عاقبته وخيمة، تصيب الظالم في الدنيا قبل الآخرة، والظلم ظلمات يوم القيامة.

شرح حديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)

شرح حديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) يقول الإمام النووي رحمه الله في الأربعين النووية: عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد وسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه مسلم.

معنى الحديث القدسي وحقيقته

معنى الحديث القدسي وحقيقته حديث أبي ذر رضي الله عنه عظيم اشتمل على عشر جمل، كل جملة منها مبدوءة بـ (يا عبادي)، وهو من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي هو الذي يضيفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وهو مشتمل على ضمائر التكلم التي ترجع إلى الله عز وجل، كما في قوله: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي) فإنه لا يقول أحد: يا عبادي إلا الله سبحانه وتعالى. وكذلك الحديث الذي فيه: (الصوم لي) فإن هذا فيه ضمير التكلم، وهو يرجع إلى الله عز وجل، وقال كذلك: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) فكل ما كان من هذا القبيل فإنه يعتبر من الأحاديث القدسية؛ لأن المتكلم فيها هو الله، والضمائر ترجع إلى الله، ومثل هذا الكلام لا يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقول: (يا عبادي) إلا الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يضيف إلى ربه هذا الحديث القدسي، فيقول: قال الله عز وجل كذا وكذا. أو يقال: قال الله عز وجل فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الحديث القدسي.

وجه تحريم الله الظلم على نفسه ونفيه عنه

وجه تحريم الله الظلم على نفسه ونفيه عنه يقول الله عز وجل في هذا الحديث: (يا عبادي!) وهي أول هذه الجمل العشر (يا عبادي! إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فالله عز وجل أخبر أنه حرم الظلم على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد حرم الله على نفسه الظلم، فلا يقع منه الظلم أبداً، وهو منزه عنه، ونفي الظلم عن الله عز وجل هو من قبيل النفي الذي جاء في الكتاب والسنة، ومتضمن إثبات كمال ضد ذلك المنفي، فقد جاء في القرآن آيات عديدة فيها نفي الظلم عن الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] وقال عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]. كل هذه الآيات وأمثالها التي فيها نفي الظلم عن الله عز وجل تدل على إثبات كمال ضد ذلك المنفي الذي هو الظلم، أي: يدل على إثبات كمال عدله سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى متصف بالعدل على التمام والكمال، وهكذا النفي في الكتاب والسنة عندما يأتي فهو نفي متضمن إثبات كمال، وليس كالنفي الذي يكون عند المتكلمين الذي يؤدي إلى نفي الموجود ويؤدي إلى أن الله تعالى لا وجود له، حيث يقولون: ليس بكذا وليس بكذا. وكل صفة تنفى عندهم عن الله، فيئول الأمر إلى أنه لا يبقى وجود لله عز وجل، والنفي في الكتاب والسنة إنما يأتي متضمناً إثبات كمال لله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] لبيان كمال عدله، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر:44] لبيان كمال قوته، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] لبيان كمال قدرته سبحانه وتعالى، يعني: ما مسنا من تعب ولا نصب ولا إعياء. إذاً: فكل نفي جاء في الكتاب والسنة يدل على إثبات كمال ضده في حق الله سبحانه وتعالى، وهو ضد ذلك المنفي، فنفي العجز يدل على إثبات كمال القوة وكمال القدرة، ونفي الظلم يدل على إثبات كمال العدل. فمنهج سلف هذه الأمة أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النفي الذي ينفونه عنه وفقاً لما جاء في الكتاب والسنة يدل على إثبات كمال الله سبحانه وتعالى، بخلاف أولئك الذين ينفون عن الله الصفات بحجة أنهم لو أثبتوا لكانوا مشبهين، وتصوروا أنه ليس هناك إثبات إلا مع التشبيه، ولهذا يقولون: ليس بكذا، وليس بكذا. وينفون عنه جميع الصفات، فيئول الأمر إلى أن يكون لا وجود له؛ لأنه لا يتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات. فالمتكلمون تصوروا أنه لا إثبات إلا مع تشبيه، ففروا من تشبيه بالموجودات حسب تصورهم الباطل، ووقعوا في تشبيه أسوأ منه، وهو التشبيه بالمعدومات، ولهذا يقول بعض أهل العلم: إن المعطل يعبد عدماً. يعني: لا وجود لمعبوده. وكما قال ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه (التمهيد): إن الذين ينفون الصفات عن الله عز وجل ويصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأنهم ما تصوروا إثباتاً إلا مع تشبيه. ثم يقول ابن عبد البر: وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. أي أن المعطلة عند المقرين للصفات يعتبرون نافين للمعبود. ثم إن الذهبي رحمه الله ذكر هذا النقل عن ابن عبد البر في كتابه (العلو للعلي الغفار)، وقال: صدق والله -أي: ابن عبد البر -، فإن الجهمية مثلهم كما قال حماد بن زيد: إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة. فقيل: ألها خوص؟ فقالوا: لا، ألها عسب؟ قالوا: لا، ألها قنو؟ قالوا: لا، ألها ساق؟ قالوا: لا، قالوا: إذاً ما في داركم نخلة؛ لأنه إذا كانت جميع صفات النخل منفية عنها فلا وجود لهذه النخلة التي نفيت عنها جميع الصفات. فكذلك إذا نفيت الصفات عن الله عز وجل فمعنى ذلك أنه لا وجود له، وعلى هذا فنهج المتكلمين إنما هو نقص وإضافة نقص إلى الله عز وجل، بل إضافة العدم إليه وأنه لا وجود له، وأما أهل السنة والجماعة فهم ينفون عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا النفي متضمن إثبات كمال الله سبحانه وتعالى. فقوله تعالى في الحديث: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) أي: أنه سبحانه وتعالى حرم على نفسه الظلم، ومنع الظلم عن نفسه؛ وذلك لكمال عدله سبحانه وتعالى. قوله: (وجعلته بينكم محرماً) أي: كما حرمه الله على نفسه فلا يقع منه أبداً فإنه حرمه على عباده، ولكن منهم من يحصل منه الظلم، سواء ظلم نفسه، وذلك بأن يأتي بأمور منكرة تعود مضرتها عليه ويكون ظالماً لنفسه، أو يظلم غيره، سواءٌ أكان ظلمه في نفسه بقتله أو بقطع عضو منه، أم كان في عرضه أم في ماله. فيكون الظلم قاصراً على الإنسان ويكون متعدياً إلى غيره، فيظلم الإنسان نفسه، وذلك بتركه للأوامر ووقوعه في المعاصي، وكذلك أيضاً يظلم غيره بأن يلحق به الأذى والضرر، فيكون ظالماً لنفسه وظالماً لغيره. ثم قال: (فلا تظالموا) يعني: فلا تتظالموا، بل عليكم أن تبتعدوا عن الظلم وأن تتركوا الظلم، وأن تكونوا على السداد وعلى العدل، وأن تحذروا من الظلم. هذه هي الجملة الأولى من الجمل العشر التي اشتمل عليها حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه.

حاجة العباد إلى هداية الله تعالى

حاجة العباد إلى هداية الله تعالى الجملة الثانية قوله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم). الله عز وجل هو الذي يتفضل بالهداية على من شاء من عباده، ومن خذله الله عز وجل فإنه لا يحصل له إلا الضلال، ومعلوم أن كل إنسان يقدم على ما ينفعه ويقدم على ما يضره بمشيئته وإرادته، فالمهتدي يقدم على ما فيه هدايته بمشيئته وإرادته، والضال يقدم على ما فيه ضلاله بمشيئته وإرادته، وهذا الذي حصل من هذا المهتدي وهذا الضال مطابق لما قدره الله تعالى وشاءه، ولا يخرج شيء عن مشيئته سبحانه وتعالى، وكل ما يقع في الوجود من خير وشر وهداية وضلال فإنما هو بمشيئة الله عز وجل ثم بمشيئة العباد التابعة لمشيئة الله عز وجل، أي: أن العباد لهم إرادة ومشيئة، ويقدمون على ما ينفعهم وعلى ما يضرهم، ولكن إقدامهم على ما ينفهم وما يضرهم لا يخرج عن مشيئة الله وإرادته، ولا يقع في ملك الله شيء ما شاءه الله ولا أراده، فلا يقع في ملكه إلا ما قد شاءه وأراده، كما قال الله عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] فأثبت أن لهم مشيئة، وأن الإنسان يشاء أن يستقيم ويشاء أن ينحرف. ثم قال بعد ذلك: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، يعني: إنكم لا تشاءون شيئاً ولا يقع منكم شيء إلا وقد شاءه الله سبحانه وتعالى، ولا يقع من العباد شيء لم يشأه الله تعالى، كما تقول القدرية: إن العباد يخلقون أفعالهم. بل الله عز وجل هو الخالق لكل شيء، خالق العباد، وخالق أفعال العباد، وخالق الذوات، وخالق الصفات سبحانه وتعالى، فكل ما يقع في الوجود فهو من خلقه وإيجاده، وقد وقع بمشيئته وإرادته. فمن حصل له الضلال الذي هو ضد الهدى فقد حصل بمشيئة العبد وإرادته، والله سبحانه وتعالى قد كتب ذلك وقدر ذلك، ومن حصلت له الهداية فقد حصلت بمشيئته وإرادته، والله تعالى قدر ذلك، فهو المتفضل بالهداية أولاً وآخراً، هو الذي تفضل بها حيث هيأ الأسباب ووفق لحصولها ووجودها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً في كل هداية. وأما الضلال فإنه يقع من العباد بمشيئتهم وإرادتهم، والله عز وجل قدر ذلك وقضاه، وهو خذلان لذلك الذي حصل منه، والهداية التي حصلت للعبد هي بفضل من الله عز وجل وإحسان. يقول الحافظ ابن رجب: قد يظن بعض الناس أن في هذا الحديث معارضة مع الحديث القدسي الذي يقول الله عز وجل فيه: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) فالله عز وجل خلق الناس مفطورين على الإسلام، ولكن هناك من يصرف عن هذه الفطرة، وهناك من يثبت على هذه الفطرة، فمن الناس من يأتي مؤيداً ومثبتاً لهذه الفطرة، وهو الذي يكون مهتدياً وينشئ أولاده على الهداية، ومنهم من يكون منحرفاً فيحرف أولاده عن هذه الفطرة، وذلك بصرفهم عنها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ومعنى ذلك أن هذه الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها من الناس من يأتي مثبتاً لها، وهو الذي كان على هدى وسداد، فيكون عوناً لأولاده على الهداية، ومنهم من يكون منحرفاً عن هذه الفطرة، فيسعى إلى حرف وصرف أولاده عنها، فينقلهم من هذه الفطرة إلى أن يكونوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً، أو إلى غير ذلك من ملل الكفر المختلفة. والضلال يراد به عدم العلم أيضاً، فكما أنه يراد به الغواية وحصول الغواية فإنه يراد به عدم العلم، والله عز وجل خلق الناس وأخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم علمهم وأعطاهم العلم، وما جاء في القرآن من قول الله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فمعنى ذلك أنه كان غير عالمٍ بهذا الوحي الذي أوحى الله تعالى إليه وهذا العلم الذي أعطاه الله إياه، فكان قبل ذلك غير عالمٍ به، هذا هو المقصود بالضلال الذي كان موجوداً فهداه الله عز وجل إلى هذا الوحي والنور وأعطاه إياه، كما قال الله عز وجل: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] يعني: ما كان عنده هذا الشيء، ثم أعطاه الله سبحانه وتعالى إياه. فإذاً: عرفنا أنه يأتي الضلال بمعنى الغواية ويأتي بمعنى الجهل وعدم العلم، ثم إن الله عز وجل يعطي العلم ويوفق من شاء لأن يعطيه العلم، والضلال الذي أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو عدم العلم بهذه الأمور التي علمه الله تعالى إياها وهذا الوحي الذي أوح الله تعالى به إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وفي قوله: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) بيان أن الله سبحانه وتعالى يتفضل على من شاء بالهداية، ولهذا قال: (إلا من هديته) ومن هداه الله عز وجل فقد هداه بفضله وإحسانه وتفضله عليه بهذه الهداية. لقد أمر سبحانه بطلب الهداية فقال: (فاستهدوني)، أي: اطلبوا مني الهداية. وفي هذا أمر بطلب الهداية، وأن الإنسان يسأل الله عز وجل الهداية، وقد جاء في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وحاجة الناس إلى الهداية أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب حاجتهم إليهما ليحيا الإنسان هذه الحياة الدنيا، وأما الهداية فهي التي تنبني عليها الحياة الآخرة المستمرة الدائمة. فالهداية هي التي بها الحياة الباقية في النعيم، وأما الحياة الدنيوية فغذاؤها وقوامها هو الطعام والشراب، وبذلك تكون الحياة، وبدونهما يحصل الموت ولا تحصل الحياة، وأما الحياة الباقية فغذاؤها إنما هو بالهداية إلى الصراط المستقيم. وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم يتضمن شيئين: الأول: الثبات على ما قد حصل من الهداية. الثاني: طلب المزيد من الهداية، فيطلب الإنسان من ربه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أن يثبته على ما حصل له من الهداية، وأن يزيده هدًى إلى هداه.

فقر العباد إلى الله تعالى في طعامهم وشرابهم

فقر العباد إلى الله تعالى في طعامهم وشرابهم الجملة الثالثة: (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم). العباد مفتقرون إلى الله عز وجل وهو غني عنهم، وحاجتهم إليه وفقرهم إليه دائم مؤبد، لا يستغنون عن الله طرفة عين، وهم بحاجة إليه في جميع أمور دينهم ودنياهم، وهم محتاجون إلى فضله وإحسانه وكرمه وجوده، وقد أخبر الله عز وجل في هذا الحديث بأن كل إنسان جائع، وأن الله تعالى هو الذي يرزق وهو الذي يطعم، وأن العبد عليه أن يسأل الله عز وجل وأن يطلب منه أن يطعمه، ومع سؤاله عليه أن يأخذ بالأسباب التي يكون بها تحصيل الرزق، فلا يسأل الله عز وجل الطعام والرزق دون أن يبذل أسباباً، بل عليه أن يبذل الأسباب ويستعين بمسبب الأسباب، ويعول على الله عز وجل في تحصيل المراد، فإنه لا بد من أمرين: لا بد من فعل السبب، ولا بد من التعويل على من بيده كل شيء وهو الله سبحانه وتعالى؛ لأن السبب قد يوجد ويتخلف المُسَبَّب، ولكن إذا وجد السبب ووجد توفيق الله عز وجل ومشيئته وإرادته لحصول ذلك المراد الذي يسأله العبد فإنه يتحقق هذا المسئول مع الأخذ بالأسباب التي تؤدي إليه، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله تعالى هو الذي يرزق الطير، وأن تلك الطيور لا تجلس في أوكارها تنتظر شيئاً يؤتى به إليها فيها دون أن تبرحها، وإنما تخرج من أوكارها تبحث عن الرزق، والله تعالى هو الذي يرزقها، فهي تأخذ بالأسباب فتغدوا خماصاً، أي: تخرج من أوكارها في الصباح خالية البطون، وتروح في آخر النهار بطاناً، يعني: ممتلئة البطون. فالإنسان يأخذ بالسبب ويستعين بالله عز وجل على تحصيل المراد وتحقيق المراد، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) ثم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فجمع بين الأمرين فقال: (احرص على ما ينفعك) أي: ببذل الأسباب. (واستعن بالله)، أي: لا تعتمد على الأسباب وتكون الأسباب عندك هي كل شيء، بل هناك شيء وراء الأسباب وهو توفيق الله سبحانه وتعالى وحصول التوفيق منه، فبذلك تنفع الأسباب، ولكن الإنسان لا يترك الأسباب ويهملها ويقول: سأجلس في بيتي وأغلق علي بابي، وإذا كان الله قدر لي رزقاً فإنه سيأتي من يطرق علي الباب ويعطيني إياه، هذا غلط. فقوله: (كلكم جائع إلا من أطعمته) يبين أن الله تعالى هو الذي يرزق، وهو الرزاق ذو القوة المتين سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].

افتقاد العباد إلى الله تعالى في كسوة أجسادهم

افتقاد العباد إلى الله تعالى في كسوة أجسادهم الجملة الرابعة: قوله: (يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم). لما ذكر في الجملة الأولى ما يتعلق بالغذاء الذي يكون للجسم ويصل إلى باطن الجسم لينتفع منه الجسم أتى بعد ذلك بذكر الشيء الذي يواري الجسم ويستر الجسم وهو الكسوة، فقال: (يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) أي: اطلبوا مني تحصيل هذا الشيء الذي به كُسْوَتكُم، وهذا الذي به ستر عوراتكم ومواراة أجسادكم، فكل ذلك داخل في ملك الله عز وجل، فاسألوا الله عز وجل من فضله واسألوه أن يكسوكم. وهذا فيه أن الإنسان مفتقر إلى الله عز وجل في جميع شئونه من أمور دينه ودنياه، مفتقر إليه في أمور دينه في طلب الهداية، وحاجته إلى الهداية فوق كل حاجة، وهو في أمور دنياه في حاجة إلى الله عز وجل، ولا يستغني عنه في الرزق من المطعم والمشرب والكسوة التي يواري بها جسده، والتي يغطي بها جسده ويستر بها عورته.

تقصير العباد وحاجتهم إلى مغفرة الله تعالى

تقصير العباد وحاجتهم إلى مغفرة الله تعالى الجملة الخامسة: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم). العباد مأمورون ومنهيون، أي: مكلفون بأوامر ونواه، ومطلوب منهم امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ويحصل منهم التقصير، ويحصل منهم النقص، ويحصل منهم الخطأ في ليلهم ونهارهم، في سرهم وعلانيتهم، وطريق السلامة من هذا الخطأ ومن الذنب إذا وقع ومن المصيبة إذا حلت بالإنسان في الدين بالذنوب والمعاصي أن يرجع إلى الله عز وجل ويسأله المغفرة، ويتوب إلى الله عز وجل ويستغفره، والله عز وجل يحب من عباده أن يدعوه، وأن يستغفروه، وأن يسألوه، (والدعاء هو العبادة)، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإنسان يسأله قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ومغفرة الذنوب، ولا يستغني العبد عن ربه طرفة عين. فهنا يقول جل وعلا: (إنكم تخطئون بالليل والنهار) وهذا شأن العباد، كما في حديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (وأنا أغفر الذنوب جميعاً) أي: كل الذنوب يغفرها الله تعالى إذا تيب منها، وأعظم الذنوب وأشدها وهو أظلم الظلم وأبطل الباطل الشرك بالله عز وجل، والله تعالى يغفره لمن تاب، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فأعظم الذنوب إذا تيب منه فالله تعالى يتوب على من تاب، وكذلك الذنوب التي هي دونه، فمن تاب منها يتوب الله عز وجل عليه، والتوبة تجب ما قبلها، والله عز وجل أمر عند وجود الذنوب وعند حصولها أن يكون الإنسان مستغفراً سائلاً الله عز وجل أن يغفر له ما قد حصل منه من الذنوب والمعاصي.

مرد نفع الطاعة وضرر المعصية

مردُّ نفع الطاعة وضرر المعصية الجملة السادسة قوله تعالى: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني). الله عز وجل غني عن العالمين، وكل الخلق مفتقر إليه ومحتاج إليه، وعبادة العباد لا تنفع الله عز وجل، ومعاصيهم لا تضره، بل طاعاتهم تنفعهم ومعاصيهم تضرهم، والله عز وجل لا يبلغ العباد نفعه فينفعوه، ولا يبلغون ضره فيضروه، بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى، فلا يصل إليه نفع من العباد، وهو غني عنهم وعن أعمالهم، وكذلك لا يصل إليه ضرر منهم، وإنما ضررهم يعود على أنفسهم، كما أن نفعهم يعود إليهم.

كمال غنى الله تعالى عن العباد

كمال غنى الله تعالى عن العباد الجملة السابعة قوله: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً). الله عز وجل قسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهذا هو الذي شاءه الله عز وجل، وهذا هو الذي قدره الله، فلابد من أن يوجد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن لو أن الناس كلهم من أولهم إلى آخرهم كانوا مهتدين، وكانوا على أتقى قلب رجل من الناس ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، وكذلك العكس، فلو كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، فهو دال على كمال غناه، وعلى كمال ملكه، وأن وجود التقوى من جميع الخلق لا يزيد في ملك الله شيئاً، ووجود الفجور والمعاصي من جميع الخلق لا ينقص من ملك الله سبحانه وتعالى شيئاً.

حاجات العباد وموقعها من ملك الله جل جلاله

حاجات العباد وموقعها من ملك الله جل جلاله الجملة التاسعة: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر). أي: لو أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم سأل كل إنسان منهم بغيته وحاجته وتحقق ذلك له لم ينقص ذلك من ملك الله شيئاً أصلاً، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، والمخيط إذا أدخل البحر لا ينقص شيئاً، ومن المعلوم أن المخيط وهو الإبرة لو غمس في البحر ثم أخرج فالبلل الذي فيه لا يعتبر شيئاً بجانب هذا البحر في رأي العين، ولا يعتبر شيئاً في الوزن فكل ما أعطي الخلق من أولهم إلى آخرهم يساوي البلل الذي في الإبرة من هذا البحر.

مآل أعمال العباد خيرها وشرها

مآل أعمال العباد خيرها وشرها الجملة العاشرة: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). العباد مأمورون ومنهيون، وأعمالهم محصاة عليهم ومدونة ومسجلة ومكتوبة، تكتبها الحفظة ويكتبها الكتبة الذين يكتبون أعمال العباد، كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أي: الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات، ثم يجد العباد هذا الذي عملوه أمامهم قد أحصي، فالخير مُحصى والشر محصى، والأعمال الصالحة محصاة والأعمال السيئة محصاة، ولا يظلم ربك أحداً، فلا يُنقَصُ أحد من حسناته، ولا يضاف لأحدٍ سيئاتٌ أخرى لم يفعلها، ولا يحمل سيئاتٍ من سيئات غيره، كما قال الله عز وجل: ((فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا)) يعني: لا يخاف هضماً من الحسنات ونقصاً في الحسنات، ولا ظلماً بزيادة السيئات، بل الذي عمله يجده، إن خير فخيراً وإن شر فشراً، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. ويقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30] يعني: كل شيء أمام الإنسان، وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. إذاً: فكل ما يحصل من العباد من الأعمال فإنهم يجدونه أمامهم إن خير فخيراً وإن شر فشراً، فمن وفق لعمل الخير فإنه يجد ثوابه أمامه، ويجد جزاءه أمامه، فهو الذي تفضل بالتوفيق للعمل الصالح، وهو الذي تفضل بالجزاء الحسن على ذلك العمل الصالح، فله الفضل أولاً وآخراً، له الفضل في التوفيق لدخول الجنة، وله الفضل في التوفيق للأعمال الموصلة إلى الجنة، ومن لم يحصل منه العمل الصالح الذي يؤدي به إلى الجنة ويؤدي به إلى السلامة فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه هو الذي جنى على نفسه، وهو الذي فرط، وهو الذي أهمل نفسه، ويجد ما قدم من الشر أمامه، كما أن الذي وفق يجد ما قدم من الخير أمامه، فلا يُنقَصُ من حسنات المحسن شيء، ولا يضاف إلى المسيء سيئات أخرى ولا يحمل سيئات غيره، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]. هذا هو حديث أبي ذر، الحديث القدسي العظيم المشتمل على تلك الجمل العشر، وقد رواه مسلم رحمه الله، وهو أحد خمسة أحاديث متوالية، من الحديث الحادي والعشرين إلى الحديث الخامس والعشرين- كلها من أفراد مسلم، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين قوله جل جلاله: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) وقوله: (يؤذيني ابن آدم)

الجمع بين قوله جل جلاله: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) وقوله: (يؤذيني ابن آدم) Q في الحديث: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) ففيه بيان أن العباد لا يضرون الله تبارك وتعالى، فكيف يجمع بينه وبين الحديث الآخر: (يؤذيني ابن آدم) A صدور الأذى يحصل، ولكن لا يبلغ الله عز وجل، ولا يصل إلى الله عز وجل، ولكنه باعتبار صدوره منهم يعتبر أذى منهم، ولكنه لا ينال الله عز وجل الضرر بسبب ذلك.

حكم القول بأن ابن آدم لا يضر الله ولا يؤذي الله

حكم القول بأن ابن آدم لا يضر الله ولا يؤذي الله Q هل يمكن أن يقال: إن ابن آدم لا يضر ولا يؤذي الله؟ A نعم، لكن بكون الضرر لا يصل إلى الله، وكون الأذى لا يصل إلى الله، ولكن كونه يحصل منه الشيء الذي يغضب الله ويسخطه، وأن هذا شيء يصدر من العباد فذلك إيذاء لله عز وجل باعتبار صدوره، لا باعتبار وصوله إليه وتضرره به جل جلاله.

معنى حديث: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه) ودرجته

معنى حديث: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه) ودرجته Q يقول ابن رجب: وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان، عن وهب بن خالد الحمصي، عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) وأنه أتى ابن مسعود فقال له مثل ذلك، ثم أتى زيد بن ثابت فحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، وفي هذا الحديث نظر، فـ وهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم، وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم لَقَدَّر ما يعذبهم عليه، فيكون غير ظالم لهم حينئذٍ، فما تعليقكم على هذا؟ A صح هذا الحديث عن بعض أهل العلم، ومعناه: لو أن الله عز وجل عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم فهذه النعم التي أنعم الله تعالى بها على العباد، كالسمع والبصر، والأخذ والإعطاء، والمشي وما إلى ذلك هي نعم، فلو أن الله عز وجل آخذهم عليها ولم يتجاوز عنهم ما سلموا من العذاب وما سلموا من الجزاء؛ لحصول التقصير منهم ولحصول النقص منهم، فلهذا لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه يتجاوز عن سيئاتهم وعن أخطائهم وعن تقصيرهم، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].

حكم القول بأن إيجاد الخلق على الوجه الموجود خير من غيره

حكم القول بأن إيجاد الخلق على الوجه الموجود خير من غيره Q هنا كلام لـ ابن رجب عند جملة: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)، حيث قال: ومن الناس من قال: إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود هو خير من وجوده على غيره، وما فيه من الشر فهو شر إضافي نسبي بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض، وليس شراً مطلقاً بحيث يكون عدمه خير من وجوده من كل وجه، بل وجوده خير من عدمه، قال: وهذا معنى قوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) يعني: الشر المحض الذي عدمه خير من وجوده ليس موجوداً في ملكه، فإن الله تعالى أوجد خلقه على ما تقتضيه حكمته وعدله، وخص قوماً من خلقه بالفضل وترك آخرين منهم بالعدل؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة. قال ابن رجب: وهذا فيه نظر، وهو يخالف ما في هذا الحديث من أن جميع الخلق لو كانوا على صفة أكمل خلقه من البر والتقوى لم يزد ذلك في ملكه شيئاً، ولا قدر جناح بعوضة، ولو كانوا على صفة أنقص خلقه من الفجور لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً، فدل على أن ملكه كامل على أي وجه كان، لا يزداد ولا يكمل بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي ولا يؤثر فيه شيئاً. فهل الصواب مع القائل أم مع ابن رجب؟ A النظر في الكلام الأول الذي فيه أنه ليس هناك شيء خير مما كان ونحو ذلك. وأما قوله: (والشر ليس إليك) فيعني: أن الله عز وجل لم يخلق شراً محضاً لا يترتب عليه خير بوجه من الوجوه، بل إنه ما من شر يخلو من مصلحة أو فائدة، أما أن يكون شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه فهذا الذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل بقوله: (والشر ليس إليك)، والله عز وجل خالق كل شي، خالق الخير وخالق الشر، فالشر من خلقه، والخير من خلقه، ولكن الشر الذي نفي عنه هو الشر الذي لا خير فيه بوجه من الوجوه، ولا يترتب عليه مصلحة، فهذا معناه صحيح ليس فيه إشكال، ولكن لعل الحافظ ابن رجب يقصد الكلام الذي جاء في صدر السؤال، وهو قوله: إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود أكمل من إيجاده على غيره. فهذا فيه نظر لا شك. والله عز وجل قال: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] فلو شاء لجعل الناس كلهم مهتدين، ولكنه تعالى شاء أن يبتلى العباد وأن يمتحنوا وأن يؤمروا وأن ينهوا وأن يتبين أولياء الله من أعداء الله، فلعل المقصود بذلك هو الأول. ولعله يوضحه قوله: وما فيه من الشر فهو شر إضافي نسبي بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض، وليس شراً مطلقاً بحيث يكون عدمه خيراً من وجوده من كل وجه.

حكم من مات ولم يسمع بالإسلام

حكم من مات ولم يسمع بالإسلام Q في بعض أماكن بلادي أناس ما سمعوا عن الإسلام كلمة، وهم على الكفر، فما حكم هؤلاء إذا جاءهم الموت؟ A لا أدري كيف يكون في بلادك أناس ما سمعوا عن الإسلام؟! مع أن هذه الوسائل التي يسرها الله في هذا الزمان منتشرة وعامة وموجودة، ويصل فيها كل خير وكل شر، كل خير يصل إلى الناس عن طريقها، وكل شر يصل إلى الناس عن طريقها، فكيف لا يصل الإسلام وذكر الإسلام إليهم وهذه الوسائل الموجودة المنتشرة في هذا الزمان جعلت العالم كله كأنه في بيت واحد أو في قرية واحدة؟! نعم يمكن أن يكون بعض الناس ليست لهم صلة بالعالم، ولا لهم صلة بهذه الوسائل، فيمكن أن يكونوا في أمكان بعيدة أو في غابات وما إلى ذلك، والذي لم تبلغه الرسالة ولم يبلغه الدين يكون حكمه حكم المجانين، وحكم الناس الذين يمتحنون يوم القيامة، وعلى ضوء ذلك الامتحان يتبين من يكون سعيداً ومن يكون شقياً، كما ذكر ذلك العلماء، وكما ذكروا ما ورد في ذلك عند تفسير قول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].

مدى صحة وجود الأدب مع الله في قوله: (ومن وجد غير ذلك)

مدى صحة وجود الأدب مع الله في قوله: (ومن وجد غير ذلك) Q قوله: (ومن وجد غير ذلك) هل فيه أدب مع الله تعالى من باب قوله: (والشر ليس إليك)؟ A الذي في حديث أبي ذر ليس فيه إضافة إلى الله تعالى، فلفظ الحديث: (من وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)؛ فليس في اللفظ إضافة الخير إلى الله عز وجل حتى يقال: فيه الأدب الذي ذكره الله عن الجن في قوله: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، ففي هذه الآية ما أضيف الشر إلى الله عز وجل، والخير أضيف إلى الله عز وجل، فقال عز وجل عنهم حين ذكر الشرُّ: ((وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ)) فذكر مبنياً لما لم يسمّ فاعله. والخير ذكر مبنياً للمعلوم. وأما لفظ: (غير ذلك) فليس من هذا الباب، ولا يشكل إن قال: ومن وجد شراً، لكن لما كان ليس هناك إلا خير وشر ذكر الخير وكنى عن غيره بقوله: (غير ذلك).

دلالة الأمر بالحمد في قوله: (فمن وجد خيرا فليحمد الله)

دلالة الأمر بالحمد في قوله: (فمن وجد خيراً فليحمد الله) Q قوله: (فمن وجد خيراً فليحمد الله) هل هذا الحمد الذي أمر به في حق من وجد خيراً في الدنيا، أم في الآخرة؟ A كل ذلك وارد ومقصور، فالخير يوجد في الدنيا وثوابه يوجد في الدنيا ويوجد في الآخرة، وفي الدعاء الذي في القرآن: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فحسنة الدنيا وحسنة الآخرة هي الثواب من الله عز وجل يحصل في الدنيا ويحصل في الآخرة، والعقوبة تحصل في الدنيا وتحصل في الآخرة، فمن وجد خيراً في الدنيا فليحمد الله عز وجل وليزد في الإحسان، وفي الآخرة كذلك يحمد الله عز وجل على ما أنعم عليه حتى وصل إلى ما وصل إليه، وكذلك أيضاً من وجد غير ذلك في الدنيا فلا يلم إلا نفسه، وعليه أن يسعى لتدارك التقصير وتدارك الخلل حيث حصل له عقوبة في الدنيا وضرر في الدنيا بما أصابه من المصائب وذلك بسبب ذنوبه، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وفي الآخرة يندم حيث لا ينفعه الندم، وأما في الدنيا فإنه إذا ندم فهناك فسحة لأن يتدارك.

الجمع بين الحكم على الإنسان بالظلم مع تحريم الظلم

الجمع بين الحكم على الإنسان بالظلم مع تحريم الظلم Q كيف نفهم تحريم الظلم الذي ورد في الحديث مع قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الأصل في بني آدم الظلم والجهل؟ A الظلم كما هو معلوم محرم، ومن الناس من يحصل منه الظلم ويكون ظلوماً وجهولاً. وأما مقولة شيخ الإسلام فيعني بها أنه غالباً لا يسلم من الظلم أحد، سواء ظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم. وأما كونه أصلاً كما قال فلا أدري هل هذا أصل عام في جميع الناس أنهم ظلومون؟! فلا أعرف وجهه.

المراد بخلق العبد فعله عند القدرية

المراد بخلق العبد فعله عند القدرية Q تقول القدرية: إن العبد خالق لأفعاله. فهل يقصدون بأفعال العباد خيرها وشرها أم الشر فقط؟ A منهم من قال: الخير والشر. ومنهم من قال: الشر فقط.

حكم أخذ العلم عن علماء الضلال

حكم أخذ العلم عن علماء الضلال Q في بلادنا لا يوجد علماء يوجهون الناس التوجيه الصحيح، وإنما يوجد في الغالب علماء الضلال مثل: الصوفية، فالإنسان عندما ينشأ في هذا المجتمع ويدرس على هؤلاء كيف يكون الحكم عليه، وهل يعذر بالجهل؟ A إذا كان هؤلاء المدرسون يضلون ويخرجون الناس عن الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى الانحراف عنها فلا يدرسن أحد عندهم، ولكن يمكنه أن يحصل على الأشرطة وعلى الكتب والرسائل المفيدة السليمة ويشتغل بها، وبحمد الله ففي هذه الزمن تيسر الحصول على العلم بشكل ما حصل مثله فيما مضى، وذلك لوجود هذا التسهيل للكلمات والدروس والمحاضرات والندوات، ويكون الإنسان كأنه موجود بين هؤلاء الذين صدرت منهم المحاضرات باقتنائه لهذه الأشرطة وسماعه إياها، فإن ذلك يفيده، ويمكنه من أن يستفيد وأن يتعلم، وإذا تيسر له أيضاً أن يتصل بالهاتف أو يكتب الرسائل لأهل العلم ويستفيد منهم فذلك أمر طيب، وإذا كان أولئك الذين يحصل منهم التدريس ليسوا على استقامة وإنما هم من أهل البدع والضلال فلا يدرس عندهم لئلا يضلوه، ولئلا يقع فيما وقعوا فيه فيبتلى بما ابتلوا به.

اجتهاد السلف في العبادة

اجتهاد السلف في العبادة Q يقول ابن رجب: وقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة حذراً من لوم النفس عند انقطاع الأعمال على التقصير، وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: (ما من ميت يموت إلا ندم، إن كان محسناً ندم على ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استعتب) وقيل لـ مسروق: لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد؟ فقال: والله لو أتاني آتٍ فأخبرني ألا يعذبني لاجتهدت في العبادة. قيل: كيف ذاك؟ قال: حتى تعذرني نفسي إن دخلت النار ألا ألومها، أما بلغك قول الله تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] فما تعليقكم على هذا؟ A سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم كان كثير منهم يجتهدون في العبادة، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فهم مع اشتغالهم بالعبادة لا يعتبرون أنفسهم قد قدموا شيئاً، بل يهضمون جانبهم ويعتبرون أنهم مقصرون، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فمع عنايتهم بالعبادة ومع اشتغالهم بالعبادة يعتبرون أنفسهم مقصرة، وقد جاء في ترجمة منصور بن زاذان أنه قيل: لو قيل لـ منصور بن زاذان: إن ملك الموت بالباب ما أمكنه أن يزيد شيئاً من الأعمال. لأنه كان دائماً على الصلة بالله عز وجل في عبادته له سبحانه وتعالى. فإذاً: ما جاء من آثار عن السلف من جهة اهتمامهم بالعبادة وخوفهم من عدم القبول واعتبار أنفسهم مقصرين كان ذلك هو ديدنهم وشأنهم رحمة الله تعالى عليهم.

توجيه حول أحداث التفجيرات الواقعة في الرياض

توجيه حول أحداث التفجيرات الواقعة في الرياض Q ما قولكم في الفتن والتفجيرات التي تحدث في الرياض وتتكرر، وهل هناك من توجيه؟ A لا شك أن هذا من إغواء الشيطان لبعض الناس الذين فتنوا بإيذاء الناس وإلحاق الأضرار بهم، بحيث يهلكون أنفسهم ويهلكون غيرهم، فيكونون قد جمعوا بين جنايتين: جناية على أنفسهم، حيث تسببوا في إهلاكها وقتلها، والله عز وجل حرم قتل النفس، وجناية أخرى على غيرهم، حيث تسببوا في هلاكهم، وقد قتل أُناس بغير حق شرعي، وقد بين صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) فلا شك أن هذا من الإجرام، ولا شك أن هذا من الاستسلام للشيطان والانقياد له، بحيث يجني الإنسان على نفسه ويجني على غيره، ويلحق الضرر بنفسه وبغيره. فهؤلاء الذين يفجرون بأنفسهم ويتسببون في إتلاف الآخرين وإهلاكهم وإتلاف الممتلكات لا شك أنهم جمعوا بين مصائب متعددة، وبين بلاء متنوع لا يقتصر عليهم، بل هم ذهبوا نتيجة له، وغيرهم ذهبوا نتيجة له، وسيلقى كلٌّ ما قدم من الأعمال السيئة التي يفعلها في هذه الحياة، وسيجد أمامه الجزاء على ذلك والعقوبة على ذلك، والعاقل يجب عليه أن يحرص على مصلحته ومصلحة غيره، وعلى منفعته ومنفعة غيره، فلا يحصل منه إخلال بهذه المصالح وبهذه المنافع، بحيث يبدل ذلك بإساءة إليه وإلى غيره، ولا شك أن هؤلاء فعلوا أفعالاً في غاية الإجرام وغاية الضرر، فقتلوا الآمنين، سواءٌ أكانوا من الساكنين في تلك الأماكن أم من المارين في تلك الأماكن، ولا شك أن هذا في منتهى الإجرام وفي منتهى الخبث، ونسأل الله عز وجل أن يكفي المسلمين شر الأشرار، وأن يهدي من ضل ويخرجه من الظلمات إلى النور؛ إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.

درجة حديث: (كل بني آدم سيد) والجمع بينه وبين النهي عن وصف المنافق بأنه سيد

درجة حديث: (كل بني آدم سيد) والجمع بينه وبين النهي عن وصف المنافق بأنه سيد Q قال السبكي في طبقات الشافعية في الجزء الثاني في صفحة (26) في ترجمة أحمد بن عمرو بن السرح: وكان من جملة العلماء، شرح موطأ مالك، وتفرد عن ابن وهب بحديث، فقال: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم سيد، والرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها) وقال: هذا حديث صحيح غريب. انتهى من الطبقات. فما مدى صحة هذا الحديث؟ وما رأيكم في هذه المسألة؟ ثم لو صح -كما قال السبكي - فما الجمع بينه، وبين النهي عن إطلاق لفظ السيد، كما في حديث: (لا تقل للمنافق: سيد)؛ لأنه في ذلك الحديث جعل كل بني آدم سيداً؟ A أبو يونس ما أعرفه، والباقون معروفون، وكلهم ثقات، ولكن لو صح الحديث فالمقصود بالسيد الذي هو سيد قومه كما هو معلوم، فالأشرار رأسهم منهم، والأخيار رأسهم منهم، والسؤدد هنا لو صح الحديث المقصود به تقدم المرء على غيره، فيكون مرجعاً في الخير ومرجعاً في الشر، لكن التقدم في الشرع أمر محبوب وأمر مرغوب وأمر ممدوح. ولا يستقيم ما جاء في هذا الحديث إلا أن يعتبر تقدماً، وكون الإنسان رأساً في شر أو رأساً في خير، فيكون مقدم الخبثاء من جنسهم، ومقدم الأخيار من جنسهم، ولكن لا يعني ذلك أن كل متقدم يكون محموداً؛ لأن هناك تقدماً مذموماً وتقدماً محموداً، وذلك راجع إلى حال المتقدم، ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال: (عظيم الروم)، يعني: أنه مقدم وكبير فيهم.

تبرع العامل بإعطاء أصحابه كتبا موقوفة للتوزيع

تبرع العامل بإعطاء أصحابه كتباً موقوفة للتوزيع Q أعمل في مكان لتوزيع الكتب الموقوفة، وأحياناً يأتي بعض الإخوة الذين أعرفهم فأعطيهم دون علم الإدارة، علماً أن الكتب توزع للجميع؟ A ذلك راجع إلى الطريقة التي رسمت له، فهل رسم له أن يوزع على الفئة الفلانية؟ إن كان مطلوباً منه أن يوزع على جهة معينة فلا يعط غيرهم، وإن كان الأمر مطلقاً أعطى من يعرف ومن لا يعرف، ممن يكون أهلاً لذلك.

[25]

شرح الأربعين النووية [25] لقد تفضل الله تعالى على عباده ففتح لهم أبواب القرب باليسير من الأعمال، فجعل في أقوال اللسان أذكاراً يحصل بها الأجر الكثير ويتصدق بها العبد عن جسده، كما جعل مثل ذلك في الإصلاح بين المتخاصمين، وإعانة الرجل في دابته، والمشي إلى الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن الخلق، بل حصر النبي صلى الله عليه وسلم البر كله في حسن الخلق، وذلك لما له عند الله تعالى من المكانة والأهمية.

شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور)

شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) يقول الإمام النووي رحمه الله في الأربعين النووية: عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: (أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم.

الصدقات المقصور نفعها على المتصدق

الصدقات المقصور نفعها على المتصدق هذا الحديث يدل على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصون على كل خير وعلى التنافس في الخيرات، ومن كان منهم فقيراً فإنه يحب أن ينافس من كان غنياً في الخير، ولهذا شكا فقراؤهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا مثلما فعل الأغنياء؛ لأنهم متفقون مع الأغنياء في أنهم يصلون جميعاً ويصومون جميعاً، ولكن الأغنياء يزيدون عليهم بأنهم يتصدقون، وقد فهموا أن الصدقة إنما تكون بالمال، ولا شك أن الصدقة بالمال هي الأساس وهي الأصل، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصدقة تكون في غير المال أيضاً، وأن الإنسان إذا عجز عن الصدقة بالمال فيمكنه أن يأتي بشيء يقدر عليه ويكون له صدقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟) يعني: من أمور أخرى تقدرون عليها، وليس من الذي لا تقدرون عليه وهو الصدقة بالمال، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل ذلك يعتبر من الصدقات، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن بكل تسبيحة صدقة) أي: كون الإنسان يقول: سبحان الله له بذلك صدقة، وهي صدقة على نفسه؛ لأنها صدقة قاصرة ليست متعدية؛ لأنه كلام وذكر يقوله بنفسه، فنفعه قاصر وليس متعدياً. قال: (وكل تكبيرة صدقة) أي: كونه يقول: الله أكبر. قوله: (وكل تحميدة صدقة) أي: كونه يقول: الحمد لله. قوله: (وكل تهليلة صدقة) أي: كونه يقول: لا إله إلا الله. فهذه الكلمات الأربع كل واحدة منها إذا أتى بها الإنسان فإن بكل واحدة منها صدقة منه على نفسه. فبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة تكون في غير المال، وأنها تكون بالذكر.

الصدقات المتعدي نفعها

الصدقات المتعدي نفعها ذكر بعد ذلك ما كان نفعه متعدياً، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالآمر والناهي متصدق على نفسه وعلى غيره، فهو متصدق على نفسه؛ بكونه عمل صالحاً وفعل أمراً معروفاً ونهى عن منكر وأرشد إلى خير، ونافعٌ غيره؛ لأن ذلك تعاون مع غيره على البر والتقوى، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون الإنسان قد أحسن إلى غيره وعدى ذلك النفع إلى غيره بأن أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فينتفع المدعو، ويكون للداعي مثل أجر المدعو، وفي نفس الوقت يكون الداعي حين دعا غيره مأجوراً على دعوته ومأجوراً على أمره ونهيه. فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنواعاً من الصدقات يقدر عليها الفقراء، ولا يختص بها الأغنياء أو غيرهم، وإنما هي عامة لكل أحد، فكلٌّ يستطيع أن يأتي بها. وبعض ذلك الذي ذكره صلى الله عليه وسلم نفعه قاصر، وهو التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، وبعضه نفعه متعد، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وجه كون قضاء الوطر في الحلال صدقة

وجه كون قضاء الوطر في الحلال صدقة ثم ذكر بعد ذلك أمراً من الأمور التي للنفوس فيها حظ ووطر وهو قضاء الشهوة، والإنسان فيها يستفيد ويفيد، يحصن نفسه ويحصن غيره، ويعف نفسه ويعف غيره، وينال هذه الشهوة وهذه اللذة ومع ذلك يكون له فيها أجر، فدل على أن الأمور المباحة التي للنفوس فيها حظوظ وفيها قضاء الشهوة والوطر، إذا احتسبها الإنسان عند الله وقصد بها إعفاف نفسه وإعفاف غيره، وإحصان فرجه وإحصان غيره، والإحسان إلى نفسه والإحسان إلى غيره، فإنه يكون بذلك محصلاً للأجر. الصحابة رضي الله عنهم: (يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!) قالوا ذلك؛ لأن هذا أمر يتعلق بأمور للنفس فيها حظ، فأرادوا الاستثبات في ذلك والتحقق، وهم عالمون وقاطعون بأن كل ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ولكن هذا من باب الاستثبات والاطمئنان، فالنبي صلى الله عليه وسلم قاس هذه المسألة على مسألة تقابلها، وهي قضاء الشهوة في أمر محرم، فإنه إذا قضاها في أمر محرم أثم، فإذا قضاها في أمر مشروع وأمر مباح فإنه يكون له في ذلك أجر. وهذا فيه إثبات القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس كون الإنسان يأتي شهوته في أمر حلال على قضاء الشهوة في أمر حرام، وأنه إذا قضاها في أمر حرام فإنه يأثم ويستحق العقوبة، فكذلك إذا أتى بها في أمر مباح وأمر مشروع فإنه يكون قد أحسن، وهو مستحق للأجر والثواب على ذلك من الله عز وجل، وهذا يسمى قياس العكس؛ لأن المسألة المقيسة معاكسة للمسألة المقيس عليها، فالمقيس عليها هي فعل أمر حرام فيه قضاء شهوة يكون فيه إثم، ويقابل ذلك قضاء الشهوة في أمر مباح، فيكون في هذا أجر كما أن في ذلك وزراً. قال عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر). فالحديث دل على أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم السباقون إلى الخير وهم الحريصون على كل خير، وهم الذين كانوا يتنافسون في الخيرات ويتقربون إلى الله بالأعمال الصالحات، ومن كان عاجزاً عن شيء فإنه يجب أن يلحق بمن كان قادراً عليه، ولهذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الاختلاف الذي بينهم وبين غيرهم فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقدرون عليه، وأن الله تعالى يثيبهم على هذه الصدقات المتنوعة التي بعضها نفعه قاصر وبعضها نفعه متعدٍ، وأن كل ذلك صدقة منهم على أنفسهم فيما إذا كان النفع قاصراً، وصدقة منهم على أنفسهم وعلى غيرهم إذا كان النفع متعدياً.

شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)

شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري ومسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) أي: أن كل يوم تطلع فيه الشمس فإن على مفاصل الإنسان كلها صدقة في كل يوم، والسلامى جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أنها المفاصل، وجاء فيه: أنها ثلاثمائة وستون مفصلاً، وهذه المفاصل يكون عليها في كل يوم صدقة، وهذه الصدقة التي تكون من هذه المفاصل هي تحركها في العبادة، واشتغالها بالعبادة، فبين صلى الله عليه وسلم أن مفاصل الإنسان التي هي ثلاثمائة وستون مفصلاً عليها في كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، فليس ذلك في العمر أو في الشهر أو في الأسبوع، بل في كل يوم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أمثلة مما تكون به الصدقة، وهذا من قبيل التمثيل وليس من قبيل الحصر؛ لأن كل عمل صالح يتقرب به الإنسان إلى الله عز وجل فهو صدقة، فمن ذلك ما يكون قاصراً كالذكر والدعاء والصلاة والصيام، ومنه ما يكون متعدياًً كالصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإماطة الأذى عن الطريق وغير ذلك من كل ما هو متعد نفعه إلى الآخرين، فإن الإنسان يتصدق على نفسه وعلى غيره.

صدقة إصلاح ذات البين

صدقة إصلاح ذات البين قوله: (تعدل بين اثنين) أي: متخاصمين متنازعين بينهما خلاف فتصلح بينهما بالعدل أو تحكم بينهما بالعدل إذا حكّماك، فإن ذلك صدقة منك على نفسك وعلى غيرك؛ لأنك أحسنت إلى نفسك وأحسنت إلى غيرك، أحسنت إلى نفسك بأن عدلت وأصلحت بين الناس، وأحسنت إلى غيرك حين أتيت إلى الإصلاح بينهما، وحصل على يديك الإصلاح بينهما ودفع الشقاق والنزاع بينهما.

صدقة إعانة الرجل في دابته

صدقة إعانة الرجل في دابته قوله: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) أي: صدقة منك على نفسك وعلى غيرك؛ لأن نفعها متعد، وقد يكون الإنسان محتاجاً إلى أن يساعده في الركوب على الدابة؛ لكونه شخصاًَ كبيراً أو ولداً صغيراً، وذلك بأن يساعده على الركوب عليها إن كانت واقفة، وإن كانت باركة يركب عليها صاحبها ثم ذاك يقيمها حتى تعتدل وحتى تقوم، فيكون مساعداً له في حمله عليها، وكذلك أيضاً تحمل له متاعه عليها، وأغراضه من حطب أو عشب أو طعام أو أي شيء يحتاج إلى حمله على الدابة، فإذا ساعدته على حمله عليها وكان الذي يحمل عليها ثقيلاً لا يستطيع أن يحمله الشخص الواحد، فأتيت وحملت أنت وصاحب الدابة ذلك المتاع ورفعته على ظهر الدابة فإن ذلك صدقة منك على نفسك؛ لأنك أحسنت وفعلت أمراً معروفاً مشروعاً، وأحسنت إلى غيرك بأن رفعته عليها حيث يكون محتاجاً إلى ذلك.

الصدقة بالكلمة الطيبة

الصدقة بالكلمة الطيبة قوله: (والكلمة الطيبة صدقة) كل كلام حسن وكل كلام طيب وكل كلام جميل فإنه صدقة من الإنسان على نفسه، أو صدقة منه على نفسه وعلى غيره؛ لأنه إن كان ذكراً أو قراءة قرآن أو تسبيحاً أو تحميداً أو تهليلاً أو تحميداً فكل ذلك يعتبر صدقة، وكذلك قراءة القرآن وتعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل ما يحصل من الإنسان من كلام طيب فإنه يعتبر صدقة. والكلمة الطيبة هي كلمة مفردة وهي جملة، ولكن يدخل تحتها الذكر، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعليم وغير ذلك، كل ذلك يدخل تحت الكلمة الطيبة.

صدقة المشي إلى الصلاة

صدقة المشي إلى الصلاة قوله: (وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة) هذا يحصل بكون الإنسان يذهب إلى المساجد فيحصل الأجر في ذهابه وإيابه، فكل خطوة يخطوها إلى الصلاة في ذهابه إلى المسجد يرفع له بها درجة ويحط عنه بها خطيئة، وهذا نفع قاصر وليس بمتعد، وهو من الأفعال؛ لأن الصدقات المذكورة منها ما هو أقوال ومنها ما هو أفعال، فالعدل بين الناس قول وهو متعدٍّ؛ لأن العدل بينهم والحكم بينهم بالكلام وبالقول، وحمل الإنسان على الدابة هو فعلي وهو متعد، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة فعلية قاصرة ليست بمتعدية؛ لأنه نفعها لا يتجاوز صاحبه ولا يتعداه إلى غيره.

صدقة إماطة الأذى عن الطريق

صدقة إماطة الأذى عن الطريق قوله: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة) يعني: كون الإنسان يجد في الطريق سواء طريق المشاة أو طريق السيارات شيئاً يعوق المشاة أو السيارات فيزيله عن الطريق وينحيه عن الطريق، سواء أكان زجاجاً أم حجراً أم حديداً أم غير ذلك مما يتأذى به الناس، أو يكون شيئاً ساقطاً في طريق السيارات، فلو جاءت السيارة عليه لحصل بذلك ضرر عليها وعلى ركابها، فينحي ذلك الذي في الطريق عن الطريق ويميطه عنها، فإن ذلك منه صدقة على نفسه وعلى غيره؛ لأنه من النفع المتعدي، وهو فعل متعد إلى غيره، فيستفيد منه المميط والناس الذين يمرون في الطريق، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، كما جاء في الحديث: (أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

عموم الصدقات ودور ركعتي الضحى في الإجزاء عنها

عموم الصدقات ودور ركعتي الضحى في الإجزاء عنها هذا الحديث قد بين فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن كل يوم تطلع فيه الشمس فإن على كل سلامى من الناس صدقة، وتلك الصدقة تكون بفعل الخيرات وإن لم تكن مالاً يدفع للفقراء، بل الذكر صدقة، والعدل بين الناس صدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة، وقضاء الإنسان شهوته بالجماع صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى المساجد صدقة، فكل ذلك من أنواع الصدقات، وقد جاء في حديث أبي ذر في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) يعني: يجزئ عن هذه الصدقات التي تكون على المفاصل كلها، وهي ستون وثلاثمائة مفصل، فيمكن أن تؤدى هذه الصدقة عن هذه المفاصل بالإتيان بركعتين من الضحى؛ وذلك لأن الإنسان في صلاته ركعتين تتحرك أعضاؤه وتتحرك مفاصله، وتكون هذه الصلاة صدقة عن هذه المفاصل. إذاً: فالإتيان بهذه الصدقات عن هذه المفاصل كلها سهل ومشروع؛ لأنه يحصل ذلك بركعتين من الضحى تتحقق بها هذه الصدقات الكثيرة على هذه الأعضاء التي هي المفاصل.

شرح حديثي النواس بن سمعان ووابصة بن معبد في البر والإثم

شرح حديثي النواس بن سمعان ووابصة بن معبد في البر والإثم قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم. وعن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (جئت تسأل عن البر والإثم؟ استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين: أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن].

وجه جعل البر حسن الخلق

وجه جعل البر حسن الخلق هذا الحديث يتعلق بالبر والإثم، والبر جاء في حديث النواس بن سمعان أنه حسن الخلق، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: (حسن الخلق) الخلق الحسن الذي هو من جملة أعمال البر ومن جملة وجوه الخير، فيكون نظير قوله: (الدين النصيحة) وقوله: (الحج عرفة). ويكون التنصيص عليه من بينها لعظم شأنه وأهميته، ويحتمل أن يكون المراد بحسن الخلق جميع أعمال الخير، ويدل على ذلك ما جاء عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن)، أي: أنه يتأدب بآدابه ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فيكون حسن الخلق على ذلك عاماً ليس مقصوراً على الخلق الكريم الذي هو معاملة الناس، ومن جملة ما يدخل فيه معاملة الناس معاملة طيبة، وأنه يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، ويأتي إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، فيكون أعم من التفسير الأول. إذاً: إما أن يكون مراداً بالبر الخلق الحسن، ويكون في ذلك إشارة إلى خصلة من خصال البر، ويدل على عظم شأنه، إذ قد جاء فيه أحاديث كثيرة تدل على عظم شأنه وأن أثقل ما يوضع في الميزان هو الخلق الحسن، ويحتمل أن يكون المراد به العموم، فكل ما هو خير سواء أكان من الأقوال أم الأفعال فإنه يدخل تحت حسن الخلق، ويدل عليه ما جاء عن عائشة (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن)، وذلك لأنه كان يتأدب بآداب القرآن، ويأتي بأحكام القرآن، ويأتمر بأوامر القرآن، وينتهي عن نواهي القرآن.

معنى قوله: (والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)

معنى قوله: (والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) قوله: (والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي: لست مطمئناً إليه وفي نفسك منه شيء، وهذا يكون في حق المؤمنين، وليس في حق كل أحد؛ لأن من الفساق من يأتي الإثم ولا يبالي باطلاع الناس عليه، كما في الحديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فمن الناس من يفعل المعاصي ولا يبالي بها، بل ويجاهر بها ولا يستحي من الله ولا يستحي من الخلق، فمثل هذا ليس هو ممن يحيك في صدره الإثم، بل هذا متمكن من الإثم وواقع في الإثم، وليس مما يحصل منه الأمور المشتبهات، بل هو واقع في المحرمات الواضحات الجليات، وإنما يكون هذا في حق المؤمنين الذين يخافون الله والذين يتورعون ويحافظون على دينهم وعلى أعراضهم، كما في حديث النعمان بن بشير: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه). قوله: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي: لأنه مما يستحيا منه، ولأن الناس إذا اطلعوا عليه ذموا الإنسان وعابوه وقدحوا فيه وتكلموا في عرضه، فهذا هو الإثم.

الفرق بين البر والتقوى وبين الإثم والعدوان

الفرق بين البر والتقوى وبين الإثم والعدوان إن البر يأتي مقروناً بالتقوى، كما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وعند اجتماعهما يفسر البر بأنه فعل الطاعات، والتقوى بأنها ترك المعاصي، فيقسم المعنى على البر والتقوى، فيكون نصيب البر من ذلك فعل الطاعات، ويكون نصيب التقوى من ذلك ترك المعاصي، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر اجتمع فيه ما يتعلق بالطاعات وما يتعلق بالمعاصي، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177] فإن هذه الآية اشتملت على أمور قلبية، وقد جاء فيها ذكر خمسة من أركان الإيمان الستة دون الإيمان بالقدر، وجاء فيها أيضاً أعمال متعدية، فتكون شاملة للطاعات وللمنهيات، وإذا أفرد أحدهما عن الآخر فإنه يتسع للطاعات والمنهيات، فالبر إذا جاء وحده شمل الطاعات والمنهيات، والتقوى إذا جاءت وحدها شملت الطاعات والمنهيات، وإذا جمع بينهما يقسم المعنى بينهما، فيعطى البر ما يتعلق بالطاعات، وتعطى التقوى ما يتعلق بترك المعاصي، والإثم يأتي معه العدوان، وفي آية سورة المائدة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فيفسر الإثم بالمعاصي والذنوب، ويفسر العدوان بالاعتداء على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وغير ذلك مما يكون فيه اعتداء عليهم، فيما هم مختصون به، وذلك بإتلافه أو بالإخلال به.

