شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية

الشاطبي، إبراهيم بن موسى

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم يقول عبيد الله إبراهيم بن موسى بن محمد بن موسى بن أحمد بن علي اللخمي (رحمه الله تعالى) ورضي عنه بمنه وكرمه. اللهم إنا نحمدك على ما علمت ونشكرك على ما أنعمت، ونستوهب منك عالما نافعا يزلف إليك، وعملا صالحا نرجو به الخلاص بين يديك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك. ولا نجاة إلا لمعتصم بحبلك، لائذ بجنابك، ونسألك أن تصلي على خيرتك من خلقك القائم من تبليغ رسالتك بواجب حقك. الذي بعثته إلى جميع العالمين بلسان عربي مبين، محمد نبيك وعبدك، ورحمتك المهداة إلينا من عندك وعلى آله الذين أعانوا وآزروا، وآووا ونصروا من أجلك وفي ذاتك وابتغاء مرضاتك، حتى قام دينك دين الحق على ساق، واتسق شمله أي اتساق، وسلم تسليما. أما بعد فإن بعض من يجب علي إسعافه، ولا يسعني خلافه، كان قد أشار على أن أقيد على أرجوزة الإمام العلامة أبي عبد الله بن

مالك الصغرى وهي المسماة بـ (الخلاصة) شرحا يوضح مشكلها، ويفتح ويرفع على منصة البيان فوائدها، ويجلو في محك الاختيار فرائدها، ويشرح ما استبهم من مقاصدها، ويقف الناظر فيها على اغراضها من مراصدها، من غير اعتراض إلى ما سوى هذا الغرض، ولا اشتغال عن الجوهر بالعرض، فسمحت الأيام بما شاء الله أن تسمح وسرح القلم في ميدانه إلى ما قدر له أن يسرح، ثم عاق عن إتمامه بعض الأمور اللوازم، ودخلت على فِعلَي الحال فيه أدوات الجوازم، فثنت عنه عناني وأمسكت عن التفكير فيه جناني، وبعد بُعدٍ وانتزاح ثابت إلى نفسي، وتخلصت من تقييد تشخصي بالرجوع إلى أبناء جنسي، فقد بقي بعض من اعتمد على صفاء وده وإخلاصه، إلى تمام ذلك المقصد وخلاصه، وحين رفع عني حجاب العذر، انتدبت إلى الوفاء بذلك النذر، مستندا إلى منّ الله وطوله وخارجا من حولي إلى حوله، وهو المسئول أن يسنى مقاصدنا لديه، وأن يقف آمالنا عليه، فإنه لا ملجأ ولا منجأ منه إلا إليه، وأنا أعرف ان الناظر فيه أحد ثلاثة: إما عالم طالب للمزيد في علمه، وأقف من أدب العلماء عنده مده ورسمه، موقن أن كل البشر سوى الأنبياء غير معصوم، آخذ بالعذر في المنطوق به من الخطأ والمفهوم، فلمثل هذا بثثت فيه ما بثثت، وإليه حثثت من خيل عزمي وركاب فهمي ما حثثت، فهو الأمين على إصلاح ما تبين فساده، حين تخلق بأخلاق أهل العلم والإفادة. وإما متعلم يرغب في فهم ما حصل، ويسعى في بيان ما قصد وأشكل والنفوذ فيما قصد وامل، فلأجل هذا حالفت عناء الليل والأيام، واستبدلت التعب بالراحة والسهر بالمنام، رجاء أن أكون ممن أثر بما أسدي إليه،

وشكر ما أنعم به عليه. وإما طالب للعثرات، متبع للعورات، يضعف ويقبح، ويحسن ظنه بنفسه ويرجح، وفسد ظانا أنه يصلح، فمثل هذا لا اعتمد عليه، لا ألتفت في رد ولا قبول إليه، وإن كان أعرب من الخليل وسيبويه، لأنه ناطق عن الهوى سالك سبيل من ضل وغوى، ولم يتخلق بآداب العلماء، ولا أم طريق الفضلاء، والله هو الرقيب على القلوب، والعلم بسرائر الغيوب، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن غرس جنى ثمرة غرسه، " إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر إليه" قال الناظم -رحمة الله عليه-: قال محمد هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك مصليا على الرسول المصطفى ... وآله المستكملين الشرفا ابتدأ الناظم -رحمه الله- بأشياء ينبغي تقديمها في أوائل الأمور المعتنى بها.

أحدها: التعريف بنفسه لئلا يجهل القائل، ثم الثناء على الله عز وجل الذي هو مقدم على كل امر ذي بال، ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي هي الوسيلة لقبول الطاعات، وتعبيره عن القول بلفظ الفعل الماضي فيه السؤال، إذ يقال: إن صيغة الماضي حقيقة فيما وقع وانقطع، وهو بعد لم يقل شيئا، فكان من حقه أن يأتي بلفظ يقول، الذي صيغته موضوعة للاستقبل؟ والجواب: أن ذلك لا يصح حيث يكون المستقبل مظنون الوقوع كهذا الموضع، كما يصح حيث يكون معلوم الوقوع كقول الله تعالى- ((أَتَى أَمرُ الله)) - وليس بواقع بعد لقوله: ((فَلَا تَستَعجِلُوهُ)). وقوله: قال محمد هو اسم الناظم - رحمه الله-. وقوله: هو ابن مالك هي المعرفة التي اشتهر بها، وهو محمد بن عبدالله بن عبدالله بن مالك الطائي الجيّاني يكنى أبا عبدالله ويدعى جمال الدين، أحد أئمة الصناعة النحوية والعلوم العربية، صنف كتبا مفيدة في النحو والقراءات واللغة، ونظم رجزين في النحو. أحدهما: يستعمله أهل البلاد المشرقية، وهو الذي نثره في كتابه

المسمى: بـ "الفوائد المحوية في المقاصد النحوية". والثاني: هذا الذي شرع في الكلام عليه وهو عظيم الفائدة، استولى من علم النحو على جل القدر المحتاج إليه، موفّى الأقسام، محرر القوانين، خاليا من الحشو، قليل الألفاظ، كثير المعاني. قال الإمام أبو عبدالله بن رشيد -رحمه الله-: أخبرني بتصانيفه في الجملة الإمام المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن محمد بن بركات،

شُهر بالبديع، وقال لي: قرأت عليه بعض المفصل للزمخشري وبعض تسهيل الفوائد، وأجاز لي جميع رواياته ومصنفاته في النحو وغيره، توفي -رحمه الله- عام اثنين وسبعين وستمائة. قال لنا شيخنا القاضي أبوعبدالله المقرئ -رحمه الله- وفي هذه السنة ولد شيخنا الوزير أبو محمد عبدالمهيمن بن محمد بن عبدالمهيمن / الحضرمي السبتي فكان يقال: مات فيها إمام نحو /4 وولد إمام نحو انتهى. وقال الإمام أبو عبدالله بن النحاس الحلبي يرثي ابن مالك:

قُل لابن مالكٍ ان جرت بك أدمُعي حُمرًا يحاكيها النّجيعُ القاني فلقد جرحت القلب حين نعيتَ لي فتدفقت بدمائها أجفاني لكن يسهل ما أُجنّ من الأسى عِلمِي بِنُقلَتِهِ إلى رضوان فسقَى ضَريحًا ضمّه صَوبَ الحيَا ... يهمي له بالروح والريحان وقول الناظم: "هو ابن مالك" بالقطع وإظهار المبتدأ، أتى به كذلك لأن الصفة التي هي ابن مالك، صفة بيان، وذلك جائز وإن كان قليلا، والأكثر الاتباع في نعوت البيان. وقوله: "أحمد ربي الله خير مالك" أما الحمد فمعناه: الثناء على الله تعالى بصفات الكمال والإنعام والإفضال، وهو أعم من المدح والشكر، لأن المدح ثناء على ماهو عليه من أوصاف الكمال والجلال، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإنعام والإفضال، فالحمد يشملهما. وقيل: إن الحمد والمدح يجريان مجرى المترادفين، وكذلك قيل في الحمد والشكر: إنهما بمعنى واحد، والتحقيق ما تقدم. و(الرب): هو السيد القائم على الأشياء المصلح لها، يقال: ربَّهُ يَرُبُّه ربًّا وربّاه يُرَبِّيه تَربِيةً، إذا قام بشئونه ومصالحه. و (الله): أصله الإله، ومعناه المعبود، والعرب تطلق الإله على كل معبود بحق أو باطل، إلا أنهم حذفوا الهمزة تخفيفا ونقلوا حركتها إلى لام المعرفة فصار اللّاه، فاجتمع عند ذلك مثلان، فاعتدُّوا بالعارض وأدغموا أحدهما في الآخر على غير قياس، فصار الله، وألزموا الكلمة الألف واللام عوضا مما حذف

منها، ثم فخموا اللام تعظيما للاسم، وفرقا بينه وبين اللات فصار مختصا بالإله المعبود بحق وهو رب العزة سبحانه. و (خير) بِنْيَة تفضيل من الخير ضد الشر، وأصل التفضيل بهما على أفعل فكان الصل أن يقال: فلان أخير من فلان وأشر منه، ومما يدل على ذلك قولهم: الخُورَى والشُرَّى تأنيث الأخيَر والأشرّ، إلا أنهم رفضوا الصل لكثرة الاستعمال فيهما وحذفوا الهمزة، وقد جاءوا بهما علىلأصل نادرا، وقال رؤبة بلال خير الناس وابن الأخير وقرأ أبو قلابة: ((منِ الكَذّابُ الأشرّ)). والمالك: الذي يملك الأشياء ويصرّفها تحت يده وقهره باستحقاق، وحقيقة الملك: احتواء على الشيء والقدرة على الاستبداد به، وإضافة خير إلى مالك هي من إضافة أفعل التفضيل إلى جنسه، وأصله في الإضافة خير المَالِكِين، إلا أنهم اختصروا وأضافوا المفرد، إذا كان يعطي من المعنى ما يعطيه من الأصل. ومعناه: أنه خير كل مالك قيس ملكه بملكه، وسيأتي في أفعل التفضيل حكمه مستوفى إن شاء الله. ولفظ (الله) هنا بدل من (ربي)، أو عطف بيان، و (خير مالك) بدل، أو منصوب على المدح، ولا يكون صفة، لأنه نكرة. وإنما أتى الناظم بفعل الحمد فقال: (أحمد ربي) ولم يقل الحمد لله مع أنه أبلغ، لأنه قصد إظهار ولاية ذلك بنفسه وعمله فيه، تحقيقا للعبودية بذكره، مضافا

ذلك إلى قَصد الابتداء بالحمد لئلا يكون كلامه أجذم عن البركة والخير، على ما جاء في الحديث خرجه أبو داوود، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل كلا لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم". وفي لفظ النسائي: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع. وقوله: "خير مالك" قصد به المجانسة لقوله في القسم الأول: (هو ابن مالك) وليسا بمترادفين، لأن الأول معرفة والثاني نكرة، فهو سالم عن الإيطاء، إذا هذا عند أهل القافية مما يقع به الاختلاف، ونظيره ما أنشده أبو الحسن من قوله: 1 - يارب سلّم سَدْوَهُنَّ الليلة ... وليلة أخرى وكل ليلة لأن النكرة والمعرفة مختلفان بالشياع والخصوص، بل الاختلاف في كلام الناظم أتمّ منه في الشاهد، لأن العلمية مخرجة للمسمى به عن أصل معناه، وإن كان ملحوظا من طرف خفيّ في مثل هذا، فيمكن أن يكون الجرمي موافقا هنا وإن خالف في نحو الشاهد، وفي

مثله حكي الخلاف عنه فيما أحسب، لا في مثل كلام الناظم، وقد حصل الناظم في مثل هذه المجانسة معنى لطيفا، وهو أن مالكا العلمَ إنما سمي بذلك ليكون ممن يملك وتحصل له رتبة المالكين، على عادة العربي في التسمية بالصفات كحارث وقاسم ونحوهما من قصد التفاؤل بالأسماء، فكأنه خطر للناظم في نسبته إلى مالك هذا المعنى، فصرف عنان الاعتناء به إلى الدخول في خفارة خير المالكين، الذي له الملك الصحيح والاستيلاء الحق، وهو المعتصم المانع والحصن الثابت بالأصل والاستحقاق والدوام، وأيضا فإنه قصد مع ذلك التنبيه على أنه عبد داخل تحت يد ذلك المالك فليحمده بلسان الافتقار والاضطرار الذي هو أقرب للنجاح وأحرى بالفلاح، ولذلك أيضا قال (أحمد ربي) بإضافة الرب إلى ضمير نفسه، إذا كان قصده تقييده بالعبودية التي هي مناط قيام الرب له بما يصلحه في جميع شئون وتصرفاته عموما، وفيما يحاوله من هذه الإفادة التي أخذ فيها خصوصا، وهذه كلها مقاصد حسنة مجدية بفضل الله. وقوله: (مصليا على الرسول المصطفى) نصبَ (مصليا) على الحال من الضمير الفاعل في أحمد، أي أحمد الله في كل حال كوني مصليا، وأراد الجمع بين الثناء على الله عز وجل، والصلاة على رسوله لما في ذلك من البركة الموعود بها في الشرع، وذلك مرجو القبول والإجابة، كما جاء في

حديث فضالة بن عبيد أنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، إذ دخل رجل فصلى فقال: اللهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله وصل عليه، ثم ادعه، قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المصلي ادعُ تُجَب. فإن قلت: إنما جاء هذا في السؤال، فأين السؤال، في هذا الكلام؟ فالجواب: أن في تنصله [تنفله] أولا بالثناء على الله تعالى وإدخاله نفسه نصا تحت الرق للمالك الحق، واعتصامه بإضافته إلى اسمه الرب تعرضا بباب مالكه القائم بمصالحه، وهو معنى السؤال بلسان الحال، وهو معروف عند العرب، وله أصل في الشرع، ذكر الرشاطي

في تاريخه عن الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا أبا محمد: ما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: كان من أكثر دعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وليس فيه من الدعاء شيء؟ فقال لي: أعرفت حديث مالك بن الحارث؟ إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، ثم قال: أعلمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله وفضله؟ قلت: لا أدري. قال: قال: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه من تعرضك الثناء ثم قال سفيان: هذا مخلوق ينسب إلى الجود، قيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي على حاجتنا، فكيف الخالق؟

وذكر ابن عبد البر هذه الحكاية في التمهيد على نحو آخر، والمقصد واحد، فأردف الناظم بالصلاة على الرسول صلى الله عليه (وسلم) لتحصل الإجابة؛ لأن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مستجابة على القطع، فإذا اقترن بها السؤال شفعت بفضل الله فيه فقبل، وهذا المعنى مذكور عن بعض السلف الصالح، والصلاة أصلها الدعاء، أي داعيا له بالرحمة والبركة وزيادة التشريف والإكرام، والرسول هو الذي أرسله الملك ليبلغ الرعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الخلق المرسل إليهم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، و (النبي) هو المنبئ، أي المخبر عن الله تعالى، وهو أعم من الرسول والرسول أخص، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، فقد يخبر النبي من غير أن يرسل، ولا يرسل الرسول من غير أن يخبر، فهو إذًا أمدح، فلأجل هذا أتى به الناظم، ولم يقل مصليا على النبي المصطفى. و(المصطفى): مفتعل من صفو الشيء وصفوته، وهو خالصه، أي الذي اختصه الله واختاره من سائر الخلق صفوةً ولبابا منهم، وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيِّنه أمران: أحدهما: أنه أخص بهذه الأمة من سائر الرسل عليهم السلام. والثانهي: أنه صفوة الصفوة الذين هم الأنبياء والرسل، فالمصطفون

من الخلق هم الأنبياء والرسل، ومحمد صلى الله عليه وسلم مصطفى من أولئك المصطفين. ألا ترى إلى ما جاء من نحو قوله: " أنا سيد ولد آدم"، وما في معنى ذلك. وقوله: (وآله) أصل آل عند سيبويه، أهل بدليل تصغيره على أهيل وعند الكسائي أَوَلُ، وحكي في تصغيره أُويل والأول أشهر، ولما كثر فيه التغيير قلّت إضافته إلى المضمر، فالكثير ان يقال: آل فلان، والقليل نحو قول عبدالمطلب: 2 - وانصر على آل الصيـ ... ـب وعابديه اليوم آلك لكن جرت عادة المحدثين باستعمال الوجه القليل، فاتبعهم الناظم فيه وذلك يدل على جوازه عنده خلافا لمن منع ذلك، ولا يضاف "آل" إلا إلى مُعَظّم واختلف المراد بآل الرسول عليه السلام فقيل: هم رهطه الأقربون وعشيرته الأدنون. فقوله: (المستكملين الشرفا) يعني باتباعه والإيمان به؛ لأن آله عليه السلام كانوا هم أهل ذروة الشرف غير مدافعين، ثم باتبعاه على مقدار الاقتداء به كمل لهم ذلك الشرف، كما قال عليه السلام "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" وقيل: آل الرسول صلى الله عليه وسلم من يؤول إليه في الدين -يعني أمته-

وهذا القول مبني على مذهب الكسائي في آل؛ لأن الاشتقاق من آل يؤول يدل عليه، بخلاف الأول: فإنه يصح على مذهبي سيبويه والكسائي، وعلى كل تقدير فقوله: "المستكملين الشرفا" يعني به الصحابه رضوان الله عليهم، فإن هذا الكلام يقتضي أنهم كانوا أهل شرف قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فاستكملوه به، ولا أحد من الأمة أعظم شرفا في الأصل منهم. وقد جاء في الصحيح عن واثلة بن الأسقع أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد آدم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" وخرج الترمذي عن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، والشرف: الرفعة في نسب أو دين، وأصله من الشرف: وهو المرتفع من الأرض. *** وأستعين الله في ألفية ... مقاصد النحو بها محوية تقرب الأقصى بلفظ موجز ... وتبسط البذل بوعد منجز

هنا أخذ في بيان مقصده من هذا النظم، وذلك بعد ما قدم ما ينبغي من تقديمه من التعريف بنفسه، والثناء على الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والاستعانة: طلب العون، وهو طلب بالتصريح بعد ما قدم الطلب بالتعريض، وأصل الاستفعال للطلب. وقوله: (وأستعين الله) جملة معطوفة على قوله: (أحمد ربي الله) أي: أحمده على جميع نعمه وأستعينه في كذا، وحرف الجر متعلق بأستعين، وأتى الحرف الذي يقتضي الظرفية ليجعل هذه القصيدة محلا للاستعانة بالله، وكأنه على حذف مضاف، أي: في نظم ألفية، وفي هذا القول معنى الدعاء لله أن يعينه على ما قصد، وهو محل صادف فيه مَحَزَّ الدعاء؛ لأنه وقع له بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الترتيب حضّ الشارع كما تقدم، والألفية منسوبة إلى الألف، وهي صفة لموصوف محذوف، أي في قصيدةٍ ألفية، والقصيدة من الشعر من عشرة أبيات فما زاد. وحكى القاضي ابن الطيب، عن الفراء بسند يرفعه إليه أن

العرب تسمي البيت الواحد يتيما، ومن ذلك الدرة اليتيمة لانفرادها، فإذا بلغ الاثنين والثلاثة فهي نتفة، والعشرة تسمى قطعة، فإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا، والعرب تجعل القصيدة كلها تارة على روى واحد وهو المشهور في أشعارها، وتارة تجعله على حروف مختلفة، وتستعمله شطرين شطرين، أو أربعة أربعة، ولا يكون إلا مزدوجا. وهذه القصيدة الألفية التي ابتدأها الناظم من هذا القسم، ويسمى المخمس ويكثر في الرجز والسريع، ومنه قول امرأة من جديس: لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس يرضى بهذا يا لقومي حر ... أسدى وقد أعطى وسيق المهر لأخذه الموت غدا بنفسه ... خير من أن يفعل ذا بعرسه ويعني الناظم بقوله: (ألفية) النسبة إلى ألف مزدوج، لا إلى ألف بيت لأنها ألفا بيت من مشطور الرجز، ويبعد أن يكون قصده النسبة إلى الألفين وإن كان في اللفظ ممكنا. وقوله: (مقاصد النحو بها محوية) معنى محوية: مجموعة محاط بها، يعني أن هذه القصيدة قد أحاطت بمقاصد النحو وجملتها مجموعة فيها. وأصل النو في اللغة: القصد، وهو ضد اللحن الذي هو العدول عن القصد والصواب، والنحو قصد إليه وهو في الإصطلاح: علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني ويعني بالأحوال وضع الألفاظ بعضها مع بعض في تركيبها للدلالة على المعاني المركبة، ويعني

بالأشكال ما يعرض في أحد طرفي اللفظ أو وَسَطِهِ أو جملته من الآثار والتغييرات التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، هذا حد بعض المتأخرين وقال الفارسي: النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب يعني بالمقاييس القوانين الكلية الحاصلة في مَلَكَةِ الإنسان من تتبع كلام العرب. ثم إن الناظم نص على أن قصيدته هذه محتوية من النحو على جميع مقاصده لقوله: (مقاصد النحو) وهذه صيغة عموم تفيد الاحتواء من المقاصد على جميعها، وعلى هذا فيه سؤال وهو أن يقال: إنه قد نص آخر النظم على أنه إنما احتوى الجُلَّ، لا على الجميع لقوله هنالك: (نظما على جُلّ المهمات اشتمل) ولم يقل: على المهمات اشتمل، ولا على جميع المهمات، ومهمات النحو ومقاصده بمعنى، فإما ان يكون نظمه مشتملا على الجميع، وإما على الجُلّ دون الجميع، وعلى كلا التقديرين يكون أحد الموضعين، غذ قد فاته أشياء من مقاصد النحو ومهماته كباب القسم، وباب التقاء الساكنين، وغير ذلك مما يتبين في موضعه إن شاء الله تعالى، فتخلص أن كلامه هنا غير صادق. والجواب: أن الكلامين غير متنافرين، بل هما متوافقان؛ وذلك أن المهمات ليس بمرادف للمقاصد، لأن المقاصد أعم المهمات لانقسامها

إلى المهم وغيره، فمن مقاصد النحو ما هو مهم كالذي ذكر في نظمه، ومنها ما ليس بمهم كباب التسمية، ومسألة الأمثلة الموزون بها في باب ما ينصرف، وفصل الاستثناء من الاستثناء وما أشبه ذلك، إلا أنه يبقى وجه إتيانه بلفظ العموم، مع أنه لم يتكلم إلا على الجُلّ من المقاصد، بل على جاءني أهل مصر، إذا جاءك جلُّهم أو رؤساؤهم، وأهل مصر صيغة العموم كمقاصد النحو، ومن هنا صح الاستثناء الاستثناء من العام على ما هو مبسوط في موضعه، فإذا كان كذلك سقط الاعتراض فإن قلت: فلم لمْ يبين هنا كما بين هناك؟ فالجواب: إن مقصده هنا ليس البيان عما احتوت عليه على الحقيقة، وإنما مقصده أمر آخر خلاف ما قصد هنالك، وذلك أنه أراد هنا التعريف بأن نظمه احتوى على الضروري من علم النحو، لأن علم النحو يحتوي على نوعين من الكلام: أحدهما: إحراز اللفظ عند التركيب التخاطبي للإفادة عن التحريف والزيغ عن معتاد العرب في نطقها -وما وقع عليه كلامها، حتى لا يرفع ما وضعه في لسانهم أن ينصب أو يُخفض، ولا ينصب ما وضعه في لسانهم على أن يُرفع أو يُخفض، ولا أن يؤتى بما حقه أن يكون عندها على شكل وهيئةٍ على شكل آخر وهيئة أخرى، بل يجري في ذلك على مَهْيَع نُطقهم، ومعروف تواضعهم. فإن كان المتكلم فيه مما قد تقدمت العرب للتكلم به، وحفظ عنهم لم يحرفه عما نطقوا به وإن كان مما لم يحفظ عنهم من التركيب النطقي، إما لأنهم لم يتكلموا به، أو تكلموا به ولم يبلغنا، أو بلغ بعضا ولم يبلغ بعضا، أعملنا في ذلك المقاييس التي استقرأناها من كلامهم

حتى توصلنا إلى موافقتهم، وحت نقطع أو يغلب على ظنوننا أنهم لو تكلموا بهذا لكان نطقهم كذا، فإذا تحصل لنا مجاراتهم في ذلك ومساواتهم كنا جديرين بأن نسمى مُعربين، واستحق المتصف منا بذلك أن يسمى نحويا، وهذا النوع هو المقصود من علم النحو، وهو الذي أراد الناظم أن يأتي به في هذا النظم، فلذلك قال: (مقاصد النحو بها محوية). والنوع الثاني: التنبيه على أصول تلك القوانين وعلل تلك المقاييس والأنحاء التي نحت العرب في كلامها وتصرفاتها، مأخوذا ذلك كله من استقراء كلامها، وهذا النوع متمم وليس بواجب، ولا هو المقصود من علم النحو، فلذلك لم يتعرّض له الناظم. إذا لا يبنى عليه من حيث انتحاء سمت كلام العرب شيء، لكن لما كان هذا النوع لائقا بغرض الشرح لم أخل هذا الكتاب منه فيما استطعت، وعلى ما أعطيه الحال في شرح كلام الناظم والله المستعان. وقوله: (تقرب الأقصى بلفظ موجز) له تفسيران: أحدهما: أن يكون معنى الكلام أن هذه الأرجوزة تضم أطراف المعاني البعيدة عن التحصيل والضبط، فتضبطها بقوانين وجيزة مختصرة، حتى تجمعها سهلة الانقياد، لا تتعاصى على ذي فهم، ولا تشذ عن الضبط، ولعمري إنه لكما قال: إذا كان قد سهل فيها طريق التحصيل، ويسر الأمر على منتحلة، خلاف ما عليه كثير من التقدمين الذين لم يصلوا من الضبط والتنقيح إلى ما وصل إليه وعلى

هذا المعنى نبه في خطبة التسهيل بقوله: وإذا كانت العلوم منحا إلاهية ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. والثاني: من التفسيرين أن يكون معنى قوله: (تقرب الأقصى) أي تجمع أشتات المعاني الكثيرة في الفظ اليسير، إشارة منه إلى الاختصار الذي نحاه مما بَعُدَ على غيره جمعه من المعاني الكثيرة قربه هو اللفظ الموجز، وإنه لكما قال: فإنه يأتي بالقانون الواحد في الألفاظ اليسيرة، يضبط به ما يأتي به الأقدمون من النحويين في ورقة أو ورقتين، وليس في هذه الأرجوزة في الغالب لفظةٌ لغير معنى، ولا لمجرد ضرورة وزن أو قافية، بل كل لفظ فيها تحته معنى أو معان، فقد أخلاها من الحشو إلا نادرا، حتى أنه كثيرا ما يشح بالألفاظ إذا فهم معناها كحروف العطف وغيرها، وقد يأتي بالمثال ليستقرئ منه شروط الباب أو قانونه حرصا على قلة الألفاظ وكثرة المعاني، وسترى ذلك في أثناء كلامه إن شاء الله تعالى، ويتعلق قوله: (بلفظ موجز) على هذا التفسير بالفعل المتقدم، وعلى الوجه الأول باسم فاعل حال: أي: تقرب الأقصى كائنا بلفظ موجز، وهذا الوجه أيضا مما يدخل تحت مقصود كلامه في خطبة "التسهيل" وكان التفسير الأول أولى: إذْ كان يتضمن الثاني بقوله (بلفظ موجز) ولا يتضمن الثاني الأول. وقوله: (وتبسط البذل بوعد منجز) يحتمل وجهين أيضا: أحدهما: أن يكون عبارة عن إتيانه بالقوانين والضوابط موفاةً،

وبالأبواب مكملة المقاصد. مضمومة الأطراف، بحسب ما يُحتاج إليه، لا ينقص ذلك عن المطلوب المقصود، ولا يختل له فيه قانون، فمتى طلبت منها -أعنى من الأرجوزة- مسألة أو بابا أو قانونا وجدته فيها موفى لا تفتقر إلى نظر في غيرها، فوعده فيها منجز لا تأخير فيه عن حال الْتماسك الفائدة، ليست كغيرها من الكتب التي تقع فيها المسائل ناقصة الأغراض والأبواب، مبتورة المقاصد، غير مستوفاة الأقسام. والثاني: أن يكون المعنى مؤكدا لما تقدم في القسم الأول من أنها سهلة الملتمس لا يصعب فهمها على اللبيب، ولا يقف دون الوصول إلى حاجته منها لقربها من الأفهام، وإحكام ضبطها للقوانين والمسائل، وهذا المعنى غير بعيد أن يكون قصده. و(الأقصى) ضد الأدنى، أي تقرب الأبعد على الطالب، و (البذل): العطاء ومعنى تبسط البذل، أي توسعه وتكثرة، ويقال: بسط يده بالعطاء، إذا وسعه وكثّر فيه، وهو إشارة إلى كثرة فوائد هذه القصيدة مع إيجاز لفظها، والوعد المنجز، معناه المُحْضَرُ. يقال: بعته ناجزا بناجز، أي حاضرا بحاضر لا نسيئة فيه. *** وتقتضي رضا بغير سخط فائقة ألفية ابن معط وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائيَ الجميلا والله يقضي بهبات وافرة لي وله في درجات الآخرة أصل قضى أن يكون بمعنى حَكَمَ، وعلى هذا الأصل جرت مُتصرَّفاتُها في الاشتقاق وقضى بمعنى أدى منه أيضا. ويقال: اقتضى دينه، إذا طلب قضاءه، وكلام فلان يقتضي كذا، أي يطلب الحكم به. والرضا: مصدر رضى عنه يرضى رضا بالقصر، وقد

يكون الاسم، وحكى الجوهري عن الأخفش المد في الاسم. والسُّخطُ والسَّخّطُ: خلاف الرضا. ويقال: سخط عليه، إذا غضب عليه فهو ساخط، وأسخطه، أي أغضبه. ويقال أيضا: رضيت عمل فلان وسخطته، وعلى هذا المعنى الثاني يجري كلام الناظم والله أعلم، والمعنى أنها تقتضي الرضا، أي الحكم به يعني برضا ناظمها، وليست بمقتضية سخطا أصلا، و (فائقة) حال من الضمير في تقتضي أي تقتضي الرضا بألفية ابن معط، حال كونها فائقة لها، وكأن الكلام جاء على الإعمال، لأن (ألفية) في البيت يطلبه المصدر الذي هو (رضا)، و (فائقة) في البيت الآخر. وإن قلت: إن سخط يطلبه كذلك فهو صحيح، فيكون مما طلب: المعمول فيه ثلاثة عوامل، كقول الحطيئة: سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا على مذهب المؤلف وجماعة. ويقال: فاق الرجل أصحابه، إذا علاهم بالشرف أو غيره، ومراده أن ينبه على أن نظمه لهذه الأفية ليس معارضة لابن معط في ألفيته، ولا لسخط يتعلق بها منه، بل هو جار على سبيل الرضا بما صنع ابن معط وإن كانت هذه قد فاقتها بأوصاف حسان كتثقيف

الأبواب، وتصحيح القوانين والتوفية بشروطها، واختصار الألفاظ مع كثرة المعاني، إذا كل من نظر فيهما يعلم أنها قد فاقتها بهذه الأوصاف، فالناظم بين أنها حال شُفُوفها على ألفية ابن معط ليست بمقتضية لسخط، بل هي مقتضية للرضا المحض الذي لا يشوبه شيء، وهذا شأن العلماء والفضلاء، أن يأتوا بالفائدة مجردة من التنكيت والاستصغار لما جاء به غيرهم وإن كان ما يأتون به أتم وأكمل، وألفية ابن معط مشهورة بأيدي الناس، وهي ذات محاسن من تقريب المرام للأفهام وعذوبة المساق، وسهولة الحفظ، والبيان بالمثل مع قلة الحشو، مع أنها مؤذنة بفصاحة صاحبها، شاهدة له بجودة القريحة، وسعة العلم، وقد نظم في مدحها بعض من اعتنى بشرحها فقال: الدرة المنظومة الألفية ... أجَلُّ ما في الكتب النحوية لكونها في حجمها صغيرة ... جليلة في قدرها كبيرة قد ضبطت أصل كلام العرب ... واختصرت ما في الطوال الكتب من أجل ذاك لقبت بالدرة ... واشتهرت في الناس أي شهرة نظمها الشيخ الإمام يحيى فذكره يبقى ويحيا على ممر الدهر والأعصار ... وحيثما حلت من الأمصار فرحمه الله مع السلام ... عليه من علّامة إمام

وابن معط ناظم الألفية التي أشار إليها ابن مالك هو زين الدين أبو زكريا يحيى بن معط بن عبدالنور المغربي الأصل والمنشأ، الزواويُّ القبيلة الجزائري البلد، اشتغل بالعربية في المغرب على شيخه أبي موسى عيسى بن يلَلْبخْت الجُزُولِيّ فتهمر فيها، ثم رحل إلى بلاد المشرق فلقي المشايخ، وباحث العلماء وناظر الفضلاء، ثم أقام بدمشق فولّاه الملك المعظم النظر في مصالح المسجد، وفي ذلك الوقت نظم هذه الأرجوزة، وكان معاصرا لتاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي البغدادي، فكانا في عصرهما رئيسَىْ أهل الأدب في دمشق، فلما توفي الملك المعظم نقل الملك الكامل أبا زكريا إلى مصر، فأقام بها إلى أن توفي -رحمه الله- يوم الاثنين في آخر يوم من ذي القعدة، ودفن يوم الثلاثاء أول يوم من ذي الحجة بالقرافة، سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان رحمه الله مبرّزا في علم الأدب قادرا على النظم للعلوم، نظم هذه الأرجوزة ونطم العروض، وشرع في نظم للعلوم، نظم هذه الأرجوزة ونظم العروض، وشرع في نظم كتاب "الصحاح" للجوهري فتوفي قبل إتمامه، وله

من التواليف غير المنظومة كتاب "الفصول" وهو كتاب حسن، وتعليقات على أبواب الجزولية وغير ذلك، ومن وقف على تصانيفه المذكورة علم غزارة علمه وقوة فهمه، وجودة طبعة، وفصاحة نظمه. ثم قال: (وهو بسبق حائز تفضيلا) إلى آخره. الضمير عائد على ابن معط. والسّبق: التقدم في الأمر، والحائز هو المستولي على الشيء. يقال: حاز الشيء، إذا ضمه إلى نفسه. والتفضيل: الحكم بالفضل للشيء على غيره أو تصييره صاحب فضل. يقال: فضلت فلانا على فلان: إذا حكمت له بالفضل عليه أو صيرته كذلك والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة، ونسب إليه حوز التفضيل، والتفضيل هو فعل المفضل، لا وصف للمفضل، وإنما وصْفُهُ الفضلُ، فكان الأولى أن يقول: وهو بسبق حائزٌ فضلا لكن لما حاز سببه وهو السبق في هذه المكرمة صار كأنه حاز المسبب، وهو التفضيل بحوزه للسبب الذي هو السبق، أو لأن التفضيل به يتعلق فنسب حوزه إليه لأجل ذلك. والمستوجب هو المستحق. والثناء -بالمد وتقديم الثاء: هو ذكر الرجل بما فيه من الأوصاف الحسنة. يقال: أثنيت على أبي وعلى شيخي، أثنى عليه إثناءن والاسم الثناء

هذا ما ذكره الجوهري والأعلم من أن الثناء المختص بالخير بخلاف النَّثَا -بتقديم النون والقصر- فإنه في الخير والشر. وحكى غيرهما أن الثناء الممدود يكون في الخير والشر كالثنا المقصور وأنه يقال: أثنيت عليه خيرا وأثنيت عليه شرا، وإياه ذكر ابن القوطية، وإلى الأول مآل ابن السيد فذكر أن الغالب على الثناء الممدود أن يستعمل في الخير دون الشر، بخلاف النثا المقصور كما تقدم، قال: وقد جاء الثناء الممدود في الشر إلا أنه قليل، ومحمول على ضرب من التأويل، وأنشد أبو عمر المطرز عن ثعلب:

أثني عليَّ بما علمت فإنني ... أثني عليك بمثل ريح الجورب ثم جوز أن يكون المعنى: إني أقيم لك الذم مقام الثناء، كما قال تعالى ((فبشرهم بعذاب أليم))، والعذاب ليس ببشارة، وإنما المعنى: إني أقيم لهم الانذار بالعذاب الأليم مقام البشارة. قال: فإذا حمل على هذا التأويل لم يكن في البيت حجة، ولما كان إطلاق لفظ الثناء محتملا بحسب هذا الخلاف، حرر الناظم -رحمه الله- عبارته وبين مراده وقصده، فوصف الثناء بالجمال فقال: "مستوجب ثنائي الجميلا" ليظهر للعيان شكره لما صنع ابن معط، ومدحه له. والجميل اسم فاعل من جمل الرجل -بالضم- جمالا فهو جميل، وامرأة جميلة، وجملاء -بالمد- والجَمَال: الحسنُ، وهذا كله إقرار منه لابن معط بفضل السَّبقية، وأن لابن معط الفضل عليه من جهة كونه تابعا له، ومقتفيا أثره، وسالكا على طريقه، وهكذا الأر في نفسه، فإن السابق له فضيلة ظاهرة على غيره من اللاحقين، إذا كان اللاحق مهتديا بناره، مقتديا بفعله، فكانا كالإمام والمأموم. روى أن إسحاق بن إبراهيم لما صنع كتابه في "النغم واللحون"

عرضه على إبراهيم بن المهدي فقال: لقد أحسنت يا أبا محمد وكثيرا ما تحسن، فقال إسحاق: بل أحسن الخليل، لأنه جعل السبيل إلى الإحسان، يعني بعلم العروض فقال إبراهيم: ما أحسن هذا الكلام! فممن أخذته؟ قال: من ابن مقبل، إذ سمع حمامة من المطوقات فاهتاج لمن يحب فقال: فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بليلى شفيتُ النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بُكاها فقلت الفضل للمتقدم وهو فضلٌ عند الكافة مرعى، وينضاف هاهنا إلى فضل شرعي نبه عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"، ثم لما بين فضل السبقية عمل في ذلك بما يلزمه في مكارم الأخلاق من الثناء عليه والدعاء له، وأدى حق السابق

من أجل ذلك، فحصّل الناظم بذلك أيضا فضل الأدب معه والإقرار له بالأفضلية، وهذه أخلاق أهل العلم والفضل، ثم أخذ في الدعاء له بقوله: (والله يقضي بهبات وافره لي وله ..... ) إلى آخره. معنى: يقضي بهبات يحتمها ويحكم بها، والهبات: العطايا والهدايا، الوافرة: الكاملة التي لا ينقص منها شيء، ومن كلامهم إذا عرض على أحدهم الطعام أو غيره أن يقول: تُوفر وتُحمد، أي لا يُنقص من مالك ولا من عرضك شيء على معنى الدعاء، وتُحمَدُ أي لازلتَ محمودا. والدرجات: المنازل بعضها فوق بعض ودرجات الآخرة أراد بها الجنة، أدخلنا الله إياها برحمته، وبدأ بالدعاء لنفسه، ثم لابن معط اقتداء بالسنة في أن يبدأ الإنسان بنفسه، ثم بمن يليه لقوله عليه السلام: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول" وأبين من هذا ما خرّج الترمذي، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه.

الكلام وما يتألف منه

الكلام وما يتألف منه الكلام في الترجمة على حذف مضاف، أراد: باب الكلام أو فصل الكلام، وهو خبر مبتدأ محذوف اختصار تقديره: هذا باب كذا، وأكثر المؤلفين يقتصرون على الخبر، ويحذفون المبتدأ اختصارا، لكن يبقون لفظ الباب فيقولون: باب كذا فاختصر الناظم ذلك هنا وفي سائر التراجم لعلم المخاطب ما يعني، و (ما) عبارة عن الكلم، وهي موصولة، والعائد عليها الضمير المجرور بـ "من"، والضمير المستتر في (يتألف) عائد على الكلام، أي وما يتألف الكلام منه. وهذا الباب مقدمة لابد من تقديمها قبل النظر في شيء من أبواب النحو، إذ لا يتحصل شيء من تلك الأبواب إلا بعد تحصيله، ومضمّنه بيان الكلام وأجزائه وتمييز بعضها من بعض، فأخذ في ذكر ذلك فقال: كلامنا لفظ مفيد كاستقم ... واسم وفعل ثم حرف الكلم واحدة كلمة والقول عم ... وكلمة بها كلام قد يُؤم لما كان الكلام ينطلق على أشياء لغة واصطلاحا، فيطلق في اللغة على القول بترادف، وينطلق على أيضا في اصطلاح المتكلمين على المعنى القائم بالنفس، ومراد الناظم -رحمه الله- حد الكلام في اصطلاح النحويين وهو مغاير لذينك الإطلاقين أخرجهما بقوله: (كلامنا) يعني كلام النحويين وهو المراد بضمير المتكلم ومعه غيره، أي كلامنا أيتها الطائفة النحوية كذا، وهو داخل فيهم، ولذلك أتى بضمير المتكلم ومعه غيره. وبعض

اللغويين يطلق الكلام على الجمل المركبة المفيدة وهو الذي اختار ابن جني في تفسيره لغة، واحتج عليه في (الخصائص) فهو على هو في عرف اللغة موافق لإطلاق النحويين. وقوله: (لفظ) إتيان منه بالجنس القريب، والصوت أبعد منه: إذ الصوت ينطلق على مالم يتقيد بحرف بخلاف اللفظ، والإتيان بالأقرب أولى، واللفظ: ما نطق به الإنسان، وتحرز به مما ليس بلفظ، فيخرج الكلام في اصطلاح المتكلمين، وكذلك الإشارة لا تسمى عندهم كلاما وإن جاء ذلك في الشعر، وينشد النحويين عليه. أرادت كلاما فاتقت من رقيبها ... فلم يك إلا ومؤها بالحواجب أي فلم يكن الكلام غلا ومأها، والومء والإيماء: الإشارة، ولما كان اللفظ منه ما تحصل به فائدة كقولك: زيد قائم قام زيد، ومنه ما لا يحصل به فائدة كقولك: زيد، فأن المفرد لا إفادة له من حيث هو مفرد، وإنما هو حال خاصة، وكذلك قام هل، وهل زيد، وما أشبه ذلك وكان الأول هو الذي يسمى كلاما عند النحويين لا الثاني أخرجه بقوله: (مفيد). والمفيد: ما يحصل منه عند السامع معنى لم يكن عنده، وهذا التعريف جملى، وأما على التفصيل فالنحويين في تفسير الإفادة طريقان: أحدهما: أنها صلاحية اللفظ لأن يحصل منه عند السامع معنى

لم يكن عنده، وذلك إذا كان فيه مسند ومسند إليه. فقولك: السماء فوقنا، وتكلم إنسان وما أشبه ذلك كلام عند أصحاب هذا الطريق، لأن مثل هذا وإن لم يفد الآن صالح لأن يفيد في بعض المواضع، فيخرج عن هذا ما ليس فيه مسند ومسند إليه كنحو: قام هل وضحك خرج. والثاني: أنها كون اللفظ بعد فهمه محصلا عند السامع معنى لم يكن عند فأصحاب هذا الطريق لم يعتبروا هنا الإسناد، وإنما اعتبروا حصول الفائدة فقولنا: السماء فوقنا، وتكلم إنسان، عندهم ليس بكلام وإن حصل فيه الإسناد إ ليس بمحصل الآن لشيء، وأولى ألا يكون قام هل ونحوه كلاما. والطريق الثاني ظاهر كلام الجمهور، والأولى رأي الرماني وليس في كلام الناظم تعيين لأحدهما. وقوله: (كاستقم) مثال لما حصلت فيه القيود المذكورة، ثم يبقى النظر في هذا الحد في شيئين: أحدهما: أن يقال: لمَ لم ينص على قيد التركيب، وعادة النحويين أن يذكروه في حد الكلام فيقولون: الكلام هو اللفظ المركب المفيد بالوضع: لأن كل كلام لابد أن يكون مركباً لفظاً أو أصلاً؟

فيقال في الجواب عن هذا: إنه استغنى عنه لوجهين: أحدهما: أن قوله: (مفيد) أغنى عن هذا القيد، لأن كل مفيد مركب فلما استلزمته الإفادة استغنى عنه بها، ولذلك اعترض على أبي موسى الجزولي بأن قوله: المركب في حد الكلام حشو: لأن قيد الإفادة مغن عنه، وهذا السؤال أورده طلبة مالقة على شيخنا أبي عبد الله الفخار -رحمه الله- وأجاب عنه في الحال بدخول أسماء الأعداد نحو: اثنان ثلاثة أربعة، فإنها مفيدة مع كونها غير مركبة، والدليل على كونها غير مركبة نطقهم بها على الوقف. وقولهم: ثلاثة أربعة إذا أدرجوا فهي مفيدة، مع أنها لا يسمى واحد منها كلاما. وقد يجاب عن هذا الجواب إنما أفادت مع القرينة، ألا ترى أنها تفيد إذا عدّ بها من غير حضور معدود فقد حصل التركيب بوجه ما، فلذلك حصلت الإفادة، فليست ألفاظ العدد إذا عد بها من المفردات

على الإطلاق، وعلى هذا التقدير تسمى كلاما بلابد. فإن قلت: أفيكون إتيانهم يقيد التركيب عبثا وقد أطبق على اعتباره النحويين؟ فالجواب: أن له وها يصح عند المعتنين بالكلام على قوانين الحدود وليس هذا موضع ذكر ذلك، ولكن لعله يأتي ذكره للحاجة إليه بعد هذا إن شاء الله تعالى. والوجه الثاني: أن مقصود الناظم إنما هو تقريب على المبتدئ ومن يليه، والتبيين بأوضح ما يمكن، فلو قيد اللفظ التركيب لسبق فهمه إلى إنكار كون (استقم) كلاما، لكونه ليس في اللفظ مركبا، فضلا عن إنكار كون "نعم" و "لا" و "بلى" و "قاف" في قول الراجز: قلت لها قفي لنا قالت قاف ونحو ذلك كلاما مع أنها كلام: لأن كون هذه الأشياء مركبة في التقدير أو غير مركبة لا يتبين إلا بعد تمرين وتحصيل، فكان تركُ

التقييد به أولى بما قصد له، وللشلوبين نظير هذا الاعتذار في مسألة، وذلك أنه ذكر عن بعض النحويين أن من مطرد المقصور ما كان على وزن فعلى جمعا نحو: قتلى ومرضى وجرحى ونحو ذلك، فلم يرتض الشلوبين هذا العقد قال: لوجود مثل قصباء وحلفاء في الجمع قال: فإن قلت ذلك اسم جمع وهذا جمع، فالجواب: أنه لا يتبين الفرق بين اسم الجمع والجمع في هذا إلا لمن قتل هذه الصناعة علما. قال: فالإحالة للناشئين أو المتوسطين على ذلك الخطأ، وهذه من الشلوبين نزعة عالم رباني لا يحمل الأمور فوق ما تحتمله، وقد يكون تركه قيد التركيب بناء منه على أنه لا يلزم في كل كلام أن يكون مركبا، وإنما اللازم الإفادة، فحيث وجدت فهو كلام، فـ "بلى" و "نعم" و "لا" كل واحدة منها كلام، وكذا ما كان نحوها. فإن قيل: إنها في تقدير المركب. فالجواب أن حملها على ما هو الظاهر فيها من الإفراد أولى من تكلّف تقدير الجملة عوضا منها، ومع ذا فإنه اعتراف بإفادة المفرد إفادة الجملة، ولا نعني بكونه كلاما إلا هذا، وعلى هذا يلزم إسقاط قيد التركيب من الحد، وهو ظاهر، ولا سيما وابن مالط ظاهري النحو في الغالب على ما يظهر من كلامه في تواليفه. النظر الثاني: إن النحويين يقيدون اللفظ المركب المفيد "بالوضع" وهو لازم على كلتا الطريقتين في تفسيره، أما من يقول: معنى "بالوضع

بالقصد"" أي يقصد المتكلم الإفادة تحرزا من كلام الساهي والنائم والمجنون وكلام بعض الطير، فإنه لم يقصد في كل ذلك الإفادة، فليس بكلام اصطلاحا فيقول صاحب هذا التفسير: إن الناظم يدخل عليه في هذا الحد جميع ما أفاد مما لم يقصد به الإفادة، وأما من فسر "الوضع" بوضع العرب تحرزا من كلام الأعجمي، فإنه لفظ مركب مفيد، لكنه ليس بوضع العرب، فليس بكلام اصطلاحا، فيقول: إن الناظم يدخل عليه كلام الأعجمي، فإنه ليس معه ما يخرجه عن الحد، فإن قلت: ما تنكر من أن يكون الناظم جاريا في تفسير الوضع على هذا الثاني، ويكون قوله: (كاستقم) يريد به الإشارة إلى هذا القيد الذي هو الوضع، فإن العرب هكذا وضعته لمعنا الذي دل عليه، وهذه عادته أن يعطى القيود والأحكام بالأمثلة، وهو كثير في كلامه فهذا من ذلك، فكأنه يقول: كل ما كان من الكلام هذا سبيله من كونه على طريقة العرب ووضعها، فهو الذي يسمى كلاما عند النحويين، فهذا ممكن أن يقال لولا أن مذهب المؤلف غير هذا من تواليفه أنه يريد الوضع بالتفسير الأول، وقد صرح به في "التسهيل" فقال: والكللم ما تضمن من الكلم إسنادا مفيدا مقصودا لذاته وفسره في "الشرح" على ذلك، وقال: تحرزت به من حديث النائم، ومحاكاة بعض الطيور الكلام، فقد نص على أنه لم يقصد هذا المعنى الثاني في تفسيره "الوضع" إلا أنه قد يقال: إنه ذهب ها هنا إليه ولم ير ما ارتضاه في "التسهيل" ولا يبعد هذا، فقد يكون للعالم المجتهد نظر في وقت لا يرتضيه في وقت آخر، فهما قولان للناظم على هذا المحمل، وهذه عادته في مسائل

كثير من هذا النظم يخالف فيها مذهبه في "التسهيل" وإذا اعتبرت الأمر في نفسه وجدت التقييد بالوضع على هذا المعنى الثاني ضروريا في الحد إذ يدخل على كل من فسره بالمعنى الأول كلام الأعجمي، فإنه لفظ مركب مفيد بالوضع ومداره علم العربية كله على التفرقة بين كلام العربي وكلام العجمى وتفسير الوضع بوضع العرب يتضمن معنيين: أحدهما: ما تقدم من كونه على طريقة العرب وترتيب ألفاظها على معانيها وبهذا خرج كلام الأعجمي. والثاني: اعتبار الإفادة الوضعية -أي المتواضع عليه- فتخرج بذلك الإفادة العرضية والعقلية، فالعرضية: كما إذا قلت: جاءني غلام زيد، فيفهم من إضافة الغلام إلى زيد أن له غلاما، فهذه فائدة أفادها هذا الكلام، لكنها إفادة غير وضعية، إذ لم يوضع لأن يدل عليها ولا يفيدها، وإنما وضع للإخبار عن غلام زيد بالمجيء، فإفادته أن لزيد غلاما عرضية لا وضعية، فلم يكن كلا من جهتها، والعقلية كإفادة كلام المتكلم من وراء حائط، أن في ذلك الموضع إنسانا حيا، فإن هذه الإفادة عقلية لا يتكلم فيها النحوي، وإنما كلامه في الإفادة التي وضع اللفظ لها، وعلى هذا فمثال الناظم قد أحرز ذلك كله، لأن قوله: (استقم) مفيد طلب الاستقامة من المخاطب بالوضع لا بالعرض ولا بالعقل وهذا كله حسن إن كان الناظم قد قصده والله أعلم. قوله: (واسم فعل ثم حرف الكلم) أصل هذا الكلام على ما نَقَلَه

ابن خروف لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه أول من قال: الكلم اسم وفعل وحرف، فنظمه ابن مالك على لفظه، إلا أنه قدم وأخر وعوض "ثم" من الواو، فالكلم في كلامه مبتدأ خبره ما قبله وإتيانه بثم الدالة على التراخي مشعر بأنه قصد التنبيه على أن الحرف متراخ عن الاسم والفعل في المعنى، إذ لا يكون في الكلام ركنا للإسناد، بل هو من الفضلات، ولذلك قال ابن معط في أرجوزته والحرف فضلة بلفظ خال ... من علم الأسماء والأفعال ويعني أن الكلام ثلاثة أنواع: اسم وفعل وحرف، لا زائد على هذه الثلاثة والدليل القاطع في المسألة الإجماع والاستقراء، وأما اختلافهم في أعيان بعض الكلام أهي من قبيل الأسماء أو الأفعال أو الحروف فلا يعود بخلاف في مسألتنا إذ لم يخرجوا في ذلك عن الأنواع الثلاثة كاختلافهم في (ليس) أهي فعل أم حرف؟ وفي (الألف واللام) الموصولة أهي اسم أم حرف؟ وفي (أفعل) في التعجب أهو اسم أم الدائرة بين النفي والإثبات كقول ابن مالك: إن الكلمة إما أن تصلح لأن

تكون ركناً للإسناد أولا، فإن لم تصلح فهي الحرف، وإن صلحت فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي الاسم وإلا فهي الفعل، فضعيف وغير ثابت عند الامتحان، وتأمل كلام ابن الحاج في كتابه المؤلف على (المقرّب) على أن بعضهم قد زاد نوعا رابعا وسماه الخالفة، وعنى بذلك أسماء الأفعال كأنها عند هذا القائل ليست بداخلة تحت واحد من الثلاثة، وذلك قول غير صحيح لقيام الإجماع قبله على خلاف قوله إذ هو فيما أحسب متأخر جدا عن أهل الاجتهاد المعتبرين من النحويين، ولأن خواص الأسماء موجودة لأسماء الأفعال، فكيف يدعى خروجها عن الأسماء، وتسميتها أسماء أفعال يدل على ذلك أيضا، فإن قيل: أين الإجماع وقد خالف الفراء في المسألة وهو من الصدر الأول الذين لا ينعقد إجماع دونهم، لأنه في الكوفيين نظير سيبويه في البصريين، ألا ترى أنه يقول في (كلا) إنها ليست: باسم ولا فعل ولا حرف، بل هي بين الأسماء والأفعال، فهي إذا عنده نوع رابع؟ فالجواب: أن قول الفراء في (كلا) هو الوقف عن الحكم عليها بأنها

اسم أو فعل لما تعارضت عنده فيها أدلة الاسمية وأدلة الفعلية، فلم يحكم عليها بشيء لا أنه حكم عليها غير ثلاثة، فالوقف ليس بحكم وإن عد في الأصول قولا، وإذا تأملت كلامه وجدت الأمر كذلك، فطالعه في اسم ثعلب من "طبقات النحويين" للزبيدي. وقوله: (واحده كلمة) الضمير في "واحده" يعود على الكلم، وأعاد عليه ضمير المذكر، لأن الكلم يذكر ويؤنث كسائر أسماء الأجناس، فتقول: هو الكلم، وهي الكلم، كما تقول: هو النخل وهي النخل، فقد قال تعالى: ((كأنهم أعجاز نخل خاوية)) وفي موضع آخر: ((كأنهم أعجاز نخل منقعر)) ويعني أن الكلم جمع واحده كلمة والكلمة في اصطلاح النحويين: هي اللفظة الدالة على معنى، فكل واحد من الاسم والفعل والحرف كلمة؛ لأن كل واحد منها لفظة دالة على معنى، والكلمة على وزن النبقة هي لغة أهل الحجاز، وجمعها كلم كنبق، وأما التميميون فيقولون: كمة على وزن سِدْرة، ويوافقون الحجازيين في الجمع.

وقال ابن جني: إن التميميين يقوبن: كلمة وكلم، كسدرة وسدر واستعمل اللغتين في هذين البيتين، وحكى الفراء فيها ثلاث لغاتك كِلْمة وكَلِمة وكَلْمة كوِرْق ووَرِق ووَرْق. ثم قال الناظم: (والقول عم) أيي: عم جميع ما تقدم يعني أن يطلق القول على الكلام ويطلق على الكلم وعلى الكلمة فقولك: قام زيد كلا وقول، وقولك (زيد وعمرو كلم وقول، وقولك: زيد كلمة وقول أيضا، فالقول أعم من كل واحد منها. وبالجملة: فالقول ينطلق على كل ملفوظ به، سواء كان مفردا أم مركبا، مفيدا أم غير مفيد. وقوله: (وكلمة بها كلام قد يؤم) استعمل هاهنا كلمة على لغة التميميين كما ذكرته. ومعنى: (يؤم) يقصد. يقال: أمّ الرجل الشيء يؤمه إذا قصد نحوه، يردي أن الكلمة قد تطلق على الكلام التام ويقصد بها قصده وهذا الإطلاق لغوي، لا اصطلاحي، وهو الذي قصد، ومثال ذلك قوله تعالى ((وكلمة الله هي العليا)) يعني لا إله إلا الله، وكذلك قوله ((وألزمهم كلمة التقوى)) وقال تعالى: ((وجعلها كلمة باقية في عقبه))، يعني ما تقدم من كلامه. وفي الحديث: (الكلمة الطيبة صدقة) وفي الصحيح: أصدق كلمة قالها لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل والكلمة ايضا: القصيدة بطولها يقال: كلمة فلان بمعنى قصيد فلان. * ... * ... * بالجر والتنوين والنداء وأل ... ومسند للاسم ميزة حصل جرت عادة النحويين أن يعرّفوا هؤلاء الكل بطريقين: أحدهما: طريق الحد، والآخر: طريق التعريف بالخواص، وقصدهم في ذلك أنه لما كانت الأسماء والأفعال والحروف على ضربين: ضرب ظاهر الدخول في الحد. وضرب غير ظاهر الدخول فيه، لعد ظهور ذاتياته بسبب شبهه بغيره، والحد الحقيقي إنما هو المعرف بالذاتي، أرادوا أن يتموا قصد التعريف مع ذلك بالخواص والأحكام، وذلك أن النحويين إنما حكموا للضرب الثاني بإلحاقه بالضرب الأول: لأنهم وجدوا أحكام الضرب الأول جارية في الضرب الثاني، ولولا ذلك ما ادعوا أنه منه، بل من نوع آخر، وأيضا فإن الحد تمييز للمحدود من جهة معناه، والتعريف بالخواص تمييز له من جهة لفظه، وتعريف النحاة بالأمر المعنوي إنما يكون مقيدا باللفظ؛ لأن نظرهم بالقصد الأول في اللفظ، وبالقصد الثاني في المعنى، فما عرفوه بماله من جهة المعنى أرادوا أن يعرفوه بما له من جهة اللفظ، ولما كان التعريف بمالة اللفظ أقرب إلى القصد النحوي وأسل على المبتدئ وهو التعريف بالخواص اجتزأ الناظم -رحمه الله- به فقال: (بالجر والتنوين ... إلى آخره) أما الجر فهو عبارة عن عمل الجار، والجار مختص بالاسم حرفا كان أو اسما، فكذلك عمله نحو: مررت بزيد، وجئت من الدار إلى

المسجد، وجاءني غلام زيد، وصاحب عمرو، وقعدت خلف دار زيد، وما أشبه ذلك، ووجه اختصاصه بالاسم يتبين إن شاء الله في قوله: والاسم قد خصص بالجر كما ... قد خصص الفعل بأن ينجزما وما جاء من نحو قوله: والله ما ليلي بنامَ صاحِبُه وقول الآخر: وللهُ عن يشفيك أغنى وأوسع وقولهم: (نعم السير على بئس العير)، وقولهم: (اذهب بذي تسلم) وما أشبه ذلك فقليل في كثير، وأيضا هو خارج كلام الناظم حيث قال: (بالجر) ولم يقل بحروف الجر، والجر مفقود في هذه الشواهد وإن وجدت أدواته إلا أن يقال: إنه أراد بحروف الجر، لكن حذف المضاف، فهذا خلاف الظاهر فلا يدعى إلا بدليل، وإن سلم فذلك كله مؤول، فلم يعتبر به ووكل أمره إلى أبوابه ومواضعه، إذ ليس من قبيل ما ينبه المبتدئ ولا من يليه عليه في مثل هذا الموضع، وقد تقدم نحو هذا في مسألة الكلام. وأماك (التنوين) فهو نون ساكنة مزيدة في آخر الاسم لمعنى يختص به، وإنما كان مختصا بالاسم، لأنه إما أن يدل على تعريف ماهو صالح للتنكير

بقاء الأصالة، وهو تنوين الصرف، والأصالة إنما هي للاسم فلا يلحق ما يدل على بقائها غيره نحو: ابن ورجل وزيد وعمرو، وإما أن يدل على تنكير ما هو صالح للتعريف وهو تنوين التنكير، فلا يلحق غير الاسم لعدم الحاجة إليه في ذلك الغير نحو: صه ومه وأف، وإما أن يكون عوضا من مضاف إليه، فلا يلحق غير الاسم لاختصاص الإضافة به نحو: يومئذ وحينئذ، وإما أن يكون دليلا على مقابلة جمع مؤنث بجمع مذكر، فلا يكون في غير الاسم؛ لأن الجمع لا يكون في غيره نحو: مسلمات وهندات، وأما التنوين اللاحق عوضا من مدة الاطلاق لقول جرير أنشده سيبويه: أقلى اللوم عاذل والعِتَابَنْ ... وِقُولى إن أصبت لقد أصابن والتنوين المسمى بالغالي نحو ما انشده أبو الحسن في (كتاب القوافي) لرؤية بن العجاج: وقاتم الأعماق خاوى المخترقن فهما غير مختصين بالاسم؛ لأن الروى قد يكون بعض فعل وبعض حرف، كما يكون بعض فعل وبعض حرف، كما يكون بعض اسم، ولا يعترض على الناظم بذلك، لأنه يبنى في التنوين على الغالب في الكلام، والغالب في الكلام ما اختص بالاسم فاكتفي به، وأما النداء وهو ممدود فأتى به مقصورا لضرورة الوزن فمختص بالأسماء أيضا، وهو تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه بحرف من حروفه، ووجه اختصاصه بالأسماء أنَّ المنادى

مفعول في المعنى، لأن معنى يا زيد: أنادي زيدا او أدعو زيدا، والمفعولية من خصائص الاسم، فكذلك النداء، وما جاء من نحو: (يا نعم المولى ويا نعم النصير) وقراءة الكسائي: ((ألّا يسجدوا)) وقول الراجز: يا دارَ سلمى يا اسلِمي ثم اسْلمي ونحو ذلك فغير داخل على الناظم، إذ لم يجعل الخاصة هي حرف النداء وإنما جعلها نفس النداء، ونداء هذه الأشياء لا يصح، إذ لا ينادي إلا من يجيب. أو من يقام مقامه كالمندوب، وأيضا كل ما جاء من ذلك أصله وجود المنادى في اللفظ، إلا أنه عرض له الحذف على ما هو مذكور في بابه فلا يعترض به, وأما (أل) وهي أداة التعريف المعبر عنها بالألف واللام، -وإنما عبّر عنها "بأل" اختصارا -فمختصة أيضا بالأسماء على جميع وجوهها من كونها لتعريف العهد أو الجنس أو زائدة فغنما تدخل على ما كان شأنها أن تدخل عليه، وهو الاسم كقول ابن ميادة: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديد بأعباء الخلافة كاهله وكذلك الموصولة؛ لأنها للتعريف أيضا، وإن جرى مع ذلك كونها موصولة إذا ليس المعنيان بمتنافيين، ولا يعترض عليه بها، وإن كان قد أجاز أن تدخل على الأفعال اختيارا على ما سيأتي، وق جاء ذلك في الشعر

على وجه الضرورة عند غيره نحو ما أنشده أبو زيد من قول ذي الخرق الطهوي: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربه صوت الحمار اليُجَدَّعُ ولا بدخولها على الجملة نحو قوله: من القوم الرسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد لأن الناظم قد نص على أن دخولها على الفعل قليلا، ألا تراه كيف قال في باب الموصول: (وكونها بمعرب الأفعال قل). وأما دخولها على الجملة فقد اتفق الجميع على شذوذه فلا يعتد به وعلى الجملة فدخول الألف واللام على الاسم واختصاصها به هو الشهير والكثير، فيكفى في كونها معرفة. وأما قوله: (ومسند للاسم) فمسند فيه اسم مصدر من أسند إسنادا، أي وإسناد للاسم، وهو مجرور عطفا على ما قبله، واللام في الاسم بمعنى إلى، والإسناد إلى الاسم هو الإخبار عنه، وقد عرفه ابن مالك بأنه تعليق خبر بمخبر عنه، أو طلب بمطلوب منه، يعني أن من خصائص الاسم أن يسند غليه، بخلاف الفعل والحرف، فإنهما ليسا كذلك. أما الفعل فيسند، لكن لا يسند غليه، أي يخبر به ولا يخبر عنه.

وأما الحرف فلا يسند غليه، أي: لا يخبر به ولا (يخبر) عنه، ووجه ذلك أن مهناهما لا يقبل الإخبار عنه، فإنك لو قلت: ضحك خرج، أو كتب ينطلق لم يكن له معنى، وكذلك الحرف لو قلت هل زيد أو زيد هل، وهو أجدر، فإن ورد إسناد إلى غير الاسم فعلى تأويل الاسم فقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه محمول على معناه، وإن كان "تسمع" في اللفظ مخبرا عنه بخير، وكذلك قول الله تعالى: ((ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)) ففاعل "بدا" في اللفظ "ليسجننه"، ومن هذا النوع كثير، فهذا كله غير داخل على الناظم، لأن الإسناد بمعنى الإخبار، والإخبار عن الفعل بهذه الأشياء على حقيقته لا يصح، فالإسناد إليه فيها مفقود، وإذا حمل الكلام على معناه صار الإسناد فيه إلى الاسم فشمله تعريفه، وذلك صحيح، فعلى كلا الاعتبارين تعريفه صحيح. واعلم أن الإسناد عنج المؤلف على وجهين: إسناد باعتبار المعنى وإسناد باعتبار اللفظ. فأما الأول فهو المختص عنده بالأسماء ويسمى إسنادا حقيقيا وإسنادا وضعيا كقولك: زيد فاضل، فإنما أخبرت بالفضل عن مدلول زيد لا عن لفظه، وهذا هو المختص عنده بالأسماء. وأما الثاني فيصلح لكل واحد من أنواع الكلم. فيصلح للاسم نحو زيد معرب، وللفعل نحو قام: فعل ماض وللحرف نحو "في" حرف جر، وأيضا

يصلح للجملة نحو: "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" وهذا المنزع ذهب إليه القرافي، واستحسنه ابن هانئ من شيوخ شيوخنا، وهم في ذلك مخالفون لجميع النحويين، فليس الإسناد عندهم إلا على وجه واحد وهو الإسناد الحقيقي فكل لفظ أسند إليه إنما أسند غلى معناه إذا قلت: زيد قائم، فإسناد القيام إنما هو لمدلول زيد، لا لمجرد لفظه، والتقدير عندهم ذو زيد قائم، أي مدلول هذا اللفظ قائم، ثم يتسعون فينسبون الإسناد إلى اللفظ مجازا، وكذلك الحال إذا قلت: قام فعل ماض، فعبارتك لفظ مدلوله الفعل المعلوم الذي قام الدال على الحدث والزمان الماضي، وليس الفعل هو نفس عبارتك، بل هو مدلولها، وكذا القول في سائر البا. وإذا تقرر هذا فالإسناد في كلام الناظم هو الحقيقي بلا بد، لأنه جعله من خصائص الاسم، فهو بذلك موافق للناس، ومخالف لمذهبه

في "التسهيل" و "شرحه" بدليل إطلاقه (هنا)، إذ لو كان بمذهبه هنا موافقا له هنالك لجعل الإسناد إلى المعنى كما جعله في "التسهيل" وإلا دخل عليه في التعريف الفعل والحرف والجملة، وهو لم يفعل ذلك، بل قال: (ومسند للاسم) فنسب الإسناد إلى الاسم ولم ينسبه إلى المسمى، فعلم بذلك موافقته للجماعة، وهو المذهب الصحيح، والدليل عليه أمران. أحدهما: الإجماع قبله وقبل من وافقه على أن غير الاسم لا يخبر عنه. والثاني: أني يقال له إذا قلت: قام فعل ماض، فما إعراب قام؟ فلا محيص له عن أن يقول: مبتدأ، وهو عين التناقض في مذهبه؛ لأنه زعم أولا أنه فعل ثم أقرّ بأنه مبتدأ، والمبتدأ في مذهبه لا يكون فعلا ولا حرفا ولا جملة، فصح أن مذهبه متناقض في المسألة، وكذلك إذا قلت: "في" حرف جر، و "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة" القول في الجميع واحد وقوله: (ومسند للاسم مَيْزهُ حصل) مَيْزُهُ: مبتدأ، خبره حصل، و (الجر) متعلق بحصل، والتقدير: ميْزُهُ حصل بالجر والتنوين، وكذا إلى آخره، وفي هذا الكلام وضع الظاهر موضع المضمر، والمضمر موضع الظاهر، فأصل الكلام أن يقول: ميْزُ الاسم حصل بالجر والتنوين والنداء، وأل وإسناد إليه، لكن لما افتقر إلى التقديم والتأخير لأجل الوزن عوض من المضمر في "له" الظاهر لتقدمه في اللفظ. ومن الظاهر في ميز الاسم المضمر ليكون عائدا على ما قبله.

ويروى: (ومسند للاسم تمييز حصل) وهو بمعنى الأول إلا أن في إعرابه إشكالا فيصعب تنزيله بسبب ذلك على المعنى المراد فانظر فيه، وذلك أن قوله: (للاسم) إما أن يجعله خبر المبتدأ الذي هو تمييز فيتعلق حينئذ باسم فاعل مقدر، و "حصل" في موضع الصفة لتمييز، كأنه قال: (للاسم) تمييز حاصل بالجر والتنوين وكذا وكذا والإسناد، والمعنى على هذا غير صحيح إذ الاسناد من حيث هو إسناد غير مختص بالاسم لاشتراك الفعل معه فيه، فالاسم يتعلق به الإسناد من جهتين، والفعل يتعل به من جهة واحة، وهو كونه يقع مسندا غلى غيره فليس بخال من الإسناد كالحرف، فالإسناد ليس بمعرف للاسم على هذا التقدير. وإما أن تجعل "للاسم" متعلقا بمسند وتمييز مبتدأ خبره حصل، كأنه قال: تمييز حصل بالجر والتنوين وكذا الإسناد للاسم، والمعنى على هذا أيضا لا يتم، لأن التمييز لا يدري لماذا هو، أللاسم أم للفعل أم للحرف؟ والمراد تمييز الاسم بخصوصه عن غيره، وليس في اللفظ ما يعين ذلك، والكلام محتمل للبحث فتأمله. وعلى الجملة فالعبارة الأولى أحين وأسلم من الاعتراض، فلذلك اعتمدتها وبالله التوفيق. فهذه خمس خواص تحيط بتعريف الأسماء جميعها أو أكثرها. ولما أتى على تعريف الاسم بخواصه جعل يذكر للفعل مثل ذلك فقال: بتا فعلت وأتت ويا أفْعَلِى ... ونون أقبلن فعل ينجلي تاء فعلت يحتمل أن تضبط بالثلاث، لأن المقصود من الجميع واحد، ويريد أن التاء التي تلحق آخر الكلمة، على حد لحاقها

في فعلت، تميز الفعل عن غيره، لأنها لا تلحق إلا الفعل وعادته أن يعطى الأحكام بالأمثلة و (يقرر) الأصول بها، طلبا للاختصار، واتكالا على فهم المراد منها، ويعبر عن هذه بأن يقال: الاتصال بضمير الرفع البارز، فيدخل تحت هذه العبارة أيضا ياء الواحدة المخاطبة، وهي المرادة بقوله: (ويا افعلى) أي: الياء التي تلحق الكلمة على حد لحاقها في افعلى يا هند، وفي معنى ذلك الياء اللاحقة في تفعلين، فمثال التاء في فعلت قولك: ضربتَ وضربتُ وضربتِ وكذلك خرجتُ وقمتَ وقعدتِ، وما أشبه ذلك، فكلّ ما لحقته هذه التاء فهو فعل، وعلى هذا يكون عنده "ليس" و "عسى" فعلين، لأنك تقول: لستُ ولستَ ولستِ، وعسيتُ وعسيتَ وعسيتِ، وذلك صحيح، وقد خالف البغداديون في "ليس" فعدوها في الحروف لما لموافقتها في المعنى

وأما البصريون فهي عندهم في الأفعال اعتبارا بجريان أحكام الأفعال عليها، ومن جملتها الاتصال بضمير الرفع البارز الذي عرف به الناظم، ويدخل له أيضا في الأفعال: هيتَ وهيتُ وهِئتُ وهُيِّيتُ وما أشبه ذلك، وإن كانت عند غيره أسماء وأفعال، لأن مذهبه في غير هذا الكتاب أن ما لحقه ضمير الرفع البارز فهم فعل، وإن كان ليس على صيغة الأفعال. ألا تراه قال في "التسهيل" في باب أسماء الأفعال والأصوات: وبرزوه -يعني الضمير- مع شبهها في عدم التصريف، يعني شبه أسما الأفعال دليل فعليته. وتعريفه الفعل هنا بذلك يدل على أنه ذهب فيها مذهبه في "التسهيل" وهو ظاهر؛ لأن الضمائر البارزة إنما شأنها أن تلحق الفعل لا الاسم، لكن قد وجه ابن جني بروز الضمير في اسم الفعل بأنها لما كانت دالة على الأفعال ونائبه منابها، وقويت الدلالة عليها حتى كأنها هي، ظهر فيها الضمير في بعض الأحوال، ليدل على قوة شبهها بالأفعال التي نابت عنها. قال: وايد ذلك كون الموضع للأمر، والأمر إنما بابه أن يكون للأفعال. قال: فتضارعت الحالان، أعني وقوع هذه الأسماء نائبة عن تلك الأفال، وغَلَبَةَ الأمر على الفعل فبرزه ما برز من الضمير هنا في بعض الأحوال، مناسبا لما هم بسبيله من إرادة الفعل الذي ناب الضمير له، وتمكنه فيه، هذا ما قال في توجيهه منضما إلى معارض عارضه في دعوى الفعلية، وهو أنها في الغالب غير جارية على أوزان الفعل كهيتَ، وهيتِ، وهيْتَ وهِجْدَ، إذ يقال هكذا

للواحد، مع أنها قد لحقتها الضمائر، أما ما هو جار على أوزان الفعل فلا إشكال في دعوى الفعلية فيها، إذا لحقتها الضمائر كلهم في لغة بني تميم، فالحاصل أن سبب الخلاف تعارض الدليلين، دليل الفعلية وهو بروز الضمير، ودليل الاسمية وهو عدم الجريان في الغالب على أوزان الفعل، فغلب ابن مالك جانب بروز الضمير وغلّب ابن جني ومن قال بقوله جانب عدم الجريان على الفعل. ومثال الياء في (افعلى) قولك: اضربي يا هند، وقومي واخرجي، وأنت تضربين وتقومين وتخرجين وما أشبه ذلك، فكلّ ما لحقته هذه الياء فهو فعل، وعلى هذا يدخل له من قبيل الأفعال ما كان من نحو: أجدم وهب وياي من أسماء الأصوات للحاق الياء المشبهة لياء افعلي، ومنه قول عدي بن الرقاع: هنّ عجم وقد علمن من القو ... ل هبى واجدمى وياي وقومي فهذه أصوات لحقتها الياء المذكورة، فحكم لها بحكم ما شأنها أن تلحقه وهو الفعل، وابن جني على مذهبه في أنها باقية على أصلها من الاسمية، إلا أنها لحقتها من الضمائر الياء الدالة على التأنيث اعتبارا بما تضمنته من معنى الفعل، ومذهب الناظم في: اجدمي ظاهر

لموافقته لوزن الفعل مع لحاق الضمير وكذلك "هبى" و "ياي" لموافقتهما دعى ورامي بخلاف هجدا وهِجِدْنَه وما أشبه ذلك، فإن تعارض الدليلين فيها قائم، واحمل على هذه الأشياء ما كان مثلهما. وأما قوله: (وأتت) فهو معطوف على فَعَلَت، أي وبتاء أتَتْ، يعني أن التاء اللاحقة آخر الكلمة على الصفة التي هي عليها في أتت من كونها ساكنة لازمة للسكون في أصلها، تدل على أن تلك الكلمة فعل لا اسم ولا حرف، ومثال ذلك قامت هند وقعدت وأكلت وما أشبه ذلك، ويدخل له في حكم الفعلية بهذه الخاصة "نعم" و "بئس" و "ليس" و "عسى"، لأنك تقول: نعمت المرأة هند، وكذلك بئست وليست وعست، ولا يدخل عليه رُبَّتْ وثُمَّتْ من الحروف، لأن هذه التاء غير لازمة للسكون بل الأكثر فيها الفتح، فهي غير الأولى المقيّدة بالسكون اللازم الذي أعطاه المثال. وقوله: (ونون أقبلن) يعني أن النون اللاحقة في آخر أقبل هي من خواص الفعل أيضا، تدل على أن أقبل وما أشبهه مما يصح لحاقها له فعل، وهي نون التوكيد، ونون التوكيد على نوعين: شديدة وخفيفة، فالشديد: هي الممثل بها، وفي معناها الخفيفة، فكلتاهما معطية للمقصود من التمييز، وهذه النون تدخل على الفعل الماضي وذلك قليل، وتدخل على الفعل المضارع وفعل الأمر، فمثال الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإما ادركن أحمد منكم الدجال .. الحديث"، فلحقت "أدرك" وهو ماض، وكذا ما أنشده في "شرح التسهيل":

دامنَّ سعدُك إن رحمت متيما ... لولاك لم يك للصبابة جانحا فلحقت "دام" ولحاقها المضارع والأمر كثير نحو: لتقومن وأكرمن عمرا، والمقصود بإتيانه بنون التوكيد في الخواص أن يدخل له مع سائر الأفعال فعل التعجب، لأنه لم يدخل بخاصة من الخواص المذكورة، ونون التوكيد تدخل عله نحو ما أنشده ابن الأعرابي: ومستبدل من بعد غضيا صريمة ... فأحر به لطول فقر وأحريا أراد وأحرين فأبدل النون الخفيفة الفا للوقف، وبهذا البيت استدل في "شرح التسهيل" على فعلية (أفعل به) في باب التعجب، وإذا لحقت هذه النون أحد الفعلين أعنى فعلى التعجب، ودلت فعليته حمل عليه الفعل الآخر وهو أفعله على ما يتبين في موضعه إن شاء الله. واعلم ان النون التوكيدية قد تدخل على الاسم لكن شاذا في الشعر نحو ما أنشده ابن جني: أقاتلن أحضروا الشهودا وأنشد أيضاً:

أشاهرن بعدنا السيوفا فليس بقادح في كون النون خاصة بالفعل، فلا يعترض على الناظم به، لأنه إنما بنى على المشهور من حالها، مع أنها لم تدخل غلا على ما هو من الأسماء جار على الفعل من جهة لفظه ومعناه، وهو اسم الفاعل، فكأنهم إنما أدخلوها على المضارع، ولأجل هذا استغنوا عن الخبر في نحو: أقائم الزيدان لكان المبتدأ بمعنى الفعل، فصار الكلام كأنه مركب من فعل وفاعل، فلم يأتوا بخبر المبتدأ اعتبارا بالمعنى، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله، فإذا خصوصية النون بالفعل ظاهرة كما ذكر. وقوله: (فعل ينجلي) مبتدأ وخبر، وابتدأ بالنكرة لأنها غير مرادة بعينها كقولهم: رجل خير من امرأة، أو لأن الجملة خارجة مخرج الجواب لمن قال أفعل ينجلي بشيء؟ فقال في الجواب: فعل ينجلي بكذا وكذا، أو لأن النكرة هنا قد تقدم عليها شيء من معلومات خبرها، لأن قوله: بتاء فعلت إلى آخره متعلق "ينجلي"، فصار كقولهم: فيها أسد رابض، فأسد مبتدأ ورابض هو الخبر، وفيها متعلق برابض لقولهم: عن فيها أسدا رابض. و"ينجلي" معناه يظهر ويتبين من غيره، وتقدير الكلام: فعل ينجلي بتاء فعلت وأتت، وياء افعلي، ونون أقبلن. وقصر تا فعلت ويا افعلي ضرورة، وكان الأصل أن يقول: بتاء فعلت وأتت ويا افعلي، وقد جاء مثله في الكلام شاذا، حكى الكسائي: شربت ما يا فتى، إلا أن الذي في كلام الناظم أمثل لاعتماد الاسم على الإضافة فصار مثل قولك: فو زيد، وذو مال، ونحوهما، بخلاف شربت ما يافتى، والحاصل

أن الناظم أتى بأربع خواص للفعل، أحاطت بالتعريف بجميع الأفعال أو أكثرهما. سواهما الحرف كهل وفي ولم ... فعل مضارع يلي لم كيشم وماضي الأفعال بالتا مز وسم ... بالنون فعل الأمر إن أمر فهم والأمر إن لم يك للنون محل ... فيه هو اسم نحو صه وحيهل لما عرف الاسم بخواصه، وعرف الفعل كذلك بخواصه، أخبر أن ما عداهما هو الحرف، فكل كلمة لم يصلح فيها شيء مما تقدم من خواص الأسماء أو خواص الأفعال فهي حرف، وهذا يدل من كلامه على أن تلك الخواص لم يشذ عنها شيء فعليك باختيار ما التزم عهدته. ومثل الحرف بثلاثة أمثلة: أحدهما: (هل) وهو حرف استفهام، ويطلق عليه سيبويه أنه بمعنى "قد" وهو مشترك بين الأسماء والأفعال، يدخل على كل واحد من النوعيين فتقول: هل زي قائم؟ وهل قام زيد؟ وهل يقوم زيد؟ فلا يختص بأحدهما دون الآخر. والثاني: (في) وهو حرف جر، اصل معناه الظرفية، وقد يأتي لمعان أُخر ذكرها الناظم في باب حروف الجر، وهو مختص بالاسم نحو: قعدت في الدار وفي المسجد، ولا دخول له على الفعل. والثالث: (لم) وهو حرف جزم ينفي الماضي، مختص بالفعل لا دخول له على الاسم نحو: لم يقم ولم يخرج. وقد أتت هذه الأمثلة على جميع أقسام الرحوف، إذ لا يخرج حرف

منها عن أن يكون مختصا بالاسم أو بالفعل أو مشتركا بينهما بثلاثة الأمثلة على ثلاثة الأقسام الحاصرة لأنواع الجنس، وهو تنبيه حسن وجميعها لا يصلح فيه شيء من الخواص المتقدمة للأسماء والأفعال. ولما كمل له التعريف بأنواع الكلمة وهي الاسم والفعل والحرف، أخذ يبين أنواع الفعل بخصوصه ويميز بعضها من بعض، وهي الماضي والأمر والمضارع، فقال: "فعل مضارع بلى لم" وفعل مبتدأ خبره "بلى لم" وابتدأ بالنكرة لأنه وصفها بقوله: مضارع، و "لم" منصوب الموضع على المفعولية بـ "يلي" أي: يلي هذه الكلمة. ويريد أن الفعل المضارع خاصته التي تميزه عن غيره صلاحيته لأن يقع بعد "لم" تابعا لها من غير فاصل بينهما، هذا معنى (يلي لم) أي يصلح لذلك لا أنه يريد وجود ذلك في الكلام نحو ما مثل به من قوله: (لم يشم) وهو من شم زيد رائحة كذا يشمها، الماضي على فعِل -بالكسر- أصله شَمِمَ والمضارع على يفعل بالفتح، والمصدر: شمُّ. و(يلي) من ولى الشيء يليه ولاية، إذا تبعه على أثره ليس بينهما حاجز، والفعل المضارع هو ما في أوله إحدى الزوائد الأربع المجموعة في قولك: (أَنَيْتُ)، ويصلح هو لدخول البواقي عليه على جهة التعاقب نحو: اضرب ونضرب ويضرب وتضرب وما أشبه ذلك، وإنما سمي مضارعا لمضارعته الاسم أي: لمشابهته إياه من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، كما سيذكر في الباب هذا إن شاء الله تعالى.

ثم قال: (وماضي الأفعال بالتا مز) ماضي مفعول بـ "مز" و "بالتا" متعلق به أيضا، والتقدير: مز الفعل الماضي بالتاء. ويقال: مازَ الشيء من الشيء يميزه، وميز منه غيره، إذا أبرزه وأخرجه عنه، ومنه القراءتان: ((حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ من الطَيِّبِ)) و ((حَتَّي يُمَيِّزَ الخَبِيثَ من الطَيِّبَ)). وقصر التاء ضرورة كما تقدم، وهذه عادته في أمثال ذلك لا يتحاشى عنه ولا عن غيره من الضرورات الشعرية، واستعمال اللات النادرة، لداعية الوزن والقافية وسترى ذلك لكه إن شاء الله. وأراد (بالتاء) التاء المتقدمة الذكر في قوله: ((بتا فعلت وأتت) فالألف واللام في التا للعهد الذكرى، يريد أن الماضي من الأفعال وهو الموضوع في الأصل للزمان الماضي، تميزه من غيره من الأفعال بلحاق التاء المتقدمة الذكر له، أي: بصلاحيته للحاقها له، فكل فعل لحقته تاء الضمير نحو: ضربت وليست وعست فهو فعل ماض. ثم قال: (وسم بالنون فعل الأمر) (سم) فعل أمر من وَسَمَه يَسمُه سِمَةٌ وَوَسْمًا: إذا جعل عليه علامة تعرفه من غيره، أي: اجعل النون سِمَةً على فعل الأمر تميزه عن غيره، وأراد بالنون المتقدمة الذكر في قوله: (ونون أقبلن) فالألف واللام فيها أيضا للعهد الذكرى، وفعل الأمر وهو الدال بوضعه الأول على الأمر للمخاطب. ولما كانت هذه النون تلحق الماضي ولمضارع، كما تلحق الأمر

على ما تقدم، وكان لو سكت أو اقتصر على تعريفه بالنون وحدها لم يصلح للاشتراك الواقع بينه وبين الماضي والمضارع في لحاقها، ضم غلى ذلك قرينة أخرى ليكون المجموع معرفا للأمر. فقال: (إن أمر فهم) أي: وسم بالنون المذكورة فعل الأمر لكن بشرط أن يفهم من الفعل معنى الأمر تحرزا من الماضي والمضارع، وبضم هذه الشريطة تم له ما أراد من التعريف، وكذلك فعل في "التسهيل" فقال: والأمر معناه ونون التوكيد أي: ويُميز الأمر هذان الأمران معا. فإن قيل: تمييزه بين الأفعال الثلاثة غير مخلص لخروج فعل التعجب الذي هو ما أفعله عن كونه ماضيا، إذ لا يصلح للم ولا للتاء، وإن صلح للنون المميزة للأمر، لم يتميز بها إلا مع اقتران معنى الأمر، وهو مفقود في "أفعل به" فظهر أنه لم يذكر من أي نوع همان وكذلك "حبّ" من حبذا لا يصلح للتاء ولا للم ولا للنون فخرج عن كونه ماضيا وهو ماض بلا بد؟ فالجواب: أن التعريف بالكلم إنما يكون مع اعتبار أصلها قبل عروض العوارض، فإذا ذاك يتميز بعضها من بعض لظهور أوصافها الذاتية، فإذا طرأ التركيب لم ينظر إليها في تلك الحال؛ لطروء العوارض المانعة من ظهور آثار تلك الأوصاف، ألا ترى أن من الأسماء: سبحان الله وريحانهُ، ولبيك وسعديك ودواليك، ويا هناهُ ويا لَكاع، وكثيرا من ذلك لا يصلح واحد منها لخاصة من تلك المتقدمة حالة التركيب، مع أنها لم يعترض بها عليه وإن اعترض الشيوخ بها على غيره على جهة التدريب وتفهيم حقائق

المسائل، لأن عدم صلاحيتها لتلك الخواص ليس من جهة ذواتها، بل من جهة ما عرض لها في التركيب والاستعمال من التزام طريقة واحدة، لأنها في أنفسها إذا نظر فيها مع قطع النظر عن حالة التركيب صالحة لتلك الخواص وكذلك مسألتنا، أما (أفعل) من ما أفعله فهو فعل ماض كأكرم وأعلم، فكما أكرم صالح للتاء في فعلت وأتت، كذلك أكرم في ما أكرمه قبل حصول التركيب ودخول معنى التعجب، وكذلك "حب" من حبذا إذا اعتبرته حالة إفراده، صار كشجُع وجبُن يصلح للحاق التاء، وأما أفعل في (أفعل به) فأصله الأمر، كأكرم زيدا وأعلمه، ثم لما استعمل في التعجب ذهب معنى الأمر منه على مذهب الجمهور، فبالنظر إلى أصله يصلح للدخول تحت خاصة الأمر؛ لأنه في الأصل أمر حقيقة. وأما مذهب الفراء ومن تبعه على القول ببقاء معنى الأمر مع التعجب فلا إشكال، وعلى هذه القاعدة ينبني الجواب عن الاعتراض على "التسهيل" بفعل التعجب غير قابل لها. ألا ترى أنك تقول: ما أحسن هِندا، فلا تلحق الفعل علامة ألبتة وقد كان أورده على بعض مقرئي مالقة، وزعم أنع اعترض لازم لابن مالك فأجبته بأنا لا نسلم أن أحسن في قولك: ما أحسن زيدًا، غيرُ

قابلٍ للعلامة، بل هو قابل لها، وإنما لزم عدد لحاقها في الاستعمال لأمر خارج، وذلك أن أحسن إنما يسند أبدأ لمفرد مذكر، وهو ضمير "ما" ومدلول ما مذكر، وهو شيء عند سيبويه أو غير ذلك عند غيره، فهو أبدا في الاستعمال مفرد مذكر. فإذا قلت: ما أحسن هندا، فأحسن ليس مسندا إلى ذلك الظاهر. بل إلى ضمير ما، فلو فرضنا إسناده إلى مؤنث للحقته العلامة، فلا يلزم من كونه استعمل على طريقة واحدة عدم قبوله لعلامة فرعية المسند إليه، بل هو في نفسه قابل لذلك فاستحسن هذا الجواب واستملحه، فقد ظهر أن الناظم لا اعتراض عليه من ذه الجهة إلا أن يعترض عليه قوله: (إن أمر فهم) لأنه احترز عن دخول اسم الفعل عليه، فخل عليه الأمر باللام إذا قلت: لتفعلن يا زيد فإن النون قد دخلت مقترنة بفهم الأمر، فيقتضي كلامه كون المضارع بلام الأمر فعل أمر وذلك غير صحيح. وقد يجاب عن هذا بأنه إنما يعني بفهم الأمر الفهم من نفس الفعل لا مما يلحقه من خارج، وهذا أيضا من نمط ما تقدم آنفا، إذا المعتبر ما للفعل في نفسه لا ما يعرض له في التركيب. فإن قيل: إنما قال الناظم: (إن أمر فهم) مطلقا، ولم يقيد ذلك بكونه من نفس الفعل أو من أمر خارج. فالجواب: أن سياق كلامه يدل على أنه قصد الفهم من نفس الفعل، فكان الكلام على حذف منه، أي: (إن أمر فهم) من ذلك الفعل وهو ظاهر.

ثم قال: "والأمر إن لم للنون محل فيه هو اسم" يعني أن ما يفهم منه الأمر من الكلم، إما أن يصلح للحاق النون المتقدمة أولا، فإن صلح لها فقد تقدم أنه فعل الأمر، وإن لم يصلح فليس بفعل أمر وإن فهم منه الأمر، بل هو اسم فعل نحو: صه وحيهل، فإنه لا يصلح أن تقول: صهن ولا حيهلن كما تقول: اضربن وقومن، ومثله "مه" و "إيه" و "بيد" و "رويد" و "هلمّ" الحجازية كقول الله تعالى: ((قل هلم شهداءكم)) وما أشبه ذلك. وهذان المزدوجان أخذ الناظم يفرق فيهما بين فعل الأمر واسم فعله وهذا التفريق هو الذي دعاه إلى أن ضم إلى خاصة فعل الأمر، وهو معنى الأمر نون التوكيد لعدم صلاحية اسم الفعل لها، فقد يقال: إن هذا غير محتاج (إليه) لأمور ثلاثة: أحدها: أن كلامه هنا تمييز الأفعال بعضها عن بعض، لا في تمييز الأفعال عن لأسماء، إذ قد تقدم له ذلك حين أتى بخواص كل واحد منهما. والثاني: أن يقال يلزمه حين فرق بين فعل الأمر واسم فعله. أن يفرق بين الفعل الماضي واسم فعله نحو: شتان وسَرعان ووشكان وهيهات، وأن يفرق بين الفعل المضارع واسم فعله نحو: أوّه وأفّ، لكنه لم يفعل ذلك فتخصيصه الأمر بذلك دون الماضي والمضارع ترجيح من غير مرجح، وعلى أنه لو ذكر ذلك لم يفد لتقدم خواص كل نوع منها. والثالث: أن هذه التفرقة حاصلة له في قوله: (وسم بالنون فعل الأمر إن أمر فهم) فإن معنى الكلام أن هذين الأمرين خاصة لفعل الأمر، فهو يعطي بمفهومه أن أحد الأمرين إذا فقد فليست الكلمة بفعل مر، فول تخلف شرط معنى الأمر لكانت فعلا مضارعا، لأنها -حينئذ

- صالحة للم، فكذلك لو تخلف شرط لحاق النون لكانت اسما لعدم صلاحيتها لخواص الفعل والحرف، فإتيانه بالتفرقة بعد ذلك من قبيل غير المحتاج غليه. ووجه رابع: وهو أن هذا الكلام يقتضي أن لام الأمر اسم لصدقه عليها، فإنها كلمة مفيدة بنفسها معنى الأمر وضعا، وليست بقابلة للنون أصلا، فهي مثل صه وحيهل في هذا المعنى فدخلت له بمقتضي هذا الكلام في نوع الأسماء وذلك غير صحيح، فهذا الكلام فيه ما ترى. والجواب الأول أن كلامه في تمييز بعض الأفعال عن بعض قد تم، وإنما يتكلم الآن على شيء ضروري بقي له من جملة الباب فاستدركه آخرا، وذلك أن الأسماء الأفعال خجت له عن كونها أفعالا كما تقدم، ولم تدخل له في الأسماء لأنها لا تقبل واحدة من خواص الأسماء، فالجر لا يدخلها، لأن عواملها غير صالحة أن تدخل عليها لما فيها من معنى الأفعال، والتنوين كذلك إلا الذي للتنكير فإنه يدخل بعضها لا جميعها، لأن دخوله عليها موقوف على السماع كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى فليست أسماء الأفعال بصالحة أن يدخلها فإذًا ليس بجار في التعريف بجميعها فلم يعتبره جملة، ولذلك مثل بصه وحيهل وإن كانا ينونان؛ لأنه لما لم يعتمد على تنوينهما صارا عنده كنزال وبابه. فإن قيل: إذا كانت قد دخل بعضها التنوين فقد صلح الباقي لأن يدخل عليه، إذ لا فرق بين أفراد النوع في المعنى كما كان سبحان وبابه صالحا للإسناد إليه لما صلح بعضها له كزيد ورجل، وإذا كان الأمر كذلك دخلت له أسماء الأفعال تحت خاصَّة التنوين.

فالجواب: أنّا لم نحكم على (سبحان) وبابه بصلاحيته للإسناد إليه إلا بعد أن وجدنا غالب الأسماء كذلك بالاستقراء، فحينئذ ساغ لنا الحمل على الأكثر فيما خفي حكمه، لأن الثابت في الأصول أن الكثرة دليل الأصالة، فعندنا في (سبحان) أصل يعتمد عليه، ويرد غيره إليه بخلاف أسماء الأفعال بالنسبة إلى التنوين إنه صالح له، إذ لعل له مانعا في الأصل، ويبين ذلك أن منها صنفا لم يُسمع تنوينه، وهو ما كان منها على فَعَالِ، فلقائل أن يقول: لو كان صالحا لذلك التنوين أسمع فيه ولو يوما ما، فلما لم يُسمع فيه التنوين منها بإطلاق وهو واضح، والنداء لا يدخلها أيضا لأنها لا تقع معمولة لعامل كما سيأتي إن شاء الله، وكذلك أل لا تدخل لمنافاة معنى الفعل للتعريف، وأسماء الأفعال معناها معنى الفعل، وأما الإسناد إليها فغير جائز، لنها وضعت لأن تُسند أبدا إليها كالأفعال. فإن قلت: فقد أسندوا غليها في نحو قول زهير بن أبي سلمى: ولنعم حشو الدر أنت إذا ... دعيت نزال ولُجَّ في الذعر واستدل النحويون بذلك على اسميتها، فقال (بعضهم)، -بعد ما أنشد البيت-: قد صح كون هذا الضرب اسما من حيث ذكرنا من كونه فاعلا، ولو كان فاعلا يعنيبالضرب المشار إليه

جميع أسماء الأفعال، لأنه إذا صح في بعضها الإسناد إليه صح في جميعها، وإذا كان كذلك فقد دخلت تحت قوله: (ومسند للاسم) وصار الاعتراض واردا من أوله. فالجواب: أن مثل "دعيت نزال" ليس بإسناد يعتبر عند الناظم ولا عند غيره من أهل التحقيق، وليس عمل الفعل هنا مما يعتد به في الأسماء إذ كان المراد هنا مجرد اللكمة الملفوظ بها، أي إذا دعيت هذه اللفظة فقولك: دعيت نزال، كقولك: أُعِلَّت قيل، وكتبت ثم، فكما أن الاسناد إلى "قيل" و "ثم" لا يحكم عليهما بالاسمية إلا في حالة التركيب المعين، وأما في حالة الإفراد فكل واحد على بابه، كذلك الحال في نزال في كلام زهير وغيره، واستدلال من استدل على اسمية نزال وبابه بقول زهير غير صواب، ولهذا جعل الناظم هذا الضرب مما لا يسند غليه البتة، ، كما سيأتي في هذا الباب بعد هذا إن شاء الله، فإذا لم تدخل له تحت خاصة من خواص الاسم لم يبق إلا أن تدخل له في الحروف على مقتضى قوله: (سواهما: الحرف) ولكن هذا باطل؛ لأنهما من قبيل الأسماء، فاستدرك الحكم فيها هاهنا جبرا لذلك الإيهام. والجواب عن الثاني أنه لم يقصد بكلامه التفرقة بين فعل الأمر واسم فعله فقط، بل قصد التفرقة بين فعل الأمر واسم فعله فقط، بل قصد التفرقة بين الفعل واسم فعله مطلقا، إلا أنه لما كان الغالب في اسم الفعل أن يكون بمعنى الأمر، ويقل كونه بمعنى الماضي وبمعنى المضارع، اقتصر على الأمر لكثرته وترك ما عداه لقلته وهذا غاية ما وجدته في الاعتذار عنه، وهو ضعيف وقد أشار ابن الناظم إلى جواب آخر مبنى على أنه قصد التفرقة بين الفعل وسم فعله مطلقا، وإنما اقتصر على

أحد الأفعال لينبهك على ما بقي، فقال في شرح كلام أبيه إذا دلت الكلمة على معنى فعل الأمر ولم تصلح لنون التوكيد فهي اسم نحو: (صه) و (حيهل) فهذان اسمان لأنهما يدلان على الأمر ولا تدخلهما نون التوكيد لا تقول: صهن ولا يهلن وكذا إذا رادفت الفعل المضارع ولم تصلح للم كأوه، قال: والحاصل أن الكلمة متى رادفت الفعل ولم تصلح لعلاماته فهي اسم، لانتفاء الفعلية لازمها، وهو القبول لعلامات الفعل، وانتفاء الحرفية لكون ما رادف الفعل قد وقع أحد ركني الإسناد، فوجب أن يكون اسما وإن لم تصلح فيه العلامات المذكورة للأسماء لأن الاسم وإن لم تصلح فيه العلامات المذكورة للأسماء لأن الاسم أصل فالإلحاق به عند التردد أولى، هذا ما قال. وعين هذا الحواب فراره. والجواب عن الثالث: أن قوله: "وسم بالنون فعل الأمر إن أمر فُهم" لا يعطيه ما قصد، وإنما يفهم منه أنه إذا تخلف الوصفان أو أحدهما فليس بفعل أمر، وكونه ليس بفعل أمر لا يستلزم كونه اسما لتردده بين أن يكون اسما وبين أن يكون حرفا، فكان الوجب أن يأتي ببيان مقصوده من تعيين جهة الكلمة التي لا تقبل النون. وأما الرابع فما أجد له الآن جوابا إلا أن صح جواب ابنه من أنه عني بالأمر الكلمة الدالة على معنى فعل الأمر، فإذ ذاك تخرج لام الأمر؛ لأنها لا تدل على معنى فعل الأمر، وإنما تدل على معنى الأمر خاصة وهذا التفسير غير مسلّم، إذ لا دليل يدل عليه من كلامه، وإنما قوله: (والأمر) على حذف مضاف واحد يضطر إلى تقديره، لأن الحقيقة الأمر هو فعل الأمر وفعل الأمر لا يصح نسبة لحاق النون إليه، فهو إذًا على

تقدير كلمة أو لفظة أي: وكلمة الأمر أو لفظة الأمر، ولا يقدر هنا الفعل فيقال: وفعل الأمر مناف لقوله بعد: هو اسم فتأمله، فهذا المضاف المقدر هو الذي يدل عليه الكلام. وأما تقدير ابن الناظم فغير مفهوم من كلامه ألبتة. وقوله: (هو اسم) خبر المبتدأ الذي هو (والأمر) لا جواب الشرط لكن جملة المبتدأ والخبر دالة على جواب. و(صه) معناه أسكت. (وحيهل) معناه أقبل أو أسرع أو اعجل، ومنه جاء في الحديث: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، قال أبو عبيد: معناه عليك بعمر ادع عمر. وقيل معنى "هلا" اسكن، أو أسرع حتى ينقضي ذكر. عمرُ. وفيه لغات يحتمل كلام الناظم منها ثلاثا: إحداها: حيَّهلْ، بسكون اللام على ظاهر لفظه. والثانية: حيَّهلَ، بفتح اللام من غير تنوين، إلا أنه سكن اللام للوقف. والثالثة: حيَّهلًا -بالتنوين- لكن لما وقف حذف التنوين من المفتوح على لغة من قال: "وآخُذُ من كلِّ حيٍّ عُصُم" أراد: عُصُمًا.

المعرب والمبني

المعرب والمبني النظر في هذا العلم قسمين أحدهما: الأحكام المتعلقة بالكلم من حيث هي مفردات. والثاني: الأحكام المتعلقة بها ن حيث هي مركبات. وجرت عادة الناس بتقديم النظر في القسم الثاني؛ لما فيه من الفائدة (العائدة) على الناظر في هذا العلم حسب ما يذكر في مقدمة التصريف إن شاء الله، ولكن هذا القسم يفتقر إلى تقديم مقدمتين واجب ذكرهما قبل الشروع فيه؛ لأن الأحكام التركيبية مبنية عليهما. إحداهما: مقدمة الإعراب والبناء، والثانية: مقدمة التعريف والتنكير. فأما الأولى فهي التي شرع الآن فيها، وإنما كانت ضرورية ومفتقرا إليها؛ لأن المعاني الثلاثة اللاحقة بعد التركيب وهي الفاعلية والمفعولية والإضافة لا تتبين إلا بالإعراب، والإعراب والبناء وأنواعهما وعلامتهما وموضوعهما وهما المعرب والمبني. وابتدأ بذكر المعرب والمبني وقدم الكلام على ما الإعراب أصل فيه من الكلام الثلاث وهو الاسم فقال: والاسم منه معرب ومبني ... لشبه من الحروف مدني كالشبه الوضعي في اسمى جنتنا ... والمعنوي في متى وفي هنا وكنيابة عن الفعل بلا ... تأثر وكافتقار أصلا

المعرب والمبني لفظان مشتقان من الإعراب والبناء، فبمعرفة الإعراب يعرف المعرب، وبمعرفة البناء يعرف المبني، فلابد من التعريف بهما على جهة التقريب فتقول: أما الإعراب فرسمه في "التسهيل" بأنه ما جيء به لبيان مقتضى العامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف. فإذا قلت: ضرب زيد غلام عمرو فالضم في زيد جيء به بيانا لما اقتضاه فيه ضرب المفعولية: والجر في عمرو جيء به بيانا لما اقتضاه فيه العامل الذي هو غلام ن الإضافة، وكذلك الحرف نحو: ضرب أخوك حما أبيه، وأكرم أهلوك ضاربي الزيدين، وكذلك السكون في نحو: لتقم ولا تضرب من لم يكرمك، وكذلك الحذف نحو: لم يغزو ولم يخش ولم يرم، فالحاصل أن هذا الأشياء التي يطلق عليها إعراب علامات على معان تعتور المعرب والألفاظ الدالة على تلك المعاني هي العوامل. وأما البناء: فهو ما جيء به لا لبيان مقتضى عامل من حركة أو حرف أو سكون أو حذف، وليس بحكاية ولا إتباع ولا نقيل ولا تخلص من سكونين بهذا عرف البناء على "التسهيل". فإذا قلت: جلست حيث جلست، وجئت من حيث جئت، فضمه حيث لم يقتضها العامل، وكذلك الفتح في أين والكسر في أمس، وكذلك السكون في نحو: كم رجلا عندك؟ وعلى كم جذع ببيتك مبني؟ وكذلك الحرف إذا قلت: جاءني الذين قاموا، ورأيت الذين قاموا، ومررت بالذين قاموا، ومثله الواو

في يا زيدون، والألف في يا زيدان، والياء في لا رجلين في الدار، وكذلك الحذف في نحو: اغزُ واخش وارم، وضربا واضربوا، واضربا واضربوا، هذه كلها ليست بإزاء معان اقتضتها العوامل بدليل أن العوامل المختلفة المقتضية لمعان مختلفة تَعتَوِرُ على هذه الكلم فلا يتغير آخره، وقد توجد هذه الأشياء ولم يدخل على الكلمة عامل نحو: ضرب واضرب واغزُ وما أشبه ذلك، وأما ما تحرز منه من الحكاية نحو: من زيدا؟ والإتباع نحو: الحمد لله، والنقل نحو: من أبوك، والتخلص من سكونين نحو: من الرجل، فليست بإعراب، إذ لم يقتضها عامل وليست ببناء أيضا، إذ ليس فيما هي فيه شبه حرف ولا مبنى عنده إلا لشبه الحرف. ولنرجع إلى بيان لفظه فقوله: (الاسم منه معرب ومبني) يعني أن الأسماء على قسمين: قسم يسمى معربا وهو ما ثبت لآخره حكم لم يقتضه العامل. وقوله: (منه معرب ومبني) لا يريد أن منه هذين الشيئين على أنهما قسم واحد، لأن ذلك يقتضي قسما آخر في الاسم غير ذلك، وحينئذ يصح التقسيم وهو غير موجود بالنسبة غلى ما تعرض لبيانه، فإنما الكلام على تقدير: منه معرب، ومنه مبني فيحصل بهذا التقدير قسمان، لكن حذف لفظ "منه" في الثاني لبيان المعنى مع الحذف، ونظيره قول الله تعالى: ((ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها

قائم وحصيد)) المعنى - والله أعلم- منها قائم ومنها حصيد. ومثله قوله تعالى: ((فمنهم شقي وسعيد)) وهو كثير. والألف واللام في الاسم للتعريف الجنسي، أي: جنس الاسم منقسم إلى كذا وكذا. ولما قسّم الاسم إلى هذين القسمين أخذ في بيان كل واحد منهما وابتدأ بالقسم الثاني وهو المبني لخروجه عن أصل الأسماء فهو آكد في البيان، وذلك أن أصل الأسماء الإعراب على ما سيذكر، وما كان منها مبنيا فعلى غير الأصل وما كان على غير الأصل فإنما يأتي كذلك لموجب، فأخذ الناظم يذكر موجب الخروج عن الأصل فقال: (لبه من الحروف مُدني) اللام متعلقة بمبنى ومن الحروف متعلق بمدن، ومدن صفه لشبه. والتقدير: ومنه ما بني لشبه مدن من الحروف، معنى مدن مقرب، يريد أن سبب البناء في الأسماء شبهها بالحروف الشبه المقرّب منها، والشبه الذي يلحق الأسماء على ضربين: أحدهما: شبه الفعل، وحكم هذا أن يمنع الاسم ما يمتنع منه الفعل من التنوين والخفض بالكسرة، ولا يقوي هذا الشبه عند الناظم أن يبني لأجله الاسم كما زعمه قوم من النحويين، فإنهم أدخلوا شبه الفعل في أسباب البناء وذلك من أوجه ثلاثة: أحدهما: كثرة موانع الصرف فإنه كثرة شبه بالفعل، قال به المبرد في فعال المعدولة نحو: يسار وجعار ويا فجار. والثاني: تضمن معنى الفعل، وعبّر عنه السيرافي بالوقوع موقع الفعل

المبني، وهو رأي السيرافي والجُزولي وابن عصفور وغيرهم في بناء أسماء الأفعال المراد بها الأمر أو الماضي. والثالث: الاستغناء باختلاف الصيغ لاختلاف المعاني عن الإعراب، قال به ابن مالك في بناء المضمرات، ولم ير ذلك الناظم هنا، بل موجب بناء أسماء الأفعال وبناء المضمرات عنده شبه الحرف على وجه يتبين في ثالث هذا البيت الذي نحن بسبيل الكلام عليه. وأما فعال المعدولة فموضع الكلام عليها باب مالا ينصرف، فهنالك يتبين -بحول الله- أن موجب بنائها شبه الحرف. الضرب الثاني: شبه الحرف، وهذا هو الذي يؤثر في الاسم فيخرجه عن أصله من الإعراب إلى البناء، وهو الذي أخذ يتكلم فيه، وأتى له بأربعة أنواع: أحدهما: الشبه الوضعي وهو كون الاسم وضِع وضْع الحرف، على حرف واحد أو حرفين على ما يتبين، فلما أشبهه من هذا الوجه حكم عليه بالبناء الذي هو أصل في الحرف، إعمالا للشبه المذكور، ومثله الناظم باسمى جئتنا وهما التاء ونا، فالتاء: موضوعة في الأصل على حرف واحد كاللام والباء والكاف والواو والهمزة وما أشبهها، ويدخل في ضمن هذا المثال كل ما وضع من الأسماء ذلك الوضع كالكاف في أكرمك، والياء في تضربين على مذهب سيبويه، والواو في ضربوا، والألف في ضربا. والنون في ضربن، وما كان مثلها، و "نا" في قوله: (جئتنا) موضوعة على حرفين، ثانيهما حرف لين وضعا أولياء كـ "ما" و "لا" و "يا". فإن شيئا

من الأسماء على هذا الوضع غير موجود، نص عليه سيبويه والنحويون بخلاف ما هو على حرفين وليس ثانيهما حرف لين، فليس ذلك من وضع الحرف المختص به، إذ من الأسماء ما هو على الحرفين نحو: يدٍ ودمٍ وهنٍ، وهي مع ذلك معربة، فلو كان وضعها على حرفين مطلقا معتبرا لكان يدٌ ودمٌ مبنيين؛ لأنهما موضوعان على حرفين: كمن وعن وإن ولم، وبهذا بعينه اعترض ابن جني على من اعتل لبناء "كم" و "من" و "ما" ونحو ذلك بأنها موضوعة على حرفين فأشبهت "هل" و "بل" و "قد". فإن قيل: إن يدًا ودمًا ونحوهما لاماتها مقدرة بدليل ظهورها في التصغير والتكسير فليست بثنائية في الأصل فلذلك أعربت. فالجواب: أن هذا التقدير أمر حكمي اضطر إليه عند الاحتياج إلى الحرف الثالث لإقامة بنية التصغير أو التكسير. ألا ترى أن "من" و "عن" ونحوهما على حرفيين حقيقة، فإذا سميت بواحد منهما تركته على حاله ولم تحتج إلى حرف ثالث كيدٍ ودمٍ، بخلاف ما إذا سميت "بما" أو "لا" أو في أو "لو" أو نحو ذلك مما ثانيه حرف لين فإنك لا تتركه على حاله بل تزيد عليه حرفا ثالثا حتى يدخل في بنات الثلاثة لفظا، ليخرج عن وضع الحرف الأصيل له إلى وضع الاسم الأصل، فعلى الجملة وضع الحرف المختص به إنما هو إذا كان ثاني الحرفين حرف لين على حد ما مثل به الناظم، فما أشار إليه هو التحقيق، ومن

أطلق القول في الوضع على حرفين وأثبت به شبه الحرف فليس إطلاقه بسديد، وعلى إطلاقه أخذه ابن النام، ويدخل في ضمن هذا المثال كل ما وضع من الأسماء على حرفين ثانيهما حرف لين نحو: "ذا" و "ذي" و "تا" و "تي" أسماء الإشارة و "ها" و "هو" و "هي" وما أشبهها، وكذلك يدخل له أسماء حروف التهجي نحو با تا ثا حا خا طا ظا: لأنها حالة الوقف على حرفين ثانيهما حرف لين، وهي أسماء حروف الكلم الملفوظ بها لا حروف كـ "لا" و "يا" فاقتضى كلامه أنها مبنية، وكذا يقول السيرافي وابن جني وغيرهما. النوع الثاني: الشبه المعنوي، وهو كون الاسم وضع دالا على معنى ليس في الأصل إلا للحرف وذلك قوله: (والمعنوي) وهو مخفوض عطفا على (الوضعي) أراد وكالشبه المعنوي، فالأسماء التي وضعت لتؤدي معاني الحروف لما أدت معانيها صار لها بذلك شبه بالحروف فبنيت بناءها، ولما كانت معاني الحروف على قسمين: قسم وضعت العرب له "ما" و "لا" و "لن"، والشرط الموضوع له "إن" و "إذما" على ما ذهب إليه الناظم، وقسم لم تضع له لفظا وهو حقيق بذلك كالإشارة والتكثير، وكل إذا تضمنه الاسم بنى لشبه الحرف الحاصل فيه كونه دالا على معناه، أتى الناظم -رحمه الله- بمثالين يشير بهما إلى القسمين وهما "متى" و "هنا"، أما "متى" فإنها تضمنت معنى الهمزة في الاستفهام نحو قول الله

تعالى: "ويقولون متى هذا الوعد" -ومعنى "إن" في الشرط نحو قول الكندي: متى ما ترق العين فيه تسهل ويدخل تحت مقتضى هذا المثال جميع ما أدى معنى حرف الاستفهام "كمن" و "كم" وجميع ما أدى معنى الحرف الشرط نحو: "من" و "مهما" و "أيان" وما أشبهه وأما "هنا" فإنها قد تضمنت معنى الحرف، لكن العرب لم تضع لذلك المعنى لفظا وهو حقيق بذلك، كما وضع للتنبيه والاستفتاح وغيرهما من المعاني الزائدة على مدلولات الأسماء والأفعال، والمعنى الذي تضمنته "هنا" هو معنى الإشارة لكنهم استغنوا عن وضع حرفها بالاسم الذي تضمن معناها، فلم يضعوا لها حرفا يدل عليها، وإن كانت من المعاني التي تستحق أن يوضع لها حرف، ويدخل ضمن هذا المثال "كم" الخبرية، لتضمنها معنى الحرف وهو التكثير، ولم يضعوا للتكثير حرفا، وإن زعم ذلك ابن مالك في "رب" بل الأصح أنها للتقليل ويدخلها معنى الافتخار، وليس في تشبيه سيبويه لها بكم دليل على ما قال، ولم يتعرض في هذا النظم لتفسير معناها، فلذلك لم نتعرض لتحيق معناها، ولا لبيان حكمها، وهذه قاعدة في تضمن معنى الحرف صحيحة نبه عليها هنا وذكرها في "شرح التسهيل"، وأصلها -فيما أظن- للفارسي في

"التذكرة" نبه عليها في مسألة وضع (هذا) اسم الإشارة في أوائل الأبواب وخرج عن حكم البناء مع وجود هذا الشبه، أي: فأعربت مع أنها موضوعة على تضمن معنى الحرف وهو الهمزة في الاستفهام و "إن" في الشرطية، وكذلك خرجت عنه في الموصولة مع وجود الافتقار الأصيل المذكورة بعد هذا، وسيأتي بيان خروجها عن أصلها من البناء، وعلة ذلك إن شاء الله. النوع الثالث: شبه النيابة عن الفعل بلا تأثر وهو كون الاسم نائبا عن الفعل في تأدية معناه والعمل عمله من غير أن يعمل في عامل ولا يقبل عمله فيه، وذلك قوله: (وكنيابة عن الفعل بلا تأثر) يعني أن الاسم يبني أيضا إذا أشبه الحرف هذا الشبه المذكور، والذي حاز هذا الشبه أسماء الأفعال فإنها مؤدية معنى الفعل على جهة اللزوم وعاملة عمله، وهو معنى النيابة عنه وهي لا تقبل أيضا عمل عامل فيها فتتأثر به ألفاظها وهو معنى قوله (بلا تأثر). فإذا قلت: (صه) فهو مؤد لمعنى اسكت وعامل عمله، ولا يصلح أن يكون معمولا لعامل البتة، وكذلك (نزال) في النيابة عن انزل و "هيهات" في النيابة عن بعد و "أف" في النيابة عن اتضجر، ومع ذلك لا تصلح أن تكون معمولات لعام، ووجه الشبه فيها أنها اشبهت الحروف الناسخة للابتداء فإنها لازمة لتأدية معنى الفعل، لأن معانيها كمعاني الأفعال، وهي عاملة

عملها؛ لأنها تعمل الرفع والنصب، وأيضا لا تأثير للعوامل في ألفاظها لكونها لا تصلح أن تدخل عليها، هذا وجه الشبه بين هذه الأسماء وبين الحروف، وهو الذي أوجب البناء عنده على ما قرر في "شرح التسهيل"، والتأثر قبول التأثير فـ (تأثر) مطاوع أثر، ومعنى أثرت في كذا: جعلت فيه أثرا فتأثر؛ أي قبله وحصل فيه، وتحرز بقوله: (بلا تأثر) من المصادر النائبة عن أفعالها نحو (: ضربا زيدا، وزيد سيرا سيرا، فإنها وإن أدت معاني أفعالها النائبة هي عنها قابلة لأن تكون معمولة لعامل من جهة معانيها) فخرجت بذلك عن شبه إن، وما كلن من بابها فدخلها الإعراب، فالحاصل أن التأثر في هذا التفسير معنوي، وقد يقرر على نحو آخر يكون التأثر فيه أو عدمه بالنظر غلى الاستعمال فيال: إنا وجدنا أسماء الأفعال لم تستعمل قط معمول لعامل، (وإنما استعملت عاملة غير معمولة، فأشبهت "إن" بخلاف المصادر في نحو: ضربت زيدا ضربا، فلم يتقرر (فيها) بسبب ذلك شبه الحرف فأعربت وعلى هذا النحو قرر ابن الناظم هذا الشبه، وارتضاه بعض أصحابنا والنحو الأول عليه جرى بعض الشيوخ الأندلسيين، وكثير من الناس يفهم هذا الوضع على انه يتحرر بقوله: (بلا تأثر) من المصادر المنصوبة بالأفعال التي نابت عنها كما ذكر، لكن على معنى أن

هذه المصادر قد تأثرت ألفاظها بالعامل فأخرجها بقوله: (بلا تأثر). قال بعض الشيوخ: وهذا تفسير لا محصول له، فإن تقديره من شرط بناء الاسم، أعني الاسم النائب عن الفعل أن لا يكون العامل مؤثرا في لفظه، وهذا هو نتيجة وجوب البناء لا شرطه ولا سببه، فحاصل المعنى على هذا من شرط بناء اسم الفعل ان لا يكون معربا، وهذا محال. وهذا التفسير الذي فسر به شبه اسم الفعل للحرف أولى من تفسير من فسره بأنه تضمن معنى لام الأمر في اسم فعل الأمر. وأما غيره ن اسم الفعل الماضي كشتان، واسم الفعل المضارع كأوه، فمحمول على اسم فعل الأمر؛ ليجري الباب كله مجرى واحد، وهو رأي الفارسي وابن جني وغيرهما، فإن هذا المذهب فيه أمر مرجوح وهو جعل العلة خاصة ببعض المبني وسائره لا علة فيه إلا الحمل على ما فيه العلة بخلاف علة الناظم فإنها عامة في الجميع، وكون العلة عامة في معلولاتها أولى من كونها خاصة ببعضها ما وجد ذلك، لكن يرد على ما اختاره إشكال ما، وذلك أن النحويين استدلوا على هذا الصنف من الكلم من قبيل الأسماء بإسناد الفعل إلى بعضها في نحو قول زهير: ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر وقد تقدم ذكر ذلك، فإذا كان (نزال) هنا قد صح كونه مسندا إليه وصح تأثر معناه للعامل بدليل عمل الفعل فيه، فإذن قبول التأثر حاصل في جميع الباب لوجوده في فرد من أفراده، فقد استوى إذن (نزال) وبابه مع

(ضرباً زيدا) وبابه، إذ كانا معا يؤديان معنى الفعل ويعملان عمله وهما قبلان (لتأثر) العامل فيهما، فيقع الإشكال هنا من وجهين: أحدهما: في قول الناظم "هنا" بلا تأثر" حيث نفى التأثر مع صحته ووجوده. والثاني: ما يلزم على ذلك من إعراب أسماء الأفعال، كما أعرب (ضربا زيدا)، أو بناء (ضربا زيدا)، كما بنيت أسماء الأفعال. والجواب: أن مثل "دعيت نزال" ليس الإسناد فيه بمعتبر كما تقدم والذي يستدل به على اسمية اسماء الأفعال غير ذلك، وقد ذكر فنزال وبابه مما يسند أبدا ولا يسند إليه البتة؛ لعدم قبوله للتأثر للعوال كما قرره الناظم، وإذا كان كذلك ظهر الفرق بين القبيلين، وأيضا فإن دلالة نزال وبابه على معنى الفعل ونيابته عن الفعل بحق الأصل، وبالوضع الأول كما كان ذلك في "إن" وأخواتها، فتمحض الشبه بخلاف (ضربا زيدا)، فإن نيابته عن الفعل عارضة بعد التركيب، فلم يؤثر البناء لعدم أصلية الشبه وفقد تمحضه. فإن قيل: يخرج عن هذا على رأيه "دونك" و "وراءك" و "أمامك" ونحوها، فإنه قد عدها في أسماء الأفعال مع أنها معربة باتفاق على ما نقل ابن خروف، وإن نصبها بالأفعال التي نابت عنها كضربا زيدا فهي خارجة بقوله: (بلا تأثر) لصحة تأثرها للعامل ووجود ذلك فيها،

فكيف يجتمع هذا مع دعوى أنها من أسماء الفعل؟ . فالجواب: أنها على رأيه أيضا مبنية لقوله في باب أسماء الأفعال والأصوات - بعد ذكر "دونك" وشبهه-: (والزم بنا النوعين فهو قد وجب) وما ظهر في أواخرها ليس بتأثير العامل ولا هي قابلة لأن تتأثر، وما نقل ابن خروف من الاتفاق لا يثبت، وكل ذلك سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. النوع الرابع: (الشبه الافتقاري) وهو كون الاسم وضع مفتقرا إلى ما يفسر معناه ويبينه، وهو المراد بقوله: (وكافتقار أصلا) ويريد أن الاسم إذا وضع على الافتقار بني كالموصولات، فإنها وضعت على الافتقار في فهم معانيها إلى صلاتها، فهي لا تستقل بالمفهومية دون أن يؤتي بما يبينها، كما أن الحروف كذلك، وكذلك المضمرات وضعت على الافتقار إلى مفسر يعود عليه، فهي متوقفة في فهم معانيها على غيرها، كما أن الحروف كذلك، ولذلك قيل في الحروف: إنها تدل على معنى في غيرها، وقيد الافتقار بكونه قد أصل، أي جعل أصيلا. وأصل، أي ثبتت له الأصالة استظهارا على كل ما وضع في الأصل غير مفتقر، وإنما عرض له الافتقار حالة التركيب كالأسماء اللازمة للإضافة فإنها مفتقرة، ولذلك لزم تفسيرها بالمضاف إليه، وكذلك أسماء العدد كعشرين وثلاثين هي مفتقرة إلى ما يفسر معناها لكن بعد التركيب، وأما وضعها الأولى فعلى أن تكون غير مفتقرة، فلذلك لم يعتبر فيها الافتقار، فلم تبن لعروض السبب الموجب وعدم أصالته، وبهذا المعنى نجيب عن إعرابِ

الظروف نحو: صمت يوما، وأقمت شهرا، وإن توهم كونها مستحقة للبناء للشبه المعنوي؛ لأن ذلك ليس بحق الأصل، وإنما هو لاحق بعد التركيب، فلم يكن لذلك الشبه تأثير، فجاء على أصلها من الإعراب، ومن هذا النوع ما حدثنا به الأستاذ أبو عبدالله بن الفخار شيخنا -رحمة الله عليه- أن الشلوبين حكي عنه أنه قال في بعض مجالس إقرائه في "كم" إنها بنيت شبهها بالحرف في افتقارها إلى مفسر، فتقده بعض طلبته فقال له: يلزم على هذا بناء جميع أسماء الأعداد لتساويها في هذه العلة، فلما رأى الشلوبين ورود هذا النقد على عدم تقييد الافتقار بالأصالة زاد زيادة أخرج بها أماء الأعداد فقال: بنيت لشبهها بالحرف في افتقارها إلى مفسر لا يعقل لها معنى إلا به، فخرج قولك: عشرون وثلاثون وبابه، فإن لها في أنفسها معنى معقولا وهو المقدار، وإنما بقي بيان جنس ذلك المقدار فجيء بالمفسر لأجله، هذا معنى الحكاية، وحاصلها ما تقدم من أن المؤثر من الشبه إنما هو ما كلن في الاسم بحق الأصل، فبحق ما قيد الناظم الافتقار بالأصالة وبالله التوفيق. ويخرج له عن مقتضى هذا الشبه -وإن كان موجودا- "أي" الموصولة فإنها معربة مع وجود شبه الحرف وهو الافتقار الأصيل، لكن عارضة شبه بالمعرب آخر فأعربت، وبيان ذلك في باب الموصول، فقد نص (هنالك) على خروجها عن هذا الحكم، وكذلك يخرج له "الذي" و

"التي" حالة التثنية، كما خرج "ذا" و "تا" في حالة التثنية أيضا عن مقتضى الشبه المعنوي، لمعارضة موجب الإعراب كما سيأتي في بابه إن شاء الله. وبقي في كلام الناظم سؤالان: أحدهما: أن يقال: هل يشمل كلامه ما بني بناء عارضا، وعلى الجواز مع ما بني بناء لازما، وبحق الأصل كالبناء لقطع عن الإضافة، والبناء لتركيب الاسم مع "لا" أو مع (اسم) آخر كخمسة عشر وما أشبه ذلك، أم هو مقتصر به على المبني بناء لازما وبحق الأصل؟ والثاني: أن يقال: هذه الأنواع التي ذكر هل هي محيطة بجميع أنواع شبه الحرف أم لا؟ فإن لم تكن محيطة وإنما أتى بها تنبيها على الباقي فما الذب بقي له منها؟ وإن كانت محيطة فكيف يرجع إليها سائر الأنواع التي ذكرها الناس؟ والجواب عن الأول: أن الظاهر من كلامه أنه إنما أراد الكلام على البناء اللازم، وعلى المبني بحق الأصل لا الذي بناؤه عارض وعلى الجواز والدليل على ذلك أن جميع هذه الأنواع التي ذكر إنما تقتضي الأول لا الثاني، وأما الشبه الوضعي فظاهر، إذ ليس في المبنى على الجواز ما يوجد فيه هذا الشبه الوضعي فظاهر، إذ ليس في المبنى على الجواز ما يوجد فيه هذا الشبه في حال دون حال، ولا أيضا يوجد هذا الشبه مقتضيا لبناء جائز، وأما المعنوي فقد قيَّده بالمثال حيث قال: (والمعنوي في متى وفي هنا) أي: وكالشبه المعنوي الموجود في هذين المثالين، ولا شك أن الشبه في المثالين لازم وبحق الأصل، فـ "لا رجل" إذا عللنا بناءه بتضمنه معنى "

مِن" فليس التضمن فيه على حدِّ التضمن في مَتَى وهُنَا. وأما الاستغنائي: فكذلك أيضًا, لأنَّ تقييده بقوله (بَلَا تأثُّر) منع أن يدخل فيه المبنى على لجواز (لأن المبنى على الجواز) صالحٌ للتأثر ألا ترى: أنَّا إذا سمينا بـ "نَزَالِ" فصلح للتَّأثر لم يبق بناؤه على اللزوم, بل صار فيه وجهان بلحظَين مُختلفين, فالبناءُ لأجل الشبَه بأصله, والإعرابُ اعتبارٌ بحاله من كونه قابلًا للتأثر للعامل, وليس اسمًا للفعل الآن, وأما الافتقاري فتقييده له بالأصالة يُخرج له بناء قبلُ وبعدُ وسائرَ ما يُبنى لقطعه عن الإضافة, وكذلك المُرَكَّبُ وسائرُ ما فيه بناء على الجواز مما يرجع بناؤه إلى علة الافتقار, وإذا تقرَّر هذا ظَهَرَ أنَّه لم يَتَعَرَّض لما البناء فيه عارضٌ وعلى الجواز. فإن قلت: فمن أين يُؤخذ له وجه البناء فيه وهو لم يعرف به في واحدٍ من أفراد هذا الصِّنف؟ فالجواب: إن ذلك يرجعُ بالتأويل إلى ماذَكَرَ من أوجه شبه الحرف وعلى عدّ العارض من البناء كاللا الأصلي, وسترى ذلك في مواضعه من هذا الشرح إن شاء الله, لكن الناظم تَرَك ذكر الطريق إلى ذلك إحالة الناظر في نظمه على نَظَره, إذ ليس من ضرورياته. والجواب عن الثاني: أن كلامه محتملٌ لأن يكون أراد أن أنواع شبه الحَرف غير منحصرة في هذه الأربعة إلا أنه ذَكَر ما ذكر منها

تنبيهًا على مالم يذكره, فكأنَّه قال: إن أنواع الشَّبَه متعددة منها هذه, ويحتمل أن يريد أن وجوه الشَّبه وإن تعددت معاقدها هذه الأربعة, فكل ما يذكر دونها فإليه يرجع من جهة المعنى. والوجه الأول: أسعد بلفظة من جهة اتيانه فيها بالكاف التَّشبيهية؛ لأن المعهود في الكلام إذا قيل في التمثيل: مثل كذا, أو قولك: أو كذا أو نحو كذا, أن تريد التنبيه على أشياء لم تُذكر وإلا فقد كان الوجه الأول أن يقول: في كذا وكذا, ولا يقول في مثل كذا. فقوله: (كالشَّبَهِ الوَضْعِيَّ ... وَكنَيَابَةٍ عن الفعل .. وكافتقار أُصلًا) تنبيه على أشياء لم يذكرها, والكاف هنا نظيرة من جهة المعنى لقوله في باب الابتداء - صحين ذكر أوجهًا من الابتداء بالنكرة -: (ولْيُقَس ما لم يُقل) وأما الوجه الثاني: فهو -وإن كان مرجوحًا - محتمل في لفظه, وتكون الكاف داخلةً باعتبار تعدُّد المُثُل المذكورة, لا باعتبار مالم يذكره, وقد يفعلُ مثل هذا المتأخرون. ألا ترى إلى قول ابن الحاجب في كتابه "الفقهي": الصّام الواجب مع إدخال الكاف, لأن صيام التمتع في الحج وصيام فدية الأذى وجزاء الصيد داخل ذلك كله في الكفارات فيمكن أن يكون الناظم فعل مثل هذا. فإن أراد الوجه الأول فلِشَبَه الحرف أنواع أُخر. منها: سقوط موجب

الإعراب قاله ابن أبي الربيع في بناء أسماء الأفعال, لأن الإعراب إنما يكون في اللفظ أمارةً على اعتقاب المعاني الثلاثة التي هي الفاعلية والمفعولية والإضافة, وهو الموجب للإعراب, كما أن الحُرُف كذلك لا تقبل معنى من تلك المعاني فبُنيت لهذا الشبه, ومثل ذلك أسماء العدد المُطلَقة لما كانت في حين العدِّ بها لا تقعُ فاعليةً ولا مفعولةً لم تكن على الحد الذي تستوجب معه الإعراب فصارت كالأصوات فبُنيت, وكذلك حُرُوفُ التَّهجِّي كألفاظ العدد سواد, وأسماء الأصوات داخلة أيضًا هنا, وأما ما يُحكى به منها كقَب وطِيخ فظاهر, وأما ما يكون زجرًا أو دعاء كَهلًا وتَشُؤْ فلأنها لا مدلول لها من الفعل كما لأسماء الأفعال مدلول من الفعل فكانت مثل قَب وطِيخ ونحو ذلك: ومنها الوُقوع موقع الحرف علَّل به بعضهم بناء "غير" من قولهم: ليس غير, فإنها عنده موضوعة موضع "إلا" فرجعت إلى شَبَه الحرف؛ لأن للواقع شَبَهًا بالموقوع في موضعه, وأولى من هذا المثال في الموضع ما حُكِي في أسماء الأصوات الحكائية من قولهم: مِضِّ في حكاية صُويت, مُغْنٍ عن قولك "لا" , فـ , "مِضِّ" واقعة "لا" فقد يقال إنها بُنيت لذلك. ومنها الإبهام في الأشياء كلها فليس (شبهُ اسم الإشارة والضمير بالحروف) والدخول عليها علَّل به السِّيرافيُّ بناء اسم الإشارة والضمير

فإنهما مبهمان يقعان على كل شيء من الحيوان وغيره, فهما داخلان على (كل شيء) فأشبها الحروف, لأن الحروف أعراضٌ تعترض في الأشياء كلها. فإن قيل: كذلك لفظ "شيء" يقع على الأشياء كلها, فليس شَبَه اسم الإشارة والضمير بالحروف بأولى من شَبَهِها بلفظ شيء, بل هذا الشبه أولى لأنه شبه يردُّ إلى الأصل بخلاف شبَبَه (الحروف). فالجواب: أنهما ليسا كشيء في الوقوع على الأشياء كلها, لأن شيئًا لازم لمسمَّاه في جميع الأحوال بخلاف اسم الإشارة والكناية والحروف فإنها أعراض تدخل في الأشياء كلها, ومثل ذلك عند السيِّرافي أيضًا. حيث بينت لإبهامها في الجهات السِّت وفي كل مكان, فتُبِّهت لإبهامها بإذ المُبهمة في الزمان الماضي كله, إلا أن بناءها عنده في حال دون حال كما بين في كتابه. ومنها قلَّة التمكن واللزوم فموضع واحد, علَّل به السيِّرافي بناء الآن يريد عَدَمَ التصرف الذي فيها من جهة المعنى, إذ هي دالة على آخر الزمان الماضي وأول الزمان الآتي, وهذا شأن الحروف, لأنه لا يعدو موضعه الذي وضع له إلى غيره فهو لازم لموضع واحد, فبنى الآن ذلك, وكذلك "لدن" بنيت للزومها موضعًا واحدًا وهي تُعطى معنى عند , إلا أنهم أعربوا "عند" حيث تَوسَّعوا فيها فأوقعوها على ما بحضرتك, وعلى ما بَعُدَ عنك, وإن كان

أصلها الحاضر, تقول عندي مال, وإن كان بخُراسان وأنت ببغداد, وقد كان حقٌّ "عند" البناء لولا ما لحقها من التصرف, بخلاف "لّدُن" فإنها لا يُتجاوز بها حضرةَ الشيء, فلذلك بُنيت وعلّل بهذا بعضهم بناء "قط", وقد بمعنى "حَسْب"؛ لأنهما لم يتمكنا في الكلام تمكُّن الأسماء, ولم يُستعملا استعمالها فأشبها ما وُضع كذلك من الكلم وهو الحرف. ومنها شَبَه ما أشبه الحرف كفَعَال المعدولة في غير الأمر, فإنها أشبهت فَعال في الأمر في الوزن والتأنيث والعدْل فبُنيت بناءها. ومنها الوقوع موقع ما أشبَهَ الحرف كالمُنادى المفرد, لوقوعه موقع المضمر على قول من يُعلِّل بناءه بذلك, ووجه كون هذين النوعين من أنواع شبه الحرف أن يقال: أما الأول: فلأن "فَعَال" حين أشبهت ما أشبه الحرف صارت مشبهة للحرف بواسطةٍ, ومُشبِهُ مِشْبِهِ الشيء شبيه للشيء. وأما الثاني: فلأن الوقوع موقع الشيء يُوجب للواقع شَبَهًا بالموقوع موقعه, فإذا كان الموقوع موقعه الحرف فالواقع يُشبه الحرف؛ لأن مشبه المشبه مشبهه, وردَّ هذا ابن عصفور بأن قول القائل بُنيت لشبه مَشبه الحرف إقرار بأن البناء يكون لغير مشبه الحرف, وهو مشبه ما أشبه الحرف. والجواب: أنه راجع في الحقيقة إلى نوع من أنواع الشبه, وأيضًا فالشبه يكون قريبا ما لذي تقدم, ويكون بعيدًا وهذا كم ذلك البعيد, ويُعْدُهُ لا يمنع وجوب الحكم له, فهذه أنواع من شَبَهِ الحرف وَقَعَ التنبيه من الناظم عليها بالكاف, على فرض أنه أراد الوجه الأول, وإن أراد الوجه الثاني فيُمكن ردُّ هذه الأنواع إلى ما ذكره. أما الأول فراجع

بالحقيقة أو بالتَّأويل إلى النوع الثالث مما ذكره الناظم. أما أسماء الأفعال فقد تقدم ذلك فيها, وأما أسماء الأصوات فراجعة إليها بالشبه, فما هو منها للدعاء أو للزجر ظاهر الشبه باسم الفعل, وماعدا ذلك محمول عليه, لأن الجميع تصويت أو نقول: إنها اجتمعت في كونها غير متأثرة للعامل, إذ لا تُستعمل فاعلة ولا مفعولة ولا مضافة, فحُكِم لها بالبناء كهذا الشبه, وهذا أولى من مطلق الحمل, لأن العلة هنا عامة وفي الأول خاصة, وعلى هذا يجري الحكم في أسماء العدد المطلقة, وفي حروف الهجاء, فإذا سقوط موجب الإعراب هو معنى عدم التأثر للعامل, غير أن العرب أهملت ها هنا جزء العلة ولم تُعمله في أسماء الأفعال على رأي الناظم, إلا مع النيابة عن الفعل على ما قرَّره ولو قيل بإسقاط الاعتبار في الحقيقة لأن "غير" في قولهم: ليس غير إنما لنى لقطعه عن الإضافة كقبلُ وبعدُ, وليس الكلام هنا في البناء العارض وإن سلمنا ذلك فهو في الحقيقة تضمين لغير معنى "إلا" فرجع إلى النوع الثاني. وأما الثالث: فغير محتاج إليه, لأن المضمرات والمبهمات قد تقدم دخولها في النوع الأول والثاني وكذلك في الرابع, وأيضًا فمن الأسماء ما هو كذلك وليس بمبنيٍّ, وذلك "كل" و "بعض" ونحوهما. ألا ترى أن مدلولها عرض يُعترض به في الأشياء كلها, ويتحقق ذلك في "بعض" حيث وافقت "من" التبعيضية في معناها, حتى قال لنا بعض شيوخنا: لا فرق بين قولنا أكلتُ الرغيف, وقولنا أكلت بعض الرغيف من جهة المعنى, وإنما فرق بينهما الأحكام اللفظية, فأنت ترى أن هذا السبب غير مطّرد, فبحق ماترك ذكره الناظم.

وأما الرابع: فإن قلة التمكن وإن كانت أصلًا في الحروف قد وجدت في الأسماء, ولم يكن ذلك موجبًا للبناء نحو قولك: جئت من عل, وأشياء من هذا النمط, ويكثُرُ في الظروف, فقلَّة التمكن إن سلمنا أنها تقتضي البناء ففي بعض دون بعض, ألا أن نحو: صاد وقاف كم حروف الهجاء إذا جُعل اسمًا للسورة جاز فيه الإعراب والبناء, وعلل البناء بقلة التمكن, وإذا كان كذلك فما كان كذلك فما كان من العلل مُطَّرِدًا في معلوماته أولى مما كان غير مُطَّرِد, وقد وجدنا لبناء "الآن" علة مُطَّرِدة غير ما ذكره السيِّرافي, وهي تضَمُّن معنى الحرف فعند الفارسي وابن جِنِّي أنها َضُمنت معنى ألف ولامٍ سوى التي ظهرت عليها, وبها حصل تعريفها لا بالظاهرة, فإنها زائدة حسب ما نصَّ عليه الناظم في باب المُعرَّف بالأداة, وعند الزَّجاج أنها بُنِيت لما فيها من معنى الإشارة, فإذًا لا يتعين ما قاله السيِّرافي في مذهب الناظم, لإمكان قوله بما سواه, وكذلك "قطُّ" لا يتعيَّن تعليل بنائها بقلَّة التمكن, فإنها عند السيِّرافي اسم فعل نائب عن فعل الأمر في أول أحواله, فمعنى: قطْك درهمان, بمعنى لِيَكْفِك درهمان, أو اكتفِ بدرهمين, وكذلك "قد" بمعناها إذا قلت: قَدْك درهمان. وأما الخامس والسادس: فقد ظَهَر رجوعها إلى ذكره, ففَعال المعدولة في غير الأمر راجعة في بنائها إلى بناء المعدولة في الأمر. والمنادى المفرد راجع إلى بناء المُضمر. وإن قلت: إن المنادى بني

لتَضَمُّنه معنى حرف الخطاب زال هذا الشغب. فإن قيل: إنما الكلام هنا في المبني اللازم البناء بأصل الموضع والمنادى ليس كذلك. فالعذر في ذلك ما قاله بعضهم من أن المنادى وإن كان أصل وضعه على التمكن لما وجب له البناء من غير تخيير كان كغير المتمكن, غير أنه شبيه بالتمكن, ولذلك بُني على حركة, وقد جَنَحَ بنا الكلام في هذا الفصل, لكن فما لابد لشرح كلام الناظم فلنثن عنانه. * * * ولما تكلَّم على أحد قسمَيْ الاسم وهو المبنى وذكر أنواع موجب البناء فيها أخذ في تعريف القسم الثاني الذي هو قسم المُعرب فقال: ومُعْرَبُ الأسماء ما قد سَلِمَا ... مِن شَبَهِ الحرف كأرضٍ وسما تعرض في هذين المزدوجين لمسألتين: إحداهما: الإشارة إلى أن الاسم المُعرب بحق الأصل, ليس أصله غير ذلك لخلوه من العلل الموجبة للبناء, ولاشك أن السلامة من العلل هي الأصل فالإعراب هو الأصل من غير تخيير في ذلك, وهو مذهب الجمهور وهو صحيح فإنا وجدنا باب المُعربات من الأسماء أوسع بابًا من المبنيات بكثير

وقد ثبت أن الكثرة لها الأصالة, فالإعراب إذًا هو الأصل, وأيضًا فحقيقة الاسمية إنما تظهر غالبًا في الأسماء المعربة, وأما الأسماء المبنية فليست بأسماء حقيقة, إلا القليل منها, بل هي أشبه بالحروف منها بالأسماء, وإنما قيل فيها أسماء لوجود بعض أحكام الأسماء فيها. وأما ابن خَروف فقرر أن الإعراب فرعٌ في الأسماء, بمعنى أنه أمرُ طارئ على الكلمة, لأن الكلم كلها قبل التركيب أصلها الوقف, وهذا صحيح وهو الأصل الأول, وليس الكلام فيه, وإنما الكلام في الأمر الطارئ بعد التركيب, من الإعراب أو البناء, أيهما الأصل في الأسماء؟ فقال يمكن الأمران في الأسماء أن يكون أصلها البناء, ثم دخلها الإعراب للمعاني الطارئة عليها, وما بُني منها بَقيَ على أصله, أو يكون أصلها الإعراب, لأنها لم تُجعل علامات للأشخاص والأجناس إلا للإخبار عنها وتصرفها في الإسناد للمعاني المحتوية عليها, والمانع من إعرابها تضمنُها معاني الحُروف أو شبهها بها أو خروجها عن أصلها ونظائرها, ثم جعل الأظهر القول بأن أصلها الإعراب, وهذا في الحقيقة راجع إلى الوِفَاقِ, حيث رجَّح ما ذهب إليه غيره إلا أن في كلامه نظرًا فتأمله, فليس موضع ذِكِرِه هذا الموضع. المسألة الثانية: حَصرُهُ البناء العارض للأسماء فيها أشبه الحرف لأنه ذكر أولا أن بناء ما بُني لأجل شبه الحرف, ثم ذكر هنا أن

المُعرب ما سَلِمَ عن شبه الحرف, فاقتضى أن شيئًا من الأشياء غير شبه الحرف لا يُبنى له الاسم, وهذا مذهب سيبويه. ألا تراه قال: وأما الفتح والضم والكسر والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم ولا فعل مما جاء لمعنى ليس غيرُ نحو: "سوف" و "قد" , فموجب البناء عنده شيء واحد, وقد اختلفت عبارات الناس في عدِّ موجبات البناء, فالمحققون على أن ذلك واحد كما ذكر الناظم, وإياه عضَّد الشَّلوين حتى حمَل قول سيبويه ليس غير, على أنه يرجع إلى الأيماء غير المتمكنة, والمعني عنده أن علة البناء في الأسماء إنما هو عدم تمكنها, أي مضارعتها للعديم التمكن من الكلم الثلاث وهو الحرف ليس غير, ثم تأول ما كان غيره خارجًا عن شبه الحرف. ومنهم من عدَّ وجهين وهما شبه الحرف وتضمن معناه كالفارسي وابن جِنِّي وهو بمعنى الأول, لأن تضمن معنى الحرف من أنواع شبه الحرف, إذ ليس شبه الحرف أتيا على وجه واحد كما تقدم, فهذا غير مخالف لمذهب سيبويه. ومنهم من ذكر ثلاثة أوجه فزاد خروج الاسم عن أصله ونظائره, ذكر ذلك ابن خروف ونبَّه به على بناء "أي" عند سيبويه إذا سيبويه إذا حذف المبتدأ من صِلَتِها نحو: أكْرِم أيهم أفضل.

ومنهم من عدَّ أربعة أوجه كالسِّيرافي حيث قال: البناء في الأسماء إما لمشابهة الحروف, أو للتعلق بها, أو لوقوع المبنى موقع فعل مبني, أو لخروجه عمَّا عليه نظائره. ولعله يردي بالتعلق بالحروف تضمُّنها لمعانيها أو الإبهام في الأشياء وقد تقدَّم ذلك. ومنهم من عدَّ خمسة أوجه كالجُزُوليِّ, وهي شبه الحرف وتضمُّن معناه والوقوع موقع المبني, ومضارعة ما وقع موقع المبني, والإضافة إلى المبني وقد عُدّت أكثر من ذلك حتى إن بعد تلاميذ شيخنا الأستاذ أبي عبدالله الفخَّار -رحمة الله عليه- رفعها إلى اثنين وعشرين وجهًا, لكنها إذا ضُبطت ترجع إلى أقل من ذلك. وحاصل ما زادوه على ما ارتضاه الناظم ثمانية أوجه: الوقوع موقع الفعل المبني ومضارعته وكثرة موانع الصرف والإضافة إلى مبني, والتركيب, والقطع عن الإضافة, والخروج عن النظائر (وكثرة الاستعمال). فأما الأول: فعَنَوا به أسماء الأفعال, وقد تقدَّم أن الوقوع موقع الشيء يُوجب للواقع شَبَهًا بالموقوع موقعه, وإذا كان كذلك فشَبَهُ الفعل لا يوجب أكثر من مَنْع الصرف, أما أن يوجب البناء فلا, وإنما الذي

يوجب البناء مضارعة ما لا يكون إلا مبنيا، وهو الحرف بخلاف الفعل فإنه قد يكون معربا، ومما يدل على ان مضارعة الاسم للفعل بوقوعه موقعه لا يوجب بناء أن مضارعته له قد تكون بتضمنه معناه، وهو معنى وقوعه موقعه وشبهه به في اللفظ، فإن كان وقوعه موقع الفعل المبني يوجب البناء فليكن شبهه به في اللفظ موجبا للبناء أيضا، كما إذا سميت رجلا بالفعل الماضي نحو: انفعل وافتعل وفَعل وفُعل وما أشبه ذلك، إذ لا فرق بين الشبه بالمبنى والوقوع موقعه في إيجاب البناء، كما لم يكن بينهما فرق بالنسبة إلى الحرف، لكن العرب إنما يوجب شبه الفعل عندها منع الصرف فقط، ولا يوجب بناء البتة فكذلك وقوعه موقعه لا يوجب بناء، وأيضا قد وجدنا الأسماء تقع موقع الفعل المبني، ولا يوجب ذلك بناء، وذلك اسم الفاعل إذا كان صلة للألف واللام فإنه غنما عمل هنالك وإن كان بمعنى الماضي لوقوعه موقعه كذلك ينبغي أن يبنى، لكن العرب لم تفعل ذلك، فدل على أن الوقوع موقع الفعل المبني لا يوجب بناء البتة، بهذا المعنى استدل الشلوبين على عدم صحة ما ذهب إليه السيرافي وغيره. وأما المضارعة لما وقع موقع المبني فذلك في: جعار وسَفَار، حيث أشه نزال، وهذا الشبه يقول به الناظم على طريقته في نزال، لأن مشبه المشبه مشبه كما تقدم وأما كثرة موانع الصرف فهو مذهب المبرد في جعار ونحوها قال: بنيت لأنها معرفة مؤنثة لا تنصرف فزادها العدل ثقلا. وليس بعد منع الصرف غلا البناء ورد عليه السيرافي

بأن صحراء إذا سمّينا بها مؤنثا لم تبن اتفاقا وكذلك مساجد مسمى به مؤنث، ولا يزاد فيها على منع الصرف، لأن كثرة موانع الصرف إنما هي كثرة وجود شبه الفعل، وشبه الفعل لا يوجب البناء فعلى هذا كل ما استدل به بطلان الوجه الأول، به يستدل على بطلان هذا الثالث. وأما الإضافة إلى المبنى فخارجة عما نحن بسبيله، لأنها لا توجب بناء لطروئها بعد التركيب، وكلامنا في المبنى بحق الأصل، وإنما الإضافة إلى البنى -إن ثبت علة تجوز البناء لا توجبه، وأيضا فالبناء معها لشبه الحرف على ما سيذكر في مواضعه إن شاء الله تعالى. ومثاله قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا وكذلك التركيب نحو: لا رجل، وخمسة عشر، والقطع عن الإضافة نحو "لله الأمر من قبل ومن بعد". وأما الخروج عن النظائر، وذلك في "أي" فهو الحقيقة رجوع إلى الأصل من البناء؛ لأن أصل أي أن تكون مبنية كسائر ما تكون بمعناه من الموصولات أو

أسماء الشرط وأسماء الاستفهام، إلا أنها أعربت لتمكنها بالإضافة، فلما حذف المبتدأ من صلتها إذا كانت موصولة وصار المضاف إليه أي كالعوض منه توهموا زوال الإضافة منها، فصيروها إلى أصلها من البناء وخروجها عن نظائرها، إنما معناه أنها انفردت بحسن حذف المبتدأ من صلتها إذا كان هو الضمير العائد عليها دون سائر المواصلات حيث قبح ذلك فيها، وإن دخل تحت هذا الوجه بناء "حيث" لانفرادها دون سائر ظروف المكان بالإضافة إلى الجملة لزوما، فشبه الحرف أولى أن يعلل به بناؤها، كما ستأتي في هذا الباب إن شاء الله وأيضا فهذا الوجه مما يكون البناء معه في حال دون حال. أما في "أي" فعلى رأي سيبويه وغيره، وأما في "حيث" فعلى رأي السيرافي، فانظر فيه في باب المجاري من "شرح الكتاب" وأما كثرة الاستعمال وذلك في "لهى أبوك" على ما قاله بعضهم، فلم يعتبرها المؤلف علة بناء، إذ لم يثبت لكثرة الاستعمال إلا التغيير بالزيادة والنقصان كلم يك، ولم أبل، وأيش، ويابن أم، أو بتغيير الحركات نحو: يا زيد بن عمرو وما أشبه ذلك، ولم نر شيئاً من ذلك بني لكثرة الاستعمال، فكذلك "لهى أبوك"، فهم وإن غيروه -وكان أصله: لله أبوك- لم يبنوه لما ذكره بل لأمر آخر وأولى من

ذلك ما قاله المؤلف من أنه ضمن معنى التعجب الذي كان حقه أن يوضع له حرف، فإذا تقرر هذا لم يستقر من هذه الأوجه المتقدمة سببا للبناء في الأسماء إلا الحرف، وهو ما أراد الناظم -رحمه الله- تقريره. وقوله: (من شبه الحرف) أراد به الشبه في أي نوع كان من تلك الأنواع التي ذكرها، وهذا إن قلنا: إنه قصد حصر الشبه في تلك الأربعة أو الشبه العام فيما ذكر، وفيما لم يذكر مما تقدم لنا ذكره في شرح كلامه، أو لم يتقدم فيه ذكر، وهذا إن قلنا أنه قصد بإتيانه بالأنواع الأربعة قصد التمثيل لا الحصر، ومثل ما سلم من شبه الحرف بمثالين، وهما أرض ومعناه بيّن، وسما وأصله سماء -بالمد- من السمو وهو الارتفاع، لكن قصره للشعر، ووقع في نسخ مضبوطا بضم السين على وزن هُدى وتُقى، وعليه شرح ابن الناظم وهي لغة في الاسم، إذ فيه خمس لغات: اِسم واُسم -بكسر الهمزة وضميها- وسِم وشُم -بكسر السين وضم مع النقص- وهذه هي اللغات المشهورة في النقل، واللغة الخامسة هي التي في كلام الناظم نقلت عن ابن الأعرابي، وذكرها ابن السيد، وهي غريبة، واستشهد عليها بما أنشده الفارسي عن أبي زيد:

فدع عنك ذكر اللهو واقصد بمدحه ... لخير معد كلها حيث انتمى لأعظمها قدرا وأكرمها أبا ... وأحسنها وجها وأعلنها سُما بوما أنشده الزجاج وغيره من قول الآخر: الله أسماك سما مباركا ... آثرك الله به إيثاركا ولا دليل في هذين الشاهدين على إثبات هذه اللغة، لأن سُما في الموضعين منصوب، فيم كن أن تكون الألف ألف التنوين كيد ودم، إذا قلت رأيت يدا ودما، وإنما أتى الفارسي بالشاهد الأول على أن سُما منقوص، وكذلك الزجاج والجوهري في الشاهد الثاني، وفسر القالي سُما على غير هذا المعنى فقال: سُما الرجل: بعد ذهاب اسمه، فلم يجعله مرادفا للاسم وأراد ببعد ذهاب الاسم انتشار ذكره في الأقطار وطيرانه كل مطار. وأتى بمثالين ولم يقتصر على مثال واحد ليعلم أن الاسم المعرب منه ما يظهر في آخره الإعراب كأرض، ومنه ما يقدر في آخره كسُما، فإن جميع ما آخره ألف ليس بمعرب لعدم ظهور الإعراب فيه، وهذا المعنى يشير إلى صحة ما ثبت في النسخ من ضم السين سُما، إذ لو أتى بسَما الممدود لم يحصل ذلك المعنى بالمثالين لاستبعاد أن يكون المثال الثاني لغير معنى زائد لأنه قلما يفعل ذلك، ويمكن أن يكون الضبط -بفتح السين- على ما يقع في بعض

النسخ، ويكون المثالان لمعنى واحد أو يكون كالضم في القصد، لأن سماء الممدود لما قصر للشعر صار من قبيل المقصورات كفتى ورحى. ألا ترى أنك تكتبه بالياء إن كان من ذوات الياء نحو: قضى مقصور قضاء، فهو إذا كسما المضموم السين في إعطاء المعنى المقصود. ثم قال: * * * وفعل أمر ومضى بنيا ... وأعربوا مضارعا إن عَرِيا من نون توكيد مباشر ومن ... نون إناث كيرعن من فتن لما فرغ من بيان قسمة الاسم إلى المعرب والمبني أخذ في بيان ما للفعل من ذلك، ثم ما للحرف فقسّم الفعل أيضا غلى المعرب والمبني، فأما المبني منه فصيغة الأمر وصيغة الماضي، وذلك قوله: (وفعل أمر ومضى بنيا) وألف بنيا ألف تثنية، وهو ضمير عائد على الفعلين: فعل الأمر وفعل الماضي وتقديره: وفعل أمر وفعل مضى بنيا، وفعل المُضي هو الفعل الماضي وأضافه إلى المضي لأنه من صفته، فمثال (فعل) الأمر: قم واضرب وكل واشرب ومثال الفعل الماضي: قام وضرب واقتدر واستكبر وما أشبه ذلكن فهذان مبنيان حتما كما ذكر، لا إعراب يدخلهما البتة؛ وإنما بُنيا لفقد العلة الموجبة للإعراب فيهما، وذلك التفرقة بين المعاني الحادثة بعد التركيب وهي التي إذا اختلفت على الكلمة لم يتبين بعضها من بعض إلا بالإعراب كالفاعلية والمفعولية والإضافة في الأسماء، فلما كانا كذلك لم يكن لدخول الإعراب فيهما معنى فبنيا لذلك، وما ذهب إليه في الأمر هو مذهب

البصريين، وذهب الكوفيون إلى أنه معرب مجزوم. وأصل ارم واخش واغزُ عندهم لترم ولتغز، فليس أصل بناء، وإنما هو محذوف من المضارع، والمضارع معرب. وأدل دليل عندهم على ذلك حذف آخره وجريانه في ذلك على المضار، والظاهر مذهب البصريين من كونه مبنيا. وأصل بنائه لوجهين: أحدهما: أن ما زعموا من الحذف دعوى. والآخر: أن طريق الحذف أن يكون للتخفيف، وإذا كان كذلك، فلو أرادوا التخفيف لحذفوا اللام ويبقى حرف المضارعة، فحذفهم له وإتيانه بالهمزة بعيد عن مقصد التخفيف، وأيضا حذف الجازم وإبقاء عمله محذور كما كان ذلك في الجار الذي هو نظيره. وأما حذف الآخر: فإن هذا البناء كما اطرد في الأمر وأشبه المجزوم لموافقته له في السكون، وحركات الفعل وسكونه حكم له بحكمه فحذف آخره المعتل، كما حكم للمبني في النداء وفي باب "لا" بحكم المعرب على ما سيأتي عن شاء الله تعالى. وأما المعرب منها فهو الفعل المضارع، وذلك قوله: (وأعربوا مضارعا) أي: فعلا مضارعا، يريد أنهم لم يعاملوه معاملة أخويه

فبينوه بل أعربوه كما أعربوا الاسم، وضمير أعربوا عائد على العرب، وهو من قبيل ما يفسره السياق، إذ لم يتقدم للعرب ذكر، لكن لما كان هذا العلم تقريرا لكلامهم صار ذلك قرينة تدل على أنهم المقصودون بالضمير، فصار كقوله تعالى: ((حتى تورات بالحجاب))، والمضارع مشتق من المضارعة وهي المشابهة، وإنما سمي مضارعا لمضارعته الاسم، أي مشابهتهن وهذه المضارعة هي التي أوجبت الإعراب فيه عند البصريين، إذ ليس فيه عندهم موجب له كما كان في الاسم موجب، بل هو في ذلك كأخويه الأمر والماضي، إلا أن العرب من شأنهم مراعاة الشبه، فيعاملون المشبه معاملة ما شبه به بعض الأحكام ولما كان المضارع شبيها باسم الفاعل من جهة اللفظ، لجريانه عليه في الحركات والسكنات وعدد الحروف مطلقا، وفيما زاد على الثلاثة شابهه أيضا لجريانه معه في تعيين الحروف الأصول والزوائد، وتعيين محالها ماعدا الزيادة، ومن جهة المعنى؛ لن كل واحدة منهما يأتي بمعنى الحال وبمعنى الاستقبال أعرب بالحمل عليه، كما عمل اسم الفاعل بالحمل على المضارع، وهذا الوجه أحسن ما سمعت في تعليل إعراب المضارع من شيوخنا وما رأيته مما ذكره النحويون، وإياه كان يعتمد شيخنا القاضي أبو القاسم الحسنى -رحمه الله-. وللبصريين في تقرير في تقرير هذا الشبه أوجه لا حاجة بنا إلى إيرادها. واعلم أن قول الناظم: (وأعربوا مضارعا) ليس فيه ما يدل على أصالة الإعراب في المضارع ولا على فرعيته فيه، بل قال: (وأعربوا) كما قال في الأمر والماضي "بنيا" أي بنتهما

العرب، فترك التنبيه على ذاك لنها مسألة في محل النظر بعد، ولأنها غير ضرورية ولا ينبني ليها في اللسان العربي فائدة، وقد اختلف أهل البصرتين فيها، فأهل البصرة ذهبوا غلى أن الإعراب في المضارع فرع دخله بالشبه المنبه عليه وأهل الكوفة ذهبوا غلى أنه أصل فيه، والسبب في دخوله فيها كالسبب في دخوله في الاسم من التفرقة بين المعاني الحادثة بعد التركيب، فكما أن الإعراب في الاسم للتفرقة بين الفاعلية والمفعولية والإضافة في قولك: ما أحسن زيدٌ إذا نفيت، وما أحسن زيدا! إذا تعجبت، وما أحسن زيدٍ؟ إذا استفهمت، كذلك هو في الفعل إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. للتفرقة بين النهي عن الفعلين مطلقا وبين النهي عن الجمع، وبين الاستئناف والتخيير في الفعل الثاني والنهي عن الأول، ثم حمل في البابين ما لا يفتقر إلى التفرقة على ما يفتقر غليها، ومن هذا المذهب الأخير استنبط المؤلف مذهبا ثالثا هو أضعف المذاهب، فلم نطوّل بذكره، ثم شرط في إعراب المضارع شرطا فقال: (إن عريا من نون التوكيد .. إلى آخره) يقال: عري الرجل من ثيابه يعري عرية وعرْوة، إذا تجرد منها فهو عار وعريان، والمرأة عريانة، هذا أصله، ثم يستعمل في غير ذلك مجازًا

كهذا الموضع، ويعني أن إعراب الفعل المضارع مشروط بسلامته من لحاق نونين، إحداهما: نون التوكيد المباشرة، ونون التوكيد على وجهين: خفيفة وثقيلة وكلتاهما مرادة، ولذلك أطلق زلم يقيد بواحدة دون أخرى، فالخفيفة نحو قول الله تعالى: ((لنسفعا بالناصية))، ((وليكونا من الصاغرين))، والثقيلة: نحو قوله: ((فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، والمباشر: وصف للنون على اعتبار التذكير، ولو اعتبر التأنيث فيه لقال مباشرة، والحروف كلها تذكر وتؤنث باعتبار أنه لفظ وأنه كلمة وأنشد سيبويه على التذكير: كافا وميمين وسينا طاسما وأنشد على التأنيث: كما بينت كاف تلوح وميمها وإنما قيد النون بالمباشرة وهي الملامسة والملاصقة من غير حائل لأن نون التوكيد تارة تكون مباشرة للفعل من غير فاصل يفصل بينهما كالمثل المتقدمة، تارة تكون غير مباشرة؛ إما حقيقة كالشديدة مع ألف الاثنين إذا

لحقت الفعل نحو: هل تضربان يا زيدان؟ ، وإما حكما كما إذا لحق الفعل واو جماعة أو ياء واحدة مخاطبة نحو: عل تضربُنَّ يا زيدون؟ وهل تضربِنَّ يا هندٌ؟ فإن النون وإن باشرت الفعل لفظا، هي غير مباشرة حكما إذ أصله هل تضربون وهل تضربين؟ لكن حذف حرف العلة لالتقاء الساكنين وبقيت الضمة دالة على الواو المحذوفة، والكسرة دالة على الياء، كذلك فالفاصل هنا في حكم الموجود. فأما المباشرة: فهي التي تحرز منها، وإن المضارع إنما يعرب إذا سلم منها، وأما غير المباشرة: فلم يتحرز منها، لأن لحاقها عنده وعدم لحاقها سواء، فالمضارع إذا لحقته معرب كما لو لم تلحقه. فإذا قلت: هل تضربان؟ وهل تضربون، وهل تضربين؟ إلا أن علامة الإعراب وهي النون حذفت لاجتماع الأمثال، وهذا المذهب الذي ذهب إليه هو أحد المذاهب الثلاثة في المسألة لأنهم اختلفوا في الفعل المضارع إذا لحقته نون التوكيد، هل يرجع إلى أصله من البناء أم يبقى على حالة من الإعراب؟ على ثلاثة أقول: أحدها: أنه باق على حالة من الإعراب مطلقا، ولا تأثير للنون التوكيدية فيه، لكن يصير الإعراب فيه مقدرا، ونظيره في الأسماء المضاف إلى ياء المتكلم، ومن الناس من يطلق على الفعل هنا أنه لا معرب ولا مبني كالمفرد المضاف إلى ياء المتكلم، فله حال بين حالين.

والثاني: النون، تؤثر فيه المنع من الإعراب فيصير إلى أصله من البناء مطلقا وعلى هذا المذهب أكثر النحويين. والثالث: مذهب الناظم، وهو التفرقة بين ما لحقه ألف اثنين أو واو جماعة أو ياء واحدة مخاطبة وبين غيره، فالأول باق على أصله الثاني وهو الإعراب، والثاني منتقل عنه إلى أصله الأول وهو البناء، وإليه ذهب الخِدَبُّ على ما حكاه عند تلميذه ابن خروف، وأن نون الرفع إنما حذفت لاجتماع النونات، قال: وهو الأظهر من قول سيبويه؛ لأنه لو حذف للبناء لم يحتج إلى علة اجتماع النونات، يعني أن سيبويه علل حذف النون باجتماع النونات. ألا تراه يقول: وإذا كان فعل الاثنين مرفوعا فأدخلت النون الثقيلة حذفت نون الاثنين لاجتماع النونات. وقال: نحو ذلك في فعل الجميع ولم يعلل بغير الاستثقال باجتماع النونات، ثم نظر ذلك بقراءة من قرأ: ((أتحاجوني)) و ((فيم تبشرون)) ول كان الحذف للبناء لعلل به، فهو كان الأحق في الموضع، فدل على أن مذهبه فيه عدم البناء بخلاف ما لم تلحقه ألف ولا واو

ولا ياء، فإنه قد نص في باب المجاري على أنه مبني فثبت أن مذهب الناظم هو مذهب الكتاب، وقد رجح ما ذهب إليه بأن المؤكد بالنون إنما بنى لتركيبه معها، وتنزله منها منزلة صدر المركب من عجزه وذلك منتف من يفعلان وأخويه هذا مذهب المحققين، ويدل على صحته أن البناء المشار إليه إما للتركيب وإما لكون النون من خصائص الفعل، فيضعف بلحاقها سبه الاسم. والثاني: باطل لأنه مرتب على كون النون من خصائص الفعل، ولو كان ذلك مؤثرا لبنى المجزوم، والمقرون بحرف التنفيس والمسند إلى ياء المخاطبة لأنها مساوية للمؤكد بالنون في الاتصال بما يخص الفعل، بل تأثير هذه الثلاثة أشد من تأثير النون، لأن النون وإن لم يلق لفظها بالاسم معناها به لائق بخلاف هذه الثلاث، فإنها لا تليق بالاسم لفظا ولا معنى، لن الفعل معها لم يبن، فدل على أن بناء المؤكد بالنون إنما هو للتركيب، إذ لا قائل بثالث، وإذا كان للتركيب، إذا لا قائل بثالث وإذا كان للتركيب لم يكن فيه ليفعلان وأخويه نصيب، لأن الفاعل البارز خارج، وثلاثة أشياء لا تركب وأيضا فإن الوقف على نحو: هل تفعلن؟ بحف نون التوكيد وثبوت نون الرفع، فلو كان قبل الوقف مبنيا لبقي بناؤه؛ لأن الوقف عارض فلا اعتداد بزوال ما زال لأجله، كما أنه لا اعتداد بزوال ما زال لأجله، كما أنه لا اعتداد بزوال ما زال لالتقاء الساكنين نحو: هل تذكر الله؟ الأصل: تذكرنْ، فحذفت النون الخفيفة لالتقاء الساكنين وبقيت فتحة الراء بين العوضين، فلو كان ليفعلن ونحوه قبل الوقف بناء لاستصحب عند عروض الوقف، كما استصحب بناء هل تذكرن؟ عند عروض التقاء الساكنين، هذا ما قال المؤلف في الاستدلال على مذهبه في إعراب ما

لحقه ألف واو أو ياء، ثم لحقته نون التوكيد واستدل غيره على بناء ما لم يلحقه ذلك مع النون بأنها إذا وقعت على الفعل المعتل الآخر، وقد حذف منه الآخر للجزم رد معها ما قد كان حذف فنقول في نحو: لتغز ولترم ولتخش، لتغزون ولترمين ولتخشين، وكذلك الموقوف الشبيه بالمجزوم نحو: اغز وارم واخش، فلو كان الإعراب باقيا مع لحاق النون لكانت علامة الجزم باقية، ولا يصح أن يقال: إن الإعراب مقدر مع لحاق النون؛ لأن ذلك وإن تأتي في المعرب بالحركة والسكون غير متأت في المعرب بالحرف أو بحذف الحرف، فثبت إذا ما ارتضاه الناظم مذهبا، ويكفي من الاستدلال هذا المقدار وبالله التوفيق. وقد اقتضى هذا الشرط الذي شرطه الناظم في إعراب المضارع في قوله: إن عرى من كذا مفهوما، وهو أنه إن لم يعرَ من نون التوكيد المباشر فلا يعربونه، وضد الإعراب البناء فالذي لحقه نون التوكيد المباشر إذا مبني نحو: هل تقومن؟ وهل تخرجن؟ وقد تقدمت الدلالة على كونه مبنيا، وإنما بني لأحد أمور أربعة: أحدها: أن الفعل لحقه ما لا يلحقه ما لا يلحق إلا الأفعال، فقوى فيه جانب الفعلية، فرجع إلى أصله من البناء، وكان ذلك أقرب من خروجه عن أصله إلى الإعراب لأجل الشبه بالاسم والرجوع إلى الأصل يكون بأدنى سبب. الثاني: أنه ركب مع النون وصير معها كصدر المركب مع العجز والتركيب سبب من أسباب البناء كما في خمسة عشر وحضر موت. الثالث: أن الفعل لما لحقته النون فخصصته من آخره بالمستقبل بعد عن شبه الاسم، إذا المضارع إنما أعرب لشبهه بالاسم في الإبهام والتخصيص

بالحرف من أوله، فلما اختص هذا من آخره بَعُدَ عن شبه الاسم بذلك فعاد إلى أصله من البناء، والرجوع إلى الأصل يكون بأدنى سبب، وهذا الوجه لم يطلع عليه المؤلف، وهو فيما أحسب لابن جني في "الخصائص". الرابع: ذكره ابن أبي ربيع وهو أن الفعل عند لحاق النون له أشبه صيغة الأمر فقولك: لتفعلن مثل قولك: افعلن، وكذلك ما أشبهه فبنى لمعارضة هذا الشبه شبهه بالاسم، كما بنى إذا لحقته نون جماعة المؤنث لشبهه بالماضي كما يأتي بحول الله وقوته. النون الثانية نون جماعة المؤنث وهي المرادة بقوله: (ومن نون إناث) وهو معطوف على نون توكيد المتقدم، فكأنه يقول: أعربوا مضارعا إن عرى على من نون الإناث، فإذا سلم المضارع من هذه النون بإطلاق كان معربا نحو: يقوم زيد، وهند تخرج وما أشبه ذلك، وكذلك يعرب وإن لحقه ألف اثنين نحو: الزيدان يقومان ويقومان الزيدان، أو واو جمع نحو: الزيدون يقومون، ويقومون الزيدون أو ياء الواحدة المخاطبة نحو: يكرمني ويذكرني وما كان نحو ذلك، فإنما يشترط في إعرابه السلامة من هاتين النونين خاصة. ونون الإناث هي النون الموضوعة للدلالة على جماعة الإناث كناية عنهن نحو انون في قُمن وضربن وما أشبه ذلك وقد أعطى مفهوم هذا الشرط في قوله: إن عرى من كذا، أن الفعل إذا لم يعر من نون الإناث فليس بمعرب، إذا لم يكن معربا فليس إلا البناء، وهذا صحيح فإن النون عند الجمهور كذلك. فإن قلت: هن يضربن أو يخرجن، فالفعل هنا مبني خلافا لمن زعم أنه باق على إعرابه لوجود سبب الإعراب فيه، وهو شبهه

بالاسم كما تقدم, وإنما تغيَّر إعرابه لشغل كحله وهو آخر الفعل بالتسكين لأجل النون اللاحقة, كما تغير إعراب الاسم المضاف إلى ياء المتكلم لشغل محلِّه بالكسرة لأجل الياء وهذا مذهب السُّهيلي وبن طلحة ولم يرتضه الناظم, ووجه ما ذهب إليه أن الضمير المرفوع يتنزل مع ما يتصل به منزلة الشيء الواحد, ولذلك سكن آخر الماضي عند لحاق ضمائر الرفع عدا الألف والواو؛ لأنه لو لم يسكن لتوالي أربع متحركاتٍ فيما هو كالشيء الواحد, وذلك غير موجود, فلهذا لم يمكن أن يبقى المضارع معربًا؛ لأن الإعراب لا يكون وسطًا, ولا يمكن أن ينتقل إلى النون لأنها متحركة فصار المضارع بذلك شبيهًا بالماضي في أن لحق المضارع وهو الآخر الذي كان متحركًا قبل لحاقها, وقد كان أصل المضارع البناء فصار لهذا السبب إلحاقه بأصله من البناء أقرب , ولا يمنع ذلك الاسم خروجه عن الإعراب لما أشبه الحرف. وقيل: إنما بُني لتركيبه مع النون؛ لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد

فإذا انضم إلى ذلك أن يكون مستحقًا للاتصال لكونه على حرف واحد تأكد امتِزاجُهُ, وجعله مع ما اتصل به شيئًا واحدًا , ولكن اقتضى هذا التعليل أن يبنى المتصل بألف الضمير أو واوِه أو يائه , غير أنه مَنَعَ من ذلك شَبَهُه بالاسم المثنى والمجموع على حدِّه, فيضربان ويضربون يشبه ضاربان وضاربون, فلم يُبْنَ كما مَنَعَ من بناء "أي" , وإن وجد فيها شبه الحرف شبهها ببعض وكلًّ. وقيل إنما بُنِيَ المضارع لنقصنا شَبَهِهِ بالاسم من حيث لحقه ملا يلحق الاسم؛ لأن هذه النون مختصة بالفعل. فما لحقته من الأفعال إن كان مباينًا للاسم مثل الماضي زادت بهام باينته, وإن كان مشابهًا له نقصت مشابهته, وأتى لهذه النون بمثال وهو قوله: (يَرُعْنَ من فُتِن) ويَرُعْنَ: من راعه يروعه رُؤعًا -بالهمز- ورووعًا -بغير همز- عن ابن الأعرابي ورَوَّعه: إذا أفزعه بجماله وكثرته. قال الجوهري: راعني الشيء أي أعجبني , ورجلٌ أروع وامرأة روعاء ورائعة أيضًا من نسوة روائع. ويقال: فُتِن الرجل فهو مفتون, إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله وفَتَنَتْه المرأة: إذا أذهلته بحبها , وحقيقته عند الخليل جَعَلت فيه الفتنة.

وإذا قلت: أفْتَنَتْهُ فمعناه صيَّرته ذا فتنة, وقد يجيئان بمعنى واحد, ومنه ما أنشده أبو عبيدة لأعشى هَمْدان: لئن فتنتني لَهْيَ بالأمس أفْتَنَتْ سعيدًا فأمسى قد قلا كل مسلم ويعني أن هؤلاء النسوة لحُسنهن وجمالهن يَرُعن من فُتِنَ بهن. وقد اقتضى كلام الناظم أن المضارع فيما سوى هذين الموضعين معرب, إذ لا موجب للبناء فيه, فلم يَرتَضِ إذًا مذهب من ادَّعى سبب بناء غير ذلك, وقد وجد لبعضهم دعوى البناء لغير ذلك في بعض الموضع, فمنها وُقوع المضارع موقع الأمر في نحو: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التِّي هِيَ أحْسَنُ) فليس معناه الجزاء, أي إن قلت لهم فَعَلوا, لأنه لو قال: فلم يفعلوا. قال الجَرْمِيُّ: فوقع موقع أفعلوا , وأفعلوا غير متمكن فبنى المضارع لوقوعه موقعه, كما بُني المنادي لوقوعه موقع أنت, ومنها ما كان

من نحو: (فاليَوم اشْرَبْ) ونحو (فلا تَعْرفْكُمُ العَرَبُ) مما سَكَن للضرورة قد جوَّز فيه أنه مردود إلى أصله من البناء اضطرارًا , كما ردَّ غير المُنصرف إلى أصله من الانصراف اضطرارًا , وانظر في الحادي عشر من "التذكرة", فالناظم لم يرَ في هذين إلا الإعراب , أما نحو: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا) , (وَقُلْ لِعِبَادِيَ الذِّينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) * * * وكل حَرْفٍ مُستحقٌ للبِنا والأصلُ في المَبنِي أن يُسَكَّنا ومنه ذُو فَتحٍ وذُو كَسْرٍ وضَم كأينَ أمْسِ حَيثُ والسَّاكِنُ كم لما أتمَّ الكلام على ما للفعل من الإعراب والبناء, أخذ في بيان ما

للحرف من ذلك, فأخبر أن الحروف كلها مبنية لا تستحق إعرابًا: لأن الإعراب إنما يُحتاج إليه ليُفرق به بين المعاني المعتورة على الكلمة اللاحقة لها بعد التركيب , والحروف خلِيَّة عن لحاق المعاني لها سوى ما كان لها بأصل الوضع , فلم تستحق أن يدخلها إعراب فبُنيت لذلك. وفي إتيانه بلفظ (مُستحِقٌ) هنا نَظَرٌ, وهو أنه إنما قَصَدَ أن يبين أن الحروف كلها مبنية, وليس فيها ما يعرب, كما كان ذلك في الاسم والفعل فكان الواجب عليه أن يأتي بلفظ يُعطي هذا المعنى, لكنه لم يفعل ذلك من جهة أن لفظ (مُستحِقٌ) إنما يُعطي أن البناء من حق الحروف ولا يدل حصوله له. ألا ترى أنك تقول: فلانٌ الشريف مُستحِقٌ للإكرام, وإن لم يحصل إكرامٌ أصلًا, وتقول الأجير مُستحِقٌ الأجرة وإن يُعطه. ومن هذا مسألتنا الفعل المضارع هو مستحق للبناء من حيث أن فائدة الإعراب من التفرقة بين المعاني التركيبية غير موجودة فيه على مذهب البصريين, ومع ذلك فقد أُعرب. فلم يستلزم استحقاقه للبناء حصوله, ومن ذلك "أي" فإنها مستحقةٌ للبناء لتضمنها معنى الحرف في الشرط والاستفهام , ولافتقارها إلى غيرها في باب الموصولات ثم لم يحصل لها البناء, وينظر إلى هذا المعنى ما قاله جماعة من العلماء في قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِنًا مُتَعمِّدًا فَجَزَؤُه جَهَنَّمُ) الآية. قالوا المعنى ذلك جزاؤه, إن جازاه, إذ لا يلزم من تقدير الجزاء للمُجازي حصوله, أي هو مستحق لهذا النكال الشديد, ويبقى حصوله مسكوتًا عنه فالحاصل أن الاستحقاق للشيء لا

يلزم منه حصول ذلك الشيء فقول الناظم: (وكل حرف مستحق للبنا) لا يعطي أن الحروف مبنية وهو المقصود بالذكر، فلفظ الاستحقاق هنا فيه ما ترى. والجواب: أن لفظ الاستحقاق وإن لم يدل بمنطوقه على حصول المستحق فمقتض بمعناه حصوله؛ إذ لا يطلق على المستحق أنه مستحق حتى يكون مقتضيا للمستحق، ويدل على ذلك الاشتقاق. ألا ترى أن الاستحقاق مشتق من قولك: لفلان عليك حق، أي شيء واجب له أخذه منك ويقال: استحق فلان حقه أي: استوجبه، فإذًا لفظ الاستحقاق يقتضي بمعناه الحصول، لكن قد يعارض معارض فلا يحصل المستحق لأجل ذلك المعارض، لا لعدم اقتضاء اللفظ له ويتبين ذلك في المثل المتقدمة، فالفعل المضارع كان حقه البناء إلا أن شبه الاسم عارض فيه فلم يحصل لأجله، وكذلك "أي" عارض فيها شبهها بالمعربات، فمنع ذلك اقتضاء شبه الحرف البناء فيها، وكذلك قوله تعالى: ((فجزاؤه جهنم)) يقتضي الحصول وإلا لم يسمَّ جزاء. لكن جاء في الشريعة ما منع اقتضاء اللفظ معناه حصولا، وهو ما ثبت من أن الذنوب سوى الكفر لا تقتضي نفوذ الوعيد بدخول النار لقوله تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر

ما دون ذلك لمن يشاء)) وقد استفادت طائفة من علماء السلف من الآية نفوذ الوعيد على القاتل حتما نظرا إلى ما ذكر، وجعلوا هذا الذنب مخصوصا من عموم الآية الأخرى لنص هذه الآية على أن القاتل يدخل النار بلابد، فمسألتنا مثل هذه المسائل في اقتضاء حصول المستحق، والمعارض في الحروف مفقود، فلم يكن مانع من حصول البناء فيها، فهي إذا مبنية بمقتضى الاستحقاق والله أعلم. وقد حصل من كلام الناظم في هذا الفصل أن المعرب من الكلم صنفان: ما سلم من الأسماء من شبه الحرف، وما سلم من لحاق إحدى النونين من الأفعال المضارعة، وأن المبني منها خمسة أصناف، الحروف كلها، وما أشبهها من الأسماء، والفعل الماضي، وفعل الأمر، وما لحقه إحدى النونين من الأفعال المضارعة. ولما فرغ من ذكر المبني من الكلم شرع في ذكر أنواع البناء وهي الضم الفتح والكسر والسكون، وابتدأ بذكر ما هو الأصل من ذلك فقال: (والأصل في المبنى أن يسكنا) المبنى هنا لفظ عام يشمل جميع ما تقدم من المبنيات اسما كان أو فعلا أو حرفا. ويعني أن التسكين في المبنى هو الأصل، يريد تسكين آخره؛ لأن البناء ضد الإعراب، والإعراب أصله أن يكون بالحركات كما سيأتي، فضده الذي هو البناء ينبغي أن يكون على ضد الحركة وهو السكون، فلذلك قال: إن الأصل في المبني التسكين.

ثم قال: (ومنه ذو فتح وذو كسر وضم) أي: ومنه ما خرج عن أصله من السكون فبني على حركة، والحركات إما فتحة نحو: أين، أو كسرة كـ "أمس" أو ضم كـ "حيث"، وأما ما بنى على السكون الذي هو الأصل فنحو "كم" وقد حصل في ضمن هذا الكلام أن أنواع البناء أربعة: وهي الضم والفتح والكسر والسكون، وهي تناظر أنواع الإعراب التي يذكرها بعد هذا. ثم يبقى في كلام الناظم النظر في مسائل: إحداها: أن قوله: (والأصل في المبنى) يحتمل أن يكون أراد بالمبنى جميع ما يدخله البناء، عارضا كان أو ازما، فتكون الألف واللام فيه للتعريف الجنسي، وهي التي يراد بها الشمول والعموم كقوله: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر)) فيكون معنى كلامه أن الأصل في كل ما دخله البناء ولو في الة ما أن يسكن آخره، ومنه ما يخرج عن هذا الأصل، لأحد الحركات الثلاث، ويحتمل أن يريد بالمبنى ما تقدم ذكره، وهو ما البناء لازم له، فتكون الألف واللام فيه للعهد الذكرى كقول الله تعالى: ((فعصى فرعون الرسول)) فيكون المعنى أن الأصل فيها جرى مجرى الحرف، في لزوم البناء أن يسكن ويخرج عنه ما البناء له عارض، وقد يترجح هذا الاحتمال الثاني بتميله بما هو مبنى بناء لازما كـ "أين" و "حيث"، لكن الأولى أولى؛ لن النحويين إذا ذكروا خروج المبنى من أصل السكون إلى الحركة لعلة مثلوا بالعارض البناء واللازمة، فيبعد أن يكون الناظم ذكر أحد القسمين دون الآخر مع استوائهما في الحكم الذي يذكره.

المسألة الثانية: أنه رتب السكون مع الحركة رتبتين، فجعل السكون في رتبة الأصالة، وجعل أنواع الحركة في رتبة ثانية تليها قال: (والأصل في المبنى أن يسكّنا) فهذه رتبة، ثم قال: (ومنه ذو فتح) غلى آخره، فهي رتبة ثانية جعلها تلي الرتبة الأوى وهي في الحقيقة ثلاث رتب: رتبة السكون، ورتبة جنس الحركة، ورتبة نوعها، فترك الرتبة الوسطى، وهي رتبة جنس الحركة، ولا بد منها؛ لأن الحركة المخصوصة وهي الضمة أو الفتحة أو الكسرة نائبة بالطبع عن الحركة المطلقة، التي هي أعم من كل واحدة منها، وإنما تركها لبيان معناها بين الرتبتين، وأيضا لما بين أصالة الرتبة الأولى وهي رتبة السكون، اقتضى ذلك فرعية ما عداها وأنها ليست على الأصل، وما خرج عن الأصل فلعله، فإذا التحريك آت لعلة، والضم أو الفتح أو الكسر آت لعلة، وهذا يدعو إلى بيان علل مطلق التحريك وعلل نوعه، فأما علل مطلق التحريك فثماني علل في الغالب. إحداها: التقاء الساكنين نحو: "أين" و "حيث" و "كيف" و "أمس" إذ لو بنى مثل هذه على السكون لالتقى ساكنان على غير شرطهما، وذلك محذور. والثانية: كون المبني على حرف واحد، وهو معرض لأن يبتدأ به ولا يبتدأ بالساكن، فحرك لذلك نحو واو العطف وفائه وهمزة الاستفهام.

والثالثة: حصول المزية للمبنى على ما هو من نوعه نحو: ضرب وسائر الأفعال الماضية فإنها بنيت على حركة للمزية التي لها على فعل الأمر، وذلك وقوع الماضي موقع المضارع في الشرط، وموقع الاسم في الصفة والحال وخبر "إن" و "كان" وأخواتها، وموقع المفعول الثاني من ظننت، والثالث من أعملت وأخواتها، بخلاف فعل الأمر؛ فإنه لا يقع في واحد من هذه المواضع. والرابعة: طروء البناء نحو: قبل، ويا زيد، ولا ريب، فإن هذه الأشياء لما كان البناء طارئا عليها أرادوا ألا يجعلوها في درجة ما أصله البناء، وأصل هذا أن يقال: إنما بنيت على الحركة للمزية التي لها على ما لم يعرب قط. فإن قيل: إنما بني "قبل" وما ذكر معه على حركة لالتقاء الساكنين، قيل: لا؛ لأنك تقول: أول ويا حكم، ولا رجل، فيكون البناء على حركة فلو كان لالتقاء الساكنين لبنى هذا على السكون لانتفاء العلة. والخامسة: الشبه بالمعرب نحو: "عل" المعرفة، فإنها بنيت على حركة عند قوم لشبهها بـ "عل" النكرة، وقد يظهر أن محصول هذه العلة مع ما قبلها واحد، وإن كان سيبويه قد فرق بينهما فقال في قبل وبعد والمنادى: وإنها بنيت على حركة؛ لأن كلا منها متمكن صير في موضع بمنزلة غير المتمكن.

وقال في: "عَلُ" أنه ضارع المتمكن ولم يقل فيه: أنه متمكن صُيّر في موضع كغير المتمكن مع أنهم أعربوه حالة التنكير، والمعرفة أصلها النكرة فاستوى مع قبل ويا رجل في هذا المعنى؛ لأن كل واحد منهما معرب حالة التنكير. والجواب: أن "عَلُ" المنقوص إنما استعمل معرفة في حال القطع عن الإضافة، وأما في حالة الإضافة الظاهرة فلم يستعمل إلا متمما فقالوا: من عليه ولم يقولوا: من عَلُهُ. فالمنقوص المعرفة إذا لم يعرب قط، فلذلك شبهة عندهم بـ "عُلُ" النكرة المنقوص مثله، ولم يقل إنه أعرب في حالة ما؛ لأنه قد أعرب عل النكرة، كما يقال في: يا رجل المقصود، أنه قد أعرب في حال التنكير؛ لأن "عل" المعرفة هنا ليس فرعا عن النكرة معرفا منه، بل هو المتمم في المعنى، ومنه قطع عن الإضافة إلا أنه نقص عنه، فالمعرفة والنكرة متباينان فلذلك قال سيبوبه هنا ما قال. والسادسة: التقوية للكلمة المبنية لكونها في أصل الوضع على حرف واحد كالضمائر المتصلة نحو: التاء، والكاف، فأرادوا تقويتها لضعفها ولذلك تقول في ياء المتكلم: إن الأصل فيها الحركة وإنما سكنت لثقل الحركة في حرف اللين. والسابعة: قوة الطلب للحركة نحو: "ذية" و "كية" اللتين يكنى

بهما عن الحديث، فإنهما مبنيان على حركة لن آخرهما تاء التأنيث وهي يحرك ما قبلها لأجلها، فإذا كانت طالبة لتحريك ما قبلها فهي أقوى في طلب الحركة في الضمير لنفسها. والثامنة: الفرق بين أداتين نحو "أنا" فإنها بنيت على حركة فرقا بينها وبين "أن" المصدرية وإنما جعلت الحركة في الضمير دون الحرف لمزية الاسمية، فهذه علل التحريك مطلقا. وأما علل نوع التحريك فثنتا عشرة علة. الأولى: الخفة نحو: "هو" و "هي" وخمسة عشرة، فإن الفتحة أخف الحركات عندهم وكذلك الفعل الماضي، إذ لو بنى على كسرة للزم فيه توالي كسرتين في مثل علم، والخروج من ضم إلى كسر في مثل ظرف، ولو بنى على الضم للزم فيه توالي ضمتين في مثل: ظرف، والخروج من كير إلى ضم في مثل: علم فكانت الفتحة أخف الحركات فيه، وكذلك هي في غيره. والثانية: مناسبة اللفظ للعمل نحو باء الجر، بنيت عندهم على الكسر ليناسب لفظها عملها اللازم لها وللزومها الحرفية، وتحرز بقيد الزوم من واو القسم، وبلزوم الحرفية من كاف التشبيه هكذا قالوا. وقد قيل نحو هذا في لام الجر، ومنه عند السهيلي لام الأمر قال: بنيت على مثل عملها، كما بنيت لام الجر وياؤه كذلك، ولذلك سكنت مع الواو والفاء كثيرا، قال: وكسرت في الابتداء ضرورة، ولم يؤت لها بهمزة الوصل لقلة ذلك في الحروف. والثالثة: الفرق بين أداتين نحو: لام الجر، بنيت على الكسر فرقا بينها وبين لام الابتداء، ولم يقتصر على التفرقة بالإعراب لعدم ظهوره في

المنقوص والمقصور والمضاف إلى ياء المتكلم، وعدمه في المبنى والوقف، وفتحت مع المضمر؛ لأن الضمير يرد الشيء إلى أصله، ولم ترد مع الياء مخافة الإعلال والالتباس بـ "لا"، أو لأنها تسكن فيجب قلب الفتحة لأجل ذلك فصنع لك ولم يراع اللبس في لهم ولهما ولهنّ لقلته، واختص الكسر بلام الجر ليناسب لفظها وعملها. والرابعة: الفرق بين معنى أداة نحو: يا لزيد لعمرو فتحت مع المستغاث به وكسرت مع المستغاث من أحله فرقا بين المعنيين، وكذلك الكسرة في ضربتِ، والضمة في ضربتُ، وجعلت الضمة للمتكلم؛ لأنه أول. وأول أحوال الاسم الرفع، والضم نظيره، والكسرة للمؤنث؛ لأن الكسرة ن لياء، والياء مما تكون للمؤنث فلم يبق للمخاطب إلا الفتحة. والخامسة: الاتباع كما قيل في "منذ" أنها بنيت على الضمة للإتباع لضمة الميم، ومثل ذلك قيل في "كيف" إنما بنيت على الفتحة للإتباع وأين أيضا. السادسة: مناسبة النظير مثل "نحن"، فإنها بنيت على الضم؛ لأنها تدل على الجميع، والواو تدل على الجميع، فكانت الضمة في نحن كالواو في الزيدون ويضربون، وحملت الدالة على الاثنين محمل الدالة على الجميع؛ لأن الاثنين جمع كما قال سيبويه.

والسابعة: الفرق بين حركتي الإعراب والبناء في الكلمة الواحدة نحو: قبل وبعد، بنيا على الضم، هما وما كان من بابهما فرقا بين حركتي إعرابهما وبنائهما، وكذلك المنادى المبني على الضم فرق به بين إعرابه وبنائه في باب النداء، ولم يبن على الكسرة، لئلا يلتبس بالمضاف إلى ياء المتكلم. والثامنة: الشبه بما فيه ذلك، ومثاله: "حيث" فإنها بنيت على الضم لشبهها بـ "قبل" و "بعد" إذ هي مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد، الذي كان حقها أن تضاف إليه كسائر أخواتها، كما أن "قبل" و "بعد" مقطوعان عن الإضافة إلى المفرد، وهو شأنهما، فبنيت على الضم كما بنى عليه قبل وبعد. والتاسعة: كون الحركة المبني عليها لها الأصالة في الموضع نحو: هؤلاء وأمس، فإنهما بنيا على الكسر؛ لأن أصل الساكنين إذا التقيا في مثل هذا أن يكسر ثانيهما، وإنما كان الأصل ذلك لأن الكسرة لا تلتبس بحركة الإعراب، إذ لا تكون حركة الإعراب إلا مع التنوين أو الألف واللام أو الإضافة، وأما الضمة في "مذ اليوم" فليست بحركة بناء فيمثل بها هذا الموضع، وإنما هي حركة التقاء الساكنين. والعاشرة: الحمل على المقابل، كلام الأمر بنيت على الكسر حملا على لام الجر، لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، وهذا على مذهب غير السهيلي.

والحادية عشرة: كون الحركة مشعرة بالتأنيث نحو: حذام ورقاش وغلاب؛ فإن باب فعال إنما بني على الكسر، لأن الكسر مما يؤنث به، ألا ترى أن تاء خطاب المؤنث مكسورة نحو: أنتِ كرمتِ، وقد مر ذلك. والثانية عشرة: شبه محل الحركة بما في كنف هاء التأنيث، نحو: خمسة عشر وحضرموت، فإن أخر الصدر بني على الفتح؛ لأن محله من العجز محل ما قبل هاء التأنيث منها نحو: طلحة، ووجه هذا سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. هذه علل البناء على الحركة المخصوصة وإليها يرجع غالب ما ذكره الناس من ذلك، وقد ذكروا غير هذه لكنها إما راجعة إليها وإما ضعيفة في أنفسها. المسألة الثالثة: أن الناظم بيّن أن أصل الأسماء الإعراب، وأن البناء فيها لعلة، وهي شبه الحرف، فعلى هذا ما جاء منه معربا فلا سؤال فيه وما جاء منها مبنيا فيتوجه السؤال عليه لم بني، ولم يبق على أصله من الإعراب؟ وبين أيضا أن الحروف أصلها البناء، فعلى هذا لا سؤال فيها لمجيئها على الأصل. وأما الأفعال فلم يتبين منها ما هو الأصل فيها من الإعراب أو البناء لكن بيّن في "التسهيل" وغيره أن أصلها البناء، فالفعل الماضي إذن لا سؤال فيه لم بني، لمجيئه على الأصل. والأمر كذلك أيضا على مذهبه ومذهب البصريين، والمضارع

يحتمل أن يكون قوله فيه هنا ما قاله في "التسهيل". فيسأل لم أعرب إذ ليس الإعراب فيه عنده بأصل، وهو مذهب جمهور البصريين، ويحتمل أن يكون قوله فيه ما قاله الكوفيون، فلا يتوجه عليه السؤال لم أعرب لمجيئه عندهم على الأصل، وإنما يتوجه السؤال عليه إذا بني وكذلك الأمر عندهم، لذهابه إلى إعرابه، وأن أصله المضارع كما تقدم، وأيضا قد تقرر أن أصل البناء السكون، فإذا ما جاء مبنيا عليه فلا سؤال فيه وإن من المبنيات ما خرج عن الأصل إلى التحريك، ففيه السؤال في المرتبتين فيقال: لم بني على حركة؟ ولم اختص بالحركة المعينة؟ فإذا لابد من النظر في أمثلة ذلك كله وقد ذكر أربعة أمثلة من الأسماء فلينظر فيها. فأما "أين" فمن الظروف المكان فيرد عليه السؤال لم بني؟ لأن أصله الإعراب، ولم بني على حركة وأصل البناء السكون؟ ولم اختص بتلك الحركة؟ فأما بناؤه فإنه على وجهين: أداة الشرط، وأداة استفهام، وهو في كلا الوجهين مبني، لشبه الحرف المعنوي، وذلك تضمن معنى "إن" في الشرط وتضمن معنى الهمزة في الاستفهام، وأما بناؤه على حركة فلئلا يلتقي ساكنان لو بني على السكون. وأما اختصاصه بالفتحة فلأنها أخف الحركات، أو للإتباع لحركة

الهمزة. وأما "أمس" فظرف من ظروف الزمان ويرد عليه ثلاثة أسئلة كما وردت على ما قبله، فأما بناؤه فلتضمنه معنى الألف واللام، لأنك إذا أردت به اليوم الذي قبل يومك صار معرفة بالإشارة إليه، فخرج بذلك عن حكم النكرات؛ لأن بابها أن تتعرف بالألف واللام، فمن بناه جعله كأنه تضمن معنى حرف التعريف أو في حكم أسماء الإشارة، لأن تعريفه بالإشارة إلى اليوم الذي قبل يومك، فإن قيل: تمثيله بأمس من أي قبيل هو، لأن الظاهر من قصده هنا النظر في المبنى مطلقا كما مر، فإذا عددنا "أمس" من المبنى اللازم أو غير اللازم كان مطابقا، لكن مثله الباقية من اللازم البناء فالأظهر أن "أمس" عند كذلك وهو الصحيح، وذلك أن "أمس" إذا عري عن الألف واللام والإضافة وأريد به المعرفة ذو لغتين، فأما أهل الحجاز يبنونه البتة، فهو عندهم كالمبني بحق الأصل، لتضمن معنى الحرف، كـ "أين" و "كم" وما أشبههما، وعلى هذه اللغة أتي بالمثال، وأما بنو تميم فهو عندهم ذو حالين فيوافقون الحجازيين حالة النصب والجر بغير "مذ" و "منذ"، ويعربونه حالة الرفع والجر بـ "مذ" أو "منذ" لجواز الرفع بعدهما ووجه الإعراب التشبيه له بـ "سحر" إذا أريد

به يوم بعينه، فيمنع الصرف كما منع "سحر"، للعدل عن الألف واللام والتعريف، فالإعراب عندهم بتقدير العدل، والبناء بتقدير التضمن فإذا قد حصل في هذا التمثيل تمثيلان على اللغتين، وإذ ذاك نقول يحتمل أن يكون الناظم قصد هذا المعنى، وهو مقصد صحيح وحسن من التنبيه، والله أعلم. وقد حصل أن بناء "أمس" للشبه المعنوي، وأما بناؤه على حركة فلالتقاء الساكنين. وأما اختصاصه بالكسرة فعلى أصل التقاء الساكنين. وأما "حيث" فمن ظروف المكان، فحقه في الأصل الإعراب؛ إلا أنه بنى على حركة فتردد الأسئلة الثلاثة، فأما بناؤه؛ فلأنه لا يفهم له معنى إلا مع غيره، فهو موضوع على الافتقار، فهو راجع إلى الشبه الافتقاري، هذا في غير الشرط، وأما في الشرط فيضمن معنى "إن" فيرجع إلى الشبه المعنوي. وفي حيث لغات أشهرها ما ذكر، وأما بناؤه على حركة فلالتقاء الساكنين، وأما كونها ضمة فبالحمل على باب "قبل" و "بعد" كما تقدم. وأما "كم" فاسم يعبر به عن العدد في سؤال أو ما هو جار مجراه فأصله الإعراب، إلا أنه خرج عن أصله إلى البناء، فيسأل عن بنائه، وإنما بنى لشبه الحرف المعنوي، لأن "كم" إما استفهامية وبناؤها لتضمن معنى الهمزة، وإما خبرية وبناؤها إما بالحمل على الاستفهامية، لموافقتها لها في كثير من أحكامها، وفي أصل معناها،

إذ لا تخلو الخبرية من معنى الاستفهام. وإما لتضمنها معنى "رب" إن اعتقدتها للتكثير، كما ذهب إليه في التسهيل، او معنى التكثير الذي حقه أن يوضع له حرف، كما نبه عليه في موضعه، إن اعتقدت أن "رب" للتقليل، ولما كان بناؤها على السكون لم يتوجه عليها غير هذا السؤال. وقول الناظم: (كأين أمس حيث) على حذف العاطف، أي: كأين وأمس وحيث، فحذف لضرورة الوزن كالذي أنشد ابن جني وغيره. كيف أصبحت كيف أمسيت معا ... يزرع الود في فؤاد كريم وقد جاء نظيره في النثر قليلا، حكى ابن جني: أكلت لحكا سمكا تمرا، أي: وسمكا وتمرا، كما أنه أراد في البيت: كيف أصبحت وكيف أمسيت. ولما قدم أن أصل المبنى أن يسكن، ومثل الضم والفتح والكسر فيما جاء على غير الأصل، أتى للسكون الذي هو الأصل في المبنيات بمثال فقال: (والساكن كم) أي: ومثال المبني على السكون الذي هو الأصل قولك: "كم" ويريد وما كان مثلها، كما قال: (كأين أمس حيث) فقرنها بأداة التشبيه، ليدل على غيرها من المبنيات التي على شاكلتها، فمن الأمثلة المبنية على الفتح كأين قولك: "طيف" و "كيت" و "ذيت" و "حيث" فيمن بناها على الفتح، و "لاريب فيه"، ومن المبنى على الكسر: "نزال" و "حذام"

و "أولاء"، والتاء في قمت وضربت، ومن المبني على الضم: "عل" و "قبل" و "بعد" و "منذ" الاسمية و "يا حكم"، ومن المبني على السكون: "من" و "ما" و "صه" و "مه"، وألف با تا ثا جيم دال ذال ... وما أشبه ذلك. المسألة الرابعة: أن ما جاء في هذا الباب على أصله فلا سؤال فيه، لأنه أتى على ما ينبغي فيه فلا يقال: لم جاء كذلك؟ وأما ما خرج عن أصله إلى غيره فيتوجه عليه السؤال: لم جاء كذلك ولم يبق على أصله؟ إذ لا يكون الخروج عن الأصل إلا لسبب، وقد تقدمت أمثلة ذلك، لكن قد يصير الأصل استعماليا، بعد أن كان قياسيا، فيسأل عما جاء على الأصل: لم جاء ذلك؟ وذلك إذا كان في الآتي على الأصل علة تقتضي خروجه عن أصله فلم يخرج، ومثال ذلك "أي" أصلها الأول الإعراب كسائر الأسماء، ثم إنها أشبهت الحرف فكان حقها البناء، إلا أنهم أخرجوها عن حكم البناء إلى الإعراب، لشبهها بالمعرب، فلابد من إيراد السؤال فيها لم أعربت مع قيام سبب البناء وهو شبه الحرف؟ ولذلك نبه الناظم على إعرابها في باب الموصول، إشارة إلى أنها خرجت عن أصلها الثاني وهو البناء، وكذلك تقول في الفعل الماضي أصله البناء على السكون كسائر المبنيات، ثم إنهم بنوه على حركة للمزية التي له على فعل الأمر، حسب ما تقدم، لكن أخرجوه عن ذلك إلى البناء على السكون عند اتصال أحد الضمائر الثمانية به، خوفا من توالي المتحركات، فيرد السؤال هنا:

لم بني على السكون وأخرج عن البناء على الحركة مع قيام موجبها وهو المزية؟ وكذلك تقول على مذهب البصريين: الأصل في الفعل الضارع البناء كسائر الأفعال، إلا أنه أعرب لشبهه بالاسم، فإذا اتصل به أحد النونين بني، فسبيله أن يسأل عنه لم بني؟ ولم يبق على أصله الثاني من الإعراب مع قياس سببه وهو الشبه بالاسم، ووجه هذا أن ما استحقه من الخروج عن أصله الثاني، أعني الذي استحقه بسبب العلة الموجودة فوجب السؤال عن ذلك، والحاصل: أن الأصل صار فرعًا والفرع عاد أصلا لكن باعتبارين وهذه المسألة مبسوطة في "الأصول العربية". ومن هنا يظهر أن قول الناظم: (ومعرب الأسماء ما قد سلما من شبه الحرف) معترض بـ "أي"، وقوله: (والأصل في المبني أن يسكنا) معترض بالماضي اللاحق له الضمائر الثمانية، والاعتذار عنه في "أي" أنه قد ذكرها في بابها، وفي الماضي أن تسكينه للضمائر عارض، وإنما يتكلم في الأصول الثابتة، لا في الطوارئ الزائلة، ومن هنا قال الزجاجي في الماضي: "وهو مبني على الفتح أبدا"، إذا لم يعتبر عروض اتصال الضمائر، وحسن ما فعل. المسألة الخامسة: أن تمثيل الناظم بما مثل به بين أن الأسماء تبنى على الضم، وعلى الفتح، وعلى الكسر، وعلى السكون، وذلك صحيح، ولم يذكر للأفعال ولا للحروف مثالا فيتبين به أمرها، والذي بين الاستقراء أن الحروف تبنى على الأوجه الأربعة أيضا، فمثال الضم فيها

"منذ" الحرفية، ومثال الفتح: "ثم" و "سوف" و "ليت" و "لعل"، ومثال الكسر: الباء واللام في بزيد ولزيد، ومثال السكون "من" و "عن" و "لو" و "أو" وما أشبه ذلك، وأن الأفعال تبنى على الفتح نحو: ضرب وعلم ومكث، وعلى السكون نحو: اضرب واعلم وامكث ولا يدخلها الضم ولا الكسر وقد تقدمت علة ذلك قبل. المسألة السادسة: أن قول الناظم: (والأصل في المبنى أن يسكنا .. ) إلى آخره، لا يقتضي حصر علامات البناء في الأربع التي ذكر، وإنما فيه أن الأصل في المبنى أن يبنى على السكون، ومنه ما بنى على الضم ومنه ما بني على الفتح، ومنه ما بني على الكسر وتقدير كلامه، ومنه ذو فتح ومنه ذو كسر ومنه ذو ضم كما تقدم في قوله أول الباب (الاسم منه معرب ومبني) فالحاصل: أنه لم يستوقف علامات البناء، إذ من المبنيات ما يبنى على غير ما ذكر، ففعل الأمر يبنى على ما يجزم به المضارع، وقد بين هو أن للجزم علامتين: إحداهما الحذف، وأن الحذف نوعان: حذف النون، وهو علامة للجزم فيما اتصل به ألف اثنين، أو واو جمع، أو ياء واحدة مخاطبة. وحذف آخر المعتل الآخر بالألف أو الواو أو الياء، فعلى هذا النحو يبنى فعل الأمر الذي هو نظير المضارع فتقول: افعلا وافعلوا وافعلي، كما تقول: لم تفعلا ولم تفعلوا ولم تفعلي، . وتقول: اخش واغز وارم، كما تقول: لم يخش ولم يغز ولم يرم، وعلى هذا النحو يجري القول في الماضي المتصل به ألف الاثنين أو واو الجمع، فقاما نظير قوما، وقاموا نظير قوموا. والدليل على ذلك رجوع النون في التسمية إذا كانت الألف أو الواو علامة لا

ضميًرا. والاسم أيضا يبنى على ما يرفع به من واو أو ألف كالمثنى والمجموع على حده في النداء، هذا في البناء العارض، وكذلك في اللازم كأسماء العدد المطلقة كقولك: اثنان، ثلاثون، أربعون، مائتان، ألفان، ويبنى أيضا على ما ينصب به كياء المثنى والمجموع على حده في باب "لا" التي لنفي الجنس، فقد ظهر أنه يبنى على الألف والواو والياء، ويبنى على حذف الألف والواو والياء والنون، لأنا نجيب عن ذلك بوجهين: أحدهما: ما تقدم م أنه لم يعترض للحصر، بل قد يقال: إنه لما ذكر العلامات الأربع استوفى ما عادة الناس أن يذكروه، ونبه بـ "من" المقتضي للتبعيض، على أن ثمّ علامات أخر يبنى عليها، وإذا كان كذلك فلم يفته ذكر شيء يحتاج إلى ذكره. الثاني: أنا لو سلمنا أنه لم ينبه على ما ذكر في السؤال من علامات البناء لما كان ذلك قدحا، لأنه جرى على ما جرى عليه غيره في باب البناء من الاقتصار على هذه العلامات الأربع، ووجه الاقتصار أن غيرها متفرع عنها ونائب منابها، كما كان ذلك في علامات الإعراب، إذ كانت الواو أو الألف أو غيرها إنما تلحق الفرع كالمثنى والمجموع الذي على حده، فإذا لا اعتراض على كلام الناظم والله أعلم. * ... * ... * ولما فرغ من بيان أسباب البناء وأنواعه، أخذ في الكلام على أنواع الإعراب وعلاماته ووجوهه فقال:

والرفع والنصب اجعلن إعرابا ... لاسم وفعل نحو لن أهابا والاسم قد خصص بالجر كما ... قد خصص الفعل بأن ينجزما أراد أن الرفع والنصب من أنواع الإعراب يشترك فيهما الأسماء والأفعال فالرفع نحو: زيد يقوم، وعبد الله يذهب، والنصب نحو: إن زيدا لن يركب، وإن عبدالله لن يذهب وما أشبه ذلك، ومثل النصب في الفعل بقوله: (لن أهابا)، وهو من قولك: هاب الرجل الشيء يهابه، وهاب منه أيضا أي خاف منه، هيبة ومهابة، وقال الجوهري: الهيبة والمهابة: الإجلال والمخافة. وأما الجر فمختص بالأسماء، فلا يدخل الأفعال كقولك: مررت بعبد الله صاحب زيد، وجئت إلى أخيك صاحب الدار. وأما الجزم فمختص بالأفعال فلا يدخل الأسماء كقولك: لم يقم، ولم يخرج، وإن تضرب أضرب، وهذا المعنى أراد بقوله: (والاسم قد خصص بالجر .. ) إلى آخره، وقد حصل بهذا التقرير أن أنواع الإعراب أربعة: رفع ونصب وجر وجزم، فالجر مختص بالاسم، والجزم مختص بالفعل، وما عدا ذلك مشترك بين الاسم

والفعل، وعلة ذلك على طريقة المؤلف في "التسهيل" و "شرحه" أن الاسم لما كان في الإعراب أصلا للفعل كانت عوامله أصلا لعوامله، وعوامل الرفع والنصب في الاسم قوية لاستقلالها بالعمل، وعدم تعلقها بعامل آخر، فشارك المضارع الاسم في الرفع والنصب لقوة عواملهما بالاستقلال، وإمكان التفريع عليها، بخلاف عامل الجر، فإنه ضعيف لعدم استقلاله، ألا ترى أنه مفتقر إلى متعلق من فعل أو جار مجراه فلم يقو أن يفرع عليه غيره، فلذلك لم يكن إلا في الاسم، فجعل الجزم في الفعل عوضا مما فاته من المشاركة في الجر، وانفرد به ليكون لكل واحد من صنفي المعرب ثلاثة أوجه من الإعراب، ثم عودل بينهما بأن جعل الجزم راجحا بأنه غير محتاج إلى تعلقه، وجعل الجر راجحا بكونه ثبوتا بخلاف الجزم، فإنه حذف فتعادلا، هذا ما علل به المؤلف، وللناس في تعليل هذه المسألة طرق كثيرة لا يحتاج إلى إيرادها لضعف أكثرها، وقلة الفائدة فيها، وأقربها طريقة من قال: لم يدخل الفعل جر لضعفه عن مرتبة الاسم؛ لأن إعراب بالشبه لا لأجل المعاني كما كان دخول الأنواع الثلاثة من الإعراب في الاسم للتفرقة بين المعاني الثلاثة فنقص عنه درجة وعوض من ذلك الجزم فكمل له ثلاثة أنواع من الإعراب كالاسم، وهذه الطريقة نحو مما قاله المؤلف، إلا أن المؤلف كملها. والكاف في قوله: (كما قد خصص الفعل) كاف شبيه التنظير الكاف التي في قول سيبويه، وليس في الأفعال المضارعة جر، كما أنه ليس في الأسماء جزم، فإن التشبيه هنا تشبيه تنظير، لا تشبيه

تعليل، وكان الأصل أن يقول: الاسم قد خص بالجر كما قد خص الفعل، لأنك تقول: خصه بالشيء خصوصا وخَصوصية وخُصوصية والفتح أفتح وخِصيصي، إلا أنه ضعف العين فجعله من خصص بذلك المعنى، وكذلك كان الأولى أن يقول: كما قد خصص الفعل بأن يجزم أو بالجزم، فإن قوله: (بأن ينجزم) مقدر بمصدره الذي هو الانجزام، والانجزام غير مستعمل في معنى الجزم، ولا مصطلح على استعماله بذلك المعنى؛ لأن الرفع والنصب والجر والجزم في استعمالهم على وجهين: أحدهما: أن يكون عبارة عن الحركات التي أحدثتها العوامل وما ناب عنها، فالضمة رفع والواو رفع وكذلك سائرها. والثاني: أن المراد بالرفع والنصب والجر والجزم الحكم الذي أحدثه العامل، والعلامات دالة عليه، وهو معنى المصدر، وكلا المعنيين في في الجزم مغاير لمعنى الانجزام، إذ كان عبارة عن حصول الجزم في المجزوم على أي معنى أطلق الجزم، وإذا كان كذلك فتعبيره بالانجزام معترض من وجهين: الخروج عما اصطلحوا عليه، والإيهام بمعنى لم يتعرضوا له. والجواب: أن ضرورة النظم دعته إلى أن يغير لفظ الجزم إلى لفظ الانجزام ووجه ما فعل من ذلك أن الانجزام لما كان لازما عن الجزم إذ هو مطاوعة فصار كالمسبب مع سببه، اكتفي عنه اتكالا على فهم

المراد والله أعلم. * ... * ... * ثم أخذ في ذكر العلامات فقال: فارفع بضم وانصبن فتحا وجر ... كسرا كذكر الله عبده يسر واجزم بتسكين وغير ما ذكر ... ينوب نحو جا أخو بني نمر يعني أن الرفع في الكلمة المعربة يكون بالضم نحو: زيد قائم، ويقوم زيد، والرجال في الدار، وخرجت الهندات، والنصب يكون بالفتحة نحو: إن زيدا لن يذهب، وأعجبني أن تكرم الزيود، والجر يكون بالكسر نحو: مررت بغلام زيد، وجئت إلى الرجال والهندات، والجزم يكون بالسكون نحو: لم يذهب زيد، وإن تذهب أكرمك. وأتى الناظم بأثلة للرفع والنصب والجزم والجر في الاسم، ومثال الرفع في الفعل وهو (ذكر الله عبده يسر "فـ" ذكر مرفوع بالضمة على الابتداء، ولفظ "الله" مجرور بالكسرة بإضافة ذكر إليه و "عبده" منصوب بالفتحة بذكر؛ لنه مصدر موصول و "يسر" مرفوع بالضمة أيضا، إذ لم يدخل عليه ناصب ولا جازم، وهو في موضع خبر المبتدأ. وقوله: (وانصبن فتحا وجر كسرا) على حذف الجار، أراد: وانصبن بفتح، وجر بكسر، دل على ذلك قوله: (فارفع بضم) وقوله: (واجزم بتسكين) فحذف الباء ضرورة، وذلك في كلام العرب قليل.

وأنشد المبرد وغيره قول الشاعر: ترون الديار ولن تعوجوا ... كلامكم علىّ إذا حرام وقوله: (وغير ما ذكر ينوب) يعني أن ماعدا ما ذكر من الرفع بالضمة والنصب بالفتحة والجر بالكسرة والجزم بالسكون ينوب عنها، ثلاثة أصناف: أحدها: الحركات لكن على نحو آخر وذلك الكسرة تنوب عن الفتحة في الجمع بالألف والتاء، والفتحة تنوب عن الكسرة في جر ما لا ينصرف من الأسماء. والثاني: الحروف وذلك الألف في المثنى والواو في الجمع الذي على حده والأسماء الستة والنون فيما لحقه من الفعل ألف اثنين أو واو جمع أو ياء واحدة مخاطبة، كلها تنوب عن الضمة، والألف في الأسماء الستة، والياء في المثنى والمجموع على حده كلاهما ينوب عن الفتحة، والياء في الأسماء الستة والمثنى والمجموع على حده تنوب عن

الكسرة. والثالث: الحذف ينوب عن الفتحة في نصب الفعل المرفوع بالنون وعن السكون فيه وفي الفعل المعتل الآخر، وجميع ذلك مفصل في الباب، وقد ظهر من الناظم أن أصل الإعراب للحركات والسكون؛ لأنه أحل غيرها محل النيابة عنها، وذلك لا يسوغ غلا بتقدير كون المحل للمنوب عنه بحق الأصل وبذلك صرّح في "التسهيل" فقال: والإعراب بالحركة والسكون أصل ينوب عنهما الحرف والحذف، وكذلك قال الجزولي: أصل الإعراب للحركات، والحروف عند من يرى الإعراب بها تبع. والدليل على ذلك أن الإعراب بها أكثر، والكثرة دليل الأصالة، وأيضا فإنه لا يصار إلى الإعراب بغيرها إلا عند تعذرها أو اعتقاد تعذرها. قال المؤلف في "شرح التسهيل": ولذلك اشترك الفعل والاسم في الرفع بضمة، والنصب بفتحة ولم يشتركا في الإعراب، وإنما كانت الأصالة للإعراب بالحركة في غير الجزم؛ لأن الحركة أخف من الحرف وأبين في إعطاء المعنى المقصود. وأما كونها أخف فظاهر، فإن زيادة بعض حرف أخف وأهون من زيادة حرف كامل. وأما كونها أبين فلأنها لا تخفى زيادتها على بنية الكلمة لسقوطها وإدراك مفهوم الكلمة بدونها، بخلاف الحرف، فإنه قد يخل سقوطه بمفهومها، ولذلك اختلفوا في المعرب بحرف هل هو قائم مقام الحركة

أو الحركة مقدرة فيه؟ وإنما كان السكون في الجزم أصلا؛ لأن نقصان حركة زائدة على الكلمة أسهل من سقوط حرف من نفس الكلمة، وأتى الناظم بمثالين مما ينوب فيه الحرف عن الحركة. أحدهما: مما يعرب بالواو رفعا، وبالألف نصبا، وبالياء جرا وذلك الأسماء الستة التي يذكرها على أثر هذا وهو الأخ في قوله: (جا أخو بني نمر). والثاني: مما يعرب بالواو رفعا، وبالياء نصبا وجرا، وذلك الجمع على حد التثنية وهو "بني" في المثال، أصله: بنون وبنين وحذف النون للإضافة، وبنو نمر من العرب قبيلة منهم ينسبون إلى أبيهم نمر، وهو نمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. ويقال: يا أخا بني فلان لمن كان ينسب إليهم وكان منهم، وحذف الناظم همزة "جاء" للهمزة التي بعدها وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء في نحو ((جا أجلهم)): * ... * ... *

ثم قال: وارفع بواو وانصبن بالألف ... واجرر بياء من الأسماء أصف من ذاك ذو إن صحبة أبانا ... والفم حيث الميم منه بانا أب أخ حم كذاك ومن ... والنقص في هذا الأخير أحسن وفي أب وتالييه يندر ... وقصرها من نقصهن أشهر لما قدم آنفا أن ماعدا الحركات الثلاث المذكورة المخصوصة بالمواضع المذكورة ينوب عنها، أخذ يذكر الأصناف النائبة ومحالها، فإذا حصر مواضعها علم أن ما عداها حكمة ما تقدم من الرفع بالضمة، والنصب بالفتحة والجر بالكسرة، والجزم بالسكون، فابتدأ بذكر ما يرفع بالواو وينصب بالألف ويجر بالياء فقال: (وارفع بواو ..... ) إلى آخره، وهذا التقرير في الأسماء الستة نص منع على اعتماد القول بأن الحروف فيها هي نفس الإعراب بحكم الاستقلال، وهو أحد المذاهب في هذه الأسماء الستة المفسرة، وهو مذهب أبي القاسم الزجاجي، وظاهر كلام الفارسي في أول كتابه "الإيضاح" وعليه طائفة من المختصرين. ومن النحويين من ذهب إلى أن إعرابها بالحركات مقدرة في حروف العلة، وأتبع فيها ما قبل الآخرِ الآخرَ، دلالة على الإعراب المقدر في حروف العلة، وهو مختار شيخنا الأستاذ رحمة الله عليه، وعليه جماعة أيضا. ومنهم من ذهب إلى أنها معربة بالحركات، كإعرابها عارية عن الإضافة من غير فرق وحروف العلة إشباع تلك

الحركات قبلها، ومنهم من جعل إعرابها بالحركات والحروف معا، ومنهم من ذهب إلى غير ذلك، والكلام في ذلك يطول، وإنما اختار الناظم ما تقدّم؛ لأنه أبين المذاهب، وأبعدها عن التكلف، لأن الإعراب إنما جيء به لبيان مقتضى العامل، ولا فائدة في جعل مقد متنازع فيه دليلا، وإلغاء ظاهر واف بالدلالة المطلوبة. قال المؤلف: ولا يمن من ذلك أصالة الحروف لأن الحرف المختلف الهيئات صالح للدلالة أصلا كان أو زائدا، مع أن في جعل الحروف المشار إليها نفس الإعراب مزيد فائدة وهو كون ذلك توطئة لإعراب المثنى والمجموع على حده، لأنهما فراعان عن الواحد، وإعرابهما بالحروف لا مندوحة عنه، فإذا سيق مثله في الآحاد أمن من الاستبعاد ولم يخرج عن المعتاد، هذا ما وجه به مذهبه ويكفي هذ القدر إذ لا فائدة في جلب الحجج مع أن المسألة لا يبنى عليها حكم. وقوله: (ما من الأسماء أصف) "ما" موصولة صلتها "أصف": وهي مفعولة بارفع وانصب واجرر من باب الإعمال أعمل فيها الآخر. "ومن الأسماء" متعلق بـ "أصف" وضمير ما محذوف، أي ما أصفه من الأسماء وقصر الأسماء ضرورة. ثم قال: (من ذاك ذو إن صحبة أبانا) يعني أن من الأسماء التي ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجر بالياء هذا الاسم الذي هو "ذو" وذلك بشرطين: أحدهما: منصوص عليه وهو قوله: (إن صحبة أبانا) والآخر قيده بالمثال وهو أن يكون "ذو" بلفظ المذكر، فأما الأول فيريد به أن يكون ذو

بمعنى صاحب، وذلك إبانته للصحبة كقولك: مررت برجل ذي مال، وجاء زيد ذو العلم، ورأيت رجلا ذا ثوب، معناه: صاحب مال وصاحب العلم وصاحب ثوب، وتحرز بذلك إن كان قصد التحرز من ذا وذو وذي التي ليست بذلك المعنى فإنها لا تعرب كلك إن أعربت، فأما "ذو" فتأتي بمعنى الذي وهي "ذو" الطاّئية نحو ما أنشد الجوهري من قول الشاعر: ذاك خليلي وذو يعاتبني ... يرمي ورائي بامْسَهْمِ وامْسَلِمَهْ وقول الآخر: وإن المال مال أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت وأما "ذا" و "ذي" فتأتيان للإشارة نحو قول الله تعالى ((هذا من شيعته وهذا من عدوه)).

وقال أبو الطيب المتنبي: هذي برزت لنا فهجتِ رسييا فهذه الثلاثة لا تبين صحبة، وإنما تبين شيئا آخر، فلا تعرب ذلك الإعراب. فإن قلت: فهذا الشرط غير محتاج إليه أبدا. لأن ما تحرز منه خارج عن باب الإعراب فضلا عن كونه يعرب بالحروف أو بالحركات، فلو قال: "من ذاك ذو" كذا وكذا ولم يقيده - بمعنى الصحبة لم يفهم له سواه، إذ لا يتوهم ذلك في "ذو" الطائية، ولا في "ذا" و "ذي" اللتين للإشارة، لفقد الإعراب فيهما، وإنما يسبق إلى الذهن ما هو معرب، وليس ثم معرب، إلا الذي بمعنى صاحب، فقد تعين بنفسه، فيكون هذا الشرط ضائعا، فالاعتذار عنه أن يقال: لعله لم يقصد بذلك إلا مجرد البيان عن معنى "ذو" وإن ساق ذلك مساق الاشتراط والتحرز مما يدخل عليه، على أنه قد أتى به في التسهيل كذلك، فقال: وفي "ذي" بمعنى صاحب، وذكر في "الشرح" أنه تحرز بالقيد من "ذي" المشار إليها، فالله أعلم. فإن أراد هنا ما صرح به هنالك توجه الاعتراض عليه.

وأما الشرط الثاني المقيد بالمثال وهو أن يكون "ذو" بلفظ المذكر فذكره ضروري، فإن المؤنث لا يعرب هذا الإعراب، وإنما يرجع إلى الإعراب بالحركات، كما ذكر أولا كقولك: جاءتني امرأة ذات مال، ورأيت امرأة ذات مال، ومررت بامرأة ذات مال، وكذلك يعتبر في المثال أيضا الإفراد، فإن المثنى والمجموع سيأتي ذكره. فأما إذا كان مفردا مذكرا فهو المعرب بالحروف كما قال. ثم قال: (والفم حيث الميم منه بانا) فاعل "بان" ضمير مذكر عائد على الميم، وذكره لأن الميم كسائر حروف المعجم تذكر وتؤنث، أنشد سيبويه في التذكير: كانا وميمين وسينا طاسما وأنشد في التأنيث: كما بنيت كاف تلوح وميمها ومعنى بان: بعد. ويقال: بان الشيء عنى يبين بينا وبينونة: إذا بعد عنك وتفرّق منك، والمباينة: المفارقة، وتباين القوم: تهاجروا فيعني حيث زالت الميم عن الفم، وأراد أن الفم إذا كان بغير ميم معدود من تلك

الأسماء التي تعرب هذا الإعراب المذكور، وذلك في قولك: هذا فو زيد، ورأيت فاه، ونظرت إلى فيه، وإنما اشترط فقد الميم؛ لأنه إذا وجدت فيه لم يعرب بالحروف، بل بالحركات على حد ما نص عليه في قوله: (فارفع بضم وانصبن فتحا وجر كسرا) فتقول: هذا فم، ورأيت فما، ونظرت إلى فم، هذا إن كان منقوصا، وكذلك في لغة القصر تقول: هذا فما، ورأيت فما، ونظرت إلى فما، إذا ثبت أنها لغة كقول الشاعر يا حبذا عينا سُليمى والفَمَا. فإعراب هذا كإعراب فتى ورحا. وقوله: (أب أخ حم / كذلك وهن) يعني أن هذه الأسماء أيضا حكمها في الإعراب ما تقدم من الرفع بالواو والنصب بالألف والجر بالياء، فتقول: هذا أبوك وأخوك وحموك، ورأيت أباك وأخاك وحماك، ومررت بأبيك وأخيك وحميك. وحمو المرأة أبو زوجها، وكذلك من كان من قبله، وحمو الرجل أبو امرأته أو أخوها أو عمها. وقيل: الأحماء من قبل المرأة خاصة، والأختان من قبل الرجل، والصهر يجمع ذلك كله، هكذا حكى صاحب "المحكم" وعكس الجوهري فقال: وكل شيء من قبل الزوج مثل الأب والأخ فهم الأحماء وأحدهم حما وفيه أربع لغات: حما مثل

قفا، وحمو مثل أبو، وحم مثل أب، وحم ساكنة الميم مهموزة عن الفراء. ثم قال: وكل شيء من قبل المرأة فهم الأختان، والصهر يجمع ذلك كله، فهذا خلاف ما حكى ابن سيده، والناس على ما ذكره الجوهري. قال الأصمعي: الأحماء من قبل الزوج والأختان من قبل المرأة، وقال يعقوب: كل شيء من قبل الزوج -أخوه أو أبوه أو عمه_ فهم الأحماء. وقال أبو عبيد: الحم أخو الزوج. ويقال للمرأة حماه لا لغة فيها غير ذلك. "وهن المرأة" فرجها وكذلك هن الرجل. وأصل الهن في اللغة الكناية عن اسم الشيء. قال الجوهري: تقول هذا هنك أي شيئك. هذا أصله، ثم كنوا به عما يقبح التصريح باسمه، واستعملوه حتى غلب عليه. ويقال: ذهبت فهنيت أي: فعلت من قولك هن، وقد حصل من المثال في الحم والهن أن المؤنث خارج عن هذا الحكم لأنك تقول: هذه حماة فلان، فيعرب بالحركات، وكذلك هنه كما خرجت الأخت عن حكم الأخ. وقد ظهر أن المعرب بهذا الإعراب ستة أسماء؛ وهي ذو بمعنى صاحب، وفو زيد، وأخو زيد، وأبوه، وحموك، وهنوها، لكن ليس ذلك على الإطلاق، وفي كل لغة، بل العرب فيها مختلفون، فمنهم من يعربها بالحروف كما قال، ومنهم من يعربها بالحركات، وأيضا فالذين يعربونها بالحروف ليسوا فيها على سنن واحد بل هي عندهم على درجات متباينة، فقد يكون الإعراب

بالحروف في بعضها نادراً، وبالحركات هو الأشهر كما في "هن" وقد يكون الأمر بالعكس كما في أخ وأب، وقد يشتهر الوجهان على تساو أو مقاربة التساوي كما في "حم" هذا كله فيما عدا الفم بلا ميم، و"ذا" بمعنى صاحب فإن العرب متفقون فيها على الإعراب بالحروف، فلما كان الأمر على هذا لم يكتف الناظم بما قدم من الإطلاق، بل ذكر اختلاف العرب في أب وأخ وحم وهن، وسكت عن ذكر ذو وفو، فدل ذلك على أنها معربة بالحروف على الإطلاق، وذلك صحيح. فقوله: (والنقص في هذا الأخير أحسن) أراد به أن جعل "هن" وهو الأخير في الذكر من باب المنقوص كيد ودم أحسن وأفصح من جعله من هذا الصنف، فالذي يقول: هذا هنوها، ورأيت هناها، ونظرت إلى هنيها/ أقل ممن يقول: هذا هنها، ورأيت هنها، ونظرت إلى هنها، وعلى اللغة الشهيرة جاء في الحديث: "من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا"، وقول علي رضي الله عنه: من يطل هن أبيه ينتطق به، ومعناه من كثر ولد أبيه يتقوى بهم. وأنشد سيبويه:

رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بدا هَنْكِ من المئزر أراد هَنُكِ، فكسن النون. والنقص في الاسم هو أن ينقص من آخره حرف، ويجري الإعراب على الحرف الذي قبله. ثم قال: (وفي أب وتالييه يندر) ضمير "يندر" عائد على النقص في قوله: (والنقص في هذا الأخير أحسن) وضمير تالييه عائد على الأب، والتالي هو التابع يقال: تلوت الرجل أتلوه تلوا: إذا تبعته. ويقال: ما زلت أتلوه حت أتليته، أي: حتى تقدمته وصار خلفى يتلوني، ويندر: معناه: يقل وأصله من الندور وهو السقوط والخروج عن الغير، وندر الرجل من القوم خرج منهم، فلما كانت لغة النقص خارجة عن جمهور كلامهم أطلق عليها لفظ الندور لذلك، وفي أصل اللغة يرادف لفظ الندور لفظ الشذوذ إذ هما بمعنى الخروج عن الجمهور، يقال: شذ عنه يشذ ويشذ شذوذا إذا انفرد عن الجمهور وندر، بهذا فسره الجوهري، كما أنه قال في الندور: ندر الشيء يندر، سقط وشذ، ففسره كما ترى أحدهما بالآخر. إلا أن الناظم اصطلح في كلامه على إطلاق الندور على ما ندر في الكلام المنثور، وإطلاق الشذوذ على ما ندر في الشعر، هذا في الغالب فليعرف ذلك من اصطلاحه، فيريد هنا أن النقص في أب وتالييه جاء في الكلام قليلا، فتقول على القلة في أب: هذا أبك، ورأيت أبكن ومررت بأبك، وهي لغة محكية عن أحمد بن يحيى أنه قال: يقال: هذا أبوك وهذا أباك، وهذا أبك فمن قال: هذا أبوك أو أباك، فتثنيته أبوان

ومن قال: هذا أبك، فتثنيته أبان، وأبوان وأنشد: سوى أبك الأدنى وأن محمدا ... علا كل عال يا ابن عم محمد وتقول في أخ: جاءني أخك، ورأيت أخك، ومررت بأخك، وعليه قول بعض العرب في تثنيته أخان. وتقول في حم: هذا حمك، ورأيت حمك ومررت بحمك. ومنه ما أنشده الفراء من قول الشاعر: قلت لبواب لديه دارها ... تِيْذَنْ فإني حمها وجارها هكذا أنشده القالي عنه، وأنشد أبو عرمو على ما حكى الجوهري عنه حمؤها. ثم قال: (وقصرها من نقصهن أشهر) الضمير في قصرها عائد

لأب وتالييه، وإليها يعود الضمير "قصرهن"، وكلا الضميرين يجوز أن يعود على جمع القلة كهذا الموضع، ويجوز أن يعود على جمع الكثرة، و "هن" على جمع القلة. والقصر في الاسم هو أن يكون آخره ألف والاسم بذلك مقصور، ويعني أن في الأسماء الثلاثة لغة أخرى وهي القصر، وهي أشهر فيها من النقص فتقول: هذا أباك، ورأيت أباك، ومررت بأباك، ومنه أنشده ابن جني وغيره: إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها وتقول: هذا أخاك، ورأيت أخاك، ومررت بأخاك، ومنه المثل "مكره أخاك لا بطل". وحكى سيبويه: لا أخا -فاعلم- لك. قال ابن سيدة: قوله: "فاعلم" اعتراض بين المضاف والمضاف إليه، كذا الظاهر، وأجاز أبو على أن يكون لك خبرا ويكون أخا اسما مقصورا تاما غير مضاف كقولك: لا عصا لك، قال ابن جني: ويدلك على صحة هذا القول أنهم قد كسروه على أفعال وفاؤه مفتوحة، فهو إذا فعل، وذلك قولك: أخ وآخاء، فيما حكاه يونس، وقال بعض ولد المهلب:

وجدتم بنيكم دوننا إذا نسبتم ... وأي بنى الآخاء تنبو مناسبة قال: فغير منكر أن يخرج واحدها على أصله، كما خرج واحد الآباء على أصله. وتقول في حم: هذا حماك، ورأيت حماك، ومررت بحماك وعليها جاءت حماة المرأة لأم زوجها. قال الجوهري: لا لغة فيها غير ذلك. والحاصل من نقله أن فما بلا ميم، وذا بمعنى صاحب، ليس فيهما إلا لغة واحدة. وأن هنا فيه لغتان. وأن أبا وأخا وحما فيها ثلاث لغات. وإذا تقرر هذا ورد على الناظم سؤال وهو أن يقال: كان من حقه حين أراد أن يذكر في هذه الأسماء اختلاف العرب فيها أن يستوفي ذكر ذلك فيأتي على جميع لغاتها. لكنه لم يفعل ذلك، بل ذكر بعضها وأهمل البعض، فكان معترضا، ولا يقال إن نظمه هذا غير موضوع لنقل اللغات وإنما وضع لضبط القوانين، فلم يلزمه أن يستوفيها في هذه الأسماء ولا في غيرها، لأنا نقول: فكان الأولى به ألا يتعرض لذكرها رأسا، إذ كان نظمه على ما ذكرت. فإن قيل: لو لم يذكر ما ذكر لأوهم أنها تعرب بالحروف مطلقا في كل لغة وليس كذلك، فأراد أن يرفع هذا الإيهام، ولذلك لما نبه في "التسهيل" على قلة إعراب "هن" بالحروف ذكر في "الشرح" أن عادة النحويين جرت بذكر "هن" مع هذه الأسماء، وذلك يوهم مساواته لهن في الاستعمال، وليس كذلك، بل المشهور فيه إجراؤه مجرى يد، في ملازمته النقص إفرادًا وإضافة

وإعرابه بالحركات. ومن العرب من يقول: هذا هنوك، ورأيت هناك، ومررت بهنيك وهو قليل، فمن لم ينبه على قلته فليس بمصيب، وإن حظى من الفضائل بأوفر نصيب. وما قاله صحيح كما ترى، فغيره من إخوته بهذا المثابة، فلما كان ترك التنبيه على لغاتها مخلا بالفهم مخيلا لا لا يستقيم نبه على ما يجب التنبيه عليه. فالجواب: أن الإحالة باقية لأنه حين اقتصر في حم مثلا على نقل لغتين سوى الأولى، أوهم أن سائر العرب سوى أصحاب هاتين اللغتين متفقون على الإعراب بالحروف، وهذا غير صحيح، بل للعرب في حم ست لغات: الثلاث المذكورة، والرابعة: حمو كدلو، والخامسة: حمءٌ كخبْءٍ، والسادسة: حمأ كَرَشأ. كما أن في أخ خمس لغات: الثلاث التي ذكر، والرابعة: أخّ مشددا كفخّ، والخامسة: أخو كدلو، وكما أن في أب أربع لغات: رابعهن أبّ مشددا كحبّ. وكما أن في "هن" ثلاث لغات: ثالثتهن هنّ مشددة كـ "منّ"، لا يقال: إن ما ذكرت لغات قليلة غير مشهورة، فلذلك لم يذكرها، بخلاف ما ذكر فإنها شهيرة، لأنا نقول ليس كذلك، لأنه في ذكر في "هن" الإعراب بالحروف، وهو قليل، وذكر النقص في أب وأخ وهو نادر. وكذلك في "حم" على ما نص عليه هنا، وكذلك القصر فيهن على ما

نص عليه في "التسهيل" حيث قال وربما قصرا أو ضعف دم، يعني أخا وأبا، وترك ذكر حمو وحمء، وأهل اللغة لا يصفونهما بالقلة، بل إطلاقهم يدل على خلاف ذلك، فقد ظهر أن كلام الناظم معترض عليه. والجواب من وجهين: أحدهما: أنه لو اقتصر على ذكر الإعراب بالحروف فيها كلها لأوهم اتفاق العرب فيها على ذلك، وهو غير صحيح، فلما ذكر فيها لغات أخر ارتفع ذلك الإيهام، وحصل أن إعرابها بالحروف جائز على الجملة، لا واجب يعني أن ماعدا فوك وذو مال، كما انه لو ذكر جميع لغاتها لم يزدنا على جواز الإعراب بالحروف شيئا سوى استيفاء لغات لا حاجة بنا إليها وما ذكر من بقاء الايهام بالاقتصار على ذكر البعض فغير متجه على قصد الناظم؛ لأن ظاهر قصده أن يبين لنا كيف نحتذي كلامهم، فذكر أن لنا أن نعربها بالحروف على القياس التي ذكر، ولنا ألا نعربها إلا بالحركات على الأصل، لأن العرب فيها مختلفون. فإذا قيل له: فاشرح لنا ما للعرب فيها من الخلاف. كان جوابه أن هذا من وظائف اللغوي، وحسبك هنا أن يتبين لك أنهم ليسوا بمتفقين على الإعراب بالحروف. فلقائل أن يقول: إن لم يقصده بنقل تلك اللغات بيان اختلاف العرب في هذه الأسماء، وإلا كان متنقلا من علم إلى علم لغير ضرورة.

والوجه الثاني: أن إعرابها بالحروف بين أنها معتلة الأواخر مذبذبة في الاعتلال بين النقص والتمام، فهي في الإضافة إلى غير الياء تامة غير منقوصة، وفي الإفراد والإضافة إلى الياء على خلاف ذلك، فأراد أن يبين اختلاف العرب فيها إذا كانت معتلة الأواخر، لأنها من مادة واحدة، وعلى حكم واحد، تكملة لما قصد ذكره، ويكون قصده بذكر "هن" هنا ما ذكره من التنكيت على إطلاق النحويين فيه، وأنهم ليسوا على صواب في ذلك الإطلاق، أما من قال في حم "حمء" أو حمأ فهذا من مادة أخرى غير مادة حم، وكذلك أخ وأب وهن المشددات هي من مواد أخر غير مواد أخ وأب وهن، فصارت منها كالأجنبيات وكالألفاظ المترادفة فعد هذه في جملة لغات تلك كعد الألفاظ المتباينة في اللفظ المترادفة في المعنى في جملة اللغات كالأسد والليث والسبع ونحو ذلك، وهذا غير لائق بالقصد النحوي، وأما أخو وحمو فلما جريا مجرى الصحي كغزو ودلو فارق المعتل الآخر، وأشبه الصحيح الآخر، فلم يعده في اللغات، كما لم يعد المضاعف والمهموز، وهذا حسن من القصد وبالله التوفيق. * ... * ... *

ثم ذكر شرط هذا الإعراب فقال: وشرط ذا الإعراب أن يضفن لا ... لليا كجا أبو أخيك ذا اعتلا الإعراب الذي أشار إليه هو الرفع بالواو، والنصب بالألف، والجر بالياء، في الأسماء الستة، والضمير في "يضفن" عائد على الأسماء المذكورة، ويعني أن شرط حصول هذا الإعراب المذكور في هذه الأسماء الستة أن يكن مضافات، وأن تكون الإضافة إلى غير ياء المتكلم، فهذان شرطان لابد منهما، ساقهما مساق الشرط الواحد في قوله: (أن يضفن لا لليا) فإنهن إذا لم يضفن البتة أعربن بالحركات، فتقول: هذا لك أخ، ورأيت أخا لك ومررت بأخ لك، وكذلك أب وحم وهن، وأنشد الجوهري في إفراد حم: هِيَ ما كَنَّتِي وَتَزْ ... عُمُ أني لها حم و"فو" كذلك لأنها إذا لم تضف يبدل من واوها الميم، فتقول هذا فم، ورأيت فما، ونظرت إلى فمٍ، وأما "ذو" فهي لازمة للإضافة أبدا لا تتجرد عنه. فأما قولهم لملوك اليمن: الأذواء والذوون، فليس على تجريد

"ذو" من الإضافة، وهي بمعنى صاحب، كما كانت في أصل الوضع بل على تجريد التسمية بذو لكل واحد منهم، حين تسموا بذو كذا، نحو: ذو يزن، ذو الكَلَاع، وذو جَدَن، وذو نُوَاس، وذو أصبح، وهم التبابعة من قضاعة فسموا الأذواء على تقدير التسمية بـ "ذو"، فشرط الإضافة في "ذو" حاصل بحكم الأصل، وكذلك إذا أضفن إلى ياء المتكلم، لم يعربن بهذا الإعراب، أعني إعراب الحروف. فإذا قلت: هذا أبي وأخي وحمى وهنى كان معربا بالحركات، مقدرة في أواخرها، واتفق في ذو أن كان لا يصح فيه أن يضاف غلى الياء، لأن أصله ألا يضاف إلا إلى أسماء الأجناس، إذ كان وضعه لأن يكون وصله إلى الوصف بأسماء الأجناس، فلا يضاف إلى الضمير مطلقا إلا شاذا، وعادة بعض الشيوخ أن يضيف إلى هذين الشرطين شرطا ثالثا، وهو: أن تكون مكبرة غير مصغرة، لأنها إذا صغرت رجعت أواخرها المحذوفة، وأدغمت في ياء التصغير، فأعربت بالحركات ظاهرة فيها، وإن كانت مضافة فقلت: هذا أخي زيد وأبيه وحميه وما أشبه ذلك، فيظهر لبادي الرأي أن مثل هذا داخل على الناظم، إذ هو معرب بالحركات مع تفر الشرطين، فكان من حقه أن يزيد هذا الشرط الثالث. وقد يجاب عنه بأن مثال الناظم أغنى عن اشتراط التكبير تنصيصا، لأنه أتى بالأمثلة مكبرة، فقد حصل الشرط بالإشارة وأيضا من حيث قصد بيان إعراب المعتل الآخر، قد خرج له أخي ونحوه، كما خرج له اعتبار حمو وأخو لجريانها بعد التصغير مجرى الصحيح فصارت كحمو وأخو، وعلى الجملة فإنما يأتي بهذا الشرط من يأتي به تقريباً على

المبتديء، والأمر في ذلك قريب، وجاء لما ذكر من الاشتراط بثلاثة أمثلة توفر فيها الشرطان وهي قوله: (كجا أبو أخيك ذا اعتلا) فالأب مضاف إلى الأخر والأخ مضاف إلى الكاف، وذو مضاف إلى الاعتلاء، وحصل في الأمثلة الثلاثة وجوه الإعراب الثلاثة والإضافة إلى الظاهر، وإلى الضمير غير الياء والاعتلاء والعلاء والرفعة والشرف. يقال: اعتلى اعتلاء، وعلا علاء، والاعتلاء أيضا: الاعتماد، كذا قال ابن سيده، وأنشد لأبي ذؤيب: علوناهم بالمشرفي وعريت ... نصال السيوف تعتلي بالأماثل قال: تعتلي: تعتمد، وعداه بالباء لأنه في معنى تذهب بهم وهذا التفسير محتاج إلى التفسير، ولعله يريد الاعتماد بالشيء، أي: الاضطلاع به والاستقلال، وهذا المعنى في بيت أبي ذؤيب واضح، ولا يحتاج معه إلى تضمين الفعل، والعرب تقول: علا بالأمر: إذا استقل به واضطلع وأنشد الجوهري: اعمد لما تعلو فمالك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان اعتلى من هذا بلا شك. * ... * ... *

ثم قال: بالألف ارفع المثنى وكلا ... إذا بمضمر مضافا وصلا كلتا اثنان واثنتان ... كابنين وابنتين يجريان وتخلف اليا في جميعها الألف ... جرا ونصبا بعد فتح قد الف هذا ضرب ثان تنوب فيه الحروف عن الحركات، على وجه آخر غير ما تقدم وذلك المثنى. والمثنى: هو ما حصل في التثنية من الأسماء، ولم يحتج إلى بيان كون المثنى من الأسماء لأمرين: أحدهما: كون التثنية من خواص الأسماء. والثاني: أنه قد جعله محلا للجر في قوله: (جرا ونصبا) فدل على أن كلامه فيما يدخله الجر، وهو الاسم، وأيضا قولك: يفعلان بتثنية ليفعل، لأنك لم ترد أن تضم إلى يفعل هذا يفعل آخر، كما كنت فاعلا في الاسم، فليس المثنى إلا الاسم، ولم يبين الناظم معنى التثنية وكان ذلك مما ينبغي له أن يبينه، والتثنية أن تزيد في آخر الاسم ألفا ونونا في الرفع، وياء ونونا في النصب والجر، ليصير الاسم بذلك يدل على اثنين مما كان يدل عليه قبل ذلك، وحدها المؤلف في "التسهيل" بحد آخر جمع فيه شروط التثنية التي يذكرها هؤلاء المتأخرون فقال: التثنية: جعل الاسم القابل دليل اثنين متفقين في اللفظ غالبا وفي المعنى على رأي بزيادة ألف في آخره رفعا، وياء مفتوح ما قبلها جرا ونصبا، تليهما نون مكسورة

فتحها لغة، وقد تضم. فقوله: "جعل الاسم القابل" يجمع من شروط التثنية الإفراد والإعراب والتذكير. وقوله: متفقين في اللفظ غالبا، وفي المعنى على رأي هما الشرطان الباقيان على أن مذهب الناظم هنا وفي "التسهيل" أن الإعراب ليس بشطر لازم، ألا ترى أن اسم الإشارة والموصول إذا جعلا للمثنى نحو: هذان واللذان فهما عنده من قبيل المثنى حقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم نرجع إلى كلامه: فقوله: (بالألف ارفع المثنى) أراد به أن الاسم المثنى رفعه بالألف خلاف ما تقدم، فإن رفعه بالواو، وهذا منه نص في إعراب المثنى، وكذلك يقول في الياء في الجر والنصب إنها العلامة بنفسها من غير تقدير شيء، وهو الذي اختار في "التسهيل" واحتج على صحته في "الشرح" ببطلان ما عداه. وقد ذهب قوم إلى أن الرفع فيه بغير علامة، بل صار عدمها علامة له وأما النصب والجر فعلامتهما التغير والانقلاب وإليه ذهب ابن عصفور. ومنهم من جعل الإعراب بالحركات مقدرة في الألف والياء، فهو عند هؤلاء لم يخرج عن قاعدة الإعراب بالضمة رفعا وبالفتحة نصبا

وبالكسرة جرا. وذهب الأخفش والمبرد غلى أن الإعراب مقدر في الحرف الذي قبل العلامة، وحرف اللين علامة على ذلك. ومنهم من ذهب إلى غير ذلك، ولا حاجة بنا إلى الكلام في إبطالها، وتصحيح مذهب الناظم، وهو مذهب الفراء، وأبي إسحاق الزيادي، وأبي القاسم الزجاجي، وجماعة. ولنا التمسك بالظاهر الذي هو أصل من أصول العربية، فإن حروف اللين نجدها تختلف لاختلاف العوامل، كما تختلف الحركات، فندعي أنها هي الإعراب، ولو زعمنا أن الإعراب غيرها لما ساغ لما فيه من تكلف التقدير المنافي قصد البيان. فإن قيل فقد ثبت أن علامات الإعراب زوائد على الكلمة، وهي الحركات فادعاء غيرها مما ليس بزائد على الكلمة دعوى عارية عن الدليل. فالجواب: أن العذر عن هذا قد تقدم في فصل إعراب الأسماء الستة فلا نعيده. وقوله: (وكلا) معطوف على المثنى، يعني أن رفع "كلا" بالألف أيضا، فتقول: جاءني الزيدان كلاهما، فتكون علامة الرفع فيها الألف، كما كانت الألف علامة الرفع في المثنى، إذا قلت: جاء الرجلان ثم إنه لم يجعل ذلك فيها مطلقا، بل شرط في ذلك وهو أن يضاف إلى المضمر، وذلك قوله: (إذا بمضمر مضافا وصلا). فقوله: (بمضمر) متعلق بـ

(وصلا)، وضمير (وصل) عائد على (كلا) باعتبار كونه لفظا، و (مضافا) حال من ضمير وصل، والتقدير: إذا وصل بضمر حال كونه موصولا به، يعني أن (كلا) إنما تعرب إعراب المثنى إذا أضيفت إلى مضمر فتقول: جاءا كلاهم، ورأيتهما كليهما، وجئت إليهما كليهما، وسواء كان هذا المضمر لمتكلم، أو مخاطب، أو غائب، نحو: أتينا كلانا، وأكرمتكما كليكما ومررت بهما كليهما، أما إذا كانت مضافة إلى الظاهر فمهوم شرطه أنها لا تعرب هذا الإعراب، وإذا لم تعرب كذلك رجعت إلى أصله المتقدم، وهو الإعراب بالحركات حسب ما تقدم، فقول الفرزدق: كلاهما حين جد الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما راب الأولى فيه: معربة بالحروف والثانية: معربة بالحركات. فالحاصل أن "كلا" عنده تارة تعرب بالحروف كالمثنى، وتارة تعرب بالحركات كالمفرد المنصرف، وهذا مذهبه في "كلا" في تواليفه مثل "التسهيل" و "الفوائد" و "لبّ الألباب" ووجه هذه التفرقة عند أن (كلا) لما كانت مفردة اللفظ مثناة في موضع، إلا أن آخره معتل، فلم يلق به من إعراب المفرد إلا المقدر فجعل ذلك مضافا إلى مظهر ليتخلص من اجتماع إعرابي تثنيته في شيئين كشيء واحد، وجعل الآخر مضافا إلى مضمر؛ لأن المحذور فيه قد أمن بهذا وجّهه في "شرح

التسهيل" وكلامه هنا إنما هو على اللغة المشهورة في "كلا" وقد ترك وجهين للعرب فيهما: أحدهما لكنانة، وهو إجراؤها مجرى المثنى مطلقا، مضافة إلى المضمر أو إلى الظاهر فيقول هؤلاء: رأيت كليْ أخويك، ومررت بكلي أخويك، كما يقول الجمهور: رأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما. والثاني: إجراؤها مجرى المقصور مطلقا، وهو الجاري على لغة بلحارث بن كعب، وعلى لغة من قال: إلاك وعلاك، وإنما تر ذكرهما لقلتهما، فاكتفى بما هو الشهير في الكلام ويمكن أن يكون غير تارك لهما، فتكون "كلا" على لغة بلحارث جارية مجرى المفرد المقصور، فترجع إلى الأصل المتقدم من الإعراب بالحركات مطلقا، وعلى هذا دل كلامه في "التسهيل" حيث قال: وما أعرب إعراب المثنى مخالفا لمعناه أو غير صالح للتجريد، وعطف مثله عليه فملحق به. ثم قال: وكذلك "كلا" و "كلتا" مضافين إلى مضمر، ومطلقا على لغة كنانة. انتهى، وترك لغة بلحارث لدخولها في حكم المفرد المنصرف، ثم قال: "كلتا" يحتمل في إعرابها وجهان: أحدهما: أن تكون منصوبة الموضع عطفا على "كلا" في قوله: "بالألف ارفع المثنى وكلا" فكأنه قال: ارفع المثنى وكلا وكلتا، إلا أنه حذف حرف العطف، كما قال قائل: أكلت لحما سمكا تمرا. قال ابن جني: أراد

لحما وسمكا وتمرا، وعلى هذا يكون قوله: (كذاك) خبرا للمبتدأ الذي هو اثنان واثنتان. وقوله: (كابنين وابنتين يجريان) بدل من (كذاك). والثاني: أن تكون "كلتا" مرفوعة على الابتداء، وخبرها كذلك، ويكون "ذا" إشارة إلى "كلا" وعلى الأول يكون إشارة إلى المثنى. وقوله: (اثنان واثنتان .. ) إلى آخره مبتدأ، خبره المجرور بعده على هذا الوجه الثاني، وعلى كلا الوجهين أراد أن "كلتا" حكمها حكم "كلا" فيما ذكر، فترفعها بالألف إذا أضيفت إلى مضمر، وبالحركات إذا فقد هذا الشرط، والكلام فيهما واحد. واعلم أن كلام الناظم يقتضي في "كلا" أمرين: أحدهما: أن "كلا" عنده من قبيل المفردات، لا من قبيل المثنيات وذلك أنه عطفها على المثنى حيث قال: (بالألف ارفع المثنى وكلا)، فدل على أنها ليست من المثنى حقيقة، وإلا فكان يكفيه إطلاق لفظ المثنى فيدخل فيه. وهذا المذهب هو رأي أهل البصرة، وذهب أهل الكوفة إلى أنها من قبيل المثنى حقيقة، كغلاما زيد، وصاحبا عمرو، وكذلك كلتا، وواحد "كلا" كل، فخففت اللام، وواحد

كلتا كلت، وأنشدوا: في كلتَ رجليها سلامى واحده ... كلتاهما مقرونة بزائدة فأفرد في البيت الأول وثنى في الثاني، وإذا كانا كذلك استويا مع سائر المثنيات، وحداهم إلى هذا الانقلاب ألفهما مع المضمر، نحو: رأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما. والصحيح ما ذهب إليه الناظم والبصريون إذ ليس "كلا" من لفظ كل بسبيل، ولا "كلتا" مفردها "كِلت"، بل "كلت" محذوفة من "كلتا"، وأبقيت الفتحة في التاء دليلا عليها، كذا قال ابن الأنباري والسيرافي، وأيضا انقلاب الألف مع المضمر لا يدل على أنهما مثنيان، بل يدل على خلاف ذلك، إذ لو كانا لم يختص انقلاب الألف بالمضمر، بل كانت تنقلب مطلقا، والمضمر كالمثنى من لك وجه، فلما لم تكن كذلك دل على مخالفة ما هي فيه للمثنى، وأيضا لو كان من قبيل المثنى لم يعد عليهما ضمير المفرد في غير ندور، بل كان يكون الضمير العائد عليهما ضمير المثنى، لكنهم لم يفعلوا إلا العكس، قال الله تعالى: ((كلتا الجنتين آتت أكلها)) ولم يقل أتتا أكلهما، وكذلك الحال في "كلا" قال الأعشى:

أكاشره وأعلم أن كلانا ... على ما ساء صاحبه حريص والكلام في الاحتجاج يطول. والأمر الثاني: أن إعرابهما عنده على وحين بالحروف تارة، وبالحركات أخرى، وذلك احد المذاهب الثلاثة، وهو ظاهر كلام الفارسي في الجزء الأول من "الإيضاح" وظاهر كلام ابن جني في كتاب "التعاقب" وعليه طائفة من المشارقة. والثاني: أنهما معربان بالحركات مطلقا، وهو رأي الجمهور ممن نفى التثنية عنهما، وإنما انقلبت ألفهما في الجر والنصب حملا على "لدى" في الجرّ، و "إلى" و "على"، أعني مع المضمر فقالوا في النصب كليهما كما قالوا: لديهما. وقالوا في الجر كذلك، كما قالوا: إليهما. قال سيبويه: وسألت الخليل -رحمه الله- عمن قال: رأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك، ثم قال: مررت بكليهما. فقال جعلوه بمنزلة عليك ولديك في الجر والنصب، لأنهم ظرفان يستعملان في الكلام مجرورين ومنصوبين، فجعل "كلا" بمنزلتهما حين صار في موضع الجر والنصب. والثالث: من المذاهب أنهما معربان بالحروف مطلقا كالمثنى، وهو رأي الكوفيين، وقد تقدم وجه ما ذهب إليه الناظم، وقد رجح ما ذهب إليه بثلاثة

أشياء. أحدها: أن كنانة أجرتهما مع الظاهر مجرى المثنى أيضا، وبذلك يتبين صحة قول من جعل: "كلا" و "كلتا" من المعرب بحرف لا بحركة مقدرة. فإن القائل: إنهما معربان بحركة مقدرة، يزعم أن انقلاب ألفهما ياء مع المضمر بالحمل على ألف "لدى" و "إلى" و "على"، ولو كان الأمر كما قال لامتنع انقلاب ألفهما ياء مع الظاهر في لغة كنانة، كما يمتنع عندهم وعند غيرهم انقلاب ألف "لدى" و "إلى" و "على" مع الظاهر. والثاني: أن مناسبتهما للمثنى أقوى من مناسبتهما لـ "لدى" و "على" ومراعاة أقوى المناسبتين أولى من مراعاة أضعفهما. والثالث: أن تغير ألفها حادث عن تغير عامل، وتغير ألف "لدى" و "إلى" و "على" حادث بغير تغير عامل، فتباينا وامتنع أن يحمل أحدهما على الآخر. ثم قال: (اثنان واثنتان كابنين وابنتين يجريان) يعني أن هذين اللفظين حكمهما حكم المثنى حقيقة في الإعراب. فتقول: هذان اثنان كما تقول: هذان ابنان، وتقول: هاتان اثنتان، كما تقول: هاتان ابنتان وكذلك الحكم فيهما جرا ونصبا حسب ما نبه عليه، وبين هذا فيهما لأنهما ليسا من

قبيل المثنى حقيقة كـ "كلا" و "كلتا"، إذا ليس لهما مفرد كابنين وابنتين، ولا يحتاج إلى التنبيه عليهما. فقوله: "كابنين" وابنتين" أي كجريان المثنى حقيقة يجريان ويجري مجراهما ثنتان في أن حكمه حكم قولك: بنتان. واعلم: أنا إذا جعلنا قوله: (كابنين ... ) إلى آخره "خبر اثنان واثنتان، كذلك على تقدير أن يكون قوله: "كذاك" خبر كلتا، فلا إشكال في حصول الفائدة بقوله: (كابنين وابنتين يجريان) إلا أن "كذاك" إشارة إلى البعيد، وإنما أشار إلى قريب فيكون عامله معاملة البعيد ومثل هذا الاستعمال سائغ، وإن كان على خلاف الأصل، وأما إذا جعلنا "كذاك" خبر اثنان و "اثنتان" والإشارة إلى المثنى فيقع السؤال عن الفائدة في قوله: (كابنين ... ) إلى آخره "إذ قد حصل" ذاك بالإشارة إلى المثنى، لا سيما وقد أشار "بذاك" المقتضية غير القريب، فلذلك كان يكفي، إذ لا يتوهم معها أن المراد "كلا" لأن الإشارة إليها إنما تكون بذا المقتضية للقرب، لا بذاك المقتضية لغيره، فالحاصل للفهم أن اثنين واثنتين كالمثنى، فما الفائدة في قوله: (كابنين وابنتين يجريان)؟ والجواب: أن الإشارة بذاك ليست بنص فيما دون القريب إذ قد يقع ذو البعد موضع ذي القرب وبالعكس لمقاصد، أو للاتساع في الكلام، وإذا كان كذلك أوهم الموضع أن تكون الإشارة بذاك إلى القريب كما

هي للقريب في الوجه الآخر، حيث جعلنا كذاك خبر "كلتا"، إذ ليست الإشارة فيه إلا لكلا، وهي أقرب في الذكر من المثنى فرفع الناظم هذا الإيهام بقوله: "كابنين وابنتين يجريان" وعين أن الإشارة للمثنى لا لكلا والله أعلم. فإن قيلك اقتصار الناظم على أربعة ألفاظ مما أجرى مجرى المثنى مشكل، ؛ فإنه إما أن يريد أن هذه الألفاظ وما كان مثلها مما شذ عن الباب فيكون اقتصاره عليها تنبيها على ما هو في معناها مما لم يذكر، وإما أن يريد أن هذه الألفاظ بخصوصها شذت، وترك ذكر ما عداها، وعلى كلا التقديرين يرد الإشكال، فإن أراد الأول فليس في لفظه ما يدل عليه إذ لم يقل بالألف ارفع المثنى وكذا كذا، وما كان نحوها، ولا ما أشبه ذلك، وإن أراد الثاني كان اقتصاره على ما ذكر قصورا مع القدرة على التنبيه على ما بقي، بأقل إشارة، ولإيهام أن هذه المذكورة هي التي شذت عن باب المفردات، وذلك قادح، وقد جعل في "التسهيل" وشرحه ما شذ من ذلك على ضربين: أحدهما: ما خرج عن حقيقة التثنية، بكونه مخالفا لمعنى المثنى وإن صلح للتجريد وعطف مثله. والثاني: ما وافق معنى المثنى لكنه غير صالح للتجريد وعطف مثله عليه فمن الأول ما أريد به التكثير نحو قول الله تعالى: ((ثم ارجع البصر كرتين)) المعنى كرّات كثيرة لقوله: ((ينقلب إليك البصر خاسئا)) أي: مزدجر، ((وهو حسير)) أي: كليل، وقالوا: سبحان الله

وحنانيه، المعنى: حنان بعد حنان. وأنشد البغداديون: ومهمهين قذفين مرتين قال الفراء: أراد ومهمة بعد مهمة. ومنه مما يراد به الجمع قول الله تعالى: ((فأصلحوا بين أخويكم)) أي: بين إخوانكم. وفي الحديث: "البيعان بالخيار". والمراد البيعون. ومن الثاني: مما هو مفرد ولا يصلح للتجريد، قولهم للذي يأخذ به الحداد الحديد المحمى: كلبتان. وقولهم: البحران وأبانان ونحو ذلك. ومنه ما يصلح لعطف مخالفة عليه، لا مثله كالقمرين في الشمس والقمر، والزهدمين في زهدم وكردم. ومن ذلك قولهم لما هو وسط الشيء: هو بين ظهريهم وظهرانيهم ولقيته بين الظهرين والظهرانين، أي: في اليومين أو في الأيام، وقالوا: المِذرَوان، ومنه ما هو مساو لمفرده نحو: نزل فلان حولنا وحوالنا وحوالينا. وفي الحديث: "اللهم حوالينا

ولا علينا"، وأنشدوا. ماء رواء ونصى حوليه وأجاز الفراء أن يكون من هذا النوع قوله تعالى: ((ولمن خاف مقام ربه جنتان)) ويدخل تحت هذا الضرب ما ذكره الناظم فكان الأولى به أن يقول كما قاله في "التسهيل" فيجمع الضربين، أو يأتي بما يرفع عنه الإيراد. فالجواب: أنا نلتزم أنه قصد الأمر الثاني، ولا يلزم عليه اعتراض، وذلك أن الضرب الأول مما ذكر في السؤال غير خارج عن كونه مثنى حقيقة إذا تأملته، ولولا الإطالة لبين ذلك. وأما الضرب الثاني فليس بضروري الذكر لوجهين: أحدهما: أنه غير مقيس، وإنما هو موقوف على السماع، فلو لم ينبه على شيء منه لما لزمه اعتراض؛ لأن النحويَّ لا يتكلم إلا فيما كان مقيسا خاصة.

والثاني: أن ما لم يذكر منه قليل في الكلام، وغيره متداول في الاستعمال بخلاف الألفاظ الأربعة التي ذكر، فإنها كثيرة الدوران في الاستعمال، فاقتصر على ذكر حكمها في النحو، لشدة الحاجة إليها، كما اقتصر في الجمع أيضا على المحتاج إليه، الدائر على الألسنة دون غيره مما له حكمه. وذلك في قوله: "وبه عشرونا وبابه ألحق والأهلونا .. " إلى آخرها ولم يتعرض لنحو "صريفين" و "قنسرين" و "نصيبين" و"صفين" و "مرئين" في جمع مرء، المراد به امر، وقولهم أطعمنا مرقة مرقين، وما كان نحو هذا، وفي نظمه مواضع من هذا النحو، يأتي التنبيه عليها حيث نعرض لها إن شاء الله، فكذلك يقال في هذا الموضع، وهو قصد صحيح بالنسبة إلى علم النحو عموما، وإلى مما انتصب له في هذا النظم من الإتيان بجلائل النحو وما يليها خصوصا. واعلم أن "هذان" و "هذين" و "اللذان" و "اللذين" و "اللتان" و "واللتين" عند الناظم من قبيل المثنى حقيقة، فهي داخلة تحت قوله: (بالألف ارفع المثنى) لكن لما كانت عند جمهور البصريين غير مثناة حقيقة، ومخالفة في بعض الأحكام للمثنى لم يقتصر على دخولها هنا، بل نبه عليها في أبوابها حسب ما يأتي إن شاء الله. ثم ذكر كم الجر والنصب فقال: (وتخلف اليا في جميعها

الألف جرًا ونصبًا) يعني أن الياء تقع خلفا من اللف في الجر والنصب معا فتكون علامة لهما، وذلك في جميع ما ذكر من المثنى والجاري مجراه، وذلك قوله: (في جميعها) فالضمير عائد على المثنى والجاري مجراه، وذلك قوله: (في جميعها) فالضمير عائد على المثنى، وما ذكر مما جرى مجراه، وشرط أن تكون الياء (بعد فتح قد ألف) تحرزا من أنتكون بعد كسر، فإنه كان يلتبس بالجمع، فجعلت الفتحة في المثنى قبل الياء فرقا بينهما وبين ياء الجمع، هذا تعليل طائفة فتقول: مررت بالزيدين، ورأيت الزيدين كليهما، ومررت بهما كليهما، ورأيت الهندين كلتيهما، ومررت بهما كلتيهما، وغرست من الشجر اثنين، ورأيت من الرجال اثنين وما أشبه ذلك. وقيّد الفتح بأنه قد الف من حيث كان مألوفا في الرفع؛ لأن الألف تطلب بفتح ما قبلها أبدا، فلما جاءت الياء في موضعها ترك ما قبل ذلك على فتحه، ولذلك أتى بلفظ (تخلف)، أي: تكون خلفا منها وعوضا، لأن الخالف للشيء محرز لموضع ما خلفه، فلا ينبغي أن يغير من حكمه شيئا، وكأنه -والله أعلم- أشار بهذا إلى علة هذا الفتح، وأنه الذي ألف في الرفع فلذلك ثبت هنا قبل الياء، ولم يكن كسرا، وهو الذي يناسب الياء، وكأنه لم ير التعليل بالتفرقة بين ياء المثنى والمجموع تعليلا كافيا. إذ يقال له: فما وجه الاختصاص؟ فنبه على أنه إنما اختص المثنى بالفتح، لكونه مألوفا فيه ومعتادا، وذلك حالة الرفع، وأيضا فلا يرد السؤال على الكسر قبل الياء، لأنه المناسب لها، بخلاف الفتح فإنه غير مناسب، فلذلك نبه على علة الفتح هنا، بعد ما نبه على أنه الذي يجب فيه التثنية، ولما كان الكسر هو الجاري على القياس والمناسب للياء لم ينبه عليه في الجمع ولا على علة الفتح هنا، بعد ما نبه على أنه الذي يجب في التثنية، ولما كان الكسر هو الجاري على القياس والمناسب للياء لم ينبه عليه في الجمع ولا على علته، بل قال: (وارفع بواو ... وبيا اجرر وانصب) وترك التنبيه على كون الياء مكسورة ما قبلها، كما لم ينبه على ضم ما قبل الواو أيضا، للعلم بأن

ذلك هو المناسب فيهما، وهذا (التنبيه) حسن في معناه. ويقال: خلف فلان فلانا، إذا صار خليفة له، وخلفته في قومه خلافة، ومنه قول الله تعالى -حكاية عن موسى عليه السلام-: ((اخلفني في قومي)) الآية. وخلفته أيضا إذا جئت بعده، وخلف قوم بعد قوم منه أيضا، ومنه قول الله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف)) و "ألف": من ألفت الشيء ءآلفه إلفا، وقدم الناظم الجر على النصب في قوله: جرا ونصبا لأن الجر أحق بالياء من النصب، إذ الياء من الكسرة هي علامة الجر في الأصل وحمل النصب على الجر. * ... * ... * ثم: أو ارفع بواو وبيا أجرر وانصب ... سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين وبه عشرونا ... وبابه ألحق والأهلونا أولو وعالمون عليونا ... وأرضون شذ السنونا وبابه ومثل حين قد يرد ... ذا الباب وهو عند قوم يطرد هذا نوع ثالث من نيابة الحرف عن الحركة في الإعراب، وهو أن تكون الواو نائبة عن الضمة، والياء نائبة عن الفتحة والكسرة،

فتكون الواو علامة الرفع، والياء علامة الجر والنصب، وذلك في الجمع السالم المختص بنحو: عامر ومذنب، وهو الجمع الذي على حد التثنية، ويسمى جمع المذكر السالم، وإنما سماه سالما لسلامة بناء الواحد فيه، فإذا قلت: عامرون في عامر، ومذنبون في مذنب، فلم تزد على أن ألحقت العلامتين آخر المفرد فهو سام عن التغيير، وتحرر بذلك عن المجموع جمع التكسير، وهو ما تغير فيه بناء الواحد بزيادة أو نقصان أو تبديل شكل، فإن مثل هذا إنما يعرب بالحركات لا بالحروف، نحو: الزيود، جمع زيد، ورأيت الزيود، ومررت بالزيود. وقله: (وبيا اجرر) أصله بياء اجرر، لكنه قصره ضرورة وكثيرا ما يفعل هذا، كما قال بعد هذا: (وما بتا وألف قد جمعا) ثم لما قصره بقي التنوين ساكنا، وألف اجرر ساكنة أيضا، فالتقى ساكنان، فكان القياس كسر التنوين، إلا أن الناظم اضطر إلى حذفه فحذفه، كما حذفه أبو الأسود: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا

وقرئ من الشواذ: ((قل هو الله أحدُ الله الصمدُ)) وجعل إعراب هذا الجمع بالحروف أنفسها، كما ذهب إليه في التثنية، وهو أحد المذاهب فيه، والخلاف في الموضعين واحد والترجيح واحد فلا نعيده. وقوله: (سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين) إعلام بأن هذا الإعراب إنما يجعل لجمع ما كان مثل هذين الاسمين، إذا جُمع جَمع سلامة، تحررا مما لم يكن مثلهما، فإنه لا يعرب هذا الإعراب لكونه لا يجمع هذا الجمع، وكأنه قصد في هذا الكلام إدراج مسألة في مسألة أخرى، وذلك أن قصده أن يبين علامات الإعراب في جمع المذكر السالم، كما بين ذلك في التثنية والأسماء الستة غير أن هذا الجمع يبقى غير معرف به، فأدرج ذلك في كلامه، وأشار إلى أنه الجمع الذي يجمع عليه عامر ومذنب وما أشبههما مما كان على وصفهما فخرج بذلك جمع السلامة، بالألف والتاء، إذ له إعراب آخر سنذكره. والقاعدة عند النحويين في هذا أن يقال: الاسم المجموع جمع سلامة بحرف العلة والنون على ضربين: جامدة وصفة، فأما الجامد: فيشترط في جمعه كذلك أربعة شروط، زيادة إلى شروط التثنية: أحدهما: الذكورية في المعنى، فإنه إن كان مؤنث المعنى لم يجمع هذا الجمع، نحو: هند ودعد وزينب، فلا تقول: هندون ولا دعدون ولا زينبون. والثاني: العلمية، تحرزا من النكرة، والمعرف بغير العلمية فإنهما

لا يجمعان هكذا لا تقول: في رجل: رجلون، ولا في الغلام وغلام زيد الغلامون وغلامو زيد. والثالث: العقل، فإن ما ليس بعاقل لا يصلح لهذا الجمع، وإن كان مذكرا في المعنى وعلما فلا تقول في لاحق اسم فرس: لاحقون، ولا في شدق اسم فحل من الإبل شدقم، ولا ما أشبه ذلك. والرابع: خلوه من هاء التأنيث تحرزا من نحو: طلحة وحمزة، فإنك لا تقول فيهما شرط التذكير في المعنى والعلمية والعقل، وهذه الأوصاف الأربعة موجودة في عامر الذي نبه به الناظم، إذ هو مذكر في المعنى، علم عاقل، خال من هاء التأنيث فتجمعه وما كان مثله هذا الجمع، فتقول: العامرون والعامرين، ومثله الزيدون والزيدين، والجعفرون والجعفرين، والخالدون والخالدين وما أشبه ذلك، وقد ظهر بهذا مخالفته للكوفيين في إجازتهم جمع ما سمي به مما فيه التاء هكذا، فيقولون في حمزة: حمزون، وفي هبيرة هبيرون. والصحيح مذهب البصريين الذي ذهب إليه الناظم؛ لأن السماع بذلك معدوم فضلا عن كونه مما يقاس عليه، فإن سمع من ذلك شيء فمن النادر غير المعتبر، ورد أيضا بأن قيل لهم: إذا جمعتم ذلك بالواو والنون، فإما أن تبقوا العلامة أو تحذفوها،

فإن أبقيتموها لزم اجتماع علامتين متضادتين، وهما التاء والواو؛ لأن الواو علامة تذكير والتاء علامة تأنيث، وذلك غير جائز، وإن حذفتموها غيرتم بنية المفرد بإذهاب حرف دال على معنى، ولا عوض عنه؛ لأنه إنما جاز حذفها في الجمع بالألف والتاء، لتعويض تاء الجمع منها وحذفت في التكسير في نحو: "أعقاب" جمع عقبة؛ لأنه محل تغيير بخلاف جمع السلامة، ولا حجة لهم في جمع ما فيه ألف التأنيث أو همزته إذا سمي به وإن كان يجوز معه بالواو والنون، فتقول في رجل اسمه حُبلى أو حمراء: حبلون وحمراوون؛ لأن ما فيه الألف أو الهمزة قد تنزلتا منزلة الجزء، فجمع الاسم مع بقاهما بخلاف التاء فإنها زائدة على الكلمة فلم يسغ إبقاؤها ولا حذفها دون تعويض، فاختص ما هي فيه بالجمع باللف والتاء دون ما فيه الألف أو الهمزة لذلك. وأما الصفة فيشترط في جمعها هكذا زيادة إلى شروط التثنية ثلاثة شروط: أحدها: الذكورية لفظا ومعنى، فإنه إن كانت مؤنثة لفظا لم تجمع هذا الجمع، ولو كان مدلولها مذكرا نحو: رجل ربعة، ورجل هُزَأة، وعلامة ونسّابة، فلا تقول: رَبعون ولا هُزَؤون ولا علّامون ولا نسّابون، وكذلك إن كانت مؤنثة معنى، وإن كان لفظها مذكرا نحو: حائض وطامث، فلا تقول حائضون ولا طامثون، وكذلك لو اجتمع التأنيثان نحو: حُبلى وحمراء لا تقول الحُبلون من النساء جئنني ولا الحمراوون أتينني.

والثاني: العقل، تحرزا من الصفة الجارية على غير العاقل نحو: سابق إذا أردت به فرسا فلا تقول: سابقون، ولا في قاطع إذا أردت به سيفا قاطعون، ولا ما أشبه ذلك، وما جاء على خلاف ذلك فمسموع نحو ما أنشدوا من قوله: لا خمس إلا جندل إلا حرين ... والخمس قد يجشمك الأمرين وقال الآخر: فأصبحت المذاهب قد أذاعت ... بها الإعصار بعد الوابلينا لكن قد يعامل غير العاقل معاملة إذا وصف بوصف من أوصافه فيجوز إذ ذاك جمعه كما قال الله تعالى -حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام-

((يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) فعاملها معاملة العاقل حين وصفها بم يختص بالعاقل وهو السجود، وأنشد في "شرح التسهيل" قول الشاعر -يصف قوسا ونبلا-: لها فتية ماضون حيث رمت بهم ... شرابهم قان من الدم أحمر قال: وهذا مطرد فيما جرى هذا المجرى مما لا يعقل، فإن كان الناظم لم يعرض لهذا النوع، بل أخرجه بقوله: (مذنب) من حيث لا تكون هذه الصفة إلا لمن يعقل، وهو الظاهر، فيكون هذا النوع عنده غير مقيس، وهو الذي يظهر من سيبويه وغيره، وإن كان إنما أراد بقوله: (مذنب) أن مثل هذه الصفة التي هي جارية على العاقل وخاصة به تجمع هذا الجمع مطلقا سواء استعملت على حقيقتها، أم جرت على غير عاقل كما جرى (ماضون) في البيت على النبل لما عبر عنها بعبارة من يعقل، وذلك فتية فكذلك يكون لفظ (مذنب) فقد تجريه على ما يتعاصى عليك فيما تريد منه، كبعض الدواب والآلات فتقول: هؤلاء عبيد مذنبون وعاصون فإن تأتت لك وانقادت قلت: هؤلاء مطيعون كما قال في البيت (ماضون حيث رمت بهم) فالحاصل: في هذا الوجه اشترط كون الصفة في الأصل تجري على العاقل، وفي الأول جريانها عليه في الحال، وهذا أظهر في المقصد النحوي،

وهو مراد من اشترط العقل. والثالث: صحة لحاق هاء التأنيث في مؤنثها، تحرزا من نحو: قتيل وصبور وأحمر وسكران فإنك أردت المؤنث منها لم تلحق التاء فيها، وإنما تقول: امرأة صبور وقتيل بغير تاء، وامرأة حمراء وسكرى، فتأتي للمؤنث ببنية أخرى، فلا يصح إذ أن تقول: رجال قتيلون ولا صبورون ولا أحمرون ولا سكرانون، وما جاء من ذلك فشاذ نحو قول قيس بن رفاعة: منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المرد والشيب وقال الشاعر: فما وجدت نساء بني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة جاز في الصفة هذا الجمع نحو: الصالحون والحامدون والظالمون والمسلمون والحسنون و "المذنبون" في مثال الناظم، وهو الذي أشار به إلى هذه الشروط؛ لأن هذه الصفات كلها تلحقها التاء، إذا أريد بها المؤنث، فإذا شروط الجامد مشار إليها بمثال عامر، وشروط الصفة مشار إليها بمثال مذنب، وحصل بذلك ضابط ما يجمع على حد التثنية وما لا، بأوفى كمال في أشد اختصار، وهذه عوائد في هذا النظم كما ستراه في أثناء هذا الشرح بحول الله تعالى. وقوله: (وشبه ذين) تنبيه على أنه لم يرد خصوص المثالين، بل أراد مع ذلك كل ما كان في معناهما، ثم ذكر ما ألحق بهذا الجمع في الإعراب

بالحروف فقال: (وبه عشرون وبابه ألحق) ضمير "به" عائد على الجمع السالم المذكر، يعني أن العرب قد ألحقت بهذا الجمع في الإعراب ما ليس في بابه، إما لأنه اسم جمع، وإما لأنه جمع تكسير أو جمع سلامة، لكنه غير مستوف للشروط، أو مفرد ليس فيه معنى جمع، فأما "عشرون وبابه" وذلك ثلاثون وأربعون وخمسون إلى التسعين فملحقات بالجمع كما قال، وإن لم تكن جموعا حقيقية، إذ ليس "عشرون" مما له مفرد ولا ثلاثون مفردة ثلاثة ولا أربعون مفرده أربعة، وكذلك سائرها، إذ كان يلزم أن يكون أقل ما ينطلق عليه ثلاثون تسعين، وأقل ما ينطلق عليه أربعون مائة وعشرون، وذلك فاسد، وإنما هي أسماء تشبه أسماء الجموع أعربت إعراب جمع السلامة، وقد حكى المؤلف عن بعضهم أنها جموع على سبيل التعويض، كأرض لما سقطت منها تاء التأنيث حين عد بها المؤنث، ولم يكن من حقها أن تسقط، جمعت هذا الجمع تعويضا، وما تقدم يرد عليه، وأما الأهلون فجمع أهل، إلا أنه غير مستوف لشروط الجمع إذ ليس علما ولا صفة، لكن أهلا قد يستعمل استعمال مستحق في قولهم: هو أهل لكذا، بمعنى مستحق له، فعومل معاملته. قال الله تعالى: ((سيقول المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا

وأهلونا))، وقال: من أوسط ما تطعمون أهليكم))، وفي الحديث: "إن لله أهلين من الناس"، وقوله (والأهلونا أولو) أي وأولو، وعالمون ... إلخ مبتدآت معطوف بعضها على بعض خبرها قوله: (شذ)، وضمير شذ عائد على جميع ما ذكر على المعنى، كأنه قال: "شذ" ما ذكر ومثله ما قال رؤبة: فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَيَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ قال أبو عبيدة قلت لرؤبة: إن كانت الخطوط فقل كأنها، وإن كان سواد وبياض فقل كأنهما، فقال: كأن ذلك ويلك توليع البَهَق، فحمل الكلام كما ترى على معناه، فكذلك قول الناظم: "شذ" وأما "أولو" فاسم جمع وليس له واحد من لفظه، فليس على سبيل الجمع، ولكنّك تقول: جاءني أولو العلم، ورأيت أولي العلم، ومررت بأولي العلم، كما تقول: جاءني حاملوا العلم، ورأيت حاملي العلم، ومررت بحاملي العلم، قال الله تعالى: ((والملائكة وأولو العلم)) وقال: ((واتقون يا أولي الألباب))، ومفرده من جهة المعنى "ذو" الذي بمعنى صاحب، فهو مرادف لذووا، إذا قلت: ذوو العلم، إلا أن ذوو جمع حقيقة، فلذلك لم يذكره في الملحقات بالجمع، وأما "عالمون" فهو عند الناظم على ما ظهر منه اسم جمع، وليس بجمع

عالم وعلى مقتضى هذا الظاهر نص في "شرح تسهيل" فقال: وأما "عالمون" فاسم جمع مخصوص بمن يعقل قال: وليس جمع عالم؛ لأن العالم عالم، والعالمين خاص، وليس ذلك شأن الجموع ولذلك أبى سيبويه أن يجعل الأعراب جمع عَرَب؛ لأن العرب يعم الحاضرين والبادين، والأعراب خاص بالبادين وما قاله بناء منه على أنه خاص بمن يعقل، كما ذكر، وفيه اختلاف، وقد ذهب كثير من العلماء وأهل اللغة إلى أنه جمع عالم على حقيقة الجمعية، لكنهم اختلفوا في تفسير العوالم التي جمعت هذا الجمع، فمنهم من ذهب إلى أنها أصناف الخلق ما عقل منها ما لم يعقل، وهذا ظاهر كلام الجوهري ورأى أبي الحسن ومنهم من ذهب إلى أنها أصناف العقلاء وهم الإنس والجن والملائكة، وهو رأي أبي عبيد، ومنهم من ذهب غلى غير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره، فالأول صحيح في القياس من باب التغليب، كما تقول في رجل سابق وفرسين سابقين سابقون. والثاني كذلك أيضا صحيح وليس مفردة إذ ذاك أعم منه، بل هو بالعكس، فقد خالف العرب مع الإعراب، وصار كعالم مع عالمون، ولكن لا يخرج عن كونه جاريا مجرى الجمع وليس بجمع حقيقة، لعدم استيفاء شروطه، إذ قد فاته شرطان: أحدهما: أنه ليس بعلم، ومن شروط الجامد أن يكون علما.

والثاني: أنه ليس بعاقل؛ لأن لفظ "عالم" عبارة عن الصنف والصنف من جهة ما هو صنف ليس مما يوصف بالعقل، وإن كانت مفرداته توصف به، وقد حكى هو هذا القول الثاني، وأنه جمع هذا الجمع لتقويم جمعيته مقام ذكره، موصوفا بما يدل على عقله، ثم رده بأن هذا لو كان جائزا في عالم لكان جائزا في غيره من أسماء الأجناس الواقعة على ما يعقل وما لا يعقل، فكنت تقول في جمع شيء إذا أردت به جميع من يعقل شيئون، وفي امتناع ذلك دليل على فساد ما أفضى إليه. وأما "عليّون" فهو الاسم لأعلى الجنة، جعلنا الله من أهلنا بمنه وكرمه فهو مفرد جار مجرى الجمع، كصريفين وصفين ونصيبين. قال الله تعالى: ((كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون)) وكأنه في الأصل جمع عِلِّيٌّ على فعِّيل، ثم سمى به أعلى الجنة، وذكر الغزنوي عن يونس أن واحد علِّيين عِلِّي على وعلّيّة، والعِلّية: الغرفة. وقول الناظم (علّيُّونا) هو على حذف العاطف، أي: وعلّيون. وأما "أرضون" فخّوه من شروط الجمع أيضا ظاهر؛ لأنه جمع أرض وأرض اسم جامد مؤنث لما لا يعقل' إلا أنه جمع هذا الجمع لأنه ربما يورد في مقام التعجب والاستعظام. ألا ترى إلى قولهم: لقيت منه البِرُحَين

والفتكرين، وهي الشدائد والدواهي، وبذلك علل الفراء عليّين، وقول العرب: أطعمنا مرقة مرقين؛ بهذا علل المؤلف وأنشد على وروده في أرض في مقام الاستعظام قول الشاعر: لقد ضجت الأرضون إذ قام من بنى ... سدوس خطيب فوق أعواد منبر وأنشد بيتا آخر لم أقيده، وقوله: "شذ" خبر قوله: (والأهلون) ما عطف عليه، أي: أن هذا الذي تقدم شاذ عن القياس، فبابه الحفظ، ثم قال: (والسنونا وبابه) يعني أنه شذ أيضا كشذوذ ما تقدم من الألفاظ، فهو مبتدأ محذوف الخبر، كقولك: زيد قائم وعمرو. فإن قلت: لم فصل السنين وبابه عما تقدم وكان قادرا على أن يقول: وأرضون والسِّنون وبابه شذ، هذا كان يكون وجه الكلام فلم عدل عنه. فالجواب: أن يقال: إنما عدل إلى فصل السنين وبابه عما قبله، وإن كان الجميع على غير قياس الجمع؛ لأنه مخالف لما تقد م بحكم يذكر فيه، وهو قوله: (ومثل حين يرد ذا الباب ... ) إلى آخرة، فلأجل هذا فصله ليتعين إذا أشار إليه بعد وأحال عليه وإشارته

بقول: (والسنونا وبابه) إلى ما حذفت لامه فجعلت هاء التأنيث فيه عوضا مما حذف منه نحو: سنة وبرة قلة وظبة ورئة وثبة، فإنهم قالوا فيها على جهة الشذوذ، سنون ويرون وقلون وظبون ورئون وثبون، وفي القرآن الكريم ((في بضع سنين))، وأنشد أبو زيد: فغظناهم حتى أتى الغيط منهم ... قلوبا وأكبادا لهم ورئينا وأنشد أبو عمرو: نحن هبطنا بطن والغينا ... والخيل تعدو عصبا ثبينا وقال الكميت: يرى الراؤون بالشفرات منها ... كنار أبي حباحب والظبينا وقال كعب: تعاور أيمانهم بينهم ... كؤوس المنايا بحد الظبينا

وقال عدي بن زيد: عن مبرقات بالبرين وتبـ ... دو بالأكف اللامعات سؤر فسنة: أصل لامه الواو لقولهم: سنوات، أو الهاء لقولهم: سانهت، وقلة من الواو كذلك لقولهم: قلوت، وهي عودان يلعب بهما الصبيان، وبرة من الوا أيضا، وهي حلقة من صفر تجعل في أنف بعير. قال أبو علي: أصلها بروة؛ لأنها جمعت على بُرًى، كقرية وقُرًى. وظبة السيف حده، وهي من الواو، ورئة أصلها الياء؛ لقولهم: رأيته إذا أصبت رئتهن فهذا الباب كله على غير قياس، بل إنما مجراه مجرى التكسير، ولذلك غيرت أوائل المفردات في الجمع فقالوا: في قلة قلون، وفي ثبة ثبون، وفي سنة سنون، والهاء فيها كلها عوض من المحذوف، ولما كانت تحذف في الجمع أتو بهذا الجمع المخصوص عوضا من ذلك المحذوف، فإذا تقرر هذا ورد على كلام الناظم سؤالان: أحدهما: أن هذا النوع الذي فصله مما قبله، وهو باب "سنين" كان حقه أن يذكر معه "أرضون"؛ لأنه مثله في التعويض، فقد قالوا في أرض، إنما جمع هذا الجمع ليكون عوضا مما كان حقه أن يلحقه فلم يلحقه، لأن الأرض مؤنثة وحق المؤنث أن تلحقه علامة التأنيث، فلما لم تلحقه، وكان من الواجب في الأصل لحاقها عوّضوا منها هذا الجمع فساوى

بذلك باب "سنين" من حيث كان حقه في الأصل أن يستعمل تاما، فلما لم يستعمل كذلك جعلوا له هذا الجمع عوضا مما فاته من ذلك، وإذا ثبت هذا فإخراجه لأرضين عن باب "سنين" المفصل غير سديد في بادئ الرأي. والثاني: أنه جعل باب "سنين" من الشاذ في هذا الاستعمال، إذ عطفه على ما بين أنه شاذ كما تقدم في التفسير، وليس من الشاذ، ألا ترى أن طائفة من النحويين يقولون بالقياس فيه حسب ما يأتي إثر هذا بحول الله، ولا يقال بذلك إلا فيما كثر مثله في الاستعمال، وعلى هذا نص في "التسهيل" حيث قال: وشاع هذا الاستعمال فيما لم يكسر من المعوض من لامه هاء التأنيث فعده من الشائع المستمر لا من الشاذ، وهو هنا قد عده من الشاذ، كما ترى، فلا بد من صحة أحد كلاميه وعدم صحة الآخر، لكن ما قاله في "التسهيل" صحيح جار على ما ذكره غيره من النحويين، فثبت أن ماقاله هنا غير صحيح. والجواب عن الأول أن ما قيل: في أرضين، من العلة لم يعتبرها المؤلف، وإنما اعتبر فيه معنى الاستعظام كما مر، فهو عنده كعلّين لا كسنين، وإذا كان كذلك لم يلزمه اعتراض، إذ ليس قائلا بأن هذا الجمع في أرض عوض من الهاء المحذوفة؛ لأنه أمر توهمي لا يبنى عليه ولا يرجع في قياس إليه.

والجواب عن الثاني أن يقال: يحتمل أن يكون مراد الناظم أن باب "سنين" شاذ أيضا حسب ما تقدم، غير أن شذوذه على غير جهة شذوذ ما تقدم فإن القاعدة الأصولية أن الشاذ على ثلاثة أضرب: شاذ في القياس والاستعمال معا، وذا هو الذي لا يوجد إلا في الشعر، أو في قليل من الكلام. ومثله ابن جني بتصحيح عين مفعول مما عينه واو نحو: فرس مقوود ورجل معدود، وما ذكره الناظم من أهلين وأولي وعالمين وأخواتها هو من هذا الضرب، إذ ليس بشائع، وإنما هو قليل وشاذ في القياس دون الاستعمال وهو الذي يوجد كثيرا في الكلام، ولكنه مع ذلك غير مقيس، ومثله ابن جني بتصحيح عين أفعل واستفعل في مثل: أخوص الرمث، وأغليت المرأة واستحوذ فلان على البلد، واستصوبت الأمر، فمثل هذا شائع في الكلام إلا أنه لم يبلغ مبلغ القياس، وما ذكرت من باب "سنين" من هذا القبيل عنده، إذ هو مع شياعه لم يبلغ مبلغ القياس، فلم يخرج عن باب الشذوذ، فإذا لادرك عليه في إطلاق لفظ الشذوذ على القسمين لصحة الإطلاق.

وشاذ بعكس هذا الثاني كماضي يذر ويدع ونحوه من مسائل باب الاستغناء ولا حاجة بنا إلى هذا الضرب، والحاصل أن كلامه هنا وفي "التسهيل" صحيح، وقد يحتمل أن يكون مراد الناظم أن باب سنين أجرى أيضا مجرى الجمع السالم في الإعراب هكذا على الجملة، من غير تعويض لكونه شاذا أو غير شاذ بل يقدر خبر المبتدأ الذي هو "والسنون وبابه" كأنه قال: والسنون وبابه كذلك، أو مثل ما مر، يعني في الإعراب، أو ملحق بالجمع، كما قال في باب عشرين أنه ألحق به ودل على هذا المقدر الكلام قبله، فيكون قد أتى بثلاثة أنواع مما أجرى مجرى الجمع، وليس به. أحدها: أسماء الأعداد كعشرين. والثاني: باب ستين. والثالث: ألفاظ شذت لا ضابط لها. وإنما أخر باب "سنين" لما تقدم، ولا يبقى بعد هذا في كلامه إشكال، والله أعلم. ثم قال: ومثل حين قد يرد ذا الباب "مثل" منصوب على الحال من "ذا" ويريد أن هذا الباب الذي أشار إليه بقوله: "والسنونا وبابه" قد يرد عن العرب مثل حين، أي في جعل الإعراب على النون، فتعامل النون فيه معاملتها في حين، كأنها من أصل الكلمة ويجري الإعراب عليها، بالرفع والنصب والجر بالحركات، ويتبعها التنوين، لكن بشرط نبه عليه التمثيل بحين، وهو أن يكون قبل النون الياء، كما كان

ذلك في لفظ "حين". قال في "شرح التسهيل": وإنما ألزموه إذا أعربوه بالحركات الياء دون الواو؛ لأنها أخف عليهم؛ ولأن باب الياء في مثل هذا كغسلين أوسع من باب الواو كالسيلَجُون ولأن الواو كانت إعرابا صريحا إذ لم يشترك فيها شيئا فلو لزمت عند الإعراب بالحركات لكان الرفع بالضمة معها كرفعين، وليست الياء كذلك، إذ لم ينفرد بها شيء واحد لوجودها علما للنصب والجر، فعلى هذا تقول: في "سنين" على ما قرر الناظم: أتت عليه سنين حسنة "وإن سنينا يطاع الله فيها لسنين" وفي سنينك كثرة، ولا تسقط النون للإضافة، بل حكمها حكم حين على الإطلاق ومما جاء في ذلك في السماع قول الشاعر -أنشده السيرافي-: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مرادا وقول الآخر -وهو كثير عزة-: حرام على الدهر نضر أمانة ... لذات هوى عندي وإن طال حينها طوال الليالي ما بقيت وما مضى ... شهور وأيام لها وسنينها حياتي ما غنت حمامة أيكة ... وما طاوعت يسرى يدي يمينها

وأنشد بعضهم هذا البيت هكذا: أرى مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال وحكى أيضا في جمع مائة مئين، ومنه قول حسان بن ثابت -رضي الله عنه-: وذاك بأن ألفكم قليل ... بواحدنا أجل أيضا ومين أراد: ومئين، فحذف الهمزة، ومثل هذا فعل بقلة، أنشد السيرافي مثل المقالي ضربت قِلِينها وفي البرة أيضا: إلى برين الصفر الملويات

وقد فعل هذا ببنين. أنشد السيرافي: وإن لنا أبا حسن عليا ... أب بر ونحن له بنين كما جمع ما فيه الهاء جمع سنة، وإن لم يحذف منه شيء، وقوله: (وهو عند قوم يطرد) مرجع الضمير يحتمل وجهين: أحدهما: أن يرجع إلى الحكم الذي قرره بقوله: (ومثل حين قد يرد ذا الباب) ويعني أن هذا الإعراب يطرد عند قوم في سنين وبابه مما حذف فيه اللام وعوض منها الواو والياء، والقوم هاهنا عند العرب لا النحويون، قال في "شرح التسهيل": من العرب من يشبه سنين ونحوه بغسلين، فيلزمه الياء ويعربه بالحركات، ومثل ذلك، ثم قال: وإنما اختص هذا النوع بهذه المعاملة لأنه أعرب إعراب جمع التصحيح، وكان اللائق به إعراب جمع التكسير لخلو واحده من شروط جمع التصحيح، ولعدم سلامة نظمه، وكان جديرا بأن يجري مجرى صنوان وقنوان، فلما كان ذلك له مستحقا ولم يأخذه نبه عليه بهذه المعاملة وكان بها مختصا قال: ولو عومل بهذه المعاملة نحو: رقين،

يعني مما حذفت فاؤه لا لامه لجاز وكان قياسا وإن لم يرد به سماع، ثم ذكر أنه لو عومل بهذه المعاملة عشرون وأخوته لكان حسنا؛ لأنها (ليست) جموعا' فكان لها حق في الإعراب بالحركات كسنين، وحمل ذلك الأربعين في بيت سحيم: وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين قال: ويمكن أن يكون كسرة ضرورة، ثم قال: وإذا جاز لهم الانقياد إلى التشبيه اللفظي في الخروج عن أصل أحق بالجواز، وذلك أنهم قالوا في نحو: يا سمين وشياطين، ياسمون وشياطون، فأعربوهما إعراب جمع التصحيح تشبيها للآخر بالآخر، وإن كان نون بعضها أصليا، مع أن هذا الإعراب فرع، والإعراب بالحركات أصل، فكان تشبيه باب سنين وظُبين بباب قرين ومبين أنسب وأقرب.

فإذًا يكون معنى كلام الناظم هذا الإعراب بالحركات على حد إعراب "حين" يطرد عند الناس من العرب في كل مكان من باب "سنين". والثاني: أن يكون الضمير عائدا على إعراب سنين وبابه، بالواو رفعا وبالياء نصبا وجرا، أي: وإلحاقه بالجمع الحقيقي في الإعراب يطرد عند قوم، والقوم هاهنا النحويون وهو سيبويه ومتابعوه، فإن القاعدة عندهم: أن ما حذفت لامه من الثلاثي، ولم يعوض منها ألف الوصل، فإن قياسه أن يجمع بالألف والتاء، وبالواو والنون، وإذا جمع بالألف والتاء لم يرد المحذوف، وإذا جمع بالواو والنون غير أوله إلى الكسر إن لم يكن مكسورا، وهذا كله ما لم تكسره العرب، فإن كسرته لم يجمع هذا الجمع، استغناء به عن هذا الجمع، والتكسير في هذا النوع شاذ نحو: أمه وإماء وآمٍ، وشفه وشفاه، وشاة وشياه، وكان القياس في باب "سنين" الجمع بالألف والتاء، ليكون محذوفا في الجمع، كما كان في المفرد محذوفا، ولما لم يمكنهم ذلك في التكسير للزوم رد المحذوف فيه، جمعوه بالواو والنون، وكسروا الأول، فكان ذلك نوعا من التكسير للزوم رد المحذوف فيه، جمعوه بالواو والنون، وكسروا الأول، فكان ذلك نوعا من التكسير، وقد لا يكسرون وهو قليل، وقد يكون الكسر في النية، إذا كان أول المفرد مكسورا، ولما صح القياس عدم رد المحذوف كان التكسير فيه شاذا، وكان رده في الجمع بالألف والتاء قليلا كذلك، ودل على قياس الجمع بالواو والنون في هذا عند سيبويه قوله -في باب جمع الرجال والنساء-: ولو سميت رجلا بربة في لغة من خفف والتكسير في هذا النوع] *فقال: ربة رجل، فخففت ثم جمعت* [قلت: ربات وربون

في لغة من قال: سنون، وقال أيضا: وإن جاء شيء مثل برة لم تجمعه العرب، ثم قست ألحقت التاء والواو والنون؛ لأن الأكثر مما فيه هاء التأنيث من الأسماء التي على حرفين، جمع بالتاء والواو والنون ولم يكسر على الأصل. فهذا قياس نحوي فيما اجتمعت فيه أربعة الشروط، وهي أن يكون محذوف اللام، وألا يعوض منها ألف الوصل، وألا تكون العرب قد سمع منها تكسيرة، وأن يكون مؤنثا بالهاء، وهذه الشروط موجودة في تمثيله بسنين، فإن مفرده سنة، وهو محذوف اللام، غير لاحق له ألف الوصل، ولا سمع له جمع تكسير، وهو مؤنث بالهاء، فلا يحق به ما لم يحذف لامه وإن جمع هكذا فشاذ نحو: حرة وحرون وأرض وأرضون وإوزة وإوزون، وكذلك ما لحقته ألف الوصل، لا يجمع إلا شاذا نحو: بنون في ابن، وكذلك ما جمع تكسيرا يشذ جمعه هكذا نحو: ظبة وظبا وظبون وبرة] ويرى [ويرون، وكذلك ما لم تكن فيه الهاء نحو: أخ وأب، فقولهم: أخون شاذ، وكذلك لا يلحق به على مقتضى الشرط الأول ما حذفت فاؤه، لأن جمعه عنده بالواو والنون قليل نحو: رقة ورقون، ولدة ولدون، نص على ذلك في "شرح التسهيل" ثم إن تمثيله بالجمع مكسور الفاء دل على طلب هذا التغيير في المجموع جمع سنين، إذ غير من الفتح إلى الكسر فكذلك ينبغي أن يكون المضموم الفاء كثبة، تقول: فيه ثبون،

وفي قلة قلون. فإن قلت: فإن المضموم الفاء فيه وجهان: الكسر وبقاؤه على حاله ومثاله يعطي وجها واحدا وهو الكسر، قيل: نعم، وهو مراده هنا وإن أجاز في "التسهيل" الوجهين، فإن ظاهر كلام سيبويه أن البقاء على الضم قليل، فلذلك لم ينبه عليه، وهو حسن. فإن قيل قوله: (وهو عند قوم يطرد) إذا حملته على هذا التفسير الثاني اقتضى أن قوما آخرين قائلون بعد اطراده، فمن هؤلاء القوم؟ فالجواب: أن ظاهر كلامه في "التسهيل" القول بعدم الاطراد، ألا تراه قال: وشاع هذا الاستعمال فيما لم يكسر من المعوض من لامه هاء التأنيث فلم يلتزم فيه القياس، بل أخبره بشياعه فحسب، فدل ذلك على أنه عنده غير مطرد، وأيضا فإن الجزولي قال: وربما جاء هذا الجمع فيما لا يعقل عوضا من نقص الكلمة لفظا أو توهما كسنين وأرضين وإوزّين فهذا الكلام أيضا ظاهر في عدم القياس والاطراد، ولا يبعد أن يكون ثم مخالف غير من ذكر، وبمثل هذا يخرج قصير الباع مثلى عن عهدة النقل، وقد يمكن في هذا الكلام وجه ثالث من التفسير، وهو أن يكون شاملا للتفسيرين معا ومتضمنا للمسألتين، ويكون المراد بقوم في قوله: (وهو عند قوم يطرد) النحويين خاصة، أما في التفسير الثاني فقد ظهر، وأما في الأول فقد نص السيرافي على أن كثيرا من النحويين أجازوا في المنقوص الذي يجمع بالواو والنون أن يعرب في النون وتلزم الياء قالوا: لأن النون قامت مقام الذاهب من الكلمة، ولو كان الذاهب موجودا لكان الإعراب فيه كسائر المفردات، فكذلك

يكون ما قام مقامه، وأنشد على ذلك الأبيات المتقدمة، فإذا يكون الضمير عائدا على معنى ما ذكر من الحكمين كما قال رؤبة: كأنه في الجلد توليع البهق وق تقدم مثله. * * ... * ثم قال: ونون مجموع وما به التحق ... فافتح وقل من بكسره نطق ونون ما ثنى والملحق به ... بعكس ذاك استعملوه فانتبه نون منصوب بـ "افتح" و "ما" مجرورة الموضع عطفا على مجموع وهي عبارة عما جرى مجرى الجمع مما تقدم، و "به" متعلق بـ "التحق" والضمير عائد على مجموع، وفاء "فافتح" فاء جواب شرط محذوف، دل عليه تقديم معمول افتح، والتقدير: مهما يكن من شيء فافتح نون مجموع وما التحق بالمجموع، والتحق افتعل من قولهم: لحقت فلانا ولحقت به لحاقا وألحقته أيضا، ومنه في القنوت "إن عذابك (الجِدّ) بالكافرين ملحق" أي: لاحق، ولحاق غير المجموع به هو كونه أعرب بإعرابه، ويريد أن النون اللاحقة للمجموع وما جرى مجراه يلزم فتحها، ولا يجوز فيها الضم مطلقا، ولا الكسر إلا قليلا يحفظ ولا يقاس عليه، وكان أصلها أن تكون ساكنة، لأنها في مقابلة

التنوين والتنوين ساكن، فكذلك كان الأصل في مقابله، وأيضا أصل البناء السكون، وإنما حركت لالتقاء الساكنين وكانت الحركة فتحة، لأنها أخف من الضمة والسرة، وأيضا فلما يلزم في الضم والكسر من توالي الأمثال، أما الضمة فكان يلزم باجتماعها مع الواو اجتماع الأمثال فانتقلوا إلى ما ليس فيه ذلك من الحركات وهي الفتحة، وأيضا فللفرق بينها وبين نون التثنية. وقوله: (وقل من بكسرة نطق) أراد به أن الذين كسرو هذه النون من العرب قليل، وإنما ذكر قلة من نطق بالكسر فقد قل الكسر في نفسه، فاستغنى بذكر السبب وهو قلة الناطقين، عن ذكر المسبب وهو قلة الكسر، وأطلق لفظ القلة ها هنا ومراده به الشذوذ، وغالب استعماله له مرادا به ما جاء في الكلام قليلا، لا على ما اختص بالشعر، كما أن أصل استعماله للفظ الشذوذ أن يكون مرادا به الاختصاص بالشعر كما تقدم، لكن قد يخرج عن هذا الأصل فيطلق الشذوذ على ما جاء فيا لكلام، كما قال: في أهلين ونحوه، ويطلق لفظ القلة على الشاذ كهذا الموضع، اتساعا واتكالا على فهم المقصود ومثال كسر نون المجموع حقيقة قول الشاعر وهو سحيم بن

وثيل فيما ذكره الجوهري: عرين من عرينة ليس منا ... برئت غلى عرينة من عرين عرفنا جعفرا وبني عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين وقال ذو الإصبع العدواني: إني أبي ذو محافظة ... وابن أبي أبي من أبين لا يخرج الفسر مني غير ما بيه ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني ومثال ذلك فيما جرى مجراه قول سحيم:

وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين أخو خمسين مجتمع أشدى ... ونجدني مداورة الشؤون وفي الحماسة: أقول حين أرى كعبا ولحيته ... لا بارك الله في بضع وستين من السنين تعلّاها بلا حسب ... ولا حياء ولا عقل ولا دين وقوله: (ونون ما ثنى والملحق به) إلى آخره، يعني أن نون المثنى من الأسماء حقيقة وما ألحق به مما ليس بمثنى حقيقة استعملوه بعكس نون المجموع وما لحق به، أي: جعلوا كسر النون منه واجبا وقل من نطق بفتحه، ومعنى العكس لغة: رد الشيء أوله، ومنه عكس الوليّة وهي الناقة المتروكة عند قبر صاحبها ليحشر عليها بزعمهم كانوا يربطونها معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي صدرها وبطنها ويقال: مما يلي ظهرها ويتركونها هناك حتى تموت جوعا وعطشا، وعلى هذا المعنى جاء في اصطلاح أهل المنطق، فالعكس في القضية عندهم هو تصيير موضوعها محمولا ومحمولها موضوعا، على وجه يصدق الكلام به، فالعكس في كلام الناظم أن تقول: فاكسر وق من بفتحه نطق، وذلك راجع إلى الكلام الأول، وهو قوله: (فافتح وقل من بكسره نطق) وهو المنعكس هنا، وإنما حركت النون هنا لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر على أصل التقاء الساكنين ومثال فتحها قول

حميد بن ثور: على أحوذيين استقلت عشية ... فما هي إلا لمحة وتغيب وقال الآخر: فعلته لا تنقضي شهرينية ... شهرى ربيع وجماديينه وأنشد السيرافي: أعرف منها الأنف والعينانا ... ومنخرين أشبها ظبيانا ويرد على الناظم سؤلان: أحدهما: أنه عبر هنا بالكسر في قوله: (وقل من بكسره نطق) والكسر إذا أطلق في الاصطلاح المعهود فالمراد به كسر البناء، لا كسر الإعراب، وإذا كان كذلك أشكل هذا الإطلاق؛ إذ لا دليل على كونه كسر بناء، لاحتمال أن يكون كسر إعراب، بل ثم ما يدل على كونه كسر إعراب، وهو أنه لم يأت جميع ما استشهد به على الكسر إلا مع تقدم عامل الجر على ذي النون كقوله: (من أبيين) وقول الآخر: *وقد جاوزت حد الأربعين*

وقول الآخر: (وفي بضع وستين) ولم يأت في حالة رفع ولا نصب، فدل ذلك على أنه جار على مقتضى العامل، وقد نص في "شرح التسهيل" على جواز كونها كسرة إعراب وقد تقدم التنبيه على شيء منه، وعلى القطع بهذا الاحتمال حمل الأخفش الأصغر والأعلم هذا النحو فقال الأخفش في بيت ذي الإصبع جعله بمنزلة الجمع المكسر، وجعل إعرابه في آخره، كما يفعل في فتيان وغلمان فيقول: هؤلاء أبين فاعلم، ورأيت أبيينا فاعلم ومررت بأبيين فاعلم، ونحو هذا ذكر الأعلم في بيت الحماسة إلا أنه قال: وهو في الستين ونحوها من العقود أمثل منه في المسلمين ونحوه؛ لأنه لفظ مخترع للعقود غير جار على واحد، فهو أشبه بالواحد الذي إعرابه بحركة آخره من المسلمين ونحوه، وإذا ثبت هذا كان قطعه بأنه كسر بناء معترضا عليه. والجواب من وجهين: أحدهما: أن النحويين لم يتفقوا على ما قال الأخفش والأعلم، بل منهم

من ادعى أنه كسر التقاء الساكنين، نص ابن جني في "التنبيه" على أن المبرد قال بذلك في قول سحيم: * ... حد الأربعين* وحمل عليه ابن جني قول الآخر: (في بضع وستين) وذكر أنه فعل ذلك ضرورة، ولذلك فتح نون "السنين" في البيت الثاني على الأصل كما ذكر الأعلم في مذهبه أن ذلك ضرورة وإلى هذا ذهب المؤلف في "التسهيل"، وإن أمكن عنده الوجه الآخر، ويظهر هذا المذهب من كثير من النحويين وإذا كان كذلك لم يبعد أن يكون ذهب إلى رأي من رآه كسر بناء. والثاني: أن المذهبين في حقيقة المسألة لا فرق بينهما؛ لأن الجميع ضرورة، فإن قلت: بل الفرق بينهما ظاهر في التفريغ عليهما ألا ترى أن القائل بأنه كسر بناء يلتزم أنه إن اضطر إلى الكسر كسر، وإن تقدم عامل النصب؛ فيكسر النون في نحو: رأيت الزيدين، وجاوزت الأربعين بخلاف القائل بأنه كسر إعراب، إذ لا يتأتى إلا مع عامل الجر كالشواهد المتقدمة. فالجواب: أن هذا ليس بفرق في حقيقة قصده، إذ كلامه وكلام غيره في المسألة في توجيه شيء مسموع، لا في القياس عليه، فطائفة تقول: إنه كسر إعراب، وأخرى تقول: كسر بناء، وكلا القولين لا ينبني عليه في لك المسموع شيء، وإنما يحتاج

إلى الفرق المذكور، ويكون مفيدا حيث يتكلم في القياس على ذلك المسموع، وذلك من باب الضرائر الشعرية، وهو لم يتعرض لذلك ولا غيره، حين وجهوا المسموع' فإذا لا فرق بين القولين في هذا القصد، نعم يبقى الاعتذار عن تعبيره بالكسر في هذا الوجه وهو قريب، إذ الكسر لمطلق يطلق على كسر الإعراب، كما يطلق على كسر البناء، وهو على هذا الإطلاق أعم من كونه كسر بناء، أو كسر إعراب، فعبر بالعبارة العامة تحاميا أن يلتزم أحد المذهبين، أو فسحا لمجال النظر في المدركين، والله أعلم. والسؤال الثاني: أن قول الناظم: (ونون ما ثنى والملحق به) شيء واحد لا شيئان وإنما يعني أن كل ما كان مرفوعا بالألف، ومنصوبا ومجرورا بالياء، فإن نونه قد تفتح في بعض المواضع فلا يلزم في الفتح، وإن كان قليلا أن يأتي في كل قسم من أقسامه، بل في أي قسم أتى يلزم وجوده في الجملة، كما تقدم في الاستشهاد عليه، وكذلك قوله: (ونون مجموع وما به ألتحق) معناه أن كل مرفوع بالواو، ومنصوب ومجرور بالياء، قد تكسر نونه قليلا، فالباب واح وإن كان الكسر قد حصل في الملحق كما تقدم، لكنه لم يعينه الناظم من حيث قال: (وما به التحق)، بل من حيث الجملة، واتفق أن وجد ذلك

في الملحق وهذا حسن في الجواب فتدبره، وبالله التوفيق. وقوله: "فانتبه" معناه انتبه لتحقيق العكس وتنزيله على كلام العرب. * ... * ... * وما بتاء وألف قد جمعا ... يكسر في الجر وفي النصب معا كذا أولات والذي اسما قد جعل ... كأذرعات فيه ذا أيضا قبل هذا نوع آخر من أنواع النيابة، وهو من (المواضع) التي تنوب فيها الحركات عن الحركات على غير ما تقدم، وذلك موضعان: أحدهما: جمع المؤنث السالم وما جرى مجراه، والثاني: الاسم الذي لا ينصرف، فأخذ أولا في ذكر جمع المؤنث السالم، فبين أن ما جمع بالألف والتاء حكمه أن يكون في الجر والنصب معا مكسورا، على أن الكسر هي العلامة في النوعين فتقول: مررت بالهندات، ورأيت الهندات. قال الله تعالى: ((إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... )) إلى آخر الآية، وأما الرفع فسكت عنه، لأنه داخل له في حكم الكلية التي قدمها في قوله (فارفع بضم ... ) إلى آخره فلم يحتج هاهنا إلى ذكر ذلك، لأنه إنما يذكر ما خالف تلك الكلية، وهنا يقال له: كان الأولى ألا تذكر الجر؛ لأنه بالكسر وقد تقدم

الكلية وإنما يخالفها هذا النوع في النصب خاصة، ووجه ما فعل من ذلك أنه لم يقصد الإخبار بحكم الجر، بل قصد الإخبار بالمشاركة الحاصلة بين النصب والجر، فكأنه أراد بيان حكم النصب، وبيان كونه مشاركا للجر، كما شاركه في التثنية والجمع على حدها، وقدم الجر في قوله: (يكسر في الجر وفي النصب) لأنه الأحق بالكسرة كما تقدم، وإنما كان النصب ها هنا تابعا للجر في كونه بالكسرة، لأنه نظير جمع المذكر السالم، وجمع المذكر السالم حمل فيها النصب على الجر في كونه بالياء، فكذلك حمل النصب ها هن على الجر في مونه بالكسرة، لنوع من المقابلة، كما جعلوا ها هنا التنوين في مقابلة النون هنالك، فلم يزل مع وجود مانع الصرف في اللغة الفصحى، كما لو تزل النون هنالك. وقوله: (معا) أتى به على معنى التوكيد لإثبات مشاركة النصب للجر في الكسر، ثم ذكر ما ألحق بهذا الجمع في الإعراب، وإن لم يكن منه حقيقة، فقال: (كذا أولات) وهو بمعنى ذوات: اسم جمع لذات، مؤنث بمعنى صاحب، وأراد أن حكم "أولات" حكم هذا الجمع من النصب بالكسرة كالجر، كقوله تعالى: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن)) ورفعه بالضمة من مقتضى الكلية الأولى، كقوله تعالى: ((وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)).