معنى قوله: (استفت قلبك)

معنى قوله: (استفت قلبك) أما حديث وابصة بن معبد فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟) والنبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك قبل أن يبدي وابصة ما عنده وسؤاله عما يريد، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك لكونه علم منه اهتمامه بهذا الموضوع وعنايته بهذا الأمر، وقد يكون سبق أن سأله في هذا الموضوع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (جئت تسأل عن البر؟) أي: أنه جاء يسأل عن البر والإثم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت له النفس واطمأن إليه القلب). فقوله: (استفت قلبك) هذا إنما يكون في حق من يكون من المؤمنين المتقين، مثل: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهم ممن يكون من أهل الإيمان، وأما إذا كان من أهل الفجور والعصيان فهذا يفتيه قلبه بارتكاب الأمور القبيحة الواضحة التي لا خفاء فيها ولا لبس، فضلاً عن الأمور المشتبهة التي يحتاج فيها إلى استفتاء القلب. فقوله: (استفت قلبك) يعني: أن الإنسان قد يطمئن إلى شيء ويقدم عليه وهو مطمئن، كالحلال البين والحرام البين، فإن ذلك يكون واضحاً لا يتردد فيه الإنسان، ومن الأشياء ما يكون محلاً للتردد، مثل إنسان يسأل عن قبول الهدية من شخص أكثر ماله حرام، فإنه لو أفتاه مفت بإباحته فإن على الإنسان أن يرجع إلى قلبه وإلى ما فيه من التردد وإلى ما فيه من عدم الراحة وإلى ما فيه من عدم الطمأنينة، فلو أفتاه الناس وأفتوه وقلبه غير مطمئن فإنه لا يقدم على ذلك، وهذا في الذين يفتون بغير علم أو يفتون في أمور ليس عليها دليل بين، أما إذا كان إفتاء مبنياً على أدلة بينة على آيات من كتاب الله وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ليس للإنسان أن يتردد فيه، بل على كل مسلم أن ينصاع لما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، لكن حيث يكون الشيء من الأمور المشتبهة فإن هذا هو الذي يكون فيه استفتاء القلب وإن أفتي، فإن أفتاه من يفتيه ونفسه غير مطمئنة فطريق السلامة من ذلك أنه لا يقدم على هذا الشيء الذي فيه عدم اطمئنانه. قوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) لا أعلم فرقاً بين هاتين الجملتين: اطمئنان النفس، واطمئنان القلب، ولم يتضح لي فرق بين اطمئنان النفس واطمئنان القلب إلا أن يكون من قبيل التأكيد مع التغاير في الألفاظ واتحاد المعنى.

معنى قوله: (والإثم ما حاك في النفس)

معنى قوله: (والإثم ما حاك في النفس) قوله: (والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك). قوله: (ما حاك في النفس) يعني: ما حصل للنفس فيه مشقة وعدم طمأنينة، فالإنسان إذا لم يكن الأمر واضحاً عنده، بل فيه خفاء في كونه حلالاً أو حراماً، وكونه سائغاً أو غير سائغ فطريق السلامة في ذلك تجنبه وتركه، كالمثال الذي ذكرته، وهو الهدية ممن يكون أكثر ماله حراماً، فإن هذا لو أفتى الإنسان في شأنه من يفتيه فإن كونه لا يقدم على ذلك ويتخلص منه لا شك أن فيه الاطمئنان في قلبه والسلامة لنفسه، ويكون بذلك مطمئناً منشرح الصدر، بخلاف ما إذا كان بخلاف ذلك وأخذ هذه الهدية ونفسه غير مطمئنة، فإن ذلك يحدث له تشوشاًً في فكره وفي نفسه، فلا يكون عنده اطمئنان، فيكون الحل الأمثل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ومعلوم أن الفتوى إما أن تكون بأدلة واضحة وبمن يكون من أهل العلم، فإنه يتعين على المستفتي أن يأخذ بالفتوى، وأما إذا كان الأمر ليس بواضح وإنما هو من الأمور المشتبهات فقد يكون المسئول ليس من أهل العلم، وقد يكون عنده جهل وعنده خفاء وعنده تسرع، فكون الإنسان يأخذ بما فيه الاطمئنان وما فيه السلامة وما فيه الراحة لا شك أن هذا هو الأليق وهذا هو الأولى بالإنسان، والله تعالى أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

علة جمع الإمام النووي بين حديثي النواس ووابصة رضي الله تعالى عنهما

علة جمع الإمام النووي بين حديثي النواس ووابصة رضي الله تعالى عنهما Q الإمام النووي يذكر في الأربعين حديثاً حديث النواس بن سمعان وحديث وابصة بن معبد على هيئة حديث واحد، وعندئذٍ ستكون الأحاديث ثلاثة وأربعين حديثاً، فكيف ذلك؟ A الحديثان جعلا حديثاً واحداً باعتبار وحدة موضوعهما، فكلاهما يتعلق بالبر والإثم، إلا أن بينهما فرقاً في الألفاظ، ففي حديث النواس قال: (البر حسن الخلق) وفي حديث وابصة قال: (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) وهو يقابل قوله في حديث النواس: (الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالحديث واحد باعتبار كون الموضوع واحداً.

أثر النية في حصول الأجر على المباحات

أثر النية في حصول الأجر على المباحات Q في الحديث الخامس والعشرين من الأحاديث النووية ذكر أن ما تشتهيه النفس وتتعاطاه عن طريق الجبلة كالجماع يؤجر المرء عليه، فهل هذا على الإطلاق، أو أنه لابد من استحضار النية؟ A لابد من استحضار النية في كون الإنسان يقصد إعفاف نفسه وإعفاف غيره وإنجاب الأولاد؛ لحديث: (إنما الأعمال بالنيات) فالأمور المباحة بالنية الصالحة والنية الطيبة تتحول إلى قربات.

حكم مساعدة الآخرين دون استشعار الأجر

حكم مساعدة الآخرين دون استشعار الأجر Q الإنسان قد يميط الأذى أو قد يعين شخصاً ولا يقصد به التقرب إلى الله، وإنما من باب المساعدة، فما حكم ذلك؟ A لا، بل يريد الإحسان وطلب الأجر من الله، فكيف أن الإنسان لا يريد أجراً ولا يفكر في الأجر عندما يفعل هذا الفعل الذي هو إحسان؟! والله تعالى يقول: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] وهذا من الإحسان، فالإنسان يفعل هذا مستحضراً الفائدة والنفع للمسلمين.

دلالة قوله: (وإن أفتاك الناس)

دلالة قوله: (وإن أفتاك الناس) Q في قوله: (وإن أفتاك الناس) ذكر الناس هنا هل يدل على أنهم غير أهل العلم وأنهم العوام؟ A نعم، هو يشعر بهذا، لكن قد يكون هناك بعض الأمور يفتي فيها بعض أهل العلم وليس فيها دليل، وقد يكون المفتي اجتهد في أمر لا تطمئن إليه النفس، فلو أن إنساناً من أهل العلم أفتى في مسألة مشتبهة بالحل بناءً على ما وضح له فإن الإنسان لا يطمئن إلى هذا المفتى به؛ لأنه سيقدم عليه وهو غير مطمئن والنفس فيها شيء.

وجه تسمية كتاب الدارمي بالمسند

وجه تسمية كتاب الدارمي بالمسند Q هل من تعليق على ما قاله النووي رحمه الله في حديث وابصة بن معبد: (حديث حسن رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن؟). A الإسنادان فيهما كلام، ولكن جاء لهما شواهد ذكرها ابن رجب بأسانيد جيدة، والألباني صححهما بهذه الشواهد التي ذكرها ابن رجب، فيكون الحديث حديثاً حسناً أو صحيحاً، وهنا قال: رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن) والدارمي كتابه يقال له: السنن ويقال له: المسند، وهو ليس مسنداً على الاصطلاح المعروف في المسانيد التي هي على أسماء الصحابة، مثل: مسند الإمام أحمد وغيره من المسانيد، وإنما هو مسند بمعنى أن إسناده بذكر الرواة والرجال مثل: صحيح البخاري، فصحيح البخاري اسمه (الجامع الصحيح المسند من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) يعني بذلك: أنه مسند بالتحديث، أي: فيه حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان. فيكون المسند بمعنى آخر غير المعنى المشهور، وهو أن يكون المقصود به ترتيب الأحاديث أو ذكر الأحاديث على أسماء الصحابة، بحيث يذكر الصحابي ويذكر ما له من الأحاديث، وكتاب الدارمي ليس من هذا القبيل؛ وإطلاق السنن عليه أوضح من جهة أنه على طريقة السنن وليس على طريقة المسانيد، وإذا قيل له: مسند فهو بمعنى أنّ أحاديثه مسندة.

صفة نقد الجهابذة النقاد للحديث

صفة نقد الجهابذة النقاد للحديث Q نرجو شرح ما قاله أبو حاتم، فقد قال: مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم. قال: وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده، فكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه. قال: وتعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في المائية والصلابة علم أنه زجاج، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح مثله أن يكون كلام النبوة، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله أعلم؟ A هذه قضية الجهابذة النقاد في معرفة العلل، فالحديث الصحيح يقولون في تعريفه: هو ما روي بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلٍّ ولا شاذ. والمعل هو الذي يكون له علة خفية قادحة يطلع عليها الجهابذة النقاد، وهم في معرفة الحديث مثل: الصيارفة النقاد لمعرفة الصحيح والمغشوش في النقود، أي: أنه متى نظر الإنسان فيه عرفه؛ لأنه أُعطي مراساً ومراناً ومعاناة، فتمكن بذلك من معرفته بالنظر إليه، فكذلك أولئك بكثرة اشتغالهم بالحديث وكثرة اطلاعهم عليه فإنهم يتبين لهم فيه من العلل الخفية غير الواضحة الجلية ما لا يطلع عليه كل أحد، فيكون من هذا القبيل، فعلماء الحديث الكبار يعرفون ذلك ويبينون العلل، ولهذا قالوا في آخر تعريف الصحيح: غير معلٍّ ولا شاذ. والمعلّ هو الذي فيه علة خفية قادحة لا يطلع عليها إلا الجهابذة النقاد، الذين يماثلون النقاد الذين ينقدون الذهب والفضة ويعرفون الصحيح منهما من المزيف.

حكم تخصيص الوالد ولده بعطية دون إخوته

حكم تخصيص الوالد ولده بعطية دون إخوته Q خصني أبي بشيء عن إخوتي لحاجتي إلى ذلك الشيء، فسألت أحد القضاة فأفتاني بأن لا شيء في ذلك، ولكني غير مطمئن، فهل يدخل هذا في حديث النواس في بيان الإثم؟ A إذا كان هذا الذي أعطاك أبوك إياه قرضاً فلا بأس؛ لأنك تبقى مديناً لأبيك بهذا المبلغ، ولو مات فإنه يحسب من ميراثك، وإن كان أعطاك إياه نفقة فهذا لا بأس به، أما إن كان أعطاك إياه منحة وخصك به فهذا هو الذي لا يجوز، ولا تأخذه ولو أفتاك الناس وأفتوك.

اعتراض على تعليل تسمية كتاب الدارمي مسندا

اعتراض على تعليل تسمية كتاب الدارمي مسنداً Q تعليل تسمية كتاب الدارمي بالمسند بكونه مسنداً بصيغة التحديث: حدثنا، اعترض عليه أنه يلزم من هذه التسمية أن تسمى الكتب الستة بالمسانيد؛ لأنها مسندة؟ A يمكن أن يقال فيها كذلك، لكنها اشتهرت بأسمائها، وهذا قد قيل له: مسند ويقال له: سنن، فيأتي مسمىًّ كذا ويأتي مسمىًّ كذا، وكل واحد من الاسمين له معنى، فالسنن على اعتبار أنه رتب على أساس الأبواب، ومسند ليس له معنى إلا كونه مسنداً بحدثنا.

نسبة تسمية مسند الدارمي إلى كتاب مفقود

نسبة تسمية مسند الدارمي إلى كتاب مفقود Q قيل: إن الراجح في هذه المسألة أن للدارمي مسنداً لكنه مفقود، فهل هذا وجيه؟ A المراد كتاب السنن نفسه، ولهذا أشار إليه النووي، والحديث موجود فيه.

دلالة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم وابصة عن سبب مجيئه

دلالة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم وابصة عن سبب مجيئه Q قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟) هل يحتمل هذا أن يكون من الوحي؟ A محتمل، ولكن يبدو والله أعلم أنه عرف منه ذلك لاهتمامه به، وأنه معني به ومشغول به، وقد يكون تكرر منه ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فبني على ما علمه منه قبل، وهذا هو الأقرب.

المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)

المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) Q في الحديث السادس والعشرين من الأحاديث النووية: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) فهل هذه الصيغة تدل على الوجوب؟ A لا؛ لأن قوله: (ويجزئ عن ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) يدل عليه، فركعتا الضحى ليستا بواجبتين، ولكن مقصده من ذلك أنه من الأمور المستحبة، وأن الإنسان ينبغي له أن يأتي بها، أما كونها واجبة فلا. ولكن لا شك أن الإنسان سيأتي في كل يوم بما هو واجب، وهو الصلاة، فالصلاة كما هو معلوم مفروضة في اليوم والليلة خمس مرات، وتتحرك بها هذه المفاصل.

مفارقة أمر الاستخارة للإثم والمشتبه

مفارقة أمر الاستخارة للإثم والمشتبه Q هل الاستخارة تدخل في تردد النفس وعدم الطمأنينة؟ A الاستخارة ليست في أمر مشتبه في الحل والحرمة، وإنما هي إقدام أو إحجام عن شيء مباح، مثل كونه سيسافر سفراً معيناً أو سيدخل في تجارة معينة، أو غير ذلك من الأمور التي يكون الإنسان متردداً فيها هل يقدم أو يحجم، وأما الذي معنا فليس من قبيل الاستخارة، فالاستخارة أن يطلب من الله الخيرة، فيصلي صلاة الاستخارة ويطلب من الله أن يختار له ما هو خير له.

الفرق بين الفراسة والإلهام

الفرق بين الفراسة والإلهام Q ما الفرق بين الفراسة والإلهام؟ A الفراسة يبدو أنها تكون بالنظر في الشيء والتأمل فيه، وكون الإنسان يدرك ذلك بأسباب أو بعلامات، وأما الإلهام فهو يقذف في قلبه الحق، مثل ما كان لـ عمر رضي الله عنه، حيث كان يقول القول فيكون مطابقاً للحق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون -والمحدث هو الملهم- فإن يكن في أحد من أمتي فهو عمر) وقد جاء أنه كان يشير على النبي صلى الله عليه وسلم في أمور ثم يأتي الوحي مطابقاًَ لهذا الذي أشار به عمر. فالفراسة تكون بالتأمل والنظر، وأما الإلهام فإنه شيء يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان، وقد يكون أيضاً بتأمل ونظر مثل ما حصل من عمر رضي الله عنه في قضية الطاعون الذي وقع في الشام، وقد استشار المهاجرين واستشار الأنصار، وبعد ذلك اجتهد ورأى أنه يرجع، ثم بعد ذلك تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء عنه حديث في أن الإنسان لا يدخل على الطاعون ولا يخرج منه، وهذا هو الذي رآه عمر دون أن يكون عنده علم بهذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه وافق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

اكتساب الفراسة

اكتساب الفراسة Q هل يمكن أن يقال: إن الفراسة مكتسبة والإلهام غير مكتسب؟ A نعم الفراسة قد تكون مكتسبة، والإلهام قد يكون مكتسباً وقد يكون غير مكتسب، كالذي يكون قد بذل الوسع وحصل الاجتهاد ثم بعد ذلك صار موافقاً للحق بعد هذا الاجتهاد، كقصة عمر في مسألة الطاعون.

الضابط في طمأنينة القلب للشيء

الضابط في طمأنينة القلب للشيء Q قوله: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس) أحياناًَ يطمئن قلب الإنسان لما هو مناف للورع والحياء، فهل يعمل، أم أنّ هناك ضابطاً آخر؟ A الاستفتاء للقلب يكون في حق من كان عنده إيمان وعنده تقوى، وهذا هو الذي يكون، أما من كان عنده شيء يخالف أو يقع في أمور مخالفة فهذا ليس هو الذي يستفتي قلبه؛ لأنّه يقدم على فعل أمر واضح في حرمته وعدم كونه جائزاً بسبب هواه وميل نفسه.

حكم طمأنينة القلب لما يخالف الرخصة الشرعية

حكم طمأنينة القلب لما يخالف الرخصة الشرعية Q القلب قد يميل ويطمئن إلى ما هو خلاف الرخصة الشرعية، فلا يطمئن إلى الإفطار في السفر، فهل يعمل بهذا الاطمئنان؟ A هذا غير صحيح، بل استفتاء القلب في أمور ليست واضحة، وأما أمور واضحة وأحكامها واضحة في الشرع فالواجب والمطلوب هو اتباع ما جاءت به الشريعة وما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكون الإنسان يترك الإفطار في السفر أو يفطر في السفر هذا ينبغي أن يكون راجعاً إلى حالته من كونه فيه مشقة أو ليس فيه مشقة، فإن كان في ذلك مشقة فعليه أن يفطر وليس له أن يصوم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) في قصة رجل حصلت له مشقة، أما إذا كان السفر مثل السفر في هذا الزمان، فالمسافر كالجالس في غرفة مكيفة، فيكون في سيارة مكيفة وينام ولا ينتبه إلا إذا وصل فهذا لا فرق بينه وبين الجالس المقيم، نعم جائز له أن يفطر ولو لم يكن هناك مشقة، لكن كونه يحافظ على الوقت ويحافظ على الزمان ويؤدي الواجب في وقته ولا يحمل نفسه واجباً يصعب عليه أو قد يثقل عليه أداؤه، فالأولى له الأخذ بالعزيمة، فالمسألة لابد فيها من التفصيل، أما أن يترك الإنسان الرخص تورعاًَ فلا، فالورع هو في اتباع السنة واتباع الحق، لكن المسألة فيما يتعلق بالإفطار تدور بين المشقة وعدم المشقة، فعند المشقة على الإنسان أن يفطر، وإذا لم يكن هناك مشقة وكان الأمر سهلاً مثل الصيام في هذا الزمان ومثل الركوب في السيارات في هذا الزمان والطيارات في هذا الزمان حيث يصل الإنسان في ساعة، أو ساعتين وهو في ذلك الوقت نائم فالأولى أن يصوم.

أجر الذاهب إلى المسجد بالسيارة

أجر الذاهب إلى المسجد بالسيارة Q الذي يذهب إلى المسجد بالسيارة هل يكتب له بكل خطوة صدقة؟ A هو مأجور على كل حال في ذهابه إلى المسجد، ولكن الذي يمشي على رجليه لا شك أنه أفضل، وهو الذي يحصل بكل خطوة يخطوها إلى الصلاة رفع درجة وحط خطيئة.

أجر العودة من الصلاة

أجر العودة من الصلاة Q هل جاء في السنة ما يدل على ثبوت الأجر للخطى عند العودة من الصلاة؟ A أي نعم، جاء في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي قيل له: (ألا تتخذ حماراً تركبه -أي: في ذهابك إلى المسجد- في الظلماء والرمضاء؟! فقال: إني أرجو أن يكون لي بكل خطوة في ذهابي وإيابي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: كتب الله لك ذلك كله)، والحديث الذي في الأربعين: (وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة).

حكم الصدقة عن المفاصل بغير ركعتي الضحى

حكم الصدقة عن المفاصل بغير ركعتي الضحى Q هل تقوم صلاة ركعتين في غير الضحى تقوم مقام ركعتي الضحى في الإجزاء عمّا ورد من الصدقات عن الأعضاء؟ A يبدو أنها تجزئ، وقضية النوافل يحصل بها المقصود عندما ينوي الإنسان هذا الشيء.

شمول الصدقة للعمل الصالح

شمول الصدقة للعمل الصالح Q هل الصدقة مقتصرة على الصدقة بالمال أم تشمل كل عمل صالح؟ A أي عمل صالح هو صدقة، سواءٌ أكان قاصراً أم متعدياً، فهو صدقة منه على نفسه إن كان قاصراً، وصدقة منه على نفسه وعلى غيره إن كان متعدياً.

درجة حديث: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة)

درجة حديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة) Q ما صحة حديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)؟ A هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء في القرآن الكريم أن من قتل من كان له عهد ومن كان له ميثاق من المسلمين فإنه تجب الكفارة والدية على القاتل، ذكر ذلك الله تعالى في سورة النساء فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].

حكم اتخاذ المسجد طريقا

حكم اتخاذ المسجد طريقاً Q هل ورد في الحديث عدم اتخاذ المسجد طريقاً أو ما في معناه؟ A لا أعلم، لكن لا ينبغي للناس أن يتخذوا المساجد طرقاً، أما ورود حديث معين فما أعلم، لكن جاء في القرآن: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43].

درجة حديث: (اتق فراسة المؤمن)

درجة حديث: (اتق فراسة المؤمن) Q هل يصح حديث: (اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله)؟ A هذا حديث ضعيف.

الفرق بين الذمي والمستأمن والمعاهد

الفرق بين الذمي والمستأمن والمعاهد Q ما الفرق بين الذمي والمعاهد المستأمن؟ A وصف الذمي يطلق على الناس الذين يستولي المسلمون على بلادهم ويرضخون لحكم المسلمين، ويبقون على ديانتهم مع دفعهم الجزية، فهؤلاء يقال لهم: أهل ذمة، والمستأمن هو الذي دخل البلاد وأعطي الأمان، والمعاهد هو الذي بينه وبين الناس عهد على أنه يبقى عندهم ليعمل عملاً أو يؤدي شيئاً مطلوباً منه.

المراد بالطريق في قوله: (إماطة الأذى عن الطريق)

المراد بالطريق في قوله: (إماطة الأذى عن الطريق) Q ألا يكون المراد بالطريق في حديث: (إماطة الأذى عن الطريق) هو الطريق المعنوي وليس الحسي، كمن يلقي الشبه في طريق أهل السنة فإن الرد عليه يكون من إماطة الأذى عن الطريق؟ A هذا المعنى بعيد، فإماطة الأذى عن الطريق المقصود بها الأذى الذي يؤذي الناس في طريقهم من شوك أو زجاج أو حجارة أو غير ذلك، ولا شك أن المذكور في السؤال طريق معنوي، ولكن عندما يأتي ذكر إماطة الأذى عن الطريق التي هي أدنى شعب الإيمان فلا يحمل على الطريق المعنوي؛ لأن الدعوة إلى الله عز وجل وبيان الحق لا يقال عنهما: إنهما أدنى شعب الإيمان.

حكم حصول أجر الخطى إلى المسجد بغير وضوء

حكم حصول أجر الخطى إلى المسجد بغير وضوء Q هل يشترط في الأجر في خطوات الذهاب إلى المسجد أن يكون الذاهب على وضوء؟ A يبدو أنه ليس بلازم؛ لأن الإنسان قد يتوضأ في المسجد، لكن كونه يتوضأ في بيته لا شك أنه هو الأولى.

[26]

شرح الأربعين النووية [26] لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته كل خير وتحذيرها من كل شر، فكان يعظ أصحابه ويذكرهم بأبلغ أسلوب وأوجزه، وقد أوصاهم بتقوى الله، وحذرهم من خلع يد الطاعة لولاة الأمر، وأمرهم بلزوم سنته وسنة خلفائه من بعده، وحذرهم من البدع، فإن كل بدعة ضلالة.

شرح حديث (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب)

شرح حديث (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب) يقول الإمام النووي في الأربعين النووية: [عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) وفي لفظ لـ أبي داود: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)]. هذا حديث عظيم من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم, فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ أصحابه ويتخولهم بالموعظة بين وقت وآخر، وكان مما وعظهم به هذه الموعظة التي رواها العرباض بن سارية رضي الله عنه، وهذه الموعظة متصفة بثلاث صفات: كونها بليغة، وكونها وجلت منها القلوب، وكونها ذرفت منها العيون، والموعظة هي الكلام الذي فيه ترغيب وترهيب, يكون فيه ترقيق للقلب وتخويف وزجر، فيؤثر ذلك في القلب ويوجل، وتدمع العين من الخوف من الله عز وجل.

معنى الموعظة البليغة وبم تكون

معنى الموعظة البليغة وبم تكون يقول العرباض رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) والبليغة هي التي بلغت ما بلغت من الفصاحة والبلاغة والتأثير، وكونها تبلغ إلى القلب وتؤثر فيه فيوجل وتدمع العين مع ذلك، وقد وصف الله عز وجل المؤمنين بوجل القلوب وذرف العيون فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:83]. قال: (وعظنا الرسول صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) والمواعظ تكون بالكلام الذي يرقق القلب ويؤثر في النفس، وتكون بالآيات وبالأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة، ولا تكون بالأحاديث الضعيفة والموضوعة فإن هذه لا يشتغل بها، وإنما يشتغل بما صح وثبت، فيكون الترغيب والترهيب بأمور ثابتة ومؤثرة، وأما أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديث موضوع أو حديث ضعيف لا يحتج به وينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا يشتغل به في الوعظ والتذكير.

حرص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على الخير

حرص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على الخير لما وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الموعظة، وكانوا رضي الله عنهم وأرضاهم حريصين على كل خير والسباقين إلى كل خير قالوا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا. أي: كأنهم فهموا أن أجله قريب صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه الوصية الجامعة المفيدة التي يعتمدون عليها ويعولون عليها، ومن المعلوم أن الوصية التي يكون معها ذكر التوديع أو فيها ما يشير إلى التوديع لا شك أنه يهتم بها ويحرص عليها ويحرص على استيعابها وعلى تعقلها وفهمها. وقد يكون حصل في هذه الموعظة كلام يشعر بالتوديع قد يفهمه من يفهمه ويخفى على من يخفى عليه، وذلك مثل ما حصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظ أصحابه فقال: (إن عبداً خيره الله بين ما عنده وبين الحياة الدنيا والبقاء فيها فاختار ما عند الله) فكثير من الصحابة لم يتنبهوا للمقصود من ذلك وأبو بكر رضي الله عنه فهم ذلك وجعل يبكي، وفهم من ذلك أنه قرب أجله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو العبد المخير، وأنه قد اختار لقاء الله عز وجل. وقد تكون الموعظة مشتملة على شيء يشعر بالتوديع، مثل حجة الوداع فإنما سميت حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يشير أو ما يدل على ذلك؛ لأنه قال: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ولهذا قيل لها: حجة الوداع. وكون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون الوصية يدل على كمال فضلهم وعلى كمال نبلهم وحرصهم على معرفة الحق والهدى، وحرصهم على تحصيل الوصايا العظيمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوصية بتقوى الله تعالى

الوصية بتقوى الله تعالى قال: (قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال عليه الصلاة والسلام: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد) فذكر هاتين الوصيتين: الوصية الأولى: تقوى الله عز وجل، وتقوى الله عز وجل هي أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار، وأن تكون العبادة لله وفقاً لما جاء عن الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وتقوى الله عز وجل هي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فتقوى الله عز وجل هي الوصية للأولين والآخرين، ويأتي الأمر بتقوى الله كثيراً في القرآن، ولاسيما مع الآيات التي تبدأ بـ (يا أيها الذين آمنوا) التي فيها الخطاب للمؤمنين، فكثيراً من هذه الآيات يأتي بعدها الأمر بالتقوى، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، وهكذا يأتي خطاب الله عز وجل للمؤمنين وبعده الأمر بتقوى الله عز وجل، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا سمعت الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأرع لها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به وإما شر تنهى عنه. وهذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه ذكره ابن كثير رحمه الله في أول تفسير سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، ومحله المناسب في أول موضع من القرآن في سورة البقرة, وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] فهذا أول موضع في القرآن، وهو المحل المناسب لأن يذكر فيه، وقد جاءت هذه الجملة في عدة مواضع قبل سورة المائدة ومع ذلك ذكره هناك، ولا شك أن أول سورة بدئت بـ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) هي سورة المائدة. فهذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه يقول فيه: إذا سمعت الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأرع لها سمعك, فإنها إما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه. ويأتي أحياناً بعد الخطاب بهذا الوصف للمؤمنين الأمر بتقوى الله عز وجل, وتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وفلاح وسعادة في الدنيا والآخرة؛ لأن سعادة الدنيا والآخرة إنما تكون في تقوى الله, قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، ويقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، ويقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاِ} [الأنفال:29]، ويقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وصلاح وفلاح في الدنيا والآخرة.

الوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمر

الوصية بالسمع والطاعة لولاة الأمر الوصية الثانية: السمع والطاعة لولاة الأمور، وذلك سبب لصلاح الدنيا واستقامة الأمور، وهذه الوصية بالسمع والطاعة مقيدة بأنها في غير معصية, ولما أمر الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة الأمور في سورة النساء قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فأمر بطاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام وطاعة ولاة الأمور، أعاد الفعل (أطيعوا) مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يعده مع ولاة الأمور, فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما هو حق، وكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الله، فجاء الأمر (أطيعوا) معاداً مع الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعد مع ولاة الأمور, فما قال: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم. وإنما قال: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) وذلك للإشارة إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تجب تبعاً وليست استقلالاًَ، فهي تبع لطاعة الله ورسوله، أي أنه يسمع لهم ويطاع في حدود ما هو معروف، ولا يسمع لهم ويطاع في المعصية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).

كلام العلماء في قوله: (وإن تأمر عليكم عبد)

كلام العلماء في قوله: (وإن تأمر عليكم عبد) قال: (وإن تأمر عليكم عبد). أجمع العلماء على أن العبد لا تصح ولايته ولا تثبت له، وليس هو من أهل الولاية, وأجمعوا على أن الخلافة لا تنعقد للعبد، وأن من شرط الخليفة أن يكون حراًَ لا أن يكون عبداً؛ لأن العبد منافعه مملوكة لسيده, فلا يصلح للولاية والخلافة، وجاء في الحديث هنا: (وإن تأمر عليكم عبد) فكيف يجاب عما جاء في هذا الحديث مع أن العبد منافعه مملوكة منافعه لسيده وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون خليفة؟ أجاب العلماء عن هذا الحديث وما في معناه بأجوبة: منها: أن هذا مما يؤتى به على سبيل الفرض والتقدير، وإن كان لا يقع ولا يحصل، وإنما هو للمبالغة في السمع والطاعة، يعني حتى ولو تأمر عليكم عبد فعليكم بالسمع والطاعة، فيكون المقصود من ذكره هنا المبالغة, وأنه لو حصل فإنه يجب أن يسمع له ويطاع, وإن كان ذلك لا يحصل ولا يقع من ناحية الاختيار، وأنه لا يختار الخليفة من العبيد، وإنما يكون من الأحرار. الجواب الثاني: أنه يكون مؤمراً من الخليفة على قرية أو على جماعة، فالخليفة إذا عين عبداً ليكون أميراً على قرية أو أميراً على جماعة مسافرين أو ذهبوا في مهمة في سرية أو في غيرها فعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وعلى هذا فيكون المراد ليس في الولاية العامة، وإنما هو في ولاية خاصة من قبل الأمير أو الخليفة. الجواب الثالث: أنه عندما صار خليفة كان حراً، ولكن سبق له رق, ولكنه عتق فصارت منافعه ملكاً له، فهو عند توليته حر ولكنه كان عبداً فيما مضى، فيكون قوله: (وإن تأمر عليكم عبد) باعتبار ما مضى لا باعتبار الحال, ويكون هذا نظير قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] فإن إعطاءهم الأموال يكون بعد البلوغ، ولكنهم قيل لهم: يتامى باعتبار ما كان لا باعتبار الحال؛ لأنه في حال يتمهم وقبل بلوغهم لا يدفع لهم المال, ولكنه يدفع لهم بعد البلوغ والرشد، ولهذا قال عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] يعني: ذهب الصغر وحصل البلوغ وجاء التكليف {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] فدل على أن أموالهم لا تعطى إليهم في حال يتمهم، وإنما تعطى لهم بعد البلوغ. إذاً: فقول الله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} ليس المراد به حال يتمهم وإنما باعتبار ما كان، ففي الوقت الذي أعطوا فيه أموالهم كانوا بالغين، ولكن قيل لهم: يتامى باعتبار ما كان. الجواب الرابع: أنه إذا صار له شوكة وقوة وتغلب على الناس وقهر الناس بقوته وشوكته حتى استقرت له الأمور واستتب له الأمن فعند ذلك يسمع له ويطاع ولو كان عبداً، فلم يحصل اختياره، ولكنه بالتغلب والقهر والغلبة استقرت له الأمور، فإنه حينئذٍ يسمع له ويطاع. فيكون ما جاء في هذا الحديث وما في معناه من السمع والطاعة للأمير ولو كان عبداًَ محمولاً على هذه الأمور التي ذكرها العلماء، فيسمع له ويطاع وإن كان عبداً بهذه الاعتبارات التي ذكرها العلماء، وإلا فإنه ليس أهلاً للخلافة وليس أهلاًَ للولاية؛ لأن من شرط الخليفة أن تكون منافعه بيده وليست بيد غيره وليست ملكاً لغيره.

الاختلاف في الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم

الاختلاف في الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاًَ كثيراً) هذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإنه أخبر عن أمر مستقبل لم يقع، وكل أمر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من الأمور المستقبلة لابد أن يقع؛ لأنه لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] , فأخباره صادقة، سواء كانت ماضية أم مستقبلة أم موجودة غير مشاهدة ولا معاينة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه من يعش من أصحابه فإنه سيدرك التفرق والاختلاف الكثير, فالاختلاف ليس قليلاً، بل هو كثير، ولذلك قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فليس هو مجرد اختلاف ومجرد فرقة، بل الاختلاف كثير، فكم من تفرق واختلاف وتشعب وافتراق! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة, كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة, وهم الذين كانوا على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وقد وقع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام, فإن من عاش من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك تلك الفتن وذلك الاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم والانحراف عن الجادة، فحصل خروج الخوارج وظهور القدرية وظهور الروافض, وكل ذلك حصل في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وقد ورد أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قدما من العراق حاجين ومعتمرين، وكان قد ظهر في البصرة معبد الجهني وغيره من القائلين بالقدر وأن الأمر أنف، فلقيا عبد الله بن عمر فأخبراه بما حصل فقال: إذا لقيتم هؤلاء فأخبروهم أنني بريء منهم وأنهم برآء مني. ثم قال: والذي يحلف به عبد الله بن عمر لا يؤمن أحدهم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره. ثم ساق حديث جبريل الذي اشتمل على قوله: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). فهذا الاختلاف وجد في عصر الصحابة، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن ومن الانحراف في بعض أمته عن الصراط المستقيم وخروجهم عن الجادة.

طريق العصمة من الاختلاف

طريق العصمة من الاختلاف ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أن من عاش سيرى الاختلاف الكثير كأنه قيل: يا رسول الله! فما تأمرنا به أمام هذا الاختلاف؟ وما هو طريق السلامة والعصمة والنجاة عند وجود هذا الاختلاف؟ فجاء الجواب في قوله: (فعليكم بسنتي) فهذا هو السبيل الوحيد وطريق السلامة وطريق النجاة عند الاختلاف، وهو التمسك بالسنة والتمسك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون الهادون المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر عند هذا الاختلاف بشيئين، فحث وحذر, ورغب ورهب: حث على اتباع السنن وحذر من البدع, حث على السنن بقوله: (فعليكم بسنتي) وحذر من البدع بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) , ففي ذلك ترغيب وترهيب, وفيه حث وتحذير, حث على اتباع السنن في قوله: (فعليكم) و (عليكم) اسم فعل أمر و (إياكم) بمعنى: احذروا. ففي ذلك الترغيب والترهيب, رغب في اتباع السنن وحذر من البدع صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

معاني السنة

معاني السنة قوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) المراد بسنته طريقته صلى الله عليه وسلم, والسنة تطلق إطلاقات أربعة، وأوسعها وأشملها أن المراد بها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في الكتاب والسنة، فكل ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني)؛ لأن ما جاء في الكتاب والسنة كله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, وكذلك هذا الحديث: (عليكم بسنتي) يعني الكتاب والسنة, فكل ما جاء به الكتاب والسنة هو سنته صلى الله عليه وسلم، فتكون السنة هنا شاملة لكل شيء جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء ما يتعلق بالاعتقاد أو يتعلق بالعبادات أو يتعلق بالمعاملات أو يتعلق بالأخلاق والآداب, فكل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو سنته, وهذا هو أوسع معاني السنة. ومن المعاني التي يطلق عليها لفظ السنة الحديث, فحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقال له: سنته، ومن أمثلة ذلك ما يأتي في كتب المحدثين الذين يشرحون الأحاديث، وكذلك في كتب الفقهاء عندما يأتون إلى مسألة معينة فيقدم الفقيه منهم ويمهد للكلام عليها فيقول: وقد دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى كذا، وأما السنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا. فحيث عطفت السنة على الكتاب يراد بها خصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل: دل الكتاب والسنة فالسنة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكتاب تقدم قبلها، فيراد بها خصوص الحديث، وهذا المعنى أقل من الأول؛ لأن المعنى الأول السنة فيه تشمل الكتاب والسنة. وأيضاً من معانيها السنة في مقابل البدعة, وهي تتعلق بمسائل الاعتقاد، فما يتعلق بمسائل الاعتقاد فصاحبه إذا كان متبعاً لما دلت عليه النصوص يقال له: سني. ومن كان على خلاف ذلك يقال له: بدعي. ويقال: سنة وبدعة. ومن إطلاق السنة مراداً بها هذا المعنى الكتب التي ألفت بهذا الاسم، مثل (السنة) لـ ابن أبي عاصم، و (السنة) للالكائي، و (السنة) للطبراني، و (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد، و (السنة) للإمام أحمد، وغيرها من الكتب التي باسم السنة، فإن المقصود بها ما يتعلق بالعقيدة، وما يعتقد طبقاً للسنة مخالفاً لما هو بدعة. والمعنى الرابع من معاني السنة -وهو في اصطلاح الفقهاء-: المندوب أو المستحب, وهو المأمور به ليس على سبيل الإيجاب وإنما على سبيل الاستحباب، وهو الذي يعرفه الفقهاء والأصوليون بقولهم: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم، وإنما طلباً مستحباً مرغباً فيه؛ لأنه لا يأثم من تركه, لكن من ترك المندوب رغبة عنه يكون بذلك قد رغب عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون بذلك آثماً. إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي) المراد بسنته طريقته ومنهجه، وذلك باتباع الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة, فهذا هو الحق والهدى الذي أُمر باتباعه وسلوكه، ثم اتباع سنة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهم -كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم- راشدون، والراشد ضد الغاوي, وهم مهتدون، والمهتدي ضد الضال، فهم أهل الرشد وأهل الهداية رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين، أي أن الناس يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه خلفاؤه الراشدون الهادون المهديون رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلافتهم بأنها خلافة نبوة، كما ثبت من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء). فأخبر في هذا الحديث -حديث العرباض بن سارية - أنهم راشدون وأنهم مهديون، وأمر باتباع طريقتهم واتباع سنتهم، وأخبر في حديث سفينة بأن خلافتهم خلافة نبوة، وأنها على منهاج نبوة، وبعد ذلك يؤتي الله ملكه من يشاء.

الحض على التزام سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بعده

الحض على التزام سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بعده قوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) , حث على اتباع السنة بقوله: (فعليكم)، و (عليكم) بمعنى: الزموا. فهو اسم فعل أمر، ثم أكد ذلك بقوله: (عضوا عليها بالنواجذ) بالإضافة إلى قوله: (عليكم)، وهذا مبالغة في شدة التمسك بها والعض عليها والأخذ بها؛ وعدم التهاون بها أو التقصير في الأخذ بها، وذلك لأن الإنسان يعض بنواجذه على ما يأكله، فكذلك هنا شبه التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم والتزامها بالعض عليها بالنواجذ، والنواجذ هي آخر الأضراس.

التحذير من البدع

التحذير من البدع ولما رغب عليه الصلاة والسلام في اتباع السنن وحث عليها رهب بعد ذلك من خلافها ومما يخالفها من البدع المحدثة، فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، ومحدثات الأمور هي الاختلاف الكثير الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا الترغيب والترهيب حيث قال: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) فهذا الاختلاف الكثير هو من البدع في العقائد التي ظهرت، كالجبرية, والقدرية، والمرجئة، والخوارج وما إلى ذلك من البدع، وكل هذه من محدثات الأمور، وكلها من التفرق والاختلاف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من عاش من أصحابه فسيدرك شيئاً منه. قوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) أي: تلك الأمور التي حصل الاختلاف فيها، والتي خرج أصحابها عن الجادة وعن اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون, فهذا هو الذي يحذر منه، وهذا هو الذي يرهب منه. وجاء في سنن أبي داود: (فإن كل محدثة بدعة) أي: هذه المحدثات ليس لها أساس في الدين ولم تكن مبنية على نص من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه، فهي من المحدثات المنكرة المبتدعة التي لا يجوز الأخذ بها، والتي يجب الحذر منها والابتعاد عنها, وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة رضي الله عنها (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). فهذه المحدثات مردودة على صاحبها ولا ينتفع بها صاحبها، بل هي مردودة عليه؛ لأنها مخالفة للسنة، ولأنها محدثة على خلاف السنة, ولذلك قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) وهنا قال: (وإياكم ومحدثات الأمور) فأي محدثة في دين الله باطلة؛ لأنه ليس لها أساس في دين الله، ولا يدل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

هل في الدين بدعة حسنة؟

هل في الدين بدعة حسنة؟ المحدثات في الدين هي البدع (وكل بدعة ضلالة) وهذا لفظ عام يشمل البدع كلها التي أحدثت في الدين مما ليس له أساس، فإن كل بدعة في الدين هي ضلال؛ لأنها مخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ولا يستثنى من ذلك شيء، ولا يقال: إن في الإسلام بدعة حسنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلال) فكيف يقال: إن في الإسلام بدعة حسنة؟! ليس في الإسلام بدعة حسنة, بل البدع كلها ضلال كما جاء في هذه الجملة العامة, وقد ثبت أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. فإن استحسنها الناس واستساغوها وألفوها فإنها إذا لم يكن لها أساس في الدين فإنها مما أحدث ومما ابتدع، وهي ضلال, ولا يستثنى من ذلك شيء, فليس في الإسلام بدعة حسنة, وقد جاء عن الإمام مالك رحمة الله عليه أنه قال: من زعم أن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، ثم قال: ما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً. يعني: ما لم يكن يومئذ ديناً -يعني يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- فإنه لا يكون اليوم ديناً. فالدين في هذا الزمان وفي كل زمن هو الدين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, أما هذه البدع المحدثة المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان فهي ضلال، وقد حمى الله عنها وحفظ الله منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتلي بها من بعدهم, فلا يجوز ولا يعقل أن يقال: إن هذه الأمور المحدثة التي أحدثها الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حق وهدى! فكيف تكون حقاً وهدى ويحجب عنها الصحابة ويظفر بها أناس يجيئون بعدهم؟! فهذا ليس بمعقول ولا مقبول, بل الحق والهدى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما جاء في هذا الحديث: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) هذا هو الحق والهدى, وكذلك قوله في حديث افتراق الأمة حين قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (الجماعة) وفي لفظ: (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) هذه هي الفرقة الناجية، وهؤلاء هم أهل السنة, وهم الجماعة، وهم الناجون، وهم السالمون، وهم الذين على الهدى، ومن كان على خلاف ذلك فليس على هدى وإنما هو على ضلال. فتلك الأمور المحدثة التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أخبر بأنها ستقع لا يجوز أن يقال: إنها حق. ولو كان الأمر كذلك لكان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما ظفروا بهذا الحق, وهذا باطل؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم السباقون إلى كل خير، وهم الذين ظفروا بكل خير، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كما قال ذلك مالك رحمة الله عليه, فلا يمكن للآخرين أن يصلحوا بشيء ما صلح به الصحابة. إذاً: البدع جاءت بعد الصحابة وليست على منهاج الصحابة، وليست على طريقة الصحابة، وإنما هي مخالفة لما كان عليه الصحابة، فهي محدثات وبدع وضلال، ولا يجوز الالتفات إليها ولا يجوز التعويل عليها، وإنما التعويل على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

ضرر مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع

ضرر مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في الاتباع جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه جاء إلى أناس متحلقين في المسجد وفي أيديهم حصى وفيهم شخص يقول: هللوا مائة، كبروا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة. فيعدون بالحصى, فوقف على رءوسهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود فقال: إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنكم مستفتحو باب ضلالة. أي: هذا ما كان الصحابة يعرفونه, وما كان هذا من هدي الصحابة، وما كان من عمل الصحابة، فأنتم بين واحدة من اثنتين: إما أنكم أحسن من الصحابة، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. فهموا أن الأولى منتفية، ولا يمكن أن يكونوا أحسن من الصحابة، ولا يمكن أن يكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بقيت الثانية، وهي أنهم مفتتحو باب ضلالة, فقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لم يصبه. فليست القضية في كون الإنسان يقول: أنا قصدي طيب وأنا قصدي حسن، وما دام قصدي طيباً حسناً فليس هناك بأس ولو كان الذي أعمله ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم. فلابد أن يعبد الله وفقاً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن شهادة أن محمداً رسول الله معناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع, ولا يعبد بالبدع والمحدثات والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان, وإنما يعبد بالسنن وبما جاء في الكتاب والسنة، فهذا هو الذي يعبد الله عز وجل به, فشريعة الله عز وجل كاملة لا نقص فيها, ولا تحتاج إلى إضافات، ولا تحتاج إلى بدع محدثة, وكلام الإمام مالك الذي أشرت إليه آنفاً واضح جداً حيث قال: من قال: إن في الإسلام بدعة حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة. فما دام أن ما يفعله المبتدع حسن فمعنى ذلك أن الدين ناقص يحتاج إلى تكميل, ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم ما بلغ هذا الشيء الذي الناس بحاجة إليه. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الناس كل ما يحتاجون إليه, فما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا دل الأمة عليه, وما ترك أمراً يباعد من الله إلا حذر الأمة منه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وقد جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما يبين تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور حتى آداب قضاء الحاجة، فقد قال بعض الناس لـ سلمان رضي الله عنه: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: (نعم علمنا ألا نستنجي برجيع ولا بعظم، وأن نستنجي بثلاثة أحجار) وذكر شيئاً من آداب قضاء الحاجة. فكيف تبين الشريعة آداب قضاء الحاجة ولا تبين أصول الدين حتى يأتي أناس بعد الصحابة يحدثون أموراً منكرة ويقولون: هذه هي العقيدة وهذا هو الحق والهدى؟! كيف يكون شيء ما عرفه الصحابة وما ظفر به الصحابة حقاً وهدى؟! أيحجب خيراً عن الصحابة ويدخر لأناس؟! لا شك أن الذي حجب عنهم ضلال، والذي ابتلي به الذين جاءوا بعدهم ضلال، ولو كان خيراً لسبقوا إليه, لكنه شر فسلموا منه وابتلي به من بعدهم، فرضي الله تعالى عن الصحابة وأرضاهم، وعلى هذا فإن البدع كلها ضلال بنص هذا الحديث الذي قال فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة). هذا هو حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الحديث العظيم المشتمل على هذه القواعد العامة وعلى هذه الوصايا النافعة الجامعة ممن أوتي جوامع الكلم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول عمر رضي الله تعالى عنه: (نعمت البدعة)

معنى قول عمر رضي الله تعالى عنه: (نعمت البدعة) Q جاء عن عمر رضي الله عنه قوله في جمع الناس على صلاة التراويح: نعمت البدعة. فما المقصود بذلك؟ A ما جاء عن عمر رضي الله عنه في قصة التراويح أنه قال: نعمت البدعة, ليس المقصود بذلك البدعة بالمعنى الشرعي الذي هو أن يحدث في دين الله ما لم يكن من شرع الله، وإنما المقصود بذلك البدعة اللغوية من حيث اللغة، وإلا فإن صلاة التراويح لها أصل في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. يدل على ذلك الحث على قيام رمضان، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقوله: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس بعض الليالي في آخر الشهر، ولكنه ترك ذلك خشية أن تفرض عليهم، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وزال هذا الذي يخشى، ولم يعد هناك إيجاب ولا تشريع؛ لأن الشريعة استقرت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ جمع عمر الناس على إمام واحد وصلى الناس التراويح جماعة. فصلاة التراويح ليست محدثة في الدين، بل هي موجودة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس قيام رمضان في بعض الليالي، ولكنه ترك ذلك خشية أن يفرض عليهم, وعمر رضي الله عنه أحيا ذلك الشيء وأعاده، فإطلاق البدعة عليه من حيث اللغة وليس من حيث الشرع؛ لأن له أساساً في الشرع من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر رضي الله عنه هو خليفة راشد, وقد أمرنا باتباع سنته، فهي سنة نبوية وثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر رضي الله عنه إنما أظهرها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يستمر عليها خشية أن تفرض كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما جاء من ذكر البدعة فيها ليس على بابه في الشرع، ولا يقال: إن هذه بدعة حسنة. بل هي سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإطلاق البدعة عليها إنما هو من حيث اللغة لا من حيث الشرع.

إحداث عثمان رضي الله عنه الأذان الثاني يوم الجمعة

إحداث عثمان رضي الله عنه الأذان الثاني يوم الجمعة Q ما حكم زيادة عثمان رضي الله تعالى عنه الأذان الثاني يوم الجمعة؟ A فعل عثمان رضي الله عنه داخل تحت سنة الخلفاء الراشدين, فقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) فالأذان الذي يكون قبل صعود الخطيب على المنبر لم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي أتى به عثمان؛ من أجل أن يتهيأ الناس لصلاة الجمعة وأن يتنبهوا فيستعدوا للصلاة، وكان ذلك بالسوق ليسمع الناس وينصرفوا عن البيع والشراء ويذهبوا إلى الصلاة، وقد كان حصل لـ عثمان رضي الله عنه في زمن عمر قصة، فقد دخل المسجد وعمر يخطب على المنبر يوم الجمعة, فقطع عمر الخطبة وقال: أي ساعة هذه؟! يخاطب عثمان رضي الله عنه, يعني: أنك جئت متأخراً. فقال: إنني كنت منشغلاً، ولما سمعت الأذان ما زدت على أن توضأت وجئت. فقال عمر: والوضوء أيضاً! فلما كان خلافته رضي الله عنه وأرضاه أتى بهذا الأذان من أجل أن يستعد الناس. فهو داخل تحت سنة الخلفاء الراشدين التي أمرنا باتباعها, وما جاء عن ابن عمر من أنها بدعة أو أن ذلك بدعة فهو محمول على ما حمل عليه ما قاله أبوه رضي الله عنه، فهي بدعة لغوية وليست بدعة من حيث الشرع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين, ومن الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد أقره الصحابة على ذلك، والمسلمون يعملون به منذ زمن عثمان، ويتوارثونه ويتناقلونه، ولا يقال: إن الحاجة إليه ذهبت. فإن الناس بحاجة إليه، فيؤذن في المآذن التي معها مكبرات الصوت ليُسمع الأذان في السوق وفي كل مكان.

دلالة تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الآداب على تعليمه الأصول

دلالة تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الآداب على تعليمه الأصول Q قال الإمام مالك رحمه الله: محال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته آداب قضاء الحاجة ولم يعلمهم التوحيد. ذكره ابن القيم في الصواعق، فما تعليقكم على هذا القول؟ A لاشك أن هذا من أوضح الواضحات وأهم المهمات، أعني استبعاد كون الرسول صلى الله عليه وسلم يبين للناس دقائق الأمور المتعلقة بالفروع ثم لا يعلمهم الأصول، فيأتي أناس يتخبطون ويحدثون ويتفرقون ويتشتتون ويصير كل حزب منهم بما لديهم فرحون.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام) Q اشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)؟ A هذا الحديث صحيح، وهو في صحيح مسلم , ويفسر بمعنيين: أحدهما: ما جاء في سبب الحديث, فالحديث له سبب، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أناس يظهر عليهم الفاقة والفقر، وجوههم شاحبة، وثيابهم بالية، والرسول صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؛ فتأثر ودخل بيوته يبحث عن شيء من أجل أن يعطيهم إياه, وحث على الصدقة ورغب الناس فيها, فجاء رجل معه صرة تكاد يده تعجز عن حملها فوضعها فتبعه الناس عند ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها) ومعناه أنه فعل أمراً صار قدوة فيه وتوبع فيه فصار الذين جاءوا بعده تبعاً له، فله مثل أجورهم؛ لأنه كان سبباً في تسابقهم وتتابعهم على الإتيان بالصدقات وعلى الإكثار منها, فسبب الحديث يبين المعنى. المعنى الثاني: أن تكون هناك سنة أميتت أو سنة خفيت على الناس فأصبحوا لا يعرفونها فأظهرها لهم، فيكون بذلك أحيا السنن ولم يبتدعها ولم يأت بها من عنده، وإنما هي ثابتة وحق. فالسنة الحسنة تحمل على ما جاء في أصل الحديث أو على إحياء السنة وإظهارها بعد أن خفيت أو اندثرت.

حكم التحذير من البدع في غير مواطن وجودها

حكم التحذير من البدع في غير مواطن وجودها Q هل يستدل بحديث العرباض بن سارية على مشروعية التحذير من البدع وأهلها وإن لم تكن في ذلك البلد إذا كان يخشى أن تدخل إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من البدع ولم تكن يومئذ موجودة، بل حذر من أمر آت في المستقبل؟ A ليس بذلك بأس, فالبدع التي وجدت في بلدان مختلفة وإن لم توجد في بلد معين تذكر ويحذر منها؛ لأن الإنسان قد يصل إليه شيء منها وقد يبلغه شيء منها، وقد يسافر بعض الناس إلى البلد التي توجد فيه وإن كان البلد الذي هو فيه سليماً من هذه البدع، فالإنسان يحذر منها ويبين فسادها، حتى إذا ابتلي بها الإنسان يكون الإنسان على حذر، ولكن الشيء الواقع والشيء الذي هو مشاهد معاين هو الأولى بأن يحذر منه, وإن كانت البدع كلها يحذر منها، فالشيء الواقع الذي حصل يحذر الناس منه حتى لا يقعوا فيه، ومن وقع فيه لينصح حتى يسلم منه، وأما ما كان موجوداً من البدع في مكان آخر فيمكن أن يذكر للمشتغلين بالعلم أو لطلبة العلم، وكذلك لمن كان سيسافر إلى بلد معين توجد فيه البدع، فينبه عليها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن أخبره بأنه سيأتي قوماً من أهل الكتاب، وبين له الطريقة التي يسير عليها في الدعوة فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) الحديث.

معنى سن السيئة في الإسلام

معنى سن السيئة في الإسلام Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة)؟ A معناه أنه إن أحدث بدعة فإن عليه إثمها وإثم من تبعه.

تعليل ابن دقيق العيد السمع والطاعة للعبد الوالي

تعليل ابن دقيق العيد السمع والطاعة للعبد الوالي Q ذكر ابن دقيق العيد مسألة السمع والطاعة إن تولى العبد وعللها بقوله: ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله حتى توضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليباً لأهون الضررين، وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته، لئلا يفضي إلى فتنة عظيمة. فما تعليقكم على هذا الكلام؟ A هذا غير واضح، وكونه يتغلب على الولاية هذا أمره واضح, إذ يمكن أن يتغلب إذا كان له شوكة وله قوة ويغلب الناس، لكن كون الناس يجتمعون ويتفقون على توليته فهذا مخالف للإجماع, فلا يجوز بإجماع المسلمين أن يولى العبد الولاية العامة، ويمكن أن يولى عبدٌ ولاية خاصة، والخليفة هو الذي يوليه، وأما كون الناس يجتمعون ويتفقون على اختيار العبد فهذا بعيد.

حكم إثبات البدعة الحسنة بمقالة (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)

حكم إثبات البدعة الحسنة بمقالة (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) Q يستدل كثير من الناس على إثبات البدعة الحسنة بقول معاذ رضي الله عنه: فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن, وما رآه المسلمون سيئاً فهو سيء. فما قولكم في هذا؟ A هذا المقال فيه كلام من حيث الثبوت، لكن مع فرض ثبوته معناه واضح، وهو أن الأمة لا تجتمع على ضلالة, والشيء الذي يجمع عليه الناس لا شك أنه حق، والأمة لا تجتمع على ضلالة، لكن لا يقال: إن البدعة أجمع عليها الناس. نعم يمكن أن يكون كثير من الناس يسيرون عليها، لكن كثرتهم لا تدل على أنهم على حق، بل هم على ضلالة ولو كانوا كثيرين، وإنما الذي فيه السلامة وفيه العصمة هو الإجماع والاتفاق، فهذا هو الذي لا يكون على ضلالة.

وجه ذكر قبح الخلقة في العبد المتولي

وجه ذكر قبح الخلقة في العبد المتولي Q جاء في بعض الروايات: (وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وفي أخرى: (مجدع الأطراف أو الأنف) فما وجه التشبيه؟ A معناه أنه لو كان فيه تلك الصفات الذميمة التي فيها احتقاره وحصلت ولايته فإنه يسمع له ويطاع. وكل ذلك مبالغة في السمع والطاعة لمن يتولى ولو كان كذلك.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء) Q جاء في بعض طرق حديث العرباض بن سارية: (إن هذه موعظة مودع, فماذا تعهد إلينا؟ قال: لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) فما هو شرح هذه العبارة؟ A معنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس ما يحتاجون إليه، وأنه ما ترك أمراً يقرب إلى الله إلا دلهم عليه، وما ترك أمراً يباعد من الله إلا حذرهم منه، فشريعته كاملة، وقد تركهم على بيضاء في وضوحها وجلائها، من أخذ بها سلم، ومن يزيغ عنها هو الهالك, فقد تركنا على محجة بيضاء وعلى طريقة بيضاء في غاية الوضوح وفي غاية الجلاء, ليس فيها خفاء وليس فيها غموض، وإنما هي واضحة جلية, فمن أخذ بها سلم ومن أعرض عنها خاب وخسر.

حكم متابعة عمر رضي الله تعالى عنه في حد شرب الخمر

حكم متابعة عمر رضي الله تعالى عنه في حد شرب الخمر Q يقول: هل تجب متابعة عمر رضي الله عنه في جعل حد شرب الخمر ثمانين جلدة؟ A قضية الجلد كل ما ورد فيها هو سنة، قال علي رضي الله عنه: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. يعني الأربعين. فكل ذلك سنة كما وصفه علي رضي الله عنه وأرضاه، والعلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال كذا ومنهم من قال كذا، ولكن قال علي: كل سنة، والآخذ بأي واحد منها هو آخذ بسنة، سواء الأربعون التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الثمانون التي جاءت عن عمر رضي الله عنه حين قاسه على حد القذف.

وجه ترك ذكر خلافة الحسن رضي الله تعالى عنه في الخلافة الراشدة

وجه ترك ذكر خلافة الحسن رضي الله تعالى عنه في الخلافة الراشدة Q قال بعض العلماء: إن الحسن بن علي ولي الخلافة بعد أبيه، واستمر فيها ستة أشهر، ثم تنازل لـ معاوية رضي الله عنه، فلا تتم الخلافة الراشدة ثلاثين سنة إلا إذا انضمت إليها تلك الستة أشهر, فإذا كان كذلك فلماذا يقال: الخلفاء الأربعة ولا يقال: الخلفاء الخمسة؟ ولماذا لا يذكر الحسن بن علي من الخلفاء الراشدين؟ A المعروف عند أهل السنة أن الخلفاء الراشدين هم الأربعة الذين مدتهم طويلة، وأما الحسن رضي الله عنه فإن مدته وجيزة وما استقر له الأمر وما استتب.

حكم تقسيم البدعة إلى محرمة ومكروهة

حكم تقسيم البدعة إلى محرمة ومكروهة Q تقسيم البدعة إلى بدعة محرمة وبدعة مكروهة كراهة تنزيهية هل له وجه؟ A البدعة كلها ضلال, ولكنها متفاوتة ولا شك، فبعضها أشد وأسوأ، ولكن كلها موصوفة بأنها محرمة وأنها ضلالة, فما يقال: إنها مكروهة كراهة تنزيه فقط، فليس هناك بدعة يقال فيها: إنها مكروهة كراهة تنزيه! بل كل بدعة ضلالة، وكل بدعة محرمة، وإنما كراهة التنزيه تكون في النواهي، فالنهي إما أن يكون للتحريم وإما أن يكون للتنزيه، وأما البدع فكلها ضلال، وهي متفاوتة بعضها قريب وبعضها بعيد، فمن أهل البدع من يكون أقرب إلى أهل السنة من غيره، فمنهم من يكون بعيداً ومنهم من يكون قريباً، فالذي يثبت بعض الصفات -مثلاً- أقرب من الذي ينفي جميع الصفات.