ثم قال: (والذي اسما قد جُعل كأذرِعاتٍ .. ) إلى آخره يعني أن الذي سمي به من الجُموع يقبل فيه هذا الحكم، أي: الإعراب كإعرابه قبل أن يسمى به ومثَّل بأذرعات. قال ابن سيده: هما موضعان، وقال الجوهري مواضع بالشام تنسب إليها الخمر، وأنشد لأبي ذؤيب الهذلي: فما إن رحيق سَبَتْها التجارُ ... من أذْرَعَات فوادى جَدَر وهو اسم علم لها، وأنشد سيبويه لامرئ القيس: تنوَّرْتُها من أذرعات وأهلها ... بيثربَ أدنى دارِها نظر عالِ ومثله: " عرفات " حكمه هذا، وهو اسم / علم للموضوع المعروف واستدل سيبويه على ذلك بقولهم: " هذه عرفات مباركًا فيها " فنصب مباركًا على الحال، ولو كان نكرةً لجرى عليه صفةً، وبأنه لو كان نكرةً لدخلت عليه الألف واللام، وهي لا تدخل عليه، ولم يُفصل الناظم في حكم هذا الجمع بعد التسمية بين كونه منونًا وكونه غير منونٍ، بل أطلق القول في إعرابه هكذا، ولم يلتفت إلى صرف أو غيره، والإطلاق صحيح، فقد ذكروا أن للعرب هنا وجهين: أحدهما: بقاءُ التنوين كما كان قبل التسمية به، وهي اللغة

الفاشية وبها نزل القرآن. والثاني: ترك صرفه، إلا أن من لم يصرفه من العرب قسمان: فمنهم من يتركه على حاله كما لو كان منونًا، فينصبه ويجره بالكسرة فيقول: هذه عرفاتُ، ورأيتُ عرفاتِ، ومررتُ بعرفاتِ، وعليه أنشد بعضهم بيت الأعشى: تخيّرها أخُو عانات شهرًا ومنهم من يجعله مثل: أرطاة، إذا سمى به، فيجره وينصبه بالفتحة فيقول: رأيتُ عرفاتَ، ومررتُ بعرفاتَ، وعليه أنشدوا: تخيرَها أخُو عاناتَ شهرًا وقال امرئ القيس: تنورتُها من أذرِعاتَ وقال الهذليُّ: من أذرعاتَ فوادي جَدَرْ

بفتح التاء في الجميع. قال ابنُ خَروف: كذا وقع بخط ابن خالوية، يعني بيت الهذليُّ، بفتح التاء وهذه اللغة الأخيرة نادرةٌ فلم يعتبرها الناظم ولم يشر إليها، وإنا أشار بمقتضى إطلاقه إلى اللغتين المتقدمتين، والإشارة بذا في قوله: (فيه ذا أيضًا قُبِلْ) إلى النصب بالكسر المتقدم الذِّكر، أي أن هذا الحكم مقبول فيما سمِّي به من هذا الجمع وبقي في هذا الفصل مُشاحةٌ لفظية في مواضع ثلاثة من كلامه: أحدها: قوله: (وما بتا وألِف قد جُمِعَا) فأطلق القول في التاء والألف، ولم يقيدهما معا بالزيادة، ولابد من ذلك، لأن عبارته إن دخل فيها الهندات والزينبات، فكذلك يدخل تحتها نحو: قضاة وأبيات، فإن كل واحد منهما يصدق عليه أنه مجموع بالألف والتاء؛ لأن ألف قضاة منقلبة عن أصل، لا زائدة، وتاء أبيات أصل لا زائدة، فلم تجتمعا معًا في الزيادة، فلم يكن من الجمع السالم بالألف والتاء، فالحاصل أن جمع التكسير يدخل عليه ما كان آخره ألف وتاء، فيقتضي أنه ينصب بالكسر وهذا غير صحيح، ولأجل هذا قيّد الألف والتاء بالزيادة في " التسهيل " حين ذكر نيابة الكسرة عن الفتحة وعين لذلك نصب أولات، والجمع بالألف والتاء الزائدتين، وبين في " الشرح " أنه تحرز مما ذكرته، فكان ينبغي أن يتحرز هنا من

ذلك أيضًا. والثاني: قوله: (والذي اسما قد جُعِل) جُعِلَ هنا بمعنى صُيِّرَ، أي: لم يكن اسمًا ثم صار اسمًا، وهذا اللفظ غير مبين للمقصود، لأن أذرعات مثلًا لم يكن غي اسمٍ، ثم صيّر اسمًا، بل هو اسم في الحالتين معًا، حالة العَلَمية وقبل ذلك، فكان الأولى به أن يقيد لفظه فيقول: والذي اسما علَمًا قد جُعِل أوو الذي نقل إلى العَلَمية، أو ما كان نحو هذا، ليظهر مقصودهُ. والثالث: قوله: (فيه ذا أيضًا قُبِل) أراد أن هذا الإعراب فيه مقبول، وذلك لا يعطى / كونه قياسًا أو سماعًا، إذ كلاهما مقبولٌ في الجملة، ومرادنا نحن أن نبين أهو قياس أم سماع؟ وذلك لا يُعطيه لفظ القبول، فكان لفظه غير محرر. والجواب عن الأول: أن المجرور في قوله: (بِتَا وألفٍ) متعلق بـ" جُمع " وذلك يقتضي أن بهما حصول الجَمع، فالباء باءُ الاستعانة أو السببية، وتقدير الكلام: وما بسبب حصول ألفٍ وتاء جُمع، أو ما بهذه الآلة جُمع، فإذا الألف والتاء هما اللذان حصل بهما الجمع، فهما لاحقان لأجله، وإذا لحقا لأجله فهما زائدان بلا شك، فقوة الكلام أعطت هذا الشرط، وأيضًا لا يصدق على هذا التقدير في قُضاة وأبيات أنهما جُمعا بالألف والتاء، إذ ليستا آلة للجمع ولا سببًا فيه، وإنما سبب الجَمع فيهما تغيير بِنْيَيةِ المفرد إلى فُعَلَةٍ أو أَفعال، وإنما كان يحتمل ما قال على فرض أن تكون الباء متعلقة باسم فاعل محذوف، يكون حلًا من ضمير جُمِعَ، أي: وما جمع حال كونه بتاء وألف، أي ملتبسًا بهما، لكن هذا المعنى لا محصول له، إذا تدبرته،

فوجب أن تكون متعلقة بالفعل نفسه، وإذ ذاك لا يبقى إشكال. وعن الثاني: أن مراده أنه جُعِل اسمًا علمًا، كأنه قال: والذي جُعِلَ اسمًا خالصًا وهو العَلَمَ أو الذي جُعل اسمًا، أي: مفردًا بعد أن كان جمعًا وذلك إنما يكون يالتّمية، وها ظاهر من قوة كلامه. وعن الثالث: أن مرادَه القبول القياسي، والذي عين مراده وأنه القبول القياسي ما هو آخذٌ فيه من بيان الأصول القياسية، فهو السابق للفهم، بحسب صناعته، والله أعلم. و"فيه" متعلق بـ " قُبل " وضميره عائدٌ على الذي، و " ذا " مبتدأ خبره "قُبل " وفي تقديمه المجرور على المبتدأ وهو معمول الخبر نظر، وفي جوازه خلاف، ولكن الناظم يرتكبه في هذا النظم كثيرًا، وهو مذهبه فيه ومنه ما قد مضى، وسننبّه على بعضه إن شاء الله عز وجل. * * * ثم قال: وجر بالفتحة ملا ينصرف ... ما لم يُضف أويكُ بعد أل ردِفْ هذا هو الموضع الثاني من الموضعين اللذين تنوب فيهما الحركة عن الحركة، وهو ما لا ينصرف، وما لا ينصرف - هو عند المؤلف - ما منع التنوين لعلتين، أو علّة قائمة مقامهما، فأراد أن ما لا ينصرف من الأسماء حُكمه أن يجر بالفتحة كأَحمد وأحمر ويوسف وإبراهيم وغضبان وغضبى

وأسماء وعمر وثلاث ومعدى كرب ونحو ذلك تقول: مررت بأحمد، وجئت إلى رجل أحمر غضبان وكذلك سائر الأمثلة، ولم يذكر حكم الرفع والنصب لدخوله تحت الكلية سائر الأمثلة، ولم يذكر حكم الرفع والنصب لدخوله تحت الكلية المتقدمة ثم شرط في هذا الإعراب شرطا، وهو ألا يضاف ولا يصحب الألف واللام، وذلك قوله: (ما لم يضف أو يك بعد أل ردف) بمعنى أنه إنما يعرب كذلك إذا لم يضف إلى غيره، ولم تدخل عليه الأللف واللام، فإنها إن دخلت عليه لم يجر بالفتحة، وإذا لم يجر بالفتحة رجع إلى ما تقدم أولا، من الجر بالكسرة نحو: مررت بأحمر القوم، وبالحمراء، وجئت إلى مساجد بني فلان، فذلك لم يذكر حكمه إذا أضيف أو صحب الألف واللام، و "ردف" معناه تبع، ومنه قوله تعالى: ((قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون)) أي: تبعكم، يردي ما لم يكن الاسم ردفها، أي الألف واللام، فحذف الضمير لفهم المراد، ومعناه أن يكون الاسم الذي لا ينصرف تابعا لها، وفي ردفها، متصلا بها، ومذهب المؤلف أن العلتين إنما منعتا التنوين فقط، وأما الجر فلشيء آخر، قال: لأنه لو جر بالكسرة مع عدم التنوين لتوهم أنه مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، أو أنه مبني على الكسرة؛ لأن الكسرة لا تكون إعرابية إلا مع التنوين، أو ما يعاقبه من الألف واللام أو الإضافة، ولذلك إذا أضيف أو دخلت عليه الألف واللام انجر بالكسرة. وقوله: (ما لم يضف) أطلق القول في الإضافة ولم يقيدها فدل

على جريان الاحتراز من كل إضافة، محضة كانت أو غير محضة، فتقول: مررت برجل أحمر الوجه، أزرق العينين، غضبان الأب، ومررت بأحمديك، أحمد بني فلان، وإبراهيمهم، وما أشبه ذلك، وكذلك قوله: (أويك يعد أل ردف) أراد أن هذا عام في جميع أقسام الألف واللام، فلا يفترق الحكم فيها بكونها زائدة أو موصولة أو غير ذلك كقول الشاعر: رأيت الوليد بن يزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله وقال الآخر: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر وقال الآخر: وما أنت باليقظان ناظره إذا ... رضيت بما ينسيك ذكر العواقب * ... * ... * ولما أتم الكلام على النيابة في الأسماء، شرع في ذكر نحو ذلك في الأفعال فقال: واجعل لنحو يفعلان النونا ... رفعا وتدعين وتسألونا وحذفها للجزم والنصب سمه ... كلم تكوني لترومي مظلمه يعني أن النون تكون علامة للرفع فيما كان من الأفعال على نحو:

يفعلان وتدعين وتسألونا، وضابط ذلك -على ما أشار إليه تمثيله-: كل فعل مضارع لحقه من آخره ألف اثنين أو واو جماعة أو ياء واحدة مخاطبة، فألف اثنين نحو: يفعلان، وواو الجماعة نحو: تسألون، وياء المخاطبة نحو: تدعين، أصله تدعوين، ثم نقله الإعلال إلى تدعين، فوزنه في الأصل تفعلين وفي اللفظ تفعين، وإطلاقه القول في يفعلان ويفعلون يدخل له ما كانت الألف فيه والواو ضميرين نحو: أنتما تفعلان، وهم يفعلون وما كانت فيه علامة نحو: يعلان الزيدان ويفعلون الزيدون، ومنه قول الشاعر -أنشده السيرافي-: يلومونني في اشتراء النخيل ... قومي فكلهم يعذل وذلك على لغة "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" و (رفعا) مفعول ثان، لـ (اجعل) على حذف المضاف، أي علامة رفع أو أداة رفع على أن تكون (جعل) بمعنى صير، أو حالا، أي: رافعا، أو ذا رفع على أن تكون بمعنى الوضع أو نحوه.

وفي قوله: (تدعين) وتخصيصه دون أن يقول: ترمين فائدة، ويطلق الإتيان بالمعتل فائدة أخرى، فأما إتيانه بفعل معتل فلبيان كون هذا الحكم شاملا للمعتل وغيره من الأفعال، فتضربان مع تدعوان أو ترميان على حكم واحد رفعا لتوهم المخالفة ولو بوجه ما، كما في الفعل المعتل إذا لم تلحقه من آخره أحد هذه الثلاثة، فإن الحكم فيه يختلف بحسب التقدير للإعراب وعدم التقدير، وأما هذا القسم فلا يختلف الأمر فيه، بل النون هي العلامة مطلقا في الرفع والحذف فيما سواه، وكذلك إذا قلت: أنت يا هند تدعين حكمه حكم تخرجين في الإعراب من غير مخالفة، وأما تخصيصه المعتل بالواو دون الياء في مثال لحاق ياء المخاطبة، فليتبين ما أشار إليه، إذ لو أتى بالمعتل بالياء مثل: ترمين لم يتبين ونه مما لحقه ياء المخاطبة دون ما لحقه نون جمع المؤنث، لأنك تقول: أنتن يا هندات ترمين، فيكون الفعل هنا مبنيا للحاق نون المؤنث وتقول: أنت يا هند ترمين، فيكون هنا معربا بالنون رفعا وأصله ترمين كتضربين بخلاف الأول فإنه ترمين كتضربين، فلما أتى بما هو من ذوات الواو لم يشكل أنه مما النون فيه علامة للرفع والياء للمخاطبة، إذ لو كان لجماعة المؤنث لقلت: أنتن تدعون بالواو على تفعلن كتخرجن لا بالياء، وهذا

الموضع مزلة أقدام الشادين، فقد قال الحضرمي في "إعراب أشعار الستة" في قول امرئ القيس: يظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل إن النون من "يرتمين" نون الرفع، وإنما هي نون جماعة المؤنث فهو مبني لا معرب، ولو قال الناظم: وتدعون وتسألينا، لما تبين مثال ما قصد لاحتمال أن تكون النون ضمير جمع المؤنث، وكذلك لو قال: وتخشين وتسألون ولو قال: وتخشون وتسألينا، لما التبس، كما لم يلتبس في "تدعين وتسألونا" فالحاصل أن هذا الموضع مما يحتاج إلى التثبت فيه ولأجل هذا لم يمثل الناظم بمحتمل، بل عين ما لا يغلط فيه، والله أعلم. حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن الفخار رحمة الله عليه قال: حدثني بسبتة بعض المذاكرين أن أبا عبدالله بن خميس لما ورد عليها بقصد

الإقراء بها اجتمع إليه عيون طلبتها، فألقوا عليه مسائل من غوامض الإشتغال، فحاد عن الجواب عنها بأن قال لهم: أنتم عندي كرجل واحد يعني ابن أبي الربيع ازدراء بهم، فاستقبله أصغر القوم سنًا وعلمًا بأن قال له: إن كنت بالمكان الذي تزعم فأجبني عن هذه المسائل من باب معرفة علامات الإعراب التي أذكرها لك. فإن جئت فيها بالصواب لم تحظ بذلك في نفوسنا لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدراك والتحصيل، وإن أخطأت فيها لم تسعك هذه البلاد وهي عشرٌ، الأولى: أنتم يا زيدون تغزون، الثانية: أنتن يا هندات تغزون، الثالثة: أنتم يا زيدون ويا هندات تغزون، الرابعة: / أنتن يا هندات تخشين، الخامسة: أنت يا هند تخشين، السادسة: أنت يا هند ترمين، السابعة: أنتن يا هندات ترمين، الثامنة: أنتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقولُ؟ ، التاسعة: أنت يا هند تمحون أو تمحين كيف تقول؟ ، العاشرة: أنتما تمحوان أو تمحيان على لغة من قال: محوت كيف تقول؟ ، فهل هذه الأفعال كلها مبنية أم معربة أم بعضها معرب وبعضها مبني، وهل هي كلها على وزن واحد أو على أوزان مختلفة علينا السؤال وعليك التمييز هلُم الجواب. قال: فبهت الشيخ وشغل المحل بأن قال: إنما يُسأل عن هذا صغار الوِلدان. فقال له الفتى: فأنت دونهم إن لم تجب، فأنزعج الشيخ وقال: هذا سوء أدب ونهض منصرفًا، ولم يصبح إلا بمالقة متوجهًا إلى غوناطة، فلم يزل بها مع الوزير ابن الحكيم إلى أن مات جميعهم -رحمهم الله-. وإنما أتيت بهذه الحكاية لما تضمنته من فوائد المسألة التي نبه عليها الناظم -رحمه الله- بإشارته، وبيان المسائل العشرة موكولٌ

إلى الناظر في هذا التقييد وبالله التوفيق. ثم قال: (وحذفها للجزم والنصب سمه) ضمير (حذفها) عائد على النون التي هي علامة الرفع، والسمة: العلامة، يقال: وسمه وسمًا وسمةً، إذا جعل فيه علامة يعرف بها أو غيره. ويريد أن حذف النون التي هي علامة الرفع علامة للجزم والنصب في هذه الأفعال المذكورة وما كان نحوها كقولك: إن تكرموا زيدًا فأكرموا أخاه، وأعجبني أن تأتيا زيدًا، وإن تكرمي غلاميك يخدماك وما أشبه ذلك، وقدم الجزم على النصب؛ لأنه أولى بالحذف لوجوده في المعتل على ما سيأتي، فكأنه أصل فيه ولأنك إذا اعتبرته وجدت عمل الجزم الحذف مطلقًا، أما في المعتل فحذف حرف، وأما في الصحيح فحذف حركة، ولذلك كان يقول الأستاذ أبو عبدالله بن عبد المنعم شيخ شيخنا: ليس للجزم إلا علامة واحدة وهي الحذف، فالنصب إذًا في هذا الحذف محمول عليه، فكما حمل النصب على الجر في الأسماء، كذلك حمل النصب على الجزم في الأفعال؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء كما تقدم التنبيه عليه في قول الناظم: والاسم قد خُصص بالجرِّ كما ... قد خصص الفعل بأن ينجزما وأتى بمثالين للجزم والنصب وهما قوله: (كلمْ تكوني لترومي مظلمة) فالأول: حذف النون فيه للجازم وهو "لم". والثاني: حذف النون فيه للناصب

وهو "أن" المقدرة بعد لام "لترومي"، تقديره: لأن ترومي ولكنهم التزموا حذفها بعد هذه اللام وتسمى لام الجحود، ولم يبين الناظم حركة هذه النون وكان ينبغي له ذلك، ولعله ترك ذلك تعويلًا على التمثيل إذ أتى بها مكسورة مع الألف غالبًا، ومفتوحةً فيما عداها؛ ولأن النون هنا تشبه النون في المثنى والمجموع وهي مكسورة في المثنى مفتوحة في الجمع بالواو والياء، وقد ذكر ذلك هنالك، فترك هنا ذكر ذلك، لسبق الفهم إلى أنها / مثلها؛ لأن كل واحد منهما واقعة بعد الأحرف الثلاثة الدالة على المثنى والمجموع. وفي كلها حمل النصب فيها على غيره فكان في ذلك إشعار باستحقاق الكسر مع الألف، والفتح مع الواو والياء وقد ندر هنا فتح النون مع الألف كقراءة الحسن: (أتعدانني أن أخرج) وهي أيضًا مروية عن نافع وأبي عمرو، كما أن النون قد تحذف في الرفع وتثبت في النصب، فالأول نحو قول الشاعر -أنشده ابن خروف-: أبيت أبكي وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي وأنشد أيضًا لأيمن بن خريم:

وإذ يغصبوا الناس أموالهم ... إذا ملكوهم ولم يغضبوا وقال عمر في قتلى بدر: "يا رسول الله كيف يسمعون، أنَّى يجيبوا وقد جيًّفوا؟ والثاني: كقول الشاعر -أنشده السيرافي-: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... منى السلام وألا تُشعرا أحدا وأنشد غيره: أن تهبطين بلاد قومٍ ... يرتعون من الطِّلاحِ وقد نبّه على هذا في الجملة في النواصب حيث قال: وبعضهم أهمل أن حملا على ... ما أختها حيث استحقت عملا ولكنّ الجميع قليل لا يفتقر إلى التنبيه عليه لعدم القياس فيه، والله أعلم. * * *

ثم قال: وسم معتلا من الأسماء ما ... كالمصطفى والمرتقي مكارما هذا فصلٌ يذكر فيه ما يقدر فيه الإعراب كله أو بعضه، في الأسماء أو الأفعال، وكان ما تقدم إنما تكلم فيه على مجيء الإعراب بحق الأصل، وهو أن يكون ظاهرًا، وذلك إذا كان آخر المعرب صحيحًا على غالب أحواله وأما المعتل الآخر فيختلف الحال فيه، فأخذ ذكره، ولما كان السبب في الخفاء في الغالب هو الاعتلال، وكان موجودًا في الأسماء والأفعال أخذ في ذكر معنى الاعتلال أولًا، ثم في الخفاء ثانيًا - بالنسبة إلى كل من الضربين، وابتدأ بذكر المعتل من الأسماء، فعرفه بأنه: ما كان آخره ألفًا أو ياءً قبلها كسرةٌ، كما أعطاه مثال: المصطفى والمرتقي وذلك أن الأسماء على ضربين، صحيح الآخر، وهو ما آخره حرف صحيح كزيد وقائم وعامر، ومعتل: وهو ما آخره حرف علة ألف أو واو أو ياء، والمعتل ينقسم إلى قسمين: جارٍ مجرى الصحيح، وهو ما كان الحرف الذي قبل حرف العلة فيه ساكنًا، نحو: غزوٍ وعدوٍ وظبيٍ ورعيٍ، يدخل في ضمنه المضاعف، نحو: عدوّ وعتوّ ووليّ وكميّ. أما الألف فلا يكون ما قبلها ساكنًا أبدًا، فخرج ما آخره ألف عن هذا القسم، وهذا القسم حكمه في ظهور الإعراب كله حكم الصحيح، كما ظهر في الأمثلة. والقسم الثاني: ما كان الحرف الذي قبل حرف العلة فيه متحركًا ولا يتحرك في الاستعمال إلا بمجانس الحرف المعتل، وذلك نحو: الفتى

والرحى والقاضي والغازي، أما ما آخره واو قبلها ضمة فمعدوم في كلام العرب، وإن اقتضى ذلك قياس رفض نحو: أجر وأدل في جمع جرو ودلو، أصله أجروُ وأدلوُ فرفض ذلك وصير إلى جنس ما آخره ياء قبلها كسرة، إلا "ذو" بمعنى صاحب و "فو" في قولك: قولك فو زيد وهما عند الناظم من الأسماء المعربة بالحروف، فعلى هذا لا يسمى من الأسماء معتلا بحسب قصده، إلا ما كان آخره ألفا أو ياء قبلها كسرة، لأن القسم الأول قد جرى في ظهور الإعراب فيه مجرى الصحيح، فدخل في قم الصحيح، فيجري بالحركات مثله، وهذا هو الذي قصده الناظم بقوله: وسم معتلا من الأسماء ما ... كالمصطفى والمرتقى مكارما فكأنه يقول: كل ما آخره ألف مطلقا، أو ياء قبلها كسرة، فهو المسمى معتلا عند النحويين، وما عداه ليس كذلك، فما آخره واو هو من قبيل الصحيح، إذ لا يوجد إلا وما قبل الواو فيه ساكن، وكذلك ما آخره ياء من غير ما ذكر هو من قبيل الصحيح في الحكم، لا من قبيل المعتل فالمثال الأول يدخل له فيه جميع ما آخره ألف، كانت أصلا أو لا، نحو: الفتى والقفا والحبلى والذكرى والحثيثى وجمادى، وما أشبه ذلك. والثاني: يدخل له به جميع ما آخره ياء قبلها كسرة، كان ذلك بحق الأصل نحو: القاضي والداعي والعمى والمستجدى والمعتدي، أو محولا إليه نحو: الأدلى والأجرى والتداعي والتناهي، والقلنسي

والعرقي، جمع قلنسوة وعرقوة، وما أشبه ذلك، فإن قيل: هذا الاصطلاح في المعتل، إما أن يكون فيه ناقلا لكلام غيره ممن اصطلح، وإما أن يكون مخترعا لاصطلاح غير سابق فلا يجوز أن يريد هذا الثاني لقوله في الأفعال: (فمعتلا عرف) يعني أن هذه المعرفة سواء كانت معروفة قبل في الفعل، فكذلك الاسم، لأنهما سواء في هذا الاصطلاح، فليس مراده إلا أنه يسمى معتلا عند النحويين، وإلا ذاك فيشكل كلامه فيه، لأن المعتل في اصطلاحهم أعم من هذا، فالمعتل الفاء أو العين يسمى عندهم معتلا، وكذلك المعتل اللام لكن على أعم مما قال، فمثال غزو وظبي يسمى أيضا عندهم معتلا، وإذا ثبت هذا فتخصيصه هذه التسمية بما كان معتل الآخر مطلقا في الفعل، أو بالألف والياء التي قبلها كسرة في الاسم، إخلال بالاصطلاح المعروف. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن لفظ العتل في اصطلاحهم يطلق بإطلاقين: إطلاق بحسب النظر التصريفي، وهو الاطلاق الأعم، المعترض به، وليس بمراد هنا، وإطلاق بحسب خفاء الإعراب فيه، استثقالا أو تعذرا، وذلك لا يكون في المعرب إلا فيما ذكر دون ما سواه، وهو المراد هاهنا. فقوله في الاسم: (وسم معتلا) وفي الفعل: (فمعتلا عرف) أراد في هذا الباب وحده، وأما باب التصريف فله اصطلاح آخر، أوسع من هذا لا حاجة به إليه هاهنا، وإذا كان كذلك لم يكن في كلامه إشكال لاختصاص ما

نص عليه ببابه. والوجه الثاني: إذا سلمنا أن المعتل إنما يطلق بالإطلاق الأعم دون ما سواه فلا يلزم عليه اعتراض؛ لأنه إنما ذكر أن ما كان نحو: المصطفى والمرتقى يسمى معتلا، وكذلك ما كان نحو: يخشى ويغزو ويرمي، وذلك صحيح هنا، وفي باب التصريف؛ لأن المعتل اللام يسمى معتلا في كل باب، ولم يقل إن ما عداه هذه الأشياء لا يسمى عتلا، بل أثبت إطلاق لفظ المعتل عليها فقط، مع قطع النظر عما عداها، إذا لم يحتج هنا إلى غير ذلك، وإنما كان الإشكال يلزم أن لو شاء إلى نفي الاعتلال عما سواه، فإذا لم يخرج عن الاصطلاح التصريفي، وإذا كان كذلك لم يبق إشكالا، والحمد لله. والمصطفى معناه المختار، مأخوذ من صفو الشي وصفوته، وقد تقدم تفسيره. والمرتقى: مفتعل من الرقي، وهو السمو والارتفاع، إما حسا كارتقاء السلم ونحوه، وإما معنى كالارتقاء في منازل الشرف أو الكرم وهو المراد هنا. والمكارم: جمع مكرمة، وهي الفعلة التي بها ينسب الإنسان إلى الكرم، ونصب مكارما على الظرف مجازا، كأنه ارتقى في نفس المكارم أو على حذف المضاف، أي: درج المكارم، أو منازل المكارم، والناظم جعل في البيت الثاني "مكارما" قافية مع قوله في الأول: "الأسماء ما" فاعتد في "الأسماء ما" تأسيسا، مع

كون كلمة الروي منفصلة منه وليست بضمير، والوجه يكون متصلا بكلمة الروى، ما لم يكن ضميرا أو لم يعتد بها تأسيسا، مع إتيانه بالتأسيس في البيت الثاني في قوله: "مكارما" وكلا الأمرين عيب في القافية عند الجمهور، مذهب سيبويه جواز كون التأسيس من كلمة أخرى مطلقا، كما في كلام الناظم فإياه اتبع في هذا الموضع، وأيضا فقد جاء المؤسس مع غير المؤسس قليلا ومنه قول الراجز: تحلف لا تنزع عن ضراريه ... حتى لطمت خذها بكفيه فيحمل هذا على ذلك، وعادة الناظم ارتكاب الشذوشات والنوادر في هذا النظم، حسب ما تراه إن شاء الله عز وجل. * ... * ... * ثم قال: فالأول الإعراب فيه قدرا ... جميعه وهو الذي قد قصرا والثان منقوص ونصبه ظهر ... ورفعه ينوي كذا أيضا يجر يعني بالأول هنا مثال المصطفى وما كان مثله، فهذا القسم يقدر فيه جميع الإعراب، أي: جميع الأنواع التي تصلح له وهي الرفع والنصب والجر فتقول: جاءني الفتى، ورأيت الفتى، وإنما قدر لتعذر تحريك الألف بخلاف الواو والياء، فإنهما يقبلان الحركة، وإن كان التحريك مسثقلا فيهما، والألف لا يصح فيها التحريك، فلما اضطروا يوما إلى تحريكها أبدلوا منها حرفا يصح تحريكه وهو الهمزة، كما قرأ أيوب

السختياني ((ولا الضالين)) فرارا من اجتماع الساكنين، وكما قال: خطامها زأمها أن تذهبا وهو مبين في التصريف، ثم قال: (وهو الذي قد قصرا) يعني أنه الذي سمي مقصورا، وإنما سمي مقصورا؛ إما لأنه في مقابلة الممدود فكأنه قصر عن التمام، وإما لأنه قصر آخره، أي: حبس عن أن يظهر فيه الإعراب فيختلف فكأنه قصر على حلة واحدة. ثم قال: (والثان منقوص) الثاني هو مثال المرتقى، وما جرى على شاكلته، ويعني أن هذا القسم يسمى منقوصا، للنقص الحاصل فيه، إذا قلت: مرتق وقاض وغاز؛ لأن الياء لما استثقلت الضمة أو الكسرة عليها حذفتا، فالتقى الساكنين، وهما الياء والتنوين، فوجب حذف الياء لالتقاء الساكنين، وتسمية نحو: قاض وغاز منقوصا، فلذلك قال في "التسهيل" فإن كان -يعني حرف الإعراب- ياء لازمة تلي كسرة فمنقوص عرفي، وذكر في "الشرح" أنه تحرز من نحو: يد وعدة؛ لأن العرف الصناعي قد غلب إطلاق المنقوص على نحو: شج وقاض، فإذا أراد بالمنقوص هنا التسمية العرفية، وحذف الياء من الثاني فذلك

جائزةٌ. قال الله تعالى: ((مهطعين إلى الدّاع)) وقال: ((يوم يدع الدّاع إلى شيء نكر)) وهو كثير. ثم ذكر حكمه فقال: (ونصبه ظهر، ورفعه ينوَى .. ) إلى آخره يعني أن النصب يظهر في المنقوص، على حد ما يظهر في الصحيح، فتقول: رأيت القاضي، وأجبت الداعي، وكذلك ما أشبه. وأما الرفع والجر فلا يظهران بل يكونان منويين في آخر المنقوص، كما ينوى جميع الأعراب في آخر المقصور، فتقول: جاء القاضي، ومررت بالقاضي، وهذا رامٍ، ومررت بداعٍ، ووجه ذلك أن الضمة والكسرة مستثقلتان على حرف العلة، فأدى الاستثقال إلى أن قدروا الحركتين، وليست الياء هنا كالألف، فإن الألف يتعذر تحريكها، والياء إنما في تحريكها استثقال، ولذلك يصح ظهور الضمة والكسرة فيها في الضرورة مثل ما أنشده السِّيرافي وغيره من قول الشاعر: فيومًا يجاريني الهوى غير ماضي ... ويومًا ترى منهن غولًا تغول وأنشد أيضًا قول الآخر - وهو ابن قيس الرقيات-:

لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب وأنشد أيضًا: ما إن رأيت ولا أرى في مدتي ... كجزاري يلعبن في الصحراء وقال الهذلي: تراه وقد فات الرماة كأنه ... أمام الكلاب مصفي الخد أصلم وأما الفتحة فغير مستثقلة على الياء، ولا على الواو، فلذلك ظهرت في السعة، إلا أن تعامل معاملة أختيها في الشعر، أو في قليل من الكلام فتنوى، كما روى عن جعفر بن محمد أنه قرأ: ((من أوسط ما تطعمون أهاليكم)) بإسكان الياء، ومنه في الشعر ما أنشده ابن جنّي وغيره من قول الراجز: كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الوَرِق

وقول زهير: ومن يعص أطراف الرماح فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم وقال النابغة الذبياني: ردت عليه أقاصيه ولبَّده ... ضرب الوليدة بالمسحاة في لثأد وهذا كله من قبيل ما لا يعتمد به الناظم، فلذلك لم ينبه عليه. وقوله: (كذا أيضًا يجرُّ) أي كرفعه يجر، يعني أنه ينوي فيه الجر كما ينوي فيه الرفع. * ... * ... * ثم ذكر معتل الأفعال فقال: وأيُّ فعل آخر منه ألف ... أو ياء أو واو فمعتلًا عُرِفْ هذا بيان المعتل من الأفعال بالنسبة إلى باب الإعراب كما تقدم ويعني أن كل فعل مضارع آخره حرف من حروف العلة وهي الألف والواو والياء نحو: يخشى ويدعو ويرمي يسمى معتلًا، لكن إنما بين أنه عُرف فيما تقدم بأنه معتل، ويلزم من ذلك أنه يسمى الآن معتلًا كما سماه النحويين؛ لأنه إنما وضع كتابه هذا ليقتفي به أثر من تقدم في تبيينهم طرق القياس، وما يتبع ذلك من الألفاظ الاصطلاحية المؤدية إلى المطلوب، فإذا نص الناظم على أن من تقدم سمي اللفظ الفُلاني بكذا، والمعنى الفلاني بكذا، أو أخبر أنهم قاسوا كذا، وأن العرب نطقت بكذا،

أو اطرد عندها كذا، فإنما قصده أن تأخذ ذلك على ما أخذوه وأن تصطلح على ما اصطلحوا عليه، وهذا واضح من قصده وقصد غيره من أئمة النحو، نفعهم الله. وقوله: (آخر منه ألف) آخر مبتدأ خبره "ألف". وصحّ الابتداء بالنكرة للاختصاص اللاحق لها بالمجرور الواقع صفة لها. * ... * ... * ثم قال: فالألف انو فيه غير الجزم ... وأبدِ نصبَ ما كيدعو يَرمِي والرفعَ فيهما انوِ واحذف جازمًا ... ثلاثهن تقض حكمًا لازما الألف منصوب بفعل مضمر يفسره (انوِ فيه) من باب الاشتغال، ويجوز الرفع، لكنه خلاف المختار، وأراد أن غير الجزم من أنواع الإعراب الثلاثة يجب أن ينوي فيه، وذلك الغير هو الرفع والنصب، فكأنه قال: انوِ فيه الرفع والنصب، فالرفع نحو: زيدٌ يخشى، والنصب نحو: زيدٌ لن يخشى، فهو مرفوع بضمة مقدرة في الألف، ومنصوب بفتحة مقدرة، وإنما استثنى الجزم لأنه ظاهر في آخر يخشى؛ لأنه بالحذف للألف لا بتقدير السكون حسب ما نذكره/ وأما ما آخره واو وياء فيختلف فيه حكم الرفع والنصب، فإن النصب يظهر فيه فتقول: لن يغزو، ولن يرمي، لخفة الفتحة على الواو والياء، وذلك قوله: (وأبدِ نصبَ ما كيدعو يرمي) أبدِ معناه: أظهر، و"ما" موصلة، صلتها الجار والمجرور، وأراد ويرمي فحذف العاطف ضرورة، وقد جاء قليلًا، ومنه في الشعر ما أنشده ابن جنِّي من قوله:

كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يغرس الود في فؤادِ الكريمِ أراد وكيف أمسيت، ومعنى الكلام أظهرِ النصب فيما آخره واو كيدعو وما آخره ياء كيرمي، وأما الرفع فينوي فيهما، كما ينوي في الألف وذلك قوله: (والرفع فيهما انوِ) والضمير المجرور يعود على ما كيدعو وما كيرمي، وإنما نُوي فيهما لاستثقال ظهوره فيهما لو قلت: يغزوُ ويرميُ، ولو اضطر شاعر إلى الإظهار لجاز، كما يجوز في الأسماء، بخلاف الألف. وقوله: (والرفع) منصوب بانوِ، أي: انو الرفع فيهما، ويقال: نويتُ الشيء نيةً ونويةً ونواةً: إذا قصدته بنيتك، فمعنى انو فيه غير الجزم، أي: اقصد فيه قصد الرفع والنصب في نيتك إذ ذاك غير ملفوظ به. وكذا قوله: (والرفع فيهما انوِ) أي اقصده في نيتك في الواو والياء. ويقال: بدا الشيء يبدو بُدُوًا: إذا ظهر، وابتديته أنا أي: أظهرته، ومنه قول الله تعالى: {بادي الرأي} أي: في ظاهر الرأي يحكي كلام قوم نوح عليه السلام، فيريد بقوله: (أبدِ نصبَ) كذا، أي أظهره، ولا تقدره، كما تقدر الرفع، ثم قال: (واحذف جازمًا ثلاثهن) "جازمًا" حالٌ من الضمير في احذف، أي: احذف ثلاثهن، حالة كونك جازمًا لهنَّ، ولا يكون ثلاثهن منصوبًا بـ "جازمًا" أصلًا، بل باحذف لأنه الطالب له، وأما "جازمًا" فإنما هو طالبٌ من جهة معناه، لما آخره من ألف أو واو أو ياء، وهو الذي يسمى

معتلا ويعني بالثلاث: الألف والواو والياء، وضمير "هن" عائد على الأحرف كأنه قال: احذف ثلاث الأحرف وأتى بالثلاث على التأنيث، ولم يقل: ثلاثتهن، وهي مذكرة اعتبارا بتأنيثها لثبوت الاعتبارين فيها، وقد اعتبر التذكير في الألف في قوله: (فاللف انو فيه) ولم يقل فيها، ومن التذكير فيها في اللغة ما أنشده سيبويه من قوله: كافا وميمين وسينا طاسما وأنشد في التأنيث فيها: كما بينت كاف تلوح وميمها وعادة الناظم ألا يبالي بها في التزام تذكير أو تأنيث، بل يأتي بها كذا مرة، وكذا مرة، على حسب ما يتأتى له في هذا النظم، وذلك قريب، وإنما حذفت هذه الأحرف في الجزم ليخالف الجزم الرفع، لأنه لما كان الرفع بالحركة وهو الأصل فيها، ثم استثقلت فبقي لفظ الواو والياء ساكنا كرهوا أن ينووا السكون فيهما، فيبقى اللفظ في الجزم كما كان في رفع، فحذفوهما، وعلل ذلك الفارسي في "التذكرة" بأن الياء والواو أجريت في الفعل مجرى الزوائد كالنون في يضربان ونحوه وكالحركات، كما

أجريت مجرى الزيادات في القوافي حيث جعلت حرف الإطلاق وسوى بينهما وبين الحرف الزائد حقيقة فقيل: ولأنك تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفر ثم قال: والستر دون الفاحشات وما ... يلقاك دون الخير من ستر فعومل الياءان معاملة واحدة في الحذف، كما يحذف الزائد، فكذلك جعلت هنا بمنزلة الزائد فحذفت للجزم، والألف في هذا محمولة على الواو والياء في الحكم، وكأن تعليل الفارسي مقو لتعليل الأول، وهو الذي نحا إليه سيبويه. وقوله: (تقض حكما لازما) تقض: مضارع قضى الرجل قضاء، أي: حكم وهو متعد بالباء، تقول: قضى لي بحقى، أو حكم به لي، فإما أن يكون المتعدي إليه هو وقله: (حكما) وكان الأصل تقض بحكم لازم، إلا أنه حذف الجار فنصب كما قال: تمرون الديار ولن تعوجوا وإما أن يكون غير مذكور، ونصب "حكما" نصب المصدر بـ "تقض"، لأنه في معناه ومرادف له كما تقول: ذهبت انطلاقا، وانطلقت ذهابا، وجلست

قعودًا، ومنه قول امرئ القيس: ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ... عليّ وآلت حلفة لم تحلل أي: حلفت / حلفة، فكذلك قول الناظم: (تقض حكما لازما) أي: تحكم حكما، أو تقض قضاء لازما، وأراد بهذا الكلام: أن حذف حرف العلة من آخر الفعل للجازم أمر لابد منه، يعني في القياس، فإن السماع لا يلزم فيه هذا. فإن قلت: هذا الكلام فضل لا حاجة به إليه، لأن قوله: (واحذف جازما ثلاثتهن) يفهم منه لزوم هذا الحكم، بالحذف إذ لم يذكر خلافه ولا في السماع ما يتوهم فيه القياس فتحصل أن قوله: (تقض حكما لازما) لا فائدة فيه. فالجواب: أنه لا فائدة ظاهرة، وذلك أن مخالفة هذا الحكم جاءت على ضربين: أحدهما: جاء في الشعر والآخر جاء في الكلام، فمن الجائي في الشعر قوله:

إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضاها ولا تملق فقدر الجزم في الألف، فلذلك لم يحذفها، ومثل ذلك قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي: وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا ومثل ذلك في الياء قول قيس بن زهير -أنشده شيبويه-: ألم يأتيكَ والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد وفي الواو قول الآخر: هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع ومما جاء في الكلام قول الله تعالى: ((لا تخف دركا ولا تخشى)) على

قراءة حمزة، وقوله: ((إنه من يتق ويصبر)) بإثبات الياء في رواية قنبل عن ابن كثير، وإذا كان كذلك فقد يقول القائل: إن هذا مما يجوز القياس عليه لمجيئه في فصيح الكلام المنثور وتقويته بالمنظوم لا سيما على مذهب المؤلف في أمرين: أحدهما: اعتبار ما جاء في القرآن والقياس عليه -وإن قل- كمسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، ومسألة تحقيق الهمزتين في أئمة، حسب ما يتفسر في موضعه إلى غير ذلك من اعتباره لما جاء في القرآن وقياسه عليه. والثاني: اعتباره لما جاء في الشعر معاملة الآتي في الكلام، إذا كان الشعر لا ينكسر مع زوال الضرورة، كما في قوله: *ولا ترضاها ولا تملق* إذ الشاعر متمكن من الجزم بالحذف، فيقول: "ولا ترضاها" فيكون الشعر مخبونا، فكأنه أثبت الألف غير مضطر، ومثله قوله: *ألم يأتيك والأنباء تنمى* لجواز حذف الياء فيصير منقوصا وهو جائز وإن كان قبيحا في باب الزحاف، ومثله قوله: "لم تهجو ولم تدع" لجواز حذف الواو فيكون مطويا فقد ترشح على هذا القول بالقياس، فلما كان الأمر على هذا، وكان السماع

موهمًا لإثبات خلاف ما نص عليه، نفي هذا الإيهام، وصرح بأن ما نص عليه هو اللازم، وما عداه غير معتبر في القياس، ولا معول عليه، لأن مجيء هذا الضرب في الشعر لم يكثر، وأيضًا فجميع الأبيات محتمل لإشباع الحركات ضرورة كما أشبع الضمة في ظاء "انظر" من قال: وأنني حيث ما يثني الهوى بصري ... من حوث ما سلكوا أدنو فأنظور أنشده الفارسي، وكما أشبع فتحة: "منتزح" ابن هرمة حيث قال: فأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح وكما أشبع الكسرة في الدراهيم "و" الصيارف" الفرزدق حيث قال: -أنشده سيبويه-. تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف

وقد أجاز ذلك ابن خروف في بيت قيس بن زهير: "ألم يأتيك" البيت والجواز سارٍ في الجميع، فإذا احتملت الأبيات هذا لم يكن فيها دليل. وأما آية "طه" فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون تخشى مستأنفًا، أي: وأنت لا تخشى. والثاني: أن تكون الألف للإطلاق في الفاصلة كقوله: "الظنونا"، و"الرسولا"، و"السبيلا". وأما آية "يوسف" فتحتمل أن تكون (مَن) فيها موصلة و (يتَّقي) مرفوع في صلتها (ويصبر) معطوف عليه، وإنما سكن تخفيفًا كأنه عُدَّ "بِرُفَ" من {يصبر فإن} كبناء على فعل فسكن لذلك، كما قال امرؤ القيس في نحو ذلك: فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ... إثمًا من الله ولا واغل فإذا ثبت هذا في تلك الشواهد لم يكن فيها دليل على ثبوت الجزم بتقدير حذف الحركة سماعًا، فأحرى ألا يثبت بها كون ذلك قياسًا، فلذلك قال: (تقضِ حُكمًا لازمًا) والله أعلم، أي: أن الحذف هو الحكم اللازم الذي لابد منه على كل حالٍ، وهذا حسن من الاعتبار، وبالله التوفيق. ?

النكرة والمعرفة

النكرة والمعرفة هذه هي المقدمة الثانية من المقدمتين اللتين لابد من ذكرهما قبل الشروع في الأحكام التركيبية، وهي معرفة المعرفة من الأسماء والنكرة، والتعريف بكل واحد منهما. وتقسيم ما ينقسم منهما وبيان كل قسم، وذلك أن الفائدة إنما تحصل في الغالب بالمعرفة لا بالنكرة من حيث كان الإخبار عن الشيء ثنيًا عن معرفة ذلك الشيء. فإذا قلت: تكلم زيدٌ، حصلت به فائدةٌ. فإن قلت تكلم إنسانٌ، لم يفد شيئًا، إذ لا يخلو الوجود من إنسان يتكلم، فقد كان هذا المعنى حاصلًا قبل الكلام به، فلم يفد الإخبار بذلك فائدة زائدة، وكذلك إذا قلت: زيدٌ قائمٌ، حصلت للمخاطب فائدة، فلو: قلت رجلٌ قائمٌ، لم يفد شيئًا، فلما كان الأمر هكذا وكانت الإفادة في الغالب لا تحصل إلا مع المعرفة، والنكرة بضد ذلك، وأيضًا فقد تقع النكرة في موضع لا تقع فيه المعرفة، وقد تحصل الفائدة بالنكرة على خلاف ما تحصل بالمعرفة افتقر إلى بيان هذين النوعين لينبني حكم الإفادة على ذلك، فأخذ الناظم -رحمه الله- في ذكر ذلك ليصل الناظر إلى أحكام الجمل المفيدة بعد تحصيل ما يكون به الإخبار مفيدًا مما ليس كذلك، ثم إن النكرة لا تنحصر أنواعها، لكن قد تعرف

بالرسم والمعرفة تنحصر أنواعها فأتى للنكرة برسم جامع مانع يميزها عن المعرفة. ثم أتى بالمعرفة وأنواعها فقال: نكرةٌ قابل "أل" مؤثرا ... أو واقع موقع ما قد ذُكِرا وغيره معرفةٌ كهم وذي ... وهندَ وابني والغلامِ والَّذي "أل" هي الألف واللام والقابل لها هو ما يصح دخولها عليه، فرجل وفرس ونحوهما يصح دخول الألف واللام عليها، فهي إذًا نكراتٌ، وقد اقتصر بعضهم على تعريف النكرة بما يصلح أن تدخله "أل" لكن هذا التعريف غير جامعٍ ولا مانعٍ، أما كونه غير جامعٍ؛ فلأنه يخرج عنه كثير من النكرات نحو: أين وكيف و "أفعل" التفضيل إذا كان معه "من" لفظًا أو تقديرًا، ومن وما الاستفهاميتين، فإنهما أيضًا نكرتان عند الجمهور خلافًا لابن كيسان فهذه الأشياء وأشباهها نكرات مع أنها لا تصلح أن تدخلها الألف واللام. وأما كونه غير مانع فلأن كثيرًا من المعارف تدخل عليها الألف واللام كحارثٍ وعباسٍ وحسنٍ وفضلٍ، فإنك تقول: الحرثُ والعباسُ والفضلُ والحسنُ وليست بنكرات اتفاقًا، وكذلك ما دخل عليه الألف واللام الزائدتان من المعارف كقوله: *باعدَ أمَّ العَمرِو من أسيرِها*

وقولِ الآخرِ: *رأيتُ الوليدَ بن اليَزِيدِ مُباركًا* وقولِ الآخرِ: *ولقد نهيتك عن بنات الأوير* ومن ذلك كثيرٌ' فاقتضى أن هذه الأشياء نكراتٌ، بسبب صلاحية دخول الألف واللام عليها، وليس كذلك، وأيضًا إن سُلم ما قال ففي بعض أقسام الألف واللام لا في جميعها، فإن الزائدة غير معرفةٍ بما قال، فإذا دخلت على النكرة لم تدل على تنكيره فلا يقال: إن نفسًا من قولكَ: طبت نفسًا نكرةٌ بدليل قوله:

صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو لأن الألف والام هنا زائدة، والزائدة غير مختصة بالدخول على النكرة، وإنما تختص بالمعرفة فكان هذا التعريف معترضا فلما كان كذلك استظهر الناظم على الثاني قوله: (مؤثرا) وهو حال من "أل" أي: حالة كون "أل" (مؤثرا) فيما دخل عليه، فرجل ونحوه أثر فيه "أل" التعريف بخلاف الفضل ونحوه، فإنه لم يؤثر فيه تعريفا، بل إنما دخل عليه لمعنى آخر غير التعريف وهو لمح الصفة، وبهذا القيد أيضا خرج "أل" الزائدة، فإنه حرف لا يؤثر فيما دخل عليه تعريفا، فلم يكن معتبرا في هذا التعريف، وأدخل الأول بقوله: (أو واقع موقع ما قد نكرا) "فواقع" معطوف على "قابل"، "وما" موصولة وما بعدها صلتها، وهي واقعة على قابل، "وما" وما بعدها في موضع ضمير، كأنه قال: أو واقع موقعه، أي: موقع القابل، ويريد أن النكرة ما قبل "أل" أو وقع موقع ما قبلها إذا لم يقبلها بنفسه، فـ "أين" و "كيف" يقع موقعهما ما يقبل "أل" وإن كانا لا يقبلانها بأنفسهما، فـ "أين" معناها في أي مكان، و "كيف" معناها على أي حال، ومكان وحال قابلان لـ "أل" إذا قلت: المكان والحال، وكذلك أفعل من لوقوعها صفة للنكرة في موضع فاعل، وفاعل يقبل الألف واللام أعني المؤثر وكذلك "من" و "ما" الاستفهاميتان إذا قلت: من زيد؟

فالتقدير: أي رجل زيد؟ وما هذا، معناه: أي شيء هذا؟ ورجل وشيء يقبلان اللف واللام المؤثرة فجميع هذه الأشياء نكرات لوقوعها موقع القابل، فتلخص هـ التعريف جامعا مانعا، وهو تعريف حسن، إلا أن فيه إشكالا من أوجه ثلاثة: أحدها: أن الحارث والعباس والفضل وبابها إذا كانت بغير ألف ولام أعلام كزيد وعمرو، فتعريفها تعريف العلمية المحضة، فإذا دخلت عليها الألف واللام فلم تدخل عليها وهي أعلام، بل تقدير تنكيرها لتكون الألف واللام مشعرة بأصلها من الصفة، فإذا دخول الألف واللام عليها كدخولها على القائم والقاد وبابه، وهذا معنى ما ذكر سيبويه قال: وزعم الخليل -رحمه الله- أن الذين قالوا: الحارث والحسن والعباس إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، يعني أن يكون لفظه موافقا لمعنى الصفة فيه، ولم يجعلوه سمي به ولكنهم جعلوه كأنه وصف له غلب عليه، ومن قال: حارث وعباس فهو يجريه مجرى زيد، فهذا انص سيبويه على ما ذكرته، فإذ ثبت هذا فقول الناظم: "مؤثرا" لا يخرج له حارثا وعباسا وبابه؛ لأن "أل" قد أثرت فيه معنى التعريف تقديرا ولمح الصفة فصار التعريف مشكلا. والثاني: أن قوله: (أو واقع موقع ما قد ذكرا) إن كان يدخل له به "أين" و "كيف" ما ذكر معهما فلا يدخل له فيه الأسماء التي لم تستعمل إلا في النفي نحو: ديار وكتيع وعريب، لأنها كلها واقعة موقع أحد، وأحد لا يقبل "أل"؛ لأنك تقول: ما جاءني

الأحد، وذلك إذا لم يكن بمعنى واحد، فإنه إذا كان بمعنى واحد كأحد في أحد عشر، فليس المستعمل في النفي فإذا لا يدخل له باب ديار وعريب تحت قوله: (أو واقع موقع ما قد ذكرا) ولا تحت قوله: (قابل أل) إذ ليست بقابلة لـ "أل" مع أنها نكرات بإجماع، فكان هذا التعريف غير جامع. والثالث: أن يقال: إن كان يخرج له بقوله: (قابل أل) العلم الجنسي، كما يخرج له العلم الشخصي، فإن قوله: (أو واقع موقع ما قد ذكرا) يدخل عليه العلم الجنسي، لأن معناه معنى النكرة، فأسامة وثعالة ونحوهما معارف لفظا، ولكن معانيها معاني النكرات، إذ كان أسامة مرادفا للأسد، وثعالة مرادف للثعلب، وقد نص على ذلك الناظم في باب العلم حيث قال: ووضعوا لبعض الأجناس علم ... كعلم الأشخاص لفظا وهو عم فأسد إذا صلح وقوعه موقع أسامة، وثعلب إذا صلح وقوعه موقع ثعالة وهما قابلان للألف واللام يؤدي ذلك إلى اعتقاد كون أسامة وثعالة نكرتين إعمالا لقوله: (أو واقع موقع ما قد ذكرا) وهذا غير صحيح، فكان كلامه على إطلاقه غير صحيح. والجواب عن الأول: أن الألف اللام في الحارث والعباس ونحوهما لم يؤثر في محصول الأمر زيادة على ما كان في الأسماء قبل دخولا، وإنما كانت قبل دخولها دالة على معين، وذلك حاصل بعد دخولها وإنما حقيقة تأثيرها أن تؤثر تعريفا فيما لم يكن فيه تعريف وباب الحارث والعباس ليس

كذلك، إذ لم تؤثر فيه ما ليس فيه، وأمل لمح الصفة فأمر زائد على معناها من التعريف الموجود قبل دخول "أل" وبعد ذلك، فلا يعترض عليه بذلك. وعن الثاني: أن باب ديار وكتيع ليس بواقع موقع أحد على الخصوص بل أحد وكتيع وديار ونحوها واقعة موقع ما يقبل "أل" وهو مثلا رجل أو حي أو ساكن أو نحو ذلك، فقد دخل له هذا الباب بقوله: (أو واقع موقع ما قد ذكرا). وعن الثالث: أن باب العلم الجنسي قليل، وعلى خالف الأصل في العلمية، فلم يعتبروه لذلك، ولأجل أنه على خلاف الأصل زعم عضهم أن بينه وبين النكرة فرقا من جهة أن العلم الجنسي وضعه أولا على نفسها كزيد في الخارج بخلاف النكرة؛ فإنها موضوعة لواحد مما في الخارج لا بعينه فافترقا، وليس هذا الوجه بجار على مذهب الناظم في ظاهر لفظه حسب ما يأتي في باب العلم إن شاء الله تعالى. ثم قال: (وغيره معرفة) الضمير عائد على النكرة باعتبار موصوف محذوف مذكر على تقدير أن لو قال: اسم نكرة قابل أل ولذلك جرى عليها قابل وواقع كجرينها على المذكر، ويجوز أن يكون عائدا على قابل وواقع كجريانها على المذكر، ويجوز أن يكون عائدا على قابل وواقع، ويعتبر ما عدا ذكر التعريف به هو المعرفة، ثم أتى بأنواع المعرفة مشيرا إليها بالتمثيل، وهي عنده في هذا النظم ستة أنواع: المضمر: وهو الذي أشار إليه بقوله: (كهم) واسم الإشارة: وهو المشار إليه (بذى) الذي يشار به إلى المفرد المؤنث القريب،

والعلم: وإليه أشار بقوله: (وهند)، والمضاف غلى معرفة محضة، فإن المضاف ليس بمعرفة على الإطلاق، بل شرط الإضافة إلى معرفة، وليس كل مضاف إلى عرفة يكون معرفة يكون معرفة إلا بشرط أن تكون الإضافة محضة، وهذا كله منبه عليه بقوله: (وابني)، والمعرف بالألف واللام: بشرط أن تكون غير زائدة، فإنها إن كانت الزائدة لم تقد تعريفا فليس ما دخلت عليه بمستفيد بها تعريفا، كما سيأتي وقد بين هذا الشرط تمثيله لهذا النوع قوله: (والغلام)، والموصول: وهو الذي نبه عليه بمثال: (الذي). ثم يتعلق بهذا الكلام ثلاث مسائل: إحداها: أنه لم يذكر مراتب المعارف في التعريف، وقد جعل لها في "التسهيل" ست مراتب، فأعلاها ضمير المتكلم، ثم ضمير المخاطب، ثم العلم، ثم ضمير الغائب السالم عن إبهام، ثم المشار به، ثم الموصول وذو الألف واللام، وأما المضاف فبحسب المضاف غليه مطلقا عنده، هذه مراتبها في الأصل في مذهبه، وقد يعرض لها غير ذلك. وهي عند غيره أربع مراتب، فأعلاها: المضمرات، ثم الأعلام ثم المبهمات، ثم ذو الألف واللام والمضاف بحسب المضاف إلى المضمر، فإنه في رتبة العلم، بحسب المضاف إليه، إلا المضاف إلى المضمر، فإنه في رتبة العلم، وهذا الترتيب الثاني هو المشهور من مذهب أهل البصرة وللكوفيين ترتيب آخر فكان من حق الناظم أن يبين مراتبها، للاضطرار إليها في باب النعت، إذ المعرفة من الأسماء لا ينعت بكل معرفة، وإنما ينعت بما كان في رتبته أو دون رتبته، لا بما هو فوق رتبته

بخلاف النكرة. فإنها لا يلزم فيها هذا المعنى، بل تُنعت النكرة بكل نكرةٍ كانت أعم منها أو أخص كما تقول: رجلٌ أبيض، وحيوانٌ ناطق، ولهذا لم يعتن النحويون بذكر مراتب النكرات في التنكير، كما اعتنوا بذكرِ مراتب المعرفة في التعريف. والعذرُ عن الناظم أنه قد استقر من مذهبه أنَّ النعت لا يلزم فيه أن يكون في رتبة المنعوت، أو أدنى منه، بل قد يكون فائقًا له في الرتبة وهو رأي الفرّاء، وحكاه المؤلف عن الشلويين، وأنه صححه وسينبه عليه في باب النعت، إن شاء الله تعالى وإذا كان كذلك لم يلزمه ذكر المراتب، كما لم يلزمه ذلك ولا غيره في التنكير. والثانية: أنه أسقط من المعارف مما ذكره هو وغيره بعض أنواعها وزاد فيها ما لم يزد غيره، أما ما نقص منها فالمنادي المقصود نحو: يا رجل، فإنه معرفةٌ وليس بواحدٍ مما ذكر، ولذلك عدّه في "التسهيل" نوعًا سابعًا، واسم الفعل نحو: صه وإيهٍ ونزال، فإنها معارف إذا لم تنون، ونكراتٌ إذا نوّنت كما ذكر في بابه، ويظهر أنها ليست مما عده وألفاظ التوكيد معارفُ أيضًا نحو: أجمع

وجمعاء وأجمعين وجُمع، وكذلك "سَحر" من يوم بعينه نحو: جئتك يوم الجمعةِ سحر، وما أشبهه من ضُحى وضَحوة وعَشية وعتمة ونحوها، إذا كانت من يوم بعينه، فكان ينبغي للنّاظم أن يعدّ هذه الأشياء لما ظهر من أنها ليست مما ذكر، مع أنها معارف. وأما ما زاد فالموصول ولم يذكره سيبويه في جملة المعارف حين تصدى لحصرها ووجَه ذلك ابن خروف بأن تعريفها إنما هو بالألف واللام، واجتزئ بإظهارها في الذي ونحوه من إظهارها في غيره "من" و "ما" و "أيّ" كما اجتزئ بالصفة به، وأبطل قول من زعم أنها معارف بالصلات، فإن الصلات جملٌ، والجمل في معنى النكرات، وأيضًا فقد تكون صفات وهي نكرات أعني الجمل، والنكرة في نفسه لا يكون لغيره مُعرفًا. والدليل على أن تعريفها إنما هو بالألف واللام أن ما هي فيه لا تكون نكرةً البتة، بخلاف ما ليست فيه، فإنه قد يكون نكرة كـ "من" و "ما" و "أيّ" فإذا لم تقدّر فيها الألف واللام فالتنكير فيها موجود، وإذا قدرت ساوت "الذي" و "التي"، فظهر أن تعديد الناظم قاصرٌ. والعذر عنه أن يقال: أما المُنادي فالاعتراض به مبني على أن تعريفه بالقصد إليه، والإقبال عليه، وليس ذلك بمتفق عليه، لقول طائفة بأن تعريفه بتقدير الألف واللام، كأنها حذفت لفظًا وبقي معناها كما يبقى معنى الإضافة مع حذف المضاف إليه في نحو قول الله تعالى: ((وكلًا نقص

عليك)) ((وكلًا ضربنا له الأمثال)) وقد أشار إلى هذا القول في "الفوائد المحوية" حيث قال: وما عرِّف بالنداء فاللام فيه منوية على رأيٍ، فلعله ذهب إلى ذلك ها هنا، وأما اسم الفعل فإنما هو معرفة بنية الألف واللام ألا ترى أن معنى "إيه" زدنا من الحديث الذي كنت فيه، ومعنى "صه" اسكت عن الحديث الذي أنت فيه، ومعنى نزالِ النُّزولَ النَزولَ، فجميعها كنايةٌ عما فيه الألف واللام، قاله ابن خروفٍ. وأما ألفاظ التوكيد فأعلامٌ عند الناظم، وقد صرح بذلك في بعضها، فقال في باب ما لا ينصرف: والعلمَ امنع صرفهُ إن عُدِلا ... كفُعَلِ التوكيدِ أو كثُعَلًا فقد دخلت إذًا في نوع العلم، وقيل: إنها معرف بنية الإضافة ولا اعتراض بهذا أيضًا. وأما "سَحَرَ" فقد قال في الباب المذكور: والعدلُ والتعريفُ مانِعا سَحَرْ ويريد تعريف العملية: إذ لا تعريف يمنع الصرف إلا ذلك وقال ابن خروف: تعريفه بنية الألف واللام أو الإضافة، وهذا المعنى جارٍ في ضُحى وضَحوةَ وعشاءَ وعشيَّة، أو تكون هذه الأشياء نكراتٍ في اللفظ، وإن كانت لشيء بعينه كقولهم: لقيته عامًا أول، فعامٌ نكرةٌ في اللفظ، معرفة في المعنى؛ لأنه يريد العام الذي قبل عامك.

وأما الموصول ففيه خلافٌ، فمذهب جماعةٍ ما تقدم، وذهب طائفةٌ إلى أن تعريفه بالصلة. وعلى هذا بني الناظم، وقد أشار إلى ذلك في باب المعرف بالأداة حيث جعل الألف واللام في "الذي" و "التي" ونحوهما زائدةً، فهو كالنصِّ منه على أن تعريفها بالصّلة. والله أعلم. والثالثة: من المسائل المتعلقة: أنه لم يذكر من أنواع المعارف "من" و "ما" الاستفهاميتين، فدل على أنه لم يرتض مذهب ابن كيسان في كونهما معرفتين، نظرًا إلى أن جوابهما يكون معرفةً، فإذا قيل: من عندك؟ فجوابه: زيدٌ، وإذا قيلَ: ما دعاك إلى كذا؟ فجوابه: لقاؤك أو نحوه، ومن حقِّ الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال، فدل تعريف الجواب على تعريف السؤال، وضعفه المؤلف من وجهين: أحدهما: أن تعريف الجواب غير لازم، فإذا قيل: من عندك؟ جاز له أن يقول: رجلٌ من بني فلان، وإذا قيل: ما دعاك إلى كذا؟ جاز أن تقول أمر مهم. والثاني: أن "من" و "ما" في السؤالين قائمان مقام أي إنسان وأي شيء، وهما نكرتان، فوجب تنكير ما قام مقامهما، قال: والتمسك بهذا أقوى من التمسك بتعريف الجواب لأن تطابق شيئين قام أحدهما مقام الآخرِ

ألزم وآكد من تطابق الجواب والسؤال، وأيضًا فالتعريف فرع فمن ادّعاه فعليه الدليل، بخلاف التنكير فمدعيه مدعٍ لأصلٍ. فإن قيل: من أين يؤخذ للناظم أن مذهب ابن كيسان غير مرتضى له وابن كيسان لم يدّعِ في "من" و "ما" تعريفًا خارجًا عما ذكر الناظم فلعله يقول بردّهما إلى الأنواع المذكورة، وإذ ذلك لا تظهر مخالفته. فيكون هذا الاستنباط غير صحيح. فالجواب: أنه إذا لم يعين ذلك رجعنا إلى إمكان إلحاقهما بما تقدم فوجدناه لا يصلح كونهما مضمرين، ولا عَلمين، ولا أسمى إشارة ولا مناديين، ولا معرفين بالأداة، ولا بإضافةٍ لفظية ولا معنوية، فتبين أن تعريفهما عنده ليس مما تقدم. ولا يقال لعل تعريفهما عنده من قبيل تعريف الجواب، لأنّا نقول: قد يكون تعريف الجواب بالعلمية، كما يقال: من جاءك؟ فتقول زيدٌ، وبالإضافة كما تقول: غُلامك، وبالألف واللام كما تقول: الرجل الصالح، وبالإشارة كما نقول: هذا، فلو كان نوع تعريفهما معتبرًا بالجواب لكانا علمين مع العلم، مضافين مع المضاف، مُشارًا بهما مع اسم الإشارة، وهذا فاسدٌ، فما أدى إليه فاسدٌ، فثبت أن تعريفهما عنده ليس بشيءٍ مما ذكر الناظم، وانتهض الاستنباط المذكور وكان صحيحًا وبالله التوفيق. * ... * ... * ولما عدد أنواع المعرفة أخذ في ذكر أحكام كل نوع منها، وابتدأ

الضمير

بذكر الضمائر لأنها أعرف المعارف فقال: فمالذي غيبة أو حضور ... كانت وهو سم بالضمير هذا تعريف المضمر و "ما" في قوله: (فمالذي غيبة) مفعول (سم) الأول، وبالضمير هو المفعول الثاني؛ لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف الجر، ويطرد إسقاطه، و "لذي" صلة "ما" وهو متعلق بفعل جائز الحذف، للدلالة عليه، وهو وضع ونحوه، وذو الغيبة أو الحضور هو مدلول الكلمة التي هي المسماة بالضمير، فكأنه قال: ما وضع لمدلول ذي غيبة أو ذي حضور، فهو الضمير في الاصطلاح، وقد ظهر من هذا اعتبار صفة الغيبة، أو صفة الحضور في الوضع، لأنه قال: ما وضع لمدلول موصوف بالغيبة أو الحضور، لا مطلقا، فيخرج بهذا الاعتبار عن الرسم سائر المعارف؛ لأنها لم توضع باعتبار غيبة ولا حضور، إذ كان العلم موضوعا لتعيين مسماه مطلقا، والمبهم موضوعا لتعيينه بقيد الإشارة إليه، وكذا سائرها، وهذا المعنى هو المعبر عنه في "التسهيل" بقوله في رسمه: هو الموضوع لتعيين مسماه مشعرا بتكلمه أو خطابه أو غيبته، والحضور هنا يتضمن التكلم نحو أنا وضربت والخطاب نحو أنت وضربت وأما الغيبة فنحو "هما" وضربا، وهذا التعريف بعد فيه نظر من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه فاته فيه عمدة ما يحتاج إليه في تعريف المضمر، وهو أصل التعريف، وهو الذي بين في "التسهيل" بقوله: ما وضع لتعيين مسماه يعني أن أصل وضعه أن يعين مدلوله، بقيد حضوره أو غيبته، ولم يبين ذلك هنا، وإنما عرف أنه موضوع لمدلول مقيد بالغيبة أو الحضور، فأعطى أن وضع الضمير لا على أن يعين مسماه، فهو إذا موضوع لكل حاضر ولكل غائب وتنكيره ذا الغيبة وذا الحضور يدل على هذا القصد، إذ قال: (لذي غيبة أو حضور) فظاهره أي غائب كان أو أي حاضر كان، وإلى هذا ذهب فيها ابن هانئ شيخ شيوخنا في "شرح التسهيل" حيث التزم أن المضمر وضع اسما للحقيقة الذهنية وهي مفهوم المتكلم أو المخاطب أو الغائب وهي متحدة كعلم الجنس الموضوع للصورة الهنية وهي مفهوم المتكلم أو المخاطب أو الغائب وهي متحدة كعلم الجنس الموضوع للصورة الذهنية من غير نظر إلى الأفراد الخارجية، وابن هانئ في ذلك تابع للقرافي، وكل من قال بهذا -رحمة الله عليه- أحد أمرين لأنهما إما أن يقولا: إن المضمر كلى، فيكون على قولهما هذا نكرة كسائر الكليات نحو: رجل وإنسان وحيوان، وهذا فاسد باتفاق، أو يقولا، إنه ليس على حقيقة الكلى فيكون "أنا" و "أنت" و "هو" وبابها أعلاما علمية الجنس، والمضمرات ليس تعريفها بالعلمية باتفاق، فثبت أن ما أشعر به كلام الناظم مخالف لجميع النحويين، وذلك يدل قطعا على بطلانه بل المضمرات وأسماء الإشارة وغيرها معارف؛ لأن العرب

وضعت المضمر دالا على متعين في الخارج متكلم أو مخاطب أو غائب، وكذلك اسم الإشارة وضع لتعيين مسماه من حيث هو مشار إليه، فكلاهما موضوع يفيد الحوالة على معهود، لكن قد يعرض فيهما أن يكون مدلولهما غير خارجي إقامة للمعين في العلم مقام المعين في الخارج، كما قال امرؤ القيس: *وأنت إذا استدبرته سد فرجه* وذا ليس بالأصل، فهذا كله فيه ما ترى. النظر الثاني: أنه يدخل عليه في هذا التعريف العلم كزيد وعمرو، وذلك أن لفظه لفظ الغيبة، بدليل قولهم: يا زيد نفسه، تغليبا لحكم اللفظ، ولأن العلم إنما وضع لأجل غيبة المسمى، إذ هو محتاج إلى التعبير عنه بلفظ يعينه، إذ لم يتعين بنفسه بخلاف ما إذا كان حاضرا، فإن أداة الإشارة تغني في تعيينه، إذا قلت: "هذا" أو "ذاك" فلا يفتقر إلى وضع اسم علم، فإذا زيد ونحوه مشعرا بالغيبة، فيلزم أن يسمى ضميرا، إذ قال: مالذي غيبة يسمى ضميرا، وهذا الوجه أورده شيخنا الأستاذ -رحمه الله- على المؤلف في حده للمضمر في "التسهيل" والاعتراض به ها النظم متكن حيث قال: (لذي غيبة)، والعلم بلا شك موضوع في أصله لذي الغيبة.

النظر الثالث: أن الحاضر على ثلاثة أقسام: متكلم ومخاطب، وهو الذي قصد بذي الحضور، ولا متكلم ولا مخاطب وهو المشار إليه باسم الإشارة مشعرا بالحضور إذا قلت: هذا وهذي، فاطلاقه لفظ الحضور يوهم إدخال اسم الإشارة، وذلك إيهام مفسد، وهذا الوجه غمزه به ابنه في الشرح. والجواب عن الأول أن يقال أولا: إن المعتمد في المسألة ما قاله النحويون، وأما من عداهم فلا يرجع إلى قوله وإن نزع إليه من المتأخرين نظار وعلماء أخيار، وإليه ذهب شيخنا الإمام أبو عبدالله الشريف التلمساني -رحمه الله- وذلك أن أهل اللسان أهدى إلى فهم الوضع العربي غيرهم، فهم الحجة في هذا وأمثاله، وقد اتفقوا على أن المضمر ليس بموضوع في الأصل ليدل على حاضر أي حاضر كان، أو غائب أي غائب اتفق، وإنما وضع لمعين محال عليه، متشخص في حال الخطاب، غير أنه لما كان المضمر إذا تعقل خارجا عن الخطاب على الجملة فهم منه حاضر مبهم وغائب مبهم، توهموا أن ذلك وضعه الأول، وأن التعيين في حال الخطاب عارض، كما يعرض التعيين في النكرات بقرائن تدل عليه، مع أن الأصل عدم التعيين، وحقيقة الأمر في المضمر عكس ما توهموه، ولو توهموه، ولو كان ذلك كذلك لم يكن فرق بين هو، ورجل، ولكان المضمر معربا، لأن افتقاره إلى التفسير عارض كافتقار رجل إليه، وكافتقار عشرين وبابه، والافتقار العارض

لا يوجب البناء كما تقدم، بل المضمر لا يستقل أصلا بالمفهومية في حالة تعقله مفردا كالحرف، وذلك دليل على أن معناه إنما يتم فهمه بغيره، فذلك الغير مفتقر في أصل الوضع إليه، وهو الذي يعين مدلوله ويشخصه، وبه تمت دلالته على معناه الذي وضع له، ومن هذا الوجه أشبه الحرف، فوجب بناؤه؛ لأنه مفتقر إلى غيره افتقارا أصيلا، وإذا كان كذلك فمعناه الذي وضع له واحد معين لا مبهم، فهو إذا معرفة لا نكرة وتعريفه تعريف الشخص، لا تعريف الجنس، ونظيره في أصل وضعه النكرة إذا عرض لعا تعريف بالألف واللام أو الإضافة، نحو: غلامك والغلام فالغلام معرفة في هذا الحال باتفاق، وإن كان يدل مع التجريد على كل غلام، فذلك لا يقدح في كونه معرفة الآن، إذ ليس الآن بدال على كل غلام، بل وضع وضعا ثانيا لا يدل فيه إلا على معين، فهذا الوضع الثاني في النكرة نظير الوضع الأول في ط "أنا" و "أنت" و "هو" وما أشبه ذلك من المضمرات. وأما فهم الحاضر او الغائب المبهم منها إذا أفردت فهو ثان عن الوضع الأول، عارض فيها، فإن اعتبر فيها فعلى خلاف الأصل، كما في بيت امرئ القيس: وأنت إذا استدبرته سد فرجه هذا إذا لم يتأول ويرد إلى الأصل، وإذا ثبت هذا فيحتمل أن

يكون الناظم قد ذهب إلى قول القرافي: وهؤلاء المتأخرين بناء على أن تعريف المضمر كتعريف العلم الجنسي فيكون مخالفا لجميع النحويين، ويحتمل أن يكون ذهب إلى ما ذهب إليه في "التسهيل" لكنه لم يقيد المضمر في رسمه بتعيين مسماه اتكالا على أنه نوع من أنواع المعارف التي أشار إليها فكأنه يقول: فما وضع من هذه الأنواع لذي غيبة أو حضور فهو الضمير، وهذا هو مراده بلابد، ولا يبقى إذ ذاك إشكال، والله أعلم. والجاب عن الثاني: أن الناظم قد أشعر كلامه بأن العلم ليس لذي غيبة، ولا هو مشعر بها، وذلك قوله في التعريف بالعلم: اسم يعين المسمى مطلقا، فجعل تعيينه لمسماه عاريا من قبل، فلو كان عنده مقيدا بالغيبة لم يقل: مطلقا، ولا يدل كونه وضع على غيبة المسمى أن يكون مشعرا بالغيبة، لأنك تقول يا زيد، فتسميه باسمه العلم وهو حاضر مواجه بالنداء، ولو كان مشعرا بالغيبة لكان نداؤه تناقضا، لأن "يا" تقتضي الحضور، والعلم يقتضي الغيبة، فلا يجتمعان، كما لا تقول: يا هو لكنك تقول: يا زيد يا فصيح الكلام، فدل على أن زيدا غير مشعر بغيبة، وأما قولهم: يا زيد نفسه، فإنما قالوا: نفسه إحالة على العهد فيه، إذ كان قد ذكر أولا فأعيد الضمير عليه على اعتبار العهد فيه، لا لأن العلم يدل على غيبة وفائدة وضع العلم إنما هي تعيين المسمى من بين سائر أبناء جنسه مطلقا، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. والجواب عن الثالث: أنا نمنع إشعار اسم الإشارة بالحضور

وضعاً وإن دل على ذلك عقلا إذ المعتبر الدلالة الوضعية وهو إنما قال: (فمالذي غيبة أو حضور) أي: ما وضع لهذه الدلالة المخصوصة في أصل وضعه، وأنت إذا نظرت إلى أصل الوضع في اسم الاشارة وجدته موضوعا لمشار إليه قريب أو بعيد، ويلزم في القريب الحضور أو لا يلزم، إذ مفهوم الحضور غير مفهوم القرب، فقد يكون الإنسان قريبا منك ولا يكون حاضرا معك، فالحضور على هذا أخص من القرب، وقد أعتذر ابن الناظم عنه في الشرح بأنه قد أفرد لاسم الإشارة بابا على حده، فزال بذلك إيهام دخوله هنا، وهذا الاعتذار لا يرفع ذلك الايهام، إذ يقال: دخل هنا بحكم الشمول، ثم أفرده بحكم يخصه، وإنما جوابه ما تقدم، والله أعلم، ومثل الناظم: ذا الغيبة وذا الحضور بقوله: كأنت وهو، فأتى بأنت الدال على الحضور، وبهو الدال على الغيبة وينتظم مثال الحاضر أنا وشبهه، بمعنى الحضور، إذ قد اشترك مع أنت فيه. * ... * ... * ثم قال: وذو اتصال منه ما لا يبتدا ... ولا يلي إلا اختيار أبدا كالياء والكاف من ابني أكرمك ... والياء والها من سليه ما ملك قسم الناظم -رحمه الله- الضمير إلى قسمين: متصل ومنفصل، وبدأ بالكلام على المتصل، فإذا فرغ من بيان البارز منه وغير البارز أخذ في تعداد المنفصل، ثم ذكر أحكام الضمائر على الجملة، وابتدأ

بضابط يعرف به المتصل من غيره، فذكر أن المتصل يتعرف بأمرين: أحدهما: أنه (ما لا يبتدا) يعني أنه لا يقع في أول الكلام كالياء في ابني، والكاف في أكرمك وسائر ما مثل به، فإن هذه الضمائر وما كان مثلها لا يبتدأ بها في الكلام البتة بخلاف المنفصل منها، فإنه يقع في أول الكلام نحو: {إياك نعبد وإياك نستعين} ونحو: أنت القائم، وهو الضارب، والضمير في (منه) عائد على الضمير المتقدم الذكر في تعريفه به وهو اسم جنس شامل. والثاني: أنه ما لا يلي أداة الاستثناء وهي "إلا" في الاختيار أبدًا، أي: لا يقع بعدها مفصولًا بها بينه وبين عامله كالأمثلة التي ذكرها، فلا تقول: إلاي ولا إلاك ولا إلاه اختيارا من غير ضرورة، وهذا بخلاف الضمير المنفصل، فإنه يقع اختيارًا بعد "إلا" فتقول: ما أتاني إلا أنت، وما ضربت إلا إياك. قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وهو في هذه المواضع عوض من المتصل، إذ لم يتأت الإتيان بإلا مع الاتصال، إذ هي الفاصلة بينه وبين ما اتصل به، ولا يصح بقاؤه على لفظ المتصل مع الانفصال؛ لأنه نقض للغرض فيه لافتقاره إلى ما يتصل به، فعوضوا منه المنفصل الموضوع على الاستقلال، ولذلك كان عندهم بمنزلة الظاهر، بخلاف المنفصل فإنك تقول: ما ضربت إلا إياك، كما تقول: ما ضربت إلا زيدًا، وتقدمه فتقول: إياك ضربت، كما تقول: زيدًا ضربت، وقد أشعر قوله: (اختيارًا) أن الضمير المتصل قد يلي"إلا" لكن في الاضطرار

الشعري، وهذا يعطي شيئين: أحدهما: وجود ذلك سماعا وذلك صحيح، فإن السيرافي أنشده عن ثعلب: وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديارُ أراد إلا أنت، إلا أنه أتى بالكاف ضرورة. والثاني: أن مثل هذا قد يأتي في الضرورة قياسًا، فإذا اضطر شاعر متأخر جاز له القياس على ما سمع، كما يجوز ذلك في الشعر مع "لولا" نحو ما أنشده سيبويه من قول يزيد بن الحكم: / وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوي والقياس في الكلام: لولا أنا، ومن الضرورات ما يكون قياسا. فإن قيل: كل واحد من هذين التعريفين يعطى في المقصود ما أراده، فلم أتى بهما معًا وأحدهما كافٍ؟ فالجواب: أن له في ذلك مقصدا آخر لا يحصل له مع الاقتصار

على الأول وذلك أنه أراد أن يبين أن الضمير المتصل لا يستغني عن مباشرة الفعل من آخره لفظًا وتحصيلًا حتى يصير كالجزء منه فلا يقع مبدوءا به الكلام ولا بعد الفعل مفصولا منه، فلأجل هذا لم يكتف بالتعريف الأول. ثم أتى بأمثلة أربعة وهي: الياء في (ابني) والكاف في (أكرمك) والياء والهاء في (سليه) فالياء في (ابني) دالة على المتكلم المنفرد والكاف في "أكرمك" دالة على الواحد المخاطب، وكلاهما داخل تحت قسم ذي الحضور أيضًا، والهاء منه دالة على الواحد الغائب، وإنما أتى بأمثلة متعددة، وكان يكفيه الإتيان ببعضها لينبه على فوائد محتاجٍ إلى ذكرها: إحداها: بيان أن الضمائر على ثلاثة أقسام: قسم للمتكلم: هو المنبه عليه بابني. وقسم للخاطب: وهو المشار إليه "بأكرمك" وياء سليه. وقسم للغائب: وهو الذي دل عليه بهاء "سليه"، فمثل هذا لابد منه؛ لأنه قال أولا: (فمالذي غيبة أو حضور) فأشعر بقسمين فلو سكت بعد ذلك لأوهم أن ليس ثم قسم ثالث، فبين بالمثال هنا ما أراده. والثانية: الإشارة إلى أن الضمائر تنقسم أيضا باعتبار آخر ثلاثة أقسام فمنها ضمير رفع كالياء من (سليه) وضمير نصب كالكاف من (أكرمك) والهاء من (سليه) وضمير جر كالياء من (ابني). والثالثة: خاصة بياء (سليه) وهي الإشعار بأنها عنده من قبيل الضمائر حقيقة كالياء في (ابني) باتفاق، لا من قبيل العلامات الدالة

على تأنيث الضمير المستتر كالتاء في قامت وقائمة، والأول: الذي ارتضاه (هو مذهب) سيبويه والجمهور. والثاني: ذهب إليه الأخفش الأوسط والمازني والذي ارتضاه الناظم هو الراجح عندهم لوجوه: أحدها: أنها لو كانت كالتاء في قامت لساوتها في الاجتماع مع ألف الاثنين فكنت تقول: فعليا، كما تقول: فعلتا، لكن العرب لا تفعل ذلك فعلم أن المانع لهم في ذلك كونه مستلزما لاجتماع ضميري رفع لفعل واحد، وذلك غير جائز. والثاني: أن المراد مفهوم بالياء، كما هو مفهوم من تاء فعلت وفعلت وفعلت، والنون والألف في فعلنا، والأصل عدم الزيادة، فمن ادعاها فعليه الدليل. والثالث: أنها لو كانت علامة دالة على تأنيث الفاعل المستكن كتاء فعلت لجاز حذفها في نحو: يا هند افعلي على قول من قال: فإن الحوادث أودي بها فكنت تقول: يا هند افعل، وهذا لا يجوز، وهذا الوجه وما قبله للمؤلف في "شرح التسهيل".

والرابع: أن الياء قد ثبتت ضميرًا على الجملة ولم تثبت علامة/ للتأنيث إلا في محل النزاع، والمصير إلى ما ثبت أولى من المصير إلى ما لم يثبت. ومن حجة الأخفش أن فعل المفرد مذكرًا كان أو مؤنثًا لا يبرز ضميره نحو: زيد يقوم وهند تقوم، فقد ثبت الاستتار على الجملة في فعل المفرد ولم يثبت إبرازه إلا في محل النزاع، والمصير إلى ما ثبت أولى. فإن أجيب بأنه إنما برز لإزالة اللبس، لأنك تقول في خطاب المذكر تقوم، وفي خطاب المؤنث: تقومين. فلو قلت: تقوم، لالتبست المخاطبة بالغائبة، فبرز الضمير لذلك، فللأخفش أن يقول: تلحق العلامة آخر الفعل لإزالة اللبس، وهي الياء، والضمير يستتر على ما يجب، وأشب هذه الأوجه الأول. و"ما" من قوله: "سليه ما ملك" استفهامية، علقت الفعل الذي هو "سل" عن التعدي إلى مفعوله الثاني، كقول الله تعالى {يسألونك ماذا ينفقون} وهو يجري في التعليق مجرى علم، ووقعت الكاف هنا كاف الضمير رويا مع الكاف الأصلية ملك، وذلك جار على قياس أهل القوافي: إذ ليست عندهم كهاء الضمير، لا تقع إلا وصلا، بل لا تقع الكاف عندهم وصلا البتة، إلا على رأي بعض من شذ، فرأى الكاف مثل الهاء تقع وصلًا وهو عند الجمهور مردود، فالناظم جرى على رأي الجمهور.

وأيضاً قوله: (ما لا يبتدا) وقعت الهمزة المسهلة فيه وصلا، إذ أصله ما لا يبتدأ، والهمزة المسهلة بزنة المخففة وبتقديرها، فلا يجوز أن تقع وصلا، إلا أن يعتقد إبدالها محضا، على لغة من قال في قرأت "قريت" فحينئذ يوصل بها الروي، وهذا يجب أن يعتقد في كلام الناظم هنا، وفي كل ما كان مثله، وإبدال الهمزة يقع في هذا النظم كثيرًا لضرورة الوزن وهذا سهل، ونظير ذلك في الشعر ما أنشد سيبويه من قول عبد الرحمن بن حسان: وكنت أذل من وتد بقاع ... يشجج رأسه بالفهر واجي أراد به: واجئ إلا أنه أبدل الهمزة ياء محضة، فكذلك هنا والله أعلم. ثم قال: وكل مضمر له البنا يجب ... ولفظ ما جر كلفظ ما نصب للرفع والنصب وجر "نا" صلح ... كاعرف بنا فإننا نلنا المنح يعني أن الضمائر كلها مبينة واجب لها البناء، ليس بجائز، كما كان جائزًا في نحو يومئذ، وقبل وبعد، ولا أيضا يوجد في بعضها دون بعض، كما وجد ذلك في أسماء الإشارة، الموصولات نحو: هذا واللذان على رأيه فيهما حسب ما يذكره بعد، وكأسماء الشرط وأسماء الاستفهام حيث وجدت في بابيهما، وفي باب الموصولات "أي" معربة وجود علة

البناء فكسرت اطرادًا لبناء فيها، فلم يصح فيها كلية، وكذلك باب أسماء الأفعال حيث وجد فيها، دونك ونحوه معربًا على رأي الأكثرين، فقد تبينت حكمة (كل) و (يجب) في كلامه، إذ لم يوجد مضمر معرب البتة لا جوازًا ولا وجوبًا بخلاف أكثر أنواع المبينات، وهذا منه حسن من التنبيه، فتنبه له. وقد تقدم أن البناء في الأسماء ل سبب فلننظر في سبب بناء المضمرات/ وتعيين السبب المختص بها مما ذكر، أو مما لم يذكر فنقول: يحتمل أن يكون سبب البناء فيها شبه الحرف الوضعي؛ لأن منها ما وضع وضع الحرف في الأصل على حرف واحد كالتاء في ضربت وضربت وضربت، والنون في ضربن، والياء في غلامي واضربي، والألف في ضربا ويضربان، والواو في ضربوا ويضربون. أو على حرفين ثانيهما حرف لين، نحو: هو وهي وها في ضربها، و "نا" في ضربنا، ثم حمل عليا سائر الضمائر لتجرى كلها مجرى واحدًا، كما حملوا أعد وتعد ونعد على يعد في الإعلال، وكما حملوا يكرم وتكرم ونكرم على أكرم في حذف الهمزة، وكما حملوا فعال في المصادر كيسار وفجار على فعال في الأمر، ليجرى كل في باب مجرى واحدًا، فإذا يكفى أن ترد في بنائها إلى شبه الحرف الوضعي الذي ذكره الناظم قبل، ويحتمل أن يكون سبب بنائها وضعها في الأصل على الافتقار إلى ما يفسرها كما أن الحرف كذلك، لأن ذا الحضور منها مفتقر إلى معنى الحضور كأنا ونحن في التكلم، وأنت وأنتم في الخطاب، وذا الغيبة مفتقر إلى محال علي في لذكر أو في العلم، وهذه العلة أتم من الأولى، لا طرادها ووجودها في الضمائر كلها، من غير حمل لبعضها على بعض، فهي بهذا الاعتبار ترجع إلى شبه الحرف الافتقارى الذي ذكره أيضا.

ويحتمل أن يكون سبب البناء فيا الاستغناء، باختلاف صيغها لاختلاف المعاني؛ لأن المتكلم إذا عبر عن نفس خاصة فله تاء مضمومة في الرفع، وفي غير الرفع ياء، وإذا عبر عن المخاطب فل تاء مفتوحة في الرفع، وفي غيره كاف تفتح وتكسر بحسب المذكر أو المؤنث، ولا يضر في هذا اتفاق اللفظ في النصب والجر نحو: ضربني غلامي، وضربك غلامك، وضربه غلامه، وضربنا غلامنا، وما أشبه ذلك، كما لا يضر ذلك في المعربات حيث اتفق النصب والجر معا، وذلك نحو: ضربت الزيدين، ومررت بالزيدين، وضربت الهندات، ومررت بالهندات، ورأيت الزيدين، مررت بالزيدين، ورأيت أحمد، ومررت بأحمد، فهذه أربعة أنواع، يتفق فيها لفظ النصب والجر، ولم يكن ذلك قادحًا في التفرقة لأجل وجود التمييز بالعامل، فكذلك ما نحن فيه وهو حسن في نفسه، لا بحسب قصد الناظم، وإن كان ابنه قد رجحه في شرح كلامه فقال: ولعل هذا هو المعتبر عند الشيخ، ولذلك عقبه بتقسيمها بحسب الإعراب كأنه قصد بذلك إظهار علة البناء فقال: (ولفظ ما جر كلفظ ما نصب)، أي: الصالح للجر من الضمائر المتصلة (هو الصالح للنصب لا غير. وأما الرفع فلا يصلح ل منها إلا "نا" خاصة، ولذلك أفردها) بهذا الحكم كما يجئ بحول الله. قال: ولما بين أن الواقع من الضمائر المتصلة في الإعراب كله هو "نا" علم أن ما عداها من المتصل المنصوب لا يتعدى النصب إلا إلى الجر كياء المتكلم، وكاف المخاطب، وهاء النائب، هذا ما قال على نقل بعضه بالمعنى، وهو بعيد الاعتبار في كلام الشيخ من وجهين: -

أحدهما: أنه شرح/ في باب المعرب والمبنى علة البناء في الأسماء ولم يتعد فيا شبه الحرف، لأنه قال أولا: والاسم منه معرب ومبنى ... لشب من الحروف مدني قلم يجعل له علة إلا الشبه، ثم قال في آخر الفصل. ومعرب الأسماء ما قد سلما ... من شبه الحرف كأرض وسما فنفى البناء عن كل ما لم يشبه الحرف، فدل على أن شبه الحرف عنده هو الموجب للبناء لا غيره، وقد مر بيان ذلك بأتم من هذا، فإن كان هذا الوجه راجعًا إلى شبه الحرف بطريق صحيح فيحتمل أن يريده الناظم احتمالًا غير راجح، بل مرجوحا، لأنه ليس في كلامه هنا ما يقتضي، إذ لم يربط أحد الحكمين بالآخر، ولا نبه على ارتباطهما، فلو أتى بالفاء فقال: فلفظ ما جر كلفظ ما نصب، لكن فيه إشعار بما قال، فلما أتى بالفاء فقال: فلفظ ما جر كلفظ ما نصب، لكان فيه إشعار بما قال، فلما أتى بالواو دل على أنه لم يقصد ما قاله، وهذا هو الثاني من الوجهين. وأما إذا لم يرجع هذا الوجه إلى شبه الحرف البتة أو رجع لكن بتكلفٍ فيه فيبعد جدًا قصد الناظم له، مع ما تقدم له من ذكر الشبه الوضعي والافتقاري، ويحتمل على بعد في قصده أيضا أن يكون سبب بناء المضمرات ما ذكر السيرافي من الإبهام في الأشياء كلها، والدخول عليها؛ لأن المضمر يقع على كل شيء من الحيوان وغيره، فأشبه الحرف من حيث أن الحروف أعراض تعترض في الأشياء

كلها، وقد تقدم بيان هذا الوجه، وإمكان رجوعه إلى ما ذكره الناظم، وإمكان كونه وجهًا مستقلًا من أوجه (شبه الحرف فهذه) أربعة أوجه يمكن تعليل بناء المضمر بها، وجميعها قد قيل به فيها، وأشهرها الوجهان الأولان، ثم قال: (ولفظ ما جر كلفظ ما نصب) يعني أن الضمائر المتصلة الموضوعة للجر مثل الضمائر الموضوعة للنصب في اللفظ، فإنك تقول: ضربني غلامي، فالياء ضمير جر في غلامي، وضمير نصب في ضربني، وكذلك الكاف في ضربك غلامك كانت مفتوحة أو مكسورة، ومثله {ما ودعك ربك} و {عسى أن يبعثك ربك} وكذلك هاء الغائب وهاء الغائبة نحو: ضربه غلامه، وضربها غلامها، ومثله {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن}، وقوله {فألهمها فجورها وتقواها}، ووجه هذا الاشتراك طلب الاختصار، وتقليل الأوضاع مع أنها لا تلتبس، للتميز بالعوامل فيها. وأما ضمائر الرفع فدل المفهوم على أنها ليست كضمائر النصب، إلا أن خرج عن ذلك ضمير واحد فجعل لفظه في الرفع كلفظه في النصب، وذلك "نا" فنبه عليه بقوله: (للرفع والنصب وجرنا صلح) يعني أنه خرج عن أصل المخالفة في اللفظ فاستعمل في الرفع كما استعمل في النصب وفي الجر. أما استعماله في الجر فعلى القاعدة المستمرة، وأما استعماله في الرفع فعلى خلاف القاعدة، ومثل استعماله في الأحوال الثلاثة بقوله: (اعرف بنا فإننا نلنا المنح) فالأول: في موضع

جر بالباء، والثاني: في موضع نصب بـ "إن"، والثالث: في موضع/ رفع بـ "نلنا" و (اعرف بنا): اعرفنا من المعرفة والعرفان، وتعدى بالباء التي في معنى الظرفية، كأنه يريد اجعلنا موضع عرفانك، فإننا نلنا المنح، ويمكن أن يكون من قولهم: عرف به واعترف، أي أقر به، والمعنى أقر بفضلنا فإننا نلنا المنح، ونال يجوز أن يكون من المعتدى إلى أثنين، أو من المعتدى إلى واحد، فإنك تقول: نلت خيرًا، أي: ًاصبته، وتقول: أنلت الشيء زيدًا أي: أعطيته إياه، وأنلته له ونلته إياه، فالمعنى على الأول، فإننا أصبنا المنح واحتوينا عليها، وعلى الثاني تعرف بنا فإننا أنلنا الناس المنح والعطايا، وهذا أظهر من الأول. والمنح: جمع منحة وهي العطية، يقال: منحة كذا يمنحه ويمنحه منحًا، والاسم: المنحة. والمنحة أيضا: العارية. قال أبو عبيد للعرب أربعة أسماء تضعها موضع العارية المنحة والعارية والإفقار والإخبال. وقوله: "نا صلح" "نا" مبتدأ خبره "صلح" وللرفع وما بعده متعلق بـ "صلح"، وفي هذا الكلام نظر إعرابي سينبه عليه، وإن كان قد تقدم مثله في قوله (بالجر والتنوين والندا وأل .. ) إلى آخره ولما بين أن لفظ "نا" قد صلح لوجوه الإعراب دل على أن غير من ضمائر الرفع ليس كذلك، بل له لفظ آخر.

واعلم أن ضمائر الرفع المتصلة إنما تقدم له منها الياء في سليه، وضمائر النصب إنما ذكر منها (الكاف في أكرمك) و"الهاء" في سليه وضمائر الجر إنما ذكر منها الياء في ابني، وذلك كله في قوله: "كالياء والكاف من ابني أكرمك ... إلى آخره"فاستدرك الياء للنصب والكاف والهاء للجر بقوله: (ولفظ ما جر كلفظ ما نصب) فصار كل واحد من الياء والكاف والهاء صالحًا للنصب والجر، فتقول: ضربني ابني، وضربك ابنك، وضربه ابنه وأما الرفع فاستدرك له "نا" في قوله: (للرفع والنصب وجر نا صلح). وبقى له ألفاظ أخر بينا بقوله: وألف والواو والنون لما ... غاب وغيره كقاما واعلما يعني أن الألف والواو والنون ضمائر رفع أيضا، تكون للغائب وغيره فكونها للغائب نحو: "قاما" الممثل به، إذا قلت: الزيدان قاما والزيدون قاموا، وكذل الهندات قمن، وغير الغائب هو الحاضر، وأراد به المخاطب، دل على ذلك مثاله وهو: (اعلما) ومثله: اعلموا واعلمن، وأما المتكلم فلا ضمير له هنا، والمضارع أيضا تلحقه هذه الضمائر للغائب والحاضر نحو: أنتما تقومان، وأنتم تقومون، وأنتن تقمن وهما يقومان، وهم يقومون، وهن يقمن. ونصه هذا في هذه الأحرف الثلاثة قد دل على كونها ضمائر لا علاماتٍ على الجملة، وهو مذهب الجمهور،

وذهب المازني فيما نقل عنه إلى أنها لا تكون ضمائر البتة، وإنما هن علامات مطلقا، فإذا قلت: يقومان الزيدان، ويقومون الزيدون، وما أشبه ذلك، فهي علامات باتفاق، فكذلك يكون الحكم إذا قلت: الزيدان يقومان، والزيدون يقومون وما أشبه ذلك، وكذلك النون في يقمن والياء في تقومين يا هند، فالفاعل مستكن في الجميع، وهذه الأحرف علامات تدل على فرعيته في تثنية أو جميع أو تأنيث، كما كانت التاء في قامت، كذلك باتفاق، ورد المؤلف هذا في "شرح التسهيل" بما/ ذكر في ياء تقومين، وذلك كافٍ هنا فلا حاجة إلى الإعادة. واعلم أن هذا الفصل فيه نقص بيانٍ من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لم يستوف ضمائر الرفع على الكمال، بل نقصه منها التاء في نحو: قمت وقمت وقمت، أعنى من الضمائر البارزة، وأما المستترة فهو ذاكرها إثر هذا. والثاني: أنه عرف بضمائر النصب والجر تعريفا مجملا، لأنه إنما ذكر منها ما دل على المفرد المذكر، ولم يذكر من ضمائر المؤنث إلا الياء في (سليه) فترك اختلافها بحسب التثنية والجمع والتأنيث، بل ترك في كاف الخطاب ذكر الفتح مع المذكر لكون كاف أتت في نظمه رويًا مقيدًا حيث قال: (من ابني أكرمك) فلم يتعين للمذكر فتح من كسر ولا العكس للمؤنث. وأنت تعلم أن الكاف تفتح للواحد المذكر، وتكسر للواحدة المؤنثة، وتوصل مضمومة بميم وألف للاثنين والاثنتين، وبميمٍ

وواوٍ ممدودة لجمع المذكرين العقلاء. ويجوز حذف الواو وإسكان الميم وبنون مشددة لجمع المؤنث فتقول في الأول: ضربك، وفي الثاني: ضربك، وفي الثالث: ضربكما، وفي الرابع: ضربكمو وضربكم إن شئتن وفي الخامس: ضربكن، والهاء أيضا وهي المنبه عليها في "سليه" تضم للمذكر الواحد إن انضم ما قبلها أو كان مفتوحًا أو ساكنًا غير الياء، وتكون مكسورة إن انكسر ما قبلها، أو كان ياء قبلها كسرة، أو فتحة، لكنها توصل بمجانس حركتها من واوٍ أو ياء إن تحرك ما قبلها أصليًا نحو: ضربهو ويضربهو ولهو، ومن إبلهى وبهى. فإن سكن ما قبلها أو تحرك تحركا عارضا ففي الوصول وجهان: فالأول نحو: لم يضربه، وعليه، تقول فيه إن شئت: لم يضربهو وعليهى، والأول أشهر. وفي الثاني تقول: أعطه ولم يعطه، وأعطهي ولم يعطهي إن شئت وتفتح الهاء للمؤنثة الواحدة، وتوصل بألف مطلقا نحو: ضربها ولم يضربها، وهو يضربها، وبها وعليها، وتوصل مضمومة أو مكسورة، كما تقدم في التفصيل بميم وألف للاثنين والاثنتين، وبميم مضمومة ممدودة أو ساكنة كما تقدم مع الكاف لجمع المذكرين العقلاء، فتقول في المثنى: ضربهما ولم يضربهما، ولهما وبهما ولم يضربهما، وفي المجموع ضربهم، وضربهمو إن شئت، وبهم وبهمو إن شئت، وبنون مشددة للمؤنثات نحو: ضربهن ولم يضربهن، ولم يعطهن وبهن ولهن، هذا في ضمائر النصب والجر. وأما في ضمائر الرفع فالتاء تضم للواحد المذكر المتكلم، وتفتح للمخاطب وتكسر للمخاطبة بغير مد، كالكاف، وتوصل مضمومة بميم وألف للاثنين والاثنتين، وبميم ساكنة أو مضمومة ممدودة لجمع العقلاء من الذكور، وبنون

مشددة للإناث، فهذا كله مما نقصه التنبيه عليه، مع أنه ضروري لا يتحصل فهم الضمائر إلا به، وهو كما ترى وقد أغفل ذكره، فما أولاه بالاعتراض والنقد عليه والثالث: أنه لما ذكر أن الألف والواو والنون من ضمائر الاتصال لم يبين أنها ضمائر رفع، فأوهم أنها من جملة ضمائر النصب والجر، وهو إيهام مخل. فأما الاعتراض الأول فلازم له، فلو قال- بعد ذكر الألف والوا والنون- وللحضور التا كقمتُ قمتا ... قمت وللفروع قد نبهتا أو غير ذلك مما يعطي فيها بيانًا، لتم قصده، وكذلك الثاني لو حرره بأن يقول مثلا- بعد بيان أن لفظ ما جر كلفظ ما نصب- /: فالنصب نحو عمنى وعمه ... عمك والباقي رزقت فهمه لم يخل من بيان الفروع، كما فعل في الضمائر المنفصلة، ويحصل بذلك بيان ضمائر الجر لقوله: (ولفظ ما جر كلفظ ما نصب)، وأما الثالث: فيمكن أن يكون سكت عن بيان أنها من الضمائر اتكالًا على فهم ذلك من قوله: إثر هذا، (ومن ضمير الرفع ما يستتر) إذ فيه إشارة إلى أن ما تقدم من ضمائر الرفع، وهذا اعتذار ضعيف، فلو قال مثلا: وألف الواو والنون لما ... غاب وغيره وللرفع أنتما لكان أولى من التمثيل لبيان الخطاب أو قال: وألف والواو والنون لما ... خوطب أو غاب وللرفع انتمى لتم له المقصد، والله أعلم.

ثم أخذ في بيان ما يستتر من ضمائر الرفع فقال: ومن ضمير الرفع ما يستتر ... كافعل أوافق نغتبط إذ تشكر يعني أن ضمائر الرفع المتصلة على قسمين: قسم بارز ينطق به، وقد تقدم ذكره. وقسم يستتر، فلا يظهر له أثر في اللفظ، وإنما هو مقدر في النية، فعبر عن هذا المعنى بالاستتار، كأنه احتجب عن الإدراك اللفظي. فإن قيل: إن الاستتار في الذهن إنما يستعمل فيما كان منكشفًا ثم اختفى، والضمير المستتر هنا لم يكن ظاهرًا ثم اختفى؛ لأن حقيقة الضمير البارز ألا يخفى أبدًا، والضمير المستتر هنا لا يظهر أبدًا، وإذا كان كذلك لم يلق بالموضع لفظ الاستتار، وإنما كان الأولى الإتيان بلفظ يعطى معنى عدم) الظهور جملة، ما قال في "التسهيل" فمنه واجب الخفاء ومنه جائز الخفاء، إذ لفظة الخفاء لا يفهم منها أنه كان ظاهرًا، ثم خفي بخلاف لفظة الاستتار والاختفاء؛ لأن كل واحد من هذين مطاوع لقولك: سترته وأخفيته، أي: فعلت به هذا بعد أن لم يكن، وليست الضمائر المستترة مما كان ظاهرًا ثم استتر، لأنك إذا قلت: افعل يا زيد فليس المقدر لفظ أنت ولا غيره، وكذلك إذا قلت: نحن نفعل، فليس المقدر لفظ نحن ولا غيره، وكذلك سائر ما يستتر منها وجوبًا، وإنما هي أمور ذهنية تقديرية لم تظهر قط، فلم ينبغ أن يأتي بما يقتضى أنها ظهرت.

فالجواب: أن الناظم لم يعتن بهذا التحقيق، اتكالًا على فهم المراد ثم إن سلمنا قصده إليه فعلى لحظٍ آخر، وذلك أن الضمائر المتصلة أصلها في القياس أن تبرز وتظهر في النطق، لما تقرر في الغالب من حالها، إذ هي من قبيل الألفاظ، فما استتر منها فأصله ألا يستتر، وإذا كان كذلك فقوله: (ومن ضمير الرفع ما يستتر) أي: ما كان في الأصل القياسي حقيقًا بالظهور، ثم صار بالاستعمال مما يستتر يظهر، فظهوره الذي أشعر به اللفظ هو القياس. ولذلك نقول في الضمير في: (اسكن) ونحوه أنه من قبيل الألفاظ، وقد اعترض شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني- رحمه الله- حد الكلمة في "التسهيل"، بأنه أتى به ليكون حدًا منطقيًا، وهو لم يأت فيه بالجنس، لا الأقرب ولا الأبعد فإنه قال فيه: الكلمة لفظ، ثم قال: أو منوى معه كذلك، وتقديره عنده: أو غير لفظ (منوي مع اللفظ فكأن الجنس عنده لفظ أو غير لفظ، وهذا ليس بجنس). قال شيخنا القاضي- رحمه الله- ومن العجب أنه لا يجد هذا الجنس لو بحث عنه. قال: والذي أوقعه في هذا جعله الضمائر من قبيل غير/ اللفظ، وليس كذلك، إنما هي من قبيل الألفاظ، وإنما

عرض لها أن أضمرت فلم تظهر في النطق، وهي قد تظهر في أحيان أخر، يعني حيث يجب الظهور. فالحاصل أن كلام الناظم على كلا المحملين صحيح، ثم ذكر لاستتار الضمير ثلاثة مواضع: أحدها: فعل الأمر إذا كان للواحد، لا للاثنين ولا الجماعة وللمذكر لا للمؤنث، فهذان وصفان لا بد منهما، وهما اللذان أعطاهما التمثيل بأفعل، فإن الأمر إذا كان للاثنين أو الجمع برز ولم يستتر نحو: افعلا وافعلوا وافعلن، وكذلك إذا كان للمؤنث برز نحو: افعلي والياء عنده ضمير لا علامة حسب ما تقدم، فإذا اجتمع الوصفان استتر الضمير فتقول: اضرب واعلم وقم، وما أشبه ذلك. والثاني: الفعل المضارع ذو الهمزة الدالة على المتكلم وحده، أو النون الدالة على المتكلم ومعه غيره، أو وحده مع قصد التعظيم، وهما اللذان نبه عليهما بقوله: (أوافق نغتبط) وكأنه قصد أن المضارع إذا كان فاعله المتكلم استتر مطلقًا، بخلاف غير ذلك، فإن الضمير يظهر معه إذا قلت: يفعلان ويفعلون ولتفعلي وما أشبه ذلك. والثالث: الفعل المضارع ذو التاء، لكن بشرط أن يكون للواحد المخاطب نحو: أنت تفعل وهو الذي دل عليه قوله: (إذ تشكر) وهو فعل

مبني للمفعول ومثله المبنى للفاعل، كقولك: أنت تشكر، إذا لا فرق بينما، ومن هنا يحتمل المثال الضبط بالبناء للفاعل، وأظن أن ابن الناظم هكذا ضبطه إلا أنه جعل مثال التاء "تغتبط" ومثال النون "نشكر" والأمر في ذلك قريب، فإن لم تكن التاء للواحد المخاطب، بل للواحدة الغائبة، فالضمير يبرز هنالك في نحو ما تقوم إلا هي، وكذلك إن كانت التاء للواحدة المخاطبة، نحو: لتفعلي يا هند، وإن عددت هذه المواضع أربعة فلا بأس، وهذا فعل ابن الناظم. واعلم أن قوله: (ومن ضمير الرفع ما يستتر) يدل على أن الاستتار إنما يكون في ضمائر الرفع، وأما ضمائر النصب والجر فلا تستتر البتة، ووجه ذلك أن الضمير الرفع عمدة في الكلام لا يستغنى عنه، فساغ تقديره من غير تلفظ به، استغناء عن لفظه بتقدير معناه، بخلاف الضمائر الأخر، فإنها فضلات يستغنى عنها، فلم يسغ تقديرها والاستغناء عن اللفظ بها، لعدم الدليل على القصد إليها، وبناء الكلام عليها. فإن قيل: فأنت قد تقول: أعجبني الذي أكرمت، تريد: أكرمته و {اقض ما أنت قاض} تريد قاضيه، فجعلت ضمير النصب وضمير الجر مستترًا، كما جعلته مستترًا في (افعل) وأخواته، فكيف يخص الناظم الاستتار بضمير الرفع؟

فالجواب: أن ذلك في ضمير استتار حقيقة، وفي غيره حذف وقد فرق الناس بين الأمرين، بأن المضمر في حكم الحاضر الملفوظ به المراد، بخلاف المحذوف، فإنه كان ملفوظًا به، ثم ترك وأهمل فليس في حكم الحاضر. والدليل على صحة هذا الفرق أنك إذا سميت بضرب المستتر فيه الضمير حكيت كما تحكى الجمل، وإن سميت بقولك: ضربه حكيت أيضا، فإن حذفت الضمير المنصوب أعربت، وإن كان أصل الحذف اختصارًا. وذلك دليل على: عدم/ اعتباره، وعلى اعتبار ضمير الرفع، وقد فرق ابن خروف وغيره بين المضمر والمحذوف بما لم يحضرني الآن، فما أشار إليه الناظم صحيح لا شك فيه إلا أن حصره مواضع الاستتار نظرًا وهو أنه إما أن يريد حصر مواضع الاستتار الواجب، وإما أن يريد حصر مواضع الاستتار مطلقا، فإن من ضمائر الرفع ما يجب استتاره، ومنها ما يجوز استتاره وظهوره، ومنها ما يمتنع استتاره، أما هذا الأخير فهو ما تكلم فيه أولا، وأما غيره فهذا فصله، فإن أراد الواجب الاستتار- وهو الذي أراد بلا شكٍ- فقد نقصه موضع خامس لا بد من ذكره، وهو: اسم فعل الأمر، كنز الٍ وصه وإيه إذا كان مسندًا إلى مفرد أو مثنى أو مجموع مذكر أو مؤنث، فإنك تقول: مه يا زيد ويا زيدان ويا زيدون ويا هند ويا هندان وياهندات، وكذلك سائرها. وقد نبه على ذلك في "التسهيل" فعد من المواضع اسم

فعل الأمر مطلقًا وعلى هذا النظر يكون حصره ناقصا، وإن أراد ما هو أعم من الواجب الاستتار، والجائزة فكلامه أيضا معترض، إذ ليس في كلامه ولا تمثيله ما يشعر بذلك، وإذا كان خارجًا عنه فهو جزء من المسألة نقصه ذكره. فإن قلت: إن قوله: (ما يستتر) يحتمل أن يريد به القسمين معا. قيل: التمثيل بما يجب استتاره يرفع ذلك الاحتمال فيلزم الإشكال. والجائز الخفاء هو الضمير المرفوع فعل المفرد، مذكرًا كان أو مؤنثا، مضارعا كان الفعل أو ماضيًا، نحو: زيد قام، وهند قامت، وزيد يقوم، وهند تقوم، والمرفوع باسم فعل بمعناه كهيهات لو قلت: العقيق وأهله هيهات، وسواء في هذا الضمير الواحد والاثنين والجميع ومثله سرعان ووشكان، والمرفوع بصفة بمعناه أيضا نحو: مررت برجل حسن، وبرجل قائم، وبامرأة جميلة، وإنما كان جائز الخفاء لصحة ظهوره في الحصر بإلا، وصلاحية الظاهر في موضعه، بخلاف القسم الأول كقولك: زيد حسن وجهه، وما حسن إلا هو، وهيهات العقيق وأهله. والجواب أن يقال: يحتمل أن أراد الواجب الاستتار (والجائزة معا، ولا يلزمه اعتراض، ويحتمل أن يكون الواجب الاستتار فقط، فأما إن أراد) الأول فإنه إنما مثل بالواجب، لأنه أقعد في ذلك من الجائز، وأتى بالكاف تنبيها على ما بقى مما لم ينبه عليه بمثال، ويدل على ذلك أنه إنما قال أولا: (ومن ضمير الرفع ما يستتر) ولم يقيد ذلك بوجوبٍ

ولا جواز، وأيضا فإذا أمكن صرف الأمثلة إلى نوع من أنواع المستتر لم يكن التمثيل نصا في تعيين أحد النوعين، إذ معناه أن من ضمير الرفع ما يستتر هذا الاستتار، فاقتضى أن منه ما يستتر على نوع آخر وهو الجواز، إلا أنه لم يعتن بقسم الجائز الاستتار، وأما إن أراد الثاني فاللفظ صالح له. ولا سيما حين قيد ما ذكرنا بالتمثيل. فإن قيل: إن قول: (ما يستتر) كيف يعطى اللزوم مع صلاحيته لغيره؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن مراده بقوله: (ما يستتر) أي: ما شأنه الاستتار لا بمعنى أنه قد يكون وقد لا يكون، والعرب تعبر بالمضارع وتريد به الدوام من غير انقطاع كقولهم: فلان يعطى ويمنع، أي: شأنه هذا ودأبه أبدًا، فيكون/ هذا من ذلك. والثاني: أن العبارة وإن كانت مطلقة فقد قيدها، لما مثل بما يلزمه الاستتار، فدل على أن ما مثل به مراد له. والله أعلم. ولما بين الضمائر المتصلة وعددها وذكر مرفوعها ومنصوبها ومجرورها، أخذ في بيان الضمائر المنفصلة، وهو القسم الثاني (من قسمي الضمائر فقال):

وذو ارتفاع وانفاصل أنا هو ... وأنت والفروع لا تشبه وذو انتصاب في انفصال جعلا ... إياي والتفريع ليس مشكلا فقسم الضمائر المنفصلة إلى قسمين: قسم مرفوع، أي: هو من ضمائر الرفع، وهو الذي عبر عنه بذي الارتفاع. وقسم منصوب، أي: هو من ضمائر النصب، وهو المعبر عنه بذي الانتصاب. ولم يذكر للجر ضميرًا منفصلا؛ لأنه معدوم إذ الجار لا يقوى أن يكون في درجة الفعل، والفعل قوي فجاز تصرفه في معمولة بالتقديم والتأخير والفصل، بخلاف الجار، كان اسما أو حرفا، فلما ضعفت عن مرتبة الفعل لم يفصل منه ضميره، فكما لا ينفصل المجرور عن جاره إذا كان ظاهرًا، فكذلك لا ينفصل عنه إذا كان ضميرًا، بل الاتصال هنا أولى، وابتدأ الناظم بضمائر الرفع فقال: (وذو ارتفاع وانفصال أنا هو وأنت) أراد أنا وهو، إلا أنه حذف العاطف ضرورة، يعني أن الضمائر المنفصلة المرفوعة هذه الثلاثة وفروعها، وجعله غيرها فروعا دل على أن هذه الأصول، وذلك صحيح، فإن الأصل الإفراد، وغيره فرع عنه، والأصل أيضا التذكير، وغيره فرع عنه، والدليل على ذلك: جعلهم لما ليس مفردًا مذكرًا علامة تدل عليه في حال إسناد الفعل إليه ولذلك قال الجزولي: إذا ذكر الفعل أدرك أنه لا بد من فاعل، وأنه أقل ما يكون واحدا، وأن أصله التذكير قال: فيحتاج ما لا يدرك إلى علامة فكذلك

ها هنا، فـ "أنا" ضمير التكلم وحده و "هو" ضمير الغائب المذكر وحده و "أنت" ضمير المخاطب المذكر وحده، فهذه ثلاثة أقسام كلها للمفرد والمذكر، فإذا ما خرج عنها ففرع عنها، وذلك ضمير المثنى والمجموع والمؤنث، ولما كانت هذه الفروع قريبة المأخذ سهلة الانقياد إلى الفهم، اتكل الناظم على ذلك فيها، فأحال عليها إحالة مجملة لأنها لقربها في حكم المعلوم. فقال: (والفروع لا تشتبه) أي: أن فروع هذه الثلاثة غير مشتبهة ولا ملتبسة، فعليك فهمها، ويقال: اشتبه على الأمر: إذا التبس وأشكل، ومنه في الحديث: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات" أي: مشكلات وملتبسات. فأما "أنا" فاستغنى به عن ضمير المفرد المؤنث "أنا" يقوله المؤنث على حد ما يقول المذكر، لأن تكلمه يعينه، فلم يحتج إلى دلالة على التأنيث، وأما المثنى والمجموع مذكرًا أو مؤنثًا فليس لهما إلا ضمير واحد، وهو "نحن" وأصله أن يكون للجماعة، لكنهم شركوا معه المثنى فيه؛ لأن الاثنين فما فوقهما جماعة؛ لأن كل واحد منهما قد جاء مع صاحبه فحقيقة الجمعية موجودة في المثنى، فشرك مع الجمع في الكناية/ واستغنى عن التفرقة بين المذكر والمؤنث؛ لأن تكلمة يعينه، ولقصد الاختصار بتقليل الأوضاع، وإذا استعمل "نحن" في المفرد فعلى خلاف الأصل إذ لا يطلق على المفرد إلا مع توهم الجمع، لأن الواحد لا يستحق ضمير "نحن" إلا مع التعظيم، (إما بقيامة مقام الجماعة أو اختصاصه بالجماعة في الأمر الغالب).

وأما "هو" ففروعه بالنسبة إلى المثنى والمجموع المذكر هما وهم وبالنسبة إلى المفرد والمجموع المؤنث هي وهن، ويشترك مثناه مع مثنى المذكر في اللفظ، وذلك هما، وأما "أنت" ففروعه بالنسبة إلى المثنى والمجموع المذكر أنتما وأنتم، وبالنسبة إلى المفرد والمجموع المؤنث أنت وأنتن، ويشترك أيضا مثناه مع مثنى المذكر، وذلك أنتما فهذه الفروع كما ترى قريبة المأخذ في الفهم من تلك الأصول، فلذلك قال: (والفروع لا تشتبه) وسكن واو "هو" لما احتاج إليه في الوصل لأن الواو والياء لا تقعان وصلا إلا ساكنين ثم قال: (وذو انتصاب في انفصال جعلا إياي) يعني أن الضمير المنفصل المنصوب جعل إياي، أي: جعلت له هذه الصيغة وهذا اللفظ، ثم قال: (والتفريع) يعني على "إياي" هذا المذكور، (ليس مشكلا) بل هو بين ظاهر في نفسه، ومما تقدم في ضمير الرفع وذلك أنه ذكر في المرفوع المنفصل ثلاث مراتب: مرتبة المتكلم: وهي المنبه عليها بـ (أنا). ومرتبة المخاطب: التي أشار إليها بـ (أنت) ومرتبة الغائب: الممثلة بـ (هو) وفرع على كل واحدة، فكذلك يكون الأمر ها هنا، فأتى بضمير المتكلم واقتصر عليه؛ لأنه يدل على مرتبة المخاطب، ومرتبة الغائب، بالإحالة على الحال في المرفوع، ولأن جميع المراتب الثلاث اللفظ فيها واحد، وهو "إيا" ولا تختلف إلا بحروف التكلم والخطاب والغيبة، في آخره، فلذلك قال: (والتفريغ ليس مشكلا) حيث أتى بـ "إيا" الداخلة في المراتب كلها أصولها وفروعها، وبحرف التكلم الدال على مرتبتي الخطاب والغيبة، وهو الياء في مثاله، فلنجر في التفريغ على ما حد، فنقول: أما المتكلم فله ضميران: أحدهما: "إياي" وهو للمفرد مذكرًا كان أو مؤنثًا، كما ذكره في "أنا"

في المرفوع. والثاني: "إيانا" للاثنين والجماعة في التذكير والتأنيث، كما مر في "نحن" وأما المخاطب فله خمسة ضمائر: "إياك" وهو نظير "أنت" في المرفوع، يختص بالواحد المذكر، ويتفرع عنه الاثنين "إياكما" وللجمع المذكر "إياكم" وللواحدة "إياك" ولجمعها "إياكن"، ويشترك مثناها مع المذكر في إياكما. وأما الغائب: فله خمسة ضمائر "إياه" وهو نظير "هو" في المرفوع يختص بالواحد المذكر، ويتفرع عنه الاثنين "إياهما" وللجميع "إياهم"، وللواحدة "إياها"، ولجمعها "إياهن"، ويشترك مثناها مع المذكر في "إياهما"، كما اشترك معه في المرفوع، ويتعلق بكلامه مسألتان: إحداهما: أن "إيا" في نص كالمه من قبيل الأسماء المضمرة، وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمازني والجمهور، وهو أحد الأقوال الثلاثة فيه. والثاني: أنه من قبيل الأسماء الظاهرة، لا من الضمائر، وهو رأي الزجاج. قال ابن جني: وحكى لي حاكٍ، عن أبي إسحاق، أراه قال: سمعته

يقول: وقد سئل عن معنى قوله تعالى: {إياك نعبد} ما تأويله فقال: حقيقتك نعبد، قال: واشتقاقه من الآية وهي العلامة. والثالث: أن "إيا" عماد/ للضمائر بعده، وليس باسم ظاهر ولا مضمر، بل هو كحرف زائد لا يحول بين العامل والمعمول، حكاه السيرافي وابن كسيان عن بعضهم، والأصح ما ذهب إليه الناظم رحمه الله- والدليل على ذلك أمور ثلاثة: أحدها: أنه يخلف ضمير النصب المتصل عند تعذره، بتقديمه على العامل نحو: إياك أكرمت، أو لإضماره نحو: إياك والأسد، أو لانفصاله بأداة حصر نحو: ما أكرم إلا إياك، أو نحو ذلك من الموجبات للانفصال كما يخلف ضمير الرفع المتصل عند تعذره ضميره المنفصل، فنسبة المنفصل في النصب من المتصل، كنسبة المنفصل في

الرفع من المتصل، وإذا كانت النسبة واحدة والمنفصل في الرفع ضمير باتفاق، فكذلك يجب على المنفصل في النصب أن يكون ضميرًا. والثاني: أن بعض المرفوعات كجزء من رافعه، وقد ثبت لضميره المنفصل، فثبوت ذلك لضمير النصب أولى، إذ لا شيء من المنصوبات كجزء من ناصبه. والثالث: أن "إياك" اقتصر به على ضرب واحد من أضرب الإعراب، وهو النصب، فهو إما مضمر، وإما مصدر، وإما ظرف، وإما حال، وإما منادى، ولا زائد على هذه في الاحتمال، ولم نعلم اسما مظهرًا اقتصر به على النصب، إلا ما اقتصر به من الأسماء على الظرفية، نحو: ذات مرة أو على المصدرية نحو: سبحان الله، أو على الحالية نحو: "أرسلها العراك"، أو على النداء نحو: يا عبد الله، وأما التمييز فلا يحتمله لتنكيره، فلم يبق إلا أن يكون ضميرًا، فثبت أنه اسم مضمر، لا اسم ظاهر، ولا عماد، وذلك ما أردنا. والثانية: أن الياء في "إياي"، والكاف في "إياك"، والهاء في "إياه" وسائر ما يلحق "إيا" لم يبين الناظم ما هي أهي أسماء أم حروف، إذ يحتمل كلا الوجهين على مذهبه في أن "إيا" ضمير؟ وإلى الأول ذهب الخليل، واختاره المؤلف في "التسهيل"، وإلى الثاني ذهب الأخفش

فيما حكاه ابن جني عن الفارسي. أما على مذهب الزجاج والمذهب الآخر فلا مرية في أنها عندهما أسماء ولا يصح غير ذلك فيها، وإنما ترك التنبيه على ذلك- والله أعلم- لأمرين: أحدهما: أنها مسألة لا ثمرة لها في الصناعة، ولا فائدة في الكلام بل الاعتقاد أن بالنسبة إلى الكلام به واحد. والثاني: تقارب الأنظار في الوجهين، وورد الإشكال على المذهبين، أما على القول بأنها أسماء مضاف إليها، فإن "إيا" مضمر كما تقدم، والأسماء المضمرة والمبهمة معارف، لا يجوز عليها التنكير، وإنما يضاف الشيء إذا قدر نكرة ليكتسب تعريف الإضافة، فإذا استحال تنكير المضمر استحالت إضافته، وإذا استحالت إضافته استحال أن تكون الكاف في "إياك"، والهاء في "إياه"، والياء في "إياي" أسماء مضافًا إليه، وأيضا فإن سيبويه قد قال: من زعم أن الكاف- يعني في "ذلك"- مجرورة الموضع انبغى له أن يقول: ذاك نفسك، فإن قال: إنها منصوبة انبغى له أن يقول: "ذاك نفسك" قال ابن الباذش: وهذا لا يقوله أحد وإن توهم الاسمية، وما قال جار في "إيا"، إذ يلزم أن يقول

عند اعتقاد الاسمية في الكاف والإضافة: إياك نفسك، وهذا غير منقول. قال ابن الباذش: وإنما أتى سيبويه بهذا، لأنه قد روى عن بعضهم على جهة الشذوذ تنكير المضمر، وروى الكسائي تنكير المبهم، على جهة الشذوذ/، قال: فقام من مجموع هذا أن الكاف غير اسم، مع تقدير استحالة تنكير المضمر والمبهم، ومع تقدير تنكيره على الشذوذ، وأيضا فإن إضافة "إيا" تمتنع من وجهين: أحدهما: لزوم إضافة الشيء إلى نفسه، لأن مدلوله ومدلول الكاف واحد، وذلك ممتنع. والثاني: أن الإضافة إما أن تكون إضافة تخفيف أو تخصيص، فأما قصد التخصيص فممتنع؛ لأن إيا من المضمرات، والمضمرات أعرف المعارف فلا حاجة بها إلى التخصيص، وأما قصد التخفيف فمختص بالأسماء العاملة عمل الأفعال، وهذا ليس منها، فهذان وجهان من الحجة ينضمان إلى الوجهين الآخرين، فالجميع أربعة أوجه، وأما على القول بأنها حروف، فإن غير الكاف من لوحق "إيا" مجمع على أسميته مع غير "إيا" مختلف في أسميته معها، فلا يترك ما اجتمع عليه لما اختلف فيه، ثم تلحق الكاف بأخواتها، ليجرى الجميع على سنن واحد، وأيضا فالأصل عدم اشتراك اسم وحرف في لفظ واحد، وفي القول باسمية هذه اللواحق السلامة من ذلك، فوجب المصير إليه حتى يدل على خلافة دليل، وأيضا لو لم تكن أسماء مجرورة المحل لم

يخلفها اسم ظاهر مجرور بالإضافة، لكن ذلك قد وجد فيما رواه الخليل من قول العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب، ويروى: فإياه وإيا السوآت. وقال الخليل: لو قال قائل: إياك نفسك لم أعنفه، وهذا ظاهر في القياس عنده فدل على أن الكاف ونحوها أسماء في موضع جر بالإضافة، وأيضا لو كانت اللواحق حروفًا لم يحتج إلى الياء (في إياي كما لم يحتج إلى التاء) المضمومة في أنا، وقد احتج المؤلف بغير هذا، فلما كانت الأدلة متعارضة، على كلا المذهبين، وما من الدليل إلا ويمكن لخصمه الاعتراض عليه، ترك التنبيه على مذهبه فيها إحالة على النظر والترجيح، واله أعلم. ثم قال: وفي اختيار لا يجئ المنفصل ... إذا تأتى أن يجئ المتصل لما فرغ من الكلام في تعداد الضمائر، أخذ يتكلم على بعض أحكامها الضرورية، ومن ذلك أيضا اتصالها بعواملها وانفصالها منها، وابتدأ أولا بقاعدة عامة جملية في ذلك، وهي أن الضمير لما كان موضوعا على

الافتقار وعدم الاستقلال، ن كما وضع الحرف، لزمه أن يكون متصلا بغيره ليستند لفظه إليه، كما أن معناه كذلك مستند إلى غيره فأما اتصال الفاعل بفعله فلا مرية فيه، بل هو كالجزء منه، بأدلة كثيرة ذكروها، وأما المفعول الأول فيلزمه اتصاله أيضا، لأنه يليه، اتصل به مع ذلك ضمير الفاعل أولا، فإن كان لم يتصل به فلا إشكال نحو: أكرمك زيد، وإن كان قد اتصل به لم يتغير أيضا اتصال المفعول به، لأن الفعل مع الفاعل كالفعل المجرد، ألا ترى أن ضمير الفاعل قد يكون بغير علامة نحو: زيد قام، وقد يعرض لتثنية الفعل ضمير الفاعل فيصير كحرف من حروفه نحو: يضربان، فإذا جئت بعد اتصال ضمير المفعول الأول بضمير مفعول ثان، فالاتصال هو الأصل لقوة الفعل، وأنه الأصل في اتصال ضمائر المنصوبات به على الجملة، وأيضا لما كان الفعل يعمل في المفعولين ظاهرين، وفي موضعهما مضمرين وعمله فيهما لا يغير لهما لفظًا ولا معنى، وكان الاتصال أخص كان هو/ الأصل فلأجل هذا وشبه أتى بهذه القاعدة في ابتداء الفصل، وأصلها لسيبويه لكن ذكرها خاصة بالنص بضمائر النصب وذكرها بالمعنى في غيرها، فأتى بها الناظم عامة كما ترى. والمعنى فيها صحيح على الجملة، فكأنه يقول: إذا تأتى له الاتصال في الضمير فلا تنتقل إلى غيره، لأنه الأصل والقياس، إلا أنها قاعدة مجملة لا بيان فيها، لما يتصل من الضمائر بعامله، وما لا يتصلن وتفصيل ذلك على حسب مراده أن تقول: تقرر في الأصول أن أصل

العمل الطلب الاختصاصي، وإنما يوجد ذلك مطلقًا في الأفعال، إذ لا فعل إلا وهو عامل، ثم يليها الحروف، لأنها تطلب بأنفسها الجر في الأسماء، والجزم في الأفعال، ولم تستحق ذلك بشبه، ثم يليها الأسماء، لأن أصلها ألا تعمل، إذ هي مطلوبة في الأصل لا طالبة وإنما تعمل في الغالب بالشبه بالفعل كاسم الفاعل والمفعول، أو بالنيابة عنه كاسم الفعل والمصدر أو بالنيابة عن الحرف كالمضاف، وهذه قاعدة بيانها في غير هذا الموضع، فإذا تقرر هذا فالأصل في كل مضمر طلبه عامل أن يتصل به، لما تقدم أول المسألة، فأما الأفعال فيتصل بهام عمولاتها على الجملة كما مر. وأما الحروف فما كان منها طلبه بحق الأصل فكذلك، ويجري مجراهما ما أشبههما، فالحروف تجرى في هذا مجراها الأسماء المضافة، من حيث هي مضافة، لأن معنى حرف الإضافة معها قائم، فكما تقول لي ولك وله، كذلك تقول: غلامي وغلامك وغلامه، والأفعال أيضا يجرى مجراها من الأسماء: ما أدى معناها، عمل عملها على التمام، من غير اعتبار بلفظ الاسم، كأسماء الأفعال، ولا سيما ما كان منها على فعال، فكما تقول: اتركها، كذلك تقول: تراكها، وكذلك ما أدى معناها وعمل عملها لكن مع اعتبار لفظ الاسم، كاسم الفاعل والمصدر والموصول، فالحكم الأصلي فيه الاتصال أيضا، فتقول: أنا مكرمه كإكراميك، كما تقول: أنا مكرمه كما أكرمك، ويجرى مجراها من الحروف أيضا ما أشبهها كإن وأخواتها فتقول: إنه القائم، كما تقول: ضربه القائم فهذه الجملة يتأتى (لك فيها) الإتيان بالمتصل، فلا يصح أن يؤتى فيها بالمنفصل، إذا لا موجب لذلك، وفي ضمن هذا الكلام أنه إذا لم يتأت

الإتيان بالمتصل، فلا بد حينئذ من الإتيان بالمنفصل، ولا يكون ذلك إلا لمانع منع من الاتصال، فإن طلب العامل باق كما كان، والموانع التي تنمع من الاتصال بالاستقراء ستة: أحدهما: أن يكون العامل غير ملفوظ به، إما لكونه معنويًا نحو: أنا قائم، وإما لكونه محذوفًا نحو: إن أنت قمت أكرمتك فالعامل هنا لم يكن لفظيًا لم يتأت اتصال الضمير به، إذ الاتصال حكم لفظي. والثاني: أن يقع بين الضمير وعامله فاصل، لا يتأتى وقوعه إلا هنالك كإلا في الحصر، نحو: ما قام إلا أنا، أو "إما" نحو: قام إما أنا وإما زيد، واللام الفارقة نحو: إن قمت لأنت وإن قعد لأنا، أو متبوع نحو: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} فالضمير في هذه ونحوها لا يمكن اتصاله للفاصل الواقع بينه وبين معموله. والثالث: أن يتقدم الضمير على عامله لموجب اقتضى ذلك نحو: {إياك نعبد وإياك نستعين}. فإن موضع الاتصال آخر الفعل، لا أوله/ فكان الاتصال مع قصد التقديم غير متأت. والرابع: أن يقع اللبس بالاتصال، كما إذا كان الضمير مرفوعًا بصفة جرت على غير من هي له، نحو: مررت برجل ضاربه أنا، فلو اتصل الضمير لأوهم أن الضارب هو الرجل لا أنت، فلم يكن بد من انفصال، ومثله إذا التبس أحد المفعولين بالآخر مع الاتصال في باب

أعطى، فإن الحكم البدء بالآخذ، كما يفعل في الأسماء الظاهرة، فإن كان الآخذ غائبا والمأخوذ مخاطب أو متكلم وجب الفصل، وكذلك إن كانا غائبين، نحو قولك لعبدك: غلامي أعطيته إياك، وأنت تريد أنك المعطي، لأنك لو وصلت لوجب تقديم المخاطب، فكان اللبس موجودًا، فلم يكن بد من الفصل، وقد علل المؤلف بهذا النحو وجوب الانفصال في نحو: علمتني إياي. قال: ولأن اتصالهما يوهم التكرار، يريد فيقع اللبس لذلك. والخامس: كون العامل لم يتحقق له شرط العمل، وهو الطلب الاختصاصي أو استحكام الشبه. فالأول كالنائب عن العامل، مثل "يا" في النداء، فإنك تقول: يا إياك، أو يا أنت، ولا تقول: ياك، وكذلك "ما" الحجازية إذا قلت: ما أنا قائما ولا في نحو: ... لا أنا باغيا ... سواها ... ... و"إن" في نحو: إن هو مستوليا على أحد

فإن هذه الأشياء ليست مختصة بعمولاتها أما النائب فإنما اختص من حيث النيابة، وأما "ما" وأخواتها فلدخولها على الأسماء والأفعال فلم تقو في الطلب قوة ما نابت عنه، أو ما أشبهه، فكأنها غير طالبة، فصارت ضمائرها في حكم ما ليس بمطلوب لعامل، فلم يكن الاتصال. والثاني: كخبر "إن" وأخواتها، فإن منفصل أبدا من جهة أن الحروف أصلها أن لا تعمل في معمولين، وأن لا تعمل رفعا لاختصاص ذلك بالفعل لكن لما أشبهت الأفعال عملت عملها معكوسا، ومن شأن المشبه بالشيء أن لا يقوى قوته، ولا يقوم في كل شيء، وقد وجدنا من الأفعال الماضية ما ينفصل عنه منصوبه، وإن كان واحدا كباب "كان" حسب ما يذكره الناظم، فلا يلزمه اتصال الضميرين معا، ضمير الرفع وضمير النصب، فهذا أولى لضعفه عن مقاومته فوجب الانفصال. والسادس: قبح اللفظ في الاتصال، وذلك نحو: أعطيتكك ومنحتنيني ومنحتهوه وظننتنيني وما أشبه ذلك، فإن العرب تراعي قبح اللفظ فتجنبته كما قالوا في كان: وإن زيدا لقائم ونحو ذلك، هذه هي الموانع المعتبرة عندهم فحيث وجد واحد منها امتنع الاتصال، إلا أنه قد توجد موانع أخر تمنع لزوم الاتصال خاصة، من غير أن توجب انفصالا، فيجوز الوجهان، وهي التي نبه عليها في قوله: (وصل أو افصل هاء سلنيه ... ) إلى آخره فتلخص من هذه القاعدة ثلاثة أقسام:

واجب الاتصال: وذلك إذا تاتى الاتصال بغير عارض. واجب الانفصال: وذلك إذا لم يتأت الاتصال ولم يمكن. وجائز الاتصال والانفصال: وذلك إذا تأتى الاتصال، لكن منع من لزومه مانع، وكلها أشار إليها الناظم كما ترى، إلا أنه لم يذكر السبب في عدم التأتي لبيانه، وأشار إلى ذكر السبب في جواز الوجهين مع التأتي، على حسب ما يفسر إن شاء الله. وقوله: (وفي اختيار) تنبيه على أنه قد يأتي المنفصل حيث/ يتأتى المتصل بلا مانع وذلك في الضرورة نحو ما أنشده سيبويه لحميد الأرقط: إليك حتى بلغت إياكا ووجه الكلام أن يقول: "حتى بلغتك" وقال الفرزدق: بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير

أراد ضمنتهم الأرض وأنشد النحويون أيضا: وما أصاحب من قوم فأخبرهم ... إلا يزيدهم حبا إلى هم فـ "هم" الآخر فاعل يزيد، أراد إلا يزيدون أنفسهم حبا إلي، وأنشد الفارسي قول الآخر: أصرمت حبل الوصل أن صرموا ... يا صاح بل صرم الحبال هم

أراد بل صرموا الحبال وهذا ونحوه مما يحفظ ولا يقاس عليه، وقد نبه الناظم على الشذوذ في آخر الفصل. فإن قيل: إن موضع الضرورة لا يتأتى فيه الإتيان بالمتصل، فإنه لو تأتى لم يسغ الإتيان بالمنفصل، وأيضا لا معنى لاضطرار إلا عدم تأتي المجيء بالمتصل، فإذا كان كذلك فكيف يقول الناظم على ما اقتضاه مفهوم كلامه، لأن الاضطرار يبيح الإتيان بالمنفصل في الموضع الذي يمكن فيه الإتيان بالمتصل، بل ظاهر هذا الكلام التناقض؟ فالجواب: أن يقال ليس معنى التأتي أن يستقيم الوزن بالمتصل والمنفصل مثلا، ثم يجاء بالمنفصل عوضا منه، وإنما معناه أن الموضع الذي وقع فيه هذا الضمير يمكن على الجملة أن يتصل فيه الضمير لا من حيث هو شعر، بل من حيث أنه خال عن الموانع الموجبة للانفصال أو المخيرة فيه، فقول الشاعر مثلا: (قد ضمنت إياهم الأرض) متأت على الجملة أن يقع فيه المتصل، لأن ضمير النصب لم يتقدم ولا فصل بينه وبين معمول فاصل، ولا فيه شيء مما تقدم، فهو على الجملة مما يسع فيه أن يقول: ضمنتم الأرض كذلك ما أشبهه من الشذوذات، لكن من الضرورة تقتضى مقتضاها مما هو خارج عن الموانع المتقدمة بخلاف ما إذا قلت: هو قائم، فإن "هو" هنا لا يتأتى فيه الاتصال إذ ليس له ما يتصل به، وكذلك: (إياك نعبد) إذ كان ما يتصل به مؤخرا عنه وجميع ما فيه مانع من الموانع

المذكورة هذا شأنه، وأما "ضمنت إياهم الأرض" فليس له في نفسه مانع، لأن وقع في موضع يجب فيه الاتصال وإنما الضرورة أمر طارئ على الكلام، وهو إقامة الوزن، والناظم إنما اعتبر الكلام في نفسه، فكلامه صحيح. ثم أخذ في ذكر القسم الذي منع من لزوم الاتصال فيه مانع مع تأتيه فقال: أوصل أو أفصل هاء سلنيه وما ... أشبهه في كنته الخلف انتمي كذاك خلتنيه واتصالا ... اختار غيري اختار الانفصالا فذكر مواضع ما يتأتى في الاتصال، ومع ذلك جيء فيها بالضمير منفصلا في أحد الوجهين، ويشملها أن يقال: كل ضمير ولي ضميرا قبله متصلا بفعل منصوبا مطلقا، أو مرفوعا من باب كان فقط، فهذا هو الذي خير الناظم في وصله وفصله، وهو الهاء في أمثلته المذكورة، لكن على الشرط الذي ينكره بعد هذا، وحصر ذلك في ثلاثة أبواب ذكرها: أحدها: باب أعطى، وهو الذي أشار إليه بقوله: (سلنيه) لأن سأل فعل يتعدى إلى/ معفولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر. والثاني: باب "كان" وهو المراد بتمثيله بـ (كنته). والثالث: باب "ظن"، وهو المنبه عليه بقوله: (خلتنيه) لأن خلت يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وابتدأ بباب أعطى فقال: (وصل أو افصل هاء سلنيه وما أشبهه "يعني أنه مخير في

وصل هاء سلنيه وفصله، فإن شئت أتيت به متصلا بعامله يلي الياء التي هي ضمير المفعول الأول، وإن شئت أتيت بالضمير المنفصل عوضا عن الهاء فتقول: التوب سلنيه، وسلني إياه، وكذلك أشبهه مما كان من باب "سل" وإليه يعود الهاء في (وما أشبهه)، أي: وما أشبه سلنيه نحو: أعطى وكسا، تقول: الدرهم أعطيتكه، وأعطيتك إياه، والثوب كسوتكه، وكسوتك إياه، ومن الاتصال قوله تعالى: {أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} وقوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا}، ومن الانفصال قول النبي عليه السلام: "فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم" ولم يرد بقوله: "هاء سلنيه" خصوص الهاء، وإنما أراد المفعول الثاني لسلنيه كان هاء أو غيرها، فيجرى مجرى ذلك ما إذا قلت لعبدك زيد: سألنيك وكذلك سألنيها وما أشبه ذلك، والاتصال هنا جار على الأصل الذي قدمه. وأما الانفصال فمخالف له، فلذلك اختار هنا الاتصال الذي أشار إليه بالتقديم حين قال: (وصل أو افصل) والله أعلم. والنظر هنا إنما هو في المفعول الثاني، أما الأول فلا نظر في وجوب اتصاله، ولذلك قال: (هاء سلنيه) فعين للكلام الثاني ولم يتعرض للأول، ثم ذكر باب "كان" فقال: (في كنته الخلف انتمى) أراد: وفي كنته الخلف، فحذف حرف العطف وذاك كثير في كلامه، وقد تقدم الاستشهاد عليه، وهو على حذف مضاف تقديره: وفي هاء "كنته" لأن الكلام إنما وقع له في الهاء، وليس كلامه في نفس "كنته" ولا في ضميريه جميعا، لكنه حذف ذلك المضاف لتقدم الكلام في مثله، وهو "هاء" "سلنيه"، وكذلك

قوله: "كذلك خلتنيه" أي: هاء خلتنيه، وإتيانه بالمثال المعين من غير أن يقول: وما كان نحوه ولا ما أشبهه، لا يدل على أن الخلاف الذي ذكر مختص به، بل يريده وما كان مثله من بابه فكما جرى الخلاف في "كان"، كذلك جرى في أصبح، وأمسى وظل وصار، وسائر أفعال الباب، وكذلك قوله إثر هذا: (كذاك خلتنيه) أي: ما كان من بابه، ودل على أن مراده هنا ذاك قوله في (سلنيه، وما أشبهه) و (الخلف) أراد به الخلاف، وعادة المتأخرين استعمال لفظ (الخلف) مرادفا لمصدر خالفه في كذا مخالفة وخلافا، ولست منه على تحقيق أنه استعمال لغوي، والخلف المشار إليه بين النحويين أن سيبويه يختار الانفصال في باب "كان" والناظم ومن أخذ هو بمذهبه يختار الاتصال على ما يتقرر بعيد هذا إن شاء الله. ثم ذكر باب ظننت فقال: (كذاك خلتنيه) أي: إنه مثل (كنته) يعني في كونه مختلفا في اختيار اتصاله أو انفصاله، فسيبويه يختار الانفصال والناظم اختار في هذا النظم الاتصال، في المسألتنين معا: مسألة (كنته) ومسألة (خلتنيه) وهو قوله: (واتصالا اختار) خلاف ما ذهب إليه في "التسهيل"/ فإنه اختار في مسألة (خلتنيه) ما اختاره سيبويه من الانفصال، وفي مسألة (كنته) ما اختاره هنا. فأما وجه اختياره الاتصال في (كنته) فمن جهة القياس والسماع. أما القياس: فما تقدم في القاعدة الأولى، من أنه لا يجاء بالمنفصل مع إمكان المجيء بالمتصل، وقد أمكن هنا، فهو الذي

كان يجب، وأيضا، فاسم "كان" وخبرها مشبهان بالفاعل والمفعول، وقد بسط سيبويه في باب "كان" بسطا شافيا، أن "كنته" شبيهة بضربته وضربته لا يجوز فيه إلا الاتصال، فكذلك كنته، فهو أولى بالاتصال من باب سلنيه فإنه لم يساو باب ضرب في وجوب الاتصال من أجل سماع، فلا أقل من أن يكون راجحا. وأما السماع: فإن الاتصال ثابت نظما ونثرا، فمن النثر ما في الحديث من قوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: "إياك أن تكونيها يا حميراء"، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ابن صياد: "إن يكنه فلا تسلط عليه وإلا يكنه فلا خير لك في قتله" وفي الحديث: "كن أيا خيثمة فكانه". وقال بعض العرب: "عليه رجلا ليسنى"، حكاه سيبويه، وحكى عن بعض العرب الموثوق بهم أنهم يقولون: ليسنى، وكذلك كانني. ومن النظم قال أبي الأسود الدؤلي (أنشده سيبويه): فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غنته أمه بلبانها

وأنشد السيرافي: قال: أنشدنا أبو بكر بن دريد: عددت قومي كعديد الطيس ... إذ ذهب القوم الكرام ليسي وأما الانفصال فلم يأت إلا في النظم نحو ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: ليت هذا الليل شهر ... لا نرى فيه هريبا ليس إياي وإيا ... ك ولا نخشى رقيبا أو في الاستثناء، نحو: أتوني ليس إياك، ولا يكون إياك، وهذا قد يتعين انفصاله لإجراء "ليس" و"لا يكون" في باب الاستثناء مجرى "إلا" لوقوعها موقعها فلا يقاس على ذلك، وأما وجه اختيار الاتصال في (خلتنيه) فلأن باب ظننت مشبه في العمل بباب أعطيت، فإذا كان باب أعطيت يلزم فيه الا تصال على ظاهر سيبويه لما تقدم من القاعدة، فلا أقل من أن يكون الاتصال

فيما أشبهه راجحا إن لم يكن لازما. وأعلم أن الجمهور على ما ذهب إليه سيبويه، فإن السماع معه وهو الأصل للقياس، ولذلك قال: قف حيث وقفوا ثم فسر، فالقياس إذا وجد السماع بخلافه متروك، وقد وجه سيبويه وغيره رجحان الانفصال في (كنته) و (خلتنيه)، فأشار سيبويه في (كنته) إلى أن المضمرات لم تستحكم مع هذه الأفعال التي هي "كان" وأخواتها، إذ ليست بأفعال حقيقة، وإنما هي أدوات دالة على الزمان فلم تبلغ بسبب ذلك مبلغ باب ضرب، وزاد السيرافي ثلاثة أوجه: أحدها: أن "كان" وأخواتها أفعال دخلن على المبتدأ والخبر، والخبر يكون فعلا وجملة وظرفا غير متصرف نحو: زيد قام، وزيد أبوه منطلق، وزيد عندك فلما كانت هذه الأشياء لا يجوز إضمارها ولا تكون إلا منفصله من الفعل اختير فيما يمكن إضماره الخروج عن الفعل أيضا. والثاني: أن الاسم والخبر كل واحد منهما منفصل عن الآخر، غير مختلط به/ فإذا وصلنا ضمير الخبر جاز معه أن يضمر الاسم، إذ هو الأصل في الإضمار، من جهة أنه كالفاعل، فيؤدي إلى أن يكون الخبر مختلطا مع الاسم، وغير منفصل عنه، وذلك نقص الغرض. والثالث: أنا لو وصلنا ضمير الخبر بضمير الاسم والفاعل والمفعول في هذه الأفعال لشيء واحد، لزم أن يتعدى فعل الفاعل إلى نقسه متصلا وذلك لا يكون، وإنما يتعدى إليه منفصلا، وإنما جاز ظننتني لأن هذا الباب لا يقع على المفعول الأول حقيقة، فلم يعتد به، وإنما المعتد الثاني. وأما باب "خلتنيه" فإنما اختير فيه الانفصال

- على ما ذكره سيبويه- لأن حسبت بمنزلة "كان"، وإنما تدخلان على المبتدأ والمبني عليه فيكونان في الاحتياج على حال، ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدهما، كما لا تقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبان بعد "حسبت" بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد "كان"، و"ليس"، وكذلك الصروف التي بمنزلة "حسبت" و"كان": لأنهما إنما يجعلان المبتدأ والمبني عليه فيما مضى يقينا أو شكًا، وليس بفعل أحدثته منك إلى غيرك، كضربت وأعطيت إنما يجعلان الأمر في علمك، أو فيما مضى، هذا نص سيبويه، وهو مشير إلى ما تقدم. والناظم نبه على تأكيد الاتصال عنده يقوله: (واتصالا أختار) فقدم المفعول إشعارًا بذلك. ثم قال: (غيري اختار الانفصالا) والغير هنا هم الجمهور، وهذا دليل على أن له في المسألة مستندًا قويًا، وسماعًا يرجع إليه، وقد أشار إلى القياس أول المسألة، وبين في "شرح التسهيل"، مستنده من السماع وأنه الحديث أما القياس المتقدم فصحيح، ما لم يعارضه ما يهمل حكمه، وقد وجد. وأما السماع فقد تضمن عهدته نقل الجمهور، ويبقى النظر في اعتماد الناظم على الاستشهاد بالحديث، وليس بمستند عند الجهور من أهل اللسان وهي مسألة أصوليه لا يسعني الآن ذكرها، ولعلها تذكر في موضع هي به أخص من هذا الموضع والله المستعان، وعلى الناظم بعد في هذا الفصل

درك من خمسة أوجه: أحدهما: أن قوله: "في كنته الخلف انتمى" لم ينص فيه على موضع الخلاف، فإنه محتمل أن يريد الخلف في اختيار أحد الوجهين الجائزين ويحتمل أن يريد به الخلف في جواز الوجهين، والذي قصد منها هو الأول لكن مساقه يدل على الثاني، لأنه خير أولا في الفصل والوصل، ثم قال: و (في كنته الخلف) فاقتضى أن الخلف إنما هو فيما تقدم ذكره من التخيير، فكان بعضهم يخير بين الوجهين في "كنته" وبعضهم لا يقول بذلك، وهذا الخلف هكذا لا أعرفه، بخلاف الاحتمال الأول، فإنه مقول به كما تقدم. والثاني: أنه ذكر الخلف في الموضعين الأخيرين، وترك ذكره في باب "سلنيه" والخلاف فيه موجود، لكن على وجه آخر، فإن السيرافي أجاز الوجهين، وحكى ذلك عن بعض النحويين، وهو الذي نص عليه الناظم هنا، وظاهر كلام سيبويه لزوم الا تصال، إذ لم يعرج على خلافه، وذلك لقوة الفعل وأنه الأصل في اتصال الضمائر/ المنصوبات به، وأن الاتصال أخص، وإذا ثبت الخلاف في المواضع الثلاثة فذكره إياه في الموضعين وتركه له في الثالث موهم عدم الخلاف فيه، وهذا إخلال. والثالث: أن إطلاقه القول في باب (كنته) ظاهر في شمول ذلك الحكم لكان وأخواتها وهو صحيح فيما عدا "ليس"، وأما "ليس" فحكى ابن هانئ عن النحويين الاتفاق على أن الاتصال فيها ضعيف. قال: فلو قلت: لسته على حد كنته لم يكن صوابًا. ومن الشاذ قولهم:

"عليه رجلا ليسنى" ووجهه في القياس ظاهر، فإن ليس في معنى الحرف لتعريها عن الدلالة على الحدث والزمان، وكلام الناظم، يقتضى القياس في الا تصال وإن كان الانفصال هو المختار ويقتضى أن الخلاف متقرر فيها، والأمر في كلا الفصلين على خلاف ما قال حسبما ذكره ابن هانئ ففي إطلاقه ما ترى. والرابع: أن قوله: (واتصالا اختار) أراد في باب (كنته)، وفي باب (خلتنيه) أما باب (خلتنيه) فما اختار فيه من الاتصال ممكن أن يختاره مختار لوجوده في كلام العرب نثرًا، وإن كان قليلا عند سيبويه وأما باب (كنته) فما اختار فيه من الاتصال يقتضى أن الانفصال جائز أيضا في القياس، إلا أنه قليل في السماع، فغيره أحسن منه، وهذا عنده غير مستقيم؛ لأن الانفصال على ما قرره في "شرح التسهيل" إنما هو مخصوص بالشعر وبليس ولا يكون في باب الاستثناء وكلاهما لا يقاس عليه عنده كما تقدم ذكره، فعنه نقلت هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يصح على مذهبه في كنته إلا الاتصال فكيف يقول: (واتصالا اختار) فيأتي بعبارة مشعرة بجواز الوجه الآخر، لا يقال إنه اختار الاتصال، بمعنى أنه لا يجيز غيره، لأنا نقول يرد عليه. قوله: (غيري اختار الانفصالا) أو لأنه لا يمشي له في (خلتنيه) فتأمله، وهذا الاعتراض لازم له أيضا في كتابه "التسهيل".

والخامس: أنه قصد في هذا المختصر ذكر الضروري والمشهور من قوانين النحو، وقد ترك من الضروري والمشهور أِشياء كثيرة وضابطها على التقريب والإرشاد إلى من طلب الاستقصاء أن نقول: العوامل التي يمكن اتصال الضمائر بها ثلاثة أنواع: أفعال وحروف وأسماء. فأما الأفعال فيتصل بها فاعلوها، وما أشبه فاعليها، كاسم كان وعسى. وأما المفاعيل فكذلك إلا ما استثناه الناظم من خبر "كان"، وثاني مفعولي "أعطى" و"ظن"، ولا عبرة هنا بخبر "عسى"، إذ لا يكون ضميرًا، وإن فرض ذلك فهو مثل "كان"، ولا بثالث المنصوبات في أعلم، لعدم التكلم به، وإن كان فالانفصال فيه واجبًا لعدم تأتيه قياسًا، فهذا لا نوع مستوفى في النظم فلا اعتراض به. وأما الحروف فثلاثة أضرب: ضرب عمل بالأصالة، وذلك حروف الجر فيتصل بها ضمائرها عملًا بالقاعدة الأولى، وضرب عمل بشبه الفعل الحقيقي، وذلك "إن" وأخواتها، فيتصل بها منصوبها عملا ً بالقاعدة ولا يتصل بها مرفوعها لعدم التأتي كما مر، وضرب عمل بشبه ما أشبه الفعل غير الحقيقي، أو بشبه الحرف المشبه للفعل "كما" و"لا" العاملتين عمل "ليس"، فلا يتصل بها شيء لعدم التأتي قياسًا، فهذا الاعتراض به/ أيضًا من جهة ما تقدم له من القاعدة المذكورة أولا. وأما الأسماء فهي على ضربين: ما يعمل بمعنى الإضافة، فهذا يتصل به معموله وهو واحد أبدًا، كحرف الجر، وما يعمل بجريانه

مجرى الفعل وهذا ينقسم إلى ما يعمل بكونه وضع موضعه في الأصل، أو ناب عنه في الاستعمال، أو تضمن معناه وجرى على لفظه، فهذه ثلاثة أقسام فالأول: أسماء الأفعال وحكمها حكم أفعالها، فكما تقول: اتركها كذلك تقول: تراكها من إبل تراكها وكما تقول: امهله، كذلك تقول: رويده، إلا أن هذا القسم إذا كان وضعه وضع الفعل استعماليًا حتى لحق بالوضعي كعليك ودونك وإليك فإن الوجهين فيه جائزان فتقول: عليكه وعليك إياه، ودونكه ودونك إياه، نص على ذلك سيبويه، وقد جعل بعضهم من هذا رويد، فأجاز رويد إياه، ولم يذكر سيبويه فيه إلا الاتصال، وإنما اعتبر فيه سيبويه أنه اسم فعل بالوضع الأول كـ "تراك"، واعتبر غيره أنه ليس بالوضع الأول، وإنما هو من قبيل "عليك" و"لديك"، ألا تراه يستعمل مصدرًا نحو: رويدًا زيدًا، وأما ما ناب عن الفعل استعمالًا فذلك المصدر الموصول فيجري أيضا مجرى

الفعل في اتصاله الفاعل به وحده، أو المفعول به وحده، على لفظ المضاف إليه، فإذا اجتمعا اختير الانفصال، كقولك: أعجبني إكرامي إياك، وجاز الاتصال أيضا نحو: وكان فراقيها أمر من الصبر وقال: ومنعكها بشيء يستطاع

وأما ما جرى على الفعل وأشبهه لفظًا ومعنى حتى استتر فيه الضمير المرفوع فإنه يجرى في اتصال الضمير به مجرى فلعله فتقول: أنا معطيكه وأنا ظانكه وتفصل الثاني إن شئت وهو أولى من الفعل، ولم أنكر هنا الصفة المشبهة وأفعل التفضيل لدخولها في النوع الأول. فأنت ترى أن شيئًا من أقسام هذا النوع لم يشر إليه الناظم مع تشعب أضربه واختلاف أحكامها فيه زائدًا على كونه ضروري الذكر والاعتراض عليه في "التسهيل" وارد أيضا. والجواب عن الأول: أن موضع الخلاف قد بينه بما يرفع ذلك الاحتمال ويزيح الإشكال بقوله حين حكى الخلف في الموضعين (واتصالا اختار غيري اختار الانفصالا) فبين أن الاختلاف إنما هو في اختيار الوجهين لا في غير ذلك وهو ظاهر. والجواب عن الثاني: أن الخلاف في باب (سلنيه) غير متقن، وذلك أن سيبويه لما ذكر الاتصال لم يحك غير ولا نفاه، بل سكت عنه، والسكوت لا يقتضى نفي السكوت عنه بلابد، فلما كان كذلك كان غير سيبويه قد أجاز الوجهين وليس ذلك الأنباء على السماع، وقد وجده الناظم في الحديث في قوله عليه السلام: إن الله ملككم إياهم- والحديث عنده عمدة في الاستشهاد به- بني على إطلاق الوجهين من غير إشارة إلى خلاف حيث لم يتحقق له خلاف. والجواب عن الثالث: ما ذكره شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار- رحمه الله- فيما نقله عنه شيخنا الأستاذ أبو عبد الله البلنسي-

حفظه الله- أن ابن/ مالك لم تدخل به "ليس" في كلامه، لأنه إنمام مثل بـ "كان" وما كان نحوها، وهي فعل متصرف، فلا ينتظم المثال إلا ما كان منها متصرفًا فخرجت "ليس" عن مراده وإشارته بهذا الاعتبار، فلا اعتراض عليه بما لم يتضمنه كلامه، وقد يقال: إن هذا الجواب غير كافٍ فحسب مراد ابن مالك فإنه جعل قول العرب "ليسنى" حجة في ثبوت الاتصال، كما تقدم بيانه، وأيضا فكذلك فعل سيبويه إذ لم يفرق بين الفعلين، أعني بين "كان" و"ليس" بل جعل السماع في كل واحد حجة للآخر، وإذا ثبت هذا من مذهبه ومذهب غيره كان مؤذنًا بأن "ليس" عنده داخلة في حكم "كان"، وإذ ذاك يبقى السؤال كما كان، ولعل الجواب أن الإجماع الذي ذكره ابن هانئٍ في "ليس" وحدها أن الاتصال فيها ضعيف، وغير مقيس، فيه نظر، إذ النحويون إذا ذكروا في هذا الباب "كان" ذكروا معها "ليس" على مساقٍ واحد، فإن كان في "ليس" إجماع فهو في "كان" وبالعكس، وإن كان اختلاف ففيها جميعا لكن ابن هانئٍ يسلم في "كان" وقوع الخلاف، فليسلمه كذلك في "ليس" وإن فرضنا أن الأمر في "ليس" كما قاله، من الاتفاق فالاعتراض على ابن مالك لازم له والله أعلم. والجواب عن الرابع: أن ذلك الاعتراض إنما يلزمه على كلامه في "التسهيل" حيث شرحه بمقتضى ذلك التقرير، أما في هذا

الموضع فلا يلزمه إذا لعله لم ير هنا من الاحتجاج ما رأي هنالك، بل أثبت السماع بالاتصال وأتكل في نقل الانفصال على غيره، إلا أنه مال به نحو القلة، وهذا هو الظاهر، وعليه يحمل رأيه هنا، والله أعلم. والجواب عن الخامس: أن الحاصل من مقصده بمقتضى كلمه أنه لم يصرح بالكلام على ما يخالف تلك القاعدة إلا في الأفعال، وترك ما عداها في محل النظر، إذ قد يدرك مما ذكر من الانفصال في هذه الأعمال على تجرى فيما لم يذكر، وذلك أن علة الانفصال فيما ذكر أمران: أحدهما: معارضة السماع، كما عارضنا في باب سلنيه. والثاني: كون الفعل المتصل به الضمير لم يتحقق في باب الأفعال كما تقدم، في (كنته) و (خلتنيه) فصارا كأنهما أداتان، أو قريب من الأداتين، والأدوات لا أصل لها في هذا العمل المعين، فلم يستحكم الضمير في الاتصال بهما لذلك، وقد يقال أن علة الانفصال في (سلنيه) بعد ورود السماع هو (التشبيه) بباب (ظننت) فيحمل عليه في جواز الانفصال، وقد يحمل الفرع على الأصل فيما هو أصل في الفرع فرع في: الأصل، فإن علة الانفصال في باب "ظننت" مستحكمة، فاقتضت معلومها بحكم الأصل، ثم حمل عليه باب "سألت" فخرج عن أصل الاتصال إلى الانفصال، وعلى هذا تتخذ علة جواز الانفصال، وإذا ثبت هذا انبنى النظر في (فراقيها) و (تاكها) و (معطيكه) على ذلك، فإن الأسماء لها جهتان: جهة تقتضى الانفصال، إلا في ضمير واحد يجرى مجرى المضاف إليه، وجهة تقتضى الاتصال مطلقا، فالجهة الأولى هي جهة كونها أسماء أصلها أن لها

تعمل إلا في المضاف إليه وهو واحد، وما عدا ذلك فلا عمل لها فيه، والجهة الأولى (جهة) كونها متضمنة معاني الأفعال/ وجارية مجراها، فهي تطلب من تلك الجهة أكثر من معمول واحد، فاجتمع في الأسماء العاملة النظران وكل نظر منهما يطلب بضد ما يطلب الآخر، فمعنى الاسم يطلب الانفصال إذ لم يتحقق في باب الأفعال الطالبة بالاصتال، فلم يستحكم الضمير في الاتصال به، ومعنى الفعل يطلب بالاتصال، إذ هو ظاهر معنى ولفظًا، فكان للنظر القياسي هنا مجال، فتركه الناظم لما أشار إلى أصل العلة في ذكر الأفعال، فإذا يجب أن ننظر فيما تقتضيه تلك العلة، وليس إلا ما تقدم، أما ما عمل بمعنى الإضافة فواجب في معموله الاتصال، لأنه كالمجرور بحرف، ولأنه حل من الاسم محل تنوينه الذي هو كجزء منه. وأما أسماء الأفعال فلما كان القصد بها أن لها تظهر بأنفسها، وإنما وضعت لتكون عوضا من أفعالها، وجب فيها ما وجب في الأفعال، إلا ما ظهر فيه شيء من الاعتبار اللفظي، فإنه روعي، فأنتج مجموع الاعتبارين جواز الوجهين كدونك وعليك. وأما ما ناب عن الفعل استعمالًا وهو المصدر الموصول، فالاعتباران فيه ظاهران، ألا ترى أن ضمير الرفع إذا اتصل به يعامل معاملة المضاف إليه، فلا يستتر فيه، فصار الثاني كأنه غير معمول له، لكن لما طلب بما فيه من معنى الفعل، اقتضى الاتصال،

فجاز فيه الأمران وقد شرح هذا المعنى السيرافي وأصله لسيبويه، وأما اسم الفاعل والمفعول فهو أقعد بالفعل من حيث يضمر فيه، كما يضمر في الفعل ويتصل به الضمير مع اعتقاد نصبه لا جره بالإضافه نحو: الضاربك، على رأي سيبويه، فكان حقيقًا بأن يعامل معاملة فعله الجاري هو عليه، وهذا كله راجع إلى اعتبار العلة المذكورة في باب (خلتنيه) والنظر إلى فوة جانب الفعل المتقضى للاتصال، أو جانب الاسم المقتضى لانفصال ما زاد على الواحد، فإن كان الناظم قد ترك الكلام على ما سوى الأفعال، فقد أدرج فيما ذكر ضابطًا حسنًا، وتنبيهًا أصليًا، يقف بك على ما أردت، مع أنه بحسب قصد الاختصار، وعدم الاستيفاء معذور، ولا عذر له في تركه في "التسهيل" بل الاعتراض عليه هنالك (وارد) ولا يخلصه هذا الجواب هنالك، لاختلاف مقاصد الكتابين، والله الموفق. وقدم الأخص في اتصال ... وقدما ما شئت في انفصال وفي اتحاد الرتبة إلزم فصلا ... وقد يبيح الغيب فيه وصلا مع اختلاف ما نحو ضمنت ... إياهم الأرض الضرورة اقتضت كلامه هنا في ترتيب الضمائر بعضها مع بعض في الاتصال والانفصال، قد قدم القاعدة فيما يتصل من الضمائر العاملة، وما لا، وما فيه الوجهان وعلى ذلك بنى هذه المسألة فيعني أنه إذا كان الضميران أو الضمائر

مجتمعة، فإما أن تكون في رتبة واحدة، أو في رتب مختلفة/ والرتب هنا هي التي بحسب التكلم أو الخطاب أو الغيبة، وذلك أن الضمائر على ثلاثة أقسام: ضمير تكلم، وضمير خطاب، وضمير غيبةٍ، وأخصها ضمير المتكلم، لأنه يدل على المراد بنفسه، وبمشاهدة مدلولهِ، وأيضا فإنه بعيد عن الصلاحية لغيره، ويليه ضمير المخاطب، لأنه يدل على المراد به حاضرًا أو غائبًا على سبيل الاختصاص، ويليه ضمير الغائب لأنه دونهما، فإذا اجتمعت ضمائر فأما أن تكون في رتب مختلفة، أو في رتبة واحدةٍ، فإن كانت في رتب مختلفة كضمير مخاطب مع غائب، أو ضمير متكلم مع مخاطب أو غائب، فإن كان العامل فيها يقتضي اتصالها قدم الأخص في الرتبة، وذلك قوله: (وقدم الأخص في اتصال) وذلك نحو: أعطاكه وأعطيتكه، وأعطتنيه ولا تقول: أعطاهوك ولا أعطاهوني، قال سيبويه: لأنه قبيح لا تتكلم به العرب. قال: وإنما قبح عند العرب كراهية أن يبدأ المتكلم في هذا الموضع بالأبعد قبل الأقرب ثم ذكر أن العرب تنتقل في هذا إلى الفصل فتقول: أعطاك إياي، وأعطاه إياك وما اختاره من هذا الترتيب هو مذهب سيبويه والجمهور وحكى سيبويه عمن تقدم من النحويين أنهم يقولون بالقياس: أعطاهوك وأعطاكني، فلا يلتزمون الترتيب المذكور وارتضاه المبرد، وجعل ضمير الغائب والمتكلم والمخاطب سواء، فأجاز أعطاهوني واستجداه، وهذا المذهب مرجوح بمخالفة كلام العرب، فقد زعم سيبويه أن العرب لا تتكلم بهذا، وأن كلامها جارٍ على اعتبار المراتب، وهذا يكفي في

المسألة، وقد شنع عليهم سيبويه بأنه يدخل عليهم أن يقولوا في الرجل إذا منحته نفسه: منحتنيني. ألا ترى أن القياس قد قبح إذا وضعت "ني" في غير موضعها، يريد أن موضع "ني" هنا النفس فتقول: منحتني نفسي كما كان موضع "ني" في أعطاهوني إياي، فلو جاز لك أن نضع الشيء على غير ما وضعته العرب عليه لجاز لك في كل موضع، وهذا شنيع من الارتكاب. قال ابن خروف: بنى سيبويه على الشايع، يعني فإنه يجوز منحتنيني لكن قليلا. قال المبرد: منحتنيني جيد، وإنما احتج به على جهة التشنيع الذي يشنع به المتكلمون وهو جائز. قال ابن خروف: والذي قال هو صواب غير أن منحتنيني نفسي هو الكثير فصار بمنزلة أعطاهوها، لا بمنزلة أعطاهوني، فإن استدل من خالف الناظم وأصحاب مذهبه يقول العرب: عليكني، من حيث تقدمت الكاف على الياء، والياء أخص، فلا دليل فيه، لأن الكاف في عليك فاعلة في المعنى، فتقديمها على الياء بمنزلة تقديم التاء في أكرمتني، فلا ينبغي أن تجرى كاف لا حظ لها في الفاعليه، مجرى ما لها حظ فيها، وهذا ظاهر وإن اقتضى العامل انفصال بعض الضمائر أما لعدم تأتيه كقولك: ما أعطيتك إلا إياه، وأما لجواز ذلك فيه كقولك: ظننتك إياه وأعطيتك إياه، فأنت بالخيار

إن شئت قدمت الأخص فقلت: ظننتك إياه، وإن شئت عكست فقلت: ظننته إياك، وظننتك إياي، وذلك قول الناظم: (وقدما ما شئت في انفصال) يعني أنك مخير في تقديم أي الضمائر شئت، إذ وجد الانفصال ووجه ذلك أن المنفصل جارٍ مجرى الظاهر/ فلا عليك أن تقدم ما شئت من الضمائر لا اعتبار بالرتبة، والعرب إذا أرادوا تقديم غير الأخص على الأخص لجأوا إلى الانفصال، فأتوا بالضمير المنفصل الجاري مجرى الظاهر ليتأتى لهم الإتيان بغير الأخص مقدمًا على الأخص، لكن هذا الإطلاق هنا وفي القسم الأول فيه نظر. وأما الأول فإنه زعم فيه أن لها لا بد من تقديم الأخص بقوله: (وقدم الأخص في اتصال) يعني على غيره مما هو في الاختصاص دونه، فظاهره انحتام ذلك كان بعض الضمائر في موضع رفع أو لم يكن ذلك، وهو غير صحيح، بل ضمير ارفع لا يعتبر به في هذه المسألة لوقوعه موقع الخبر من عامله فإنك تقول: زيد أعطانيها، فتقدم ضمير الفاعل وهو للغائب، وتؤخر ضمير المفعول وهو للمتكلم، وكذلك تقول: خلتنيه، فتقدم ضمير المخاطب على ضمير المتكلم، وضمير المتكلم أخص، وقالوا: عليه رجلا ليسنى، وفي القرآن الكريم: {وإذ يريكموهم} الآية، وعلى هذا كلام العرب، ولا خلاف فيه أعلمه، وإنما فرضوا المسألة في الضميرين المنصوبين، فهنالك يلزم تقديم الأخص عند الجمهور خلافا للمبرد والقدماء، فقد ظهر أن إطلاق الناظم في القسم الأول غير صحيح.

وأما الثانية: فإطلاقه فيه غير محرر، إذ يقتضى جواز أي الضميرين المنصوبين شئن كان، ثم لبس أولا، وليس كذلك، بل أفعال هذا الباب في ذلك على وجهين: أحدهما: ما لا يلتبس أحد مفعولية بالآخر نحو: الدرهم أعطيتكه فالحكم فيه ما قال من التخيير، فتقول: أعطيته إياك إن شئت، وأعطيتك إياه إن شئت. والثاني: ما يلتبس أحد مفعولية بالآخر، كما إذا كان لك عبدان فأعطيت أحدهما الآخر، فإذا قلت لأحدهما: غلامي أعطيتك إياه، فإما أن يكون الآخذ هو الغائب أو المخاطب فإن كان المخاطب لزم أن تقدمه فتقول: أعطيتك إياه، ولا تقول: أعطيته إياك إذ يلتبس الآخذ بالمأخوذ، فإن كان الآخذ هو الغائب وجب تقديمه أيضا خوف اللبس فتقول: أعطيته إياك، ولا يجوز هنا أن تقول: أعطيتك إياه من أجل للبس، فإذا قوله: (وقدما ما شئت في انفصال) غير صحيح على اطلاقه كما ترى. فأما النظر الأول فظاهر الورود، ولا أجد الآن جوابا عنه، إلا أن يقال: إن تمثيله قبل (سلنيه) و (خلتنيه) يشعر بخروج ضمير الرفع عن إطلاق مسألته، لأن قدم في المثالين المرفوع وهو غير الأخص إذ يعيد أن يأتي بمثال غير حائز، فكان التمثيل قيد طلاق هذه المسألة وهذا اعتبار ضعيف (والله أعلم) , وأما الثاني: فقد يجاب عنه بأنه قد أشار إلى التحرز من ذلك لأنه قال

في "باب تعدي الفعل ولزومه: (ويلزم الأصل لموجب عصرا) وقال في باب الفاعل والمفعول: (وآخر المفعول إن لبس حذر) وهذا جار بين المعفول الأول والثاني كما هو جار بين الفاعل والمعفول، وإذا لزم تأخير المأخوذ وكان ضميرا أخص من ضمير الأخذ لمي جز اتصاله، إذ شرط فيه تقديم الأخص، والأخص هنا لا يتقدم، فوجب انفصاله فيدخل إذًا تحت إطلاقه قوله: (وقدما ما شئت في انفصال) فإن هذا الكلام إنما يعطي أنك إذا فصلت أحد الضميرين فلا تبال أكان هو الأخص أم لا؟ وبقي كون الفصل واجبا ًيؤخذ له من قوة كلامه في قاعدة الوصل وافصل، حيث قال: (وفي اختيار لا يجئ المنفصل .. ) إلى آخره فتقول: لما شرط في اتصال/ الضميرين تقديم الأخص، وبين وجوب تأخير ما يقع بتقديمه اللبس، في باب تعدي الفعل ولزومه جاء من ذلك أن لا بد من الانفصال وصح أن هذا من الأسباب الموجبة له، إذ لا يتأتى فيه المتصل، فظهر بهذا استقامة كلامه، لكن على استكراه شديد، ونداءٍ من مكانٍ بعيد وإن كانت الضمائر في رتبة واحدة، فسواء اقتضى العامل في الأصل اتصالها أو انفصالها جوازا ً أو وجوبًا لا بد من الانفصال، وذلك قوله: (وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا) يعني أن الضميرين إذا كانا في رتبة واحدة من تكلم أو خطاب أو غيبة فيتعين انفصال الثاني فتقول: زيد الدرهم أعطيته إياه، وعمرو بشر خلته إياه، وعلمتني إياي، وعلمتك إياك ولا تقول: أعطيتهوه ولا خلتهوه، ولا علمتنيني ولا علمتكك. قلا في "شرح التسهيل" انفصال ثاني الحاضرين متعين أبدا؛ لأنه لا يكون إلا مثل الأول

لفظًا، ومتحد به معنى، فاستثقل اتصالها، ولأن اتصالها يوم التكرار، قال: وانفصال ثاني الغائبين متعين أيضا؛ لأنه لا يكون إلا مثل الأول لفظًا ومعنى إن كان هو الأول في المعنى أو شبيها بما هو الأول في المعنى، فهذا وجه ما ذكره الناظم من الحكم إلا أن عليه فيه دركًا من وجهين: أحدهما: لفظي، وهو أنه قال: (الزم فصلا) فحتم الحكم باللزوم واللزوم ضد الجواز فهو يقتضي أن لا يجوز الاتصال البتة، لكنه قال: (وقد أن لها يبيح الغيب فيه وصلا) فأجاز وجهًا آخر في بعض المسائل الداخلة تحت الإطلاق الأول، فإذا الفصل غير لازم، فظهر أن هذا الأخير مناقض للأول، وإنما كان الوجه أن يأتي بعبارة لا تقضى اللزوم فيما ليس فيه لزوم. والثاني: معنوي وهو أن قوله: (وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا) يقتضي بإطلاقه إنك تأتي بالضمير الثاني منفصلا، وهذا مبني على صحة الإتيان بالمنصوب الثاني ضميرا، وهو صحيح إذا كان (الضميران) في رتبة الغيبة في نحو: مال زيد أعطيته إياه، وأما إذا كانا في رتبة التكلم أو الخطاب فلا يكون ذلك في أعطى إلا قليل من الكلام، وكذلك في رتبة الغيبة إذا اتخذ الأخذ والمأخوذ ذلك كله نادر لا يعتد به مثل ابن مالك في مثل هذا النظم فإن قولك: منحتنيني أو منحتني إياي، وكذلك منحتكك، ومنحتك إياك، وعندي: منحتهوه أو منحته إياه كأنه من قبيل المسوع عند الجمهور خلافا ً للمبرد، حيث أجاز منحتنيني ومثله منحتكك، وإنما كلام العرب على أن تعوض من الضمير النفس فتقول: منحتني نفسي، ومنحتك نفسك، أما أفعال القلوب فما قال فيها صحيح، وإذا ثبت هذا كان إطلاق

الناظم في الإتيان بالضمير مخلا بالمقصود. فالأول: أسماء الأفعال وحكمها حكم أفعالها، فكما تقول: اتركها كذلك تقول: تراكها من إبل تراكها وكما تقول: أمهله، كذلك تقول: رويده، إلا أن هذا القسم إذا كان وضعه وضع الفعل استعماليًا حتى حلق الوضعي كعليك ودونك وإليك فإن الوجهين فيه جائزان فتقول: عليكه وعليك إياه، ودونكه ودونك إياه، نص على ذلك سيبويه، وقد جعل بعضهم من هذا رويد، فأجاز رويد إياه، ولم يذكر سيبويه فيه إلا الاتصال، وإنما اعتبر فيه سيبويه أنه اسم فعل بالوضع الأول كـ"تراك"، واعتبر غيره أنه ليس بالوضع الأول، وإنما هو من قبيل "عليك" و"لديك"، ألا تراه يستعمل مصدرًا نحو: رويدًا زيدًا، وأما ما ناب عن الفعل استعمالًا فذلك المصدر الموصول فيجري أيضا مجرى الفعل في اتصاله الفاعل به وحده، أو المفعول به وحده، على لفظ المضاف إليه، فإذا

اجتمعا اختير الانفصال، كقولك: أعجبني إكرامي إياك، وجاز الاتصال أيضًا نحو: وكان فراقيها أمر من الصبر والثاني: أن يختلف لفظهما بعض اختلاف، فإنهما إن لم يختلفا لفظًا لم يزل القبح اللفظي، فلا بد من الفصل فقولك: مال زيد أعطيته إياه لا يجوز فيه الوصل، فلا تقول: أعطيتهوه ولا جارية هند أعطيتهاها، فإذا وجد الاختلاف فحينئذ يجوز ذلك على ما قال من القلة، والاختلاف الذي أشار إليه هو أن يكون أحدهما مذكرًا والآخر مؤنثًا، أو أحدهما مفردًا والثاني مثنى أو مجموعًا نحو: أعطاهوها، وأعطاهاه وأعطاهماه، وأعطاهوهم

وأعطاهاهما وأعطاهموهن، وما أشبه ذلك. قال سيبويه: فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت: أعطاهوها وأعطاهاه جاز وهو عربي، ولا عليك بأيهما بدأت من قبل أنهما كلاهما غائب، وهذا أيضا ليس بالكثير في كلامهم، والكثير في كلا مهم أعطاه إياه، ثم أنشد قول مغلس بن لقيط الأسدي: وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة ... لضغمهماها يقرع العظم نابها وروى غير سيبويه: أعضهماها يقرع العظم نابها وحكى الكسائي: (هم) أحسن الناس وجوها وأنظر هموما، ووجه إباحة الوصل ما تقدم من زوال بعض القبح اللفظي وزوال إيهام التكرار. وقوله: (وقد يبيح الغيب فيه) أتى بقد دالة على القلة، وهكذا شأنه أن

يأتي بها للدلالة على قلته في الكلام، والغيب مرادف للغيبة. يقال: غاب عنه غيبًا وغيبة وغيوبًا ومغيبا، وحكى عن اللحياني أيضا غيابه وغيابًا بالكسر وغيبة بالكسر أيضا، فأراد وقد تبيح الغيبة فيه وصلًا، و"ما" في قوله/: "مع اختلافٍ ما" صفة أريد بها الايهام، فالعرب تضعها لايهامها مواضع الإيهام كقول العرب: "لأمرٍ ما جدع قصير آنفه وأنشد سيبويه: عزمت على إقامة ذي صباحٍ ... فأمرٍ ما يسود من يسود أي: لأمرٍ عظيم، وعلى هذا النحو استعملها الناظم، كأنه قال: مع اختلاف، أي اختلاف (كان)، ثم قال: (ونحو ضمنت إياهم الأرض ... إلى آخره)، أراد إن الضرورة اقتضت تسويغ انفصال ما لا يجوز انفصاله، نحو (ضمنت إياهم الأرض) فإن الواجب أن يقال: ضمنتهم، كما يقال: ضربهم زيد وهو الذي أشار

إليه أولًا في قوله: (وفي اختيار لا يجئ المنفصل ... ) إلى آخره، وقد مر الاستشهاد عليه، وكان الأولى أن يأتي بهذا المعنى في ذلك الموضع، لا ها هنا، والذي أشار إليه بقوله: (ضمنت إياهم الأرض) هو بيت للفرزدق اقتطع منه موضع الشاهد وهو قوله: بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت ... إياهم الأرض في دهر الدهارير والضرورة: مبتدأ خبره اقتضت ونحو: مفعول به قد تقدم على المبتدأ والقاعدة في هذه المسألة أن المعمول لا يتقدم إلا حيث يصح تقدم العامل وتقدم العامل هنا لا يصح لأنه يوهم فاعلية المبتدأ، وقد قال في باب المبتدأ حين نص على منع التقديم: (كذا إذا ما الفعل كان الخبرا) فإذا القياس منع هذا التقديم على ما قالوا إلا أن يكون نحو: مبتدأ حذف الضمير العائد عليه، وهذا الوجه ضعيف، وقد نازع المؤلف في صحة تلك القاعدة وخالفها في بعض المواضع في "شرح التسهيل" فلعل هذا جارٍ على إجازته التقديم والله أعلم.

ثم قال: وقبل يا النفس مع الفعل التزم ... نون وقاية وليس قد نظم لما أتم الكلام على الضمائر وأحكامها وألفاظها شرح في فصل يتعلق بها وذلك الكلام على نون الوقاية وهي النون اللاحقة آخر الكلمة، وقبل ياء المتكلم لتقيها من الكسر لكونها من جنس ما لا يدخله الكسر أو لشبهها بما هو كذلك وأصل ذلك للفعل، وذلك أنهم حرسوا أواخر الأفعال من دخول كسرة عليها لازمة لتباعد الأفعال من الجر والسكرة لفظها لفظ الجر: لأن الياء المتكلم يكسر لها ما قبلها إذا كان مما يتحرك، فلما كرهوا كسر الفعل وأثروا سلامة لفظه أدخلوا نونا يقع الكسر عليها نحو: ضربني ويضربني، (وأدخلوها) أيضا في المعتل نحو: أعطاني ويخشاني ويدعوني ونحوه، وإن كان لا يتحرك حملا للمعتل على الصحيح، ولأنه كان يلزم في يدعوني قلب الواو ياء كهذه عشري في إضافة العشرين للياء. والدليل على أ، لحاقها لذلك قولهم: الضاربي، فلم يزيدوا النون، فإن قيل، فأنت تقول: اضرب الرجل فيدخل الكسر الفعل "قيل: هذا ليس من الكسر الذي يختص بالأسماء كالجر وإنما هو لالتقاء الساكنين، فلم يكن ذلك مما يتوقى منه، لما لم يكن مختصا، هذا معنى ما علل به سيبويه وغيره، وقد علل ابن مالك في "شرح التسهيل" هذه التسمية بمعنى آخر بمعنى آخر فخذه من هنالك.

فقوله: (وقبل يا النفس مع الفعل التزم) إلى آخره، أراد أنه/ يجب الإتيان بنون تسمى نون الوقاية مع الفعل المتصل به "يا النفس"، وذلك ما بين الفعل والياء، وياء النفس هي الياء الدالة على النفس، أي التي هي ضمير المتكلم، وأراد ياء النفس بالمد لكنه قصر ضرورة، ولأنه حكى شربت ما يا هذا. وقوله: (مع الفعل) يعني أن هذا اللزوم إنما هو مع الفعل لا مع غيره، فإن لحقت غير الفعل فليس ذلك إلا على الجواز دون اللزوم، وبالسماع دون القياس، فإذا احترازه من الاسم والحرف، أما الاسم فلأن الكسر ًاصلٌ فيه فلا يحتاج إلى نون الوقاية، أن تلحقه، فإن لحقته فسماعًا لا قياسا، ولحاقها الأسماء إما لشبهها بالحروف التي تلحقها النون، وإما لشبهها بالفعل، فشبه الحرف سيذكره وشبه الفعل اسم الفاعل قرئ في غير السمع: {هل أنتم مطلعون} بإسكان الطاء وكسر النون، وهي رواية أبي عمروٍ، وقراءة ابن عباس وابن محيصن، وعمار بن أبي عمار. وأما الحرف فلأن الكسر مما يدخله على الجملة، فالأصل فيه ع دم الاحتياج إلى النون إلا أنه أشبه الفعل منه بعض أنواعه، فلحقته النون بمقتضى الشبه لا بالأصل، وعلى الجواز في الغالب لا على اللزوم، وسيذكر ذلك، فلأجل هذا كله قيد لحاقها للفعل باللزوم حين قال: "مع الفعل التزم": فالحاصل أن نون الوقاية تلحق الاسم والفعل والحرف على الجملة فقدم كلام على الفعل الذي هو الأصل.

ثم قال: (وليسي قد نظم) فنبه على أنه قد جاء في النظم سقوط نون الوقاية مع الفعل، قبل ياء المتكلم، ومخالفة الحكم باللزوم ونبه على أنه إنما جاء في الضرورة لا في الاختيار، لقوله: (قد نظم) أي: إنما نظم نظمًا ولم يأت في النثر، وذلك دليل على أنه اضطراري والذي أشار إليه هو ما أنشده السيرافي. وقال أنشدنا أبو بكر بن دريد: عددت قومي كعديد الطيس ... إذ ذهب القوم الكرام ليسي ولم يذكروا ذلك في غير هذا البيت، ووجهه أن "ليس" شبيهة بالحرف لعدم تصرفها فعوملت معاملة "ليت" فلم تلحق النون في الشعر، كما لم تلحق في "ليت" كما سيأتي إثر هذا، وفي تنبيهه على السماع في "ليس" بيان أن مراده بالفعل عموم الأفعال متصرفة كانت أو غير متصرفة، فالمتصرفة نحو: أكرمني ويكرمني وأكرمني وغير المتصرفة نحو: "عليه رجلا ليسنى"، وما أحسنني عساني في نو ما أنشده سيبويه لعمران بن حطان: ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني

ثم ذكر دخول النون في الحرف فقال: وليتني فشا وليتي ندرا ... ومع لعل اعكس وكن مخيرا في الباقيات واضطرارا خففا ... مني وعني بعض من قد سلفا فذكر من ذلك ثمانية أحرف: إن وأخواتها، ومن حروف الجر: من وعن. أما إن وأخواتها فقسمها في هذا الحكم ثلاثة أقسام: قسم شارع فيه لحاقها وندر عدم لحاقها. وقسم بالعكس شاع فيه عدم لحاقها، وندر لحاقها. وقسم شارع فيه الوجهانت/ معا. وأصل هذه الحروف أن لا تلحقها النون مع ياء المتكلم، إذ ليس الكسر مما يمتنع من الحروف على الجملة، لكن هذه الحروف أشبهت الأفعال الماضية، ولذلك عملت عملها، فرفعت ونصبت حسب ما ذكره النحويون في باب "إن"، فثبت لها بحق الشبه أن عوملت معاملتها في لحاق النون، ولما كان المشبه لا يقوى قوة المشبه به لم يكن هذا الحكم لازمًا فيها، بل كان جائزًا على الجملة، فإن شئت ألحقت النون، وإن شئت لم تلحقها، وقد يغلب أحد الوجهين في بعضها دون الوجه الآخر. فالقسم الأول: (ليت)، وهو الذي نبه عليه بقول: (وليتني فشا وليتي ندرًا) يعني أن الفاشي الشهير في كلام العرب لحاق النون في "ليت"، فتقول: ليتني اشتريت كذا، ومنه في القرآن: {يا ليتني كنت ترابا} و {يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا}، وقد لا

تلحق فتقول: ليتي فعلت كذا، ومنه قول زيد الخيل: كمنية جابر إذا قال ليتي ... أصادفه وأتلف بعض مالي ووجه هذا النادر أن الحروف أصلها ألا تلحقها نون الوقاية، فجاء على مراعاة الأصل، فلم تلحق. والقسم الثاني: (لعل)، وهو الذي أراد بقوله: (ومع لعل اعكس)، ويريد أن "لعل" حكمها بعكس حكم "ليت"، وحقيقة العكس تبديل مفردي القضية المفروضة على وجه يصدق، والمراد هنا عكس الحكم، لما كان دائرًا بين وجهين، وذلك قوله في "ليت": إن عدم اللحاق فشا، واللحاق ندر، فإذا عكست أنت هذا الحكم بالإضافة إلى "لعل" ثبت لك أن اللحاق فشا، وعدم اللحاق ندر، وهذا صحيح، ومثال الفاشي: {لعلي أبلغ الأسباب} و {لعلي أطلع} وهو كثير، ووجه ذلك أن لعل آخره لام، واللام قريبة من النون، ولذلك تدغم فيها حتى تبدل لامًا، وذلك قولك: ملك في: من لك، فحذفوا ها هنا النون لمكان قربها من اللام حتى إنهما لكالأمثال، وهم مما يحذفونها في هذا الباب كراهية التضعيف، حين

وافقت مثلها نحو: إني وكأني، فكذلك فيما قرب من المضاعفين، ومثال النادر ما أنشدوه من قول الشاعر: فقلت أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبرًا لأبيض ماجد ووجهه مراعاة أصل الشبه بالفعل مع عدم الالتفات إلى تقارب الحرفين في المخرج، وقد علل في "شرح التسهيل" عدم اللحاق وكونه هو الشائع في لعل بوجه آخر، وما تقدم هو تعليل الخليل في المعنى. والقسم الثالث: وهو الشائع فيه الوجهان، فأنت فيه بالخيار في إلحاق النون وعدم إلحاقها، وهو أربعة أحرف: "إن" و"أن" و"كأن" و"لكن"، وإياها أراد الناظم بقوله: (وكن مخيرًا في الباقيات) أي: في الأحرف الباقيات، يريد من باب "إن"، ودل على أن الباقيات من باب إن ذكره "ليت" و"لعل" في القسمين الأولين، فعلم أن ثالث الأقسام مختص أيضا بباب "ليت" و"لعل"، فمثال لحاقها قول الله تعالى {إنني لكم [منه] نذير وبشير} وأنشد ابن جني عن قطرب لمهلهل:

زعموا أنني ذهلت وليتي ... أستطيع الغداة عنها ذهولا وقوله الآخر: / ولكنني من حبها لعميد ومثال عمد لحاقها في القرآن: {إني أمنت بربكم}، {ولكني أراكم قوما تجهلون}، وأنشد سيبويه: وإني إذا ملت ركابي مناخها ... فإني على حظي من الأمر جائح وقال امرؤ القيس: كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال

وذلك شهير في الكلام. ووجه لحاقها قوة الشبه بالفعل، كما مر، ووجه سقوطها كراهية التضعيف لاجتماع التنوين، ثم ذكر لحاق النون لمن وعن فقال: (واضطرارًا خففا مني وعني) إلى آخره، يعني أن بعض من تقدم من العرب اضطر في الشعر فخفف نون "مني" و"عني" وذلك التخفيف عبارة عن عدم لحاقهما النون الوقائية وأشار بذلك إلى قول من قال: أيها السائل عنهم وعني ... لست من قيس ولا قيس مني وقد استلزم كلامه وحكايته أن عدم إلحاق النون لها، ضرورة أن يكون الإلحاق لهما هو اللازم في الكلام والذي لا يعدل عنه إلى غيره، وهذا هو المقصود من كلامه لا الإخبار عما جاء ضرورة، لأن حكايته للضرورات ليست إلا بحكم التبع؛ لأن قصد النحوي القياس، ولكنه أتى بالعبارة على غير الأسلوب المقصود، اتكالًا على فهم المعنى، وإنما ألحقوها هذين الحرفين لأنهم اعتزموا على تسكين أواخرهما، ولم يريدوا أن يحركوهما لأن أصلهما السكون، بخلاف غيرهما من حروف الجر نحو: بي ولي، فلم يكن بدٌ من الإتيان بحرف قبل ياء الإضافة يتحرك بالكسر، فجاؤا بالنون لأن من شأنها أن يؤتى بها في هذا الوضع، أعني قبل ياء المتكلم، فلم تخرج عن موضعها حين وقت الحرف من الكسر، ولو أنهم أتوا ب غير النون مع الحرف لكان موضوعًا غير موضعه، فكانت النون أولى بذلك، ولئلا تشبه الحروف

الأسماء بعدم لحاق النون نحو: يد وهن وما أشبه ذلك، وإلى هذا المعنى أشار الخليل في التعليل. فإن قيل: فأنت ترى من الحروف ما هو ساكن الآخر سكونًا لازمًا، ولا تلحقه النون كعلى وإلى، فقد أجاب الخليل عن هذا بأن ياء الإضافة لا سبيل لها على الألف ولا على الياء المكسور ما قبلها في التحرك، وإنما تتحرك الياء نحو على وإلى، وهكذا أيضا ما كان نحو في، فلما كان كذلك لم يحتاجوا إلى النون، بخلاف ما يتحرك، إذ لو أضفت إلى الياء الكاف الجارة لقلت: ما أنت كي؛ لأنها متحركة كأواخر الأسماء وجارة كالأسماء. ثم ذكر لحاق النون الأسماء فقال: وفي لدني لدني قل وفي ... قدني وقطني الحذف أيضا قد يفي يعني أن تخفيف نون "لدني" وهو عدم إلحاقها نون الوقاية قليل، فيلزم عليه أن يكون لحاقها هو الكثير، وقد قرئ قوله تعالى: {قد بلغت من لدني عذار} بالوجهين، فالتشديد الذي هو الكثير قرأ به من الأئمة السبعة من عدا نافعًا وعاصمًا من رواية أبي بكر عنه، والتخفيف الذي هو القليل قرأ به نافع وأبو بكر. وقوله: (قل) دليل على أن هذا جائز عنده في الكلام، لا مختص بالشعر، وهذا دأبه في هذا/ النظم إنما يعبر بلفظ القلة عما جاء في النثر، وهو ثابت بقراءة نافع وأبي بكر، ونبه بذلك على مخالفة ظاهر كلام سيبويه. قال في "شرح التسهيل"

وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات، وليس كذلك، بل هو جائز في الكلام الفصيح، ثم حكى القراءة ووجه لحاق النون في "لدني" أنها عوملت معاملة "من" و"عن" لأنها شبيهة بهما، ووضعها على ذلك، فاعتزموا على إبقاء تسكين الآخر فيها كما فعلوا في "من" و"عن"، وكذلك الحكم عندهم في "قطني وقدني"، بخلاف ما آخره متحرك من الأسماء غير المتمكنة نحو: "لد" و"مع"، فإنهم يجرونه مجرى يد، فكما يقولون: (يدي فكذلك يقولون) لدي ومعي، قال سيبويه: "وأما (قط) (وعن) ولدن فإنهن يتباعدن من الأسماء، ولزمهن ما لا يدخل الأسماء المتمكنة، وهو السكون، وإنما يدخل ذلك الفعل نحو: خذ وزن وزر، فضارعت الفعل وما لا يجر أبدًا، وهو ما أشبه الفعل، فأجريت مجراه ولم يحركوه". وأما التخفيف في لدني فعلي وجهين: إما على أنهم أجروه على الأصل من الاسمية، فلم يلحقوا النون وعاملوا "لدني" معاملة عضدي. قالوا: وإلى نحو هذا أشار أبو إسحاق الزجاج. وإما على أنهم حذفوا النون كراهية التضعيف على حد حذفها من [قوله تعالى]: {فبم تبشرون} ونحوه وإلى هذا ذهب المبرد، ثم قال: (وفي قدني وقطني الحذف أيضا قد يفي) يريد: أن الحذف في قدني وقطني قد يأتي أيضا، وهو حذف نون

الوقاية وإتيانه بـ "قد" و"يفي" إشعارٌ بأنه مسموع في الكلام، بل قد يكثر كثرة ما، إذ معنى يفي يكثر، أي: إنه قد يكثر في السماع فلا يكون معدودًا في الشواذ، ولا في الضرائر، وهذا تنكيت منه على سيبويه، ومن قال بقوله: إن عدم اللحاق يختص بالشعر. قال سيبويه: وقد جاء في الشعر: "قدي" وأنشد: قدني من نصر الخبيبين قدي فجمع بين الحذف والإثبات، ثم لما اضطر شبهه بحسبي وهني، لأن ما بعدهن وحسب مجرور، كما أن ما بعد "قد" مجرور، فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء، كما قال: ليتي، حيث اضطر، وقد استشهد ابن مالك على عدم اختصاصه بالشعر بما روى في الحديث من قوله: قط قط بعزتك وكرمك، ويروى بسكون الطاء ويكسرها مع الياء ويدونها وقطني بالنون، ومما لحقت فيه ما أنشده المبرد وغيره: امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدًا قد ملأت بطني

ويقال: وفي الشيء وفيًا على فعول: إذا تم وكثر. هذا تمام الكلام على هذا الفصل، ثم يتعلق بكلامه فيه مسائل: إحداها: أنه لما أطلق القول في لزوم النون للفعل ولم يستثن سوى "ليسى"، دل ذلك من مذهبه على ثبوت أمرين: أحدهما: كون الأفعال غير المتصرفة داخلة في الحكم بلزوم النون، وقد تقدم، ومن ذلك فعل التعجب نحو: ما أكرمني وما أحسنني، وهذا مذهب البصريين، وحكى أبو سعيد السيرافي عن الكوفيين أنهم ذكروا فيه إسقاط النون فيقولون: ما أكرمي وما أحسني. قال: ولست أدري أعن العرب حكوه أم قاسوه/ على مذهبهم في أفعل؟ يعني من كونها اسمًا، أو أصلها الاسم، والأسماء ليس من شأنها أن تلحقها النون، بخلاف الأفعال. والثاني: أن ما جاء من نحو قوله تعالى-: {أتحاجوني في الله} وقوله: {فبم تبشرون}، وقوله: {أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم}. وقال الشاعر:

أبا لموت الذي لا بد أني ... ملاق لا أباك تخوفيني وغير ذلك هو ما حذفت فيه إحدى النونين للاستثقال، إذ أصله: "أتحاجونني" و"تبشرونني" و (تشاقونني، وتخوفينني) وهو كثير في الكلام، فإن نون الوقاية هي الباقية، وحذفت نون الرفع، كما حذفت مع نون التوكيد في نحو: {لتبلون في أموالكم}، على مذهب الناظم، وهذا مذهب سيبويه، وكذلك يقتضى أن تكون هي الباقية فيما أنشده سيبويه من قول عمرو بن معدي كرب: تراه كالثغام يعل مسكا ... يسوء الفاليات إذا فليني أصل الكلمة: "فلينني"، فحذف الأولى في رأي سيبويه، وهو مرتضى المؤلف في "التسهيل" إذ قال: وهي الباقية في "فليني" لا الأولى وفاقًا لسيبويه، ووجه ذلك في "الشرح" بأنهم حافظوا على بقائها مطلقًا لما كان للفعل بها صون ووقاية.

والثانية: أن الندور الذي ذكر في قوله: (وليتي ندرا) يحتمل أن يريد به أنه جاء في الكلام نادرًا، ويحتمل أن يريد به (أنه) جاء في الشعر خاصة، لكنه لا يسوغ حمله على أنه جاء في الكلام، لأنه قد نفى ذلك في "شرح التسهيل"، وجعل ليسي نظير ليتي، في اختصاصه بالنظم. وقال سيبويه: وقد قالت الشعراء: ليتي إذا اضطروا، كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا: الضاربي، وهو منصوب، وإذا كان كذلك يتعين به أن الندور الذي أراد فيه هو المختص بالشعر، إلا أنه يعارضه في هذا التنزيل من كلامه قوله: (ومع لعل اعكس) فذكر أن لحاق النون في لعل نادر، كندور عدم اللحاق في "ليت" وقد ثبت أن ندور ليتي يختص بالشعر، فاقتضى أن ندور لعلني كذلك، وهذا الاقتضاء غير موافق لظاهر النقل، لأنه قد أشار في "شرح التسهيل" إلى عدم اختصاصه بالشعر، وهو ظاهر "التسهيل" أيضا، وهو أيضا ظاهر كلام سيبويه حيث قال: أعلم أن علامة المنصوب المتكلم "ني" وعلامة المجرور المتكلم الياء. ألا ترى أنك تقول: إذا أضمرت نفسك وأنت منصوب ضربني وقتلني وإنني ولعلني إلى تمام المسألة، بل هذا الكلام يدل على كثرة لعلني، خلاف ما يفهم من لفظ الندور، فظهر إذا أن لفظ الندور في الموضع وتنزيله مشكل، والاعتذار عنه أنه لفظ الندور إنما

حملناه على أنه أراد به ما جاء في الشعر على جهة التنزيل، لا على جهة أن اللفظ يقتضيه، وذلك لأن مقتضى لفظ الندور أنه قليل جدا خاصة، من غير تعرض إلى كونه مختصا بالشعر، أو غير مختص، فإذا حملناه في "ليت" أنه أشار إلى الندور الشعري لم يكن حكمًا بأن مراده في "لعل" أيضا أنه مختص بالشعر، بل يصح أن يقال أنه أراد ندوره في الكلام، لصلاحية اللفظ للمقصدين/ إذ لا يقتضي لفظ الندور ااختصاصا، فالقصد الأول في الموضعين التنبيه على الندور، وهو في لعلني وليتني حاصل على الجملة، إذ ليس بكثير، ولذلك لم يحفظه في "لعل" فيما علمت من تأخر عن سيبويه إلا في بيت الشعر، وليس كلام سيبويه بصريح في كثرته كما أنه لم يوجد في "ليت" إلا في الشعر، وإذا كان كذلك لم يكن في كلامه إشكال. والثالثة: أن لفظ التخفيف في قوله: (واضطرارًا خففا) يعني أن الندوة لحقت، ثم حذفت بعد ذلك تخفيفًا للضرورة، وهذا أحد الاحتمالين في المسألة، ويحتمل أن يكونوا لم يلحقوها البتة، بل أتو "بمن" و"عن" عند الإضافة إلى الياء على الأصل، من عدم اللحاق فلو أخبر أن بعض من سلف لم يلحق النون في "من" و"عن" اضطرارًا لصح ولا سيما والموضع موضع ضرورة، فهو أولى ألا يع تبر فيه قصد التخفيف لكنه نبه على أصل ينبغي التنبه له، وهو أن ما لزم فيه من كلام العرب حكم من الأحكام أو غلب فيه أو أكثر، فدعوى أصالة ذلك الحكم لذلك المحل صحيحة، بناء على أن الكثرة لها الأصالة، وينبني على ذلك أن الحكم إذا تخلف عن ذلك المحل بعد ما ثبت له في القياس لعلةٍ أوجبت تخلفه، فهو لم يتخلف إلا بعد دخوله، أو تقدير دخوله كما

تقول في الأسماء أن أصلها الإعراب، وما تخلف عنه الحكم بالإعراب لعلة فخارج عن الحكم عليه بالإعراب، لكن بعد الحكم باستحقاقه إياه فكأنه أعرب أولا، ثم أخرج عن الإعراب إلى البناء لموجب البناء، وعلى ذلك انبنت مسألة سيبويه في الوقف على النون الخفيفة في فعل الاثنين والجميع، إذ زعم أنك تقول: هل تضربون؟ وهل تضربان؟ وهو مشكل في فعل الاثنين، لأنه لا يقول بلحاق النون الخفيفة في فعل الاثنين، فكيف يفرض مسألة لا يقول بها؟ ! ولا يصح أن يفرضها على مذهب يونس، لأنه إنما يقف عليها. هل تضربا دون نون، فوجه هذا ما تقدم من أن النون الخفيفة على مذهب سيبويه كأنها لحقت ثم حذفت، لعلة التقاء الساكنين، وإلا فلو لم يقدر لحاقها وجودًا لما ساغ له فرض المسألة، فلا بد في صحتها من هذا التقدير، وكذلك مسألتنا لما كان لحاق النون "لمن" و"عن" حكمًا لازمًا بالاستقراء صارا كأن النون لاحقة لهما وجودًا، فلذلك عد الناظم عدم لحاقها لهما تخفيفًا، وأيضا فعلة عدم لحاقها إنما هو استثقال التضعيف، والتضعيف إنما يستثقل عند وجوده حقيقة أو توهمًا فإذا التخفيف ثان عن التضعيف حقيقة أو توهمًا، وهو معنى التخفيف الذي ذكر، وعلى هذا أيضًا يحسن إتيان الناظم بلفظ الحذف في قوله: (الحذف ... قد يفي) لأن الحذف إنما يكون بعد الإثبات، فنبه على أن لحاق النون فيها هو الأصل وأن عدم لحاقها حذف في المعنى القياسي، وهذه قاعدة صحيحة ناشئة عن أصل عربي نبهنا عليه شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني- رحمه الله- وهو أن يقال: ما تخلف من الحكم لمانع، هل يقدر

تخلفه بعد ثبوته، إذ لا يتحقق المانع إلا كذلك، أم يقدر المانع أولا فلا يثبت الحكم/ ابتداءً. فإن قلت: إنما هذا حيث توجد علة التخلف، ومسألتنا من باب ما تخلف الحكم فيه للضرورة لا لغير ذلك، فقد تخلف الحكم دون علة فزال اعتبار أصل القاعدة هنا. فإن قيل: هذا السؤال لا ينهض، فإن القاعدة أن العرب لا يضطرون لشيء إلا وهم يحاولون به وجهًا، وقد نبه على ذلك الناظم حيث أتى بلفظ التخفيف المشعر بوجود الثقل في المخفف، وأن الحذف لأجله ولو سلم أن لا علة، فنفس الاضطرار من أقوى العلل، وهذا ظاهر وبالله التوفيق. والرابعة: أن الناظم ذكر من الأسماء التي تلحقها النون بعضا وترك بعضًا، إذ من الأسماء ما تلحقه في الشعر وفي الكلام، ولم يتعرض له، فمن ذلك اسم الفاعل قد لحقته سماعًا ومنه القراءة المتقدمة: {هل أنتم مطلعون} وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: "هل أنتم صادقوني" وأنشد ابن جني وغيره وما أدري وظني كل ظن ... أمسلمني إلى قومي شراح

وابن مالك أنشد غير ذلك مما لم أقيده. ومن ذلك أفعل التفضيل ففي الحديث: "غير الدجال أخوفني عليكم" والأصل: أخوف خوفي، أو أخوف تخوفاتي، فحذف المضاف، وحكى سيبويه في أسماء الأفعال عليكني وعليكي، بل ينبغي أن يكون إلحاق النون لاسم الفعل كالفعل من كل وجه فكما تقول: تراكها، كذلك تقول: تراكني، وفي رويد رويدني وفي هلم الحجازيه هلمني، وكذلك سائر أسماء الأفعال المتعدية، بل والمصدر الموصول نحو: عجبت من ضربكني، ويظهر هذا من السيرافي، وذلك إذا آثرت اتصال الضمير ولا تقول: من ضربكني؟ لجريانه مجرى الفعل والالتباس، وقد نص على جواز إلحاق النون في اسم الفعل مطلقًا المؤلف في "شرح التسهيل"، فالحاصل أن الناظم قصر في المسألة من وجهين: أحدهما: كونه ترك مما تلحقه النون ما هو قياس، وذكر ما ليس بقياس. والثاني: أنه خص بالذكر مما ليس بقياس بعضًا وترك بعضًا لم يدل عليه بإشارة وظاهر هذا تحكم. والجواب: أن يقال: أما الأول: فهو وارد عليه، وأما الثاني: فإن الذي ترك مما ليس بقياس هو لحاقها اسم الفاعل وأفعل التفضيل وكلاهما لا فائدة في تنبيهه عليه، إذ لا يتعلق به قياس على وجه، بخلاف ما ذكر فإن فيه قياسًا، وذلك أن القياس يجري في الكلام بحسب مسألتنا على وجهين:

أحدهما: أن يقيس ما لم يسمع على ما سمع، ولا مراء في أنه مفقود هنا، إذ لا يجوز لك أن تقيس على "قدني" و"قطني" غيرهما. والثاني: ألا تقتصر فيما سمع على موضع السماع، بل تتكلم به في غير موضعه، كما في "لدني" و"قطني"، فإنك لا تقتصر مثلا على استعمالها في قوله: {وقد بلغت من لدني عذرا} ولا في قوله: أمتلأ الحوض وقال قطني بل تقول للرجل: انتظر الخير من لدني وقطني ما أعطيتني، بخلاف "مطلعون" و"صادقوني" و"مسلمني" فإنك لا تقول في الكلام، الزيدون مطلعوني على كذا، ولا هم صادقوني في كذا، ولا هم مسلموني إلى العدو كما لا تقول: أطولت القيام، قياسًا على قوله: صددت فأطولت الصدود وما أشبه ذلك، بل تقف بها على موضع السماع، وفرق ما بين الموضعين مبين في "الأصول"، فلما كان لدني وقدني وقطني تجري

مجرى المقيس على الجملة/ ذكرها دون ما ليس كذلك، وللناظم من هذا النحو مواضع يظن بها أنها شذوذات على الإطلاق لا يدخلاها قياس بوجهٍ وشأنها هذا الشأن، وسيأتي التنبيه على أشياء منها في مواضعها إن شاء الله تعالى

العلم

ولما أتم الكلام على ما قصد ذكره من أحكام الضمائر أخذ في نوع آخر من المعارف وهو العلم فقال: العلم اسم يعين المسمى مطلقا ... علمه كجعفر وخرنقا وقرنٍ وعدنٍ ولاحقٍ ... وشدقم وهيلة وواشق عرف أولا بالعلم قبل الكلام على أقسامه وأحكامه ليكون الكلام على معروف، وهو الحق الذي ينبغي، فذكر أنه اسم يعين المسمى مطلقًا. فقوله: (اسمٌ) هو الجنس الأقرب، ولو أتى باللفظ أو بالكلمة لكان جنسًا بعيدًا، والإتيان بالقريب أولى، فذكر أنه من قبيل الأسماء وأنه لا يكون في الأفعال ولا في الحروف، فإن سمي بها صارت إذ ذاك أسماء، وصح كونها أعلامًا، لأنها قد خرجت عن جنس الأفعال والحروف، وقوله: (يعين المسمى) معناه يوضحه ويبنيه، ويخرجه عن الإيهام بين أشخاص جنسه، حتى يصير كالمشار إليه حسًا أو ذهنًا، وخرج بهذا القيد النكرات كلها كرجل وفرس، إذ لا تعين مسمياتها، من حيث إنها وضعت لواحدٍ لا بعينه، فإذا لا يعترض هذا التعريف بنحو: شمسٍ

وقمرٍ، لأن لفظ شمس لا يعين مدلوله من حيث الوضع له، ولكن التعيين إنما حصل بعد الوضع، لأمرٍ عرض في المسمى، وهو الانفراد في الوجود الخارجي، لا أن ذاك في أصل التسمية، فليس الاسم هو المعين، بل المعين هو التعين في الخارج، وكذلك القول في قمر من غير فرق وما أشبههما الناظم بقوله (يعين المسمى) وقد تكلف السيرافي في شمس وقمر أنهما موضوعان لكثيرين موجودين في الخارج، فإن لفظ شمس يطلق حقيقة على القرص، ويطلق على الشعاع الجزئي مجازًا، كالواقع منه على الدار والحانوت والسوق والجبل وأشباه ذلك، وكذلك قمرٌ. وهذا الذي قال إذا سلم فلم يحتاج إليه. وقوله: في التعريف (مطلقًا) يحتمل تفسيرين: أحدهما: أن يكون معناه أن تعيين العلم للمسمى، ليس باعتبار أمرٍ، حتى يكون باعتبار أمرٍ آخر غير معين، كما في المضمر، فإن "أنت" مثلًا موضوع للمخاطب نفسه، من حيث هو مخاطب، ولفظ "هو" موضوع للغائب المعين، من حيث هو غائبٌ، "فأنت" أو "هو" بهذا الاعتبار معرفة، وإذا اعتبرت لفظ "أنت" أو لفظ "هو" من جهة أخرى وجدته صالحًا لغيره من المخاطبين أو الغائبين، كما يصلح رجل ونحوه لكل واحد من أشخاص جنسه، فإذا كان مثلا "أنت" أو "هو" صالحًا لما عين به ولغيره، فهو من هذه الجهة غير معرفة، وإن كان هذا الاعتبار مجازيًا فهو من الاعتبارات

المقصودة، ويتضح ذلك بنحو قول امرئ القيس: وأنت إذا استدبرته سد فرجه وبلا شك أنه لا يريد شخصًا مشارًا إليه معينًا، وإنما مقصوده خطاب من يقع عليه هذا الاسم، وهو عندهم من المقاصد البيانيه، وكذلك اسم الإشارة فإن "ذا" مثلا وضع لشخص مفردٍ مذكرٍ قريب، فهو باعتبار الحال والمحل معرفة، / وباعتبار صلاحية اللفظ لكل من اتصف بتلك الحال وحل ذلك محل غير معرفة، وكذلك سائر المعارف إذا اعتبرتها، بخلاف العلم فإن تعريفه ليس باعتبار أمرٍ، بل تعريفه تعريفٌ مطلقٌ بالإطلاق الوضعي وعلى كل الجهات، فتحرز بهذا القصد من سائر المعارف، وهذا التفسير لابن مالك في "شرح التسهيل" فسر به قوله في "التسهيل" - في تعريف العلم-: هو المخصوص مطلقًا، وهو جارٍ هنا من غير شك. والتفسير الثاني: أن يكون قوله: (مطلقًا) يريد غير مقيد في أصل وضعه، كما تقدم، لكن على وجه آخر، وذلك أن المضمر مثلا إنما وضعه للتعريف بقيد يصحب مدلوله وهو التكلم أو الحضور، الذي يعطي المواجهة أو الغيبة التي تقتضي الإحالة على ذلك المدلول، ولذلك قال قبل هذا: (فما لذي غيبة أو حضور كأنت وهو) وقال

فيه في "التسهيل" مشعرًا بتكلمه أو خطابه أو غيبته. فإذا ليس تعيينه للمسمى تعيينًا بإطلاق، بل بقيد وكذلك اسم الإشارة، وضعه في الأصل على أن يعين المسمى بقيد كونه مشارًا إليه بذلك الاسم، لا على الإطلاق، والموصول كذلك أيضا، ليس تعريفه إلا من حيث وضع على أن تكون الصلة هي المبينة والموضحة له، وكذلك ذو الألف واللام، والمضاف، فأنت ترى أن سائر المعارف غير العلم إنما تعين مسمياتها بقيد، وذلك القيد الثابت بالوضع الأول لها، بخلاف العلم فإن خاصته أن وضع أولا لتعيين مدلوله، وإبرازه عن غيره، مطلقا من غير تقييد بحال من الأحوال، فخرجت المعارف سوى العلم، بهذا القيد الذي هو قوله: (مطلقا)، وبهذا الثاني فسره ابن الناظم في شرحه فقال: كل معرفة ما عدا العلم دلالته على التعيين بقرينة خارجة عن دلالة لفظه، وتلك القرينة إما لفظية كالألف واللام والصلة، وإما معنوية كالحضور والغيبة. وما قاله حسن، وهو أولى من تفسير الناظم في "شرح التسهيل" فإنه إن لم يسامح فيه ورد عليه ما ورد على القرافي وابن هانئ وقد تقدم ذلك أول الباب. ويعترض هذا التعريف على كلا التفسيرين بالعلم الجنسي، فإنه لا يعين المسمى، إذ هو موضوع وضع الجنس، لا فرق بينهما إلا في الأحكام اللفظية، على حسب ما ينبه عليه آخر الباب، ولما لم يدخل له في الحد الذي حد به العلم في "التسهيل"، لأن قيوده تنافيه استدركه بقوله: أو الشائع الجاري مجراه، وهنا لم يفعل ذلك.

وقد يجاب عن ذلك بأنه لم يعتمده بالذكر، لأنه ليس من قبيل الضروري اللائق بهذا المختصر على الإطلاق، بل هو أدنى رتبة، ومن قبيل ما لا يتكلم فيه أرباب المختصرات، وأيضا فإنه لا يسع جمعه مع العلم الشخصي في حد، لتنافيهما في محصول المعنى، إذ يدخل عليه به النكرة فاقتصر على حد العلم الشخصي، ثم لما أراد التنبيه على العلم الجنسي أتى به في آخر الباب، تكميلًا للفائدة، وتنبيها (على) أن هذا النوع ليس مما يضطر إلى ذكره، كالاضطرار إلى ذكر علم الشخص، وأيضا فإنه مخالف لقانون العلمية ومعناها المشهور، إذ لا كبير فرق بينه وبين النكرة في المعنى، فلذلك لم يعتن بحده ولا باعتبار في الحد والله أعلم. وقوله: (علمه) مبتدأ، خبره قوله: (اسم يعين المسمى) والهاء عائدة على اسم، وهو في معنى الجنس، فكأنه قال: علم الأسماء هو المعين لمسماه مطلقًا ثم أتى بأمثلة من العلم ثمانية. أحدها: "جعفر" وهو من أسماء الرجال مشهورٌ، وهو أيضا أبو قبيلةٍ من عامر وهو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وهم الجعافرة. ويدخل تحت هذا/ المثال كل ما كان من أسماء الرجال نحو: زيدٍ وعمروٍ وخالدٍ وعامرٍ وياهلة والحارث والنعمان وما أشبه ذلك.

والثاني: "خرنق"، وهوا سم امرأة شاعرة، قال أبو عبيدة: وهي خرنق بنت هفان من بني سعد بن ضبيعة رهط الأعشى وهي القائلة: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر ويشمل التمثيل كل ما كان علما للنساء نحو: هند وزينب وفاطمة وحفصة وأسماء وما أشبه ذلك. والثالث: "قرن" وهواسم حي من مراد، أبوهم قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، وإليه ينسب أويس القرني- رضي الله عنه- ويدخل تحت المثال نحو: أسد وغطفان وتميم وثقيف وقريش وثمود سبأ ويهود ومجوس وما أشبه ذلك من الأعلام الواقعة على القبائل والأحياء. والرابع: "عدن" وهو اسم موضع باليمن، ويدخل تحت هذا المثال ما كان مثله من أسماء الأماكن والبلدان نحو: مكة، والمدينة، ومصر، وبغداد، وغرناطة، ومالقة، وما أشبه ذلك. والخامس: "لاحق" وهو اسم فرسٍ كان لمعاوية بن أبي سفيان-

رضي الله عنه-، ونقل القالي في " الذيل" عن الأصمعي قال: الوجيه ولاحق، والغراب، وسبل- وهي أم أعوج- كانت لغني. ونبه بذلك على ما كان مثله من أسماء الخيل، كجروة، وأعوج، والحرون بن الأثاثي بن الخرز بن ذي (الصوفة) بن أعوج، وقرزل

والنعامة، واليحموم، وما أشبه ذلك. والسادس: "شدقم"، وهو اسم فحل من فحول الإبل، كان للنعمان بن المنذر، وإليه تنسب الإبل الشدقمية قال الكميت: غريرية الأنساب أو شدقمية ... يصلن إلى البيد الفدافد فدفدا ومثله كل ما كان اسمًا لجمل أو ناقة أو نحو ذلك، كالقصواء لناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك العضباء، والجدعاء، وعسكر، اسم جملٍ كان له عليه السلام. وقيل: عسكر: اسم للجمل الذي ركبته عائشة- رضي الله عنها- يوم الجمل، وكان له عليه السلام جمل يقال له: المثعلب، عقره الكفار يوم الحديبية، وغرير: اسم لجملٍ معروف عند العرب وإليه نسب الكميت حيث قال: غريرية الأنساب ...

والسابع: هيلة، وزعم الزمخشري أنه اسم شاةٍ، فيدخل تحته ما كان من أسماء الشياه الأعلام، وقد روى أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم شاةُ تسمى "غوثه" وقيل: "غيثة" وعنز تسمى "اليمن". والثامن: "واشق"، وهو اسم كلب، ومثله من أسماء الكلاب "كساب" مثل حذام اسم كلبة، وكذلك "ضمران" اسم كلب، وقع في شعر النابغة، وكلب أهل الكهف كان اسمه "قطمير"، وقيل: "ريان" وقيل: "ميسور"، وقيل: "الرقيم" ذكره السهيلي، ومقصوده بهذه الأمثلة الكثيرة الإبانة عن مسميات الأعلام، من أي نوع تكون، فأشار إلى أن مسمياتها الأناسي، وما يختلط بالأناسي ويلابسهم وذلك أن (سائر) ما يؤلف ويخالط كثيرًا تدعو الضرورة إلى تعيين شخصه في العلم، ليخبر به وعنه فوضعوا لأجل هذا المقصد الأسماء الأعلام، وأكثر من يحتاج إليه في الإخبار الإنسان، فوضعوا لكل شخص اسمًا يخصه، لا يشاركه فيه غيره وإن شاركه فبالغرض، ثم يليه في هذا المعنى ما تكثر ملابسته ومخالطته مما ليس بإنسان، كالخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم والكلاب والأماكن

والمياه/ والجبال والكواكب والأيام والشهور والكتب وكذلك القبائل والأحياء، وما أشبه ذلك مما تمس الحاجة إلى تعيينها فوضعوا لها أعلامًا تشخصها، ليحصل الإخبار بمعين، أو عن معين، فهذا هو الذي قصد الناظم- رحمه الله- بتكثير الأمثلة وتنويعها، وعادته أن يأتي بالأمثلة فيستغني بإشارتها عن تقرير المسائل والضوابط، قصدًا للاختصار، وعبارته في "التسهيل" عن هذا المعنى هي قوله: ومسميات الأعلام أولوا العلم، وما يحتاج إلى تعيينه من المألوفات. ثم أخذ في تقسيم العلم بعد تعريفه فقال: واسمًا أتى وكنية ولقبا ... وأخرن ذا إن سواه صحبا وإن يكونا مفردين فأضف ... حتما وإلا أتبع الذي ردف فسمه قسمين: أحدهما: بحسب دلالته في أصل وضعه علمًا على مسماه. والثاني: بحسب المقاصد الطارئة على ذلك القصد الأول، من جهة اللفظ ودلالته على معنى سابق. فأما التقسيم الأول فهو الذي شرع الآن في تقريره، فذكر أن العلم ينقسم ثلاثة أقسام. اسم غير كنية ولا لقب، وهو الذي عبر عنه بقوله: (واسمًا أتى) يعني ليس بكنية ولا لقب، وإلا فالكنية واللقب اسمان علمان أيضًا فإنما

أراد الاسم الخاص بالمسمى الذي ليس بكنية ولا لقب، فهو في قوة الاسم المعدول في اصطلاح أهل المنطق، واسم هو كنية، والكنية هي ما أضيف إليه الأب أو الأم، فما أضيف إليه الأب منها هي الكنية المختصة بالذكور، وما أضيف إليه الأم هي المختصة بالإناث، واسمٌ هو لقب واللقب: ما غلب على المسمى حتى اشتهر به على جهة الرفعة أو الضعة. فالأول نحو: زيد وعمروٌ وقيس وجعفر وامرئ القيس ومعدي كرب وعبد الله وبرق نحره. والثاني نحو أبي القاسم، وأبي بكر، وأبي عمرو، وأبي كرب، وأبي طالب، وأبي الحسن، وأم قيس، وأم كلثوم، وأم العلا، وأم هانئ. والثالث نحو: عتيق، وسيبويه، وذي اليدين، وذي الشهادتين، وورش، وقالون، وبطة، وقفه، وأنف الناقة، وكرز، ثم إن الناظم ألحق بهذا القسم الأخير حكمين أفرده بهما عما تقدم: أحدهما: تأخيره إن صحب غيره من اسم أو كنية، وذلك قوله: (وآخرون ذا إن سواه صحبا) فـ"ذا": إشارة إلى أقرب مذكور وهو اللقب و (سواه) هما القسمان الأولان، فأراد أن اللقب إذا لم يصحب اسما غيره فلا كلام فيه ولا نظر، ولأجل ذلك سكت عن النص عليه، وإنما دل على وجوده ثانٍ في قوله: (سواه صحبا) يعني فإن لم يصحب فلا إِشكال فتقول: جاءني بطة وقفة، ونحو ذلك، كما تقول: هذا زيد، وهذا عبد الله، فإن صحب غيره من اسم أو كنية فحكمه أن تؤخره عن ذلك الاسم أو عن تلك الكنية، فتقول: هذا زيد بطة، وهذا عبد الله كرز، ورأيت عبد الله أنف الناقة، ولا تقول: هذا قفة عبد الله، ولا هذا بطة زيد، ووجه ذلك أن اللقب

في الغالب منقول من اسم آخر نكرة كبطة وقفة، كما أن الغالب في الأعلام النقل/ كفضل وأسد وزيد وعمرو، فلو قدم اللقب لذهب الوهم إلى أنه الاسم العلم لذلك الشخص الأصلي له، فلما أخر أمن ذلك اللبس، وارتفع المحذور، فلم يعدل عنه. والثاني: من الحكمين إضافة العلم إليه، أو إتباعه إياه، وذلك قوله: (وإن يكونا مفردين فأضف حتما ... ) إلى آخره ضمير "يكونا" عائدٌ على اللقب، وما صحبه من الاسم العلم الأصلي أو الكنية، وذلك أن الاسم مثلا واللقب إذا اجتمعا على أربعة أقسام، إذ لا بد أن يكونا معًا مفردين كسعيد كرز وزيد بطه، أو مضافين معًا نحو: عبد الله أنف الناقة وامرؤ القيس وزن سبعة، أو يكون الأول مفردًا دون الثاني نحو: سعيد وزن سبعة، وزيد أنف الناقة أو بالعكس نحو: عبد الله قفة، وامرؤ القيس بطة، فأما الأول فإن حكمه الإضافة، أعني إضافة الاسم إلى اللقب وذلك قوله: (إن يكونا مفردين فأضف حتمًا) أي: صيرهما مضافًا ومضافا إليه، وذلك إنما يتصور بأن يضاف الأول إلى الثاني، فتقول: هذا سعيد كرز، وزيد بطة، وعثمان ورش، وعيسى قالون، ولا يجوز هنا الإتباع حيث حتم الحكمة بالإضافة، والحتم هو اللازم الواجب إذا قلت: أمرٌ حتم، وأصله المصدر، وهو في كلام الناظم مصدر في موضع الحال من فاعل (أضف)، أي: حاتمًا بذلك وقاضيًا به، أو من قوله: (أضف) على حد قولهم: ضربته شديدًا، أي: إضافة ذات حتم، فإذا لا يجوز أن تقول هذا سعيد كرز على الإتباع ولا ما أشبه

ذلك، ويكون قول أبي القاسم بن فيره الشاطبي- رحمه الله- في قصيدته: وقالون عيسى ثم عثمان ورشهم يجب فيه إضافة عثمان إلى ورشهم بناء على ما قاله الناظم. فإن قلت: وكيف يكون هذا وورش مضافًا، فليسا إذا بمفردين أعني الاسم واللقب؟ فالجواب: إن هذه مغالطة، إذ لم يلقب بالمضاف والمضاف إليه فيجب الإتباع، وإنما إضافة ورش هنا كإضافة زيد في قوله: علا زيدنا يوم النقا ... رأس زيدكم فليس الاسم إلا زيدًا، لا زيدكم، فكذلك اللقب هنا ورش لا ورشهم وعلى هذا يكون قول ابن مالك هنا: (وإن يكوكنا مفردين) معناه: في أصل الوضع

لا مطلقا إلا أن عليه فيه دركا يذكر إثر ها بحول الله، فقد حصل أن قول الشاطبي: "ثم عثمان ورشهم" يجب فيه الإضافة بمقتضى قول الناظم هذا، كما إن قوله: "وقالون عيسى" من الضرورات حيث قدم اللقب على الاسم، والأصل التأخير بمقتضى وقول الناظم: "وأخرن ذا". وأما الأقسام الثلاثة الباقية فحكمها واحد، وهو الإتباع الذي نص عليه بقوله: (وإلا أتبع الذي ردف) فقوله: "وإن لا" حذف فيه فعل الشرط وأبقى حرفه والجواب للعلم بما حذف، إذ هو جائز حسب ما يذكره في بابه، وتقديره: وإلا يكونا مفردين فأتبع الذي ردف، أي: اجعل الذي ردف تابعا للأول، وهذا الإتباع يكون إما على البدل وإما على عطف البيان نحو: مررت بعبد الله بطة، وهذا زيد أنف الناقة، وهذا عبد الله وزن سبعة، و "ردف" معناه تبع فكأنه قال: وإلا أتبع الذي تبع، لكن الإتباع الأول اصطلاحي والثاني لغوي، فالمعنى: اجعل اللفظ الثاني الذي تبع الأول، أي: تلاه وهو اللقب تابعا من التوابع الخمسة بدلا أو عطف بيان، ووجه انحتام الإضافة في المفردين وامتناعها في غيرهما أن أصل التسمية في كلامهم أن يكون للرجل اسمان: أحدهما: مضاف والآخر مفرد أو مضاف، فإنهم يسمون ويكنون، والكنية مضافة/ لا غير، والاسم قد يكون مضافا نحو: عبد الله، وقد يكون مفردا كزيد، وإذا كان أحدهما مضافا تبع الثاني ما قبله عطفا أو بدلا نحو: زيد أبو عبد الله وأبو عبد الله زيد. وكذلك إذا كانا مضافين نحو: عبد الله أبو بكر، على هذا كلامهم،

فليس من أصل تسميتهم أن يكون للرجل اسمان مفردان يتبع أحدهما الآخر بدلا أو عطفا، فعلى هذا الأصل أجروا الألقاب، فإذا اتفق أن يكون الاسم واللقب مفردين ردوهما إلى أصلهم في التسمية، فأضافوا الأول إلى الثاني، حتى يصير اللقب مع الاسم جاريا على أصلهم المعهود في التسمية، وهذا تعليل سيبويه ما تقدم من الحكم إلا أن الناظم يرد عليه في تقرير هذا الحكم سؤالان: أحدهما: أن جعله الإضافة لازمة في المفردين مشكل، مع ما نص عليه في "التسهيل" من إجازته في المسألة ثلاثة أوجه: أحدهما: الإضافة كما ذكر. والآخر: الإتباع على أن يكون الثاني عطف بيان. والثالث: الإتباع على البدلية كالأقسام الأخر المذكورة في قوله: (وإلا أتبع الذي ردف) بل يجوز أيضا زيادة على ما ذكر القطع، إما إلى الرفع بإضمار مبتدأ، وإما إلى النصب بإضمار فعل، كما يجوز ذلك فيما إذا لم يكونا مفردين وعند ذلك تقول: كان ينبغي له أيضا أن ينبه على القطع فيما سوى المفردين. فإن قوله: (وإلا أتبع) يظهر منه لزوم الإتباع وليس كذلك، وقد ذكر ذلك كله في "شرح التسهيل" فإذا لا فرق بين القسم الأول وغيره إلا في جواز الإضافة فيه وامتناعها في غيره. قال في "الشرح" المفردان يشتركان

مع غيرهما في الإتباع والقطع، وينفردان بالإضافة، لأنهما على خلاف الأصل، لأن الاسم واللقب مدلولهما واحد، فيلزم من إضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه، فيحتاج إلى تأويل الأول بالمسمى والثاني بالاسم، ليكون تقدير قول القائل: جاء سعيد كرز، جاء مسمى هذا اللقب، فيتخلص من إضافة الشيء إلى نفسه، والإتباع والقطع لا يحوجان إلى تأويل، ولا يوقعان في مخالفة أصل، قال: فاستغنى سيبويه عن التنبيه عليهما. يعني في المفردين، إذ لم يذكر فيهما غير الإضافة، ما قال وهو يقتضي إجازة غير في المفردين، كما ترى وأنه مذهب سيبويه، فاقتصاره على الإضافة فيهما فيه ما ترى. والسؤال الثاني: أن إطلاقه القول بامتناع الإضافة في ثلاثة الأقسام مشكل وإنما يصح له ذلك فيما إذا كان الاسم مضافا سواء أكان اللقب مفردا أم لا، إذ لا يصح أن يضاف إلى ما بعده، لوقوع المضاف إليه موقع تنوينه، كما لا تصح الإضافة إلى اثني عشر في قولك: هذه اثنا عشرى لوقوع عشر موضع النون، فكأنها موجودة فكذلك هنا، وأما إذا كان الاسم مفردا ففيه تفصيل، فلا يخلو أن يكون إضافة اللقب بحكم الأصل، كوزن سبعة وأنف الناقة، أو لا، فإن كانت كذلك فالحكم ما ذكر، وإن لم تكن كذلك فالإضافة غير ممتنعة، بل لا يجوز غيرها على مذهبه، لأن الإضافة في حكم العدم إذ ذاك، كزيد في قولك: زيد بني تميم، وكرز إذا قلت كرز بني فلان، إذ تعرض الإضافة للعلم كما قال:

علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يمان وعلى هذا جاء قول ابن فيره/: "ثم عثمان ورشهم"، وإذا ثبت هذا كان إطلاقه في كلا النوعين مشكلا، لا يقال إن الإضافة إنما أراد بها الإضافة الأصلية، وهي التي كانت في أصل وضع اللقب كوزن سبعة، فإن التلقيب أولا لم يكن بوزن وحده، ثم أضيف بعد استقرار اللقب إلى سبعة، بل كان التلقيب بالجميع، بخلاف ورشهم، فإن الملقب به ورش دون هم، ثم أضيف إلى الضمير بعد ذلك، فكأن الإضافة لم تكن فخرج إذا عن انحتام الإتباع، مثل: عثمان ورشهم، إلى انحتام الإضافة إذ ليس بمضاف في الحقيقة، ولا يبقى على هذا إشكال، لأنا نقول: هذا الاعتذار إن كان ينهض في نحو: عثمان ورشهم، فلا ينهض فيما إذا كانت هذه الإضافة لاحقة للاسم دون الكنية، كما إذا قلت: زيدهم قفة، فإن إضافة زيد إلى قفة لا يصح لوجود إضافة أخرى، وإن كانت في حكم العدم، إذ لا يجتمع في لفظ واحد إضافتان، فإن كان الناظم أراد الإضافة بحكم الأصل، اقتضى أن يضيف قفة إلى زيدهم، وذلك غير صحيح ولا جائز باتفاق، وإن كان أراد مجرد الإضافة دخل عليه أن مثل عثمان ورشهم لا يضاف فيه الاسم إلى اللقب وفيه ما قد رأيت. والجواب عن الأول: أن الناظم اتبع في ذلك غيره من النحويين، فقد تكلم سيبويه على المسألة فلم يتكلم فيها على غير الإضافة، وهذا وإن لم يكن فيه دليل منصوص على منع غيره، فقد يدل على ذلك

تعليله، وقد ذكرته قبل، حيث ذكر أن ترك الإضافة والإتباع ليس من أصل تسميتهم، فهذا كالنص في منع غير الإضافة، وقد صرح به المبرد في "المقتضب" فقال: إذا لقبت مفردا بمفرد أضفته إليه لا يجوز غير ذلك، وكذلك الزمخشري في "المفصل" اقتصر على الإضافة كسيبويه، ولم أر من شراح الكتاب من حكى غير ما حكاه سيبويه، فإذا ما تأوله المؤلف على سيبويه لا يثبت فالحاصل أن الناظم هنا متبع للإمام والنحويين، وقد نقل ابنه في الشرح أن جواز الإتباع والقطع مذهب الكوفيين، فإن كان كما قال فهو الذي اتبع في "التسهيل" وأما اقتصاره في غير المفردين على الإتباع دون القطع فلا إخلال فيه، لإمكان أن يكون ترك ذلك لموضع هو أخص بذكر ذلك من هذا الموضع، وهي أبواب التوابع. والجواب عن الثاني أن نقول: إنما قصد هنا بالذكر ما كانت فيه الإضافة بحق الأصل، كالمثل المتقدمة، وأما نحو: عثمان ورشهم، فلم يتعرض له وإن كان حكمهما حكم المفردين. والله أعلم. وها هنا مسألة تتعلق بالنظم وهي أن ما كان من مفردات الألقاب بالألف واللام نحو: الصديق، والفاروق، والمهدي، والرشيد، والزبرقان فإن ظاهر الناظم أن حكمها حكم غيرها مما ليستا فيه، فيلزمهما الإضافة كما تقدم، كما تلزم نحو: قفة وبطة.

وهذا الحكم فيه نظر، وذلك أن بعض طلبة فارس ذاكرني في المسألة وأخبرني أن بعض من ينتحل إقراء العربية هنالك أجراها مجرى ما ليس فيه الألف واللام، تعلقا بمجرد كونها تسمى ألقابا، وربما وجدوا ذلك في كلام بعض المتأخرين، فزعمت أن الإضافة لا تجوز فيما فيه الألف واللام، مستندا إلى أن هذه الألقاب في الأصل أوصاف/ جارية على موصوفاتها، لكنها استعملت بالألف واللام وغلبت على بعض من جرت عليه، حتى صارت مختصة كالأعلام فهي- وإن سميت ألقابا- معتبرة بأصلها من الوصيفة وعدم الاختصاص، والألف واللام تحرز ذلك فيها، فخالفت بذلك قفة وبطة إذ لا محرز فيها لأصل فجرت مجرى زيد وعمرو، ثم وجدت لابن خروف ما يشعر بما ذكرته، مع التنبيه على عدم السماع بالإضافة في هذه الأشياء، قال: وإن لم يقولوا هارون الرشيد ولا محمد المهدي. بالإضافة، دليل أنهما صفتان غلبت عليهما كالرحمن. قال: وأيضا فإنهم لا يسمون بما فيه الألف واللام، وإنما هو في كلامهم غالب لا كالمضاف. قال: فلما لم يسموا بذلك لم يضيفوا العلم إليه، وما قاله صحيح في القياس وعلى مقتضى السماع. أما السماع: فإن العرب لم يسمع منها إضافة مثل هذا مع كثرة استعماله على ألسنتهم للأمراء وغيرهم. وأما قياسه: فلأن اللقب علم من الأعلام، وقع على مسماه وقوع زيد وعمرو على مسماه، لكن مع التنبيه على معنى الرفعة أو الضعة،

كما نبهوا على ذلك حين سموا بالأوصاف وغيرها. وأما ما فيه الألف واللام فإنما يجري مجرى العلم في معنى الاختصاص بالمسمى، وهو في غير ذلك جار مجرى أصله قبل الاختصاص، حتى كأنه اسم نكرة عرف بالألف واللام، بل الخليل يجعل ما كان مثل النجم والدبران باقيا على أصله في الحكم كأنه لم ينتقل إلى اختصاص عليه، ويؤيد ذلك أنك إذا سميت بالرجل ونحوه مما فيه الألف واللام كان عند سيبويه على حكمه قبل أن يسمى به في اعتبار الألف واللام وأنه لا ينادى من أجلهما، وإن لم يبق لمعناهما في الأصل اعتبار لكنهما لا يسقطان من أجل التسمية، فإذا كان كذلك فيما كان غالبا وعلميته مأخوذة من اعتبارهما أولى أن يعتبرا في تعريفه، فلا يصح إلغاء معناهما في الأصل، فيبقى إذا معنى الوصفية، فلا تصح الإضافة إلى الفاروق ونحوه إلا عند من يجوز إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع وليس الكلام فيه، فثبت بهذا أن عمر الفاروق وأشباهه لا تصح فيه الإضافة وإن سمي لقبا، ويبقى بعد النظر في الزبرقان ونحوه مما ليس بصفة في الأصل، وفيه الألف واللام، والحكم جريانه مجرى الصفة، من منع الإضافة للحظ معنى الصفة فيه، ألا ترى أنه لقب حصين الزبرقان لصفرة عمامته، تشبيها بالزبرقان وهو القمر لما فيه من الصفرة. وأصل الاشتقاق من الزبرقة وهي الصفرة، وعلى هذا المنزع يجرى ما كان من ذلك النحو، ولا إشكال بعد ذلك في المسألة- إن شاء الله- إلا على إطلاق الناظم حيث لم يقيد المفردين بكون اللقب منهما بغير ألف ولام، وأيضا فإن هذا القيد كان يلزمه بالنسبة إلى الاسم الأول، فإن الاسم العلم إذا

كان بالألف واللام لم تدخل فيه الإضافة، دخلتا للمح الصفة أو لغير ذلك، إلا أن هذا يجاب عنه بأن فقد الألف واللام من شرط الإضافة، وليس هذا مما يذكر هنا، وإنما يعترض على الناظم باللقب ذي الألف واللام/ كالصديق والفاروق. وقد يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الألف واللام لما كان ملحوظ الأصل غير منسيه ووجد محرز ذلك وهو الألف واللام لم يعتبر فيه طران الاختصاص فلم يستحكم فيه معنى اللقب، بل بقى على أصله من الوصفية، وإلى هذا المعنى أشار ابن خروف فيما تقدم؛ لأن اللقب في الحقيقة علم من الأعلام، هذا ليس كذلك، ويوضح أن هذا مراد الناظم أنه لم يذكر هذا النوع في باب العلم، وإنما ذكره في باب المعرف بالأداة، حيث قال: وقد يصير علما بالغلبه ... مضاف أو مصحوب أل كالعقبه فلم يعده من الأعلام المحضة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. فإذا ليس بلقب على مذهبه، وإذا لم يكن لقبا حقيقة لم يجر مجرى الألقاب في وجوب الإضافة، بل ولا في جوازها وهذا ظاهر، وبالله التوفيق. وفي لفظه من جهة العربية شيء في موضعين: أحدهما: جعله "سوى" متصرفا لأنه مفعول صحب في قوله: (وإن سواه صحبا) وسوى عند سيبويه لا يتصرف إلا في ضرورة نحو ما

أنشده سيبويه من قول الأعشى: وما قصدت من أهلها لسوائكا لكن الناظم جرى على مذهبه فيها من جواز تصرفها حسبما نص عليه في "باب الاستثناء" فلا درك عليه هنا في استعمالها متصرفة من وجهين. والثاني: حذفه الفاء من جواب الشرط، وفعل الجواب فعل أمر، وذلك قوله: (وإلا أتبع الذي ردف) فكان الواجب أن يقول: وإلا فأتبع الذي ردف، إذ لا يجوز أن تقول: إن أكرمك زيد أكرمه، إلا في الضرورة، ونحوه من المختص بالشعر قوله: من يفعل الحسنات الله يشكرها فالناظم حذف الفاء للضرورة. *** ثم أخذ في التقسيم الثاني من القسمين فقال:

ومنه منقول كفضل وأسد ... وذو ارتجال كسعاد وأدد وجملة وما بمزج ركبا ... ذا إن بغيرويه تم أعربا وشاع في الأعلام ذو الإضافة ... كعبد شمس وأبي قحافه فقسم العلم بحسب اللفظ ودلالته على معناه قبل العلمية إلى أربعة أقسام: مفرد، وجملة، ومركب تركيب مزج وخلط، وذو إضافة. فأما المفرد فهو المراد بقوله: (فمنه منقول ... وذو ارتجال) أي فمنه مفرد صفته كذا وكذا، ودل على ذلك قوله بعد (وجملة) وكذا وكذا وجعل المفرد على ضربين: أحدهما: أن يكون منقولا، والمنقول ماله أصل في النكرات مستعمل ثم سمي به الشخص، فتصييره علما على شخص معين بعد أن كان موضوعا ليدل على معنى من المعاني الجنسية، هو النقل الذي لأجله سمي منقولا، كأنه نقل عن موضعه في الأصل إلى غيره، وأتى له بمثالين دالين على معنيين: أحدهما: "فضل" وهو منقول من مصدر قولك: فضل الرجل يفضل فضلا فهو فاضل. والثاني: أسد، وهو منقول من/ اسم جنس الحيوان المفترس، ونبه بذلك على أن النقل في الأعلام يكون من أسماء المعاني كالمثال الأول، فيدخل تحته بمقتضى التشبيهه كل ما كان نحوه مثل: أوس، إذا قلنا: إنه منقول من العطية، وزيد المنقول من زاد يزيد، أو عمرو إذا أردت نقله من العمر بمعنى الحياة، ويدخل أيضا تحته المنقول من

الفعل الماضي نحو: بذر وشمر، والمضارع نحو: يزيد، ويشكر، وتغلب، والأمر نحو: إصمت، وما أشبه ذلك. وقد يكون النقل من أسماء الأعيان كالمثال الثاني، وما كان مثله من نحو: بكر وجبل وعمرو، إن جعلته واحد عمور الإنسان أو الفرط، وكذلك فهر، وكلب، وحجر، ونمر، ويشمل أيضا المنقول من الصفات كحارث وعباس، وخالد، وعامر، وعائشة وما أشبه ذلك. والضرب الثاني: أن يكون المفرد مرتجلا، وهو ذو الارتجال في كلامه، ومعناه ما ليس له أصل في النكرات، ولا استعمل قبل العلمية لغيرها، كأنه ابتدئ الآن من غير تقدم فيه من قولهم: ارتجلت الخطبة والشعر، والمرتجل في كلام سيبويه على وجهين: أحدهما: ما لم يقع له مادة مستعملة في الكلام العربي. قالوا: ولم يأت من ذلك إلا فقعس وهو أبو قبيلة من بني أسد، وهو فقعس بن طريف بن عمرو بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد، فلم يستعملوا مادة ف ق ع س في غير هذا الموضع. والثاني: ما استعملت مادته، لكن لم تستعمل تلك الصيغة بخصوصها في غير العلمية وهذا الثاني هو الكثير وإليه أشار الناظم بمثاليه معا وهما "سعاد" و "أدد" لكن أحدهما لمذكر، والآخر لمؤنث. أما سعاد وهو اسم امرأة، فإنه لم تستعمل بنيته في النكرات، واستعملت مادة "س ع د" في السعد، والساعد، والسعدان، وغير ذلك.

وأما "أدد" وهو اسم لأبي قبيلة من اليمن، وهو أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن حمير، وذكر سيبويه أنه من "الود" من مادة "ود د"، فأصل همزته الواو، وهذه مستعملة في الود، والودود وغيرهما، ويدخل تحت المثالين أمثالهما نحو: حمدان وعمران وغطفان وعمر وقثم وزفر وزحل وكذلك حيوة ومكوزة وتهلل ومحبب ويأجج وأشباه ذلك. وأما الجملة: وهو القسم الثاني من الأربعة فهو الذي قال فيه: (وجملة) وهو معطوف على منقول، أي: ومنه جملة، يريد ما أصله الجملة وهي الكلام المستقل، ويلزم من ذلك أن يكون العلم الذي أصله الجملة منقولا كالمنقول في المفردات فيقع بحسب الظاهر التداخل، لأن تقدير الكلام فمنه مرتجل ومنقول وهذا فاسد. والعذر عنه قد تقدمت الإشارة إليه، وهو أن الذي ذكر أولا هو المفرد لا غيره، فإنما معنى قوله: (فمنه منقول)، أي: منه مفرد منقول، ولو صرح بذلك لم يكن في جعله قسيما للجملة إخلال، فحاصل الكلام، فمنه مفرد وهو ينقسم إلى منقول ومرتجل، ومنه جملة، والجملة لا تكون إلا منقولة وهذا/ كلام صحيح، وأيضا فإن المنقول عبارة اصطلاحية إنما يطلقها أرباب الصناعة على المفرد لا على المضاف، ولا المركب تركيب إسناد أو مزج، ولذلك لما تكلم ابن جني (في "المبهج") على

المنقول والمرتجل وأقسامهما خص ذلك بالمفرد، ثم لما أتم الكلام عليهما أتى بقسم المضاف والمركب والجملة، فإنما جرى الناظم على اصطلاحهم، ولا مشاحة في الاصطلاح ومثال الجملة قولهم: تأبط شرا وهو لقب ثابت بن جابر الفهمي، وبرق نحره، وذرى حبا، أنشد سيبويه للطهوي: إن لها مركنا إرزبا ... كأنه جبهة ذرى حبا وقال أبو ذؤيب: على أطرقا باليات الخيا ... م إلا الثمام وإلا العصي

و "أطرقا" اسم بلدة، وأنشد ابن جني وغيره: نبئت أخوالي بني يزيد ... ظلما علينا لهم فديد فـ "يزيد" فيه ضمير الفاعل. وأما المركب بتركيب المزج والخلط وهو القسم الثالث، فهو الذي نص عليه بقوله: (وما بمزج ركبا)، وتركيب المزج هو أن تصير الكلمتان كالكلمة الواحدة، حتى يقع الإعراب في آخرها، فيصير آخر الكلمة الأولى وسطا في الحكم على خلاف ذي الإضافة، ومن هنا توصل الكلمتان في الخط فتكتب رامهرمز وبعلبك وبلالاباذ، وشبه ذلك موصولا كأن الكلمتين امتزجتا فصارتا كلمة واحدة كهاء التأنيث في نبقة وكلمة، بل جعل سيبويه الكلمتين بمنزلة عيضموز وعنتريس. ثم ذكر أن هذا القسم على ضربين: أحدهما: ما ركب من كلمتين ليست الثانية منهما صوتا نحو: مارسرجس ورامهرمز، ومعدى كرب، وحضرموت، وبعلبك، وهذا الضرب

حكمه الإعراب ولا يبنى، إذ ليس مجرد التركيب بموجب للبناء وهو مراد الناظم بقوله: (ذا إن بغيرويه تم أعربا) و (ذا) إشارة إلى أقرب مذكور وهو قسم المركب مزجا، يريد أنه إن كان قد تم بكلمة غير هذا اللفظ هو "ويه" أي: ثاني اللفظين غير صوت أعرب، فيقول: هذا معدى كرب ورأيت معدى كرب، (ومررت بمعدى كرب)، ومفهوم هذا الشرط أنه إن تم بويه فلا يعرب، وهو الضرب الثاني نحو: سيبويه وعمرويه ونفطويه وخالويه. فهذا الضرب مبنى فتقول: هذا سيبويه، ورأيت سيبويه ومررت بسيبويه، وبناؤه بناء الصوت لختمه بالصوت فعومل معاملته. قال سيبويه: وأما عمرويه فزعم يعني الخليل أنه أعجمي وأنه ضرب من الأسماء الأعجمية، وألزموا آخره شيئا لم يلزم الأعجمية، قال: فكما تركوا صرف الأعجمية جعلوا ذا بمنزلة الصوت؛ لأنهم قد رأوه قد جمع أمرين فحطوه درجة عن إسماعيل ونحوه، وجعلوه بمنزلة غاق منونة مكسورة في كل موضع، يعني في الرفع والجر والنصب، والتنوين إنما يكون إذا نكر، ولا ينون في المعرفة، ولم يحك سيبويه في هذا الضرب غير البناء، فجرى الناظم على مهيعه من التزام البناء، وهي اللغة الشهرى، وفيه لغة أخرى قليلة، وهي إعرابه إعراب ما لا ينصرف إلحاقا له بالضرب الأول، فتقول: هذا سيبويه، ورأيت سيبويه، ومررت بسيبويه. فإن قيل: ففي أي أنواع الشبه الحرفي يدخل هذا البناء؟

فالجواب: أنه راجع إلى بناء الصوت/ وسيأتي وجه بيانه مكملا في باب أسماء الأفعال والأصوات. وأما ذو الإضافة- وهو القسم الرابع- فهو الذي عنى بقوله: (وشاع في الأعلام ذو الإضافة) وذو الإضافة هو الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه، يعني أن هذا النوع من الأعلام شاع، وكثر في كلام العرب واشتهر وهو على ضربين نبه عليهما المثالان: أحدهما: ما ليس بكنية وهو المشار إلهي بعبد شمس، وهذا الاسم سمت به العرب كثيرا كعبد شمس بن عبد مناف وغيره، ومثله عبد المطلب، وعبد الله، وعبد مناف، وعبد الكعبة، وامرؤ القيس، وأنف الناقة، ووزن سبعة، وأشباه ذلك. والثاني: ما هو كنية وهو المشار إليه بأبي قحافة، وهو كنية والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، ومثله أبو بكر، وأبو طالب وأبو عمرو، وأبو القاسم، وأبو عاصم، ونحو ذلك، ومنه ما أوله أم كذا، من كنى النساء نحو: أم رومان، وأم كلثوم، وأم العلا. وقد تم تفسير كلامه، ويتعلق بعد هذا بالفصل مسائل: إحداها: أن العلم المنقول ثلاثة أضرب: منقول من اسم معنى كفضل ومنقول من اسم عين كأسد، ومنقول من صوت كتسميتهم بعض

بني هاشم ببه وإنما ببه صوت كانت أمه ترقصه به وهو صبي، وذلك قولها له: لأنكحن ببه ... جارية خدبة مكرمة محبه ... تجب أهل الكعبه وقال الجوهري: ببه لقب عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب والي البصرة وهو الذي يقول له الفرزدق: وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وببة قد بايعته غير نادم فهذا النوع من المنقول لم ينبه عليه الناظم، وكان من حقه ذلك. والجواب: أن هذا غير وارد على الناظم من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عند ابن مالك ليس بمنقول من الصوت، وإنما هو منقول من قولهم للصبي قد تببب فهو بب، والأنثى ببة، أي: سمنا فكأنه منقول من الصفة عنده، لا من الصوت. والثاني: أنه لو سلم أنه صوت في الأصل فهو في المنقولات قليل حتى أنهم لا يكادون يجدونه في غير ببه، وهذا يكفي في عدم اعتباره له.

والثالث: أنه وإن سلم وجوده فهو داخل تحت قوله: (ومنه منقول) إذ لم يحصر المنقول في نوعين فقط، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، وإنما أتى بمثالين يدلان على نوعين خاصة، فكلامه لا نقض فيه على كل تقدير. والثانية: أن إثباته المرتجل نص في أنه موجود في كلام العرب على ما ذهب إليه الجمهور، وقد نفاه قوم وزعموا أن كل اسم علم منقول، فما علمنا أصله فلا إشكال فيه وما لم نعلم أصله فهو على وجهين: إما أنه استعمل له أصل لكن لم يبلغنا، وإما أنه على تقدير النقل من أصل لم ينطق به، كما كان عباديد وشماطيط ومذاكير، جموعا لما لم ينطق به، وإنما ذهبوا إلى هذا لأن الغالب في الأعلام النقل، فما خفى أصله وجب حمله على الأكثر، وقد يظهر هذا المذهب من كلام سيبويه حيث تكلم على الدبران والعيوق ونحوهما من الأسماء/ الغالبة فقال: فإن كان عربيا نعرفه ولا نعرف الذي اشتق منه، (فإنما) ذلك لأنا جهلنا ما علم غيرنا، أو يكون الآخر لم يصل إليه علم وصل إلى الأول المسمى. والإنصاف أن الخلاف في المسألة لفظي فلا مشاحة في تسمية ما لم نعلم له أصلا مرتجلا، إذ القائل بوجود المرتجل لا ينفي إمكان النقل فيه، لكن سمي ما لم يبلغه أصله مرتجلا اصطلاحا، فهو في المعنى موافق للقائل بنفيه، من حيث إمكان وجود أصله، ولم يبلغنا، ومن حيث أن ما بلغنا أصله فسمي منقولا أكثر مما لم يبلغه أصله، فهذا يقول: نسميه منقولا أيضا اعتبارا بالأكثر، وحملا عليه، والآخر يقول: نسميه مرتجلا اعتبارا بعدم علمنا بأصله وهذا قريب.

والثالثة: أنه أطلق القول في الجملة ولم يقيدها باسمية ولا فعلية والموجود في كلام العرب التسمية بالجملة الفعلية خاصة كما تقدم في التمثيل، فيحتمل أن يكون إطلاقه قياسيا، لأن التسمية بالجملة الاسمية سائغ، فلو سميت بـ "زيد قائم" أو هذا أبوك، وما أشبه ذلك لجرى مع برق نحره، وذرى حبا، على طريق واحد، ويحتمل أن يكون إحالة على ما سمع فكأنه يقول: قد سموا بالجملة، فإليك البحث على أي الجملتين هي، ولا محذور في هذا. والرابعة: أن قوله: (ذا إن بغير ويه تم إعربا) فيه إطلاق القول بالإعراب فيشمل وجهين: أحدهما: إضافة الأول إلى الثاني فيقال: هذا بعل بك ورام هرمز كما يقال: هذا عبد الله وامرؤ القيس. قال سيبويه: ومن العرب من يضيف بعل إلى بك، كما اختلفوا في رام هرمز، فجعله بعضهم اسما واحدا وأضاف بعضهم رام إلى هرمز، وكذلك مارسرجس وقال بعضهم: * .... مارسرجس لا قتالا* قال: وبعضهم يقول في بيت جرير: لقيتم بالجزيرة خيل قيس ... فقلتم مارسرجس لا قتالا يعني بالإضافة، وكذلك معدى كرب، ومنهم من يضيف ويصرف كرب

ومنهم من يضيف ولا يصرف. والوجه الثاني: وهو الأكثر أن يكون الإعراب في آخر العجز فقط كما حكى ذلك سيبويه في مارسرجس، وكذلك حكى في معدى كرب فقال: ومنهم من يقول معدى كرب فيجعله اسما واحدا، فكل ما كان مركبا تركيب المزج وليس عجزه "ويه" فحكمه الإعراب على أحد هذين الوجهين. ثم استدرك التنبيه على علم الجنس وجعله آخر الفصل دلالة على أنه على خلاف الأصل في العلمية، وعلى أنه لم يعتمد عليه في التبويب أولا فقال: ووضعوا لبعض الأجناس علم ... كعلم الأشخاص لفظا وهو عم عرف هنا بمقصد آخر للعرب في وضع العلم، وهو أن يكون المعتنى به في التخاطب تخصيص الأجناس باسم مخصوص، بحيث يكون كل فرد من أفراد ذلك الجنس يقع عليه ذلك الاسم، لما قصدوه من الإخبار عنه، إذ لم تكن لهم عناية بالأفراد والإخبار عنها، فيخصوا كل واحد من تلك الأفراد باسم يخصه، فذكر أن العرب وضعت لبعض الأجناس- وهي التي يعنيك (معرفة أسمائها) - أعلاما تجري مجرى الأعلام المتقدمة في الحكم، وعلى ذلك/ نبه بقوله: (كعلم الأشخاص لفظا وهو عم) يعني أن هذا للعلم الموضوع للأجناس كالعلم الموضوع للأشخاص في الأحكام اللفظية. فيجري عليه منها ما يجري على علم الأشخاص، ويجري مجرى أسماء الأجناس في المعنى، وذلك المراد بقوله: (وهو عم) يعني أنه قد عم في المعنى على حد عموم

أسماء الأجناس، إذ هي لا تختص بشخص من ذلك الجنس دون آخر. أما كون هذه الأعلام في اللفظ كعلم الأشخاص فيتبين بأمور منها: عدم احتياجها إلى ما يعرفها، فإنها غير مفتقرة إلى الإضافة، إلا على حد ما يفتقر زيد إليها في قوله: علا زيد نا يوم النقا رأس زيدكم ولا يلحقها حرف التعريف فلا تقول الأسامة ولا الثعالة. قال سيبويه: ويدلك على أن ابن عرس، وأم حبين، وسام أبرص، وابن مطر معرفة أنك لا تدخل في الذي أضفن إليه الألف واللام فصار بمنزلة زيد وعمرو. ألا ترى أنك لا تقول: أبو الجخادب. قال: وهو قول أبي عمرو، وحدثنا به يونس عن أبي عمرو. ومنها أنها لا توصف بالنكرة، وإنما توصف بالمعرفة فتقول: مررت بأسامة المفترس، ولا تقول: مررت بأسامة مفترس، كما تقول: مررت بأسد مفترس، وقد جاء ما يتوهم فيه الوصف، وهو قولهم: هذا ابن عرس مقبل، فحمله سيبويه على أحد وجهين: إما أن يكون على حد قولهم: هذا زيد مقبل، فمقبل خبر بعد خبر أو بدل من زيد، وإما أن يكون نكر العلم كما ينكر زيد في قولك: رأيت زيدا من الزيود فجعلوا عرسا بمنزلة رجل، كما جعلوا زيدا بمنزلة رجل أيضا. ومنها انتصاب الحال عنها كثيرا، فإنكن تقول: هذا ثعالة مقبلا وهذا أبو جخادب باديا ونحو ذلك

ومنها أن تقع مبتدأة بلا شرط، فتقول: أسامة مقبل، كما تقول: زيد مقبل. ومنها أنها لا يصرف منها ما زاد سببا آخر على العلمية كأسامة وثعالة وابن قترة وحمار قبان. قال سيبويه: فأما ابن قترة وحمار قبان وما أشبههما فيدلك على معرفتهن ترك صرف ما أضفن إليه. وأما كونها في المعنى عامة كأسماء الأجناس فإنك إذا قلت: هذا أسامة، فليس هذا الاسم مختصا بذلك الشخص الذي أنت مشير إليه دون غيره، ولكن هو صالح لكل ما كان من جنسه، مما يشار إليه ويخبر عنه من الأسود، كما كان الأسد صالحا لكل ما كان من جنسه، فقولك: هذا أسامة في معنى قولك: هذا الأسد إذا أرت به الجنس كزيد في الأشخاص إذا قلت: هذا زيد، فإنه مرادف لقولك: هذا الرجل إذا أحلت على معهود مشخص فإن قلت: كيف تقول هذا الأسد فتشير إلى واحد بعينه وأنت تعني الجنس؟ فالجواب: أن أصل الاسم الوضع على جملة الجنس، فإذا أشير إليه أو أخبر عنه فإنما يعني به ذلك الفرد من حيث الفرد من حي هو معروف الجنس، معلوم الأشباه، إذا لم يقصد من حيث الإخبار ذلك الأسد بعينه، حتى لو كان صاحب الخبر غيره لم يعتن بنقله مثلا، فإنك لو أردت ذلك لم تأت بلفظ أسامة البتة، فقولك: أقبل الأسد أو أقبل الرجل يقال على وجهين:

أحدهما: معهودًا بينك وبين مخاطبك قد تقدم، لكما فيه بعينه عهد لا في/ غيره من أفراد جنسه. والثاني: أن تريد معهود الجنس الذي أنت تعرفه من بين سائر الأجناس لا أن تريد ذلك المقبل بعينه، وإنما قصدت هذا الذي تعرف جنسه، وهما مقصدان، فالأول: علمه إذا وضع علم الشخص وهو الموجود في زيد عمرو، والثاني: علمه علم الجنس الموجود في أسامة وثعالة فلا يصح لك أن تقول على الأول أقبل أسامة، ولا على الثاني أقبل زيد. فإن قيل: فقد كان لهم أن يستغنوا بقولهم: أقبل الأسد، عن قولهم: أقبل أسامة إذا كان معناه معناه؟ فالجواب: أن اسم الجنس قد يستعمل على غير هذا الوجه فإنك قد تقول: هذا الأسد، وأنت تعني كمال الأسدية فيه، وقد تقوله وأنت تريد الجنس، فأرادوا أن يخلصوا ما أرادوا من المعنى باسم علم يخصه كما أن الرجل لما كان يستعمل على غير معنى واحد، خصوا أحد معانيه باسم علم فقالوا: زيد، فالعلم الشخصي والجنسي في هذا القصد على معنى واحد، فتدبر هذا المعنى، فإنه معنى كلام سيبويه والنحويين ومراد العرب، وهو الذي قصد الناظم بقوله: (كعلم الأشخاص لفظا وهو عم). فإن قلت: هل العلم الجنسي يرادف اسم الجنس النكرة أم لا؟ فالجواب: أنه ليس بمرادف لها من حيث هي واقعة على واحد غير معين في جنسه، كما أن زيدا لا يرادف النكرة كذلك، وإنما هو مرادف لاسم الجنس المعرف باللام الجنسية، وهو الذي أشار إليه

الناظم بقوله (وهو عم) أي: وقع علما على جملة الجنس، بحيث يصدق على كل فرد، فإن ذكر أحد من النحويين أنه مرادف للنكرة فعلى لحظ معنى الجنس فيها، لا على لحظ وقوعها على واحد من أفراد الجنس لا بعينه، وهما مقصدان متباينان سيأتي التنبيه عليهما في موضعه إن شاء الله، وأيضا فقد نص ابن خروف في كتابه في الرد على أبي المعالي أن أعلام الأجناس كأسماء الأجناس باللام عامة، وأنا لاستغراق الجنس أصلا واستعمالا. قال: ولا خلاف في هذا بين النحويين أجمعين، فقد ظهر إذا أن علم الجنس مرادف في المعنى لاسم الجنس المعروف باللام العهدية في الجنس، كما أنه لا فرق في المعنى بين علم الشخص واسم الجنس المعروف باللام العهدية في الشخص غير أن اسم الجنس يحتمل من المعاني معاني أخر لا يحتملها العلم لقصرهم إياه على أحدها، وكل ما يقال خلاف هذا فلا تعرفه العرب، بل سمعت شيخنا القاضي أبا القاسم الشريف- رحمه الله- يقول: لا فرق بين الأسد وأسامة إلا في الأحكام اللفظية فقط، وأنا في المعنى مثله من كل وجه قال: وكل ما يقال خلاف هذا فهذيان. وقد خالف هذا التفسير بعض من تأخر ممن لم يطلع على مقاصد العرب، ولا فهم كلام الأئمة في تقرير معناه، فذكروا للعلم الجنسي سوى ما أشار إليه الناظم تفسيرين:

أحدهما: ما نقله القرافي عن شيخه الخسروشاهي بعد ما نبه على (عسر) المسألة فقال: وتحرير الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص وعلم الجنس واسم الجنس هو من نفائس المباحث ومشكلات المطالب. قال: وكان الخسروشاهي يقرره ولم أسمعه من أحد/ إلا منه، وكان يقول: ما في البلاد المصرية ن يعرفه غيري. قال: وهو أن الوضع فرع التصوير، فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع عليها فتلك الصورة الكائنة في ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن هذه الصورة واقعة لهذا الشخص في هذا الزمان، ومثلها يقع في زمان آخر، أو في ذهن شخص آخر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد، فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث عمومها وخصوصها تنطبق على كل أسد في العالم، بسبب أنا إنما أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصات، فتنطبق على الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد وأسامة على جميع الأسود، لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية، والفرق بين علم الجنس

وعلم الشخص أن علم الشخص موضوع للحقيقة بقيد الشخص الخارجي، وعلم الجنس موضوع للماهية بقيد الشخص الذهني. انتهى كلامه. وقد رد الناس هذا المذهب حتى ألف عليه بعض أهل العصر جزءا قصد فيه الرد عليه وإحالة مذهبه كلن بقبول سواه، ولا حاجة بنا إلى ذكر ذلك لورود رده، وتصريحه بأن أهل قطره لا يعرفه منهم أحد سواه شاهد بأنه لا يعرفه. رأيت منقولا من خط شيخنا القاضي أبي عبد الله المقري- رحمه الله- سألني يعني الأستاذ أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي عن الفرق بين علم الجنس واسم الجنس فقلت له: زعم الخسروشاهي أنه ليس بالديار المصرية من يعرفه غيره، وأنا أقول ليس في الدنيا عالم إلا وهو يعلمه غيره، لأنه حكم لفظي أوجب تقديره المحافظة على ضبط القوانين كعدل عمر ونحوه فاستحسن ذلك، انتهى نص شيخنا المقري ولله دره فيه. والتفسير الثاني: ذكره ذلك المتأخر الراد على الخسروشاهي وأظنه قد سبق إليه وأشار إلى أنه مراد سيبويه في المسألة، فلذلك أورد نصه في المقصود ليتبين ما فيه أولا فقدم أولا مقدمة في معنى الكلي والجزئي ثم قال: فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما قصدنا إليه فنقول: إن للشيء وجودا في الأعيان، وهي حقيقته في نفسه، ووجودا في الأذهان، وهي صورته المجردة ومثاله، ومن حيث إنه موجود في الأعيان فهو جزئي بالذات، كلي بالعرض، ومن حيث إنه موجود في الذهن فهو كلي بالذات جزئي

بالعرض، وبسط القول هذا المعنى ثم قال: وإذا تبين هذا فاللفظ الموضوع باعتبار ذلك المعنى الجزئي على أ، هـ مستقل بإفادته هو العلم الشخصي كزيد اسم رجل وأعوج اسم فرس، وشدقم اسم جمل، وهيلة اسم عنز، وضمران اسم كلب، ونحو ذلك مما هو موضوع للدلالة على شخص معين في الخارج. قال: وأما اللفظ الموضوع باعتبار المعنى الكلي، فإن أخذ مع النظر إلى جزيئاته وشياعه بين أشخاصه فهو المخصوص باسم الكلى، وإن أخذ ذلك بالنظر إلى تعينه في الذهن، /من بين سائر الحقائق الذهنية من غير نظر إلى ما تحته من الجزيئات، فهو المعنى المدلول عليه بالعلم الجنسي، ومثال الأول وهو اللفظ الكلي إنسان وفرس وأسد، ونحو ذلك من الأسماء النكرات الشائعة. ومثال الثاني: وهو العلم الجنسي أسامة للأسد، وذؤالة للذئب وثعالة للثعلب، ونحو ذلك من الأسماء المعارف التي لا تخص شخصا دون شخص من نوعه، فتسمية الأسد أسدا باعتبار معنا الكلي العام لجزيئاته وتسميته أسامة باعتبار معناه المتعين في الذهن، من بين سائر الحقائق الذهنية من غير نظر إلى كليته وعمومه، وإلا لكان كليا، ومن غير نظر أيضا إلى شخص معين من الأشخاص التي يقع عليها، وإلا لكان علما شخصيا، قال: وهو يشبه العلم الشخصي من وجه به سمي علما، ويشبه الكلي من وجه آخر به سمي جنسيا، ووجه شبهه بالعلم الشخصي هو في كونه وضع لمعنى متعين، من بين

غيره من المعاني المشتركة معه في الكلية، كما أن العلم الشخصي موضوع لشخص معين، من بين سائر الأشخاص المشتركة معه في كلية، ووجه شبهه بالكلي هو في صلاحيته لتناول كل شخص من ذلك النوع كما أن الكلي يتناول جزيئاته. قال: ولما كان ما هو خارج عن ملابسة الناس ومداخلتهم إنما يعنيهم منه نوعه دون أشخاصه على التعيين، وضعوا لذلك النوع باعتبار (تشخصه في الذهن) من بين سائر الأنواع والأجناس الذهنية اسما علما، كما وضعوا لما يعنيهم من الأشخاص باعتبار تشخصه خارج الذهن يعادلوا بين الجهتين. قال سيبويه: فإذا قلت: هذا أبو الحارث، فإنما تريد هذا الأسد، أي: هذا الذي سمعت باسمه أو هذا الذي عرفت أشباهه ولا تريد أن تشير إلى شيء قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفته زيدا، ولكنه هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم فاختص هذا المعنى باسم، كما اختص الذي ذكرت بزيد. انتهى ما قال هذا المتأخر، ولا يبعد مغزاه عما قبله وإن تحذق قائله بعض التحذق، ولكنهما معا جاريان على أصل واحد، نأى عن مقصود العرب، وأحسبه أن شيخنا القاضي الحسني- رحمه الله- كان يطعن على هذا القائل خصوصا، ويراه فيما قاله خارجا عن سبيل المسألة. والصواب في المسألة ما تقدم، ولا حاجة بنا الآن إلى الإطالة في الرد على هذين المذهبين لئلا نخرج عن المقصود، وبالله التوفيق.

وقوله: (ووضعوا لبعض الأجناس علم) أراد علما، لكنه حذف التنوين في الوقف من المنصوب، وأجراه مجرى المرفوع والمجرور، على لغة من قال: *وآخذ من كل حي عصم* ثم أخذ في تمثيل العلم الجنسي فقال: من ذاك أم عريط للعقرب ... وهكذا ثعالة للثعلب ومثله برة للمبره ... كذا فجار علم للفجره فقسم هنا ما وضع علما للجنس قسمين: أحدهما: ما وضع على أجناس الأعيان، والآخر: ما وضع/ على أجناس المعاني، وأتى لكل قسم بمثالين وبدأ بالقسم الأول فقوله: (من ذاك أم عريط للعقرب) يعني أن من جملة الأعلام الموضوعة للجنس قولهم: للعقرب أم عريط، وهو من الكنى، فإن العلم الجنسي قد يكن اسما، وكنية ولقبا، كعلم الشخص، ومثل أم عريط من الكنى بالأمهات للضبع: أم عامر، وأم عنثل، وأم زعم، وأم ختون، وأم خنور، وأم رمال، وأم نوفل، وأم عمرو، وللداهية:

أم حبو كرى، وأم فأر، وأم خشاف، وأم اللهيم، ثم قال: (وهكذا ثعالة للثعلب) وهو من الأسماء غير الكنى، ويقال للثعلب أيضا: أبو الحصين، وسمسم، ومثله من الأسماء ذألان للذئب، وحضاجر، وجعار، وجيأل، وقثام للضبع، وقثم للضبعان، ومحوة لريح الشمال، وخضارة للريح، وهنيدة لمائة من الإبل، وشبوة للعقرب ونبه على القسم الثاني بقوله: (ومثله برة للمبره) يريد ما تقدم من الأعلام الجنسية برة، وهو اسم علم للمبرة، والمبرة من المعاني التي جعلوا لجنسها اسما علما، فإن من المعاني ما يضطرون إلى الإخبار عنها والإحالة عليها كما يضطرون إلى ذلك في الأعيان، ومنه أيضا فجار، وهو اسم للفجور وعلم له، معدول عن فجرة علما هكذا دون ألف ولام، لا عن الفجرة، فإنه من باب حذام للعدول عن علم مثله، فقول سيبويه: إن فجار معدول من الفجرة تجوز، كذا قال ابن جني والمحققون، والألف واللام في الفجرة في كلام الناظم لا إشكال فيها، إذ لم يرد العلم كما أراد سيبويه، وإنما مراده الجنس الذي هو مطلق الفجور، ومثل هذين المثالين فينة في قولهم: ما ألقاه إلا فينة، أي: في الندرة. قال ابن جني: وهو علم لهذا المعنى، ومنه عنده "سبحان" في

قول الأعشى أنشده سيبويه: *سبحان من علقمة الفاجر * هو علم لمعنى التسبيح، ومنه غدوة وبكرة علمين للوقتين، وحماد للمحمدة، ويسار للميسرة، وأم قشعم، وشعوب، وحلاق، وأم اللهيم للمنية. ومنه أسماء الأعداد المطلقة نحو: ثلاثة نصف دستة، وأربعة ثلثا ستة وما أشبه ذلك، وأشار الناظم بتعيين مثالي "برة" و"فجار" لبيت النابغة الذي أنشده سيبويه: إنا احتملنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجار وفي عبارته شيء، وهو أن الفجرة هي المرة الواحدة من الفجور فإنك تقول: فجر فجورا، أي: كذب، وفجر أيضا بمعنى فسق فجورا كذلك فإذا أردت المرة الواحدة قلت: فجر زيد فجرة واحدة ولم يعد، ومعلوم أن فجار

ليس علما لجنس المرة الواحدة من الفجور، فإن أهل اللغة لم ينقلوا إلا أنه اسم علم للفجور المطلق، لا للمرة الواحدة، ولا يصح أن يريد أن فجار اسم جنس للفجرة المعدول هو عنه، إذ لم يقولوا ذلك ولا يصح في نفسه فثبت أن قوله: (كذا فجار علم للفجرة) مشكل. والجواب: أن إتيانه بالفجرة مقصود له، وذلك أن القاعدة في فعال أنه مؤنث أو معدول عن مؤنث، وقد بين ذلك سيبويه في أبواب ما لا ينصرف غاية البيان، حتى إنه/ قدر ما لم يستعمل مؤنثا كأنه استعمل كذلك، ثم جعل فعال ومعدولا عنه، وإذا كان كذلك فالاسم المعدول عنه وهو العلم المقدر اسما لجنس مؤنث، إذ لابد من مطابقته له في التأثيث، ولذلك قال: (ومثله برة للمبرة) ولم يقل للمبر ولا للبرور، لما لم يكن مطابقا في التأنيث لعلمه، وكذلك قال غيره في يسار إنه اسم للميسر لا لليسر، وفي حماد إنه اسم للمحمدة لا للحمد وكذلك ما أشبهه، فإذا يجب فيما كان من أسماء الأجناس غير مؤنث فجعل له اسم على فعال أن يقدر له التأنيث، و "فجار" الذي مثل به الناظم من هذا القبيل، فلابد من تقدير اسم الجنس مؤنثا، وذلك ما ذكره من الفجرة. وقد قدر سيبويه في حضار وسفار أنه اسم الكوكبة والماء وهما من علم الشخص، وقال في بداد: إنه معدول عن بددي مؤنثا، وفي حماد أنه معدول عن حمودي مؤنثا. قال السيرافي في

بداد: إنه معدول عن البدة أو المبادة أو غير ذلك. يعني مما يقدر مؤنثا يعطي معنى ذلك المذكر، فكذلك فجار اسم للفجرة بمعنى الفجور وإن لم يستعمل على ذلك المعنى، لا أنه اسم لفجرة التي يراد بها المرة الواحة، وهو مراد سيبويه أيضا، حيث قال: ففجار معدول عن الفجرة، ومراد غيره أيضا في الباب. فالحاصل أن الناظم نبه بمثال الفجرة على أن فعال علم لاسم الجنس المؤنث، فإن كان مستعملا فذاك وإلا قدر له اسم مؤنث، وهذه قاعدة محل بيانها باب ما لا ينصرف وقلما تجد في هذا النظم لفظة إلا وهي تحتوي على معنى أو معان ولا تجد فيها لفظة ذكرها فضل ولا أسلوبا خاليا من القصد الحسن والتنبيه على غور مسألة إلا قليلا حسب ما تراه منبها عليه إن شاء الله.

اسم الإشارة

ثم عطف بيان نوع ثالث من المعارف وهو اسم الإشارة فقال. اسم الإشارة بذا لمفرد مذكر أشر ... بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر اعلم أنه قسم أولا أسماء الإشارة وجعلها على ضربين: أحدهما: ما كان مختصا بالمكان. والثاني: ما لم يكن كذلك، وابتدأ بهذا الثاني، إذ هو الأكثر في الاستعمال والأصل في الباب، ثم أتى بتقسيمين يشتملان على ذكر جملة أسماء الإشارة والأحكام المتعلقة بها، فابتدأ بذكرهما بالنسبة إلى الضرب الثاني، فالتقسيم الأول هو بالنسبة إلى المشار إليه من كونه مفردا أو مثنى أو مجموعا، ومذكرا أو مؤنثا، وذلك قوله: (بذا لمفرد مذكر أشر .. ) إلى آخره. "بذا" متعلق بأشر، أي: أشر بهذه الأداة إلى كذا، يعني أن "ذا" من أسماء الإشارة، موضوع لأن يشار به إلى المفرد المذكر فتقول: هذا زيد وهذا مالك، ولم يذكر للمذكر غير أداة واحدة وأما المؤنث فذكر له أربع أدوات هي المذكورة في قوله: (بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر) أراد وبذي وذه وتي تا، فحذف العاطف ضرورة، ويعني أن هذه الألفاظ المذكورة حكمها أنها مقتصر بها على الإشارة إلى الأنثى، فلا يشار بواحد منها إلى المذكر، ويراد بالأنثى الواحدة دل على ذلك المساق وأن الأنثى صفة لموصوف محذوف، أي: الواحدة الأنثى فكأنه قال: المفرد المؤنث له من الأدوات أربع:

إحداها: "ذي" بيا فتقول: هذي فلانه، وقد تحذف ياؤها في الضرورة. أنشد ابن الأعرابي: / قلت لها يا هذا في هذا إثم ... هل لك في قاض إليه نحتكم قال ابن جني: الياء هي الأصل، وهذه بدل، أعني الهاء. والثانية: "ذه" بالهاء، وأتى بها في اللفظ ساكنة فيحتمل أنه أراد السكون في الوصل والوقف، فإن من العرب من يقول: هذه زينب فيسكنون وصلا ووقفا، ويحتمل أن يكون أراد الهاء مطلقا وأسكنها لما أحتاج إلى ذلك، وعلى هذا ففي هذه لغات ثلاث: ذه مثل به وهي اللغة الشهرى، وأكثر ما تستعمل مع "هاء التنبيه" وقد تسقط كقول ذي الرمة: بثنتين أن تصرف ذه تنصرف ذه ... لكلتيهما روق إلى جنب مخدع و"ذه" مختلسة الكسرة من غير ياء، و "ذه" ساكنة الهاء، وهي المتقدمة حكى هذه اللغات سوى لغة الاختلاس ابن الأعرابي، وهذا الاحتمال الثاني أولى، ويكون إشارة على اللغة الشهرى مع غيرها، إذ بعيد أن يذكر لغة تسكين الهاء مع قلتها، ويترك لغة إشباع الكسرة ولحاق الياء على كثرتها وفشوها، فقوله: (وذه) قد تضم ثلاث لغات.

والثالثة: "تي" فتقول: هاتي زينب، وهي التي لحقتها الكاف في قوله أبي النجم: *فافعل بنا هاتاك أو هاتيكا* والرابعة: "تا" تقول: تا هند. قال النابغة: ها إن تا عذرة إن لا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد وقال عمران بن حطان: وليس لعيشنا هذا مهاه ... وليست دارنا هاتا بدار ثم ذكر المثنى لما استوفى ما أورد من أدوات المفرد فقال: وذان تان للمثنى المرتفع ... وفي سواه ذين تين اذكر تطع جعل للمثنى أداتين: إحداهما: للمذكر وهي "ذان" فتقول: هذان رجلان. والثانية: للمؤنث وهي "تان" فتقول: هاتان امرأتان، وفهم له أن الأول للمذكر والثاني للمؤنث، ومن كلامه في الإفراد، حيث تكلم فيه بحسب التذكير والتأنيث، وابتدأ بالتذكير، فكذلك يكون الأمر في المثنى، ولم يذكر

إلا أداتين، فتعين أن تكون الأولى للمكر والثانية للمؤنث، وهذا بين من مساق كلامه، وقيد المثالين إذا كانا بالألف بأنهما للمثنى المرتفع، وأنهما إذا كانا بالياء لغيره وهو المثنى المنتصب والمثنى المنجر، وهذا صحيح، فإنك تقول: رأيت هاتين، ومررت بهاتين، نحو: {إن هذين لساحران} و {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين}، وقالت العرب: هو أحسن الناس هاتين. و "ذين تين" منصوبان على المفعولية بـ (اذكر) و (وفى سواه) متعلق به أيضا، وجر سوى، لأنها عنده متصرفة خلاف ما ذهب إليه سيبويه، وقد تقدم التنبيه على ذلك، وسيأتي إن شاء الله. وقوله: "تطع" جواب "اذكر" أي: اذكر ذين وتين في المثنى غير المرتفع تطع العرب في ذلك. ثم يتعلق بهذا الكلام مسألتان: إحداهما: أن قوله: (وذان تان .. ) إلى آخره، نبه به على أن الكلمتين غير جاريتين على حكم التثنية الحقيقية، وأنهما فيهما مخالفة والذي دل على ذلك أنه ذكر حكمهما في الرفع والنصب والجر بالنص، ولم يقتصر على الإحالة على حكم التثنية، ولا سكت عن ذلك جملة، فيؤخذ له حكمها مما تقدم، بل/ نص على حقيقة الحكم في

تثنيتهما، إشعارا بأن ذا وتا محذوف منهما الألف في التثنية، إذ كان الأصل أن يقال: ذوان وتوان، كما يقال: في عصا عصوان، وفي الجر ذوين وتوين كعصوين لكنهم خالفوا ذلك الحكم كما فعلوا ذلك في تصغيرهما، والتنبيه على ذلك حسن جدا، كأن مذهبه فيهما التثنية على الحقيقة أولا، ولأجل هذا قال: (اذكر تطع) أي تطع أمر العرب تنبيها على أنهما غير جاريين على القياس، ونظير هذا قوله في باب الموصول في تثنية الذي والتي: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت، بل ما تليه أوله العلامه) وسيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله. والثانية: أن كلامه هنا ليس فيه ما يدل على أن هاذين وهاتين عنده من قبيل المثنى حقيقة، بل يحتمل أن يكون مذهبه مذهب الجمهور في كونهما جاريين مجرى المثنى وليسا بمثنيين، ويحتمل أن يكونا عنده من قبيل المثنى حقيقة، لكن لم تثبت ألفهما مع ألف التثنية، وعلى هذا الثاني نص في "شرح التسهيل" وارتضاه في اللذين واللتين وهو يظهر منه في هذا النظم بعض ظهور حيث قال: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) أما "ذان" و "تان" هنا فلفظه فيهما محتمل، إذ قال: (وذان تان للمثنى) وهذا لا يدل على أنهما مثنيان أو غير مثنيين، إلا أن في لفظه ما يدل على كونهما مثنيين حقيقة، وذلك في باب الإعراب والبناء، فإنه لما ذكر ما يجري مجرى المثنى في الإعراب لم يذكر ذان وتان، ولا اللذان واللتان، فدل ظاهر هذا على أنهما عنده مثناة حقيقة. والمسألة خلافية والجمهور على

خلاف ما ذهب إليه الناظم، ولكن حجته في جريانها بوجوه الإعراب كالمثنى ظاهرة، وإنما عارضه في ذلك أمران: أحدهما: حذف ألفاتها إذ كان القياس قلبها كما تقلب ألف عصا ورحى وهذا ليس بمعارض فإنهم أرادوا أن يجعلوا بين تثنية ما حقه ألا يثنى وما يثنى فرقا، كما جعلوا بينهما فرقا في التصغير حيث قال لي في تصغير ذا وتا والذي والتي ذيا وتيا واللذيا واللتيا فخالفوا بينهما وبين ما يصح تصغيره كعصا ورحى حيث قالوا: عصية وروحية ورمية، وذلك مذكور في بابه. والثاني: إن هذه الأسماء مما توغل في شبه الحرف، والتثنية والجمع بمعزل عما شأنه هذا كما، ومن، وهي، وهو، باتفاق، فكذلك ينبغي أن يقال في هذه الأسماء. والجواب: عن هذا أن هذه الأسماء فارقت سائر المبنيات ببعض تصرف فيها لم يقع في غيرها، ألا ترى أنها تنعت وينعت بها، وتصغر بخلاف سائر ما توغل في شبه الحرف، فلما كانت قد دخلها ما يدخل الأسماء المتمكنة أجريت في التثنية أيضا مجراها وحصل فيها بسبب ذلك الإعراب أيضا، وهو الذي أشار إليه بقوله: (للمثنى المرتفع) فجعله مرتفعا في نفسه، لا في موضع رفع كسائر المبنيات، وإنما ساغ له دعوى ذلك كله حين دخل عليها ما يختص بالمتمكن، وذلك التثنية تغليبا لحكمها على حكم شبه الحرف. قال ابن مالك: كما جعلت إضافة "أي" معارضة لشبهها

بالحروف فأعربت وأيضا فيجاب عن المعارضة الأولى بأن "ذا" و "تا" قد قيل فيهما إن الألف زائدة نص الكوفيون على ذلك في ذا، ويلزمهم في "تا" [و] إن لم ينصوا عليه، فهذا ممكن وإن ضعف/ دليله عند البصريين فالتثنية حجة لهم، وأما الذي والتي فزعم ابن مالك فيهما الاستغناء بتثنية اللذ بغير ياء واللت كذا قال: فاعتبروا أخف اللغات وذلك أن المفرد أخف من المثنى، وهم قد خففوا في المفرد جوازا بحذف الياء، فلما قصدوا التثنية التزموا ذلك التخفيف، واللذ واللت في الذي والتي ثابت من كلامهم وأنشد النحويون في الذ *واللذ لو شاء لكنت صخرا* وأنشدوا أيضا في لغة تسكين الذال: *كاللذ تزبى زبية فاصطيدا* وفي اللت قول الآخر فقلت للت تلومك إن نفسي ... أراها لا تعوذ بالتميم

وللمسألة غور آخر من الاحتجاج يتعلق باشتراط التنكير في التثنية والجمع لا يليق ذكره بهذا الموضع لخروجه عن المقصود، وكذلك أيضا تركت النظر مع الكوفيين في زعمهم أن ذال "ذا" وحدها هو الاسم والألف واللام زائدة على خلاف ما يظهر من الناظم، إذ ليس هذا البحث من صلب النظر في كلامه، كما أن النظر في الألف واللام في الذي والتي وفروعهما ليس مما قصد التنبيه على أنها أصلية أو زائدة على الموصول، فأعرضت عن ذكر ذلك كله، والله المستعان، وبه التوفيق. *** ثم شرع في ذكر الإشارة إلى الجمع فقال: وبأولى أشر لجمع مطلقا ... والمد أولى ولدي البعد انطقا بالكاف حرفا دون لام أو معه ... واللام إن قدمت "ها" ممتنعه وجعل لذلك أداة واحدة وهي "أولى" بقوله: (وبأولى أشر لجمع) ولم يزد على ذلك فتقول: قام أولى، هكذا مقصورا. ومنه قول ابن مقبل: شاقتك أخت بني دالان في ظعن ... من هؤلاء وأولى أنسابها شيع وقال الآخر:

هؤلي ثم هؤلي كلا اعطيـ ... ت نعالا محذوة بنعال وأتى بلغة القصر أولا، قم أردفها بلغة المد بقوله: (والمد أولى) مع عدم التنبيه على زيادة عنى، فدل على أن اللغتين عنده بمعنى واحد، ويعني أن الأشهر في كلام العرب مد "أولى" لا قصرها وإن كان فيها لغتان، وإنما نص على ذلك لوجهين: أحدهما: تعيين النقل في اللغتين مطلقا. والثاني: أنه قدم أولا لغة القصر، فلو نقل بعد ذلك لغة المد خلية عن التنبيه على الأولوية لتوهم الناظر في نظمه أن لغة القصر هي الشهرى، اتكالا على التقديم، إذ الناظر يعتمد (كثيرا التنبيه) بالتقديم على الأولوية حسب ما تراه إن شاء الله، فلما كان سكوته عن بيان ما هو الأولى يؤدي إلى فهم ما ليس بمقصود له صرح بأن ما ذكر آخرا هي اللغة الفصحى وأن ما قدم لغة دونها، ولا مرية في أن ذلك على ما قال: لأن المد لغة القرآن ففيه: {ها أنتم أولاء تحبونهم}، {ها أنتم هؤلاء حاججتم} وهو كثيٍ، لكن في كلامه إيهاما ما، يوجب إيهام نقل لا يصح، وذلك أن المد في أولاء فيه لغتان بل ثلاث لغات: إحداها: ما قصد ذكره من المد مع الكسر من غير تنوين. والثانية: الكسر مع التنوين، فتقول: هؤلاء قومك/، ورأيت هؤلاء، ومررت بهؤلاء. حكاها ابن جني والجوهري عن أبي زيد. قال ابن جني: وهي لغة بني عقيل.

والثالثة: أولاء بضم الهمزتين من غير تنوين حكاها قطرب، وكلتا اللغتين الثانية والثالثة ضعيفة، فلا تكون أولى من القصر، بل ربما كان القصر أولى منها، وإذا ثبت هذا فالناظم لم يعين من هذه اللغات الثلاث واحدة، بل أطلق المد وهو دائر كما تر بين لغات ثلاث، ففيه إيهام أنها كلها أو إحداها على الجملة أولى من لغة القصر، وهذا غير صحيح فكان الأولى به أن يقيد بالمد مع الكسر من غير تنوين، لكنه لم يفعل فكان معترضا. وقد يعتذر عنه بأن ما عدا اللغة المشهورة نادر وغير مستعمل، على خلاف ما عليه لغة القرآن، فاكتفى بشهرتها عن تقييدها. وقوله: (مطلقا) يحتمل من جهة اللفظ أمرين: أحدهما: أن يريد أن هذا اللفظ يشار به للجمع، أي جمع كان لمذكر أو لمؤنث، فيستوي في الإشارة به إليه جمع المذكر وجمع المؤنث فتقول: أعجبني هؤلاء الرجال، وهؤلاء النسوة، وما أشبه ذلك، ومن الأول قوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبونهم} ومن الثاني قوله- حكاية عن لوط- عليه السلام- {هؤلاء بناتي}. والثاني: أن يريد ما تقدم، وأمرا آخر، وهو أنه لا يختص بجمع العاقل دون غير العاقل، بل قد يشار به إلى كل واحد منهما، فمثال العاقل ما تقدم ومثال غير العاقل: أعجبني هؤلاء الأثواب وهؤلاء الدور. ومن ذلك

قول الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}. وقال جرير بن عطية: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام فهذا محتمل أن يريده بإطلاقه، كما أن قوله: (بذا لمفرد مذكر أشر ... ) إلى آخره مطلق في العاقل وغيره، فإذا تضمن ذلك إطلاقه في المذكر والمؤنث من قسمى المفرد والمثنى، فإطلاق الجمع يتضمن ذلك أيضا إلا أن قصده لهذا الإطلاق يوهم أن أولاء في الإشارة إلى العاقل وغير العاقل على سواء، وليس كذلك، بل زعم الجوهري أن الإشارة به غير العاقل قليلة، والغالب اختصاصه من يعقل، بخلاف ذا وذي ونحوهما فإن الإشارة بها إلى غير العاقل كثيرة، وللناظم ألا يلتزم هذا الإلزام لمجيئه في أفصح الكلام الذي هو القرآن، وعادته الاعتماد على ما جاء به والبناء عليه، وإن قل في غيره، وسيأتي ذلك في كلامه. والاحتمال الأول أولى لوجهين: أحدهما: أن الكلام في وضع هذه الأدوات لمن يعقل أو لما لا يعقل كلام في وضع لغوي، لا تعلق له بالنحو، فالظاهر أن الناظم لم يقصده إذ

كلام النحوي في اللغة خروج منه عن صناعته إلى ما ليس منها، وهو في المخاطبة التعليمية غير صواب. فإن قيل: فإن النحويين يتكلمون كثيرا في معاني الأدوات والألفاظ أفتراهم خارجين عن الصواب بذلك؟ فالجواب: أن كلامهم في معاني الألفاظ في الغالب إنما يكون لما يعرض لهم من بناء القوانين على النقل اللغوي، أو لأن كلامهم في ذلك يجري مجرى ضبط القوانين، فالأول: نحو/ قول الناظم وغيره في هذا الباب: إن لحاق الكاف واللام في ذلك، وذلك يدل على البعد وتركها يدل على القرب، فمثل هذا ينبني عليه من القياس أن الكاف واللام تلحقان اسم الإشارة قياسا إذا قصدت الإشارة بها إلى البعيد. والثاني: مثل كلامهم في معاني حروف الجر، فإن كلامهم في ذلك من قبيل ضبط القوانين وسيأتي شرح ذلك في باب حروف الجر إن شاء الله، وقلما يتكلم النحوي في معاني اللغة على غير هذين القصدين، إلا أن يتصدى لغويا محضا كشراح شواهد سيبويه وأمثلته وما جرى مجرى ذلك، فخذ هذا أصلا في معناه تنتفع به إن شاء الله. فإذا كان كذلك فتفصيل الناظم هذا الاحتمال يؤدي إلى إخراجه عن صناعة النحو إلى تفسير اللغة، وليس بشارح لكلام غيره، ولا لشعر غيره، ولا لمطلق اللغة، فلا ينبغي أن يحمل هذا المقصد في إطلاقه. والثاني من الوجهين أن عادة الناظم إذا نص على الإطلاق وأن يذكره في مقابلة تقييد له أو تأخر، وعلى ذلك يجب أن

يحمل كلامه، ألا ترى إلى ما تقدم له في تعريف العلم من قوله: (اسم يعين المسمى مطلقا) أي: لا يعينه بقيد، كما كان الضمير معينا لمسماه بقيد الحضور أو الغيبة على ما فسر هو في قوله فيه: (وما لذي غيبة أو حضور) وكذلك قوله في "أي" (وبعضهم أعرب مطلقا) يعني وإن كان صدر وصلها ضميرا انحذف، لقوله قبل: (وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف) وعلى هذا الترتيب جرى في كلامه النص على الإطلاق إذا اعتبرته، وإذا ثبت هذا فالذي تقدم له من التقييد هو بحسب التذكير والتأنيث خاصة، فإلى ذلك يصرف الإطلاق خاصة من غير شك، وما سوى ذلك فتعسف على كلامه بغير دليل، مع إهمال دليل خلافه، فالذي تحصل: وجوب حمله على الاحتمال الأول، والله أعلم. ثم شرع في التقسيم الثاني فقال: (ولدى البعد انطقا بالكاف ... ) إلى آخره، لدى ترادف في المعنى عند. وقوله: (انطقا) أراد انطقن بنون التوكيد، إلا أنه وقف عليها بالألف كما يجب، وأراد أنك تنطق بالكاف مع البعد، أي: مع بعد المشار إليه منك، وهذا ظاهر في أن ما تقدم إنما هو في الإشارة إلى غير البعيد وهو القريب، وظاهر اللفظ هنا يقتضي أمرا غير مقصود، وهو أنك إذا أردت الإشارة إلى البعيد اقتصرت على الكاف وحدها، أو مع اللام، وهذا غير صحيح وإنما مراده بالنطق بذلك زيادة على ما تقدم من الأدوات، حتى كأنه قال: انطقن بالكاف مصاحبا لما تقدَّم.

وإن قال قائل: من أين يفهم له هذا؟ قيل: يفهم له إذا جعل قوله: (بالكاف) متعلقا باسم فاعل محذوف حال من معمول لا نطقا محذوف لدلالة على الكلام عليه، والباء في "بالكاف" باء الملابسة والتقدير: ولدى البعد انطقا بما تقدم من الأدوات ملتبسة بالكاف. فإن قلت: وهل تقع الحال من المحذوف؟ فالجواب: نعم/، إذا كان في حكم المنطوق به كهذا الموضع نحو: قولك الذي لقيت راكبا زيد، أي: لقيته، فالحال من الضمير المحذوف وهذا ظاهر، فلو جعلت بالكاف متعلقا بـ (انطق) لم يكن في الكلام ما يدل على المعنى المراد منزلا على الأحكام اللفظية وأوهم معنى غير صحيح كما مر وقد حصل من هذا الكلام تقسيم أسماء الإشارة إلى قسمين: قسم يشار به إلى القريب وهو ما تقدم ودل عليه ذكر القسم الثاني وهو المشار به إلى البعيد في قوله: (ولدى البعد انطقا) بكذا يعني أنك تزيد إذا أشرت إلى البعيد على ما تقدم كافا وحدها مع بقائها على ما كانت عليه في التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع، فتقول للمفرد المذكر ذاك، وللمؤنث تاك أو تيك أو ذيك، وللمثنى المذكر ذانك وذينك وللمؤنث تانك وتينك، وللمجموع مطلقا أولاك وأولئك، وهذا الثاني أكثر وأولى والأول جائز، ومنه قول مسافع بن حذيفة العبسي:

أولاك بنو خير وشر كليهما ... جميعا ومعروف ألم ومنكر وقال ذو الرمة: أولاك كأنهن أولاك إلا ... شوى لصواحب الأرطى ضئالا ومن إلحاق الكاف تا وتي قول أبي النجم: جئنا نحييك ونستجديكا ... فافعل بنا هاتاك أو هاتيكا وقد تلحق اللام مع الكاف وذلك قوله: (دون لام أو معه) يريد أن الكاف تلحق مع اللام في الإشارة إلى البعيد فتقول: ذلك وتلك وتيك وتالك وأولالك وما أشبه ذلك أنشد يعقوب: أولا لك قومي لم يكونوا أشابة ... ومن يعظ الضلال إلا أولالكا وأما ذانك وتانك فلا تلحقهما اللام البتة، وكذلك ذي وذه إذا قلت: ذيك لا تقول: ذلك ولا ذيلك، كما تقول: تلك وتيلك. فإن قلت: فكلام الناظم إذا معترض حيث أشعر باللحاق، فإنه خير بين اللام مع الكاف وبين الكاف وحدها

مطلقا، ولم يستثن في هذا التخيير أداة دون أخرى، فاقتضى جواز اللحاق أن ذلك يصح في ذيك، وفي المثنى كما صح في المفرد المذكر أولاء وفي المجموع، وهذا غير صحيح. فالجواب: أنه ليس مقصوده بقوله: (ولدى البعد انطقا بالكاف حرفا دون لام أو معه) التنبيه على لحاق اللام مطلقا في كل أداة تقدم ذكرها وإنما قصده أن الكاف على الجملة تدل على البعد، فإذا أردت البعيد أتيت بها ولا شك أن الأمر كذلك. وأما قوله: (دون لام أو معه) فالمقصود التنبيه والتنكيت على مخالفة من يرى أن الإشارة للبعيد إنما تكون باللام، فإذا تركت اللام فهو إشارة إلى المتوسط بين القريب والبعيد، وهو مذهب مشهور للمتأخرين من النحويين، وإذا كان هذا قصده الأعظم بقى النظر في لحاق اللام وعدم لحاقها ليس مقصودا أولا، وإنما تكلم فيه بالانجرار فيقف موضع لحاقها على اللغة أو على غير هذا الكتاب، فإذا لا اعتراض عليه في هذا الموضع، وحين ذكر أن الكاف تلحق دلالة على البعد بين فيها حكما لابد من بيانه لما ينبني عليه بقوله: "حرفا" وهو/ حال من الكاف، يعني أن الكاف اللاحقة هنا ليست اسما ككاف الضمير، وإنما هي حرف من الحروف، وهذا هو مذهب سيبويه والبصريين وأصلها عندهم الاسمية على ما ذكره ابن جني إلا أنها جرد عنها معنى الاسمية وأتى بها للمعنى الزائد على ذلك وهو معنى الخطاب، كما جردت الضمائر عن معنى الاسمية حين جعلت فصولا، وباب التجريد شائع في كلام العرب، وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب، والدليل على صحة هذا المذهب هو أنه لا يخلو لو كانت اسما من أن تكون مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة، فلا يجوز أن تكون ...

مرفوعة، لأن الكاف ليست ضمائر الرفع ولا منصوبة أيضا، لأنك إذا قلت: ذلك زيد فلا ناصب هنا للكاف ولا مجرورة، لأن الجر إنما هو في كلامهم من أحد وجهين: إما بحرف، وإما بإضافة اسم، ولا حرف جر هنا، ولا يجوز أيضا أن يضاف اسم الإشارة من قبل أن الغرض في الإشارة إنما هو التخصيص والتعريف، وأسماء الإشارة معارف كلها قد استغنت بتعرفها عن إضافتها، وإذا كان من شروط الإضافة أنه لا يضاف الاسم إلا وهو نكرة فما لا يجوز أن يتنكر البتة لا يجوز أن يضاف البتة، وأسماء الإشارة مما لا يجوز تنكرها فلا يجوز إضافتها ولأجل هذا لم يصح في الكاف والهاء في إياك وإياه ونحوهما أن تكون اسما؛ لأنها لا تكون إلا معارف ولا يجوز تنكيرها البتة، وقد تقدم في الضمائر ما يستدل به على فساد كون الكاف هنا اسما، فانقل معناه إلى هنا، ثم قال: (واللام إن قدمت ها ممتنعه) لما قدم أن اللام يجوز لحاقها مع الكاف ذكر أنها تلحق إذا فقدت ها وهي ها التنبيه، وأما إذا لحقت ها ولا تلحق إلا متقدمة على اسم الإشارة، لذلك قال: إن قدمت ها فلا تلحق اللام معها فهما أعنى "ها" واللام كالمتعاقبين على اسم الإشارة إن لحق هذا لم يلحق هذا، فلا يجتمعان البتة إلا في شعر، أو في نادر من الكلام ومنه قول الشاعر:

ياما أمليح غزلان شدن لنا ... من هاؤليائكن الضال والسمر فتقول: إذا جاءني ذا وهذا، وجاءتني تا، وهاتا، وذي، وهاذي، وتي، وهاتي، وذان، وهاذان، وتان، وهاتان، وأولاء، وهؤلاء. وتقول أيضا: جاءني ذاك، وهاذاك، (وذلك، وتلك)، وتاك، وهاتاك، وتيك، وهاتيك، ومنه قول طرفة: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد وقال أبو النجم: جئنا نحييك ونستجديكا ... فافعل بنا هاتاك أو هاتيكا ولا تقول: هاذلك، ولا هاتلك، ولا هاتالك، ولا هؤلالك، ولا ما أشبه ذلك، كأنهم كرهوا كثرة الزوائد على الكلمة الواحدة. وفي قوله: (واللام إن قدمت ها ممتنعة) ما يدل على جواز لحاق "ها" لاسم الإشارة مقدمة عليه، لأن ترتيب ما ذكر من الحكم فيها مع اللام إنما يكون بعد صحة لحاقها، وذلك صحيح كما تقدم تمثيله، ولما لم يبين وجه لحاقها ولا لأي معنى لحقت دل ذلك على أنها تلحق لما تقرر فيها من معنى التنبيه والتأكيد، لا لغير ذلك، وقد نص في "التسهيل" على أنها هي لا غيرها، فهي إذا داخلة لمعناها خلافا لمن زعم خلاف ذلك.