الفرق بين الراشد والمهتدي والغاوي والضال

الفرق بين الراشد والمهتدي والغاوي والضال Q ما الفرق بين الراشد والمهتدي والغاوي والضال؟ A الراشد ضد الغاوي والمهتدي ضد الضال، وكل منهما وصفان محمودان، أعني: الرشد والهداية، وما أعلم فرقاً دقيقاً بينهما، فوصف الهدى ليس وصفاً مستقلاً أتى بشيء جديد، وإنما هو موضح ومبين لمعنى الرشد. لكن الخلفاء الراشدين فيهم الوصفان، فيهم الرشد وفيهم الهداية, وليس معناه أن المهتدي غير الراشد، فوصف الهداية وصف موضح ومبين، وليس وصفاً مبايناً للرشد, بل هو كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: المهتدي وصف كاشف. ومعناه أنه موضح وما أتى بشيء جديد مخالف أو مغاير للرشد.

حكم تنظيم المخيمات الدعوية التي تحتوي على الأناشيد والمسرحيات

حكم تنظيم المخيمات الدعوية التي تحتوي على الأناشيد والمسرحيات Q هل تنظيم المخيمات الدعوية التي تضم المسابقات العلمية والأناشيد والمسرحيات والرياضة بدعة، مع أن القصد هو احتواء الشباب ومحاولة التأثير فيهم وصرفهم عن المنكرات؟ الشيخ: الأمور في الغالب هي على حسب مقاصد الناس الذين يقومون بهذه الأعمال، ولكن ينبغي أن يربط الناس بالمساجد، ويحرص على جلبهم إلى المساجد، وليس إبعادهم عن المساجد، وعمل مخيمات لهم قد يحصل لهم بسببها ضرر، هذا هو الأولى، فالتربية تكون في المساجد ليكون الناس على صلة بالمساجد وعلى اشتغال بالعلم, وأما تلك المخيمات فهي على حسب ما يقام فيها، لكن ربط الناس بالمساجد أولى من ربطهم بالمخيمات.

حال زيادة: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)

حال زيادة: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) Q ما صحة زيادة (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟ A هذه جاءت في حديث آخر وليس في هذا الحديث، أعني زيادة (وكل ضلالة في النار)، جاءت في حديث خطبة الجمعة.

حكم السمع والطاعة للأمير الكافر والفاسق

حكم السمع والطاعة للأمير الكافر والفاسق Q هل يلزم السمع والطاعة للأمير أو الرئيس وإن كان كافراً؟ وهل يبايع إن غلب واستقر له الأمر واستتب له الأمن؟ A لا يبايع الكافر، وإذا تغلب يجوز الخروج عليه إذا قدر على ذلك، وفي حال عدم القدرة فإن الناس يسمعون ويطيعون بالمعروف، ولا يسمعون ويطيعون في أمر منكر محرم، ولكنهم إذا وجدوا فرصة للتخلص منه فإنه مطلوب منهم أن يتخلصوا منه إذا لم يترتب على خروجهم عليه أو على قيامهم بذلك ما هو أنكر وما هو أعظم ضرراً، وذلك كأن يقضى على هؤلاء لضعفهم، فإن هذا لا يأتي بمصلحة ولا يأتي بفائدة. أما المبايعة فلا يبايع الكافر، ولكنه إذا تغلب وقهر الناس وأمر الناس بما هو معروف سمع له، وإذا أمر الناس بما هو معصية فلا يسمع له، وإذا أمكنهم التخلص منه فإنهم يتخلصون منه, بخلاف المسلم الذي يكون عنده فسق فلا يجوز الخروج عليه ولو كان فاسقاً ولو كان جائراً.

معنى الواو في قوله: (وسنة الخلفاء الراشدين)

معنى الواو في قوله: (وسنة الخلفاء الراشدين) Q هل العطف بالواو في قوله: (وسنة الخلفاء الراشدين) يقتضي المغايرة أو لا يقتضيها؟ A الواو عاطفة لا تقتضي المغايرة، ومعلوم أن سنتهم من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا جاء منهم شيء لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم مثل الذي حصل من عثمان فإنه يعتبر سنة.

الرد على من قال بضعف حديث العرباض بن سارية

الرد على من قال بضعف حديث العرباض بن سارية Q ما الرد على من يضعف حديث العرباض بن سارية باعتبار أنه لم يروه إلا العرباض بن سارية، وهي موعظة عامة، والعرباض كان من الأعراب ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً؟ A الحديث لا يلزم في روايته أن يأتي عن جمع كثير, بل يكفي أن يرويه شخص واحد, ولا يقدح فيه كون راويه صحابياً واحداً أتى به؛ فمن حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء سمعه وهو من أصحابه فإنه يعول عليه، سواء كان قد حضر غيره أم لم يحضر غيره، فالمهم أنه سمع هذه السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يقدح فيه كون غيره ما حدث به.

[27]

شرح الأربعين النووية [27] إن النجاة من النار والفوز بدخول الجنة لأمر عظيم لا يكون إلا لمن وفقه الله تعالى، وقد جعل الله تعالى لعباده سبباً في الحصول عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح، وأول ما يجب فعله من الأعمال الصالحة هو عبادة الله تعالى وحده وترك الشرك به، ثم أداء أركان الإسلام، وإذا أراد العبد كمال الدرجات فليحرص على الاستزادة من نوافل الخيرات، وليعلم أن في لسانه خطراً عليه كبيراً، ومن ثم فليحرص على كفه عما لا ينفعه.

شرح حديث معاذ في السؤال عما يدخل الجنة ويباعد عن النار

شرح حديث معاذ في السؤال عما يدخل الجنة ويباعد عن النار يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل. ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح].

حرص الصحابة على الخير وبيان طلب الصالحين للجنة وخوفهم من النار

حرص الصحابة على الخير وبيان طلب الصالحين للجنة وخوفهم من النار هذا حديث عظيم جامع مشتمل على أمور عظيمة من وصايا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه. وسؤال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدله على عمل يقربه من الجنة ويباعده من النار يدلنا على حرص الصحابة على معرفة الحق وعلى معرفة ما يقربهم إلى الله عز وجل وما يحصلون به الثواب من الله سبحانه وتعالى، فهم الحريصون على كل خير والسباقون إلى كل خير رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. قوله: [(دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار)] فيه إثبات الجنة والنار، وأنهما موجودتان، وهما باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان، وفيه -أيضاً- أن عبادة الله عز وجل لتحصيل الجنة والسلامة من النار شأن سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كما يقول بعض الصوفية: ما عبدت الله رغبة في جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما شوقاً إليه! فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم خير الناس، وأفضل الناس- يسألون الله الجنة ويعوذون به من النار، ويبحثون عن الأعمال التي توصل إلى الجنة والأعمال التي بها يتخلصون من النار ويبتعدون عنها. والله عز وجل قد أخبر عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85].

العمل سبب لدخول الجنة

العمل سبب لدخول الجنة ثم إن فيه دليلاً على أن الأعمال من أسباب دخول الجنة؛ لأنه قال: [(دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار)] فالأعمال هي أسباب في دخول الجنة، فقد قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14]. وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]. فبين أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وقد جاء في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ففي الآيات الكريمات التي ذكرت دلالة على أن الأعمال سبب في دخول الجنة، وأن الإنسان يدخل بعمله الجنة، والحديث يدل على أن الإنسان لا يدخل بعمله الجنة، فكيف يجمع بين ما جاء في الآيات وما جاء في الحديث؟ والجواب هو أن يقال: إن الباء التي في الحديث غير الباء التي في الآيات؛ لأن الباء في الآيات للسببية، والله عز وجل جعل الأعمال سبباً في دخول الجنة، والباء التي في الحديث هي باء المعاوضة، فقوله: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) أي: بأن تكون الجنة عوضاً عن عمله، فيستحق الجنة بمجرد عمله دون أن يكون وراء ذلك فضل الله ورحمته، فهذا لا يكون، بل الفضل لله عز وجل في دخول الجنة. ومعلوم أن الإنسان عندما يعمل عملاً عند غيره في هذه الحياة الدنيا فإنه يستحق الأجرة في مقابل عمله عوضاً، وليس للذي يدفع العوض منة وفضل على الأجير الذي أعطي أجرته؛ لأن الأجرة في مقابل العمل، فهذا عَمِل وهذا أعطى في مقابل العمل. أما دخول الجنة فالأعمال -وإن كانت سبباً في دخولها- إلا أن ذلك بفضل الله عز وجل، ولا يقال: إن القضية هي عمل وجد فكانت الجنة عوضاً عنه! بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخراً، فهو الذي تفضل بالتوفيق للعمل الصالح الذي يوصل إلى الجنة، وتفضل بالجزاء والثواب الذي هو الجنة، فرجع الأمر إلى فضل الله عز وجل في تحصيل السبب ثم حصول المسبب. وعلى هذا تكون الآيات والحديث لا اختلاف بينها، وإنما هي متفقة، بحيث تحمل الباء في الآيات على السببية، وأن الله تعالى جعل الأعمال أسباباً في دخول الجنة، والباء التي نُفي فيها دخول الإنسان بعمله الجنة إنما هي باء المعاوضة، فدخول المرء الجنة ليس معاوضة له على عمله، بل الأعمال سبب في دخول الجنة، وليست القضية قضية معاوضة كما هو مشاهد ومعاين في الذين يعملون أعمالاً في الدنيا ويحصلون على أجورهم من المستأجرين، فإن تلك الأجور ليس فيها فضل ولا منة، وإنما فيها معاوضة، فالأعمال -كما سبق- وإن كانت سبباً في دخول الجنة إلا أن الله تعالى هو الذي تفضل بها، فتفضل بالسبب وتفضل بالمسبب.

عظم شأن دخول الجنة والنجاة من النار

عظم شأن دخول الجنة والنجاة من النار قوله: [(لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه)] في هذا بيان عظم شأن السؤال والمسئول عنه، وأنه شيء عظيم، وليس بالأمر الهين، ومع عظمته وصعوبته ومشقته فإن الله تعالى يجعله يسيراً على من وفقه الله؛ إذ الأعمال التي يكون بها دخول الجنة والسلامة من النار التي دل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها فيها مشقة وفيها تعب وفيها نصب، والمرء بحاجة إلى الصبر على طاعة الله؛ لأن تلك التكاليف وتلك الأمور التي هي موصلة إلى الجنة تحتاج إلى صبر، فيصبر على الطاعات ولو شقت على النفوس؛ لأن العاقبة حميدة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حفت الجنة بالمكاره) فالطريق إلى الجنة فيه صعوبة وفيه مشقة، ويحتاج إلى صبر وإلى جلد وإلى احتساب، وليس هو بالأمر الهين، ولكنه يكون يسيراًَ على من يسره الله عليه. وفي هذا -أيضاً- دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على الأعمال الصالحة، وأن من استعان بالله وعول على الله وجد واجتهد وأخذ بالأسباب الموصلة إلى المقصود والمطلوب فإن ذلك يكون بتيسير الله عز وجل وتوفيقه لتحصيل ذلك المطلوب. وأيضاً فيه تشجيع على مثل هذا السؤال، وبيان أهميته، وأن شأنه عظيم، وأن السؤال عن مثل هذا من أهم المهمات؛ لأنه سؤال عن عمل الإنسان في هذه الحياة؛ إذ إن هذه الحياة دار العمل والآخرة دار الجزاء، وليس فيها إلا جنة أو نار، ودخول الجنة إنما يكون بما يحصل في الدنيا للعبد من توفيق الله عز وجل للأعمال الصالحة التي توصل إلى الجنة وتباعد من النار.

بيان العمل الموصل إلى الجنة

بيان العمل الموصل إلى الجنة ثم بين ما يوصل إلى الجنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) وهذه أركان الإسلام الخمسة التي بينت في حديث جبريل، حيث قال: (أخبرني عن الإسلام قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، وكذلك في حديث عبد الله بن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)، فهذه الأشياء الخمسة التي جاءت في هذا الحديث هي التي جاءت في حديث جبريل وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.

من أسباب دخول الجنة الإخلاص والمتابعة

من أسباب دخول الجنة الإخلاص والمتابعة فقوله: (تعبد الله) أي: تفرد الله بالعبادة وتخصه وحده بها. والله عز وجل قد خلق الخلق لعبادته، وقد أُمروا ونهوا، وبين لهم التوحيد، وبين لهم الشرك، وبين لهم طريق الخير وطريق الشر، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] يعني: طريق الخير وطريق الشر. وقد حصل تبيين ذلك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وعبادة الله عز وجل يجب أن تكون خالصة له، وأن تكون موافقة لسنته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فتكون الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة في عبادة الله؛ لأن عبادة الله عز وجل لا تعتبر ولا تكون مجدية ونافعة إلا إذا توافر فيها الشرطان: أن تكون خالصة لله، وأن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذاً: لابد -مع شهادة أن لا إله إلا الله- من شهادة أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فحين بعث رسول الله عليه الصلاة والسلام وجب على كل إنسي وجني أن يدخل في هذا الدين، وإلا فإن النار مثواه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، ويقول بعض العلماء: كنت إذا سمعت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأملته فأجد معناه في القرآن. قال: ولما سمعت هذا الحديث تأملته ووجدت معناه في قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17] أي أن هذه الآية مثلها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار). وعلى هذا فعبادة الله عز وجل لابد فيها من شرطين: إخلاص العمل لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا توافر هذان الشرطان نفع العمل ونفعت العبادة، وإن اختل أحدهما فإن العمل مردود على صاحبه، ولا عبرة به حينئذٍ ولا قيمة له.

من أسباب دخول الجنة إقامة الصلاة

من أسباب دخول الجنة إقامة الصلاة ثم ذكر بعد ذلك: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وذكرها مرتبة على حسب أهميتها، فأهم هذه الأركان بعد الشهادتين: الصلاة، والتي هي عمود الإسلام، كما في الحديث الذي بين أيدينا، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي من آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي آخر ما يُفقد في هذه الحياة، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وغير ذلك من المزايا الكثيرة المتعددة التي تتعلق بالصلاة. فقُدّمت الصلاة؛ لأنها أهم من غيرها، حيث إنها صلة وثيقة بين العبد وربه، وتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، بخلاف الأعمال الأخرى، فإن منها ما يكون واجباً في السنة كالزكاة والصيام، ومنها ما يكون واجباً في العمر كالحج، وأما الصلاة فهي في اليوم والليلة خمس مرات، ولهذا فإذا صاحب المرء إنساناً فإنه يستطيع أن يعرف أنّه من أهل الاستقامة أو من أهل الضلال خلال أربعٍ وعشرين ساعة، وذلك بكونه يصلي أو لا يصلي، فإن كان من المصلين فهذه علامة الخير، وإن كان من غير المصلين فهذه علامة السوء، فقدمت الصلاة في الحديث لأهميتها؛ ولأنها صلة وثيقة بين العبد وبين ربه؛ ولأنها تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات.

من أسباب دخول الجنة أداء الزكاة

من أسباب دخول الجنة أداء الزكاة ثم جاء بعد ذلك ذكر الزكاة التي تكون في السنة مرة واحدة في الغالب، فإذا استوى الثمر وجاء حصاد الزرع، أو حال الحول على النقود أو على التجارة أو على بهيمة الأنعام فيجب إخراج الزكاة. وقدمت الزكاة على الصيام؛ لأنها متعدية النفع؛ فالمزكي يستفيد منها بحصول الأجر ونماء المال، والفقير الذي تُدفع إليه الزكاة يستفيد منها بسدّ حاجته. والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يأتي الجمع بين الصلاة والزكاة في الآية أو الحديث، كما قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) [الحج:41]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].

من أسباب دخول الجنة الصيام والحج

من أسباب دخول الجنة الصيام والحج ثم جاء الصيام بعد ذلك؛ لأنه يتكرر في السنة، ويكون شهراً، وأخر الحج؛ لأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة. فهذه الأركان جاءت مرتبة وفقاً لأهميتها. ثم إنّ هذه الأمور التي قدمت هي أهم الفرائض، والله عز وجل قد جعل أحب ما يتقرب العبد به إليه هو الفرائض، كما جاء في الحديث القدسي: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). فقوله: (تعبد الله) أي أن من أسباب دخول الجنة عبادة الله تعالى، وهي فرائض ونوافل، فالفرائض ذكرت منها الأركان الخمسة التي هي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وهذه أمور واجبة لازمة.

أبواب نوافل الخير الموصلة إلى الرضوان

أبواب نوافل الخير الموصلة إلى الرضوان ثم بعد ذلك ذكر أموراً مستحبة ونوافل وقرباً يكون فيها زيادة في الثواب وكمال في الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: (ألا أدلك على أبواب الخير) أي: الطرق والمداخل التي يصل الإنسان بها إلى الخير. والمقصود بذلك: النوافل؛ لأنه ذكر أمثلة للفرائض أولاً ثم ذكر أمثلة للنوافل ثانياً، فذكر ثلاثة أشياء: الصوم، والصدقة، وقيام الليل. فهذه الأمور الثلاثة هي من أفضل أبواب الخير التي أرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (ألا أدلك) هذا استفهام، فقبل أن يذكر أبواب الخير مهّد لها بهذا الاستفهام حتى يتهيأ المخاطب -وهو معاذ رضي الله عنه- لمعرفة ما يلقى عليه ليحفظه ويعيه ويستوعبه، بحيث لا يفوته منه شيء، فهذا الأسلوب وهذه الطريقة فيها لفت نظر المخاطب بتنبيهه إلى العناية والاهتمام لما سيلقى عليه بحيث يعيه ويستوعبه.

من أبواب الخير: صوم التطوع

من أبواب الخير: صوم التطوع قوله صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة) المقصود بذلك صوم التطوع؛ إذ إن صوم رمضان قد ذكر سابقاً ضمن الواجبات؛ وهذه الأمور التي ستذكر إنما هي من باب التطوع، وليست من باب الفرض. ثم ذكر النوافل التي بها زيادة الإيمان وزيادة الكمال وزيادة الأجر والثواب عند الله عز وجل، فقال: (الصوم جُنَّة) والجُنَّة: هي الوقاية التي يُتقى بها ما يُحذر ويُخاف، ولهذا يقال للترس الذي يتقى به السهام: جُنَّة. فالصوم جُنة في الدنيا من المعاصي وفي الآخرة من النار. ويدل للأول -وهو أن الصوم جنة في الدنيا- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء). أي: أن من قدر على الزواج فليتزوج وليقض وطره، ومن عجز ولم يتمكن من ذلك لعدم القدرة المالية التي توصله إليه فإن عليه أن يكثر من الصوم؛ لأن الصوم يضعف شهوته ويُوهن قوّته، فيسلم بذلك من الوقوع في الفاحشة واقتراف الأمر المحرم، فإن الصوم يكبح جماح النفس، ويقمع شدة الشهوة؛ لأنه يكون فيه إضعاف للنفس، بخلاف الإفطار، فإنه يكون فيه النشاط وفيه الأكل والشرب والاستمتاع، فهو الذي يجعل الإنسان فيه هذه الشهوة، والصوم يضعفها، فأرشد عليه الصلاة والسلام إلى ما يكون به السلامة من الوقوع في الفاحشة والوقوع في الأمر المحرم، فإذا لم يستطع الإنسان أن يقضي شهوته بطريق الحلال فإن عليه أن يصوم حتى لا يقع في الأمر المحرم؛ لأن الصوم يضعف شهوته، فلا يكون عنده الاندفاع والرغبة التي تجعله يقدم على تفريغها وعلى حصولها بطريق محرمة. وأما الوقاية التي يحدثها الصوم في الآخرة: فهي السلامة من النار في الآخرة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (من صام يوماً في سيبل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً). فصوم التطوع يكون جُنّة من المعاصي وجُنّة من النار.

من أبواب الخير: الصدقة والإحسان إلى الناس

من أبواب الخير: الصدقة والإحسان إلى الناس ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار). والصدقة: هي الإحسان إلى الناس -بالمال أو بغيره- وإيصال النفع إليهم، وسدّ عوزهم وفقرهم. وهي من أسباب إطفاء الخطايا، أي: زوالها وذهابها، ولا شك في أن الصغائر تذهب بفعل الطاعات، وأما الكبائر فإنها تذهب مع التوبة، أما مع الإصرار عليها فلا، وإذا كان الإنسان يتصدق وهو مصرّ على الكبائر فلا يقال: إن الصدقة تمحو كبائره التي هو مصر عليها، وإنما تمحو الصغائر، وأما الكبائر فتمحوها التوبة، فإذا تصدق وهو تائب من جميع الذنوب فإن الصدقة تطفئ تلك الخطايا كما يطفئ الماء النار، أي أنها تقضي عليها وتستأصلها، كما أن الماء إذا صُبّ على النار فإنه يخمدها ويطفئها، وهذا معروف بالمشاهدة والمعاينة، وكذلك المعاصي تطفئها الصدقة، والتي هي القربة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل بسدّ عوز المعوزين وقضاء حاجات الفقراء والمساكين. وفي ذلك تشبيه الأمور المعنوية بالأمور الحسية في تقريب ذلك إلى الأذهان وإلى الأفهام؛ لأن المشاهَد أن الماء إذا صُبّ على النار قضى عليها وأنهاها، فكذلك الصدقة إذا جاءت فإنها تقضي على المعاصي، ولكن الكبائر تُمحى بالتوبة منها.

من أبواب الخير: قيام الليل

من أبواب الخير: قيام الليل ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وصلاة الرجل من جوف الليل). يعني: أنه من أبواب الخير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أبواباً ثلاثة من أبواب الخير: الصوم، والصدقة، وقيام الليل، فالصدقة نفعها متعد، والصوم وقيام الليل نفعهما قاصر لا يتعدى. وقيام الليل هو أفضل الصلاة بعد الفريضة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: قيام الليل)، وهو أفضل التطوع الذي يتطوع به من الصلوات، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلا قول الله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17] تلا هاتين الآيتين المشتملتين على بيان هذا العمل الصالح، وأن أولياء الله عز وجل الذين يحصل منهم هذا العمل الصالح يرغبون ويرهبون، وجزاؤهم الجنة بسبب أعمالهم التي عملوها وقدموها في هذه الحياة. ومما ينبغي أن ينبه عليه: أن الإنسان إذا وعظ أو ذكّر فمرت به آية فعليه أن يأتي بها كما كان يُحدّث، ولا يتحول من كونه يخاطب الناس إلى كونه يقرأ القرآن ويصير كأنه قارئ تالٍ؛ فإن مقام الاستدلال غير مقام التلاوة، فبعض الناس تجده يخاطب الناس، فإذا مرت به آية تحول إلى كونه قارئاً، فالذي يسمعه يظن أنه قارئ، وليس محدثاً ولا مذكراً ولا خطيباً، وإنما يظنه قارئاً للقرآن. فمقام الاستدلال غير مقام القراءة. وقوله: (وصلاة الرجل من جوف الليل) ذِكْر الرجل هنا لا مفهوم له، بل المرأة كذلك، وإنما ذكر الرجل؛ لأن أن الغالب أن الخطاب مع الرجال، وإلا فإن الأصل التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، ولا يصار إلى الفرق بينهما إلا إذا وجد ما يدل على أن هذا الحكم خاص بالرجال دون النساء أو العكس، كما يأتي في بعض الأحاديث بيان التفريق بين الرجال والنساء في بعض الأحكام، مثل مسألة الغسل من بول الرضيع الذي لم يأكل الطعام، فإنه يكون فيه النضح من بول الغلام والغسل من بول الجارية، وكذلك الجنازة إذا كانت رجلاً يكون الإمام عند رأسه، وإذا كانت امرأة يكون في وسطها، فهذه من الأمور التي يحصل فيها التفريق بين الرجال والنساء، وكذلك فيها يتعلق بالعقيقة والدية والشهادة والميراث والعتق، وهي خمسة أمور تكون النساء فيها على النصف من الرجال. فالأصل هو التساوي بين الرجال والنساء في الأحكام، وعلى هذا فإن قوله في الحديث: (وصلاة الرجل) لا مفهوم فيه لذكر الرجل، بل مثله المرأة.

بيان رأس الأمر وعموده وذروة سنامه

بيان رأس الأمر وعموده وذروة سنامه ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد) وهذا مثل الذي قبله، فالاستفهام فيه تنبيه المخاطب إلى الاستعداد والتهيؤ لما سيلقى عليه. وقوله: (رأس الأمر الإسلام) الأمر: هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الشأن، وهو أعظم الشئون. وقوله: (وعموده الصلاة) يدلنا على عظم شأن الصلاة؛ لأنها عمود الإسلام، ومعلوم أن الأعمدة يقوم عليها البنيان، وتقوم عليها الخيام، وإذا نُزع عمود الخيمة سقطت على الأرض، وإذا كُسرت أعمدة البنيان هبطت العمارة المكونة من طوابق كثيرة بعضها على بعض حتى تكون أقل مما يساوي طابقاً واحداً لما اختلت الأعمدة، وهذا يبين لنا أن الصلاة شأنها عظيم؛ لأنها هي العمود الذي يقوم عليه الإسلام. ثم قال: (وذروة سنامه الجهاد)، السَّنام: هو أعلى الشيء، وسنام البعير: أعلاه، والذروة: أعلى السنام؛ لأن السنام أعلى شيء، وأعلى شيء في السنام هو الذروة، وأطلق على الجهاد أنه ذروة سنام الإسلام؛ لأن فيه علو الإسلام وظهوره وقوة المسلمين وتفوقهم على الكفار وغلبتهم لهم، حيث يكونون غالبين للكفار، فيهابهم الكفار ويخشونهم، فإما أن يدخلوا في الدين وإما أن يدخلوا تحت حكم الإسلام ويدفعوا الجزية، ولكن يكونون تحت ولاية المسلمين، ويكون ذلك سبباً في هدايتهم؛ لأنهم يشاهدون أحكام الإسلام، ويشاهدون تطبيق الإسلام من المسلمين، فيكون في ذلك القدوة الحسنة والأسوة الطيبة لهم. وإنما يكون ظهور الإسلام وقوته وتفوق المسلمين على أعدائهم الكافرين بقوة الإيمان وقوة اليقين الذي به يفتحون العباد والبلاد، كما كان شأن سلف هذه الأمة الذين كان عددهم قليلاً بالنسبة لأعداد أعدائهم، ومع ذلك فقد نصرهم الله عز وجل بقوة إيمانهم ويقينهم وثباتهم وإخلاصهم لله عز وجل. ولا يحصل جهاد الأعداء إلا إذا حصلت مجاهدة النفس، فالمسلم إذا لم يجاهد نفسه فإنه لا يستطيع أن يجاهد غيره، وجهاد النفس هو أهم شيء؛ لأن الإنسان إذا لم يكن عنده قوة إيمان ومجاهدة للنفس لا يكون عنده صبر، ولا يكون عنده جَلَد، ولا تكون عنده رغبة، ولا يكون عنده حرص على مجاهدة الكفار، فمجاهدة النفس هي الأساس الذي تقوم عليه قوة المجاهدين والمقاتلين للكفار، ولهذا تفوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة على أعدائهم مع قلة عدد المسلمين وقلة عتادهم وكثرة أعداد الكفار وكثرة عتادهم بقوة الإيمان وقوة البصيرة وقوة الدين، هذا هو الذي مكنهم من التغلب على أعدائهم، فإن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وذلك بقوة الإيمان وقوة اليقين، فالجهاد أولاً جهاد النفس، ثم جهاد المنافقين وجهاد الكفار، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].

خطورة شأن اللسان

خطورة شأن اللسان ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى. فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا). وهذا يبين لنا خطورة شأن اللسان، وأن أمره خطير، وأنه ليس بالأمر الهيّن، وأنه هو الذي يوقع الإنسان في المهالك ويتسبب في العطب، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لـ معاذ قال له معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم-)] وهو شك من الراوي في كونه ذكر الوجوه أو المناخر-: (إلا حصائد ألسنتهم). يعني: جزاء وعقوبة ما يحصل من الألسنة من الكلام السيء في هذه الحياة الدنيا، فهذا هو الذي يوصلهم إلى النار، وهو الذي يوقعهم فيها؛ لأن الناس في هذه الحياة الدنيا يزرعون، فالحياة الدنيا هي دار الزرع ودار العمل، والآخرة دار الحصاد، فالناس يحصدون ويحصلون أجر ما قدموا، إن قدموا خيراً وجدوه، وإن قدموا شراً وجدوه، كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، وجاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وفي هذا بيان عظم شأن اللسان، وأن أمره ليس بالأمر الهين، بل شأنه خطير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراًَ أو ليصمت) وفي الحديث المتفق على صحته: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، والذي بين اللحيين هو اللسان والذي بين الرجلين هو الفرج.

مآل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أحد أصحابه

مآل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أحد أصحابه قوله صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ) يعني: فقدتك حتى صارت ثكلى! وليس الدعاء مُراداً هنا، وإنما المراد هو الاهتمام بما يخاطب به، بل إنه جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنّه سأل ربه أن يجعل كل دعوة دعا بها على أحد ليس أهلاً لها طُهراً وزكاءً وقربة من الله عز وجل لذلك المدعو عليه، فتكون الصيغة دعاءً عليه وهي دعاءٌ له. فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أمه أم سليم رضي الله تعالى عنها كان لها يتيمة، فأرسلتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم رآها وهي صغيرة جداً ثم رآها قد كبرت، فقال: أنت هي كبرت، لا كبرت سنك. فرجعت تلك اليتيمة تبكي، فلما جاءت إلى أم سليم تبكي قالت: إن الرسول دعا علي وقال: كذا وكذا، فجاءت أم سليم مسرعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما لك يا أم سليم، قالت: إنك دعوت على يتيمتي. فقال: أما علمت -يا أم سليم - أنني اشترطت على ربي أن كل من دعوت عليه دعوة ليس هو لها بأهل أن يجعل الله له زكاءً وطُهراً). ثم إن الإمام مسلماً رحمة الله عليه من حسن ترتيبه ومن حسن دقته في كتابه الصحيح لما ذكر هذا الحديث أورد بعده حديث ابن عباس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاوية: (لا أشبع الله بطنك) بعدما ذكر الحديث الذي فيه هذا الشرط؛ ليدل على أنه دعاء له وليس دعاء عليه، وذلك أن ابن عباس روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى معاوية فرجع فأخبره أنه وجده يأكل، ثم أمره أن يذهب مرة أخرى، فرجع فأخبره أنه وجده يأكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا أشبع الله بطنك) فصار دعاء له بناءً على ذلك الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، فصار منقبة لـ معاوية وفضلاً له، وليس فيه ذم لـ معاوية كما يحرص على ذكره من يعادون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أن هذا من مثالبه، وأنه دعاء عليه. فهذا الحديث العظيم مشتمل على هذه الوصايا العظيمة النافعة الجامعة ممن أعطي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول المرء لأخيه: (ثكلتك أمك) ونحو ذلك

حكم قول المرء لأخيه: (ثكلتك أمك) ونحو ذلك Q هل يكون قول: (ثكلتك أمك) أو: (تربت يداك أو يمينك) من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لغيره أن يقوله؟ A الذي ينبغي هو ألا يقال مثل هذا الكلام، وإنما يؤتى بالكلام الطيب والكلام المناسب، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الذي حصل منه -كما هو معلوم- يكون دعاءً لصاحبه وليس دعاء عليه.

حكم ترتيل الآيات عند الاستدلال بها في المواعظ ونحوها

حكم ترتيل الآيات عند الاستدلال بها في المواعظ ونحوها Q إذا كانت الآيات لا ترتل عند الاستدلال بها في المواعظ ونحوها، فكيف بما نسمعه في بعض الأشرطة، حيث نجد أن المحاضر يقول الشيء ثم يكون الاستدلال من الآيات بصوت قارئ غير المحاضر، وذلك كثير في التسجيلات، فما حكم أن يكون الاستدلال بالآيات بغير صوت صاحب المحاضرة؟ A هذا ليس بجيد، أعني كون الإنسان يرتل الآيات حال الوعظ ونحوه، بل الإلقاء في الاستدلال يكون مثل غيره، ويستخدم هذه الطريقة كثير من الدعاة والوعاظ، ويقصدون بذلك ترقيق قلوب السامعين وشد الانتباه، وهذا المقصود لا يراعى، بل يراعى الصدق والإخلاص والإتيان بالكلام المؤثر الذي يكون صحيحاً، بحيث لا يكون فيه أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وإنما يكون بآيات من كتاب الله، وأحاديث من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وكذلك من كلام العلماء وكلام سلف هذه الأمة الذي فيه تأثير على القلوب. وقد يقال: قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (ق) يوم الجمعة على المنبر! ونقول: إن تلك قراءة قرآن، حيث كان يقرأها على المنبر، أما كلامنا فهو في الاستدلال، أي: كون الإنسان يتكلم ثم يأتي بدليل من الكتاب العزيز ويقرؤه بترتيل، فيتحول من كونه مذكراً متكلماً إلى كونه قارئاً، أو يسأل عن الدليل على شيءٍ فيذهب يرتل الآية. وقول الراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تلا) لا يشعر أن قراءته كانت متلوة مرتلة، وإنما يدل على كونه صلى الله عليه وسلم ألقاها عليهم.

حكم البسملة والاستعاذة للآية المستدل بها

حكم البسملة والاستعاذة للآية المستدل بها Q إذا كان المتحدث أو المتكلم يريد الاستدلال بالآية، فهل يستعيذ أو يبسمل إذا كان ذلك في أول السورة؟ A إذا كانت الآيات كثيرة فلا بأس بذلك، وأما إذا كان يأتي بآية، ثم يأتي بآية، ثم يأتي بآية، فلا يأتي بالاستعاذة.

الاجتماع على المأدبة بعد صيام الأيام البيض

الاجتماع على المأدبة بعد صيام الأيام البيض Q هناك مجموعة يجتمعون كل شهر في منزل أحدهم على مأدبة، ويكون ذلك غالباًَ بعد صيام الأيام البيض، فقال لهم أحد الدعاة: إن عملكم هذا بدعة. فهل هذا صحيح؟ A لا ينبغي مثل ذلك، فإنه يمكن للإنسان أن يعبد الله عز وجل ولا يجتمع مع غيره ويتكلف ذلك.

من صلت الفجر فهي في ذمة الله تعالى

من صلت الفجر فهي في ذمة الله تعالى Q ورد في حديث: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله)، فهذا بالنسبة للرجل، فماذا بالنسبة للمرأة؟ A إذا صلت المرأة في بيتها وقامت بما هو واجب عليها فلا شك أنها تحصل على ما يحصل عليه الرجل؛ لأنها معذورة، فالمرأة إذا فعلت ذلك في مصلاها أو في بيتها فإنه -إن شاء الله- يرجى أن تحصل الفضل الذي يحصله الرجل.

المراد بسبيل الله

المراد بسبيل الله Q في الحديث: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) فما المراد بقوله: (في سبيل الله)؟ A الظاهر أنه الجهاد في سبيل الله، ولهذا أورد هذا الحديث في كتاب الجهاد، وأصل سبيل الله يراد به معنى خاص ويراد به معنى عام؛ لأن كل طرق الخير هي في سبيل الله، ويطلق (سبيل الله) على الجهاد في سبيل الله، ولهذا فسبيل الله المذكور مع أصناف الزكاة الثمانية المقصود به الجهاد؛ لأن جميع الأصناف المذكورة هي في سبيل الله ما عدا العاملين عليها؛ لأن هؤلاء يأخذون أجورهم.

ترتيب الأعمال في النصوص ودلالته

ترتيب الأعمال في النصوص ودلالته Q يذكر أن ترتيب الصلاة والزكاة بحسب الأهمية، وقدمت الصلاة لأهميتها، لكن بعض أهل العلم يقولون في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:11]: إنه أخر الدين لأهميته. فما الضابط في معرفة أن المقدم أو المؤخر هو الأهم؟ A لا شك أن الأركان الخمسة جاءت مرتبة في حديث جبريل، وجاءت مرتبة في حديث ابن عمر، وجاءت مرتبة في غيرهما، وبالنظر يعلم أن الصلاة لها أهمية عظمى، حيث تصلي في اليوم والليلة خمس مرات، وهي الفاصلة بين المسلمين والكفار، وهي آخر ما ينقض من عرى الإسلام، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، وهي عمود الإسلام، ثم تليها الزكاة؛ لأنها متعدية النفع، ثم يليها الصوم؛ لأنه قاصر النفع، وكل من الزكاة والصيام يأتي في السنة مرة، والحج جاء آخراً؛ لأنه لا يجب إلا مرة واحدة في العمر.

حكم إعارة آلات التصوير

حكم إعارة آلات التصوير Q هل آثم إذا أعرتُ أحداً آلة تصوير، سواء أكانت فوتوغرافية أم كاميرا فيديو؟ A آلات التصوير إذا كان يستعملها المرء فيما هو مباح فلا بأس بذلك، وإذا أعارها لمن يستعملها في المباح فلا بأس.

أثر وقوف الطفل دون السابعة في وسط صف الصلاة

أثر وقوف الطفل دون السابعة في وسط صف الصلاة Q هل الطفل دون السابعة يقطع الصف إذا كان يصلي مع الناس؟ A إذا كان ليس من المصلين ولا يعقل الصلاة فلا شك أن وجوده كعدمه، ولهذا لا ينبغي أن يكون في الصف وهو لا يعقل الصلاة.

حكم المسح على الجورب المشقوق

حكم المسح على الجورب المشقوق Q هل يُوجد ما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمسحون على الجوارب أو على الخفاف وفيها شيء من الشقوق؟ A جاء عن عدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يمسحون على الجوارب، ولا شك أنها لا تسلم، لكن الشأن في الشقوق؛ لأنها قد تكون يسيرة وقد تكون فاحشة كبيرة بحيث يكون وجود الجورب كعدمه، فهناك فرق بين الشقوق اليسيرة وبين الشقوق الكبيرة التي يكون أكثر الرجل فيها بادياً.

كيفية إدراك فضل صيام الأيام الفاضلة لمن كان يصوم يوما ويفطر يوما

كيفية إدراك فضل صيام الأيام الفاضلة لمن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً Q إذا كان الرجل يصوم يوماً ويفطر يوماً فقد يحصل أنه لا يوافق صيامه بعض الأيام الفاضلة كيوم عاشوراء أو يوم عرفة أو يومي الإثنين والخميس، فكيف يصنع؟ A أن يجمع يومين ويؤخر يومين، ولا بأس بذلك.

الحكم على حديث (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)

الحكم على حديث (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) Q ما مدى صحة حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: جهاد النفس)؟ A الجهاد كما هو معلوم هو جهاد الكفار، وجهاد النفس هو وسيلة له، ولا أعرف أن الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم أخذ المال من مقترضه بفائدة ربوية

حكم أخذ المال من مقترضه بفائدة ربوية Q امرأة متوفى عنها زوجها، وكان لها إخوة أكبر منها اقترضوا من البنك بفائدة ربوية، ثم قام أحدهم فأعطاها جزءاً من هذا المال مساعدة لها ولأولادها، فهل لها أن تستخدم هذا المال، مع العلم أنها موظفة؟ ثم إنها تقول: لا أستطيع أن أرده؛ لأن ذلك يغضب أخي، ولها دين على أخيها فرده إليها من هذا القرض، فما الحكم؟ A إذا كانت محتاجة إليه فلا بأس بذلك؛ لأن القرض -كما هو معلوم- يكون الأصل أنه حلال، وإنما المحرم هو الزيادة التي تكون بسبب القرض، ولكن كونها تتنزه عن هذا إذا كانت موظفة وعندها شيء تستغني به فلا شك أنه أولى. وينبغي لها أن تحرص على هداية أخيها وعلى سلامته، فتعتذر وتقول: إن فعلك هذا غير سائغ، ولهذا لا أحب أن أشارك في هذا، فتبين له بلطف ولين، وتحرص على أن يسلم، فليست القضية في كونها تأخذ أو لا تأخذ، بل أهم شيء أن تخلص أخاها وأن تحرص على تخليصه من الوقوع في الأمر المحرم الذي هو الربا. وأما رده الدين إليها من ذلك القرض فقبولها له ليس به بأس.

عمامة طالب العلم في بلد لا يتعمم أهلها

عمامة طالب العلم في بلد لا يتعمم أهلها Q في بلدي الرجال لا يلبسون شيئاً على رءوسهم، إلا الصوفية يلبسون العمائم والقلنسوة، فهل الأفضل لطالب العلم أن يلبس أو يترك رأسه مكشوفاً؟ A يلبس، ولكن لا يلبس لباساً يماثل لباس المبتدعة.

حكم كشف الرأس في الصلاة

حكم كشف الرأس في الصلاة Q ما حكم كشف الرأس في الصلاة؟ A الأولى عدمه؛ ما دام الإنسان يعتبر أن تغطية الرأس هيئة كاملة وأنها هي الهيئة المثلى، وإذا كشف وصلى فلا شيء عليه.

من تتزوج المرأة في الجنة

من تتزوج المرأة في الجنة Q تعددت الأحاديث في بيان أن أهل الجنة لهم الحور العين، لكن إذا كانت المرأة لا تريد زوجها وتريد غيره في الجنة فكيف يكون الحال؟ A المرأة في الجنة لها ما لا يخطر على بالها من النعيم ومن الخير، ثم من أين لنا أن نعرف أن المرأة لا تريد زوجها؟ فهذا الكلام افتراض باطل؛ لأنه إذا كان بينهم شيء في الدنيا من الغل فإنه ينزع يوم القيامة من قلوبهم.

معنى صلاة الفاتح وحكم التعبد بها

معنى صلاة الفاتح وحكم التعبد بها Q أرجو من فضيلتكم تفسير صلاة الفاتح، حيث يكثر عندنا فعلها، وهل يجوز التعبد بها؟ الشيخ: صلاة الفاتح صلاة مبالغ فيها، حيث يزعمون أنها خير وأفضل من القرآن، والإنسان لا يجوز أن يتعبد بها ولا بأي شيء مبتدع، بل يتعبد بالصلوات المشروعة الثابتة في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما.

[28]

شرح الأربعين النووية [28] يقف المرء في دين الله تعالى أمام أمور أربعة: أولها الفرائض فيأتي بها كما أمر الله تعالى، وثانيها الحدود فلا يتجاوزها ولا يتعداها، وثالثها المحرمات فيجتنبها ولا ينتهكها، ورابعها المسكوت عنها، فلا يتكلف البحث والسؤال عنها، فإن الله تعالى ما سكت عنها نسياناً، بل رحمة بعباده.

شرح حديث (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها)

شرح حديث (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره]. هذا الحديث في إسناده مكحول، وهو يروي عن أبي ثعلبة ولم يسمع منه، ولو سمع منه فهو مدلس، وقد روى بالعنعنة. فالحديث فيه انقطاع، ولكن جاء في معناه أحاديث، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله، مثل حديث: (الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته). وكذلك بعضه جاءت أحاديث تشهد له، ومنها حديث: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم). وعلى هذا فيكون المعنى الذي جاء في الحديث -وإن كان الإسناد منقطعاً بين مكحول وبين أبي ثعلبة - قد جاء ما يشهد له وما يدل عليه. الحديث مشتمل على أربع جمل:

الفرائض ومعناها

الفرائض ومعناها الجملة الأولى: قوله: [(إن الله فرض الفرائض فلا تضيعوها)] والفرائض هي التي فرضها الله عز وجل وأوجبها، فوجوبها حتم لازم، مثل الصلوات الخمس والزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام التي هي أركان الإسلام، فهي واجبة لازمة، وعلى المسلمين أن لا يضيعوها، بل عليهم أن يأتوا بها ويحرصوا عليها ويبتعدوا عن إضاعتها. فالفرائض التي فرضها الله عز وجل وجوبها واضح وفرضها لازم يتعين على كل مسلم أن يأتي بها وأن يحذر من تضييعها، أي: التهاون بها وعدم الإتيان بها على التمام والكمال، بل عليه أن يحرص على أن يأتي بها على وجه يكون به مؤدياً للفرض والواجب.

الوقوف عند حدود الله

الوقوف عند حدود الله الجملة الثانية: قوله: [(وحد حدوداً فلا تعتدوها)] أي: أن الله جعل للناس أموراً مشروعة منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، فعلى الناس أن يتقيدوا بها وأن يأخذوا بها، وأن لا يتجاوزها إلى الحرام، بل يكتفوا بما أحل الله عما حرم الله، ولا يتجاوزوا ذلك إلى غيره، بل يكون عملهم مبنياً على الإتيان بما شرعه الله عز وجل، سواء أكان واجباً أم مستحباً أم مباحاً، فلا تتعدى ولا تتجاوز الحدود التي شرعها الله. فقوله: [(فلا تعتدوها)] يعني: لا تتجاوزوها ولا تتعدوها، بل اقتصروا عليها وقفوا عندها ولا تتجاوزوها إلى غيرها، وهذا يتعلق بما هو مشروع ومطلوب، فإنه لا يتعدى ولا يتجاوز. وقد يأتي ذكر الحدود ويكون النهي عن قربانها ويكون المقصود بذلك المحرمات، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فالحدود هنا محرمة؛ لأنها لا تُقرب لحرمتها، وأما إذا كانت مباحة ومشروعة فإنها لا تتجاوز، بل يوقف عندها ويستغنى بالحلال عن الحرام، ويكتفى بما أباح الله عما حرم الله.

الانتهاء عند انتهاك المحرمات

الانتهاء عند انتهاك المحرمات الجملة الثالثة: قوله: [(وحرم أشياء فلا تنتهكوها)]. أي: جاء الدليل من الكتاب والسنة على تحريمها، كالخمر والميسر والزنا والربا وغير ذلك، كل هذه المحرمات لا ينتهكها الإنسان، أي: لا يقع فيها ولا يتجه إليها، بل يكون في منأىً بعيداً عنها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) فكل ما نهى الله عز وجل وحرمه فإنه لا يجوز فعله ولا الإقدام عليه، بل يجب الحذر منه والابتعاد عنه وعدم قربانه. فقوله: [(وحرم أشياء فلا تنتهكوها)] يقابل قوله: [(أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها)] أي: أوجب واجبات يتعين على الإنسان الإتيان بها، وهنا حرم محرمات فلا يجوز الإقدام عليها ولا يجوز الوقوع فيها.

حكم المسكوت عنه في الشرع

حكم المسكوت عنه في الشرع الجملة الرابعة: قوله: [(وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)] أي: أنه سكت عنها فلم يحرمها ولم يحللها، وإنما هي عفو، فالشيء الذي لم يأت ما يدل على تحريمه فالإنسان يأتي به ويفعله ولا يبحث عنه. وهذا البحث والسؤال قد يكونان في زمن النبوة، وهذا الذي تترتب عليه مضرة، بأن يوجب شيء لا يستطاع، أو يحرم شيءٌ بسببه، كما جاء في قصة الرجل الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. قال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم فأعاد السؤال، فقال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم). فالله عز وجل أوجب الحج، ووجوبه في كل عام لا شك أنه في غاية المشقة، فدلالة اللفظ بمجرده تدل على أنه مرة واحدة؛ لأنه لا يستطاع أن يحج الناس جميعاً في كل سنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم) أي: لا تسألوني مثل هذه الأسئلة التي فيها مشقة وتعسير وتشديد على الناس. وكذلك كونه يسأل عن شيء فيحرم من أجل مسألته، وقد جاء في الحديث: (إن أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته). أما السؤال بعد زمنه صلى الله عليه وسلم فكالأسئلة التي فيها تنطع وتكلف والناس في غنى عنها وليسوا بحاجة إليها، فلا ينبغي أن يسألوا مثل هذه الأسئلة ولا يبحثوا عنها، وإنما عليهم الانكفاف والإعراض وعدم الاشتغال بها، وعليهم الاشتغال بما يعود عليهم بالخير أما أن يشتغلوا ويعنوا بتفريع المسائل والتعمق فيها والسؤال عن أشياء ليس للإنسان أن يسأل عنها فهذا مما لا يفيد. فعلى الإنسان أن يقف عند الحرام ويجتنبه، وأما الحلال عله أن يأتي به ويقدم عليه، وما سُكِتَ عنه فإنه لا يشغل نفسه به، وما كان من أشياء ليس فيها تحريم ولا تحليل فيرجع في ذلك إلى الأصل، فما كان الأصل فيه الحل فإنه يبقى على ذلك الأصل، وما كان الأصل فيه التحريم فإنه يبقى على ذلك الأصل، ولا يُشتغل بالتكلف والتعمق في المسائل التي لا يفيد التعمق فيها، وقد جاء ما يدل على المنع من ذلك، كما في حديث: (هلك المتنطعون). وعلى هذا فهذا الحديث مشتمل على هذه الأربع الجمل: جملة تتعلق بالفرائض الواضحة المتعينة، وجملة تتعلق بما هو مشروع وسائغ، سواء أكان واجباً أم مستحباً أم مباحاً، وأنه يقتصر عليه ولا يتجاوز به الحد بحيث يتعدى، بل يوقف عنده، وجملة تتعلق بالحرام الواضح، فعلى الإنسان أن يتركه ولا يقع فيه، وجملة تتعلق بما كان مسكوتاً عنه، فإنه مما عفا الله عز وجل عنه، والإنسان له أن يأخذ به؛ فإنه مما أباحه الله وأحله، ولكن لا يشغل نفسه بأمور لا ينفعه الاشتغال بها، كالتعمق والتكلف والسؤال عن أمور ليس له أن يسأل عنها، ولا يمكنه أن يصل فيها إلى جواب، وإنما عليه أن يكف عن ذلك، وأن لا يقدم عليه. هذه هي الجمل الأربع التي اشتمل عليها حديث أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه.

شرح حديث (ازهد في الدنيا يحبك الله)

شرح حديث (ازهد في الدنيا يحبك الله) يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس. فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس). هذا الحديث سأل فيه سائلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر إذا فعله يكتسب به محبة الله مع محبة الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يزهد في الدنيا ليحصل محبة الله، وأن يزهد فيما عند الناس ليحصل محبة الناس. والحديث يدل على حرص أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام على الخير، ومعرفة أمور دينهم، وحرصهم على معرفة ما يجلب لهم محبة الله الذي محبته لهم فيها خيرهم وسعادتهم، ومحبة الناس التي يكون فيها السلامة من شرهم، ويكون فيها حصول ما يناسب بينه وبينهم من أمور لا يلحقه فيها ضرر، ولا يلحقه فيها مشقة، ولا يلحقه منهم ذم، بل يسلم من شرهم ويظفر بخيرهم. فالحديث يدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على الخير، وعلى ما يجلب لهم محبة الله عز وجل ومحبة الناس. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فأتى بهذا الجواب المختصر الوجيه الذي فيه أن الإنسان يزهد في الدنيا فيكون ذلك سبباً في محبة الله عز وجل إياه، ويزهد فيما عند الناس فيكون ذلك سبباً في محبة الناس له.

معنى الزهد في الدنيا

معنى الزهد في الدنيا الزهد في الدنيا من أحسن ما فسر به ما ذكره الحافظ ابن رجب عن أبي سليمان الداراني أنه قال: أن يترك ما يشغله عن الله عز وجل. فهذا هو الزهد المحمود، أي: يترك كل ما يشغله عن الله عز وجل، وذلك فيما يتعلق بأمور الدنيا مطلقاً، فكل شيء يشغله عن الله عز وجل فإنه يزهد فيه ويتركه ليحصل بذلك على ما يعود عليه بالخير وبالمنفعة. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله بعدما نقل هذا الكلام عن أبي سليمان الداراني قال: إنه حسن، وإنه يجمع ما قيل في الزهد من العبارات المتنوعة والعبارات المختلفة؛ لأنها ترجع إلى هذا المعنى، وهي كون الإنسان يترك ما يشغله عن الله عز وجل. ومعلوم أن تحصيل الدنيا، وتحصيل الكفاف، وتحصيل العيش في هذه الحياة الدنيا مطلوب، وكذلك تحصيل ما يكون سبباً في نفعه لنفسه ونفعه لغيره مطلوب، لكن لا يكون ذلك مبنياً على الانشغال بالدنيا وجمعها وتحصيلها عما يعود على الإنسان بالخير، بل يكون على وجه لا يحصل به الانشغال عن الله عز وجل، فهذا هو الزهد الممدوح المحمود.

أثر غنى القلب والنفس في المواقف

أثر غنى القلب والنفس في المواقف من المعلوم أن الإنسان إذا كان غني القلب والنفس فإن دنياه بيده لا في قلبه، سواء أكانت قليلةً أم كثيرة. أما إذا كانت نفسه ليست غنية فإن المال الكثير بيده لا يقنعه ولا يرضى به، ويسعى للمزيد منه، ويكون مشغولاً ومهموماً ومنشغلاً بالدنيا عن الآخرة. وأما إذا لم تشغله الدنيا عن الآخرة، وكانت الدنيا وتحصيلها من أسباب سعادته نفعه؛ فإن ذلك يكون محموداً، فقد جاء في الحديث أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم). فالأموال إذا حصلت لهم دون أن ينشغلوا بها عن الله عز وجل بل كانت تحصل وتصرف بطرق مشروعة فإن ذلك يكون محموداً مفيداً، المهم أن لا يشغله ذلك عن الله سبحانه وتعالى. فإذا كانت الأموال تصرف في طاعة الله وفيما يعود على صاحبها وعلى المسلمين بالخير فهذا أمر محمود، ولهذا كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم المال والدنيا ولكنها ما شغلتهم عن الآخرة، بل كانوا منشغلين بالآخرة ويصرفون دنياهم وما أعطاهم الله من الدنيا فيما يعود عليهم بالخير. ويدل على ذلك قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه وبذله في سبيل الله، وإنفاقه للأموال في سبيل الله، ففي غزوة تبوك -وسميت العسرة- كان الناس في شدة ومشقة، وكان الفقراء يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يحملهم فيقول: (لا أجد ما أحملكم عليه) فيرجعون وهم يبكون حزناً على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم معذورون، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في طريق تبوك قال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) فهم مع المجاهدين بقلوبهم وإن كانت أجسادهم باقية في المدينة، فلقد تعلقوا بالجهاد وليس عندهم القدرة التي تمكنهم من ذلك. فـ عثمان رضي الله عنه قدم يومها ثلاثمائة بعير عليها أحلاسها وأقتابها ومتاعها في سبيل الله عز وجل، فهذا المال الكثير ما شغله عن الآخرة، بل صرفه فيما يتعلق بأمور الآخرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه. فالغنى هو غنى النفس، فإذا كانت النفس غنية فأي شيء يكون في اليد فهو كثير، وإذا كانت النفس فقيرة فالكثير في اليد لا يعتبر شيئاً ولا يقنع به صاحبه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانياً، ولو كان له واديان لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)

معنى الزهد فيما عند الناس

معنى الزهد فيما عند الناس قال صلى الله عليه وسلم: (وازهد فيما عند الناس يحبك الناس). فالناس حريصون على ما بأيديهم وحريصون على الدنيا، والإنسان الذي يستغني عنهم يكون محبوباً عندهم، أما من الذي يشغل نفسه بما عندهم ويشغلهم فلا يعجبهم ولا يحبون ذلك منه، بل المحبوب عندهم من يستغني عنهم، وأما من يشغلهم ويتطلع إلى ما عندهم، ويتشوف إليه أو يطلبه ويلح فيه فهذا لا يعجبهم ولا يريدونه. فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن الناس يعجبهم الذي يستغني عما عندهم من المال؛ لأنهم حريصون على دنياهم، ومن يريد أن يشاركهم أو يكون له معهم نصيب أو يطلب منهم شيئاً فإن هذا غير محبوب عندهم، ولهذا فإن الشيء الذي يحبه الناس من الإنسان هو أن يستغني عما في أيديهم، وأن لا يشغل نفسه بتحصيل شيء مما في أيديهم. فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب بهذا الجواب الوجيز المختصر الذي هو من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).

إثبات صفة المحبة لله تعالى

إثبات صفة المحبة لله تعالى وفي الحديث دليل على أن من صفات الله المحبة؛ لأنه قال: (ازهد في الدنيا يحبك الله) فالله تعالى يحب المؤمنين، ويحب المتقين، ومن صفاته المحبة، وصفاته -كما هو معلوم- تثبت على ما يليق بالله سبحانه وتعالى من غير اشتغال بتكييف أو تشبيه أو تعطيل أو تأويل أو تحريف بل على حد قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فتثبت الأسماء والصفات لله عز وجل على ما يليق بكماله وجلاله دون أن يكون الله تعالى في شيء منها مشابهاً لخلقه، ودون أن يكون المخلوقون مشابهين لله عز وجل في شيء من صفاتهم، بل صفات الله تعالى تليق بجلاله وكماله، وصفات المخلوقين تليق بضعفهم وافتقارهم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث (ازهد في الدنيا)

الحكم على حديث (ازهد في الدنيا) Q حديث: (ازهد في الدنيا) ضعفه بعض أهل العلم، فهل لهم وجه في تضعيفه؟ A الحديث له شواهد، وقد ذكرها الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (944).

الفرق بين الأمور المشتبهة والأمور المسكوت عنها

الفرق بين الأمور المشتبهة والأمور المسكوت عنها Q ما الفرق بين الأمور المتشابهة والأمور المسكوت عنها؟ A الأمور المتشابهة هي التي تكون محتملة للحرمة. وأما الأمور المسكوت عنها فمثلما جاء في قصة الرجل الذي سأل عن الحج، فإن الحكم هو وجوبه مرة واحدة، والسؤال عن وجوبه في كل عام من التكلف، وهو غير صحيح وغير لائق. فالمشتبه هو الذي يكون محتملاً للتحريم، فليس هو من الحرام البين ولا من الحلال البين، وإنما هو مشتبه، وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى). وأما المسكوت عنه فيرجع إلى أصله، فحيث يكون الأصل فيه الحل فإنه يكون حلالاً.

أصل الأشياء من حيث الإباحة والحظر

أصل الأشياء من حيث الإباحة والحظر Q هل الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر؟ A هناك أشياء الأصل فيها الإباحة، مثل المأكولات والمطعومات، فالأصل في ذلك الحل إلا ما جاء فيه التحريم؛ لأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض، فيكون الأصل هو الحل، حتى يأتي شيء ينقل عن ذلك الأصل إلى التحريم.

حكم ترك اتخاذ المركب الحسن مع القدرة عليه

حكم ترك اتخاذ المركب الحسن مع القدرة عليه Q هل ترك الإنسان أن اتخاذه مركباً حسناً وهو قادر عليه يعتبر زهداً؟ A إذا كان في ذلك المركب إسراف ومباهاة فلا شك أن تركه زهد؛ لأن حصول المقصود بدون الشيء الذي فيه مباهاة وشهرة وصرف الأموال الطائلة يغني عما فوقه، والمهم أن يكون جيداً مفيداً. أما الشيء الذي فيه مغالاة ومباهاة وشهرة فهذا لا شك أنّ تركه زهد، مثل بعض السيارات التي في سعرها غلاء فاحش، وقد تأتي بقيمة عدد كثير من السيارات، فسيارة واحدة منها يساوي ثمنها ثمن عدد من السيارات، فلا شك أن هذا فيه شيء من الإسراف.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت) Q هل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم لوجبت)، أنه كان له خيار في الإجابة بـ (نعم) أو (لا)؟ A معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول: (نعم) إلا بوحي، فقوله: (لو قلت: نعم) يعني: بوحي من الله، وأن الله تعالى أوجب ذلك. وحينئذٍ فإنه يتعين عليهم ذلك ولا يستطيعونه، والله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها. وإيجاب الحج في كل سنة لا شك أن فيه مشقة عظيمة مشقة من ناحية تكراره، ومشقة من ناحية اجتماعهم في ذلك المكان.

معنى الزهد

معنى الزهد Q هل الزاهد هو الذي يترك كل شيء لا يحتاج إليه؟ A الزهد أحسن ما قيل فيه: أنَّه ترك الإنسان ما يشغل عن الله عز وجل.

مثال ترك ما يشغل عن الله جل جلاله

مثال ترك ما يشغل عن الله جل جلاله Q ما هو مثال ترك ما يشغل عن الله عز وجل؟ A مثاله: الاشتغال بالدنيا، والحرص على جلبها، والافتتان بها، بحيث ينشغل بماله وبجمعه عن الله عز وجل وعن عبادته، كأن ينشغل بالدنيا عن الصلاة، بحيث يتأخر عن الصلاة أو يتكاسل عن أدائها بسبب اشتغاله بالدنيا، فإن هذا مما يشغله عن الله عز وجل.

القرض الحسن وعلاقته بالزهد فيما عند الناس

القرض الحسن وعلاقته بالزهد فيما عند الناس Q إذا أخذت القرض الحسن من أخ لك على أن ترد له هذا المال، فهل ينافي هذا العمل الزهد فيما بأيدي الناس؟ A معلوم أن من الناس من يكون فيه خير، وقد يعرض على غيره أن يقرضه، فإذا كان المرء محتاجاً فالناس لا يستغني بعضهم عن بعض، وحينئذٍ يعطى له ذلك. وأما إذا كان غير محتاج، أو كان القرض ليس مما هو ضروري وإنما يراد به الدخول في مشاريع قد يربح فيها وقد يخسر، فعلى الإنسان ألا يشغل نفسه بهذه الأمور، وإنما عليه أن يسعى لتحصيل الكفاف، ولا يشغل نفسه بأمور أخرى ترهقه وتحمله ديوناً فتكون ذمته مشغولة بحقوق الناس. والاقتراض عند الحاجة جائز ولا بأس به، والحديث لا يدل على المنع وإنما يدل على حب الناس لمن يزهد فيما بأيديهم.

الفرق بين زهد السلف وزهد الصوفية

الفرق بين زهد السلف وزهد الصوفية Q ما الفرق بين زهد السلف وزهد الصوفية؟ A زهد السلف -كما هو معلوم- مبني على الاشتغال بعبادة الله عز وجل على وجه مشروع، وأما الصوفية فإنهم يشتغلون بالعبادة على وجه غير مشروع.

حكم الزهد

حكم الزهد Q هل الزهد واجب أم مستحب؟ A القدر الذي الناس بحاجة إليه -سواء أكان كفافاً أم أكثر من الكفاف- مما لا يشغل عن الآخرة أمر مطلوب، ومعلوم أن الزهد ليس بواجب، ولو كان واجباً لأثم الناس، وإنما هو خلق كريم وصفة حميدة.

الفرق بين الزهد والورع

الفرق بين الزهد والورع Q ما الفرق بين الزهد والورع؟ A الورع يتعلق بالذي فيه شبهة، فالتورع يكون عن أمور مشتبهة. وأما الزهد فليس كذلك، بل قد يكون في أمور واضحة الحل، ولكن يزهد فيها لكونها تشغل عن الله عز وجل وعن طاعته، فتركها يكون حينئذٍ محموداً. فالورع يتعلق بترك المشتبهات، وأما الزهد فيكون في أمور واضحة جلية الانشغال بها قد يؤثر على عبادة الإنسان لربه فيزهد فيها.

الجمع بين محبة الزهد ومحبة التجمل والتزين

الجمع بين محبة الزهد ومحبة التجمل والتزين Q كيف نجمع بين كون الإنسان يزهد في الدنيا وبين ما جاء في الحديث: (إن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) وقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]؟ A الإنسان إذا رزقه الله عز وجل وأعطاه من المال ما أعطاه فإنه يظهر نعمة الله عز وجل عليه، ولا يكن غير مظهر لها مع تمكنه من ذلك.

معنى النهي عن اتخاذ المساجد طرقا

معنى النهي عن اتخاذ المساجد طرقاً Q قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكر أو صلاة) فما معنى هذا؟ A معناه: أنَّ دخولها يكون للذكر أو الصلاة، وليس للإنسان أن يتخذها طريقاً ذاهباً وآيباً، لكن قد جاء في القرآن: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]. وقد جاء في الحديث في بيان أشراط الساعة: (أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين)، والمرور هنا يفيد أنه عابر سبيل.

حكم إعطاء الزكاة للابن الفقير

حكم إعطاء الزكاة للابن الفقير Q هل يجوز للأم أن تعطي زكاة الفطر لولدها المتزوج، مع العلم أن ابنها لا يعمل وليس له معونة؟ A الزكاة لا تعطى للفروع ولا للأصول، وأما زكاة الفطر فيبدو أنه لا بأس بإعطائه إياها؛ لأن المقصود هو الإغناء عن السؤال في ذلك اليوم، فإذا كان فقيراً وليس عنده شيء في ذلك اليوم فإنه يعطى من صدقة الفطر، ولكن إذا كان عندها مال غير زكاة الفطر فلتعطه من مالها، ولا تعطه من الزكاة، وإن لم يكن عندها إلا هذا الصاع الزائد عن قوتها فإعطاؤها إياه لا بأس به؛ لأن المقصود به الإغناء في ذلك اليوم.

حكم من أنكر ثبوت صدقة الفطر ولم يخرجها

حكم من أنكر ثبوت صدقة الفطر ولم يخرجها Q رجل رفض أن يخرج زكاة الفطر، وقال: إنها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فما هو الواجب نحوه؟ A أما قضية ثبوتها فهي ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول صلى الله عليه وسلم، والواجب أن يعلم ويبين له الحديث، وإذا لم يؤدها بعد ذلك فإنها تؤخذ منه قهراً مثل الزكاة المفروضة.

حكم استدانة الزوجة لإخراج الزكاة

حكم استدانة الزوجة لإخراج الزكاة Q هل يجوز للزوجة أن تستدين وتخرج الزكاة؟ A الزوجة إذا كان عندها مال فإنها تخرج من نفس المال، وإذا كان عندها حلي فإنها تخرج من نفس الحلي، وإذا لم يكن لها مال فليس عليها أن تستدين لتزكي؛ لأن من ليس له مال فليس عليه زكاة.

حكم منع الرجل زوجته من إخراج زكاة الفطر بدعوى أنها لم تثبت

حكم منع الرجل زوجته من إخراج زكاة الفطر بدعوى أنها لم تثبت Q امرأة يمنعها زوجها من إخراج زكاة الفطر ويقول: إنها لم تثبت. فماذا تعمل المرأة؟ A القائل بأنها لم تثبت هو من أجهل الناس، وهل له أن يُثبت وينفي بمحض هواه؟! إن القول بعدم ثبوت زكاة الفطر لم يقل به أحد، ومن لم يبلغه دليل ثبوتها فهو معذور. أما من بلغه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فليس له أن يتخلف عن الأخذ به.

اشتقاق صفات الله تعالى من أفعاله

اشتقاق صفات الله تعالى من أفعاله Q ذكرتم أن في حديث سهل بن سعد (ازهد في الدنيا يحبك الله) دليلاً على إثبات صفة المحبة، مع أنه لم يرد في الحديث النص على الصفة، وإنما جاء ذكر الفعل، والقاعدة أن الفعل لا يشتق منه الصفة؟ A الصفات كثيراً ما تأتي مأخوذة من الأفعال، مثل: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] و {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119] وهكذا، فكثير من الصفات مأخوذ من الأفعال.

المراد بقوله تعالى: (ثم تاب الله عليهم ليتوبوا)

المراد بقوله تعالى: (ثم تاب الله عليهم ليتوبوا) Q ما المراد بقوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] هل المراد به التوفيق من الله عز وجل للتوبة؟ A معناه: وفقهم الله تعالى للتوبة وتاب عليهم.

ما يقوله من سمع المترضي على الصحابة الكرام

ما يقوله من سمع المترضي على الصحابة الكرام Q إذا ترضى أحد على أحد من الصحابة فسمعه سامع، فهل يؤمن السامع على هذا الترضي أم يقول هو أيضاً: رضي الله عنه؟ وهل صيغة الترضي دعاء أم خبر؟ A يقول: رضي الله عنه. وهذه الجملة هي دعاء، ومثلها (رحمه الله) و (غفر له).

حكم الاستياك في مجالس العلم

حكم الاستياك في مجالس العلم Q هل الاستياك في مجلس العلم سنة أم يخالف الأدب؟ A الاستياك سائغ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستاك بحضرة أصحابه، وقد بوب بعض أهل العلم لذلك بقوله: (باب استياك الإمام بحضرة رعيته)، وقالوا: إن هذا ليس من الأشياء التي يتنزه عنها وتستقذر ولا تفعل إلا في الغيبة ولا تفعل أمام الناس، بل هو من التطيب ومن الشيء الذي فيه تطيب، ففعله بحضرة الناس سائغ ولا بأس به. ولكن لا نقول: إن فعله في ذلك المكان سنة.

المقصود بالزهد في الثناء

المقصود بالزهد في الثناء Q ذكر القحطاني في نونيته أن الزهد زهدان: زهد عن الدنيا وزهد في الثناء، فما المقصود بذلك؟ A لا شك أن ذلك كله من الزهد، أي: كون الإنسان يزهد في ثناء الناس، فلا يشغل نفسه بثناء الناس عليه أو بتحري ثناء الناس عليه، فلا شك أن ترك ذلك من الزهد. ولـ ابن القيم كلام جميل حول الزهد في الثناء، ذكره في كتاب (الفوائد) عندما ذكر الإخلاص، فعند ذكره ما يسهل لك الإخلاص قال: أن تعمد إلى الطمع وتذبحه بسكين اليأس، ثم تزهد في الثناء والمدح زهد عشاق الدنيا في الآخرة. يعني بذلك كونهم زاهدين في الآخرة وهم مشغولون في الدنيا. فإن قلت: فما الذي يسهل علي ذلك؟ قلت: أن تعلم أن ما من شيء يحصل من الناس إلا وعند الله خزائنه وبيد الله مفاتيحه. إذاً: المسألة كلها ترجع إلى الله عز وجل، ولكن المقصود من هذا كونه يزهد في ثناء الناس وفي مدح الناس، ولا شك أن هذا من الزهد، والإنسان الذي يريد ذلك فإنه يحصل منه أمور، وقد يحصل منه تصنع من أن أجل أن يحصل على هذا الشيء الذي يرغب فيه، فيجعله ذلك يعمل الأعمال التي تجعلهم يثنون عليه ويحققون له ذلك الشيء الذي يريده.

حكم شراء المزكي الزكاة من الفقير بعد دفعها إليه

حكم شراء المزكي الزكاة من الفقير بعد دفعها إليه Q هل يجوز للمزكي أن يشتري زكاته بعدما أعطاها الفقير؟ A ليس له أن يشتريها، وذلك للحديث الذي فيه: (لا تشتره ولو أعطاكه بدرهم) لأن مثل ذلك وسيلة إلى كون الفقير يتساهل معه، فلا يحرص على أن يأخذ حقه منه لأنه تصدق عليه، فيكون ذلك وسيلة إلى كون الفقير يستحي ويتساهل مع من أعطاه إياه أو من وصل إليه من طريقه.

درجة حديث: (من صلى أربعا قبل الظهر وأربعا بعدها دخل الجنة)

درجة حديث: (من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها دخل الجنة) Q ما صحة الحديث الذي فيه أن من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها دخل الجنة؟ ومتى يكون وقت هذه الأربع يوم الجمعة؟ A ورد في هذا المعنى حديث صحيح. وأما الجمعة فليس لها سنة قبلها، والسنة أن الإنسان إذا جاء يوم الجمعة فإنه يصلي ما أمكنه أن يصلي ثم يجلس، ولا يقوم إلا للصلاة كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون، فإنهم كانوا إذا دخلوا صلوا عند دخولهم ما أرادوا أن يصلوا، إما ركعتان أو أربع أو ست أو ثمان، ثم يجلسون ولا يقومون إلا للصلاة. لكن ليس لها راتبة قبلها كالظهر، نعم هي لها راتبة بعدها لكن ليس لها راتبة قبلها.

حكم البيات في مكة بعد طواف الوداع

حكم البيات في مكة بعد طواف الوداع Q من طاف طواف الوداع للحج ثم بات في مكة وسافر في اليوم الثاني فهل طوافه صحيح؟ A ليس بصحيح، وعليه أن يعيد، وعليه دم.

حكم نسيان التشهد الأول

حكم نسيان التشهد الأول Q نسيت التشهد الأوسط الأول في الصلاة، ثم تذكرت في الركعة الأخيرة، فأتيت بالتشهد الأول ثم زدت التشهد الثاني، فهل عملي صحيح؟ A معنى هذا أنك جلست جلوساً طويلاً، بعضه للتشهد الأول وبعضه للثاني، وهذا غير صحيح، فالتشهد الأول محله قبل الثالثة، سواء أكانت رباعية أم ثلاثية، فإن أتى به في وقته ومحله فذاك، وإن تجاوزه فإنه يسجد للسهو عنه.

حكم صيانة أجهزة البنوك الربوية

حكم صيانة أجهزة البنوك الربوية Q أنا صاحب شركة لصيانة الكمبيوترات، وأحياناً يؤتى إلي بكمبيوترات للصيانة من البنوك الربوية التي توجد في بلدي، فهل يجوز لي صيانتها وأنا أعلم أنهم يستخدمونها في بنوك ربوية؟ A الكمبيوتر في الحقيقة من الأمور المشكلة فيما يتعلق بالعمل؛ لأن من الناس من يستعمله في الخير ومنهم من يستعمله في الشر، فكون الإنسان لا يعمل إلا في أمور يطمئن إليها لا شك أنه هو المطلوب، فإذا كان يعرف عن أحد من الناس أنه يستعمل الكمبيوتر أو الراديو ونحوهما فيما لا يجوز فلا يصلح له جهازه.

طالب العلم والزواج

طالب العلم والزواج Q إذا كان طالب العلم متفرغاً لطلب العلم، وعلم أنه إن تزوج انشغل عنه بأمور البيت والرزق، فهل يكون تركه للزواج زهداً؟ A الزواج لا ينافي طلب العلم، بل قد يكون معيناً على طلب العلم، وعليه أن يتزوج ويعف نفسه ويتعلم، ولا يزهد في الزواج، بل الزواج مرغب فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).

حكم المبيت في مكة بعد طواف الوداع

حكم المبيت في مكة بعد طواف الوداع Q لقد طفنا طواف الوداع وبتنا في مكة يومين بسبب أننا فقدنا جماعتنا، فماذا علينا إن لم نجد دماً؟ A على كل منكم دم، فمن لم يجد فعليه أن يصوم عشرة أيام؟

قطوف من حياة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى

قطوف من حياة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى Q نسمع كثيراً عن زهد سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز رحمه الله، وقد كان لكم صحبة طويلة له، فهلا تفضلتم بذكر شيء من سيرته في ذلك لتكون مثلاً لطلاب العلم، لاسيما مع حرص بعضنا على الدنيا؟ A الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان غنَّي النفس، ومع غنى النفس يكون الشيء القليل كثيراً، ومع عدم غنى النفس لا يعتبر الكثير شيئاً، بل تكون يد الإنسان ملأى ولكن في قلبه البخل والطمع. والشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه عرف عنه أن كل ما يقع بيده لا يبقى عنده منه شيء، فهو كثير الإنفاق في سبيل الله، وكثير المساعدات للمسلمين والمحتاجين في داخل المملكة وخارجها، وأظن أن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه ليست المعلومات عنه يختص بها أحد دون أحد، فالكل يعرفه، والكل يعرف زهده ويعرف حرصه على نفع المسلمين، ويعلم أن ما بيده فهو للمسلمين، وأنه ينفق في سبيل الله، ولا يعتني بمصالحه ومنافعه الخاصة، وإنما كان حرصه على نفع الناس من المحتاجين والمعوزين، سواء أكانوا من طلبة العلم أم من غير طلبة العلم في داخل المملكة وخارجها، فإذا استطاع بنفسه فعل، وإذا لم يستطع فإنه يشفع عند من يستطيع أن يفعل ومن يقدر على الفعل.

حكم قص شعر البنت الصغيرة

حكم قص شعر البنت الصغيرة Q ما حكم قص شعر البنت الصغيرة؟ A إذا كان في ذلك مصلحة، وكان من الصعب خدمة شعر رأسها فقص شعرها لكونها صغيرة، حتى إذا كبرت خدمته هي أو خدمها غيرها فلا بأس بذلك.

حكم التنفل يوم الجمعة بعد الجلوس في المسجد

حكم التنفل يوم الجمعة بعد الجلوس في المسجد Q إذا صلى الرجل يوم الجمعة ما شاء الله له ثم جلس فهل لا يجوز له بعد تلك الصلاة أن يصلي نافلة؟ A لا نقول: لا يجوز. وإنما نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا إذا دخلوا يصلون ما أمكنهم، ثم يجلسون ولا يقومون إلا للصلاة. لكن من العلماء من يقول: إن للإنسان أن يتنفل بعد الأذان الأول؛ لأنَّ ذلك يدخل تحت حديث (بين كل أذانين صلاة)، وإن كان المعروف أن المراد بالأذانين الأذان والإقامة، لكن الأذان الذي زاده عثمان رضي الله عنه وأرضاه لا ينكر على من فعله، وتركه أولى.

الفرق بين الزهد في الدنيا والزهد فيما عند الناس

الفرق بين الزهد في الدنيا والزهد فيما عند الناس Q قوله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا) وقوله: (فيما عند الناس) أليساهما بمعنى واحد؛ إذ أن ما عند الناس هو الدنيا؟ A الزهد في الدنيا غير الزهد فيما عند الناس، الزهد فيما عند الناس خاص؛ لأنه زهد فيما في أيديهم، فلا يطلبه منهم، ولا يشغلهم فيه. وأما الزهد في الدنيا فإنه عام يدخل تحته كل ما يشغل عن الله عز وجل، ويدخل فيه أيضاً الزهد في المديح والزهد والثناء، فالزهد في الدنيا عام، ولا يقال: إن هذا مثل هذا. بل يدخل في الزهد في الدنيا الزهد فيما في أيدي الناس، فالاستغناء عما في أيدي الناس هو من الزهد العام.

حسن الظن بالناس والدعاة

حسن الظن بالناس والدعاة Q هل الأصل في الناس حسن الظن بهم؟ وما هو الأصل في الدعاة؟ A الأصل أن الإنسان يحسن ظنه بالناس، إلا إذا عرف عن أحد انحرافاً وخروجاً عن هذا الأصل، فعندئذٍ إذا ظن به سوءاً يكون ظنه في محله؛ لأن الله قال: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] فبعض الظن إثم وليس كل الظن إثماً.

المرأة على النصف من الرجل في العتق

المرأة على النصف من الرجل في العتق Q كيف تكون المرأة على النصف من الرجل في العتق؟ A ورد في الحديث: (من أعتق عبداً كان فكاكه من النار، ومن أعتق جاريتين كانتا فكاكه من النار) فمعناه، أن عتق العبد أفضل من عتق الجارية؛ لأن عتق الإنسان من النار يكون بعتق جاريتين، وإذا عتق عبداً كان فيه عتقه من النار، فمعنى ذلك: أن المرأة على النصف من الرجل في العتق.

حكم الدخول في الجمعيات التعاونية

حكم الدخول في الجمعيات التعاونية Q هل للإنسان أن يتورع عن الدخول في الجمعيات التعاونية أو يسأل عن تصرف المشاركين معه في مال الجمعية إذا كان يظهر عليهم علامات الفسق؟ A إن كان المقصود بالجمعيات التعاونية ما اشتهر اليوم بين الناس، حيث يجتمع أفراد ليدفع كل منهم مبلغاً معيناً في كل شهر مثلاً، وفي كل مرة يأخذ المبلغ المجتمع أحدهم، فلا شك في أن التورع عن هذا مطلوب؛ إذ في ذلك خلاف بين أهل العلم، وذلك لأن كل واحد من المجموعة يقرض الآخر ليقرضه، فالتورع عن هذا مطلوب، وفي الحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

حكم شراء المشروبات الأمريكية

حكم شراء المشروبات الأمريكية Q يقول بعض الأساتذة: لا تشربوا الكولا أو الببسي؛ لأنهما من منتجات أمريكا. فما حكم ذلك؟ A يقال: هل لا يرد إلينا من أمريكا إلا الببسي والكاكولا؟ فما الفرق بينهما وبين بقية المنتجات؟! أما من ناحية كون ذلك مشتبهاً فالأصل هو إباحة كل شيء غير مسكر.

حكم قول (قاتلك الله)

حكم قول (قاتلك الله) Q ما حكم قول: قاتلك الله؟ A ليس للإنسان أن يقول هذا الكلام.

تحذير من الوقوع في بدع التكفير والخروج على الحكام

تحذير من الوقوع في بدع التكفير والخروج على الحكام Q نرغب في إسداء كلمة توجيهية توضح أن من أسباب وقوع الشباب في بدعة التكفير والخروج على الحكام زهدهم في الأخذ عن العلماء، مع ربط ذلك بأسلافهم الذين خرجوا على عثمان وعلي رضي الله عنهما بسبب عدم التربية على علم الصحابة رضي الله عنهم؟ A الواجب على الجميع شباباً وشيوخاً وصغاراً وكباراً أن يتفقهوا في دين الله عز وجل، وأن يعرفوا أحكام الإسلام، وأن يرجعوا إلى أهل العلم في معرفتها، وأن لا يركبوا رءوسهم ويشغلوا أنفسهم بأمور لا يعرفونها ولا يقدرون عليها، بل كل يرجع فيه إلى أهله، كما أنه في الطب يرجع إلى الأطباء، وفي الهندسة يرجع إلى المهندسين، فالرجوع فيما يتعلق بالدين إلى أهل العلم، والله عز وجل يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. والتفقه في دين الله عز وجل ومعرفة الحق والهدى عن طريق أهله لا شك أنه هو المطلوب. وأما كون الإنسان يركب رأسه، ويفهم الشرع فهماً خاطئاً كما فعل الخوارج الذين خرجوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا أمر غير صحيح، ولهذا لما ذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما وناظرهم رجع كثير منهم بعد بيانه. فالحاصل أن الإنسان الذي لا يكون عنده بصيرة ولا فقه يخطئ ويركب الشطط والخطأ، وإنما يحصل له التثبيت وتحصل له السلامة بالرجوع إلى أهل العلم، والتفقه في دين الله عز وجل.

حكم تشقير المرأة حاجبيها

حكم تشقير المرأة حاجبيها Q ما حكم صبغ شعر الحاجبين للمرأة بما يسمى تشقير الحاجبين؟ A هذا من جنس النمص؛ لأن المطلوب من النمص يحصل بهذا الذي يسمونه التشقير، وهو أن المرأة تضع صبغة مماثلة للون البشرة، بحيث تُرى الحواجب كأنها قد نمصت.

حكم صبغ شعر المرأة

حكم صبغ شعر المرأة Q ما حكم صبغ شعر المرأة؟ وهل صبغها له يعتبر ناقضاً للوضوء؟ A إذا كان الصبغ بمادة لها جرم فلا يجوز استعماله، وهو مثل الذي يوضع على الأظافر ويسمونه المناكير، فهذا لا يجوز استعماله؛ لأنه لا يصل بسببه الماء إلى البشرة، ومن شرط الوضوء أن يصل الماء إلى البشرة. أما إذا كان الصبغ يغير اللون فقط ولا يكون منه شيء يغطي الشعر، مثل الحناء الذي يغير اللون ولا يغطي الشعر فإن هذا لا بأس به. ومهما يكن من شيء فالسواد الذي هو الغالب على شعور النساء هو المطلوب، وهو اللون المستحب بالنسبة للشعر، فبعض النساء قد ترغب في أن تغير اللون الأسود إلى ألوان غير مستحسنة، لاسيما مثل ألوان شعور الأوروبيين التي أشكالها سيئة وليست جميلة، بل إنما هي قبيحة، والأوروبيون أنفسهم بشرتهم لا تعجبهم، ولهذا يحرصون على تغييرها، فيتعرون ويسيرون في الشمس لعلها تغير اللون الذي هم فيه، وتجد بعضهم على الرمال يتقلبون عليها يريدون اللون الذي ما حصل لهم وقد حصل للعرب ولكثير من الناس، ومع ذلك فالناس الآن يتركون الشيء الجميل ليحصلوا ما ليس بجميل. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[29]

شرح الأربعين النووية [29] جاءت الشريعة برفع الضرر عن الناس ومنع الإضرار بهم، وقد قعد الفقهاء لذلك قواعد شرعية عظيمة، ومن رفع الضرر عن الناس أنه لا يعطى الحق لمدعيه دون بينة، بل الأصل براءة ساحة المدعى عليه حتى يثبت عليه الحق، ولذا قبلت الشريعة منه يمينه دفعاً للتهمة الموجهة إليه إن لم يثبت الحق عليه.

شرح حديث (لا ضرر ولا ضرار)

شرح حديث (لا ضرر ولا ضرار) يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار)]. هذا الحديث حديث عظيم مشتمل على كلمات فيها نفي الضرر والضرار، وهو من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل على قاعدة من قواعد الشريعة، وهي رفع الضرر والضرار، وهو خبر بمعنى النهي، أي: النهي عن الضرر والضرار.

معنى الضرر والضرار

معنى الضرر والضرار الضرر والضرار قيل: إنَّ معناهما واحد، وإن الثاني تأكيد للأول. وقيل: إن بينهما فرقاً، فالضرر هو ما حصل بقصد أو بدون قصد. فمن الأشياء التي يحصل الضرر بها من غير قصد أن يكون الإنسان عنده -مثلاً- شجر يسقيه، فيتسرب الماء من تحت الجدار إلى الجار فيتضرر به الجار، ففاعله ما كان يدري بهذا الضرر الذي قد حصل وما كان يقصده، فهو ضرر من غير قصد. فإن علم به ولم يسع إلى إزالته فحينئذٍ يكون الضرر بقصد؛ وأما الضرار فقد يحصل من الجانبين، بأن يسعى كل من الطرفين إلى الإضرار بصاحبه ووصول الضرر إليه، وقد يكون من جانب واحد، وذلك بأن يقصد المرء الإضرار بغيره، كما جاء في القرآن الكريم، وذلك كالإضرار بالوصية بأن يوصي وصية يريد بها الإضرار بالورثة، ولهذا جاء في القرآن: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:12].

الأمر برفع الضرر

الأمر برفع الضرر الحديث مشتمل على قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة، وهو خبر بمعنى الأمر، والأمر قد يأتي بمعنى الخبر، كما أنَّ الخبر قد يأتي بمعنى الأمر، ومن الأول ما جاء في حديث أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله تعالى عنه: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فإن مما قيل في قوله: (فاصنع) أنه أمر بمعنى الخبر، ومعنى ذلك أن الإنسان الذي لا يستحي فإنه يصنع ما يشاء، فهو أمر بمعنى الخبر، وليس المقصود بالأمر ظاهره. وهنا خبر بمعنى الأمر، ومعناه النهي عن الضرر والضرار، ومثله قول الله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة:197] فهو خبر بمعنى النهي عن الرفث والفسوق والجدال، يعني: فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل. وهنا قوله: (لا ضرر ولا إضرار) يعني: لا يحصل منه ضرر ولا يحصل منه إضرار. فهو نهي عن الضرر ونهي عن الضرار. والحديث يدل على رفع الضرر والضرار، وعلى أن الواجب على المسلم ألا يحصل منه ضرر ولا ضرار لغيره، بل يحرص على ألا يحصل الضرر منه لا بقصد ولا بغير قصد.

شرح حديث ابن عباس في البينة على المدعي واليمين على المنكر

شرح حديث ابن عباس في البينة على المدعي واليمين على المنكر يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)]. ذكر الإمام النووي أن هذا الحديث رواه البيهقي بهذا اللفظ، أي بلفظ: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، قال النووي: وبعضه في الصحيحين، فقد جاء في الصحيحين: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن اليمين على المدعى عليه) هكذا عند البخاري وعند مسلم، فأكثره في الصحيحين، وإنما الذي ليس في الصحيحين جملة (البينة على المدعي). وجاء في الصحيحين -أيضاً- ذكر البينة على المدعي، وذلك في حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه: أنَّه وقع خلاف أو خصومة بينه وبين ابن عم له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينتك أو يمينه) يعني: عليك البينة، فإن أتيت بها وإلا فلك يمينه. فقوله: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) هذا هو لفظ البيهقي، وقد جاء عنده بعدة ألفاظ منها هذا اللفظ. وقول النووي: [وبعضه في الصحيحين] لعله يشير إلى الحديث الذي فيه: (اليمين على المدعى عليه) فرواية الصحيحين (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن اليمين على المدعى عليه) معناها: أن أكثر الحديث في الصحيحين، لكن ليس فيه هذه الجملة، وهي (البينة على المدعي). لكنها -كما قلت- موجودة في الصحيحين من حديث الأشعث بن قيس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينتك أو يمينه)، وفي بعض الألفاظ: (شاهداك أو يمين)، لكن لفظ البينة أعم من الشاهدين؛ لأنها تشمل كل ما يبين الحق من شهود وقرائن وغير ذلك.

بيان معنى المدعي والمدعى عليه والأثر المترتب على ذلك

بيان معنى المدعي والمدعى عليه والأثر المترتب على ذلك والمدعي هو الذي إذا سكت ترك، والمدعى عليه هو الذي إذا سكت لم يترك، بمعنى أن المدعي صاحب الحق لو أنه لم يطالب فإنه لا يقال له: لا بد من أن تطالب، بل له أن يطالب وله أن لا يطالب، فإذا سكت ترك. لكن المدعى عليه إذا سكت لا يترك، بل المدعي يلاحقه ويطالبه، فسكوته -أي: المدعى عليه- لا يحصل تركه به، وإنما الذي إذا سكت ترك هو المدعي، فليس لأحد أن يلزمه ويقول: لا بد من أن تخاصم، ولا بد من أن تدعي على فلان بكذا وكذا. فهو إن طالب أقام الدعوى وطلب منه الشهود، وإن لم يطالب فإنه يترك، لكن المدعى عليه لا يترك لو سكت؛ لأنه مدعى عليه، فيطلب منه الحق إن أقر، وإن لم يقر وحصل الشهود فإنه يلزم بدفع الحق، وإن لم يكن هناك شهود فإنه يطلب منه اليمين. وهذا الحديث حديث عظيم، وهو أصل في باب القضاء، وهو مرجع للحكام وطريق للحكم، وذلك أن القاضي يطالب المدعي بالبينة، وإذا لم يستطع إقامة البينة فإنَّه يطلب من المدعى عليه أن يحلف، فإن حلف برئت ساحته من الدعوى أمام القضاء، وإن لم يحلف قضي عليه بالنكول، وإذا نكل عن اليمين قضي عليه وألزم. فالدعوى إذا أقيمت على المدعى عليه إن اعترف فحينئذٍ لا يحتاج إلى شهود أو يمين؛ لأن المدعى عليه اعترف وأقر، فإذا حصل منه الإقرار فإن الحق ثابت عليه بإقراره، وإن أنكر ولم يقر طلب من المدعي البينة، والبينة هي أي شيء يبين الحق ويوضحه ويدل عليه من شهود أو قرائن أو غير ذلك. فإن أتى المدعي بالبينة حكم على المدعى عليه وألزم بدفع المدعى بناء على البينة التي أقامها المدعي، وإن لم يكن هناك بينة ولم يحصل الإقرار من المدعى عليه فعند ذلك يطلب من المدعى عليه اليمين، فإن حلف برئت ساحته أمام القضاء من الدعوى، فلا يطالب بعدها بشيء. وإن لم يحلف ونكل عن اليمين حكم عليه وألزم بدفع المدعى عليه؛ لأنه ما دافع عن نفسه باليمين، بل امتنع من اليمين، فتعين عليه المدعى، وعليه أن يقوم بدفعه.

مواضع الاستثناء من كون البينة على المدعي

مواضع الاستثناء من كون البينة على المدعي يستثنى من كون المدعي يكون عليه البينة بعض المواضع، ففي بعض الأحيان لا يحتاج إلى بينة، فالمدعي لا يحتاج إلى بينة إذا كان الحق لا يعرف إلا من طريقه، مثل المرأة المعتدة بالأقراء -وهي الحِيَضُ- إذا أخبرت بأنها خرجت من العدة؛ لأن هذا لا يعرف إلا من طريقها، وليس عليها أن تقيم بينة، بل هذا شيء لا يعرف إلا من طريقها. ومثل الصبي إذا ادعى أنه بلغ بالاحتلام؛ لأن هذا لا يعرف إلا من طريقه، فإذا قال: إنه بلغ بكونه حصل له الاحتلام، فإنه يعتبر بالغاً ولو لم يكن له خمس عشرة سنة. ومثل المودع الذي هو أمين إذا أخبر بأن الأمانة التي عنده اعتدى عليها اللصوص وسرقوها، أو أنه اعتدي عليه وأخذت منه، فإنه يصدق ولا يحتاج إلى إقامة بينة؛ لأنه أمين، والأمين مصدق فيما يقول، نعم إن عرف منه تفريط في حفظ الأمانة، وأنه مخل بذلك فإنه يؤاخذ بإخلاله بحفظ الأمانة. أما إذا لم يحصل منه إخلال بالمحافظة على الأمانة ولكن جاء لصوص وسرقوها منه وادعى أنها سرقت منه فإنه يصدق بذلك. فالحاصل أن الأصل أن البينة على المدعي، ولكنه في بعض المسائل يصدق بدون بينة فيما إذا كان ذلك لا يعرف إلا من طريقه.

معنى قوله: (لو يعطى الناس بدعواهم)

معنى قوله: (لو يعطى الناس بدعواهم) قوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم) معناه: لو كانت القضية قضية دعوى لأمكن كل من يريد أن ينال من إنسان أو يأخذ شيئاً من إنسان أن يدعي بأن له عند فلان كذا، أو أن فلاناً هو الذي قتل أباه أو قتل ابنه، أو ما إلى ذلك من الدعاوى، لكن لا يعطى الناس بدعواهم، ولا يعطى الرجال بدعواهم، وإنما لابد من البينة على المدعي، إلا في الأمور التي أشرنا إلى أنها مستثناة من كون المدعي عليه البينة، وذلك في الأمور التي لا تعرف إلا من طريق المدعي، وقد ذكر العلماء جملة منها وما سبق ذكره هو من أمثلتها.

مفهوم لفظ الرجال في قوله: (لادعى رجال)

مفهوم لفظ الرجال في قوله: (لادعى رجال) قوله: (رجال) لا مفهوم له؛ لأن النساء كذلك يمكن أن يدعين، فإذاً لا مفهوم لذكر الرجال هنا، وإنما ذكر الرجال لأن الغالب هو أن يكون الخطاب مع الرجال، وإلا فإن النساء مثل الرجال أيضاً، فيمكن أن تدعي المرأة دماً أو مالاً. إذاً: لو كان مجرد الدعوى معتبراً لأمكن كل أحدٍ أن يدعي أموال ودماء الناس، لكن هناك شيء يفصل، وهو البينة التي يحضرها المدعي، وإن لم يحصل إقراراً من المدعى عليه فإن الأمر ينتهي إلى أن يحلف المدعى عليه وتبرأ ساحته، وإن لم يحلف ونكل قضي عليه بالنكول. فقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) حديث عظيم، وأصل في باب الحكم وفي باب القضاء والفصل بين الناس، وهو منهج واضح جلي بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم.

طلب البينة في الأمور الدينية

طلب البينة في الأمور الدينية كما أن البينة تكون مطلوبة في أمور الدنيا فإنها مطلوبة في أمور الدين، وذلك أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام لا تقبل دعواه دون أن يقيم البينة، والبينة هي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن ادعى محبة الله ورسوله فالبينة التي تدل على صدقه أن يكون متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون سائراً على نهج الرسول عليه الصلاة والسلام، هذه هي البينة، ليس كل من يدعي أنه محب للرسول صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً في ذلك؛ لأن من الناس من يدعي محبته صلى الله عليه وسلم، وعلامتها عنده ارتكاب أمور مبتدعة، أو أمور محرمة غير سائغة مستنده فيها دعواه أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يأتي بالبدع، فيأتي -مثلاً- يتمسح بالجدران التي عند قبره، ويقول: أنا أحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يعصي الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فهذه ليست علامة المحبة. يحتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا أحبه. وهذه ليست علامة المحبة، فالمحبة هي الاتباع، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] وهذه الآية يسميها بعض العلماء: آية الامتحان والاختبار، وهي أن من يدعي محبة الله ورسوله عليه أن يقيم البينة، والبينة هي الاتباع {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] فالبينة والعلامة على محبته للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون متبعاً له، سائراً على نهجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وعلى هذا فإن الدعاوى بدون بينات لا عبرة بها ولا قيمة لها، وإنما المعول عليه في الدعاوى هو البينات التي يأتي بها المدعي، فإذا أتى المدعي بالبينة على دعواه فعند ذلك تكون الدعوى صحيحة ويكون صادقاً فيما يقول، وأما إذا كانت الدعوى مجرد كلام ولم يأت بالبينة فيما يتعلق بأمور الدنيا -وهي الشهود وغير ذلك مما يثبت به الحق- وكذلك -أيضاً- في أمور الدين، حيث يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مخالف لمنهجهه وطريقته وسنته صلى الله عليه وسلم فإن هذه مجرد دعوى ولا عبرة بها، وإنما تكون الدعوى معتبرة إذا أقيمت البينة على ذلك، والبينة على ذلك هي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. فقوله: ((فَاتَّبِعُونِي)) هذا هو الدليل على صدق المحبة، فإذا وجد الاتباع فإن الدعوى قد أقيمت عليها البينة، وإن وجدت الدعوى ولكن وجد ما يخالفها ووجدت معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن هذا ينافي المحبة، ولا يكون الإنسان صادقاً في دعواه بأنه يحب الرسول صلوات وسلامه وبركاته عليه. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

ما يفعله القاضي إذا ثبتت البينة وحلف المدعى عليه منكرا

ما يفعله القاضي إذا ثبتت البينة وحلف المدعى عليه منكراً Q إذا ادعى شخص دعوى وأتى بالبينة، وحلف المدعى عليه منكراً، فكيف يحكم القاضي في هذه الحالة؟ A المدعى عليه لا تطلب منه اليمين إلا إذا فقدت البينة، فإذا لم توجد البينة فعند ذلك يطلب من المدعى عليه أن يحلف، أما إذا وجدت البينة فلا يطلب من المدعى عليه الحلف، ولو حلف المدعى عليه بدون استحلاف فإنه لا عبرة بهذا الحلف؛ لأنه لا يحلف إلا إذا استحلف، وهو إنما يستحلف إذا عدمت البينة. فالقاضي عندما يأتيه الخصوم يبدأ أولاً في معرفة كون المدعى عليه مقراً أو منكراً، فإن كان مقراً بالحق انتهى الأمر؛ لأن الإقرار لا حاجة إلى شيء وراءه، فمادام أن المدعى عليه مقر فقد انتهت الدعوى، ويطلب منه دفع الحق إلى المدعي. أما إذا أنكر فإنه يطلب من المدعي أن يأتي بالبينة، فإن أتى بالبينة حكم بها على المدعى عليه، وألزم بدفع الشيء المدعى، فإن لم يأت المدعي بالبينة عند ذلك يطلب من المدعى عليه أن يحلف، فإن حلف برئت ساحته، وإن لم يحلف وامتنع من الحلف ونكل عن اليمين قضي عليه بالنكول وألزم بدفع الشيء الذي ادعي عليه؛ لأنه ما برأ ساحته باليمين.

حكم اليمين إن كان صاحبها فاجرا

حكم اليمين إن كان صاحبها فاجراً Q إذا كان المدعى عليه فاجراً لا يخاف الله عز وجل، فهل يعتمد على يمينه؟ A إذا لم تكن هناك بينة فليس للمدعي إلا اليمين.

معنى البينة

معنى البينة Q ما معنى البينة؟ A البينة هي كل شيء يبين الحق ويظهره ويدل عليه، وتكون بالقرائن والعلامات التي تدل على ذلك، ولـ ابن القيم كتاب اسمه (الطرق الحكمية) مخصص للطرق التي يحصل بها الحكم، سواءٌ حصل بالشهود أو بالفراسة أو بالقرائن، وهو من أحسن ما كتب في الطرق التي يحكم بها، ومنها الفراسة ومعرفة المحق من المبطل. كما جاء في الصحيحين في قصة امرأتين إحداهما كبرى والثانية صغرى، وكان لكل واحدة منهما ولد، فجاء الذئب وأخذ ولد الكبيرة منهما، فادعت الكبيرة أن الذي مع الصغيرة هو ولدها، وكانت كل واحدة تقول: إنه ولدها. فالكبيرة تقول: إنه ولدها. والصغيرة تقول: إنه ولدها. وكل واحدة تقول: إن الذئب أخذ ولد الثانية. فاحتكمتا إلى نبي الله سليمان عليه السلام فقال: ائتوني بسكين. فقالتا: ماذا تعمل بها؟ قال: أقسمه بينكما. فقالت الكبرى: نعم شقه بيننا. وقالت الصغرى: يرحمك الله! هو ولدها. فعرف أن الكبرى كاذبة لأنها لن تخسر فقده، وعرف أن الصغرى أمه، فقضى به للصغرى. فهذا مما يبين الحكم، وهو من البينة؛ لأن البينة قد تكون بأمارات وقرائن وقد تكون بشهود، فهذا أبان أن الولد للصغرى لا للكبرى؛ لأن الأم لا تريد أن يقتل ابنها، بل أرادت أن يبقى حياً ولو كان عند غيرها. وأما تلك فإنها لا تبالي بقتله؛ لأنه ليس ولداً لها. فعرف عليه الصلاة والسلام أن هذه أمه وأن تلك ليست أمه. وقد بوب على هذا بعض العلماء بقوله: (باب إذا قال الحاكم: أفعلُ كذا وهو لا يريد أن يفعل من أجل أن يستظهر الحق) وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في مقدمة الكتاب قصصاً كثيرة من الفراسة، ومن فراسة القضاة التي بها يستظهرون ويعرفون المحق من المبطل.

حكم اعتبار البصمات والتحليلات الطبية في الإثباتات

حكم اعتبار البصمات والتحليلات الطبية في الإثباتات Q هل تعتبر البينة بالبصمات والتحليل والتشريح ونحو ذلك من الأمور العصرية؟ A هذه قرائن، والقرائن إنما يستأنس بها ويوجه الاتهام بها، لكنها لا تكفي في الحكم. أما التصوير فليس كل تصوير صحيحاً؛ إذ هناك ما يسمى اليوم بالدبلجة، حيث يتم بواسطتها إظهار الصورة على خلاف الواقع، فلا يصح اعتبار التصوير.

استثناء القسامة من كون البينة على المدعي

استثناء القسامة من كون البينة على المدعي Q ما وجه الاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة)؟ A القسامة من جملة الأشياء التي تستثنى من كون اليمين على المدعي عليه، فاليمين هي في الأصل على المدعى عليه، وفي القسامة على المدعي وليست على المدعى عليه. فيبدأ القاضي بالمدعين ويطلب منهم الأيمان الخمسين، بأن يحلف خمسون منهم، وذلك لوجود اللوث الذي هو بينة ناقصة أو قرينة تدل على أن المدعى عليهم يحتمل أن يكون مرتكبين للجريمة وأن الحق عليهم، فوجود اللوث -وهو كون القتيل موجوداً بين أظهرهم أو قريباً منهم- شبهة في كونهم القاتلين، وحينئذٍ يحلف المدعون خمسين يميناً، فلا يحلف المدعى عليهم، وإنما توجه اليمين إلى المدعين لأنه وجد عندهم شيء يقوي جانبهم. وذلك مثله أن يوجد شاهد واحد، فإنه يطلب من المدعي أن يحلف، ويكون ذلك مضموماً إلى تلك البينة الناقصة التي هي شاهد واحد.

ثبوت القول والفعل بالشهادة

ثبوت القول والفعل بالشهادة Q إذا شهد رجلان على رجل بأنه قال كلاماً ما، وحلف هذا الرجل أنه ما قال هذا الكلام، فكيف يتعامل مع مثل هذه القضية؟ A المدعى عليه لا يحلف إلا إذا لم توجد البينة، أما إذا وجدت البينة فإنه لا يقبل قوله إلا إذا كان الشهود مجروحين، إذا كان الشهود مجروحين بأن أتى بشيءٍ يجرحها فعند ذلك لا تعتبر شهادتهم؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، فالقدح في الشاهد قدح في شهادته، كما أن القدح في الصحابة قدح في الكتاب والسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول. ولهذا يقول أبو زرعة الرازي: إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والكتاب حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: الذين يقدحون في الصحابة- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة. يعني: أنه قدح في الناقل وقدح في المنقول، فإذا كان المدعى عليه قدح في الشهود، وكان قدحه معتبراً فعند ذلك يكون وجود شهادتهم مثل عدمها.

معنى عدالة الشهود في باب القضاء

معنى عدالة الشهود في باب القضاء Q إذا كان لابد من اشتراط عدالة الشهود فما هو نوع العدالة؟ وهل هي ما قرره علماء الحديث في قبول حديث الرجل، أو يكتفى بأن يعرف الرجل بالأمانة وما أشبه ذلك؟ A إذا لم يعترض المدعى عليه على شهادة الشاهد، ولم يذكر شيئاً يجرحه به، أو زكي الشاهد من قبل أناس يعرفونه ولم يعترض المدعى عليه؛ فحينئذٍ يعمل بالشهادة.

لزوم عودة طلبة العلم إلى العلماء لأخذ الدليل عند خفائه عليهم

لزوم عودة طلبة العلم إلى العلماء لأخذ الدليل عند خفائه عليهم Q يحدث الخلاف بين طلبة العلم في المسائل المختلف فيها، فيطلب أحدهما من الآخر أن يأتي بالبينة -أي: بالدليل- فيقول الآخر: بل أنت الذي تأتي بالدليل. فمن المطالب بالدليل؟ A إذا كان الأمر غير واضح بين طلبة العلم؛ فإن عليهم أن يرجعوا في ذلك إلى أهل العلم ليبينوا لهم الحق في هذه المسألة، والقول الراجح فيها، والدليل على ذلك.

استثناء أهل الصلاح والتقى من كون البينة على المدعي

استثناء أهل الصلاح والتقى من كون البينة على المدعي Q إذا ادعى شخص على آخر دعوى ولم يأت بالبينة، فهل يجوز للمدعى عليه أن يرفع دعوى من أجل اتهامه له بغير بينة؟ A ذكر العلماء أن اليمين على المدعى عليه مطلقاً، ومن العلماء من قال: إنه يستثنى من ذلك ما إذا ادعي على أهل الصلاح والتقى من قبل بعض أهل الفساد، فلا يقبل كلام هؤلاء ليحلف المدعى عليهم؛ لأن ذلك فيه إهانة لأهل الصلاح، وقد يقصد بعض الفساق الإضرار بالأخيار فيدعون عليهم دعاوى؛ فيترتب على ذلك أنهم يستحلفونهم. فمن العلماء من قال: إن هذا يستثنى من مسألة كون اليمين على المدعى عليه، لا سيما في الأمور التي لا تليق بذلك المدعى عليه.

حكم تحليف المدعى عليهم عند قبور الأولياء ومشاهدهم

حكم تحليف المدعى عليهم عند قبور الأولياء ومشاهدهم Q ما حكم تحليف المدعى عليهم عند قبور الأولياء ومشاهدهم لإثبات الحق عليهم؟ A هذا العمل لا يجوز؛ لأن معناه أنه تعظيم للقبور، وهذا إنما يحصل من المفتونين بالقبور والذين يغلون في أصحاب القبور. وقد يقال: إن ذلك قد تحفظ به حقوق الناس؛ إذ إن المدعى عليه لو طلب منه اليمين عند المنبر في بيت الله لحلف كاذباً، لكن إذا طلب منه اليمين عند من يعظمه في قلبه من أصحاب القبور؛ فإنه لا يجرؤ على أن يحلف كاذباً، ومن ثم تؤدى الحقوق. وأقول: إنَّ هذا أشد وأعظم سوءاًَ، فإذا كان المكان الفاضل ليس له اعتبار عنده وهو يرى الشيء الذي لا يجوز هو المعتبر، فمعنى ذلك أن الأمر قد انتكس وانقلب، وفاعل هذا من جنس أولئك الذين إذا حُلَّفوا بالله سهل عليهم الحلف، وإذا حُلَّفوا ببعض المخلوقين الذين يعظمونهم صعب عليهم أن يحلفوا، ويمتنعون عن الحلف، فيكون الحلف بغير الله أعظم من الحلف بالله عند هذا الذي يكون بهذه المثابة، والعياذ بالله. فمثل هذا الفعل لا يجوز، حتى وإن قيل: إنه قد تحفظ به الحقوق، فلا يجوز الحلف بغير الله تعالى ولا عند القبور.

ترك التحاكم إلى من لا يحكم بشريعة الله تعالى

ترك التحاكم إلى من لا يحكم بشريعة الله تعالى Q بلدنا لا يحكم حكامه بشرع الله، فإذا تحاكمت إلى قوانينهم لا يعطونك الحق وإن كنت على بينة، ولو حلفت لهم فإنهم لا يعتبرون بحلفك، خاصة إذا رأوك ملتزماً بالسنة، فأنا لا أريد أن أتحاكم إليهم، فهل يعتبر ذلك خروجاً عن طاعة ولاة الأمر؟ A إذا كنت مدعياً فالمدعي هو الذي إذا سكت ترك، وكيف يكون خروجاً على ولاة الأمر إذا لم تقم دعوى عند المحاكم القانونية الباطلة المحرمة؟! بل لا يجوز لك أن تقيم الدعوى عندها وأن تتحاكم إلى غير ما أنزل الله عز وجل، ومن ابتلي بشيء من هذا فكان مدعى عليه فإنه لا يستطيع الامتناع. وأما إذا كان مدعياً فإنه يستطيع أن يترك، ولا أحد يلزمه بأن يتقدم؛ لأن المدعي إذا سكت ترك، والمدعى عليه إذا سكت لم يترك. فمن ابتلى بدعوى عليه في مثل تلك البلاد فعليه أن يسعى ويحرص على الصلح بينه وبين خصمه فينهيان النزاع بالصلح، أو يتفقان على شخص عنده علم بالشريعة يحكم بينهما ويأخذان بحكمه. هذه هي الطريقة التي على الإنسان أن يسلكها فيما يتعلق بكونه مدعى عليه وليس أمامه إلا محاكم تحكم بغير ما أنزل الله، فإنه يسلك هذا المسلك، إما صلح بينه وبين خصمه، وإما أن يتفقا على تحكيم من عنده علم بالشريعة فيتحاكما إليه وينفذا حكمه.

حكم التحاكم إلى الأعراف القبلية

حكم التحاكم إلى الأعراف القبلية Q ما حكم الحكم بالأعراف القبلية، مثل أن يحكم على شخص بمال تعويضاً عن أي حق؟ الشيخ: الأحكام لا تكون بأعراف قبلية ولا بغير أعراف قبلية، بل الحكم بما أنزل الله هو الحكم الواجب.

الحلف بوضع اليد على المصحف

الحلف بوضع اليد على المصحف Q في بعض البلدان يلزمون حالف اليمين بأن يضع يده على المصحف، فهل هذه الكيفية صحيحة شرعاً؟ A لا أعلم دليلاً يدل عليها، ولكن ينبغي للإنسان أن يحلف بدون أن يضع يده على مصحف.

حلق اللحية وأثره على العدالة

حلق اللحية وأثره على العدالة Q يذكر في كتب الفقه أن حالق اللحية لا تقبل شهادته، فهل حلقها يعتبر مسقطاً للعدالة في الشهود؟ A إذا قدح المدعى عليه في الشاهد بهذا الذي فيه فإن قدحه معتبر، وإذا كان المدعى عليه مثله فليس له الاعتراض عليه؛ لأنها شهادة شخص على شخص من جنسه.

حكم من ثبت عليه سب الله جل جلاله

حكم من ثبت عليه سب الله جل جلاله Q سمعت رجلاً يسب الله عز وجل شأنه -والعياذ بالله- وعندي شهود، فهل أناصحه أم أذهب إلى المحكمة وأشهد عليه؟ A إذا كان ذلك صدر منه متعمداً وليس بسبق لسان، فكونه يرفع أمره إلى المحكمة وإلى الوالي لا شك أنَّه مطلوب. فإذا نصح وقيل له: كيف تفعل هذا؟ وكيف يحصل هذا منك؟ ثم عرف اتصافه بذلك وتكرر ذلك منه فإنه يرفع أمره إلى الحاكم.

إبطال الحلف بالبينة بعد مدة

إبطال الحلف بالبينة بعد مدة Q إذا حلَّف الرجلُ الرجلَ ثم بعد سنة أتى ببينة هل يبطل الحلف؟ A نعم يبطل الحلف؛ لأنه إنما استحلف لكون البنية غير موجودة، فإذا وجدت البينة فإنه يصار إليها، والحق لا يضيع لمجرد الحلف مادام أن البينة على الحق قد ظهرت.

حكم تحليف المرء بشيخه إذا كان لا يتورع عن الحلف بالله فاجرا

حكم تحليف المرء بشيخه إذا كان لا يتورع عن الحلف بالله فاجراً Q عندنا بعض الصوفية لا يتورع عن الحلف بالله أو بكتابه، لكن يتورع عن الحلف بشيخه، فهل يجوز تحليفه بهذه الصيغة: (أستحلفك بالله الذي خلق الشيخ الفلاني)؟ A الله خالق كل شيء، فهو خالق ذلك الشيخ وخالق كل شيء، فإذا كان ذلك يؤثر فيه فهو حلف بالله، والحلف بالله بأي صيغة يصح ويعتبر، فإن كان ذلك يؤثر فيه فليس به بأس.

حكم الترافع إلى المحاكم القانونية عند عدم الوصول إلى الحق بدونها

حكم الترافع إلى المحاكم القانونية عند عدم الوصول إلى الحق بدونها Q إذا لم يرد المدعى عليه الصلح، ولم يلتزم بالتحاكم إلى من عنده علم، ولم يكن للمدعي الوصول إلى حقه إلا عن طريق المحاكم القانونية، فهل يجوز له الترافع إليها؟ A مادام أنها تحكم بغير ما أنزل الله فإنه لا يترافع إليها، لكن يمكن أن يرجع إلى بعض الناس الذين لهم صلة بالمدعى عليه ويطلب منهم أن يتوسطوا بين المدعي والمدعى عليه، بحيث يصيران إلى صلح، أو يصيران إلى تحاكم إلى من يحكم بما أنزل الله.

حكم تناقض شهادة الشاهدين

حكم تناقض شهادة الشاهدين Q إذا تناقضت شهادة الشاهدين، فهل يأخذ القاضي بمثل هذه الشهادة؟ A قضية الشهود ومعرفة كونهم صادقين أو كاذبين يرجع فيها إلى القاضي وفراسته وإلى أمور أخرى، وإذا حصل من أحدهما شيء مخالف فإنه يطلب شاهد آخر.

معنى القسامة

معنى القسامة Q ما معنى القسامة؟ A القسامة هي أن يوجد قتيل بين قوم فيتهمون بقتله فيتبرءون من قتله ويقولون: نحن ما قتلناه. فعند ذلك تكون القسامة، وهي أن يطلب من المدعين أن يحلف منهم خمسون، فإن حلفوا وحصل منهم الحلف جميعاً فإنه يقضى على أولئك ويدفع إلى المدعين الشخص المدعى عليه بعينه فيؤخذ بالقتيل، وإن لم يحلف المدعون خمسون يميناً، فإن المدعى عليهم هم الذين يحلفون وتبرأ ساحتهم بذلك. فالقسامة سميت قسامة لأن فيها هذا النوع من القسم الذي هو خمسون يميناً من المدعين أو المدعى عليهم، والبدء في الحلف إنما هو بالمدعين؛ لأن عندهم اللوث الذي هو القرينة أو البينة الناقصة، فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليهم وسلموا.

حكم قدح المدعى عليه في البينة

حكم قدح المدعى عليه في البينة Q إذا كان المدعي قد جاء ببينة ولكن المدعى عليه أنكر هذه البينة، فهل يستحلف؟ A المدعي إذا جاء ببينة فالمدعى عليه لا يملك إلا أن يقدح في البينة، فإذا قدح في الشهود وكان قدحه معتبراً فإن شهادتهم حينئذٍ وجودها مثل عدمها، وإن كان قدحه غير معتبر فيحكم بشهادتهم على المدعى عليه.

حكم التحاكم إلى المحاكم غير الشرعية

حكم التحاكم إلى المحاكم غير الشرعية Q لو أن شخصاً اعتدى على إنسان وأخذ أرضاً له، فقدم المعتدى عليه شكوى إلى المحكمة غير الشرعية وقدم الأوراق التي فيها أنها أرضه، فما المانع من التحاكم في مثل هذه القضية؛ لأنها ليست مخالفة شرعية، ومعظم البلدان لا يحصل فيها الناس على حقوقهم إلا بهذه الطريقة؟ A إذا كانت المحاكم تحكم بغير ما أنزل الله فقد يكون فيها شيء يخالف ما أنزل الله، ولو حكم فيها بما أنزل الله فإنه لا يكون مقصوداً، وإنما يقع اتفاقاً، ومعلوم أن الحكم بما أنزل الله إنما يكون معتبراً حيث يكون مقصوداً فلو حصل في تلك المحاكم شيء مطابق لما أنزل الله وما كان مقصوداًً فإنَّه مثل الرمية من غير رامٍ.

حكم تخصيص اليمين بالنية في غير مسائل الدعاوى

حكم تخصيص اليمين بالنية في غير مسائل الدعاوى Q ما حكم تخصيص اليمين بالنية في غير مسائل الدعاوى؟ A يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك، وفي الدعاوى والخصومات يصدق الحالف فيما يقول، وتبرأ ساحة المدعى عليه بيمينه.

حكم تأديب المتشاجرين بمال يدفعونه للمسجد

حكم تأديب المتشاجرين بمال يدفعونه للمسجد Q عندنا عادة، وهي أنه لو حصل خصام وتشاجر بين أشخاص في المسجد فإنه يحكم عليهم بمالٍ يدفعونه للمسجد تأديباً على ما فعلوه, فهل هذا جائز؟ A هذا من الحكم بغير ما أنزل الله.

ما يؤخذ من المدعى عليه حال تقديمه البينة على براءته

ما يؤخذ من المدعى عليه حال تقديمه البينة على براءته Q لو كان عند المدعى عليه دليل على عدم فعل الجريمة المتهم بها، فهل يؤخذ به أو يكتفى باليمين؟ A من ادعي عليه بأمرٍ غير صحيح، وعنده شهود يشهدون على أنه بريء من هذا الذي ادعي عليه به، كأن يكون في الوقت الذي وقعت فيه الجريمة ليس موجوداً في البلد ونحو ذلك فإن ذلك يدل على صدقه.

دخول السرعة بالسيارات في الضرر والضرار

دخول السرعة بالسيارات في الضرر والضرار Q هل السرعة بالسيارات تدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)؟ A لا شك أن السرعة من أسباب الضرر على السائق وعلى غيره، فعلى الإنسان أن لا يمشي بالسرعة التي تكون سبباً في إلحاق الضرر به أو بغيره.

حكم ضياع المال من يد أحد الشريكين

حكم ضياع المال من يد أحد الشريكين Q أعمل أنا وشريك لي في محل، فذهبت يوماً لأشتري سلعة فضاع مني المال، فهل أضمن المال أم لا؟ مع العلم بأن هذا المال الذي ضاع هو مال مشترك بيني وبين شريكي؟ A إذا كنت مفرطاً فعليك ضمانه، وإن كنت غير مفرط فلا ضمان عليك؛ لأن الشريك مؤتمن.