وقد يدل قوله بعد: (وبهنا أو هاهنا/ أشر) على أنها تلحق لأمر زائد على التنبيه، وإذا تقرر هذا بقى النظر في كلام الناظم في هذا الفصل في أمرين: الأول في تقرير الخلاف الذي أشار إليه وذلك في مسألتين: إحداهما: في تحقيق مراتب الإشارة بحسب المشار إليه فهي عنده مرتبتان: مرتبة بعد، ومرتبة قرب، وعند الجمهور ثلاث مراتب: مرتبة قرب، ومرتبة بعد، ومرتبة توسط بين القرب والبعد. فللمذكر في الدنيا هذا، وفي الوسطى ذاك، وفي البعدي ذلك، وفي التثنية هذان في الدنيا، وذانك في الوسطى وذانك في البعدي بالتشديد، وللمؤنث في الدنيا هذه، وكذا في أخواتها من غير كاف، وفي الوسطى تيك، وفي البعدي تلك وتالك، وفي التثنية في الدنيا هاتان، وفي الوسطى: تانك، وفي البعدي: تانك بالتشديد وفي الجمع من النوعين: أولاء في الدنيا، وأولاك في الوسطى، وأولئك وأولالك في القصوى. وعلى هذه الطريقة جرى أكثر المتأخرين، واستدل في "شرح التسهيل" على صحة ما ذهب إليه بخمسة أوجه: أحدها: الإجماع على أن المنادي ليس له إلا مرتبتان: مرتبة القريب: تستعمل فيها الهمزة، ومرتبة البعيد وما في حكمه: تستعمل فيه بقية الحروف وهو والمشار إليه شبيه بالمنادى، فليقتصر فيه على مرتبتين إلحاقا للنظير بالنظير. والثاني: أن المرجوع إليه في مثل هذا النقل لا العقل، وقد روى الفراء أن بني تميم يقولون: ذيك وتيك بغير لام حيث يقول

الحجازيون: تلك وتالك باللام. وأن الحجازيين لا يستعملون الكاف من غير لام وأن التميميين ليس من لغتهم استعمال الكاف مع اللام فلزم من هذا أن اسم الإشارة ليس له إلا مرتبتان: إحداهما: للقرب، والأخرى: لأدنى البعد وأقصاه. والثالث: أن القرآن ليس فيه إشارة إلا بأداة مجردة من الكاف واللام معا أو بمصاحبة لهما معا ما عدا المثنى والمجموع، فلو كانت الإشارة إلى التوسط بكاف لا لام معها لكان القرآن غير جامع لوجوه الإشارة وهذا مردود بقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}. والرابع: أن التعبير بلفظ ذلك عن مضمون الكلام المتقدم على إثر انقضائه شائع في القرآن وغيره من غير واسطة بين النطقين كقول الله تعالى: {ذلك ما كنا نبغ}، {ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب}، {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}، {ذلك حكم الله}. يعني فاعتبر البعد على الجملة مع أنه ليس بموضع بعد، بل هو أقرب لاعتبار حالة التوسط، فلو كان التوسط معتبرا بإشارة لا يشاركها فيها غيرها لكانت هذه المواضع جديدة بلك، لكن ذلك غير واقع فدل على أن قصد التوسط غير معتبر. والخامس: أن المراتب لو كانت ثلاثا لم يكتف في التثنية والجمع

بلفظين لأن في ذلك رجوعا عن سبيل الإفراد وفي اكتفائهم بقولهم: هذان وذانك وهؤلاء وأولئك دليل على أن ذاك وذلك مستويان وأن ليس للإشارة إلا مرتبتان، ثم اعتذر عن تشديد النون/ وحمله على التعويض مما حذف من الواحد، وقد ذكر ذلك في باب الموصول حسب ما يأتي ورد قول من زعم أن التشديد مثل اللام في ذلك وهو قول المبرد، لكنه لم يذكر اختصاص ذلك بالبعيد دون ذاك، بل قال: إن التخفيف في ذان نظير ذاك والتشديد نظير ذلك، فنزله المتأخرون على ما قصدوه من إثبات المراتب الثلاث. المسألة الثانية: في تحقيق معنى "ها" مع اسم الإشارة، ومعنى المد في أولاء، وقد تقدم أن الناظم قائل بأن هاء التنبيه لا تفيد في أسماء الإشارة معنى زائدا على التنبيه، وأن المد في أولاء لا يفيد زيادة معنى على معنى أولى المقصورة، وقد خالف الشلوبين في الموضعين فجعل مد أولاء قد يفي انتقال اسم الإشارة من مرتبته التي هو فيها إلى مرتبة أبعد وكذلك "ها" تفيد عنده الانتقال، فأما "ها" فمطلقا وأما المد ففي أحد الوجهين، وفي الوجه الآخر لا يفيد شيئا، وكذلك تشديد النون عنده يفيد الانتقال في أحد الوجهين، وبنى على ذلك أنك تقول في المرتبة الدنيا للواحد المذكر ذا، وفي التثنية ذان، وفي الجمع أولى مقصورا، وفي الوسطى ذاك وهذا، وفي التثنية ذانك وهذان، وفي الجمع هؤلى وأولاك بقصرهما وأولاء بالمد في أحد الوجهين، وفي الآخر هو في الدنيا وفي القصوى ذلك وهذاك، وفي

التثنية ذانك بتشديد النون في أحد الوجهين، وفي الآخر هو في الوسطى، وفي الجمع أولئك وهؤلاء بالمد فيهما في أحد الوجهين، وفي الآخر هو في الوسطى، وأولالك وهؤلاك بالقصر فيهما، ثم ذكر نحو ذلك في المؤنث، وذكر أن الأصل في هذا الترتيب أن الكاف واللام والهاء زيادة على الكلمة التي هي اسم الإشارة، فمتى كانت الإشارة باسمها مجردا فينبغي أن يكون للمرتبة الدنيا، لأنها أقل ما يكون من اللفظ في هذا الباب، إلا أن يكون في اسم الإشارة لغتان إحداهما أمد من الأخرى، فربما حكم لذلك المد بحكم زيادة من الزوائد، وربما لم يحكم، وإن أضيف على اسم الإشارة من هذه الزوائد واحد أو ما حكم له بحكمه كان للمرتبة الوسطى، لأنه في المرتبة الثانية من اللفظ، وإن أضيف إليه منها اثنتان كان للمرتبة القصوى، لأنه في المرتبة الثالثة من اللفظ، وليس بعدها رتبة، ولذلك لا يجوز: هذلك ولا هؤلالك، فأما هؤلائك فإن المد (قد لا) يحكم له بحكم الزوائد كما تقدم، ولم يقل أولائلك بالمد وزيادة اللام، وكذلك هؤلائلك لا يقال بالمد وزيادة اللام، استثقالا لتوالي الكسرتين، وكذلك ذانلك وما كان مثل ذلك، هذا ما قال الشلوبين وكل ما رد به المؤلف مذهب الجمهور فناهض في رد هذا المذهب مع زيادة أنه مذهب مخترع لم يسبقه إليه فيما أظن أحد، وإنما جرأه عليه قاعدة إمساس الألفاظ أشباه المعاني وهي لا تنهض دون

سماع، والعجب من ابن الضائع سلم هذه الطريقة لكن/ جعل ذلك من باب الأولى لا على الوجوب، فالحق خلاف ما قال، إذ ليس في السماع ما يدل على خلاف ما قال والله أعلم، وأوقى أدلة المؤلف في مسألته دليل السماع، وما عداه فللنظر فيه مجال. الأمر الثاني: فيما عسى أن يرد على الناظم في بعض أطراف المسألة وذلك سؤالان: أحدهما: أنه نص على لحاق الكاف في البعد، ولم يبين اختلافها بحسب المخاطب من كونها لمذكر أو مؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع، وهي ستة أحوال في الخطاب ضرورية، وكل واحد من تلك الأحوال يتصور الإشارة معه إلى مذكر أو مؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع، فإنك قد تشير إلى مفرد مذكر مع اختلاف المخاطب إلى ستة الأحوال وإلى مثناه وإلى مجموعه كذلك، وقد تشير إلى مفرد مؤنث مع الأحوال الستة وإلى مثناه وإلى مجموعه كذلك، فهذه ستة وثلاثون وجها هي أصول الباب، وعلى ذكرها احتوى باب المخاطبة المترجم عليه في كتب النحويين وهو من ملح العربية الضرورية، لكن الناظم لم يعرج على بيانها، وكان من حقه ذلك فكان كلامه معترضا. والثاني: أنه لما أشار إلى إلحاق "ها" التنبيه عند عدم اللام، ولم يقيد ذلك ظهر من قوة كلامه أن لحاقها مع وجود الكاف ومع عدمها على سواء في الجواز وليس كذلك، بل قد ذكر هو في "التسهيل" أن لحاقها المجرد من الكاف كثير في الكلام ومع الكاف قليل، بل عدم

لحاقها المجرد قليل، ولذلك لا تجد في القرآن الكريم اسم إشارة مجردا من الكاف وهاء التنبيه أيضا معا، ولما وقع فيه الفصل بين ها واسم الإشارة بـ "أنتم" أعيدت في أكثر المواضع كقوله: {ها أنتم هؤلاء حاججتم}، {ها أنتم هؤلاء جادلتم}، ولم يقع غير مكرر معه "ها" إلا في قوله {ها أنتم أولاء تحبونهم}، فهذا دليل على قوة لحاقها وأن غيره قليل، وأما إذا لحقت الكاف فلحاق "ها" معها قليل وهو نص ابن مالك في "التسهيل"، وإذا كان كذلك فهذا الإطلاق غير محرر، وقد يعتر عن الأول بأن يقال: لعله سكت عن بيان اختلافها لما تقدم له مثل ذلك في فصل "إيا" من باب الضمائر، فقد أشار هنالك إلى الاختلاف وبين أن التفريع ليس مشكلا، وهو اعتذار ضعيف. وعن الثاني: بأن قوة كلامه إنما يقتضي الجواز على الجملة، فإن التسوية بين الوجهين معنى زائد على مطلق جوازهما، كما أن التفضيل بينهما كذلك على صدق المختلفين في القوة والضعف، كما يصدق على المتساويين صدق الأعم على الأخص، وهذا ظاهر فلا اعتراض عليه. وقوله: (إن قدمت ها) "ها" ليس بضمير نصب متصل، وإنما هي ها التنبيه تكتب منفصلة من الفعل، لأنها اسم ظاهر.

ثم قال: وبهنا أو ها هنا أشر إلى ... داني المكان وبه الكاف صلا في البعد أو بثم فه أو هنا ... أو بهنالك انطقا أو هنا هذا هو النوع الثاني من نوعي الإشارة وهي الإشارة إلى المكان، فاعلم أن الإشارة إلى المكان لا تنفصل من/ الإشارة إلى الأشخاص وغيرها إلا بكون اسم الإشارة ظرفا، فإنك إذا أردت الإشارة إلى المكان من غير إرادة كونه ظرفا تجريه مجرى الأشخاص، فكما تقول: أعجبني هذا الرجل، وهذا الفعل كذلك تقول: أعجبني هذا المكان وهذا الزمان، فلا ينفصل المكان من غيره إذا لم تقصد فيه كونه ظرفا، فأما إذا قصدت كونه ظرفا فأشرت إليه، فالخاص بهذا النحو لفظ هنا، وما ذكر معه لا يشار بها إلا إلى المكان من حيث كونه ظرفا بخلاف هذا وأشباهه فإن الأمر فيها مطلق، فقد تشارك هنا فيما اختصت به نحو قوله تعالى: {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} فإذا ثبت هذا فلا يشار بهنا ونحوه إلى المكان إلا بقيد كونه ظرفا لفعل، والناظم لم يأت بهذا القيد، بل أطلق القول بأنها يشار بها إلى المكان، وهذا الإطلاق غير صحيح لاقتضائه جواز قولك: هنا موضع زيد، في معنى هذا موضع زيد ونحو ذلك، وأيضا لما خص الإشارة إلى المكان بهنا ونحوه بدليل تقديمه المجرور لأن معناه الاختصاص كأنه قال: أشر بهذه الأشياء إلى المكان لا بغيرها اقتضى ذلك أنك لا تشير إليه بهذا وما ذكر معه فلا تقول: هذا موضع زيد ولا هذه بقعة عمرو ولا قعدت هذا المكان ولا ما أشبه ذلك وهذا كله غير مستقيم وقد احترز في "التسهيل" من هذا الاعتراض بقوله: ويشار إلى المكان بهنا لازم

الظرفية أو شبهها. والجواب: أن الناظم قد أتى بما يشعر بقيد الظرفية، وذلك أن لفظ الزمان والمكان إذا أطلق في عرف النحويين يراد به المكان من حيث هو ظرف لفعل والزمان كذلك، إما على حذف المضاف كان الأصل ظرف المكان وظرف الزمان، وأما لأنه صار اسما له عرفا وقد يستعمل ذلك الناظم، ألا ترى إلى قوله: (وقد ينوب عن مكان مصدر) وأراد عن ظرف المكان، فهو إنما أراد هنا بالمكان ظرف المكان، وقد عرف أن أداة الإشارة بحسب المشار إليه فإن كان مفعولا فهو مفعول أو فاعلا فهو كذلك، أو ظرفا فهو على حسبه إذ هو قائم في الكلام مقامه، فإذا أشير إلى الظرف من حيث هو ظرف، فاسم إشارته ظرف مثله. فقول: (وبهنا أو هاهنا أشر إلى داني المكان) معناه أشر إلى ما وقع من الأمكنة المحسوسة منصوبا على الظرفية أو في حكم المنصوب على ذلك، ويلزم أن يكون اسم الإشارة كذلك ظرفا، وإذا كان هذا مقصوده كان قد أتى بالقيد الصحيح للإشارة بهذه الأدوات، وعند ذلك يكون التنبيه على اختصاص هنا وأخوته بالمكان وإخراج ذي وذا وما ذكر معهما عن ذلك صحيحا إذ قد يشار بها إلى الأمكنة من حيث هي أمكنة ومن حيث تشخصها وإجراؤها مجرى الأناسي كزيد وعمرو/، فالأمر فيها أوسع، فقد وضح أن الناظم لم يغفل ما توهم المعترض إغفاله والله أعلم، ولنرجع إلى تفسير كلامه. فقوله: (وبهنا أو هاهنا أشر إلى داني المكان) الداني هو القريب، يعني أن هنا مجردا عن التنبيه، وهاهنا لاحقا له التنبيه أداتان من أدوات الإشارة إلى المكان القريب فتقول: جلست هنا وأكلت هاهنا، أي: في هذا المكان القريب وتقييده بالداني يدل على أن هاهنا تقسيما بحسب

القرب والبعد وأنهما عنده مرتبتان فقط من غير توسط، ويلزم على ما تقدم من مذهب الأكثرين إثبات مرتبة التوسط وأن لها هناك وللبعدي هنالك، وعلى طريقة الشلوبين يكون هاهنا في مرتبة التوسط كهناك، وكلامه هنا نص في رد ذلك المذهب، وقد تقدم ما يكفي فيه وتقييده الظرف بالمكان يدل على أن هذه الإشارة لا يشار بها إلى ظرف الزمان فلا تقول: صمت هنا، تريد هذا اليوم، وهذا إنما هو أكثر فقد يشار بهنا وهنالك وبهنا إلى الزمان، ومن ذلك قوله تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون} ولم يتقدم غير ذكر الزمان. وقوله: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت} بعد قوله: {ويوم نحشرهم}، ومن ذلك في الشعر قول الأفوه الأودى: وإذا الأمور تعاظمت وتشابهت ... فهناك يعترفون أين المفزع ولما كان هذا قليلا لم يبن عليه وجعل هنا مختصا بالمكان. ثم قوله: (وبهنا أو هاهنا) فخير بين الأمرين نص في جواز لحاق

ها لهنا، كما تلحق ذا وذي وأخواتهما، وكذلك الحكم فإن شئت قلت: قعدت هنا، وإن شئت قلت: قعدت هاهنا. ثم ذكر القسم الثاني وهو قسم الإشارة إلى البعيد فقال: (وبه الكاف صلا في البعد) الضمير في "به" عائد على هنا والكاف مفعول بـ (صلا)، وأراد صلن بنون التوكيد، فأبدل للوقف وبه متعلق بـ (صلا) أيضا، وكذلك قوله: "في البعد" وهو على حذف المضاف، أي: في إشارة البعد أو في إشارة ذي البعد وهو في المكان البعيد، وقد يحذف أكثر من مضاف واحد كقول الله في القرآن حكاية {فقبضت قبضة من أثر الرسول}، أي: من أثر حافر فرس الرسول، هكذا قالوا: فكذلك هنا، ويعني أن الإشارة إذا أردتها إلى المكان البعيد فإنك تصل بهنا الكاف فتقول: جلست هناك أو هناهناك والألف واللام في الكاف للعهد وأحال على الكاف المذكورة الحرفية، ثم قال: (أو بثم فه أو هنا) إلى آخره استدرك بهذا الكلام أدوات هي مثل هناك في الحكم فخير فيها، يعني أن ثم- بفتح الثاء- وهنا- بفتح الهاء- وهنا بكسرها مع تشديد النون فيهما- حكاهما السرافي وغيره، قال: والكسر اردؤها. وأنشد لذي الرمة: هنا وهنا ومن هنا لهن بنا ... ذات الشمائل والأيمان هينوم وهنالك بالكاف مع اللام كلها يشار بها للمكان البعيد فتقول رأيت زيدا ثمت. قال تعالى: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} وتقول: رأيتك هنا أو هنا. ومنه قول الشاعر:

كأن ورسا خالطه اليرنا ... خالطه من هاهنا وهنا ويقولون: تجمعوا من هنا ومن هنا، وحكى الفراء أن تميما تقول: هاهنا زيد وأنشد: تلقاه مقتسما تبدو خليقته ... هنا وهنا وعقلي غير مقتسم/ وتقول: رأيتك هنالك من غير إدخال ها التنبيه وتخصيصه هذا اللفظ بالذكر مع أنه لما ذكره بغير لام خير في ها التنبيه دليل على أن العرب لا تدخلها عليه وإلا فلو لكان كذلك لكان ينبغي أن يقول: وبهنالك أو ها هنالك انطقن أو ما أشبه ذلك، كما قال قبل: (وبهنا أو هاهنا أشر) فإذا لا يجوز أن تقول: هاهنالك، وهذا موافق لما تقدم في النوع الأول وهو صحيح بخلاف ما تلحقه الكاف وحدها فإن "ها" يجوز دخولها عليه لقوله: (وبه الكاف صلا) أي: بما تقدم من هنا أو هاهنا فتقول: هاهناك كما تقول ها ذاك وهاتيك ولم ينبه الناظم على لحاق الكاف لهنا أو هنا، مع أنهما عنده إشارة إلى البعيد، كما نبه على لحاقها لهنا المضموم الهاء المخفف، فاقتضى أن الكاف لا يجوز أ، تلحقهما فلا تقول: هناك ولا هناك، وكذلك يقتضي ألا تلحقهما ها التنبيه، إذ لم يبين ذلك فلا تقول على هذا هاهنا ولا هاهنا. فإن قلت: وما الدليل على هذا القصد؟ ولعله أغفل ذكر ذلك إحالة على جواز مثله في هنا وما تقدم.

فالجواب: أن سياق كلامه يعطي القصد إلى ما ذكر، فإنه ذكر في هنا لحاق الكاف وفي هنالك لحاق اللام والكاف بعد أن ذكر لحاق الكاف وحدها وفي قوله: "وبه الكاف صلا في البعد" مع ما تقدم له من ذلك في النوع الأول، فلو كان مراده الإحالة على ما تقدم لسكت عن ذكر ذلك في هنا وهنالك، ثم إن تركه لذكر ذلك في هنا المفتوحة الهاء والمكسورتها مع ذكره في هنالك، وهو معترض بينهما ما يشعر بأن ينك اللفظين هكذا جاء السماع بهما، فقد حصل من هذا أن هنا وهنا فيهما ثلاثة أحكام ذكرها: اختصاصهما بالبعيد، وأن لا تلحقهما ها التنبيه في أولهما ولا الكاف في آخرهما، وعدم لحاق اللام من باب أولى، أما كونهما للبعيد فإن الجوهري زعم خلاف ذلك، وأن معنى هنا معنى هنا. وقال في قولهم: تجمعوا من هنا ومن هنا، أي من هاهنا وهاهنا، وقد علم أن هنا للقريب، فكذلك عنده هنا، ولذلك بنى عليه جواز لحاق الكاف وهو الحكم الثالث، وكره على أنه محكي عن العرب فقال: وهنا- بالفتح والتشديد- معناه، هاهنا، وهناك: أي: هناك، وكذلك السيرافي جعلها مكسورة الهاء ومفتوحتها كهنا مطلقا، وقد حكى ابن مالك أيضا لحاق الكاف، ولحاقها على هذه الطريقة جار على قياس هنا المضموم المخفف، ولا يلزم عليه جواز لحاق اللام لأنها إنما تلحق بالسماع، الأ ترى أنها لا تلحق المثنى ولا أولاء الممدود، وما زعمه المؤلف من قلة لحاق الكاف مناسب لما لحقت به، إذ ليس هنا في الاستعمال كثير كهنا، بل هو قليل، فقل لحاق الكاف له لقلته هو في نفسه، وأما لحاق ها التنبيه فقد تقدم من حكاية الفراء عن بني تميم أنهم يقولون: هاهنا، ونص السيرافي على الجواز مطلقا كهنا، وإذا

كان كذلك فجميع ما زعم الناظم هنا غير ثابت، أما "ثم" فالحكم فيها ما ذكر من كونها للبعيد ولا تلحقها ها ولا الكاف فلينظر في صحة ما زعمه الناظم هنا وفي "التسهيل"، فلعل الأمر كما ذكره غيره والله أعلم. وقوله: (أو بثم فه) يقال: فاه بالكلام يفوه به، أي لفظ به وما فهت بكلمة وما تفوهت بمعنى ما فتحت فمي بها، وهو مشتق من الفم إذ أصله فوه/. ***

الموصول

الموصول الموصول: عبارة عن الكلمة التي تفتقر في دلالتها على معنى الاسم التام إلى ما يتصل بها فتستقل حينئذ دلالتها عليه، وتصير في معنى الأسماء المستقلة بالدلالة، وهذه الكلمة على نوعين: أحدهما: حرفي، ولم يتعرض الناظم له في هذا الباب ولا في غيره من حيث هو موصول، بل من حيث له أحكام آخر، ما عدا "لو" المصدرية، فإنه أهمل ذكرها في هذا النظم لعدم شهرتها عند النحويين، إذ الأكثر لم يتكلموا عليها، وذكر سائر الموصولات الحرفية وهي: "أن" و "أن" وما "وكي" المصدريات في أبوابها، لما لها من الأحكام، لكنه لم يخلها من التنبيه على الموصولية فيها، ألا تراه قال في باب "إن": (وهمز إن افتح لسد مصدر مسدها). وقال في باب إعمال المصدر: (إن كان فعل مع أن أو ما يحل محلها) فنبه على ذلك المعنى فيها بإشارة خفية، وإنما يبقى له تعيين صلاتها، وهذا قريب قد يؤخذ له من أبوابها، فلذلك لم يعتن هنا بذكرها، بل قصد إلى النوع الثاني وهو الموصول الأسمى فقال: موصول الأسماء الذي الأنثى التي ... واليا إذا ما ثنيا لا تثبت بل ما تليه أوله العلامه ... والنون إن تشدد فلا ملامه فقيده بقوله: (موصول الأسماء) لتخرج موصولات الحروف. وموصولات الأسماء يتعلق الكلام بها في ثلاث مسائل: في تعدادها، وفي

صلاتها، وفي العائد عليها، وكلها بينه الناظم. وابتدأ بالمسألة الأولى فقوله: (موصول الأسماء) مبتدأ، و (الذي) مبتدأ ثان، خبره محذوف كأنه قال: منه الذي وكذا وكذا، لأن موصول الأسماء عام يدخل تحته جميع الموصولات وقوله: (الأنثى التي) الأنثى مبتدأ أيضا خبره محذوف، والجملة معطوفة بحرف عطف حف ضرورة، أي: ومنها الأنثى، والتي بدل من الأنثى، وجعل التي أنثى لما كانت دالة على الأنثى، أو يكون الأنثى التي مبتدأ وخبرا، والجملة معطوفة على الجملة الأولى، والألف واللام في الأنثى مثلها في قوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} كأنه قال: وأنثاه التي، ومثال ذلك: أعجبني الذي أكرمته والتي أكرمتها هند، ودل الكلام على أن الذي للمذكر من حيث خص التي للمؤنث، والذي والتي في كلامه إنما أتى بهما على اللغة المشهورة وهي الثابتة الياء من غير تشديد وإن كان اللفظ يحتمل غير ذلك فمقصده ما ذكر، ويدل على قصد ثبات الياء قوله إثر هذا: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) وعلى قصد عدم تشديدها لفظه. وفي "الذي" ثلاث لغات سوى هذه، "اللذ" محذوفة الياء مع بقاء الكسرة، "واللذ"- بتسكين الذال- والذي بالياء المشددة. وكذلك في "التي" لغتان سوى ما تقدم اللت- بغير ياء مع تسكين التاء أو بقاء كسرتها. ثم قال: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) إلى آخره. الياء منصوب بـ

"تثبت" وقصره ضرورة، وضمير "ثنيا" للذي والتي و "ما" في "ما تليه" يجوز نصبه وهو المختار من جهتين ويجوز رفعه، فإذا نصبته فبإضمار فعل من باب الاشتغال تقديره: بل أول ما تليه أوله العلامة، و: ما: عبارة عن الحرف الذي قبل الياء وهو الذال في الذي، والتاء في التي، و "تلي": / معناه تتبع، وأراد أن الياء في "الذي" و "التي" تحذف إذا أردت تثنيتها وتصير علامة التثنية والية لما قبل الياء، فتقول في الذي: اللذان واللذين وفي التي. اللتان واللتين، وقد تضمن هذا المعنى حكمين سوى ما ذكر. أحدهما: أن التثنية لاحقة للذي والتي وقد تقدم معناها، وأنها زيادة ألف رفعا وياء مفتوح ما قبلها مع نون نصبا وجرا، تزاد في آخر الاسم فيدل بذلك على اثنين مما كان يدل عليه قبل ذلك لكن من غير تغيير للاسم المثنى، فكان قياس الذي والتي في التثنية حيث ادعاها لهما أن يقال: اللذيان واللتيان، وكذلك في النصب والجر اللذيين واللتيين، كما تقول: القاضيان والقاضيين إلا أن العرب لم تفعل ذلك، بل حذفت أواخرها على غير قياس، وأولت العلامة ما قبلها ليخالفوا بينها وبين الأسماء المعربة في التثنية فاحتاج الناظم إلى بيان هذا التغيير فقال: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) إلى آخره، وقد تقدم في الإشارة وجه هذه الدعوى. والثاني: أن المثنى هو الذي والتي الثابتا الياء لقوله: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) فنص على الحذف وذلك لا يكون إلا من ثبوت، وهذا ظاهر المخالفة لما زعمه في "شرح التسهيل" من أن العرب استغنت بتثنية اللذ دون الياء، واللت كذلك

عن تثنية الذي والتي بالياء وأنها لم تثنهما، وما زعمه هنا على ظاهر كلامه أبين، إذ لا يدعى الاستغناء إلا بدليل يدل عليه كما قالوا في مذاكير وملامح من أنه جمع لما لم ينطق به استغناء عنه بذكر ولمحة وما أشبه ذلك. فإن قلت: فالدليل قائم، وذلك مخالفة لسائر المثنيات حيث لزم فيه من الحذف ما لا يجوز في غيره، قيل: على تسليم مذهبه في أنه مثنى حقيقة لا دليل في الحذف، إذ لا بعد في مجيء بعض الأشياء مخالفة للقياس، وأيضا إن كان حذف الآخر في التثنية مسوغا لدعوى الاستغناء لزمكم ذلك فيما حذف آخر شذوذا في التثنية من المعربات كقولهم في تثنية الخوزلي والخنفساء وباقلاء وعاشوراء خوزلان وخنفسان وباقلان وعاشوران على ما حكاه الفراء عن العرب فإذا لم يجز أن يدعى الاستغناء في هذه الأشياء وأشباهها إلا متعسف فكذلك ها هنا. ووجه ذلك: وهو أن ابن مالك في هذه الدعوى كالمتناقض مع زعمه في تشديد نونيهما أن ذلك تعويض من المحذوف، وكيف يصح التعويض (من المحذوف) ولا محذوف يعوض منه. فإن قيل: هو- إن ادعى الاستغناء- قد زعم أن لغة "اللذ" بلا ياء مخففة من الذي بالحذف، وإذا كان كذلك صار الأمر إلى أن اللذان تثنية الذي بعد الحذف تخفيفا، فالتعويض من المحذوف صحيح. قيل: فإذا لا معنى لادعاء الاستغناء، بل صار الأمر إلى ما قاله هنا من أن اللذان تثنية الذي، وحذفت الياء في التثنية، مع أن دعوى الحذف في المبنيات غير مقبولة، بل هي لغات مختلفة، وعلى ذلك أتى بها النحويون فيقولون: في الذي أربع لغات، وفي التي ثلاث لغات أو أربع، ولأجل ذلك لما

زعم الشلوبين أن ما عدا الذي والتي المخففتي الياء ضرائر. قال: لأنهم لم يحكوها في الكلام. قال ابن الضائع: لا ينبغي/ أن يحمل على ذلك، لأنهم قالوا: إنها لغات فيها فلا يحمل استشهادهم فيها إلا على التمثيل، قال: ويدل على ذلك أنهم زعموا أن في "التي" من اللغات مثل ما في الذي، ولولا ثبوت ذلك ما جاز لهم فيها أن يقيسوا لغات الذي فيه- انتهى- فأنت ترى أن ابن الضائع لم يسلم لشيخه دعوى التغيير فيها بالحذف وغيره استنادا إلى مقتضى نقلهم، وهذا واضح فإذا مذهب ابن مالك في "شرح التسهيل" حيث أثبت الاستغناء مع دعوى التعويض ومع دعوى الحذف تخفيفا كغير الملتئم والله أعلم، فالصحيح ما أشار إليه هنا. وفي قوله: (بل ما تليه أوله العلامة) زيادة بيان لقوله: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) فإن قيل: هذه الزيادة حشو لا محصول تحتها سوى التكرار وهذا مخالف لعادته، إذ ليس معنى الكلام الأول إلا أنك تولي الذال والتاء علامة التثنية. قيل: الظاهر أن ذلك لا مزيد فائدة فيه على اعتبار المفهوم وهو على خلاف عادته المستمرة ولكن فيه فائدة التنصيص إيلاء الحرفين قبل الياء العلامة لأن ذلك كان مفهوماً من

قوله: (واليا إذا ما ثنيا لا تثبت) لا منطوقا به في فصرح به فيه الكلام الثاني، فقد لا يعد مثل هذا تكرارا، وإنما كان يكون تكرارا محضا لو صرح به في الكلامين معا. ثن قال: (والنون إن تشدد فلا ملامه) يعني أن النون اللاحقة في التثنية يجوز تشديدها وهي معنى نفي الملامة، فإنه إذا انتفت الملامة والجناح كان التشديد جائزا، والأصل في نون التثنية التخفيف، والتشديد فيها ممتنع، فلا تشددها في نحو: رجلان والزيدان، فلما كان ذلك كذلك، وكانت الملامة لاحقة لمن شددها، أراد الناظم أن يرفع توهم من يقدر أن نون هذا الباب كذلك. فقال: (إن تشدد فلا) منع من ذلك وحصل الجواز بمقتضى هذا الرفع فتقول: أعجبني اللذان قاما، واللذان قاما، وكذلك اللتان قامتا واللتان قامتا، ومن التشديد قراءة ابن كثير {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} هذا في الرفع، وفي غيره قراءته: {ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس}، و "الملامة" ضد المحمدة، يقال: لامه على كذا لوما ولومة وقال الجوهري: اللائمة: الملامة، كأنه جعله اسم مصدر. قال: وكذلك اللومى على فعلي. يقال: ما زلت أتجرع فيك اللوائم. والملاوم: جمع الملامة. ***

وقوله: بعد هذا مستدركا لما فاته ذكره من ذلك في نون هذين وهاتين: وآلنون من ذين وتين وشددا ... أيضا وتعويض بذاك قصدا يريد أن نون هذين وهاتين شدد أيضا كما شدد نون اللذين واللتين فتقول: هذان الزيدان وهذان الزيدان، ومن التشديد قراءة ابن كثير: {إن هذان لساحران} الآية. و {هذان خصمان اختصموا في ربهم}. وفي غير الرفع قوله تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} في قراءة ابن كثير أيضا، والتشديد أيضا جائز، كما كان جائزا في اللذين واللتين. فإن قلت: من أين يؤخذ له الجواز في هذا؟ فالجواب: إنه لما لم يحتم الحكم بالتشديد، بل أتى به حكاية عن العرب إذ قال: (شددا) يعني أن العرب/ شددته لم يكن في الكلام قضاء بوجوب ذلك مع ما تقدم له من أنهما من قبيل المثنى حقيقة، فالأصل الذي هو التخفيف ثابت، وأيضا فهو مقرون بما تقدم أن التشديد فيه جائز لا واجب وهو اللذان واللتان، فحصل من مجموع هذا عدم انحتامه. ثم بين علة التشديد فقال: (وتعويض بذاك قصدا) ذاك: إشارة إلى التشديد المذكور، ولما ذكره شاملا لاسم الإشارة والموصول كان تعليله شاملا لهما، وذلك صحيح، وأتى بالإشارة

المقتضية للبعد اتساعا، ولأنه قصد قريبا وهو ذان واتن وبعيدا وهو اللذان واللتان، ولأنه قد يعامل القريب معاملة البعيد وبالعكس فلا محذور، ويعني أن العرب قصدت بهذا التشديد أن تعوض من الحرف المحذوف في التثنية فإن الياء تحذف وجوبا من الذي والتي وكذلك الألف من هذان وهاتان. فأرادوا أن يجعلوا التشديد (في ذلك) كالعوض مما حذفوا جبرا له، والعوض يقوم مقام المعوض منه حتى كأنه موجود. فإن قيل: فإذا كان الحذف يقتضي التعويض فهلا عوضوا في يد ودم ونحو ذلك إذا قالوا: يدان ودمان؟ فالجواب: أن التعويض سماع لا يقال به إلا حيث اضطر إليه، وذلك إذا نقل ألا تراهم عوضوا في أهراق وأسطاع الهاء والسين من سلامة العين فيهما، ولم يعوضوا في أقام وأبان، وإن سلم أنه قياس، فإنما يكون التعويض مما كانت التثنية هي السبب في الحذف منه كالذي نحن فيه، أو يكون التعويض عند وجود سببه مطلقا وهذا هو الأعم كاستطاع وأهراق وجحاجحة وما أشبه ذلك مما يحصل التعويض منه عند وجود سببه، أما يد ودم فلم تكن التثنية سببا في الحذف منه فيعوض فيها، بل قصدت في يد ونحوه عدم التعويض وإلا فلو قصدت فيه التعويض لألزمته العوض، كما فعلوا في شية وعدة وزنة ونحوها، وكما في أسطاع ونحوه، فثبت أن التعويض إنما يكون عند حضور سببه.

قال ابن مالك في "شرح التسهيل" ولما كان الحذف مستعملا في الأفراد بوجه، لم يكن التعويض لازما بل جائزا. فإن قيل: هذا الكلام أتى به تعليلا للتشديد وهو لم يتصد للنظر في تعليل المسائل ولا قصد ذلك، وإنما قصده ذكر الأحكام القياسية في الكلام ولا كل ذلك، بل الضروري خاصة، والتعليل من قبيل الزائد على الضروري فلم أتي به وقد كان في غنى عنه ويلزم من تعرضه لتعليل بعض المسائل أن يتعرض لتعليل الجميع أو يترك التعليل في الجميع؟ فالجواب: أنه لم يقصد التعليل خاليا من إفادة حكم ضروري، وإنما قصد التنكيت على المخالف الذي زعم أن التشديد دال على المرتبة القصوى في الإشارة، كما كانت اللام في تلك وذلك عند ذلك القائل دالة على المرتبة القصوى قالوا: فذانك بالتخفيف نظير ذلك في الدلالة على المرتبة الوسطى وذانك بالتشديد نظير ذلك في القصوى. والناظم قد نفي أن يكون ثم مرتبة ثالثة وإنما هما رتبتان/ خاصة، فكأنه قيل له: فهذه الزيادة ما فائدتها، وقد علم أن الزيادة في أسماء الإشارة تفيد الانتقال؟ فأجاب عن هذا: بأن قصد العرب التعويض لا ما قالوه، فإن كان من زعم هذا بقوله بالرأي، فلا رأي مع السماع؛ لأنه نقل لغة واللغة لا تثبت بالرأي، وإن كان يقوله بالنقل فقد قال ابن مالك: يبطل هذا القول جواز التشديد في نون هذين وتين، يعني إذا أشير إلى

القريب وما قاله صحيح فقد قرئ: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} بالتشديد، وهو إشارة إلى القريب قال: ويؤيد صحة هذا الاعتبار جواز تشديد نون اللذين واللتين ليكون جابرا لما فات من بقاء ياء الذي والتي، كما تبقى ياء المنقوص حين يثنى، وقد انتفى أيضا بهذا التعليل وإن كان ذلك غير مقصود من الناظم تعليلان آخران للتشديد ذكرهما السيرافي: أحدهما: أنه جيء به للتفرقة بين ما كانت النون فيه عوضا من الحركة والتنوين، وبين ما كانت فيه عوضا من الحرف، فالأول نحو: الرجلين والغلامين فإن النون لحقتهما كأنها عوض مما منعت من الحركة والتنوين. والثاني: كاللذين وهذين وهذا يقتضي أن مجرد النون في هذان واللذان هو العوض، هذا ظاهر عبارته، إلا أن يريد أ، التشديد لحق للأمرين، للعوض وللفرق وعلى الأول نقله بعضهم، وأن النون في هذين واللذين هي العوض بنفسها، والثاني أن التشديد للفرق بين المبهم وغيره من حيث كان المبهم لا تصح إضافته بخلاف غيره وكلا التعليلين ممكن وما علل به الناظم أظهر وعليه الأكثر. فإن قيل: تقدم أن قصده بالتعليل التنكيت والدفع لمذهب من أثبت في الإشارة الرتبة الوسطى، وأنت قد فسرت أن التعليل غير مخصوص بمحل التنكيت وهو اسم الإشارة، بل أجريت قصده على أنه علل أيضا التشديد في الموصول وليس فيه تنكيت ولا دفع لمذهب، وهذا يقتضي أنه أتى بالتعليل بالنسبة إلى الموصول فضلا، ولعله إنما قصد بذلك اسم الإشارة

فقط وهو محل الفائدة. فالجواب: أن اسم الإشارة هو محل الفائدة كما ذكرت، ولكن لما كانت العلة في التشديد في البابين واحدة أتى به شاملا لهما، ليحصل له ما قصد وزيادة والذي يشعر بقصده للشمول إشارته بذاك المقتضية للبعد، إذ لو أراد اسم الإشارة وهو الأقرب لقال، و (تعليل بهذا قصدا) كما قال في العلم (ذا إن بغير ويه تمت أعربا) فعين أقرب مذكور فلما لم يفعل ذلك دل على أنه قصد الأبعد أيضا وهو الموصول. *** ثم ذكر الجمع فقال: جمع الذي الألي الذين مطلقا ... وبعضهم بالواو رفعا نطقا فابتدأ بجمع الذي وذكر له جمعين: أحدهما: (الألي) والألي في الاستعمال على وجهين: الأول: بمعنى الأول مقلوب منه كقولهم: العرب الألي، أي: الأول. والآخر: جمع الذي فتقول في جمع الذي/ قام الألي قاموا، كما تقول: الذين قاموا. ومنه ما أنشده بعض البغداديين: ألا أيها القوم الألي ينبحونني ... كما نبح الليث الكلاب الضوارع وأنشد النحويون أيضاً:

رأيت بني عمي الألي يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلب وقد تأتي ألي بغير ألف ولام كقول بشر بن أبي خازم: ونحن ألي ضربنا رأس حجر ... بأسياف مهندة رقاق والثاني: الذين على لفظ الجمع المنصوب أو المجرور، وأراد جمع الذي الأولى والذين، فحذف العاطف. وقوله: (مطلقا) يعني في الأحوال كلها من رفع أو نصب أو جر، يعني أن هذا الجمع يقع هكذا بالياء في الرفع والنصب والجر لا يختلف الحكم فيه كما يختلف في المجموع حقيقة، فيكون في الرفع بالواو، وبالياء في غيره ودل على أن هذا مراده بالإطلاق. قوله إثر هذا: (وبعضهم بالواو رفعا نطقا) فتقول على مذهب جمهور العرب: جاءني الذين قاموا، ورأيت الذين قاموا، ومررت بالذين قاموا، ومنه قوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله}، وقال تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا} الآية. ثم قال: (وبعضهم بالواو رفعا نطقا) ضميرهم عائد على العرب، علم

ذلك من سياق الكلام، كما علم أن الضمير من قوله تعالى {كل من عليها فان} عاد على الأرض، فإن كلامه هنا في قوانين الكلام العربي وضبط ما تكلمت به العرب، فعلم أنها المرادة بالضمير، ويريد أن من العرب من يجري الذين، مجرى اللذان فتختلف أحواله بحسب العامل فتقول: جاءني اللذين قاموا، ورأيت الذين قاموا ومررت بالذين قاموا، وهذه لغة مشهورة لهذيل ووجهها على طريقة الناظم ظاهر فاللذون عنده من قبيل المجموع كاللذان في التثنية، فإن الجمع لما كان من خصائص الأسماء عارض شبه الحرف، فأعرب الاسم كما أعربت "أي"، وقد مر تقديره في التثنية، وأما اللغة المشهورة فكأنها معارضة لمذهبه في التوجيه، فإن التثنية إن كانت مؤثرة في الحكم بالإعراب ومعارضة لشبه الحرف لأنها من خصائص الأسماء، فكذلك ينبغي أن يكون الجمع، لأنه أيضا من خصائص الأسماء، لكن العرب لم تعتبر هذه الخاصية في مشهور كلامها، بل أعلمت شبه الحرف من غير اعتبار لغيره، فكذلك يكون عندها الحكم في التثنية، إذ لا فرق في هذا بين التثنية والجمع، فيضعف الاحتجاج في إعراب اللذين ونحوه، بأن التثنية من خواص الأسماء وإذا كان كذلك لم يبق له في دعوى الإعراب دليل إلا جريانه مجرى المثنى، وليس في ذلك دليل، لأن مجرد الجريان مجرى المثنى لا يدل على إعراب الجاري، ألا ترى "من" في الحكاية تجري مجرى المثنى المحكي وليست بمعرفة فتقول لمن قال: جاءني رجلان منان، وفي رأيت رجلين منين، وفي مررت برجلين منين كذلك، وأيضا فقد يبقى المثنى حقيقة فلا تكون تثنيته دليلا على إعرابه نحو: لا رجلين في الدار ويا زيدان وما

أشبه ذلك، فالحاصل أن أصله الذي بني عليه/ غير مخلص. والجواب: أن الناظم بريء عن هذا الاعتراض لأنه لم يبين هنا وجه كون اللذين وهذين ونحوهما مثناة حقيقة ولا كونها معربة، وإنما تعرض للإشارة إلى مجرد التثنية والإعراب، والتعليل منقول من كلامه في "شرح التسهيل" وقد ذهب هنا إلى خلاف ما يذهب إليه هناك، وعلى تسليم أنه يرد هنا فقد اعتذر هو عن ذلك بأنه إنما لم يعربه أكثر العرب، - وإن كان الجمع من خصائص الأسماء- لأن "الذين" مخصوص بأولي العلم، والذي عام، فلم يجر على سنن الجموع المتمكنة، بخلاف اللذين واللتين فإنهما جرتا على سنن المثنيات المتمكنات لفظا ومعنى. قال: وعلى كل حال ففي الذي والذين شبه بالشجي والشجين في اللفظ وبعض المعنى، ولذلك لم تجمع العرب على ترك إعراب الذين، ثم ذكر اللغة الأخرى. وأما ما عارض به السائل من أن الجريان مجرى المثنى لا يدل على الإعراب فليس من مباحث هذا التقييد، إذ لم يتعرض الناظم لذلك. وبقى في كلامه قوله: (جمع الذي الألي الذين) فجعلهما معا جمعا للذي وهذا يفهم بظاهره أنه في الجمعية على حد الزيود والزيدين في جمع زيد، وذلك غير مستقيم، أما "الألي" فهو من غير لفظه فهو كأولى مع ذي اسم جمع له لا جمع حقيقة وهذا متفق عليه،

وأما "الذين" فلا يصح أن يطلق عليه أنه جمع للذي إلا على لغة هذيل، على ما في ذلك من الخلاف، وعلى لغة الجمهور لا يصح فيه ذلك إلا على طريقة أبي الحسن في صاحب، وصحب، إن صح أن يقول بذلك قائل فإنه لم ينقل في ذلك عن أبي الحسن شيء، وعلى مذهب الجمهور هو اسم جمع مطلقا كالمخالف في اللفظ، فهذا الإطلاق فيه ما ترى اللهم إلا أن يقول: إنه جمع جاء مخالفا للجموع، وذلك مغتفر كما اغتفرت مخالفته في التصغير لأبنيه التصغير، ومثل هذا جار في اللاتي المذكور بعد هذا، وهو ممكن لكنه بعيد وقد أشار المؤلف في الشرح إلى الاحتمال. والجواب: أنه أطلق هذا اللفظ على الاتساع في العبارة، واعتبار المعنى مع قطع النظر عن اصطلاح النحوي، والأمر في هذا قريب، وهكذا فعل في أسماء جموع التي فجعلها جموعا لها حيث قال إثر هذا باللاء واللات التي قد جمعا ... واللاء كالذين نزرا وقعا ويعني أن العرب عبرت عن جمع "التي" بهذين اللفظين وهنا "اللائي واللاتي" وهذا اللفظان اسما جمع لا جمعان، غذ ليسا على طريقة الجمع، ولا التي ممن يستحق أن يجمع كما كان ذلك في الذي، إلا أن العرب لما تصرفت فيهما أجرت عليهما أجرت عليهما بعض أحكام الأسماء المتصرفة و "باللاء" متعلق بجمع وإنما عداه بالباء وقد كان الذي ينبغي فيه أن يعديه بعلى على العادة في

التعبير في مثل هذا لأنه اعتبر فيه معنى النطق والتعبير، فضمنه الفعل حتى كأنه قال: /باللائي واللاتي قد عبر عن جمعه أو نطق بكذا في جمعه، فمثال جمعه على "اللاء" هكذا مقصورا كاللاع قوله تعالى: {واللائي يئسن}، {واللائي لم يحضن}، {وما جعل أزواجكم اللائي تظهرون منهن} - الآية. وأنشد النحويون على ذلك: من اللاء تمشي بالضحى مجنة ... وتمشي العشايا الخوزلي رخوة اليد وأنشد الفارسي: من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا ويحتمل اللائي هنا أن يكون في كلامه مهموزا همزة مخففة، وهي

قراءة قالون عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ويحتمل أن تكون مخففة وهي قراءة ورش عن نافع، وإحدى الروايتين عن أبي عمرو والبزي، ومنهم من ينتقل عن ورش أنه قرأ بالياء وهو من المحتمل هنا. قالوا: وهي كلها لغات في اللاء، والأظهر أن الناظم غنما اعتبر اللائي بتحقيق الهمزة، فإن كثيرا من الناس يزعمون أن التخفيف أو البدل ياء أصله

التحقيق وإن كان فيه نظر لعلة تأتي في التصريف إن شاء الله. وأما "اللاتي" في كلامه فيحتمل أن يكون بياء بعد التاء، لكناه انحذفت لملاقاتها للساكن، ومثاله قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم}، {واللاتي تخافون نشوزهن} وهو كثير ويحتمل أن يكون اللات بغير ياء وهي قليلة، ويحتمل الوجهين ما أنشد أبو عبيد من قول الراجز: من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كبرت لداتي والاحتمال الأول أولى لأن إثبات الياء هي اللغة الشهيرة. وقوله: (واللاء كالذين نزرا وقعا) استدراك لجمع آخر للذي وهو اللاء الواقع للمؤنث جمعا لكن إذا لحقه ما لحق الذي من الياء والنون، ويريد أن اللاء جاء قليلا جمعا للذي على حد مجيء الذين، ولما كان الذين وهو الآتي (للجمع المذكر) فيه لغتان: الذين مطلقا في الرفع والنصب والجر، واللذون في الرفع، والذين في النصب والجر، كان الأمر في اللاء كذلك على مقتضى التشبيه لكن قليلا فتقول على الأول: جائني اللائين قاموا، ورأيت اللائين قاموا، ومررت باللائين قاموا. وعلى الثاني: جاءني اللاؤون قاموا، ورأيت اللائين قاموا، ومررت باللائين قاموا، وهي لغة هذيل،

ومن ذلك قول الشاعر: هم اللاؤن فكوا الغل عني ... بمرو الشا هجان وهم جناحي وأما قول الآخر: وإني من اللائين إن قدروا عفوا ... وإن أتربوا جادوا وإن تربوا عفوا وقول الآخر- انشده الفارسي-: ألما تعجبي وترى بطيطا ... من اللائين في الحقب الخوالي فيحتمل أن يكون على اللغة الأولى أو الثانية، وقيد الناظم هذا الوجه بأنه نزر، أي: قليل، وذلك صحيح في هذا الوجه، وهو أحد الوجهين المحتملين في كلامه. ويحتمل وجها ثالثا من التفسير، -وهو الذي شرح عليه كلامه ابنه-: أن يكون قوله: (اللاء كالذين نزرا وقعا) يريد أنه جاء بمعناه مطلقا

لا مقيدا بلحاق زيادة كالذين، بل جاء هذا اللفظ الذي هو "اللاء" جمعا للتي وجمعا للذي إلا أن مجيئه جمعا للذي قليل، فتقول: جاءني اللاء قاموا، كما تقول: جاءني الذين قاموا، / وهذا تفسير صحيح، ومنه ما أنشد الفارسي وغيره من قوله: من النفر اللاء الذين إذا هم ... يهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا وقال كثير: تروق عيون اللاء لا يطعمونها ... ويروى برياها الضجيع المكافح فإن قيل: إذا كان وقوع اللاء كالذين نزرا فما الفائدة في ذكره هنا وهو إنما بني على نقل الأشهر وإلا فللذي والتي جموع أخر، ربما كانت أكثر استعمالا من اللاء جمع الذي أو مثله ألا ترى أن اللائي

ممدودًا جمع للذي، وأن اللائي واللوات واللواتي واللاء مقصورا وهؤلاء كذلك، واللواء ممدودا واللاءات. وإذا ثبت هذا فاقتصاره على ما اقتصر عليه ترجيح من غير مرجح ظاهر وذلك مما لا ينبغي؟ فالجواب: أن الناظم لم ينبه على ما نبه عليه لغير فائدة، بل فيه ما يتأكد عليه ذكره بحسب قصده على كلا التفسيرين، أما على التفسير الأول فإن كلامه تنكيت على ما ذهب إليه في "شرح التسهيل"، وذلك أنه زعم فيه أن اللائين جمع اللاء الذي هو جمع للذي خلاف ما ظهر منه هنا، وفي "التسهيل" أيضا لأنه قال هنا: (واللاء كالذي نزرا وقعا) فبين أنه مثل الذين في الحكم والذين جمع للذي من غير نزاع، فاللائين كذلك فكأنه يقول: لا تعتقد أنه جمع اللاء بل مرادفه، وعلى هذا المعنى ينقله أهل اللغة. قال الجوهري: واللاءون جمع الذي من غير لفظه بمعنى الذين، ومثل هذا يظهر من نقل النحاة أيضا، فهذا أولى من قوله في "شرح التسهيل" والصحيح أن "الذين" جمع الذي مرادا به من يعقل، وأن اللائين جمع اللائي مرادف الذين وأن اللاءات جمع اللاء، مرادف اللاتي، وكذلك اللوائي واللواتي هما جمعا اللائي واللاتي على حد قولهم في الهادي، -وهو العنق-: هواد، وفي الهابي- وهو الغبار-: هواب، وما قاله قياس في اللغة ومدرك مثل هذا النقل، فلو كان النقل موافقا لصحت هذه الدعوى، وأما

إذا كان بخلاف ذلك فالدعوى لا يصح اعتبارها فهذا- والله أعلم- هو الذي نبه عليه الناظم. وأما على التفسير الثاني فإنه لما قدم أن اللاء جمع للتي كان هذا الإطلاق موهما أن اللاء مختص بالمؤنث وليس للذي فيه نصيب فأزال هذا الإيهام، فنقل مشاركة الذي للتي في هذا اللفظ الجمعي وإن كانت المشاركة قليلة فإنها مع قلتها قد تقع في الكلام، وهذا مما ينهض مقصدا في نقل هذا القليل بخصوصه دون غيره وينضاف إلى المقصدين زيادة فائدة لا بأس بالتنبيه عليها، وهو حسن من التنبه وبالله التوفيق. ولما آتم الكلام على أصول الباب من الموصولات وهي الذي والتي وفروعهما أخذ يذكر ما هو جار مجراها ومن إجمالها في أحكامها ومعانيها فقال: ومن وما وأل تساوي ما ذكر ... وهكذا ذو عند طيئ شهر وكالتي أيضا لديهم ذات ... وموضع اللاتي أتى ذوات أما قوله: (ومن وما وأل تساوي ما ذكر) فيعني أن كل واحدة من هذه الأدوات الثلاث وهي: "من" و "ما" و"أل" الألف واللام يعبر عنها بأل قصدا للاختصار تساوي ما تقدم ذكره من الموصولات ومساواتها لما تقدم بحسب ما قصد له في أربعة أحكام: أحدها: الاسمية وهذا متفق عليه فيما سوى "أل"، فإن "من" و "ما"

من قبيل/ الأسماء وخواص الاسم (التي قدم ذكرها) تبين ذلك. وأما "أل" فالجمهور على ما قال من أنها إذا وقعت في هذا الباب اسم لا حرف، أعني إذا دخلت على الصفة الصريحة كما سيذكره، وذهب المازني وربما نقل عن الأخفش أنها هنا حرفية كالألف واللام الداخلة على الرجل والغلام إلا أن المازني يقول: هي حرف موصول، والأخفش يقول: هي حرف تعريف غير موصول هكذا نقل بعضهم. فالدليل على أنها في هذا الباب اسم عود الضمير عليها، إذ كنت تقول: جاءني الضاربة زيد، وجاءتني الضاربها زيد في فصيح الكلام، فالهاء في الضاربة، وها في الضاربها لم يتقدم عليه ما يعود عليه إلا "أل"، فدل ذلك على أنها اسم. فإن قيل: ما تنكر من أن يكون الضمير عائدا على الموصوف المحذوف لأن الضارب صفة فهي بلابد جارية على موصوف، فليس الضمير إذا بعائد على "أل"؟ فالجواب: أنه لو كان كذلك لجاز مع التنكير أن يدعى عود الضمير على الموصوف دون الصفة إذا قلت: مررت بضاحك أبوه، إذ لا فرق بين تقدير الموصوف معرفا وبين تقديره منكرا، بل كان ذلك مع التنكير أولى لأن حذف الموصوف منكرا أكثر من حذفه معرفا، بهذا أجاب المؤلف عن الإيراد وهو جواب غير مقنع، إذ للمازني أن يلتزم ذلك. وقد أجاب غير ابن مالك بأنك إذا أقمت شيئا مقام شيء

محذوف، فالمعتبر هو المثبت لا المحذوف إلا في القليل. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأسأل القرية التي كنا فيها} - فعاد الضمير على القرية في اللفظ وإن كان المراد أهلها، وأيضا قد استدل ابن جني وغيره على أن الكاف تقع اسما أعني كاف التشبيه بنحو قول الأعشى: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل فجعل الكاف في "كالطعن" فاعلة مع إمكان تقدير الموصوف، واعتذر عن ذلك بما هو مذكور في "سر الصناعة" فقف عليه. ومن الدليل أيضا على اسمية "أل" ما كره بعضهم من أنها لو كانت المعرفة لكان لحاقها اسم الفاعل قادحا في صحة عمله مع كونه بمعنى الحال أو الاستقبال، لكن الأمر بخلاف ذلك فعلها باق؛ لأن الصفة مع أل هذه في حكم الاسم الموصول يجب تأولها بجملة مصرح بجزء يها، وهما هنا الفعل والفاعل ولأجل التأويل وجب العمل لها وإن كانت بمعنى الماضي فـ "أل" معها كالذي مع الفعل لا كـ "أل" مع الرجل مثلا، وقد التزم الأخفش إبطال عملها مع "أل" فليس هذا الدليل بوارد عليه، إذ هو نفس دعواه وقد يقول بذلك المازني أو يفرق بين الحرف الموصول وغيره. وأما الدليل على أن "أل" من الموصولات فالتزامهم وصلها إما بالمفرد المقدر بالجملة وإما بالجملة الصريحة، كما التزموا ذلك في "من" و "ما" والذي والتي وأخواتها

فقالوا: جاءني الذي قام أبوه ومن خرج/ أخوه ومن في الدار فكذلك قالوا: جاءني القائم أبوه، واليقوم أبوه، وإن كان هذا قليلا فإن المعنى في الجميع واحد. وقد نقل ابن مالك عن ابن برهان أنه استدل على موصولية "أل" بدخولها على الفعل على الجملة. قال ابن مالك: واستدلاله قوي، لأن حرف التعريف في اختصاصه بالاسم كحرف التنفيس في اختصاصه بالفعل، فكما لا يدخل حرف التنفيس على الاسم كذلك لا تدخل الألف واللام على الفعل، إلا أنها دخلت هنا على الفعل فوجب اعتقاد كونها هنا اسما بمعنى الذي والتي لا حرف تعريف، والكلام في المسألة يتسع، والبحث ممكن، وهذا القدر كاف. والحكم الثاني: من الأحكام الأربعة الموصولية، وهي أيضا متفق عليها في "من" و"ما"، وأما "أل" فكذلك غير أن أبا الحسن يخالف فيها وقد تقدم ذلك وهو بناء على أنها حرف تعريف. وأما المازني فوافق على الموصولية لكن مع اعتقاد الحرفية، وقد مر الاستدلال على خلاف ما زعماه. والحكم الثالث: التذكير والتأنيث، فهذه الأدوات الثلاث توافق المذكر مما تقدم وهو "الذي" والمؤنث وهو "التي" فتقول لمن قال: مررت برجل وبامرأة: عرفت من مررت به، ومن مررت بها، ولمن قال:

مررت بمنزل أبيك وبدار أخيك، عرفت ما مررت به وما مررت بها، وكذلك تقول: عرفت المنزل الممرور به والدار الممرور بها، فقد ساوى "من" و"ما" و"أل" في هذا الاستعمال الذي والتي إلا أن في "من" و"ما" اعتبارين: اعتبار اللفظ وهو مذكر فتعامله معاملة المذكر وإن كان مدلوله مؤنثا واعتبار المعني فتعامله الذي والتي وهذان اعتباران لم يتعرض لهما الناظم، مثل ذلك يعتبر فيهما الإفراد والتثنية والجمع. والحكم الرابع: الإفراد والتثنية والجمع فهي توافق المفرد من الذي والتي، وقد مر تمثيل ذلك وتوافق المثني والمجموع فتقول لمن قال مررت برجلين وبرجال وبامرأتين وبنسوة، عرفت من مررت بهم، ومن مررت بهما، ومن مرت بهن، ولمن قال: مررت بمنزلين أو بدارين وبمنازل أو بدور عرفت ما مررت بهما، وما مررت بهما والمنازل الممرور بها أو بهن، وكذلك تقول: عرفت المنزلين الممرور بهما والمنازل الممرور بها أو بهن، وكذلك في الدارين والدور وما أشبه ذلك، فهذه الأحكام الأربعة تساوى فيها هذه الأدوات ما تقدم، فلذلك لا تختلف ألفاظها مع اختلاف الأحكام لما في ألفاظ ما تقدم وهو معنى قوله: (تساوى ما ذكر) أي: أنها تدل على ما دل عليه جميع ما ذكر مع بقائها على لفظ واحد، ثم الحق بهذه الثلاثة رابعا، لكن في بعض اللغات وهو "ذو" فقال: (وهكذا ذو عند طيئ شهر، يعني أن ذو في لغة طيئ المشهورة حكمها حكم هذا الذي تقدم وهو "ما" و"من" و"أل" فهي تساوي ما ذكر قبل في الأحكام المذكورة، والمعني فإنها من الأسماء لا من الحروف ومن الموصولات لافتقارها إلى صلة وعائد، وهي تقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد فتقول: جاءني الرجل ذو قام والمرأة ذو قامت، كما تقول:

جاءني من قام ومن قامت، فمن وقوعها على/ المذكر قول قيس بن/ 193 جروة- وهو من أبيات الحماسة-: لئن لم يغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحيا بالعظم ذو أنا عارفه أي: الذي أنا عارفه، وقال حاتم: ومن حسد يجور على قومي ... وأي الدهر ذو لم يحسدونني أي: الذي لم يحسدوني فيه، وأنشد ابن الأنباري لقوال الطائي وهو من أبيات الحماسة: قولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا ... هلم فإن المشرفي الفرائض

وفيهما: أظنك دون المال ذو جئت تبتغي ... ستلقاك بيض للنفوس قوابض وهو كثير. ومن وقوعها على المؤنث ما أنشده ابن الأنباري وغيره من قول الشاعر وهو سنان بن الفحل: فإن المال مال أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت والبئر مؤنثة وتقع كذلك على المفرد والمثنى والمجموع فتقول: أعجبني الرجلان ذو قاما، والمرأتان ذو جاءتا، والرجال ذو قاموا، والنسوة ذو قمن. وقد نص أهل اللغة على هذا المعنى وأن "ذو" لا تثنى ولا تجمع على هذه اللغة ولا تؤنث ولا تكون إلا على حالة واحدة، نقل ذلك عن الفراء، وأبي حاتم ونص عليه أيضا الجوهري وغيره. وقول الناظم: (وكالتي أيضا لديهم ذات) استدراك للغة ثانية لطيئ وهي أنهم يخالفون في كلامهم أيضا بين المذكر والمؤنث فيقولون: ذات إذا أرادوا المؤنث، ذو إذا أرادوا المذكر نحو: رأيت زيدا ذو قام، وهند ذات قامت. ومنه ما حكاه الفراء

من قول بعض فحصائهم: "بالفضل ذو فضلكم الله به والكرامة ذات أكرمكم الله به" أراد بها فأسكن الهاء ونقل حركتها إلى ما قبلها. ثم قال: (وموضع اللاتي أني ذوات) موضع منصوب على الظرفية أي: وفي موضع اللاتي أتى هذا اللفظ الذي هو ذات، ويريد في هذه اللغة الأخيرة لطيئ فتقول: رأيت النساء ذوات خرجن، ومنه ما أنشده الفراء من قول الراجز: جمعتها من أينق موارق ... ذوات ينهضن بغير سائق وهذه اللغة عند الناظم غير مشهورة لطيئ شهرة الأولى، يدل على ذلك من كلامه قوله: (وهكذا ذو عند طيئ شهر) فزعم أن جريان "ذو" في الأحوال كلها مجرى "من" و"ما" و"أل" هو المشهور عندهم، ثم ذكر اللغة الأخرى ولم يذكر لها شهرة، فدل على أنها دونها في ذلك وأنهما لغتان، وبهذا ظهرت مخالفته لابن عصفور حيث أشار إلى أنها لغة واحدة مذكرها بخلاف مؤنثها وأنك لا تقول في لغة طيئ: مررت بالمرأة ذو

رأيتها، وإنما تقول: ذات رأيتها، وذكر أنه لا حجة في قول سنان: *وبئري ذو حفرت وذو طويت* قال: لأنه جاء على تذكير البئر وذلك على مني قليب، كأنه قال: وقليبي الذي حفرته وطويته. كما قال: يا بئر يا بئر بني عدي ... لا نزحن قعرك بالدلى حتى تعودي أقطع الولى فقال: أقطع بالتذكير على معنى قليب، وجرى على هذا السنن الأبذي أيضا ورد عليه ابن الضائع بوجهين: أحدهما: ما أشعر به الناظم من أنه لم يذكر "ذات" كل من ذكر ذو. قال: فهذا/ يدل على أن "ذو" أشهر من "ذات". قال: ولو كان مؤنثا لها كالتي مع الذي لم يكن أحدهما أشهر؛ لأن المذكر ومؤنثه في رتبة واحدة. والثاني: أن التأويل في "ذو" قياسا على الصفة لا يجوز لأن

التأويل في الصفة بالحمل على الفعل، فالصفة الجارية على الفعل يجوز فيها ما لا يجوز في غير الجارية. ألا ترى أن من قال: جاء الموعظة لا يقول مشيرا إليها: هذا الموعظة. قال: ولذلك زعم الخليل في قوله: {هذا رحمة من ربي} أن الإشارة إلى المطر لا إلى الرحمة. قال: وذو أقرب إلى أسماء الإشارة منها إلى الصفة الجارية. وذوات على مذهب ابن عصفور مثل: ذات فذو مذهبه كالذي، وذات كالتي، وهو الذي نقله عنه المؤلف في "شرح التسهيل" فقال: وأطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها، ويظهر هذا منه في "المقرب" والمردود عليه، إنها هو الإطلاق في جميع لغة طيئ كما تقدم، وأما كون "ذو" تثنى وتجمع وتؤنث عند بعض طيئ فهو ثابت كما سيأتي إثر هذا بحول الله، وبعد فإنه يتعلق بكلام الناظم هنا مسائل: إحداهما: أنه قد تبين اسمية "أل" عنده من ظاهر كلامه هنا، فهل تدخل له في التعريف الذي ذكره أم لا؟ فقد عرف الأسماء بخواص دخل له بها أكثر الأسماء. والجواب: أن "أل" غير داخلة له في التعريف الأول، إذ الجر لا يصلح معرفا لها، لأنك إن أدخلت حرف الجر فقلت: للراكب أو للحسن، لم يكن بينه وبين قولك للرجل وللفرس فرق، وكذلك الإسناد إليها نحو: جاءني الضارب، لا فرق بينه وبين جاءني الرجل. وأما التنوين والنداء وأل فأبعد في التعريف فالإنصاف أن "أل" مما خرج عن تعريفه الأول.

والثانية: أن هذه الأدوات مبنية لما تقدم من سبه الحرف، أما "من و"ما" و"أل" فظاهر وأما "ذو" فقد أشعر كلامه بذلك حيث قال: (وهكذا ذو عند طيئ شهر) يعني بهذا اللفظ بعينه فتقول جاءني الرجل ذو أكرمك، ورأيت الرجل ذو أكرمك، ومررت بالرجل ذو أكرمك ومثل ذلك ما ذكر من ذات وذوات هما مبنيان على الضم في الأحوال كلها، ويشهد لذلك ما تقدم من الشواهد نحو: *لأنتحيا بالعظم ذو أنا عارفه* وقوله: بالفضل ذو فضلكم الله به والكرامة ذات أكرمكم الله به، وما كان شبه ذلك، والبناء فيها على القياس، ولذلك لم يشعر الناظم بخلافه، وقد جاء الإعراب في "ذو" قليلا، وأنشدوا لمنظور بن سحيم- وهو من أبيات الحماسة-: فإما كرام موسرون أتيتهم ... فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا وإما كرام معسرون عذرتهم ... وإما لئام فادكرت حيائيا ويروي: "من ذو عندهم" على الأصل، وروى أبو زيد عن العقيليين: دعينا إلى طعام فأكلنا منه ... حتى تركناه من ذي إلينا أي: من ذوات أنفسنا، وحقيقته من الرأي الذي إلينا، حكى

الزمخشري في المحاجاة النحوية أن من الطائيين من يغيرها في الرفع والنصب والجر. وقيل في قولهم: "اذهب بذي تسلم" أنه من ذلك، أي: / بالسلامة التي تسلمها. والثالثة: أن الناظم خص "ذو" و"ذات" و"ذوات" فأسندها إلى طيئ وأطلق القول في الذي والتي وفروعهما وفي "من" و"ما" و"أل"، فدل ذلك على أن ماعدا "ذو" و"ذات" و"ذوات" تشترك فيها طيئ وغيرها، إذ لو لم يكن كذلك لوجب أن يذكر اختصاص غيرها ذلك، كما ذكر اختصاصها بذو وما ذكر معها، وذلك صحيح، إذ تلك الأدوات كلها تستعملها طيئ وتتكلم بها فتقول: جاءني الذي قام، والتي خرجت، وجاءني من جاءك، ورأيت ما صنعته وما أشبه ذلك، لكنها تختص وذات بذو بمعني الذي والتي، وكذلك فروعهما عندها فقال حاتم الطائي: أما والذي لا يعرف السر غيره ... ويحيي العظام البيض وهي رميم وقال معدان بن عبيد الطائي: فأما الذي يحصيهم فمكثر ... وأما الذي يطريهم فمقلل وقيل قيس بن جروة هو عارق الطائي:

ألاحي قبل البين من أنت عاشقه ... ومن أنت مشتاق إليه وشائقه ومن لا توالى داره غير فتية ... ومن أنت تبكي كل يوم تفارقه ثم قال فيها: إلي الملك الخير ابن هند تزوره ... وليس من الفوت الذي هو سابقه ثم جمع بين "ما و"ذو" فقال: لئن لم يغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحيا للعظم ذو أنا عارفه وقال بعض الطائيين أيضا: لنا الحصنان من أجأ وسلمي ... وشرقياهما غير انتحال وتيماء التي من عهد عاد ... حميناها بأطراف العوال وقال بعض بني بولان- وهم من طيئ-: بني رجل لو كان حيا أعانني ... على ضر أعدائي الذين أمارس وقال بعضهم- والجميع من أبيات الحماسة-:

فإن تكن الأيام حالت صروفها ... ببؤسي ونعمي والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ... ولا ذللتنا للتي ليس تجمل ولكن رحلناها نفوسا كريمة ... تحمل مالا يستطاع فتحمل وأما "أل" فاستعمالها عندهم أشهر من أن يستشهد عليه، والمقصود في الجميع التنبيه على أن تلك الأدوات من المستعمل المشهور في لغتهم حذرا أن يظن ظان أن "ذو" عندهم عوض من "ما" و"من" و"الذي" وغيرهما مما ذكر حيث لا يجتمعان في كلامهم. والرابعة: أنه حكي عن طيئ في اللغة الثانية أنهم يقولون في المفرد المؤنث "ذات" وهو مقابل "ذو" في المذكر وأنهم يقولون في الجمع المؤنث "ذوات" وهو الموضوع موضع "اللائي" ولم يذكر له مقابلا ومقابله في المذكر إذا وجد ذوون أو نحوه وهذا النقل هكذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون على ظاهره من الاقتصار في التفريع على "ذات" في المفرد المؤنث وعلى "ذوات" في الجمع المؤنث وأن ماعدا ذلك فمقتصر به على "ذو" ويظهر هذا من اقتصاره على موضع السماع المشتهر عند النقلة، وهو أيضا ظاهر كلامه في "شرح التسهيل"، حيث قال، وأطلق ابن عصفور القول بتثنيتها وجمعها قال: وأظن حامله على ذلك قولهم: ذات وذوات بمعنى التي واللاتي فأضربت عنه لذلك. والثاني: أن يكون أراد أن التفريع في ذو جار على الإطلاق في هذه اللغة في التثنية والجمع المذكر والمؤنث، والتأنيث/ إنما أتى

به تنبيهاً على ما بقى من الفروع، فتكون ذو إذ ذاك تثنى وتجمع وتؤنث على ما ظهر من ابن عصفور. وقد ذكر ذلك ابن السراج في "الأصول"، و"الهروي" في "الأزهية"، وذكر الأزهري عن الفراء قال: قد يخلطون في ذو في الاثنين والجميع فربما قالوا: هذان ذو تعرف، وربما قالوا: هذان ذو تعرف، وهؤلاء ذو تعرف، ويجعلون مكان التي "ذات" ويرفعون التاء على كل حال، وفي تثنيتها ذواتا تعرف، وهؤلاء ذوات تعرف وأظن المؤلف لم يطلع على هذا النقل، فلذلك قال في نقل ابن عصفور ما قال وعلى الجملة فنظمه أسعد بنقله، والله أعلم. *** ثم قال: ومثل ما "ذا" بعد ما استفهام ... أو من إذا لم تلغ في الكلام يعني أن هذا اللفظ مثل "ما" في أحكامه المذكورة وهي الاسمية والموصولية والمساواة لما تقدم في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، وأصل المعني فتقول: ماذا رأيته؟ ومن ذا لقيك؟ وأنت تريد مفردا أو مثني أو مجموعا مذكرا أو مؤنثا، لكن لا يكون كذلك إلا بشرطين صرح بهما:

أحدُهما: أن تقع بعد "ما" التي للاستفهام أو "من" أي: التي للاستفهام أيضا وذلك قوله: (بعد ما استفهام أو من) وإنما لم يقيد "من" تصريحا للعلم بأن القيد مراد له وتحرز بهذا الشرط من شيئين: أحدهما: أن تقع بعد "ما" أو "من" غير الاستفهاميتين فإنها هناك لا تكون موصولة نحو ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: دعى ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيب نبئيني فـ "ما" و"ذا" هنا كلاهما شيء واحد بمعنى الذي أو بمعنى شيء، إذ لا يصلح فيهما غير ذلك. والثاني: أن تقع عارية عن "ما" و "من" نحو ما أنشده الكوفيون من قول الشاعر: عدس ما لعباد عليك إمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق فـ "ذا" هاهنا ليست موصولة بمعنى الذي وإنما هو اسم إشارة على أصله "وتحملين" حال تقديره: وهذا حالة كونه محمولا طليق، وزعم الكوفيون أن أسماء الإشارة- و"ذا" منها- تقع موصولات بدون هذا الشرط، ومن ذلك عندهم قول الله تعالي: {وما تلك بيمينك يا موسى} - فالتقدير عندهم:

وما التي بيمينك، وكذلك يقدرون البيت والذي تحملين طليق، وبيمينك، وتحملين صلة قالوا: لأنه لم يرد أن يخبر عن هذا بأنه محمول، ولو كان كذلك لم يجز حذف الضمير من "تحملين" ولا يجوز أن يكون هذا مفعولا لـ "تحملين"، إذ لا وجه لـ "طليق" كذلك، ولا المعنى عليه. واعتذر البصريون عن حذف الضمير بأنه قد يجوز حذفه من الخبر والصفة والحال، والذي دعاهم إلى هذا التأويل الهرب من إثبات ما لم يثبت في كلام العرب، فالصحيح ما ذهب إليه البصريون والناظم، حين اشترط في وقوعها موصولة أن تقع بعد "ما" أو "من". والشرط الثاني: أن تكون "ذا" غير ملغاة في الكلام، وإليه أشار بقوله: (إذا لم تلغ في الكلام) وإلغاء "ذا" على وجهين: أحدهما حقيقي والأخر حكمي. أما الحقيقي: فأن تجعل مقدرة السقوط كأنها لم تذكر، ومنه ما أنشده الفارسي في "التذكرة" عن أبي الحسن: يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ... لا يستفقن إلى الديرين تحنانا قال أبو الحسن: أراد ما بال نسوتكم، إذ/ لا معني لـ "ذا" في البيت.

وأما الحكمي: فأن تقدر "ذا" مع "ما" أو "من" شيئا واحدا لا أن تقدر سقوطها كقولك: ماذا صنعت أخيرا أم شرا، ويحكم على موضع "ماذا" بالحكم الذي تستحقه "ما" من رفع أو نصب أو جر، وعلى موضع "من ذا" بالحكم المستحق لـ "من" كذلك نحو: من ذا أكرمت أزيدا أم عمرا؟ فكأن "ذا" في الحكم غير موجودة، ومن ذلك قول الله تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا ربكم قالوا خيرا}، وقوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} على قراءة النصب وهي لمن عدا أبا عمرو بن العلاء، فإذا وجد الشرطان ثبت كون "ذا" موصولة بمعنى الذي وغيرها، ومن ذلك قراء غير أبي عمرو، "ماذا ينفقون قل العفو" بالرفع، وأنشد سيبويه للبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أتحب فيقضى أم ضلال وباطل ومن أمثلة ذا مع "من" قول الأعشى: وغريبة تأتي الملوك كريمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها

وأنشد المؤلف لأمية بن أبي عائذ: ألا إن قلبي لدى الظاعنينا ... حزين فمن ذا يعزى الحزينا ويرد على الناظم هنا سؤالان: أحدهما في لفظ الإلغاء، فقد غمزه شيخنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار- رحمة الله عليه- فيما علق من "الطرر على هذه الأرجوزة". فقال: كان أولى به أن يعدل عن لفظ الإلغاء إلى لفظ التركيب لنص سيبويه على منع ذلك، يعني الإلغاء على حقيقته لقوله: فلو كان "ذا" لغوا لما قالت العرب: عماذا تسأل، ولقالوا: عم ذا تسأل، ولكنهم جعلوا "ما" و "ذا" اسما واحدا، كما جعلوا "ما" و "إن" حرفا واحدا حين قالوا: إنما، قال الأستاذ، فإن أراد الناظم بالإلغاء ما أراد أبو القاسم يعني الزجاجي بقوله: صلة لما، أي: أنها كجزء مما قبلها، فصارت بمنزلة ما ليس في الكلام من حيث لم يكن لها حكم نفسها، بخلاف الوجه الآخر فهذا وجه وإن أراد بالإلغاء الزيادة فقد رده سيبويه فتأمله، انتهى كلام الأستاذ وما قاله حسن، وقد تقدم من تفسير

كلام الناظم ما بين مراده بالإلغاء، وأنه أراد الإلغاء بالاعتبارين، فلو أتى بلفظ التركيب لفاته التحرز من الإلغاء الحقيقي، لكنه أتى بما يحصل به الوجهان، إذا التركيب كما قال: إلغاء معنوي، وعلى هذا السبيل جرى في "التسهيل" فلم يذكر في هذا الشرط الإلغاء وحده، وفسره بالحقيقي والحكمي كما مر. والثاني: أن كلامه يقتضى إذا توفر الشرطان أن تكون بمعنى الذي ونحوها أي: موصولة بلابد، وليس كذلك، بل قد تكون كذلك وقد يكون اسم الإشارة يفيد معناها ولا يحتاج إلى صلة كما تقول: ما هذا الرجل؟ وما هذا الثوب؟ وهذا مما لا يمنعه ابن مالك ولا غيره، فإذا كان حقه أن يحترز من ذلك كما فعل في "التسهيل" إذا قال: و "ذا" غير ملغي ولا مشار به إلى آخره، لكن لم يفعل ذلك، فكان اشتراطه قاصرا لنقص شرط ثالث وهو: ألا تكون "ذا" مشارا بها. والجواب: أنه ليس في كلامه ما يدل على أن الموصولة تختص بالموضع الذي يجتمع فيه الشرطان حتى لا تقع هناك المشار بها البتة، وإنما فيه أنها لا تكون موصولة إلا مع اجتماعهما وهو صحيح، إذ لا تقع موصولة إذا كذلك. فقوله: (ومثل ما "ذا" بعد ما استفهام) إلى آخره" معناه أنها تكون مثل "ما" عند اجتماع الشرطين والاختصاص بذلك الموضع غير مشار/ إليه في كلامه فلا اعتراض عليه.

واعلم أن الناظم أثبت كون "ذا" مثل، "ما" إذا أتت بعد "من" أو "ما"، أما إذا أتت بعد "ما" فمتفق على ذلك فيها، وأما إذا أتت بعد "من" فغير متفق عليه، لكن ظاهر كلام سيبويه أنها كذلك أيضا، قال في "باب ما ينتصب لأنه حال صار فيه المسئول والمسئول عنه: "وأما قولهم: من ذا خير منك، فهو على قوله: من ذا هو خير منك، لأنك لم ترد أن تشير أو تومئ إلى إنسان قد استبان لك فضله على المسئول فيعلمه، ولكنك أردت من ذا الذي هو أفضل منك. قال: فإن أو مأت إلى إنسان قد استبان لك فضله عليه فأردت أن يعلمك نصبت كما قلت: من ذا قائما. قال ابن خروف: قدر "ذا" في هذه المسألة بالذي لما لم يكن في المسألة مشار إليه فقدرها به لبيان المعنى، فعل في قوله: من ذا قائما بالباب، يعني أنه قدرها بمن الذي هو قائم بالباب. قال: ولم يذكر أن "ذا" تكون بمعنى الذي إلا مع "ما" في ماذا قط. قال: ولا يمكن أن تكون هنا إلا بمنزلة الذي، كما كانت مع "ما" في "ما" و "ذا" ولا يمكن غيره، ثم حكي عن شيخه أبي بكر أنه كان يذهب إلى أنها إشارة إلى جنس حاضر غير معين

قال: ثم رجع عنه، وحكى ابن الضائع عن الشلوبين أنه كان يتأول كلام سيبويه على الإشارة، وأن "ذا" لا تكون بمعنى الذي إلا مع "ما" ويجعل تقديره في الرفع كتقديره في النصب. قال: ويقويه حذف الضمير من الصلة. قال ابن الضائع: وقد سمعته بعد يأخذ على ظاهره أن "ذا" بمعنى الذي تحقيقا، هذا ما في المسألة من الخلاف، وقد اعتمده ابن الضائع خلافا، وفي التحقيق ليس بخلاف لرجوع المخالف عن مخالفته، ولذلك- والله أعلم- لم يشر في "التسهيل" إلى شيء من ذلك، فإن اعتمده أحمد خلافا فالناظم مع سيبويه والجمهور، وهو الصحيح إن شاء الله، و (في الكلام) من قوله: (إذا لم تلغ في الكلام) متعلق بـ (تلغ) أبو باسم فاعل محذوف ينتصب حالا من ضمير (تلغ) أي: إذا لم تلغ حالة كونها موجودة في الكلام. ويقال: ألغيت الشيء إذا أسقطته وأبطلت اعتباره، وهنا تم له ما أراد من المسألة الأولى من مسائل هذا الباب، إذا لم يبق له من الموصولات ما لم يذكره إلا أيا فإنه آخرها لما تعلق بها مع بعض الأحكام الخاصة. *** ثم أخذ في بيان المسألة الثانية فقال: وكلها تلزم بعده صله ... على ضمير لائق مشتمله هذه المسألة يذكر فيها ما يلزم هذه الموصولات التي فرغ من ذكرها من الصلات والعوائد وما يتعلق بذلك، وقدم أولا أن هذه الموصلات لابد لها من صلات، ولذلك سميت موصلات، وسبب وصلها أنها لا يتبين معناها بنفسه، فإذا قلت: جاءني الذي واقتصرت لم يفهم من الذي شيء.

فإذا قلت: الذي قام، أو الذي عندك تبين بتلك الصلة معنى الذي فساوى بها معنى زيد، إذا قلت: جاءني زيد، أو عمرو في قولك: جاءني عمرو فصارت إذا الصلة من الموصول بمنزلة جزء الاسم من الاسم، فلهذا السبب لزمت، ولأجله حتم الناظم بذلك فيها حيث قال: (وكلها تلزم بعده صله) وذلك صحيح إلا أن الصلة قد تحذف لفظا اختصارا لدلالة ما قبلها أو بعدها عليها، أو/ لأن المراد توكيد الموصول كقول العجاج: بعد اللتيا واللتيا والتي ... إذا علتها أنفس تردت وأنشد الفارسي وغيره: من اللواتي والتي واللاتي ... يزعمن أني كبرت لداتي وأنشد أيضا: فإن أدع اللواتي من أناس .... أضاعوهن لا أدع اللذينا

وقد يأتي الموصول دون صلة: *وكفيت جانبها اللتيا والتي* ومثل هذا مما لا يعتد به مع أنه عندهم مؤول، لأن اللتيا والتي عبارة عن الداهية، وحذفت الصلة لعلم السامع أنه يريد التي عظمت وجلت وما أشبه ذلك فالصلة إذا لازمة على كل حال لا يخرج عن حكم اللزوم شيء من الموصولات وذلك قال: (وكلها) فأكد بكل المقتضية للعموم، ثم إنه صرح بأن صلة الموصول لابد أن تشتمل على وصفين: أحدهما: أن تقع بعد الموصول فإنه قال: (تلزم بعده) والضمير عائم على كل ومدلوله الموصول، فلما عين لها موضعا كان ذلك تصريحا أو كالتصريح بمنع تقدمها، ويلزم من ذلك أيضا منع تقدم بعضها، إذا لو تقدم بعضها لم يصدق عليها أنها وقعت بعد الموصول على الإطلاق، فإذا لا يجوز أن تقول: جاءني ضربته الذي، ولا جاءني إياه الذي ضربت، ولا جاءني عندك من قعد ولا ما أشبه ذلك، ومن هنا قوى عند الجمهور موصولية الألف واللام حيث لم يجز: أعجبني زيد الضارب، ولا كلمت عنك المعرض، وما جاء بخلاف ذلك في الظاهر فمحمول على محذوف كقوله تعالى: {وكانوا فيه

من الزاهدين} فـ "فيه" لا يتعلق بـ "الزاهدين"، ولكن بمحذوف دل عليه والتقدير: وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين، أي: من جملة الزاهدين، ومثله قوله تعالى: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} وكذلك قال: {إني لعملكم من القالين}، ومثل ذلك قول بعض السعديين: تقول وصكت صدرها بيمينها ... أبعلى هذا بالرحا المتقاعس ووجه ذلك أن الصلة من كما الموصول وبمنزلة جزء منه، فكما لا يتقدم الدال من زيد مثلا على الباقي كذلك لا يتقدم ما هو بمنزلته، ومعمول الصلة جزء من الصلة، لأن المعمول تابع للعامل في الأصل تبعية الجزء، ولذلك لا يتقدم المعمول عند جماعة إلا حيث يصح تقدم العامل، ألا ترى أن الفارسي

استدل على جواز خبر "ليس" عليها بتقدم معمول خبرها عليها في قوله تعالى: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} وكذلك لا يفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، كما لا يفصل بين أجزاء الكلمة وهذا كله ظاهر. والوصف الثاني: أن تكون الصلة مشتملة على ضمير عائد على الموصول، ليربط الصلة بالموصول، وذلك قوله: (على ضمير لائق مشتمله) و (على) متعلق بـ (مشتملة) صفة لصلة، أي صلة مشتملة على ضمير لائق، وقد حصل أن الصلة إذا لم يكن فيها ضمير عائد على الموصول لا يصح أن تقع صلة له فلا تقول: أعجبني الذي قام زيد، ولا جاءني الذي خرجت إلا أن يكون نم إليه أو ما أشبه ذلك مما يعود منه إليه ضمير، ولأجل هذا منع الفارسي في "التذكرة" أن تقع "نعم" و "بئس" صلة فلا تقول: الذي نعم الرجل أو بئس الغلام لعدم الراجل إلى الموصول قال: فإن أظهرته فقلت: مررت بالذي هو نعم الرجل جاز، وكذلك إن حذفته وأنت تريده، وقد منه أيضا بعض النحويين من الوصل بجملتي القسم، والجواب والشرط والجزاء إذا خلت إحدى الجملتين من ضمير عائد على الموصول، فالقسم والجواب عند هؤلاء لا يقع صلة أصلا، لخلو جملة القسم من

ضمير لزوماً، وكذلك إذا قلت أعجبني الذي إن قامت هند أكرمته لا يجوز، حتى تقول: الذي إن قامت هند من اجله أكرمته، وهذا وإن كان غير مرض ففيه ما يقوى دعوى لزوم الضمير العائد، وكذلك مسألة الفارسي مختلف فيها أيضا، كما سيأتي بعيد هذا بحول الله. (ولائق) معناه: مناسب، أي مناسب للموصول، وأصل لاق أن يكون بمعنى لصق ولاق به الثوب، أي: لصق به، وهذا الأمر لا يليق بك، أي: لا يلصق بك، يعني في المناسبة بينك وبينه، فيريد بقول: (لائق) أن يكون مناسبا أن يعود على الموصول، فإن كان الموصول مفردا مذكرا عاد عليه ضمير المفرد المذكر وإن كان مثنى عاد عليه ضمير الاثنين أو مجموعا عاد عليه ضمير الجمع، وكذلك المؤنث في هذه الأحوال فتقول: أعجبني الذي أكرمته والتي أكرمتها، واللذان أكرمتهما والذين أكرمتهم، واللاتي أكرمتهن وما أشبه ذلك، وكذلك "من" و "ما" إذا قلت: جاءني من أكرمته، وأعجبني ما صنعته، فإذا كان المراد بهما المثنى أو المجموع أو المؤنث فإنه يليق بهما اعتبار اللفظ فيعاملان معاملة المفرد المذكر كما مثل، ويليق بهما اعتبار المعنى فيعاملان تلك المعاملة فتقول: جاءني من أكرمتهما، وفي التنزيل الكريم، {ومنهم من يستمع}. وفي موضع آخر: {من يستمعون إلي}، وكذلك تقول: أعجبني ما صنعته وما صنعتما وما صنعتن، وعلى هذا السبيل يجرى الحكم فيما أشبههما وجميع هذا منتظم تحت قوله:

(على ضمير لائق مشتملة) وهو حسن من التعبير. *** ثم شرع في تعيين الصلة لكل موصول فقال: وجملة أو شبهها الذي وصل ... به كمن عندي الذي ابنه كفل وصفة صريحة صلة "ال" ... وكونها بمعرب الأفعال قل الذي وصل به مبتدأ خبره جملة، و (به) هو المقام لـ (وصل) مقام الفاعل، لأنه حذف المفعول للعلم به وهو الموصول، وقد يكون المقام هو المفعول ولم يحذف، بل هو مستتر عائد على كل و (الذي) واقع في الوجهين على الصلة و (به) عائد على الذين، ويريد أن صلة الموصول على الإطلاق إنما تكون جملة أو ملابسة الجملة. فأما الجملة: فهي الكلام التام سواء أكانت اسمية أم فعلية، فالاسمية نحو: زيد قائم، والفعلية نحو: قام زيد، فمثال ما وصل بالجملة الاسمية أعجبني الذي أبوه قائم ومثال ما وصل بالفعلية: أعجبني الذي أبوه قائم ومثال ما وصل بالفعلية: أعجبني الذي قام أبوه، وكذلك الحكم في سائر الموصولات ما عدا "أل" حسب ما يأتي، وإطلاقه الجملة ينتظم له ما كان من الجمل منحلا إلى مفردين وهو الذي مثل به وما كان منها منحلا إلى جملتين جملة الشرط والجزاء وجملة/ القسم والجواب، فهذا مما يوصل به على مقتضى إطلاقه، وأولى أن يوصل بما ينحل إلى مفرد وجملة، لأنه في حكم ما ينحل إلى مفردين. وقد زعم بعضهم أن جملة القسم والجواب لا يوصل بهما ألبته

بناء على أن إحدى الجملتين خالية من الراجع إلى الموصول، وهي جملة القسم، وأن جملة الشرط والجزاء لابد في كلام جزأيهما من ضمير وإلا لم يجز، فعند من قال بهذا لا تقول: أعجبني الذي (والله إنه لفاضل، ولا أعجبني الذي إن أكرمت) زيدا أكرمته حتى تقول: أعجبني الذي إن أكرمته أكرمت زيدا من أجله أو أعجبني الذي إن أكرمني أكرمته وما أشبه ذلك. قال ابن الضائع: وهذا خطأ لأن هاتين الجملتين صارتا جملة واحدة. والدليل على ذلك أن إحداهما غير مستقلة مع الارتباط، بل لابد من ذكرهما معا قال: ثم لا يمنع جاءني الذي لأضربنه من عنده مسكة من اللغة. قال: ثم إن هذا ليس للغة فيه مجال، بل هو معنى لا يصح أن يخالف فيه أحد من العقلاء لأن الفطرة السليمة تقبل مثل هذا الإخبار وهو أن تقول: زيد والله لأضربنه وكذلك بالله لأضربنه، وكذل زيد إن يكرمني يحسن حالي. وقال امرؤ القيس: وأنت إذا استدبرت سد فرجه .... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل قال: ومثله في الكلام كثير، ومعنى صحيح في كل لغة. قال: ثم أي فرق بين الوصل والخبر؟ فكما يجوز الخبر بجملة الشرط والجواب كذلك جوز الوصل ولا فرق بينهما في ذلك أصلا، ولهذا إذا ارتبطت الجملتان بالفاء جاز

أيضًا أن يكون الضمير في إحداهما وتكون الأخرى خالية عنه وإن كانت الخالية هي الأولى لارتباطهما بالفاء وصيرورتهما جملة واحدة، وعلى هذا كان الشلوبين يجيز في قول زهير: *إن الخليط أجد البين فانفرقا* رفع البين على أن يكون فاعلا بـ "أجد"، ويكون الضمير العائد على اسم "إن" في قوله: "انفرق" وجاز لارتباطهما بالفاء وعلى هذا التقدير قد تدخل للناظم الجملتان المرتبطان بالفاء لأنهما في حكم الجملة الواحدة فتقول: الذي يطير الذباب فيغضب زيد، والذي تطلع الشمس فأكرمه عمرو وما أشبه ذلك وأما شبه الجملة الذي أشار إليه فهو ضربان: أحدهما: الظرف وما في معناه وهو المجرور نحو: جاءني الذي عندك وأعجبني من في الدار، وأحببت ما لديك وما أشبه ذلك، وهذا الضرب لا يختص به واحد من الموصولات دون غيره، كما لا يختص بالجملة شيء منها دون البواقي. فإن قلت: جعله الظرف والمجرور شبه الجملة مشكل، بل هما من قبيل الجمل، ألا ترى أنهما يقدران بالجملة لا بالمفرد، فتقدير ذلك الذي استقر عندك، ومن استقر في الدار أو نحو ذلك ولا تقدره بالمفرد فتقول: الذي مستقر في الدار أو عندك، لما سيذكر في باب الابتداء إن شاء الله.

قيل: إن تقديرهما بالجملة لا يخرجهما عن كونهما من قبيل ما ليس بجملة في التحصيل لأنه تقدير لا ينطق به وهم مما يهملون اعتباره في اللفظ بحيث لا يكون الظرف والمجرور عندهم في حكم ذلك التقدير حسب ما يذكر./ بعد إن شاء الله، فلهما منزلة بين منزلتي المفرد المحض والجملة المحضة، فلذلك أخرجهما عن الجملة بقوله: (أو شبهها)، وأتى للجملة ولهذا الضرب الشبيه بها بمثالين في كلام واحد وهو قوله: (كمن عندي الذي ابنه كفل) فقوله: (من عندي) تمثيل شبه الجملة وهو الظرف وفي معناه المجرور. وقوله: (الذي ابنه كفل) تمثيل الجملة، ومن عندي مبتدأ خبره الذي ابنه كفل، أو يكون "من" خبرا والمبتدأ هو الذي، فقدم وأخر، والعائد من الظرف على الموصول مقدر في الظرف وتقديره اللفظي: من استقر هو عندي، والعائد من الجملة الهاء في ابنه. فإن قلت: فأين العائد من الخبر على المبتدأ في مثال الناظم؟ قيل: ضمير ابنه، فإن قلت: إنما الهاء في ابنه عائدة على الذي؟ قيل: وإن كان كذلك فهو يكفى في الربط، لأنه أيضا راجع إلى المبتدأ من جهة المعنى، فالربط حاصل بين المبتدأ والخبر كما كان رابطا في قولك: زيد القائم، فضمير القائم عائد على "أل" وهو عائد أيضا على زيد، ثم إن في كل واحد من المثالين إشارة إلى شرط معتبر فيما مثل به. فأما المثال الأول بالظرف فقد تضمن اشتراط التمام في الظرف والمجرور، ومعنى كونه تاما أن يستقل في الإخبار عن المعنى المراد بالموصول، كما كان ذلك في قوله: (من عندي) فإن عند تستعمل في الإخبار عن الموصول، كما تقول: زيد عندي.

فإن قلت: جاءني الذي اليوم أو الذي في اليوم لم يجز، كما لا يجوز زيد اليوم ولا زيد في اليوم، ولو قلت: أعجبني الخروج الذي في اليوم لجاز لأنك تقول: الخروج في اليوم، ومثل ذلك المجرور لابد أن يكون تاما نحو: جاءني الذي في الدار والمال الذي لك. ولو قلت: جاءني الذي عنك أو الذي فيك لم يجز، كما لا يجوز زيد فيك ولا زيد عنك، وأما المثال الثاني: فأشار به إلى شرطين لازمين: أحدهما: كون الجملة خبرية تحتمل الصدق والكذب وذلك قوله: (ابنه كفل) فكأنه قال: وجملة أو شبهها الذي وصل به إذا كانت على هذه الصفة. فأما إن كانت غير خبرية فلا يجوز أن يوصل بها فلا تقول: جاءني الذي أضربه ولا أكرمت الذي هل رأيته؟ ولا جاءني الذي لعلى مثله، وما جاء من قول الشاعر: وإني لرام نظرة قبل التي ... لعلى وإن شطت نواها أزورها فشاذ، وعلى هذا لا يقع فعل التعجب صلة ولا نعم وبئس ولا عسى ولا حبذا ولا كم الخبرية ولا رب ولا ما أشبه ذلك من الإنشاءات التي لا تحتمل الصدق والكذب فلا تقول: أعجبني الذي ما أحسنه أو أحسن به، ولا أتاني

الذي نعم الرجل أو بئس الغلام ولا أتيت الذي عساه أن يكرمني، ولا جاءني الذي كم درهم أعطيته، ولا غير ذلك، وهذا بخلاف جملة القسم والجواب؛ فإن جملة القسم وإن كانت إنشائية هي بمنزلة "إن" في التأكيد للجملة الخبرية بعدها وأيضا فجملة القسم والجواب بمنزلة الشرط والجزاء، بهذا المعنى رد الفارسي في "التذكرة" على من منع من القدماء الوصل بها مع ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن}. قال: وشبيه بهذا ما أشار إليه أبو عثمان في كتاب "الإخبار" من قوله/ تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة} الآية. وقد تقدم لابن الضائع في المسألة خلاف قرره على نحو آخره، والحاصل أن جمل الإنشاء لا يوصل بها مطلقا عند الجمهور، وأجاز ذلك ابن خروف في "شرح الجمل في التعجب ونعم وبئس قال: والعائد على الموصول ماتضمنه الرجل من حيث جاز: زيد نعم الرجل، وقال في التعجب: لا ينبغي أن يمتنع كما لا يمتنع مررت بالذي هو أحسن الناس وبالذي هو حسن جدا، وهذا منه اعتبار لمعنى الجملة ومحصولها وإهمال لوضعها المقصود نحو ما قال

الفارسي في "التذكرة" في النداء: إنه بمنزلة الخبر بدليل أن من قال لرجل: يا زان، وجب عليه الحد، والأصح مذهب الجمهور وهو الذي أشار إليه الناظم. والثاني من الشرطين أن لا تكون الجملة متعلقة بما قبلها ولا مرتبة على كلام آخر نحو ما مثل به. فإن كان لها تعلق بغيرها لم يوصل بها، كالجملة المصدرة بلكن أو بإذا أو بحتى، نص على "لكن" ابن السراج والفارسي، وعلى "إذا" و "حتى" ابن بابشاذ، والعلة في منع ذلك أن هذه الحروف متعلقة بما قبلها فجعلها صلات قطع لها عن ذلك وإخراج لها عن وضعها، وهذا ظاهر جدا وقلما ينبه المتأخرون على هذا الشرط (وهو ضروري). وقد بقى شرط ثالث ليس في كلام الناظم ما يدل عليه وهو أن تكون الجملة معلومة عند السامع، وقد أشار إلى ذلك الجزولي في قوله: ولا تفيد المقصود إلا والصلة معلومة للسامع، فإذا لم تكن معلومة له لم يفد الموصول معناه، فكان كما لو يوصل وذلك نقض لغرض الوصل، فمثال النلظم لا يفيد هذا الشرط لاحتمال أن يكون قوله: (ابنه كفل) غير معلوم للسامع،

فكان معترضاً وكان هذا الشرط هو المقصود الأعظم لأن المقصود بالصلة بيان الموصول وإيضاح معناه، وذلك لا يحصل مع كون الصلة مجهولة، ولكون الصلة مبينة اشترطوا أن لا تكون إنشائية، لأن الإنشائية لا بيان فيها، وبذلك علل الفارسي في "التذكرة" امتناع الوصل بالتعجب ووافقه غيره فيه، وأجراه في سائر الجمل الإنشائية، ولم أجد الآن له عذرا في تركه التنبيه عليه إلا أن يقال: إن هذا الشرط مستفاد من اشتراط الإفادة في الكلام، فإن الفائدة لا تحصل إلا مع كون الصلة معلومة، ولو فرضناها مجهولة عند السامع لم يفده الكلام شيئا، كما أنه قد تكون معلومة أيضا ولا تحصل فائدة، كما إذا قلت: جاءني الرجل الذي أبوه إنسان ونحو ذلك، فكان هذا الشرط لما كان حاصلا من شرط الإفادة في الكلام على وجه لا يدخل عليه فيه اعتراض ترك ذكره إحالة على ما هنالك، وهذا حسن من التنبيه والله أعلم. وأما الضرب الثاني من شبه الجملة فهو الصفة الصريحة وهي التي خصها بالألف واللام حين قال: (وصفة صريحة صلة أل) يعني أن الألف واللام اختصت من بين سائر الموصولات بأنها إنما توصل بالصفة الصريحة. لا بجملة ولا ظرف ولا مجرور فتقول: جاءني القارئ والكاتب/ والمنطلق والحسن، وما أشبه ذلك ولا تقول: جاءني اليضرب ولا اليستكبر إلا في القليل، ولا جاءني الأبوه قائم إلا شاذًا

نحو ما أنشدوه من قوله. من القوم الرسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد ولا تقول: جاءني العندك، ولا الفي الدار إلا شاذا نحو ما أنشده المؤلف من قوله: من لا يزال شاكرا على المعه ... فهو حر بعيشة ذات سعه وإنما كانت الصفة شبه الجملة، لأنها في معناها فـ "قائم" من قولك: زيد قائم في معنى قام أو يقوم، ولذلك عملت عمل الفعل وعطف الفعل عليها في نحو: {إن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله}، وقال تعالى: {أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن} وأراد بالصريحة ما كان من اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة باسم الفاعل، وهي الصفة الخالصة الوصفية وتحرز بذلك مما ليس بخالصها، إنما لأن الوصفية له ليست بحق الأصل، وإما لأنه خرج عن أصله من الوصفية، ويجمع الضربان أربعة أنواع: أحدها: ما استعمل من الصفات الأسماء كأخ وصاحب وأبطح وأبرق وأجرع وما أشبه ذلك، فإن هذه الأشياء ليست الآن بصفات، وإنما صيرها الاستعمال إلى حيز الأسماء غير الصفات، فلا تصلح لذلك أن تدخل

عليها الألف واللام الموصولة، وإنما تصلح لدخول التي للتعريف كالرجل والفرس. والثاني: ما استعمل من الأسماء استعمال الصفات كالأسد والبحر ونحو ذلك إذا قلت: مررت بالرجل الأسد شدة والبحر جودا والبدر حسنا، فإن هذه ليست من الصفات الصريحة، بل هي مؤولة بالصفات، فالأسد في تأويل الشجاع، والبحر في تأويل الجواد، والبدر في تأويل الحسن، ومثل هذا الوصف بالمصدر كعدل ورضا وصوم، وباسم الإشارة نحو: هذا وهؤلاء وشبه ذلك، فلا تدخل على مثل هذا الألف واللام الموصولة، فإنها لم تدخل في الحقيقة إلا على اسم جامد لا على صفة، إذ الوصفية لمثل هذا بالعرض كما صارت الوصفية في النوع الأول متناساة غير مقصودة، إذا قلت: الصاحب والأخ والأبرق والأجرع، فالألف واللام هنا حرف تعريف. والثالث: الجملة اسمية كانت أو فعلية، لأنها قد تكون صفة جارية على النكرة وتكون في موضع نصب على الحال من المعرفة نحو: مررت برجل قام أبوه أو برجل أبوه قائم، ومثال وقوعها حالا: مررت بزيد يقوم، ومررت بزيد وجهه حسن، ومع ذلك لا تكون صلة للألف واللام إذا شاذا كما تقدم، أو قليلا كما سيأتي. والرابع: الظرف والمجرور فإنهما يقعان كالجملة صفتين للنكرة وحالين من المعرفة نحو: مررت برجل عندك أو في الدار، ومررت بزيد عندك أو في الدار، ولكن لا يقعان صلة للألف واللام إلا شذوذا وقد مر. وهنا نوع خامس يشكل عليه كلام الناظم وهو ما كان من الأعلام منقولاً

من الصفة كحارث/ وعباس وحسن فإنه تدخله الألف واللام التي للمح الصفة، وهذه الألف واللام إما أن تكون هي الموصولة الداخلة على الصفة الصريحة أو غيرها فلا يجوز أن تكون غيرها، إذ لا يتلمح بها الأصل من الصفة، لأنها ليست الداخلة على الصفة، فيكف تشعر بما لا تدخل عليه؟ وإن كانت إياها- ولابد من ذلك- فقد وصلت الألف واللام بغير صفة صريحة قياسا، إلا أن المسالة على مذهب الخليل وسيبويه قريبة المأخذ لأن الألف واللام عندهما هي التي كانت تدخل على الصفة قبل العلمية، وإنما دخلت الآن على تقدير ألا علمية، وذلك قول الخليل: إن الذين قالوا: الحارث والحسن والعباس إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سمى به، ولكنهم جعلوه كأنه وصف غلب عليه. هذا ما قال ولا إشكال فيه؛ لأنه يقول: إنهم رجعوا به إلى أصله، وإذا كان كذلك وكان أصله الصفة، فالألف واللام فيه إذا موصولة وإن كان أمرا تقديريا، وعلى هذا يدل اصطلاحهم فيها أنها للمح الصفة، وأما على مذهب الناظم فإن السؤال فيها وارد عليه، لأن الألف واللام عنده في الحارث ونحوه للمح الصفة هي الأصلية لا غيرها، وإذا كانت إياها فقد وصلت بصفة غير صريحة فصار ذلك نقضا لقوله: (وصفة صريحة صلة أل) فإن قيل: إنما وصلت بصفة صريحة على اعتبار الأصل كما بينه الخليل. فالجواب: أنا إذا سلمنا أن مذهبه فيها مذهب الخليل فحارث

وعباس ونحوهما ليست بصفات صريحة لخروجها بالعلمية عن أصلها فصارت مثل أخ وصاحب وأبرق ونحوها، وتقدير أصلها من الصفة لا يدخلها في باب الصفة الصريحة وإلا لزم في صاحب ونحوه اعتبار الأصل فيقع صلة للألف واللام وذلك فاسد. فإن قلت: إن باب صاحب ونحوه لم تعتبر العرب أصله واعتبرته في حارث ونحوه "قيل": بلى قد اعتبرته وهي مما تعتبر الأصل في البابين، ألا تراهم قد منعوا صرف أبرق وأجرع ونحوهما مطلقا اعتبارا بأصلها من الصفة، ومنعت صرف أحمر المنكر بعد التسمية، فالبابان سواء في هذا الحكم على الجملة. والحاصل أن الأشكال لازم على كلام الناظم إلا أن يدعى أن الألف واللام التي للمح الصفة ليست هي الموصولة وهذا لا يثبت له، فلو لم يقيد الصفة بالصريحة هنا ولا بالمحضة في "التسهيل" لكان أسلم من الاعتراض كما فعل غيره، لأن الصفة إنما تطلع حقيقة على اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة، وما سوى ذلك من الجملة والظرف والمجرور والجامد الذي في معنى الصفة، والصفة المنقولة إلى الأسماء ليس بصفة (-في الحقيقة-) حسب ما هو مبين في موضعه، وكذلك أجرع وأبرق وحارث وعباس/ ليست بصفات أيضا، وإن لحظ فيها الأصل في أمر ما، فذلك أمر حكمي في بعض المواضع لا يطرد، ألا ترى أنها لا تجري صفات على موصوف، ولا تعمل عمل الصفات، ولا يضمر فيها، فلا اعتبار بذلك اللحظ إلا في

مثل ما اعتبرته العرب فيه، ولما أدخلت العرب الألف واللام في العلم الذي أصله الصفة على خلاف معتادها في الأعلام علمنا أنها قدرت الرجوع إلى الأصل فهي إذا ذاك صفات حقيقية بحسب القصد وقعت صلات للألف واللام وهذا التقرير واضح في نفسه مع ورود السؤال على ابن مالك هنا وفي "التسهيل" و "الفوائد المحوية"، ولما بقى مفهوم كلامه وصل الألف واللام بالصفات غير الصريحة استثنى من ذلك الجملة الفعلية المصدرة بالفعل المضارع. فقال: (وكونها بمعرب الأفعال قل) الضمير في "كونها" يحتمل أن يعود على "أل" و "بمعرب" متعلق بمحذوف هو خبر "كان" المأخوذ من الكون وحذف لدلالة الكلام عليه وتقديره: وكون "أل" موصولة بمعرب الأفعال، أو تكون الباء ظرفية وهي متعلقة بالفعل العام أي: وكون "أل" مستقرة في (معرب الأفعال قل) ويلزم من كون "أل" في معرب الأفعال أن يكون ذلك الفعل قلتها ويحتمل أن تعود الهاء على الصلة والكون تام به تتعلق الباء كأنه قال: ووجود الصلة بمعرب الأفعال قل، وعلى كل تقدير فـ "كونها" مبتدأ خبره "قل" ومعرب الأفعال هو الفعل المضارع، ويعني أن الألف واللام قد توصل بالفعل المضارع لكن قليل، وإشارته إلى ما جاء في الشعر من ذلك نحو ما أنشده من قوله: ما أنت بالحكم الترضي حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

وقال ذو الخرق الطهوي: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربه صوت الحمار اليجدع وأنشد المؤلف في الشرح: وليس اليرى للخل مثل الذي يرى ... له الخل أهلا أن يعد خليلا وأنشد أيضا غير هذا مما لم أقيده وهذا عند غير الناظم من الشاذ المحفوظ كشذوذ: *من القوم الرسول الله منهم* وظاهر إطلاق الناظم يقتضى جواز وصلها بالمضارع اختيارا لكن على قلة لأنه قال: (وكونهما بمعرب الأفعال قل) ولم يقل شذ ولا ندر، ولا ما كان يعطى معنى عدم القياس كما قال: (وليتني ندرا) (وليسى قد نظم) (ولاضطرار كبنات الأوبر) وعادته قد استقر على أن يأتى بلفظ القلة حيث يكون ذلك القليل جائزا في الكلام وغيره أحسن منه

كقوله: *وخففت إن فقل العمل* تنبيها على قراءة: {وإن كلام لما ليوفينهم ربك أعمالهم}، وكقوله في تخفيف "أن" المفتوحة (وقليل ذكر لو) ونبه بذلك على نحو قوله تعالى: {فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب} الآية. وقال في فصل "لات": (وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل) وأشار إلى قراءة من قرأ: / {ولات حين مناص} بالرفع قال سيويه وهي قليلة يريد مع جوازها في الكلام، وفي باب المفعول له قوله: (وقل أن يصحبها المجرد) وقال في النعت: وما من المنعوت والنعت عقل ... يجوز حذفه وفي النعت يقل وفي باب النداء في مسألة حذف حرف النداء: (وذاك في

اسم الجنس والمشار له قل) وفي إبدال التاء هاء في الوقف (وقل ذا في جمع تصحيح). وجميع هذه المواضع مما وقع في الكلام وجاز القياس فيه لكن على ضعف، فهذا الموضع يقتضى أن الوصل بالمضارع جاء في الكلام ويجوز القياس فيه قليلا في الكلام، وقد صرح بهذا المعنى في "شرح التسهيل"، فقال: وعندي أن أمثل هذا غير مخصوص لا بالضرورة لتمكن قائل الأول أن يقول: *ما أنت بالحكم المرضى حكومته* ولتمكن قائل الثاني من أن يقول: *إلى ربنا صوت حمار يجدع* ولتمكن الثالث من أن يقول: *ما من يروح ويغدو .... * ولتمكن الرابع أن يقول: *وما من يرى .... * وقال: وإذا لم يفعلوا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار. وقال: وأيضا فمقتضى النظر وصل الألف واللام بما توصل به أخواتها من الجمل الاسمية والفعلية، إذا هي من الموصولات الاسمية

فمنعوها ذلك حملا على المعرفة، لأنها مثلها في اللفظ، وجعلوا صلتها ما هو جملة في المعنى ومفرد في اللفظ صالح لدخول المعرفة عليه، وهو اسم الفاعل وشبهه من الصفات، قال ثم كان في التزامهم ذلك إيهام أن الألف واللام معرفة لا اسم موصول فقصدوا التنصيص على مغايرة المعرفة، فأدخلوها على الفعل المشابه لاسم الفاعل وهو المضارع. قال: فلما كان حاملهم على هذا وفيه إبداء ما يجب إبداؤه وكشف مالا يصلح إخفاؤه استحق أن يجعل مما يحكم فيه بالاختيار ولا يخص بالاضطرار ولذلك لم يقل في أشعارهم كما قل الوصل بجملة من مبتدأ وخبر وبظرف. هذا ما احتج به ابن مالك في مسألته وقد بنى الاحتجاج فيها على ثلاثة أشياء: أحدها: أن الضرورة الشعرية إنما تعد ضرورة إذا لم يمكن تحويل العبارة إلى ما ليس بضرورة، فإن أمكن ذلك عدت من قبيل ما جاء في الكلام. والثاني: القياس على سائر الموصولات. والثالث: قصد التفرقة بين الألف واللام المعرفة والموصولة ورفع اللبس. فأما الثاني والثالث- وإن كانا ضعيفين- فلا حاجة بنا إلى الكلام معه فيهما إذا ليس المقصود في هذا الشرح إلا توجيه ما ذهب إليه من غير اعتراض عليه؟ ما عدا الأشياء التي يخالف فيها جميع النحويين أو يكون خطؤه فيها واضحا جدا ولاسيما إن كانت عنده أصلا يطرد في أبواب كثيرة. والوجه الأول من هذه الأوجه قد جمع فيه بين الأمرين، فخالف أولا جميع

النحاة، وأتى بأمر مبتدع لا سلف له فيه ولا دليل يعضده، بل مؤد إلى انخرام نظام الكلام، وقواعد العربية، مع أنه أجراها في أبواب. فقال في وصل الألف واللام بالمضارع: ما سمعت، ولا أنشد في باب "كان" على حذف نونها قول الشاعر: *لم يك الحق سوى أن هاجه* وقوله: *فإن لم تك المرأة أبدت وسامة* وقول الآخر: / *إذا لم تك الحاجات من همة الفتى* قال: ولا ضرورة في هذه الأبيات لإمكان أن يقال في الأول: *لم يكن حق سوى أن هاجه*

وفي الثاني: *فإن تكن المرآة أخفت وسامة* وفي الثالث: *إذا لم يكن من همة المرء ما نوى* وقال في قوله: *فيالغلامان اللذان فرا* أنا لا أراه ضرورة لتمكن قائله من أن يقول: *فيا غلامان اللذان فرا* لأن النكرة المعينة بالنداء توصف بذي الألف واللام، وله من هذا النحو مواضع، وما ذهب إليه باطل من أوجه: أحدها: إجماع النحويين على عدم اعتبار هذا المنزع وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبرا لنبهوا عليه وأشاروا إليه ولم يفعلوا ذلك فدل على أن ما خالفه باطل (لا يقال: إن إجماع النحويين ليس بحجة كما قاله ابن جنى في مسألة: هذا جحر ضب ضرب، لأنا نقول: إن كان ابن جنى ادعى ذلك في خصوص مسألته فيقرب الأمر، إذ يجوز عند أكثر الأصوليين إحداث تأويل غير ما أجمعوا عليه ولا يعد خرقا للإجماع، وإن أراد

أن مخالفتهم جائزة على الإطلاق فباطل باتفاق أهل العلم، وقد كان بعض شيوخنا يقول: إن ابن جنى لما عزم على مخالفة الإجماع من مسألته لم يوفق للصواب فيها، بل ذهب إلى ما لا يقبله عاقل. فإن قيل: أين الإجماع؟ وقال سيبويه في قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعى ... على ذنبا كله لم أصنع فهذا ضعيف وهو بمنزلته في الكلام، لأن النصب لا يكسر الشعر ولا يخل به ترك إظهار الهاء. وقال ابن جني: إنهم قد يستعملون الضرورة حيث لا يحتاج إليها كقوله: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وكان يمكنه: ابقلت أبقالها، بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى ما قبلها وكذلك قوله:

*طباخ ساعات الكرى زاد الكسل* فجر: زاد وأدى ذل إلى الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وكان يمكنه أن ينصب ويزول القبح، وبنى على ذلك القاعدة في "الخصائص" وحكى ابن جنى عن أبي العباس قال: حدثني أبو عثمان قال: جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر وأنشد: من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن منى تنهه المزاجر قال فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام؟ فقال: إن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف. قال فقلت: فما الذي اضطره هنا وهو يمكنه أن يقول: فليدن مني؟ قال: فسأل عني فقيل له المازني: فأوسع لي. فهذا وما أشبهه يدل على اعتباره عندهم، وهم أئمة النحو فيكف تقول: الإجماع منعقد على عدم اعتباره؟ فالجواب: أن هذه المسألة بمعزل عن مسألتنا، فإن هذه المسألة في جواز الاستعمال للضرورة حيث لا يضطر إليها مع اتفاقهم على ما أختص بالشعر لا يستعمل في الكلام ولا يعد كالمستعمل فيه إذا أمكن الخروج عن الضرورة بتبديل أو تحريف وهو المتفق عليه وهو الذي خالف فيه الناظم. والثاني: أن الضرورة عند النحويين ليس معناها أنه لا يمكن في

الموضع غير ما ذكر، إذ ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره من الألفاظ الصحيحة الجارية/ على القياس المستمر، ولا ينكر هذا إلا جاحد لضرورة العقل هذه الراء في كلام العرب وتأليف حروفهم من الشياع في الاستعمال بمكان لا يجهل ولا تكاد تنطق بجملتين تعريان عنها، وقد هجرها واصل بن عطاء لمكان لثغته فيها حتى كان يناظر الخصوم ويجادلهم، ويخطب على المنبر فلا يسمع في نطقه راء فكان إحدى الأعاجيب حتى صار مثلا وقال فيه الشاعر: ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاد بالغيث إشفاقا من المطر وورى به الشاعر فقال- وأحسن كل الإحسان-: ولما رأيت الشيب راء بعارضي ... تيقنت أن الوصل لي منك واصل ولا مرية في أن اجتناب الضرورة الشعرية أسهل من هذا بكثير، وإذا وصل الأمر إلى هذا الحد أدى إلى أن لا ضرورة في شعر عربي، وذلك خلاف الإجماع والبديهة، وإنما معنى الضرورة وهو الثالث: أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظه ما تضمنه النطق به في ذلك

الموضع إلى زيادة أو نقص أو غير ذلك بحيث قد يتنبه غيره إلى أن يحتال في شيء يزيل تلك الضرورة وعلى هذا يقال في قوله: * ..... كله لم أصنع* إنه ضرورة، لأن الشاعر أراد رفع كله فلم يمكنه إلا على حذف الضمير وكذلك في سائر ما ذكر معه، وقد يقال فيه غير ذلك مما سطره الناس، وإذا كان كذلك فمن أين يلزم أن يكون المضطر ذاكرا للوجه المخرج عن الضرورة في الوقت أو بعده بحيث يقدر على استدراكه؟ هذا ما لا يمكن وإن فرضنا إمكانه في بعض الأحوال فلا يمكن في جميع الأحوال بل في بعضها، وذلك حين ينصرفون إلى التنقيح والتلوم على رياضته وهذا عند العرب قليل كزهير في حولياته، أما في حال الضيق كمواطن الخطابة والتهاجي وإجابة الخصوم والمواقف التي يفجأ فيها الارتجال من غير توسعة كحسان بن ثابت رضي الله عنه وغيره من الشعراء الذين جنوا في مواطن الارتجال جنونا، فمثل هذه الأحوال لا يمكن فيها ذلك. والرابع: أنه قد تكون للمعنى عبارتان أو أكثر منها واحدة يلزم فيها ضرورة، إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ومفصحة عنه على أوفى ما يكون، والتي صح قياسها ليست بأبلغ في ذلك من الأخرى ولا مرية في أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة، إذ كان اعتناؤهم بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ، وقد بوب ابن جنى على هذا، وإذا ظهر لنا نحن في موضع أن مالا ضرورة فيه يصلح هنالك، فمن أين يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال، أو

أنه أبلغ فيما قصد من المبالغة في البيان والإفصاح؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك في أكثر المواضع، والحاضر أبصر من الغائب، فلا تجويز لما لا تعلم حقيقته، وأيضا قد يظن بالعبارتين أنهما مترادفتان وليستا في الحقيقة كذلك، إما لوجود فرق لفظي وإما لوجود أمر معنوي، إما ضروري أو تكميلي، ويتبين مثل هذا للناظر في فصاحة القرآن، ومثله يتفق في الشعر بحيث لا ينبغي أن يؤتى إلا بعبارة الاضطرار دون الجارية على القياس، وقد تساهل ابن مالك عفا الله عنه في هذا الموضع حتى أهمل ما يعتبره أهل البيان، بل زاد في ذلك إلى أن أخرج البيت/ بتقديره عن معناه إلى معنى آخر، فقد تقدم قوله في: *فإن لم تك المرآة أبدت وسامة* وأنه يمكن أن يقول: *فإن تكن المرآة أخفت وسامة* وفي قوله: *إذا لم تك الحاجات من همة الفتى* أنه يمكنه أن يقول: *إذا لم يكن من همة المرء ما نوى* وهذا ما لا مزيد عليه في التعسف وتحريف المعنى وقلب المقصود والخامس: أن العرب قد تأتي الكلام القياسي لعارض زحاف

فتستطيب المزاحف دون غيره أو بالعكس فتركب الضرورة لذلك، والعرب في ذلك على فرقتين: فرقة وهم الجفاة الفصحاء فلا يبالون كسر البيت قصدهم في استقامة المعنى وإن أدى إلى زحاف مستثقل، إذا لم يخرج عن الوزن الطبيعي. قال المازني: أما الجفاة الفصحاء فلا يبالون كسر البيت- يعني الزحاف- لاستنكارهم زيغ الإعراب. قال ابن جنى: وهذا المذهب أقوى عندي لأن احتمال الزحاف أسهل من احتمال زيغ الإعراب، ومثال هذا قول امرئ القيس: أعنى على برق أراه وميض ... يضئ حبيا ف شماريخ بيض فقد كان يمكن أن يحذف الياء من "شماريخ" وهو قبض "فعولن" قبل الضرب المحذوف في الطويل وهو الواجب عند الخليل والسلامة فيه ضعيفة، وحذف ياء "فعاليل" في الشعر جائز، إلا أنه حافظ على استقامة الإعراب ولم يبال بضعف الوزن، ومثل هذا كثير. وفرقة حافظت على الوزن حتى ارتكبت من أجله زيغ الإعراب وارتكاب

الضرورة كقوله: *أبيت على معاري واضحات* وقد أمكنه أن يقول: معار واضحات، وكذلك: *ولا ترضاها ولا تملق* ممكن أن لو قال: "ولا ترضها" وكذلك قوله:

*ألم يأتيك والأنباء تنمى" وعلى هذا المعنى حمل ابن جنى قول الراجز: *فيدن منى تنهه المزاجر* وهذا الباب واسع، فإذا كان هذا شأنهم فكيف تتحكم على العرب في كلامها ونلزمها ما لا يلزمها؟ وبالجملة فهذا المذهب من المذاهب الواهية التي يجب ألا يلتفت إليها وقد بينت هذه المسألة بما هو أوسع من هذا وأشفى للصدر في باب الضرائر من "أصول العربية" ولم أر أحدا من شيوخنا الحذاق ممن سمعت كلامه في المسألة يرتضى ما ارتضاه ابن مالك ولا يسلمه. *** ثم أخذ في ذكر ما بقى له من الموصولات فقال: أي كما، وأعربت ما لم تضف ... وصدر وصلها ضمير أنحذف وإنما فصلها مما قبلها لما تعلق بها من الأحكام التي انفردت بها عن سائر أخواتها من الإعراب في حال، والبناء في حال، والإضافة، وأن لها بحسب البناء تعلقا بمسألة حذف الضمير من الصلة فوصلها بها لأجل ذلك، وابتدأ ببيان كونها من الموصولات فقال: (أي كما) يعني أن أيا في هذا الباب مثل "ما" في جميع ما تقدم من الأحكام وهي الأربعة الأول كونها اسما، وكونها موصولة وكونها تقع على المفرد والمثنى والمجموع بلفظ

واحد، فتقول: أكرم أيهم خرج، أردت بأي واحدا كان أو اثنين أو أكثر، وكونها تقع/ على المذكر والمؤنث بلفظ واحد أيضا كقولك: اضرب أيهن فعلت كذا من غير أن تؤنث أي، وهذا على ما نقل في "التسهيل" هو الأكثر لقوله: وقد تؤنث بالهاء موافقة للتي، وما نقله صحيح. قال سيبويه: وسألت الخليل- رحمه الله- عن أيهن فلانة وأيتهن فلانة فقال إذا قلت: أي فهو بمنزلة كل؛ لأن كلا مذكر يقع للمذكر والمؤنث وبمنزلة بعض، قال وإذا قلت: أيتهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل- رحمه الله- يقول: كلتهن، فظاهر هذا الكلام أن ترك التاء هو الشائع وأن عدم تركها قليل، وبهذا فسره السيرافي وقال: ربما أدخلوا علامة التأنيث عند إرادة المؤنث تأكيدا كما ذكر، ومنه: هند خير النساء وشرها، وربما قالوا: خيرة النساء وشرتها والباب التذكير وأنشد لحسان: لعن الله شرة الدور كوثى ... ورماها بالذل والإمعار لست أعنى كوثى العراق ولكن ... شرة الدور دار عبد الدار وأنشد ابن خروف:

* تأبري يا خيرة الفسيل* ولا يقال: إن كلام الناظم في الموصولة وكلام سيبويه في الاستفهامية وأين إحداهما من الأخرى لأنا نقول: "أي" في جميع مواقعها تجرى على أصل واحد، فالشاهد على أحد مواقعها شاهد على سائرها. وإذا ثبت هذا فالناظم لم يعتبر تأنيث "أي" لقلته واعتمد ما هو الغالب فيها من جريانها مجرى "ما" كما قال: ومن أحكام "ما" التي أحال عليها الوصل بجملة أو شبهها من ظرف أو مجرور فتقول: اضرب أيهم أبوه منطلق وواضرب أيهم ضرب أخاك، واضرب أيهم عندك أو في الدار، كما تقول: اضرب من أبوه منطلق، ومن ضرب أخاك، ومن عندك، ومن في الدار، وكما يكون ذلك في "ما" أيضا. ولما ختم الكلام على تقرير الموصولات ولم يزد دل على أنه لم ير رأي أهل الكوفة في زعمهم أن الأسماء الجواد بالألف واللام تكون موصولات فتقول: جاء الرجل قام أبوه، على تقدير الذي قام أبوه، واستدلوا على ذلك بنحو قوله: لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل فقوله: لأنت: مبتدأ، خبره: البيت، وهو من موصول صلته أكرم أهله

وهو كثير، ومثله قول امرئ القيس: ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا ... على جدد الصحراء من شد ملهب وهذا عند البصريين غير ثابت، لأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص بنفسه وليس كالذي، لأنه لا يدل على معنى مخصوص إلا بصلة توضحه لإبهامه، وإذا لم يكن في معناه لم يجز أن يقوم مقامه، ولا حجة لهم فيما أنشدوا، لاحتمال أن يكون: "أكرم أهله" خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون "أكرم" في موضع الصفة للبيت، فيكون البيت مبهما، وإذا كان كذلك جاز وصفة بالنكرة، فالعرب تقول: ما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل، لأن المعنى معنى النكرة. وأجاز/ أيضا ابن الأنباري أن يكون: أكرم أهله صلة لموصول محذوف لا للبيت كأنه قال: لأنت البيت الذي أكرم أهله، لكن الموصول حذف ضرورة، وهذا الوجه جار على مذهب الكوفيين، إذا يجيزون حذف الموصول دون صلته في غير ضرورة، ذكر ذلك عنهم ابن الأنباري في مسألة: (وقوع اسم الإشارة موصولا) من كتاب الإنصاف. وأما بيت امرئ القيس فيتخرج على أن يكون المجرور

في موضع الحال، أي: لسرعته وخروجه تراه في حين واحد على هاتين الحالتين فتكون الحال مركبة من الحالتين أو يكون في "مستنقع" حالا، و "لاحبا" مفعولا ثانيا لـ "ترى" على أنها علمية أو يكون في مستنقع حالا لترى، و "لاحبا" حالا يعمل فيها "مستنقع" ومجاز جميع ذلك لقرب ما بين الحالين. ثم قال: الناظم: (وأعربت) الضمير عائد على أي، ونبه هنا على كونها خارجة عن أصلها الذي كان يجب لها من البناء كأخواتها، وذلك أنها وضعت وضع الحرف في دلالتها في أصل الوضع على معناه إن كانت شرطية أو استفهامية، أو في افتقارها الأصيل إذا كانت من هذا الباب، فلو لم ينبه على إعرابها لأوهم أنها مبنية كأخواتها، فقال: (وأعربت) والوجه المشهور في إعرابها الحمل على نظيرتها (بعض) ونقيضتها (كل) حكي لنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار- رحمه الله- أن الشلوبين سأل في ذلك شيخه ابن ملكون- وكان مقدما على سؤاله على أحكام سائر طلبته عن ذلك، إذ كان فيهم ذا هيبة- فسأله لم أعربت "أي" من بين سائر أخواتها؟ ففكر فيها ثم قال له: حملا على النظير والنقيض، ولم يجبه بأكثر من هذا. ومعنى ذلك أنها حملت على بعض التي هي بمعناها، وعلى مقابلتها "كل" لأنها نقيضتها في المعنى، وقد يحمل الشيء على نقيضه، كما يحمل على نظيره. ألا تراهم عاملوا "نسي" معاملة "علم" فعلقوها عن منصوبها لما كانت نقيضة ما التعليق خاص به، ومن ذلك كثير. وقد علل إعراب "أي" بغير هذا، فقيل

إنها أعربت للزومها خاصة من خواص الأسماء وهي الإضافة، فعارضت شبه الحرف فرجوع بها الأصل من الإعراب، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره. وقوله: ( ... ... وأعربت ما لم تضف ... وصدر وصلها ضمير أنحذف) "ما" مصدرية ظرفية، والواو في (وصدر وصلها) واو الحال، والجملة في موضع نصب على الحال من ضمير (تضف) وهو ضمير أي كأنه قال: إذا عدمت الإضافة المقترنة بكون صلتها مصدرة بضمير محذوف فهنا تكون معربة، فإذا قد اشتملت حالة إعرابها على صور تنتظمها صورتان: إحداهما: إذا لم تضف أي البتة كان صدر وصلها ضميرا محذوفا أولا، فإذا قلت: اضرب أيا أكرمته، أو اضرب أيا في الدار، أو اضرب أيا عندك، أو اضرب أيا هو قائم، أو اضرب أيا قائم، فلابد من الإعراب في هذه المسائل، ووجه ذلك أن سبب الإعراب فيا إما للإضافة فإذا حذف المضاف إليه ظهر بذلك تمكنها في الإضافة حتى استغنت بمعناها على لفظها فهي في هذه الحال أقعد في الإضافة. وإما الحمل على كل وبعض فكذلك أيضا، حيث لحقها التنوين عوضا، عن الإضافة ككل وبعض، فبذلك تمكن الشبه بهما. والثانية: إذا لم يكن صدر صلتها ضميرا أنحذف كانت مضافا أو غير مضافة. فإذا قلت: اضرب أيهم في الدار أو اضرب أيهم عندك أو

اضرب أيهم قام أبوه أو اضرب أيهم هو قائم، فلابد من الإعراب أيضا، ووجه ذلك أن المضافة إليه أي لم يتنزل منزلة جزء من الصلة إذ لم يحذف منها شيء فلم تسلب سبب الإعراب وهو الإضافة، وأيضا فلم تخالف سائر أخواتها بحذف الضمير المبتدأ من صلتها، فلم تستحق بناء لأجل ذلك، فهاتان الصورتان بينتا مراده بقوله: (ما لم تضف وصدر وصلها ضمير أنحذف)، ولم يبق من صور المسألة إلا صورة واحدة وهي أن تكون "أي" مضافة وصدر وصلها ضمير أنحذف وهي التي نفاها الناظم بحرف "لم" عن أن تكون معربة، ففهم أنها هنالك عنده فتقول: اضرب أيهم قائم وأكرم أيهم أفضل، وفي القرآن الكريم: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا}، وأنشد أبو عمرو الشيباني: إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل وما ذهب إليه من البناء هو مذهب سيبويه ومن قال

بقوله ووجه البناء فيها عنده أنه لما حذف الضمير المبتدأ من صلتها وكان ذلك فيها حسنا بخلاف سائر أخواتها فإنها لا يحسن فيها ذلك فلا تقول: جاءني الذي أفضل إلا نادرا، وتقول: اضرب أيهم أفضل في شائع الكلام خالفوا بإعرابها حيث استعملوها على غير ما استعملوا عليه سائر أخواتها، كما أنهم قالوا: يا الله، فلم يحذفوا ألفه لما خالف في استعمالها سائر ما فيه الألف واللام، وعلل ذلك غيره أن حذف شطر صلتها لم يحسن فيها إلا تنزيل ما أضيفت (إليه بمنزلة) ما حذف، وذلك يستلزم حينئذ تنزلها منزلة غير مضاف لفظا ولا نية، وإنما أعربت لإضافتها، فإذا صارت بمنزلة غير المضاف ضعف موجب الإعراب فرجعت إلى البناء الذي هو أصلها، فعلى هذا الوجه موجب بنائها هو شبه الحرف الذي استقر لها أولا، فيرجع إلى

الافتقار الأصيل. وذهب الخليل ويونس إلى أن أيا على حالها من الإعراب ولا بناء فيها البتة وما جاء مما ظاهره البناء فهو على غير البناء، فأما الخليل فحمل الآية ونحوها على الحكاية. فإذا قلت: اضرب أيهم أفضل، فهو على معنى اضرب الذي يقال له: أيهم أفضل، وشبهه بقول الأخطل: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم وكان الأصل أن يقول: "فأبيت لا حرجا ولا محروما" إلا أنه حمله على معنى فأبيت يقال في: لا حرج ولا محروم أو يكون لا حرج ولا محروم مبتدأ خبره محذوف أي بالمكان الذي أنا فيه والجملة خبر "أبيت"، وهي حكاية أيضا، واستبعده سيبويه، لأن الحكاية في مثل هذا إنما تجوز مع التسمية وليس هذا منها، أو في الشعر كقوله: *وكانت كليب خامري أم عامر* قال سيبويه: ولو اتسع هذا لجاز أن تقول: اضرب الفاسق الخبيث، تريد: الذي يقال له: الفاسق الخبيث.

وأما يونس: فحمل ذلك على تعليق الفعل، فإذا قلت: اضرب أيهم أفضل/ فهو على أن علق اضرب عن العمل بمنزلة تعليق "اشهد" في قوله: أشهد أنك لمنطلق. قال سيبويه: لا يشبه أشهد أنك لمنطلق، قال في الشرقية: لأن ما بعد أشهد كلام مستغن، ورد ابن مالك عليهما معا بقوله: *فسلم على أيهم أفضل* قال: لأن حرف الجر لا يعلق عن مجرورة ولا يضمر قول بينهما، وإذا بطل التعليق وإضمار القول تعين البناء، إذ لا قائل، بخلاف ذلك، وفي ضمن هذا الكلام جواز حذف الضمير العائد على "أي" من صلتها إذا كان صدرا فيها، لأنه بنى حكم البناء على ذلك وأثبته، فدل على أن حذف هذا الضمير ثابت أيضا، وقد تقدم أن حذف الضمير هو السبب في بناء أي، فالحذف إذا في القوى في درجة البناء، والبناء مشهور في كلام العرب، ليس من الشاذ ولا القليل، فكذلك حذف الضمير ليس من القليل أيضا. وقد تعين من سياق كلامه وتقسيمه أن هذا الضمير المحذوف ضمير رفع، لا ضمير نصب ولا جر، من جهة أنه تكلم بعد على ضمير النصب وضمير الجر، وهنا تكلم على ضمير لم يعينه، فدلت قوة التقسيم على أنه ضمير رفع والضمير العائد على الموصول قد يكون ضمير رفع، وقد يكون ضمير نصب، وقد يكون ضمير جر، وكل واحد من هذه الأقسام قد يجوز حذفه وقد يمتنع، فلا بد من ذكر

مواضع جواز الحذف وتمييزها عن غيرها، فأما ضمير الرفع وهو الذي أشار إليه فيجوز حذفه إذا وقع صدر الصلة ولا يكون كذلك إلا مبتدأ نحو: اضرب أيهم هو قائم؛ وهذا في أي، وأما غيرها فسيذكرها، فإذا حذفت الضمير قلت: اضرب أيهم قائم، وقد تقدم وجه البناء، وحصل من كلامه هنا حكمان: أحدهما: جواز الحذف مطلقا كانت "أي" مضافة أم لا، إذا أعربت. والثاني: لأنه حذف و "أي" مضافة فلابد من البناء على اللغة الشهري وأما الحكم الثاني فظاهر، وأما الأول ففيه نظر من جهة إطلاق الجواز، إذ الجواز الحسن المطلق إنما هو مع إضافة أي، وأما مع فقد الإضافة فلا، بل هو من قبيل النزر القليل، كالحذف في قولك: مررت بالذي قائم. قال ابن الحاج: وتقول في أي المضافة: اضرب أيهم هو أفضل تعرب وتثبت الضمير. قال: ولا يجوز حذفه إلا كما يجوز في الذي، يعني إذا قلت: اضرب الذي أفضل، ومثل ذلك قال في غير المضافة. قال: فالموضع الذي يحذف فيه الضمير من أي هو حال بنائها خاصة، أعني الحذف الذي لا ضعف فيه وهو خاص بها من بين أخواتها وما عدا ذلك من مواضعها لا يجوز حذف الضمير فيه إلا كما يجوز من سائر أخواتها، وكذلك زعم أن من أعرب مطلقا فليس حذف الضمير عنده إلا كحذفه من غيرها، واستشهد على ما قال بكلام النحويين، فذكر الأخفش في "الأوسط" أن كل موضع تقع فيه أي ويقبح فيه من والذي، فأي فيه مضموم أبدا، ثم قال: وإن شئت نصبت هذا وقلت: هو

بمنزلة اضرب الذي أفضل لو كان يتكلم به، وقال سيبويه بعد ما تكلم على الآية: ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد، وأما الذين نصبوه فقاسوه وقالوا: هو بمنزلة اضرب الذين أفضل، فنص كما ترى على التسوية بينهما. وقال الزجاج في الآية والنصب حسن، وإن كنت قد حذفت هو؛ لأن هو قد يجوز حذفها، فقد قرئ {تماما على أحسن}، وقال سيبويه في اضرب أيا أفضل ويقيس على الذي يعني في حذف/ الضمير، فجعل حكم أي حكم الذي. وقال الزجاج أيضا في "ألمنتخب" وهو الذي اختصر منه أبو القاسم كتاب "الجمل": إذا وصلت أيا باسم واحد بنيتها لأنك وصلتها بما لا يوصل به الذي إلا مستكرها قال: ومن أجاز ذلك قال ابن الحاج: يعني في الذي أعرب أيا هنا فقال: لأقصدن أيهم قائم، وعلى هذا قرأ بعض القراء: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد} بالنصب. هذا ما ذكر ابن الحاج ونقل عن غيره وقال: على هذا ينبغي أن يحمل كلام النحويين في هذا إذا جاء شيء منه، واعترض على نفسه بقول سيبويه في قراءة النصب حين حكاها عن الكوفيين، وهي لغة جيدة فاستجداها ولم يجعلها ضعيفة، والضمير محذوف، وهي لغة جيدة فاستجادها ولم يجعلها ضعيفة، والضمير محذوف، وأجاب عن ذلك بأنه يعني نصب أي وإعرابها لا حذف الضمير. قال: فكان إبقاء أي على إعرابها مع حذف

الضمير يتصف بالجودة بالإضافة إلى بنائها الذي يبعد توجيهه ويقل في السماع وجوده، حتى إن الكوفيين وهم أهل السماع أنكروه وقال الجرمي: خرجت من الخندق- يعني خندق البصرة- حتى (صرت) إلى مكة لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيهم فضل، كلهم ينصب. قال: أو نقول: إنما جاز لسيبويه أن يصف ذلك بالجودة مع حذف الضمير لما فيه من الطول هذا ما قال. وهو جار على ظاهر كلام سيبويه فإذا تقرر هذا فكلام الناظم نأى عن طريقة النحويين حيث أطلق جواز حذف المبتدأ من صلة أي ولم يفصل الأمر فيه كما فصله في غير أي، إلى ما كان فيه الوصل مستطالا وإلى ما لا فهو إذا معترض، والاعتذار عنه أن هؤلاء المتأخرين ظاهر كلامهم عدم التفصيل في صلة أي خصوصا، فإن الصلة عندهم قد طالت بالمضاف إليه أي، وذكر ابن خروف في "شرح الكتاب" أن أيا إذا حذف ضميرها فيها وجهان، فبعضهم يبنى وهو الأكثر وبعضهم يعرب، وظاهر هذا أن إعرابها مع حذف الضمير ليس على حد "ما بعوضة"، وأيضا إذا كان طول الوصل هو المحسن فقد لزم أيا للطول، فما الحاجة إلى التفصيل مع أن الذي عنده إذا طالت صلتها تلحق بأي في حسن الحذف، وكذلك "من" و "ما" ونحوها. وقد أجاز ابن الحاج أن تكون استجادة سيبويه النصب مع الحذف للطول الذي في صلة أي، فهو إذا موافق له لا مخالف، فهو إذا موافق له لا مخالف، ويتفق عند ذلك كلامه وكلام

من نقل عنه ابن الحاج تلك الطريقة والله أعلم. وهنا مسألتان: إحداهما: أن بناء أي حيث بنيت إنما يكون على الضم، وليس في كلام الناظم ما يشعر بذلك، وإنما أتى بما يفهم منه البناء مطلقا من غير أن يعين خصوص الحركة المبنى عليها، وكان من حقه ذلك ولا جواب لي على هذا الاعتراض. والثانية: أن ظاهر كلامه أن أيا إذا لم تضف فهي باقية على موصوليتها، وهو ظاهر كلام غيره أيضا، وزعم ابن خروف أنها إذا قطعت عن الإضافة نكرة موصوفة لا موصولة، وحمل كلام سيبويه على ذلك وقال: إنما هي عنده نكرة موصوفة بمنزلة/ "من" على القياس، فنصب وجر في موضع النصب والجر. قال: ولو جعلها موصولة للزم البناء لما ذكر، ثم حكي عن شيخه أنه قال: ولا أمنع أن يدخل التنوين في المعرفة إذا كانت بلفظ النكرة من حيث لم يوصف كل بمعرفة قال: وقد يقول القائل: إن أيا في الاستفهام وبمعنى الذي قد تكون معرفة ونكرة، وان التنوين فيه بدل من الإضافة في اللفظ فيكون كل وبعض، وما قاله ابن خروف خلاف ظاهر سيبويه فتأمله في موضعه، فإن الظاهر أنه لا دليل فيه على ما زعمه ابن خروف وثبت ما ظهر من الناظم وغيره. ***

ثم ذكر في أي وجها آخر فقال: وبعضهم أعرب مطلقا وفي ... ذا الحذف أيا غير أي يقتفى إن يستطل وصل وإن لم يستطل ... فالحذف نزر وأبوا أن يختزل إن صلح الباقي لوصل مكمل ... والحذف عندهم كثير منجلى في عائد متصل إن انتصب ... بفعل أو وصف كمن نرجو يهب الضمير في بعضهم يحتمل بحسب اللفظ وجهين: أحدهما: - وهو الظاهر من مقصده- أن يكون عائدا على العرب، فيعنى أن بعض العرب أعرب "أيا" على الإطلاق، يريد سواء حذف المبتدأ من صلتها، أم لا، فالإطلاق مشار به إلى نفي التقييد المتقدم في اللغة الأخرى، فتقول: على هذا اضرب أيهم أفضل، وامرر بأيهم هو أفضل وما أشبهه ذلك، ولما حكي سيبويه أن ناسا يقرءون، {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} يعني بالنصب قال: وهي لغة جيدة فأثبتها لغة لبعض العرب. قال السيرافي: الذي قرأه منهم معاذ بن مسلم الهراء وهو من

رؤسائهم في النحو. قال: وروى أيضا عن هارون القارى. وقراءة النصب هي القياس والأصل والاستعمال في أي الموصولة والشرطية والاستفهامية. قال سيبويه: وسألت الخليل- رحمه الله- عن قولهم: اضرب أيهم أفضل، فقال: القياس النصب، كما تقول: اضرب الذي أفضل، لأن أيا في غير الجزاء والاستفهام بمنزلة "الذي"، كما أن "من" في غير الاستفهام والجزار بمنزلة "الذي". والثاني: أن يريد إعادة الضمير على النحويين لا على العرب، كأنه قال: إن بعض النحويين أعرب "أيا" مطلقا ولم يحكم ببنائها البتة في موضع من المواضع، وهذا الخلاف يتصور على مذهبين: أحدهما: مذهب الكوفيين المانعين من ضم أي على الإطلاق إلا في موضع الرفع حذفوا العائد من الصلة أم لا، وذلك أنهم لم يسمعوا البناء فيها وإن حذف المبتدأ من صلتها، وأيد ذل ما روى عن الجرمي قال: خرجت من

الخندق- يعني خندق البصرة- حتى (صرت) إلى (مكة) لم أسمع أحدا يقول: اضرب أيهم أفضل بل كلهم ينصب. وأما الآية فتأولوها/ على ما يوجب رفع أيهم بالابتداء وأشد خبره. فقال الكسائي والفراء إن "لننزعن" مكتفية بمن كقوله: قتلت من كل قبيلة وأكلت من كل طعام، ولا تذكر منصوبا اكتفاء بالمجرور، وجاء قوله: "أيهم أشد" مبتدأ وخبرا، وقد قيل: إن الطالب لأيهم قوله: "شيعة" لما فيه من معنى الفعل، وكأن المعنى من كل قوم شايعوا لينظروا أيهم أشد، لأن المشايعة في أيهم أشد تقتضى النظر الذي يعلق فعله عن الاستفهام وهذا كله تكلف والذي يرد عليهم أمران: الأول: حكاية سيبويه الضم عن العرب، لأنه قال: وسألته عن قولهم: اضرب أيهم أفضل وأجابه بالحكاية، وذلك دليل على أنه من كلامهم، وقال: أيضا ومن قال: امرر على أيهم أفضل قال: امرر بأيهم أفضل. والثاني: أنه إن تأتى للكوفيين التأويل في الآية على ظهور التعسف في ذلك، فلا يتأتى لهم مع حرف الجر كالمثال الذي حكاه سيبويه آنفا وقاس عليه وأيضا ما حكي أبو عمرو الشيباني عن أحد من يأخذ عنه اللغة أنه أنشد: إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل

والمذهب الثاني: مذهب الخليل ويونس فإن حاصل مذهبهما أنهما لا يثبتان في الموصولات أيا مبنية، بل يتأولان ما جاء من ذلك ويحملانه على أنه أيا فيه استفهامية لا موصولة، إما محكية بالقول على رأي الخليل، وإما على التعليق عند يونس. فإن قيل: فالظاهر إذا أن هذا المذهب متحد مع مذهب الكوفيين؛ لأن الجميع لا يقولون بالبناء. فالجواب: أن الأمر كذلك إلا أن الفرق بين المذهبين من جهة أخرى، وهي أن الكوفيين على ما يفهم من النقل عنهم أنهم لا يرفعون "أيا" على ذينك التأويلين، وإنما قصدهم دفع ما جاء من ذل على غير الإعراب الصحيح، فلا يقولون قياسا على الآية: انزع أيهم أفضل، ولا اضرب من الشيع أيهم أفضل، ولا ما كان نحو ذلك: وأما الخليل ويونس فإنهما يقيسان على ما جاء من ذلك ويتأولانه على ما تأولا عليه المسموع. ألا ترى أن سيبويه حكي عنهما القياس في غير موضع السماع فقال: ومن قولهما: اضرب أي أفضل. يريد: على مقتضى تأويلهما، ومن هنا نسب ليونس أن التعليق في غير أفعال القلوب جائز مطلقا، فهذا فرق ما بينهما، فلأجل ذلك حكيا مذهبين مع اتفاقهما على إنكار البناء، وعلى أن أيا في ذلك المسموع استفهامية والله أعلم. ثم قال: (وفي ذا الحذف أيا غير أي يقتفى إن يستطل وصل) (أيا) مفعول بقوله: (يقتفى) و (غير) مبتدأ خبره (يقتفى) وفي هذا البيت

وجهان من الإعراب ممنوعان عند النحويين أحدهما قوله: (إن يستطل وصل) فأتى بالمضارع مصاحبا لأداة الشرط، والجواب مقدم وهذا غير جائز إلا في الشعر كقوله أنشده أبو عبيد وغيره: فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لا غس ولا بمعمر والثاني: تقديمه معمول الخبر على المبتدأ في قوله: (وفي/ ذا الحذف أيا غير أي يقتفى) فقدم المجرور والمنصوب والعامل فيهما (يقتفى) وهو خبر المبتدأ الذي هو (غير) والقاعدة أن المعمول لا يتقدم إلا حيث يصح تقدم العامل، والعامل هنا لا يتقدم، لأنه فعل فاعله ضمير المبتدأ، وقد نص هو على امتناع هذا والاعتذار عن الأول أنه اضطر فاستباح ما يباح مثله في الضرورة، وعن الثاني قد تقدم قبل في قوله: (ونحو ضمنت إياهم الأرض الضرورة اقتضت) ويقتفى معناه يتبع. يقال: اقتفين أثره وتقفيته وقفوته، والمصدر من هذا الأخير قفوا وقفوا وقفيت على أثره بفلان أي: أتبعته إياه. وأستطيل الشيء يستطال، بمعنى أنه وجد طويلا فاستغفل هنا لمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولك: استحسنته واستقبحته واستصغرته واستكثرته

وذلك إذا وجدته حسنا أو قبيحا أو صغيرا أو فظيعا أو كثيرا، ويريد أن ما سوى "أي" من الموصولات التي توصل بالجمل يتبع أيا في الحذف المتقدم وهو الذي أشار إلى جوازه من غير ضعف ولا قبح، لكن بشرط أن تكون الصلة طويلة، فإن أيا إنما حسن الحذف المذكور فيها بسبب طول صلتها بما لزمها من الإضافة، فإذا وجد سبب الحسن في غيرها جرى فيه ما جرى فيها. فإذا قلت: أنا الذي هو ضارب زيدا غدا، حسن هناك حذف "هو" فتقول: أنا الذي ضارب زيدا غد، وعليه حكاية الخليل: ما أنا بالذي قائل لك سوءا أراد بالذي هو قائل لك شيئا، ومنه ما قال الأعشى: فأنت الجواد وأنت الذي ... إذا ما النفوس ملأن الصدورا جدير بطعنة يوم اللقا ... ء تضرب منها (النساء) النحورا أراد: وأنت الذي هو جدير بذا فطالت الصلة بمعمول الخبر وبالظرف وما بعده وهذا كله في الضمير إذا كان مبتدأ على حد ما كان في أي، يدل على ذلك قوله: (وفي ذا الحذف) أي: المعين الذكر في أي وذلك قوله: (وصدر وصلها ضمير أنحذف) وهو شرط من الشروط اللازمة في

الجميع، فإنه إن لم يكن كذلك لم يجز حذفه وذلك إذا كان فاعلا أو ما أشبه الفاعل وهو المفعول الذي لم يسم فاعله أو اسم "كان" وأخواتها أو "إن" أو "ما" وأخواتهما أولا أو ما أشبه ذلك، فمثل هذا لا يجوز حذفه من صلة "أي" فكذلك حذفه من صلة غيرها، ويزيد غير أي شرطا ثانيا وهو طول الصلة كما ذكر، وإن لم تطل الصلة، فلا يحسن الحذف بل يكون نادرا وذلك قوله: (وإن لم يستطل فالحذف نزر) يعني أن الوصل إن لم يكن مستطالا فحذف الضمير الواقع مبتدأ في الصلة قليل، كما تقول: جاءني الذي قائم، أي الذي هو قائم، ومنه قراءة ابن أبي عبلة والضحاك ورؤية بن العجاج: {إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة} الآية برفع (بعوضة) أي: الذي هو بعوضة، وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: {تماما على الذي أحسن}، أي: الذي هو أحسن وهذا أمثل شيئا مما قبله لأن أفعل طالب في المعنى للمضاف/ إليه فأكسب الوصل بذلك طولا. وقرأ أبو رجاء: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا} بكسر لام "لما" وتخفيف الميم، أي: الذي هو متاع الحياة الدنيا، ومنه

في أحد الوجهين قوله- أنشده ابن جنى-: لم أر مثل الفتيان في غبن ... الأيام ينسون ما عواقبها وهذا كله قليل، فمن هنالك قال الناظم: (وإن لم يستطل فالحذف نزر) والنزر القليل التافه وقد نزر الشيء- بالضم- نزارة، وعطاء منزور، أي قليل. ويرد على الناظم في هذه المسألة سؤالان: أحدهما: أنه أطلق القول بجواز الحذف فيما إذا طالت الصلة في غير أي ولم يقيد ذلك بقلة فاقتضى أن الأمر في ذل كأي، وليس ذلك كذلك، بل الذي عليه النحويون أن الصلة إذا طالت فالحذف ضعيف والمشهور هو الإثبات. قال سيبويه: وزعم الخليل- رحمه الله- أنه سمع غربيا يقول: "ما أنا بالذي قائل لك شيئا" قال: وهذه قليلة هكذا ثبت في النسخة الشرقية قال: ومن تكلم بهذا فقياسه اضرب أيهم قائل لك شيئا. قلت: أفيقال: ما أنا بالذي منطلق؟ فقال: إذا طال الكلام فهو (أمثل قليل) كأن طوله عوض من ترك هو.

قال: وقل من يتكلم بذلك، يعني وقل من يتكلم بنحو ما أنا بالذي قائل لك شيئا وقوله: فهو (أمثل قليلا)، يعني أن مررت بالذي منطلق دون درجة الطويل وليس يبلغ ذلك أن يكون أحدهما ممتنعا والآخر سائغا جائزا، بل كل ما يقول العالم فيه أنه أمثل من الممتنع قليلا فإنما يقصد به توهين الضعف وتهوين القبح لا التسويغ المطلق وعلى هذا كلام النحويين، والحاصل من كلامهم أن حذف المبتدأ من صلة غير أي قليل ضعيف على الإطلاق، إلا أن الصلة إذا طالت كان أسهل، وإنما أطلق القول بالجواز ابن عصفور ورد عليه الناس، فإذا كان الناظم متبعا له فيما اعترض عليه فيه توجه الرد عليه أيضا. والثاني: أن قوله: (فالحذف نزر) أي: قليل، يقتضى القياس على قلة على طريقته المنبه عليها، وقد منع غيره هذا القياس وجعله من الشاذ الذي لا يقاس عليه، وممن ظهر منه المنع ابن جنى قال في: "سر الصناعة" إذا طال الكلام جاز فيه من الحذف ما لا يجوز فيه إذا قصر. ألا ترى إلى ما حكاه الخليل عنهم من قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. ولو قلت: ما أنا بالذي قائم لقبح، ثم تأويل: "ينسون ما عواقبها" على أن "ما" استفهامية وجعله أوجه من الموصولة لقلة {تماما على الذي أحسن}.

وصرح ابن عصفور بعدم الجواز أيضا فكان من حق الناظم أن يأتي بلفظ لا يدل على القياس، والجواب عن الأول: أن النحويين إن ظهر منهم تضعيف الحذف مع الطول فليس عنده بضعيف، بل هو عنده جائز كأي والذي جرأه على هذا الرأي مجيئه في القرآن كما تقدم في الآيات المذكورة، وأيضا قد جاء على قراءة الجماعة وذلك قوله تعالى: "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" فإنه على تقدير: وهو الذي هو في السماء إله وفي الأرض/ إله، وفي حرف/ أبي: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله، وهو كالأول، فالصلة هنا لما طالت بالمجرور، وكان آتيا في القرآن في مواضع كان الأولى القول بالجواز الحسن وعادة الناظم القياس على ما جاء في القرآن والاعتماد عليه وعدم تضعيفه، وسيأتي من ذلك موضع ينبه عليها إذا تصدت بحول الله ومشيئته وهي قاعدة من قواعده التي استبد بها دون غيره وللتنبيه على ما فيها موضع غير هذا. والجواب عن الثاني أن كلام الجمهور على أنه من قلته منقاس فقد قاس سيبويه على ما جاء منه في مواضع في باب "أي" وإن نص على قبحه وقلته وذكر في باب "من وما" شيئا من ذلك وجعل قوله. *فكفى بنا فضلا على من غيرنا* فرفع "غير" أجود من الجر، والجر جائز في الكلام على أن

تكون "من" نكرة موصوفة، فالرفع على أن "من" موصولة مع حذف المبتدأ من صلتها أولى من الجواز ونص الفراء أيضا على مثل ما نص عليه سيبويه وأجاز هو والزجاج الرفع في قوله: "مثلا ما بعوضة"، قال الزجاج: الرفع في بعوضة جائز في الإعراب ولا أحفظ من قرأ به. قال: ومن قرأ: {تماما على الذي أحسن} جاز أن يقرأ: "ما بعوضة" ولكنه في الذي أقوى؛ لأنه أطول. ونص ابن السراج على ذلك أيضا ولا يكاد يخالف في هذا أحد، فالذي ينبغي إذا ورد في هذه المسألة عن أحد من النحويين عدم الجواز أنه إنما يريد نفى الجواز الحسن لا نفي الجواز مطلقا، وكلام ابن جنى محتمل يصح حمله على هذا، وأما كلام ابن عصفور فنص في المخالفة للجمهور فلا اعتبار به والله أعلم. واعلم أن المؤلف في "التسهيل" وشرحه نقل عن الكوفيين عدم اعتبار هذا الشرط الثاني للحذف وهو طول الصلة، بل أطلقوا الجواز في غير أي على حده في أي، فإن كان ما نقل على ظاهره من التسوية في رتبة الحذف بين أي وغيرها طالت الصلة أو لا، فما أورده هنا من التفصيل ظاهر في

مخالفتهم، والسماع مع البصريين لقلة الحذف عند العرب مع غير أي كما تقدم، وإن أراد أنهم يطلقون القياس في الجميع فلا مخالفة بينهم وبين البصريين؛ لأن البصريين يقولون بالقياس في أي وغيرها، لكن الجواز عندهم على مراتب في الحسن والقبح، فليحقق النقل عن الكوفيين في المسألة. ثم أتى بشرط ثالث عام في أي وغيرها فقال: (وأبوا أن يختزل إن صلح الباقي لوصل مكمل) الضمير في أبوا عائد على النحويين، يعني أن النحويين امتنعوا من أن يحذف الضمير المرفوع المبتدأ إن كان ما بقى من الصلة صالحا للاستقلال والاكتفاء به في الوصل، فتكون الصلة به كاملة، والذي تكون فيه الصلة كاملة الظرف والمجرور والجملة اسمية أو فعلية، فإذا وقع شيء من ذلك خبرا للضمير المبتدأ لم يجز حذفه فتقول: أعجبني الذي هو في الدار والذي هو عندك والذي هو أبوه قائم والذي هو يقوم، فلو حذفت الضمير هنا فقلت: أعجبني الذي في الدار والذي هو عندك والذي هو أبوه قائم والذي هو يقوم، فلو حذفت الضمير هنا فقلت: أعجبني الذي في الدار والذي عندك والذي أبوه قائم والذي هو يقوم، فلو حذفت الضمير هنا فقلت: أعجبني الذي في الدار والذي عندك والذي أبوه قائم والذي أبوه يقوم كان/ ما بقى صالحا لأن يكون صلة تامة، ولم يبق دليل على المحذوف فلا يجوز الحذف لذلك، وكذلك إذا قلت: أعجبني الذي هو وجهه حسن، فجعلت وجهه بدلا من هو، وكذلك أعجبني الذي هو ماله كثير، والذي هو رجله مريضة وما أشبه ذلك من الصلات واقتضى هذا الشرط مفهوما مقصودا له، وهو أنه إذا لم يصلح الباقي لوصل مكمل لم يمتنع الحذف كما تقدم من الأمثلة في أي

ونحوها نحو: اضرب أيهم أفضل واضرب الذي ضارب أخاه عنده واضرب الذي قائم، فإن هذه الأشياء الباقية من الصلة لا تصلح لأن تكون صلات مستقلة فجاز الحذف للدلالة على المحذوف وهو ظاهر إلا أن إطلاقه معترض بمسائل يكون الوصل فيها إذا حذف منه الضمير المذكور لا يصلح الاستقلال مع أنه غير جائز، فمن ذلك الضمير إذا أبدل منه بدل الشيء من الشيء نحو أعجبني الذي هو عمرو منطلق، فلا يجوز حذف الضمير هنا وإن كان الباقي لا يصلح للوصل المكمل لما كان الضمير غير مدلول عليه، ومن ذلك أن يعطف على الضمير نحو: أعجبني الذي هو وعبد الله قائمان، فلا يجوز هنا أن تقول: الذي وعبد الله قائمان، مع أن ما بقى لا يصلح لوصل مكمل إذ لا يصلح العطف على معدوم، ومن ذلك أن يؤكد الضمير أيضا نحو: أعجبني الذي هو نفسه منطلق، فلا تقول: الذي نفسه منطلق، لأن حذف المؤكد مع بقاء المؤكد نقض للغرض، ومن هنا حكى ابن جنى عن البصريين منع الذي ضربت نفسه زيد، تريد ضربته وسينبه عليه إن شاء الله. وقد يجاب عن هذا بأن المسألة الأولى إذا حذف منها الضمير لم يدل عليه دليل، وإذا كان غير مدلول عليه عريت الصلة من ضمير عائد على الموصول وهو قد قال قبل: (على ضمير لائق مشتملة) فاشترط وجود الضمير حقيقة أو حكما ومسألتنا ليست من ذلك، إذ ليس فيها ضمير منطوق به ولا مقدر، إذ لا دليل عليه وإلا، فلو جاز تقدير ما لا دليل عليه لجاز أن تقول في الكلام: أعجبني الذي أخوك منطلق، والعرب لا تقول مثل هذا البتة، وأما مسألة العطف فقد أجاز ابن السراج أن تقول: الذي وعبد الله ضاربان لي

أخوك، لكنه استقبحه من جهة العطف على معدوم، وأجازه الفراء مطلقا ونص الرماني أيضا على الجواز على الجملة، وإذا كان جائزا عند بعضهم لم يتمكن الاعتراض به، وليس في المنع كالذي قبله لأن دليل المحذوف هنا موجود، وأما مسألة التوكيد فقد يقال: إنها مثل مسألة العطف وهو نص الرماني، وأجازه الفراء في التوكيد بأجمعين أيضا. وقال الرماني: واختلفوا في النسق على المحذوف في الصلة والتأكيد كقولك: الذي نفسه قائم زيد والذي وعمرو قائمان زيد، فأجازه الأخفش ونفاه ثعلب وابن السراج، فمن أجازه ذهب إلى أن المحذوف قد علم واطرد به الباب فجاز فيه القياس لأجل الاطراد، ومن نفاه ذهب إلى أن النسق نظير التثنية، فلا يصح في حقيقة المعنى حتى يكون اثنان فأما واحد فيقدر تقدير اثنين (فلا يجئ منه) تثنية إذ أحدهما/ مقدر والآخر محقق، وكذلك لا يؤكد، لأنه بالذكر أحق، هذا ما قاله (قد يقال: إن الأول- وهو الجواز- أولى)، لأن دليل الحذف موجود وهو نفسه، إذ هو لازم للتبعية فلا يلي العوامل فصار في درجة حرف العطف اللهم إلا أن يكون مثل كل وكلا أو نحوهما مما يصح ولايته العوامل. فهنا لا يجوز الحذف إذ يصلح الباقي لوصل مكمل نحو: الذين هم كلهم قائمون بنو تميم، فلا يجوز هنا حذف "هم" لما ذكر، فهذا مما يتمشى عذرا للناظم والسؤال وارد عليه في "التسهيل" أيضا، ويختزل معناه ويحذف. قال الجوهري: الاختزال: الاقتطاع.

يقال: اختزلته عن القوم إذا اقتطعته عنهم. وقال صاحب المحكم: الاختزال: الحذف، استعمله سيبويه كثيرا ولا أعلم ذلك عن غيره. ولما أتم الكلام على حكم الحذف في الضمير المرفوع شرع بعد ذلك في الضمير المنصوب بالنسبة إلى حكم الحذف فقال: "والحذف عندهم كثير منجلى في عائد متصل) إلى آخره، يعني أن حذف الضمير العائد من الصلة على الموصول كثير في كلام العرب بحيث يصلح القياس عليه، (منجلى) أي: ظاهر المعنى مدلول عليه إذا كان منصوبا لكن بشرطين: أحدهما: أن يكون متصلا، يعني أن يكون من الضمائر المتصلة لا من المنفصلة فإنه إن كان منفصلا لم يجز حذفه، كما إذا قلت: أعجبني الذي إياه ضربت فلا يحذف إياه، لأنه يصير غير منجل لإيهام كونه متصلا، لو قلت فيه: أعجبني الذي ضربت، إذا يوهم أنك أردت ضربته، وكذلك لو قلت: أعجبني الذي ما أكرمت إلا إياه، لم يصلح هذا الحذف البتة لبناء الكلام على ذكره. والشرط الثاني: أن يكون منصوبا بفعل أو صفة، فإن كان منصوبا بغير ذلك لم يجز حذفه كالمنصوب بإن وأخواتها كقولك: أعجبني الذي إنه قائم أو الذي كأنه أسد وما أشبه ذلك، لأن "إن" وأخواتها لا تستغنى عن معموليها كسائر الحروف، فإذا اجتمع الشرطان فيقتضى كلام الناظم إطلاق جواز

الحذف نحو ما مثل به في الفعل من قوله: (كمن نرجو يهب) تقديره: من نرجوه يهب. ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار {أهذا الذي بعث الله رسولا}، وقوله: {وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم}، ومما قرئ بالوجهين قوله تعالى: {وما عملته أيديهم}، وقوله: {وفيها ما تشتهيه الأنفس}، قرأ بالحذف فيهما أبو بكر وحمزة والكسائي ووافقهم في الثاني ابن كثير وأبو عمرو ومثله كثير جدا. وأما النصب بالوصف فقولك: أعجبني الضارب زيد، تريد: الضاربه زيد وأعجبني الغلام الذي معطيك عمرو، تريد: الذي معطيكه عمرو وأنشد المؤلف على الأول قول الشاعر: وليس من الراجي يخيب بماجد ... إذا عجزه لم يستبن بدليل أي: من الراجيه، وقال الآخر: ما المستفز الهوى محمود عاقبة ... ولو أتيح له صفو بلا كدر وعلى الثاني قول الآخر: ما الله موليك فضل فاحمدنه به ... فما لدى غيره نفع ولا ضرر

وفي هذين الموضعين يتعين نصب ما اتصل/ من الضمائر بالصفة وذلك حيث يتصل بالتي فيها الألف واللام وحيث يتصل بضمير متصل بها، أما هذا الثاني فباتفاق إذ لا يخفض بالإضافة إلا اسم واحد، وأما الأول فعلى مذهب سيبويه، وهو الظاهر من الناظم هنا، لأنه جعل الضمير المتصل بما ليس فيه ألف ولام من الصفات مجرورا في البيت الذي يلي هذا، فدل على أن ما عداه ينصب ما بعده، والمسألة مختلف فيها. فإذا قلت: زيد أن ضاربه أو زيد أنا الضاربة، ففي موضع الهاء من الإعراب ثلاثة أقوال: أحدها: أن الهاء في موضع نصب على الإطلاق كانت الصفة بالألف واللام أولا، وهو رأى الأخفش ونقل عن هشام الكوفي. والثاني: أنها في موضع جر مطلقا، وهو رأى الجرمي والمازني والمبرد. والثالث: أن الضمير معتبر بالظاهر، فإذا كان الظاهر عند وقوعه هنالك مجرورا لا غير فالضمير كذلك، أو منصوبا ليس إلا فالضمير مثله، أو جائزا فيه الوجهان فيجوز في الضمير الوجهان وهو ظاهر الناظم كما تقدم، ويحتمل من حيث اللفظ أن يؤخذ له مذهب الجرمى ومن وافقه فيدخل له في البيت الثاني كهذا ما فيه الألف واللام، ويريد بقوله هنا: أو "وصف" العامل في المفعول الثاني مع إضافته للأول نحو: المعطكيه والاحتمال الأول أرجح وهو الذي ذهب إليه في غير هذا النظم وبقى على كلام الناظم سؤالان:

أحدهما: أنه نقصه شرط ثالث ضروري لا يجوز الحذف بدونه وهو ألا يكون في الصلة ضمير آخر عائد على الموصول، فإنه إن كان ثم ضمير آخر لم يجز الحذف كما تقول: أعجبني الذي ضربته في داره، فهنا لا يجوز أن تقول: أعجبني الذي ضربت في داره، إذ لا دليل على هذا المحذوف لجواز أن يكون زيدا أو عمرا لا ضمير الذي، وإذا لم يعلم لم يجز الحذف فالعرب تحذف المفعول اقتصارا فتقول: ضربت، ولا تذكره لأغراض لها ومقاصد، فيكون قولك: الذي ضربت في داره محتملا لهذا القصر فلا يتعين قصد حذف العائد، وإذا كان كذلك كان عدم اشتراط هذا الشرط معترضا. والثاني: أن حذف الضمير المنصوب بالصفة أطلق القول في جوازه حيث قرنه بما انتصب بالفعل، فاقتضى أن الجواز فيهما سواء أو قريب من ذلك، وهذا غير صحيح، بل الحذف مع الصفة قبيح قليل، ويقل قبحه إذا طالت الصلة بالمعمولات، فقد نص ابن السراج على قبحه، قال: وقد أجازوه على قبح. وقال المازني: لا يكاد يسمع من العرب. وقال المبرد في "المقتضب" لا اختلاف في أن حذف الهاء من صلة الألف واللام رديء جدا بخلاف "الذي"، فأما إذا طالت الصلة فيسهل الحذف كقولك: إذا أخبرت عن زيد من قولك: أعلم الله زيدا عمرا قائما. المعلمه الله عمرا قائما زيد، فيجوز هنا المعلم الله.

قال ابن السراج: وهو هاهنا أسهل عندي وعند المازني/ لكثرة صلة هذا حتى إنه قد أفرط طوله، ولما فرق المبرد بين الألف واللام والذي علل ذلك بطول الذي بصلتها، لأنها يجتمع منها أربعة أشياء: الذي والفعل والفاعل والمفعول، وليس ذلك في الألف واللام، وأيضا قد زعم ابن بابشاذ أنه لا يحذف مع الألف واللام، وإذا كان الأمر في الحذف مع الألف واللام هكذا في الضعف أو الامتناع، فتسوية الناظم بينهما مشكل، وقد أخرج في "التسهيل" الألف واللام عن حكم "الذي" وإخوته في هذا الحذف فقال: ويجوز حذف عائد غير الألف واللام إن كان متصلا منصوبا بفعل أو وصف وهو احتراز ضروري عنده حيث نقل عن أكثر النحويين المنع، ووجه ذلك بأن الضمير يكمل صلتها تكميل صلة غيرهما ويميزهما من الألف واللام المعرفتين، ويظهر من التأنيث والتثنية والجمع ما لا يظهرانه، فلأجل ذلك امتنع عنده حذف عائدهما، وهذا كله يعضد ما اعترض به عليه هنا. والجواب عن الأول: أن اشتراط ذلك الشرط على الإطلاق غير مسلم وذلك أنك إذا قلت: أعجبني الذي ضربت في داره بحذف

الهاء جائز على قصد وممتنع على قصد آخر. فإن قصدت أن لا تعلم بالمضروب فالحذف سائغ لا مانع منه، وإن لم تقصد ذلك بل أردت تخصيصه وذكره ولكنك حذفته لفهم المعنى كما تحذف من الذي ضربت امتنع من جهة أنه لا دليل عليه، إذ الموصول لا يحرز موضعه لوجود رابط له، فإن كان على إثباته دليل من جهة أخرى جاز حذفه نحو قولك: الذي وصيت في حق نفسه زيد، والتي أتزوج لدينها هند، والذي لقيت وحده أخوك، ويطرد هذا النحو فيما إذا كان في الصلة جملة في موضع الحال، وفيها ضمير يعود على ذي الحال من غير احتمال، ويكون صاحب الحال هو الضمير المحذوف المنصوب كقولك: الذي قصدت ماشيا معه زيد، والحال من المحذوف جائزة، نص على ذلك ابن جنى، فإذا الاشتراط على الإطلاق معترض، كما هو منع الاشتراط، ثم إنا نقول: يحتمل أن يكون الشرط المعتبر في هذا قد نبه عليه بالمثال وهو: (من نرجو يهب) فإن الدليل على المحذوف موجود، ووجود الدليل هو المعتبر خاصة، وبه علل من اشترط ألا يكون في الصلة ضمير آخر لكن اشتراطه مخل من وجه، واشتراط وجود الدليل على المحذوف مصحح غير مخل، فوجب أن يكون هو المراد في التمثيل ولا يبقى بعد ذلك إشكال والله أعلم. والجواب عن الثاني: أن الجمهور إن قالوا بقبحه في غير ما طال بالمعمولات، فإنهم لا يمنعونه جملة. ألا ترى إلى قول ابن السراج وقد أجازوه على قبح. وقال ابن خروف في "شرح الجمل" يجوز حذف ضمير الألف واللام ولكن حذف ضمير الذي أحسن، ثم نقل قول ابن بابشاذ وقال: إنه لا يعول عليه وإذا كان منع الحذف عند ابن خروف هكذا، فما نقل ابن مالك من المنع

غير معمول/ عليه عنده أيضا وقد أطلق أيضا القول بالجواز اليزيدي، فإذا لم يبق على الناظم إلا أنه لم يبين أن الحذف مع الفعل أحسن منه مع الصفة وهذا قريب لاجتماعها في الجواز على الجملة. فإن قيل: يحتمل أن يكون المنصوب عنده بالصفة إنما هو- كما تقدم- المفعول الثاني فيستلزم الطول كقولك: المعلم الله عمرا قائما زيد، فلم يفتقر إلى التقييد بالطول، ويكون غير ذلك من قبيل الضمائر المجرورة على مذهب من يرى ذلك. فالجواب: أن هذا لا ينجي من الاعتراض، إذ قد أجاز حذف الضمير المجرور بالصفة من غير تقييد بطول الصلة، وذلك في البيت على إثر هذا، فالصواب في الاعتذار ما تقدم والله أعلم. *** ثم ذكر حكم الضمير المجرور فقال: كذاك حذف ما بوصف خفضا ... كانت قاض بعد أمر من قضى قسم الضمير المجرور الجائز الحذف إلى مجرور بحرف، وإلى مجرور باسم هو ناصب في التقدير للمضاف إليه وهو الضمير، والقسمة الحاضرة بالاستقراء أن يقال: الضمير العائد على الموصول إذا كان مجرورا على قسمين: أحدهما: أن يكون مجرورا بحرف وسيأتي حكم هذا القسم. والثاني: المجرور باسم وهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون الجار صفة ناصبة للمجرور تقديرا وهو الذي شرع فيه الآن. والثاني: أن يكون الجار غير صفة وهذا نوعان: أحدهما: أن يكون مما يجوز قطعه عن الإضافة وذلك نحو كل وبعض. والثاني: أن لا يكون كذلك، فهذه أربعة أقسام، تكلم نصا على قسمين منها وترك قسمين آخرين. ولما قيد الجواز فيما ذكر بأوصاف دل على أن ما عدم تلك الأوصاف لا يجوز حذفه فاقتضى وصف الجار بكونه صفة ناصبة له تقديرا أنه إن لم يكن كذلك فلا يجوز حذف المجرور وليس كذلك، بل فيه تفصيل فإنه لا يخلو أن يكون الاسم الجار هنالك يجوز قطعه عن الإضافة أولا، فإن كان مما يجوز قطعه عن الإضافة جاز حذفه إذا دل عليه الدليل، كما إذا أخبرت عن القوم من قولك: مررت بكل القوم، فقلت: الذين مررت بكلمهم القوم، وكذلك بعض إذا قلت: الذين مررت ببعضهم القوم، فيجوز أن تقول: الذين مررت بكل القوم والذين مررت ببعض القوم، كما تقول: أعجبني الذين كل قائم أو قائمون وما أشبه ذلك، نص على هذا ابن الضائع في فصل الأخبار من "شرح الجمل" وأجرى عليه بعض شيوخنا "قبل" و "بعد" فتقول: أجبني الذين قاموا والذين قام زيد بعد، أي بعدهم، وكذلك في "قبل" وهذا القسم مما يغفل النظر فيه أكثر النحويين منهم ابن مالك في "التسهيل" وغيره من كتبه، فالاعتراض (عليه) وارد من حيث أفهم كلامه امتناع حذف الضمير العائد من الموصول، وإن كان مما لا يجوز قطعه عن الإضافة،

فهناك يمتنع حذف الضمير فلا تقول في نحو: أعجبني الذي أبوه قائم (قائم الذي أب قائم) ولا ما أشبه ذلك/ فالحاصل أن الناظم قصر في هذا الفصل، والاعتذار عنه أن هذا النحو من حذف الضمير لم يذكره الجمهور وهذا كاف في الاعتذار عنه في هذا النظم، وإنما يرد عليه في "التسهيل" هذا إن سلم أن الأمر كما قاله ابن الضائع، وإلا فللناظم أن ينازع فيه ولاسيما في قبل وبعد، فإن هذا الحكم فيهما أضيق، ألا ترى أنهما لا يقعان مبتدأين ولا خبرين مع القطع عن الإضافة، ولا في موضع عمدة البتة، وإنما يقعان في محل الفضلة المستغنى عنها كقول الله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، وإذا وقعا في الصلة مضافين إلى ضمير الموصول فإنهما واقعان موقع العمدة من حيث أن الصلة لا تستقل دونهما نحو: جاءني الذي قام زيد بعده أو قبله، فقد يقال: لا يجوز هنا حذف الضمير وقطعهما عن الإضافة، كما لا يجوز ذلك فيهما إذا وقعا عمدتين، فهذا مما ينظر فيه. واعتذار ثان وهو أن الناظم إنما يتكلم هنا في جلائل النحو وضرورياته وما قاربها وفيها يكثر استعماله ويتداول على الألسنة، ومسألة الاسم الذي يقطع عن الإضافة في باب الموصول من النوادر التي لا يتعرض لمثلها إلا أرباب المطولات، فإذا أهمل ذكرها قاصدا الاختصار فلا عتب عليه. ولما أفهم كلامه أن الضمير إذا كان مجرورا باسم غير صفة لم

يجز حذف كان موافقا للجمهور ومخالفا للكسائي القائل بجواز حذف الضمير المضاف إليه لكن مع المضاف وذلك إذا دل على المحذوف دليل مستشهدا على ذلك بقول الشاعر: أعوذ بالله وآياته ... من باب من يغلق من خارج أراد: من باب من يغلق بابه (من خارج) فتقول على هذا: أعجبني مال من كثر، تريد من كثر ماله، وأكره عرض من مزق، أي من مزق عرضه، وما أشبه ذلك، وما احتج به لا حجة فيه عند من خالفه، لأنه مما حذف فيه المضاف وهو باب وأقيم المضاف إليه وهو الضمير مقامه فاستتر في الفعل فليس الفعل بخال عما يسند إليه فالبيت في هذا مثل قول الآخر: *فدقت وجلت واسبكرت وأكملت* حسب ما هو مذكور في باب الإضافة، وإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما نص عليه الناظم، فقوله: (كذاك حذف ما بوصف خفضا) إلى آخره، ذاك إشارة إلى حذف ضمير النصب، يريد أن حذف الضمير المخفوض بوصف كثير منجل في كلام العرب كما كان في الضمير المنصوب، فإذا قلت: جاءني الذي أنا مكرمه، جاز لك أن تحذف ضميره فتقول: جاءني الذي أنا مكرم، ومن الإثبات قوله تعالى {وتخفى في نفسك ما الله مبديه} ومن الحذف الآية الكريمة التي أشار إليها بقوله: كأنت قاض بعد أمر من

قضى) وهي قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {فاقض ما أنت قاض}، فأنت قاض جاء بعد أمر مبنى من قضية، وهو قوله: "اقض" وكان الأصل: فاقض ما أنت قاضيه، ومن ذلك قول طرفة بن العبد: ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقال سعد بن ناشب المازني- وهو من أبيات الحماسة-: سأغسل عني العار بالسيف جالبا على قضاء الله ما كان جالبا وفيها: / ويصغر في عيني تلادى إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا وأنشد الفارسي في التذكرة لتأبط شرا:

سدد خلالك من مال تجمعه ... حتى تلاقى الذي كل امرئ لاق وأنشد غيره أيضا: لعمرك ما تدرى الضوارب بالحصى ... ولازاجرات الطير ما الله صانع وقال جميل: وقد طال جرى بيتها لا أزوره ... كفى حزنا هجران من أنت وامق ومثله في الشعر كثير، وينظر بعد في مثاله هل أحرز قيدا مضطرا إليه في جواز الحذف أم لا؟ والذي قيد به في "التسهيل" هذا الحذف كون الصفة ناصبة للمجرور تقديرا، وهذا القيد الذي تحرز به المؤلف يدخل له اسم الفاعل كان بمعنى الماضي أو لا؛ لأنه الذي في تقدير الفعل، فإذا قلت: زيد ضارب عمرو أمس فهو في تقدير: ضرب عمرا أمس، كما أن الذي بمعنى الحال والاستقبال بمعنى المضارع، وهذا لم يشرحه في شرحه، ويخرج له بذلك الصفة المشبهة باسم الفاعل، لأن الضمير المجرور بها في تقدير المرفوع لا في تقدير المنصوب، فلا يحذف إذا فرض عائدا في الصلة على الموصول، وكذلك اسم الفاعل المراد به مجرد الاسم لا ما يعطيه من معنى الفعل فإنك تقول: هذا ضارب زيد، على معنى ما تقول: هذا صاحب زيد، فليس المجرور هنا في معنى المنصوب، فإذا وقع ضميرا عائدا على الموصول لم يجز حذفه، كما لا يجوز حذف الضمير المجرور بصاحب.

والناظم حين قال: (كذاك حذف ما بوصف خفضا) دخل له اسم الفاعل والصفة الشبهة، لأنها صفة واسم الفاعل المطرح فيه معنى الوصف، إذ يطلق عليه أنه وصف اعتبارا بأصله، فأخرج هذين بقوله: (كأنت قاض) لأن قاض هنا يجرى الضمير وهو ناصب له في التقدير بخلاف الحسن والضارب المسلوب معنى الوصف وهو حسن من التقييد لكنه يوهم قيدا آخر غير معتبر وهو كون العامل في الضمير موافقا في المعنى للعامل في الموصول، لأنك تقول: اضرب الذي أنت مكرم، كما قال طرفة: *ستبدى لك الأيام ما كنت كاهلا* وكقول جميل بن معمر: *كفى حزنا هجران من أنت وامق* فكان الوجه أن يفصح بالقيد ولا يشير إليه بما يوهم قيدا آخر غير معتبر. والجواب: أن معه ما يبين مراده وهو أن قوله: "كأنت قاض" في موضع الصفة لوصف، وتقديره: كذاك حذف ما خفض بوصف شبيه بقاض الواقع بعد أمر من قضى أي الواقع الآية، فإنما أراد بقوله: (بعد أمر من قضى) تعيين الآية التي فيها الوصف المشار إليه، ولا شك أن الضمير المجرور بقاض في معنى المنصوب، فلم يرد إذا بقوله: (بعد أمر من قضى) قيدا آخر، وإنما أراد تعيين موضع الشاهد خاصة ولا يبقى في كلامه إشكال. ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال:

كذا الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر/ "ذا" إشارة إلى ما تقدم من حكم الحذف وهو الكثرة والجواز، و "الذي" واقع على الضمير المحكوم عليه بالحذف و "ما" واقعة على الجار للضمير وهو هنا الحرف والموصول مفعول بجر مقدم عليه، أي: بالحرف الذي جر الموصول، ويريد أن الضمير إذا كان مجرورا بالحرف الذي جر الموصول فحكمه حكم ما تقدم من جواز الحذف ومثل ذلك بقوله: (كمر بالذي مررت) يريد بالذي مررت به فهاء به- وهي العائد- قد جرت بالباء المجرور بها الموصول. وقوله: (فهو بر) جواب قوله: "مر" وهو من تمام المثال، ولو لم يأت به لتم مقصوده، ولكنه جاء به مكملا للكلام وعلة للأمر بالمرور به، ويقال: رجل بر، أي: صادق من قوم أبرار، وبار أيضا من قوم بررة. والحاصل أنه اشترط في جواز حذف الضمير المجرور بحرف أن يكون الموصول مجرورا بمثله، وهذا الشرط يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قاصدا لما سواه فيكون قوله في المثال: (كمر بالذي مررت) إنما قصد به تمثيل اتفاق الحرفين الجارين واتفق في المثال أن اتحد متعلقاهما بحكم التبع لا بالقصد الأول، فإن كان قد قصد هذا اشتمل كلامه من ذلك على ثلاثة أنواع أعطى فيها جواز الحذف. أحدها: أن يتحد متعلقا الحرفين، أعنى في المادة والمعنى كالمثال الذي مثل به، فإن متعلق الحرف الجار للضمير مررت، ومتعلق الجار للموصول مر، وكلاهما مشتق من المرور، وفي القرآن الكريم: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} وأنشد

النحويون: نصلي للذي صلت قريش ... ونعبده وإن جحد العموم وكذلك إن كان أحدهما فعلا والآخر صفة نحو قولك: مررت بالذي أنت مار، تريد مار به أنشد ابن جنى: وقد كنت تخفى حب سمراء حقبة ... فبح لان منها بالذي أنت بائح وقال جميل: ولا تسمعي من قول واش وشي بنا ... وقولي له انطق بالذي أنت ناطق والثاني: أن يتحد في المعنى لا في اللفظ نحو: جئت بالذي أتيت به وجئت إلى الذي سرت إليه وقعدت في الموضع الذي جلست وما أشبه ذلك، وهذا النوع في معنى الأول إلا أن الأول أظهر في الجواز. والثالث: أن يختلف المتعلقان في المعنى والمادة معا نحو: نظرت إلى الذي جئت إليه، وعنيت بالذي مررت به، ومنه قول الشاعر: فابلغا الحارث بن نضلة والـ ... مرء معنى بلوم من يثق

أي: من يثق به وأنشد الفارسي: وإن لساني شهدة يشتفى بها .... وهو على من صبه الله علقم يريد: على من صبه الله عليه علقم وكثير من النحويين وخصوصا من تأخر منهم لا يجيزون مثل هذا في الكلام وهو جائز عند جماعة كابن السراج والفارسي وغيرهما على أن سيبويه جعل الحذف فيما كان نحو النوع الأول ضعيفا في الكلام فقال في أبواب الجزاء: وقد يجوز أن نقول: بمن تمرر أمرر، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه، وبه، قال: وليس بحد الكلام، وفيه ضعف، وعليه أنشد قول الشاعر: / إن الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتكل ولم يجعل الناظم الحذف هنا إلا كثيرا منجليا على ما نبه عليه بقوله: (كذا الذي جر) أي: هو مثل الحذف في المخفوض بصفة ناصبة له تقديرا، وفي المنصوب كما تقدم. والنوع الثاني والثالث أحرى بالضعف عن سيبويه، وكذلك عنده غيره بالنسبة إلى الأول فهو المشهور في الكلام المعروف الجواز، والأنواع الثلاثة متفقة في معنى واحد وهو كون جار الضمير والموصول واحدا وهو الذي نص عليه، فإن عدم ذلك المعنى لم يجز حذف الضمير إلا شاذا، فلا تقول: جاءني الذي مررت ولا مررت بالذي أعرضت، تريد مررت به وأعرضت

عنه وقد جاء هذا في الشعر. قال حاتم الطائي: ومن حسد يجور على قومي ... وأي الدهر ذو لم يحسدوني ويسهل هذا الحذف إذا كان مدلول الذي ظرفا وقد عاد عليه الضمير بفي كبيت حاتم، أعجبني اليوم الذي جئت تريد جئت فيه، ويقيسه غير الناظم ويحسنه للعلم بأن "في" هي المحذوفة، فتعينت كما تعين المحذوف في نحو: مررت بالذي مررت، بخلاف غير الظرف، فإنه لا يتعين فيه الجار نحو: الذي رغبت زيد، ومنه ما أنشده الفارسي من قول الشاعر: فقلت له لا والذي حج حاتم ... أخونك عهدا إنني غير خوان ولعل المجيز لحذف ضمير الظرف بني على مذهب أبي الحسن في التدريج، إذ يجوز حذف "في" مع الضمير، ويصير الضمير منصوبا على المفعول به اتساعا، فكأنه يقول: وأي الدهر ذو لم يحسدونيه، ثم حذف الهاء لأنها كالهاء في نحو: جاءني الذي ضربته ومذهب سيبويه عدم التدريج فكأنه حذف الجار

والمجرور اعتباطا ومثالهم الذي تكلموا في المسألة عنده قوله تعالى: {واتقوا وما ما لا تجزى نفس عن نفس شيئا} تقديره: لا تجزى فيه. قالوا: إذا جاز ذلك عند سيبويه في الصفة فهو في الصلة أولى بالجواز، وإذا ثبت هذا أشكل كلام الناظم على هذا التفسير حيث جعل ما كان نحو: *وهو على من صبه الله علقم* قياسا وجعل ما كان نحو: *وأي الدهر ذو لم يحسدوني* موقوفا على السماع حيث أخرجه بالقيد الذي تقدم ذكره. والجواب أن يقال: لعله ذهب إلى رأى أبي الحسن في التدريج وإليه مال ابن جنى أيضا وبوب عليه في "الخصائص" وإذا كان كذلك صار بعد حذف في من قبيل الضمائر المنصوبة فدخل له تحت مسألة الضمير المنصوب بهذا الاعتبار. فإن قيل: فيدخل له إذا تحت قوله: (والحذف عندهم كثير منجل) في كذا وليس كذلك إذا لم يبلغ عندهم مبلغ الحذف في الضمير المنصوب، بل هو قليل في الكلام بالنسبة إلى حذف المنصوب بالأصالة. فالجواب: أن الحذف أيضا في المجرور/ بفي بعد حذفها كثير منجل؛ لأنه إذا صار في عداد المنصوبات صار له حكمها، لأنه صار من قبيل المنصوب على المفعولية اتساعا، وإنما القلة راجعة إلى حذف "في" لا إلى حذف الضمير، فلا تقدح قلته في كثرة حذف الضمير المنصوب على الجملة فتأمله.

والتفسير الثاني: أن يكون تمثيله بـ "مر بالذي مررت "تقييدا" لما تقدم كأنه يقول: كذاك الضمير الذي جر بما جر الموصول إذا كان مثل هذا المثال الذي وجد فيه اتحاد متعلقى الجارين وغير ذلك من القيود، وذلك أن الحذف الجائز جوازا حسنا مشروط بأربعة شروط: أحدها: أن يكون مجرورا بحرف لا باسم، فإنه إن جر باسم فقد تقدم حكمه. والثاني: أن يكون الموصول مجرورا بذلك الحرف نفسه وقد تبين هذا. والثالث: أن يتحد متعلقا الحرفين، وهذا يشمل النوع الأول والثاني في التفسير الأول، ويخرج عنه الثالث، لأن الحذف فيه قليل، وأكثر ما يجيء في الشعر، فيكون الناظم على هذا لم يعتبره في القياس، وعلى هذا أكثر المتأخرين، ومن أجازه كالفارسي وغيره فإنما أجازه على ما فيه من القلة، وإلى اشتراط هذا الشرط ذهب في كتاب "التسهيل" وهو جدير بأن يشترطه وخصوصا في هذا النظم. والرابع: ألا يكون المتعلق الثاني مبنيا للمفعول، بحيث يقام المجرور مقام الفاعل، وذلك ظاهر من تمثيله، وهو ضروري الاشتراط، وقد فاته ذكره في "التسهيل" وهو مستدرك عليه، فإنه إن كان المجرور مقاما مقام الفاعل لم يجز حذفه وذلك نحو: مررت بالذي مر به فلا تقول: هنا مررت بالذي مر؛ لأنه يبقى الفعل بلا فاعل ولا نائب عنه وذلك فاسد، ومن هنا يظهر أن هذا الوجه الثاني في تفسير كلام الناظم أولى؛ لأن الأول يدخل عليه فيه جواز حذف المجرور المقام مقام الفاعل وذلك غير صحيح، وكثير من الناس

لا يذكرون هذا الشرط، والاعتراض وارد على من لم يذكره، وزاد بعض الناس شرطا خامسا وهو أن لا يوقع لبسا، ولعل مشترطه تحرز به من نحو: أمرتك بالذي أمرت ب زيدا فيقول: لا يحذف هنا الضمير المجرور لالتباسه بالمنصوب إذ كنت تقول: الذي أمرته زيدا الخير والذي أمرت به زيدا الخير. فإذا قلت: أمرتك بالذي أمرت زيدا، لم يدر ما المحذوف الجار والمجرور أم المنصور، فكان ذلك ممتنعا. فإن قلت: إن تقدم حرف الجر يدل أن المحذوف مجرور. قيل: ذلك لا يلزم فقد يجمع في الكلام الواحد بين تعدي أمر بنفسه وبالحرف كما قال: *أمرتك الخير فأفعل ما أمرت به* ومثل هذا استغفرت الله مما استغفرت منه، وسميتك بالذي سميتني به، وما أشبه ذلك، فإن كان هذا الشرط لازما فمثال الناظم يحرزه لأن مررت، بالذي مررت به لا يلتبس في حذف الضمير. فإن قيل: فقد يلتبس بغير ذلك، إذ كنت تقول: مررت بالذي مررت عليه فإذا حذفت لم يدر ما المحذوف.

فالجواب: إن تجويزهم للحذف/ دليل على أن المحذوف مماثل حرفه للحرف المتقدم، وإلا فكان يمتنع حذف الضمير المجرور بحرف مطلقا، إذ ما من مسألة من الباب إلا ويمكن فيها هذا التوهم، على أن التوهم قد تحرك على بعض علماء سبتة. حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار- رحمة الله عليه قال: سئل شيخنا أبو إسحاق الغافقي عن حذف الضمير من الصلة في قولك: رغبت فيما رغبت فيه، فجوز ذلك، فأنهى الخبر إلى تلميذه شيخنا أبي عبد الله بن عبد المنعم فمنعه واستشهد بأنه يقال: رغبت فيما رغبت فيه على معنى القبول، ورغبت فيما رغبت عنه على معنى الإعراض، ولا يكون الحذف إلا حيث يتعين المحذوف خوف اللبس، فلو حذف الضمير هنا لصار في الكلام إجمال، وهو خلاف المطلوب فوجب اجتنابه، وشرط انتفاء اللبس من جملة الشروط المجوزة للحذف. قال: فأنهى ذلك إلى الأستاذ: فاستدل على الجواز بأنك إذا رأيته محذوفا دلك ذلك على اتفاق الحرفين، ولو كانا متباينين لم يجز حذفه؛

لأنه مشروط بالاتفاق، وعكسها مثلها وهي أن تقول: رغبت عما رغبت عنه يجوز فيها حذف "عنه" لحصول الموافقة ولا لبس فيه أصلا لوجود الحذف لأنه لو كان غير موافق لم يجز الحذف. قال: وعلى هذا وقف الأمر عند نحاة سبتة، انتهى ما ذكره الأستاذ ابن الفخار شيخنا لنا، واستحسن نظر شيخه الغافقي، وهو كلام صحيح، وهو الموجب أعنى موافقة الحرفين لجواز الحذف، فإذا مثال الناظم لا لبس فيه البتة وإنما يعتبر شرط من اشترط عدم اللبس فيما تقدم من الأمثلة من باب "أمر" وما أشبه ذلك إن كان معتبرا فإني لم أر من اشترط إلا ما حكاه شيخنا الأستاذ ابن الفخار، فإنه جعله من جملة الشروط، ولم ينسبه إلى مشترطه فانظر فيه. ***

المعرف بأدة التعريف

ثم أخذ في ذكر نوع خامس من المعارف فقال: المعرف بأدة التعريف ... أدة التعريف ي الألف واللام، وهو الذي أخذ يتكلم على المعرف بها فقال: أل حرف تعريف أو اللام فقط ... فنمط عرفت قل في النمط اعلم أنه تكلم على الأداة أولا ولم يتكلم على المعرف بها إلا بقوله: (فنمط عرفت قل فيه النمط) لأن الاسم الداخل عليه "أل" ليس فيه بحسب قصده حكم يتفصل وإنما التفصيل في أداة التعريف، فلذلك اقتصر على ذكرها وذكر أقسامها وأحكامها دون أحكام الاسم المعرف، لأن أحكامه تابعة لأحكامها. فتقول أولا: (أل حرف تعريف) بيان الأصل فيها وأنها في الوضع الأول تفيد التعريف وما عدا ذلك من أقساما فمفرع عنها، لأن الأصل دللتها على معنى، فزيادتا لغير معنى على خلاف الأصل، ودلالتها على غير التعريف مبنى عليه كالتي للمح الصفة والغالبة، وأما الموصولة فاسم كالذي/ والتي فليست من أنواع هذه، بل يطلق عليها "أل" باشتراك الاسم كمنذ ومذ الاسميتين مع الحرفيتين، والكاف و "عن" و "على" ونحو ذلك. فقد تبين أن الأصل فيها وهي حرف الدلالة على معنى التعريف، ثم إنه خير هاهنا بين أمرين في تعيين الحرف المعرف. أحدهما: أن يكون "أل" بكمالها، كما تدل "قد" على معنى التوقع و "لم" على النفي، وما أشبه ذلك.

والثاني: أن يكون حرف التعريف اللام وحدا دون الهمزة، وهما وجهان مسوقان مساق التخيير في اعتقاد أحدهما، وكأنه خير بين القولين المنقولين عن النحويين، فذكر عن الخليل أن "أل" بكمالها هي حرف التعريف، وأنها بمنزلة "قد" و "لو" و "هل" و "بل" وحكي عنه أنه كان يسميها "أل" كقولنا: "قد" وأنه لم يكن يعبر عنها بالألف واللام، كما يعبر عن "قد" بالقاف والدال ولا عن "هل" بالهاء واللام، وهذه عادة الناظم في هذا النظم حسب ما أنت رائيه. وذهب غير إلى أن حرف التعريف هو اللام وحدها، وأما الهمزة فزيدت ليتوصل بها إلى النطق باللام؛ لأنا ساكنة، كما جئ بهمزة الوصل في غير هذا الموضع ليتوصل إلى النطق بالساكن، هذا هو الذي يفهم ها هنا من إطلاق العبارة حيث قال: (أو اللام فقط) وقد جعل المؤلف الخلاف هنا في موضعين، أعني في غير هذا النظم: أحدهما: ما المعرف أهو "أل" بكمالها أم اللام وحدها؟ فمذهب الخليل وسيبويه أنا "أل" بكمالها، ومذهب غيرهما أنها اللام فقط، وهذا هو الذي بين هنا. والثاني: إذا قلنا: إنا "أل" بكمالها فهل الهمزة أصلية أم زائدة؟ فمذهب سيبويه عنده أنها زائدة، ومذهب الخليل أنها أصلية. وأما إن قيل: إنها اللام وحدها فلا نزاع أن الهمزة همزة وصل.

فالحاصل من الخلاف في "أل" ثلاثة أقوال: أحدها: أن حرف التعريف اللام خاصة. والثاني: أنه "أل" بكمالها، والهمزة همزة وصل. والثالث: كذلك إلا أن الهمزة همزة قطع. ومذهب الناظم في غير هذا الكتاب هو ما نسب إلى سيبويه والخليل، ويشعر أن ذهب إلى ذلك هنا تعبيره عنه بـ "أل" لا بالألف واللام، ولا باللام، كما يعبر عنه غيره وتقديمه له حيث قال: (أل حرف تعريف) وتأخير المذهب الآخر وإنما ساق ذلك مساق التخيير لتنظر أنت في مدارك القولين. وإذا ثبت ذلك لم يؤخذ من هنا حكم على الهمزة، وإنما يؤخذ له ذلك من فصل همزة الوصل من باب التصريف، إذ نص هنالك أنها زائدة، فمذهبه إذا ما نقل عن سيبويه، ولكل واحد من هذه المذاهب حجة تعضده، وشاهد يؤيده، فمن الدليل للخليل أن هذه الهمزة ثبتت حيث تحذف همزات الوصل البتة، وذلك في نحو {قلء الله أذن لكم}، {ء الله خير أما يشركون}، {ء آلذكرين حرم أم الأنثيين}، وقالوا: يا الله وآفا الله، عند بعضهم، وما أشبه ذلك، فقد أنشد سيبويه لغيلان: /

عجل لنا هذا وألحقنا بذال ... بالشحم إنا قد مللناه بجل فأفرد "أل" وأعادها في البيت الثاني وذلك يدل على قوة اعتقادهم لقطعا فصار قطعهم "أل" وهم يريدون الاسم بعدها كقطعهم "قد" وهو يريد الفعل بعدها كقول النابغة الذبياني: أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد التقدير: وكأن قد زالت فقطع "قد" من الفعل كقطع "أل" من الاسم، وعلى هذا قالوا: "ألى" في التذكر، كما قالوا: قدى. ومن الدليل للمذهب الآخر وهو زيادة الهمزة وعروها عن الدلالة- أنهم أوصلوا حرف الجر إلى ما بعد حرف التعريف نحو: عجبت من الرجل ومررت بالغلام وذلك يدل على أن حرف التعريف غير فاصل بين الجار والمجرور، وإنما كان كذلك لأنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرفه، ولا يكون كذلك إلا لأنه حرف واحد لاسيما وهو ساكن، ولو كان عندهم حرفين كـ "هل" و "بل" و "قد" لما جاز الفصل لاستقلال الحرف، ومن ثم أنكروا على الكسائي قراءة، {ثم ليقطع} بإسكان اللام، و {ثم ليقضوا}، لأن "ثم" قائمة بنفسها، ليست كالواو والفاء، وأيضا فإن التنكير لما كان مدلولا عليه بحرف واحد وهو التنوين كان التعريف الذي هو مقابله مدلولا عليه بحرف واحد وهو اللام؛ لأن الشيء يحمل على ضده، كما يحمل على نظيره.

وأما المذهب الثالث فمتعلقه ظاهر لفظ سيبويه حيث قال: في باب عدة ما يكون عليه الكلام، وقد جاء على حرفين ما ليس باسم ولا فعل فذكر "أم" و "بل" وغيرهما. ثم قال: وأل حرف تعريف الاسم، فأخذ ابن مالك من هذا أن "أل" هي المعرفة بجملها، وذكر في ألف الوصل أن الهمزة موصولة، فاجتمع من ذلك ما تقدم والكلام في استقصاء الأدلة والفصل بين الخصوم له مجال مواسع لا يليق بما نحن فيه الآن، وإنما ذكرت بعض ذلك توجيها، وسيأتي في باب التصريف ما في هذا الخلاف من النظر بحول الله ومشيئته. ثم قال: (فمنط عرفت قل فيه النمط) يعني أنك إذا أردت تعريف لفظ "نمط" فأدخل عليه "أل" و "قل فيه النمط" فيصير بأل معرفة بعد أن كان نكرة دونها وهذا مثال يدل على نظائره فرجل وفرس وبلد وقمر إذا أردت تعريفها فقل: الرجل والفرس والبلد والقمر، وكذلك ما أشبهه ولم يعتن هنا بذكر أنواع التعريف في هذا الحرف وأنواع تعريفه ثلاثة: أحدها: تعريف العهد وهو ينقسم إلى تعريف عهد حسي كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول} وإلى

تعريف (عهد) علمي كقوله تعالى {إذ هما في الغار}، وقوله: {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى}. والثاني: تعريف الجنس نحو قولك: الرجل خير من المرأة. وقال تعالى: {إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا}. والثالث: تعريف الحضور كقولك: هذا الرجل وسأقوم اليومض والساعة. هذه أقسام "أل" في التعريف، وبقى في كلام/ الناظم شيء وذلك أنه كان حقه أن يقول: عرفته، فتأتى بضمير المفعول، أو يعدى الفعل إلى "نمط" فيقول: (فنمطا عرفت) لأن النصب لا يكسر الوزن فلم أتى بعرفت غير معدي؟ فالجواب: أن عرفت في موضع الصفة لـ "نمط"، وعلى هذا يستقيم معنى البيت فإنما أراد فنمط معرف يقال فيه النمط وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة كما حذفه جرير في قوله- أنشده سيبويه-:

أبحت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح وأنشد أيضا قول الحارث بن كلدة: وما أدرى أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا فـ "حميت" و "أصابوا" في موضع الصفة كأنه قال: محمى ومصاب، وإذا كان معنى "عرفت" في البيت على الصفة، فلا سبيل إلى النصب في "نمط" بـ "عرفت" لأن الصفة من تمام الاسم فهي كبعضه، وبعض الشيء لا يعمل في بعضه، هذا معنى تعليل سيبويه، فإن قيل: هذا مشكل من جهة اللفظ والمعنى، أما من جهة اللفظ فإن نمطا لما كان المراد به نفس اللفظ كان معرفة لا نكرة، وذلك شأن ما يراد به مجرد اللفظ، فإنك تقول: رجل المنكر، لا يبتدأ به ولا يصح أن تقول: رجل منكر على أن تجعله صفة لأنه قد صار علما به، كما صار أفعل وفعلان وسائر الأمثلة الموزونة بها أعلاما على المثل التي توزن بها فلم جعلت "عرفت" نعتا لـ "نمط" والمراد مجرد اللفظ لا غير ذلك؟ وأما من جهة المعنى فلأنه في معنى (فنمط) إذا عرفته قل (فيه النمط) و (نمط المعرف) لا تدخل عليه "أل" لأن تعريفه إن كان بالإضافة فلا تدخل عليه "أل" وكذلك إن كان علما لا تدخله "أل" وإن كان معرفا بها فلا تدخل عليه أيضا مرة أخرى، وإنما كان وجه العبارة أن يقول: فنمط أردت تعريفه

قل فيه النمط (إذ لا يقال فيه النمط) إلا وهو نكرة مراد التعريف لا وهو معرفة. فالجواب: أن يقال: أما الأول فإن نمطا لم يرد عينه هنا بالقصد الأول وإنما جاءت إرادة لفظه بالعرض، لأن المقصود لفظ ما أي لفظ كان، فكأنه قال: فأي لفظ أردت تعريفه أدخل عليه "أل" هذا معنى كلامه، وإنما جاء تعيين لفظ نمط بالقصد الثاني، وإذا كان مقصود هذا لم يكن معرفة وصح وصفه بالجملة وأبين من هذا أن يكون أصله معرفة لكنه أتى به منكرا- كما ينكر العلم كقولك: هذا زيد مقبل، تريد زيدا من الزيود ومقبل نعته، فكذلك هنا أي: فنمط من الأنماط معرف قل فيه النمط وهذا بين. وأما الثاني: فإن معنى (عرفت) في كلامه إرادة التعريف فكأنه قال: "فنمط" أردت تعريفه وهذا في الكلام العربي الفصيح موجود، ففي القرآن الكريم: {وكم من قرية أهلكناها} الآية، المعنى: أردنا إهلاكها "فجاءها بأسنا" ويقع ذلك مع إذا نحو: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ}، {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وإذا كان (هذا) موجودا في الكلام فلا مانع من استعماله والنمط: ضرب من البسط، والنمط أيضاً:

الجماعة من الناس أمرهم واحد، وفي الحديث: خير هذه الأمة النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي قال أبو عبيد: النمط: هو الطريقة/ يقال: ألزم هذا النمط، قال: والنمط أيضا: الضرب من الضروب والنوع من الأنواع، يقال: ليس هذا من ذلك النمط، أي: من ذلك النوع، وهذا المعنى يقال في المتاع والعلم وغير ذلك. *** ثم ذكر ما جاء من الألف واللام بخلاف الأصل من الدلالة على التعريف فقال: وقد تزاد لازما كاللات ... والآن والذين ثم اللاتى ولاضطرار كبنات الأوبر ... كذا وطبت النفس يا قيس السرى اعلم أن "أل" قد تخرج عن أصلها فلا تدل على تعريف، وهي إذ ذاك قسمان: أحدهما: ما لا يفيد معنى آخر فهذه تسمى زائدة. الثاني: ما يفيد معنى آخر سوى التعريف، وهذا القسم هو الذي للمح الصفة وأما الألف واللام الغالبة فهي راجعة إلى التي تفيد التعريف فابتدأ بذكر القسم الأول وهو قسم الأول وهو قسم الزائدة وجعله نوعين: أحدهما: ما كانت زيادته لازمة البتة.

والثاني: ما كانت زيادته اضطرارية. فأما الأول: فهو الذي أراد بقوله: (وقد تزاد لازما كاللات) إلى آخره، يعني أن العرب قد تزيد قليلا "أل" لغير معنى في مثل هذه الألفاظ المذكورة بحيث: لا تنفك عنها، وهذه العبارة لا تدل على أن هذه الزيادة موقوفة على السماع إذ لم يبين ذلك، بل نبه على قلة وجود ذلك وإشعاره بالقلة بحرف قد لا يشعر بقياس ولا بعدمه، لأن القليل قد يقاس عليه في بعض المواضع، وقد لا يقاس عليه بخلاف ما إذا أتى بلفظ القلة فاعتبره. فالحاصل أنه سكت عن ذلك ولا ش أن هذا النحو مما لا يقاس عليه، وإنما يتلقى من السماع، إذ لم يكثر كثرة يقاس عليها ولا ظهر فيه وجه قياس فيوقف على محله، وهذا في الزيادة اللازمة. وأما التي للاضطرار فأولى بعدم القياس في الكلام وكذلك في الشعر أيضا، إذ لم تكثر زيادتها كثرة توجب قياسا، كما كثر فيه قصر الممدود وصرف ما لا ينصرف وشبه ذلك، فجاز القياس فيه. ولما كان ما تحت "قد" في قوله: "وقد تزاد" منقسما إلى القسمين وكان كل واحد منهما منتظما تحتها، وكان مسكوتا عن قياس ذلك في الأول كان مسكوتا عنه أيضا في الثاني، أعني عن القياس في الشعر فلقائل أن يقول: هذا تقصير من الناظم لعدم التنبيه على القياس فيه أو عدمه ويجاب عن ذلك بأنه قد أشعر بذلك إشعارا خفيا من جهة أنه لم يعقد

فيها أصلا ولا أتى بقانون الزيادة ولا بما يشعر به، وإنما أتى بأمثلة من الضربين مطلقة تشير إلى أنها كذلك وردت، ولو أراد القياس لقال: وقد تزاد لازما، في نحو كذا، أو فيما كان يشبه كذا أو ما أشبه هذه العبارة، فلما اقتصر على أمثلة مطلقا ولم يقدم لها قانونا دل على أنها عنده سماعية لا قياسية، ثم أتى بأمثلة أربعة للقسم الأول: أحدها: "اللات" وهو اسم/ صنم كان بالطائف، وأصله "اللات" اسم فاعل وهو رجل كان يلت السويق للحاج إذا قدموا، وكانت العرب تعظم ذلك الرجل لإطعامه الناس في كل موسم، ويقال: إنه عمرو بن لحى بن قمعة، وقيل: ربيعة بن حارثة وهو والد خزاعة، وعمر عمرا طويلا، فلما مات اتخذ مقعده الذي كان يلت فيه السويق منسكا، ثم طال الأمر بهم إلى أن عبدوا تلك الصخرة التي كان يقعد عليها ومثلوها صنما وسموها اللات اشتقوا لها اسما من اللت. وقد قرأ ابن عباس: {أفرأيتم اللات} على فاعل من لت، فالألف واللام في "اللات" عند الناظم زائدتان، وهو مذهب الأخفش

فيها وفي "العزى" ويدل على صحة مذهبه أنهما علمان بمنزلة يغوث ويعوق ونسر ومناة وغير ذلك من أسماء الأصنام، فهذه كلها أعلام غير محتاجة في تعريفها إلى أداة، وليست من باب الحارث والعباس من الأوصاف التي سمي بها، فدخلها الألف واللام لتلمح أصلها وإذا كان كذلك وجب أن تكون فيها زائدة، وأيضا فيؤكد زيادتها لزومها الاسم كلزومها في الذي والآن. فإن قيل: فقد حكى أبو زيد لقيته فينة والفينة. وقالوا في الشمس: إلهة والإلاهة، وليست فينة وإلهة بصفتين، فيجوز تعريفهما وفيهما اللام كالحارث والعباس .. فالجواب: أن هذا مما اعتقب عليه تعريفان: أحدهما: بالعلمية، والآخر بالألف واللام ولم نسمعهم. قالوا: عزى ولالات بغير أداة، فدل لزوم اللام على زيادتا وأن ما هي فيه ليس مما اعتقب عليه تعريفان: هذا توجيه ابن جنى، وهو ظاهر في اللات، وأما في العزى ففيه بحث تكلم عليه ابن جنى ليس من مطلب هذا الشرح، إذ لم يتعرض له الناظم. والثاني: من الأمثلة "الآن" وهو اسم للزمان الحاضر والألف واللام فيه زائدة على ذلك الأخفش، وقد خالف في ذلك طائفة وجعلوها للتعريف من الأصل الأول، واستدل ابن جنى على زيادتها وأنها ليست للتعريف بأنا

اعتبرنا جميع ما لامه للتعريف فوجدنا إسقاطها منه جائزا كالرجل والغلام، ولم تقل العرب فيما بلغنا فعلته آن كما قالوا: فعلته الآن، فدل هذا على أنها ليست للتعريف ولا أيضا للمح الصفة، فإن التي للمح الصفة يجوز إسقاطها، فدل لزومها أيضا على أنها ليست للمح الصفة، بل هي زائدة، كما يزاد غيرها من الحروف، ثم يبقى النظر في تعريفها وذلك على رأى الفارسي وابن جنى بألف ولام تضمن الآن معناها، كما بنيت "أمس" لتضمن معناها، وعلى رأى الزجاج بالإشارة. والثالث: "الذين"، فالألف واللام فيه أيضا زائدة كما قال والدليل على ذلك: أنه من الأسماء الموصولات، وقد وجد من الموصولات ما ليس فيه ألف ولام وهو معرفة كـ "من" و "ما" و "أي"، فهذا يدل على أن "الذين" معرفة لا بالألف واللام، وأيضا لو كانت فيه للتعريف لقالوا "لذين" من غير ألف ولام، إذ لم نجدها تعرف إلا حيث يجوز إسقاطها كما تقدم، وهذه لا تسقط البتة، وإن سقطت فذلك من النوادر غير المعتد بها، فدل ذلك على أنها لغير التعريف وليست أيضا/ للمح الصفة، فلم يبق إلا أن تكون زائدة. وقد ذهب ابن خروف إلى أن تعريف "الذين" وأخواته من الموصولات الداخلة عليها الألف واللام بهما لا بالصلة، وأن ما ليست فيه معرف بها تقديرا كـ "أي" و "من" و "ما" وخطأ من زغم أن

تعريفها بالصلة قال: وكيف ذلك وهي جمل وقد تكون صفات وهي نكرات، ثم استدل على أن تعريفهما إنما هو بالألف واللام، أن ما هي فيه لا يكون نكرة البتة بخلاف ما ليست فيه فإنه قد يكون نكرة "كمن" و "ما" و "أي" وما استدل به ليس له فيه حجة، أما أولا فإن أصل وضع الموصول أن يتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل، إذ لم يمكنهم أن يدخلوا الألف واللام على الجمل، فأتوا بما يصح فيه ذلك وهو الموصول كالذي والتي، فأدخلوها عليه فصح لهم الوصف بالجملة بإصلاح لفظها بتصديرها بما فيه الألف واللام. وأما "من" و "ما" و "أي" فإنما لم يوصف بها لعدم الألف واللام فيها إذ هي المسوغة لأن تجرى الجملة صفة للمعرفة فراعوا اللفظ كما راعوا لفظ كل وبعض فلم يصفوهما بالمعرفة حيث لفظهما لفظ النكرة، ولا- أيضا- وصفوهما بالنكرة اعتبارا بالمعنى ومعناهما معنى المعرفة، وبهذا المعنى يجاب عن اختصاص "أي" و "من" و "ما" بوقوعها نكرات موصوفة، لأن ألفاظها النكرات، بخلاف الذي والتي ونحوهما. قال الفارسي في "الإغفال": إنما حسن الوصف بالذي من بين أخواته لمكان حرف التعريف فيه وأنه لم يحدث تعريفا فهو لفظ المحدث التعريف فأجرى في هذه الأشياء مجراه، فهذا نص من الفارسي فيما ذكرته، وأيضا فإن فيهما ابهاما ليس في الذي وأخواتها فلذلك لم يوصف بها وهي موصولات، بخلاف "الذي" وأخواتها.

وأما ثانياً: فإن أيا و "ما" و "من" لا تقع نكرات موصوفة إلا مع العرو عن الصلات والخلو عنها، فإذا وجدت الصلات لم يصح أن تقع نكرات، وهذا من أدل الدليل على أن تعريفها بالصلة لا بالألف واللام مقدرة، إذ التعريف فيها يدور مع الصلة وجودا وعدما، ولم نجده يدور مع الألف واللام، كذلك فدل على أن علة التعريف الصلة لا الألف واللام فالصحيح إذا ما ذهب إليه الناظم من زيادتها. والرابع: "اللاتي" وهو جمع "التي" كما أن "الذين" جمع "الذي" واللام فيهما واحد، وكذلك فيما كان من بابهما نحو: الذي والتي واللائين واللاء واللواتي والألى وما أشبه ذلك. ولازما من قوله: (وقد تزاد لازما) اسم فاعل يمكن أن يكون حالا من المصدر المفهوم من (تزاد) كـ "شديدا" من قولك: ضربته شديدا وكأنه قال: وتزاد زيدا لازما. ثم ذكر القسم الثاني من الزيادة فقال: (ولاضطرار كبنات الأوبر) أي: وقد تزاد أيضا للاضطرار الشعري، لا على اللزوم ولا على الجواز، وأتى لذلك بمثالين: أحدهما: زيدت فيه اللام في العلم وذلك "بنات الأوبر" وهو اسم علم لضرب من الكمأة صغار ذات زغب، هذا ما حكى الجوهري، وذكر ابن

سيده عن أبي حنيفة قال: هي كمأة أمثال الحصى يكن في النقض من واحدة إلى عشر وهي رديئة الطعم، وهي أول الكمأة قال: وقال: مرة هي مثل الكمأة وليست بكمأة وهي صغار. وأصله أن لا تدخله الألف واللام، بل تقول: هذه بنات أوبر، واحدها ابن أوبر وأنشد الأصمعي: ومن جنى الأرض ما تأتي الرعاء به ... من ابن أوبر والمفرود والفقعه فأدخلوا عليها الألف/ واللام في الشعر ضرورة فقالوا: "بنات الأوبر" وإشارة الناظم إلى ما أنشده ابن جنى وقال: أخبرنا أبو علي قال: أخبرني أبو بكر، عن أبي العباس، عن أبي عثمان قال:

سألت الأصمعي عن قول الشاعر: ولقد جنيتك اكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر لم أدخل الألف واللام؟ فقال: أدخل ذلك زيادة للضرورة كقول الآخر: *باعد أم العمرو من أسيرها* قال ابن جنى وأنشدني أبو علي، عن أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي *يا ليت أم العمرو كانت صاحبي* يريد أم عمرو، وهذا على رواية من روى العمر- بالعين المهملة- وإلا فالأشهر الغمر- بالغين المعجمة- قاله ابن سيده ومثل ذلك أيضا قول الآخر- أنشده ابن جنى: - يقول المجتلون عروس تيم ... سوى أم الحبين ورأس فيل

أراد: أم حبين، وأنشد أيضا عن الفارسي: أما ودماء لا تزال كأنها ... على قنة (العزى) وبالنسر عندما وأنشد غيره: *أما ودماء مائرات تخالها* وهو أبين في الإعراب والمثال الثاني زيدت فيه الألف واللام في التمييز ضرورة، لأن التمييز من شرطه أن يكون نكرة على مذهب البصريين، فإذا جاء بالألف واللام حكمنا بأنه من الضرائر الشعرية، كما زيدت في بنات الأوبر، وذلك المثال قوله: (كذا وطبت النفس يا قيس) أراد: وكذا بحرف العطف أي: وكذا في هذا المثال الآخر، وهو قطعة من بيت أنشده في الشرح هكذا وهو: رأيتك لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو وأنشده السيرافي هكذا: رأيتك لما عرفت جلادنا ... رضيت وطبت النفس يا بكر عن عمرو فقول الناظم: (وطبت النفس) فأتى في لفظه بالواو حكاية للبيت،

ولأجل الحكاية لم يقل: "كذا طبت النفس" و "يا قيس" من لفظ البيت الذي فيه الشاهد، فأدخل الألف واللام على نفس، وهو تمييز منقول من الفاعل، ومثل ذلك من التمييز ما قال الآخر: علام ملئت الرعب والحرب لم تقد ... لظاها ولم تستعمل البيض والسمر وقوله: (ولا ضطرار) مفعول له جره باللام وإن استوفى شروط النصب، فيجوز أن يقال: وقد تزاد اضطرارا وهو جائز، لكنه قليل، نص الناظم على ذلك في بابه وجاء بقوله: "السرى" صفة لقيس تكملة للبيت، والسرى: الشريف. يقال: رجل سرى، من قوم سراة، وجمع السراة: سروات. ويقال في فعله: سرا يسرو وسرى- بالكسر- يسرى سروا فيهما، وسرو يسرو سراوة، ويبقى بعد في هذا الكلام نظر من وجهين: أحدهما: أنه جعل "بنات الأوبر" مما زيدت فيه الألف واللام اضطرارا ومن مذهبه الذي تقرر قبل أن ما جاء في الشعر مما يتأتى تحويله إلى ما ليس بضرورة، فليس حكمه حكم الضرورات، فإذا نظرنا فيما عده ضرورة هنا وجدناه يتأتى مساقه على غير جهة الضرورة، فقد كان يمكنه في الأول أن يقول: ولقد نهيتك عن بنات أوبر بغير ألف ولام ولا ينكسر الوزن، وإنما فيه زحف وهو الوقص، وذلك/ حذف التاء من متفاعلن وذلك جائز، فلم يضطر على مذهب ابن مالك إلى زيادة الألف واللام، فجعله ذلك من الاضطرار على مذهبه غير صحيح.

فإن قال: إن إسقاط الألف واللام وإن كان لا يكسر الوزن غير منقاد للطبع انقياد عدم إسقاطها، فهو على هذا التقدير ضرورة. فالجواب: إنه لم يراع مثل ذلك حين أمكن عنده في قوله: * ... صوت الحمار اليجدع* أن يقال: "حمار يجدع" وهذا لا ينقاد للطبع انقياد الآخر، فمثل ذلك التقدير جار على طريقته وكان يمكنه في الثاني أن يقول: ونفس طبت يا قيس عن عمرو، فإن تقديم التمييز عنده جائز في الكلام، وإن كان قليلا فليس بضرورة عنده، وإذا كان قليلا فعدم التقديم مع إمكانه دليل على أن الألف واللام لم يدخلها للضرورة فقد ناقض هنا الناظم أصله الذي أصل. والثاني على تسليم أنه لم يبن على تلك القاعدة أن دخول الألف واللام على التمييز ليس بضرورة، إذ لم يختص بالشعر وإنما يعد ضرورة المختص بالشعر كصرف ما لا ينصرف ونحو ذلك، وهذا ليس من ذلك، إذ قد جاء في الكلام مثل ذلك نحو ما حكى البغداديون أن من العرب من يقول: قبضت الأحد عشر الدرهم.

وفي الحديث: "أن امرأة كانت تهراق الدماء"، والحديث عند ابن مالك حجة في إثبات القوانين وبناء القياس عليه. فإن قيل: إن الألف واللام في هذا ونحوه زائدة أيضا، وقد نص على ذلك في "شرح التسهيل" فدخلت إذا في دعوى الزيادة قيل: كان يسلم هذا لولا أنه علل الزيادة بالضرورة، إذ قال: "ولاضطرار كبنات الأوبر" إلى آخره. فالحاصل أن هذا الموضع جرى فيه الناظم على غير تأمل، وأقصى ما وجدت في الاعتذار عن الأول من النظرين أنه أخطأ في مجرد التمثيل خاصة. وأما الزيادة للضرورة فموجودة، إذ لم يرد المثال المذكور بعينه، بل أراد أيضا ما كان نحوه، وقد تقدمت أبيات يصعب إيرادها مع إسقاط الألف واللام كقوله: *باعد أم العمرو ... ... * وقوله: *علام ملئت الرعب* وإذا كان كذلك ثبت الأصل الذي بنى عليه من الزيادة على الجملة. فإن قيل: كيف يثبت مع كون "بنات الأوبر"، و "طبت النفس"، بمنزلة

ما جاء في الكلام، فقد زيدت الألف واللام إذا لغير الضرورة وهو الإشكال الأول بعينه؟ قيل: هذا سؤال وارد ولا جواب لي عنه الآن، وليس كل داء يعالجه الطبيب. وأما الثاني: فإن ما جاء في الكلام من ذلك قد يخرج على غير زيادة فقولهم: قبضت الأحد عشر الدرهم، قصد فيه التعريف، لكن الشائع أن يعرف الأول خاصة، ثم إنهم شذوا فعرفوا الثاني مع الأول فقالوا: قبضت الأحد عشر درهما، ثم زادوا شذوذا فعرفوا ما لا يحتمل التعريف إتباعا لما يحتمله على الجملة، فليس إذا من قبيل النكرات أعني الدرهم وإنما هو معرفة. وقوله في الحديث: "تهراق الدماء" منصوب على التشبيه بالمفعول به لا على/ التمييز، نص على ذلك في "شرح التسهيل" وسيأتي ذلك في باب التمييز إن شاء الله، وإذا كان كذلك صح ما قاله من أن الزيادة في نحو: (طبت النفس) للاضطرار والله أعلم. *** وأما القسم الثاني: من الألف واللام الخارجة عن أصلها من التعريف، وذلك ما يدخل على الأسماء المنقولة من الصفات ونحوها لتلمح الأصل، وتسمى التي للمح الصفة فقد قال فيه: وبعض الأعلام عليه دخلا ... للمح ما قد كان عنه نقلا كالفضل والحارث والنعمان ... فذكر ذا وحذفه سيان الضمير في (عليه) عائد على بعض، وفي (دخلا) عائد على "

أل" وذكره، لجواز التذكير والتأنيث في الحرف و"ما" واقعة على الأصل المنقول منه العلم وعائده ضمير عنه والضمير في (نقلا) و (كان) عائد على بعض أيضا، ويعني أن بعض الأسماء الأعلام قد دخلت عليه "أل" ليتلمح بها الأصل الذي نقل عنه هذا العلم. واعلم أن العلم الذي شأنه هذا لابد فيه من أربعة أوصاف كلها مشار إليها بهذا الكلام: أحدها: أن يكون منقولا لا مرتجلا لقوله: (للمح ما قد كان عنه نقلا) فلازم أن يكون له أصل نقل منه إلى العلمية لتكون الألف واللام يلمح بها فلا تدخل على مرتجل البتة. والثاني: أن تكون داخلة عليه بعد التسمية لأن قوله: (للمح ما قد كان عنه نقلا) يريد به لأن يلمح بدخولها أصل الاسم المسمى به، وذلك يستلزم أن تكون داخلة بعد التسمية؛ لأنها لو كانت داخلة قبلها أو معها لاستهلكت التسمية معناها فلم تدل على شيء، وهذا هو الفرق بين الألف واللام التي للغلبة والزائدة وبين التي للمح الأصل، فإن الغالبة كانت داخلة قبل التسمية، ثم وقعت التسمية عليها، وكذلك ما لم تتقدمه لكن قارنته في التسمية كالنضر والنعمان "ولفظة الله" على رأيه في "شرح التسهيل" وكذلك السموأل واليسع من المرتجلات على ما قال هنالك أيضا، فالأداة في هذه الأشياء مقارنة للتسمية، فليست لتلمح الأصل في النضر ونحوه، وكذلك في السموأل ونحوه، وهذا الثاني يخرج بالوصف الأول. وبينهما أيضا فرق آخر حكمي وهو: أن التي للمح الأصل يجوز لحاقها وعدم لحاقها على حد سواء أو ما

هو نحو ذلك بخلاف الغالبة وغيرها فإنها لازمة ولا يجوز حذفها إلا نادرا لا يعتد به. قال سيبويه: فإن أخرجت الألف واللام من الصعق والنجم لم يكن معرفة من قبل أنك إنما صيرته معرفة بالألف واللام، كما صار ابن رألان معرفة برألان، فلو ألغيت رألان لم يكن معرفة. يعني أن الألف واللام من حقيقة الاسم في العلمية وهذا الفرق منبه عليه بقوله: (فذكر ذا وحذفه سيان). والثالث: أن يقصد بدخولها لمح الأصل، لأنه قال: (للمح) كذا، أي: دخل لأجل أن لمح فيه الأصل، فهذا ولابد مستلزم لتذكر الأصل والتماحه، فلو لم يلمح الأصل لم تدخل البتة؛ لأن الاسم إذ ذاك بمنزلة زيد وعمرو، فكما أن زيدا وعمرا لا تدخل عليه الألف واللام، فكذلك ما كان بمعناه، ولذلك تجد كثيرا من الصفات المسمى بها لا تدخل عليها كمالك وحاتم ومتمم وفاطمة وعائشة/، وما أشبه ذلك. والرابع: أن يكون الاسم يصلح أن تدخل عليه الألف واللام قبل التسمية وهذا معنى تلمح الأصل بها، لأن إلحاقها إشعار بان الاسم كأنه باق على أصله لم ينتقل إلى علمية، فإذا كان كذلك فكل علم نقل مما يصح أن يدخل عليه فهو الذي تدخل عليه بعد النقل والتسمية فلا تدخل على العلم المنقول من الفعل نحو: يزيد ويشكر وتغلب، ومن ثم

كان دخولها على يزيد في قول ابن ميادة: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله ضرورة كما كان ضرورة في نحو: *باعد أم العمرو من أسيرها* ولم يحكم له بأنه على لمح الأصل لهذا الذي تقدم، وقد بسط الفارسي هذا المعنى في "التذكرة" بسطا حسنا ثم قال: فمن قرأ من القراء: {الليسع} استقام أن يتأول فيه أنه عربي جعل الشيء بعينه. فأما من قرأ: {الليسع}، فلا ينبغي له أن يحمله على أنه يفعل من وسع، دخل فيه اللام لأن ذلك لا وجه له ولكنه أعجمي معرب وافق لفظه لفظ المضارع وليس به- انتهى كلامه- وكذلك لا تدخل على المنقول من مضاف ومضاف إليه، كما إذا سميت بضارب (زيد أو بصاحب عمرو)، إذ لا يصح دخول الألف واللام على المضاف وإن فرضت صلاحيته للمح الأصل فيه، هذه الأربعة أوصاف يقتضيها كلامه ولابد منها. وعبارته في "التسهيل" عن هذا المعنى قوله: وفي المنقول من مجرد صالح لهما ملموح به الأصل وجهان، ثم مثل ذلك بقوله: (كالفضل والحارث والنعمان)، فأتى بثلاثة أمثلة تشير إلى ثلاثة أنواع مما يلمح فيه الأصل. أحدها: الفضل، وهو منقول من مصدر فضل الرجل يفضل فضلا:

إذ ظن ذا فضل فهذا تدخل عليه الألف واللام وعلى ما كان من نوعه مثل قيس، من قاس يقيس قيسا وزيد من زاد يزيد زيدا، وأوس من آسه يؤوسه أوسا، أي أعطاه، وعمرو إذا اعتقدت أنه منقول من العمر الذي هو الحياة. والثاني: الحارث، وهو منقول من الصفة تقول: حرث يحرث فهو حارث، وتدخل عليه هذه الألف واللام وعلى ما كان مثله نحو: عباس وقتال وحسن وجراح وما أشبه ذلك والثالث: النعمان، وهو منقول من اسم عين وهو الدم، ومنه سميت شقائق النعمان لشبه لونها به، وهذا أيضا مما تدخل عليه الأداة عنده، وعلى ما كان من نوعه كأوس إذا جعلته قد نقل من الأوس وهو الذئب وكذلك ما أشبهه، فقد نبه على أنواع المنقول من الاسم، فالأول منقول من اسم المعنى، والثاني منقول من الصفة، والثالث منقول من اسم العين، وفيما قرره هنا نظر من وجهين: أحدهما: أن ظاهر كلامه يقتضي القياس في جميع ما ذكر من الأنواع الثلاثة فيجوز على قوله أن تقول في قيس القيس وفي زيد الزيد وفي عمرو العمرو في غير ضرورة كما تقول في فضل الفضل، وكذلك يجوز على قوله/ في مالك المالك وفي فاطمة الفاطمة وفي حاتم الحاتم، كما تقول في قاسم القاسم وفي عباس العباس، وكذلك تقول في حجر الحجر وفي حبل الحبل وفي جعفر الجعفر وفي بكر البكر، كما تقول في نعمان النعمان وهذا كله غير صحيح، لأن مثل هذا لا يقاس عليه

وإنما بابها كلها السماع فلا يتعدى بواحد منها ما سمع. والحاصل من هذا أن المفردات كلها من الأعلام المنقولة الجائز قبل التسمية دخول الألف واللام عليها، يجوز أن تدخل عليه الألف واللام الآن وما أظن أحدا يقول بهذا. والثاني: أنا إذا سلمنا القياس فإنما يصح في نوع واحد منها وهو المنقول من الصفة فهنالك ذكر الناس لمح الصفة وأصلوا معناه، وفيه تكلم سيبويه والخليل حيث قالوا: الحارث والحسن والعباس، إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، يعني على أصل الصفة ولم يجعلوه سمي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصف له غلب عليه، ومن قال: حارث وعباس فهو يجري مجرى زيد. قال ابن خروف: وهذا في كل صفة سمى بها. ولما تكلم الفارسي في "التذكرة" على قول الشاعر: * ...... وبالنسر عندما* قال: فالقول إن اللام هنا ليس على حد قولك: العباس وعباس، لأن من أدخل اللام هنا جعله الشيء بعينه، ومن لم يدخل جعل الاسم علما بمنزلة زيد وأسد، ثم قال: ومن قال في الحارث والعباس حارث وعباس، لم يقل إذا سمى باسم جنس غير صفة بإلحاق لام التعريف، ألا ترى أنهم لم يقولوا في رجل اسمه ثور أو يربوع أو أسد الثور ولا اليربوع ولا الأسد. قال: فإن قلت: فقد قالوا الفضل في رجل اسمه فضل، فإنما ذلك لأنه على حد الصفة كأنهم جعلوه عبارة عن الحارث بعينه من حيث جاز وحسن أن يقصد بذلك، كما حسن أن يقصد بالحارث والعباس قال: فدخلت اللام هنا،

كما دخلت في الحارث والصعق فأنت ترى أنهم إنما يجعلون لمح الأصل في الصفة ويعتذرون عما جاء منها في المصدر وينفون ذلك عن اسم الجنس جملة، وهو الذي لا يصح غيره، فهذا من الناظم غير صواب. ووجه ثالث: وهو أنه مثل هذا بالنعمان وجعله مما يجوز تجرده من الألف واللام وعدم تجرده، وهو قد جعله في "شرح التسهيل" من قسم العلم الذي قارنت الأداة نقله فلزمته فقال في "التسهيل": بعد تقرير أن ذا الغلبة تلزمه اللام غالبا إن كان معرفا بها قبل ذلك، ومثله ما قارنت الأداة نقله أو ارتجاله. قال في "الشرح": ويشارك ذا الغلبة المصاحبة للأداة فيما نسب إليه ما قارنت الأداة نقله كالنضر والنعمان أو ارتجاله كالسموأل واليسع فلا يجرد هذان النوعان إلا لنداء أو غيره من العوارض التي يجرد لها الأعشى ونحوه من الأعلام الغالبة، ثم ذكر أن هذا آكد في عدم التجرد من ذي الغلبة ما هو مسطور هنالك، وهذا مناقض لما نص عليه في نظمه هذا، فأحد الموضعين غير صحيح، إما كلامه هنا أو في الشرح، إذ لا/ يستقيم أن يصحا معا، لأنهما حكمان متناقضان على شيء بعينه ففي هذا كله ما ترى.

والجواب: عن الأول والثاني أن القياس في الأنواع الثلاثة ألا مانع منه لأنه إذا كانت العرب قد أرتنا مذهبها في لمح الأصل ورأينا ذلك يكثر في السماع فبيناه على شرطه، وكون العرب لم تقل ذلك في جملة منها (لم يكن منها ترك) تركا للقياس، وإنما كان لفقد الشرط وهو لمح الأصل لا أنه عندها لا يلمح، فإذا لمحنا نحن الأصل أدخلنا الألف واللام ولم يبق محذور، وهذا رأيه في "شرح التسهيل" فإنه ذكر فيه أن العلم إذا كان منقولا من صفة أو مصدر أو اسم عين وكان عند التسمية به مجردا من أداة التعريف جاز في استعماله غالبا أن يلمح به الأصل فتدخله الأداة قال: وأكثر دخولها على منقول من صفة كحسن وعباس وحارث ويلي دخولها على منقول من مصدر كفضل وقيس، ويليه دخولها على منقول من لسم عين كليث وخرنق. فهذا هو الذي ذهب إليه هنا- والله أعلم- ولا أعلم من قال بذلك غير ابن مالك. وفي كلام الزمخشري في "المفصل" إشارة إلى شيء من ذلك في غير المنقول من اسم عين، والذي يثبت من ذلك في القياس إن ثبت اعتباره نوع من المنقول من الصفة وإن جاء غير ذلك فهو مسموع نحو: فضل وخرنق وأما أن يقال بالقياس في الجميع فلا.

واعلم أن في القول بالقياس في هذه الأنواع أخذا من كلام الناظر نظرا وذلك أنه قال: (وبعض الأعلام عليه دخلا) وهذا البعض يحتمل وجهين: أحدهما: أن يريد كل ما كان منها مفردا، لأن العلم منه مفرد، ومنه غير مفرد كالمركب والمضاف، وهذا الحكم مختص بالمفرد دون غيره، وهو بعض من جنس العلم فكأنه يقول: والمفرد من الأعلام عليه دخلا وهذا يقتضي القياس كما نص عليه في غير هذا. والثاني: أن يريد ما أدخلته العرب عليه من المفردات فكأنه يقول: وبعض الأعلام أدخلت العرب عليه الألف واللام، وهذه حكاية سماع لا تشعر بقياس، ويؤيد ذلك إتيانه بالفعل الماضي من قوله: دخل ولم يقل يدخل، فإن كان مراده الوجه الأول فهو جار على طريقته في "التسهيل" و"شرحه" لكنه خالف الناس فيما ذهب إليه. وإن كان مراده الثاني فهو موافق للناس، مخالف لرأيه في غير هذا الموضع وكان هذا المحمل أولى إذا احتمل كلامه كذلك، وعبارته في أصل المسألة موافقة في المعنى لعبارة الزمخشري حيث قال: وبعض الأعلام تدخله لام التعريف وذلك على نوعين: لازم وغير لازم، وفسر اللازم باللام الغالبة، ثم قال: وغير اللازم في نحو: الحارث والعباس والمظفر والفضل والعلاء، وما كان صفة في أصله أو مصدرا، هذا منتهى كلامه وهو محتمل كاحتمال كلام الناظم، إلا أن الناظم زاد الاسم المنقول من اسم عين وهو النعمان ونحوه.

وأما النظر الثالث: فإني لا أحقق الآن أي الوجهين/، هو الجاري على كلام العرب، فإليك النظر في ذلك. ثم ذكر حكم الألف واللام هنا فقال: (فذكر ذا وحذفه سيان) "ذا": إشارة إلى الألف واللام، يعني أن لحاقها وعدم لحاقها سيان: ليس أحدهما بأكثر من الآخر، ولا أحدهما لازما دون الآخر، كما تقدم في الزائدة فإن أردت لحاقها فلك ذلك، وإن لم ترد ذلك فالتجرد عنها جائز فتقول: حارث والحارث وعباس والعباس وفضل والفضل وخرنق والخرنق وليث والليث، وبهذين مثل في الشرح المنقول من اسم العين، ووقع لفظ الحذف هنا على تسامح حيث قال: (فذكر ذا وحذفه سيان) إذ الحذف إنما يستعمل فيما كان ثابتا بحكم الأصل، ثم أزيل والألف واللام هنا ليس الأصل فيها الإثبات ثم حذفت، بل الأمر هاهنا بالعكس إذ الأصل عدم اللحاق، لأنه علم وقبل العلمية لم يكن لازما لها، كما لزمها الاسم الغالب، فكان حقه أن يقول: فذكر ذا وتركه سيان أو نحو هذا، ولكنه أطلق على عدم اللحاق حذفا مجازا وتوسعا في العبارة، ويقال: هما سيان، إذا استويا والواحد: سي، وحقيقة معناه: مرادفة مثل، ومنه "لاسيما" وقال الحطيئة في مفرد "سيان": فإياكم وحية بطن واد ... ضمور الناب ليس لكم بسي

ويقال أيضا مما سواءان وهما سواء. *** (ثم قال): وقد يصير علما بالغلبة ... مضاف أو مصحوب أل كالعقبه ذو الغلبة من الأعلام هو: كل اسم اشتهر به بعض ماله معناه اشتهارا تاما حتى صار بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ لم يفهم منه غير ذلك الشيء (وهذا معنى كونه صار علما بالغلبة. أي: بغلبة ذلك الاسم لذلك الشيء) من بين سائر ما ينطلق عليه الاسم حتى يصير في عداد الأسماء الأعلام المحضة كزيد وعمرو فحقيقة الأمر فيه أنه علم في الأصل الاستعمالي، وأما في الأصل القياسي فهو من المعرف بأداة التعريف، إذ لم يزل معناها، ولو زال معناها لصار نكرة، فلذلك لم يعد الناظم الألف واللام هنا ضربا آخر كما عد الزائدة والتي للمح الأصل وهذا فرق ما بينهما وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، وبه أيضا يظهر الفرق بين العلم بالوضع وبين العلم بالغلبة، فإن العلم بالوضع إنما وضع لإبانة "شخص من سائر الأشخاص، وليس فيه دلالة على وجود معنى ذلك الاسم في الشخص الذي سمى به فاختصاصه المسمى به شخصا بعينه ليميزه عن غيره أوجب تعريفه، وهذا إذا اشترك فيه المسمون لم يكن بينهم اتفاق يجب به اشتراكهم في الاسم؛ لأن جماعة سموا بزيد لا يختصون بمعنى جمعهم على تسمية زيد يباينون به من اسمه عمرو، وأما العلم بالغلبة فإن أصله أن يكون معرفة باللام أو بالإضافة، وهذا

يجب لمن سمي به التعريف، لكن لمعنى يوجب تلك التسمية له ولمن شاركه في ذلك المعنى كالرجل وغلام زيد فلا يختص أحد هذين وما أشبههما باسم دون سائر من فيه ذلك المعنى (كزيد وغلام/ رجل)، ثم إنه قد يغلب على ذلك الاسم على بعض المسمين به ممن شاركهم في معناه حتى يصير له كالعلم الذي (يعرف به إذا ذكر مطلقا، ولا يعرف به غيره ممن شاركه إلا بعهد تقدم، إلا أن) أصل تعريفه الألف واللام أو بالإضافة باق بدليل زوال تعريفه بزوالهما والعلم بالوضع ليس كذلك، فهذا فرق ما بينهما ثم نبه الناظم على أن ذا الغلبة على وجهين: أحدهما: المضاف، وهو ما غلب عليه الاسم المشترك فيه وهو مضاف. والثاني: "مصحوب أل" وهو ما غلب عليه الاسم وهو قد صحبته الألف واللام فمثال الأول ابن رألان، فإن ابن رألان أصله أن يصلح لكل من كان ابنا لرألان حتى أنه اختص بجابر الطائي السنبسي وحده، فإذا أطلق لم يدل إلا عليه، ما لم يكن ثم عهد في غيره ومثله ابن عباس، وابن عمر وابن الزبير وما أشبه ذلك. ومثال الثاني: "العقبة" وهو مثاله، فإن العقبة اسم لكل طريق صاعد في الجبل، ثم اختص بعقبة منى التي تضاف إليها الجمرة فيقال: جمرة العقبة ومثله الصعق لخويلد بن نفيل، وكذلك

الصديق، والفاروق، والنجم، والثريا، والدبران، والأعشى، والأخطل، وكذلك الكعبة، والمدينة، وما أشبه ذلك. *** ثم أخذ يذكر حذف الألف واللام وهذه وهل هو جائز أم لا، فقال: وحذف أل ذي إن تناد أو تضف ... أوجب وفي غيرهما قد تنحذف (حذف) مفعول بـ "أوجب"، أي: أوجب حذف "أل" وذي إشارة إلى "أل" وهي نعت لها وأنث على اعتبار الكلمة، كما ذكر في مواضع أخر على معنى اللفظ نحو قوله: (فذكر ذا وحذفه سيان) و "أوجب" هو الدال على جواب "إن" وليس بجواب صناعي، وإلا وجب أن يأتي بالفاء، والذي سوغ كونه في الحكم غير جواب أن معموله قد تقدم على الشرط، وتقدم المعمول مؤذن بتقدم العامل، فكأن الفعل مقدم على فعل الشرط، ومع هذا فإن فيه مما يختص بالشعر الإتيان بفعل الشرط مضارعا، وذلك لا يكون إلا عند الإتيان بالجواب الحقيقي، وأما إذا حذف الجواب ودل عليه كما هنا فمختص بالشعر ونحو هذا مما في الشعر ما أنشد سيبويه من قول الشاعر: *والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب*

ويعني الناظم أن "أل" هذه التي في الاسم الغالب- ودل على أنه أرادها الإشارة بأداة العرب- تحذف إذا ناديت ذلك الاسم أو أضفته حذفا واجبا، فلا يجوز بقاؤها مع واحد منهما فلا تقول: يا الأعشى ولا يا الأخطل، وإنما تقول: يا أعشى ويا أخطل. وفي الحديث: "إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان". وأنشد سيبويه: يا زبرقان أخا بني خلف ... ما أنت ويب أبيك والفخر وأنشد لجرير بن عبد الله البجلي:

*يا أقرع بن حابس يا أقرع* ووجه ذلك أنه لا يجوز الجمع بين حرف النداء والألف واللام وسيأتي بيان ذلك في باب النداء إن شاء الله حيث تعرض له الناظم/، وكذلك لا يجوز أن تقول: يا الأخطل القوم ولا يا الأعشى همدان، وإنما تقول: أخطل القوم وأعشى همدان ونابغة بني ذبيان وأعشى قيس. أنشد سيبويه- للنابغة الجعدي: - ألا أبلغ بني خلف رسولا ... أحقا أن أخطلكم هجاني وأنشد ابن جني: ولو بلغت عوا السماء قبيلة ... لزادت عليها نهشل وتعلت ووجه هذا أيضا أنه لا يصح الجمع بين الألف واللام والإضافة في غير باب الحسن الوجه وما أشبهه وسيأتي ذلك في بابه إن شاء الله. فإن قيل: يرد على هذا الحكم سؤالان. أحدهما: أنه أوجب حذف "أل" في هذين الموضعين فلا يجوز عنده غير ذلك فيهما، أما في الإضافة فذلك ظاهر، وأما في النداء فلم يجب، ولهم في نداء ما فيه الألف واللام ثلاثة أوجه:

أحدها: حذفها كما ذكر. والثاني: التوصل بأي نحو: يأيها الرجل. والثالث: اسم الإشارة نحو: يا هذا الرجل، وهذا مما فيه الألف واللام فلقائل أن يقول: قد تجوز هذه الأوجه الثلاثة هنا، والثاني أن هذا الحكم إن كان ضروري الذكر هنا، فكذلك ما تقدم مما فيه الألف واللام زائدة أو غيرها فكان حقه أن يذكر حكمها مع النداء والإضافة وإن لم يكن ضروريا، وإنما باب ذلك باب النداء، وباب الإضافة، فكان من حقه أن يدع ذكره إلى أبوابه، لكنه لم يفعل، بل خص الألف واللام الغالبة بالذكر هنا، فما وجه ما فعل من ذلك؟ فالجواب عن الأول: أن من شرط الألف واللام التي يتوصل بأي أو بهذا إلى نداء ما هي فيه أن تكون جنسية نحو: يأيها الرجل ويأيها الناس، وكذلك يا هذا الإنسان ويا هذا الرجل والألف واللام في النابغة والصعق ونحوهما ليست كذلك، فلا يصح إذا نداؤها بأي ولا بهذا، فلم يبق إلا ما ذكره الناظم من حذفها، فهو إذ ذاك واجب لا يصح العدول عنه إلى غيره، وعن الثاني أن مراده هنا بيان لزوم الألف واللام في ذي الغلبة، لا بيان حذفها مع النداء والإضافة، بل معنى كلامه أن الألف واللام لا تحذف من ذي الغلبة إلا لعارض يلزم معه حذفها أو في قليل من الكلام فبين العارض ما هو حتى يظهر أين يلزم إثباتها، ودل على ذلك قوله بعد: (وفي غيرهما قد تنحذف) أي: قليل، ولزم من ذلك أن القياس والكثير في كلام العرب ألا تنحذف، بل تثبت مطلقا، فأما ما تقدم من أنواع الألف واللام فغير محتاجة إلى هذا النوع من التنبيه، فالزائدة لا تحذف البتة، إما لأنها لا تقبل النداء ولا الإضافة كالآن، أو لا تقبل أحدهما كالذين واللاتي، وهي لا تقبل

أيضاً الحذف في النداء لصلاحية أي معها كقوله تعالى: {وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر}. وإما لندوره فلم يعتد بما يمكن فيه على قلة من الإضافة كاللات، وأما التي للمح الأصل. فقد قال فيها: (فذكر ذا وحذفه سيان) فصارت في عدا المعرفة، فلم يحتج إلى ذكر فيها (إلا في بابه) فإن قيل: فقد نقصه موضع ثالث يجب فيه حذف الألف واللام وهو قياس، وذلك مع "لا" التي لنفي الجنس كما تقول: لا سماك الليلة طالع ولا نابغة بعد نابغة بني ذبيان، وقد قالت العرب- أنشده سيبويه: - *لا هيثم الليلة للمطي* وقال الآخر: *إن لنا عزى ولا عزى لكم* وما أشبه/ ذلك، وهو لم يذكره فاقتضى أن الألف واللام لا تحذف مع لا إلا قليلا لقوله بعد ذكر الموضعين (وفي غيرهما قد تنحذف) وليس ذلك بصحيح، بل الحذف معها واجب وجوبه مع يا والإضافة. فالجواب: أن ما جاء من دخول "لا" على العلم قليل وغير مقيس.

ألا ترى أنه اشترط في اسم "لا" أن يكون نكرة، أعني عند بنائه معها حيث قال: (عمل إن اجعل للا في نكره). فلم يحكم بدخولها وعملها في معرفة، فعلى ذلك بني هاهنا. فالحاصل أنه لم يذكر حكم الألف واللام هنا مع النداء والإضافة سدى، وأنه إنما خصها بذكر هذا الحكم ليرى لزوم الألف واللام في غير هذين الموضعين، وعلى هذا المعنى نبه في "التسهيل" بقوله: ويلزم ذا الغلبة باقيا على حاله ما عرف به قبل دائما إن كان مضافا وغالبا إن كان ذا أداة، فأشار بقوله: باقيا على حاله إلى التحرز مما يعرض له من زوال اختصاصه بقصد تنكيره. أو ندائه. وقوله: (وفي غيرهما قد تنحذف) "قد": المراد به التقليل هنا، وعلى هذا المعنى يستعملها الناظم في كتبه وذلك ثابت (فيما) أنشد سيبويه للهذلي: قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد فقد هنا بمعنى ربما وضمير "غيرهما" عائد على النداء، والإضافة

المفهومين من قوله: (إن تنادي أو تضف) وذلك جائز كقوله تعالى: {وإن تشكروا يرضه لكم}، أي يرضي الشكر لكم، وضمير "تنحذف" عائد على "أل" يعني أن حذف الألف واللام هذه التي للغلبة قد يأتي حذفها فيما عدا النداء والإضافة لكن قليلا ومثال ذلك ما حكى سيبويه من قولهم: "هذا يوم اثنين مباركا فيه". وحكى ابن الأعرابي أن من العرب من يقول: هذا عيوق طالعا، وزعم أن ذلك جائز في سائر النجوم، ولعل ذلك بالسماع وإلا فالظاهر من الناظم أنه سماع، ولما بين أن الحذف قليل (هنا) دل على أن الإثبات هو الباب الشهير فيها والقياس المستتب وهو كما ذكر. وهنا فرغ من بيان أقسام المعارف وبقى له قسم المضاف لم يتكلم عليه هنا فأخره إلى الموضع الأليق به، وعند ذلك تم له ما قصد من ذكر أحكام المفرد التي يجب تقديمها قبل الخوض في أحكام المركب. ***

الابتداء

الابتداء هنا ابتدأ كلامه في الأحكام التركيبية، والتراكيب كلها راجعة عند الاعتبار إلى جملتين: جملة اسمية وهي المصدرة بالاسم، وهي جملة المبتدأ والخبر، وجملة فعلية وهي المصدرة بالفعل وهي جملة الفعل والفاعل، وإلى هاتين الجملتين ترجع التراكيب الإفادية كلها، وأما جملة المنادى نحو: يا زيد فعدها قوم جملة ثالثة مباينة للجملتين المتقدمتين فهي عندهم مركبة في الأصل من الحرف والاسم وعند الجمهور هي راجعة إلى الجملة الفعلية على تقدير نيابة الحرف عن الفعل، وهذا مذهب ابن مالك في "التسهيل" إذ قال: "المنادى": منصوب لفظا أو تقديرا بـ "أنادي"/ لازم الإضمار، وأما في هذا النظم فهو محتمل، لأنه لما فرغ من الأحكام المتعلقة بالجملتين الاسمية والفعلية ذكر بعد ذلك النداء فيمكن أن يكون ذلك مقطوعا مما تقدم، لأن كون النداء من قبيل الجمل الفعلية أمر تقديري وحكم لو ظهر لنا في معنى النداء، ويمكن أن يكون ألحق النداء بما قبله من الجملة الفعلية وأخر ذكره لما فيه من كون الفعل مقدرا أبدا، ويدل على هذا الإمكان ذكره في "باب التحذير والإغراء" (لاشتراكهما في امتناع ظهور الفعل، فهذا الثاني أظهر في قصد الناظم) وهو موافق لمذهبه في "التسهيل"، وقد شرع في ذكر الجملة الاسمية أولا وما يتعلق بها من الأحكام، ثم أتبعها بالجملة الفعلية وما يتعلق بها فأما الجملة

الاسمية فقال فيها: مبتدأ زيد وعاذر خبر ... إن قلت زيد عاذر من اعتذر وأول مبتدأ والثاني ... فاعل أغنى في أسار ذان هذه توطئة اصطلاحية في معنى المبتدأ والخبر، تفيد التعريف بهما على الجملة فيعني أنك إذا قلت: زيد عاذر، فزيد يعرب مبتدأ وعاذر خبره، ويجري مجرى هذا ما كان نحوه من قولك: عمرو خارج وبكر منطلق، والله ربنا، ومحمد نبينا، وما أشبه ذلك، و (من اعتذر) مفعول عاذر وهو من تمام المثال. ثم قال: (وأول مبتدأ والثاني ... ) إلى آخره "هذا نوع ثان من الجملة الابتدائية وهو ما لا يكون فيه خبر استغناء عنه بفاعل يرفعه المبتدأ لكونه عاملا عمل الفعل، وذلك الصفة فيريد أنك إذا قلت: "أسار ذان "فـ" أسار" وهو الأول مبتدأ تقدمت عليه أداة من أدوات الاستفهام، وأما الثاني: وهو "ذان" تثنية "ذا" فإنه فاعل بسار؛ لأنه اسم فاعل جار في عمله مجرى الفعل، وذلك الفاعل "أغنى" يعني عن الخبر، فلم يحتج إليه لحصول الفائدة به دون أن تأتي بالخبر فلا حاجة إلى تقديره، كما لا تحتاج إلى تقدير المفعولين لعلم إذا قلت: علمت أن زيدا قائم على طريقة بعض المتأخرين هذا ما قال على الجملة، وحقيقة معنى كلامه يتبين ببيان مثاليه: أما الأول فإن زيدا في قولك: "زيد عاذر" اسم مخبر عنه، لم يتقدم عليه عامل لفظي يطلبه برفع ولا نصب ولا جر، فكونه مخبرا عنه دل عليه قوله: "وعاذر" خبر أي: خبر عن المبتدأ الذي هو زيد، فقد بان أن زيدا مخبر عنه، وكونه لم

يتقدم عليه عامل لفظي بوجه من وجوه الإعراب دل عليه نفس المثال، إذ لم يتقدم عليه شيء من العوامل اللفظية، وعدم العامل قد يكون حقيقة كما مثل، وقد يكون حكما فيوجد العامل اللفظي داخلا على المبتدأ، ولكنه في حكم ما لو لم يدخل عليه عامل البتة، فلا يخرج الاسم عن كونه عادما للعامل اللفظي فقد يدخل الحرف الزائد على المبتدأ كقول الله سبحانه: {هل من خالق غير الله}، فـ "خالق" مبتدأ وإن دخلت عليه "من"، لأنها زائدة، والزائد لا حكم له، وقالوا: بحسبك زيد، فالباء زائدة أيضا وحسبك مبتدأ خبره زيد. وأما المثال الثاني: فإن سار في قولك: (أسار ذان) اسم أيضا قد عدم العوامل اللفظية فلم يتقدم عليه شيء منها كما في "زيد عاذر" لكن فارقه بأن هذا ليس بمخبر عنه وإنما هو صفة من الصفات التي ترفع الظاهر وقد رفعت ظاهرا على الفاعلية وهو "ذان" وتقدمت/ في أول الكلام فلم تقع جزءا من الخبر ولا خبرا، فونه عادما للعامل اللفظي ظاهر، وكونه صفة من الصفات الرافعة للظاهر كذلك، وعليه دل بقوله: (والثاني فاعل) فهي من الصفات التي شأنها هذا، فيدخل تحت مضمون المثال اسم الفاعل واسم المفعول نحو: أمضروب عبداك، والصفة المشبهة باسم الفاعل نحو: أحسن أبواك؟ وما جرى مجرى ذلك نحو: أقرشي قومك؟ وكون الصفة قد تقدمت في أول الكلام ظاهر من مثاله أيضا، فإنها إن لم تسبق لم تكن مبتدأ وإن رفعت الظاهر نحو: الزيدان قائم أبواهما، فقائم هان خبر لا مبتدأ. وأما قوله: (فاعل أغنى) فهو بيان أن من شرط كون سار ونحوه

مبتدأ أن يكون مرفوعه مغنيا ومعنى قوله معنيا أن يحسن السكوت عليه لحصول الفائدة به، فإن لم يكن كذلك فمفهومه أنه ليس بمبتدأ أعني "سار" ونجوه كما إذا قلت: أقائم أبوهما؟ فقائم هاهنا لا يكون مبتدأ، إذ لا يحسن السكوت على ذلك وإن أتيت بالفاعل حتى تقول: الزيدان فتأتي بمبتدأ يكون قائم خبره، وهذا الشرط مع قوله: (أسار ذان) يخرج أيضا قولك: أقائم؟ مما يرفع الضمير ولا يرفع ظاهرا مذكورا، فإنه لا يحسن السكوت عليه من جهة أنه في حكم المفرد، والمفرد لا يكون كلاما، وإنما لم يغن ضمير الفاعل هنا وإن كان رافعه صفه تجري مجرى الفاعل، لأن الصفة تستلزمه من حيث هي مشتقة، لا من حيث قصد التركيب للإفادة، ومن هنا قيد الإغناء بقوله: (في أسار ذان) أي: أن كونه مغنيا إنما يكون في نحو: "أسار ذان" ووجه إغنائه وقيامه مقام الخبر، فلم يحتج إلى تقدير كون المبتدأ في معنى الفعل، فالجملة في قوة الفعلية كأنك أتيت بالفعل نفسه فقلت: أيسير ذان؟ ولو كان هكذا لم يحتج إلى خبر؛ لإغناء الفاعل مع الفعل وحصول الفائدة بذلك، وإذا ثبت هذا ظهر أن في قوة هذين المثالين التعريف بالمبتدأ على حد ما عرف به في "التسهيل"، إذ قال: وهو ما عدم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا (من مخبر عنه أو وصف سابق رافع لما انفصل وأغنى. فقوله: ما عدم حقيقة أو حكما عاملا لفظيا) هو معنى قوله: (مبتدأ زيد وعاذر خبر) إن قلت: كذا، وقوله: "أو وصف سابق رافع ما انفصل

وأغنى" هو معنى قوله: (وأول مبتدأ والثاني فاعل أغنى) في كذا، وقد مر شرح ذلك، فلا تظنن أنه أتى بمثالين على ظاهرهما وهكذا عادته في هذا النظم فأعطه حظا من نظرك، فإن فيه دفائن قلما يتنبه لها إلا من أعطاه حقه في التفتيش والبحث والله المستعان، و "سار" اسم فاعل من سرى يسري سرى، وهو سير الليل بخلاف سار، فإنه ليس كذلك. وأسرى أيضا بمعنى سرى و "ذان" تثنية "ذا" اسم الإشارة للقريب المذكر، ويتعلق بكلام الناظم مسألتان: إحداهما: أنه لما أتى بالمثال الذي ناب فيه الفاعل عن خبر المبتدأ قرنه بهمزة الاستفهام، فدل ذلك من إشارته على أن لحاقها من شرط هذا الحكم، فلا يجوز إذا أن يرفع اسم الفاعل ونحوه من الصفات فاعلا منفصلا ينوب عن الخبر إذا لم يقرن بهمزة الاستفهام/ ولا بما يقوم مقامها فلا تقول: لا قائم الزيدان ولا سار ذان، وهذا تنبيه على طرف من شرط اسم الفاعل وهو أن يكون معتمدا على متقدم قبله، ومن جملة ما يعتمد عليه الاستفهام والنفي، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله، لكن الخاص من الاعتماد بهذا الموضع هو ما ذكره، لأنه يعتمد عليه المبتدأ الذي هو في ذكره بخلاف غير ذلك من وجوه الاعتماد كوقوع اسم الفاعل خبرا، أو حالا، أو صفة، أو منادى، أو غير ذلك، فإن ذلك خارج عن باب الابتداء فإن كان كذلك ثبت أن الاقتران بهمزة الاستفهام شرط في كون المبتدأ يرفع الظاهر النائب عن الخبر وهو رأي الجمهور.

وذهب الأخفش إلى جواز ذلك من غير تقدم استفهام ولا غيره، فتقول قائم الزيدان وخارج الصالحون ونحو ذلك، والأصح قول الجمهور الذي اختاره الناظم؛ لأن اسم الفاعل قد تقرر فيه أنه لا يعمل حتى يعتمد، لأنه بالاعتماد يتقوى فيه جانب الفعل، لأنه إذا وقع في الصلة نائب عن الفعل، وبذلك يعمل وإن كان بمعنى الماضي، وإذا وقع صفة أو حالا أو خبرا فهو قد وقع في موضع الاسم المشتق، وأيضا ذلك موضع تقع فيه الجملة الفعلية كثيرا، والاستفهام أيضا طالب الفعل، وكذلك النفي، ولذلك يترجح معهما النصب في باب الاشتغال فلذلك لم يعمل إلا أن يعتمد، وهذا التعليل موافق للسماع إذ لم ينقل نحو: قائم الزيدان إلا نادرا بحيث لا ينبني عليه قياس، وأيضا فإن اسم الفاعل اسم محض واشتقاقه لا يوجب له العمل عمل الفعل، إذ يلزم أن يعمل كل مشتق عمل فعله الذي اشتق منه، أو من مصدره كالمسجد والمربع والمصيف والمغرفة، وما أشبه ذلك ولكنه إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب بالفعل أو كان في موضع لا تدخل عليه فيه العوامل اللفظية التي تدخل على الاسم النعت والخبر فيقوى فيه حينئذ جانب الفعل، وهذا الاحتجاج الأخير منقول معناه من كلام السهيلي، وفيه نظر لمن تأمله، فقد ثبت رجحان ما قاله الناظم، وما احتج به الأخفش من الاشتقاق غير منتهض دليلا من حيث يشترط في عمل اسم الفاعل الاعتماد القوي بجانب الفعل وإلا فهو إلى الاسم أقرب منه إلى الفعل ولم يعمل في الماضي عند البصريين اعتمد عدم جريانه على فعله، فوجود الاشتقاق إذا عدم شرط العمل غير مؤثر في العمل ولزوم الضمير تابع للاشتقاق هكذا قالوا:

والحاصل أن مجرد الاشتقاق لا يكفي في إطلاق القول بجواز العمل، فإن السماع لا يساعد عليه. المسألة الثانية: أن تمثيله بأسار ذان فيه تنبيه على الموضع الذي يتعين فيه الرفع في الثاني على الفاعلية وهو حيث يكون غير مطابق للمبتدأ إذا كان (ذان) مثنى و (سار) مفرد ولا يخبر عن المقرر بالمثنى، فلا تقول: الرجل قائمان فكذلك لا يكون (ذان) خبرا لـ (سار) البته، فلم يكن له وجه إلا الحمل على أنه مرفوع بـ (سار) على معنى أيسير ذان، أما لو كان مطابقا لكان في الإفراد محتملا لما قال، ولأن يكون الأول خبرا للثاني قدم عليه كقولك: أقائم زيد حسب ما يذكره بعيد هذا. فلا يتعين ما ذكر وإنما يتعين في غير المطابقة كما مثل./ *** ثم قال: وقس وكاستفهام النفي وقد ... يجوز فائز أولو الرشد أما قوله (وقس) فهو على الجملة راجع إلى حكم تقدم أو أحكام تقدمت أي: قس على ما تقدم ذكره غيره، وهذا يحتمل سبعة أوجه من التفسير: أحدهما: أن يريد القياس على ما ذكر تمثيله من المبتدأ المخبر عنه في قوله (مبتدأ زيد وعاذر خبر)، وقوله (وأول مبتدأ والثاني فاعل) إلى آخره، وذلك أنه أتى بمثالين حكم عليهما بأعيانهما ولم يأت بما يدل على أن الحكم المذكور مقيس يجري في غيرهما فبين ذلك بالنص، كأنه قال وقس على المثالين غيرهما، فالحكم مطرد في كل واحد منهما.

والثاني: أن يكون راجعا إلى مسألة (أسار ذان) وهو أقرب مذكور ليبين أنه مقيس لأن المبتدأ أصله أن يؤتى له بخبر ولا يستعني عنه بغيره، فلما بين أن هذا المثال الذي عدم فيه المبتدأ خبره مقول كأنه مظنة لسبق الفهم إلى أنه مسموع غير مقيس لما عرض فيه من الخروج عن أصل الباب، فأزال هذا التوهم بقوله (وقس) أي أن هذا كثير في كلام العرب بحيث يسوغ فيه القياس وإن جاء على خلاف الأصل. والثالث: أن يكون راجعا إلى أقرب مذكور أيضا، لكن على معنى آخر وهو أنه لما قدم الإشارة إلى (اشتراط) تقدم الاستفهام، لكنه أتى بالهمزة وحدها خاف أن يتوهم اختصاص ذلك بها من بين سائر أدوات الاستفهام، فرفع ذلك التوهم بقوله: (وقس) كأنه أراد: قس سائر أدوات الاستفهام على الهمزة، فإن الوصف إذا وليها رفع الفاعل وأغنى عن الخبر، ومثال ذلك قولك: متى ذاهب البكران؟ وأين جالس صاحباك؟ وكيف مصبح إخوتك؟ وما أشبه ذلك، فهذا مما يليق أن يكون مراده. والرابع: أن يكون منبها على أن هذا الحكم غير مختص بالفاعل المثنى، بل هو جار في غيره من المفرد والمجموع فتقول: أسار هؤلاء؟ وأقائم الزيدون؟ ، وأفائز إخوتك؟ وكذلك المفرد على أحد الاحتمالين فيه إذا قلت: أقائم زيد؟ ، وأسار هذا؟ وقد نبه هو على أن المجموع مثل المثنى في قوله: "وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد". وفي قوله: (والثاني مبتدأ وذا الوصف خبر) إلى آخره .. والخامس: أن يكون راجعا إلى المرفوع بالفاعلين، فإنه قال: (والثاني فاعل أغنى) فكأنه يوهم الاقتصار على الرفع للفاعل وإن كان قياساً

فيه فأخبرك أن الرفع بالصفة لا يختص بالفاعل، بل قد يكون مفعولا لم يسم فاعله كقولك: أمضروب الزيدان؟ وأمكرم إخوتك؟ وما أشبه ذلك، والحكم فيهما واحد، فنبه على ذلك ليكون قد نص عليه فلا يؤخذ له بقياس. والسادس: أن يكون قصد أن هذا الحكم لا يختص (باسم الفاعل الذي نبه عليه المثال، لأنه إنما أتى بهذا المثال من باب اسم الفاعل وإنما يتوهم أنه مختص به)، وليس في الحقيقة كذلك، بل نقول: أحسن الزيدان وأقرشي قومك؟ وإنما أراد صفة يصح رفعها للظاهر، ولم يرد كونها اسم فاعل وقد مر التنبيه على ذلك، وهذا الوجه والذي قبله يرجعان إلى قيد واحد في الحقيقة وهما وجهان من حيث الانتزاع. والسابع: /أن يكون تنبيها على أن الصفة إذا تقدمها الاستفهام، فإن رفعها للظاهر المغني عن الخبر قياس بإطلاق لا وهن فيه ولا ضعف، فلا يتحاشى عنه، كما يتحاشى إذا لم يتقدمها شيء نحو: قائم الزيدان، فإنه لا يبلغ في الجواز رتبة ما تقدم عليه الاستفهام. فإن قلت: فإن الخالي عن الاستفهام قياس عنده أيضا لقوله: (وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد) وهذه العبارة مشعرة بالقياس لكن على ضعف، فلو كان مراد الناظم التنبيه على الجواز فيما تقدمه الاستفهام والتنكيت على ما لم يتقدمه لاقتضى عدم القياس فيه، لكنه لم يفعل ذلك، فدل على عدم قصده لهذا المعنى وإلا كان كالمتناقض. فالجواب: أنه لم يقصد التنبيه على كون العاري من الاستفهام لا يقاس بخلاف غيره، بل قصد أن المعتمد على الاستفهام قياس على الإطلاق إذ قال: "وقس" ولم يقيد ذلك بضعف ولا قلة سماع، فظهر

من ذلك أن غير المعتمد ليس كذلك، بل هو قليل ضعيف، وكونه بحيث يقاس عليه مع ذلك أمر محتمل بينه بقوله: "وقد يجوز" وهذه الأوجه يمكن أن يكون أشار إلى جميعها بقوله: (وقس) فلا يختص التفسير ببعضها دون بعض وهو أولى؛ لأن جميعها أحكام ضرورية تقدم ذكرها بالإشارة إليها. فيبعد أن يشير إلى بعضها دون بعض مع أنها كلها قياس والله أعلم. ثم قال: (وكاستفهام النفي) يعني أن النفي بأداة من أدواته كالاستفهام فيما تقدم له من الحكم وهو كونه معتمدا على الوصف في رفع الفاعل، فكما أن قولك: (أسار ذان)، قياس مطرد، فكذلك قولك: ما سار ذان، لأن النفي مما يعتمد عليه اسم الفاعل في عمله، كما يعتمد على الاستفهام، ومن ذلك ما أنشده فبي الشرح من قول الشاعر: خليلي ما واف بعهدي أنتما ... إذا لم تكونا لي على من أقاطع فإن قيل: إطلاقه النفي صريح في أن أدواته كلها صالحة لهذا الموضع، إذا كان كذلك دخل فيها "ما" التميمية نحو: ما قائم الزيدان، والحجازية إذ عدم شرط من شروط إعمالها نحو: ما إن قائم أخواك، وما قائم إلا أخواك، وهذا قد يقرب الأمر فيه، فإن أداة النفي هنا كأداة الاستفهام لا عمل لها، فتدخل على المبتدأ وما يليه، كما تدخل على الجملة الفعلية في قولك: ما قام زيد، ودخل في مقتضاه أيضا "ما" إذا عملت و "لا" إذا عملت عمل "إن" أو "ليس" و "إن" كذلك و "ليس" أيضا، ومثل هذا لا يقدم على إجازته بغير دليل وسماع يمكن أن يقاس عليه أو بنص إمام

تضمن القول بالقياس في هذه الأشياء وإلا جاز أن تقول بجواز دخول نواسخ الابتداء على (سار ذان) إذا جاز ليس قائم الزيدان، وما قائم الزيدان؟ وهي الحجازية، وكذلك "لا"، و "إن" اللتان كليس فتقول إن قائم الزيدان ولا قائم الزيدان، وهذا كله فيه نظر. فالجواب: أن هذا كله قد نص على جوازه في "شرح التسهيل" عملا أطلقت الاستفهام أطلقت النفي ليتناول/ منها كل ما يصلح لمباشرة الأسماء، وذلك "ما"، و "لا" و "إن"، و "ليس" إلا أن "ليس" يرتفع الوصف بعدها على أنه اسمها ويرتفع به ما يليه فيسد مسدها، كما سد مسد خبر المبتدأ قال: وكذا الحكم بعد "ما" إن جعلت حجازية ولم ينتقض النفي، فإن جعلت تميمية أو انتقض النفي فالوصف بعدها مبتدأ، والمرفوع به ساد مسد الخبر، ثم أتى بأمثلة ذلك، فالحاصل أنه بنى هاهنا على ما بنى عليه هنالك، وأنه تضمن عهدة دخول الناسخ على مثل هذا المبتدأ، فإن كان في ذلك سماع يقاس عليه فلا عتب، وإن كان ذلك بالقياس النظري فهو غير مسلم لأمرين: أحدهما: أنه أناب مرفوعا عن منصوب وهو خبر "ليس" و "ما" الحجازية وذلك غير موجود في كلام العرب، فإن وجد فبحيث لا يعتد به، وقد منع ابن خروف أن ينوب منصوب عن مرفوع في نحو: ضارب زيدا. قال: بل يجري عنده مجرى قائم زيد حين أناب منصوبا عن مرفوع،

وليس ثم فاعل ولا مبتدأ قال "فإن قلت: ضارب زيدا عمرو كان أضعف من قائم زيد لعلمه في المفعول وقد رفعته بالابتداء، وإذا لم ينب المخالف في الإعراب هنا فكذلك في مسألتنا، والموجود في كلام العرب في هذا النحو نيابة المرفوع عن مثله، أما نيابة المرفوع عن المنصوب فلابد لابن مالك من إثباتها مقدمة لمسألته، وإثباتها متعذر. والثاني: أن عمل الصفة في باب اسم الفاعل إنما حصل في موضع قوى فيه جانب الفعلية باشتراط الاعتماد حسب ما مر، ألا ترى أن أقائم الزيدان؟ صار في معنى أيقوم الزيدان؟ وكذلك مع النفي، وإذا كان الأمر كذلك فدخول النواسخ مناف لتقوية جانب الفعل، بل هي مقوية لجانب الاسمية؛ لاختصاصها بالدخول على المبتدأ والخبر، وعدم قبولها للدخول على الفعل، فلا يسوغ إذا رفع الصفة عند دخول الناسخ، كما لا يسوغ عند التعري من الاعتماد، بل هنا أولى أن لا ترفع لتقوية جانب الاسمية فيها، فقربت بذلك من الجوامد. ووجه ثالث- أشار إلى معناه الفارسي-: وهو ما يلزم على ذلك من دخول النواسخ على غير مبتدأ وخبر وذلك معدوم النظير، وهذا كله قد نبه عليه ابن خروف فقال: ولا ينبغي أن يجوز كان قائم زيد، على أن تجعل قائم اسم "كان" وزيد فاعلا يسد مسد الخبر؛ لأنه أناب مرفوعا عن النصب، وأدخل كان على ما ليس بمبتدأ وخبر، وعلى صفة، وقوى فيها معنى الاسمية وقد رفع بها، هذا ما قال وفيه ما ذكرت وغيره. فإن أجيب عن الأول: بأن المنصوب قد ينوب عن المرفوع كما في قولهم: ضربي زيدًا

قائمًا، وإذا جاز "مثل هذا فليجز عكسه. والثاني: بأن النواسخ قد تدخل على ما لا خبر فيه بل ناب عنه غيره. وحكى ابن كيسان عن الكسائي: دخول "إن" على نحو: كل رجل وضيعته، فقالوا: إن كل ثوب وثمنه، وإذا جاز في "إن" مثل هذا فليجز في مسألتنا فيقال: لم يبلغ مثل هذا أن يقاس عليه لقلته وخروجه عن قياس كلام العرب فلا يعتبر به. والذي ينبغي أن يقال/ في الجواب عن الناظن أن دخول الناسخ على الصفة مذهب له حسب ما صرح به في الشرح فإياه اتبع في هذا النظم، ويمكن أن يقال: - وهو الأولى- إن إطلاقه النفي لا يتعين منه دخول ناسخ ينفي به لأن مثل ذلك يتوقف على جوازه ابتداء، وهو لم يتعرض لذلك هنا، فلا يؤخذ له منه مذهب؛ لاحتمال أن يريد نفيا لا يكون ناسخا للابتداء والله أعلم. وعلى الناظم هنا سؤال وهو أن يقال: لم لم يفرض الناظم المسألة مع غير الاستفهام والنفي، وقد علم أن ذلك لأجل الاعتماد، والاعتماد يحصل بغيرهما كالاعتماد على المبتدأ، فهلا بين أن "قائم" من قولك: زيد قائم أبواه مبتدأ وأبواه فاعل سد مسد الخبر، كما بين ذلك مع الاستفهام والنفي؟ والجواب: أن ذلك لا يجوز فيما جرى على المبتدأ (فإن قائما) وقع نكرة وحق الخبر أن يكون نكرة فقد وقع في موضعه، وعاد مما تعلق به الضمير على المبتدأ، فلم يجز أن ينوى به غير موضعه لأنه شبه

التهيئة والقطع إلى هذا النحو نحا الفارسي في الجواب. وقد يجاب بجواب آخر: وهو أن الخبر الذي هو قائم إن اعتاد أنه مبتدأ صار من قبيل قائم الزيدان؛ لأنه إذ ذاك مقطوع من زيد، والجملة هي الخبر، فصار قائم أبواه جملة مستقلة، فلم يبق للمبتدأ الذي هو قائم ما يعتمد عليه واسم الفاعل هنا إنما يرفع إذا اعتمد إلا قليلا. فإن قيل: لم لا يجوز على ذلك القليل؟ قيل: لا يجوز لما تقدم أولا للفارسي، فالواجب ما فعله الناظم من تخصيص ذلك بالنفي والاستفهام، والكلام على سائر مواضع الاعتماد كالكلام هنا، كما لو قلت: أعجبني زيد قائم أبواه، فترفع قائما، أو مررت برجل قائم أبواه وتكون الجملة في موضع الحال أو في موضع الصفة. ثم قال: (وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد). "قد" هنا بمعنى ربما وكذلك عادته أن يأتي بها للتقليل، ويعني أنه قد يجوز قليلا أن يأتي هذا الوصف مبتدأ يرفع فاعلا يغني عن الخبر وإن لم يتقدم نفي ولا استفهام وذلك نحو (فائز أولو الرشد) فهذا المثال لم يتقدمه نفي ولا استفهام، وقد رفع الفاعل وأغنى عن الخبر، إذ لا يمكن فيه غير ذلك لإفراد فائز وجمع أولى، فلا يصح أن يكون "فائز" خبرا مقدما و "أولو" مبتدأ، إذ لا يخبر بالمفرد عن الجمع ومثال ذلك ما أنشده في الشرح من قوله: خبير بنو لهب فلاتك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت

ويلحق به- وإن لم يكن كمثاله- قول الفرزدق: فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يالا لأنه يتعين فيه عند ابن مالك أن يكون خبر مبتدأ ونحن فاعلا، ولا يكون خبرا مقدما ونحن مبتدأ، قال: لأنه يلزم في ذلك الفصل بمبتدأ بين أفعل التفضيل و "من" وهما كالمضاف والمضاف إليه، فلا يقع بينهما مبتدأ، وإذا كان خبر مبتدأ لم يلزم ذلك، لأن فاعل الشيء كجزء منه، على أن ابن خروف تأول البيت على أن "نحن" توكيد للضمير في "خير" وعلى الجملة فهذا عند الناظم جائز على قلة لقوله: (وقد يجوز نحو) كذا. فإن قيل: إجازته للقياس في هذه المسألة إما أن تكون موافقة الأخفش أولا، فإن كانت/ موافقة له فلم جعلته أولا مخالفا له عند الكلام على قوله: (فاعل أغنى في أسار ذان) وإن لم تكن موافقة له فما هذا المذهب الثالث؟ والناس في المسألة على فرقتين: فرقة تمنع وهم الجمهور، وفرقة تجوز مطلقا وهم الأخفش ومن وافقه، وقد نقل المؤلف الجواز عن الكوفيين أيضا. وأما مذهب ثالث يجوز عدم الاعتماد على قلة فمذهب مبتدع ورأي مخترع.

فالجواب: إن ما ذهب إليه لم يوافق فيه الأخفش ولا غيره (وذلك لأن الأخفش لا يجيز المسألة على قلة، بل هي عنده جائزة جوازا حسنا فخالفه الناظم كما خالفه غيره)، وأما إجازته إياها على قلة فهو عنده مذهب سيبويه والناس في إيراد مذهب سيبويه على رأيين؛ لأنه قال: وزعم الخليل- رحمه الله- أنه يستقبح أن تقول: قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائما خبرا مقدما مبنيا على المبتدأ، كما تقدم وتؤخر فتقول: ضرب زيدا عمرو، وعمرو على ضرب مرتفع، ثم قال: فإذا لم يريدوا هذا المعنى، يريد أن يكون "قائما" خبرا مقدما، وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقولك: يقوم زيد وقام زيد، قبح، لأنه اسم. قال: وإنما حسن عندهم أن يجري مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف، أو جرى على شيء قد عمل فيه، كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول: هذا ضارب زيدا، وأنا ضارب زيدا. قال: فكما لم يجز هذا (يعني أن ينصب غير محمول على شيء) كذلك استقبحوا أن يجري، (يعني ضاربا) مجرى الفعل المبتدأ. فذكر أن عدم الاعتماد قبيح على الجملة، واستقباحه له يحتمل أن يريد به عدم الجواز جملة، ويحتمل أن يريد أنه مع قبحه جائز بخلاف ما إذا

اعتمدت الصفة فإن ذلك جائز حسن وعلى الأول حمله طائفة، ويظهر ذلك من السيرافي حيث قال: إذا نقلت الفعل إلى اسم الفاعل ورفعت الفاعل به ولم يكن قبله ما يعتمد عليه قبح وإنما قبحه فساد اللفظ لا المعنى. لو قلت: قائم الزيدون، لكان مبتدأ بغير خبر. قال: ومجيزه يزعم أن الفاعل يسد مسده ويحتاج إلى برهان على ذلك، هذا اختصار كلامه، ونجوه أيضا يظهر من ابن خروف، لأن سيبويه يطلق لفظ القبح ويريد به المنع، وقد استدل على ذلك الفارسي في "التذكرة" بمواضع من كلام سيبويه يقع فيها لفظ القبح ومراده المنع، ولم ير ابن مالك هذا التفسير، بل زعم أن المفهوم من كلام سيبويه القبح دون المنع. قال: ومن زعم أن سيبويه لم يجز جعله مبتدأ إذا لم يل استفهاما أو نفيا فقد قوله ما لم يقل، ثم استدل على صحة استعماله بالبيتين المتقدمين، فلهذا- والله أعلم- أتى بالمسألة لينبه على أنها مع عدم الاعتماد غير ممتنعة خلافا لمن ظن أن ذلك كذلك. واعلم أن الناظم لما أطلق القول في جواز القياس على "أسار ذان"، اقتضى جواز ذلك، وأن يقال به فيما إذا كان بعد الصفة ضمير منفصل نحو قوله تعالى: {قال أراغب أنت عن آلهتي} فأنت يجوز أن يكون فاعلا بـ "راغب"، كما يجوز أن يكون زيد من قولك أقائم زيد؟ فاعلا بـ "قائم"، وقد نص على جواز ذلك في "شرح التسهيل" وانبني على ذلك جواز عدم المطابقة، فيكون الضمير المنفصل فاعلا البتة فتقول: أقائم

أنتما؟ وأضارب أنتم؟ وهذا أيضا قد نص عليه/ في "الشرح" وأن لا فرق بين قولك: أضارب الزيدان؟ وما ضارب بهما؟ وهذا فيه نظر فإن الضمير المنفصل لا يكون فاعلا مع إمكان اتصاله وإنما يكون فاعلا إذا لم يمكن اتصاله بالعامل نحو: ما قائم إلا أنت، وأعجبني الضاربه أنا، وما أشبه ذلك. أما إذا تأتى الاتصال فانفصاله يدل على أنه مبتدأ قدم عليه خبره لا فاعل. ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "أو مخرجي هم" ولم يرو إلا بتشديد الياء لأنه خبر وهم مبتدأ، فجمع من أجل الضمير الذي في الخبر والتقدير: أو هم مخرجي ولو كان "هم" فاعلا لقال: أو مخرجي هم، بتخفيف الياء كما تقول: أو مخرجي أخواك، لكنه لم يفعل، فدل على أنه لا يجوز أن يكون الضمير المنفصل فاعلا ولا أن يكون غير مطابق للصفة، هذا ما قال بعض المتأخرين فاستثنى كما ترى الضمير المنفصل ولم يستثنه الناظم فكان معترضا عليه. والجواب: أن ما قاله هذا المتأخر غير مسلم له، بل انفصال الضمير هنا هو الصواب وإن لم يكن في الصفة من الموجب ما قال، لأن الصفة هنا خاصة توجب انفصال الضمير ليست في الفعل وسيأتي بيانها في هذا الباب إن شاء الله. فالضمير إذا وقع بعدها مطابقا لها احتمل ما يحتمله الظاهر، وإذ ذاك تجوز المخالفة فتقول: أضارب الزيدان؟ وأقائم هما؟

وأقاعد أنتم؟ وما أشبه ذلك، وقد جاء السماع بذلك. أنشد المؤلف في الشرح قول الشاعر: *خليلي ما واف بعهدي أنتما* وأما ما في الحديث من قوله: "أو مخرجي هم"، فلا دليل له فيه البتة؛ لمجيئه على أحد الوجهين، فلا يلزم من كونه آتيا في الرواية على الابتداء والخبر ألا يجوز خلاف ذلك، وغايته أنه لم يسمع فيه، فقد سمع في غيره وإطلاق الناظم غير صحيح في انتظام الضمير وغيره لاسيما مع التمثيل بما لا ضمير فيه، بل في كلامه ما يدل على أن رأيه رأى هذا المتأخر حسب ما يأتي. والرشد والرشد: ضد الغي، فهو إذا فتحت الراء والشين مصدر رشد بالكسر، يرشد بالفتح رشدا، وإذا ضممت الراء وسكنت الشين فهو مصدر رشد بالفتح يرشد بالضم رشدا. وقال ابن القوطية: رشده الله رشدا وأرشده هداه، فرشد رشدا ورشادا اهتدى، ورشد رشدا ضد غوى، ومعنى: (فائز أولو الرشد)، أي أن أهل الرشد فائزون في الآخرة بمطلوبهم جعلنا الله منهم.

ثم أتم ما بقي من مسألته فقال: والثان مبتدأ وذا الوصف خبر إن في سوى الإفراد طبقا استقر قوله: "والثان" أراد: والثاني فحذف الياء للحاجة إلى ذلك، وهو أيضا جائز في الكلام، فقد قرأ ابن عامر والكوفيون: {يوم يدع الداع} من غير ياء مطلقا، وأنشد سيبويه في نحوه: وأخو الغوان متى يشا يصرمنه ... ويعدن أعداء بعيد وداد أراد: الغواني بالياء، و (مبتدأ)، أراد مبتدأ: ولكنه سهل الهمزة بالإبدال المحض على لغة من قال في: أخطأت أخطيت، ثم حذفها لالتقائها ساكنة مع التنوين، وأراد بالثاني: الاسم الواقع بعد الوصف وهو زيد مثلا في قولك: أقائم زيد؟ فيريد بهذا الكلام أن الاسم الواقع بعد الوصف المذكور لا يخلو أن يكون غير مفرد أو مفردا ويعني بغير المفرد المثنى والمجموع، فإن كان غير مفرد، فلا يخلو أن يطابقه الوصف المتقدم أولا، فإن لم يطابقه/ جرى على الحكم المتقدم من كون الوصف مبتدأ وما بعده فاعل به، إذ لا يمكن

في المسألة غير ذلك، وإلا فلو جعلت الزيدين من قولك: أقائم الزيدان؟ مبتدأ والوصف خبرا للزم أن تخبر بالمفرد عن المثنى وذلك غير جائز، وكذلك لو كان مجموعا، إذ لا يجوز الزيدان قائم ولا الزيدون قائم وهذا الحكم مفهوم من قوله: (إن في سوى الإفراد طبقا استقر) فمفهوم الشرط أنه إن لم يطابق فلا يكون الثاني مبتدأ والوصف خبرا بلابد، والطبق المطابق وهو الموافق، والمطابقة: الموافقة، والتطابق: الاتفاق، ويقال: طابقت بين الشيئين: إذا جعلتهما على حد واحد وألزقتهما، فجعل الموافق للشيء كأنه حذى حذوه، وجعل ملتفا به، و"طبقا": حال من ضمير "استقر" وهو عائد على الوصف، أي: إن استقر ذلك الوصف مطابقا لما بعده في التثنية أو الجمع وإن طابق الوصف الاسم وجب حمل الوصف على أنه خبر مقدم والثاني: مبتدأ؛ لأن الوصف لو كان مرفوعا على الابتداء وما بعده فاعل به لم يكن مطابقا، لأنه جار مجرى الفعل فلا يوصف ولا يصغر ولا يثنى ولا يجمع، كما لا يكون ذلك في الفعل، فلابد من أن يكون خبرا مقدما وهو الذي نص عليه بقوله: (إن في سوى الإفراد طبقا استقر) أي: أن الثاني يعرب مبتدأ والوصف خبر إذا طابقه في غير الإفراد. وأما إن كان الاسم الواقع بعد الوصف مفردا فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون فاعلا بالوصف على حد ما كان عليه وهو غير مطابق له، والوصف مبتدأ ناب الفاعل عن خبره.

والثاني: أن يكون مبتدأ خبره الوصف المتقدم، وإنما احتمل وجهين لأن إفراد الوصف يمكن أن يكون لجريانه مجرى الفعل فيرتفع ما بعده به وهو مفرد ويمكن أن يكون لأجل المطابقة بينه وبين الثاني لا لجريانه مجرى الفعل فيرتفع ما بعده على الابتداء والوصف خبره، وهذا الحكم مفهوم من قيد الإفراد في قوله: (إن في سوى الإفراد طبقا استقر) يريد: أن انحتام الحكم بكون الثاني مبتدأ خبره الوصف مشروط بكونه غير مفرد، فإذا إذا كان مفردا فلا ينحتم ذلك الحكم، وضد الانحتام الجواز فيكون ذلك الحكم جائزا مع وجود الإفراد، لا واجبا، فيدخل الوجه الآخر. فإن قيل: إنك أخذت بمفهوم الصفة هنا جواز أن لا يكون الثاني مبتدأ والوصف خبرا، وأخذت بمفهوم الشرط انحتام أن لا يكون كذلك، وذلك أنه لما قال: (إن الثاني مبتدأ والوصف خبر شرط فيه أن لا يكون) مطابقا فأخذت من مفهومه أنه إن لم يكن مطابقا فلا يكون كذلك، ومفهومه الجاري على كلامه أنه إن لم يطابق فلا ينحتم ذلك الحكم؛ لأن الشرط إنما هو شرط في الانحتام، وهو الذي قررته في مفهوم التقييد بغير الإفراد، وإذا كان كذلك اقتضى أنه إن لم يطابق جاز أن يكون الثاني مبتدأ خبره الوصف وذلك غير صحيح. فالجواب: أن المفهوم هنا في الوجهين عدم الانحتام كما تقرر في السؤال لكنه قد بين قبل هذا وجوب أحد الوجهين حين تكلم على (أسار

ذان) فحتم بكون الوصف مبتدأ وما بعده فاعل به، فصار مفهوم الشرط هنا معطلا لمعارضته النص له كما حكم العلماء القائلون بالمفهوم بتعطيله في نحو قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة}. لأن الدليل قد قام (على) أن الربا وإن لم يتضاعف محرم الأكل، فكذلك ما نحن فيه لما كان قد حتم بحكم واحد عند عدم المطابقة صار مفهوم الشرط هنا المقتضي لعدم انحتامه غير معتد أو نقول/: إنه جعل الثاني مبتدأ والوصف خبرا بشرط واحد وهو المطابقة في غير الإفراد، ولا نقول: حتم ذلك، إذ ليس فيه إلا أن هذا الإعراب مشروط بكذا، فمفهوم الشرط أنه إن لم يطابق في غير الإفراد فلا يكون كذلك، وهذا حكم صحيح في نحو: أسار ذان، ويبقى قيد عدم الإفراد من حيث جزء الشرط لا مفهوم له منفردا، فلا يكون قولك: أقائم زيد؟ مذكورا للناظم لا بمنطوق ولا بمفهوم، بل تركه لفهم حكمه مما تقدم له في الطرفين، وهما المطابقة في غير الإفراد، وعدم المطابقة، والأمران محتملان حسب ما تقدم توجيهه قبيل هذا، ولا يبقى عليه إشكال إلا في شيء آخر يظهر منه حكم لا يستقيم، وذلك أنه يقتضي أن المطابقة في غير الإفراد يكون فيها الثاني مبتدأ والوصف خبرا بإطلاق، وذلك غير صحيح من جهتين: إحداهما: أن ذلك ليس في كل لغة، بل هو مختص بلغة من لا يلحق الفعل علامة التثنية والجمع إذا أسند إلى الظاهر فيقول: قام

الزيدان وقام الزيدون وأما من يلحق العلامتين فيقول: هنالك قاما الزيدان وقاموا الزيدون وهي لغة: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" فيصح أن يعرب الثاني فاعلا بالوصف لا مبتدأ إذا قلت: أقائمان الزيدان؟ وأقائمون الزيدون؟ (بخلاف من يقول: قام الزيدان والزيدون فإنه لا يقول هنا: أقائمان الزيدان وأقائمون الزيدون) إلا على الابتداء والخبر، ولا يقال: إنه غنما تكلم على اللغة المشهورة وهي لغة القرآن، وما قال لازم فيها بخلاف لغة: "يتعاقبون فيكم ملائكة" فإنها قليلة فلم يعتد بها في قانونه لأنا نقول: كان يكون هذا عذرا لو لم ينبه هو عليها في باب الفاعل بقوله: (وقد يقال سعدا وسعدوا) إلى آخره ولا مرية في أن الصفة هنالك جارية مجرى الفعل، فقد نبه على، هذه اللغة واعتد بها فلزمه أن يبنى عليها في نظمه هذا وإلا أوهم أن ذلك الإعراب لازم في اللغتين معا وهو غير مستقيم. والثانية: على تسليم أنه لم يعتد إلا باللغة المشهورة، فذلك على الإطلاق فيها غير صحيح أيضا، وإنما يلزم ذلك في التثنية وفي الجمع السالم إذا قلت: أقائمان الزيدان؟ وأقائمون الزيدون؟ وأقائمات الهندات؟ وأما في جمع التكسير فلا، إذ لا يجوز في اللغة الفصيحة أن تجمع الصفة جمع التكسير إذا كان مرفوعها (مجموعا) فتقول: أقيام الزيدون؟ وأنت تعتقد أن الزيدين فاعل بقيام على حد ما لو قلت: أقائم الزيدون؟ فهو إذ ذاك

في عداد أقائم زيد؟ كما يجوز هناك الوجهان، فكذلك هنا نص على هذا الحكم في جمع التكسير سيبويه وغيره وسيأتي التنبيه عليه في باب النعت إن شاء الله ولا أجد الآن جوابا عن هذين وأقربهما الأول. *** ورفعوا مبتدأ بالابتدا ... كذاك رفع خبر بالمبتدأ أخبر في هذين المزدوجين بأمرين: أحدهما: أن المبتدأ والخبر كلاهما مرفوع، وذلك مفهوم من إخباره/ بالرافع لهما. والثاني: أن العامل للرفع في المبتدأ الابتداء، والعامل في الخبر المبتدأ فأما الأول فقوله: (ورفعوا مبتدأ بالابتداء) يعني أن الرافع للمبتدأ (هو الابتداء) وإنما بين هذا لأن كل عمل لابد له من عامل، هكذا تقرر الأمر في كلام العرب وظهر في العوامل الملفوظ بها الموجودة عند وجود عملها، فما لم يظهر فيه ذلك للعيان قدروا عاملا ليستتب قياسهم، وما بنوا عليه صناعتهم وأما الثاني فقوله: "كذاك رفع خبر بالمبتدأ" أي إنهم رفعوا أيضا الخبر بالمبتدأ الذي هو طالب له، وأصل العمل الطلب، فأما الخبر فسيفسره بعد، وقد أشار إليه قبل بقوله: "وعاذر خبر" وأما الابتداء فلم يبينه.

وقد اختلفت عبارات الناس في تفسيره، فالذي رآه ابن مالك أنه: عبارة عن كون الاسم مجعولا أول الكلام معرى من العوامل اللفظية حقيقة أو حكما مسندا إليه الخبر، أو مسندا هو إلى ما يقوم مقام الخبر، وحقيقته ترجع إلى تعري الاسم من العوامل اللفظية، وهي عبارة أكثر الناس كالجرمي والفارسي وابن الأنباري وغيرهم، ويظهر ذلك من سيبويه في أول الكتاب. وقال الزجاجي: إنه مضارعة المبتدأ للفاعل، وقيل: مضارعته للفعل وقيل: غير هذا مما لا حاجة إلى ذكره، إذ لا فائدة إلا نسبة العمل لشيء ما جريا على أسلوب ضبط القوانين ولنجر على ما ظهر من المؤلف. فإذا قلت: زيد منطلق، فزيد ارتفع بالوصف الذي اتصف به وهو كونه عادما ما يعمل فيه من عامل لفظي، والمنطلق (ارتفع) بزيد وهو المبتدأ، وهو وإن كان ليس بفعل ولا معناه معنى الفعل فصحيح أن ينسب إليه العمل، لأن أصل العمل الطلب، والمبتدأ طالب للخبر طلبا لازما اختصاصيا فيعمل فيه، كما أن فعل الشرط عند طائفة والناظم منهم في غير هذا النظم عامل في فعل الجواب، وإن كان المطرد ألا يعمل الفعل في الفعل، ولكن لما كان طالبا له عند اقتران أداة الشرط به عمل فيه وهو ظاهر قول الخليل، فإنما معتمدهم في العمل الطلب فإذا طلب لفظ ما لفظا آخر وكان طلبه له اختصاصيا، ولم يقع منه موقع الجزء عمل فيه، وهذا الذي ذهب إليه الناظم في رفع المبتدأ والخبر وهو مذهب سيبويه. قال في باب الابتداء: واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو يكون في مكان أو زمان، وهذه الثلاثة

يذكر كل واحد منها بعد ما تبتدئ. قال: فأما الذي يبنى عليه شيء هو فإن المبنى عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وقد ذكر نحو هذا في غير هذا الموضع وهذا مذهب جمهور البصريين ولأجل أنه الصحيح عنده بنى عليه واعتمده، وفي المسألة خلاف شهير جملته خمسة مذاهب: أحدها: ما تقدم. والثاني: أن الابتداء رافع للمبتدأ والخبر معا. والثالث: أن الابتداء رافع للمبتدأ وهو والمبتدأ معا رافعان للخبر. والرابع: أن المبتدأ والخبر رفع كل واحد منهما صاحبه وهو مذهب الكوفيين ومن الناس من يحكي عنهم أن المبتدأ يرتفع بما يعود عليه من الخبر والذي حكى ابن الأنباري والمحققون عنهم هو الآخر. والخامس: أن/ الابتداء رافع للمبتدأ والخبر معا لا مطلقا، بل يرفع المبتدأ بغير واسطة، ويرفع الخبر بواسطة المبتدأ، وهو اختيار ابن الأنباري، والمسألة طويلة والخلاف فيها يرجع إلى تحقيق اصطلاحي لا ينبني عليه في التفريع فائدة، فالأولى فيها وفي أمثالها ترك الاشتغال بالرد والترجيح وقد نص ابن مالك على ما ذهب إليه هنا

واحتج على صحته بإبطال ما عداه وقد تقدم طرف من التوجيه له، فلنضرب عن ذكر الحجج واستيعابها صفحا، لكن نذكر مذاكرة جرت بين كوفي وبصرى في مذهبيهما، فحكى ابن الأنباري في "الإنصاف" أنه اجتمع أبو عمر الجرمي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء فقال الفراء للجرمي: أخبرني عن قولهم: زيد منطلق، بم رفعوا زيدا؟ فقال له الجرمي: بالابتداء، فقال له الفراء: ما معنى الابتداء؟ قال: تعريه من العوامل اللفظية. قال له الفراء: (فأظهره) فقال له الجرمي: هذا معنى لا يظهر. قال له الفراء: فمثله إذا. فقال له الجرمي: لا يتمثل. قال له الفراء: ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثل، فقال له الجرمي: أخبرني عن قولهم: زيد ضربته، بم رفعتم زيدا فقال: بالهاء العائدة على زيد. فقال له الجرمي: الهاء اسم فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء: نحن لا نبالي من هذا فإنا نجعل كل واحد من الاسمين إذا قلت زيد منطلق رفعا لصاحبه. فقال الجرمي: يجوز أن يكون كذلك في زيد منطلق، لأن كل واحد منهما مرفوع في نفسه، فجاز أن يرفع الآخر، وأما الهاء في ضربته ففي محل النصب، فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء: لم نرفعه بالهاء وإنما رفعناه بالعائد على زيد. فقال الجرمي: ما

معنى العائد؟ فقال الفراء: معنى لا يظهر. فقال الجرمي: أظهره، قال الفراء: لا يمكن إظهاره، قال الجرمي: فمثله: قال: لا يتمثل، قال الجرمي: لقد وقعت فيما فررت منه. قال ابن الأنباري: فحكى أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له: كيف وجدت الجرمي: فقال: وجدته آية، وسئل الجرمي فقيل له: كيف وجدت الفراء؟ فقال: وجدته شيطانا، وهنا مسألة اصطلاحية في كلام الناظم إشارة إليها وإلى مقصد النحويين فيها وذلك حيث قال: (ورفعوا مبتدأ بالابتدا) والضمير في رفعوا إما أن يكون عائدا على العرب، وإما على النحويين وهم المصطلحون وعلى كلا التقديرين فمعنى الكلام أنهم هم الرافعون لهما بسبب وجود الابتداء والمبتدأ، فمن حيث جعلوا الرفع موجودا مع وجودهما ومعدوما مع عدمهما جعلوهما كالسبب في الرفع، وليس السبب في الحقيقة إلا المتكلم، ثم إنهم ينسبون العمل للألفاظ لتحقيق هذا الاصطلاح، إذ كانت هي العلامات لرفع ما يرفع ونصب ما ينصب وجر ما يجر ويستعمله الناظم كثيرا كقوله: (ترفع كان المبتدأ اسما والخبر تنصبه) وهو اصطلاح عام في كلام أهل هذه الصناعة لضبط القوانين لا أنهم مدعون لذلك حقيقة لأن الألفاظ لا ترفع ولا تنصب ولا تجر، وعلى هذا نبه ابن جني في "الخصائص" حين بين أن مقاييس العربية معنوية في الغالب، ومثل ذلك بموانع الصرف، ثم قال: ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به بأن تقول: رفعت هذا بأنه فاعل، ونصبت هذا بأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. قال: ولأجله

ما كانت/ العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفرا فإن (ضرب) لم تعمل في الحقيقة شيئا، وهل تحصل من قولك: ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل، وهذا هو الصوت، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوبا إليه الفعل. وإنما قال النحويون: عامل لفظي وعامل معنوي ليروك ّأن بعض العمل يأتي مسببا عن لفظ يصحبه كمررت بزيد، وليت عمرا قائم، وبعضه يأتي عاريا من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء ورفع الفعل بوقوعه موقع الاسم هذا ظاهر الأمر وعليه صفحة القول. فأما في الحقيقة ومحصول الحديث ما يعمل فيهما فالعمل من الرفع والنصب/ والجر والجزم إنما هو المتكلم نفسه لا لشيء غيره. قال: وإنما قالوا: لفظي ومعنوي لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ أو باشتمال المعنى على اللفظ وهذا واضح. هذا ما قال، وهو ما أشار إليه الناظم في قوله: (ورفعوا مبتدأ بالابتدا) ومما يؤنسك بهذا وأنهم جعلوا اللفظ والمعنى كالسبب في اختلاف وجوه

الرفع والنصب والجر والجزم ما حكاه ابن جني في "الخصائص" قال: سألت الشجري يوما فقلت له: يا أبا عبد الله: كيف تقول: ضربت أخاك؟ فقال: كذلك قلت: أفتقول ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول أخوك أبدا. قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ قال: كذلك، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدا؟ فقال: أيش ذا اختلفت جهتا الكلام، فهذا في قوة أن لو قال: صار المفعول فاعلا أو زال اللفظ الذي يقتضي الرفع وخلفه لفظ آخر يقتضي النصب، فهذا الاصطلاح في النحو قد تبين معناه، وإنما بسطت القول فيه لأن ابن مضاء ممن ينسب إلى النحو قد شنع على النحويين في هذا المعنى أخذا بظاهر اللفظ من غير تحقيق مرادهم فنسبهم إلى التقول على العرب وإلى الكذب في نسبة العمل إلى الألفاظ، بل نسبهم إلى مذهب الاعتزال والخروج عن السنة وظلمهم- عفا الله عنه- إذ لم يعرف ما قصدوه.

وقد صنف في الرد عليه وفي بيان مقاصد النحويين في هذه الأشياء ابن خروف جزءا سماه: "تنزيه أئمة النحو مما ينسب إليهم من الغلط والسهو" فإن أردت كمال القول في ذلك فعليك به. وبالله التوفيق. *** ولما تبين من قوله: أولا المبتدأ وعرفه التعريف الذي تقدم ذكره أخذ في بيان الخبر وتعريفه فقال: والخبر الجزء المتم الفائدة ... كالله بر والأيادي شاهده وبين أنه الجزء الذي تمت به فائدة الكلام، وإنما قال: الجزء لأنه من الجملة المفيدة جزؤها. فإذا قلت: زيد فهذا أحد الجزءين ولا تحصل به فائدة إلا مع الخبر إذا قلت: قائم أو عائم أو صائم، فهنالك يكتفي السامع بالفائدة الحاصلة له. وقد جرت عادة النحويين المتأخرين أن يعرفوه بأنه الجزء الذي استفيد من الجملة أو أنه الذي تقع به الفائدة (أو أنه) معتمد الفائدة كما قال الجزولي: وهذا خطأ لأن المفرد وحده لا يفيد شيئا، وإنما فيه الدلالة/ على مسماه، وذلك ليس بفائدة خبرية، فإذا كان كذلك فكلام الناظم -رحمه الله- مخالف لهذا المعنى حيث عرفه

بأنه الجزء المتم الفائدة، فجعله متما لها ولم يجعله معطيا لها من أصل، كما هو ظاهر من كلام غيره، فمعناه أن الفائدة حصلت بينهما، أعني بين المبتدأ والخبر، فالمبتدأ يحصل شيئا منها لكن على غير تمام، ثم يأتي الخبر فيتمها ويكملها، هذا مقتضى لفظ "متم" وحيث اعتبرنا نحن ما قاله الناظم مع ما قاله غيره سبق لنا ما قاله غيره، واعتبرنا ذلك بأن المبتدأ إذا ذكر وحده لم يفدنا شيئا حتى يذكر الخبر، فما وجه ما قاله الناظم؟ والجواب: أن ما ظهر من الناظم هو الصواب، والذي لا ينبغي أن يقال بغيره وذلك أنه لا يمكن أن يقال: إلا أن الفائدة حصلت بهما معا، وكل واحد من الجزءين له حظ وطريق خاص في إعطاء الفائدة. ومن الدليل على هذا أنه لا يستفاد من الخبر وحده فائدة البتة إذا قلت: قائم أو عالم دون أن يأتي بالمبتدأ، كما أنه لا يحصل بالمبتدأ وحده فائدة دون أن يؤتى بالخبر. وأما من أطلق من النحويين القول بأن الخبر هو محل الفائدة، فمن جهة أنه الذي جاء آخرا وعند الإتيان به حصلت الفائدة، ولم يتشوف إلى منتظر، كما يتشوف بعد ذكر المبتدأ إلى الخبر، فإذا ثبت هذا فللمبتدأ حظ في الإفادة من حيث هو المحدث عنه، وللخبر حظ أيضا من حيث هو الحديث، فصح إذا أن الخبر هو الجزء المتمم الفائدة كما قال الناظم. فإن قيل: كيف هذا وأنتم تشترطون في المبتدأ أن يكون معروفا عند السامع والخبر مجهولا، فإذا ذكرت المبتدأ فكأنك لم تزد شيئا على ما كان عند السامع فإذا ذكرت الخبر فقد ذكرت ما كان مجهولا عنده وذلك هو موضع الفائدة ضرورة، وإلا فلو كان معلوما لم يستفد شيئا.

فالجواب: أن هذا وإن كان ظاهرا لا يوجب أن الخبر هو المستفاد وحده أو المستفاد به وحده، بل نظير علمك بالمبتدأ وحده علمك بمدلول الخبر، ولاشك أنه معلوم للسامع قبل الإخبار وإلا لم يصح الإفهام، فإذا كل واحد من المبتدأ والخبر معلوم من جهة، وإنما المجهول النسبة والحكم بأن صاحب هذا الاسم هو صاحب هذا الآخر، وهذه النسبة المجهولة لا يستقل بإعطائها الخبر وحده دون المبتدأ ولا المبتدأ دون الخبر، بل هما جميعا، وهو مقتضى ما قاله الناظم، فوضح أن كلامه غاية في تحقيق المسألة، والكلام فيها هنا مستعار من علم آخر للحاجة إليه، وأتى بمثالين وهما: الله بر، والأيادي شاهدة، ومعنى: بر أي: يبر عباده، وهو من قولهم: بره يبره برا فهو بر من قوم أبرار، وبار من قوم بررة، وهو راجع إلى معنى الإكرام، والأيادي: العطايا، واليد الجارحة لا تجمع في الغالب على أياد، ولا تجمع على أيد، وأما اليد بمعنى العطية فإنها تجمع على أياد ولا تجمع على أيد، نص على ذلك أهل اللغة، وقد تجمع اليد بمعنى العطية على يدي كثدي وثدى، وقد تجمع اليد الجارحة على أياد. أنشد ابن جني: / ومستامة تستام وهي رخيصة ... تباع بساحات الأيادي وتمسح

ومعنى "و" "الأيادي شاهده"، أي: أن نعم الله تعالى وعطاياه التي خولها عباده من غير استحقاق بأنه بر بهم ورحيم بهم سبحانه. *** ثم قال: ومفردا يأتي ويأتي جمله ... حاوية معنى الذي سيقت له وإن تكن إياه معنى اكتفى ... بها كنطقي الله حسبي وكفى قسم الناظم- رحمه الله- خبر المبتدأ إلى أقسامه العظمى وهي ثلاثة أقسام: أحدها: الجملة الصريحة. والثاني: المفرد الصريح أيضا. والثالث: الظرف وشبهه وهو المجرور، وإنما جعله قسما برأسه مع أنه واحد من القسمين إما من الجمل، وإما من المفردات؛ لأن له حكما يخالف فيه المفرد والجملة كما سيذكر. وهذه الأقسام الثلاثة لا يخرج عنها نوع من أنواع الخبر على كثرتها وانتشارها إذ الخبر ينقسم إلى نيف وسبعين قسما، كل قسم منها يخالف صاحبه في حكم ما، لكن أتى الناظم بالأحكام التي لابد للخبر منها من حيث هو خبر وترك ما سوى ذلك لعدم الاحتياج إليه ولعدم ارتضائه الأحكام المخالفة لما ذكر، وقد ذكرها ابن خروف في "شرح الكتاب" وابتدأ بذكر الجملة وذلك أنه جعل الخبر أولا منقسما إلى قسمين: مفرد وجملة، ثم

استدرك القسم الثالث بعد، ثم جعل الجملة على قسمين: أحدهما: ما كانت هي المبتدأ من جهة المعنى. والثاني: ما لم يكن كذلك، وهذا الثاني هو المراد بقوله: (ويأتي جمله حاوية معنى الذي سيقت له) فكأنه قال: ويأتي جملة ليست هي المبتدأ معنى، ودل على أن هذا مراده قوله في القسم الثاني: "وإن تكن إياه معنى اكتفى" فأما ما لم تكن هي نفس المبتدأ في المعنى فشرط فيها شرطا أتى به على مساق اللفظ فقال: (ويأتي جمله حاوية معنى الذي سيقت) فيريد أن هذه الجملة التي ليست للمبتدأ يشترط فيها أن تحتوي على معنى المبتدأ وهو الذي سيقت الجملة لأجله، فالضمير في "سيقت" عائد على الجملة، وفي "له" عائد على "الذي" ومدلول الذي هو المبتدأ، فإنها إن لم تكن تحتوي على معناه لم يصح وقوعها خبرا له؛ لعدم الربط بين المبتدأ والخبر. فإذا قلت: زيد عمر وأخوك، أو زيد عمر وقائم، لم يجز لعدم الرابط بخلاف ما إذا احتوت الجملة على المبتدأ من جهة المعنى، فإن الفائدة حاصلة لأجل الربط، والكلام صحيح نحو: زيد أبوه قائم أو زيد قام أبوه، وإذا ثبت هذا بقى النظر في مسائل أربع: إحداها: أنه أطلق الجملة ولم يقيدها باسمية دون فعلية، فدل ذلك على أنهما كلتيهما تقعان خبرا للمبتدأ وذلك صحيح، فمثال الاسمية قولك: زيد أبوه قائم، وزيد عمر وقاعد في داره، وبكر خالد قائم في حانوته وما أشبه ذلك. ومثال الفعلية قولك: زيد قام أبوه وعمر ولا يقوم، وبكر أكرمت عمرًا

من أجله، وما أشبه ذلك، وقد يدخل الناسخ على الجملة الاسمية كقولك: زيد إنه قائم، وعمر ووما هو قائما، وزيد لا أحد في داره، وقد تكون/ الجملة منفية كما تكون موجبة نحو: زيد لا هو قائم ولا عمرو، وزيد ما هو قائم، إذ لم يعمل "ما" على لغة بني تميم أو على لغة أهل الحجاز إذا فقد شرط الإعمال نحو: زيد ما هو إلا قائم، وزيد ما إن هو قائم، وزيد ما قائم هو وما أشبه ذلك، كما أن الفعلية أيضا تكون موجبة ومنفية نحو: زيد هرج ولا يخرج وزيد ما خرج، وكل واحدة من الجملتين على قسمين: قسم يكون فيه للمبتدأ لفظا ومعنى نحو: زيد هو قائم وزيد قام وقيم سكون فيه للمبتدأ لفظا ولما هو من سببه معنى نحو: زيد أبوه قائم وعمرو خرج أبوه، ويدخل الناسخ النفي كما تقدم، وكل هذا ينتظمه كلام الناظم. والثانية: أن اطلاقه ينتظم أيضا جواز وقوع الجملة خبرا، كانت خبرية أو طلبية ولا يتشرط فيها أن تكون محتملة للصدق والكذب، فأما الخبرية فما تقدم، والطلبية والإنشائية وإن لم تكن طلبية فتكون اسمية وفعلية، فالاسمية نحو: زيد ليته أخوك، وعمر ولعله قادم، والأسد لعله يأكلني، وبكر كأنه الأسد فالتشبيه هنا ليس بخبري ولكنه إنشائي، وزيد سلام عليه، وبكر ويح له وترب لفيه، والفعلية نحو: زيد اضربه، وعمر ولا تشتمه، وزيد لا يقصدك، وبكر هلا أكرمته، وزيد نعم الرجل، وعمر وبئس الغلام، وما أحسن زيدا، وزيد أكرم به، وزيد غفر الله له، وبكر اللهم اغفر له، وزيد عسى أن يحج، وزيد عساه يموت غدا، ويدخل الاستفهام على الجملة الخبرية فتصير طلبية نحو: زيد أهو قائم؟ وزيد أأبوه قائم، وزيد كيف هو؟ وزيد أين هو؟

وزيد متى قيامه؟ وزيد هل أكرمته؟ وزيد كيف وجدته؟ وزيد أين استقر؟ وما أشبه ذلك، فهذا كله مما يقع خبرا للمبتدأ بمقتضى إطلاقه، كما أنها تقع أخبارا إذا كانت غير إنشائية وهذا مذهب الجمهور. وذهب ابن الأنباري وابن السراج ومن وافقهما إلى أن الجملة الطلبية لا تقع خبرا للمبتدأ من حيث هي طلبية، وحجتهم في ذلك أن الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ مؤولة بالمفرد كما تقول: زيد أبوه قائم، فهو في تأويل زيد قائم الأب وكذلك زيد يقوم في تأويل زيد قائم، ولو حاولت تقدير الجملة الطلبية بمفرد لم يصح، لذهاب معنى الطلب إذا قدرت قولك: زيدا اضربه، بقولك: زيد مضروب، بخلاف الجملة الخبرية، فإن معناها لا يذهب بتصييرها بالتقدير إلى المفرد وما جاء مما ظاهره هذا فعلى إضمار القول، فالقائل زيد اضربه، هو على تقدير مقول فيه اضربه، كما يقدر القول في الجملة الواقعة صلة أو صفة إذا لم تكن خبرية كقوله وإني لرام نظره قبل التي ... لعلى وإن شطت نواها أزورها أي: قبل التي أقول من أجلها لعلى أزورها، وكذلك قول الآخر في الصفة:

*جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط* التقدير: جاءوا بمذق يقول من رآه: هل رأيت الذئب قط؟ والخبر والصفة والصلة يجرين مجرى واحدا، فلذلك يقدر القول مع ما جاء من الإخبار جملة غير خبرية، ورده المؤلف من وجهين: أحدهما: أن خبر المبتدأ لا خلاف في أن أصله أن يكون مفردا، والمفرد من حيث هو مفرد لا يحتمل الصدق/ والكذب، فالجملة الواقعة موقعه حقيقة بألا يشترط احتمالها للصدق والكذب؛ لأنها نائبة عما لا يحتملهما وما قاله المؤلف صحيح وأيضا لو اشترط في الجملة احتمالها للصدق والكذب للزم من ذلك أن تكون أيضا واقعة موقع ما لا يحتملهما؛ لأن المفرد لا يحتملهما، فالجملة إذا- وإن كانت خبرية- لا يصح تقديرها بالمفرد لذهاب معنى الخبرية واحتمال الصدق والكذب، فالحاصل أن الجملتين المحتملة وغير المحتملة بالنسبة إلى تقديرهما بالمفرد سواء، فما يلزم في إحداهما يلزم في الأخرى. والثاني: أن وقوع الخبر مفردا طلبيا ثابت باتفاق نحو: كيف أنت؟ فلا يمتنع ثبوته جملة طلبية بالقياس لو كان غير مسموع فكيف وهو مسموع كقول رجل من طييء: قلت من عيل صبره كيف يسلو ... صاليا نار لوعة وغرام

هذا ما قال، وفيه بحث ولكن فيه تقوية لمذهبه على الجملة وما زعموه من إضمار القول لا يستقيم معناه، لأن معنى زيد اضربه هو معنى اضرب زيدا من غير فرق، وأنت لو قلت: زيد مقول فيه اضربه لكان مخالفا لمعنى اضربه فقد أوقعهم هذا التقدير في مثل ما فروا منه، والخبر في هذا المعنى مخالف للصلة والصفة؛ إذ المعنى على تقدير القول فيهما مستقيم وموافق للمعنى المراد، وهو في الخبر مخالف للمعنى المراد، فلا قياس مع وجود الفارق، وغنما يصح تقدير القول في الخبر الذي وقع جملة طلبية في نحو قوله: *وكانت كليب خامري أم عامر* فهذا بلا شك على تقدير: كليب مقول فيهم هذا الكلام، لأن المعنى عليه لا على حقيقة الطلب؛ وأيضا إن احتجنا إلى التأويل فيمكن في الكلام غير ما ذكروه من إضمار القول وذلك وجهان:

أحدهما: أن الجملة في نحو زيد اضربه، وزيد هل ضربته؟ موضوعة موضع مفرد يفيد الأمر والاستفهام وإن لم ينطق به على ذلك المعنى استغناء عنه بهذا الذي نطق به وله نظائر كثيرة كالتعجب والنداء وما أشبههما. والثاني: أن أصل الخبر أن يكون بالمفرد، لأنه الذي أفاد بالتركيب، وأما الجملة فتقيد وحدها وإنما وقعت الجملة الخبرية موقع المفرد لأن تقديرها به لا يخل بالمطلوب، ووقع الإخبار بالجملة الاستفهامية حملا على الخبرية، وهذا التأويل لابن عبيدة وما قبله لابن أبي الربيع. والثالثة: أن إطلاقه يقتضي أن الجملة التي هي في الإنشاء والإخبار ذات وجهين وهي جملة القسم والجواب، وكذلك الشرط والجزاء، فإن كل واحدة من الجملتين مركبة من جملة محتملة للصدق والكذب، وأخرى لا تحتملها وإذا اجتمعا كانتا معا جملة واحدة محتملة للصدق والكذب، تقع كل واحدة منهما خبرا للمبتدأ مطلقا على الشرط المتقدم، وهو كونها حايوة معنى المبتدأ. فتقول في القسمية: زيد أمانة الله ليخرجن، وعمرو لعمر الله لاكرمنه، وزيد أقسمت إنه لكريم.

وتقول في الشرط والجزاء: زيد إن يكرمني أكرمه، وعمرو متى يأتني آته/ وما أشبه ذلك، وهذا رأى الجمهور وذكر عن ثعلب منع الإخبار بجلة/ قسمية فلا يجوز عنده زيد لأكرمنه، ولا زيد أقسم ليخرجن. قال المؤلف: وهذا ضعيف، إذ لا دليل عليه مع ورود الاستعمال بخلافه كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم} الآية وكذلك قوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} الآية، ومثله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا} - الآية وقوله: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. والرابعة: أن قوله: (حاوية معنى الذي سيقت له) يحتمل تفسيرين: أحدهما: خاص وهو أن يريد بذلك المعنى ما يشترطه غيره من اشتمال الجملة على ضمير يعود على المبتدأ فكأنه يقول: وجملة حاوية ضمير الذي سيقت له نحو: زيد قام أبوه وزيد أبوه قائم، وهذا هو الأصل وإن جاء في الجملة ما ليس بضمير وكان رابطا فهو قائم مقامه نحو قوله: {ولباس التقوى ذلك خير}، وما أشبه ذلك.

والثاني: عام، وهو أن يريد ما هو أعم من الضمير، إذ المقصود الربط بين الجملة والمبتدأ وذلك يحصل بالضمير وغيره ويصدق على الجميع أنه معنى المبتدأ، وجملة ما ذكروا من ذلك خمسة أشياء: أحدها: الضمير وقد ذكر. والثاني: اسم الإشارة نحو قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}، "أولئك" هو الرباط وكأن التقدير: كلها {كان عنه مسئولا}، وقوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة، والتقدير: ولباس التقوى هو خير. وقال تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار} الآية، وقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة} وما أشبه ذلك. والثالث: إعادة المبتدأ بلفظه كقوله تعالى {الحاقة ما الحاقة}، و {القارعة ما القارعة}، {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} {وأصحاب

الشمال ما أصحاب الشمال} وما أشبه ذلك، وأنشد سيبويه لسوادة بن عدي: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فالموت الثاني في موضع الضمير العائد على المبتدأ في الأصل، لأن أرى علمية، فالأصل الموت لا يسبقه شيء، ومنه عند طائفة قول توبة بن الحمير: فأما الصدور لا صدور لجعفر ... ولكن أعجازا شديدا ضريرها وقال الآخر- أنشده الفارسي-:

فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيرا في عراض المواكب وقال الآخر: ألا ليت شعري هل إلى أم مالك ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا وهذا عند طائفة من النوع الذي بعده، كما أن من الذي نحن فيه قولهم: أما العبيد فذو عبيد، وأما ابن مزنية فابن مزنية، وأما عبدان فذو عبدين، وما أشبه ذلك. والرابع: الاسم الذي يعم ما تقدم وغيره ومثلوه بقولهم: زيد نعم الرجل، / وعمر وبئس الغلام، ومنه قوله تعالى: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}، ويحتمل أن يكون منه قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}، فالرجل في نعم والغلام في بئس يعم المبتدأ وغيره، فحصل الربط بسبب تناوله له، وكذلك "المصلحين" و "من أحسن" في الآيتين. والخامس: إعادة الأول بمعناه لا بلفظه نحو: زيد قام أبو عبد الله،

ويذكر هذا عن الأخفش، واستدل على ذلك بقول الشاعر: إذا المرء لم يخش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا فالمعنى أوشكت حبال الهوينا به أن تقطع، فوضع الفتى موضعه. ورد عليه الشلوبين بأن البيت شرط وجزاء. ولا يلزم أن يعود من جملة الجزاء إلى جملة الشرط ضمير، كما يلزم ذلك في الخبر. واستشهاد الأخفش صحيح لأنه إنما استشهد بوقوع الأول بمعناه حيث يقع الضمير، فـ "الفتى"- في شاهده- موضوع موضع الضمير بلابد، وإذا ساغ ذلك على الجملة فليسغ حيث يفتقر إلى الربط، وإنما الرد عليه بأمر آخر. أنا ذاكره على إثر هذا بحول الله. فهذه خمسة أوجه تضمنها قول الناظم: (حاوية معنى الذي سيقت له) فإن قيل: أي التفسيرين أولى أن يحمل عليه كلامه؟ فالجواب: إنه محتمل لهما معا، لكن الثاني أقرب إلى معنى كلامه لقوله: (حاوية معنى الذي سيقت له) وهذا الكلام لا يعين الضمير من غيره، ولأن مذهبه في غير هذا النظم أن غير الضمير مما تقدم يجري مجراه في الربط، وأيضا، فهو أعم لجمعه لما ذكر غيره من وجوه الربط، فأما في النظر

الأصح فالتفسير الأول أولى وذلك أن ما عدا الضمير لا يتخلص فيه قياس يطرد كاطراد الضمير، ولا ما يقاربه وإن اتفق ذلك فيقيد لا مطلقا، والناظم قد قال: (حاوية معنى الطي سيقت له) بعد قوله: (ويأتي جمله) وهذا يقتضي إجراء القياس بإطلاق وليس كذلك. فأما اسم الإشارة فإنه يلزم من القول بالقياس فيه أن يقال: زيد قام هذا أو ذاك، والزيدون خرج أولئك، وتجويز مثل هذا صعب جدا، وقد منعه ابن الحاج. وأما قوله تعالى: {ولباس التقوى ذلك خير} فذلك المتقدم ضعيف عند النحويين، وقد حمل الزجاج الآية على غير هذا الوجه، وضعف هذا الوجه فأجاز فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ذلك تابعا لـ "لباس التقوى" وخير خبر اللباس، وهو رأي الفراء. والثاني: أن يكون "لباس التقوى" خبر ابتداء مضمر كأنه قال: وستر العورة لباس المتقين. والثالث: هو ذلك الضعيف وأيضا إن سلم اطراده فيما تقدم من قيامه مقام الضمير، فليس ذلك في كل موضع وعلى كل حال. فأكثر ما ورد ذلك إذا طال المبتدأ بصلة أو صفة أو نحو ذلك، فيحتاج إذ ذاك إلى إعادة لفظ المبتدأ بلفظ الإشارة المستعمل للبعد كذلك، وأولئك إذ له موقع/ ليس للضمير، لأنه ليس في الضمير دلالة على البعد، ومن ذلك الآيات المستشهد بها.

وأما إعادة المبتدأ بلفظه فضعيف في الكلام، وقد نص على ذلك سيبويه في باب "ما"، قال فيه: وتقول: ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد الرفع أجود وإن كان يريد الأول، لأنك لو قلت: كان زيد منطلقا زيد، لم يكن حد الكلام، وكان هاهنا ضعيفا، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقا هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره. ألا ترى أنك لو قلت: ما زيد منطلقا أبو زيد لم يكن كقولك: ما زيد منطلقا أبوه، لأنك قد استغنيت عن إظهاره قال: فلما كان هذا كذلك أجرى مجرى الأجنبي واستؤنف على حياله حيث كان ضعيفا قال: وقد يجوز أن تنصب ثم أنشد: *لا أرى الموت يسبق الموت شيء* وقول الجعدي: *إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها ... البيت* ثم قال: والرفع الوجه، هذا كلامه منبئا عن ضعفه وقلته، وقد قال الأعلم: إنه قبيح وإنما يجيء في الشعر، وأيضا لو سلم قياسه فليس في كل موضع، بل إنما يحسن ويطرد في موضعين.

أحدهما: باب أما العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد وما أشبه ذلك، على أنه لا يتعين فيه وضع الظاهر موضع المضمر لإمكان أن يكون المعنى، أما العبيد فأنا ذو عبيد منهم أو فيهم، أو تجعل العبيد الثاني بعض الأول والمعنى أما العبيد فبعضهم لك، وقد قرر ذلك المعنى سيبويه، وشرحه ابن خروف فلا يتعين هذا الموضع أن يكون من ذلك القبيل. والثاني: حيث يقصد التهويل والتعظيم بتكرار الأول كقوله: {الحاقة ما الحاقة}، و {القارعة ما القارعة}، ونحو ذلك مما يحسن معه تكرار الأول، وذلك ليس في كل موضع، بل له مقاصد التلذذ بذكر المذكور نحو قوله: *ألا حبذا هند وأرض بها هند* وما أشبه ذلك كما أنه قد تأتى مواضع ينعكس الأمر فيقبح ذكره جملة فضلا عن تكراره ولاشك أن الغالب استقباح التكرار، فلذلك كان ضعيفا على الجملة ومقاصد التكرار معدودة بخلاف مقاصد عدمه، فإنها لا تنحصر وأيضا فإن من شرط التكرار فهم كون الثاني هو الأول لئلا يلتبس. قال ابن خروف: لا يقع الظاهر موقع المضمر حتى يعلم أنه المضمر من

اللفظ أو من المعنى وهذا صحيح، فأين اشتراط الناظم ذلك؟ وأما الاسم العام فإن الناس وإن قالوا ذلك في نحو: زيد نعم الرجل، كالفارسي ومن سواه، فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يقولوه مع الوقوف فيه مع السماع فيكون توجيها للمسموع فهذا قريب إلا أن من أراد دخوله تحت قياس، وأن العموم على الإطلاق يغني عن الرابط، لزمه أن يجيز زيد الرجل أفضل من المرأة، لأنه في معنى: زيد جنسه أفضل من جنس المرأة، فالرجل يدخل تحته زيد وغيره، وكذلك قولك: زيد الكاتب ما أحسن الكاتب، تريد بالثاني الجنس، وأمثلة هذه كثيرة. ويلزمه أيضا أن يقول: زيد نعم الرجال، وهند نعمت النساء، وهذا كله غير جائز، وأما إن أرادوا أنه قياس على الإطلاق أعني الفارسي. ومن قال بقوله: لزمهم ما لزم هؤلاء، وإنما الرابط/ هنا أمر آخر لا حاجة إلى ذكره هنا، فإن احتج على قياس ذلك بقوله: "والذين يمسكون بالكتاب" الآية، فلا دليل فيه لاحتمال أن يكون المراد: إنا لا نضيع اجر المصلحين منهم. قال ابن الحاج: عليه المعنى لأنه لا يريد في الثاني العموم ولكن يفيد الإيمان والتمسك بالكتاب. قال: ويجوز أن يكون من إعادة الأول ولكن بغير لفظه وجاز ذلك، وإن لم يجز زيد قام أبو عمرو وأبو عمرو كنيته لأنه ليس في لفظ زيد ولا في لفظ أبي عمرو ما يعطي أنهما لمسمى واحد بخلاف ما تقدم، والقول في الآية الأخرى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع} الآية كالقول في هذه الآية

من غير فرق، وهو معنى كلام الزجاج. قال ابن الحاج: وهو عندي حسن جدا. قال وفي آية الكهف وجه ثالث وهو: أن يكون الخبر: {أولئك لهم جنات عدن}، وجملة: "إنا لا نضيع" اعتراض، وأما قولهم: *فأما القتال لا قتال لديكم* وبابه فلا يتعين فيه ما تقدم: لاحتمال أن يكون من باب حذف المسبب وإبقاء السبب كأنه قال: فأما كذا فليس عندك لأنه ليس بشيء موجود، ولذلك جاء هذا الباب مع إما بغير فاء، وقد جاء بغير إما نحو قول الزبير بن عبد المطلب- عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: - أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فتطلبينه وإن سلم أنه من هذا الباب فهو باب مخصوص، لا يصح القياس عليه كما تقدم في زيد نعم الرجل، فلا ينبغي أن يطلق القول فيه سواء أكان من هذا النوع أم مما قبله. وأما إعادة الأول بمعناه فهو مذهب الأخفش وقد خولف فيه، إذ ليس ثم ما بين أن الثاني هو الأول إذا قلت: زيد قام أبو عمرو فصار كالأجنبي، فلم يجز ذلك، كما لم يجز زيد قام عمرو، ولو سلم ذلك فهو من

الندور بمكان ومنه على رأي الزجاج قوله تعالى: {والذين يمسكون بالكتاب} وآيتا الكهف المذكورتان قبل، فلا ينبغي أن يبنى على مثل ذلك قياس، فقد تبين أن التفسير الأول من التفسيرين المذكورين في كلام الناظم أولى، إذ من عادته عدم الاعتماد على ما قل مما خالف المشهور في الكلام إلا أن لفظه لا يعينه حتى يقول: إنما أراد بقوله: (حاوية معنى الذي سيقت له) الضمير خاصة، وهذا قريب، وهو أقرب من تكلف القول بالقياس في جميع ما تقدم، مع ما فيه من الشغب والإشكال والاعتراض الذي يصعب الانفصال عنه والله أعلم. هذا تمام الكلام في القسم الأول من قسمي الجملة الواقعة خبرا. وأما الجملة التي هي نفس المبتدأ في المعنى فلم يشترط فيها ما اشترط في الأخرى، بل قال: (وإن تكن إياه معنى اكتفى بها) فضمير تكن عائد على الجملة وكذلك ضمير بها، وضمير إياه عائد على المبتدأ، وكذلك ضمير اكتفى وهي أن الجملة إذا كانت هي نفس المبتدأ في المعنى اكتفى المبتدأ بها في الربط؛ لوضوح الارتباط بينهما، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي": "لا إله إلا الله" جعلوا

المبتدأ بعينه الخبر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها لبيد: *ألا كل شيء ما خلا الله باطل* وبهذا النوع مثل الناظم وهو: (نطقي الله/ حسبي وكفى) فالله حسبي وكفى، هو نفس النطق، أي: المنطوق به، ومثله قولهم: أول قولي: إني أحمد الله- بكسر "إن"- ومن هذا الجملة المخبر بها عن ضمير الأمر والشأن نحو: إنه أخوك منطلق، وهو زيد قائم، ومنه في القرآن الكريم: {قل هو الله أحد ... } إلى آخره، وقوله {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا .. } الآية. وقال: {فإنها لا تعمي الأبصار}، ويأتي اسم "إن" و "ما" و "كان" و "كاد" وأول مفعولي "ظن" وفي الجميع الخبر هو نفس المبتدأ. فإذا قلت: هو زيد قائم، كان في معنى القصة هذه أو الأمر هذا، فالحقيقة هي في هذه الجملة أنها في قوة مفرد غير مشتق وقع خبرا للمبتدأ، ولما كان المفرد الجامد لا يفتقر إلى ضمير لتعذر تحمله له، ولأنه هو الأول في المعنى واكتفى بذكر الربط المعنوي على الرابط كان ما هو بمعناه بمنزلته، ولا يلزم على هذا الجملة

المتضمنة لمعنى الأول، لأنها بمنزلة المشتق أبدا، وبه تقدر لا بالجامد. *** ثم ذكر القسم الثاني من أقسام الخبر المفرد المحض فقال: والمفرد الجامد فارغ وإن ... يشتق فهو ذو ضمير مستكن وأبرزنه مطلقا حيث تلا ... ما ليس معناه له محصلا فقسم المفرد قسمين: جامد ومشتق، فالجامد ما لم يشعر بمعنى الفعل الموافق له في المادة بالنظر إلى القياس الاستعمالي. فإذا قلت: رجل أو فرس أو زيد أو زينب، فهذه الأسماء لا تشعر بمعنى الفعل الموافق لها في المادة، فلم يدل رجل على معنى قولك: رجلته رجلا إذا ضربت رجله، أو رجل البهمة أمه إذا رضعها أو نحو ذلك، وكذلك فرس لم يدل على معنى فرس الأسد فريسته، أي: كسرها ولا نحو ذلك وكذلك ما ذكر معه وإنما قيل بالنظر إلى الاستعمال؛ لأنه قد يشعر الاسم بمعنى الفعل الموافق له لكنه لا بحسب القياس الاستعمالي، بل بحسب القياس الأصلي كصاحب فإنه يشعر بمعنى صحب إلا أنه تنوسي ذلك فيه بحسب الاستعمال، ولذلك لا تقول: مررت برجل صاحب أخوه، وكذلك ما أشبهه فهو عندهم من قبيل الجوامد. والمشتق: بخلافه وهو المشعر بمعنى الفعل الموافق له في المادة بالنظر إلى القياس الاستعمالي كضارب، الدال على معنى ضرب، والقائم الدال على معنى قام، والمستكبر الدال على معنى استكبر وما أشبه ذلك، وإنما قيل:

المشعر بمعنى الفعل الموافق له في المادة تحرزا من أسد إذا استعمل بمعنى شجاع، وحمار إذا استعمل بمعنى بليد، وما أشبه ذلك؛ فإنها من هذا الاستعمال مشعرة بمعنى الفعل لكن بمعنى فعل غير موافق في المادة كأسد مع شجع وحمار مع بلد بلادة فليست بمشتقة، وإنما وضعت موضع المشتق، وكذلك الأسماء الأعلام التي ينتزع منها معنى الأوصاف كالذي أنشد الفارسي من قول الشاعر: *أنا أبو المنهال بعض الأحيان* وقول الطائي: فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند فـ "أبو المنهال" في معنى النجدة أو المغنى، وفي "هند" معنى غادرة لا على حذف مثل، بل على تضمين لمعنى، وتأمل طريقة الفارسي وابن جني في ذلك في "الخصائص" فهذه الأسماء كلها جوامد إذ لم تشعر بمعنى الفعل الموافق لها. وهذا الاشتقاق الذي أراد هو أخص وجوه الاشتقاق، إذ هو على مراتب لا حاجة إلى ذكرها هنا ولها موضع غير هذا. وفي إطلاق لفظ الجامد على ما ليس بمشتق مشاحة اصطلاحية، وذلك أن الجامد إنما وجه العبارة فيه أن يطلق في مقابلة المشتق ما ليس بمشتق لا الجامد،

إذ الجامد من الأسماء إنما يطلق في الحقيقة على ما يمكن أن يدل على معنى الفعل الموافق له في المادة فلم يدل كرجل وفرس وحمار وقتب ورحل وكاهل وما أشبه ذلك. أما ما لا قابلية فيه البتة للاشتقاق ولا لدعواه فيه فلا يسمى جامدا كالضمائر والموصولات وأسماء الإشارة والأسماء الأعجمية، ونظير هذا لفظ المنصرف إنما يطلق عند المحققين على ما يمكن فيه منع الصرف فلم يمنع كزيد وعمرو، وأما ما كان نحو المسلمين وغلامك والرجل ونحو ذلك فلا يسمى منصرفا، ولعل بيان هذا يأتي في موضعه إن شاء الله. فإذا ثبت هذا فالجامد يجري فيه هذا النحو، وإنما جرى في هذا التعبير على عادة غيره ممن لم يحرر العبارة فأطلق على الضمائر وغيرها مما تقدم لفظ الجمود توسعا وعدم مبالاة بالعبارة مع فهم المعنى المراد. والمفرد في كلامه أراد به ما ليس بجملة من الأخبار كان مثنى أو مجموعا مضافا أو غير مضاف فزيد أخوك، والزيدان ضاربان، وهؤلاء الزيدون وما أشبه ذلك مفردات في هذا الإطلاق، إذ يطلق المفرد ويراد به هذا المعنى، ويطلق أيضا ويراد به معنى آخر كما سيأتي إن شاء الله. ويدخل تحت هذا المفرد كل نوع ذكره من أنواع الأعلام المنقولة كبرق نحره ومعدي كرب وغيرهما، فإنها بهذا الإطلاق مفردات لا جمل، وكذلك الموصولات مفردات أيضا؛ لأن الجميع بمنزلة زيد وعمرو ومراد الناظم بهذا الكلام أن المفرد إما أن يكون جامدا أو مشتقا، فإن كان جامدا فهو فارغ من ضمير عائد على المبتدأ؛ لأن ما لا يشعر بمعنى الفعل لا يقبل تحمل الضمير، إذ أصل ذلك للفعل وحده، وإذا جرى الاسم مجرى الفعل في الدلالة على معناه، تحمل ما لا يتحمله، وإلا فلا.

والذي ذكر هنا هو مذهب لجمهور البصريين. وذهب الكوفيون والرماني من البصريين إلى أن الجامد يتحمل ضميرا أيضا مطلقا. كان مؤولا بمشتق أولا، ونسبه المؤلف في "الشرح" إلى الكسائي وحده. قال: وهذا القول وإن كان مشهورا انتسابه إلى الكسائي دون تقييد، ففي إطلاقه استبعاد لتجرده عن الدليل قال: والأشبه أن يكون الكسائي قد حكم بذلك لجامد عرف لمسماه معنى لازم كالإقدام والقوة للأسد والحرارة والحمرة للنار. قال: فإن ثبت هذا المذكور فقد هان المحذور وأمكن أن يقال معذور، وإلا فضعف رأيه في ذلك بين، واجتنابه متعين. انتهى كلامه. والذي حكي ابن الأنباري عن/ الكوفيين القول بالضمير مطلقا، لكن أدلتهم تشعر بأن مرادهم كل جامد مؤول بمشتق، فأخوك بمعنى قريبك، وغلامك بمعنى خادمك، والتأويل بالمشتق يوجب تحمل الضمير كأسد بمعنى شجاع إذا قلت: زيد أسد، فكذلك زيد أخوك أو غلامك. وأما البصريون فعمدتهم أن الاسم لا يتحمل الضمير إلا بالحمل

على الفعل لمشابهته له وتضمنه معناه بدليل عمله عمله، فـ "زيد ضارب" في معنى زيد يضرب، ولاشك أن الفعل فيه ضمير هو فاعله، فكذلك ضارب وما أشبهه، بخلاف الأخ ونحوه، فإنه لا معنى للفعل فيه ولا مشابهة بدليل أنه لا يعمل عمله البتة، ولم نحكم على أسد أنه يتحمل ضميرا في: زيد أسد إلا بعد أن رأينا العرب عاملته معاملة الفعل، فرفعت به الظاهر حين قالت: مررت برجل أسد أبوه، كما قالت: ضارب أبوه، ولولا ذلك لم ندع أنها تتحمل ضميرا البتة، فالكوفيون متفرقون إلى سماع من العرب يبين أن الجامد المحض يتحمل الضمير، وذلك بأن يجدوا مثل مررت برجل أخ أبوه، وصاحبك أخوه، ومررت برجل أبي عبد الله غلامه، وهذا غير جائز البتة، فكذلك لا يجوز رفعه للمضمر، وأيضا لو تحمل ضميرا لكان من جملة العوامل التي ترفع وتنصب، ويتعلق بها الظرف والمجرور، وليس الأمر كذلك، فدل على خلاف ما ذهبوا إليه. وإن كان المفرد الواقع خبرا مشتقا فلابد فيه من الضمير يعود على المبتدأ وذلك قوله: (وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن) أي: وإن يكن مشتقا فهو متحمل لضمير مستتر فيه، ولم يبين حكم هذا الضمير أهو لضرورة الربط بين الخبر والمبتدأ، أم لأجل اشتقاقه؟ إذ من الضرورة الصفات المشتقة جريانها مجرى فعلها الموافق لها في المادة، والربط حاصل بغير ذلك، لأن الثاني هو الأول فلم يحتج إلى رابط، كما لم يحتج إليه في الخبر الجامد، والاحتمال الأول هو الذي يظهر من أكثر المتأخرين، والثاني هو

الظاهر من كلام ابن خروف، وكل واحد من الاحتمالين يمكن أن يقال به، فلذلك- والله أعلم- لم يحتم بأحد الوجهين: وقوله: (ذو ضمير) ظاهره أنه يريد ضميرا واحدا لا أكثر من ذلك، وهو مذهب البصريين، وحكى ابن عصفور في باب "كان" من "شرح الإيضاح". عن الكوفيين أن ضمير الخبر هنا إن قدر صفة خلفت موصوفها وكان نكرة فلابد من ضميرين: ضمير للموصوف وآخر للمخبر عنه، وإن لم تقدر الموصوف فضمير واحد للمخبر، وإن كان معرفة بالألف واللام وقدرت الموصوف بثلاثة ضمائر، وإلا فضميران، فالزائد الألف واللام ورده بأن الموصوف إن قدر فهو الخبر. وإن قلنا: إن الجامد لا ضمير فيه فظاهر أو قلنا: إن فيه ضميرا في الصفة ضمير للمخبر عنه على كل تقدير، وإن لم تقدم موصوفا فظاهر، وأما الألف واللام فالمشتق معها كالصلة مع الموصول فهي الخبر وهي اسم جامد، والمشتق من كاملها فلا يحتاج إلى ضمير يعود على المخبر عنه وضمير المشتق عائد عليها ولا يقدر معها موصوف لصحة مباشرتها للعوامل/ فصح ألا ضمير في المشتق إلا واحد بإطلاق كذا قال ابن عصفور. ووصفه الضمير بأن مستكن وهو المستتر يقال: اكتن الشيء واستكن بمعنى: استتر

واستخفى، إعلام بأن هذا شأنه وأصله، وكذلك هو فإنه لا يظهر الضمير في الصفة في تثنية ولا جمع ولا تأنيث. فإذا قلت: الزيدان قائمان، فالضمير في قائمان مستتر، وإنما الألف علامة التثنية كالتي في رجلان، وكذلك في قائمون وما أشبه ذلك، فلا يظهر البتة إلا فيما استثنى على إثر هذا وذلك قوله: (وابرزنه مطلقا حيث تلا) إلى آخره ضمير (أبرزنه) عائد على الضمير المستكن، وضمير (تلا) عائد على المشتق و (ما) بمعنى الذي وهي واقعة على الاسم المتقدم الذي جرت عليه الصفة وهو المبتدأ في مسألتنا و (تلا) بمعنى تبع، وضمير (معناه) عائد على المشتق، وفي (له) عائد على (ما)، التقدير: وأبرز الضمير حيث تبع المشتق الاسم الذي ليس معنى المشتق له محصلا. والمعنى أن الاسم المشتق إذا جرى خبرا على غير من هو له من جهة المعنى وجب إبراز الضمير (ولم يستتر فإذا قلت زيد هند ضاربها هو وجب إبراز الضمير) الذي في ضارب، لأن معناه: لزيد وهو جار في اللفظ على هند، فليس معناه حاصلا لها فيبرز الضمير فتقول): هند زيد ضاربها، وإنما أبرز لإزالة ما يؤدى إليه عدم إبرازه من الالتباس، لأنك لو قلت: زيد أخوك ضاربه، وجعلت الضارب لزيد ولم تبرز الضمير لأدى ذلك إلى أن يسبق لفهم السامع أنه

للأخ لا لزيد، وكان ذلك ملبسا، فإذا أبرزته فقلت: زيد أخوك ضاربه هو زال الالتباس، ثم إن العرب أجرت في هذه القاعدة مالا لبس فيه على ما فيه اللبس، فأبرز فيه الضمير نحو: زيد هند ضاربها هو، وهند زيد ضاربته هي، وزيد الهندان ضاربهما هو، والزيدان هند ضارباها هما وزيد، والهندات ضاربهن هو، وهند الزيدون ضاربتهم هي وما أشبه ذلك، فاللبس هاهنا مرتفع ولكن أبرزوا الضمير ليجرى الباب كله مجرى واحدا هذا معنى قوله: "مطلقا" أي: أبرزه إذا تبع ما ليس معناه له على كل حال وهو أحد التفسيرين المحتملين فيه فكأنه يقول: لا تراع اللبس، وإنما تراعى عدم جريانه على صاحبه، وهو مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن اللبس إذا فقد لم يجب إبراز الضمير، لأن العلة لإبرازه هو اللبس، فإذا زال فالواجب الرجوع إلى الأصل، وإلى مذهبهم ذهب المؤلف في "التسهيل" وشرحه، ودليلهم السماع والقياس، فالقياس ما تقدم،

وأما السماع فأنشد الكوفيون: وإن امرأ أسرى إليك ودونه ... من الأرض موماة وبيداء سملق لمحقوقة أن تستجيبي دعاءه ... وأن تعلمي أن المعاني موفق وأنشد أيضا: ترى أرباقهم متقلديها ... كما صدئ الحديد على الكماة وأنشد المؤلف أيضا: قومي ذري المجد بانوها وقد علمت ... بكنه ذلك عدنان وقحطان وهذا عند البصريين نادر، والنوادر لا عبرة بها، ولا ينبني عليها حكم لذلك لم ير الناظم ترك إبراز الضمير إذا ارتفع اللبس، هذا أحد التفسيرين في قوله: (مطلقا). والتفسير الثاني: أن يريد عدم الاختصاص/ بالمبتدأ والخبر، بل أراد أن هذا الحكم جار في كل صفة تلت ما ليس معناها له كانت خبرا لمبتدأ، أو صفة لموصوف، أو حالا من ذي حال، كما لو قلت

مررت برجل ضاربه أنا، فإن معنى ضارب ليس لرجل، بل لضمير المتكلم، فجرى على رجل وليس معناه له، فلزم إبراز الضمير وكذلك إذا قلت خرج زيد ضاربه أنا، وجاء زيد معترضا له أنا، وما أشبه ذلك، فالإبراز لا يختص بجريان المشتق على المبتدأ خبرا له. والخلاف المذكور منقول في الجميع، فالمسألة واحدة والنظر فيها واحد. فإن قلت: إن حملت الإطلاق على هذا التفسير لزم أمران: أحدهما: بقاء المسألة الأولى في التفسير الأول غير منبه عليها وذلك إخلال في مقصوده فيها. والثاني: أن موضع كلامه هو الخبر، فقوله: (حيث تلا) يعني به الخبر وإذا عنى به الخبر لم يصح دخول الصفة والحال إلا من جهة القياس، لا من اللفظ، ولفظ الإطلاق إنما يفيد فيما هو داخل تحت دلالة اللفظ لا فيما هو خارج عن ذلك، فإذا لا يصح حمل الإطلاق إلا على التفسير الأول، ويبقى حكم الصفة والحال مسكوتا عنه فهذا أولى من حمل الكلام على ما لايسوغ. فالجواب: أن المسألة الأولى داخلة له من حيث لم يقيد الحكم باللبس وأنه علقه على مجرد الجريان على غير من المشتق له. وأما الثانية: فإن الضمير في "تلا" ليس عائدا على الخبر من حيث هو خبر، وإنما عاد على ما لا يصلح أن يكون خبرا، وذلك أن جميع الضمائر في "تلا" وفي "يشتق" و "فهو" عائدة على المفرد المذكور في قوله:

(والمفرد الجامد فارغ) وذلك المفرد إنما تكلم فيه من حيث يصلح أن يقع خبرا لا من حيث هو خبر في الواقع فكأنه يقول: المفرد الصالح للخبرية منه جامد ولا يحتاج إلى ضمير، يعني إن وقع خبرا. ومشتق ولابد فيه من ضمير، ثم ذلك الضمير مستتر لا يظهر إلا إذا جرى صاحبه المتحمل له على غير من هو له فإنه يبرز، فقد حصل في هذا الإطلاق حكمه إذا وقع خبرا وغير خبر، لأن الجريان والتبعية غير خاصة بما هو خبر، دون الصفة والحال، وهذا ظاهر، وبعد فعلى الناظم هنا الإشكال من أوجه ستة: أحدها أن ما جرى من الجوامد مجرى المشتقات يقتضى كلامه أنها لا تتحمل ضمائر، لقوله: (والمفرد الجامد فارغ) والجامد- وإن جرى مجرى المشتق- لا يكون مشتقا لأن حد الجامد يتضمنه دون حد المشتق، واعرض ذلك على حدودهما فإنك تجد الجامد الجاري مجرى المشتق لا يؤدي بنفسه معنى الفعل الموافق له في المادة، وإنما يؤدي معنى فعل آخر من جهة تضمينه معناه وتنزيله منزلته، وهذا الاقتضاء غير صحيح، بل هي متحملة لضمائر كالصفات المشتقة لكونها في معناها، وذلك ستة أنواع: أحدها: المنسوب نحو تميمي وقرشي، فإنه يتحمل ضميرا مثل المشتق ويوصف به، ويرفع الظاهر، ويبرز ضميره، فتقول: مررت برجل قرشي أبوه، وأتميمي أبواك؟ وما قرشي هنا. والثاني: ما كان نحو: عرب وعرفج وخز في قولهم: مررت بقوم عرب أجمعون فعرب فيه ضمير جرى عليه أجمعون توكيدا، وكذلك مررت بقاع

عرفج كله، وكذلك قالوا/ مررت بسرج خز صفته، ومررت بصحيفة طين خاتمها، وما أشبه ذلك رفعوا الظاهر بهذه الأسماء إجراء لها مجرى المشتق. والثالث: العلم المنزل منزلة المشتق نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، وزيد زهير، وعمرو حاتم، وهو كثير، ففيه ضمير أيضا. والرابع: المصدر المنزل منزلته نحو: ما أنت إلا سير، وزيد صوم وفطر ونحو ذلك. والخامس: اسم الجنس المنزل منزلته أيضا نحو: زيد أسد وزيد حمار وشبه ذلك، وهذه الثلاثة الأخيرة تتأول على وجهين: على أن تكون على حذف المضاف كأنه قال: أبو يوسف مثل أبي حنيفة وزيد مثل زهير ومثل الأسد وما أنت إلا ذو سير وذو صوم وفطر، وعلى أن يكون الثاني هو الأول مبالغة، أي: يغني غناه ويسد مسده، والمعنى زيد عالم وشاعر وكريم وما أشبه ذلك، وقد يتأول العلم بالمشتق لا على حذف المضاف، لكن على ما تقدم التنبيه عليه في قوله: *أنا أبو المنهال بعض الأحيان* وقوله: * ... كل غانية هند*

وعلى هذا الوجه الثاني من التأويل ينهض الاعتراض لا على الأول. والسادس: الخماسي من الصفات نحو: همرجل وشمردل وجحمرش وخبعثن وقذعمل وجردحل، وما أشبه ذلك، فإنها صفات تتحمل الضمائر كسائر الصفات فما وقع منها خبرا للمبتدأ فهو ذو ضمير مستكن مع أنها غير مشتقة، لأنها خماسية الأصول والخماسي لا يدخله اشتقاق البتة حسن ما تقرر في عمله، فليس بداخل تحت ترجمة المشتق، فهذه الأنواع جامدة مع أنها ذوات ضمائر من غير إشكال وكلامه يقتضى أنها فارغة منها، وفي ذلك من الإشكال ما فيه. والإشكال الثاني: أن الضمير في قوله: (وإن يشتق) إما أن يعود على المفرد غير مقيد بكونه جامدا، وإما أن يعود على المفرد بقيده المذكور، أما الأول فلا يصح، لأن سيبويه وغيره من الأئمة قد نصوا على أن الصفة مع الموصوف بمنزلة الاسم الواحد، لان الصفة مبينة للموصوف فهو من تمامه، كما أن الصلة من تمام الموصول، فكما أن الذي قام بمنزلة زيد كذلك الرجل القائم بمنزلة زيد، وذلك كان إعراب الصفة كإعراب الموصوف، فإذا عاد الضمير عليه فلا يعود عليه إلا من جهة ما هو معروف، وليس بمعروف إلا مع صفته تحقيقا أو تنزيلا فقول من يقول من الشيوخ المتأخرين بأن الضمير يجوز عوده على الموصوف دون صفته ويفرعون على ذلك بحوثا ومسائل فروعية وأصولية خطأ، وإنما يسأل عن كل علم أربابه، فإذا تقرر هذا تعين الثاني وهو أن يكون الضمير في "يشتق" عائدا على المفرد بقيد كونه جامدا، وعند ذلك يتهافت الكلام فكأنه قال: وإن كان المفرد الجامد مشتقا فهو كذا، والجامد لا يكون مشتقا أبدًا، كما

أن المشتق من جهة ما هو مشتق لا يكون جامدا أبدا، فهذا كلام في ظاهره غير صحيح. والإشكال الثالث: أنه حكم على المشتق بأن فيه ضميرا مطلقا/ لكنه يستكن إذا جرى على من هو له، ويبرز حيث يجرى على غير من هو له، وهذا إنما يصدق على بعض الأخبار لا على جميعها، إذ الخبر على قسمين: أعنى المفرد المشتق: أحدهما: أن يكون للمبتدأ لفظا ومعنى نحو: زيد قائم وعمرو خارج، فهذا هو الذي فيه يستكن ضميره مطلقا قال. والثاني: أن يكون للمبتدأ لفظا ولما هو من سببه معنى وهذا على ضربين: ضرب يكون مرفوعه ضميرا فهو الذي يبرز ولا يستكن، إذ الخبر جار على غير من هو له نحو: زيد [سائر] أنت إليه. وضرب: يكون مرفوعه ظاهرا نحو: زيد قائم أبوه، وعمرو سائر أبوك إليه فهذا غير محتمل لضمير البتة فكيف يطلق القول بأن يكون كل مشتق ذو ضمير؟ هذا غير مطرد، بل منه ما هو ذو ضمير، ومنه ما ليس كذلك، إلا أنه إذا لم يكن فيه ضمير لزم أن يعود من بعض متعلقاته ضمير يربط بين المبتدأ وخبره نحو: زيد قائم أبوه، وعمرو سائر بكر إليه، وزيد سائر الذي أكرمه وما أشبه ذلك،

وكذلك إذا كان فيه ضمير يلزم إبرازه لجريانه على غير من هو له نحو: زيد هند ضاربها هو، وزيد ضاربه أنا أو أنت، وعند هذا يلزم الإشكال الرابع وهو أن قوله: (فهو ذو ضمير مستكن) إما أن يريد أنه كذلك من غير تعرض إلى كونه عائدا على الاسم الذي جرى عليه وهو- هاهنا- المبتدأ أو غير عائد عليه، واما أن يريد أنه ذو ضمير عائد على المبتدأ، فإن كان مراده الأول فقد فاته مقصود المسألة وهو التنبيه على أن المفرد المشتق لابد من ضمير يعود منه على المبتدأ ويخف الخطب إذا كان المشتق للأول لفظا ومعنى، إذ قد يقال: إنه لا يحتاج إلى عائد بخلاف ما إذا جرى على الأول لفظا لا معنى، فإنه لابد من ضمير من الخبر يعود على المبتدأ ضرورة، لتحصيل الارتباط بينهما، وإن أراد أنه ذو ضمير عائد على المبتدأ وهو الظاهر من قصده وقصد غيره، فذلك إنما يصدق على ما إذا كان الخبر للمبتدأ لفظا ومعنى، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يصدق عليه البتة؛ إذ ليس الضمير الذي في الخبر عائد (على مبتدئه، ولو كان عائدا عليه لكان من القسم الأول الذي هو للمبتدأ لفظا ومعنى، وإذا ثبت هذا فقوله: (وأبرزنه مطلقا) عائد على الضمير في قوله: (ذو ضمير مستكن) وقد فرضنا أنه أراد به العائد على المبتدأ، فلابد أن يكون البارز على قوله: هو العائد على المبتدأ، وهذا غير صحيح كما تبين، ولا يقال: إن الخبر إذا رفع الظاهر من قبيل الجمل أو داخل مدخلها، والناظم إنما تكلم في المفردات المحضة لأنا نقول: هو من قبيل المفردات، كما كان

الموصول مع صلته منها، ولذلك عملت فيه العوامل (فانتصب) بكان وبالظن وبما وأخواتها وسائر العوامل نحو: كان زيد قائما أبوه، وظننت زيدا قائما أنت إليه وما أشبه ذلك، ولو كان جملة لم يعمل فيه عامل، فصار كالموصول مع صلته/ والموصوف مع صفته، ولو جرى على حكم الجمل لم يعمل فيه عامل، كما لا يعمل في المحكى من الجمل وليس في الكلام لا جملة أو مفرد، وهذا تحرير ابن خروف في المسألة، فإذا كلام الناظم غير سديد. والإشكال الخامس: أنه نص على أن موضع إبراز الضمير هو حيث يجرى متحمله على غير من هو له، وأنه إذا لم يكن كذلك فالضمير مستتر مطلقا، وهذا غير صحيح؛ لأن الضمير قد يجب إبرازه وإن لم يجر متحمله على غير من هو له، وذلك في نحو: أقائم أنتم؟ وأضارب أنتما؟ وفي أحد الوجهين في قوله تعالى: {قال أراغب أنت} الآية، إذ لا يجوز هنا أضارب؟ ويستتر الضمير، ولا أقائمان؟ عوض: أقائم أنتما؟ ولا ما أشبه ذلك، وكلامه يقتضى الجواز، لأن هذا القبيل لم يجر على غير من هو له. فإن قيل: إن كان لم يجر على غير من هو له، فلم يجر أيضا على من هو له وسبب استتار الضمير جريانه على من هو له لا عدم جريانه على غير من هو له وبينهما فرق. قيل هذا إن صح في نفسه، فليس في كلام الناظم ما يدل عليه هنا لأنه قال: (وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن) فأطلق

القول فيه كان جاريا على من هو له (أو لا)، وإنما استثنى الجريان على غير من هو له فقد تضمن قوله: (فهو ذو ضمير مستكن) ضربين: ما جرى على من هو له، وما لم يجر على من هو له ولا على غير من هو له، فثبت أن نحو: *خليلي ما واف بعهدي أنتما* لا يجوز، وإذ ذاك يلزم أحد أمرين: (إما بطلان كلامه هنا) وإما بطلان كلامه في مسألة: أسار ذان، إذ كان قد قال (وقس) فاقتضى قياس المضمر على الظاهر وهنا حكم بأن الضمير في مثل: (أسار ذان) لا يبرز فهما متضادان. والإشكال السادس: أن كلامه في بروز الضمير إذا جرى متحمله على غير من هو له يقتضى أن الحكم فيه مطلق، سواء تكرر أم لا، وليس كذلك، بل هو مقيد بألا يتكرر ذلك المتحمل للضمير، فلو تكرر لم يكن في الثاني بروز الضمير فتقول: مررت برجل عاقلة أمه لبيبة، فلا تبرز الضمير من لبيبة، وكذلك مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، ولم يقل لا قاعد هما. فتقول على هذا: زيد عاقلة أمه لبيبة، وهذا قائم أبواه لا قاعدان، وما أشبه ذلك مع أن الصفتين معا جاريتان على المبتدأ لفظا لا معنى، ولم يلزم في الثانية بروز الضمير كما ترى، فكان من حق الناظم أن يتحرر من هذا

أيضاً، لكنه لم يفعل فكان مشكلا إطلاقه، وهذا الاعتراض كان يورده بعض شيوخنا على هؤلاء المتأخرين، إذ لم يحترزوا من هذا النحو، مع أنه كثير في الكلام، وابن مالك أولى بالاعتراض عليه هنا وفي "التسهيل" وغيره، فهذه إشكالات ستة يصعب الجواب عنها. ومنها ما احترز المؤلف عنه في "التسهيل" كالأول فإنه قال فيه: ولا يتحمل غير المشتق ضميرا ما لم يؤول بمشتق. ومنه ما لم يحترز منه فلزمه هنالك، كما لزمه هنا كالرابع والخامس ومنه ما هو مختص بنظمه كالثاني، فأما الأول فظاهره اللزوم إلا أن يقال: إنه/ أطلق على المشتق بالتأويل لفظ المشتق باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه حتى كأنه قال: "وإن يشتق" حقيقة أو مجازا وهذا بعيد. وأما الثاني: فقد يجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن الضمير قد يعود على غير المتقدم الذكر لمصاحبته له في الذهن مع عدم صلاحيته للمذكور، ومنه قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} الآية، المراد من عمر غير المعمر، فأعيد الضمير غير المعمر؛ لأن ذكر المعمر مذكر به لتقابلهما، ومنه قولهم: عندي درهم ونصفه، وأنشد ابن خروف:

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب وكلام الناظم من هذا فلا إشكال، إذ التقدير: وإن يشتق المفرد غير المذكور أولا. والثاني: أن يحمل الجامد على غير الوصف، بل يكون مبتدأ ثانيا خبره فارغ، والجملة خبر المفرد والمراد به الجنس، والعائد عليه من الجملة محذوف تقديره: والمفرد، أما الجامد منه ففارغ والمشتق منه ذو ضمير مستكن ولا إشكال في هذا. وأما الثالث والرابع، فلا أجد الآن عنهما جوابا. وأما الخامس: فإن كلامه هنا يقرب أن يكون صريحا في منع أقائم أنتما؟ بخلاف كلامه في أسار ذان، فإنه محتمل؛ لأنه هنالك مثل بفاعل ظاهر، ثم قال: "وقس" فاحتمل أن يقصد وجها من تلك الأوجه المتقدمة أو جميعها، فليس ثم ما يقطع على إجازته أقائم أنتما؟ وأما هنا فالمنع ظاهر فهو الذي يعطيه إطلاقه، وعند ذلك يصير مذهبه المذهب الشاذ المتقدم الذكر، وقد مضى ما يحتج به صاحبه وكأنه حمل الصفة في ذلك على الفاعل، فكما أن الفعل لا ينفصل ضميره هنا فكذل ما أشبهه، فإن كان مراد الناظم هنالك شمول الظاهر والضمير، فهذا الموضع معارض

له، ويعتذر عنه بأن هذا الإطلاق هنا مقيد بما هنالك، فكان أقائم أنتما؟ ونحوه مما هو غير جار على شيء مستثنى من منع البروز، ويصح كلامه في الموضعين وإن كان مراده مقتضى ما هنا من المنع، فإن ما ارتضاه غير مرتضي، وذلك أن الصفة العاملة عمل الفعل تجتمع مع الفعل في بعض الأحكام وتفترق في بعض. فمما يجتمعان فيه الموازنة في الحركات والسكنات، وعدد الحروف، وتعيين الزائد غير الزائد الأول، فيما فوق الثلاثي من ذل وفي الثلاثي فيما عدا تعيين الزيادة في المراد به العلاج منها وكذلك طلب المرفوع مطلقا، والمنصوب فيما يتعدى، وكذلك الإعلال التصريفي في أكثر الأمر، ومما يفترقان فيه الأحكام المختصة بكل واحد منهما ككون الصفة تقع مبتدأ، ويدخل عليها الجار، وتجر بالإضافة وما أشبه ذلك مما يختص بالاسم، ونحو كون الفعل يتصرف عند اختلاف الأزمنة، ويدخل عليه الجازم وما أشبه ذلك مما يختص بالفعل، ومن جملة الأحكام المتعلقة بهما اتصال الضمائر بهما وانفصالهما وهما يجتمعان في بعض ذلك ويفترقان في بعض، / فمما يجتمعان فيه طلب الضمير بالاتصال مرفوعا كان أو منصوبا من حيث اجتمعا في معنى الفعل نحو: أنا الضاربة، وأنا أضربه، وكذلك زيد أنا معطيكه (وأنا أعطيكه)، وعدم الاتصال إذا عرض عارض يشتركان فيه كالتقديم على العامل نحو: أنا إياك ضارب، وأنا إياك أضرب، والفصل بـ "إلا" نحو: ما أنا بضارب إلا إياه، وما أنا أضرب إلا إياه، وزيد ما ضاربه إلا أنا، وما يضربه إلا أنا وشبه ذلك، فهذا النوع يجريان فيه على نسق غير متفاوت إلا بمقدار ما بين الاسم والفعل من التفاوت، وقد تقدم

بيان ذلك في باب الضمائر، ومما يفترقان فيه إبراز الضمير إذا جرى عامله على صاحبه وعدم إبرازه، فيجب إبرازه إذا عملت فيه الصفة وذلك نحو: زيد هند ضاربها هو، ولا يبرد إذا عمل فيه الفعل نحو: زيد هند يضربها، وإنما افترقنا في هذا الحكم لأمر هما فيه مفترقان، وهو أن في الفعل دلالة على فاعله، إذ هو مما يظهر معه ودلالة على محله من المتكلم والخطاب والغيبة. فإذا قلت: زيد اضربه أو ضربته، ففيه دلالة على أن الفاعل هو المتكلم لا زيد، وكذلك إذا قلت: زيد تضربه أو ضربته، ففيه دلالة على أنه المخاطب بخلاف ما إذا قلت: زيد ضاربه، فإنه لا دلالة فيه على أن الفاعل غير زيد حتى تقول: أنا أو أنت، إذ لا يبرز ضميره فيدل عليه ولا تلحقه علامة دالة زائدة على كونه مفردا أو مثنى أو مجموعا لاختصاص الفعل بذلك، فعوض الاسم من ذلك إبراز الضمير ليرتفع اللبس ويزول الإشكال، وصار هذا التعويض (مختصا بالاسم) كما كان المعوض منه مختصا بالفعل، وهذا شرح ما قالوه في المسألة على أوفى ما يكون، وهو توجيه لما نص عليه الناظم من حكم الإبراز، وإذا ثبت ذلك فقولهم أضارب أنت؟ أو أنتما من هذا النمط، لأن الفاعل المستتر ضمير لا يعرف له رتبة في تكلم ولا خطاب ولا غيبة، ولم يتقدم عامله ما يعود عليه ذلك الضمير، فصار استتاره موقعا في اللبس والإشكال، فلم يكن بد من إبرازه ليتعين، وهذا- والله أعلم- هو السبب في كون الكلام مع إبرازه مفيدا

بخلافه إذا لم يبرز، والظاهر أن الناظم على مذهب الجمهور، ويتعذر عنه بأن إطلاقه هنا في منع الإبراز إذا لم يجر على غير من هو له مقيد بما هنالك ويكون كلامه صحيحا في الموضعين، ولكن الموضع كان يحتمل تحريرا أحسن مما ورد فيه والله أعلم. وأما السادس: فإن الاحتراز من نحو: مررت برجل عاقلة أمه لبيبة، غير محتاج إليه؛ لأن لبيبة جار في اللفظ على عاقلة وهما معا للأم، فالثانية جارية على من هي له، لا على غير من هي له، فما الحاجة إلى إبراز الضمير؟ وكذلك مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، وما كان مثله فالاعتراض به على النحويين غير وارد.

تتمة باب المبتدأ والخبر

/ وَأَخْبَرُوا بِظرْفٍ اوْ بِحَرفِ جَرّ ناوينَ مَعنَى كائِنْ أَو اسْتَقَرّ هذا هو القسم الثالث من الأقسام التي تقع خبرًا للمبتدأ، وذلك الظرف وحرف الجرّ، وعَبَّر بحرف الجرّ عنه وعن مجروره، فكأنه قال: أو بحرف جرٍّ ومجرور. كما أنهم يُعبِّرون بالمجرور وحده عنهما فيقولون: ظرف أو مجرور. وضمير «أخبروا» للعرب، ولم يتقدَّم لهم ذكرُ إلا أن العِلْم بهم حاضر فلذلك لم يَفْتقر إلى تقديم مُفسِّر. ولما كان الظرفُ وحرف الجرِّ لا بدَّ لهما مما يتعلَّقان به من فعلٍ أو معَى فِعْلٍ، ظاهرٍ أو مقدَّرٍ، وهما إذا وقعا خبرَين بأنفسهما يلزم ضرورةً أن يكونا متعلِّقين بمقدّر؛ إذ لو كان ظاهرًا لكان هو الخبر بفسه -افتقر إلى أن يُنَبِّه عليه فقال: «ناوين معنى كائنٍ أو استقرّ»، يعني أنهم أخبروا بهما لا على سبيل الاستقلال، بل على أنهما مُفْتَقِران إلى مُتعلَّق، وهو كائنُ أو استقرَّ؛ فإذا قلت: زيدٌ عندكَ، فهو على تقدير: زيد كائنُ عندك، أو أستقرَّ عندك. وكذلك إذا قلت: زيدٌ في الدار، فالتقدير: زيدُ كائنُ في الدار، أو زيدُ استقرَّ في الدار. فإذًا «عندك» منصوب بذلك المقدَّر، وكذلك «في الدار»، وهو في موضع نَصْبٍ به. فإن قلت: إذا كانا مُتعلِّقين بمقدَّرٍ، والمقدَّرُ مثلُ الظاهر، فقد استوى عليا الجملة مع المتلق [المتعلق] الظاهِرِ في احتياجِ الظَّرفِ والمجرور إليهما فلماذا جعلْتَ الظرفَ والمجرورَ إِذا كان متعلَّقهما مقدرًا خبرين بأنفسهما،

وإذا كان ظاهرًا لم يكن كذلك؟ وإلا فهذا قسم قد رجع إلى القسمين الأولين، فَعَدُّه قسمًا ثالثًا لا معنى له. فالجواب: أنَّ هذا المقَّدر لم يظهر أصلًا في موضعٍ من المواضع، وإنما تقديرُه تقديرٌ صناعِيٌّ لضبط القوانين فقط، فلما كان كذلك جُعِل الظرفُ أو المجرورُ بنفسه خبرًا، لأنه هو الذي مَعَنا في اليد، وأما ذلك المقدّرُ فغيرُ مُلْتَفَتٍ إليه، ولذلك قالوا: إن الضمير العائد منه على المبتدأ ليس مقدرًا في كائنٍ ولا مستقرٍ، بل الظرف أو المجرور هو الذي تحمَّله بنفسه، ولذلك يقولون أيضًا -في قولك: مررت برجل في الدار أبوه-: إن «أبوه» ارتفَع بالمجرور ولا يقولون: ارتفَع بكائن ولا استقرّ. وعلى هذا المعنى نَبَّه الناظِمُ بقوله: «ناوين معنى كائِنٍ أو استقرّ»، ولم يقر: ناوين كائنا أو استقر، وذلك من وجهين: أحدهما: أن المقصودّ إنما هو حصولُ المعنى فقط، فإذا قدرت «كائن»، أو «مستقرّ»، أو «ثابت»، أو «حاصل»، أو نحو ذلك -كان صحيحا مفهوما بنفسه غير محتاج إلى ما يُبَيِّنه، فالكون المطلق هو المقدر، ولذلك التُزِم حذفُه؛ ألا ترى أنه لو لم يكن كذلك لم يَجُزْ حذفُه حتى يعلم، فلا تقول: زيد في المسجد، وأنت تريد: عاكف في المسجد؛ لأنه هذا المعنى غيرُ مفهوم، فكونُهم لم يقتصرِوُا في التقدير على لفظٍ مُعَيَّنٍ دليلُ على أن حكم اللفظ ضعيف. والثاني: أنَّ تقدير كائن أو مستقرّ ليس بتقدير لفظيّ حقيقة، وإنما هو

/ تقدير معنويّ دلّ عليه الكلام، وتقديرٌ صناعيٌّ اقتضاه الاضطرارُ إلى تقدير متعلق الظرفِ أو المجرور، وأما تحصيلُ المعنى فمن هذا الظاهر، والدليلُ على هذا أنّك تقول: إنّ في الدار زيدًا، و: إنَّ عندك زيدًا، فهذا الظرف أو المجرور لو كان على تقدير كائن أو استقر حقيقةً لم يصحَّ هذا الكلام، لأن المقدّر حقيقةً كالمنطوق به، فكائن لا يلى «أنّ» إلّا منصوبا فيرتفع زيدٌ ضرورةٌ. واستقر لا يصحّ أن يلى «إنَّ» على حال، فلم يكن أن يكون مقدرًا حقيقة، وإن لم يكن كذلك فالتقدير معنويّ لا لفظي. ويبيّن هذا أنك تقولُ: زيدٌ في الدار ضاحكًا، فتؤخرُ الحال عن العامل فيها ولا يجوز التقديم فتقول: زيد ضاحكا في الدار، إلا في نُدُور لا يُعتدُّ به، فو كان العاملُ مقدّرا حقيقة لجاز التقديمُ كما يجوز لو ظهر فكنت تقول: زيد ضاحكًا قائمٌ في الدار، كما تقولُ: زيدٌ قائم في الدار ضاحكًا؛ وفي امتناعهم من ذلك دليلٌ على أن المقدِّر غير معتبر في الحقيقة، ولذلك كان العامل (عندهم) الظرف أو المجرور بما فيه من ذلك المعى، إذ هو عِوَضُه ومُؤَدًّ معناه. فالحاصل أنّ تقدير كائن أو استقر أَمْرٌ معنويٌّ اقتضته الصناعة، لا حقيقي لفظي، وهو تحقيقٌ في الموضع إن كان الناظم قد قصده فلفظه

يقتضيه، وهو رأي المحقّقين كابن السراج والفارسيّ والشلوبين وغيرهم؛ ولذلك جعلوا «زيد في الدار» قسمًا من أقسام الكلام برأسه كما فعل الفارسيّ في أوّل الإيضاح. وإطلاقه القول بأنه هذا العامل منويٌّ، ظاهرٌ في أّنَّه عنده لا يظهر، إِذ لم يذكر خلاف ذلك، وهو مذهب المحققين، فلا يقال: زيدٌ كائن في الدار، ولا: مستقرٌّ عندك، ولا ما أشبه ذلك، كأنهم عوَّضوا الظرف وحرف الجر منهما، فلو أظهروا لكان جميعًا بين العوض والمعوض منه. وأمّا قولُه تعالى: {فَلَمَّا رَآه مُسّتقرًا عِندَهُ}، فليس مما ظهر فيه المتعلّق، بل هو في التأويل بمنزلة «جالس» كأنه قال: فلما رآه جالسًا عنده؛ ألا ترى أنه لو حُذِفَ «مُستَقرًا» هنا وقيل: فلما رأه عنده، لم يُفِدْ؛ لأنك تقول: زيد عندي وإن لم يكن معك بالحضرة، لكنه بحيث لو أرسلت إليه لجارك. وإنما الذي يُحذفُ ويلزم حذفُه ما يكون ظهورُه وحذفُه سواء». هذا ما قال ابنُ أبي الربيع، وقال: «فتفطّن لهذا فإنه صحيح، وبه كان الأستاذ أبو علي ينفَصِلُ». فإذًا من زعم أن المتعلَّق الذي للظرف والمجرور قد يظهر، فليس زعمُه بقوِيّ، فلهذا قال الناظم: «ناوين معنى كائن»، فجعله من قبيل المعاني المئوية، والمعاني لا تظهرُ أبدًا، فكذلك كائن

أو مستقرٌّ لا يظهر، لأنه من قبيل المعاني التي دلّ عليها غير ألفاظها في التأويل. ثم إنَّ قوله: «ناوين معنى كائنٍ أَوِ استَقَر»، يقتضي أَنّ العامل في الظرف والمجرور هو ذلك المعنى لا غيره، إذ لو كان غيره لم يفتقر إلى تقديره ونيّته. وأيضًا هو يقتضي أن ما تحمّله الظرف من ضمير فهو / في الحقيقة محمولٌ في هذا المقَدّر لا الظرف، وكذلك ما تحمله المجرورُ هو محمولٌ في عامله لا المجرور -وأيضًا قوله: وأخبروا بظرف أو بكذا، ثم قَيَّده بنيّة كائن أو استقر، يشير، إلى أن الظَّرفَ والمجرور ليسا خبرين بأنفسهما، بل بما فيهما من ذلك المعنى المقدر، فهذه ثلاثة أشياءَ محتاجة -بحسب ما يَفْتَقِر إليه شرحُ كلامه- إلى عقد ثلاثِ مسائلَ: المسألة الأولى: أنّ النحويين اختلفوا في العامل في الظرف والمجرور الواقعين خبرًا على ثلاثة مذاهب: أحدهما: أن العامل فيهما معنى الكون والاستقرار، واختلفوا في هذا المقدّر، حسبما يأتي آخرِ الفصل، إن شاء الله. والثاني: أن العامل فيهما المبتدأُ بنفسه. وهو رأيُ ابن خروف، وكأنّه استنبطه من كلام سيبويه، بل هو كالنصّ. والثالث: أن العامل فيهما هو المخالفة، ومعنى المخالفة أنك إذا قلت: زيد أخوك، فالثاني هو الأول، وكلُّ واحدٍ منهما يرفعُ الآخر، فإذا خالفه وكان غيره انتصب بذلك المعنى. حَكَى هذا المذهب عن الكوفيين

السيرافيُّ وابن الأنباري في الإنصاف. أمّا مذهب ابن خروف فهو عنده رأيُ سيبويه، وكذلك قال السيرافي: «إنه ظاهر كلامه. وهو كالنص له في باب «ما ينتصب من الأماكن والوقت». وفي أبواب الصفات. قال ابن خروف: وهو مذهبُ المتقدِّمين من أهلِ البصرة، وحكاه ابن أبي غالب عن الأعلم. وردّه المؤلِّفُ من أوجه سبعة: أحدهما: أنه مخالفٌ لما اشتهر عن البصريين والكوفيين من غير دليل. والثاني: أن قائله يوافقنا على أنَ المبتدأ عامل رفعٍ، ويخلفننا بادعاء كونه عامل نصب. وما اتفق عليه إذا أمكنَ أولى، ولا ريب في إمكان تقدير خبرٍ مرفوعٍ ناصبٍ للظرف، فلا عدول عنه. والثالث: أنه يستلزم تركيب كلام تامٍّ (من) ناصبٍ ومنصوبٍ، لا ثالث لهما، (ولا نظير لذلك). والرابع: أنه (قولٌ) يستلزمُ ارتباط مُتباينين دون رابط، ولا نظير لذلك. ومن ثمّ لم يكن كلامًا: زيد قام عَمْرو، حتى يقال: إليه، أو نحوه.

الخامس: أنّ نسبة الخبر من المبتدأ كنسبةِ الفاعل من الفعل. والواقع موقع الفاعل من المنصوبات لا يغني عن تقدير الفاعل، فكذا الواقع موقع الخبر من المنصوبات لا يُغني عن تقدير الخبر. السادس: أنّ الظرفَ الواقع موقع الخبر من نحو: زيد خَلْفَك، نظيرُ المصدر من نحو: أنتَ إلا سيرًا، في أنّه مَنْصوب مُغنٍ عن مرفوعٍ، والمصدر منصوب بغير المبتدأ، فوجب أن يكون الظرف كذلك، إلحاقًا للنّظير بالنظير. والسابع: أنّ عامل النصب في الظرف المذكور بإجماع من ابن خروف ومنّا لا يكون إلِلا فعلًا أو شبهه، أو شبه شبهه. والمبتدأ لا يشترط فيه ذلك، فلا يصح انتصاب الظرف المذكور به. هذا ما رَدّ به هذا المذهب. ولابن خروف فيه نَظَرٌ يُسْتَشْعر من تقديره في شرح الكتاب، لا يليق بسطُه بما نحن فيه، فإنّ المقصود ها توجيهُ ما ذهب إليه الناظم. وأمّا مذهب الكوفيين فردّه / أيضًا من أوجه أربعة: أحدها: أن المخالفة بين المتباينين نسبتُها إلى كل واحدٍ مهما نسبة واحدة، وإذا كان كذلك فإعمالها في أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح.

والثاني: أن المخالفة بين الجزأين هي محققة في مواضع كثيرة، ولم تُعْمَل فيها باتفاق، نحو: أبو يوسف أبو حنيفة، و: زيد زهير، و: نهارك صائم. فلو صلحت المخالفة للعمل في الظرف المذكور لعملت في هذه الأخبار ونحوها لتحقق المخالفة فيها. والثالث: أن المخالفة معنى لا يختص بالأسماء، فلا يصح أتكون عاملة، لأن العامل لا يكون غير مختص، هذا إذا كان العامل لفظًا، مع أنه أقوى من المعنى، فالمعنى، إذا عَدِم الاختصاص أحقُّ بعدم العمل لضعفه. والرابع: أنها لو كانت صالحة للعمل لزم على مذهب الكوفيين أَلّا تعمل في الظرف عند تأخّره، لأنّ فيه عندهم عائدًا هو رافعُ المبتدأ، مع بعده بالتقدم، فإعمال ذلك العائد في الظرف لقربه مه أحق. وإذا بطل هذان المذهبان لم يبق ما يُنْسَبُ إليه العمل إلا شيء يقدّر، وهو ما ذكره الناظم، لأنّه الذي يدل عليه الظرف والمجرور، وهو معى الكون والاستقرار والظروف والمجرورات لا يعمل فيها إلّا الفعل أو ما يعطى معناه كاسم الفاعل وغيره، أو ما يفهم من الكلام من معناه، وهذا من ذلك؛ لأن الكلام قد دَلّ على معنى الكون والاستقرار، فوجب أن يكون هو العامل. وهذا المعنى

لما كان ذا وجهين أحدهما: أنه يحتمل التقدير اللفظي لأنّه عامل في الظرف والمجرور. والآخر: أنه يحتمل التقدير المعنوي لأنه لا يظهر في اللفظ لقيام الظرف والمجرور مقامه، اعتبرهما الناظمُ في هذا الكلام فقال: «وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ اوْ بِحَرْفِ جَرُّ» فجعلهما بأنفسهما خبرين، ولم يعتبر أنهما من قبيل المفرد أو الجملة، ذهابًا إلى تناسي التقدير اللفظي، ثم قال: «ناوِينَ مَعْنى كائنٍ أَوِ اسْتَقَرّ»، فجعلهما معمولين لهذا المقدّر، وإذا كان كذلك لم يَبْقَ إِلّا التقدير اللفظي كضربا زيدًا. المسألة الثانية: أنّ الضمير العائد من هذا الخبر إلى المبتدأ محمول في هذا المقدّر لا في الظرف والمجرور، لأنّهما إذا كانا في تقديره ولم يستقلّا بالخبريّةَ، فهما عند تقديره كما هُما عند إظهاره لو ظَهر. وهذا هو ظاهرُ كلام الجمهور وظاهر كلام ابن خروفٍ، بل هو مُقتَضَى ما تقدّم من مذهبه. وما نُقِل عن غيره أنّ الظرف نفسه هو المتحمِّلُ للضمير وكذلك المجرور، بما فيها من معنى الفعل الذي تتضمّناه، ولا يتعلقان بمحذوف عنده إلا في الصلة والصفة والحال. وهذه المسألة يبني البحث فيها على ما قبلها، فما صحّ هناك من المذهَبَينِ انبنى عليه هنا موافقه من أحد الرأيين. المسألة الثالثة: أن هذا الكلام يقتضي أن الخبر في الحقيقة هو ذلك المقدر لا هذا الظاهر، لكن لا على حدٍّ ما لو ظهر، بل على تقدير أنّ الظرف والمجرور / كالعِوَضِ منه. وَدَلّ على ذلك من كلامه قولُه: «ناوِينَ

مَعْنى كائِنٍ أوِ استقَر فجعله منويًا لا يَظْهَرُ، وجعله أيضًا في عداد المعاني لا في عداد الألفاظ الصريحة، وجعله أيضًا مما تُنُوسِيَ في الخبريّة حتى كأنّ الظرف والمجرور هما الخبر بأنفسهما، حيث قال: وَأخبروا بكذا. وهذا يقتضي ما تقدم من مذهب ابن السراج والفارسيّ وغيرهما في كون قولك: زيد عندك، وزيدٌ في الدار - قسمًا برأسه بين المفرد والجملة. وهو مخالف لما ظهر من كلام ابن خروف أيضا ورأيه في المسألة. وإذا ثبت هذا توجه النظر إلى قوله: «ناوينَ مَعْنى كائِنٍ أو اُستقرّ وهو يحتمل بحسب إتيانه بأو وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك منه تخييرًا في أحد التقديرين، فلك أن تُقَدِّر الخبر اسم فاعل، ولك أن تقدّره جملةً فعلية، أي: إنّ هذا بحسب التقدير المعنوي سواءٌ، كما أنك تُقَدِّر ذلك من لفظ «كان» أو «حصل»، أو «ثبت» أو «استقر»، أو «وُجِد»، أو نحو ذلك. فلا يتعيّن للتقدير لفظ دون آخر، لأنّ المرادَ المعنى العامُّ، فكذلك تقدِّر معنى الفعل هنا في صيغة فعل أو اسم فاعل؛ إذ هو تقدير معنوي أو كالمعنويّ. وهذه الطريقة جاريةٌ على ما تقدّم من مذهب ابن السراج والفارسيّ، وهو أحد المذاهب في المسألة؛ إِذْ قد اختلفوا في هذا المقدّر ما هو، على أربعة مذاهب: أحدها: أن يقدّر فعلا مطلقًا لأنه عاملٌ في الظرف والمجرور، والأصل في العمل أن يكون للفعل، وإنما اسم الفاعل [في العمل] فرعٌ عنه، وتقدير الفعل الذي هو أصل أولى لأن الحذف تصرّف، والأصل أعرقُ في التصرُّفِ من

الفرع. وأيضًا فإن تقدير الفعل إذا وقع الظرفُ أو المجرور صلةً متعين، وإذا تعيّن [في موضع] وكان في موضع آخر محتملا، فالوجهُ الحملُ على ذلك المتعيِّن. ولهذا [في] النحو نظائر كثيرة. والثاني: أَنْ يقدّر اسمُ فاعل مطلقًا، وهو رَأْيُ المؤلف في غير هذا الكتاب واستدلّ على صحّته بأُمورٍ، منها: أَنّ الفعل هنا لا يغني تقديره عن تقدير اسم الفاعل ليُستَدلّ على أنه في موضع رفع، واسم الفاعل مُغْنٍ عن تقديره، و [تقدير] ما يغني أولى من تقدير ما لا يُغني. وأيضًا فكلُّ موضعٍ وقع فيه الظرفُ أو المجرور صالحٌ لوقوع اسم الفاعل فيه، وبعض مواضعه غير صالح للفعل نحو: أَمّا عندك فزيدٌ، و: جئت فإذا عندك عَمْروٌ؛ لأن أمّا وإذا المفاجأة لا يليهما فِعْلٌ. وأيضا فالفعل المقدّر جملةٌ بإجماع، واسمُ الفاعل عند المحقّقين ليس بجملة، والمفرد أصل، وقد أمكن فلا عُدولَ عنه. والثالث: التخييرُ بين التقديرين بناءً على تعادل المذهبين وتكافؤ الأدلة، قال ابن عصفور: وهو الصحيح عندي. وهذه المذاهب الثلاثة مبنيّةٌ على أن التقدير لفظيّ لا معنوي كما أشار إليه الناظم، وهو المذهب الرابع في المسألة، وقد تقدّم الدليل على صحته. الوجه الثاني: أن يكون تخييرا بين الوجهين على قول من يُخَيّر بينهما، وقد تقدّم أنه رأي ابن عصفور.

ووجهٌ ثالث: أن يكون خَيّر/ بين المذهبين المذكورين، وكأنه يرى تقدير اسم الفاعل أولى، لتقديم ذكره، ويكون هذا الموضعُ نظير قوله في «أل» «أَلْ حَرْفُ تعريفٍ أَوٍ اللّامُ فَقَطْ»، فقدّم ما هو عنده الأولى. وهذا هو الذي ارتضى في التسهيل، واستدلّ عليه بما تقدّم وبغيره. لكن لا ينبغي أن يُحْمَلَ كلامُه هُنا عليه؛ لأَنه إذ ذاك من التقدير اللفظي. ولذلك استدلّ على تعيين اسم الفاعل بظهوره في بعض المواضع في جملة ما استدلّ به. وهذا لا يظهر هنا مع قوله: «ناوين مَعْنَى كائِنٍ» فجعل نِيَّتَه معنويةً لا لفظيةً، وإنما يمشي هذا الكلامُ على مَذْهبِ ابنِ السّراج كما تَقدّمَ. فإن قيل: إنّ الناظم أَطلق القَوْلَ في جَعْلِ المجرور خبرًا، وقد علم أنه على وجهين تام وغير تام، فالتام ما يُفْهم بمجرد ذِكره وذِكْرِ معموله ما يتعلّق به، نحو ما تقدم من الأمثلة. وغير التام ما ليس كذلك، كما إذا قلت: زيد بك، وتريدُ: واثق بك، أو: ناهضٌ بك، وتقول: زيدٌ في المسجد، وأنت تريد: قائم أو عاكف أو قارئ. وكذلك الظرف أيضا أَطْلَق القولَ في جعله خبرًا وكان من حَقّه تقييدُه؛ إذ منه التامُّ وغير التامِّ، فالتامُّ نحو ما تقدم. وغير التام نحو: زيد عندك، إذا أردت أنه مأسور عندك. وتقول: زيد أمامك وأنت تريد: سائرٌ أمامك، أو آكل، أو نحو ذلك. فأمّا التام فهو الذي يقع خبرا للمبتدأ كما تقدم، وأما غير التامِّ فلا يقع خبرًا البتة، وإنما يكون الخبر غيره، فيؤتى به ضرورةً فتقول: زيدٌ واثق بك، وناهض بك وعاكف في المسجد، ومأسور عندك، وسائر أمامك.

ولا يجوز حذفُه إلا حيث يحذف الخبر المفرد أو الجملة فتقول: أَمّا زيد فبك مأخوذٌ، وأما عمرو فبغيرك، أي: مأخوذ، فحذف كما حُذِف «قائم» إذا سألتَ: من قائم؟ فقيل لك: زيد أي: زيدٌ قائم. وما أشبه ذلك. فليس المجرورُ هنا بخير [بخبر] البتّةَ، وكذلك مثله من الظروف الناقصة. ولذلك لم يجز سيبويه في قولهم: بك زيد مَأخوذ، إلا رفع «مأخوذ»، وكذلك: اليوم قائم زيدٌ، لم يجز في «قائم» إلا الرفع وكذلك ما كان نحوهما، وذلك لأَنّ هذه الأشياء لا تقومُ مقام المقدّر، إِذ لا يُفْهم من مجرد ذكره، وإنما تقومُ مقامه إذا كانت تعطى [تعطي] معناه بمجرد ذكرها، فَكَأَنْ لا محذوف؛ قال سيبويه: «وأما بك مأخوذٌ زيدٌ، فإنّه لا يكون إلا رفعًا، من قَبِلِ أَنّ بِكَ لا يكون مستقَرًا للرجل». قال: «ويدلُّكَ على ذلك أن لا يستغنى عليه السكوت، قال: «ولو نصبت هذا لنصبت: اليومَ منطلقٌ زيد، واليوم قائم زيدٌ، وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة مأخوذُ زيدٌ». فقد قات الناظمُ إًا هذا الشرطُ الضروريُّ، فيقتضي إطلاقه أن تقول: زيدٌ بك، وعمرو عليك، وأشباه ذلك، على تقدير الكون والاستقرار. وذلك غيرُ صَحِيح، إذ لا يُفْهَم معنى الاستقرار من هذه الحروف. واقتضى أن تقول: / زيدٌ أمامك، وأنت تريد: نازل أمامك، على تقديرك معنى الاستقرار. وذلك غير صحيح. فالجواب أن الناظم لم يُغْفِل هذا الشرط البتّة، بل أشار إليه إشارة

[حسنة] حيث قال: ناوِين مَعْنَى كَذَا، يعني أنهم إنما أخبروا بالظرف أو بحرف الجرّ حالة كونهم مُقَدِّرين معنى الاكون والاستقرار [و] حيث [يكون] الظرفُ وحرف الجر ليعطيانه، وذلك إنما يصدُق على الظّرف التام وحرف الجرّ التام. فإذا قلت: زيدٌ في الدار، أو زيد عندك، فالمفهوم المعتاد في هذا معنى الاستقرار، فمثلُ هذا يقع خبرا. وإذا قلت: زيدٌ بك، أو عمرو إليك، فليس المفهوم هنا معنى الاستقرار. فخرج عن كونهم أخبروا به، وإن فُرِض أن المحذوف مفهوم بقرينةٍ، كما تقول: زيدٌ على أهل البصرة، أي: أمير، فهذا أيضًا من قبيل ما لا يكون حرف الجرِّ خبرا؛ إذ لا يفهم مِنْه مطلقُ الكون والاستقرار، ولذلك لما قاله سيبويه: «وتقول: عليك أميرًا زيدٌ، لأنه لو قال: عليك زيدٌ، وهو يريد الإمرة، كان حسنا». ردّ عليه ابن الطراوة وقال: وهذا وهم، لأنك وإن حذفت الأمير فأنت تريده لا مستقرًا، قال: فإظهاره وإضماره سواءُ، يعني أنه لا يجوز في الأمير إلا الرفع، لأنه هو الخبر، أظهرته أو أضمرته. قال ابن عصفورٍ: وهذا الذي قاله حق، إلا أنّه لا يمتنع أن يكون هذا الأمير الظاهر غيرَ الخبر، ويكو حالًا مؤكدةً. قال: وعلى هذا أجاز سيبويه هذا. وعلى هذا يكون قولهم: أنا بالله ثم بك، والأمر إليك، وما أشبهه مما هو محذوف الخبر لدلالة الكلام على المحذوف، لا مما أخبر فيه بحرف الجرّ، إذ

ليس بمنْوِيّ فيه معنَى الكون والاستقرار، وإنما تقدير الكلام: أنا واثقٌ بالله، والأمر راجع إليك؛ فإذًا أحرفُ الجر أو الظرف على أربعة أقسام: أحدهما: ما يفهم منه الاستقرار بنفسه، فهذا يقع خبرًا للمبتدأ على مقتضى شرطه. والثاني: أنّ ما لا يُفْهَم منه استقرارٌ ولا غيره البتّةَ لفقد القرينة، أو لأنه لا يُؤدِّي مَعْناه، فهذا لا يقعُ خبرًا لفقد الشرط. والثالث: ما لا يُفهَمُ منه الاستقرار، وإنما يُفْهم منه غَيرُه لقرينةٍ دالّةٍ، فلا يقع خبرًا أيضًا، لأن الذي يفهم منه غير الاستقرار، فهو إن كان محذوفًا -أعنى ذلك المفهوم- فهو الخبر، لا المجرور ولا الظرف، إلا أن هذا قسمان: قسمٌ يكون جائز الحذف كقولك: أما زيد فبعمرو مأخوذ، وأما بكر فبك. ولا شكّ في أن هذا محذوفُ الخبر، وحرف الجرّ فضلة غير تام. وقسم لازم الحذف وإن لم يكن المحذوف هو الاستقرار نحو: زيدٌ على البصرة، وأنا بالله، والحمد لله، والأمر إليك. وهذا هو الرابع، وهو محتمل، فقد يكون من قبيل ما لا يقع خبرا؛ إذ لا يعطى معنى الكون والاستقرار بحسب مفهومه الظاهر؛ إذ المعنى: زيد والٍ على البصرة، وأنا واثق بالله، والحمدُ مصروفٌ لله، والأمر راجعٌ إليك. فهذا المفهومُ أخصّ من الكون والاستقرار، وحرف الجرّ المعطى لمعنى الاستقرار هو [في] الغالب لا غيره. وهذا جارٍ على ما قاله ابنُ الطراوة وابن عصفور في كلام سيبويه. ويدل عليه أنه قد / يظهر في بعض المواضع بخلاف الكون والاستقرار،

فيخرج هذا القسم باشتراط الناظم وقد يكون راجعا إلى معنى الكون والاستقرار لِغَلَبةِ حذف ذلك المتعلّق، كقولك: الحمدُ للهِ، {ولله الأَمْرُ مِنْ قبلُ وَمِنْ بَعْدُ}، {ومَثَلُ نُوُرِه كَمِشكاةٍ}. وما أشبه ذلك؛ لأنّ العرب قَلّما تتكلّمُ هُنَا بالخبر، وإذا كان كذلك صار من جهة المعنى إلى القسم الأوّل، فيقدّر: الحمد ثابتُ لله، ومستقرّ الأمر لله، وبهذا التّقْدير تجدُ المعربين يقدّرونه ويدلُّ على هذا القصد قولهم: زيد كأسدٍ، فإن الأصل فيه: [زيد] شبيه بالأسد، فحذف اسم الفاعل وعوض منه الكاف. وهذا التعويض يدلّ على اطراح حكم «شبيه» في التقدير؛ إذ لو كان معتبرًا لم يصحّ تعويض الكاف منه، إذ لا يصح الجمع بينهما، فلا يقال: زيدٌ شبيه كعمرو. فكأنّهم رجعوا في التقدير إلى: كائن ومستقر، وأقاموا الكاف مقام شبيه في الدلالة على معنى الشبه. وهذا ظاهر. وعلى ذلك يكون هذا القسم داخلصا تحت ما يكون من المجرورات خبرًا. وبهذا الاعتبار يبقى كلامُ سيبويه في: زيدٌ على البصرة، ونحوه، محمولًا على ظاهرة، ولا يلزم اعتراض ابن الطراوة فتأمّله. وإذا تقرّرَ هذا ظهر أنّ كلام الناظم قد اشتمل على اشتراط التّمام، ودخل في ضمنه فوائد جَمّة لو تتبعتُها لطال الكلام، فتركتُ لك ذلك أيها الناظرُ في كلامه. وإذا قلت: زيد عندك، أو زيد في الدار، فمعنى الاستقرار -إذا كان هو المراد- مفهومٌ، فإن لم ترد ذلك المعنى وقصدت: زيد مقيم، أو آكل عندك أو

زيد قائم، أو مُصَلّ في الدار، فليس هذا بمنوىّ معه معنى الاستقرار، فلا يكون خبرًا للمبتدأ، دلّ على المراد دليلٌ أو لم يدلّ. وهذا كله ظاهر/. لكن فات الناظم من هذا مسألةٌ يقتضى كلامُه فيها الجوازَ وليست بجائزة، وذلك إذا أخبرت عن المبتدأ بظرفٍ مقطوعٍ عن الإضافة نحو: القتالُ قبلُ، وقيامُك بعدُ، بخلاف ما إذا أضفتَ فإنّ وقع الظرف خبرًا جائزٌ، فتقولُ: القتالُ قَبَل يوم الجمعة، وقيامُك بعدَ قيامي، وما أشبه ذلك. نصّ على ذك سيبويه، قال السيرافيّ: «ولا أعلم له مخالفًا». فمثل هذا يدخل تحت قوله: «نَاوِينَ مَعْنى كائِنٍ أَوِ استقرّ»؛ فإن تقدير هذينن مع القطع عن الإضافة وعدمه سواءٌ، فعليه المعنى. ولا يقال: إِنّ إنما أخبر عما فعلت العرب بقوله: «وأخَبروُا»، ومثل هذا الكلام إنما يصدُق على ما قالت لا على ما لم تقله، فلا اعترضا عليه؛ لأنا نقول: إن سُلِّم عودُ الضمير على العرب لا على النحويين، ففي ضمنه أنّ ذلك قياس لا يوقف منه على المسموح، ولهذا أتلى بالمسألة لا للإخبار عما فعلت العرب، وعلى هذا القصد توجّه الاعتراض، فلو صرّح بالقيد هنا ولم يشر إليه كما صرّح به في التسهيل لدخل له نحو: قيامك قبلُ، في غير التام، لكنه

لم يفعل، فكائن معترضًا عليه. ووجهُ كونِهِ غير تام ظاهر، لكونه قد حُذِف منه ما به تمام معناه، وهو المضاف إليه، وإن كان مرادًا في التقدير. / وقال السيرافي في تعليل منع وقع قبلُ وبعدُ خبرين: إنهما إذا أخبر بهما قد حُذِفَ معهما ما يعملُ فيهما، فكا حذفُ المضافِ إليه مع ذلك إجْحافًا فتجنبوه، ولابن الضائع هنا تعليلٌ هو روحُ كلام سيبويه، فتأمّله. واعلم أن الناظم من عادته التنبيهُ على مسائل الخلاف، وعلى ارتضاء ما يرتضيه من الأقاويل. ولا شكّ أنّ مسائلَ الخلافِ على قسمين: قسم ينبني على الخلاف فيه حكم من الأحكام الكلاميّة. وقسم لا يَنبني عليه إلا أمر اصطلاحي وتحقيق صناعي لا غير، فأما الأول فالنظر في ترجيح ما رجّحه الناظم، وجَلَب الحُجَج عليه مما تَعْني الناظرَ في هذه الصناعة عموما، والشارحَ بحسب ما يتعلق بشرح النظم خصوصًا. وأما الثاني فالكلام فيه حسب ترجيح ما رجح الناظم وَجلبِ الأدلّة عليه إنّما هو من جهة ما يلزم الشارحَ من بيان مقاصد الكلام المشروح، والنزول إلى مقام صاحبه، لبيان ارتضاء ما ارتضاه، وتزييف ما زيفَه، لا من جهة أن تنبني عليه فائدةٌ؛ إذ هو خالٍ منها كمسألتنا، لأنّ كون الظرف أو حرف الجرّ يُقدر معه كائنٌ أو استقر، أو لا يقدّر معه ذلك لأنّه يودّي معناه - سواءٌ في الحكم.

وكذلك مسألة الابتداء وعمله في المبتدأ وحده، أو في المبتدأ والخبر، أو عدم ذلك- أمرٌ لا تنبني عليه فائدةٌ كلامية فالكلام في ذلك كله وتسويد الأوراق به لا يُجدِي في المقصود من علم النحو مَزيدًا. قال ابنُ الحاج فيما علّق على المقرب العصفُورِيّ: جملة ما أقوله أنّ كلّ خلافٍ وبَحْثٍ في هذه الصناعة لا يؤدّى إلى الوقوف على كيفيّة التكلم فهو فَضْلٌ لا يحتاج إليه، والاشتغال به بطَالة. قال: وقد أُولِع المدرِّسون بذلك، وإِن لم يكن نافعًا في تعليم الصغار، فالاشتغالُ به اشتغالُ بما لا يُغْني. وأشدّ من نقض الاشتغال به اعتقاد أن ذلك مهمّ ضَروريٌّ مُوصّل إلى معرفة حقيقة، مكسِبٌ علمًا بكلام العَرَب. ثم مضى في كلامه، ثم قال في هذه المسألة التي نحن فيها: فالغرض أن قولك: زيد في الدار، مرادف لقولك: زيد استقر في الدار، أو يستقرُّ أو مستقرّ، كلٌّ بمعنى واحدٍ.، انتهى، وهو صحيح واضح، وإذا وضح هذا فكلُّ ما أجلبه من الحجج والترجيحات في المسائِلِ التي هذا شأنها فَلْتعلم أنها مجتلبة بحسب مقصد الشرح، لا بحسب استنتاج فائدة زائدةٍ، وبالله التوفيق. ثم أَتمّ هذا الحكم في قسم الظرف بقوله: وَلَا يَكُونُ اسْمُ زَمانٍ خَبَرًا عَنْ جُثّةٍ، وَإِنْ يُفِدْ فَأَخْبِرَا لما أطلق القول في وُقوع الظرفِ خبرًا للمبتدأ، وكان المبتدأُ تارةً يكون اسم عين، وهو المراد بالجثة، وتارة يكون اسم معنى -كان من مقتضى إطلاقه أن يجوز وقوعُ ظرف الزمان خبرًا عن كلّ (جثة) كان أو معنى، كما كان

مقتضياً لذلك مع ظرف المكان، فهو في ظرف المكان إطلاق صحيح/، وغير صحيح في ظرف الزمان. فأراد تقييد ذلك الإطلاق، فأخبر أنّ اسم الزمان لا يكون خبرًا عن مبتدأ هو جثةٌ، غلا أن يكون الإخبار به عنه مفيدًا، فإذا أفاد جاز. وحصل من هذا ومما قبله أن الظرف إما أن يكون مكانيًا أو زمانيا، فإن كان مكايا أُخبر به عن كل اسم كان، اسم جثة نحو: زيدٌ أمامك، وعمرو خَلْفَ الحائط، والدراهم عند زيد. أو اسم معنى نحو: قُعودُ زيد مكانَك، وقيامُه خلفَ الدار، وَأَكْلُه عدك. وإن كان زمانيًا فإما أن يكون المبتدأ اسم جثةٍ أو اسم معنى، فإن كان اسم معنى أخبر عنه لحصو الفائدة بذلك، نحو: قيامُك غدًا، وسفرُ زيد بعد غدٍ، وخروج زيد يوم الجمعة. وإن كان اسم جُثّة فلا يُخبر به عند لعَدَمِ الفائدة بذلك، فلا تقولُ: زيدٌ يوم الجمعة، ولا عبد الله غدًا. والفرق بين ظرف الزمان وظرف المكان في هذا أَن ظروف الزمان أشياءُ تحدُث وتنقضى، وما وُجِدَ منها فمشتملٌ على كلّ موجُودٍ، والجثة كلها موجودة فلا فائدة في الإخبار عنها بذلك، والمصادر وهى أسماء المعانى غير موجودة بل تحدُث، فأفاد الإخبارُ عنها بالظروف الزمانيّة. وأما ظروف المكان فَأَيُّها جُعِلت مستقرًا لشئٍ جاز أن يقع خبرًا وتقع الفائدةُ؛ لأنّ الأمكنة لا تشتملُ على كلِّ موجود، ولا تكون ظروفًا لكل واقع في الوجود لزومًا، بل قد تخلو مها وقد لا تخلو، فصار الإخبارُ بها يُحصّل ما لم يكن معلومَ الحصولِ. وبهذا أشبهت الأمكة الأشكاص فأفادَت كما أفاد الإخبار بالأشخاص. وقد نَبّه على أصل المنع في هذه المسألة، وهو عدم الفائدة، بقوله: «وغن يُفيد فَأَخْبَرا»، فكأنّه قال: ولا يكون اسمُ زمانٍ خبرًا لجثّةٍ لعدم

الفائدة، فإن أفاد ذلك جاز الإخبارُ به عن الجُثّة. وتعليقهُ الجوازَ على شرطِ الإفادة هو الأصل وهو أولى من تعليقه على مواضع تُعَدُّ وتُحصَرُ، فإن حصر الآحاد قد لا يفي بجميع مواضع الإفادة، بل الغالبُ أنه لا يفي. وإنما وجهُ حصرِها ردُّها إلى أصل الجواز وهو الإفادة، فلذلك اقتصر الناظم عليه فقال: «وَإِن يُفِدْ فَأَخْبَرا». وقد حُصِرت مواضعُ الإفادة في ثمانية: أحدها: أن يشبه اسمُ الجثة اسمَ المعنى في الحدوث في وقتٍ دون وقتٍ، كالرُّطْب والكَمْأَةُ ونحوهما، كقولك: الرُّطْبُ في وقت كذا، والكَمَأَةُ وقتَ الربيع. ومنه قولهم: الهلالُ الليلةَ. وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكون الزمان موصوفا، نحو قولك: نحنُ في زمانٍ طيِّب. ومنه قولُ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «إنكم في زمان كثيرٌ فُقهاؤُه، قليلٌ قراؤُه، كثيرٌ من يعطى، قليلٌ من يَسأَلُ». وقال امرؤ القيس: أَلاعِمْ صَبَاحًا أَيُّها الطَّلَلُ البالِى وَهَلْ يَعَمِنْ مَنْ كَانَ في العُصُر الخالِى وقال الآخر: نَحنُ -والله- في زَمَانٍ غَشُومٍ لو رَأَيناهُ في المَنَامِ فَزِعْنا

/وقال أوس: لَعَمْرُكَ إِنَّا والأَحَالِيفُ هاؤُلى لَفِي حِقْبَةٍ أَظْفارها (لَمْ تُقَلّم) والثالث: أن يكونَ المبتدأ عامًا واسم الزمان خاصًا أو مسئولا به عن خاصٍّ، كقولك: نحن في شهر كذا. وفي أيّ الفصول نحن؟ وهذا [كلامٌ] مخرجٌ عن حدِّه؛ إذ كان الوجهُ أن يُقال: شهرُنا شهرُ كذا، وأيُّ الفصولِ فَصلُنا؟ . والرابع: أن يكون المبتدأ موصوفًا كقولهم: أكُلّ يوم ثوبٌ تلبسه؟ وأَكُلّ عام لك رجلٌ تَقْتُلُهُ؟ وأنشد سيبويه: أَكُلّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوونَه يُلْقُحِه قَوْمٌ وتَنْتُجِونه؟ والخامس: أن يكون المقصودُ ما أضيف إليه ظرف الزمان، كقولهم: زيدٌ حين طرّ شاربُه. فالمقصُودُ: زيدٌ طرّ شاربه. وكذلك: زيدٌ حين بَقَل وجههُ. [وقد] أنشد بعضُهم على هذا بيت الحماسة:

أَقولُ وفي الأكفان أروعُ ماجدٌ كغُصنِ الأراك وجهُه، حين وَشّمَا وهو مُحتَمِل. والسادِسُ: أن يكونَ في بابِ النفي العامّ، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده». والسابع: أن يكون الغرضُ التأريخَ، كقولك: كان موسى -عليه السلام- زمن فرعون، وكان إبراهيم -عليه السلام- زمن نُمْرودٍ. ونحوه قولُ امرئ القيس: أَلاعِمْ صَبَاحًا أَيُّها الطَّلَلُ البالِى وَهَلْ يَعَمِنْ مَنْ كَانَ في العُصُر الخالِى وقد تقدّم في نوعٍ آخر - وقال الفرزدقُ: أَلَمْ تَرَ أَنّ الناسَ مَاتَ كَبِيرُهُمْ وَقَد كانَ قبَل البعث بعثِ مُحمدِ والثامن: أن يكون ظرف الزمان قد رفع ظاهرًا غَير جُثّة، نحو: زيدٌ

يوم الجمعة قيامُه؛ إذا حملت «قيامه» على أحد وجهيه. فهذه المواضع مما أفاد فيها الإخبار باسم الزمان عن الجثة، وإِن جاء ما يُشبهها فحكمه في الجواز حكمها، والجميع منتظم في سلك قوله: «وإن يُفِدْ فأخبرا». وبقي في هذه المسألة دَرْكٌ على الناظم من أوجه ثلاثة: (أحدها) أنّ النَحويين إنّما يَعْرضُونَ الكلام هنا [و] ظرف الزمان فيقولون: لا يكون ظرف الزمان خبرًا عن الجثة، والناظم إنما قال: «ولا يكون اسمُ زمانٍ .. ». واسم الزمان غير مرادفٍ لظرف الزمان، لأن ظرفَ الزّمان هو اسم الزمان المنصوبُ المقدّرُ بفي من جهة المعنى، لا اسمُ الزّمان مطلقا؛ إذ اسمُ الزّمان منقسم إلى ظرفٍ وغير ظرفٍ، فكيف يكون مرادِفًا له؟ وإذا لم يكن كذلك خَرَجَ عن وضع المسألة عند غيره. والجواب: أنّه يمكن وضعُ المسألة على أن يكون اسمُ الزمان غير ظرف؛ إذ لا يخبر به عن جثة، بخلاف المصدر، فإنّ لا يقال: زيد يومُ الجمعة برفع يومٍ، وقد يقال: القيامُ يوم الجمعة. وقال النابغة: زَعَم الغرابُ بأنّ رحْلَتنا غَدٌ وبِذَاك خَبرنا الغُدافُ الأَسودُ

رُوي هكذا برفع غَدٍ، ذكره السيرافي. وأيضًا قد تقدّم من مواضع جواز الإخبار بالزمان عن الجثة ما كان الزمانُ فيه مجرورًا بفي، وهو إذا كان كذلك لا يسمّى في الاصطلاح ظرفًا ويُسمّى اسم زمانٍ، كما لا يُسمى الظرف المرفوع/ على السّعة ظرفًا، فإطلاق لفظ اسم الزمان إذًا أجودُ من التعبير بالظرفِ. وهو مه تَنَبُّهٌ حسن. والثاني من أَوجُهِ الدّرْك: أنّ حاصل كلامه أنّه لا يُخبر باسم الزمان عن الجثة إذا لم تقع فيه فائدة، فإن وقعَتْ فيه فائدةٌ جاز الإخبارُ به عنها. وهذا لا حاصلَ له لأمرين: أحدهما: أن هذا المعنى قد تقدّم له عندما عَرّفَ بالكلام فقال: «كلامنا لفظٌ مفيدٌ». وهو جارٍ في كلِّ كلام، فما الحاجة إلى تكرار ذلك هنا؟ ! وإلّا فيلزم أن يشترط ذلك فيه إذا أُخْبر به عن الحدثِ؛ لأنه قد لا يفيد نحو: القتالُ في يوم، [أو] الخروج حينًا أو زماا. وكان يلزمه مثلُ ذلك في ظرف المكان والمجرور أيضًا إذا أخبر بهما. بل وفي المفرد والجملة، وكذلك سائر الأبواب هى مفتقرةٌ إلى مثل ذلك، فإن الإفاده مشترطة في الجمع فكما لا يجوز أن تقول: زيدُ يوم الجمعة، لعدم الإفاه فيه من حيث إنه معلوم، فكذلك لا يجوز أن تقول: زيد مكانا أو في مكان

، لعدم الفائدة. وكذلك لو قُلْتَ: السماءُ فوقنا، والأرض تحتنا، والنار محرقة، والماء يُرْوى -وطُوِّل له في القصة- فإن كان مثل هذا لا يلزم الاحتراز منه، فكذلك لا يلزم الاحترازُ منه في ظرف الزمان إذا أُخبِرَ به عن الجثة، من جهة أنه معلوم كما هو معلوم في غير ذلك. وإن كان يلزم الاحترازُ منه لزم مثلهُ في جميع الأقسام. لكن هذا غير لازم هناك فكذلك هنا. والثاني: أنّ إخراج ظرف الزمان من ثلاثة الأقسام المذكورة آنفا يوهم في باقيها ما لا يصح، وذلك أنه إذا أخبر أن الظرف والمجرور يقعان خبرًا، ثم استثنى من مواقع ظرف الزمان ما لا يفيد، أوهم أن غيره لا يستثنى منه ذلك بل يقع خبرًا أفاد أو لم يفد. وهذا غير صحيح. فالحاصلُ أن هذين الشرطين كان غنيًا عن الإتيان بهما، ثم ينظر إلى ما يفيدُ وما لا يُفيد من الأخبار بالظرف والمجرور بناءً على ما تقدم في التعريف بالكلام: والجواب عن الأول أنّ كلامه وكلام غيره في مسائل مخصوصة بحسب الإفادة وعدمها ليس من جهة التعريف بالكلام، بل من جهة أخرى وذلك أن من الأبواب ما يطرد أو يغلب فيها عدم الإفادة إلا بشرط، فعادة النحويين أن يُبَيِّنُوا ذلك ليكون فيه حصرٌ لما يُفيد وما لا، وضبط لما يتكلم به. وهذا [من شأنهم]؛ إذ لا يكفي في مثل ذلك مجرّد تعريف الكلام بأنه لفظ مفيد؛ ألا ترى أن غالب الإخبار بظرف الزمان عن الجثة غير مفيد، بخلاف الإخبار به عن الحدث، أو بظرف المكان أو المجرور فتجد ظرف الزمان قد حصل فيه الوصف (الذى) هو مَظنّةُ الإفادة، ومع ذلك فلم يُفِدْ ككونه معرفةً

بالألف واللام أوِ الإضافة، ولو كان ظرفُ المكان والمجرور كذلك لأفاد، فتقول: زيد خَلْفَك، وزيد مكان عَمْرو، وزيد في الدار. ولو قلت: زيد يوم العيد، أو زيد اليوم، أو شهر كذا، لم يُفِدْ. فهذا فرقٌ بينهما، ولأجل هذا نبّهوا على أن ظَرْفَ الزمان لا يفيد الإخبارُ به عن الجُثّةٍ/، واستثناء الناظم ما يفيد بقوله: : وإن يُفِدْ فأخبرا «. رجوعٌ إلى الأصل. ومثل هذه المسألة اشتراطُهم الإفادة في وقوع المبتدأ نكرةً حسبما يذكره، فإنّه إذا كان نكرةً غلب عليه ألّا يُفيد، فنبهوا على أنه لا يقع مبتدأ إلا إذا ساوى المعرفة بحصول الفائدة. ومثل ذلك تنبيهُ المؤلف على أن توكيد النكرة جائز (بشرط) الإفادة، ولم يشترط ذلك في توكيد المعرفة، لغَلَبة حُصُولها حين ذلك، وقد لا تحصُل فائدة مع حصول مظنتها، فلم يفتقروا إلى التبيه على ذلك اعتمادًا على ما تقدم في حدّ الكلام. فاعرف هذا أصلًا اصطلاحيا تحتاج إليه فيما يرد عليك من هذه الأشياء، وتعتمد على مقتضاه في حلِّ أمثالِ هذه الإشكالات، فتقطع به كثيرًا من التشغيب والتعسُّف الذي يقع بين الباحثين. وبعد هذا نقول: إنّما [نَبّه] الناظم بالقصد الأوّل على ما كان مثل: زيدٌ يوم الجمعة، أو زيدٌ في شهر كذا، لأنه ظرف مُعَرّف يُفِيدُ إذا لم يقع خبرًا لجثّةٍ، ويُفيدُ مثلُه من ظروف المكان والمجرورات، ولا نَقُول: إِنّه نبّه على نحو: زيد يومًا، أو زيد في شهر؛ لأنّ نحو هذا قد ساواه فيه ظرف المكان والمجرور، وكذلك ظرف الزمان المخبر به عن الحدث، فإخراج

مثل هذا موكول إلى العلم بأنّ شرطَ الكلامٍ الإفادةُ، وهذا كله حَسَنٌ، وبالله التوفيق. وعن الثاني: أن الغرض إذا كان ما تقدّم لم يلزم من هذا الإشكال شيءٌ، لأن قوله: «وإن يُفِدْ فأخبرا» رجوع إلى الأصل من اشتراط الإفادة، من حيث كان الغالب فيه عدم الإفادة، ولذلك منع أولًا الإخبار به، وإِذا كان كذلك لم يلزم منه مفهوم، لأنّ الكلام في قُوّة أَنْ لو قال: «وظرف الزمان مع الجثة غير مفيد فلا يخبر به عنها، فإن فُرِض حصولُ الإفادة به معها جاز الإخبار به عنها». فمثل هذا الكلام لا يقتضى أن غيره يخبر به أفاد أولا، فإذا كان كذلك لم يبق إِشكالٌ. والله أعلم. والثالث من أوجه الدّرْكِ: أنّ حاصل كلام الناظم نَقَلَ الناسُ أنه مخالف للنحويين. ولم يقل به إلا ابن الطراوة؛ قال ابن أبي الربيع: ظرف الزمان يكون خبرًا عن الحدث ولا يكونُ خبرًا عن الجثة، قال: ولا أعلم في ذلك خلاقًا بين النحويين إلا ابن الطراوة فإنه ادّعى أنّ ظروف الزمان تكون أخبارًا عن الجثة إذا أفادت، فإن لم تُفِد لم تكون أخبارًا. ولا فَرْقَ في هذه بين ظروف الزمان وظروف المكان. ثم أتى بأربعة مواضع دليلًا على صحة زَعْمِهِ، وهى الأول والثالث والرابع والخامس من المواضع المتقدمة. ثم قال ابن الطراوة: فكما جاءت ظروف الزمان في هذه المواضع أخبارًا عن الجثة وأفادت، جاءت ظروفُ المكانِ أخبارًا عن الجثث ولم تُفِد، نحو زيدٌ مكانًا، فالرابط كله الفائدة بالإخبار وعدمها.

قال ابن أبي الربيع [مُنْفَصِلًا] عما قال: أما الهلالُ الليلة، فعلى حذف المضاف، لأن المقصود الإخبار عن ظهوره لنا، أى: حدوث الهلال الليلة. وهو تأويلُ الفارسي. وأما نحن في شهر كذا، فالمراد تعيين الشهر، ووجهُ السؤال: أَيُّ شهر شهرنا، فيقال: شهر كذا. فهو كلام/ مخرج عن حدّه، فلا يُعْتَرَضُ به. وهذا جواب الشلوبين. وأما: «أَكُلّ عامٍ نعَمٌ تَحْوُونه؟ »، فجاز لمكان الصِّفة، وكذلك ما أشبهه، فالمعنى: أكل عام أخذ نَعم؟ أكلّ يومٍ لُبسُ ثوبٍ. فالإخبار في المعنى عن الحدث، فجاز اتساعًا، ولم يخرج بذلك عن الإخبار عن الحدث، كما لا يخرج «يومان» في: صِيدَ عليه يومان -بالرفع- عن كونه ظرفًا في المعنى. وأما قوله: «وجهُه حين وشّما»، فعلى إقحام العين، اعتبارًا بأن التوشيم لا بُدّ له من زمان، والمراد: وجهه وشّم. وكذلك ما كان نحوه. قال: وإذا كان هذا كله راجعا إلى الإخبار بالمفرد عن المفرد، أو بالزمان عن الحدث، ثبت أن الإخبار بظرف الزمان عن الجثة بالقصد من غير أن يكون الكلامُ أُحيل عن طريقه لا يعقل وجُودُه؛ إذ لا فائدة فيه، بخلاف ظُروفِ المكان انتهى معنى كلامه.

فإذًا ظروفُ الزّمان لا يُخْبَر بها عن الجثة البتّة اتفاقًا، وما ظُنّ بخلاف ذلك فليس منها في الحقيقة. وهو ما قضٌ لقوله: «وإنٍ يُفِدْ فَأَخُبِرا». فالإشكال هنا من وجهين، أحدهما مخالفة للنحويين أو متابعته لمن خالفهم، والقطع أن مخالفَ الإجماع مخطئٌ. والثاني: أنّ الإخبار بظرف الزّمان عن الجثة قد يفيد، وهو أمر لا يعقل. والجواب عن الأول أن نقول: كيف يثبتُ الإجماعُ مع أن ما ذكر من المواضع الثمانية قد سَلّموا وجودَها في الكلام وقياسَ أكثرها؟ ومثل تلك المواضع هى المراد عند من أجاز ذلك، فإنما يثبتُ الإجماع على المنع فيما كان على خلاف تلك المواضع وأشباهها، وليس النزاع فيه، وإن سلم ذلك فإنما يكون إجماعًا معتبرًا إذا ثبت حصوله قبل خلاف ابن الطراوة، وهذا يصعُب إثباتُه، وإذا لم يثبت فالظاهر أن المسألة خلافيّة، وإذا كانت كذلك فلا عَتْبَ على ابن مالك في ارتكابه بعض المذاهب المنقولة في مسألة اجتهاديّة. ثم إنّ أبا علي الشلوبين قد نصّ على عَيْنِ ما ذكره ابن الطراوة في كتاب «الأسئلة والأجوبة»، فقال على أثر ما ذكر جملة من المواضع المذكورة: وجُمْلةُ هذا أن ما وقعت به الفائدة من الأخبار جاز، وما لم تقع به الفائدة لم يجز، وهو ما قال الناظم بعينه، ولو كان ابنُ الطراوة بذلك مخالف للنحويين لم يرتكبه، بل كان يردّ عليه على عادته في التزامه مناقضَته، أو كان يُبَيِّنِ مخالفته لهم إن كان ارتضى مذهبه وإن سُلِّم الإجماع فليس في مسألة يَنْبَى عليها حكم، بل هو في تأويل، ويجوز الخلاف فيه وإحداث قول آخر غير ما أُجمِع عليه على الصحيح عند أهل الأصول.

وعن الثاني: أن ابن الطراوة وغيره إنما أرادوا أن الإخبار بظرف الزمان عن الجثة جائز حيثُ تحصُل الفائدة، من غير تعيينٍ لوجه الإفادة، من كونه على تأويل أو غير تأويل، لأن ظاهر الإسناد في قولك: الهلالُ الليلةَ، وأكل يومٍ ثوب تلبسه/، وما كان نحو ذلك على [أنّ] الجثة أُخْبِر عنها بظرف الزمان فأفاد، والوقوف مع الظاهر هو المراد، وأما التأويل فالنظر فيه ثانٍ عن جواز المسألة، والاعتماد على الظاهر والحملُ عليه -وإن أمكن غيرُه- هو مذهب ابن مالك في عربيته، وهو أصل سيبويه، بَوَّب عليه ابن جنى في الخصائص، وسيأتي التنبيه على مواضع من هذا القبيل، بحول الله ومشيئته. وأيضًا فقد يظهر القصد إلى الإخبار بنفس الظرف في نحو: نحن في زمان الصيف، أو في شهر كذا. ولا ينبغي أن يُعدَلَ به عن هذا الظاهر لأن يُقال: إنما المراد الإخبار بأن الزمان زمانُ الصيف، وأنّ الشهر شهر كذا؛ إذ لقائل أن يدّعى مثلَ ذلك في ظرف المكان مع الجثة فيقول في قولك: زيدٌ في مكان كذا: إن المعنى: مكان زيد مكان كذا. وعند ذلك يستوى الظرفان في الإخبار بهما عنن الجثة. فإن قيل: إنما القصد الأول في ظَرْفِ المكان الإخبار بأَنّ «زيدٌ» مستقَرٌّ فيه. قيل: وكذلك القصدُ في (النحو) قولهم: نحن في شهر كذا، أو

في زمان كذا، الإخبار بأنّا مستقرون فيه. وهذا مما يصعُب الجواب عنه. ويؤيِّد هذا أن تعليلهم امتناع الإخبار هنا بأنّ كلّ جُثّةٍ تستلزم الأزمة لأنها موجودة فيها، فكأن الإخبار بذلك إخبارُ بمعلوم، يقتضى أنها إذا أخبر عنها بالزمان على حالةٍ من الأحوال التي تختلف بحسبها الأزمان أو الجثث ممّا لا يكون معلومًا للمخاطب، لزوم الجوازُ كالأحداث وطروف الزمان. وقد علّل ابنُ الباذِش المنعَ بأن متعلق ظرف الزمان لا دلالة عليه مع الجثث، فإذا قلت: زيدٌ اليوم، صلح لأشياء كثيرة، لجواز أن يكون المعنى: منطلق اليوم، أو مقيم، أو غير ذلك. ولم يَقْصِرْه الاستعمال على معنىً بعينه، كما قصر ظروف المكان، وكما قصر ظروف الزمان مع الأحداث على معنى كائن أو استقرّ. ولو قُصِد غير ذلك لم يجز الحذفُ. فعلى هذا إذا فُرِضَ قصد الاستعمال لبعض ظرف الزمان مع الجثة على معنى كائن أو استقر، كتلك المواضع، جاز الإخبار بها. وهذا لا مدفع فيه، بل هو أمر معقول موافق للمنقول. وعلى الجملة فهذا الاختلافُ راجعٌ إلى اختلافٍ في عبارةٍ لا اختلافٍ في معنىً. والله أعلم. والجثة: شخصُ الإنسانِ قاعدًا أو نائمًا، كذا قال الجوهرى. فخصّه بالإنسان كما ترى. واستعمالُ النحويين له على ما هو أعمّ من ذلك، فالجثةُ عندهم شخصُ كُلِّ متشخّص.

وقوله: «فأخبروا»، أراد: أَخْبِرَنْ، بنون التوكيد، فأبدلها للوقت ألفًا، وذلك سائغ. وَلا يَجُوزُ الابْتِدَا بالنّكره مَا لم يُفِدْ كَعِنْدَ زَيدٍ نَمِرهْ وَهَلْ فَتًى فِيكُمْ فما خِلٌّ لَنا وَرَجُلٌ مِن الكَرامِ عِنْدَنَا وَرَغْبَةٌ فِ الخَيرِ خَيرٌ، وَعَمَلْ بِرٌّ يَزِينُ. وَلْتَقِسْ مَا لَمْ يُقَلْ أعلم أنه لما كان الغَرضُ من الكلام حصولَ الفائدة، وكان الإخبار عن غير مُعَيّنٍ لا يُفيد، كان أصلُ المبتدأ التعريف. ولهذا إذا أخبر عن معرفة لم تتوقف الإفادة على أمرٍ زائدٍ سوى التعريف، بخلاف النكرة/، فإن الفائدة في الإخبار عنها تتوقّفُ على أمرٍ زائد. قال المؤلف: ويلزم من كون المبتدأ معرفةٌ أن يكون الخبر نكرةٌ في الأصل لأمرين، أحدهما: أن كونه معرفة مسبوقًا بمعرفة يُهِمُ كونَهما صفة وموصوفًا، فيجيءُ الخبر كرةً لرفع التوهم. والثاني: أَنّ نسبة الخبر من المبتدأ كنسبة الفعل من الفاعل، والفعل يلزم تكيره، فاستحق الخبر لشَبَهِهِ به أن يكون راجحًا تنكيرُه على تعريفه. ثم إِنّه يتصوّر فيهما أربعة أقسام:

أحدها: أن يكون معًا معرفتين. فهذا جائزٌ، ولا يحتاج مثله إلى التنبيه على حصول افائدة، لغلبة وجودها فيهما. وسكوت الناظم على التنبيه على هذا القسم يدلّ على ذلك. فإن فُرِض فيه عدمُ الفائدة فذلك يخرج باشتراط الإفادة في الكلام. وأيضًا فقولُه: «ولا يجوز الابتدا بالنكره»، قد يُفْهِمُ أنّ المعرفة يُبْتَدَأُ بها، فيدخل هذا القسم فيما يجوز، لأن الابتداء فيه بالمعرفة. ومثال ذلك: {اللهُ ربُّكم وربُّ آبائِكُمُ الأوّلين}، و (محمدٌ رسولُ اللهِ)، وزيد أخوك، وهذا عبدُ الله، وشبه ذلك. والثاني: أن يكون المبتدأُ معرفة والخبرُ نكرةً، فهذا جائز، ولا يفتقر إلى اشتراط تحصيل الفائدة لما تقدّم آنفا. وأيضًا قد نبّه بالمفهوم على جواز الابتداءِ به. ولم يقيّد الخبر بتعريفِ دون تنكير، فدخل هذا كما دخل ما قبله. ومثاله: {واللهُ عليمٌ حكيمٌ} {وهُوَ عليمٌ بذاتِ الصُّدُورِ}. وزيد قائم. وما أشبه ذلك. والثالث: أن يكون المبتدأ نكرةً والخبرُ معرفةً. والرابع: أن يكونا جميعا نكريين. وهذان القسمان داخلان تحت نصِّه وقوله: وَلَا يَجُوزُ الابتدا بِالنّكِرَه ما لم تُفدْ ...

فنبّه على أنّ أصل النكرة والغالب (فيها) إذا وقَعَت مبتدًأ أن لا تُفيدَ، فلا يجوز الابتداءُ بها، فإن وُجِدَ في بعض ذلك فائدةٌ جاز الابتداء بها. وهذا التقسيم الرباعي لم يَعْتَدْ به الناظمُ، وَإِن كان قد نبّه عليه في «التسهيل»؛ إذ لا كبيرَ ثمرةٍ في ذلك. وأيضًا فإن الخبر يقع ظرفًا وحرف جر، وجملة. ولا يُسمّى شيءٌ من ذلك معرف ولا نكرة، وإِنّما يوصف بذلك ما وقعت موقِعَه، فاستغنى عن الكلام في تنكيره أو تعريفه. ثمّ إنّ الناظم نبّه على شيءٍ يَجِبُ التبيه عليه، وهو أَنّ الابتداء بالنكرة ليس مقتصرًا به على مواضع من الكلام دون أُخَرَ، ولا محصورة بشروط تتعدد، وإنما المعتبر في ذلك حصولُ الفائدة عند الابتداء بها. وذلك أنّ من المتأخرين من يقول: لا يبتدأ بالنكرة إلا بشروط. ثم ثذكر من المواضع التى وقعت فيها الفائدة مثل ما ذكره الناظم، كالجزولى، وابن عُصفور في المقرب، وابن أبي الربيع في البسيط، وغير هؤلاء فيوهِمُ كلامُهم أنّ الابتداء بالنكرة مقصور على تلك المواضع، وأن ما عداها عَرٍ عن ذلك، وليس كذلك. وذلك أن السبب الذي لأجله امتنع الابتداء بها عند النحويين المتقدمين كُلّهم، ومن اعتُبِر كلامُهم من المتأخرين، إنما هو عدم الفائدة في الإخبار عنها، والشروطُ التى يذكر هؤلاء

إنّما ساغ الابتداءُ بالنكرة عندها لوجود الفائدة معها في الاخبار، ولا يمكن أنْ / يكون ما عدوا مقصورا عليه الابتداءُ بالنكرة، فالاشتغال بتعدادها دون التّبيه على أصْل ذلك عناءٌ لا فائدةَ فيه. ولذلك لمّا ذكر الناظمُ منها جُملةٌ على جهةِ التمثيل ختم بقوله: «وَلْتَقِسْ ما لم تُقَلْ». اتكالًا على تحصيل أصل المسألة. وإنما يذكر متقدمو النحويين في هذا كسيبويه والأخفش والمبرّد وابن السراج ما يكثُر وجودهُ مما يُسيغُ الابتداءَ فالنكرة لوقوع الفائدة بذكر ذلك، كالوصف والعموم، ولا يُوجَد لهم في ذلك حصرٌ. والدليل أنّ المعتبر عندهم في ذلك الجوازٍ والمنعٍ أنما هو حصول الفائدة وعدمها، أنه قد تَتّصِفُ النكرةُ ثم لا يكون في الاخبار عنها فائدة، فلا يجوز الإخبار عنها. نَصّ على ذلك سيبويه فقال في باب «كان»: «ألا ترى أنك لو قلت: كان إِنسانُ حليمًا، أو كان رجلٌ منطلقا، كنت تُلبِسُ، لأنه لا يُستنكرُ أن يكون إِنسانٌ هكذا». فهذا نصٌّ بأنّ المانع من ذلك فَقْدُ الفائدة في الخبر. وقال في بابٍ بعده، بعد ما ذكر «ما أحد مثلك»، لا، وأمثلة نحوه: «وإنما حسن الإخبار هنا النكرة لأن المخاطب قد يحتاج إلى أن تُعلِمه هذا». وتَمّمَ هذا المعنى ثم قال: «ولو قلت: كان رجلٌ في قوم عاقلا، لم يحسُن، لأنه لا يُستنكر أن يكون في الدنيا عاقل». فهذا نصٌّ أيضا بأن الصنعة إذا لم تكن مفيدة،

فوجودها كعدمها. وذكر أيضًا ذلك المبرد في «المقتضب»، والأخفش في «الأوسط» وشَفَى فيه ابنُ السّراج في «الأصول» وقال في بعض كلامه: «وإنما يُراعَى في هذا الباب الفائدةُ، فمتى ظَفِرتَ بها في المبتدأ وخبره فالكلامُ جائز، وإلا فلا معنى له في كلام العرف ولا في كلام غيرهم». فلأجل هذا اعتنى الناظم ببيان الموجب للابتداء بالنكرة، ولم يحفل بحَصْرِ ما لا ينحصرُ. ثم أخذ يذكر أمثلة مما حصلت فيه الفائدة فجاز الإخبار، وهي ستة: أحدها: «عند زيد نَمِرَةٌ». فهذا مبتدأ قد أُخبر عنه بظرف مختص بإضافته إلى معرفة، وقَدّم عليه، فحصل بسبب ذلك الإفادة. ولو قُدّم هذا المبتدأ لم يُفِد الإخبارُ إذا قلت: نَمِرَةٌ عند زيد. وكذلك لو كان الظرف غير مضافٍ أو مضافًا إلى نكرة نحو: مكانًا رجل، أو عند رجل نَمِرَةٌ. فإذًا كُلُّ نكرةٍ أُخبِرَ عنها بمثل هذا الإخبار المفيد جاز الابتداءُ بها. والمجرور في حكم الظرف إذا قلت: في الدار رجل، ولزيد مالُ. وما أشبه ذلك. وكذلك إذا قلت: أمام زيد رجلٌ، وخلفك غُلَامٌ، وأمام بكر فرس، ونحو ذلك. وإنما أفاد الابتداءُ بالنكرةِ على هذا الترتيب، لأنّ تقديم الظرف والمجرور نَصٌّ في أنه الخبر، وأما إذا قلتَ: نَمِرَةٌ عند زيدٍ، فإن الظرف يحتمل أن يكون صفة للنكرة، فينتظر السامع الخبر. فَقُدِّم [لرفع] هذا الاحتمال.

هذا توجيه ابن مالك في الشرح، وردّه بعض النحويين بأن ذلك الاحتمال غير بالغ بدليل قولهم: زيدٌ القائم، والقائم بإجماع النحويين يجوز أن يكون صفة، ولا يلزم أن يتقدم على المبتدأ لهذا الاحتمال باتفاق. وأجاب ابن عصفور عن هذا بالفرق بينهما من جهة أن النكرة أحوج للوصف من المعرفة. وقد وُجّه بغير هذا. والنَمِرَةُ: بُرْدة من صوف تلبسها الأعراب. والنّمَرِةُ أيضا: مؤنث النّمِر، وهو سَبُعٌ أخبث من الأسد. والجمع: نُمور. والمثال الثاني: «هل فتًى فِيكُم؟ ». وهو نكرة تقدمّها/ أداة استفهام، فحصلت الفائدة بسببه. ووجهُ حصولها أن الاستفهام سُؤَالٌ عن غير معيّن ليعيّن في الجواب، فهو لا يقتضى فيما دخل عليه إلا إبهامه، فأشبه أداة العمومِ الحاصرة، فحصلت الفائدة. ويشمل هذا المثال بالمعنى كُلّ أاةٍ من أدوات الاستفهام، نحو: أجل عندك أم امرأة؟ ومن في الدار؟ وما جاءَ بك؟ وأىُّ رجلٍ قائم؟ . والمثال الثالث: «ما خِلٌّ لنا». وهذا نكرة تقدّمها أداة نفي، فأفاد بسبب ذلك. وَجْهُ حُصُولِ الفائدة أنّ النكرة في سياق النفي تَعُمٌّ، وإذا عَمّت كان مدلولُ النكرةِ جميعَ أفراد الجنس، فصارت النكرةُ عد ذلك في معنى المعرفة، فأفادت. والخِلّ والخليلُ: الصاحبُ الذي خَلَصَت مَحبّتُه.

والمثال الرابعُ: «رجلٌ من الكرام عندنا». فرجل نكرةٌ موصوفة بقوله: «من الكرام» أى: كائن من الكرام، أفاد الابتداءُ بها لأجل وصفها، لأنك لو لم تَصِفْها فقلت رجلٌ عندنا، لم يُفِدْ، كما أنك لو أزلْتَ حرف النفي أو حرف الاستفهام من المثالين قبلُ فعَلْتَ: «فتىً فيكم» و «خِلٌّ لنا»، لم يحصل معنًى يُفادُ. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيرٌ مِنّ مُّشركٍ}، {ولأمَةٌ مُّؤمنةٌ خَيرٌ مِنّ مُّشركَةٍ}. وإنما أفادت هنا لأنّ النكرة إذا وُصِفَت أفادها الوصفُ بعضَ اختصاصٍ فتقرُبُ بذلك من المعرفةِ، فتحصل الفائدة؛ قال سيبويه: «ولو قلت: كان رجل من آل فلان فارسًا، حَسُن؛ لأن هذا قد يَحتاجُ إلى تُعلِمَه أن ذلك في آل فلان، وقد يجهله، ووصف النكرة [الذى] أشار إليه يُصور على أربعة أوجه، وجميعها تحصُلُ الفائدة في الابتداء بالنكرة بسببه: أحدها: هذا، وهو أن يكون الوصف والموصوف معًا ملفوظا بهما، وهو ما مَثّل الناظم. والثاني: أن يكون الوصفُ مقدّرًا، نحو: السمنُ مَنَوان بدرهم. فمنوان: مبتدأ محذوفُ الصِّفة، والتقدير: مَنَوان منه بدرهم. ومنه أيضا قولهُ تعالى: {يَغْشَى طَائِفةٌ مِنْكُمُ، وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهم}. فقوله: (وطائفةٌ): مبتدأ

في تقدير الوصف، أى: وطائفة أخرى، [أو] وطائفة من غيركم. كذا قدره المؤلف، يعنى المنافقين. ومنه قولُ امرِى القيس: إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِها انْحَرفَتْ لَهُ بِشِقٍّ، وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ أى: وَشِقٌّ آخَرُ غيرُ مُحَوّل. والثالث: أن يكون الموصوفُ محذوفًا، وقامت الصفةُ مقامه، نحو قولك: ضاحك في الدار. وحكاه ابن عُصفور عن الكوفيين. وهو صحيح في الاعتبار. والرابع: أن تكون النكرة موصوفةٌ من جهة المعنى، وذلك في التصغير، نحُو: رُجَيلٌ في الدار. كأنه قال: رَجُلٌ صغيرٌ في الدار. ولذلك لا يعمل اسم الفاعل إذا صُغِّر، كما أنه لا يعمل إذا وُصِفَ قَبل العمل. فالمُصَغّر عندهم بمنزلة الموصوفة فهذه الأقسام الأربعة يشملها كلامُ الناظم، لأنه أتى بمثالٍ النكرةُ فيه موصوفة، كأنه قال النكرة الموصوفة يجوز الابتداءُ بها لإفادتها. وهذه العبارة تشمل ما كانا فيه ملفوظا بهما، وما لا، وإلّا فلو كان مرادُه ما لُفِظ فيه بهما لأوهم أن الوصف على غير ذلك لا يفيد، فلا يُبْتَدأ بالنكرة إِذْ ذاك وهذا غير صحيح.

والمثال الخامسُ: «رَغْبَةٌ في الخيرِ خَيْرٌ». فهنا نكرة تعلّق بها معمول، وهو المجرور، فأفاد الإخبارُ عنها. ولم لم يتعلّق بها شيءٌ لما أفادت، نحو: رَغْبةٌ خيرٌ. ويجرى مجرى هذا ما كان مِثله في كون النكرة عاملةٌ في معمول. ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: / «أَمرٌ بمعروفٍ صدقةٌ، ونهىٌ عن منكر صدقة». ويدخل في عداد هذا الصفة إذا رفعت الفاعل -على مذهب الأخفش- نحو: قائمٌ الزيدان؛ إذ هو لا يشترط الاعتماد. ومه أيضًا قولك: قولٌ الخيرَ أحسنُ من قولٍ الشرّ، وإكرمٌ زيدٌ عمرًا حَسَنٌ. وما أشبه ذلك. ووجهُ الإفادة هنا أن النكرة قد حصل لها بالمعمول بعض الاختصاصِ، كما حصل لها بالصفة، فأشبهت المعرفة بِقُرْبِها منها، فأفادت. والمثال السادس: «عَمَلُ بِرٌّ يزينُ». وهنا نكرة أضِيفت إلى نكرةٍ فأفاد الابتداءُ بها، وأيضًا نكرة لم يُرَد واحدُ من جنسها دون غيره، فاحتمل المثال القصدين. أما الأول فهو الظاهر لوجود الإضافة، ومنه في القرآن الكريم {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُه}. وفيه أيضا: {وَالذِينَ كَسَبُوا السّيئَات

جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمثلها}. وفي الحديث: (خَمُسَ صَلواتٍ كتَبَهُنّ اللهُ عَلَى العِبَادِ). ووجه الإفادة هنا ما في الإضافة من إعطاء الاختصاص المقرّب من المعرفة. وأما الثاني فهو ممكنٌ أن يريده وإن كان فيه إضافةٌ؛ إذ هو في ذلك مرادف لما لا إضافة فيه، وذلك أن قولهم: تَمرةٌ خيرٌ من جَرَادةٍ، ورجلٌ خيرٌ من امرأة. لم يُريدُوا فيه واحدًا معيّنا، ولا أَيضًا الجنسَ كلّه، وإنّما أرادوا أنّ واحدًا من هذا الخبر -أىّ واحدٍ كانَ- خيرٌ من واحدٍ من هذا الجنسِ، أىّ واحدٍ كانَ. فالنكرة هنا لمّا كانت المرادة بغير عينها في القصدِ الأولِ، كانت في الإخبار عنها كالمعرفَةِ إذا كانت مرادةً بعينها، فحصلت الفائدة. وأيضا لما لم يكن المرادُ واحدًا بخصوصه، أشبه الاسم العام، فأفاد الإخبار. وكذك الحكم في مثال الناظم وإن كان مضافًا؛ لأن قوله: «عَمَلُ بِرٌّ يزينُ»، يمكن أن يُرَادَ به: عمل برٍ، أىّ عَمَلٍ كان، كأنه يقول: أَيّ عمل كان من أعمال البرّ اتصف به الرجل فهو يَزِينُه. وهذا صحيح في القصد. وقد جعل قولهم: تمرةٌ خيرٌ من جَرَادة، مما قصد به العموم، وبه قال المؤلف في الشرح، وهو سبب الإفادة، على قوله. وقال غيره. إن سبب

الإفادة هنا قصد المفاضلة بي نوعين، فهو الموجب لذكر واحدٍ لا يدلُّ على العموم. ولو قال الناظم هنا: «وَعمَلُ برٍ خيرٌ من عمل شرّ»، أو شبه ذلك، لكان مثله. فهذه ستة أمثلة مما وقع فيها الابتداءُ بالنكرة لإفادته، أتَى بها ليُرشِدَ بها إلى مواضع الإفادة في الابتداءِ بالنكرة، ولذلك أتمّ المسألة بقوله: «وَلْتَقِسُ ما لم يُقَلْ». يعني أنّ مواضع الإفادة غير محصورة فيما قيل هنا، بل القياسُ جارٍ في كل نكرة أفاد الابتداء بها، ليس على ما يظهر من كلام هؤلاء المتأخرين الذين يحصُرون الإفادةَ في مواضعَ توهم أن الإفادةَ لا تتعدّاها، وإن كان قصدهم كقصد الناظم فإنهم لم يُصَرّحوا به حتى نَتَبَيّن مرادهم، كما بيّن الناظمُ مراده، والإ فلو أرادوا ظاهرَ كلامهم لكان غير صحيح، من حيث تَحجرت لهم مواضع كثيرة أفاد فيها الإبتداء بالنكرة وليست مما عدُّوا. وليس فيما عدّوا موضعٌ إلا ويُتَصور فيه عدم الإفادة. وَيتبيّن ذلك بحول الله، وبه يتم شرح كلام الناظم، أما الذى نَقَصهم فيذكر إثر هذا./ وأمّا أنّ ما عَدُّوا يتَصور فيه عدمُ الإفادة فلأن الموضع الأول مما ذكر الناظمُ لا يختصّ بالإفادة، لو قلت: عند الناس درهم، أو في الدنيا رجل، لم يُفِدْ. وهو في القيود مثل: «عند زيدٍ نَمَرِةٌ».

والثاني كذلك؛ إذ قلت: هل امرأة في الأرض؟ وهل شخص عاقل؟ ونحو ذلك لم يحصل به فائدة؛ إذ لا يستفهم أحدٌ عن مثل هذا، لضرورة العلم به وكذلك الثالثُ إذا قُلْتَ: ما حمارٌ بِمُتكلِّمٍ. وما بحر لنا. وما أشبه ذلك. وكذلك الرابع، قال سيبويه: «لو قلت: كان رجل في قوم عاقلا، لم يحسن لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل». ومثل هذا لا يُفيد كثير التأنّي والافتراض. ولو قلت في الموضع الخامس: أكلٌ للخبز مفعول، وشربٌ للماء معمولٌ به. وما أشبه ذلك، لكان عبثًا من الكلام. وكذلك السادس إذا قلت: عَمَلٌ رجلٍ موجود. وخَبَرُ امراةٍ سُمِع، وغلام إنسان قائم. فهذه أمثلةُ مثل الأمثلة التى أتى بها الناظم، ولم يحصل بها فائدة زائدة فبِحقٍ ما قال: «ما لم يُفِدْ»، وقوله: «وَلْتَقِس ما لم يُقَلْ»، أى: اعتبر ما حصلت به الفائدة فأجز الابتداءً به. وأكثر ما ذكر هؤلاء المتأخرون من ذلك، على ما جمعه بعض شيوخنا، عشرون موضعًا، تقدم للناظم منها ما ذكر، ومنها:

أن يكون في المبتدأ معنى العموم كقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قانِتُون}، (قُلْ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتهِ). ومنها: أن يكون فيه معنى الحصر، نحو قولهم: شئٌ ما جاءَ بك، وشرٌّ أهَرّ ذا ناب، لأنّه مقدّر بالفاعل، أى: ما جاءَ بك إلا شيءٌ، وما أهَرّ ذا نابٍ إلا شرٌّ. ومنها: أن يكون فيه معنى الدعاءِ، نحو قول الله تعالى: {سَلَامُ عَلَى إِلْ ياسِين}. وقولهم: سلامٌ عليكم. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلمُطَفّفين} و {وَيْلٌ يومئذ للمكذّبين}. ومنها أن يكون فيه معنى التعجّبِ، كقولهم: عَجَبٌ لزيد! ومنه عند طائفة: ما أحسنَ زيدا! في مذهب سيبويه وغبر عن ابن مالك: بأن يكون فيه معنى الإبهام. وهو صحيح في: ما أحسن زيدا! كما قال. ومنها: أن يكون فيه معنى الشرط، نحو: من يكرمِنى أكرمْه. فمن:

مبتدأ، خبره: يكرمنى. ومنها: أن يكون فيه معنى الفعل، وهو داخل في تمثيل الناظم بقوله: «ورغبة في الخير خيرٌ، ويعمّ معنى الفعل أيضا ما فيه معنى الدعاء، ومعنى التعجب في قولهم: عَجَبٌ لزيد. ومنها: أن يكون في جواب من سأل بالهمزة وأم، فقال: أرجل في الدار أم امرأة؟ فإن جواب ذلك أن يقال: رجل، أى: في الدار. لانحصار الجواب بين الاسمين، فلا يكون الجواب إلّا بأحدهما. ومنها: أن يكو مقرونا بواو الحال. وهذا راجعٌ إلى ما قالوه من التنويع، لأنه مُثِّل بقوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ} .. الآية. وكلاهما راجعٌ إلى النكرة الموصوفة كما مر وقد مثّله المؤلف بقول الشاعر: رَحَلْنَا فسَلّمْنَا، فَسَلّمَ كارِهًا عَلَينا، وَتَبْرِيحٌ مِنَ الْوَجْدِ خَانِقُهْ ومنها: أن يكون معطوفا أو معطوفًا عليه. أما عطفُه فهو ما أنشده المؤلِّف من قول الشاعر: عِنْدِى اصْطِبارُ، وَشَكوى عند قاتِلَتىِ فَهَلْ بأعجبَ مِنْ هَذا امْرؤٌ سَمِعَا؟ !

وأما العطفُ عليه فنحو قول الله تعالى: {طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْروفٌ}. على أن يكون التقدير: طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثل. وهو أحدُ تَقْدِيرىْ سيبويه. وقالوا: شهرٌ ثرى، وشهرٌ ترى، وشهرٌ مرعَى. ومنها: الجريان مجرى المثل، كقولهم: أمتٌ في الحجر لا فِيكَ. ومنها: أن يكون فيه معنى الأمر، نحو قول الله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}. ومنها: أن يتقدم على النكرة شئ من معمول خبرها، كقولهم: فيها أسدٌ رابضٌ -فأسدٌ: مبتدأ، ورابضٌ هو الخبر، وفيها: متعلّق برابض، لقول العرب إنّ فيها أسدًا رابضً.

والذين خَصُّوا الابتداء بالنكرة بمواضعَ معلومة لم يَرْفَعُوها إلى هذا العدد. وإنّما عدّها ابنُ أبي الربيع عشرة مواضِعَ، وكذلك ابنُ عصفُورٍ في المقرِّب نحوا من أربعة عَشَر موضعًا، ومنها أشياءُ متداخلةٌ، فقد قَصَّر عَدُّهم، واقتضى حيث منع الجائزُ لم يذكروه. وأيضًا فقد يفيدُ في المثالِ الأوّلِ من أمثلة الناظم حيث يكونُ الظرفُ أو المجرور غير مختصّ، كقوله عليه السلام: «في أربعين شاةٌ». وعليه نقول: في خَمْسِ ذَوْدٍ شاةٌ، وفي عشرٍ شاتان، وفي أربعين دينارًا دينارٌ. وما أشبه ذلك. ويفيد أيضًا وإن لم يتقدم الظرف أو المجرور، كقول امرئ القيس: مُرَسّعَةُ بين أَرْساغِهِ بِهِ عَسَمٌ يَبَتغِى أَرْنَبَا وحكي ابن الحاج عن شيخه الشلوبين أنه كان لا يمنع: رجلٌ في الدار - ولكن يقول: الأكثر والأحسن في ذلك التقديم، كأنهم آثروا أن لا يقدّموا إلا موضع الاهتمام والعناية. فإن قلت: إن «مرسّعةٌ» كالخَلَفِ من الموصوف.

قيل: الموصوف لم يتخصّص ولا دلّ عليه دليل، فلا أثر له في تحسين الابتداءِ بالنكرة، كما أنه لا أثر للصفة في قولك: رجل من قوم عاقِلٌ. وأيضًا فإنّ التقديم عند الشلوبين لموضع الاهتمام والعناية، كأن المعنى: الدار فيها رجل، لا لمعنى آخر، يدلّ على ذلك التزامُ تقديمه حيث كان يسوغُ الابتداء بالنكرة باتفاق، وذلك قولك: ما في الدار رجلٌ. فالأحسنُ في هذا تقديم الخبر لأنه الذى أوقع الفائدة الحاصلة بكونه معرفة. ولذلك حكى من كلامهم: ما له سَبَدُولا لَبَدٌ، وما في الدار أخذ. وفي التنزيل: {مَا لَهُمْ مِن مّحِيصٍ}، {مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِمُ مِنْ شيءٍ}. وهو كثير جدًا ففى الدار رجلٌ، من هذا بلا شك. وهو أحسنُ ما وُجِّه به هذا الموضع. وعلى هذا قد يُفيدُ: هل فتى فيكم؟ بغير استفهام، وما خل لنا، بغير نفي، ورجل من الكرام عندنا، بغير صفة. فقد ثبت بهذا كلّه أن المقصودَ حصولُ الفائدة. وبالجملة ما يفيد وما لا يفيد إنما يرجع الحكم فيهما إلى الأغراض والمقاصد الخاصّة. بشخصٍ شخصٍ وحالٍ حالٍ وقد يكون ما هو مفيدٌ لشخص مّا غير لآخر، وحَصْرُ ما يختلف بحسب الأشخاصِ والأحوال والمقاصد صعبٌ عسير. فالحقُّ ما فعل الناظم، وعلى هذا القانون يجرى الكلام في قوله في حدّ الكلم: «لفظ مفيد». فقد يكون الكلام

مفيدًا في بعض المواضع دون بعض/ كما تقدم، وذلك على إحدى الطريقتين المذكورتين هنالك. وبقي من النظر في هذه المسألةِ النظرُ في قوله: ولا يَجُوزُ الابتدِا بالنكره ... ما لم يُفِدْ ... ... ... إلى ماذا يرجع الضمير في «يُفِدْ»؟ وهو محتمل وجهين: أحدهما: أن يعود إلى الابتداء، أي: ما لم يُفِد الابتداءُ بالنكرة. هذا هو الظاهر. والثاني: أن يعود إلى غير مذكور، لكنه مفهوم من سياق الكلام، وهو الكلام المبتدأ فيه بالنكرة، كأنّه يقول: لا يجوزُ الإبتداءُ بالنكرة إِلا إذا أفاد الكلام بذلك. والفرق بين الأول والثاني: أنّ الأول يعطى أن الفائدة تحصُل من جهة النكرة لأنها موصوفة أو عامة، أو على حالة تقوم في الابتداء بها مقام المعرفة، كما تبيّن. فالفائدة منسوبة للنكرة، لا لغيرها. وأما الثاني فلا تتقيّدُ الإفادة بذلك، بل المعنى أن الفائدة إذا حصلت من الكلام كانت بسبب تقييد المبتدأ، أو تقييد الخبر لا المبتدأ، فالابتداء بالنكرة جائزٌ. وبيهما فرقٌ في الحكم، لأنه قد يكون الابتداءُ بالنكرة جائزًا لا لمسوِّغٍ فيها نفسها، بل لمسوغ يعطيه الخبر، إذا قُيِّدَ بِقَيْدٍ، لو لم يُقَيّد به لم يحصل من الكلام فائدة، كقولك: «إنسانٌ صَبَر على الجوع عشرين يومًا، ثم سار أربعة بُرْدٍ في يومه، وفعل كذا، وتصرّف في كذا، وهو في سنّ الشيوخ». فهذا لم يُوجِبْ له الفائدةَ إلا تقييدُ الخبرِ لا تقييدُ المبتدأ.

وهذا المنزَعُ لابن الحاج في تقييده على «المقرّب» لابن عصفور، ولم آره لغيره. وفيه يقول: ما من مثال يمتنع لأجل الابتداء بالنكرة إلا وهو جائز إذا كثرت قيودُ خبره، وذلك أنّ امتناعه إنما هو لأنه لا ينكر أن يكون في الدنيا مخبر عنه بمثل ذلك الخبر، قال: فإذا قيّدت الخبر تقييداتٍ كثيرةً وضيّقت عمومه، صار مفيدًا، فجاز لذلك قال وتمثيلُ ذلك أنّ سيبويه قد نصّ على امتناع: كان إِنسانٌ حليمًا، فلو قيّدت خبره -كما ذكرتُ- لساغَ ذلك وجاز، فكنت تقول: كان إنسانٌ حليمًا عند قَتْل أَحبِّ ولده إليه. وأتى على آخر الفصل. فمثل هذه الفائدة لم يعطها تقييد المبتدأ، ولا كانت من جهته، فلم يكن عودُ الضمير على «الابتداءِ» بصريح في إعطاءِ هذا المعنى، بخلاف ما إذا عاد على الكلام. والله أعلم. [ثم قال]: وَالأَصُلُ فِي الأَخْبَارِ أَنْ تُؤَخَّرَا وَجَوَزُوا التّقْدِيمَ إِذْ لا ضَرَرَا لما قَدّم أولًا الأحكام المتعلّقة بكلّ واحد من المبتدأ والخبر على حِدَتِه، وذلك التعريف بكل واحدٍ منهما، والعال [فيه]، وما يجوز أن يقع مبتدأً أو خبرًا -أخذ الآن في ذكر بعض الأحكام المتعلقة بكل واحد منهما بالإضافة إلى الآخر، وذلك التقديم والتأخير، فعرّفَ أولًا بقاعدة أَصْلية، وهى أن الأصل في المبتدأ

أن يكون مُقدما على الخبر، والأصل في الخبر التأخيرُ عن المبتدأ. ولما كان كل واحد من الحُكْمين لازمًا عن الآخر اقتصر على أحدهما فقال: «والأصل في الأخبار أَنْ تُؤَخّرا». ولزم منه أن الأصل في المبتدآت أن تقدّم. وقوله: «أن تُؤَخّر»، يعنى/ عن المبتدآت، فحذفه للعلم به، لأنّ كلامهم فيهما. وما قاله صحيح؛ لأن المبتدأ -حسبما تقدّم- عامل في الخبر، ورتبة العامل التقدم على معموله، كالفعل وما أشبهه. وأيضا فهو الكثير في الاستعمال، والكثرة دليل الأصالى؛ وتقرر في الأصول أن الأصالة على ثلاثة أقسام: أصالة قياسية فقط. وأصالة استعمالية فقط، وأصالة مطلقة، وهى التى عَضَد القياسُ فيها الاستعمال. والأصالة هنا من القسم الثالث؛ لأن القياس قد عَضَدَ فيه الاستعمالَ؛ فالقياس أن العامل مقدم على المعمول، والاستعمال أن هذا هو الأغلب في الكلام، أعنى تقديم المبتدأ وتأخير الخبر ثم أردف بأصل ثانٍ استعمالِىّ، وهو إجازةُ تقديم الخبر على المبتدأ فقال: «وجَوّزُوا التقديم». يريد تقديم الخبر على المبتدأ. وإنما كان هذا أصلًا استعماليًا، لأن القياس غيرُ عاضدٍ له، بل هو معارضٌ، حيث اقتضى لزوم الخبر موضعه من التأخير، فلولا السماعُ لاقتصر على الأول. ووجهُ هذا الأصل الاستعمالي أن العامل المتصرِّفَ في نفسه حقِّه أن يتصرّفَ في معمولة بالتقديم والتأخير ما لم يَعْرِضْ عارض، والمبتدأُ متصرّفٌ في نفسه فينبغي أن يتصرّفَ في معموله. والتصرُّفُ في

المبتدأ: هو كونه باقيًا على أصل وَضْعِه من كونه صالحًا لأن يكون فاعلًا أو مفعولًا ومضافًا. هكذا قالوا: والتصرف في العوامل: أن يكون العاملُ باقيًا على أصله لم يتغيّر عن حاله الذى له بأصل الوضع، كخرج وخارج، وكذلك المبتدأ. فإن لم يكن كذلك لم يُسَمّ متصرِّفا، ولم يتصرّف في معموله. هذا معنى التصرفِ عند المحققين كالرّماني وغيره ومحلّ بيان المسألة الأصولُ. فإذا كان كذلك جاز في المبتدأ -الذى هو متصرّف في نفسه- أن يتصرفَ في معموله، وهو الخبر، بالتقديم عليه، فتقول: قائم زيدٌ، ومُصَلِّ أخوك، وضربتُه زيدٌ، وقائمٌ أبوه زيدٌ. وما أشبه ذلك. والضمير في «جَوّزوا» إما أن يعود على العَرَب، وإما على النحويين. فإن كان عائدًا على النحويين فيريردُ بالنحويين أهلَ البصرة، فإنّ الكوفيين مَنَعوا تقديم خبر المبتدأ عليه اعتمادًا على أن ذلك يودّى إلى تقديم ضمير الاسم على ظاهره؛ ألا ترى أنك إذا قلت: قائمُ زيد، كان في قائم ضميرٌ يعودُ على زيد؟ وكذلك إذا قلت: أبوه قائم (زيد)، فالهاء في أبوه عائد على زيد؛ فقد تقدم ضمير الاسم عليه. والأغلب أن رُتبة الضمير العائد على الاسم بعد ذلك الاسم، فوجب أن لا يجوزَ تقديمهُ عليه. وإن كان عائدًا على العرب فهو إشعارٌ بوجودِ ذلك سماعًا؛ وقيام الحجة (به) على الكوفيين، وذلك قد أتى في

النظم والنثر، فقد قالوا: مَشْنُوءٌ من يشنَؤُك. فَمَشْنُوءٌ خبر المبتدأ الذى هو: من يَشْنَؤُكَ، وقد عاد [منه] الضميرُ على متأخر. وكذلك قالوا: تميمي أنا. وقال الشاعر: بَنُونا بَنُو أَبنائِنا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنْ أبناءُ الرّجالِ الأَبَاعد وأيضا إن مَنَعُوه لأجل عود الضمير على ما بعده -على الجملة- فذلك الذى يوجب جوازه لما جاء في كلام العرب من ذلك، فقد قالوا: «في بيته يؤتى الحَكَمُ»، و «في أثوابه يُلَفُّ الميتُ»، وفي التنزيل الكريم (فأوجَسَ في/ نفسه خيفةٌ موسى). وقال زهير: مَنْ يَلْقَ يَومًا عَلَى عِلّاتِه هَرِمًا يَلْقَ السماحَةَ مِنْه والنّدَى خُلُقا وقال الأعشى ميمون: أصَابَ المُلُوكَ فَأَفْناهُمُ وَأخْرَجَ مِن بَيْتهِ ذا جَدَنْ

وهذا أكثر من أن يُحصَى، فالحقّ جوازُ المسألة، وهو ما رآه الناظم ونقله، وقد نبّه على صحة القياس في عود الضمير على ما بعده هنا بقوله: «إذْ لا ضَرَرا»، أى: في جواز تقدّم الخبرِ على المبتدأ، وإن عاد فيه الضميرُ على ما بعده، وذلك أن أصل الضمير عوده على ما قبله وإن كان مفسّره لفظيًا، فَمَرْتَبَتُه ما اتصل به التقديم، نحو: زيد ضربته، وعمرو قائم أبوه، والزيدان قاما، وأكرمتُ زيدًا فأعطيته كذا. لكن قد يتأخّر صاحب الضمير عنه حيث تعيّن له مرتبة التقديم، نحو قولك: ضَرَب غلامه زيدٌ، فالهاء في «غلامه» عائدةٌ على زيد، وهو متأخر، ومع ذلك فهو جائز بإجماع من الفريقين البصريين والكوفيين. وإنما أجازوه لأن مرتبة زيدٍ، وهو الفاعل، مُقَدّمة على رتبة الغلام، وهو المفعول، فزيد متأخبرٌ في اللغظ متقدّم في الأصل، فاعتبر أصله فجازت المسألة كما لو كان في رتبته لفظًا فكذلك يجب أن حال المبتدأ مع خبره، لأن أصل المبتدأ التقديمُ؛ فإذا كان متأخرًا في اللفظ فهو متقدِّمٌ في الأصل، لأنّ رُتْبَتَه التقديم، فإذا كان له ما يُحْرِزُ رُتْبَته فلا ضَرَرَ في تأخيره عن ضميره -وإنما يكون الضررٌ فيما إذا كان الضمير عائدًا على ما بعده، ورتبة صاحبه التأخير فهنالك يلزم المحذورُ ويحصلُ الضّررُ القياسي، نحو: ضرب غلامهُ زيدًا، برفع الغلام ونصب زيد؛ فإن هذا غير سائغ في القياس ولا موجودٍ في السماع إلا شاذًا. وعلى أن المؤلف قد حكى الإجماع في جواز نحو: في داره زيد، وهذا الإجماع قد لا يثبت مع هذا الخلاف المذكور، نقله ابنُ الأنبارىّ في «الإنصاف» له -فالخلاف موجود، ودليل السماع بالجواز ناهض، وإنما الذي

يجب منعُه هنا ما عاد فيه الضّميرُ على ما بعده وهو في مرتبته من التقديم، كما قُلْتَ: غلامُه في دارِ زيدِ، أو مثلُها زبدًا على التمرة، أو ثوبُه على زيد، أو ما أشبه ذلك. ولذلك يجب هنا تقديم الخبر، ما سيأتى إن شاء الله. فثبت أن ما ذهب إليه الناظُم هو الصحيحُ. والضّرَرُ: الاسمُ من قولِك: ضَرّه يضره ضرًا، وهو: ضد النفع. والاسم. الضَّرَرُ. وسمى مخالفَة القياسِ أو السماع ضَررًا، لأنّه مخالفةً في اتباعِ العرب، وخروج عن الصواب، وذلك ضررٌ في اللسان ظاهر. ثم ذكر أنّ هذا التقديم الجائز قد يمتنعُ وقد يَجِبُ. فأمّا القسم الأول وهو امتناع التقديم، فهو الذي شَرَعَ فيه أولًا فقالَ: وَامْنَعْهُ حَيْثُ يَسْتَوِى الْجُزْآنِ غُرْفًا وَنُكْرًا عَادِمَىْ بَيَانِ كَذَا إِذَا مَا الفِعْلُ كَانَ خَبَرا أَوْ قُصِدَ اسْتِعْمالُهُ مُنْحَصِرا أَوْ كَانَ مُسْنَدً الذى لَامِ ابْتِدَا أَوْ لَازِمِ الصّدْرِ كَمَنْ لِى مُنْجَدِا / فذكر مما يمتنع فيه تقديمُ الخبرِ خمسةَ أنواعٍ: أحدها: أن يكون المبتدأ والخبر مستويين في التعريف أو في التنكير، وذلك قولُه: «وامنعه حيث يستوى الجزآن» إلى آخره: فالضمير في «امنعه» عائد على التقديم المذكور وهو تقديم الخبر.

والجزآن هما جزءا الجملة الابتدائية، لأنها من جزأين وهما المبتدأ والخبر. والعُرفُ: مصدرُ عرفت الرجل مَعْرِفَةً وعِرْفَةً وعِرْفانا وعُرفًا أيضا. والنُّكْرُ: ضد العُرف، وقد نَكِرَه (نُكرًا) وهما في موضع الحال، كما لو قال: حيث: يستوى الجزآن تعريفا وتنكيرا، أو معرفتين ونكرتين، وعادمى بيان: حال ثانٍ منهما. وأراد أن تقديم الخبرِ ممتنعٌ إِذا استويا في التعريف فكانا معًا معرفتين، أو استويا في التنكير فكانا معًا نكرتين، فتقول: زيدٌ أخوك، فزيد: مبتدأ، وخبره: أخوك. ولا يجوز تقديمُ أخوك البتة فتقول: أخوك زيد، على أنّ خبر مقدّم. وكذلك: صديقى زيد، والقائم زيد، وهذا محمد. وما أشبه ذلك. وكذلك إذا قلت: رجل من بنى فلان خير من زيد. لا يجوز تقديم خَيْرٍ على رَجُلٍ، على أنه خبرٌ على حاله. ووجه المنع هنا التباسُ المبتدأ والخبر بعضهما ببعض، فلو قَدّمَتَ الخبر لم يكن ثَمّ دليل على أنه الخبر، بل كان ظاهر الأمر [يدلّ] على أن المبتدأ، فلو كان ثَمّ دليل على التقديم والتأخير لم يمتنع تقديم الخبر. وهذا مفهوم. قوله: عادمى بيان، يريد أن المنع المذكور مختص بما إذا لم يَحْصُلْ بيانُ أن المقدّمَ هو الخبر، كما مثّل، فعلى هذا إِذا وُجِد البيان جاز التقديم فتقول في

نحو: زيدٌ زهير شعرًا، وعمرو حاتمٌ جودًا، وبكرٌ عنترةُ شُجاعَةٌ: زهيرٌ زيدٌ، وحاتم عَمْرٌو، وعنترةُ بكرٌ. وغير ذلك مما يكون المبتدأ فيه مشبها بالخبر. ومنه ما أنشده النحويون من قوله: بَنُونا بَنُوَ أبنائِنا، وَبناتُنا بَنُوهُنّ أَبناءُ الرِّجالِ الأَباعِدِ فبنونا: خبر مقدم. وبنو أبنائنا: مبتدأ؛ لأن المعنى: بنو أبنائنا بَنُونا، أى: مثلُ بينا. ومما قدّم فيه الخبر أيضًا لوجود البيان ما أنشده المؤلف لحسانَ بنِ ثابتٍ، رضي الله عنه: قَبِيلَةٌ، ألأمُ الأَحْيَاءِ أكرمُها وأَغْدَرُ النّاسِ في الجِيرانِ وَافيها وأنشد أيضًا: وَأَغْنَاهُما أَرْضَاهُما بِنَصِيِبهِ وَكُلٌّ لَهُ رِزْقٌ مِنَ الله واجب فَأَلأَمُ الأحياءِ، وأغناهما: خبران -عنده- مقدّمان. وأكرمها أرضاهما: مبتدآن مُؤَخّرا، مع التساوى؛ لأنّ المعنى لا يستقيم إلا بذلك.

ومن ذلك أيضا قولُ الآخر: جَانيكَ مَنْ يجْنِى عَلَيْكَ وَقَدْ تُعْدِى الصِّحَاحَ مَبَارِكُ الجُرْبِ ومن الأمثلة في تنكيرها وتقديم الخبر لوجود البيان، ما رُوى في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مسكينٌ مسكينٌ رَجُل لا زوج له». فَرَجُلٌ هو المبتدأ عنده، ومسكين خبره. واعلم أنّ هذا الحكم الذى قَرّره الناظمُ مبنيٌّ على قاعدتين: إحداهما: أنّ المجعول خبرًا لا يصحُّ أن يُعتقد كونه مبتدأ، وبالعكس، وذلك مع بقاء المعنى في الحالة الثانية على ما كان عليه في الحالة الأولى؛ فإنه لو كان ذلك عنده صحيحا لم يمنع تقديمُ الخبر عند عدم البيان لإيهام كونه مبتدأ؛ إِذْ لو فُرِضَ الخبر / المقدّمُ مبتدأَ لم يفَسُرِ المعنى بذلك فما مُنع التقديم مع اللبس دلّ ذلك على أن المنع لأجل اختلاف المعنى عند اختلاف الاعتقادين. والثانية: مراعاةُ اللبس، وقد أشارَ إليها بقوله: «عادِمىْ بيانِ»، يريد: فلو لم يُعدَمُ البيان لجاز تقديم الخبر؛ إِذ لا محذُورَ فيه، فلما وُجِد اللبس مع فرض التقديم مُنِع، لالتباس المعنى بالتباس الخبر بالمبتدأ.

فأما القاعدة الأولى فإن لعلماء العربية فيها اختلافًا، فأربابُ علم المعانى يذهبون إلى ما أشار إليه الناظم من أن الخبر إذا كان مساويًا للمبتدأ، فإن كل واحدٍ منهم إِذَا جُعِل مبتدأً والآخَرَ خبره أعطى من المعنى غير ما يعطيه العكس؛ فإذا قلت: زيدٌ أَخُوك، فهو لمن يعرف زيدًا ويطلبُ له حكما بأحدِ من يعرفه بقلبه كأنّ المخاطب قال: من زيدٌ من هؤلاء المعروفين عندى؟ فقيل له: زيد أخوك. وإذا قلت: أخوك زيد. فهو لمن يعرف أنّ له أخًا، وهو يطلب الحكم عليه بالتعيين من بين معارفه، كأنه قال: من أخى من هؤلاء؟ فقيل: أخُوك زيد. وعلى هذا تقولُ: زيد المنطلقُ، لمن يطلب أن يعرف حكما لزيد باعتبار تعريف العهد والحقيقة أو استغراقها. وتقول: المنطلق زيد، لمن في ذهنه المنطلق، باعتبار تعريف العهد [أو الحقيقة]، وهو يطلب تعينه. وعلى هذا النحو تقولُ في تنكيرهما: عَبْدٌ يسكن المسجدَ عبدٌ تقىٌّ، أو عبد تقى عَبْدٌ يسكن المسجد. وتقول: مكرمُ زيدٍ اليومَ مهنُيك غدًا. ومُهنُيك غدًا مكرمُ زيدٍ اليوم. وتقول: صلاةٌ بالليل عملٌ مخلصٌ، [وعملُ مخلصَ] صلاةٌ بالليل. وهل قائم في الدار مكرمٌ لك؟ وهل مكرمٌ لك قائم في الدار؟ وما أشبه ذلك. فأيّهما جعلت المسئولَ عنه فهو المبتدأ المعتبر تقييد في القرب من المعرفة، والآخر خبره. وذهب إلى مذهب أهل المعاني من أهل النحو جماعةٌ كابن خروف والجُزُوليَ وابن عصفور وغيرهم، إلا أنهم قدّروا الخبر تقدير المجهول فقالوا

إذا قلت: زيدٌ أخوك، فزيد معروف عند المخاطب، والأخوة مجهولةٌ عنده، وبالعكس وما قالوه فيه مسامحة؛ إذ لو كان الخبر مجهولًا لم يُؤْتَ به معرفة، بل كانوا يقولون في الأول: زيدٌ أخٌ لك. وفي الثاني: أخوك مُسمّى زيدًا، أو نحو ذلك. هذا هو المطابق، فإن استعملت المعرفة في موضع النكرة فعلى خلاف الأصل، اعتبارًا بالمثال. وذهبت طائفة من النحويين إلى أن ذلك ليس بلازم، وأن التقديم والتأخير وإن استويا في التعريف، بناء على أن المحصول واحد عند فرضِ المبتدأ خبرًا أو بالعكس، فإذا قلت: زيدٌ أخوك. فهو في معنى أخوك زيد، وإذا كان المعنى واحدًا فسواءٌ قدمت الخبر أو جعلته مبتدأً، والحكم واحدٌ، فيصبح في قولك: زيد أخوك، أن يكون زيدٌ مبتدأً في موضعه، أو خبرًا مقدمًا وكذلك [في]: أخوك زيدٌ. ويحصل من ذلك جوازُ تقديم الخبر على المبتدأ. وهو ظاهر كلام سيبويه والفارسىّ والسيرافي، ونصّ ابن جنى. بل ذكر الزجاجُ في «معانيه» قول الله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} يجوز أن / يكون (تلك) في وضع رفع على اسم (زالت)، وفي موضع نصف على خبر (زالت). قال: ولا اختلافَ في هذا بين النحويين في الوجهين.

وللناظم أن يحبحّ لترجيح مذهبه بأمرين: أحدهما: أن أهل المعانى قد أطبقوا على اختلاف المعنى عند اختلاف الإعراب، كعبد القاهر، وفخر الدين الرازىّ، والسكاكى، وابن عميرة، وابن الناظم في كتبه. والثاني: أن لقائلٍ أن يقول: إن النحويين إنما أجازوا الوجهين م حيث الأمر اللفظى، ولا شكّ أنّ المعرفتين يجوزُ -على الجُمْلة- أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهما مبتدأً خبره الآخر. وكذلك النكرتان إذا كان لهما مسوغٌ. وبهذا المعنى تَأَوّلَ ابنُ خَروفٍ وغيرُه ظاهر كلام سيبويه في إجازة الوجهين، فكأنهم تركوا النظر في لحظ المعانى والمقاصد وأحالوه على أهله. وربما وُجد هذا للنحوين في مواضع، كما رأيتهم يجيزون في تقديم المفعول على الفاعل والفعل (وتأخيره عنهما، ويجيزون في حذف المفعول وإثباته وما أشبه ذلك اعتبارًا بالصلاحية) اللفظية، فإذا جاء أهل نظر المعانى أوجبوا كثيرا مما يجيزه النحويون أو منعوه البتة، وذلك بحسب المقاصد ومقتضيات لأحوال في أداء المعانى. فلعلّهم فَعلُوا في مسألتنا كذلك، ويتفق هذا مع قصد الناظم، ولا ينافي من حيث تعرض الناظم لما سكت هؤلاء عنه. وأما القاعدة الثانية فإنّ مراعاةَ اللبس في كلام العرب أو عدم مراعاة

يشير إلى أصل ذلك أنّ وضع الكلام إنما هو للبيان عن المعاني التى في النفس، فالأصل اجتناب ما لا يحصل معه البيان من لبس أو غيره، ولذلك وصفوا الإعراب في الاسماء لأجل التفرقة بين المعاني، إذا لو لم يضعُوه لم يحصلِ الفرقُ ووقع اللبسُ حسبما قرره النحويون. ووضعوا أبنيه التصغير والتكسير والسب، والمبالغة وغير ذلك، ليتبيّن مرادهم في الأسماء والمسميات؛ إذ لا يتميز المعنى المراد من غيره دونها. ثم إِنّ العرب يعرض لها الإبهام في كلامها واللبس المبعد ع فهم المراد، إما قصدًا منها أوّليًا حتى يكون البيان مناقضا لما قصدت، كما في نحو: (فَغَشِيهم مِنَ اليمِّ ما غَشِيَهُمْ، وكما يُحذف الفاعل في: ضُرِبَ زيدٌ، والمفعول في مثل: أعطيتُ، إذا لم ترد الإعلام بالآخذ أو المأخوذ، وما أشبه ذلك. وإما على غير قصد أولىّ، بل يكون الحكم اللفظي يؤدى إليه، كما إذا استوت الصيغتان لفظا وهما مختلفتان حكما، لأجل الإعلال، كالمختار والمنقاد للفاعل والمفعول، أو لغير الإعلال، كالمصطفى للمفعول به والمصدر والزّمان والمكان، وكما في تصغير عَمْرو عُمَر وعامر أيضا في الترخيم، إذا قلت: عُمَير. وكالنسب إلى أَحَد وأَحَدَ عشر وأحد وعشرين، مُسمّى بها، إذا قلت: أَحَدِى. والنسب إلى عَصِىّ وعَصَاه إذا قلت: عَصَيوىّ. وكترك الإشمام في بِعتُ وقُلْتُ، مَبْنِييّنِ للمفعول عند من يقول: بِيعَ [قُول] وما أشبه ذلك، مما / يقع فيه اللبسُ على غير

قصدٍ، بل لأنّ لأحكام اللفظية اضطَرَّت إليه. فأما (الأصل) الأوَّل من قصد البيان فلا نزاع فيه على الجملة، وأما قصدُ الإبهام فكذلك لاختلاف المقاصد باختلاف مُقْتَضِيات الأحوال. وأما عروضه على غير قصدٍ فهو موضع النظر، وقد انقسم بحسب السماع ثلاثة أقسام: أحدها: [ما] ثبت فيه عدمُ اعتبار اللبس كالأمثلة المذكورة، فاتُّكِل في بيانها على القرائن أو البيان عند الحاجة إليه. فمن اعتبر اللبس فيه خالف العرب كالناظم في مسألة: قُلتُ بِعتُ، مَبْنِيَّين للمفعول. والثاني: ما ثبت فيه اعتباره، فأزيل حتى ظهر المعنى المراد، أو امتُنِع من الحكم المؤدّى إليه كالتزام الترخيم على من نوى في نحو «ضاربة» ولم يقولوا فيه: يا ضاربُ، على من لم ينْوِ، لالتباس المؤنث بالمذكر. وكالتزام عُدَيِّى في تصغير عَدَوِىّ، غير مُسمَّى به، فلم يقولوا عُدَىّ فيحذفوا يائىِ النسب، لالتباسه بتصغير غير المنسوب. وكامتناعهم من النسب إلى اثنى عشر، غير مُسمّى به، خوفا من الالتباس بالنسب إلى اثنين. وكتفرقتهم في الندبة بين نحو: ظهرها وظهره، [وظهرهما]، وظهرهم. وما أشبه ذلك. وهذه جملة متفق عليها، فمن لم يعتبر هنا اللبس فقد خالف العرب والنحويين.

والثالث: ما لم يثبت فيه شئ من ذلك، ولا ظهر من كلامهم ما يدلّ على الرجوع إلى أحد القسمين، كلزوم تقديم الفاعل على المفعول، أو المبتدأ على الخبر، ولزوم إقامة الأول من مَفْعُولَىْ ظن مقام الفاعل خوف اللبس، وما أشبه ذلك -فاختلف النحويون في هذا القسم بماذا يُلْحَقُ؟ فجمهور المتأخرين، وابن السراج من المتقدِّمين، والسيرافي في بعض المسائل يلحقونه بالأصل الأول، وبالقسم الثاني من هذه الأقسام، فراعوا اللبس، والتزموا من الأحكام ما يرتفع بسببها ومنهم الناظم، حسبما ظهر منه هنا، وفي باب ما لم يُسمَّ فاعله، وفي باب تعدّى الفعل ولزومه، وغير ذلك. والظاهر من المتقدمين عدمُ مراعاته وإلحاقُه بالأول من هذه الأقسام، مثل سيبويه، فإنه لا يكاد يُوجَد في كتابه تعليلُ به لمثلِ هذه الأشياءِ ولا بناءٌ عليه ولما تكلَّم في أبواب التصريف على «فُوعِلَ» ونحوه من القول أو من البيع، وأنّك تَقُول: قُووِل وبُويع علل ترك الإدْغام بعروض الواو، ولم يتعرص للبس بِفُعَّل لو قيل: قُوِّل وبُيِّعَ. ولم يتعرض أيضا لالتزام رتبة الفاعل والمبتدأ وما أشبه ذلك، بل الأظهر عدم اعتباره بذلك، كما تَقدّم ذكره. وقد تَقَدَّمَ أيضا عن الزجاج ما يشير بعدم اعتباره اللبس عند النحويين في مثل هذا القسم، وأنهم متفقون على ذلك. وكأنهم لم يبالوا بهذا الضرب من الالتباس كما لم يبالوا به في التصغير والنسب في الأسماء الأعلام دون غيرها. وللناظم أن يُرَجِّح مذهبه بوجهين: أحدهما: الوقوفُ مع الأصل الأول من قصد الإفهام الذي وُضِع له الكلام، فإليه ينبغي أن يرجع بالمحتملات، فإنه إذا دار الموضعُ بين أَنْ

يُرَدّ / إلى ما هو أصلٌ وإلى ما ليس بأصلٍ فردّه إلى ما هو الأصل أحقّ. والثاني: أن البيان ورفْعَ اللبس في كلامهم أكثر وأشهر من الإبهام والتعمية، والحمل على الأكثر هو المتعيّن، ويبقى ما عدا ذلك موقوفًا على محلّه لا يُقاسُ عليه. وفي القاعدتين بعد هذا نظرٌ يطولُ، وأولى المواضع به الأصول. النوع الثاني من أنواع الخبر اللازم التأخير: أن يكون الخبر فعلًا، وذلك قوله: «كَذَا إِذا ما الفعلُ كان خَبَرا» يعنى أن المبتدأ إذا أخبر عنه بفعل، أو بجملة فعلية، فإن المبتدأ يلزمُ تقديمُه على الخبر، نحو قولك: زيد قامَ، وعَمْرو خَرَج، وبكر ضرب عمرًا، وزيد يضرب أخاك، وما أشبه ذلك. فلا يجوز هنا أن تقدّم الفعل فتقول: قام زيد، ولا: خرج عَمْرو، ولا: ضَرَب عمرًا بكرٌ، ولا يضرب أخاك زيدٌ، على أن تُبْقِي الأسماءَ على حالها من الإبتداءِ، والأفعالَ أخبارها. وهذا الحكم كأنه متفقٌ عليه بين النحويِّين إِلا أنهم اختلفوا في التعليل. فذهب المؤلف إلى أن المانع من ذلك إيهام كون المبتدأ فاعلًا بالفعل إذا تقدّم، ولذلك لو برز الفاعلُ لجاز التقديم نحو: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، وكذلك: قام أبوه زيد، وضربتهُ، زيدٌ، وما أشبه ذلك. فالمانع من التقديم على مذهبه اللبس. وذهب ابنُ أبي الربيع إلى أن الخبر ههنا إذا تقدم صار المبتدأ فاعلًا بلا بُدٍّ، لأنه -أعنى المبتدأ- قد اجتمع عليه عاملان، أحدهما

معنوي وهو الابتداء، والآم لفظي وهو الفعل المقدم إذ هو طالب [له] من جهة المعنى، والعامل اللفظي أقوى من العامل المعنوي؛ ولأن الفعل إن لم يعمل في ذلك الاسم وقد هُيِّئ له، لزم التهيئة والقطع، وذلك ممتنع. وظاهرُ تعليل ابن أبي الربيع تجويزُ التقديم، إلا أن المبتدأ يتغير حكمه. بل قد نصّ على هذا المعنى، لكن حاصله يرجع إلى أن الخبر لا يكون متقدما وهو خبر، فاجتمع في المعنى مع تعليل المؤلف على امتناع التقديم. وفي كلام الناظم هنا نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا الإطلاق في امتناع التقديم غير صحيح؛ إذ ليس كل خبر كان فعلا يمتنع تقديمه، بل هو على ضربين. الأول: أن يكون فاعل الفعل ضميرًا عائدًا على المبتدأ، كزيد قام، وعَمْرو يخرج. والثاني: أن يكون فاعله غير ذلك، بأن يكون إما ظاهرًا نحو: زيد قام أبوه، وعمرو خرج أخوك إليه. وإما ضميرًا بارزا، نحو: زيد ضربته، والزيدان قاما، والزيدُو قاموا. وإما ضميرًا غير بارز لكنه غير عائدٍ على المبتدأ، نحو: زيدٌ أَضرِبهُ، وعمرو أُكْرِمُه، وبكرٌ تَقُومْ إليه. فأما الضربُ الأوّل فهو الذي يصحّ معه كلامُ الناظمِ للعلّة المذكورة، من إبهام كون المبتدأ فاعلا. وأما الثاني فلا يصح معه، إذ يجوز أن تقول: قام أبوه [زيدٌ]، وخرج أخوك إليه عمرو، وضربته زيدٌ، وقاما الزيدان، وقاموا الزيدون،

وأضْرِبه زيدٌ، وأكْرمُه عَمْرٌو، وتقومُ إليه زيدٌ. وقد بيّن هذا المعنى في التسهيل حيث قال: «إن لم يوهم ابتدائية الخبر أو فاعليّة المبتدأ» [وأنت إذا قُلتَ: قاما الزيدان، أو ضربتُه زيدٌ، لم يوهم التقديم فاعلية المبتدأ-] لان الفعل لم يتهيأ للمبتدأ فيرتفع به، أو يصح ارتفاعه به. وهكذا تحرز من ذلك في / «الفوائد المحويّة» فقال: «إلا أن يكون فِعْلًا لم يَبُرز فاعله» ولا يقالُ: لعلّه قصد ظاهر كلامه، وأنّ هذه المسائل كلّها يمتنع فيها تقديم الخبر، والعلّة كونُ الخبر فعلًا. لأنا نقول: لا يَصحُّ حملُه على هذا لمخالفته في ذلك للنحويين، وكأنه مجمعٌ عليه عندهم؛ قال ابن أبي الربيع: يجوز أن يقال: زيدٌ ضربته، وضربته زيدٌ، ونحو ذلك. قال: «ولا أعلم بين النحويين فيه خلافًا». وإذا كان كذلك لم يصحّ حملُ كلامه عليه البتّةَ. ولعلّ ابن أبي الربيع إنما قال ذلك فيما كان نحو: زيدٌ ضربته. وأما نحو: الزيدان قاما، فلا إجماع فيه البتّة فقد حكى ابن ولّاد في سُؤَالاته لأبي إسحاق الزجاج أن أبا إسحاق قال: إن الأخفش والمبرد يجيزان: قاما الزيدان، على التقديم والتأخير، وباقي البصريين لا يجيزونه. وبهذا قد يعتذر عن الناظم في نحو: الزيدان قاما، بأن يقال: لعلّه أخذ فيه بمذهب الأكثر، وإن كان على خلاف ما ذهب إليه في

التسهيل والفوائد. أما نحو: ضربته زيد، فلا يمكن الاعتذار عنه، مع عدم نقل الخلاف. فإن قيل: فلعله خالف الإجماع هنا فمنع: ضربته زيدٌ، ونحوه، قياسًا على منع: قاما الزيدان، والسماع في المسألة معدوم أو كالمعدوم، وقد قال ابن جني: إن مخالفة إجماع النحويين سائغة. فالجواب: أن هذا الاعتذرا لا يصح [البتّةَ]؛ إذ مخالفة إجماع النحويين كمخالفة إجماع الفقهاء وإجماع الأصوليّن وإجماع المحِّدثين، وكلّ علم اجتمع أربابه على مسألةٍ منه فإجماعهم حجة، ومخالفهم مخطئ. وهذه المسألة محل بيانها أصول النحو، وقد ذُكِر طرف منها في الأبواب الآتية من هذا الشرح، والله المستعان فكان الواجبُ على الناظم أن يقيّد هذا الإطلاق، ولا أجد الآن جوابًا أرتضيه. والنظر الثاني: أن قوله «كَذَا إِذَا ما الفِعْل كانَ خَبَرَا»، كان من حقه أن يقول: كذا إذا ما الخبر كان فِعْلًا؛ لأن كلامه إما هو في الخبر بالنسبة إلى تقديمه وتأخيره، بحسب ما يعرض فيه، فهو المبتدأُ في المعنى المخبر عنه بما يعرض فيه من العوارض الموجبة لخروجه عن أصله، ومنها كونه فعلًا. فهذا الكلام على القلب لفهم المعنى، وهو جائز في الشعر، ونَحوٌ منه قولُ خِداشٌ بن زُهَير، أنشده سيبويه: فَإِنَكَ لا تُبالِى بَعْدَ حَوْلٍ أَظَبْىٌ كانَ أُمَّكَ أَمْ حِمارْ؟

وأنشد غير ذلك، وَوَجّهه بأن المعنى من الكلام. والأمر في هذا قريب. النوع الثالث من أنواع الخبر الذى يلزم التأخير: أن يكون واليًا لأداة الحصر لفظًا أو معنى، وعبّر عن ذلك بقوله: «أو قُصِدا استعمالُه مُنْحَصِرا». والضمير في «استعماله» عائدٌ على الخبر، يعنى أن الخبر إذا كان محصورًا بأداة من أدوات الحَصْرِ، وقُصِد ذلك فيه، لزم أن يكون مُؤَخّرًا عن المبتدأ، والأصل في وجوب التأخير هنا المحصورُ بإنماء دون المحصور بما وإلّا، فتقول: إنما زيدٌ قائم، فالمنحصر هنا عندهم قائم. وكذلك إذا قلت: إنما أنت كاتبٌ/، وإنما زيد شاعر فالكاتب والشاعر هو المحصور. وإذا قلت: ما زيدٌ إلا قائم، وما أنت إلا كاتب، فالمنحصر عنده ما بعد إلّا فهو الذى يجب تأخيره فلا تقول: إنما قائم زيدٌ، ولا: إنما كاتب أنت. وكذلك لا تقول: ليس إلا قائمًا زيد، ولا ما أشبه ذلك وما جاء بخلاف ذلك فظاهر أنه عنده نادر لا يُقَاس عليه، نحو ما أنشده في الشرح من قوله: فَيَارَبِّ، هَلْ إِلّا بِكَ النّصْرُ يُبْتَغى عَلَيْهِمْ، وَهَلْ إلّا عَلَيْكَ المُعَوّلُ الأصل: هل النصر إلا بك، وهل المعوَّل إلا عليه.

فإنما وجب التأخير هنا لأنه لا يعرف المحصورَ فيه من المحصور إلا بذلك، أعنى مع الحصر بإنّما، فإذا قَصَدْتَ حصر القيام في زيد قلت: إنما زيدٌ قائم، ثم حَمَلوا إِلّا عليها في وجوب التأخير [إن كان المحصور معها ظاهرًا معروفًا]. وقد ظهر من هذا أنّ الذى يجب تأخيرُه هو المحصورُ، وهو الواقع بعد إلّا، والمتأخر مع إنما. وليس كذلك؛ بل قيل إلّا هو المحصور فيما بعدها، فإذا قُلْتَ: ما زيدٌ إلا قائم، فالمعنى أن زيدًا مقصورٌ على الانتصاف بالقيام لم يتصف بغيره، قالوا: وهو ردٌّ على من زعم أن زيدًا اتصف بغير القيام. ويمكن أن يكون غير زيد قد قام. وإذا قلت: ما قائم إلا زيدٌ، انقلب المعنى فصار القيام مقصورًا على زيد، فلم يقم أحد غيره، وهو ردٌ على من زعم أن غير زيد قائم، ويمكن أن يكون زيد متصفًا بغير القيام. وكذلك حكم إنّما، لأنها في معنى ما وإلا. فإذا قلت: (إنما زيد كريم، فزيدٌ معصور على الاتصاف بالكرم، لم يتصف بغيره. وإذا قلت: -) إنما الكريم زيدٌ، وإنما كريم زيد، صار المعنى أن الكرم ليس بمتصف به إلا زيد، ويَحْتَمِل هنا أن يكون لزيد أوصاف أخر، (كما) يَحْتَمل في الأَوّل أن يكون غير زيد متصفًا بالكرم. فقد حَصَل أنّ المتأخّر هو المحصورُ فيه لا المحصورُ، وهو قد قال: إن المنحصر يلزم تأخيره، فهو مناقض لقولهم: إن المنحصر يلزم تقديمه. وهو

معنى ما ذُكِر آنفا. وقد رَدّ على الناظم بهذا شيخُنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخّار -رحمه الله- وقُرر أن الحق ما ذكره الناسُ. واعتذر عنه بعض تلامذته بأنه أراد بالمنحصر المقرون بأداة الحصر لا المحصور من جهة المعنى، فإنه محصور فيه لا محصور، فكأنه أطلق عليه هذا اللفظ من جهة اقتران الأداة به وملابستها له. أو يكون أراد المنحصر فيه، لكنه حذف الجار، فاستتر الضمير، كما سمى الفخر بن الخطيب كتابه «المحصول»، والمراد المحصولُ فيه. وهذا الثاني اعتذارٌ ضعيف، وهذا السؤالُ واردٌ عليه في قوله في الفصل الذى يلى هذا: «وَخَبَرَ المَحْصُورِ قَدِّم أبدًا». والاعتذارُ هنالك مثلُه هنا. وقد ظهر من موافقة كلامه هنا لكلامه هنالك وفي باب الفاعل: وَمَا بِإلَّا أَوْ بِإِنّما انْحَصَرْ أخِّر ... ... ... أنه قصد هذا الإطلاق، وأنه يُسمِّى المحصور فيه محصورًا أو منحصرا. وهى عادته في «التسهيل» مع أنّه فسّر الحصر في الشّرح على المعنى الصحيح. فتلخص أن هذا اصطلاح له خَالَف به اصطلاح غيره من أهل النحو والبيان، وهذا قريب، غير أنه يُوهِم المخالفة، والله أعلم.

النوع الرابع / من أنواع الخبر اللازم للتأخير: أن يكون خَبَر مبتدأ قد دخلت عليه لازم الابتداء، وهو المراد بقوله: «أَوْ كَانَ مُسْنَدًا لِذِى لَامِ ابْتِدَا». فالضمير في «كان» عائد على الخبر، ومدلول (ذى) هو المبتدأ، أى: صاحب لام ابتداء فكأنه يقول: ويجيب تأخير الخبر عن المبتدأ إذا كان الخبر مسندًا لمبتدأٍ صاحب لامٍ ابتدائيّةٍ دخلت عليه، وذلك قولك: لَزيدٌ قائم، ولأنت كرم. وقال تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيرٌ مِن مُّشْرِكِ}، وما أشبه ذلك. فمثل هذا يلزم فيه تأخير الخبر، لأن لام الابتداء لها صدر الكلام فدخولها على المبتدأ يوكّد الاهتمام بأَوَّليته، فلو قَدّمت هنا الخبر فقلت: قائم لَزيدٌ، وكريمٌ لأنتِ، لم يسع، لمنافاته لما قصد بها من التصدير. ولأجل أن لها صدرَ الكلام امتنع تَأثُر ما دخلت عليه للعوامل القلبية نحو: علمت لزيد قائم، فإن جاء ما ظاهرة تقديم الخبر فشاذٌ لا يقاس عليه، نحو قول الشاعر: خَالِى لأَنْتَ، وَمَنْ عُوَيفٌ خَالُهُ يَنَلِ العَلَاءَ، وَيكْرُمِ الأَخْوَالا وعلى أنه لا يتعيّن أن «خالى» خبرًا، لإمكان تأويله على أحد

وجهين: إما على زيادة اللام، كما زيدت في قوله: أُمُّ الحُلَيسِ لَعَجُوزٌ شَهْربَهْ على رأى طائفةٍ فيه، وكما في قول الآخر: مَرُّوا عِجَالًا فَقَالُوا: كَيْفَ سَيِّدُكُم فَقَالَ مَنْ سُئِلُوا: أُمْيسَى لَمَجْهُودا وإما على أن يكون «أنت» خبر مبتدأ محذوف تقديره: خالى لهو أنت، فكان اللام إنما دخلت على المبتدأ لا على الخبر، فتكون على أصلها في التقدير. وقد قيل ذلك في قوله: أُمُّ الحُلَيسِ لَعَجُوزٌ شَهْربَهْ النوع الخامس: أن يكون الخبر مسندًا لمبتدأٍ لازم لصَدْرِ الكلام، لعلّةٍ اقتضت ذلك، وهو قوله: «أوْ لَازِمِ الصَّدْرِ». فلازم مجرورٌ عطفًا على «ذى»، كأنه قال: أو كان مسندًا للازم الصدر. وهو على حذف الموصوف، أى: أو مبتدأ لازم الصَّدْرِ. والصدرُ: هو صدرُ الكلام. يريد أن الخبر إذا كانَ مبتدؤُه ممن له صَدْرُ الكلام فيلزمُ تأخيرُه، لأنّ

المبتدأ إذا كان كذلك لم يصح أن يتقدّم عليه مما في جهته شئٌ من معمول أو غيره. والمبتدأ الذى هو لازمٌ للصدر على سبعة أضرب: أحدها: اسم الشرطِ نحو قولك: مَنْ يكرمْنى أُكرِمْه. فمن: مبتدأ، خبره: يكرمنى. وكذلك: ما تصنَعْه أَصْنَعْ مثله. وأيُّهم يَأْتِنى آية. وفي التنزيل الكريم: {وَقَالُوا: مَهْمَا تَأْتِنَا بِه مِنْ آيةٍ}، فهو لازمٌ للصدر لأنه تضمَّن حرفًا له صدرُ الكلام، وهو حرف الشرط، ولذلك لا يعمل ما بعده فيما قبله. والثاني: اسم الاستفهام، نحو قولك: ما عندك؟ ومَنْ يأتيك؟ وأيُّهم قائمٌ؟ وكم مالك؟ على مذهب سيبويه، وأتى الناظم بمثال هذا الضرب وهو قوله: «مَنْ لِى مُنْجِدا؟ ». فمن: مبتدأ خبرُه المجرورُ، ومُنجدًا: حال من الضمير في «لى». والمنجد: المغيث والناصرُ والمعين، يقال: اسْتَنْجَدَنى فأنجدتُه، أى: استعان بي فأعنتُه. والثالث: كم الخبرية نحو قولك: كَمْ رَجُلٍ عِنْدَك! وكَمْ رَجُلٍ لى! وإنما لازمت الصدرَ هنا لأحد وجهين، إما بالحمل على الاستفهامية، لمساواتها لها في كثير / من أحكامها وفي لفظها، وإذا

كانت الاستفهامية لازمةً للصدر لتضمنها حرف الصدر، وهو حرف الاستفهام الهمزة أو غيرها، فكذلك ما جرى مجراها، وإما بالحمل (على) رُبّ التى هى حرف لمساواتها لها في المعنى إن قيل بأن معناها التكثير، أو لأنها، مقابلتها إن قيل: إنها للتعليل. وقد مَرّت الإشارةُ إلى هذا الخلاف في سبب بنائها، وموضع استيعاه بابُ كم. وعلى كلا القولين فهى لازمةٌ صدرَ الكلام، فلزمت الصدر كم بالحمل عليها. والرابع: ما أُضيف إلى أحد هذه الثلاثة، نحو: غلامُ من يَقُم أَقُمْ (معه). وغلام من يأتِنِى أُكرمُه. وغلامُ أيِّهم أتاك؟ وغلامُ كم رجل جاءك! فهذا حكمهُ أن يكون في صدر الكلام مثلُ ما أضيف إليه إذا لم يضيف إليه، وذلك لمصاحبته لما له صدرُ الكلام. والخامس: ضمير الشأن فإنه يلزم صدر الكلام، وتكون الجملة التى تقع خبره بعده، فتقول: هو زيد منطلق. هى قام زيد. ولا يجوز أن تتقدم الجملة عليه وإن جاز تقدمها على غيره، إذ لو قدّمت عليه فقيل: زيد منطلق هو، أو قامت هند هى، لم يعلم كونه ضمير الشأن، لتَوَهُّم أن يكون توكيدا للضمير أو الظاهر أو بدلا، فالتزموا تأخير الخبر وتقديم المبتدأ لذلك. فإن قلت: كيف يكون ضميرُ الشأن من الأسماء اللازمة للصدر، وأنت تُدخل عليه العوامل نحو كان وإنّ، فإنك تقول: كان زيدق قائم، أى: كان الأمر

زيدُ قائم، وإنه زيدٌ قائمٌ. وأدوات الصُدور إذا كانت أسماءً لا تدخل عليها العوامل إلا متأخرةً، حيث يمكن تأخُّرها؟ فالجواب: أن ملازمة الصدر في كلامه محتملةً لأن يريد بها امتناع سبقية العامل لها، كأسماء الشرط والاستفهام، وأن يريد ما يلزم الصدر بالنسبة إلى جُزْءَى الجملة خاصة، أى هو معروفٌ بذلك على الجملة، وعلى هذا الثاني يدخل ضمير الشأن. لا يقالُ: إن حمله على هذا الثاني غير مستقيم؛ إذ يدخل (فيه) على هذا المعنى جميع ما تقدم من قوله: «وَامْنَعْه حَيْثُ يَسْتَوِى الجُرْآنِ» إلى هنا، لأن المبتدأ فيها لازم للصدر على الجملة فكان الأولى الاقتصارَ على هذه اللفظية، وحينئذٍ لا يكون في كلامه بيان لما هو من أسماء الصدر ولكنه لم يفعل؛ فدلّ على كون مراده لزومًا مخصوصًا مشهورًا، وما ذاك إلا أسماء الشرط والاستفهام. لأنا نقون: ضمير الشأن مما لزم الصدر لزومًا مخصوصا مشهورًا بوضع أولى، لأن وضعه أن يكون صدر الجملة كأسماء الشرط والاستفهام، ولم يكن التقديم له يعارض عرض له كسائر ما تقدم، فإن تقديم المبتدأ في: زيدٌ أخوك، أو زيدٌ قام، أو ما زيدٌ إلا قائم، أو لزيدٌ قائم. ليس بالوضع الأول، بل لعارض أوجب له التقديم، وهو في الأصل غير

واجب، فصار من هذه الجهة كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام. ثم نقول: إن دخولَ العوامل سابقة عليه غيرُ مزيلٍ له عن استحقاق/ الصدر على الجملة من جهة أن بعض العوامل قد تسبق أسماء الشرط والاستفهام، ولا يكون ذلك مزيلًا لها عن استحاق الصدر، وذلك عامل الجر، فلا شتراك ضمير الشأن معها في هذا الاعتبار عَدَدْتُه في جملة الأسماءِ اللازمة للصدر وبالله التوفيق. والسادس: ما التى للتعجُّب في نحو قولك: ما أحسن زيدا! فإن «ما» مبتدأ يلزم صدر الجملة، وهو أولى باستحقاقِ الصدريّةِ من ضمير الشأن، إذ لا يدخل عليه ناسخٌ البتة، فلا يجوز تأخيرها هنا، لان العرب وضعت صيغة التعجب هكذا وألزمتها طريقةً واحدةً، فجرت مجرى المثل، فتُرِك المبتدأُ على حاله من التقديم، والخبر على حاله من التأخير. فإن قلت: إما امتنع تقديم الخبر هنا من جهةٍ أخرى، وهى كونه فعلًا فاعله ضمير المبتدأ، فهو بالتقديم يوهم الفاعلية، وقد مرّ ذلك، فكيف يُعَدُّ هنا امتناع التقديم من جهة كونه لازم الصدر؟ فالجواب: أنّ امْتناع التقديم لأجل كون الخبر فعلًا إنما يستقيم يصحُّ التقديم الموهم، فيمنع لأجل الإيهام، نحو: زيد قام لا تقدم هنا وأنت تريد بقاءَ حكم الابتداءِ، لإيهام التقديم زوالَ ذلك الحكم، وصيرورة المبتدأ فاعلا؛ فهذا إنما يَصور حيث يسوغ على الجملة أن تقول: قام زيد -وليس قولُهم هناك: إن الخبر لا يجوز تقديمه، بمعنى أنه لا يجوز تقديمه بحالٍ، بل بمعنى أنه لا يبقي على إعرابه الأول، أى: لا يحكم له

بالابتداء والخبر إذا تقدم الفعلُ، بل يحكم له بحكم الفعل والفاعل. هذا معنى امتناع هنالك، وأما هنا فلا يجوز التقديم البتَّة، سواء اعتقدت كون <ما> فاعلًا أو مبتدأً، فليس مثله، وإذا لم يكن مثله تعيّن أن يكون امتناع التقديم لأمرٍ آخر، وما هو إلا كون <ما> لازمةً للصدر، لجريان الكلام مجري المثل، فبقيت «ما» على أصلها من التصدير، فدخلت في حكم الواجب التصدير الذى ذكر الناظم، والله أعلم. والسابع: المبتدأ الذى دَخَلت الفاءُ في خبره، نحو قولك: الذى يأتيني فله درهمٌ، [وكلُّ رجلٍ يأتينى فله درهم]؛ لأنَّ المبتدأ هنا مُشْربٌ معنى الشرط، ولذلك تُنَافي الفاءُ الأحكامَ المنافيةُ للشرط، وإنما تدخلُ في خَبَر المبتدأ حيثُ لا يكونُ ثَمَّ حكمٌ منافٍ؛ ألا ترى أهم اشترطوا في صحة دخولها أن يكون المبتدأُ موصولًا ولا يكون مرادًا به شَخْصٌ بعينه، وأَلّا يدخل عليه ما ينافي الشرط كالنفي والاستفهام؛ لأنَّ استحقاق الدرهم بالإتيان إذا قُلْتَ: الذى يأتينى فله درهم. وهذا المعنى الذى يقربه من الشرط مفقودٌ هنا، قاله ابن الحاج. وإذا كان كذلك فلم تدخل الفاء في الخبر حتى وجد في المبتدأ معنى الشرط، فالفاء هي العَلَمُ عليه. وما فيه معنى الشرط، ولو في حال، قد صار مستحقًا لصدر الكلام، فلحق بأسماء الصدر من تلك الجهة، فلا يجوز إذًا تَقَدّم خبره عليه، لأنه في معنى جواب الشرط، وجواب الشرط لا يتقدم / على الشرط، فكذلك [ما في] معناه.

فهذه أضرب سبعة تضمنها قوله: «أَوْ لازِم الصَّدْرِ» بألطف إشارة، وحصل من هذا كلّه استيفاء ما ذكره الناس من هذه المواضع فى هذا الفصل، ولم يفُته إلا ما لا بال له. وأما القسم الثاني وهو وجوب تقديم الخبر على المبتدأ فهو الذى شرع الآ فيه فقال: وَنَحْوُ: عِنْدِى دِرْهَمُ، وَلِى وَطَرْ مُلْتَزَمُ فِيهِ تَقَدُّمُ الْخَبرْ كَذَا إِذَا عَادَ إلَيْهِ مُضْمَرُ مِمَّا بِهِ عَنْه مُبِينًا يُخْبَرُ كَذَا إِذَا يَسْتَوْجِبُ التَّصْديرا كَأَينَ مَنْ علُمتَهُ نَصِيرا؟ وَخَبر الْمَحْصورِ قَدِّمْ أبَدَا كَمَا لَنَا إلّا اتّباعُ أَحْمَدَا فذكر لهذا القسم أربعةَ أضرَبٍ: أحدها: الخبرُ الذى يكون تقديمُه مصححًا للابتداء بالنكرة، وذلك قوله: «وَنَحْوُ عِنْدِى دِرْهُمَ وَلىِ وَطَرْ» .. إلى آخره، فأشار بالمثاليه إلى النوع الذى يُصحّح تقديمُه الابتداء بالنكرة، وهو كون الخبر ظرفًا أو مجرورًا مقدّمًا على المبتدأ، فعندى درهم، مما الخبر فيه ظرف، ولى وَطَرُ، مما خبره مجرور

فكلَّما كان الخبر فيه مصححا للابتداء بالنكرة فذلك المصحح لازم له لبطلان فائدة الجملة بزواله. وقد تقدم الكلام فى المسألة عند قوله: وَلَا يجُوزُ الابْتِدَا بِالنِكرَة مَا لَمْ يفدْ، كَعِنْدَ زَيْد نَمَرة وقوله: «مُلتَزَمُ فِيهَ تَقَدُّمُ الخَبرْ». تقدمُ الخبر: مبتدأ، خبره: ملتزم. والضمير في «فيه» عائد على «نحو». والتقدير: تقدمُ الخبر ملتزمُ فى نحو عندى درهمَ ولى وطرَ. والوَطَرُ: الحاجة، والجمع: الأوطار. ولا يُبْنَى منه فِعلُ، قاله الجوهرى. واعلم أنّ هذا الالتزام المذكور هو القياسىُّ لا السماعى، فإنه قد جاء فى كلام العرب نحو: رَجُلُ فى الدار، قال امرؤ القيس: مُرَسّعةٌ بين أَرْسَاعِهِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. لكنه قليل، فلذلك ألزم التقديم، وعلى هذا جماعة من المتأخرين. وقد ذُكِرَ عن الشلوبين أنه كان لا يمنع وقوع الخبر مؤخرًا فتقول: درهم عندى، ووطَرُ لى، ورجل فى الدار ولكن الأحسن عنده التقديم، فهو من الأخبار التى لا يلزم تقديمها.

وحجة الناظم ومن قال بقوله ما تقدُم من أنه المسوغ للابتداء بالنكرة، فلو بقى مؤخرًا لأوهم كونة صفة للنكرة [فلا تحصل الفائدة. وأما الشلوبين فليس التقديم هو المسوغ للابتداء بالنكرة] عنده، بل لنك إذا قلت: في الدار رجل [فالمَعْنِىُّ به فى هذا الخبر إنما هو أن حصل في الدار المعهودة رجل] وهذا مفيدُ، فموضع العناية هنا الدار، فحسن تقديمها لمكان العناية الموجبة للتقديم فى كلامهم. فالموجب للجواز إذا حصولُ الفائدة بتعريف الدار، بدليل أنك لو قُلْتَ: فى دارٍ رجلُ، لم يَجُز باتفاق. فتقديم ما حصلت به الفائدة لا ينكر. فإذًا اشتراط التقديم هنا إِنما لأجل كونه عَلَمًا على المعنى المقصود الموجب للفائدة. ويدلّ على أن التقديم ليس لتحصيل الابتداء بالنكرة تقديمُه حيث يكون ثَمّ مسوغُ آخَرُ، بحيث لو لم يقدم لجاز الابتداء بالنكرة باتفاق، نحو: ما فى الدار رجل، فالأحسن هنا تقديم الخبر عناية به، لأنه الذى أوقع الفائدة بتعريفه، ولذلك كثر فى كلامهم نحو: ما له سَبَد ولا لَبَد، وما له ثاغية/ ولا راغية، وما فى السماء موضع راحة سحابًا، وما فى الدار أَرِمُ. وفى القرآن العزيز: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهم من شيءٍ، ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيء}. وفيه: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحيص}، {مَا لَكُمُ مّن ملجأٍ يَوْمئِذٍ وما لَكُمْ مّن نّكِيرٍ}

{مَا لِلظَالِمِينَ منْ حَمِيمٍ} .. الآية. وهو كثير جدًا. فقولهم فى الدار رجل، من هذا القبيل. وإذا كان المسؤغ غير التقديم لم يلزم التقديم، ولذلك أفاد قول امرئ القيس: مُرَسَّعُة بين أَرْسَاغِهِ ... ..................... فإن التقديم للعناية أكثريٌّ وليس بلازم وظاهر السماع مع الناظم، أعنى السماع الذى يقاس عليه، فلذلك اختاره، والله أعلم. والضرب الثانى: الخبر الذى عاد إليه من المبتدأ فى نفسه ضمير، وذلك قوله: «كَذَا إذا عَاد إلِيه مُضُمر» .. إلى آخره. الضمير فى «إليه» عائد على الخبر، وكذلك فى «به»، عائد عليه أيضا. والضمير فى «عنه» عائد على مدلول «ما» وهو المبتدأ، والتقدير: كذلك إذا عاد إلى الخبر مضمر من الأسم المبتدأ الذى أخبر عنه بذلك الخبر. ويريد أن الخبر يلتزم أيضا تقديمه إذا عاد إليه من المبتدأ ضمير، نحو قولهم: على التمرة مثلُها زبْدًا. فعلى التمرة: خبر مثلُها، وقد عاد إليه الهاء من مثلها. وكذلك قولك: فى الدار ساكنُها، وعند زيدٍ مالُه، وفى ملك عَمْرو غلامه. أَهَابُكَ إِجْلَالًا وَمَابِكَ قُدْرَةُ عَلَىَّ، وَلَكِنْ مِلْءُ عِنٍ حَبِيبُها

ووجهُ هذا اللّزومِ عودُ الضمير على ما قبلَه لفظًا وإن لم يك فى مرتبته، فلو بقى الخبر مؤخرًا لعاد الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة، لأن مرتبة صاحب الضمير -الذى هو المبتدأ- التقديم على مفسّره -الذى هو الخبر- وعودُ الضمير على ما بعده لفظا ومرتبة ممتنع فى مثل هذا. ومبينًا: حال يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى بَيِّنٍ، فإنك تقول: أبان الشئُ عن نفسه فهو مبين، بمعنى بان فهو بَيِّنٍ، أى: ظهر. ومنه في التنزيل الكريم: {فَأتُونا بِسُلْطان مُبِين}، فمعناه: بَيِّنٍ، بدليل الآية الأخرى: {لَولَا يأتونَ عَلَيْهمِ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}. والثانى: أن يكون بمعنى مُبَيِّنٍ غَيْرَه، ومنه فى التنزيل/: {إِن هُوَ إلَّا نَذِير مُبِين}، فهذا بمعنى مُبَيّنٍ، كقول الله تعالى: {لِتُبَيَّن للنَّاس ما نُزِّلَ إليهم}. فقولهم: أبان يتعدى ولا يتعدّى، كبيّن وتبين استبان. وهذا الثانى هو مرادُ النّاظم، والله أعلم. فهو حالٌ من الضَّمير

في «به»، وفصل بينهما [بعنه، وذلك جائز، إذ ليس بأجنبى، أى: يخبر عنه به فى حاله كونه مبينا] وأراد بكونه مفسِّرًا للضمير الذى عاد إليه من المبتدأ نحو ما تقدم من الأمثلة، وتحرز بذلك من أن يكون العائد من المبتدأ إلى الخبر لا يفسّرُهُ الخبر بفسه، بل يكون مفسّره ما يتعلق بالخبر، من معمول له ومن مثله قولك: محرزُ زيدًا أَجَلُه، ونافعٌ عمرًا علمهُ، وساترُ خالدًا ثوبه؛ فإن مفسّر الضمير هنا ليس نفس الخبر، بل معموله، وهو: زيدُ، وعَمْرو، وخالد. وإذا كان كذلك فمفهوم هذا القيد أن لا يلزم تقدم الخبر، وإنما يتقدم المفسّر فقط ويبقى الخبر على الجواز الأصلىّ في التقديم والتأخير، فتقول/ على هذا: زيدًا أَجَلُهُ محرزُ، وعمرًا علمُه نافعُ، وخالدًا ثوبُه ساترٌ. وكذلك جميع ما جاء من هذا. والفصل بين العامل والمعمول فى هذا مُغْتفَر، إذ ليس الفاصل بأجنبىّ. وكذلك تقول على هذا: زيدًا أجلُه أَحرَز، وزيدًا غلامه ضرب: فتُؤَخر الخبر وتُقدم المفسّر، وهو معمول الخبر، وهذا جائز عند المؤلّف، وفى نظمه هذا استعمالُ مثل: زيدًا أجَلُه أَحْرَزَ. وقد تَقدم منه مواضِعُ. والضرب الثالث: الخبر الواجبُ التّصدير، وهو الذى نَبّه عليه قولهُ:

«كَذَا إِذَا يَسْتَوْجِب التَّصْدِيرا». الضميرُ فى «يستوجبُ» عائدٌ على الخبر، يعنى أنّه يلزمُ أيضا تقديمُ الخَبَر إذا استحقَّ أن يكون صدرَ الجملة لموجب أوجب له ذلك، مثل أن يكون فيه معنى الاستفهام، كأين في مثال الناظم، فمن: موصولة، صلتها «علمته نصيرا»، وهى مُبْتَدأ، خبره أين. فلا يجوز على هذا أن تقول: من علمته نصيرا أين؟ وكذلك يجب أن تقول عنده: كيف زيد؟ ومتى قيامك؟ وَمِن ذلك قولُ الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةٍ: أيّانَ مُرْسَاهَا؟ } ولا يجوز أن تقول: زيدٌ كيف؟ ولا قيامك متى؟ ولا مرساها أيّان؟ لو فرضته في غير القرآن. وكذلك قولهم: كم مالك؟ وكم جريبًا أرضُك؟ على رأى الفارسيّ، حيث جعل «كم» خبرا لا مبتدأ، نقله عنه ابن خروف في شرح «الكتاب». وهذا الذى قرر هو رأىُ الجمهور. وأجاز الأخفش والمازني: زيدٌ كيف؟ وعمرو أين؟ فلم يريا وجوبَ التقديم هنا. ولا أدرى ما مستندهما في ذلك إِنْ كان النقل عنهما على ما هو الظاهر؟ وإلا فوجوبُ التّصدير على الجملة في أسماء الاستفهام كقولهم: ضرب مَنٌ منّا؟ وقولهم: كان ماذا؟ وأُليْفاظٌ مِنْ هذا النّمَطِ لا تثبت بها إجازاة ما أجازه، وسيأتى ذكر شئ من ذلك في مواضعه، إن شاء الله، فالحق رأى الجماعة في ذلك. ومثلُ ذلك المضافُ إلى اسم

الاستفهام نحو: غلامُ أىّ رجلٍ غلامك؟ وصبحِةَ أىّ يوم سفرُك؟ وعشَيةَ أىّ يوم قدومُ زيد. وما أشبه ذلك. والنصير بمعنى الناصر، والجمع: الأنصار، مثل شريف وأشراف. والضرب الرابع: الخبر الذى يوقع مبتدؤُه محصورًا، وهو الذى قال فيه: «وَخَبَر المَحْصُورِ قَدِّم أبَدَا» .. إلى آخره. خَبَرَ: مفعول مُقَدَّم، أى: قَدِّم خبر المبتدأ المحصور أبدًا، فلا تؤخه البتّة نحو قولك: إنما في الدار أخوك، وما عندى إلا زيدٌ. ومن أبيات الكتاب: وما لى إِلّا اللهُ لا رَبّ غَيرَه وهو كثير. وسببُ تقديم الخَبرِ هنا قد مَرَّ مثله. وعبّر هنا بالمحصور عن المحصور فيه، وقد تقدم الاعتراض عليه والجواب عنه في المسألة التى قبلها. وقوله: «مَا لَنَا إِلّا اتباعُ أَحْمَدَا»، مثال من ذلك. وأحمد: هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم. أى: إِنَّ اتباعا في الدين والنِّحلة محصور في اتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقد نَقَصَ الناظمُ مما ذكر في التسيهل ضربان: / أحدهما: الخبرُ الدالّ عند تقديمه على ما لا يدلُّ عليه عند تأخره،

ومثّلَ ذلك بقولهم: لله درُّك! ولله أنت! فإنّه يدُلُّ مع التقديم على معنى التعجب، ولو قلت: دَرُّك لله، وأنت لله، لم يدلّ على ذلك. وكذلك قولُهم: سواء علىّ أقمت أم قعدت، فقولهم: «أقمت أم قعدت» هو المبتدأ م جهة المعنى، والتقدير: سواءٌ علىّ قيامك وقعودك. ولو قلت: أقمت أم قعدت سواء علىَّ، لتوهّم السامعُ أنّك مستفهمٌ حقيقةً، وذلك غير متوهم مع تقديم الخبر الذى هو سواءٌ. والثاي: الخبر الذى مبتدؤُه أنّ المفتُوحة المشدّدة ومعمولاها، نحو قولك: في علمي أنّك صادق، وعندي أنَّ زيدًا قائم. ولا تقولُ: أنك صادقٌ في علمي، ولا أن زيدًا قائم عندي. ووجه ذلك عنده إِما خوفُ التباسِ المفتوحةِ لو قدمت بالمكسورة، وإما خوف التباس المصدرية بالتى لمعنى لعلّ، وإما تعريضها لدخول إِنّ المكسورة عليها مباشرة. وهو نحو تعليل سيبويه. وإمّا يلزم تأخير «أَنّ» وتقديم الخبر إذا لم يتقدم الكلام أمّا، فإن تقدمت لم يلزم تقديم الخبر، نحو: أمّا أنَّ زيدا قائمٌ ففي علمي. فإذًا حَصْرُ الناظمِ لمواضع وجوب التقديم يقتضى ألا يلزم إلا فيما ذكر، فعلى هذا يجوز تأخير الخبر في هذين الموضعين وما أشبههما مما لم يذكره، وذلك غير صحيح.

وقد يُجَابُ عن هذ بأنه لم يقصد حصر المواضع كلّها، بل نبّه على جملةٍ منها يُلْحَق بها ما عداها مما لم يذكره. وأيضًا فإن الموضع الأول قليل جدًا، ومما لا يَعْتَبِرُ مثله الناظمُ لأنه سماعِىٌّ وجارٍ مجرى المثل الذى شأنهُ أَن لا يُغَيِّر، والموضع الثاني ليس المبتدأ فيه بصريح، فلم تعْيَنِ به كُلّ الاعتناء. والله أعلم. (ثم قال): وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ. بَعْدَ: مَنْ عِنْدَكُما؟ وَفي جَوَابِ: كَيْفَ زَيْدٌ؟ قُلْ: دَنِفْ فَزَيْدٌ اسْتُغْنِىَ عَنْهُ إِذْ عُرِفْ لما تَكَلّم على أحكام المبتدأ والخبر مثبتين، أخذ في الكلام على عروض الحذف فيهما. والقاعدة أن الحذف في كلام العرب لا يكون إلا حيث دلّ عليه دليلٌ من قرينة لفظيّة أنّ معنوية، لأنه لو لم يكن عليه ديل لاختل المقصودُ من الإفهام، فإنك لو قلت ابتدءًا: زيدٌ، وأنت تريد: قائم أو خارج، ولم يكن ثَمّ مما يدلّ عليه، لم يقع بما تكلّمت به فائدة، وكذلك لو قلت: قائم أو خارج، وأنت تريد الإسناد إلى زيد، ولم يكن ثَمّ قرينة تَدُلّ -لم يكن في الكلام فائدةٌ، وهذا حيث يكون ثمّ دليلٌ على محذوف، لكنه لا دليل على تعيينه، وأما لم يكن في الكلام دليل على محذوف، فأحرى أن لا يُحْذف. وقُصَارانا أن نقولَ هنا: إِنّ الكلام لم يحذف منه شئٌ البتّةَ، كما إذا قلنا: زيدٌ قائم، فأنت لا يصح لك أن تقول: إن هذا الكلام محذوفٌ منه؛ إذ هذه دعوى [ليست بأولى من دعوى] عدم الحذف،

بل دعوى عدم الحذف مستندةً إلى الظاهر، وهو دليل في نفسه، والحمل على الظاهر مطلوبٌ وإن أمكن أن يكون المراد غيره. فالحاصل أنّ الحذفَ لا يُدّعى إلا مع الدليل، والناظم ابتدأ بهذه القاعدة الكُلِّية الجارية في أبواب العربية؛ إذ لم يُقَيِّدْها / بهذا الباب، بل قال: «وَحَذْفُ ما يُعْلَمُ جائزٌ»، فأتى بـ «ما» العامة ولم يفيدها، فإن أراد هذا فهو صحيح، ويدخل في العموم بابه من باب أولى. ويحتمل أن يريد التقييم ودلّ عليه السياق، كأنه قال: وحذف ما يُعْلم من المبتدأ والخبر جائز. وعلى هذا يدلُّ ما مَثّل به. وقوله: «وَحَذْفُ ما يُعْلَمُ جَائِرٌ» فيه إشكال من ثلاثة أوجُهٍ: أحدهما: أن العلم بأ؛ د الجزأين قد يكون علما مطلقا كالأمثلة التى مَثّل، وهو العلم الذى يُعَيِّن الجزء، والحذف مع هذا العلم جائز بلا إشكال؛ إِذِ المحذوف معه كالمثبت، وعبارة الناظم منطبقةٌ عليه. وقد يكون علما لا مطلقا، بل يكون الخبر معلومًا على وجه وغير معلوم على وجه، كما إذا قلت: زيدٌ، وحذفت الخبر، أو قلت: قائم، وحذفت المبتدأ. فهذا وما كان مثله يطلق عليه أنه معلوم، لكن علمًا إجماليًا دلّ عليه الكلام، لأن المبتدأ يقتضى خبرًا على الجملة، والخبر يقتضى مبتدأ على الجملة، فالقرينة مُعرفة بالمحذوف. فهو من هذا الوجه معلوم، ومن جهة التعيين مجهول. لكن العرب لا تراعي جهة العلم هنا ولا تعتبره، بل تُغَلِّب جهة الجهل فلا تجيز الحذف البتة، ومع هذا فيصدق أنه معلوم. والناظم لم يقيد العِلْم، فليس له ما يمنع دخول مثله تحت قوله: «وّحَذْفُ ما يُعْلَمُ»، وعند ذلك يقتضى جواز الحذف في مثل: زيد قائم، إذا لم يدل دليل على التعيين لكن هذا غير صحيح وغير جائزٍ باتفاق، فإِطلاقه غير مستقيم.

والثاني -على تسليم أنه أراد العلم بالتعيين- فحكمه بأنه جائز على الإطلاق، من غير تقييد، غير صحيح؛ فإن حذف ما يعلم على وجهين: أحدهما: جائز كالأمثلة المذكورة. والثاني: واجب لا جائز، كالحذف بعد لولا، وبعد الواو التى بمعنى «مع»، وسائر ما ذكر بعد. فإذًا ليس كلُّ ما يعلم فيحذف يكون جائزَ الحذفِ، بل قد يكون جائزًا وقد يكون واجبًا. والثالث: أنه أطلق القول بجواز الحذف في كل ما يكون معلوما من الجزأين، وذلك ليس على إطلاقه، فإن للإثبات مقاصد في كلام العرب لا تنكر، كما أن للحذف مقاصد، فقد يكون الجزء معلوما ولا يجوز مع ذلك الحذف بحسب قصد المتكلم؛ ألا تراهم جعلُوا لحذف الفاعل مقاصد كثيرة، ومثلها يلزم في إثباته؛ إذ لا فرق في المقاصد البيانية بين الحذف والإثبات. ومن أنكر هذا فهو صائم عن فهم كلام العرب. فإن لم يسامح في عدم اعتبار المقاصد البيانية، سردنا عليه مقاصد الإثبات التى لا يسوغ معها الحذفُ وإن كان الجزء معلومًا، فيتكسر عليه قوله: «وَحَذْفُ ما يُعْلَمُ جَائِزٌ». وهى مبسوطة في كتب أهل البيان. وإن سامحناه في ذلك. وقد كان الأولى أن لا يُسامح، لاعتباره المقاصد البيانية في مواضع كما مَرّ في فصل «التقديم والتأخير» -وَرَدَ عليه أيضا بحسب النظر النحوىّ مواضعُ يوجد فيها العلمُ ويمتنع الحذف، فمنها: خبر ما التعجبية لا يجوز حذفه وإن كان معلومًا؛ قال ابن الحاج: لأن القصد من التعجب كأنه منافٍ للاختصار. قال ومثل التعجب في هذا خَبر المقصود في

باب نعم وبئس / إذا أعربناه مبتدًأ وخبره نعم وبئس قال: ومنه أيضا خبر ضمير الأمر والشأن، كقولك: هو زيد قائم، وكذلك المبتدآت في هذه المواضع لا يجوز حذفها وإن كانت معلومة. ومثل ذلك المبتدأ المحصور، والخبر المحصور لا يجوز حذفُ واحدٍ منهما مع الحصر وإن كان معلوما. وقد نصّ أبو الحسن على ضعف قولك لحقٌّ أنّه ذاهب: إنه على حذف الخبر عند سيبويه. وإنما استقبحه الأخفش من جهة [حذف الخبر] خاصّة، قال: ألا ترى أنك لو قلت: لَعَبْدُ الله، ثم أضمرت الخبر، لم يحسن -يعنى مع العلم، وإلا فلا يجوز حذفُه إذا لم يعلمُ فكذلك لحقٌّ أنّه ذاهب بالإضافة، وهو على تقدير: ليقين ذاك أمرك. فهذا نصٌّ على ضعف حذف الخبر هنا وقُبْحه، وقد علل استقباحه بأن لم أكد بالكلام صار مع الحذف كالمتدافعين. ونظيره ما قال ابن جني في نحو: الذى ضربته نَفْسَه زيد، من أن لا يجوز حذف ضمير الموصول هنا لأنه موكّد، والحذف مناف للتوكيد. وعلى ما قال الأخفش يقبح أيضا حذف المبتدأ مع اللام المؤكدة، ولذلك قل نحو: أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ على رأى من جعله على حذف المبتدأ، وقول الآخر: خالِي لأنْتَ ... ...

وقد تقدم. فقد اجتمع لك خمسة مواضع لا يجوز فيها حذف واحد من الجزأين وإن كان معلومًا، فكيف يقول: «وَحَذْفُ ما يُعْلَمُ جَائِزٌ» قولًا مطلقا؟ ! والجواب عن الإشكال الأول: أنّ المراد بالعلم العلمُ بالتعيين، وهو الذى عَينه المثال في قوله: كما تَقُولُ: زَيدٌ، بَعْدَ: مَنْ عِنْدكما؟ ». فكأّنّ المثالَ قيدٌ يُعيِّن العلم، ما هو؟ وعلى أىّ وجه هو وأيضا فإن المعلومَ من وجهٍ دون وجهٍ يُطْلَق عليه أنه غير معلوم، وإذا صح فيه هذا الإطلاق اقتضى مفهوم الكلام أن لا يحذف، لأنه غير معلوم. فليس إدخاله في المعلوم بأولى من إدخاله في غير المعلوم، فلا يصحّ الاعتراض به. والجواب عن الثاني من وجهين: أحدهما: أن لفظ الجائز يطلق على ما استوى فعله وتركه -وعلى هذا المعنى حمله المعترض- ويطلق أيضا على ما لا يمتنع مطلقا، فيدخل فيه الجائز بالمعنى الأول، ويدخل فيه أيضا الواجب، وما كان من باب الأولى في الفعل أو في الترك، لأن الجميع غير ممتنع. ويطلق أيضا باعتبارات أخبر لا حاجة بنا إلى ذكرها. وقد ذكر ذلك أهل أصول الفقه. فعلى الإطلاق الثاني قد دخل الواجب الحذف تحت لفظ الجائز، فكأنَّ الناظم قال: «وحذف ما يُعْلَم غيرُ ممتنعٍ على الجُملة». ولَو عبّر بهذه العبارة لصحّ كلامُه لِشُمولها الوجهين: الواجبَ الحذفِ والجائز الحذف والإثبات، ولا يبقى بعد ذلك إشكال.

والثاني: -على تسليم أنه أراد الجائز بالإطلاق الأول- فإنما معنى كلامه: أن ما يعلم منه جائز فالأمثلة المذكورة، ومه واجب كالحذف بعد لولا وما أشبه ذلك، فيكون قوله: «جائز»، ليس غير المبتدأ الأول، بل هو مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: «وحذف ما يُعْلَمُ منه جائز. ويجبُ بعد ولا، وكذا، وكذا. وهذا أيضا صحيح في نفسه، فلا إشكال. وإما الثالث فالظاهر وروده / إلا أن يقالَ: إن مثلَ هذه الأشياء مما لم يذكرها الجمهور في الكتب المطولة، فهو حين تركها أعذرُ منهم، لاختصاره. وإنما يتمكن الاعتراض بها على التسهيل. ثم رجع إلى قصد ذكره، فقال: «وحذفُ ما يعلم جائز» إلى آخره، يعنى أن كل جُزْءٍ من جُزْأَىِ الجملة يجوز حذفه إن كان معلومًا عند السامع حتى كأنه في حكم المذكور. وهذا الحذفُ لم يقيّده بجزءٍ دون غيره، فاحتمل كلامه ثلاثة أضرُبٍ من الحذف، أشار إلى ضربين بمثالين، وترك الثالث اعتمادًا على الكليّة: الضرب الأول: حذف الخبر، وهو الذى أشار إليه بقوله: كما تَقُولُ: زيد. بعد: مَنْ عِنْدكما؟ فإذا سُئِلت هذا السؤالَ فقيل لك ولصاحبك: من عندكما؟ فقلت: زيد فزيدٌ مبتدأٌ حُذِف خبرُه لدلالة الكلام الأول عليه. وأصل الجواب: زيدٌ عندنا. لكنْ حُذِف الظرف اختصارًا. وقوله: «بعد مَنْ عندكما؟ ». أراد بعد هذا الكلام المقول فيه عن الشخص الذى استقرّ في هذا الظرف.

وهذا مثال واحدٌ من عددٍ كثير يشتملُ على قرائن يجوز معها حذف الخبر، فمن ذلك: زيدٌ قائم وعمرو. فالتقرير: وعمرو قائم. ومنه: خرجت فإذا الأسدُ. تقديره: فإذا الأسدُ حاضرٌ أو موجود أو نحو ذلك. وهذا ليس كالإثبات في الكثرة. ومن ذلك قول الشاعر: نَحنُ بِما عِنْدَنا، وأَنت بما عِنْدَكَ رَاضٍ، والرأىُ مخْتَلِفُ فحذف خبر نحن، وهو: راضون، لدلالة «راض» عليه. والضرب الثاني: حذفُ المبتدأ، وهو الذى عنى بمثاله الذى قال فيه: «وفي جواب: كيف زيدٌ؟ قل: دَنِفْ». يعنى أنك إِذا سئلت فقيل لك: كيف زيدٌ؟ فلك أن تحذف المبتدأ فتقول دَنِفٌ. وأصل الجواب أن تقول: زيدٌ دنفٌ، ثم تحذف. وليس في قوله: «قُلْ: دَنِف» القطع على الحذف، بل ذلك إلى خِيَرَةِ المتكلم، دلّ على ذلك قوله: «وَحَذْفُ ما يُعْلَمُ جَائزٌ». وقوله: «في جوابِ» متعلِّقٌ بـ «قُلْ». وهو على الحكاية، أعنى: كيف زيدٌ؟ كأنّ المعنى: «وفي جواب سُؤَالِك بهذا الكلام قل كذا». والدّنِفُ -بكسر النونِ-: المريض، يقال: دَنِف المريض دَنفًا: إذا ثَقُل في مرضه. وقال الجوهرى: الدّنَفُ: المرضُ الملازم، واسم الفاعل: دَنِفٌ،

وامرأة دَنِفةٌ، ورجلان دَنِفان، فتثنى وتجمع وتؤنث، وقد يوصف بالمصدر فتقول: رَجُلٌ دَنَفٌ، بالفتح، وامرأة دنَفٌ، ورجلان دَنَفٌ. وهكذا في الجمع والتأنيث يكون على حالة واحدة. ومثل ما مثّل به الناظم قولك: في الدار، لمن قال: أين زيد؟ وأن قُعُودُك؟ والتقدير: زيدٌ في الدار، وقُعُودى في الدار. ومنه أن تقول إذا شَِمْتَ طيبًا: مِسْكٌ والله. أى: هذا مِسْكٌ، أو هُوَ مِسْكٌ. وكذلك تقول إذا سَمِعت هينمةً: قراءةً، أى: هى قراءة. ومنه قول الله -عز وجل-: {مَنْ عَمِلَ صالحًا فَلِنَفْسِهِ}، أى فعمله [لنفسه] أو صلاحه لنفسه، {ومن أساءَ فعليها}، أى: فإساءته عليها. والضربُ الثالث: حذفهما معًا. ولم يُشْرِ الناظم إليه بمثال، ولفظه محتمل له، لكنه ليس في كثرة الضربين قبله، ومثاله قوله: أين زيد جَالِسٌ؟ فتقول: في الدار، أو عندى. فالتقدير: زيدٌ جالسٌ في الدار أو عندى. ومثله: متى عَمْرو سائر؟ فتقول: بعد غدٍ. وأيّ موضع أنت ساكن؟ فتقول: مكان كذا. وما أشبه ذلك. ومنه ما عُوِّض / منه حرف الإيجاب، نحو نعم، ولا، إن قيل: إن الجواب بعدها مقدّرٌ، كما رآه ابن عصفور، كما إذا قيل: زيدٌ عندك؟

أو قيل: أعمرو منطلق؟ فتقول: نعم، أو: لا وقد عّ ابنُ الناظم من هذا الضرب قول الله سبحانه: {واللائي لَمْ يَحِضْنَ}، أى: فعدّتهن ثلاثة أشهر. وأصلُ ذلك للفارسيّ. وذلك لا يتعيّن في الآية لوجهين، أحدهما إمكان تقدير المفرد مكان تلك الجملة، كأنه قيل: واللائى لم يَحِضن كذلك، أو جاريات مجراهن، أو ما أشبه ذلك. والثاني: أن الجملة إن سُلِّم أنها المقدرة فلأنها هى الخبر، فلنا أن ننقول: لم تُحَذفْ هنا الجملة من حيث هى مبتدأٌ وخبرٌ، بل من حيث هى خبر المبتدأ الذى تقدم وعند ذلك لا يكون فيها دليل على جواز حذف المبتدأ والخبر بإطلاق، وهو المحتاج إليه هنا. هذا كله إن جعل {واللّائِى لَمْ يَحِضْنَ} في موضع رفع، وأما إن جعلته في موضع خفض عطفا على (هُنّ) من قوله: {فعِدّتهن} فالآية بمعزل عن هذا الضرب الذى ذكر، وإنما يرجع إلى الضرب الأول، فتأمله، والله أعلم. وقولُ الناظم: «فَزَيدٌ اسْتُغْنِىَ عَنْهُ إِذْ عُرِفْ»، أراد بزيد هنا المذكور في المثال الثاني، وهو كيف زيد؟ فقولك في الجواب: دَنِف، استغنيت فيه عن إعادة ذكر زيد، لتقدم ذكره في السؤال، فحصلت المعرفة به، فاختُصِر. هذا ذكر الحذف الجائز ثم شرع في ذكر الحذف الواجب فقال:

وَبَعْدَ لَوْلَا غَالبًا حَذْفُ الخَبَرْ حَتْمٌ، وَفِي نصِّ يَمِينٍ ذا اسْتَقَرْ وَبَعْدَ واوٍ عَيّنَتْ مَفْهُومَ مَعْ كَمِثْلِ كُلُّ صَانِعٍ وَمَا صنَعْ وَقَبْلَ حَالٍ لَا يَكُون خَبَرَا عَنِ الذِى خَبَرُهُ قَدْ أُضْمِرا كَضَرْبِيَ الْعَبْدَ مُسِيئًا وَأتَمْ تَبْيِينَىِ الحقّ مَنُوطًا بِالْحِكَمْ اعلم أنّ الحذفَ قد يجب في أحد الجزأين، فلا ينطق به البتة، أو ينطق به لكن قليلا. وليس ذلك بمقتصر به على أحدهما دون الآخر، بل قد يحذف المبتدأ وجوبا، وقد يحذف الخبر كذلك. والناظم اقتصر هنا على حذف الخبر ولم يتعرّض لحذف المبتدأ، فقد يقال: إن كلامه يُوهِم أالحَذْفَ الواجب يختصّ بالخبر، ويشعرُ بذلك ذكره جواز الحذف في الجزأين، فلما ذكر وجوب ترك التنبيه على ذلك [في المبتدأ]، فأوهم هذا أن المبتدأَ لا يُحذَف وجوبا، بل جوازا. وليس كذلك بل يحذف وجوبا في مواضع جملة، منها: في النعت المقطوع إلى الربع إذا كان للمدح أو الذم أو الترحم، نحو قولهم: الحمد لله الحميدُ، والحمد لله أهلُ الحمدِ. وكذا في الذم نحو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيمُ، وفي الترحُّم نحو: مررت به المسكينُ. قال المؤالف: لأنهم قصدُوا إنشاء المدح، يعنى في قطع النعت، فجعلوا إضمار الناصب أمارةً على ذلك، يعنى حين قطعوا إلى النصب، كما فعلوا في

النداء؛ إذ لو أظهروا الناصب لخفي معنى الإنشاء، وتوهّم كونه خبرا مستأنفًا / في المعنى. قال: فلما التزم الإضمار في النصب التزم في الرفع، ليجري الوجهان على سَننٍ واحدٍ. ومنها: الحذف لكون الخبر مصدرًا جِئَ به بدلًا من اللفظ بالفعل، نحو ما أنشد سيبويه: فَقَالَتْ: حَنَانُ، مَا أَتَى بِكَ هَهُنا أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بِالْحَىِّ عَارِفُ؟ التقدير: أمرى خنانُ. وقالوا: سمعٌ وطاعة، وصبرٌ جميل. وفي التنزيل (قال: سِلْمٌ)، على تقدير: أَمْرِى، في الجميع. والأصل في هذا النوع النصب لأنه مصدر جرء به بدلًا من اللفظ بفعله، فالتزم إضمار ناصبه، لئلا يجتمع البدل والمبدل منه، ثم حمل المرفوع في التزام إضمار العامل على المنصوب، وعامل الرفع هنا هو المبتدأ. وأمثلة هذا النوع كثيرة، قال سيبويه: «والذي رفُعِ عليه حَنانٌ وصبرٌ وما أشبه ذلك لا يُستعمل إظهارُه، وتركُ إظهاره كترك إظهار ما يُنصب فيه». ثم علل ذلك بما تقدم، وبأن معنى الرفع على معنى النصب، وقد كان في النصب بدلًا من اللفظ بالفعل، فكذلك في الرفع.

ومنها: المخبر عنه بممدوح نعم ومذموم بئس، عند من يقول: إن المخصوص هنالك خبر مبتدأ، حسبما يذكر في بابه، إن شاء الله، إلى أشياءَ من هذا القبيل. ومنها: ما جرى من الأسماء مجرى المصادر نحو: سُبُّوح قُدّوس، رب الملائكة والروح، وكذلك خَيْرُ ما رُدّ في أهل ومال، وما أشبه ذلك. فكان الأولى أن يذكر هذا النوع كما ذكر الآخر، من جهة إيهام كلامه خلاف الحكم المستقيم، ومن جهة أن المسألة من جائل النحو، لا من غرائبه. وقد يعتذر عنه بأن الحذف في النعت المقطوع قد ذكره في باب النعت فقال: وَارْفَعْ أَو انْصِبْ إِنْ قَطَعْتَ مُضْمِرا مُبْتَدَأ أَوْ نَاصِبًا لَنْ يَظْهرًا وفي باب نعم وبئس ذكر حذف المبتدأ المخبر عنه بالمخصوص، فقال هنالك: وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَأ أَوْ خَبر اسْمٍ لَيْسَ يَبْدوُ أَبدًا وما عدا هذين فهو من القليل؛ إذ الرفع فيها ليس لكل العرب، فلما كان كذلك تَرَكَ ذكره، كعادته في ترك كثير مما يقلُّ في كلام العرب، ولا يبلغ مبلغ الشائع المطرد، وإن كان له قياسٌ مّا؛ ألا ترى أنه لم ينبّه في باب المصدر على جواز الرفع في تلك الأشياء لما كانت أقليّةً بالنسبة إلى النصب. فإذا ثبت هذا

لم يبق له مما يتعيّن ذكره في الحذف الواجب إلا حذف الخبر، فهو الذى تَعرَّض له، وذكر له أربعة مواضع: أحدها: بعد لولا، فقال: وَبَعْدَ لَوْلا غَالبًا حَذْفُ الخَبَرْ حَتْمٌ ... ... ... ... ... حذف الخبر: مبتدأ، خبره: حَتْمٌ. وبعد لولا متعلق بحتم، لأنه في معنى محتوم، كخلق بمعنى مخلوق في قول الله: {هذا خَلْقُ الله}. والحتم: الايجاب، يقال: حَتَمَ الله كذا وكذا، بمعنى: أوجبه حَتْما. والحَتْمُ أيضا: القضاء، وليس في هذا لامعنى (يريد أن خبر المبتدأ يجب حذفه لعد لولا، فلا يتكلم به غالبًا) لأنه مفهوم بنفسه، فإذا قلت: لولا زيد لأكرمتك، فمعناه: لولا زيدٌ ثابت أو موجود، أو هنا، أو نحو ذلك، فلما كان مفهومًا اسم الفاعل أوا الفعلُ المتعلق به الظروف المجرورُ الحذف في نمو زيدًا في الدار، وجاءني / الذي عندك، لما كان مفهومًا بنفسه الزموه الحذفَ، كما ألزم من الكلام. وأيضا فلكثرة الاستعمال؛ قال سيبويه: «وكأنّ المَبْنِىّ عليه -يَعْنى عَلَى المبتدأ بعد لولا- الذى في الإضمار -يعنى الخبر- كان في مكان كذا وكذا، فكأنه قال: لولا عبدُ الله كا بذلك المكان، ولولا القتالُ وكان في زمان كذا؟ ولكن هذا حذف حين كَثُر استعمالهم إياه في الكلام، كما حُذِف في إِمّا لا». ثم أتى بنظائر، وهذا هو الأصلُ في لزوم حذف كلّ خبر ذكره الناظم وفرضُه حذفَ الخبر هنا ظاهرٌ في أنّ ما بعد لولا مبتدأ، وهو مذهب البصريين خلافًا لمن زعم (خلاف)

ذلك، حسبما يأتى، حيث تعرض الناظم للمسألة، وإن شاء الله. وقوله: «غالبًا» قيدٌ في الحذف الواجب، يريد أَنّ الخبر بعد لولا -في الغالب- واجب، أى: في غالب الكلام، ومفهومه أنه في النادر غير واجب، وإذا كان غير واجب فهو إمّا جائز وإمّا ممتنع، فالممتنعُ الحذفِ هو الذى لا يُعْلَم إِن حُذِف، والجائزُ الحذفِ: هو الكون المقيّد الذى عليه دليل. وهذا القسمان مفهوم حكمهما مما تقدم في لاقاعدة الأولى، فقد تصوّر في حذف الخبر بعد لولا أقسام ثلاثة: واجب الحذف، وهو: الكونُ المطلقُ نحو: لولا زيد لأكرمتك. وإما وجب هنا الحذفُ لأنه معلوم بمقتضى لولا؛ إذ هى دالةٌ على الامتناع لوجود، والمدلول على امتناعه هو الجواب، فقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، يعلم منه أن وجود زيد مانع من الإكرام، فصحّ الحذف ووجب لسدّ الجواب مسدّه وممتنع الحذف وهو: الكون المقيد الذى لا ديليل عليه، كقول: لولا زيد سالمنا ما سلم، فسالما: خبر زيد ولو حذف لم يعلم، فامتنع حذفه. وكذلك: لولا زيد (عندنا) لهلك. وفي صحيح الحديث: لولا قومك حديثٌ عهدُهم بكفر لأسّسْت البيت على قواعد إبراهيم. وجائز الحذف وهو: الكون المقيد الذى دلّ عليه الدليل، نحو قولك: لولا أنصارُ زيدٍ حَمَووه لم يَنْجُ. فلو حذف الخبر هنا، وهو حَمَوه، لجاز للعلم به. ومنه عند المؤلف قول أبي عطاء السندي:

لَوْلَا أَبُوكَ، وَلَوْلَا بَعْدَهُ عُمَرُ أَلْقَتْ إِلَيْكَ مَعَدٍّ بِالْمَقَالِيدِ وقال الآخر: فَلَوْلَا سِلَاحِى عِنْد ذَاكَ وَغْلِمَتى لَكانَ لَهُمْ يَوْمٌ من الشّر أَيْوَمُ قال ابن الحاج: وأُقَدِّر أننى وقفتُ من كلامهم على نحو: لولا زيد ثَمّ أو هنالك وشبهه. وقال علقمة: فَوَ اللهِ لَوْلَا فَارِسُ الجَوْنِ مِنْهُمُ لآبُوا خَرايا، وَالإِيَابُ جَيبُ وعلى هذا النادر يجري قول المعرّى في صفة السيف: يُذِيبُ الرّعبُ منه كُلُّ عَضْبٍ فَلَوْلا الغِمْدُ يُمْسِكُهِ لَسَالَا ولكن هذا كُلّه عند الناظم نادرٌ، والغالبُ انحتامُ الحذفِ. ويبقى بعدُ نظرٌ في هذا النادر هل هو مما يُقَيُّد به عنده أم لا؟ فهو يحتمل وجهين: أحدهما: ما هو الظاهر من عَدَم الغلبة، وأنّه قليل لا يعتدّ به. والثاني: أن يُرِيدَ أنه مقيسٌ معتدٌّ به؛ إذ ليس في الإشعار بقلته ما يشعر بعد القياس فيه.

فإن أراد الأَوّلَ فهو راجعٌ إلى مذهب طائفة من النحويين في التزام الحذف مطلقًا، وأنه لا يجوز ذكره / وحيث فُرِضَ خبر لا يعلم لكونه ليس بكونٍ مطلق، صاغوا منه مصدرًا وأضافوه إلى المبتدأ فيقولون: لولا مسالمة زيدٍ لنا ما سلم، ولولا استقرار زيد عندنا لهلك، ولولا حمايةُ أنصار زيد له لم ينجِ. وكذلك سائر المُثُل. فإن جاء في السماع ما يخالف هذا فاما أَن يُعِدّ شاذًا، وإما أن يُؤَوّل إن أمكن تأويلُه. وإلى هذا المذهب ذهب الفارسيّ وغيره. واعتمده ابن أبي الربيع وابنث عصفر وغيرهما من المتأخرين، لأن العرب عندهم لا تقولُ مثل: لولا زيدٌ سالمنا ما سلم، وإنما تقول: لاولا مسالمة زيد لنا. والاستشهاد بالحديث فيه ما فيه، مع أنه محتمل لأن يكون قوله: «حديث عهدُهم بكفر» جملة اعتراض بين لولا رجوابها. وقد تُؤُوِّل قوله: «فَلَوْلَا سِلاحِى عِنْدَ ذَاكَ» أن الظرف يتعلّق بما في السلاح من معنى الشدّة. وعلى هذا يكون قول الآخر: «وَلَوْلا بَعْدَه عُمَرٌ»، فيتعلّق فيه الظرفُ بمعنى عُمَر، إذ هو الخليفة، فكأنه انتزع من العَلَمِ معنى الوصف، فعلّق به الظرف، كما قال الآخر: أَنَا أَبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأَحْيَان وهو باب واسع بوّبَ عليه ابن جني في الخصائص. وكذلك يكون

«فارس الجون» قد تعلّق «منهم» بمعنى فارس الجون، أى: المعروف منهم، أو المشهور منهم. وعلى رأى الناظم في هذا الوجه لا حاجة إلى التأويل، إذا كان ما جاء من ذلك بحيث لا يبلغ أن يُقَاسَ عليه. وظاهر الكتاب مع هذا الوجه، وقد مَرّ نصُّه في ذلك، ولا يبقي على الناظم فيه إلا أنه مخالف لمذهبه في غير هذا الكتاب. وهذا قريبٌ، فإنه في العربية متصد للاجتهاد، مُعْلعن بمخالفة من لم يَنْهضَ دليلُه عنده، لا يتحاشى من الخليل فما دونه، سيرةً أهل الاجتهاد المطلق، وله في مخالفة الجمهور مسائل مشهورة، مُنَبّه عليها في مواضعها، وقد تقدم منها بعض، وسيأتى من ذلك أشياءُ، إن شاء الله. وإن أراد الاحتمال الثاني فهو الموافق لما له في التسهيل وشرحه، وذلك أنه قال في التسهيل: «ويحذف الخبر جوازا في كذا، ووجواب بعد لولا الامتناعية غالبا» ثم فَسّره في لاشرح فقسم الخبر ثلاثة أقسام كما تقدم، وأجرى القياس في جمعيها، ولفظه في التسهيل موافق للفظة هنا، وقد فَسّره في الشرح بما ذكر، وكذلك فَسّره ابنه في هذا النظم. فالظاهر أن مراده هذا الثاني، وهو رأى طائفة منهم الرماني، وُدَرِيودُ

وأبو بكر خطّاب، والشلوبين، وابن الحاج، والأبذي، وغيرهم. وكأنهم اعتدّوا بما وجدوا في السماع من ذلك، ورأوا أن التأويل فيه تعسّفٌ، وأن القياس لا ينفي ذلك، وأن من لَحّن المعرى في قوله: فَلَوْلَا الغمدُ يُمْسِكُه لَسَالَا غير مُصيبٍ. نَعَم، لا ينازع هؤلاء في أن التزام الحذف أكثر. فإن قيل: إنّ الناظم قد أطلق العبارة في لولا وهى على ضربين: امتناعية وتحضيضية، (فأما الامتناعية فهي التى يقع بعدها المبتدأ محذوف الخبر، وأما التحضيضية) فلا يقع بعدها إلا الفعل ظاهرًا أو مقدرًا، فهى بمعزل عن هذه المسألة، فكان الأولى به أن يقيّدها بالامتناعية كما فعل في التسهيل، وإِلّا أوهم كلامهُ جريانَ/ الحكم فيها على معنييها، وذلك غير صحيح. فالجواب: أن كلامه ههنا إنما هو في حذف الخبر بعدها، وحذف الخبر وإثباته لا يتصوّر إلا حيث يقع المبتدأ ضرورةً، فالكلام في قُوّة أن لو قال: «وبعد لولا التى يقع بعدها المبتدأ والخبر يُحذَف الخبر». وهذا كلامق لا إِشكال فيه، وإنما فيه إِحالةٌ على لولا الواقع بعدها المبتدأ والخبر. وليس هذا موضع بيانه، وقد بَيّنه في موضعه وقال فيه: لَوْلَا وَلَوْمَا يَلْزَمَانِ الابِتَدا إِذَا امتناعًا بِوُجُودٍ عَقَدَا

وإذا كان كذلك لم يلزمه تقييدُها هنا. والموضع الثاني من مواضع لزوم حذف الخبر: اليمين الصريحة، وذلك قوله: «في نَصٍّ يَمِيِنٍ ذَا استقر». ذا: إشارة إلى ما تَقَدّم ذكره قريبًا من حذف الخبر حتما. يريد أن هذا الحكم المذكورَ قد استقرّ في نصّ اليمين، يعنى إذا كاننت اليمين جُمْلةً من مبتدأ وخبر، لكنه تَرَك ذلك للعلم بأن الخَبر لا يُحذفُ ولا يحكم عليه إِلّا حيثُ تكون الجملة من مبتدأ وخبر، ولذلك بم يحتج إلى تقييد لولا كما تقدم، ويلزم المؤلف ([في التسهيل حين قَيّد لولا أن يقيد القسم الصريح بكونه من جملة ابتدائية]) فيتحرز م الجملة الفعلية، فالأحسن ما فعل هنا. ومثال ذلك: أيمنُ الله، فإن هذا مبتدأٌ خبره محذوف، تقديره: قسمى، أو: ما أحلف به وكذلك: لعمرو الله، يلزم [فيه] حذف الخبر أيضا، فلا تقول: أَيْمُنُ الله قَسَمى لأفعلَنّ، ولا: لعمرو الله مَا أَحِلفُ به لأَفْعَلنّ. وإنّما لزم حذفُه لأنّ فيه ما في الخبر بعد لولا من كوه معلوما مع سدّ الجواب مَسَدّه، وأيضا لكثرة استعمالهم إياه، قال سيبويه: «فكأنه قال: لعمرو الله المقسَمُ به. وكذلك أَيمُ وأيمُنُ، إلا أن ذا أكثرُ في كلامهم، فحذفوه كما حذفوا غيره». وقيد اليمين بكونها نَصّا، لن هذا الحكم إِنما هو إِذا كان القسم نصّا في معناه، لا يحتمل غير ذلك، فإن الخبر لا يعلم إلّا إذا كان القسم كذلك، فإن كان غير نصّ فلا يلزم حذف الخبر، كقولك: عَهْدُ اللهِ؛ فإنه ليس بصريح في القسم

بل هو محتمل قبل الإتيان بالجوب [لأن يكون غير قسم فليس لحذفه سبيل إلا مع قرينة تحمل على المراد، بخلاف لعمرو الله، فإنه قبل الاتيان بالجواب] ظاهر المعنى في القسم، فلذلك لم يلزم الحذف في «عهد الله» وما أشبهه، بل لك أن تقول: علىّ عهد الله لأفعَلنّ، وعلى ميثاق الله لأفعلَنّ، وما أشبهه. والموضع الثالث من مواضع لزوم حذف الخبر: بعد الواو التى بمعنى مع، وهو الذى قال فيه: «وبعد واوٍ عَنّنت مفهوم مَعْ». يعنى أنّ حذف الخبر أيضا لازمٌ بعد الواو التى تُؤَدِّى معنى مع، بشرط أن يكون ذلك المعنى بَينًا ظاهرًا فيها، بحيث يتعين فيها فلا يحتمل العطف. وهذا الشرط المراد بقوله: «عَيّنت»، وذلك قولك: أَنْتَ ورأيُك، وكُلُّ عمَل وجزاؤهُ، وكلُّ ثوبٍ وقيمتُه، وكلُّ رجل وضيعتُه. ومنه قول عنترة: مِنَ يكُ سائلًا عَنِّى فإنّى وَجِرْوَةُ لا تَرود لُه ولا تعارُ وقولُ امرئ القيس: فكان تنادينا وعَقدُ عذارِه وقال صحابي: قد شَأَوْنَكَ فاطْلُبِ ومثل ذلك الناظم بقوله: كلّ صانع وما صَنَع.

فالواو في هذه الأمثلة كلِّها صريحٌ فيها معنى مع، فهى مما يلزم فيه حذف الخبر، لأن الواو وما بعدها قامام مَقامَ مع وما يَنْجرُّ بها، مع ظهور المعنى، بحيث حصل الاستغناء بالواو مع ما بعدها، فتنزّلا في الاستغناء بهما عن الخبر منزلة / «عجبا» وَأمثاله في الاستغناء بها عن الأفعال، فكما لزم هالك لزم هنا. والتقدير في هذه الأمثلة: أنت ورأيك مقترنان، وكلّ عمل وجزاؤه مقترنان. وكذلك سائرها وهذا هو الجارى على رأى الناظم حيث جعل الخبر محذوفًا، والواو بمعنى مع. وبعض النحويين يخالف في المسألتين؛ فأما ابن خروف فلا يقدّر خبرًا لتمام الكلام وصحة معناه، من غير افتقار إلى تقدير شئٍ (كما لم يقدِّره) في نحو: أقام الزيدان شئ لاستقلال الكلام، فهذا كأن الناظم لم يره لما يلزم عليه من أن يكون الأمرُ كذلك في كلّ موضعٍ التُزِم فيه حذفُ الخبر. بهذا رَدّ عليه المؤلف في الشرح. وأمّا ابن أبي الربيع وبعض من تقدم فإن الواو عندهم ليست بمعنى «مع»، بل على أصلها من العطف، وحكى هذا عن الأخفش، وأن المعطوف في موضع الخبر. (ويقول) ابن أبي الربيع: إن الأصل في قولهم: كلُّ رجلٍ وضَيعتُه: كلُّ رجلٍ مع ضيعته، وضيعتُه معه، فحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، فقيل: كُلُّ

رجلٍ وضيعته. والناظم لم يرد إلا أن الواو بمعنى مع، ووجودها هو الذى يسوغ التزام حذف الخبر، لأنها كالنائبة مع بعدها عن مع ومجرورها، ولو كانت الواو للعطف لم يصلح فيما بعدها أن ينوب مناب الخبر. وأيضا لا يحذف الخبر في لاعطف الصريح لأنه لا دليل عليه، ولهذا شرط الناظم في الواو أن تكون مُعَيِّنة لمعنى مع، فإنها إن لم تعيِّنه لم يلزم الحذف، بل يصير إما جائزًا وإما ممتنعًا، فإذا قلت: زيد عمرو، وأنت تريد: مع عَمْرو، كان لك أن تأتيَ بالخبر فتقول: زيدٌ وعمرو مقترنان أو متلازمان، ولك أن تستغنى اتّكالا على أن السامع يفهم معنى الاقتران، لأّنّ معنى المصاحبة وإن دَلّت الواوُ عليه غير متعيّن، لإمكان معنى العطف ولو قلت: زيد وعمرو يلتقيان أو يصطرعان أو يتفرقان، وما أشبه ذلك -لم يجز هنا حذف الخبر، لانتفاء احتمال معنى «مع» في الواو، وتَعَيُّنِ كونها عاطفةٍ لمجرّد الجمع، فلا بد من الإتيان به. ومنه قول الشاعر: وَكُلُّ امرِئٍ والْمُوْتُ يَلْتَقِيانِ فهذا كله من أول الدليل على أن الواو هى التى بمعنى مع، لا العاطفة، إذ لا دلالة للعاطفة على الخبر. قال ابن خروف: لو قلت: ما كلُّ رجلٍ إلا وضيعهُ، لجاز، لكون الواو بمعنى مع وفي موضعها. قال: ولا يجوز ذلك في العطف، فقد ظهر وجه ما ذهب إليه الناظم في المسألتين، والله أعلم.

والموضع الرابع من مواضع لُزُومِ حَذْفِ الخبر: قبل الحال التيلا يصحّ وقوعها خبرًا عن المبتدأ، وذلك قوله: وَقَبْلَ حالٍ لا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الّذِى خَبَرُهُ قَدْ أُضْمَرِا يعنى أنّ الخبر يلتزم حذفُه أيضًا قبل حالٍ لا يصح فيها أن تقع خبرًا عن المبتدأ، وهو الذى أضمر خبره، أى: لا يصحُّ جعل تلك الحال خبرًا عن المبتدأ. ومثّل ذلك بمثالين: أحدهم: «ضربي العبيد مُسِيئًا». فضربي: مصدر، وهو مبتدأ، ومسيئًا: حال لا يصح الإخبار بها عن ضربي. والخبر محذوف تقديره /: إذا كان مسُيئًا، أو ضَرْبُه مسيئا. ومثل ذلك: ضربي زيدًا قائما، وأكلى التفاحة نضيجةً، وقيامي ضاحكًا، وخروج زيد محتاجًا. وما أشبه ذلك فكل هذا لا يصح أن تقع الحال فيه خبرا، فهو مما عَنَى الناظم. والثاني: «أَتَمّ تَبْيينَى الحق منُوطًا بالحكم». فأتمّ: أفعل تفضيل مضاف إلى مصدر، وهو مبتدأ، ومنوطًا: حالٌ لا يصحّ الإخبار به أَتَمّ. والخبر محذوف تقديره: إذا كان أو إِذْ كان، أو بيينه منوطاً بالحكم.

ومثله (قولك): أكثرُ شربي السويق ملتويا، وأخطب ما يكون الأمير قائمًا، وأرخَصُ ما يكون البردُ قفيزين بدرهم، وأبغضُ ضربِ زيد إلىّ قائمًا. وما أشبه ذلك. هذا معنى كَلَامه على الجملة، ثم نَقُولُ: إِنّ قوله «لا تكون خبرًا» إنما يعنى الخبر الاصطلاحي يريدُ بذلك التّحَرر من الحال التى يَصِحُّ جعلُها خبرًا عن المبتدأ، فإن ذلك متى صح لم يلزم حذف الخبر وسد الحال مسده، بل إن كان فعلى الجواز كما ذُكَرِ عن الأخفش أنه حكى: زيد قائمًا، وخرجت فإذا زيدٌ جالسًا. وعن علىّ -رضي الله عنه-: «ونَحنُ عُصْبَة»، تقديره: زيد موجودٌ قائمًا، أو ثابت، أو نحو ذلك. وكذلك سائر المُثُل. فالحال في مثل هذا لا تُسد مسد الخبر فَيُحذفَ لزومًا، لإمكانه جَعْله خبرًا بنفسه، من غير احتياج إلى تقدير شئ، فإن جاء شئ من ذلك فهو أقرب إلى وقفه على السماع لقلّته، وإن احتمل ان يقاس عليه فالحذف غير لازم. وإنما يكون لازمًا في نحو ما ذكر. ومثل ذلك مما لا يحذَفُ معه الخبرُ قولك: ضَرْبِى زيدًا شديدًا، هذا لا يلزمُ معه حذف الخبر، بل ذلك مفتقر في جوازه إلى السماع، وإنما الوجه الرفع على خبر المبتدأ، لإمكانه فلا يعدل عنه. ثم نقول: إن تمثيلَه المبتدأ بمصدر، أو بما أضيف إلى المصدر مُعَيِّنٌ لموضع الحذف، فإن نحو: «ضربي العبد مسيئًا» و «أَتَمّ تَبْييِنى الحق مَنُوطًا» هو الموجودُ في السماع (في المسألة)، والذى يصحُّ القياسُ فيه، بخلاف:

زيدٌ قائما، ونحوه، ولذلك قال في التسهيل: إن كان المبتدأ أو معموله مصدرًا عاملا في مُفَسِّر صاحبها. ولم يطلق القول في ذلك، وإذا تَقَرّر هذا بقي على الناظم دَرْكٌ من وجهين: أحدهما: أن مثالَيه اللّذَين مَثّل بهما وما أشبههما يستعمل على وجهين، فأحد الوجهين أن تكون على ما قال من التزام حذف الخبر، وذلك إذا لم يكن الحالُ معمولًا للمصدر الواقع مبتدأ، وإنما يكو معمولًا للخبر المحذوف، فإنه إن كان معمولًا للمصدر فلابُدّ من الإتيان بالخبر، وهو الوجه الثاني؛ فإذا قلت: ضَرْبى زيدًا قائمًا، فجعلت العامل في «قائم»، ضربي، فلابدّ من الإتيان بالخبر، فتقول: حَسَنٌ، أو قبيحٌ أو شديدٌ، ونحو ذلك، إلا أن يَدُلّ عليه من الكلام دليل، فيجوز إِذْ ذاك حذفُه، كما إذا قيل لك: أَىُّ شَيْءٍ أعجب إليك؟ فتقول: ضربي زيدًا قائمًا، أو شُرْبى السّويق ملتويًا، أو ما أشبه ذلك أما إذا كان العامل في الحال غير المبتدأ، وهو الخبر مثلا في المسألة، حيث تقدّر: إذا كان قائمًا، أو إِذْ كان قائمًا، أو ضَرْبُه قائمًا - فهنالك يلتزم الحذف. فالمسألة ذات وجهين لا ذات وجه واحدٍ، والناظم / أطلق هنا القول في التزام حذف الخبر، فكان إطلاق غير صحيح، وإنّما الصحيح ما فعله في التسهيل حيث شرط أن يكون المصدر عاملا في مُفسِّر صاحب الحال، وقال: تحررتُ بذلك من مصدرٍ لا يكون كذلك، كقول: ضربى زيدًا قائما شديدٌ، قال: فالمبتدأ فيه مصدر عامل في صاحب الحال وفيها، فلم يصلح أن تُغْنِىَ عن خبره، لأنها من صِلَتِه. انتهى

وقد مثل الأخفش في «الأوسط» بقولك سمعُ أذنى زيدًا يقول ذاك حسنٌ. فهذا فيه ما ترى. والثاني: أن تقييده الحال بعدمِ كَوْنِها خبرًا عن المبتدأ، أى بِعَدَمِ صَلَاحيتها لذلك، يقتضى أنها لا تنوب عن الخبر إلا كذلك. وهذا ظاهر في نحو مثاليه. أَمّا إذا كان المبتدأُ مضافًا إلى غير مصدر صريح، بل إلى ما الموصولة بكان، فإن الحال تكون خبرا هنالك. وتصلح للخبرية مع مأنها تنوبُ عن الخبر ويحذف لزوما، فتقول: أخطب ما يكون الأميرُ قائمًا، مع أنّه يجوز رَفْعُ قائم فتقول: أخطب ما يكون الأمير قائمٌ، أجاز ذلك الأخفش، وكان يقول فيه: أضَفْتَ «أخطب» إلى أحوالٍ قائمٌ أحدها. وقاس المبرد على ذلك: «أحسن ما يكون زيدٌ قائمٌ». وأجاز يونس أيضًا -فيما حكى السيرافي عنه-: «أحسن ما يكون زيدٌ قائم»، أى: ثابتٌ وهو رأى المؤلف. فمثلُ هذا وإن كان مجازًا جائز. فالحال -على الجملة- هنا مما يصلح وقوعها خبرًا، فجئُ من أها لا تسدّ مسدّ الخبر، لكنها تسدّ مسدّه باتقان الأئمة، فكان هذا الشرطُ بإطلاقٍ غير صحيح، وإنما هو صحيح فيما كان فيه أفعل مضافًا إلى مصدر صريح لا مؤول. والفرقُ بينهما أن الأصل (الحقيقة) فالإخبار عن ضَرْبِي بقائمٍ

لا يصح، لأنه غيره/ فامتنع «ضربي زيدًا قائم»، وكذلك: «أشد ضربي زيدًا قائم». وأما في نحو: «أخطب ما يكون الأمير قائم»، فإنهم لما تجوزوا أَوّل الكلام بإضافة «أخطب»، وهو من صفات الأعيان إلى الأكوان، وليس بعضها، استجازوا التجوز آخرًا بالإخبار أخبارَ الأعيان عن الأكوان، وأنّس بذلك في اللفظ كونُ أ×طب وقائم -وهما المبتدأ والخبر- متناسبان في الأصل، لأنهما للأعيان، بخلاف ضَرْبِي مع قِائمٍ. فالحاصل أن كلام الناظم معترض الإطلاق. ووجه ثالث، وهو أن هذا التمثيل الذى مَثّل به إما أن يشير به إلى قيودٍ معتبرةٍ في المسألة أَوْ لا، فإن كان يشير إلى قيود لزم أن يُؤْخَذَ له منه اشتراط الإفراد في الحال (فلا تقول على هذا: ضربى زيدًا وهو قائم، على أن يكون محذوف الخبر قبل هذه الحال)، لأنها ليست بمفردة منصوبة. لكن هذا جائز عند الأئمة، فالحال كيفما وقعت الحكمُ معها واحدٌ، فيجوز: ضَرْبى العبدَ وهو مُسِئٌ، وأتمّ تبيينى الحقّ وهو مَنُوطٌ بالحكم. ومن هذا ما جاءَ في لاحديث، من قوله صلى الله عليه وسلم: أقربُ ما يكون العبدُ من رَبِّه وهو ساجدٌ». ومنه قول الشاعر، أنشده في شرح التسهيل: خَيُر اقُتِرابِى مِنَ المولى حَلِيفَ رِضًا وَشَرُّ بُعْدِىَ عَنْه وَهْوَ غَضْبَانُ ويجوز أن تقول: ضربي العبدَ يُسِئُ، وأتمُّ تبينِى الحق يُناطُ بالحكم.

وكذلك: ضربي العبدَ قد أساءَ، وأتم تبينِي الحق قد أُنِيطَ بالحكم. ومن هذا / ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: وَرَأْىُ عَيْنَىّ الفَتَى أَخَاكَا يُعْطِى الجَزيلَ فَعَلَيْكَ ذَاكا وإن كان التمثيلُ غيرَ مشيرٍ إلى قيدٍ لَزِم أن لا يُؤخَذَ له منه كونُ المبتدأ مصدرًا أو مضافا إلى مصدر، مع أن ذلك معتبرٌ عنده. فظهر أن الناظم لم يضبط هذه المسألة على عادته. والجوابُ أن يقال: أما الأول فظاهر اللزوم، إلا أن يكون قوله: «وقبل حالٍ» محرزًا لما قصد، وهو مرادُه غَيْرَ شك، وذلك أنه ذكر أن الحذف للخبر إنما هو قبل الحال، وكون الخبر قبل الحال يشعرُ بأن لاحال مقطوعة عن عمل المبتدأ فيها، إذ لو كان عاملا فيها لكانت من تمامه لأن المبتدأ مصدر موصول، فكل معموله له من صلته، وإذا كان كذلك لم يصحّ أن يكون موضع خبره قبل الحال، وإما يصحّ تقديره بعده؛ إذ لا يقع الخبر بين أثناء المبتدأ، فلما قال: «وقبل حال» دَلّ على أن العامل في الحال غير المبتدأ، وأنها معمولة للخبر المضمر، وإذ ذاك تعيّن موضع حاجته من الوجهين، وصح كلامه فيه، ووافق ما قيّد به في التسهيل، على اختصار بديع، وإشارة حسنة. وأما الثاني فإن الرفع في نحو «أخطب ما يكونُ الأميرُ قائمٌ» مختلف (فيه)، فقد زعم سيبويه أنه لا يكون فيه إلا

النصب، قال: «وأما عبد الله أحسن ما يكون قائمًا، فلا يكون فيه إلّا النصب»، قال: «لأنه لا يجوز أن تجعل أحسن أحواله «قائم» على وجهٍ من الوجوه». يعى بأنّ الأحوال ليست إياه. وقائم هو عبد الله، فلا تخبر عن الشئ بغيره. وإلى هذا ذهب الزجاج والفارسي والجمهور. وإليه رجع المبد، ونقع عنه ابن ولّاد أنه لا خلاف في ذلك. وليس بصحيح». بل الخلاف فيه عن يونس والأخفش موجود، نعم عليه الجمهو منهم، قال السيرافي: وهو الصحيح عندى، لأنّ قولك: أحسن أفعاله قائم، لا يجوز. قال: فإن قيل: يكون كقولنا: أحسن صفاته قائم. فالجواب: أن «ما يكون» مصدر، وحق المصدر أن يكون مصدر الفعل (فصار) بمنزلة قولك: أحسن أفعاله، وأما صفاته فهى: قائم وقاعد، وقائم بعض صفاته. وقد ردّ الفارسىّ مذهب الأخفش بأنه قبيح وقريب من الامتناع، لأنّ أخطب قد أخرج عن أصله، وألز ما دل على ذلك من الإضافة، فإذا رفعته، يعنى «قائم» فقد نقضت ذلك الغرض مع إلزامهم ما يدل على إخراجه عن الأصل. فال: فالرفع في الخبر مع إضافته إلى ما يجعله حدثًا لا يستقيم، لأنك

كأنك الآن تخبر عن الحال بالقيام، والحال لا تقوم، فتعيده بذلك إلى ما قد أخرج عنه. ذكر هذا في الجزء السادس والعشرين من التذكرة. فإذا كان كذلك فالناظم هنا ذاهبٌ مذهب سيبويه والجمهور، وهو أولى مما ذهب إليه في التسهيل، والله أعلم. وأما الثالث فإنه يمكن أَنْ يقول: إنه قدّم أن الخبر يحذف قبل حال لا يصلح أن تقع خبرًا للمبتدأ، فقد قيد الحال الواقع قبلها الخبر، فلا يؤخذ له م التمثيل تقييد آخر فيه، فيحصل أن الحال التى لا تصلح خبرًا للمبتدأ كيف وقعت هى سادّةٌ / مسدّ الخبر، وهى تكون مفردًا كمثاليه، وجملة اسمية وفعلية، فالجميع إذًا مراد. والمثال لم يُقْصَد به الدلالة على خلاف ذلك، وكثيرًا ما يأتي بقواعدَ تشتمل على مُثُلٍ كثيرةٍ مختلفة الوضع، ثم يمثل ببعض ذلك، فلا يكون التمثيل المعيّن مُقَيّدا، بل مُبَيِّنًا لبعض ما اشتملت عليه، ولذلك نقول: إِنّ تمثيله هنا يقبل كون لامصدر مصرّحًا به أو مؤولًا، وحينئذٍ يدخلُ له: أخطب ما يكون الأميرُ قائمًا، وأشباهُه، بسبب أن المصدر الصريح والمؤول سواءٌ في الحكم، ولذلك يقعان فاعلية ومبتدأَين، وغير ذلك. فالأمر في هذا قريب. ويمكن أن يكون قصد التقييد بالمثال، ويكون ذلك وفقًا لرأْى سيبويه، فإنه يرى أَنّ الحال لا تسدّ مسدّ الخبر إلا إذا كانت منصوبةً مع صلاحية المعنى، فَإِن كانت جملة قَدّر للمبنتدأ خبرًا، وهو ثابت أو موجود. ومذهب الأخفش

جوازُ كونها فعلًا تسدّ، وكذلك الفراء. وذهب السيرافي إلى جواز وقوع الحال جملة بالواو سادّةً. ومال إليه ابن خروف. والمَنُوطُ، من قولك: ناط الشى ينوطه نوطًا: عَلّقه. ويطلق في التعليق المعنوىّ مجازا، ومنه هذا، فتقول: كلامُ زيدٍ منوطٌ بالحكم: إذا لَصِق بها وعَلِق بها. ثم يتعلق بهذه المسألة نظران: أحدهما: الكلام في مواضع الخلاف منها وهى أربعةٌ: أحدها: ما تَقَدّم من عَدَمِ جواز الرفع في الحال ليقع خبرًا عن المبتدأ؛ فقد مَرّ أَنّ ذلك هو المشهور المعروف، وأن يونس والأخفش والمبرد -في أحد قوليه- أجازو الرفع حيث كان المصدر مؤولا، ومرّ الاحتجاج على ما ذهب إليه الناظم. والثاني: أن كونَ الخبرِ مقدّرَ الحذف معتبرًا في المعنى -وإن كان حذفه لازمًا- هو رأى الجمهور، وهو أحد المذاهب الثلاثة. والثاني: أن (هذا) مبتدأُ لا خبر له، بل أغنى عنه فاعل المصدر، كما أغنى عن الخبر فاعل الصفة في نحو: أَقائم الزيدان؟ فكما لا يحتاج هنا إلى تقدير خَبَرِ، لأن معناه معنى الكلام المستقبل، وهو: أيقوم الزيدان؟ فكذلك لا يُحتَاج في مسألتنا إلى تقدير خبر، لأن معنى الكلام: ضربت العبد مسيئًا.

والثالث: أن الحال هى المغنية عن الخبر إِغناء الظَرْفِ عن الخبر. وهو رأى ابن كيسان، قال: «وقد يجعلون الحال خبرًا للمصدر كالوقت، فيقولون: ضَرْبُكَ زيدًا قائمًا، وخروجك معى راكبًا»، قال: «وقد يجعلون الواو خبرا للمصدر لأنها تكون بمعنى الحال ([والوقت، كقولك: قيامُك والناسُ قُعودٌ. وقال: إن المصدر يكون خبره الحال])، كقولك: قيامُك محسنا، أى: قيامك في إحسانك». فأما مذهبُ الجمهورِ فهو ظاهرُ المعنى، لأنّ المعنى، على قولك: إذا كان قائمًا، إو إذ كان قائمًا، أو ضَرْبُه قائمًا. فالخبر مرادٌ بلا بُدٍّ، وغير مستغنًى عنه. فإذا كان كذلك تعيّن تقديرُه. ولا سيّما مع وجود بعض معمولاته وهو الحال؛ إذ لا يصحُّ أن يكون معمولًا للمبتدأ أصلًا، كما نبّه عليه، وكما يأتى. وأما الثاني فضعّفه المؤلف بأنه لو صحّ الاقتصار في التقدير لصحّ الاقتصار على الصدر وفاعله دون الحال، كما صحّ الاقتصار على الصفة وفاعلها، فكنت تقول ضربى زيدًا، كما تقول: أقائم الزيدان؟ لأن فيه معنى /، في الآخر معنى: أيقوم الزيدان؟ لكن ذلك ممنوعٌ ففي امتناعه مع جوازه مع الصفة دليلٌ على انهما غير متساويين. وأما الثالث فغير صحيح؛ لأن الحال إذا أقيمت مقام الخبر فإمّا أن لا يُقَدّر لها عامل أو يقَدّر، فإن لم يقدّر لها عاملٌ لزم من ذلك أمران، أحدهما: وجود نَصْبٍ من غير ناصب، وذلك معدوم في الأحكام

الصناعية، ولو جاز ذلك مع غير المصدر، فكنتَ تقولُ: زيدٌ قائمًا، لأن معناه: في حال قيام. والثاني: أن الحال عنده مُشَبّهةٌ بالظرف في إقامتها مقام الخبر، والظرف لا بدّ له من عامل فيه هو مفتقر إليه، وهو أصل، فالحال التى هى فرع أولى أن تكون مفتقرة إليه، لِبُعد أن يكون الفرعُ مستغنا عما لا يستغنى عنه الأصل. وإن قدر لها عامل لم يكن إلا مثل المقدر للظرف، فكما تقول في قولك: زيدٌ في حال قيام، إن تقديره: ضربي زيدًا مستقرٌ قائمًا. وهذا إخبار عن الضرب بما هو للضارب، وهو محال. فظهر أن هذا المذهب غير صحيح، وصح ما قاله الناظم. والثالث من مواضع الخلاف: كون الحال غير معمولة لضربي الذى هو المبتدأ. فقد تبيّن ذلك من قوله: «وقبل حال»، بل هى معمولةٌ لشئٍ آخر، وهو رأىُ من قالَ بتقدير الخبر، إلا ما ألزمه الفارسىّ المؤلفُ في مسألة: أولُ ما أقول/ إِنِّى أحمد الله؛ إذ أجاز أن تكون إن المكسورة محكية بالقول، فتكون من صلته والخبر محذوف، أعنى خبر «أوّل ما اقول» وهو ثابت أو موجود -قال ابن مالك: فكما جاز أن يُحذَف الخبرُ هناك بلا دليل زائد على الحاجة إليه، كذلك يلزمُه تجويز حذف الخب ها وتقديره بمثل ما قدّره هناك، لأن الحاجة إليها سواءٌ، والمخبرُ عنه في الصورتين مصدر، لأن (أوّل) القول قولٌ. وما قاله الفارسيّ -إن كان يلزمه عنه ما ألزمه ابُنُ مالك -فقد رَدّه الناس بأن معنى قولك: أولُ ما أقول: إني احمد الله ثابت أو موجود، أولُ هذا الكلام ثابت أو

موجود، لأن القول هو متعلّقه، فالإختبار بثابت. أو موجود [إنما وقع عن أول «إني أحمد الله»، وأوله باعتبار الحروف الهمزة، وباعتبار الكلمات «إنى»، فيكون الإخبار بثابت أو موجود] ن الهمزة أو إنى. وهذا فاسدٌ من وجهين، أحدهما: الإخبار عن أول الكلام بالوجود مع العلم بذلك كون تقدير هذا الخبر، والخبر لا يكون مؤكِّدًا. والثاني إيهامُ انتفاء وجود سائر الكلام مع العلم بوجوده بنفس نطق الناطق به. وأيضًا فإن تقديره «ثابت» أو «موجود» خبرًا بعد «إنى أحمد الله» تقديرُ ما لا دليل عليه، إذ ليس هو بالتقدير أولى من غيره من المقدرات الممكنة، وحذفُ ما كان في حذفه كذلك ممنوع. وهذا يلزم في قولك: ضربي (العبد مسيئًا، لو قَدرت معه «ثابت» أو «مستقرّ»، وأيضا لا مانع يمتنع من قولك: ضربى) زيدًا قائمًا حَسَنٌ، بإظهار الخبر، -الخبر، فكيف يُجعَلُ ملتزم الحذف. هذا خلافُ كلام العرب. والرابع من مواضع الخلاف: الحالُ إِذا كانت غير مُفْردةٍ، فهل يجوزُ وقوعها هنا سادّةً مسدّ الخبر أم لا؟ فمنهم من أجاز ذلك على الجملة، كالكسائي والفراء والأخفش والسيرافي، ومال إليه ابن خروف، ومنع من ذلك سيبويه كما تقدم أولًا. وحجة من أجاز السماعُ المتقدّم/، والقياس على المفرد. وحجّة من مَنَعَ دُورُ ذلك السماع مع أّنّ نيابة الحال هنا عن الخبر، على خلاف القياس، فلا يتعدّى موضع السماع. وإذا قلنا بجواز وقوع الحال غير مفرد ففيها الخلاف من جهتين:

إِحداهما: إذا وقعت جملة اسمية، فهل يصح خلوها من الواو أم لا؟ نقل المؤلّف عن الكسائي جواز خُلُوِّها منها، فأجاز أن تقول: مَسَرتُك أخاك هو قائم، وإكرامُك زيدًا أبوه مطلقٌ -وما أشبه ذلك. وذلك أن المشهور عند النحويين غير الكسائي أنها لا تستغنى عنها، قال: وحملهم على ذلك أن الاستعمال لم يرد بخلاف ثم رَجّح مذهب الكسائي وقال: مقتضى الدليل أنّ حذف الواو هنا أولى، لأنه موضع اختصار لكن الواقع خلاف ذلك، قال: وبابُ القياسِ مفتوحٌ. فيظهر أنّ رأيه هنا كرأيه هنالك، إِذ لم يُقَيِّد الحال بشئٍ من هذا. والثانية: إِذا وقعت الحال جملةً فعلية منع ذلك الفراءُ فرارًا من كثرة مخالفة الأصل، لأَنّ سَدّ الحال مَسَدّ الخبر على خلاف الأصل، ووقع الفعل موقع الحال على خلاف الأصل، فلا يُحكمُ بجواز ذلك هنا، فإنه مخالفةٌ بعد أخرى. قال ابن مالك: وهذا الذى اعتَبَره قد دَلّتِ عليه العربُ على أنّه غير مُعْتَبرٍ، بوقوع الجملة الاسمية موقع الحال المذكورة، فلو لم تقع الجملة الفعلية موقع الحال المذكورة نقلًا لجاز وقوعها قياسًا على الجملة الاسمية ومع ذلك فقد جاء السماعُ بخلاف ما قال. ثم أَنشد ما تقدم: وَرَأْىُ عَيْنىّ الفَتَى أَخاكا يُعْطِى الجَزِيلَ، فَعَلَيْكَ ذَاكا النظر الثاني: أنّ الحال لا شَكّ أنها تعلّق بالخبر؛ إِذ قد نفي أن تعلق بالمبتدأ بقوله: «وقبل حال». لكنَ بَقِى النظرُ في تقدير الخبر، وما الذى يقدّر؟ لم يتعرض لتعيينه، بل اكتفى بالإشارة على أنّ لا بُدّ من تقديره وترك تعيينه للناظر

في كتابه.، وللنحويين فيه مذهبان: أحدهما: أن يقدّر «إذا كان»، أو «إذ كان»، وهى التامة لا الناقصة، فكأنه قال: ضربي زيدًا ثابت إِذا كان قائما. ثم ناب الظرف عن الخبر، فصَار هو الخبر، ثم حذف لسدّ الحال مَسَدّه. وهذا تقديرُ الجمهور من البصريين. والثاني: أن يُقَدّر مصدرٌ مضاف إلى صاحب الحال، كأنه قال: ضربى زيدًا ضَرْبُه قائمًا. وهذا منقُولٌ عن الأخفش، وهو الذى ارتضى المؤلفُ في التسهيل، وَشرحِه: واحتج على رجحانه على مذهب الجمهور، وَجَجلَب ذلك، والترجيح بين المذهبين لا داعى إلى ذكره هنا؛ إذ ليس من ضروريات شَرْحِ هذا النظم، لأنّه لم يتعرّض لذلك، فلا تعرض له. وقد تحصل للناظم أربعةُ مواضعَ مما يلزمُ فيه حَذْفُ الخبر، وهى التى ذكر في التسهيل وغيره، وهى التي اشتهر ذكرها وثبت قياسُها. وثَمّ أشياءٌ أُخَر غير قياسيّةٍ لم يتعرض لها من حيث لم تكن من قصده، كقولهم: حَسْبُك يَنَمِ اس. فحسبك: مبتدأٌ، ناب ع خبره الجواب. وقد قال الأخفش: إِنّ لا خبر له لتأوّله باكفف. وقالوا: لحقٌّ أنه ذاهب، تقديره: لحقٌّ ذلك أمرك إلا انهم حذفوا الخبر. وقالوا: كلاهما وتمرًا. وكل شيءٍ ولا شَتيمةُ حُرٍّ. وما كان نحو هذا من القليل (الذى ينقل ولا يقاس عليه).

(ثم قال) / وَأَخْبَرُوا بِاثْنَينِ أَوْ بِأَكْثَرا عَنْ وَاحِدٍ كَهُمْ سَرَاةٌ شُعَرَا هذه مسألة من مسائل المبتدأ والخبر، وهى: هل يقتضى المبتدأ الواحد أكثر من خبر واحد أم لا؟ ولا بُدّ قَبْلَ النظر في كلامه من تعيين مَحَلِّ السؤال. وذلك أن المبتدأ إذا كان واحدًا وأُخْبِر عنه بأكثر من خَبَر واحدٍ فَهُو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتعدد لفظًا ومعنى لتعدُّدِ المبتدأ في نفسه حقيقةً، نحو قولك: بنو فلان فقيهُ وكاتبٌ وشاعر، وأخواك صالح وعالم. ومنه قول الشاعر: يداك يدٌ خَيْرَها يُرْتَجَى وَأُخْرَى لأعْدَائِها غَائِظَهْ وقال آخر: كفّاكَ كفٌّ لا تُلِيقُ دِرْهَمَا جُودًا، وَأُخْرَى تُعْط بالسّيْفِ الذمَا

أو حكما، نحو قول الله تعالى: {اعلمُوا أَنّما الحياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ، وَتَفَاخرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكاثُرٌ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ}. وقال الشاعر: وَالْمَرْءُ سَاعٍ لِأمْرٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتَأمِيلُ وهذا القسم ليس مما نحنُ بصَدَدِ الكلام عليه؛ لأن الإخبار فيه إنما وقع بواحد عن واحد؛ لأن قولك: بنو فلان فقيه وكاتب وشاعرٌ، بمنزلة أن تقول: فلان فقيه، وفلان كاتب، وفلان شاعر. وكذلك قوله: وَالْعَيْشُ شُحٌّ وَإِشْفَاقٌ وَتأمِيلُ بمنزلة أن لو قال: بَعضُ العيش شُحٌّ، وبعضُه إشفاقٌ، وبعضُه تأميلٌ. وكذلك سائر الأمثلة، فهو راجعٌ إلى الإخبار بمفرد عن مفرد، فليس مما يدخُلُ تحت كلام الناظم، لأن قال: وأخبروا بكذا عن واحد. وهذا ليس الإخبار فيه عن واحد. والثاني: أن يتعدّد الخبر لفظًا دون معنى، لقيامه مقام خبر واحدٍ لفظا ومعنى، كقولهم: هذا حلوٌ حامضٌ، بمعنى: مُزّ. وهذا أعسرُ يَسَرُ، بمعنى: أضبط وهو العامل بكلتا يديه. فهذا القسم يصح دخولُه تحت لفظ الناظم من باب أحرى؛ لأن المبتدأ هنا لا يستغلّ بأحد الخبرين دون الآخر، وقد يستغلُّ في نحو قوله: «هم سَرَاةٌ

شُعَرَاءُ». على أن المؤل جعل هذا الضربَ خارجًا عن المسألة من جهة عدم الاستقلال بأحد الخبرين، فصارا معًا في معنى الخبر الواحد، فهما في الحقيقة خبر واحدٌ، وإنما تَعدّدَ في اللفظ خاصّةً. والأمر في هذا قريبٌ. وقد عدّ الجمهور هذا من الإخبار بخبرين لا بخبرٍ واحدٍ. وهما مما يشملُه كلامه. فالأظهر أنه مُرَادٌ له، وإذا كان كذلك ظهر موافقتُه للناس في أن الثاني من اللفظين خبر ثانٍ. وقد نُقِل عن الأخفَشِ خلاف هذا، وأن الثاني صفة للأول لا خبر. وهذا عندهم ضعيف؛ وقد أبطل الفارسىُّ في «التذكرة» أن يكون الثاني أحد التوابع، فقال: إن قلت: إن الثاني تابع للأول، فليس يجوز أن يكون الثاني بدلًا من الأوّل؛ لأن الأول مرادٌ كما أن الثاني كذلك، قال: ومن هنا لا يجوز أن يكون الثاني صفة للأول، قال: والصفة أظهر أَنْ لا تجوزَ، لأنك لا تصف الحلو بأنه حامض، وإنما تخبر عن الأول أنه قد جمع الطعمين، يعنى في قولك: هذا حلوٌ حامض. ولا مدخل لشئ من باقي التوابع هنا، فالوجه ما عليه الجمهور. والثالث: أن يتعدّد الخبر لفظا ومعنى مع اتحاد المبتدأ، كقولك: زيد كاتبٌ شاعرٌ، وأخوك قائمٌ / ضاحك. وما أشبه ذلك. ومنه مثال الناظم: هُمْ سَرَاةٌ شُعَراءُ. فَسَرَاة راجع للجميع وكذلك شعراء، فليس من

الضرب الأول، ولذلك لم يعطف بالواو؛ فإن العطف بالواو يلزم في الأول؛ إذ لا يقال: بنوك فقيه كاتب شاعر، كما أنه لا يجوز في الثانى العطف، فلا تقول هذا حلوٌ وحامضٌ. والسراة: جميع سَرِىّ، على غير قياسٍ. والسرِىُّ: الرجلُ ذُو المروءةِ، ويقال: هو الذى جمع السخاء والمروءة. ويقال منه: سَرَا يَسْرُو، وسرى يسرى، وسرُو يَسْرُو: سَرْوًا وَسراوَة. وليس السّراةُ بجميع عند السهيلى، وإنما هو اسم مفردٌ مستعارٌ من السراة، وهو الوسط والأعلى، كما يقال: هم الذِّروةُ والسّنام، أى: الأشراف في قولهم. وهذا الضربُ أيضًا من تعدُد الخبر، عليه الجمهور من الأئمة كالخليل وسيبويه وابن السراج والفارسىّ وبان جنى، وغيرهم؛ قال سيبويه في قولهم: هذا زيد منطلق: «زعم الخليل أن رفعه -يعنى المنطلق- يكون على وجهين: فَوَجْهٌ أنّك حين قلت: هذا عبدُ الله، أضمرت هذا أو هو، كأنك قلتَ: هذا منطلقٌ، أو هو منطلقٌ». قال: «والوجهُ الآخرُ أن تجعلَهما جميعًا خبرًا لهذا، كقولك: هذا حُلوٌ حامضٌ، لا تُرِيد أن تَنْقُض الحَلَاوَة، ولكنك تَزْعُم أنه جَمَع الطَّعْمَينِ». فهذا ما رأى الناظم، ولم يخالف فيه -فيما أعلم- إلا ابن الطراوة، فإنه قصر جواز الإخبار بخبرين على نحو: حلو حامض، مما لا يستقل أحدهما بالإخبار دون صاحب؛ لا يريدُ أن يخبر عنه بأنه حلو، وبأنه حامض، بل يريد:

مُزّ. بخلاف: هذا زيدٌ منطلق، فإن الإخبار عن هذا بزيد غير الإخبار عنه بمنطلق، وتبعه ابن عصفور على هذا المذهب. فيكون الناظم بإتيانه بهذا المثال مُنَكِّتًا عليهما ومخالفًا لهما؛ إذ لا مانع من حمل مثل هذا على أنه من تعدّد الخبر، فكما يخبر عن المبتدأ بخبرين لا يصدقُ الكلام بأحدهما دون الآخر، كذلك يخبر عنه بخبرين يصدق الكلام بأحدهما دون الآخر. ثم إننا ننظر في القصد بالإخبار بخبرين فأكثر، على أىّ معنى يكون؟ فيحتمل أن يكون الإخبار بكل واحد على انفراده، وأن يكونَ القصدُ الإخبار بمجموعهما، أما الأول فظاهر أنه إنما يصلح مع تقدير مبتدأ للخبر الثاني، كأنك قلت: هم سَرَاةٌ، وهم شعراءُ. فهذا المعنى هو الذى يعطيه قصد الانفراد، بخلاف ما إذا قصدت الإخبار بالمجموع فإذ ذاك يصح أن يكونا معًا خبرين عن الأول حقيقة، وإذا كان كذلك ظهر أن الخبرين في القصد في معنى خبر واحدٍ، كأنه قال: هم جامعون للوصفين. وعلى هذا المعنى نصّ الفارسي في التذكرة، وأنك إذ قلت: زيدٌ ظريفٌ كاتب، فكأنك جامعٌ لهذين الوصفين. وذكر ذلك ابن جني أيضا في «التنبيه» وحمل قولك: زيد قائم أخوه قاعدةٌ جاريته، على أنهما خبران لزيد. وذكر أنه تخلص بينه وبين أبي علىّ أنّ الضمير الرابط بين المبتدأ وخبره عائد من المجموع، ولكن في كلّ واحد منهما ضمير، وهو الذى يقتضيه الأشتقاق بدليل رفعه للظاهر.

وقد استدلّ ابن خروفٍ على أنهما / ليسا خبرًا بعد خبر، بل مجموعها هو الخبر، بأّنّ المبتدأ هو العامل فيهما معًا، ولا يرفع رافع مرفوعين غير التوابع، فزيدٌ قائم كاتب، بمنزلة حلو حامض، لأنه لم يخلص لواحد منهما، فالمعنى في مجموعهما. وإذا كان الأمر كذلك فمخالفة ابن الطراوة وابن عصفور في: زيد كاتب قائم، بحسب القصد بمنزلة: حلو حامض، لا يستغنى بأحدهما في الإخبار دون الآخر إلا من حيث الصلاحية للاستغلال خاصة. وقد يحتمل أن يكون قصدُ الناظم بذلك المثال التّحرزَ من نحو: هذا حلوٌ حامض، فلا يدخل له إلا ما كان مثل: هم سَرَاةٌ شعراءُ، مما يصحُّ فيه أحد الخبرين للاستقلال، وهو الذى يجوز معه عطفُ أحدهما على الآخر، وعليه نَبّه في التسهيل بقوله: «وقد يكون للمبتدأ خبران فصاعدا، بعطفٍ وغير عطف». فلو قلت هنا: هم سراة وشعراء، لكان بخلاف القسم الأول والثاني؛ فإن الأول لا بدّ فيه من العطف، والثاني لا يجوز فيه العطف. ووجه إخراجه للأوّل ظاهرٌ، وللثاني أَنّ كُلّ واحدٍ منهما -أعنى من الخبرين- كبعض كلمة، فلا يسوغ أن يقال فيهما: خبران، إلا مجازًا، وفي الحقيقة هما خبرٌ واحدٌ، كما كان الحالان في قولهم: بَيّنْتُ له حسابه بابًا بابًا، وتصدّقت بمالي درهمًا درهما، في معنى الحال الواحدة. والناسُ على خلافِ رأيه في هذا القسم. ولكن الخطب في ذلك يسير، لأنه خلاف في اصطلاح، وهم في الحقيقة متفقون، فلا معنى للاحتجاج للناظم ولا لغيره. ثم نرجع إلى تفسير كلامه، فقوله: «وَأَخْبَرُوا باثنين أو بأكثرا». إلى آخره، يعنى أن العربَ أخبرت عن المبتدأ الواحد بخبرين وبأكثر من خبرين،

فالإخبار بخبرين نحو قولهم: هذا حُلْوٌ حامِضٌ. وفي قراءة عبد الله: (وَهَذا بَعْلِى شيخٌ). وفي القرآن أيضا: {كَلَّا إِنّها لَظَى نَزَّاعَة لِلشّوَىَ}، على قراءة الرفع، وهى لمن عدا حفصًا. وقال الشاعر: يَنَامُ بإحدى مُقلتيه ويتّقي ... بأخرى الأعادي فهو يَقظَان هاجع ومن الإخبار بأكثر من خبرين ما أنشده سيبويه من قول الراجز: مَنْ كَانَ ذَا بَتّ فهَذا بَتّي مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتىِّ وفي القرآن الكريم: {وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ. ذُو العَرْشِ المَجِيدُ. فَعّالٌ لمَا يُريدُ}. وقد يكون من هذا قوله: {إِنّها لَظَى. نَزّاعَةً لِلشّوَى}، على عَدِّ: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَر وَتَوَلَّى} خبرًا ثالثًا. وحين أخبر الناظمُ عن العرب أنهم فعلوا ذلك، وأتى بمثال من غير ما سمع، دلّ على أن ذلك غير موقوف على السماع وأنه قياس، وذلك مستقيم؛ فإنه كذلك عند النحويين. ولما أطلق القول في الخبرين فصاعدًا، وعلم من قصده بالتمثيل أنه يُبِين عدم الانقياد لمذهب ابن الطراوة وابن عصفور، كان تمثيله مطلقا في غير ذلك القصد، فإنه حين قدم قبل ذلك أن الخبر ينقسم إلى مفرد

وجملة، وظرف ومجرور، كان من الجائز أن يقعَ ذلك هنا، فيكونَ الخبران مفردَين، أو جملَتين/، أو ظَرْفين، أو مجرورَين، أو يكونا متخالفين، أحدهما مفرد [والآخر جملة وشبه ذلك، وكذلك يقتضى أن يقع أحدهما إن كانا مفردين نكرة] والآخر معرفة. أما وقوعهما مفردين فلا إشكال فيه، وكذلك إن كان أ؛ دهما معرفة والآخر نكرة، ومنه مثال سيبويه: هذا زيد منطلق. وهو مسموع، وكذلك: {وَهَذا بَعْلِى شَيْخٌ} و {كَلّا إِنّها لَظَى} .. الآية. وقوله «فَهَذا بَتِّى مُقَيْظٌ، .. البيت. وهو كثير. على أن ابن الحاج قال فيما قيد على مُقَرّب ابن عصفور: وينبغى أن يُنْظر في الإخبار بخبرين: أحدهما معرفة، والآخر نكرة، فلم أسمع من ذلك شيئًا. قال: وهو نحو: زيد ضاحك أخوك، ونحوه». فإن أراد ظاهر لفظه فالسماع بذلك شهير، وإن أرادَ ما مَثّل به من تأخير لمعرفة فيقُربُ أن يكون كما قالَ، ولكن لا معنى للاختصار بتأخير المعرفة. وأما وقوعهما جملتين، أو أحدهما فيمكن؛ قال ابن الحاج: أكثر ما ورد ذلك في المفردات، وذلك أن الجملة يجوز فيها أَنْ تقدّر في موضع الحال، ومن ذلك قولُ الله تعالى: {الله لَا إِلَه إِلّا هُوَ الحىُّ القَيُّومُ، لَا تَأخُّذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ، لَهُ ما في السّمَواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ}. قال: فظاهر

الآية أنها أخبارٌ. ويمكن أن يكون من ذلك: {ألم. ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلمُتّقِينَ}. ومثلُ هذا الظرفُ والمجرور إِذا قُلْتَ: زيد عند زيدٍ مكان عمرو، وزيد عندك في الدار، وما أشبه ذلك. هذا كلّه سائغ قياسًا، وصالح الدخول تحت إطلاق التمثيل، فلا إشكال (فيه) إلا في مسألة واحدة، وهى إذا كان أحدُ الخبرين إنشائيا، نحو: أين زيد قائم؟ فإنه لا يجوز أن يكون «أين» «وقائم» معا خبرين عن زيد، وكذلك ما كان مثله. وقد نصّ على امتناع هذا ابن جنى في «التمام»، وذكر أنه وَقَفَ الفارسىّ عليه، فَسَلّم قوله فيه. قال ابن الحاج: ومثل ذلك عندى: زيدٌ قائم اضرِبْهُ. وزَيْدُ هَلْ ضَرَبْتَه؟ خارجٌ. ومثله كثير. فعلى هذا يشكل كلامُ الناظمِ في إطلاق التمثيل، إلا أن يُجَابَ عن ذلك بِأَنْ ترك ذكر ذلك اتكالًا على أن تقدير جمعهما في خبرٍ واحدٍ غيرُ متأتٍّ، كما تأَتّى في جميع ما تقدّم، إذ لابُدّ من الخبرين أن يُؤْتَى بهما على معنى الاجتماع في خبر واحدٍ كما مَرّ، وذلك غير جائز مع كون أحدهما إنشائيًا. والله أعلم.

كان وأخواتها

كَانَ وأَخَوَاتُهَا هنا ابتدأ الناظم -رحمه الله- بذكر العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، فتنسخ حكم الابتداء إلى أَحكامٍ أُخَر، وتُسمّى لأجل ذلك النواسخَ؛ لأنها نسخت عمل الابتداءِ في الاسمين اللذين كانا قيل دُخُولها مبتدًأ وخبرا، وهى سبعةُ أنواعٍ: كان وأخواتها، وما وأخواتها، وعسى وأخواتها -وهى أفعال المقاربة- وإن وأخواتها، ولا التى لنفي الجنس، وظن وأخواتها، وأعلم وأخواتها. وابتدأ بذكر كان وأخواتها فقال: تَرْفَعُ كَانَ الْمُبْتَدَأ اسْمًا وَالخَبَرْ تَنْصِبُهُ كَكَانَ سَيِّدًا عُمَرْ يعنى أن هذا الفعل -الذى هو كان- يدخل على المبتدأ والخبر، فيرفع المبتدأ فيصير اسمًا لها -ويُسمّى بذلك- وينصب خبر المبتدأ بعد ذلك. ولم لم يذكر ما يصيرُ إليه الخبر بعد ذلك احتمل وجهين: / أحدهما: ينصبه على أنه خبرٌ لكان، وكأنه لما لم يَحدُثْ للخبر اسم آخر بالنسبة إلى ما عمل فيه، كما حَدَث للمبتدأ فَسُمّى اسمًا لكان، تَرَك [ذِكْر] ذلك، تنبيهًا على بقاء الاسم الأَوّل، لكن بالإضافة إلى كان لمكان عمها فيه، فَيُسمى خَبَر كان. وهذا هو الظاهر من قصده، وهو مراده بلا شَكّ، غير أن اللفظ لا يُعينه.

والثاني -وهو بَعِيدٌ من قصد- أن يُرِيدَ ما دلّ عليه ظاهر لفظه من أن خبر المبتدأ تنصبه كان إذا دخلت عليه، ولم يبيّن وجه نصبه، أهو على أن يصير خبر كان، أم على غير ذلك؟ لَمّا كان وجهُ نَصْبِهُ مُختَلفًا فيه بَين البصريين والكوفيين؛ فذهب البصريون إلى أَنّه منصوب خبرًا لها، فالمبتدأ والخبر معها كالفاعل والمفعول. وذهب الكوفيون إلى أنه ينصَبُ على الحال. والراجح في مراد الناظم هو الاحتمال الأَوّل، ويدلّ عليه من كلامه قولُه في باب «إنّ»: لإِنّ، أَنّ، [لَيْتَ]، لَكِنّ، لَعَلْ كَأن -عَكسُ مَا لِكَانَ مِنْ عَمَلْ إذ لم يقل أَحَدٌ: إن المنصوب في باب «إن» حالٌ. وإذا ثبت هذا ظهر أنه مخالف للكوفيين وموافقٌ للبصريين. والدليل على صحة ما ذهب إليه أمران: أحدهما: أن الخبر يأتى عَلَما نحو: كان أخوك زيدًا، وضميرًا نحو: ما كان أخوك إلا إِيّاىَ، واسمَ إشارة نحو: كان أخوك هذا، ومضافًا نحو: كان زيدٌ غلامَك، وبالألف واللام نحو: كا زيدٌ العاقلَ الكريم، كما أنه يأتى أيضا نكرة نحو: كان زيدٌ قائمًا. وليس وقوعه أحد المعارف بأقل من وقوعه نكرةً، بل وقوعُه معرفةً كثيرٌ جدًا بحيث لا يُحصَى. لو كان حالًا لم يجز البتةَ وقوعُه معرفةً قياسًا، بل كان يكونُ ذلك مسموعًا، فلا يقال: إن الحال أيضًا تأتي

معرفة نحو: طلبتَه جَهْدَك وطاقتك، ورجع عَوْدَه على بَدْئِهِ، ومررتُ به وَحْدَه، وَأَرْسَلَها العِراكَ -لأنا نقول: هذا كله من النادر المسموع الذى لا يُقاس عليه. وأيضًا ليست أحوالًا بأنفسها بل هى أسماءٌ موضوعةٌ مواضع الأحوال، فليست مما يستدلّ به على وقوع الحال معرفة، [وذلك مُبَيّن] في بابه. والثاني: أن الحال من شأنها أن لا تلزم في الكلام، بل قد تأتى، وقد لا تأتى، وذلك بحسب مقاصد الكلام، فتقول تارةٌ: جاءَ زيدٌ ضاحكًا، إذا أردتَ الإخبار عن مَجيِئه على خاصّةً. فلو كان المنصوب بعد «كان» حالًا لساغ الاقتصار مَعَه على المرفوع مع اعتقاد النقص فيها، فكنت تقول: كان زيدٌ، وتقتصر. لكن هذا غير جائز، فدلّ على أن المنصوب ليس بحالٍ، وغذا لم تكن حالصا لم يبق مما يُدّعى إلا ما قاله البصرين للاتفاق على أَنْ لا قولَ في المسألة غير هَذَين. فإن قال قائل: فإن «كان» قد يُقْتَصر معها على المرفوع، فإنك (تقول): كان زيدٌ يا فَتىً، كقولِ الشاعرِ: إِذَا كَانَ الشّتَاءُ فَأَدْفُئِوني وهذا كثيرُ، فهذا الاقتصارُ يَدُلُّك على أنّ المنصوبَ حالٌ. فالجواب: أنّ ذلك إِنْ تَأَتَّى في كان وما أشبهها من الأفعال المستعملة

تامّة وناقصة، فلا يتأتى فيما لم يستعمل إلا ناقصًا، وذلك: فَتِئَ وزال ماض يزال / فإنها لا يقتصر فيها على المرفوق البتّةَ، فلا تقول: ما فَتِئَ زيدٌ، على هذا، ولا لم يَزَلْ عُمَر، وتقتصر. فلو كان التمام دالًا على ما قالوا لساغ التمامُ في هذين، لكن ذلك غير جائز، فدلّ على أَنّ التمام في «كان» وَأخَواتها استعمالٌ آخرْ مباينٌ لهذا الاستعمال المبوب عليه. وهذا المقدار كافٍ، إن شاء الله- وقوله: «والخبرٌ»: يحتمل الرفع على الابتداءش، والخبر «تنصِبُه». والجملة معطوفة على الجملة الأولى. ويحتمل النصب على إضمار فِعْلٍ، من باب الاشتغال. وهو أولى لمناسبة الجملة الأولى. والضمير المرفوع في «تنصبه» عائد على «كان». وأتى بمثال من ذلك وهو: كان سيِّدًا عُمَر. وسيدًا: هو الخبر، وعُمَر هو المبتدأ، ولكنه قَدّم وأَخّر لضرورة الوزن. وهو مع ذلك جائز، حسبما يذكره. وعلى ذلك تقول: كان زيدٌ أخاك، وكان بشرٌ قائمًا. وما أشبه ذلك. ثم ذكر ما يشترك مع «كان» في هذا الحكم من الأفعال فقال: كَكَانَ ظَلّ بَاتَ أَضْحَى أَصْبَحَا أَمْسَى وَصَارَ لَيْسَ زَالَ بَرِحَا فَتِئَ وَأنْفَكّ، وَهَذِى الأَرْبَعهْ لِشِبْهِ نَفْىٍ أَوْ لِنَفْىٍ مُتْبَعَهْ وَمِثْلُ كَانَ دَامَ مَسْبُوقًا بِمَا كَأعْطِ مَا دُمْتَ مُصِيبًا دِرْهَمًا أراد ككان: ظَلّ، وباتَ، وأضحى، وأصبح. وكذا سائرها، بالعطف بالواو غير أَنّه اضْطرُّ فحذف العاظف. ويعنى أن هذه الأفعال -وعددها

اثنا عشر فعلا -حكمُها حكمُ كان- وهو الثالثَ عَشَر- فيما ذكر من نصب الخبر ورفع الاسم، فتقول: ظل زيدٌ قائما، ومنه: (ظَلّ وجْهُهُ مُسْودًا). وبات زيدٌ ساهرا، ومنه: بَاتَتْ طِرَابًا وَبَات اللّيلَ لَمْ يَنَمِ وَأَضْحَى عَمْرُ ساهرًا، ومنه: وَيُضْحِى فَتِيتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِها وأصبح زيدٌ مقيما، ومنه: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَا}. وأمسى زيدٌ قائما. ومنه: أَمْسَتً خَلَاءً وَأَمْسَى أَهْلُها احْتَمَلُوا وصار زيد عالمًا. وليس أخوك منطلقا، ومنه: {ألا يَوْمَ يأتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}

وما زال زيدٌ منتظرًا لك. ومنه: وَلَا أَرَاها تَزَالُ ظَالِمَهَ وما بَرِحَ أخوك قائمًا، ومنه: فَقُلْتُ يَمِينُ اللهِ أَبْرَحُ قاعدًا وما فَتِئَ زيدٌ مقيما. ومنه {قَالُوا: تَالله تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} .. الآية. وما أنفك زيدٌ طالبًا، ومنه: حَرَاجِيجُ ما تَنْفَكُّ إِلّا مُنَاخَةً ولا أُكَلِّمك ما دُمْتَ قَائِما، ومنه: {إِلّا ما دُمْتَ عَلَيهِ قَائِمًا}. فهذه كلُّها تعملُ عَمَل كان كما ترى، إلا أنّه جعلها قسمين: قسم يعمل بلا شرط، وذلك ثمانية أفعال: كان، وظل، وبات، وأضحى، وأصبح، وأمسى، وصار، وليس.

وقسم اشترط في عمله شرطًا، وهو ما سوى ذلك، لكنها على ضربين، ضرب اشتَرَطَ في عمله تقدّم نفي أو شبهه على الأفعال، وهي الأربعة التي أشار إليها إشارة القريب بقوله: «وهذي الأربعة إلى آخره، يعني أن هذه الأفعال القريبة الذكر، وهي: زال، وبرح، وفتئ، وانفكّ إنما تدخل في هذه الباب إذا أُتبِعت نفيًا أو ما أشبه النفي، يريد أن يكون النفي أو شببه متقدّمًا عليها وواليًا لها، فأما النفي فنحو: [-ما زال زيد قائمًا، وكذلك لا، نحو: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، ولن، نحو ما أنشده الخليل-]: لن يزال قومُنا مخصبين / ... صالحين ما اتّقوا واستقاموا ولم، نحو: لم يزل أخوك شاخصًا، ولَمّا، نحو: لما يزل أخوك مقبلًا، وسائر حروف النفي كذلك. وكذلك القول في برح وفَتئ وانفكّ، لا تأتي إلا بعد نفي، نحو: ما برح زيدٌ قائمًا، وما فَتئ سائرًا، وما انفكّ مسرورًا.

وهذا النفي قد يكون ظاهرًا كما تقدّم، وقد يكون مقدّرًا -ويَنْتظمه كلامُ الناظم؛ إذ لم يُعيِّن أحدهم دون الآخر-، ومثاله في القسم: {قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}، أي: لا تفتأُ، وفي الشعر قولُ الكنديّ: فقلتُ: يمينُ الله أبرحُ قاعِدًا ولو قطعوا رأسي لديْكَ وأوْصالي وقال الآخر: تنفكُّ تسمعُ مَا حَيِيتَ بِهَالِكٍ حَتّى تَكُونَهْ وأما شبه النفي فالنهي، نحو: لا تَزَلْ قائمًا، وأنشد في الشرح: صاحِ شَمِّرْ ولا تَزَل ذاكِرَ الْمَوْت فنسيانهُ ضلالٌ مبينُ وكذلك: لا تَبْرحْ سائرًا، ولا تنفكّ ضاحِكًا، ولا تفتأُ مسرورًا، وما أشبه ذلك. والضرب الثاني: اشترط في عمله تقدُّم ما المصدرية الظرفية عليه، وذلك قوله: (ومثلُ كان دامَ مَسْبوقًا بِما) كائنةً على هذه الصفة التي بيّنها المثال وهو: (أعطِ ما دُمتَ مُصيبًا درهمًا) فقيّد (ما) بأن تكون مصدرية تَحَرُّزًا من

النافية والموصولة والنكرة الموصوفة، وغير ذلك من أنواعها، فلا تقول: ما دام أحدٌ أخاك، ولا: ما دام انتفاعك به الفرس، ولا ما كان حو ذلك. وأن تكون المصدرية ظرفية، فلو كانت غير ظرفيّة لم تعملْ (دام) معها، نحو: يُعجبني ما دُمت فاضلًا، أي دوامك، فلا يكون (فاضلًا) هنا خبر. وكذلك: فرِحتُ بما دمت فاضلًا؛ لأنّ التقدير: بدوامك فاضلًا، فلا يقال [هذا كما لا يقال]: دام زيدٌ فاضلًا، على الخبر، ولا دام زيدٌ صاحبك. فإذا احتمع الشرطان صحّ دخولها هنا، فتقول: لا أكلِّمك ما دمتَ قائمًا، وأنا قائم ما دام زيدٌ قائمًا، فالتقدير هنا: مُدّةَ دوامكَ قائمًت، ومُدّة دوام زيد قائمًا. ومنه قول الله تعالى: {لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. ويحتمل المثال غير ذلك. ومعنى (أعطِ ما دُمتَ مصيبًا دِرْهمًا): أعطِ الناسَ المالَ، وهَبْ لهم، ولا تقطع ذلك عنهم، ما أصبتَ دِرهمًا فما زاد، فإن الخير خيرٌ. ويتعلّق بهذا الكلام مسائل: إحداها: في معاني مَا ذكر من الأفعال الناقصة، وسيأتي ذكر معاني التامّة -بحول الله-، وهي على الجملة مُجرّدة للدلالة على الزمان عند المحققين، وكان أصلُها التمام، فجرّدت عن دلالتها على الحدث، فصارت تدلّ على الزمان بحسب ما كنت تدلّ عليه قبل ذلك، فهي دالّة إمّا على زمان مُحصل ليس إلا، أو

مع انتقال، أو دوام. فأما (كان) فجاءت لتجعل الحديث فيما مضى إما منقطعًا أو غير منقطع، نحو: كان زيد الشيخ شابًا، و {كَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}. وأما ظلّ فلتجعله ثابتًا في النهار، نحو: ظلَّ زيد منطلقًا، أي: أتى عليه النهار وهو منطلق. وأما بات وأضحى وأصبح وأمسى، فلتجعله ثابتًا في هذه الأوقات إلى وقت إخبارك، والفرق بين كان وهذه، أنّ هذه تقتضي الدوام إلى وقت الإخبار، وكان تقتضي الانقطاع. كذا قال السيرافي. قال: «وربما توسّعتِ العربُ في بعض هذه، فاستعملوه/ في معنى كان وصار». فأصل بات لزمان الليل، واضحى لوقت الضحى -قال ابن خروف: وتستعمل للصباح؛ لقُرب الوقتين -، وأصبح لوقت الصباح، وأمسى لوقت المساء. وأما صار فلزمان الانتقال من حالٍ إلى حال، نحو: صار الطين خَزَفًا، وصار زيد عالمًا. وأما ليس فأداة نفي تنفي ما هو حالٌ، [تقول]: ليس زيد قائمًا،

أي: ما هو في هذه الحال قائمًا. وأما [ما] زال، وما انفكّ، وما فَتِئ، وما برح -فهي مع النفي تعطي معنى كان الدوامية-، ومن هنا لزمها النفي ليصحّ تجرُّدها للزمان، فقولك: لم يزل الله عالمًا، وكان الله عالمًا، بمعنى واحد، وكذا البواقي على هذا المعنى تُستعمل إذا قلت: ما برح زيدٌ قائمًا، وما انفكّ قائمًا، وما فتئ قائمًا. وأما ما دام فكذلك إذا لحقتها ما المذكورة رادفت كان الدوامية، فقولك: لا أكلمك ما دام زيد قائمًا، مرادف لقولك: لا أكلّمك ما كان زيدٌ قائمًا. فقد تبيّن أنها كلّها مجرّدة للدلالة على الزمان، إما مطلقًا وإما مصدرًا، ما عدا ليس، فإنها لا تدلّ على زمان؛ لعدم تصرّفها. والثانية: أنه أتى من هذه الأفعال بثلاثة عشر فعلًا، وترك مما ذكر الجمهور تمام العشرين، ومما ذكره هو في التسهيل، تمام اثنتين وثلاثين، فقد ذكر الناس منها: غدًا، نحو: غدًا زيدٌ عالمًا، ومنه قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: «اغدُ عالمًا أو متعلّمًا، ولا إِمّعةً». وراح، نحو: راح زيدٌ فَرِحًا. وفي الحديث: «لو توكّلتم على الله حقّ توكُّله لرزقكم كما يرزُق [الطير] تغدو خِماصًا وتَرُوح بطانًا». وآض، نحو: آض زيد عالمًا، أي: صار كذلك. ومنه قول طرفة:

لهُ شربتان بالعشىِّ وأربعٌ من الليلِ حتى آض سُخْدًا مُوَرمَا وعاد، نحو: عاد زيدٌ فاضلًا، أي: صار. ومنه: {حَتّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ}، وقول الشاعر: تَعُدْ فِيكُم جزرَ الجزورِ رماحُنا وجاء في قولهم: ما جاءت حاجَتك، أي: صارت. وقَعَد في قولهم: شحذ شفرته حتى قَعَدتْ كأنها حربةٌ، أي: صارت. وحكى الكسائي: «قعد لا يسأل حاجةً إلا قضاها». وآل، نحو: آل زيد عالمًا، أي: صار. فهذه هي التي ذكر الناسُ زيادةً على ما ذكره الناظم. والتي زاد الناظم هي: فَتأ، وأفتأ، ووَنَى، ورام -وهي مرادفة: فَتِئ- ورجع، وحار، وارتد، واستحال، وتحوّل، وهي مرادفة: صار. وأسحر من السّحَر، وأفجر من الفّجر، وأظهر من الظهيرة، وهي اثنا عشر فعلًا. فالجميع اثنان وثلاثون فعلًا لم يذكر منها إلا أقلّ من النصب، فكان الوجه أن يذكر ذلك، أو يكون حين أراد الاقتصار على المشهور يذكر المشهور عند الناس، أو يكون

حين لم يرد الاستيفاء ينبّه على أنّ ثَمّ أشياء أُخر، فيقول: هي كذا وكذا، وما كان نحو ذلك، كما فعل سيبويه؛ فإنّ الحصر لا يفيد، وعدم التنبيه على ما بقي يوهم أن لا زائد على ما ذكر، فالاعتراض من وجهين: الاستفاء لما ذكره الناس، والثاني: أنه لم يبقَ بعدما ذكره شيءٌ. وفي ذلك ما فيه. والجواب: أنّ ما ذكره المؤلف وغيره هو أقصى ما وجد في كلام العرب بعد البحث والتفتيش، وعلى طول الأزمنة وكثرة الباحثين، فالغالب على الظنّ أنه لم يبق بعد ذلك منه إلا / ما لا بال له، ثم إن ما ذَكَر في التسهيل زائدصا على ما نقله الناس نوادرُ لا يُعتدّ بذكرها في مثل هذا النظم مع احتمالها؛ لأنّ جملة منها لا يَتعيّن دخولها في هذا الباب، في بعضها خلاف، فبَعُد رثبتها فيه. وأما السبعة التي زادها الناس فإن منها ما لم يأت إلا في مَثَلٍ أو شِبهه، وذلك: جاء وقَعَد -ومنها ما خالف فيه ابن مالك فلم يثبته، وذلك: آل وغدا وراح، ونصّ [على ذلك] في التسهيل. وأما عاد فاعترض ابن خروف على مثبته بقوله: تَعُدْ فيكم جزر الجَزورِ رماحُنا بأن الحال أحسن، على حذف المضاف، أي: مثل جزر الجزور.