حكم طلب القاضي من المدعي الحلف بعد مجيئه بالبينة

حكم طلب القاضي من المدعي الحلف بعد مجيئه بالبينة Q إذا أتى المدعي بالبينة، ثم طلب منه القاضي أن يحلف بعد ذلك، فهل له ذلك؟ A إذا كانت البينة غير كافية، فله أن يحلفه، والبينة غير الكافية مثل الشاهد الواحد، فهو بينة غير كافية، فإذا طلب منه أن يحلف فإنه يحلف، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين.

الفرق بين الضرر والضرار

الفرق بين الضرر والضرار Q ما الفرق بين الضرر والضرار؟ A الضرر يكون بقصد وبدون قصد، ومثال ذلك إنسان عنده جار وله شجر في داره؛ فيسقي شجره فيخرج الماء من تحت الجدار إلى الجار، فيتضرر جاره من غير أن يقصد صاحب الشجر إضرار جاره، فالضرر موجود وقد حصل، ولكنه من غير قصد، وقد يكون الإنسان يعلم بأن الماء يخرج إلى جاره، فيكون بذلك عالماً بهذا العمل الذي يحصل به الضرر، فيكون الضرر مقصوداً. وأما الضرار فإنه قد يكون من الجانبين، بأن يكون كل واحد يضار الآخر ويتبادلان الإضرار فيما بينهما، وقد يكون من جانب واحد ولكنه مقصود.

عبارة: (القانون لا يحمي المغفلين)

عبارة: (القانون لا يحمي المغفلين) Q ما صحة العبارة القانونية: (القانون لا يحمي المغفلين)؟ A القوانين الوضعية لا تحمي المغفلين ولا غير المغفلين.

دخول شرب الدخان في النهي عن الضرر والضرار

دخول شرب الدخان في النهي عن الضرر والضرار Q هل يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) الإضرار بالنفس، وذلك بشرب الدخان أو الشيشة مثلاً؟ A كل ذلك داخل في النهي عن الضرر والضرار.

حالة اعتبار أصل الحديث في الصحيحين

حالة اعتبار أصل الحديث في الصحيحين Q متى يقال: إن أصل الحديث في الصحيحين؟ A إذا كان يوجد معناه أو شيء من لفظه في الصحيحين، بأن يكون أكثره أو بعضه في الصحيحين. وذلك مثل حديث: (لو يعطى الناس بدعواهم) فهو موجود في الصحيحين بدون ذكر البينة على المدعي، بل بلفظ: (لكن اليمين على المدعى عليه) مع كون البينة على المدعي قد جاء معناه في حديث آخر. فما كان موجوداً في الصحيحين ولكن مفرق يقال عنه: أصله في الصحيحين.

حكم التفجيرات في البلاد الإسلامية

حكم التفجيرات في البلاد الإسلامية Q على ضوء حديث: (لا ضرر ولا ضرار) ما حكم التفجيرات التي تقع؟ A من أعظم الضرر والإضرار التفجير في الناس والممتلكات، ومن ذلك التفجير الذي وقع في الرياض قريباً، فهذا من أقبح الإجرام وأعظم الإفساد في الأرض، وذلك لأن الذين فعلوا ذلك جنوا على أنفسهم بأن قتلوا أنفسهم، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30]، ويقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. وأخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن من قتل نفسه بسم أو بتردٍ من شاهق أو بحديدة فإن هذه الأمور الثلاثة يعذب بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، وهذا فيما يتعلق بقتلهم أنفسهم. أما ما يتعلق بقتلهم للمسلمين، فقد قال الله عز وجل فيه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]. وقتلهم للمستأمنين يدل على قبحه وسوئه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة). ثم إنه يترتب على ذلك أن المعاهد الذي له عهد وميثاق لو قتل خطأً فإن الدية تجب لأهله، وتجب الكفارة أيضاً لقول الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92]. ويترتب على ذلك أيضاً إتلاف الأموال، وترويع الآمنين، وترميل النساء، وتيتيم الأطفال، كل هذه مفاسد نتجت وتنتج عن هذا الإجرام الذي هو من أقبح ما يكون من الإجرام، ومن أعظم ما يكون فساداً في الأرض والعياذ بالله.

حكم الفتيا بعدم جواز الإبلاغ بالقائمين بالتفجير إلى الجهات الأمنية

حكم الفتيا بعدم جواز الإبلاغ بالقائمين بالتفجير إلى الجهات الأمنية Q أفتى البعض بعدم جواز الإبلاغ بمن قام بالتفجير لكون ذلك التفجير جهاداً، فما صحة ذلك؟ A هذا جهاد في سبيل الشيطان، والواجب على كل من عرف شيئاً عن هؤلاء المجرمين القتلة أن يتقرب إلى الله عز وجل ببيان حالهم حتى يقضى عليهم ويسلم الناس من شرهم.

مدى صحة امتناع السلف عن الحلف تعظيما لله تعالى

مدى صحة امتناع السلف عن الحلف تعظيماً لله تعالى Q هل صحيح أن بعض السلف كان إذا طلب منه الحلف امتنع تعظيماً لله تبارك وتعالى، ولو كان الحق له؟ A المدعي الذي له الحق إذا سكت ترك، وليس بعد ذلك حاجة إلى تحليفه، ويمكن أن يحلف مع البينة الناقصة وهي الشاهد الواحد، لكن المدعى عليه ليس أمامه إلا الحلف، وإلا فإنه يحكم عليه بالشيء الذي ادعي عليه به.

مراد الشاطبي بعدم تعيين من ابتدع في الدين دون البدع العظيمة

مراد الشاطبي بعدم تعيين من ابتدع في الدين دون البدع العظيمة Q نرجو بيان معنى كلام الشاطبي رحمه الله في الموافقات حيث قال: ينبغي عدم تعيين من ابتدع في الدين، دون البدع العظيمة كالخوارج، وذلك حفظاً للوحدة والألفة والمودة بين عموم المسلمين. انتهى؟ A هذا الكلام يتعلق بالعالم إذا أخطأ وكان فيه شيء من البدعة، فإنه لا يعامل معاملة أصحاب البدع الذين هم مجانبون لأهل السنة والجماعة ومخالفون لأهل السنة والجماعة. يعني: أن من حصل منه شيء من ذلك فإنه يعذر، فلا يبدع ولا يهجر ولا يترك ما عنده من الحق بسبب ما حصل منه من الخطأ. وكم من علماء المسلمين من لا يستغني العلماء وطلبة العلم عن علمهم، ومع ذلك وقعوا في شيء من البدعة، فلو أنهم عوملوا معاملة أهل البدع؛ لم يعول على شيء مما جاءوا به وعلى ما عندهم من العلم. ومن المعلوم أن من العلماء من هو من أهل الحديث وعنده أمور منكرة فيما يتعلق بالعقيدة، كأن يكون عنده تخليط، وقد يكون ابتلي ببعض مشايخه، وغالباً ما يكون الضرر والبلاء على التلاميذ من الشيوخ إذا كانوا منحرفين. فمن كان من أهل العلم بالسنة وحصل منه شيء من الخطأ في العقيدة أو غير العقيدة لا يعامل معاملة أهل البدع كالقدرية والمعتزلة، والرافضة والخوارج، وإنما يؤخذ من علمه ويدعى له، ولا يتابع على خطئه.

[30]

شرح الأربعين النووية [30] الدعوة إلى الله تعالى هي طريق الأنبياء والمرسلين، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لمن يدعو إليه منزلة عظيمة، ومقاماً رفيعاً، وثواباً جزيلاً، بل جعله أحسن الناس قولاً، وجعل طريق الدعوة هي الطريق الأقوم والسبيل الأرشد والصراط المستقيم، وجعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وعلّق هذه الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وتغيير المنكر على درجات حسب الاستطاعة، وحسب ترجح المصلحة وحصول المنفعة، ولا يعذر أحد بترك النهي عن المنكر وإنكاره ولو بالقلب؛ فذلك أضعف الإيمان.

درجات تغيير المنكر

درجات تغيير المنكر يقول الإمام النووي رحمه الله: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. هذا الحديث حديث عظيم فيه بيان درجات تغيير المنكر، وأن الناس فيه ليسوا على حد سواء؛ لأنهم متفاوتون، وأن أعلى درجة للتغيير هي: التغيير باليد لمن قدر على ذلك، فمن لم يستطع فلابد من التغيير باللسان، فمن لم يستطع فلا بد من التغيير بالقلب، وليس هناك شيء أقل من هذا، بل ذلك أضعف الإيمان، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأنه عظيم، وقد جاءت آيات كثيرة وأحاديث عديدة تدل على عظم شأنه، وأمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كانت خير أمة أخرجت للناس؛ وذلك لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ثم إن من لُعن من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم إنما كان بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأنه عظيم في الإسلام؛ وذلك لأن فيه الدلالة على الخير، والتحذير من الشر، وإزالة المنكرات الواقعة، وهذا الحديث بين فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم درجات تغيير المنكر، فقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده). والمنكر: هو المحرم الواضح البين الذي قد علم تحريمه فإن تغييره مطلوب، فمن قدر على تغييره باليد تعّين عليه ذلك، وهذا يكون للسلطان ونواب السلطان في الولايات العامة، ويكون لصاحب البيت في بيته في الولاية الخاصة؛ لأن هؤلاء هم الذين يقدرون على تغيير المنكر بأيديهم، ومن لم يكن من أهل التغيير باليد، وكان من أهل التغيير باللسان بمعنى أنه يتكلم ويبين ويوضح، وينهى عن المنكر ويحذر منه، ويخوف منه، فإن عليه أن يقوم بهذا الواجب، مادام أنه ليس من أهل التغيير باليد، وعنده قدرة على أن يغير بلسانه، بأن يأمر وينهى ويبين، ويوضح ويحذر ويخوف، فإنه يفعل، وإذا لم يقدر على ذلك أيضاً فإن أقل شيء يفعله هو أن يغير بقلبه. والتغيير بالقلب هو: الكراهية مع حصول التأثر، كون الإنسان قلبه يتأثر ويتألم لوجود هذا المنكر وذلك بكراهيته وبغضه وبتأثر القلب بسبب ذلك؛ لأنه ما استطاع أكثر من هذا. قال عليه الصلاة والسلام: (وذلك أضعف الإيمان). يعني: هذا أقل شيء، وهذا يدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، ففيهم من هو قوي الإيمان، وفيهم من هو ضعيف الإيمان، وكما أن حصول الإيمان الناس يتفاوتون في كماله، فهم يتفاوتون في ضعفه. فهم متفاوتون في الكمال، أي: في كمال الإيمان، ومتفاوتون في الضعف، ولهذا قال: (وذلك أضعف الإيمان). يعني: أن من لم يحصل في قلبه شيء من التأثر والكراهية فمعنى ذلك أنه ليس عنده شيء من الإيمان الذي يحصل به أداء هذا الأمر الذي هو أقل شيء، وليس أقل أو أدنى منه. فقوله: (من رأى منكم منكراً) يحتمل أن يكون المراد الرؤية البصرية، بمعنى أنه شاهد المنكر بعينه، فهو يغيره بيده إن كان من أهل اليد، وإلا فيغيره بلسانه إذا لم يستطع تغييره بيده. ويحتمل أن يكون المراد بذلك ما يشمل الرؤية البصرية والرؤية العلمية، بمعنى أنه يعلم ويتحقق عن طريق صحيح أن هناك منكر، وأن المنكر موجود، فإنه يعمل على تغييره بما علمه من حصوله ووجوده، وعلى هذا فلا يكون التغيير خاص بما رآه الإنسان، بل بما علمه ويتحقق علمه، فإن المطلوب منه أن يغيره مادام تحقق وجوده وعلم بذلك، وإن لم يشاهده ويعاينه، وعلى هذا فيكون المراد بالرؤية ما هو أشمل من الرؤية البصرية أي: ما يشمل الرؤية البصرية والرؤية العلمية.

تفسير قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم))

تفسير قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم)) ما جاء في هذا الحديث من الأمر بتغيير المنكر لا ينافي ما جاء في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. فلا يقال: أن بين الآية والحديث تعارض، فالآية فيها: أن الإنسان عليه نفسه، وأنه لا يضره من ضل إذا اهتدى، والحديث يقول: (من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). والمعنى: أنكم إذا أديتم ما عليكم وما هو مطلوب منكم فقد برئت ذمتكم؛ لأنكم قمتم بما هو واجب، والاستفادة والهداية هي بيد الله، والإنسان عليه أن يفعل الأسباب، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن حصل المقصود والمطلوب فهذا هو الذي نريده، وإن لم يحصل فإن الإنسان يكون قد أدى ما عليه، وبرئت ذمته. وعلى هذا فيكون معنى الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. أي: إذا قمتم بما هو مطلوب منكم، فقد أديتم ما عليكم ولا يضركم بعد ذلك ضلال من ضل إذا اهتديتم، قالوا: وفي قوله عز وجل: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) دليل على هذا؛ لأن المهتدي لا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن من الاهتداء أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فتكون الآية هي نفسها دليل على أن الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن الإنسان إذا أدى ما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تحصل الاستفادة بعد ذلك فلا يضره ضلال من ضل؛ لأنه أدى ما عليه، وأرشد إلى ترك الضلال، والأخذ بسبل الهداية، فإذا لم تنفع الموعظة، ولا ينفع التذكير، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحينها يكون المرء قد أدى ما عليه، وليس عليه بعد ذلك من حرج، وإنما يكون عليه الإثم إذا لم يكن أدى ما عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الحاصل: أن هذا حديث عظيم مشتمل على تغيير المنكر، وتفاوت الناس ودرجاتهم فيه، وأنهم ليسوا على درجة واحدة، وأن كل من قدر على درجة منها تعيّن عليه الإتيان بذلك، وليس له أن يترك ما أوجب الله تعالى عليه، وإلا فإنه يكون آثماً إذا ترك ما هو قادر عليه من التغيير باليد، وهو أعلى شيء، ثم التغيير باللسان الذي يليه. ولشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] تحقيقات في مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نذكرها بالنص لأهميتها: قال الشيخ محمد الأمين رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره وابن جرير ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب وأبي عبيد القاسم بن سلام ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن عمر وابن مسعود فمن العلماء من قال: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) أي: أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جداً، ولا ينبغي العدول عنه لمنصف. ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد: أن الله تعالى أقسم أنه في خسر، بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل، وقد دلت الآيات كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر عمهم الله بعذاب من عنده؛ فمن ذلك ما خرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخل عليها فزعاً مرعوباً يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها- فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث). وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) أخرجه البخاري والترمذي. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78 - 81]، ثم قال: كلا والله! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم ليلعننكم كما لعنهم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم ((عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) [المائدة:78] فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، فقال: لا والذي نفسي بيده حتى يأطروهم على الحق أطراً). ومعنى تأطروهم أي: تعطفوهم، ومعنى تقصرونه: تحبسونه، والأحاديث في الباب كثيرة جداً، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله: ((إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] وقوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. وقوله: {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94]. وقوله: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]. وقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. والتحقيق في معناها: أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره، هي: أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب صالحهم وطالحهم، وبه فسرها جم

مسائل تتعلق بالأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

مسائل تتعلق بالأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر الشيخ الشنقيطي مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي:

وجوب اتباع الحق على الآمر والمأمور

وجوب اتباع الحق على الآمر والمأمور المسألة الأولى: اعلم أن كل من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها، وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضاً. أما السنة المذكورة: فقوله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان ما أصابك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. ومعنى (تندلق أقتابه): تتدلى أمعاؤه، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت، فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟!) أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حيان وابن مردويه والبيهقي كما نقله عنهم الشوكاني وغيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن عباس! إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فقال ابن عباس: أوبلغت ذلك؟ فقال: أرجو. قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]. وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] الآية. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه وابن عساكر كما نقله عنهم أيضاً الشوكاني وغيره. واعلم أن التحقيق: أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالماً بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف؛ لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير، ولقد أجاد من قال: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيمُ وقال الآخر: وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريضُ وقال الآخر: فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضاً، فهي قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51]، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فيجب على المذكِّر والمذكَّر أن يعملا بمقتضى التذكرة، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها؛ لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم.

اشتراط العلم في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر

اشتراط العلم في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر المسألة الثانية: يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم يعلم به أن ما يأمر به معروف، وأن ما ينهى عنه منكر؛ لأنه إن كان جاهلاً بذلك، فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، ولاسيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل، وصار فيه الحق منكراً، والمنكر معروفاً، والله تعالى يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فدل على أن الداعي إلى الله لابد أن يكون على بصيرة، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة، وحسن الأسلوب واللطافة مع إيضاح الحق؛ لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده فيما قص الله عنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ورقة بن نوفل: أوَ مُخرجيّ هُم؟! -يعني: قريش- أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما ترك الحق لـ عمر صديقاً. واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص فيه، فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكراً، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطئ منهم معذور كما هو معروف في محله. واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة. أما طريق اللين فهي: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]. ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

عدم جواز النهي عن المنكر إذا أدى إلى مفسدة أكبر

عدم جواز النهي عن المنكر إذا أدى إلى مفسدة أكبر المسألة الثالثة: يشترط في جواز الأمر بالمعروف: ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر، بإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين، قال في مراقي السعود: وارتكب لأخف من ضررينِ وخيرنْ لدى استوا هذينِ ويشترط في وجوبه: مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما يدل له ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]. فقوله صلى الله عليه وسلم: (بل ائتمروا بالمعروف وتناهو عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم). وفي لفظ: (قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم) أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وأبو داود وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال الراوي هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني، وقد سأله عن قوله تعالى: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)): والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بل ائتمروا) إلى آخر الحديث. وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع والهوى المتبع إلى آخره، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف، فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه.

حكم الأمر بالمعروف

حكم الأمر بالمعروف تنبيه: الأمر بالمعروف له ثلاث حكم: الأولى: إقامة حجة الله على خلقه، كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. الثانية: خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف، كما قال تعالى في صالح القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164]. وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]. فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة لكان ملوماً. الثالثة: رجاء النفع للمأمور، كما قال تعالى: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته وأولاده ونحوهم وينهاهم عن المنكر؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر

من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر المسألة الرابعة: اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف: كلمة حق عند سلطان جائر، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز: (أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر) رواه النسائي بإسناد صحيح كما قاله النووي رحمه الله. واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث: الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف؛ لأن ذلك هو مظنة الفائدة. الثانية: ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره وتأدية نصحه لمنكر أعظم، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهية منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان. الثالثة: أن يكون راضياً بالمنكر الذي يعمله السلطان متابعاً له عليه، فهذا شريكه في الإثم، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا. ما أقاموا فيكم الصلاة) أخرجه مسلم في صحيحه. فقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كره). يعني: بقلبه ولم يستطع إنكاراً بيد ولا لسان فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بها وتابع عليها فهو عاص كفاعلها. ونظيره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). وقوله في هذه الآية الكريمة: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) صيغة إغراء يعني: الزموا حفظها، كما أشار له في (الخلاصة) بقوله: والفعل من أسمائه عليك وهكذا دونك مع إليك انتهى. هذا هو كلام شيخنا: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في المسائل المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك في كتابه أضواء البيان عند قول الله عز وجل في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].

الأسئلة

الأسئلة

عدم إثارة الفتنة عند إنكار المنكر

عدم إثارة الفتنة عند إنكار المنكر Q جاء في صحيح مسلم سبب رواية حديث أبي سعيد الخدري: أنه عندما بدأ الخليفة مروان بالخطبة يوم العيد، أنكر عليه رجل واعترض عليه، ودافع عنه أبو سعيد الخدري وحدث بهذا الحديث, فهل في هذا ما يدل على الإنكار على الولاة علانية؟ A هذا المنكر حصل علانية، وظن أبو سعيد رضي الله عنه والرجل الذي معه أن مروان قد نسي أن الصلاة قبل الخطبة، فذكروه، ولكنه كان قاصداً لذلك وعازماً على أن يخطب قبل أن يصلي, فتركوه وشأنه بعد أن أدوا ما عليهم, ومن المعلوم أن الذي حصل أمر منكر فنبه عليه، ولكنه لما لم يستجب ما خرج أبو سعيد وترك المكان وقال: أنا أغادر المكان لأن هذا أمر منكر, بل جلس ولم يغادر، وهذا يدل على أن تقديم الصلاة ليس بشرط وليس بأمر لازم, وأن صلاتهم مع تقديم الخطبة صحيحة، وإن كانت على خلاف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سعيد رضي الله عنه لم يخرج ويترك المكان بسبب حصول مخالفة للسنة، بل بقي مما يفيد أن هذا الذي فعله مروان لا يؤثر في صلاة العيد، ولا يكون مخلاً لها؛ لأن ذلك ليس شرطاً، وليس بلازم.

حرمة الاستهزاء بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر

حرمة الاستهزاء بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر Q ماذا نقول لمن يتكلم عن رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويقول: إنهم (شركة صلّوا)؟! A هذا من الاستهزاء، ومن تكلم بهذا الكلام القبيح فإنما يجني على نفسه، وتعود مضرته عليه، وغالباً أن الذي يتكلم بهذا الكلام ضعيف الإيمان، وعنده فسق، فالمؤمن لا يقول مثل هذا الكلام, بل يفرح بأعمال الهيئات؛ لأن أعمالهم فيها التعاون على البر والتقوى، والدلالة على الخير، وإعانة الناس على أنفسهم، والناس بحاجة إلى من يعينهم على أنفسهم، وليسوا بحاجة إلى من يضيعهم أو يسعى إلى تضييعهم أو يفرح بضياعهم، ولا يجوز للمسلم أن يحب أن الهيئة لا يحصل منها هذا العمل؛ لأن كراهية الدعوة هذا إنما تحصل من أهل الفساد, فهم الذين يشتهون عدم وجود مثل هذه الدعوة إلى الله ويرغبون في عدم وجودها. وهذا من أقبح الكلام، وفيه استهزاء وتهكم بأولئك الذين يقومون بمهمة عظيمة، كما قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].

وجوب إنكار المنكر على كل مسلم

وجوب إنكار المنكر على كل مسلم Q لا يخفى عليكم أن هذه البلاد لديها رجال يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فهل يجوز لي أن أقول: لا يجب علي تغيير المنكر؛ لأن الدولة وضعت رجالاً لذلك؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم) وهذا لفظ عام، والناس يتفاوتون، ولا شك أن من المخاطبين: السلطان ونواب السلطان ومنهم: (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والأمراء, والولاة على نواحي معينة الذين أُنيط بهم مهمات على نواحي خاصة وبلاد خاصة, فعليهم أن يقوموا بهذه المهمة، ولا شك أنهم يملكون التغيير باليد، وكذلك أيضاً صاحب البيت يملك التغيير باليد؛ لأنه راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، ويستطيع أن يغير بيده؛ لأن بيته داخل تحت ولايته وهو يتصرف في داخل بيته بالأمر والنهي ومنع المنكر وإزالته من البيت، وليس الأمر خاصاً بالهيئات، أما التغيير باليد فلا يملكه إلا من له الولاية كالسلطان أو نواب السلطان كالهيئات, وأما التغيير باللسان فيمكن للمسلم أن يغير بلسانه, ويمكن يقول: يا أخي اتق الله! هذا الفعل لا يجوز. وهكذا.

حرمة إنكار المنكر إذا أدى إلى مفسدة أكبر

حرمة إنكار المنكر إذا أدى إلى مفسدة أكبر Q من لم يكن من أهل تغيير المنكر باليد، لكن إذا غيره بيده يزال المنكر ولا تحصل مفسدة أكبر, فهل يجوز له أن يغير بيده؟ A كون الإنسان يغير بيده وهو ليس من أهل الولاية فهذا مظنة أن يحصل شيء لا تحمد عقباه ويمكن أن يكون هذا الذي يريد أن يغيره يضر به؛ وعثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ومن ليست له ولاية على أمر فإن دخوله فيه لتغييره يمكن أن يؤدي إلى أن يقابل بخصام ومضاربة، ثم يترتب على ذلك مفسدة لهذا الإنسان.

من لم يمكنه التغيير بلسانه فعليه الإنكار بالقلب

من لم يمكنه التغيير بلسانه فعليه الإنكار بالقلب Q هل التغيير باللسان لكل أحد؟ A لا, ليس لكل أحد، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ومن لم يستطع فبقلبه) أي: أخبر أنه قد لا يستطاع التغيير باللسان.

النوم عن الصلاة دائما ليس حجة لصاحبه

النوم عن الصلاة دائماً ليس حجة لصاحبه Q نحن طلبة في الجامعة نسكن في السكن الجامعي, وكثير من الطلبة لا يصلي صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأن هذين الوقتين يحصل فيهما النوم, فبعض الطلبة يحتج أنه إذا كانت الغرفة لا يسمع فيها النداء للصلاة فهو معذور، ومنهم من يقول: إنني مسافر ولست مقيم, فكيف ننصحهم مع العلم أنهم يغضبون ويحتجون بهذه الحجج, وكيف نرد عليهم؟ A هذه حجج واهية ساقطة, وهل المسافر لا يصلي صلاة الجماعة؟! ألم تشرع الجماعة في شدة الخوف والكفار يقاتلون المسلمين؟! فيقوم الإمام بتقسيم الناس إلى مجموعتين ويصلون صلاة الخوف، فإذا لم تسقط الجماعة في الخوف, فكيف يقال: إن الإنسان المسافر الذي يقيم مدة طويلة لا يقال: إنه مسافر, فما الفرق بينه وبين أهل البلد؟ إلا أن هذا عند أهله وهذا ليس عند أهله، وإلا فإن الراحة والطمأنينة والاستقرار موجود، وليس هناك حل وارتحال وتعب ونصب, فيكون هو وزميله ممن هو من أهل البلد سواء من حيث انعدام المشقة، وحالة السفر هذه غير واردة، ولا يقال فيها: إن الإنسان مسافر، وإنما حكمه حكم المقيمين، ويجب عليه ما يجب على المقيمين، وعليه إذا سمع النداء أن يجيب, أما أن يزعم أنه لا يسمع الأذان، فهذا كما هو معلوم من التفريط، والإنسان لو كان عنده موعد طائرة في ساعة معينة فهل ينام ويترك موعد الطائرة؟ لا، بل سيكلف من ينبهه، وهكذا في الصلاة يجب عليه أن يطلب من أحد أصحابه أو جيرانه بأن يدق عليه الباب أو ينبهه, أو يأخذ ساعة ويجعلها على الوقت المعين الذي يريد أن يستيقظ فيه، كما لو كان له موعد مع إنسان فإنه يجعل منبه الساعة على الوقت المعين بحيث تدق ويقوم. إذاً: على الإنسان أن يحافظ على صلاته وأن يأخذ بالأسباب، وحتى لو لم يسمع وهو نائم فعليه أن يجعل المنبه يدق قبيل الآذان حتى يتمكن من القيام والوضوء والذهاب إلى المسجد.

معنى الكفر البواح

معنى الكفر البواح Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً)؟ A الكفر البواح أي: الواضح الجلي الذي ليس فيه إشكال، قال: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، أي: كفر واضح، وليس شيئاً محتملاً أو فيه شك.

معنى قوله: (إلا أن تروا منهم كفرا بواحا)

معنى قوله: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً) Q ما معنى ربط الإنكار بالرؤية في قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً) ولماذا ربطها بالرؤية؟ A معناه: أن يراه الناس بالمشاهدة أو يرونه بالعلم؛ لأن الرؤية تكون علمية أو نظرية، والمعنى هنا: تروا أي: تعلموا، والمقصود: أن يكونوا متحققين من وقوعه.

الأصل في النصيحة أن تكون سرا

الأصل في النصيحة أن تكون سراً Q إذا طلب مني شخص أن أنصحه أمام الناس فهل أفعل؟ A كون الإنسان ينصح أمام الناس فما هي فائدته؟ إنما الفائدة تتعلق بأن ينصحه بينه وبين نفسه, أما النصح أمام الناس فهذا يعني أنه يجاهر الناس لكي يعلموا ما فيه من سوء، وهذا غير سائغ وغير لائق، ولا أدري ماذا يقصد بكونه يطلب النصيحة أمام الناس, ولعله يريد أن يدبر له مكيدة, فيأتي الناصح لينصحه أمام الناس، فيقوم المنصوح بالتشويه بالناصح ومقابلته بالكلام السيئ كونه نصحه علانية.

أعمال الجوارح دليل على وجود التقوى أو انعدامها

أعمال الجوارح دليل على وجود التقوى أو انعدامها Q يحتج بعض الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا)، بأن ذلك دليل على عدم وجوب القيام ببعض الطاعات كإعفاء اللحية أو تقصير الثوب؟ A إذا وجدت التقوى في القلب ظهرت على الجوارح، مثلما جاء في الأثر الذي أشرت إليه: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال)، أما كون الإنسان يقول: التقوى هاهنا، وليس عنده تقوى، فهذه تصير دعوى، والدعوى تحتاج إلى بينة، والبينة هنا هي الاستقامة وظهور التقوى، أما أن يقول: التقوى هاهنا، ثم بعد ذلك يترك ما هو واجب عليه فهذا يدل على عدم حصول التقوى.

حكم إنكار الأمور المشتبهة

حكم إنكار الأمور المشتبهة Q إذا رأى رجل منكراً وهو يعلم أنه منكر، ولكن ليس معه حجة يستطيع أن يستدل بها على تحريم هذا المنكر، فهل له أن يغير أم يُعتبر بمنزلة الجاهل؟ A لا، إذا كان من الأمور الواضحة الجلية التي لا يجهلها أحد، مثل الخمر أو الزنا وما إلى ذلك فهذه كلنا يعرفها؛ لأن هناك أمور مشتهرة لا تخفى على أحد، لكن هناك بعض الأمور التي تخفى، فإذا كان هذا من الأمور الواضحة فعليه أن يبين وأن ينهى، وإذا كانت من الأمور الخفية التي لا يعلم الحق فيها وهل هي منكر أو ليست بمنكر فلا يفعل، وإنما عليه أن يسأل أهل العلم: هل هذا منكر أو ليس بمنكر؟

زوج المرأة يعتبر محرما لأمها وجداتها

زوج المرأة يعتبر محرماً لأمها وجداتها Q امرأة لها بنت، ثم هذه البنت أتت بابنة, فصارت هذه الأم جدة, فهل زوج الحفيدة يعتبر محرماً لأمها؟ A نعم؛ لأنها داخلة تحت أمهات النساء كما قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23]، فهي من أمهات الزوجة، وأمهات المرأة هي أمها وجداتها, فيكون زوج البنت محرماً لأمها ولجداتها؛ لأنهن كلهن أمهات وداخلات تحت قوله: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23].

لزوم إنكار المنكر على الجلساء

لزوم إنكار المنكر على الجلساء Q لي بعض الأقارب والزملاء الذين لديهم ذنوب ومعاصي, فهل يجوز أن آكل معهم وأجلس؟ A نعم, تأكل معهم وتجلس وتنصحهم, أما أنك تأكل معهم وتجلس ولا نصح فهذا غير صحيح.

درجة حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ومعناه

درجة حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ومعناه Q حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) , قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان (صفحة: 135): لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. فما رأيكم؟ A نعم، ولهذا كما عرفنا الجهاد الأكبر هو: جهاد الكفار وليس جهاد النفس, لكن جهاد النفس هو من أسباب إفادة جهاد الكفار؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهد نفسه لا يؤثر في الكفار، وإنما الذي يؤثر فيهم هو الذي يجاهد نفسه، ولكن الجهاد الأكبر لا شك أنه جهاد الكفار وليس جهاد النفس. وقال العجلوني عن الحديث: قال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس: هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن عيلة.

حكم من لا ينكر المنكر

حكم من لا ينكر المنكر Q قلتم حفظكم الله: إن من رأى منكراً ولم يتأثر به، ولم يتحرك قلبه لذلك فليس عنده إيمان, هل هذا يعني أنه كافر؟ A ليس معنى ذلك أنه لا إيمان عنده البتة، ولكن كما جاء في الحديث: (وذلك أضعف الإيمان) فكونه يغير هذا أقل شيء، وإذا كان قلبه ما تأثر ولا تغير فلا يقال: إنه خال من الإيمان بحيث يكون كافراً, ولكن عنده نقص شديد.

تحريم إدخال الدش للبيوت

تحريم إدخال الدش للبيوت Q يوجد في بيتنا دش, فهل علي أن أقطع الأسلاك؛ لأني نصحتهم فلم يسمعوا لي؟ A عليك أن تبذل لهم كل ما تستطيع في الوصول إلى ذلك، ولو بقطع الأسلاك أو بأي شيء يمكنك، وإذا كنت تقدر فافعل ولا تتأخر.

تحريم النغمات الموسيقية في التلفون الجوال

تحريم النغمات الموسيقية في التلفون الجوال Q لا يخفى عليكم المنكر الذي عم وطم -خاصة في هذا المسجد المبارك- من النغمات الموسيقية التي تصدر من الجوالات, فهل من كلمة؟ A هذا في الحقيقة من الأمور المنكرة, أولاً: الموسيقى في أي مكان ليس للإنسان أن يستمع لها، فكيف في المساجد التي هي محل ذكر الله؟ فالإنسان عليه أن لا يجعل هذه النغمة موجودة في هاتفه بحيث إذا دق عليه ظهر هذا الصوت السيئ, بل يكون الصوت ليس فيه شيء من الموسيقى، ولكن أيضاً مع هذا عندما يدخل المسجد عليه أن يغلق الجوال, حتى هذا الصوت الذي يدق ويشغل الناس ولو كان ليس بموسيقى فهو لا ينبغي أن يوجد، وإنما الإنسان عليه إذا دخل المسجد أن يغلق الجوال أو يجعله على الصامت إذا كان يريد أن يعرف من يتصل به، ولا يجعل صوت الجوال مفتوحاً والناس في صلاة فيشوش عليهم، فهذا غير سائغ، وأسوأ من ذلك إذا كان الصوت بهذه الصفة المذكورة في السؤال. الحاصل: أن على الإنسان عندما يكون معه الجوال ويدخل المسجد أن يقفله أو يجعله على الصامت الذي لا يظهر معه صوت، وأما من ناحية كونه يجعل فيه النغمة الموسيقية, فهذا لا يصلح ولا يسوغ له أن يجعل ذلك لا في المسجد ولا في غير المسجد, ولا يليق بالإنسان أن يجعل الصوت الذي يدق به تلفونه عند الاتصال به هذا الصوت الموسيقي, وكما هو معلوم أنه في المسجد أسوأ وأسوأ، وهو لا يسوغ لا في المسجد ولا في غير المسجد.

النهي عن المنكر ليس مقيدا في مكان معين

النهي عن المنكر ليس مقيداً في مكان معين Q هل علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر عندما نجد في الطريق رجلاً مسبلاً وآخر يدخن وثالث حالق للحيته فيجب علي أن أنصح هؤلاء؟ A ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه) , فإذا كنت تستطيع أن تغير باللسان فعليك أن تنصح.

[31]

شرح الأربعين النووية [31] أعظم عُرى الإسلام هي الحب في الله والبغض في الله، والمحبة والإخاء والترابط بين المسلمين من أعظم ركائز هذا الدين، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما يكدر صفو الأخوة الإيمانية من التحاسد والتباغض والتناجش والاحتقار وغيرها، ونهى عن التعدي على حرمات المسلمين، فكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه.

شرح حديث: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا)

شرح حديث: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا) يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم. هذا حديث عظيم من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فقد اشتمل على عدة أمور: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا) فهو نهي عن التحاسد، والحسد: هو أن يتمنى زوال النعمة عن غيره، وسواء تمنى أن تصل إليه أو تخرج من غيره وإن لم تصل إليه، فكل ذلك من الحسد المذموم الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (لا تناجشوا) النجش: هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وله وجهان: إما أنه يريد أن يحسن إلى البائع بإكثار النقود له، أو يسيء إلى المشتري بزيادة السعر عليه فيتضرر بذلك، وهذا هو النجش الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. أي: إذا كانت السلعة تباع بالحراج أو بالمزاد العلني وكان للإنسان حاجة فيها وهو يريد شراءها فله أن يزيد، وإن كان لا يريد شراءها، فإنه يتركها ولا يفعل الزيادة من أجل أن ينفع إنساناً ويضر إنساناً آخر. قوله: (ولا تباغضوا)، أي: لا تأخذوا بالأسباب التي تؤدي إلى البغضاء والعداوة وتنافر القلوب وتباعدها، وحصول الجفوة والتباعد بين المسلمين، بل عليكم أن تأخذوا بأسباب المحبة والمودة، وبما يجلب الوفاق والوئام، حتى لا يكون بدلاً من ذلك الخصام والنزاع والصراع. قوله: (ولا تدابروا)، أي: أن كل واحد يدبر عن الآخر ولا يريد أن يلقى صاحبه ويسلم عليه ويتحدث معه، وإن لقيه فكل واحد منهما يولي دبره صاحبه؛ لما بينهما من الشحناء والتباغض، فالواجب على كل واحد منهما أن يسعى إلى التقارب والتآلف، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. قوله: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) وذلك بأن يبيع رجل سلعة على آخر بثمن معين، وكان في مدة خيار يمكنه أن يبقي العقد ويمكن أن يفسخه، فيأتي إليه شخص آخر عنده سلعة ويقول للمشتري: اترك هذه السلعة وافسخ هذا البيع، وأنا عندي لك سلعة مثلها بأرخص منها، فلو اشتريت هذه السلعة بمائة ريال، فأنا أبيعك إياها بخمسين ريالاً أو بستين ريالاً، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا هو بيع المسلم على بيع أخيه المسلم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وكونوا عباد الله إخواناً) أي: أن هذه الأمور التي مرت والتي جاء النهي عنها تنافي مقتضى الأخوة، بل على المسلمين أن يكونوا إخوة متآلفين متحابين، لا يتحاسدون ولا يتباغضون، ولا يسعى بعضهم إلى أن يظلم أحداً بزيادة في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، وكذلك التدابر، وهو أن يلتقيا فيولي كل واحد منهما صاحبه دبره، لا يريد أن يلقاه لما بينهما من الوحشة والعداوة. قوله: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه) أي: من مقتضيات هذه الأخوة أنه لا يعمل معه عملاً يكون ظالماً له فيه، بأي نوع من أنواع الظلم، وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فمقتضى الأخوة ألا يحصل الظلم منه لأخيه، بل عليه أن يسلمه من ظلمه وألا يصل إليه ظلمه، وإنما يصل إليه منه العدل والإحسان، وقد جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟! قال: تمنعه من الظلم)، فشأن المسلم أنه لا يظلم أخاه المسلم. قوله: (ولا يخذله) أي: لا يترك نصرته وهو قادر على نصرته. فنصرته مظلوماً بأن يكون عوناً له على خصمه لمنع الظلم عنه، وأما إن كان ظالماً فنصرته بأن يمنعه من الظلم وأن يحول بينه وبين الظلم؛ لأنه بذلك يحسن إلى المظلوم بأن يخلصه من ظلم الظالم، ويحسن إلى الظالم بأن يمنعه من الظلم ويحول بينه وبين الظلم، فيكون في ذلك أفاده بسلامته من الظلم الذي هو خطير وعظيم عند الله. قوله: (لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه) أي: لا يكذب عليه إذا حدثه بحديث، وإنما يصدقه الحديث إذا حدثه. قوله: (ولا يحقره)، وهذا من مقتضيات التكبر والاستكبار، هو الذي يحصل معه الاحتقار.

معنى كون التقوى محلها القلب

معنى كون التقوى محلها القلب قال: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات) معناه: أن التقوى تكون في القلوب، وإذا كانت التقوى في القلوب ظهرت على الأعضاء، كما جاء عن بعض السلف: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال)، وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). والتقوى محلها القلب كما قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فأضاف التقوى إلى القلوب، وكذلك في حديث أبي ذر (الحديث القدسي): (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل)، فأضاف التقوى إلى القلب، كما أضاف الفجور إلى القلب في مقابله، حيث قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم).

تحريم التكبر واحتقار المسلمين

تحريم التكبر واحتقار المسلمين قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) , يعني: لو لم يحصل له من الشر غير أن يحقر أخاه المسلم لكان كافياً, والاحتقار نتيجة للاستكبار ونتيجة للترفع والتعالي، بل على الإنسان أن يوقر الكبير ويرحم الصغير ولا يحتقر أحداً من الناس؛ لأن الاحتقار فيه كفر النعمة التي أنعم الله بها على الإنسان، وقد يكون الاستكبار مع عدم النعمة, وهذا أسوأ كما جاء في الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله وفيهم: عائل مستكبر)؛ لأن الغنى يكون مظنة الاستكبار, أما إذا كان يستكبر مع العيلة ومع الفقر, فإن ذلك يدل على خبث في النفس؛ لأن أسباب الاستكبار غير موجودة.

حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم

حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم قوله: (كل المسلم على المسلم حرام, دمه وماله وعرضه) , وهذا مما خطب به الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث سأل الناس وهو يخطبهم: أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ أي يوم هذا؟ وفي كلها يقولون: يوم حرام بلد حرام شهر حرام, فقال عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، وهذا يدلنا على خطورة هذه الأشياء وأن الإخلال فيها ضرره كبير وأثره عظيم؛ لأنه اعتداء على الناس في أنفسهم وفي أموالهم وأعراضهم، ولهذا قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).

[32]

شرح الأربعين النووية [32] حديث: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تضمن بيان أن الجزاء من جنس العمل، وفيه الحث على طلب العلم، ومدارسة القرآن، وبيان أن النسب الشريف لا يقدم صاحب العمل السيئ.

شرح حديث (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا)

شرح حديث (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا)

الجزاء من جنس العمل

الجزاء من جنس العمل الحديث السادس والثلاثون من الأحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم]. هذا الحديث عظيم مشتمل على جمل في كثير منها الجزاء من جنس العمل، فأوله قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة). الكربة: هي الشدة والضيق، وهو الكرب العظيم الشديد، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا فالله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومعلوم أنه لا نسبة بين كرب الدنيا وكرب الآخرة، فكرب الدنيا سهلة يسيرة، وليست شيئاً بجانب شدة كرب الآخرة، فمن نفس عن مسلم -بمعنى أنه خفف عنه مصيبته وكربه أو أزاله عنه- فإن الله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا فيه الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل تنفيس كربة في الدنيا، والجزاء تنفيس كربة يوم القيامة. قوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) , المعسر: هو الذي حصل له الإعسار، وهو الضيق في المال؛ وذلك بأن يكون مثلاً عليه دين، فإن كان الدين لغيره فإنه يساعده بإعطائه ما يقضي به دينه، وإن كان الدين له فإنه يبرئه أو ينظره، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280] فبين أن أمام الإنسان طريقين: أحدهما الإبراء، والثاني الإنظار، والإبراء أفضل من الإنظار. والإبراء إسقاط الدين عنه, وأما الإنظار فهو إمهاله إلى أن يوسر، وإلى أن يكون عنده القدرة على التسديد, والجزاء من جنس العمل، وهو أن ييسر الله له في الدنيا والآخرة, جزاء على تيسيره على ذلك المعسر, فالجزاء يحصل في الدنيا؛ وذلك بأن تيسر له أموره ويوسع له في الرزق، وفي الآخرة يحصل له التيسير من الله عز وجل. ثم بعد ذلك قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة). يعني: ستر عيبه الذي علمه عنه، فإن الله تعالى يجازيه بالستر ستراً، فيستره في الدنيا والآخرة؛ وذلك أنه إذا حصل من إنسان خلل أو عيب أو حصل منه معصية فينظر: فإن كان هذا الذي حصل منه ليس معروفاً بالسوء، وإنما هي زلة وسقطة, فإنه في هذه الحالة يستر عليه, وإن كان معروفاً بالفسق والفجور وهو مستمر على ذلك أو مجاهر فالمصلحة في تأديبه وفي إيقاع العقوبة عليه التي يستحقها حتى يسلم الناس من شره. وعلى هذا فالناس ينقسمون إلى قسمين: قسم ليس معروفاً بالفسوق، وليس معروفاً بالمعصية العظيمة. وقسم معروف بها، وقد يكون مجاهراً، وقد يكون مستهتراً، وقد يكون عنده لا مبالاة بالوقوع في المعاصي. فالأول يستر عليه، وقد يكون ذلك تأديباً له بحيث لا يعود، حيث يشكر الله تعالى حين سلمه من أن يفتضح, أما الثاني الذي هو معروف بالفجور وقد تكرر منه ذلك فإن إظهار ذلك وعقوبته العقوبة التي يستحقها من المصلحة له وللمسلمين. قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). هذه جملة عامة، وهي من القواعد الكلية، ومن الكلمات الجامعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي لا تنحصر في شيء معين، بل هي شاملة وواسعة, فكل عون يحصل من المسلم لأخيه فإن الله عز وجل يجازيه بأن يكون في عونه، ومعنى ذلك: أنه كلما كان بهذه المثابة وبهذا الوصف فجزاؤه عند الله عز وجل أن يكون الله تعالى في عونه كما كان في عون أخيه, فالأمور التي تقدمت هي أمور خاصة منها ما يتعلق بالكرب, ومنها ما يتعلق بالستر، ومنها ما يتعلق بالتيسير، وأما هذه فأي عون يكون من العبد فإن الله تعالى يجازيه بالعون عوناً، فيعينه على أمور دينه ودنياه.

فضل طلب العلم

فضل طلب العلم قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). هذا أيضاًً من باب الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل سلوك طريق توصل إلى العلم، والجزاء تسهيل طريق توصل إلى الجنة, وسلوك طريق العلم يكون بالسفر لتحصيله، ويكون أيضاً باتخاذ كل الوسائل التي توصل إليه وإن لم يكن هناك سفر، كأن يلازم مجالس العلم، ويقتني الكتب النافعة والكتب المفيدة لأهل السنة، ويعنى بقراءتها والمذاكرة فيها والتباحث فيها مع زملائه والرجوع فيها إلى مشايخه. والمراد بالعلم هنا العلم الشرعي, علم الكتاب والسنة، وكل ما يسهل الوصول إلى هذين الينبوعين الصافيين: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وتيسير الطريق الموصل إلى الجنة لكونه سلك الطريق الموصلة إلى العلم بالسير إلى الله على بصيرة، وكونه يعبد الله على بصيرة وعلى هدى؛ وذلك إنما يكون بالعلم, والله عز وجل قال في كتابه العزيز: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] فكل إنسان في خسارة, ولا يستثنى من ذلك إلا من آمن إيماناً مبنياً على علم ثم عمل بالعلم، ثم حصل التواصي بالخير؛ وذلك بتعديته إلى الغير, ثم بعد ذلك التواصي بالصبر على ما يحصل في هذا السبيل من العناء والمشقة والنصب فإن ذلك يحتاج إلى صبر. وقوله: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) هذه الجملة واضحة في بيان فضل العلم، وفضل طلب العلم الشرعي, وقد جاءت هذه الجملة أيضاً في حديث عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وهو مشتمل على خمس جمل كلها تدل على فضل العلم, أول هذه الجمل هي هذه الجملة، وهي: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). والجملة الثانية: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) ومعناها: أن الملائكة تحف به وتحيط به؛ وذلك بالرضا بما يحصل منه من العلم ونشر العلم وأخذ العلم. والجملة الثالثة: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) العابد هو الذي يصلي ويصوم، والعالم هو الذي اشتغل بتحصيل العلم الشرعي والعمل به؛ وإنما كان العالم أفضل من العابد لأن علم العالم له ولغيره، ونفعه متعد، وأما العابد فعبادته له وحده, فصلاته له وحده، وصيامه له وحده، ولكن علمه له ولغيره, ولهذا كان العالم أفضل من العابد. والجملة الرابعة: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء). أي أن العوالم العلوية والسفلية كلها تستغفر للعالم، وهذا فضل عظيم يظفر به من وفقه الله عز وجل لأن يكون من أهل العلم بشرع الله، وعالماً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والجملة الخامسة والأخيرة هي: (وإن العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر). وهذه الجملة اشتملت على شيء عظيم، ويكفي أهل العلم شرفاً أن يقال: إنهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم, يرثون عنه الحق والهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، وهو ميراث النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورثون المال، إذا خلفوا مالاً فإنه صدقة ولا يرثه أقرباؤهم، بخلاف غير الأنبياء فإنهم يرثهم أقرباؤهم على وفق ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام المواريث. فالأنبياء إنما يورث عنهم العلم والحق والهدى، والرسول صلى الله عليه وسلم يورث عنه الكتاب والسنة، وهو خير ميراث وأفضل ميراث، وعلى هذا فالأنبياء يختلفون عن غيرهم من البشر من هذه الناحية؛ وذلك أن غيرهم من البشر إذا جمع مالاً ومات فإنه يكون لورثته، وأما الرسل فلو مات أحد منهم وعنده مال فإنه لا يكون لورثته، وإنما هو صدقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لا يورث عنهم المال، ولكن يورث عنهم العلم النافع الذي هو بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم علم الكتاب والسنة. قوله: (فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) أي: من هذا الميراث الذي هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحق والهدى الذي جاء به، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هذه خمس جمل اشتمل عليها حديث أبي الدرداء، والجملة الأولى هي في هذا الحديث الذي معنا الذي في صحيح مسلم , وقد جاءت أحاديث أخرى تدل على فضل العلم، وتحث على تحصيله، منها حديث أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) أي: أن من علامة إرادة الله عز وجل الخير بعبده أن يفقهه في دين الله؛ لأنه إذا فقه في الدين فمعنى ذلك أنه سار إلى الله على بصيرة، ودعا غيره على بصيرة، فيكون هادياً مهدياً، يعرف الحق ويعمل به ويدعو إليه، ويكون علمه وعمله مبنياً على بصيرة وعلى هدى من الله سبحانه وتعالى. وكذلك أيضاً جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه البخاري رحمه الله، وهذا يدل على أن أهل تعلم القرآن وتعليمه هم خيار الناس. وجاء في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، وفي الحديث الذي مر بنا قريباً: (والقرآن حجة لك أو عليك) فهو بمعنى: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).

آداب طالب العلم

آداب طالب العلم العلم لابد فيه من الإخلاص وحسن القصد، ولابد فيه أيضاً من الجد والاجتهاد وبذل النفس والنفيس، وبذلك يحصل العلم, فلا يحصل العلم بالإخلاد إلى الراحة والاشتغال بغيره مما يشغل عنه، وإنما يحصل بالجد والاجتهاد وبذل النفس والنفيس للوصول إليه؛ حتى يعبد الإنسان ربه على بصيرة، وتحصل منه الإفادة له ولغيره، فيكون هادياً مهدياً راشداً مرشداً. فلابد من حسن القصد والإخلاص والصدق في الطلب، ولابد من الجد والاجتهاد، وبذل النفس والنفيس للوصول إلى هذا المقصود العظيم الذي هو علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه, فقد قال يحيى بن أبي كثير اليمامي -كما رواه مسلم بإسناده إليه في صحيحه-: لا يستطاع العلم براحة الجسم. فمن أراد العلم فعليه أن ينصب، وعليه أن يتعب، وعليه أن يشتغل، وأن يبذل من أجل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، يقول الشاعر: الجَد بالجِد والحرمان بالكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل الجَد هو الحظ النفيس, بالجِد الذي هو الاجتهاد والتعب والنصب، فالنتائج الطيبة والثمرات الحميدة تحصل من الجد والاجتهاد، وبذل ما يستطيع الإنسان بذله من أجل الوصول إلى تلك الغاية العظيمة التي هي تحصيل العلم النافع الذي هو علم الشرع, أعني علم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

فضل الاجتماع على القرآن والعلم في المساجد

فضل الاجتماع على القرآن والعلم في المساجد ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). بيوت الله عز وجل هي المساجد، وإضافتها إلى الله للتشريف؛ لأن المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: إضافة أعيان وإضافة معان, فإضافة الأعيان للتشريف، وهي من إضافة المخلوق إلى الخالق, كبيت الله وناقة الله وعبد الله، وإضافة المعاني هي إضافة الصفات كحياة الله وعلم الله وسمع الله وبصر الله وغير ذلك، وهي إضافة صفات، أعني من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف بها. والمساجد هي خير البلاد وأفضل البقاع كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)، فالمساجد هي خير البلاد؛ وذلك لما يكون فيها من العمارة بذكر الله عز وجل، فالمساجد هي محل الطمأنينة، ومحل الذكر، ومحل الصلاة، ومحل العبادة لله عز وجل، ومحل تلاوة القرآن، كل هذه من صفات المساجد، وأما الأسواق ففيها الصخب واللغط، وفيها الخصومات، وفيها السباب والشتائم، وغير ذلك من الأمور التي تحصل في الأسواق. تلاوة القرآن معروفة، ومدارسته تعني معرفة معانيه، وهذا إنما يكون لمن عنده علم بتفسير القرآن بالقرآن وتفسيره بالحديث، وبالآثار عن سلف هذه الأمة. فتلاوته تكون بأن يقرأ واحد والباقون يسمعون، أو يقرءون بالتناوب بحيث يقرأ واحد مقداراً من الآيات والباقون يسمعون ويصححون له، ويقومون نطقه، ويقومون قراءته، ثم ينتقل إلى من بعده، ويكون كل واحد منهم يستفيد من غيره؛ لأنه يتعود كيف يقرأ، ويصحح له خطؤه ولحنه إذا كان يخطئ أو يلحن، وهذه الفوائد تحصل بهذا العمل الذي هو تلاوة القرآن في المساجد وتدارسه. والتدارس يكون بوجود عالم بينهم يبين لهم معاني الآيات التي قرءوها أو التي يمرون بها وهم بحاجة إلى معرفتها أو يشكل عليهم شيء من معانيها، وإذا كانوا من أهل العلم فإنهم يتداركون ذلك ويرجعون إلى كتب أهل العلم المتعلقة بالرواية والدراية في تفسير كلام الله عز وجل. قوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة) يعني: تحصل لهم أمور أربعة بهذا العمل الذي هو قراءة القرآن وتدارسه في المساجد: الأمر الأول: أنها تنزل عليهم السكينة، والسكينة: الطمأنينة والوقار، ففي تلك المجالس الوقار، والطمأنينة، والسكون، وانشراح الصدور، كل ذلك يكون موجوداً لمن يحصل منهم تلاوة القرآن في بيت من بيوت الله. الأمر الثاني: أن تغشاهم الرحمة, أي تشملهم الرحمة وتغطيهم. الأمر الثالث: أن الملائكة تحفهم, أي: تحيط بهم وتحدق بهم؛ وذلك أنهم يبحثون عن مجالس الذكر، وخير الذكر هو قراءة كلام الله سبحانه وتعالى, فيحصل لهؤلاء المجتمعين أن تنزل عليهم السكينة، وكون الرحمة تغشاهم. الأمر الرابع: أن يذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة، أي يذكر الله عباده في الأرض عند عباده في السماء الذين هم الملائكة، كما جاء في الحديث: (ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه). فمن حصل منهم الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد وتدارسه يحصل لهم الثواب والجزاء بهذه الأعمال الأربعة.

من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه

من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) من أخره عمله عن دخول الجنة فليس نسبه هو الذي يسرع به إليها, وإنما العبرة بما يقوم في القلوب وبالأعمال، وليس بما يحصل على الجوارح، وإنما يحصل ذلك بالتقوى والإيمان والعمل الصالح، فمن أخره عمله عن دخول الجنة وبلوغ المنازل العالية فليس نسبه هو الذي يسرع به إليها. نعم النسب إذا جاء مع العلم والعمل الصالح فهو خير إلى خير، ونور على نور، وأما إذا كان بدون إيمان وبدون عمل صالح فإن ذلك لا يفيد شيئاً، كما جاء في هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)؛ لأن العبرة عند الله عز وجل بالتقى والأعمال الصالحة كما قال عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، ويقول الشاعر: لعمرك ما الإنسان إلا بدينه ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب فـ أبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عبد المطلب، وهو من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية النسب، وإلا فإن أهل البيت الذين لهم الفضل هم كل مسلم ومسلمة من نسل عبد المطلب بن هاشم، وكذلك زوجات رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه, هؤلاء هم أهل البيت الذين لهم فضل. ولكن من حيث النسب فعمه أبو لهب من أقرب الناس إليه؛ لأنه أخو أبيه، ومع ذلك فإنه من أهل النار لكفره وعدم إيمانه، وقد أنزل الله عز وجل فيه سورة تتلى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. إذاً: الأعمال الصالحة هي الميزان، وهي المعتبرة في الإسلام؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وليس المعتبر النسب، قال الله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، فالعبرة إنما هي بالأعمال، وليست بالأنساب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). إذاً: النسب بدون عمل صالح لا يفيد صاحبه شيئاً، ولكن كونه يجمع بين النسب الشريف وبين العمل الصالح فيكون قد جمع بين الحسنيين. فقد رفع الإسلام سلمان الفارسي، وهو من الفرس، وليس من العرب، ووضع أبا لهب وهو من بني هاشم، وهو ابن عبد المطلب، وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كفره وعدم إيمانه وضعه؛ ولم يستفد بنسبه شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالأنساب وإنما هي بالأعمال الصالحة وبتقوى الله عز وجل. هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه مشتمل على سبع جمل وهي: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنها بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماًَ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

سبب تخصيص المساجد في الحديث

سبب تخصيص المساجد في الحديث Q ما سبب تخصيص المساجد بالفضل في قوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، والاجتماع قد يكون في مدرسة في جامعة في معهد؟ وهل الفضل خاص بمدارسة القرآن؟ A الأمر يختلف، لكن لا شك أن في المدارس ونحوها خيراً، ولكن هذا الفضل الذي جاء في الحديث خاص ببيوت الله. وقوله: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) تخصيص لمدارسة القرآن، ولا شك أن مدارسة العقيدة والفقه والحديث وأصول التفسير فيها خير, لكن أولئك جمعوا بين الأمرين: تلاوة القرآن وتدارسه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري في صحيحه من حديث عثمان رضي الله عنه. والذي ورد في هذا الحديث خاص بالقرآن، ولكن لا شك أن علم الشريعة والاشتغال بالشريعة خير. وهذا الحديث الذي في صحيح مسلم فيه تخصيص بيت من بيوت الله، ومعلوم أن بيوت الله عز وجل هي محل العبادة، بخلاف الأماكن الأخرى التي يكون فيها اللغط، ويكون فيها الكلام، وأما المساجد فليس فيها إلا ذكر الله، وهي أحب البلاد إلى الله عز وجل كما ورد في صحيح مسلم.

حكم الذكر الجماعي

حكم الذكر الجماعي Q ما حكم ما يقع في بعض البلدان من الذكر الجماعي؟ A والله ما أعلم دليلاً يدل على ما يفعله بعض الناس الذين يجتمعون ويقرءون بصوت واحد قراءة جماعية, وهذه القراءة في الغالب ليس فيها تدبر ولا تأمل، لأن كل واحد يقرأ مع غيره ويحرص على ألا يتأخر وألا يتقدم.

حكم تكرار الطلاب للآية بصوت جماعي

حكم تكرار الطلاب للآية بصوت جماعي Q مدرسو القرآن -خاصة للصغار- قد يطلبون من المجموعة أن يكرروا آية بصوت جماعي، فما الحكم؟ A قضية الأطفال أمرها سهل، وإنما الكلام فيما يفعله بعض الناس الذين ليس عندهم معلم يعلمهم، وإنما يجتمعون ثم يبدءون بصوت واحد من البداية حتى النهاية.