وأمّا آض فهو قليل ليس في نمط غيره. وأيضًا فإن ذكره لصار قد انتظم في ما كان بمعناها، ومن ذلك آص، وكذلك آل، وجاء، وقعد، وعاد، وحال، واستحال، وتحوّل وارتدّ ورجَعَ. وأما فَتَأ وأفتأ فلغتان في فَتِئَ، فانتظمهما فَتِئَ. ولم يبق بعد هذا إلا أسحر وأفجر وأظهر، ولم تثبُت عنده، وغدا وراح. وقد رَدّ كونهما من هذا الباب بأن المنصوب بعدهما لا يكون إلا نكرة فهو حال لا خبر. وونى ورام -ماضى يري- وهما كما قال: «لا يكاد النحويون يعرفُونهما إلا من عُنِى باستقراء الغريب»، ويكفى مثلُ هذا عذرًا للناظم في نظمه. والثالثة: أن قول الناظم: «تَرْفَعُ كَان المبتَدَأ اسْمًا وَالْخَبَرْ» .. إلى آخره، ليست الألف واللام فيه بتعريف الجنس الذى يشمل كُلّ مبتدأ بحيث يرادفه كلّ، بل أراد بالألف واللام العهد في الحقيقة المتقدمة، فلا يعترض عليه بأن يقال: إن كلامه يقتضى أن كان وأخواتها تدخل على كُلِّ مبتدأ وخبر، وذلك غير صحيح؛ فإن من المبتدأت ما لا يصح لذلك؛ فقد ذكر في التسهيل من / ذلك ستّة أنواع: المبتدأ المخبر عنه بجملة طلبية، نحو: زيدٌ اضْرِب، وعمرو هل أكرمته؟ والمتضمن معى الاستفهام نحو: أَىُّ القوم أفضلُ؟ أو الشرط نحو: أَيُّهم يَأْتِ أكرمْه، أو غير ذلك من مقتضيات تصدير المبتدأ. والمبتدأ اللازم الحذف، كالمقدر في النعت المقطوع وشبهه، والقديم التصرف نحو:

طوبي لهم، وسلام عليكم، وما لزم الابتدائية بنفسه نحو: نَولُك أن تَفْعَلَ، أى: ينبغي لك أن تفعل، وأقل رجل يقول ذلك إِلّا زيدٌ. وما لزم الابتدائية لمصحوب لفظى، كالوقوع بعد لولا وإذا المفاجأة أو المصحوب معنوي، نحو ما أحسنَ زيدًا! ولله درُّه! فهذه أنواع لا يصحُّ معها دخول كان وأخواتها؛ أنا تقول: إنما قصد الكلام على عمل هذه الأفعال في المبتدأ والخبر -على الجملة- ولم يتعرض لتعميم جميع المبتدآت في هذا الحكم، فكلامه -على الجملة صحيح. وإلى هذا فإن المؤلف قد ذكر في الشرح أن النحويين جرت عادتهم بإطلاق القول في كون هذه الأفعال تدخل على المبتدأ أو الخبر، ولا يبالون امتناع بعض المبتدآت من دخولها عليه، فإن / كان كما قال فهو عذرٌ له في هذا النظم، والله أعلم. والرابعة: أنه لم يتعرّض هنا لهذه الكلم، من أَىِّ الأنواع الثلاثة هى؟ لتقدم ذلك الباب في الكلام والكَلِم، وأَنها لِمَا ذكر من خواصّ كلِّ قسمٍ أفعالٌ، وليس فيها خلاف فيما أعلم -إلا في ليس. والخلاف فيها مشهور بين البصريين والبغداديين، وهو راجع في الحقيقة إلى الوفاق إذا تأملت مقاصدهم، وإلا في كان، فإنّ العَبْدِىّ نقل عن المبرد أَنّها حرفٌ، اعتبارًا بعدم دلالتها على الحدث. وهو قريب.

[ثم قال]: وَغَيْرُ مَاضِ مِثْلَه قَدْ عَمَلَا إِنْ كَانَ غَيرُ الماضِ مِنْهُ اسْتُعْمِلَا نَبَّه في هذا الكلام على أن هذه الأفعال لا يختصً عملها بالماضى، وهو الذى ذّكر، بل يعمل أيضًا المضارعُ منها والآمر. وكذلك اسم الفاعل والمصدر، فتقول: يكون زيد قائمًا وكُنْ -يا زيدُ- عاقلًا، وفي الحديث: «كُن أبا خَيْثَمَةَ. فَكَانه». «وكُنْ عبد الله المقتولَ، ولا تكون عبدَ اللهِ القاتلَ». وفي القرآن الكريم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} وكذلك اسم الفاعل نحو: هو كائنٌ أخاك، والمصدر نحو: أَعجبني كونُ أَخِيك في الدار، وما أشبه ذلك. وهكذا سائر الأفعال نحو قوله: ويُضْحِى فتيتُ المِسْكِ فوقَ فراشها ويُصْبِحُ ملقىً بالفناءِ إِهابُها وأضْحَ -يا زيدُ- سائرًا، أو أَصْبِحْ مفطرًا، وكذلك صار وأمسى وظلَّ

وغيرها، يعملُ منها المضارعُ والأمرُ واسم الفاعل، وغير ذلك. وشَرَط في عمل غير الماضى أن يكون قد استعملته العربُ، تحرّزًا مما لم يُسْتَعمل فإنه لا يصحُّ إعمالُه، من جهة أنه لا يجوز لنا استعماله، لوجوب الوقوف في الاستعمال عند الحدّ الذى وقفت العرب عنده، أو لأنّ ثَمّ مانعًا من الاستعمال. والذى هو كذلك: ليس ودام، وما دخل عليه أداة النفي شرطًا فيه. فأما ليس فلعدم تصرّفها وشبهها بالحروف، لم تستعمل العرب منها مضارعًا ولا أمرًا ولا مصدرًا، ولا اسم فاعل، بل بَنَتْه هكذا بناءَ ليت. فهو راجع (بالشبه) إلى الماضى، فاقتصر في هذا العمل عليه. وأما دام فإنها -وإن كنت في الأصل متصرفة- لما لحقتها ما الظرفيّة، قصرت استعمالها على هذه الصيغة، فلم يستعمل لها مضارعٌ وإن ساغَ قياسًا، فلا تقول: أكلمك ما يدوم زيدٌ قائمًا. وأحرى لا يستعمل منها الأمرُ، ولا اسم الفاعل، ولا المصدر. وَأَمّا ما دخل عليه أداة النفي فإن الأمر منها غير مستعمل، لعدم تأتى حرف النفي معه، بخلاف المضارع منفيا فإنه مُتَأَتٍّ، فقالوا: لا تَنْفَكُّ تفعلُ كذا. وكذلك إذا دخل عليه حرف النهي، نحو: لا تَنْفَكّ -يا زيدُ- تَفْعَلُ كذا. وكأنه عِوَض من الأمر فيها. فهذا هو الذي تَحَرّز منه بقوله: «إِنْ كَانَ غَيرُ الماضِ منه استُعْمِلَا». وحذف الياء من «الماض» ضرورة، وقد قُرِئ بمثله في غير الفواصل،

نحو: {يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ} -وهو في الشعر يكثر، أنشد سيبويه لخُفَاف ابن نُدْبَةَ: كَنَواحَ رِيشِ حَمَامَةٍ نَجْديّةٍ وَمَسَحْتِ بِاللثتَينِ عَصْفَ الإِثْمِدِ وأنشد الأعشى: / وَأَخُو الغَوَانِ متى يَشَأ تَصْرِ منهَ وَيَعُدْن أعداءً بُعيدَ وِدَادِ أراد ذاك: كنواحي ريش حمامة. وأراد هذا: وأخو الغَوَاني. فحذف الياءَ اضطرارًا فإن قيل: إطلاقُ الناظم في قوله: «إنْ كانَ غيرُ الماضِ مِنْه استعملا» مشكل؛ فإن الاستعمال المراد إنما هو استعمال العرب، فكأنه في ظاهر كلامه يقول: إنما يعملُ غير الماضى إذا كانت العرب قد استعملته ونطقت به، وإلّلا فلا. وهذا الكلام يقتضى أنك لا تقول مثلًا: يكون زيدٌ قائمًا، فتأتى بالمضارع حتى تعلم أن العرب تكلمت به، وكذلك الأمر والمصدر واسم الفاعل. وهكذا في سائر الأفعال المذكورة. وهذا المفهوم غير صحيح، بل يجوز لنا استعمالُ المضارع والأمر وغيرهما منها، سمعنا ذلك أو لم نسمعه، لا نتوقف على المساع في مثل هذا إلا في موضعين:

أحدهما: أن يكون الفعلُ غير متصرف كليس، فإنه موضع وضع الحرف. هذا مع أنا وجدنا العرب لم تتصرف فيه، فلذلك لا نتصرّف نحن فيه. ومن هذا أن نفهم من العرب الاستغناء كدام مثلا، فإنها استغنت بالماضى عن المضارع، فلم تستعمله مع الحاجة إليه، فهمنا ذلك منها كما فهمنا استغناءهم عن وَذَرَ وذَرَعَ، وواذر ووادع بترك وتارك. وهذا الاستغناء جارٍ في الحكم مجرى عدم التصرف، بل هو ضرب من ضروب عدم التصرف؛ فلذلك عددته مع عدم المتصرف ضربًا واحدًا. والثاني: أن يمنع مانع صناعىّ من استعماله، كما منع النفى في ما زال وأخواتها من استعمال فعل الأمر؛ لأن النفي لا يصلح مع لأمر، كما أن الاستفهام والشرط ونحوهما لا تصلح معه. ففي هذين الموضعين لا نقول إلا ما قالته العرب، وأما في غير ذلك فلنا أن تكلم بما هو القياس في كلامها ولا نتوقف. لكن ظاهر كلام الناظم (يُشعِر) بالتوقف مطلقا، فكان غير صحيح لمخالفته للأئمة، بل لاستلزامه إبطال القياس الذى انبنى عليه هذا العِلْمُ. فالاعتذار عنه بأن مراده -غَيْرَ شكِّ- التنكيتُ على مثل دام وليس، وما ذكر ممّا له له مانع من جريان القياس فيه؛ فإن التوقف هناك واجب. وأمّا ما عدا ذلك فهو في حَيِّز المسموع وإن لم يسمع، لأنا نقطع بان العرب لو احتاجت إلى الكلام به لما تعدّت استعمالنا فيه، فكأنه مسموع منها. هذا أقصى ما وجدته في الاعتذار عنه، وهو كما تراه، وليس كلُّ داءٍ يعالجُه الطبيب.

(ثم قال): وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسُّطَ الْخَبَرْ أَجِزْ، وَكُلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النَّافِيَه فَجِئْ بِهَا مَتْلُوّةً لَا تَلِيَه كلامُه في هذا الفصل في تَصَرُّفِ هذه الأفعال في معمولاتها، بالتقديم عليها، والتوسط بينها بعض المعمولات. وهذا إنّما تكلّم فيه بالنسبة إلى البخر فقط، وأما الاسم فإنه تنزيل من منزلة الفاعل من فعله، ولذلك يجوزُ أَن يُطلَق عليه أنه فاعلٌ، وقد أخبر المؤلف بذلك التسهيل/، وأصْلُ ذلك الإطلاق لسيبويه، حيث جعل هذه الأفعالَ مما يَتعدّى الفاعلَ إلى المفعول به، الفاعل أنه لا يتقدم على فعله، كما سيأتى، فكذلك ما تنزل منزلته. فلما تنزل الخبر منزلة، والمفعولُ يصحُّ تقديمه وتأخيره والتصرّفُ فيه. تَصرفوا أيضا في الخبر كذلك. فأخبر أولًا أن توسّط الخبر في جميع هذه الأفعال بينها وبين مرفوعاتها جائز، يقول: «وَفِى جَمِيعها تَوسُّطَ الخَبَرْ». فتوسُّط: منصوبٌ بأجر. وفي جَمِيعها: يتعلّق بأجر أيضا. والتقدير: أجز توسط الخبر في جميع هذه الأفعال.

ولم يذكر بين أىّ الأشياء يتوسط؛ علما بأن ليس إلا الفعلُ ومرفوعه. فنقول على هذا: كان قائما زيدٌ، وأصبح منطلقا أخوك، وما زال راشدًا أبوك. وما أشبه ذلك. ومنه قول الله تعالى: {وكانَ حَقًا علينا نَصْرُ المُؤْمِنين} وفي قوله: -وفي جميعها» -فَعَمّ بالنصّ وقَدّم- تنبيهُ وتنكيتٌ: فأما التنبيهُ فهوَ لما فيها من الأفعال غير المتصرِّفة، فإن الوهم قد يسبق إلى أن ما لا يتصرف منه -وذلك ليس وما دام- يقصر عن أن يتصرّف في معموله، فرفع الإيهام بتعميم (جميع) الأفعال، تنبيهها على إدخالها قصدًا في هذا الحكم، فتقول على هذا: ليس قائمًا زيدٌ، ولا أكلِّمك ما دام صديقَك زيدٌ من ذلك ما أنشده في الشرح: سَلِى -إِنْ جَهِلْتِ- النّاسَ عَنّا وَعَنْهُمُ فَلَيْسَ سَوَاءً عَالمٌ وجَهُولُ وأنشد في دام: لَا طِيبَ لِلعَيْشِ مَا دامَتْ مُنَغّصَةً لَذّاتُهُ بِادِّكَار المَوْتِ والهَرَمِ وأما التنكيت فعلى من خالف ما قَرّر، وذلك أّنّ منهم من ذهب في جوازٍ

التوسيط إلى التفصيل لا إِلى الجواز مطلقًا في جميع الأفعال وذلك أبو زكريا يحيى بُن معطٍ، فمنع التوسط في دام وحدها، وأجازه في غيرها، وذلك في أَلفيّته التى حذا ابنُ مالكٍ حَذْوها: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقَدِّمَ الخَبَرْ عَلَى اسْمِ مَادَامَ، وَجَازَ في الأُخَرْ ولا أعلم له في هذا القول سلفًا. وكذا قال الأستاذ أبو عبد الله بن الفخّار شيخُنا -رحمه الله-: إنه لا يعرفُ له فيه سلفًا. قال: وأرى أنه وَهِمَ. والله أعلم. وحكى بعضُ من يَخْتَلِف إلى دمشْق عَرَض على الناظم هذا الموضعَ فقال: أُفكّر في ذلك. فذكر له ذلك مرةً حتى قال له: لا تنقُلْ عَنِّي فيه شيئًا. وقال ابن مالك في شرح التسهيل، لما استشهد على التوسّط مع ليس وما دام -وقال: «إنّما خَصَصْتُهما بالاستشهاد أنهما ضَعيفتان لعدم تصرّهما في أنفسهما، فربما اعتقد عدم تصرّفهما في العمل مطلقًا»، قال: وقد وقعد في ذلك ابن مُعطٍ -رحمه الله- فضمّن ألفيته منع تَوْسيط خبر ما دام. ثم ذكر أنه مخالف للقياس والمسموع؛ أما مخالفته للقياس فبيّنة، لأن توسيط خبر ليس جائز مع أن فيها ما في دام من عدم التصرف، وتفوقها

ضعفاً بأن منع تصرّفها لازمٌ، ومنع تصرف دام عارض، لأن «ليس» تشبه ما النافية معنًى، وتشبه ليت لفظًا، لأن وسطها ياء ساكنة سالمة، ومثل ذلك مفقودٌ في الأفعال، فثبت بهذا زيداة ضعفها على دام، وتوسيط غير/ ليس لم يمتنع، فإلّا يمتنع توسيط خبر دام أولى. وأما السماع فقد تقدم، فالصحيح إذًا ما عليه الناسُ. وقد نكّت أيضًا عليه في موضع آخر، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله. ووجه هذا التوسيط، وكذلك التقديم الآلى: أن هذه الأفعال متصرفة في نفسها، والقاعدة كل عامل تَصرّف في نفسه يتصرّف في معموله. وهذا ظاهر فيما عدا ليس وما دام. وأما ما دام فإن عدم التصرّف طارئٌ عليها، ولذلك لم يؤثر فيها عدم التصرّف سَلْبَ الدلالة على الزمان، وإذا كان عارضًا لم يُعتدّ به. وأما ليس فهى وإن كانت غير متصرّفة في اللفظ في تصرّفت من جهة المعنى؛ إذ يصح تقييدُ خبرها بالزمان الماضى وغيره فتقول: ليس زيد قائمًا أمس، وليس قاعدًا غدًا، ونحو ذلك. وهى لو تَصرّفت حقيقة لم يكن معناها إلا الدلالة على الأزمنة؛ فقد ناب تقييد خبرها عن ذلك، فصحّ لها معنى التصرّف، تصرّفت في معمولها. بهذا النحو استدلّ الفارسي على تصرّفها، وسيأتى من ذلك شئ بُعيد هذا إن شاء الله. هذا ما قال في توسيط الخبر، وأمّا تقديمُه عليها فقسّمَ الناظم الأفعال بحسب ذلك ثلاثة أقسام أحدها: ما يمتنع فيه التقديم باتفاقٍ، وهو: دام وحدها وعليه نبّه

بقوله: «وكلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ». كُلٌّ: مبتدأ، وهو مقطوع عن الإضافة للعلم بالمضافِ إليه، وهم النحويُّون. وسبْقَهُ: مفعول حَظَر -بالظاء المعجمة- وهو الخبر. وضمير «سَبْقَة» عائد على الخبر وهو فاعل «سبقه»، ودام مفعوله. والتقدير: وكلُّ النحويِّين حَظَر أَن يَسْبِقَ الخَبرُ دامَ. وحَظَر، معناه: مَنع. ومنه قول الله تعالى: {وَمَا كانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورَا}. ويعنى أن جميع النحويين منعوا من تقديم خبر دام عليه، فلا يجوز أن تقول: لا أُكلِّمك قائمًا ما دام زيدٌ. وهذا الإجماعُ ذكره ابنُ الإنباري؛ وسببُ ذلك أنها لازمةٌ لما كما تقدم، «وما» هى المصدريّةَ، وهي موصولةٌ صلتها ما يليها من فعلٍ وما تعلّق به، فالخبر هنا من صلتها. والقاعدة المطردة أَنّ بعض الصلة لا يتقدم على لموصول، فلم يصحّ تقدّمُ الخبر هنا على ما. فإن قيل: فهل يتقدّم على «دام» دون «ما»، ولا يُلْغَى في ذلك المحذور؟ فالجواب: أن ذلك يمتنع أيضًا لأَنّ ما مع الفعل كالشى الواحد، باتصال الفعل بما صار من هذا الباب، وعَدِمَ التصرّف الذى كان له في الأصل. فالصواب عدم الجواز، وهو رأى شيخنا، رحمةُ الله عليه. والمسألة عند النحويين مفروضة في تقدّم الخبر على ما، لا على الفعل دون ما. فإن قلت: فعبارة الناظم إذًا مشكلةٌ لأنه قال: «وكلٌّ سَبْقَهُ دَامَ حَظَرْ». ولم يقل: سبقه دَامَ وما، فهو يقتضى أن الإجماع المنقول إما هو في سَبْقِ

الخبر لدام وحدها، ولا مع ما. وهذا غير مستقيم، بل الإجماع في سبقه لما، وعلّلوا المنع بما تقدّم من منع تقدّم ما في حَيِّزِ الصّلة على الموصول. وهذا الإشكالُ موجودٌ في التسهيل لأنه قال فيه: «ولا يتقدم خبر دام اتفاقًا»، فالاعتراض وارد على الكتابين. فالجواب: أن العبارة وقعت على غير تحرير، بل/ على تسامح وتساهل، وهكذا يفعل كثيرٌ من النحويين للعلم بمرادهم في ذلك، ولو حَقّق العبارة لكان أحسن. ومثل هذا التساهُلِ ما تقدم من قوله: «إِنْ كَانَ غيرُ الماضِ منه استُعْمِلا». والقسم الثاني: ما يمتنع فيه التقديمث باختلاف، وذلك ليس على الخصوص، وسنذكرها في البيت الذى يلى هذا. وما دخلت عليه ما النافية من هذه الأفعال على العموم، وهو الذى قال فيه: «كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ ما النّافيهْ». ما النافية: مفعول بِسَبْق، وسَبْقُ: مصدرٌ مضاف إلى الفاعل. ويعنى أن سَبْقَ الخبر وتقديمه على ما النافية محظورٌ أيضا لا يجوز، وحكمُه في ذلك حكمُ سَبْقِهِ لما دام، وهو معنى: كذاك، فالإشارةُ بذلك إلى سَبْق في قوله: «وكلٌّ سَبْقَه دام حَظَرْ». والذى تتقدم عليه ما من هذه الأفعالِ جميعُها إلا ما دام. فما زال، وما انفكّ، وما فَتِئَ، وما بَرِحَ: لا يجوزُ تقديم أخبارها عليها، فلا تقول: قائمًا ما زال زيدٌ، ولا سائرًا ما زالُ بكر، ولا مطلقا ما ينفكّ أخوك، ولا ما

أشبه ذلك. وكذلك إذا دخلت «ما على» سائر هذه الأفعال، الحكم فيها واحدٌ، فلا يجوز أن تقول: قائمًا ما كان زيدٌ، ولا سائرٌ ما أصبح عَمْرو، ولا عالمًا ما صار أخوك. ولا ما كان نحو ذلك. وإمّا امتنع التقديم مع ما؛ لأن لها صدرَ الكلام، كأدواتِ الاستفهام والشرط، ولذلك كانت من أدواتِ التعليق حسبما يأتى، إن شاء الله. ودلّ هذا الكلام على أن غير «ما» من أدوات النفي ليس لها ذلك الحكم، بل يجوز تقديم الأخبار عليها، كلا، ولَنْ، ولمْ، فتقول: قائمًا لا يكون زيدٌ، وفاضلًا لم يزل أخوك، وعالمًا لن يصير زيد. وكذلك سائرها، لأَنك تقول: زيدًا لن أضربَ، وعمرًا لم أكرمْ، وأما زيدًا فلن أضرب. نَصّ على ذلك السيرافيُّ وغيرُه. وهو صحيح؛ فإن هذه الحروف -ما عاد ما- لم تستحقّ أن يكون لها صدرُ الكلام. والسبب في ذلك مبنى على قاعدةٍ، وهي أَنّ العامل إِذا تغيّر معناه تغيّر حكمه، وإذا لم يتغيّر معناه لم يتغير حكمه. وبيان ذلك أن لن ولم مع الفعل بمنزلة الجزء منه، لأن لم يَفْعَلْ جواب: فَعَلَ، ولن يفعلَ جواب سيفعلُ، كما ذكره سيبويه وغيره، وكان الأصل أن يكون النفي داخلًا على الإيجاب، فكنت تقول: لَمْ فْعَلَ، ولن سيفعلُ، كما كان ذلك في «ما» حين قلت في جواب فَعَل: ما فَعل، وفي جواب يقعل: ما يفعلُ، فأدخلت حَرْفَ النفي على الكلام الموجب نَفْسِه لتردّهُ على المتكلِّم به. وإذا قلت ذلك تَغَيّر معنى الفعل من الإيجاب إلى النفي، فجاء ذلك فيما تَغَيّرَ حُكمهُ حين تغيّر معناه، فكان التقديم جائزا قبل ورود النفي، فلما

وَرَدَ امتنع التقديم. ولو فَعَلت العرب ذلك في سيفعل وفَعَل فأدخلت عليهما لم ولن، لتغيّر الحكمُ فامتنع التقديمُ، لك لم تفعل ذلك، بل أتت بـ «لن أفعلَ» كلّه جوابا عن: سيفعل، وبـ «لم يفعل» كلّه جوابًا عن: فعل، وسيفعل كالكلمة، فكذلك: لن أفعل، وفَعَلَ كلمة واحدة، فلم يفعل بمنزلته، وما وضع كالكلمة الواحدة فهو على أَصْلِ معناه الذى وُضِع للدلالة / عليه، فلم يتغير معناه الأصلى إذًا، فيجب أن لا يتغيّر حكمه. بخلاف ما، فإنها لم توضع أولًا مع الفعل، بل وُضِع الفعلُ موجبا، ثم غيّر بدخول ما عليه، فوجب تغيُّرُ حكمه. فهذا فرق ما بين ما وبين غيرها في جواز التقديم عليها ومنعه. وهذا معنى قوله في الكتاب في أبواب الاشتغال: «وإذا قلت: زيدًا لم أضرب، وزيدًا لن أضرب -لم يكن فيه إلا النصبُ، لأنك لم توقع بعد لم ولن شيئا يجوز [لك] أن تقدمه قَبْلَهما فيكون على غير حاله بعدهما». قال: ولن أضرب: نفي لقوله: سأضرب، كما أن لم أضرب نفي: ضربت». وهو تفسير ابن عصفور وابن الضائع لكلام الإمام، وهو أولى ما يتعتبر به. وقد فَسّرَ السيرافى والفارسىّ وابن خروف والشلوبين على غير ذلك، فعليك به في الشروح. ولكن القاعدة في نفسها صحيحة، وهي مُبَيّنةٌ في الأصول.

وقد دلّ كلامُ الناظِمِ أيضا على جواز التقديم على لا، فتقول: قائمًا لا يزال زيد، وشاخصًا لا يكون أخوك، ونحو ذلك. وكذلك التقديم على إِنْ نحو: قائمًا إنْ يزال زيد وشاخصًا إن كان زيد. وهذا فيه نظرٌ من جهة النقل والقاعدة؛ أما النقل فإن النحويين قالوا في إِنْ: حكمُها حكمُ ما، وهى من أدوات الصدور [لأنها بمنزلة ما، فكما لا يتقدم الخبر على ما كذلك لا يتقدم على إِنْ]. ونصّوا في لا على مذهبين: أحدهما: التفرقة بين أَنْ تقع جوابا للقسم أو لا، فإن وقعت جوابا للقسم لم يجز التقديم، فلا تقول: والله قائما لا يزال زيدٌ. وإن لم تقع جوابًا له جاز فتقول: قائمًا لا يزال زيد. وهو قولُ ابن أبي الربيع. والثاني: أن الفارسىّ نصّ في التذكرة على امتناع: زيدًا لا أضرب. ذكره في الجزء التاسع عشر. وهو لازم في هذه الأفعال بلا بُدٍّ، فيمتنع فيها عنده. فالناظم لم يذهب إلى واحد من المذهبين. وأما القاعدة فإنها تقتضى المنع مع «لا» و «أنْ» كما تقتضيه مع «ما»؛ لأن كل واحد منهما داخل على مُوجبَه؛ إذ هما جواب لقولك: يقوم زيد، وقام زيد، ولا يقوم زيد، وإن قام زيد. وإذا كان كذلك فقد غيّرا معنى الفعل الذى دخلا عليه، فوجب أن يُغَيِّرا حكمه. وجواب هذا أن السيرافي وابن الأنباري قد نصّا على جواز التقديم على لا مطلقا، فلعله اتبعهما في ذلك. ووجه ذلك أَنّ لا حرف متصرف يعمل ما قبله فيما بعده، كقولك: جئت بلا شئٍ، وأعجبني أن لا تقوم، ونحو ذلك.

فصار لها بهذا حكم آخر سوى ما كان الأصلُ فيه. وأما إِنْ فالظاهر أنه لم يتكلم على حكمها لقلّتها في النفي بالإضافة إلى غيرها. ودلّ كلامه أيضًا على أن هذا التقديم الممنوع إنما التقديم على ما. وهو نصّه بقوله: «كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ ما النّافيهْ». فقد يشعر هذا بأن تقدم الخبر متأخرا عن ما خارجٌ عن المنع. وقد نصّ ابن الناظم في شرحه على الجواز، وأنك تقول: ما قائما كان زيدٌ. واستدلّ على صحة ذلك بما في الحدي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَوَاللهِ ما/ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ». والمفعول وخبر كان متضاربان. وما قال قد صحّ في غير المقيّد بالنفي.، وأما ما كان النفي من شرط دخوله في هذا الباب، فالجواز فيه غير مسلّم؛ قال شيخنا -رحمة الله عليه-: ويمتنع عند الكل توسيطه بين الفعل وحرف النفي، لأنهما لما تلازما صارا كالشئ الواحد. انتهى. وهذا ليس بخاصٍّ بما وحدها، بل هو عام في سائر حروف النفي، فلا يصح أن يقال: لا قائما يزال زيد. وما خارجًا انفك عمرو. فإن قال: إن الفصل بين حرف النفي والفعل هنا قد جاء نحو قول الشاعر: ولا أَرَاها تَزَالُ ظالِمَةً

وقوله: ما خِلْتُنِى زلتُ بعدكُمُ ضَمِنَا وإذا جاز ذلك جاز هذا قيل: قد اعتدّ به في التسهيلِ حَتّى أطلق العبارة في (أنّ) الاتصال بين النفي والفعل غيرُ لازمٍ، فيدخل تحت إِطلاقه مثلُ هذا. فهذا ممكن أن يقال، لولا أن ظاهر نَقْلِ شيخنا الاستاذ -رحمه الله- أنهم اتفقوا على المنع. والأولى في جواب هذا أن يقال: إن الناظم لم يتعرّضْ للتنبيه على المسألة، وإنما قصد التنبيه على فرق ما بين ما وبين غيرها من أدوات النفي، وتبقي هذه المسألةُ مسكوتا في نظمه، كما سكت عنها في التسهيل وشرحه. والله أعلم. وقوله: «فَجِئْ بِهَا مَتْلُوّة لا تالِيَهْ». معنى متْلُوّة: متبوعة. لا تالية: لا تابعة. يعنى أَنّ الخبر إِنما يقع بعدها يتبعها، لا قبلها بحيث تتبعه. وليس في هذا دلالة على ما قال ابن الناظم من جواز ما قائمًا زال زيدٌ. وما أشبهه، ولا على غير ذلك من الافعال، بل قصدهُ نفغيُ التقديم على ما. وفي العبارة تأكيدٌ لهذا المَعْنى.

فإن قيل: إِن هذا الكلام مُعتَرَض عليه من وجهين، زيادة على ما تقدم: أحدهما قيل: إِن ظاهر سياقه يدلُّ على أَنّ هذه المسألة متفق عليها من النحويين، لأنه قدّم في دام أن منع التقديم متفق عليه أن هذا أيضا متفق عليه. وهذا أيضا متفق عليه. وهذا غير صحيح، لشهرة الخلاف فيها: أما مازال وأخواتها فحكى ابن الأنبارى أن الكوفيين غير الفراء، وابن كيسان من البصريين يجيزون تقدم أخبارها على ما. وذكر النحاس أن التقديم جيد بالغ عند البصريين. وحكى ابن خروفٍ الجواتز أيضا عن البصريين والكسائي، والمنع عن الفراءِ. والمنع هو الذى اشتهر عند البصريين وهو الذى اعتمد ابن الأنبارى، وهو المعروف من مذاهبهم. وقد ذكر ابن مالك الخلاف في التسهيل. وأما غير هذه الأربعة فالخلافُ فيها يتخرّج على ما نقله في شرح التسهيل عن الكوفيين، لأنهم يجيزون التقديم على «ما» في سائر الأفعال، إلا الفراء فإنه على أصله في المنع. وأصلُهم في ذلك أن «ما» لم تستحقّ التصدير، كما لم تستحقّه لم ولن ولا؛ ولذلك أجازوا: طعامك ما زيدٌ آكلا. وباب «ما مع» باب كان واحد في الحكم. وأيضًا قد أجاز الفارسى في التذكرة: زيدًا/ ما أضربْ. فنحا في ذلك نحو الكوفيين، ولا فرق بين الفعل التام والناقص في ذلك. وإذا كان الخلاف موجودا وعدمُ الإجماع مشهورًا، فكيف يقول:

«كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ ما النّافِيه»؟ والثاني: أن قوله: «فَجِئْ بِها مَتْلُوّةً لاَ تَالِيَهْ» تكرار لما تقدم، وفَضْلٌ غير محتاج إليه؛ لأن قوله: «كَذَاكَ سَبْقُ خَبَرٍ مَا النافِيَهْ»، معناه: لا يجوزُ أن تكون ما تاليةً، بل متلوّةٌ، أى يمتنع تقديمُ الخبر على ما. ومن عادة الناظم -رحمه الله تعالى- أن لا يأتى في هذا النظم بحشو ولا تكرار، كيف وهو من شُحِّه بالألفاظ فيه يلتزمُ في أكثره الشذوذات، حتى إنه ليكاد أن يكون حرف العطف عنده مجتنبًا، فكيف يأتى بما لا يَزِيدُ فائدة فيه؟ فالجواب عن السؤالين معًا: أنه حكى أَوّلًا في دام الإجماع على منع تقديم خبرها عليها، ثم أراد أن يحيل على حكم المنع ولا يكرّره فقال: كذاك كذا وكذا، وإيثارًا للاختصار، لكن لما عارضه فيه الإشكال الأول وهو إيهام الإجماع على المنع، وهو غير صحيح، عَيّن ما أحال عليه بقوله: فَجِئْ بِها مَتْلُوّةً لاَ تَالِيَهْ» تنبيها على أن الإجالة على ما تقدّم، ليست على منع التقديم خاصّةً، فَجِئْ بها مَتْلُوّةً لاَ تَالِيَهْ، كما فعلت ذلك في دام. فخرج بهذه الجملة التى بينت المراد تَوَهُّم الاشتراك في حكم الاجماع. وهذا كما تقول أعطى الأمير زيدًا جُبّةً وعمامة [وكذلك عمرو أعطاه عمامة، فلو سكت عن قولك «أعطاه عمامة لأوهمت أن الذى أعطى عمرًا جُبّة وعمامة] لقولك: وكذلك عمرو. فلما جئت بالبيان ظهر أَنّ الإشارة بـ «كذاك» إلى بعض ما تقدّم لا إلى جميعه. وهذا بيّن فخرجت المسألة عن الحكم عليها بالإجماع، وبقي حكمُه بما يرتضيه مذهبًا لنفسه. فعمّ بالمنع جميع ما تتقدّمُه ما النافية، مُنكّتًا على خلاف من خالف في شئ من تلك الجملة بقوله: «لا تاليه». فإنه كان يُجزِئُه أن يقول: «فَجِئْ بِها

مَتْلُوّةً» من غير زيادةٍ، لكنه أتى بالزيادة تنبيها، كأنه قال: لا تاليةً كما يزعمه من خالف. فإن قيل: هذا كله تشغيب وتطويل، مع أنه قادر على إزالته بحكاية الخلاف! فالجواب: أن حكاية الخلاف ثانيةٌ عن ثُبوت الخلاف في كل ما تَقَدّمه «ما» من هذه الأفعال. والخلاف في الجميع غير ثابت. أما في مازال وأخواتها فثابت، وأما في نحو: ما كان أخوك منطلقا، وما اشبه -فلم يَثبُتْ فيه نصُّ خلاف، وإنما هو مخرّج على قول الكوفيين والفارسىّ من مسألةٍ أخرى، وإِذا لم يكن منصوصًا عليه لم يَسَعْه أن يحكي الخلافَ في الجميع، لإمكان أن لا يُسَلّم ذلك التخريجُ لوجود فَرْقٍ مُؤَثّر لم نَطلِعْ عليه، ولا أن يحكي الخلافَ في «ما زال» وأخواتها خاصة والوفاقَ فيما عداها، لأنه يمكن أن يكون التخريج صحيحا فيجرى الخلاف، وأيضًا يكون أطول مما أتى به من العبارة، فرأى السكوت عن الخلاف وعدم الإشارة، مع إخراج المسألة عن الوفاق المتقدم في ما دام أولى، وأبرأُ في التقصّى عن عهدة النقل. وهذا حسن من القصد إن كان أراده، والله أعلم. ولم يبق في المسألة إلا الاحتجاج لما نقله من المنع والتزامه. فأما الاحتجاج على الكوفيين في تجويرهم: طعامَكَ ما زيدٌ أكلا، وعلى الفارسىّ في تجويزه: زيدًا ما ضربتُ/ -فظاهر من القاعدة المتقدمة، وأيضا فقد ثبت أَنّ ما لها صدرُ الكلام في كلام العرب، فلا محيد عن

ذلك، وقياسهم على لم ولن غيرُ صحيح لما تقدم من الفرق. وأما الاحتجاج عليهم في «ما زال» وأخواتها فهذا الذى تقدّم. ويخصّ ابنَ كيسان شئٌ آخر، وذلك أنه سلّم أن «ما» لها صدر الكلام، إلا أنها دخلت على أفعالٍ معناها النفي، وهى: زال وأخواتها، والنفي إذا انتفى صار إيجابًا، وإذا كان كذلك صار «ما زال» بمنزلة كان في أنه إيجاب، فكما أن كان يجوزُ تقديمُ خبرها عليها، فكذلك ما في معناها؛ من حيث لم يبق للنفي حكمٌ في ما زال وأخواتها، وإنما يعتبر النفي إذا كان معناه ثابتها، وليس هنا بثابت؛ يدلّ على ذلك أنّ العربَ لا تُدْخلُ معها «إِلا» التى هى إيجاب بعد النفي، فنظيرها: كان زيد إلا قائما، وهذا غير جائز إذ لا نفي فيه، وكذلك مسألتنا؛ فإذا كانا في معنى واحدٍ فليكن حكمهما في جواز التقديم واحدًا. والجواب عن ذلك أنا قد أجمعنا على أن ما للنفي في هذا الموضع، ولذلك صار الكلام إجابًا، وإلّا فلو لم تكن للنفي -وقد فرضنا أن زال وأخواتها نفي- لَمَا صار الكلام بها إيجابًا، وإذا كان معنى النفي ثابتًا فيها، وهى دالّة عليه، فقد استوت مع «ما» الداخلة على «كان» وما أشبهها. وإذا استوت في الموضعيين وهى في أحدهما مستحقة للصدر فيجب أن تكون كذلك في المسألة المتنازَعِ فيها. وإذا سلّمنا أَنّ معنى النفي غير معتبر فيها فذلك لا يمنع استحقاقها للصدر، اعتبارًا بالأصل، كما لم يمنع استحقاقُ الاستفهامِ للصدر زوال معناه إذا قلت: علمت أَيُّهم قائم، وعلمت أزيد في الدار أم عمرو. ولذلك لما قيل في قول سيبويه: «هذا بابُ علمِ ما الكَلِمُ من العربية»، إنه وضعها غير مشير بها، واعترض عليه بأن لو كان كذلك لأعرب اسم الإشارة، لزوال

موجب البناء -أجاب بعض المحققين عن ذلك بأنه لا يلزم الإعراب اعتبارًا بالأصل، كما لم تعمل «علمت» في الاستفهام اعتبارًا بالأصل. * * * ثم قال: وَمَنْعُ سَبْقِ خَبَرٍ لَيْسَ اصْطُفِي وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي وَمَا سِوَاهُ ناقِصٌ، وَالنَّقْصُ فِي فَتِئَ لَيْسَ زَالَ دَائِمًا قُفِي هذه المسألة من مسال القسم الثاني، وهو الممنوع التقديم باختلافٍ. ويعني أن المختار وفي خبر ليس منعُ تقديمه على ليس، فلا يجوز أن يقال: قائمًا ليس زيدٌ، ولا أخاك ليس بكرٌ. ومعنى «اصطُفِى»: اختير. وهو مأخوذ من صَفْوِ الشئ وصَفْوَتِهِ. ويبقى النظر في المُصْطَفِى، من هو؟ وهو يحتمل أمرين: أحدهما: أن يريد مَنِ اختار المنع من النحويين، وهم الكوفيين. وحكاه ابنُ الأنباري وابنُ جني عن المبرد/. ووافق المبردَ أيضا على المنع ابنث السراج والفارسىُّ في الحلبيات، خلافُ ما اختاره في الإيضاح من الجواز. ويُحْتَمُل أن يريد نفسه، أى: إِنى اخترتُ هنا مذهب المانعين، لِمَا قام على صحته من الدليل، وإن كنت في ذلك مخالفًا لجمهور البصريين.

وذلك أن ابن مالك بَنَى في هذا العلم على الاجتهاد، ولم يُخْلِدْ فيه إلى حَضِيضِ التقليد، فتراه موافقًا للكوفيين حربًا على البصريين تارةً، وتارةً موافقًا للبصريين مخالفًا لمن عداهم، فِعْل المجتهدين المبرزينِ. وهو الواجب على من بَلَغَ رتبةَ الاجتهاد، لامتناع التقليد عليه عند جمهور الأصوليين. وابنُ مالك مشهودٌ له بالإمامة والتبريز في هذا العلم، فَبحَقٍ ما اتبَعَ اجتهاده، ولم يتّبع قول غيره بغير دليل، إلا أنه في العربية ينحو نحو الظاهرية، ولا يحكّم القياس تَحكيم غيره، فهذه طريقته. والأظهر أن فاعل «اصطُفِى» هو الناظم، فإنه قد أشار لذلك في التسهيل حيث قال: «ولا يتقدّم خبر دام اتفاقا، ولا خبر ليس على الأصحّ». فنبّه على أن المنع هو الأصحّ عنده. وإلى المنع أيضا ذهب ابن الأنباريّ في الإنصاف؛ ودليله: أَنّ «ليس» فعلٌ غير متصرّف فلا يجرى مجرى الفعل المتصرف، كما أُجريت كان مجراه، لأن كان فعل متصرف فتصرف في معموله، وليس غير متصرّف فلا يتصرف في معموله، كعسى ونِعْم وبِئْس، وفعل التعجب -وأيضًا فإن ليس أشبهُ شئٍ بـ «ما» في المعنى والعمل، ولذلك زعم البغداديّون أنها حرف، ووافق على ذلك طائفة من أهل النظر من البصريين؛ وإذا كان كذلك، وكانت ما لا يصح تقدُّم خبرها عليها، فمن الواجب أن تكون ليس أختُها كذلك. وأيضا لما أشبهت ليس

ما له صدر الكلام -وذلك ما- كان من الواجب أن يحكم عليه بالصدرية. فإن قيل: الدليلُ على جواز التقديم أوجه: أحدهما: أن الدليل قد قام على أن ليس فعلٌ، وإذا ثبت أنها فعل -والأصل في العمل للأفعال- فالعمل لها بحق الأصل، وإذا كان كذلك فينبغي أن تتصرّف في معمولاتها كسائل الأفعال، وإن فاتها تصرف الأفعال فقد وُجِد فيها وجهان من التصرف، أحدهما: التصرف المعنوى، وهو صحة تقييد خبرها بالماضى وغيره. وقد تقدّم ذكره. والثاني: أنها نعمل في المعرفة والنكرة، [والظاهر] والمضمر، وهذا تصرف صحيح. ووجه آخر من التصرف، وهو خاصّ بمسألتنا: تقدمُ خبرها على اسمها، فوجب بهذا حين شاركت الأفعال المتصرفة أن تتصرف في معمولاتها، وقد خرجت نِعْم وبِئْس وعسى وفعل التعجب عن هذا الحكم، لأجل ما فُقد فيها من هذا التصرّفِ الذى وُجِد في ليس. (فلا يعملان في نكرة ولا عَلَم ولا في ضمير، وأما عسى) فإنها إنما تعملُ النصب في موضع الفعل، فلا يكون خبرها اسمًا مصرحًا به إلا شاذًا. وأما فعل التعجب فيلزم طريقة واحدة، ولا يكون فاعله إلا ضميرًا مع ما، وفي «أَفْعِلْ» كذلك عند قومٍ، أو مجرورًا بالباء عند آخرين، وحبّذَا مثلُ نِعْم وبِئْس، بل أقل تصرفًا؛ إذ يقتصر بفاعلها على ذا فلا يكون غيره. فالحاصل من هذا أن ليس ظهر تصرُّفها في نفسها، فَلْيَجُز تصرّفها في معمولها.

والوجه الثاني: أن ليس قد صحّ تصرُّفها في معمولها بتقدمه إذا كان المنصوب على اسمها المرفوع، وإذا كان ذلك جائزًا باتفاق فليجز التقديم على ليس قياسًا، وإلّا فلا يخلوُ أَنْ يكون تقدُّم منصوبها على مرفوعها -مع أن أصله التأخير- تصرّفًا أولا، ولا يمكن أن يقال إنه ليس بتصرّفٍ، بل هو تصرّف في/ معمولها، وأنتم قلتم: إن ما لا يتصرّف في نفسه لا يتصرف في معمولها، فيجب إذًا أن لا يجوزَ عندكم تقدُّم المنصوب على المرفوع، لأنه تصرّف في المعمول، لكنكم قد أَجَزْتم ذلك، فَلْتُجيزوا هذا التصرف الآخر، وهو التقدمُ على ليس. والوجه الثالث: أن ليس قد تقدّم معمول خبرها في قول الله تعالى: {ألَا يَوْمَ يَأتيهمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عنهم}. فيومَ يأتيهم: ظرفٌ متعلق بمصروف. وتقديمُ المعمول لا يصحُّ إلّا حيث يصحُّ تقديمُ العامل. هذه قاعدةٌ مسلّمة عند القدماء كالفارسىّ وابن جنى وغيرهما وإذا كان كذلك ثبت بالآية جوازُ تقدُّم الخبر، وهو المطلوب. والوجه الرابع: أن سيبويه قد ظهر منه أنه قائل بجواز التقديم؛ لأنه أجاز أن تقول: أزيدًا لَسْتَ مثله؟ بنصب زيد، بإضمار ليس، من باب الاشتغال. والقاعدة أن المفسّر من شَرْطِهِ صحةُ عَمَله في الأول لولا شغله بالضمير أو السبب، فلولا أن ليس عنده مما يصحّ تقدم خبرها عليها لم

تَجُزْ هذه المسألة، كما لا يجوز النصب في نحو: أزيدٌ أنت الضاربه؟ وأزيدٌ ما أنت ضاربه؟ وأذكَرٌ أن تَلِده ناقتُك أحبٌّ إليك م أنثى؟ وما أشبه ذلك. فإجازته المسألة دليل على ما قلناه. فالجواب عن الأول: أّنّ كون «ليس» فعلًا يَدُلُّ على جوازِ إعمالها عَمَل الأفعال، ولا يدلّ على تصرّف في معموله بالتقديم، بل الذى يدل على ذلك تَصَرُّفه في نفسه. وقد عُلِم أَنّ ليس غير متصرّف في نفسه فلا يتصرف في معموله. فنحن أعملنا فيه الدليلين، فأثبتنا له أصل العمل لوجود أصل الفعلية، وسلبناه وصف العمل -وهو التقديم- لفقد وصف الفعلية- وهو التصرّف- فاعتبرنا الأصل بالأصل، والوصف بالوصف. والدليل على ما قلناه وجودُ ذلك استقراءً؛ فإن الأفعال المتصرّفة ثبت لها أصل العمل لمّا ثبت لها أصل الفعلية، وثبت لها وصفُ العمل -وهو التصرف- بالتقديم لما ثبت لها وصف الفعلية، وهو التصرّف للأزمنة، فقلت: عمرًا ضربَ زيدٌ، وقائمًا كان عمرو. والأفعال غير المتصرفة نحو: نِعْمَ وبِئْسَ، وفعل التعجب، وعسى، ثَبَتَ لها أصل العمل لما ثبت لها أصل الفعلية، فعملت الرفع والنصب، وسُلِبت وصفَ العمل، فلم يجز تقدمُ معمولاتها (عليها) لمّا سُلِيت وصفُ الفعلية -وهو التصرف للأزمنة- لَمّا كانت من القبيل الثاني- وجب لها حكمُه. وما ذُكر من أوصاف التصرّف لا يخرجها عن عدم التصرّف الذى هو المعتبر، وهو اختلاف

الأبنية لاختلاف الأزمنة. وإذا سلمنا أن ذلك القدرَ مُعتبرٌ ففي مقدار مّا من التصرف، لا في مطلق التصرف وذلك المقدار هو جواز توسط الخبر/ بينها وبين الام، فلا تَوازِنُ المتصرفَ بإطلاق، ولا غير المتصرف بإطلاق. وبهذا يجاب عن الوجه الثاني. وأمّا الثالث فإن تلك القاعدةَ منازعٌ فيها لأنها لا تطّرد كل الاطراد؛ ألا ترى أنك تقول أمّا زيدًا فاضرب، وفي القرآن: {فَأَمّا اليتيمَ فَلَا تَقْهَرْ. وَأَمّا السّائِلَ فَلَا تَنهرْ}، فقد تقدم هنا مفعولُ الفعلِ ولا يصحُّ وقوعُ الفعل واليًا لأمّا. وكذلك تقول: ما اليوم زيدٌ ذاهبًا -في اللغة الحجازية- ولا يجوز تقديمُ الخبر إلى موضع المعمول، وهو متفق عليه. وأجاز الكوفيون: هذا طعامك رجلٌ يأكلُ، وزيدًا ضربي فأكرمتُ، فقدّموا معمول يأكل -وهو نعت لرجل- على المنعوت، ومعمول أكرمت -وهو معطوف على ضربي، وهو معطوف عليه- والمعطوف لا يتقدّم على المعطوف عليه، ولا النعت على المنعوت. وقد حمل الزمخشري قول الله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَولًا بلِيغًا} [فجعل (في أنفسهم) معمول (بليغا)]، فلم يعتبِرْ تلك القاعدة. والمنازَعُ فيه لا يُبْنَى عليه. وإذا سلّمنا صحةَ القاعدة فالمتقدِّم في الآية هو الظرف، وهم مما يتّسعُون في الظروف والمجرورات كثيرا ما لا يتسعون في غيرها، فلعل

هذا من جملة ما اتُّسِعَ فيه؛ ألا ترى أنهم يقولون: إن بك زيدًا مأخوذٌ، وإن غدًا أخاك راحِلٌ، فتقدّم الظرف والمجرور -وهما معمول الخبر- على الاسم، مع أن الخبر لا يجوز تقديمه تقديمه البتة. وإن سلّمنا ذلك فلا يتعيّن في الآية دليلٌ لاحتمالها أمرين غير ذِكر: أحدهما: أن يكون (يَوْمَ) مبينًا على الفتح لإضافته إلى الفعل. وهو رأىُ الناظم في قوله تعالى: {هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقين صِدْقُهُمْ} فيومَ: مبتدأ، خبره: ليس وما بعدها، على حذف الضمير من الخبر، وهو فيه، [وذلك] جائز على قلّة. والثاني: أن يكون (يَوْمَ) منصوبا لكن بفعل من معنى ما بَعْدُ، كما يُقَدِّرون ذلك في كثير من المواضع، نحو {وَكَانُوا فِيْهِ مِنَ الزّاهدِيِن} و {إِنّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ القَالِينَ}. أو بفعل من معنى ما قبلُ، كأنه على تقدير: يَعْرِفُون يوم يأتيهم، و (لَيْسَ مَصْرُوفًا) جملة حالية مؤكدة، أو مستأنفة. وهذا تقديرُ المؤلّفُ. وإذا أمكن في الآية هذا كلُّه سقط الاستدلال بها. وأما الرابع فإنّ المحققين لا يُعَيِّنُون لسيبويه من ذلك مذهبًا، ولا دليل فيه، إذ قد يفسّر ما لا يعمل، وذلك كثيرٌ، نحو قولك: زيدًا عليك. ومنه {كِتَابَ اللهِ

عَلَيْكُمْ}، على تسليم أن (عَلَيْكُمْ) اسمُ فِعْلٍ. وكذلك إِنْ زيد قام أكرمتُه، ومنه: {وَكَانُوا فِيه من الزاهدين}. وأشباهه. وقد أخذ بعضهم جواز التقديم، وأنه مذهب سيبويه من هذه المسألة، وليس دليل، والإمام لم يتعرّض لها في غير هذا الموضع. ومن العجيب أن الفارسىّ ذكر في التذكرة عن ابن كيسان أنه حكى أنّ سيبويه يجيز: منطلقا ليس زيد. قال الفارسى: وليست هذه المسألة في الكتاب، فلا أدرى من أين له هذا؟ فالذى ظهر من هذا أن الأصحّ ما ذهب إليه الناظم. وَلَمَا تبيّن ما يمتنع تصريحه/ وفاقًا، وما يمتنع على خلافٍ فيه -فُهِم أن (ما) عدا ما تَقَدّم جائز فيه التقديم مطلقًا، وهو القسم الثالث من التقسيم الأول، ولا أعلم في ذلك خلافا يعتدُّ (به) إلا ما حكى ابنث السّراج عن بعض النحويين أنه يمنع تقديمُ الخبرِ أو توسيطه إن كان جملة، فلا يجوز عند هؤلاء: أبوه قائمٌ كان زيد، ولا كان أبوه قائم زيدٌ. قال ابن السراج: والقياس جوازه وإن لم يُسْمَعْ. قال المؤلف في الشرح: وهو الصحيح، فإنه إن لم يُسْمَع مع

كان فقد سمع مع الابتداء، كقول الفرزدق: إِلى مَلِكِ ما أمُّه مِنْ مُحَارِبٍ أَبوه، وَلَا كَانَتْ كُلّيبٌ تُصاهِرُهْ أراد: أَبُوهُ ما أمُّه من مُحَارِبٍ، فأبوه: مبتدأ، وأمُّه: مبتدأ ثان. ومن مُحارب: خبره والجملة خبرُ الأول. فلو دخلت «كان» لم يمتنع التقديم ولا التوسيط من باب أولى. فإن قبل: إن المؤلف لم يُبَيِّن ما يلزمُ فيه تقديم الخبر أو توسيطه أو تأخيره، وكان من حقّه ذلك، وكذلك لم يُبيّن ما يمتنع تقديمه أو تأخيره أو توسيطه، وذلك من الأمور الضرورية في النحو، ولا سيّما وقد ظهر من كلامه إطلاق الجواز فيما سوى ما ذكر، فكان مُوهِمًا، وقد حَرّر في التسهيل عبارته حيث قال في التوسيط: «ما لم يعرض مانع أو موجب». وكذلك قال في التقديم: وكذا تقديم خبر صار وما قبلها جوازا ومنعًا ووجوبا». فالجواب من جهتين، إحدهما: أن ما ذكره هو الأصل في الباب مع قطع النظر إلى عروض العوارض. وأما إذا نظرنا إلى ما يعرض فحينئذ يَرِدُ السؤال. و [والظاهر أن] الناظم لم يتعرّض لها. والثانية: أنّ وجوب التقديم أو التأخير أو التوسيط، أو امتناع ذلك، يستفيده الناظر في نظمه من باب الابتداء، ومن باب الفاعل، والمفعول الذي

لم يُسّمّ فاعله. فمن حصل ما ذكره وأشار إليه في تلك المواضع، قدّر على استخراج مثل ذلك هنا من غير كلفة. ولأجل هذا لم يُبَيِّن في التسهيل المنع والوجوب، بل أحال على العلم بذلك مما ذكره في نظائره وهذا ظاهر. ثم قال: وَذُو تَمامٍ ما بِرَفْعٍ يَكْتَفِى وَمَا سِوَاهُ ناقِصٌ ... ... لما كانت هذه الأفعال تستعمل استعمالين، وتُلَقّب بحسب كلِّ استعمالٍ منهما بلقَبٍ، أخذ يذكر السبب الذى تُسمّى لأجله ناقصةً أو تامة، وما يستعمل منها الاستعمالية معًا، وما يقتضى به على أحدهما وهو النقص. فذكر أولًا السبب في التسمية، وأن ما شأنهُ أن يكتفي بمرفوع فهو المسمى تامًا، وما لم يكتف به دون المنصوب فهو المسمى ناقصا. فقوله: «وَذُو تَمَامٍ مَا بَرِفْعٍ يَكْتَفِي». ما: موصولة، وهى مبتدأ خبره: ذو تمام، أى: إنه يُسمَّى ذا التمام، وهو التامُّ، وما سواه ناقص. وقوله: ما برفع، هو على حَذْفِ المضاف، أى: بذى رفع، وهو المرفوع. ويحتمل أن يريد الرفع على حقيقته، ويكون راجعا إلى العمل، كأنه يقول: ما اكتفي بعمل الرفع فهو التام، وما سواه مما يعمل النصب مع الرفع، ولا يكتفي بعمل الرفع، فهو الناقص. وقصد الناظم بيان مذهبه في تسمية هذه الأفعال نواقِصَ. والمشهور -في ذلك- أنه إنما سُمِّيت نواقصَ لنقصان دلالتها، وذلك أن الفعل أصلهُ أن يدلّ على أصْله، وهو المصدر، وذلك معنى دلالته على الحدث، وأن يدلّ

على/ الزمان الذى وضع له الفعل، كضرب مثلا: دالٌّ على الحدث الذى هو الضربُ، وعلى زمانه وهو الماضى. (ثم) إن هذه الأفعال تجرّدت عن الدلالة على الحدث وصارت تدلّ على الزمان منفردًا، فصارت ناقصة الدلالة، فَسُمِّيتَ نواقص والناظم لم يرتضِ هذا الرأى من تجرّدها عن الدلالة على الحدث، بل ذهب فيها مذهب ابن خروف أَنّها دالة على الحدث كما هي دالة على الزمان، إِلّا ليس فلا تدل على حدث كما لا تدل على الزمان. وإنما سُمِّيت نواقص لعدم اكتفائها بمرفوع. قال في شرح التسهيل: وإنما لم تكتف بمرفوع لأن حدثها مقصودٌ إسناده إلى النسبة التى بين معموليها، [فمعنى قولك: كان زيد عالمًا، وجد اتصاف زيد بالعلم]، والاقتصار على المرفوع غير واف بذلك، فلذلك لم يستغن عن الخبر، وكان الفعل جديرًا أن ينشب إلى النقصان»، قال: «وقد أشار إلى هذا المعنى سيبويه بقوله: «تقول: كان عبد الله أخاك، فإنما أردت أن تخبِر عن الأخوة». فبيّن أن «كان» مسندةٌ إلى النسبة». (ثم) قال: فمن ثمّ [بَيّنّا] عدم الاكتفاء

بالمرفوع. ثم استدلّ على بطلان مذهب الجمهور من أوجهٍ عشرة: أحدهما: أن مدّعى تجرّدها عن الحدث مقرٌّ بفعلية هذه العوامل، والفعلية تستلزم الدلالة على الحدث والزمان معًا؛ إذ الدالّ على الحَدَثِ وَحْدَه مصدرٌ، والدالّ على الزمان وحده اسم زمان. وهذه العوامل ليست بمعان ولا أسماء زمان، فبطل أن تكون دالّة على أحد المعنيين دون الآخر. والثانى: أَنّ مُدّعِىَ ذلك معترف بأنّ الأصل في كل فعلٍ الدلالةُ على المعنييين، فإخراجه [لها] عن ذلك إخراج عن الأصل، فلا يقبل إلا بدليل. والثالث: أنها لو كانت دلالتُها مخصوصةً بالزمان لجاز أن ينعقِدَ من بعضها ومن اسم معنى جملةٌ تامة، كما ينعقد منه ومن اسم زمان، وفي جواز ذلك وامتناع هذا دليل على بطلان دعواه. والرابع: أن الأفعال كلّها إذا كانت على صيغة مختصّةٍ بزمان مُعَيّن، فلا يمتاز بعضها من بعض إلا بالحدث، كضرب وقعد، فإذا فُرِض زوالُ ما به الامتياز، وبقاءُ ما به التساوى، لزم أَلّا يكون بين الأفعال فرق، فلا يكون بين قولك: زيد غنيًا، وصار زيد غنيًا -فرقُ، والفرق حاصل، فبطل ما يوجبُ خلافه. وأيضًا لو كان كذلك لزم التناقضُ مَنْ قال: أصبح زيدٌ ظاعنًا وأمسى مقيما، لأنه على ذلك التقدير (بمنزلة): زيد قبل وقتنا ظاعن، (وإنما) يزول

التناقض بمراعاة دلالة الفعلين على الإصباح والإمساء، وذلك هو المطلوب. والخامس: أن من جملتها انفكّ، فلو لم تدلّ إلا على زمان الخبر، لزم أن يكون معنى؛ ما انفك زيدٌ غنيا: ما زيدٌ غنيا في وقت من الأوقات الماضية، وذلك نقيض المراد، فوجب بطلان ما أفضى إليه. والسادس: أنّ من جملتها دام، ومن شرط إعمالها عمَل كان كونُها صلة لما المصدرية، ومن لوازم ذلك صحة تقدير المصدر في موضعها، نحو: جُدْ ما دُمْتَ وَاجِدًا، أى: مدة دوامك واجدًا، فلو كانت دام مجردة عن الحدث لم يقم مقامها اسمُ الحدث. والسابعُ: أنها لو لم/ يكن لها مصدر لم يدخل عليها أَنْ، لأنها وما وصلت به في تأويل المصدر. وأيضا قد جاء مصدر كان صريحًا نحو قوله: بِبَدْلٍ وحِلْمْ سَادَ في قَوْمه الفتى وَكَوْنُكَ إِيّانُ عَلَيْكَ يَسِيرُ وحكى أبو زيد مصدر فَتئَ، وحكى غيره: ظَلِلْتُ أفعلُ كذا ظُلُولًا. وقالوا في كاد -وهى فعل ناقص ككان-: لا أفعلُ ذلك ولا كَيدًا، أى: ولا أَكادُ كيدا. هذا مع أنها أضعفُ من كان؛ إذا لا يُستعمل لها اسم

فاعل بخلاف كان، فاستعمال مصدر كان التى هى أقوى أَحْرَى. والثامن: أنها لو كانت لمجرّد الزمان لم يُغْنِ عنها اسمُ الفاعِلِ، كما في الحديث: «إنّ هذا القرآن كائِنٌ لكم أجرًا، وكائنٌ عليكم وِزْرًا». وحكى سيبويه عن العرب: هو كائنُ أَخِيك؛ لأن اسم الفاعل لا دلالة له على الزمان، وإنما يدل على الحدث، وما هو به قائم، أو ما هو عنه صادر، وقال الشاعر: قَضَى اللهُ -يا أَسْمَاءُ- أَنْ لَسْتُ زَايلًا أُحِبُّكِ حَتّى يُغْمِضَ الجَفْنَ مُغْمِضُ والتاسع: أن دلالة الفعل على الحدثِ أقوى من دلالته على الزمان، لأن دلالته على الحدث لا تتعين بقرائن، ودلالته على الزمان تتعين بالقرآئن، فدلالته على الحدث أولى بالبقاء من دلالته على الزمان. والعاشر: أن هذه الأفعال لو تجردت عن الحدث لم يُبْنَ منها أمرٌ؛ لأن الأمر لا يُبْنَى مما لا دلالة فيه على الحدث. هذا ما استدلّ به المؤلّفُ. ثم ذكر [أن] كَونُ هذه الأفعالِ دالّةً على مصادرها هو الظاهر من قول سيبويه والمبرّد والسيرافىّ أجاز الجمع بين كان ومصدرها تأكيدًا. وقد استدل ابنُ خروف على ذلك بأنها مشتقّةٌ من المصادر،

وبقولك: أعجبني [كون] زيد قائمًا. وهو كثير الاستعمال، وبأنّ كائنا في نحو: زيدٌ كائنٌ أخاكَ لا يخصّ زمانًا، قال: فلو لم تدلّ على حدثٍ لم يَكُنْ لها معنًى، وإن أردت فيها تخصيص الزمانِ جئت بالظرف المختصّ. واعلم أن هذه الأدلّة كلّها قابلةٌ للنظر، ومحتملة للبحث، وغالبها أو جميعُها لا ثيبتُ عند التحقيق الذى حقّقه الجمهورُ، وقد بَيّنتُ ذلك في غير هذا. ولولا أن القصدَ توجيهُ ما ذهب إليه في هذا النظم المُتَعرضُ لشرح مقاصده دون النظر في تحقيق المسائل على الإطلاق، لبينتُ ذلك، ولكنى التزمت الانتصار لمذاهبيه والترجيح لها على غيرها ما قدرتُ على ذلك. فإذا لم أجد في انتحاله للاصابة مذهبا صرحتُ بما هو الحقُّ عندى وعند أئمة هذا الشأن. فهذا هو القصد هنا، والله المستعان. فإن قيل: كيف قال: «وذُو تَمامٍ مّا بِرَفْعٍ يَكتَفِى». وهذا إنّما يصدقُ على ما كان منها غير متعدٍّ، وأمّا ما تعدّى منها إلى مفعولٍ به، فهو من جهة معناه غير مكتفٍ بالمرفوع دون أن ينصب ما يقتضيه من المفعول، كصار ضَمّ أو قَطّع، وكان بمعنى غَزَل، وشبه ذلك؟ فالجواب أن معنى الاكتفاء بالمرفوع أن يستقلّ به الكلام حتى يكون جملة من فعل وفاعل يصحّ السكوت عليها، ويستفيد بها المخاطب كضرب زيد، وأكرم عمرو، [و] عند النحويين أن الفعل إذا أخذ فاعله فقد تمّ الكلام لوجود المسند

والمسند إليه، وأما المفعول/ ففضله -لعدم الاحتياج إليه في الإسناد، فإنما جرى كلامه على معهود الاصطلاح. ثم نَبّه على استُعمِلَ تامًا أيضا فقال: ... ... وَالنّقْصُ فِي فَتِئَ لَيْسَ زَالَ دَائَمًا قُفِى يعنى أن هذه الأفعال الثلاثة النقصُ لها لازمٌ دائم، لا يستعمل واحدٌ منها تامًا البتة؛ فأما فَتِئ وليس فما قاله فيهما صحيح. وأما زال فإنها على وجهين: أحدهما: أن يكون مضارعها يزول أو يَزِيلُ، وهذا لم يتكلم فيه الناظم، فإنهما لا يستعملان على النقص، بل تقول: زال الشئ يَزِيله زيلًا: إذا مَيّزه منه وفَرّقه. ويقال: أزلتُه فلم يَنْزَلْ -على يَنْفَعِل-. فهذان على فَعَلَ بفعُلُ، وفَعَل يَفْعِلُ، لا يكونان ناقصين. والثاني: الذى على فَعِل يَفْعَل، وهو الذى قصد ذكره، والذى لا يستعملُ عنده إلا ناقصًا. فإن قيل: كيف زعم ذلك وقال: إن النقص فيها دائمًا تُفِى -أى: تُبِّعَ، يقال قفوت أثَرَه، أى: تبعتُه- فالمعنى أن السماع تُتِبّع فوجد كذلك، ونحن نجد الأمر بخلاف ما قال، ففي الحماسة من قولِ عبد الله بن ثعلبةً الحنَفِىّ: لِكُلِّ أُنَاسٍ مَقْبَرٌ بِفِنَائِهِمْ فَهُمْ يَنْقُصُونَ والقُبُورُ تَزِيدٌ

وَمَا إِن يَزَالُ رَسْمُ دَارٍ قَدَ اخْلَقَتْ وَبَيتٌ لِمَيْتٍ بِالفِنَاءِ جَديدُ فيزالُ -هنا- لا خَبَر له، والكلام قد تَمّ. وكذلك قولُ الآخر، أنشده المؤلف: وَلَا يَزَالُ وَهْوَ أليَسُ كأنّه قال: ولا يبرحُ في هذه الحال. فقد وُجِدت زال -التى على فَعِل يَفْعَلُ- تامةٌ لغوًا؟ فالجوابُ: أن هذا محتمل للنقصان على حذف الخبر، أما بيت الحماسة فإنّ ابن خروف حمله على أن الخبر محذوف دلّ عليه المجرور المتقدم، وأراد: وَمَا إنْ يزالُ بِها رسمُ دارٍ. وأعادَ الضميرَ على البلدةِ أو البقية. وأما البيت الآخر فقد تأوّله المؤلف على حذف الخبر كذلك، فانظر فيه في الشرح. وإذا كان ذلك يحتملُ النقصانَ لم يثبت التمامً إلا بأمرٍ بين وشاهدٍ ظاهرٍ، وإلا فالأصلُ الرجوعُ إلى ما ثبت وهو النقصان؛ فلذلك جَزَم الناظم بلزوم النقص وأكّده تنبيهًا على أنّ ما يُتوهّمُ فيه التمامُ ليس بمتعيّن له، وعلى أن ما أجازه الفارسىّ في «الحلبيّات» من وُقوعِ زال تامّةَ لا يثبتُ.

ولما عَيّنَ للاختصاص بالنقصان هذه الأفعال الثلاثة، دَلّ على أنّ ما عداها قد يأتى تامًا، وذلك صحيح. فأما كان فتأتى بمعنى ثَبَت أو وُجِد أو وَقَع، أو نحو ذلك، ومنه ما أنشده سيبويه، من قول مَقّاس العائذى: فِدًى لِبَنِى ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ ناقَتِى إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَواكبَ أَشْهَبُ وأنشد ابن خروف: كَانُوا وَكُنّا فما ندرى عَلَى وَهَمٍ أَنَحْنُ فيها لَبِثْنَا أَمْ هُمُ عَجِلُوا فالمعنى: أقاموا ودمنا، ولها معانٍ [أُخَر] غير هذا المعنى. وأما ظَلّ فتكون تامة بمعنى: دام وطال، وهو فَعِل يَفْعَل كالناقص، تقول: ظَلِلْتُ، بالكسر. وأمّا بات فتكون بمعنى: عَرّسَ، وهو النُّزولُ ليلًا، ومنه في أَحَدِ الاحتمالين قول ابن عُمَر -رضي الله عنه-: / «أما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فقد بات بمنًى وظلّ». قال ابن خروف: يجوزُ فيهما

النقصانُ والتمام. وأنشد القالى: بِحَاجَةِ مَحْزُونٍ يَظَلّ وَقَلْبُهُ رَهِينٌ بِبَضّاتِ الحجالِ صَدِيقُ وقال امرؤ القيس: وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ كَلَيْلَةِ [ذِى] العَائِرِ الأَرْمَدِ وأما أضحى فتكون تامّةً بمعنى: دخل في الضحى، تقول: أقمتُ بالمكان حتى أضحيتُ ومنه قولُ عُمَر بن الخطاب -رضى الله عنه-: «أَضْحوا بصلاة الضحى»، يعنى: لا تصلّوها إلى ارتفاع الضحى. وأما أصبح فتكون بمعنى: دخل في الصباح، ومنه تقول: أقمتُ بالمكان حتى أصبحتُ. وأما أمسى فتكون بمعنى دخل في المساء. والشاهد عليهما معًا قولُ الله -سبحانه-: {فَسُبْحانَ اللهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ}. وأمّا صار فتكون بمعنى برجع، تقول: صِرْتُ إلى كذا. ومنه في القرآن: {أَلَا إِلَى اللهِ تَصيرُ الأمُور}. وتكون بمعنى أمالَ، وبمعنى قطع. ومنه في

القرآن: {فَصِرْهُنّ إِلَيْكَ}، فقد فُسِّرت قراءة الكسرةِ بالوجهين، وهى قراءة حمزة، أى: ضُمّهُنّ وأَمِلْهُنّ إليك. أو قَطِّعُهنّ، و (إِلَيْكَ) تتعلّق بـ (خُذْ). ومن الإمالة قولُ الشاعر: وَفَرْع يَصِيرُ الجيد وَحْفٍ كأنه عَلَى اللِّيت قِنْوانُ الكُرُومِ الدوالحُ وأنشد قُطْرُب: وَكُنْتُ -إِذَا لَمْ يصِرْني الهَوَى وَلَا حُبُّها كَانَ مِنِّى- نَفُورَا وعلى قراءة الضمّ لا مدخل لها في هذا المعنى المقصود من بيان التامّ، لأنها من صاره يصوره، فلا اشتراك بين هذا وصار الناقصة؛ لأن الناقصة من الياء، وهذا من الواو. وأما بَرِح فتكون بمعنى: ذهب، نحو {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: لا أَبْرَحُ} .. الآية وتقول: ما برححْتُ من مكاني. وبمعنى: ظَهر، ومنه قولهم: بَرِحَ الخفاء. وأما انفكّ فتكون بمعنى انفصل، نحو فَكَكْتُ الخاتم فانْفَكّ. وهو أحد

التأويلان في قول ذي الرمّة: حَرَاجِيجُ، مَا تَنْفَكُّ إِلّا مُنَاخَةً عَلَى الخَسْفِ، أَوْ نَرْمِى بِهَا بَلدًا قَفْرا قال ابن خروف: لم تدخل «إِلّا» إلّا وقد نُوِى التمام. وأّمّا دام فتكون بمعنى: بقِي، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السّمواتُ والأرضُ}. وقال امرؤ القيس: وَمَا المرءُ -مَا دَامَتْ حشَاشَةُ نَفْسِهِ بِمُدْرِكِ أَطْرافِ الخُطُوبِ وَلَا آل وَلَا يَلِى العَامِلَ مَعْمُولُ الخَبَرْ إِلّا إِذَا ظَرْفًا أَنى أَوْ حَرْف جَرْ وَمُضْمَرَ الشّأْنِ اسْمًا انْوِ إِنْ وَقَعْ مُوْهِمُ مَا استَبَانَ أَنّهُ امْتَنَع هذه مسألة من مسائل التقديم والتأخير، وذلك تقديم معمول الخبر على الخبر، (وتقديم معمول الخبر على الخبر-) جائز - على الجملة- إذا كان متصرفا في نفسه، على الأصل في أن كل عامل متصرّف في نفسه يتصرّف في

معموله؛ فإذا كان الخبر عاملًا متصرفا تُصُوِّر في تقديم معموله عليه في باب كان صورٌ ثلاث: تقديمه على الخبر خاصة، وعلى المبتدأ والخبر -ومن كان- وعلى الجميع. ومقتفضى كلامه جوازُ ذلك كُلّه إلا تقديمه على الخَبرِ والمبتدأ دُون كان بحيثُ يكونُ واليًا لها؛ فإن ذلك غيرُ جائزٍ ما لم يكن ظرفًا أو مجرورا، وذلك قوله: «وَلَا يَلى العَامِلَ معمولُ الخَبَرْ» .. إلى آخره. يعنى أنه لا يجوز تقديم معمول الخبر بحيث يصير واليًا للعامل -الذى [هو]: كان، أو واحدًا مما جرى مجراها- إلا إذا كان ذلك المعمول ظرفًا زمانيا أو مكانيا، أو حرف جرّ مع مجروره/، فإن ذلك جائز مثال ذلك: ما كان طعامَك زيدٌ آكلًا، فطعامَك معمول آكلًا، وقد ولى كان، وليس بظرفٍ ولا مجرور، فلا يجوز إذًا. وكذلك إذا قلت: كانت زيدًا الحُمّى تأخذُ، وكان أخاك زيدٌ مكرمًا. وما أشبه ذلك. ومثله في المنع، إذا قدّمت الخبر على الاسم فقلت: كان طعامَك آكلًا زيدٌ، وما كان أخاك مكرمًا زيدٌ، لأن المعمول قد وَلِىَ كان. ووجه المنع ههنا هو ما نُقِل عن سيبويه -وهو رأى الزجاجىّ في التعليل- أنك أوليت كان ما ليس معمولًا لها. ونصُّ سيبويه في المسألة أنه لما أنشد قول حُمَيد الأرقط: فَأَصْبَحُوا والنَّوَى عَالِى مُعَرّسِهِم وَلَيْسَ كُلّ النّوَى تُلْقِي المَسَاكِينُ

قال: «ولا يجوز أن تحمل «المساكين» على ليس وقد قدّمت فجعلت الذى يعمل فيه الفعلُ الآخِرُ يلى الأول»، قال: «وهذا لا يحسن ولا يجوز، لو قلت: كانت زيدًا الحُمّى تأخذ، أو تأخذ الحُمّى، لم يجز وكان قبيحا». وهذا معنى ما نقلوا، وهو الذى اعتمد الناظم. فالحاصل: أن الناظم منع هنا مسألتين: إحداهما: كان طعامَك زيدٌ آكلا. وهو مذهب الجمهور فيها، وقد نقل ابن أبي الربيع أَنّ ذلك لا خلاف فيه. وليس كما قال، بل ذكر السيرافي الخلاف، وأن بعض من يجيز المسألة احتجّ على الجواز بقول الشاعر: فَنافِذُ هَدّاجُونَ حَوْلَ بُيُوِتِهِمْ بِمَا كَانَ إيّاهُمْ عَطِيّةُ عَوْدا ثم قال: ولا حجة فيه لأمرين: إمكانُ حَمْلِ كان على أن فيها ضمير الشأن -كما ذكر الناظم- وإمكانُ زيادةِ كان. والثانية: كان طعامَك آكلًا زيدٌ. وهو ظاهر كلام سيبويه وتعليله. وقد عَلّل أبو على الفارسىُّ المسألة الأولى بأن المنع لأجل الفصل بين كان واسمها بأجنبى منهما. وجرى على التعليل بهذا بعضٌ. وهو يقتضى جوازه هذه المسألة. والوجه ما رآه الناظم من المنع كالمسألة الأولى؛ إذ لا فرق بينهما في الحقيقة؛ قاله: فإن

قيل: فإن قيل: النيّةُ فيه التأخيرُ فكذلك هو في الوجه الآخر، قال: ولا تأثير بكونه قد وَلِىَ عاملَه قريبًا أو بعيدًا، وإذا كان أُولى غير عامله، ولم يرد به سماع. ثم استثنى الظرف والمجرور من المنع فقال: «إلا إِذَا ظَرْفًا أَتَى أَوْ حَرْفَ جَرّ». يعنى أنهم أجازوا تقديم معمول الخبر، وإن ولى كان، إذا كان ظرفًا. نحو: كان عندك زيدٌ مقيمًا، وكان مكانَكَ زيدٌ قاعدًا. أو حرف جر، نحو: كان في الدار زيدٌ قاعدًا، وكان إليك عَمْروٌ سائرًا. وما أشبه ذلك. قال ابن أبي الربيع: ولا أعلم في جَوازِه خلافًا، ومنه في القرآن المجيد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. وأنشد سيبويه: لَتَقْرُبِنّ قَرَبًا جُلْذِيّا مَا دَامَ فِيهنّ فَصِيلٌ حَيّا ولَمّا تَقَرّر ما يمتنع في هذا التقديم دَلّ على أنّ ما عدا ذلك جائز، نحو قولك: كان زيدٌ طَعَامَك آكلا، وكان آكلًا طعامَك زيدٌ، وطعامَك كان آكلًا زيدٌ، وطعامَك كان زيدٌ آكلا. وما أشبه ذلك. ولمّا كان في السماع ما يظهر منه جوازُ ما منع نبه على أن ذلك على

غير ظاهره، بل هو متأوّل فقال: «وَمُضْمَر الشّأْنِ/ اسْمًا انْوِ». مضمر: مفعول بأنو. واسمًا: حال من مضمر الشأن. ويعنى أنه إِنْ وَقَع من كلام العرب ما يُوهِمُ جَوَازَ ما ذكرتُ امتناعَه، فليس بمخالف في الحقيقة، ما هو راجعٌ إلى ما يجوز، وذلك إذا أضمرت في كان ضمير الأَمْر والشأن. والذى نَبّه عليه قول الشاعر، أنشده السيرافىّ وغيره: قَنَافِدُ هَدّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ بِمَا كَانَ إِيّاهُمْ عَطِيّةُ عَوّدَا فهذا مثل قولك: كان طعامَك زيدٌ آكلا، وكانت زيدًا الحُمّى تَأْخُذُ. وقد تقدّم منعُه، حملُه على أنّ في كن ضمير الشأن، أى: بما كان الأمر إيّاهم عطيّةُ عَوّدا. وإذا أمكن هذا التقديرُ صارتِ الجملةُ بعد كانَ على وجهٍ جائزٍ؛ لأنك تقولُ: أخاك زيدٌ ضارب، وأخاك زيدٌ ضَرَبَ إذا ثبت هذا فقد وقعت الجملةُ مستقلّةً، وهى مفسرةً ضمير الأمر والشأن، ولم يل معمولُ الخبر فيها العامل الذى كان، فلم يَبْقَ إشكالٌ. وإنما احتاج إلى هذا الاعتذار لأن الكوفيين أجازوا ما منعه من المسألتين بهذا البيت. وقد تَقَدّم عن السيرافىّ اعتذارٌ ثانٍ، وهو الحملُ على زيادة كان. وأيضًا فهو من النوادر التى لا تكاد توجدُ إلا ضرورة، ولو كَثُر في السماعَ لأُجيِزَ، بل تقديمُ المجرور الذى هو جائزٌ عند الجميع قليلٌ لسماع حتّى إِنّ الفارسىّ قال: لم أعلم شيئًا من ذلك مرّ بي في كلامهم -يعنى- والله أعلم- مُتَعيِّنا للتقديم وإلا فقد أتى سيبويه بالآية والبيت المتقدمين،

لكنهما محتملان- قال: إلا أنِّي رأيتُ أبا الحسن في «المسائل الصغير» يجيز ذلك في مسائل له يفصل بينها بالظرف (المتعلق) بالخبر، قال: (وقد) وقفنا بعدُ على قول الشاعر: فَلَا تَلْحَنِى فِيهَا؛ فَإِنّ بِحُبِّهَا أَخَاكُ مصابُ القلب جَمّ بَلَابُلهْ فالباء: من صلة الخبر؛ ألا ترى أن التقدير: مصابُ القلب بحبّها. ثم ذكر أَنّهم أجازوا ذلك لاتساعهم في الظروف والمجرورات؛ إذ قد يُفْضَل بها في موضعٍ لا يفصل بغيرها، كفصلهم بها بين المضافِ والمضاف إليه، وبين إن واسمها. ولم يستجيزوا ذلك في غيرها، فكذلك استجيز فيها هذا الضرب. ذكر ذلك في «التذكرة» في مسألة: ما كان فيها أحدٌ خيرًا منك، من مسائل الكتاب. فنبّه -كما ترى- على قلّة وجود مثل ذلك في السماع، حتى استشهد بمسألة «إِنّ» على مسألة «كان»، من حيث كان الحكم فيها واحدًا إذ ما يجوز من ذلك في «كان» يجوز في «إنّ» وظننت وسائر النواسخ. وقد فَرّع سيبويه مسائل البابين -كان وإنّ- تفريعًا واحدًا، وقال ابن خَرُوف: لو قلت: رأى عمرًا زيدٌ رجلًا ضاربًا. تريد رأى زيدٌ رجلًا ضاربا عمرًا -لم يجز. وقال: إن هذا

لا يختصُّ بكان وأخواتها. ولعل الناظم رمز القاعدة هنا بقوله: «وَلَا يَلِىِ العَامِلَ مَعْمُولُ الخَبَرْ»، ولم يقل: ولا يلى كان، أو ذا الفعل، أو نحو ذلك مما يعطى الاختصاصَ بكان وأخواتها، بل أتى بلفظ يَعُمُّ عوامل المبتدأ والخبر، تنبيها على اتحاد الحكم في الجميع. فإن قلت: لو كان كذلك لم نبّه على المسألة في باب «ما»، بل كان يكتفي بعموم المسألة هنا. قيل: ولو لم يكن كذلك لنبه عليها/ في باب «إن». فقد يظهر أن المساة هنا عامة، وإنما ذكرها في باب «ما» لحكم آخر ضروري يختصّ بـ «ما» حسب ما يُذكر في بابه، إن شاء الله. واستبان الشئُ، وتبيّن، وأبانَ: كلها بمعنًى واحدٍ، وهو هنا غير متعدٍّ. وقد يستعملُ متعديًا فيقال: استَبنْتُ الشئَ، كما يقال: تَبَيّنْتُه، وأنبتُه. وكذلك: بَيّن الشئُ وبيّنْتهُ. وَقَدْ تُزَادُ كَانَ فِى حَشْوٍ كَمَا كَانَ أَصَحّ عِلْمَ مَنْ تَقَدّمَا يعنى أن كان -من بين سائر أخواتها- تكون في الكلام زائدةً، لكن ذلك قليل، ولأجل ذلك أتى بقد المفيدة للتقليل. ومعنى زيادتها أن تكون دخولُها كخروجها بالنسبة إلى العمل لا بالنسبة إلى المعنى؛ فإنها إما تُزادُ لمعنًى وهو الدلالةُ على الزمان الماضى، كما هى في أصلها، وإنما الزيادةُ من حيثُ إِنها تجئُ غير عاملةٍ في معمول، فكأنها ملغاةٌ

أُتِي بها استدراكًا للدلالة على الزمان، كما يُؤْتَى بأفعال القلوب استدراكًا للدلالة على وَجْهِ حُصُولِ الخبر من العلم أو الظن. ويقع النظرُ هنا في ستّ مسائلَ: إحدها: في تخصيصه كانَ من بين سائر أخواتها؛ إذ لم يذكر ذلك في غيرها، وذلك في مشهور الكلام صحيح؛ لأنّ كان أصلٌ لكلِّ فعلٍ وحدثٍ، وأصل في هذا الباب لسائر أفعاله، فتصرّفوا فيها لذلك ما لم يتصرّفوا في غيرها. فأما أصلٌ لكلّ فِعْلٍ وحدث فلأنه يصحُّ أن يُعَبّر بالكون عن كُلّ فعل، فتقول في ضرب وقام وخرج وذهب وأكل: ضربٌ، أو قيام، أو خروج، أو ذَهابٌ، أو أكلٌ. وكذلك ما أشبهه. وأما أنها أصلٌ في هذا الباب فلأن كلّ فعل فيه يصحّ تعويض «كان» منه، بخلاف سائر الأفعال، فإنها ليست كذلك -فتصرفوا في كان بالزيادةِ والحذف. وجملةُ ما تصرفوا به فيه: الزيادةُ -وهاهى ذى- والحذفُ جملة، وحذف لامها. وكلٌّ قد ذكره الناظم. وقد أتى في النادر زيادةُ غيرها من أفعالِ هذا البابِ، وذلك: أصبح وأمسى، في قولهم: ما أصبح أَبْرَدَها! وما أمسى أدفأها! ثبت في الكتاب وليس من كلام سيبويه. وهو من الشاذّ، فلم يَعْبَأْ به. والثانية: أنه خصّ «كان» دون «يكون»، فدلّ ذلك على اختصاص الزيادة بها، وإلّا فكان يقول: وقد يزادُ فِعلُ الكون، أو ما يعطى هذا المعنى، وهذا صحيح. وسبب الاختصاص تعيينُ الزمان في «كان» دون المضارع. وشذّ زيادة المضارع كقول أم عقِيل بن أبي طالب، أنشده المؤلف:

أَنْتَ تَكُونَ مَاجِدٌ نَبِيلُ إِذَا تَهُبُّ شَمْأَلٌ بَليِلُ والثالثة: أنه خصّ كان بالزيادة فدلّ على أنها لا معمول لها، وإلّا فلو كان لها معمولٌ لم يكن الزائدٌ كان وحدها، بل الجملةَ كلّها. وهذا رأىُ جماعة، وإليه ذهب ابن السراج والشلوبين. وَوُجِّه في الشرقيّة هذا المعنى، وأن كان الزائدة لا تعمل شيئًا. ذكر ذلك في التعجب، ووجه ذلك أن فائدة الزيادة إنما هى الدلالة على الزمان، وذلك حاصل مع الاقتصار على الفعل، فلو لزمت زيادة مرفوعٍ لكان ذك لغير فائدة زائدة، مع أن السماع موافق لذلك. فإن قيل: يلزمُ من ذلك تجرّدُ فِعْلٍ عن مرفوع، وذلك غير موجود/؛ وبأن ذلك قد جاء سماعًا، وأنشد الزجاجىُّ وغيره: فَكَيْفَ إِذَا مَرَرْتُ بِدارِ قَوْمٍ وَجِيَرانٍ لَنَا كَانُوا كَرِامِ وبهذين يحتج من يزعُم أن فيها ضميرا، كالسيرافيّ وابن خروفٍ، وطائفة. فالجواب عن الأول أن كان المحكومً يزيادَتِها تُشبه الحرف الزائد،

فلا مبالاة بخلوها من الإسناد، كما أن «قَلّ» في: قلّما يقوم زيد، لما أشبهت ما النافية عَرِيَتْ عن الإسناد فلم تفتقر إليه، وكالفصل لما قُصِد به قَصْدَ الحروف لم يكن له موضع من الإعراب، وكان عاريًا من الإسناد إليه أو إسناده. وأيضًا فإنها قد زيدت بين الجارّ والمجرور، فلو نُوِى معها فاعلٌ لزم الفصلُ بين الجارّ والمجرور بجُملةٍ، وذلك معدومُ النظير، وإذا نُوِى الفصلُ بها وحدها كان فصلًا بكلمة واحدة، ولذلك نظائر، وما له نظير أولى بالالتزام مما لا نظير له. وأما قوله: «كَانُوا كِرامِ». فإنه نادرٌ، وأيضًا فقد تأوّله الناس على أحد وجهين: إِما على أَنّ كان ناقصة، والخبر: لنا. وهو رأىُ المبرد. وإِما على أنّ أَصل الضميرب توكيد للضمير في «لنا»، والتقدير: وجيران لنا هم كرام، فلما زِيدَتْ كان كرهوا كون التوكيد بعدها بصورة الضمير المنفصل من غير داعية، فوصلُوه بها إصلاحًا للفظ. وقد احتُّجوا بظننتُ وأخواتها فإنها زِيدتً مع فاعلها باتفاقٍ ولم يكن محذورًا. فكذلك هنا. وللناظم أن يجيب بأنهم قالوه حيث تعيّن، إذ لا بدّ من القول به، ولم يتعيّن ذلك هنا، فلا ينبغي أن يقال به مع إمكان العدول عنه، فالقياسُ على باب ظننت غيرُ ناهضٍ مع وجود الفارق. والرابعة: أَنّه عيّن للزيادة موضعًا واحدًا، وهو الحشوُ، فقال: وَقَدْ تُزَادُ في حَشْوْ، وَحَشُو الكلام: أثناؤُه ووسطُه، فهذا عنده من شرط الزيادة، فإذًا لا تزاد في أول الكلام ولا في آخره. أما أوله فإنه محل الاعتماد، وتقديمُ الشىّءِ

دليلٌ على الاعتناءِ به، وكان ملغاةة في الحكم فلا يصحُّ التقديمُ مع الزيادة، كما لم يصحّ إلغاء ظَنّ وأخواتها مع التقديم. قال الفارسى في التذكرة: حكم ما تُلغيه أن توسطه ولا تبتدئُ به قياسًا على «هو» [الفصل]، ولا تبتدئ به، لأن الملغَى غير معتدٍّ به، وإذا كان غير معتدٍّ به، وكان القصدُ في باب الإفادة غيره، قبح أن تؤخر ما الاهتمام به أكثر، وتقدم ما الاهتمام به أقلُّ. وقد خالف ابنُ الطّراوة في هذا، فأجاز إلغاء كان متقدمة. وهو غيرُ صحيح لما تقدّم ولأن السماعَ به معدومٌ. وأما آخر الكلام فإنه معدومُ الاستعمال أيضا، ولأن الزيادةَ على خلافِ الأصل، فلا تستباحُ في غير مواضعها المعتادة. وقد خالف بعضُهم في هذا -ومنهم الشلوبين- فأجازُوا وقوع كان آخرًا قياسًا على الإلغاءِ في باب ظننت. ولا قياسَ مع مخالفة السماع؛ إذ لولا السماعُ لما قيل بالزيادة، فكيف نُلحِقُ ما لم يُسْمَعْ منها بما سُمِع. والخامسة: أنه أشار إلى قلّة وجود الزيادة فيها لكن لما لا ينافي القياس؛ إذ قال: «وَقَدْ تُزَادُ». وهذه العبارة (يطلقها) مريدًا بها القياسَ على قلّةٍ وضعفٍ، كما قال في الضمائر: وَقَد يُبِيِحُ الْغَيبُ فِيهِ وَصْلًا

مع اختلافٍ مّا/. وقال في الابتداء: ... ... وَقَدْ يَجُوزُ نَحُو فَائِزٌ أو لُو الرّشَدْ ومواضع كثيرةٌ من هذا النوع. ثم مَثّل بباب التعجب، وذلك قوله: «مَا كَانَ أَصَحّ عِلْم من تَقَدّم، إلا أن فعل التعجب مسلوب الدلالة على المعنىّ، فأتى بما يدلّ على ذلك. وبابُ التعجب أكثرُ ما تزاد فيها كان، وما سواه دونه، فلذلك مثّل به. وقد شذّت زيادتُها بين الجار والمجرور. ولم يَعْنِهِ الناظم، وذلك في قول الشاعر: سَرَاةُ بَنِى أَبِى بكُرْ تَسَامَوا عَلَى كَانَ المُسَوّمةِ العِرَابِ وقد نبّه بمثاله على مراده من مواضع الزيادة، وجملة المواضع التى تزاد فيها موضعها، وهى المسألة السادسة: أحدهما: بين مسند ومسند إليه، نحو قولك: زيدٌ كان قائمٌ، وهذا كان صاحبُك. وقد حُمِل على ذلك كان في قول الله تعالى: {قَالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في المَهْدِ صَبِيّا}. ومنه أيضًا باب التعجب، نحو: مَا كَانَ أَحْسَنَ زَيْدًا. وقد ذكر المؤلف من هذا قول العرب: «لم يُوجَدْ كانَ مِثْلُهُمْ».

والثاني: بين صفة وموصوف، نحو مررتُ برجلٍ كان فاضلٍ. ومنه قوله: فَكَيفَ إِذَا مَرَرْتُ بِدَارِ قَوْمٍ وَجِيرانٍ لَنَا كَانُوا كرِامِ ثم ذكر حَذْفها فقال: وَيَحْذِفُونَهَا وَيُبْقُونَ الْخَبَرْ وَبَعْدَ إِنْ وَلَوْ كَثِيرًا ذَا اشْتَهَر وَبَعْدَ أَنْ تَعِوْيضُ مَا عَنْهَا ارْتُكِبْ كَمِثْلِ: أَمّا أَنْتَ بَرًا فاقْتَرِبْ قوله: «وَيَحْذِفُونَها»: جملة معطوفة على ما بعد «قد» في قوله: «وَقَدْ تُزَادُ كَانَ». فتدخل معها تحت التقليل بقد؛ فإن حَذْفَها أيضًا قليل، لكنه قياسٌ. ولا يناقضُ إخبارهُ بالتقليل قوله: «وَبَعْدَ إِنْ وَلَو كَثِيرًا اذَا اشْتَهَرْ»، لصحّةِ الجمع بينهما، فيكون المعنى: إن ذلك الحذف القليل اشتهر في هذين الموضعين. ويحتمل أن تكون الجملة معطوفةً على الأخرى من غير إدخالٍ لها في حكم التقليل، فيكون المعنى: إِنّ العرب تفعلُ هذا بكان، ولا إشكال على هذا في كون الحذف قياسًا. لكنه قسّم الحذف قسمين: أحدهما: جائز غير لازم، والآخر لازم البتّةَ. فأما الحذف الجائز فهو الذى أخبر به أولًا في قوله: «وَيَحْذِفُونَها وَيُبْقُونَ الخَبَرْ»، يعنى أنّ العرب من شأنهم أن يحذفوا كان مع اسمها لا وحدها، ويبقون الخبر دَالًا عليها، كقولك: المرءُ مَجْزيُّ، إنْ خًيرًا فخيرٌ، وَإنْ شرًا فَشرٌ. والمرأ مقتولٌ بما قَتَل به، إِنْ سَيفًا فَسَيفٌ، وإِنْ خِنْجَرًا فَخِنْجرٌ». تقديره: إِنْ

كان عملُه خيرًا فجزاؤُه خيرٌ، وإن كان شرًا فجزاؤُه شَرٌّ. وكذلك: إِنْ كان ما قتَل به سيفًا فالمقتولُ به سيفٌ، وإِنْ كان خِنجرًا فهو خِنْجَرٌ. قال سيبويه: «وإن شئت أظهرت الفَعْلَ -يعنى كان- فقلت: إِنْ كان خنجرًا، وإِنْ كان شرًا فشرُّ». ومثل ذلك: مررت برجل إن لا صالحًا فطالح. ومررت برجل إِنْ زيدًا وإِنْ عَمْرًا. ومن ذلك قولُ النابغة، أنشده سيبويه: حَدِبَتْ عَلَىّ بُطُونُ ضِنّة كُلُّها إِنْ ظَالِمًا فِيهمْ وَإِنْ مَظْلُوما أىْ: إن كنتُ ظالمًا وإن كنت مظلوما. وأنشد أيضًا لليلى الأخيليّة: لا تَقْرَبَنّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ إِنْ ظَالِمًا أَبَدًا وَإِنْ مَظْلُومَا وأنشد قولَ ابن همّام: وَأَحْضَرْتُ عُذْرِى، عَلَيْهِ الشُّهو دُ، إِنْ عَاذِرًا لِى وإِنْ تَارِكَا

/ وَقَوْلَ النعمان بن المنذر: قَدْ قيل ذَلِكَ، إِنْ حَقًا وَإِنْ كَذِبًا فَمَا اعْتِذَارُكَ مِنْ قَوْلٍ إِذَا قيْلا وقولُه: «وَبَعْدَ إِنْ وَلَوْ كثيرًا ذا اشتهَرْ»، ذا: إشارة إلى الحذف المفهوم من قوله: «وَيَحْذِفُونَها». يريد أنّ كثرة هذا الحذفِ إِنّما جاءت بعد إِنْ المكسوة الخفيفة -وهى الشرطية- ولو الشرطية أيضا. فأما بعد إِنْ فقد تقدم تمثيله، وأما بعد لو فنحو قولك: ألَا طعامَ ولو تمرا؟ قال سيبويه: «كأنّك قُلْتَ: ولو كان تمرًا». وَأْتِنِى بِدَابّةٍ ولو حَمَارًا، وادفع الشرّ ولو إِصْبَعًا، وَأْتِنِى بِمَاءٍ ولو باردًا، وأَلَا ماءَ ولو باردا؟ وأنشد في شرح التسهيل: لَا يَأْمَنِ الدّهْرَ ذُو بَغْىٍ وَلَوْ مَلَكًا جُنُودُه ضَاق عَنْهَا السّهْلُ وَالجَبَلُ وقول الآخر: عَلِمْتُكَ مَنّانًا فَلَسْتُ بآمِلٍ نَذَاكَ، وَلَوْ غَرْثَانَ ظَمْآنَ عَاريَا

ووجهُ كثرةِ إضمار كان بعد هذين الحرفين أنهما من الأدواتِ الطالبة للفعل، لأنهما شرطان فلا بُدّ لهما من إضمار الفعل؛ ففي النصب كان الناقصة، وهو الذى تَكَلّم عليه الناظمُ، لأنه قال: «وَيُبْقُونَ الخَبَرْ»، وذاتُ الخبرِ هى الناقصةُ. وفي الرفع ما يصلح من كان التامّة أو غيرها، إذا قلت: إِنْ صالحٌ فَصَالِحٌ، ولو باردٌ. وهذا لم يتكلم عليه. وتحرز بقوله: «وَبَعْدَ إِنْ كَثيرًا ذَا اشْتَهَرْ»، مما جاء منها محذوفًا بعد غيرهما، فإنه لم يشتهر بل وقع نادرا، وذلك بعد لَدُنْ فيما أنشد سيبويه من قوله: مِنْ لَدُ شَوْلًا فَإلى إِتْلائِها نصب «شولًا» على إضمار كان، تقديره: من لَدُ كانت شولًا؛ فإن لدن تضاف إلى الجملة، ولا يجوز أن تضاف إلى مفرد ليس بزمان ولا مكان إذا اقترنت بها «إلى»، تقول: جلستُ من لدُ صلاةِ العصر إلى وقت المغرب، وذرعت من لدُ مقعدِك إلى الأسطوانة. والشولُ: جمع الناقة الشائلة، فلا زمان ثَمّ ولا مكان، فلا بدّ من تقديره، أو تقدير ما يعطى معناه؛ إذ لا يقال: من لد زيد إلى دخول الدار. والذى يصح تقديره بينهما كان. وقدره سيبويه: من لدُ أَنْ كانت شولًا. وهو تقديرٌ معنوىٌّ لا إعرابىٌّ؛ لأن شولًا يصير على ذلك

التقدير من صلة أَنْ، والموصولُ لا يُحذَف ويبقى بعض الصلة نَصّ عليه سيبويه في باب الاستثناء في قوله: ... إِلّا الفَرْقَدَانِ وإنما التقدير: من لدُ كانت، أى: من لَدُ كونها شولًا؛ لأن الجملة تقدّر بالمصدر إذا أضيف إليها الظرفُ. هذا مأخذُ ابن خَرُوفٍ وابن الضائع وابن عصفور، وهو رأى الناظم. وظاهِرُ السيرافىّ وجماعة أنه تقدير إعرابي، لأنه قدرها بأَنْ كما قدرها سيبويه: «من لَدُ أن كانت شولًا»، أى: من لد كونها. قال: والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة نحو: مقدم الحاج، وخلافَةَ المقتدر، وصلاة العصر. وهذا رأى الشلوبين وابنِ أبي غالب. قال ابن مالك: وعندى أَنّ تقدير أَنْ مستغنى عنها، كما يستغنى عنها بعد مذ. وهنا نظر، وذلك أنه قال: «وَيَحْذِفُونها»، فأعاد الضمير على كان المتقدمة هى التى على صيغة الماضى، وأن المضارع

غير داخل في مراده، فكذلك يكون الحكم هنا مقيدًا بالماضى، لأنه على ذلك أحال، فاقتضى/ أن المضارع لا يدخل في هذا الحكم. لكنّ هذا الاقتضاء مشكلٌ؛ لأن المضارع أيضًا يقدّر هنا؛ ألا ترى أنّ ما كان فيه نفي لا يصحّ أن يقدّر فيه إلا المضارع، نحو: مررتُ برجلٍ إِلّا صالحًا فطالحٌ. وفي المثل: إِلّا حَظِيّةً فلا أليّةً، فالتقدير: إِلّا يكون صالحًا، وَإِلّا أكُنْ خطيّةً -ولا يستقيمُ تقدير الماضى، لأنك لو أظهرت الفعل على الوجه الآخر الجائز في المسأة لقلت: إلّا يكن صالحًا، وَإِلّا أكُنْ حظيّةً. ولا تقول: إِلّا كان صالحًا، وإلّا كنت حظيّةً. وكذلك ما أشبهه. ولا يقال: إن تقدير المضارع قليلٌ، بل هو كثير، بل نقول: إن الماضى هنا واقع مع إِنْ موقع المضارع، فجائزٌ لك تقديرُه ابتداءً وإن لم يكن ثَمّ نَفْىٌ. فقولك: إن خيرًا فخير، يصحُّ فيه تقدير: إن يكن خيرًا فخير، كما يجوزُ لك إظهاره، ولا نزاع في ذلك. ولا جواب لي عن ذلك إلا أن يكون لم يقصد تقييد كان المتقدمة بالمضىّ، فقوله: «وقد تزاد كان»، يريد به الفعلَ من الكون على الجملة، ثم عطف على ذلك حذفها من غير تعيين أيضًا. وهذا كما يقال: كان كذا وكذا، والمراد الفِعْلَ من الكون لا خصوصها ويبقى تعيين المزيد ما هو؟ والمحذوف ما هو؟ محالًا به على السماع؛ لأنه ساق المسألتين مساق السماع فقال: «وقد تُزَادُ كَانَ»، فالفاعل العرب، وقال: «وَيَحْذِفُونها» -يعنى العرب- فترك النظر في التعيين إلى الناظر، فهو الذى يأخذه من

السماع. وهذا جواب ضعيف لا يليق بابن مالك. وقد تَمّ القسم الذى تضمر فيه كان ويجوز إظهارُها. وأما القسم الذى يمتنع فيه إظهار كان فهو الذى قال فيه: «وَبَعْدَ أَنْ تَعْوِيضُ مَا عَنْها ارتُكِبْ». يعنى أنهم حذفوا أيضا كان بعد أن المفتوحة وَعَوَّضوا منها ما، فصارت أَنْ أَمّا، وحكم المعوض أن لا يجمع مع المعوض منه. فيريد أَنّ كان مع ما لا يجوز إظهارها. وما قاله هو نصّ سيبويه، قال: «فإنما هى أَنْ ضُمّتْ إليها ما، وهى ما التوكيد». قال: «ولزمت كراهية أَن يُجْحِفُوا بها، ولتكون عوضًا من ذَهاب الفعل، كما كانت الهاء والألف في الزّنادقة واليماني عوضًا من الياء». يعنى الياء في زناديق، وياء النسب في يَمَنى، فالياء لا تظهر مع الهاء في زنادقة، ولا مع الألف في يمانِ، فكذلك الفعل مع وجود ما، فإذا لم تأت بما ظهر الفعل فتقول: لأَن كنت منطلقا انطلقت معك. وهذا مذهب الجمهور. وذهب المبرد إلى جواز إظهار الفعل مع ما، وكأنه جعل ما زائدةً كزيادتها في نحو: {فَبِما نَقْضِهِمْ}، قالوا: ولا دليل له على ما زعم، لأنّها -وإن كانت زائدةً- قد لزمت عَوِضًا ولم تستعمل إلا على ذلك، فلا سبيل إى تسويغ ما لم تسوّغه العرب. وإنما حَسُنِ حذف الفعل/ هنا لأن أَنْ هذه لا يقع بعدها الاسمُ

مبتدًأ، فكَانَ بمنزلة فعلٍ محذوفٍ لحضور ما يدلُّ عليه. [وَمَثّل ذلك بقوله: (أَمّا أَنْتَ بَرّا فَاقْترِبْ) فالتقدير: لأَن كُنتَ بَرّا اقترب، أى: لأجل هذا المعنى الذي كان منك في الماضي أطلب منك القرب مني. فأَنْ على أصلها من المصدرية، وإذا وَلِى أَنْ الماضي فهو ماضٍ ليس إلا. وقد شَبّهها سيبويه بِإذ لاشتراكهما في المعنى. ودخلت الفاء في قوله: فاقْترِب، لأن الثاني مستَحقٌّ بالأول، فهو مسبب عنه، والأول سبب فيه، فأشبه الشرط والجزاء. ومثل ذلك: أما أنت منطلقا انلطقتُ معك، وأما زيدٌ ذاهبًا ذهبتُ معه. وأنشد سيبويه لعباس بن مرداس: أَبَا خُرَاشَةَ، أَمّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ فَإنّ قَوْمِىَ لَمْ تَأْكُلْهُمُ الضّبُعُ أى: لأجل أن كنت ذا نفر. فالمعنى في الجميع على المعنى، وهو تفسير البصريين. وذهب الكوفيون إلى أَنّ أنْ هنا جزائية، بمعنى إِنْ، ولذلك دخلت الفاء، والمعنى: إن كنت منطلقا انطلقت معك، وعليه قراءة غير حمزة: {أَنْ تَضِلّ إِحْدَاهُما فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}. وقرأ حمزة: {إِنْ تَضِلّ إِحْدَاهُما

فَتُذَكِّرُ}. والمعنى عندهم في القراءتين سواء. وليس للناظم هنا إشارةٌ إلى هذا الخلافِ، ولا تَعَرُّضُ لمعنى المسألة، لكن قد يُعلم أن مذهبه مذهب البصريين من باب الجزاء، حيث لم يعدّ أَنْ من أدوات الجزاء. والترجيح بين المذهبين لا يليق بهذا الموضع، ويكفي من ذلك عدم (ثبوت) كون أَنِ المفتوحة تقع بمعنى إِنِ المكسورة. ثم اعلم أنّ الناظم هنا لم يُحَرِّر عبارته في المحذوف ما هو؟ فإنه قد ذكر أنّ المحذوفَ مع إِنْ ولو كان واسمُها، لا كان وحدها، ثم عقّب ذلك بأنّ ما تأتى عوضًا من كان مع أَنْ، ولم يشعر بأنّ الاسم ثابت، فيُوهم أنه يُحْذَفُ أَيضًا معها. وذلك غير صحيح، بل «أنت» في قوله: «أَمّا أَنْتَ بَرّا» وهو اسمُ كان، وبَرّا وخبرها. وعلى هذا يجرى حكم سائر المُثُل، وإذا كان كذلك ثبت أن عبارته مُوهِمة. وقد يُعتَذَرُ عنه بأنه لما ذكر هنا التّعويض مخصوصًا بكان وحدها، وذلك قوله: «وَبَعْدَ أَنْ تَعوِيضُ ما عَنْها ارتُكِبْ»، فضمير عنها عائدٌ إلى كان وحدها -أشعر بأن المحذوف كان وحدها، إذ لا يحذف شيئان فيعوضَ من أحدهما دون الآخر. ولم نَجِدْ ذلك مقولًا ولا منبّهًا عليه هنا إلا في كان دون اسمها، وإذا كان كذلك لم يبق إلا أن يعتقد اختصاصُ كان بالحذف دون اسمها وخبرها. والله أعلم. والبَرُّ: ضد الفاجر؛ يقال: رجلٌ بَرٌّ وبارٌّ. وقد تقدّم. والاقتراب والقرب، بمعنًى.

(ثم قال): وَمِنْ مُضارِعٍ لكَانَ مُنْجَزِمْ تُحْذَفُ نُونٌ وَهْو حَذْفٌ مَا اُلْتُزِمْ من مضارع: متعلق بتُحَذفُ. ولكان: في موضع الصفة لمضارع. ومنجزم: مجرور أيضا صفة لمضارع. يعنى أَنّ يكونُ -مضارع كان- إِذا كان منجزمًا حُذِفَت نونُه، فتقول في لم يكنْ: لم يَكُ. وفي لا تكنْ/: لا تَكُ. ومنه في القرآن: {وَلَاتَكُ في ضَيْقِ ممّا يَمْكُرُونَ}، {قَالُوا: لَمْ تَكُ مِنَ المُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطُعِمُ المِسْكينَ}، {وَلَمْ يَكُ مِن المُشْرِكين}، {إِنّها إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ}. وهو كثير. وهذا الحذف جائزٌ لا لازم، فلذلك قيّده بقوله: «وَهْوَ حَذْفٌ ما التُزِم»، أى: إن هذا الحذف جائزٌ إِنْ شئتَ حذفت، وإن شئتَ أتيتَ بالفعل على أصله فقلت: لم يكن، ولَا تكُنْ، وإن يَكُنْ كذا يكُنْ كذا. ووجهُ هذا الحذف أنها لما كثر استعمالهُم لها؛ إذ هى أصلٌ لكلّ فعل وحدث، وجرت في كلامهم، وكانت النون تشبه حرف اللين إذا كانت ساكنة، لأنها غُنّة في الخيشوم، عاملوها معاملة حرف اللين، فحذفوها مع الجازم تشبيها لها به. فالعلّة أمران: كثيرةُ الاستعمال، والتشبيه بحرف

اللين؛ ولذلك لم تحذف نون: لم يَضُن، ولم يَهُنْ، ولم يَبِينْ؛ لأنها لم يكثر استعمالها كثرة استعمال لم يكن. وكأن المؤلف لم يعتمد إلا على كثرة الاستعمال، فبنى عليه التعليل بالاستثقال ولم يراع الشبه بحرف اللين لأجر السماع في زعمه. وأطلق القول في حذف هذه النون، ولم يقيّد ذلك بشئ، فدلّ على أن الحذف عنده مطلقٌ، كان بعدها ساكن أولا، فكما تقول: لم يك زيد قائما، كذلك تقول: لم يكُ الرجل قائما. وهذا مذهب يونس، وبموافقته صرّح في التسهيل وشرحه. وأما سيبويه فاستثنى من ذلك ما إذا لقي النونَ ساكنٌ فَثبتُ عنده النُون فيه فتقول: لم يكنِ الرجلُ قائما. ولا يجيز الحذفَ، لأن الوجهَ الذى لأجله جازَ الحذفُ عنده لم يتم؛ إلا ترى أنّ السكون قد زال من النونِ لأجل الساكن، فضعُف شبهُ النون بحرف اللين، حيث قَويت النونُ بالحركة، فلم يَجُزِ حذفها. واحتج ابن مالك لما ذهب إليه بأن النونَ لم ُيحذف لما ذكر من شبهها بحرف اللين على الإطلاق؛ بل لأجل التخفيف، وثِقلُ اللفظ بثبوتها قبل ساكن أشدُّ من ثقله بثبوتها دون ذلك، فالحذف حينئذ أولى. ولا يقال: إن السماع مع سيبويه؛ ألا ترى كيف جاءت النونُ فيه محذوفةً دون الساكن، وثابتةً البتةَ مع لقائه، فجاء: {وَلَاتَكُ في ضَيقٍ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسْكينَ}. وجاء {لَمْ يَكُنِ اللهُ ليَغْفِرَ لَهُمْ}، {لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفُروا}، ولم يأت فيه الحدفُ مع الساكن أصلًا، فدلّ

على أنّ ذلك لقوة النونَ بالحركةِ وضَعْفِ شبهها بحرف اللين -لأنّا نقول: الثبوت دون ساكن ومع ساكن أكثر من الحذف على الجملة، فلدلك جاء القرآنُ بالثبوت مع الساكن. وقد استعملت العربُ الحذف معه كثيرًا، ثم أنشد ما أنشده أبوَ زْيدٍ لحُسَيلِ بن عُرْفُطَةَ، وقال أبو حاتم: حُسَينُ بن عُرْفُطَة: لم يكُ الحقُّ على أن هَاجَهُ رسمُ دارٍ قد تَعَفّى بالشِّررْ وقال الخِنْجَرُ بن صَخر الأسدى: فَإن لا تكُ المرآةُ أبدت وسامةً فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم وأنشد/ أيضًا بيتا آخر صدره: إذا لم تكُ الحاجاتُ من هِمّة الفتى

قال: ولا ضرورة في هذه الأبيات لإمكان أن يقال في الأول: «لم يكن حقٌّ سوى أن هاجه». وفي الثاني: «فإن تكن المرآة أخفت وَسَامَةً». وفي الثالث: «إذا لم يكن من همة المرء ما نوى». هذا ما احتج به. أما التعليل بالستثقال فكان ينهض لو ساعده السماع، وأمّا ما أتى به من الشواهد فالاحتجاج بها مبنى على أن من شرط الحكم بالضرورة أنها ضرورة أَنْ لا يمكن في الموضع خلافها. وهى قاعدة واهية وقد تقدّم ما فيها. (ثم قال):

«ما» و «لا» و «إن» المشبهات بليس

«مَا» و «لَا» و «إِنْ» المشَبَّهاتُ بِليسَ هذا هو النوع الثاني من نواسخ الابتداءِ، وهو ما عمل في المبتدأ والخبر عمل ليس بالشبه (بها)، وذلك ثلاثة أخرى من حروف النفي [هى]: ما ولا وإنٍ. ونبّه في الترجمة على علّة عملها، وهو الشّبَه بِليس، إشارةٌ إلى أن عملها ليس بحق الأصالة لفِقْدان شرطه، وذلك أنه ثبت في الأصول أن الطلبَ الاختصاصِىّ أصل العمل، فكلُّ شئٍ طلب شيئًا طلبًا غير اختصاصىّ، فلا عمل له فيه، كحروف الاستفهام، لأنها يقع بعدها الاسم والفعل فلا تختص بأحدهما دون الآخر. فإن طَلَبه طلبا اختصاصيًا فحينئذٍ يصح له العمل فيه، لكن بشروط معتبرة لا بدّ منها. وهذه الحروف قد فُقِد منها أصل العملِ، وهو الطلب الاختصاصي؛ إذ كانت تدخلُ على الاسم والفعل، فتقول: ما قام زيد، ولا يقومُ زيدٌ، وإِنْ يقومُ زيدٌ؛ وفي القرآن: {إِنْ يقولُونَ إِلّا كَذِبًا}، وكذلك تقولُ: ما زيد قائم ولا زيد قائم ولا عمرو، وإن زيدٌ إلا قائم، وفي القرآن: {إِنْ أَنْتُمْ إِلّا تَكْذِبُونَ}، {إِنْ أَنْتُمْ إِلّا فِي ضَلَالٍ مُبِيِنٍ}؛ فكان الأصل أَن لا تعملَ كما لم تعملْ حروفُ الاستفهام ولامُ الابتداء وحروفُ العطف، وما أشبه ذلك. فأما بنو

تميم من العرب فَراعَوا هذا الأصلَ فلم يُعملوا هذه الحروفَ، فيقولون: ما زيدٌ قائم، وإن زيدٌ قائم، ولا رجلٌ قائم وما أشبه ذلك؛ قال سيبويه: «وهو القياس». وأما أهل الحجاز فأعملوا ما -وإن كنت غير مختصّة- مراعاةً للشبه بما هو مختصّ، وذلك ليس، ما أشبهَها من ثلاثة أوجه: أحدهما: إن كلّ واحدة منهما أداةُ نفي. والثاني: أن النفي بهما محمول على الحال ما لم يقترن بالكلام ما يخرجهما عن ذلك؛ فإذا قلت: ما زيدٌ قائما، أو ليس زيدٌ قائمًا -فهما محمولان على النفي في الحال حتى تقول: أمسِ، أو غدًا، أو نحو ذلك. والثالث: دخولُهما على المبتدأ والخبر. فلما حَصَل لما الشبهُ المذكورُ أَثّر الإعمال؛ فإن للشبه تأثيرًا؛ ألا ترى أن الاسم يُمتنع الجرّ والتنوينَ لشبهه بالفعل الذى لا يدخله جَرٌّ ولا تنوين. وَيَعْمَل عَمَل الفعل لشبهه به، ويُبْنى كما يبنى الحرف، ولا أصلَ للاسم في شئٍ من ذلك. فكذلك عملت ما حملًا على ليس للشبه المذكور، ثم أُلْحِق بما: لا، وَإِنْ، لوجود الشبه بينهما وبين ليس في كونها أدواتٍ للنفي/، لكن لما لم يتمكّن الشبه فيهما تَمكّنا تامًا. كان إعمالهما قليلًا؛ ألا ترى أن «لا» لا تنفى الحال عند سيبويه والجمهور، وكذلك إِنْ عند الفارسىّ في التذكرة -وإن كان فيه نظر فقد قيل ذلك- والّا ظهر أَنّ إِنْ كما، لأنها تقع موقعها، كقوله الله تعالى: {إِنْ يَقُولُون إِلّا كَذِبًا}، {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا إِنَاثًا}. وما أشبه ذلك. وقد زعم المؤلف أَنّ لا تنفي

الحال، واستشهد بآياتٍ، كقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ؟ }، {وَمَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا؟ }. وذلك كثير. فعلى هذا تُلْحَق لا وإِنْ بما في الشبه المذكور على مذهب ابن مالك. وأوسعُ هذه الحروف عملًا ما، فلذلك قَدّمَ الكلام فيها، ولأنّ ما يشترطُ في ما يُشتَرَط في غيرها وتزيد الأخُرُ شروطا، فكأنّ ما هى أُمُّ هذا الباب، فذكرها أولا فقال: إِعْمالَ لَيْسَ أُعْمِلَتْ مَا دُونَ إِنْ مَعَ بَقَا النّفْى وَتَرتِيبٍ زُكِنْ إعمالَ: منصوب على المصدرية بأُملت، وهو مصدرٌ مُشبّه به، كأنه قال: أُعمِلت ما إعمالًا مثل إعمال ليس. وهذا في لُغةِ الحجازيّين كما تقدّم، وظاهر كلام الناظم أن الإعمال فيها لجميع العرب لقوله: «أعَمِلتْ ما»، فكانّ من حقّه تبيينُ أَنّ ذلك لغة قوم، أو أنّ ذلك على الجواز لا على اللزوم؛ فإنّه المستقر من جَمْعِ اللغتين. لكنه لم يفعل ذلك، فصارت عبارته موهمة لشئ لا يصحّ. وقد يعتذر عنه بأن هذه اللغة لما كانت هى التى نزل بها القرآن فهى أشهر -وإن كانت الأخرى أقيس- اقتصر على ذكرها، ولم ينبّه على سواها. والحقّ أنه ترك التحرّز من الإيهام. ولما كان قد تقدّم أن ليس تعملُ الرفع والنصب، فترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأحال عليها بعمَل ما، كان كالتصريح بأنّ ما ترفع المبتدأ اسمًا لها،

وتنصب الخبر خبرًا لها. وهذا مذهب أهل البصرة. وذهب الكوفيون إلى أنها إنما تعمل في المبتدأ خاصّةً الرفع، وأما نصب الخبر فعلى إسقاط الخافض. والأصحُّ ما ذَهَبَ إليه الناظم والبصريون، لأن الشبه الحاصل بين ما وليس إذا كان متَمكِّنا فلا مانع من إعطائه حقّه من الإعمال، كما أنّ كان وأخواتِها لما أشبهت الفعل المتعدّىّ أُعطِيت عمله كلّه بحقِّ ذلك الشبه. وكذلك اسم الفاعل لم يُنْتَقص من عَمَلِ فعله الذى أشبهه شيئًا، بل عَمَلَه تاما، إعمالًا للشبه الحاصل بينهما. فإن قيل: فالقاعدة أن المشَبّه لا يقوى قوة ما شُبّه به، فلو أعطى العمَل تامًا لم يكن بين الأصل المشبّه به، والفرع المشبّه، فرقٌ. لكنهم يُفرِّقون بينهما، فيكون للأصل من القوة في العمل ما لا يكون للفرع، فأين ذلك هنا؟ فالجواب: أن تفاوت ما بينهما ظاهر؛ ألا ترى أن «ما» لا تعمل إلا بشروط ثلاثة، بخلاف ليس، فإنها تعمل دون شرط منها، فالأصل أقوى تصرّفًا من الفرع إذًا. وأيضًا لو كان عَمَلُ «ما» الرفع خاصة لم يتقرّر للشّبه تأثير، ولا كان عليه دليل؛ إذ ليست دعوى أن الشبه إنّما أَثّر في عمل الرفع خاصّة بأولى من دعوى أن «ما» لم تعمل البتة، أو عملت الرفع لا لأجل الشبه؛ إذ لا مناسبة في ذلك، وإذ ذاك يلزم خلاف الإجماع. فإن قيل: الدليلُ على أن النّصب على إسقاط الجارّ أَنّ مِنْ شأنه أن يُوجِب النصبَ كالظروف والمجرورات، فإن أصل قولك: قعد زيدٌ أمامك: قعد في أمامِك. وتقول: مررتُ بزيد، فإن حذفت الجارّ نصبت. ومن ذلك كثير، فكذلك هذا. وأيضا مما يدل على ذلك هنا أَنّ النصب لا يكون إِلّا حيثُ يصحّ دخولُ

الباء، فتقول: ما زيد قائمًا، لجواز ما زيد بقائم، ولا يجوزك ما قائما زيد، ولا ما زيدٌ إلا قائما؛ إذ لا يجوز: ما بقائمٍ زيد، وما زيد إلا بقائم. فالجواب: أن إسقاط الجارّ ليس من شأنه ذلك، بدليل وجود الرفع عند إسقاطه، كقولك: بحسبك زيدٌ، وحسبُك زيد، وما في الدار من رجلٍ، وما في الدار رجلٌ. وكثير من ذلك؛ فإنما النصب والرفع عند إسقاطه لمقتضٍ آخر لا لنفس الإسقاط. وهذا الموضع لو لم تكن «ما» فيه عاملة في الخبر، لكان النصبُ لغير مقتضٍ، وهذا لا نظير له. وبعضُ هذا المعنى للفارسى في التذكرة، وبعضه لابن الأنباري. وأمّا كونُ النصب حيث تدخل الباء، وعدمه حيث لا تدخلُ، فمنتقَضٌ بما التى دخلت إِنْ؛ فإنك تقول: ما إن زيد بقائم، ولا مانعَ من هذا، ولا تقول: ما إن زيدٌ قائمًا، فلا حُجُةً فيما زعموا. وأيضا فإن النصب مختصٌّ بلغة أهل الحجاز كما تقدم، والباءُ في الخبر لا تختصّ بهم دون بني تميم، فلو كان إسقاط الخافض يوجب النصب لكان موجودًا في اللغتين، لكن ذلك باطل بالإجماع، فبطل ما أدّى إليه. وسيأتى ذكرُ دخولِ الباء في الخبر، إِن شاء الله. ثم أخذ في ذكر شروط إعمالِ ما عَمَل بقوله: «دُونَ إِنْ مَعَ بَقَا النّفْي» .. إلى آخره، فاشترط ثلاثة شروط: أحدها: أن لا يكون معها إِنْ، وذلك قوله: «دُونَ إِنْ». وهو ظرف متعلق بأُعْمِلَتْ أى: أُعْمِلت ما إذا كانت منفردة عن «إِنْ»، فلو كان معها إِنْ لم تعمل،

نحو ما أنشدوا من قول الشاعر: فَمَا إِنْ طِبُّنا جُبْنٌ، وَلَكِنْ مَنَايَانَا وَدَوْلةُ آخَرِينَا وقول الآخر، أنشده ابن السِّكِّيت: بَني غُدَانَةَ مَا إِن أَنْتُمُ ذَهَبٌ وَلَا صَرِيفٌ، ولكنْ أَنْتَمُ خَزَف ولا أتقلّد أن قائلي البيتين من عرب الحجاز. على أنّ بعضهم قد استشهد بالأول على المسألة، وإنما بطل العمل لأنّ «إنْ» كافةٌ لها عن العمل، كما وقعت «ما» كافة نحو: إنما زيدٌ قائمٌ. ولا يصح أن يقال: إِنّها نافية، إذ لو كانت كذلك لكان الكلام بها إيجابا، لأن نفي النفي إيجاب. ووجّه المؤلفُ بطلان العمل معها بأن دخولها أبطل شبه «ما» بليس، لأن ليس لا تدخل معها إِنْ، فإذا دخلت مع ما نَقَصَ الشبهُ، لتبايُنِهما في الاستعمال، كاسم الفاعل إذا كانت بمعنى الماضى لا يعمل لنَقْضِ شبهه بالمضارع. وهذا ظاهر. والشرطُ الثاني: أن يكون النفيُ باقيا لم يُصْرَفْ إلى الإيجاب، وذلك قوله: «مَعَ النفى، يريد: بقاءه على الخبر الذى هو تمٌّ فائدة الكلام، فلو بطل

النفي لبطل العمل؛ فإذا قلت: ما زيد إلا قائم، رفعتَ لأنّ «ما» إنما اشبهت ليس في حصول النفي بها، فإذا زال النفي زال أصل الشبه، فرجعت ما إلى أصلها من عدم العمل. هذا معنى تعليل سيبويه، ومنه في القرآن: {وَمَا مُحمدٌ إِلا رَسُولٌ}، {وما أَنتُمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}. قال المؤلف: ورُوى عن يونس -من غير طريق سيبويه- إعمالُ ما في الموجب بإلّا، واستشَهَد على ذلك بعض النحويّين بقول الشاعر. وَمَا الدّهرُ إِلّا مَنْجَنُونًا بِأَهْلِهِ وَمَا صَاحِبْ الحَاجَاتِ إِلّا مُعَذّبَا وهذا شاذّ يحفظ ولا يقاس عليه. وخالف بعضُ الكوفيين هذا الشرط في مسألةٍ، فأجاز: ما ما زيدٌ قائما، بإدخال ما على ما. قال الفارسىّ: وهذا ينبغي أن لا يجوزَ، لأن النفي قد انتقض وهو أعظم السببين -يعنى في إعمالها- قال: وكما لا يجوز ذلك مع إِلّا كذلك لا يجوز في ما. فإن قال: أَدْخَلْتُ الأولى على كلام قد عمل بعضُه في بعض، فلم أُغَيّر. قيل له: فإنك أيضا قد أَدْخَلْتَ إلّا على ذلك، فأجره مُجرى ليس، فكما لا يجوز

هذا في إلّا لنقص النفي كذلك لا يجوز في ما إِذا أُدخلت على ما. انتهى ويلزمُ على قول من قال: إِنّ إِنْ في نحو: ما إن زيدٌ قائمٌ، للنفي، أن يكون إبطالُ العمل لإبطال النفي، لأن نفي النفي إيجاب. ولكنه لا يقول ذلك، بل هما معًا أداتان تنفيان ما بعدهما. وإنما هو إلزام لهم. والشرط الثالث: بقاءُ الترتيب الأصلىّ المعلوم، وذلك قوله: «وَتَرتْبٍ زُكِنْ». وهو جرٌّ بالعطف على نَفْي، كأنه قال: مع بقاءِ النفي ومع بقاء الترتيب تَحَرُّزًا من زواله، وذلك أن الترتيب المعلوم في ذلك تقديم اسم ما على خبرها، وخبرها على معموله، نحو: ما زيدٌ ضاربًا عمرًا. فإذا اختلّ هذا الترتيب بطل العمل، قولك: ما قائم زيدٌ، بتقديم الخبر على الاسم. وما جاء بخلاف ذلك فقليل. حكى الفارسىّ عن الجَرْمِىِّ أن ناسًا قد رَووا عن العرب نصب خبر ما مقدّمًا، نحو: ما منطلقًا زيدٌ. قال: وليس ذلك بكثير، والأجودُ الرفع. وأنشد سيبويه للفرزدق فَأَصبحُوا قَدد أعادَ الله نِعْمَتُهم إِذْ هُمْ قُرَيشٌ وَإِذْ ما مِثلَهُم بَشَرُ وقال سيبويه: «وهذا لا يكاد يعرف». واستدل الفارسىّ في التذكرة على جواز نَصْبِ الخبر مقدمًا، بدخول الباء عليه مقدمًا، في قول الشاعر:

أَمَا واللهِ عالِمِ كُلِّ غَيْبٍ وَرَبِّ الحِجْرِ وَالبَيْتِ العَتِيقِ لَو انّكَ -يا حُسَيُن- خُلقَت حرًا وَمَا بالحرِّ أَنْتَ وَلَا الخَلِيقِ وهذا منه بناءٌ على أن الباءَ إنما تدخلُ في خبر الحجازيّة لا التميميّة. ولم يُوَافَق على ذلك وسُيَبيّن بُعَيد هذا بحول الله. وكذلك إذا عُدِم الترتيب بسبب تقديم معمول الخبر، فإن العمل يبطلُ، فلا تقول: ما زيدًا أنا ضاربا، وما طعامَك زيدٌ آكلا. ومن إبطال العمل قولُ مَزاحم العقيلى، وأنشده سيبويه: وَقَالُوا: تَعرّفْها المنازِلَ مِنْ منًى وما كُلّ مَن وافي منًى أنا عارِفُ على رواية نصب «كلّ». وأما من روى رَفْع كلّ فهو على الحجازيّة، والجملة في موضع نصب على خبر ما. قاله في الكتاب. هذا إذا كان المعمول غير ظرف ولا مجرور، فإن كان ظرفًا أو مجرورًا فله حكمٌ يذكره. وسببُ إبطالِ عملها عند فَقْدِ هذا الشرط أَنّ تقديم الخبر على الاسم تصرف في المعمول، ولم يبلغ من قُوّة ما أن تتصرّف في المعمول، ولم يبلغ من قُوّة ما أَن تتصرّف في معمولها. وأما إبطال عملها عند تقديم معمول الخبر فراجع إلى القاعدة المتقدّمة في قوله: «وَلَا يَلى العَامِلَ معمولُ الخَبَرْ»؛ فإن ما إذا كانت عاملة استوت مع كان في الحكم. فإن قَدّرتَ ما تميميّة صحّ التقديم،

وكانت الجملة مفردةً عن ما، فكما يجوز لك] أن تقول: طعامَكَ زيد آكلٌ، كذلك إذا دخلت ما وهى غير عاملة؛ قال سيبويه في هذه المسألة: «فإن رفعتَ الخبرَ حَسُن حملُه على اللغة التميميّة، كما قلت: أَمّا زيدًا فأنا ضارِبٌ، كأنّك لم تذكر أَمّا، وكأنّك لم تذكر ما، وكأنك قلت: زيدًا أنا ضاربٌ». فإن قيل: فتفسرُ مرادِ الناظمِ في الترتيب أَنّه أرادَ ترتيبَ معمول الخبر على الخبر، كما أراد ترتيب الخبر على الاسم -غيرُ فحتاج إليه لتقدم ذكره في القاعدة المتقدمة. وأيضا ليس التقديم مبطلا للعمل، بل العملُ هو المانعُ من التقديم في كان وإنّ، بخلاف تقديم الخبر على الاسم. والدليل على ذلك قول سيبويه: «فإن رفعت الخبر حَسُن حملُه على اللغة التميمية»، ولم يَقُلْ إن ذلك مما يستعملُه أهلْ الحجاز، بخلاف تقديم الخبر، فإن أهل الحجاز يقدمون ولا يعملون، كما أنهم ينسخون النفي فلا يعملون، فأهل الحجاز يقولون: ما زيدٌ إلا قائم، وما قائم زيد، ولا يقولون: ما طعامَك زيد آكلٌ، ولا آكلًا، بمقتضى قول سيبويه المتقدم. وأيضًا قال بعد إنشاء البيت: «وقال بعضهم: وما كلُّ مَنْ وَافَى مِنًى ... ... لزم اللغة الحجازية». قال الشلوبين: إنما هو أن بعض أهل الحجاز أنشد هذا البيت فاضطر إلى الرفع، أى لما لزم اللغة الحجازية رفع. وأيضًا فإن هذا على الحجازية أولى، لأن التميميّ لا يضطرّ إلى الرفع لإمكان النصب، ولا يمكن لأهل الحجاز إلا الرفع. فالحاصل أن تقديم معمول الخبر

لا يصحُّ في لغة أهل الحجاز البتّةَ، أعملوا أو لا. فالظاهر أنه غير محتاج إليه إن كان قصده. فالجواب: أنه يحتمل أن يقصد ذلك، لكن من حيث إِنّ أهل الحجاز لا يتكلمون بنحو: ما طعامَك زيدٌ آكلًا، من غير نظر إلى سبب المنع، بل بالنظر إلى محصول الحكم. ولا شَكّ أن الحكم كذلك. ويُحَتملُ أَنْ لم يقصِدْ إلا التنبيه على ترتيب الخبر على المبتدأ خاصّةً، وأما معمول الخبر فقد نَبّه عليه قبلُ، وإنما ذكر معمولَ الخبر -إذا كان ظرفًا أو مجرورا- لجوازه على الجملة، ولما سَيذكر على أَثَرِ هذا إن شاء الله. أو يكون إنما نبّه في باب كان على تقديم المعمول المختصّ بالباب، ثم ذكر في باب «ما» ما يختص بالباب من ذلك، وترك ذكر ذلك إِنّ إِحالةً على استعمال القياس. والله أعلم. فإذا اجتمعت هذه الشروط فحينئذ تعمل ما عند الحجازيين فتقول: [ما زيدٌ منطلقا، وما زيد ضاربًا عمرًا] ومنه في القرآن: {مَا هَذا بَشَرَا} و {مَا هُنّ أُمهاتِهِمْ}. وأكثر ما وُجِد [مجرورًا بالباء]، قال الأصمعي:

ما سمعت نصب خبر ما في شيءٍ من أشعارِ العرب. قال السيرافي: وأنشدنا ابن دُرَيد في معاني الأشْنَاندانى: وَأَنَا النّذِيرُ بِحَرّةٍ مُسْودّةٍ تَصِلُ الجيوشُ إليكُمُ أقوَادها أبناؤُها مُتَكَنّفُونَ أَباهُمُ حَنِقُو الصدورِ، وماهم أولادَها وقوله: «وَتَرْتيبٍ زُكِنْ»، معنى زُكِنَ: عُلِمَ، أى: ترتيب عُلِم؛ يقال: زَكنتُ الأمر -بالكسر- أَزْكَنُه زَكَنًا، أى علمته. ذكر ذلك الزُّبَيدى والجوهري وابن القوطية. وأنشد الجوهري لِقَعْنَبِ بن أمِّ صاحب: وَلَنْ يُراجَعَ قَلْبِى وُدَّهُمْ أَبَدًا إِنْ كُنْتُ مِنْ أَمْرِهِمْ مِثْلَ الذي زَكِنُوا

ويقال أيضًا: زكنت الأمر أزكنه زكنا: إذا ظننتَه وقَدّرْته وتفَرّسْته. وقد أنكر ابن درستويه زكنت بمعنى علمت، وقصر اللغة على الاستعمال الثاني. ونقلُ أهلِ اللغة حجة عليه. ثم/ أخرج الظرف والمجرور إذا كانا مَعْمُولى الخبر وتقدّما عن حكم إبطال العمل، فقال: وَسَبْقَ حَرْفَ جَرٌّ اوْ ظَرْفٍ كَمَا بِي أَنْتَ مَعْنِيًا أَجَازَ العُلَمَا سَبْقَ: مفعول مقدّم بأجاز. وكما: متعلّق باسم فاعل حالٍ من «حَرْفِ جَرٍّ أو ظَرْفٍ». والعامل في [الحال] «سبق»، لأنه مصدرٌ مقدّر بأن والفعل مضافٌ إلى الفاعل. يُريد أنّ العلماء أجازوا في ما الحجازية أن يتقدم معمول خبرها على اسمها إذا كان ظرفًا أو حرف جَرٍّ، يعنى مع مجروره، فتقول: ما بي أنت معنيًا. فأنت: هو اسمها، وخبرها: معنيًا. وبي: متعلق بالخبر، كأنه قال: ما أنت مَعْنيًا بي. ومثله قولك: ما عند زيدٌ مقيما، وما في الدار زيدٌ قائمًا. كل هذا جائز. وعَبّر بالسبق -وحقيقة السبق هو: التقديم على ما- وهو لا يريدُه وإنما يريد السبقَ على الاسم والخبر فقط، اتّكالًا على أن التقديم على ما غير جائز، حسبما مَرّ في باب كان، فلم يبق إلا السبق على الاسم والخبر. وأيضًا قد عَيّن مثالُه السبق المراد، فلم يفتقر إلى

تقييده بِسَبْقِ ما بعد «ما». ومَعْنِىٌّ: اسمُ مفعولٍ من العناية، وهى الاهتمامُ بالشئ، من قولهم: عنيتُ بحاجتك أُعْنَى بها فأنا معنّى بها، وهو لازم للبناء للمفعول في اللغة الشهيرة. وإنما أتى الناظم بهذه المسألة -وقد تقدمت- تنبيهًا على أن تقديم هذا المعمول لا يضير جواز الإعمال، بل يصحّ الإعمال مع تقديمه، وليس مثل تقديم الخبر، ولا مثل تقديم معموله إذا لم يكن ظرفا ولا مجرورًا. فإن قيل: فالقاعدةُ أن المعمول لا يتقدّم إِلّا حيث يصحُّ تقدم العامل، وإذا كان كذلك فالخبر هنا مقدّر التقديم، وعند فرض تقديمه يبطل عمل ما، فكذلك ينبغي أن يكون الحكمُ إذا تقدّم معموله، لأنّه نائبه في التقديم فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه القاعدة غيرُ مسلّمة عند ابن مالك، فقد نازَع فيها في شرح التسهيل، ومرّ ذلك هنا في مسألة تقديم خبر ليس عليها، وإذا لم تكن مسلّمةً عنده فلا يصحّ بناؤُه عليها، وإذا لم يبنّ عليها لم يكن تقديم ذلك المعمول مُؤذِنًا بتقديم العامل، وإذا لم يُؤْذِنْ به فتأخيره حاصل، وهو شرطُ إعمال ما، فالإعمال مع تقديم ذلك المعمول صحيح. والثاني -على تسليم صحة القاعدة- فقد نَبّه هو على أن ذلك التقديم مُلْغًى عند العلماء، لقوله: إن العلماء أجازوا الإعمال في المسألة مع وجود التقديم، وكثير ممّن يجيزها يصحّح القاعدة، وما ذلك إلا لعدم اعتبارهم لها في

هذا الموضع. والسر في ذلك أنّ التقديم المعتبر في إبطال عمل ما هو تقديمُ الخبر نفسه، لا تقديمُ معموله، فثبت أَنّ تقديم المعمول مؤذنٌ بتقديم العامل، فالعامل بعدُ لم يتقدّم، وإذا لم يكن متقدّمًا فكيف يبطل العمل مع وجود شرطه. وأيضًا فالمتقد هنا من معمولات الخبر إِنّما هو الظرف أو المجرور، وهما مما يُتّسع فيها؛ ألا ترى أن المعمول إذا كان غير ذلك لم يتقدّم، فلا تقول: ما طعامَك زيدٌ آكلا -وقد مر ذلك- فأخبرك الناظم أن هذا التقديم مُغْتَفَر غيرُ قادحٍ في صِحّة عَمَلِ ما. ونَسَبَ جوازَ المسألة للعلماء، ولم ينسُبْ ذلك للعرب، ولا أطلَقَ القول، ليُنَبّه -والله أعلم. / على أنّ السماعَ في مثلِ هذا معدومٌ، أو في حكم المعدومِ. على أنّه أنشد في الشرح بيتًا عَجُزه: فَما كلّ حِينٍ مَنْ تُوَالِى مُوالِيَا وذلك في السماع قليلٌ، إلا أَنّ القياس قابل له؛ إذ لا فَرْقَ بين كان وما فيه هذا المعنى، فكما جازَ ذلك في كان، كذلك يجبُ أن يَجُوزَ في ما. وهو قياسٌ صحيحٌ. والله أعلم. وَرَفْعَ مَعْطُوفٍ بَلِكِنْ أَوْ بِبَلْ مِنْ بَعْدِ مَنْصُوبٍ بِمَا الْزَمْ حَيْثُ حَلْ

اعلم أن عادة الناظم -رحمه الله- أن يتكلّم في بعض الأبواب على جملة من أحكام التوابع، كما فعل هنا، وفي باب إنّ ولا، وباب اسم الفاعل، والمصدر، والنداء. وغير ذلك من الأبواب. ويَرِدُ عليه في بادئِ الرأى سؤالٌ، وهو أن يقال: إِنّ باب التوابع قد ذكره، وبيّن أحكام التوابع وما يختصُّ بكل واحد منها، فكان من الواجب أن يقتصر على ما ذكره هنالك، وعليه يجري الحكم ههنا وفي كل باب، فَلِمَ فعل من ذلك ما فَعَل؟ والجواب: أَنّ هذا المَنْزَعَ هو شان أئمة هذا الشأن، وإنما سلكوا في طريقه لأن الأحكام المتعلقة بالتوابع على ضربين: أحدهما: الأحكام العامة التى لا تختصّ بمسألة دون أخرى. والثاني: ما يختَصُّ منها ببعض الأبواب دون بعض. فالأَوّلُ لم يذكر منه في هذه الأبواب شيئًا. وأما الثاني فهو الذى ذكره في مواضعه حيث احتاج إليه؛ إذ هو متعلّق به، كمسألتنا هذه؛ فإنّ مُطلق العطف لا يمشى هنا، لاقتضائه النصبَ في العطف على المنصوب مطلقًا بأىّ حرف كان، فكنتَ تقولُ: ما زيدٌ قائما بل قاعدًا، وما زيدٌ باكيا ولكن ضاحكا. وهذا لا يصحُّ، فلم يكن بُدٌّ من التنبيه على العطف هنا بهذين الحرفيين خاصّة، لتعلم مخالفتها لسائر حروف العطف. وترك ذكر سائر التوابع إذ لا يتعلّق بهذا لاباب فيها خاصٌّ، كما أنه لم يذكر باقي حروف العطف؛ إذ لا مزيد على الحكم المطلق فيها، وكذلك سائر الأبواب التى ذُكِر فيها حكم من أحكام التوابع ثم نرجع إلى كلامه فقوله: «وَرَفْعَ مَعْطُوفٍ». رَفْعَ: منصوب بالزم. وبلكن: متعلّق بمعطوفٍ. ومِنْ بَعْدِ: متعلّق باسم فاعل هو صفة لمعطوف والعامل فيه رَفْع. وبِمَا:

متعلّق بمنصوب. وأراد: أن المعطوف على المنصوب بما الحجازية إما أن يكون معطوفًا بحرف من هذين الحرفين، وهما: بل ولكن، أو بغيرهما من حروف العطف. فإن كان معطوفًا بأحدهما فالرفع في المعطوف لازم بلا بُدّ، فتقول: ما زيد قائمًا بل قاعدٌ، وما زيدٌ عالما لكن جاهلٌ. ولا تقول: بل قاعدًا، ولا: لكن جاهلًا؛ لأن بل تُوجِب للثاني ما نُفِى عن الأول، وإذا كان كذلك فالمعطوف لا بُدّ أن يقدّر حلولُه في محلّ المعطوف عليه. هذا هو الشائع في كلام، ولو جعلت الاسم الواقعَ بعد بَلْ خبرًا لم يصحّ النصب؛ لأنّ النفي المشروطَ بقاؤه قد زال، فحكمُه حكمُ ما بعد إلّا في قولك: ما زيدٌ إلا قائم. وكذلك لكن حُكمُها هذا الحكمُ من غير فرق، فلذلك وجب الرفع في المعطوف/ بهما. ويلزم في هذين الحرفين النصبُ بعدهما على رأيين، أحدهما: رأىُ يونسَ الحاكي نصب الخبر بعد إِلّا، فيقولُ على قياس ذلك: ما زيد قائمًا بل قاعدًا. وما زيدٌ قائمًا لكن قاعدًا. والثاني: رأىُ المبرّد، وهو مختصٌّ ببل؛ إذ يقول فيما بعد: بل إنه محتمل لتسلط النفي عليه، فيقول: ما زيدٌ قائما بل قاعدًا، على معنى: بل ما هو قاعدًا. والعربُ لا تقول هذا، فهو حجّةٌ عليهما فيما دهبا إليه. وقوله: «حيث حَلّ»، الضمير في «حَلّ» يحتمل أن يعود على العطف المذكور، أى حيث حلّ هذا العطف المذكور. وَيَحْتَمِل أن يعود إلى المعطوف بأحد الحرفين، كأنه يقول: ذلك حكمُه، سواءٌ كان في موضع يتبع فيه

منصوبا لفظاً [أو] محلًا، أو مجرورًا لفظًا منصوبا محلا؛ فإذا قلت: بل قاعدٌ بالرفع خاصّة، فلا تُتْبعُ هنا على اللفظ فتقول: بل قاعدٍ، جرًا، ولا على الموضع فتقول: قاعدًا نصبًا. وكذلك يجب أن تقول: ما زيدٌ بقائم لكن قاعدٌ بالرفع، ولا تقول: لكن قاعدٍ على اللفظ، و [ولا] لكن قاعدًا على الموضع؛ فإن الإيجاب يمتنعُ النصب لإبطال النفي، ويمنع لاجر لأن الباءَ في تقدير الثبوت في المعطوف، والباء لا تُزَادُ في الإيجاب وإنما تزاد تأكيدا للنفي، فوجب الرفع. ويكون قولُه: «من بَعْدِ منصوبٍ» على هذا التغير، يريد به المنصُوبَ لفظًا أو موضعًا؛ فالمجرور بالباء في موضع نصب. وإن كانَ المعطوفَ على الخبر معطوفًا بغير بل ولكن، فلا يُرفعُ البتة لزوما. وهذا هو المفهوم من قوله: وَرَفْعَ معطوفٍ بكذا الزمْ، فقيّد لزومَ رفع المعطوف بقيدٍ، وهو كونه معطوفًا بأحد الحرفين، فمفهومه أنه إِنْ لم يكن معطوفًا بواحدٍ منهما فلا يلزمُ الرفعُ، وعدم اللزومُ هو الجوازُ. فالرفعُ إذًا بعد المعطوفِ على المنصوب بواو أو فاءٍ أو ثُمّ، أو غيرها جائزٌ لا لازمٌ. ولا بدّ إذ ذاك من وجهٍ آخَرَ غير الرفع، وهو النصب عطفًا على الخبر، ولما كان المنصوبُ ضربين: مَنْصُوبٌ لفظًا ومنصوبٌ محلًا مجرّدٌ لفظًا، كان في المسألة أوجه؛ فإذا قلت: ما زيدٌ قائما ولا قاعدًا، كان لك في قاعدٍ الرفعُ على إضمار مبتدأ -وكذا في كلّ وجه يكون الرفع واجبا أو جائزًا، كأنه قال: ولا هو قاعدٌ. والنصبُ عطفًا على قائم. وإذا قلت: ما زيد بقائم ولا قاعدٍ -وهى الحجازية- كان لك في قاعدٍ ثلاثَةُ أوجه: الرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على الموضع، والجرّ على اللفظ. وكذلك إذا قلت: ما زيدٌ قائمًا ولا قاعدًا أبوه، يجوز لك في قاعد النصب عطفًا

على قائم، وأبوه فاعلُ به، والرفع من وجهين، أحدهما: أن تجعل أبوه مبتدأ خبره قائم، وهو متقدّم عليه. والثاني أن يكون مبتدأ وأبوه فاعلٌ به سدّ مسدّ الخبر وجاز ذلك لاعتماد الصِّفَةِ على النفي. وإذا قُلت: ما زيدٌ بقائم ولا قاعد أبوه -وهى الحجازية- جاز في قاعدٍ الرفعُ على الوجهين، والنصب على موضع الباء، كما في قوله: فَلَسْنَا بِالْجِبالِ وَلَا الْحَدِيدَا والجرّ على اللفظ. وعلى هذا يجرى/ الحكمُ في سائر حروف العطف. وأما مع التميمية فلا حاجة بنا إلى الكلام فيه، لأنه لم يتعرّضْ له في النظم. (ثم قال) وَبَعْدَ مَا وَلَيْسَ جَرّ الْبَا الخَبَرَ وَبَعْدَ لَا وَنَفْىِ كان قَدْ يُجَرْ يعنى أن الباءَ تدخل في خبر أربعة أشياء، وهى: ما، وليس، ولا، وكان المنفية، لكن دخولها في خبر ما وليس كثيرٌ، دلّ على ذلك عدم تقييد الناظم لها بقلّة، ودخوله في خبر لا وكان قليل، بقوله: «قد يُجَرْ». والضمير في «يجرّ» عائد على الخبر. فأما دخولها في خبر ما فنحو: ما زيد. وفي القرآن المجيد: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعملُونَ}، {وَمَا أَنْتَ

بِمُؤمِنٍ لَنَا}. وما هذه التى ذَكَر تحملُ أمرين: أحدهما: أن يُرِيدَ بها الحجازية، وهى التى تكلّم فيها في الباب؛ إذ لم يتعرّض للتميمية، فتكون التميمية عنده غير متعرِّضٍ لها في هذا الحكم. ولا شك أن الباء تدخل في خبر الحجازية باتفاق، وهو قد جاء في القرآن المنزل بلغة الحجاز. والثاني: أن يُرِيدَ ما النافية على الإطلاق في اللغتين معا. ويدلّ على أن هذا مرادُه، إطلاقه لفظ ما ولم يقيدها بالحجازية، ولا أعاد الضمير عليها فيَقُلْ: وبعدها وفي ذلك تنبيهٌ على خلاف من خالف في المسألة، وأن الباء لا تدخل في خبر التميمية، وإنما تختصّ بالحجازية. وهو مذهب طائفة كابن السراج والفارسيّ، فقد تقدّم استشهادُ الفارسيِّ بقوله: وَمَا بِالحرّ أنْتَ وَلَا الخَلِيق على صحة نصب الخبر مع التقدم. فلم ير الناظم هذا المذهب، بل اعتمد رَأْىَ من رَأى أنها تدخل في خبر ما على اللغتين معًا، قالوا: وهو ظاهر كلام سيبويه، أشار إلى ذلك في أبواب الاستثناء في مسألة: ما زيدٌ بِشيءٍ إلّا شئ لا يُعْبَأُ به. والأصح ما ذهب إليه من أوجه: أحدها: أن بني تميم يدخلونها في الخير فيقولون: ما زيد بقائم، فإذا لم يدخلوها رفعوا؛ قال ابن خروف: إن بني تميم يرفعون ما بعدها بالابتداء

والخبر، ويدخلون الباء في الخبر لتأكيد النفي. ثم حكي عن الفراء أنه قال: أنشدتني امرأة: أما والله أَنْ لو كُنت حُرًا وما بالحرِّ أَنتَ وَلا العَتِيِق قال: فأدخلت الباء فيما يلى ما، فإن ألقتها رَفَعَت. أنتهى وقد أنشد سيبويه للفرزدق، وهو تميمي: لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بِتَارِكِ حقّه ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مَتَيسِّرُ وهو كثير في أشعارهم لمن بحث عنه. والثانى: أن الباءَ إنما دخلت على الخبر بعد ما لكونه منفيا، لا لكونه خبرًا منصوبًا، ولذلك دخلت في خبر «لم أكن»، ولم تدخل في «كنت». وإذا ثبت أن المسوغ لدخولها إنما هو النفي فلا فرق بين منفيّ منصوب المحلّ، ومنفيّ مرفوع المحل. والثالث: أَنّه قد ثبت دخول الباء مع إبطال العمل، ومع أداةٍ لا عمل لها البتة، نحو قوله: لَعَمْرُكَ مَا إِنْ أَبُو مَالكٍ بِوَاهٍ ولا بضعيف قُواه

وأنشد الفارسي في التذكرة للفرزدق: يَقْولُ -إِذَا قْلَوْلَى عَلَيْهَا وَأَقْرَدَتْ-: أَلَا هَلُ أَخْو عَيْشٍ لَذِيدٍ بدائِم وإنما دخلت بعد هل لشبهها بحرف نفي، فدخولها بعد النفي المحض -وهو ما التميمية- أحق؛ قال ابن مالك: لأنّ شَبَه ما بها أكملُ من شبه هل بها. ثم ذكر ما حكى الفراء عن كثير من أهل نجدٍ أَنّهم يجرّون الخبر/ بعد ما بالباء، وإذا أسقطوا الباء رفعوا. قال ابن مالك: وهذا دليل واضح على أن وُجُودَ الباء جارّةً للخبر بعد ما لا يلزم كونُ الخبر منصوبَ المحلِّ، بل جائزٌ أن يقال: هو منصوب المحل، وأن يقال: هو مرفوع المحلّ، وإن كان المتكلم به حجازيًا فإِنّ الحجازىّ قد يتكلّم بلغته، وغيره يتكلّمُ بلغته؛ إلا أن الظاهر أن محل المجرور نصبٌ إن كان المتكلم حجازيًا، ورفعٌ إن كان تميميًا أو نجديًا. قال: فمن دخولِ اللغةِ التميمية في الحجازيّة كسرُ هاءِ الغائب بعد كسرةٍ أو ياءٍ ساكنة، وإدغام نحو: {وَلَا يُضَارّ كَاتِبٌ ولَا شَهِيد}، ورفع الله من قوله: {قُلْ: لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السّمواتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إِلّا اللهُ}؛ لأن اللغة الحجازية: بِهُو، وفِيهُ، بالضم. ولا يضارَرْ، بالفك، وإلا اللهَ، بالنصب؛ لأن الاستثناء

منقطع. قال: وإذا جاز للحجازىِّ أن يتكلّم باللغة التميمية جاز للتميمىّ أن يتكلم باللغة الحجازية، بل التميميُّ بذلك أولى لوجهين، أحدهما: أن الحجازية أفصح، وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعًا من العكس. والثاني: أنّ معظم القرآن حجازىّ، والتميميون متعبدون بتلاوته كما أُنْزِل، ولذلك لا يقرأ أحدٌ منهم: {ما هَذَا بَشَرٌ} إلا من جَهِل كونه منزّلًا بالنصب. هذا ما قال، وفيه نَطَرٌ لا يليق بهذا الموضع. وقد استُدِلّ على صحة دعوى الناظم بغير هذا مما يكفي منه ما ذكر. وأما دخولُ الباء في خبر ليس فنحو قولك: ليس زيدٌ بجبانٍ، وفي القرآن: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ}، {أَلَيْسَ اللهُ بأحكمِ الحَاكِمينَ}. وأما دخولها في خبر لا فإن ذلك قليل، كما أشار إليه، لكن يَحْتَمِلُ أن يريد لا التّى للتبرئة. وهو الذى نصّ عليه في التسهيل. ويَحْتَمِل أن يُرِيدَ التى كليس أو ما هو أعمُّ من ذلك. وهذا أولى؛ إذ ليس في لفظِه ما يُقَيِّدُ ضربًا من تلك الأضربِ، بل قال: «وَبَعْدَ لا». وهذا اللفظ يُعطِى ما هو أعَمُّ من كونها عاملةً أو غير عاملة. وهذا صحيح. ففي السماع ما يدخل في ثلاثة الأضرب، فقد قال الفارسيّ -في قولهم

: «لا خير بخيرٍ بعده النارُ، ولا شرّ بشرٍّ بعده الجنةُ» -: «يجوزُ أن تكون لا التى لنفي لجنس، وأن تكون العاملة عمل ليس، والباء في الخبر فيهما زائدة، كأنه قال: لا خيرَ خيرُ بعده النارُ، أو: لا خيرٌ خيرًا بعده النار. وكذلك الآخر ومن دخولها في خبر التى كليس قولُ سواد بن قارب، رحمه الله: وَكُنْ لِى شَفِيعًا يَوْمَ لا ذُو شَفَاعةٍ بِمُغْنٍ فَتيِلًا عَنْ سوادِ بنِ قارِبِ ومما هو محتلٌ قولُ المرقّشِ: وَكَذَاكَ لَا خَيْرٌ وَلا شَرٌّ عَلَى أَحَدٍ بِدَائِم وأمّا دخولها بعد نَفْي كانَ، أى: بعد كان المنفيّة، فمثاله: ما كان زيدٌ بقائم. ومنه قول سواد بن قارب: أَتَانا فحيّا بَعْدَ هَدْءٍ ورقْدةٍ وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ عَهِدتُ بِكَاذِبِ ثَلاث ليالٍ قوله كلُّ ليلة أتاك نَبِيٌّ مِنْ لُؤَىِّ بِن غالِبِ

وقال الراجز: لو كنتَ ماءً كُنْتَ غَيْر عَذْبِ أَوْ كُنْتَ لَحْمًا كُنْتَ لَحْمَ كَلْبِ أَوْ كُنْتَ سَيْفًا لم تكن بِعَضْبِ وكلامُه هنا يدلُّ على أَنّ زيادة الباء في هذه المواضع الأربعةِ قياسٌ؛ أمّا في ما وليس فذلك ظاهر من كلامه. وأمّا في لا ونَفْىِ كان فإنّ عادته إذا أخبر بالقلّة نِصًا أو إشعارًا أَنّ ذلك قياسٌ عنده، وهو صحيح في مثل هذا. وحين لم يذكر خلاف هذه المواضع أشعر بأن زيادة الباء/ فيما سواها غير قياس؛ فقد زيدت في ثاني مفعولى وجدت، وذلك في قول الشاعر: دَعَانِى أَخىِ والخيلُ ببينىِ وبينَهُ فَلمّا دَعَانِى لَمْ يَجْدنِي بِقُعْدَدِ وزيدت بعد «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّ»، كقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّ الله الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيّ بِخَلقهِنّ، بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ المَوْتَى}. وإما زيدت هنا لأن المعنى: أو ليس الله بقادر، أو: لم يَروُا الله بقادر؛ لأن رأى عِلْميّة فزيدت في ثاني مفعوليها، من جهة المعنى، كما في «وجدت» المذكورة. وزِيدَتْ أيضًا بعد هل، وأنشد الفارسيّ في

التذكرة، والجوهري عن الأحمر، للفرزدق: تَقُولُ -إِذَا قلَوْلَى عَلَيْهَا وأقردَتْ-: أَلَا هَلْ أخو عَيْشٍ لَذِيذٍ بِدَائِمِ وزيدت في خبر إنّ، قال امرؤ القيس: فإن تَنْأ عَنْها حِقْبةً لا تُلاقِها فَإِنّك مِمّا أَحْدَثَتْ بِالمجرّبِ وزيدت في خبر لكنّ، وأنشد المؤلف: ولكن أجرًا لو فعلت [بِهَيِّن] وهل ينكر المعروف في الناس والأجرُ وزيدت أيضا في المفعول، نحو قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهَلُكَةِ}. وزيدت في الفاعل في قوله:

أَلَمْ يَأْتِيْكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِى بِما لَاقتْ لَبُتونُ بَنِى زِيَادِ وفي المبتدأ في قولهم: بحسبك زيدٌ. وفي خبر المبتدأ من غير نفي، في قول الله تعالى: {جَزَاءُ سَيّئَةٍ بِمثْلِها}. فهذه المواضع مما يوقفُ زيادة الباءِ فيه على السماع؛ فلذلك اقتصر على المواضع الأربعة لأنّها مقيسةٌ، لكن يُعْتَرَضُ عليه بأنه ترك بعض مواضع مما الزيادة فيها قياسٌ. والحاضرُ منها الآن موضعان: أحدهما: فاعل كفي، فإنك تقول: كَفَى بِالله شَهِيدًا، على معنى: كفى اللهُ شهيدًا، وأنت تقول: كفى زيدٌ فاضلًا، وكفى بزيد فاضلًا. ومن إسقاط الباءِ قول الشاعر: كَفَى الشّيبُ والإسْلَامُ للمَرْءِ ناهيا فهذه الزيادة مما عدّها الناس قياسًا. والثاني: زيادة الباءِ في فاعل أَفْعلَ في التعجب، نحو: أكرم بزيدٍ؛ فإنها زائدة أيضًا، وزيادتها قياس. ولم يذكر ذلك، فيوهم اقتصاره على الزيادة القياسية فيما ذكر أنها في مثل هذين الموضعين موقوفة على السماع. وليس كذلك.

والجوابُ أن الزيادة في فاعل كفى راجعة في الحقيقة إلى السماع، لأنها مخصُوصة بهذا الفظ بعينه، فلا تتعدّى إلى غيره، ولا إلى ما هو من مادّته كالمضارع؛ إذ لا تقول: يكفي بالله شهيدا، إنما تقول يكفي الله شهيدًا. ولا معنى لوقفها على السماع إلا هذا. وأما الباءُ في أَفْعِلْ به فينازع في زيادتها؛ ليس بمتفق عليه، والناظم لا إشعار له في نظمه بزيادتها حيث تكلم عليها في التعجب. ولو فُرِضَ أنّها عنده زائدةٌ فذلك مما يذكر في بابه، فلا اعتراض عليه بذلك. والله أعلم. ثم ذكر باقي حروف الباب فقال: فِي النّكِرَاتِ أعْمِلتْ كَلَيْسَ لا وَقَدْ يلى لَاتَ وَإِنْ ذَا العَمَلا وَمَا للَات فِي سِوَى حِيزٍ عَمَلْ وَحَذْفُ ذِى الرّفْعِ فَشَا وَالعَكْسُ قَلْ يعنى أَنّ لا النافية أُعمِلَتْ أيضًا عَمَلَ ليس، فترفع المبتدأ وتنصب الخبر، لأنّها أشبهت ليس لاجتماعهما في النفي والدخول على المبتدأ والخبر، لكن لم تتمكن في الشّبَهِ تمكُّن ما، لكونها في العالب إنما تنفي المستقبل/ عند الجمهور. بخلاف ليس فإنها لنفي الحال ما لم تقترن بها قرينة مثل ما، فنقصت عن ما درجةً، فلذلك لم تعملْ قياسًا إِلّا بشرط أن يكون معمولُها نكرةً، وهو قوله: «في النَكِرَاتِ أُعْمِلتْ كَلَيْسَ لَا»، فلا تعملُ

عنده في المعارف، وإن جاء شئ من ذلك فهو شاذُ محفوظ، نحو قول النابغة الجعدي: وَحَلّتْ سَوادَ القَلبِ لَا أَنَا باغيًا سِوَاهَا، وَلَا عَنْ حُبِّها متباغيا ومن مُثلُ إعمالها القياسي ما أنشده في الشرح من قول الشاعر: تَعَزّ فَلَا شَئٌ عَلَى الأَرْضِ باقيا وَلَا وَزَرٌ ممّا قَضَى اللهُ واقِيَا وأنشد سيبويه لسعد بن مالك القيسي: مَنْ صَدّ عَنْ نِيَرانها فَأَنا ابن قَيْسٍ لا بَرَاحُ كأنه قال: لا براحٌ موجودًا. فحذف الخبر. وقوله: «أُعْمِلَتْ كَلَيْسَ». على حذف المضاف، كأنه قال: أُعمِلتْ كإعمال ليس. وكونه أخبر أن العرب أعملتها ولم يقيد ذلك بِندُورٍ ولا وقْفٍ على السماع يدلّ على أن ذلك عنده قياس، كما قال في الابتداء: وَأَخْبَرُوا باثْنَينِ أَوْ بِأَكْثَرا عَنْ وَاحدٍ ... ...

وكذا قال في الشرح: «والقياس على هذا سائع عندى». وَحَكَى عن المتنبي أنه استعمله في شعره. وما قاله صريحٌ في مخالفته لأبي الحسن القائل بانّ «لا» غيرُ عاملة. نصّ على ذلك في لات. وحُمِل عليه في «لا» دون تاءٍ، وللزجاج وابن السّراج القائليين بجواز الإعمال وعَدَمه إذا توفّرت الشروط. وتابعهما ابنُ خروف، ولابن الباذِش في أنها إنما تعمل في الاسمِ خاصّة، ثم هى واسمها في موضع مبتدأ. أما الأخفش فعنده أنها في القياس لا تعمل شيئا -يعنى لا- لأنها حرف وليست بفعل، فالمرفوع بعدها مبتدأ، والمنصوب على الظرف، والمبتدأ يُقدِّله خبرا، والظرف لا يقدّر له شيئًا، إلا ما يتعلق به الظرفُ. وكذلك يقول في لا دون تاءٍ، فارفع بعدها على الابتداء، والنصب على إضمار فِعْلٍ. وهذا كلُّه بناءً على أن خبرها لا يجتمع مع المبتدأ الذى يقع اسمًا لها؛ فإن القدماء لم يحكُوا إظهارهما معًا بعد لا ولا بعد لات. وما ذهب إليه الأخفشُ مَرْجوعٌ لأمور: أحدها: أن كونَها حرفًا غيرُ ما نع من العمل، كما لم يكن مانعا في ما التى هو موافِقٌ عليها. بهذا المعنى ردّ السيرافيّ قول الأخفش. والذى قاله الأخفش صحيح، وما قاله السيرافي صحيح. وموضع النكتة في المسالة أن النصب بعد لا قليلٌ، ومختصٌّ في لات بالحين، ولم يثبت عندهما عملها في اسمين ظاهرين، فهى بعدُ في العمل وعدمه على الاحتمال. فأما سيبويه فحملها

على الظاهر من الحال، ويُعَضِّده القياسُ على ما. وهو الذى قال السيرافي. وأما الأخفش فَبَقَىَ مع الأصل من عدم الإعمال، وعضّده احتمال الرفع والنصب بعدها أن يكونَ على غير إعمالها. وتعارضَ النظران عند الزجاج وابن السراج ومن تبعهما، فجوّزوا الوجهين ولم يَحْتُموا بأحدهما كما حَتَم الناظمُ بالإعمال، والأخفش بعدمه. والثاني: أن السماع بإظهار الاسم مرفوعًا والخبر منصوبًا كأنه يُعَيِّن الإعمال، وذلك فيما أنشده المؤلف من قول الشاعر: تَعَزّ، فلا شَئٌ على الأرض باقيا وَلَا وَزَرٌ مما قَضَى الله واقيا / إذ لا يمكن فيه تقدير خبر المبتدأ إلا على تكلُّف لا حاجةَ إليه. والثالث: على تسليم أن هذا لم يسمع فإن عدم تكرير لا دالٌّ، فهو الذى بيّن لهم أنها كليس؛ لأنها لو كانت غير معملة للزم تكريرها مع النكرات، كما يلزم التكرير مع المعارف، فكما تقولُ: لا زيد في الدار ولا عَمْرو، كذلك تقول: لا رجل في الدار ولا امرأة. وعدمُ التكرير نادر. فإن فُرِّق في لزوم التكرير بين النكرات والمعارف، فالتزم في المعارف دون النكرات. فذلك ممكن، إلا أن الأظهر التساوى، والله أعلم. وقد ظهر بهذا كلّه وجهُ مخالفة الناظم لابن السراج ومن على مذهبه، فلا معنى لتكرير الاحتجاج. وأما ابن الباذِش فرأى أنّ الذى يقتضيه مذهبُ سيبويه أن «لا» تعملُ عمل إنّ وعمل ليس في الاسم خاصة دون الخبر، وأن موضعها مع ما تعملُ فيه في الحالين رفع بالابتداء، قال: لأنها في الموضعين جواب

لشيء واحد نحو قولك: هل من رجل في الدار؟ ولما كان مُوجَبُها قد عملت فيه من وحده، فأزالت عمل الابتداء، وهى مع الاسم في موضع رفع، كذلك عملت لا فيه الرفع كليس والنصب كإنّ، وكانت مع معمولها في موضع رفع. وما قاله غير ظاهر؛ أما أنها لا تعمل في الخبر وإنما تعمل في الاسم وحده، فغير بَيّن لما سَيُذكر إن شاء الله في باب «لا» بعد هذا. وأيضًا قد جاء الخبر منصوبا بعد ذكر الاسم في قوله: تَعزّ، فلا شَىْءٌ على الأرض باقيا وأما الحملُ على موجبها فذلك ليس بدليل قاطع؛ إذ لا يلزم أن يكون جواب الكلام في العمل أو غيره مثل الكلام، بل قد يكون الكلام على وجه، وجوابه على وجه آخر. فأنت ترى أّنّ لن يقوم جواب: سيقوم، ولم يتوافقا في العمل ولا في جعل الأداة مع الفعل كالجزء. وأيضا قالوا: لم يقم، (في) جواب: قام، وَلمّا يَقُم في جواب: قد قام. فخالفوا بين الأفعال، وكثير من ذلك. وأما أنّ ما ذكر هو مقتضى مذهب سيبويه فإن ذلك ظاهرًا في لا الناصبة للاسم، فكذلك يظهر في الرافعة له، إلا أن مالك لا يُسلِّم فيها ما قال، وذلك أنه قال في باب من أبواب لا: «وقد جُعِلتَ -وليس ذلك بالأكير- بمنزلة ليس»، قال: «فإن جعلتها بمنزلة ليس كانت حالُها كحال لا في أنها في موضع ابتداءٍ، وأنها لا تعمل في معرفة». ثم أنشد: مَنْ صَدّ عَنْ نيرانها البيت. وقال آخر الباب: «وإن شئت قلت: لا أحدٌ أفضلَ منك، في قول من جعلها كليس ويجريها مجراها ناصبة في المواضع، وفيما يجوز أن يُحمل

عليها». فهذا الكلام الثاني كالأول، إلا أن ابن خروف والسيرافي إنما حملاه على إعمال ليس في الرفع والنصب، ودلّ على ذلك من كلام سيبويه نصبه «أفضل» في قوله: لا أحدٌ أفضلَ منك. وذكر ابن الباذش أن الضبط فيه «أفضلُ» بالرفع. وردّ عليه الأبذى هذا الضبط وقال: إنه تعصّبٌ لنصرة ما فهمه مكابرةٌ للجمهور في الرواية. وليس كما قال الأبذىّ. بل هما روايتان ثابتتان في الكتاب، فرواية النصب للرباحي، ورواية الرفع في النسخة/ الشرقية. هكذا رأيته في نسختى وكانت مقابلةً بنسخة ابن خروف التى أثبت فيها رواية النسخة الشرقية، وهو مما يعتمدها ويُفَسِّر عليها، ويذكر في شرحه الكتاب -واياتها وزيادتها. وإذا ثبت ذلك لم يكن اعتمادُ ابن الباذش على رفع «أفضل» تعصُّبًا، وإنما يبقي ترجيحُ إحداهما على الأخرى. ولا شك أنّ الجمهور على رواية النصب، فهوى أولى، وسيأتي ما في كلام سيبويه ورأيته في باب لا، إن شاء الله. فالأظهر ما ذهب إليه الناظم. واعلم أنه لما قدّم أن «ما» لا تعمل عمل ليس إلا بشروطٍ ذكرها، وأخبر هنا أن لا أُعمِلت أيضًا عمل ليس، لزم من ذلك -ولا بدّ- أن يكونَ حكمُها في اشتراطِ تلك الشروط حكم -ما، ولم ينصّ على ذلك في لا، ولا ما بعدها، عِلْمًا بأن الفَرْعَ لا يقوى قُوّةَ الأصل، والمشبّه لا يكون في درجة المشبّه به، وقدّم ذلك في «ما»، فظهر بذلك جريان حكم الاشتراط في غير

ما إذا كان المشبّه به واحدًا في الجميع وهو ليس. فيشترط إذًا في لا تلك الشروط الثلاثة، وهى: فِقْدَانُ إِنْ، وبقاء النفي، والترتيب. فإن وُجِد إِنْ مَعَ لا لم تعمل، فلا يقال: لا إِنْ أحدٌ قائما، وإنّما يقال: لا إِنْ أحدٌ قائمٌ. وكذلك إذا دخلت إلّا، فلا تقول: لا رجلٌ إلا قائمًا، وكذلك لا تقول: لا قائمًا أحدٌ. وما زشبه ذلك. وهو جارٍ أيضًا في إِنْ، إلا أنها لا يتأتّى معها دخول إِنْ في القياس، وإن دخلت فالحكم الإهمال. وكذلك إن وجب خبرها بإلّا نحو: إن زيدٌ إلا قائم، أو تقدم الخبر نحو: إن قائم زيد. وهذا كلّه ظاهر. وقد نَصّ الجُزُولى على هذا الاشتراط في لا، فقال: «عملُ ما ولا المشبهتين بليس مشروطٌ بكذا. وعَدّ الشروط المذكورة، ثم قال: «ويفترقان في أَنّ «لا» لا تعملُ إلا في نكرة اسمًا وخبرًا». فلم يجعل بينهما فرقًا في الحكم إلا تنكير الاسم والخبر الذى نَصّ عليه الناظم. وهكذا يجرى الحكم في لات أيضًا، إلا أنها لا يُجمعُ فيها بين الاسم والخبر في اللفظ. ووجهُ اشتراط التنكير أنها جواب لمن قال: هل من رَجُلٍ؟ فيجب أن يكون الجواب على حسب السؤال -وكذلك العامل عمل إنّ إنما علمت في النكرة خاصّةً اعتبارًا بجوابها، كما سيأتى، إن شاء الله. ثم قال: «وَقَدْ يَلِى لَاتَ وَإِنْ ذَا العَمَلَا»؛ يلى هنا من الولاية، كالإمامة وشبهها لا من وَلِى بمعنى قَرُب؛ يعنى أَنّ لات وإِنِ النافية قد يحصل لهما هذا العمل الحاصل للا من رفع المبتدأ ونصب الخبر. فقوله: ذا العمل، إشارة إلى أقرب مذكور، وهو لا، وقد مَرّ أنّ «لا» تعملُ بأربعة شروط، منها الثلاثة العامة في الكلّ، والرابع كونُ معموليها نكرتين، فكذلك لات وإن، فلا تعملُ واحدةٌ منهما

إلا في نكرة. وهذا في لات صحيح، وأما في إِنْ فلا، لأنها كما في الحكم، وما لا تختصّ بنكرة دون معرفة، كما مرّ، فهذا مُعْتَرَضٌ. فإن قيل: لم يُشِرْ بذا إِلّا إلى العمل المذكور على الجملة دون اختصاصٍ بلا دون غيرها، قيل: فيقتضى إذًا عدمَ الاشتراط في لات -وليس كذلك؛ فإنها لا تعمل في معرفةٍ كما ستراه. ولم يشترط في التسهيل تنكيرَ معمول إِنْ، وهو صحيح، ولا تنكير معمول لات، وفيه ما رأيت. فالاعتراض وارد على الكتابين. / وقد يجابُ عن ذلك بأنّ لات هى لا، أُنِّثت بالتاءِ، فإذا كان أصلُها يشترط في معموله التنكير فكذلك باقٍ في الفرع الذى هو لات، بلابُدٍّ. وهذا ظاهر في الجواب عن التسهيل؛ إذ أشار إلى أنّ لا هى الأصل بقوله: «وَتُكْسَعُ بالتاءِ فتختص بالحين أو مرادفه». وأمّا هنا فالجواب المذكور مبنىّ على أن لات هى لا، وكلامه محتمل فيها، وعلى أن الإشارة بذا لا تختص بعمل لا وحدها. وعلى الجملة فكان الأولى به أن يحرِّرَ كلامه؛ فلو قال مثلًا: فِى النَكِرَاتِ أُعْمِلتْ كَلْيسَ لَا لات، وَمِثْلَ ما أَتَى إِنْ مُعْملَا لحصل مراده من التحرير. واعتراضُ ثانٍ، وهو: أنه أطلق القول في إعمال لا ولم يقيّده بقلةٍ، وقيّد بها لات وإنْ، فاشعر أنّ لا من الكثرة في درجة ما أو نحوها. وليس

كذلك؛ بل الأحرفُ الثلاثة في نَمَطٍ متقارب من القلة، بحيث لا تبلغ أن تقرب من ما؛ ألا ترى أن سيبويه قال: «وقد جعلت لا -وليس ذلك بالأكثر- بمنزلة ليس». وكذلك قال السيرافي -وأيضًا إطلاقُه على لات القلة، ليس على حَدٍّ القلة في إنْ مثلًا، بل هى مختصةٌ بالحين، فلا تعملُ إلا فيه، ودخولها عليه واستعمالها فيه كثير. ولذلك لم يُقَيّده سيبيه بقلّة، وإنما ذكر أنها لم تصرف تصرفَ ليس. يعنى في أَنِ استُعملت في غير الحين، بل اقتُصِرَ بها على الحين خاصّةً، وذلك لا يقضى بقلتها في الاستعمال إذا كانت تُسْتعمل كثيرًا مع الحين. وإذا كان كذلك لم تستحق أن تجعلَ من القليل في الكلام، بل من الكثير، وقد قال هو فيها: «وحذفُ ذى الرفعِ فشا»، أى: كثر وشاع. وما كان قليلا لا يقال فيه: إنه فشا في الاستعمال. فهذا يشبه التناقض في كلامه. وأيضًا قلةُ استعمال إِنْ مثل ما لا يدلُّ على ضعف في القياس، ولاي قال في مثله: إنه قليل؛ لكون ما جاء فيها مقبولًا قياسًا، وهذا من السماع الذى يقاسُ عليه، كما يقاس على الكثير الشائع. ونظيره: شنوءَة -في باب فَعُوله، في النسب- إذ قيل فيه: شَنَئِىّ. ولم يسمع فَعَلِىٌّ في فَعُولة إلا في هذا اللفظ خاصّة، ثم إنهم أطلقوا القياس في فَعُولة إطلاقًا، ولم يقيدوه بقلةٍ، أولُهم سيبويه إلى هَلُمّ جرّا، ومنهم الناظم فلم يقيده بقلّةٍ كما قيّد هنا إِنْ. ولو فعل ذلك هنالك لكان مخطئًا، لأن ذلك السماع هو البابُ كلّه، كذلك قال أبو الحسن؛ وذلك لقاعدة في

الأصول العربية صحيحة. وهى أن الشئ إذا قلّ في السماع فلا يخلو أن يكون مقبولًا في القياس أَوْلا، فإن كان مقبولًا في القياس ولا معارض له، استوى مع ما كثر في القياس عليه مطلقًا، كما في مسألة شَنَئِىّ. وإن كان غير مقبول في القياس لوجود ما ينتقضُه ويعارضه فهذا هو الذى قد يُوقَف على السماع في بعض المواضع. وقد يطلق القباسُ فيه على استضعاف، وذلك بحسب قوّة المعارضِ وضعفه. وإذا ثبت ذلك ونظرت عامّة ما يطلق الناظمُ فيه القياس على قلّةٍ وجدته معارَضًا بما يضعفُ قياسه، وكذلك عادة غيره من النحويين، فإذا نظرنا إلى إِنْ في هذا الباب وجدناها تساوى ما في صريح القياس، لأنها مرادفتها، وَهبْ أنّ السماع قَلّ فيها، فذلك لا يُخرِجُها عن اللَحاق بما إذا لم يعارضها/ في هذا القياس معارضٌ يُضْعِف جرينه فيه، فكيف يسوغُ لنا تضعيفه؟ ! بل نقولُ: لو فرضنا عدم السماع في إنْ، وثبت لنا مساواتُها لما، لم يمنعْ مانع من إجراء القياس، كما قاس هو تركَ الإلغاءِ في كأَنّما ولعلّما ولكنّما، فأعملها مع وجود ما قياسًا على ليتما وَإِنّما. وهذا أيضًا مما يقوىّ إطلاق القياس فيه لا؛ لأنها عند الجمهور مختصّةً بنفي المستقبل، فخالفت «ما» فَضَعُف القياسُ عليها، والسماعُ قليلٌ، فاستحقتْ أن يطلق فيها لفظ القلّة. فالعجب من الناظم كيف عكس القضية، فَعَلّلَ ما لا يستحقّ التعليل، وترك ما يستحقه؟ ! والجواب: أن لا عنده من قبيل ما يسمع فيه الإعمال كثيرًا. وكذلك قال في التسهيل: «وتلحق بها -يعنى بما- إِنْ النافية قليلًا، ولا

كثيرًا». وإذا كان السماع فيها كثيرًا عنده، فهى في درجة ما أو قريبًا منها، فكما صحّ القياس في ما لكثرة السماع، صحّ في لا. وأما لات فإن القلة فيها ثابتة على الجملة، لأنها لما اختَصّ عمها بموضع واحد -وهو الحين- كان ذلك بالنسبة إلى ما تحتمله في القياس قليلا، وإن كان في موضعه المختصّ كثيرا. وعلى الاعتبارين يُحْمَلُ كلامه في الموضعين. ولا يتناقص؛ فقوله: «وَقَدْ يَلِى لَاتَ» باعتبار أن لها موضعًا واحدًا من كثير. وقوله: «فَشَا» باعتبار كثرتها في ذلك الموضع الواحد. وأَمّا القاعدةُ الأُصولية فصحيحة، ولا يلزم من صحتها اعتراض؛ وذلك لأن إِنْ مخالفة للقياس معارضةً به، وهو كونُ الإعمال على خلاف القاعدة لعدم الاختصاص. فالأصل في ما ولا وغيرهما أن لا تعمل؛ لكن جاء ذلك في ما كثيرًا شائعًا ثابتًا لغةً، فلم يكن بدُّ من إطلاق القياس فيها وإلّا خالفنا أهل الحجاز كلّهم. وأما إِنْ فلم يأت فيها من السماع ما يخرجها عن الأصل الأول من عدم الإعمال حتى تكون في درجة ما، فَأَخَذها الناظم في القياس من حيثُ قلةُ السماع، فلم يطلقه فيها، ولمعارضة الأصل الأوّل. ولم يِقْفها على السماع لمجيئها في القرآن (في قراءةٍ)، ولاعتبار الشبه بما. ومن ههنا يفهم قصده في لا، حيث لم يُقَيِّدها بقلّة لما كثر عنده من السماع فيها، فألغِىَ المعارض كما أُلغِىَ في ما باتفاق؛ فإذًا لا يصحُّ قياسها في إطلاق الإعمال على ما؛ لأنّ في «ما» ما ضَعّف المعارضَ وهو كثرةُ السماع، وليس كذلك في إنْ، فبقي المعارض على قوته. وإذا فُهِم هذا ظهر أن القياس على ما لا يصحّ في إِنْ، على فرض عدم السماع البتّةَ، لعدم قبول القياس الأَوّل له، (فَنفهم هذا

الأصل) فهو نافع جدًا يطلعُك على سِرّ ما قاس المتقدمون عليه من كلام العرب، وما لم يقيسوا عليه، وما قاسوا عليه على ضَعْفٍ أو بإطلاقٍ. وقد بَوّب ابن جني على القاعدة في الخصائص، وهذا شرحه وبه ظهر أنّ كلام الناظم صحيح في نفسه، لا اعتراضَ عليه فيه، وإنما يبقى فيه إثباتُ أن السماعَ في لا كثيرٌ، فهو الذى تَضَمّن عُهْدَته، وعليه بنيتُ الجواب، وبالله التوفيق. ثم نعودُ إلى كلامه/، فقوله: «وَقَدْ يلِى لاتَ وَإِنْ ذَا العمل». أما «لات، فَسيذكر. وأما إِنْ فإنّ سيبويه لم يُثيبِتْ لها عَمَلًا؛ لأنه لم يحفظ فيها شيئًا. ونِعِمّا فعل! وأما غيره فأثبت لها الإعمال؛ ذكر ذلك المبرد، وأنشد على ذلك: إنْ هُوَ مُسْتَوليًا عَلَى أَحَدٍ إِلّا عَلَى أَضْعَفِ المجانينِ وتابعه على ذلك الفارسيّ وابنُ جنِّى، وحكى في المحتسب عن سعيد بن جبير أنه قرأ: {إِنِ الذين تَدعُونَ مِنْ دُونَ اللهِ عبادًا أَمْثَالكم} -بتخفيف «إِنْ» ونَصْبِ «عبادًا أمثالكم»، على تقدير: ما الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم، أى: إنما هى حجارةٌ وخشب، وليسوا عقلاءَ مخاطبين مثلكم، فهم أقلُّ منكم، فكيف تعبدون ما هو أقلُّ منكم.

ثم عيّن موضع عمل لات فقال: «وَمَا لَلاتَ في سِوَى حِيْنٍ عَمَلْ». يعنى أن عَمَلَ لات مختصّ بالحين لا يتجاوزه، يريدُ قياسًا، فإنه قد جاءَ شاذًا عملهُ في غير الحين، ففي الحماسة من قول التميمىّ: لَهْفِى عليكَ لِلَهفَةٍ من خائِفٍ يبغي جوارَكَ حين لات مجيرُ فمجير هنا ليس بحين، والحين: الوقت، فهذا شاذّ، والشائع عمله في الحين، نحو قول الله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ منَاصٍ}. وأنشد الفراء قال: أنشدني المفضّل: تَذَكّر حُبّ ليلى لاتَ حينا وأضحى الشيبُ قد قَطَعَ القَرينا ولا يريد خصوصَ لفظ الحين، بل الزمان مطلقًا. وعلى ذلك حُمِل قولُ سيبويه: «وذلك مع الحين خاصّة». وقال ابن عصفور: «من حَمَله على أنه يريدُ بقوله «لا يكون إلا مع الحين»: -الحاء، والياء، والنون- فخطأ؛ فقد جاء عملها في غيره؛ أنشد الفراءُ: طَلَبُوا صُلْحنا ولات أوانٍ فأجبنَا أَنْ لَيس حينٌ بقَاءِ

وأنشد أيضاً قال: أنشد المفضل: وَلَتعرِفَنّ خَلَائقًا مشمولةً ولتَندَمَنّ ولاتَ ساعَةَ مَنْدمِ وعلى هذا تقول: خرجوا ولات يومُ خروجِ، وقدم زيدٌ ولات وقتُ قدومِ، ودعَوْا ولات ليلةُ إجابةٍ. وما أشبه ذلك. فإن قيل: قد تقدّم أن من شرطها أن لا تعمل في معرفة، وقد وقعت بعدها «هَنّا» وهى اسمُ إشارةٍ، واسم الإشارة معرفة. وتقدّم أنها لا تعملُ إلّا في الزمان و «هَنّا» اسم إشارة للمكان البعيد عند الناظم، أو القريب عند غيره، وذلك نحُو قولِ الأعشى: لَاتَ هَنّا ذِكْرى جُبَيَرةَ أَمْ مَنْ جاءَ مِنْها بِطَائِفِ الأَهْوَالِ! وقال حَجْلُ بنُ نَضْلَةَ الباهلى: حَنّتْ نوار ولات هَنّا حنّت وبدا الذى كانَت نوار أجنّتِ

وقال الطرماح: لاتَ هَنّا ذِكْرى بُلَهْنِيةِ الدّهْر وأَنّى ذِكرى السنِينَ المواضِىِ! فكيف هذا؟ فالجواب: أن هَنّا لا تختص بالإشارة إلى المكان، بل قد يراد بها الزمان، ومن ذلك هذه المواضع، فإن معناها الإشارة إلى الزمان بلا بُدٍّ، أى ذكرى جُبرة ليس في هذا الزمان، وحنينها ليس هذا الوقت. وكذلك ما بقي. وأما عملها في المعرفة فإنها عند ابن مالكٍ غير عاملة في هذه المواضع، بل هَنّا منصوبٌ على الظرفية، وما بعدها إن كان اسمًا فهو مبتدأٌ خبره هنّا، وإن كان فعلًا فهو على تقدير «أَنْ» محذوفة، وأَنْ وصلتها في موضع مبتدأ خبره هَنّا؛ كأنه قال/: لا هنالك ذكرى كذا، أو لا هنالك حين. نَقَلَ هذا المعنى عن الفارسىّ. قال: «وزعم ابن عصفور أن هَنّا اسم لات. وما قاله غير صحيح، لأن هَنّا ظرف غير متصرّف، فلا يخلو من معنى في»؛ فقد ظهرت صِحّةُ ما اشترط من عمل لات في النكرة وفي الحين. ثم قال: «وَحَذْفُ ذِى الرّفْع فَشَا والعَكْسُ قَلّ». يعنى أن المرفوع الذى رفعته لات فشا حذفٌه وشاحَ وكثر، وعليه القراءة المشهورة: {ولات حينَ مَناصٍ}. وجميع ما مرّ من الأبيات فإنما وقعت أسماء الزمان

بعدها منصوبةً، فالمرفوع محذوف تقديره: ولات حينُ ينادَوْنَ فيه حينَ مناصٍ. وكذلك يقدّر في سائر المواضع. وأما العكس، وهو حذف المنصوب وإبقا المرفوع، فقليل كما قال؛ فحكى سيبويه أن بعضهم قرأ: {ولاتُ حينُ مناصٍ}، برفع الحين؛ قال سيبويه: «وهي قليلةٌ». وعلى هذا يكون الخبر محذوفًا، أى: ولات حينُ مناصٍ حينصا ينادَون فيه. وكذلك يجوز رفع ما بعد لات في الأبيات على ذا القليل. وإنما جاز حذف المرفوع هنا -وإن كان الأصلُ ألا يحذفَ؛ إذ هو بارتفاعه بلات يشبه الفاعل، والفاعل لا يحذف- لأن أصل الكلام بعد لا الابتداءُ والخبر، فكما جاز حذفُ المبتدأ جاز حذف هذا. ولا يشبه هذا ما يرتفع بكان؛ لأن مرفوع كان بمنزلة ما يرتفع بالفعل الصريح؛ لأن تصرفها كتصرّفه، بخلاف لات فإن المبتدأ معها كأنه غير معموله لها، لما لم يصحّ إضماره فيها؛ ألا ترى أنك لا تقول: زمانُك لات زمانًا صالحًا، كما تقولُ: كان زمانا صالحًا، فكأنهم اعتبروا فيها هذا المعنى، فأجازوا حذف اسمها. وهذا تعليلٌ بعلّة قاصرة؛ إذ يلزم جواز الحذف في اسم ما ولا وإِنْ. وأما حذف الخبر دون الاسم فللشبه بالفضلة. وهذا أيضا تعليل قاصرٌ. وأما وجهُ كثرةِ حذفِ المرفوع وقلّةِ حذف المنصوب؛ لأن هذا الباب محمولٌ على بابِ كان، وقد ثبت أَنّ المنصوب في باب كان قائمٌ مقام معنى المصدر، فهو كالجزء من الفعل، بخلاف الاسم؛ ولأن الخبر به تمام الفائدة كما تقدّم، فلم يَسُغ حذفه في باب كان، وحُملَ لات على باب كان في ذلك.

فإن قيل: فكذلك ما ولا وإِنْ. قيل: نَعَمْ، ولكن لات أقرب شبهًا بليس من أخوات كان من غيرها؛ لأن اتصال التاء بها جعلها مختصّة بالاسم، فهى قربُ. وهى أيضًا شبيهة بليس في اللفظ إذ صارت بالتاء على ثلاثةِ أحرف أوسطها ساكن كليس؛ إلا أن الاستعمال خالف هذا القياس، ولكن بقي فيه لفظُ الحمل، فتحاموا في الأكثر حذفَ الخبر لما أشبه الخبر الذى هو عِوَضٌ من حدث الفعل. وهذا تعليلٌ أُجلِبَ عليه من مكان بعيد، وقلّما تجدُ من تُعَلّلُ هذا الموضعَ، فإن وجدتَ أقرب منه فَخُذه وقد حصل من كلام الناظم أَنّ حَذْف اسمِ لات شائعٌ، وحذف قليل. وليس في كلامه ما يدلّ على عدم اجتماعهما في الفظ، وفيه دليل عى عدم اجتماعهما في الحذف؛ إذ معنى قوله: «وحذفُ ذى الرفعِ فَشا» يعنى دون ذى النصب، وكذلك في العكس -أما عدم اجتماعهما في اللفظ فمسكوتٌ عنه، وعند ذاك يعترض عليه؛ لأن السابق إلى الفهم إثباتهما، فلذلك لم ينبّه عليه في الثابت منهما. ونبه على الحذف- لكن اجتماعهما في لات غيرُ موجود في كلام العرب ولا شائع في القياس، وقد نصّوا على ذلك. وإذا ثبت هذا/ فمن أين يُؤْخَذُ له هذا الحكم؟ ويعتذر عنه بأن قوله: «والعكسُ قل» يُفهَمُ منه بأوّلِ النظر أن القلة هى مقابلة الكثرة المذكورة قبلُ، وإذا فُهِم ذلك لم يبق لحالةٍ ثالثةٍ موضع؛ فإنه إذا قال: وحذفُ المرفوع دون المنصوب هو الكثير وردَ عليه سؤالُ من يقول له: فما القليل؟ فأجاب بقوله: إن القليل هو حذفُ المنصوب دون المرفوع. فانحصر الاستعمالُ في هذين الطرفين، فلا سبيلَ إلى فرضِ أمرٍ ثالثٍ هو إثباتُهما مثلا، فاقتضى أَنه غيرُ

موجودٍ، وذلك هو المرادُ، فَتَفَهّمْه. فإن قيل: فكيف تحقيقُ العكس في كلام الناظم، فإِنّ الظاهر أنه لا يتصوّر في قوله: «وحذفُ ذِى الرفع» خاصّة؟ فالجواب: أَنّ العكس ليس في هذا وحده، بل في أصل ذلك الكلام، وأصله: وحذف ذى الرفع وإثبات ذى النصب -أو: وحذف ذى الرفع دون ذى النصب- فشا. ولكن الناظم اختصره للعلم به. والعكس في هذا الكلام صحيح، فتقول: وحذف ذى النصب دون ذى الرفع قلّ. وبقي في لات أنه لم يُبيّن معناها، ولا ما أصلها؟ والنحويون فيها مختلفون على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا زِيدَتْ عليها التاءُ لمجرّد تأنيث الحرفِ، كثمّت ورُبّت، لأنها كلمة. وإمّا مبالغةً في المعنى المراد من نَفْىٍ أو غيره. والثاني: أنها حرف مستقلٌ بنفسه، ليس أصلها لا. والثالث: أنها ليس بعينها، لكن غُيّرت وأُبدلت سينها تاءً -كما قالوا: سِتّ وأصله: سِدْسٌ، بدليل التصغير على سُدَيس، والتكسير على أسداس- فصارت ليت، ثم انقلبت الياء ألفًا لتحركها في الأصل -إذْ أصلُها عندهم لَيِس- وانفتاح ما قبلها، فصارت لات، فلما تغيرت اختصّت بالحين. ومذهب الناظم منافٍ لهذا الرأىِ هنا بدليل قوله: «وحذفُ ذِى الرفعِ فشا» فجعله محذوفا كما يُحذف خبرا المبتدأ أو المبتدأ، ولو كنت لات عنده هى ليس لم يصحّ هذا، لأن مرفوعها الضمير فيها ولا يحذف كما لا يحذف من

ليس. وقد يظهرُ من سيبيويه هذا المذهبُ، حيث أطلق لفظ الإضمار عِوضَ الحذف. وحلمه ابن خروف على التجوز لا على حقيقة الإضمار، بناءً على أنها عنده حرف لا فعلٌ. وأما المذهبان الأولان فَيَحَتَمِل أن يكون الناظمُ ذهب إلى الأول منهما، لأن لما ترجم على الباب ذكر لا وما وإنْ، ولم يذكر لات، فأشعَر أن لات عنده هى لا كُسِعَتَ بالتاء، أى: ضُرِب في عَجُزها بها. ويحتملُ أن يكون مذهبه الثاني، لأنه لما ذكر حكمها ذكرها كالمستقلّة بنفسها، ولم يبيّن أنها هى لا، كما قال في التسهيل: «وتكسع بالتاء فتختص بالحين أو مرادفه».

أفعال المقاربة

أفعَالُ المقارَبَةِ هذا هو النوعُ الثالث من نواسخ الابتداء، وذلك أفعالُ المقاربة. وإنما سُمّيت أفعالَ المقاربة لأنها جِئَ بها لتدلّ على تقريب الخبر من المخَبرِ عنه، فإنما أتت لمعنى في المبتدأ والخبر، كما جاءت كان وأخواتُها لمعنى فيهما، وهو كونُ ذلك في الزمان المعيّن؛ فلذلك عُدّت من النواسخ. وكان الأصلُ فيها أن تدخل في باب كان، إلا أنّها/ اختصّت عن كان وأخواتها بحكمٍ لا يكونُ فيها، فلذلك أخرجوها عنها. وأفعالُ هذا الباب على ثلاثة أقسام: قسمٌ يقتضى الشروعَ في الفعل. وقسم يقتضى مقاربةَ الفعل والدنوّ من وقوعه حقيقةً. وقسمٌ للإعلان بالمقاربِة في الرجاءِ والطمع لا في الوجود. ولكلِّ واحدٍ منها حكمٌ يختصُّ به. والناظمُ خلطَ القسمين الأخيرين فجعلهما قسمًا واحدًا، وبه ابتدأ لإشكله في هذا الباب حتى اختلف فيه فقال: كَكَان كادَ وعَسَى لَكِنْ نَدَرْ غَيرُ مُضَارِعٍ لِهَذَيْن خَبَرْ وَكونُه بِدوُنِ أَنْ بَعْدَ عَسَى نَزْرٌ، وَكادَ الأمرُ فِيهِ عُكِسَا فأخبر أولصا أن هذين الفعلين -وهما: كاد وعسى- مثلُ كن، يريد في العمل والدخول على المبتدأ والخبر، فيرفع المبتدأَ كلُّ واحدٍ منهما

وينصب الخبر ككان، إلا أنهما فارقا باب كان بحكمٍ يختصّان به هما وما جَرى مجراهما، وهو كونُ المضارع يلزمُ أن يكون هو خبر المبتدأ الذى تدخل عليه، فلا يجوز أن تدخل على جملة يكونُ خبرُ المبتدأ فيها مفردًا، ولا جملةً اسمية، ولا فعليةً مصدرةً بماضٍ ولا أمرٍ. وهذا قد تبيّن في باب كان؛ فلا تقول: عسى زيدٌ قائما، إلا ما أشار إليه بقوله: ... لكن نَدَرْ غيرُ مُضَارعٍ لِهَذَينِ خَبَرْ يعنى أنّ عسى وكاد ندر فيهما وقوع الخبر غير فعل مضارع؛ مثالُ ذلك في عسى قولُ العرب: عَسَى الغويرُ أبؤسًا. فأبؤسًا خبر عسى، وهو مصدرٌ جُمعِ لاختلاف أنواعه، وكأنه قال: عسى الغوير أن يُبْئِسَ. فوضع بؤسً موضعه ثم جمعه. وهذا رأى الفارسىّ في هذا المثل، ومنهم من ذهب إلى أنّ أبؤسًا هنا بمنزلة ما أنشده الفارسىُّ وغيره: أكثرتَ في العَذْلِ ملحًا دائمًا لا تُكثَرِنْ، إِنّى عَسَيتُ صائما فقد وقع هنا الخبر اسم فاعل، فكذلك أبؤسًا على هذا الرأى، أى: ذا أبوسِ.

فإلى هذين الشاهدين أشار في عسى، وأما في كاد فلا تقول: كاد زيدٌ قائمًا، إلا نادرًا، نحو قول تأبط شرًا: فَأبتُ إلى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيبا وَكَمْ مِثْلِها فَارَقَتْهُا وَهْى تصْفِرُ وهذه هى الرواية الصحيحة. وروى وما كنت آيبا -ولا شاهد فيه. وكذلك لا تقول: عسى زيدٌ أبُوه منطلقٌ، ولا عسى زيدٌ قام. ولا ما أشبه ذلك. وعلى ذلك حكمُ كاد زيدُ أبوه منطلقٌ ولا كاد زيدٌ في الدار. ولا ما أشبه ذلك. وهذا الكلامُ صريحٌ في أنّ كاد وعسى من نواسخ الابتداءِ على الإطلاق لأنه قال: «ككانَ كادَ وعسى» إلى آخره. والمسألة مختلف فيها على أقوال ثلاثة: أحدها: هذا، فإذا جاء الخبر دون أنْ فظاهر، وإن جاء بأنْ فليس الفعلُ معها بتأويل المصدر، بل دخلت دالّة على التراخي والاستقبال خاصة. هذا في عسى، وأما في كاد فتشبيها بعسى، ودخولها فيهما كدخولها مع لعلّ في قولهم: لعلّ زيدًا أن يقوم. فَأَنْ يقوم هنا ليس في معنى المصدر ولا يتصور ذلك فيه، قال العُدَيل بن الفرخ:

لَعلّ الذِي قَادَ النوى أَنْ يَرُدّها إلينا، وَقْدُ يُدْنِى البَعِيد مِنَ البُعْدِ وقال متمم بن نُويرةَ: / لعلّك يومًا أَنْ تُلِمّ مُلِمّةً عليك من اللائى يدعنك أَجْدَعا فلا يمكن هنا أن يقال: إلّا أنّ «يَرُدّها» و «تُلِمّ» هو الخبر، و «أنْ» غيرُ معتبرة في معنى المصدرية. فكذلك هى في: عسى زيدٌ انْ يقوم، وكاد أن يخرج. والدليل على صحة هذا القصيد أنّهم لما أتوا بالاسم الصريح لم يأتو به مصدرًا، وإنما أتوا به اسم فاعلٍ، نحو: ... إِنى عَسَيتُ صائمًا وأما عسى الغوبرُ أبؤسًا، فعلى حذف المضاف، كما تقدم. ويمكن أن يكون أنْ المصدرية، لكن تكون مع ما بعدها (بدلًا من الاسم؛ إذ) القائل: عسى زيدٌ أنْ يقوم في قوة: عسى أن يقوم زيد. وإلى هذا ذهب في الشرح.

فإن قيل: فما يُصنَع بقولهم: عسى أن يقوم زيدٌ؟ فيأتى ذلك بُعَيد هذا، إن شاء الله. وهذا المذهبُ ذَهب إِليه ابنُ عصفور وابنُ الضائع. والقول الثاني: أنّ كاد وعسى ليسا من نواسخِ الابتداءِ على الإطلاق. أمّا عسى فذلك فيها ظاهر لِغَلَبةِ أنْ على ما جُعِل خبرًا لها، وأن مصدرية، وتقدير المصدر لا يصحّ. فإن قلت: عسى أن يقوم زيد، فهو أوضح في خروجها عن النواسخ؛ إذ لا خبر لها. وأما عسى زيدٌ يقوم، وعسى الغواير أوسًا، فنادرٌ لا حكم له. على أَنّ أبؤسًا ليس بمعارضٍ لأنه مصدر. وأما كان فإن قولهم: قَدْ كادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْصَحَا يدلّ على أنه غير ناسخ، لأنه هنا قد استغنى عن الخبر؛ إِذ قوله «أن يمصحا» لا يصحّ وقوعه خبرًا، فبقيت كاد بلا خبر. فلو مان مثل «كان» للزمه ولم يفارقه. وهذا مذهب الفارسىّ، صَرّح به في التذكرة، ويظهر منه في الإيضاح. والقول الثالث للجمهور: التفرقة؛ فإذا وقع الخبر بعدهما مصرّحا به كقوله: «وما كدتُ آيبًا»، و «إنى عَسَيت صائما»، فمن باب كان. وكذلك إذا وقع

بعدهما الفعل دون أنْ نحو: عَسَى يَفْتَرُّ بى حَمِقٌ لئيمُ وكاد زيدٌ يقومُ. وأما إِذا وقع بعدهما أَنْ فهما خارجان عن باب النواسخ وداخلان في حكم ما يرفع الفاعل وينصب المفعول من الأفعال. وهو ظاهر كلام سيبويه، ونصُّ المبرد وغيره؛ إلا أنّ لهم في وقوع أنْ بعد عسى تفصيلا سيأتى إن شاء الله. وللناظم أن يرجّح مذهبه بأنّه قد ثبتَ في هذين الفعلين وقوعُهما ناسخين، وذلك حيث صُرّح بالإخبار فيها، وإن كان نادرًا، فإنه مَنْبَهةٌ على الأصل المرفوضِ، كما كن قوله، أنشده سيبويه: صَدَدْتِ فأطولت الصدودَ وقلّما وصالٌ على طُولِ الصُّدودِ يدومُ لأن قاعدة الضرائر أنها ردُّ فرعٍ إلى أصلٍ، أو تشبيه غير جائز بجائز. فهذا من الأول. وكذلك أيضًا ثبت كونهما من النواسخ حيث أسقطت أَنْ، كما ثبت ذلك فيما كان من أفعال هذا الباب للشرح، نحو جعل وأخذ؛ فإنك تقول: عسى زيدٌ يقومُ، وكاد زيدٌ يقوم، كما تقول: جعل زيدٌ يقول، وأخذ يقول. فمن

فرق بين الفعلين فقد تعسّف! ولذلك أقرّ سيبويه بذلك فاحتاج إلى التفصيل المذكور حملًا على النظير ووقوفًا مع الظاهر. وعند ذلك يقال للفارسي: ما تقول في نحو: كاد زيد يقول؟ هل كاد هنا داخلةٌ على المبتدأ والخبر أم لا؟ فإن/ قال: نعم، فقد أَقَرّ على الجملة بِما أنكر من قبل. وإن قال: لا، قيل له: فما الفرق بين ذلك وبين جعل زيد يقول في أن أقررت بأن هذا من النواسخ والآخر ليس كذلك، بل الحكم في الجميع واحد وإنما يبقى الاعتراض بدخول أَنْ، وقد تقدّم تأويلها على وجه سائغ لا إشكال فيه، وعند ذلك لا يبقى ما يمنع الاطراد في دخول هذه الأفعال على المبتدأ والخبر، فهو أولى من تقسيمها إلى قسمين وكلّ ما كان في معنى عسى وكاد جارٍ مجراهما فيما ذكر. ولنرجع إلى كلامه. ثم قال: لكن نَدَرَ كذا، يعنى أنّ الغالب والشائع في كلام العرب أن يكون خبرُهما فعلًا مضارعًا فتقول: عسى زيد أن يقوم، وكاد زيدٌ يقوم. وإنما التزموا ذلك في خبارهما لأن معانيهما ومعاني سائر أفعال الباب التقريب، وذلك لا يكون إلا في الأفعال، فالتزموا في خبارها ذكر الأفعال، تنبيها على معانيها. وتنبيهُه على اختصاص هذين الفعلين بما ذكر من الحكم -وإن كان سائر الأفعال كذلك- بيان أنهما هما المختصان بورود خبرهما غير فعل، لأن غيرهما لا يكون فيه ذلك، بل المضارع فيها لازم. على لأنه قد

جاء في «جعل» الخبرُ جملة اسمية؛ أنشد ابن خروف: وقد جَعَلَت قلوصُ ابنىّ سُهَيلٍ من الأكوار مرتَعُها قَرِيبُ ولكنه من الشذوذ بمكان مكين. ومعنى كاد في اللغة: قارب؛ قال الجوهري: «كاد يفعلُ كذا كودًا ومكادةً، أى: قارب ولم يفعلْ. قال: وزعم الأصمعىّ أن من العرب من يقول: لا أفعل ذاك ولا كودًا. فجعلها من الواو» وذكر ابن سيده: كاد يفعلُ كذا كيدا: قارَبَ وهَمّ. ثم قال: ولا أفعل ذاك ولا كيدًا ولا همّا. فجعلها من الياءِ. وقد يقال: كِيد بِفعلُ. وليس بمبنى للمفعول، قال أبو خراش الهذلى: وكيد ضباع القف يأكلن جثتى وكيد خراس يوم ذلك تِيْتَمُ وأما عسى فمعناها الطمع والإشفاق، كَلعَلّ، فورودها للطمع هو الكثير. وورودها للإشفاق نحو قول الله تعالى: {لَعلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، {فَلَعَلّك تاركٌ

بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْك}. ثم قال: «وكونُه بِدُونِ أَنْ بَعْدَ عَسَى» .. إلى آخره. الضمير في «كونه» عائدا إلى المضارع الواقع خبرًا «وبدون أَنْ»: خبرُ الكونِ. يعنى أنّ كون الفعل المضارع واقعًا بعد عسى غير مصاحب لأَنْ قليلٌ، والكثير مصاحبته لأن، فقولك: عسى زيد أن يقوم، كثيرٌ شهيرٌ، وكذلك جاء في القرآن، كقول الله تعالى: {فَعَسى اللهُ أَنْ يَأْتِي بِالْفَتْحِ}، {عَسَى ربُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ}، {عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتَينِي بِهِمْ جَميعًا}. وقولك: عسى زيدٌ يقومُ، نزرٌ قليلٌ. ومنه ما أنشد سيبويه لهدبةَ بن خشرم العُذْرِىّ: عَسَى الكربُ الّذِى أَمْسَيتَ فيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ وأنشد أيضا: فأمّا كيّسٌ فَنَجا وَلَكِنْ عسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ وقال مالك بن الرّيب:

وَمَاذا عَسَى الحجاجُ يبلغُ جَهده إذا نحنُ جاوزنا حَفِيرَ زيادِ ووجه/ غَلَبةِ استعمال أَنْ ههنا وقِلّةِ عدمها أن الأفعال كما مرّ على ثلاثة أقسام: منها ما تلبّس [به] بالفعل. وهذا لا يليقُ به أن، لأنها تخلّص للاستقبال، والفِعْلُ حال، فَهُما متنافيان. وذلك جَعَل وأخواته. ومنها ما قَرُب من التلبُّسِ بالفعل ولم يُفْعَلْ، لكنه على تَهْيِئَةِ أَنْ يُفْعَل. وهذا القربِ معناه من الوقوع حُكِم له بحكمه، فلم تَلْحقه أَنْ، لأنهم قصدوا التقريب من الحال، وأَنْ تنافي هذا القصد، لكنهم اعتبروا في القليل حقيقة عدم وقوعه فألحقوها؛ إهمالًا للقصد، ونظرًا لحقيقة الأمر من عدم الوقوع بعدُ. وهذا كاد وما جرى مجراه. ومنها ما لم يقع ولا يجرى مجرى الواقع؛ إذ لم يقرب من الوقوع لكنه منتظر في الرجاء، فهذا هو الذى يستحقّ أَنْ، لأن الفعلَ مستقبل تحقيقًا، فدخلت هناك لتخلّصَ الفعل للاستقبال. وقد اعتبروه -في القليل- اعتبار كاد- فلم يلحقوا أَنْ؛ إذ الفعل في الرجاء مع هذا النوع كالفعل مع الوقوف في النوع قبله، كأنهم قربوه في رجائهم فصار بمنزلة ما قَربُ وقوعه. وذلك عسى وأمثاله. هذا هو التعليل اللائق بمذهب الناظم. وقد علل ذلك بما يرجع إلى المذاهب الأخر. ويقال: نَزُر الشئ -بالضم- ينزُر نزارةً، فهو نَزْرٌ، أي: قَلّ.

والنزر: التاف القليل، وعطاءٌ منزور. وإنما قال: نَزْرٌ، ولم يقل: شذّ؛ لأن سيبويه يظهر منه أَنّ عدم اللحاق في عسى لغة قليلة؛ ألا تراه قال: «واعلم أَنّ من العرب من يقول: عسى زيد يَفْعَلُ، تشبيها بكاد». فقد يمكن أن يُصْرَف إلى ما جاء في الشعر من ذلك. ولكن الأظهر الآخر. وبه جزم ابن خروف، فردّ على الأعلم حيث جعل حذف أَنْ في الشواهد المذكورة ضرورة. فلهذا -والله أعلم- عبّر بالنّزْر لا بالشاذّ. واستعمل «دون» متصرّفة فجرّها بالباءِ؛ لأنها عند سيبويه وغيره تتصرف -وأنشد المؤلف وباشرتُ حدّ الموتِ والموتُ دونُها برفع دون. ثم قال: «وكاد الأمرُ فيه عكِسا». يعني أن الحكم المقرّر في عسى هو معكوسٌ في كاد، والذى في عسى أنّ لحاق أَنْ في خبرها هو الشهيرُ، وعدمُها نادرٌ، فعُكِس هذا، وهو أَنّ عدم لحاق أَنْ هو الشهير، وثبوتها نادرٌ حاصل لكاد. فالكثير قولك: كاد زيد يقوم، وكاد العروسُ يكون أميرًا، وكاد الفقر يكون كفرًا. وفي التنزيل: {وَمَا كادوُوا يَفْعَلُونَ}. والنادر قولك: كاد زيدٌ أن يقوم. ومنه قول كعب بن مالك -رضي الله عنه- يردّ على ضرار بن الخطاب:

خَزَايا لم تنالوا ثَمّ خيرًا وكدتُم أَن تكونوا دامِرِينَا وأنشد سيبويه لرؤية -قال ابن عصفور: ولم يثبت في ديوان شعره-: قد كادَ من طول البِلَى أَنْ يَمْصَحا وأنشد المؤلف في شرح التسهيل: أَبيتُمْ قَبُولَ السّلم منّا فكدتُمُ لدى الحَرْبِ أن تُغْنُوا السيوفَ عن السلّ ويقتضى قولُ الناظم: «وكادَ الأمرُ فيه عُكِسا» أن يكون دخولُ أَنْ هنا غير شاذّ، كما كان إسقاطها في عسى كذلك، وسيبويه خصّ هذا بالشعر ولم يجعله لغةً لبعض العرب. لكن بنى الناظمُ على قاعدته في الاستشهاد بالحديث فلم يجعله مختصًا بالشعر، لأنه جاء في حدِيث عُمَر -رضي الله عنه-: «ما كدتُ/ أن أصَلى العصر حتى كادت الشمس أن تغرُبَ» -وسيبويه لم يبن على ذلك. والحقّ مع سيبويه، وما بنى عليه الناظم لا يثبت! ولعلّ للكلام معه في هذه المسألة موضعًا هو أليقُ به من هذا لموضع، قيتقرر الصواب في المسألة، إن شاء الله.

وضمير: «فيه» يعود على كاد باعتبار اللفظ. ثم أخذ يلحق بكل واحدٍ من الفعلين نظيره في عمله ورتبته وحكمه، فقال: وَكَعَسَى حَرَى، ولكن جُعِلَا خَبَرُها حَتْمًا بِأَنْ مُتّصِلَا وَأَلْزمُوا اخْلَولَقَ أَنْ مِثْلَ حَرَى وَبَعْدَ أَوشَكَ انْتِفَا أَنْ نَزَرَا فابتدأ بقسم عسى، وعدّ لها ثلاث أخوات، وهنّ: حَرَى، واخْلَولَقَ، وأَوْشَكَ. فأمّا حَرَى فمعناه عسى؛ قال ابن القوطية: «حَرَى أن يكون ذلك، بمعنى: عسى، فِعلٌ غير متصرفٍ». انتهى. وكأنه من قولهم: هو حَرَىَ بكذا، وحرٍ به، وحَرِىٌّ، أى: حقيقٌ به وجديرُ. وأحْرِى به، قال: فَأَجْرِ به لطُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيا وأما اخلولق فبمعنى: قارَب، أو قَرُب. يقال: اخلولقت السماءُ أن تمطر. وفيه قولهم: هو خليقٌ بكذا، أى جديرٌ به، وأخلِقْ به.

وأما أوشَكّ فقال الجوهرى: «أوشك يوشك إيشاكًا، أى: أسرع السير. قال: ومنه قولهم: يوشك أن يكون كذا». انتهى. وكأنه -فيما يُخَال- حقيقٌ أن يقع. هذا محصول معناه. فهي كلّها راجعة إلى قرب الوقوع في الرجاء أو في المخيِّلة. ثم نقول: قولهُ «وكَعسى حَرَى». يعنى أن حرى موافقة لعسى في أصل المعنى وفي العمل في المبتدأ الرفع، وفي الخبر النصب. وأشعر قوله: «ولكن جُعِلا» إلى آخره بأن الخبر بلزمُ أَن يكون فعلًا مضارعًا؛ لأن بناء الحكم بدخول أَنْ عليه يستلزمُ ذلك. فهو ثالث بني عليه، ودخل تحت قوله: «وكعسى حرى» أيضا، وإلّا أنه لو سكت هنا لأوهم حكمين غير صحيحين، أحدهما: مجئ الخبر اسمًا، كما جاء في عسى، حسبما تقدّم والثاني: جوادُ إسقاط أَنْ من الخبر إذا كان مضارعا، فاستدرك قوله: «ولكن جُعلَا خبرها» .. إلى آخره. يعنى: أن حَرىَ خالفت عسى بأن جاء خبرها متصلًا بأن حتمًا، لا يفارقها البتة؛ فحصل أنك لا تقول: حرى زيدٌ فاعلًا، لا قياسً ولا سمعًا، وأنك لا تقول: حرى زيدٌ بفعل، لا قياسًا ولا سماعًا. وإنما تقول: حَرىَ زيدٌ أن يفعل. فالتزمت طريقةً واحدة. وهذا الفعل من نوادر هذا الباب، وقلّ من يذكره من النحاة. وحتمًا: مصدر في موضع الحال من الضمير في «متصلًا» وهو ضمير الخير. والحَتْمُ: الواجب واللازم. والحتم أيضا: القضاء. وحتمت عليه الأمر:

أوجبته «وألزموا اخلولقَ أَنْ مثلَ حرى»، الضمير في «ألزموا» عائد على العرب. واخلولق على حذف المضاف، أراد: خَبر اخلولق. يريد أن العرب أتو بأَنْ في خبر هذا الفعل. وهذا الحكم مبنىٌّ على أنّ اخلولق من أفعالِ هذا الباب، وأن خبرها لا يكون إلا فعلا مضارعًا. لكن تُرِك ذكر ذلك للعلم/ به من جهة سياق الكلام، وما ذُكِر في حَرىَ، وكونُه قرن هذا الفعل بما هو مثل عسى في المعنى دلّ أنه من أخوات عسى -ومثال ذلك اخلولق زيدٌ أن يفعلَ، واخلولقت السماءُ أن تُمْطِرَ. ولا يجوز أن تقول: اخلولقت السماء تُمطِرُ، ولا اخلولقت السماءُ ماطرةً. ولا ما أشبه ذلك. وما زعمه الناظمُ في اخلولق من كونه من هذا الباب، فيه نظر؛ فإن سيبويه وغيرُه جعلوه خارجًا من أفعال المقاربة، وإنما يدخل فيها من جهة المعنى، وكذلك قارَبَ، لأنّك تقول: قارب زيدٌ أن يفعلَ؛ قال سيبويه: «تقول: عَسَيتَ أن تفعل. فَأَنْ هنا بمنزلتها في قولك: قاربت أَنْ تَفُعَلَ، أى: قاربت ذلك. وبمنزلة دنوتُ أن تفعل، واخلولقت السماء أن تمطر، أى لأن تمطر». فإذًا اخلولق على حكم تعدى الأفعال يقتضى فاعلاً ومفعولًا بحرف الجرّ، لأنك تقول: اخلولقت السماءُ للمطر. فقولك: أن تمطر، على إسقاط الخافض، بمنزلة إذا قلت: دنوت أن تَفْعَل، أى: من الفِعْلِ؛ فلو جاز أن يعدّ مثل هدا في أفعال المقاربة لجاز أن يعدّ منها: دنا وقَرُب وقارب، وما كان نحوها، مما اتفق على أنه ليس منها. وهكذا يجرى القول في حَرَى، لأنك تقول: هو حَرٍ بكذا، فتعدّيه كما تقول من اخلولق: هو خليقٌ بكذا. ويلزم ذلك أيضًا في نحو خليق وجدير وحقيق وقمِنٌ، وشِبْه

ذلك؛ صفة مشتقة من فعلٍ يستحقّ الدخول في الباب. وهذا كلّه بُعدٌ عن الإصابة في المسأة. والحقّ أنه لا يثبت حكم للكلمة حتى يتعيّن فيها كما تعيّن في عسى وأوشك. ثم قال: «وبعدَ أوشَكَ انتفا أنْ نَزَرا». هذا أيضا بناءً منه على أَنّ أوشك من أفعال هذا الباب، وأن خبرها يقع بالفعل المضارع لا يغيره، فيريدُ أمّ الخبر الواقع بعد أوشط الغالب فيه أن يقع مقارنًا لأنْ، فتقول: أوشك زيد أن يقومَ، ويوشك عبد الله أن يسافر. ومنه قول جرير بن الخَطَفَى: إذا جهل الشقىُّ فلم يُقَدِّر ببعض الأمرِ يُوشِك أن يصابا وأنشد ثعلب: ولو سُئِلَ الناسُ الترابَ لأَوشكوا إِذا قيلَ: هاتُوا - أَنْ يَمَلُّوا ويَمِنْعُوا وجاء إسقاط أَنْ نَزْرًا، فتقول في قليلٍ من الكلام: يوشِكُ زيدٌ يقومُ. وليس بمختصٍّ بالشعر، فلذلك لم يقل: شذّ؛ قال سيبويه: «وقد يجوز: يوشك تجِىْ، بمنزلة: عسى يجئُ». وأنشد لأمية بن أبي الصلت:

يُوشِكُ مَن فَرّ من منيّتِهِ في بعض غِرّاته يوافقها وقوله: «وبعدَ» متعلق بانتفاء، وهو مبتدأ خبرُه «نَزَرَ»، وقدّم الظرف على المصدر الموصول وهو ممنوع، لكن يجئُ مثلُه. ويحتمل أن يتعلّقَ باسم فاعلٍ حالٍ من فاعل نَزَر فيكون من معمولات الخبر، فيسهل الأمر في ذلك. وبعدُ فقد خالف رأيه في التسهيل في أوشك، فجعلها هنا في قسم عسى، فهى إذًا عنده من أفعال مقاربة الفعل في المخيلة والرجاء. وجعلها في التسهيل في قسم كاد، فهى عنده هنالك من أفعال مقاربة الفعل في الوجود. والمعنيان متباينان، والاتفاقُ على أنها لم يثبت لها الاستعمالات معًا، فلا بدّ إذًا من صدق أحد الرأيين، فإما أن يكون رأيهُ هنا صحيحًا فرأيه في التسهيل غير صحيح. وإما أن يكون/ بالعكس، فالاعتراض عليه ورادٌ لا محالة. والجواب أن ما قاله هنا هو الصحيحُ الموافق لما ذكره الناسُ؛ فقد ذكر الشلوبين وتلامذته ابن الضائع والأبذي/ وابن أبي الربيع: أنّ أوشك ومن قسم عسى الذي هو للمقاربة في الرجاء قال ابن الضائع والدليل على ذلك أنك تقول: عسى زيد أن يَحُجّ، ويوشك زيدٌ أن يحجّ -ولم يبرح من بلده- ولا تقول: كاد زيدٌ يحجّ إلا وقد أشرف عليه، فلا يقال ذلك وهو ببلدة.

ويظهر من بعض المتأخّرين أن أوشك من قسم الشروع كأخذ. وليس بصحيح لما ذُكِرَ. وقد وافق المؤلفَ ابنُه في شرح هذا النظم على ما قاله في التسهيل، وكأنه يفسّر معنى نظمه. وهنا. وما فسّرته به من أنّ أوشك من قسم عسى هو الأظهر منه؛ وبيان ذلك أنه ذكر أولًا فعلين من قسمين ثم ألحق بعد ذلك بكلّ فعلٍ ما أشبهه فقال: وكعسى كذا، وأردفه بَحَرى واخلولق وأوشك. ثم رجع إلى كاد فقال: «وَمِثْلُ كادَ في الأَصَحِّ كَرَبا». فهذا المساقُ ظاهرٌ جدًا في أوشك من قسم عسى دون قسم كاد، مع أن هذا التفسير موافقٌ لكلام الناس. فإن قيل: إنّ تفسير الجوهرى لأوشك يؤذن بمعنى كاد؛ إذ قال: إن معناه معنى أسرع. قيل: ذلك ليس على حقيقته، وإلا لزم أن يكون من أفعال الشروع إذا أخذنا بظاهر هذا التفسير، وإنما معناه المقاربة في الرجاء وفي التوقّع لا في الوقع. فالصوابُ إذًا ما أعطاه ظاهر النظم من موافقة الناس. ثم رجع إلى قسم كاد وما يُلحقُ به من الأفعال فقال: وَمِثْلُ كادَ فِى الأصَحِّ كَرَبَا وَتَرْكُ أَنْ مَعْ ذِى الشُّرُوعِ وَجَبَا كَأَنْشَأَ السّائِق يَحْدُو وَطِفقْ كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ يعنى أن كَرَبَ لاحقةٌ بكاد ومماثلةٌ لها في هذا الباب من جهة المعنى والاستعمال: أما جهة المعنى فإِنّ كَرَبَ معناها مقاربةُ الفعلِ في الوقوع لا في الرجاء

ولا في الشروع، وبذلك فسّرها الجوهرى فقال: «وكَرَب أن يفعل كذا، أى: كاد يفعلُ. وأصل الفعلِ من قولهم: كَرَب الشئُ أى: دنا، وإثاءٌ كربان: إذا كرب أن يمتلئ. وكربت الشمس، أى: دنت للغروب». وهذا كلّه فِسّر معنى كاد. وأما جهة اللفظ فقد تقدّم أن كاد إنما يقعُ خبرها في الغالب فعلًا مضارعًا غير مقرون بأن إلا في النادر، فكذلك كرب، فإنك تقول: كرب زيدٌ يفعلُ، دون أن قال سيبويه: «وأمّا كاد فإنهم لا يذكرون فيها أن»، قال: «وكذلك كرب، ومعناها واحدٌ، تقول: كرب يفعل». وهذا من سيبويه نصٌّ على صِحّة ما قال الناظم من أنّ كرب مثل كاد في المعنى وحكم اللفظ. ويدلّ على ذلك أيضًا من جهة السماع قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يرثى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَذَاكَ أَحقُّ ما سَالَتْ عَلَيهِ نفوسُ القَوْمِ أَوْ كَرَبَتْ تسيلُ فالمعنى ههنا معنى كاد بلا بُدِّ. ومثله مما استعمل بغير أَن على المشهور في/ الاستعمال قولُ الكميت:

وما أنتَ أم ما رسومُ الديارِ وسِتُّوك قد كَرَبَتْ تكملُ؟ ! وأنشد المؤلفُ: كَرَبَ القلبُ من جَواهُ يَذُوبُ حين قال الوشاةُ: هندٌ غضوبُ وقد جاءَ خبرها بأن، كما أتى في خبر كاد. ومنه قول أبي زيد الأسلمي: سَقَاها ذَوُو الأحلامِ سَجْلا على الظّما وقد كَرَبتَ أعناقُها أَنْ تَقَطّعَا وأنشد المؤلف: قَدْ بُرْتَ أو كَرَبْتَ أَنْ تَبُورَا ووجهُ دخولِ أَنْ هنا أو عدمِ دخولها قد مَرّ في كاد. وقوله: على الأصحّ، أو: «في الأصح»، أراد في القول الأصحِّ والرأى الأصوب -وهذا منه تنبيه على خلافٍ في المسألة لم يذكره في التسهيل ولا شرحه، ولا في الفوائد، ولا (هو) فى الكتب التى بأيدينا، وإنما وجدت في ذلك

ما ألقِيه إليكَ: فأما الخلاف في المعنى فإن ابن الحجب في مُقَدِّمته النحوية جعلها من أفعال الشروع، فقال في أفعال المقاربة: هى ما وُضِع لدُنُوِّ الخبر رجاءً أو حصولًا أو أخذًا فيه». ثُمّ لمّا عدّ أفعال الأخذ فيه عدّ في جملتها كَرَبَ. وهذا نص فيما قلته، وأحسب أنه ليس بمذهبٍ اخترعه، بل هو ناقلٌ أو آخذ بمذهب غيره. وللزمخشرى عبارة تشعر بما نصّ عليه ابن الحاجب فقال في المفصل: «ومنها كرب وأخذ وجعل وطفق». فلعلّ الناظم أشار إلى هذا الخلاف المعنوى. وأما الخلاف في حكم اللفظ فإن شيخنا -رحمة الله عليه- رأيت بخطّه عند هذا الموضع تنبيهًا على وجود الخلاف، وأنّ ثَمّ من يقول: إن كَرَبَ مخالفة لكاد؛ فإنّ الأكثر في كاد عدم لحاق أَنْ، وفي كرب اللحاقُ وعدمُه سِيّانِ، لا مزيّةِ لأحدهما على الآخر. وهذا المذهب ظاهر -لَعَمْرِى- من نصّ التسهيل والفوائد للمؤلف، وما ذهب إليه هنا موافق لجمهور الناس، حيث جعلوا لحاق أَنْ مع كرب نادرًا، والذى شرح فيه ابنُ الناظم هذا الموضع غيرُ ما تقدّم، بل قال: ولم يذكر سيبويه في كَرَب إلا تجريد خبرها من أَنْ، لذلك قال الشيخ -يعنى أباه-: «وَمِثلُ كادَ في الأَصحِّ كَرَبا» انتهى. وكأنه بنى على أن الناظم خالف سيبويه حين لم يذكر في كَرَب دخولَ أَنْ؛ إذ لم يحفظه، بخلاف كاد عنده فإن حكى فيها دخولَ أَنْ، فكأنّه يقول: الأصحّ كونُ كرب أختُ كاد في صحة

الوجهين، وإنْ كان أحدهما نزارًا والآخرُ شائعًا، لا أن تنفردَ به بوجه واحدٍ وهو ترك أَنْ جملة؛ لأن السماع فيها موجود بالوجه الآخر. والذى يغلب الظن أن الناظم لم يُرِدْ هذا، لأن سيبويه لمّا لم يسمع فيها دخولَ أَنْ اقتصر على وجه واحد، لم ينفِ الآخر ولا تعرّض له، فجاء منَ بعده فسمع لحاقَ أنْ فاستدركه عليه، ولم يَعُدّ سيبويه مخالفًا؛ لأنه لو سمعه لنقله في كاد أختها، وإنما ينبغي أن يُنبّه على المخالفة أنْ لو نَفَى جواز لحاقها، ولم يفعلْ ذلك، فكيف يسوغ أَن ينتقل عن سيبويه أنه مخالف في المسألة؟ ! هذا ما لا ينبغي، بل لو قد نفي بناءً على عدم سماعة عنده لم يكن عن بعده حسنًا إن يعدّه مخالفًا. وكثير من المسائل تقع في على هذا السبيل لسيبويه/ وغيره ولا تعدُّ من مسائل الخلاف، اللهم إلا أن يحتج للنفي ويناضل عنه البتة فربّما يَسوغُ للمثبت أن ينقله خلافًا، كما يحتج للإثبات، فيصحّ للنافي نقله خلافًا؛ فإذًا هذه المسألة بعيد أن يَعْيِها الناظم بالأصح. والأظهر ما تقدّم نقلُه عن شيخنا رحمه الله. إلا أنه على الناظم في إحالته على كاد شئٌ، وهو أنه حكى في كاد زيادة على الوجهين أنّ خبرها جاء غير مضارع نادرًا، وهو قد أحال في حكم كرب عليها، فاقتضى أن خبرها جاء غير مضارع أيضا، كما اقتضى الوجه النادر في لحاق أ، لكن ذلك غير موجود في القل، فإطلاقُ الإحالة غير سديد. والجواب: أن الناظم قد نَصّ على أن غير المضارع لا يقع في هذا الباب خبرًا إلا لكاد وعسى خاصّة، وذلك حيث قال أول الباب:

لكن نَدَرْ غَيرُ مُضَارِعٍ لهَذينِ خَبَرْ يعنى كاد وعسى، فخرج غيرهما عن أن يقع غير المضارع خبرًا لواحدٍ من البواقي، فلم يبق ما يحيل عليه في كاد إلا الوجهان الباقيان. وهذا ظاهر. وسؤَالٌ ثانٍ، وهو: أنه اقتصر هنا على نَقْلِ فعلين من هذا القسم، وقد عُلِم أن له أفعالًا آخَر لم يحكها ولا أشار إليها، وفي التسهيل ثلاثة منها، وهى: هَلْهَلَ، وأَوْلَى، وأوشك. أما أوشك فقد مر ما فيها، فبقي اثنان، وعدّ الشلوبين وغيره منها: قارب. فأما هَلْهَلَ فقال الجوهري: يقال: هَلْهَلْتُ أدْرِكه، كما يقال: كِدْتُ أُدُركه. وأنشد: هَلْهَلْتُ أَثْأَر مالكَا أو صِنْبِلَا وأما أَوْلَى، فتقول: أولى زيد أن يقوم، بمعنى: قارب أن يقوم. وأنشد الأصمعى: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث

أي: «قارب أن يزيد». وأما قارب فتقول: قارب أن يفعل، كما تقول: كاد أن يفعل. والجواب أن يقال: لعلّه ترك ذلك لِعلّةٍ؛ فهلهل من النواد التى لا يذكرها النحويون، وهذا لا ينجيه، فقد ذكر حرى، وهى نادرةٌ أيضا. وأمّا أولى فهى محتملةٌ أن تكون اسمًا أو فعلًا؛ قال الأصمعيّ في قول الشاعر: فَأَوْلَى ثُمَ أَوْلَى ثُمّ أَوْلَى وهل للدّرِّ يحلبُ من مَرَدِّ؟ : «معناه: قاربه ما يهلكه، أى: نزل به». وأنشد: فعادى ... البيت. فهذا يحتمل أن يكون تفسير معنًى، لأنهم يفسّرون «أولى لك» بذلك، وهو اسم لا فعلٌ، قال مكى: «العرب تقول لكلّ من قارب الهَلَكَة ثم أفلت منها: أولى لك، أى: كدت تَهْلِكُ». فإذا ثبت هذا لم يَسُغ إثبات ولى مع وجود هذا الاحتمال. وأما قارب فليس منها إلا من جهة المعنى فقط، ولم يذكره سيبويه على أن من الباب، بل على موافقة المعنى، وهو بعد ذلك فعلٌ متعدٍّ تعدّى سائر الافعال. فالصواب عدم عدِّه منها. ثم شرع في القسم الثالث، وهو قسم الشروع في الفعل فقال: «وَتَرْكُ أَنْ مَعْ ذِى الشُّرُوعِ وَجَبا»، يعنى أَنّ ما كانَ من هذه الأفعالِ لمعنى الشُّروعِ في

الفِعْلِ فتركُ أن فيها/ هو الواجب، فلا يجوز أن تدخُلَ على أخبارها. وهذا الكلام بيان أن أخبارها أفعال مضارعه كما تقدم، فتقول: جعل زيدٌ يقومُ، ولا تقول: جعل زيدٌ أن يقومَ، للتنافى الذى بين أَنْ وهذه الأفعال حسبما تقدّم. وأتى الناظم بأفعال خمسة: أحدها: أنشأ، ضَمنه مثالًا هو قولهُ: «أنشأ السائق يحدو». فأنشأ بمعنى شرع وابتدأ، ولذلك أطلق عليها أفعال الشروع، لأن ذلك معناها. والسائق، من ساق الإبل وغيرها يسوقُها سوقًا: إذا قدّمها بين يديه، ومنه قوله تعالى: {وجاءَتْ كلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ}. والحادي: سائقُ الإبل بالغناء لها، وقد حدوتُ الأبل حَدْوًا وحداءً. ومثال ذلك في الشعر ما أنشد المؤلف: لما تَبَيّنَ مينُ الكاشحين لَكُمْ أنشأتُ أُعِربُ عما كان مكتُوما وأنشد الجوهرى: أنشأتُ أسألُه: ما بالُ رفْقَتَهِ حَىّ الحُمُولَ فإِنّ الركبَ قد ذَهَبَا والثاني: طفق، يقال زيدٌ يفعلُ كذا يطفَقُ طَفَقًا، أى جعل يَفْعل. منه قولُ الله تعالى: {وَطَفقا يَخْصِفانِ عليهما من وَرَقِ

الجنّةِ}؛ قال الأخفش: وبعضهم (يقول): طفَقَ -بالفتح- يطفقُ طفوقًا. وأنشد المؤلف في طِفق بيتًا لم أُقَيِّدْه كما أحبُّ. والثالث: جعل، نحو قولك: جعل زيدٌ يقرأ، بمعنى أخذ في القراءة. وأنشد الفارسىّ وغيره: وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُنى ثَوبي فَأْهَضُ نهضَ الشاربِ الثّمِلِ وأنشده سيبويه: وقد جَعَلْت نفسي تطيبُ لضغَمةٍ لِضْغمهما يقرعُ العظمَ نابُها وأنشد ابن جني:

قد جَعَلَ النعاسُ يَغْرِنَدينِي والرابع: أخذ، كقولك: أخذ زيد يقرأ وأما عَلِق فنحو: عَلِقَ زيدٌ يقرأ، بمعنى أخذ وجعل. وأنشد صاحب الصحاح: عَلِق حَوْضِى نُغَرٌ مُكِبٌّ إذا غَفَلْتُ غَفْلَةَ لِعُبُّ قال: أى طَفِق. وأنشد المؤلف: أَراكَ عَلِقْتَ تَظْلمُ مُن أَجَرْنا وظلمُ الجار إذلالُ المجيِر فكلّ هذه الأفعال لا تلحقُ أخبارَها أنْ البتّةَ. وفي قوله: «كأنشأ السائق يحدُو» .. إلى آخره ما يشعرُ بأنّ ثَمّ أفعالًا أُخَرَ لم يذكرها تدخُل في هذا القسم لأنه أتى بأدارة التشبيه ولم يحصُر. وقد زاد في التسهيل: طَبِقَ، بالباء أخت التاء مكسورة، فتقول على هذا: طبق زيدٌ يقرأ. ولم يأت عليه بشاهدٍ. وزاد: هَبّ، وقد حكاه الجوهرى فقال: وهبْ فلان يفعلُ كذا، كما تقول: طَفِق يفعلُ. وأنشد المؤلف: هَبَبتُ ألومُ القلبَ في طاعَةِ الهوى

فَلَجّ، كأني كنتُ باللوم مُغْرِيا وقوله: «كذا جعلتُ وأخذتُ وعلقُ». يعنى أنها مثل ما تقدّم من أفعال الشروع في المعنى والحكم المذكور. ثم ذكْر ما تصرّف منها وما لم يتصرف، خوفًا أن تحمل كلُّها محملًا واحدًا، ظنّا أن هذه الأفعال في التصرف مثل كان وأخواتها، فيتوهم أن لها أفعالٌ مضارعة، وأسماءَ فاعلين، ونحو ذلك تعملُ عملها، فقال في ذلك: وَاسْتَعْمَلَوا مُضَارِعًا لأَوْشَكَا وَكَادَ لَا غَيْرُ، وَزَادُ وامُوْشِكَا حقيقة هذا الكلام أن أكثر هذه الأفعال لم تتصرّف تصرّف الافعالِ، فلم يستعمل لها مضارع ولا أمرٌ/ ولا بُنِى منها اسم فاعل ولا مفعول. وإنما اقتُصِر بها على حالةٍ واحدة لكن بحيث فهم منها قصدُ الاقتصار؛ فإن عدم استعمال المضارع والأمر وغيرهما. بمجرّده لا يدُلُّ على عدم التصرف، وإلّا لَزِمَ أن يقف في كل فِعْلٍ من الأفعال على السماع. وكذلك في كل اسم فاعل أو اسم مفعول. وليس الحكم كذلك، بل إذا سمعنا بعض أنواع الفعل قسنا عليه سائر الأنواع، بخلاف ما إذا فهمنا الاقتصار على ما استعمل فهذا هو الذى لا نستعمل منه إلا ما استعملته العرب. وأفعال هذا الباب من ذلك؛ فالغالب فيها عدمُ التصرف، إلا أنهم استعملوا المضارع وحده من فعلين منها، واسم الفعل من واحدٍ، وذلك قولُ الناظم:

واستعُملوا مضارعًا لأوشكا وكادَ لا غيرُ ... ... يعنى أن العربَ صاغت لأوشك وكاد المضارع فتكلمت به على معنى المقاربة الداخلة في هذا الباب؛ فأما أوشك فإنهم قالوا: يوشكُ زيدٌ أن يقومَ، ويوشك أن يكون كذا. وفي الحديث: «كالرائع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». وأنشد سيبويه: يُوشِكُ من فَرّ من مَنيّتهِ في بَعْضِ غِرّاتِة يُوافِقُها واستعمالهُم للمضارع هنا أكثر من استعمالهم للماضى، ولذلك تجدُ أكثر النحويين إنما يذكره في هذا الباب مضارعًا. وأما كاد فإنهم قالوا فيه: يكاد زيد يقومُ. وفي التنزيل المقدس: {يكادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهبُ بالأبْصَارِ}، {يكادُ زيتُها يُضِيءُ وَلَو لم تمْسَسْهُ نار، نورٌ} {يكاد السموات ينفطرْن منه}. وهو كثير. وأما غير هذي الفعلين فلم يستعمل له مضارع، كما لم يستعمل لواحد منها أمر، فلا تقول: يطفق زيدٌ يقومُ، ولا يجعل يخرج، كما أنه لا يقال: أَوْشِكْ

يا زيدُ أن تقومُ، ولا كَدْ تقوم. والى ذلك أشار بقوله: «لا غيرُ»، أى إنّ المضارع لا يستعملُ من غيرهما البتة. وقوله: «وَزَادُوا مُوشِكا»، يعنى أنهم زادوا في أوشك على استعمال المضارع استعمال اسم الفاعل، فقالوا نحو: زيدٌ موشكٌ أن يقوم. ومنه قول أسامة بن الحارث الهذلي: فموشكةٌ أرضُنا أن تعودَ خلافَ الأنِيسِ وحوشًا يَبابَا وقال كُثَيْرٌ: فإنك موشِكٌ أَنْ لا تراها وتعدُو دُونَ غاضرةَ العَوادِى وأراد ها التقييد بلا غيرُ، إلا أنه تركه للعلم به، فكأنه قال: وزادوا في أوشك -لا غير- موشكا. والله أعلم. (ثم قال): بَعْدَ عَسى اخْلَولَقَ أَوشَكَ قَدْ يَرِدْ غِنًى بِأَنَ يَفْعَلَ عَنْ ثَانٍ فُقِدْ يعنى أنّ أنْ والفعل المضارعَ، وهو الذى عَبّر عنه بأنْ يفعلَ، قد يقع بعد هذه الافعال الثلاثة، وهى عسى واخلولق وأوشك، فيستغنى به عن الإتيان

بالمعمول الثاني، وهو الخبر المفقود من الكلام، فتقول: عسى أن يقوم زيد، واخلولق أن يقوم زيدٌ، وأوشك أن يقوم زيدٌ. ويعطى هذا الكلام أنّ أنْ مع الفعل في موضع رفع اسمًا لعسى، فإن المفقود من المعمولين هو الثاني، قال، فالأولُ إذًا غير مفقود، وإذا كان موجودًا وليس ثمّ مع الفعل إلا أنْ والفعل، وذلك الاسم، فهما إذًا في موضع رفع الفعل، وقد قَرّر أن هذه الأفعال الثلاثة من النواسخ، فالرفع على أنّ المرفوع اسمها، وصار لما كان في قوة الجملة وفي معناها سادّا مسدّ الخبر، لأنه مذكور. وفي القرآن من هذا: {وعَسَى أن تكرهوا شيئًا وَهُوَ خيرٌ لكم، وعَسَى أن تُحِبُّوا شيئًا وهو شرٌّ لَكُم} و {عَسَى أن يبعثَكَ رَبُّكَ مقامًا محمُودًا}. ومثل ذلك يلزم في الفعلين الباقيين. وما قاله الناظم ها هو أحد المذاهب الأربعة في المسألة. والثاني/: أَنّ أَنْ وما بعدها في موضع الرفع على الفاعلية بمنزلة قَربُ ودنا، فكما تقول أن يقومَ زيد، ويكون «أن يقوم» فاعلًا، فكذلك هنا إذا قلت: عسى أن يقوم. وهو في اخلولق وأوشك ظاهر. والثالث: أَنّ أنْ وما بعدها في موضع نصب المفعولية، والاسم الظاهر بعد الفعلِ والفاعل، وهى بمنزلة قارب، فإذا قُلْت: عسى أن يقوم زيدٌ، أو اخلولق أن قوم، فَأَنْ يقوم في موضع المفعول، وزيد فاعل، كأنك قلت: قارب أن يقوم زيد، أى: القيامَ زيدٌ. وهذان المذهبان بناءٌ على هذه الأفعال هنا غير نواسخ، وأنّ أنْ

مصدرية والرابع: يتخرج على قول من جعل أن غير مصدرية، وهو أن يكون «أن يقوم» هو الخبر، وزيدٌ هو الاسم، لك تنازعه مع فعل المقاربة الفعلُ الواقع خبرًا، فصار بمنزلة: عسى يقومُ زيد، والبناءُ هنا على أنها نقاصة كما كانت في الأصل. فأمَا رأْىُ الناظم فقد مرّ أنه إذا ثبت أن هذه الافعال تكون نواقص في بعض المواضع بلا نزاع، فالاولى أن يردّ سائر المواضع إلى ذلك. ونحن ههنا قادرون على ردّها، فهو الذى ينبغي، فإذا أسندت هذه الافعال الثلاثة إلى أن الفعل وجهت بما يوجه به «حسب» إذا وقع أن الفعل في موضع مفعوليها نحو قول الله تعال: {أَحَسِبَ الناسُ أَنْ يُترَكُوا}، وقوله: {أم حسبتم أن تتركوا}، وما أشبه ذلك. فلما لم تَخْرُجُ «حَسِبَ» بذلك عن أن صلها، كذلك لا تخرج عسى وأختاها عن أصلها. ووجه ذلك في حسب ونحوها أنّ أن والفعل سدّا مسدّ الجزأين اللذين أصلُهما المبتدأ والخبر، وإن كانا مؤولين بمفرد؛ فإنّ ذلك قد تضمن المبتدأ والخبر ملفوظا بهما؛ وإذ ضمير «يُتْركُوا» هو المبتدأ، و «يترك» هو الخبر، والتقدير: أحسب الناس أنفسهم متروكين. فكذلك تقول: عسى أن يقوم زيد، أَنْ يقوم في تأويل مفرد، وهو يتضمن الجملة، فزيدٌ هو المبتدأ في المعنى، ويقوم الخبر. وهذا لا إشكال فيه على الجملة. قال ابن الضائع: «لما كان هذا المرفوع -يعنى أَنْ والفعلَ- يتضمن الخبر والمخبر عنه ملفوظا بهما، سدّ مسدّهما، كما سدّ- في: أقائم أخواك؟ - المرفوع عن الخبر؛ ألا ترى أنه يجوز على مذهب الأخفش: كان قائمٌ أخواك، وكان ناقصة قال: «وينبغي على قياسِ قولِ سيبويه أن يجوز: ما كان قائم أخواك؛ لأن النفي

يُجوِّز الابتداء بالنكرة، وقد اعتمد اسم الفاعل على كان». قال: «ومن هذا قولهم: ظننتُ أن زيدًا قائم، فأنّ مع بعدها في تقدير اسم مفرد، وجازَ ذلك في ظنتُ، وإن كان لا يجوزُ: ظننت قيامَ زيدٍ، بالنظم إلى ذِكْرِ الخَبر والمخبر عنه في الكلام خبرًا ومخبرًا عنه» - قال: «واحُترِزَ بهذا التقييد من إلزام ظنننتُ قيام زيد». هذا ما قال، وهو ظاهر كما ترى؛ إلا أن الفارسىّ ردّ هذا في التذكرة، ومنعه جملة، لأنّ أنْ في عسى واقعة موقع الفاعل، ولا يصلح أن تقع جملة موقع الفاعل، لأن الفاعل لا يكون جملة، لأنه يُضْمَرُ، ويكنى عنه، ويثنى ويجمع. ولا يجوز شئٌ من ذلك في الجمل، ولا يجوز أن تكون أنْ واقعةً موقع الجُمْلة بعد الفعل، ولا أن تُسدّ مسدّ الجملة هنا لأنها في معنى المفرد، وفي موضع مفرد مرفوع، وإلا فأين مرفوع الفعل في عسى أن يقوم زيدٌ؟ فلا بُدّ أن يقال/: أنْ والفعلُ، وأَنْ والفعلُ مفردٌ، كما في نحو: أعجبني أن تقوم. فإن قيل: فقد وقعت أنْ وأنّ موقع الجملة في: ظننت أن يَقُومَ زيدٌ، وأنّ زيدًا يقوم، فكذلك هنا. فالجواب: أنهما لم يقعا موقع البتة، وإنما وقعا موقع المفرد، وإنما سدّ ما جرى في الصلة من ذكر الخبر والمخبر عنه في المعنى مسدّهما، كما سدّ الفاعل مسدّ الخبر في: أقائم الزيدان؟ فاستغنى معه عن خبر المبتدأ، كذلك استغنى بذكر الخبر والمخبر عنه عن أن يعدّى الفعل؛ قال الفارسي: ولم يقع الإفرادُ موقع الجملة في شئٍ علمناه.

هذا كلامه على بسط بعض ما فيه مع تحرّى معناه، وهو كما ترى وارد ويصعبُ الجواب عنه. ولكن نجيب بأن نقول: إنّ أنْ والفعلَ وقعت في اللفظ مع عسى موقع الاسم المرفوع، فإنه مفرد في التقدير، لكن لما كان الخبر في المعنى واقعًا في صلة أَنْ، وهو الفعل الموالى لأن استغنى به عن ذكره؛ إذ لا يحتاج إليه من جهة المعنى مع وجوده، فلم يقع المفرد موقع الجملة، وإما وقع المفردُ موقع المفرد، واتفق أن ما في صلة المفرد سدّ مسدّ الخبر، كما اتفق الفارسىُّ معنا على أَنّ «أَنْ» مع ظنت واقع موقع المفرد، وسدّ ما في صِلَتِه مَسّدّ المفعولِ الثّاني، وهو خبرُ المبتدأ في الأصل، فمسألة حَسِبَ نظيرة مسأة عسى، وهو ما تقدّم ذكره، ولا يبقي بعد ذلك أشكال. والمذهب الثاني مرجوعٌ؛ فإنه إخراجٌ لهذه الافعال عما ثبت فيها إلى أمر محتمل، وأيضًا فإن أمكن ذلك في غير عسى فلا يمكن في عسى لأنها غير متصرّفة، ولا دالّة على حدث ولا زمان، فكيف تعدّى [تعدية] الفعل المتصرف وتجعل دالّةٌ على معناه من الحدث والزمان؟ هذا خلاف المقرر فيها؛ فإنْ جَعَل ذلك أمرًا معنويًا لم تخرج به عسى [عن] أن تكون من النواسخ؛ لأن الادوات قد تتحمّل معاني الافعال الصحيحة، ولا تخرج بذلك عن حكمها المستقرّ فيها، كليت وكأنّ وأسماء الإشارة ونحوها. والمذهب الثالث إيضا، فيه ما في الثاني ويزيد محذورًا آخر، وهو أنه لو كان كما قال للزم إبرازُ الضمير مطلقًا واتصاله بعسى إذا كان ضمير مخاطب، فكنت تقول: عسيت أن تقوم، ولا يجوز على ذلك أن تقول: عسى أن تقوم، إلا

أن هذا باطل، لقول الله تعالى: {وعسى أن تكرهُوا شَيئًا وهو خيرٌ لَكُم، وعَسَى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌّ لكُم}. وكذلك كان يلزم الإبراز في الفعل الثاني إذا كان الاسم مثنّى أو مجموعًا، فكنت تقول: عسى أن يقوما الزيدان، وعسى أن يقوموا الزيدون. ولو أعمل الثاني لزم أن تقول: عسيا أن يقوم الزيدان، وعَسَوا أن يقُوم الزيدون؛ فلا يقال: عسى أن يقوم الزيدان، ولا عسى أن يقوم الزيدون. وهذا فاسدٌ، فإن العرب تقوله. وأما المذهبُ الرّابعُ فلا ينبغي الحمل عليه ما وجدتَ عنه مندوحةً. فالأولى ما ذهب إليه الناظم. واعلم أنه حين بَيّن أَنّ أَنْ والفعل في موضع رفع بعسى أو واحدٍ/ من أخواتها، أشعر ذلك بأنّ لفظ الفعل لا يختلف بحسب اختلاف أحوال الاسم بعده، إلا بحسب ما يختلف الفعل لاختلاف فاعله فتقول: عسى أن يقوم الزيدان والزيدن، وعسى أن تقوم هند والهندان والهندات، وكذلك: الهنود، في أحد الوجهين. وعسى أيضا لا تختلف. فالحاصلُ من كلامه من أول الباب إلى هنا يدور على مسألتين إحداهما: عسى زيد أن يقوم. وهذه يشترك فيها جميع أفعال الباب. والثانية: عسى أن يقوم زيد. وهذه مختصة بثلاثة الأفعال المذكورة. وذلك كله عند عدم اسم يذكر قبلها، فأما إن ذُكِر اسم قبلها فإن ذلك يتفرع على هاتين المسألتين، وهو الذي قال فيه:

وَجَرِّدَنْ عَسَى، أو ارْفَعْ مُضْمَرَا بِهَا إذَا اسْمٌ قَبْلَهَا قَدْ ذُكِرَا فيعنى أنّ عسى إذا تقدّمها اسم مذكورٌ قبلها، فلك فيها وجهان: أحدهما أَنْ تُجرّد عسى -يغنى عن الضمير جملةً- وتجعل «أنْ يفعلَ» هو المرفوع بها، وتسدّ إذ ذاك مسدّ المنصوب، حسبما تقدم آنفا، فتقول: زيدٌ عسى أن يقوم. والزيدان المسألتين المتقدمتى الذكر. والوجه الثاني: أن يضمر فيها ضمير يكون مرفوعًا بها، والخبر: أَنْ والفعل. وذلك الضمير عائد على الاسم المتقدم، فيطابقه في إفراده وتثنية وجمعه، وتذكره وتأنيثه؛ فتقول: الزيدان عسيا أن يقوما، والزيدون عَسَوا أن يقوموا، وهند عَسَتْ أن تقوم، والهندان عستا أن تقوما، والهندات عَسَين أن يَقُمنَ. فيكون الضمير في هذا الوجه اسمَ عسى، وأَنْ والفعل الخبر، كما تقول: زيد كان يقوم، والزيدان كانا يقومان، والزيدون كانوا يقومون، ونحوه. وهذه هى المسألة الثانية من المسألتين. وقول الناظم: «إذا اسمٌ قبلَها قد ذُكِر»، لم يعيّن ههنا حال هذا الاسم، من كونه مبتدأٌ أو غير ذلك؛ لأن المقصود صحة إعادة الضمير عليه من عسى؛ وإذا لت زرتُ المريض وعسى أن يفيق، وجاء زيدٌ فعسى أن يقرأ. وما أشبه ذلك -[فهو] داخل في مقتضى إطلاقه. وتخييرُ بين هذين الوجهين هو تخييرٌ

بين لغتين للعرب حكاهما الإمام فقال: «ويقولون عسى أن يفعل، وعسى أن يفعلُوا، وعسى أن يفعلا» .. إلى آخر ما قال، ثم قال: «ومن العرب من يقول: عسَى، وعسَيا، وعسَوا، وعسَتَ وعستا، وعسَين» ... إلى آخره. وإذا تقرّر هذا بقى على الناظم دَرْكٌ من وجهين أو ثلاثة؛ فإنه قَصَر هذا الحكم على عسى وحدها دون اخلولق وأوشك، فاقتضى أنهما غير داخلين معها. وهذا غيرُ مستقيم، بل هما داخلان مع عسى في الحكم؛ لأنك تقول: الزيدان أوشك أن يقوما، وأوشكا أن يقوما، والزيدون أوشك أن يقوموا، وأوشكوا/ أن يقوموا. وكذلك التأنيث في الإفراد وغيره. وهذا منصوصٌ عليه للمؤلف وغيره. وكذلك اخلولق على القول بإلحاقها بأفعال المقاربة. وقد نصّ على ذلك في التسهيل، فاقتصارهُ على عسى إيهام يقتضى إخراج غيرها، فلو قال عَوِضًا من ذلك: وَجرِّدَنْهُنّ أو ارْفَعْ مُضْمَرَا فيعودَ الضمير على ثلاثة الأفعالِ المذكورة قبلُ -لاستقام كلامُه وجرى على ما ينبغي، لكنه لم يفعل، فكان معترضًا. هذا وجه. والثاني: أنه أتى بالمسألة قاصرة؛ فإنه قصرها على ما إذا تقدم عسى اسمٌ، ضمير متكلم أو مخاطب فإن الوجهين سائغان، واللغتان ثابت، فتقول: عسى أن تقوم يا زيد، وعسيتَ أن تقوم، وعسى أن أَقُوم،

وعسيتُ أن أقوم. ومن ذلك في القرن: {وعَسَى أن تكرهُوا شيئًا وهو خيرٌ لكم}، . وفي موضع آخر قال: {هل عَسَيتم إن كُتِب عليكم القتالُ أنْ لا تُقاتلوا}، فكان من حقه أن يأتى بالمسألة مُكَمّلة، وإلا أوهم أن الوجهين مختصان بما إذا ذكر قبل عسى اسمٌ. وذلك غير صحيح. والثالث: أنه نَقَصه وجه ثالثٌ جائز، وهو أن تنصب عسى ذلك المضمر ولا ترفعه، وذلك في لغة من يقول: عساك أن تقوم، وعساني أن أخرج، وعساه أن يركب. وأنشد سيبويه لرؤبة: يا أبَتَا علكأَوْ عَسَاكَا وأنشد لعمرانَ بن حِطّان: وَلِى نَفْسٌ أَقُولُ لها إذا ما تُنَازِعُنِى: لَعَلِّى أَوْ عَسَانِى وليس ذلك بِمقصُورٍ على السماع، بل هى لغة للعرب حكاها الناسُ. ووجهُها أنهم حملوا عسى محمل لعلّ، فأعملوها إعمالها لما اجتمعت معها في

معنى الرجاء والإشفاق، كما حَمَلُوا لعلّ على عسى في إدخال أَنْ في الخبر، نحو لعلّ زيدًا أَنْ يَقُومَ، كما جاءَ في الحديث: «ولعلّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجّته من بعض». فكان ينبغى له أن ينبّه على هذه اللغة الثالثة. والجواب: أن الأول لازمٌ، لا أجدُ الآن عنه جوابا. وأما الثاني فإنه لم يحتج إلى التنبيه على ما ذكر لأنه داخل في مسألتى الباب الأُولَيَين، لأنك إذا اجتزأت بأن والفعل فلا إشكال، وإلا فلا بُدّ من مبتدأ وخبر، وقد يكون ظاهرًا وضميرًا، فإذا كان ضمير متكلم أو مخاطب فلا بدّ من ذكره على إحدى اللغتين. فلما كان حكم ضمير المتكلم والمخاطب داخلًا فيما تقدم، لم يحتج إلى ذكره. فإن قيل: فكذلك أيضا إذا تقدم الاسمُ عسى فلا فرق، فإذا قلت: زيد عسى أن يقوم -ولا ضمير في عسى- فهى قد اجتزأتْ بأَنْ والفعل عن ذكر الخبر، وإذا كان فيها ضمير فهى لم تجتزئ بل دخلت على المبتدأ والخبر، فلم يزد تقديم الاسم شيئًا. والجواب: أنه إن لم يزد شيئًا فقد أوهم أمرًا محتاجًا إلى زواله، لأنه إذا تأخّر الفعل عن الاسم، وهو يطلبُه من جهة المعنى، فالسابقُ إلى الوهم الإضمار/ فيه، كقولك: زيدٌ ضرب عمرًا، بل (هو) الواجب في مثل هذا -وكذلك قولك: زيدٌ عسى أن يَقُومَ، عسى فيه طالبةٌ لضمير زيد، وصالحة له، فقد يتوهم أن حكمها حكمُ سائر الافعال في وجوب الإضمار والتزام وجه واحدٍ من الوجهين؛ فبيّن أن الوجهين معًا سائغان

في المسألة ليرتفع الإيهام. والله أعلم. وأما الثالث فالجواب عنه من وجهين، أحدهما: أن تلك اللغة قليلة، نصّوا على ضعفها، وضعفُها من جهة السماع، فإنها لم تكثر في الكلام، ومن جهة القياس لإخراج عسى -وهى فعل- من بابها، وهو باب كان إلى باب إِنّ. والثانى: أنّ هذه اللغة في التحصيل راجعة إلى إحدى اللغتينن المذكورتين؛ فإن الضمير -وإن كان بلفظ المنصوب- هو في موضع رفع على رأى الأخفش؛ فإن بعض الضمائر قد تُوضع مَوْضِعَ بعض، كقولهم: ما أنا كأنت. وعلى ذلك حمل بعضهم قول العرب: كن كما أنت. فأنت في موضع جرٍّ بالكاف وما زائدة. وزعم الفراء أن من العرب من يقول: مررتُ بإيّاك. وأنشد الكسائي: فأحسن وأجمِلْ في أَسِيركَ، إنّهُ ضعيفٌ، وَلَمَ يَأسِرْ كإيّاكَ آسِرُ ولذلك يقول الأخفش أيضًا في لولاكَ ولولاهُ ولولاىَ: إن الضمائر في موضع رفع، وضعوا ضمير النصب موضع ضمير الرفع، والباب باقٍ على أصله، فكذلك هنا في عسى الكاف والباءُ والهاءُ في موضع رفع، والخبر منصوب.

والمسألة ذاتُ أقوال ثلاثة: أحدها: أنها -أعنى عسى- حُمِلت على لعلّ، فنصبت الاسم ورفع الخبر: والثانى: أنها باقيةٌ على أصلها، إلا أن الضمير خيرٌ مقدّم، والاسم أَنْ والفعل. وهذا رأى المبرّد، والأولُ رأىُ سيبويه. والثالث: ما تقدم للأخفش. قال المؤلف: «وقولُ الأخفش هو الصحيح عندى لسلامته من عدم النظر؛ إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير غير موضوع للرفع عن موضوع له؛ وذلك موجودٌ لقول الراجز: يا ابنَ الزُّبَيرِ طالَما عَصَيْكا أراد: ما عصيت، فجعل الكاف نائبة عن التاءِ؛ ولأن نيابه غيره عنه؛ ولأَنّ العرب قد تقتصر على عساك ونحوه، فلو كان الضمير في موضع نصبٍ لزم مه الاستغناء بفعلٍ ومنصوبه عن مرفوعه، ولا نظير لذلك، #بخلاف كونه في موضع رفع، فإن الاستغناء به نظير بمرفوع كاد في نحو: من تأتّى أصاب أو كاد، ومن تعجل أخطاء أو كاد». قال: «ولأن قول سيبويه يلزم مه حملُ فعلٍ على حرفٍ في العمل، ولا نظير له». ويلزمُ المبردَ الاكتفاءُ بالمنصوب أيضًا في نحو: عساك

تقومُ -بغير أَنْ، والإخبار باسم عين جامدٍ عن اسم معنى، ووقوع الخبر في غير موضعه بصورةٍ لا تجوز فيه إذا وقع موقعه؛ لأنك إذا قلت في عساك أن تفعلَ: عسى أن تفعلَ إياكَ، لم يجز، وما لم يَجُزْ في الحالة الاصلية حقيق بأن لا يجوز في الحالة الفرعية فثبت أن رَأْىَ الأخفش أولى الأقوال/ بالصواب. وعند ذك يكون قولُك: عساك أن تقومَ، وزيد عساه أن يخرج بمنزلة: زيد عسى أن يخرج -والضمير في عسى- غير أنه يبقى بيان هذا الاختلاف، وذلك موكول إلى نظر الناظر أو الكتب المطولة. واعلم أَنّ وقوع الضمير المنصوب (في) موقع المرفوع مختصّ بعسى دون اخلولق وأوشك؛ لأن عسى هى المرافقة للعلّ في المعنى، فعوملت في اللفظ معاملتها، بخلاف الفعلين الآخرين. ثم قال الناظم: وَالفَتْحَ والكَسْرَ أَجِزْ فِى السِّينِ مِنْ نَحْوِ عَسَيْتُ، وانْتِقَا الفَتْحِ زُكِنْ هذه تتمة القول في إحدى المسألتين في هذا الباب، وهى أن الفعل المذكور الذى هو عسى، إذا أسند إلى ضمير متكلم أو نحوه، وهو ضمير المخاطب، فإن لك في سين عسى وجهين: أحدهما: فتقول: عَسَيتُ أَنْ أقومَ، مثل: عَنَيتُ.

والثاني: الكسر، فتقول: عَسِيتُ أنْ أقومَ، مثل: نَسِيت. وكذلك ما كان نحو عَسَيِتُ أَنْ أقومَ، مثل: نَسِيت. وكذلك ما كان نحو عَسَيِتُ، مثل عَسِينا، وعَسَيِتَ، وعَسَيْتُما، وعَسِيتُمْ، وعَسَيتُنّ في ذلك كله الوجهان. والضابطُ الذى أشار إليه بالمثال هو أن تُسنِد عسى إلى ضمير يسكن معه آخر الفعل؛ فقولهُ: من نحو كذا، إخبارُ عن كل موضع كانت فيه مسندةٌ إلى ضمير يسكن معه آخر الفعل، فيدخ كل مسند في التاء وحدها نحو عَسِيت، أو مع غيرها نحو عَسِيتم، أو النون: الهندات عَسِينَ، أو نا نحو عَسِيا. فهذا كله فيه الوجهان. وقد قُرِئ قولُ الله تعالى: {قَالَ: هَلْ عَسَيتم إِنْ كُتِب عَليكُم القِتَالُ أن لا تُقَاتِلوا}، وقوله: {فَهَلْ عَسَيتم إن تَوَلّيتم أن تُفْسِدُوا في الأَرْض}، بالوجهين. وقوله: «والفتح والكسر»، منصوبٌ بأجِزْ. و «في السين»، متعلقة به. و «من نحو» متعلق باسم فاعل محذوف ثم نبّه على اختيار الفتح بقوله: «وانتقا الفتح زُكِن»، الانتقاء بالمدّ فقصره ضرورة، معناه: الاختيار؛ يقال: انتقيت كذا، أى: اخترته. ومعنى زكن: علم. يريدُ أن اختيار الفتح هو المعروف المعلوم. قال في الشرح: ولذلك قرأ به ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، ولم يقرأ بالكسر إلا نافع. وإنما كان المختار لأنه اللغة الفاشية الشهيرة، قال مكي في

اختصار الحجة للفارسي: «حجة من كسر أنها لغة في هذا الفعل إذا اتصل بمضمر خاصة، ويدلّ على ذلك ما حكاه ابن الأعرابي من قولهم: هو عَسٍ بكذا، مثل: شَجٍ وحَرٍ، قال: فهو إذًا فِعْلٌ مثل شَجِى». قال: «وحجة من فتح أنها اللغة الفاشية المستعملة مع المضمر والمظهر، ويقوّى ذلك أنه قد أُجْمِع على فتح السين مع المظهر، فواجب أن يكون مع المضمر كذلك؛ لأن المضمر يصيبُ المظهر». وذكر أنّ قياس لغة الكسر إذا أُسنِدَ الفِعلُ إلى ظاهر أن يكون: عَسِى زيدٌ، الكسر مثل رَضِى، إلا أن نافعًا أخذ بالأمرين فكسر مع المضمر وفتح مع المظهر. وقد قال بن دَرَسْتُويه: إن الكسر لغة رديّةٌ شاذة. /فالحاصل أنّ سببَ الاختيار لفتح وجهان: كونه اللغة الفاشية، بخلاف الكسر. وكونُه جارٍ على القياس لعدم اختلافه مع الظاهر والمضمر، بخلاف الكسر فإنه يختلف الأمرُ فيه، فيكون موجودًا مع المضمر، ولا مع كل مُضْمر، ومعدوما إلى الرجوع إلى الفتح مع الظاهر. فهى لغة مضطربةٌ في القياس. فاختيارهُ الفتحِ للسماع والقياس معًا.

إن وأخواتها

إِنّ وَأَخَوَاتِهَا هذا هو النوعُ الرابعُ من نواسخِ الابتداءِ، وذلك إِنّ وأخواتها. وكان الأصلُ في الحرف -إذا اختُصّ بما يدخُلُ عليه من الأسماء، ولم يكن كالجزء منه، ولا شبيها بغير المختص- أن يعملَ الجرّ بَيّن في الأصول. وإنما يخرج عن أصله لشَبَهِهِ بغيره، فأشبهت هذه الحروف كان وأخواتِها من جهة طلبها للمبتدأ والخبر، واختصاصها بهما والاستغناء بهما، فلم تكن كألا وأمَا الاستفتاحيتين في عدم الاختصاص، ولا مثل لو ولولا في عدم الاستغناء بهما عن الجواب؛ إذ كانتا امتناعيتيّن، وكذلك إذا المفاجأة لافتقارها إلى كلام سابق. وهذا وجه الشبه عند ابن مالك. وعند الزجاجى -رَحِمه الله- أنها أشبهت الفعل المتعدّى إلى واحدٍ من خمسة أوجه: أحدها: أن معانيها كمعاني الأفعال من التوكيد والمنى والترجي والتشبيه والاستدراك ولذلك عَمِلت كأنّ -بما فيها من معنى التشبيه- عَمَلَ الفعل في نحو قول النابغة: كَأنه خارجًا من جَنْبِ صَفَحَتهِ والثاني: أن عددها كعدد الأفعال، : لأن منها ثلاثيا، ورباعياً، وخماسياً.

والثالث: أن أواخرها مفتوحة كأواخر الماضى. والرابع: أنها تطلب اسمين من وجهين مختلفين، وذلك أنها تطلب الخبر، لأنها إنّما سيقت لتوكيده أو تَمنّيه أو تَرجّيه أو غير ذلك من المعاني المذكورة. وتطلب المبتدأ بتوسط الخبر لأنه مطلوبه لا على اللزوم. والخامس: أنها يتصل بها ضمير المنصوب كما يتصل بالفعل، فتقول: إِنّك، وإنّه، وإننى كما تقول: ضربك، وضربه، وضربنى. ونقضها السهيلى كلّها إلا الرابع، قال: أما اتصال الضمير المنصوب بها فلم يكن غلا بعد حصول الشبه الموجب للعمل، ولولا ذلك لم يتصلْ بها، فلا فرق في ذلك بين الضمير والظاهر في أن كلّ واحدٍ منهما ثانٍ عن الوجه الأول الذى أوجب لها العمل. وأما الثلاثة الباقية فموجودة في حرف ثُمّ، ولم يوجب لها ذلك شيئًا من العمل. هذا ما قال، وهو في الخامس صحيح، وفي غيره غير صحيح. فتأمله. قال شيخنا -رحمه الله-: وأجود ما يقال في ذلك -والله أعلم-: أنّ اختصاصها بالجملة الاسمية هو الذى أوجب لها العمل، وأما الشبه المذكور فلم يوجب لها شيئًا من العمل، وإنما أوجب تقسيم العمل على حسب الحاصل في معموليها. ولنرجع إلى كلامه/:

لإِنّ أَنّ لَيْتَ لَكِنّ لَعَلْ كَأنّ عَكْسُ ما لِكَانَ مِنْ عَمَلْ كإِنّ زَيْدًا عَالِمٌ بِأَنّى كُفْءٌ، وَلَكِنّ ابنَهُ ذُو ضِغْنِ لإِنّ: متعلّق بمحذف هو خبرٌ للمبتدأ، الذى هو عكسُ -وأراد: لإِنّ، وأنّ، وليت ولكّ، ولعلّ، وكأنّ. فحذف العاطف على عادته. ويعنى أنّ هذه الأدواتِ لها من العمل في المبتدأ والخبر عكسُ ما ثبت لكان فيها، وقد تقدّم أن كان ترفع المبتدا وتنصب الخبر، فعكسُ هذا -الذى هو نصبُ المبتدأ ورفعُ الخبر- ثابتٌ لإنّ وأخواتها. والذى دلّ على أنها تعملُ في المبتدأ والخبر إحالتُه على [عمل كان، فقد ثبت ذلك فيها، فكذا في هذا ووجه ثبت عكس العمل هنا أنّ إِنّ وأخواتها لمّا ساوتْ كان في العمل، [و] أرادوا أن ينبهوا على فرعيّة العمل فيها- عكسوه، فجعلوا النصب في الاسم والرفع في الخبر، ليكون معها كمفعول قُدِّم وفاعل أُخّرِ. فإن قيل: فِلمَ لَمْ يكن مثل هذا في ما وأخواتها؟ فالجواب: أنهم أرادوا أيفصلوا بين ما يُشْبِه الفعلَ ولفظُه لفظُ الفِعْلِ، وبين ما يشبه الفعلَ وليس لفظُه لفظَ الفِعْلِ، قاله الزجاج؛ وذلك أَنّ لفظ هذه الحروف كلفظ الفعل لكونها ثلاثيّةً فما زاد، وكونها مفتوحة الأواخر، فأرادوا أن يفرقوا بينهما ليتبيّن الحرف من الفعلِ، بخلاف ما وأخواتها فإنها متميزة الألفاظ من ألفاظ الفِعْلِ، فلم يحتاجوا إلى تفرقة. وأيضا الفرعيّة فيها تظهر في جهة أخرى، وذلك في إبطال العمل عند تقديم الخبر ودخول إلّا ونحو ذلك. وهذا كلّه تعليل بعد

السماع. ولما ظهر من كلامه أن هذه الأحرف تنصب الاسم وترفع الخبر، ظهرت مخالفته للكوفيين في مسألتين: إحداهما: ما زعموه من أن هذه الأحرف لا ترفع الخبر البتة، وإنما اقتصر بها على عمل النصب. والدليل على صحة ما قاله الناظم أنا لم نجد في عوامل الأسماء ما يعمل نصبًا دون رفعٍ البتةَ، وقد وجدنا عمل الجرّ وحده، وذلك حروف الجرّ، وما يعمل الرفع وحده، وذلك الابتداء والمبتدأ، أو الخبر، العائد على المبتدأ؛ فقولُ من قال: إن هذه الأحرف تعمل النصب وحده -مُصَيّرٌ إلى ما لا نظير. وهذا أبعد من قولهم في «ما»: إِنّها تعملُ الرفع فقط؛ لأنّ لما قالوه هناك نظيرًا بخلاف. فإن قيل: إن لهذا نظيرًا أيضًا على مذهبكم، وذلك المنادى، فإنه منصوب بيا وأخواتها، وكذلك التى لنفي الجنس عند سيبويه، هى ناصبةٌ غير رافعة. فالجواب: أن المنادى ليس بمنصوب بيا لا عندكم ولا عندنا، أما عندكم فهو منصوبٌ للكثرة استعمال، وأما عندنا فبفعل مُقَدّر. فالاتفاقُ على أن حرف النداء غير ناصب. وأما لا فإن الاقتصار بها على النصب مذهبًا لكم فالصحيح عند الناظم خلافُه، وإن لم يكن مذهبا لكم فبناؤكم عليه صحيح؛ / فإن القياسَ على أصل يُعتَقَدْ فسادُه فاسدٌ. وأيضًا

فالخبرُ إِذا لم يرتفع بالحروف -ولا بُدّ له رافع- فلا يخلو أن يكون المبتدأ أو غيره، فإن كان المبتدأ لم يَصِحّ لأنه الآن غير مبتدأ. فإن: إن الأصل فيه المبتدأ، والأصل معتبر، لزمهم أن يُعِمِلُوا الخبر في المبتدأ من تلك الجهة، أو الضمير من الخبر، وذلك لا يصحّ. فإن قيل: إن الخبر إنما يعملُ في المبتدأ بشرط ألا يكون عامِلٌ آخَرُ. قيل لهم: وكذلكَ دعى أنّ المبتدأ لا يعمل في الخبر إلا بشرط أن يكون العاملُ في المبتدأِ الابتداءُ. فجوابُهم على هذا نُجِيب به على ما قالوه. فإن قيل: إنّ هذه الحروفَ إنّما عملت بالشّبَه اتفاقًا، وإذا كان كذلك فينبغي ألّا تعمل في الخبر، لأن ذلك يؤدّى إلى التسوية بين الأصل الذى هو الفعل، والفرع الذى هو الحرف. فالجواب: أن الشبه هو الذى يقتضى العمل في الأمرين، وضعفُ الفرع موجود في جهة أخرى، وذلك في منع تقدّم مرفوعها على منصوبها وغير ذلك من الأحكام. وهنا أدلّة أُخَرُ من الجانبين يكفى هذا منها. والثانية: أن الناظم من حيث قَصَر هذه الحروفَ على عمل الرفع في الخبر مع نصب المبتدأ، دلّ ذلك على مخالفته لمن أجاز في الخبر النصب، فأما الفراءُ فأجاز نصب خبر ليت وحدها، ووافقه الكسائى على ذلك فيما أنشدوه من

قول رؤبة، وأنشده سيبويه أيضا: يا ليتَ أيّامَ الصِّبا رَوَاجِعَا وأنشدوا أيضا: ليت الشبابَ هو الرّجيعَ على الفَتَى والشيب كان هو البَدِئُ الأوّلُ وباقي الكوفيين أجازوا ذلك [أيضًا] في سائر أخوات ليت، فيجوزُ عندهم: إنّ زيدًا قائمًا، ولكن زيدًا قائما، وكأن زيدًا قائمًا. ومن حجتهم على ذلك في «إِنّ» ما في الحديث من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن قَعْرَ جهنم لسبعين خريفًا». وفي الشعر قول الشاعر: إنّ العَجُوزَ خَبّةٌ جَرُوَزا تأكلُ كُلّ ليلةٍ قَفيزَا وقال الآخر:

إِذَا اسْوَدّ جُنْحُ اللّيلِ فَلْتأْتِ وَلْتكُنْ خُطَاك خِفَافًا، إِنّ حُرَّاسَنا أُسْدَا وفي كأنّ قولُ الشاعر: كَأَنّ أُذْنَيْه إذا تَشَوّفَا قَادِمَةٌ أَوْ قَلَمًا مُحَرّفَا وقد زَعَم ابنُ السّيد أَنّ نَصْبَ الخبرِ مع هذه الأحرفِ لغةٌ لبعض العرب. فإن ثبت ما قال بغير هذه الشواهد، بل بنقلٍ لا تأويل فيه، أو بمشافهة لأهلها من غير احتمالٍ فذاك، إلا بهذه الشواهد فهى محتملةٌ لغير ما التزمه الكوفيون. فأما بيت رؤبة فرواجعُ فيه حال، عاملها الخبر المحذوف، كأنه قال: يا ليتَ أيامَ الصِّبا لنا رَوَاجعَ، أو أقبلَتْ رواجعَ، كما قال، أنشده سيبويه: إِنّ مَحَلًا وإِنّ مُرُتَحلًا أى: إن لنا كذا. وأما قوله: ليت الشبابَ هو الرجيعَ/. وقوله: كأَنّ أُذْنَيه، فقد رواه أهلُ البصرة على الرفع في الرجيع وما بعده. وقادمتا أو قلما، على التثنية. وحُذِفَت النون ضرورة -وهذا كلّه ردٌّ لرواية العَدْل.

أو يكون الرجيع على إضمار كنَ؛ فإنّ كان تُسْتَعمل بَعيد هذه الأحرف كثيرا فجازَ إضمارُها. وقادمةً: مصوب بإضمار فعل، أى يلحقان قادمةً. أما: إِنّ العجوز خَبّةً، فالخبر «تأكل» لا «خَبّ». وأما: إن حُرّاسَنا أُسْدَا، فعلى إضمار فِعْلٍ أيضًا تقديره: يشبهون أُسْدًا، أو تجدهم أُسْدًا، أو نحو هذا. وأمّا الحديثُ فحمله الناظم في شرح التسهيل على أنّ «قَعْر» مصدرُ قَعَرْتُ الشئ، أى: جعلته في القعر، وسبعين ظرفٌ، والمعنى على هذا صحيح، والإخار بالزمان عن المعنى جائز. وهذا كلّه تكلّف، والوجه في هذا أن يُرَدّ بندوره وقِلّتِه إن لم يكن له تأويل سائغٌ. وَعَدّ الناظم هذه الأحرف وهى: إِنّ، وأَنّ، ولَيْتَ، ولعلّ، وكأنّ، ولكنّ. أمّا إِنّ وأَنّ فللتوكيد، وليت للتمني، ولكن للاستدراك، ولعلّ للترجّى ويدخلها معنى الإشفاق، . وعند الأخفش قد تكون للتعليل، وعلى ذلك حَمَلَ قولَ الله -تعالى-: {لَعَلّهُ يَتَذكّرُ أَوْ يَخْشَى}، أى: ليتذكّر أو يخشى. وقال المؤلف: انها تكون للاستفهام. وحَمَل على ذلك قولَ الله -تعالى-: {وَمَا يُدْرِيكَ؟ لعَلّه يَزّكى؟ } وَقَوْلَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لبعض الأنصار وقد دعاه فخرج إليه مستعجلًا: «لعلنا أعجلناك؟ ». وهذا فيه نظر.

وكأَنّ معناها التشبيه المؤكّد، وأصلها عندهم: إِنّ والكاف، فقولك: كأنّ زيدًا أَشَدّ، أصله: إِنّ زيدًا كأسَدٍ، لكنهم قدموا الكاف على إِنّ، ثم فتحوها إصلاحًا للفظ، فصار الحرفان واحدًا. وقد قيل: إنها تأتى للتحقيق، واسُتدلّ عليه بقول الشاعر: فأصبح بطنُ مَكّةَ مقشعرًا كأن الأرضَ ليسَ بها هشامُ وَعَدُّه لها ستةً ذَهَابٌ إلى ما فَعل غيره كالزجاج وغيره. والمتقدمون يعدُّونها خمسة، وبوّب عليها سيبويه: «هذا بابُ الأحرف الخمسة». ولم يعدّ أَنّ المفتوحة وكذلك فعل المبرِّدُ وابن السّراج وغيرهم، لأنّ المفتوحة فرعٌ عن المكسورة، من جهة أنها إذا وقعت موقع مفردٍ لم يمكن أَنْ تبقى مكسورة، لما يلزم فيها من وقوعها مبتدأةً وبعدها جملة، ففتحوها لأَنْ تَصِير مقدّرة بمفرد، ويصحّ لهم ما قصدوه من التوكيد. وقد غَمَز في شرح التسهيل عَدّ من عدّها ستة، وقال: إن ذلك لا حاجة إليه لأجل الفرعية. فكان الأخلقُ به أن يَعُدّها خمسة فقط. والعذر عه أنه إنّما اعتبر صُوَرها خاصّةً ولم يعتبر الأصل، كما لم يعتبر هو ولا غيره الأصل في كأنّ، إِذْ أَصلها إنّ والكاف، وإلّا فلو لزم أن يعتبر أصلها لعدّت أربعة.

فإن قيل: الفرقُ بينهما أن أصل كأن منسوخ، ولذلك لم تفتقر الكاف إلى مُتَعلق، بخلاف أنّ فليس أصلها منسوخا بدليل جواز العطف/ بعدها على معنى الابتداء، كما يعطف عليه بعد المكسورة، فاعُتبِرت فرعيّة أنّ دون كأنّ لذلك. فالجواب: أنّ اعتبار الابتداء في أنّ إنما كان من وجهٍ دون وجه؛ ألا ترى أنه من جهة التأويل بالمفرد غير معتبر، كما أن التوكيد في كأنّ معتبرٌ أيضًا، فليس أصلُها بمنسوخٍ من كلّ وجه. والذى منع من اعتبار الابتداء معها إنشاءُ التشبيه، فإنه معنى مخالف لمعنى الابتداء الذى هو إخبار. وأيضا إِنْ كن قد عدّها هنا ستةً فقد نَبّه على فرعيّةِ أَنّ بعد هذا في قوله: وَهَمْزَ إِنّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَر مَسَدّها ... ... ... فجمع بين الطريقتين، طريقة من عدّها خمسة فبيّن فرعيّة أَنّ. ثم مَثّل ذلك بقوله: «كَإِنّ زيدًا عالِمٌ .. » إلى آخره، فأتى بثلاثة أمثلةٍ لأحرف ثلاثة، فإن زيدًا عالم، مثالٌ لإنّ المكسورة. و «بأنِّىَ كُفْءٌ، مثال للمفتوحة. وبلكنّ ابنَه ذو ضِغْن مثال للكنّ. وتجرى البواقي نحوها، نحو: ليت هذا الليل شهرٌ، ولعل زيدًا قائم، وكأنّه بدرٌ. والكُفْءُ، والكفُؤُ، والكُفُوءُ -على فُعُولٍ، كذا في الصحاح- والكفِئُ: النظيرُ. والمصدر الكفاءَة، بالفتح والمدّ. ويقال: فلانٌ لا كِفاءَ له -

بالكسر- وهو في الأصل مصدر، أى: لا نظير له. والضِّغْنُ والضغينَهُ: الحِقدُ، وقد ضَغِنَ عليه -بالكسر- ضَغَنًا: إذا أضمر عداوته (ثم قال): وَرَاعِ ذَا التّرتِيب إلّا فِي الّذِى كَلَيْتَ فِيهَا أَوْ هُنَا غَيْرَ البَذِى الترتيبُ الذى أشارَ إليهِ هو كونُ الاسم يلى الحرفَ العاملَ، والخبر بعد ذلك، حَسْبما أشار إليه في الأمثلة المذكورة، يعنى أنه لا يجوز تقديم أخبار هذه الحروف عليها، فلا تقول: قائمٌ إِنّ زيدًا، ولا توسيطه وهو غير ظرفٍ ولا مجرور، فلا تقول: إن قائمٌ زيدًا، ولا ليت صاحبٌ لك عَمرًا، ولا إنّ يقومُ زيدًا. ولا ما أشبه ذلك. وإنما لم تتقدّم أخبارها عليها لعدَم تصرّفها، وكذلك لا تتوسّطُ لأجل عدم التصرف في نفسها فلا تتصرّف في معمولها، ولأمرٍ (آخر) وهو أهم قصدُوا أوّلًا في إِنّ عكس عمل كان، من تقديم المنصوب وتأخير ملرفوع، فلو وَسّطُوا الخبر كان ذلك بصورة ما أرادوا الخروج عنه، فكأنه عودٌ إليه. ومِنْ سجاياهم: إِذا انصرفَتْ نفْسِى عن الشّىْءِ لم تكنَ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدّهْرِ تُقْبِلُ فالتزموا التأخير في الخبر لذلك. وأما الظرف والمجرور فشأهما في كلام العرب أن يتوسّع فيهما ما لا يتوسّع في غيرهما، فجاز التوسيط فيهما إذا وقعا

في هذا الباب خبرين، فلذلك استثناهما الناظم بقوله: «إلّا في الّذى كليت فيها» .. إلى آخره، فأشار إلى أَنّ الترتيب المذكور لا يلتزم فيما كان مثل هذين المثالين، بل يجوز أن تخالف في الترتيب المذكور، فتقدم الخبر على الاسم فتقول: ليت فيها غير البَذِئ، وليت هُنَا غير البَذِئ. ولَفّ المثالين في مثال واحد، لِفَهْمِ ذلك، وكأنه قال: راع/ الترتيب المذكور إلا إذا كان الخبرُ ظرفًا كليت هنا غير البَذِىْ، أو مجرورًا كليت فيها غيرَ البَذِئِ، فإن ذلك أَنْ تأتى بالكلام على هذا الوجه من توسيط الخبر. وهذا التمثيل أعطى موضع مخالفة الترتيب، لأنه أتى بالخبر متوسطًا بين الحرف واسمه، فَيُتَقيد بما عيّن، فلا يجوز أن يتقدّم الخبر عليهما معًا فلا تقول: فيها ليت غير البذئِ، ولا: هنا ليت غير البذئِ. فالمثال إذًا أعطى قيدين: قيدًا في الخبر المتصرّف فيه، وهو كونه ظرفًا أو مجرورًا، وقيدًا في صورة التصرف، وهو التوسيط خاصّة. وهذا ظاهر، وأما تقديمُ معمولِ الخبر فلم يجر له هنا ذِكْرٌ، ولعلّه تركه لأنه ذكر في باب كان قاعدة تشمل هذا البابَ وغيره في قوله: وَلَا يَلِى العَامِلَ مَعُمُولُ الخَبَرْ إِلّا إِذَا ظَرْفًا أَتَى أَوْ حَرْفَ جَرْ فاستغنى بذلك عن الإعادة هنا، أو ترك ذلك اتّكالا على القياس؛ لأن العلة واحدةٌ في الجميع. وتقولُ على ما تقتضيه القاعدة: إنّ في الدار زيدًا قاعدٌ، وإن مكانك زيدًا قاعدٌ. ومنه ما أنشد سيبويه، من قول الشاعر:

فَلَا تَلْحَنِي فِيهَا فَإِنّ بُحبِّها أَخَاك مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بَلَابِلُهْ وتقول أيضًا: إن زيدًا طعامَك آكلٌ، ولا تقول: إن طعامَك زيدًا آكلٌ. وما أشبه مما تقدم ذكر تمثيله. والبَذِى: أصلُه البذئُ، بالهمز، إِلّا أنّه حذَفَ الهمزة على غير قياسٍ، أو سهّلها بإبدالها ياءٌ كالنّسِى، ثم حذفها للساكنين. ومعناه الفاحش السىِءُ القول. وهذا التوجيه على أنّه من المهموز، لأنّه يقال: بَذُؤَ الرجلَ بذاءَةً: إذا سَفِه، على مثال: بذع بَذَاعَةً وبَذَاعًا. وهى لغة. وإن جعلته البَذِى، من المعتل بالواو، فالأمر أسهل، فإنه يقال: بَذَوْتُ على القومِ وأبذيْتُ عليه، وبَذُو (الرجل يبذو) بذاءٌ لا غير. وفلانٌ بَذِىُّ اللسان، وامرأةٌ بَذِيّةُ. وهذه اللغة الشهيرة. وَهَمْزَ إِنّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ مَسَدّهَا، وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ مقصُودهُ في هذا الفصل أن يُبَيّن المواضع التى تقع فيها أَنّ المفتوحة وإِنّ المكسورة؛ فإنّ لكلِّ واحدةٍ مِنْهما موضعًا يخصّها، وحكمًا يلزمها. وقد ظهر من هنا أنّ الكسورة أصلٌ للمفتوحة وأن المفتوحة فرعٌ عنها بقوله: «وهَمْزَ إِنّ افْتَحْ». ولو كانت أصلا بنفسها لقال إنّ المفتوح تقع مواقع المصدر، أو ما يعطى

هذا المعنى. وهذه الإشارة مقصودة له، ووجه ذلك: أنّ الكلام مع المكسورة جملةٌ غير مؤوّل بمفردٍ، وأما المفتوحة فالكلام بعدها مؤوّل بالمفرد، وكونُ المنطوق جملةٌ من كلِّ وجهٍ، أو مفردًا من كل وجه، أصلٌ لكونه جملةٌ من وجهٍ أو مفردًا من وجه. وأيضًا المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادةٍ، والمفتوحة لا تستغنى عن زيادة، والمجرد من الزيادة أصلٌ للمزيد فيه. وأيضا فإن المفتوحة تصير مكسورة بحذف ما تتعلّقُ به كقولك في عرفتُ أَنّك بَرٌّ: إِنّك بَرٌّ، ولا تصير المكسورةُ مفتوحةً إلّا بردِّه، كقولك في إِنّك بَرٌّ: عرفتُ أنّك بَرٌّ. والمرجوعُ إليه بحذف/ الزيادة أصلٌ للمتوصّلِ إليه بزيادةٍ. هذا توجيه المؤلف في الشرح واستدل ابن خروفٍ على ذلك بوقوع المكسورة في موضع المفتوحة، ولا تقع المفتوحهُ في موضعها، تقول: ظننتُ أنّ زيدًا قائم، فإذا دخلتِ اللامُ لم يصحّ منه إلا المكسورة، فتقول: ظننتُ إنّ زيدًا لقائمٌ. ثم قوله: «وهمزَ إنّ افتح» .. إلى آخره، يعنى أن الموضع إذا كان المصدرُ يسدُّ فيه مسد إِنّ واسمها وخبرها، فافتح همزتها، وإذا كان المصدرُ لا يسدُّ فيه مسدّها فأبقها على أصْلِها من الكسر. وفي ضمن هذين القسمين قسمٌ ثالثٌ، أنه إذا كان الموضع محتملًا للوجهين ساغ في إِنّ الكسر والفتحُ، وقد نبّه عليه بعد ذلك. وهذه قاعدة الفصل، وضابط المسألة، لكن عادتهم أن يحصروا مواضع الكسر، ومواضع الفتح، ومواضع جواز الوجهين زيادةً في البيان، ورفعًا لإشكال الحال في

بعض المواضع. ويَرِدُ على الناظم هنا سؤالٌ، وهو أنه عَلّل فَتْح هَمْزَة إِنّ بسدّ المصدر مسدّها، وهذا يقتضى صحة وقوع المصدر موقعها، وهذا لا يطّردُ له في جميع ما تُفْتَح فيه، أمّا أنّ المصدر يقعُ موقعها على الجملة من غير حصرٍ فصحيح، وأما أنّ ذلك يصحّ في كلّ موضع فلا؛ ألا تَرَى أنّ أن تفتح بعد لو -وقد نَصّ هو على ذلك في بابها- مع أنّ المصدر لا يصحّ في موضعها؛ فلا تقول: لو ذهابُ زيدٍ لأكرمتك، وأنت تقول: لو أنّ زيدًا ذاهبٌ لأكرمتك. فإذا ثبت هذا فإطلاقُه القولَ في سدّ المصدر مسدها مُشكلٌ. والجواب: أن سدّ المصدر مسدّ إنّ صحيح باتفاق، ولذلك سميت مصدرية، والشاهد لذلك اطراده في مواضع الفتح، غير أنّ لو اختصّت بهذا الحكم -أعنى بعدم النظق بالمصدر بعدها- استقباحًا لوقوع الاسم بعدها يليها؛ إذا خصُّوها بدخولها على الفعل، مع أنّ المصدر سائغٌ في التقدير [على] القياس، وقد جُعِلَ وقوعُ أنّ بعدها لزوما استغناء عن وقوع المصدر بعدها فذكروا أنهم استغنوا عن: لو ذهابهُ، بلو أنّه ذاهب. وإذا كان ذلك على الاستغناءِ لم يكن قادحًا في إطلاق سدّ المصدر مسدّها، لأنّه حاصل في القياس أو في الاستعمال. والله أعلم. ثم أخذ في تعديد مواضع الكسر، وهو أحد الأقسام الثلاثة فقال:

فَاكْسِرْ في الابْتَدِا، وَفِى بَدْءِ صِلَهْ وَحَيثُ إِنّ لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ أَوْ حُكِيَتً بِالْقَولِ، أَوْ حَلّتْ مَحَلْ حَالٍ، كَزُرْتُهُ وَإِنِّى ذُو أَمَلْ وَكَسَرُوا مِنْ بَعْدِ فِعْلٍ عُلّقَا بِاللّامِ، كَاعْلَمْ إِنّهُ لَذُو تُقىَ قوله: «فاكسر» أراد الكسر اللازم، بدليل أنه ذكر بعد ذلك قسمًا آخر في جواز الوجهين؛ فإذًا لا بُدّ أِنْ يكون الكسرُ هنا حتمًا، وذكر لذلك ستة مواضع: أحدهما: الابتداءُ، وهو قوله: «فاكسر في الابتداء». في الابتداء: معمول فاعلٍ [هو حال] من ضمير إنّ، وحذفه للعلم به، وكأنه قال: فاكسره كائنًا في الابتداء، أى: في ابتداءِ الكلام إذا وقع هنالك، نحو/ قولك: إن زيدًا أخوك، و {إِنّ الله يفصل بينهم يومَ القيامة، إِنّ الله عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهيدٌ}. ووقوع إن في الابتداء تارة يكون لفظا ومعنى، كالأمثلة المذكورة، وتارةٌ يكون معنًى لا لفظًا، ولفظ الابتداء يشمل الوجهين. ومثال ذلك إِنّ الواقعة بعد ألا الاستفتاحية، نحو قول الله سبحانه: {ألَا إِنّهم في مِرْيةٍ من لقاءِ رَبِّهمْ، أَلَا إِنّه بكلِّ شَئٍ مُحِيط}. هذا على تفسير المؤلف في

شَرْح التسهيل، فإنه أدخل تحت الواقعة مبتدأةٌ نحو: ألا إنّ زيدًا قائم، وكذلك نحو: {كَلّا إِنّ الإنسان لَيَطْغَى}. وسائر الأدوات التى يبتدأ بعدها الكلام. ويحتملُ أن يريد الواقعة مبتدأ لفظًا ومعنًى خاصّة، كأنه قال: فاكسرها إذا صُدِّر الكلام المبتدأ بها حقيقةً وحكمًا، فإِنّا إِنْ فرجنا بها عن هذا إلى نحو آخَرَ لزمنا أمرٌ يصعُبُ الجواب عنه أو يضعفُ: أما أوّلًا فإنّ إنّ الواقعة بعد إذا التى للمفاجأة فيها وجهان، مع أَنّ إذا من أدوات الابتداء، إذا دخلت لا تغير معناه. وأما ثانيا فيقال: كما تدخلُ إِنّ المبتدأُ بها معنًى لا لفظًا في إطلاق لفظه، فالمبتدأ بها لفظا لا معنًى أَحْرى، نحو: أنك كريم جئتك، أي لأنّك كريم. وأيضا يدخل له تحت المبتدأ بها معنى لا لفظا نحو: عندى أنك كريمٌ؛ فإن أَنّك كريم بابهُ في الأصل التقديمُ، لأنه المبتدأ وما قبله خبره، فيقتضى أَنّ أَنّ في هذه المواضع كُلِّها يجب كسرها. وهو غير مستقيم، بل منها ما يجب فتحه، ومنها ما فيه الوجهان؛ فالأولى أن يحمل قوله: «فاكسر في الابتدا» على أنه يريد الابتداءَ حقيقةً وحكمًا؛ وذلك نحو: إن زيدًا قائم، خاصّةً. فإن قلت: فإنّ هذا المحملَ أيضًا يلزم عليه مثلُ هذا الاعتراض. فسيأتى في موضعه بيانه، إن شاء الله. والثاني من مواضع الكسر: مبتدأُ صِلَةِ الموصولِ، وذلك قوله: «وفي بَدْءِ صِلَةٍ «. ويعنى أَنْ تقع إِنّ مُبْتَدأً بها في الصلة، نحو قولك: أعجبنى الذى إِنّه قائم. فالكسر هنا واجب كما وجب في الأول؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة، وأَنّ

المفتوحة في تأويل المفرد، والمفردُ لا يقع صلةً للذى وأخواتها. كما أنك إذا جعلتها في أوّلِ الكلم لزم الكسر، لأنّ المفتوحة في حكم المفرد، والمفرد لا يستقلّ به الكلام. ومن مُثْلِ هذا الموضع قولُ الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ ما إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ} .. الآية. ومن أمثلة الكتاب: «أعطيته ما إِنّ شرّه خيرٌ من جَيد ما معك، وهؤلاءِ الذين إِنّ أَحْبَنَهم لأشجعُ من شجعانكم «. وإنّما قال: «في بَدْءِ صِلَةٍ «، ولم يقلُ: في الصلة؛ لأنها إنما تكسر حتمًا إذا ابتُدِئَتْ فإن كانت في حشوها فلا يجبُ الكسرُ، بل قد تكون مكسورةٌ نحو قولك: أعجبنى الذى أَبُوه إنه منطلق. وتكون مفتوحة نحو: أعجبني الذى ذكرتَ أَنّه فاضِلٌ. فالفتح هنا واجب لكونِ أَنّ منصوبة المحلّ بذكرتَ، كما وجب الكسر في: أبوه إنه منطلق لكون إن خبرًا عن عَينٍ. والثالث: أن تقع إنّ في جواب القسم، وذلك قوله: «وحيثُ إِنّ لَيِمِين مُكْمِلَه «، يريد أنها تكسرُ إذا وقعت مكملة للقسم، وتكميلُه إنما هو بجوابه، فكأنه قال: وحيث إِنّ جوابٌ للقسم، وذلك نحو: والله إنّ زيدًا لقائم، وفي التنزيل: {إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيًا} .. الآية، بعد قوله: {حم. وَالكتابِ المُبِينِ}. وكذلك: {إِنّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.

/ ووجهُ ذلك أنّ جواب القسم لا يكونُ بالمفرد، وإنما يكون جملة، فوجب أن لا تفتح إنّ هنالك لتأوّلها بالمفرد. وإطلاقُ الناظم ههنا مرادٌ به التقييد، وذلك أنه حكم بلزوم الكسر ولم يفرّق بين أن تكون إن (بعدها اللام). وكونها لا لام معها، وحكمها مختلف، فقد قال في قسم الوجهين: بَعْد إِذَا فُجَاءَةٍ أَوْ قَسَمِ لَا لَامَ بَعْدَه بِوَجْهَينِ نُهِى فإذا جمعنا بين كلاميه صار ما هالك مُقيِّدًا لما أُطلِق هنا، فيكون مرادُه إِنّ الواقع بعدها اللام ولا عليه من هذا؛ فإن العرب تُطلق في موضع وتُقَيِّد في آخر، بناءٌ على أن مرادها بالمطلق ما أرادت بالمقيّد. والرابع: إذا وقعت إِنّ محكيّةً بالقَولِ، وذلك قولُه: «أو حُكِيت بالقَولِ»، فالضمير في حُكِيت» راجع إلى إِنّ، ومرادُه مع معموليها، ويزيد أنها إذا وقعت بعد القول محكيّةً به وجب الكسر أيضًا، نحو قُلتُ: إنّ زيدًا منطلقٌ. ولا يجوز الفتح، لأن الحكاية بالقول تقتضى الجملة لا المفرد، وإنما تقتضى المفردَ إذا لم يُحْكَ به. ومن مثله قول الله تعالى: {قَالَ: إِنِّي عبدُ اللهِ}، {وقال: إِنّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيهْدِينِ}. وهذه العبارة التى عبّر بها الناظمُ (عبارة) مختصرٌ حسنةٌ سليمةٌ من النقد الذى يلزم غيره؛ فإنّ الجزولى وغيره يقولون هنا: وبعد القول

المجرد من معنى الظن. وتحرّزوا بذلك مما يكون القولُ فيه غير مجرّدٍ من معنى الظن، فإنّه إذ ذاك يعمل كما يعملُ الظنُّ، فتكون فيه أَنّ مفتوحة على الوجوب، لوقوعها موقع المفرد. وهذا الذى قرّرُوه ليس بسالم عن النقد، لأنّ القول إذا أُشْرِب معنى الظن (لم) يعمل عَمَل الظنِّ مطلقا؛ إذ من العرب من يلزم الحكاية به وإن أشرب معنى الظن، حسبما يأتى في موضعه إن شاء الله؛ فلا يسوغ أن يُستثنى القولُ المشربُ معنى الظنِّ على الإطلاق، لاختلاف العرب فيه. فأما قول الناظم: «أو حُكِيتَ بالقول» فقد أزاح الإشكال؛ لأنّ قصد الحكية يضبط اختلاف اللغات إلى ضابطٍ لا مَحِيد عنه؛ فإنّ من أشربه معنى الظن فَأَعملَ إذا أراد الحكاية كسر إِنّ، كما أنّ من لم يعمل هو قاصدٌ أبدًا للحكاية فيكسرها، فلا يبقى على المسألة غبارٌ. والله أعلم. والخامس: إذ حَلّت إنّ محلّ الحال ووقعت موقِعَه، وذلك قوله: «أو حَلّتْ مَحَلّ حالٍ يعنى أَنْ تقع مع ما بعدها جملةً في موضع الحال، نحو قوله: «زُرْته وإنّىِ ذُو أَمَلْ»، أى: زُرْتُه آملًا. فالمفتوحة لا تقعُ هنا، لأن الحال بالمفرد لا تصاحب الواو. ومنه في التنزيل: {كَما أَخْرَجَكَ ربُّكَ من بيتك بالحقَ، وإِنّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمنِين لكارهُونَ. يُجادلُونَك} .. الآية. وأنشد سيبويه لكُثَيّر: ما أَعْطَيَانِى ولا سَألْتهما إِلّا وَإِنِّى لحاجِزِى كَرَمِي

والسادس: إذا كانت بعد فِعْلٍ عُلِّق باللّام، وذلك قوله: «وكَسَرُوا -يعنى العرب- من بَعْدِ فِعْلٍ عُلِّق باللّام». يريد تعليق الفعل عن عمله فيما طلبه من معمولٍ، واللام المعلِّقة هى لام الابتداء. وسيأتى بيانُ التعليق بعدُ إن شاء الله. فإذا كان الفعلُ مُعَلّقًا باللام لم يكن للفعل في إِنّ عملٌ، فبقيت على حالها من الكسر. ومثال ذلك قوله: «اعلم إِنّه لذو تُقَى»، فاعلَمْ: معلّقٌ باللام في قوله: لذو تُقَى؛ لأنّ/ أصلها التقديم، فأصل الكلام: اعلم لهُوَ ذو تُقَىً، فلما دخلت إِنّ أخّرُوا اللام إلى الخبر، لما سيذكر. ومن مُثُل ذلك في الكلام قولُ الله: {قد نعلَمُ إنّه ليحزُنكَ الذي يقُولونَ}، وقوله: {والله يعلمُ إِنّك لرسولُه، والله يشهدُ إِنّ المنافقون لكاذِبُون}. وم الشعر قولُ الشاعر؛ أنشده لسيبويه: أَلَم تَرَ إِنِّى وابنَ أَسْودَ لَيْلةً لَنَسْرِى إلى نَارَينِ يَعْلُو سَنَاهُما وأنشد ابن جنى في المحتسب: وأعَلمُ إِنّ تسليمًا وَتْركًا للامُتَشَابِهانِ وَلَا سَوَاءُ فلو زالت اللام لتسلّط الفعل على إنّ فانفتحت، نحو: {عَلِم الله أَنّكُم

سَتَذْكُرُونَهُنّ}، {شهد الله أنّه لَا إِلَه إِلّا هُوَ}، {ألم تَرَ أنّ الله يُسبِّحُ لَهُ} .. الآية. هذا تمامُ ما ذَكَر من مواضع لزوم الكسر، وقد بقي عليه فيها دَرْكٌ من وجهين: أحدهما: أنّ إتيانه بهذه المواضع فَضْلٌ غيرُ محتاج إليه؛ لأنّ العقد الأوّل كان كافيًا، وذلك قوله: «وهمز إِنّ لسدّ مصدرٍ مسدّها» فإنه أتى به ظاهر المعنى، بَيِّن المأخذ. فإذا اعتبرت به المواضع كلها في الأقسام الثلاثة ظهر ما يلزم فيه كُسْرُ إنّ كالواقعةِ مبتدأةً وفي بدء الصلة ونحو، حسبما فُسِّر، وما يسوغُ فيه الوجهان كالواقعة بعد إذا فُجاءةٍ أو قسم، أو نحو ذلك، وما يلزم فيه الفتح كالواقعة في موضع الفاعل أو المفعول أو المجرور. وإذا كان كذلك لم يكن في تعداد هذه المواضع كبيرُ فائدة. والثاني: على تسليم أنه ذكرها للحاجة إليها، فإنه لم يَستوْفِها بل نقصه مواضعُ ذكرها غيره، فمنها: أن تقع خبرًا لاسم عينٍ، نحو: زيدٌ إنه قائم. فالكسر هنا لازم، لأنّ المفتوحة في تقدير المصدر، والمصدرُ لا يُخْبَرُ به عن الجُثّة إلى على معنى الوصف، والوصف بأنّ معدوم. ومنها: أن تَقَع في خبرها اللامُ نحو: إِن زيدًا لقائمٌ، عَدّه الناسُ موضعًا زائدًا على وقوع إنّ في الابتداء، ولم يفعلُوا ذلك إِلّا لما بينهما من المباينة.

ومنها: أن تقع بعد ألا الاستفتاحية، نحو: ألا إِ أخاك منطلقٌ. وفي القرآن: {أَلَا إنهم يثنون صُدورَهُم}، {أَلَا إِنّهم في مِرْيَةٍ من لِقَاءِ ربّهم}؛ لأنّ أَلَا من حروف الابتداء، فإِنّ بعدها مبتدأةٌ في المعنى. ومنها: أن تقع بعد كَلّا، نحو قول الله تعالى: {كَلّا إنهم عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمِئذٍ لمحجُوبُونَ}، {كَلّا إِنّها تَذْكِرَة}. وما أشبه ذلك. فلا تقع هنا المفتوحة لأنّ ما بعد كلّا كلامٌ مبتدأ ومنها: أن تقع بعد حتى الابتدائية، نحو: قام القومُ حتى إِنّ زيدًا قائم؛ لا يجوزُ هنا فتح إِنّ لتعذّر تأَوُّلها بالمصدر. فهذه مواضعُ خمسة زائدة على الستة التى ذكرها، فكان عدُّه قاصرا. والجوابُ عن الأوّلِ: أَن مجرّد الضابط المتقدّم غيرُ كافٍ في بيان المقصود، وذلك أنه ليس كلُّ ما يصحّ تأوُّلُه بالمصدر يكون مفتوحَ الهمزة عند العرب لزوما أو جوازًا، بل قد يلزم الكسر ولا يراعى فيه صحّةُ التأويل بالمصدر؛ ألا ترى أنّ حتى الابتدائية قد يصحُّ/ قياسًا فتح أنّ بعدها على تأويل المصدر، ويكون خبر مبتدأٍ محذوف للعلم به، فتقول: أسرع القوم حتّى أنهم لا ينامون، : حتّى أمرهُم عدمُ النومِ. فهذا ممكن كما أمكن بعد إذا الفجائية، وفاءِ الجزاء، والقسم لالام بعده، وما أشبه ذلك؛ إلا أن العرب اقتصرت في حتى على الكسر، اعتبارًا بعدم التأويل

بالمصدر، ولم يقتصر في إذا وفاء الجزاء وغيرهما على ذلك. فالحاصل أن ما أمكن تقديرهُ قياسا لا يستلزم أن يكون منطوقًا به، فثبت أنّ معنى سدّ المصدر أنّ، أو عدم ذلك، كونه موجودًا في السماع كذلك، إلا أنك تقيس على مواضع الفتح أو الكسر ما كان في معناها. والجواب عن الثاني أن يقال: إِنّ هذه المواضع قد ترجع إلى ما ذكر: أَمّا نحو: زيد إِنّه قائم، فإن الخبر هنا وقع جملة، فأصلُه الأول جملة الخبر، وجملة الخبر في الأصل مستقلّةٌ، ووقوعُها خبرًا عارضٌ، وإذا كان كذلك فلم تقع إِنّ إلا في الابتداءِ، فوجب الكسر. وَأَما إنّ زيدًا لقائم، فهو الذي قال فيه: «وكسَرُوا من بعد فِعْلِ عُلقا .. باللامِ»، لأن إنّ إذ وقع اللام في خبرها فإما أن يتقدّمها فِعْلٌ يطلبها أولا، فَإِنْ تقدّم فهو الذي قال، إذ لا يكون إِلا من أفعال التعليق، وإلا فإنّ مكسورةٌ كان معها اللام أم لا. فما فعله الناظم هنا أولى من عَدّدهِ موضعًا ثانيًا لوقوعها في الابتداءِ، وهو كون اللام في خبرها، فإنه كلام متداخل غير مُحَرّرٍ. وأما ألَا فهى كلمة تدخل على الكلام لتنبيه المخاطب لسماعه، فهي بمنزلة قولك: اسمعْ، أو تَنبّهُ، أو نحو ذلك، ثم يقع بعدها الكلام المبتدأ، فلما أنّ قولك: إن زيدًا قائم، بعد تتبّع كلامٌ وإنّ فيه في الابتداءِ فكذلك ما في معنى ذلك، وهو ألا. وأما كَلّا فهي أداةُ زَجْرٍ عما تَقَدّم من الكلام، فهي رد لهوزجرٌ عنه، وما بعدها مستأنف، فإن بعدها في محل الابتداء. وأما حتّى فبمنزلة ألَا؛ من حيث إِنّ كل واحدةٍ منهما يقع بعدها الكلامُ المبتدأ، فإنّ بعدها واقعة في الابتداء بهذا المعنى.

وقد يُقالُ: لعلّ الناظم رأي هذه المواضعُ مما يقعُ فيها النظر، فلا تكون إِنّ فيها من قسم المبتدأة إلا بعد تأمل، فترك التنبيه عليها، اتكالًا على نظر الناظر في كتابه. والله أعلم. ثم ذكر مواضع الوجهين فقال: بَعْدَ إِذَا فُجَاءَةٍ أَوْ قَسَمِ لَا لَامَ بَعْدَه بِوَجْهينِ نُمِى مَعْ تِلْوِ فَالحَزَا وَذا يَطّرِدُ فِي نْحوِ: خَيْرُ القَوْلِ أنِّى أَحْمدُ الوجهان هنا هما: فتح (همزة) إِنّ وكسرها، وذلك يكون باعتبارين، فباعتبار سدّ المصدر مسدّها تُفتَحُ، وباعتبارِ عدمِ ذلك تُكسرُ. ولا يكون ذلك إلبا من وجهين مختلفين. وأتى لهذا القسم بأربعة مواضع: أحدها: أن تقع بعد إذا التي للمفاجأة نحو: مررت به فإِذا إِنه عبدٌ. يجوز في إِنّ الكسر، وهو الأصل، لأنّ إذا المفاجأة مختصّة بالدخول على الجملة الاسميّة، فإذا وقعت بعدها إنّ فهي داخلةٌ على جملة، فيحتاج إلى كسرها، كأنه قال: فإذا هو عبدٌ. ويجوز الفتح، وهو خلاف الأصل، ولكنه/ جائز، على أن تكون أَنّ وما بعدها في موضع خَبَر مبتدأ محذوفٍ، كأنه قال: فإذا أمرُه أنه عبدٌ؛ قال سيبويه: «ولو قلت: مررت فإذا أنه عبدٌ، تريد: مررت فإذا العبوديّةُ واللؤم، كأنك قلت: مريت فإذا أمرُه العبوديّة واللؤم. ثم وضعت أَنّ في

هذا الموضع جاز، ومثل [ذلك] ما أنشده سيبويه من قوله: وكنتُ أُرَى زيدًا كما قيلَ سَيِّدا إذا أَنّه عبدُ القَفَا واللهازِمِ والثاني: بعد القسم الذي لا لام بعده، وذلك قوله: «أو قَسَمِ .. لا لَامَ بَعْدَه». وهو معطوفٌ على مخفوض «بعد»، لا مخفوضِ «إذا»، إذ ليس للقسم لفظ إذا. وقوله: «لا لام بعده» في موضع الصفة لقسم فالضمير في «بعده» عائد على القسم. ويريد القَسَمَ الذي في جوابه إنّ. وضمير «نُمِى» عائد على همز إِن. ويعنى أنّ إِنّ إذا وقعت جوابا للقسم وليس معها اللام فإنّ في همزها وجهين، وهما: الكسر والفتح ودل عليهما تقَدُّمُهما قبلُ. فَأَمّا الكسر فنحو: والله إِنّ زيدًا قائم، وأقسم إِنك كريم. وأما الفتح فنحو: أقسمتُ أَنّ زيدًا قائم. ومن الأول قولُ الله تعالى: {حم. والكتاب المبين * إِنّا أنزلْناه في ليلةٍ مُبَارَكَةٍ}. وفي الآخرِ: {إنا جَعَلْنَاه قُرْآنًا عَرَبيًّا}. ومن الثاني قولُ الراجز: أَوْ تَحْلِفِى بِرَبِّك العَلىّ أَنِّى أَبُوذَيّا لك الصّبي

وتحرَّزَ بقوله: «لا لام بَعْدَه» من القسم الذي بعده اللام، وتقع في خَبَرِ إن، فإنّ هذا لا وجهين فيه، وإنما فيه وجهٌ واحدٌ وهو الكسر، نحو قول الله تعالى: {والله يعلَمُ إِنّك لرسُولُه} .. الآية. بل كقوله: {قُلْ: إِىْ وَرَبِّي إِنّه لحقٌّ}، {فورَبِّ السماءِ والأَرض إِنه لحقٌّ} فوجهُ الكسر أنّ القسم إذا كان جوابه جُمْلَةً اسميةً فلا بدّ أَنْ يتلقى -إذا كانت موجَبَةً- بإنّ واللام، أو بأحدهما، ولا يستغنى عن واحدٍ منهما. هو هو الأصلُ، ولذلك لا تقول: والله أنت ذاهبٌ. ولو فتحت إنّ لكان بتلك المنزلة، فكان الكسر أولى. ووجه الفتح أن يقال: لعلّ الفتح على إضمار الجارّ إذا قلت أقسمُ أنّك قائِمٌ، أى: على أَنّك قائِمُ. وكذلك يكونُ قوله: أَوْ تَحِلفِى بِرَبِّك العَلِىَ أَنِّى أَبو ذَيّا لك الصّبِىِّ ثم يحملُ على ذلك ما كان الفعلُ فيه غير مصرّح به، نحو: والله إِنّ زيدًا قائمٌ. وما أجاز هنا من الوجهين ليس بمذهَبِ البصريين، وإنما هو رَأْىُ الكوفيين على ما حكاه ابنُ كيسان، ونحا نحوهم الزجاجىّ إِذ قال: «وقد أجاز بعض النحويين فتحها بعد اليمين، واختاره بعضهم على الكسر، والكسر

أجودُ وأكثر في كلام العرب، والفتح جائز قياسًا، فجعل أبو القاسم الفتح قياسًا، وإن كان الأجود الكسر. وذهب ابن أبي الربيع مذهبه أيضا. فالناظم كوفىُّ في أصل المسألة وزَجّاجِىٌّ، إلا أن الأجود عند الكوفيين الفتح، وعند الزجاجي الكسر. وأصلق الناظم القول في جوازهما فالظاهر التساوي عنده، وإذ ذاك يكون قد اختار القول بمذهبٍ ثالث مخالفِ لما تقدم نقله، ومخالفٍ لما رأه في شرح التسهيل من كونِ الفتحِ غير قياسٍ. فأما كونه مخالفًا لما رأه في شرح التسهيل فاضطراب في المذهب، وأما/ مخالفته للناس فاختراع لقول لم يره أحدٌ من النحويين، فهو مخالفٌ للإجماع. ولا يقال: لعل قوله: «بوجهين نُمِى» أراد به وجهين على الجملة، فيكون أحدهما قليلًا، فيتفق له القولان، إِن أراد أنه غير مقيس؛ إذ الفتح نادِرٌ، أو يكون موافقا للزجاجي إن أرد أنه مقيس. وقد رأى هنا غير ما رآه في شرح التسهيل، ولا بُعدَ في هذا، إذ المجتهدون تختلف آراؤهم في الأوقات المختلفة، فيكون له قولان هنا -لأنّا نقول: أما اختلاف القولين للعالم فممكن في نفسه إلا أنه غير ظاهر هنا من وجهين: احدهما: أن من عادته إذا كان أحدُ الوجهين نادرًا أو شاذًا أو قليلًا أو يُنَبِّه على القلّة أو الشذوذ، أو الشياع والكثرة، وهنا لم يفعل ذلك.

والثاني: / أنه قال: «بوجهين نُمِى»، إنهُ نِقل عن العرب؛ فإن عنى قياسًا فلازمٌ في الجميع، أو غير قياس فكذلك، ويُبيّنِ ذلك أنه شرك في المسألة ما بعد إذا الفجائية لقوله: «بَعْدَ إذا فجاءَةِ أو قَسَمٍ» .. إلى آخره، وهما في إذا وجهان جَيِّدان لا نُدُورَ في أحدهما ولا قلّة، فكذلك يلزم في القَسَمِ لا محالة، وإذ ذاك يكون مخالفًا لأهل البصرة والكوفة معًا. ويجاب عن ذلك أَنّ إحداثَ قول ثالث إذا أجمع الناس على قولين لا يكون خرقًا للإجماع عند جماعة من أهل الأصول، فلا عَتْبَ عليه. والحقُّ أنه كلامه غير مقتض لتساوي لوجهين، وإنما يقتضى قياسهما، ومعتمدُه في ذلك السماع، ولا شك أن السماع بذلك نادر، لكن قول الشاعر: أَنِّى أَبُو ذَيالِكِ الصّبِيِّ قد يلتحق على مذهبه بالنثر؛ إذ لا مانع ولا ضرورة تمنع من الكسر، فهو بمنزلته في غير الشعر، والقياس قابلٌ لما قال. وأيضًا الكوفيون قد اختارو الفتح على ما نقل عنهم ابن كيسانَ، وذلك لا يكون إلا مع السماع، لأن ما لا سماع فيه -وإنما أُجِيزَ بالقياسِ- لا يقال فيه: إنه أكثر من غيره، وقد قالوا: إنّ الفتح أكثر من السكر؛ فقد انتظم القياس مع السماع، وذلك ما أَرَدْنا، فلذلك -والله أعلم- اختيار الناظم هذا ما اختار. إلا أنّ فيه نظرًا من جهة أنّ إطلاقه في جواز الوجهين في القسّمِ اقتضى أن المفتوحة تقع جوابًا للقسم مطلقًا، لأنه

قال: بَعْدَ إِذَا فُجَاءَةِ أو قَسَمِ» ... إلى آخره، وإذا وقعت بعده فذلك على أنه جوابٌ له، سواءٌ أكان فعل القسم مصرّحًا به أو غير مُصرح به. وليس كذلك، بل الوجهان إنّما ذكرا مع التصريح بالفِعْلِ والقسم، نحو قوله: أو تَحْلِفِى بِرَبِّكِ العَلِىِّ أَنّى أبو ذَيّالِكِ الصّبِىِّ وأما كونُ الفعل غير مُصَرَّحِ به فلم أر من ذكر فيه نقلًا، نحو: والله أَنّك قائم. والظاهر المنعُ من الفتح والتزام الكسر؛ لأن المفتوحة مُؤَوّلةٌ باسمِ يقع مبتدأً، أو خبر مُبتدأِ، والجملة الابتدائية لا تقعُ بنفسها جوابًا للقسم؛ لا تقول: والله زيدٌ قائم، فكذلك لا تقول: والله أَنّك قائم؛ إذ هو في تأويل: والله أمرك القيام. أما جواز الفتح مع التصريح بفعل القسم فظاهر على تعلّو أنّ به.، لا على أنه جواب، فقولك: حلفت أنّك قائم، على تقدير: حلفتُ على أنك قائم. وهذا بَيِّن، فإطلاق الناظم القول في جواز الوجهين فيه ما ترى. والجواب: بأَنّ كثيرا من المتأخرين يطلقون القول في جواز الوجهين من غير تفصيل، فكان الناظم أتبعهم. وأيضا الذي حُكِى عن الكوفيين في الشرح/ مماثل لما ذُكر هنا من عدم التفصيل، والمسألة -كما تقدّم- إنما تصح على التفصيل المذكور، فالسؤال واردٌ على الجميع، والله أعلم. ويقال فيه نَمَيتُ اليه الحديث ونموتُه فأنا أَنْمِيه وأَنْمُوه: إذا رفعته

إليه فَنُمِي مَبْني من أحد الفعلين. ثم قال: «مَعْ تِلْوِ فَا الجَزَا». هذا هو الموضع الثالث من مواضع جواز الوجهين في إنّ. وذلك إذا كان تِلْوًا -أي: تاليًا- لفاء الجزاء، وفاء الجزاء هي الواقعة في جواب الشرط. ومع: متعلقة باسم فاعل محذوف هو حال من الضمير في نُمِى، أى: نُقِل إن بوجهين حالة كونه مصاحبًا إن التالى فاء الجزاء. ويريد مصاحبته في الحكم بجواز الوجهين. يعنى أَنّ إِنّ إذا وقعت بعد فاء الجزاء فإن للعرب فيها وجهين أيضا: الكسر والفتح. فالكسر نحو قول الله تعالى: {إنّه مَنْ يَتّقِ ويَصبِر فإنّ الله لا يُضِيعُ أَجْر المُحْسِنينَ}، وقال سبحانه: {إِنْ تَكْفُروا فَإِنّ اللهَ غَنِىٌّ عَنْكُمْ}. وهو كثير. وأما الفتح فنحو قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنّهُ مَن يحادِدِ اللهَ ورَسُولَهُ فَأَنّ له نارَ جَهَنّم} .. الآية. وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّه من تَولّاهُ فأَنّهُ يُضِلُّه} .. الآية. ومما قُرِئَ بالوجهين قولُ الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكم عَلَى نَفْسهِ الرَّحْمَة أَنّه من عَمِل منكم سُوءًا بِجَهالةٍ ثمّ تاب من بَعْدِه وأصلح فأَنّه غفورٌ رحيمٌ}. فقرأ

نافعٌ وغيرُه -إلا عاصمًا وابن عامرٍ- بكسر إِنّ بعد الفاء، وقرأ عاصم وابن عامر بفتحها. ووجه الفتح أن يكون ما بعد الفاء في تقدير مصدر مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف منوىّ التقديم، أى: فله أنه غفورٌ رحيمٌ، أى: فله غفرانُ الله ورحمتُه. ويجوز أن يكون المحذوف المبتدأ، تقديره: فأمرُه أنه غفور رحيم. وهذا النحو يجرى سائر ما ذكر من الشواهد. وأما الكسر فلا يحتاج إلى تكلّف شئٍ من ذلك؛ لأنّ ما بعد الفاء حكمه الابتداء؛ قال الفارسي: ومن ثَمّ حُمِل قولهُ: {وَمَنْ عَادَ فينتقمُ الله مِنْه}، على أنّ بعد الفاء مبتدأ محذوفًا، أى: فهو ينتقم الله منه. فإن قيل: هذا الإطلاقُ من الناظم غيرُ مستقيم؛ وذلك لأن الشاهد عليه إنما جاء مع تقدّم أنّ المفتوحة، كما مر في الأمثلة، وأَنّ بعد الفاء (في الأمثلة) يحتمل وجهين: أحدهما ما تقدّم من كونها خبرًا أو مبتدأ. والثاني: أن يكون تكررًا لانّ المتقدمة، إما توكيدًا مجرّدًا -وهو مذهب الفراء والمبرّد وغيرهما- وإما بدلًا على جهة التأكيد من الأولى. والمعنى في القولين واحدٌ إلا أن العبارة مختلف، والأظهر من سيبويه هذا الثاني، وهو أن تكون الثانيةُ بدلًا من الأولى، كقوله تعالى: {أَيعدُكم أَنّكم إذا متُّم وكنتُم ترابًا وعظامًا أنّكم مخرجون}، لأن المعنى: أيعدْكم أنكم مخرجُونَ إذا متم، لكن قدّمت أنّ الأولى وما بعدها من الظرف ليعلم بعد أىّ شئٍ الإخراج. هذا معنى تعليل سيبويه.

ثم قال: «زعم الخليل -رحمه الله- أن مثل ذلك قوله تعالى: / {أَلَم يَعْلَمُوا أَنّه مَنْ يحادِدِ الله وَرَسُولَه فَأَنّ له نار جَهَنّم}. فظاهر هذا الحملُ على التكرير/ قال السيرافي: «ولو لم تكن مكرّرة لكسرت، لأنها في موضع ابتداءٍ بعد الفاء». فإذا كان كذلك لم يكن في فتحها بعد الفاء في هذه المواضع شاهد على فتحتها بعد الفاء مطلقا، ولا بُدّ أن يثبت من كلام العرب مثل: من تكْرِمُنِى فَأَنى أكرمُه. وهذا ربما لا تجده، وإذا كان معدوما كان الناظم غير صحيح، لاقتضائه جواز: من يكرمني فَأَنى أكرمه. فالجواب: أن الناظم جرى في هذا الكلام على طريقة (أبى) الحسن الأخفش في الآية، من تعيين الاحتمال الأول، أن يكون ما بعد الفاء محمولًا على الابتداء والخبر، كما مَرّ تفسيرُه، وتكون هذه الآيات مثل قول الله تعالى: {والّذِين كَسبُوا السيئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بِمثْلِها} تقديره: أمرهم جزاءُ سَيِّئةٍ، أو جزاؤهم. وكذلك قوله: {قلنا: ياذا القَرْنَينِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمّا أَنْ تَتَّخِذِ فِيهِمْ حُسْنًا}، أى: إمّا أمرُهم كذا وإمّا أمرُهم كذا. وهو في الكلام كثير. وهذا الذى قاله الأخفش ارتضاه ابن خروف، وقال: إذا حُمِل على هذا صلح الفظ والمعنى، قال: ولا وجه للتأكيد في الآية ولا للبدل. وتأوّل كلام سيبويه على هذا المعنى، وأنّ قوله: «وزعم

الخليلِ أنّ مثل ذلك» يريدُ به مثل قوله: قد علمت زيدًا أبوه خيرٌ منك، وقد رأيت زيدًا يقول أبوه ذلك -قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} .. الآية، يشير إلى المسائل التى يبتدأ فيها، لا إلى أنها على التأكيد ولا البدل. فعلى هذه الطريقة تكون الآياتُ شواهِدَ على جواز نحو: من يكرمني فأنّى أكرمه، على معنى: فأمرى أنّى أكرمه، وفَلَهُ أنّى أكرمه، أو ما أشبه ذلك. ويظهر أَنّ هذه الطريقة أولى، لوجود نظائرها في كلام العرب، ولأنّ البدل والتأكيد لا يكونان جوابا، وقد وقع ذلك الجواب على الطريقة الأخرى. فما ارتض الناظم أحسنُ في القياس الصناعىّ، وبه يصحّ الإطلاق في القاعدة. ثم قال: «وذا يَطِّردُ»، ذا: إشارة إلى الحكم المذكور، وهو جواز الوجهين في إنّ، ويطرد معناه: يجرى قياسًا لا ينكسر، وأصله من قولهم: اطّرد الخبرِ أو الشرّ: إذا اتَبِع بعضُه بعضًا، وجرى من غير تَوَقُّفٍ، وقولهم: اطرد الأمر: إذا جرى واستقام. واطّرد النهر: جرى. يقول: وهذا الحكم يجرى فيما [كان] نحو قولهم: خير القول إنّى أحمدُ، وهو الرابع من مواضع جواز الوجهين، فيجوز، فيجوز لك في إنّ الفتح فتقول: خيرُ القولِ أَنى أحمدُ الله، على تقدير المصور، أى: خيرُ القول حمدُ الله. ويصدق في هذا الوجه على كلِّ حمد، بأىّ عبارةٍ كان. ويجوز الكسر فتقول: خير القول إني أحمد الله، على تقدير: خير القولِ هذا القولُ المعيّن المفتتح بإنى. فهو في التقدير على ما هو في اللفظ ولا تصدقُ هذه العبارة إلا على الحمد بهذا اللفظ المذكور. ومثلُ ذلك ما مثّل به سيبويه حيث قال: «وتقول: أول ما

أقولُ أَني أحمدُ الله، كأنك قلت: أول ما أقول الحمدُ لله، وأَنّ في موضعه». قال: «وإنْ أردْت أن تحكى قلت: أولُ ما أقول: إِنى أحمد الله». يعنى بالحكاية الحملُ على الابتداء. ومثله: كلامُ زيدا إنه يقول كذا كذا، وجوابه إنّ زيدًا في الدار، وسؤالى إِنى أسأل الله كذا كذا، وخبرى عن حالِ زيدٍ إنه مُتّكِئ. وما أشبه ذلك. وقيّد مثاله المسألة بشرط لا بُدّ منه وهو: أن يكون أول الكلام مما يقتضى الحكاية، وذلك القولُ وما في معناه، فلذلك قال: «فِى نَحْو خَيرِ الْقَولِ إِنِّى أَحْمَدُ»، والقول يقتضى الحكاية، فإذا كان كذلك ساغ إجراؤه على الحكاية، وساغ إجراؤه على غير الحكاية، ومن ثَمّ جاز الوجهانِ في إنّ هذه. ولما حَصَرَ مواضع القسمين واستوفى عَدّها، دَلّ كلامُه على أنّ ما عدا ذلك فهى فيه مفتوحة، وهو القسمُ الثالثُ من أقسام إِنّ، فلم يَحْتَجْ إلى تكلُّفِ عدِّها. وقد ذكر الناس لفتحها عشرة مواضع: أحدها: أن تقع فاعلة، أى: مُؤَوّلة مع معموليها بالفاعل، لأنها مصدرية، نحو: أعجبنى أنّك منطلقٌ، لأنها في تقدير: أعجبني انطلاقُك. والثاني: أن تقع مفعولةً نحوُ: كرهتُ أنّك قائم، تقديرُه: كرهتُ قيامك. والثالث: أن تقع مجرورةً لفظًا، نحو: عجبتُ من أَنّك مُنْطَلِقٌ، أو تقديرًا نحو: {وأَنّ المساجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا} .. الآية. (أى): ولأَن المساجد لله. والرابع: أن تقع مبتدأة، نحو: عِنْدى أَنك منطلق.

والخامس: أن تقع خَبَرَ مبتدأٍ، الكرمُ أنّك تَفْعَلُ كذا. والسادس: أن تقع بَدَلَ من شئ، نحو: أعجبتني قصّتُك أَنّك أعطيتَ فلانًا. والسابع: أن تقع بَدَل اشتمالٍ، نحو قول الله تعالى: {وَإذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إحدى الطّائِفَتَينِ أَنّها لَكُمْ}. والثامن: أن تقعَ بعد لو نحو قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنّهم إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ}، {وَلَو أَنّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ به} .. الآية. والتاسع: أن تقع بعد لولا، نحو: لولا أَنّك قائمٌ لأكرمتُكَ. والعاشر: أن تقع بعد مُذْ، نحو: ما رأيتُه مذ أَنّ الله خلقنى. وما أشبه هذه المواضع فهى في معناها. واعلم أن اقتصاره فيما يجوز فيه الوجهان على أربعة مواضعَ يُدْخِلُ عليه في هذا القسم خَلَلًا؛ لأن الناس قد ذكروا الجواز الوجهين مواضع أُخَر لم يذكرها الناظم، فاقتضى ذلك فيها لزومً الفتح، وليس كذلك. منها: ما بعد حتى إذا كانت ابتدائية كسرت إِنّ بعدها -وقد تقدم- وإذا كانت عاطفة فُتِحَتْ، نحو: أعجبنى أمرُك كلُّه حتى أنّك متواضع. ومنها: ما تقع بعد أما، نحو: أَمَا إنّك منطلق، بالفتح والكسر، فإذا فتحت كانت أما ظرفًا بمعنى حقًا، كأنك قلت: حقًا أنّك ذاهب. وإذا كسرت كانت حرف تنبيه كألا. ومنها: أن تقع بعد حرف تنبيه كألا.

ومنها: أن تقع بعد حرف العطف، نحو: عرفتُ أنّك ذاهبٌ وأنك مُعْجَلٌ. يجوز الوجهان، فالفتح عطف على أَنّ الأولى، والكسر استئنافٌ. وكذلك مع ثُمّ إذا قلت عرفتُ أنّك ذاهبٌ ثم أَنّك مُعُجَلٌ. ومن ذلك في القرآن. {إِنّ لَكَ أن لا تَجُوعَ فيها ولا تَعْرَى. وأَنّكَ لا تَظْمَأُ فيها وَلَا تَضْحَى}، قُرِئت بالكسر، وهو لنافع وأبي بكر. وفتح الباقون. ومنها: أن تقع بعد الواو لكن مع اسم الإشارة، نحو: ذاك وأَنّك قائم، فالفتح -على معنى: الأمر ذاك وأنّك قائم، والكسر على الاستئناف. ومن الكسر قولُ تعالى: {هذا وَإِنّ للطاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ}. ومن الفتح قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وأَنّ للكافِرينَ عَذَابَ النّارِ}، / {ذَلِكُمْ وأَنّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكافِرينَ}. ومنها: أن تقع بعد القول المُشْرَبِ معنى الظّنِّ، نحو: أتقول إنّ زيدًا قائم؟ وأتقول: أَنّ زيدًا قائم. إلى غير ذلك من المواضع التى يجوز فيها الوجهان، زيادةً إلى ما تقدّم من المواضع التى تَلْزَم الكسرَ، فجميعها ينقضُ عليه هذا التقسيم فلا يَتَخلّص للقسم الأخيرِ شئٌ بعينه. والذى يقال في هذا -والله أعلم- أَنّه لم يقصد الحَصْر التامّ

لسائر الأقسام، وإنما قصد التنبيه على بعض المواضع المشهورة في القسمين الأوّلَينِ، وترك الثالث غُفْلًا لئَلّا يُفْهَم منه لزوم الفتح في جميع ما لم يذكر. وكأنه ذكر ضابط الفتح. وهو سدُّ المصدر مسدّه، فاكتفى به على الجملة، ثم نَبّه على شَىْءٍ مما خرج عنه إلى لزوم الكسر أو جواز الوجهين، وترك سائر المواضع لينتظر فيها الناظر في كتابه، بناءً على ما ذكر له، وذلك كافٍ في مثل هذا المختصر. (ثم قال): وَبَعْدَ ذَاتِ الكَسْرِ تَصْحَبُ الخَبَرْ لَامُ ابْتِدَاءٍ، نَحْوُ: إِنّى لَوَزَرْ وَلَا يَلِى ذِى اللّامَ مَا قَدْ نُفِيا وَلَا مِنَ الأَفْعَالِ مَا كَرَضِيَا وَقَدْ يَلِيهَا مَعَ قَدْ، كإِنّ ذا لَقَدْ سَمَا عَلَى العِدَا مُسْتَحْوذا (وَتصْحَبُ الواسِطَ مَعْمُولَ الخَبَرْ وَالْفَصْلَ، وَاسْمًا حَلّ قَبْلَهُ خَبَرْ) أخذ الآن يُبيّين ما يتعلق بهذه الحروفِ أو ببعضها من الأحكام، زائِدًا إلى ما لها من ذلك في أنفسها. وابتدأ بِذِكْرِ إِنّ المكسورة، فذكر أن لام الابتداء تدخُلْ مع إِنّ على الخبر وغيره. وذلك أنّ لام الابتداء أصلها أنّ تدخل على المبتدأ

والخبر لتؤكِّد الكلام، فتقول: لَزيدٌ قائمٌ، و {لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيرٌ من مُشْرِكٍ}. ثم إِنّ إِنْ تدخل على المبتدأ والخبر أيضًا للمعنى الذى تدخله اللام من التوكيد، ويبقى معها معنى الابتداء، كما كان باقيًا مع اللام، فلما لم يتناقضا جاز اجتماعُهم زيادةً في التوكيد، وحسُن اجتماعٌ توكيدين بحرفين، كما حَسُن اجتماعهما باسمين، نحو: {فَسَجَدَ الملائِكَةُ كُلٌّهم أَجْمَعُون}، وموضِعُ كل واحدٍ من الحرفين صدرُ الكلام، لكن لما اجتمعا كرهوا ذلك، وأن يجتمعها ويتلاحقا، ولذلك لما جمعوا بينهما في الشعر غَيّروا أنّ بإبدال همزتها هاءً، فقالوا: أنشده عامة النحاة: أَلَا يا سَنَا بَرْقٍ عَلَى قُلَلِ الحَمِى لَهِنّكَ مِنْ بَرقٍ عَلى كَرِيمُ والأصل عندهم: لإنك. فأبدلوا كما أبدلوا ألف ما حين اجتمعت مع مثلها في قوله، أنشده ابن جني: مَهْما لى اللّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهْ فلما كان اجتماعهما مكروها أخّروا اللام وأبقوا إنّ في موضعها اعتبارًا

باختصاص إنّ بالمبتدأ وعملها فيه دون اللام، فإنها لا تختص ولا تعمل، فقالوا: إنّ زيدًا لقائم. ومع هذا فاللام في نية التقديم ولذلك عَمِلت [إنّ]، ولولا ذلك لعلقتها عن العمل، كما علقت أفعال القلوب. فإذا أخّروها فلا بُدّ أن يقع بين إِنّ وبينها فاصلٌ، وإلّا كان المحذوف باقيا. فلا تدخل إلا حيث يحصُلُ هذا الشرط. وذكر الناظم لدخولها أربعة مواضع، وهى: الخبر، ومعموله، والفعل، والاسم. فأما دخولها على الخبر فذلك قوله: «وَبَعْدَ ذَاتِ الكسرِ تصحتُ الخبر بعد إِنّ المكسورة. وإنما قال: «وَبَعْدَ ذَاتِ الكَسْرِ» بيانًا أنّ هذه اللام مختصّة اللحاق بإنّ لا بغيرها من الحروف المذكورة؛ فلا/ تدخل في خبر المفتوحة، فلا تقولك أعجبني أن زيدًا لقائم. وما جاء من ذلك في السماع فشادُّ لا يقاس عليه، كقراءة من قرأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا أنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَام}، بفتح (أنّهم) مع اللام ولا تدخل أيضا في خبر غير أنّ، فلا تقول: كأنّ زيدًا لقائمٌ، ولا لعلّ زيدًا لقائم، ولا ليت زيدًا لقائم. وهذه متفقٌ عليها. ولا تقول أيضًا: لكن زيدًا لقائمٌ. عند البصريين وهو رأى الناظم. وذهب الكوفيون إلى جوازه. والصحيح مذهب أهل البصرة للقياس والسماع أمّا القياسُ فلأَنّ هذه اللامَ إما لام الابتداء وإما لام

اختلاف المذهبين، وأىّ ذلك كان فلا يستقيم دخولها في خبر لكن، وذلك لأنها إن كانت لامَ الابتداءِ فإنما حَسُن دخولُها مع إنّ لموافقتها لها في المعنى؛ إذ كلٌّ منهما للتأكيد، وأما لكنّ فمخالفةٌ لها في المعنى. وإن كانت لام القَسَمِ فإنما حَسُن دخولها مع إنّ لأن كلّ واحدةٍ منهما تقع جوابًا للقسم، ولكن مخالفةٌ للّام في ذلك لأنها لا تقع في جواب القسم، فكان الواجب أن لا تدخل في خبر لكن البتّةَ. وأما السماعُ فمعدُومٌ، فلا مستَنَدَ لجواز لحاقها مع لكنّ. واحتج الكوفيون على صحة مذهبهم أيضا بالقياس والسماع، أما القياسُ فمن وجهين، أحدهما: بقاء معنى الابتداء مع لكنّ كما كان باقيًا مع إِنّ، وبقاءُ معنى الابتداء في إِنّ هو المسوِّغُ لدخولها مع إِنّ، فَلْتَدخُلْ مع لكنّ لوجود ذلك المعنى الجامع بين إِنّ ولكنّ. وأيضًا فإنّ أصل لكنّ إن، زيدت عليها اللام والكافُ، كما زيدت عليها اللام والهاء في نحو: لَهِنّكَ مِنْ بَرْقٍ عَلَىّ كَرِيم والحرفُ قد يُزاد عليه في أوّله نحو لَعَلّ، وفي آخره نحو: {فإمّا تَرَينّ}. إلا أن الهمزة حذفت تخفيفًا، كما حذفت عندكم في لن؛ إذ أصلها -على قول الخليل-: لا أنْ. وإذا كان كذلك فلكنّ هى إِنّ في الحقيقة، فكما جاز دخول

اللام مع إِنّ جازَ مع لكنّ. وأما السماعُ فقد قال الشاعر: وَلَكِنّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيدُ ولا يقال: لو كان قياسًا لوجد في السماع كثيرًا، لكنه لم يُوجَدْ منه إِلّا هذا الشطر، فدلّ على أنه عند العرب مهجورٌ -لأنّا نقول: لا تعتبر القلّة والكثرة في السماع إِلّا إذا كان القياس يدفعه ويعارضه، فأما إذا كان جاريًا على القياس ولم يكن له معارض، فلا يندفع بالقلّة. واعتبر ذلك بمسألة أبى الحسن في شنوءة، في باب النسب، حيث قال فيه شَنَئِىّ -ولم يسمع غيرُه-: هو البابُ كلُّه- فكذلك مسألتنا قد تقدم وجهُ القياس فيها، ولا معارض لذلك، فصحّ القياسُ على ما سُمِع فيها وإن قَلّ. والجواب عن الأول: أنّ معنى الابتداء فحسبُ، بل لأنها مثلها في التوكيد، ولكنّ بخلاف ذلك. وأيضًا فإنّ معنى الابتداءِ مع لكنّ لم يبق كبقائه مع إِنّ؛ لأنّ الكلام الذى فيه إنّ غير مفتقرٍ إلى شئٍ قله، بخلاف الذى فيه لكنّ فإنه مفتقرٌ إلى ما قبله، فاشبهت أَنّ المفتوحةَ التى أُجمع على امتناع دخول اللام بعدها. وعن الثاني: أَنّ ما قُلتم من أنّ أصلها «إِنّ» زيدت عليه اللام والكاف فدعوى لا تسمع من غير/ دليلٍ. وأما النَظْرِ بقوله: «لَهِنّكَ مِنْ بَرْقٍ» فيحتمل أن يكون الأصلُ لإنّك، فَأبدَلت الهمزة هاء. وهذا الذي يدّعيه

البصريون. ويحتملُ أن يكون الأصلُ: لِلهِ إِنّك. فاختُصر كما اختُصِرَ في نحو: لاهِ أبوك، ولَهْىَ أبوك، ولهِ أَبُوكَ. وهذا أولى من قول الكوفيين لثبوت تصرّف العرب في لفظ الله في القسم. وهذا تأويل السُّهيلى فيما أحسبُ؛ فإذًا لم يتعيّن وجهُ التنظير، ولو سُلِّم أن أصلها إِنّ فلا يلزم أن يبقى بعد التركيب حكمُ ما قيل التركيب، بل يختلفَ كثيرًا. كما اختلف عند الخليل في لن، حيث جاز: زيدًا لن اضرب، ولك يجز: زيدًا لا أَنْ أضرب؛ وكما اختلف في إمّا، فلزمت فعل الشرطِ النون، ولم تلزم دون ما. وكما قلتم أنتم في «اللهم» ونظائر ذلك كثيرة؛ فإذا كان كذلك لم يستتبّ القياس مع جواز المخالفة بعد التركيب، بل مع ثبوتها كما تقدّم في جواب الوجه الأول. وأما السماعُ فقال ابن مالكٍ: لا حُجّة فيه لشذوذِه؛ إذ لا يُعْلَم له تتمّةٌ ولا قائلٌ ولا راوٍ عدلٌ يقول: سمعته مِمّن يوثَق بعربيته، والاستدلالُ بما هو هكذا في غاية الضعفِ. قال: ولو صحّ إسناده إلى من يوثق بعربيته لوجِّه بجعل أصله: «ولكِنْ إِنّنى» ثم حُذِفت همزة إِنّ ونونُ لكنّ، وجئ باللام في الخبر لأنه خبر إِنّ، أو حُمِل على أن اللام زائدةٌ كما زيدت في الخبر قبل انتساخ

الابتداء، كقوله، أنشده عامة النحويين: أُمُّ الحُلَيسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ولا يصحُّ عَضْدُه بموافقته للقياسِ؛ فقد مرّ القدحُ في ذلك القياسِ، فلم يبق إلا الوقف على السماع. وقولُ الناظم: «لامُ ابتداءٍ» تعينٌ للّام الداخلة ما هى؟ وأنها لَام الابتداءِ الداخلةُ على المبتدأ والخبر، نحو: لزيدٌ قائمٌ، ليست غيرَها. وهذا الذى أشار إليه هو مذهبُ أهل البصرة. وقد تقدّمت الإشارة إلى الخلافِ في ذلك. والدليلُ على صحة مذهب الناظم أَنّ هذه اللام مستغنيةٌ عن نون التوكيد إذا دخلت على المضارع نحو: إِنّ زيدًا ليقومُ، و {إن ربّكم لَيحكُمُ بَيْنَهُم}؛ ولو كانت لام القسم لم تستغن عن النون، فكنت تقول: إن زيدًا ليقومنّ، كما تقول: والله ليقومنّ. فإن لم يقولوا ذلك مع كثرةِ دخول النون مع لام القسم وندورِ خلافه [فهو] اليلٌ واضحٌ على أنها ليست لام القسم، وإنما هى لام الابتداء التى لا تلزمُها نون. ومثالُ دخولها على الخبر قولُ الله تعالى: {إِنّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ}، {وإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرةٍ للناسِ عَلَى ظُلْمِهم}. وهو كثير. [والوَزَرُ: الملجأ].

ثم أخذ يشترطُ في جوازِ دخولِ هذه اللام على الخبر شروطًا ضرورية، وهى ثلاثةٌ: أحدها: أشار إليه مثاله، وهو قولُه: «إِنِّى لَوَزر». وهو الفصلُ بين إنّ والخبر، فإنه لو لم يكن مفصولًا من إِنّ لم تدخل اللامُ عليه، نحو: إِنّ في الدار زيدًا، فلا يقال: إِنّ لفي الدار زيدًا. ووجهُ ذلك ما تقدم. والثاني: أن لا يكون الخبر منفيًا، وهو المصرّحُ به في قوله: «وَلَا يَلِى ذِى اللامَ ما قد نُفِيا». ذى: مفعول بيلى، وما هو الفاعلُ، كأنّه قال: ولا يلى الخبرُ المنفىُّ اللّام المذكورة. وقوله: «ما قد نُفِى» -وإن كان الخبرُ غير مصرّحٍ به فيه- فهو/ المرادُ، لأن كلامه فيه، فمعنى الكلام: ولا يلى هذه اللامَ ما قد نُفِى من الأخبار. والخبر المنفىُّ: هو الذى دخلت عليه أداة نفي، فيريد أَنّ نحو: إِنّ زيدًا ما أبوه قائمٌ، لا تدخلُ اللامُ عليه، فلا تقول: إِنّ زيدًا لما أَبُوه قائم. وكذلك غير ما من أدوات النفي، فلا تقول: إِنّ زيدًا للايقول، ولا: إن زيدًا لإِنْ تقُول إلا خيرًا. وما أشبه ذلك. ومثل ذلك في الامتناع: إِنّ زيدًا لَلَمْ يَقُمْ، وإِنّه لَلَنْ يقوم. ووجه امتناع اللام هنا عند المؤلف أَنّ أكثر أدوات النفي أولُها لامٌ مثلُ: لا، ولم، ولن، فكرهوا اجتماعَ حرفين مثلين لما فيه من الثّقلِ على اللسان، ثم أجرّوا سائِرَ أدواتِ النفِي على ذلك لِيُنْسَقَ البابُ، كما حملوا يُكرمُ وتُكرمُ على أُكرمُ في حذف همزة أَكرَمَ. ولذلك نظائر في القياس العربي. وقد شذ دخولُها على «لا» في الشعر؛ أنشد

ابن جني: وَأَعْلَمُ إِنّ تَسْلِيمًا وَتَركًا لَلَا مُتَشابِهانِ وَلَا سَوَاءُ وهذا محفوظٌ عند الناظم، فلذلك لم يَبْينِ عليه. والثالث من الشروط: أن لا يكون الخبرُ فعلا يشبه رَضِى، وذلك قوله: «وَلَا مِن الأفْعَالِ ما كَرَضِيا، وأَنْ يكون متصرِّفا؛ فإذا اجتمع في الفعل الوصفان معًا لم تلحقه اللامُ، فلا تقول: إِنّ زيدًا لَرضِى، وكذلك لا تقول: إِنّ زيدًا لقام، وإن لأعطاني كذا، ونحو ذلك. فإن تخلّفَ شرطٌ من هذين جاز لحاقها أما تخلف كونه ماضيا، فنحو: إنّ زيدًا يقومُ، فَتَلْحقُ واللام؛ لأنّ الفعلَ مضارعٌ، فتقول: إن زيدًا ليقومُ، ومنه: {إِنّ ربّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} .. الآية. وأما تخلف كونه متصرفًا، فنحو: إن زيدًا نِعْمَ الرجلُ، فتلحق اللام هنا فتقول: إِنّ زيدًا لنِعْمَ الرجل، لفقد التصرُّفِ. ووجهُ هذا كلِّه أَنّ أصل اللام أن تدخل على الاسم لا على الفعل، وإنّما دخلت على الفعل المضارع لشَبَهِه بالاسم الشبه المذكور قبلُ، وأمّا الماضى فليس شبيها بالاسم فلم تدخل عليه اللام، وإنما جاز دخولُها على غير المتصرّفِ لأنه يُفيد الإنشاء، والإنشاء يستلزم الحضور فيحصل بذلك شَبَهُه بالمضارع، فتدخل اللام. ولهذه العلّة إذا دخلت على الفعل الماضى المتصرّف [المفترن

بقد] استُبيِحَ دخولُ اللام عليه؛ لأن قد تقَرّب الماضي من الحال ومن هنا استثنى الناظمُ ذلك من الحكم بالمنع فقال: وقد يليها مع قد، يعنى: أنها قد تدخل على الماضى المتصرّفِ إذا كان مصحوبًا بقد، نحو ما مثّل به من قوله: «إنّ ذَا .. لقد سَمَا على العِدَا مُسْتَحوِذَا، فأدخل اللام على «سما» لما اقترن بقد. ثم يتعلّق النظر في كلامه بمسألتين: الأولى: أَنّ التصرّف المختصّ بالأفعال يطلق على وجهين: أحدهما: أن يُرَاد به ما استُعمِل على وجه واحدٍ من وجوه التصرف الثلاثة، إمّا ماضيًا أو أمرًا أو مضارعًا مع بقاء دلالته على الزَّمانِ وعدمِ انتقاله إلى الإنشاءِ كأفعال المقاربة ما عدا كاد وأوشك، وكذا تَعَلّم بمعنى اعلَمْ، وتبارَك، وسُقِط في يده، وينبغي، ونحوها مما لا يستعمُل إلا على وجه واحدٍ وإنْ كان دالًا على الزمان -فهذا ليس بِمُرادٍ للناظم، لأنه جارٍ هنا مجرى المتصرف؛ / فإنك لا تقولُ: إِنّ زيدًا لجعلَ يقومُ، ولا: إن زيدًا لسُقِط في يده، كما لا تقول: إنّ زيدًا لرضِىَ. ويجوز ذلك إذا أدخلت قد فتقول: إِنّ زيدًا لقد جعَلَ يقوم، وإن زيدًا لقد سُقِط في يده، وإن زيدًا لقد سما على العدا. وما أشبه ذلك. ويُشِعِرُ بهذا من كلامه تمثيلُه برضى من حيث كان ماضيًا دالًا على الحدث والزمان، فما كان مثله امتنع أَنْ تدخُلَ عليه اللام. والثاني: أن يُرِيدَ به ما كان من الأفعال شبيها بالحرف في عدمِ

دلالته على الحدث والزمان وعدمِ تَصرُّفه، كنِعْمَ وبئس، فهذا هو المراد للناظم فأخرجه بالقيد من حُكمِ المَنْع من دُخُولِ اللام عليه، فدخل في حكم الجواز، فتقول على هذا: إنّ زيدًا النِعْم الرجلُ، وإنّ عمرًا لِبِئْسَ الغلامُ. وما أشبه ذلك وقد تَبَيَّنِ وجهُه. واقتضى ذلك جوازَ دخولِ اللام على ليس، وأن تقول: إنّ زيدًا لليس بقائم. وهذا ألا يسوغُ لكراهية اجتماع لامين في اللفظ. ولعلّه لم يَعْيَنِ بالتحرُّزِ منه اتكالًا على عِلّة امتناع دخولِ اللام على أدوات النفي، أو لأنه -وإن لم يَدُلّ على الحدث والزمان- في حكم المتصرّف، كما يقول فيه ابن أبي الربيع وغيرُه، أو لغير ذلك. والثانية: أنه لما أخرج عن الحكم بدخول اللام على الخبر الخَبَر الوالى لأَنّ، والمنفي، والواقع فعلًا ماضيا، كان ذلك ظاهرًا في أَنّ سائر ما يقع خبرا لأنّ يجوزُ دخول اللام عليه، فتقول: إن زيدًا لقائمٌ، وإن زيدًا لفي الدار، وإن زيدًا ليخرج اليوم. ونحو ذلك. ويقضَى ذلك أن تدخل على الخبر إذا كان شرطًا وجزاءً، وعلى واو المصاحبة المغنية عن الخبر، وعلى الخبر إذا تقدمته أداةُ التنفيسِ، وكذا إذا كان قسمًا وجوابًا، أو جُمْلَةً اسمية. أما الشرط والجزاء فقد مَنَع في التسهيل دخولَ اللام عليه؛ قال في الشرح: «والمانع من دخولها على أداة الشرط خوفُ التباسها بالموطِّئِة للقسم، فإنها تصحبُ أداة الشرط كثيرًا، نحو: {لَئِن لَمْ يَرْحَمْنَا ربُّنا ويَغْفِرْ لَنَا لنكونَنّ مِنَ الخَاسِرِينَ}. فلو لحقت لام الابتداء أداة الشرط لذهب الوهم إلى أنها الموطئة، وحقُّ المؤكِّدِ أنْ لا يلتَبَسُ بغير مؤكد». وذكر أيضا أن ذلك غير

مستعمل في كلام العرب فتأكّد المنعُ. ومنع ذلك غَيْرُه أيضًا من النحويين واعتلُّوا للمنع بأنّ هذه اللام تطلب المبتدأ؛ ألا ترى انك لا تقدّم الخبر في قولك: لزيد قائم فتقولَ: لقائمٌ زيدٌ؛ لأن اللام لا تدخل على الخبر، وإنما دخلت في خبر إِنّ للضرورة من اجتماع حرفين مؤكّدين، وإنما دخلت على الخبر لشبهه المبتدأ، وذلك إذا كان مفردًا، أو ظرفًا، أو مجرورًا، أو فعلا مضارعًا. فإن كان الخبر على غير ذلك لم تدخل إلا بنظر وشَغْبٍ؛ فإذًا إطلاق الناظم الجواز فيه ما ترى. وقد يجابُ عن هذا بأَنْ يقال: المسألةُ نظريّةٌ -ولعلّ الناظم ذَهَب هنا في الشرط مذهبَ ابن الأنباري القائل بالجواز في الجواب، لا اعتبارًا بعدم التباسِها بالموطِّئَةِ لأنها لا تدخلُ في الجواب، بل قاسَ الجوابَ على الجملة الفعلية أو الاسمية إذا قلت: إِنّ زيدًا/ لأبوه قائمٌ، حسبما يذكر بحول الله. وأمّا واو المصاحبة المُغْنِيةِ عن الخبر فقد منع في التسهيل دخول اللام عليها، فلا يقال، : إنّ كُلُّ رَجُلٍ لَوَضيعتهُ، ولا يدخل هذا عليه هنا، لأن واو المصاحبة وما صاحبت ليس بخير، وإنما هى نائبه منابه، فلم تدخل تحت قوله: «وبعد ذاتِ الكَسْرِ تصحبُ الخُبر .. لامُ ابتداءٍ». فلا دَرْك عليه

بذلك هنا. وعلى أنّ المؤلف حكى عن الكسائي جواز المسألة محتجًا بما حكى من قولهم: إن كل ثوبٍ لَوَ ثمنه. وأما الخبر المصدّرُ بأداة التنفسِ ففي جواز اللام عليها خلافٌ بين الكوفيين والبصريين، نقله المؤلف في الشرح، فذهب البصريون إلى ما اقتضاه كلامه هنا من الجواز، وذهب الكوفيون إلى المنع، فلا يجوز عندهم أن يقال: إن زيدا لسوفَ يقوم. وأجازه البصريون، قال المؤلف: «ولا مانع من ذلك، فجوازه أولى». وأما القسم والجواب فقد مَنَعَوا دخول هذه اللام عليه، فلا تقول: إنّ زيدًا لو الله قد قام، ولا ما أشبه ذلك. وظاهر إطلاق الناظم جواز ذلك. قوله: «وَقَدْ يَلِيهَا معَ قَدْ»، قاعل يلى الفعل الماضى المتصرّف. وها: عائدة على اللام المذكورة؛ يعنى أنّ اللام قد تدخل قليلا على الفعل الماضى المشبه لرضى، إذا كان بعد، نحوُ ما مثّل به من قوله: «إنّ ذا .. لقد سَمَا على العِدَا مُسْتَحْوِذا». فدخلت اللام على سما لمّا اقترن بعدَ. والعدا: الأعداءُ. والمستحوذ على الشئ: هو الغالب عليه؛ {اسْتَحوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ}، أى: غَلَبَت على قلوبهم فأنساهم ذكر الله. وأما دخولُ اللام على معمول الخبر، فذلك قوله: «وتصحبُ الواسِطَ مَعْمُولَ الخَبَر». يعنى أَنّ اللام تصحبُ أيضًا معمول الخبر إذا كان متوسطًا، يريد: بين الاسم والخبر، فتقول: إنّ زيدًا لَفِى الدار قائمٌ، وإنك لَعِندي خطِي،

وإن زيدًا لطعامَكَ آكلٌ. ومنه قول أبى زُبيدٍ الطائى: إن امرأ خَصّنَِى عْمدًا مَوَدّتَهُ عَلَى التّنَائِى لَعِنْدِى غيرُ مَكْفُورِ وإنما جاز هذا لأن المعمول كالجزء من عامله، فإذا قدّم كان كالجزء المتقدم، وإذا أُخِّر كان كالجزء المتأخر. وأيضًا تقدّم المعمول يُؤُزِنُ بتقدُّم العامل، فالمعمولُ إذا تقدّم في محلِّ عامله، فكأن اللام وإنما دخلت على العامل، وهو الخبر. واقتضى كلامه في معمول الخبر شرطا، وهو أن يكون واسطًا، أى: متوسِّطًا بين المبتدأ والخبر، تحرزًا من أن يكون متأخرًا عن الخبر، أو متقدّمًا على المبتدأ، فإن اللام لا تلحقه هنالك؛ فإذا قلت: إِنّ عليك زيدًا نازلٌ، لم يجز لحاقُ اللام في عليك، لقُبْحِ اجتماع إِنّ واللام، كما تقدم، فلا تقول: إنّ لَعَليك زيدًا نازِلٌ. وإذا قلت: إِنّ زيدًا نازلٌ عليك، لم يجز دخولُ اللام على معمول الخبر، فلا تقول: إِنّ زيدًا نازلٌ لَعَليك، لاستحقاق الخبر لها. و«معمولَ الخبر»: يَحْتَملُ أن يكون بدلصا من «الواسطَ»، ويحتملُ أن يكون حالًا منه تقديره: وتصحبُ الواسط حال كَوْنِهِ معمولًا/ للخبر، أو صفةً على ذلك المعنى. ويكون ذلك تحرزًا من أَنْ لا يكون معمولًا بل صِفَةً للاسم، نحو: إِنّ زيدًا الفاضِلَ لَقَائِمٌ، فلا تَلْحَقُ هنا المتوسِّطَ بين الاسم والخبر لأنه من تمام الاسم. وكذلك إن توسط معطوفٌ أو بَدَلٌ أو توكيدٌ،

نحو: إنّ زيدًا وعَمْرًا قائمان، وإ زيدًا أباك قائمٌ، وإنّ زيدًا نَفْسَه قائم؛ لأن ذلك كلّه راجع إلى تمام الأوّلِ، كما أنّ معمول الخبر من تمام الخبر، فلذلك لحقت معمول الخبر متوسطًا وإن تقدّم قبله نعتُ الأول، فيما أَنْشَد سيبويه من قول أبي زبيد: إِنّ امْرَأ خَضّنِى عَمْدًا مَودّتُه عَلَى التّنَائِى لَعِنْدِى غَيْرُ مَكْفُورِ وكذلك إذا كان الواسطُ معمولاتٌ لغير الخبر، نحو: إِنّ عدى لفي الدار زيدًا، وإن هذا لقائمًا صاحبك، فنحو هذا غير جائز؛ قال ابن خروف: لتعلّق الظرفِ والحال بما قبل الاسم والخبر. وهذا تحرُّز حسن؛ إلا أنه يلقاه فيه منعُ نحو: إنّ غدًا لعليك زيدًا نازِلٌ، وإنّ اليوم لفيك زيدًا راغبٌ؛ إذ ليس معمول الخبر هنا متوسطا بين الاسم والخبر، بل بين معمول الخبر والاسم. ويُمكن أن يريد الواسط بين شيئين أَعمّ من أن يكونا اسما وخبرًا، أو غير ذلك، كمسألتنا، فتدخل له في حيِّز الجواز، ويصح كلامه على هذا التنزيل. والله أعلم. واعلم أنّ كلامه لا يمنع أن تدخُلَ اللامُ على الخبر مع توسُّطِ معمولٍ، بل يصلحُ أن يدخل تحته نحوُ: رِنّ زيدًا في الدار لقائمٌ؛ لأن إنما ذكر أنّ دخولها على الخبر أو على معموله بشروطها جائز، فإذا اجتمعت هذه الشروط في كلِّ واحد فيهما كنت مخيرا فقتول: إِنّ زيدًا في الدّار قائم، كما تقول: إن زيدًا لفى الدار قائم، ومن ذلك قولُ الله تعالى: {إِنّ الله بِالنّاسِ لرَءُوفٌ رحيمٌ}، وقوله:

{قَالُوا: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيكُمْ لَمُرْسَلُونَ}. وما أشبه ذلك. ومن أجل التخيير أجاز الزجاجُ أن تَلْحَقَ الخبر ومعموله معًا توكيد فتقول: إن زيدًا لفي الدار القائم، وشَبَّهه بقولهم: مررت بالقومِ كُلُّم أجمعين أكتعين. فإن قلت: إن كان المرادُ التخيير اقتضى كلامُ الناظمِ أيًا أن تقول: إن فيها زيدًا لقائم، كما تقول: إن فيها لزيدًا قائم. قيل: أَجَلْ، ذلك جائزٌ، وقد نصّ عليه سيبويه. وأما دخولُ اللامِ على الفصل فهو قوله: «والفَصْلَ»، هو معوطفٌ على «الواسط». أو على «الواسط» أو على «معمول الخبر»، تقديره: وتصحب الفَصْلَ. والفصلُ: هو الضمير المسمى عند أهل البصرة فصلًا، وعند الكوفيِّين عمادًا. ولم يذكره في هذا النظم ولا عَرّج على حكمه، وكان من حقه ذلك، وهو ضمير رفع منفصل يقع بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله ذلك، على شروطٍ مذكورةٍ في مواضعها، نحو: إن زيدًا هو القائم، فمثلُ هذا تدخلُ اللامُ فيه في الفصل، فتقول: إنّ زيدًا لهو القائم، ومنه في القرآن الكريم: {إِنّ هَذا لَهُوَ القَصَص الحَقُّ، وإِنّ الله لهوَ العزيزُ الحكيمُ}. وإِنما فَعَلُوا ذلك لأنّ الفصل مُقَوٍّ للخبر، من حيثُ كان رافعًا لتوهُّم كونه تابعًا، فتنزّل مَنْزِلَةَ الجُزْءِ الأوّل من الخبر، فدخَلَت اللامُ عليه لذلك.

وأما دخول اللام على الاسم (فقال فيه: «اسمًا حلّ/ فبله خَبَر)»، واسمًا» معطوف على «الفصل» يعنى أن اللام تصحب أيضًا اسم إنّ بشرط أن يتقدم الخبر على الاسم)، وذلك نحو: إن في الدارِ لزيدًا، وفي القرآن: {إن في ذلك لآيةٍ}، {إِنَّ في ذلِكَ لعِبْرَةً لأولِى الأبصارِ}. وقد تقدّمَ أَنّ الخبر لا يتقدم على الاسم في هذا الباب إلا إذا كان ظرفًا أو مجرورًا، وقد تقدّم أنّ الخبر لا يتقدم على الاسم في هذا الباب إلا إذا كان ظرفًا أو مجرورًا، وتقدم أيضا أنّ أصل اللام أَنْ لا تدخل إلا على الاسم، لكن لمّا كان دخولُها عليه مع عدم الفصل يؤدّى إلى محظور صناعي عربي، أُخِّرت إلى الخبر، فحين زال المحظور بوجود الفصل بين إن واسمها دَخَلت عليه. واعلم أنّ اشتراط تقدم الخبر قد يظهر لبادئ الرأي أنّه اشتراطٌ قاصر، لأن دخول اللام على الاسم إنما شرط جوازه مردُ الفصل بينه وبين إنّ، كان الفصل خبرًا أو غير خبر، فكما يجوز أن تقول: إن عندك لزيدًا، وإنّ في الدار لعمرًا، كذلك يجوز أن تقول: إن فيك لزيدًا راغبٌ، وإِنّ بك لزيدًا مأخوذ. وما أشبه ذلك مما يقع فيه الفصل بغير خبر، ولا ما يمكن أن يكون خبرًا. ثم هو مُخِلٌّ -من حيث المفهومُ- لأنه لما وصف الاسم بحلول الخبر قبله، اقتضى مفهومُ الصِّفةِ أنه إذا لم يحلّ قبله الخبر لم تلحقه اللام وإن وقع الفصل بغير الخبر، وذلك غير صحيح.

ولا أجدُ الآن جوابًا عنه. وهذان البيتان كرّر الناظمُ في رَوِيِّهما كلمة الخبر، إلا أنه جعلها في الأول معرفة وفي الثاني نكرةً. وهذا القدر من الاختلاف يخرج القافية عن عيب الإيطاءِ عند الأخفش، وقد تقدم له مثل هذا، ومرّ الاستشهاد عليه. * * * (ثم قال) وَوَصْلُ «ما» بِذِى الحُرُوفِ مُبْطِلُ إِعْمَالَها، وَقَدْ يُبَقى الْعَمَلُ ما هذه تسمى الكافّة، لأنها تكفُّ ما دَخَلت عليه عن العمل، فتصيِّره من حروف الابتداء، أي: الحروف التي يبتدأ بعدها الكلامُ، ومن جملة ما تدخلُ عليه هذه الحروفُ، فنقول: إِنّما زيدٌ قائمٌ، ولكنّما زيدٌ قائم، فَتُصيِّرها حروف ابتداء إِنْ أبطلتِ العملَ، وإلا فهي من أدوات التوكيد. ويعنى أَنّ هذه الحروف الخمسة إذا وصلت بما فلها في كلام العرب وجهان. أحدهما: أن يبطلا عملها جُمْلَةً في المبتدأ والخبر، بل تصير مع ما كحروف الابتداء التي يُبْتَدأُ بها الجمل، وذلك قوله: «وَوَصْلُ ما بِذِى الحروفِ مبطلُ .. إعمالها». وإبطالُ عملها يستلزمُ عدم اختصاصها بالمبتدأ والخبر، فعلى هذا تكون عند إبطال عملها على وجهين: أحدهما: أن يبقى دخولها على المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى:

{إِنّما وَليُّكمُ اللهُ وَرَسُولُه}، {اعْلَمُوا أَنّما الحياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} .. الآية. وقال النابغة الذبياني؛ أنشده سيبويه: قالت أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنا إِلَى حَمْا متنا وَنِصْفُهُ فَقَد برفع الحمام ونصفه. وأنشد أيضا لابن كُرَاعٍ: تَحَلّلْ وَعالِجْ ذاتَ نَفْسِكَ وانظرَنْ أبا جُعَلٍ، لَعَلّما أنت حالمُ والثاني: أن تدخل على الجملة الفعلية فتقول: إنما يقدمُ زيد. ومنه قول الله سبحانه/ {إِنّما يُوفّى الصَابِرُونَ أَجْرَهُمْ} وقال امرؤ القيس: وَلَكِنّما أَسْعَى لِجْدٍ مُؤَثّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المؤثل أَمْثَالِي

وقال الرجز: أَعِدْ نَظَرًا -يا عبد قيس- لَعَلّما أَضَاءَتْ لَكَ النّارُ الحمِار المُقيّدا وفى كلا الوجهين عمل هذه الحروف قد بَطَلَ لِلحَاقِ ما، وهذا هو الغالب فى الأستعمال، والكثيرُ فى الكلام، ودلّ على ذلك من كلامه إطلاقهُ القول بالإبطال حيث قال: «ووصْل ما بذى الحروف مبطلُ .. إعمالها»، وقطعه بذلك، وأنه لما استدرك الوجه الثانى -وهو بقاء العَمَل- نَبَّه على قِلّتِهِ بِقَدْ، فى قوله: «وقد يُبَقّى العملُ». يعنى أنّ عمل هذه الحروف قد يبقى مع دخول ما فلا يبطل، ولا يكون إذ ذاك إلّا داخله على المبتدأ والخبر كما كانت قبل دخول ما؛ فالمعنى أَنّ ما زائدة كما زيدت بين الجارّ والمجرور فى نحو: {فَبِمَا نقْضِهِمْ}، فتقول: لعلّما زيدًا قائمٌ. ويُروَى بيت النابغة هكذا: قَالَتْ: أَلَا لَيْتما هَذَا الحمامَ لَنَا إلى حَمَامِتنا ونِصْفَه فقدِ بنصب الحمام ونصفه. وحكى المؤلف فى شرح التسهيل عن الأخفش أنه روى عن العرب: إنما زيدًا قائمٌ، ونَسَبَ مثل ذلك إلى الكسائىّ عن العرب. فأعمل عمل إِنّ مع ما. والسماعُ فى غير هذي معدومٌ، ولكن الناظم أطلق القول فى جواز إبقاء العمل على قلة، فدلّ على أنه عنده قياس، ولم يقيد ذلك

بموضع السماع، وهو: إنّما وليتما، فدلّ على إجازته الإعمال فى الجميع، فتقول: كأنّما زيدًا قائما، ولكنّما زيدًا قائم، ولعلّما زيدًا قائم. وإلى ذلك ذهب فى التسهيل. وهو مذهب ابن السراح؛ إذ قاس على ليتما سائرَ أخواتها، خلافُ ما ذهب إليه الجمهور من اختصاص الإعمال مع ما بليت وحدها متابعةٌ للسماع. وأما ابن السراج فرأى القياس لا مانع منه، فأجاز مقتضاه من الإعمال. قال المؤلف: وما ذكره ابن بَرهانٍ من النقل فى إنما يؤيّدُ ما ذهب إليه ابن السراج من إجراء عوامل هذا الباب على سَنَنِ واحدٍ قياسًا. وإن لم يثبت سماع فى إعمال جميعها، فإنما قال هنا: «وقد يُبقى العملُ» تنبيها على القياس، إلا أنه جعله مرجوحًا مع فُشُوِّ إبطاله بما، ولذلك قال: «وقد يُبَقّى العملُ»، فأتى بالفعل المضارق ولم يقل: وقد بُقّي العمل، فيكون تنبيها على ما سمع من ذلك. وحمل ابن الناظم كلامه على أنه يشير إلى ما سُمع من ذلك فقال: «وفى قوله: «وقد يُبَقّى العملُ» -بدون تقييدٍ- تبيةٌ على مجئ مثله»: يريد مثل ما حكى ابنُ برهانٍ. والظاهر أن مراده إجراءُ القياس فى الجميع كما قال في التسهيل: «والقياس سائغ»، إلا أنه قلّله هنا تنبيهًا -والله أعلمُ- على ما فيه من الضعف؛ إذ عُدِمَ السماع فى كأنما ولكما ولعلّما جملةً، وندوه فى إنّما، مما يُبَيّن أن العرب إنما أرادت بما الداخلة عليها الكافة لا

التوكيدية ... ... ... فى الفوائد المجوية، لما ذكر في البيت الوجهين وفى .. .. .. .. فإن قيل: فهذا يدلّ على ما قاله ابنه لا سيّما وعادته .. .. التسهيل. فالجواب: أن عبارته بعيدةٌ عن ذلك القصيد إن .. .. (و) عادته/ إذا أتى بقد أن يُشيِر إلى ما قد يلحقه القياس، وأيضًا لو لم يكن مقصودُه القياس لأوهم أن الأعمال فى ليت مقصور على السماع، وذلك غير صحيح باتفاق، فدلّ على أن مراده القياس بلا بدّ، والله أعلم. ثم هنا سؤالان: أحدهما: أَنه قال: «ووصلُ ما». ولم يبيِّن أهى ما الحرفية أم لا؟ ولا شكّ أنها الحرفية، فتكون مع إعمالها الزائدة التوكيدية، وفى الوجه الآخر الكافة. وأما الاسمية فلا مدخل لها هنا إلا أن تكون هى الاسم، وذلك عد الإعمال خاصّةً، نحو: {إنما تُوعَدُون لآتٍ} {إنَّما عِنْدَ الله هَوَ خَيرٌ لَكُمْ}، وما أشبه ذلك فكان يبغى أن يُنَبّه على أنها الحرفية. والجواب: أنّه ترك ذلك اتِّكالًا على الناظر فى المسألة، لأنّ دخولها إنما يكونُ تقديرًا بعد توفية الاسم والخبر أو ما يقومُ مقام ذلك؛ وإذا

كان كذلك فلا حاجة إليالزيادة الاسميّة، وإنما تعقل الزيادة إذا قُصِد بها قَصْدَ الأدواتِ، وهي الحروف للزيادة، فلم يكن في تَرْكِه البيان كبيرُ إشكالٍ. والثاني: أن القول: «قَدْ يُبَقى العَمَلُ» مُشْعِرٌ بالتقليل، كا مر، ومن جملة هذه الحروف ليت فاُقتضى أَنّ إعمالها مع ما قليل أو مقيس على قلّة. وذلك غير صحيح بل إعمالها كثير، مشهور، بل هو المتحقق فيها. وأما إبطال العمل فغير متعيّن؛ قال سيبوية: «وأما ليثما زيد منطلقٌ، فإن الإلغاء فيه حسن». قال: «وقد كان رؤبة بن العجاج يُنشِدُ هذا البيت رفعًا: قَالَت: أَلَا لَيْتَما هَذا الحمامُ لنا إلى حَمَامَتِنا ونصْفُه فَقَد فرفعه على وجهين: على أن يكون بمنزلة قول من قال: {مَثَلًا ما بَعُوضة} أو يكون بمنزلة قوله: «إنما زيدٌ منطلق». هذا ما قال، والوجهان جاريان فيما يغرض من هذه المسائل. وإذا كان كذلك لم يصحّ أن يُقال: إن الإعمال في ليت قليل، ولا سيّما على مذهبه في الشرح؛ فإنه لما قَرّر ما أجازه سيبويه من الوجهين قال: «وليت -بهذا التوجيه- عاملةٌ فى الروايتين، وهى حقيقةٌ بذلك، لأن اتصال ما بها، لم يُزِلْ اختصاصها بالأسماء، (بخلاف أخواتها فإن اتصال ما بها أزال أختصاصها بالأسماء)، فاستحقت ليثما بقاء العمل دون إنّما، وكأنّما، ولكنّما، ولعلّما، وهذا هو مذهب سيبويه». انتهى ما قال.

فإطلاقُ الناظم مشكلٌ، ولا أجدُ الآن جوابًا عنه، وليس كلُّ داءٍ يعالجه الطبيب. ثم أخذ في فصلٍ آخر فقال: وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنصُوبِ «إنّ» بَعْدَ أَن يَسْتَكْمِلَا وَأُلْحِقَتْ بِإنّ لكنّ وَأَنْ مِنْ دُونِ لَيْتَ وَلَعَلّ وكَأَنْ هذه مسالة العطف على موضع إنّ، وتفصيل القول فيها على ما ارتضَى كم مذهب البصريين، وذلك أن العطف على اسم إنّ قد يكون باعتبار اللفظ، وقد يكون باعتبار الموضع؛ فاعتبار اللفظ جاز على الإطلاق سواءً أجاء المعطوف بعد الخبر أم قبله، فمثال مجيئه قبل الخبر قولك: إنّ زيدًا وعَمرا فى الدار، وفى القرآن الكريم: {إِنّ المُسْلِمينَ وَالمُسْلِمَاتِ، والمُؤْمِنِيِنَ والمُؤْمِنَاتِ والقَانِتِينَ والقَانتاتِ} / إلى آخر الآية. ومثالُ مجيئِهِ بعد الخبر قولُك: إِنّ زيدًا فى الدار وعمرًا، وقرأ ابن أبى إسحاق وعيسى بن عُمَر: {أَنّ الله بَرِئٌ مِنَ المُشْرِكينَ وَرَسُوله}، بالنصب. وأنشد سيبويه لرؤبة:

إِنّ الربيعَ الجَوْدَ والخَرِيفا يَدَا أبى العبّاس والصّيوفا ولا خلاف فى هذا القسم، ولم يُنَبّه الناظمُ عليه لأنه حكمٌ تقرّر فى بابه، وإنما ينبّه فى الأبواب من أحكام التوابع على ما لم يدخل تحت ضوابط بابه. وأما العطف باعتبار الموضع -وأعنى موضع أسم إنّ، أو موضعَ إنّ واسمها- فلا يخلو أن يكون المعطوف واقعًا قبل الخبر أو بعده، فإن كان بعده فجائز أيضا بغير خلاف عند النحويين على الجملة، نحو قولك: إن زيدًا قائمٌ وعمرو. ومنه قولُ الله تعالى: {إنّ الله بَرِئٌ مِنَ المشركينَ ورسولُه}، فى قراءة ابن محيصن بكسر إنّ. ومنه ما أنشده سيبويه لجرير: إنّ الخلافة والنبوّة فيهمُ والمكرُماتُ، وسادَةٌ أطهارُ لكنهم اختلفوا فى وجه هذا العطف اختلافًا كثيرا، فمنهم من جعل ذلك عطفًا حقيقةً، من باب عطف المفردات، وأن قولك: إن زيدًا قائم وعَمرٌو، عطف فيه عمرو على موضع زيد، وهو الرفع، كما عطف على موضع خبر ليس في نحو:

فَلَسْنَا بالجِبَالِ وَلَا الحَدِيدَا وإليه ذهب الشلوبين فى أول قولَيْهِ، وابن أبى الربيع. وهو ظاهر إيضاح الفارسىّ وجُمَل الزجاجىّ. ومال إليه بعض من شرح كلامهما أخذًا بالظاهر من كلامهما. وتأوّلُ بعضُهم عليه كلام سيبويه. والذى عليه الأكثر أنّ الرفع فى المعطوف على الأبتداء واستئناف جملةٍ معطوفة على أخرى، وهو الأظهر من كلام سيبويه، ونقل عن الأخفش، والفراء، والمبرد، وابن السراج، والفارسىّ -فى غير الإيضاح- وابن أبى العافية، والشلوبين -في آخر قوليه- وجماعةٍ من أصحابه- ومنهم من يتأوّلُ على المبرّد أنه يقول بالعطف على الموضع، لكن على وجهة التوهم، لا على حقيقة مقتضى الموضع؛ إِذِ الحمل على التوهّم عنده مقيس، وهو أصل الكوفيين فى جواز الرفع قبل مجئ الخبر. وكلامُ الناظم هنا محتملٌ للمذهبين؛ إذ معنى كلامهم أنّ المنصوب بالعطف على اسم إِنّ يجوزُ رفعه، ولم يذكر: علام يُرْفع؟ فيتحمل أن يكون قائلا بالأَول أو بالثانى؛ فإن كان رأيه هذا الثانى فهو أَوْلَى لوجهين: أحدهما: أنه الذى ذهب إليه في شرح التسهيل ونصره وزيف غيره. والثانى: أنه الصحيحُ من المذهبين، والمعتمدُ المعضودُ بالدليل. وقد تصدّى ابن أبى العافية لنصره في مسألةٍ أفردها، وابنُ الزبير من شيوخ شيوخنا فَتلقّيناه عنهم، فمن أراد الترجيح بين المذهبين فَعَلَيه بكلام ابن الزبير، ففيه غايةُ الشفاء في المسألة.

وقد أحتج له المؤلف بأنهم اقتصروا فى هذا العطف على الإيتان به بعد تمام الجملة، ولو كان من عطف المفردات لكان وقوعُه قبل التمام أولى، لأنّ وصل المعطوف بالمعطوف عليه أجودُ من فصله وأيضًا لو كان كذلك لجاز رفع غيره من التوابع، ولم يَحْتَجْ سيبويه في/ قوله تعالى: {قُلْ: إِنّ ربّي يقْذِفُ بِالحقِّ عَلَّامُ الغُيوبِ} إلى أن يجعله خبر مبتدأٍ أو بدلًا من فاعل يقذف. واستدلّ بغير ذلك مما يطول فيه الكلام. وإن كان مراده الأول، وكان هو مذهبه فيترجح بأمرين: أحدهما: أنّ جَعْلَه من باب عطف الجُمَل يؤدّى إلى مخالفة الظاهر من ادّعاء حذف الخبر مع إمكان الاستغناء عنه كما فى المنصوب، لأنّ المسألتين وإن كانتا تحتاجان إلى تقدير فالتقدير مع المنصوب كالمُطّرَح، ولذلك جاز العطف فيه، فلا تقول: إن زيدًا قائمٌ لا عمرًا، فكذلك (تقول) في الرفع: (إن زيدا قائم) لا عمرو. فهذا من عطف المفردات، لأنّ «لا» لا يعطَفُ بها الجملُ إلا مع التكرار، نحو: لا عمرو خارج ولا بكر مُقيمٌ. وأما جعل هذه المسألةِ من عطف الجمل، والمقدر كالمنطوق به، فهو ادّعاء ما لا دليل عليه، وذلك ممنوع.

والثاني: أنه قد (جاء في كلام العب) ما يعضده، (إذ هو على تقدير التوهم) وهو كثير في كلام العرب (ويعبر عنه بعض شيوخنا بالرفع على المرادف) ومنه ما أنشده سيبويه): بَدَا لِىَ أَنّى لَسْتُ مُدّرِكَ ما مَضَى وَلَا سَابقٍ شَيئًا إِذَا كانَ جائيا لأن الباء من شأنها أن تدخل هنا. ومثله ما أنشده من قول الأخوص الرياحي: مَشَأيمُ لَيْسُوا مُصلِحينَ عَشِيرة وَلَا ناعِبٍ إِلّا بَبيْبنِ غُرَابُها على توهّم: لَيْسُوا بِمُصْلِحينَ عَشِيرةٌ. ومنه في القرآن: {فَأَصّدّق وَأَكُنْ من الصّالِحينَ}، على قراءة غير أبى عَمْرو. فهذا متعيّن فينبغى أن يُحملَهذا الموضعُ على ذلك.

وهذا الرأي أسعد بكلام الناظم، لأنه قد أجاز العطف على الموضع في باب اسم الفاعل، وليس إلّا من باب التوهّم، وسيأتى ذكره في بابه إِنْ شاء الله تعالى. وهذا الموضع -أعنى الحمل على التوهّم- خالف فيه البصريون البغداديين في موضع، ووافقوهم في موضع. فأما موضع المخالفة فحيث كان من باب اعتبار الفاء نحو: ما زيد قائما ولا قاعدٍ. وليس هذا الموضع من ذلك، وأما موذع الموافقة فحيث كان من باب اعتبار الأصل نحو: هذا ضاربُ زيدٍ وعمرا. فهذا الموضع من ذلك؛ لأن الأصل الابتداء، وإنما اختلفوا هنالك واتفقوا هنا، لكثرة هذا وقلة ذاك. وهذا كلّه إما هو فيما إذا استكمل العامل معموليه، وهو قول الناظم: «بَعْدَ أن يستكْمِلَا» فالضمير في «يستكمل» عائد إما على إِنّ، كأنه قال: بعد أن يستكمل العامل ما يحتاج ايه من معمولاته التي يكمل بها الكلام، وذلك الخبر، أي: بعد أن يؤتى بالخبر، وإما على منصوب إنّ كأنها راد: بعد أن يستكمل الاسم ما يطلبه من جهة معناه من الخبر؛ إذ لا يستقلُّ به الكلام دون الخبر. وأما إذا لم يستكمل العاملُ عمله، أو الاسم خبره، فليس إلا النصب على ما يُفْهَم من اشتراطه الاستكمال. وما ارتضاه من ذلك هو رأي البصريين، فإذا قلت: إِنّ الزيدين وعمرًا قائمون -ومنه قولُه تعالى: {إنّ الذين آمنُوا والذين هادُوا والصّابئينَ والنّصَارَى والمجُوسَ والذينَ أَشْركُوا، إِنّ

الله يَفْصِلُ بينهُم يومَ القِيامة} - فلا يجوز الرفع عندهم البتّةَ، بل يلزم النصب. وذهب الكوفيون إألى جواز الرفع كما جاز مع تأخير المعطوف، إلا أنهم اختلفوا، فذهب الكسائى إلى الجواز/ بإطلاق، ظهر في المعطوف عليه النصب أو لم يظهر، فتقول: إنّ زيدًا وعمرٌو قائمان، وإنك وبكرٌ ذاهبان. وذهب الفراء إلى التفرقة بين ما لم يظهر فيه الإعراب فيجوز الرفع في المعطوف عليه، وبين ما ظهر فيه الإعراب فلا يجوز إلا النصب، فتقول على مذهبه: إنك وزيدٌ ذاهبان، وإنّهم وزيد قائمون، ولا تقولا إن زيدًا وعمرو قائمان والصحيح ما ذهب اليه الناظم للقياس والسماع؛ أما القياس فمن وجهين: أحدهما: أنك إذا قلت: إِنّ زيدًا وعمرُو قائمان، وإنك وزيدٌ ذاهبان، وجب أن يكون زيدٌ مرفوعا بالابتداء، ووجب أن يكون زيدٌ عاملًا في الخبر أيضًا فيؤدى ذلك إلى أن يعمل عاملان معًا في معمول واحدٍ عملًا واحدًا، وذلك فاسد. وقد يجيب أهلُ الكوفة عن هذا بأنّ العامل في خبر أن عندهم الابتداء، لا إنّ، وهو العامل أيضا في زيد على رأيهم، فيجب -على رأيهم- أن يكون الابتداء أيضًا هو العامل في الخبر من تلك الجهة، فاتحذ العامل في الخبر إذًا، وهو الابتداء. وهذا الجواب لا (ينهضُ) فإن زيدًا على مذهبهم إنما يرتفع بالخبر، والخبر يرتفع في باب الابتداء بالمبتدأ وهو زيد هنا، وبالابتداء

في باب إنّ، فقد اجتمع على الخبر ها عاملان، وذلك غير صحيح، كا مرّ. والثاني: ما قاله المؤلف من أَنّ إنّ وأخواتها قد ثبت قُوَة شبهها بكان وأخواتها، فكما امتنع في كان العطفُ على موضعها منصوبها باتفاقٍ فكذلك يمتنع في إن، ولو جاز أن يكون اسمُ إِنّ مرفوعَا لمحلِّ باعتبار عروض العامِلِ لجاز أن يكون خبر كان مرفوع المحلِّ بذلك الاعتبار، لتساويهما في أصالة الرفع وعروض النصب. وفيه نظر. وأما السماع فموافق لما قاله البصريون، وما جاء مما ظاهره المذهب الآخر فغير مُتَعيِّن له، لاحتمال أمرٍ آخر فيه؛ فمن ذلك قول الله تعالى: {إِنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنّصَارى} .. الآية، فعطف (الصابئُون) على موضع (الّذين) قبل الإتيان بالخبر، وهو قوله: {مَنْ آمن بالله واليَوْمِ الآخِرِ} .. إلى آخرها. وروى الثقاتُ عن العرب: إِنّك وزيدٌ ذاهبانِ، وأنشد سيبويه لبشر بن أبى خازم: وَإلّا فاعْلَمُوا أنا وَأَنتُمْ بُغَاةٌ ما بَقِينا في شِقَاقِ

فلو كان المعطوف منصوبًا لقال: إِنّا وَإِيّاكم بُغاةٌ. وهذا كُلّه قليلٌ لا يعتمد عليه، مع مخالفته الوجه الشائع. وقد تكُلِّم في ذلك أيضًا بناءً على كونه قليلا؛ فأما الآيةُ فجعلها سيبويه وغيره على التقديم والتأخير، قال فيها: «كأنّه ابتدأَ على قوله: (والصابئُون) (بعدما يمضى الخبرُ» يريدُ أنّ تقديها: إن الذين آمنوا والذين هادُوا من آمن بالله واليوم الآخر، ثم ابتدأ فقال: والصابئُون والنصارى كذلك. وأجاز السيرافي أن يكون خبر (الذين) محذوفًا لدلالة خبر (والصابئُونَ والنصارى) عليه، وهو قوله: {من آمَنَ بالله} .. الآية. فيكون على حدّ قول الشاعر: نَحنُ بِمَا عِنْدنَا، وأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ، والرأْيُ مُخْتَلِفْ أراد: نحن بما عندا راضون، وأنت بما عندك راض. والآية على رأي سيبويه مثلُ قول الشاعر: مَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيّارٌ بها لَغَرِيبُ

فيمن رواه برفع «قيّار»، فلا يكون «قَيّار» على غير الابتداء، والخبر محذوف إلا بتكلفٍ. وأما قولهم: إنّك وزيدُ/ ذاهبان، فحمله سيبويه على الغلط فقال: «واعلم أنهم يغلَطُون فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وَإِنّك وزيدٌ ذاهبان. وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيُرى أن قال: هُمْ، كما قال: * وَلَا سابقٍ شيئًا إِذا كانَ جَاثيا* على ما ذكرتُ لك». يعنى أنهم توهّموا أَنْ ليس ثَمّ إِنّ، حتى كأنهم قالوا: هم أجمعون ذاهبون، وأنت وزيد ذاهبان، وَأَنّس بهذا عدمُ ظهور الإعرابِ في اسم إنّ في الموضعين. والدليل على صحة هذا أن لم يَجئْ فيما ظهر فيه الإعراب حو: إن زيدًا وعمرٌ قائمان؛ إذ لو كان الرفع في المعطوف على غير التوهّم لكان خليقًا أن يَجِئْ مع ظهوره، فلما لم يكن كذلك دلّ على أنهم اعتقدوا أنّ المنصوب مرفوع فعطفوا على اللفظ، كما قالالشاعر: «ولا سابقٍ شيئًا»، بالخفض مُتَوهّما أه قال: «لستُ بمدركٍ ما مضى»، فلذلك جعله سيبويه من باب الغلط، والله أعلم. وأنشد المؤلف في الشرح: خَلِيلَىّ، هَلْ طِبُّ؟ فَإِنِّى، وأَنتُمَا وَإِن لَمْ تَبُوحًا بِالْهَوَى - دَنِفَانِ وعلى كلام الناظم بعدُ سؤالان:

أحدهما: أنه ذكر مسألة العطف على موضع اسم إنّ قبل مجئِ الخبر ومنعها جملةً، فعنده أنه لا يقال: إن زيدًا وعمرو في الدار، ولا: إِنك وعمرو في الدار، بوجه من الوجوه، حسبما اقتضاه مفهوم شرطه؛ لأنه أجاز العطف على موضع اسم إنّ بشرط أن يستكمل، فاقتضى مَنْعَ العطف عند فِقْدانِ الشرط بإطلاق، وهذا لم يقله البصريون لا يقتضيه كلام سيبويه على الجملة. بل الوجه في ذلك أن يقال: إذا كان العطف قبل الخبر فلا يخلو أن يكون الخبر مطابقًا لهما جميعا نحو: إنك وزيدٌ ذاهبان، أو لأحدهما نحو: إنك وزيدٌ ذاهب. فإن كان مطابقًا لأحدهما جاز في المعطوف الرفع والنصف؛ فالنصب على وجهين: على أن يكون الخبر الثاني، وحُذِف خبرُ الأوّلِ، أو يكون خبرًا للأوّلِ، على التقديم والتأخير، وحذف خبر الثاني. والرفع أيضًا على وجهين، وهما المذكوران في النصب، فالأول مثل: نَحنُ بِمَا عِنْدَنَا، وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكِ رَاضٍ ... ... ... والثاني مثل: * فَإِنِّى وَقَيّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ * وإن كان الخبر مطابقًا لهما لم يَجُز إلا النصب عند سيبويه والبصريين. وأما الرفع فعلى جهة الغلط كما قال سيبويه، وجاز عند الكوفيين كما تقدم. فالحاصل: أن الرفع في المعطوف قبل الإتيان بالخبر لا يقال فيه: جائز، باطلاق، ولا ممتنعٌ بإطلاق، بل هو في حال يجوز بإطلاق من غير

حكاية خلافٍ، وفي حال ممتنع على الخلاف. فمفهومُ شرطِ الناظم إذًا غير صحيح. ولا يقال: إنه لم ير العمل بالمفهوم، لأنا نقول: هو عمدتُه في هذا النظم، وعليه اعتمد في نقل المسائل الكثيرة، ولولا هُوَ لافتقر إلى العبارة الطويلة في المسألة الواحدة، حسبما تراه في هذا الشرح، بحول الله. فإذًا هذا الموضعُ مشكِلٌ. والثانى: أه لما اقتصر هنا على ذكر عطف النّسق وهم أنّ غير/ من التوابع لا مخالفة فيه لما ذكره في التوابع، وليس كذلك؛ فالتوكيد وعطف البيان والنعتُ حكمهما عند الجرمىّ والزجاج والفراء حكم العطف النّسَقِىِّ، فتقول: إن زيدًا قائمٌ الظريفَ والظريفُ، وإن زيدًا قائم نفسَه ونفسُه. ومنه: {قُلْ: إِنّ الأَمْرَ كُلُّه لِلهِ} في قراءة رَفْعِ كلّ، وهى لأي عَمْروٍ بن العلاء، وإن زيدًا قائمٌ أخُوك وأخاك. وجعلوا من النوع قول الله سبحانه: {قُلْ: إِنّ رَبِّى يقذفُ بالحقِّ عَلّامُ الغُيُوبِ} و {عَلّامَ الغُيوبِ}. والرفعُ قراءة السبعة، والنصبُ لابن أبى إسحاقَ وعيسى بن عُمر. وإذا كا كذلك كان ينبغي له أن لا تخُصّ العطف بالحرف هنا. والجواب عن الأوّلِ لا يحضرني الآن إلّا أن يعدّ ما جاء من مطابقة الخبر لأحدهما غير مقيس، فإّنه قليل، فكأنه لم يعتدّ به.

وعن الثاني أنّ النحويين -غير من ذكر- لم يجيزوا هذا ولا اعتمدوه، وحملوا الآية على غير ذلك؛ إذ تحتمل أن تكون جملة مستقلة وقعت موقع البيان لما قبلها، والمبتدأ منها محذوف، كأنه قال: هو علّامُ الغيوب، أو على أن يكون خبرًا ثانيًا لربِّى. وكذلك قوله: {كلُّه للهِ} جملة هى خبرُ إنّ، كذلك نَدّعى فيها الاحتمال ذلك فيها، وإذا احتمل ذلك لم يكن فيه دليلٌ على ما قالوا؛ فكأن الناظم لم يرتضِ مذهب الجرمي ومن قال بَقْولِهِ، ووجْهُ المنع في النعت أنّ الغرض به بيان المنعوتِ ليصحّ الإخبارُ عنه، فوضعُه أَنْ يكون قبل الخبر، فإن جاء بعده فعلى نيّة التقديم، والحمل على الموضع لا يكون إلا بعد تمام الكلام، ولذلك لم يجز العطف على الموضع قبل الخبر، كما تقدم. وهذه المسألة كانت سبب عَمَى «الأَعْلَمِ» /؛ حدثنا سابقا الأستاذ -رحمة الله عليه- أنه سأل الأعلمَ بعضُ نحاة عصره: لِمَ جاز اعتبار الموضع في العطف دن النعت؟ فَكلف إيرادًا -وكان رَمِدَ العينين- فنزل الماء فيهما فَعَمِى. فإن قيل: قد جوزتم النعت على الموضع في باب لا، وفي باب: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيرُه}. قيل: أمّا «لا رَجُلَ» فكالشئ الواحد، وأما «من» فزائدة، وذانك ليسا في إِنّ، فافترقا.

وأما التوكيد والعطف البياني فكالنعت، وكذلك البدل؛ إذ هو في التقدير حالٌّ محلّ اسم إِنّ، واسم إِنّ لا يكون إلا نصبًا. ثم قال: «وَأَلْحقُوا بِإِنّ لَكِنّ وأَنْ»، يعنى أن العرب ألحقت بإنّ المكسورة في هذا الحكم المتقدّم لكنّ وأنّ المفتوحة، فعطفوا على موضع اسمها فقالوا: لكن زيدًا قائم وعَمْروٌ، وأنشد المؤلف في الشرح: وَمَا قَصّرَتْ بِى في التّسَامِى خُؤُولَةٌ ولكِنّ عَمِّى الطيِّبُ الأَصْلِ والخالُ والقوافي مرفوعةٌ. وقالوا: علمت أنّ زيدًا قائم وعمروٌ، وفي القرآن الكريم: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الحجِّ الأكْبَرِ أَنّ الله بَريِءٌ مِنَ المُشْرِكينَ} وَرَسُولُه على قراءة الجمهور. ويمكن أن يكون م ذلك قوله تعالى: {وَلَو أنّ ما في الأَرْضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحرٌ يَمُدُّه مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} .. الآية، فيكون، رفع (البَحْرُ) على مثل الرفع في إِنّ المكسورة، لا على أنها جملة حاليةً وإِنْ أجاز ذلك سيبويه، بدليل القراءة الأخرى بالنصب ليتّحد معنى/ القراءتين. وما ارتضاه الناظم وَإن المقتوحة من إلحاقها بالمكسورة في هذا

الحكم هو رأيُ الجمهور، والظاهر من كلام سيبويه. ومع من ذلك بعض الأئمة، وزعم أَنّ المفتوحة لا تُلحَقُ بالمكسورة؛ لأن المكسورة على شرط الابتداء وليست المفتوحة كذلك، إنما تجعل الكلام شأنًا وحديثًا بمنزلة المفرد، ولذلك لا يكون في الآية دليل لصحة جملة على وجهين جيِّدين: أحدهما: أن يكون (ورسولُه) عطفًا على أَنّ وما بعدها، لأنها اسمٌ مفردٌ، فالتقدير: براءةُ الله من المشركين ورسولُه، أى: وبراءَةُ رسولِهِ. وهذا وجه جيد، كما تقول: أعجبي أنك منطلقٌ وإسراعُك. والثاني: أن يكون (ورسولُه) معطوفًا على الضمير في (بَرِئٌ)، وحَسُن للفصل، كما قال تعالى: {سَيقولُ الذينَ أشْركوا لو شَاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنَا وَلَا آباؤنا}؛ وإذا كان كذلك لم يكن في الآية دليل على ما قالوه، فالاستشهاد بها وَهْمٌ جَرَى على سيبويه والنحويين. وردّ هذا ابن جنى قياسًا وسماعًا، أما السماع فما في الحماسة لجعفر بن عُلْبَةَ الحارثى، وذلك قوله: فَلَا تَحْسَبِي أَنِّى تخشّعتُ للعِدَى لِشَئٍ وَلَا أَنِّى مِنَ الموتِ أفْرقُ وَلَا أَنَا مِمّنْ يَزْدَهِيهِ وَعِيدُهُمْ وَلَا أَنّنىِ بالمَشْىِ في القَيدِ أَخْرَقُ فَعَطَفَ الجملة من المبتدأ والخبر على قوله: (أنِّى تخشّعْتُ)، وهو يريدُ

معنى أنّ المفتوحة؛ يدلّ على ذلك روايةُ من روى: وَلَا أنّ نَفْسِى يَزْدَهِيها وَعِيدُهُمْ وقد جاء ذلك أيضًا في التنزيل، قال الله عز جلّ: {وَأَنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً واحِدةً، وأَنَا ربُّكُمْ فاتقُونِ}؛ ألا ترى أنّ معناه: ولأنّ هذه أمتُكم أمّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتقون: فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على (أَنّ) وفيها معنى اللام، كما تقدّم. وهذا يزيد معنى الابتداء عبرَه، ويصرف الكلام إلى معنى المصدر، أى: ولكوني ربكم فاتقونِ. ونحو ذلك قوله أيضا: {ضرب لَكُمْ مَثَلًا من أَنْفُسِكم هَلْ لَكُمْ مما ملكت أيمانُكُمْ من شُرَكَاءَ فيما رَزَقناكُمْ، فأنتُمْ فيه سَوَاءُ}، أى: فتستوا. قال أبو على: فأوقع الجملة المركّبة من المبتدأ والخبر موقع الفعلِ المنصوب بأن والفعل، إذا انتصب انصرف القولُ والرأىُ فيه إلى المصدر، ومعلوم أن المصدر أحد الآحاد، ولا شُبهةَ بينه وبين الجملة، وقد ترى الجملة، وقد ترى الجملة التى هى قوله: {وأنا ربُّكم} معطوفةً على أنّ المفتوحة، وعبرتها عبرةُ المفرد من حيث كانت مصدرًا، والمصدرًا، والمصدر أحد الأسماء المفردة. ومنه أيضا -ولم يذكره أبو على- قوله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى}. أي فيرى، لأنّ الفاء جواب الاستفهام، وهي تصرف الفعل

بعدها إلى الانتصاب بأن مضمره، وأن المنصوب بها مصدر لا محالة حتى كأنه قال: أعِنْدَه عِلْمُ الغيب/ فرؤْيتُه، كما أنّ قوله {فأنتم فيه سَوَاءٌ}، أى: هاك شركة بينكم فاستواء». انتهى ما ذكر من السماع. ومنه في القرآن مواضع، كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِم سُلْطانًا فَهُو يَتَكلّمُ}، وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. أَمْ عِنْدَهُمُ الغَيبُ فَهْم يكتُبُونَ}. وقد أنشد سيبويه: وَإِلّا فَاعْلَمُوا أَنّا وَأَنْتُمْ بُغَاةٌ ... ... ... ثم قال: «كأنه قال: نحن بغاةٌ وأنتم». فقدّم وأخّر، في مرفوعًا بالابتداء والخبر محذوف، كقوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمنُوا والذينَ هادُوا والصّابئُونَ والنّصارى}. فقد سوّى بين إنّ وأنّ، فليس سيبويه مِمّن يقصرُ ذلك الحكم على المكسورة، كما ظنه بعضهم. قال ابن جني: «فأما وجه القياس فهو [أَنّ] المفتوحة -وإن لم تكن من مواضع الابتداء فإنها في التحقيق مثلُ المكسورة، فلما استويا في المعنى في العمل وتقاربنا في اللفظ، صارت كلّ واحدٍ كأنها أختها؛ يزيد ذلك وضوحًا أنك تقول: علمت أَنّ زيدًا قائمٌ، وعلمت أنّ زيدًا قائمٌ،

علمت إِنّ زيدًا لقائم، فنجد معنى المكسورة كمعنى المفتوحة، تؤكد في الموضعين كليهما قيام زيدٍ لا محالة، والقيام مصدرٌ كما ترى. نعم وتأتى هنا بصريح الابتداء فتقول: قد علمتُ لزيدٌ أفضلُ منك، كما تقول: علمت إنّ زيدًا أفضلُ منك؛ أفلا ترى إلى مجارى هذه التراكيب إلى معنى [واحد] وتناظر بعضها إلى بعض. وسببُ ذلك كلّه ما ذكرت من مشابهة إنّ لفظًا ومعنى وعملًا، فإذا كان كذلك سقط اعتراضُ هذا المتأخر على ما أورده سيبويه، وأسقط كلفته عنه. قال: ويزيدُ فيما نحن عليه بعد قوله: وَلَا أَنّنِى بالمَشْىِ في القيدِ أَخْرُقُ فعاد إلى أَنّ البتّةَ. وهذا ما قاله ابن جني. وقال ابن خروف: لا يمتنعُ حملُ الجملة الابتدائية على أنّ، ثم قال: ويجوزُ في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه؛ ألا ترى إلى قولهم: رُبّ رَجُلٍ وأخيه، وأشباهه، والحملُ في هذا أحرى بذلك. فإذًا ما رآه الاظمُ هو الصحيح من القولين. وأما قولُه: «مِن دُوْنِ لَيْتَ وَلَعَلَّ وكَأَنّ»، ففيه سُؤال وهو أن يقال: هذا الشطر حشوٌ لا معنى له، لأنه لو اقتصر على ذكر ثلاثة الأحرف -وهى المتقدمة- لا قتضى كلامُه اختصاصَ ذلك الحكم بها دون ما بقي، لأن المسكوت عنه لا يجرى على حكم المنطوق به، ولا يحمل كلامه على ذلك، فصار ذكر البواقي منفيّ الفائدة.

والجواب: أنّه إنما نبّه على البواقي لفائدة التنكيت على ما ذهب إليه بعض النحاة، فهو يقول: إنّ ثلاثة الأحرف المذكورة وهى: إِنّ ولكنّ، هى المختصة بهذا الحكم، وليس بشامل لها وللبيت ولعلّ وكأنّ، كما يقول بعضهم، فهذا الموضع مثلُ قوله في باب كان: «فَجِئْ بها مَتْلُوّةً لا تاليةٌ»، وقد مضى التنبيه عليه. والمخالف في المسألة هو الفراءُ، فأجاز أن يقال: كأنّ زيدًا أسدٌ وعمروٌ، ولعل زيدًا قائم وعمروٌ، وليت زيدًا قائم وعمروٌ. وشاهده على ذلك قولُ الراجز: يا ليتَنىِ وأنتِ يا لَمِيسُ بِبَلْدةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ قال المؤلف: «ولا حجة له في ذلك، لاحتمال أن يكون «وأنت» مبتدأً محذوف الخبر، تقديره: وأنت معي، والجملة/ في موضع لاحال واقعة بين اسم ليت وخبرها. وإنّما امتنع العطفُ على الموضع فيها عند الجمهور لأنّ دخولها غَيّر معى الابتداء الذى هو محرزٌ للموضع، فصار مسوخًا بمعنى التمنى والترجي والتشبيه، وأنت إذا عطفت فرفعت المعطوف لم تحمله إلا على الابتداء، فلم يصحّ ذلك حيث لم يبق معى الابتداء، ولا له محرزٌ، بخلاف إنّ وأَنّ ولكنّ، فإنها لم تغير معنى الابتداء، لأنّها داخلةٌ لتوكيده أو للاستدراك به لا نسخ معناه، فجاز رفع المعطوف معها على لَحْظِهِ؛ قال سيبويه: «ولم تكن ليت واجبةٌ ولا لعلّ ولا كأنّ، فَقُبح عندهم أن

يُدْخِلُوا الكلام الواجب في موضع التمنّى، فيصيروا قد ضَمُّوا إلى الأول ما ليس على معناه، بمنزلة إن». يعنى: أنه قبح أن يدلُّوا بالخبر الذى ليس بواجب، وهو خبر هذه الحروف، علي الخبر الواجب، وهو خبر المعطوف، إذ لا يدلّ على المحذوف إلا ما هو على معناه. وقال السيرافي: «حَمْلُ المعطوف في هذه الحروف على الابتداءِ بغيّر المعنى الذي أحدثته هذه الحروف، لو قلت: ليت زيدًا منطلقٌ وعمرو مقيم، كان «وعمرو مقيم» خارجًا عن معنى التمنّى». فإذا كان كذلك لم يستقم حملُ هذه الحروف على إنّ لمباينة ما بينهما. فالناظم إذًا أراد أن ينبّه بهذه الزيادة على خلافِ من خالف، وأيضًا فو سكت لسبق إلى الوهم إجراء القياس، فنصّ على نفي ذلك لئلا يُتَوّم صحتُه. وقلّما تجد في هذا النظم ما يسبق أه فضلٌ إلا وتحته فائدة أو فوائدُ، وقد مضى من ذلك أشياء، وستأتى أُخَر إن شاء الله تعالى. وأطلق الناظمُ العطفَ ولم يُقَيِّده بحرفٍ دون حرفٍ، فدلّ على أَنّ لحروف العطف دون الواو في ذلك مدخلًا، وذلك صحيح، فتقول: إنّ زيدًا قائم فعمروٌ، و: فعمرًا. وإنّ زيدًا قائم ثم عَمْروٌ، وإن الناس قادمون حتى المشاةُ، وإن زيدًا قائم بل عَمْروٌ، وإنّ زيدًا قائم لا عمروٌ. وما أشبه ذلك، إلا أَمْ وإمّا فإنّ هذا الموضع ليس من مواضعهما فلذلك -والله أعلم- لم يستثنهما الناظم؛ إذ لا يصح دخولهما مع إنّ وأخواتها.

(ثم قال): وَخُفِّفَتْ إِنّ فَقَلّ العَمَلُ وَتَلْزَمُ اللّامُ إذا ما تُمُيَلُ وَرُبّما اسْتُغْنِىَ عَنْها إِنْ بدًا مَا نَاطِقٌ أرَادَهُ مُعْتَمِدًا وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخَا فَلَا تُلْفِيه غَالِبًا بِإِنْ ذِىِ مُوصَلَا العربُ خَفّفت في هذا الباب أربعة أحرف لثقل التضعيف، كما تفعلُ ذلك في غير موضع من كلامها، وذلك إنّ وأنّ وكأنّ ولكنّ. وأمّا لعلّ فلم تخففها بحذف أحد المضاعفي، لأن التخفيف فيها حصل بحذف اللام الأولى، قالوا فيها: عَلّ، فلو زادوا فيها تخفيفا لأجحفوا بها. وأما ليت فلا تضعيف فيها، فبقي مما فيه التضعيف المحتملُ للتخفيف الأحرفُ الأربعةُ/ وذكر الناظم منها ثلاثة ولم يذكر «لكنّ» لكونها في حال تخفيفها لا تعمل شيئًا كما تعمل البواقي بعد التخفيف. وما نزع إليه هو مذهب النحويين ما عدا يُونُس والأخفش، فإنهما أجازا إعمال لكنّ بعد التخفيف قياسًا على أخواتها، وذلك لم يرد به سماعٌ فلا يُبْنى عليه. فأخذ يتكلم على تلك الثلاث الباقية، وابتدأ بالكلام على إنّ المكسورة فقال: «وَخُفِّفتْ إِنّ فَعَلّ العَمَلُ»، فَأَعلم أنها إذا خففت لا تبقى على حكمها

قبل التخفيف على حالٍ، بل لها أحكام تختصّ بها تلك الحال هو آخذٌ في ذكرها، فيعنى أنها إذا خففت صار في إعمالها للعرب وجهان: أحدهما: إبقاؤها على ما كانت عليه من الإعمال، وهو قليل في كلام العرب، ولذلك قال: «فَقَلّ العَمَلُ»، ولكنه مع ذلك قياس، فتقول: إنْ زيدًا لقائمٌ. ومنه في القرآن الكريم: {وَإِنْ كُلّا لَمَا لَيُوَفّيَنّهُمْ رَبُّكَ أَعمالَهُمْ}، وهى قراءة الحرمييّن وأبي بكر. وَوَجْهُ بقاءِ الإعمال أنها عملت بشبه الفعل كما تقدّم، والفعل يعمل محذوفًا كما يعمل تامًا، كما تقول: لم يكن زيدٌ قائمًا، ولم يَكُ زيدٌ قائمًا، فكذلك يحكم لما أشبهه. وأيضًا فالحذفُ فرعٌ عارض، والأصل هو الإثبات فالمحذوف التقدير كأنه لم يحذف، وكأنها إِنّ كما كانت في الأصل. والثانى: إهمالها، وهو الأكثر في الكلام. ودلّ على أنه الأكثر قوله: «فَقَلّ العَمَلُ»، لأنه إذا قلّ إعمالها لزم كثرةُ إهمالها، إذ هى دائرةٌ بين هذين لا: واسطة بينهما، فتقول على هذا في الكثير: إِنْ زيدٌ لقائمٌ. ومنه قول الله سبحانه: {وإِنْ كلٌّ لَمَّا جَميعٌ لَدَينا مُحْضَرُونَ}. {وإِنْ كلُّ ذَلِك لَمّا مَتَاعُ الحياةِ الدُّنْيَا}، {إن كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيها حافِظٌ}. وما أشبه ذلك.

ووجهُ إهمالِها أنها إنما عملت مع اعتبار الشبه اللفظى إما مستقلًا وإما جزءَ عِلّةٍ، فإذا فقد الشبهُ اقتضى القياسُ فَقْدَ الحكم المبنى عليه، وهو الإعمال، فأهملت. وهذا الذى قَرّره الناظم مبنىٌّ على موافقة أهل البصرة في أَنّ إِنْ المخففة ليست النافية، بل هي التوكيديّةُ، خلافًا لمن قال: إنها النافية، واللام اللازمة بعدها للايجاب بعد النفي، فقولك: إِنْ زيدٌ لقائم، في معنى: ما زيدٌ إلا قائمٌ. وهو مذهب الكوفيين. والذى يدلّ على صحة ما ذهب إليه الناظم مجئ النصب عن العرب، كقراءة من قرأ: {وَإِنْ كلًا لما لَيُوَفِّينّهُم}، وقال سيبويه: «وحدثا من يُوثَق به أنه سمع من العرب من يقول: إِنْ عمرًا لَمطلقٌ»، قال: «وأهل المدينة يقرءُون: {وَإِنْ كُلًا لَمَا لَيُوَفِّينّهُمْ}، يخفّفُون وينصبُونَ، كما قالوا: كأن ثَدْيَيْهِ حُقّانِ قال: «وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شئٌ لم يتغيّر عمله، كما لم يُغَيِّر عمل لم يَكُ. ولم أُبَلْ حين حُذِف». وحكى المؤلف عن الأخفش أنه قال: «زعموا أن بعضهم يقول: إِنْ زيدًا لمنطلق». وحكى ابن

الأنباري ذلك أيضًا. وإذا ثبت لها النصب عند التخفيف لم يصح أن تكون النافية أصلًا، لا يقال في الآية: إن كُلًا منصوب بقوله: ليوفيّهم، أو بفعلٍ/ يفسّره، لأنّا نقول: كلا القولين ممنوع على مقتضى أصولهم في هذا الموضع أو ضعيف؛ قال المؤلف: «لأنهم يوافقون في أن ما بعد إلّا لا يعمل فيما قبلها ولا يفسّر عاملًا فيما قبلها، قال: «وكذلك قال الفراء في كتاب المعانى: وأما الذين خفّفُوا إنّ فإنّهم نصبُوا كُلًا بِلَيوَفِّينّهُمْ. وهو وجه لا أشتهيهِ، لأن اللام لا يقعُ الفعل الذى بعدها على شئ قبله، فلو رفعنا كُلًا لصلحَ ذلك، كما يصلَح ذلك، كما يصلُح إِنْ زيدٌ لقائم، ولا يصلح أن تقول: إنْ زيدًا لأضرب؛ لأن تأويله كقوله: ما زيدًا إلّا أضرب. وهذا خطأ في اللام وإلّا. هذا نصّه». قال ابن مالك: «فقد أَقَرّ بأن حَمْلَ القراءة على جعل إِنْ نافيةً، واللام بمعنى إلّا، خطأٌ. ولا شكّ في صحة قراءة النصب، ولا توجيه لها إلا توجيهُ البصريين، فتعيّن الحكمُ بصحته مع ما أيّد ذلك من السماع». ثم قال: وتَلزُم اللامُ إذا ما تُهْمَلُ»، يعنى إِنّ إذا خُفِّفَتْ فأهملت في أحد الوجهين لزمت اللام في خبرها، والألف واللام في قوله: «وتلزم

اللامُ» لتعريف العهد، إِذْ قد تقدّم له الكلام في لحاقها. وأفاد بهذا الكلام فوائد: إحداها: أن تلك اللامَ لامُ الابتداء الداخلةُ في خبر إِنّ، وهو رأىُ جمهور البصريين. وزعم الفارسىُّ من البصريين أنها غيرها، لك ليست بمعنى إلّا. وذهب الكوفيون إلى أنها بمعنى إِلّا، بناء على أنّ إِنْ هى النافية. والدليل على ما قاله الناظم أنّ من العرب من يعملها واللام معها، فيقولون: إِنْ زيدًا لقائم، ومنه اللام في: {لما لَيُوفِّينّهُم}، وقد نصّ سيبويه على ذلك في أبوابِ إِنّ، وقال: إنها التى في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ}. أما قولُ الكوفيين فمجرّدُ دعوى لا دليل عليها، ولو كان كما قالوا لصحّ وقوعها حيث تقع إلّا بعد كلِّ نفي، فكنت تقول: ما زيد لقائمٌ، أو: لما قائمٌ -بمعنى: ما زيدٌ إلا قائم- ولم يقم لَمَا زيد، [ولن يقومَ لَمَا زيدٌ]، وفي امتاع ذلك دليلٌ على أن الأمر ليس كما زعموا. وأما قول الفارسىّ فشبهته -فيما زعم- ما رأى في الكلام من إعمال ما قبلها فيما بعدها، نحو: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرهُمْ لَفَاسِقِينَ}، {وَإِنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}. وهو كثير، ولام الابتداء لا يعملُ ما قبلها فيما بعدها، لو قلت: إنك

كنت لقائمًا، أو إنّك قتلتَ لمسلما، لم يجز، فعلمنا أنها ليست بها. وقد اعتذر عن هذا المعنى ابنُ خروفٍ فقال: ولما خُفِّفت وأبطل عملُها ألزموها اللام فرقًا بينها وبين النافية، وأدخلوها على ما لم تكن تدخل عليه وإنّ مثقلةً، فقالوا: إن قام لزيدٌ، وإن ضربتَ لعمرًا، {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقينَ}؛ قال: وليس دخولها في هذه المواضع بأبعد من دخولِ إنّ على الفعل، لَمّا أُلغِيت جاز فيها ذلك. هذا ما قاله؛ وأيضًا فلا بُعْدَ في أَنْ يعملَ ما قبلها فيما بعدها، كما يعمل فيما قبلها إذا قلت: إنّ زيدًا طعامَكَ لآكِلٌ، وإن زيدًا في الدار لقائِمٌ. وما أشبه ذلك، لما كانت مؤخرة من تقديم، فمن حيث فيها على الجملة ألّا تعتبر صَدْريّتِها مع إنّ يجوز أن لا تعتبر هنا أيضًا لأن المخففة هى المثقّلَةُ. وللمؤلف هنا جواب آخر في الشرح لا حاجة إلى جَلْبِهِ هنا. والفائدة الثانية: ما نصّ عليه/ من لزوم اللام، والفائدة في لزوم اللام قصدُ التفرقة بين إِنْ المخففة من الثقيلة وبين إن النافية؛ إذ لو قلت: إِنْ زيد قائمٌ، لم يُعرَفْ أهى النافية أم لا، فأدخلوا اللام المختصّة بأنْ المخففة، لأنها التى تصحبها حال تثقيلها وحال تخفيفها أيضًا إذا أُعمِلَت، فلم تلتبس بالنافية؛ ولأن لام الابتداء ليس من شأنها أن تدخل مع أدوات النفي، فحصل الفرق بينهما؛ قال سيبويه: «اعلم أنهم يقولون: إِنْ زيدٌ لذاهبٌ، وإِنْ عَمْروٌ لخيرٌ منك، لما خَفّفها جعلها بمنزلة لكنّ حين خَفّفها» -يعى بمنزلتها في الإهمال-، قال: «وألزمها اللام لئلا تلتبس

بإن التي بمنزلة ما التى ينفي بها». وهذا التعليل (قد) يقتضى أنها لا تلزم إذا لم يقع لَبْسٌ، ولكن العرب لم تراع ذلك إلا في النادر، كما هو ذاكره. والفائدة الثالثة: أنها لا تلزم إذا أُعْمِلت، لأنّ الناظم شرط في لزومها إهمالَ إِنّ، فاقتضى مفهُو الشرط أنها إذا لم تُهْمَلْ لا تلزمُ. وذلك صحيح، فتقول: إِنْ زيدًا قائمٌ، وإِنْ زيدًا لقائم. نصّ على ذلك السيرافي وغيره، ووجه ذلك ظاهر، وهو أنها لما أُبقيَتْ مع التخفيف على حكمها مع التثقيل في العمل، أُبِقَى لها أيضًا حكمُ دخول اللام في الخبر، وهو الجواز مع التثقيل، فكذلك يكون مع بقاء حكمه. ثم قال: «وَرُبّما استُغْنَىِ عَنها»، رُبّما إنما يستعملها الناظم في التقليل، والضمير «عنها» عائدٌ إلى اللام. يعنى أنّ اللام الفارقة قد يُستَغنى عنها فلا يؤتى بها، لك بشرط أن يبدو ويظهر مرادُ المتكلم بكلامه ومعتمدُه الذى اعتمده. وذلك الإيجابُ لا النفىُ. وهذا الاستغناء قليلٌ في الكلام، والغالبُ لزوم اللام. وحاصلُ ذلك أنها تسقط إذا أُمِن اللبس بين إِنْ المخففة والنافية بقرينة تدلّ على ذلك، فإذا أُمِن اللبسُ فربّما لم يُؤْتَ باللام نحو قراءة من قرأ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَا متاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيا}، بكسر لام لما، أى: للذى هو متاع الحياة الدنيا. وفي الحديث: «وأَيمُ الله، إِنْ كَانَ خليقًا للإمارة». وقال معاوية في كعب الأحبار: «إن كان من أحذقِ هؤلاء». وهذا كلُّه نادر كما قال.

(فإن) قيل: في ظاهر سياقه تناقضٌ، وذلك أنه قال: «وتلتزمُ اللامُ»، فاقتضى أن السقوط غير موجود، ثم قال: «وربّما استُغْنِى عنها» فاقتضى أها غير لازمة! وشأنه أن يأتى في مثل هذا بلفظ الغلبة أو الشياع فيقول: وتغلبُ اللامُ، أو: وتلحقُ اللام في الغالب أو الشائع أو ما أشبه ذلك. فهذه عبارة معترضةٌ. فالجواب: أن قصده أمرٌ آخر، وهو أنّ قوله: «وتلزم اللامُ» يريدُ في القياس، فلا يجوز إسقاطها البتّة وإن أُمِنَ اللبس. وقوله: «وربّما استُغنِىَ عنها»، يعنى به في السماع الذى لا يقاسُ عليه. والدليل على هذا القصيد من كلامهم قوله: «وربّما» فجعل النُّدورَ في قسم ما أُمِن فيه اللبسُ، ومواضع أمن اللبس لا توصف بالندور لكثرة القراءة الدالّة، فإنما أراد تعيينن موضع السماع، وأن إسقاط اللام نادِرٌ لا يقاسُ عليه. ولو أراد القياس لم يأت بربّما المقتضية لترك القياس عنده/، وليس قصده كما قال في التسهيل: «وتلزم اللام بعدها فارقةً إِنْ خيف لبسٌ بإنْ النافية». فهذا الكلامُ يقتضى أَنّ إسقاطها بشرط أَمْنِ اللبس قياسٌ، بخلاف كلامه في هذا النظم، فإنّ الظاهر منه لزومُ اللام مطلقًا كمذهب سيبويه وغيره، فخالف ما ذهب إليه التسهيل وشرحه، ومذهبه هنا أصحّ؛ إذ لو كان أمُن اللبس مجوّزًا لإسقاطها عند العرب لكانوا خُلَقاءَ أن يكثر ذلك في كلامهم ويشيع؛ إذ اللام عند ذلك جائزةُ اللحاق لا لازمتُه، فلما لم يكن ذلك، بل حافظوا على إلحاقها مطلقًا، دلّ ذلك على أهم أجروا ما لا لبس فيه على ما فيه اللبس، ليجرى البابُ كلُّه مجرًى واحدًا، كما فَعَلُوا

ذلك في جريان الصفة على غير من هى له. وقد مرّ ذلك في باب الابتداء. فإن قيل: أطلق الناظمُ القولَ في لزوم هذه اللام، فاقتضى أنها تلزمُ الخبر كان منفيًا أو موجبًا. وليس كذلك، بل إما تلزم عند كون الخبر موجبا لم تتقدّمه أدا نفى، وقد شرط ذلك في التسهيل حيث قال: «وتلزمُ اللام بعدها فارقةً إن خِيفَ لبسٌ بإن النافية، ولم يكُنْ بعدها نَفْىٌ» فلا يجوز على هذا: إِنْ زيدٌ لما قام، وإن زيدٌ للا يقوم، وكلامُه هنا يجوز ذلك لإطلاقِه وعدمِ ذكره هذا الشرط. وهو غير صحيح. فالجواب: أن هذا الاشتراط غير محتاج إليه؛ إذ (قد) تقرّر من كلامه أنّ هذه اللام هى لام الابتداء الدالخلة في خبر إنّ، وإذا كات إيّاها فقد تقدّم قبلُ اشتراط كونِ الخبر غير مفيّ في قوله: «وَلَا يَلىِ ذى اللامَ ما قَدْ نُفيا»؛ فذِكْرُ ذلك هنا تكرارٌ من غير فائدة. وأيضا لو احتيج إلى ذلك الشرط أنْ يُذكَرَ هنا لاحتيج لذكر جميع الشروط مثل أن لا يكون فعلا ماضيا متصرِّفًا خاليًا من قد، وساءر ما ذُكِر هنالك، فلما لم يكن كذلك كان تَرْكُ هذا الشرطِ هو الوجبَ ها. فالذى فعل هَنَ ابن مالكٍ أحسنُ من فعله في التسهيل، والله أعلم. ثم بَيَّن دخولها في الأفعال فقال: «والفِعلُ إِنْ لَم يَكُ ناسخًا» .. إلى آخره. هذا الكلامُ تُعطِى أَنّ وصلَ إِنْ هذه بالأفعالِ جائز على الجملة. وهذا مفهومٌ من كلامه؛ لأن معناه أَنّ الفعل إن كان ناسخًا وصِلَ بها وغلا فهو على الجملة مما يُوصَل بها الفعل. وهذا مُتّفق عليه، لكنهم اختلفوا في تعيين نَوْعِهِ، فالبصريُّونَ على اشتراطِ كونه ناسخًا للابتداءِ، وهو الّذى ذكَره النّاظم من أنها لا تُوصَل بالفِعلِ غالبًا إلا إذا كان ناسخًا، والأفعال النواسخ هى: كان وأخواتها، وكاد

وأخواتها، وعلم وأخواتها، فتقول: إن كان زيدٌ لقائمًا، وإن كادَ ليقوم، وإن علمتك لصادقًا. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبينٍ}، {وَإِنْ يَكَادُ الذينَ كَفَرُوا لَيُزْلقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمِ}، {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبينَ}. وهو كثير. وأما الكوفيون فلا يُعَيِّنون لذلك ناسخًا من غيره، بل يجيزون دخولها على كل فِعْلٍ متصرِّفٍ/ فيقولون: إِنْ ضربَ لزيدًا، وإن أكرمتَ لعمرًا، وإن قام لزيدٌ. وإلى هذا ذهب الأخفشُ، ومالَ إليه المؤلف في التسهيل وشرحه. والظاهرُ منه هنا خلاف ذلك، لقوله: «فَلَا تُلْفِيهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِى مُوْصَلَا، والغالبُ عنده في مقابلة النادِرِ، وهكذا جرى اصطلاحه في هذا الإطلاق، والنادرُ لا يقاسُ عليه. وإنما ذهبوا إلى ذلك لوجود السماع به، أمّا الكوفيون فالذى حكوا من ذلك هو قولُ امرأةِ الزبير رضي الله عنهما: ثكَلَتْكَ أُمُّكَ إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا وَجَبتْ عَلَيْكَ عُقُوبةُ المُتَعمِّدِ وهذ -وإن كان في نقلهم شاذًا- فهو على قاعدتهم قياسٌ، من جهة أَنّ إِنْ عنده نافيةٌ، واللامُ ايجابيّة، كما وإلّا، وكما أَنّ ما وإلّا غير مختصّةٍ بناسخ دون غيره، فكذلك مرادفها.

وأما من قال بقياسه من البصريين فمعتمدهم السماع، فقد جاء من ذلك أشياء؛ من ذلك ما حكى الأخفش في معانيه في قراءة ابن مسعود، قال: {إِنْ لَبِثْتُم لَقَلِيلًا}، وقول امرأة من العرب: «والذى يُحْلَفُ به إِنْ جاءَ لَخَاطبًا»، وقول بعض العرب: «إِنْ يَزِينُك لنفسُكَ، وَإِنْ يَشِينُك لهِيَهْ». وهذا كلّه لا يبلغ مَبْلَغَ أَنْ يُقاسَ عليه. وإنما اختصت بالأفعال الناسخة لأنها كانت مختصّة بالدخول على المبتدأ والخبر في الأصل، فلمّا خُفِّفَتُ الشئ على حال كذا، أى: وجدته كذلك .. وذى من قوله: «بإذن ذِى مُوْصَلا صفةٌ لإِنْ، وهى التى يشار بها إلى القريب المؤنث، أى: لا تلفيه موصَلًا بإن هذه، يعنى المخففة من الثقيلة، تحرّزًا من إِنْ النافية وإن الشرطية، فإنهما مخالفان لها في هذا الحكم. وتحرز بقوله: «غالبًا» مما جاء من الأفعال غير الناسخة موصلًا بإن. وقد تقدم ما جاء من ذلك وبقي (هنا) على الناظم سؤالان: أحدهما: أن «موصلا» من «أوصلت» الرباعىّ، والفعلُ المستعمل في معنى الوصول كذا إلى كذا وصولًا. ولا تقول: أوصلت كذا بكذا، بمعنى وصلته، وإنما تقول: أوصلتُ كذا إلى كذا، فهو الذى يتعدّى إلى الثاني بإلى لا بالباء، وأما المتعدّى بالباء فتقول فيه: وصلته فهو موصول. فكان حقّ الناظم أن يقول: فلا تلفيه غالبا بإن ذي موصولا.

والثاني: أنّ هذا الوصلَ المراد لم يبّن كيف يكون، أقبل إِنْ أم بعدها؟ فإن اتصال الشئ بالشئ يكون من كلتا جهتيه، ولذلك تقول: «وصلتُ الكلام بعضه ببعض، تريد: وصلتُ أوّله بآخره، وأخَرهُ بأوّله. وإذا كان كذلك فمن الواجب بيانُ اتصال الفعلِ بإنْ، هل يكون الفعلُ متقدّما على إنْ أو متأخّرًا عنها؛ إذ لا يعرف ذلك إلا بالنّقْلِ والنصّ عليه. ولذلك اعتنى أبو القاسم بهذه المسألة، فبوّب لها بابًا مستقلًا فقال: باب الجمع بين إنّ وكان»، ونص على تقديم إنّ، فَتَرْكُ الناظمِ بيانَ ذلك تقصيرٌ. والجواب عن الأول: أن العرب تقول: وَصَلَ الشئُ بالشئ/: إذا اتصل به. فهو يتعدّى ولا يتعدّى، كرجَعَ ورجعتُه، ووقف ووقفتُه، وعَمَر المنزلُ وعمرتُه؛ وإذا ثبت ذلك فلعلّ الناظم عدّى هذا الفعل بالهمزة بناءً على أنه مقيس، كما تقول: ذهب وأذهبته، وقام وأقمته، وقعَد وأقعدتُه؛ فيكون مُوصلًا من أوصلتُ الشئ بالشئ، المعدّى من وصل بمعنى اتّصل، ولا يكون فيه اعتراضٌ. وعن الثاني: أن وَصْلَ الشئِ بالشئِ يجرى في العرف على معنى الوصل من آخر، ولذلك إذا أرادوا الوصل من أوّلٍ عدلوا عن هذا اللفظ إلى لفظ «ألحقت» أو إلى لفظ أدخلت، فيقول: كذا على كلمة كذا، أى أوصلتها بها من أولها. فلفظُ الوصل في العرف المستعمل له خصوصيّةٌ

باللحاق من آخر؛ فكأنّ الناظم عوّل في فهم تقديم إِنْ على الفعل على هذا الاستعمال. والله أعلم. وَإِنْ تُخَفّفْ أَنّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنْ وَالخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلةً من بَعْدِ أَنْ وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا فالأحْسَنُ الفَصْلُ بَقَدْ، أو نفىٍ أو تَنْفِيسٍ أوْ لَوْ، وَقَلِيلٌ ذِكُرُ لَوْ هذا هو الحرف الثاني من الأحرف الثلاثة التى خُفِّفت في هذا الباب، وهو أَنّ المفتوحة، وذكر من أحكامها المختصّة أنها إذا خُفِّفت لم تُهْمَلْ؛ بل عملها باقٍ، إلا أنّ اسمها يكون مُستَكنًا، أى مضمرًا أبدًا لا يجوز إظهاره إلا في نُدورٍ أو ضرورة شعر لا يعتدّ به، نحو ما أنشده ابن الأنبارىّ وغيره من قول الشاعر: فَلوْ أَنْكِ في يَوْمِ الرّخَاءِ سَأَلْتِنِى فَرِاقَكِ لَمْ أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ وأنشد ابن الأنباري أيضا:

لَقَد عَلِم الضّيفُ والمُرْمِلُونَ إِذّا اغْبرّ أُفْقٌ وَهَبّتْ شَمَالَا وَخَلّتْ عَنْ أولادِها المرضِعاتُ ولم تَرَ عَيْنٌ لِمُزْنٍ بِلَالًا بأَنّكَ الرّبيِعُ وغيثٌ مَرِيعٌ وقِدْمًا هُنَاك تكُونُ الثّمالَا وهذا تكنّ لم يُبَيّن ما هو؟ وكان أولى به أن يبيّنه، ولكن لم يحنج إلى ذلك، بناءً على أنه لا يتعيّن ما هو، إذ لا يلزمُ أن يكون ضمير الشأن لإمكان عوده على حاضر أو غائب معلوم. وإلى هذا ذهب في شرح التسهيل، واحتجّ لذلك بكلام سيبويه إذ قال في قوله تعالى: {وآخرُ دَعْوَاهُم أَنِ الحمدُ لِله رَبِّ العَالَمِينَ}: «هوَ على قوله: أنه الحمد لله». ثم قال: «ومثل ذلك: {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبراهيمُ، قَدْ صَدّقْتَ الرُّؤْيا}، كأنه جَلّ وعزّ قال: وناديناه أَنّك قد صدّقت الرُّؤْيا يا إبراهيم. قال: وإذا قلت: أرسل إليه أَنْ ما أنتَ وذا؟ فَهِىَ عَلى أَىْ». قال: «وإن أدخلتَ الباءَ على أَنّك وأنه فكأنه يقول: أرسلْ إليه بأنّك ما أنت وذا جاز». وله مثل ذلك في باب هذا الباب، والجمع مذكور في أبواب إن وأنّ

من آخر الرِّزمة (الأولى). وقد التزم بعضهم في هذا المستكنّ أن يكون ضمير الشأن. وذلك غيرُ لازم. هذا حكم اسمها وياتى حكمُ خبرها. وقد اقتضى كلامُه فيها حيث ألزم لها اسمًا وخبرًا، ولم يقلْ غير ذلك أنها عنده معملةٌ مع التخفيف/ مطلقًا، وخلافُ أهل البلدين جارٍ فيها. واستدلّ لصحّة إعمالها بما تقدّم من الشاهدين، وأن بعض أهل اللغة يحكي ذلك عن بعض العرب. وغلى هذا فلا نُكْر في التزام حذف الاسم مع التخفيف، فقد حذفوه في المثقلة حين قالوا: فَلَو أَنّ حُقّ اليومَ منكُمْ إقامةٌ وإِنْ كانَ سَرْحٌ قد مضى فَتَسرّعا فما خَفّفوها بالحذف حذفوا أيضا الاسم لتكون على شكل ما لا يعملُ، إذ صارت شبه متالا يعمل في الاسماء. ولا نظير هذا التزامهم في إِنِ الشرطية إذا حذفوا جوابها أن يكون فعلُ الشرط ماضيا، لئلا تكون على شاكلة ما يجزم وليس له جواب ينجةزم. فالحاصل أنّ ذلك فرارٌ من قبح لفظيّ. وأيضا فقد قال سيبويه: «لم يحذفوا لأن يكونَ الحذفُ يُدخِله في حروف الابتداء، بمنزلة إنّ ولكنّ، ولكنهم حذفوا كما حذفوا الإضمار، وجعلوا الحذف عَلَمًا لحذفِ الإضمار في إنّ، كما فعلوا ذلك في كأنّ». وقال في أبواب إنّ وأَنّ: ومن قال: {والخامسةُ أَنْ غَضَبُ اللهِ عَلَيها}، فكأنه قال: أنه غَضَبُ الله عليها، لا يُخَفِّفُها في الكلام زبدًا وبعدها

الأسماءُ إلا وأنت تريدُ الثقيلة مضمرًا فيها الاسم». انتهى. فإن قلت: فهذا يقتضى أنها إذا كان بعدها الأفعال لا يضمر فيها، ولا تكون المخففة من الثقيلة. فالجواب: أنه إنما نفي أن تكون التفسيرية التى بمعنى أَىْ، وأما إذا وليها الأفعال فقد تكون التفسيريّة، وقد تكون المخفّفة ويضمر بعدها. وقولُ الناظم: «والخَبَر اجعلْ جملة من بعد أَنْ»، يريد أن الخبر إما أن يكون جملة اسميّةً أو فعلية، فإن كان جملة اسمية فاجعلها بعد الحرف من غير اشتراط فعلٍ. هذا معنى قوله: «من بعد أَنْ» أَىْ: على الإطلاق، كقول الله تعالى: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِينَ}. وقرئ في غير السبع: {والخامِسَةُ أَنْ غَضَبُ اللهِ عليها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقينَ}. وفي السبع: {والخامِسَةُ أن لعنةُ اللهِ عليه إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبينَ}. وفي الشعر ما أنشده سيبويه من قول الأعشى: في فِتْيَةٍ كسُوفِ الهِنْدِ قد عَلِمُوا أَنْ هالِكٌ كُلٌّ من يَحْفَى ونتعلُ فإن قيل: مقتضى هذا الكلام التزامُ عدمِ الفصلِ بين إن وهذه الجملة، وأن لا يجوز الفصلُ وذلك غير صحيح، بل الفصلُ بالأدوات جائز؛ فأنت تقول:

علمتُ أن لا عالم إلا زيد. وفي القرآن الكريم: {وَأَنْ لا إِلَه إِلّا هُوَ، فَهَلْ أنتُمْ مُسْلِمونَ}. وقل لبيد بن ربيعة: فَقُولا لَهُ -إِنْ كانَ يُقسِمُ أمره-: أَلَمّا يَعَظْكَ الدّهْرُ، أُمُّكَ هَابِلُ فَتَعْلَم أَنْ لَا أَنْتَ مُدْرِكَ ما مَضَى وَلَا أَنْتَ مِمّا تَحْذَرُ النفسُ زائُل وأنشد ابنُ خروف لكُثَيِّر: لِتَعْلَم عِنْد الغَيْبِ أَنْ لا مُقَصِّرٌ وهو شهيرٌ، فكيف هذا؟ الجواب: أن الناظم لم يشترط هنا الولاية لأنْ، وإنما ذكر أنك تجعلُ الجملة بعدها قطّ، من غير شرطٍ؛ فإنما زطلق العبارة توطئةً لما يذكُره بعدُ من اشتراطِ الفعلِ في الأحسن/ إذا كانت الجملة فعلية، يفهم له من مجموع العبارتين أن الجملة الفعلية يشترط فيها الفصلُ في الأمر الأرجح، بخلاف الجملة الاسمية يشترط فيها ذلك. فإن قيل: من أين تعَيَّن أن يكون المراد بالجملة في قولهم: «والخَبَر اجعَلْ جُمْلَةً». الجملة الاسمية، يقيّدها بذلك؟ فالجواب: أن الذى يُبيِّن ذلك من كلامه مَوْرِدُ التقسيم؛ إذ قال:

«وَإِنَ يكُنْ فِعْلًا»، أى: يكن الخبر فعلًا، فدلّ على أن الجملة المتقدمة التى جعلها خبرًا من بعد أَنْ ليست الفعليّة لا تتضمّنُها، فتعيّن أنه الاسمية بهذا الاعتبار؛ إذ لا جُملة إلا اسمية أو فعليّة. ويحتملُ آخَر، وهو أن يكون المرادُ بقوله: «والخَبَر اجْعَلْ جُملة» الجملة على الإطلاق، كانت اسميةً؛ إذْ لم يُقيّدها، وإنما ألزم أن يكون الخبر جملة خاصّةً، فيكون حالها في الجواز أَعمّ من أن يقع بين أَنْ وبينها فَضْلٌ أَوْلا، فإن لَحَقِ فصلٌ فهو جائزٌ، وإن لم يلحق فكذلك، لكن الأحسنُ الفصلُ إذا كانت فعليّةً على تفصيله المذكور، كأنّه قال: يلزمُ أن يكون خَبرُها جملةً بِفَصْلٍ وغير فَصْلٍ، إلا أنّ الأحسنَ في الفعلية الفصل بشرطه. وهذا كلام مستقيم. فمثال الفصلِ وعدمه مع الجملة الاسمية قد تقدّم، ومثالُه مع الفعلية قولُ الله تعالى: {قَالُوا: نُريدُ أَنْ نأكُلَ مِنْها وتَطْمئِنّ قُلُوبُنَا، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} .. الآية، وقولهُ تعالى: {عَلِم أَنْ سَيَكُونُ منْكُمْ مَرْضَى}. ومثال عَدَمِ الفصل قراءةُ من قرأ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرّضَاعَةَ}. وقال امرؤ القيس: وَحَدِّثْ بِأَنْ زالَتْ بِلَيْلٍ حُمُولُهمْ كَنَخْلٍ من الأعراضِ غير منَبّقِ

وقال النابغة الذبياني: فَلَمّا رَأَوا أَنْ ثَمّرَ اللهُ مَاله وَأثلَ مَوَجُودًا وَسّد مَفَاقِرَهْ وقال الفراء: ولو رُفِع الفعلُ في خَبَر أَنْ بغير لا. كان صوابًا، كقولك: حَسِبْتُ أن تقولُ ذلك، لأن الكاف تحسنُ مع أَنّ، فتقول: حَسِبت أنّك تقولُ ذاك. وأنشد: أَنْ تَهْبطِينَ بِلَادَ قَوْمٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطّلاحِ وإن كان قد ضعفه سيبويه فلم يمنعه البتّةَ، قال: «واعلم أنّه ضعيفٌ في الكلام أن تقول: قد علمتُ أَنْ تَفَعَلُ ذاك، ولا: قد علمتَ أَنْ فَعَلَ ذاك، حتى تقول: سيفعلُ أو قد فَعلُ، أو تنفي فَتدخُلَ لا». ثم وجّه ذلك. فعدمُ الفصل إذًا جائز، لكن الفصلَ أقوى منه. ويُحْتَمِل أن يكون من ذلك ما أنشده السيرافىُّ وغيره: أَنْ تَقْرآنِ عَلَى أَسْمَاءً وْيَحكُما مِنِّى السّلَامَ، وأَنْ لا تُشْعِرا أَحَدَا ثم بيّن بعد هذا الإطلاق ما يحتاج إلى الفصل في الوجه الأحسن مما

لا يحتاج إليه، فقال: «وَإِن يَكُنْ فِعْلًا ولم يكُنْ دُعَا» .. إلى آخره، وحاصله: أن الخبر إذا كان فعلًا، وذلك عبارة عن كونه جملة فعليّة، فالأحسنُ فيه الفصلُ بين أَنْ والفعلِ بأحد تلك الأشياء، ويجوز عَدَمُه على قلة، لكن بشرطين: أحدهما: أن لا/ يكون فِعْل دُعَاءٍ، وهو قوله: «وَلَم يَكُن دُعَا»، يعني الفعلَ، وإليه رجع الضمير في «يَكُن»، فإنه إن كان دعاءً لم يشترط الفصلُ في الأحسن، بل لا يفتقر إليه، نحو قولهم: أَمَا أَنْ جَزَاك الله خيرًا. ومنه في القرآن الكريم: {وَالخامِسَة أَنْ غَضِب اللهُ عليها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقين}. وما أشبه ذلك. والثاني: أن لا يكون الفِعلُ غير متصرف، وذلك قوله: «ولم يَكُنْ تصريفه مُمْتَنِعا»، فإن إِنْ كان غير متصرّفٍ لم يحتج إلى فَضْلٍ، نحو علمت أن لستَ قائمًا. ومنه قولُ الله تعالى: {وَأن ليس للإنْسانِ إِلّا ما سَعَى}، وقال تعالى: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ}. فإذا اجتَمَعَ الشّرطان فحينئذٍ يعتبر الفصلُ كما ذكر، وعيّن له أربع أدوات: إحداها: قد، نحو قولك: علمتُ أن قد قام زيد، وقال تعالى حكايةً: {وَيَعْلَم أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا}.

والثانية: أداةُ نَفْىٍ، كلا، ولن، ولم، نحو: {لِئَلّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَنْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ من فَضْلِ اللهِ}، {أَفَلا يَرَونَ أَنْ لَا يرْجِعُ إلَيْهم قَوْلًا} .. الآية {أَيَحْسَبُ الإِنسانُ ألّن نّجْمَعَ عِظَامَهُ}، {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}، {أَيَحسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أحد}. والثالثة: حرفُ التنفيس -وهو السنُ أو سوفَ- نحو: علمتُ أَنْ سيقومُ زيدٌ، قال تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيكُونُ مِنْكمْ مَرْضَى}. والرابعة: لو، ومنه قول الله تعالى: {فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجنُّ أَنْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ} .. الآية. وأنشد الفارسي: أَمَا -والله- أَنْ لَوْ كُنْتَ حُرًا وما بالحُرِّ أَنْتَ وَلَا الخَلِيقِ: «وذلك أنّهم جَعَلوا ذلك عَوِضًا مما حذفوا من أنه -يعنى إحدى النونين والاسم- أن يَدَعُوا السين أو قد إِذْ قدروا على أَنْ يكون عِوَضًا ولا تنقضُ ما يريدون لو لم لُوا السين ولا قد». انتهى.

وإنما لم يفعلوا ذلك بالجملة لااسمية ولم يُرَجِّحوا الفَصْلَ كالفعلية؛ لأنك قد جئت أَنْ باسمٍ وخبرٍ، كما جئت (بهما) بعد المثقّلة المُعْمَلَةِ، فكأَن ما حُذِف لم يُحْذَفْ، يقال في الفَصْلِ مع الجمكلة الفعلية: إنه عوض، ولا يقال ذلك فيه مع الجملة الاسمية، كما جِئَ به لما تقتضيه الأداةُ من المعنى. وأما فِعْلُ الدعاء فلم يحتج إلى فضلٍ لأنه لا يُوصِلُ إليه مع الدعاء، قال سيبويه: «وَأَمّا قولهم: أَمَا أَنْ جَزاك الله خيرًا، فإنهم إنّما أجازوه -يعنى من غير فَضْلٍ- لأنه دعاء، ولا يَصِلُون هنا إلى قَدْ ولا السين. ولو قلت: أما أَنْ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ، جاز لأنه دعاء، ولا تَصِلُ هنا إلى السين». قال: «ومع هذا أيضًا أنه قد كَثُر في كلامهم حتى حذفوا فيه إِنّهُ -يعنى المكسورة- وإِنّه لا تُحذَفُ في غير هذا الموضع. وسمعناهم يقولون: أَما إِنْ جزاك الله خيرًا، شبهوها بأنّهُ -يعنى المفتوحة- فلما جازت إِنّ كانت هذه أَجْوَرَ». كأنه يقول: لما كثر هذا في كلامهم استغنوا عن العِوَضِ. وأما الفِعلُ غير المتصرف فلم يحتج إلى الفصل لشبهه بالاسم في الجمود وعدم التصرف، والاسم غَيرُ محتاجٍ إِلى الفصل، فكذلك ما أشبهه. وقوله: «قَلَيلٌ ذِكْرُ لَوْ» يَحْتَملُ وجهين من التفسير، أحدهما: أَنْ يريد أنه قليلٌ في السماع، وأن الفصل بها لم يكثر كثرة الفصل بغيرها مما تقدم. والثاني: أن يُريد أَنّ ذكر هذا الفاصِلِ قليلٌ عند النحويين، فلم يذكره منهم إلا قليل، وهو مما يُحتاج إلى ذكره، وبهذا فَسّره ابنه فقال: «وأكثر النحويِّين لم يذكُروا الفَصْلَ بين أَنْ المخفّفة وبين الفِعْلِ بلو»، قال: وإلى ذلك أشار بقوله:

«وقليلٌ ذِكْرُ لَوْ». وهذا الذى قاله صحيحٌ محتمل، بل هو الأولى؛ إذ لو أراد الأول لقال: «وقليلٌ فَضْلُ لَوْ»، أو ما يعطى هذا المعنى، فإنما أراد: وقليلٌ ذِكْرُها في الفواصل، والنصُّ من النحويين عليها. وقد تقدّم ما في القرآن من قوله: {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ}، ومنه أيضا: {وَأنْ لَو استَقَامُوا على الطريقَةِ لأسقيناهُم/ ماءً غدقًا}، ومن بحث وجد من ذلك كثيرًا، فليست بقليلة الوجود في كلامهم العرب. والله أعلم. وَخُفِّفَتْ كَأَنّ أَيْضًا فَنُؤِى مَنْصُوبُها، وَثابِتًا أَيْضًا رُوِى هذا هو الحرف الثالث من الأحرف الثلاثة، وَيعنى أنّ العرب خفّفت أيضًا كأنّ بحذفِ إحدى نونيها، كما خففت أَنّ، وحين خَفَّفُوها نَوَوا منصوبَها، أى: إِنهم قدروا لها منصوبًا هو اسما، ويلزم من ذلك أن يكون لها مرفوع، وهو خبرها. وقد انتظم هذا الكلام ثلاثَ مسائل: أحدها: أنها مع التخفيف عامِلةٌ بإطلاقٍ، لم تُهْمَلْ كما أُهمِلتْ إِنّ المكسورة، بل أعملت كما أعملت أَنّ المفتوحة. وخلاف البصريين والكوفيين فيها جارٍ. والدليل على إعمالها ظهوره مع إثبات الاسم كما سيذكره، وأيضا فإنّ إنما هى الكاف وإنّ، فقولك: كَأَنّ زيدًا أسدٌ، أصله: إن زيدًا كأسدٍ؛ ذكره سيبويه إشارةٌ وبسطه ابن جني؛ فإذا ثبت الإمالُ في إِنّ ثبت في كأنّ، لأنّها هي.

والثانية: كون منصوبها منوبًا لا يظهر، وهذا هو الأشهر، كقولك: أنت في زمانك كأنْ لم تَعْرِفْ أَهله. ومنه في القرآن الكريم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعة مِنَ النّهَارِ}. وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لم تَغْنَ بِالأمْسِ}. وأنشد سيبويه لابن صُرَيم الشكرىّ: وَيَوِمًا تُوَافِينا بِوَجْهٍ مُقَسَّمْ ... كَأَنْ ظبيةٌ تَعْطُوا إلى وَارقِ السّلَمْ وأنشد أيضا قول الآخر: وَوَجْهٍ مُشْرِقِ النّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ. والثالثة: أنّ لها خبرًا غير منوىّ، بل هو ظاهرٌ؛ لأنه إذا أشار إلى أنها مُعْملة ج كان لها خبرٌ بلا بدٍّ، ولما كان منصوبُها منويا كان مرفوعُها غير منوىِّ غالبًا. إِلّا أنه لم يُبَىِّ ما يكون خبرًا لها في حال التخفيف، وقد نصّ في التسهيل على تعيين الخبر بناءً على أنّه لا يكون خبرًا لها حالَة التخفيف كلّ ما يكونُ خبرًا لها حالة التثقيل بإطلاقٍ، كما كان ذلك في أَنْ، حسبما بَيّنه فوق هذا فقال: «وتُخَفّف كأنّ فتعمل في اسمٍ كاسم أَنْ المقدّر، والخبر جملة اسميّة أو فعلية مبدوءة بلم أو قد، أو مُفْرد». فمثالُ كونه جملةً اسميةً قوله:

وَوجْهٍ مُشْرِقٍ النّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْياهُ حُقّانِ ومثال كونها فعليةً مبدوءةً بلم قولُ الله تعالى: {كَأَنْ لم تَغْنَ بالأَمْسِ}، ومبدوءةً بقد نحو قوله، أنشده في الشرح: لا يَهُولَنّكَ اصْطِلَاءُ لَظَى الحَرْ ... بِ فَمحذُورُهَا كَأَنْ قَدْ أَلَمّا ومثال المفرد قولهُ: كَأَنْ ظبيةٌ تعطُو إلى وَارِقِ السّلَمِ فكان حقُّ الناظم أن يُبَيّن ذلك كلّه، وإلّا فإطلاقه يقتضى أنّ كلّ ما يقع خبرًا للمثقّلة يقع خبرًا للمخففة. وليس كذلك؛ ألا ترى نك لا تقول: حسبتُ زيدًا كأنْ قام، أو كأَنْ، أو كأَنْ في الدار، أو كأن عندك. فلو حملناه على إطلاقه لاقتضى جواز هذا كُلِّه. وغير صحيح، فهو مما فاته ذكرُه، فلو زاد بيان ذلك لكان أحسنَ. ثم قال: «وثابتًا أيضًا رُوِى». مرفوعُ «رُوِى» عائد على «منصوبُها» /، يعني: أن اسمها ثابتًا غير محذوف ولا منوىّ، كما كان في حين تثقيلها. منه روايةُ من رَوَى بيت: كَأَنْ ظَبْيةً تعطُو إلى وارقِ السّلَمْ بنصب ظبية، وخبرها في هذه الرواية محذوف للعلم به، تقديرُه: كأنْ ظبيةً تعطُو هذه المرأةُ. أيضا هذا البيت:

وَوَجْهٍ مُشْرِقِ النّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْيَيْه حُقّانِ بنصب الثديين. وفي هذا الكلام ما يُشعر بأنه سماعٌ وليس بقياس. وإلى هذا المقصد أشار في التسهيل وشرحه ونصّ سيبويه أَنّ إعمالها مخصوصٌ بالشعر؛ إذ قال في أَنْ المخففة: «فلو لم يريدوا ذلك كما ينصبون إذا اضطُرُّوا في الشعر بكأنّ إذا خَفَّفُوا، يريدون معنى كأنّ، ولم يُريدوا الإضمار، وذلك قوله: كَأَنْ وَرِيدَيهِ رِشَاءُ خُلْبِ لكن يلزم الناظِمَ على طريقته المتقدمة له أن لا يكون هذا من قبيل المسموع؛ إذ ليس ما يَضطرُّه لتمكّن الشاعر من أن يقول: كأَنْ ظبيةٌ تعطُو، وكأَنْ ثدياه حُقّان، وكأَنْ وَرِيداه رِشاءُ خُلْبِ. وهى أقربُ في التمكن من قوله:

صوت الحمار يُجِدّعُ. ومن قوله: وما من يرى للخِلّ. وما أشبه ذلك. فالظاهر أنه غفل عن إعمال تلك القاعدة المقررة عنده، ونعمّا فعل.

لا التي لنفي الجنس

لَا الّتِي لِنفْي الجِنْسِ هذا هو النوع الخامس من نواسخ الابتداء، وهو: لا التى لنفي الجنس، وعملها في الأصل عند الناظمِ ومن تبعه الناظمُ كعَمَلِ إِنّ، تنصب الاسم وترفع الخبر، للشبه المقرّر بينهما في أنّ كلّ واحدٍ منهما حرفٌ موكّد، فإنّ مؤكدة للإيجاب، ولا مؤكّدةٌ للنفي، وكلاهما موضعه صدرُ الجملة، وهو داخلٌ على المبتدأ والخبر، قال المؤلف: «وأيضًا فإنّ «لا» تقترن بهمزة الاستفهام ويراد به التمني، فيجب إلحاقها بليت، قم حملت في سائر أحوالها على حالها في التمني». وهذا وجه ضعيف. (ثم قال): عَمَلُ إِنّ اجْعَلْ لِلَا في نَكِرهْ ... مُفْرَدَةً جَاءَتْك أَوْ مُكَرّرَهْ فَانْصِبْ بِهَا مُضَافًا أو مُضَارِعَهْ ... وَبَعْدَ ذَاكَ الخْبَرَ اذْكُرْ رَافِعَهْ ظاهرُ قوله: «عَمَلَ إِنّ اجْعَلْ لِلَا» يقتضى أنّ لا عاملةٌ في الاسم والخبر بإطلاق، أما علمها في الاسم فظاهر، وأما في الخبر فليس بمتّفَقٍ عليه، بل فيه خلافٌ: فعلى طريقة المؤلف في التسهيل أنّ الاسم إن لم يركّب معها فالخبر مرفوع بها عند الجميع، وإن رُكِّب معها الاسم فقولان؛ قيل: إِلّا الخبر مرفوع بها أيضا، وهو مذهب الناظم. وقيل: على خبر الابتداء، لأن «لا» مع اسمها في موضع اسم مبتدأٍ، فالخبر مرفوعٌ به لا بها.

وعلى طريقة غيره أن الخبر في رفعه القولان، كان الاسم مركّيًا مع لا أَولا؛ فقد حكى ابن خروفٍ وغيره الخلافَ بين سيبويه والأخفش بإطلاقٍ، ونص ابن خروف على هذا المعنى في نحو: لا خيرًا من زيدٍ، وهو الذى حكى فيه المؤلفُ الاتفاق. فالحاصل أن الناظم ارتضى مذهب الأخفش في المسألة، ووجهُ/ ذلك ما تقدّم من المناسبات بين إِنّ ولا، وقد ثبت الرفع لإِنّ فلْيكُن كذلك في لا. وأيضًا قد عملت في الاسم باتفاقٍ وعملها في الخبر أولى من العمل في الاسم، لأنّ معناها إِنما تسلط عليه، وإنما عملت في الاسم لأنه مطلوبُ مطلوبها، فهو معمول بالقصد الثاني، وما كان مطلوبًا للعامل بالقصد الأول أَولى أن يكون معمولًا له مما كان مطلوبًا له بالقصد الثاني. فإن قيل: القاعدة المستمرة أن المشبّه لا يقوى قوة ما شُبِّه به، وقد تقرّر أن لا إنّما عملت لشبهها بإنّ، وعملت إِنّ بشببها بكان، فلا في المرتبة الثالثة، فلا ينبغي في القياس أن تعمل الرفع والنصب، وإلّا لزم أن تكون في العمل في درجة إِنّ، لكنها ليست في درجتها، فلزم أن لا تعمل عملها. فالجواب: أن القوة والضعف في التشبيه ليس براجعٍ إلى نفس العمل المجعول لها، وإلّا لزم ذلك في إنّ وأَلّا تعمل رفعًا ونصبًا؛ إذا كانت بذلك تصير في درجة الفعل، وإنما ذلك راجع إلى أحكام أُخَر؛ ألا ترى أَنّ تعمل في المعرفة والنكرة، ولا لا تعمل إلا في النكرة، إلى غير ذلك من

الأحكام التي قصرت فيها عن التصرُّفِ تصرّفَ إنّ. وقد تقدّم هذا المعنى. وشرط الناظم -رحمه الله- في هذا العمل أن يكون الاسم الذى تعملُ فيه نكرةً بقول: «عَمَل إِنّ اجعَلْ للا في نكره». فاشترط أن يكون المعمول نكرة، ولم يقيده بكونه اسما أو خبرا. فيحمل على إطلاقه فيهما، فتقول: لا رجل في الدار، أى: مستقر في الدار، وَلَا كَرِيمَ مِنَ الوِلْدَانِ مَصْبُوحُ ولا يقال: لا رجلَ زيدٌ، ولا كريم أخوه، ولا ما أشبه ذلك. كما لا يقال: لا زَيْدَ في الدار ولا عَمْروَ. وما جاء مما ظاهره ذلك فمؤول أو نادِرٌ لا يُعِتَدُّ به، فيقال في مثل: لا إِله إِلّا الله، ولا عالِمَ إلّا زيدٌ: إن الخبر (مُقَدّر)، والمعنى: لا إله في الوجود إلا الله، ولا عالم في الدنيا إلا زيدٌ. ولا يقالُ: إِنّ هذا التقدير يؤول إلى نفي الإلهيّة عن غير الله بقيدٍ، لأنا نقول: القيدُ هنا غير قادح، لأنه إذا لم يكن غير الله في الوجود لم يكن بإطلاق، وههنا بحثٌ في الخبر آخر. وأيضًا فقولهم: «قضيةٌ ولا أبا حسن لها»، وفي الحديث: «إذا هلك كسرى فلا

كسرى بعده. وإذا هلك قيصرُ فلا قيصَرَ بعد». وأنشد سيبويه: لا هَيْثَمَ الليلَةَ للَمِطىِّ وقال ابن الزبير الأسدىّ، أنشده سيبويه أيضا: أَرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيبٍ ... نَكِدْنَ، ولا أُميّةَ بالبلاد / وقالوا: لا بَصْرَةَ لكم. وقال آخر: إِنّ لنا عُزّى وَلَا عُزّى لَكُمْ كلّ هذا نادر لا يُقيّد به، مع أنه مؤوّلٌ إمّا بتقدير تنكير هذه المعارفِ، فتدخلُ تحت قوله: «في نَكِرَه». لكن يبقى أن يقال: هل يجوزُ مثلُ هذا عنده أم لا. فالظاهر أنه لم يتعرّض لهذه المسألة، وقد أجاز ذلك في «التسهيل» على قِلّةِ إذا كانت المعرفةُ يَصِحُّ تنكيرُها كالأعلام لا كالمضمراتِ وأسماءِ الإشارة، خلافًا للفرّاءِ.

وقوله: «مُفْرَدة جَاءَتك أو مُكَرَّرَه» حالٌ من لا، والعامل في الحال/ جاءتك، يعنى أنك تُعمِلُ لا في النكرة على أىّ حالةٍ كانت، فسواءٌ أكانت مكررة نحو: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، أو غير مكررة نحو: لا رَجُلَ في الدار. والإفرادُ هنا في مقابلة التكرار، دلّ على ذلك ذكره القسيم بقوله: «أو مكرّرَه». والإفرادُ في هذا الباب يطلقُ بإطلاقين؛ أحدهما: هذا الذى ذكر أنّه مرادُه هنا. والثاني: الإفرادُ الذى في مقابلة الإضافة والشّبِيه بها، وهو المراد في قوله: «وَرَكَبِ المُفْرَدَ فاتحًا»، وقوله: «ومُفْردًا نعتًا لِمَبْنىِّ يَلِى»، وليس بمراده هنا. فعلى هذا يدخل له تحت لفظ المفرد المثنى والمجموع نحو: لا رجلين في الدار، ولا قائِمينِ عِنْدَك، ولا رجالَ في البيت. ويدخل له تحته أيضًا المضافُ والشبيه به، نحو: لا غلامَ أحد عندك، ولا خيرًا من زيدٍ في الدار. وما أشبه ذلك؛ لأن جميع ذلك ليس بمكرّرٍ. وهذا العمل الذى ذكره الناظم لم يقيّده بوجوبٍ ولا جوازٍ، بل أطلق القول فيه وأجمله بحيث لا يقتضى جوازًا ولا وجوبًا، لأنه أدخَلَ في حكم الإعمال ما يكون العمل فيه واجبًا، وذلك النكرة المفردةُ غير المكرّرة نحو: {ولو تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} و {قَالُوا: لا ضَيْرَ}؛ فإنّ هذا لا يجوزُ فيه الإلغاءُ البتّة، فلا تقول: لا غلامٌ فيها، حتى تكرر فتقول: ولا جاريةٌ. وأدخل فيه أيضًا ما يكونُ العملُ فيه جائزًا، وذلك النكرة المكررة نحو: {فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ} و {لا لَغْو فيها ولا تَأْثِيمٌ} و {لا بَيْعٌ فيه ولا خُلّةُ ولا شفاعَةٌ}،

فأعملها ابن كثير وأبو عَمْرو، وألغاها من عداهما من السبعةِ. فلما حصلَ في مقتضَى الإعمالِ القسمان معًا اللفظ فقال: «عَمَلَ إِنّ اجْعَلْ للَا في نَكِرة» ليشملهما بإطلاقه. و «عَمَلَ إِنّ»: مفعولُ «اجعَلْ» مقدٌ عليه. ثم إنّ هذا العمل الذى ذكر على وجهين: أحدهما: عملٌ يبقى على أصله ولا يحدث عليه طارئٌ يغيره عن حاله إلى حالةٍ أخر، وذلك العملُ في النكرة المضافة والّتى ضارعت المضافة. والثاني: عملٌ لا يَبْقى على حاله بل يتغيّر إلى حالة أخرى، وذلك العملُ في النكرة المفردة غير المضافة ولا الشبية بها، فإنها تتغير من حالة الإعراب إلى حالة البناء. فأخذ الناظم -رحمه الله- يذكر هذا الحكم ويفصّل ما أجمل فقال: «فانِصِبْ بِها مُضَافًا أو مُضَارِعَه». والضمير في «بها» يعود على لا، وفي «مُضَارعه» يعود على المضاف، والتقدير: فاِنصبْ بلا الاسم النكرة المضاف أو المضارع للمضاف. وهذا هو أحد القسمين، وهو الذى لا يتغيّر عن حاله؛ فقوله: «فانصب بها» يعنى نصبًا صحيحًا لا يتغَيّر عن حالته، فأما المضاف فنحو: لا غُلَام أحدٍ في الدار، وأما المضارع له فهو المشابهُ له، وهو العاملُ فيما بعده نحو: لا ضاربًا أحدًا في الدار، ولا خيرًا مِنْكَ عِنْدِى. والمضارَعَةُ للمضافِ هنا معَتَبرةٌ في صِحّة النصْبِ كاعتبارها في باب النداءِ، فيمتنعُ بناءُ المضارعِ للمضافِ هنا كما يمتنعُ هناك، كالمضاف حقيقةً نحو: يا ضاربا زيدًا، ويا طالعًا الجَبَلِ. فليس بين البابين في هذا خلاف وهذا مذهب البصريين. وذهب

البغداديُّونَ إلى أنّ العامل هنا يُبْنى ويصحُّ له العملُ مع البناءِ فيقولون: لا خير من زيد، ولا ضاربَ أحدًا في الدار، ونحو/ ذلك. وصحح الفارسىّ الأوّل بأن البناء مع لا يزيلُ شَبَه الفعل كما أنّ التصغير والوصف يزيلان شبهه عن اسم الفاعل والمصدر فلا يعملان. فإن قيل: إنّ هَلُمّ في لغة أهل الحجاز قد بُنِى الفِعلُ فيه مع حرفٍ قَبْلَه فلم يمنعُه ذلك العملَ، فكذلك اسم الفاعل والمصدر مع لا. قيل: ذلك نادرٌ. وأيضًا إنما عملُه في لُغَةِ أهل الحجاز عَمَل اسم الفعل لا عمل الفعل، بدليل أنهم جعلوه للواحد والاثنين والجمع على لفظ واحدٍ، وكذلك في المذكر والمؤنث، فهذا يدلّ على خروجه عن حدّ الفعل وعن عمله المعلوم لَمّا بنى مع الحرف، فكذلك ينبغى أن يكون الحكمُ في مسألتنا. هذا ردّ الفارسى من جهة القياس، وأما من جهة السماع فلا سماعَ، فسقط ما ذهبوا إليه، وثبت ما ارتضاه الناظم. والله أعلم. ثم قال: «وبعدَ ذَاك الخبرِ اذكرْ رافِعَهْ»، ذاك: إشارةٌ إلى ما تقدّم من نصب الاسم، يعنى أَنّك تأتى بعد ذلك بالخبر رافعًا له؛ إذ كانت «لا» إنّما عملُها كَعَملِ إِنّ حسبما نصّ عليه آنفًا. فإن قيل: هذان المزدوجان معترضان من وجهين: أحدهما: أنهما حشوٌ بغير مزيد على ما تقدّم؛ إذ قال: إن عَمَل لا كعَمَل إنّ، وذلك معنى كونها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهو معنى ما ذكر فيما يظهر لباديء

الرأي هنا. والثاني: على تسليم أن لذلك فائدة، فقوله: «وبَعْدَ ذَاكَ الخبر اذكُرْ» يقتضى بظاهره أن يكون الخبرُ مذكورًا ومنطوقًا به على الإطلاق. وهذا المقتضَى ليس بصحيح، بل إنما يكونُ الخبر مذكورًا إذا لم يدلّ عليه دليل، وأما إذا دلّ عليه دليل فلا يمتنع حذفه، بل حذفُه جائز وواجب؛ فيجوز عند أهل الحجاز، ويلزم عند بنى تميم. فالجوابُ عن ذلك أنْ يقالَ: أما قولُه «فانصِبْ بها مُضَافًا»، فالقصدَ به أَنّ عمل لا تارةٌ يكونُ باقيًا على أَصْلِه لا يعرضُ له البناء، وذلك المضافُ والمضارعٌ له، وتارةً يعرضُ له البناء -وقد تقدم هذا المعنّى- فنبّه فيه على أمرين؛ أحدهم: أنّ العَمَلَ نصبٌ صحيح، أى: لا تَبْنِ الاسم البتّةَ -والثاني: أن صاحب هذا النصبِ هو المضافُ والشبيه به، فلا يُبْنَيان كما يُبْنى المفردُ المنبّه عليه في قوله: «وَرَكِّب المفردَ فاتحًا» ووجهُ عدمِ البناء فيهما أَنّ المُضَافَ مع المضافِ إليه كشئٍ واحدٍ؛ إذ كان منزّلًا منه منزلة التنوين، فلو بُنِى مع لا لزم جعلُ ثلاثةِ أشياءَ شيئًا واحدًا، ولا نظير لذلك- وإذا كان كذلك فلا إشكال ولا تكرار. وأما قوله: «وبعد ذاكَ الخبرَ اذكرْ»، فالقصدُ به بيانُ رتبة الخبر من الاسم، وأنه لا يكونُ إلا بعده، فلا يجوزُ أن يتقدم، فإنه إنْ تقدّم الخبرُ بطل العملُ نحو: {لَا فِيهَا غولٌ}. ويلزمُ عند ذلك التكرارُ، لكنها معملةٌ فبطلَ أَنْ يتقدّمها الخبر. ووجهُ ذلك ظاهر؛ إذ لم يثبُت للا من التصرّفِ في المعمول ما ثبَتَ في إِنّ التى هى أصلٌ لها في العمل، ولم يثبت ذلك لإنّ لا إذا كان الخبرُ ظرفًا

أو مجرورًا، فلا تبلغُ لا أَنْ يتقدّم خبرها على اسمها وإن كان ظرفًا أو مجرورًا. فهذا قصدُ الناظم بهذا القيد، لا أنه يلزم ذكره؛ والدليل على أن قصده ما ذُكِرَ تقديمُه الظرفَ حين قال: «وبعدَ ذاكَ الخبرَ اذكُرْ»، إِشعارًا بالاعتناء بذكر التركيب، كأنه قال: إنما تأتى به بعد ذكر الاسم لا قبله، وأيضًا فإنه قد قَيّد هذا الإطلاق في آخر الباب فقال/: «وَشَاعَ في ذا البابِ إسقاطُ الخَبَرْ». وَإِذا ثبت هذا كلُّه لم يكن في كلامه حشوٌ، وسقط اعتراضٌ المعترضِ. والخبَر: مفعول اذكر. ورافعه: حال من فاعل اذكر؛ لأن إضافته غير محضة، أى: اذكره حال كونك رافعًا له. ثم أخذ في القسم الثاني من قسمي عمل لا، وهو الذى يتغيّر إلى حالة البناء فقال: وَرَكِّبِ المُفْرَدَ فَاتحًا كَلَا حَوْلَ ولا قُوّةَ، والثانِى اجْعَلَا مَرْفُوعًا أو مَنْصُوبًا أو مُرَكّبَا وَإِنْ رَفَعْتَ أَوّلًا لَاتضِبَا أشعر بقوله: «وركّب المفرَدَ فاتحًا» أن الاسم مبنىٌّ، وأن سبب البناءِ التركيبُ، فقوله: «فاتحا»، يدلّ على أنّ الحركة بنائيّة، لأنها لو كانت عنده إعرابيّة لقال: ناصبًا، كما قال في القسم الأول: «فانصِبْ بها مضافًا»، وكما قالَ على أثر هذا: مرفوعا أو». وهذا هو الاصطلاح الجاري على لسانه ولسان غيره، ولذلك قال سيبويه في إعراب بنائها:

«وهي تَجْرِي عَلَى ثَمَانِيةِ مَجارٍ». وقوله: «وركِّب المفردَ» يشعر أن هذا البناءَ سببُه التركيبُ -يعنى مع لا- وأنّ؛ من أسباب البناء. وهذا الكلام يتعلّق به أربع مسائل: إحداها: أنه قد قدّم الناظمُ أنّ البناء إنما يكون لشبه الحرف على وجهٍ من الأجه الأربعة المذكورة، ولم يُذْكر فيها التركيب مع الحرف، فلقائل أَن يقولَ: إلى أىِّ جهة ينتسب البناءُ منه؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن الناظم إنما تكلّم في سبب البناء الذى هو بحقّ الأصل، كالشّبه الوضعى وهو الوضعُ على حرف واحدٍ أو حرفين ثانيهما حرف لين، والشبه المعنوى الذى في اسماء الشرط استفهام، والنيابة عن الفعل من غير تأثر الذى في أسماء الفعل، والاقتصار الذى بأصل الوضع لعارض الذى قد يكون وقد لا يكون. فأنت إذا حقّقت تلك الأوجُهَ لم تجد واحدًا في الاسم المركب مع لا؛ إذ البناءُ فيه طارئ غير أصيلٍ، يزول بزوال موجبه، فيرجع الاسم إلى الأصل من الإعراب. ولقد اعتُرِضَ على الفارسيّ في اقتصاره من أسباب البناء على شيئين، وهما شبهُ الحرفِ، وتضمّن معناه، بأنّ ثم أوجهًا أُخَر موُجِبةٌ للبناء منها: التركيب مع الحرف كمسألتنا، والتركيب مع الصوت نحو: سيبويه، والإضافة إلى الحرف نحو: {مِثْلَ ما أنكم تنطقُونَ}، وشِبْهُ ما أشبه

الحرفَ كَبَدادِ. فَأُجِيب بأنّ علىّ إنما يعنى ما كان مبنيًا بأصل الوضع، لا ما كان سببًا طارئًا. وقد قيل إنه ركب معها لتضمنه معنى الحرف، إذ الأصلُ: لا من رجل، لأنه [جواب قولك]: هل من رجل. وقد نطق بالأصل في قول الشاعر: فقامَ يَذُودُ الناسَ عَنّا بِسَيْفِهِ ... وقالَ: أَلَا لا من سَبيلٍ إلى هِنْدِ فحذفوا [من]، وضمنوا الاسم مناها حين ركبوه معها، أشار إلى هذا ابن الأنبارى. والأ [ول أظهر]. والوجه الثني من الجواب أن يقال: إن هذا وإن كان غير داخلٍ بحقّ الأصل فيما نصّ عليه الناظم/، يدخل له فيها بالشبه، وذلك أنّ التركيب هو ضمّ شئ إلى شئٍ آخر، وجعله معه كالجزء منه، وإذا كان كذلك فالذى يكون كالجزء من الشى مفتقر إلى ذلك الشئ الذي جُعِل جزءًا له، إذ لو لم يكن مفتقرًا إليه لكان مستقلًا بنفسه غير مركّب معه، لكنه موضوعٌ الآن على أنه غير مستقلّ، فلا بدّ أن يكون مفتقرًا، فإذًا قصدُ التركيب يجعله مفتقرًا إلى ذلك الذى ركّب معه، فدخل بحكم الشبه في حكم الافتقار الأصيل، لأن القصد إلى جعله مفتقرًا كأنه وَضْعٌ على

الافتقار مستأنف. وهذا وجه صناعى حسن، وقد تقدّم التنبيه على أصله في باب «المعرف والمبنى»، والله المستعان. والثانية: أنّ قوله: «وركِّب المفردّ»، إنما يريد بالمفرد هنا ما هو في مقابلة المضاف والشبيه به، لأنه لما قال أوّلًا: «عَمَلَ إِنّ اجعَلْ للا في نكرة» جعل المنصوب بها قسمين هو منصوب أو مضارعٌ له، وقسمًا ليس كذلك، فهو المفرد عنده هنا. لكن يقال: هل يدخُلُ المثنّى والمجموع على حدّه أم لا؟ ظاهر عبارته يقضى بعدم دخولهما لقوله: «فاتحًا»؛ إذ لا يكون في المثنى والمجموع على حدّه، وإنما يُبنَيان على ما كانا يُنصبان به، كما يُبْنَيان في على ما كانا يرفعان به، إلا [أنّ] إن حملناه هذا المحمل، و [أَنّه] إنما أراد المفرد للمثنى والمجموع، والمقابل للمضافِ والشبيه به، خرج له الجمع المكسّر عن حكم البناء، والاتفاقُ أنه لا فرقَ بينه وبين المفردِ في البناءِ عند القائِل به، أو في الإعراب كذلك فلا بدّ أن يقال: إنه أراد بالمفردِ ما قابل المضاف والشبيه به خاصّةً، فيدخل له جمع التكسير بلا بدٍّ يقول: لا رجالَ في الدار، ولا غلمانَ في السوق، كما تقول: لا رجلَ ولا غلامَ، لأنه بقوله: «فاتحًا» دخل له؛ هو مما يفتح؛ لأن إعرابه وبناءه بالحركات. ويبقى والمجموع على حدّه مسكوتًا عنه، فيحتمل أن يكون رأيُه فيه رأىَ الجمهور في أنه مبنى على ما ينصبُ لما كان في باب النداء مبنيًا على ما كان يرفَعُ به. وخالف المبرّد في جعله المثنى على حدّه في هذا الباب معربًا بإطلاق، وكذلك الزجاج أيضا. والأولى مذهب الجمهور، بما اتّفقا مع سائر البصريين عليه من البناء في قولهم: يا قائمان، ويا قائمون، ؛ إِذْ ما في أحدهما

يلزم في الآخر، فإن أجاز أن يقال في: لا رجلين، إنه معرب، فَلْيقلْ يا رجلان، ذلك بعينه. ويحتمل أن يكون رأيه رأى الزجاج والمبرّد، ويكون: «فاتحا» قيدًا يخرج به المثنى والمجموعُ على حدّه، ويبقى جمعُ التكسير مسكوتًا يدخل في حكم البناءِ، قياسًا على المفرد؛ إذ لا فرق بينهما، بخلاف المثنى وجمع السلامة فإن فيهما مع البناءَ، وهو أالأسماء المثناةَ والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع [ما] قبلها اسمًا واحدًا، لم ذلك، كما لم يُوجَدَ المضاف ولا الموصول مع ما قبله بمنزلة اسم واحدٍ. وبهذا احتج المبرّد في «المقتضب» ودليلٌ قوىّ، ويعضّده ما جاء من إعراف/ اثنين في قولهم: اثنى عشر، ولم يركبوه مع عشر، كما ركّبُوا عَشَر وأربعة عشر، وسائر الباب. وقد احتج الزجاج لما قال بأنّ التثنية وجمع السلامة يخرج بهما الاسم عن شبه الحرف. فَرُدّ عليه بقولهم: يا زيدان، ويا قائمون، في النداء؛ إذ هو مبنىّ بلا بدٍّ على ما يرفع به مع وجود المانع عنده. وقد احتُجّ للمبرد أيضًا بأشياءَ ليس فيها مَقْنَعٌ، فلذلك تركتُها، مع أن لا ينبي عليه حكمٌ سوى النظر الصناعىّ. والثالثة: أن كلامه ظاهر في موافقة جماهير البصريين، في أنّ المفرد مبنيٌ مع لا، وأنه الحركة بناءٍ لا حركة إعراب، خلافًا للكوفيين، والزجاج من البصريين، وتبعه السيرافىّ وتأوّلَ عليه سيبويه، حيث قال:

«فتنصبُه بغير تنوين، ونصبُها لما بعدها كنصب إِنّ لما بعدها، وإنّما في التنوين عندهما لأنهما لما ضمّ أحدهما إلى الآخر وجعلا كالشئِ الواحد، حذف التنوين علامة ذلك. وقيل: حذف للتخفيف، وللشبه بالمركب حقيقةً، وهو مذهب مرجوعٌ من أوجه: منها: أن ذلك مخالف للنظائر؛ فإن الاستقراء قد قرّر أنّ حذف التنوين من أسماء المتمكنة لا يكون إلا لمانع صَرْفٍ، أو للإضافة، أو لام التعريف، أو كونه في موصوف بابن مضافًا إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو للوقف -الاسم المذكور ليس واحدٌ من هذه الأمور بموجود فيه، فتعيّن أنه مبنىّ، وأنّ ذلك هو السبب في حذف تنوينه. ومنها: أنه قد رُوِى عن العرب: جئت بلا شئَ، بالفتح وسقوط التنوين، والجارَ لا يُلْغِىَ ولا يُعلّق. وتأويلُ كلام سيبويه قريبٌ. فإن قيل: فهل رأيت شيئًا عمل في شئ ثم صار معه كالشئِ الواحد؟ قيل: نعم، الكاف عاملة في ذا من قولك: كذا، وقد جعلت معها كالشئ الواحد، وكذلك الكاف من كأيّنِ، عاملة في أىّ، وهى معها كالشئ الواحد، وكذلك حبّذَا في قول النحويين حيث كانت حَبّ عاملةً في ذا، ثم صيّرت معها كالكلمة الواحدة، وكذلك كأنّ وبها شبّه الأخفش حبذا. ومثلُه إذا تُتُبِّع موجودٌ، فلا بُعْدَ في المسألة.

فإن قيل: تركيبُ العامل مع المعمول مناقضٌ لعمله فيه؛ إذ قد تقرّر في الأصول أنّ من شرط عمل العامل أن لا يكونَ مع معموله كالشئ الواحد؛ ولذلك لم تعمل عندهم الألف واللام. فالجواب: أنّ ما اشترطوه صحيح، والتركيب مع العمل صحيح أيضًا، ووجه الجمع بينهما غير محتاج إليه هنا. ومن بحثَ عنه وجده. والله أعلم. والرابعة: أنّه نبّه على أنّ بناء الاسم مع (لا) على الفتح ليس على الضمّ ولا الكسر. وأيضًا لما كان منصوبًا ووجهه التشبيه بخمسة عشر؛ فإن البناء للتركيب مقتضٍ للفتحة؛ لخفّتها دون الضمّة والكسرة. في الأصل أرادوا أنْ لا يذهبَ أثرهُ جُملةً، فأبقوه في البناء على مثل حاله في الإعراب؛ لئلا تختلف حاله في حالةٍ عارضة، ولئلّا يزولَ الدليلُ على النصب [في الأصل]. وقول الناظم (كلا حول ولا قُوّة) مثالان لبناء المفرد على الفتح. وكان يكفيه أن يأتي بمثالٍ واحد، ولكنه أتى بالمثالين ليبين بهما أحكامًا، ويفرّع على اجتماعهما/ مسائل؛ فإنه إذا ضمّ الأول إلى الثاني تصوّر فيهما اثنتي عشرة مسألة، يمتنع منها وجهان، وتصحّ العشرة، وكلّ ذلك قد جمعه الناظم في كلامه حسبما يتبيّن بحول الله، وذلك أنّ (لا حولَ) يُتصوّر فيه البناء على الفتح، والرفع لأجل التكرار، والرفع على إعمالها عمل ليس، فهذه ثلاثة أوجه. و (لا قوة) يتصوّر فيه تلك الأوجه الثلاثة، ويزيد وجهًا رابعًا، وهو النصب عطفًا على موضع اسم (لا) باعتبار عملها.

فهذه أربعة وجه، فإذا ضربتها في الثلاثة التى في «لا حول» كان الجميع اثنى عشر وجهًا، باثنتى عشرة مسألة: الأولى: لا حولَ ولا قوةَ، بالفتحِ فيهما وَجَعْلِ الكلام جملتين. والثانية: لا حولَ ولا قوةٌ، بالفتح في الأول، والرفع في الثانى عطفا على موضع لا مع اسمها، لأنها في تقديم اسم مبتدأ، ولذلك يعطف عليه رفعًا، وُجْرَى عليه النعت رفعًا. ويقيّد هنا زيادة لا توكيدًا. والثالثة: المسألة بعينها، لكن يكون رفع الثاني على تقدير إعمال لا عمل ليس، والكلام في تقدير جملتين. والربعة: لا حولَ ولا قُوّةً، بالفتح في الأول والنصب في الثاني، عطفًا على موضع اسم لا باعتبار عملها عملها، وتقدر زيادة لا توكيدا. وهذه المسائل الأربع داخلة تحت قوله: «وركّب المفرد فاتحًا». ثم قال: «والثاني اجعلا .. مرفوعًا أو منصوبًا أو مركّبا». فالرفع في الثاني على وجهين، والنصب وجهٌ واحدٌ، والتركيب وجه واحد، وكلها مع تركيب الأول. والخامسة: لا حولٌ ولا قُوّةٌ، بالرفع فيهما، على تقدير الإلغاء فيهما وزيادة لا الثانية. والسادسة: المسألة بعينها، لكن على تقدير إعمالها معًا عمل ليس، والكلام في تقدير جملتين أو على زيادة الثانية. والسابعة: المسألة على حالها، لكن على تقدير إِلغاء الأولى وإعمال الثانية عمل ليس، والكلام في تقدير جملتين.

والثامنة: المسألة على حالها إلا أنها بعكس ما قبلها، على تقدير إعمال الأولى عمل ليس وإلغاء الثانية. والتاسعة: لا حَوْلٌ ولا قوةَ، برفع الأولى وفتح الثانية، على تقدير إلغاءِ الأولى، وإعمال الثانية عمل إنّ، والكلام في تقدير جملتين. والعاشرة: المسألة كما هى، لكن على تقدير إِعمال الأولى عمل ليس. وهذه المسائل الستّ مفهوم جوازُها من قوله: «وَإِنْ رَفَعْتَ أوّلًا لاتَنْصِبا»، فذلك يُعْطِى أنّ ما عدا النصب في الثانى جائز مع رفع الأول، على الإِعمال والإِلغاءِ، فيبقى في الثاني الرفعُ على الإعمال، والرفع على الإلغاء، والنصب، فاثنان يضربان في ثلاثةٍ بستّةٍ. والحاديةَ عشرَة: لا حول ولا قُوّةٌ، برفع الأول ونصب الثاني، على إعمال الأول عمل ليس. والثانية عشرة: المسألة بعينها، لكن على تقدير إلغاء الأولى. وهاتان المسألتان ممنوعتان بنصّ الناظم في قوله: «وإن رفعت أولًا لاتنصبا»؛ لأن النصب هنا لا وجه له؛ إذ لا يمكن العطفُ على موضع الأولى، ولا على موضع اسمها، ولا على لفظه؛ إذ ليس ثَمّ ما يقتضى نصبا دون بناءٍ، وأيضًا ليس للا أن يبقى معها الاسمُ غير مبنىٍّ؛ لأنّ شرط التركيب موجود، فظهر وجهُ المنع في المسألتين.

فتحصّلَ من كلامه جوازُ عشر مسائلَ مأخوذةٍ من هذا الباب، ومن باب لا/ وما، ومَنُوطَةٍ بتفسير لم يتعرّض إليه؛ إذ لم يبيّن وجه الرفع في هذه المسائل المتصوّرة في كلامه غير مفسّرة وجدتها ست مسائل، خمسة جائزة، وهى: لا حولَ ولا قوة، ولا حولَ ولا قوةً، ولا حولَ ولا قوةٌ، ولا حولٌ ولا قوةَ، ولا حولٌ ولا قُوّةٌ. وواحدة ممتنعة وهى: لا حولٌ ولا قوّةً. وإن نظرت إلى ما يتصوّرُ في لا -على الجملة- غير منوطةٍ بكلام الناظم، كثرت المسائل الجائزة، وقد رفعها شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار -رحمةُ اللهِ عليه- إلى مائة وإحدى وثلاثين مسألةً، سمعناها كلّها منه، وهى في شرحه للجمل، فليطالعها من تَشَوَّف إليها. فإن قيل: إن الناظم هنا فَرَّع على إعمال لا وإلغائها في هذه المسائل، ولم يبيّن شرط الإلغاء وهو التكرار، إذ لا يجوزُ الإلغاء فيها بدون التكرار، فلا تقول: لا رجلٌ في الدار -وهى ملغاة- وتسكت حتى تقول: ولا امرأة. ولا يقال: لعلّه ارتضى مذهب المبرّد في عدم اشتراط التكرار، لأنه قد نَصّ في «التسهيل» على مخالفته، فقال: «إذا انفصل مصحوب لا، أو كان معرفة، بطل العملُ بإجماع، ويلزم حينئذ التكرار في غير ضرورةٍ، خلافًا للمبرّد وابن كيسان». فالجواب من وجهين: أحدهما: أن نقول: إنما نصّ الناظم هنا على أحكامِ إعمالها عمل

إنّ، ولم يتعرّض لإلغائها، ولا لما يتعلّق بالإلغاء من الأحكامِ، وغايته أَن نَصَّ في هذه المسألة التى تكررت فيها لا أن يَجُوزَ الرفع ولم يتعيّن هل يكون بلا أو بالابتداء. وإنما تكرّرُ على تقدير كون الرفع بالابتداء، فلا يلزم على هذا أن يذكر شرط حكم لم يتعرّض لتعيينه. والثاني: على تسليم أنه تعرّض لحكم الإلغاء فَيُعتَذَرُ عنه بأمرين: أحدهما: أن يقال: لعله ارتكب هنا مذهب أبي العباس وابن كيسان، وارتضى هنا ما لم يرتضيه في التسهيل. وقد يكون للعالم نظران في مسألةٍ في زمانين، فيظهر له في وقت بطلان ما ارتضاه وصححه في وقتٍ آخر، وتصحيح ما أبطله. وقد تقدّم لهذا نظير في الباب قبل في قوله في اللام والفارقة: «وَرُبَّما استُغْنِى عنها إِنْ بدَا». إلى آخره، فهذا ممكن، فيرتضى غير مذهب سيبويه والجماعة، ويحتج لذلك بأمرين: السماع والقياس، أما السماع فقد قالوا: لا نَوْلُك أَن تفعلَ. وأنشد سيبويهَ: بكَتْ جَزعًا واسترجَعَتْ ثم آذنَتْ ركابِئُها أَنّ لا إِلينا رجوعُها وأنشد ابنُ خروفٍ (للحطيئةَ):

سُئِلْتَ فلم تَبخَلْ ولم تُعْطِ طائلًا فسيّانَ لا ذمٌّ عليك ولا حَمْدُ وأنتَ امرؤ لا للجودٌ منك سجيّةٌ فتعطى، وقد يُعِدِى على النائل الوُجدُ وأنشد سيبويه لرجل من بني سلولَ: وأنتَ امرؤٌ مَنّا خُلِقْتَ لغيرنا حياتُك لا نفعٌ وموتُكَ فاجِعُ وأنشد المؤلف: إنى تركتُكَ لاذا عُشْرةٍ تَربًا فاستَغْفِفَنْ واكْفِ مَنْ وَافَاك ذا أَملِ فإذا كان عدمُ التكرار قد عملها ودخولها على النكرة، وفي عدم عملها ودخولها/ على المعرفة والنكرة بحسب ما وقعت جوابًا له، فإن قدّرت دخولها على شئ عمل بعضه في بعض، من المبتدأ والخبر، لم يخل إما أن يتكرّر المسئول عنه أم لا، فإن تكرّر لزم في جوابه التكرار، فتقول: لا زيدٌ في الدار ولا عَمْرو، جوابًا لمن قال: أزيد في الدار أم عمرو؟ ولا رجل في الدار ولا امرأةٌ، في جواب من قال: أرجلٌ في الدار أم امرأةٌ؟ ولا يجوز ههنا الاقتصار في الجواب على أحدهما لئلّا يتوهم أنّ الآخر ليس بمنفي، ولا أيضًا يجوز أن تقصد هنا القصد فتذكر أحدهما

منفيا وتريد أن غير المذكور في الدار؛ إذ ليس بمطابق للسؤال، ويتوهّم السائل أنك أردت نفي الآخر فحذفته استغناءً. فإذا لم يمكن الاقتصار على أحدهما لزم ذكرهم نفيهما معًا، إلا أن تستغنى بلا فذلك أمرٌ آخُر. ولا يلزم هنا فيما بعد لا التنكير لأنه بحسب السؤال، وإك لم يتكرر المسئول عنه لزم أن يتكرر في الجواب، فتقول: لا رجل في الدار، مرفوعًا أو منصوبًا مَبْنيًا، جوابا لمن قال: هل رجل في الدار؟ كما جاز حلة التكرار أن تأتى بما بعد لا مرفوعًا أو منصوبًا، إذ أجازوا في نحو: أرجلٌ عندى أم امرأة؟ : لا رجلَ عندى ولا امرأة -بالبناء فيهما- ولا رجلٌ عندى ولا امرأة- بالإعراب رفقًا فيهما، أو بالبناء في أحدهما والإعراب في الآخر. فإذا جاز ذلك مع التكرار جاز مع الإفراد، لكن بشرطه وهو تنكير الاسم، فإن كان معرفة فليس إلا الرفع مع التكرار ودونه. ولا يقال إن السؤال بغير تكرار، إنما يجاب بنعم أو بلا، فإذا قال: هل أحد في الدار؟ قلت: نعم، أو لا، وليس من شأن جوابه التعيين؛ إذ لا فائدة فيه، بخلاف التكرار. لأنا نقول: هذا الذى قلتم هو الأكثر، والآخر ليس بممتنع بدليل ما تقدّم من السماع. وأيضًا فالتطوّعُ بما لا يلزم جائز، فَيُذكرُ له المسئولُ عنه منفيًا وإن تقدّم ذكره في السؤال، كما يجوز ذلك إذا قيل: أعندى رجل؟ فتقول: نعم، عندى رجل. أو تقول: نعم، عندى زيد، فتغْنِيه عن السؤال بمن هو؟ وكما تقول: لا، ما عندى رجل. وما أشبه ذلك. ولا يبعد في كلام العرب أن تأتى بالكلام مؤكّدا أو مكرّرًا، من غير سب ظاهر يقتضيه. وقد عقد ابن جني في هذا المعنى فصلًا في الخصائص، بوّب عليه بالتطوع بما لا يلزَم هو مما يَشُدُّ هذا الاحتجاجَ؛

فإذا كان كذلك لم يبعدُ مذهبُ المبرّد كُلّ البعد. والأمر الثاني: نقول: قد يؤخذ له اشتراط التكرار من إشارة كلامه، وذلك أنه أطلق القول في إعمالها بقوله: «مفردةً جاءَتْك أو مكّرره»، ثم بعد ذلك لم يذكر فيها الإلغاء إلا مع التكرار حين قال: «والثاني اجعلا» كذا وكذا، ثم قال: «وإن رفعت أولًا لا تنصبا»، أى: لا تنصب الثاني. فهو إنما تكلم على جواز الإلغاء في مسألة التكرار، ولو كان الإلغاء عنده جائزًا بإطلاقٍ لم يحتج إلى فرضه مع التكرار؛ فقد يفهم له هذا الشرط من وضعه مثال التكرار. وقوله: «اجعلا» و «لا تنصبا» الألف فيهما بدلٌ من نون التوكيد الخفيفة، أبدلت للوقف عليها، لأنها كتنوينِ المنصوب تُرَدّ اُلفًا. ونظيره قول الأعشى: / وَلَا تَعْبُدِ الأوثانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا * * * * وَمُفْردًا نَعْتًا لِمَبْنِىٍّ يَلِى فَافْتَحْ، أَو انْصِبَنْ، أو ارْفَع، تَعْدِلِ وَغَيَر مَا يَلِى، وَغَيرَ المُفْرَدِ لَا تَبْنِ وَانْصِبَنْ، أوِ الرّفْعِ اقْصِدِ تكلم في هذين المزدَوَجَينِ على حكم النعتِ من التوابع، وإنما تعرض

في هذا الباب من التوابع الخمسة اثنين، وهما النعتُ وعطفُ النسق بالحرفَ، وترك ما عداهما. والمتبوع في هذا الباب على قسمين: أحدهما: أن يكون معربًا نحو: لا غُلَام رجلٍ عندك. والثاني: أن يكون مركبا مع لا مبنيا نحو: لا أَحدَ فيها. والذى تعرّض للنصّ عليه نعت المبنى، لقوله: «ومفردًا نعتًا لمبنىٍّ»، فقيد النعت بكونه جاريًا على المبنى، وسكت عما إذا كان نعتًا لمعربٍ؛ إذ لم يشر إليه حسبما يتقرّرُ، لا بمنطوق ولا بمفهوم ولما كانت عادته في غير هذا الموضع أنه إنما يأتى في غير باب التابع لما لا يطّرد في باب التوابع، ويترك ما عداه لبابه محالًا عليه بالقصد المفهوم، أشعر ذلك بأن نعت المعرب مخالف لنعت المبنىّ ها هنا، وأن الحكم فيه هو الحكم المقرّر في باب النعت من كونه يُتْبَع على اللفظ كسائر المعرباتِ، لا على الموضع. فيظهر من هذا المنزع أن المعرب عنده في باب لا كالمعرب في غيره، فتقول: لا غلام رجل عاقلًا عندى، بنصب عاقل لا غير، كما تقول: ما رأيت غلامَ رجلٍ عاقلًا. ولا تتعدّى النصب واقتضى هذا منع قولك: لا غلامَ رجل عاقلٌ عندي، بالرفع -وهذا عند النحويين غير صحيح- وقد ذهب إليه ابنُ عصفور في تقاييده، فزعم أنّ نعت المنصوب لا يكون إلا نصبا، فلا يجوز فيه الحملُ على الموضع. ومذهبُ سيبويه والمحققين كالسيرافي وابن حروف والشلوبين وتلامذته: ابن أبي الربيع، وأبن الضائع، وسواهما خلا ابن عصفور -جوازُ الرفعِ حملًا على الموضع. فالوجهان سائغان عندهم وعند غيرهم، لأن المنصوب بلا عندهم كالمجرور بمن في قولك: هل من رجلٍ؟ له لفظٌ

وموضع، فيجوز الحمل على لفظه وعلى موضعه ونقل سيبويه عن الخليل أنه مثلُ قولَه: فلسنا بالجبالِ ولا الحَدِيدا وحكى عن العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. قال: «وتقول: لا مثله رجلٌ، إذا حملته على الموضع، كما قال بعض العرب: لا حولَ ولا قوّةٌ إلّا بالله». فأجرى في الباب حكم المعرب والمثنى في الحمل على اللفظ وعلى الموضع مجرىً واحدًا؛ قال ابن الضائع: وإنما غلط ابن عصفور في باب النداء لما كان منصور النداءِ لا يجوز فيه إلّا الحملُ على اللفظ، وفي مبنيّه يجوز الوجهان، ظنّ أنّ حكم التابع في لا كذلك. ثم فرّق بينهما بأن المنصوب في باب النداء لا موضع له زصلًا، والمنصوب هنا أصلُه الابتداءُ ويجوز النطق به. قال: وهذا هو الفرق بينه وبين إنّ فلذلك لم يجز نعت اسم إنّ على الموضع، وأيضا فإن لا جوابُ: هل من رجل، وهو في موضع رفع، ويجوز فيه الحمل على اللفظ، والحملُ على الموضع، فكذلك جوابه. وقد جرى في التسهيلَ/ على طريق الجملعة، ووجّه في شرحه الرفعَ في النعتِ مع نصب المنعوب على خلاف إنّ، بأنّ إنّ شبيهةٌ بالأَفعال الناسخة للابتداء في الاختصاص بالمبتدأ أو الخبر، وفي

كون ما دخلت عليه مفيدًا بدون دخولها، ولقوّتها؛ لا يبطل عملها بالفصل نحو: إنّ فيها زيدا، بخلاف لا فإنها ضعيف العملِ لكونها فَرْعٍ فَرْعٍ، ولعروض اختصاصها بالمبتدأ والخبر، وكون ما تدخل عليه لا يفيد بدون دخولها غالبًا، نحو: لا رَجُل في الدار، فلو قلت: رجلٌ في الدار، لم يفد، فلوقف الإفادة على دخولها صارت مع ما دخلت عليه كاسمٍ مبتدأ، فجاز لذلك أن يُعتبر عملُ الابتداء بعد دخولها في الصفة وغيرها. قال: «وشُبِّه اعتبار الابتداء في ذلك باعتباره في نحو: هل من رجل كريمٌ في الدار». ثم نقل عن ابن بَرْهانٍ نحوًا مما تقدّم عن ابن عصفور، وردّه، وهو بالردّ حقيق، ويد الله مع الجماعة. وأيضا السماعُ يقضى بجواز الرّفع كما حكاه سيبويه. فإن كان الناظم سكت عن نعت المعرب هنا لهذا القصد فمذهبه مردودٌ، وفي محاسنه غير معدود. وتنزيل لفظه على هذا القصد أَنّ قوله: «نعتا» مفعول يا فتح، وهو على حدّ قولهم: زيدًا فاضرِبْ، على معنى: أما زيدًا فاضرب. وقوله: «لمبنى» في موضع لنعت، و «يلى»: صفة ثانية لنعت. و «مفردًا» حال من نعت. وكان الأصلُ في «مفردًا» أَنْ يجرى على «نعتا» صفةً له، لكن لما تقدّم نصب على الحال، لتعذِّر جريانه صفة. ويحتمل أن يكون «مفردا» هو مفعول أفتح، ونعتا: بدلٌ منه، أو عطف بيان. والتقديرُ على الأوّلِ: افتح نعتا كائنًا لاسم مبني واليًا له، حالةَ كون ذلك النعت مفردًا. وعلى الثاني: افتح اسمًا مفردًا نعتًا لمبنى واليًا له.

والمفردُ هنا في مقابلة المضاف وما أشبه. وقد يمكنُ حملُ كلامه على موافقة الجماعة بأن يكون قوله: «مبنى» ليس بمتعلّق بمحذوفٍ جارٍ صفةً على «نعت» فمن هذا التقدير فُهِمَتِ المخالفة، بل يكون قوله «لمبنى» معمولًا لقوله «يلى»، وأصله: يلى مبنيًا، لكن لما تقدّم عليه تعدّى إليه باللام، نحو قول الله تعالى: {إِنْ كُنْتُم للرؤيا تَعبُرونَ}. فتحرز به من غير المفرد، وغير الوالى، والوالى غير المبنى، فإنها لا تجوزُ فيها تلك الأوجهُ كلُّها -وقد قال على أَثَرِ هذا: «وغير ما يلى وغير المفرد» .. إلى آخره، فبيّن أن الوجهين في ذلك سائغان الرفع والنصب، كما يجئُ، ومن جملةَ ما يدخلُ فيه أن يلى النعتُ غير المفرد، فحصل أن نحو: لا غلام رجلٍ عاقلٌ في الدار، جائز عند الناظم. وهو رأىُ الجماعة، ورأيه في غير هذا النظم، فَهُو الذى ينبغي أن يحملَ كلامُه عيه؛ إذ لو حُمِل على الأوّل لاقتضى أنّ هذه الأوجه إنما تجوز إذا تَبِع مبنيا، فإذا تبع معربا فليس كذلك، فيرجع إلى أصل النعت إذ لم يدخل تحت قوله: «وغير ما يلى وغير المفرد»، بخلاف ما إذا جعلت/ «لمبنى» معمولَ «يلى»، فإنه يدخل تحت قوله «وغير ما يلى»، كأنه قال: وغير الوالى مبنيا وغير المفرد يجوز فيه الوجهان، وغير الوالى يشمل الوالى غير مبنى، والذى لم يل المبنى، بل فصِل بينهما. وهذا صحيح فلا يعدل عنه في تفسير كلامه. والله أعلم.

ولنرجع إلى تفصيل شرح كلامه: فاعلم أنه ذكر أنّ النعت إذا اجتمع فيه ثلاثة شروط جاز فيه مع المنعوت ثلاثة أوجه: الشرط الأولُ: أن يكون مفردًا، والمفرد هنا في مقابلة المضاف وما ضارعه، وهو المطوّلُ. والثاني: أن يكون واليًا المنعوتَ، لم يُفصل بينهما بفاصل. والثالث: أن يكون المنعوتُ مبنيًا لا معربًا. فإذا اجتمعت هذه الشروط المبنيّنة في قوله: «ومفردًا نعتا لمبنى يلى»، جاز فيه الأوجه التى ذكرها في قوله: «فافتح أو انصبّنْ أو ارفع تَعْدِلِ»؛ ومثال ما اجتمعت فيه الشروط قولك: لا رَجُلَ ظريف عندك. فظريف: قد اجتمع فيهِ أنه مفردٌ والٍ المنعوتٍ، ومنعوته مبنى. فالوجه الأوّلُ الفتح -يعنى به البناء مع المنعوت على الفتح، وسببُ بنائِه التركيبُ مَعَه كبناءِ خمسة عشر. ونحو: لا رجلَ ظريفَ، وسَخّل ذلك -وإن كانت ثلاثةُ أشياءَ لا تركّبُ ولا تُبْنَى- كونُ النعتِ والمنعوت كالشئ الواحد. وعلله السيرافي بأن الموضع موضعُ تغيير، فرذا كان قد بنى فيه الاسم مع حرف، فبناءُ اسم مع اسمٍ أولى؛ لأنّ ذلك أكثر كخمسة عشر، وبيتَ بيتَ ونحو ذلك. والأكثر في الكلام عدمُ البناء؛ قال سيبويه: «وإن شئت نَوّنت صفة المنفىّ. وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنوّنَ». وتقديمُ الناظم للفتح كأنه مشعر بتفضلِه له على غيره، فهو كالمناقض لكلام الإمام، والعذر أنه لم يحفل بهذا التفاوت اليسير، ولم يعتبر التقديم، ولكن لو قال: «فارفع أو انصبن أو افتح

تعدل» لكان أحسن. والوجه الثاني: النصبُ، حملًا على لفظ «لا رجلَ» وإن كان مبنيّا، لأنّ حركة البناء، هنا شبيه بحركة الإعراب، بل الإعراب زصلها. وقد قال جماعة ببقاء حكم الإعراب، وأنها ليست بحركة بناء، فسهل ذلك، وكما سَهُل في النداءِ وهو أبعد، فأجروا التابع فيه على اللفظ، فتقول: لا رجل ظريفًا عندك. ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه، أنشده سيبويه: أَلَا طِعَانَ ولا فُرْسانَ عاديةً إلا تَجُشُّؤُكم عند التَّنَانيِرِ بنصب عادية حملًا على لفظ فرسان. والوجه الثالث: الرفع، حملًا على موضع لا مع اسمها، لأنها في موضع اسم مرفوع بالابتداء، فتقول: لا رَجُلَ ظريفٌ عندك، كأنك قلت: رجل ظريفٌ فيها، إذا مثلت وإن كان لا يتكلم به، وكذلك مثله الخليلَ: وإن تخلف شرطٌ من هذه الشروطِ المتقدمة فلا سبيلَ إلى الفتح، وسقط وجه البناء جملة، وبذلك عَرّف في قوله: وَغْيَرِ ما يلى وَغْيَرِ المفردِ .. لا تَبْنِ» يعني أن النعت إِذا لم يل مبنيا، سواءٌ وَلِى معربًا ولا مبنيا، بل وُجِد بينهما فصلٌ/ فلا يجوز البناء. وكذلك إذا لم يكن مفردًا بل كان مضافًا

أو شبيهاً [بهَ] فلا سبيل إلى البناء فيبقي الوجهان الآخران وهما الرفعُ والنصب- جائزين، ونصّ على ذلك بقوله: «وانصبَنْ أو الرفع اقصِدِ». أما تخلّف الشرط الأول وهو الإفراد فمثاله: لا رجل صاحبُ دابّةٍ لك، فيجوز في «صاحب دابة» النصب والرفع، ولا يجوز البناء لأنه في المضاف غير ممكن، ولأنّه يُصَيّر أربعة أشياءَ كشئ واحدٍ، وذلك معدوم في كلام العرب. فإن قيل: فكذلك ثلاثة زشياء لا ينبغي أن تصير بالبناء كشئ واحدٍ، إذ لا نظير لذلك قيل: لولا الدليل لما قيل، وأيضًا فإنّ لا كالحرف الزائد، أو كالحرف الذى من نفس الكلمة، كما تقدّم، بخلاف مسألتنا فإن غايتها أن يكون ثلاثة زشياء كشئ واحدٍ، وذلك معدوم. وكذلك الشبيه بالمضاف إذا قلت: لا غلام خيرًا من زيد، و [لا غلامَ خيرٌ من زيدَ]، ولا يمكن فيه البناء من باب أولى. وعلى ما نصّ عليه من جواز الوجهين جمهورُ الناس. ووقع لابن عصفور في شرح «الجُمَل» أن النعت إذا كان مضافًا أو مُطَوّلًا، فلا يجوز فيه الحملُ على الموضعَ و [هوَ] الرفعُ، وإنما يكون منصوبا حملًا على اللفظ خاصة، قاسه على حكمه في باب النداءَ. قال ابن الضائع: وهذا غَلَط. وفرّق بينهما بأنه إِنما امتنع في النداء: يا زيدُ أخو عمرو، فيتبعه على اللفظ، لأنّ الأصل في نعت المبنىِّ الحمل على موضعه، فلما كانت حركة النداء تشبه حركة الإعراب، وكان

«يا» عاملةٌ الرفع فيه، أجازوا الحمل على اللفظ في الاسم الذى لو ولى «يا» لارتفع ذلك الرفع، وهو المفردُ غيرُ المضافِ والمطوّل. على أن المطول في النداء قد يُحمَلُ على اللفظ في نحو: يا زيدٌ الضاربُ عمرًا. ثم إن الممتنع في النداء في المضافِ الحملُ على اللفظ، وعكس هو في باب لا فَمَنَع فيه الحملَ على الموضع، فلا بُدّ من الفَرْقِ على مذهبه في البابين، فالحمل على اللفظ في ما ولا على الموضع ليس من أجل البناء، بل لأنه قد حُكِمَ له بحكم الحرف الزائد الذى يغير اللفظ. وقد استدلّ سيبويهَ على أن لا وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ. قال ابن خروف: الحمل على الموضع في هذا الباب حَسَنٌ في المعرب والمبنى، لأن الموضع للابتداء، بدليل: لا مثله أحدٌ، وهو معرب. وقد نصّ الشّلوبين في «التوطئةَ» على حمل النعت المضاف والمطوّل على الموضع، قال ابن الضائع: وهو الذى يقتضيه كلام العرب والقياس. وما ذكر عن ابن عصفور هنا وفي المسألة الأولى في نعت المعرب وقع له في بعض تواليفه، والذى في المقرّب والهلاليةَ موافقة الجماعة، فالله أعلم بحقيقة ذلك النقل. وأما تخلف الشرط الثاني وهو الولاية للمنعوت، فمثاله: لا غلام فيها عاقلًا، ولا غلام فيها عاقلٌ. يجوز الوجهان كما قال، ولا يجوز البناء، فلا/

تقول: لا رَجُلَ فيها عاقِلَ؛ لما يلزم من جعل أربعة أشياء كشئٍ واحد. وإذا قلت: لا غلامَ عقلًا ظريفًا لك، فأنت في النعت الأول بالخيار في ثلاثة الأوجه، لعدم الفصل. وأما الثاني فلا سبيل لك إلى بنائه للفصل بينه وبين المنعوت. وكذلك إذا قلت: لا ماءَ ماءً باردًا؛ لا يجوز في باردٍ إلا الإعراب على الوجهينَ. وأما تخلف الشرط الثالث -وهو بناءُ المنعوت- فمثاله: لا غلامَ رجلٍ ظريفٌ، فالوجهان أيضًا جائزان، أما النصب فظاهر على اعتبار اللفظ، وأما الرفعُ فعلى اعتبار الموضع، لأن للا موضعا كما تقدّم ذكره. ولا يجوزُ هنا البناءُ في النعت، لأنه لم يل مبنيّا وإنما ولى مُعْربًا، فكان كما لو فُصِل. وهذا هو الصحيح من المذهبين كما مرّ. وقوله: «وغيرَ ما يلى وغيرَ المفردِ» منصوبان على المفعولية بلا تَبْنِ، أى: لا تَبْنِ غير النعت الوالى للمنعوت، ولا تبن غير المفرد. وقوله: وانصِبَنْ أو الرفع اقصِدِ» تخيير في الوجهين المذكورين، وهما الرفع والنصب، وكأنّ الحمل عنده على اللفظ أولى فلذلك قَدّمه. والله أعلم. وَالعَطْفُ إِنْ لَمْ تَتَكرّرْ «لا» احْكُمَا لَهُ بِمَا للنّعْتِ ذِىِ الفصْلِ انْتَمَى هذا بيان حكم العطف في هذا الباب، ويريدُ أن المعطوف على اسم لا يخلُو أَنْ تتكرَر معه لا أو لا تتكرَر، فإن لم تتكرّر معه لا فحكمه حكمُ النعت المفصول

بينه وبين المنعوت، وذلك قوله: إن لم تتكرر لا احكما له» بكذا، أى: احكم له بما انتمى للنعت ذى الفصل. يريد المفصول من منعوته. وانتمى، معناه: انتسب. وقد تقدم أن في النعت المفصول وجهين، وهما: النصب حملًا على اللفظ، والرفعُ حملًا على الموضع، فكذلك هنا. فالنصب نحو: لا رجلَ وامرأةٌ فيها، وأنشد سيبويه قول الشاعرَ: لَا أبَ وابنًا مثلَ مَرْوانَ وابنهِ إذا هُو بالمجدِ ارْتَدَى وتأَزّرَا والرفع نحو: لا رجلَ وامرأةٌ فيها. وهذا منه نَفْىٌ للوجه الثالث، وهو البناء، فلا يجوز البناء على الفتح لأجل الفاصل، وهو حرفُ العطف. وكأنه أشار بإحالته على النعت ذى الفصل أن عَلَة نفي البناء هو الفصل، وإذا كان كذلك فقد وجدت هنا فلا يصحّ البناء، لأنّ أربعة أشياءِ لا تركّب. وقد حكى الأخفش من كلامهم: لا رجلَ وامرأة، بإسقاط التنوين. وهو نادرٌ لا يعتدٌّ به. وقد تُؤُوِّل على أن يكون على حذف «لا» وهى مرادةٌ، كما حذفت في باب القسم وهى مرادة، كقوله تعالى: {قالُوا: تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يوسُفَ}. وقد نبه على ذلك في التسهيل في مسألة: لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله، فقال: «وَرُبَّما فُتِح مَنْويًا معه لَا»، يعني إذا أسقط لا الثانية. واعلم أن الناظم ذكر هذا القسم وحده وترك القسم الثاني الذي تتكرر

فيه لا، اعتمادًا على ذكره له فيما تقدّم، فلم يحتج إلى إعادته، إلا أنه لم يُبَيِّن وجه التكرار. ولها إن تكرّرت اعتباران: أحدهما: اعتبار التوكيد للأولى، فهذا حكم المعطوف، معه كما لو لم تذكر لا أصلًا، فيجوز الوجهان؛ قال سيبويه: «وتقول: لا رجل ولا امرأةً يا فتى، إذا كانت لا بمنزلتها في ليس، -يعني لا- حين قلت: ليس لك رجلٌ ولا امرأة». وأنشد على ذلك لأنس بن العباس، رجل من بني سُليمَ: لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلّةً اتّسَعَ الفتقُ على الراقِعِ وقال ذو الرمة في الرفعَ: بها العِينُ والارآمُ، لا عِدّ عندها ولا كَرَعٌ إِلا المغاراتُ والرّبْلُ أنشد سيبويه أيضا. وأنشد لرجل من مَذْحِجَ:

هذا لعمْركُمُ الصّغَارُ بعينهِ لا أمّ لى إِنْ كانَ ذَاكَ ولا أَبُ والثاني: اعتبارُ الاستئناف، وأن يكون ما بعدها جملةٌ مستأنَفَةٌ، فها هنا لا بدّ من البناء، إلا أن تُحمل على ليس. وقد مرّ تصويرُ المسائل. والضمير في قوله «لا»، عائد على المعطوف من قوله: «والعطفُ»، أو جَعْلُ العطف على حذف المضاف، كأنه قال: وذو العطف. واللام متعلقة باحكما، «للنعت» متلّق بانتمى، أى: واحم للمعطوف بالحكم الذى انتَسب للنعت وتقرّر له. وَأَعْطِ لَا مَعْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ ما تَسْتَحِقُّ دُونَ الأسْتِفْهَامِ يعنى أن همزة الاستفهام إذا دخلت على لا لم تغيّر لها حكمًا، بل يكونُ حالها معها كحالها لو لم يكن ثَمّ استفهامٌ، تقول: أَلا رَجُلَ فيها، كما تقول: لا رَجُلَ فيها، وألا غُلَامَ صالحٌ، كما تقولُ: لا غلام صالح؛ قال حسان رضي الله عنه: أَلَا طِعَانَ ولا فُرْسانَ عَادِيةٌ إلا تَجَشُّؤكُمْ عِنْدَ التّنَانِيرِ وقال آخر: ألا ارعواءَ لمن ولّتْ شبيبتُه وَآذَنَتٍ بِمَشِيبٍ بَعْدُه هَرَمُ

وكذلك الحكم في الإلغاء وغيره مما تقدّم، فمن قال: لا غلامَ ولا جاريةُ قال: ألا غلامَ ولا جاريةَ، ومن قال: لا رجلٌ ولا امرأةٌ فيها يقول: ألا رجلٌ ولا امرأةٌ، وعلى ذلك سائر المسائل المتقدّمة، إلا أنّ على الناظم -رحمه الله- دركًا في هذا الإطلاق؛ لأنّه يقتضى أنّ حكم (لا) مع الهمزة -في كلّ موضع، وعلى كلّ حال- حكمُها مع عدمها، وليس كذلك، فإنّ (ألا) إذا أريد بها معنى التمنِّي جاز فيها النصبُ والتركيب بشرطه، والحملُ على لفظها إذا أُتبعت، وأمّا الرّفعُ في اسمها أو في تابعه فلا يجوز. قال سيبويه: «ولا يكون الرفع في هذا الموضع». يعني إذا أريد بها التمنّي؛ لأنّه ليس بجواب لقولك: «إذا عندك أم ذا؟ وليس في هذا الموضع معنى (ليس)». يعني أنه لا يجوز الرفع بالابتداء؛ لأنّه يلزمها التكرار، وليس من شرط التمنّي التكرار، لا بمعنى (ليس)؛ لأنّ التمنّي منافٍ لليس. قال: «ومن قال: لا غلامَ أفضل منك لم يقل في: ألا غلام أفضل منك إلا بالنصب؛ لأنّه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنيًا -يعني عن الخبر كاستغناء/: اللهم غلامًا، ومعناه: اللهم هب لي غلامًا». فإذا كان الأمر على هذا فليس هذا الإطلاق بصحيح، وقد يجاب بأمرين: أحدهما: أن يقال: لعلّ الناظم ارتكب في هذا مذهب

المازني، فإن الرفع عنده جائز، قال المازنى: «الرفعُ عندى في التمنى جيد بالغ، أقول: ألا غُلامٌ ولا جاريةٌ، كما قلت في الخبر». وقال: أقول في الاستفهام كما أقول في الخبر سواء، أقول: ألا رجلٌ أفضلُ منكَ». قالوا: وشبّهَهُ بقولهم: رحمةُ الله عليه، وغفر الله له. لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الدعاء، فكذلك هذا. فإذا قلت: ألَا ماءَ باردٌ، فلفظه لفظ: لا ماءَ، وإن كان معناه التمنِّى. فقد يكونُ الناظم نحا نحو هذا المذهب، ولا يلزمه إاذ كان مذهبُه في غير هذا النظم مذهبَ سيبويه أَنْ يكون مذهبَه هنا؛ لأنه نصب نفسه في منصب الاجتهاد، والاجتهاد قد يتغيّر بحسب الأزمان، فيكون للمجتهد الواحد قولان وأكثر من ذلك [فيرىَ في وقت] ما لا يراه في غيره، وقد مضى من ذلك مواضع، وسيأتى منها أُخَر سَيُنَبَّه عليها، إن شاء الله. والثاني من الأمرين أن يقال: يحتمل أن يكون موافقًا للجماعة، وذلك أنّ لا إذا دخلت عليها الهمزةُ باقيةً على معناها من الاستفهام وإن صحبها مع ذلك معنى الإنكار والتقرير، فهذا الوجه لا فرق فيه بين دخولها على لا وعدم دخولها؛ فكلّ ما جاز في لا قبل دخولها جاء بعد دخولها، من غير فرقٍ. وهذا الوجهُ داخلٌ تحت قوله: «وأَعْطِ لا مع همزة استفهام .. إلى آخره، حيث جعلها للاستفهام. والوجه الثاني: أن يحدث في الهمزة مع لا معنى التمنى، فكأن معنى الاستفهام قد نُزِع منها، فليست داخلةً تحت كلامه؛ إذ ليست بهمزة استفهام حقيقيةً. وهاهنا وقع الخلاف، فهذا الوجهُ خارجٌ عن كلامه، وإذا لم يتناوله لم يصر بذلك مخالفًا للجمهور، بل هو موافقٌ لهم بإخراجه هذا النوع من تعميم

الحكم في المساواة. وغايةُ ما يبقى فيه أن يقال: فَلِمَ ترك حُكْمَ هذا النوعِ الئي خالف فيه المازني؟ فيجاب بأنّ هذا قريب، فلعلّه تركه اتكالًا على تفهيم المعلم وإرشاده. وجمعه بين «استفهام» في القافيتين ليس بإيطاءٍ عند جمهور أهل القافية، لتباينهما بالتعريف والتنكير، كقوله: يا رَبِّ، سَلِّم سَدْوَهُنّ الّلْيَلْه وَلَيلةً أُخْرَى وكلّ لَيْلْه وَشَاعَ فِى ذَا البابِ إِسْقَاطُ الخَبَرْ إِذَا المُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَرْ لما قدّم أول الباب قوله: «وبعدَ ذاكَ الخَبَر اذكُرْ رافِعَهْ»، فنصّ على ذكره نصّ مجملًا، أتى بهذا الكلام مفسّرًا لذلك الإجمال، ويعنى أن الخبر في هذا الباب، الذى هو باب لا العاملة عمل إنّ، قد شاع في الكلام إسقاطه وترك ذكره، وإنما يثبت قليلًا، أما بنو تميم فلا يذكرونه إذا/ عُرِف المعنى وعُلِم المحذوفُ. وبذلك قيّد الناظم الحذف فقال: «إذا المراد مَعُ سُقُوطه ظَهَرْ»، فلا يحذفُ الشىُ إِلا إذا عُلِم. وأما أهل الحجاز فيجوزُ عندهم الحذفُ والإثباتُ إذا عُلِم، والحذف عندهم أكثر، فمن الإثبات قول الله تعالى: {لا رَيْبَ فيه}، {لا تثريب عليكُمُ اليومَ}. وفي الشعر قولُ

حاتم، أنشده سيبويه: وَرَدّ جِازُهِمْ حَرْفًا مصرّمةً ... ولا كَرِيمَ مِنَ الوِلْدانِ مَصْبوحُ فمصبوحٌ خبرٌ لا صِفَةٌ؛ قال المؤلف لعدم الحاجة إلى مقدّر، وعلى هذا أتى به سيبويه، قال: «وتقول: لا أَحدَ أفضَلُ منك، إذا جعلته خبرًا، وكذلك: لا أَحَد خيرٌ منكَ». وأنشد البيت، ثم قال: «لما صار خبرًا جرى على الموضع، لأنه ليس بوصفٍ ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحد فيها إلا زيدٌ». وهذا بناءً على مذهبه في الخبر أنه ليس للا. ومن الحذف قوله تعالى: {لا ضَيْرَ}. {وَلَو تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ}. وفي الحديث: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ»، «لا عَدْوَى وَلا طِيَرةَ ولا هامَةَ ولا صَفَرَ». وهو كثيرٌ. ويثبت في بعض النسخ» «إِذِ المرادُ»، بإِذْ التى للمُضِىّ. ومرادُه: تعليل شياع إسقاط الخبر، ويثبتُ بإذا التى للاستقبال، وهو أيضًا ظاهرُ المعنى، حيث كان قيدًا في شياع حذف الخبر، فاقتضى أنه إذا لم يُعْلَم غيرُ جائزِ الحذفِ البتّةَ، وكذا قال في الشرح: إنّ حذفه على ثلاثة أقسام: جائز، وواجب، وممتنع. فلممتنعُ في موضعٍ لا دليل عليه، كقولك مبتدئًا من غير سؤالٍ: لا رَجُلَ.

والجائز والوجب في موضعٍ يكون عليه دليلَ؛ فهذا معنى كلامه هنا. وقال ابن خروف: لا يجوزُ إضمار الخبر إلّا إذا كان معلومًا. وكأن في هذا القيد تنكيتًا على من زعم أن حذف خَبَر لا يشترطُ فيه العلم. وهو ظاهر إطلاقَ سيبويه وغيره، حيث يذكرون جواز الحذف ولا يُقَيِّدون ذلك بالعلم به. وهو شرطٌ لا بدّ منه؛ إذ القاعدة أنّ ما لا يعلم لا يحذف، لأنه نقض للغرض؛ إذ موضوع الكلام لإفهام المخاطب لا للإلباس، والحذف لغير دليل إلباسٌ فلا يصحُّ ان يبني الكلام عليه. ولسيبويه ومن أطلق إطلاقه كالسيرافي أن يقول: لا يصحّ أن يحذف شئ بغير دليل، ولا يلزمُ أن يشترط العلم في حذف هذا الخبر لأنه في أصل وضعه معلوم؛ ألا ترى أنه إنما يقال: لا رجل، في جواب من قال: هل من رَجُلٍ في الدار؟ وكذلك سائر الباب؛ فإذا كانت لا مع ما دخلت عليه جوابًا أو كالجواب لزم من ذلك أن يكون الخبر معلومًا، ولزم أنه لا يقال: لا ررجلَ، ابتداءٌ من غير جوانب ولا تقديره، وأن العرب لا تقول مثل ذلك لعدم الفائدة، كما لا تقول: رجل قائم، لعدم الفائدة. ونظير هذا مما تَقَدّم للناظم حذفُ خبر المبتدأ بعد لولا، حيث ادعى في التسهيل أنه في الحذف على ثلاثة أقسام: جائز الحذف، وواجب، وممتنعه. ويقول مخالفه ليس كذلك، بل هو واجب الحذف، وعلى وجوب الحذف يتكلم به حسبما تقرّر هنالك. فإذا كان كذلك لم يلزم خطأ من أطلق القول في الحذف هنا. وقد يشير إلى هذا المأخذ/ قوله: «إِذِ المرادُ» على ثبوت إِذ التى للمضي، أي

: إن الحذف شاع لأجل ظهور المقصود بإطلاق، فيكون على هذا منبهّا على ما ذكر من التزام وضع «لا رجلَ» في الموضع الذى يعلم فيه الخبر، فإن كان أراد هذا فقد يُقال به، وأنه مقصود سيبويه من وتبعه. وإن أراد الأول فقد تقدّم وَجْهُه، لكن يَرِدُ عليه سؤالٌ، وهو أنّ العرب في حذف الخبر المعلوم على وجين، كما تقدم، منهم من يلتزم مطلقًا، وهو بنو تميم، ونقل المؤلف ذلك عن طيءَ، ومنهم من لا يلتزمه، وهم الحجازيون، هكذا نقل المؤلف. والذى ينتقل غيره عن بني تميم أنهم لا يظهرون خبرًا مرفوعًا، وإنما يظهرون المجرور والظرف، قاله ابن خروف. وهو ظاهر كلام سيبويه، وإذا كان كذلك فليس الحذفُ هوَ الشائع بإطلاق كما ظهر من هذا النظم، فإنه يعطى أن جميع العرب هذا شأنهم، وذلك غير صحيح، بل فيه تفصيل كما ذكر، فكان من حقّه أن يُبَيِّن ذلك، وقد بيّنه في في التسهيل فقال: «وإذا علم جازَ حذفُه عند الحجازيين، ولم يُلْفظ به عند التميميّنَ». ويجاب عنه أن الحاص من كلامه في القياس هو مقتضى كلام العرب، لأنه إذا كان بنو تميم لا يلفظون به بإطلاق، والحجازيون لا يلفظون به جوازًا، حصل من ذلك -إِنْ قصد كلم العربَ- أن إسقاط الخبر هو الكثير الشائع، فلا يضر تعيين اللُّغَاتِ إذا كان المحصولُ ما قال.

ظن وأخواتها

ظَنَّ وَأَخَوَاتُهَا هذا هو النوعُ السادس من أنواع النواسخ، وهو باب ظن وما لحق به، وهو باب الأفعال التى تتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهى على قسمين: أحدهما: ظن وأخواتها، وتسمّى أفعال القلوب، لاختصاصها بالقلوب لأنها إما للظن وإما للعلم، وكلاهما مختصّ بالقلب. والثاني: صَيّر وأخواتها، وتسمّى أفعال التحويل، لأنها كلّها راجعةٌ إلى معنى التحويل من شئٍ إلى شئٍ. وكلاهما قد ذكره الناظم، وابتدأ بذكر عملهما، ثم بتعدادهما فقال: انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ جُزْأَىِ ابْتَدا أَعْنِى: رَأَى خَالَ عَلِمْتُ وَجَدا ظَنّ، حَسِبْتُ، وَزَعَمْتُ مَعَ عَدْ حَجَا، دَرَى، وَجَعَل الّذْكَاعْتَقَدْ وَهَبْ، تَعَلّمْ، وَالّذىَ كَصَيّرا أَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًأ وَخَبَرا فِعْلُ القلب مرادهُ به الجنس، ولم يُرِدْ فعلًا واحدًا. وجزءا الابتداء: هما الجزآن المنسوبان إلى الابتداء، وذلك المبتدا والخبر. ويعنى أن أفعال القلب تَنْصِبُ بها المبتدأ والخبر معًا، يريدُ أن هذا شأنُها، فلا يقتصر معها في النصب أحد الجزأين دون الآخر، كما كان ذلك فيما تقدّم من النواسخ.

ولما كان كلامه مطلقًا في نصب الخبر، سواء أكان معرفةً أم نكرة، وكان من مذهبه في الحال أنها/ لا تكون إلا نكرة، دَلّ ذلك من كلامه على أن نصبه على غير جهة الحال، وهو مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى أن نصبها للخبر إنّما هو نصب على الحال .. وَردّ بأنّ هذا المنصوب الثاني يقعُ معرفةً مضمرًا نحو: ظننتُكَه، وظننتُكَ إِيّاه. وبالألف واللام نحو: ظننتكَ القائمَ، ومضافًا إضافةً محضةٌ مَعْرِفَةٌ، نحو: ظننتُه أخاك، وعلمتُه غلامَك. وعلى غير ذلك، والحال لا يكون ذلك فيها. فإن قيل: المعرفة إذا وقعت هنا قائمةٌ مقام النكرة، كما قامت مقامها في نحو: طلبتُهَ جَهْدَك وطاقتك، ورجع عَوْدَه على بدئه، وأرسلها العِرَاك. وما أشبه ذلك من المعارف الواقعة حالًا باتفاق، لوقوعها موقع النكرات، فكذلك يقال هنا. فالجواب: أن هذه ألفاظُ قليلة غير قياسية، فلا يُبْنى عليها حُكْمٌ، بخلاف وقوع المعرفة مع ظننتُ فإنه كثير جدًا، فَتَبايُنُهما في الكثرة والقَلّة دليلٌ على تبايُنِهما في الحُكْمِ. وأيضًا فجهدك وطاقتك وما كان من بابهما مصادر واقعةٌ موقع أفعالها، وأفعالها هى الواقعة موقع الحال، والمصدر يقع موقع فعله معرفة ونكرةً، بخلاف غيره. هذا عُذْرُ ابن الانبارى، وفيه بحث؛ قال الفارسي في التذكرة حين ذكر هذا المذهب عن الفرّاء: (ويقول الفراء): إن الظنّ وبابه أصلُه، قال: فكان على هذا من أولى

الناس بأن يقول: إن المفعول الثاني ليس بحال، لأَنّ الحكاية حكمها أنّ تكون من الجمل والكلام التام. يريد: والحال إنما تأتى بعد تمام الكلام، فيلزمه بدعوى الحال في المفعول الثاني هنا أن يكون الظّنُّ واقعًا في أصله على المفرد لا على الحكاية. وهذا تناقض ظاهر. فالصحيح على هذا ما ذهب إليه الناظم والبصريون. ثم أخذ يعدّد هذه الأفعال التى عبّر عنها بفعل القلب فقال: «أَعْنِى: رَأَى، خالَ، علِمْتُ، وَجَدا» إلى قوله: «وَهَبْ، تعَلّمْ»؛ يريد بقوله «أعنى: رَأَى .. » تفسير فعل القلب، كأنه قال: أعنى بفعل القلب رأى وخال، وعلمت، ووجد». وحَذَف حروف العطف على عادته في ذلك. وجملةُ الأفعال التى أَتَى بها ثلاثة عَشَر فعلًا: أحدها: رأَيتُ، وهى تكون تارةٌ بمعنى الظن. وقد جَمع الأمرين قولُه تعالى: {إِنّهُم يَرَوْنَهُ بعيدًا. وَنَراهُ قَرِيبا}، أى: يَظنّونه بعيدًا ونعلَمُه نحنُ قريبا. والثاني: خِلْتُ، وغالبُ أمرها أن تكون بمعنى الظن، ومنه قولهم في المثل: من يَسْمَعْ يَخَلْ. وأنشد في شرح التسهيل: إِخالُكَ إن لم تَفْضُضِ الطّرْفَ ذَا هَوَى يَسُومُكَ ما لا تستطيعُ من الوَجْدِ والثالث: عَلِمتُ، وهى بمعنى اليقين ليس غيرُ، وذلك فيها مشهور، نحو:

علمتُ زيدًا أخاك. والرابعُ: وجدتُ، وهى بمعنى اليقين كعلمت، ومنه قول الله سبحانه وتعالى: {تَجِدُوهُ عند اللهِ هُوَ خيرًا وأعظمَ أجرًا}. والخامس: ظننتُ، وهى تكونُ تارةً/ على ظاهر الأمر فيها والأشهر، وهو أصلها، نحو: ظننت زيدًا أخاك، ومنه قول الله تعالى: {وأنّهم ظَنُّوا كما ظننتُم أَنْ لن يبعثَ اللهُ أَحَدا} وتكون تارةً لليقين، نحو قوله: {الذينَ يظنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقوا رَبِّهم}، {وَظَنّوا أن لا مَلْجَأ مِنَ اللهِ إِلّا إِلَيْهِ}. والسادس: حَسِبتُ، وبابُها أن تكون بمعنى ظننت، نحو قوله تعالى: {وتحسبُهم أيقاظًا وهم رقُودٌ}. وقد قيل: إنها تأتى بمعنى علمت كقول الشاعر، أنشده القالى: حَسِبتُ التُّقَى والجُودَ خَيْرَ تجارَةٍ رباحًا، إِذا ما المرءُ أصْبَحَ ثَاقِلا والسابع: زعمتُ، وهى بمعنى الاعتقاد، صحيحًا كان أو فاسدًا، إلا أنها من المتّهم محمولةٌ على الكذب، ومنه قولُ اللهِ: {زَعَم الّذِينَ كَفَرُوا

أن لن يُبْعَثُوا}. وأنشد سيبويه لأبي ذُؤَيب: فإن تَزْعُمينى كنت أَجْهَلُ فِيكمُ فَإِنّى شَرَيتُ الحِلْم بَعْدكِ بِالْجَهْلِ وأنشد أيضًا للجعدىّ: عَدَدْتَ قُشَيرًا إِذْ عَدَدْتَ فلم أُسَأْ بِذَاكَ، وَكم أَزْعُمْكَ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلَا والثامنُ: عَدَدْتُ، وهى بمعنى الظنّ، نحو قول الشاعر -أنشده الجمهور- وهو جرير: تَعُدُّونَ عَقْر النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكم بَنِى ضَوْطَرى لولا الكَحِىّ المعَنّعا والتاسع: حَجَوتُ، وهى بمعنى ظننتُ وقدّرتُ؛ قال الجوهرى: «وحجا الرجلُ القومَ كذا وكذا، أى: حَزَاهُم وظَنّهم كذلك». ومنه ما أنشده في الشرح: قَدْ كُنْتُ أَحْجُو أَبَا عَمْرو أَخَا ثِقَةٍ حَتَى أَلَمّتْ بِنَا دِومًا مُلِمّاتِ

والعاشر: دَرَيتُ، وهى بمعنى عَلِمتُ، نحو قولك: دَرَيتُ زيدًا ذا فَصْلٍ. ومنه ما أنشده في الشرح: دُرِيتَ الوفىّ العهدِ يا عَمْرو فاغتبط فإنّ اغتباطًا بالوفاء حميدُ والحادى عشر: جَعَلْتُ الاعتقاديّةُ، وهى التى نبّه عليها بقوله: «وجَعَل الذْ كاعْتَقَدْ» تحرّزًا من الذى للصيرورة، وسينَبِّه عليها وعلى غيرها. ومن ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الملائكَةِ الذينَ هُمْ عِبَادُ الرّحْمَنِ إِنَاثًا}. وأتى الناظمُ بلفظِ الّذى محذوفة الياء مسكنة الذّالِ، وهى لغة حكاها المؤلّف، وأنشد عليها: كالّذْ تَزَبّى زُبْيَةً فَاصْطِيدَا والثاني عشرَ: هَبْ، وهى غير متصرّفة، بل إنما تستعمل على صيغة الأَمْرِ، نحو: هَبْنِى قائما، ومعناها معنى الظن والحسبان. وكذلك تقول: هَبْكَ فعلتَ، بمعنى: ظُنّنِى، وظُنّكَ. وأنشد ابن خروف:

هَبِيني يا مُعَذّبَتِي أَسَأْتُ والثالث عشر: تعَلّم، ومعناها معنى اعلم، ولا تسعمل إلا هكذا على صيغة الأمر، فهى من الأفعال غير المتصرفة كَهَبْ المذكورة آنفا. وسيأتى تنبيهُ الناظم عليها، قال عمرو بن معد يكرب: تَعَلّم أَنّ خير الناسُ طرّا قَتيلٌ بين أحجار الكُلَابِ هذا تمام الأفعال التى ذكر، وظهر منه أن لا زائد عليها؛ إذ لم يَقُلْ: مثل كذا أو ككذا، أو يذكرها ثم يقول آخرًا: وما كان نحوها. وهذ الظاهر منازَعٌ فيه؛ إذ قد ذكر هو وغيره ما هو أكثر/ من هذا، فممّا ذكر في التسهيل: ألفى، بمعنى وجد، وأنشد عليه قول الشاعر: قد جَرّبوه فألفَوْه المغيث إذا ما الرّوْعُ عَمّ فَلَا يُلْوَى عَلَى أحَدِ ومن ذلك: سمع المعلقة بَعْينٍ، نحوُ قولِكَ: سمعتُ زيدًا يقول كذا، إلا أنّ ثانى مفعوليهما لا يكون إلا فعلًا، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}؛ فإن لم تتعلّق بعين اقتُصِر بها على مفعولٍ واحدٍ فلم تطلبْ غيره، كقوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُم لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}. ومما ذكر غَيرُه: عَرَفَ، تكون بمعنى علم، فتقول: عرفت زيدًا أخاك، كما

تقول: علمتُ زيدًا أخاكَ. وكذلك: أبصر: أبصرتُ زيدًا قائمًا. وصادف، نحو: صادفت زيدًا قائمًا. وغادر نحو: غادرتُه سائرًا. وأصاب، نحو: أَصَبْتُه قاعدًا. وضَرَب مع المثل، نحو: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عبدًا مَمْلوكًا}. ومن ذلك أعلم وأرى، وأخواتها إذا بُنِيت للمفعول، فإنها تجرى مجرى هذه الأفعال؛ قال السيرافي: كانت متعدّية إلى ثلاثة، أُقِيم واحد منها مقام الفاعِلِ وبقي الآخران كمفعولَيِ الظن في جميع أحكامهما. وكذلك معناها يعودُ إلى معنى ما تقدّم، فَأُعِلمْتُ وأُرِيتُ يعودُ معناهما إلى عَلِمتُ ورَأَيت، ومعنى البوافي إلى معنى هذين الفعلين. فهذه خمسة عشر فعلًا من هذا الباب لم يذكرها، فكان ينبغي له أن يذكرها، أو يُفْسِحَ لها في عبارته مجالًا حتّى تدخل، ولا يأتى بعبارة تَمْنَع أن يدخل فيها مثل هذا. والجواب: أنه لم يثبت عنده منها إلا ما ذكر، وإن عدّها بعضُهم إلى نحوٍ من ثلاثين فعلًا؛ قال ابن خروف: زاد بعضهم فيها على ثلاثين، وأكثرها سقِيم. ووجّه ما أشار إليه من سقمها أن المفعول الثاني فيها لا يتعيّن كونُه مفعولا صحيحا، بل هو أظهرُ في الحال للزوم مجيئه نكرةً، وإنما يثبت كونُه مفعولًا إذا كثر مجيئُه معرفةً؛ إذ الحال لا تكون معرفةً إلّا ندورًا مُؤَولًا، فسمع المعلّقةُ بَعينٍ، وعَرَف، وما ذُكِرَ معهما لم يأت لهما المفعول الثانى معرفة، فلم يثبت كونه مفعولًا. وكذلك ألفَى، لم يكثر عنده ذلك كثرته في وَجَد مرادفتها. وليس كلُّ فعلٍ كانَ فِعْلَ قَلْبٍ يتعدّى إلى مفعولين؛ ألا ترى إلى نحو: تحقّق وتبيّن وفهم، وما أشبه ذلك، كيف لم يتعدّ إلى اثنين. وكذلك عرف وغيره

مما ذُكِر. وعلى هذا المعنى نبّه بقوله: «انصِبِ بِفِعْل القَلْبِ جُزْءَى ابتدا»، ثم قال: أعنى كذا وكذا. فلم يطلق القوْلَ في جميع أفعال القلوب بل قيدها بما عَدّد. وأما الأفعال المبنية للمفعول المتعدّية إلى ثلاثة فلم يذكرها لعدم اطِّراد هذا الباب فيها؛ لأن مذهبه جوازُ إقامةِ المفعول الثاني ونصب الأول والثالث، إذا لم يقع لبسٌ، وغذا جاز عنده لم يكن أول المنصُوبين/ هو المبتدأ والثاني خبره بإطلاق، وإذا لم يكن كذلك لم يكن الفعلُ من النوسخ، فخرج عن هذا الباب جملة، وإنّما عدّ هذه الأفعال هنا مَنْ عَدّها بناءً على لزوم إقامة الأول، فيبقي الثاني والثالث منصوبين بالفعل، وهما في الاصل مبتدأٌ وخبرٌ، فجرى فيهما ما يجرى في هذا الباب من الأحكام. فنِعْم ما فعل الناظم في تَرْكِ ذكرها هنا حيث لم تلزم الباب ثم ذكر القسم الثاني من الأفعال المتعدية إلى مفعولين زصلهما المبتدأ والخبر، وهو القسم الذى بمعنى التحويل فقال: «والذى كصَيّرا .. أيضًا بها انصِبْ» .. إلى آخره. فقوله: «والذى كصيرا»، يريد به النوع من الأفعال الشبيه بصيّر في أداء معنى التحويل. والذى مبتدأ خبرُه انصب، وبها متعلّو به، والضمير عائد الذى باعتبار المعنى، فكأنه قال: والأفعال المؤدية معنى صيّر انصب بها المبتدأ والخبر أيضا، وتسمى أفعال الصيرورة. وجُمْلَتُها على ما ذكره في التسهيل ثمانيةٌ، ولم يذكرها هنا لاكتفائه بالإشارة إليها؛ إِذْ لا يتخلف له عمّا ذكر فِعلٌ منها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بخلاف أفعال القلوب، فلذلك نَصّ عليها هناك ولم يذكرها هنا.

أحدها: صَيّر الذى نبّه به الناظمُ على جملة النوع، نحو: صيّرتُ الفضة خَلْخَالًا فإن قلت: كيف دخل صيّر في أفعال هذا القسم، وهو إنما ذكره مُشَبِّها به، والمشبّه مباينٌ في الذاتِ للمشبّه به، فكأنه إنما أعطى الحكم للمشبّه خاصة، وبقي المشبّه به مسكوتًا عن دخوله؟ والجواب: أَنّ ما ذكرت هو حقيقة اللفظ، وأما معنى الكلام فصيّر فيه داخلةٌ. لأنّه إذا كان المشبّه داخلًا في الحكم لأجل الشبه فالمشبّه به أولى بذلك الحكم. وهذا ظاهر. والثاني: جَعَل، في نحو قولك: جعلت الفِضّة خَلْخالًا. وفي القرآن: {فَجَعَلْنَاه هَبَاءً مَنْثُورًا}، {فَجَعلناها حَصِيدًا}. والثالث: وَهَب، وهو غيرُ متصرِّفٍ، حكاه المؤلِّف عن الأزهرى، عن ابن الأعرابي في قولهم: وَهَبَنِى الله فداءك، أى: جعلني فداءك. إلا أن الظاهر أن الناظم لم يقصد ذكر هذا الفعل لوجهين: أحدهما: قِلَّتُه في السماع، وأنه إنما سمع في مثل، والأمثال يتكلّم بها على حالها ولا تُغَيّر، فوهب في المثل لا يُنْقَل عن محلّه، فصار موقُوفًا على السماع. والثاني: أنه لو قصد ذكره لنبّه على عدم تصرّفه، كما نبّه على ذلك في هَبْ وتَعَلَّمْ، فَأَن لم يَفْعَلْ ذلك دليلٌ على عدم القصد إليه، فلا ينبغي أن يعدّ هنا،

وإن كان ابن الناظم قد عدّه فيما أشار إليه أبوه. فإن قيل: فقد دخل [له] في قوله: «والذى كصيّرا»، فأتى بأداة العموم. قيل: لا، فإنه قد قال: «انصب بها»، يريد قياسًا، ولا ينصب بوهب قياسًا. فإن قيل: هو داخلٌ في عموم اللفظ وإن لم يقصده، فيعترض عليه. قيل: لا، لأن عدم تنبيهه عليه مع هَبْ وتعلّمْ دليل على أنه لم يرده، فعموم لفظه مخصوص بما دلّ عليه كلامه/. والرابع: رَدّ، في نحو: {لو يَرُدُّونكم مِنْ بَعْدِ إِيمانكم كُفّارًا}. والخامس: ترك، في قول الشاعر: وربّيتُه حتّى إذا ما تركتُهُ أَخا القوم، واستغنى عن المَسْحِ شاربُهْ والسادس: تَخِذَ واتّخَذَ، لغتان بمعنى واحدٍ، ومن ذلك قوله تعالى: {لا تَتّخِذُوا عَدُوّى وعَدُوّكم أولياء}. وقوله: {اتّخَذُوا أَيْمانَهُم جُنّةً} .. الآية.

والثامن: أكانَ المنقولة من كان بمعنى صار، ألحقها بعض النحويين، وسَلّم ذلك المؤلفُ قياسًا، وقال: «لم أعلم به مسموعًاط. فيكون نحو قولك: أكنتُ زيدًا عالما، أى: صيّرتُه عالمًا. وذكر غيره زائدًا على هذه الثمانية ضَرَب بمعنى صيّر، نحو: ضربت الفضة خَلْخَالًا. وهى كلُّها داخلةٌ تحت إشارة الناظم. فأفعال الصيرورة إن أثبتنا وَهَب تسعةٌ وإلا فثمانية. وقوله: «مبتدًأ»، أصله: مبتدًأ، بالهمز، لكنّه خَفّفه وأتى به على لغة من يقولُ في قرأتُ: قريتُ. ووقع في نسخ هذا الرجز: «والذى كصيّرا»؛ بلفظ الذى الواقعة على المذكر، ثم قال: «انصب بها» فأتى بضمير المؤنث، فكان الأولى أن يأتى بالتى عِوضِ الذى، ليكون المعنى: والأفعال التى كصيّر انصب بها كذا، فيتطابقُ اللفظان، أو يأتى بضمير المذكر على معنى: والفعل الذى كصيّر انصب به كذا، فيتطابقان أيضا. ووجه ما فعل أنه عزم أولًا أن يُصَدِّر قسمي الأفعال بلفظ الجنس فقال أولًا: «انصبْ بفعلِ القلبِ»، ولم يقل: بأفعال القلب. ثم قال: «والذى كصيّر»، أى: والجنس الثاني من الأفعال الذى هو شبيهٌ بصيّر، ثم لما كان جنسُ ما معناه معنى صيّر تحته أشخاصٌ متعدّدة، نبّه على ذلك بقول: «انصب بها»، أى بأشخاض ذلك الجنس، فكان الإتيان بضمير المؤنث الصالح للجماعة أولى. والله أعلم. (ثم قال الناظم):

وَخُصَّ بالتَّعْلِيقِ والإلغاءِ مَا مِنْ قَبْلِ هَبْ، والأَمْرَ هَبْ قَدْ ألْزِمَا كَذَا تَعَلَّمْ، وَلَغِيرِ الماضِ مِنْ سِوَاهُمَا اجْعَلْ كُلّ مَالُه زُكِنْ الإلغاء: عبارة عن ترك إعمال الفعلِ لغير مانعٍ. والتعليق: تركُ إعماله لمانع. وإن شئت قلت: الإلغاءُ عبارة عن إبطال العمل لفظا ومحلا، وأما التعليق فإبطال العمل لفظًا لا محلًا. وكلاهما له سببٌ سيذكره على أثر هذا، إنما قصده هنا بيان ما يدخله هذان الحكمان من هذه الأفعال -فيعنى أنّ الإلغاء والتعليق معًا جائزان وواقعان قياسًا على الجملة، لكن في الأفعال التى قبل هَبْ، فإنها المخصوصة بهما دون ما بقي، وهى أفعال القلوب كُلُّها ما عدا هَبْ وتعلّمْ، من أفعالِ القُلُوبِ. فيجوز لك أن تقول: زيدٌ -ظننتُ- قائمٌ، فتلغى ظننت ولا تعملها، وكذلك: زيدٌ قائم ظننتُ. وكذلك زيدٌ -علمتُ- منطلقٌ، وزيدٌ -رأيتُ قائم/، وكذلك سائرها. ولا يجوز ذلك في هب وتعلّمْ، فلا تقول: زيدٌ قائم هَبْ، ولا يجوزُ تقديم المعمولين، أو أحدهما -الذى هو الشرط في جواز الإلغاء- على واحدٍ من الفعلين. ولا يجوز أيضا الإلغاءُ في القسم الثانى من أفعالِ هذا الباب، وهى أفعالُ الصيرورة مطلقًا، فلا تقول: الفضةُ خلخالٌ صيرتُ، إذ لا موضع للإلغاء فيها؛ لأن مقصده أن تُذكر الجملة من المبتدأ والخبر، أو يبدأ بذكرها، ثم يريد أن يُبَيّن مرتبتُها في العلم أو الشك عنده، أو يبتدئ الجملة على العلم ثم يدركه الشك. وهذا ظاهر في أفعال القلوب. وأما في غيرها فلا معنى له. وأما التعليق فكذلك أيضًا مخصوصٌ بما قَبْلَ هَبْ، ولا يجوز في

هَبْ، ولا في تعلَّمْ؛ لأنّ التعليق نوع من التصرف، هما غير متصرفين في أنفسهما، وعلى ذلك وضعهما. وكذلك لا يجوز في أفعالِ الصيرورة؛ إِذ لا معنى له فيها، فالكلام مستقيم بخلاف أفعال الصيرورة فإنه لا معنى لها في ذلك؛ فلذلك قال الناظم: «وخُصّ بالتعليقِ والإلغاِ ما .. من قَبْلِ هَبْ». وقد مرّ تمثيل الإلغاء، وأما مثال التعليق فنحو: علمتُ لزيدٌ قائم، وظننتُ ما زيدٌ منطلق. ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ}. وما: منصوبة الموضع على المفعوليّة بخصّ، على أنّه فِعلُ أمر المخاطب. ويحتمل أن تكون مرفوعة الموضع به، وهى مفعولُ ما لم يُسمّ فاعله، على أنه فعل ماض مبني للمفعول. وقوله: «والأَمْرَ هَبْ قَدُ أُلْزِما»، يعنى: هَبْ قد مُنِع من التصرّف وألزِمَ صيغةَ الأمر، فلا يستعمل منه ماضٍ ولا مضارعٌ، فلا تقول: وهب زيدًا منطلقًا، ولا أهبُ زيدًا أخاك. وإنما يستعملُ في الأمر خاصة. والأمر مفعول ثانٍ لألزِمَ، على حذف المضاف، أى أُلزِمَ صيغةَ الأمرِ. وقوله: «كَذَا تَعَلّمْ»، يعنى أنه مثلُ هَبْ في عدمِ تصرّفه وإلزامهِ صيغة الأمر فلا يستعمل منه ماضٍ ولا مضارع. وهذا كلّه فيهما سَمَاعٌ، وإلا فالقياس قابلٌ لتلك التصرّفات، لكنه لا يعملُ هاهنا ذلك القياس للمعارض الأقوى، وهو أنا فهمنا من العرب اقتصارها فيهما على ما ذكر، وأنّها لم تَقْصِد فيهما إطلاق القياس. والعربُ قد تهمل بعض التصرفات على غير قصد، وهذا هو الذى يجرى فيه القياس، فيستعمل ما أهملت؛ إذ لم تتركه لأجل أن يتبع في تركه، وقد تهمل بعضها قصدًا إمّا للاستغناء بغيره، كما أهملت وَدَع استغناءً بترك،

وإما لغير ذلك من مقاصدها. فإن قيل: فكيف يُعرَف ذلك. قيل: يعرف من أوجه محلُّ ذكرها الأصولُ. ثم قال: «وَلغيرِ الماضِ من .. سِوَاهما» .. إلى آخره، يعنى أنّ حكم غير لماضى/ من هذه الأفعالِ كُلّها حكمُ الماضى السابق الذكر، ما عدا هَبْ وتعَلّم، فإنهما قد أُهْمِلَ فيهما غير صيغة الأَمرِ، وذلك أَنّه قدّم ذكر هذه الأفعالِ بلفظ الماضى فَنَبّه الآن على أن سواه وهو المضارعُ والأمر منها في الحكم مع الماضى على حدٍّ سواءٍ، فكلّ ما للماضى من أحكام هذا الباب مستقرٌّ لغيره. وإنما نبّه على هذا خوفًا من أن يتوهّمَ خلافُه، وأكّد التنبيه عليه ذكرُه هَبٍ وتعلّم، وأنهما مختصّان بالأَمْرِ، إذ لقائل أن يقول: وهل ما تقدّم من الأفعال الماضية مختصٌّ أيضًا بصيغة الماضى أم لا؟ فكان من التمام رفعُ هذا التوهّم. وتقدير الكلام: واجعَلْ لغير الماضى من سوى هَبْ وتعلّمْ ما زُكِنَ لذلك الماضى من الأحكام -وزُكِنَ- في كلامه -بمعنى: علم. ومنه -في قول الجمهور- قول قَعْنَب: زَكِنْتُ من أَمْرِهِمْ مِثْلَ الذى زَكِنُوا أى: علمت من أمرهم ما علموا من أمرى. وقوله: «من سواهما»، جاء على التصرّف في سوى، وهو قليل، بل من خصائص الشعر عند سيبويه. ولكن الناظم ارتضى فيها جواز

التصرّف قياسًا حسبما يأتى إن شاء الله، فعلى مذهبه استعملها متصرّفة. والله أعلم. ثم قال الناظم: وَجَوِّز الإِلْغَاءَ لَا فِى الابْتَدِا وَانْوِ ضَمِيرَ الشّأْنِ أَو لَامَ ابْتَدِا فى مُوِهمٍ إلغاءَ مَا تَقَدّمَا وَالْتَزِمِ التْعْلِيقَ قَبْلَ نَفَىِ مَا وَإنْ، وَلَا، لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ قَسَمْ كَذَا، وَالاِسْتِفْهَامُ ذَالَهُ الْخَتَمْ هنا تكلّم في موصع الإلغاء والتعليق، وفي حكمها من الجواز والوجوب عند وجوب شروطهما، وابتداء بالإلغاء فبيّن أنّ الإلغاءَ جائزٌ لا واجب بقوله: «وجوّز الإلغاءَ»، ولم يقل: والتُزِم الإلغاء كما قال: «والتُزِم التعليق». ثمّ نصّ على شرط ذلك فقال: «لا في الابتدا» يعنى أَنّ إلغاء الفعل -وهو أن لا يعمل في مفعوليه- يجوز بشرط الآخر، فيكون متوسطًا بينهما، فتقول: زيدٌ قائم علمت، وأبوك منطلقٌ ظننتُ. وتقول في التوسيط: زيدٌ -علمت- قائمٌ، وأبوك -ظننتُ- منطلقٌ. ومن ذلك قولُ اللعين يهجو العجاج، أنشده سيبويه: أَبِالاَراجيزِ يا ابن اللُّؤْمِ -تُوعِدُنى وفي الأراجيزِ -خِلْتُ- اللؤمُ والخورُ

ويجوز أن لا تلغى فتقول: زيدًا قائمًا ظننتُ، وزيدًا -ظننت- قائمًا. فأمّا أَنْ تقدّمَ الفعْلَ وتبتدئَ به فلا يجوزُ الإلغاءُ، وهو قوله: «لا في الابتدا». يريد كونَ الفعل مبتدًأ به قبل المفعولين معًا؛ وذلك أنّ الإلغاء والإعمال، كلّ واحدٍ منهما له مقصدٌ يوجبه غير مقصد الآخر، فمقصدُ الإلغاء أن تكون ذكرت الجملة على أن تطلق الإخبار بها إطلاقًا، ثم تستدرك ذكر الشكّ أو اليقين، وذلك يكون على وجهين: أحدهما: أن تبتدئ كلامك وليس في قلبك منه مخالجة شك، فإذا مضى كلامُك أو بعضه على اليقين، لحقك فيه الشك، كما تقول: / عبد الله أمير -وأنت لم تشاهده- فيجب أن تستظهر فتقول: بلغني، أى إن هذا فيما بلغنى. ولو قدّمت قولك: بلغني، لم يجز أن تقول: بلغني عبد الله أمير؛ لأن الجملة لا تكون فاعلة، ولكن تقول: بلغنى إمارته، أو بلغني أنه أمير. وكذلك قولهم: من يقول ذلك؟ تدرى؟ ولو قدّمت: تدى، لعمل في مَنْ، وصارت بمعنى الذى، فخرجت عن الاستفهام. والثاني: أن تبتدئْ كلامك وأنت شاكّ، لكنك أردت أن تطلقه إطلاقًا، كما يقول القائل: زيد أمير، وهو يريد: عندى، وفي ظنى. ثم أردت أن تستدرك خحقيقة الخبر عندك من شك أو ظن، فقلت: عبد الله قائم ظننت، أو عبد الله -ظننت- قائم. ، أما مقصد الإعمال فَأَن تبنى كلامك على الإخبار بما عندك في ذلك الخبر، من علم أو ظن. فالفعل بلا بدٍّ مبنى عليه الكلام، لكنك أَردْت تقديم المفعولين أو أحدهما للاعتناء بذكره، أو لغير ذلك، فلا بدّ هنا من الإعمال، إذ قصد الكلام مبنى على ذكر الفعل. وإذ ذاك يتبين وجه

القصدين مع تأخير الفعل أو توسيطه، ويتعيّن امتناعُ الإلغاء مع تقديمه، لأن الابتداء به مؤذِنٌ بالقصد إليه ابتداءٌ، فلا يصحّ إلغاؤه؛ لأَنّ الإلغاء مبني على عدم القصد ابتداءً، وهذا نقضُ الغرض. وقد ظهر بهذا وجه ما أجازه الناظم من الإلغاء مع تأخير الفعل أو توسيطه، وما مَنَع منه مع تقديمه. وهنا مسألة وهى النظر في تحقيق الابتداء الذى ذكره مضافًا إلى الفعل، هل المراد الابتداء به أول الكلام حتى لا يتقدّمه غيره، نحو: ظننت زيدًا قائما، أم أراد الابتداء به قبل المفعولين، وإن تقدّمه هو غيرُ ذلك من أداة نفي أو استفهام أو نحوهما؟ فأما إن أراد الأول فيقتضى أن ما كان نحو: متى تظن زيدًا منطلقا؟ وأن تظن زيدًا قائما؟ يجوز فيه الإلغاء، فتقول: متى تظنّ زيد قائم؟ وأين تظنّ زيد قائم؟ وهذا جائز على الجملة، نصّ عليه سيبويه وغيره، لكن على مقصد، وهو أن يكون الظرفُ المتقدّم متعلقًا بقائم، والسؤالُ إِنما وقع عن زمانه أو عن مكانه، فهاهنا أجازوا الوجهين، على حدّ ما لو تقدم أحد المفعولين. وإنما لم يحكم للفعل هنا بحكم الابتداء، لأن معمولَ المعمولِ الثاني قد تقدّم على الفعل، والقاعدة أن تقدم المعمول مُؤْذِنٌ بتقدم العامل، فكأنّ المعمولَ الثانى -وهو قائم- قد تقدّم على الفل، فجاز الإلغاء. فإن قصد أن الظرف متعلّق بَظنَ لم يَجُزْ الإِلغاء، لأن الفعل إذ ذاك في الابتداء، والفعل لا يُلغَى مبتدًأ، فيصحّ تنزيل كلام الناظم على مثل هذه المسألة، وأن الإلغاء جائز فيها على الجملة، إذ ليس الفعل مبتدًأ به.

فإن قلت: إنما يَصِحُّ جواز الإلغاءِ على فَرْضِ أن يتعلّق الظرفُ بقائمٍ لا بتظن، فإن الإلغاء مع تعلّقه بظَنّ غير جائز. فالجواب: أنّ صورة لامسألة/ قد جاز فيها الوجهان مع قطع النظر عن متعلّق الظرف، فلا يضرّ الإطلاقُ فيها، كما لك يضرّ إطلاقُه القول بجواز الوجهين مع تقدّم المفعولين أو أحدهما، وليس الإلغاء إلا على قصدٍ لا يصح معه الإعمال. فإن قلت: فكان من حَقّه أن يُبَيِّن ذلك. قيل: ليس هذا من صناعة النحو، وإنما يختصّ بالكلام في ذلك أهل علم المعاني. وينبني عليها أن الفعل إذا تقدمه أداةٌ من الأدوات النافية أو الاستفهامية، فيجوز الإلغاء أيضا، نحو: هل تَظُنّ زيدًا قائما، وما ظننتُ زيدًا قائمًا، فتقول: هل تظنّ زيدٌ قائمٌ، وما ظننتُ زيدٌ قائمٌ، لكن على اعتقادِ أَنّ الاستفهام والنفي راجعان إلى القيام لا إِلى الظن، كما مرّ في مسألة: متى تظن زيد قائم. وقد أجاز هذا بعض المتأخرين واحتجّ بعض المتأخرين واحتجّ له بقول كعب بن زهير: آرجو وآمل أن تأنُو مَؤَّدتها وما إخالُ لدينا منك تنويلُ

ومما يرجع إلى ذلك قولُ الآخر، أنشده النّحَوِيون واللُّغَوِيّون: وما أدرى وسوف إخال أدرى أقوم آل حصن أم نساءُ فألغى إخال حتى أدخلها على الفعل لما تقدمها أدارة لغيرها، فإذا يصدق على مثل هذا أن الفعل الملغى غير مبتدِأ به. هذا وإن كان ابنُ مالك لم يرتض هذا المذهب في الشرح، فلا يبعد أن يرتضيه في بعض أوقات النظر، كما تقدّم. وأما إن أراد بالابتداء بالفعلِ أن يكون قبل المفعولين معًا، فيقتضى أن نحو: هل تظن زيدًا منطلقا؟ ونحو: ما ظننتُ زيدًا منطلقًا، يمتنع فيه الإلغاء لوجود الفعل مقدّما على المفعولين معًا، لكن يردّ عليه اقتضاء كلامه لمنع: متى تظن زيدٌ منطلق؟ وأنّ الإلغاء فيه كالإلغاء في الابتداء لا يجوز البتّةَ. وذلك غير صحيح، بل هو جائز عند النحويين على تقدير تعلُّقِ الظرف بقائم. فإن أُجِيب بأنّ تقديم المعمول مُؤذِنٌ بتقدّم العامل، فكانّ قائمًا مقدّمٌ على الفعل. فيقال: فكذلك إذا قلت: ما ظننتُ زيدًا قائمًا؟ النفي فيه والاستفهام مُسَلّطا على المفعول الثاني في أحد التقديرين، فهما يطلبانه بالتقديم، فليكن في جواز الإلغاء مثل: متى ظننت زيد منطلق؟ وهو إيرادٌ يبعُدُ الجوابُ عنه بما يرتضى إلا أن يقال: إنّ الظرف معمولُ، وهل أو ما غير معمول، فهذا غير مُؤَثّر؛ إذ هما مستويان في الطلب المعنوىّ، أو يقال: هذا المحمل أولى لوجهين: أحدهما: أنّ الوجهَ الّذى لأجله امتنع الإلغاء مع التجريد عن أداة

استفهام أو غيره، موجود في تقدّم تلك الأداة، لأنك ابتدأت كلامك بالإخبار بالعلم أو الظن، وأما الأداة فداخلةٌ على الفعل، فهى له ومن حيّزه، فيبعد أن يُتْرَك هذا الظاهر ويُعْدَل عنه إلى جَعْلِ الأداة ليست بداخلةٍ على الفعل تقديرًا. هذا وجهُ القياسِ، ويظهرُ من سيبويه حين قال: «وتقول: أين تُرى عبدَ الله قائمًا؟ وهل تُرى ذاهبًا؟ لأنّ هل وأين كأنك لم تذكرهما؛ لأن ما بعدهما ابتداءٌ، كأنك قلت: أَتُرىَ زيدًا ذاهبا، وأتظن عبد الله منطلقًا». وهذا كالنصّ من سيبويه على أنّ الأدوات لا تعتبر، اللهم إلا أن تكون الأدوات معمولة لمعمول الفعل كمتى وأين، فحكمهما في التقديم حكم المعمول فيجوز الإلغاء حسبما نصّ عليه في/ قوله: «فإن ابتدأت فقلت: ظنى زيدٌ ذاهب، كان قبيحا، ولكن متى تظنّ عمرو منطلق، لأن قبله كلامًا» يعنى متعلقًا بالخبر، فكأن المفعول قد تقدم، بهذا فسّره السيرافي وغيره، ثم ترك هل والهمزة، لم يُجزِ فيهما ما أجاز في متى، فكذلك يجرى الحكم في سائر الأدوات. والثاني: أنّ هذا المذهب هو رأيه في كتبه، فقد نصّ عليه في التسهيل نصًا مطلقًا، ثم بين في الشرح أن قوله: وَمَا إِخالُ لَدَنياينْك تنويلُ

من باب الشذوذ الذى يقدّر فيه ضمير الشأن، ولم يحمله على الإلغاء واعتبار تقدم النفي؛ إذ هو داخل على الفعل، فهذا ممكنٌ في الجواب عن الفرق بين تَقَدُّمِ الحَرْفِ وتقدم الظرف. ولكنه غير جارٍ على لفظه حيث اعتبر تقدّم الفعل على المفعولين من غير نظر فيما يتقدم الفعل من غيرهما، فالظاهِرُ من الناظم الأوّلُ، فهذا سهلٌ وأجرى على الاستقامة. والله أعلم. ومسألة ثانية وهى أَنّ إطلاق كلام الناظم في جواز الإلغاء، يقتضى أن يجوز نحو: زيدٌ -ظننتُ ظنًّا- قائم، وما أشبه مما يكون فيه الفعلُ مُؤَكّدًا بمصدره، وكذلك إذا وُكِّد بنائب مصدره، من ضمير أو اسم إشارة، فتقول: زيدٌ -ظننت ظاك- قائم، وزيدٌ -ظننته- قائم، أى ظننت الظن. وقد نصّ النحويون على قبحه مع المصدر نفسه، وعلى ضعفه مع نائبه. وإنما كان ذلك لأن المصدر يقع في هذا الموضع بدلًا من فعله، نحو: متى ظَنُّك زيدًا منطلقا، وزيد -ظَنُّك- منطلق. فلمّا كانت ظننتُ عاملةً، و «ظَنّ» عاملًا عملها، صعب الإلغاء إذا جئت بهما، وكأنّك جمعت بين عاملين ثم ألغيتهما، فقبح لذلك -بخلاف الجمع بينهما مع الإعمال، فهو حسن، لكن القبح في الإلغاء يختلف، فأقبحه أن تأتى بالمصدر منصوبا، ويقلّ القبح إذا لم يضمر فيه إعراب، نحو: زيد ظننت ظَنِّى -منطلق، وأحسن منه الإتيان بضميره؛ لأن الهاء تصلح للمصدر وغيره. وأحسن منه أن تأتى باسم الرشارة لأنه بهم لا تختص بمصدر، فإذا نفرد الفعل لم يكن مصدرًا، وأصل هذا لسيبويه. وما ذكرته من الترتيب نصّ عليه ابن خروف، وإليهِ ذهب المؤلف في شرح التسهيل، وهو رأي

الجمهور، فالناظم هنا يقتضى كلامه جواز الإلغاء من غير قبح وهو غير سديد. والعذر عنه أنه في هذه المسألة على إطلاق الجواز من غير تقييد بترجيح؛ ألا تراه كيف أطلق ذلك في المسائل المتقدمة، مع أن الإلغاء في: زيدُ قائمٌ ظننت، أحسن منه في: زيدٌ -ظننت- قائمٌ، فكذلك أطلق الجواز في مثل هذه المسألة، وإن كان في بعض أقسامها جائزًا على قبح، وفي بعضها ما يحسن، فالجواز فيها كُلّها حاصلٌ، ولكنه على درجاتٍ في القوّةِ والضعفِ، فإطلاقه على الجملة صحيح. ثم لما قال: «لا في الابتداء» فنفى أن يكون الإلغاء صحيحا معه، وكان في كلام العرب ما يقتضى بظاهر جوازَه، أخذ في ذكر تأويله فقال: «واُنوِ وضَمير الشّأْنِ أَوْ لَام ابْتِدَا» في كذا، يعني أنّه إنْ جاء في كلام العرب ما يوهم الإلغاء مع التقدّم والابتداء بالفعل فاحمِلْه على أحد وجهين من التأويل: إما على أن تكون الجملةُ من المبتدأ والخبر في موضع المفعول الثاني، والمفعولُ الأول هو ضمير الأمر والشأن، حذف كما حذف في قوله، أنشده/ سيبويه: إِنَّ مَنْ لَامَ في بَنِى بَيْتِ حَسّانَ، أَلُمه وَأَعْصِهِ في الخُطُوبِ وحكى من كلامهم: إن بك زيدٌ مأخوذٌ. التقدير: إنّه من لام،

وإنّه بك زيدٌ مأخوذ. وإما على تقدّر لام الابتداءِ داخلةً على الجملة، وحُذِفت من قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَح مَنْ زَكَّاها}، وهى مرادةٌ في الموضعين، فلذلك عَلّت الفعل في مسألتنا، وبذلك يخرج الفعل مع التقديم عن باب الإلغاء، فممّا جاء يُوهِم الإلغاء مع التقديم قولُ بعض بنى فزارة، وهو من أبيات الحماسة: كذاك أُدِّبت حتّى صار من خُلُقِى ... أَنِّى رأيتُ ملاكُ الشيمةِ الأدبُ وقولُ كعب بن زهير في أحد التأويلين: وما إخالُ لدينا مِنْكِ تَنْويلُ فالظاهر -لبادى الرأى- أن رأيتُ ملغاةٌ مع التقديم، خلافَ القاعدةِ، لكن يُحمل على تقديم ضمير الشأن، تقديره: أَنّى رأيتُه ملاكُ الشيمة الأدبُ، أو على لام الابتداء، أى: لملاكُ الشيمة الأدبُ. وكذلك: إِدخالُ، يُحمل على ضمير الشأن، والتقدير: وما إخاله لدينا منك تنويل. فإن قيل: تحرّز الناظم من هذا الشذوذ، وكان يكفيه أن يَسكُتَ عنه جملةً، أو يقول: وشذّ مع التقديم، أو نحو ذلك. فالجواب: أنه إنما فعل ذلك تنبيها وتنكيتًا على أن ذلك المنفي مذهبٌ لقوم، وأنهم احتجوا على مذهبهم بما ظاهره الموافقة لما زعموا، فنكّت على أن ما اعتمدوا عليه غير معتمد، لحمله على خير ما قالوا بحيث يكون الإلغاءُ مع

التقديم ممنوعًا لا دليل يدلّ على جوازه. والذين أجازوا هم الكوفييون -فيما نُقِل- وابن الطراوة. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من البصريين، وهو الذى يساعدُ عليه السماعُ، وهو القياس أيضًا، كما تقدّمَ بيانه أولَ المسألة. فإن قيل: ظاهر قوله: «وانو ضمير الشّأنِ» .. إلى آخره، أَنّ ذلك التأويل هو المقصودُ في البيت لا غيره، ومثلُ هذا لا يقطع عليه، لإمكان أن يقصد الإلغاء؛ إذ لا يمنع أن يكون الشاعر قاصدًا له لا لضمير الشأن، ولا للام الابتداء، وإنما الأمر غايةُ الأمر الاحتمالُ، فهو الذى يكفى في مثل هذا، إذ به يسقط استدلال الخصم، فكان وضعُ الناظم للتأويل غير مستقيم. فالجواب: أنه لم يرد بذلك القطع على قائله، بدليل أنه حَمّله وجهين لا يجتمعان في قصد الشاعر، وإنما أَمَر الناظر في المسألة بأن تقدّر أنّ الناظم قصده، ليدخل الاحتمال في الدليل، لا لأنه مقصود الشاعر. وأيضًا فإن فرضنا قصده إلى تعيين أحد الوجهين دون ما قاله الخصمُ فلذلك وجهٌ صحيح؛ فإنّ البيت محتمل لأوجه ثلاثة، اثنان منها قد ثبت لهما أصل في كلام العرب، وهما نيّة الضمير أو نيّةُ اللام، فنيّةُ الضمير ثابتةٌ في البيت المذكور وفي قولهم: إنّ بك زيدٌ مأخوذٌ، وفي غيرهما، بحيث لا ينازَعُ فيه -ونية اللام أَيضًا ثابتةٌ في نحو: {قَدْ أَفْلَح مَن زَكَّاها} لأن مثل هذا من جواب القسم إنما يكون باللام، فإذا رُدّ بيت الحماسة إلى أحد هذين فقد رُدّ إلى أصل ثابت كان قويًا أو ضعيفا، بخلاف الوجه الثالث الذى تمسّك به الخَصْمُ، فإنه لا يرجع إلى أصلٍ ثابت؛ إذ

لم يُوجَد من/ كلام العرب ما يتعيّنُ فيه إلغاء الفعل مع التقديم، فلا ينبغي أن يحمل عليه. وإنما ينبغي الردُّ إلى أصلٍ ثابت، فلذلك عيّن الناظم أحد الوجهين ونفي الوجه الآخر. وهذه قاعدة أصولية الناظم إليها، وهى حسنة. قوله: «في موهم» متعلق بانو، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في، أى: في كلامٍ موهمٍ كذا. وما واقعه على الفعل. وإلغاءَ: مفعول يقال: وَهِمْتُ في الحساب -بالكسر- أَوْهَم وَهَما: إذا غلطتَ. وَوَهَمت إلى الشئ -بالفتح- إذا ذهب وهمُك إليهِ وأنت تريد غيره. وأوهمت غيرى إيهامًا. فَمُوهم هنا المنقولة من وَهِم -بالكسر- أو من وَهَم بالفتح- فانظر في تحقيق التنزيل. هُو قولهُ «لا في الابتدا» أنه إيطاء، إِذْ كرَّر كلمة، وليس منه في الحقيقة لوجهين: اختلاف الكلمة بالتعريف والتنكير. وقد تقدّم وأن الابتداء الأول هو اللغوى والثاني هو الاصطلاحي، وبينهما فرق. شرع في ذكر التعليق فقال: «والتُزِمَ التَّعْليقُ قبل نَفْىِ ما» .. إلى آخره، فقوله: بيان أن التعليق لازم مع وجود سببه بخلاف الإلغاء فإنه جائز إذا به، كما مرّ، ويعنى أنَّ تعليق هذه الأفعال يكون إذا وقعت قبل هذه الأدوات، وقعت قبلها فلا بدّ أن يكون المفعولا واقعين بعدها، فتفصل الأدوات بين ومعمولاتها، فلا يمكن العملُ مع الفَصْلِ بها، فتقول: علمت أزيدٌ قام أم عَمْرو. ما زيدٌ قائم. ولا تقول: علمتُ أزيدًا قائما أم عمروًا، ولا

: عرفت ما زيدًا قائمًا، لأن هذه الأدوات لها صدرُ الكلام، فلا يصحّ أن يعمل ما قبلها فيما بعدها، ولا ما بعدها فيما قبلها؛ ومن هنا كان التعليق لازمًا لا جائزًا. وأما الإلغاء فإنما يقع لمعنىً يمكن أن يقصد في الكلام الواحد وأن لا يُقْصَد، فهو تابعٌ لقصد، والقصد جائز لا واجب، فكذلك ما تبعه. وقوله: قَبْل نَفْىِ مَا وَلَا وَإِنْ» .. إلى آخره، عدّ فيه الأدواتِ المعلِّقةَ وجعلها ثلاثة أنواع: أدوات النفى، واللام المؤكدة أو القسمية، وأدوات الاستفهام. فأما أدوات النفي فهى ثلاث: إحداها: ما، ومثال التعليق بما قولك: علمتُ ما زيدٌ قائم. ومنه قولُ الله عزَّ وجل: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤلاءِ ينطقُون}، وقال: {قالوا: لقد عَلِمْتَ ما لنا في بناتك من حَقٍّ}. والثانية: إنْ، ومثال التعليق بها قولك: علمت إن زيدٌ إلا قائم، ومنه في القرآن الكريم: {وتظنون إن لبثتم إلا قليلا}. والثالثة: لا، ومثالها: حسبت لا يقومُ زيد. وقد تقدم في لا بحث في كونها مما له صدر الكلام أم لا، ولكن قد قيد ابن الناظم إِنْ ولا هنا بأن يكون الفعل معهما مضمّنا معنى القسم، فإنّ لهما حينئذ صدرَ الكلام. وأما اللام فهى التى قال فيها «لامُ ابتداءٍ أو قسم»، كذا. وهذا الكلام أتى به معطوفًا على الكلام الأوّلِ، فحذف حرف العطف معه ضرورة، فلامُ ابتداء:

مبتدأ خبرُه «كذا»، ولا يصحّ أن يكون «لام» مجرورًا/ عطفًا على «نَفْىِ»، لأن قوله: «كذا» لا يكونُ له معنًى مفهومٌ. ويريد أن لام الابتداء ولام مثلُ ما وإن ولا في أنهما يُعَلّقان الفعل عن العمل. فمثال التعليق بلام الابتداء قولك: قد علمتُ لزيدٌ أخوك. ومنه في القرآن: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخرةِ مِنْ خَلَاقٍ}. ومثال التعليق بلام القسم قولك: عَلِمْتُ ليقومَنّ زيدٌ، وقال الشاعر: وَلَقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتىِ إِنّ المَنَايا لا تَطيشُ سهَامُها وأما الاستفهام فقوله: «والاستِفْهامُ ذَا لَهُ انحتَمْ»، يعنى أن حكم التعليق أيضًا لازم للاستفهام، إذا وقع الفعلُ قبله مَنَع الفعل أن يعمل في لفظ المعمول، كما منع النفيُ واللام ذلك أيضًا. وللاستفهام أدوات، منها: الهمزة، كقولك: عَلِمت أزيدٌ قائمٌ أم عَمْرو. وفي القرآن الكريم: {وَإِنْ أَدْرِي أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعَدُونَ}. وأنشد سيبويه للحارث بن كَلَدَة:

وما أَدْرِي أغيّرهُم تَناءٍ وطولُ العهدِ أَمْ مَالٌ أصابُوا ومنها: أىُّ، نحو: علمت أيُّهم قام، قال الله تعالى: {لَنَعْلَمَ أىّ الحزبين أَحْصَى لما لَبِثُوا أَمَدا}، وقال: {وَلَتَعْلَمُنَ أَيُّنا أشدُّ عذابا وأبقى} ومنها: مَنْ، نحو قولك: عرفت من زيد، وعلمت من أخوك. منها: ما، نحو: علمتُ ما الأمر، وعرفتُ ما مذهبُك. ومنها: هل، نحو: علمت هل أنت قائم. ومنها: كيف، نحو: عرفتُ كيف زيدٌ. ومنها: أين، نحو: علمتُ أين زيدٌ قاعدٌ. ومنها: ومتى، نحو: علمت متى خروجُك. وعلى الجملة فأدواتُ الاستفهامِ كلُّها داخلةٌ في هذا الحكم، ولذلك أطلق النظام القول الناظم القول في الاستفهام. وكما يلزم تعليقُ الفعلِ عن المفعولين معًا، كذلك يلزمُ تعليقه عن الثاني فقط بمقتضى عبارته، حيث لم يقيد التعليق بالمفعولين معًا دون أحدهما، فيشمل كلامُه قولَهم: علمت زيدًا من أبوه، وعلمت زيدًا أبو من هو، وعلمت زيدًا أبوه خالدٌ أم بكر، وعلمت زيدًا أقائمٌ أبوه أم خارج. وماأشبه ذلك. لكن يبقى النظرُ في زيدِ هل يُعلّق عنه الفعلُ أم لا يجوز فيه إلا النصبُ؟ هذا لم يُصَرِّح فيه الناظم بشئ واضحٍ، وإنما فيه إشعارُ به من قوله: «والتُزِم التعليقُ قبل نَفْى ما»، وكذا حين بيّن أن الفعل قبل هذه الأدوات معلق عمّا بعدها، فيبقى ما لم يفصل فيه بين الفعل والمفعول بها غير مُعَلّقٍ، ويَرْجِعُ إلى أصل الباب من التزام النصب، هذا مما يُشعر به كلامه إذا ضُمَّ بعضه إلى

بعض. وهذا المفهومُ فاسِدٌ؛ لأن زيدًا يجوز فيه عند سيبويه والجمهور النصبُ، وهو الأولى، والرفع وليس بضعيف، بل هو قولُ يونس في المسائل كُلِّها. وقد أجاز في التسهيل الوجهين في المسألة واختار النصب، فجعله الأَوْلى متابعًا لسيبويه حيث قال: «وتقول: عرفُ زيدًا أبو من هو، وعلمت عمرًا أأبوك هو أم أبو غيرك، فأعملت الفصل في الاسم الأول، لأنه ليس بالمُدْخَلِ عليه حرفُ الاستفهام. ثم قَوّى النصب، ثم قال: «وإن شئت [قلت]: قد علمت زيدٌ أبو من هو، كما تقول ذلك فيما لا يتعدّى إلى مفعول .. » إلى آخر كلامه. فالوجهان جائزان على الجملة، فصار هذا المفهومُ غير صحيح. ويجاب عنه أن إطلاق انحتام النصب/ إذا تقدّم الفِعلُ إنما جرى كلامه فيه حين لم يعرض له عارض التعليق، وهذا الموضع الذي نحن فيه لم يَخْلُ من عارض التعليق على الجملة، فلا يجري فيه انحتام النصب، بل يكون من أجل ذلك خارجًا عنه، ولا هو أيضًا قد انحتم عليه أن يكون معلقًا عنه الفعلُ؛ إذ ليس بعد حرف التعليق بل قبله وواليا للفعل بلا فصل، فخرج عن انحتام النصب والتعليق، وصار له لحظان، فمن حيث هو في الواقع والٍ للفعل بلا فَصْلٍ يجب أن ينتصب ومن حي هو في معنى الواقع بعد الأداة يجب أن يعلق، فثبت له اللحظان معًا بكلام الناظم؛ لأنه قال

: والتُزِم التعليقُ قبل كذا، فأطلق، والقبليّةُ قد تكون حقيقيّة وقد تكون حكمية، وذلك بحسب ما يقَعُ من المفعولاتِ بعد الأداة. وقال أيضا: «انصبْ بِفِعْل القَلْبِ جزأى ابتدا»، فأوجب النصب مع عَدَم المُعَلِّق، وعدمُه قد يكون حقيقةً. وقد يكون حُكْمًا، فقد اجتمع الأمران في قولك: علمتُ زيدًا أبو من هو، فافهم ذلك، إلا أنّ الناظم اكتفى [هنا] بالإشارة اتكالًا على فهم الناظر في كتابه. وهذه مسألةٌ مما يتعلق بكلامه. ومسألة ثانيةٌ، وهي أنّ قوله: «والتُزِم التعليقُ قبل» كذا، فيه تنبيه على أنه لا يكون الحكمُ إلا ملتزمًا فلا تظنّ أنه جائز، ولا أنه قد يأتى في الكلام خلاف ذلك، وإن جاء ما يتوهّم فيه ذلك، كقولهم: قد عرفتُ أبا مَنْ زيدٌ مكنّى، فأبا يُتَوهّم أنه منصوب بعرفت، وليس كذلك. بل هو منصوب بمكنى، قال سيبويه: «كأنك قلت: أبا مَنْ زيدٌ مَكْنِىّ، ثم أدخلت عرفت عليها، يعنى: فلو كان منصوبًا بعرفت لوجب رفعه إذا أسقطت عرفت. ومثل ذلك: علمت أأبا زيد تُكنى [أم] أبا عَمرْو، وكأنك قلت: أأبازيد تكنى أم أبا عمرو، ثم أدخلت عليه علمت، كما أدخلت عليه حين لم يكن ما بعده إلا مبتدأ، نحو: علمت أزيد قائم أم عمرو. ومثل ذلك: علمت أبا من رأيت قائمًا، فأبا منصوب برأيت لا بعلمت، بدليل أنّك تقول: أبا من رأيت قائما؟ من غير أن تدخل علمت. وتقول: علمت أَىّ يومٍ الجمعةُ، فتنصب أىّ يومٍ على الظرفية لا على النصب

بعلمت، وإن شئت قلت: علمت أىُّ يومٍ الجمعة فرفعتَ أىُّ. وقد قالت العرب: «قد علمت أىّ حين عقبتى»، وأىُّ حينٍ عقبتي. ومثل هذا أيضا -كثير ومنه قوله تعالى: {وسيَعْلَمُ الّذِين ظَلَمُوا أَىّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، فأىّ منصوب ينقَلبوه، لا بسيعلم. ومن قال: عرفت زيدًا أبو من هو، فنصب زيدًا [قال: قد عرفتُ زيدًا؟ ] أبا من هو مكنىْ، وعلمتُ زيدًا أي يوم وقته، فهذا كله مُنّبَّه عليه بقوله: «والتُزِم التعليقُ». ومسألةٌ ثالثة، وهى أنه إنما قال: «قبل نفي ما» وكذا، فقيد وجوب التعليق بكون الفعل قبل المعلِّق، ولم يقيّده بكون المفعول بعد المعلِّق، فيها على أن المعلِّق فيه يكون قبل المفعول حقيقة، كقولك: علمت هل زيدٌ قائم، وقد يكون قبله حكما لا حقيقة، ويلزم التعليق، كالمضاف إلى اسم الاستفهام، كقولك: علمت أبو مَنْ زيدٌ، فَأَبُو لم يقع قبله المعلِّق وإنما وقع بعده، إلَّا أنّه اكتسى منه حكم الصدرية بسبب الإضافة إِليه، فهو في الحكم واقع بعد المعلّق، وعلى هذا تقولُ: علمتُ غلامُ أيّهم زيد، وقد يكون لا قبله ولا بعده، بل المفعول هو المعلِّق المُعَلَّ، وذلك إذا ضُمِّن معنى الأداة المعلِّقة، كقولك: علمتُ أَيُّهم قائم،

وسائر أسماء الاستفهام، فليس وقوعُ المفعول/ بعد المعلِّق بمطّررد، فلو قال مثلا: والتزم التعليق إذا دخل على المفعول أداةٌ مُعَلِّقة، لم يطّرد، فما عبّر به هو الأولى، ومن ثم تستشعر الإشارة إليالوجهين في: عرفت زيدًا أبو من هو. والله أعلم. ومسألة رابعة وهي: أنه لم يذكر في أدوات التعليق إنّ، وقد جعلوها من الأدوات المعلّقة نحو: علمتُ إنّ زيدًا لقائم، فيظهر أنّ ذلك مما نقصه. ولكن يجاب عن ذلك بأنّ إنّ المؤكدة إن كانت اللام في خبرها فاللام هي المعلقة في الحقيقة، لأنها منويّة التقديم، كما تقدّم في باب إن، فدخلت تحت قوله: «لامُ ابتداٍ»، وإن كانت غير مؤكدة باللام فل تقع معلقة عند جمهور النحويين. وحكى الفارسىّ عن المبرّد أَنّه أجاز كسر إنّ في قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنّ الذينَ كَفَرُوا إِنّما نُمْلِي لهم خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ}، على أن يكون إنّ كاللام وهي قراءة يحيى بن وثّاب. وهذا المذهب مرجوح لقَلّة ما جاء من ذلك. وقد ضعّف سيبويه أن تقول: علمتُ إنّ زيدًا ذاهبٌ، من غير لام، كما ضَعّف قولك: علمت زيدٌ خيرٌ منك وجعل الجميع على إرادة اللام، فكذلك تكونُ الآية على مذهبه، وإذا كان كذلك دخل ذلك تحت قوله: «لامُ ابتداءٍ»، وكأنه يقول: لام الابتداء معلّق ملفوظًا بهًا وقمدرة. ووجه الفارسى القراءَة في كتاب الإِغْفَال بتشبيه إنّ باللام في أنها تقد صدرًا، وأنها للتأكيد، وقد يُتَلَقّى

بها القسم، فعاملها معاملة اللّام شذوذًا. وقد مرّ الكلام على تلقىّ القسم بها دون اللام في قوله: بَعْدَ إِذا فُجاءَةٍ أو قَسَمِ لا لَامَ بَعْدَه بِوَجْهَينِ نُمِى وبالله التوفيق * * * (ثم قال): لِعِلْمِ عِرْفَانِ وَظَنِّ تُهَمَهْ تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَهْ عادة النحويين هنا جاريةٌ بأن يَتحرَّزوا من الاستعمالات الجارية في هذه الأفعال؛ إذ هي تُطْلَق بالاشتراك على معانِ أُخَر، فتخرج إذ ذاك عن حكم هذا الباب، وإنما تادخلُ فيه إذا أطلقت على معانٍ مخصوصةٍ، وهي راجعة إلى معنى العلم والظن، فأراد الناظم التنبيه على نحوٍ مما نَبَّهوا عليه لئلا يُفْهم من كلامه ما لا يصح. فيعنى أن العلم إذا كان بمعنى العرفان تعدّى إلى مفعول واحد لزومًا، ولا يجوز أن يتعدّى إلى اثنين وهو بذلك المعنى. وكذلك الظن إذا كان بمعنى التُّهَمِة تعدّى إلى واحدٍ أيضًا لزومًا، وذلك قوله: «تَعْدِيةٌ لِوَاحِدٍ مُلْتَزَمَه». وإنما كان كذلك لأن عرف يتعدّى إلى واحدٍ، تقول: عرفتُ زيدًا، وكذلك اتهم يتعدّى إلى واحد تقول: اتهمتُه؛ قال تعالى: {وَمَا هَوَ عَلَى الغَيْبِ بِظَنِينٍ}، أي: بمتهم. فإذا صار غيرهما من الأفعال يُوَدِّى معناهما إما

بالأصالة وإما بالتضمين، لزم أن يتعدى تعدِّيهما، فتقول في علم بمعنى عرف: علمتُ زيدًا، وتقتصر، أي: عرفتهُ. قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهم لا تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُم}، وقال تعالى: {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يعلَمُونَ شَيْئًا ولا يهتَدُونَ}. وتقول في ظنّ بمعنى أتَههم: ظننتُ زيدًا، أي: اتهمتُه، ومنه الآية المتقدمة. والفرق بين العلم والعرفان أن العلم يرجع إلى ذات المعروف وصفاته وأحواله، والعرفان/ راجع إلى ذاته خاصّةً؛ فالعلم في تعلقه بالمعلوم عام، والعرفان في تعلقه بالمعروف خاصّ. فإذا صار لفظ العلم إلى معنى لفظ العرفان صار خاصًا مثله. وقوله: «لِعِلْم عِرْفانٍ وَظَنَّ تُهمه» خبر المبتدأ الذي هو: «تَعديةٌ». فإن قيل: إن أفعال هذا الباب -كما ذكر- مستعملة على وجهين: أحدهما: أن تكون معانيها راجعةً إلى الظنّ والعلم في أصل وضعهما، فيتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهي ما تقدَّم شرحُه أَوَّلَ الباب. والثاني: أن تكون بمعنى أفعالٍ أُخَر، فلها إذ ذاك من التعدّى أو اللزوم ما لأفعالها التي تضمّنت معانيها. وهذا فيها معلوم أيضَا ومشهور، فرأي بمعنى أبصر تتعدى إلى واحدٍ، كما تتعدّى أبصر، فتقول: رأيت زيدًا بمعنى أبصرته، وكذلك رأيته بمعنى أصبت رئته، يتعدّى تعدِّيهُ، ورأيت رأيًا بمعنى اعتقد. ووجد بمعنى أصاب،

وحَسِب من الحُسبان، وزعم بمعنى ضَمِن، وعدّ من الحسبان أيضًا، وحجا بمعنى يغلب في المحاجاة، ودرى بمعنى خَتَل، يقال: درى الذئب الصيد: إذا استخفى له ليفترسه، وجعل بمعنى خلق، . كلها تتعدى إلى ما تعدّت إليه الأفعال التي تضمنت معانيها. وقد تكون مؤدّيةً معنى ما لا يتعدّى، نحو حجا فإنها قد تكون بمعنى: بخل، وبمعنى أقام. وزعم قد تكون بمعنى هزل، وعلم قد تكون بمعنى انشقت شفته فهو أَعْلَمُ، ووجد بمعنى استغنى أو غضب أو حزن، وحسب بمعنى آحمرّ لونه وابيضّ كالبرص، وخال الفرسُ بمعنى ظَلَعَ، أو بمعنى عجب أيضا. وما أشبه ذلك، فلا تتعدّى كما لا تتعدّى الأفعال المرادفة لها. وعلى هذين فليست من هذا الباب. والناظم قد ترك التنبيه عليها كُلِّها إلا علم بمعنى عرف، وظن بمعنى اتهم، فيبقى سائرها داخلًا تحت إطلاقه في جميع استعمالاتها، ذلك غير صحيح. وغاية ما يخرج له دون هذين الفعلين جعل؛ إذ قال فيها: «وَجَعَلَ اللّذ كَاعْتَقَدْ»، وهَبْ وَتَعْلّمْ؛ إذ جعلهما من الباب وقَيّدهما بعدم التصرّف، فاقتضى لزومهما معنًى واحدًا، وهو الذين ذكره وما عداها مُشكلٌ إطلاقه فيه. فالجواب: أنّ الناظم -رحمه الله- قال أولا: «انصِبْ بعفل القْلب جزءي ابتدا»، فقيّد الفعل الناصب لجزأى الابتداء بكونِه فِعْلَ قلب، ثم فسّرها،

قال تدخل تلك الأفعال المذكورة في كلامه إلا إذا كانت أفعال قلوب، وكل ما ذكر فيها من المعاني المشتركة فليست إذا دلت عليها بأفعال قلوبٍ البتّة إلا علم بمعنى عرف، وظن بمعنى اتّهم، فإنهما من أفعال القلوب، كما أن عرف واتّهم من أفعال القلوب، وليستا من هذا الباب إذ لا تتعدّى إلا إلى واحدٍ، فكان من الواجب أن يُنَبِّه عليهما ويخرجهما عن الباب لئلا يتوهم دخولهما في جميع ما تقدم. ولم يلزمه أن يستثنى غيرهما من الأفعال إذ لا تكون من أفعال القلوب إلا وهي داخلة، ولا تكون على غير ذلك إلّا وهي غير مرادةٍ لقوله: «انصِبْ بفعل القلب». وهذا حسن من التعبير، وتخلّصً بأقلِّ عبارة من التطويل، المُمِلِّ، وإذا وازنت بين عبارته في التسهيل وهذا النظم عرفت فَرْقَ ما بينهما. وإنما الوارد عليه بلا بدِّ رأى بمعنى اعتقد؛ إذ هو فعلٌ قلبي، وهو عنده متعدٍّ إلى واحدٍ، فكان الواجب عليه أن يخرجه مع عِلْمِ العرفانِ وَظن التُهمَة فإنه مثلهما في الحكم الذي ذكر. ولا جواب عنه إلا أن يقال: إنه رأى هنا رأي من يقول: إنّه يتعدّى إلى اثنين. وهو مذهب كثير من الناس حسبما يظهر من نَقْلِ الأبّذي. ويدلّ على صحة هذا عند الناظم عدّة من أخوات ظنّ جَعَل بمعنى اعتقد. وإنما حُكِي القولُ بتعدِّيها إلى واحد عن الفارسي وتلميذه، قالاه في قول السّموألِ: وَإِنّا لقومٌ ما نَرَى القَتْل سُبّةً إذا ما رأتْه عامرٌ وسلولُ

قالا: سُبَّةً حال، ولو كان مفعولًا ثانيًا لقال: إذا ما رأته عامر وسلول سُبّةً أو اياها. قالوا: ولا دليل فيه لاحتمال حذفه اختصارًا، وإذا كان كذلك فقد دخلت رأى في كلامه أولًا على معانيها الثلاثة، والله أعلم. فإن قيل: إذا كان كما قلت لزم من إخراجه هذه الأفعالَ وأشباهها ألّا يكون فيها حكم من أحكام هذا الباب، وليس كذلك؛ فإنّ عَرَف وعَلِم بمعناها يدخل فيها التعليق، وليس من أفعال هذا الباب، كما يدخل في رأى بمعنى أبصر ونظر وتفكر، ونحو ذلك، فتقول: عرفتُ أَيُّهم قائم، وعلمت أيُّهم قائم -بمعنى عرفت- نصّ على ذلك سيبويه وغيره. فالجواب: أنه لم يقل في علم إنه خارج على أحكام هذا الباب جملةً، وإنما ذكر أنه يتعدى إلى واحد، وقال أولا: انصِبْ بفعل القلب، كذا، ثم ذكر ما يتعلق بها من إلغاء وتعليق، وغيرهما. فليس في الكلام أولًا وآخرا ما يقضى في عَرف وعَلِم وغيرهما مما يَتَعلّق حكما بعدم ذلك، بل هي مسكوت عنها، ونحن لا نؤاخذه بما سكت عنه من مسائل النحو ولا فصوله، بل ولا من أبوابه؛ إذ لم يَبْنِ على استيفاء أحكام الكلام كلها، وإِنّما تصدّى للقوانين المشهورة. ولعمري لقد ترك بابين عظيمين ضروريين، وهما باب القسم وباب التقاء الساكنين، وسيُنَبّه عليهما إن شاء الله آخر الكتاب. ولما كانت رأى الحُلُمية داخلةً في أفعال هذا الباب، مع أنها ليست بفعل قَلبٍ بإطلاق، خاف أَن يُتَوهم أنها ليست منه، فاستدركها بقوله: وَلِرَأي الرُّؤْيا انّمِ مَا لِعَلِما طَالِبَ مَفْعُولَين مِنْ قَبْلُ انْتَمىَ

يعني أن رأى التي بمعنى رؤيا النوم -وتسمى الحُلُمية لأنها منسوبة إلى الحُلُم. وهو ما يرى النائم- لها من الحكم مثلُ ما لعَلِمَ التي تطلب مفعولين حسبما تقدّم ويأتى، فيتعدى رأى الرُّؤيا إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فتقول: رأيتُ في النوم زيدًا صديقك. ومنه قولُ الله تعالى: {قال أَحَدُهما: إني أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}. وأضاف الفعل إلى الرؤيا تعريفًا لرأى بالمصدر الذي هو مختصٌّ بالنوم؛ فإن الرؤيا لا يكن مصدرًا إلا لرأى التى تُستَعمل في النوم. و «لرأى» متعلِّق بقوله: انم»./ وقوله: «لِعَلِمَ» و «من قبل» متعلقان بانتمى. وطالب مفعولين: منسوب على الحال من علم، لأنه اسم عَلَمٌ للفظ، والتقدير: انم لفعل الرؤيا ما انتمى لعَلَمَ من قبلُ، حالة كون علم طالب مفعولين. وإنما قيّد عَلِمَ بقوله: طالب مفعولين، لأنّه قدم لها استعمالين، استعمالًا على أصلها، وآخر تعدّى فيه إلى واحدٍ، فلو أطلق اللفلظ في علم لكان يتوهّم رجوعه إلى علم المتعدّية إلى واحد، لأنها أقرب مذكور. ويقال: نَمى الحديث والخبر: إذا فشا وشاع، ونَمَيْتُه أنا: إذا أَشْهَرته وأظهرته. فقوله: «انم» هو من المتعدى، ومنصوبه ما، أي: اشتهر لرأى المذكورة ما انتمى واشتهر لعلم ذات المفعولين. وانتمى: مطاوى نمى، كشهرت الحديث فاشتهر. فإن قيل: قولُه «انمِ ما لعلم» قد اقتضى بعمومه أن يُنْمَى لرأى الرؤيا جوازُ الإلغاء ودخولُ التعليق، كما اقتضي تعدّيها إلى المفعولين؛ إلا أنّ ذلك عند المؤلف غير صحيح، ألا تراه في التسهيل خصّ دخول

الإلغاء والتعليق بأفعاللقلب حيث قال: «وتسمّى المتقدمة على صَيَّر قلبيةٌ» .. إلى آخره، فأخرج رأى الحُلُمية عنها إِذْ لم يذكرها معها، وذكر تخصيص أفعال القلب بجواز الإلغاء على الجملة، ثم ذكر أنها تختصّ أيضًا بالتعليق، فلا يكون إلا فيها وفيما أشبهها مما ذكر، فأخرج رأى الحلمية من ذلك بالكلية. وفي الشرح ما يساعد على ذلك، فكيف يأتى هنا بعبارة تعمّ جميعَ الأحكامِ المذكورة؟ ألا تراه قال بعد شرح معنى الإلغاء والتعليق: ولا يكونان إِلّا في فِعْلٍ قلبي متصرّف؟ فالحاصل أن هذا التعميم معترضٌ. فالجواب: أن النحويين قلّما نجد منهم من يذكر هذه المسألة بخصوصها، والظاهر في القياس جوازُ الإلغاء فيها والتعليق أيضًا؛ أما الإلغاء فلا يتعد أن يخبر الإنسان بخير يطلقه وإنما مستنده فيه النوم فيقول: زيد قام، أو عمروٌ أكرمني، ويريد في النوم. وعلى هذا يقول: رأيت زيدًا قام، ورأيت عمرًا أكرمني، إذا قصد الإعمال، كما قال يوسف عليه السلام: {يا أبَتِ، إِنِّي رأيت أحد عَشَر كوكبًا والشمس والقمر رأيتُهم لي ساجدين}. فإذا قصد إطلاق الخبر ثم استدرك قال: زيدٌ -رأيتُ- أكرمنى، وزيدٌ أكرمني، رأيت- وما أشبه ذلك. إلّا أنّ مثل هذا القصد في الإخبار قليل الوقوع، وقِلَّتُه لا تخرجه عن القياس. وأما التعليق فكذلك أيضَا إذا قال: رأيتُ ما زيدٌ قائم، إذا رأى في النوم مقتضى هذا الخبر، ومثله: رأيتُ متى زيدٌ منطلقٌ، ورأيت أزيدٌ أخوك أم عمروٌ. وهذا لا مانع منه في القياس؛ فقد يمكن أن يكون الناظم

قاصدًا لذلك ولا سيّما وليس في كلام العرب ما يردّه، فالوجه أن يقال به. وقد قَصَر ابنُه بدر الدين في شرح هذا النظمِ معنى الكلام على التعدّى إلى المفعولين، فطالِعْه ثَمَّةَ. * * * (ثم قال): وَلَا تُجِزّ هُنا بِلَا دَلِيلِ سٍقُوطَ مَفْعُولَينِ أو مَفْعُولِ هنا: إشارةٌ إلى الباب المُتَكَلِّم فيه، يعني أنه لا يجوزُ في هذا الباب حذفُ المفعولين معًا من غير دليل، / ولا حذف أحدهما [أيضا] من غير دليل، فلا تقول في -ظننت زيدًا أخاك-: ظننت، وتقتصر، ولا: ظننت زيدًا، وتقتصر، ولا: ظننت منطلقا، أو أخاك، وتقتصر. فأما امتناع الاقتصار على أحدهما دون الآخر فمتفق عليه؛ لان المفعولين هنا أصلهما المبتدأ والخبر أن تأتي بالمبتدأ دون الخبر ولا بالخبر دون مبتدأ، فكذلك لا يجوز بعد دخول الناسخ؛ إذ من شرط الحذف أن يبقى على المحذوف دليل. وأما امتناع حذفهما معًا والاقتصار على الفعل والفاعل دونهما من غير دليل فمسألةٌ مختلف فيها؛ فذهبت طائفة إلى جواز ذلك منهم ابن السرّاج والسيرافي، وذهبت طائفة أخرى إلى المنع من ذلك، منهم ابن خروف وشيخهُ ابن طاهر، وهو الذي ارتضى الناظم هنا وفي

التسهيل وغيره. وكلامُ سيبويه قد تعلّق به الفريقان معًا. والدليل على ما ذهب إليه الناظم أنّ القائل: ظننت، ولا يخلو أن يكون قصدُه الإخبارَ بمجرد وقوع الفعل فقط، أو الإِخبار به وبما وقع من الجمل، فإن كان القصدُ الأولَ فلا يصحّ؛ إذ المخر بأنه وقع منه ظنٌّ أو علم بمنزلة المخبر بأنّ النار حارة في عدم الفائدة؛ إذ لا يخلو إنسان من ظنٍ مّا أو علمٍ ما، كما لا يخلو إنسان مّا من قيامٍ مّا، والعربُ لا تتكلّم بما لا فائدة فيه: وإن كان القصد الثاني فقد تنزّل الظن من الجملة منزلة قولك: في ظني، فكما لا يجوز لمن قال: زيد منطلٌ في ظني، أن يقتصر على: في ظنى، كذلك لا يجوز لمن قال: ظننتُ زيدًا منطلقًا أن يقتصر على ظننت؛ لأن ذلك نقضُ الغرض. ويظهر هذا المذهبُ من سيبويه في أبواب الضمائر، ولكن ليس بنصٍّ، وإن كان الفارسي وابن خروف قد اعتمداه كالنصّ في منع هذا الاقتصار. وللكلام في بيان رأي سيبويه، والجمع بين ما قال هناك وما قال أول الكتاب، موضعٌ غير هذا. وقد حكى مما يدلّ على الجواز قولهم: من يسمع يَخَلْ، وقولهم: ظننت ذاك، وظننتُ به. وهذا على رأي الناظم ومن وافقه مسموعٌ ومؤوّل. ولما قال هنا: «بلا دليلِ» اقتضى مفهومُ هذا القيد أنه إن حُذِفا معًا أو أحدهما بدليل جاز، ولا ينبغي أن يُختلف فيه. وقد حُكِى عن ابن ملكون المنعُ منه، والسماع والقياس يردّان عليه، فممّا حُذِف فيه المفعولات معًا

اختصارًا قولُ الكُميت: بأىّ كتابٍ أَمْ بأيّةِ سُنَّةٍ ترى حُبّهم عارًا علىّ وتحسِبُ أي: وتحسِبُ حُبّهم عارًا. ومنه أيضَا قولُ الله سبحانه: {والله يَعلمُ وأَنتمُ لا تَعْلَمونَ}، وقولُه: {أعندَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُو يَرَى}. وإنما حُذِفالعموم العلم بالمحذوف، أي: يعلم الأشياء كائنةً، أو ما في معنى هذا التقدير. وكذلك: (فهو يَرَى)، أى: يرى ما سَمِع باطلا، أو: يرى الجزاء غير كائن، أو: يرى الأشياء أو ما يعتقده ويفعله حقًا وصوابًا -وكذلك قدّره ابن خروف- أو غير ذلك مما يعطيه معنى ما تقدّم من قوله: {وَأَعْطَى قليلًا وَأَكْدَى}، فليس مثل هذا خارجًا عن هذا الأصل الذي أَصَّله الناظم؛ لأن عموم العلم بالمحذوف يُبِينهُ؛ ألا ترى إلى حذف خَبَر ما بعد لولا، وحذفهم متعلّق الظرف والمجرور إذا وَقَعا/ خبرين، وما أشبه ذلك، فكذلك ما نحن فيه. ومما حذف فيه أحد المفعولين اختصارًا قول الله تعالى: {ولَا يحسبنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما آتاهُمُ الله من فَضْلِهِ هو خيرًا لَهُم}، قالوا:

التقدير: البخلَ هو خيرًا لهم، فحذف لدلالة الفعل عليه، وقال عنترة: وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّى غَيْرَهُ مِنّى بِمَنْزَلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ أى: فلا تظنِّى غيره كائنا. وقاله الآخر: كَأَنْ لَمْ يَكُن بَيْنٌ إِذَا كَانَ بَعْدَهُ تَلَاقٍ، وَلَكِن لَا إِخَالُ تلاقيا قدّره المؤلف: لا إخال الكائنَ تلاقيا، ثم حذف الأول. وقدره غيره: لا إخال تلاقيًا كائنا، أو لا إخالُ ثَمَّ تلاقيًا. ثم حذف الثاني، وكلامه يدلّ على عموم اختصاص الحذف بأحدهما دون الآخر، فمن سأَلَ: أتظن زيدًا قائما؟ أجاز أن يقال له: ظننت زيدًا، وأن يقال له: ظننتُ قائمًا، وأن يقال له: ظننت، كل ذلك سائغ، والله أعلم. * * * (ثم قال): وَكَتَظُنّ اجْعَلْ «تَقُول» إِنْ وَلِى مُسْتَفْهَمًا بِهِ وَلَمْ يَنْفصِلِ بِغَيرِ ظَرفٍ أَوْ كَظَرفٍ أو عَمَلْ وَإِنْ بِبَعْضِ ذِى فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ وَأُجْرِى القَوْلُ كَظَنٍّ مُطْلَقَا

عِنْدَ سُلَيم، نَحْو «قُلْ ذا مُشْفِقَا» هذا الفصلُ يذكر فيه إلحاق القول بالظنّ في العَمَل في جزأَىِ الابتداء والخبر، فذكر أوّلًا لغة الجمهور من العرب في ذلك، وأنهم يلحقون القول بالظن بأربعة شروط، شرطان مصرّح بهما في كلامه: أحدهما: أن يلى مستفهما به، وذلك قوله: إن ولى مستفهما به، والضمير في وَلِى عائدٌ على فعل القول وهو تقولُ المذكور. والمستفهم به هو أداة الاستفهام، ولم يقيّده بأداة دون غيرها، فاقتضى الإطلاق في جميع أدوات الاستفهام، فتقول: أتقول زيدًا صاحبك؟ وهل تقول زيدًا صاحبك؟ ومتى تقولُ زيدًا منطلقًا؟ وأنشد سيبويه لابن أبي ربيعة للخَلِيطِ: أما الرَّحيلُ فدونَ بَعْدَ غَدٍ فَمتَى تَقُولُ الدارَ تجمعُنا؟ بنصب الدار. وأنشد غيره:

متى تَقُولُ القُلُصَ الرّواسما يَحْمِلْنَ أم قَاسِمٍ وَقَاسما؟ وكذلك «ما» إذا قلت: ما تقول زيدًا فاعلًا؟ ومنه فى الحماسة لعمرو بن معد يكرب: علامَ تقولُ الرُّمحَ يُثْقِلُ عاتِقِى إذا أنا لم أطعُنْ إذا الخيلُ كرَّتِ؟ يُرْوى بنصبِ الرمح. وعلى ذلك تقولُ: أينِ تقول زيدًا قاعدًا؟ وأىّ رجل تقولُ زيدًا مكرمًا؟ وما أشبه ذلك، فلو لم يتَقدّم الاستفهام لم يَعملِ القولُ، بل يرجع إلى الأصل فيه وهو الحكاية -إلا فى لغة سليم- فتقول: قلت: عَمرُو منطلق، وتقول: زَيدُ أخوك. والثانى: أن تكون أداة الأستفهام متصلة بالفعل، أو فى حكم المتّصل، وذلك قوله: ولمَ ينْفَصِلِ بغير كذا، يريد أَنّ الفعل لا يخلو أن ينفصل من الاستفهام أولا، فإن لم ينفصل فالإعمال لوجود الشرط. وإن انفصل الفعل من الاستفهام فإما بظرف أو مجرور أو عَمَل أو بغير ذلك، فإن انفصل بأحد الثلاثة فهو مُفْتقَر لأنها معمولاتُ القول أو معمولات معمولاته، والمعمول إذا تَقَدّم على العامل فهو فى نيّة التأخير، فكأنك حين قلت: أفى الدار تقول زيدًا، وأزيدًا تقول قائمًا؟ وأقائما/

تقول أخاك؟ إنما قلت: أتقول زيدًا فى الدار؟ وأتقول زيدًا قائمًا؟ وأتقول أخاك قائمًا؟ وكذلك إذا قلت: أفى الدار تقول زيدًا قاعدًا؟ وأعندك تقول زيدًا ساكنا؟ فكأنك قلت: أتقول زيدًا قاعدًا فى الدار؟ وأتقول زيدًا ساكنا عندك؟ فالاتصال حاصِلُ. وإن انفصل بغير ذلك فلا يجوز الإعمال عَمَلَ الظّنّ، وهو معنى قوله: «ولمَ ينْفَصِلِ» من الاستفهام، فلو قلت: أأنت تقول زيدٌ منطلق؟ فلا بدّ من الرفع على الحكاية بالقول، قال سيبويه: «لأنك فصلت بينه وبين حرف الاستفهام، كما فَصَله: أأنت زيدٌ مررتَ به، فصارَتْ بمنزلة أَخَواتِها، وصارت على الأصل». يفى صار زيد يختار فيه الرفع، كما كان زيدُ مررت به كذلك، لان الاستفهام قد انفصل منه، فلم يكن داخلًا عليه، فلم يكن ثَمّ طالبُ للفعل، فكذلك فى أأنت تقول، ليس الاستفهام بداخل على الفعل فَيَحْدُثَ فيه معنى الظن، فلم يصلح أن يعملَ عمله؛ إذ كان عملُه عَمَلَ الظّن تابعًا لأدائه معناه، فقولك: أتقول زيدًا أخاك، إنما معناه معنى: أتَظُنُّ زيدًا أخاك. ومن هنا يُجعَلُ قول الناظم: «ولتَظنُّ اجعل تقولُ»، يريد: اجعله مثله مطلقا فى المعنى والعمل. فهذان هما الشرطان المصرّحُ بهما فى كلام الناظم. وأما الشرطان غير المصرّح بهما فمشارُ إليهما بالمثال، وهو قولُه: «ولتَظن اجعل تقولُ». أحدهما: أن يكون فعلُ القول مضارعًا، كأنه قال: اجعل هذه الصيغة المعيّنةَ مثل تظن، فيخرج عن ذلك الفعلُ الماذى وفعلُ الأمر، فلا يجوز أن

يقال: أقلتَ زيدًا أخاك؟ ولا: قُل زيدًا أخاك؟ لأنه لم يبلغ من قوة القول فى تضميه معنى الظن وإعماله عمله أن يكون ذلك فى كل موضع. وإنما كان ذلك فيها فى موضع واحد وهو المضارع، فصار كما الحجازية لا تعمل فى كل موضع، قال سيبويه: «ولم يُجْعَلْ «قلتُ» كظننتُ لأنها إنّما أصلها عندهم أن يكون ما بعدها محكيا، فما دخلت في باب ظننتُ بأكثر من هذا، كما أنّ «ما» لم تقو قوّة ليس، ولم تقع فى جميع مواضعها، لأنّ أصلها أن يكون ما بعدها مبتدأً». والثانى: أن يكون مُسْنَدًا إِلى المخاطب، هو ما دلّ عليه المثال فى قوله: «اجعَلُ تقولُ»، كأنه قال: بشرط أن يكون مسندًا إلى ضمير المخاطب، فلا يجوز إعمال المضارع المسند إلى ضمير متكلّم ولا غائبٍ، فلا يقال أأقول عمرًا منطلقًا؟ ولا: أيقول زيدُ عمرًا منطلقا؟ بل الحكاية. واجبة؛ ووجه ذلك أن الإعمال إنما يكون مع فعل المخاطب إذا استفهمتَه عن ظنِّه، فأكثر ما يقول الإنسان لمخاطبه: أتقول كذا؟ وما تقول في كذا؟ يريد: ما تعتقد؟ وإلى أَيْشٍ تذهب؟ وكثر هذا المعنى فَأجروا مجْرِى الظنِّ؛ فإذا قالوا للمخاطب: أيقول زيدُ كذا؟ حَكَوا؛ إذ لم يكثر أن يُستفْهم المخاطبُ عن ظن غيره، هذا معنى تعليل سيبويه. ومثلُ ذلك استفهامُ الإنسان عن ظن نَفْسِهِ، لا يكادُ يوجدُ. فهذا كمال الشروط الأربعة، وهى غاية ما اشترطه الناسُ. ثم قال: «وَإِن ببعضِ ذِى فَصَلْتَ/ يُحتَملْ»، ذى: إشارة إلى ما

تَقَدّم له قريبًا، وهو الظرفُ وشبهه، وهو الجارّ والمجرورُ، والعملُ، ويريد به معمول القول، أطلق عيه مجازًا، وكأنه على حذف مضاف، أى: أو ذى عمل. وإتيانه بإشارة المؤنث، لأنها مما يُشار بها إلى الجماعة. والمتقدم له قريبًا ثلاثة أشياء، فلو قال: ببعض ذا، لتوهم أنه أراد بعض المعمولات، وأنه لم يُرِدْ الظرف ولا المجرور، وذلك فاسدُ، فأتى بما يُعطى شمول الثلاثة. ويعنى أنك إن فَصَلْتَ بين الاستفهام وفِعْلِ القول ببعض هذه الأشياء، بظرف، أو بمجرور، أو بمعمولاتِ القولِ، احتُمِلَ ذلك فى صحة الإعمال فلم يقدح فيه. فمثال الفصل بالظرفِ قولَكَ: أكلّ يوم تقول أخاك منطلقا؟ وأنشد فى الشرح: أبَعْدَ بعد تقولُ الدارَ جامعةً شَمْلِى بِهِمْ، أم دوامَ البُعْدِ مَحْتوما؟ ومثال الفصل بالمجرور قولك: أفى الدار تقولُ زيدًا قائمًا؟ ومثال الفصل بالمعمول قول الكميت: أَجُهَّالًا تقولُ بنى لُؤَىّ لَعَمْر أَبيكَ أم مُتَجاهِلِينا؟ ويروى: أنُوَّاما أم متناومينا؟ فالفصل بهذه الأشياء كلا فصلٍ، قال سيبويه -فى قولك: أكل يوم تقولُ عمرًا منطلقا؟ -: «لَا نفْصِلْ بها كما لَا

تفْصِلْ بها في قولك: أكلَّ يَوْمٍ زيدًا تضربه: ، يعنى أنها لم تغيّر اختيار النصب فى زيدٍ لأجل الفصل، فكذلك هاهنا. ومثال ما اجتمعت فيه الشروط قولك: أتقول زيدًا أخاك؟ ومتى تقول عمرًا صديقك؟ وأنشد سيبويه لعُمَر بن أبى ربيعة: أَمَّا الرحيلُ فَدُونَ بَعْدِ غَدٍ فِمتى تقولُ الدارَ تَجْمَعُنا؟ بنصب الدار. وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدى، وهو من أبيات الحماسة: عَلَام تقولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتِقِى إذا أنا لمْ أطعُن إذا الخيلُ كرّتِ؟ يروى بنصب الرمح ورفعه، والرفع على الرجوع إلى الأصيل من الحكاية، والنصب على إعمال القول. وقول الآخر: متى تقولُ القُلُص الرَّواسِمَا يَحْمِلْنَ أُمُّ قاسِمٍ وقاسما؟ وهو كثير. ثمَّ قال: وأجرى القولُ كظَنٍ مطلقا .. عند سلِيمٍ»، سليم: قبيلة من

قيس عيلانَ، وهو سُلَيم بن منصور بن عكرمة بن خَصَفة بن قيس بن عيلان. وسُلَيم أيضًا: قبيلة فى جُذَام من اليمن. ويعنى أن القول فى لغة سُليم يجرى مجرى الظنّ بإطلاقٍ من غير تقييد بشرطٍ من الشروط المذكورة فى غيرهم، فسواءُ أكان الفعل ماضيا أو مضارعا أو أمرًا، ولذلك مثّله بالأمر فقال: «نحو: قُلْ ذا مشفقًا»، وسواءُ تقدّمه استفهام أم لا، فتقول: قلت زيدًا قائمًا، ولا أقولُ عمرًا قاعدًا، وأنشدوا: قَالَتٍ -وكنتُ رجلًا فَطِينا: - هذا -وربّ البيت- إسرائينا فنصب إسرائين بقالت مفعولًا ثانيا، جعل اسم الإشارة المفعول الأوّل. وإسرائين: لغة في إسرائيل. وعلى هذه اللغة حمل فى الشرح ما أنشده الفارسىّ فى التذكرة وغيرُه، من قولِ الحُطَيئة: إذا قُلتَ أَنِّى آيب أهلَ بلدةٍ حَطَطْتُ بها عنه الوَلِيَّة بالهَجْرِ

بفتح أنّ، وذلك يقتضي الإعمال، وقد تأوّله الفارسي على غير لغة سُليم بأنّ جعل القول بمعنى الظن، قال/: ومعناه: إذا قَدَّرت وظننت أنِّي آيب، ولم يحمله على لغتهم؛ لأنّ لغة بني سُليم غير مسلتزمة لمعنى الظنّ. قال ابن خروف: القول في مذهب بني سُليم على معناه، وعمله عمل الظنّ بخلاف من يشترط فيه الاستفهام، فإنّه عندهم بمنزلة الظنّ معنىً وعملصا، وقد نصّ على ذلك سيبويه بقوله: إنّه لا يكاد يُستفهم عن ظنّ غيره، ولم ينصّ في لغة سُليم على شيء من ذلك. وما قاله ابن خورف هو ظاهر من كلام سيبويه؛ إذ أطلق القولَ بالإعمال في حكايته عن أبي الخطاب بقوله: «وزعم أبو الخطاب -وسألته غير مرّة- أن ناسًا يوثق بعربيّتهم -وهم بنو سُليم- يجعلون باب (قلتُ) أجمع مثل (ظننتُ)». يعني يجعلون ما دخله معنى الظنّ وما لا مثل (ظننت) في العمل. قال ابن الضائع: لو كان معنى الظنّ مشروطًا لاشترط سيبيه ذلك، حيث حكى هذه اللغة. قال: وأيضًا فلا يحتاج لذلك؛ لأنّ القول الذي هو النطق إنّما يكون عن علم أو ظنّ، فلا بدّ من الظنّ في ذلك. وأمّا الشلوبين فإنّه زعم أن النصب بالقول إذا لم يكن فيه معنى الظن لا وجه له، وأنّ بني سُليم لا يُعملون إلا على معنى الظنّ، ومعنى كلام سيبويه -عنده- لمّا قال: يجعلون

باب قلت أجمع مثل ظننت»، أى جميع ضروب القول من متكلم وغائب، وماض ومستقبل، مما فيه كلِّه معنى الظن ثم حكى عن بعض المتأخرين أنه فهم من كلام سيبويه أن القول كلّه ما فيه معنى الظن، وما ليس فيه معناه يجرى مجرى الظنِّ، وخطّأه فيه. وإذا تقرّر هذا فكلام الناظم محتمل للمذهبين معًا، وذلك أن قوله «مطلقا» راجع إلى التقييد المتقدم فى مذهب الجمهور إذا أعملوا، وهو لم يذكر هناك هل القول إذا أعمل معناه معنى الظن أم لا؟ وعلى ذلك ينبنى تعيين مذهبه، لكن تقدم أن معناه هناك معنى الظن، وذكر أن قوله: «ولَتَظن اجعَلْ تقولُ» يريد به فى المعنى والعمل، لأن معنى الظن كالازم لاجتماع الشروط، فيكون إذًا قوله فى هذا البيت: «وأُجري القولُ كَظنَ مطلقا» يريدُ فى المعنى والعمل. وهو ما نصّ عليه الشلوبين، ويظهر من الفارسىّ وابن جنى فى كلامهما على بيت الحطيئة، لأنهما أجريا فيه القول مجرى الظن بنص الفارسىّ، وتسليم ابن جنى في كتابه التنبيه، ثم قال ابن جنى: فإن قيل: فليس هنا استفهام فكيف جاز استعمال القول استعمال الظن؟ قيل: لم يجز هذا للاستفهام وحده، بل لأن الموضع من مواضع الظن، ولو كان للاستفهام مجردًا من تقاضى الموضع لإنه وتلقّيه إياه [فيه] لجاز أيضا: أأقولُ زيدًا منطلقا؟ وأيقول زيد عمرًا جالسًا؟ ولما لم يجز ذلك لأنه لا يكاد يستفهمه عن ظنّ غيره، وعلمت به أَن جوازه إنما هو لأن الموضع مقتضٍ له، وإذا كان الأمر كذلك جاز

[أيضاً] إذًا: قلت أَنِّى آيبُ، بفتح همزة أنى، من حيث كان الموضع متقاضيًا للظنِّ». هذا ما قال، واقتضى كلامُه أن بني سليم ينقسم القول عندهم قسمين، قسم يقتضى فيه الموضعُ معنى الظن، فهذا هو المعمل عندهم، وقسمُ لا يقتضى الموضعُ ذلك فيه، فليس بمُعْمَلٍ عندهم. وهذا محتاج إِلى توقيف، وظاهر نقل الأئمة خلافه. فهذا وجه مما يحتمله كلام الناظم. والوجه الثانى: أن يكون قوله: «ولتَظن اجعلْ تقولُ» يريد فى العمل خاصّةً، ويبقى معنى الظن مسكوتا عنه، لم يتعرّض له لعدم الحاجة إليه؛ لأن/ الشروط المذكورة إذا توفرت لزمها معنى الظن، فذكرُها مُغنٍ عن اشتراطه، وإذا تخلّف منها شرط أو أ: ثر بقى الفعلُ على أصل وضعه من الحكاية والدلالة على معنى النطق، ويكون قوله بعدُ: «وأُجرِى القولُ لتَظنّ مطلقًا»، يريد أيضا فى العمل خاصة، ولا ينظر فى لغة سُلَيم إلى معنى ظنٍ ولا غيره، فإذا توفّرت الشروط صار معنى القول كمعنى الظن، وإذا تخلفت بقى على أصل معناه، وربّما يدخله معنى الظن، إن دخل فلا يعتبر؛ إذ ليس ثمّ ما يطلبه. وعلى هذا يمشى كلامُ الناظم على ظاهر كلام سيبويه ومن وافقه، ولا فرق إذ ذاك عند سليم بين إشرابه معنى الظن وعدم إشرابه ذلك، بل يعلمون القول في القسمين. وهذا المحمل أولى الاحتمالين، وهو الذى قصد فى التسهيل فقال: «وإلحاقه فى العمل بالظن مطلقًا لغة سليم»، فقيّدَ

الإلحاق بالعمل، ثم قال: «ويخصّ أكثر العرب هذا الإلحاق بمضارع المخاطب الحاضر بعد استفهام» .. إلى آخر ما قال، فتأمل كيف لم يتعرّض لإشراب القولِ معنى الظن. وقوله: «قُلْ ذا مُشْفِقا»، الإشفاق لغة: الخوفُ، يقال: أشفقت عليه بمعنى خفت. ويقال: أشفقت من كذا، بمعنى حَذِرْتهُ وخِفٍت منه أيضا. وعلى الناظم بعدُ فى هذا الفصل دَرْكُ من أربعة أوجه: أحدهما: أن شروط الإعمال فى مذهب الجماعة إذا توفّرت كانت الحكاية جائزة، رجوعًا إلى الأصل فى القول، ولم يلزم الإعمال، قال سيبويه: «وإن شئت رفعت بما نصبت»، يعنى مع اجتماع شروط النصب، كأنه قال: وإن شئت رفعت فى الموضع الذى نصبت فيه. وبين ذلك المؤلفُ فى التسهيل فقال: «فإن عُدشم شرط رجع إلى الحكاية، وتجوز إن لم يعدم». وهذا مملا أعلم فيه خلافًا بين النحويين. وقد تقدّم الوجهين في بيت عمْرو: * عَلَام تَقولُ الرمْحُ يُثْقِلُ عاتِقِى * وأنشد ابن خروف: متى تقولُ خَلَتْ من أَهْلِها الدارُ؟ كأنَّهُمْ بِجَنَاحَىْ طَائِرٍ طَارُوا فأتى بجملة محكية بعد استكمال الشروط. وليس فى نظم الناظم ما

يشعر بالجوار، بل هو يقتضى لزوم الإعمال، لقوله: «وَلتظنّ اجعَلْ تقولُ» فهذا يقتضى اللزوم لأنه أمرُ بالإعمال كما قال أول الباب: «انصب بفعل القلبِ جزءَى ابْتَدِا». والوجه الثانى: أن الباب الأعمّ والمذهب المطرد فى القول هو الحكاية، وهو لم يتكلم فيها بشئٍ، وإنما تعرّض للإعمالِ وهو الأقل بالنسبة إلى الحكاية، وللغة سُليم وهى قليلة أيضًا بالنسبة إلى جميع اللغات، وترك ما هو الأولى بالبيان من أحكام القول، لا سيما وفيه فى الحكاية تفصيل، وذلك أن ما يقع بعد القول إما أن يكون جملة أو مفردًا، فإن كان جملة حُكِيَتْ على ما كانت عليه قبل دخول القول، نحو: قلت: زيد قائم، (قال الله: هَذَا يَومُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)، (قَالَ الله: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ). وإن كان مفردًا/ فإما أَنْ يكون فى تقدير الجملة، وهو الذى ليس من لفظِ القول ولا معناه، أو لا، فإن كان كذلك فهو محَلىُّ كالجملة، نحو: قلت: زيد، مجيبا لمن قال: من جاءك؟ ومن هذا القسم قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أنزلَ رَبُّكم؟ قالُوا: أساطيرُ الاولين}، كأنهم قالوا: هى أساطيرُ الأولِين، نفيًا لكونه منزلًا -صدق الله وكذبوا. وإن لم يكن فى تقدير الجملة وجب نَصبُه، كان من لفظ القول أو معناه، نحو: قلت قولًا، وقلت حقًّا وصدقًا، وقلت كذبًا وكلامًا. أو لم يكن كذلك بل أُريد به مجرد اللفظ، نحو قلتُ زيدًا، أي:

هذا اللفظ. ومن الأول: {وقيل للذين اتقوا: ماذا أنزلَ ربُّكم؟ قالوا خيرًا}. ومن الثاني: {قالُوا: سمعنا فتى يذكُرهُمْ يُقَالُ لَهُ: إبراهيم}، فإبراهيم مرفوع يقال، ولو بنى القول للفاعل لكان منصوبا. فأنت ترى هذا التفصسل الأكيد لم يذكره على كثرته وعموم البَلْوى به، وذكر لغة سُليم التى يُسْتَغنى عنها لقلتها بالنسبة إلى غيرها. فإن قيل: قد يؤخذ له حكم الحكاية من مفهوم قوله: «ولتَظُنّ اجْعَلْ تَقُولُ إِنْ وَلِى» كذا؛ لأن معناه أنّ القول يعمل مع توفّر الشروط، فمقتضاه أن الشروط إذا اختلت لم يعمل، وهو معنى الحكاية فيما بعده، فيحصل مرادُه. فالجواب: أن المفهوم من الكلام ليس ترك الإعمال فقط، بل ترك الإعمال عمل الظنّ، وإذا انتفى عمل الظن بانتفاء شرط لم ينتف الإعمال مطلقا؛ إذ نفي الأخصْ لا يستلزمُ نفى الأعَمّ، لتعدّد ما يبقى من وجوه الإعمال، كإعماله عمل ضرب أو كان إو إنِ، أو غير ذلك من وجوه الإعمال، والإهمال واحد من هذه الوجوه الداخلة تحت المفهوم، فمن أين يتعيّن. وأيضًا فترك الإعمال مطلقًا لا يصحّ؛ إذ القول لا يعرى عن العَمَل إما فى اللفظ إذا وقع بعده المفرد المحض، نحو: حقًّا وقولًا، وإما فى الموضع إذا وقع بعد الجملة أو المفرد فى تقديرها كما تقدم، والقصد هنا تعيين الحكاية، وهى لا تتعيَّن. وأيضا لو تعيَّنت لم يصحّ لما فى الحكاية من التفصيل المذكور.