فضل حلقات التحفيظ

فضل حلقات التحفيظ Q هل يدخل في فضل الاجتماع على تلاوة كتاب الله وتدارسه حلقات التحفيظ الموجودة الآن، أو يعتبر من في هذه الحلقات يقرأ لنفسه؟ A إذا كانت هذه الحلقات بهذه الطريقة، كل طالب يسمع له ويصحح له، فيدخلون في هذا الحديث إن شاء الله، ويرجى لهم الخير: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

نزول الملائكة لمن اجتمعوا على دراسة العلوم الشرعية

نزول الملائكة لمن اجتمعوا على دراسة العلوم الشرعية Q نزول الملائكة هل هو خاص بتلاوة القرآن أو يشمل كل علوم الشريعة؟ A يعم مجالس الذكر عموماً، وقد جاء أنهم يطوفون، وإذا وجدوا قوماً يذكرون الله قالوا: هلموا إلى بغيتكم، فيجتمعون عندهم، والذكر أعم من قراءة القرآن.

قراءة القارئ وبقية الحلقة يستمعون لقراءته

قراءة القارئ وبقية الحلقة يستمعون لقراءته Q طريقة التلاوة التي تكون بقراءة واحد والبقية يسمعون, هل وردت عن السلف الصالح؛ لأن بعض أهل البدع يفعلون هذه الطريقة، ثم بعد ذلك يتلون أو يقرءون أوراداً مبتدعة؟ A الأوراد المبتدعة خارجة عما هو مشروع وما هو جائز, وابن رجب ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول لـ أبي موسى أو عقبة بن عامر: اقرأ لنا شيئاً من كتاب الله, وكان شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه في كثير من مجالسه يطلب من واحد أن يقرأ، ثم بعد ذلك يتكلم في معاني تلك الآيات التي قرئت.

حكم تخصيص رمضان بالاجتماع على قراءة القرآن

حكم تخصيص رمضان بالاجتماع على قراءة القرآن Q في بلادنا لا يتدارسون القرآن إلا في رمضان, وأما في غير رمضان فلا يفعلون هذا, فهل الاجتماع في هذا الشهر محظور؟ A لا شك أن شهر رمضان هو شهر القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان، وكان يدارس جبريل القرآن، وكان يعرض عليه كل ما نزل من القرآن مرة واحدة, وفي آخر رمضان من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو رمضان السنة العاشرة- عرضه عليه مرتين, فكون الناس يشتغلون في رمضان بالقرآن، ويكثرون فيه من القراءة؛ هذا شيء طيب، والاشتغال بالقرآن بصفة مستمرة ودائمة أمر مطلوب، ولكن الزيادة في رمضان لا شك أنها مطلوبة.

تفضيل الملائكة على البشر

تفضيل الملائكة على البشر Q في قوله: (ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) أليس فيه دليل على أن الملائكة أفضل من المؤمنين من البشر؟ A ليس فيه دليل؛ لأن المعنى أن الملأ الذي ذكر فيهم الذاكر، ذكره الله في ملأ خير منهم، وهذا لا يعني جنس البشر وجنس الملائكة، ولا يدل على تفضيل هذا الجنس على هذا الجنس، وإنما فيه أن نفس الجماعة الذين ذكر العبد الله عز وجل فيهم, يذكره الله في ملأ خير منهم.

معنى كلام ابن دقيق العيد في شرح: (ذكرهم الله فيمن عنده)

معنى كلام ابن دقيق العيد في شرح: (ذكرهم الله فيمن عنده) Q ما مدى صحة قول ابن دقيق العيد في شرح هذه العبارة: (وذكرهم الله فيمن عنده) قال: يقتضي أن يكون ذكر الله تعالى لهم في الأنبياء وكرام الملائكة؟ A لاشك أن الله يذكره في ملأ من الملائكة، وأما الأنبياء فهم في قبورهم كما هو معلوم، وإن كانت أرواحهم بصور أجسادهم في السماء كما جاء في حديث المعراج، ولكن هذا الحديث هو في الملائكة الذين هم سكان السماوات.

الفرق بين التنفيس والتيسير

الفرق بين التنفيس والتيسير Q هل هناك فرق بين التنفيس والتيسير؟ A التنفيس للكربة، والتيسير في الإعسار يكون غالباً في المال، وأما الكربة فتكون في مصائب وفي أمور عظيمة، وقد يكون من ذلك الإعسار، لكن الكربة أمر أشد من الإعسار.

الرد على من يستدل على جواز الذكر الجماعي بحديث معاوية

الرد على من يستدل على جواز الذكر الجماعي بحديث معاوية Q ذكر ابن رجب في شرح الحديث قال: وفي صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه, فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل ونحمده لما هدانا للإسلام ومن علينا به, فقال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟! قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذاك, قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، إنه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة) , الإشكال: قوله: (جلسنا نذكر الله عز وجل) , هل فيه دليل على جواز الذكر الجماعي؟ A لا، ليس فيه دليل على الذكر الجماعي، ولكن كونهم يشتغلون في علم يشتغلون في تفسير يشتغلون في حديث يشتغلون في عقيدة يشتغلون في تذكير بالآخرة يتذكرون القبر وما يجري فيه مما يكون فيه زاجر للنفوس ورادع لها, فهذا كله يشمله ذكر الله عز وجل.

نصيحة لمن صلى في مسجد يأتون بالأذكار بعد الصلاة بشكل جماعي

نصيحة لمن صلى في مسجد يأتون بالأذكار بعد الصلاة بشكل جماعي Q في بلدنا يأتون بالأذكار التي بعد الصلوات جماعياً، ولا أستطيع أن أنكر عليهم، فهل الأفضل بالنسبة إلي أن أجلس وأتم الذكر في نفسي أم أخرج وآتي بالأذكار في مكان آخر إنكاراً عليهم؟ A تجلس وتذكر الله عز وجل على حدة، ولكن نبههم وأرشدهم وعلمهم.

شرح قول الشاعر: الجد بالجد والحرمان بالكسل

شرح قول الشاعر: الجد بالجد والحرمان بالكسل Q نرجو من فضيلتكم شرح قول الشاعر: الجَد بالجِد والحرمان بالكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل A الجَد: الحظ والنصيب، بالجِد: بالاجتهاد, يعني: يحصل الحظ والنصيب بالجد والاجتهاد، ويقابل ذلك الحرمان فهو يحصل بالكسل؛ لأن الحرمان مقابل الجد الذي هو الحظ والنصيب، والكسل مقابل الجد، فهما شيئان متقابلان: الجَد بالجِد, الحظ والنصيب يحصل بالجد والاجتهاد، والحرمان يحصل بالكسل، والجد هو الحظ كما جاء في الحديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك، وإنما ينفعه العمل الصالح.

قراءة القرآن بدون مدارسة

قراءة القرآن بدون مدارسة Q هل قراءة القرآن بدون مدارسة من السنة؟ A كون الناس يجتمعون من أجل أن يدرسوا القرآن فيما بينهم بحيث يقوم بعضهم بعضاً، ويسدد بعضهم بعضاً، ويعرف الإنسان صحة قراءته من قصورها ومن لحنها؛ مقصد صحيح، وإن لم يكن هناك تدارس فهذا أيضاً مقصد صحيح.

إضافة الأعيان إلى الله

إضافة الأعيان إلى الله Q ألا يقال: إن إضافة الأعيان إلى الله عبارة عن إضافة مربوب ومخلوق، وإضافة المربوب والمخلوق قد تكون للتشريف كناقة الله وبيت الله وقد لا تكون كأرض الله؟ A غالباً أن الإضافات الخاصة كبيت الله وعبد الله وناقة الله للتشريف.

تخصيص جزاء تنفيس الكربة بيوم القيامة

تخصيص جزاء تنفيس الكربة بيوم القيامة Q لم خص الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء تنفيس الكربة بيوم القيامة, أما في غيرها فإن الجزاء فيها يكون في الدنيا والآخرة؟ A الكرب يوم القيامة تكون شديدة عظيمة هائلة، فيكون ذلك في الدار الآخرة والناس أحوج ما يكونون إلى تنفيس الكرب الشديدة العظيمة، بخلاف الدنيا فإن مصائبها وما يحصل فيها من الثواب دون ذلك الشيء العظيم الذي جعل جزاؤه في الآخرة.

معنى حديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)

معنى حديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) Q حديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، هل المراد به في الدنيا أم في الآخرة؟ A في الدنيا والآخرة جميعاً، وهذا مشاهد ومعاين، فكم من أناس رفعهم الله بالقرآن! وجاء: (والقرآن حجة لك أو عليك) , ففي الآخرة الناس يتفاوتون: من كان القرآن حجة له فهو مرفوع، ومن كان حجة عليه فهو مخفوض وموضوع، وفي الدنيا كذلك الرفعة حاصلة وكذلك الوضع بسبب القرآن حاصلة وذلك إذا كان الإنسان ليس آتياً بما هو مطلوب منه بالنسبة للقرآن. وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] الرفعة هنا في الدنيا والآخرة، وكما هو معلوم أن أهل العلم لهم منزلة ومكانة في النفوس، ولهم تميز على غيرهم.

التفضيل بين قراءة القرآن من المصحف أو الحفظ

التفضيل بين قراءة القرآن من المصحف أو الحفظ Q أيهما أفضل قراءة القرآن من المصحف أم من الحفظ؟ A قراءة القرآن من المصحف لا شك أن فيها التركيز وعدم فوات شيء، لكن الإنسان يمكن أن يعمل هذا وهذا، فيمكن للإنسان أن يقرأ من المصحف حتى يتحقق، ومن يقرأ القرآن من حفظه قد يفوته شيء، ولكنه إذا قرأ من المصحف تذكر ذلك الشيء الذي قد يفوته في حال الحفظ، وكون الإنسان يقرأ في هذا وفي هذا أحسن، ولا شك أن قراءته مع النظر تجعل الإنسان يتأمل في المعاني؛ لأنه لا يكون مشتغلاً بالحفظ لئلا يسقط منه شيء، فالقرآن أمامه يستطيع أن يقرأه بكل سهولة ولا يلتبس عليه، ويتوقف ويتأمل.

نوع الطريق في قوله: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما)

نوع الطريق في قوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً) Q قوله: (من سلك طريق يلتمس فيه علماً) , هل الطريق هنا حسي؟ A حسي ومعنوي، والمعنى هو أن الإنسان يشتغل بالعلم وبالقراءة، ويأخذ بالوسائل الممكنة بدون أن يسافر, وابن رجب ذكر القسمين.

معنى قوله: (وذكرهم الله فيمن عنده)

معنى قوله: (وذكرهم الله فيمن عنده) Q نريد من فضيلة الشيخ أن يعيد شرح: (وذكرهم الله فيمن عنده)؟ A ( ذكرهم الله فيمن عنده) يعني: أن من ذكر الله عز وجل في ملأ من الناس في الأرض فإن الله عز وجل يذكر الذاكر في ملأ من الملائكة عند الله عز وجل.

ستر المسلم مع نصيحته

ستر المسلم مع نصيحته Q قول صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً) هل يعني ذلك عدم نصيحته؟ A لا, ولكن ينصحه ويستره.

تفسير قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى مسيرة)

تفسير قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى مسيرة) Q في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280] هل الصدقة هنا تشمل الزكاة؟ A لا، هذه الآية تتعلق بالمعسر، فأمر الله بإمهاله, وأرشد إلى أن هناك شيئاً أفضل من الإمهال وهو الإسقاط بالتصديق عليه بإبراء ما في ذمته.

طلب العلم عند المبتدعة

طلب العلم عند المبتدعة Q هل الطالب الذي يطلب العلم عند أهل البدع يدخل فيما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؟ A لكل امرئ ما نوى، فإذا كان الشيء الذي يدرسه ليس له علاقة بالعقيدة، ولا له علاقة بما يعود عليه بالمضرة، وإنما هو شيء يتعلق مثلاً باللغة، وما وجد غيره ممن يقوم بهذه المهمة، فهو إن شاء الله على خير؛ لأنه سيأخذ ما عنده من خير ويترك الشر الذي عنده، ودراسة اللغة ونحوها عند من يكون عنده علم بها من أهل البدع لا يصار إليه إلا للضرورة، وذلك إذا لم يجد من يقوم بذلك ممن يكون سليماً من البدع.

أهمية النية في إعانة الآخرين

أهمية النية في إعانة الآخرين Q قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) , هل يشترط أن تحصل الإعانة بنية واحتساب أم لا يشترط؟ A لا شك أنه يشترط، لحديث: (إنما الأعمال بالنيات).

حال حديث: (من جاء مسجدي ليتعلم أو يعلم فهو بمنزلة المجاهد

حال حديث: (من جاء مسجدي ليتعلم أو يعلم فهو بمنزلة المجاهد Q حديث: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله) , هل هو صحيح؟ A نعم صحيح، ولا شك أن هذا الحديث يدل على هذا الفضل العظيم لمن يتعلم في المسجد النبوي.

هل يشرع لرجال الحسبة الستر على العصاة؟

هل يشرع لرجال الحسبة الستر على العصاة؟ Q هل يجوز الستر من رجال الهيئة للعصاة وهم في عملهم؟ A نعم، إذا وقع الإنسان في هفوة، وهو ممن يناسب الستر عليه؛ لكونه غير معروف بالمعصية، وإنما هذه سقطة حصلت منه؛ فيستر عليه.

التنفيس عن غير المؤمن

التنفيس عن غير المؤمن Q قوله: (ومن نفس عن مؤمن) هل يختص التنفيس بالمؤمن أم أن التقييد غير مراد, فقد ورد حديث البغي التي سقت الكلب فغفر لها؟ A تلك البغي كانت على دين، وفي كل كبد رطبة أجر، حتى الكافر، وهذا الحديث مقيد بالمسلمين، ولا شك أن من أحسن إلى غيره حتى من الكفار فإنه مأجور على ذلك إذا كان الأمر يقتضي ذلك.

سماع أشرطة العلم

سماع أشرطة العلم Q هل سماع أشرطة العلم في السيارة أو في البيت يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً)؟ A لا شك أن سماعها من وسائل تحصيل العلم، وهو مأجور على ذلك، ولكل امرئ ما نوى.

أخذ العلم عن المشايخ والقراءة من المؤلفات

أخذ العلم عن المشايخ والقراءة من المؤلفات Q أيهما أحسن في تحصيل العلم: أخذه عن المشايخ أو القراءة في الكتب والمؤلفات؟ A أخذه عن المشايخ لا شك أولى, وكونه يقرأ في الكتب أيضاً مطلوب منه, ما يكون الأمر مقصوراً على الوقت الذي يكون فيه مع المشايخ, بل يكون على صلة وثيقة بالعلم؛ وذلك بتقليب الكتب والرجوع إليها, وينبغي للطالب أن يأخذ عن المشايخ؛ لأنهم هم الذين يقومون نطقه، ويقومون كلامه؛ لأنه قد ينطق بالشيء على غير حقيقته وعلى غير وضعه فينبه, والإنسان قد يقرأ من الكتاب ولكن يفهمه خطأً.

تعليق على تصحيح الغماري لحديث: (جئتم من الجهاد الأصغر)

تعليق على تصحيح الغماري لحديث: (جئتم من الجهاد الأصغر) Q قال ابن رجب: وقال إبراهيم بن أبي عبلة لقوم جاءوا من الغزو: قد جئتم من الجهاد الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب, يقول شعيب: ذكره المزي في تهذيب الكمال والذهبي في السير. قال ابن رجب: ويروى هذا مرفوعاً من حديث جابر بإسناد ضعيف، ولفظه: (قدمت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر, قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد لهواه). يقول شعيب في الحاشية: رواه البيهقي في الزهد، والخطيب في تاريخه، وفي سنده ضعيف ومتهم، وضعفه البيهقي والعراقي، وقال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس فيما نقله عنه العجلوني في كشف الخفاء: هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة. اهـ A على كل حال، هذا الحديث من ناحية المعنى غير مستقيم، فالجهاد الأكبر لا شك أنه قتال الكفار، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولكن لا شك أن جهاد النفس هو الذي يمكن من حصول الفائدة الكبيرة من الجهاد الأكبر؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهد نفسه لا يستطيع أن يجاهد غيره. مداخلة: الشيخ الألباني ذكر هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (2465) من رواية الخطيب في التاريخ وأبي بكر الشافعي في الفوائد والبيهقي في الزهد وقال: منكر. والحديث قال عنه الغماري في المداوي: والحديث له شواهد كثيرة يمكن جمعها في جزء مفرد، ولنا عزم على ذلك. الشيخ: الغماري معروف أنه مخلط، وهو صاحب كتاب المداوي أحمد بن الصديق، وله المغير على شرح المناوي، ولعله أسوأ الغماريين, فله كتابات قبيحة لاسيما كتابه الذي يشيد فيه ببناء القبور، ويقول: إنه يستحب بناء القبور، وصنف رسالة بعنوان: إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور، يعني: أنه ينبش عن كل ما هب ودب من أجل أن يستدل على استحباب هذا الذي جاءت الشريعة بتحريمه، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر أيامه، بل في أواخر لحظاته صلى الله عليه وسلم! وله مؤلفات كثيرة، وله كتاب اسمه: توجيه الأنظار إلى توحيد العالم الإسلامي في الصوم والإفطار, وكان من أسوأ ما قاله في هذا الكتاب أنه أتى بقصة كريب وصيام أهل الشام قبل أهل الحجاز، وأن ابن عباس قال: لهم رؤيتهم ولنا رؤيتنا أو نحو هذا الكلام، فقال: ابن عباس لم يقل هذا إلا لأنه لا يعبأ برؤية معاوية ولا رؤية أهل الشام! يعني: رؤية معاوية وأهل الشام لا يلتفت إليها، ولا يعتبر بها.

[33]

شرح الأربعين النووية [33] من فعل سيئة جوزي عليها بسيئة واحدة دون زيادة، ومن هم بالسيئة وتركها لأجل الله تعالى كتبت له حسنة كاملة، ومن هم بالحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبها الله تعالى له عشر حسنات، وقد يضاعفها أضعافاً كثيرة، وما يزال العبد يتقرب إلى ربه بفعل القربات أداءً للفرائض واستكثاراً من النوافل لتتضاعف حسناته حتى يبلغ منزلة الولاية لله تبارك وتعالى، فيحظى بالحفظ والقرب والمحبة.

شرح حديث ابن عباس (إن الله كتب الحسنات والسيئات)

شرح حديث ابن عباس (إن الله كتب الحسنات والسيئات)

المراد بالكتابة في قوله: (كتب)

المراد بالكتابة في قوله: (كتب) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يرويه عن ربه- أن الله عز وجل قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن عملها كتبها الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن عملها كتبها الله له سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف]. هذا الحديث -حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما- فيه قوله: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) وهذه الكتابة للحسنات والسيئات يحتمل أن تكون هي الكتابة القدرية، وأن الله تعالى كتب كل أعمال العباد وما يفعلونه في اللوح المحفوظ، فما يفعلونه من الخير والشر ومن الحسنات والسيئات كتبه الله في اللوح المحفوظ. ويحتمل أن يكون المراد بالكتابة كتابة الملائكة الكتبة الذين يكتبون الحسنات والسيئات بأمر الله عز وجل. ومما يدل على هذا ما جاء في بعض الأحاديث بهذا المعنى وفيه: (إذا هم بالسيئة فلم يعملها قال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) ومعناه إذا أنه إذا هم بها ولم يعملها أنهم كتبوها حسنة، وإذا هم بالسيئة وعملها تكتب سيئة واحدة، قال: (وإن لم يعملها فاكتبوها حسنة، إنما تركها من جرائي) أي: إنما تركها من أجلي. وهذا فيه أن الملائكة هم الذين يتولون الكتابة، وعلى كل فليس هناك تنافي بين الكتابتين، فإن الكل حاصل، فالكتابة في اللوح المحفوظ حاصلة لكل ما هو كائن، والملائكة يكتبون كل ما يصدر عن العبد من الخير والشر. ثم إن الإجمال في قوله: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بينه في الكلام الذي بعده، وذلك بالتفصيل فيما يتعلق بالحسنة والتفصيل فيما يتعلق بالسيئة، فالتفصيل الذي في الحسنة هو قوله: (فإذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة، وإن هم بها وعملها كتبها الله عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة) فإذا هم بالحسنة ولم يعملها كتبها الله حسنة كاملة من أجل نيته ومن أجل قصده، وهذا من فضل الله عز وجل وكرمه وإحسانه إلى عباده، وإذا عملها كتبت عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله تعالى يضاعف لمن يشاء.

ثواب طاعة الله وترك معصيته وفضل العمل

ثواب طاعة الله وترك معصيته وفضل العمل وصفت الحسنة التي تحصل لكون الإنسان هم بالحسنة ولم يعملها بأنها كاملة لئلا يتوهم نقصانها، وذلك لأنها كانت بمجرد هم وليس هناك عمل، فمن فضل الله عز وجل أنه جعل الثواب على ذلك حسنة كاملة. وإذا عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وفي هذا بيان الفرق بين كون الإنسان ينوي ولا يعمل، وكونه ينوي ويعمل، فإن الأول لا مضاعفة فيه، والثاني فيه المضاعفة إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة، وهذا واضح. وأما الحديث الذي فيه: (نية المؤمن خير من عمله) فهو يخالف ما جاء من التفصيل في هذا الحديث الذي معنا، فهو حديث ضعيف كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح. وعلى هذا فلا شك أن الإنسان الذي ينوي ويعمل أفضل من الإنسان الذي ينوي فقط؛ لأن الإنسان بمجرد نيته يحصل على حسنة كاملة إذا لم يعمل، وإذا عمل فإنه يحصل على عشرٍ، أو يضاعف الله عز وجل له إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة. وقوله: (وإذا هم بالسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) وهذا فيما إذا كان تركها من أجل الله، ووصفت بأنها كاملة -أيضاً- لبيان فضل الله عز وجل ولئلا يتوهم نقصانها؛ لأنها ما حصلت في مقابل عمل، وإنما حصلت في مقابل ترك، وهو كون الإنسان هم بمعصية وتركها، فالله تعالى يكتبها حسنة. وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ووصفت بواحدة من أجل بيان أن السيئات لا تزاد، وأن الإنسان لا يخاف أن تزاد سيئاته، بل الأجر يضاعف، وأما السيئات فإن السيئة بمثلها ولا تضاعف، كما قال الله عز وجل: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] لا يخاف هضماً أي: نقصاً من الحسنات، ولا ظلماً وذلك بالزيادة في السيئات، وإنما يحصل الفضل والجود والكرم بالثواب والجزاء على الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، وأما السيئة فإنما تكتب بمثلها، فمن هم بالسيئة وتركها من أجل الله يجد عليها أجراً واحداً من أجل أنه تركها لله، وإن عملها كتبت سيئة واحدة.

حالات تارك المعاصي

حالات تارك المعاصي ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] أن من هم بالسيئة له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يتركها من أجل الله، فهذا يثاب عليها بالحسنة كما جاء في هذا الحديث. الثانية: أن يتركها ذهولاً وغفلة عنها لكونها ما جاءت على باله، فهذه ليست له ولا عليه. الثالثة: وإذا هم بها ولم يفعلها من أجل العجز أو أي مانع آخر مع حرصه عليها ورغبته الشديدة في الوقوع فيها، فإن هذا يكسب إثماً ولا يجد أجراً وثواباً؛ لأن تركه للسيئة إنما كان للعجز مع تصميمه وحرصه عليها وفعله الأسباب التي توصل إليها، ولكنه لم يقدر ولم يتمكن، فهذا مأزور غير مأجور.

شرح حديث (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)

شرح حديث (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) قال الإمام النووي عليه رحمة الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى- أنه قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، وقد شرحه الشوكاني في رسالة اسمها: (قطر الولي في شرح حديث الولي) وطبعت مع مقدمة بعنوان: (ولاية الله والطريق إليها).

بيان الولي وخطورة معاداة أولياء الله تعالى

بيان الولي وخطورة معاداة أولياء الله تعالى قوله: (من عادى لي ولياً) الولي هو المؤمن التقي، كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فقد بين سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، أي الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى، فولاية الله هي كون أن يكون الإنسان مؤمناً تقياً. قوله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: أعلمته بأني محارب له. وهذا يدل على خطورة معادة أولياء الله عز وجل، وأن أهلها وصفوا بهذا الوصف، وهو أنهم محاربون لله عز وجل، والله تعالى محارب لهم، فأعلمهم بأنه محارب لهم، فهذا يدلنا على قبح معاداة أولياء الله، وأن المطلوب هو موالاتهم ومحبتهم، وذلك في الله ومن أجل الله، والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وأما معاداة أولياء الله فهي من أقبح الأمور ومن أسوأ الأشياء، وذلك لأن المطلوب في حقهم الولاية، وليس المعاداة. وهو يدل على أن ذلك من الكبائر؛ لأن كونه يوصف بأنه محارب لله عز وجل وأن الله تعالى يحاربه يدل على منتهى قبحه ومنتهى سوئه.

الطريق الموصلة إلى الولاية

الطريق الموصلة إلى الولاية قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه). بعد أن قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بين بأي شيء تكون الولاية، والطرق التي توصل إلى الولاية، وأنها التقرب إلى الله عز وجل بفعل الأوامر، وكذلك الإتيان بالنوافل مع الفرائض؛ لأن ولاية الله عز وجل إنما هي بالإيمان والتقوى كما عرفنا، فلما قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) بين بعد ذلك من هم أولياء الله، أو الطريقة التي يتم بها الوصول إلى الله عز وجل، وهي فعل الفرائض، أي: أداء الواجبات وترك المحرمات، ثم بعد ذلك الإتيان بالنوافل مع الفرائض. فالإتيان بالفرائض دون النوافل هو الاقتصاد، وأصحابه هم المقتصدون الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] والمقتصد هو الذي يأتي بالفرائض، يأتي بما أوجب الله عز وجل عليه ويترك ما حرم الله عليه. والسابق بالخيرات هو الذي يأتي بالفرائض ويأتي معها بالنوافل التي تقربه إلى الله عز وجل، والتي تزيد في إيمانه وفي درجته ورفعته عند الله سبحانه وتعالى. فقوله: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) يدل على أن فعل الفرائض هو الأحب إلى الله عز وجل، وأن العبد ما تقرب إلى الله عز وجل بشيء أحب إليه تعالى مما افترض عليه، وذلك لأنه يكون أدى واجباً وترك أمراً محرماً، فلو فعل فإنه يؤجر، وإذا ترك الأوامر فإنه يأثم، وكذلك إذا فعل النواهي فإنه يأثم، وإذا تركها من أجل الله عز وجل فإنه يؤجر. والحاصل أن الفرائض تؤدى بأداء ما فرض الله وترك ما حرم الله، وهذا هو أحب شيء إلى الله عز وجل فيما يتقرب به العبد إليه سبحانه وتعالى. وفيه دليل على إثبات المحبة لله عز وجل، وعلى تفاوت الناس في محبة الله سبحانه وتعالى، وكذلك الأعمال متفاوتة في المحبة، فمنها ما هو أحب إلى الله، ومنها ما هو دونه، فإن الإتيان بالفرائض هو الأحب إلى الله، ومعنى ذلك أن الإتيان بالنوافل دون ذلك؛ لأنه قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) وذلك لأنه فعل أمراً واجباً وترك أمراً محرماً، وأما بالنسبة للنوافل فالإنسان إذا أتى بها أتى بالكمال، وإذا لم يأت بها فاته ذلك الكمال وفاته أجرها، لكن الأوامر والنواهي والتكاليف والفرائض هي التي يثاب على أمتثالها ويعاقب على مخالفتها.

النوافل ومنزلتها عند الله تعالى

النوافل ومنزلتها عند الله تعالى قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). معنى هذا أن الإنسان يأتي بالفرائض، ثم يأتي بالنوافل ويستمر عليها ويداوم عليها؛ لأن قوله: (لا يزال) يدل على ذلك، فكونه يداوم على النوافل ويستمر عليها هو مما يكسب محبة الله عز وجل التي إذا حصلت له سدد في تصرفاته وفي أعماله، وذلك لأنه صار من السابقين إلى الخيرات بإذن الله؛ لأن المقتصد هو الذي يأتي بالفرائض فقط، والسابق بالخيرات هو الذي يأتي بالفرائض ويأتي معها بالنوافل ويستمر عليها ويداوم عليها، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) وهذا المقصود به النوافل. وأما الفرائض فإنه متعين على الإنسان أن يأتي بكل ما فرض الله عز وجل عليه، ولكن النوافل زائدة على الفرائض. وقيل لها: (نافلة) لأنها زائدة على الفريضة، فكون الإنسان يأتي بها يكون ذلك زيادة في كماله وزيادة في فضله عند الله عز وجل وكون الله عز وجل يحبه؛ لأنه أتى بالفرائض وأتى بالنوافل، أتى بما هو واجب وأتى بما هو كمال ومستحب ومندوب، وجمع بين الأصل والفرع، بين الفرض والنفل، بين الواجب والمستحب. وإذا ظفر الإنسان بمحبة الله عز وجل سدده الله عز وجل في تصرفاته وفي أفعاله، فلا يستعمل سمعه إلا في خير، ولا يستعمل بصره إلا في خير، ولا يستعمل يده إلا في خير، ولا يستعمل رجله إلا في المشي إلى خير، فيكون مسدداً في أعماله وفي تصرفاته وفي حركاته وسكناته؛ لأن هذه الحواس وهذه النعم التي أنعم الله تعالى بها على العبد في صحته وعافيته استعملها فيما يعود عليه بالخير، وامتنع وابتعد عن استعمالها فيما يعود عليه بالضر.

شبهة الاستدلال للحلول ودفعها

شبهة الاستدلال للحلول ودفعها وليس في هذا الحديث دليل على الحلول والاتحاد كما هو قول أهل الباطل الذي ابتلي به بعض الناس فقالوا: إن الله -تعالى عن قولهم- حال في المخلوقات! فإن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، والمخلوقات خلقها الله عز وجل، وكانت عدماً فأوجدها، وكانت بعد أن لم تكن، ووجودها مباين لوجود الله عز وجل، فليس الخالق حالاً في المخلوقات، ولا المخلوقات حالة في الله سبحانه وتعالى. ولهذا فإن الحديث فيه متقرب ومتقرَّب إليه، وفيه سائل ومسئول: (ولئن سألني لأعطينه)، وفيه مستعيذ ومستعاذ به: (ولئن استعاذني لأعيذنه). وفرق بين الخالق والمخلوق، فلا يكون الخالق حالاً في المخلوق، ولا المخلوق حالاً في الخالق، بل الله عز وجل مباين للمخلوقات، فليس هناك حلول، وإنما المعنى هو أن الله تعالى يسدده في سمعه وبصره وبطشه ومشيه، فلا يستعمل هذه الوسائل وهذه النعم إلا فيما يعود عليه بالخير، وهذا نتيجة كون الإنسان يحصل محبة الله عز وجل بفعل الفرائض والإتيان بالنوافل مع ذلك، فيجلب بذلك محبة الله عز وجل له، وإذا أحبه سدده في سمعه وبصره وبطشه ومشيه وجميع تصرفاته، فتكون حركاته وتصرفاته لله، وذلك في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

الولاية واستجابة الله دعاء وليه

الولاية واستجابة الله دعاء وليه إن مع ما سبق يحصل الثواب، وتحصل الإجابة في دعائه إذا سأل الله عز وجل، قال: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) ففي ذلك جمع بين الترغيب والترهيب، وبين تحصيل ما هو مطلوب والسلامة مما هو مرهوب، فتحصيل ما هو مطلوب مرغوب هو كونه يعطيه ما يسأل، وكذلك يستعيذ به مما هو مرهوب ومخوف فيعيذه الله عز وجل، ويكون بذلك قد حَصَّل الخير لأنه سأل الله تعالى فأعطاه، وسلم من الشر لأنه استعاذ بالله فأعاذه. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم ترك المعصية خوفا وحياء من الناس

حكم ترك المعصية خوفاً وحياءً من الناس Q إذا ترك العبد السيئة التي هم بها من غير خوف من الله تبارك وتعالى وإنما تركها خوفاً من الناس وحياءً منهم، فما حكمه؟ A هذا لا يحصل له أجر؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي يجب أن يُخاف وأن يستحيا منه، ولا ينبغي للمسلم أن يكون الناس همه، وإنما يكون همه خوف الله سبحانه وتعالى. والذي يجعل الناس همه ويخشى الناس ولا يخشى الله هو على خطر عظيم. وقد يقال: هل في هذه الحالة يعاقب بتقديم خوف الناس على خوف الله؟ فأقول: الله تعالى أعلم، لكنه يكون بهذا الوصف قد عمل سوءاً واستحق العقوبة، والله تعالى أحق أن يخشى.

جريمة معاداة الصحابة رضي الله تعالى عنهم

جريمة معاداة الصحابة رضي الله تعالى عنهم Q في قوله (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ألا يكون أعظم أولياء الله هم الصحابة، وعليه فمن عاداهم فإن الله قد آذنه بالحرب؟ A لا شك، وهذا هو الواقع، فهذه الأمة هي خير الأمم، وخير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم والجهاد معه والذب عنه والدفاع عنه، وتلقي الكتاب والسنة عنه وإيصالهما إلى الناس، فهم خيار أولياء الله وسادات أولياء الله بعد النبيين والمرسلين، فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فهم سادات هذه الأمة، وهم خيارها، وهم أفاضلها، وهم الذين يلون الأنبياء والمرسلين؛ لأن خير البشر هم الرسل والأنبياء عليهم السلام، ويليهم أصحابهم وأتباعهم، ومعلوم أن خير أمم الرسل أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وخير أمة محمد عليه الصلاة والسلام هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يعاديهم إنما يعادي خيار أولياء الله الذين هم المقدمون على غيرهم بعد الأنبياء والمرسلين، ولا شك أن من حصل منه ذلك فإنه قد جنى على نفسه، وجلب أنواع الضرر وأنواع الشر إلى نفسه، وذلك ببغضه وبحقده وبِغِلِّه على خيار هذه الأمة والذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

المحبة وفعل المعاصي

المحبة وفعل المعاصي Q إذا كان الإنسان يسمع القول الفاحش ويبصر المحرمات ويرتكبها، فهل هذا معناه أن الله لم يحبه؛ إذ لو أحبه لسدده؟ A الإنسان الذي يسمع القول الفاحش وسائر ما حرم الله، وكذلك ينظر إلى ما حرم الله، ذلك إنسان لم يحصل له التسديد، وإنما حصل له أن ابتلي، وأن أقدم بنفسه وبمشيئته وإرادته إلى استعمال هذه النعم فيما حرم الله تعالى استعمالها فيه، وحصول هذه الأشياء منه لا يصل به إلى حد الكفر كما هو معلوم من مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب المعاصي بأنهم عندهم إيمان وعندهم نقص في الإيمان، فيوصف من ارتكب كبيرة أو فعل أمراً محرماً بأنه مؤمن ناقص الإيمان، فلا يعطونه الإيمان الكامل، ولا يسلبونه مطلق الإيمان، وإنما هو مؤمن ناقص الإيمان. وذلك بخلاف الطرفين المقابلين للوسط، وهما طرفا التفريط والإفراط، طرف التفريط الذي فيه المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وطرف الخوارج والمعتزلة الذين يخرجونه من الإيمان بارتكابه الكبيرة، ويحكم الخوارج بكفره، وهو في منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة، مع اتفاقهم جميعاً على تخليده في النار، وأنه لا فرق بينه وبين الكفار في الخلود؛ لأنه إما محكوم بكفره -كما هو عند الخوارج- وإما خرج من الإيمان وإن لم يدخل في الكفر كما هو قول المعتزلة.

ارتباط الولاية بسلامة الجوارح من الآثام

ارتباط الولاية بسلامة الجوارح من الآثام Q من يريد أن يعرف ولايته لله عز وجل قوة أو ضعفاً أو عدماً فهل ضابط ذلك أن ينظر إلى جوارحه ومدى امتثالها لأوامر الله؟ A نعم، لا شك أن هذا من الوسائل التي بها يعرف كون الإنسان مستقيماً أو غير مستقيم؛ لأن هذه الجوارح جعلها الله عز وجل نعماً أنعم بها على الإنسان، فأعطاه السمع والبصر والأيدي التي يبطش بها والأرجل التي يمشي بها، فإذا استعملها فيما يعود عليه بالخير فهذه علامة الولاية، وإذا استعملها في غير ذلك، فهذا علامة عدم الولاية.

معنى حرب الله جل جلاله لمعادي أوليائه

معنى حرب الله جل جلاله لمعادي أوليائه Q ما معنى حرب الله عز وجل لمن عادى أولياءه؟ A معنى ذلك أن معادي أولياء الله محارب لله والله محاربه، ومعلوم أن من كان كذلك فقد باء بكل شر ورجع بكل بلاء؛ لأن محاربة الله عز وجل لا طاقة للعبد بها. ومن المحاربين لله تعالى أكلة الربا، والله تعالى محارب لهم، ومعنى ذلك أنه ليس لهم ولاية، وإنما هناك الحرب التي تكون بينهم وبين الله، فيكفي ذلك في بيان منتهى سوئهم وخبثهم، ولهذا فإن مثل هذا التعبير ومثل هذا اللفظ يدل على أن معاداة أولياء الله عز وجل من الكبائر، وأن أمرها خطير وليس بالأمر الهين.

دلالة ترك ذكر المنهيات في حديث الولاية

دلالة ترك ذكر المنهيات في حديث الولاية Q في حديث الولاية لم يُذكر ترك المنهيات، وإنما ذُكر أداء الواجبات والنوافل، فهل يفهم منه أن فعل الواجبات أعظم من ترك المنهيات؟ A معلوم أن ما افترض الله عز وجل هو أوامر ونواهٍ، والأوامر مطلوب الإتيان بها، والنواهي مطلوب تركها، فليس أداء الفرائض مقصوراً على العبادات الفعلية، بل يدخل فيه ترك المحرمات. أما القول بأن ترك الواجب أعظم من فعل الأمر المحرم، فنقول: كل منهما سيئ، ولكن ترك الواجب أعظم من فعل المحرم، وإنما طرد إبليس اللعين وأبعد لأنه ترك الواجب الذي أوجبه الله عز وجل عليه، وهو السجود لآدم عليه السلام.

سبيل معرفة ولي الله والبعد عن أذاه

سبيل معرفة ولي الله والبعد عن أذاه Q الولاية لا سبيل إلى الجزم بها لأحد معين، فكيف السبيل إلى البعد عن معاداة الأولياء، نرجو إيضاح الناحية العملية المطلوبة في هذا الحديث؟ A معلوم أنه لا أحد يجزم له بأنه من أهل الجنة، ولكن من عرف بالصلاح والتقى وبانطباق الإيمان والتقوى عليه فيما يظهر للناس، فهذا هو السبيل الذي يمكن أن يعرف ويميز به من يكون ولياً لله ممن يكون عدواً لله سبحانه وتعالى، نعم لا أحد يقطع بنهايته وأنه من أهل الجنة، ولكن الناس يرون ويشاهدون من هو من أهل الصلاح، ومن هو من أهل الفساد، ومن هو من أهل الاستقامة ومن هو من أهل الإعراض عن الله سبحانه وتعالى.

حكم تخصيص الولاية وحصرها في أشخاص

حكم تخصيص الولاية وحصرها في أشخاص Q هل صحيح ما تقوله الصوفية من أن الولاية ومنزلة الولي لا تنبغي لكل أحد، بل هي لأناس مخصوصين؟ A كلا، فهذا احتكار للولاية حتى لا تحصل إلا لأناس يزعمون الولاية أو تُزعم لهم، ثم يعبدون من دون الله، أو تُعمل معهم أمور لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى. وولاية الله عز وجل سهلة ميسورة، ليس فيها إلا كون الإنسان يقبل على طاعة الله ويبتعد عن محارم الله، وبذلك يكون من أولياء الله كما قال الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].

دعوى الولاية لأصحاب الأضرحة وحمل نفي ضررهم ونفعهم على معاداتهم

دعوى الولاية لأصحاب الأضرحة وحمل نفي ضررهم ونفعهم على معاداتهم Q بعض الناس يرى أن الولاية هي لأصحاب الأضرحة والقباب، وأن من لا يعتقد أنهم ينفعون ويضرون فهو ممن عاداهم، فما صحة هذا الأمر؟ A هذا من البلاء، ومن مكائد الشيطان وتلاعبه بكثير من الناس، وهذه نتيجة لاحتكار الولاية وحصرها في أشخاص معينين، ثم بعد ذلك يتعلق بهم، وتصرف لهم الأمور التي لا تليق إلا بالله عز وجل والأشياء التي لا تطلب إلا من الله عز وجل، كأن يستغاث بهم، ويطلب منهم كشف الكروب، ورد الغائب، وما إلى ذلك من الأمور التي يحتاج إليها الناس، كل ذلك نتيجة لهذه المزاعم الباطلة ولهذه الظنون الكاذبة، وولاية الله عز وجل قد بينها الله عز وجل في كتابه فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. والواجب هو الحذر من الافتتان بالقبور، وبناء المساجد عليها لا يجوز، وكذلك دفن الموتى في المساجد غير جائز، وكل ذلك محرم، وهو من الأسباب التي توقع الناس في الشرك وتوقعهم في التعظيم للمخلوقين الذي يؤدي بهم إلى الشرك، والعياذ بالله.

طلب الولاية بالاقتصار على باب من النوافل

طلب الولاية بالاقتصار على باب من النوافل Q من اجتهد في باب من أبواب النوافل فهل يظفر بمحبة الله تعالى أم لا بد من أن يجتهد في جميع النوافل؟ A معلوم أن الفرائض هي الأساس، وكونه يتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل المختلفة لا شك أن هذا أكمل، أعني كونه يأتي بنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، وسائر النوافل في وجوه الخير، فلا شك أن هذا هو الكمال، والناس يتفاوتون في ذلك، ومحبة الله عز وجل تحصل بفعل الفرائض وأداء النوافل، ولكن على الإنسان أن يحرص على أن يكون له نصيب من جميع وجوه الخير، ولا يقصر نفسه على باب من أبواب الخير ثم يهمل الأبواب الأخرى، بل يحرص على أن يكون له نصيب من هذه الأبواب.

محبة الله وعلامتها

محبة الله وعلامتها Q هل حديث الولاية يدل على أن الله تعالى لا يحب إلا من أحبه؛ لأنه لا يتقرب إليه بالنوافل إلا من أحبه؟ A هناك محبة صحيحة مبنية على الاتباع، وهناك دعاوى للمحبة، والدعاوى ليس لها قيمة، وإنما العبرة بالاتباع الذي يكون مع ادعاء المحبة. فكون الإنسان يحب الله بالادعاء لا قيمة لادعائه، ولكن إذا أقيمت البينة على هذه الدعوة -وهي الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم- فذلك الذي تحصل به محبة الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فليس فما هو اتباع محبة مدعاة دون أن يكون لها حقيقة، حيث تكون الدعوى موجودة والمخالفة موجودة، فيدعي المحبة ويأتي بشيء يخالف مقتضاها، وذلك بفعل ما حرمه الله عز وجل وترك ما أوجبه الله سبحانه وتعالى. فالمحبة الحقيقية التي تثمر محبة الله عز وجل هي المحبة التي تكون مبنية على الاتباع وعلى فعل المأمورات وترك المنهيات والتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحات.

حكم زيادة (حتى أجعله عبدا ربانيا يقول كن فيكون) في حديث الولاية

حكم زيادة (حتى أجعله عبداً ربانياً يقول كن فيكون) في حديث الولاية Q هل وردت في حديث الولي زيادة: (حتى أجعله عبداً ربانيا يقول كن فيكون)؟ A هذا كلام لا يستقيم، ولا يكون الإنسان بهذه المنزلة وبهذا الوصف حيث يقول للشيء: (كن) فيكون، هذا لا يحصل إلا لله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقول للشيء كن فيكون، وأما المخلوق فإنه لا يقول للشيء: (كن) فيكون، وما جاء شيء في هذا أبداً.

لفظ التردد الوارد في حديث الولاية

لفظ التردد الوارد في حديث الولاية Q جاء في آخر حديث الولاية من طريق آخر: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته) فهل يؤخذ من هذا إثبات صفة التردد، وما معنى هذا؟ A الحديث ورد، وهو بقية هذا الحديث في صحيح البخاري، والحديث أورده البخاري في (كتاب الرقائق) في (باب التواضع) فذكر الحديث وفي آخره هذه الجملة: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته) والمقصود من ذلك أن العبد يكره الموت، ويكره الشدة التي تكون عند الموت، والله عز وجل يكره مساءته، ولا بد له من الموت؛ لأنه ينتقل إلى خير؛ لأنه يلقى الله عز وجل فيجازيه على ما قدم من أعمال، فيكون في ذلك خير له، وإن كان حصول ذلك له بشيء يكرهه وهو الموت، فمعنى ذلك أنه يكون محبوباً من جهة ومبغوضاً من جهة، محبوب من جهة أنه يؤدي إلى ما هو خير، ومكروه من جهة أن العبد يكره ذلك، وهذا نظير الشيب الذي قال عنه القائل: الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب يقول: الشيب كره وأكره أن أفارقه؛ لأنَّه إذا نظر إلى ما قبله -وهو الشباب- صار الشيب غير مرغوب فيه، ولكن إذا نظر إلى ما بعده -وهو الموت- صار مرغوباً فيه، فيكون محبوباً باعتبار ومبغوضاً باعتبار. فمن ذلك كون العبد يكره الموت والله تعالى يكره مساءته، فهو من هذا القبيل. وأما قضية التردد بالمعنى الذي يدل على عدم العلم بما هي عليه الأمور مما يحصل من الناس فهذا لا يضاف إلى الله عز وجل؛ لأن الله تعالى عالم بكل شيء، وعالم ببواطن الأمور، وعالم بنهاية الأمور ولا يخفى عليه شيء، وإنما ذكر هذا من أجل بيان ما يحصل للعبد من كونه يكره الموت والله تعالى يكره مساءته.

الولاية وكراهة الموت

الولاية وكراهة الموت Q كيف يكون العبد ولياً لله وهو يكره الموت ولقاء الله عز وجل؟ A الله تعالى جبل الناس على عدم محبة الموت، وهذا لا ينافي ولاية الله عز وجل. ثم إنه قد يكون طول البقاء مع الاستقامة خيراً للإنسان، وكون الإنسان يحب أن يعيش وهو على خير مداوم على العبادة فيه زيادة كمال وزيادة أعمال وزيادة قربات يتقرب بها إلى الله عز وجل، وإنما البقاء وطول العمر مع المعاصي هو الذي يكون ضاراً، ويعود على صاحبة بالضرر.

الفرق بين الحلول ووحدة الوجود

الفرق بين الحلول ووحدة الوجود Q نرجو توضيح الفرق بين الحلول ووحدة الوجود؟ A كلها أمور قبيحة وأمور سيئة، وكلها مخالفة، والفروق الدقيقة بينها لا أستحضرها.

درجات الولاية

درجات الولاية Q هل في حديث الولاية دلالة على أن الأولياء على درجتين: درجة من يفعل الفرائض، ودرجة من يفعل المستحبات؛ لقوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)؟ A لا شك أن هذا كله داخل في ولاية الله تعالى، فالذي يأتي بالفرائض من أولياء الله، والذي يزيد عليها النوافل أعظم ولاية لله عز وجل وأمكن في هذا الوصف، وإلا فإن كل من كان مؤمناً تقياً هو من أولياء الله تعالى، إلا أن هذا مقتصد وهذا سابق بالخيرات، وهم متفاوتون.

فرح العبد بعد تركه المعصية لمانع غير خوف الله

فرح العبد بعد تركه المعصية لمانع غير خوف الله Q من ترك سيئة لعجزه عنها أو لصارف صرفه، ثم بعد ذلك فرح لأنه قد منع منها فهل يؤجر على ذلك؟ A لا شك أنه يؤجر على ذلك، فإذا كان امتناعه في الأصل عجزاً، ولكنه بعد ذلك سر وفرح، فلا شك أنه يؤجر على هذا الفرح وعلى هذا السرور.

حكم الحرص على عمل السيئة ثم تركها لعجز عنها

حكم الحرص على عمل السيئة ثم تركها لعجز عنها Q هل يأثم المسلم إذا هم بالسيئة مع الحرص على عملها ثم عجز عنها؟ A أي نعم، يأثم.

تجاوز الله تعالى عن الخواطر ومعناه

تجاوز الله تعالى عن الخواطر ومعناه Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم)؟ A المراد بذلك الخواطر التي تهجم وحديث النفس الذي يهجم على الإنسان، وأما شيء يخطر في ذهن الإنسان، ويتابعه ويفكر فيه وهو شغله الشاغل وهمه، ولا يبعده عن نفسه، وإنما يجلبه على نفسه، فهذا هو الذي يحصل له الضرر بسببه.

معنى قول السلف: الويل لمن غلبت آحاده عشراته

معنى قول السلف: الويل لمن غلبت آحاده عشراته Q ما معنى قول بعض السلف: (الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة، فالويل لمن غلبت آحاده على عشراته)؟ A هذا كلام ينسب إلى ابن مسعود ذكره الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث، وقال: يعني أن الله عز وجل يضاعف الحسنات، والحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بواحدة. وقال: إن كون الإنسان تغلب آحاده عشراته، فهذا يعني أنه مذموم؛ لأن معنى ذلك أن الأشياء المحرمة والأشياء التي تكون السيئة منها بمثلها تكون هي الأكثر، وتغلب على العشرات التي هي الحسنات؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها، فلا شك أن هذا ذم ووصف سيئ، والأصل أن الإنسان يحرص على زيادة حسناته وأن تكون سيئاته متلاشية مضمحلة.

دلالة قوله: (إن الله كتب) على إثبات صفة الكتابة

دلالة قوله: (إن الله كتب) على إثبات صفة الكتابة Q في الحديث: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) فهل فيه إثبات صفة الكتابة؟ A معلوم أن المقصود بذلك القدر، والله عز وجل كتب مقادير الخلائق، فحين خلق القلم قال: (اكتب. فجرى بما هو كائن). وأما نفس الكتابة فقد جاء أنه تعالى كتب التوراة بيده، وأما ما جاء في الحديث فالمراد به إما كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، وذلك بالقلم الذي أمر، أو المراد به كتابة الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات.

اشتراك الناوي والعامل في الأجر والوزر

اشتراك الناوي والعامل في الأجر والوزر Q في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فقال في الثاني: (فهما في الأجر سواء) وقال في الرابع: (فهما في الوزر سواء) فنرجو التوضيح؟ الشيخ: هذا بالنسبة للأصل، وليس مع المضاعفة والتضعيف، وإنما هو باعتبار الأصل.

معاداة ساب العلماء والطاعن فيهم لله تعالى

معاداة ساب العلماء والطاعن فيهم لله تعالى Q هل من معاداة الله سب العلماء والطعن فيهم والتحذير من مجالسهم؟ A هذا من معاداة أولياء الله عز وجل، وكون الإنسان يسب العلماء ويحذر منهم وينال منهم هذا فيه صرف الناس عن الاستفادة من علمهم، وقطع الطريق الموصلة إلى النفع، ولاشك أن هذا من الأمور الخطيرة، والأمور الضارة لمن يبتلى بشيء من ذلك.

مقالة لابن دقيق العيد في قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به)

مقالة لابن دقيق العيد في قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به) Q قال ابن دقيق العيد: في قوله: (كنت سمعه الذي يسمع به) قال: إنه قد يغلب على عبد ذكر الله تعالى حتى يعرف بذلك، فإن خوطب بغيره لم يكد يسمع لمن يخاطبه حتى يتقرب إليه بذكر الله؟ A لا أدري ما معنى هذا الكلام! اللهم إلا إذا كان المراد به الإنسان المشغول بذكر الله، وذكر الله ليس قول (لا إله إلا الله) و (سبحان الله) و (الحمد لله)، بل هو كل عبادة الله عز وجل؛ لأنه كله ذكر لله عز وجل، فالصلاة من ذكر الله، وقراءة القرآن من ذكر الله، والتسبيح من ذكر الله، والتهليل من ذكر الله، فقد يكون معنى هذا أنه لا يسمع إلا ما هو خير، أو أنه لا يريد أن يسمع إلا ما هو خير، وأنه إذا خوطب بشيء غير ذلك لا يسمع ولا يريد أن يسمع، فلعل هذا هو المعنى.

معنى قوله: (ولا يهلك على الله إلا هالك)

معنى قوله: (ولا يهلك على الله إلا هالك) Q زاد مسلم في حديث ابن عباس بشأن كتابة الحسنات والسيئات (ولا يهلك على الله إلا هالك) فما معنى هذه الزيادة؟ A معناها أنه مع هذا الفضل والإحسان وهذه الأبواب من الخير، لم يدخل في رحمة الله ولم يكن من أهلها، فحينئذ يكون هالكاً، والعياذ بالله.

من يعرف الولي

من يعرف الوليَّ Q سمعت من يقول: لا يعرف الولي إلا الولي. فهل ورد في ذلك آثار منقولة؟ A لا أعلم هذا، والولاية -كما هو معلوم- واضحة جلية يعرفها المتقون وغير المتقين، فمن كان معروفاً بالصلاح والولاية يشهد له الناس، والناس يعرفونه، كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، فإنه كان معروفاً بالعبادة والتقى والإيمان، ويعترف بذلك الصالحون وغيرهم.

حكم الإشارة بالجوارح عند ذكر صفات الله تعالى

حكم الإشارة بالجوارح عند ذكر صفات الله تعالى Q هل تجوز الإشارة باليد عند قولنا: (إن الله كتب)؟ A ليس للإنسان أن يستعمل الإشارة عند ذكر هذا؛ لأن مثل ذلك يؤدي إلى كون الإنسان يشبه، أي أن ذلك يؤدي به ذلك إلى التشبيه، والإنسان ليس له أن يفعل ذلك إلا في حدود ما ورد، فالإنسان إذا أراد أن يحكي الذي قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا بأس، أما أن يأتي الإنسان فيستعمل في كل صفة شيئاً من أعضائه مشيراً بها إلى ذلك فهذا لا يجوز.

مقالة في الفرق بين الاتحاد والحلول عند القائلين بهما من أهل الضلالة

مقالة في الفرق بين الاتحاد والحلول عند القائلين بهما من أهل الضلالة Q يذكر عن الشيخ ربيع في الفرق بين الاتحاد والحلول أن الاتحاد هو قولهم: إن الله اتحد بالمخلوقات، فكل ما تراه فهو الله. أما الحلول فهو عندهم أن يحل في شخص معين، كعيسى مثلاً، تعالى الله عما يقولون. A لا أعرف هذا، أعني كون الحلول في شخص معين، فأهل الحلول هم الذين قالوا: إن الله حال في المخلوقات. أما كونه في شخص معين فلا علم به؛ لكني أقول: يرجع إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قد بحث هذا، وسيعرف الفرق بين ذلك.

حديث الولي وصحته

حديث الولي وصحته Q حديث الولي هناك من أهل العلم من ضعفه، وعلل ذلك بوجود رواة في الإسناد متكلم فيهم، فما هو القول الصحيح؟ A الشوكاني لما ذكر هذا الحديث قال: ورجال إسناده قد جاوزوا القنطرة، وارتفع عنهم القيل والقال. والحافظ ابن رجب ذكر أنه جاء من طرق أخرى ومن وجوه أخرى غير هذه الطريق، ووجوده في صحيح البخاري كاف في ثبوته.

أفضل الفرائض وأفضل النوافل

أفضل الفرائض وأفضل النوافل Q ما أفضل الفرائض، وأفضل النوافل؟ A أفضل الفرائض الصلاة، فهي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وربه، وتتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وهي الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، وهي آخر عروة في الإسلام تنقض في هذه الحياة الدنيا، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي عمود الإسلام، وقد فرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء، فكل ذلك يدلنا على فضل الصلاة وتقديمها على غيرها. أما النوافل فهي متفاوتة، ففيما يتعلق بالصدقة جاء أن أفضلها ما كان عن ظهر غنى، وجاء في الصيام أن أفضله صيام داود، وجاء أن أفضل الصلاة بعد المفروضة قيام الليل، وجاء في وجوه العبادات ما يكون أفضل من غيره في العبادة نفسها. ومعلوم -أيضاً- أن الشيء الذي يتعدى نفعه يكون أولى من الذي لا يتعدى نفعه، وكان قاصراً على الإنسان نفسه، ولهذا جاء في الحديث: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)؛ لأن العلم للإنسان ولغيره، وأما العبادة فهي للإنسان وحده وليست لغيره.

استحضار النية لصلاة الفجر مع التفريط فيها

استحضار النية لصلاة الفجر مع التفريط فيها Q ما قولكم في الرجل الذي ينوي أن يصلي الفجر في وقته وفي الجماعة، لكن لا يصليه إلا بعد شروق الشمس وهو يستطيع أن يصلي في الوقت مع الجماعة؟ A هذه نية ليس لها قيمة.

رجال الصحيح ومدى قبول أحاديثهم

رجال الصحيح ومدى قبول أحاديثهم Q عبارة الإمام الشوكاني في حديث الولي أن رجال إسناده قد جاوزوا القنطرة هل تؤخذ على إطلاقها، بحيث لو وجد أحد هؤلاء الرجال في إسناد آخر في الكتب الستة، يكتفى بكونه من رجال الصحيحين؟ A لا يقال هذا؛ لأن بعضهم انتقى له، الإمام البخاري انتقى له، فانتقى شيئاً من حديثه، فليس كل حديث شخص من رجال الصحيحين يكون سليماً، لكن لا شك أنه يقال: على شرط البخاري أو على شرط مسلم، أعني هذا الحديث إذا كان رجاله رجال الصحيح فإنه على شرطهما، لكن لا يقال: إن كل حديث عنهم يكون ثابتاً، إذ قد يكون هذا الذي حصل من صاحب الصحيح انتقاءً، وقد تكون هناك أحاديث منكرة أو منتقدة على الراوي، فـ البخاري روى الحديث الذي سلم من الانتقاد، ولهذا تجد الحافظ ابن حجر في مقدمة (فتح الباري) في الأشخاص الذين تكلم فيهم من رجال البخاري يذكر شيئاً من الاعتذار عن الإمام البخاري للإخراج عنهم، وأن ذلك لكون الراوي له متابع، أو لكونه كذا، في أوجه كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر عند كلامه على الأشخاص في التخريج للرواة.

معيار مضاعفة الأجر إلى سبعمائة ضعف

معيار مضاعفة الأجر إلى سبعمائة ضعف Q المضاعفة إلى سبعمائة ضعف هل هي لكل الناس ولكل عمل، أم أن هناك شروطاً توصل العمل إلى هذه الدرجات؟ وبأي اعتبار تضاعف الحسنة؟ A ليس ذلك في كل عمل، وليس لكل أحد، وإنما جاء ذلك فيما يتعلق بالصيام نفسه أن الله يضاعفه إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ولا شك أن الناس يتفاوتون فيما يقومون به من الأعمال، وفيما يقوم بقلوبهم من الإخلاص والصدق، وليس كلهم على حد سواء في هذا. وأما بأي اعتبار تضاعف الحسنة فالجواب: تضاعف بفضل الله عز وجل وجوده وكرمه وإحسانه، ولا شك أن الصدق والإخلاص وكون الإنسان ظاهره وباطنه مع الله عز وجل لا شك أن هذا من أسباب حصول المضاعفة، ولكن الكل يرجع إلى فضل الله عز وجل وكرمه وإحسانه.

كيفية معرفة الملائكة هم العبد بالحسنة والسيئة

كيفية معرفة الملائكة همّ العبد بالحسنة والسيئة Q ما هو السبيل الذي تعرف به الملائكة همَّ العبد بالسيئة أو همه بالحسنة؟ A الله تعالى يطلعهم على ذلك ويمكنهم من ذلك.

مقدار حسنة تارك المعصية لله تعالى بعد الهم بها

مقدار حسنة تارك المعصية لله تعالى بعد الهم بها Q من هم بسيئة وتركها لله، هل تكتب له حسنة مضاعفة أو حسنة واحدة؟ A تكتب حسنة غير مضاعفة، لأنه قال: (كتبها الله له حسنة كاملة). أي: حسنة واحدة، ولكنها كاملة، ولهذا فرَّق بين من عمل ومن لم يعمل، فالذي ترك حصَّل الحسنة، والذي فعل حصَّل عشراً.