والوجه الثالث من أوجه الدَّرْك: أن قوله: «وإنْ بِبَعْضِ ذى فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ»، حشوُ لا يعطى زيادةً فائدةٍ، علي ما يفهم له من الشطر الذى قبله؛ لأن قوله: «ولم ينفصل بغير ظَرْفٍ، أو كظرفٍ، أو عَمَلْ» يبيّن أن الفصل بها مُحتَمَلْ، فكان الأولى به أن يأتى فى هذا الشطر الثانى بالحكم الذى أغفل، وبيان ما أجمل. والوجه الرابع: أنه أطلق العبارة فى إجراء القول مجرى الظن، فاقتضى أنه جارٍ مجراه فى جميع ما يتعلّق به من الأحكام المتقدمة، ومن جملتها الإلغاء والتعليق، فكأنه يقول: وَلتَظن اجعَلْ تقولُ فى الإعمال والإلغاء والتعليق وغير ذلك. وهو إطلاق غير صحيح عنده؛ إذ قد نصّ فى التسهيل أن هذا الإلحاق مقتصر به على العمل، لقوله: «وإلحاقه فى العمل بالظن مطلقا لغة سليم» .. إلى آخره/. وما قاله هو القياس والصواب، أما فى لغة سُليم فظاهر؛ إذ لا يشترط فيه عندهم معنى الظن على ما هو الصحيح، والإلغا والتعليق لا يصح معناهما إلا مع أفعال القلوب، وليس القولُ منها، وإن اتفق معناه فى القول فغير معتبر ولا ملحوظ لعروضه وعدم أصالته. وأما فى لغة غيرهم فكذلك أيضا، فلم يتصرّفوا فى القول إذا أشرب معني الظن هذا التصرّف، بحيث يقوم مقام فِعْلِ الظن من كلّ وجهٍ، فليس لأحدٍ أن يفعل به ذلك، هذا وليس فى المسألة سماعُ يرجع إليه، فلا اعتماد على هذا الإطلاق لعدم صحته.

أعلم وأرى

وهذه الأوجه الأربعة قويّة الورود على الناظم، يصعُب الجواب عنها. (ثم قال): أَعْلَمَ وَأَرَى هذا هو النوعُ السابعُ من نواسخ الابتداءِ، وهو بابُ ما يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين، أصلُ الثانى والثالث منها المبتدأ والخبر، ويسمّى باب أَعْلَمَ. وقدّم هنا فعلين خاصّةً وقد ذكر معهما خمسة لكن آخر الباب، ولم يُصدِّر بها كُلّها، وكان الأولى أن يُصَدّر بالجميع على عادته فى ذلك وعادة غيره، فَيُسأَلُ: لِمَ لَمْ يفعل ذلك؟ والجواب: أنه إنما أتى بهذين الفعلين صدر الباب لأنهما الأصل فيه، وأما الخمسة الباقية فدخيلةٌ فيه بتضمين معنى أَعْلَمَ؛ فإن هذه الخمسة التى ذكرها آخر الباب -وهى: أنبأَ، ونبّأَ، وأخبرَ، وخَبَّر، وحَدّثَ- أصلها عند العرب أن تتعدّى بحرف الجرّ إلى الأثنين وبنفسها إلى الثالث، نحو: نبّأتُ زيدًا عن عَمْروٍ بكذا. وقد يسقط الجارّ من الأول نحو: نبّأت زيدًا عمرًا بكذا، ومنه ما أنشده سيبويه للفرزدق: نُبِّئْتُ عبدَ الله بالجوِّ أَصْبَحَتْ كرامًا مَوَاليها لَيئمًا صميمُها

وحمله على حذف الجارّ، كأنه قال: تُبِّئت عن عبد الله. وقد يحذف الثالث فتقول: نَبأتُ زيدًا عمرًا، أو الثانى فتقول: نبأت زيدًا بكذا، ونبأت زيدًا كذا، على حذف الثانى أيضا. وفى القرآن الكريم: {فَلَمَّا نَبّأتْ بِه وأَظْهَره الله عَلَيْهِ عَرّفَ بعضَه وأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ، فَلَمَّا نبَّأَها بِهِ قالَتْ: مَنْ أَنْبأَكَ هذا؟ قالَ: نَبَّأَنِىَ العليمُ الخبيرُ}، ففى الآية دليلٌ على أنها ليست من باب أعلمَ، فلما كانت كذلك لمَ يِلقْ بالناظم أن يجعل ما صدَّر به الباب مع الخمسة الأُخَر فى نصابٍ واحدٍ، ولهذا لما ذكر السيرافى أفعال هذا الباب قَسَّمها ثلاثة أقسام، أحدها: ما نُقِل بالهمزة من البا قبل هذا، وهو أعلم وأرى. والثانى: ما في معنى الخبر والتقدير فيه حرف الجر، وذلك الخمسة الباقية. والثالث: ما يُبْلَغُ به الثلاثة بالاتساع وليس مما يذكره الناظم هنا. فجعل الثانى مما أصلُه أن يتعدّى بالحرف، وهو صحيح. * * * (ثم قال الناظم): إِلَى ثَلَاثَةٍ رَأَى وَعَلِمَا عَدّوْا إِذَا صَارَا أَرَى وَأَعْلَمَا / يعنى أنّ رأى وعلم المتقدّمين قبلُ إذا نُقِلا بالهمزة فصارا إلى

صيغة أفعل نحو: أرى وأعلَمَ، تعدّيا إلى ثلاثة مفعولين، مثال ذلك: أعلمتُ زيدًا عمرًا أخاك، ورأيت بكرا بشرً قائما. وفى هذا الكلام تنبيهُ على أُمورٍ سوى المعنى المفهوم أولا: أحدها: أن هذين الفعلين منقولان بالهمزة مما يتعدّى إلى مفعولين، فليسا فى هذا التعدّى أَصِيلِين، وذلك بَيِّنُ من قوله: «إذا صَارا أرى وَأَعْلَما»، يعنى بالتعدّى بالهمزة المتعدّية اللاحقة لرأى وعَلِم. والثانى: أنه لما أطلق القول فى رأى، وكان قد قدّم لها معنيين تكون بهما من النواسخ، أشعر ذلك بأنها كذلك إذا نقلت بالهمزة فمثال العِلّميّة ما تقدم، ومثال الحُلُمية قول الله سبحانه: {إِذ يُريكَهُمُ الله في مَنَامِك قليلًا ولو أراكَهُم كَثِيرًا لفشلتم} الآية. ثم قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوُهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُم في أَعيُنِكُمْ قَلِيلًا}، فهذه بصرية تتعدّى بالهمزة إلى أثنين، و (قليلًا) حالُ لا مفعولُ ثالث. والثالث: أن قوله «عَدّوا»، يريد بضميره العرب، ففيه تنبيهُ على أَنّ هذه التعدية إنّما قيل بها لما كانت العربُ قد أتَتْ بها، ولولا ذلك لم يُقَلْ بها قياسًا؛ إذ القاعدة الاستقرائية أنّ التعدّى بالهمزة فيما يتعدّى إلى اثنين سماعُ وليس بقياس؛ إذ لم يكثر كثرةً توجب القياس، بخلاف غير المتعدّى فإنه يتعدّى بالهمزة قياسًا، لكثرة ما جاء منه فى السماعِ، وكذلك المتعدّى إلى واحدٍ قد

يُعدَّى بالهمزة قياسًا. وسببُ القياس فى هذا وعدمِ القياس فى المتعدّى إلى اثنين أنّ التعدية إنما هى إلحاقُ للمعدَّى بما قَصُر عن أن يتعدّى تعديته بحقّ الأصل، فإذا لم يكن ثم ما يتعدّى بحق الأصل إلى ثلاثة كان قياس هذا أن لا يُعدّى. وهذا المعنى مبسوط فى باب التعدّى. وإذا كان كذلك ثبت أن أعلمَ وأرى على خلاف القياس، فلا يقاس عليهما غيرُهما، وهذا مذهب الجمهور. وذهب أبو الحسن إلى جواز إلحاق أخوات علم وأرى بهما فى التعدية بالهمزة قياسًا، فيقال: أظننتُ زيدًا عمرًا أخاك، وأحسبتُ بشرًا زيدًا صديقك، وأزعمتُ زيدًا بكرًا مقيما، وأخلْتُه عمرًا منطلِقًا، وأوجدتُك زيدًا رفيقك وما أشبه ذلك. وقد رُدَّ مذهبُ الأخفش بما أشير إليه من أنه ليس للمتعدّى إلى اثنين بنفسه ما يُلحَقُ به في باب الثلاثة؛ إذ ليس فى باب الثلاثة ما يتعدّى إليها بنفسه فيلحق هذا به بالهمزة. وقوله: «رأى وعَلِما» منصوبان على المفعولين بعدوّا، والمجرور متعلق به أيضا، أى: عَدّوا رأى وعَلِم إلى ثلاثة إذا صارا أَرَى وأعلَمَ. والتعدّى: هو نصبُ الاسم على المفعول به. وفى قوله «عدّوا» مع قوله «إذا» إشكال لفظىّ، لأنّ عَدّوا ماضٍ، وإذا لما

يستقبل، ولا يَعْمَلُ الماضى فى المستقبل، لا تقول: قمتُ إذا طلعتِ/ الشمس، وإنما الموضع لإذ. والجواب: أن المؤلف قد حكى أنّ إذا تقع موقع إذ، فتأتى للزمان الماضى، وجعل من ذلك قول الله تعالى: {وَلَا عَلَى الّذِينَ إِذَا ما أَتَوكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ} .. الآية، وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوا تِجَارَةً أَو لهوًا انفضُّوا إِلَيْها}. وفى الشعر من ذلك أشياء كقوله: وَنَدمانٍ يزيدُ الكأسَ طيبًا سَقَيتُ إِذَا تَغَورَتِ النجومُ فهذا من ذلك على رأيه فيها. * * * ثم شرع فيما يتعلّق بهما من الأحكام فقال: وَمَا لِمَفْعُولَى عَلِمْتُ مُطْلَقَا لِلّثانِ وَالثّالثِ أَيْضًا حُقِّقَا يعنى أن كلّ حكم ثبت لمفعولى علمتُ وأخواتها فإنه ثابتُ هنا للمفعول الثانى والثالث، محقّقُ من غير استثناءِ أَمْرٍ، وهو معنى قوله «مطلقا» مع مجئ ما المقتضية لعموم الأحكام. والذى قَدّم لمفعولَى علمت

من الأحكام أربعة: أحدها: الإلغاء، فتقول: عَمْروُ منطلق أَعلمتَك، وعمرو -أعلمتُكَ- منطلق- وحكى المؤلف عن العرب: البركةُ -أعلَمنَا اللهُ- مع الأكابر. وأنشد: وأنت -أَرانى اللهُ- أَمنعُ عاصمٍ وأمنَحُ مستكفىٍ وأسمحُ واهبِ ووجود السماع يدلّ على صحة القول بما قال الناظم من جواز الإلغاء هنا، وهى مسألة مختلفِ فيها على ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا، أعنى في الثانى والثالث لا فى الأَوّل؛ إذ لا يجوز فيه إلغاءُ ولا تعليقُ أتفاق، وهذا هو رأى الناظم. والمنع بإطلاق، وهو رأىُ الشلوبين، وأضافه إلى المحققين. والفرق بين أن يبنى الفعلُ للمفعول فيجوزُ لمساواته فى الحكم لباب علم، وبين أن يبنى للفاعل فلا يجوز؛ لأن الفعل يكون إذ ذاك مُعْمَلًا مُلْغىً فى حالة واحدة، وذلك تناقض، ويظهر هذا الفرقُ من الجزولى. والسماع والقياسُ يدلّان على صحة الأوّلِ، أما السماع فقد مرّ، وأما القياس فَيما بين عَلِمَ وأعلم من المناسبة اللفظية والمعنوية، فاللفظية اتَحاد المادة، والمعنوية اتحاد المعنى الذى دلت عليه المادة، وأيضًا فاتحادهما فى التصرف، وإنما افترقا بزيادَةِ أَعلمَ مفعولًا آخر، وذلك غير ضارّ؛ فإن الأصل عَلِم، وإنما تَعدَّى بلَحاقِ الهمزة،

فالهمزة مزيدةٌ على عَلِمَ، فينبغي أن يبقى في أَعلَمَ حكمُ عَلِمَ، ألا ترى إلى بقاء أحكام عَلِمَ فيه بعد النقل: من عدم الاقصار على أحد المفعولين الثاني والثالث، وغير ذلك من الأحكام؟ وأمّا كونه مُعمَلًا في حالٍ واحدة فذلك قياس مع وجود السماع، وأيضًا فذلك من وجهين مختلفين؛ إذ الفعلُ من جهة المعنى مؤثّرٌ في الأول فلم يصحّ إلغاؤه بالنسبة إليه كما لم يصحّ إلغاءُ ضربتُ ولا كسوتُ، وغير مؤثّرٍ في الثاني والثالث فصحّ إلغاؤه عنهما [كما صح إلغاؤه عنهما] قبل النقل باتفاق. وإنما يمتنع الإلغاء وعدمُه في حالةٍ واحدةٍ إذا لم تختلف الجهتان، ولذلك لم يصحّ إلغاء عَلِمَ عن أحد مفعوليه دون الآخر، وإنما رُفِضَ لئلا يبقى المبتدأ بلا خبر والخبر بلا مبتدأ، وذلك مفقود. والحكم الثاني: التعليق، نحو أعلمت زيدًا أأبوه عندك أم أخوه؟ ، وأعمتك/: ما زيدٌ قائمٌ، ومنه في نَبّأَ الآتية بعد هذا قول الله تعالى: {وقال الذين كفَرُوا هَل نَدُلُّكُم على رَجُلٍ يُنَبِّئكُم إذا مُزّقتُم كُلّ مُمَزّقٍ إنّكُم لفي خَلقٍ جديد}. وأنشد المؤلّف: حَذَارِ فقد نُبّئتُ أنّك للّذي ستُجزَى بما تسعى فتسعدَ أو تَشقى

فهذا عند الناظم جائزُ قياسًا، وهو أحُد المذاهب الثلاثة المحكيّة. والثاني: المنعُ بإطلاق، والثالث: التفرقة المذكورة فى الإلغاء. والحُجَةُ للمذهب الأول ما تقدم، وأيضًا فلا محذور فى تعليق الفعل عن بعض معمولاته دون بعض، كما جاز ذلك في عَلِم، فكما يجوز لك أن تقول علمتُ زيدًا أبو من هو، كذلك يجوز أن تقول: أعلمتُ زيدًا أنُهم فى الدار فإن قيل: إن زيدًا مع علمت مُعَلّق من جهة المعنى، بخلاف هذا. فالجواب: أن امتناع الجمع بين التعليق وعدمه فى المعمولات هنا إما أن يكون لأمرٍ لفظى أو لأمر معنوىّ، فإن كان لأمر لفظى -وهو مَنحُ اللفظ- فَلْيمنع فى: علمت زيدًا أبو من هو؛ لأن العامل قد عُلِّق عن أحد المعمولين دون الآخر، وإن كان لأمر معنوىّ فليس ما ذكرت، بل لأجل أن الفعل مؤثر في الأول فلا يعلّق عنه، وغير مؤثر فى الباقين فيصحّ تعليقُه عنهما، كما أن علمت غير مؤثّر فى معموليه فيصحّ تعليقه عنهما. وأما التفرقة بأنّ زيدًا مع علمت مُعَلَّق عنه الفعلُ من جهة المعنى بخلاف الآخر، فلا معنى له. وأما تفرقة الجزولىّ هنا وفى المسألة قبل فمعتمدُه فيها أن المبنى للمفعول صار بصورة المتعدّى إلى اثنين، فجاز فيه ما جاز فى عَلِم. وهو فرقٌ ضعيف. والحكم الثالث: امتناع حذف المفعولين أو أحدهما اقتصارًا، فلا تقول: أعلمتُك زيدًا، ولا: أعلمتك قائما، [ولا: أعلمتُكَ]، ولا: أعلمت زيدًا - فتحذف الثلاثة.

وهذه ستُّ مسائل تضمّن كلامُ الناظم في إحالته امتناعها، وهي فى الحقيقة ترجع إلى ثلاث مسائل إذ اعتبرتها؛ فأمّا الأولى والثانية والرابعة والخامسة فمتفق على امتناعها؛ إذا صار المبتدأ فيها بلا خبر، والخبر بلا مبتدأ. وأمّا الثالثة -وهى حذف الثاني والثالث دون الأول- فوافق الناظمُ فى منعها جماعةً منهم ابن خروف وشيخه، خلافًا لمن أجاز ذلك منهم: الأخفش والسيرافى والخِدَبُّ فى بعض الأقات ثم رجع إلى المنع، والمؤلف فى التسهيل وشرحه، فهو ممن اضطرب رأيه فى المسألة. وحجةُ المنع هنا ستأتى. وأما السادسة -وهى حذف الثلاثة فامتنعت لأجل حذف الثانى والثالث لا لأجل حذف الأول؛ إذ الأول لم يَنُصّ على امتناع حذفه اقتصارًا، فيفهم له من استثنائه له أَنّ حكمه حكم غيره من المفعولات التى يجوز الاقتصار دونها، ولا يجوز فيها إلغاء ولا تعليق، كمفعولى باب كسا، وقد ذكر جوازُ الاقتصار فى غير ما أصله المبتدأ والخبر فى بابه، فمن هناك/ يؤخذ له جوازُ الاقتصار على الثانى والثالث هنا دُونَ الأوَّلِ، فإذا حُذِف الأول معهما كان ممتنعًا عنده أيضا، فالخلافُ فيها مع من تقدم فى الثالثة. وقد يحتج لما ذهب إليه أنه لما كان باب أَعْلَمَ محمولًا على باب عَلِم فى كثير من الأحكام؛ إذ جرت فيه أحكام الاقتصار والمنع منه على الجملة، والإلغاء والتعليق، وكانت جملة مسائل الاقتصار ممنوعة في علم

لموجبات اقتضت المنع، حُمِلَ [جَميعُ] مسائله فى باب أعلم ذلك المحمل، ما فيه منها موجب، وذلك الأولى والثانية والرابعة والخامسة، وما ليس فيه موجب وذلك الثالثة والسادسة؛ إذ الفائدة حاصلة إذا قلت: أعلمتك، أو أعلمت، بخلاف عَلِمْتُ، كما تقدم، ليجرى الباب مجرىً واحدًا. ولا تستضعف هذا المأخذ فإنّ له فيه أسوة، وهو القاضى أبو الواليد الوَقّشِىُّ، فإنه قال فى المسألة نفسها: لمّا امتنع بإجماع حذف الثانى وحده والثالث وحده، وحذف الأول والثالث معًا، وحذف الأولى والثانى معًا، حُمِل حذف الأول وحده والثانى والثالث وحدهما على الأربعة المذكورة فى الامتناع، من باب حَمْلِ الأقلّ على الأكثر. هذا ما قال، وهو عينُ ما ذهب إليه الناظم لمّا كان الأولُ مثلَ الأولِ فى باب كسا. هذا حكم الحذف اقتصارًا، وأما الحذفُ اختصارًا فقد قدّم هو أنه فى باب عَلِم جائز، فكذلك يكون هناك جائِزا. وهو الحكم الرابع، فتقول -لمن سأل: هل أعلمتَ زيدًا عمرًا-: أعلمت. منطلقا؟ وتقول: أعلمتُ زيدًا، أو: أعلمت عمرًا، أو: أعلمت عمرًا منطلقا، أو: أعلمت منطلقا أو ما أشبه هذا؛ لأن المحذوف اختصارًا فى حكم الملفوظ به. وقوله: للثانِ، أصله: للثانى، إلا أنه حذف الياءَ ضرورة، كما قال

الأعشى، أنشده سيبويه: وَأَخُو الغَوانِ متى يَشَأْ يصْرمْنَهُ وَيصُرْت أعداءً بُعَيدَ وِدَادِ ويجوز مع ذلك فى الكلام قليلًا. ومعنى: حُقِّق: أُثْبِتَ، أى: أثبت ما لمفعولى علمتُ من الأحكام للثانى والثالث هنا، لأنّهما هما. والحقُّ معناه: الثابتُ. * * * (ثم قال): وإِنْ تَعَدّيا لِوَاحِدٍ بِلا همْزٍ فَلاِثْنَينِ بِهِ تَوَصَّلَا وَالثّانِ مِنْهُمَا كثانىِ اثْنَى كَسَا فَهْوَ بِهِ فىِ كُلِّ حُكْمٍ ذُو انْتُسِآ لما كان أعلم وأرى فى تعدّيهما على وجهين: وكان سببُ ذلك تعدّى أصلهما، أخذ يعرّف بالوجهين، فتكلم أولًا على أحد الوجهين وهو حيث يكونُ أصلهما متعدِّيا إلى اثنين، ثم عطف بالوجه الثانى وهو حيث يكون أصلهما متعدِّيا إلى واحدٍ، فيعنى أنّ أرى وأعلم إن كن قبل النقل بالهمزة يتعدّيان إلى

مفعول واحد فإنهما إذا نُقِلا بالهمزة تعدّيا إلى اثنين؛ فقوله: «بلا هَمزْ» أراد قبل النقل، وقوله: «به»، يريد بالهمزة أى: فبالهَمْزِ توصّلا إلى التعدّى إلى اثنين. والحاصلُ أن الهمز يُوَصِّلُ إلى زيادة منصوب على المفعولية، أما عَلِم فقد قدّم هو أنه إذا كان بمعنى عرف تعدّى إلى مفعولٍ واحدٍ فى/ قوله: «لِعلْم عِرْفَانٍ وَظَنٍّ تُهَمَهْ» .. إلى آخره. ومثاله: علمت زيدًا، فإذا نقلت هذا بالهمزة قلت: أعلمت زيدًا الخبر، أى: عرّفته إياه. وأما رأى فتكون بمعنى أبصر فتتعدّى إلى واحدٍ، نحو: رأيتُ وجهك، وتكون بمعني اعتقد نحو: رأيت قول مالك. أى: اعتقدت، وتكون بمعننى الإصابة فى الرئة، فتقول: رأيت زيدًا، أى: ضربته فى رئته. فكلّ هذا يتعدّى الفعل فيه إلى واحدٍ، فإذا نقلته بالهمزة قلت: أريتُ وجهك زيدًا، وأريتُ زيدًا قول مالك، وأريت زيدًا عمرًا. فإن قلت: لِمَ اقتصر هنا على ذكر ما يتعدّى إلى واحدٍ قبل النقل، وقد كان من الفرض أن يذكر ما لا يتعدّى أصلًا؛ إذ هو خارج عن هذا البابِ، كما كان المتعدّى إلى واحدٍ، فإما أن يخرج الجميع، وإما أن يسكت عن الجميع، وسكوتُه عن الجميع مخلٌّ؛ إذ يدخل فى الباب ما ليس منه، فسكوته عن البعض أيضًا كذلك، فكان الأولى أن يقول: وَإنْ تَعَدّيا بلا هَمْزٍ إلى واحدٍ وَصَلا به إلى اثني، وإن لم يتعديا أصلًا بلا همز توصَّلا به إلى واحدٍ. فالجواب: أن رأى وعلم ليسا ممّا يستعملان غير متعديين

استعمالًا متعدًّا به، أما رأى فلم يحكه المؤلف فيه فى التسهيل ولا شرحه، على اتساع باعه فى الحفظ. وأعلم فإنما حكاه فى قولهم: عَلِم فهو أعلم: إذا انشقّتْ شفته العليا. وليس فى الاستعمال بشهير شهرة غيره من الاستعمالات، فلم يَحْفِلْ به. وأيضا فإذا حققنا قصده مما تقدّم له فى الباب قبل هذا وجدناه لم يتعرّض إلا للأفعال القلبية، وقد مَرَّ بيان هذا، فلم يدخل له هنا بحسب قصده إلا رأى بمعنى اعتقد، وعلم بمعني عرف. وأمّا رأى بمعنى الإبصار أو بمعنى الإصابة، وعَلِم بمعنى شَقّ الشقة فلا دخول لها هنا، والله أعلم. ثم ذكر حكم المفعولين هنا، وهل لهما حكم ما تقدّم أم لا فقال: «والثانِ منهما كَثَانِى اثْنَىْ كَسَا»، حذف هنا ياء الثانى كما حذفت فى قوله: «للثّانِ والثّالِثِ أيضًا حُقِّقَا». وأراد أَنّ الثانى من هذين المفعولين فى: أريت زيدًا رأى مالك، وأعلمت زيدًا الخبر، كالثانى من مفعولى كسا، لا كالثانى من مفعولى عملت العلميّة. ووجه الشبه بينهما أن الثانى فيهما غير الأول، كما إذا قلت: كسوت زيدًا ثوبًا، فزيدُ غير الثوب، وكذلك إذا قلت: أعلمت زيدًا الخَبَر، فزيدُ غيرُ الخَبَرِ، بخلاف: علمت زيدًا أخاك، فإن الأخ هو زيد، وزيدُ هو الأخ. وإذا كان مثل الثانى فى كسا «فهو به فى كل حُكم ذو ايُتا»، يريد أنّ الثانى من مفعولى أعلمت ههنا فى جميع أحكامه مثلُ ثانى مفعولى كسا. والأحكام التى تتعلّق بمفعول كسا جملة، سيذكرها فى بابها إن شاء الله، فمنها: جواز حذفه دون الأول اقتصارًا، فتقول: أعلمت زيدًا، وأريت

زيدًا، كما تقول: كسوت زيدًا. وجواز حذف الأول دون الثانى اقتصارًا أيضا، فتقول: أعلمتُ الخبر، وأريتُ مذهب مالك، كما تقول: كسوت ثوبا. وجواز حذفهما معًا نحو: أعلمت، وأريت، كما تقول: كسوتُ. ومنها منعُ الإلغاء والتعليق كما امتنع ذك فى كسا، إلى غير ذلك من الأحكام المتعلّقة بكسا، حسبما يأتى إن شاء الله./ إلا أنّ فى هذا الكلام نظرًا من وجهين: أحدهما: أنّ قوله: «كثانى اثنى كسا» إما أن يكون ثانى بمعناه الظاهر، واثنى كسا مرادفًا لقولك: مفعولى كسا، حتى كأنه قال: كثانى مفعُولى كسا. وإما أن يكون بمعناه فى قولك: ثانى اثنين، وثالث ثلاثة، أراد: كأحد اثني كسا. وعلى كلا الأمرين فتخصيصه الثاني بالحكم بقوله: الثان منهما كثانى كذا، لا وجه له؛ فإن الأول منهما أيضًا كذلك. وأيضًا فذلك التخصيص يوهم أن المفعول الأوّل ليس كأحد مفعولى كسا. وهذا مخلٌّ، فكان الأولى أن يقول: وحكمُ المفعولين هنا حكمُ مفعولى كسا، فلو قال مثلًا: * ثُمَّ هُمًا هُنَا كمفعولَىْ كَسَا * أو ما أعطى ذلك من النظم، لتَمّ كلامه وصحّ. والثانى: أنه قال: «فَهْوَ به فى كلِّ حُكم ذُو أتسا»، فهو: عائد إلى الثانى وبه: عائد إلى ثانى اثني كسا، أى: هو مثله فى كلّ حكمً تَعلَّق به، ومن جملة الأحكام المتعلقة بثانى اثني كسا أنه لا يُعلَّق عنه

فعلُه، فاقتضى أن الثانى من مفعولى أعلمت بمعنى عرفت لا يعلّق عنه فعلهُ، وكذلك أريت. وذلك غيرُ صحيح، بل تقول: أعلمتُ زيدًا أبو من عمرو، فى المنقول من: عَلِم زيدُ أبو من عمرو، كما تقول: عرف زيدُ أبو من عَمْرو، وفى المنقول منه: عَرّفت زيدًا أبو من عَمْرو. ويلحق بها أيضًا «أريت» فى هذا الحكم إن قلنا بالقياس الذى أشار إليه فى التسهيل. وإذا ثبت هذا كانت كُلِّيتُه غير مستمرَّة. والجواب عن الأول أن مراده -كما تقدم أَنَّ الثانى من مفعولَى أعلمت وأريت غيرُ الأول، كما أنّ الثانى فى كسا غير الأول، وإذا كان معنى هذا كانَ فى قوة أن لو قال: والثانى مع الأول كذا، وإذا كان كذلك فليس الثانى مع الأول بمخصّصٍ بالذكر دون الأول، لأنه إذا كان الثانى مع الأول كان الأول مع الثانى كذلك، ويلزم من ذلك أن يكون حكمُ الأول مع الثانى كحكم الثانى مع الأول. وأيضًا فإذا كان الثانى غير الأول كما فى كسا، وكان ثانى كسا حكمه حكم الأول، فكذلك يجب أن يكون ثانى أعلم هنا حكمهُ حكمُ الأول، فلا يلزم على هذا محذور. وأما الثانى فإنّ المسألة تقتضى وجود الخلاف فيها من مسألة أعلم، حيث اختلف فى جَوازِ التعليق فيها مع الاتفاق عليه فيما نقلت منه، فكذلك يلزم فى أعلمت المنقولة من علمت -بمعنى عرفت- أن يجرى فيها الخلاف، ويكون وجه المنع ما تقدم عدم ورود السماع بذلك.

والائتساءُ ممدودُ، وهو مصدر ائتسى به: إذا اقتدى به واتبعه، والأسوة: القدوة، أى: فهو به ذو اقتداء فى كل حكم. ولا يعنى أنه ذو اقتداءٍ به بمعنى أنه مقيس عليه، وإنما أراد فى تعريف الحكم خاصة. وبقى هنا فى كلامه مسألة، وذلك أَنّ قوله: «وَإِنْ تعدّيا لواحدٍ بلا هَمْزٍ، .. إلى آخره، يقتضى جواز تعدِّى مثل: عرفتُ زيدًا، بالهمز، حتى يصير به متعدِّيًا إلى اثنين، ويلزم على جواز هذا جواز ما لا يتعدّى أن يتعدّى بالهَمْزِ إلى واحدٍ قياسًا، وهو بذلك أولى من المتعدّى. وقد تقدّم فى أرى وأعلم أنه عنده سماع، فالمتعدّى بنفسه إلى اثنين لا يتعدى بالنقل إلى ثلاثة قياسًا عنده، فمذهبه فى المسألة مذهب ابن خروف، وهو التفرقة. وقيل: إنه لا يجوز قياسًا إلا فيما لا يتعدّى، كقام وأقمتُه، وقعد وأقعدته. وأمّا ما يتعدّى فلا يجوز أن يتعدّى بالنقل، وما جاء من نحو: لبس الثوبَ وألبسته إياه وعلمت زيدًا قائمًا، وأعلمت زيدًا قائما فسماع، ويظهر هذا من سيبويه. وقيل: يجوز قياسًا فى الجميع. وينتهى التعدّى إلى ثلاثة مفعولين خاصّةً، أعنى التعدّى بالهمزة باتفاق. وهذا رأى الأخفش، وقد تقدم التنبيه عليه، ولم يأت عنه النصّ فى هذا إلّا فى ظنّ وأخواتها، وأُلْزِم على ذلك إجازةَ أكسيتُ زيدًا عمرًا ثوبًا، هو لازم. ووجه ما ذهب إليه الناظم القياس والسماع، أما القياس فهو أن المتعدّى بالهمزة إنما عدّى بها ليلحق بالمتعدّى بنفسه فى الرتبة التى فوقه، فما لا يتعدّى يلحق بالمتعدّى لواحدٍ بنفسه كضرب، فتقول: أقمته كما تقول:

ضربته. وما يتعدّى إلى واحد بنفسه يلحق بالمتعدّى إلى آثنين بنفسه ككسا، فتقول: ألبسته ثوبا، كما تقول: كسوته ثوبا وأما ما يتعدّى إلى اثنين فلا يلحق بما فوقه بالهمزة؛ إذ ليس فوقه ما يتعدّى إلى ثلاثة بنفسه فيلحق هذا به. ومن هنا قال بعضهم: إن نصب الظرف أو غيره على المفعول به اتساعًا لا يصحّ فيما كان متعدّيا إلى ثلاثة، لأن نَصْبَه على الاتساع تشبيه له بالمفعول الصحيح مما فوقه فى الرتبة، وليس ثَمَّ مفعولُ به رابعُ لمفعولِينَ ثلاثة؛ إذ الثلاثة هى النهاية، فلا يصح الاتساع فى الظرف إلا إذا كان الفعلُ غير متعدٍّ، ومتعدّيًا إلى واحدٍ أو اثنين. وما ذهب إليه الناظم هو أيضًا ظاهر الفارسىّ فى الإيضاح. وأما السمع فهو فى غير المتعدّى كثير جدًّا وفى المتعدّى كثير أيضا، إلا أنه لا يكثر كثرة الأول، ومنه: لبس الثوبَ، وألبستُه الثوبَ. ونلتُ الشئ وأنُلتكَه. وعطا الرجلُ الشئَ، أى: تناوله، وأعطيته إياه. ورأيت الشئ، أى أبصرته، وأريتَكَه، وسمعت الكلام، وأسمعته إياه. وعَلِم الشئ وأعلمته إياه، أى: عرّفتهُ إياه. ومثل الفارسى المسألة بقولك: أضربت زيدًا عمرًا، قال: «وتقول: أبى زيد الماء، وآبيتُهُ الماء. وأنشد لساعدة بن جؤُية:

قَدْ أُوِبَيتْ كُلَّ ماءٍ فَهْىَ صَادِيةٌ مَهْما تُصِبْ أُفُقًا مِنْ بَارِقٍ تَشِمِ هذا كلّه ظاهِرُ أن يقاس مثلُه، بخلاف ما يتعدّى إلى اثنين بنفسه فإنه لا يكثر تعدّيه بالهمزة إلى ثلاثةٍ، بل هو قليلُ لا يبلغ مبلغ أن يقاس عليه. والله أعلم. * * * (ثم قال الناظم): وَكَأَرَى السَّابِقِ نَبَّأَ أَخْبَرَا حَدّث، أَنْبَأَ، كَذَاكَ خَبَّراَ يعنى أَنَّ هذه الأفعال الخمسة، وهى -نبَّأَ، وأَخْبَرَ، وحدَّثَ، وأنبأَ، وخبَّرَ- مثلُ أَرَى الذى تقدّم ذكره/ وسبق أول الباب، وهو المتعدّى إلى ثلاثة، فتتعدّى هذه الأفعال تعدّيه، ويكون حكمُها حكمَه. وتحرّز بالسابق من أرى المتعدى بعد النقل إلى اثنين، وهو المنبّه عليه بقوله: وَإِنْ تَعدّيا لواحِدٍ بلَا هَمْزٍ فلا ثْنَينِ به تَوَصّلَا فلو لم يُقيِّد بالسابق لتوهّم أنه أحال على أقرب مذكور، وذلك

إخلال، فتقول: نَبَّأتُ زيدًا عمرًا أخاك، وأخبرتُه بشرًا صَدِيقَك، وكذلك سائرها. ومن مُثُلِ ذلك عند بعضهم قولُ الله تعالى: {وقال الذينَ كَفَرُوا: هَلْ ندلُّكُمْ على رجل يُنبِّئكم إذا مُزِّقْتُم كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكم لَفِى خَلْقٍ جديد}. ومن ذلك قولُ كعب بن مالك، رضى الله عنه: سألتُ بك ابنَ الزِّبعرى فَلَمْ أَنَبَّأك فى القومِ إلا هَجِينَا وقال الآخر: نُبِّئْتُ زُرعَةَ والسفاهة كاسمها يهدى إلىّ غرائب الأشعار فَيُهدى: فى موضع المفعول الثالث. وقال الآخر، أنشده ابن خروف: وَأُنْبُتُ قَيْسًا وَلَمْ أَبْلُهُ -كَمَا زعمُوا- خَيْرَ أَهْلِ اليَمَنْ وقال الحارث بن حِلِّزة: أَوْ مَنَعْتُمَ ما تُسأَلُونَ فَمنْ حُدِّئْتُمُوهُ لَهُ عَلَينا العَلَاءُ

وقد تَقَدَّم وجهُ تأخيره هذه الأفعال، وأيضًا فإن إِثبات هذه الخمسة من هذا الباب فيه نظر؛ لأنها لم تتعيَّن له، وما ذكر من السماع فيقدّر إسقاط الجارّ منه فى بعض المفولين كما قَدّر سيبويه -فى: نُبِّئت زيدًا، يريد: عن زيدٍ- وكذلك غيره، وأيضا فالنصب بعد إسقاط الجارّ ثابت فى قولهم: نُبِّئتُ زيدًا مقتصرًا عليه، وبعد أنبأَ فى قوله تعالى: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ }، ولم يَثْبُت إجراؤهما مجى أعلم إلا حيث يحتمل حذف الجارّ، فكان الحملُ عليه أولى، هذا فى نَبَّأَ مع كثرة استعمالها، وأما أخواتها فيندر استعمالها على تلك الصورة، كقول الحارث بن حِلِّزة، فَيْجُعْل التقدير فيه: فمن حُدِّثْمُ عنه. والجملة بعد المنصوب حالية، أو على إضمار القول. فلما كان كذلك، مع أن النحويين لم يتحاشوا من عدّها فى هذا الباب، رأى أنَّ ذكرها اقتداءً بهم أولى، مع التنبيه على قصورها عن أعلم وأرى بتأخيرهما عنهما. والله أعلم. * * *

الفاعل

الفَاعِل الجملة المفيدةُ على قسمين: جملة اسمية، وجملة فعلية؛ فالجملة الاسميّة هى جملة المبتدأ والخبر، وهى التى فَرَغ الآن من ذكرها وذكرِ أحكامها وعوارِضها. والجملة الفعلية هى: جملة الفعل والفاعل، وهى التى شَرَع الآن فى ذكرها وذكر أحكامها، وابتدأ بتعريف الفاعل فقال: الفَاعِلُ الّذِى كَمَرفُوعَى: أَتَى زَيدٌ مُنِيرًا وَجْهُه، نْعم الفَتَى وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلُ فَإِنْ ظَهَرْ فَهْوَ، وَإِلَّا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ يعنى أن الفاعلَ فى اصطلاح النُّحاةِ كلُّ ما كان شاكلة الاسمين المرفوعين فى هذا الكلام، وهما: زيد المرفوع بأتى، ووجهه المرفوع بمنيرًا، وجامعًا لأوصافهما، فكل ما كان هكذا فهو الفعل المصطلح/ عليه؛ فيجب حينئذ أن ننظر فى أوصاف هذين المرفوعين فنعدّها ثُمَّ نعتبر، فكل اسم اجتمعت فيه تلك الأوصاف فهو فاعل، وجملتها خمسة أوصاف؛ فإِن زيدًا قد أُسندَ إِليه فعل، تامّ، فارغ لطلبه، غير مصوغ للمفعول، وقدّم عليه، وذلك الفعل هو: أتى. وكذلك وجهه قد أسند إليه اسم يعطى معنى الفعل، تام، فارغ لطلبه، غير مصُوغ للمفعول ولا فى معنى المصوغ له، وقدم عليه.

وَلْنتكلَّم أولًا على أوصاف زيد: فالأَوّلُ: أن يكون مسندًا إليه فِعْلُ كأتى، إذا قلت: أتى زيدٌ. فلو أُسند إليه اسم وليس فى معنى الفعل نحو: أخوك زيدُ، أو: زيد أخُوك، وهذا زيد، أو: زيد هذا- لم يُسمَّ فاعلًا. والثانى: أن يكون ذلك الفعل تامّاً كقام زيدُ، وجلس عَمْرو، وأتى فى مثاله. فلو كان الفعل غير تام نحو: كان زيد قائما، لم يُسمَّ فاعلًا. ومعنى التمام: أن يكتفى الفعلُ بمرفوع من غير احتياجٍ إلى منصور، وإن كان طلبُه، كضربت زيدًا، فإن ضربت يطلبُ منصوبًا مع أنه يكتفى فى الإفادة بمرفوعه؛ إذ كنت تقول: ضربتُ -مقتصرًا عليه- فُيُفِيدُ، وكذلك: أكرمت وأعطيت. وأمَّا كان وأخواتها فلا تكتفى به أصلًا؛ لأنها داخلة على ما أصله المبتدأ والخبر، فمرفوعها وحده غير مفيد دون منصوبها، فكان زيدٌ بمنزلة زيد وحده. وأيضا فالخبر عِوَضُ من مصدرها، فهو كالجزء منها. فإذًا زيدُ من قولك: كان زيدُ قائما، لا يسمى فى العرف الجارى فاعلًا لفقد التمام فى كان، وإن سمى فاعلا كما فعل سيبويه فتجوَّز فى العرف. ولو فرضت كان تامّة، كان زيدُ فاعلًا؛ لأنه إذ ذاك يكتفى به كما يكتفى أتى بزيد فى مثال الناظم. وكذلك زيد فى: عسى زيد أن يقدم، وجعل زيد يقوم، وسائر أفعال المقاربة، لا يسمى معها فاعلًا؛ لعدم اكتفائها به. فإن قلت: فيلتزمُ على هذا أن لا يكون زيدُ مع ظن وأخواتها فاعلًا، إذا قلت: ظن زيدُ عمرًا أخاك؛ لأنها لا تكتفى به دون ذكر المنصوبين، ولا

سيّما على مذهب الناظم، حيث منع الاقتصار فيها على المرفوع؛ إذ لا فائدة فيه عنده، فقد ساوت كان وأخوتها في هذا المعنى، لكن النحويين يجعلون مرفوع ظن وأخواتها فاعلًا باتفاق، فأشكل هذا. وهو يلزمه في التسهيل حيث صرّح بهذا القيد ثَمَّة. ولا يقال إنّ معنى التمام أن يأخذ الفعل فعله خاصّةً، لا أَنْ تحصُل الفائدة معه بدون غيره خاصّة؛ لأنا نقول: لا يُعْرفُ إذًا معنى التمام إلا بعد معرفة كون المرفوع فاعلًا، ونحن قد جعلنا التمام جزءًا من تعريف الفاعل، فلا يعرف الفاعل إلا بعد معرفته فيلزم الدورُ. فالجواب: أَنَّ هذا القيد هو المثير للإشكال، وعدمه غير مُخِلٍّ، فلترجع، فنقول: إنه عندنا غير مراد، فيدخل ظن وأخواتها. ولا يقال: إن كان وعسى وأخواتهما تدخل عليه؛ إذ قد بين الاظم أن مرفوعهما مبتدأ في الأصلِ، فدخولها عليه وعملها فيه كعمل إنّ وأخواتها فيه، وما/ وأخواتها، فذلك، فذلك أمرٌ مستثنًى عنده، فلا يَرِدُ عليه. والثالث: أن يكون الفعل فارغًا، ومعناه: أن لا يكون فيه ضمير، كمثاله المذكور، فلو كان غير فارغ بل مُتَحمّلًا لضمير بارز أو غير بارز، نحو: {وَأَسرُّوا النَّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُوا}، فلا يكون {الّذِين ظَلَمُوا} فاعلًا؛ لأن الفعل قبله غير فارغ، فهو مُسْتَغْنٍ بضميره. وهذا القيدُ نصَّ عليه في التسهيل، ولكني سمعت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله بن الفخار -رحمةُ

الله عليه- يقول: هذا القيد فارغ -يريد من الفائدة- وذلك لأن الفعل إذا فرضته متحملًّا لضمير، فذلك الضمير هو المعرّفُ به، وهو الفاعلُ؛ لأن الفِعْلَ قد أُسْنِد إليه اسم، واجتمعت الأوصاف؛ وإذا فرضته غير متحمل فالظاهر هو ذلك الاسم. وقد قال هو على أثر هذا: «وبعد فِعْلٍ فاعلُ فإن ظَهَرْ فَهْوَ .. إلى آخره، فبيَّن أن الفاعل قد يكو ضميرًا وإذا صار مثل الظاهر، وكلاهما قد أُسنِد إليه الفعلُ. وأيضًا فإن كلامه في قُوَّة أَنْ لو قال: الفاعل اسم أُسْنِدَ إليه فعلٌ على طريقة كذا، وهو نَصُّه في التسهيل، وذِكْرُ الإسناد يُجْزئِ عن ذكر الفارغ؛ إذ لا يصحّ الإسنادُ إلّا والفعلُ خالٍ عن الإسناد، وإلّا فإذا كان فيه ضمير فقد أُسنِدَ، فلا يتصوّر القصدُ إلى الإسنادِ مع كوه غير فارغ من ضمير. فالصواب تركُ هذا القيد والذى قبله، كما فعل غيره. والاعتراض عليه في التسهيل وارد، وأما هنا فيمكن أن لم يقصده، ولا يُلْفى محذور. فإذا قلت: الفاعل اسم مسندٌ إليه فعل مقدّم عليه، غير مبني للمفعول -صحّ، ولم يصحّ الاعتراض عليه أصلا، ولم يَرِدْ عليه نحو: قاموا الزيدون، وأن يكون الزيدون فاعلًا، مع أن قام متحمّمل للضمير؛ إذ ليس بمسندٍ إليه، بل الضمير هو المسند إليه. وقد عُرِف معنى الإسناد أولَ الكتاب. والرابع: أن يكون الفعلُ غير مبنىّ للمفعول، وذلك أن يكون على طريقة فَعَلَ، «كأتى» في مثاله، فلو كان مبنيًا للمفعول لم يكن المسند إليه فاعلًا، كقولك: ضُرِب زيدٌ، واستُخرِجَ المال، وإن سُمِّى المرفوع هنا فاعلًا يومًا مّا فعلى الاتّساع في العبارة.

والخامس: أن يكون الفعل مقدّمًا على الاسم، كالمثال في: أتى زيدٌ، فلو تقدّم الاسمُ على الفعلِ لم يكن فاعلًا في العُرف النحوىّ، وإن كان هو الفاعل من جهة المعنى إذا قلت: الرجل جاء، وزيدٌ أتى؛ لأن العرب إذا قَدَّمت الاسم على الفعل أضمرت في الفعل ضميرًا يلزمه، فهو إذًا الفاعل، لا الإسم المتقدّم. والدليل على لزوم الضمير للفعل المتأخر ظهروه لزومًا في التثنية والجمع إذا قلت: الزيدان قاما أو أتيا، والزيدون قاموا أو أَتَوا. ولو كان المتقدّم هو الفاعل لم يكن في الفعل ضميرٌ البتَّة، بل كنت تقول: الزيان أتى، والزيدون أتى، كما تقول: أتى الزيدون، وأتى الزيدون. وأيضا فإن العرب جعلت الفاعل مع الفعل كالجزء المتأخر منه، وذلك ظاهر مع كونه ضميرا متصلا-/ وقد استدلّ ابن جنِّي على صحّة ذلك بأحد عشر دليلًا- ولا يجعل كذلك إلا وهم قد عَزَمُوا على تأخيره عن الفعل لزوما، وجعلوه بمزلة الجزء إذا كان ضميرًا متصلا، وبمنزلة صدر المركّبِ من عَجُزه إذا كان غير ذلك. حدثني شيخُنا الأستاذ -رحمةُ الله عليه- في الجملة، ونقلتُه من خطّه، عن الشيخ الفقيه الأوحد أبي عبد الله الحضرمىّ القاضي بسبتة، قال: أخذت بيده يومًا أقودُه إلى منزله من مدرسة باب القَصْر بسبتةَ لمكان سِنِّه، فقعد أثناء الطريق ليرتاح، ثم قال لى: ما تقول في قولك: زيد قام، أيكون زيدٌ فاعلًا مقدّمًا؟ فقلت: لا أدرى -لكوني لم أكن حِينئذٍ في

هذه الطبقة- قم قال لي: لا يكون ذلك لأمرين، أحدهما أنّ الفاعلَ كالجزء من فعله إذا كان ضميرًا متّصِلًا، فوجب أن يجرى الظاهر معه على أسلوب واحد. والآخر: أنه لو كان كذلك لاتحد حكم الفعل مقدّما ومؤخّرًا. وقال الأستاذ -رحمه الله-: فهذا من أوّل ما أفادني، رحمة الله عليه. وفي المسألة خلافٌ خاصّ وخلافٌ عامٌّ يذكر في قوله: «وَبَعْدَ فِعْلٍ فاعلٌ، بحول الله. فإذا اجتمعت الشروط كان المرفوع فاعلًا، نحو: قام زيد، وخر عمرو، وركب أخوك، وضرب الزيدون عمرًا. وما كان نحو ذلك. وأمّا أوصاف «وجهُه» من قوله: منيرًا وجهُه» فالأول: أنه مسندٌ إليه اسم يعطى معنى الفعل، وهو منيرٌ؛ إذ هو اسم فاعل من: أنار وجهه فهو مُنِير. وقد يحتمل أن يكون صفة مشبهة باسم الفاعل، وكلاهما مراد. ويدخل في ضمن هذه الإشارة أفعل التفصيل، نحو: زيد أفضلُ من عمرو؛ فإن في أفضلَ ضميرا يعود على زيد، هو فاعل أَفْعَلَ، وقد يظهر كما سيأتى. واسم الفعل نحو: صه، ونحو: فَهَيهاتَ هَيْهَاتَ العقيقُ وأَهْلُهُ فالعقيق فاعل بهيهات، أى: بَعُد العقيقُ وأهله. وكذلك المصدر المقدّر بأن

وفعل الفاعل، نحو: أعجبني ضَرْبٌ زيدٌ عمرًا، وركوبُ الفرسِ زيدٌ. وكذلك الظرف والمجرور إذا اعتمدا نحو: {أَفِي اللهِ شَكٌّ} و: أعندك عَمْرو؟ في أحد الوجهين، فإنه في تقدير: أيستقرُّ في الله شكٌّ، وأستقر عندك عمرو؟ . وهذا الأخير لم ينبه عليه الناظم في مسألة: أقائم الزيدان؟ لكن نبَّه عليه في مسألة وقوعه خبرًا، حيث قال: «وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أو بِحَرْفِ جَرْ» .. إلى آخره. والثاني: كونه تامًا، تحرُّزًا من نحو: هو كائن أخاك، ففي كائن ضميرٌ رفَعُه على اسم كان لا على الفاعلية، وإن كان كائن اسمًا في معنى الفِعْل. والثالث: كونه فارغًا تحرزا من الاسم إذا كا فيه ضمير. وقد بيّن ما في هذين الوضعين. والرابع: كونه غير مبني للمفعول، تحرُّزًا من الصفة إذا بنيت للمفعول، نحو: مضروب أبوه، ومكرمٌ أخوه؛ فإن المرفوع هناك لا يعرب فاعلًا. ويَصْدُق على الظرف والمجرور والمصدر أنها غير مصوغات للمفعول. فإن قلت: وكذلك يصدق/ أيضا على ما كان في معنى المفعول منها نحو: أعجبني قراءَةٌ في الحمّام القرآنُ، و: أعجبني ركوبٌ الفرسُ؛ لأن المصدر لا يتبيَّن فيه صيغة فاعل من صيغة مفعول. وإذا كان كذلك أوهم أن يُعْرَب القرآن والفرسُ فاعلا، وليس كذلك. فالجواب: أنّ المصدر إذا كان معناه معنى فاعل يصدقُ عليه أنه

غير مبني للمفعول، وإذا كان معناه معنى مفعول لا يصدُق عليه ذلك، باعتبار تقديره بفعل المفعول، وإنما يصدق عليه ذلك باعتبار لفظه خاصّة، والمصدر لم يعمل إلا باعتبار الفعل الذى قام مقامه، فإذا قام مقام مبنى للفاعل فليس بميني للمفعول على وجه ولا بالاعتبار، وإذا قام مقام مبنى للمفعول فلا تصدُق عليه العبارة صدقا مطلقًا. وذلك يكفي ههنا. والخامس: كونه مقدّمًا كما تقدّم من الأمثلة، فلو تأخّر لم يكن الوجهُ فاعلًا، نحو: وجههُ مِنيرٌ، لأنّ فيه ضميرًا يبرُزُ في التثنية والجمع كالفعل. والخلاف الذى يجرى في تقدّم الفعل يجرى هنا. فإذا اجتمعَتِ الشروطُ أُعرِب ذلك الاسم المتأخر -الذى هو نظير الوجه في المثال- فاعلًا بإطلاق، نحو: مررتُ برجُلٍ قائم أبو حسنٍ، أخوه أفضلَ منه. وأعجبنى رجل عندك أبوه، وفي الدار أخوه. وما أعجبني إِكرامٌ زيدٌ عمرًا. وما أشبه ذلك. وإذا تقرّر هذا رَجَعْنا النظر إلى معنى التعريف وما يتعلّق به، وفيه نظر من أوجه: أحدها: أنه قال: «الفاعل الذى كمرفوعَىْ أَتَى .. زيدٌ منيرا وجهُه» فجعل الفاعل ما اجتمعت فيه أوصاف المثالين معًا، وذلك غير ممكن؛ إذ لا يجتمع في اسم واحد أن يكون مسندًا إليه فِعْلٌ ومسندًا إليه ما يُؤَدِّى معنى الفعلِ في حالة واحدة، فلو قال: كمرفوع كذا، أو كمرفوع كذا، لكان صحيحا، كما قال في التسهيل: «هو المسند إليه فعلٌ أو مضمَّن معناه». والجواب: أن مقصوده ما أراد في التسهيل، فالموضع لأَو، لكن لما كانت الواو قد تقع موقع أو في مواضع، وبالعكس، أتى بالواو هنا تقديرًا، كأنه قال:

الذي كمرفوع أتى، وكمرفوع منيرًا، ثم ثَنَّى على هذا التقدير لأن التثنية لا ترادف إلا العطف بالواو، حسبما هو مبين في موضعه، وإذا ساغ هذا التقدير صح كلامه. والثانى: أن هذا التعريفَ الجُمْلِىّ اقتضى أن الفاعل إنما يكون اسمًا صريحًا لتعريفه إياه بالاسم الصريح، وهو: زيد، وجهه. وليس ذلك بلازم، بل قد يكون غير صريح، نحو: أعجبي أن تقوم. فأن وما بعدها هو الفاعل، وليس باسم صريح. وكذلك أَن ومعمولاها، نحو: أعجبي أَنّك قائم، وما المصدريّة أيضًا، نحو ما صنعتَ، أى: صُنعُك. ولا يقال: إن مثل هذا قليل لم يُعتّد به، بل هو كثير كطَرد مقيس. والجواب: أن مثل هذا في حكم الاسم الصريح، ولذلك ترى سيبويه يطلق على الحرف المصدرىّ أنه اسمٌ لقرب تأوّله بالاسم. وأيضًا إذا نظرتَ في الحرف مع ما بعده/ وجدته مع الفعل قبله في الحكم كالاسم الصريح، من حيث حَصَلَ له إسنادُ فعلٍ تام فارغٍ غير مصوغٍ للمفعول مُقَدّم، وإما كان ذلك اعتبارًا بقوة الاسم الصريح. وإِنَّما قصد الناظم بالتمثيل بالاسم الصريح مقتصَرًا عليه التنكيت على الكوفيين القائلين بجواز كون الفاعل غير اسم ولا مقدّرًا باسمٍ، مستدلّين على ذلك بقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوْا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِيْنٍ}، ففاعل (بَدَا) عندهم الجملة التى هى: {لَيَسْجُنُنَّه}. ومثلُ ذلك: {أَفلم يَهْدِ لَهُمْ كم أهْلَكَنَا/ قَبْلَهُمْ}؛ فلا يصحّ أن يكون (كَمْ) الفاعل، بل الجملة كلُّها،

ومن مُثلُ سيبويه: بدالَهُم أَيُّهم أَفْضَلُ، وقال في تقديره: «كأنك قلت: ظهر لهم أهذا أفضلُ أم هذا». وفي الشعر أيضًا من ذلك كثير، كقوله: ما ضَرَّ تَغْلِبَ وائلٍ أَهَجَوْتَها ... أَمْ بُلْتَ حيثُ تَلَاطَمَ البَحْرانِ وقال بشر: نَزَعْتَ بأسبابِ الأُمرِ وَقَدْ بدا لِذِى اللُّبِّ منها أَىُّ أَمْريه أصوبُ ومن ذلك في القرآن أيضا: {وَتَبيَّنَ لَكُمْ كيف فَعَلْنا بِهِمْ}، ونحوه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وإِلىَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .. الآية. والمفعولُ الذى لم يُسِمَّ فاعله بمنزلة الفاعل في جميع أحكامه. ومن مُثُل الفرَّاءِ: قَدْ تبيَّنَ لى أهذا عَبْدُ الله أم زيد، وبدا لي لأضربَتّك. وقال الفراء: كلّ فعلٍ كان تأويلُه بلغنى، أو قيل لي، أو: انتهى إلىّ، فإنّ اللام وأَنّ يصلحان فيه. ومثل ذلك في الكلام كثير، وجميعه يشعرُ بل يُصَرح بأنّ الفاعل لا يلزمُ أن يكو اسمًا. فكأن الناظم يُنكِّت على القائلين بهذا المذهب، ويقول: إن الفاعل إنما يكون اسمًا، وما جاء مما ظاهره خلافُ ذلك، فراجع في الحقيقة إليه. والجواب: أن النّمط مما حُمِل الكلامُ فيه على معناه دون لفظه، والمسألة

من باب تعليق الفعل عن الفاعل كما يُعلّق عن المفعول بإطلاق في باب ظننت، لأن بدا وظهر وتبيَّن في معنى عَلِم، فعُلِّق تعليقه، وكذلك قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُم}، لأن معناه: أفلم يعلموا؟ فإن قيل: فأين الفاعل؟ قيل: ما أعطاه الكلامُ المعلّق عنه الفعل من معنى المفرد، لأن التقدير: بدا لهم هذا المعنى، كما أن الجملة المعلّقة في «علمت» هى على ذلك التقدير، ولم يقع مفعولُ علمت جملةً أصلًا إلا في اللفظ، وأما في المعنى فلا، فكذلك وقوعُ الجملة في موضع الفاعل. فإن قيل: فيصدقُ أن الفاعل ليس بمفرد. قيل: أما في اللفظ فنعم، كما يقع الحرف فاعلًا في نحو: أعجبني أن تقوم، ولا يدلّ ذلك على أن نفس الفاعل غير الاسم، وأما في التحصيل فلا، بل الفاعل معنى الجملة، وهو المفرد الذى صِرْنا إليه. وأيضًا قد وقع المبتدأ جملة في اللفظ، لأن المعنى معنى المفرد، نحو: سواء علىّ أقمت أم قَعَدْتَ. وهو كثيرٌ في القرآن والكلام العربي؛ لأن «أقمتَ أم قعدت» في تقدير: قيامُك وقُعودُك، ولم يكن ذلك ضائرًا، فكذلك يقع الفاعل في اللفظ جملة إذا كان المعنى للمفرد. فإن قيل: هذا إقرارٌ بمذهب الكوفيين. قيل: إن أرادوا بما أجازوا/ هذا المقدار فنحن نوافقهم عليه، ولا يبقى بين الفرقين خلاف، فإن أرادوا غير ذلك فلا نقول به؛ إذ الجملة من حيث هى جملةً لا تقع فاعلةً أبدًا، ولا يوجد في الكلام ذلك إلا على

ما تبيّنن. وهذا ظاهر كلام سيبويه، وذهب إليه طائفة. ولكن هذا التأويل لا يساعد عليه ظاهر عبارة الناظم غلا بتكلف شديد، والذى يساعد عليه كلامه مذهب المبرّد ومن وافقه، وهو أن هذا الباب كلّه محمولٌ على إضمار المصدر المفهوم من الفعل، فهو الفاعل والتقدير: بدا لهم بَداءٌ، ويَهْدِ لهم هُدَى، وتبيَّن لكم تَبَيُّن، وأُوحىِ وَحْىٌ أو إيجادٌ، وكذلك سائر الأمثلة. وقد وقع المبرّد في كتاب سيبويه طُرّةً نصُّها: «بدا لهم فعل، والفعلُ لا يخلو من فاعل، ومعناه عند النحويين أجميعن بدًا لهم بُدوٌّ، وقالوا: ليسُجُننَّه. وإنما أضمر البُدُوَّ لأنه مصدر يدلّ عليه قوله: (بَدَا لَهُم)، وأضمر كما قال تعالى: {والْمَلائِكَةَ يَدْخُلُونَ عَلَيهم مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلَامٌ عَليْكم}، ولا يكون (لَيَسْجُنُنَّهُ) بدلًا من الفاعل، لأنه جملة، والفاعل لا يكون جملةً». هذا ما قال، وقد زعم أَنَّه مذهب النحويين أجمعين، يعنى من تقدمه. وقد ذكر ابن خروف أن النحويين خالفوا فيما قال، وعلى الجملة فهم فيه فرقتان، وظاهر الناظم الذهاب إلى رأى المبرّد، وإليه ذهب السيرافي وجماعة من المتأخرين. والوجه الثالث من أوجه النظر في تعريفه: أنه زاد مثالًا ثالثا في البيت، وهو قوله: «نِعْم الفتى»، وهو لم يُحِلْ عليه في التعريف، بل قال: «كَمَرْفُوعِى أَتَى زيدٌ مُنِيرا وَجْهُه» فظهر أن ذلك المثال حشوٌ بلا فائدة. والجوابُ: أَنَّ هذا المثال تكميلٌ لما قصد، مع الاكتفاء بما أحال عليه، لأَنّ قوله: «أتى زيدٌ» شمله، ولكنه نبّه على أنه ليس من شرط الفاعل أن يكونَ فعلُه المسندُ إليه متصرّفا كأتى زيد، بل قد يكون غير متصرّف كنِعْمَ. ولا يخرج الاسم بذلك عن كونه فاعلًا، وهو الفتى في مثاله وما حلّ في موضعه؛ إذ لا يعتبر في إعرابه فاعلًا أن يكون فاعلًا معنًى، وإنما يُعْتبر احتياج الفعل إليه لغة، وسمّوه

فاعلا وإن لم يكن فاعلًا حقيقةً اعتبارًا بما كان منها فاعلًا، ليستَتِبَّ الاصطلح في الباب. ومن ههنا لم يحدّوا الفاعل من جهة المعنى، وإنما حدّوه بأحكامه اللفظيّة، ليدخُلَ في الحدِّ نحو: نِعْم الرجلُ، وما زيدٌ، وما أشبه ذلك. ففي تمثيل الناظم إشارة إلى هذا المعنى. والوجه الرابع: أَنَّ [في] قوله: «كمرفوعَى أَتَى» ما يشير إلى أنّ من أحكامه الرفع، وأنه هو الذى يقتضيه من أنواع الإعراب، فلا يكون منصوبا ولا مجرورًا. وهذا صحيح؛ فإن الفاعل مرفوعٌ أبدًا. قالوا: واختُصَّ بالرفع، لأنَّ الرفع إِعراب العُمَد، والفاعل عمدة؛ إذا لا يستغنى الكلام عنه. وأما النصب فللفضلات المستغنى عنها، وكذلك الجرّ. فإن قيل: فيقتضى هذا أن لا يكون الفاعل إلا مرفوعًا، وذلك غير مُطَّرد من أوجه: منها: أن العرب تقول: كَفَى بالموتِ واعظًا. وفاعل كفى إنما هو الموت. وهذا نظير جَرِّ المبتدأ في قولهم: بحسبك زيد. وقالوا: ما أتأنى مِنْ أحدٍ، وأحدٌ هو الفاعل. وهذا مقيسٌ. ومنها: أن المصدر/ الموصول قد يضافُ إلى فاعله، بل هو الأكثر فيه، نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ، وضربُ زيدٍ عمرًا، وهو أيضا مطرد. ومنها: أن النّحويّين يقولون: إذا كان معنى الكلام يميّز بين الفاعل والمفعول، جاز في الشعر كثيرًا أن ينصب الفاعل ويرفع المفعول،

وجاز في الكلام قليلا. ومن ذلك في قراءة عبد الله: {فَتَلَقَّى آدَمَ من ربِّه كلماتٌ} بنصب (آدمَ)، ورفع (كلماتٌ). وقالوا: خَرقَ الثوبُ المسمار. وكسر الزجاجُ الحجر. ومن ذلك في الشعر: مثل القنافِذِ هَدَّاجُون قد بَلَغَتْ نجرانَ أو بَلَغَت سَوْءاتِهم هَجَرُ وقال الفرزدق: غداةَ أَحلَّتْ لابن أَصْرَمَ طعنَة حُصَينٍ عبيطاتُ السدائِف والخَمْرُ وقال الآخر، وهو خداش بن زهير: وَتَلْحَقُ خيلٌ لا هَوادَةَ بينها وَتسْفِى الرِّماحُ بالضّياطِرَةِ الخُمْرِ

وقال الجعديّ: حَتَّى لَحِقْنا بِهِمْ تَعدُو فَوارسُنَا كأننا رَعْنُ قُفٍّ يَرَفَعُ الآلا ومثل هذا كثير. وقد جعل ابن الطراوة هذا قياسًا مُطّردًا، فأجاز نصب الفاعل ورفع المفعول إذا فهم المعنى، نحو: أكل الخبزُ زيدًا، وركب الفرسُ عمرًا، وما أشبه ذلك. فإذًا ما التزمه الناظم من رفع الفاعل غيرُ لازمٍ. فالجواب: أن هذا كلّه غير وارد؛ أما كفى بالموت واعظً، و {كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا}، فمن باب ما ندر وخَرَج عن القياس، فل يعتدُّ به، مع أن الباء عدهم زائدة، دخولها كخروجها، فكأن لم كن ثَمّة. وأما ما أتاني من أحد، فكذلك أيضًا، فإنّها من مواضع زيادة مِنْ. والحرف الزائد لا يعتدُّ به، ولا يكسرُ قاعدةٌ، ولا يخرج الفاعل بذلك عن كونه فاعلًا، ولذلك يُعطف على موضعه رفعًا، فهذا ليس مما يعترضُ به. وأما فاعل المصدر إذا أضيف إليه فلا يسمّى فاعلًا عرفًا حينئذٍ، بل هو مضافُ إليه، كما لا يُسمّى زيدٌ -فيق قولك: زيدٌ قام- فاعلًا، ولا في زيد مضروبٌ مفولًا، وإن كان المعنى في الجميع على ذلك. ومن هنا يتبيَّنُ في نحو: كسر الزجاجُ الحَجر، أَنَّ الزجاج هو الفاعل، وأن الحجر مفعول، اعتبارًا باللفظ،

وإن كان المعنى بخلاف ذلك؛ إذ لا يستتبُّ قانو التعليم إلا بذلك. قال شيخا الأستاذ -رحمةُ الله عليه-: الْإعرابُ إنما يكون أبدًا على حسب العلامة التى تكون في الاسم المعرب؛ ألا تَرَى أن (القَرْيَةَ) من قوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} إنّما تعربُ على حسب حركتها لا على حسب الأصل. وإنما كان يكونُ ذلك كسَرَا أن لو كان المنصوب يعرب فاعلًا والمرفوع يعربُ مفعولًا، من قولك: كسر الزجاجُ الحجَر، ونحوه. فالفاعلُ إذًا شأنه الرفعٌ، كما أشار إليه الناظم. وأما كون هذا القلبِ قياسًا أو غير قياس، فمسألةٌ لا نحتاج إليها الآن؛ إذ لا تعلق لها بكلام الناظم. والوجه الخامس: أن قوله: «كمرفْوعَى أتى» .. إلى آخره، ظاهر في أن أتى هو الرفع لزيد، وأن منيرًا هو الرافع لوجهُه، فالرافع للفاعل إذًا هو المسند فعلًا كان أو ما أشبه، وهذا مذهب البصريين. وزعم بعض الكوفيين أن الرفع له الإسناد لا المُسْند، وهو مرجوحٌ من أوجه: أحدها: أن الإسناد نسبةُ بين المسند والمسند/ إليه/ فليس عمله في الفاعل دون الفعل بأولى من العكس. والثاني: أن العمل إنما ينسب إلى المعنى إذا لم يوجد لفظ صالح للعمل، والفعلُ موجودٌ وصالح للعمل باتفاق، فلا يصحّ أن يعدلَ عنه إلّا بدليلٍ يدلّ على عدم صلاحيته في الموضع، ولا دليل هنا على ذلك، فوجب أن لا يُصارَ إلى غيره. والثالث: أن من شأن المعمول الاتصال بعامله، وأن لا يتصِّل بغيره،

وقد وجدنا أن الفاعل إذا كان ضميرًا إنما يتّصل بالفعل، فدلّ على أنه عامله، ولو كان غير عامل لما أتّصل به أصلًا، بل كان يكون منفصلا عنه. وعلى الجملة فهو خلافٌ في اصطلاح، لا يينني عليه حكم عند الجميع، وإن كانت الأدلة تقتضى ذلك، فليس أحدٌ من المخالفين لنا بقائل بما يقتضيه الأدلة عليه. وقوله: «وبعد فعل فاعلٌ» اقتصر على ما يشير إليه لكفى، لكنه نصّ عليه ولم يكتف بالإشارة، لما له في ذلك من الفوائد، والذى يشتمل عليه منها ثلاث: إحداها: الإشارة إلى مخالفة من خالف في لزوم التقديم، وهم الكوفيون؛ وإذا أجازوا تقدّم الفاعل على الفِعل أو ما أشبهه، فكأنه يقول: الفاعل مختصّ بكونه بعد فعل، فلا يجوز أن يتقدم عليه، ودَلّ على قصده لهذا تقديمه الظرف لدلالته على الاختصاص بهذا الحكم، كقوله: {إيَّاكَ نَعْبدُ}، بمعنى: ما نعبد غيرك، فكذلك هذا، ليس الفاعلُ إلا بعد الفِعْلِ، وغيرُ الفِعْلِ بمزلة الفِعْلِ في هذا. ويجيزُ الكوفيُّون تقديمه فيقولون: الزيدان قام، والزيدون قام -على تقدير: قام الزيدان، وقام الزيدون- ومررت برجلٍ أبواه قائم- على تقدير: قائمٍ أبواه. واستدلّوا على ذلك بمجيئه في الشعر، كقول الزباء: مَا لِلْجِمالِ مَشْيُها وَئِيدَا فالتقدير: وئيدًا مشيُها. وقولِ امرئ القيس:

فَظَلّ لننا يومٌ لذيذ بنعمة ... فَقِلْ في مَقِيلٍ نحسُه مُتَغَيَبِّ التقدير: مُتَغيِّب حسُه. وقول النابغة: ولا بُدَّ من عوجاء تَهْوِى براكب إلى ابن الجلاح سيرُها الليل قاصِدِ التقدير: قاصِدٍ سيرها. وقال الآخر: لمن زُخْلُوقَةٌ زُلُّ ... بها العينانِ تَنْهلُّ وهذا وما أشبه قد أجاب عنه الناظم بجواب مجمل، وذلك قوله: «فإن ظَهَرْ .. فَهْوَ وإِلا فَضَمِيرٌ استَتَرْ»، يريدُ أنَّ الفاعل لا بُدَّ منه بعد الفعل، فقد يكون ظاهرًا، وذلك نحو: قام زيدٌ، وقد يكون مضمرًا نحو: زيدٌ قام. ففي قام ضمير عائد على زيد، تقديره: قام هو، ولا يتكلم بِهُوَ. فإذا ظهر الفاعل بعد الفعل فذاك، وإن لم يظهر فالفاعل ضمير مستترٌ في الفعِل أو فيما أشبهه. ولا يريد بقوله: «فإن ظهر»، فإن كان غير ضمير، وإنما يعنى إن ظهر للعيان في النظق، فيدخلُ فيه الظاهر ضدّ المضمر، نحو: قام زيد، كما ذكر. ويدخلُ فيه الضمير البارز نحو: قمتٌ، وقاما، وقاموا، وقُمْ، وما قام إلا أنا، لأنه قد ظهر ولم يستتر. ويدلّ على هذا المقصد من كلامه قوله في قسيمه: «وإلّا فَضَمِير اسْتَتَرْ»، فوصفه بالاستتار، ولا/ يقال في الضمير البارز: مستتر، فتقسيمه الفاعل إلى ما ظهر وإلى ما استتر يعيِّنُ ما ذكر. وإذا ثبت فكل ما تُوِهِّمَ أن الفاعل فيه مقدّم فليس كذلك، بل الفاعل فيه ضمير مستتر في ذلك الفِعل، أو في الاسم الذي

بمعناه، فقولها: مَا لِلْجِمالِ مَشْيُها وَئِيدا فاعل «وئيد» فيه ضمير مستتر عائد على «مشيها»، على أن يكون مشيها مبتدًأ خبره محذوف وهو العامل في وئيدًا، كأنه قال: مشيُها حَصَلَ وئيدًا، أو ظهر، نظير ما تأوّل سيبويه قوله: يا ليتَ أيامَ الصِّبا رَوَاجِعَا كأنه قال: أقبَلتْ رَوَاجعا. وكذلك قول امرؤ القيس: «نحسه مُتَغَيِّب» فيه ضمير هو الفاعل عائد على نحسُه، على أن يكون على حذف إحدى ياءَى السب المرادُ به المبالغة، لقوله: وَالدَّهرُ بالْإنسانِ دَوّارِىّ أراد: دوّار، فكذلك هنا، أراد: نحسُه مُتَغَيِّبىٌّ، فَحذَفَ. وكذلك قوله: سيرها اللي قاصدِ»، في قاصد ضمير هو الفاعل، عائدٌ على «عوجاء» كأه قال: ولا بُدَّ من عوجاءَ قاصدٍ، وكأنَ أصله أن يقول: قاصدة، لكن جعله من باب النسب، أى: ذات قصدٍ، كقوله: {السَّماءُ مُنْفطِرٌ بِهِ} أو يعود على راكبُ، كأنه قال: تهوى براكب قاصدٍ. وسيرُها الليل: مبتدأ وخبر. وقوله بِهَا العَيْنَانِ تَنْهَلُّ في تنهلّ ضمير عائد على العينين، وأفردَ لأن العينين في تلازمهما

كالشيء الواحد، وم عادة العرب أن تعامل هذا الوع من المثنى معاملة المفرد كقوله: وَكَأَنَّ في العَيْنَينِ حَبُّ قَرَنْفُلِ ... أو سنبلا كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ أو يكون على حدّ. فكل هذا دخل تحت قوله: «وإِلَّا فَضَمِيرًا سْتَتَرْ»، فإليه يرجع ما تقدم من التأويلات، وما كان نحوها، فهو إشارة منه حسنة في المسألة. والفائدة الثانية: بيان أن كل فِعْلٍ لا بدّ له من فاعل، وأه لا يوجد فعلٌ لا فاعل له البتّةَ، لقوله: «وبعد فِعْلٍ فاعِلٌ فإن ظهر .. فَهْوَ» .. إلى آخره، يعنى أن ذلك لازمٌ للفعل، وإذا لزم ذلك له ظهر أن الفِعْلَ لا يخلو م فاعل، فإنْ ظهر فذاك، وإلا فهو مستترٌ فيه. ونكّت بهذا على مسائِلَ وقعت لجماعة ظهر فيها من قولهم أن م الأفعال الثابتة الفعليَّة ما يقع بلا فاعل، فمن ذلك قَلَّ إذا لحَقَها ما، وزعم جماعة أنّ قلّ [هناك] فعلٌ لا فاعل له، وإنما كفّته ما عن العمل، كما تكف غيره كإنّ، وأنَّ، وربَّ، وما أشبه ذلك. وهذا لا يتعيَّن، فقد يمكن أن تصير قلّ مع ما حرف نافيًا بمنزلة ما، ولذلك تُستعمل للفي المحض، فقلبت عليها الحرفية، وإذا كا كذلك فليست مما يطلب فاعلًا. وأظنّ أن منهم من أبقاها على فعليّتها، وجعل فاعلها

ما وما بعدها من الفعل] على أن تكون ما مصدرية، نحو: أعجبني ما صنعت، فكأنك قلت: أعجبني صنعُك، فقولك: قلّما يقوم زيد، في تأويل: قلّ قيام زيد- ومنهم من جعلها زائدة، ووصالٌ فاعلٌ. ومن ذلك دعوى الكسائى في قولك: ضربني وضربتُ قومك، إنه على حذف الفاعل من ضربني؛ إذ لا يجوز عنده الإضمار فيه، فلا يقول: ضربوني وضربتُ قومك، بل يُوجِبُ فيها حذف الفاعل، كما قال الشاعر: تَعَفّق بالأرطى لها وَأَرَادها ... رجالٌ ... ... ... وما قاله الكسائى في البيت ونحوه غير صحيح، بل/ الفاعل مضمر في الفعل، كأنه قال: تعفَّق مْن ثَمّ، ويكونُ عودُ الضمير -وهو مفرد- على الجماعة مثل قولهم هو أحسن الفتيان وأجمله. وسيأتى في الإعمال إن شاء الله. فمثل هذا يدخل تحت قول الناظم: «فإن ظهر .. [فَهْوَ]، وإلا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ» .. ومن ذلك ما رآه المؤلف في شرح التسهيل في نحو قولك: قام مبني على الفتح، أنَّ قام في هذا الكلام فعلٌ باقٍ على أصله، وقد

أُسنِدَ إليه قولك: مَبْنِىّ على الفتح، إسنادَ الخبر إلى المبتدأ، لا إسناد الفعل إلى الفاعل، فَرَفْعُ مبنىّ على الخبرية عنده لا على الفاعلية، فلا فاعل له إذًا، وإلى هذا ذهب القرافىّ. وما زعمه غير صحيح من وجهين: أحدهما: ما أشار إليه من أن كلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعل، فأين فاعلُ هذا الفعل؟ فإن قال: ناب عنه الخبر. قيل: هذا لا نظير له، بخلاف نيابة الفاعل عن الخبر فإنه ثابت باعتراف ابن مالك في: أقائمٌ الزيدان؟ فليس إذًا «قام» هنا فعلًا، وإلّا لزم أن يكون له فاعل، وليس له فاعلٌ هنا باتفاق من الخصوم، فليس بفعلٍ. والثاني: قال شيخنا القاضي -رحمه الله-: يقال لابن مالك: ما إعراب «قام» من قولك: قام مبنى على الفتح؟ فلا بدّ أن يقول: مبتدأ. وقد قال هو: إن الفعل وحده لا يكون مبتدأ، وإن المبتدأ اسم أو ما هو في تقديره، فقام إذًا اسم لا فعل، وهو المطلوب. والفائدة الثالثة: التنكيتُ على بعض البصريين في إجازتهم تقديم الفاعل على الفعل في بعض مواضعَ مخصوصةٍ، فكأنه يقول: كلّ ما يُظَنَّ أنَّه مما تقدّم فيه الفاعل فليس في الحقيقة منه، ولذلك أمثلةٌ منها ما قاله سيبويه والجمهور في قول الشاعر: صَدَدْتِ فأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ وقَلَّما وصالٌ على طول الصُّدودِ بَدُومُ إنَّ «وصالٌ» فاعل متقدّم ضرورة، ويجيز هؤلاء تقديم الفاعل على الفعل

في الضرورة. ولذلك حمل جماعة الأبيات المتقدمة للكوفيين على تقديم الفاعل ضرورة. وهذا كلّه لا داعية له؛ لإمكن أن يكون وصال فاعلًا بفعل مضمر يفسّره يدوم كأنه يقول: وقَلَّما يدومُ وصالٌ على طول الصدود يدوم؛ وساغ هذا لأن قلَّما مما لا يليها إلا الفعُل. وهذا رأى طائفة في بيت الكتاب، ويكو ذلك مبنيًا على أن قَلَّما حرفٌ لا فعلٌ. ومنها مسألة: إِنْ زيد قام أكرمته؛ قال الأُبَّذِىّ: قال شيخنا أبو الحسن الدبّاج -رحمه الله- «لا يبعدُ عندى أن يقال: إن هذا الفعل يصحّ له العملُ في الأول مقدّما عليه، وذلك مع أداة تطلب بالفعل؛ وذلك أن العامل متصرّف في نفسه، فيتصرّف في معموله، إلا أن يمنع مانعٌ، وذلك في الفاعل أَنْ يلتبسَ بالمبتدأ في قولك: قام زيد، وزيدٌ قام؛ فإذا جاء حرفٌ لا يليه إِلا الفعلُ لفظًا أو تقديرًا أزال ذلك اللبس، فصح أن يكون فاعلًا مقدَّمًا، إن قدّرت الفعل فارغًا من الضمير، فاعلا برضمار فعل إن قدّرته مشغولًا بضمير». فالحاصل من كلامه أنه أجاز أن يكون زيدٌ فاعلًا مقدَّمًا، وذلك غير سائغ عند الجمهور، لما تقدّم ذكره. وهذا الموضع أيضا محتمل لا يتعيّن فيه ما قال، ولا مرجّح له، فليس إلى القول بإثباته سبيلُ. وأيضًا صاحب هذا المذهب/ يلتزم جواز: وإنِ الزيدون قام أكرمتهم. وهذا لا يثبت سماعًا أصلًا، إلا فيما تقدّم للكوفيين، وقد مرّ

ما فيه. فالصحيح في المسألة امتناع التقديم. [فعلى هذا كل] ما كان من نحو: {وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشرِكينَ اسْتَجَارك}، وقول الشاعر: عاوِدْ هراةَ وَإِنْ معمورُها خَرِبا وقول عدىّ بن زيد: فمتى وَاغلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّوهُ، وتُعْطَفْ عَلَيْهِ كَأْسُ السَّامَىِ وقوله: صَعْدةٌ ثَابِتَةٌ فِي حَائِر أَينما الرِّيحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ ونحو: أزيدٌ قام؟ وما أشبه ذلك، فهو على إضمار فعلٍ، لا على تقديم

الفاعل. وبقي في كلامه بحث لفظي، وهو أنه قال: «وبعدَ فِعْلٍ فاعلٌ»، يعنى أنه لا بُدَّ أن يكون بعد الفعلِ فاعلٌ، ثم قال: «فإنْ ظَهَر. فَهْوَ وإِلَّا فَضَمِيرٌ استترْ»، يعنى، فإن كان ظاهرًا فهو الفاعل، وإلا فهو ضمير، فيصبر المعنى: إن الفاعل بعد الفعل، فإن ظهر الفاعل فهو الفاعل. وهذا كلام خَلْفٌ لا فائدة فيه. والجواب: أنّ ذلك جارٍ على قصد صحيح فيه فائدةٌ، وهو أن قوله: «وبعد فِعْلٍ فاعلٌ»، إخبارٌ بالقاعدة، أنّ كلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعل بعده لا قبله، يريد: فابحث عنه. فهى كُلِّيةٌ تُعيِّن موضع البحث عن الفاعل. ثم أخبر بعد ذلك بَوجْهَ مجيئه فقال: إن جاءَ ظاهرًا فهو، أى: المطلوب الذى قصدتَه، وإن لم يجئ ظاهرًا فاعلم أنه ضمير مستتر في الفعل، طردًا لحكم القاعدة، وعملًا بمقتضاها. وهذا معنًى صحيح مفيد. فقوله: «فهو» مبتدأ محذوف الخبر، أى: المطلوب. أو يكون خبرًا محذوف المبتدأ، كأنه قال: فالمطلوبُ هو. وكذلك قوله: «فضمير، يسوغٌ فيه الوجهان. واستتر: في موضع الصفة لضمير. (ثم قال الناظم): وَجَرِّدِ الفِعْلَ إِذَا مَا أُسْنِدَا لاثْنَيْنِ أَوْ جَمْعٍ كَفَارَ الشُّهَدَا وقَدْ يُقَال: سَعِدَا وسَعِدُوا وَالفِعْلُ لِلظَّاهِرِ بَعْدُ مُسْنَدُ

هذا الفصل يَذُكُر فيه لحاق العلامة [للفعل] إذا أُسنِدَ إلى الفاعل؛ فإِنَّ العربَ -على الجملة- تُلْحِق الفِعْلَ علامةً تدلّ على حال الفاعِلِ، من كونه مؤَنثًا غير مُذَكّر، أو كونه مثنى أو مجموعًا، أوما ما شبه ذلك. وابتدأَ بالكلام على لحاق العلامة إذا كان الفاعل ظاهرًا مثنًى أو مجموعًا، وسواءٌ أَكان مذكرًا أم مؤنثًا. وسيأتى ذكر المفرد. فيريد أن الفعل إذا أسند إلى اثنين أو إلى جمع -وهما المثنى والمجموع- فهو مجرَّدٌ عن العلامة الدالَّة على التثنية والجمع، فلا تلحَقُه في اللغة الفصحى [علامة]، فتقول: قام الزيدان، وقام الزيدون. ولا تقول: قاما الزيدان، ولا قاموا الزيدون. ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهما}، {قال الكافرون: إنّ هذا لسِحْرٌ مُبِينٌ}. وأتى من ذلك بمثال وهو قوله: «فاز الشهدا»، ولم يقل: فازوا الشهداء. ومثلُه لو قَلتَ: فاز الشهيدان. ومثل ذلك إذا قلت: قامت الهندانِ، وقامت/ الهِنْدَاتُ، فلا تقول في اللغة المشهورة: قامتا الهندانِ، ولا: فُمْنَ الهنداتُ؛ بل تُجَرِّدُ الفعل من العلامتين: علامةِ التثنية وعلامةِ الجمع. وإنما جَرَّدوا الفعل هنا قصدًا للتفرقة بين قام أخواك، وأخواك قاما؛ لأَنّ العلامة لو لحقت في: قاما أخواك، لالتبست بالضمير، فتوهم

أن قاما خبر مقدّم، فَفَصَلُوا. وهذا هو الفرق بين التثنية والجمع وبين التأنيث، حيث ألحقوا علامة التأنيث دون علامتى التثنية والجمع؛ لأَنّ علامة التأنيث ليست بعلامة إِضمارٍ، فلا تلتبس بعلامة الإضمار؛ قال سيبويه: «وتقول: جاريتاك قالتا، كما تقولُ: أبواك قالا؛ لأنَّ في قُلْنَ وقالتا إضمارًا، كما كان في قالا وقالوا» ثم قال «وإذا قلت: ذهبت جاريتاك، وجاءت نساؤُك، فليس في الفعل إضمارٌ، قال: ففصلوا بينهما في التأنيث والتذكير، ولم يفصلوا بينهما في التثنية والجمع، وإنما جاءوا بالتاء للتأنيث، لأنها ليست علامة إضمار كالواو والألف، وإنما هى كهاء التأنيث في طلحة، وليست باسم». هذا ما قال، وهو معنى ما تقدم. وللناس في الفرق بين العلامتين أوجه لا فائدة في إيرادها، وقد حصل التأنيس بالتعليل. ثم أتى باللغة الأخرى فقال: «وقد يُقال: سَعِدا وسَعِدُوا» .. إلى آخره يعنى أنّ من العرب من يقول: قاما أخواك، وقاموا إِخوتُك، وقامتا الهندان، وقُمْنَ الهنداتُ، فُيلحقُ الفعلَ علامة التثنية والجمع، وكذلك تقول على تمثيله: سعد أخواك، وسَعِدُوا إخوتُك، وسَعِدَتا أخناكَ، وسَعِدْنَ أَخَوَاتُك. وهذه اللغة ضعيفة قليلة، وعلى قلتها نبّه بقوله: «وقد يُقال»؛ إذا عادته أنه يأتى بقد مع المضارع تنبيهًا على قِلَّة ما تدخل عليه. ووجهُ إدخال العلامة هنا تشبيه التثنية والجمع بالتأنيث؛ إذ كلُّ واحد منهما فرعًا، فالمثنى والمجموع فرعٌ عن الواحد، والمؤنث فرع عن المذكر؛ قال سيبويه: واعم أن من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك، فشبهوا هذا بالتاء التى يُظْهِرونَها في: قالت فلانةٌ،

فكأَنَّهم أرادوا أن يجعلوا للجميع علامةً، كما جعلو للمؤنث». قال: «وهى قليلة». ومن هذه اللغة ما جاء في الحديث: «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنَّهارِ». ومن العرب من قال -وهو أبو عَمْروٍ الْهَذلىُّ-: أَكَلَوني البراغيث الليلة. وأنشد سيبويه للفرزدق: ولكِنْ دِيافِىٌّ أَبُوه وأُمُّه ... بحَورانَ يَعصِرْنَ الّسِليطَ أَقاَربُهْ وقال أمية: يلومُونَنِى في اشتراءِ النخيلِ قَومى، فكلُّهم يعذلُ وَأَهلُ الذى باع يَلْحَوْنَه ... كما لُحِىَ البائئعُ الأوَّلُ وأنشد السيرافي: أُلْفِيتا عيناكَ عِنْد القَفَا ... أَولى فأولىَ لَكَ ذَا واقيهْ وقول الناظم: «والفعلُ للظاهر بعد مُسْنُد» جملة في موضع الحال، أي:

قد يقال: سَعِدا وسَعِدُوا، في حال كون الفعل مسندًا إلى الظاهر لا إلى الضمير. فيّن في هذه اللغة موضع لحاق العلامة، وهو حيث يكون الفعل مسندًا إلى الظاهر، فإنّه/ إذا كان مسندًا إلى الضمير اتفق الجميع على أن يقولوا: سعدا وسَعِدوا، فيكون الألفُ والواو ضميرين لا علامتين، وكذلك رذا قلت: سِعدْنَ، بخلاف ما إذا أُسِنَد إلى الظاهر فإنّ العلامة تخَصُّ بهذه اللغة. وعلى هذا التحرز لا تكون الألف والواو والنون في هذه اللغة ضمائر، وإنما تكون علامات حرفيّةً كتاء التأنيث، وهذا مذهب الجمهور. وبعض النحويين زعم هنا أنها ضمائر [مسندٌ إليها] لا علامات، لكن من هؤلاء من يقول: ما جاء من نحو: قاما أخواك، وقاموا إخوتُك فهو على تقديم الخبر، والزصل: أخواك قاما، وإخوتك قاموا. ومنهم من يقول: الكلامُ على أصل الترتيب، لكن الظاهر منه من غير أهل اللغة المذكورة، وأما أن يُجعَل جميعُ ما وَرَدَ من ذلك على أن الألف والواو والنون فيه ضمائر، فغير صحيح، ؛ لأن أئمة هذا العلم متفقون على أن ذلك لغةٌ لقومٍ من العرب مخصوصين، فوجب تصديقهم في ذلك، كما نصدّقهم في غيره». هذا ما قاله، وتمامُه أن يقال: لو كان على ذلك التأويل لزم أن يكون أهلُ تلك اللغة قد التزموا ما لم يُوجَدْ في كلام العرب التزامُه، وهو الإتيانُ بالضمير مسندًا إليه الفعلُ إذا أرادوا الإتيان بالظاهر، حتى يكون الظاهرُ بدلًا من الضمير. هذا غير معهود، وأيضا هو شبيه بتقَضِّى الفعلِ أكثر من فاعلٍ واحدٍ، وهو غير موجود. فالصحيح أنها في هذه اللغة

علاماتٌ حرفيّةٌ، حسبما أشار إليه الناظم. فإن قلت: وأين إشارة الناظم إلى أنها حروف لا ضمائر؟ قيل: في وقوله: «والفِعلُ للظاهر بعدُ مسندُ»؛ إذ لو كانت عنده ضمائر، لكانت هى المسند إليها، ولم يقل هذه العبارة. واعلم أن النظم ترك ذِكْر أمرين ضَرُوريَّين هنا: أحدهما: حكم هذه العلامات مع الفعل المضارع، فإنها تلحق حيث تلحق الماضي، فتقول في اللغة المشهورة: يقوم الزيدان، ويقوم الزيدون، وتقوم الهندات، كما تقول: قام الزيدان، وقام الزيدون، وقامت الهندات. وتقول في اللغة الأخرى: يقومان الزيدان، ويقومون الزيدون، ويقَمْنَ الهندات، كما تقول: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، وقُمْنَ الهندات. فكان من حقه أن يذكر ذلك، وقد تقدمت الشواهد في المضارع، وكذلك فَعَل في لحاق علامة التأنيث الفعلَ، وترك هناك ذكر المضارع البتّةَ، وكان من حقه أن يذكر حكمه؛ إذ لا يُفَهم له من حكم الماضي، للمخالفة الحاصلة بينهما؛ ألا ترى أنها تلحق الماضى في آخره، والمضارعَ في أوله؛ ولذلك لو قال في فصل لحاق التاء بعد قوله: «والتاء مَعْ جَمْع سِوَى السَّالِم مِنْ» .. إلى آخره: والتاءُ في مُضَارعٍ كالتَّاءِ في الماضِ إلّا الوضعُ في ابتداءِ لم يبق عليه اعتراضٌ فيه، وبقي الاعتراض في هذا الموضع. وقد تحرّز في التسهيل، فَكمَّلَ القصد بقوله في آخر فصلِ التاء: «ويساويها في اللزوم/ وعدمه تاءُ مضارع الغائبة، ونون التأنيث الحرفيّة» ثم قال

: «وقد تلحق الفعَل المسند إلى مال يس واحدًا من ظاهر أو مضمر علامةٌ كضميره». والجواب: أن قوله: «وجَرِّد الفعلَ» ينتظم بإطلاقه الماضى والمضارع معًا، إذ لم يقيّده بالمضى كما قيده في قوله: «وتاءُ تأنيثٍ تَلِى الماضى»، فلما لم يقيّدها هنا لم يفُتْه ذكرُ المضارع؛ لأن المرادَ بالفعل جنسُه، لكن يخرج عنه فعل الأمر لأنه لا يسند إلى ظاهر أصلًا، فبقي الآخران. وتمثيله بالمضاضى لا يخرج المضارع، كما أنه لو مثل بالمضارع لم يخرج الماضى، فلا اعتراض عليه هنا، وإنما يعترض تخصيصُه الماضى في فصل لحاق التاء مع أن المضارع مثله في حكم العلامة كما مرّ. والأمر الثاني: حكم هذه العلامات أو نظائرها مع الصفة؛ لأن اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة باسم الفاعل، تجرى في لحاقها العلامات وعدم لحاقها مجرى الفعل، فكما تقول: يقوم الزيدان ويقوم الزيدون وتقوم الهندات -في اللغة المشهورة- كذلك تقول: أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ وأقائمة الهندات؟ ومررت برجل حسنٍ أبوه، وحسنٍ آباؤه، وحسنةٍ أخوته. وكما تقول في اللغة الأخرى: يقومان الزيدان، ويقومون الزيدون، ويقُمْنَ الهنداتُ، كذلك تقول: هذا رجلٌ قائمان أبواه، وقائمون آباؤه، وقائماتٌ أخوته، ومررت برجل حَسَنَينِ أَبواه، وحَسَينينَ آباؤُه، وحسناتٍ أخواتُه. وليس في كلامه هنا ما يُعيِّن هذا الحكم في الصفات، ولا يصح أن تحمل على الفعل في تعيين العلامات لما بينهما من المخالفة في بعض الأحوال وإن اتفقت في بعضها؛ ألا ترى أن الفعل إذا أُسْنِدَ إلى جماعة المؤنث لحقته النون، ورذا أُسنِدت الصفة

إليها لحقتها والتاء في مقابلة النون في الفعل. وإذا كان كذلك ثبت أنّ حكم الصفة قد فاته من أَصلٍ. والجواب: أن يقال: لعلّ الناظم ترك ذك اكتفاءً بما ذكره في باب النعت من ذلك الحكم، حيث قال: وَهْوَ لَدَى التَّوحيد والتذكير أَوْ سِوَاهُما كالفِعْلَ، فاقْفُ ما قَفَوا فبيّن أن النعت يجرى مجرى الفعل في توحيده أو تثنيته أو جمعه، وتذكيره أو تأنيثه، فحيثُ تلحق العلامةُ لحقتِ النعتَ، وحيث لا تلحقُ فلا تلحق النعت، وحيث يجوز الوجهان في الفعل يجوزان في النعتِ. وهذا صحيح إلا ما كان من تعيين العلامة فإن فيه مخالفةً ما؛ إذ تلحق الفعَل النونُ، والنعتَ الألف والتاءُ، وفوات هذا أقرب من فوات أصل المسألة. ولم يُصَرِّح بحكم العلامة مع المفرد، وإنما ذكر حكم المثنى والمجموع، ولا ذكره أيضًا مع المذكّر، وإِنما ذكره مع المؤنث، لأنّ المفرد المذكّر يتبيّن حكمه مما ذكر، فإذا بيّن لحاقها مع المثنى والمجموع هنا، ولحاقها مع المؤنث/ تلخَّص من ذلك أنَّ المفرد المذكر لا يحتاج إلى شئ من ذلك. وأيضًا قد قُلِم أن العلامة إنما تُطْلَب لبيان ما يُسْتَهم حاله عند السامع، والسامع يدرك أن الفاعل أقل ما يكون واحدًا، وأن أصله التذكر، فإذًا متى كان كذلك يم يحتج إلى علامة؛ قال الجُزولى: «إذا ذُكِر الفعل أُدرِك أنه لا بدَّ من فاعل، وأنه أقلّ ما يكون واحدًا، وأنّ أصله التذكير، ولا يُدْرَك التأنيث ولا

التثنية والجمع، فَيحتاج ما لا يُدْرك إلى علامة». وَيَرْفَعُ الفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا كَمِثْلِ: زيدٌ، في جَوَابِ: مَنْ قَرَا؟ يعنى أنّ الفعل يعمل في الفاعل على وجهين، أحدهما: أن يكون ظاهرًا، وقد تبيّن. والثاني: أن يكون مضمرًا ومقدّرًا غير ملفوظا به، [لكن] لا يكون ذلك إلا إذا كان في الكلام ما يدلّ عليه، كالمثال الذى أتى به، . وهو إذا قال لك قائلٌ: من قرأ؟ فأجبتَه بقولك: زيدٌ. فزيدٌ هو المقول في جواب قوله: من قرأ؟ فهو مرفوع بفعل مقدَّرٍ دالٍ عليه السؤال، فكأنه قال: قر زيدٌ، هذا وإن كان يحتمل أَن يكون مبتدًأ محذوف الخبر؛ فإن الأوّل أولى، لأنه مطابقٌ بخلاف الثاني. واعلم أن الفعل المقدّر رافعًا للفاعل على وجهين: أحدهما: أن يكون مقدَّرًا مع فاعله، لِنَصْبٍ يكون في الكلام لا ناصب له في اللفظ، فيجب أن يُقَدَّر له ناصب، ولا يكون إلا الفعل وفاعله، كما إذا قيل لك مَنْ ضربتَ؟ فتقول: زيدًا. وهذا يَتَكَّلم فيه وفي تقديره بَعدُ. والثاني: أن يقدّر وحده لرفعٍ يكونُ في الكلام، لا رافع له إلا أن يقدّر له فِعْلٌ، حسبما يقتضيه الكلام. وهو الذى تكلَّم فيه هنا، لكن هذا أيضا على ضربين: أحدهما: أن يكون مقدّرًا أبدًا لا يجوز إظهاره، كالفعل المقدّر قبل المرفوع في باب الاشتغال، نحو: إِنْ زيدٌ قام أكرمته، تقديره: إن قام زيدٌ قام أكرمته. ولا يُتَكلّم به، كما يأتى إن شاء الله. ولم يَتَكلَّم هنا على خُصوصِ القسم، وإنما تكلم عليه في موضع الحاجة.

والثاني: أن يكون جائز الإظهار، وهو الذى أشار إليه التمثيل؛ إذ يجوز أن تقول في جواب مَن قرأَ؟ قرأ زيدٌ. وقد جاء في القرآن الكريم الوجهان معًا؛ قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهم: مَنْ خَلَق السَّمواتِ وَالأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: اللهُ}، التقدير: خَلَقَهُنَّ اللهُ. وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَهُمْ؟ ليقُولُنَّ: اللهُ}. وهو كثير. ومن الإثبات قولُه تعالى: {وَلئِن سَأَلْتَهُم: مَنْ خَلَق السمواتِ والأرضَ؟ ليقولُنَّ: خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ}، {قال: مَنْ يُحيىِ العِظَامَ وَهيِ رَميمٌ؟ . قل: يُحْييها الّذِي أنشأها أَوَّلَ مَرَّةٍ}. {يَسْأَلُونَكَ: ماذا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطّيّباتُ}. وكذلك ما أشبهه. ولم يخصّ هذا التقدير بموضع دون آخر، بل أحال/ بمثاله على ما في معناه، وحاصلُ ما يجوز من ذلك أن يكون الدليل على المقدّر مذكورًا في الكلام، موافقًا للمقدّر ومعنى. وينتظم هذا العِقْدُ ثلاثة أقسام: أحدها: يكون المقدّر في جواب استفهام، وهو الذى مثل به الناظم، ومرّ تمثيله. والثاني: أن يكون في جواب نفي، كقوله: ما جاءني أحد. فتقول: [بل] زيدٌ. تقديره.

بل جاءك زيدٌ، وأنشد المؤلِّف في الشرح: تجلّدتُ حتى قيل: لم يَعْرُ قَلْبَهُ مِن الوجدِ شيءٌ قلتُ: بل أعظمُ الوَجْدِ أراد: بل عَراه أعظمُ الوجد. والثالث: أَنْ يتقدّم فعلُ مفعولٍ من لفظه ومعناه، كقولك: جُمع الناس زيدٌ، وحُشِر أهلُ المدينة الملِكُ، وما أشبه ذلك، فالتقدير: جَمَعهم زيدٌ، وحَشَرهم الملكُ، ومنه قراءة ابن عباس: {يُسَبَّح لَهُ فِيهَا بِالغُدوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ .. } الآية، بفتح باب (يُسَبَّح) على البناء للمفعول، فرجالٌ فاعلُ (يسبّح) مضمرًا، تقديره: يُسبِّح له رجال، وقرأ ابن كثير: {وَكَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِك اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، أي: يوحي اللهُ، وأنشد النحويّون: ليُبكَ يزيدُ ضَارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممّا تُطيح الطوائحُ تقديره: يبكيه ضارعٌ لخصومة. ومن أبيات الحماسة لرجل من بَلْعنبر:

لو كنتُ من مازنٍ لم تُسْتَبحْ إِبِلى بنُو اللقيطهِ مِنْ ذُهْلِ بن شَيْبَانا على رواية مَن روى: تُسْتَبحْ، مبنيا للمفعول، أى: لم تسَتبحها بنو اللقيطة. وقال الآخر: حمامة بطن الواديين تَرَنَّمى سُقيتَ من الغُرّ الغوادى مَطيرُها برفع: مطيرُها، وسقيت: مبني للمفعول وهذا التقدير مشروط بدلالة الكلام عليه كما تَقَدّم، فلو لم يتعين لم يصحّ أن يقدّر شئٌ، للاستغناء بما ظهر، نحو: وُعِظَ فى المسجد رجالٌ، بخلاف ما إذا قلت: وعظ فى المسجد رجالٌ، ، زيدٌ. فإنه على التقدير. وهذا القسم داخل فى كلام الناظم، فلا يقال: إنه خارج عنه، لأن المثال لا يُعِيَّن مثله، وإنما يعِيَّن ما تَقدّم فيه فعلُ الفاعل، وهذا تقدّم فيه فعلُ المفعول؛ لأنا نقول: بل يدخل فيه من وجهين: أحدهما: أن مباينه ما بينِ فِعْل الفاعل وفعِل المفعول قريبة جدًا، فهما متفقان لفظًا ومعنى وحكما، ولذلك جاز حذف الفعل هنا؛ إذ لو أعتُبِرتَ تلك المباينة لم يجز الحذفُ عندهم قياسًا، كا جاز مع تقدّم فعل الفاعل، كلما ساغ

الحذف هنا واشتهر، دلّ على أن تلك المباينة غير معتبرة. والثانى: أن هو القسم راجع إلى ما ذكره فى المثال؛ لأن الفعل فيه حذف فى جواب الاستفهام، وهذا القسم فى التقدير من ذلك، فقولك: قُرِىَ القرآنُ، زيدٌ. على تقدير أنه قال: قُرِىَ القرآن. فقيل: من قرأه؟ قال زيد. فدخل بالمعنى في إشارة مثاله. وثمَّ قسمٌ رابعٌ، وهو أن يُدلَّ على/ الفعل المقدّر معنى الجملة لا لفظُها، أَوْ يدلّ عليه فعلٌ مجامعُه فى أصل الاشتقاق، لا فى نفس الصيغة: فالأول [نحو] ما جاء فى الحديث من قول عائشة -رضي الله عنها: «فلا أستطيعُ أَنّ أصومَهُ إِلَّا فى شعبان، الشُّغْلُ برسول الله صلَّى الله عليه وسلم». التقدير: يمِنعُنى الشغْلُ أو نحو. والثانى: نحو قول الفِرزدقِ: غَدَاة أَحلّت لابن أَصْرَمَ طعنةٌ حُصَينٍ، عَبِيِطاتُ السَّدائَفَ والخَمْرُ تقديره: حلّتْ لى عبيطاتُ السَّدائف والخمرُ. وهذان فى القياس عليهما نَظرٌ، وليس ممّا يُشعِرُ به تمثيل الناظم، والله أعلم. وأتى الناظم بَقَرأ مُسهّلةَ الهمزة، بالإبدال، على لغة من قال: قريتُ، وأخطيتُ، فى قرأتُ وأخطأت. وقد تقدّم له مثل هذا.

(ثم قال الناظم) وَتَاء تَأنيثٍ تَلىِ الماضىِ إِذَا كان لأنْثىَ، كَأبَتْ هِنْدُ الأَذَى وهذا قسم يذكر فيه حكم لَحاقِ الفعل علامةُ التَأنيث إذا كان الفاعل مؤنثًا. وقد قدَّم حكم لحاق علامة التثنية والجمع، ولما خصّ بالذكر المؤنَّثَ دلّ على أن التاء لا تلحق هى ولا غيرها إذا كان مذكّرا، إلا فى موضع مخصوصةٍ قَدّم ذكر بعضها، وسيأتى حكمُ باقيها، فنحوُ: قام زيدٌ وخرج عمرو، لا تلحق فعله علامةٌ أصلًا، فإن جاء ما ظاهره ذلك فمؤول، كما قال القائل: «فلان لغُوبٌ، جاءته كتابى فاختصَرها. فقيل: تقول: جاءته كتابى؟ ! فقال: أليست بصحيفة». فأَنَّث [الكتاب] علي معنى الصحيفة. وقد جُمِل على هذا المعنى قولُ حاتم: أَما وِىَ، قد طال التجنُّبُ والهَجْرُ وقَد عَذَرِتْنى فى طلابِكمُ العُذْرُ أى: المعذرة. فقوله «وتاء تأنيثٍ»، مبتدأٌ خبرُه: «تلى الماضِىْ» وأسكن ياء «الماضى» وكان حقُّه أن يقُولَ: «تلى لماضى» -بالتحريك لضرورة الشعر. ولأَنَّها لغة ضعيفة، وقد تقدم ذكرها. يعنى زن تاء التأنيث حكمه أَنْ تَلِىَ الفِعْلَ الماضى، أي: تأتي بعده

متّصلةٌ [به] لاحقةً له، وإذا كان ذلك الماضى لأنثى، أى: مسندًا إلى أنثى. فالضمير فى كان عائد على الاضى. والأنثى مطلقا، أو بظاهرها إذَا كان تأْنيثها حقيقيًا. و«لأنثى» متعلّق بمسند، وحُذِف لدلالة الكلام عليه؛ إذ كان هنا كمستقر فى سائر المواضع، فى كونه مفهومًا معلومًا. أو ما يتعلق بمستقر، فكأن الناظم يقول: إذا كان الماضى مستَقّرًا لأنثى. وأتى لذلك بمثال وهو: بت هند الأذى بيّن به ما آصل، وكيف تلى تاءُ التأنيث الفعل؛ إذ ليس فى قوله «تلى الماضى» بيانُ كيفيَّة اتّصال التاد بالفعل، ور كان ذلك معلومًا من خارج، فأراد إيضاح ذلك/ الأتصال. (ثم قال): وَإِنَّما تَلْزَمَ فِعْلَ مُضْمَر مُتَّصِلٍ، أَوْ مُفْهمٍ ذَاتَ حِرِ لما بيّن لحاقها على الجملة من غير تقييد بلزوم ولا جواز، أتى هنا ببيان ذلك المجمل، فيريد أن تاءَ التأنيث فى الحاقها الفعل على وجهين، لازمة وغير لازمة: فأما لزومُها ففى موضعين: أحدهما: مع فَعْلِ المضمر المتصل، وهو قوله: «وَإِنما تلزم» -يعنى التاء- «فعْلَ مُضْمَرِ»، يريد فعل فاعل مضمر متّصل بالفعل. أما

اشتراطه أن يكون الفاعل مضمرًا فلأنه إذا كان ظاهرًا فله حكم سيذكره، وكذلك اشتراطهُ أن يكون متًّلا تحّرزٌ من كونه منفصلًا؛ فإن حكمه إذ ذاك حكمُ الظاهر، فكما تقول: ما قام إلا هندُ، وما قمت إلا هندٌ، كذلك [تقولُ]: ما قام إلا انت يا هندُ. بخلاف ما إذا كان ضميرًا متصلًا فإنّ التاء لازمةٌ مطلقًا، سواءٌ أكان المؤنث حقيقى التأنيث أم لا. هذا ظاهر كلامه حيث أطلق القول فى المضمر المتَّصل، وقيّده فى الظاهر بكونه حقيقيًّا. وهذا صحيح، فتقول: هند قامَتْ، وزنينبُ خرجَتْ، والشمس طلعَتْ، والدار تهدّمتْ؛ فلا يجوز هنا حذف التاء قياسًا. وقوله: «إنما تلزَمُ»، أراد اللزوم القياسىّ خاصَّةً، وإلا فقد جاء السماعُ بخلاف ذلك، كبيت عامر بن جُؤَين: * ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقَالها * وكذلك قولُ بعضهم: قال فلانة، فى الموضع الثانى. وما أشبههما من النظائر. وقال نبّه على ذلك الناظم بعدُ، فإنّما مقصوده أن ذلك شاذٌّ، وإن القياس لزوم التاء والموضع الثانى: مع فعل الظاهرِ النتَّصِلِ الحقيقىّ التأنيث، فالظاهر إذا اجتمع فيه أَيكون حقيقى التأنث متّصلا بفعله، لزمته العلامة أيضًا. فأما

كون الفاعل حقيقى التأنيث فصريح فى كلامه حين قال: «أو مُفُهِمٍ ذات حِرِ». ومفهم: صفةُ موصوفٍ محذوفٍ تقديرُه: أو فاعل مفهمٍ كذا، هو مخفوصٌ بالعطف على مُضْمرَ، كأنه قال: وإنما تلزم فِعْلَ مضَمِر، أو فِعْلَ فاعلٍ مُفْهِمٍ ذات حِرِ. ويعنى بكونه مُفْهِمًا أن يكون دالًا على صاحبة حِرِ، أى: دالًا على مؤنث حقيقى التأنيث. وعبَّر عن ذك بذات الحِرِ كالمرأة والشاة والأتان، ونحو ذلك مما له فَرْجٌ، ولمقابله من الزوجين ذَكَرٌ. وهذا اللفظُ الذى شرح به الناظم التأنيثَ الحقيقى أصرحُ فى شرح المقصود من قولهم: حقيقىّ التأنيث؛ لأن حقيقىّ التأنيث مُفسَّر بما ذكر، فكان الأولى أَن يُبَيّنَه بما هُوَ المعهودُ عند النحويين من لفظ التأنيث الحقيقى، ، كما فعل في التسهيل وغيره. وأما كونُ الفاعل متّصلا/ بالفعل لم يُفْصَل بينهما بفاصل، فيظهر من كلامه من موضعين: أحدهما: قوله: «وقدِ يبيحُ الفصلُ ترك التاء»، وما بعده، فإنه يُفهم منه أنّ تَرْكَ التاء ذون فَصْلٍ غيرُ مْباحٍ، فلا بدّ من أن يكون الاتصّال شرطًا فى لزوم التاء، وهذا وإن كان تركُها مع الفَصْلِ قليلا، فالتاء على الجملة غيرُ لازمة قياسًا. والثانى: أن قوله «أو مُفْهِم ذاتَ حِرِ» لما عطف على «مُضْمِر» قد وصف بمتَّصِل، كان المعطوفُ شريكَ المعطوفِ عليه فى ذلك الوصف،

كأنه قال: أو مفهمٍ ذاتَ حِرٍ مُتَّصلٍ وهو شبيه بقوله عليه السلام: «لا يُقْتَل مسلمٌ بكافر، ولا ذو عَهْدٍ فى عَهْده»، قال المحققون: معناه: ولا ذو عَهْدٍ فى عهده بكافر. وبذلك يصحّ معنى الحديث، فكان تقدير حلول المعطوف فى محلّ المعطوف عليه يشعر بلزومه قيدَه، حتّى كأنّ الموضع له. فإذا اجتمع الشرطان لزمت التاء فقلت: قامت هند، ونَدَّت الشاةُ، وضلَّتِ الأتانُ ولا يقال: قام هند، ولا نَدَّ الشاة -وأنت تريدُ الأنثى- ولا ضلّ الأتانُ- وما جاء من قولهم: قال فلانة، فشاذٌ يحفظ ولا يقاسُ عليه، وسيذكره. ولَمَّا عيّن لِلُّزومِ هذين الموضعين، دلّ على أنه فى غيرهما بالخيار، لأنّ ضد اللزوم الجواز، وذلك مع المؤنث المجازىّ التأنيث، مع الحقيقى مع الفصل، ومع غير ذلك. وجوازُ الوجهين فى ذلك كلّه مختِلفٌ، فمنه ما يقوى فيه [لحاقُ التاء، ومنه ما يقوى فيه] خلافه، فلذلك فَصّل الحكم فيه فقال أَوّلًا: وَقَدْ يِبيحُ الفَصْلُ تْركَ التَّاءِ فىِ نَحُوِ: أَتىَ القْاَضِىَ بِنْتُ الَواقِفِ يعنى أنّ الفعل قد يُسْنَد إلى ظاهرِ المؤنُّثِ الحقيقي، فلا تلحق الفعل علامة التأنيث، ويستباح ذلك لأجل الفاصل الحاصل بين الفعل والفاعل، ومَثّل ذلك بقوله: أتى القاضىَ بنتُ الواقف. ففصل بالقاضى بين الفعل والفاعل. وإنما جاز ذلك لمكان الفصل؛ لأن الفاصل لما كان مُبِعْدًا بين الفعل والفاعل

قلّ القبح اللفظى؛ من حيث كان الفعلُ بترك العلامة/ يقتضى أن الفاعل غير مؤنث، والإتيان بالفاعل مؤنثا يقتضى لحاق العلامة، فكان فى الجمع بينهم [بعض] القبح؛ فإذا حصل الفصلُ بَعُد القبحُ شيئًا مّا؛ قال سيبويه: «وكلما طال الكلام فهو أحسنُ -يعنى تَرْكَ العلامة- نحو: حضر القاضى امرأة، قال: لأنه إذا طال الكلام -يعنى بالفصل- كان الحذف أجمل، قال: وكأنه يصير بدلًا من شئ كالمعاقبة، [نحو قولك]: زدناقة [وزناديق]، [فتحذف الياء لمكان الهاء -يعنى كأن الفصل بين الفعل والفاعل صار بدلًا من لحاق العلامة، كما كانت الهاء فى زنادقة] بدلًا من لاياء فى زناديق. ثم قال أيضا تعليلا لعدم لحاقها على الجملة: «وإنما حذفوا التاء لأنّه صار عندهم إظهار المؤنث يكفيهم عن ذكرهم التاء، كما كفاهم الاثنان والجميع حين أظهروهم عن الواو والألف». ومن مُثُلِ ذلك قَولُ جرير لَقَدْ وَلَدَ الأخَيطلَ أمُّ سَوْءٍ مُحمّلةٌ من الأمّاتِ عارا

وأنشد الفراء: إنّ امرًأ غرَّهُ مِنْكُنَّ واحدةٌ بَعْدِى وبَعْدَكِ فى الدُنْيا لَمَغرْوُرُ وهكذا الحكم فى المضارع، فكما تقول: حضر القاضى امرأة، وتقول: يحضُر القاضى امرأةٌ ويأتى القاضى بنت الواقف. وفى قوله: «وقد يُبيحُ الفصلُ» الدلالة على أنه قليلٌ، وعلى أنه قياس. أما دلالته على أنه قليل فمن جهتين، إحداهما: إتيانه بقد، فإنّ عادته أن يأتى بها مشيرًا بالتقليل. والثانية: قوله: «وقد يُبيحُ»، فإن هذا اللفظ [إنما] يستعمل غالبًا فيما الأصل فيه المنع، وأن مقاربته محذورة، كما [يقال: هذا] حِمىَ بنى فلان، وهذا حِمىً لا يستباح. وهذه العبارة موافَقِة المعنى لعبارة الجزولى فى قوله: «وحذفُها مع الفصل أسهلُ منه بلا فَصْلٍ». وأما دلالته على كونه قياسًا فمن إتيانه بقد؛ إِذْ من عادته أن يأتى بقد حيث يجوز ذلك الحكم فى الكلام على قلة. وهو ظاهر من كلام سيبويه المتقدّم وغيره. وعلى الناظم هنا اعتراض من جهة علم القوافى، فإنه أتى بقافية مُؤَسّسةٍ، وهى قوله: «بنت الواقف»، وبنظيرتها مجرّدة حكمًا، وهي قوله:

(التاء في). فإنها بمنزلة (المكتفى) في الحكم، لا بمنزلة الواقف؛ لأنّ حرف التأسيس في كلمة، وحرف الرّوي في كلمة أخى غير ضمير. ومما أنشدوا على القياس قولُ العجاج: / فهنّ يعكفنَ بِه إذَا حَجَا عِكْفَ البِيطِ يلعبونَ الفَنْزَجا فلم يعتبر الألف من إذا؛ لكونها من كلمة أخرى، فلو قال الناظم: مِثلَ: أتى القاضِي بنت المكتفِي، لكان هو القياس. وقد جاء في السماع ما فيه المؤسس مع المجرد. قال: أدعوك يا ربّ مِن النارِ الّتى أَعْدَدْتَ للكفّارِ في القيامة وليس بقياس؛ وإنما هو سماع. (ثم قال الناظم): والحَذفُ مَعْ فصْلٍ بالأفضلا كمَا زكا إلّا فتاةُ ابنِ العَلا

يعني أن الفصل إِنْ كان بغير «إلّا» فحكمه ما تقدّم، وإن كان الفصلُ بإلّا فحذف العلامة أحسنُ من إثباتها، وهو عند العرب مفضّل، والإثباتُ مفصول. فقولك: ما قام إلا هندٌ، وما خَرج إلا وعدٌ أفضل من قولك: ما قامت إلا هندٌ، وما خرجت إلا زينب. ومثل ذلك [قوله]: ما زكا إلا فتاةُ فلان. لو قال: ما زكت، لجاز، ولكنه مفضول. فالوجهان -على الجملة- جائزان، وإن كان أحدهما أرجح من الآخر. ووجه رجحان الحذف أن النَفْى [بما] يقتضى العمومَ والتذكير، فكأنَّه فى المعنى: ما قام أحدٌ إِلّا هندٌ، وما خرج إنسان إلّا وعدٌ؛ فإذا كان المعنى على التذكير كان إسقاطُ التاء أولى، وإن كان اللفظ على يقتضى غير ذلك. ووجهُ الإثباتِ القصدُ إلى إسناد الفعل إلى المؤنث، اعتبار اللفظ، ومما جاء على غير الأولى قولُ ذى الرُمَّة: [طوى النحزُ والاجراز ما فى غُروضِها] فما بَقِيت إلا الصُّدور الجراشِعُ وقال ذو الرمة أيضا: كأنها جَمَلٌ وَهْمٌ وَما بقيت إلا الّنحيزَةُ والأَلْواحُ والعَصَبُ

ومما جاء منه فى المضارع قراءة من قرأ: {لا تُرَى إِلا مَسَاكِنُهمُ}، وهى قراءة الحسن وعاصم الحجدرى وجماعة من التابِعِين. وجعل ابن جنى مثل هذا أولى بالشعر. واختار المؤلف خلافه محتجًا بما جاء فى القرآن من ذلك مقروءًا به، فهو عنده مما يجوز فى الكلام لكنه [ضعيف]، وعلى ذلك بنى هنا؛ إذا جعله مفضولًا خاصّةً، ولم يخصّه بالشعر. وما تقدّم من الأمثلة إنما هو فى المجازىّ التأنيث، وهو مع الحقيقى التأنيث [هنا] كالسواء وأنشد المؤلف منه: ما بَرئَتْ مِنْ رِيبَةٍ وَذَمّ فى حَزْبنا إلا بَنَاتُ العَمِّ / والزكة: الطهارة والعمل الصالح، ورجل زكى، أى: تقىّ. والفتاة: الشابّة، والفتى أيضا يطلق على الخدِيم. وفى قوله هنا بعدُ: «والحذف»، مشاحّة لفظية، وذلك أنّ لفظ الحذف إنما يستعمل عُرفًا فيما كان ثابتًا حُذِف. وهذه التاء لم تكن فى الأل ثابتة ثم حُذِفت، بل الآصل القياسىّ عدمُ لحاقها الفِعْلَ؛ ألا ترى

أنها لا تلحق معالمذكر لأنه أصل، فيعرض لحاقها إذا عرض إسنادُ الفعل إلى المؤنث، وكان ذلك هو الموجب للحاق، وأما عدم اللحاق فرجوع إلى الأصل، فكيف يُعَبَّر عنه بالحذف. وأحسن من لفظ الحذف تركُ التاء كما قال قبلُ: «وقد يُبيح الفصلُ تركَ التاءِ». والجواب من وجهين: أحدهما: أن مثل هذا اللفظ قد يُسْتعمل عرفًا فيما لم يكن ثانيًا قبل ذلك، كقولهم: إنّ حذف النون علامة النصف فى [نحو]: لن يفَعْلا فإن الحذف هنا لم يكن عن إثبات صحيحٍ، وإنما تأتى العربُ به النصب بغير نونٍ، كما تأتى به فى الرفع بالنون. وقولُهم: أصل النصب وغيره الرفعُ، أمرٌ قياسىٌّ تقديرىّ لا يشهد له أصلٌ من كلام العرب. فتسميتهُم له حَذْفًا ضَرْبٌ من الاتّساع على الجملة. والثانى: أن تقول: أصل الفعل فى القياس أَنْ لا تلحقه علامهٌ، وأصله فى الاستعمال أن تلحقه العلامة مع المؤنث الحقيقى على الجملة، ويَدُل على ذلك كثرة لحاقها معه، والقاعدة أن الكثرة لها الأصالة، وقد ثبت لنا هنا أنّ اللحاق مع المؤنث هو الأكثر، فإذا لم تلحق معه قدّرنا أن عَدم اللحاق حذف صحيح؛ إذ كانت القاعدة تقتضى اللحاق، ولكن عرض سَبَبٌ مَنَع الأصل أن يستمّر، فادّعينا أنّ عَدَم اللحاق حَذْفٌ، وقوفًا مع الأصل وفى هذا بحث.

قال: والحذفُ قد يأتي بلا فَصْلٍ، ومَعْ ضميرِ ذي المجازِ في شِعْرٍ وقعْ هذا تنبيه على ما جاء في المساع مما يخالف القاعدة المتقدّمة؛ إذ قَدّم القياس المتسمرّ والحكم اللازم مع عدم الفصل لحاق العلامة إذا كان الفاعل ظاهرًا مؤنثًا حقيقي التأنيث، أو كان ضميرَ مؤنثٍ متصلًا كان حقيقي التأنيث أو مَجازيَه، فقال في أحد القسمين -وهو الظاهر الحقيقي التأنيث إن حذف العلامة قد يأتي بلا فَصْلٍ. وهذا إشارة منه مجيئه في الكلام، لكن قليلًا ضعيفًا، فتقول على هذا: قام هندٌ، وخرج دَعْدٌ. حكى سيبويه عن بعض العرب: قال فلانةُ: وقال لبيد بن ربيعة: تمنَى ابنتايَ أن يعيشَ أبوهُما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضَرْ وقال في القسم الآخر: «وقَعْ .. ضمير ذي المجازِ في شعرٍ وقَعْ»، يعني أنّ حَذْفَ التاء مع كون الفاعل ضمير مؤنث مجازيّ التأنيث وقع في الشعر لا في الكلام. ومن ذلك قولُ عامر بن جُؤين الطائي، أنشده سيبويه:

فلا مُزنَهٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ولا أَرْضَ أَبْقَل إِبقالها وكان الأصل: أبقلتْ. وأنشد أيضا للأعشى: فإما ما تَرَىْ لِمتّى بُدّلَتْ فإِنَّ الحَوَادث أَودى بها والوجه: أودتْ. ومن بابه ما قال الأعشى: أَرَى رَجُلًا مِنْهُم أَسيفًا كأنَّما يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كفًا مُخَضَّبا والوجه: مُخَضَّبَةً. وأنشد سييوبه لطُفيل: إذْ هىَ أَحْوَى مِنَ الرَبِْعيّ حَاجِبهُا وَالْعَينُ بالإثمِدِ الحارىّ مَكْحُولُ الأصل: مكحولة؛ لأنه خَبَرُ العين، ولم يأت فى الكلام مثلُ هذا، فلذلك قال: «شعرٍ وَقَعْ». وإذا تبيَّن ما قاله تَوجَّه عليه سؤالان: أحدهما: أنه قال أَوّلًا: «وإنما تلزم فِعْلَ مُضْمَرِ» الى آخره، وهو نصٌّ فى أن إساقط التاء مع القسمين لا يجوز البتَّةَ، وهو معنى اللزوم. ثم نقص اللزوم هنا بقوله: «والحذوفُ قَدْ يَأتِى بلا فَصْلٍ»، فأجاز إسقاط التاء هنا مع القسمين وإن كان ضعيفًا، فحصل أن ثبوتها ليس بلازم، وهذا تناقض من

القول. ولا يقال: إِنَّه أراد أوّلًا أَنَّ اللزوم هو القياس، وأن مثل: قال فلانَةُ، سماعٌ؛ لأنا نقولُ: قَدْ كرَّ من عادته أنه يريد بقوله: قد يكون كذا، أنه يجوز قياسًا. ولا أجد جوابًا عنه؛ إلا أن يريد باللزم أَنَّه أكثرىّ وهذا ضعيف. والسؤال الثانى: أَنَّ قوله: «وَمَعْ ضَمِير ذى المجازِ»، يُؤْخَذُ منه أنه لم يأتِ فى الكلام فى ضمير ذى المجاز. ويظهرُ من السماع خلافُ ذلك؛ فإنّ فى الكتاب العزيز: {إنَّ رَحْمَةَ الله قرِيبٌ مِنَ المُحسنِيِنَ}، وقال تعالى: {السَّماءُ مُنْفطِر به}. ويأتى مثل هذا فى الكلام، فكيف بقولُ: إِنَّه وقع فى شعرٍ. ولا يُقال/: إنَّ مثل هذا وقع على معنى النسب، أراد: ذات قُرْب، وذات إمطارٌ؛ لأنا نقول: [ذلك] لا يُنْجىِ؛ إِذِ الضمير المرفوع فى (قَرِيبٌ) و (مُنْفَطرٌ) ضمير مؤنث، ورفعه على الفاعلية، ولم تلحق الصفة علامة، فالسؤال وارد. وكذلك لا ينجى أن ذلك على تأويل الرحمة والسماء بمذكر، فإنّ قوله * وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقاَلَها * وما أشبهه مؤوَّل بمذكر، حسبما ذكره النحويون. ولا جواب لى إلّا أن يقال: لعلّه لم يلتفت إلى هذا النحو هنا، لجرياته مجري ما لا تلحقه العلامة من الصفاتِ، مفَعُول ومِفْعال، وما ذكر معهما؛ فإنه استثنى ذلك فى باب المذكر والمؤنث. أو يقال -وهو الأولى-: لعلّه إنما تَكلّم فى هذا الفصل على لحاق التاءِ إلى الفعل خاصَّة،

وترك ذكر لحاقها الصفة، لأنه قد ذكر حكم الصفة فيما بعد، فذكر فى باب النعتِ من ذلك نحوًا مما ذكر هنا فى الفعل، ثم ذكر فى باب المذكر والمؤنث ما يمتنع أن تلحقه العلامة فى قوله: «ولا يَلى فَارِقةَ مَفُعولَ .. إلي آخره. وإذا كان كذلك لم يَبْق إشكالٌ، وحصل جواب هذا السؤال. واعَلمْ أنه لما قَرَّر موضِعَىْ لزومِ التاء ظهر أنّ المؤنث الذى ليس على ذلك الوصف لا تلزمه التاء، وهو الظاهر المجازىُّ التأنيث، فتقول: طلعِت الشمسُ، وطلع لشمسث، وتهدّمتِ الدار، وتهدّم الدار، وما أشبهه ذلك. وعلى هذا القسم أحال فى قوله بعدُ: «كالتَّاءِ مَعْ إحْدَى اللّبنْ». إلا أنه يدخل عليه فيما ذكره لزوم لحاقها فى موضع لا يلزم فيه اللّحاق، وإن كان المسندُ إليه حقيقى التأنيث، وذلك إذا كان قد دخلت عليه من الزائدة؛ فإنك إذا قلت: ما قامتِ أمرْأةٌ، فلا بُدَّ من التادة، كما [تقول]: قامت امرأة. فإن قلت: ما قامتْ مِنَ امْرأةٍ، كنت فى لحاق التاءِ وعدم لحاقها بالخيار. أما وجهُ لحاقها فاعتبارٌ بسقوط من الزائدة تقديرًا؛ إذ هى فى تقدير السقوط، فكان التقدير: ما قمت امرأة. وأمّا عَدَمُ إلحاقها فاعتبارٌ بأن دخول مِنْ أفاد معنى الحنس وعموم النفى، فصار كمرفُوعِى نعم وبئس. والجواب (عن ذلك): أن هذه المسألة يُسَتفَادُ حكمهُها من كلامه فى نعم؛ إذ عَلّل عَدَم اللّحاق بقصد الحنس، فإذا كلُّ مؤنّثٍ قُصدَ فيه قصد الجنس ففيه ما فى: نِعْم المرأةُ هندٌ /فإن قلت: إن ما قلت قياسُ على كلامه، والاشكال على القياس

في محلّ التعليم ينافى التعليم، هذا مع أنه نصّ على لزوم التاءِ فى غير ما استثنى، فكان مُوهِمًا دخول هذه المسألةِ فى ذلك الحكم، وهو فاسدٌ. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن نقول: لا نعلم أنه لم ينصَّ عليه، لنه قد علَّق الحكم بحذف التاء على علّة قصد الجنس، والقاعدةُ الأصولية أن الحكم إذا علق على علَّة، فهو عموم بالنَّصّ لا بالقياس عند طائفة، فكأنه قال: كلُّ ما قصِد فيه الجنسُ فحذف التاء فيه سائغٌ مستحسنٌ. والثانى: إذا سلّمنا أنه عامٌّ بالقياس لا بالنصّ، فالقياس يُخصّ به العموم عند جماعةٍ، فلعلَّ الناظم قائِلٌ بأحدى هاتين الدَّعْوَيين، فلا يكون عليه اعتراض. وفى هذا الجواب نظرٌ. ويمكن أن يكون راجعًا إلى إسقاط لتاء لأجل الفصل. وفى هذا نظرٌ أيضا. والأَولى أن يقال: إنه تركَ ذِكْرَ هذا الفَرْعِ رأسًا فلم يتعَرضْ له. والله أعلم. ثم قال: وَالتَّاءُ مَعْ جمْع سَوَى السَالِم مِنْ مُذَكّرٍ، كَالتَّاءِ مَعْ إِحدَى اللَّبِنْ يعنى أَنَّ ما عدا جمع المذكّر السالمِ من الجموع فحكمُها إذا أُسند إليها الفعلُ حكمُ الواحد المجازىّ التأنيث، فى جواز لحاق التاءِ وعدم لحاقها. والجموع ثلاثةُ أضربٍ: جمع تكسير لمذكّر كان أو المؤنث، كالرجال والهنود. فهذا تقولُ فيه:

قام الرجالُ، وقامت الرجالُ، وقام الهنود، وقامت الهنود، كما تقول: تكسَّرت اللبنة، [وَتكَسَّر اللبنةُ]. وجمع مُؤنَّثٍ سالم، نحو: الهندات، والطلحات، والبنات. فهذا على مقتضى عبارته، تقول فيه: قام الهنداتُ، وقاكِت الهنْداتُ، وقام الطلحاتُ، وقامت الطلحاتُ، وقام البنات وقامت البنات. وجميع مذكر سالم بالواو والنون، فهذا لا يجرى فيه ما جاز فى النوعين الآخرين، لاستثناء الناظم له، وإذا لم يكُنْ تَخييرٌ فليسَ إلَّا وجهٌ واحدٌ، فينظر فيه ما هو؟ وذلك أنه ليس بمؤنث لا مفرده ولا هو، فليس له إذًا إلا ما للمذكر، وهو عدمُ لحاق التاء، فتقول: قام الزيدون، وخرج العَمْرونَ، ولا تقول: قامت، ولا خرجَتْ، هذا محصول كلامه. وقوله: «من مذكّر» /، مِنْ فيه لبيان جنس السالم؛ لأن الجع السالم ضربان: مذكر ومؤنث، فبيَّن أنه أراد المذكّر بالاستثناء. ، قوله: «كالتاء مع إحدى اللَّبِن» خبر المبتدأ الذى هو التاء. وبيّن بذلك المؤنث المجازىّ التأنيث؛ فإنَّ إحدى اللّبن لَبِنَةٌ، [واللَّبنة] تأنثيها لفظىّ. وبعدُ؛ فإنّ للنظر فيما قال هنا مجالًا، أما كونُ الجمع المكسَّر ذا وْجهين فكما قال، ولا خلاف فيه. ووجه ذلك أنَّ جمع التسكير لا يتَبيَّنُ فيه لفظ الواحد، فجاز أَنْ يُعامَلَ مُعاملة الجماعة والجمع، والجماعة - من حيث هى جماعةٌ- لا يُنْسبُ إليها تأنيثٌ حقيقىٌ ولا تذكيرٌ حقيقي،

فاستوت مع الشمس والدار ونحوهما، مما ليس له تأنيث حقيقىّ، فكانت العلامة جائزة لا واجبة. وأما جمعُ المذكر السالم فإنما استثناه لأنّ بناء الواحد فيه سالم ظاهر، فلم يَسُغْ فيه تأويله بالجماعة ولا بالجمع، فعُومِل معاملة واحده الظاهر فيه، فلم تلحقه علامة. وهذا الذي ذهب إليه فيه هو رأى جمهور البصريين. وذهب الجزُولي -فى ظاهر إطلاقه- والكوفيون إلى جواز الوجهين، فيقولون: قامت الزيدون، وقام الزيدون. ولم يَرِدْ بقولهم سماعُ، وإنما ورَدَ بلزوم إسقاط العلامة، فهو الذى يُعوَّل عليه. وأما جمع المؤنث السالم فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون للمذكر حقيقة أو مجازًا، نحو: الطلحات والحمامات. فجواز الوجهين فيها ظاهر، فوجه عدم لَحاقِ التاء اعتبار سلامة الواحد، كما اعتُبرتْ فى جمع المذكر السالم. ووجهُ لَحاقها اعتبارُ لفظِ الجمع؛ إذ هو مؤنثُ اللفظ بالتاء، وهو مما يُجمعُ عليه المؤنث، فاعتُبر فيه ذلك على الجملة. والثانى: يكونُ للمؤنث المجازىّ التأنث، نحو: تَمَرات وخُطُوات. فجواز الوجهين فيه أيضًا ظاهر، إِمَّا اعتبارًا بواحده، وإمّا لأنه مؤنَّث اللفظ، فعُومل معاملة ما تأنيثُه لفظىٌّ. والثالث: يكون للمؤنث الحقيقى التأنيث نحو: الهندات والزينبات، فظاهر إطلاق الناظم ينتظمُ هذا القسم، وأنه مما يجوز فيه الوجهان، كما/ يجوز ذلك فيما قبله، فيقال: قام الهندات، وقامت الهندات، على

مشهور اللغات لأنه لم يستثن من جواز الوجهين إلا جمع المذكر السالم. وهذا غير صحيح؛ إذ لا يقال: قام الهندات، إلا فى الشعر، نحو قول أبى عطاء السِّنْدىّ: عشيّه قام التائحاتُ وشققّتَ جيوبٌ بأيدى قَأتَمٍ وخدودُ وأنشد البكرىّ قول الشاعر يصف امرأة: أَنَاةٌ عَلَى نِيْرين أضحى لِداتُها بِلينَ بلَاءَ الرّبْطِ وهى جديدُ أو على لغة من قال: قال فلانة، وهى لا تدخل هنا، ولا حجة له فى قول الله تعالى: {إذ جاءَكَ المؤمناتُ}؛ لأن الذى سَهَّل إسقاط العلامة هنا الفصل بالكاف، أو تقدير ثبات الموصوف المحذوف، وقد مرَّ ذكر حكم الفصل. وقد قيّد فى كتاب التسهيل ما أَطلق ههنا، فقال: «وحكمُها -يعنى التاء- مع جمع التكسير وشبهه وجمع المذكر بالألف والتاء، حكمُها مع الواحد المجازىّ التأنيث». فقيده بجمع المذكر، ولم يقل: والجمع بالألف والتاء. ولا يقال: لعل مراده بقوله: «من مذكر»، ليس بيانا للسالم، بل هو راجعٌ إلى الجمع حتى كأن قال: «والتاء مع جمع من مذكر سوى السالم كالتاء

مع إحدى اللبن»، ويكونُ كلامُ متناولًا لجمع التكسير خاصّة، ولم يتعرض لحكم جمع المذكر بالألف والتاء؛ إذ كان المختصرُ يضيقُ عن تقرير هذه التفاصيل كُلُّها، ولكنُ هذا المحملُ أولى من الحمل على مخالفة الجماعة. لأنَّا نقول: هذا غير صحيح من وجهين: إحدهما: ما يلزم عليه من ترك حكم جمع المذكر بالألف والتاء، مع ترك حكم جمع المؤنث كذلك أيضًا، فيكون الكلام يقتضى أَنْ لم يتعرضّ للمجموع بالألف والتاء رأسًا، وفى هذا تقليل الفائدة جدًا، وهو مناقض لما وِضع له المختصر من تكثير الفائدة. [مع تقليل العبارة] ما أماكن. والثانى [أنه] قال: «سوى السالم» فيقضى باستثناءه الحكم عليه بخلاف المستثنى منه، وأن يكون الجمعُ بالألف والتاء تلزمه التاء، كان لمذكرٍ أو المؤنثٍ حقيقى أو غير حقيقى، [وذلك] فسادٌ كبير. فالأولى حملهُ/ على ما تقدّم، وأنه ارتضى فى هذه المسألة وحدها مذهب من رأى أن الجمع بالألف والتاء للمؤنث الحقيقى لا تلزمه التاءُ، وهو رأى الكوفيين وظاهر الجزولى فى الكراسة، لقوله فيها: «ولا تلزم فى الجمع مطلقًا». ولهذا المذهب وجه من الصحّة؛ قال الفارسىّ فى التذكرة: «قولهم جاء الهنداتُ، حسنٌ، وليس من القبح كقولك: جاء هِنْدٌ؛ لأنّ الواحدة حكمُها أن تلزمها علامة التأنيث للفصل بين التأنيث والتذكير،

وأيضاً: فتلزم العلامة للزوم المعنى المسمىّ. وقد تكون الألف والتاء فى الجمع على غير حدّ التأنيث فى الواحد؛ ألا تراهم قالوا فى تحقَير دراهم: دُرَيهمات، فلحقت الألف التاء على حدّ الجمع وتأنيث الجماعة، لما أريد به الجمع، فإذا كان كذلك لم يقبح: جاء الهندات، بل كان حسنًا، على حدّ إرادة التأنيث فى الجماعة. ومن ثمَّ جاء فى التنزيل: {إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِناتُ}. قال: فإن قُلْتَ: فَهَلْ يستقيم على هذا أن أقول: قالت الزيد دل، فأحمل على الجماعة؟ قال: فإن ذلك لا يسوغ عندى؛ ألا ترى أن هذا الضرب من الجمع لم يجئ فى تأنيث كما جاء دُرَيهمات فيما ذكرت [لك]، [ولا يكون ذلك] إلّا على حدّ واحده المذكر وتثنيته. قال: فأمّا قولك: مضت [سِنُون] ونحو ذلك، فإن حرفى الجمع في سِنُون» ليس على حد «الزيدون» ألا ترى أن الاسم مكسّر فى هذا الجَمْع مغيَّرٌ، وليس فى زيدين ونحوه كذلك». هذا ما قال: وهو توجيهٌ لا بأس به. وأيضًا فإن الجمع بالألف والتاء قد عاملوه معاملة: جمع التكسير فى تغييره عن بنيةٍ واحدةٍ، فقالوا: طَلَحات فى طَلْحة، وخُطُوات فى خُطْوة، وهِندات فى هند. [ونحو ذلك] مما لا يبقى فيه الواحدُ على شكله قبل الجمع. ولم يصنعوا ذلك فى الجمع بالواو والنون، بل قالوا في زيد: زيدون، وفي

عَمْرو: عَمْرون، وفى قُفْل وعَدْل -اسمَىْ رجل: قُفْلُون وَعدْلون. فَلَم يُغَيِّروا بِنْيَةَ الواحد فيه إلا حيثُ جعلوا العلامتين عوضًا، نحو: سِنوُن، وقُلُون، وما أشبه ذلك. فلما ساوى الجمعُ/ بالألف والتاء الجمعَ المكسّر، فى جوازِ تغيير بنية الواحدِ فيه، عاملوهُ مُعاملة الجمع والجماعة فى لَحاقِ التاء وعدِم لَحاقها. وإذا ثبتَ فلا ضيرَ فى أَنْ يكون فى التسهيل ذهب مذهبَ البصريّين فى المسألة، وذهب هُنَا مذهبَ الكوفيين؛ إذ رآه حين نظم هذه الأرجوزة أرجَحَ؛ وقد يكون للمجتهد قولان بحسب وقتين، والناظمْ مِمَّن نَصَب نفسه مِنصب الإجتهاد، فجرى فى اختلافِ الأقوال فى المسألة الواحدة مجراهم. والله أعلم. وهنا نظر ثانٍ، وهو انّ جمع التكسر الذى أجازَ فيه الوجهين قطعًا، هو الّذى كُسّر على أبنية التكسير المذكورةِ في النصف الثانى من النظمِ، كأفعالٍ، وأَفْعِلَة، وفُعُول، وفِعال، ونحوها. وجمعُ التكسير عند النحويين يُطْلقَ بإطلاقين، فيطق تارةً على ما تكسّر على تلك الأبنية، كرجالٍ وأَجْمَالٍ. ويطلق تارة على الجمع المسلّم إذا لزم فيه تغييرُ الواحد أو غَلَب، أو جاء على شكل المسلّم وليس فيه شروطه كأرضين، وعِزِين، وسنين، وما أشبه ذلك. ولا شكّ أَن جمع التكسير بهذا المعنى الثانى مرادُ الناظم، [كما أن الأول مرادٌ له]، فتقول: مضت سِنوُن، ومَضَى سِنُون، ومرّتِ الإوَزُّون، ومرَّ الإوَزُّون. وذهب اللَّدُون، وذهبت

اللّدُون، وما أشبه ذلك. وكذلك ما كان من هذا النحو بالألف والتاء، نحو: لِدَاتٍ، وحكم التاء معه التخيير أيضًا. ومن ذلك عند الناظم بنون وبنات، فإنهما لم يسلم فيهما بناءُ الواحد، فحكمها حكمُ جمع التكسير، فتقول: جاء البِنُونَ، وجاءت البَنُونَ، وجاء البنات فى وجاءتِ البناتُ. وأنشد سيبويه: قَالَتْ بَنُو عَامرٍ: خَالُواَ بِنَى أَسَدٍ يا بُؤْسَ للحرْبِ ضَرَّارًا لأقَوْامِ وقال عَبْدةُ بن الطّبِيب: فبكى بَنَاتى شْجَوهُنْ وَزَوجِتَىَ والظاعِنُونَ إلىّ ثُمّ تصدَّعوا وقال كُثَيّر: وهَمَّ بناتى أَنْ يبَنّ وخَمَّشَت وجُوُهُ رِجَالٍ مِنْ بِنىَّ الأصَاغِرِ وقال أبو ذؤيب:

وقامَ بناتي بالنَّعالِ حواسِرًا وألصقن ضَرْب السّبْتِ تحت القِلائدِ وبهذه الشواهد استدلّ أهل الكوفة على جواز الوجهين فى: قام الزيدون، وقامت الهندات. ولا دليل لهم فيه، لأنه من قبيل التكسير وإن كان ظاهره التسليم/ ولا يقال: إن هذه الشواهد اضطرارية فلا حجّة فيها على جواز مثلها فى الكلام؛ لأنا نقول: هى فى قوة ما وقع فى الكلام لإمكان إسقاط التاء من «قالت بنو عامر»؛ إذ لا ينكسر به الوزن، وإمكان إلحاقها فى قوله: «وهمّ بناتى» وما بعده، ولا ينكسر الوزن بذلك وهذا بناءٌ على طريفة ابن مالك فى اعتبار ما هو ضرورة مما ليس بضرورة، لإمكان زوالها مع بقاء الوزن [وعدم ذلك]. وقد تقدّم تقريرها فى باب الموصول. ونظر ثالث، وهو أنه لم ينصّ على حكم التاء مع المثنى واسم الجمع واسم الجنس، فمن أين يؤخذ له حكمهما. والجواب عن ذلك: أن الناظم لما استثنى السالم من جوازا الوجهين، وتبيّن أنّ ذلك لكون الواحد بيّنًا فيه، فلا بدّ من اعتباره، ثبت أن المثنىّ أيضا له حكمُ الجمع السالم، فلا يجوز فيه إلا إثبات التاء إن كان مؤنثا حقيقيا، أو عدمها إن كان مذكرًا، أو كان ذا وجهين إن كان مؤنثا مجازيًا، على حسب التفصيل المتقدّم فى المفرد؛ أذ كانت العلة موجودة في المثنى.

فإن قيل: وهكذا جمع المؤنث السالم قد تبيّن فيه الواحد وَسلِمَ، وقد أجاز فيه الوجهين كما تَقَدّم من البيان، فمن أين لك اطّرادُ علّة السلامة فى المثنى وهو لم يطرُدْها فى الجمع بالألف والتاء؟ فالجواب: أن التثنية أدخلُ فى باب سلامة الواحد من الجمع بالألف والتاء؛ ألا ترى أنه يتغيّر الوسط منه بتحريكه إن كان اسما ساكن الوسط، كما سيأتى -إن شاء الله- بخلاف التثنية وجمع المذكر السالم حسبما تقدّم. وأما اسم الجمع واسم الجنس فلا يخلو أن تجعلهما مفردين أو جمعين، فإن جعلتهما مفردين فهما مما جاء فيه لغتان من الأسماء المفردة، والتذكير والتأنيث، كلسان ونحوها، فإذًا حكمهما حكمُ لسان، فعلى لغة التذكير لا يجوز أن تلحق العلامة، وعلى لغة التأنيث وجهان، لأن التأنيث مجازى. فتقول فى لغة التذكير: طاب الرُّطَبُ، ولا تقول: طابت الرطب. وتقولُ في لغة التأنيث: طابت الرطبُ، وطابَ الرُّطب. وتقول: / قام الصحبُ، ولا تقول: قامت الصحبُ وتقول: قامت النساءُ وقام النساء، وإن شئت. وأما إن جعلتهما جمعين فإنك تعاملهما معاملة جمع التكسير. فلا إشكال على الوجهين، إذ كان/ حكمهما مأخوذًا مما تَقَدّم. والله أعلم. ثم قال: وَالحذْفَ فِى نِعْمَ الفَتَاةُ اسْتْحسَنُوا لِأنّ قَصْدَ الجِنْسِ فِيه بَيِّنُ

يعني أَنَّ حَذْف التاء فى باب نعم وبئس -إذا أسند إلى مؤنث حقيقى- حَسَنٌ وليس بقبيح كما يقبح فى غير نعم وبئس إذا قلت: قام المرأة، بل يجوز أن تقول: / نعمت المرأةُ هندُ، [ونعم المرأة هند] وكذلك مثاله: نعم الفتاةُ ونعمت الفتاةُ، كلاهما جائزٌ حسن. وعلّل وذلك بأَنَّ المقصود بالفتاة هنا الجنسُ لا الواحدةُ. ولذلك لزم فى هذا النوع الألف واللام، حسبما هو مقرّرٌ فى بابه. فإذا كان كذلك فاعتبار الجنس من حيث هو جنس خروج عن اعتبار حقيقىّ التأنيث؛ إذ كان المفردُ غير ملحوظٍ من تلك الجهة، فصار اعتبارُ مجرّد الجنس اعتبارَ التأنيثِ غَيْر حقيقىّ. وقد مضى جوازُ الوجهين فيه، فجرى هذا على نسقه فقوله: «لأنّ قَصْدَ الجِنْسَ فيه بَيِّنُ»، يريدُ أَنَّ المفردَ ليس هو المقصود فتلزم التاء، ، إنما المقصود حقيقةُ الجنس، وتأنيثهُ كتأنيثِ الجماعةِ والفرقَةِ غيرٌ حقيقىّ. فإن قيل: فهذا التعليل يقضى بأن كُلَّ مفردٍ حقيقى التأنيث إذا قُصِد به الجنسُ فيجوزُ فيه الوجهان، إمّا بنصّه على رأىِ جماعةٍ، وإمّا بالمعنى، وهو رأى طائفة أيضًا. قيل: نَعَمْ، وقد يلتَزمُ ذلك فى كلامة فيقال نحوُ: صارت المرأة خيرًا من الرجل، [وصار المرأةُ خيرًا من الرجل]؛ لأن المعنى فى قولهم: الرجلُ خيرٌ من المرأة. وكذلك ما أشبهه مما تكون فيه الألف واللام جنسيّة.

فإن قيل: فهل يكون من ذلك قولك: ما قامت امرأة؛ لأنها فى معنى: ما قام أحد من هذا الجنس؟ قيل: لا، لأنّ امرأة هنا ليس المراد بها الجنس، وإن تُوُهِّم ذلك، وإنما المرادُ بها واحدة، والعموم إنما جاد من النفى، لا من إرادة الجنس. وقوله: «والحذفَ»: منصوب على المفعولية باستحسنوا. والضمير فى استحسنوا للعرب أو للنحوييّن. ويريد بقوله: «فى نعم الفتاةُ» الباب كلّه. وَالأصْلُ فِى الفاعِلِ أن يَتَّصِلَا وَالأصْلُ فِى المفعُولِ أن يَنْفَصِلَا / وَقَدْ يُجَاءُ بِخِلافِ الأَصْلِ وَقَدْ يَجِى المفعُولُ قَبَلَ الفِعْلِ أخذ الناظم هنا يتكلم فى مرتبة الفاعلِ والمفعول من الفعل فى الأصل، وما يعرض فى ذلك من مخالفة المرتبة جوازًا أو وجوبًا؛ فذكر أوّلًا أنّ الفاعلَ أصلُه أن يَتصل بفعله، وأن يكون واليا له. وقد مرّ قبل هذا كوُن الفعل لازم التقدم على الفاعل، فحصل من ذلك أن مرتبة الفاعل فى الأصل أن يكون بعد الفعل متّصلا به، ولا يعنى بالاتصال الأتّصال الأخصّ التامّ؛ فإنّ ذلك مخصوص بالضمير المتصل، نحو: ضربتُ وضربنا؛ وإنما تكلم فى الأتصال العامّ الذى يشمل الأخفش وغيره، نحو: ضرب زيدٌ عمرًا، وضربْتَ عمرًا، وهو الاتصال فى النطق به واليًا

للفعل. وأما المفعول فالأصل فيه أن ينفصل عن الفعل ولا يتصّل به، وانفصاله إنما يكون بالفاعل، نحو: ضرب زيدٌ عمرًا، فمرتبةُ عَمْرو أن يكون بعد زيد، ويلزم من ذلك أن لا يتصّل بالفعل لتقدم الفاعل، فلذلك قال: «والأصلُ في المفعولِ أَنْ يَنْفَصثلا». وإنما كان الأصل ذلك لأَنّ كلّ فْعلٍ لا بدّ له منه فاعل، فهو طالبٌ له على اللزوم، بخلاف المفعول، فإنه لا يلزم أن يكون لكل فعلٍ مفعولٌ، بل قد يكون له مفعولٌ، نحو ك ضربتُ زيدًا، وقد لا يكون نحو: كَرُمَ زيدٌ. وأيضا قد يستغنى الفعل الطالبُ للمفعول عن المفعولِ؛ فتقول: ضربت: مُقْتصرًا، ولا يُستغنى عن الفاعل أبدًا؛ إلا إذا غُيِّر عن شكله وأُقيم له المفعولُ مقام الفاعل لازم الذّكر، وعلى جميع أحكامه من الرفع، والاتصال بالفعل، ولزوم كونه بعده، وغير ذلك من أحكام الفاعل. ولهذا جعلوا الفاعل مع فعله كالشئِ الواحد، رذا كان ضميرًا متصّلا، فسكنوا آخر الماضى له تحاميا من اجتماع أربع حركات فى نحو: ضربْتُ، وذلك [لا يتحامى] إلا فى الكلمة الواحدة، ولم يفعلوا ذلك فى المفعول إذا كان ضميرًا متّصلا. [لأنّه]، [كلمة ثانية فقالوا: ]، [ضَربَكَ، ولم] يتحاموا اجتماع الحركات لأنهما كلمتان ثم قال: «وَقَدْ يُجَاءُ بِخِلافِ الأَصْلَ»، يعنى أنه قد يأتى الفاعل على غير الأصل المذكور، والمفعول كذلك قد يأتى على غير الأصل،

فيتَّصلُ المفعول بالفعل وينفصلُ الفاعل/ عنه، فيقال: ضرب عمرًا زيدٌ، وذلك لأنّ الفعل متصرّف فى نفسه، فيتصرّف فى معمولاته، بتقديم بعضها على بعض، [وتأخير بعضها عن بعض]، ما لم يمنع من ذلك مانع صناعىٌّ حسبما يذكره. وقوله: «وقد يَجىِ المفعولُ قبلّ الفِعْلِ»، هذا أيضا من تمام المجئ بخلاف الأصل وهو أن يأتي المفعولُ مَقدَّمًا على فعله وفاعله معًا، كما جاء مقدّمًا على فاعله وحده. وعلة ذلك تصرُّف الفعل في نفسه كما مرّ. وخُصّ هذه الأخير وحده بالمفعول، لأنّ الفاعل لا يصحّ فيه التقَدُّمُ، فإنه إِنْ تقدّم صار مبتدأٌ. وقد تقدّم بيانُ ذلك أول الباب، بخلاف المفعول فإنه إذا تقَدّم على الفعل لم يختلف الحكم فيه، بل يَبْقَى مفعولًا كما كان، ولا فى الفاعل، بل يبقى فاعلًا كما كان، لأنّ رتُبتة محفوظةٌ، وهى تأخّره عن الفِعْلِ. وينظر فى كلام الناظم فى مسألتين: إحداهما: أن هذا المفعول الذى ذكره هنا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يريد المفعول به وحده، كضربتُ زيدا. وهو الجارى فى كلام النحويين إذا تكلموا على هذه المسألة على الخصوص، فلا تكاد تراهم يتعرّضون لغيره، أعنى فيما عدا الابتداء ونواسخه. والثانى: أن يريد المفعول الأعمّ الذى يشمل المفعول [به] وغيره، فيدخل تحت قوله: «والأصلُ فى المفعولِ أَنْ ينفصلَا»، وقوله: «وقد يِجَى المفعولُ قبلَ الفعلِ» - المفعولُ المطلقُ، نحو: ضَرب زيدٌ ضربًا، والمفعولُ

فيه، نحو: قام زيدٌ يوم الجمعة، والمفعولُ من أجله، نحو: قام زيدٌ إكرامًا لعمرو. فكأنه يقول: كلُّ ما يُسمّى مفعولًا الأصلُ فيه الانفصالُ، وقد يُجاءِ بخلاف الأصل، وقد يجىُ [ذلك] المفعولُ قبل الفعلِ، ما لم يمنع من ذلك مانعُ. فتقول فى المصدر على الأصل: جاء زيدٌ جَيئًا، وقام أخوك قيامًا. وعلى غير الأصل: قام قيامًا زيدٌ، وقيامًا قام زيد. وتقول فى ظرف الزمان: يقومُ زيدٌ غدا، [على الأصل. ويقوم ًا زيدًا]، وغدًا يقوم زيد، على غير الأصل. وفى ظرف المكان: جلس زيدٌ أماك، وجلس أمامك زيدٌ، وأمامك جلس زيدٌ. وكذلك فى سائرها. لكن قد يمتنع المجئ بخلاف الأصل فى بعضها، كالمفعول معه -كما سيأتى-/ وذلك لا يقدح في صحة هذه الكليه، إلا أنّ الأحتمال الأوّل هو المشهور، والظاهر أنه مقصود الناظم. والثانية: أنّ قوله: «وقد يُجاءُ بخلاف الأصلِ» .. إلى آخره، مراده أنّ ذلك يأتى فى الكلام على الجواز، لقوله: «وقد يُجاء»؛ لأن هذه العبارة إنما يؤتى بها فيما يجوز ذلك فيه لا فيما يلزمُ، فكأنه يقول: يجوزُ أن

يتقدّم المفعولُ ويتوسط ويتأخر من غير موجب لفظىّ، فإن كان موجبٌ لفظىّ يقتضى خلاف ما تقدّم فهو الذى ذكره على إثر هذا. فالحاصل أنه قدّم أصلين أحدهما مرتَّبٌ على الآخر، فالأصلُ الأولُ ذكْرُ مرتبة الفاعل والمفعول فى [الأصل]. وهذا أصل قياسى. [والأصل] الثانى: جواز المخالفة فى ذلك الأصل، وهو أصل استعمالىّ، فإن عرض لزومٌ فى تقديم الفاعل على المفعول، فهو على خلاف الأصل. وإن عرض لزوم فى تقديم المفعول على الفاعل فهو على خلاف الأصل أيضا، إلا أن الأول خروج عن الأصل من وجهٍ واحدٍ، والثانى خروج عنه من وجهين. فابتدأ الناظم بذكر الأول، ثم عطف عليه بالآخر فقال: وَأَخّرِ المفْعُولَ إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ أَوْ أضَمِر الفاعِلُ غَيْرَ مُنحَصِرْ وَمَا بإِلَّا أَوْ بإنَّما انْحَصَرْ أَخّرْ، وَقَدْ يَسْبِقُ إِنْ قصَدٌ ظَهَرْ وَشَاع نَحوُ: خَافَ رَبَّه عُمَرْ وَشَذَّ نَحوُ: زَانَ نَوْرُه الشَّجَرْ فذكر للوجه الأول ثلاثة مواضع: أحدها: موضع اللبس، يعنى أنه إن حُذِر -أى: خِيفَ- الالتباسُ بين

الفاعل والمفعول، بحيث لا يتميَّزُ واحدٌ منهما عن صاحبه، وجب أن يلزم كلّ واحدٍ منهما مرتبته، فيلزم الفاعل والمفعولُ موضعه، ولا يجوز توسيطُ المفعول ولا تقديمه، فتقول: ضرب موسى عيسى -إذا كان عيسى هو المفعولَ به- وضرب عيسى موسى- إذا كان الفاعل. ولا يجوزُ أن تقول: ضرب موسى عيسى، وعيسى هو الفاعلُ؛ إذ ليس ثَمَّ ما يعرفُ بأنه الفاعل؛ إذ الإعرابُ المسوقُ للتفرقة مفقودٌ في اللفظ، وليس ثَمَّ تابع لواحدٍ منهما يظهر به الفرقُ، ولا المعنى، أيضًا بمبيِّن شيئًا./ فلم يبق إلا الالتزامُ المرتبة لكلِّ واحدٍ منهما. ولا يجوز أيضا أن يتقدّم المفعول، فلا تقول: موسى ضرب عيسى، وموسى هو المفعولُ، لالتباسه بالمبتدأ، ويكون [الفاعل] ضميره، وعيسى هو المفعول. وكذلك الحكم في نحو: أكرم هذا ذاكوضرب [هذا] من قام، وعرف الذى أكرمك الذى أكرمته. وما أشبه ذلك. وإما يخاف الالتباسُ إذا لم يبق فارقٌ بين الفاعل والمفعول سوى المرتبة، فيجب اعتبارها والتزامها، وأما إن كان ثمَّ وجهٌ آخر يعرفُ به فرقُ ما بينهما صِيرَ إلى الأصل الاستعمالى من عدم لزوم المرتبة، كما إذا ظهر الإعرابُ فيهما أو في أحدهما، نحو: ضرب موسى زيدٌ، وموسى ضرب زيدٌ. أو في تابعهما نحو: ضرب موسى العاقَل [عيسى]، وموسى العاقَل ضرب عيسى. أو كان أحدهما مؤنثا ولحقتِ التاء، نحو ضربَتْ

موسى سلمى، وموسى ضربَتْ سلمى. أو كان المعنى يعيِّن المفعول من الفاعل، نحو: أكل الكُمّثرى موسى، والكُمّثرى أكَلَ موسى، وكذلك إذا قلت: أعجب مَنْ ثَمَّ ما صنعَت، فإن مفعولَ أعجب لا يكون إلا عاقلًا. ومن [تقع في الغالب على العاقل]. وعلى هذا فقس ما جاء من هذا القبيل. وهذا البيت من عادة المتأخرين أن يذكروه -أعنى التزام المرتبة- إذا عُدِم الفارقُ بين الفاعل والمفعول. وقد تقدّم له ابنُ السّراج في الأصول، ولم يذكر ذلك سيبويه ولا غيره من المتقدّمين، بل قد نصُّوا على خلافه ولكن ابن مالك اتَّبَعَ من اعتبر ذلكواعتمده، وأجرى كلام العرب عليه. وقد تقدّم قبلُ هذا المعنى، وحصلَ فيه بسطُ قاعدةٍ ظهر مأْخذُ المسألة، فإن أردت النظر فيها فعليك بها في باب المبتدأ، والثاني من المواضع التي يلزم فيها تأخير المفعول: أن يكون الفاعل ضميرًا غير محصور، وذلك قوله: «أو أضمر الفاعلُ غيرَ مُنحَصرْ». فقوله: «أضمِر الفاعلُ» جملة معطوفة بأو على حُذر «تقديره وأخر المفعول إن أُضمِر الفاعل غير منحصر، يعني أنّ الفاعل إذا أضْمرِ وجب تأخير المفعول على فاعله، فلا تقول: ضربت زيدا، أو أكرمت عمرًا. فلا يجوز هنا تقديمُ المفعولِ على فاعله، فلا تقول

ضرب زيدًا تُ، ولا: ضرب زيدًا أنا؛ لأنه قد قدّم أن الضمير لا يكون منفصلًا ما/ أمكن أن يكون متصّلا. وهذا إذا لم يكن الفاعل ضميرًا، منحصرًا -فلو كان ضميرا منحصرًا- وهو الذى تحرّز منه بقوله: غير مُنْحَصِرْ- لم يلزم المفعولُ رتبتَه من التأخير عن الفاعل، على حسب ما يذكره في البيت التالي لهذا. والمنحصِرُ قد تقدّم تفسيرُه، وأنه يريد به ما وَلِى أداة الحصر، نحو: ما أكرم زيدًا إلا أنا، وما أشبه ذلك. وغيرَ: منصوب على الحال من «الفاعل» أى حالة كونه غير منحصر. وفي هذا الكلام نَظَرٌ من وجهين: أحدهما: أن قوله: «أو أُضمِر الفاعلُ غيرَ مُنْحَصِرْ» يدخل فيه ما كان من الفاعلين ضميرًا منفصلا غير محصور؛ فإنك إذا فلت: ضربَ زيدًا إما عمروٌ وإما أنا، وأكرمك إما أنا وإمّا زيد، أو قلت: إن أكرمك لزيد، وإن أرضاك لهو. فهذا كلّ وما أشبه قد أضُمِر فيه الفاعل غير منحصر، مع أنه لا يلزم فيه تأخير المفعول، بل لا يجوز ذلك في جملة من [هذه] المسائل. لا يقال: إنّ مذهبه هنا مع إنْ المخففة مذهب الكوفيين في هذه اللام من أنها يمعنى إلّا، لأنه نَصَّ على خلافه كما تقدم، ولو كان رأيُه فيها رَأْيهم لم يتّجه ذلك، لوُجودِ نحو: أقام أباك إمّا أنا وإما زيدٌ، وكذلك مع اسم الفاعل إذا قُلْتَ: إن ضاربك لزيدٌ وإن

مخرجك لهو، وكذلك: أعجبتني هندٌ المكرمُها أنا، وما أشبه ذلك. وهذا الاعتراضُ لازم له في التسهيل حيث قال: «يجب وصلُ الفعلِ بمرفوعه إِنْ خِيفَ التباسه بالمنصوب، أو كان ضميرًا غير محصور». فإن الضمير في هذه المسئل كلّها غير محصور، ولم يجب فيها وصلُ الفعلِ بمرفوعه. وبهذا اعترضه في التسهيل شيخنا الأستاذ أبو سعيد، أجلَّه الله. ويزيد كلمُه في التسهيل اعتراضًا آخَرَ لا يلزمه هنا، وهو أنه قال: «يجب وصلُ الفعلِ بمرفوعه [إن خيف التباسه بالمنصوب»، فاقتضى أنّ اللبس إنما يُوجِب وصلَ الفعلِ بمرفوعه] من غير نظر في المفعول. وليس كذلك؛ ألا ترى أنك لا تقول: موسى ضرب عيسى، لأجل اللبس، وقد اتّصل الفعل بمرفوعه، وهو إما عيسى إن فرضت موسى مفعولًا، وإما ضمير موسى إن فرضتَه مبتدًأ. وقد اقتضى كلامُه جَوازَ مثل هذا، وأنّ موسى إذا فرضته مفعولًا لا يلزم تأخيره، [وليس كذلك، بل يلزم تأخيره] لأجل اللبس كما مرّ. وكلامه هن مُحَرّر لقوله: «وَأَخِّر المفعول إِنْ لَبْسٌ حُذِرْ». فاعتنى بالمعفولِ تحرُّزًا من التقديم فيه. والثاني: أنّ الفاعل إذا أُضمِرَ نحو: ضربتُ زيدًا، لم يلزم تأخير لمفعول؛ إذ كان جائزًا باتفاقٍ أَنْ تقول: زيدًا ضربت، ولا يزلم أن تقول: ضربتُ،

ولا يلزم أن تقول: ضربتُ زيدًا، لا غيرُ. وكذلك ما أشبهه، وإنما يلزمُ التأخيرُ مع اللَّبس كما تقدم. فالحاصل أن هذا الكلام غير صحيح من وجهين وعبارته في التسهيل بالنسبة إلى هذا الوجه صحيحة، لقوله: يجب وصلُ الفعل بمرفوعه إن كان كذا أو كان ضميرًا غير محصورٍ، فالتاء في ضربت ضميرٌ غير محصور، فوجب وصلُ فعله به من غير تعرّضٍ للمفعول، فاقتضى جواز: زيدًا ضربتُ، بلا شك. فإن قيل: قد دخل له نحو: زيدًا ضربت، في قوله قبلُ: «وقد يَجىِ المفعولُ قبل الفعل». قيل: ليس كذلك، لأن ذلك الكلام مجملٌ يصدق على نحو: زيدًا ضرب عَمْرو، فلا يكون بيانًا لهذا الموضع. وهذان الاعتراضان لا جواب لي عنهما، وليس كلُّ داءٍ يعالجه الطبيب؛ لَمّا بيَيّن ابنُ جني أنه لا يجوز ردُّ اسم لما لم يُسَمَ فاعله لنقصان الحديث، لنقصانِ ظُنّ زيدٌ، قال: فقلت لأبي علىّ: فقول سيبويه: كائنٌ ومكونٌ؟ [فلم يُجِبْنى عن هذا السؤال بشئ، وقال: {يَمُرُّونَ عَلَيها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونِ}؛ فجهِدْتُ به] فلم يجبني، وجعلَ يُعَلّل ويقول: الذى يقولُ أصحابنا قد عَرّفتُك إياه. قال: قلت: فيقولون: إن سيبويه يُجِيزُ أَن تبنى كان للمفعول فقال: لا. قلت: فما يُعَملُ بهذا الذى ورد؟ فقال: لا أَدْرى. قلت: أَفتقول: إنه خَطَأ في النسخة؟

فقال: لا. ثم قال: ليس كلُّ الداء يعالجه الطبيب. انتهت الحكاية. ثم قال الناظم: «وما بإلّا أو بإنّما انحصَرْ .. أَخِّرْ»، «ما» هنا منصوبة المحلّ بأخِّرْ، أى: أَخِّر ما انحصر بإلّا أو بإنّما. وهذا هو الموضع الثالث من المواضع التى يجب فيها تأخير المفعولِ عن الفاعل، وذلك إذا كان المفعولُ محصورًا بإلّا أو بإنّما، لكن لمّا كان الفاعلُ أَيضًا يلزمه التأخير عن المفعول إذا كان هو المنحصر، أَتى بالقاعدة شاملةً للفاعل والمفعول معًا بما التى تقتضى العموم في قوله: «وما بإلّا»، يعنى أنَّ ما كان من الفاعلِ والمفعول منحصرًا بأحد هذين الحرفين وجب تأخيره، فمثال تأخير المفعول المحصور بألّا: ما ضرب زيدٌ إلّا عمرًا. فلا تقول هنا: إلّا عمرًا لم يضرب زيد، وإن كان يجوز: عمرًا لم يضربْ زيدٌ، لمكان أداة الحصر. وكذلك لا تقول: ما ضرب إلا عمرًا زيدٌ إلا قليلا، حسبما يذكره. ومثال تأخيره محصورَا (بإنما): إنما ضرب زيدٌ عمرًا، فإن معناه كمعنى: ما ضرب زيدٌ إلا عمرًا. ومنه ما أنشد سيبويه: كَأَنَّ يَوْمَ قُرّى إِنَّما نَقْتُلُ إيَّانَا وأما لزومُ تأخير الفاعل فذكر له موضعين:

أحدهما الذي شمله اللفظ، وهو إذا كان الفاعل مقرونا بإلا أو بإنما، فاقترانه بإلّا نحو: ما ضرب أخاك إلا زيدٌ، وما أكرمه إلا أنا. وفي القرآن: {لا يُجَلِّيها لوقْتِها إلّا هُو}، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ}. وقال الشاعر: قَدْ عَلِمتْ سَلْمَى وَجَارَاتُها ما قَطّرَ الفارِسَ إلّا أنا واقترانه بإنّما نحو قولك: إنما ضَرَب زيدًا عَمْروٌ. وإنما أكرم أخاك زيد. وقال الشاعر: أَنَا الفَرِسُ الحامِى الذِّمارَ وَإِنّما يُدافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِمْ أَنا أَوْ مِثْلِى ولا يقال: ما ضرب إلا زيدٌ أخاك، وما ضرب إلا أنا زيدًا، إلا قليلا كما ذُكر، وكذلك لا تقول: إنما ضرب زيدٌ عمرًا، وزيدٌ هو المحصورُ، كما أنك لا تقول: إنما ضرب عمرًا زيدٌ، وعمرًا هو المحصور. هذا مذهب جماهير البصريين والكوفيين. والمسألتان معًا مختلف فيهما بين النحويين على ثلاثة أقوال: أحدها: لزومُ تأخير المحصور من الفاعل والمفعول، وهو الذي تقدَّم.

والثاني: عدم اللزوم بإطلاق، بل يجوز تقديمُ المحصور إلى موضع غير المحصور. وهو رأى الكسائى من الكوفيين. والثالث: الفرقُ بين الفاعل والمفعُولِ، فإذا كان المحصورُ/ [هو الفاعلُ لم يجز تقديمه، وإذا كان المفعولُ جاز تقديه. وهو منقولٌ عن الأخفش وابن الأنبارى. وكأنّ الناظم أخذ بمذهب رابع، وهو جوازُ تقديم المحصور على قلّة. وذلك قولُه: «وقد يَسْبِقُ إِنْ قصدٌ ظَهَرْ»، فضمير «يسبق» عائد على ما انحصر، يعنى أنّ المنحصر قد يتقدّم إن ظهر قصدُ الكلام وتبيّن المنحصرُ من غيره، وذلك في الحصر بإلّا نحو: ما ضرب إلّا عمرًا زيدٌ، وما ضرب إلا زيدٌ عمرًا. ووجهُ ما رأَى الناظم من ذلك أن القياس لا يمنعه بإطلاق، والسماع يُعَضِّد القول به. أما القياسُ فإن الأل الاستعمالي -كما تقدّم- جوازُ تقديم المفعول على الفاعل، والأصلُ القياسىُّ تقديمُ الفاعِل على المفعول، فإذا ثبت هذا لم يُعْدَل عن إلا لما هو أقوى منه، وليس بموجود في مسألتنا، لأنّ تأخير المحصور إنما يُفْتَقَر إليه إذا لم يكن ثَمَّ دليلٌ عليه سوى التأخير، وقد دلّت إلّا على المحصور بدخولها عليه، فهو معلوم سواءٌ تقدَّم أم لا، بخلاف إنّما فإنها لا تُعيِّن لامحصور من غيره، فالتُزِم التأخير فيه ليتعيَّن. وأما السماع فقد قال زهير: وَهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّى إِلّا وَشِيجُهُ وتُغْرَسُ إِلّا في مَنَابِتِها النَّخْلُ

وكانَ الأصلُ -لو روُعِى التأخيرُ- أن يقولَ: وتُغَرسُ النخلُ إلّا في منابِتِها. وقال ذو الرُّمّة: تَداويتُ مِنْ مىٍّ بِتَكْلِيمةٍ لها فَما زَادَ إلَّا ضعْفَ دَائِى كَلَامُها هذا في حصر غير الفاعل، وأما حصر الفاعل وتقديمه، فقد أنشد الفارسىّ في التذكرة: نُبِّئْتُهم عَذّبُوا بالنّارِ جَارَتَهُمْ وهل يُعَذِّبُ إِلّا اللهُ بالنّار وأنشد أيضا: فلم يَدْرِ إلا الله ما هيجّت لنا عشيةَ أنآءُ الديار وشامها وإذا ثبت سماعًا ما سوّغه القياسُ جاز لنا القياسُ على ما سُمِع، إلا أنّ السماع لم يأت منه ما يبلغ مبلغ الشائع الكثير. وأكثر ما تراه في الشعر الذى يُظَنّ أَنه فيه ضرورة. فلم يُطلق القولَ بالقياسِ كما أطلقه الكسائى، ولا بالمنع كما أطلقه الجمهور، فأجازه على ضعفِ، وهو سادٌ من النظر، فقال: «وقد

يسبقُ إن قصدٌ ظَهَرْ». فأتى بقد المشعرة ببالتعليل والضعب، وقيّد الجواز بعدم اللبس تحرُّزًا من إنّما؛ فإنَّ المحصور معها لا يتعيَّنُ إلا بالتأخير، فلو أجيز تقدّمه لالتبس بغير المحصور، فلم يكن بدٌّ من التزام تأخيره حسبما أعطاه معنى كلامه. وهنا مسألتان: إحداهما: أنهم اختلفوا [بعد وجود تقديم] المحصور في وجه التقديم على قولين؛ فمنهم من أجازه [على إِضمار فعل] فإذا قلت: ما ضرب إلا عمروا زيدًا، فهو على تقدير حذف المفعول [من ضرب اقتصارا]، وقوله: إلا زيدًا على إضمار فعل تقديرُه: ضرب زيدٌ. وعلى ذلك [تَأَوَّل] المانعون قولك: ما ضرب إلا زيدًا عمرو؛ إذ هو تقدير: ضربه عمرو، [وفيه بقاءُ الفعل بلا] مرفوع، وذلك ممنوع، فامتنع ما يؤدّى إليه؛ ولأجله استسهل بعضهم ما جاء من نحو: ما ضرب إِلا عمرو زيدًا، ولم يستسهل نحو: ما ضرب/ إلا عمرًا زيد، على عكس ما ذهب إليه أبو الحسن وابن الأنبارى. ومنهم من حمل ذلك على غير الرضمار، بل على حقيقة التقديم والتأخير، وكان ابن الأنبارىّ إلى هذا نحا، فأجاز: ما ضَرَب إلا زيدًا عمرو؛ لأن المحصور مستحقٌّ التأخير، فكأنّ زيدًا متأخر، فجاز. ومنع:

ما ضرب إِلا زيدٌ عمرًا، لأن زيدًا محصور، فاستحق التأخير، فرذا قُدّم صار في محلّه الأصيل، فلم يكن مستحقًا للتأخير، فتناقش، فامتنع. وعلى هذا الوجه يجرى أيضًا كلام الناظم؛ إذ لو اعتُبِر الإضمار لم يصحّ له إجازة: ما ضرب عمرًا إلا زيد، لبقاء الفعلِ فاعلٍ. وكذلك ابن الأنباري والأخفش وسائر من أجاز على الجملة. والثانية: أنك إذا قلت: ما ضرب إلا زيدٌ عمرًا فهو على وجهين: أحدهما: أن يكون على معنى: ما ضرب عمرًا إلا زيدٌ، أن تنفي الضاربين عن عمرو وتستثنى منهم زيدًا. والثاني: أن تُريدَ نفي الضاربين بإطلاق، ثم تستثنى منهم زيدًا، مخبرًا أنه ضَرب عمرًا، حتى كأنك قُلْتَ: ما ضَرَبَ أحدٌ إلا زيدٌ، أى: ما وقع من أحدٍ ضربٌ إلّا من زيدٍ، ثم أخبرت أَنّه ضَرَبَ عمرًا، وكأَنَّ عمرًا منصوب بإضمار فعل لا بالأول. فأما الوجه الأول فهو المختلفُ فيه، وأَمَّا الثاني فكأنه متفق على جوازه، وقد أجازه الأخفش، وهو الذى منع الأول. وذكره أيضًا الشلوبين واعترض بسببه على الجزولى؛ إِذْ لا يَجُوزُ فيه تقديمُ مَفْعولِه وتأخير [فاعله] [لالتباسه في التقديم] ... ... ... فقد يقال إن هذا وجه يدخل [له تحت] قوله: «وما

بإلّا أو بإنما انحصَرْ .. أَخّر» يعنى عن المفعول يقتضى أَنّ [الكثير في نحو] قولك: ما ضربتَ إلّا زيدٌ عمرًا، تقديم عمرو وأن تقديم زيد عليه قليل. وليس كذلك، بل لا يجوز هنا الّا تأخير المفعول خوف اللبس، فكلامه معترض يجاب عن ذلك بأن المسألة ليست من قبيل ما تكلّم فيه الناظم؛ ما تكلّم فيه هو ما كان فيه الفاعل والمفعول معًا لفعل واحدٍ، فتدخل فيه المسألة على الوجه الأوّل محذوفٌ اقتصارًا؛ إذ لم تَنْفِ فيه ضاربي عمرو بخصوصه، وإنما نفيتَ الضَّاربِيِنَ بإطلاق، ونَفْىُ الضَّارِبينَ بإطلاقٍ لا يصحّ مع ذكر المضروُب الذى هو عمرو، فلا بدّ أن يكون عمرو معمولًا لفعل آخر مقدّر، كأن الكلام في تقدير سؤال سائر: من ضرب زيدً؟ فتقول: عمرًا. أى: ضرب عمرًا هذا تنزيل المسألة، وإن كان أبو علىٍّ الشلوبين قد أتى بها مُسْجَلَةً مجملة، فلا يصحّ المعنى إلّا على هذا، وإذا كان كذلك امتنع تقديم عَمْرو، لأنه فَصْلٌ بين أبعاض جملة بأجنبىٍّ هو معمولٌ لجملة أخرى. فلا اعتراض على الجُزُولى ولا على الناظم بهذه المسألة، والله أعلم. ثم قال: «وشاع نحوُ: خاف رَبَّه عُمَرْ». وهذا هو الموضع الثاني من موضعي لزوم تقديم المفعول على الفاعل، وذلك إذا اتّصل بالفاعل ضمير يعودُ على المفعول، لكنّه قدّم هنا مقدّمة يتّصل معناه بمعنى ما أراد ذكره، وهو جوازُ تقديم المفعول إذا اتّصل به ضميرٌ يعودُ على الفاعل، وأن لا محذور في ذلك، وعيَّن ما أراد بالمثال، وهو قوله: خافَ ربَّه عُمَرْ»، فأراد أن ما كان كذلك فهو

شائع في كلام العرب/ فاشٍ، يعنى تقديم المفعول. وإنما ذكر هذا المعنى ليتبيَّن أنّ الضمير إذا تأخّر مفسِّرُه لا يمتنع بإطلاق، بل يجوز في موضع ويمتنع في آخر. وهذا الموضع ممّا لا يمتنع فيه تأخيرُ المفسّر، بل هو كثير شائع، وإن كان تأخير الضمير من المفسّر أكثر، فيجوز أن تقول: خافَ ربَّه عُمَرُ، وإن كن ضمير رَبَّه يعود على عُمَر، وهو متأخر، لأن أصله التقديم، فكأن التقدير: خاف عمرُ رَبَّه. وهذا صحيح لا إشكال فيه. وعلى هذا تقول: ضَرَبَ غلامَه زيدٌ، وأكرم صاحب أبيه عَمْرٌو. ومن ذلك قول الله تعالى: {فَأَوْجَسَ في نَفْسِه خيفَةً مُوسَى]؛ لأن المجرور مفعولٌ به تقديرًا. وهو كثير في كلام العرب، كما قال. فإن كان الضميرُ متّصلًا بالفاعل لزم فيه التأخير، ولزم في المفعول التقديم، إلا في الشعر، وعلى ذلك نبّه بقوله: «وَشَذّ نَحو: زَانَ نَورُه الشَّجَرْ، يعنى ما كان نحو هذا مما اتّصل بالفاعل فيه ضمير يعودُ على المفعول، لم يجز تقديمُ الفاعل فيه، بل يلزمُ تأخيرُه، فتقول: زان الشجَرَ نورُهُ، وضرب زيدًا غلامه، وقتل عَمْرًا أخوه. ومنه قول الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى إبراهيمَ ربُّه بِكَلِمَاتٍ}، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آياتِ رَبِّك لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيْمَانُها لم تكُنْ آمَنَتْ من قبلُ} .. الآية. ووجهُ المنعِ أَنّ مُفَسِّر الضمير إنما يكونُ متقدّمًا عليه؛ إذ لا يضمر الاسم إلا بعد أَنْ يعرف ويتقدّم ذكره. وإذا كان كذلك، وكان مفسّر الضمير متأخرًا، فإن كان التأخير له عرضًا جاز لأنه في الحقيقة متقدّم على الضمير، وذلك كالمسألة الأولى، وهى: خاف ربّه عُمَر. وإن كان

التأخير له بحكم الأصل لم يصحّ وضعُه مفسّرا، لأنه خلاف الوضع، فلا بدّ أن يُرَتّب الكلام ترتيبا يكون فيه المفسّر متقدمًا في اللفظ ليكون الضمير محالًا به على مذكور، فلزم أن يتقدّم المفعولُ إذا كان هو المفسّر للضمير المتّصل بالفاعل فعلى الجملة إذا حصل للمفسّر التقديمُ إما في اللفظ وإمّا في المرتبة الأصلية، وإن كان متأخّرا في اللفظ، صحّ، وإن لم يحصل له التقديمُ لا في اللفظ ولا في المرتبة لم يصح الكلام إلّا في الشعر، كما قال: وقوله: «وشذ نحُو» كذا، تنصيصٌ على أنه قد جاء في السماع ما يخالف هذا الأصل، وذلك على مثال ... فلا يقاس عليه لاختصاصه بالشعر وعدم مساعدة القياس له. ومما جاء من ذلك قولُ حسان بن ثابت يرثى مطعم بن عدىّ، جدّ نفع بن جُبَير بن مطعم، رحمهم الله: وَلَو أَنَّ مَجْدًا أَخْلَدَ الدَّهْرَ وَاحِدًا مِنَ النّاسِ، أَبْقَى مَجْدُهُ الدَّهْرَ مُطْعَما وقال النابغة: جَزَى رَبُّه عَنِّى عَدىَّ بن حَاتِمْ جَزَاءَ الِكَلاب العَاوِيَاتِ، وقَدَ فَعَلْ وقال الآخر:

لَمَّا رَأَى طَالِبُوهُ مُصْعَبًا ذُعِرُوا وَكَانَ لَوْ سَاعَدَ المَقْدُورُ يَنْتَصرُ وقال الآخر: جَزَى بَنُوه أَبا الغَيْلانِ عَنْ كبَرٍ وحُسْنِ فِعْلٍ كما يُجْزَى سِنِمَّارُ وقال الآخر: أَلَا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ يلومَنَّ قَوْمه زُهَيرًا عَلَى ما جَرّ مِنْ كُلِّ جَانبِ وقال الآخر: كسا حِلْمُه ذا الحِلْمِ أثوابَ سُؤدَدٍ وَرَقَى نَدَاهُ ذا النَّدىَ في ذُرىَ المَجْدِ وهذا كلُّه عند الناظم لا يعتدّ به، ولا يبنى عليه قياسٌ، وهو رأىُ الجمهور من النحويّين. وذهب أبو الفتح بن جِنّى إلى جواز القياس على ما جاء من ذلك، فيجوز عنده أن تقول: ضرب غلامُه زيدًا، ونصرَ أبوه عمرًا، وزان نورُه الشجر. / وتبعه المؤلِّف في التسهيل، وشرحه على القياس، واحتجّ لما

ذهب إليه بالسماع المذكور -ولا حجةَ فيه لقلّته واختصاصه بالشعر- قال: «ولأنّ جواز [نحو]: ضرب غلامُه زيدًا، أسهلُ من جواز: ضربوني وضربتُ الزيدين، ونحو: ضربتُه زيدًا، على إبدال زيدٍ من الهاء. وقد أجاز الأوَّلَ البصريون، وأجِيز الثاني بإجماعٍ حكاه ابن كيسان. وكلاهما فيه ما في ضربَ غلامُه زيدًا، من تقديم ضمير على مفسّرٍ مؤخّر الرتبة، لأنّ مفسِّر واو] ضَربُونِى معمولُ معطوفٍ على عاملها، والمعطوفُ ومعموله أمكنُ في استحقاق التأخير من المفعول بالنسبة إلى الفاعل، لأن تقدّم المفعول على الفاعل [يجوز في الاختيار كثيَرَا، وقد يجب، وتقدمُ المعطوف وما يتعلّق به على المعطوف] عليه بخلاف ذلك، فيلزم من أجاز: ضربوني وضربت [الزيدين] أن يحكم بأولوية جواز: ضرب غلامُه زيدًا، لما ذكرناه». قال: «وكذلك يلزمُ مَن أجاز إبدال ظاهر من مضمر لا مفَسِّر له غيرهُ؛ لأنّ البدل تابع، والتابع مؤخر بالرتبة ومؤخّر في الاستعمال على سبيل اللزوم. والمفعولُ ليس كذلك؛ إذ لم يلزم تأخيره». هذا تمامُ ما احتجّ به، وليس فيه على ما اختار هنا واضحُ دليلٍ: أَمَّا أوّلًا فإن المتّبع السماعُ كيف كان، وقد علمنا شُذُوذَ ما جاء عنهم في مسألتنا وشياع ما جاء عنم في باب الإعمال والبدل، فنحن نقيس حيث بلغ

أن يقاس عليه، ونمنع القياس حيث لم يبلغ السماعُ أن يقاس عليه. وبعد ذلك إن وجدنا علّةً لشذوذ الشائع فسّرناها بناءً على قول سيبويه: «قِفْ حيث وَقَفُوا ثم فَسِّرْ». وهى قاعدة مسلمة عند الجميع. وأما ثانيا فإنّ بابى الإعمال والبدل جاءا على خلاف الأصول؛ إذ الأصل والأكثر الشائع تقدُّم مُفَسّر ضمير الغائب، بإقراء ابن مالك وغيره، فمتى جَاءَ ما يخالفه فلا ينبغي فلا يُعَوّلَ عليه في قياس ما ليس من بابه عليه، بل ينظر إليه في نفسه، فإن كثر تبلغ القياسَ قيس عليه في بابه خاصّةً، كما فعلُوا في باب الإعمال، وباب نعم وبئس، وباب ضَمير الشأن، وباب البدل، وباب رُبَّ. ولم يُتَعرّض لإبطالِ الأصل به؛ إذْ لو كان كذلك لم يَصحَّ أَنْ يكون الأصلُ تقديمَ مفسّر ضمير الغائب، ولكان التقديم والتأخير في المفسّر جائزًا بإطلاقٍ قياسًا على ما قال، لكن هذا باطل باتفاق، فيطل ما أدّى إليه. وإنَّما نظيرُ بابِ الإعمال وما أشبه في كونها مستثنًى من القاعدة بيعُ العرايا بِخَرْصِها تمرًا إلى الجَدَادِ، وضربُ الدية على العاقلة وما أشبهها مما هو خارج عن القواعد ... ولا يخرج عن بابه لأنه خرمٌ للقاعدة الثابتة. فما قاله المؤلف رحمه الله لا ينهض دليلًا على القياس، فالصحيح ما ذهب إليه هنا من الوقوف مع الأصلِ ومنع

سواه؛ إذ لم يثبت سماعٌ يقاسُ عليه. وإذا ثبت وَرَدَ على الناظم دركٌ في هذا الفصل من وجهين: أحداهما: أنه أتى في تقديم المفعول على الفاعل أو على الفعل بثلاثة أقسام خاصة؛ لزوم تأخير المفعول، ولزوم تقديمه على/ الفاعل، وجواز تأخيره وتقديمه وتوسيطه. والقسمة تقتضى سبعة أقسام: لزوم تأخيره عن الفاعل، ولزوم تقديمه على الفعل، ولزوم توسيطه بينهما، وامتناع تأخيره فقط مع جواز تقديمه وتوسيطه، وامتناع تقديمه فقط مع جواز توسيطه [وتأخيره]، وامتناع توسيطه فقط مع جواز تقديمه وتأخيره، وجواز الأوجها الثلاثة. فالجميعُ سبعةُ أقسام، نقصَهُ منها أربعة: أحدها: لزومُ تقديمِ المفعولِ، وذلك إذا كان فيه معنى الشرط، نحو: من تُكْرِمْ أكرِمْ، وَأَيّهم تُكْرِمْ أكرِمْه. أو معنى ذلك الاستفهام، نحو: أَىّ رجل أكرمت؟ ومَن ضربت. وما صنع زيد؟ أو كان كم الخبرية، نحو: كم رجلٍ أكرمتُ، وكم بَطَلٍ جَدَلَ زيدٌ، أو مضافًا إلى واحد منهما، نحو: غُلام أَيِّهم تُكْرِمْ أكرِمْه. وغلام مِنْ أكرمت؟ وغُلام كم رجلٍ أطعمتُ والثاني: امتناع التقديم، وذلك مع أدوات الشرط سوى إِنْ، نحو: متى يضربْ زيدٌ عمرًا أكرِمْه. ومتى يَضْرِبْ عمرًا زيدٌ أكرِمْه. فيجوز تأخيرُ المفعول وتوسيطه، ولا يجوز تقديمه. ومع أدوات الاستفهام سوى الهمزة، فيجوز: هل ضرب زيدٌ عمرًا؟ وهل ضرب عمرًا زيدٌ؟ ولا يجوز هل عمرًا ضرب زيد؟

والثالث: امتناع التوسيط، وذلك إذا كان الفاعلُ [ضميرًا متصّلا، نحو: ضربتُ زيدًا، وزيدًا ضربت. ولا يجوز توسيطه] بين الفعل والضمير، فلا تقول: ضرب زيدًا، من غير حصر، ولا ما يوجد انفصالَ الضمير. والرابع: لزوم توسيطه، وذلك إذا كان الفاعل مقرونا بإلّا، أو في معناه، أو كان ضمير متصّلا والفاعل ظاهر، نحو: ما ضرب زيدًا إلّا عمرو، وإنّما ضرب زيدًا عمرو، وضَربَك عمرو. فإن قلت: قد ذكر هذا القسم بقوله: «وَمَا بِإِلَّا أَوْ بِإِنَّما انحصَرْ .. آخِّرْ». قيل: بل لم يذكره، وإنما فيه لزومُ تأخير الفاعل خاصة، يبقى المفعول محتمِلًا لأَنْ يكون لازم التوسيط أو التقديم، أو لم يتعرض له، فقد يتوهم جواز مثل: ما زيدًا ضرب إلا عمرو وهو غير جائز. والثاني: أن المواضع التى ذكر للزوم التأخير في الفاعل أو المفعول قاصرة عن المقصود؛ إذ لم يستوفها كما استوفاها غيره، فكان حقّه أن يستوفيها. فإن قيل: إِنَّ هذا المختصر لم يُبْن على الاستيفاء وإنما بُنى على الاختصار وذكر مشاهير الأصول والمسأل، وأيضا فما ذكر تنبيه على ما لم يذكر. قيل: هذا ليس بعُذْرٍ، وقد قَرَّر أولًا جواز التقديم والتأخير والتوسيط، وأنه الأصل المرجوع إليه إذا فقدت العوارض، ولما ذكر من العوارض ما ذكر أوهم أَنْ

ليس ثَمَّ عارضٌ يَصُدُّ عن مراجعة الأصل، فاقتضى أنّ سِوَى ما ذكر يجوز فيه الأوجه الثلاثة، وذلك إخلاف. ومن شرطه في هذا النظم أن يأتى بالقواعد موفّاةً وبالمسأل محرَّرَةً، وليس من شرطه أن يذكر جميع مسائل النحو بإطلاق؛ إذ لم يقدر على ذلك في التسهيل الذى بناه على الاستيفاء، فما ظنك بهذا المختصر؟ ! فأمّا لزوم تأخير المفعول فنقصه منه مواضع: أحدها: أن يكون ضميرًا متّصلا بالفاعل، نحو ضربته وأكرمته. والثاني: / أن يكون العامل في المفعول مصدرًا مضافًا إلى فاعله، نحو: عجبتُ من ضَرْبِ (زيدٍ عمرًا. ومثلُ ذلك: ضرب القومُ بعضُهم بعضا)، فلا يجوزُ هنا توسيط بعض ولا تقديمه، قال بعضهم: لما يلزمُ من الفصل بين البدل والمُبدَلِ منه. وبالجملة فالسماعُ على التزام تقديم الفاعل وبدلهِ على المفعول. وكذلك أيضًا لا يجوزُ عندهم أن يقال: ضرب بعضَ القوم بعضٌ. وأما لزوم تأخير الفاعل فنقص منه مواضعُ أيضا: أحدها: أن يكون المفعولُ ضميرًا مُتّصلا والفاعل ظاهرٌ، نحو: أكرمك زيدٌ. والثاني: أن يكون المصدرُ هو العاملَ، وهو مضاف إلى المفعول بحضرة الفاعل، نحو: أعجبني ضربُ زيدٍ أَخُوكَ.

والثالث: أن يكون العامل صفةً جَرَت على غير من هى له، نحو: مررتُ بامرأةٍ ضارِبِها أنت، أو: ضاربها زيدٌ. والرابع: أن يُضْطَرّ إلى ذلك في الشعر، نحو قول الشاعر: إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماءِ القنابلُ ولو تتبْعت المسائل لكانت أكثر من هذا. فالحاصل أن في هذا الفصلِ تقصيرًا كثيرًا هنا وفي التسهيل، والتقسيم السباعىّ المتقدم أقربُ ما يقرّر في هذا الموضع، وهو الذى ما زلنا نسمعه من شيخنا الأستاذ -رحمةُ الله عليه- وكان يُعَيِّن لكل قسمٍ مواضعَ معلومة، قرّرها في تقييده على الجمل، أكثرها -أو جميعها- مذكورٌ هنا بالانجرار، ولكن الاستيفاء في مثل هذه الأشياء كالمتعذِّر، وإنما هو أمرٌ تقريبىٌّ، ولذلك لما عدّها -رحمه الله- قال في آخرها: «وقسم يتقدّم ويتأخر ويتوسط، وهو ما عدا ما ذُكِر، نحو: ضرب زيد عمرًا، وما لم يعرض له عارض فيعمل على مقتضى ذلك العارضِ». فتحرَّزَ كما ترى ولم يجزم الحكم استظهارًا على ما سَيرِدُ من هذا النوهع. فلو صنع الناظم هكذا لم يَرِدْ عليه اعتراضٌ. ولقد كان يمكن أن يُتَكلّف له الجواب عن بعض هذه الأمور، ولكن التكلف في الأشياء غير محمود، فلنقتصر على إيراد السؤال، ومن قدر على الجواب أجاب. والله الموفق للصواب.

[ختام الأصل] كمل باب الفاعل، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدن محمد وآله وصحبه وسلم ويتلوه «النائب» إن شاء الله تعالى وذكر مقابل النسخة في هامشها ««بحمد لله طالعت هذا السفر من أوله إلى هذا الموضع، متأملًا فهم مسائله، فلله الحمد والمنة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وكتب عبد الله -تعالى- محمد بن محمد بن علي الفوجيلى -وفقه الله بمنِّه- أواخر شهر ربيع الثاني عام 1047.

فهرس موضوعات الجزء الثاني الموضوع ... الصفحة تتمّة باب المبتدأ والخبر .............................................. ... 3 كان وأخواتها ...................................................... ... 136 ما ولا وإنْ المشبَّهات بليس .......................................... ... 215 أفعال المقاربة ....................................................... ... 261 إنّ وأخواتها ........................................................ ... 305 لا التي لنفي الجنس ................................................. ... 412 ظنّ وأخواتها ........................................................ ... 452 أعْلَم وأرى ......................................................... ... 510 الفاعل ............................................................ ... 530

«النائب عن الفاعل»

بسم الله الرحمن الرحيم «النائب عن الفاعل» النائبُ عن الفاعل هو الذي يقوم مَقَامه عند غيبته وعدم ذكره مع بناء الفعل له، وهو خمسةُ أنواع: المفعولُ به، والمصدرُ، وظرفُ الزمان، وظرفُ المكان، والجارُ والمجرور. وأولاها بالإقامة المفعولُ به؛ لأنًّه يُقامُ بِغَير شرطٍ بخلاف غيره؛ ولأنَّه لا يقوم غيرُه مَقَامَ الفاعل مع حضوره بخلاف ما عليه المفعول به، إذ يُقامُ وجوباً إذا حضر مع حضور غيره، ولأنَّ غيرَه لا يقوم مَقَامَ الفاعل إلا مع تصبيره مفعولاً به مجازاً، فلما كان أصلُ الباب للمفعول به لهذه الأوجه قدَّمَ الناظمُ ذِكْرَهُ، وجَعَله أصلاً لغيره، ولم يذكر غيره إلا بعد ذلك، فقال: ينوبُ مفعولٌ به عن فاعلٍ ... فيما له كنِيلَ خيرُ نائلِ يعني أن المفعولَ به ينوبُ عن الفاعل ولا ينوبُ عنه إلا إذا غاب، وأمَّا إذا حضر فلا اعتبارَ به في النيابة، فقوله «ينوبُ» يُشْعِرُ بأّنَّ الفاعلَ غائبٌ عن الكلام، وقوله «فيما له» (ما) واقعةٌ على أحكام الفاعل المُقَرَّرَةِ في البابِ قَبْلُ، فيريد أنَّه ينوبُ عن الفاعلِ فيما له من الأحوال والأحكام، ويقوم مَقَامَهُ فيها كإسنادِ الفعل إليه، ورفعِه به، واستقلال الكلام به دونَ زيادةٍ، فتقول: ضُرِبَ

زيدٌ، كما تقول: خَرَجَ زيدٌ، وإسكانِ آخرِ الفعل عند كونه ضميراً مُتَّصِلاً، وإتيانه بلفظ الضمير المرفوع، فتقول: أٌكْرِمْتُ، كما تقول: أُكْرَمْتُ، وعَدَمِ تَقَدُّمه على الفعل فتقول: ضُرِبَ الزيدانِ، كما تقول: ضَرَبَ الزيدان، ولا تقول: الزيدان ضُرِبَ، كما لا تقول: الزيدان ضَرَبَ، وكونُ الأصل فيه أنْ يَلِيَ الفعلَ دون ما كان من المفعولات غيرَ مُقامٍ، وأنَّ ما لم يُقَم الأصلُ فيه التأخيرُ، كقولك: أُعْطِيَ زيدٌ درهماً، وغير ذلك من الأحكام اللازمة للفاعل، ووجهُ ذلك أنَّ الفعلَ حديثٌ عن المفعول كما أنَّه حديثٌ عن الفاعل، وأنَّ المصدرَ يُضافُ إليه كما يُضافُ إلى الفاعل، فتقول: أعجبني ركوبُ الفرسِ، كما تقول: أعجبني ركوبُ زيدٍ الفرسَ. وأن الفعلَ في معقوله ابتداؤُه عن الفاعل وانقطاعُه من المفعول، فالمفعولُ طَرَفٌ في الفعل وشريكٌ فيه؛ إذا جاءا معاً كان الفاعل أولى من الفعل، لأنَّ إيقاعَه منه، وإذا تُرِكَ الفاعلُ ردَّ الفعلُ إلى المفعول به لما كان يَسْتَحِقُّهُ من شَرْكَتِه في الفعل. ذكر ذلك التعليل الفارسيُّ في التذكرة ناقلاً له عن ابن كيسان. وفي قوله «ينوبُ مفعولٌ به عن فاعل» إشارةٌ إلى أنَّ صاحب هذا الحكم هو الفاعلُ والمفعول. فما يُسَمَّى مفعولاً به اصطلاحاً هو النائبُ، وما يُسَمَّى فاعِلاً في الاصطلاح هو المنوبُ عنه، فما ليس بفاعلٍ فلا يُحْذَفُ هذا الحذفَ فيُقامُ مُقَامَه غيرُهُ، وما ليس بمفعولٍ به لا ينوبُ عن الفاعل إذا حُذِفَ الفاعلُ، يُستثنى منه ذلك ما استثناه الناظمُ، فيبقى ما سوى ذلك ممنوعاً. فقد حصل من مجموع ذلك قسمان: الأول: أنَّ ما سوى الفاعل من المرفوعات بالفعل لا تُحْذَفُ ويُبْنَى الفعل لغيرها، وذلك اسمُ كان مع خبرها، ومرفوعُ فعلِ

المقاربة مع منصوبه، أمَّا اسمُ كان فلا يُحْذَفُ ويُقامُ خبرُها مُقامَه، فلا يُقَال في: كان زيدٌ أخاكَ: كِينَ أخوك: ولا في «كان زيدٌ يقوم». كِينَ يُقام، ولا يقال أيضاً: كينَ في الدار، ولا كِينَ الكونُ زيدٌ قائمٌ، ولا ما أشبه ذلك، وذلك أنَّ النحاةَ اختلفوا في هذه المسألة فمنعَ جمهورُ البصريين بناءَ كان لما لم يُسَمَّ فاعلُه بإطلاق، وهو الذي يُشير إليه كلام الناظم؛ وذلك لأنَّ الخَبَرَ لا بُدَّ له من مبتدأ ملفوظٍ به أو مقدَّر، وحَذْفُ الفاعل في هذا الباب ليس حُكماً راجعاً للّفظ خاصّة، بل اللفظ والنِيَّة، فكما لا يجوز الاقتصارُ على أحد مفعولي ظننت كما جاز ذلك في مفعولي أعطيتُ فكذلك هذا. وردَّه ابن النحاس بأنَّك إذا قلتَ: كينَ قائمٌ بَقِيَ ضميرُ قائمٍ لا يعود على شيء. وفي هذا الرَّدِّ نظرٌ؛ فإنَّ المشتقَّ إذا باشر العامل تَجَرَّدَ عن الضمير لاستعماله استعمال الأسماء الجامدة كما تقول: قام عاقلٌ من بني فلان. ورُدَّ أيضاً هذا الرَّدُّ بأنَّه مخصوصٌ بالمشتقّ، فإذا كان الخبرُ جامداً فبماذا يُمْنَع؟ فالأول أصوب، وأيضاً فقولُك: كينَ قائمٌ، أو: كِينَ أخوك، لا فائدةَ له، وما لا فائدةَ له لا تَكَلَّمُ به العربُ، وأيضاً فإنَّ السماعَ معدومٌ في المسألة، وهو العمدةُ في القول بالجواز، فإذا عُدِمَ السماع انهدَّ ركنُ القياس. ومن النحويين من أجاز ذلك إلا أنَّهم اختلفوا في وجه الجواز، فحكى

السيرافيُّ عن الفراء الجوازَ بإطلاقٍ على إقامةِ الخبر مُقام الاسم، وحكاه ابن السراج عن قومٍ، وزعم الفراء مع ذلك أنَّه ليس من كلام العرب، وإنَّما قاسَه. وذهب السيرافي إلى جواز ذلك على أنْ يُحْذَفَ الخبرُ والاسم جميعاً وتُصَاغُ كان لمصدرها، ويكون الاسمُ والخبر تفسيراً له، فتقول: كِينَ الكونُ زيدٌ منطلقٌ، لأنَّكَ تقول لمن قال: هل كان زيدٌ منطلقاً؟ : قد كان ذلك، أي ذلك الكونُ، ثم تنقله إلى ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وتقيمُ الكونَ، وتجعلُ له الجملةَ تفسيراً للكون، وتقول: كِينَ زيدٌ منطلقٌ، فتضمره لدَلالةِ الفعل عليه. وذهب الكسائي مع الفراء إلى جواز: كِينَ يُقام، وجَعَلَ الكسائيُّ المسندَ إليه ضميرَ الشأن - الذي يسميه الكوفيون ضميرَ المجهول - كأنّه على معنى: كِينَ الأمرُ يُقام. وذهب ابن عصفور إلى جواز ذلك بشرط أنْ يتعلَّق بكان ظرفٌ أو جارٌ ومجرور، فإذا بُنِيَتْ للمفعول حُذِفَ الاسمُ لذلك، وحُذِفَ الخبرُ لحَذْفِ الاسم فبقيَ المجرورُ أو الظرفُ نائباً، فتقول: مِنْ: كان في الدار زيدٌ مقيماً: كِينْ في الدار، ومِنْ: كان يومَ الجمعة زيدٌ جالساً: كِينَ يومُ الجمعة. فهذه خمسةُ مذاهبَ في المسألة لا يَصِحُّ منها إلا الأول. أمَّا رأيُ الفراء فقد مرَّ ما يَرِدُ عليه. وأمَّا السيرافيُّ فَرَدَّ عليه ابن عصفور بأنَّه إنَّما بَنَى مذهبَه على أنَّ (كان) تَدلُّ

على الحَدَث، قال: وهو بناءٌ فاسدٌ لِتَجَرٌّدِها منه عند المحققين، واعتذر له شيخُنا الأستاذ - رحمةُ الله عليه - بأنَّ له أنْ يقولَ: إنَّ خبرَها جُعِل عِوَضاً من اللفظ بالمصدر، فلما لَزِمَ حذفُ الخبر الذي كان عِوَضاً من المصدر عاد إليها المصدرُ الذي رُفِضَ بوجود الخبر، قال: وإنَّما النكتةُ التي لم يشعر بها ابن عصفور أنَّه لمّا حُذِفَ اسمها وخبرها عادت تامّةً. فصحًّ البناءُ، وإذا كان كذلك خرجَتْ عن مسألة النزاع؛ إذ لا خلافَ في صحّة البناء للمفعول ذا كانت تامَّةً كسائر الأفعال التامة. وأمَّا مذهبُ الكسائي فخارجٌ عمّا عُهِدَ من كلام العرب؛ إذا لا يوجد مرفوعٌ يُحْذَفُ فيُبْنَى فعلُه لضمير المجهول، وأيضاً لا فائدة في ذلك الكلام؛ إذا لا يخلو الوجودُ من كونِ قيامٍ موجوداً، وأيضاً لا يُحذفُ المبتدأُ اقتصاراً أبداً كما تقدّم. وأمَّا رأيُ ابن عصفور فرَدَّهُ ابن الحاجّ بعدم الفائدة عند كَلِّ أحد، فإنَّ يوماً من الأيام أو موضعاً من المواضع لا يخلو أَنْ يكون فيه شيءٌ، ثم إنَّ (كان) الناقصةَ لا فائدةَ لها إلا ما تُعطيه من زمانِ الخبر، فإذا لم يكن خبرٌ فلا ثمرةَ لها، وإنَّما سُمّيَتْ ناقصةً لأنَّها لا بُدَّ لها من اسم وخبر بخلاف التي تكتفي بالفاعل، وأيضاً لو فُرِضَ أَنْ يُسْمَعَ مثلُ: كِينَ في الدار، على فَرْضِ أن يكونَ مُفيداً لم يجزأن يقال: إنَّه من كان الناقصة لاحتماله التَّامةَ، فما الحاجة إلى تكلّف غير ذلك؟ ، وأيضاً فإنّمَا بَنَى مذهبُه على جواز تعلُّقِ الظهر والمجرور بكان الناقصة، وهو غيرُ مُسلّمٍ له، ولا حُجَّةَ لمن تعلّق بقول سيبويه: «فهو كائن ومكون». لأنَّ مَقْصِدَ سيبويه أَمرٌ آخر وراء ما يظهر منه لباديء الرأي.

وأمَّا مرفوعُ فعل المقاربة مع منصوبه فمَذْهَبُ البصريين على أنَّه لا يُحذفُ فينوب عنه المنصوبُ ولا غيره، لأنَّ المرفوعَ مع المنصوب مبتدأ وخبرٌ، كما لا يكون ذلك في كان لا يكون أيضاً فيما هو مثلُها، وأيضاً فإنَّ الخبرَ في باب المقاربة جملةٌ، والجملة لا تنوب عن الفاعل، ولا ما أشبه الفاعل، ونُقِلَ عن الكسائي إجازةُ: جُعِلَ يُفْعَل على إقامة ضمير المجهول مُقَامَ المرفوع، وقد تقدّم ما فيه في مسألة: كِينَ يُقام، وعن الفراء أنَّه بعد الحذف لم يَقُم مقامَه شيءٌ لاستغناء الكلام عنه. وهذا غيرُ مرضيِّ لِمَا تقدّم من أنَّ كلَّ فعلٍ لا بُدَّ له من فاعل أو ما يَحُلُّ محلَّه؛ إذ لا يستقلٌّ كلامٌ بغير مرفوع، وأيضاً لم يُسْمَع لذلك نظيرٌ، فلا يُعَوَّلُ عليه. القسم الثاني: أنَّ ما سوى المفعول به، والظرف، والمجرور، والمصدر لا يُقامُ مُقامَ الفاعل، فلا يُقامُ مقامَه المفعولُ له، ولا المفعولُ معه، ولا الحالُ، ولا التمييزُ، ولا المستثنى. فأما المفعول له فلأنَّ انتصابه ليس كانتصاب المفعول به، وإنما هو عِلَّةٌ للفعل، فامتنع أن يُقام - وهو كذلك - كما امتنع أن يُقَامَ الظرفُ - وهو ظَرْف - وإنما تَمَكَّنَ المفعولُ به في الإقامة لما تقدّم، وأيضاً فالمصدرُ يُضافُ إليه ولا يُذْكَرُ الفاعل، كما يضاف الفاعل ولا يُذْكَرُ المفعولُ به، وليس المفعول له كذلك، فلمَّا لم يكن مثلَه في هذه المناسبات وغيرها لم يجز أنْ يُقَام. فإن قيل: فالظرفُ يُقام مُقَامَ الفاعل، وهو ظرفٌ في المعنى؛ إذ هو على إرادة (في) فأجِزْ إقامَة المفعول له وهو على إرادةِ اللام. قيل: الظرفُ يُتَّسَّعُ فيه بأنْ يُنْصَبَ نَصْبَ المفعول به، فيُقامُ لأنه كالمفعول به، ولا يخرج عن معنى الظرفية، فإذا قُلتَ: سِيرَ عليه فرسخان، أو يومُ

الجمعة، علمتَ أنهما في المعنى ظرفانِ مُتَّسَعٌ فيهما، كما أنَّك إذا قلتَ: زيدٌ ضربتُه، فابتدَأتَه، علمت أنه في المعنى مفعولٌ به، وإن كان مبتدأ في اللفظ، وليس المفعول له كذلك، لأنَّك متى أقمتَه مُقَامَ الفاعل خرج عن أن يكونَ مفعولاً له، ولم يكن عليه دلالةٌ، إذ لا يُعلم مفعولاً له إلا متى كان فضلةً بعد الفاعل يُقَدَّرُ وصولُ الفعل إليه باللام، وهذا المعنى يُبطلُ كونه فاعلاً ويُنافيه، لو قلتَ: أُتِي الإكرام، لم يُفْهَم أنَّك أتيت أمراً من أجل الإكرام، إنّما يُفهم أنه فَعَل نفس الإكرام لا غيره من أجله، فلذلك لم تَصِحَّ إقامتُه. ومن الدليل على صحة ذلك أنَّ (كي) المصدريَّة لا تكون فاعلاً كأَن المصدرية، قال المازني: لأنَّ كي تجيء لعلةٍ، فإذا امتنع ما كان بمعنى المفعول له أنْ يقَعَ فاعلاً، وإن لم يكن على لفظِه، فأنْ يمتنع ما كان مقدَّراً فيه اللام أجدَرُ. وأمّا المفعول معه فلا يُقامُ أيضاً، لأنَّ كونَهُ مفعولاً معه يقتضي أن يكونَ مع فاعل ليكون مفعولاً معه، فإذا أُقيم لم يكن مفعولاً معه كما لم يكن الأول مفعولاً له، وأيضاً فإذا أقَمتَهُ فإمّا أن تذْكُرَ الحرف الدالُّ على أنه مفعولٌ معه أو لا، فإن لم تذكره لم يدل على ذلك، وإن ذكرته لم يَجُز؛ إذ لا يُسْتَعْمَلُ ذلك الحرفُ إلا على حد ما كان في العطف، وفي العطف لا بُدّ أن يكون تابعاً لمفرد أو جملة، فكذلك هنا، والمتبوعُ هنا محذوفٌ بالفرض فامتنع أن يبقى مع الحرف. وأمَّا الحالُ فيمتنع إقامته في مُقامَ الفاعل لأنَّه على تقدير: (في [حال] كذا)،

وإذا أقمتَهُ لم يُفهم ذلك المعنى بحاله كما تقدّم في المفعول له، وأيضاً فإنَّ الحالَ يفارق المفعولَ به في كونه لا يقع إلا نكرة، بخلاف المصدر والظرف. وأمَّا التمييزُ فإنَّه على تقدير (مِنْ)، وعلى معناها، وإذا أُقيم مُقَامَ الفاعل زالَ ذلك المعنى، كما مَرَّ في المفعول له. هذا إذا فرضتَه مُميَّزاً للمفرد، وإن كان مميَّزاً للجملة نحو {اشتَعَلَ الرأسُ شَيْباً} فهو الفاعل في المعنى، فلا يَصِحُّ أنْ يُبْنَى له الفعلُ بناءً ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنه نَحْوٌ من بناء الفعل للمفعول مع ذكر الفاعل، وذلك لا يستقيم، وأيضاً فالتمييز يفارقُ المفعولَ به في لزومه التنكير كالحال. وأمَّا المستثنى فلا يستقيم أيضاً أنْ يُقامَ، لأنَّه يودِّي إلى تفريغ الفعل لما بعدَ (إلا) في الإيجاب، فإذا قلتَ: قام القومُ إلا زيداً، لم يَسُغ أن تقولَ فيه: قِيم إلا زيدٌ، كما لا يستقيم أنْ تقولَ: قام إلا زيدٌ، وأما في النفي فلوقوع اللبْس والإيهام لو قلتَ: ما جاء القوم إلا زيداً، فبنيتَه للمفعول، فقلتَ: ما جيِء إلا زيدٌ لتُوُهِّمَ أنَّه مفعولٌ به، وأيضاً لا يُقامَ إلا ما أشبه المفعولَ به، واتُّسِع في حتى يصير مفعولاً به مجازاً مع بقاء معناه. وهذا متعذِّرٌ في المستثنى؛ إذ لا يُتَسَّع فيه كما يُتَّسَعُ في الظرف والمصدر. فقد بان أنَّه لا يُقام شيءً من هذه الأمور مُقَامَ الفاعل. ولا أعلمُ في امتناعِ ذلك خلافاً إلا في التمييز، فإن الكسائيَّ نُقِلَ عنه جوازُ إقامته جوازُ إقامته، فأجاز في قولك: امتلأتِ الدارُ رجالاً: امتُلِئَ رجالٌ، وحكى من ذلك: خُذْه مَطْيُوبةً به نفسٌ، وهو الموجوعُ رأسُه، والمسفوهُ رأيُه، ومثلُ هذا لا معتبرَ به مع احتماله خلافَ ما ذُكِر.

وأتى الناظم بمثالٍ، وهو قولُه: «كنِيلَ خيرُ نائل» فخيرُ نائلٍ هو المفعولُ المقام، والأصل: نال زيدٌ خيرَ نائل، و (خيرُ نائل) يَحْتَمِلُ من جهة اللفظ أن يكونَ اسمَ مصدر كالنَوَال، فإنه يقال: نال زيد نَوَالاً، ونائلاً، وهذا ليس بمرادٍ هنا؛ إذ ليس كلامُه هنا في إقامة المصدر بل في إقامة المفعول فإنَّما مراده بخير ما يراد به في قوله تعالى: {وافْعَلُوا الخَيْرَ} أو قوله: {إنْ تَرَكَ خَيْراً} وفي قولهم: أنلته خيراً، ونائلٌ المضافُ إليه - وهو صاحب الخير - اسمُ فاعل لا اسمٌ جامد، كقولك: هذا قائلٌ، أي نِيلَ خَيْرُ مَنْ يُنِيلُ، ومَنْ عادتُه النوالُ، ويقال: نُلْتُه خيراً، وأنلته خيراً بمعنى. ثم أخذ في بيان بناء الفعل للمفعول؛ إذ كان بناؤه للفاعل لا يتأتى للمفعول، فقال: وَأوَّلُ الفِعْلِ اضمُمَنْ والمُتَّصِل ... بالآخِرِ اكْسِر في مُضَيِّ كوُصِل واجعَلْهُ من مضارعٍ مُنْفَتِحاً ... كيَنْتَحِي المقولُ فيه: يُنْتَحى الأفعال ثلاثة: ماض ومضارع وأمر. فأما الأمر فخارج عن هذا الباب جملة، فلا يبنى للمفعول أصلا؛ لأنه في أصل وضعه مناف لحذف فاعله، والعرب إذا أرادت ترك المفعول مع بقاء معنى الأمر أتت بالمضارع مقرونا بلام الأمر، فتقول: ليُضربْ زيدٌ، ليُفعل كذا وكذا، فكأن العرب استغنت ببناء المضارع بلام الأمر عن بناء الأمر لعدم التأتي فيه، فبقي الماضي والمضارع، فشرع في كيفية نقلهما من صيغة الفاعل إلى صيغة المفعول، فيعني أنك تضم أول الفعل أبدا سواء أكان ماضيا أم مضارعا، ولذلك قال: (وأولَ الفعل)، ولم يقل: وأول الماضي اضممن؛ لأنه مضموم في الماضي والمضارع معا، ثم بعد ذلك فصَّل الأمر في الفعلين بالنسبة إلى تغيير ما قبل الآخر؛ إذ يعلق به أيضا حكم البناء للمفعول، لكنه يكون في الماضي

مكسورًا , وفي المضارع مفتوحًا, وذلك قوله: (والمتصل بالآخر اكسر في مضي) يعني أنك تكسر الحرف الذي قبل آخر الفعل ذي المضي مثل قولك: وُصِلَ , فإن أصله وَصَلَ, فضممت أوله, وكسرت ما قبل آخره, ثم قال: (واجعله من مضارع منفتحًا) الضمير في (اجعله) عائد على ما قبل الآخر, أي اجعل المتصل بالآخر منفتحًا إذا كان من مضارع كقولك في (ينتحي): يُنتحَى, وهذا تعريف مطرد في الفعل الثلاثي كضُرب ويُضرب, وعُلِم ويُعلَم, وفي / الرباعي كدُحرجَ ويُدحرَج, وأُخرجَ يُخرَج وسُويِرَ ويُسايِر, ودُرّب ويُدرّب, وبُوطِر ويُبيطر, وفي الخماسي كانطُلِق ويُنطلق, واقتُدر ويُقتَدَر, وفيما فوق ذلك كاستُخرج ويُستَخرجُ, وتُكرّم ويُتَكرّمُ, وتُقوتِلَ ويُتَقَاتَلُ, وما أشبه ذلك. فهذا كله يطرد إلا أنه في الماضي لا يكفي دون شيء آخر ينضم إليه, بخلاف المضارع فإنه لا يفتقر في تمام بنية المفعول إلى تمام تغيير زاذد بل ما عدا الحرفين الأول, وما قبل الآخر باق على ما كان عليه في بنية الفاعل كما مر في الأمثلة, وقد لا يحتاج في بعضها إلا لضم الأول خاصة نحو: يُتَدَحرجُ, ويُتَكلّم, ويُتَطاول, وما أشبه ذلك, وفي قوله: (وأول الفعل اضممن) إلى آخره ما يشعر بأن بنية المفعول مغيرة من فعل الفاعل؛ لأن هذا العمل الذي ذكر مورد على بنية الفاعل, فكأنه يقول: الأصل أن يبنى الفعل للفاعل, فإن عرض ألا يذكر الفاعل وجب تغيير تلك البنية إلى المفعول. فهذا ظاهر في أن بنية المفعول فرع, وهو رأي الجمهور, وذهب طائفة إلى أنه أصل بناء بنفسه, ليس بمغير من غيره بل هو مشتق من المصدر للمفعول ابتداء, كما اشتق للفاعل كذلك, وهذا

الثاني أيضًا يظهر من كلام الناظم في أول باب التصريف, حيث قال هناك: وافتح وضمَّ واكسرِ الثاني مِن ... فعلٍ ثلاثِيٍّ ونحوه ضمن وفي بعضها: ((وزد نحو ضمن)) فهذا الكلام ظاهر في أن فُعِلَ أصل بناء كفَعَلَ, وفَعِلَ, وفَعُلَ, فظهر أن في كلامه تدافعًا, لأنه يقول هنا: أنه ليس بأصل, وفي التصريف: أنه أصل بناء. والجواب عن ذلك, وتقرير الاحتجاج للمذهبين مذكور في التصريف فهو أسعد به. و (أول) مفعول باضممن, وكذلك (المتصل) مفعول باكسر, أي: اضمم الفعل واكسر الحرف المتصل بالآخر, وهو ما قبل الأخير. قوله (في مضي) على حذف مضاف تقديره: في ذي مضي, يريد الفعل الماضي. و (منفتحًا) مفعول ثان لاجعله, لأنه بمعنى التصيير, و (ينتحي) معناه: بعترض, والانتحاء: الاعتراض والقصد إلى الشيء, ويقال انتحى له, وتنحى له بمعنى واحد. ومن عادة الناظم في هذا النظم أن يخلط القوافي بعضها بببعض كهذا الوضع فإنه خلط فيه المتراكب بالمتدارك, فقوله: (متصل) من المتدارك, وقوله: (يِنكوصِل) من المتراكب, وقد خلط بعضها ببعض في الشعر, وهو قليل, وتجتمع الاثنتان مع المتكاوس, ومن ذلك قول عمرو بن العاص- ويقال: إنه لغيره-:

إذا تخازرتُ وما بي خزر ... ثم كسرتُ الطرفَ من غير عَوَر وقال آخر: يحملن فحمًا جيّدًا غير دعر ... أسودَ صلالًا كأعيانِ البقر واصل القافية المتواتر, ويدخل عليها المتراكب؛ لأن أصل التفعيل (مستفعلن) , وهو من أجزاء المتواتر, وقد يدخل عليه المتكاوس, كقول العجاج: *قد جبر الدين الإله فجبر* وربما وقع مثله في هذا النظم. وأكثر ما يقع هذا التداخل في الرجز, وقد يقع في غيرع كالسريع, ثم أخذ في استدراك ما بقي عليه في بناء الماضي/ للمفعول, فقال: والثاني التالي تا المطاوعة ... كالأول احعله بلا منازعه وثالث الذب بهمز الوصل ... كالأول اجعلنه كاستحلي (الثاني) منصوب بفعل مضمر يفسر (اجعله) من باب الاشتغال, و (تا المطاوعة)

مفعول بالتالي, وأراد تاء المطاوعة لكن حذا الهمزة, فبقي الاسم على حرفين أحدهما لين, وذلك غير موجود إلا ندورًا, أعني في معربات الأسماء, وقد حكى الكسائي: شربت ما يا هذا, ومثله بعد هذا: ((واكسر أو اشمم فا ثلاثي أعل)) وله من هذا القبيل في نظمه هذا كثير جدًا ساقه إليه ضرورة الشعر, و (كالأول) و (بلا منازعة) متعلقان باجعله, ويعني أن الحرف الثاني من الفعل إذا كان تاليًا أي: تابعًا لتاء المطاوعة فإنك تضمه أيضًا كالحرف الأول, فتقول في: تعلّم, تُعُلِّم, وفي: تأدَّب, تُؤُدّب, وفي: تخلّص, تُخُلّص, وفي تَدَحرَجَ: تُدُحرِجَ وفي تباعد: تُبوعِدَ, وما أشبه ذلك. وتاء المطاوعة هي التاء التي في أوائل هذه الأفعال, وسماها تاء المطاوعة - والبنية ينفسها هي التي للمطاوعة- لأنها خاصة بتلك البنية, فسميت بها, فتَفَعَّل مطاوع فعَّل, نحو: علَّمتُه فتَعَلَّم, وأدّبتُهُ فَتَأَدَّب, وتفاعل مطاوع فاعل نحو: باعدته فتباعد, وتفعلل مطاوع فعلَلَ نحو: دحرجتُه فتدَحرَجَ, وإنما قيّد التاء هنا بأنها للمطاوعة تحرزًا من تاء المضارعة, فلهذا يدخل ههنا الماضي وحده دون المضارع, وأيضًا فقد قيّد الحرف الآتي بعد تاء المطاوعة بأنه ثاني حروف الفعل, لقوله (والثاني التالي .. كذا) فاقتضى أن تاء المطاوعة هي أول حرفي في الفعل, وذلك لا يكون إلا في الماضي, لأن حرف المضارعة سابق لها في المضارع, وإذا كان كذلك فالحرف التالي لتاء المطاوعة في المضارع باق في بنية المفعول على ماكان عليه, فتقول: يُتَعلَّم كما تقول: يَتَعَلَّمُ, ويُتَباعَدُ كما تقول: يَتَبَاعَدُ, وكذلك سائر الأمثلة. قال: (وثالث الذي بهمز الوصل) إلى آخره يعني أن الفعل الذي أوله همزة وصل يضم ثالثه, أي الحرف الثالث منه, كما يضم الأول, فتقول في استَحلى: استُحلِيَ, فتضم التاء, وهي الحرف الثالث, وكذلك تقول في:

اقعَنسَسَ: اقعُنسِسَ, وفي انطَلَقَ: انطُلِقَ, وفي اسلَنقَى: اسلُنقِيَ, وفي احلولى: احلُولِيَ, وما أشبه ذلك من الأمثلة التي أولها ألف وصل. وقوله: (الذي بهمز الوصل) يعين أن كلامه هنا في الماضي؛ لأن ألف الوصل لا تلحق المضارع, ومثاله أيضًا مؤنس بذلك, وذلك يعين بقاء ثالث المضارع في بناء المفعول على حالته في بناء الفاعل؛ إذ لم يذكر له مخالف غير ما تقدّم من ضم أوله, وفتح ما قبل آخره, و (ثالث) منصوب بفعل مضمر يفسره (اجعلنه) من باب الاشتغال. واستحلى الشيء: وجده حلوًا كما / يقال: استجاده إذا وجده جيدًا. وعلى الناظم هنا دركٌ من وجهين: أحدهما: أن اقتصاره في تعريف ما يضم ثانيه مع الاول على ما أوله تاء المطاوعة تقصير؛ إذ كان ضم الثاني غي مقتصر به على ما كانت تاؤه للمطاوعة, بل هو عام في ما أوله تاء كانت للمطاوعة أو لغيرها, وذلك أن: تفعّل كما يأتي للمطاوعة يأتي أيضًا للتكلف, نحو: تحلّم, وتكرّم, وتشجّع وللتجنب, نحو: تأثّم, وتحرّج, وللصيرورة, نحو: تأيّمت المرأة, وتحجّر الطين, وللاتخاذ نحو: توسّد التراب, وتبنّى الصبي, ولغير ذلك من المعاني, وللمطاوعة واحد منها. وكذلك: تفاعل قد يأتي للشتراك في الفاعلية نحو: تقاتل, وترامى, ولتخييل تارك الفعل كونع فاعلًا نحو: تغافل وتجاهل وتعارج, والمطاوعة لفاعل معنى من معاني تفاعل, فأين تدخل له هذه الأفعال حين قيّد التاء بكونها للمطاوعة, وهي في الحكم بضم التاء سواء؟ , هذا تقييدٌ

مخلُّ, وقد حرّر هذا المعنى في التسهيل؛ إذ قال: ((يضم مطلقًا أول فعل النائب, ومع ثانيه إن كان ماضيًا مزيدًا أوله تاء)) ولا يقال: إنه عرّف البنية بما هو الأصل فيها, وذلك المطاوعة, فيندرج ما عداها, لأنا نقول: الأمر ليس كذلك بل كل معنى استعملت فيه البنية غير مفرع عن غيره, إلا فلو كان مفرعًا عن غيره, لبقي فيه معنى ذلك الغير ملحوظًا, وأنت تعلم أن: تحلّم وتأيّمت ليس فيها معنى فعّلتُه فتفعَّل, وكذلك في تفاعل ونحوه. فالحاصل أن هذا التقييد نخلٌّ, فلو قال مثلًا: والثاني التالي تاء زائدة ... فاضمم ففي الضم تمام الفائدة أو قال: *فاجعله كالأول تعط الفائدة* أو ما أشبه ذلك لتخلص من هذا الشغب, ولا أجد له جوابًا. والثاني: أنه ذكر هما حكم الفعل الصحيح والمعتل العين, وقد تم حكم الصحيح, وها هو يذكر حكم المعتل العين من الخماسي خاصة, وترك ذكر حكم المضاعف ثلاثيًا أو رباعيًا أو خماسيًا أو سداسيًا, وذكر حكم ما اعتلت لامه أو فاؤه, ولم يتبين فيها بيانًا ظاهرًا ما ذكره هنا, ألا ترى أن المدغم ليس ما قبل آخره في الماضي بمكسور بإطلاق, فإنك تقول في: رَدَّ: رُدَّ, وفي: أقرَّ أُقِرَّ, وفي استَقرَّ: استُقِرَّ, وفي ترادّ: تُرُودَّ, ولا ما قبل آخره في المضارع بمفتوح, نحو: يُرَدُّ, ويُقَرُّ, ويُستَقَرُّ, ويُترادُّ. وترك من ذكر المعتل العين

ما كان نحو: يقول ويبيع, فإنه لا يقتصر فيه على ضم الأول, وفتح ما قبل الآخر بل تقلب الواو والياء ألفًا, نحو: يقال وويباع, وكذلك: يستقام, ويستبان, وأيضًا فالمعتل الفاء بالواو يجوز قلب الواو فيه همزة إذا ضممت, فتقول في: وارى: أورِيَ, وفي: وقّتَ: أُقِّت, وكذلك ماكان نحو: بيطَر, وهيلَلَ يزاد فيه على ما قاله أن تقلب الياء واوًا, نحو: بُوطر وهُولِلَ, وكذلك ما قلب آخره من الماضي ألفًا تصير ياء كان أصلها الواو, أو الياء نحو: دثعي, ورُمي في: دعا, ورمى, وما كان آخره معتلًا بالواو, أو بالياء من المضارع تقلب فيه ألفًا نحو: يُرعى, ويُرمى وكثير من هذه الأحكام على هذا السبيل, وهو لم يبين في هذا الباب من ذلك شيئًا, وقد بين هذا غيره. وقد اعترض ابن الحاج على ابن عصفور بنحو ما اعترض به الناظم, وأن قوله: ((وكسرت ماقبل آخره)) غير صادق في: افعلَّ, وافعالَّ. فإن قلت: إنه في الأصل كذلك. قيل/ إن ذلك ضار في التعليم, لأنه أصل لا ينطق به ولو لم يذكر أن هذا يكسر لكان أصوب وأقل ضررًا, لأنه صادق غير مغلط. فإن قيل: إن هذه الأحكام كلها أحكام تصريفية لا يليق ذكرها بهذا الباب, فالمعتل يذكر في باب التصريف والمضاعف يذكر حكمه في باب الإدغام. فالجواب: أن حكم المعتل أيضًا وما فيه من الإشمام وغيره, والمضاعف كذلك بابه التصريف, أو باب الإمالة فكان ينبغي تأخيره ذكر ذلك إلى بابه, فلا يزيد هنا على ما تقدّم الآن لكنه لم يفعل ذلك فورد الإعتراض عليه. والجواب: أنه جرى فيما صنع على عادة كثير من النحويين حيث ذكروا ما

ذكر في هذا الباب, وتركوا إلى باب التصريف والإدغام ما ترك, إذا روعي الموضعان حصلت الفائدة, والله أعلم. واكسر أو اشمم فا ثلاثيّ أعل ... عينًا, وضم جا كبوع فاحتُمل هذا حكم تابع للبناء للمفعول, وهو فيما إذا كان الفعل معتلًا عينه, والمعتل العين ضربان: ضرب يكون فيه ضمة البناء للمفعول مجاورة لعينه, وضرب لا تجاورها, فالذي لا تجاورها فيه لا زيادة فيه على ما ذكر نحو: استُبين, واستُعيد, وتُطُووِل, وتُبُويِن, فإن العين المعتلة قد فصل بينها وبين الضمة ما تصح مع فلا تنقلب كسرة, فلا يحتاج إلى الحكم المذكور، فلذلك لم يتكلم في هذا الباب لاكتفائه بما تقدم فيه, والذي تجاور فيه الضمة العين قسمان: ثلاثي, وخماسي. فالثلاثي هو الذي شرع في ذكره, فيعني أن الفعل الثلاثي المعتل العين إذا بني للمفعول جاز في فائه ثلاثة أوجه: أحدهما: الكسر الخالص, وهو قوله (واكسر) فتقول في: قال: قيل, وفي باع: بيع, وفي هاج: هيج, وفي قام: قيم, وما أشبه ذلك. والثاني: إشمام الفاء الضم, فتقول: قيل, وهيج, وقيم , ولم يتعرض لصورته كيف تكون؟ , وفي ذلك ثلاثة مذاهب: أحدهما: ضم الشفتين مع النطق بالفاء, فتكون حركتها بين حركتي الضم والكسر نحو: قيل, وبيع. وهذا هو المعروف المشهور, والمقروء به. والثاني: ضم الشفتين بعد

إخلاص كسرة الفاء نحو: قيل, وبيع. والثالث: ضم الشفتين قبل النطق بها, لأن أول الكلمة مقابل لآخرها فكما أن الإشمام في الأواخر بعد الفراغ من إسكان الحرف, فكذلك يكون الإشمام في أولها قبل النطق/ بكسرة الحرف. والمشهور المذهب الأول. والوجه الثالث: إبقاء الضمة التي أتى بها في الأصل للبناء للمفعول ويستوي في ذلك ذوات الواو وذوات الياء, فتقول: قُولَ, وبُوعَ, فالوجهان الأولان فصيحان مقروء بهما, والجه الثالث لغة ضعيفة حكيت عن بني ضَبَّة, وحُكي عنهم: بُوع متاعه, خُورَ له, وأنشد ابن جني من هذا: نوطَ إلى صُلبٍ شدِيد الخلِّ ... وعُنقٍ كالجذعِ مُتمَهَلِّ وأنشد أيضًا: حُوكت على نيرين إذ تُحاكُ ... تَختَبِطُ الشوك ولا تُشاكُ وأنشد غيره: ليت وهل ينفعُ شيئًا ليتُ ... ليتَ شبابًا بُوع فاشتريتُ

أرادوا: نيط, وحِيكت, وبيع, وكان الأصل: قُوِل, وبُيعَ كما تقدم في الصحيح إلا أنه عرض أن استُثقل تحريك الواو والياء بالكسرة فنَقَلَ بعض العرب الكسرة من العين إلى الفاء, وتركها على إخلاصها, ثم قلب الواو ياء في: قول, فصار: قيل, وأشم بعضهم الكسرة الضم بعد نقلها وقلب الواو تنبيهًا على أن أصل الفاء الضم, وبعضهم ترك الفاء على أصلها من الضم وقلب الياء في: بيع واوًا, وهذه أضعف اللغات, وعلى ضعفها نبه الناظم بقوله (وضم جا كبوع فاحتمل) أي أجري فيه القياس على ضعفه, قال سيبويه: ((وهذه اللغات دواخل على: قيل, وخيف, وهيب, والأصل الكسر كما تكسر في فعلت)) يعني نحو: خِفتُ, وهِبتُ, ولأجل أن الكسر الأصل قدمه الناظم - والله أعلم- إذ قال (واكسر أو اشمم) وقوله (جا) أصله جاء لكنه حذف, وروي عن العرب نحو ذلك. ثم لما بين هذه الأوجه الثلاثة في الثلاثي, وكان من الأفعال ما إذا أتى على وجه من هذه الأوجه التبس بفعل فاعل على آخر أخذ يبين المخلص من ذلك فقال: وإن بشَكلٍ خيفَ ليسٌ يجتَنَب ... ومَا لباعَ قد يُرى لنحو حًبّ يعني أن شكل بنية المفعول لا يخلو إذا جرت فيه هذه اللغات, أو بعضها أن يلتبس بشكل آخر, وبنية أخرى أو لا, فإن لم يلتبس بقيت اللغات جارية فيه على ما وصفت, نحو: قِيل الحق, وقيل الحق, وقُول الحق, فإن هذا لا يلتبس بغيره من الأفعال المينبة للفاعل. وأجري فيه ما سواه, وذلك أن تقول: قاولت الناس فقِلتُ, فقولك: قلت يحتمل أن يكون مبنيًا للفاعل أو للمفعول, أي فغَلَبت أو فغُلِبتُ, فإذا وقع مثل هذا اللبس اجتنب ما أدى إليه, فيتجنب الضم الخالص

هنا, وذلك على لغة من يقول: قول, وبوع, إذ بسببه حصل اللبس بفعل الفاعل, ويبقى الإشمام والكسر الخالص جائزين, فتقول: قاولت فقِلتُ أي: فغُلِبتُ, وقاولت فقِلتث, ومثله: زِرتُ من الزيارة, يجتنب فيه/ لغة الضم الخالص لأجل التبايه بشكل بنية الفاعل, ويجوز الكسر والإشمام, وكذلك تقول: الهندات رِعن, ورُعِن, ولا تقول: رُعن, وتقول نحن قِدنَا, من: قاده يقوده وقِدُنا, ولا تقول: قُدنا, وكذلك سائر ذوات الواو مما يشبه هذه الأمثلة, ومثل ذلك من ذوات الياء إذا قال العبد أو الأمة: بِعتُ فهو مع الكسر الخالص محتمل لبناء الفاعل بمعنى أن العبد باع شيئًا, ولبناء المفعول بمعنى أنه المبيع, فيجتنب فيه لغة الكسر, وتقول: بُعتُ بالضم, وبعت بالإشمام, ومثله كُلتُ, ودُنتُ, وكُلنا, ودُنّا, ودُنَّ, وما أشبه ذلك, وكذلك ما كان من ذوات الواو على فعلت المكسور العين نحو: خاف إذا قلت: خِفتُ فهو محتمل لبنية الفاعل وللمفعول فيجتنب الكسر الخالص, ويستعمل ما عداه, فتقول: خُفتُ, وخفت. هذا معنى قول الناظم: (وإن بشكل خيف لبس يجتنب). وهو رأي له خالف فيه غيره, فإن سيبويه لم يعتبر فيه شيئًا من هذا بل حكي عن العرب ثلاثة الأوجه في موضع اللبس باطلاقٍ من غير مراعاة للبس, قال سيبويه: ((أما من قال قد بيع وزين وهيب وخيف)) فإنه يقول: خِفنا, وبِعنا, وخِفنَ, وزِن, وبِعنَ, وهِبتُ يدع الكسرة على حالها ويحذف الياء؛ لأنه التقى ساكنان, وأما من ضم بإشمام إذا قال فُعِل, فإنه يقول: قد بُعنا, وقد رُعنَ, وقد زُدتّ, وكذلك جميع هذا يميل الفاء ليعلم أن الياء قد حذفت فيضم, وأمال كما ضموا وبعدها الياء؛ لأنه أيين لفعل, وأما الذين يقولون: بوع, وقُول, وخُوف, وهُوب فإنهم يقولون: بُعنا, وهُبنا, وخُفنا, وزُدنا لا يزيدون على الضم والحذف كما لم يزد الذين قالوا: ((رِعنَ

وبِعنَ على الكسر والحذف)). فهذا سيبويه لم يعتبر لبسًا بخلاف ما ذهب إليه هذا الناظم ومن اتبع هو مذهبه, وظاهر كلام سيبويه أن ذلك سماع لقوله ((من يقول كذا يقول كذا)) , ومثل ذلك حكى اللحياني في نوادر سماعه من الكسائي؛ فإذا قد صادم الناظم هذا السماع بالقياس, والقياس إذا خالف السماع مرفوض. فهذا وجه من النقد عليه, وأيضًا فإن اللبس عند العرب ليس بمجتنب بإطلاق, ألا ترى أنهم نسبوا إلى الزيدين وإلى زيد نسبة واحدة فقالوا: زيدي, ونسبوا إلى عشرة وعشر من خمسة عشر: عَشْري, وصغروا أحمد في الترخيم تصغير حمد فقالوا: حُميد, وكذلك يقع في الترخيم وغيره من الأبواب اللبس حسب ما تعطيه الأحكام من غير اجتناب وقد تقدم, ولذلك نظائر, وإذا كان كذلك ضعف ما اعتبره ابن مالك هنا, وفي التسهيل, وهو فيه تابع لابن عصفور؛ إذ زعم أن مراعاة اللبس هي الكثير, وعدم مراعاته قليل, على أن المازني قد أشار إلى اعتبار اللبس وأنه مجتنب عند بعض العرب, فذكر أن من يقول: بيع الطعام ولا يُشِم يقول: بُعتْ, فيُشِم فرقًا بين فَعَلتُ وفُعِلَت, ويقول أيضًا: خُفْنَا وبُعنَا -يعني فيخلص الضم- ثم قال: ((ومنهم من يدع الكسرة ولا يبالب الالتباس)) , قال ابن جني: ((لأنهم قد يصلون إلى إبانة أغراضهم بما يصحبونه الكلام مما تقد قبله أو تأخر بعده, وبما تدل عليه الحال, ألا ترى أنك تقول في تحقير عمرو: عُمير. وكذلك في تحقير عُمَر, وكلاهما مصروف

في التحقير, وهذا بابه واسع. قال: ((وإنما يعتمد في تحديد الغرض فيه بما يصحب الكلام من أوله أو آخره أو بدلالة الحال, فإن لها في إفادة المعنى تأثيرًا كثيرًا, وكثيرًا ما يعتمدون في تعريف ما يريدون عليها)). هذا ماقال, وهو صحيح, ولا شك أن ما حكى المازني من اجتناب اللبس أقل من عدم اجتنابه؛ إذ من البعيد أن يكون سيبويه يحكى اللغة القليلة ويعرفها ولا يعرف اللغة الكثيرة ولا يذكرها, بل الظاهر أن ما حكى سيبويه هو الأكثر في الكلام, وما زاد المازني بالنسبة إليه قليل, وعند ذلك يكون الاظم قد ارتكب مذهبًا لا قاء لبه, وهو أن يرد جميع اللغات إلى لغة واحدة قليلة مع أن أكثر العرب يخالفونها, والنحويون لا يذهبون إليها. فهذا اعتراض واردٌ عليه, وقد رأيت بخط شيخنا الأستاذ أبي سعيد بن لب-رضي الله عنه- أبياتًا رجزية في شرح هذا اللبس المجتنب والتنكيت على مخالفة سيبويه كأنه كمّل بها هذا الموضع من الرجز, حفظتها من خطه ثم قرأتها عليه, وهي هذه: مثال ما الضمُّ للبسٍ يجتنب ... في كقاولتُ فقِلتُ في الغَلَب ومثل زِرتُ واجتنِب كسرًا لدى ... يائي عينٍ مثل: دُنتُ يا فتى كذا إذا الكسرُ بواو قد أصُل ... في نحو خاف: خُفتُ للمفعول قُل وسيبوبه لم يرَ اللّبس إذا ... عارضَ وجهًا موجبًا أن يُنبَذا

وقد تقدم شرح معناه في بسط كلام الناظم. ولما ذكر اجتناب اللبس وكان ذلك يتصور في لغة واحدة, ولم يعين ما الذي يصار إليه من باقي اللغات دلّ ذلك على إجاوته الانصراف إلى كل واحدة من الباقيتين. وفي كلام المازني ما يعطي ذلك لكن عند من راعى اللبس من العرب. ثم قال: (وما لباع قد يُرى) ثابتًا للثلاثي المضاعف, نحو: حبَّ وردَّ, وشدَّ, وعمَّ, والذي تقدم لباع ونحوه في البناء للمفعول جريان ثلاث اللغات مالم يكن لبس, فن كان لبس اجتنب, فكذلك الحكم هنا إلا أن اللبس فإنك تقول: ردَّ, وشدَّ, وحُبَّ, ومُدَّ بإشمام الضم, ويجوز إخلاص الكسر, فتقول: رِدَّ, وشِدَّ, وحِبَّ, ومِدَّ, ومن ذلك قراءة علقمة ويحيى {هذه بضاعتنا رِدَّتْ إلينا} بإحلاص الكسر, وأنشد سيبويه للفرزدق: وما حُلَّ من جهلٍ حُبى حلمائِنا ... ولا قائلُ المعروف فينا يُعنَّفُ بإشمام ضمة الحاء الكسر, وقال ابن جني: قال لي أبو علي -رحمه الله-: إنهم ينشدون بيت الفرزدق على ثلاثة أوجه: حُلَّ, وحِلَّ, وحِلّ. وقال ذو الرّمة:

دنا البين من مي فُِرِدَّت جمالها ... وهاج الهوى تقويضُها واحتمالها وأما عروض اللبس فلا يتصور اللغة المشهور؛ لأن المضاعف ينفك عند لحاق ضمائر الرفع, فتقول: رددت, ورددنا, ورددن, وإنما يتصور على لغة من يقول في رددتُ: وفي رددنا, رُدْنا وفي رددن: رُدْن, فإذا بنيت للمفعول على هذه اللغة اجتنبت الضم, ورجعت إلى الإشمام أو الكسر, فقلت: رُدنا, ورِدنا, ولا تقول: رُدنا لالتباسه بفعل الفاعل في الأمر. هذا معنى ما أراد إلا أنه قد يفهم من ظاهر كلامه مقابلة الكسر في: قيل للكسر في: حِبَّ, ومقابلة الضم للضم والإشمام للإشمام, وأن من يكسر في: قيل فهو الذي يكسر في حِبَّ, ومن يضم هناك يضم هنا, ومن يشم يشم, وليس كذلك إلا في الإشمام خاصة, وأما من يضم في قيل, فهو الذي يكسر في: حِبَّ ومن يكسر في: قيل هو الذي يضم في: حُبَّ, ولذلك كان الضم هنا أفصح اللغات, ويليه الإشمام والكسر قليل, وكان الأمر في: قيل بالعكس, فاطلاق الناظم أن حَبَّ بمنزلة باع قد يؤذن بخلاف ما عليه الحكم والتنزيل. قد يجاب بأنه إنما تعرض لمجرد إجازة الأوجه الثلاثة, فقوله: (وما لباع قد يُرى لنحو حَبّ) معناه أن الأوجه الثلاثة في باع جاريةٌ في: حَبَّ, وإنما كان يؤذن بذلك لو قال: وحَبَّ بمنزلة باع في الأوجه المذكورة, أو ما يشعر بأن الضم مثلًا أو الكسر فيهما بمنزلة واحدةٍ, أمَّا حين لم يتعرض لذلك فلا

اعتراض عليه, وإنما في قوله قلق من جهة إتيانه بقد المقتضية للتقليل حيث لا تقليل؛ إذ ليس استعمال هذه اللغات في: حَبَّ بقليل إلا على حد استعمالها في باع. ثم شرع في الثاني من قسمي المعتل الذي تجاوِرُ فيه الضمة العين وهو الخماسي فقال: وما لِفَا باعَ لما العينُ تَلي ... في اخْتَار وانْقادَ وشبه ينجلي (ما) مبتدأة موصولة, صلتها المجرور, وخبره (ينجلي) و (لما العين تلي) متعلق به, و (في اختار) متعلّق ب (تلي) , وتقدير الكلام: ما استقر لفاء باع ينجلي لما تليه العين في: اختار, وانقاد, وشبههما. ويريد أن ما ثبت لفاء باع عند بنائه للمفعول من الكسر, أو الإشمام, او الضم ثابت للحرف الي تليه بعده العين المعتلة في نحو: اختار, وانقاد وشبههما مما هو على وزن: افتعل, وانفعل معتل العين بالياء كاختار, أو بالواو كانقاد, فمن قال: بيع, وقيل بإخلاص الكسر قال: اخْتِيرَ وانقِيدَ بالإشمام, ومن قال: قُول, وبوع قال: اختور, وانقود, وحكى قطرب: اختور عليه في: اختير عليه, وهي لبني ضبّة. فإن قيل: إن إطلاق الناظم في هذه المسألة مشكل, فإنه قال: إن الأوجه الثلاثة في الخماسي جائزة, وقال فيما تقدم: إن أول الفعل مضموم بإطلاق, فحصل من الموضعين أن: اختير, وانقيد إذا أُشمَّ ما قبل العين فيهما فحكم همزة الوصل الضم الخالص, فتقول: أُختير, وأُنقيد, وهذا غير ما نص عليه في التسهيل حيث قال: ((إن همزة الوصل في الفعل تضم

قبل ضمة أصلية أو مقدرة, وتشم قبل المشمة وتكسر فيما سوى ذلك)). ولم يحك في هذا خلافًا, وقال في الشرح: ((ومن أشم نحو: اخُتير, وانُقيد لزم الإشمام في الهمزة)) , فأحد/ الموضعين غلط إما هذا أو ما في التسهيل وشرحِه. فهذا وجه من الاعتراض, ووجه ثانٍ, وهو أنه قرر في الثلاثي جريان الأوجه الثلاثة في المعتل والمضاعف, ثم قرر ذلك في الخماسي في المعتل خاصة, وأهمل تقريره في المضاعف, نحو: امتدَّ, واشتدَّ, وانسلَّ, وانجرَّ, وما أشبه ذلك, فأوهم أنها لا يدخلها الأوجه الثلاثة, وإنما يقتصر بها على ما قرر أولًأ من ضم ما قبل المضاعف خاصة, وليس كذلك بل هي جارية فيه كما جرت في الثلاثي المضاعف, قال ابن جني: ((ومن أشم فقال: قُيِل قال: اختير عليه- يعني يُشم- ومن قال: اشتُدّ عليه, ومن قال: شُدَّ فأشمَّ أشمَّ أيضًا, فقال: اشتد عليه)). قال: ((وحكى الفراء أن بعضهم قرأ {كشجرةٍ خبيثة اجتُثَّتْ} , بضم تنوين (خبيثة) وضم تاء اجتثت)). هذا ما قال, وهو القياس كما في الثلاثي, فالذي ظهر من ابن جني أن اللغات في هذه الأنواع كلها جارية من غير مخالفة إلا ما بين المضاعف والمعتل, فإن الكاسرين في المعتل هم الذين يضمون في المضاعف, وبالعكس, وبذلك يتمكن الاعتراض عليه في قوله قبل: (وما لباع قد يرى حَبّ) حيث أتى المقتضية للتقليل, وأن تلك

الأوجه ليست بمعملة في حَبَّ إلا قليلًا, وأن أكثر الاستعمال فيه على خلاف ذلك, وهذا كله غير صحيح. فالجواب عن الأول: أن بعض المتأخرين- وهو ابن أبي الربيع- يقول في نحو: انقِيد, واختِير بمثل ما فهم من هذا النظم, وأن همزة الوصل باقيةٌ على ضمّها بإطلاق. أما على رأي من يقول: اختُور, وانقُود فلا إشكال؛ لثبوت الضمة الأصلية بعدها ظاهرة, وأمّا على رأي الإشمام فقريبٌ من ذلك, وكذلك على لغةِ الكسر كما تقول في أمر المخاطبة على ما نصوا عليه: أُغْزِي, واغُْزِي, فيبقى الضم في الهمزة خالصًا مع كسر الزاي دون إشمام, ومع الإشمام, لأن الكسر فيها عارضٌ, والأصل الضم, فالهمزة في الحقيقة تابعة في الضم لما بعدها, وإذا كان كذلك جرى: اخنِير, وانقٍيد مجرى أغزي لاجتماعهما في عروض الكسر, وأصالة الضم. هذا وجه ما قاله بعض المتأخرين, وهو توجيه لما ظهر من الناظم هنا, والذي يفهم من التسهيل أن همزة اختِير تضم مع الضم الخالص, وتشم مع الإشمام, وتكسر مع الكسر, وإنما يفهم ذلك منه بالاحتيال, وأما ابنه فنص أنها تكسر مع الكسر, وتضم مع الضم, وتشم مع الإشمام, وقد أشار ابن الضائع إلى وجه كسرها مع كسر الثالث بعدما حكم به في نحوه: اختِير, ولم يحكم به في: اُغزي, فقال: فإن قيل: فلم التفت (إلى) العارض في: اختِير وانقِيد, وكسرت همزته مع أن أصل ثالثه الضم. فالجواب: أن في قولنا في قيل: وبِيع: أن أصلهما فُعِل هو بالنظر إلى الصحيح, والكسر قد صار في المعتل ملتزمًا, فذلك فيه عارضٌ بالنظر إلى

الصحيح, لا بالنظر إلى الاعتلال, وأيضًا فالضم في: امشُوا, والكسر في اغزي من أجل الضمير المتصل, وهو غير لازم, وهو في: اختير, وانقيد شيءٌ عرض في نفس الفعل, لازم له, لا بسبب شيء منفصل عنه, فلذلك روعي هذا, ولم يراع ذلك, وهو ظاهر)) انتهى كلامه. وإذا تقرر هذا/ ثبت أن المسألة متنازع فيها, ولابن مال فيها قولين. وأما الوجه الثاني فالذي يظهر منه هنا, وفي التسهيل أن المضاعف ليس مع المعتل في درجة واحدة بل استعمال الإشمام والكسر في: رُدَّ ونحوه قليلٌ بالنسبة إلى استعمالهما في: قيل, ونحوه, ويلزم من ذلك أن يكون: اشتد, ونحوه مما يقلان فيه أيضًا, وإن لم يبين ذلك, فيه, فترك ذكره لقلته, ونبّه في: رُدّ على القلة بقوله: (وما لباع قد يرى لنحو حَبّ) فـ (قد) في كلامه على أصالتها, في استعماله من التقليل, فلا درك عليه في الإتيان بعبارة التقليل, وإنما الدرك في نفس اعتقاده له, لأن غيره ممن هو أعرفُ منه بكلام العرب يحكي أن المدغم والمعتل معًا يجريان في نصاب واحد. و(ينجلي) معناه: يظهر, من جلوته إذا أظهرتُه, وهو عبارة عن ثبوت الحكم له. وقوله: (وشيةٌ) أراد: وشية لهما, فحذف الضمير المجرور كقوله: {فإنَّ الجنة هي المأوى} أي المأوى له, والضمير العائد على (ما) من قوله: (لما العين تلي) محذوف تقديره: لما العين تليه, وحذفُ مثل هذا الضمير كثير. وقابِلٌ من ظَرْفٍ أو من مصدَر ... أو حرفِ جرٍّ بنيابة حَرِي

ولا ينوبُ بعضُ هذي إن وُجِد ... في اللفظ مفعولٌ به, وقَدَ يَرٍد هنا رجع إلى الكلام في سائر ما ينوب عن الفاعل, وذلك ثلاثة أشياء, وهي: الظرف زمانيًا ومكانيًا؛ إذ لم يقيده بأحدهما, فيحمل على إطلاقه, والمصدر, حرف الجر- يريد مع مجروره-, فقال: إن ما كان من هذه الأشياء قابلًا للنيابة عن الفاعل فإنه يقام مقامه, وهو (حَرٍ) أي: خليقٌ بذلك, ومستحق له كما يستحقه المفعول به. وقَيًّد بالقابليّة, لأنها قد لا تقبل النيابة فلا تصح نيابتها, وذلك إما من جهة عدم الفائدة, وإما من جهة عدم صلاحيّة اللفظ لذلك. أما عدم الفائدة فإذا قلت: سار زيد وقتًا, فوقت هنا لا يقام؛ لأنك لو قلت: سير وقتٌ لم يكن فيه فائدة, وكذلك لا تقول في: جَلَسَ زيدٌ مكانًا: جُلِس مكانٌ, لعدم الفائدة, وكذلك المصدر المؤكد لو أقمته فقلتَ: قيم قيامٌ لم يُفِد, وكذلك المجرور إذا قلت: ذُهِبَ إلى إنسان, وإنما يقام من ذلك كله ما تقع به الفائدة؛ لأن الكلام مبنيٌّ عليها, فلو قلت: سيرَ يومُ الجمعة, أو جُلِسَ مكانُ زيدٍ, أو ضُرِبَ ضربٌ شديدٌ, أو مُرّ بزيد لأفاد, فصحت إقامته. فهذا معنى القابليّة أو عدمها في الوجه الأول. وقد تبين هنا أنه لا يجيز إقامة المصدر المؤكد بإطلاق أظْهِرَ أو أضْمِرَ, فلا يقال عنده: قُعِدَ, ولا ضُحِكَ, على تقدير: قُعِدَ القُعود, وضُحِكَ الضحكُ من غير أن يتقدَّمَه شيء. وقد عزا الزجاجي إلى سيبويه جواز هذا, وردَّ عليه الشراح, وقالوا: إن سيبويه لايجيز إضمار المصدر المؤكد, قال ابن خروف: الذي أجاز سيبويه لا يمنعه بشرٌ, وهو إضمار المصدر

المقصود مثل أن يُقَال لمتوقع القعود؛ قد قُعِدَ, ولمتوقِّع السفر: قد سُوفر السفرُ/ الذي ينتظر وقوعه, والفعل لا يدُلُّ على هذا النوع من المصادر, والدال عليه أمر آخر. وصحح ابن مالك ما قاله ابن خروف وقال ابن الباذش: وإنما أجاز سيبويه إضمار المصدر لدلالة مصدر آخر عليه في نحو: ضُرِبَ ضربًا شديدًا, وضُرِبَ [ضَرْبٌ] شديدٌ, ترفعُه إذا شغلت الفعل به, وتنصبه إذا شغلت الفعل بغيره, قال: فإسناد الفعل إلى المضمر في معنى إسناده إلى المضمر, قال: وإنما وجهُ: قِيمَ, وقُعِدَ أن يكون الكلامُ في بناء الفاعل: قامه, وقعده على معنى: قام زيدٌ قيامًا, وقَعَدَ عمرو قعودًا, فتضمر المصدر ثم تبنيه لما لم يُسَمَّ فاعله مضمرًا في اسم المفعول كما أضمرته في بناء الفاعل وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {فبِهُداهم اقْتَدِهي} على قراءة من قرأ بذلك, أي: اقتدِ اقتداءً. وفيما أنشده سيبويه: *هذا سراقةُ للقرآن يدرُسُهُ * أي يدرس القرآن درسًا, قال: فأما أن يُعْمَلَ بناء المفعول في مصدر لم يعمل فيه بناء الفاعل فدعوى مجردة, وعلى هذا جرى جمهور الشراح, وكذلك: سِيرَ سَيْرٌ, منعوه أيضًا, وليس في كلام سيبويه ما يدل على جوازه, وإن كان قد

أجاز: سِيْرَ سَيْرٌ, وضُرِبَ ضَرْبٌ؛ لأن هذا عنده على غير المصدر المؤكد, بل كأنك قلت: سِيرَ عليه ضَرْبٌ من السير, أو شيء من السير. ومن النحويين من ذهب مذهبًا ثالثًا فأجاز ان تقول: سِيرَ بزيد سيرٌ, ومنع: سِيرَ سيْرٌ , وهو رأي الصَّيْمَرِي, لكن قاله مع إضمار المصدر. قال ابن ملكون: هذا الذي قاله قد قاله غيرُه من النحويين, والقياس يَرُدّ مالقالوا؛ لان المصدر المراد مع هذه الأشياء -يعني حرف الجر أو غيره مما يتعلق بالفعل- كالمصدر المراد مع عدمها, فإن كان يجوز إسناد الفعل إليه دونها مع وجودها فأحرى مع عدمها, وإن كان لا يجوز مع عدمها لم يجز مع وجودها؛ لأن وجودها لا يوجب الغفادة في الإخبار عنه, التي نفاها مع عدمها, ألا ترى أنه لا فائدة في قولك: مُرّ بزيدٍ, وأنت تريد: مرورٌ, إلا أن ما في قولك: مُرَّ, وأنت تريد: مرورٌ, فإن كان: مُرَّ لا يجوز مع تقدير إسناده إلى المصدر فكذلك: مُرَّ يزيد على ذلك التقدير؛ لاتفاقهما في المعنى, إلا أن في: مُرَّ بزيدٍ زيادة المرور به فقط, وهذا أيضًا لازمٌ إذا أُظهر المصدرُ, فالصحيح ما عليه الجمهور من امتناع إقامة المصدر المؤكد بإطلاق. والله أعلم؛ ولأن المصدر المؤكد لا يزيد فائدةً على ما يفهم من لفظ الفعل, وأما عدم صلاحية اللفظ للنيابة فإن من حقيقة النائب أن يقوم مقام ما ناب عنه في أحكامه كلها, وإذا كان كذلك فما لم يتأت فيه ذلك لا يصح أن يقام, والظرف والمصدر, والمجرور بحسب ذلك ثلاثة أقسام: قسم صالحٌ للنيابة بإطلاق, كالمصدر المبين للنوع, أو المبين للعدد, نحو: ضربتُه ضربًا شديدًا, وضربته ضربتين, فإذا قلتَ: ضُرِبَ صَحَّ أن تقول: ضُرِبَ [ضربٌ] شديد, أو ضربتان, فتُصَيِّرَ المصدرَ مخبرًا عنه, وإن كان ذلك

مجازًا, لأن العربَ تتَّسِعُ في هذا المعنى كثيرًا, وترفعُه أيضًا كما كان الفاعل مرفوعًا/ ويستقِلُّ به الكلامُ, وتحصلُ به الفائدة. وقسم غير صالح للنيابة بإطلاق كالمصدر الواقع في موضع الحال, نحو: سِيْرَ به رَكضًا, وقُتِلَ به صبْرًا, وذُهِبَ به مشيًا, وما أشبه ذلك, فلا يجوز إقامة المصدر هنا من حيث لم يجز إقامة الحال؛ إذ لا يصح أن يكون مخبرًا عنه, ولا مرفوعًا, ولا مستقلًا به الكلام مع بقائه في موضع الحال كما لم يصح ذلك في الحال, وكذلك لا تقول: مُرّ بهم الجماء الغفير, ولا طُلِبَ جَهْدُه في: مررتُ بهم الجماءَ الغفير, وطلَبَه جهْدَه. وقسمٌ صالح من جهة غير صالح من جهة, أعني أن فيه ما يخيل عدم الصلاحية, وإن كان في نفسه صالحًأ أو ما يخيل الصلاحية, وإن كان في نفسه غير صالح, أو ما لا يتعين في أحد الوجهين, ويتفرَّع هنا بحسب ذلك أربع مسائل: الأولى: إقامة الظرف إذا كان غير متصرف, أما إذا كان متصرفًا فلا إشكال في إقامته لقبوله أحكام الفاعل, فتقول: في: قام زيد يوم الجمعة: قِيم يومُ الجمعة, فتجعله مَقُومًا فيه مجازًا, وكذلك ظرف المكان إذا قلت: جُلِسَ مكانُك, وما أشبه ذلك من الظروف المختصة المتصرفة, وأما إذا كان غير متصرف فالجمهور على منع إقامته, لأنه لا يصلح أن ينوب عن الفاعل في الرفع, ولا في جعله مخبرًا عنه, ولو على المجاز, فلا يصح أن يقام كما لا يقام الحال وغيره, ونقل عن الأخفش إجازة إقامة الظرف غير المتصرف, فتقول: أُقِيم عنك, وجُلِسَ ثَمَّ, وكذلك سائر الظروف غير المتصرفة نحو: سحر, وسحيرًا, وضحى, وضَحْوَه, وعشاء وعشيّة, وعَتَمة؛ لأوقات بأعيانها, وكأنه لا يشترط

وجود الرفع في النائب, فهو قابل للإقامة؛ لأنه ظرف, والظروف لا تنفك عن تقدير معنى (في) , فمن حيث جاز إقامتها إذا كانت متصرفة جاز إقامتُها وإن كانت غير متصرفة. ثم ينظر بَعْدُ في رأي الناظم هنا ما هو؛ لأنه إنما شَرَطَ القابليّة, فيحتمل إطلاقه المذهبين؛ لأن غير المتصرف قابلٌ للنيابة عند الأخفش, وقد ضعَّف مذهب الأخفش ابن مالك في شرح التسهيل, والظاهر هنا أنه غير قائل بمذهبه, لأنه قال أولًا (ينوب مفعول به عن فاعل فيما له) ومن جملة ماله الرفع, ثم قال هما: وقابلٍ من ظرف أو كذا ينوب, فظاهره قبول ما قبله المفعول به من الرفع, فيكون على مذهب الجماعة. والثانية: إقامة الجار والمجرور, فرأي الجمهور جواز إقامته, ومنع من ذلك السهيليّ, وتلميذه الرُنْدِيّ بدليلين: أحدهما: امتناع جعله مبتدأ عند تقدمه على الفعل. والثاني: امتناع لحاق علامة التأنيث للفعل إذا كان المجرور مؤنثًا, كقولك: ذُهِبَ بهند لزومًا, وفي امتناع ذلك دليلٌ على أن المقام مذكّرٌ, ولامذكر في الموضع إلا أن يقَدَّر ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل, فأمّا الأول فردًّه ابن عصفور بأنَّ هذا المجرور إنما امتنع جعله مبتدأ عند تقدمه لفوات شرطه, وهو التعرية من العوامل اللفظية, وقال

غيرُه/ إذا وقع المجرور أولًا لم يكن للباء هناك معنى حين لم يكن لها متعلّق, وإذا وقع بعد الفعل أمكن أن يكون لها معنى حين أمكن أن يكون لها متعلّق كما في {كفَى بالله} فالباء داخلةٌ على الفاعل, ولا يقال: بالله كفى شهيدًا, ولا يعترضُ بقولهم: بحَسْبِك زيدٌ؛ إذ لا يقاسُ عليه. وأما الثاني: فلم تلحقِ العلامة اعتبارًا بالصورة اللفظية؛ لأنه بصورة الفضلة وإن كان عمدة, والفضلة مستغنى عنها فلا تلحق الفعل لأجلها كما تلحق لأجل العمدة, والدليل على اعتبار الصورة اللفظية حذفهم فاعل أفْعِل في التعجب ونصبهم إيّاه إذا سقط الجار نحو قوله تعالى: {اسْمِع بِهِمْ وأبْصِر} وقال الشاعر: *وأجْدِر مثلَ ذلك أن يكونا* على رأي طائفة, وأيضًا فقد قالوا: كفى بهندٍ فاضلةً, ولا تقول: كَفَتْ, وتقول في الوجه المشهور: ما جاءني من امرأةٍ فلا تؤنث الفعل, فكذلك قالوا:

ذُهِبَ بهند, لأنّ المجرور في بناء الفاعل في موضع نصب على المفعوليّة إلا أنّ الفعلَ لم يصل إليه بواسطة حرف الجر, فكأنه مفعول به صحيحٌ, فإذا حُذِفَ الفاعلُ أقيم ما هو في موضع المفعول به, ثم يراعى لفظه فلا يرفع بالفعل وثمَّ طالبٌ بالجر لفظًا لكن يبقى كما يبقى في: بحسْك زيدٌ, ومالي في الدار من أحدٍ, وكفى بالله, وما قام من أحدٍ. فليس (زيدٌ) في: مُرّ بزيد إلا مفعولًا به في المعنى فساغ إقامتُه مقامَ الفاعل, وقد ظهر من هذا أن المجرور صالحٌ للنيابة, وقابل لها, وقد نصّ عليه عينه, فمعنى القابليّة عنده فيه أن يكون في موضع رفع كما كان ذلك في: كفى الله, وما قام من أحدٍ, ولا يلزم تأنيثُ الفعل إن كان مؤنثًا, وإن جاء منه سماع وُقِفَ على محلة كقراءة مجاهد {إن تُعْفَ عن طائفةٍ منكم} الآية, قال ابن جني: حمله على المعنى كأنه قال: إن تُسامَح طائفةٌ, وآنس بذلك قوله: {تُعَذِّب طائفةٌ}. والثالثة: إقامة المجرور إذا كان مفعولًا له, نحو: ذُهِب بزيد للرضى به, وسِيْرَ به من مخافة عدوانه, وما أشبه ذلك, فالجامعة على جواز ذلك, ومنع من ذلك ابن جني فيما كَتَبَ على الحماسة, حيث قال في قول الحزين الليثي: يُغْضِي حياء ويُغْضى من مهابته ... فلا يُكَلَّمُ إلاَّ حين يَبْتَسِمُ : ويُغْضى الإغضاء من مهابته لا بُدَّ من ذلك, ودَلَّ الفعل على مصدره, قال:

ولا يجوز أن يسند الفعل هنا إلى قوله: من مهابته, لاستحالته إقامة المفعول له مُقامَ الفاعل, وليس هذا المجرور هنا بمنزلته في: سِيرَ بزيد؛ لأنّ زيدًا هناك مفعول به في المعنىز قال ابن الحاجّ: ((وهذا خطأ بل كل مجرور يُقامَ مُقامَ الفاعل كائنًا ما كان)) , وقال• (وقولي: كائنًا ما كان شيء لا يُحتاج إليه, لأنه لا يُقام إلّا من حيث هو مجرور لا من حيث هو في معنى شيء آخر)). قال: و ((السبب المانع لإقامة المفعول له ليس موجودًا في المجرور, فأقول: إنه يجوز: ذُهب مع فلان, وامتلئ من الماء/ وأُغضي من مهابة زيد, وسِير في حال كذا, قال: ولا ينبغي أن يعتقد امتناع إقامة هذه المجرورات وإقامة المصدر؛ فالمانع من ذلك إنما هو شيء آخر في المنصوب من التمييز, والحال, والمفعول له, ومعه, فأما مجرورات هذه الأشياء فلا مانع يمنع من إقامتها, هذا ما قال, وظاهرٌ إنّ الناظم هنا قائلٌ بمذهب الناس؛ لأنّ القابلية موجودة في هذه المجرورات كما أنّها موجودة في: مُرّ بزيد, وسِير بعمرو, ونحو ذلك. والرابعة: إقامة صمير المصدر أو غيره, فإذا كان ثَمًّ ما يدل عليه فلا إشكال في جوازه, كقولك: القيامُ قِيم, ويومُ الجمعة سِير, ومكانُك جُلِس. وأمّا إذا لم يكن ثمَّ ما يدلُّ عليه إلا الفعل فقد تقدّم في المصدر ما يغني. وضميرُ الزمان والمكان يجري ذلك المجرى, فقد أجاز ابن السرّاج إقامة ضمير المكان المفهوم من الكلام في نحو: سِيرَ بزيد, وألزِمَ إجازةَ ذلك في ضمير الزمان. ونقل ابنُ السيد عن الكسائي وهشام أن تقولَ: جُلِسَ, وفيه ضمير مجهولٌ. قال ثعلب: أرادا

أنَّ فيه ضميرَ المصدر أو أحد الظرفين فالتَبَسَ في الثلاثة فقيل فيه مجهول. حكاه ابن كيسان عن ثعلب, وكان الفراء يزعم أنّه لا ضمير فيه, وكذلك قال في: ضُرِب ضرْبًا, وفي: قُعِد قعودًا واحتجّوا في جواز ذلك بأن ملكًا لو عَهِدَ بأنّ لا يُجلسَ ولا يضحكَ لصحَّ ذلك. وهذا ما نقله ابن السيّد في إصلاح الخلل, وخلاف من خالف ينبغي أنْ يُحْمَل على موضع يكون فيه الإضمار مفيدًا, فأمَّا إن كان غيرُ مفيدِ فغيرُ جائزٍ على الإطلاق حسب ما تقدّم في الوجه الأول من وجهي القابليّة وهو الذي ينبغي أن يُحملَ عليه كلام الزجاجيّ في إقامة ضمير المصدر. وإذا ثبت هذا احتَمَلَ كلامُ الناظم أن يكون على رأي من أجاز إقامة هذه الأشياء بناءً على حصول الفائدة معها, وأنها ضمائر ما تصح إقامتُه وذلك المصدر والظرف ويُونِس بذا قوله تعالى: {وحيْلَ بينَهم وبينَ ما يشْتَهُون} إذ التقدير: وحييل هو, أي الحول بينهم, ويحتمل أن يكون رأيُه موافقًا لرأيه في التسهيل مِن مَنْعِه هذا كلَّه بناءً على أنه لا يحصل فائدة, فليس بقائلٍ من الوجه الأول ويتأوَّلُ الآية, أو بناءً على ندور السماع فيه.

وقوله: (بنيابة) متعلقٌ بِحَرٍ, أي: حَرٍ بالنيابة مناب الفاعل. وهنا حصل في نيابة المصدر والظرف والمجرور شرطٌ آخر, وهو ألّا يَحْضُرَ المفعول به فشرع في ذكره فقال: ((ولا ينوب بعض هذي)) إلى آخره, يعني أنّ واحدًا من هذه الأشياء الثلاثة لا تصحُّ نيابته عن الفاعل عند حضور المفعول به ملفوظًا, فلا تقول في: أغنيتُ زيدًا عن السؤال: أُغنِيَ عن السؤال زيدًا. ولا في: ضَرَبتُ مكانكَ زيدًا: ضُرِبَ مكانُك زيدًا ولا في: ضربت زيدًا ضربًا شديدًا: ضُربَ ضربٌ شديدٌ زيدًا, ولا ما أشبه ذلك؛ لأنّ غير المفعول به إنما يُقام بعد أنْ يُقَدَّر مفعولًا به مجازًا, فإذا وُجِد المفعول به حقيقة لم يُقَدَّم عليه؛ لأنّه من تقديم الفرع على الأصل لغير موجب وأيضًا المشبه لا يقوى قوة المشبه به, فإذا اجتمعا/ لم يصحّ تقديمُ الأضعف على الأقوى, فلم يَسُغ إقامة غير المفعول به مع وجوده, وأيضًا السماع كذلك ولم يأتِ على خلافه إلا قليلًا, وقد نبّه عليه. وهذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى جواز إقامة غير المفعول به مع وجوده قياسًا, وأجاز ذلك الأخفش من البصريين حكاه عنه ابن جني, وغيره. وقيّد بعضهم إجازة الأخفش لذلك بأن يكون المفعول به متأخرًأ في اللفظ عن المُقام نحو: ضُرِبَ الضربُ الشديدُ زيدًا, فإن قلت: ضُرِبَ زيدًا

الضربُ الشديدُ لم يجز عنده. فهذه ثلالثة أقوال ارتضى الناظم منها الأول؛ لأنّ السماع عليه, والقياس يقتضيه, على أنه ارتضى مذهب الكوفيين في التسهيل؛ اعتبارًا بما ورد من ذلك, ولم يره ههنا لكن لم يهمل ذكر ما جاء من السماع من مخالفة مذهبه هنا بل أشار إليه بقوله: ((وقد يَرِد)) وبيّن أنّه عنده من قبيل ما لا يقاسُ عليه, وذلك قوله: ((وقد يَرِد))؛ إذ لا يُقال فيما ثبت فيه القياس واستمرّ: ((قد يرد)) وإنّما يقال ذلك فيما شأنه الوقف على النقل لاسيما وقد تقدّم القياس بنفي إقامة غير المفعول به مع وجوده, ثم أتى بما يناقضه فلو كان قياسًا عنده أيضًا لكان متناقضًا إلّا أنْ يقالَ: إن ما سواه سماع, أو يقال بجواز الأمرين ابتداءً. ومن السماع الوارد في ذلك قراءة أبي جعفر {ليُجزَى قومًا بما كانوا يكسبون} وقراءة أبي بكر عن عاصم {وكذلك نُجِّي المؤمنين} , وأنشد عامة النحويين: ولو وَلَدَتْ فَقِيرةُ جروَ كَلْبٍ ... لسُبَّ بذلك الجروِ الكِلابَا

وأَنشَدَ المؤلفُ أبياتًا أُخَرْ منها: قولُ الراجز: لم يُعْنَ بالعلياء إلّا سيِّدًا ... ولا شفى ذا الغيّ إلا ذو هُدى وقولُ الآخر: وإنّمَا يُرْضِي المنيبُ رَبَّه ... ما دام معْنِيًّا بذِكْرٍ قَلْبَهُ وأًنشَد بيتًا آخر لم أقيده, ولأجل ما نقل من القراءة أتى بقد؛ لأنّ هذه عادته كما تقدَّم في مواضع. وبعدُ ففي كلامه هنا نظران: أحدهما: أنّ المفعول المُحال عليه في قوله: ((إن وجِد مفعول به)) هل هو المفعول به الحقيقي خاصة أو المفعول به حقيقة أو اتساعًا فيشمل المصدر والظرف إذا نصبا نصب المفعول به, فيقول مثلًا: إنّ المجرور لا يُقام وثمّ مصدرٌ متسعٌ فيه أو ظرف متسعٌ فيه. هذا محل نَظَرٍ. والمسألة مختلفٌ فيها, فذهب بعضُهم إلى أنّه لا يجوز النصب في الظرف على السعة مع المجرور لمنع إقامته مع المفعول به حقيقة أو مجازًا, فإن المفعول به

مجازًا كالذي هو حقيقة في الحكم؛ ولذلك أُقِيم ابتدات$, وإذا كان كذلك فإقامة المجرور مع وجود الظرف المتّسَع فيه كإقامته مع وجود المفعول به. وهو رأي السيرافي. وأجاز ذلك بعضهم, وهو رأي ابن الباذش, إمّا لأنّ الظرف المتّسع فيه لا يبلغ أن يقوى قوةَ المفعول به حقيقة؛ إذ هو ظرف حقيقة فلا يجري عليه حكم المفعول به من كل وجه, وإمّا لأنّ المجرورَ لم يُقَم إلا بعد أن عُومل معاملة المفعول به حقيقة في عدم اعتبار الجار, ألَا تراهم أجروه مُجرى: كفى بالله, وما جاءني من رجلٍ, فكأن الباءَ في: مُرَّ بزيدٍ زائدة, وإذا كان كذلك فقد قَرُبَ المجرور بالإقامة من المفعول به حقيقة كما قَرُبَ منه الظرف. والمسألة نظرية. والمصدر جارٍ في هذا الخلاف مجرى الظرف, وكلام/ الناظم أظهر في أنّه أراد المفعول به حقيقةً, فيجيء من ذلك ماقاله ابن الباذش من الجواز, وقد تقدّم وجهه. والثاني من النظرين: أنّه لما قدّم أنّ المفعول به إذا وجد لم يقم سواه إلّا بشرط ألّا يحضر دلّ على أنّ ما عدا المفعول به ممّا ذَكَرَ إذا حضر فلا مانع من إقامة غيره, فالمصدر , والظرف, والمجرور إذا اجتمعت هي أو بعضها لم تمنع إقامة واحد منها مع وجود البواقي, بل يجوز ذلك كما يجوز إذا اجتمعت المفعولات أن يُقام بعضُها وإن حضر البعض, فتقول في قولك: سرت بزيد يومين فرسخين: سِيرَ بزيد يومان فرسخين على إقامة اليومين, وسِيرَ بزيد يومين فرسخان, على إقامة

الفرسخين, وسير بزيد يومين فرسخين, على إقامة المجرور, وكذلك تقول: سِيرَ بزيد سيرًا شديدًا, على إقامة المجرور, و: سير بزيد سيرٌ شديدٌ على إقامة المصدر. وتعرِضُ مع اجتماع بعض هذه مع المفعول به مسائلُ يضعها النحويون في كتبهم تدريبًا للطالب, ويلقيها المقرئون في مجالسهم كذلك, وقد وضع منها سيبويه مسائل كثيرة في بابين, وتبعه الناس, وربّما يصعب تصورها على الناشئ قبل تمكنه فهذا الموضع جديرٌ بأن نذكر منها مسألة اشتهرت بين الناس, وهي مسألة أبي القاسم في الجمل: أُعطيَ بالمعطى به ديناران ثلاثون دينارًا, فقد صوَّر الناس فيها نيفًا وستين مسألة, وبعضهم نيفًا وتسعين, وصوّرفيها شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن الفخّار-رحم الله عليه- ما يَقرُبُ من مائة وثمانين مسألة من غير استقصاء لما يتصوّر فيها, بل إنّما ذكر ما يشتهر في اللسان وعند النحويين, وأفرد ذلك في مسألة خارجة عن شرحه للجمل وحدثنا فيها حكاية قال: كنت أسمعُ بسبتَة زمان قراءتي بها أن الشيخ أبا الحسن بن الحصار كان إذا وصل الطلبة بقراءة الجمل عليه إلى مسألة: أُعطِي المُعطِي حضّهم على القراءة على غيره من النحاة, فقيل له في ذلك فقال لما وصلت إلى هذه المسألة على شيخنا فلان, وصوّر لي ما قرُب من وجوهها لم يُفتح لي في تصورها, ولم أطمع في ذلك فذهبت هاربًا, ثم ندمت, قال: ولم يكن ابن الحصّار ممن بقيت عليه هذه المسألة غير مفهومة؛ لأنه كان إمامَ نحْوييّ زمانه, ولكنه استعمل أدب المتقدمين في

الاقتصار على إقراء ما قرأوه على الشيوخ. فلنذكر أصل مسألة أبي القاسم وهي متفرعة إلى أربع مسائل: الأولى: أعْطِي بالمعطى دينارين ثلاثون دينارًا, فأَعْطِي هنا له مفعول واحد, وهو الثلاثون, ومجرور وهو بالمعطى, فيجب على ما ارتضى الناظم أن يقامَ الثلاثون فيرفع. وأما المُعطى فله مفعولان: أحدهما الضمير المستتر فيه, وهو العائد على ال, والآخر الديناران, فلك إقامة أيها شئت, فإن أقمت الأول قلتَ: أعْطِيَ بالمُعْطَى دينارين ثلاثون دينارًا, وإن أقمت الثاني قلت: أعْطِيَ بالمُعطاهُ ديناران وثلاثون دينارًا, فتظهر الضميرَ؛ لأنّه ضمير نصب, وإن شئت حذفته فقلت: أعْطِي بالمُعطَى ديناران ثلاثون دينارًا. والثانية: أُعْطِي المُعطى به ديناران ثلاثين دينارًا, فأُعْطِيَ له مفعولان: المُعطى, والثلاثون, فلك أن تُقيمَ أيّهما شئت, والمعطى له مفعول واحد, وهو الديناران, ومجرور وهو (به) , فليس لك فيه إلّا إقامة المفعول, فتقول: أَعْطي المُعطى به ديناران ثلاثون دينارًا, على إقامة المُعطَى لأُعْطِيَ, وتقول: أَعطِيَ المُعطَى به ديناران ثلاثون دينارًا, على إقامة الثلاثين, إذ قد حكى الناظم جواز إقامة الثاني في باب كسا بعد هذا/. والثالثة: أُعْطِيَ بالمُعطى به ديناران ثلاثون دينارًا, فأُعْطِيَ له مفعول, وهو الثلاثون, ومجرور وهو بالمعطَى. والمُعطى أيضًا له مفعول, وهو الديناران, ومجرور وهو (به) , فلا يجوز هنا على ما ارتضاه إلا وجهٌ واحد, فتقول: أَعْطَى بالمُعْطى به ديناران ثلاثون دينارًا. والرابعة: أَعْطِيَ المُعْطى دينارين ثلاثين دينارًا, ههنا أربعة أوجه: أحدهما: إقامة الأول لكلّ واحد منهما, وهو المُعطى لأعطى, والضمير

للمُعطى, فتقول: أُعطِي المُعطى دينارين ثلاثين دينارًا. والثاني: إقامة الثاني لكل واحد منهما فتقول: أَعطِي المعطاه ديناران ثلاثون دينارًا, إن شئت حذفت الضمير, فقلت: أعْطِي المُعطى ديناران ثلاثون دينارًا. والثالث: إقامة الأول للأول, والثاني للثاني, فتقول: أَعْطِي المعطى أو المعطاهُ ديناران ثلاثين دينارًا. والرابع: إقامة الأول بالثاني, والثاني بالأول, فتقول: أَعْطِي المُعطى دينارين ثلاثون دينارًا, ويكفي هذا القدر. وإذا أردت فتح باب التفريع فرّعت على ذلك التثنية والجمع والتأنيث على اللغة المشهورة, وعلى لغة ((يتعاقبون فيكم ملائِكة)) , وذلك على مذهب من منعَ إقامة غير المفعول به مع وجوده, وعلى مذهب من أجاز إمّا مطلقًا, وإمّا على قلة, وعلى ما تحمله الباء من المعاني, فعلى هذه المعاني فرّع شيخنا- رحمة الله عليه- وترَكَ التفريع على إضمار المصدر في الفعل مُقامًا مُقامَ الفاعل, أو الزمان, أو المكان, فلم يُفرّع على ذلك لتشعب المسائل وانتشارها. فإن قيل: هذان المزدوجان المفروغ من شرحهما فيهما سؤالان الآن: أحدهما: أنّهما حَشوق بغير فائدة؛ لأنّه قد شرط في إقامة ما سوى المفعول به أن

يكون قابلًا للإقامة, ومن جملة ما يُعتبرُ في القابليّة ألّا يحضرَ المفعول به, فإنّه إن حضر لم تقبْل تلك الأشياء الإقامة فقوله: ((وقابلٍ من ظرف)) إلى آخره كافٍ في التنبيه على ما يحتاج إليه هذا الكلام إنّما أفاد أنّها غير قابلة للنيابة مع حضور المفعول به, فكان تكرارًا. والثاني: أنّا سلّمنا أنّه أفاد فقوله: ((في اللفظ)) زيادة لا فائدة فيها, إذ لو قال: ((ولاينوب بعض هذي إن وجد مفعول به)) لكان مفهمًا للمقصود غيرَ مُخلٍّ بشيء من الأحكام فكان ذكره فضلًا. فالجواب عن الأول من وجهين أحدهما: أنّ القابليّة لا تتناول الشرطَ المذكور لأنّ حقيقتها أن يكون النائب يقبل أحكامَ الفاعليّة من كونه يُرفع ويحدّث عنه كما تقدّم, وأمّا كونه لا يُحدّث عنه أو لا يرفع مع وجوده غيره, فذلك أمر طارئ, خارجٌ عن ذلك, فكون الظرف مثلًا متصرفًا قابليّة فيه للنيابة, وكذلك كونه مفيدًا الإخبار عنه قابليّة يصلح بها للنيابة على الجملة, وكونه غيرَ متصرف, أو غير مفيد عدمُ قابليّة لها, واشتراط غيبة المفعول به خارج عن تلك القابلية, ألا ترى أنه يصح الإخبار عن الظرف أو/ المصدر مع حضور المفعول به في نحو: {ليُجزى قومًا} و {نُجِّي المؤمنين} وما أشبه ذلك, وإذا كان كذلك فالقابليّة راجعةٌ إلى اعتبار النائب في نفسه, واشتراط عدم حضور المفعول به راجعٌ إلى حكم عارض بعد ثبوت القابليّة. والثاني: أنّا إذا سلّمنا أنّ القابليّة تتناول شرطَ فقْد المفعول, ففي البيت فائدتان, إحداهما: أنّه قصد إلى التصريح بهذا الشرط والإعلام به تنكيتًا على خلاف من خالف في المسألة, وأنّه لم يرتض مذهب الكوفيين؛ إذ لو لم

يذكر ذلك لم يظهر ولم يُفهم قصد التنكيت. وقد مر له مثل هذا في باب كان في قوله: ((كذاك سبق خبر ما النافية .. )) إلى آخره, وقد تقدم ثمّة بيانُ قصده فكذلك ههنا, فلا يعدُّ حشوًا. والثانية: أنّ ذكر ما ذكر لابد منه؛ لأنّه وإنْ قصد في القابليّة دخول هذا الشرط فليس بمفهوم منه فهمًا صريحًا, فلو ترك النصّ عليه لأمكن الاعتراض عليه بسقوطه, فأزاح هذا الشغب بذكره, وأيضًا فإنّ الإشارة إلى السماع المخالف لما أصَّل, وهو الذي اعتمده المخالف وهو آتٍ في التنزيل. نُقِلت القراءة به في السبع على أظهر الوجوه فيه, وفي غير السبع مما ثبت سندُه, ومن عادته الاعتماد على مثل هذا, وإن لم يعتمده هنا فلا أقلّ من التنبيه عليه, وإذا كان كذلك فذكره الشرط توطئة لذكر السماع. والجواب عن السؤال الثاني: أنّ في قوله: ((في اللفظ)) مُحرز لمعنى, وذلك أنّ وجود المفعول به مع الفعل قد يكون في اللفظ والمعنى, وقد يكون في المعنى خاصة من حيث كانت مادة الفعل تطلب مفعولًا على الجملة, فضربَ فعل له مفعول يطلبه من جهة معناه, وكذلك أكلَ, وشربَ, وكسا, وأعطَى, وعلِمَ وجهلَ, وسائر ما يطلب مفعولًا به, فهو موجود مع فعله على الجملة, فإن ذُكر تعيّن, وإن لم يذكر فقد عيّنه معنى الفعل من حيث الجملة, وكونه موجودًا في محصول الحكم المعنوي لا في اللفظ لا يمنع إقامة شيء مما ذكر, بل لابد من إقامة ما تعلق بالفعل من ظرف أو مجرور أو غيره, فإذا قلت: ضربْتُ مكانك فقد وُجدَ المفعول به في محصول الحكم لأن ضَرَبَ يطلبه, ولم يوجد في اللفظ, فإذا بُنيَ الفعل للمفعول اُقيمَ الظرفُ مُقام الفاعل؛ إذ ليس في اللفظ ما يُقام سواه, فقلت: ضُربَ مكانُك, ولا يصح أن يقام المفعول به؛ لأنّه غير مذكور. فإلى هذا القصد نحا الناظم, فتحرّز, وهو موضع تحرُّز. ولا يقال: مثلُ هذا لا يتحرّز منه النحوي,

لأنّ كون المفعول موجودًا في محصول الحكم أو غير موجود لا يتعرّض إليه النحويّ؛ وإنمّا كلامُه في الألفاظ فإذا قال: إذا لم يوجد المفعول به, فمعناه في اللفظ. وموانع الوجود ليس من شأنه النظر فيها؛ فما اعتذرت به لا عذر فيه؛ لأنّا نقول: لم يتكلّم هنا في المفعول من حيث الواقع, بل من حيث طلبه الفعلُ بمادته ولم يُذكر كما قيل في: ضُرِبَ ونحوه, فإنّه فعل متعدٍّ إلى مفعول بأصل وضعه يطلبه لينصبه, فإذا لم بم يُذكر في اللفظ فهو موجود من حيث طلبه له, وهو محصول الحكم. فعلى عذا يصح التحرُز منه على التزام طريقة الألفاظ, وعدم التعرّض لموانع الوجود, ألا ترى أنّك تقول في: ضَرَبَ: أنه متعدّ إلى مفعول/, وإن لم يظهر المفعول في اللفظ فتدبّره فإنّ فيه غموضًا. وأغراض ابن مالك في نظمه هذا لا تبعد على أمثاله. والله أعلم. وباتفاقٍ قد ينوبُ الثانِ من ... باب كسا فيما التباسُه أمِن في باب ظنّ وأرى المنعُ اشتهر ... ولا أرى منعًا إذا القصدُ ظهر تكلّم أولًا فيما إذا لم يكن للفعل إلا مفعولٌ واحد, ثم عطف بذكر المفعولين أو أكثر إذا اجتمعت أيّهما يُقام؟ فذكر ثلاثة أبواب: أحدهما: بابُ كسا, وهو باب المفعولين اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر, ولا أصل أحدهما حرف الجر. والثاني: بابُ علِم. وهو باب المفعولين اللذين أصلهما المبتدأ والخبر. والثالث: بابُ أرى, وهو باب ما يتعدّى إلى ثلاثة. وتركَ ذكرَ بابٍ رابعٍ وهو باب المفعولين اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر, وأصل أحدهما حرفث الجر, وهو باب أمر, وكان من حقّه أنْ

يبيّن حكمه لاسيّما وفيه من الإشكال ما ليس في غيره؛ لأنّه إذا كان أصل أحد المفعولين حرف الجر فكانّه مجرور, وإذا كان كذلك فهل يُعامل معاملة باب كسا اعتبارًا بفقد الجار أم يُعامل معاملة الأصل فلا يُقام إلا الذي ليس أصله حرف الجر؟ . في ذلك نظرٌ يفتقر إلى بيانه, وهو لم يعرّج عليه, وقد نصّوا على التزام إقامة الذي ليس أصله حرف الجر, فتقول: أُمِر زيدٌ الخيرَ, ولا يقال: أُمِرَ الخيرُ زيدًا, قال بعضهم: إلّا على القلب, والقلب قليل التصرف في الكلام. أمّا باب كسا, فنقَل اتفاق النحويين على إجازة إقامة المفعول الثاني فيه, لكنه قليل ومرجوح بالنسبة إلى إقامة الأول دلّ على ذلك من كلامه: ((قد ينوب الثان)) , وكذا قال النحويون: إنّ إقامة الأول أولى, فتقول إن شئت: كُسيَ ثوبٌ زيدًا, وأعطي الدرهمُ زيدًا, ومُلِّك الثوبُ زيدًا, وما أشبه ذلك. أمّا إقامة الأول فلا كلام في جوازها في كل باب وخصوصًا في باب كسا إذ هو فاعل في المعنى, فتقول: أُعطِي زيدٌ درهمًا, وكثسِي زيدٌ ثوبًا, ومُلِّكَ زيدٌ الثوبَ. فإن قلت: من أين يُعلم إقامة الأول, وما الدليل من كلامه على جوازها. فالجواب: أنّه لما قدّم أن المفعول على الجملة ينوب عن الفاعل كان هذا أصلًا يُرْجَعُ إليه حتى ينسخه بغيره, ولم ينسخه بالنسبة إلى المفعول الأول, فبقي على أصل الجواز وإنّما رجحت إقامة الأول في باب كسا؛ لأنه فاعل

في المعنى, فكان أقربَ إلى الإقامة من غيره. ثمّ قيّد جواز إقامة الثاني بأَمْنِ اللّبس فقال: ((فيما التباسه أُمِن)) يعني أنّه ينوبُ في الكلام الذي أُمن فيه الالتباس, فالمجرور متعلّق بينوب, فإذا أمن اللبس أقيم أحدُهما, أيّ مفعول كام. وإذا عُلشم الأول من الثاني نحو: كُسِيَ ثوبٌ زيدًا, وأُعْطِيَ الدرهمُ زيدًا. وإذا خيفَ اللبسُ لم يُقَم إلا الأولُ, فتقول: في أعطيتُ زيدًا عمرًا, -وعمرو عبدٌ مأخوذ-: أعطِي زيدٌ عمرًا, ولا يجوز أن تقول: أُعطِي عمروٌ زيدُا؛ لأنه لا يتبين أنّ زيدًا هو الآخذ وأنّ عمرًا هو المأخوذ, بخلاف قولك: أُعطِيَ درهمٌ زيدًا, فإنّ الدرهم معلوم/ أنّه المأخوذ وأنّ زيدًا هو الآخذ. وظاهر هذا أنّك لا تُقيم الثاني مع اللّبس وإن التزمت الرُتبَة بأن تقول: أُعطِي زيدًا عمروٌ, إذ منع مطلقًا, كما أطلق الجمهور المنع أيضًا, وهو مما ينبغي أن يُبحث عنه في باب علم وأرى على رأي الناظم فقد قال بعض المتأخرين: ينبغي أن ينظر هل يستظهر على اللّبس بحفظ الرُتبة كما قد عُمل ذلك في التباس الفاعل بالمفعول, فيوضع المرفوع في رتبته من المفعولات حتى يتبيّن بموضعه أنه الأول أو الثاني أو الثال. وما قاله هذا المتأخر مفتقر إلى السماع؛ فإن القول بحفظ الرُتبة إذا التبس الفاعل والمفعول نحو: ضرب موسى عيسى لا يصح أن يبنى إلا على السماع, وإلّا كان وضعًا مستأنفًا فكذلك هنا. وحين أطلق الناس هنا المنع مع اللّبس, ولم يلتفتوا إلى اعتبار الرُتبة كما التفتوا إليها في الفاعل والمفعول, والمبتدأ والخبر دلّ على أنّه غير

ملتفت إليه عند العرب هنا. والله أعلم. وأما باب علم وباب أرى فنقل الناظم عن الجمهور المنع من إقامة الثاني فيه بقوله: ((في باب ظنّ وأرى المنع اشتهر)) يعني أنّه اشتهر عند النحويين منعُ إقامة المفعول الثاني مطلقًا سواء أكان ثمّ لبْسٌ أم لا؟ وإنّما اشتهر عندهم المنع لما في إقامة الثاني من اللّبس في الأكثر, لأنك إذا قلت عُلِم صديقُك عدوَّ زيدٍ كان معناه أنّ المعروف بصداقتك عدوٌّ لزيد, فصداقتك مستغنية عن الإخبار بها, وعداوة زيد مفتقرة إلى الإخبار بها. فلو عكست فأقمت الثاني لا نعكس المفهوم, فإذا قلتَ: عُلِمَ عدوُّ زيدٍ صديقك صار المفهوم منه أنّ المعروف بعداوة زيدٍ صديق لك, وأنت لم ترد إلا المعنى الأول, فالتبس المعنيان. وهكذا كثير من مسائل الباب. وكذلك باب أرى إذا قلتَ: أرأيتُ زيدًا عمرًا صديقك, لو قلت: أُرِيَ زيدٌ عمرًا صديقك, فزيد هو الرائي, وعمرو هو المرئي, فلو عكست النيابة لألتبس بعكس المعنى هذا وجه ما ذهب الجمهور إليه. قال المؤلف في الشرح: ((وإذا كان أمنُ اللّبس مسوغًا لجعل الفاعل مفعولًا والمفعول فاعلًا في كلام واحد نحو: خرق الثوبُ المسمارَ. *بلغت سوآتهم هَجَرُ* فجواز هذه المسائل أحَقُّ وأولى)) , يعني مسائل أمن اللّبس كقولك: ظُنِنْتِ الشمسُ بازغةٌ, وظُنِنَتْ بازغةٌ الشمسَ, وعُلِم قمرُ الليلة بدرًا, وعُلِمَ بدرٌ قمرَ الليلة, واتُخِذَ مقامث إبراهيم موضعَ صلاة, واتثخِذ موضعُ صلاة مقامَ إبراهيم, وأُعْلِمَ زيدٌ كبشَك سمينًا, وأُعْلِمَ كبشُك سمينًا زيدًا. وما أشبه

ذلك. فهذه المسائل لا لبْس فيها, فلا ينبغي ان تمنع وهو معنى قوله: ((ولا أرى منعًا إذا القصد ظهر)). يعني أن مدرك المنع إنما هو اللّبس فينبغي إذن أن يُقتصَر في المنع على موضع ولا يُعدَّى إلى ما ليس فيه لبس كما لم يعدّه الجميع في باب كسا, بل فرّقوا بين موضع اللبس فمنعوا وبين موضع أمن اللبس فلم يمنعوا. وسياق الناظم يشير إلى مدرك المنع عندهم إذ قدم الاتفاق في باب كسا على المنع مع اللّبس, وأن الجمهور مانعون أيضًا في باب علم وأرى. ثمّ قال/: ((ولا أرى منعًأ إذا القصد ظهر)). فظهر من ذلك أنّ عمدتهم في المنع وقوع اللبس خاصة, وعليه نص في شرح التسهيل, وأنّ أكثر مسائل هذا الباب مّما يقعُ فيها اللبس قال: ((ولذا منع الأكثرون نيابة الثاني مطلقًا)). وهذا فيه نظرٌ؛ فإنهم ذكروا للمنع أوجهًا أخر: أحدهما أن المفعول الثاني قد يكون جملة فعلية أو اسمية, أو ظرفًا, أو مجرورًا, نحو: ظننتُ زيدًا يقوم, وظننته أبوه قائم, وظننته عندك, وظننته في الدار, والثاني مع كونه أحد هذه الأشياء لا تصح إقامته؛ إذ لا تكون الجملة فاعلةً أبدًا حسب ما تقدم, فكذلك النائب. والظرف لا يُقام وهو باقٍ على نصب الظرفية متعلقٍ بكائن أو مستقر, وكذلك المجرور لا يُقام وعامله غير الفعل. وبهذا الوجه يَرِد على الناظم اعتراض إذ لم يستثن من إقامة الثاني هذه الأشياء كما استثناها في التسهيل, فاقتضى أنّها تُقام مُقامَ الفاعل, وذلك غير صحيح؛ إذ الجملة عنده لا تكون فاعلةً كما مرَّ, والظرف والمجرور عنده في معنى الجملة هنا لقوله قبل في باب الابتداء: ((ناوين معنى كائن أو استقرّ)) فخيّر في الوجهين, وإذا لم تكن فاعلةً لم تُقمْ مُقامه. والثاني: أنّ المفعول الثاني يكون

نكرة كثيرًا فيؤدي إقامته إلى الإخبار بالمعرفة عن النكرة, وذلك مرفوضٌ إلّا في الشعر, أو في القليل, وهو محمولٌ عند جماعة على القلب إن سمع كقولهم: خرق الثوبُ المسمارَ. وقد نصّ على هذا المعنى سيبويه في: كان رجلٌ زيدًا, والبابان واحد. والثالث: أنّ المفعول الثاني إذا كان مشتقًّا -وهو الغالب- فأُقِيم أدّى إلى أمرين محذورين: أحدهما: الإضمار قبل الذكر لفظًا ومرتبة؛ لأنّك إذا قلت: ظُنَّ قائمٌ زيدًا ففي قائم ضمير يعود على زيد, وزيد متأخر الرتبة؛ لأنّه غير مقام, وقائم متقدم الرُّتبة, لأنه في موضع الفاعل, ورتبة الفاعل التقدّم على المفعول فكذلك نائبه, فلا يصح أن يكون في الفاعل ولا نائبه ضمير يعود على المفعول إلا على حدّ قوله: *جزر ربٌّه عَنِّي عَدِيَّ ين حاتم* وهو نادرٌ فيؤدي ذلك إلى ألّا تصح إقامته. والثاني: أنّه إذا كان مشتقًّا فحقه ألّأ يباشر العامل إلّأ على حذف الموصوف, وإقامة الصفة مُقَامَه, وذلك إذا كانت الصفة خاصة كما سيأتي,

مع أنه قليل, ووقوع المفعول الثاني صفة خاصة قليل. وإذا لم تكن خاصة- وهو الكثير- لم يصح إقامتها مُقام الموصوف, فلا تصحُّ إقامتها مُقام الفاعل. فهذه أوجه إذا اجتمعت في إقامة الثاني من باب ظنَّ, وهي جارية في الثالث من باب رأى, فصارت المسائل البريّة عن هذه القوادح نادرة الوقوع, ومتكلّفة في التمثيل, فعند ذلك قال الأكثرون بمنع إقامة الثاني مطلقًا. وهذا هو الفرق بين منعهم هنا مطلقًا, ومنعهم مع اللبس في باب كسا؛ لأنّ مسائل المنع هنالك قليلة على عكس الأمر هنا, فكيف يقول: إنّ المانع هو اللّبس خاصة؟ . وقد يقال: إنّ المفعول إذا كان جملة أو ظرفًا أو مجرورًا فلا اعتراض به لأمرين: أحدهما: التزام أن يُقام مقام الفاعل ولا محذور في هذا/ فقد قال به جماعة منهم السيرافي, وابن النحاس, وزعموا أنّك تقول في: عرفت أيّهم في الدار: عُرِفَ أيّهم في الدار. وقال ابن الضائع: الصحيح عندي جواز: قد عُلِمَ أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ ؛ لأنّ كلّ فعل يتعدّى المفعول فلا مانع أن يُرَدَّ ويبنى للمفعول, قال: وكذلك: قد قِيل زيدٌ منطلق, وهو موجود في كلام العرب كثيرًا, وفي القرآن. قال: ويُقَوِّي ذلك أنّه يجوز في المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله ما لا يجوز في الفاعل, ألا ترى قولهم: مُرَّ بزيد, فزيد في موضع رفع, ولا

يجوز في الفاعل إلّا حيث يكون الحرف زائدًا, وليس هنا بزائد, وإذا ثبت هذا لم يكن في القول بإقامة الجملة مُقام الفاعل خرقٌ لإجماعٍ, ولا مخالفة دليل. والثاني: أنّا إذا لم نقل بجواز ذلك فهو مستثنى عن هذا الوضع. فقوله: ((ينوب مفعول به عن فاعل- فيما له)) يعني من الأحكام, ومن جملتها ألّا يكون جملة, ولا ما أشبهها. وإذا استثناه بقيَ الباقي على الحكم المذكور. وأمّا الوجه الثاني: فإذا كان المفعول الثاني نكرةً فلا محذور؛ لأنّ الإخبار هنا عن النكرة عارضٌ, وفي بنية عارضة, والمقصود الإخبار عن المعرفة. وإن كان على القلب فهو جائزٌ, وإن كان قليلًا, فذلك ليس بمانع جملة, أو نقول: إذا فُرِض الإخبار هنا بالمعرفة عن النكرة فإن أفاد ذلك جاز, وإلّا لم يجز, فالمسألة راجعة إلى باب الابتداء بالنكرة, وقد مَرَّ. وأمّا لزوم الإضمار قبل الذكر, فله جوابان: أحدهما: أنّ ذلك عارض, والأصل تأخيره في بنية الفاعل, فلا محذور في تقديمه, بل هو في الحقيقة مثل قولك: ظُنَّ قائمًا زيدٌ, وضرب اباه زيدٌ. والثاني: إذا سلّمنا ذلك, فيلزم فيه تأخير المُقام, فتقول: ظُنَّ خالدًا قائمٌ كما يلزم تأخير العمدة في قولك: ضرب زيدًا أبوه. وقد نبّه على هذا المعنى بعض المتأخرين. وأمّا ولاية المشتق العامل فيجوز في مثل هذا لاسيّما على طريقة القلب كما يجوز: كان قائمٌ زيدًا على القلب, وإن كان ضعيفًا بل هو هنا أجوز, لأنه في بنية عارضة بخلاف باب كان فإنّ الإخبار به عن النكرة في بنية أصلية. فهذا مما يرجّح الجواز, ولا يكون على حذف الموصوف كما لا يكون كذلك في باب كان. وأمّا حمل الأقل على الأكثر في المنع فإذا سلمنا أم مسائل أمن اللبس قليلة- وليست كذلك-

فالأصل أن تُعطى كلّ مسألة حكم نفسها, ولا يُحْمَلُ ما ليس فيه موجبُ المنع على ما فيه الموجب في مسألتنا, بل يمنع ما فيه الموجب, ويجاز غيره. فإن قلت: فهذا خلافُ القاعدة المعلومة عند أهل العربية, فإنّهم يحملون ما ليس فيه موجبٌ على ما فيه الموجب؛ بيجري الباب مجرى واحدًا, كمسألة: تَعِدُ وأعِدُ, ونَعِدث في حملها في الإعلال على يَعِدُ, وحملهم هما وهنّ وسواهما على هو و (نا) في البناء الذي موجبه شبه الحرف اللفظي, وحملهم حذامِ, وفجارِ على حذارِ عند جماعة, على مسائل لا تنحصر. فالجواب: أنّهم إنّما قالوا ذلك حين ألجأهم السماع إليه؛ ولذلك لا تجد مسائلهم التي يحتجّون بها على القاعدة إلّا على مقتضى ما استقرأوا من كلامهم لا على أمرٍ مقيس عُدِم فيه السماع. فالقاعدة مبنيّة على التفسير بعد السماع/ كما قال سيبويه: ((قف حيث وقفوا ثمّ فسّر)). وإن رأيت أحدذأ منهم يُعْملُها في موضع فذلك اتبّاع للسماع عنده لا إجراء لمجرد القياس. فابن مالك لم يثبت عنده امتناع العرب من نحو: ظُنَّ سمينٌ كبْشَك, بإطلاق, فأجازه؛ لأنّ القياس يقبله فقال بجوازه, وممن قال بقول الناظم السيرافي في اللإقناع, وابن الأنباري, وابن طلحة, وجماعة من المتأخرين. وأمّا في باب أعلمت فقال بالجواز الجزولي, والشلويين في التوطئة, وتلميذه ابن الحاج في الرد على المقرّب ما لم يئد ذلك كلّه إلى اللّبس.