تعليق العبد فعل المعصية على حدوث شيء وحكمه

تعليق العبد فعل المعصية على حدوث شيءٍ وحكمه Q من نوى أنه إذا جاءه أمر معين يسيء، فإن لم يأته فلن يسيء، هل تكتب له سيئة بنيته؟ A إذا كان عازماً على الشيء ومشغولاً به تكتب عليه سيئة.

الحسنات والسيئات في الأماكن المقدسة

الحسنات والسيئات في الأماكن المقدسة Q نود توضيح الكلام حول مضاعفة السيئات أو الحسنات في الحرمين؟ A لا شك أن السيئة في الأماكن المقدسة تختلف عنها في الأماكن الأخرى، ولكن هذا الاختلاف لا يرجع إلى العدد، وإنما يرجع إلى الكيف، بمعنى أن السيئة في الحرم ليست كالسيئة في مكان آخر، لكن لا يقال: إن السيئة بسيئتين، ولكنها تعظم بالكيف وليس بالكم، ولا شك أن الأعمال الصالحة في الحرم لها شأن، وما جاء فيه تنصيص كالصلاة فإنه يقال به على موجب ما ورد، حيث ورد أن الصلاة بألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وأما ما عدا ذلك فلا يقال فيه شيء بدون دليل، ولا شك أن الله يضاعف لمن يشاء، وفضل الله واسع، والمكان المقدس له فضله وله ميزته، لا من ناحية الحسنات ولا من ناحية خطورة السيئات فحسب، بل له فضله من جهات أخرى.

[34]

شرح الأربعين النووية [34] من رحمة الله بهذه الأمة أن تجاوز لها عن الخطأ والنسيان والإكراه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: أمة الدعوة وأمة الإجابة فأمة الإجابة هم الذين وفقهم الله عز وجل للدخول في هذا الدين، وعلى المؤمن أن يعلم أنه في هذه الدنيا كالغريب المسافر الذي يتحين الفرصة لكي يرجع إلى أهله، فلا يشتغل إلا بالأعمال الصالحة، ويكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله.

شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان)

شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان) الحديث التاسع والثلاثون من أحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان). التجاوز: هو العفو. قوله: (عن أمتي) أي: أمة الرسول صلى الله عليه وسلم أمتان: أمة دعوة، وأمة إجابة، وأمة الدعوة هم كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، هؤلاء هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين وجهت إليهم الدعوة، والذين يتحتم على كل منهم أن يدخل في الدين الحنيف الذي بعث الله به رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. وأمة الإجابة هم الذين وفقهم الله عز وجل للدخول في الدين الحنيف، وصاروا مسلمين. والحديث مثال لأمة الإجابة، أما أمة الدعوة فمن أمثلتها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) فقوله: (أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني) المراد بذلك أمة الدعوة، وهم الذين وجهت إليهم الدعوة كما قلت: كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والخطأ: هو فعل الشيء من غير قصد، والنسيان: أن يفعل الإنسان فعلاً هو معلوم له، ولكنه فعله نسياناً، فمثلاً: يعلم الإنسان شيئاً، ولكنه يذهل عنه وينساه عند الفعل. وأما الاستكراه: فهو الإلجاء إلى قول أو فعل. والتجاوز الذي في الحديث إنما هو عن الإثم، يعني: كون الإنسان إذا أخطأ لا يأثم، وإذا نسي لا يأثم، وإذا فعل أشياء أكره عليها فإنه لا يأثم، فهذا هو الذي رفع في هذا الحديث، وأما الضمان في المتلفات فإن ذلك لا يسقط، مثل: القتل خطأ كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] فالدية لازمة، ولو كان ذلك خطأً، بل الدية إنما تكون في الخطأ. فإذاً: الضمان متعين ولازم، وإنما الذي رفع عن المخطئ هو الإثم، وكذلك لو أتلف شيئاً من مال غيره ولو عن طريق الخطأ فإنه مضمون. قوله: (وما استكرهوا عليه) يعني: ما أُلجئوا إليه سواء كان ذلك الذي ألجئوا إليه قولاً أو فعلاً، وسواء تعلق بقول أو فعل، إلا أن من الأشياء التي يلجأ إليها ما لا يجوز فعلها، وذلك كأن يلزم بأن يقتل إنساناً، فإنه لا يقتل ذلك الإنسان، ولا يستبقي حياته بقتل غيره، بل إذا ألزموه بأنه يقتل وإلا قتلوه فلا يقتل حتى ولو قتلوه، أما كونه يستبقي حياته بأن يقتل غيره، فإن ذلك لا يجوز، وهذا بإجماع العلماء. وهناك مسائل خلافية منها: الزنا، هل إذا أُجبر عليه يفعل أو لا يفعل؟ فذكر النووي في الشرح أنه لا يفعل، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، ولكن ما يتعلق بالقتل، فهذا مجمع عليه ومتفق عليه بأنه لا يقتل غيره إذا ألزم وألجيء إلى ذلك؛ لأن في ذلك استبقاء لحياته بقتل غيره.

شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)

شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) الحديث الأربعون: عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). رواه البخاري. قول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) هذا فيه فائدتان: الفائدة الأولى: كون النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبه وهو يحدثه هذا فيه تنبيه له، ولفت نظره إلى أن يستعد وأن يعي ما يلقى عليه في هذه الحال. الفائدة الثانية: أن ابن عمر رضي الله عنه قد ضبط ما رواه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ضبط مع الحديث الحالة والهيئة التي كان عليها عندما حدثه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أي: مثل المسافر الغريب الذي ليس في بلده, والذي هو مهموم مشغول بإنهاء مهمته ليبادر بالرجوع إلى بلده. وعابر السبيل: هو الذي يمر بالبلد وليس مقيماً فيها. فكذلك شأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا يتخذها وطناً، ولا يتخذها قراراً، ولا يتخذها سكناً، فإن مكثه فيها إنما هو زائل، والبقاء فيها مؤقت، والإنسان يستعد فيها ويشتغل فيها لآخرته، ويستعد فيها بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل زلفاً، فلا يتخذها داراً للقرار، وإنما هي دار ممر ومعبر، فيكون فيها بمثابة الغريب الذي يريد الرجوع إلى بلده في أقرب فرصة. أو يكون كعابر السبيل الذي يمر بالبلد فيجتازه ماراً وليس مستقراً ولا مقيماً ولا باقياً في ذلك البلد، فيعلم أنه في هذه الحياة الدنيا إنما هو في دار الممر ودار المعبر، وهو في طريقة إلى الآخرة، وكل يوم يمضي على الإنسان يباعده من الحياة الدنيا ويقربه من الآخرة، ويدنيه من الأجل والنهاية التي سينتهي إليها، ويكون قد غادر هذه الحياة، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء. وفي حديث آخر: (ما مثلي ومثل الحياة الدنيا إلا كراكب نام تحت ظل شجرة، ثم قام وتركها) أي: أنه مر بشجرة وهو عابر سبيل، فاستراح ونام تحتها شيئاً يسيراً ثم قام وتركها، فذلك الظل الذي استظل فيه وهو مار ليس بدار قرار ولا محل استقرار، وإنما هو محل عبور ومحل انتقال، فهذا شأن الدنيا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم كانوا يبادرون إلى تنفيذ ما يوصي به الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا فإن ابن عمر رضي الله عنه بادر إلى القيام بوصية النبي عليه الصلاة والسلام في قوله (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فكان يعتبر نفسه على هذا الوصف الذي أرشد إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ويوصي أيضاً غيره بأن يكون كذلك؛ ولهذا كان يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) معناه: إذا أصبحت فلا تتوقع أو تطمع أو تؤمل أنك باقٍ إلى المساء، بل استعد للعمل في ذلك اليوم كأنك لا تدرك المساء، وكذلك إذا كنت في المساء فأنت تعمل في تلك الليلة كأنك لا تدرك الصباح، وذلك قصر الأمل في هذه الحياة الدنيا، وأن الإنسان لا يطمع فيها بالبقاء، ولا يغفل أو يسهو أو يلهو، بل عليه أن يكون مستعداً بالأعمال الصالحة، وفي أي وقت يأتيه الموت فإنه يأتيه وهو على حالة طيبة، وقد جاء في صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل). فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بادر إلى تنفيذ ما أوصاه به النبي عليه الصلاة والسلام، صار ابن عمر يوصي غيره في أن يكون كذلك، وهذا يعني أنك تستعد للموت في أي لحظة من لحظاتك في الليل أو النهار، وتعمر أوقاتك بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، حتى إذا فجأك الأجل فإنه يفجؤك وأنت على حالة طيبة. وقد ذكر في ترجمة منصور بن زاذان وهو من رجال الكتب الستة، في تهذيب الكمال عن هشيم بن بشير الواسطي أنه قال: لو قيل لـ منصور بن زاذان: إن ملك الموت بالباب ما زاد في عمله شيئاً، أي: ما كان عنده شيء يزيده على ما كان يفعله من قبل؛ لأنه دائماً على استعداد للموت بالأعمال الصالحة. ويقول أيضاً: (وخذ من صحتك لمرضك). معناه: أنك تنتهز فرصة الصحة وتمام العافية فتغتنمها، وتستعمل تلك الصحة بالأعمال الصالحة قبل أن يأتي مرض أو كبر يمنعك من أن تأتي بما يقدر عليه الصحيح المعافى، فالإنسان يكون صحيحاً معافى يستطيع أن يعمل، ويستطيع أن يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، فيأتيه وقت من الأوقات وهو لا يتمكن، كأن يصيبه مرض أو يصيبه هرم وكبر فلا يستطيع أن يعمل الأعمال التي كان يعملها في حال صحته. قوله: (ومن حياتك لموتك)، معناه: أنك تعمر حياتك وعمرك ومدة بقائك في هذه الحياة في طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، حتى تجد ذلك بعد موتك كما قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، والله تعالى يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] فالإنسان عندما يريد أن يسافر فإنه يتهيأ للسفر بأخذ ما يحتاج إليه من الزاد والراحلة، وكذلك في السفر إلى الآخرة يكون زاده التقوى، فعليه أن يستعد بذلك الزاد بمغادرة هذه الحياة حتى يجد الثواب والجزاء على ذلك بعد الموت. يقول ابن القيم في (الفوائد): ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذ الدنيا وراء ظهره هو وأصحابه، واطرحوها ولم يألفوها، فهجروها ولم يميلوا إليها، وزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا بها إلى كل مرغوب، ولكن علموا أنها دار معبر وممر، لا دار مقام ومستقر.

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) الحديث الحادي والأربعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يؤمن الإيمان الواجب، فهذا نفي لكمال الإيمان الواجب. قوله: (حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) أي: حتى يكون متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الله عز وجل، فهذا هو المؤمن حقاً، وهو الذي يكون هواه تابعاً لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيعمل بالأعمال الصالحة التي يحبها الله، ويحب ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتكون محابه تابعة لمحاب الله ورسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وأن يسير إلى الله عز وجل على هدى وعلى بصيرة. قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فليس لأحد كلام مع كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك لأحد خيار مع ما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام، بل على المسلم أن يستسلم وينقاد لكل ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فيمتثل الأوامر، ويجتنب النواهي، ويصدق الأخبار، ويعبد الله وفقاً لما جاء به رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. إذاً: الحديث معناه ومؤداه هو الأمر بالاتباع، وأن الإنسان يكون متبعاً وسائراً على البيضاء التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليها، والتي لا يزيغ عنها إلا هالك كما جاء ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والحديث قال فيه النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح، وكتاب الحجة هو كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـ نصر المقدسي، وهو من كتب العقيدة على طريقة السلف، والحديث ضعفه الحافظ ابن رجب، وبيّن أسباب ضعفه، ولكن الحافظ ابن حجر في فتح الباري ذكر ما يدل على ثبوته، وذلك عندما ذكر عدة أقوال لبعض أهل العلم يذمون فيها الأخذ بالرأي، ثم قال: ويجمع ذلك كله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) رواه الحارث بن أبي أسامة وغيره ورجاله ثقات، وصححه النووي في آخر الأربعين. (فتح الباري: الجزء: (13)، صفحة: (289))، وذكر أن له شاهداً من حديث أبي هريرة. ومعنى هذا الحديث مطابق لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. قال الحافظ ابن رجب في شرح هذا الحديث: المعروف أن الهوى عند الإطلاق يراد به ما يكون مذموماً، وهو الذي فيه مخالفة الحق. ثم ذكر بعد ذلك بعض الآيات في ذلك مثل قوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، وقال في سورة النازعات في آخرها: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. وقال أيضاً: ويطلق أيضاً على ما يحبه الإنسان ويميل إليه، ويشمل ذلك الميل إلى الحق وإلى الباطل. ثم قال: ويطلق أيضاً على ما يكون حقاً. ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك، وقال: إن ما جاء في هذا الحديث هو من المحبة المحمودة، أي: الهوى الذي هو محمود وليس بمذموم. فهذا هو الحديث الحادي والأربعون من الأربعين النووية، وهي أربعون، ولكن النووي زاد عليها حديثين: الحادي والأربعين والثاني والأربعين، فيكون ذكر الأربعين إنما هو للتغليب مع حذف الزيادة اليسيرة.

الأسئلة

الأسئلة

معنى حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

معنى حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) Q قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به) هناك أمور ثقيلة على النفس، ويفعلها الإنسان امتثالاً، مثل: أن بعض الناس يحب إطالة ثوبه، لكنه يقصره امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله، وهناك أمور مكروهة للنفس كالوضوء في شدة البرد، ولكن يفعلها الإنسان امتثالاً، فكيف يكون الهوى تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة؟ A لا يجوز للإنسان أن يحب إطالة ثوبه؛ لأن ذلك محرم، فلا يجوز له أن يحب الشيء المحرم، وإنما عليه أن يأتي بالشيء المشروع الذي شرعه الله، وأما إطالته بحيث ينزل إلى الكعبين فإن هذا مما جاء في الأحاديث التحذير منه، وجاء النهي عن ذلك، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار). فالإنسان لا يجوز له أن يقع في قلبه محبة شيء حرمه الله عز وجل؛ لأن الإنسان يجب أن تكون محابه تابعة لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالشيء الذي يحبه الله ورسوله يحبه، والشيء الذي لا يحبه الله ورسوله لا يحبه هو، فتكون محابّه تابعة لما يحبه الله ورسوله، فيحب الله ورسوله، ويحب من يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأما فيما يتعلق بكونه يتوضأ في شدة البرد، فهذا من الأمور الشاقة التي حُفّت بها الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُفّت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطريق إلى الجنة فيه تعب وفيه نَصَب، فيحتاج الإنسان أن يصبر، والصبر يكون على الطاعات ولو شقّت على النفوس، ويكون الصبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس، والإنسان إذا صبر على الطاعات ولو شقت على النفوس ستكون العاقبة حميدة، وإذا صبر عن المعاصي ولو مالت إليها النفوس فكذلك تكون العاقبة حميدة؛ لأنه لو لم يصبر عن المعاصي فإن تلك لذة يستعجلها الإنسان، ويعقبها حسرة بعد ذلك.

ضابط الإكراه وما يسوغ للمكره

ضابط الإكراه وما يسوغ للمكره Q هل الإكراه سائغ على عمومه أم أن هناك من العلماء من لا يسوغ له قبول الإكراه كقصة الإمام أحمد في محنة خلق القرآن؟ A نعم، إذا استطاع الإنسان أن يصبر فيلزمه الصبر، وأما إذا كان لا يستطيع الصبر فعنده مندوحة ومجال لأنْ يتخلص، وأن يُبقي على نفسه، ويكون هذا بأن يفعل الشيء الذي أُكره عليه مع اطمئنان قلبه إلى كراهية ذلك، وأن ما جرى على لسانه أو على بدنه أو على جسده وجوارحه مما يخالف ما كان عليه قلبه، بحيث لا يكون منشرح الصدر مطمئن البال إلى ذلك الذي فعله، بل هو كاره له ومُلجأ إليه، ويعتبر نفسه مضطراً إلى ذلك.

من صبر على الإكراه أقوى إيمانا ممن استسلم

من صبر على الإكراه أقوى إيماناً ممن استسلم Q هل قبول الإكراه دليل على ضعف الإيمان؟ A لا ينبغي أن يقال هذا، لكن لا شك أن الذي يصبر أقوى.

حكم من أكره على الزنا

حكم من أُكره على الزنا Q إذا أُكره الإنسان على فعل محرم كالزنا مثلاً: فهل يرتكبه؟ A الأرجح أنه لا يفعل بالزنا، وفي ذلك خلاف ذكره الحافظ ابن رجب. وفي تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (7/ 589): والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآية عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما أنزل الله.

حكم من أكره على قتل كافر

حكم من أكره على قتل كافر Q جاء الإجماع أنه لا يجوز قتل الإنسان المكره غيره من المسلمين بإبقاء نفسه فإذا أكره على قتل كافر فهل هذا جائز؟ A إذا كان الكافر معاهداً فحكمه أنه يعامَل معاملة المسلم؛ لأن نفسه معصومة كالمسلم.

من فضائل ابن عمر

من فضائل ابن عمر Q قوله: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) ذكر بعض العلماء فائدة ثالثة وهي: فضيلة ابن عمر، فما صحة هذا القول؟ A فضيلة ابن عمر في كونه استسلم وانقاد لما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبادر إلى ذلك. وأما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على منكبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصافح أصحابه، ويضع يده بأيديهم، وكل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم فضل ونُبْل، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولكن الشيء الذي يدل على فضل عبد الله بن عمر كونه بادر إلى تنفيذ هذه الوصية؛ لأنه كان يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) فنفذ الوصية، ثم هو يطلب من غيره أن ينفذها.

حكم من أكره على قول كلمة الكفر

حكم من أكره على قول كلمة الكفر Q قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: من أكره على كلمة الكفر فلا يجوز له أن ينطق بها إلا أن ينوي المعاريض، فهل هذا صحيح، وكيف يكون؟ A المعاريض: هي أن يقصد الإنسان بكلامه شيئاً، وغيره يفهم شيئاً آخر. مثل: قصة أم سليم مع زوجها أبي طلحة، لما كان ابنه مريضاً، فمات، ولما جاء وسأل عنه، قالت زوجته أم سليم: إنه قد هدأت نفسه واستراح. ففهم أنه خف منه المرض واستراح من شدته، وهي تقصد أنه قد مات، لكنها لا تريد أن توضح لزوجها ذلك، وأيضاً هي لم تكذب، فهذه هي المعاريض، وتسمى أيضاً: تورية، مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة فإنه يورّي بغيرها، فكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يتجه إلى جهة الجنوب، فإنه يسأل ويبحث عن الطرق المؤدية إلى جهة الشمال، فالذي يسمع أنه يبحث في جهة الشمال يظن أنه سيذهب شمالاً، مع أنه سيذهب جنوباً، وهذه تورية. وكذلك ما يُذكر عن محمد بن نوح أنه عند فتنة القول بخلق القرآن لما أُلزم بأن يقول: إن القرآن مخلوق، ورّى فقال: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، هؤلاء مخلوقات. ويحرك أصابعه الأربعة، ويقول: هؤلاء مخلوقات. فهو يقصد شيئاً وغيره يفهم شيئاً آخر، فهذه تورية ومعاريض. فإذا أكره الإنسان على قول الكفر أو قول الباطل وأمكنه التخلص من ذلك بالمعاريض، فهذا شيء طيب، ولكن إذا لم يكن لديه مجال للمعاريض، وأُكره على النطق باللفظ المعين الذي يطلبونه منه ويحددونه له، ولا مجال فيه للتعريض، فإنه يفعل ذلك مع بغضه له في قلبه، ويكون بهذا معذوراً كما قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].

حكم الحلف على التورية

حكم الحلف على التورية Q هل يجوز الحلف على التورية؟ A إذا كان هذا لدفع ظلم أو باطل، أو للتخلص من شر أحد، فله أن يورّي ويحلف على توريته.

حد الإكراه

حدّ الإكراه Q ما هو حد الإكراه؟ وهل التهديد يكفي بأن يكون حداً للإكراه؟ A لا يكفي مجرد التهديد الذي يمكن أن يفلت منه، أو كان مجرد كلام ليس معه فعل الإكراه، لكن إذا هُدّد بالقتل أو شدة الضرب والعذاب حقيقةً، وأُحضرت الأشياء التي يراد إتلافه بها، ويقال له: إما فعلت كذا وإلا فعلنا بك كذا. وأما مجرد أن يقال كلام لمعرفة هل عنده صبر أو ليس عنده صبر؟ فما كل ما يقال يمكن أن يتحقق، بل قد يقول الإنسان شيئاً وهو لا يريده، فمجرد كونه يقال له: قل كذا ويهدَّد دون أن يظهر له أنهم جازمون وصادقون فيما يقولون من التهديد، إلا إذا وجد شيء من ذلك سيقع حقيقة فهذا هو الإكراه.

حكم من أتلف شيئا في حال الإكراه

حكم من أتلف شيئاً في حال الإكراه Q هل على المكرَه ضمان إذا أتلف شيئاً؟ A نعم، عليه ضمان، وعلى من أكرهه أيضاً كذلك ضمان، فينقسم الضمان بين المتسبب والمباشر.

حكم من ارتكب محظورا من محظورات الإحرام خطأ أو نسيانا

حكم من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام خطأً أو نسياناً Q من نسي أو أخطأ فارتكب محظوراً من محظورات الإحرام فهل تلزمه الكفارة؟ A نعم، العلماء ذكروا أنها تلزمه الكفارة، كونه ترك واجباً من واجبات الإحرام، كأن يترك مثلاً: طواف الوداع أو نحوه، فعليه الكفارة، لقول ابن عباس: (من ترك نسكاً فعليه دم). وأما من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام خطأً أو نسياناً، كالجماع الذي يفسد معه الحج، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم على قولين: منهم من قال: إذا كان ناسياً لا يكون عليه شيء. ومنهم من قال: بل يكون عليه شيء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل وأخبره بارتكاب المحظور، أمره بالكفارة دون أن يسأله عن كونه ناسياً أم لا، فدلّ هذا على أن الكفارة لازمة في كل حال.

حكم من نسي التشهد الأول ولم يسجد للسهو

حكم من نسي التشهد الأول ولم يسجد للسهو Q إذا ترك واجباً من واجبات الصلاة، ناسياً، مثل: التشهد الأول، ومضى وقت عليه، فماذا يفعل؟ A هذا ترك واجباً يجبره سجود السهو، فإذا لم يأتِ به فإنه يعيد الصلاة؛ لأنه لم يأتِ بجبر الواجب؛ فإذا كان قد مضى عليه وقت وهو لم يسجد للسهو فإنه يعيد الصلاة.

معنى (أو) في حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)

معنى (أو) في حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) Q يقول البعض في (أو) عند قوله: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أنها بمعنى: بل، فيكون معنى الحديث: كن في الدنيا كأنك غريب، بل عابر سبيل. فهل هذا المعنى صحيح؟ A ليس هناك حاجة إليها؛ لأن (أو) للتنويع بين حالتين: حالة إنسان مقيم في بلد، وحالة إنسان مار في بلد، وهما شيئان وكل منهما ليس بمستقر، لا هذا ولا هذا، لكن لا شك الذي هو عابر السبيل أشد غُربة، فـ (أو) هي للتنويع، يعني: هذا أو هذا، والنتيجة واحدة، فكلهم غرباء.

حكم من أكره على ترك الصلاة

حكم من أُكره على ترك الصلاة Q هل يترك الصلاة من أكره على ذلك؟ A يمكن للإنسان المكره أن يصلي على حسب حاله، فيراه الناس جالساً، وهو يصلي وهم لا يدرون عنه، فلو أُكره على عدم الركوع والسجود فيمكنه أن يصلي وهو جالس أو واقف، ويأتي بأفعال الصلاة على حسب طاقته، مثل: الإنسان المربوط في سارية لا يستطيع أن يركع أو يسجد، فيصلي على حسب حاله. فلهذا إذا أُكره فإنه لا يظن أنه لا يستطيع أن يصلي، بل يصلي على الوضع الذي يقدر عليه، دون أن يعلم الذين أكرهوه والله تعالى هو الذي يعلمه.

درجة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

درجة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) Q حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، بناء على الشاهد الذي ذكره الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة، والشواهد العامة التي ذكرها الحافظ ابن رجب، فهل يُجزم بصحة هذا الحديث؟ A الذي يبدو أنه يكون صحيحاً أو حسناً.

حكم تقوية الحديث بظاهر القرآن

حكم تقوية الحديث بظاهر القرآن Q هل من الممكن أن نأخذ قاعدة: الحديث يتقوى بظاهر القرآن؟ A القرآن هو الدليل، وأما الشيء الذي لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يضاف إليه، ولا يقال: إن هذا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن من ناحية أخرى: أنه إذا كان المعنى موجوداً في القرآن، فالحكم مأخوذ من القرآن، والحديث الضعيف وجوده كالعدم.

حكم قتل الكافر المحارب

حكم قتل الكافر المحارب Q ذكرتم أنه لا يجوز قتل المعاهد لإبقاء النفس، فهل يجوز قتله إن لم يكن معاهداً، كأن يكون حربياً؟ A إذا كان حربياً يجوز قتله.

التوفيق بين حديث: (الحلف على نية المستحلف) وبين جواز الحلف على التورية

التوفيق بين حديث: (الحلف على نية المستحلف) وبين جواز الحلف على التورية Q ذكرتم أن للمرء أن يورّي ويحلف على توريته، فكيف يوفق هذا مع حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)، وفي رواية: (الحلف على نية المستحلف)؟ A نعم، هذا يكون في الأمور التي لابد منها، وأما أمور التي يمكن للإنسان أن يتخلص من الناس، كأن يُسأل سؤالاً ليس من حقه أن يُسأل عنه؛ لأنه ما كل طلب يُحقق، لكن من الناس من يكون فضولياً، فيسأل عن أشياء لا ينبغي أن يسأل عنها، فإذا تخلص الإنسان منه بتورية، فما في ذلك بأس.

حكم من لم يحرم من ميقاته وأراد الإحرام من ميقات آخر

حكم من لم يحرم من ميقاته وأراد الإحرام من ميقات آخر Q من ترك الإحرام من الميقات ناسياً وهو مغادر من المدينة فهل له أن يؤخر الإحرام حتى يمر على ميقات أهل رابغ؟ A لا، ليس له ذلك؛ لأنه تجاوز ميقاته الذي يجب عليه أن يحرم منه، فكونه يذهب إلى ميقات آخر ليحرم منه، فليس له ذلك.

حكم العلاج بترديد أسماء الله الحسنى

حكم العلاج بترديد أسماء الله الحسنى Q هناك علاج انتشر، وهو: كيف تعالج نفسك بطاقة الشفاء الموجودة في أسماء الله الحسنى؟ فكل مرض تردد عليه اسماً من أسماء الله فيُشفى بإذن الله، مثل: مرض الأذن، قل: السميع السميع السميع، والعمود الفقري، قل: الجبار الجبار الجبار، العضلات، قل: القوي القوي، فما حكم هذا العمل؟ A هذا مجرد كون الإنسان يسمع هذه الحكاية فإنه يعرف الجواب، وهو أن هذا شيء مخترع محدث، وليس له أساس.

معنى التردد في حديث: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)

معنى التردد في حديث: (وما ترددتُ في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن) Q ما معنى التردد في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)؟ A قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما تردّدتُ في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) ما معنى: (تردد الله)؟ فأجاب بقوله: المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه لا يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله به، كالشيء الواحد الذي يُحَبُّ من وجه، ويُكرَه من وجه كما قيل: الشيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوبُ وهذا مثل إرادة المريض للدواء الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح: (حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات). وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في الحديث، فإنه قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوباً للحق محباً له، يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها، ثم يجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين، بقصد اتفاق الإرادة، وبحيث يحب ما يحب محبوبه ويكره ما يكره محبوبه. والرب يكره أن يُساء عبده ومحبوبه، والله تعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره للمساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مراداً للحق من وجه، مكروهاً من وجه آخر، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه مكروهاً من وجه آخر. وإن كان لا بد من ترجيح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة الرب المساءة لعبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره إساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ولا يريده. فالفرق بينهما أن المؤمن عندما يموت ينتقل إلى نعيم، والكافر ينتقل إلى جحيم، كما جاء في صحيح مسلم وهو أول حديث عنده في كتاب الزهد يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). فهذا هو معنى كلام شيخ الإسلام الأخير هذا، لكن كون الله عز وجل يقال: من صفاته التردد، فلا أدري عن هذا.

حكم ترك الجماعة بسبب قنوت الإمام في صلاة الفجر

حكم ترك الجماعة بسبب قنوت الإمام في صلاة الفجر Q هل يجوز ترك صلاة الجماعة لأن الإمام في بلدنا يقنت في صلاة الصبح دائماً؟ A ليس للإنسان أن يترك صلاة الجماعة من أجل القنوت في الفجر، بل يصلي مع الناس ولو قنتوا، ولكن إذا أمكن أن يكون هناك مسجد آخر لا يقنت فيه الإمام -ولو كان أبعد من الأول- فهذا هو المناسب.

حكم استماع الأناشيد الإسلامية كبديل عن الموسيقى في وليمة العرس

حكم استماع الأناشيد الإسلامية كبديل عن الموسيقى في وليمة العرس Q رجل عاش في مجتمع لهم عادة في وليمة العرس أن يستمعوا الموسيقى، فأراد أن يغير هذا المنكر، فجاء بالأناشيد الإسلامية لمصلحة الدعوة، فهل هذا البديل سائغ؟ A لا، بل هناك بديل أحسن من هذا وهذا، وهو الكلام الذي فيه فائدة، والنفع ليس في الأصوات، ولا الاستماع للنغمات، وإنما يكون بالكلام المفيد الذي يحرك القلوب وينفع الناس.

حكم السفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة

حكم السفر إلى بلاد الكفار لغرض التجارة Q ما هو التفصيل في السفر إلى بلاد الكفار؟ وهل يجوز السفر للتجارة إذا لم تكن التجارة متوفرة في بلاد إسلامية؟ A يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلاد الكفار لغرض صحيح مع قيامه بما يجب عليه في دينه، وعدم تقصيره في شيء مما يجب عليه، وأما إذا كان لا يتمكن من أداء شعائر دينه، وأنه يمنع من ذلك، فإنه لا يسافر ولا يبقى في البلد الذي يكون كذلك. وكونه يسافر لعلاج أو يسافر لتجارة أو يسافر لأي مصلحة شرعية مع تمكنه من قيامه بشعائر دينه فلا بأس بذلك. والأولى ترك ذلك والحرص على عدم الذهاب إلى بلاد الكفار. وأما الجواز: فهو جائز إذا تمكن من أداء شعائر دينه ولم يحصل له الإخلال بشيء من ذلك.

حكم صيام من احتجم أثناء صيامه

حكم صيام من احتجم أثناء صيامه Q احتجمت وأنا صائم، فهل صيامي صحيح؟ A إذا احتجم وهو صائم فإنه يقضي ذلك اليوم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم).

مسامحة من أخذ شيئا للانتفاع به فأخل به أو أتلفه

مسامحة من أخذ شيئاً للانتفاع به فأخلّ به أو أتلفه Q أعطيت سيارتي لأحد أصحابي، وردّها إلي بعد يومين، فوجدت أن السيارة قد خربت بسبب إعطائي له، فهل أسامحه على هذا الخطأ وأسكت، أم آخذ حقي منه؟ A لا شك أن مسامحتك أحسن.

حكم صلاة الظهر قبل صلاة الجمعة

حكم صلاة الظهر قبل صلاة الجمعة Q الناس في بلادي لا يصلون يوم الجمعة الجمعة وحدها، بل يصلون الظهر أيضاً قبل صلاة الجمعة، فهل أصلي معهم؟ A لا، أبداً، هذا لا يجوز؛ فالله سبحانه وتعالى لم يفرض في اليوم والليلة إلا خمس صلوات، ولم يفرض ست صلوات في اليوم والليلة، وهذا من التنطّع والتكلّف، وليس هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة والأسوة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هُمْ أحرص الناس على كل الخير، وأسبق الناس إلى كل خير، ومع ذلك لم يفعلوا هذا، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لكنه شر سلموا منه وابتلي به من ابتلي من بعدهم.

كيفية الخروج من الخلاف والأخذ بالقول الأحوط

كيفية الخروج من الخلاف والأخذ بالقول الأحوط Q ما معنى القول: بأن الخروج من الخلاف أولى؟ ومتى يكون؟ A إذا كانت المسألة فيها خلاف وكان أحد القولين إذا أتى به الإنسان فإنه يكون قد أخذ بالاحتياط، فهذا هو المقصود بالخروج من الخلاف، يعني: الأخذ بالقول الأكثر احتياطاً، مثل ما ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في آداب المشي إلى الصلاة: أن الإنسان إذا جاء وأدرك الركوع فيكبر تكبيرتين تكبيرة الإحرام ثم تكبيرة الركوع، وبعض العلماء قال: تُجزئ تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، قال: والأولى الإتيان بهما جميعاً؛ خروجاً من خلاف من أوجب التكبيرتين، فكون الإنسان يأتي بالتكبيرتين فهذا هو الاحتياط.

حكم تطبيق قاعدة الأخذ بالأحوط في الذهب المحلق

حكم تطبيق قاعدة الأخذ بالأحوط في الذهب المحلّق Q هل يمكن تطبيق قاعدة: الأخذ بالأحوط في مسألة الذهب المحلّق للخروج من الخلاف؟ A لا؛ لأن هذا فيه مقابلة بين الأدلة، ثم أيضاً هذا تضييق على النساء، والنساء قد وسّع الله لهن في لبس الحلي، فيكون ما جاء في النهي عن ذلك شاذاً، ثم الخلاف نادر في هذه المسألة.

حكم من رأى مخطئا فأوصى صاحبا له بنصحه ولم يباشر نصحه بنفسه

حكم من رأى مخطئاً فأوصى صاحباً له بنصحه ولم يباشر نصحه بنفسه Q إذا وجدت أخاً أخطأ أمامي وأنا لا أعرفه، وصاحبي يعرفه، فقلت له: هذا فَعَل كذا فانصحه، فهل هذا الفعل مني صحيح أم لابد أن أنصحه أنا مباشرة؟ A لا شك أنك إذا نصحت المخطئ بنفسك، فهذا أفضل من أنك تأمر غيرك بالنصح.

حكم الدراسة في الجامعات المختلطة

حكم الدراسة في الجامعات المختلطة Q كثير من الشباب الملتزم عندنا يقاطعون المدارس والجامعات المختلطة؛ بحجة حرمة الدراسة فيها، وآباؤهم يُكرهونهم على الدراسة أو الطرد من البيت، فما جوابكم على هذه المسألة؟ A إن الدراسة في الجامعات المختلطة إذا كان الإنسان يجد سبيلاً إلى الابتعاد عنها، فهذا هو المطلوب بالنسبة للرجال. أما بالنسبة للنساء فلا يجوز لهن الدراسة في الجامعات المختلطة مطلقاً، سواء وجدن دراسة غيرها أم لا، فإذا وجد الرجال دراسة مستقلة عن النساء فيتعين عليهم ذلك، وإن لم يجدوا إلا هذه الدراسة وتركوها فإنها تفوتهم هذه المصلحة التي يحتاج إليهم الناس في المستقبل، فإن الرجال يمكنهم أن يدرسوا في الجامعات المختلطة، ولكن عليهم أن يبتعدوا عن النساء، ولا يخالطوهن ولا يتكلموا معهن، والرجل يمكن أن يبتعد عن المرأة، لكن المرأة لا تستطيع أن تبتعد عن الرجل. والحاصل أن الدراسة في الجامعات المختلطة فيما يتعلق بالنساء لا يجوز لهن مطلقاً؛ لأن المرأة ولو ابتعدت عن الرجال فكثير منهم لا يبتعدون عنها، بل يلاحقونها ويضايقونها، ويحصل منهم أفعال سوء وقلة حياء. فإذا كان الرجل لا يجد إلا الدراسة في هذه الجامعات وإلا فسوف يبقى بدون دراسة، ومعلوم أن التدريس في المدارس إنما يكون لأصحاب الشهادات، فإذا ترك الطيبون والمستقيمون هذه الدراسة، فمعنى ذلك أنه يصفو الجو للناس الذين فيهم خلل ونقص، ويكونون هم الذين يتولون التدريس فيما بعد. فله أن يدرس، ولكن عليه أن يبتعد عن النساء، والرجل إذا ابتعد عن المرأة فإنه يسلم منها بإذن الله.

شروط التكفير وموانعه

شروط التكفير وموانعه Q أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا شروط التكفير وموانعه؟ A التكفير ليس بالأمر الهين، ومن الأشياء التي أكره الكلام فيها مسألتان: مسألة الطلاق، ومسألة التكفير، فهي من المسائل التي أجد مشقة عند الكلام فيها، ولا أحرص على الكلام فيها. ومعلوم أن التكفير إنما يرجع فيه إلى ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فتكفيرنا لا يكون إلا لمن كفّره الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، أو أجمع المسلمون عليه، فهذا هو الأساس للتكفير، فإذا وجد شيء من كتاب الله عز وجل أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الأساس الذي يبنى عليه التكفير، وإذا كان بخلاف ذلك فيكون محل نظر.

حكم الاجتماع للحديث العام في أبواب المساجد وممراتها بعد الصلوات

حكم الاجتماع للحديث العام في أبواب المساجد وممراتها بعد الصلوات Q نريد منكم نصيحة توجهونها لطلبة العلم، حيث يقع من بعضهم الوقوف في ممرات الحرم النبوي بعد صلاة العشاء، فيتضايق بعض الناس من تجمعاتهم؟ A الإنسان عليه ألا يعمل شيئاً فيه إضرار بالغير، كأن يكون عند الأبواب أو في الطرق المؤدية إلى الأبواب، فهذا التجمع فيه مضرة، والإنسان إذا كان ولابد له من ذلك فليكن في مكان ليس طريقاً وليس ممراً، فيعدل وينحرف عن الجهة التي فيها الطريق، هذا إذا لم يحصل منه إلا الكلام والفعل الطيب، وأما إذا كان الحديث في أمور الدنيا فلا يصلح أن يكون ذلك في المسجد، بل يفعل ذلك خارج المسجد.

حكم مخالفة أنظمة المرور ودفع الغرامة من الربا

حكم مخالفة أنظمة المرور ودفع الغرامة من الربا Q قطعت الإشارة الحمراء بسيارتي، فهل يجوز أن أدفع الغرامة بمال ربوي لحكومة كافرة؟ A مرورك أو عبورك الإشارة وهي حمراء غلط، ولا يليق بالإنسان أن يكون كذلك، بل عليه أن يتحلى بالأخلاق والآداب الكريمة، والمسلمون عليهم أن يظهروا بمظهر الإسلام، وأن يكونوا قدوة في الأخلاق والآداب، ولا يظهر منهم أشياء يعابون بها ثم يعاب الإسلام بها وهو بريء من ذلك، فإن من المسلمين من يدعو إلى الإسلام بفعله كما يدعو إليه بقوله، ومنهم من يكون بخلاف ذلك، فتكون أفعاله وأقواله مخالفة لما جاء في الإسلام، وهذا يجعل أعداء الإسلام ينتقدون الإسلام مع المسلمين، ويحسبون أن هذه من أمور الإسلام مع أن الإسلام منها بريء. فعلى المسلم أن يتقيد بأنظمة المرور، ولا ينبغي أن يحصل منه تجاوز لها، لاسيما وهذا يترتب عليه أخطار؛ لأن الإنسان إذا رأى الإشارة حمراء ثم عبر، ويأتي من في الشارع الآخر فيعبرون لأن إشاراتهم خضراء، فحينئذٍ يحصل التصادم وتحصل المضرّة، وهذا لا يليق بالمسلم أن يعرض نفسه ولا يعرض غيره للضرر، بل إن وقوفه وعدم إقدامه أمر مطلوب منه، سواء في بلاد المسلمين أو في بلاد الكفار. وأما قضية دفع الغرامة من الربا فليس للإنسان أن يأخذ الربا ولا أن يتعامل به، حتى يحتاج بعد ذلك إلى أن يصرفه هنا أو هناك.

حكم القول بأن التوحيد ينقص

حكم القول بأن التوحيد ينقص Q إذا كان الإيمان يزيد وينقص، فهل نقول: كذلك التوحيد يزيد وينقص؟ A إذا كان المقصود بالتوحيد كون الإنسان يشهد أن لا إله إلا الله مع ما يقوم في القلب، فإن الناس يتفاوتون فيما يقوم في القلب، ولا شك أن من يقولون كلمة الإخلاص هم متفاوتون في العلم بها والإيمان بها، فمن يجريها على لسانه دون العلم بها أو العمل بمقتضاها، يختلف عمن يقولها وهو عالم بمعناها مصدق بها وعامل بمقتضاها. وكذلك أيضاً فيما يتعلق بتوحيد العبادة؛ فالناس يتفاوتون في ذلك، ففيهم المقصّر، وفيهم الذي يأتي بما هو مطلوب منه.

حكم تخميس الفيء

حكم تخميس الفيء Q هل الفيء يُخمّس؟ A الفيء لا يُخمّس، بل يصرف في مصالح المسلمين، وإنما الذي يُخمّس هو الغنيمة، فيكون أربعة أخماس للغانمين، وخمس يصرف في مصارف الخير.

حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن الإجابة

حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن الإجابة Q ما حكم المداومة على رفع اليدين في مواطن إجابة الدعاء مثل رفعها بين الأذان والإقامة؟ A لا نعلم شيئاً محدداً في هذا، بل جاء أن الدعاء مطلق، وليس فيه شيء يدل على رفع اليدين فيه، ولا جاء شيء يدل على المنع من رفعهما، والإنسان إذا رفع فلا بأس، وإن ترك لا بأس. وكونه يداوم على رفع اليدين باعتبار أنها سنة، لا نعلم شيئاً يدل على هذا، وأما كونه يحرص على أن يرفع يديه؛ لأنه يرجو من الله أن يحقق رغبته، فلا نعلم شيئاًَ يمنع من هذا.

[35]

شرح الأربعين النووية [35] شرع الله عز وجل كامل شامل لجميع أمور الحياة؛ وذلك أنه جاء بكل ما يصلح الإنسان في دينه ودنياه، وفي معاملته مع ربه ومعاملته مع الخلق، ومن ذلك ما بينه الشرع الحنيف في كيفية قسمة الميراث بين ورثة الميت، وكذلك بيان المحرمية من النسب ومن الرضاعة، وكذلك بيان حرمة الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

شرح حديث: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك)

شرح حديث: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك) الحديث الثاني والأربعون من الأحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. هذا الحديث هو آخر كتاب النووي الأربعين، وكما هو واضح أن الكتاب ليس فيه أربعون حديثاً، بل هي اثنان وأربعون حديثاً، ولعله ذكر الأربعين تغليباً وحذف الكسر الذي هو بعد الأربعين، فقال عنه: الأربعون. وهذا الحديث هو من الأحاديث القدسية التي يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

ذكر بعض أسباب المغفرة

ذكر بعض أسباب المغفرة هذا الحديث مشتمل على ثلاثة من أسباب المغفرة: السبب الأول: كون الإنسان يدعو الله ويرجو المغفرة. والثاني: كونه يستغفر. والثالث: كونه لا يشرك بالله شيئاً، يعني: يخلص لله في عمله، ويكون سالماً من الشرك.

سعة رحمة الله عز وجل

سعة رحمة الله عز وجل قوله: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)، يعني: أنك إذا دعوت الله عز وجل وألححت عليه في الدعاء وطلبت منه المغفرة ورجوت الله عز وجل ولم تيئس فإن الله تعالى يغفر لك ما كان منك من الذنوب جميعاً ولو تكررت ولو كثرت ولا يبالي، وهذا نظير قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فإذاً: من أسباب المغفرة كون الإنسان يدعو الله ويرجوه أن يغفر له، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يجيبه ويغفر له. ومغفرة الذنوب هو سترها عن الخلق والتجاوز عنها بحيث لا يعاقب عليها، هذا هو مغفرتها؛ لأن الغفر هو الستر، ولهذا قيل للمغفر: مغفر لأنه يستر الرأس ويغطيه عن السهام. فغفر الذنوب سترها عن الناس وعدم إظهارها وحصول ستر الله عز وجل للعبد فيها، وكونه يتجاوز عنها فلا يؤاخذ عليها ولا يعاقب عليها، فيكون كأنه لم يكن، ولكن هذا يكون مع التوبة إلى الله عز وجل، فالإنسان عليه أن يرجو ويدعو وهو تائب لا أن يكون مصراً على الذنب وهو مشغول بالذنب ومهموم بالذنب وشغله متعلق بالذنب وفكره متعلق بالذنب ثم يقول: اللهم اغفر لي، فإن هذا مما يكون على اللسان دون تواطؤ القلب عليه، وإنما يكون الاستغفار نافعاً إذا تواطأ القلب واللسان على ذلك، وكان بتوبة من الله سبحانه وتعالى. قوله: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)، يعني: هنا بين كثرة الذنوب وأنها تبلغ عنان السماء، ويحتمل أن يكون المراد بعنان السماء أنها تصل إلى السماء بكثرتها، أو يقال: إن المراد بالعنان هو السحاب، أي: أنها تبلغ إلى السحاب، أو مع العلم أن الإنسان إذا نظر فإن الذنوب يكون حجمها ومقدارها بالغاً هذا المبلغ، فإذا ما كثرت الذنوب وبلغت هذا المبلغ وعظمت هذا العظم وتاب الإنسان منها واستغفر الله عز وجل، فإن الله تعالى يغفر له ويتوب عليه.

شروط التوبة

شروط التوبة التوبة لابد فيها من شروط: الأول: أن يقلع الإنسان من الذنب، بمعنى: أن يترك الذنب الذي وقع فيه نهائياً ويتخلص منه ويبتعد عنه. الثاني: أن يندم على ما مضى، بأن يندم على فعله الماضي وعلى ذنوبه التي وقع فيها. الثالث: أن يعقد العزم في المستقبل على ألا يعود إلى ذلك. هذا إذا كان الذنب في حق من حقوق الله وفيه كفارة عليه أن يأتي بالكفارة، وإن كان يتعلق بحقوق الآدميين. فالشرط الرابع: أن عليه أن يعيد حقوقهم إليهم أو يطلب منهم الحل والمسامحة.

خطر الشرك وفضل التوحيد

خطر الشرك وفضل التوحيد قوله: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً آتيتك بقرابها مغفرة)، وهذا فيه أن ترك الشرك والسلامة منه وإخلاص العمل لله عز وجل سبب من أسباب مغفرة الذنوب، فإن الشرك إذا لم يتب منه لا يغفر، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فذنب الشرك لا يغفر، وصاحبه معاقب ومخلد في النار أبد الآباد، ولا يخرج منها بحال من الأحوال. وأما ما كان من الذنوب دون الشرك فأمر صاحبها إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وتجاوز ولم يعاقبه على ما حصل منه من الذنوب، وإن شاء عذبه، ولكنه إذا عذبه لا يخلده في النار ولا يعذبه عذاب الكفار، بل يبقى فيها المدة التي شاء الله تعالى أن يبقى فيها لمعاقبته على ما حصل منه من الكبائر، ولكنه بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة. فإذاً: لا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها، وأما أهل الإيمان والتوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً فإنهم وإن بقوا في النار ما بقوا وإن مكثوا في النار ما مكثوا فإن الله تعالى يخرجهم منها ويدخلهم الجنة، كما جاء في هذه الآية من سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فكل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله عز وجل. وكذلك جاءت الأحاديث المتواترة الكثيرة في إخراج أهل الكبائر من النار بشفاعة الشافعين وبعفو أرحم الراحمين؛ فإنها تدل على خروج من كان من أهل التوحيد من النار إن دخلها، وإذا شاء الله تعالى أن يعفو عنه فإنه لا يدخلها، ولهذا يقول الله عز وجل في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض) أي: ملئها أو ما يقارب ملأها. (خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً) يعني: سليماً من الشرك؛ لأن وجود الشرك لا يغفر الله تعالى معه الذنوب، ولهذا فإن المشركين يؤاخذون على شركهم بالله وعلى أعمالهم الأخرى التي يأتون بها مع الشرك؛ والكفار يتفاوتون في الكفر ويتفاوتون في التعذيب في النار، ويتفاوتون في إيذاء المسلمين في هذه الحياة الدنيا، فمنهم من يكون مع كفره يؤذي المسلمين، ومنهم من يكون مع كفره يأتي بالأمور المنكرة والأمور القبيحة فيكون بذلك أسوأ ممن ليس عنده إلا مجرد الكفر، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، ولهذا كان أصحاب النار في النار دركات بعضهم أسفل من بعض، كما أن أهل الجنة في الجنة درجات بعضهم أعلى من بعض، فأهل الجنة يتفاوتون بالرفعة وأهل النار يتفاوتون بالسفل والنزول في النار، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].

زيادات ابن رجب على الأربعين النووية

زيادات ابن رجب على الأربعين النووية لقد زاد الحافظ ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة (795هـ) ثمانية أحاديث وأضافها إلى الأربعين النووية، وهي على نسقها وعلى طريقتها من جوامع الكلم؛ لأن أحاديث الإمام النووي الاثنين والأربعين هي من جوامع الكلم، فأضاف إليها ثمانية من جوامع الكلم فصارت خمسين حديثاً، وقد شرحها في كتابه العظيم (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم).

شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها)

شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أول هذه الأحاديث: [عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) خرجه البخاري ومسلم]. وهذا حديث عظيم وحديث جامع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو أصل في باب الفرائض وقسمة المواريث.

الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل وأوجهها

الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل وأوجهها قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها) أي: ألحقوا الفروض المقدرة في كتاب الله بأهلها، والفروض المقدرة في كتاب الله ستة هي: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، ويقال فيهما على سبيل الاختصار: الثلثان والنصف ونصفهما ونصف نصفهما؛ لأن النصف نصفه الربع، ونصف الربع الثمن، والثلثان نصفها الثلث، ونصف الثلث السدس. ويمكن أن يعكس الأمر فيقال: السدس والثمن وضعفهما وضعف ضعفهما. أو يؤتى في الوسط فيقال: الثلث والربع وضعف كل ونصفه، يعني: يؤتى إلى الوسط ويشار إلى ما تحته وإلى ما فوقه. والثلث تحته السدس وفوقه الثلثان، والربع تحته الثمن، وفوقه النصف. فيقال فيها هذه الأوجه الأربعة في بيان الاختصار بحيث يبدأ بأعلاها ثم ترتب ترتيباً تنازلياً، أو يبدأ بأسفلها وترتب ترتيباً تصاعدياً، أو يؤتى بوسطها ويضاف إليه نصف الاثنين وضعف الاثنين اللذين هما الثلث والربع. فهذه هي الفروض المقدرة في كتاب الله عز وجل.

كيفية قسمة التركة بين الورثة

كيفية قسمة التركة بين الورثة تلحق الفرائض المقدرة بأهلها وكذلك ما ألحق بها من كون الأولاد إذا اجتمعوا ذكوراً وإناثاً فإن القسمة تكون بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، يعني: يرثون تعصيباً، وتوزع التركة بينهم على هذا الأساس، ومعلوم أن الذكر من الأولاد لا يفرض له وإنما يأخذ الباقي بعد الفروض، وكذلك إذا كان معه أخته أو أخواته فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مما هو موجود في كتاب الله عز وجل، وليس مقصوراً على أصحاب الفروض المقدرة؛ لأن أولئك قدر لهم شيء على هذا الأساس، وهو أنهم يرثون تعصيباً ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يختص الذكور بذلك، وإنما يختص الذكور بذلك فيما إذا بعدت القرابة، فإذا بعدت القرابة بحيث تكون الأنثى لا ترث مع أخيها ولا مع ابن عمها وإنما يختص الرجال بذلك كأبناء الإخوة الأشقاء لأب وكالأعمام وأبناء الأعمام والأعمام فإن الأمر يختص بالرجال دون النساء، ولهذا لا ترث العمة مع العم وإنما يرث العم وحده، وابن العم يرث دون بنت العم، وابن الأخ الشقيق يرث دون بنت الأخ الشقيق، وابن الأخ لأب يرث دون بنت الأخ لأب؛ لأن القسمة بين الذكور والإناث إنما جاءت في الفروع مطلقاً؛ حيث قال الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، والأولاد هم البنون وأبناء البنين ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا. وكذلك بالنسبة للإخوة الأشقاء ولأب أنهم إذا اجتمعوا يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وأما أبناء الإخوة إذا جاءوا ومعهم أخواتهم أو بنات أعماهم فإنهم يستقلون بالميراث عن أخواتهم وبنات أعمامهم؛ فلا يعصب ابن الأخ أخته ولا ابنة عمه، وإنما يستقل بالميراث؛ لأن البنات أو بنات الإخوة ليس لهن نصيب من الميراث لو انفردن، فكذلك لا يكون لهن نصيب من الميراث مع إخوانهن أو بني أعمامهن وإنما يختص به الرجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر). فإذاً: تكون القسمة بين الذكور والإناث إذا اجتمعوا خاصة بمن يرثن من الإناث لو انفردن، واللاتي يفرض لهن لو انفردن هن البنات وبنات الأبناء وإن نزلن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب والأخوات لأم؛ فإن لهن ميراثاً مقدراً في كتاب الله ليس على سبيل التعصيب وإنما على سبيل الفرض، فأولاد الأم لكل واحد سدس، وإذا زادوا عن واحد سواء كانوا إناثاً خلصاً أو ذكوراً خلصاً أو ذكوراً وإناثاً فإن لهم الثلث يشتركون فيه ويتساوون فيه، لا يفرق بين الذكر والأنثى؛ لأن ميراثهم إنما كان بسبب قرابة الأم وليس عصبة. والذين يرثون للذكر مثل حظ الأنثيين هم الذين يرثون عصبة ويكون الواحد من الذكور لو انفرد حاز المال كله، ولو كان معه أخته أو أخواته أو إخوانه فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذه القسمة بهذه الطريقة تختص بالأبناء وأبناء الأبناء وإن نزلوا مع أخواتهم، وكذلك بالإخوة الأشقاء مع أخواتهم، والإخوة لأب مع أخواتهم. ثم إنه جاء في السنة ما يستثنى من ذلك وهو أنه لو وجدت بنت ومعها أخت شقيقة وهناك أخ لأب فإن الشقيقة تأخذ الباقي تعصيباً مع الغير كما جاءت السنة في ذلك؛ وذلك لكونها أقرب، ولا يمكن أن يكونوا عصبة؛ لأن الأخ لأب لا يرث مع الأخت الشقيقة ميراثاً واحداً؛ لأن الميراث الواحد للإخوة الأشقاء مع الأخوات الشقيقات وللإخوة للأب مع الأخوات لأب. أما إذا وجدت أخت شقيقة وكان هناك إخوة لأب فإن الميراث الذي يكون بعد النصف أو بعد الثلثين إذا كان هناك بنت أو بنات، تأخذه الأخت الشقيقة أو الأخوات الشقيقات إذا لم يكن معهن إخوانهن، فإن كان معهن إخوانهن فالباقي لهم ولهن للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن إذا كانت الأخت الشقيقة موجودة ولا يوجد معها إخوة أشقاء ولكن وجد معها إخوة لأب فإن الأخت الشقيقة أولى من الإخوة لأب؛ لأنها أقرب إلى الميت منهم، وقد جاءت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستثنى ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها). ويمكن أن يقال: إذا كان المقصود بالفرائض ما جاء التنصيص عليه في الكتاب والسنة والمقصود به بيان من يرث سواء فرضاً أو تعصيباً فإن الأخت الشقيقة يكون لها فرض جاءت به السنة، ولكنه ليس بشيء ترثه على التقدير وإنما على ما بقي؛ لأنه إذا كان هناك بنت للميت أخذت النصف والشقيقة النصف الباقي، وإن كان له ابنتان أو بنت وبنت ابن فإن الشقيقة تأخذ الثلث الباقي، وعلى هذا ليس لها فرض مقدر في كتاب الله ولكن لها فرض بالتعصيب مثل ما جاء في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب والأبناء وأبناء الأبناء مع أخواتهم فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي هذه الصورة إما أن تكون مستثناة من الحديث فلا يعطى المال لأولى رجل ذكر، أو يقال: إن ميراثها جاءت به السنة، وجاء أنها وارثة مع البنت أو مع البنات، وعلى هذا لا يبقى للذكور شيء؛ لأن الإناث قد حزنه، وهذا هو التعصيب مع الغير؛ لأن التعصيب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تعصيب بالنفس، وتعصيب بالغير وتعصيب مع الغير. والعاصب بالنفس: هو الذي إذا انفرد يحوز الميراث بأكمله، وإن كان وحده أخذ ما أبقت الفروض كالابن وابن الابن والأخ الشقيق والأخ لأب، وكذلك الأب والجد؛ فإن هؤلاء يحوزون المال إذا انفردوا، وإذا كان هناك أصحاب فروض أخذ أصحاب الفروض فروضهم وأخذوا ما أبقت الفروض.

جهات قرب الورثة من الميت

جهات قرب الورثة من الميت قوله: (فلأولى رجل ذكر) أولى بمعنى أقرب، وهذا مأخوذ من قول: فلان يلي فلاناً، يعني: أنه بعده، ويليه مباشرة، وليس بمعنى أنه أحق رجل ذكر، وإنما هو أولى وأقرب رجل ذكر إلى الميت. وعلى هذا فإذا ترك الميت أبناء إخوة أشقاء وأبناء إخوة لأب وأعمام وأبناء الأعمام فإن أقربهم الإخوة الأشقاء إذا كانوا موجودين فيحوزون الميراث ويستقلون به إذا كانوا منفردين، وإن كان معهم أصحاب فروض أخذوا ما أبقت الفروض، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر). إذاً: فأقرب هؤلاء الأربعة الأصناف هم الإخوة الأشقاء؛ وقدموا على الإخوة لأب؛ لأن عندهم سببين: سبب القرابة من جهة الأم، وسبب القرابة من جهة الأب، فالجهة واحدة وهي جهة الإخوة. وأما إذا وجد إخوة لأب وأعمام فإن الإخوة لأب أولى من الأعمام؛ لأن الأخ لأب يدلي إلى الميت بأبيه، وأما العم فيدلي إليه بجده، فمن كان متفرعاً عن الأب القريب فهو أولى من المتفرع عن الأب البعيد، وهكذا الأعمام أخوان الجد أو من فوقهم الذين هم إخوان أبي الجد وإن علاء، وكذلك أبناؤهم وإن نزلوا، فكل من يدلي إلى الميت بمن هو قريب منه هو الذي يحوز الميراث، ومن كان أبعد فإنه لا يحوزه سواء كان ذلك في جهة واحدة أو في جهتين، كالإخوة لأب مع الأعمام فإن هؤلاء في جهة وهؤلاء في جهة؛ لأن أبناء الإخوة يدلون بالإخوة وذلك لمشاركتهم الميت في أبيه، وأما الأعمام فيشاركون الميت في جده وليس في أبيه، فمن يدلي إلى الميت بالأب القريب أولى ممن يدلي إليه بالأب البعيد الذي هو فوق القريب. وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: (لأولى رجل ذكر) يعني: من كان قريباً إلى الميت، سواء كان ذلك القرب من جهة واحدة أو من جهتين، وهناك من يدلي إلى الميت بسببين كالأم والأب وهناك من يدلي بسبب واحد وهو الأب فقط، فإن الإخوة الأشقاء مقدمون على الإخوة لأب؛ لأن هؤلاء يدلون بالأم والأب وهؤلاء يدلون بالأب فقط، فكانوا أولى وأقرب إلى الميت من هؤلاء. وهكذا إذا كان ذلك في جهتين كما قلنا بالنسبة للإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب مع الأعمام الذين يدلون بقرابتهم إلى الميت في مشاركتهم في جده؛ لأن العم يشارك الميت في أب أبيه، وأما الأخ فيشاركه في أبيه، ومن يشارك في الأب أولى ممن يشارك في الجد.

سبب ذكر تقييد الرجل بالذكر في الحديث

سبب ذكر تقييد الرجل بالذكر في الحديث قوله: (لأولى رجل ذكر) معلوم أن الرجل هو الذكر والذكر هو الرجل، فلماذا جاء ذكر الذكر مع ذكر الرجل؟ علل العلماء بتعليلات متعددة، ولكن يبدو أن أقربها هو: أن الرجل عندما يذكر فإنه يتبادر الذهن إلى نجدته وقوته ونصرته وأنه رجل؛ لأن الصغير لا يقال له: رجل، وإنما يقال له: ذكر، فلما كان الأمر لا يختص بأصحاب النجدات والإعانات والنصرة والقوة والدفاع عن الميت لكونه عنده قدرة على ذلك وإنما الأمر يتعلق فقط بالإرث، أضاف إلى ذلك شيئاً يبين أنه ليس الأمر خاصاً بمن يوصف بأنه رجل وهو الذي عنده قوة وعنده شدة وعنده إعانة. فإذاً: جاء ذكر الذكر بعد ذكر الرجل ليبين أن الأمر لا يختص بالرجال وإنما هو بالذكور الذين يقابلون الإناث. ولهذا جاء في ميراث الأبناء إذا اجتمعوا مع البنات مع أخواتهم والإخوة إذا اجتمعوا مع أخواتهم قوله عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]؛ لأن الذكر يقابل الأنثى والرجل يقابل المرأة، والمرأة غالباً تطلق على الكبيرة والرجل يطلق على الكبير، والأمر لا يختص بالرجال والنساء الكبار وإنما هو للذكور، فيستوي في ذلك من بلغ عمره مائة سنة ومن عمره سنة أو أقل من سنة، فما دام أنهم أبناء للميت أو إخوة للميت أشقاء أو لأب فإنهم يتساوون في الميراث لا يفرق بين كبير وصغير، بل ذلك منوط بالذكورة والأنوثة، ولهذا قال عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] فيما يتعلق بميراث الأبناء، وجاء في الإخوة الأشقاء في آخر سورة النساء: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176]، يعني: أن الذكور لهم ضعف الإناث سواء كان الذكور كباراً أو صغاراً، وسواء كانت الإناث كباراً أو صغاراً. وعلى هذا فهذا الحديث إذا ضم إلى آيات المواريث وإلى ما جاءت به السنة من أحاديث تبين بعض أنواع المواريث مثل ما ذكرنا في مسألة الشقيقة مع البنت أو البنتين فإنها تكون مقدمة على الإخوة لأب، ولا يقال: إن قوله: (لأولى رجل ذكر) بأن أولى رجل ذكر الذي يستقل عن الأنثى هو الذي لا يفرد فيه إلا الأنثى لو انفردت، كأبناء الإخوة الأشقاء وأبناء الإخوة لأب وكذلك الأعمام وأبناء الأعمام فإن الذكور هم الذين يستقلون بالميراث.

الوارثون بالتعصيب

الوارثون بالتعصيب جاءت السنة بتوريث العصبة الذين هم عصبة بالنفس في المعتقة والمعتق، وهذا بسبب الإعتاق وبسبب النعمة على المعتق، فإنهم يرثون المعتق سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، والنساء ليس فيهن من يرث بالتعصيب بالنفس إلا المعتقة فقط، كما يقول صاحب الرحبية: وليس في النساء طراً عصبة إلا التي منت بعتق الرقبة يعني: أن النساء ليس فيهن عصبة بالنفس إلا التي منت بعتق الرقبة التي هي المعتقة، فإنها ترث ولكن هذا الميراث بعد أن ينتهي العصبة من جهة النسب وإن علوا وإن نزلوا، كالأعمام وإن علوا، وكأبناء الأعمام وأبناء الإخوة وإن نزلوا، فإن الإرث بالتعصيب في النسب مقدم على الإرث بالتعصيب بالسبب الذي هو العتق، لكن العتق يكون فيه ميراث النساء بالنفس، وعلى فهذا فهناك ميراث تعصيب بالنفس وتعصيب بالغير. والذين يرثون بالتعصيب بالنسب هم: الذكور الذين يستقلون بالميراث لو انفردوا والمعتق والمعتقة إذا انفردوا، والمعتقة تأتي من الإناث فيمن يرث بالتعصيب بالنفس. والذي يرث بالتعصيب بالغير هي المرأة التي يفرض لها لو انفردت، ولكنه إذا جاء معها أخوها فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين كالبنات والبنين وكأبناء البنين وبنات البنين فإنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وكالإخوة الأشقاء مع أخواتهم الشقيقات والإخوة لأب مع أخواتهم لأب، فإن الأنثى إذا انفردت فرض لها النصف، كالبنت وبنت الابن والشقيقة والأخت لأب، وإن كن أكثر من واحدة فرض لهن الثلثان، وسواء كان هذا الميراث بطبقة واحدة أو بطبقتين فإذا لم توجد بنتان ولكن وجد بنت وبنت ابن فإن البنت يكون لها النصف وبنت الابن يفرض لها السدس تكملة الثلثين؛ لأن البنات المجتمعات لا يحصلن أكثر من ثلثين، فإن كن في درجة واحدة حزنه بالتساوي، وإن كن في درجتين فإن التي في الدرجة الأولى تأخذ النصف والتي في الدرجة الثانية وهي بنت الابن مع البنت يفرض لها السدس تكملة الثلثين، وهكذا الأخت لأب مع الأخت الشقيقة فإنه يفرض للشقيقة النصف والأخت لأب يفرض لها السدس تكملة الثلثين؛ لأنهن يرثن ميراث الأخوات، والأخوات يكون لهن الثلثان. لكن إذا وجد معهن إخوانهن صار للذكر مثل حظ الأنثيين، فالبنات مع البنين وبنات الأبناء مع بني البنين الذين في درجة واحدة يشتركون في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك الإخوة الأشقاء مع الأخوات الشقيقات والإخوة لأب مع الأخوات لأب يكون للذكر مثل حظ الأنثيين. فالعصبة بالغير أربعة أصناف: اللاتي يفرض لهن النصف لو انفردن، واللاتي يفرض لهن الثلثان لو اجتمعن، وإذا جاء معهن إخوانهن فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإن انفردن فالنصف لواحدة والثلثان لاثنتين فأكثر، وسواء كن في طبقة واحدة كالبنات أو في طبقتين كالبنات وبنات الابن فإن الميراث يكون الثلثين فقط، وهذا هو التعصيب بالغير. وأما التعصيب مع الغير فميراث الأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع البنات، فالأخوات مع البنات عصبات. فإذا وجدت شقيقة مع بنت أو بنتين فإنها تأخذ الباقي، فإن كانت مع بنت واحدة أخذت الباقي وهو نصف، وإن كانت مع ابنتين أخذت الباقي وهو الثلث. وكذلك الأخت الشقيقة إذا كانت واحدة فلها النصف، وإن كن اثنتين فلهن الثلثان، والأخوات لأب ليس لهن شيء، كما أن بنات الأبناء ليس لهن شيء إذا حاز البنات الثلثين. فإن وجدت شقيقتان ووجدت أخت لأب فإنها لا تأخذ الباقي. والأخوات الشقيقات يأخذن الباقي بعد فرض البنت ويقدمن على الإخوة لأب؛ لأنهن يدلين إلى الميت بقرابتين، بخلاف الأخ لأب فإنه يدلي إلى الميت بقرابة واحدة. هذا هو ما يتعلق بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر).

شرح آيات المواريث

شرح آيات المواريث في مسألة المواريث ذكر الله عز وجل ثلاث آيات في سورة النساء، الآية الأولى: تتعلق بعمودي النسب وهم أصول الميت وفروعه، وأصول الميت هم آباؤه وأمهاته، وفروعه هم أبناؤه وبناته وأبناء بنيه وإن نزلوا. والآية الثانية: تتعلق بميراث الزوجين والإخوة لأم الذين لا يرثون إلا بالفرض وليس لهم تعصيب، ولا يرثون بالتعصيب بحال، وهؤلاء يرثون من جهة قرابة الأم ومن جهة الزوجية ونصيبهم إنما هو بالفرض فقط. وأما القسم الأول المذكور في آية العمودين ففيه فرض وفيه تعصيب؛ لأن الأب يفرض له ويرث بالتعصيب، والابن لا يرث إلا بالتعصيب والبنت يفرض لها، والبنتان يفرض لهما ومع إخوانهما يشتركون للذكر مثل حظ الأنثيين. أما الآية التي في آخر سورة النساء وهي الثالثة فهي في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب وميراثهم على طريقة ميراث الأبناء، وهي في الكلالة، ومعنى كلالة: ألا يكون للميت أصول ولا فروع، أي: ليس له ولد ولا والد، فمن ليس له ولد ولا والد فإنه يورث كلالة؛ لأنهم كالمحيطين بالميت بخلاف الأصول فإنها فوقه والفروع تكون تحته، وأما الإخوة فهم محيطون به، فقيل لهم: كلالة، فيرثون كلالة إذا لم يكن للميت والد ولا ولد. فالإخوة للأم كذلك لا يرثون إلا عند عدم الولد والوالد، وكذلك الإخوة الأشقاء والإخوة لأب لا يرثون إلا عند عدم الولد والوالد، ولكن كما هو معلوم أنه بالنسبة للولد الذكر أو الذكور والإناث يأخذون الميراث ولا يبقى للإخوة شيء، وأما إذا كانوا إناثاً خلصاً فلهن النصف أو الثلثان والباقي يأخذه أقرب من يكون للميت، والإخوة الأشقاء هم أقرب من يكون للميت إذا لم يكن له أصول ولا فروع، وميراثهم على طريقة ميراث الأبناء، فإن الأخت الواحدة لها النصف والبنتين لهما الثلثان، وهكذا الأختان الشقيقتان أو لأب لهما الثلثان، فإذا كن اثنتين فأكثر فإنهن يشتركن في الثلثين، ولو وجدت أخت شقيقة وأخت لأب فإن الأخت الشقيقة لها النصف والأخت لأب لها السدس تكملة الثلثين؛ لأنهن يرثن بالإخوة الثلثين، فتكون الأقرب منهن الشقيقة لها النصف والتي هي أبعد والتي هي أبعد منها لها بقية الثلثين، وإذا اجتمع الذكور والإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين، وإذا كان هناك إخوة أشقاء مع أخواتهم أو إخوة لأب مع أخواتهم فإنه للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن وجد ذكور خلص فإن الإخوة الأشقاء يحجبون الإخوة لأب؛ لأنهم يدلون إلى الميت بسببين وهما: الأبوة والأمومة، والإخوة لأب إنما يدلون إليه بالأبوة فقط.

الفرق بين خرجه فلان ورواه فلان

الفرق بين خرجه فلان ورواه فلان ويلاحظ في تعبير ابن رجب رحمه الله عند التخريج أنه يقول: خرجه فلان، وأما النووي فإنه يقول: رواه فلان، فـ ابن رجب حين يعبر بالتخريج يقول: خرجه البخاري ومسلم خرجه مسلم خرجه البخاري خرجه أبو داود، ولا فرق بين هذا وهذا، وكل من التعبيرين صحيح؛ فإن قيل: رواه البخاري ومسلم أو قيل: خرجه البخاري ومسلم فالمعنى والمؤدى واحد.

شرح حديث: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة)

شرح حديث: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة)، أخرجه البخاري ومسلم. هذا أيضاً من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإن كل واحدة من النسب يحرم مثلها من السبب الذي هو الرضاع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تحرم الرضاعة ما تحرم الولادة)، وهذا يمكن أن يعرف عن طريق المحرمات بالنسب ثم ما يماثلهن من الرضاعة.

حد الرضاع المحرم

حد الرضاع المحرم العلماء لهم تفاصيل فيما يتعلق بالرضاعة وبيان كيفيتها. ومما يدخل في مسائلها أن التحريم إنما يكون بخمس رضعات فأكثر، فإذا قل عن خمس رضعات فإنه لا يحرم، كما ثبتت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن يكون ذلك في زمن الرضاعة وهو الحولان، فرضاع الكبير لا يؤثر ولا عبرة به، وما جاء في قصة سالم مولى أبي حذيفة هذا خاص به، ولا يقال: إنه يتعداه إلى غيره، ولو قيل بتعديه لأمكن كل امرأة أن تتخلص من زوجها بأن تحلب من ثديها في كأس ثم تعطيه ويشرب وهو لا يدري، فإذا فرغ قالت: أنا أمك من الرضاعة وتخلصت منه، فرضاع الكبير لا يؤثر، وإنما جاء ذلك في قصة سالم مولى أبي حذيفة وهو خاص بـ سالم مولى أبي حذيفة فلا يتعداه إلى غيره. فإذاً: الرضاع يكون خمس رضعات فأكثر وفي المدة التي ينفع فيها الرضاع ويسد الرضاع فيها الجوع، وأما إذا كان تغذى الطفل بالطعام وفطم عن الرضاع فإن رضاعه لا عبرة به.

المحرمية بالرضاع

المحرمية بالرضاع لو رضع طفل من امرأة فإنه يكون أخاً لجميع أولادها ولو كانوا من عدة أزواج قبل الذي رضع من لبنه وهو زوجها أو بعده، أي: إذا كانت قد تزوجت بعدة أزواج ولها من كل زوج أولاد فرضع شخص من لبنها مع أحد أولادها من الرجل الذي هو زوجها في الوقت الحاضر، فإنه يكون أخاً لجميع أولادها السابقين واللاحقين، ويكون أيضاً أخاً لأولاد صاحب اللبن ولو كانوا من عدة زوجات، سواء كانوا قبل هذا الرضاع أو بعد هذا الرضاع؛ وهذا يكون خاصاً بالمرتضع، أما إخوانه الذين لم يرضعوا فلا علاقة لهم بهذا التحريم، وكذلك يكون المرتضع ابناً لجميع أمهات المرضعة، ويكون ابناً للفحل وأخاً لجميع أولاده وابناً لأمهاته وآبائه، كل ذلك يختص به هذا المرتضع الذي رضع اللبن فهو الذي ينفرد بالحرمة ويحصل له هذا الانتشار الواسع، وأما الذين لم يحصل لهم رضاع من أقاربه فإنه ليس لهم علاقة بهذا التحريم.

شرح حديث: (إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر)

شرح حديث: (إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر) الحديث الخامس والأربعون: عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يقول: (إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ قال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) رواه البخاري ومسلم. يعني: لما حرمت عليهم الميتات عمدوا إلى الشحوم فأذابوها وباعوها على أنها ودك لا شحم، وهذا من حيل اليهود التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم احتالوا على ما حرم الله فحولوه إلى شيء آخر، وصار له اسم آخر والنتيجة واحدة، والله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله حرم جاء في بعض الروايات: (حرما) بالتثنية؛ لأن الضمير يرجع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذه الرواية التي فيها الإفراد: (حرم) فإنه يقال فيها: إن الضمير يرجع إلى الثاني الذي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير الذي يرجع إلى الله محذوف وتقديره: إن الله حرم ورسوله حرم، فيكون خبر الأول محذوفاً والثاني موجوداً، ويكون هذا مثل قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] يعني: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه. وكذلك قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف يعني: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ، فحذف الخبر في الأول فقال: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ بدلالة الثاني على الأول، أي: بدلالة المذكور على المحذور، فيكون ذكر الضمير على سبيل الإفراد هو من هذا القبيل.

تحريم بيع الميتة والخمر

تحريم بيع الميتة والخمر قوله: (حرم بيع الخمر والميتة)، الميتة هي حرام أكلها وبيعها؛ لأن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، فلا يقال: إنه يتخلص من المحرم ببيعه ثم يؤكل ثمنه، بل ما هو حرام فإنه يحرم بيعه، والخمر حرمت لما فيها من الفساد ولما فيها من الضرر ولما فيها من زوال العقل، بهذه اللذة التي صار إليها من ابتلي بها، وهي لذة عاجلة تعقب حسرة وتعقب ندامة، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم الخبائث؛ لأن الإنسان إذا أتى بها وسكر فإن كل شيء يمكن أن يفعله، حتى إنه قد يزني بمحارمه والعياذ بالله؛ لأن عقله قد ذهب وليس بموجود، ولهذا يقول ابن الوردي في لاميته العظيمة التي يقول فيها في شطر من شطر أبياتها: كيف يسعى في جنون من عقل فهذا شيء عجيب! فإنسان أعطاه الله عقلاً ثم كيف يسعى باختياره وإرادته إلى أن يكون من جملة المجانين؟! ومعلوم أن السكران يذهب عقله والعياذ بالله! فيحصل منه أنواع الخبائث، ولهذا قيل للخمر: إنها أم الخبائث؛ لأنها تؤدي إلى الخبائث، فالإنسان إذا فقد عقله يتصرف تصرفات خبيثة وقد يقع فيها على محارمه والعياذ بالله! وقد يحصل منه أمور منكرة وأمور مستقذرة مثل قصة سكران كان يبول ويأخذ بوله ويشربه ويغسل به وجهه! وكل هذا قبح وسوء، سببه ونتيجته هو تضييع العقل وإفساد العقل. إذاً: فالله تعالى حرم الميتة فلا تؤكل ولا تباع، وحرم الخمر فلا تشرب ولا تباع، وحرم الخنزير فلا يؤكل ولا يباع، وكذلك حرم الله الأصنام فلا يجوز بيعها، وإن كانت أعيانها قد تكون طاهرة وتكون سليمة فقد تكون من حجارة أو من خشب فلا يجوز بيعها؛ لأنها أصنام تعبد من دون الله، لكن لو كسرت وحطمت وصارت قطعاً فإنه يمكن الاستفادة من هذه القطع وهذه الكسر؛ لأنها خرجت عن كونها صنماً، فيمكن أن يستفاد من هذه الحجارة في بناء أو في غير ذلك.

حكم شحوم الميتة وجلودها

حكم شحوم الميتة وجلودها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى ورسوله حرم الميتة) هناك شيء يتعلق بشحوم الميتة، فقد سأل رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟) يعني: يتخذونها للإضاءة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، هو حرام)، وقد اختلف العلماء في قوله: (هو حرام) هل يرجع إلى البيع أو يرجع إلى هذه الأمور التي ينتفع بها؟ فمنهم من قال: إن التحريم يرجع إلى البيع، ومنهم من قال: إن التحريم يرجع إلى الاستفادة منها والاستصباح ودهن الجلود وطلاء السفن، يعني: أن تطلى من الخارج بهذه الأدهان بحيث لا يؤثر فيها الماء وكثرة سيرها في الماء ومكثها في الماء، فيكون ذلك مما يساعد ويعين على سلامتها وعلى بقائها وعدم تأثرها. ولا شك أن عدم استعمال الميتة وما يتعلق بها أولى، وإنما يستثنى من ذلك الجلود، فإنه يجوز الاستفادة بها بعد الدبغ؛ لأنها تطهر بالدبغ كما جاءت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يكون خاصاً فيما يؤكل لحمه ويكون ميتة، والمذكى كما هو معلوم مما يؤكل لحمه يمكن الاستفادة من جلده، ولا يقال: إنه نجس كالميتة، وإنما هو طاهر، ولكنه يدبغ من أجل إزالة الشعر والاستفادة منه. أما إذا كان الجلد مما لا يؤكل لحمه كالحمير والكلاب والخنازير وغير ذلك فإنه لا يستفاد منه ولا ينتفع به، وإنما الاستفادة تكون من مأكول اللحم؛ لأنه هو الذي تنفع فيه الذكاة، وأما ما لا يؤكل لحمه فهو بمنزلة الميتة وإن ذكي؛ لن ذكاته لا تخرجه من كونه ميتة. ثم قال: (قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) يعني: أذابوه وصار بدل ما كان شحماً يقال له: ودك، فباعوه وأكلوا ثمنه، وهذا من حيلهم التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حرام. فالخمر لا يستفاد منها ببيعها ولا يستفاد منها بشيء، وإنما يجب إراقتها وإتلافها، والميتة كذلك لا يستفاد منها إلا بجلدها إذا دبغ، وكذلك الأمور الأخرى لا يستفاد منها لا بالأكل بالنسبة للخنزير ولا بالبيع، وكذلك بالنسبة للأصنام لا يستفاد منها ببيعها؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإشراك بها مع الله، وكونها تعبد من دون الله وفي ذلك مضرة، وإنما تحطم وتكسر ولا تبقى صنميتها ووثنيتها، ويمكن أن يستفاد منها في بنيان أو في جدار؛ لأنها لم تبق صنماً.

شرح حديث: (كل مسكر حرام)

شرح حديث: (كل مسكر حرام) قال ابن رجب رحمه الله تعالى: عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة فيها فقال: وما هي؟ قال: البتع والمزر، فقيل لـ أبي بردة: ما البتع؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير، فقال: كل مسكر حرام) خرجه البخاري. قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام)، هذا جواب جامع يدخل فيه المسئول عنه وغير المسئول عنه، وأن القضية معلقة بالإسكار، فكل ما أسكر فإنه حرام سواء كان من الشعير أو من العسل أو من العنب أو من التمر أو من أي شيء، وسواء كان جامداً أو سائلاً أو مسحوقاً أو غير مسحوق، كل ذلك حرام؛ لأن الأمر علق بالإسكار. فقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر حرام) هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما سئل بعض الصحابة عن الباذق -وهو نوع من الشراب- قال: (سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق، فقال: (كل مسكر حرام))، يعني: أن الشريعة في عموماتها وكلياتها يدخل فيها ما كان معروفاً وما ليس بمعروف، فقوله: (كل مسكر حرام)، أنيط الحكم بالإسكار في جميع أحواله سواء كان سائلاً أو جامداً أو دقيقاً أو أي شيء آخر، ولا ينظر إلى ما وراء ذلك. ثم إن قوله: (كل مسكر حرام)، يكون في القليل والكثير، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، وإنما حرم القليل الذي لا يسكر؛ لأنه ذريعة إلى المسكر، وهذا من باب سد الذرائع ومنع الأشياء التي توصل إلى الغايات، فالقليل وإن كان لا يسكر فإنه حرام. فالرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن نوعين من النبيذ فعلق الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر بالإسكار، وهذا معناه: أنه إذا كان غير مسكر فلا بأس، وإن كان مسكراً فهو حرام، وقد جاء في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الانتباذ في أوعية غليظة يمكن أن يحصل الإسكار فيها ولا يظهر على الخارج منها، وهي الدباء وهو القرع الذي يخرج لبه ثم ييبس ويكون يوضع يكون فيه النبيذ، وكذلك الحنتم وهي جرار ينتبذ بها، والمقير وهو الذي طلي بالقار، والمزفت وهو الذي طلي بالزفت، وكانت هذه أشياء غليظة يمكن أن يحصل فيها الإسكار ولكن لا يظهر على خارجها، وليست كالأسقية التي هي من الجلود؛ فإنها إذا حصل تغير في داخلها ظهر على سطحها، أما هذه فلا يظهر على سطحها، وكان هذا في أول الأمر، ثم إن ذلك نسخ بما يوافق هذه القاعدة التي جاءت في حديث أبي موسى وكذلك في حديث بريدة بن الحصيب الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الناسخ والمنسوخ في ثلاثة أمور فقال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ألا فادخروا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في أوعية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً). أي: المهم ألا تستعملوا شيئاً يوصل إلى حد الإسكار، فما أسكر كثيره لا تستعملوه لا كثيره ولا قليله، فهذا الحديث بين فيه صلى الله عليه وسلم أن الأمر يتعلق بالإسكار، وأنه إذا لم يصل إلى حد الإسكار في الكثير فإنه لا بأس بالقليل والكثير، وإن كان كثيره يسكر وقليله لا يسكر فإنه يحرم الكثير والقليل. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو موسى عن هذين الشرابين اللذين كانا موجودين في اليمن وهما: نبيذ العسل، ونبيذ الشعير، ما أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما وإنما أجابه بقاعدة كلية يندرج تحتها المسئول عنهما وغيرهما، فذكر له: أن كل مسكر حرام وكل ما لم يسكر فإنه حلال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الأدوية التي يدخل في تركيبها الكحول

حكم الأدوية التي يدخل في تركيبها الكحول Q كل مسكر حرام قليله وكثيره فكيف بنسبة الكحول في الدواء؟ A الشيء الذي يتخذ للعلاج إذا كانت نسبته قليلة مع الدواء فإن ذلك لا يؤثر، مثل البنج فقد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله أن استعمال البنج في الدواء حتى يغيب العقل من أجل قطع شيء من الإنسان بحيث لا يشعر أن ذلك جائز.

حكم العطور المشتملة على كحول

حكم العطور المشتملة على كحول Q كل العطور الآن تصنع من الكحول، فما مقدار كمية الكحول الجائزة؟ A هذا الكلام ليس بصحيح، لا يقال: كل العطور تصنع من الكحول؛ فكم هناك من العطور التي لا كحول فيها! وكم من طيب ليس فيه شيء من الكحول! ولكن إذا كان هناك طيب فيه كحول وطيب سالم من الكحول فكون الإنسان يأخذ الحلال البين ويترك الشيء الذي هو مشتبه أولى؛ حتى يتقي الشبهات لئلا يقع في المحرم.

حكم التماثيل المتخذة للزينة

حكم التماثيل المتخذة للزينة Q ما حكم التماثيل التي تباع ويتخذها الناس كزينة في البيوت؟ A ليس للناس أن يحوزوا هذه التماثيل ولا أن يقتنوها، بل يجب أن تحطم وتتلف، ولا يجوز أن يقتني الناس تماثيل؛ لأن التماثيل كما هو معلوم هي وسيلة إلى الشرك.

توحيد الضمير في قوله: (إن الله ورسوله حرم)

توحيد الضمير في قوله: (إن الله ورسوله حرم) Q ألا يكون قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله حرم) من باب التأدب مع الله عز وجل حتى لا ينسب التشريع لكليهما؟ A قد جاء في الحديث في بعض الروايات الصحيحة: (إن الله ورسوله ينهيانكم) وكذلك جاء: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).

نجاسة عين الخمر

نجاسة عين الخمر Q هل الخمر نجسة العين؟ A من العلماء من قال: إنها نجسة العين وأن الإنسان إذا وقعت عليه فإنه يزيل تلك النجاسة.

بيان محرمية الرضاع

بيان محرمية الرضاع Q في أي شيء تكون محرمية الرضاع؟ A تكون بما يماثلها من النسب؛ فالأخت من الرضاع كالأخت من النسب، والأم من الرضاع كالأم من النسب، والجدة من الرضاع كالجدة من النسب، والجد من الرضاع كالجد من النسب، والابن من الرضاع كالابن من النسب، وكذلك حليلة الابن من الرضاع كحليلة الابن من النسب، كما ذكر ذلك العلماء وقالوا: إن قوله تعالى: {وحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23]، فقوله: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] ليس إخراجاً لزوجات الأبناء من الرضاعة وإنما جاءت في إخراج زوجات الأبناء المتبنين؛ فإن ذلك لا يحرم وإنما الذي يحرم هو زوجة الابن من الرضاع كزوجة الابن من النسب.

[36]

شرح الأربعين النووية [36] جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم أحاديث تجمع معاني كثيرة في ألفاظ قليلة، ومن تلك الأحاديث: حديث علامات المنافق، وحديث التقلل من الطعام، وحديث التوكل على الله، وحديث الحث على ذكر الله، وهذه الجوامع مما اهتم بها العلماء وحرصوا على جمعها واعتنوا بشرحها، فينبغي الاعتناء بها والاستفادة منها.

شرح حديث: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه)

شرح حديث: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه) الحديث السابع والأربعون من الأحاديث الخمسين بتتمة ابن رجب، وهو الحديث الخامس من الأحاديث الثمانية التي زادها ابن رجب: عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن، بحسب امرئ أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن. ذكر المصنف تخريجه عن الإمام أحمد وعن ثلاثة من أصحاب السنن الأربعة وهم من عدا الإمام أبا داود رحم الله تعالى الجميع. وكان من طريقة الإمام النووي رحمه الله عندما يخرج الأحاديث أن يقول: رواه فلان وفلان، فيعبر بـ (رواه)، وأما الحافظ ابن رجب فإنه يعبر بـ (خرجه) وأحياناً يعبر بـ (رواه)، ولا فرق بين خرجه ورواه، فإن المقصود به المؤلف الذي روى هذا الحديث في كتابه بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن)، الوعاء هو: الظرف الذي توضع فيه الأشياء، والبطن هو: الذي يوضع فيه الطعام، وإذا أُكثر من الطعام أدى إلى تخمة وصار ضرراً وشراً على صاحبه؛ وذلك لما ينتج عنه من الكسل والخمول والفتور، وما يحصل عنه أيضاً من الأمراض والأمور المنغصة. وبعد أن بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن البطن هو شر وعاء يملأ أرشد عليه الصلاة والسلام إلى الطريقة المثلى في الأكل وهي أخذ الكفاية، ثم بين هذه الكفاية فقال عليه الصلاة والسلام: (بحسب امرئ) أي: يكفيه (أكلات يقمن صلبه)، أكلات: جمع أكلة، أي: لقيمات يقمن صلبه، وصلبه هو ظهره، وذلك أنه إذا أكل الإنسان وحصل له التغذي بالطعام فإنه يكون عنده نشاط وتكون عنده قوة وفيه حياة، وإذا ذهب عنه الطعام أدى به ذلك إلى السقام وإلى المرض، وربما أدى به ذلك إلى الموت بسبب الجوع. وقوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب) الحسب هنا بمعنى الكافي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أي: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين، وقد مر في حديث أبي هريرة: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، أي: لو لم يكن عنده من الشر إلا هذا لكان كافياً فكيف إذا كانت عنده شرور أخرى، فإن ذلك شر إلى شر وضرر إلى ضرر. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الإنسان إذا لم يكتف بهذه الأكلات التي يحصل بها إقامة الصلب إلى هذه القسمة الثلاثية، وهي أن يكون ثلث بطنه لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه. فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أحوال للناس: فالحالة الأولى: حال من يملأ بطنه، وبذلك يتعرض لأسباب الأمراض وللأسقام وللكسل والخمول، والحالة الثانية: حال من يأتي بالطريقة التي فيها الكفاية، وهي الأكلات التي يقمن صلبه، وإذا كان ولا بد فهناك شيء بين الكفاية والامتلاء، وهو أن يملأ الثلثين ويبقى ثلث يكون فيه مجال للتنفس وهذه هي الحالة الثالثة. فهذا هو هديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالمآكل والمشارب.

شرح حديث: (أربع من كن فيه كان منافقا)

شرح حديث: (أربع من كن فيه كان منافقاً) قال المصنف رحمه الله: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر) خرجه البخاري ومسلم. هذه أربع خصال إذا اجتمعت في الإنسان صار منافقاً، وإذا وجدت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق. والمراد بالنفاق هنا: النفاق العملي وليس النفاق الاعتقادي، والنفاق العملي هو الذي لا يخرج من الملة، والنفاق الاعتقادي هو النفاق المخرج من الملة، وهو الذي أصحابه مخلدون في النار، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. فأقرب الأقوال في معنى النفاق هنا أنه النفاق العملي الذي هو إخلاف الوعود والفجور في المخاصمة، وكذلك الغدر عند المعاهدة والكذب، والمطلوب من المسلم أن يكون متحلياً بضد هذه الخصال، فيكون عند الحديث صادقاً، فلا يقدم على الكذب ولا يحدث صاحبه بما هو كذب، ويحذر من أن يكون من أهل الفجور والكذب، وإذا لم يحدث بما هو صدق فليمسك عن الكلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). وقوله: (وإذا وعد أخلف) هذا يكون فيمن يعد وفي نيته أن يخلف، فهذا هو الوصف المذموم، وأما إذا وعد الإنسان وهو يريد ألا يخلف ثم حصل له مانع يمنعه من الوفاء بالوعد وحصل له أشياء تحول بينه وبين تنفيذ ما وعد فإن هذا لا يكون آثماً، وإنما الآثم هو الذي من شأنه أن يعد وهو غير صادق في وعده. وقوله: (وإذا خاصم فجر) أي: أنه إذا خاصم لا يتحاشى في الكلام، بل يزيد في الكلام ويتكلم بالكلام الباطل في حال الخصومة، والأصل أن يمسك المرء لسانه عند الخصومة فلا يتعدى ولا يتجاوز ولا يتكلم إلا بما هو خير، ولا يتكلم بشيء تصل إليه مضرته، بل يكون كلامه باعتدال وتوسط، ولا يتجاوز الحد إلى أن يكون ظالماً لمن يحدثه ومن يخاصمه فيكون فاجراً بالخصومة، فالفجور هو: الميل عن الحق مع الاحتيال عليه. وقوله: (وإذا عاهد غدر) أي: أنه إذا أعطى العهد والميثاق فإنه يغدر ولا يفي بعهده.

شرح حديث: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله)

شرح حديث: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله) قال المصنف رحمه الله: وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح. هذا الحديث فيه بيان أن الإنسان عليه أن يكون متوكلاً معتمداً على الله في جميع شئونه مع أخذه بالأسباب المشروعة التي شرعها الله عز وجل، فلا يكون متوكلاً بدون الأخذ بالأسباب وإنما يكون متوكلاً مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الاثنين معاً، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله). فقوله: (احرص على ما ينفعك)، هذا فيه أخذ بالأسباب واستعانة بالله عز وجل وتوكل عليه وطلب للمعونة منه، فيكون الإنسان قد جمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإن الأسباب إذا لم يشأ الله أن تكون مفيدة لم يحصل الإنسان من ورائها على فائدة، ولكنها تكون مفيدة بتوفيق الله عز وجل وإعانته وتسديده، فعند ذلك ينفع السبب وينتهي إلى حصول المسبب، وإلا فإن الأسباب في حد ذاتها دون عون الله لا تنفع، فعلى الإنسان أن يأخذ بها ولا يعتمد عليها، ولكن يعتمد على مسببها الذي هو النافع الضار الذي لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وكما جاء في حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير)، ثم بين كيف يكون رزق الطير، فقال: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير لا تجلس في أوكارها تنتظر شيئاً يأتيها وإلا ماتت وهلكت، وإنما شأنها أنها تأخذ بالأسباب فتذهب في الصباح خاوية البطون خماصاً، ثم ترجع بطاناً، أي: ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فأنتم عليكم أن تأخذوا بالأسباب وأن تتوكلوا على الله سبحانه وتعالى، لا أن تتوكلوا على الله عز وجل بدون أخذ بالأسباب؛ لأن الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها والغفلة عن الله عز وجل من أخطر الأشياء، واعتقاد أن الأسباب تنفع وتضر بطبيعتها قدح في التوحيد، فهي لا تنفع ولا تضر إلا إذا جعلها الله نافعة أو جعلها ضارة. ومحو الأسباب عن أن تكوناً أسباباً نقص في العقل، فالذي يقول: إذا كتب الله لي شيئاً فسيأتيني ولن أفعل الأسباب ناقص العقل، وذلك مثل أن يقول الإنسان: إن الولد لا يأتي إلا عن طريق الزواج، لكن إذا كتب الله لي أن يأتيني فسيأتيني ولو بغير زواج؛ فهذا نقص في العقل؛ لأن الولد لا يأتي إلا بفعل الأسباب بطريق الزواج، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]. وجاء في حديث الرجل الذي قال: أعقل ناقتي أم أدعها وأتوكل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل)، يعني: خذ بالأسباب وتوكل على الله عز وجل، فلا يهمل الإنسان الأسباب أصلاً ولا يأتي بالأسباب معتمداً عليها غافلاً عن الله عز وجل؛ لأن الأسباب إذا لم يجعلها الله نافعة لم يحصل من ورائها فائدة للإنسان. وقوله: (لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، الطير هذا شأنها، والله تعالى ألهمها هذا العمل الذي قامت به من غدوها في الصباح تبحث عن الرزق ثم ترجع في المساء فتبيت في أوكارها وقد امتلأت بطونها وجلبت الرزق والعيش لأفراخها التي في عشها، فلم تهمل الأسباب؛ فأنتم كذلك إذا فعلتم مثلما تفعل هذه الطيور معتمدين على الله عز وجل مع أخذكم بالأسباب، فإن الله تعالى يرزقكم ويحقق لكم ما تريدون من الخير.

شرح حديث (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله)

شرح حديث (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن بشر رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فدلني على شيء أتمسك به، فقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل) خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ]. هذا الحديث فيه حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على الخير وسؤالهم عن أمور الدين وعن الأمور الجامعة التي يحصلون فيها الأجور العظيمة، وهي أعمال خفيفة ويسيرة لا مشقة فيها، بل عملها يسير وفضلها كبير وجزاؤها عظيم من الله سبحانه وتعالى، فهو يسأل ويقول: (إن شرائع الإسلام كثرت علي) والمقصود من ذلك: النوافل، وإلا فإن الفرائض يتعين على كل مسلم أن يأتي بها، ولكن السائل يسأل عن الشيء الذي يمكنه أن يعتني به وأن يحرص عليه فيما يتعلق بالنوافل، فهو يطلب أن يدله صلى الله عليه وسلم على باب منها يتمسك به يكون جامعاً للخير ومحصلاً للأجر، كما سبق أن مر بنا في الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). فلما أراد باباً جامعاً يتمسك به من أبواب الخير فيما يتعلق بالنوافل أرشده النبي صلى الله عليه وسلم ألا يزال لسانه رطباً من ذكر الله عز وجل؛ وذلك بكثرة ذكر الله سبحانه وتعالى. ومعلوم أن ذكر الله عز وجل يطلق إطلاقاً عاماً ويطلق إطلاقاً خاصاً، فإطلاقه العام يدخل تحته الصلوات، ويدخل تحته قراءة القرآن، ويدخل تحته الأذكار، وأما الذكر الخاص فهو الأذكار الخاصة كالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فإن هذه الأذكار هي الذكر الخاص، وإلا فإن الصلاة ذكر لله عز وجل؛ لأنها مشتملة على ذكر الله من أولها إلى آخرها، وكذلك قراءة القرآن فهو خير الذكر وخير الكلام وأفضل الكلام، ثم بعد ذلك الأذكار التي مع الأدعية؛ لأن الأدعية هي سؤال الله عز وجل ما يريده الإنسان، وأما الأذكار فهي الثناء على الله عز وجل بما يليق به من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وهذه هي الأذكار التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الإنسان لسانه رطباً بها، وذلك سهل عليه في أي وقت وفي أي حين، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- كان يذكر الله على كل أحيانه، والله عز وجل أمر بذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]. وأثنى الله عز وجل على الذاكرين والذاكرات فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، ذكر ذلك في جملة الخصال العشر التي ذكرها الله عز وجل في سورة الأحزاب. فهذا هو المعنى الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وهذا لا شك أنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان يأتي بذكر الله عز وجل، وذكر الله عز وجل هو تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وتعظيم وثناء على الله عز وجل، ويكون لسانه رطباً بذلك؛ لأنه إذا كان مشتغلاً بذكر الله عز وجل صار منشغلاً عن غير ذكر الله عز وجل من الكلام الذي لا يليق والذي لا ينبغي، فتعويد الإنسان نفسه أن يكون ذاكراً لله يحصل به الحسنات العظيمة لعمل يسير وشيء سهل خفيف، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وهما من ذكر الله عز وجل، فوصفهما بأنهما خفيفتان على اللسان، وذكر الله عز وجل كله خفيف على اللسان. فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العمل العظيم الذي هو إدامة ذكر الله وكثرة ذكره سبحانه وتعالى، وهذا يكون من الإنسان وهو ماشٍ وقائم وقاعد ومضطجع وفي جميع أحواله، وذلك سهل عليه؛ لأنه لا يحتاج إلى كلفة ولا يحتاج إلى مشقة، وليس فيه إلا تحريك اللسان بخير، حتى يعود على الإنسان بخير، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وبهذا يكون انتهينا من شرح الأحاديث الأربعين أو الاثنين وأربعين التي جمعها الإمام النووي رحمه الله المتوفى سنة (676هـ)، ثم الثمانية التي أضافها الحافظ ابن رجب المتوفى سنة (795هـ). وهذا الذي ختم به ابن رجب لا شك أنه ختام عظيم، وهو نظير ختم البخاري لكتابه بحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان)، كما أن الإمام النووي رحمه الله ختم الاثنين والأربعين بحديث أنس بن مالك الذي فيه: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي). فالإمام النووي رحمه الله ختم بذلك الحديث، وابن رجب رحمه الله ختم بهذا الحديث، والبخاري رحمه الله ختم بذلك، ولهذا تابعه بعض العلماء فختموا كتبهم بهذا الحديث، فإن المنذري ختم به كتابه الترغيب والترهيب.

ذكر بعض جوامع الذكر

ذكر بعض جوامع الذكر ونذكر الفصل الأخير من كلام ابن رجب رحمه الله، قال: ابن رجب رحمه الله تعالى: فصل: قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يعجبه جوامع الذكر ويختاره على غيره من الذكر، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: (ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟! قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته).

ميزة الأذكار النبوية على المحدثات من الأذكار

ميزة الأذكار النبوية على المحدثات من الأذكار بعض الناس يكون عندهم أدعية متنوعة ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من كلام سلف هذه الأمة، وإنما أنشأها بعض المتأخرين، ثم تجد بعض الناس يحرص عليها، كما سبق أن مرت الإشارة في دروس مضت عن دلائل الخيرات، وأن فيه أدعية محدثة، وأنها مشتملة على باطل، وبعضها فيه أمور محذورة، وبعضها فيه غلو، وبعضها فيه جفاء، والأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي أن يحرص عليها الإنسان وأن يعتني بها، وأن يستعملها في دعائه، وأن يترك مثل هذه الأدعية. ويكفي في عدم صلاحيتها وأنها غير مناسبة أن بعض الناس يسأل عنها، وما دام الإنسان يسأل عنها فعليه أن يأخذ بالشيء الذي لا يحتاج أن يسأل عنه وهو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فكون الإنسان يسمع بكلام ولا يدري صحته من سقمه، وهل هو طيب أو رديء فيأتي ويقول: ما رأيك في هذا الدعاء؟ يدل على أن فيه شيئاً، فالإنسان ليس بحاجة إلى أن يشغل نفسه بمثل هذا السؤال، وإنما يشغل نفسه بتعلم الأذكار والأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ بها؛ لأنها من كلام الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، وأيضاً كلامه فيه العصمة؛ لأنه كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، أما غيره من الناس فإنه يخطئ ويصيب، فقد يأتي بشيء محذور وقد يأتي بشيء لا يليق كما في دلائل الخيرات من الأدعية السيئة كدعاء: اللهم صل على محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء، اللهم ارحم محمداً حتى لا يبقى من الرحمة شيء، اللهم بارك على محمد حتى لا يبقى من البركة شيء، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى من السلام شيء. وأيضاً مثل: اللهم صل على محمد ما سرحت البهائم، اللهم صل على محمد ما شدت العمائم، اللهم صل على محمد ما نفعت التمائم. فهذا كلام البشر لا ينبغي أن يلتفت الإنسان إليه، وإنما يحرص على كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فقد أعطاه الله جوامع الكلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فالإنسان إذا حرص على كلامه وتعلم الأدعية والأذكار من كلامه صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل الشيء الذي فيه العصمة، ويحصل الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أتى بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من الأذكار الجامعة: (سبحان الله عدد خلقه)

من الأذكار الجامعة: (سبحان الله عدد خلقه) قال ابن رجب رحمه الله: وخرجه النسائي ولفظه: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) وخرَّج أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو قال: حصى تسبح به، فقال: (ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا وأفضل؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك). فهذه أدعية جامعة، ولكن ذكر الحصى وذكر النوى لم يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: وخرَّج الترمذي من حديث صفية قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها، فقلت: لقد سبحت بهذه، فقال: ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟ فقلت: علمني، فقال: قولي: سبحان الله عدد خلقه). وخرَّج النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يحرك شفتيه فقال: ماذا تقول يا أبا أمامة؟ قال: أذكر ربي قال: ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكرك الليل؟ مع النهار والنهار مع الليل، أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول: الحمد لله مثل ذلك) رواه النسائي في عمل اليوم والليلة، وصححه ابن حبان وانظر تمام تخريجه فيه. وفي النسخة الثانية قال: إسناده ضعيف، يحيى بن أيوب ليس بالقوي، وابن زرارة لا يعرف. وعلى كلٍ الإنسان يأتي بما ثبت ويستغني عما لم يثبت.

أهمية تواطؤ القلب مع اللسان في الذكر

أهمية تواطؤ القلب مع اللسان في الذكر وقوله: (يحرك شفتيه) أي: أن ذكر الله عز وجل يكون باللسان مع القلب. والقراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان، ولا يكفي الإنسان أن يقرأ بقلبه أو يستحضر القرآن بقلبه دون أن يحرك لسانه، وإنما القراءة تكون بتحريك اللسان، كما قال عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]. والرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يستدلون على قراءته في الصلاة السرية باضطراب لحيته؛ لأنهم كانوا يرون عوارضه تتحرك من جهة اليمين ومن جهة الشمال إذا كانوا وراءه، وإنما تتحرك بالقراءة، والقراءة إنما هي باللسان، لأنه لو كانت القراءة بالقلب لم تتحرك اللحية. قال رحمه الله: [وخرَّج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء، وخرَّج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (يا معاذ! كم تذكر ربك كل يوم؟ تذكره كل يوم عشرة آلاف مرة؟ قال: كل ذلك أفعل، قال: أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف؟ أن تقول: لا إله إلا الله عدد ما أحصاه، لا إلا الله عدد كلماته، لا إله إلا الله عدد خلقه، لا إله إلا الله زنة عرشه، لا إله إلا الله ملء سماواته، لا إله إلا الله ملء أرضه، لا إله إلا الله مثل ذلك معه، والله أكبر مثل ذلك معه، والحمد لله مثل ذلك معه)]. ويناسب الإنسان أن يقتني مثل صحيح الكلم الطيب، الذي جمعه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه لله من كتاب الكلم الطيب لـ ابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الكتاب مع اختصاره مشتمل على جملة كبيرة من الأذكار والأدعية. وأما هذا الحديث فرواه الدولابي في الأسماء والكنى من طريق واصل بن مرزوق عن رجل من بني مخزوم يكنى أبا شبل عن جده، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الحديث فيه مبهم، والإنسان يحرص على الإتيان بما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أثر ابن مسعود في الذكر

أثر ابن مسعود في الذكر قال رحمه الله: وبإسناده أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة فقال: (ألا أدلك على ما هو خير لك منه؟ سبحان الله ملء البر والبحر، سبحان الله ملء السماوات والأرض، سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه، فإذا أنت قد ملأت البر والبحر والسماء والأرض). وهذا موقف، وابن مسعود رضي الله عنه له قصة مع الذين كانوا في المسجد متحلقين وبأيديهم حصى، وأحدهم يقول: ليسبح كل واحد مائة، ويهلل مائة، فوقف على رءوسهم رضي الله عنه، وقال: يا هؤلاء! عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، فإما أنكم أهدى طريقة مما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إنكم تفتحون باب ضلالة، قالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، فقال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه). يعني: أن المطلوب مع إرادة الخير موافقة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أثر سليمان بن طرخان التيمي في الذكر

أثر سليمان بن طرخان التيمي في الذكر قال رحمه الله: وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول: أمهلوا! سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول لا قوة إلا بالله، عدد ما خلق وعدد ما هو خالق، وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق، وملء ما خلق وملء ما هو خالق، وملء سماواته وملء أرضه، ومثل ذلك وأضعاف ذلك، وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ رضاه، وحتى يرضى وإذا رضي. هذا من كلام سليمان بن طرخان التيمي والد المعتمر بن سليمان ومعلوم أن الأحاديث فيها ذكر الله عز وجل، وكونه يتخللها السكوت ثم يؤتى بمثل هذا الدعاء، هذا شيء غريب غير معروف، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه وما كان يتوقف ويذكر الله عز وجل مثل هذا الذكر، فنفس الحديث هو ذكر لله عز وجل، فاشتغال الإنسان بالحديث أو بالعلم هو ذكر لله سبحانه وتعالى، دون أن يحصل هذا التوقف والإمهال من أجل أن يؤتى بمثل هذا الكلام. وقوله: (ومنتهى رحمته)، رحمة الله عز وجل ليس لها نهاية إلا إذا كان المقصود بالرحمة الجنة؛ لأنها من رحمة الله سبحانه وتعالى، وهي محدودة معروفة؛ ولكن ليس لنعيمها نهاية، بل نعيمها دائم ومستمر لا ينقطع ولا ينتهي أبد الآباد؛ فإذا كان المقصود بذلك الجنة فالجنة هي رحمة مخلوقة، فقد جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء). وأما رحمة الله عز وجل فهي صفة من صفاته، فلا يصلح أن يقال: إن لها منتهى، فرحمة الله عز وجل وسعت كل شيء وليس لها نهاية. وابن رجب رحمه الله يجمع أشياء كثيرة طيبة وصحيحة ويجمع أشياء فيها غرابة. قال رحمه الله: وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته فقلت: ما صنعت؟ قال: خير، فقلت: ترجو للخاطئ شيئاً، قال: يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء. وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من هذه الرؤيا وغيرها. قال رحمه الله: قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن أبي الحسين قال: حدثني بعض البصريين أن يونس بن عبيد رآه رجلٍ فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم، فقال: ما أفضل ما رأيت ثَمَّ من الأعمال؟ قال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان. وعلى كل فإن الكلمات الجامعة والأدعية الجامعة هي التي جاءت في الأحاديث الصحيحة، وهي التي ينبغي للإنسان أن يشتغل بها، وأما مثل هذه الأمور ومثل هذه الحكايات والمنامات فلا يشتغل بها الإنسان.

الأسئلة

الأسئلة

معنى تسمية بعض الأحاديث بجوامع الكلم

معنى تسمية بعض الأحاديث بجوامع الكلم Q ما معنى تسمية أهل العلم لبعض الأحاديث أنها من جوامع الكلم وهل يدل ذلك الاستثناء على أن البعض الآخر ليست من جوامع الكلم؟ A بعض الأحاديث يكون فيه كلام جامع تدخل تحته معانٍ كثيرة، وبعضها يكون فيه كلام لا يندرج تحته معانٍ كثيرة، مثل أن يسأل عن مسألة معينة فيأتي بالجواب عليها، وقد يسأل عن مسألة معينة ويأتي بجواب جامع مثل ما مر في حديث أبي موسى الأشعري أنه سأله عن شراب يقال له: البتع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام)، فأتى بجواب يشمل هذا ويشمل غيره. وقد يسأل عن شيء خاص ويجيب بجواب خاص، فلا يعتبر جومع الكلم كالأحاديث الجامعة.

معنى قوله في حديث النفاق: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)

معنى قوله في حديث النفاق: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) Q ذكر في حديث النفاق أن من كانت فيه خصاله الأربع كان منافقاً خالصاً، وذكرتم في شرحه أنه النفاق العملي مع أنه وصفه بالخلوص، فإذا كان المرء لا يخرج من الملة بوجود هذه الخصال الأربع، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم). A هذا لا يعني أنه خرج من الإيمان، وإنما يعني أنه وإن حصل منه الصلاة والصيام وزعم أنه مسلم فهو منافق هذا النفاق العملي، لكن لا يقال: إنه خرج من الإسلام وصار من الكفار.

مشروعية رفع الأصبع عند ذكر الله

مشروعية رفع الأصبع عند ذكر الله Q هل يشرع رفع الإصبع كلما ذكر الله تبارك وتعالى، حتى في غير الخطبة؟ A لا نعلم شيئاً يدل على مشروعيته باستمرار، ولكن أقول: الأصل فيه الجواز، وأما كون الإنسان لا يفعل كذا إلا رفع إصبعه، فلا أعلم شيئاً يدل عليه.

الفرق بين قولهم (رواه فلان) و (خرجه فلان)

الفرق بين قولهم (رواه فلان) و (خرَّجه فلان) Q قيل: إن الفرق بين (رواه) و (خرَّجه) أن الراوي هو الذي يروي الحديث بإسناد، والذي يروي بلا إسناد يسمى مخرجاً، فهل هذا صحيح؟ A لا يقال له: مخرج أبداً، وإنما المخرِّج هو الذي يروي بالإسناد، ومن الغلط أن بعض الناس في هذا العصر يستعملون ذلك في حقب المتأخرين الذين يذكرون الأحاديث في كتبهم كـ النووي وابن حجر والسيوطي، فيقولون: خرجه ابن حجر وخرجه السيوطي وخرجه فلان، وهم ما خرجوه، فهؤلاء يذكرونه فقط ولا يخرجونه، وإنما الذي يخرج هو الذي يسند، وأما من يذكر الحديث فلا يقال له مخرج أبداً، وإنما يقال: ذكره فلان وعزاه إلى كذا، عزاه السيوطي إلى فلان، وعزاه ابن رجب أو ابن حجر إلى فلان، وهكذا وإذا قيل: رواه أبو داود أو رواه الترمذي أو خرَّجه البخاري أو خرَّجه مسلم فكله بمعنى واحد، وهو أن يأتوا بالأسانيد.

الفرق بين خلف الوعد والغدر في حديث المنافق

الفرق بين خلف الوعد والغدر في حديث المنافق Q ما الفرق بين إذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر؟ A الوعد غير العهد، فالعهد أن يعطي عهد الله وميثاقه، مثل ما يحصل في الجهاد والمعاهدة بين المسلمين والكفار، وأما الوعد فهو أن يقول: إني سأفعل كذا وكذا وهو ناوٍ ألا يفعل.

أهمية حضور القلب لنيل ثواب الذكر

أهمية حضور القلب لنيل ثواب الذكر Q هل مجرد ذكر اللسان بدون مواطأة القلب يؤجر عليه الإنسان؟ A لا يؤجر ما لم يحضر القلب، كما جاء أن الدعاء من قلب لاهٍ لا يستجاب؛ لعدم حضور القلب، فكذلك الذكر.

الجمع بين حديث: (ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه) وحديث شرب أبي هريرة اللبن

الجمع بين حديث: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه) وحديث شرب أبي هريرة اللبن Q كيف نجمع بين حديث: (ما ملأ ابن آدم)، وحديث أبي هريرة لما شرب اللبن فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (اشرب)، وفي الأخير قال أبو هريرة: (والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً)؟ A لا يلزم من قوله: (لا أجد له مسلكاً) أن يكون قد امتلأ بطنه وأنه لم يبق فيه مجال، بل معناه أنه أخذ كفايته وحاجته وأنه قد روي، لكن الري كما هو معلوم يحصل بدون امتلاء البطن.

حكم أمر الجالسين بالتسبيح والتحميد والتهليل

حكم أمر الجالسين بالتسبيح والتحميد والتهليل Q يكون الرجل في مجلس لا يذكرون الله بل كلامهم في أمور الدنيا المباح، فإذا ذكرهم إنسان وقال لهم: قولوا: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، أو قال لهم: قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، هل في ذلك بأس؟ A المناسب أن يحول الكلام من كونه كلاماً فيما لا ينفع إلى ما ينفع مثل قراءة القرآن والباقون يسمعون، أو يقرءون شيئاً من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتذاكرون شيئاً من العلم بدلاً من أن يقول: سبحوا وهللوا وكبروا، فيكونون شبيهين بمن أنكر عليهم ابن مسعود.

توصيف النفاق العملي ودخوله في الكبائر

توصيف النفاق العملي ودخوله في الكبائر Q هل النفاق العملي من الكبائر؟ A الكبيرة عند العلماء هي التي تشتمل على حد في الدنيا أو توعد عليها بلعنة أو غضب أو نار أو إحباط عمل أو ما إلى ذلك، وهذه الأشياء ينظر فيما ورد من الأحاديث بخصوصها، فعلى ضوء ذلك يتبين هل هي من الكبائر أو ليست من الكبائر. فإذا قيل: هل يجوز إطلاق النفاق الأصغر والكفر الأصغر، فيقال: كافر ومنافق لمن وقع في تلك الخصال؟ فالجواب: لا يوصف أحد إلا في شيء ورد، وإذا كان المقصود أنه كفر دون كفر فينبه على ذلك ولا يطلق، حتى لا يظن أن الإنسان أضيف إليه شيء لا يستحقه، بل يضاف إليه شيء يستحقه حيث ورد، فمن وجد فيه شيء من ذلك فإنه يقال: وقع كفر دون كفر.

تنبيه على كتاب: الهداية بترتيب فوائد البداية والنهاية

تنبيه على كتاب: الهداية بترتيب فوائد البداية والنهاية Q يقول أحد الإخوان: لقد جمعت فوائد البداية والنهاية في كتاب (الهداية بترتيب فوائد البداية والنهاية)، لأحد تلاميذ الشيخ مقبل رحمه الله، وقدم له محمد بن عبد الوهاب الوصابي ومحمد الإمام. A لكن لا ندري ما نوع هذه الفوائد؛ لأن الفوائد متنوعة، فأحياناً تكون مسائل فقهية، ولا شك أنها مهمة؛ لأنها أقوال لأناس وجدت في غير مظنتها، حيث إنها تبحث غالباً في كتب الفقه، فإذا وجدت في كتب التراجم فذلك فائدته كبيرة، لكن كلامنا هنا فيما فيه تحريك للقلوب وتأثير على النفوس وشحذ للهمم في الاقتداء بأولئك الأخيار الذين حصل منهم ما حصل، أو تفضل الله عليهم بما تفضل من الصلاح والتقى والاستقامة، حتى قالوا مثل هذه الكلمات النيرة الواضحة المفيدة العظيمة.

هدية المدرس إلى المدير حرام

هدية المدرس إلى المدير حرام Q مديرة مدرسة انتقلت من مدرستها إلى مدرسة أخرى لإدارتها، وفي الوقت ذاته قدر لها الزواج، فأراد مجموعة من المعلمات أن يهدين لها هدية مشتركة جماعية بمناسبة زواجها، فهل تدخل هذه الهدية في هدايا العمال؟ A نعم تدخل، سواء كانت في مناسبة أو غير مناسبة.

الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية

الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية Q أريد الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وهل الشرعية مندرجة تحت الكونية؟ A الإرادة الكونية هي المشيئة، وهي القدر السابق الذي لا يتخلف، وكل شيء أراده الله كونه فلا بد من وجوده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل شيء شاءه الله لا بد من وجوده، وكل شيء لم يشأه الله لا يمكن وجوده: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وأما الإرادة الدينية فإنها تكون فيما يحبه الله ولا تكون فيما يسخطه الله، أي: أن الإرادة الكونية تكون في المحبوب المرغوب وفي المكروه، وتكون في الخير والشر وأما الإرادة الدينية فإنما تكون في الخير فقط، ولكن المراد بها قد يتخلف، بخلاف المراد كوناً فلابد أن يتحقق. والإرادة الدينية تتحقق فيمن وفقه الله عز وجل لفعل الخيرات، وتتخلف فيمن لم يحصل له التوفيق، ولهذا يحب الله عز وجل من الناس أن يعبدوه وأراد ذلك شرعاً؛ لكن فيهم من يعبده وفيهم من يعصيه، فيهم من يستجيب وفيهم من لا يستجيب. وتجتمع الإرادتان الكونية والدينية في حق المؤمن حيث أراد الله إيمانه كوناً وشرعاً. فإذاً: الدينية لا يلزم حصولها لكل أحد؛ لأنها تكون لمن وفقه الله عز وجل، ولهذا جاء في قوله تعالى في سورة يونس: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، فهو يدعو إلى الإسلام كل أحد، ولكن يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

§1/1