وفاته التنبيه على حكم الثالث في باب أرى وقد حكى ابنُه في شرح النظم الاتفاق على المنع من إقامته وأنّ الخلاف إنّما هو في الثاني, وما حكاه من الاتفاق ليس على إطلاقه؛ إذ قد ذكر بعض المتأخرين جواز إقامة الثالث لكن مع حذف الأول, وأجرى فيه الخلاف المذكور في الثاني, وأيضًا فقد أطلق أبوه في التسهيل الجواز أيضًا, فقال: ((ولا يمتنع نيابة غير الأول من المفعولات مطلقًا)) إلى آخره. وألزم ابن الحاج من قال بإقامة الثاني في: ظننت, أن يقول به في أعلمت؛ إذ لا فرق بينهما إلّا من جهة ما يعرض من اللّبس مع الأول. وهو إلزامٌ صحيح؛ إذ لا فرق بينهما؛ فالثاني في ظننت هو الثالث في أعلمت, فالقائل بالجواز في ظننت في الثاين قائلٌ به- ولا بد- في أعلمت, فإنّ القائل بحكم في مسألة قائلٌ به في نظيرتها, إذا لم يظهر فرْق حسب ما تبيّن في أصول الفقه. ولو كان ما نَقَلَ من الاتفاق صحيحًا لم يسغ لأبيه, ولا لغيره القولُ بخلافه مع معرفتهم بمذاهب الناس وفاقًا وخلافًا. وإنّما لم يذكر الناظم حكم الثالث لأحد أمرين: إمّا لأنّه داخل له بالمعنى في حكم الثاني كما تقدم, وإمّا لأن المسألة محلُ نظر, ألا ترى أنّ بعض من أجاز إقامة الثاني في ظننتُ منع إقامة الثالث في: أعلمت, فترك للناظر في كتابه محلًا للنظر. والله أعلم. وما سوى النائبِ ممّا عُلّقا ... بالرافع النصبُ له محقّقًّا يعني أنّ ما عدا النائب من هذه المفعولان فهو منصوبٌ, كما كان منصوبًأ في بنية الفاعل, فلا يجوز رفعه؛ لأنّ الفعل لا يطلب مرفوعين إلا بالتبعيّة, فإذا لا

يرفع إلّا واحدًا فيبقى ما سواه منصوبًا, فتقول: أُعطِيَ زيدٌ درهمًا, وعُلِمَ أخوكَ منطلقًا, وأُعْلِمَ أخوك زيدًا قائمًا. وهذا ظاهر. وقوله: ((مما علّق بالرافع)) و ((ما)) فيه لغير النائب, و ((علّق بالرافع)) معناه: ألْزِمه, والرافع هو الفعل, ويقال: عَلِقْتُ بفلان وعُلّقتُه: أي أحببته, وعَلِق بقلبي أي لصِق به ولزمه, واراد بالتعليق العمل, فالمعلّق بالرافع هو معموله, فأراد أنّ ما عدا النائب من معمولات الفعل يلزم نصبه تحقيقًا/. والمعمولات هنا كلُّ ما عمل فيه الفعل مما تصحُّ نيابته عن الفاعل كان مفعولًا به, أو مصدرًا, او ظرفًا أو غيره, إلّا أن النصب تارةً يكون في اللفظ كالأمثلة المتقدّمة, وتارة يكون في الموضع كالمجرور, وضمير المفعول, والمصدر, والظرف, وغيرها, وفي قوله: ((علّق بالرافع)) نصٌّ على أنّ فعل المفعول هو الناصب, أو هو ظاهر فيه, فإنّ الرافع هو فعل المفعول. وقد جعل ما عدا المُقام معلّقًا به أي معمولًا له, أو معلّقًا به معنى, فالفعل طالب له فهو العامل فيه؛ لأنّ اصل العمل الطلب. وهذا أحد المذهبين, وهو رأي المحققين, ويُنسَبُ إلى سيبويه. وقيل: إنّ الناصب له فعل الفاعل المحوّل إلى بنية المفعول. فالأصل نصب هذه الأشياء بفعل الفاعل, فلمّا حوِّل إلى بنية المفعول رفع واحدًا منها, وبقي ما عداه على نصبه الأول, والأول عندهم أصح؛ لأنه رفع المرفوع باتفاق فليكن هو الناصب, لأنّه الحاضر في اليد, وأصلُ العمل الطلَبُ, وهذا الحاضر هو الطالب, فهو الناصب إذًا, ولا فرق بين فعل المفعول وفعل الفاعل في ذلك. والخلاف في هذا لا ينبني عليه في العربية حكم إلّا حُسْنُ ترتيب الحكمة في الصناعة, وربطُ الاصطلاح, ولا شك أنّ ما ذهب إليه الناظم أقَلُّ تكلُّفًا. والله أعلم.

«اشتغال العامل عن المعمول»

«اشتغال العامل عن المعمول» معنى الاشتغال أن يتقدم اسمٌ, ويتأخر عنه فعلٌ متصرف, أو جارٍ مجراه قد عَمِلَ في ضمير ذلك الاسم, أو في سببه, ولو لم يعمل فيه لعمل في الاسم الأول, أو في موضعه. هذا تعريف ابن عصفور, وهو تقريبيّ. وهذا المعنى على الجملة هو الذي أخذ الناظم في بيانه فقال: إن مُضمَرُ اسمٍ سابقٍ فِعْلًا شَغَل ... عنه بنَصْبِ لفظه أو المحَل فالسابق انصبه بفعلٍ أضْمِرا ... حتمًا موافقٍ لما قد أُظهرا ومعنى كلامه على الجملة: أنه إن شغل مضمرٌ عائدٌ على اسم متقدّم أول الكلام فعلًا عن ذلك الاسم المتقدّم بنصب ذلك الضمير لفظًا أو محلًا فنصبُ السابق إن أردتَ نصبه أو أدى الحكمُ إليه بفعل مضمرٍ يفسره هذا الظاهر, وذلك الفعل المضمرُ لا يظهر أبدًا. هذا تلخيصه على الجملة. ولا بدّ من بيانه على التفصيل, فقوله: ((إن مضمر اسم)) مضمرُ مرفوع على الفاعلية حتمًا بفعل موافق للفعل الظاهر وهو (شغل) أي: إن شغل مضمرُ اسم سابقٍ شغَل فعلًا, ومضمر الاسم السابق: يعني به المضمر العائد عليه, فأضافه إليه لتعلّقه به في التفسير, وأنّهما في المعنى شيءٌ واحد, وذلك مثل قولك: زيدًا ضربتُه فالاسم

السابق (زيد) , ومضمره الهاء في ضربته. و (فعلًا) منصوب بشَغَل الذي يليه والضمير الفاعل فيه عائدٌ على (مضمر) في قوله: إن مضمر اسم, و (عنه) متعلّق بشَغَل, والضمير المجرور عائدٌ على اسم, وتقديره: إن شغل/ المضمر الفعل عن الاسم السابق, وشغله عنه هو أن ينصبه أو محلّه ولذلك قال: ((ينصب لفظه أو المحل)) , ونصب اللفظ هنا معناه أن يطلبَه ضمير نصب, ولا يريد به أن يظهرَ فيه النصب لفظًا كزيد وعمرو؛ لأنّ ذلك متعذر في المضمرات, فإنما يريد أنّه لو كان عوَضَه ظاهر لظهر فيه النصب, فالإتيان بضمير النصب يُجزئ عنه, ونصب المحل هو أن يكون الضمير مجرورًا بحرف, والجار والمجرور معًا في موضع نصب, نحو: مررتُ بزيد فالضمير مجرور بالباء لفظًا لكن محله النصب؛ إذ معنى: مررت بزيد: جُزءتُ زيدًا, ولذلك يعطف عليه المنصوب, فتقول: مررت بزيد وعمرًا وينتصب إذا حذفَ الجار ضرورةً, نحو: *تمرون الديارَ ولن تعوجوا*

وإنما قال: ((بنصب لفظه أو المحل)) فعيّن النصب؛ لأنّه لو اشتغل الفعل برفع لفظه لم ينتصب الأول السابق نجو: زيد قام, أو إنْ زيدٌ قام, وكذلك لو اشتغل برفع محل المضمر لم يصح نصب الأول, نحو: إنء زيدٌ مُرَّ به, وهو قد قال: ((فالسابق انصبه)) فلم يتكلّم إلّا على النصب؛ فلذلك قال: ((بنصب لفظه أو المحّل)) , ويتناول كلامه هنا نحو: زيدًا ضربتُه, وزيدًا مررت به, وخرج عنه نحو: زيدًا ضربتً أخاه. وزيدًا مررت بأخيه, وغير ذلك من فروض المسائل, وهي ك ثيرة جدًا حتى يذكر ذلك بعد؛ لأنّه نبّه هنا على أصل الباب, وإذ كان وصولُ الفعل بنفسه أو بحرف جر أقرب في كونه معلّقًا به من وصوله إليه بواسطة, ثم عطَفَ على ما بقي عليه بعد ذلك في قوله: وفَصلُ مَشْغُولٍ بحرفِ جَرِّ ... أو بإضافةٍ كوَصْلِ يجري كما أنّه تكلم هنا على مسائل الفعل, وترك حكم غير الفعل إلى آخر الباب فقال: وسَوِّ في ذا الباب وصْفًا ذا عَمَل ... بالفِعلِ إنْ لم يكُ مانعٌ حَصَل لأنّ الفعل هو الأصل, وما عداه جارٍ مجراه. وقوله: ((فالسابق انصبه)) هذا جواب (إنْ) في قوله: ((إن مضمر اسم سابقٍ)) إلى آخره, ويعني أنّ ذلك الاسم السابق ينصبُ على الجملة كان الفعل العامل ضميره نصبًا لفظيًا كما في نحو: زيدًا ضربته, أو في المحل, نحو: زيدًا مررتُ به, فإنّ نصبَ السابق هو الموجود الشائع في كلام العرب, وندَرَ مجيئه مجرورًا, وحكى الشلويين: {وللظالمينَ أعدَّ لهم عذابًا أليمًا} وهو من النُذور بحيث لا يَنْبَني على مثله قياسٌ. وقوله:

((انصبه)) لا يريد به أنّه يجب نصبه, بل يدخله النصب فقط, ويبقى النظر في جواز ذلك, أو وجوبه, أو امتناعه على حسب ما يفسّره بعدُ. وتفصيله بعد بيّن لنا هذا. وإلّا فلو قطعنا النظر عمّا يأتي لكان قوله: (انصبه) يقتضي الوجوب, وتفسير كلامه بكلامه هو الواجب. وقوله: ((بفعلِ أُضمرا)) نصٌّ على اختياره لمذهب أهل البصرة الذين يقدّرون لهذا المنصوب فعلًا غير الملفوظ به؛ لأنّ الملفوظ به قد أخذ ما يحتاج إليه في اللفظ فلا يستقيم أن ينصب غيره؛ لأنّه قد اكتفى بالضمير فهو غير طالب لغيره, وأصل العمل الطلب, فلا يعمل في غيره, وإذا لم يعمل في غيره فلا بدّ لذلك الغير من عامل, وليس إلاّ فعلٌ مقدّر ويفسّره ذلك الظاهر. وذهب الكوفيون/ إلى أنّ الظاهر هو الناصب بنفسه لذلك الاسم السابق, وإن كان ناصبًا للضمير أيضًا, لأنّه هو الطالب له من جهة المعنى, وأصلُ العمل الطلب فينبغي أن يكون هو الناصب له كما كان ذلك في نحو: ضربتُ زيدًا أخاك, ولا ضررَ في كون الفعل ناصب لاسمين- وإن كان لا يطلب إلّا واحدًا- إذا كان الاسمان معًا واقعين على مسمى واحد. وهذا الاستدلال عند البصريين ضعيف؛ لأن الطلب المعنوي لا يستلزم العمل اللفظي باطلاق, وإلا وجب أن يكون

(الزيدان) من وقولك: الزيدان قاما مرفوعًا بقاما الفاعلية, فيكون رافعًا فاعلين. وهذا لا يقوله الكوفيون, ويلزم أيضًا ألّا يجوز رفعُ (زيدٍ) من قولك: زيدٌ ضربته؛ لأنّ الفعل يطلبه بالنصب على المفعوليّة. وهذا كلّه غيرُ صحيح, فإنّما يكون الطالب عاملًا في المطلوب إذا لم يستغن عنه في اللفظ, وأمّا إذا استغنى عنه برفع ضميره, أو نصبه, أو بغير ذلك فلا يلزم أن يعمل فيه بل لا يصحّ في مثل مسألتنا. وعند ذلك يظهر أنّ الفعل غيرُ طالب لهذا السابق, وإذا لم يطلبه فلا بدّ من عامل فيه وليس إلّا ما قدّره البصريون. وأيضًا فلا يستقيم أن يكون الظاهر عاملًا في السابق في نحو: زيدًا مررتُ به, ولازيدًا مررتُ بأخيه, ولا زيدًا ضربتُ أخاه, وما أشبه ذلك, لأن اللفظ أو المعنى يأبى ذلك. ولو كان كما قالوا لقلتَ: بزيدٍ مررتُ به, ولما استقام معنى قولِك: بزيد مررت بأخيه, أو زيدًا ضربت أخاه, إلى غير ذلك من المسائل التي يتعيّن فيها تقدير الفعل حتمًا, فالصواب ما ذهبوا إليه من تقدير العامل, وهو الذي رأى الناظم, وفيه أيضًا نصّ على أنّ هذا الإضمار لازمٌ, ولا بدّ من الفعل المقدّر ألبتة, ولا يكتفى بمعنى الفعل الظاهر عاملًا. وهذا رأي الجمهور. وذهب ابن الطراوة إلى الاكتفاء بمعنى الفعل, وأنّه العامل في السابق لا لفظه ولا فعل مقدّر. ورُدّ بأنّ النصب على المعنى من حيث هو معنى لا يصّح؛ لأنّ معنى الفعل مجردًا لا يعمل إلّا في الظروف, والمجرورات بخلاف المفعول الصحيح, فلا يستقيم أنْ يُدّعى ما لا يوجد في كلام العرب, وأيضًا فنحن هنا بين ثلاثة أمور: إمّا أنْ نقول: المفعول الصحيح يعمل فيه المعنى. وهذا لا نظير له. وإما أنْ نقولَ: إنّ

العاملَ في الضمير هو بنفسه العامل في الظاهر. وهو أيضًا معدومُ النظير. وأمّا أنء نقول: إنّ السابق أيضًا انتصب بإضمارِ فعل يفسّره هذا الظاهر من باب الإضمار على شريطة التفسير, وإن كان قليلًا, وعلى غير قياس فهو أولى؛ لأنّ الحمل على ماله نظير -وإن قلّ, وخرج عن القياس- أولى من الحمل على ما لا نظير له. قالوا فهذا الذي حمل النحويين على أن قالوا: إن السابق منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده. والله أعلم. وقوله: ((أُضمرا حتمًا)) يعني أنّ هذا الفعل لا يظهر أصلًا؛ لأنّه قد جعل المفسّر كأنه بدلٌ منه, ولا يجمع بين البدل والمبدل منه. وقد زعم بعضهم أنه يجوز إظهاره, والجمع بينه وبين ذلك المفسّر, فتقول: ضربتُ زيدًا ضربتُه. واستدلّ على ذلك بقول الله سبحانه في الحكاية عن يوسف عليه السلام: {إني رأيتُ أحدَ عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} فجمع بين رأيتهم لي/ ساجدين, وبين (رأيتُ) الأوّل. وأجاب الناس بأنّ الآية ليست من هذا الباب؛ لأنّ (رأيتُ) الثاني في الآية إنّما جاء توكيدًا لرأيت الأوّل بعد ذكره, كما تقول: رأيت زيدًا, رأيت زيدًا, وأمّا رأيته في قولك: زيدًا رأيته فلم يُؤتَ به للتأكيد, بل هو الأصل في الكلام وتقدير (رأيت) الأول إنّما هو تقديرٌ صناعيٌّ بعد ثبوت الثاني وبنائه على التأسيس, فلو فرضنا ظهورَ الأول لم يَبْقَ هذا الثاني ملفوظًا به؛ إذ لم يقصد التأكيد. فهذا فرقُ ما بينهما, وهو بيّن إذا عُرفَ الاصطلاح. وقوله: (موافق لما قد أُظهرا) موافقٍ: نعت لفعْلٍ, وكذلك الجملة من قوله: ((أُضمر حتمًا)) أي فانصبه بفعل مضمر موافق للمظهر, وأراد أنّ ذلك الفعلَ من شرطِه أنْ يكونَ موافقًا لما ظهر؛ إذ هو مفسّره, ولا يفسّر إلّا ما كان

موافقًا للمفسّر في المعنى لا ما كان مخالفًا, ومثال ذلك: زيدًا ضربتُه, فزيدًا منصوبٌ بفعل موافقٍ لضربته, فالتقدير: ضربتُ زيدًا ضربتُه, وكذلك: زيدًا مررتُ به, تقدير الفعل الموافق: جاوزتُ زيدًا مررتُ به؛ لأن المرور والمجاوزة متفقان. وعلى هذا الترتيب سائر المقدرات. وفي هذا الكلام تنكيتٌ على ابن الطراوة في مذهبه المضطرب في المسألة؛ إذ زعم أولًا أنّ معنى الفعل هو الناصب للسابق, ثم رجع إلى التقدير اللفظي حين قيل له: فكيف يكون معنى الفعل هو العامل في نحو: زيدًا ضربتُ أخاه؟ إذ لا يصحّ أن يكون معنى (ضربته) هو العامل, لفساد المعنى, فأجاب: إن كلّ فاعلِ فعلٍ يُحرك حاشيتين ضرورة من راضٍ وساخطٍ, فإذا قال: زيدًا ضربتُ أخاه انتصب زيد على معنى: أسخطت, وإذا قال: ضربتُ عدوّه انتصب على معنى: ((أرضيت, ودلّ الضرب عليها مع القرينة المختصة بهما)) انتهى فرجع إلى تقدير فعل لفظيّ لا يوافق الظاهر. وهذا اضطرابٌ, وعدمُ ارتباط لقانون يثلَجُ به الصدر. هذا تمام الكلام على مقصود الناظم في هذه المقدمة التي جعلها أصلًا لباب الاشتغال مطّردًا فيه, وجاريًا في جميع أقسامه ومسائله غير أنّ فيه نظرًا من أوجه سبعة: أحدهما: أنّك تقول: في الدار زيدٌ فاضربه, فلا يكون زيدٌ ههنا جائزَ النصب بفعل أُضمر أصلًا, لاستقلاله مع ما قبله كلامًا, فزيدٌ هنالك مبتدأ قد جيءَ له بخبره فلا تعلّق له بما بعده, فكيف يصحّ أن يقدّر له ناصبٌ أو غيرُ ناصب, وعبارة الناظم تشمَلُ مثل هذا؛ لأنّ معنى سابقِ: ان يسبق الفعلَ الظاهرَ, وكذلك تقول: جاءني زيدٌ فأكرمته, وحين أتاني عمرو ضربتُه, وما

أشبه ذلك. ومنه عند سيبويه قولُ الله تعالى: {والسارقُ والسّارقةُ فاقطعوا أيدِيَهُما}؛ إذ التقدير عنده: ومما يُتلى عليكم: السارق والسارقة أي حكمُهما, ولولا أنّ الآية على هذا المعنى لكان نصب الاسم السابق هو المختار وكذلك {والزانيةُ والزّاني فاجلدوا} الآية. وإذا فرضت الآية ونحوهما على هذا فلا يصحّ النصب بإضمار فعلٍ موافق للظاهر, وليس في الباب ما يُخرجُ مثل هذا. فكان كلامه غير محرّر/, ولو حرّر العبارة لقال كما قال في التسهيل: ((إذا انتصب لفظًا أو تقديرًا ضميرُ اسم سابق مفتقر لما بعده)) فقيّده بالافتقار لما بعده, فخرج ما اعترض به عليه هنا, لأنّ الاسم السابق فيه غيرُ مفتقر. والثاني: أنّه يدخل له في إطلاق عبارته أن تقول: زيدًا ما ضربتُه, وزيدًا إن أكرمتَه يكرمْك, وما أشبه ذلك ممّا لا يصحّ فيه أنْ ينتصب السابقُ بالفعل الظاهر للفصل بأداة من أدوات الصدور, وهم قد شرطوا في صحة القاعدة عدم الفصل بما له صدر الكلام, ولذلك قال في التسهيل: ((بجائز العمل فيما قبله)) بعد العبارة المذكورة, فاشترط جواز العمل فيما تقدّم, وهو الاسم السابق فكان من حقّه أن يتحرّز من ذلك. فإنْ قيل: قد ذكر فيما بعد لزوم الرفع في هذه المسائل ونحوهما بقوله: كذا إذا الفِعْلُ تلا ما لن يَرِدْ ... ما قبلَه معمولَ ما بَعْدُ وُجِدْ

قيل: فذلك ليس من مسائل الاستغال فكان ينبغي أنْ يأتي به متحرزًا في هذه المقدّمة. والثالث: أنّه يخرج له عن هذا الباب مالم يكن الفعل عاملًا فيه, ولا في محله نصبًا, وكقولك: أزيدًا ضربتَ راغبًا فيه, وزيدّا أكرمتُ نازلًا عليه, وزيدًا لستُ مكرمًا له, وزيدًا كنت نازلًا عليه, وما أشبه ذلك من المسائل التي يكقر تعدادها, وضابطها أنْ يكون منصوب الفعل عاملًا النصب في ضمير الاسم, أو في سببه, فذلك جارٍ مجرى عمل الفعل نفسه في الضمير في جواز نصب الاسم السابق, أو وجوبه كما سيذكر بعدُ. والرابع: أنّه خصّ هذا الباب بنصب السابق وعمل الفعل النصب في ضميره, ثم لم يذكر في الباب غير المسائل التي يُنصب فيها السابق خاصةً, وباب الاشتغال أعمّ من ذلك؛ إذ ما يتصور من وجوب النصب, أو ترجيحه على الرفع بالابتداء, أو مساواته إيّاه يتصور مثله في الرفع على الاشتغال, فقولك: إنْ زيدٌ قام في إضمار الفعل لزيد مثل: إنْ زيدًا ضربته, وأزيدُ قام مثل: أزيدًا أكرمتُه, وإنّما يفترق الرفعُ والنصبُ في نحو: مثل قولك: [رأيت عمرًا] وزيدًا أكرمتُه, وإنما يفترق الرفع والنصب في نحو: زيدٌ قام, وزيدٌ ضربتُه, فزيد في الأولى لا يجوز فيه الحمْلُ على الفعل, وزيد في الثانية يجوز حملُه على الفعل فينتصب. وهو رأي الجمهور. وقد سوّى بن

العريف بين المسألتين, فأجاز أن يُقدّر لزيد في الأولى فعلُ كأنّ التقدير: قام زيدٌ قام, فالرفع عند هذا القائلعلى إضمار الفعل كالنصب بإطلاق. والناظم لم يبيّن شيئًا من هذا فكان عليه الدركُ. والخامس: أنّ قوله: ((فالسابق انصبه)) يقتصي أنّ الفعل المضمر لا يقدّر إلا ناصبًا, وذلك غير لازم, بل يسوغ تقدير الفعل رافعًا, وإنْ كان ضميره منصوبًا بالفعل لفظًا أو تقديرًا, فتقول: أزيدًا أقمته, وأزيدٌ أقمته أيضًا على إضمار: أقامَ زيدٌ أقمته وكذلك: إن زيدٌ أهلكته كان كذا, على تقدير: إن هلك زيدٌ أهلكته, وما أشبه ذلك, ويتصوّر ذلك كثيرًا في الأفعال التي لها مطاوع, أو التي تعدّت بالهمزة أو غيرها, وقد أنشد سيبويه للنمر بن تَوْلَب: لا تَجزَعِي إنْ منفسٌ أهلكتُه ... وإذا هلكتُ فعندَ ذلك فاجْزَعِي أنشدوه على وجهين: على رفع (منفسٌ) ونصبه/, وأنشد الأخفش: أتجزعُ إنْ نفسٌ أتاها حِمامها ... فهلّا التي عن بين جَنْبيكَ تَجْزَعُ هكذا برفع نفس, وتقديره من معنى أتاها حمامها: إن ماتت نفسٌ أتاها

حِمامُها. وقال لبيد: فإنْ أنت لم ينفعك علمُك فانتسب ... لعلّك تهديك القرونُ الأوائلُ فهذا حائزٌ على الجملة مع أنّه عبّر بعبارة تخرج ما كان من بابه -وذلك غير سديد- إذ جعلَ ما ليس بشرطٍ شرطًا, وهو أن جعلَ عملَ الفعلين الظاهر والمقدّر إنّما يكون نصبًا. والسادس: أنّه أتى في هذا العقد ببعض الشروط المعتبرة في باب الاشتغال, وترك بعضًا ممّا هو ضروريّ, ومن جملة ما ترك اشتراط اتحاد جهة النصب في المشغول به والمشغول عنه, كما مرّ تمثيله, فلو قلت: أزيدًا جلستَ مكانه؟ لم يجز؛ لأنّ نصب المكان ليس كنصب زيد, فإنّ زيدًا منصوبٌ على المفعولية, ونَصبُ المكان على الظرفية, وكذلك لا تقول: أزيدًا ضربتَ ضربَهُ, ولا زيدًا مكثتُ عنده, بخلاف قولِك: أيومَ الجمعة قعدتَه, أو قعدتَ فيه؛ فإنّه جائزٌ لاتحاد جهة النصب. ولا يزم على ذلك ألّا يجوز: أزيدًا مررت به؛ لأنّ نصبَ موضع المجرور على المفعولية كزيد. ومن ذلك أن يكون المشغول عنه اسمًا واحدًا, فلا يجوز أن تقولَ: أزيدًا درهمًا أعطيته إيّاه, ولا: أزيدٌ عمرًا أكرمَهُ, ولا ما أشبه ذلك -ويجوز أن تقول: أزيدًا أعطيتَه درهمًا, وأزيدًا ظننته قائمًا, وأعمرًا أكرمهُ زيدٌ. ووجه امتناع هذا والذي قبله أنّ هذا الباب جاء على خير قياس, فلا يُتعدّى به ما سُمِع, ولا يقاسُ عليه إلّا ما كان مثلَه من كلّ وجهٍ, فإذا تركُهُ ما لاحاجة إلى ذكرة أكيدةٌ تقصير.

والسابع: أنّ الموافقة التي أشار إليها في قوله: ((موافقٍ لما قد أُظهرا)) حقيقتها في نفسها أن يكون لفظُ المضمر ومعناه مثل لفظ المظهر ومعناه, وذلك لا يَصدُق إلّا على نحو: زيدًا ضربتُه خاصّة؛ لأنّ التقدير: ضربتُ زيدًا ضربتُه. وأمّا غير ذلك فلا؛ إذ كنت في قولك: زيدًا مررتُ به لا تقدّر إلّا فعلًا غير موافق تلك الموافقة, وذلك: جاوزتُ, أو لابستُ, أو نحو ذلك, ولا يجوز أن تقدّر: مررتُ؛ لأنه يقتضي حرفَ الجر, والاسم المشتغل عنه لا يُجرّ, وكذلك إذا قلتَ: زيدًا ضربتُ أخاه فالمقدّرههنا فعلُ الملابسة أو نحوه, أي: لابستُ زيدًا ضربتُ أخاه, أو تقدر: أهنتُ زيدًا ضربت أخاه, أو ما أشبه ذلك. وكذلك قولك: زيدًا مررتُ بأخيه, وزيدًا رغبتُ فيه, وزيدًا ضربتُ راغبًا فيه, إنّما يقدّر هنا فعلُ الملابسة أو نحوه مما يدل عليه الفعل, لا ما وافق الفعل, فلو أُخذ كلام الناظم على حقيقة الموافقة في هذه الأشياء لكان فاسدًا؛ إذ كان الموافق في: زيدًا ضربتُ أخاه: ضربتُ زيدًا ضربتُ أخاه, وفي: زيدًا مررتُ بأخيه: مررتُ بزيدٍ مررتُ بأخيه, وكذلك ما بقي. وذلك لا يصحّ لفظًا ولا معنى. ثم نقول: لا يخلو أن يريدَ الموافقة المذكورة أو في اللفظ فقط, أو في المعنى فقط. فلا يصحّ الأول لما مرّ, ولا الثاني/ أيضًا, وإلّا جاز في: زيدًا رأيتُه أن يُقدّر: رأيتُ على غير معنى رأيت الظاهر. وذلك غير صحيح, ولا الثالث أيضًا؛ لأنّهم قد قدّروا في: زيدًا رأيتُ أخاه: لابستُ, ونحوه. وليس الفعلان بمتّفقيْ المعنى؛ إذ مفهوم الرؤية غيرُ مفهوم الملابسة. هذا إن أخذتَ الرؤية بحسب مفهومها مطلقًا, وإن أخذتها بحسب كونها رؤية للأخ فكذلك أيضًا, لأن رؤية أخي زيد لها مفهومٌ, وملابسة زيدٍ لها مفهوم آخر؛ إذ هي أعمّ من أن تكون برؤية الأخ أو بغير ذلك؛ ولأجل هذا الإشكال حرّر في التسهيل عبارته فقال: ((بعامل لا يظهر موافق للظاهر أو مقارب)) فكان من حق الناظم أن يفعلَ

هنا مثل ذلك. انتهى. والجواب عن الأول: أنّ قوله: ((فعلًا شغَل عنه)) معناه عن العمل فيه, وكونه مشغولًا عن العمل فيه مشعر بأنه طالبٌ له بالنصب, وذلك يقتضي كون ذلك السابق مهيّأ لعمل الفعل فيه لولا الضمير الشاغل, وإذا كان كذلك فهو معنى الافتقار إلى الفعل؛ إذ لو استقر له عاملٌ فيه, أو كان في جملةٍ أخرى لم يكن مهيّأ لعمل الفعل فيه, ولا كان الفعل طالبًا له أصلًا, ولا صحّ له العمل فيه لو تفرغ عنه الشاغل. فقوّة هذا الكلام قد حصلت معنى قول ابن عصفور في الحدّ: ((ولو لم يعمل في الضمير أو السبب لعمل في الاسم الأول)). وبذلك الشرط لا يعترضُه ما اعترض به. وعن الثاني: أنّ التحرز من فصل أدوات الصدور بين الفعل والاسم السابق مبيّن بعدُ. وقد حصل المقصود على الجملة, فالاعتراض تعسّف. وعن الثال: أنّ ذلك قد استدركه بعدُ بقوله: وفصلُ مشغولٍ بحرفِ جرٍّ ... أو بإضافةٍ كوصْلٍ يجري في أحد الوجهين فيه؛ لأنّه إذا دخل فيه: زيدًا ضربتُ أخاه, وليس الضمير بمنصوب بالفعل لا لفظًا, ولا محلًا, فكذلك يدخل له: زيدًا أكرمتُ راغبًا فيه, وما أشبه ذلك. وعن الرابع: أنّه اقتصر في هذا النظم على ذكر النصب, وترَكَ الرفع لمجموع أمرين: أحدهما: أنّ اللفظ لا يختلف فيه مع تقدير الفعل أو عدمه, فإذا قلت: إنْ زيدٌ قام أكرمتُه, فزيد فيه مرفوعٌ بفعل مقدّر وجوبًا, ولو زال موجبُ

تقدير الفعل لبقيَ على لفظه, فقلتَ: زيدٌ قام, فلا فرقَ بين الوجهين إلّا في التقدير الصناعي ضبطًا للقوانين, وكذلك: أزيدٌ قام, فيه وجهان صناعيّان والرفع ثابتٌ فيهما, وكذلك سائر الأمثلة, فلما كان لفظُ السابق لا يختلف مع تقدير مسائل الاشتغال فيه صار الاشتغال بذكره غير ضروريّ, بل من التكميل الصناعي فترك النصّ عليه. والثاني: أنّ مسائل الاشتغال في الرفع مساويةٌ لمسائله في النصب, فخمسةُ الأقسام التي يذكرها مع النصب متصوّرة مع الرفع, فحيثُ يجبُ النصب يجبُ تقديرُ فعل رافع, وحيثُ يمتنع النصب يمتنع تقدير الرافع, وحيث يُختار النصب يُختار تقدير الرافع, وكذلك سائرها. وإذا ثبت ذلك فتركه لمسائل الرفع في قوّة أن لو ذكرها, إذ قرّر مأخذها فلم يبق إلّا أن يُصوّرها الناظر في كلامه بأدنى تأمل. وهذا من مآخذ الحسان, /ومنازعه البارعة. فإن قلت: هذا المنزعُ ليس بحسن؛ فإنّه يقتضي أن نحو: زيدٌ قام فيه وجهان: أحدهما: الحملُ على الفعل -وإن كان غير مختارٍ فهو جائز, كما جاز: زيدًا ضربتُه, وإن كان غير مختار- لكنّ هذا مخالف للإجماع؛ إذ لم يُنْقل ذلك عن أحدٍ من أهل العربية إلّا عن ابن العريف. وردّ الناس عليه ما ذهب إليه, فكيف يستقيم تنزيلُ كلام الناظم على ما لا يصحّ. فالجواب: أنّ مذهبَ ابن العريف هو مذهبُ الناظم في التسهيل, وشرحه, فإنه قال: ((وإن رَفَعَ المشغولُ شاغله لفظًا أو تقديرًا فحكمه في تفسير رافع الاسم السابق حكمثه في تفسير ناصبه)) قال في الشرح: ((وإذا كان المشغول رافعًا لشاغله فسرّ لصاحب الضمير, وينقسم ذلك الرفع إلى: واجبٍ مرجوحٍ, ومساوٍ

كما انقسم النصب, ومثال الواجب رفع زيد في قولك: إنْ زيدٌ قام قمتُ, ومثال الراجح رفعه)) في نحو كذا إلى أنْ مثّل المرجوح بقوله: ((زيدٌ قام)) فقد ثبت أنّه موافق لمن قال بذلك, فإحالته الرفع على النصب على هذا التقدير صحيحٌ حسنٌ, وإنّما يبقى النظرُ في وجه مخالفة الجماعة أو مخالفة دليلهم. أمّا مخالفة دليلهم فلا دليل لهم على خلاف ماقال, بل هو الذي زافق قولُه الدليل اعتبارًا بما ظهر, وهو قولهم: زيدًا ضربتُه, فإذا كانوا هنا قد أضمروا مع إمكان رفعه بالابتداء, فكذلك ندّعي أنّهم اضمروا أيضًا في: زيدٌ قام, إذ لا فرق إلّا أن يقال: إنّا مضطرون مع النصب على إضمار الفعل, بخلاف ما إذا كان مرفوعًا فإنّه لا داعية إليه, فنقول: وكذا لا داعية إليه في: أزيدٌ قام, بل ولا في: إنْ زيدٌ قام؛ لإمكان رفعه على الابتداء. وقد قاله الأخفش في (إنْ) فغيرُها أولى أنْ يقالَ بذلك فيه. فإن قيل: فإنّ (إنْ) لا يليها إلّا الفعل, والاستفهام طالبٌ بالفعل فلا بدّ من إضماره حيث فهمنا أنّ العرب تضمره حملًا لما خَفِيَ على ما ظهر. قيل: هذا هو بعينه الذي راعاه ابن العريف؛ فرُدّ عليه. لأنّه حَمَلَ: زيدٌ قام على: زيدًا ضربتُه. فإن قيل: قد تقرّر في هذا الباب أنّه لا يفسّر إلّا ما يصحّ أنْ يعملَ, وقام لا يعمل في زيد مقدّما عليه بخلاف: زيدًا ضربتُه, فإنّ ضربتُ يصحّ عمله في زيد مقدّمًا عليه. قيل: فيلزمكم ألّا يُفسّر في نحو: أزيدٌ قام, وإنْ زيدٌ قام قمتُ, فإنّ قام لا يعمل هنا في زيدٍ مقدّمًا عليه عند الجميع إلّا من شذّ, ولا فرقَ بين الموضعين البتةَ, فلا بدّ من القول بمنع الإضمار في الجميع أو جوازه في

الجميع, وهو دليلٌ قاطعٌ. وأما مخالفةُ إجماعهم فهو أشدُّ إن ثبتَ أنّ العريبَ لا يقول أحدٌ منهم بقوله, ولكن يُجاب عنه بأمرين بناءً على أنّه حجةُ خلافًا لابن جنى$ فإنّه لم يوافق في تلك المخالفة حسب ما تبيّن في الأصول, فأحد الأمرين: أنّ هذا الغجماع منازع في أصله ابتداء؛ فإنّ الفارسي نقل في التذكرة عن المبرّد عين ما نُقل عن ابن العريف, وأيضًا فإنّ غايته إن ثبت أن يثبتَ بنقل الواحد؛ فإنّ نَقْلَ/ الإجماع تواترًا في هذه المسألة غيرُ موجود, وإذا ثبت آحادًا ففي كونه حجةً خلافٌ بين أهل الأصول, فمن الناس من أنكر ذلك كالغزّالي, فلعلّ رأي ابن العريف أو ابن مالك في ذلك هذا الرأي, ومع فرض ذلك لا يكون بالإجماع حجةٌ عليه. والثاني: أنّ مخالفةَ الإجماع إنّما تكون محذورةً إذا خالفه في إحداث قول بحكم يخالف ما قالوا كما لو أجمعوا مثلًا على امتناع: زيدًا ضربتُه, فخالف هذا المتأخّر وقال بجوازه أو نحو ذلك, وأما إذا أحدث تأويلًا لم يقل به أحدٌ من أهل الإجماع, فهذا ليس بمحذور عند أكثر الأصوليين, ومسألتنا من هذا القبيل؛ لانّهم اتفقوا على صحة: زيدٌ قام, وإنّما الخلافُ في وجه تأويله. فالجميع يقولون: زيدٌ مرفوعٌ على الابتداء وجوبًا, وابن العريف يقول: لا يجب ذلك بل أحملُه على وجهين: على الابتداء, وعلى إضمار الفعل قياسًا على: زيدًا ضربتُه, فلم يخالفهم في حكم بل في تأويل, فلم يكن مخالفًا للإجماع. وهذا ظاهرٌ تنزيلًا على قاعدة الأصول. وبالله التوفيق. فثبت أن مذهب الناظم أرجحُ.

وعن الخامس: أنّ تقديرَ الفعل رافعًا مع كون الضمير الشاغل منصوبًا ليس بكثير, وأكثرُ الناس على منعه, وإن كان قد خالف فيه بعض, فقد جعل الناسُ من شرط الاشتغال اتحاد العمل في المشغول عنه. وإذا كان كذلك فما قاله تقرير لذلك الشرط,, وعدم مراعاة لما سمع في ذلك من المخالفة, فكأنّه عنده غيرُ مقيس؛ فلذلك لم يعتبره. وعن السادس: أنّ اتحاد جهة النصب, وإن جعلها الناس شرطًا فليس بمتفقٍ عليه, بل هو مختلف فيه, فقد أجاز بعضُ الناس أن يقال: زيدًا جلستُ عنده, وأزيدًا جلستَ يمينه, وما أشبه ذلك, وكذلك: أزيدًا ضربتَ ضربَه, وأزيدًا أكرمت إكرامَه, وقد زعم بعضُهم أنّه يظهر من سيبويه إجازة ذلك في الظرف المتصرف: نحو: أزيدًا جلستَ يمينه, فإن كان كما قال فذلك الشرط ساقطٌ- أعني شرط اتحاد جهة النصب- وقد قال سيبويه في قولك: يومَ الجمعة سرتُه: إنّ النصبَ فيه كالنصب في: زيدًا ضربتُه, قال: ((إلّا أنّه شاء نصبه بأنّه ظرف, وإن شاء أعمل فيه الفعل كما أعمله في زيد؛ لأنه يكون ظرفًا وغير ظرف)). ففهم الشلويين من هذا الكلام أنّه يُجيز أن ينتصب السابقُ من غير الوجه الذي انتصب ضميرُه أو سببُه, واستشكله لذلك. وتأوّله. فعلى الجملة إذا كانت المسألة مختلفًا فيها لم ينبغ أن يُقْطَعَ على الناظم أنّه أهملَ شرطًا معتبرًا لإمكان ألّا يكونَ عنده معتبرًا, بل هو ظاهر منه هنا, وفي التسهيل حيث لم يشترطه, ولا نصثّ على اعتباره.

وأمّا شرط اتحاد الاسم السابق فظاهرُ لفظه اعتبارهُ؛ لأنّه قال: ((إنْ مضمرُ اسم سابقٍ فعلًا شغل)). ولم يقل اسم أو أكثر من اسم, وهذا, وإن كانت العرب تطلق الاسم النكرة وتريد به الجنس, فإنّها تطلقه وتريد به الواحد من الجنس, فتقول: هذا رجلٌ, فيحتمل الوجهين, فأظهر الإطلاقين أنْ يراد الواحد من الجنس, وعلى هذا لا إشكال؛ إذ قد حصل/ به الشرط المراد, ويحتمل أن يُراد الجنس. وعلى هذا المحمل في كلام الناظم يكون مائلًا لمذهب الأخفش؛ إذ أجاز أنْ يعمل الفعل المقدّر في أكثر من واحد, فتقول: إنْ زيدٌ عمرًا يضربه, وأزيدٌ عمرًا أكرمَهُ, على تقدير إنْ يضرب زيدٌ عمرًا يضربه, وأأكرم زيدٌ عمرًا أكرمه, ولا بُعدَ في أن يكون قد ذهب إلى هذا, وقياسه على الواحد ظاهرٌ, وأيضًا فقد قال الشلويين: إنّ سيبويه موافقٌ لأبي الحسن في المسألة, وليس بينهما خلاف. وإذا كان كذلك فليس اتحاد المعمول بشرط عند سيبويه. والمشترطون إنّما اعتمدوا في الغالب على رأيه ثم استدلوا, فإذا كان سيبويه موافقًا لم يبق إلّا الدليل ودليلُ الجواز أظهرُ مع أنّا إنْ فرضنا سيبويه يجيز العمل المقدّر في أكثر من واحد فلا يجيزه إلّا لسماع, وأكثرُ الناس حملوا كلام الأخفش على المخالفة, واحتجّوا لسيبويه بأنّ بابَ الاشتغال سماعيٌ فلا ينبغي أن يُتعدّى المقطوع به منه. فالحاصل أنّ كلامَ الناظم لا نقصَ فيه إذا حُمِلَ على كلّ واحد من المذهبين. وعن السابع: أنّ مراده الموافقة المعنويّة وما ألزِم عليه لا يلزم, فإنّ لابستُ المقدّر في: زيدًا رأيتُ أخاه موافقٌ لرأيت الظاهر؛ إذ الملابسةُ العامةُ لم تُرَد هما. وإنّما أُريدَ الملابسةُ الخاصة, وهي رؤية الأخ, فلابست بحسبِ القصد

إنّما معناه: رأيتُ الأخَ, فاتّفَقضا من جهة المعنى المقصود, وإنّما قدّروا لابستُ ليكون مسلّطًا على زيد فيصحَ المعنى ويَتَنَزّل على نصب اللفظ. وإذا قلتَ: زيدًا مررتُ بأخيه, فمرورك بالأخ ملابسة لزيد من جهة ما, وتلك موافقة في المعنى, وكذلك: زيدًا مررت به إذا قدّرْت: جاوزتُ زيدًا مررت به, فهي موافقة المعنى ظاهره$, وعلى هذا التقرير يجري سائر الباب. وقد بيّن سيبويه هذا المعنى وبيّن وجهه. فقال في: زيدًا مررتُ به: ((كأنك قلتَ إذا مثّلت: جعلتُ زيدًا على طريقي مررتُ به, وقال في: زيدًا لقيتُ أخاه: ((وإن شئت نصبتَ؛ لأنّه إذا وقع على شيء من سببه فكأنّه قد وقع به)). قال: ((والدليل على ذلك أنّ الرجلَ يقول: أهنتَ زيدًا بإهانتك أخاه, وأكرمتَه بإكرامك أخاه. وهذا النحو في كلامهم كثير, ويقول الرجل: إنّما أعطيتُ زيدًا, وإّنما يريد لمكانِ زيدٍ أعطيتُ. قال: ((وإذا نصبتَ زيدصا لقيتُ أخاه, فكأنّه قال لابستُ زيدًا لقيتُ أخاه. وهذا تمثيل ولا يُتكلّم به فجرى على ما جرى عليه: أكرمتُ زيدًا, وإنّما وصلت الأثرةُ إلى غيره)). هذا ما قال وفيه كافٍ في بيان اتفاق معنى الظاهر ومعنى المقدّر. وهو الذي أراد الناظم فلا حاجة إذًا إلى ما قال في التسهيل من القاربة. والله أعلم. ثم أخذَ الناظمُ في تفصيل الحكم في نصب الاسم السابق, وجعله خمسةَ أقسام: واجبٌ النصب, وممتنعٌ فيه النصب, فلا بدّ من الرفع, ومختارٌ فيه/ النصب, ومختارٌ فيه الرفع, وما استوى فيه الرفع والنصب. وابتدأ بما يجب فيه النصب فقال:

والنّصبُ حَتْمٌ إنْ تلا السَّابِقُ ما ... يَخْتَصُّ بالفعل كإنْ وحَيْثُمَا وهو القسم الأل, فيريد أنّ النصب السابق, وهو الاسم المتقدم على الفعل حتمٌ, أي واجب ويضمر له فعلٌ موافق وجوبًا إذا تلا ذلك الاسمُ أداةً من الأدوات التي تَخْتَصُّ بالفعل فلا يقع بعدها إلّا الفعل, ومثّل ذلك بأداتين من أدوات الشرط, وهما: إنْ, وحيثما, فإمّا (إنْ) فنحو: إنْ زيدًا أكرمتَه أكرمَك, وإنْ عمرًا أهنتَه أهانَك, فنصبُ زيدٍ وعمرو ههنا واجبٌ؛ لوجوب تقدير الفعل بعد (إنْ)؛ لأنّ (إنْ) لا يليها إلا الفعل ظاهرًا أو مضمرًا, فإذا لم يكن ظاهرًا فلا بدّ أن يكونَ مقدّرًا, فلا يجوزُ هنا: إنْ زيدٌ أكرمتَه أكرمَك, وما جاء ممّا ظاهره ذلك فليس على الرفع بالابتداء, وإنّما هو على تقدير فعلٍ رافع كما أنشدوا بيت النّمِر: *لاتجزعي إنْ منفِسٌ أهلكتُه* فهو على تقدير: إن هلَكَ منفسٌ أهلكتُه, وكذلك قوله: *أتجزع إنْ نفسٌ أتاها حمامها* وقوله: *فإنْ أنت لم ينفعك علمك ... * فكل ذلك على إضمار فعلٍ رافعٍ لا على الابتداء. وبهذا الكلام يظهر انّ مذهبَه مذهبُ الجمهور في أنّ (إن) الشرطية لا يقع المبتدأ بعدها. ونقل ابن جنى$ في كتاب الخاطريات, واين الأنباري عن الأخفش إجازة ذلك, وهو رأي لا يُساعد عليه؛ إذ لم يجيء قطُّ في كلامهم مثل: إنْ زيدٌ قائمٌ قمتُ, ولا حجّةَ فيما أنشده سيبويه:

إن تركبوا فركوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تَنْزِلونَ فإنَّا معشرٌ نُزُلُ فإنّه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه, وأيضًا فهو مؤوّلٌ على غير تقدير (إنْ). وأمّا حيثُما فمثالُه: حيثما زيدًا تُجلسه أجْلِسُ, فزيدًا يجب نصبُه بإضمار فعل, لأنّ حيثما طالبةٌ بالفعل وجوبًا. وهذه الأمثلة تشير إلى ما كان في معناها؛ لأنّه قال ككذا, فإنّه يدخل في المعنى كلّ اداة لا يليها إلّا الفعل, كأدوات التحضيض نحو: هلّا زيدًا ضربتَه, وألّا عمرًا اكرمتَه, ولولا زيدًا أعطيته كذا, ولا يجوز الرفعُ في هذه الأشياء. ومن ذلك أيضًا (لو) إذا قلت: لو زيدًا أكرمتَه لأكرمك, فزيدٌ هنا يجب نصبه لاختصاصها بالفعل, فلذلك لا يقع بعدها اسمٌ إلّا وبعده فعلٌ, فيقدّر للاسم السابق ناصبٌ, وقد قدّروا له رافعًا في قوله تعالى: {قُلْ لو أنْتُم تَمْلِكونَ خَزائنَ رَحمَةِ رَبّي} الآية. وفي تمثيله بحيثما إشكال, وذلك أنّ ما اختص من الادوات بالفعل قسمان: أحدهما: ما جاز إن$ يليه الفعلُ ظاهرًا أو مضمرًا كإنْ, وسائر ما تَقدّم التمثيل به. وهذا القسم هو الذي يجري معه الحكم المذكور, لأنّ وقوعَ الاسم بعده يليه ليس بقبيح إذا كان على إضمار الفعل لا على تقديمه إنْ كان متأخرًا, نحو: إنْ زيدًا ضربتَ أكرمك, فإنه قبيح لا يجوز إلّا في الشعر, فمثل هذا

يدخل في باب الاشتغال لصحة إضمار الفعل للاسم الذي/ يلي الأداة. والثاني: ما لا يجوز أنْ يليه الاسم لفظًا أصلًا, ولا يجوز انْ يليهُ الفعلُ مضمرًا, بل تلزم ولايتُه له ظاهرًا, ومن القسم حيثما؛ إذ لا يجوز أن تقولَ: حيثُما زيدًا أقعدته اقعُد, وكذلك لا تقول: حيثما زيدًا تُجلِس أجلس إلّا أنْ يُضطرّ شاعرٌ فيجوز في الشعر خاصة. ومثل حيثما في ذلك سائر أدوات الشرط سوى إنْ, وجميع أدوات الاستفهام سوى الهمزة. وكذلك قد وسوف لا يليها إلّا الفعل ظاهرًا إلّا أنْ يضطرّ شاعرٌ فيجوز أنْ يليها الاسم على تقدير ولاية الفعل. ومن هذا القسم الذي لا يليه إلّا الفعلُ ظاهرًا ما يَتَنَزّلُ من الفعل منزلة الجزء, فلا يليه الاسم في الكلام, ولا في الشعر, وذلك كالسين التنفيسيّة, وما أشبه ذلك. وإذا ثبت هذا فتمثيلُه بحيثُما يقتضي جواز مثله في الكلام, وذلك غيرُ صحيح. والجواب: أنّه قال: ((إنْ تلا السابق ما يختّص بالفعل كإنْ وحيثُما)) فقيّد الاختصاص بأنْ يكونَ كاختصاص إنْ أو كاختصاص حيثُما, ومعلوم أنّ إنْ لا يلزم إظهار الفعل بعدها, فيدخل معها ما كان مثلها كما تقدّم, وأمّا حيثما فيلزم إظهارُ الفعل بعدها في الكلام ولا يلزم في الشعر, بل هي في الشعر كإنْ في الكلام, وهذا في حيثما معلوم أيضًا في أخواتها, فيدخل معها ما كان مثلها في هذا الباب إذا وقعت في الشعر, ولم يقيّد الناظم هذا الحكم بالكلام دون الشعر, بل إنّما تعرّض إلى أنّ مثلَ هذا إنْ وقع, وتُصُوّرت فيه صورةُ الاشتغال, فيجب نصبُ الاسم السابق بفعلٍ مضمر, فاتّفق أنّ المسألة في إنْ تُتَصَوَّرُ في الكلام, وفي حيثُما إنّما تُتَصوّر في الشعر, فإذا تُصوّرت ثَبَتَ حكمُها كذلك, فعلى هذا ما كان من الأدوات لا يليه إلّا الفعلُ ظاهرًا غيرُ داخلٍ له البتة, إذ لم يطلق كلامه, بل قيّده بالمثال, ولا مثالَ له في هذا القسم, فلا

يدخل له. وما كان منها يليه الفعلُ مضمرًا أو ظاهرًا في الشعر فقد دخل له بحيثما؛ وإنّما نبّهَ على هذا القسم لأمرين: أحدهما: خوفًا من توهّمِ أنّ الاشتغالَ لا يدخل في ضرورة الشعر, فبيّن أنّ الاضطرار, وعدمه في دخول الاشتغال على حدّ سواء. والثاني: أنّ سيبويه قد بوّب على ذلك, وقسّم الأدوات التي لا يليها إلّا الفعل ذلك التقسيم, فأراد الناظمُ أن يحذو حذوَه؛ لانّ أكثر الناس يطّرِحونَ ذكر الاشتغال في الضرورة, ولا يعتنون به, فإذا كان كذلك فإذا اضطرّ شاعرٌ أنْ يقولَ: إذا ما زيدًا ضربتَه أضرِبُهُ, وجب نصبُ زيدٍ بإضمار فعل يفسّره الظاهُر. وكذلك: أيّانَ تضربْهُ أضرِبْهُ, ومتى زيدًا تأتِه يكرمْكَ, وأينما زيدًا تكرمْهُ, يركمْك. وما أشبه ذلك. وقد جاء في الشعر لكن مع الرفع أنشد سيبويه: صَعْدَةٌ نابِتَةٌ في حائرٍ أيْنَمَا ... الريح تُمَيِّلْهَا تَمِلْ وأنشد أيضًا لعَدِي بن زيد: فمتى واغِلٌ يَنْبُهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي وكذلك أدوات الاستفهام سوى الهمزة, فتقول إذا اضطُرِرْتَ: هل زيدًا ضربتَه؟ فتنصب وجوبًا, وكذلك: متى زيدًا رأيتَ أخاه؟ وأين زيدًا لقيتَه؟ وكيف زيدًا

وجدتَه؟ . وعلى هذا الحكم سائر أدوات الاستفهام/ حدثنا شيخُنا أبو عبدالله بن الفخّار -رحمة الله عليه- أنّ بعض المتكلمين على هذه المسألة من كتاب سيبويه ألقاها على طلبته, فقال: كيف يقال: هل زيدٌ ضربتَه أم هل زيدًا ضربتَه؟ رفعًا أم نصبًا, فرفع قومٌ بالابتداء إلحاقًا لهل بالهمزة في جواز ذلك, والتزم قومٌ النصب بإضمار فعلٍ ليليَها الفعلُ تقديرًا؛ إذ ليس لها تصرّف الهمزة, ولا أصالتها, فصوّب الشيخ هذا الثاني, وخطّأ الأول, قال: وكان بالحَضْرَةِ بعضُ المشارقة فقال: كلّ ذلك خطأ, وأخرج المسألة من الكتاب, وأنّها لا تجوز إلّا في الشعر, قال سيبويه: ((فإن قلتَ: هل زيدًا رأيتَ, وهل زيدٌ ذهب قَبُحَ, ولم يَجُز إلّا في الشعر؛ لأنّه لما اجتمع الفعلُ والاسم حملوه على الأصل)). قال: ((فإنْ اضطُرّ شاعرٌ فقدّم الاسم نَصَبَ)). قال السيرافي: يعني أنّه يقال: هل زيدًا رأيتَ أو رأيتَه, ثم بَسَطَ سيبويه الكلام في ذلك المعنى, فانظره في كتابه. ومثل ذلك: قد زيدًا رأيتُه, وسوف زيدًا أضربُه, ولم زيدًا أضرِبْهُ, ولن زيدًا أضرِبَهُ, وقلّما زيدًا أضرِبُه, وربّما زيدًا أضربُه. قال سيبويه: ((فممّا لا يليه الفعلُ إلّا مظهرًا سوف, وقد, ولما, ونحوهن, فإن اضطرّ شاعرٌ فقدّم الاسم, وقد أوقعَ الفعل على شيء من سببِه, لم يكن حدّ الإعراب إلّا النصب, وذلك نحو: لم زيدًا أضربْهُ, لأنّه سضمر الفعل إذا كان ممّا يليه الاسم فهذا كلّه داخلٌ تحت إشارة حيثُما على التقدير المذكور. والله أعلم.

وإن تلا السابقُ ما بالابتدا ... يختَصُّ فالرفعَ التَزِمْهُ أبَدا كذا إذا القعلُ تلا ما ين يَرِد ... ما قبلَه معمولَ ما بَعْدُ وُجِد هذا هو القسم الثاني من أقسام الاسم السابق, وهو الواجب فيه الرفع, وعيّنَ له موضعين: أحدهما: أنْ يقعَ بعد أداةٍ تَخْتَصُّ بالابتدا, أي لا يكونُ ما بعدها إلّا مبتدأ, فقوله ((وإن تلا السابق كذا)) يعني: أنْ يقعَ الاسم المشتغلُ عنه بعد الأداة المختصّة بالابتداس$, واليًا لها, و (بالابتداء) متعلّقٌ بيختصّ, وهما في صلة ما. ومن الأدوات المختصّة بالابتداء (إذا) التي للمفاجأة, فإذا قلت: خرجتُ فإذا زيدٌ يضربُه عمرو, فزيدٌ هها يلزم رفعُه, ولا يجوز نصبه؛ لانّ إذا من أدواتِ الابتداء, فلو نصبت لم يلها الابتداء, وكانت تخرج عن وضعها, وكانت تخرج عن وضعها, وكذلك لولا, ولو ما اللتان هما أداتا امتناع لوجود, لا يليها إلّا الاسم, فالابتداءُ بعدهما لازمٌ, فإذا جاء خبرُه فعلًا واقعًا على ضميره أو سببه حيث أجازه المؤلف فالاسم السابق مرفوعٌ على الابتداء, كقول المحبسين: *فلولا الغٍمْدُ يُمْسِكُه لسالا* وضمير الأول هنا مرفوعٌ فلو جاء مثله: لولا زيدٌ أكرمتُه لكان كذا, لوجب رفعُه بالابتداء, والجملة خبرُه, وعلى جواز إظهار الخبر بعد لولا بني التمثيل, والمثال المشهور في هذا الموضع مثال إذا, وعليه بنى القاعدة؛ ولذلك أكّد التزام الرفع بقوله (أبدًا) , وكان يجزيه أنْ يقول: فالرفعُ لازمٌ, فكأنّه أكدّ تنبيهًا على

مخالفته لظاهر سيبويه فيها, وظاهر كلامه أنّها كأمًا يجوزُ معها الرفعُ والنصبُ, وإنْ كان الرفعُ أولى, قال سيبويه: ((فإنْ قلتَ: لقيتُ/ زيدًا, وأمّا عمروٌ فقد مررتُ به, ولقيتُ زيدًا وإذا عبدُالله يضربُه عمروٌ, فالرفع إلّا في قول من قال: زيدًا رأيته, وزيدًا مررتُ به؛ لأنّ أمّا وإذا يُقطَعُ الكلام -يعني أنّهما ليسا بحرفي عطف- وهما من حروف الابتداء يصرفان الكلام إلى الابتداء إلّا أنْ يدخل عليهما ما يَنصِب, ولا يُحْمَلُ بواحد منهما آخرٌ على أول كما يحمَلُ بثُمّ والفاء ألا ترى أنّهم قرَءوا {وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُم} وقبلَه نَصْبٌ- يعني قوله: {فأرْسَلْنَا عليهم ريحًا صَرْصَرًا}. وذلك لأنّها تصْرِفُ الكلام إلى الابتداء إلّا أنْ يقعَ بعدها فعلٌ, نحو: (0 وأمّا زيدًا فضربتُ)). هذا ما قال سيبويه, والظاهر منه أنّ حكم إذًا عنده حكمُ أمّا, وخالفه ابن مالك, وقال: ((لاينبغي أن تُلْحَقَ إذا بأمّا؛ لأنّ أمّا وإن لم يَلِها فعلٌ فقد يليها معمولُ الفعل المفرّغ كثيرًا نحو: {فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَر وأمّا السائل فلا تَنْهضر} وقد يليها معولُ فعلٍ مقدّر بعده مُفسّر مشفولٌ كقراءة بعض السلف {وأمّا ثَمود فَهَدَيْناهُم} قال: ((وإذا لم يلِ (إذا) فعلٌ ظاهر, ولا معمولُ فعلٍ إنّما يليها أبدًا في النثر والنظم مبتدأ, وخَبَرٌ منطوق بهما, أو مبتدأ محذوفُ الخبر, فمن أولاها غيرَ ذلك فقد خالف كلام العرب, فلا

يلتفت إليه, ولو كان سيبويه)). وما ذهب إليه المؤلف في كلام سيبويه من حمله على ظاهره, والتخطئة له قد ذهب إليه السيرافي قبله. والناس في ذلك الظاهر فريقان: منهم من حمله على ظاهره, ومنهم من تأوّله, فالذين حملوه على ظاهره خطّؤُوه كالناظم أو من جرى مجراه, والذين تأوّلوه حملوه على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنّه قرن إذا بأمّا؛ لأجل أنّهما لا يُعطفُ بهما ثم شركهما معًا في النصب, وهو يريد أمّا خاصة كقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُما} ثم أفرد الكلام في أمّا, وبها مثّلَ دون إذا. وإلى هذا أشار ابن خروف. والثاني: أنْ يكونَ أجاز الحمل على الفعل معهما معًا لكن من وجهين مختلفين. أمّا في أمّا فلما ذكر, وأمّا في إذا فعلى إضمار مبتدأ قبل المنصوب, فإذا قلتَ: خرجتُ فإذا زيدٌ تضربه, جاز على تقدير: فإذا أنت تضربُ زيدًا تضربه, لأنّ سيبويه أجاز أن تقولَ: خرجتَ فإذا مَنْ يضربْكَ تضرِبْهُ مجزومًا على إضمار المبتدأ, كأنّه قال: فإذا أنت من يضربْكَ تضرِبْهُ, ومنْ قد تكون مفعولةً, فكذلك يسوغ أنْ يقعَ بعدها الفعلُ على إضمار مبتدأ. والثالث: أن يريد أنّ أمّا وإذ يقْطَعان ما بعدهما عمّا قبلهما فيكون بعدهما المبتدأ, ولم يتعرّض للزوم ذلك, فإن جاز بعدهما النصب فإنّما يجوز على من قال: زيدًا ضربتُه, إنء لم يمنع من ذلك مانعٌ. وقد وُجِد المانع في (إذا) فلا ينصب بعدها الاسم. وهذا يُعزْى للشلويين, وما قبله لبعض المتأخرين.

وللكلام هنا مجالٌ أوسع من هذا, والمقصود إنّما هو التنبيه على أنّ سيبويه غيرُ صريح في مخالفة الجماعة, وإنْ كان له ظهورٌ فيها, والناس في يختلفون؛ فلأجل هذا الخلاف قال الناظم: ((فالرفع التزمه أبدًا)) فأكّدّ, وقرّر أنّه غير مرتضٍ لذلك الظاهر؛ وذلك لبُعْدِه عن كلام العرب, وبُعد تأويله, ولكنّ الذي تحصل من الجميع/ أنّ ما أكّدهُ الناظم من الحكم صحيحٌ عند الجميع غير ظاهر سيبوي. والثاني من موضعي وجوب الرفع: أنْ يفصلَ بين الاسم السابق والفعل المشغول عنه ما يمنع من عمله فيه لو لم يشتغل عنه, وذلك قوله: ((كذا إذا الفعل تلا ما لن يرد)) إلى آخره يعني: أنّه يجب رفعُ السابق أيضًا إذا وقع الفعلُ بعد أداةٍ لا يكون ما قبلها معمولَ ما بعدَها, فقوله: ((كذا إذا الفعل تلا)) أي تبع, وما واقعة على الأداة الفاصلة بين السابق والفعل, وهي موصولة صلتها لن يرد إلى آخره, وما الثانية فاعلةٌ بيَردِ, وقبلَه صلتها, وما الثالثة مضافٌ إليها معمول, وهي واقعة على الفعل المشغول وما حلّ محلّه وصلتها (وُجِد) , و (بعد) متعلّق بوُجِد, والتقدير: كذا إذا تلا الفعلُ المشغولُ حرفًا لن يرِد الاسمُ الذي قبله معمولًا للفعل الذي وُجدَ بعده. ولهذا الموضع أمثلة كثيرة نكتفي منها بعشرة: أحدها: أن يَفْصِل بين الفعل والاسم السابق ما التعجبيّة, نحو: زيدٌ ما أحْسَنَهُ, فإنّ (ما) هنا لها صَدْرُ الكلام, فلو فُرِضَ جواُ تقدّم معمول الفعل عليه لمنعته ما. والثاني: أن يفصل اسمٌ موصول, نحو: زيد الذي ضربتُه, فلا يجوز نصبُ زيد؛ لأنّ معمول الصلّة لا يتقدّم على الموصول, وكذلك زيد أنا الضارِبُه. والثال: الحرف الموصول كقولهم: أَذَكرٌ أنْ تَلِدَهُ ناقتُك أحبّ إليك أم أنثى؟ فَذَكرٌ يجب رفعُه؛ لأنّ المشغول عنه في صلة أنْ, ولا يتقدّم معمولُ

الصلة على الموصول. والرابع: أنْ يكون الفاصلُ اسمًا مضافًا إلى الفعلِ, نحو: زيد حين ألقاه يُسَرُّ, فلا يصحّ أنْ يعمل ألقاه في زيد؛ لأنّه يصير كالجزء من الجملة المضاف إليها الظرف, وجزء من المضاف إليه لا يَتَقدّمُ على المضاف, فلا يفسّر مقدّرًا قبل المضاف, إذ لا يفسّر إلّا ما يصحُّ أنْ يعملَ. ويجري مجْرى هذا سائر الظروف إذا أضيفت إلى الجملة, كما أنّه يجري مجرى أنْ ما كان نَحْوَها, ومجرى الذي ما كان نَحْوَها. والخامس: أنْ يقع الفصل بأداة شرطٍ, نحو: زيدٌ إنْ تضرِبْهُ يضرِبْكَ, وزيدٌ متى تكرِمْهُ يكرِمكَ, فلا يجوز نصبُ زيد, لأنّه لا يصح عمل الفعل فيه لمكان أداة الشرط؛ إذ لها صَدْرُ الكلام. والسادس: أدوات الاستفهام, نحو: زيدٌ هل رأيْتَه؟ وعمروٌ متى لقيتَه؟ وبكرٌ كمْ مرةً لقيتَه؟ وما أشبه ذلك, فلا يجوز النصب هنا؛ لأنّ أدوات الاستفهام لا يصح عملُ الفعل بعدَها فيما قبلها, فلا يُفَسَّر عاملًا فيه. والسابع: كم الخبرية نحو: زيدٌ كمْ مرةٍ لقيتَه؟ , وفيها ما في الاستفهامية. والثامن: أداةُ التحضيض أو العَرْض نحو: زيدٌ هلّا أكرمتَه, وعمرو ألَا ضربتَه, وما أشبه ذلك؛ وإنّما لزِمَ الرفعُ للمعنى الذي في الاستفهام, والشرط. والتاسع: أداةُ الاستثناء نحو: ما زيدٌ إلّا يضرِبُه عمروٌ, فلا يكون في زيدٍ إلّا الرفع, لأنّ إلّا لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلها. والعاشر: المعلّق إذا وقع الفصل به, نحو: ما, ولام الابتداء, والقسم, فتقول: زيدٌ ما ضربَهُ عمروٌ, وزيدٌ ليكرمُهُ عمروٌ, وزيدٌ لَيُكْرِمَنَّهُ أخوك.

فليس في زيدٍ في هذه المثُل إلّا الرفعُ؛ إذ لا يعمل ما بعد هذه/ الأدوات فيما قبلها, فلا يُفَسّرُ عاملًا. والحاصل أنّ كلّ ما يمنع أنْ يعملَ ما بعده فيما قبله إذا فَصَلَ بين الفعل والاسم السابق لم يكن في الاسم السابق معها إلّا الرفعُ بالابتداء. واختِيرَ نصْبٌ قبلَ فعلٍ ذي طَلَبْ ... وبعدما إيلاؤه الفعلَ غَلَبْ وبعد عاطفٍ بلا فصلٍ على ... معمولِ فعلٍ مستقرٌّ أوَّلا هذا هو القسم الثالث: وهو الذي يُخْتارُ فيه نصب الاسم اليابق وعيّن له بثلاثة مواضع: أحدهما: أنْ يكونَ الفعلُ المفسِّر طلبيًا, وهو قوله: ((قبلَ فعلٍ ذي طلب)) يعني أنْ يكون الاسمُ قبلَ فعل فيه طلبٌ أو معه ما يقتضي الطلب؛ إذ لم يقيّد الطلبَ بكونه بأداة أو بغير أداة, ولا هل هو أمر, أو نهي, أو غير ذلك, فاشتمل من حيث الإطلاق على جملة ذلك. والطلبُ أيضًا يكون أمرًا, ونهيًا, ويكون دعاءً, وجميع ذلك يُختارُ معه النصب كما قال, ومثال ذلك: زيدًا اضرِبْه, وعمرًا امرُرْ به, وخالدًا أضربْ أباه, وزيدًا اشتر له ثوبًا, وكذلك مع أمّا, نحو: أمّا زيدًا فاضربه, وأمّا عمرًا فامرر به, ومن ذلك الطلب المستفاد من الأدوات الداخلةِ على الفعل, نحو: زيدًا لتضْرِبْهُ , وعمرًا لتُكرِمْ أباه, وبكرًا لا تضربْهُ, وزيدًا ليَضْرِبْهُ عمروٌ, وخالدًا لا يقتلْ أخاه زيدٌ, فكلّ هذا الوجه فيه النّصب, ويجوز الرفع, ولكنّه مرجوحٌ, فتقول: زيدٌ أضربه, وعمروٌ امرر به وخالدٌ أضرب أباه, وكذلك سائر المسائل. وممّا يدخل في هذا النمط الدعاء كقولك: زيدًا غفر الله له, وزيدًا أكرمَهُ الله, واللهم زيدًا فاغفر له, وزيدًا فأصلِح شأنه, وعمرًا ليجزِه اللهُ خيرًا,

وأنشد سيبويه لأبي الأسود الدؤلي: أميرانِ كانا آخَيَاني كلاهما ... فكُلّا جزاه اللهُ عني بما فَعَلْ فهذا يُختارُ فيه النصب أيضًا. ويجوز الرفعُ, فتقول: زيدٌ أكرمَه الله, وزيدٌ غفر اللهُ له واللهُمّ زيدٌ فاغفر له, وما أشبهه. وإنما اختير النصبُ هنا؛ لأنّ الطلبَ إنّما يكونُ بالفعل فهو يطلبه فكان الأولى حمْلَ الكلام عليه, وتركَ الحمل على الابتداء. والثاني من مواضع اختيار النصب أنْ يقعَ الاسمُ السابقُ بعد أداةٍ يغلب ولايتها للفعل وذلك قوله: ((وبعدما إيلاؤه الفعل غَلضب)) فقوله (وبعدَ) معطوفة على (قبْلَ) والتقدير: اختير نَصْبٌ بعد ما إيلاؤه الفعلَ غَلَبَ, وما واقعةٌ على الأداة, والإيلاء مصدر أوليته كذا: إذا جعلته يليه, كأنّه قال: وبَعْدَ الأداة التي غَلَبَ عليها أن يَليهَا الفعلُ, فمن ذلك همزة الاستفهام, ونحو: أزيدًا ضربته؛ النصب أولى لأنّ الاستفهام يطلب بالفعل, ويجوز الرفع فتقول: أزيدٌ ضربتَه. وإنّما خالفتِ الهمزةُ ساءر أدوات الاستفهام لأنها أمّ الباب, فوقع التّصرف فيها بخلاف غيرها, فجاز فيها ما لم يجز في غيرها, ونظيرها (إنْ) من بين سائر أدوات الشرط. ومن النّصب بها قولُ جرير أنشده سيبويه: أثعلبةَ الفوارسِ أم رياحًا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيّةَ والخِشَابا

/ ومن ذلك ما, من حروف النفي شبّهوهما بحروف الاستفهام في أنّ الكلامَ معهما غير واجب, فاختير معهما النصب, نحو: ما زيدًا ضربتَه, ولا عمرًا كلّمتَه, وأنشد سيبويه لهُدبة بن خَشرم: فلا ذا جلالٍ هِبْنَهُ لجلَا لِهِ ... ولا ذا ضَيَاعٍ هُنَّ يَتْرُكْنَ للفَقرِ وأنشدَ أيضًا لزُهير بن أبي سلمى: لا الدّارَ غيّرَها بَعدِي الأنيسُ ولا ... بالدار لو كلّمت ذا حاجةٍ صَمَمُ وقال جرير: فلا حَسَبًا فَخَرْتَ به لِتَيمٍ ... ولا جَدَّا إذا ازدحم الجُدودُ وإنّما مَثّلتُ هنا بما ولا اتِّباعًا لرأيه فيهما, إذ جعلهما في التسهيل وشرحه ممّا يُختارُ معه النصب, وهو مذهبٌ لبعض النحويين. وبعضُهم جعل الوجهين

متقاربين أو متساويين, وإليه مال ابنُ أبي الربيع, وقال: إنّه الظاهرُ من كلام سيبويه. وكلام سيبويه مُحتَمِلٌ؛ إذ قال: ((وإن شئت رفعت- يعني بعد ما ولا- والرفع فيه أقوى- يعني منه في الاستفهام- لأنّهن نَفْيّ واجبٍ يثبتدا بعدهن, ويبنى على المبتدأ بعدهن, ولم يبلغن أنْ يَكُنَّ مثلَ ما شُبِّهْنَ به)). فهذا الكلام محتملٌ لأن يكون موافقًا لرأي المؤلف؛ إذ لا يلزم من كون الرفع أقوى هنا منه مع الاستفهام أنْ يكون مساويًا للنصب, كما يَحْتَمِل ما قال ابنُ أبي ربيع. وما ذهب إليه في شرح التسهيل قد يظهر منه هنا؛ إذ لو كان رأيُه هنا مخالفًا لنبّه عليه في القسم الرابع, ولم يفعل, فليس عنده منه, ولا من الخامس الذي يرجح به الرفع؛ لأنّه لا قائل به فما أعلم إلّا ابنُ الطراوة تأويلًا على سيبويه أنّه يريد: والرفع أقوى من النصب, ثم رجع عن ذلك آخرًا, فبعيدٌ أنْ يذهب إليه الناظم هنا, فلم يبقَ إلّا أنّه من هذا القسم عنده. وبمنزلة ما ولا في هذا الحكم إنِ النافية, نحو: إنْ زيدًا ضربتَه, وإنْ زيدٌ ضربته. واعلم أنّي إنّما أمثّل هذه الأمور التي لم يُعيّن التمثيل بها جريًا على ما أعرفه من مذهبه في غير هذا النظم, أو على رأي البصريين الراجع هو إليهم في أكثر مسائل الرفع الواجب. فإن الخلاف فيها موجود, ولم أذكره حينَ لم يظهر من الناظم إشارة إليه, ألا ترى إلى قوله: ((وإن تلا السابقُ ما بالابتداء يختص)) إلى

آخر الفصل لم يعيّن فيه شيئًا بل أحال على ما ثبتَ له ذلك الحكم من الأدوات, فذلك الحكم قد يكون ثابتًا باتفاقٍ, وقد يكون ثابتًا باختلاف, كالفصل بأنِ المصدرية, وما النافية فإنّ الكوفيين لا يوجبون الرفع في الاسم السابق, وكذلك غيرهما من المسائل المختلف فيها؛ فلذلك وقع التمثيل فيها, وفي سائر ما تقدّم على رأي أهل البصرة. والثالث من مواضع اختيار النصب: أنْ يُعْطَف الاسمُ السابقُ على اسم عَمِلَ فيه فعلٌ متقدّم, وذلك قوله: ((وبعد عاطفٍ بلا فصلٍ على معمولِ فِعْلِ)) إلى آخره, يعني أنّ النصب اختير أيضًا في الاسم السابق على جملة الاشتغال إذا كان معطوفًا على معمول لفعل هو سابقٌ في الجملة الأولى, ومثال ذلك: ضربتُ زيدًا, وعمرًا أكرمتُه, وأكرمت أخاك وزيدًا ضربتُ أباه, ورأيتُ زيدًا/ وعمرًا مررتُ به, فمعمول الفعل هو زيد والأخ والعامل فيهما هو الفعل المستقّر أولًا في الجملة الأولى, وتحرّز بقوله: ((مستقر أوّلا)) من الجملة التي هي اسميةٌ الصدر فعليّة العَجُز, نحو: زيدٌ ضربته وعمرًا كلّمته, فإنّ الفعل في الجملة الأولى ليس مستقرّا أوّلًا, ولها حكمٌ آخرُ سيذكره, وكذلك يدخل له في قوله: ((معمول فعل)) المعمول المرفوع كما يدخل المنصوب, نحو: جاء زيدٌ وعمرًا كلّمته, وذهب أخوك وعمرًا مررتُ به, وما أشبه ذلك فكل هذا يُختارُ في النصبُ في الاسم السابق على جملة الاشتغال, ووجهُ ذلك طَلَبُ المشاكلة بين الجملتين؛ لأنّه إذا انتصب السابقُ أو ارتقع بالفعل صارت الجملةُ فعليّة, فشاكلت الجملة الأولى, وهي فعليّة, فحَصَلُ عطفُ جملةٍ فعليّة على جملة فعليّة, ولو ارتفع الاسم على الابتداء لكان من عَطْفِ جملةٍ اسميّة على جملة فعليّة فانتفت المشاكلة, وهي مختارة في كلام العرب, فكان النصبُ مختارًا, ويجوز الرفع, وإنْ كان مرجوحًا, فتقول: جاء زيدٌ وعمروٌ كلّمتُه, ورأيتُ زيدًا وعمروٌ ضربتُه. وممّا

جاء في السماع من النصب قول الله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يشاءُ في رَحْمَتِهِ والظّالِمينَ أعَدَّ لهم عذابًا أليمًا} , وقوله تعالى: {وعادًا وثمود وأصحابَ الرّسِ وقُرونًا بين ذلك كثيرًا, وكلًّا ضَربْنَا له الأمْثال} , وقال تعالى: {فَريقًا هَدَى وفَريقًا حقَّ عليهم الضَّلَالَةُ} وهو كثير, ومنه في الشعر قول الربيع: أصبحتُ لا أحملُ السلاحَ ولا ... أملِكُ رأسَ البعيرِ إنْ نَفَرا والذئبَ أخشاه إنْ مررتُ به ... وحْدي وأخشى الرياحَ والمطَرا وهذا الحكم غيرُ مُختّص بالواو وحدَها, بل يجري في غيرها من حروف العطف, ولذلك لم يقيّد عاطفًا بالذكر دونَ عاطف بل قال: ((وبعد عاطفٍ)) , فتقول: رأيتُ زيدًا ثمَّ عمرًا مررتُ به, ورأيتُ زيدًا أو عمرًا أكرمتُ أخاه, وكذلك ما جرى منها عاطفًا في بعض الأحوال, نحو: لقيتُ القومَ حتى زيدًا لقيتُه, وما رايتُ زيدًا لكنْ عمرًا رأيتُ أباه, وما أكرمتُ عمرًا بل بشرًا أكرمتُه, كلُّ هذا حكمُه حكمث الواو, وتحرّزَ بقوله: ((بلا فصل)) ممّا إذا فَصَل بين العاطف والمعطوف ما يصيّره في حكم نفسه, وذلك أمّا عمروٌ فلم أره, وجاءني زيدٌ وأمّا عبدالله فأكرمتُه, ولا يُختارُ النصب ههنا بل يكونُ حكمه في لنصب كحكمِه لو لم يُعطف على شيء, فتقول: رأيت زيدًا

وأما عمرًا فلم أره, على حجّ ما تقول: عمرًا لم أره, هذا ما لم يَعرِضُ له ما يوجبُ اختيارَ غيرِ ذلك, فيكون له حكمه, فالمقصود أنّ المشاكلة في العطف غيرُ معتبره مع أمّا. وفي حكم أمّا (إذا) التي للمفاجأة إذا قلتَ: رأيتُ عبدَالله وإذا زيدٌ يضربهُ عمرو, ومررتُ بزيدٍ وإذا عمروٌ يكرمُه بكر, وما أشبه ذلك, فإذا من أدوات الابتداء, وهي تقطع/ ما بعدها عمّا قبلها, فلا تُطْلبُ المشاكلة بينهما كأمّا, ولكن يبقى النظر في حكم الاسم السابق بعدَها, وقد تقدّم. وكذلك (إنّما) نصّ بعضهم أنّها في حكم الفصل كأما. وفي كلام الناظم هنا نظرٌ من وجهين: أحدُهما: أنّ الناس يُعبّرونَ عن هذا بأنْ تكون جملةُ الاشتغال معطوفةٌ على جملة فعليّة؛ وذلك لأنّ المسألةَ من باب عظف الجمل لا من باب عطف المفردات, والناظم عكس الأمر فجعلها من باب عطف المفردات, ألا ترى أنّه قال: ((وبَعد عاطفٍ بلا فصل عل معمول فعل)) فجعل المعطوف عليه هو معمولَ الفعل, والمعطوف لم يذكره ولكنّه مفهوم من قوّة كلامه أنّه الاسم السابق؛ إذ لا يصح أن يكون الجملة حسب ما يأتي في بابه إن شاء الله, فبَقِيَ ظاهرُ الكلام على أنّه من عَطْفِ المفردات, وذلك غيرُ صحيح؛ لأنّ ما بعد العاطف راجعٌ على حكم فعله المقدّر إن كان منصوبًا أو إلى حكم الابتداء إن كان مرفوعًا, وليس راجعًا إلى حكم الفعل الأول باتفاقٍ, فثيت أنّ العطفَ هنا عطفُ الجمل لا عطف المفردات. فإن قيل: إنّه أتى بعبارةٍ مجازيّةٍ لمّا كان الثاني منصوبًا كالأول فاعتبر صورةَ اللفظ, وإن كان الأمرُ في الحقيق بخلاف ذلك. فالجواب: أنّ هذا قد كان يمشي عُذرًا على ضَعْفِه لو كان ما قبل العاطف يلزمه النصبُ في فرض المسألة, أو كان ما بعده يلزمه النصبُ أيضًا, فكيف

وأنت تقول: قام زيدٌ وعمرًا أكرمتُه, فيختار النصب كما يختار في قولك: ضربتُ زيدًا وعمرًا أكرمتُه, وكذلك تقول: رأبتُ زيدًا وعمروٌ جاءني, قتحملُه على الفعل في الوجه المختار, وخصوصًا على طريقته في: زيدٌ قام, وأيضًا فإنَّ قوله: ((مستقر أوّلًا, إمّا أنْ يكونَ نَعْتًا لفعلٍ, وعليه شرْحُ كلامه, وإمّا أنْ يكون نعتًا لمعمول, فيدخل تحته: زيدًا ضربتُ وعمرًا كلمته, ونحو ذلك. وعلى كلا التقديرين فالكلامُ قاصرٌ, أمّا على الأول فيخرج عنه: زيدًا ضربتُ وعمرًا كلمته, ونحوه, وأمّا على الثاني فيخرج عنه: ضربتُ زيدًا وعمرًا كلمتُه, ونحو ذلك, والحكم في الضّرينِ واحدٌ في اختيار النصب. فهذه عبارةٌ مشكِلةٌ, فلو قال مثلًا عوضَ ذلك: وبعد عاطفٍ بلا فصلٍ على ... جملةِ فعلٍ استقلتْ أوّلًا أو ما يعطي هذا المعنى لاستقام الكلامُ, وكان كعبارته في التسهيل: ((أوولي كذا وكذا أو عاطفًا على جملة فعليةٍ تحقيقًا أوو تشبيهًا)). والثاني: أنّه ذكر لاختيار النصب ثلاثة مواضع, فاقتضى أنْ ليس ثمّ موضع آخر يُختار فيه النصب, وليس كذلك فإنّه قد ذكر في التسهيل زيادة على ما ذكر هنا ثلاثةَ مواضعٍ: أحدُها: أنْ يُجاب به استفهامٌ بمفعولِ ما يليه أو بمضاف إليه مفعولُ ما يليع كقولك: زيدًا ضربتُه في جواب منقال: أيّهم ضربتَ؟ , فقولك: زيدّا ضربتُه قد أُجيب به الاستفهام في قولك: أّهم ضربتَ؟ وأيّهم مفعول ضربتَ, وهو الذي يلي زيدًا في قولك: زيدًا ضربتُه, وهو المستفهم به. وقد نصّ سيبويه على هذا الموضع, وكذلك المضاف إلى المستفهم به في قولك: ثوبَ زيدٍ لبسته,

جوابًا لمن قال: ثوبَ أيّهم لبستَ./ والثاني: أنْ يلي الاسم السابق (حيثُ) من ظروف المكان نحو قولك: حيث زيدًا يكرمُك, فزيدٌ ههنا يُختارُ نصبه, قال سيبويه: ((وممّا يُقبح بعده ابتداءُ الأسماء, ويكون الفعلُ بعده إذا أوقعتَ الفعلَ على شيء من سببه نصبًا في القياس إذا وحيثُ تقول: ((إذا عبدُالله تلقاه فأكرِمْه, وحيثُ زيدًا تجدُه فأكرِمه)) ثم قال: ((والرفع بعدهما جائزٌ لأنك قد تبتدئ الأسماء بعدها فتقول: اجلس حيثُ عبدالله جالس)) فذكر سيبويه حيث كما ترى, وزاد معها إذا, ولم يزده ابنُ مالك لِما فيها من النزاع؛ إذ قد خولف سيبويه في جعل (إذا) من مرجحات النصب؛ إذ هي مثل (إنْ) غيرَ أنْ لا عمل لها. وأيضًا فإنّ ذلك الكلام مختلفٌ فيه هل هو من طُرَر الأخفش المدرجة أم لا؟ فلما كان الأكرُ كذلك اقتصر على ما اتُفق عليه, وهو حيث وترك ما اختلف فيه. والناظم ترك ذلك. والثالث: أن يكون الرفع موهمًا لزصف مُخلٍّ, قال في الشرح: ((ومن مرجحات النصب أنْ يكون مخلِّصًا من إيهام غير الصواب, والرفعُ بخلاف ذلك, كقوله تعالى: {إنّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} فنَصَبُ (كلّ شيء) رفعٌ لتوهّم كون (خلقناه) صفةً؛ إذ لو كان صفةً لم يفسّر ناصبًا لما قبله. وإذا لم يكن صفةً كان خبرًا فيلزم عمومُ خلق الظاشياء بقَدَر خيرًا كانت أو شرًا. وهذا قول أهل السنة)). قال: ((ولو قُرِئ (كلّ شيء) بالرفع لاحتَملَ أنْ يكونَ

(خلقناه) صفةٌ محضةً, وأنْ يكونَ خبرًا, فكان النصب لرفعه احتمال غيرِ الصواب أولى)). فهذه مواضع كان من حقّه التنبيه عليها هنا. فإنْ قيل: لا يلزم من نَصَبَ نفسه لنقل بعض المهمات أنْ ينقَل جميعَها وإلّا لَزِمه أنْ يأتي بجميع مسائل المطولات, والتسهيل على استيفائه لا يفي بهذا الطلب, فإنما أتى ببعض المسائل وترك بعضًا, كما أتى ببعض الفصول, وترك بعضًا. ولم يُعتَب عليه بسبب ذلك. فهذا أولى. فالجواب: أنّ عدمَ الاستيفاء لا يلزمه في هذا المختصر إلّا إذا كان موقِعًا شُبْهة أو موهمًا غيرَ الصواب, وههنا الأمر كذلك, وذلك أنّ مسائل الاشتغال محصورة في الأقسام الخمسة, وقد قال في آخرها: ((والرفع في غير الذي مرّ رَجَحَ)) فاقتضى أنّ ما سكت عنه يَرْجُحُ فيه الرفع فيها أرجح, وذلك غيرُ صحيح حسب ما ذكره هو وغيره, فالاعتراض عليه لازمٌ وإن اختصر. والجواب عن الأول: أنّ حقيقةَ المشاكلة هي المطلوبة في هذا الضرب ليعتدل اللّفظ خاصةً, وليس المراد حقيقة التشريك بين الجمل في جميع أحكامها, فممّا يُعتَبَرُ من المشاكلةِ مشاكلةُ المفردات إن كانت, فإنّ: ضربتُ زيدًا وعمرًا لقيتُه أتَمُّ مشاكلةً عندهم من قولك: قام زيدٌ وعمرًا لقيتُه مع أنّ الجميعَ يُختارُ فيه الحَملُ على الفعل. والمشاكلة أيضًا هنا بين المفردات حاصلةٌ من حيث كانا معًا معمولين للفعل وإن اختلفا في الرفع/ والنصب. وقد اعتبر سيبويه مشاكلة المفردات, فقال في باب العطف على الجملة ذات الوجهين: ((هذا بابٌ يُحملُ فيه الاسم على اسمٍ بُنيَ عليه الفعلُ مرةً ويُحملُ مرةً على اسمٍ

مبنيّ على الفعلِ أيّ ذلك فعلتَ جاز)). فهذه العبارة يظهرُ منها أنّ المسألة من إلّا مشاكلة اللفظين خاصةً, وأمّا العطفُ على حقيقته فلم يرده -أعني عطفَ المفردات- بدليل أنّه بيّن آخر البابِ أنّ المُراعى هو الفعل خاصةً, لكنّه أتى بتلك العبارة حِرْصًا على بيان المراد من طَلَبِ المشاكلة, فكأنّ الناظم -رحمة$ الله- قَصَدَ هذا المعنى, فأطلق عبارة لفظ المفردات ومرادهُ غيرُ ذلك, واتّكل في فهم ذلك على المساق, وعند ذلك لا يلزمُ أنْ يكونَ ذلك في المنصوب خاصّة؛ لأنّ الفعل هو المراعى؛ ولذلك قال: ((على معمول فعل)) ولم يقل: ((على منصوب فعل))؛ وأمّا قوله: ((مستقّر أو لا)) فيحتمل الوجهين المذكورين, والاقتصارُ على أحدِهما مخِلٌّ فيُحملُ على تعميم اللفظ المشترك, وأنّ مرادَه الوجهانِ معًا, ويكون ذلك مجازًا في العبارة وإذ ذاك يدخلُ له نحو: زيدًا ضربتُه وعمرًا كلّمته, فإنّ زيدًا إذا حُملَ على الفعل -وهو المرجوح- كان حَملُ عمرو إذ ذاك على الفعل أول للمشاكلة, وكذلك: أزيدًا ضربتَه, وعمرًا كلّمتَه؟ , ونحو ذلك, لأنّ الجملةَ الأولى فعليّة. والجواب عن الثاني: أمّا الموضع الأولُ, فالظاهر ورودُه, إلّا أنْ يُقالَ: إنّه في الاستعمال قليلٌ, فلم يعتنِ به اعتناءَه بالمواضع الشهيرة. وأمّا الثاني فإنّ حيثُ وإذا داخلتان له معًا في قوله: ((وبعد ما إيلاؤه الفعلَ غَلَب))؛ لأنّ كلامَ سيبويه يقتضي ذلك فيهما, وقد جَعَلَهُما سيبويه في باب ما يُنْصَبُ في الألف, أمّا حيث فما قال فيه صحيحٌ فإنّك إذا قلت: حيثُ زيدٌ تلقاه يكرمكَ, فالأحسن

أنْ يلي الفعلُ الظرفَ, فتقول: حيثُ تلقى زيدًا يُكرِمُك, فإنْ قدّمتَ الاسم وشغلت الفعلَ, فالأولى النصب؛ ليكونَ واليًا للفعل في التقدير, ويجوز الرفع - وهو مرجوح؛ لأنّ حيثُ إذا وقع بعدها الفعلُ طلبه ليُضافَ إليه مباشرةً. وإنّما جاز الرفع من حيثُ جاز وقوع المبتدأ والخبر بعده, نحو: حيثُ زيدٌ جالسٌ, وأمّا (إذا) فظاهرُ سيبويه إجراؤها مُجرى حيثُ, وقد خثولف في ذلك فإنّ (إذا) مع الاسم مثل (إنْ) لا يجوزُ فيه إلّا الحملُ على الفعل, قال السيرافي, ويُقوّيه في إذا امتناع: اجلس إذا عبدُالله جالسٌ, بخلاف حيثُ)) وقد احتجّ عن سيبويه بالفرقِ بين إذا وإنْ, وهو العمل وتركه وإنْ اجتمعا في معنى المجازة$ كما أنّ لو فيها معنى المجازاة, ومع ذلك تقول: لو أنّك قائمٌ, فيكون أنّ في موضع مبتدأ, والفعل الذي بعد أنّ يُصحّح لها معنى المجازاة, وعلى الجملة إذا فرضنا أنّ الناظم رأى في إذا هذا الرأيَ فقد دخلت مع حيثُ من حيثُ دخلتْ همزةُ الاستفهام, وما, وغير ذلك. وإنْ كان رأيه في إذا رأي الآخرين- وهو الظاهر منه في باب الإضافة- فلا يكون داخلًا له في كلامه هنا/ ويدخل له حيثُ بلا شكّ فلا اعتراض به. وأمّا الموضع الثالث فهو ممّا انفرد بإدخاله هنا من أجلِ أنّ جماعةَ القرّاء اختاروا في الآية قراءة النصب, ووجّه لهم ذلك برفع ذلك الإبهام المحذور, لا أنّه كذلك في كلام العرب, وأنّ العربَ تختارُ مثلَ ذلك برفع ذلك الإبهام؛ لأنّ القرآن وكلام العرب قد يأتي على الإبهام وعدم البيان لمقاصدِ معروفةٍ في علم البيان, فلم يستقرّ هذا الذي اعتمده ابنُ مالك مرجّحًا للحَمْلَ على الفعل؛ إذ

لم يطّرد ذلك في كلّ موهم, أو في أكثر المواضع الموهمة, ولا دلّ على اعتباره دليلٌ عربيٌ, وكلامث سيبويه ظاهرٌ في أنّ النصبَ ليس براجح؛ ولذلك اعتذر بأنّ القراءةَ سُنّةٌ, ولا دليلَ في قول السيرافي على اختيار النصبِ, فانظر فيه. فالحقُ إسقاطُ ذلك, وهو الذي فعل الناظم. وإن تلا المعطوفُ فعلًا مُخْبرًا ... به عن اسمِ فاعْطِفَنْ مُخَيّرًا هذا هو القسم الرابعُ: وهو: ما يتساوى فيه الرفعُ والنصبُ, فلا يُختارُ أحدهما على الآخر, وهو إذا عطفتَ جملةَ الاشتغال على جملةٍ اسميّة الصدر فِعليّة العجُز, وهي الجملة ُ ذات وجهين, فيريد أنّ المعطوفَ إذا تلا فعلًا وقعَ خَبَرًا لاسمٍ مبتدأ فأنت في الاسم السابق في جملة الاشتغال مُخيّرٌ, إنْ شئت نصبتَه على إضمار فعل, وإن شئت رفعتَه على الابتداء, وذلك قولك: زيدٌ ضربتُه وعمروٌ كلّمتُه بالرفع إن شئت, وإن شئتَ نصبتَه فقلت: وعمرًا كلّمته, وذلك أنّ الجملة الأولى- وهي المصدّرة بالاسم المخبرِ عنه بفعلٍ- ذات وجهين, فبالنظر إليها جملة واحدة هي اسميّة, وبالنظر إلى بعضها- الذي هو الخبر- برزتْ جملةٌ فعليّةٌ ويسميها في التسهيل اسميّة المصدر فعليّة العجْز, وبعض النحويين يُسمّي الجملة بأسرها الجملة الكبرى, ويسمي الفعل والفاعل منها الجملة الصغرى, فإذا قلتَ: زيدٌ ضربتُه وعمروٌ كلّمتُه, فلك مراعاةُ الجملةِ الكبرى في العطفِ, وهي اسميّةٌ, فيُخْتارُ إذ ذك$ في عمروٍ الابتداء لمشاكلةِ الجملة الكبرى, ويجوز إذ ذاك النصبُ ضعيفًا لعدم المشاكلةِ بذلك الاعتبار, ولك مراعاة الجملة الصغرى, وهي فعليّة, فيُختارُ في عمروٍ النصب لمشاكلة الجملة الصغرى, ويُضْعُفُ إذ ذاك الرفع, فلما كان النصبُ يُختار من وجهٍ,

والرفعُ يُختارُ من وجهٍ آخرَ ترافعا أحكامَ الاختيار فثبتا على التساوي, فلذلك قال: ((فاعطفن مُخَيّرًا)) إذ ليس لك انْ تُرَجِّحَ الرفعَ على النصبِ, ولا العكس؛ لأنّ كلَّ وجه من الترجيح معارضٌ بضده في الوجه الآخر. ومما جاء في السماع من ذلك قول الله تعالى: {والنَّجْمُ والشّجرُ يَسْجُدَانِ والسَّماءَ رَفَعَها} فنصب السماء باعتبار يسجدان, ولو اعتبر أوّلَ الجملة لجاء {والسماءُ رفعها} وقد قَرَأ كذلك أبو السمّال, وفي القرآن أيضًا: {والشَّمْسُ تَجْرِي لمُسْتَقرٍّ لها ذلك تقديرُ العزيزِ العليم/ والقَمَرَ قدرناهُ مَنَازِلَ} قرأ الحَرَميَّانِ وأبو عمرو بالرفع في (القمر) , وباقي السبعة بالنصب, فالرفع على اعتبار {والشمسُ تجري} والنصب على اعتبار {تجري}. ولم يذكر لاستواء الوجهين إلّا موضعًا واحدًا, وزاد غيرُه بعض المواضع, فمن ذلك ما تقدّم في (ما) ولا- من قول ابن خروف, وابن أبي الربيع ودعواهما على سيبويه أنّه ظاهر كلامه, وليس على الناظم به دركٌ حسب ما مرَّ. ومن ذلك أنّك إذا قلتَ: أزيدًا مررتَ بأخيه؟ فالرفعُ والنصب ههنا مستويان. نصّ عليه ابن كيسان في الحقائق, ومال إليه بعضُ المتأخرين من جهة ضَعفِ نصب السابق مع السببيّ المخفوض؛ إذ كان: زيدًا ضربتُ أخاه أضعفَ من: زيدًا ضربتُه, وزيدًا مررتُ بأخيه أضعفَ من: زيدًا ضربتُ أخاه, فإذا قد

صار تَعدّي الفعل السببي المخفوض يطلب بالرفع, وهمزة الاستفهام تطلب بالنصب فيترافعان أحكامَ الاختيار فيتساويان, ولهذا وَجهٌ, ولكنَّ ظاهرَ النظم عدمُ اعتبار هذا بالنظر, حيثُ قدّم اختيار النصب مع الهمزة مطلقًا, وأنّ التقاربَ بين: زيدًا ضربتُه, وزيدًا مررتُ بأخيه لا يقوى أنْ يُقابِلَ الاستفهام. والله أعلم. ثم قال: والرفعُ في غيرِ الذي مرّ رَجَحْ ... فما أُبيحَ افعل ودَعْ ما لم يُبحْ هذا هو القسم الخامس وهو: ما الرفعُ فيه المُختارُ. ولم يقيّده بموضع غيرَ أنّه قال: ((في غير الذي مرّ)) يعني أنّ ما عذا ما تقدّم من الأقسام يُختارُ فيه الرفعُ, يعني على الابتداء, نحو: زيدٌ ضربتُه, فالمختار رفعُ زيدٍ على الابتداء, لأنّ الفعلَ قد شُغِلَ بضميره فلا حاجة إلى إضمار ما لا يُحتاجُ إلىه. قال سيبويه: ((وإنّما حَسُنَ أنْ يُبْنى الفعلُ على الاسم حيثُ كان مُعملًا في المضمر وشغلتَه به, ولولا ذلك لم يُحْسن)) يعني: ولولا شَغلُكَ إيّاه بالمضمر لم يحسُن رفعُ زيدٍ؛ لأنّ قولَك: زيدٌ ضربتُ مرجوحٌ؛ إذ لم تشغل الفعل بشيء قال: ((وإن شئتَ قلتَ: زيدًا ضربتُه)) يعني على غير الأحسن, وعلى الجملة فكلُّ ما خرج عن تلك الأقسام داخل في هذا القسم. ثم قال: ((فما أبيحَ أفعل ودَعْ ما لم يُبَحْ)) فظهر من هذا الكلام أنّه زائدٌ بغير فائدة؛ لأنه تقدّم له ما يباح فأباحه, وما لا يُباحُ فمنعه, فتقرّر هذا المعنى مع تكررٍ يأباه نظمُه المبنيُّ على عدم الحشو؛ إذ كان فيه يجتزئُ بأدنى إشارة,

وبالمفهوم, وبالإحالةِ على المثال في فهم القواعد, والموانع, والشروط والشُّحّ بالعبارة حتر يرتكبَ كثيرًا من الحذف الاضطراريّ كما مرّ, ويأتي, فكيف يأتي بشطْرٍ لا معنى له. والعذرُ له: أنّه يَحْتَمِلُ وجهين: أحدهما: أنّ ما أجيز في هذا القسم وما قبله فجائزٌ التكلّم به, والقياس فيه, وإنْ كان قليلًا, فزيدٌ ضربتُه الوجه فيه الرفع, والنصب مرجوح, ولكنّه مقيسٌ. وكذلك: أزيدٌ ضربتُه الفرع فيه قياس, وإن كان ضعيفًا بالنسبة إلة النصب. ونبّه على ذلك وما في معناه؛ لئلا يُتَوهَّمَ أنّ المختار هو المقيس من تلك الأقسام دون ما ليس بمختار, وأنّ المرجوحَ موقوفٌ على السماع, فرفع/ التوهّمَ بهذا الكلام, وبيّنَ أنَّ ما أُجيز في الاقسام فجائزٌ, وإن كان على قلّةٍو وما مُنِع فهو الممنوع. والثاني: أنْ يكون قصدُه التنبيهَ على ما تقدّم له في حيثُما؛ إذ كان مثلُه لا يجوز في الكلام, وتقدّم أنّه إنّما قَصَدَ بذكره, وذكرَ ما كان من بابه أنْ يجريَ في الشعر موقوفًا عليه كما تجري إنْ في الكلام, وتَرَكَ بيانَ مواضعِ استعمال ذلك فاستدركه هنا, وذكر أنَّ ما تقدّم من هذه الأقسام إنّما يُقاسُ حيثُ قاسته العربُ, وما لم تقسه فلا يقاس, بل يَخْتصَّ بمحلّه من الشعر إن وُجِد مثلُه أو شاء في القياس الشعريّ وَجُهه. والله أعلم. ها هنا كلمت له الأقسام المتصورة في باب الاشتغال, ثم أخذ في بيان مسائل تتعلّق بتلك الأقسام, وتجري على حكمها فقال: وفَصْلُ مَشْغُولٍ بحَرْفِ جَرٍّ ... أو بإضافةٍ كوَصْلٍ يَجْرِي

يعني أنّ فصلَ المشغول عن العمل في الاسم السابق بالجار والمجرور أو بالاسم ذي الإضافة جارٍ في الحكم المذكور مَجْرَى الفعل الذي لم يُفْصَل بينه وبين غيره بشيء, فالفصل بهذين لا اثَر له في تغيير الحكم, بخلاف الفصل بغيرهما فإنّ له أثرًا, إمّا في منع التفسير, أو في غير ذلك. هذا معناه على الجملة. وأمّا في التفصيل فإنّ الفصلَ بين الفعل المشغول وغيره يُتَصَوّرُ على وجهين: أحدهما: أنّ يريدَ فصلَ الفعل من الاسم السابق, وأشار إليه أحد الأمرين, وهو حرف الجر, فهو الذي يسوغ أن يُفْصَل به بينهما, ويكونَ ذلك الفصل جائزًا, وأمّا المضاف إليه فلا يُتَصوّر الفصل به بين الفعل والاسم السابق, وإلّا أنْ تجعلَ عِوَض زيد في: زيدًا ضربتُه عبدَالله أو أبا فلان, فتقول: عبدَاللهِ ضربتُه, وعند ذلك تكون قد فصلت بإضافة , ومثل ذلك لا يُتحرّز منْه, لانّ المضافَ والمضاف إليه, هنا هو الاسم كلّه, كالموصول وصلته, فتعيّنَ أنَّ الفصلَ بالإضافة هنا غيرُ مراد. وتعيّنَ له الجار والمجرور, وهو حرف الجر الذي ذكر, إذ عادته انْ يُطلقَ حرفَ الجر ويريد المجرور معه, ومثال ذلك الفصل: أزيدًا في الدار أكرمتَه, وأزيدًا إلى الدار جئتَ به, وما أشبه ذلك. فالفصل بهذا غيرُ معتدّ به ولا مُغيّر للحكم المذكور قبلَ هذا, ونظيرُه الظرف, كقولك أزيدًا عندَك أنزلتَه, وأزيدًا أمامَك أقعدتَه, وأزيدًا يوم الجمعة ضربتَه, وما أشبه ذلك. ولم يذكره الناظم علمًا بأنّ حكمًه معلومٌ من حكم المجرور؛ إذ هما في هذه الأشياء بمنزلة واحدة. وإنّما سُوّغ الفصلُ بهما, ولم يمنعا من نصب الاسم السابق؛ لأنّ العربَ تَتَّسِعُ في الظروف والمجرورات بالتقديم والتأخير ما لا تتَّسعُ في

غيرها, فالفصل بها كلا فصلٍ, فلو وقع الفصل بغيرها لم ينتصب الاسمُ السابقُ, وإن تقدمه ما يطلب بالفعل, فإذا قلت: ازيدٌ انت تضربُه فزيدٌ لا يُختارُ فيه النصب كما اختير في: ازيدًا تضربه؛ لوقوع الفصل بين الفعل المفسّر وبين الاسم السابق. بل لا يجوز في زيدٍ النصب من باب الاشتغال, لأنّ الفعل / الذي/ يُقدّر ليس له ما يُفسّرهُ, ولا يصح أنْ يفسّره الفعلُ المشغول؛ إذ لا يَصِحُ عمله في الاسم السابق, ومن قاعدتهم ألّا يُفسّرَ إلّا ما يصح أنْ يعملَ, والفعل هنا لا يعمل في الاسم السابق؛ لاجلِ الفصل. فإن قيل: فأنت تقول: أزيدٌ أنت ضاربُه, فيجوز النصب, ويختار كما يختار إذ لم تَفْصِل, أو إذا فصلتَ بالمجرور, فلم لا تختاره في الفعل والفاصل فيهما واحد؟ فالجواب: أنّ جميعَ الصفات لا بُدّ من بنائها على مبتدأ في هذا الباب فسّرت عاملًا, أو عملت بنفسها, لأنّها لا تقوم بنفسها, ألّا ترى أنّك لا تقول: أزيدًا ضاربُه حتى تقول انا أو أنت بخلاف الفعل, فإنّه مستقلّ غير مُحتاجٍ لغيره, فتقول: أزيدًا تضربه؟ والدليلُ على ذلك جواز: زيدًا أنا ضارب. وامتناع: زيدًا أنا أضْربُ- عند الجمهور, وعلى ذلك مبني مسألتنا. والوجه الثاني: فصلُ الفعل المشغول من ضمير الاسم الذي اشتغل به الفعل, وإليه أشار الناظم بالإضافة وأراد ما كان مثلَ: أزيدًا ضربتَ أخاه, فكأنّ الأصل, أزيدًا ضربتَ أخاه, فكأنّ الأصل, أزيدًا ضربتَه, ثم فصلت بالمضاف إلى الهاء, وهذه عبارة مجازيّة, والقصد أنْ يكونَ الفعل مشتغلًا بما هو من سبب الأول, فبيّن أنّ هذا النحوَ جارٍ في الحكم مَجْرى قولك: أزيدًا ضربته؟ وأنّ الفصل بالأخِ كلا فصلٍ, وهذا الفصل الذي أشار إليه بالإضافة يتعيّنُ لهذا الوجه, ولا يصح هنا الفصل بحرف

الجر؛ إذ لا يقال: أزيدًا ضربتَ في الدار إيّاه؟ فلو فرضتَ الضمير متصلًا فهو أبعدُ. فإن قيلَ: بل يصح هذا الفصل بالجار والمجرور في مثل قولك: أزيدًا مررت بأخيه؟ فهذا يصدُقُ عليه إدخالٌ- بين الفعل والضمير, جارٌ ومجرور. فالجواب: أنّ الأمرَ ليس على ما توهّمتَ؛ إذ الفعلُ لم يطلب الضمير من غير وساطة الباء, فيقع الفصل بالجار والمجرور, وإنّما طلبه بوساطتها, فهي مطلوبة له مع الضمير فلم يحصل الفصل إلّا بالاسم وحده, وذلك من معنى الإضافة, فرجع نظيرَ: أزيدًا ضربتَ أخاه؟ من غير فرق فتعيّن الجار للوجه الأول, والإضافة للثاني, ولا بُدَّ. وأراد بالإضافة ذا الإضافة, فهو على حذف المضافِ, وذو الإضافة هو المضاف إلى الضمير. ولابن الناظم في هذا الموضع تفسير آخر, وذلك أنّه جعلَ المشغول هو المشغول عنه, وهو الاسم السابق, كأنّه على تقدري: ((وفَصْلُ اسم مشغول عنه الفعل بحرفِ جر أو بإضافةٍ كوَصْلٍ يجري)) ونصُّ ما وجدتُ في شرحه ((يعني: أنْ حكمَ المشغول عنه الفعلُ بضمير جرٍ أو بمضاف إليه حكمُ المشغول عنه الفعل بضمير نصبٍ, فمثل: إنْ زيدًا رأيته, في وجوب النصب: إن زيدًا مررتَ به, أو: رأيتَ أخاه, تنصب المشغول عنه في هذا بفعل مضمر مقاربٍ للظاهر تقديره: جاوزتَ زيدًا مررتَ به, ولابستَ زيدًا رأيتَ أخاه, كما تنصب المشغول عنه في نحو: إنء زيدًا رأيتَ بمثل الظاهر. ومثل: أزيدًا لقيتَه في ترجيح نصبه على

لرفع: أزيدًا/ مررتَ به, أو عرفتَ أباه, ومثل: زيدٌ قام وعمروٌ كلَّمتُه في استواء الأمرين: زيدٌ قام وعمروٌ كَلِفتُ به, أو كلّمتُ غلامه, ومثل: زيدًا ضربتُه- في جواز نصبه مرجوحًا- زيدًا مررتُ به أو ضربتُ غلامَه)) , هذا ما وجدت فيه, ولا أجزمُ بصحة نصِّه, لعدم الرواية فيه عن مؤلفه, ولكنّه كلامٌ مُشكِلٌ. أمّا أوّلًا فإنه علّقَ الفصلَ بالاسم السابق, ولم يذكر فيه حكمًا أصلًا, فسّره على معنى أنّ الاسمَ السابقَ لا يتغيّرُ حكمهُ مع شَغْلٍ الفعل بحرف جرٍّ أو إضافة وليس هذا بمطابق للنظم البتةَ, ولا يُنَزَّلُ عليه, لأنَّ معنى النظم أنَّ الفصل بكذا كالوصل. وأمّا ثانيًا: فإنه مثَّلَ حرف الجر بنحو: زيدًا مررتُ به, وقد ذكره الناظم أولًا في قوله: ((بنصب لفظه أو المحَلَّ)) ولا يريد بالمحَلِّ إلّا محلِّ الضمير المجرور بحرف الجر كما تقدّم, فتكون إعادته لذلك تكرارًا من غير فائدة, وأيضًا إنْ كان قصدُه هنا الفصلَ بحرف الجر وحدَه فقد نقصه التنبيه على الفصل بالجار والمجرور معًا بين الفعل والاسم السابق. فيقع الشك للناظر في نحو: زيدًا في الدار ضربتُه, وزيدًا أنت ضربتَه, وما يجوز منه, وما يمتنع. وعلى الجملة فهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ له معنى يكون شرحًا للبيت فتأمله. فالصحيح في تفسير كلامه أنّه يريد بحرف الجر: الجار والمجرور معًا, وأنّه يريد الفصل به بين الفعل والاسم السابق, ويريد الفصل بالإضافة بين الفعل وضمير الاسم السابق حسب ما تقدّم. فإن قيل: إنّ فيه بَعدُ دَرَكًا من وجهين: أحدهما: أنّ ما ذكره من الفصل بالإضافة غيرُ كافٍ, فإنّك تقول: زيدًا ضربتُ راغبًا فيه, وزيدًا مررتُ براغبٍ فيه, وزيدًا أعطيتُ ضاحكًا في وجهه

درهمًا. وزيدًا ضربتُ معتمدًا عليه, وزيدًا أكرمتُ من أكرمه, وما أشبه ذلك ممّا لم يقع الفصلُ فيه بالإضافة, وحكمهُ حكمُ الفصل بها, فيقتضي كلامُ الناظم إنْ أُخِذَ بمفهومه أنَّ مثلَ هذه المسائل لا يكون الفصل فيها كالوصل, وليس كذلك بل الحكمُ واحد. والثاني: أنَّ إطلاقه القولَ بأنَّ الفصل بالإضافة مثل الوصل يعطي أنّهما على حدّ سواء في مرجوحية النصب أو راجحيّته, وذلك غير صحيح, بل النصب فيما تقدّم على ثلاث مراتب فإذا قلت: زيدًا مررتُ بأخيه فهو أضعف من قولك: زيدًا مررت به, وزيدًا ضربتُ أخاه [وقولك: زيدًا مررتُ به أضعفُ من قولك: زيدًا ضربتُه] , وأما زيدًا مررتُ به وزيدًا ضربتُ أخاه؛ فهما في رتبة واحدة على ما يظهر من سيبويه؛ ووجه هذا الترتيب أنّ التفسير في: زيدًا ضربتُه من اللفظ, والتفسير في: زيدًا مررتُ به وزيدًا ضربتُ أخاه من المعنى القريب, والتفسير في زيدًا مررتُ بأخيه من المعنى البعيد/ ومتى كان التقديرُ لفظيًا فهو أقوى, وإن كان معنويًا قريبًا فهو أقوى من المعنوي البعيد. ومع ذلك فهو كلام العرب؛ ولأجل هذا الترتيب واعتباره نصّ ابن كيسان على استواء الوجهين في: أزيدًا مررتُ بأخيه, وإذا كان كذلك فجَعْلُ الناظم الفصل وعدمه إذا كان بالإضافة سواء غيرُ صحيح. والجواب عن الأول: أنّ أكثر المسائل في هذا الباب تدور على ما صوّر, وأما تلك المسائل فقليلة الدورو فلم يلتفت إليها, وأيضًا فإنّها في معنى ما ذكر فيحصل حكمها بالقياس على ما ذكر. والله أعلم.

وعن الثاني: أنّ الاعتراضَ بذلك قريبٌ والمقصود المهم إنّما هو أنّه حيثُ يضعفُ مع الفصل, وحيث يقوي يقوى, وهل هما في رتبة واحدة, أم لا؟ في ذلك نظر يَدِقُّ, ولا تحتماه هذه الصناعة, ولا يظهر له أثرٌ يُنتجُ فائدةً. وبهذا أجاب بعضُ الحُذّاق على نحو هذه المسألة, ثم قال: وسَوِّ في ذا الباب وصفًا ذا عَمَل ... بالفعل إنْ لم يَكُ مانعٌ حَصَل هذا عقدٌ يكُرُّ حكمُه على جميع ما تقدّم من أول الباب إلى هنا, وذلك أنّه تكلّم أولًا في كون المشغول عن المعمول هو الفعل, وعليه فرّع الأقسام, وبيّن الأحكام, فبيّن في هذين البيتين أنّ الوصف جارٍ في هذا الباب مجرى الفعل في الأحكام المذكورة, من تقسيم الاسم السابق إلى خمسة الأقسام المذكورة, وغير ذلك ممّا تقدّم, فحيث يصح أنْ يكونَ الوصف مفسّرًا, وكذلك في ترجيح الرفع على النصب, أو العكس, أو التسوية بينهما, فإذا قلت: أزيدًا أنت ضاربُه, فالنصب فيه كالنصب في: أزيدًا ضربتَه, وإذا قلت: زيدًا أنا ضاربُه, فهو كقولك: زيدًا أضرِبُه, وإذا قلت: زيدٌ ضربتُه, وعمروٌ أنا مكرِمُه, فهو كقولك: زيدٌ ضربتُه وعمرو أكرمته وإذا قلت: زيدٌ هل أنت ضاربُه؟ فهو كقولك: زيدٌ هل ضربتَه؟ وكذلك سائر الأقسام المتقدّمة, والأحكام المتقرّرة, إلّا أنّه شرط في ذلك شرطين: أحدهما: أنْ يكونَ ذلك الوصفُ عاملًا, وهو قوله: ((وصفًا ذا عملْ)) ويريد: عمل النصب لفظًا أو محلًّا, وذلك اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال, كقولك: أزيدًا أنت ضاربُه؟ وأزيدًا أنت ضاربٌ أباه؟ وأزيدًا أنت مارٌّ به؟ وأزيدًا أنت ضاربٌ أخاه؟ وأزيدًا

أنت نازلٌ عليه؟ وأزيدًا أنت راغبٌ فيه؟ وأزيدًا أنت مارٌ بأبيه؟ وأمثلة المبالغة كذلك, نحو: أزيدًا انت ضَروبُه؟ والحربَ أنت لبّاسٌ جلالَها؟ والرءوس أنت ضَروبُها؟ والقدَرَ أنت حَذِرَهُ؟ وأزيدًا أنت سميعٌ صوتَه؟ وما أشبه ذلك, وتحرَّز بذلك من الصفة غير العاملة, وكونها لا تعمل؛ إمّا لأنّها اسم فاعل بمعنى الماضي, نحو أزيدٌ/ أنت ضاربُه أمسِ؟ فزيدٌ لا يكون فيه هنا إلّا الرفع على الابتداء؛ إذ لا يفسّر اسمُ الفاعل وهو غير عامل. وإمّا لأنّها صُيّرت اسمًا اعتقادًا من غير التفات إلى معنى الفعل, فتقول: أزيد أنت نازلٌ في داره؟ وأزيدٌ أنت ضاربُه؟ بمعنى: أنت المسمّى بهذا الاسم؟ لم يكن فيه إلّا الرفعُ, قال سيبويه: ((ولو قال: آالدار أنت نازل فيها؟ فجعل نازلًا اسمًا فع, كأنّه بمنزلة: أزيد أنت أخوه؟ جاز)) يعني - ولزم الرفع- قال: ((ومثل ذلك في النصب -يعني في إعماله عمل الفعل -أزيدًا أنت محبوس عليه؟ وأزيدًا أنت مكابر)) عليه؟ فإن لم يرد به الفعل. وأراد وجه الاسم رفع)) كذلك أمثلة المبالغة كقولك: أعبدالله أنت رسول له, أو رسوله ولم ترد المبالغة في الفعل, فالرفع لا غير, قال في الكتاب: ((لأنك لا تريد أن توقع منه فعلًا عليه, فإنّما هو بمنزلة: أعبدالله أنت عجوزٌ له، وتقول: أعبدالله أنت له عديل, وأعبدالله أنت له جليس, لأنك لا تريد بع مبالغة في الفعل, ولم تقل: مجالس فيكون كفاعل, فإنّما هذا بمنزلة قولك: أزيدٌ أنت وصيفٌ له, أو غلام له)). ومثل ذلك الصفة المشبهة باسم

الفاعل, كقولك: آلوجه أنت حسنه, وأزيدٌ أنت ظريف بسببه؟ لا يكون في ذلك إلا الرفع؛ لأنّه صفة غير عاملة النصب, وما جاء من قولك: حسنٌ وجهًا, فليس بنصب على صحيح التعدّي, وإنّما هو التشبيه كعشرين درهمًا؛ ولأنّ هذه الصفة لا يصحّ عملها فيما قبلها, فلا تفسّر عاملًا, ولأنها قد تُنُوسِيَ فيها معنى الفعل تناسيًا ضعُفت بسببه عن مقامة الفعل حسب ما تبيّن ذلك في بابه. وكذلك أفعل التفضيل ليست بعاملة, فلا تفسّر ناصبًا, فإذا قلت: أزيدٌ أنت أفضل منه؟ وأزيدٌ أنت أكرم عليه, فليس إلّا الرفع, قال سيبويه: ((ومما لا يكون في الاستفهام إلا رفعًا: أعبدالله أنت أكرم عليه أم زيدٌ؟ وأعبدالله أنت له أصدق أم بشرٌ؟ كأنّك قلتَ: أعبدالله أنت أخوه أم بشرٌ؟ لأنّ أفعل ليس باسم جرى مجرى الفعل, وإنّما هو بمنزلة حسن وشديد, ونحو ذلك)) ثم أتى بمثل آخر, وحتم الرفع, ولم يجز فيها غيره. فكل ههذا ينتظمه قول الناظم فمفهوم الصفة أنّه لا يجري مع الاسم السابق جريانه مع الفعل, أو مع الصفة العاملة. والحاصل أنّ الصفا الواقعة عوض الفعل في باب الاشتغال إذا لم تكن أسماء فاعلين, أو أسماء مفعولين, أو أمثلة مبالغة عاملة عمل الفعل لم يكن في الاسم السابق إلّا الرفع. ولا تراعي المجرورات التي جاءت مع الصفات غير العاملة, فإنّها وإن كانت في موضع نصب فلا تقوى الصفات أن تعمل في الاسم السابق, فلا تفسّر لعا عاملًا. وقد تكون المجرورات معمولة لغير الصفات. والشرط/ الثاني: ألا يمنع مانع من إجراء الوصف مجرى الفعل, وذلك قوله: ((إن لم يك مانعٌ حصل)). وذلك أنّ الفعل تقدّم له خمسة أقسام:

قسم يلزم نصبه, وهذا القسم لا يتصور مع الوصف, لأنّ وجوب النصب لأمر يختص به الفعل, وذلك (إن) الشرطية مثلًا, فيصح وقوع الاسم بعدها إذا كان بعده فعلٌ, ولا يصح إذا لم يكن بعده فعلٌ, فتقول: إنْ زيدًا أكرمته أكرمك, ولا تقول: إنْ زيدًا أنت مُكرمه أكرمك, لا بالرفع, ولا بالنصب. وكذلك سائر ما يجري مجرى إنْ. وقسم يلزم رفعه بالابتداء, وهو جاور ههنا من حيث إطلاق القاعدة لا من حيثُ خصوصُ التمثيل, فما التعجبية, وأدوات الشرط لا حظّ للوصف فيها, وله الحظ في الموصول, والحرف الناسخ, فإذا قلت: زيد إنّك ضاربُه, فلا بدّ من الرفع, وكذلك: زيدٌ ليتني لاقيه, وما أشبه ذلك, ومثله إذا قلت: زيدٌ أنا الضاربه, وزيدٌ أنا المكرمُ أخاه, وتقول: زيدٌ ما أنا مكرِمه, وزيدٌ إنْ أنا مكرِم أخاه, وعلى هذا السبيل يجري الحكم في سائر الأمثلة. وقسم يُختار نصبه, ويجري في الوصف فيما غلب إيلاؤه الفعل, نحو: أزيدًا أنا ضاربُه؟ وأعمرًا أنت مكرمه؟ وما زيدًا أنا ضاربٌ أباه, ولا عمرًا أنت مارٌّ بأخيه, وفي العطف على الجملة الفعليّة, فتقول: قام زيدٌ وعمرًا أنا مكرمُه, وضربتُ زيدًا وعمرًا أنا ضارب أباه, وما أشبه ذلك. وأمّا الطلب فلا حظّ للوصف فيه, فيمتنع تصوير مسألته. وقسم يختار رفعه, وهو جار في الوصف, نحو: زيدٌ أنا ضاربه, فإنّه في الحكم مثل: أنا ضربته.

وقسم يستوي فيه الأمران وهو متأت هنا, فتقول: زيد ضربته وعمرًا أنا ضاربُه, كما تقول/ وعمرًا ضربتُه, وكذلك الرفع. فتقرّر من ذلك أنّ ما مرّ في الفعل ليس كلّه جاريَا في الوص بل تختَصُّ منه أشياء بالفعل, ولا تكون في الوصف لمانع منع من ذلك, فلذلك قال: ((إنْ لم يكُ مانعٌ حَصَل)) يريد: فإن حصلَ مانعٌ فلا تسؤ الوصف مع الفعل لحصول الافتراق بينهما. وقوله: (بالفعل) متعلّق بسوّ, أي: سوّ الوصفَ بالفعل في هذا الباب. و (حَصَل) خبرُ (يكُ) في قوله: ((إن لم يك)). واعلم أنّ الناظم ترك ذكر المصدر العامل في هذا الباب, وإنّما خصّه بالفعل والوصف, والمصدر غير داخل في واحد منهما, بل قد يفهم له أنّه أخرجه عن أن يكون مقسّرًا في هذا الباب, كما يفهم له ذلك في اسم الفعل؛ زيدًا دونك أخاه, وما أشبه ذلك, فكذلك يفهم له أنّه لا يقال: زيدًا سقْيًا له, ونحو ذلك: والجواب: أنّ دخول المصدر في هذا الباب قد وقع النزاع فيه بين النحويين, فمنهم من منَع من دخوه فيه, واعتلّ على الجملة بضعفِه عن مقاومة الفعل, وبأنّه إذا كان موصولًا يمتنع عمله فيما قبله. ومنهم من فصّل فقال: إن كان موصولًا امتنع أنْ يفسّر, وإن كان غير موصول لم يمتنع, ودخل في الباب,

وعمل فيما قبله إن كان مفرغا. ومنهم من أجاز/ دخوله، وإن لم يصح عمله فيما قبله، وفي كلام سيبويه متعلق لمن أجاز على الجملة، ولكن المسألة بعد ذات شغب في النظر، فكأنه ترك ذكر المصدر لذلك، وأيضا فقد تقدم في عقده الأول ما يفهم منه اشتراط صحة عمل المفسر فيما قبله، والمصدر قد يمتنع ذلك فيه في مواضع، ويشكل جوازه في مواضع، فكان الأولى به السكوت عنه. والله أعلم. ثم قال: وعلقة حاصلة بتابع ... كعلقة بنفس الاسم الواقع العلقة عبارة عن الضمير العائد على الاسم السابق، وذلك أن الجملة التي بعد الاسم السابق لابد أن يكون فيها ضمير عائد عليه، والأصل أن يكون هو المشتغل به عن العمل في السابق، ثم إن العامل قد يعمل في ملابس ذلك الضمير، وهو الذي ذكر في قوله: "وفصل مشغول بحرف جر أو بإضافة" إلى آخره، وقد ينتقل الحكم من التابع إلى المتبوع، وهو الذي قصد ذكره ها هنا. والحاصل أنه لابد من ضمير يربط الجملة الثانية بالاسم الأول؛ لأن الأصل في ذلك المبتدأ والخبر، ودخل حكم الاشتغال عليه فلذلك لا يجوز أن تقول: ازيدا رأيت عمرا؛ لأنه لا يجوز: زيد رأيت عمرا إلا مع ضمير عائد على الأول، فلذلك الضمير الرابط من حيث كان معلقا للجملة الثانية بالأولى، وبه كان الاتصال والعلاقة سماه علقة من أجل ذلك، وكأن العلقة اسم العلاقة الحاصلة بسبب الضمير، وهو الاتصال بين أول الكلام وآخره، فيريد أن الرابط بين أول

الكلام وآخره- وهو الضمير العائد على الاسم السابق- قد يكون متعلقا بالتابع، كما يكون متعلقا بالمتبوع نفسه، وقد لا يريد بالعلقة الضمير نفسه، ولكن يريد حقيقتها، وهي الارتباط، فيقول: قد يحصل الارتباط بسبب المجيء بالتابع لكون الضمير ملتبسا به كما يحصل بالاسم الواقع لكونه ملتبسا به أيضا، وذلك قولك: أزيدا رأيت رجلا يحبه، فالضمير العائد على زيد ليس إلا الملتبس بالنعت، وكذلك أزيدا لقيت عمرا وأخاه، فهذا يتنزل منزلة قولك أزيدا رأيت محبه، وأزيدا رأيت أخاه. قال سيبويه: "ومما ينتصب أوله لأن آخره ملتبس بالأول قولك: أزيدا ضربت عمرا وأخاه، وأزيدا ضربت رجلا يحبه، وأزيدا ضربت جارتين يحبهما، فإنما نصب الأول- يعني زيدا- لأن الآخر- يعني منصوب الفعل- ملتبس به إذ كان صفته"- يعني لأنك تقول: مررت برجل منطلق رجل يحبه، أو منطلق زيد وأخوه فيصح للتلبس الحاصل في المعنى المتبوع. ونفس الاسم الواقع هو الاسم الذي اشتغل به الفعل عن الاسم السابق، وهو المتبوع في هذا الموضع، كأنه قال: والعلقة الحاصلة بالتابع كالعلقة الحاصلة بالمتبوع، وإنما سماه واقعا من حيث كان واقعا على الضمير وعاملا فيه. وهذا/ عبارة كوفية، حكى الجوهري أن الكوفيين يسمون الفعل المتعدى واقعا، وقد سماه في التسهيل واقعا أيضا، فالاسم الذي اشتغل به الفعل

إذا أضيف إلى الضمير كان عاملا في الجر، سماه واقعا بهذا الاعتبار، ويتحقق هذه المحمل بان يفرض الاسم الذي اشتغل به الفعل واقعا حقيقة، أي متعديا نحو أزيدا ضربت مكرمه، وأزيدا أكرمت محبه، فيقال كما أن العلقة حاصلة بهذا الاسم المتعدي إلى الضمير الرابط من حيث كان معمولا للفعل المشتغل كذلك تحصل بالتابع المتعدي إلى الضمير الرابط من حيث كان في حكم المعمول للفعل لأنه نعت للمعمول له، ألا ترى أن معمول الفعل إذا كان متعديا فهو وصف على تقدير موصوف كأنك قلت: أزيدا ضربت رجلا مكرمه، فقد صارت المسألتان واحدة. ومثل ذلك المعطوف بالواو لأنه والمعطوف عليه ملتبسان بالأول، فإذا قلت: أزيدا رأيت عمرا وأخاه، فهو في تقدير: أزيدا رأيت ملتبسا به، لأن التباس عمرو بما هو من سبب الأول في معنى التباسه بالأول. أو يقال: هو في تقدير: أزيدا رأيت أخاه؛ لأن الأخ يقع في المعنى موقع عمرو حتى كأنك قلت: أزيدا رأيت أخاه وعمرا، على التقديم والتأخير. فقد تبين قصد الناظم بالاسم الواقع، ومعنى كونه واقعا، وأن العلقة بالتابع كالعلقة بغيره. وهنا سؤال، وهو: أنه أطلق القول أن العلقة إذا حصلت بتابع، أي تابع كان فهو جائز، وليس بصحيح من وجهين: أحدهما: أن ذلك مختص بالنعت وعطف النسق خاصة حسب ما نص عليه في التسهيل، ولم يذكر سيبويه غيرهما، وظاهر ذا أنه إن حصلت العلقة بعطف بيان، أو بدل، أو توكيد أجزأ. والثاني: أن العطف الذي تحصل العلقة به. له شرطان: أحدهما: أن يكون بالواو خاصة كما تقدم تمثيله، فإن كان بغير الواو لم يصح، فلا تقول: أزيدا ضربت عمرا ثم أخاه؟ ولا أزيدا عمرًا أو أخاه؟

ولا ما أشبه ذلك، كما لا تقول: أزيدا رأيت عمرا أخاه؟ على العطف البياني، ولا على البدل، ولا أزيدا رأيت عمرا نفسه. وكذلك لا تقول: أزيدا رأيت عمرا ورأيت أخاه؟ فتعيد العامل. وهذا هو الشرط الثاني: وهو عدم إعادة العامل مع المعطوف. وإذا ثبت هذا كان إطلاقه مشكلا. والجواب عن الأول: أن يقال: أما التوكيد فعدم دخوله بين؛ إذ العلقة لا تحصل به البتة؛ لأن الضمير المتعلق به عائد على المؤكد أبدا، وألفاظ التوكيد محصورة، وعلى طريقة لا تتعدى، فإنما تحصل صورة المسألة حيث يكون ثم تابع تعلق به ضمير عائد على الاسم السابق، والتوكيد لا يكون فيه ذلك. وأما عطف البيان فلا نسلم عدم الربط بالضمير المتعلق به، بل يجوز أن تقول: أزيدا رأيت عمرا أخاه؛ إذ عطف البيان كالنعت، وإنما يفترقان في الاشتقاق، وعدمه، فإذا كان جائزا/ في النعت جاز فيما أشبهه، وهو رأي ابن عصفور، فقد يقال: إن عطف البيان مراد للناظم. وأما البدل فحكى ابن عصفور الخلاف في جريانه في هذا الباب مجرى النعت، وارتضى القول بالمنع محتجا بأن البدل على تقدير تكرار العامل، فصار مثل تكراره نصا. وهذا فيه نظر؛ فإن تقدير تكرار العامل ليس في البدل كاللفظ به، وإنما وتقدير معنوي، ويستوي معه في ذلك العطف؛ إذ هو أيضاً على

تقدير تكرار العامل، ألا ترى أنك تقول: يا عبد الله وزيد، كما تقول يا عبد الله زيد، ومع ذلك فلم يمتنع أن تقول: أزيدا رأيت عمرا وأخاه؟ فكذلك لا يمتنع أن تقول: أزيدا رأيت عمرا أخاه؟ وأيضا فلو كان البدل على تقدير تكرار العامل حقيقة لم يكن من بدل المفرد بل من بدل الجملة من الجملة، وذلك باطل بالاتفاق، وإذا كان كذلك جرى في الحكم مجرى المعطوف، وهو ظاهر إطلاق الناظم، ولا حجة في اختياره لغير ذلك في التسهيل؛ فإنه قد نصب نفسه منصب المجتهدين في العربية، وقد تختلف أقوال المجتهدين كثيرا في المسألة الواحدة بحسب الأوقات والأنظار. والجواب عن الثاني لا يحضرني الآن. والظاهر لزومه إذا سلم أن ذلك مختص بالعطف بالواو. وللقائل أن يقول: لا يختص ذلك بالواو أصلا، بل يجوز مع الفاء، وثم، وغيرهما من حروف العطف، لان الكلام كله جملة واحدة، وفيها ضمير الاسم السابق، وإذا كان كذلك جاز في الجميع، وغاية المانع أن يقول إن الفاء، وثم يقتضيان الترتيب وتكرار العامل، وذلك يفيد الاستقلال، فالمعطوف في حكم المستقل، بخلاف الواو فإنها تعطي الجمع، ومعنى مع، وذلك يقتضي عدم الاستقلال، فالمعطوف بها لا يستقل الكلام دونه، ولا يستقل هو بنفسه. هذا ما احتج به ابن عصفور للمنع. ورد عليه بعض المتأخرين بان الفاء، وثم إنما يعطيان أن الثاني بعد الأول، وما بعدهما ليس مستقلا، فاتصال بما قبله، وإلا فيلزمه ألا يجوز في الواو أيضا حيث لا يستقل الأول، نحو أزيد اختصم عمرو وأخوه، ويلزم أيضا ألا يجوز: أزيدا ضربت عمرا وأخاه بعده؟ وما أشبهه مما يتبين به أن المعطوف متأخر، وأيضا ما أبعد ذلك في الفاء مع أنها تصير

الجملتين واحدة فيجوز معها ما لا يجوز مع الواو، فكيف يمتنع معها ما لا يمتنع مع الواو، وأيضا يلزمه ألا يجيز ذلك في أو فلا يجيز: أزيدا ضربت عمرا أو أخاه؛ لأنه قيد العطف بالواو وحدها. وذلك كله فاسد. وهذه المسألة فرع عن باب الابتداء فما جاز في الابتداء جاز فيها؛ لأن أصل الاسم السابق الابتداء. وقد نص المازني وابن السراح وغيرهما على جواز الإخبار عن المعطوف بالفاء، وثم، وأو، وغيرها. فأجازوا في نحو: قام زيد ثم عمرو، الذي قام زيد ثم هو عمرو، ولا فرق بين الموضعين. وقد أجاز ابن عصفور ذلك أيضا في الإخبار، فكيف لا يجيزه هنا؟ وقد يجوز في الاشتغال ما لا يجوز/ في الإخبار، ألا ترى أنه يجوز نحو: أزيدا ضربت أخاه. وضربت عمرا، ولو قلت: الذي ضربت أخاه وضريت عمرا زيد لم يجز. وكذلك في الصفة، فتقييد العطف بالواو خاصة خطأ، بل الصحيح في هذه المسألة ما قال السيرافي في ضبطها إذ قال: "إذا كان في الجملة ضمير اسم متقدم فهي من سبب ذلك الاسم، وإن لم يكن فيها ضمير، وجئت بجملة أخرى فيها ضمير الاسم لم يجز" قال: "ولا تبال في أي موضع، من الجملة وقع ذلك الضمير". فهذا كله يدل على صحة ما اقتضاه إطلاق الناظم. وإنما اقتصر في التسهيل على العطف بالواو خاصة؛ لأن سيبويه لم يذكر في الاشتغال إلا ذلك، كما أنه لم يذكر من التوابع إلا النعت، وهذا العطف. وليس في ذلك دليل؛ إذ لم ينف ما عداهما. فإن قيل: إن كان كذلك فكيف الأمر في الشرط الثاني، وهو ألا يتكرر العامل.

فالجواب: أن هذا أسهل، فإن العامل إذا تكرر فقد صار الكلام جملتين، وصار التابع غير تابع؛ إذ ذلك الآن من عطف الجمل، لا من عطف المفردات، وعلى أنك إن قدرت تكرار العامل لمجرد التأكيد، فلا مانع من المسألة؛ لأن عطف المفردات باق، فالأخ تابع لعمرو، وضربت الثاني كالعدم. وقد أجاز بن السراج في الإخبار: الذي ضربته وضربت عمرا زيد، على أن يكون ضربت الثاني لمجرد التأيد. فكذل هنا. ولم يتكلم سيبويه على ذلك، بل على أن يكون تكرار العامل لغير التأكيد، فهو الذي منه. فقد ظهر أن كلام الناظم هو الجاري على القواعد، وكلام غيره ليس كذلك، وهو مما يؤكد البحث عن كلامه وإطلاقاته في هذا النظم وتقييداته، فإن تحتها دفائن قلما يشعر لها. وقد مضى من ذلك أشياء، وسيأتي أخر إن شاء الله. وبالله التوفيق.

تعدي الفعل ولزومه

تعدي الفعل ولزومه الأفعال على قسمين: متعد، وهو ما يطلب بنفسه بعد فاعله مفعولا به، ويسمى ذلك الفعل متعديا، وواقعا، ومتجاوزا، ويسمى طلبه ذلك تعديا؛ وإنما سمي الفعل متعديا لأنه تعدى، أي: تجاوز فاعله إلى مفعول به، وواقعا لأنه وقع على المفعول به، ومتجاوزا إذ تجاوز مرفوعه إلى غيره. وغير متعد وهو بخلافه، ويسمى لازما، ووصفه ذلك لزوما، لأنه لزم فاعله فلم يتعده، ولم يجاوزه إلى غيره. وكلام القسمين لابد من التفرقة بينهما حتى يعرفا، ويتبين وجه القياس اللفظي بالنسبة إلى كل واحد منهما، ولا يمكن أن يعرف ذلك بالمعنى، لأن الفعلين قد يجتمعان في أصل المعنى وأحدهما متعد، والآخر غير متعد، كآمنت به وصدقته، فالأول غير متعد في الاصطلاح، والثاني متعد؛ لأن الواصل بحرف الجر غير متعد في أشهر الاستعمال، وكذلك: نسيته وذهلت عنه، وأحببته ورغبت فيه، واستطعته وقدرت عليه، ونحو ذلك. فلابد من ضابط لفظي يرجع إليه، والذي ضبط به الناظم ذلك، وفرق به بين/ الفريقين أن قال: علامة الفعل المعدي أن تصل ... "ها" غير مصدر به، نحو عمل يعني أن الفعل المتعدي علامته الدالة على أنه متعد صحة وصل هاء الضمير به إذا لم تكن تلك الهاء دالة على المصدر، وذلك نحو عمل، فإنك تقول: البيت عملته، وليست الهاء ههنا للمصدر، بل للبيت، وهو المعمول،

وكذلك تقول: ضربه، وأكرمه، وأعانه، وأهانه، واستعمله، ونحو ذلك، والهاء ليست للمصدر، فلو كان الموصول بالفعل هاء المصدر، أي الهاء الدالة على المصدر لم يكن في ذلك دلالة على أنه متعد، فإنك تقول: القيام قمته، وقام لا يتعدى، وتقول: تكلمه، وتكلم لا يتعدى، وخرجه، وخرج لا يتعدى، وذهبه وانطلقه، وكثيرا من ذلك، وليس فيها دلالة على التعدي، لأن الهاء للمصدر، فلو فرضتها في هذه الأفعال لغير المصدر لم يستقم فمن ههنا دل على أنها غير متعدية، ودل على أن الأولى متعدية، فتقول: عملت البيت، وضربت زيدا، وأكرمت عمرا، وأعنت خالدا؛ لأنك تقول: عملته، وضربته، وأكرمته، وأعنته، ولم ترد مصدرا، ولا تقول: قمت زيدا، ولا: تكلمت عمرا، ولا: خرجت زيدا، ولا: ذهبته ولم ترد المصدر، فلو أردت المصدر لصح، وكذلك تقول: قمت القيام. وخرجت الخروج، وذهبت الذهاب، وسبب عدم دلالة هاء المصدر على التعدي أن كل فعل متعديا كان أو غير متعد يتعدى إلى المصدر، وتلحقه هاوه. وفائدة قوله: "أن تصل ها" الاستظهار، والاحتراز من الفعل الواصل بحرف الجر، فإنك تقول: قام به، وتكلم به، وخرج إليه، وذهب به وانطلق إليه، ونحو ذلك، فيتعدى إلى هاء غير المصدر لكن من غير اتصال، بل بواسطة تفصل بينهما، فلا يسمى لذلك متعديا إذا لم تكن الهاء موصولة به. وقوله: "أن تصل ها غير مصدر به" لا يعني أن تصل الهاء به كيف اتفق، بل يريد أن يكون الشأن فيه كذلك، والاستعمال جاريا عليه، لان من الأفعال ما هو لازم، لكنه يتعدى في حال الضرورة، أو فيما لا يتعد به في الكلام، ولا يقاس عليه، كمررت في قول جرير:

تمرون الديار ولن تعوجوا ... كلامكم علي إذا حرام فإنه تعدى بنفسه هنا، فساغ بالنسبة إلى هذا البيت: مررته، فلو عوضه منه لكان مثله، لكن ليس من شأنه أن يكون كذلك، فليس بداخل تحت قاعدة المتعدي بهذا الاعتبار. وكذلك قول أعرابي من بني كلاب: تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني فقضاني في البيت قد يعوض منه قضاه، وليس الاستعمال فيه كذلك، وإنما يقال: قضي عليه. ومما جاء منه في الكلام ولا يقاس عليه قول الله تعالى: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} الأصل فيه: على صراطك المستقيم، وكذلك الاستعمال في قعد أن يتعدى بحرف الجر، فمثل هذه/ الأشياء إن صح فيها وصل الهاء لغير المصدر، فليست بمراده؛ إذ كان مقصوده ما كان ذلك فيه مطردا. وهذا التعريف فيه نظر من أوجه: أحدها: أن ما كان يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف الجر كشكرت ونصحت، وكلت، ووزنت يشكل دخوله تحت قاعدته وخروجه عنها؛ إذ قد قدمت أن مراده دخول الهاء على ما هو الشأن، ونحن نجد مثل هذا لا يستتب فيه إسقاط حرف الجر، لمشاركة إثباته، فلا تقول شكرته بإطلاق، ولا

نصحته كذلك، فيقتضى أنه غير متعد، وأيضا فلا يستتب فيه ثبوت حرف الجر، وذلك يقتضي أن متعد؛ إذا كان يصح أن تقول: نصحته وشكرت على الجملة. وهذا اضطراب. والثاني: أن ظروف الزمان والمكان قد يتسع فيها حتى إن ما كان منها متصرفا يجوز فيه ذلك قياسا، فصارت أفعالها مما شأنها أن تلحقها هاء غير المصدر، نحو قولك يوم الجمعة سرته، ومكانكم قمته، وشهر رمضان صمته، وفي القرآن الكريم: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا على إجراء الظرف مجرى المفعول به مجازا، وهو كثير في كلام العرب. فإذا كان كذلك فكل فعل صلح معه هاء الظرف متعد على طريقته. وكل فعل يعمل في الظرف متعديا كان أو غير متعد، فاقتضى أن قمت، وصمت، وقعدت، وغير ذلك من غير المتعدي متعد، وذلك غير صحيح؛ إذ النحويون لا يطلقون عليها اسم التعدي حقيقة. ومن هذا الباب: دخلت مع الأماكن المختصة فإن هاء غير المصدر يطرد فيها. مع أن سيبويه وغيره لم يجعله متعديا. والثالث: أنه أخرج بهذا الضابط قسما من أقسام المتعدي؛ إذا قسم النحويون المتعدي ثلاثة أقسام: قسما يتعدى بنفسه، وقسما يتعدى بحرف الجر، وقسما ثالثا يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر أخرى. وإنما عدوا ما يتعدى بحرف الجر قسما ثالثا من اجل لزومه الطلب للمعول كالمتعدي بنفسه، كمررت، وعجبت، ورغبت، فإنها طالبة للمجرور لزوما. وفرقوا بينها وبين ما لا يطلبه لزوما، كقام، وقعد، فجعلوا طلبها للمجرور إن وجد غير تعد، وسموه تعلقا. فالناظم قد نظم هذا القسم في سلك ما لا يتعدى. وذلك خلاف ظاهر.

والرابع: أن الأفعال المتقدم ذكرها، مما انتصب في الشعر، أو في النادر على إسقاط الجار، كمررت، ونحوها متعدية بلا بد؛ لأنها وصلت إلى ما نصبته بنفسها. وإطلاق اسم المتعدي عليها صحيح، وإن كان غير مقيس. ولا يصح أن يقال في "تمرون الديار" إن (تمرون) غير متعد، وهو قد نصب المفعول به، وكذل الأمر في "لقضاني" وفي: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وما أشبه ذلك، فإن الفعل قد وصل إليها بنفسه، ولا معنى للتعدي إلا ذلك. فكيف يقال: إن علامة المتعدي وصل هاء غير المصدر به، وها هنا لو قلت ذلك/ فيها لم يصح. والخامس: أن من الأفعال أفعالا كثيرة جدا تستعمل متعدية وغير متعدية مع أن البنية واحدة، نحو غاض الماء وغضته، ورجع الشيء ورجعته، ووقف الفرس ووقفته، وعمر المنزل وعمرته، ومن ذلك كثير، فمن أين يعرف في هذا الباب المتعدي من غيره بهذا العقد، وأنت إذا نظرت في رجع الشيء مثلا هل يتعدى أم لا؟ فوصلت به هاء المصدر. قلت: رجعته، وهو صحيح مع أنه كان عندك غير متعد، فمثل هذا لا يتم تعريفا لهذه الأفعال وأشباهها. والسادس: أن هذا الضابط دوري، فلا يصح، وإنما كان كذلك لأن إلحاقنا الهاء لغير المصدر تتوقف صحته على معرفة كون الفعل متعديا؛ إذ كنا لا نقول: عرفته حتى نقول: عرفت زيدا. وهذا هو المطلوب فقد توقفت معرفة المتعدي على صحة إلحاق الهاء، وإلحاق الهاء متوقف على معرفة المتعدي. وهذا دور لا يصح التعريف به. والجواب عن الأول: أن باب نصحت، وشكرت متوقف على السماع،

والناظم إنما تكلم على القياس، فلا يعترض بالسماع عليه؛ إذ لم يتعرض له. وأيضا فإنه على أحد الوجهين قابل لهاء غير المصدر في أحد الوجهين، فهو في ذلك متعد، وفي الوجه الآخر غير قابل، فلا يكون متعديا، فدخل تحت ضابطه. وعن الثاني: أن الاتساع في الظروف مجاز وعلى خلاف الأصل، وإن كان قياسا، والأصل ألا يتعدى بنفسه بل بحرف الجر، أو على تقديره، فإذا جيء بضمير الظرف تعدى بالحرف، وإذا كان كذلك فالضابط غير مستتب فيها على الإطلاق، إذ لا تتصل الهاء فيها بالفعل إلا بقيد، والضابط مطلق. وأيضا الظرف المتسع فيه إن قيل فيه مفعول به، ولو على الجواز، فاتصال هاء غير المصدر به على ذلك التقدير جائز، فيكون علامة صحيحة. وعن الثالث: أن الناظم اصطلح في التعدي اصطلاحا التزمه، فأطلقه على وصول الفعل للمفعول بنفسه خاصة، ولذلك قال: بعد: "فانصب به مفعوله" ومن سمى المجرور متعدى إليه فاصطلاح ثان، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا كان مفهوم المراد، مع أن سيبويه لم يسم التعدي بحرف الجر تعديا، وإنما سماه إضافة. فما اصطلح عليه الناظم أولى. وأيضا فقد أطلق على المتعدي بالحرف الجار لفظ التعدي في قوله بعد هذا: "وعد لازما بحرف جر" وعلى هذا يسقط السؤال من أصله. وعن الرابع: أن الناظم لا ينازع في تسمية ما انتصب في الشعر أو غيره

مفعولاً به، فهو داخل تحت التعريف في ذلك الموضع، وهو الشعر مثلا، فإنه لو قال: (لقضاه) موقع (لقضاني)، و (تمرونه) موضع (تمرون الديار) لكان صحيحا في الشعر، سائغا فيه. وأيضا فإنما تكلم على العلامة القياسية الشائعة في كل فعل، فمررت بحسب ذلك غير متعد أي/ إن عدم التعدي هو الشائع فيه في الكلام، وعلى هذا وصفه، والخصوصات أمر آخر يحتاج إلى نظر خاص. وهو لم يتعرض له، وكذلك القول في قضى وقعد ونحوهما وأيضا فإن التعريفات والرسوم في هذه الصناعة إنما هي أكثرية، وقد اقتصر عليها الكثير؛ لعسر الحصر في أمر منتشر، لاسيما ما يرجع إلى الشذوذات والنوادر. وعن الخامس: أن ذلك الباب وإن كثر متلقى من السماع، فليس للقياس فيه مدخل، فليس في إدخاله تحت الضابط فائدة. وهذا هو الأولى في الجواب عن الأول والرابع. وإذا سلمنا فهو داخل على أحد الاستعمالين لصلاحيته إذا ذاك لهاء غير المصدر، وغير داخل في الاستعمال الآخر لعدم الصلاحية. وعن السادس: أن مقصوده الاختبار بما يجده الإنسان في نفسه من ذوق صناعي، أو دربة استعماليه، وخبرة عادية على الجملة، وذلك أن الإنسان إذا قال: ضربته مثلا، وهو يريد بالهاء شخصا من الأشخاص، فالنفس تقبل ذلك وتصححه بما لها فيه من الاستعمال العادي، والدربة الذوقية، وإذا قال: قمته، وهو يريد غير المصدر لم تقبله نفسه، ونفرت عنه بالعادة، وكذلك إذا قلت: علمته، وعرفته، وكسوته وكلمته كان مقبولا، فإذا قلت: خرجته وانطلقته، وذهبته، وحسنته. ونحو ذلك كان غير مقبول. هذا الذي يعني خاصة، وهو

الذي جرى عليه في التسهيل، وشرحه إذا تأملته، فالضابط في تقريب التعريف صحيح. ثم يبين إعرابه، وعامله فقال: فانصب به مفعوله إن لم ينب ... عن فاعل، نحو: تدبرت الكتب يعني أن مفعول الفعل الذي تعدى إليه ينصب به أبدا إذا لم يكن نائبا عن فاعله، وذلك حين يحذف الفعل، فغنه قد تقدم أن له الرفع بنيابته عنه. فإذا لم يحذف الفاعل فلا بد من نصبه، مثال ذلك: تدبرت الكتب، فالكتب هو الذي تعدى إليه تدبر، وحاله النصب إذ لم يقع نائبا. وما ذكره من الضابط حاصل في تدبرت الكتاب أو الكتب، والتدبر: التأمر، والتفهم، وحقيقته: النظر في عاقبة الأمر وما يؤول إليه. وفي قوله: "فانصب به" إشارة، بل تصريح بأن المفعول منصوب بفعله الذي تعدى له؛ إذ الضمير في به عائد على الفعل، أي: انصب بالفعل مفعوله. وهذا رأي سيبويه، وغيره من أهل البصرة. خلافا لأهل الكوفة. والدليل على صحة رأي الناظم أن أصل العمل الطلب، والطالب للمفعول ليس شيئا غير الفعل فهو إذا العامل، ولذلك ترى المفعول يدور مع الفعل في تصرفه وجودا وعدما، فإن كان الفعل متصرفا تصرف المفعول، فتقدم أو توسط، وإذا لم يكن الفعل متصرفا لم يتقدم، ولا زال عن موضعه الخاص به. وهذا/ ظاهر. وقد اضطرب الكوفيون في العامل ما هو، فذهب هشام بن معاوية الملقب بالطوال- صاحب الكسائي- إلى أنه منصوب

بالفاعل، وذهب الفراء إلى أنه منصوب بالفعل والفاعل معا، حكى القولين الفارسي وغيره، وحكى صاحب الإنصاف قولا ثالثا عن خلف الأحمر: أنه منصوب بمعنى المفعولية. فأما مذهب هشام فرد بأنه لو كان الفاعل هو العامل لعمل فيه وهو غير مسند إلى الفعل؛ إذ هو الفاعل مع الإسناد. فإن قيل: إنما يعمل بهذا الوصف وهو كونه مسندا إليه. قيل: فأجز أن ينتصب بالابتداء، نحو: زيد ضارب عمرا؛ لأنه مثل الفاعل في أنه محدث عنه، وأيضا لو كان كذل لم يكن لاعتبار الفعل في جواز تقديم المفعول معنى، فلم يعتبر تصرفه، بل كان ينبغي أن يتصرف المعمول الذي يصحبه فعل غير متصرف كما يتصرف المعمول الذي صحبه فعل متصرف، لأن العامل في الموضعين الفاعل، وهو على كل وجه فاعل، فلما لم يجز ذلك مع نحو: نعم، وجاز مع نحو: ضرب مع أن الفاعل واحد فيهما دل على أنه ليس العامل. وأما مذهب الفراء فرد بأنه لو كان كذلك لامتنع توسيط المفعول بين الفعل والفاعل معا، ولم يوجد مثل قوله: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وأيضا فإن محصول هذا القول راجح إلى أن العامل معنى غير فعل، فيمتنع تقديم المفعول

مطلقا بناء على القاعدة المستمرة: أن العامل إذا كان معنى لم يجز تقديم المعمول فيه على المعنى، ولذلك يمتنع: قائما خلفك زيد، وما أشبه ذلك، فإن أجاز التقديم هذا والعامل معنى. لزمه في كل موضع كان العامل فيه معنى. وأدى إلى خالفه العرب والنحويين. وأما مذهب خلف فرد بأنه لو كان كما قال لوجب ألا يرتفع ما لم يسم فاعله لوجود معنى المفعولية، كما أن رفعه الفاعل بمعنى الفاعلية باطل، لعدم معنى الفاعلية في نحو: مات زيد، وسقط الحائط، وما أشبه ذلك مع أنه قد ارتفع فيه الاسم كما ارتفع في: قام زيد، ونحوه. وأيضا كان يجب أن ينتصب زيد من قولك: زيد مضروب؛ لوجود معنى المفعولية. هذا ما قيل في الرد على هذه المذاهب، فالأصح ما ذهب إليه الناظم إلا ابن خروف لما قرر نحو هذه الأشياء من كلام الفارسي قال: "هذا كله فاسد بني على أصل فاسد، أضاف العمل إلى الألفاظ حقيقة، وتأول ذلك على الأئمة؛ وذلك لأن الرافع والناصب والجار والجازم إنما هو المتكلم، والألفاظ لا عمل لها لكن لما كان المتكلم يرفع عد حضور بعض الألفاظ، وينصب عند آخر، ويجر ويجزم عند آخر، فكانت تجري مع أنواع الإعراب وجودا وعدما نسبوا العمل إليها اتساعا ونظما للاصطلاح فقط" انتهى/ قوله، وما قال هو الذي أراد الفارسي فليس بمخالف لما قال، كيف وابن جنى هو الذي أصل ذلك الأصل الذي بني عليه ابن خروف، وابن جنى صنيعة الفارسي، وناشر علمه، وعبد نعمته في مثل هذه الأشياء، فرد ابن خروف مشكل. ولما رأى الناظم هذا الاصطلاح مما قد يخفى على كثير من الناس حرر عبارته على الأصل المقصود، فلم يبق ما يعتذر منه، فقال: "فانصب به مفعوله"

ففاعل (انصب) هو المتكلم، والباء في (به) للسبب، كأنه قال: انصب أيها المتكلم مفعول الفعل بسببه وبحضوره، فلم ينسب العمل إلا للمتكلم، لكن بقرينة حضور الفعل الطالب للنصب. وهذا كله ظاهر. قال ابن جنى الخصائص: "سألت الشجري يوما فقلت: يا أبا عبد الله كيف تقول: ضربت أخاك، فقال: كذاك، فقلت: أفتقول: ضربت أخوك، فقال: لا أقول: أخوك، أبدا. قلت: كيف تقول: ضربني أخوك، فقال: كذاك، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبدا، فقال: أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام". فهذا نحو من قولك: رفعته لأن الفعل طلبه بالفاعلية، ونصبته لأنه طلبه بالمفعولية، وهو قريب من الاصطلاح. وعلى الجملة فمثل هذه المسائل لا يجدي فيها الخلاف فائدة غير تنقيح وجه الحكمة الصناعية والله أعلم. ولازم غير المعدي وحتم ... لزوم أفعال السجايا كنهم كذا افعلل والمضاهي اقعنسسا ... وما اقتضى نظافة أو دنسا أو عرضا أو طاوع المعدى ... لواحد كمده فامتدا هذا هو القسم الثاني، وهو غير المتعدي، وسماه لازما بقوله: "ولازم غير المعدي" يعني أنه يسمى لازما في الاصطلاح؛ لكونه لزم فاعله فلم يتجاوزه إلى غيره. ولما ضبط المتعدي بضابط يتحصل به أكثر الأفعال المتعدية تحت التمييز حاول مثل ذلك في اللام أو نحوا منه، وذلك أن المتعدي وغير المتعدي إنما هو سماعي، والضابط القياسي فيه ضعيف؛ لأنه إنما يشمل من الأفعال جملة أكثرية، لكن النحويين تكلفوا لها ضوابط بحسب الإمكان في صنعة القياس، كما

فعلوا في ضبط أبنية المصادر، وأسماء الفاعلين، والمفعولين، والصفات، والجموع المكسرة، وغير ذلك. فكان من أقرب ما وجدوا في ضبط غير المتعدي ما اختار الناظم، وهو أنه ردها إلى عقود خمسة، اثنان منها لفظيان، وثلاثة معنوية، وذلك كون الفعل من أفعال السجايا، وكونه على وزن افعلل، وكونه على وزن افعنلل، واقتضاؤه نظافة أو دنسا، أو عرضا، وكونه مطاوعا للمتعدي إلى واحد، وإن شئت جعلتها ستة فتفرد ما/ اقتضى عرضا عقدا مستقلا، فأما كونه من أفعال السجايا فذلك قوله: "وحتم لزوم أفعال السجايا" يعني أنه أوجب أن تكون الأفعال الراجعة إلى معاني السجايا لازمة غير متعدية، والسجايا هي الطبائع والغرائز المطبوع عليها، وهي الدالة على معنى قائم بالفاعل لزوما، وذلك مثل: نهم الراجل ينهم نهما فهو نهم: إذا أفرط في شهوة الطعام، ومثله كرم، ولوم، ونبه، وسفل، وشجع، وجبن، وذكو، وبلد، ورطب، وصلب، وصغر، وعظم، وسهل، وصعب، وضخم، وضول. فهذه الأفعال وما كان نحوها إنما هي لمعنى مطبوع عليه، أو لاحق به، وأكثر ما تأتي على فعل ويشاركه فعل، ومنه نهم في تمثيل الناظم، ونحوه شنب، وحول، عور، وحور، وعرج، ولهي، ونكب، ونغل، وعجل، ونكظ، وغضب، وضرب، وضحك، وضهيت، ولقس، ولثغ، وجعم، وقرم، وما أشبه ذلك. وأما كونه على افعلل فمثاله اطمأن، واقشعر، واشمأز، واجرعن، واشمعل، واصمعد، وارثعن، واقصعل، واقلعف، وازمهر، واسبطر، وامذقر، واشمخر

وارجحن، وازلغب، وإنما كثرت المثل ليتبين عدم التعدي إذا استقرأها في الاستعمال العربي. وقوله: "كذا افعلل" حذف منه واو العطف على عادته أي وكذا افعلل، وأتى بالمثال على ظاهر الأمر فيه في اطمأن، وبابه من أن اللام الأولى من لامات الكلمة متحركة، وذلك موهم أنه الأصل في المثال، وقد ركب في ذلك ما ركبه المازني، وقد قال ابن جنى: إن أصل افعلل افعللل- يعني باسكان اللام الأولى، قال: "فعلى هذا ينبغي أن يكون أصل اطمأن اطمأنن، فكرهوا اجتماع مثلين متحركين فأسكنوا الاول، ونقلوا حركته إلى ما قبله، ثم أدغمت اللام الثانية في اللام الثالثة، فصار اطمأن كما ترى" قال: "ويدل على ذلك أنه إذا سكن الآخر منهما عاد البناء إلى أصله ألا ترى أنك تقول: اطمأننت فتبين النون الأولى لما سكنت النون الآخرة، ثم بين ذلك بباب شد حين تقول مع الضمير: شددت فتظهر التضعيف، وبباب احمر حين تقول: احمررت. فإذا كان كذلك، فكان الأولى أن يأتي بالمثال على أصله. والعذر له أمران: أحدهما أنه في ذلك متبع لإمام من أئمة النحو، فلا عتب عليه

والثاني: أن هذا المثال لا يأتي أبدا إلا مضاعف اللام الأخيرة ولم يأت فيه مثل: اسفرجل؛ إذ لا يجاوز بحروفه الأصلية الأربعة، وإنما ذلك للأسماء وحدها، والإدغام لام للتضعيف فأتى بلفظ المثال الذي هو أظهر في الاستعمال من الأصل، وأما كون الفعل مضاهيا لاقعنسس فمعناه أن يكون مشابها له، ومشاكلا، فإن المضاهاة هي المشاكلة والمشابهة، وعلى ذلك يحتمل أمرين: / أحدهما: أن يريد المشابهة تحقيقا فلا يدخل تحته إلا ما كان ملحقا بالتضعيف باحرنجم؛ لأن حقيقة المضاهاة أن تكون في جميع الوجوه، فكما تكون في زيادة النون بين حرفين قبلها، وحرفين بعدها فكذلك تكون في كون الحرف الرابع والخامس زائدا بالتضعيف، فلا يشمل إلا مثال اسحنكك، وما أشبهه. وهذا صحيح، ولكنه قاصر في التعريف. والأمر الثاني: أن يريد بالمضاهاة ما هو أوسع من ذلك، وهو المشابهة التي لا يلزم فيها الموافقة في جميع الوجوه، فيدخل له ما كانت فيه النون زائدة بين حرفين قبلها وحرفين بعدها مطلقا، كان الحرفان بعدها أصلين، أو أحدهما زائدا بالتضعيف، أو من حروف سألتمونيها فيشمل ما كان على وزن افعنلل من الرباعي الأصول، نحو: احرنجم، واجرنمز واسحنفر، واخرنطم، واقرنبع، واعرنزم، وادرنفق، وما أشبه ذلك، وكذلك يشمل ما ألحق

بزيادة التضعيف من باب أولى، وهو الذين عين المثال، ويشمل أيضا ما ألحق بزيادة سألتمونيها، ونحو: احرنبي، واسلنقى واعلنبى، واحبنطى غير مهموز، واحبنطا مهموزا أيضا، واجلنظى، فهذا كله على هذا التفسير يدخل تحت قوله: "والمضاهي اقعنسا" وهو أيضا صحيح في الضربين الأولين إذ لو يوجدا إلا غير متعديين. وأما في الثالث، وهو مثال افعنلي ففيه نظر فإن ابن جني زعم أنه على وجهين: يتعدى ولا يتعدى فكونه غير متعد هو الأكثر فيه، وكونه متعديا مثاله قول الراجز: قد جعل النعاس يغرنديني ... أدفعه عني ويسرنديني قال أبو عبيدة: المغرندي، والمسرندي: الذي يغلبك ويعلوك، ثم أنشد البيتين، فيبقى على الناظم أنه لم يتحرز من وزن افعنلي فاقتضى أنه لازم على الإطلاق، وكذلك ابن خروف أتى بالبيتين، وسلم مقتضاهما من صحة التعدي، فظهر أن إطلاق الناظم غير محرر لاحتياجه إلى التقييد.

والجواب عنه: أن سيبويه أطلق القول بعدم التعدي في افعنلل، وافعنلي، فقال: "وليس في الكلام افعنللته ولا افعنليته". وقال الزبيدي: "أحسب البيتين مصنوعين". فإذا كان التعدي لم يسمع إلا في البيتين، وفيهما للناس متكلم ترك الاعتماد عليهما، واعتمد على نقل سيبويه، وأيضا لو صح البيتان لم يكن فيهما رد عليه لشذوذهما بالنسبة إلى عامة الباب. وأما كون الفعل مقتضيا للنظافة أو الدنس فلذلك قوله: "وما اقتضى نظافة أو دنسا" يعني أن ما كان من الأفعال يرجع معناه إلى معنى النظافة أو معنى الدنس فهو أيضا لازم، غير متعد، ومثاله: نظف، وطهرت الحائض وطهرت، ونقي، ونجس ونجس، وقذر، ورجس، وجنب/ وسمج، وشحب، ونزه، وحسن، وقبح، وبزع، ومن ذلك كثير. وأما كونه يقتضي عرضا فهو قوله: "أو عرضا" وهو معطوف على المنصوب قبله، أي: وما اقتضى عرضا، يريد كان فيه معنى العرض فهو لازم، والعرض ما كان داخلا على الشيء مخالفا لأصل جبلته، وعارضا له كالمرض، والفرح، والحزن، وبالجملة كل ما يدخل على الأشخاص من زيادة أو نقصان فهو عرض، نحو: مرض، وبريء، وبرأ، ونشط، وكسيل، وفرح، وحزن، وشبع، وسقم، ونقه، وغرث، وظمئ، وروي، وفرع، وأمن، وأشر، وبطر، وقلق، وغضب، وسكر، وما أشبه ذلك. ويدخل فيه بمقتضى

إطلاق اللفظ أيضا إلا الأولون، نحو: أحمر، واصفر، واسود، وادهم، واغبر، وأفعال منها كلها أيضا، وما كان نحوها. وأما كونه مطاوعا للمتعدي إلى واحد فذلك قوله: "أو طاوع المعدي لواحد" طاوع معطوف على اقتضى، أي: وما طاوع المعدي لواحد فبين أن الفعل المطاوع فعل يتعدى إلى مفعول واحد لازم غير متعد، ومثله بقوله: "مده فامتد" ومن باب ما مثل به: رددته فارتد، وعددته فاعتد، وعدلته فاعتدل، وكلته فاكتال، وغممته فاغتم، وانغم أيضا، ومثله أيضا: كسرته فانكسر، وحطمته فانحطم، وحسرته فانحسر، وسويته فانشوى، قال سيبويه: "وبعضهم يقول فاشتوى"، وصرفته فانصرف، وقطعته فانقطع، وكسرته فتكسر، وعشيته فتعشى، ودحرجته فتدحرج، وقلقتله فتقلقل، وما أشبه ذلك. وإنما قال: "لواحد" تحرزا من مطاوع المعدي لأكثر من واحد فإنه يتعدى إلى وحد؛ لأن الفعل المطاوع ينقص تعديه عما طاوعه بواحد، فإن كان المطاوع متعديا إلى واحد نقص الواحد في المطاوع له، فصار لازما، وإن كان متعديا إلى اثنين الواحد في مطاوعه فصار متعديا إلى واحد، فإذا قلت ناولته الشيء فتناوله، فقد تعدى المطاوع إلى واحد، فلذلك قال: "أو طاوع المعدي لواحد". وقد أتى في هذا الفصل بما لم يأت به في التسهيل هكذا فهو من الزيادات التي أفادها هذا النظم، وللناظم في هذا الرجز من الفوائد الحسان ما لم يقع له مثله في التسهيل، وقد تقدم من ذلك،

وستأتي أشياء أخر إن شاء الله، وإلى ما ذكره هنا يرجع ما قاله الجزولي وغيره في ضبط اللازم إذا تومل إلا أن ما هنا أقرب وأخصر. ثم ذكر التعدي بالحرف فقال: وعد لازما بحرف جر ... وإن حذف فالنصب للمنجر نقلا وفي أن وأن يطرد ... مع أمن لبس كعجبت أن يدوا يعني أن اللازم من الأفعال قد يتعدى بحرف الجر، فتقول: كرم علي، وشرف بكذا، وانطلق إلى موضع كذا، وامتد على الأرض، ومرد بزيد، وعجب من فعلك، وما كان نحو ذلك. وهذا التعدي لا يقدح في كونه/ لازما بحق الأصل؛ لأن حروف الجر تتعلق برائحة الفعل فضلا عن نفس الفعل، وسماه تعديا، وهو عند بعض المتأخرين على وجهين في الاصطلاح: تعد وتعلق، فالتعدي: يطلق حيث يكون الفعل طالبا لحرف الجر على اللزوم كمررت بزيد، وعجبت من فعله، ورغبت في الخير، فإن مثل هذه الأفعال في طلبها للمجرور كالمتعدي بالنسبة إلى المفعول. والتعلق حيث يكون لا يطلبه على اللزوم بل بالنسبة إلى القصد في الكلام، كذهبت معك، وقعدت في منزلك، وانطلقت إليك، فإن هذه الأفعال إنما تطلبه بحسب ما طلبته مقاصد الكلام، فتقول مرة: انطلقت من عندك، وتارة: انطلقت بسببك، ولأجلك، من جرائك، وتقول مرة: انطلقت لا غير، فلا تعديه، ولا يطلب شيئا، وفرق بين فعل يطلب الحرف الجار من جهة وضعه، وفعل يطلبه من حيث هو مقصود في الكلام، فالناظم لم يكترث بالفرق بين المعنيين؛ لأن الجميع تعد ومجاوزة للفاعل إلى غيره، ألا ترى أنه إذا سقط حرف الجر انتصب الاسم، ويستوي في ذلك لازم التعدي، وغير لازمه، وأيضا طلب الفعل لحرف جر

بحسب القصد كطلبه له بحسب الوضع، فكانا بابا واحدا، ويكون إطلاق التعدي في أحد الوجهين كإطلاقه في قول سيبويه: "واعلم أن ما لا يتعدى يتعدى إلى اسم الحدثان". فسمى نصب المصدر تعديا، وكذلك في الزمان، والمكان، ولا مشاحة في الاصطلاح، ثم قال: "فالنصب للمنجر نقلا" ضمير (حذف) راجع لحرف الجر، يعني أن الحرف إن حذف فلا للمنجر به من النصب، فيصير الفعل متعديا بنفسه بالعرض كالمتعدي بحق الأصل، وذلك لأنه إذا تعلق به الجار فقد صار موضعه نصبا، ولذلك تقول: مررت بزيد وعمرا، فتعطف على موضعه نصبا، ومما جاء من ذل قول جرير: تمرون الديار ولن تموجوا ... كلامكم علي إذا حرام أراد: تمرون بالديار، أو على الديار، وقال الكلابي أنشده المبرد: تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني يريد: لقضى علي. وقال الشمردل بن شريك: يشبهون سيوفا في مضائهم ... وطول أنضيه الأعناق والأمم أراد بسيوف. وأنشد في شرح التسهيل قول الآخر: كأني إذا أسعى لأظفر طائرا ... مع النجم في جو السماء يصوب أي لأظفر بطائر.

وأنشد سيبويه لساعدة بن جوية: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب أي: في الطريق، وأنشد أيضا للمتلمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس قدره سيبويه: على حب العراق، فهذه الأمثلة، وأشباهها لما حذف منها الجار انتصب الاسم، ولم يبق ما كان عليه من الجر، لأن الجار لا يعمل محذوفا. وما جاء من نحو: إذا قيل: أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب/ بالأكف الأصابع فشاذ نادر، وإنما الباب فيه النصب، وجميع ذلك بابه النقل، وليس بقياس، وذلك قول الناظم: "نقلا" بعد قوله: "وإن حذف فالنصب للمنجر" يريد أن

حذف الجار، ونصب الاسم الذي قد كان جبر به موقوف على السماع، ويستوي في ذلك ما كان الحذف فيه مختصا بالعشر كالأمثلة المتقدمة، وما كان مستعملا في الكلام كوزنت لزيد ما له، وكلت له طعامه، إذ قلت: وزنت زيدا ماله، وكلته طعامه، وكذلك نصحت، وشكرت، فإنك تقول: شكرت له، ونصحت له، وتقول أيضا: شكرته، ونصحته. هذا إن ثبت أن ثبوت الجار فيها هو الأصل، وإلا فهما استعمالان مستأنفان ليس أحدهما أصلا للآخر. فإن قيل: كلامه هنا مشكل من وجهين: أحدهما: أن قوله: "وغد لازما بحرف جر" قاصير، لأن التعدي بحرف الجر ليس مقصورا على اللازم دون المتعدي، بل كل فعل متعديا كان أو غير متعد يتعدى بحرف الجر، ألا ترى أنك تقول: ضربت زيدا في الدار، وأكرمته بسببك، وأعطيته درهما لانتفاعه به، وعرفت زيدا بكذا، وكثيرا من ذلك بحث لا يقصر في التعدي عن قولك: قام في الدار، وانطلق إلى فلان، ومررت على عمرو، وما أشبه ذلك، بل الضربان على سواء في هذا التعدي كما أنهما مستويان في التعدي للمصدر، والظرفين، والحال وغيرها من المنصوبات التي ينصبها كل فعل. ثم إن حكمها في النصب بعد حذف الجار حكم اللازم، فإن الشاعر إذا اضطر جاز له أن قول: أظفرت زبدا طائرا، وأمررته الدار، ومنه: يشبهون سيوفا في مضائهم ولا أعلم أن أحدا يخالف في هذا المعنى، ويدخل في هذا النمط باب: اختار، واستغفر مما يتعدى لواحد بنفسه ولآخر بحرف الجر، ويجوز إسقاطه، فإن الأصل في الثاني حرف الجر، وحذفه سماع. فإن قلت: كيف يكون سماعا، وإسقاطه مطرد سائغ غير موقوف عندهم

على السماع. قيل: بل هو عندهم سماع غير قياس إذ لم يعدوه إلى غير الأفعال المسموع فيها الإسقاط، وإنما أجازوا الإسقاط في مواضع السماع خاصة حيث أجازته العرب، فعلى الجملة قول الناظم: "وعد لازما" قاصر فكان حقه أن يقول: "وعد لازما أو غيره بحرف جر، أو: وكل فعل يجوز أن يتعدى بحرف الجر، وإذا حذف نصب، أو ما يعطي هذا المعنى. والثاني: أن قوله: "فالنصب للمنجر نقلا" يظهر منه أن المنقول هو نصب المنجر؛ وإذ ذاك يلزمه أمران محذوران: أحدهما: أنه يصير معنى الكلام: إذا حذف الجار فالنصب مع حذفه نقلي، فيقتضي أن غير النصب وهو بقاؤه على جره قياسي لا نقلي، وليس كذلك، أما أن النصب مع ذلك نقلي فغير صحيح بل هو اللازم الذي لا يصح غيره إلا ما شذ، وأما أن بقاءه على جره قياسي فغير صحيح أيضا؛ لأن/ مثل قولهم: خير عافاك الله، أراد: بخير، وقوله: أشارت كليب أراد: إلى كليب لا اعتبار به، لأن حرف الجر ضعيف فلا يقوى أن يعمل محذوفا، كما يقوى الفعل. والثاني: أنه لا يمكن ترتيب ما بعد هذا الكلام عليه وهو قوله: "وفي أن وأن يطرد؛ إذ يصير المعنى: أن النصب مطرد في أن وأن، ويبقى الحذف غير محكوم عليه لا باطراد ولا بغيره، مع أنه المقصود بالذكر. وهذا كله مشكل.

فالجواب عن الأول بأمرين: أحدهما: أن يكون ذكر اللازم وحده، ليكون أصلا لغيره، فيقاس عليه؛ لأن المتعدي بنفسه بالنسبة إلى غيره كاللازم بالنسبة إلى المفعول؛ إذ كل واحد منهما غير مطلوب للفعل من جهة وضعه، وإذا كان كذلك ساغ القياس، فكأنه ترك غير اللازم ليقاس على اللازم للاجتماع في المعنى الذي لأجله تعدى اللازم، بل التعدي أولى؛ لأنه إذا كان ما لا يتعدى أصلا يتعدى بحرف الجر فأولى ما شأنه التعدي. والثاني: أن يكون سمي المتعدي لازما باعتبار تعديه إلى زائد، فالمتعدي إلى واحد لازم في المعنى عن التعدي إلى ثان. وكذلك المتعدي إلى اثنين بالنسبة إلى الثالث، فأطلق لفظ اللزوم وهو يريد اللازم في الحقيقة وهو ما لم يتعد أصلا، واللازم مجازا، وهو ما لم يطلب من المفعولات زائدا على ما تقضى منها. واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه جار على ما ذكره أهل الأصول، وغيرهم. والجواب عن الثاني: أن قوله: "نقلا" إنما يرجع إلى حذف الحرف والتقدير: وإن حذف نقلا فالنصب للمنجر، وعلى هذا التقدير يصبح الكلام مع قوله: "وفي أن وأن يطرد" فإن قسم الحذف قسمين: أحدهما: سماعي في غير أن وأن فذكره أولا، وبين أن حكم المجرور بعد الحذف النصب. والآخر قياسي، وذلك مع أن وأن، وهذا المحمل لا بد منه، ويبقى النصب على إطلاقه؛ إذ كان ما حذف منه حرف الجر في الشعر- وإن كان سماعا- لا بد فيه من الرجوع إلى النصب قياسا مطردا. وأما بقاؤه على الجر ففي غاية الشذوذ. وقوله: "وفي أن وأن يطرد" أن وأن هما المصدريان، وضمير يطرد عائد على الحذف المفهوم من قوله: "وإن حذف" كما في قوله تعالى:

{وإن تشكروا يرضه لكم} أي: يرض الشكر لكم. فهكذا يقدر هنا: "وفي أن وأن يطرد الحذف" يريد أن حذف الجر مع هذين الحرفين لا يقتصر به على المنقول، بل يجوز معها قياسا فنقول: جئت أن أكرمك، تريد: لأن أكرمك، وعجبت أن يقوم زيد، تريد: من أن قوم زيد، وعجبت أنك سائر، وجئت أنك كريم، ومنه في القرآن الكريم: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} التقدير: ولأن هذه أمتكن، وقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أني لكم نذير مبين} على قراءة الفتح أي: يأتي لكم نذير مبين، ومثله قوله: {وأن المساجد لله فلا تدعو/ مع الله أحدا} حمله سيبويه على تقدير اللام. وقال تعالى: {فدعى ربه أني مغلوب فانتصر} وأنشد سيبويه للفرزدق: منعت تميما منك أني أنا ابنها ... وشاعرها المعروف عند المواسم

على تقدير: لأني، وقد روي بالكسر على الابتداء. وهذا كثير في الكلام لكن لا بد في جواز الحذف من شرط وهو ألا يودي حذف الجار إلى اللبس. وذلك قوله: "مع أمن لبس" أي إن الحذف يطرد مع أن وأن إذا أمن اللبس كالأمثلة المتقدمة، فإن وقع بسببه لبس لم يحذفن ولزم إثباته، نحو قولك: رغبت أن يكون كذا، فإن هذا الحذف غير جائز لاحتماله؛ إذ لا يعرف هل المراد: رغبت في أن يكون كذا، أو رغبت عن أن يكون كذا، وهما معنيان مختلفان، فامتنع الحذف للبس الحاصل بسببه، فلو كان على المقصود دليل في رغبت ونحوه لجاز الحذف، كما تقول: أحببت مرافقتك ورغبت أن تكون معي، ومنه في الكتاب العزيز: {وترغبون أن تنكحوهن} فسياق الآية يدل على أن المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، ولو لم يكن ثم دليل لما جاز، بل يجب التصريح بالحرف الجار. ومثل الناظم ما لا لبس فيه بقوله: "عجبت أن يدوا" فهو على حذف من، والأصل: عجبت من أن يدوا، وهو من ودى الرجل يدي: إذا أعطى الدية، والرجلان يديان، والرجال يدون، وينصب، فيقال: عجبت أن يدوا، أي: يعطوا الدية. ويحتمل أن يكون من ودى الرجل الناقة بالتودية، وهي خشبة تشد على أطباء الناقة لئلا يرضعها الفصيل. وظاهره حين قال: "وفي أن وأن يطرد" ولم يحكم على موضعهما بالنصب، كما حكم على القسم المسموع أن موضعهما محتمل للنصب والجر، وهي مسألة اختلاف بينهم، فمذهب الخليل أنهما في موضع نصب، وإليه ذهب الفراء،

والمبرد. اعتبارا بالاسم الصريح إذا سقط معه الجار فإنه ينتصب بلا بد. قال سيبويه: "فإن حذفت اللام من أن فهو نصب كما أنك لو حذفت اللام من {لإيلاف} كان نصبا. هذا قول الخليل". ومذهب الكسائي أنهما في موضع جر، ومال إليه السيرافي اعتبارا بأن حرف الجر يحذف معهما كثيرا لطولهما، كما حذف الضمير في نحو: الذي ضربت زيد للطول، ولم يحسن الحذف في قولك: الضارب أنا زيد؛ لعدم الطول. وتقول: أنا على ثقة أنك مقيم، أي: من انك مقيم، ولا يحذف مع المصدر فإذا حذف في اللفظ فكأنه موجود في الحكم، وأيضا فتقدم أن في: {وأن هذه أمتكم} {وأن المساجد لله} مع امتناع: أن زيدا قائم عرفت- دليل على أن الجار في حكم الملفوظ به، وإلا لزم الكسر، وأيضا فله نظائر كرب، ولاه أبوك، ونحوهما، فلا محذور على كل تقدير. والحكم شاهد للجر. ومنهم من أجاز الوجهين، وهو رأي الزجاج، وهو يظهر من سيبويه إذ قال: "ولو قال إنسان: إن أن في موضع جر في هذه الأشياء، ولكنه- يعني الجار/ حذفت لما كثر في كلامهم، فجاز فيه الجار كما حذفت رب في قولهم: * وبلد تحسبه مكسوحا *

لكان قولا قويا، وله نظائر، ويحكي الناس عن سيبويه أنه حتم القول بذل كالكسائي، ومساق كلامه يدل على إجازته الوجهين. وعلى كل تقدير فالقول بأنهما في موضع نصب هو للخليل، والقول ببقاء الجر حتما أو جوازا هو قول سيبويه. وقد عكس ابن مالك في التسهيل وشرحه هذه النسبة فيجعل النصب لسيبويه، والجر للخليل، واتبعه ابنه في ذلك في شرح هذا النظم. وذلك وهم بلا شك. فالناظم لم يلتزم واحدا من هذه المذاهب بل تركها في محل النظر؛ لقوة أدلتها كما تقدم، وقد فعل ابن خروف مثل ذلك، إذ قال- لما حكى الخلاف بين الخليل وسيبويه-: "وكلاهما ممكن". والأصل سبق فاعل معنى كمن ... من: ألسن من زار كم نسج اليمن ويلزم الأصل لموجب عرا ... وترك ذاك الأصل حتما قد يرى لما قدم قبل هذا بيان الرتبة بين الفاعل والمفعول وما يبني عليه، أخذ الآن يبين الرتبة بين المفعولين، وما ينبني على ذلك أعني المفعولين اللذين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، وهو من باب أعطى، فذكر أن الأصل تقدم المفعول الذي هو فاعل من جهة المعنى على المفعول الذي ليس كذلك، نحو: أعطيت زيدا درهما، وكسوته ثوبا، وألبسته حلة، وأريته دار فلان، فالأصل في زيد في هذه المثل التقديم على الدرهم، والثوب، والحلة، والدار، لأنه كالفاعل في المعنى، لأنه آخذ، وكاس، ولابس، وراء، وقد تقدم أن الفاعل الحقيقي رتبته التقديم

على المفعول، فكذلك ما كان في معناه بخلاف غيره من المفعولات. وقوله: "كمن من ألبسن من زار كم نسج اليمن" تمثيل للمفعول الذي هو فاعل في المعنى، وهو المقرون بحرف التشبيه في قوله: "كمن في المثال الذي هو: "ألبسن من زار كم" فمن زار كم هو المفعول الذي هو في المعنى فاعل، و (نسج اليمن) هو المفعول الثاني، وليس فيه معنى فاعلية. فكان أصله التأخير، وأصل من التقديم، ثم بين أن ذلك الأصل قد يعرض له أمران. أحدهما: أن يلزم ذلك الأصل فلا يتعدى. والثاني: أن يمتنع فلا يجوز استعماله. وفي هذا الكلام ما يدل على أن الأصل عدم لزوم هذين الأمرين، وأنه يجوز تقديم ما أصله التأخير، وبالعكس. وذلك صحيح، فإنك تقول: أعطيت درهما زيدا، وكسوت حلة زيدا، وألبسن نسج اليمن من زار كم، وما أشبه ذلك؛ فأن الفعل متصرف في نفسه فيتصرف في معموله، فأما لزوم الأصل من تديم ما هو فاعل معنى، فهو الذي قال فيه: "ويلزم الأصل لموجب عرا" فيعني أن تقديم المفعول الذي هو فاعل في المعنى على الآخر قد يلزم؛ وذلك لموجب يجب ذلك هو/ عار في الموضع، أي عارض على خلاف الأصل، وكونه لموجب دليل على أن خلافه هو الأصل، ويقال: عراني الأمر يعروني: إذا نزل بك فأراد أنه قد يعرض في الموضع مانع يمنع من جواز تأخيره. ولم يعين هذا الموجب ما هو اتكالا على فهم المراد مما تقدم؛ إذ قد بين مثل ذل في الفاعل والمفعول، فمن ذلك خوف اللبس بين الأول والثاني، نحو: أعطيت زيدا عمرا، فيلزم هنا تأخير المأخوذ عن الآخذ، لأنه إذا تقدم أوهم أنه الآخذ، وكذلك إذا قلت: أريت زيدا عمرا، وذلك نظير مسألة: ضرب موسى عيسى. ومن ذلك أن يكون الثاني مقرونا بأداة الحصر، نحو: ما أعطيت زيدًا إلا

درهماً، وما كسوت عمرا إلا قميصا، وقد بين مثل هذا في قوله: "وأخر المفعول إن لبس حذر" إلى آخره. وأما امتناع تقديم المفعول الذي هو فاعل في المعنى، فهو قوله: "وترك ذاك الأصل حتما قد يرى" يعني أنه قد يلزم تأخير المفعول الذي هو فاعل معنى عن الآخر، وذلك لموجب أيضا، فمن ذلك أن يكون مقرونا بأداة الحصر، نحو: ما أعطيت درهما إلا زيدا، وما كسوت ثوبا إلا أخاك. وقد تنبه على مثله في قوله: "وما بإلا أو بإنما انحصر أخر". ومنه أن يتصل به ضمير يعود على الآخر، فإنه يلزم تأخيره نحو أعطيت الثوب مالكه، وكسوت الحلة صاحبها، وأريت الدار ساكنها؛ إذ لا يجوز أن يقال: أعطيت مالكه الثوب، ولا كسوت صاحبها الحلة، ولا أريت ساكنها الدار إلا على قول: جزى ربه عني عدي بن حاتم وه زان نوره الشجر وقد مر ذكر ذلك، وأما إذا كان الضمير متصلا بالمفعول الثاني فيجوز التقديم والتأخير على الأصل، فتقول: أعطيت زيدا درهمه، وأعطيت درهمه زيدا، وكسوت زيدا ثوبه، وكسوت ثوبه زيدا، وما أشبه ذلك لأن الضمير هنا إذا

تقدم يعود على ما بعده لفظا لا رتبة وفي المسألة الأخرى إذا تقدم عاد على ما بعده لفظا ورتبة فامتنع، لأن بابه أن يعود على ما قبله وقد مر بسط ذلك، وكذل ما مضى من السؤال والجواب هنالك فيتصور هنا ورود مثله، فعلى الناظر في هذا الشرح بسط ذلك؛ إذ لا كبير فائدة في إعادته. واعلم أن الناظم لم يبين من الترتيب بين المفعولين إلا ما كان في باب أعطى، وترك بيان ذلك في باب ظن، وفي باب أمر. أما باب ظن فالأصل فيه تقديم ما كان مبتدأ قبل دخولها على ما كان خبرا، فتقول على الأصل: ظننت زيدا قائما، وعلى الوجه الجائز: ظننت قائما زيدا، وقد يلزم تأخير ما كان خبرا. نحو: ظننت زيدا عمرا، ما ظننت زيدا إلا قائما، وقد يمتنع نحو: ما ظننت قائما إلا زيدا. وأما باب أمر فالأصل فيه تقديم ما يتعدى إليه الفعل بنفسه على ما يتعدى إليه بحرف الجر وإن جاز إسقاطه، فتقول على الأصل: أمرت/ زيدا خيرا، وعلى الوجه الجائز: أمرت خيرا زيدا، ومنه قول الله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا}، وقد يلزم تأخير المتعدي إليه بنفسه، نحو: ما أمرت خيرا إلا زيدان وقد يمتنع تأخيره نحو ما أمرت زيدا إلا خيرا، فالحاصل أن ما يجري في باب أعطى من أحكام الترتيب بين الفعلين جار مثله في بابي ظن وأمر، فكان من حق الناظم تبين ذلك كله. والعذر عنه أن باب ظن أصل مفعوليه المبتدأ والخبر، وقد ذكر حكم الترتيب في بابه حيث قال: "والأصل في الأخبار أن تؤخرا" إلى آخر الفعل. وهو فيه مستوفى، فلو أعاد ذكر ذلك هنا لكان التكرار الذي لا يحتاج إليه. وأما باب أمر فلعله لم يذكره هنا؛ لأن

الفعل في حكم المتعدي إلى واحد حيث كان أصل الثاني حرف الجر، فكان غير داخل في ترتيب المفعولين؛ فلذلك لم يذكره. والله أعلم. وحذف فضلة أجز إن لم يضر ... كحذف ما سيق جوابا أو حصر مراده: أن يبين ما يحذف من الجملة الفعلية، وما لا يحذف، وقد تقدم أن الفاعل لا يجوز حذفه وحده أصلا، وإنما يحذف مع فعله إلا أن ينوب عنه المفعول، فيصير إذ ذاك عمدة، فلا يجوز حذفه فإنه نائب ما لا يجوز حذفه، فبقي المفعول والفعل. أما المفعول فقال فيه: "وحذف فضلة أجز" يعني أن كل فضلة وقعت في الكلام وذلك المفعول، وما أشبهه من المجرورات فجائز حذفها سواء كانت مفعولا واحدا أو اثنين، فتقول: ضربت، وأكرمت، وأهنت وفي التنزيل: {فأما من أعطى واتقى} وقوله تعالى: {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء} وقوله: {فسقى لهما} ويقال: فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع. وقال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيى ... وأنه هو أغنى وأقنى} وهو كثير جدا. وكذلك نقول: مررت، وعجبت، ونصحت، ووهبت، وأمرت، واخترت، وأعرضت، ورغبت، وما أشبه ذلك. وعبر عن ذلك بالفضلة؛ لأن المفعول والمجرور، وكذلك الظرف قد تكون عُمَدا تقام مقام الفاعل فلا يجوز حذفها فلو قال: "وحذف مفعول أجز" لكان غير صحيح لشموله المفعول المُقام فكان تحرزه بالفضلة حسنا، ولم يشترط هنا في الحذف فهم المعنى كما اشترط ذلك في باب ظن حيث قال:

ولا تجز هنا بلا دليل ... سقوط مفعولين أو مفعول وكما شرط في حذف الفعل هنا إذ قال: "ويحذف الناصبها إن علما، بل أجاز الحذف سواء أعلم المحذوف أم لم يعلم فمثال ما علم قولك: ضربت، لمن سألك: هل ضربت زيدا؟ فسؤال السائل قد جرى فيه ذكر المضروب فكان معلوما، وإن حذف من الجواب، ونحو ذلك قول الله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} بعد قوله: {فأتوا بسورة من مثله} وقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وقوله: {ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم} وكذلك إذا كان ضميرا عائدا من الصلة إلى الموصول نحو: {إن ربك فعال لما يريد} ومثال ما لم يعلم قولهم: فان يصل ويقطع، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويخفض ويرفع، وما أشبه ذلك. ثم شرط في جواز حذف الفضلة شرطا فقال: "إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حُصِر" يعني أن الحذف جائز لكن بشرط ألا يكون المفعول مثل المسوق جوابا أو مثل المحصور بإلا أو بإنما فمثال ما سيق جوابا قولك: زيدا، لمن قال: من رأيت، أو قولك له: رأيت زيدا، فالحذف هنا لا يجوز، ومنه في القرآن الكريم: {إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما} ومثال المحصور قولك: ما ضربت إلا زيدا، وإنما ضربت زيدا، فالمفعول هنا لا يحذف، ووجه ذلك أن الكلام مبني على القصد إلى ذكر

المفعول، أما في الجواب فإنما سأل السائل عن تعيينه، فإذا تركته في الجواب لم تجب عما سأل، فكلامُك ليس بجواب لكنك بنيته على أنه جواب، فلا بد من ذكره وإلا كان نقضَ الغرض، وأما في المحصور فإنما بنيت الكلام وأتيت بإلا لأجل حصر الفعل والمفعول، فلو حذف لاختل الكلام لفظا ومعنى، إذا قلت: ما ضربت إلا، وإنما ضربت، ولم تحصر أفعالك في المضروب فلا يصح الكلام إلا بذكره؛ إذ بني عليه، فحذفه نقض الغرض، ونقض الغرض ممتنع في صناعة العربية. وقد ظهر بهذا التوجيه ما أشار إليه الناظم بقوله: "إن لم يضر كحذف كذا"؛ إذ كان الحذف في المثالين مضادا لما بني عليه الكلام من ذكر المفعول، والقصد إليه، فعلى هذا قد حصل من إشارته أصل يشمل أنواعا حيث أتى بمثالين يشبه بهما غيرهما، فمن ذلك أن يكون المفعول محذوف العامل نحو قولك: خيرا لنا وشرا لأعدائنا؛ فإن العامل لم يحذف إلا ومعموله دال عليه، فلو حذف لانتفض [؟ لانتقض] الغرض من جعله دالا، ومن ذلك أن يكون المفعول مؤكِّدا؛ فإن مواضع التأكيد تنافي الحذف، قال ابن جني في الخصائص: "وما طريقه التوكيد غير لائق به الحذف؛ لأنه ضد الغرض ونقضه، ولأجل ذلك لم يجز أبو الحسن توكيد الهاء المحذوفة من الصلة، نحو: الذي ضربتُ نفسَه زيدٌ على أن يكون نفسه توكيدا للهاء المحذوفة من ضربت" قال ابن جني: "وهذا مما يترك مثله كما يترك إدغام الملحق إشفاقا من/ انتقاض الغرض بإدغامه" فعل هذا لا يجوز: زيد

ضربتُ نفسَه، على حذف هاء ضربته؛ لأنها قد أكدت، والتأكيد مناسب للتطويل والتكثير، فلا يليق به الحذف، ويجري هذا على طريقة الناظم في عامل المصدر المؤكد حيث منع من حذفه بناء على هذه القاعدة، وهي مختلف فيها من أصل، فظاهر سيبويه في بعض المواضع أن التوكيد لا ينافي الحذف، ففي الكتاب: "وسألت الخليل- رحمه الله- عن: مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما، فقال: الرفع على: هما صاحباي أنفسهما، والنصب: على أعنيهما" قال ابن خروف: وهذا دليل على حذف المؤكد وبقاء المؤكد، وقال: "وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في قوله: أم الحليس لعجوز شهربة داخلة على المبتدأ ثم أضمر ونقلت اللام للخبر، تقديره: "لهي عجوز". ومنه قوله تعالى: {إن هذان لساحران} فقد حملها الزجاج على إضمار المبتدأ، وإن

كان الفارسي قد رد عليه بأن الحذف والتأكيد يتنافيان، فقد قال ابن خروف: لا يمتنع تأكيد المحذوف، لأن حذفه للعلم به، وتأكيده لرفع المجاز في الحديث عنه. ومن ذلك أن يكون حذف المفعول يؤدي إلى تهيئة وقطع، وذلك مثل: زيد ضربته، فإنك إن حذفت الهاء فقد هيأت الفعل للعمل في الأول ثم قطعته عنه من غير اشتغال بغيره، فهو نقض ما أريد بالحذف، وذلك غير حسن، قال سيبويه: "ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام" ثم أنشد في ذلك أبياتا. ومثل ذلك: ضربني وضربته زيد، فهاء ضربته عند النحويين لا تحذف إلا قليلا، والباب إثباتها؛ إذ في حذفها تهيئة ضربت للعمل في زيد ثم قطعه عنه، وذلك لا ينبغي؛ لأنه نقض للغرض. فهذه المسائل وما أشبهها مما يمتنع فيه حذف المفعول باتفاق أو باختلاف يشمله كلام الناظم. وهنا مسألة، وهي أنه لما قال: "وحذف فضلة أجز" ولم يشترط العلم بالمحذوف كان ظاهرا في أن عدم ذكرها يسمى حذفا اصطلاحا سواء أتيت بها ثم حذفتها أو لم تأت بها أولا، وذلك أن الحذف المستعمل في اصطلاح النحويين عبارة عن ترك ذكر ما يقتضي الكلام ذكره إما من جهة الطلب اللفظي أو المعنوي، وليس معناه أن يكون مذكورا ثم يحذف؛ إذ لا يثبت هذا أبدا. ولا يلزم أن يكون مقصود الذكر للمتكلم ثم لا يذكره؛ إذ قد يكون كذلك وقد لا يكون كذلك، فإن الضمير العائد في قولك: أعجبني الذي ضربت، مقصود الذكر للربط بين الصلة والموصول، لكنه حذف لطول الصلة، واسم الفاعل في قولك: زيد في الدار غير مقصود الذكر، ويسمى محذوفا، استغناء عنه

بالمجرور، وكذلك الفعل المنوي في: انته أمر قاصدا، ونحو ذلك. وإذا ثبت معنى الحذف فقولك: ضربت/، وأكرمت، وما أشبههما من قبيل ما يطلق عليه أنه حذف مفعوله اصطلاحا، لأن معنى ضربت يطلب مضروبا هو زيد، أو عمر، أو خالد، أو غيرهم، ولا يضر كون المفعول مثلا لم يقصد ذكره، أو قصد ترك ذكره فمنع منه عارض، فلذلك أطلق الناظم القول بالحذف هنا، ولم يعتبر ما يقصده المتكلم في ترك ذكره من تضمين الفعل معنى فعل لازم، أو قصد المبالغة أو اعتبار بعض الأسباب الباعثة على ترك ذكر الفاعل في: ضرب زيد، ونحوه فإن ذلك كله طارئ على أصل الوضع، وكلام النحويين ونظرهم إنما هو في أصل الوضع، أما البياني فينظر في مقاصد الحذف بعد تسليم نظر النحوي، إذ لا تنافي بينهما؛ ولذلك جمع ابن مالك في التسهيل بين النظرين فقال: "وما حذف من مفعول به فمنوي لدليل أو غير منوي، وذلك إما لتضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم، أو للمبالغة بترك التقييد، أو لبعض أسباب النيابة عن الفاعل" فتأمل كيف جمع بين اعتقاد حذف المفعول، واعتقاد التضمين لمعنى الفعل اللازم، وهما في الظاهر متنافيان لكن إذا ردا إلى الأصول علم أن اعتقاد التضمين يكون مع تناسي الأصل، ولا يتناسى الأصل جملة بل هو ملحوظ من طرف خفي، وكذلك الوجهان الآخران لا تنافي بينهما عند التحقيق، وفي علم أصول العربية شفاء الغليل في أمثال هذه المسائل، وكثيرا ما يخفى هذا الأصل على الشادين في علم العربية بل على من يدعي فيها التحقيق، فلقد وقع في كتاب مغني اللبيب لابن هشام- هذا المشرقي المتأخر- خلاف ما تقدم فقال: "وقد يظن أن الشيء من باب الحذف، وليس

منه، كقولهم في حذف المفعول اقتصارا، وتمثيلهم بنحو: {كلوا واشربوا}، ومن يسمع يخل والتحقيق أنه تارة يتعلق الإعلام بمجرد وقوع الفعل فلا يذكر المفعول ولا ينوى؛ إذ المنوي كالثابت، ولا يسمى محذوفا، لأن الفعل بهذا القصد كغير المتعدي، وتارة يقصد مع الفعل من أوقع به فيذكران، فإذا لم يذكر المفعول قيل: محذوف نحو: {ما ودعك ربك وما قلى} وقد يكون في اللفظ ما يطلبه نحو: {وكل وعد الله الحسنى} هذا ما قال، ولم يطابق تقريره ما قصدوا

فلم يقع ذلك التحقيق موقعه مع أنه راجع إلى تقريرهم، فنعم ما فعل الناظم. وقد تم النظر في حذف المفعول وما أشبهه وهو المجرور وهو الذي أطلق عليه الفضلة خاصة. وأما حذف الفعل فهو الذي قال فيه: ويحذف الناصبها إن علما ... وقد يكون حذفه ملتزما الهاء من (الناصبها) عائدة على الفضلة، وناصبها هو الفعل، فيريد أن الفعل إذا علم وكان في الكلام أو في السياق ما يدل عليه جاز حذفه، فلو لم يكن ثم ما يدل عليه لم يجز حذفه، والفرق بينه وبين المنصوب في أن المنصوب يحذف وإن لم يدل عليه دليل، والناصب لا يحذف حتى يدل عليه دليل- أن/ المنصوب فضلة مستغنى عنها يستقل الكلام دونها، بخلاف الناصب، فإنه عمدة الكلام، فإذا كان معلوما حذف؛ إذ هو في حكم الملفوظ به؛ لوجود الدليل عليه. وإذا لم يعلم اختل الكلام ولم يعط فائدة، فلذلك اشترط هنا العلم ولم يشترطه في المنصوب. وهذا شأنه أن يشترط فيما كان عمدة في الكلام ألا يحذف إلا لدليل، وقد يشترط العلم في غير العمدة كما اشترطه في أشياء ذكرها قبل هذا، وبعد هذا وفي غير ذلك، بل القاعدة أنه لا يحذف الشيء لغير دليل سواء أكان عمدة أم فضلة، وإنما أغفلوا هذا الاشتراط في المفعول لحكمة اختصت به مع فعله، وهي أن الفعل المتعدي طالب له من جهة معناه ولفظه كضرب مثلا، فإن معناه يطلب مفعولا به، ولفظه أيضا؛ إذ كنت تقول: زيد ضربته، فتلحقه هاء غير المصدر، وإذا كان كذلك فلم يحذف المفعول قط لغير دليل، بل هو محذوف لدلالة الفعل عليه في

الجملة من جهة طلبا له، لكن لما كان هذا لازما لم يشترطوه؛ إذ لا فائدة في اشتراط ما هو لازم غير مفارق. فإن قيل: إنما كان يكون دليلا عليه لو عينه دون غيره، أما إذا لم يعينه فليس بدليل عليه. قيل: بل هو دليل عليه، ومعين له تعيينا ما، وذلك أنه قد يقع المفعول نكرة، كرأيت شخصا، وأبصرت شيئا، وعرفت أمرا، وأكرمت إنسانا، وذلك ما أشبهه قد يساوي مفهوم: رأيت، وأبصرت، وعرفت، وأكرمت بحسب المخاطب، فقد دل الفعل على ما شأنه أن يصرح به فلم تكن دلالة الفعل واقعة من غير تعيين البتة، وأيضا إن سلم فالدلالة الإجمالية لا تضر في هذا الموضع بخلاف غيره، فقد صح أن الشيء لا يحذف إلا لدليل، وأن اشتراط ذلك في المفعول لا يحتاج إليه. ونبه بقوله: "وقد يكون حذفه ملتزما" على أن حذف الناصب هنا على وجهين: أحدهما: جائز غير لازم، فيجوز إظهار ذلك الناصب. والثاني: لازم، فلا يجوز إظهاره فالذي يجوز إظهاره، هو الشائع الكثير، كما إذا رأيت رجلا متوجها وجهة الحاج وفي هيئة الحاج. فقلت: مكة ورب الكعبة، فالتقدير: يريد مكة، وكذلك إذا رأيت رجلا يسدد سهما نحو القرطاس، فقلت: القرطاس والله، أي يصيب القرطاس، وإذا سمعت وقع السهم على القرطاس، فقلت: القرطاس فالتقدير: أصاب القرطاس، أو رأيت الناس يصوبون النظر إلى الهلال ثم كبروا فقلت: الهلال والله، فالتقدير: أبصروا أو رأوا الهلال، أو رأيت رجلا يريد أن يوقع فعلا من ضرب أو إعطاء أو غيرهما، فقلت، زيدا، فالتقدير اضرب زيدا، أو أعط زيدا، وكذلك إذا

سئلت فقيل لك: من رأيت: فقلت: زيدا، فالتقدير: رأيت زيدا، وتقول لمن قطع حديثه عنك: حديثك، أي صل حديثك، ولمن سألك: هل رأيت أحدا؟ فقلت: زيدا، أي رأيت زيدا، والشواهد على ذلك كثيرة، كقول الله: {قل بل ملة إبراهيم حنيفا} كأن معنى ما قيل لهم: {كونوا هودا أو نصارى} أي اتبعوا ملة اليهود أو ملة النصارى، فقيل لهم: بل اتبعوا ملة إبراهيم، وقالوا في الدعاء على غنم: اللهم ضبعا وذيبا، يريدون: اللهم اجعل فيها أو اجمع/ فيها ضبعا وذيبا. قال سيبويه: "وكلهم يفسر ما ينوي"- قال- "وحدثنا أبو الخطاب أنه سمع بعض العرب وقيل له: لم أفسدتم مكانكم؟ فقال: الصبيان بأبي، كأنه حذا أن يلام فقال: "لم الصبيان" قال: "وحدثنا من يوثق به أن بعض العرب قيل له: أما بمكان كذا وكذا وجذ- وهو موضع يمسك الماء فقال: بلى وجاذا، أي: فأعرف بها وجاذا" وأنشد لمسكين الدارمي: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وليس من هذا القسم. وقالوا: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك، والظباء على البقر، وهو في كلامهم كثير، ويجوز في هذه الأشياء إظهار الفعل المقدر. قال سيبويه: لما ذكر جملة من هذه الأشياء قال: "وكلهم يفسر ما ينوي" قال: وإنما سهل تفسيره عندهم؛ لأن المضمر قد استعمل في هذا الموضع عندهم بإظهار" وأما الذي لا يجوز إظهاره فنحو قول العرب: هذا ولا زعماتك، تقديره: ولا أتوهم زعماتك، وقالوا: كليهما وتمرا، كأنه قال: أعطني كليهما وزدني تمرا، وقالوا: كل شيء ولا شتيمة حر، أي: ايت كل شيء ولا ترتكب شتيمة حر، وفي القرآن: {انتهوا خيرا لكم} كأنه قال: إيتوا خيرا لكم، ومن ذلك قولهم: أخذته بدرهم فصاعدا، ومن أنت زيدا، وأما أنت منطلقا انطلقت معك، وأما زيد ذاهبا ذهبت معه، ومما جاء من ذلك في اشعر قول غيلان- أنشده سيبويه: ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب

كأنه قال: أذكر، وأنشد أيضا لابن أبي ربيعة: فواعديه سرحتي مالك ... أو الربا بينهما أسهلا تقديره: إيتي موضع كذا وكذا. وأنشد للقطامي: فكرت تبتغيه فوافقته ... على دمه ومصرعه السباعا تقديره: وافقت السباع، وأنشد أيضا لابن الأسلت: لن تراها ولو تأملت إلا ... ولها في مفارق الرأس طيبا أي: رأيت في مفارقها طيبا، وأنشد أيضا لابن قميئة: تذكرت أرضا بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها.

تقديره: تذكرت أخوالها وأعمامها، ومثل ذلك عند الخليل أيضا: إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تعزيت عنها أم عمار أي تذكرت أم عمار، وهذه كلها لا يجوز فيها إظهار الفعل. وإليها أشار الناظم بقوله: "وقد يكون حذفه ملتزما" أي: حذف الناصب، وبين بقد أن ذلك قليل، وهو كما قال، إلا أنه يشعر بأنه قياس، فإنه قال: "ويحذف الناصبها، إن علما" فأجرى القياس بإطلاق، ولم يقيده بأحد القسمين دون الآخر، ثم قال: "وقد يكون حذفه ملتزما" فجرد قسم اللازم الحذف، وجعله قليلا، وأيضا فقد مر من عادته أنه حيث يأتي بقد للتقليل فهو عنده مما يقاس عليه على قلته، وليس كذلك بإطلاق؛ إذ لا يقاس على: كليهما وتمرا، ولا على: هذا ولا زعماتك، ولا غير ذلك من الأمثلة، ولا الأبيات، ففي هذا ما فيه. والجواب: أن ما لا يجوز إظهاره في هذا الموضع على ضربين: أحدهما: جائز فيه القياس كالتحذير، والإغراء، وباب النداء، ونحو: أما أنت منطلقا، وما أشبه ذلك مما نبه عليه في أبواب/ والثاني: ما لا يدخل تحت قياس، فأتى هنا بمجرد التنبيه على وجود هذا القسم، ثم نبه على ما كان منه قياسا، فأشعر أن ما دون ذلك سماع، وإذا كان كذلك صح كلامه، وكل ما التزم حذفه من هذه الأشياء فإما لكثرة الاستعمال وإما لجريان الكلام مجرى المثل، وإما لجعل الكلام أو بعضه كالعوض عنه لما كان يعطي معناه.

التنازع في العمل

التنازع في العمل التنازع في اصطلاح النحويين، وهو الإعمال أيضا: أن يتقدم عاملان فأكثر ويتأخر عنها اسم يجوز لكل واحد منهما أن يعمل فيه لتعلقهما به، وطلبهما له من جهة المعنى، وقد بين الناظم هذا المعنى في قوله: إن عاملان اقتضيا في اسم عمل ... قبل فللواحد منهما العمل فقوله: "إن عاملان اقتضيا" أراد بالعاملين الفعلين. وما أشبههما، وإنما أتى بهذا اللفظ ولم يقل: "إن فعلان اقتضيا" ليدخل غير الفعلين من الأسماء العاملة عمل الأفعال كاسم الفاعل، والمفعول، وما أشبه ذلك، نحو: أنت ضارب وشاتم زيدا، إذا أعملت الثاني، وأنت ضارب وشاتمه زيدا إذا أعملت الأول، وكذلك إذا كان أحدهما اسما، والآخر فعلا، نحو: أنا ضارب ويضربني زيد أو زيدا. ونحو ذلك قوله تعالى: {آتوني افرغ عليه قطرا} هذا في الفعلين وكذلك قوله: {يستفتونك فل الله يفتيكم في الكلالة}. وأما في الاسم والفعل فـ {يقول هآوم اقرءوا كتابيه}. ولم يقيد العاملين بتصرف فدخل له الإعمال في فعلي التعجب، نحو: أحسن وأجمل بزيد، إن أعملت الثاني، وإن

أعملت الأول قلت: أحسن وأجمل به بزيد، وكذلك تقول: ما أحسن وأجمل زيدا، إن أعملت الثاني، وما أحسن وأجمله زيدا، إن أعملت الأول، وهذا مبني على فرض إجازة الفصل بين أحسن ومفعوله، وإلا فيلزم إعمال الثاني. وهو رأي المؤلف في التسهيل، وشرحه. وقد يقال: إن فعلي التعجب لا يدخل فيهما الإعمال؛ للزوم الفصل، وهو قد منعه، لكن يجاب بأن المنع إنما ينسحب على مسائل الفصل فحيث لا يلزم الفصل لا تمتنع المسألة، وهو رأيه في الشرح كما تقدم. وهذه المسألة مختلف فيها فمن النحويين من منع دخول الإعمال في فعلي التعجب؛ وكأنه منع ذلك اعتبارا بلزوم الفصل في تصوير مسائله، وهو ممتنع في التعجب، أو لأجل أن الأعمال، وتنازع العاملين في معمول واحد من باب التصرف، وفعل التعجب غير متصرف؛ أو لأن الإعمال على خلاف القياس للزوم الإضمار فيه قبل الذكر، فلا يتعدى به ما سمع، وإنما سمع في العوامل المتصرفة. وللناظم أن يجيب عن الأول بأنا نمنع المسائل التي يلزم فيها الفصل، ونجيز ما عداها. وعن الثاني: أن الإعمال ليس من باب التصرف، بل من باب طلب العامل معموله خاصة. وأيضا ففي القرآن: {أسمع بهم وأبصر} فحذف المجرور الثاني لدلالة الأول عليه، والإعمال مثل هذا، إلا أن الأول هو المحذوف لدلالة الثاني، فيجوز الاستدلال بأحدهما/ على الآخر.

وعن الثالث: أن كون الإعمال على خلاف الأصل لا يمنع القياس فيه وإلا لزم ألا يقال منه إلا ما سمع، ولما لم يلزم ذلك باتفاق لم يلزم أن يمتنع في فعلي التعجب. وقوله: "اقتضيا" معناه طلبا من جهة المعنى فهما الطالبان معا، واحترز باقتضائهما معا من اقتضاء أحدهما دون الآخر؛ لكونه جيء به لمجرد التوكيد، نحو قولك: قام قام زيد، ورأيت رأيت زيدا؛ فإن الثاني من الفعلين جيء به لتوكيد الأول، لا لطلب المعمول، ولو جيء بالثاني طالبا لكنت تقول: قاما قام أخواك، أو قام قاما أخواك، فتضمر لأحدهما إذا أعملت الآخر، وليس الحكم كذلك، وإنما يأتي الثاني مع الأول على مساق واحد؛ لأن الطلب للأول وحده، وأنشد على ذلك المؤلف في الشرح: فأين إلى أين النجاة ببغلتي ... أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس وقوله: "اقتضيا في اسم عمل" أراد عملا إلا أنه أتى به على لغة من قال: رأيت زيد؟ ، والعمل في كلامه مطلق لم يقيده برفع ولا نصب، فقد يكون العاملان متفقين في عمل الرفع، نحو: قام وقعد زيد، أو في طلب النصب، نحو: أكرمته وأهنت زيدا، وقد يكونان مختلفي الطلب، فأحدهما يطلب بالرفع، والآخر يطلب بالنصب، نحو: ضربني وضربت زيدا، أو يكون أحدهما يطلبه بنفسه، والآخر يطلبه بحرف الجر، نحو: جاءني فأحسنت إلى زيد، وأكرمت وأحسنت إلى زيد، كما أنهما قد يطلبانه بحرف الجر، نحو: اللهم صل وسلم على محمد، كما

صليت وسلمت على إبراهيم، والمنصوب أيضا لا يلزم أن يكون مفعولا به بل قد يكون مصدرا، وظرف زمان أو مكان، ومفعولا له، وقد نص على ذلك ابن خروف في دره على ابن مضاء على جواز ذلك إذا دل الدليل على طلب الفعلين لها، قال: "وفي كلام العرب من الإعمال في الظروف وغيرها كثير". وقوله: "في اسم" أراد جنس الاسم، وليس مقيدا بالإفراد أن يريد في اسم واحد؛ إذ قد يكون التنازع في اسمين كما سيأتي، نحو: ظننت وظنني قائما زيدا قائما، وأيضا قوله: "اقتضيا في اسم" لم يقيد العاملين بكونهما معطوفا أحدهما على الآخر بالواو أو غيرها من الحروف العاطفة، فدل ذلك على جواز الإعمال عنده من غير تقييد، خلافا لمن اشترط في جوازه أن يكون أحدهما معطوفا على الآخر بالواو، وهو الجرمي، قال الفارسي: "فاحتججنا عليه" بقوله: {آتوني افرغ عليه قطرا} فأعمل الثاني وليس بمعطوف بالواو، وقال: فحكي لي أنه يقول: في نحو هذا عمل الأول، وإن المفعول من الثاني محذوف، لأنه لما أعمل الأول استغني بإعماله عن إعمال الثاني، وسلم الفارسي هذا التأويل وقواه بجواز حذف المفعول إذا دل عليه الدليل كقوله: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} وأن (من) غير زائدة بل حذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وما قاله الناظم أولى؛ فقد جاء في القرآن: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة}، {هآوم اقرءوا كتابيه}، / {وإذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية،

{وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا}، وفي الشعر قول كثير: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وأنشد سيبويه لابن أبي ربيعة: إذا هي لم تستك بعود أراكة ... تنخل فاستاكت به عود اسحل وقال جزء بن ضرار أخو الشماخ: أتاني فلم أسرر به حين جاءني ... حديث بأعلى القنتين عجيب وقال ذو الرمة: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون أصاب مالا وأنشد أبو زيد:

قطوب فما تلقاه إلا كأنما ... زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل وأنشد الجمهور: بعكاظ يعشى الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه ومثل ذلك كثيرا جدا، فإن زعم أن هذا من الإعمال فقد أٌر بمذهب الجماعة، وإن تأوله كما فعل في قوله: {آتوني افرغ عليه قطرا} لزم أن ينكر باب الإعمال أجمع، لأن ذلك التأويل ونحوه يمكن فيما وجد منه، ولم يقل به. فالصحيح جواز ذلك مع العطف بالواو، وغيره. وقوله: "قبل" في موضع الحال من ضمير العاملين أي: اقتضى العاملان معا، تحرزا من نحو: خرجت ودخلت، فإنهما عاملان معا، وإن طلبا شيئا واحدا، وهو ضمير المتكلم لم يتنازعا في العمل فيه، لاستقلال كل واحد بمطلوبه حين اتصل بكل واحد منهما، وكذلك لو تقدم الاسم فعمل كل واحد في ضميره، نحو: زيد ضربته وضربني، وزيد أنا ضاربه ومخرجه، وما أشبه ذلك، فلذلك قيده بقوله: (قبل). ومثال ما توفرت فيه القيود: ضربني وضربت زيدا، فقد تأخر زيد عن الفعلين، وهما يطلبانه معاً،

ويقتضيان فيه عملا، فأحدهما يطلبه بالفاعلية ليرفعه، والآخر يطلبه بالمفعولية، لينصبه، فإذا قد حصل بقوله: "إن عاملان اقتضيا في اسم عمل" معنى التنازع مكملا على اختصار إلا أن عليه إشكالات: أحدها: أن العاملين كما ينطلقان على الفعلين، وعلى الاسمين اللذين يشبهان الفعلين كما تقدم، ينطلقان أيضا على الاسمين اللذين لا يشبهان الفعل نحو قول الأعشى- أنشده سيبويه: إلا علالة أو بداهة قادح نهد الجزارة وقول قيس بن الخطيم، أنشده سيبويه أيضا: نحن بما عندنا أنت بما ... عندك راض والرأي مختلف فكل واحد من: "علالة وبداهة" طالب لقادح بالإضافة، وكذلك نحن وأنت طالبان لراض بالخبرية، ومن ذلك كثير في السماع، ولم يدخلوه في باب التنازع. وقد ينطلق العاملان على الحرفين فقد جاء فيهما- وإن كان أحدهما مقدرا- نحو ما أنشده سيبويه من قول ضابيء البرجمي: من يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيارا بها لغريب

وأنشد الفارسي في التذكرة- مع ظهور الحرفين معا- قوله: حتى تراها وكأن وكأن ... أعناقهن مشربات في قرن فكل من هذه الأمثلة قد اشتمل على عاملين/ متقدمين اقتضيا في اسم متأخر عنهما عملا، وليس ذلك بإعمال حسب ما نصوا عليه، وإنما الأعمال خاص بالفعل، وما أشبهه من الأسماء، والناظم لم يبين ذلك، ولا عين العاملين، فكان كلامه غير محرر. والثاني: أن الأفعال وما أشبهها من الأسماء إذا تنازعت السببي لم يصح فيها التنازع، نحو: زيد قام وقعد أبوه، وزيد قائم وقاعد أبوه؛ لأن الأب في المثالين مضاف إلى ضمير زيد، وبه صح أن يجري الخبر على الأول، فلا يخلو إذا أعملت الثاني أن تضمر في الأول ضمير الأب أو ضمير زيد، فإن أضمرت فيه ضمير زيد لم يكن من باب التنازع، فإن العاملين لم يتنازعا العمل في الاسم الأخير، وإن أضمرت في الأول ضمير الأب لزم عدم ارتباطه بالمبتدأ؛ إذ ليس فيه ضمير يعود عليه، وأيضا فلا يكون في الكلام دليل على أن الضمير للأب، فلزم المحذور على كل حال. وكذلك إذا أعملت الأول وأضمرت الثاني. وهذا المعنى ذكره في شرح التسهيل، وذهب إليه

ابن خروف وغيره، فالإعمال هنا لا يستقيم. وكذلك إذا كان السببي منصوبا؛ لأنك إذا قلت: زيد أ: رم وأعطي أخاه، فإن أعملت الأول فلابد في الثاني من ضمير، وهو ضمير الأخ، وهو سبيي، وضمير السببي لا يتقدم عندهم، وإن قلت: إن أخاه محذوف من الثاني لدلالة ذلك الظاهر عليه خرجت المسألة عن باب الإعمال، وهكذا القول في إعمال الثاني، فإن المحذوف من الأول إما السببي، وإما ضميره، وكلاهما ممنوع لما تقدم، فامتنعت المسألة رأسا عن دخولها في هذا الباب، ومثل ذلك لو قلت: زيد أكرمني وأكرمت أخاه، أو: أكرمت وأكرمني كل ذلك ممنوع. فالحاصل أن كل مسألة تفرض في تنازع السببي فممنوعة، إما بإطلاق، وإما بالنسبة إلى هذا الباب، وإذا تقرر هذا فكلام الناظم يشمل المسألة بإطلاقه فيقتضي جوازها؛ لأن العاملين قد تنازعا العمل في الاسم المتأخر، وهو السببي، وذلك غير صحيح. والثالث: أنه اقتصر على عاملين فقط، وقد يكون التنازع لأكثر من عاملين ومنه في الحديث: "كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم"، وأنشد المتأخرون على ذلك للحطيئة: سئلت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيان لا حمد عليك ولا ذم

وأنشد المؤلف: جيء ثم حالف وثق بالقوم إنهم ... لمن أجاروا ذرى عز بلا هون وأنشد أيضا: أرجو وأخشى وأدعو الله مبتغيا ... عفوا وعافية في الروح والجسد ولذلك لما ترجم ابن الأخضر على هذا بباب العاملين اللذين يسوغ لكل واحد منهما أن يعمل في الاسم؛ لتقدمهما عليه في التلفظ، وتعلقه بهما من طريق المعنى، اعترض عليه ابن خروف، فقال: نقصه أن يكون عوامل، فكذلك الناظم نقصه أن تكون عوامل. والرابع: أن التنازع قد يكون في العمل في اسمين كما يكو في الاسم الواحد، وقد نبه على ذلك آخر الباب ومثله بقوله: نحو أظن ويظناني أخا ... زيدا وعمرا أخوين في الرخا وهذا يقتضي أنه لم ير رأي من نفى التنازع في الاسمين، فقد حكى في الشرح أن بعض أهل البصرة منع من ذلك، والذي نقل السيرافي المنع من التنازع في الثلاثة، حكاه عن الجرمي، ونبعه بعض. أما التنازع في الاثنين فإن الصحيح

فيه مذهب الجمهور فقد حكى سيبويه: متى رأيت أو قلت زيدًا منطلقًا، على إعمال الأول، ومتى رأيت أو قلت زيد منطلق، على إعمال الثاني الذي هو قلت، وهو الحكاية. وأما التنازع في الثلاثة فإنما منع لأنه خارج عن القياس، فما لم تكلم به العرب فمردود إلى القياس، قال السيرافي: "ومن أصحابنا من يقيسه"، وإذا كان كذلك فقد قال الناظم هنا: "إن عاملان اقتضيا في اسم عمل" ولم يقل في: "اسم واحد فأكثر"، بل اقتصر على الاسم الواحد، فظهر منه بهذه العبارة خلل في المفهوم، وتناقض. والخامس: أن العاملين قد يتنازعان العمل في معمول قبلهما، ولا يلفى في ذلك الخروج عن باب التنازع المفروض، ألا ترى أن الاسم المتنازع فيه قد يكون مقدمًا من تأخير، نحو: زيدًا ضربت وأكرمت، وما أشبه ذلك، فالتنازع هنا صحيح، فإن أعملت الأول قلت: زيدا ضربت وأكرمته، فأعملت الثاني في ضميره، وإن أعملت الثاني لم تعمل الأول في ضميره، فقلت: زيدًا ضربت وأكرمت، فهذا جار على طريقة الإعمال مع أن المعمول مقدم، وهو إنما قال: "إن عاملان اقتضيا في اسم عمل قبل" فقيد العامل بكونه قبل المعمول، فخرج عنه هذا النحو، واقتضى أنه ليس بإعمال، فظهر بهذا كله أن قاعدة الناظم في هذا الباب في غاية القصور والخلل. والجواب: أن كلامه صحيح، وما اعترض به غير وارد. أما الأول: فإنه عين الفعلين في الباب، ولم يمثل بغيرهما، فأشعر ذلك من كلامه بأنه لا يريد الحرفين، ولا الاسمين اللذين لا يشبهان الفعل، وأيضًا فالعوامل كلها أصلها الأفعال كما تقرر في الأصول، وما عدا الأفعال من العوامل محمول عليها، وإذا كان كذلك فأول سابق إلى الذهن من إطلاقه لفظ العامل

الفعل، وهو ذلك وما أشبه الفعل؛ فإن اسم الفاعل، والمفعول، واسم الفعل، ونحوها جاريةٌ مجرى الفعل في العمل، والدلالة على معنى الحدث، بخلاف غيرها من العوامل، فإنها لا تجري ذلك المجرى، وهذا معنى تعليل ابن خروف دخول اسم الفاعل، ونحوه، وخروج ما عداهما، فلا يحمل هذا الإطلاق إلا على ما يقرب فهمه دون ما يبعد على أن الفارسي قال فيما أنشده الباهلي: حتى تراها وكأن وكأن ... أعناقهن مشرفاتٌ في قرن ينبغي أن يكون على إعمال الثاني، قال: ولو أعمل الأول لقال: * وكأن وكأنهن أعناقهن مشرفاتٍ * ثم اعتذر عن تخفيف الثانية، وأنه للقافية، مع أنها قد تعمل مخففة نحو: * كأن وريديه رشاء خلب * قال: ولا يحوز أن يكون على الزيادة، يعني التوكيد لمكان العطف بالواو؛ لأن هذا الحرف لم يزد في موضعٍ، فهذا من الفارسي إقرارٌ بصحة الإعمال في

الحروف، وهو ظاهر من حيث صدقت عليه قاعدة الإعمال. ذكر ذلك في التذكرة، وأيضًا فالمبرد يجعل نحو: * إلا علالة أو بداهة قارحٍ * من باب الإعمال حسب ما يأتي إن شاء الله في موضعه، فقد يمكن أن يقال باطراد ذلك في سائر العوامل على ظاهر اللفظ، فيدخل المضاف والمبتدأ أو غيرهما غير أن السماع لم يحقق وجود الإعمال إلا في الفعل وما أشبهه لتصرفهما في العمل، قال ابن خروف: "ولم يدخل في هذا الباب المبتدأ والمضاف وغيرهما" وإذا كان كذلك فلا ينبغي إطلاق القول بالتنازع في جميع العوامل. وأما الثاني: فإن مسألة السببي لا يحتاج إلى ذكرها ههنا، لأن الامتناع فيها ليس لسببٍ يختص بباب التنازع بل لسبب آخر: إما مختص بباب الابتداء فقد تقدم فيه حكم ذلك وأن الخبر إذا كان جملة فلا بد فيها من ضمير عائد على المبتدأ حين قال: ومفردًا يأتي ويأتي جمله ... حاويةً معنى الذي سيقت له أو بغير الباب الابتداء مما يفتقر إلى ضمير يعود عليه كالمنعوت مع النعت فكذلك، وإما مختص بباب الضمائر، وهو كون إضمار السببي لا يتقدم وإن جاء في الكلام ما ظاهره جواز مثل: زيدٌ قائمٌ وخارجٌ أبوه فمحمولٌ على أن العامل في السببي هو العامل الأول لا غير، وعلى أن السببي مبتدأ، وخبره العاملان حيث

يمكن ذلك، ومن هذا قول كثير: قضى كل ذي دينٍ فوفى غريمه ... وعزة ممطولٌ معنى غريهما وقد نص سيبويه في أبواب الصفات على منع نحو: مررت برجلٍ لبيبةً عاقلةٍ أمه، مقلوبًا من قوله: مررت برجل عاقلةٍ أمه لبيبةً فقال: لا يصلح أن تقدم لبيبة مضمرًا فيها الأم، ثم تقول: عاقلةٍ أمه، قال ابن خروف: هذا نص بإبطال رفع غريهما بمعنى من قوله: * وعزه ممطول معنى غريهما * قال: والذي منع الإضمار في لبيبة كون المضمر فيها عائدًا إلى الأم، فصار المضمر لو تقدم عوضًا من اسمين مضافٍ إليه؛ لأنه بتقدير: برجلٍ لبيبةٍ أمه عاقلةٍ أمه، وهذا لا سبيل إليه، ثم تأول البيت، واستشهاد الفارسي في الإيضاح بالبيت على إعمال الثاني محمول عند ابن أبي الربيع وغيره على أن الشاهد في صدره لا في عجزه، ولأنه لو كان كذلك لبرز الضمير في ممطول؛ لأنه جارٍ على غير من هو له، وقد حملته طائفةٌ على أن الشاهد في العجز، وليس بجارٍ على قاعدة سيبويه المتقدمة، ولذلك حمله بعضهم على أنه يشبه الإعمال وليس به. وهذا كله على فرض كون المهمل من العاملين طالبًا ضمير السببي، فإن فرض أنه

طالبٌ للسببي ظاهرًا فحذف للدلالة فلم يتكلم على هذا؛ إذ ليس من باب الإعمال. فعلى كل تقدير كلام الناظم صحيح. وأما الثالث: فإنما اقتصر على العاملين فقط لمعنى، وهو أن الثلاثة فأكثر لا يوجد لها أثر في هذا الباب إلا في الأخيرين، وأما الأول فلا يعتبر في عمل في الاسم المتنازع فيه وإن كان يطلبه من جهة المعنى، فقد زعم ابن خروف أن إعمال الأول في أكثر من عاملين لا يوجد في كلام العرب، وإذا كان الزائد على الاثنين لا يتجدد معه حكم لم يكن قبله اطرح الناظم اعتباره. وفي هذا الجواب نظرٌ؛ فإن إعمال الثاني من الثلاثة كذلك أيضًا، وإلى هذا فإنهم قد أضمروا للأول قبل الذكر، وذلك من أحكام باب الإعمال؛ إذ لا يجوز ذلك إلا في أبوابه المعلومة، فلو لم يكن من هذا الباب لم يجز لخروجه عن جميع الأبواب فيمتنع. وأبين من هذا أن يقال: لعله ترك التنبيه على أكثر من عاملين استغناءً بما ذكر؛ لأن العاملين والثلاثة على حكم واحد، فما يجري في الاثنين يجري فيما هو أكثر. فإن قيل: فيلزم على هذا جواز إعمال الأول أو الثاني دون الثالث، وإعمال غير الثالث لم يسمع وقد منعه هو وغيره. قيل: قد أجاز ذلك بعضهم قياسًا، وإن لم يرد سماعًا فقد يصح أن

يقول به الناظم. والله أعلم. وأما الرابع: فإن قوله: "اقتضيا في اسم" لا يعني به الاسم بقيد الإفراد بل يعني حقيقة الاسم مجردًا من اعتبار إفرادٍ أو غيره، سمعت شيخنا القاضي أبا القاسم الحسني رحمه الله يقول: تقول: هذا رجلٌ على معنيين: أحدهما: أن تريد حقيقة الرجل خاصةً من غير نظر إلى إفراد ولا غيره. والثاني: أن تريد بذلك حقيقة الرجل بقيد الإفراد، فإذا قيل لك: أعطاك زيدٌ غلامًا وثوبًا وكذا، فقلت: إنما أعطاني غلامًا فمعنى ذلك: إنما أعطاني هذه الحقيقة ولم ترد أن تقول: إنما أعطاني غلامًا واحدًا، وإذا قيل لك: أعطاك غلامين أو ثلاثة؟ فقلت: إنما أعطاني غلامًا، فمعناه إنما أعطاني غلامًا واحدًا لا أكثر، قال: وهذا الثاني هو الذي يثنى، وأما الأول فلا. هذا معنى ما سمعت منه؛ فلأجل أن الإطلاق الأول يراد به الحقيقة ينطلق على المفرد والمثنى والمجموع، فلا يثنى ولا يجمع، وإطلاق الناظم الاسم من هذا القبيل فيدخل تحته الاسم الواحد والاثنان، وما هو أكثر من ذلك لكن يبقى فيه اشتماله على ما هو أكثر من اثنين، وقد مر أنه غير مسموع، وهذا لا محذور فيه؛ إذ يمكن حمله على أحد وجهين: إما على أن يقيد التعدد بما ذكر في الباب، ولم يذكر إلا معمولًا واحدًا أو معمولين وسكت عن الثالث، فكأنه لم يرده بهذا اللفظ الذي هو قوله: "اقتضيا في اسم". وإما على أنه اعتبره على إطلاقه استنادًا إلى رأي من أجاز القياس فأجرى الإعمال في الثلاثة كما أجراه في الاثنين، وإذا كان هذا ممكنًا فلا اعتراض عليه.

وأما الخامس: فإن الاسم إذا تقدم على العاملين في نحو: زيدًا ضربت وأكرمت، لم يتعين أن المسألة من الإعمال، أما إذا أعملت الأول فقلت: زيدًا ضربت وأكرمته، فلاحتمال أن يكون زيدٌ معمولًا لأول الفعلين، والثاني طالبٌ لضميره فقط فصار مثل: زيدًا ضربت وضربني فلا إعمال. وأما إذا أعملت الثاني فقلت: زيدًا ضربت وأكرمت فكذلك أيضًا لاحتمال أن تكون المسألة كالأولى فحذف مفعول الثاني اختصارًا وهو ضمير الأول، أو غيره وحذف اقتصارًا، وأيضًا فلو سلم فيها الإعمال فالأصل في زيد التأخير، والتقديم غير معتد به لعروضه. ثم قال الناظم: "فللواحد منهما العمل" هذا جواب (إن) المتقدمة الذكر في قوله: "إن عاملان اقتضيا في اسم عمل" يعني أن الاسم لا يعمل فيه إلا واحد من ذينك العاملين- إما الأول، وإما الثاني- وإن كانا معًا طالبين للعمل فيه، فتقول إن أعملت الأول: ضربت وضربني زيدًا، وإن أعملت الثاني قلت: ضربت وضربني زيدٌ، وفي هذا كلام التنبيه على أمرين: أحدهما: أنه لا يصح أن يعملا معًا في المعمول سواءًا أكانا متفقي العمل أو مختلفيه، أما في الاختلاف فظاهر؛ إذ لا يحتمل الاسم الواحد أن يكون مرفوعًا منصوبًا في حالٍ واحدة، أو مرفوعًا مجرورًا أو منصوبًا مجرورًا في حال واحدة، وهذا متفق عليه، وأما في الاتفاق فكذلك اعتبارًا بالاختلاف، فكما لا يصح أن يعمل العاملان في الاسم رفعًا ونصبًا معًا؛ لأنهما ضدان فكذلك لا يصح أن يعملا فيه رفعين، ولا نصبين، ولا جرين معًا؛ لأن المثلين على المحل الواحد متضادان حسبما هو مبين في غير هذا الموضع، وأيضًا لم يثبت من كلام العرب عمل عاملين في معمول واحد، فقياس هذا عليه، وأيضًا إذا قلت: قام وقعد زيد فهذا العطف إما أن

يكون من عطف المفردات أو من عطف الجمل؛ إذ لا ثالث لهما، وكلاهما غير صحيح، أما عطف المفردات فلا بد فيه من التشريك في عامل، قاله ابن أبي الربيع، وليس ذلك هنا، وأما عطف الجمل فلا يتصور إلا بأن تجعل كل واحد من العاملين مسندًا إلى اسم يستقل به، وأما إذا جعلتهما معًا مسندين إلى اسم واحد فلا لعدم استقلال أحدهما بنفسه دون الآخر فلا يصح إذًا أن تكون من عطف الجمل، فصح أن العامل فيه أحدهما لا كلاهما، وهو ما ذكره الناظم ونكت بذلك على الفراء القائل بأن العاملين معًا هما الرافعان بناء على أن الإضمار قبل الذكر ممنوع، وههنا يلزم إذا أعملت أحدهما الإضمار قبل الذكر، فكان الوجه المنع، لكن جاء من كلامهم: قام وقعد زيدٌ، فلا بد أن يعملا معًا في الاسم؛ إذ لا ثالث، قال في شرح التسهيل: "والذي ذهب إليه غير مستبعد فإنه نظير قولك: زيد وعمرو منطلقان على مذهب سيبويه فإن خبر المبتدأ عنده مرفوعٌ بما هو له خبرٌ فيلزمه أن يكون (منطلقان) مرفوعًا بالمعطوف والمعطوف عليه؛ لأنهما يقتضيانه معًا. وقد يجاب عن هذا بأن يقال: أما الإضمار قبل الذكر فموجود من كلام العرب في باب نعم وبئس، وضمير الأمر والشأن، وغيرهما، وقد حكى سيبويه من كلام العرب: ضربوني وضربت قومك. وغير ذلك مما سيأتي بعضه على إثر هذا بحول الله، وأما قولك: زيد وعمرو منطلقان فإن المعطوف أبدًا مع المعطوف عليه في حكم الاسم المثنى، والاسم المثنى في حكم المعطوف بالواو، وإذا كان كذلك فالعامل إنما هو واحد عمل في اسم واحد. والله أعلم.

والأمر الثاني من الأمرين اللذين نبه عليهما الناظم: أن إعمال الأول من المتنازعين دون الثاني أو الثاني دون الأول جائز جميع ذلك؛ إذ قال: "فللواحد منهما العمل" ولم يعين ذلك الواحد، فدل على أنه قصد أي واحدٍ كان، وذلك صحيح، ولا خلاف فيه بين البصريين والكوفيين، فمثال إعمال الأول: قولك: ضربت وضربني زيدًا، وضربني وضربته زيدٌ، ومما جاء من ذلك في السماع قول عمر بن أبي ربيعة: إذا هي لم تستك بعود أراكةٍ ... تنخل فاستاكت به عود إسحل فلو أعمل الثاني لقال: فاستاكت بعود إسحل، وقال أخو الشماخ: أتاني فلم أسرر به حين جاءني ... حديث بأعلى القنتين عجيب ولو أعمل الثاني لقال: فلم أسرر بحديث، وقال ذو الرمة: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيمًا أن يكون أصاب مالًا وأنشد أبو زيد: قطوبٌ فما تلقاه إلا كأنما ... زوى وجهه أن لاكه فوه حنظل وأنشد ابن خروف وغيره: * بعكاظ يعشي الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه * وأنشد المؤلف: يرنو إلي وأرنو من أصادفه ... في النائبات فأرضيه ويرضيني وأنشد سيبويه للمرار الأسدي:

فرد على الفؤاد هوى عميدًا ... وسوئل لو يبين لنا السؤالا وقد نغنى بها ونرى عصورًا ... بها يقتدننا الخرد الخدالا وأنشد ابن الأنباري: ولما أن تحتمل آل ليلى ... سمعت ببينهم نعب الغرابا ومثال إعمال الثاني قولك: ضربت وضربني زيدٌ، وضربني وضربت زيدًا، مما جاء من ذلك في السماع قول الله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} فلو أعمل الأول لقال: قل الله يفتيكم فيها في الكلالة، وقال: {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدًا} فلو أعمل الأول لقال: كما ظننتموه كذلك أن لن يبعث الله أحدًا، وقال: {هاؤم اقرؤا كتابيه} ولو أعمل الأول لقال: هاؤم اقرؤه إلى كتابيه، وقال: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية لو أعمل الأول لقال: تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله. وقال: {الذين كفرو وكذبوا بآياتنا}. وفي الشعر من ذلك كثير، أنشد سيبويه للفرزدق:

ولكن نصفًا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمسٍ من منافٍ وهاشم وأنشد لطفيل الغنوي: وكمتًا مدماة كأن متونها ... جرى فوقها واستشعرت لون مذهب وأنشد لرجل من باهلة: ولقد أرى تغنى بها سيفانة ... تصبي الحليم ومثلها أصباه وأنشد المؤلف: خالفاني ولم أخالف خليليـ ... ي، ولا خير في خلاف الخليل وفي الحديث "كما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" ولو أعمل الأول لقال: كما صليت ورحمته وآله، وباركت عليه وعليهم على إبراهيم

وعلى آل إبراهيم. ثم يبقى النظر في ترجيح أحد الوجهين على الآخر فقال: والثان أولى عند أهل البصرة ... واختار عكسًا غيرهم ذا أسرة قوله: "والثان أولى" أراد الثاني فحذف الياء، ويعني أن أهل البصرة اختاروا من الوجهين الجائزين إعمال الثاني، واختار غيرهم العكس، وهو إعمال الأول. فإن قيل: كيف تنزيل العكس هنا؛ إذ معناه تصيير أول الكلام آخرًا، وأخره أولًا مع استقامة الكلام، وهذا التعريف أعم من تعريف أهل المنطق. قيل: تحقيقه يتبين بأن تظهر ما حذف من الكلام الأول في قوله: "والثاني أولى" لأنه يريد أولى من الأول، فعكس هذا أن نقول: الأول أولى من الثاني، وهو مذهب غير أهل البصرة، فوجه ما ذهب إليه أهل البصرة أوجه: أحدها: كثرة إعمال الثاني: وقلة إعمال الأول حتى إنه يكاد لا يوجد في غير شعر، بخلاف الأول فإنه قد جاء في القرآن، بل لم يجئ به إلا هو- كما تقدم- والسماع هو المتبع. والثاني: أن الثاني من العاملين أقرب إلى المعمول فكان أولى به مما بعد عنه، وهو الأول كما قالوا: خشنت بصدره وصدر زيد، بخفض الصدر حملًا على الباء لأنها أقرب إليه من الفعل الذي هو خشنت، وزعم سيبويه أن ذلك وجه الكلام، والحمل على خشنت ونصب الصدر دون ذلك. والثالث: أنهم قد اعتبروا الجوار مع فساد المعنى، فقالوا: هذا جحرضب خرب، فحملوا الخرب على الضب، وهو في المعنى للجحر لقرب الجوار، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} بخفض المتين حملًا على القوة، والمعنى لذو؛

لقرب الجوار، وقال امرئ القيس: كان أبانًا في أفانين ودقه ... كبير أناسٍ في بجادٍ مزمل وهذا كله ليس بضرورة، فإذا كان ذلك موجودًا في الكلام مع فساد المعنى لو اعتبر اللفظ وكان ذلك مراعاةً لمناسبة الجوار، فأولى أن تعتبر الجوار مع صحة المعنى. والرابع: أن إعمال الأول يلزم منه توالي حروف الجر نحو نبئت كما نبئت عنه عن زيد، وذلك غير مستحسن، والعطف على الجملة قبل إتمامها، وذلك لا يحسن، والفصل بين العامل ومعموله بجملة أجنبية، وذلك قبيح في غير هذا الباب، وكذلك في هذا الباب. والخامس: أن اتصال العامل بما عمل فيه هو الأصل، وذلك فيما اختاره البصريون موجود، ومفقود في المذهب الآخر. والسادس: أن إعمال الآخر أخصر مع بلوغ أقصى الحاجة من الكلام، إذ تحذف من الأول الفضلة، فتقول: ضربت وضربني زيدٌ، وأعطيت وأعطاني زيدٌ درهمًا بخلاف ما إذا أعملت الأول فإنه مؤدٍ إلى الطول الذي لا يحتاج إليه، ومبنى كلام العرب على الاختصار والاكتفاء بالإشارة والرمز إلا في المواضع التي لا تجد فيها بدًا من البسط مع أنها تعمل الاختصار في أثنائه، وإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الأولى في مسألتنا ما كان موافقًا لهذا الأصل، وهو إعمال الأخير ولاسيما إن كثرت العوامل.

والسابع: إن إعمال الأول لم يوجد فيما إذا زادت العوامل على اثنين بل قد زعم ابن مالك أن العرب التزمت هنا إعمال الأخير، ولا يوجد إعمال ما قبله، فإن كان كذلك فليس إعمال الأول بمطرد فضلًا على أن يكون مختارًا. والثامن: أن في إعمال الثاني تخلصًا من الإخلال بحق دون حق وذلك؛ لأن كل واحد من العاملين له حظٌ من عناية المتكلم، فإذا قدم أحدهما، وأعمل الآخر عدل بينهما؛ لأن التقديم اعتناء، والإعمال اعتناء، وإذا أعمل المتقدم لم يبق للآخر قسطٌ من العناية فكان المخلص من ذلك راجحًا. ووجه المذهب الآخر أمورٌ: أحدها: أن الأول سابقٌ صالح للعمل كالثاني فكان إعماله أولى من إعمال الثاني؛ لأن للسبقية أثرًا في العمل، ألا ترى أن ظننت وأخواتها لا تلغى إذا تقدمت على معموليها بخلاف ما إذا لم تتقدم، وكذلك كان لا تلغى إذا تقدمت، وأنها تلغى إذا توسطت ففقدت رتبة التقديم، وكذلك (إذن) تعمل متقدمة، ولا تعمل متوسطة، ونحو ذلك في القسم والشرط من تقدم منهما فله الحكم، وألغي الآخر، والأفعال غير المتصرفة تقوى على العمل متقدمة، ولا تقوى متأخرة. فالحاصل أن للتقدم أثرًا في العمل على الجملة، وقد حصل هنا لأحد الفعلين فليكن هو الأولى. والثاني: أن إعمال الثاني يؤدي إلى محذور وهو الإضمار قبل الذكر إذا قلت: ضربني وضربت زيدًا، والإضمار قبل الذكر لا يجوز فكذلك ما أدى إليه. والثالث: أن العرب راعت السبقية في قولهم: ثلاث من البط ذكورٌ، فقالوا

ثلاث بإسقاط التاء اعتبارًا بالبط لتقدمه، ولم يقولوا ثلاثة بالهاء اعتبارًا بالذكور لتأخره، فإذا عكسوا فقدموا الذكور على البط قالوا ثلاثة ذكور من البط بالهاء، وذلك دليل على أن الحكم للسابق، وأنه أولى به. والرابع: أنكم أيها البصريون قد اعتبرتم السابق وأعملتموه دون الثاني في نظير مسألة النزاع، وذلك في قول الأعشى أنشده سيبويه: * إلا علالة أو بداهة قارحٍ نهد الجزارة * فجعلتم العامل في قارح هو المتقدم من المضافين، وكلاهما يطلبه بالإضافة وكذلك قول الفرزدق: أنشده سيبويه: يا من رأى عارضًا أسر به ... بين ذراعي وجبهة الأسد فحملتموه على أن العامل في الأسد الذراعان دون ما بعده، ووجهتم ذلك بأن الأشبه أن يحذف الثاني اكتفاء بالأول، لأن الأول إذا ورد فحكمه أن يوفى حقه من اللفظ، فكذلك ينبغي في مسألتنا أن يكون الأولى يوفى حقه من اللفظ، فإن قلتم غير ذلك فقد ناقضتم. وكان الناظم مائل مع البصريين لكثرة السماع في إعمال الثاني ولذلك، والله أعلم قدمه، وهو نص مذهبه في التسهيل وشرحه. وأهل البصرة هم النحويون الناشئون بالبصرة، ويعني بهم: سيبويه ومن أخذ هو عنهم كالخليل، ويونس، وأبي عمرو بن العلاء، ومن تبع هؤلاء في المذهب، وإن لم ينشأ بالبصرة فهو أيضًا بصري نسبةً إلى المذهب. وقد يطلق

لفظ البصريين ويراد بهم ما هو أعم من هؤلاء كأبي الأسود، وهو أول الواضعين في العربية، وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وغيرهم. والأشهر من الإطلاقين هو الأول؛ لأن سيبويه وشيوخه هم الذين جمعوا أطراف النحو، واستولوا على أمره، وأتوا على آخره، وتكلموا مع المخالفين فإليهم ينسب، وأما من قبلهم فإنما وضعوا نتفًا وأبوابًا لا تفي بالمقصود من ضبط اللسان. وأراد بغير البصريين أهل الكوفة، وهم النحويون الناشئون بالكوفة وأشهرهم الكسائي علي بن حمزة القارئ، ومن أخذ عنه كيحيى بن زياد الفراء، وخلف الأحمر، وهشام بن معاوية الضرير، وإسحاق البغوي، وأضرابهم، وكذلك من تبع مذهبهم وطريقتهم وإن لم ينشأ بالكوفة فهو كوفي؛ نسبة إلى المذهب. وقد يطلق اسم الكوفيين أيضًا على ما هو أعم من هذا فيدخل تحته من كان قبل الكسائي كأبي جعفر الرؤاسي، ومعاذ بن مسلم الهراء، وأبي مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، والأشهر من الإطلاقين هو الأول؛ لأن الكسائي وأصحابه هم الذين مهدوا العلم، وبثوا حكمته وناظروا المخالفين، نظير الخليل

وسيبويه، ومن والاهما. وإنما فسرت الغير الذي ذكر الناظم بأهل الكوفة فقط مع أن النحويين ليسوا بمنحصرين في هاتين الفقرتين؛ لأن هذا المذهب عنهم نقل، وأيضًا فيرجع غيرهم إليهم غالبًا؛ لأنهم الذين تجردوا لضبط كلام العرب من بين سائر الناس فهم المنفردون فيه بالتقدم. وقوله: "ذا أسرة" أسرة الرجل: رهطه وعترته التي يشتد بها، ويقوى وأصل الأسر الشد، وكأن الناظم قصد بالغير هنا واحدًا من الكوفيين ثم جعله ذا أسرة وأتباع، فلا يكون واحد هنا إلا الكسائي، وتتبعه أسرته، لكن يقال: فهلا اقتصر على قوله: "واختار عكسًا غيرهم" ولم يزد لأنه إذ ذاك معلوم أن يريد الكوفيين؛ إذ الغيرة لا يتعين لواحد دون أكثر، بل يطلق على الجميع، فلأي فائدة أتى بقوله: "ذا أسرة". فالجواب: أن لفظ الغير لا يعين واحدًا من جماعة لصحة إطلاقه على كل واحد منهما، فلو اقتصر عليه، لاحتمل أن يكون الغير واحدًا من الكوفيين أو اثنين أو أكثر، كما يحتمل أن يريد جميعهم، فجعل الغير لواحدٍ وأضاف إليه أهل مذهبه؛ ليعين أن أهل الكوفة جميعًا قائلون بذلك لا يختص به واحدٌ منهم ولا بعضٌ، و"ذا أسرة" منصوب على الحال من غيرهم، أي حالة كون الغير ذا أسرة. والله أعلم. وأعمل المهمل في ضمير ما ... تنازعاه والتزم ما التزما كيحسنان ويسيء ابناكا ... وقد بغى واعتديا عبداكا لما بين أن العمل في المتنازع فيه لا يكون إلا لواحد من العاملين أخذ الآن يبين حكم المهمل إذا أعمل الآخر، والمهمل: هو الذي لم يعمل في الاسم الآخر المتنازع فيه، فيريد أن المهمل يعمل في ضمير الاسم الذي تنازعه العاملان، فطلبا العمل فيه، فيحصل له ما طلبه على الجملة كان المهمل هو الأول أو الثاني، وأتى هنا بمثالين أحدهما لإهمال الأول وهو قوله: "كيحسنان ويسيء ابناك" فابناك هو المتنازع فيه، وقد أعمل فيه الثاني، فبقي الأول مهملًا فعمل في ضميره، وهو

الألف في يحسنان، والثاني لإهمال الثاني وهو قوله: "وقد بغي واعتديا عبداك" "فعبداك" متنازع فيه، والمعمل فيه هو الأول، فبقي الثاني مهملًا، فعمل في ضميره وهو الألف في (اعتديا). وفي هذا التمثيل قيد وتنكيت. أما القيد فهو أنه لما قال: "واعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه" حصلت العبارة مطلقة يظهر منها التزام إعمال المهمل كان طالبًا للضمير بالنصب أو الرفع، وليس الحكم كذلك بل فيه تفصيل ونظر سيأتي ذكره، فقيد الكلام بما إذا كان المهمل طالبًا له بالرفع؛ إذ لا بد فيه من الإعمال في الضمير؛ لئلا يبقى الفعل دون فاعل. وأما التنكيت فإنه حتم بإعمال المهمل في الضمير وأن ذلك مقول ومعمول به فأشعر بعدم ارتضائه لمذهبي الكسائي والفراء؛ فإن الكسائي يقول: إذا أهمل الأول وكان طالبًا للمتنازع فيه بالرفع فإنه لا يعمل في ضميره بل يهمل بإطلاق، فلا يقدر فيه شيء، ويكون فارغًا من مرفوعٍ؛ إذ هو مراد في المعنى فلا محذور في حذفه من اللفظ، ولأن السماع قد جاء به، فقد حكى سيبويه: ضربني وضربت قومك، وقال علقمة بن عبدة: تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب فلو كان فيه ضمير لقال: ضربوني وضربت قومك، وتعفقوا بالأرطى، وهذا لا دلالة فيه؛ أما أولًا: فإن كل فعل لا بد له من فاعل مظهر أو مضمر؛ إذ لم يوجد في كلام العرب دونه، ووقع النزاع في هذا الموضع وليس بنص فيما قال؛ لاحتمال الإضمار، وأضمر ضمير المفرد اعتبارًا بما يصلح في الموضع، كأنه قال ضربني من ثم، وتعفق من أراد صيدها، وقد يوجد مثل هذا في كلامهم، مع

أن مثل قولك: ضربني وضربت قومك قليلٌ قبيح، قال سيبويه: "وإن قال: ضربني وضربت قومك، فجائزٌ وهو قبيحٌ أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول: هو أجمل الفتيان وأحسنه، وأكرم بنيه وأنبله"، وقال: "ولا بد من هذا- يعني من الإضمار- لأنه لا يخلو الفعل من مضمر أو مظهر مرفوع من الأسماء، كأنك قلت إذا مثلته: ضربني من ثم وضربت قومك"، ثم بين أن المطابقة هي الوجه الأجود وأن تركها رديء في القياس. وأما الفراء فإنه يمنع المسألة، فلا يجيز أن تقول: يحسنان ويسيء ابناك، ولا: ضرباني وضربت الزيدين؛ للزوم الإضمار قبل الذكر، وهم لا يجيزونه إلا ندورًا، وقد تقدم أن الإضمار قبل الذكر موجود في كلام العرب في باب نعم وبئس، وذلك نحو: نعم رجلًا زيدٌ، وبئس غلامًا عمرو، ففيها ضمير لم يتقدم له مفسر، وذلك يظهر في التثنية والجمع عند من قال: نعما رجلين، ونعموا رجالًا، وفي باب ضمير الأمر والشأن نحو: {قل هو الله أحد}، {فإنها لا تعمي الأبصار} وفي باب رب نحو: ربه رجلًا، وفي باب الاستثناء نحو: قاموا خلا زيدًا، وعدا عمرًا، ولا يكون زيدًا، وقام القوم ليس زيدًا، وما أشبه ذلك مما يكون مفسرًا لضمير فيه متأخرًا، فكذلك هذا الباب فلا نكير فيه. وإذا ثبت هذا فلا موجب للمنع إذا لم يكن المانع إلا الإضمار قبل الذكر؛ لأنه إذا كان موجودًا فهذا مثله. وأما قوله: "والتزم ما التزما" فإن ظاهره أنه فضل غير محتاج إليه؛ إذ لا يشك أحد في أنه يلتزم في القياس أو في السماع المحكي ما التزمته العرب، وعلى هذا مبنى النظر في العربية، فلقائل أن يقول لا يحتاج إلى هذا

التنبيه. والجواب أن يقال: بل تحته فائدتان، إحداهما: التنبيه على وجه الرد على الكسائي، والفراء. أما وجه الرد على الكسائي: فإن العرب التزمت أن تأتي لكل فعل بفاعله، ألا تحذفه حذفًا وإن دل عليه الدليل، وهي في التزام هذا الحكم بخلاف المبتدأ إذ يجوز حذفه للدليل حسب ما تقدم، فكأنه يقول: إذا كنا قد علمنا بالاستقراء التزام العرب لذكر فاعل الفعل وألا تحذفه إلا مع تغيير الفعل والنيابة عن الفاعل، فلا بد لنا من التزام ذلك، فإذا لم يظهر لنا هنا عيانًا فهو مضمر، بلا بد لئلا نخرج عن قصد العرب، والجري على مجراها، فإذا قالوا: ضربني وضربت قومك، فهو على إضمار الفاعل إضمار المفرد، وقد وجد مثله- أعني إضمار المفرد كما تقدم- فلنقل به ولنلتزمه. والدليل على ذلك ظهور الضمير في مشهور الكلام نحو: ضرباني وضربت الزيدين، وضربوني وضربت الرجال. وهذا ظاهر من قوله: "والتزم ما التزما". وأما وجه الرد على الفراء فإنه حكى في التسهيل وشرحه عنه أنه يقول: إضمار الفاعل قبل الذكر ممنوع، فكل مسألة يلفى فيها ذلك ممنوعة، لكن يصححها أن يؤخر الضمير فيفصل ويؤتي به بعد الظاهر، فتقول: ضربني وضربت قومك هم. وهذا الذي حكى عن الفراء لم أجده منصوصًا عنه هكذا،

ولكن النحويين يحكون عنه المنع بإطلاق من غير ذكر تصحيح، فإن صح ما حكاه عنه فوجه الرد عليه من هذا الكلام أن العرب التزمت في الفاعل إذا كان ضميرًا الاتصال ما لم يعرض مانع منه، والموانع منه محصورة مذكورة، وهذا ليس منها. وإذا لم يكن منها فلا بد من الرجوع إلى الأصل من الاتصال وإلا قد خرجنا عن التزام ما التزمته العرب. فإن قال: فهذا أيضًا موجب؛ إذ يلزم من اتصال الضمير محذور، وهو الإضمار قبل الذكر. قيل: ليس الإضمار قبل الذكر بمحذور؛ لما تقدم فلا يخرج الضمير عن أصله من الاتصال لغير موجب ثابت. فهذا معنى التنكيت على الكسائي والفراء بقوله: "والتزم ما التزما". والثانية: التنبيه على التزام المطابقة بين الضمير والظاهر، فإن كان الظاهر مفردًا كان الضمير كذلك، وإن كان مثنى فالضمير مثنى كما مثَّله بقوله: "كيحسنان ويسيء ابناكا" البيتين، أو كان الاسم مجموعًا فالضمير كذلك إعمالًا للمطابقة اللازمة في مثل هذا، ويكون في ذلك تنبيه على ما نبه عليه سيبويه من أن: ضربوني وضربت قومك هو الوجه، والأحسن، وأن إفراد الضمير رديء في القياس وألزم على القياس فيه أن يقال: أصحابك جلس، تضمر شيئًا يكون في اللفظ واحدًا، قال: "فقولهم هو أجمل الفتيان وأنبله لا يقاس عليه ألا ترى أنك لو قلت وأنت تريد الجماعة: هذا غلام القوم وصاحبه لم يحسن"

لكنه قال أول المسالة: "فإن قلت: ضربني وضربت قومك فجائز، وهو قبيح" فاختلف الناس في تأويله بناء على أن مثل هذا يقاس أو لا يقاس، فظاهر السيرافي، وابن خروف أنه يجوز قياسًا، ونقل عن الشلويين أنه لا يقاس، وإنما قال سيبويه: "فجائز"، يعني حيث سمع على حكم التأويل بما ذكر، والناظم مال إليه، ورأى أن الذي التزمه العرب المطابقة فهي التي تلتزم ههنا فلا يقال: ضربني وضربت قومك، ولا ضربني وضربته قومك، ولا ضربت وضربني قومك إلا بالسماع خلافًا لمن يجيز مثل ذلك؛ إذ لم يكثر كثرةً يقاس عليها، ولا ساعده نظرٌ يعتمد عليه فلا ينبغي القول به. فهذا أيضًا مما نبه عليه كلام الناظم، فكأنه قال: إن العرب قد التزمت المطابقة بين الضمائر وما عادت عليه فيجب أن يلتزم ذلك أيضًا هنا، ولا يعدل عنه، وبهذا فسر ابنه كلامه في شرحه. وهذه القاعدة التي شرحها ومثلها بالمرفوع جارية في الضمير غير المرفوع، فتقول إذا أعملت الأول: ضربني وضربتهم قومك، فتعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه وهو القوم، لكن هذا يطرد مع إعمال الأول، وأما إعمال الثاني فلا تعمل المهمل وهو الأول في ضمير ما تنازعاه بل تحذفه رأسًا ما لم يكن خبرًا، فتقول: ضربت وضربني زيد، ولا تقول: ضربته وضربني زيدٌ؛ لما يلزم عليه من الإضمار قبل الذكر مع خفة حذف الضمير والاستغناء عنه، لأنه فضلة فاستسهل بخلاف المرفوع والمنصوب الذي هو خبر، فلما كان إعمال المهمل مع

غير المرفوع لا يطرد إذا أعمل الثاني أخرجه بأن قال فيه: ولا تجيء مع أول قد أهملا ... بمضمرٍ لغير رفع أوهلا بل حذفه الزم إن يكن غير خبر ... وأخرنه إن يكن هو الخبر يريد أن العامل الأول إذا أهمل فلا يجوز أن تأتي بضمير الاسم المتنازع فيه إذا كان ضمير نصبٍ، وليس بخبر في الأصل، بل يلزم حذفه، فتقول: ضربت وضربني زيدٌ، ولا تقول: ضربته وضربني زيدٌ، وكذلك تقول: رضيت ورضي عني زيدٌ، ولا تقول: رضيت عنه ورضي عني زيدٌ؛ إذ لا حاجة إلى الإتيان به مع أنه إضمار قبل الذكر، فلا يرتكب إلا لموجب قوي. وما قاله من لزوم الحذف هو كلام العرب، ففي القرآن: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} ولم يقل: يستفتونك فيها، وقال: {فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه} ولم يقل: هاؤم إليه، وقال: {إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} ولم يقل: تعالوا إليه. ومن ذلك في الشعر قول الفرزدق: ولكن نصفًا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمسٍ من مناف وهاشم وقال رجلٌ من باهلة: ولقد أرى تغنى بها سيفانة ... تصبي الحليم ومثلها أصباه وهو كثير. وما ذهب إليه هنا هو رأي الجماعة، وقد خالف هذا في التسهيل

فأجاز الإتيان بالضمير، غير المرفوع وهو غير خبر، واستشهد على ذلك بأبيات ذكرها منها قوله: إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحبٌ ... جهارًا فكن في الغيب أحفظ للعهد ومنها قول الآخر: وفيت لها وأخلفت أم جندب ... فزاد غرام القلب إخلافها الوعدا ومثل هذا قليل لا ينبني عليه قياس، فالصواب ما أختاره هنا. واعلم أنه لما قال: "ولا تجيء مع أول قد أهملا بمضمرٍ لغير رفع" فإنما أراد بمضمر عائد على الاسم المتنازع فيه لا مطلقًا كما تقدم، وعند ذلك تقول على مذهبه: ضربني وضربت زيدًا، فتأتي بضمير المتكلم، وهو فضلة؛ لأنه ليس ضمير المتنازع فيه، وكذلك تقول: مر بي ومررت بزيد، وفي التثنية: مرّا بي ومررت بالزيدين، وفي الجميع: مروا بي ومررت بالزيدين، فتأتي بالضمير المجرور؛ لأنه خارج عن معنى التنازع؛ ولذلك قالوا: لا يتنازع فعلا المتكلم، ولا فعلا المخاطب، ولا فعلان أحدهما للمتكلم، والآخر للمخاطب إلا في فضلة لا يكون لمتكلم ولا لمخاطب،

فيجوز على هذا أن تأتي بفضلة الأول المهمل؛ إذ لا يلقى فيه أن يعود الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة، وهو المانع من الإتيان بالفضلة. وإنما بنيت هذا، وإن كان معلومًا مما تقدم؛ لأن شيخنا الأستاذ أبا عبد الله بن الفخار- رحمة الله عليه- بينه كذلك ثم قال: وإنما احتجت إلى هذا البيان؛ لأن هذا البسط غاب عن بعض المقرئين- يريد من مقرئ سبته- وقد سماه لنا رحمه الله. ولما قال الناظم: ولا تجيء بكذا دل كلامه على أنك تجيء به مع الثاني، وذلك صحيح، فإنك تقول: ضربني وضربته زيد، ومر بي ومررت به خالد، ومن ذلك قول ابن أبي ربيعة: إذا هي لم تستك بعود أراكة ... تنخل فاستاكت به عود إسحل وقول أخي الشماخ واسمه جزء: أتاني فلم أسرر به حين جاءني ... حديث بأعلى القنتين عجيب وهو كثير، ثم يبقى النظر في وجوب ذلك أو جوازه، والجمهور على أنه لازم فلا يقال: ضربني وضربت زيد، إلا أن يأتي نادرًا نحو قول الشاعر: بعكاظ يعشي الناظرين ... إذا هم لمحوا شعاعه وأنشد ابن مالك: يرنو إلي وأرنو من أصادقه ... في النائبات فأرضيه ويرضيني وذهب السيرافي إلى جواز ذلك اعتبارًا بأنه فضلة، ورجح الجواز بقوله تعالى:

{والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات} أي والحافظاتها، والذاكراته، فكما يجوز إذا تأخر عن المتنازع فيه كذلك يجوز إذا تقدم. وأيضًا ما تقدم في الشعر، فإذا ثبت هذا فما الذي ذهب إليه الناظم هنا، وما الذي يعطيه هذا الكلام؟ . والقول في ذلك أن المسألة تجري على مسألة أصولية؛ وذلك أنهم لما اختلفوا في الصلاة على الميت أهي فرض أم لا؟ ذهب ابن عبد الحكم إلى أنها فرض بدليل الآية: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا}: لأن الآية لما نهت عن الصلاة على الكفار أعطى ذلك النهي وجوب الصلاة على غيرهم، وهم المؤمنون إما من جهة المفهوم، وإما من جهة أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وضعف الشيوخ هذا الاستدلال، ورأوا أن الآية إنما فيها عند اعتبار الوجهين الإذن المطلق في الصلاة على المؤمنين. فإذا نزلنا كلام الناظم على الطريقتين ظهر أنه محتمل للمذهبين؛ فإن قوله: "ولا تجيء مع أول" على طريقة ابن عبد الحكم أعطى الأمر بالمجيء به مع الثاني. وهذه طريقة الجمهور، وعلى طريقة غيره يعطي الإذن في المجيء بالضمير من غير انحتام لاسيما إن ضممنا إلى ذلك قوله: "حذفه الزم" فإنه يفيد أن حذفه مع الثاني لا يلزم بل يجوز فيجيء من ذلك مذهب التسهيل، وهذا هو أولى الاحتمالين، وقد تقدم وجهه، ورجحه أيضًا بما قدر من جواز عود الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة في مسألة:

زان نوره الشجر؛ إذ احتج عليه في الشرح بما تقف عليه هناك. (أوهل) معناه معنى أهل لكذا، أي جعل له أهلًا، يقال: آهلك الله للخير، وأهلك للخير أي جعلك له أهلًا، فمعنى الكلام: لا تجيء بمضمر أهل لغير الرفع فجعل منصوبًا أو مجرورًا، وقوله: "بل حذفه الزم" تأكيد لما تقدم، وضمير (حذفه) عائد على مضمر المذكور، وفيه توطئة لما يذكره من قوله: (إن يكمن غير خبر)، وأراد أنه إنما يلزم حذفه مع الأول إذا لم يكن مرفوعًا بشرط أن يكون غير خبر، فإنه إذا لم يكن خبرًا، فهو فضلة مستغنًى عنها كما تقدم، وإذا كان خبرًا فلا يحذف بل يؤتى به لكنه يؤخر لقوله: "وأخرنه إن يكن هو الخبر"، وتأخير إنما يكون عن مفسره، ومثال ذلك- فيما إذا لم يكن خبرًا- قولك: ضربت وضربني زيدٌ، وكذلك إذا كان الفعلان من باب أعطى فإنك تقول: أعطيت وأعطاني زيدٌ درهمًا، ولا تقول: أعطيته إياه، ولا أعطيته وأعطاني زيد درهمًا، وتقول: أعطاني وأعطيته إياه زيدٌ درهمًا، فتضمر للثاني ما يطلبه ولا تضمر للأول شيئًا؛ لأن ضمير المتنازع فيه مع الأول فضلة مستغنًى عنها، ومثال ذلك فيما إذا كان خبرًا ظنني وظننت زيدًا قائمًا إياه، فإياه هو الضمير المنصوب بظنني، وهو في الأصل خبر مبتدأ؛ لأن ظننته تنصب المبتدأ والخبر، وكان الأصل أن يقال: ظنني إياه وظننت زيدًا قائمًا، إلا أنه أخر؛ إذ لا يلزم من تأخيره محذور، ويؤمن بتأخيره المحذور، فإن فصل الثاني من مفعولي

ظننت جائزٌ، وأنت لو أبقيته متقدمًا لزم الإضمار قبل الذكر من غير ضرورة، وما ذهب إليه الناظم هو أحد المذاهب الثلاثة. وزعم ابنه أنه مذهب البصريين. والمذهب الثاني أنك تحذفه اختصارًا فتقول: ظنني وظننت زيدًا قائمًا؛ لأن الحذف اختصارًا في الخبر جائز، وهذا مثله لأن خبر الفعل الثاني دال عليه وهو رأي منقول عن الكوفيين، وإليه ذهب ابن خروف، والشلوبين وغيرهما. وهو ظاهر في القياس من غير احتياج إلى فصل بين العامل والمعمول بجملة أجنبية منهما. والمذهب الثالث: ألا يحذف ولا يؤخر بل يبقى ثابتًا في موضعه، فتقول: ظنني إياه وظننت زيدًا قائمًا؛ لأنه في الكلام عمدة، وإن كان بلفظ الفضلة، فلا يجوز حذفه ولا يلزم تأخيره اعتبارًا بالضمير المرفوع، فكما يجوز إضمار المرفوع قبل الذكر من حيث هو عمدة، فكذلك ما كان عمدة، وإن انتصب، وأجاز هذا ابن خروف أيضًا. وقد حكى ابن الناظم الإجماع على منع تقديمه. وفي هذا النقل ما فيه فقد ثبت الخلاف في المسألة. واعلم أن في كلامه بعد هذا التقدير نظرًا من وجهين: أحدهما: أنه بنى في هذا الفصل على أن المهمل عامل في ضمير المتنازع فيه على التفصيل المتقدم لا في ظاهر، وذلك صحيح فيما كان المتنازع فيه واحدًا، فإن المهمل إنما يعمل أو يطلب العمل في ضميره، أما إذا كان المتنازع فيه أكثر من واحد فليس طلب المهمل لضمير المتنازع فيه بمطرد، بل قد يكون كذلك، وقد لا يكون فإذا

قلت: أعطيت وأعطاني درهمًا زيد درهمًا، فكان جائزًا على وجه، وممتنعًا على وجه آخر، فإن اعتقدت أن الدرهم الأول هو الثاني، فهنا لا يؤتى بالدرهم إلا مضمرًا؛ لأن إظهاره يعطي الغيرية، ويتنزل على هذا كلامه. وإن كان الدرهم الأول غير الثاني، فالأصل الإظهار لأن الإضمار يفهم اتحادهما، وقد فرضنا تعددهما، لكن أجاز الزجاجي وغيره الإضمار فتقول: أعطيت وأعطانيه، أو وأعطاني إياه، زيدًا درهمًا؛ إذ قد يعود الضمير على نظير الأول، لأن الأول يدل عليه؛ ولذلك يقال إنه عائد عليه، وهو من كلام العرب إلا ترى أنك تقول: عندي درهم ونصفه، وفي التنزيل: {وما يعمر من معمرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وأنشدوا على ذلك: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب وقال النابغة الذبياني: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد فجميع هذا لا يعود فيه الضمير على الأول حقيقة، وإنما يعود عليه من حيث

هو نظير لما عاد عليه ومفسر له؛ فلذلك كان الإظهار الأصل، وعند ذلك لم يكن المهمل عاملًا في ضمير المتنازع فيه، وكذلك إذا قلت: ظننت وظنني إياه زيدًا قائمًا، فالإضمار هنا على خلاف الأصل، والأصل أن يقال: ظننت وظنني قائمًا زيدًا قائمًا؛ لأن قائمًا الأول خلاف الثاني إلا أن اللفظ واحد فجاز الإضمار اعتبارًا بالصورة، فالحاصل أن قوله: "واعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه" ليس على إطلاقه في كل موضع، وكذلك ما بني عليه من مسائل الضمير، ومثل ذلك لو قلت: ظنني وظننت قائمًا زيد قائمًا، وإضماره على خلاف الأصل، وكذلك تقول: أعطاني وأعطيته درهمًا زيدٌ درهمًا. هذا هو الأصل، ويجوز الإضمار فتقول: أعطاني وأعطيته إياه زيدٌ درهمًا. هذا إن كان الدرهم الأول غير الثاني، فإن كان إياه فالإضمار خاصة. وإذا تقرر هذا أشكل أيضًا تأخيره للضمير إذا كان خبرًا، فإنه في باب ظن مغاير لمفسره فالأصل إذًا أن يكون في موضعه ظاهرًا، فتقول: ظنني قائمًا وظننت زيدًا قائمًا، فالتزامه الإتيان بالضمير وتأخيره من غير حاجة في غاية الإشكال. والوجه الثاني: أن هذا البيت الذي فرغ من شرحه يوهم أن ضمير المتنازع فيه إذا كان مفعولًا في باب ظن يجب حذفه إذا كان المفعول الأول، ويجب تأخيره إذا كان المفعول الثاني، وفيما قال نظر. قال ابنه في الشرح: "ليس كذلك بل لا فرق بين المفعولين في امتناع الحذف، ولزوم التأخير" قال: "ولو قال بدله: واحذفه إن لم يك مفعول حسب ... وإن يكن ذاك فأخره تصب

لخلص من ذلك التوهم. وما اعترض به يظهر لزومه، لأنه قال: "بل حذفه الزم إن يكن غير خبر" فدخل له المبتدأ في وجوب الحذف، وهو المفعول الأول في ظن، ولا محالة أن الأول كالثاني، فإن وجب التأخير في الثاني ظهر وجوبه في الأول فتقول، ظننت منطلقة وظننتني منطلقًا هندٌ إياها، وهو تمثيل ابن الناظم، فإياها مفعول ظننت الأول. وهذه المسألة لا أعلم من نبه عليها، وإنما يذكرها الناس في الغالب مع الخبر وحده. والجواب عن الأول: أنك إذا قلت: أعطيته وأعطانيه زيدًا درهمًا، فإن كان الدرهم الأول هو الثاني فالضمير كما قال، لأن العاملين تنازعا معمولًا واحدًا، وهو الدرهم. وإن لم يكن إياه فللمسألة نظران، أحدهما: أن نعتقد المباينة تحقيقًا، فلا بد في هذا الموضع من الإظهار، إذ لم يتنازع العاملان معًا الدرهم المتأخر، فتقول إذًا: أعطيت درهمًا وأعطاني زيدٌ درهمًا، ومثله إذا قلت: أعطاني وأعطيته درهمًا وزيدٌ درهمًا؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين أن تعوّض من الدرهم الأول ثوبًا، فتقول: أعطيت ثوبًا وأعطاني زيدٌ درهمًا، وأعطاني وأعطيته ثوبًا زيدٌ درهمًا، فيصير التنازع في زيد وحده لا في الدرهم، وهو إنما قال: "واعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه". والثاني: أن لا تعتقد المباينة بل يعد الثاني كأنه الأول لما كان مشاركًا له في اللفظ والمعنى الاشتقاقي، فهو بهذا اللحظ متنازع فيه، فلا بد عند هذا التقدير من الإتيان بالضمير، فتقول: أعطيت وأعطانيه زيدًا درهمًا، وإن تباينا في نفس الأمر؛ لأنهما في حكم الواحد اعتقادًا مجازيًا، فكلامه منزل، بحسب الاعتقاد

على حالين كل واحد منهما يطلب حكمًا لفظيًا لازمًا، وإذا كان كذلك لم يبق عليه إشكالٌ ولزم ما قال من تأخير ذلك الضمير؛ لأنه ضمير اسم متنازعٍ فيه. وذلك الإشكال هو الذي قام مع ابن الطراوة، فرد على المتكلمين في المسألة فتأمله في كتابه الموضوع على الكتاب. وأما اعتراض ابن الناظم فقد يجاب عنه بأمرين: أحدهما: أن يكون اقتصر على ذكر الخبر ليلحق به المبتدأ؛ إذ هما سواء في كونهما عمدتين كالفاعل فكان سكوته عنه ليس لأنه داخل تحت قوله: "بل حذفه الزم" بل لأنه مفهوم حكمه من الخبر. والثاني: أن يكون قد فرق بينهما لمعنى مفرق، وذلك أن الخبر لتأخيره مسوغٌ، وهو جواز انفصاله لغير موجب، فكان في عدم حذفه إعمالٌ لمعنى كونه عمدةً، وفي تأخيره احترازٌ من محذور الإضمار قبل الذكر فأوجب تأخيره مثبتًا لذلك، وأما المبتدأ فأنت إما أن تحذفه فتهمل معنى كونه عمدةً، وذلك مكروه، وإما أن تثبته في موضعه فتدخل في مكروه الإضمار قبل الذكر، وإما أن تثبته مؤخرًا فتفصله من عامله لغير موجب لفظي، وذلك أيضًا مكروه، لكن هذا الأخير قد منع مثله، وهو مذهب الفراء في إجازته: ضربني وضربت قومك هم، فلو أجاز هنا تأخير المبتدأ

لناقض أصله؛ إذ كلاهما عمدة يجب وصلها بعاملها، فكما لم يؤخر الفاعل لا يؤخر ما هو في معناه وفي حكمه. وأما إثباته في موضعه فاجتمع فيه مكروهان: الإضمار قبل الذكر، وبقاؤه مع أنه بلفظ الفضلة، فصار: ظننته مثل ضربته. وإذا حذف لم يلف فيه إلا مكروه واحد، وهو حذف العمدة، إلا أن هذا المكروه مغتفر؛ لأن الحذف اختصاري للدلالة عليه، ومن شأنه أن يحذف اختصارًا، بخلاف الفاعل ففارق الفاعل من هذا الوجه، فكان حذفه أولى الوجوه الثلاثة وأشبهها، فيمكن أن يكون الناظم ارتكب هذا مذهبًا، اعتمادًا على وجوب الحمل على أحسن الأقبحين، وهي قاعدة يشهد لها كلام العرب مع أن المسألة مغفلة الذكر، مجهولة الحكم، لم أر من تكلم في طرف منها، إلا ما يعطيه ظاهر هذا الكلام، وهي بعد في محل النظر، فعلى الناظر فيها الاجتهاد. وهذا مبلغ ما ظهر لي والله أعلم. وقوله: "بل حذفه الزم إن يكن غير خبر" وقوله: "واخزنه إن يكن هو الخبر". جاء بالمضارع فيه بعد إن حذف جوابها، وهو مختص بالشعر، والقياس: إن كان غير خبر، وإن كان هو الخبر، ولكنه نحو ما أنشد أبو عبيدة وغيره لزهير بن مسعود: فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لا غس ولا بمغمر وكذلك قوله بعد: "وأظهر إن يكن ضميرٌ خبرًا" جاء على الشذوذ أيضًا، وهو في هذا غير مضطر على طريقته؛ إذ كان يمكن أن يقول: "وأظهر إن كان ضميرٌ خبرًا". واظهر أن يكن ضميرٌ خبرا ... لغير ما يطابق المفسرا

نحو: أظن ويظناني أخا ... زيدًا وعمرًا أخوين في الرخا تكلم قبل هذا على ما إذا كان الضمير مطابقًا للمفسر إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، وأوجب فيه إذا كان خبرًا التأخير فقط، وذلك مع إعمال الثاني، ثم بين هنا الحكم فيما إذا لم يكن الضمير مطابقًا للمفسر، فيريد أن الضمير إذا كان خبرًا، المبتدأ لا يطابق مفسره في إفراد ولا تثنية ولا جمع وجب أن يؤتي بالظاهر عوض ذلك الضمير، ولا يؤتى بالضمير، ومثاله: ظننت وظناني أخًا الزيدين أخوين، فها هنا لو أتيت بالضمير عوض الظاهر الذي هو الأخ، فقلت: ظننت وظناني إياه الزيدين أخوين، أو: ظننت وظنانيه الزيدين أخوين لكان الضمير عائدًا على الأخوين، ولا يعود ضمير المفرد على المثنى، فإن رمت إصلاح هذا بأن تأتي بالضمير على مطابقة المفسر وهو مثنى، فقلت: ظننت وظناني إياهما، أو ظنانيهما الزيدين أخوين، لزم الإخبار بالمثنى الذي هو هما أو إياهما عن المفرد الذي هو ضمير المتكلم في (ظناني)، وذلك فاسد، فكان الواجب الإظهار. هذا في إعمال الأول، ومنه مثال الناظم. وتقول في إعمال الثاني في العكس: ظناني شاخصًا وظننت الزيدين شاخصين، لأنك لو أضمرت شاخصًا فأخرته لكان يلقى فيه ما تقدم من عدم المطابقة للمفسر أو للمبتدأ إذا قلت: ظناني وظننت الزيدين شاخصين إياه أو إياهما، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيما إذا اختلف الضمير والمفسر بالإفراد والجمع، أو بالتثنية والجمع، فتقول: ظننت وظنوني شاخصًا الزيدين شاخصين، وظنوني شاخصًا وظننت الزيدين شاخصين، وتقول: ظننا وظنونا شاخصين الزيدين شاخصين، وظنونا شاخصين وظننا الزيدين شاخصين، ولا يجوز الإتيان بالضمير؛ لما تقدم، وكذلك ظننت وظنتني شاخصًا هندًا شاخصًا، فتظهر شاخصًا، ولا تضمره. فتقول: ظننت

وظَنَّتْني إيّاها ولا إيّاه هندًا شاخصًا؛ للزوم عدم المطابقة للمبتدأ أو للمفسِّر. وهذه الأشياء إذا حققتها ليست من باب الإعمال، وإنَّما هي شبيهةٌ بمسائل الإعمال؛ إذ لم يتنازع العاملان معمولًا واحدًا. فإن قيل: هذه المسألة غير مُخْلَّصة من أجل أنّه ذكر حكم عدمِ المطابقة في باب ظن، ولم يذكرها في باب أعطى، بل قال: "وأظهر إنْ يكن ضميرٌ خبرًا" لكذا، فاقتضى أنّ ما ليس بخبر يُضمَر. وليس كذلك بل الحكم واحد من عدم المطابقة، فتقول: أعطيت وأعطياني درهمًا الزيدين درهمين، وأعطيتُ وأعطوني درهمًا الزيدين دراهم، وما أشبه ذلك من المسائل المفروضة في التثنية والجمع والتأنيث، فكان تركه لذلك نقصًا مُوهِمًا. فالجواب أن يقال: لعله ترك ذلك لفهم حكمه من حكم ظننت المذكورة، إذ المعنى الموجب للإظهار واحدٌ في الموضعين. والله أعلم.

المفعول المطلق

المفعول المطلق هنا شرع الناظم في الكلام على المنصوبات، وهي التي ينصبها كلُّ فعل متعدِّيًا كان أو غير متعد، ولم يقدِّم قبل هذا من المنصوبات إلا المفعول به؛ إذ لا ينصبُه كلُّ فعل، ولأنه متعلِّق بأحكام المرفوعات من جهة رفعه إذا ناب عن الفاعل، ومن جهة حصول الفائدة به كحصولها بالفاعل على الجُملة، ومن أجل أنَّ الفعل يقتضيه بمعناه كما يقتضي الفاعل، فلذلك أفرد المفعول به عن غيره من المنصوبات. وجملةُ المنصوبات التي ينصبها كل فعل ثمانية، وهي: المفعول المطلق، والمفعول فيه، وهو ظرف الزمان وظرف المكان، والمفعول من أجله، والمفعول معه، والمستثنى، والحال، والتمييز، فبدأ بالمفعول المطلق، وهو المصدر؛ لأنّه أقرب هذه المنصوبات إلى الفعل لأنَّه مُشتَقٌّ منه، والفعل دالٌّ عليه بحروفه؛ إذ الفعلُ له دلالتان: دلالة بحروفه، ودلالة بصيغته. ودلالة الحروف أقرب إلى المصدر من دلالة الصيغة، فابتدأ به فقال: المصدر اسم ما سوى الزمان منْ ... مَدلُولي الفعل كأمْنٍ مِنْ أمِنْ يعني أنّ المصدر في اصطلاحهم: هو اسمُ ما دلَّ عليه الفعل بحروفه، وذلك أنّ الفعل يدلُّ على المعنى الواقع من الفاعل، أو المعنى المتَّصِف به الفاعل من حيث هو فاعل: فضرِبَ ويَضْرِبُ دالٌّ على الضرب الواقع من الضارب، وأمِنَ ويأْمَنٌ وائْمَنْ دالٌ على معنى اتَّصف به الآمن، فلذلك له اسم وضعته العرب له وهو

ضربٌ في المثال الأول، وأمنٌ في الثاني. وهو مثال الناظم. ويدُلُّ الفعل أيضًا على زمان وقوع ذلك الفعل من كونه في الماضي، والمستقبل، والحال، فإذا قلتَ: ضربتُ فهو دالٌّ على الزمان الماضي، وإذا قلت: اضربْ فهو دالٌّ على المستقبل، وإذا قلت: يضربُ فهو دالٌّ على الحال أو على المستقبل. وكذلك إذا قلت: أمِنَ ويأْمن وائْمنْ، فدلالته على الزمان بصيغته، ودلالته على المعنى الواقع من الفاعل أو القائم به بحروفه، فللفعل إذا مدلولان ولكل واجد منهما لفظ يَخْتَصُّ به، واسم يُدعى به، فنفى اسمَ الزمان بقوله: "اسم ما سوى الزمان" فبقيَ الواقع من الفاعل أو القائم به صادقًا عليه التعريف، فهو إذًا المصدر. وإنما قال: "اسم كذا، ولم يقل: المصدر ما سوى الزمان من كذا"؛ لأنَّ لفظ المصدر إنما يطلق على اسم المعنى الواقع أو القائم بالفاعل، لا على نفس ذلك المعنى؛ ولذلك قال سيبويه: "وأما الفعل فأمثلةٌ أُخذَت من لفظ أحداث الأسماء" ولم يقل أُخِذَت من أحداث الأسماء، فلو قال: "المصدر ما سوى الزمان من مدلولي الفعل" لكان قد عَرَّفه بالمعنى، فيكون نفسُ المعنى هو المصدر، وذلك في الاصطلاح غيرُ صحيح. هذا حاصل ما قَصَدَ، إلا أن فيه نظرا من أوجه ثلاثة: أحدُها: أنه لم يبيّن حقيقة المصدر من نفسه، وإنما بيّنه بنفي غيره عنه، ولا يلزم من نفي غير الشيء أن يتبيّن هو في نفسه. والثاني: أنَّ أسماء المصادر داخلة عليه كانت مشتَقَّة كمقعدٍ ومقامٍ ومَضرَب ومَطلَع، وما أشبه ذلك، أو غير مشتقَّة كالكلام والسلام، وكذلك أسماء المصادر الإعلام نحو: حَمَاد، فَجَار وبَرَّة، وفَجْرَة، وسبحان في قول

الأعشى، أنشده سيبويه: أقول لما جاءني فَخْرَهُ ... سُبحان من علقمة الفاخرِ وما كان نحو ذلك، فكلامه يصدُق عليه؛ لأنَّ كلَّ واحد من هذه الأنواع يصِحُّ أن يُعَرَّف بأنه اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل، وليست بمصادر اصطلاحًا. والثالث: أنَّه جعل للفعل مدلولين: أحدهما: الزمان، والآخر: المعنى الواقع من الفاعل أو المُتَّصِف به الفاعل، وهذان المعنيان ليسا بمدلولين للفعل من حيثُ هو فعل، لا بدلالة المطابقة، ولا التَّضَمُّن، ولا الالتزام. وبيان ذلك أن قام موضوع للقيام الواقع في الزمان الماضي، وعلى مجموع ذلك دلَّ بالمطابقة، ولم يَدُّل قطُّ بالمطابقة على الزمان وحده؛ ولا على معنى القيا وحده؛ إذ لم يوضع مجموع الحروف والصيغة معًا لواحد من المعنيين بخصوصه، وأيضًا فدلالة اللفظ على جزء مسماه مشروطة بأن تكون نسبة ذلك اللفظ إلى جميع أجزاء المعنى نسبة واحدة، كلفظ العَشَرة مع كل واحدة من الخمستين، فإن نسبته إلى كل واحدة منهما على حدٍّ واحد لا يختلف بحسب الوضع، وليس كذلك قام، فإنّ دلالته على الزمان على غير الوجه الذي يدل به على القيام، إذ كانت دلالته على الزمان بالصيغة، ودلالته على القيام بالحروف، فقد تباينت جهتا الدلالة؛ ولذلك قال شيخنا الإمام أبو عبد الله الشريف التلمساني: إنَّ دلالة الفعل من جهة هيئته على الزمان مطابقة وعلى المعنى الواقع من الفاعل

بالالتزام، ودلالته من جهة حروفه على عكس القضية حسب ما تلقاه منه بعض أصحابنا. وبيانه الشافي في علم الاشتقاق، وهو التحقيق في المسألة. فإذًا دلالة التضمن منفيّة ههنا، لم يدُلَّ بها الفعلُ على المصدر، ولا على الزمان، وأيضًا فليس قام بدالٍّ على أحد المعنيين بالالتزام؛ لأنَّ دلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على ما خرج عن مدلوله، والزمان والمعنى الواقع من الفاعل لم يخرجا عن مدلوله، وإذا لم يدُلَّ على واحد منهما بواحدة من الدلالات الثلاث لم يصحَّ كلام الناظم، وإنّما [الذي] يصحُّ في دلالة الفعل: أنَّه يدل على معنى مقترن بزمان معيَّن؛ لأن الفعل مجموع الحروف والصيغة، فالمجموع دالٌّ على المجموع فإذا أُخِذَ واحد من الامرين لم يتحقَّق أنَّ الفعل دالٌّ عليه بخصوصه، فثبت أنَّ هذا التعريف المذكور غير محرر. والجواب عن الأول: أنّ التعريف وإن حصل بنفي الغير فإنه في قوة بيانه بحقيقته، كما مر في بسط مقصوده؛ لأن دلالة الفعل بحسب الوضع منحصرة في الأمرين، فإن نُفي أحدهما ثبت الآخر، وكلاهما مفهوم من الفعل غير مفتقر في فهمه إلى أمر آخر، وأيضًا فلم يقصد بهذا التعريف تعريف الحدِّ، وإنما قصد التعريف الرسميّ على عادة النحويين في اعتمادهم على ذلك؛ بناء على أنّ الحد الحقيقي في الأمور الوضعية كالمعتذر. وعن الثاني: أن يقال: لعلّه قصد إدخالها ولم يرد إخراجها؛ لأن إطلاق لفظ المصدر على اسم المصدر جائز، وإن كان مجازًا في الاصطلاح، أو يقال: إنّ تقييده بالمثال في قوله: "كأمْنٍ من أمِن" يخرج أسماء المصادر، فلا يُعتَرَض بها. وعن الثالث: أن تقول: ذانك المعنيان مدلولان للفعل على الجملة، فإذا

تحقَّق كيف تصحُّ دلالته عليها، فهو ما ذكر في السؤال، فعبارة الناظم يصحُّ تنزيلها على ما تقدّم من أن الفعل في أصل وضعه دالٌّ على معنى مقترن بزمان محصَّل، ولا يلزم الناظم أن يتنزّل لذلك التفصيل المقرر، بل يكفيه ما قال عن ذلك. ويقال أمِنْتُ الشيءَ أمنًا، وهو ضد خِفتُه، وأمنتٌ الرجل أمانة: إذا وثقت به، من الأول قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء} الآية، ومن الثاني: {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل}. ومثال الناظم من الأول، لأنه أتى بالمصدر على أَمْن، ولو قال كأمانة من أمِن لكان من الثاني. ثم قال: بمثله أو فعل أو وصف نُصِبْ ... وكونه أصلًا لهذين انتُخِبْ اعلم أن المصدر إنما يُنصَبُ بما يُنصَبُ به المفعول به، وذلك أحدُ ثلاثة أشياء ذكرها الناظم: أحدها: المصدر، وهو الذي عني بقوله: "بمثله" يريد بمصدر مثله، ولا يعني المثلية من جميع الوجوه، وإنما يريد أنه مصدر لا غير؛ إذ لا يكون المصدر المنصوب به إلا نائبًا عن الفعل، نحو: ضرْبًا زيدًا ضربًا شديدًا، أو مقدّرًا بأن والفعل، نحو: عجبت من قيامك قيامًا حسنًا، ولو كانت المماثلة في كلامه معتبرة من كل وجه لكان المصدر المبيّنُ لا ينصبه المصدر إلا مبيِّنًا، ولكان المصدر المؤكِّد لا ينصبه المصدر إلا مؤكدًا، والمؤكد لا ينصِب أبدًا حتى يكون نائبًا، وهو إذ ذاك غير مؤكّد. ومن النصب بالمصدر قول الشاعر -أنشده سيبويه: يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويخرجن من دارين بُجْرَ الحقائب

على حين ألهى الناس جلُّ أمورهم ... فندلًا زريق المال ندل الثعالب والثاني: الفعل، نحو: قمت قيامًا، وقعدتُ قعودًا، واستكبرت استكبارًا، ومنه قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليمًا} و {أصروا واستكبروا استكبارًا}، وقال تعالى: {وكبره تكبيرًا} وهو كثير. والثالث: الوصف وذلك اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فاسم الفاعل، نحو: أنا قائم قيامًا، وزيد ضارب عمرًا ضربًا، ومنه في التنزيل الكريم: {والنَّاشِطات نشْطًا، والسَّابِحات سبْحًا، فالسَّابِقات سبْقا} {فالعاصفات عصْفًا، والناشرات نشْرًا، فالفارقات فرْقًا} واسم المفعول كاسم الفاعل، فتقول: زيد مضروب ضربًا عنيفًا، والخبزُ مأكولٌ أكلًا. هذا معنى ما ذكره. ثم إنه يتعلق به نظران: أحدهما: أنه لما قال: "بمثله أو فعل أو وصف نُصِب" دلّ أنّ نصب المصدر عنده بهذه الأشياء الثلاثة نفسها، أما الفعل والوصف فهو كما قال، وأما المصدر فإنْ كان مقدّرًا بأنْ والفعل فكما قال حسب ما يُذكر في موضعه، وإنْ كان نائبًا عن الفعل ففيه خلاف بين النحويين، فمنهم من يقول

بمثل ما قال: إن المصدر هو الناصب نفسه لا بالتشبيه بالفعل، واسم الفاعل، بل بحكم الأصل؛ لأنه يطب ما يطلب الفعل، وإن كان اسمًا؛ لأن معناه معنى الفعل إلا أنْ يكون لمجرد التأكيد فإنه كسائر الأسماء، وإذا كان كذلك فادعاء أن العمل لغيره لا دليل عليه. وإذا ثبت ذلك في نحو: ضَرْبًا زيدًا، أعني في نصب المفعول فهو كذلك في نصب المصدر إذا قلتَ: ضربًا زيدًا ضربًا شديدًا. فإن قيل: إنّ ضربًا لا بدَّ له من ناصب، هو الفعل، فهو إذًا العامل في نفس ذلك النائب، فكذلك يكون عاملًا في غير النائب أيضًا، وإلا فكونه عاملًا في النائب وغير عامل في الآخر قولٌ بالتحكم. فالجواب: أنه يلزم من هذا أن يكون الفعل عاملًا في مصدرين، والفعل لا يكون كذلك، فلا يقال: ضربتُ زيدًا ضربًا ضرْبَ الأمير اللّصِّ، ولا: قام زيدٌ قيامًا قومةً واحدةً، وما أشبه ذلك، ولذلك قالوا في نحو مثال سيبويه: اعلم الله زيدًا هذا قائمًا العلم اليقين إعلامًا: إن العلم اليقين إنما انتصب بإضمار فعل لا بأعلم، وبيّنوا أنّ الفعل لا يعمل في مصدرين؛ لأنّ الفعل إنما يعطي مما يطلبه شيئًا واحدًا، ولذلك لا يعمل في ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، ولا حالين، ولا تمييزين، فإن جاء ما يُوهم ذلك فهو محمول على البدل، أو على إضمار فعل. وقد أجاز ابنُ الطراوة عمل الفعل في مصدرين، يكون أحدهما

مؤكّدًا والآخر مبيّنًا، ورُدَّ عليه بأن الفعل إنما يطلُبُ المؤكِّدَ، وإذا عمِلَ في المبيّن فقد تضمّن العمل في المؤكّد؛ لأنَّ قولك: ضربتُ زيدًا ضربًا شديدًا، يعطي من التأكيد ما يعطيه المؤكد وزيادة، فلا يعمل في المبيّن إلا عند عدم المؤكّد، أو يُؤتى به بدلًا منه كضربتُه ضرْبًا ضرْبتين. فإن قلت: فقد جاء في القرآن: {كلا إذا دُكَّت الأرضُ دكًّا دكًّا}. قيل: هذا ليس من ذلك وإنّما هو على معنى: دكًّا بعد دكٍّ، وبذلك يرجع إلى معنى لفظ واحد، ومصدر واحد ومنه: {وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا}، ومثل ذلك قولهم: عملت حسابه بابًا بابًا، فليس من باب العمل في مصدرين، فقد ظهر أنّ الفعل لا يصحّ أن يعمل في مصدرين وإذا كان كذلك فقولك: ضربًا زيدًا ضربًا شديدًا لا يصح أن يعمل في المصدر المبيّن الفعل المقدّر، وإنما العامل فيه المصدر النائب. ومن النحويين من زعم أن الفعل المقدر هو العامل؛ لأنك إذا قلت: ضربًا زيدًا، فتقديره: اضرب ضربًا زيدًا، فضربًا منصوب بالمضمر، فينبغي أن ينتصبَ زيدٌ به أيضًا، وجرت عادتهم أن يقولوا هو منصوب بالضرب على التوسّع لما ناب عن الفعل الذي هو عاملٌ فيه، فإذا كان كذلك كان (ندل) من قول الشاعر: "ندل الثعالب" منصوبًا أيضًا بالنائب. وهذا خلاف القول الأول، وليس بالوجه، والأصح هو الأول. والثاني: أن قوله: "بمثله أو فعل أو وصف نُصِب" يقتضي حصر العامل

فيه، وأنه لا يكون غير ذلك، فلا يكون العامل فيه صفة مشبَّهة باسم الفاعل، ولا أفعل التفضيل، ولا معنى ظرفٍ ولا مجرور، ولا غير ذلك من الألفاظ التي تؤدي معاني الأفعال، ولا تُحْرِزُ ألفاظها؛ ولذلك لا تقول: زيدٌ حسنٌ حُسنًا، ولا زيدٌ أقومُ منك قيامًا، ولا زيدٌ في الدار استقرارًا، ولا زيدٌ عندك ثبوتًا، ولا هذا زيدٌ تنبيهًا، ولا ما أشبه ذلك؛ لأنّ أصل المصدر التوكيد لفعله الذي اشتُقَّ منه، أو ما جرى مجراه، وهو اسم الفاعل؛ إذ هو جارٍ على الفعل في لفظه، ومعناه، وعمله، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله، فإذا ذُكر اسمُ الفاعل أو المصدر النائب عن الفعل فكأنَّ الفعل موجود بلفظه، ومعناه، وكذلك مع اسم المفعول، وأمثلة المبالغة. وأيضًا فالفعل يقتضي العلاج ومصدره مؤكدٌ لذلك المعنى، فما كان معنى العلاج فيه متناسًى ومطرحًا كالصفة المشبهة وأفعل التفضيل لا يصحُّ أن يؤكَّد بالمصدر، فلا يصح أن ينصبه، ولا أن يعمل فيه، إذ لا يطلبه. وإذا ثبت هذا صحَّ أنَّ العامل في المصدر في جميع المسائل الآتية بعد في: ضربًا زيدًا، وقوله: {فأمَّا مَنًّا بعد} وزيدًا سيْرًا سيْرًا، وإنما أنت سيْرًا وله على ألفٌ عُرْفًا، وابني أنت حقًّا، وله صوتٌ صوتَ حمار [فعل مضمر]، وقد بيَّن هو ذلك حيث جعلها منصوبة على إضمار الفعل، وسيأتي بحول الله. وبعد فعلى الناظم هنا درك من وجهين: أحدهما: أنه أطلق القول في العامل في المصدر فلم يقيّده بكونه من لفظه حسب ما يأتي، وهو قيدٌ لا بُدَّ منه لأن نصب المصدر من حيث هو مصدر

لا يكون إلّا بما هو من لفظه، كما مرّ تقديره، أو من معناه لكن موافقًا للفعل الذي هو من لفظه حسب ما يأتي. وأمّا نصبه بالمصدر أو الفعل أو الصفة إذا لم يكن من لفظه ولا من معناه فلا يكون به مصدرًا، بل يكون على حسب ما يطلبه ذلك العامل كسائر الأسماء، فتقول: عجبتُ من كراهتك الخروج، وأحبُّ إكرامَ زيدٍ، وأنت محبٌّ الإكرام، كما تقول: عجبتُ من كراهتك زيدًا، وأحب زيدًا، وأنت محبٌّ زيدًا، وعلى هذا الوجه أيضًا يُرفَع ويخفض؛ إذ هو عند ذلك كسائر الأسماء يُرفَع فاعلًا ويُنصَب مفعولًا، ويُخفَض مضافًا إليه بالحرف وغيره، فلا بُدَّ من ذلك القيد، وهو أن يكون العامل من لفظه ومعناه، أو معناه كما تقدَّم، وقول الناظم: "بمثله أو فعلٍ أو وصفٍ نُصِبَ" لا يعيّن المراد، ولا يبيّنه. والثاني: أنّه أطلق الوصف فلم يقيّده بكونه اسم فاعل أو مفعول بل أطلق فيه القول، فاقتضى أنّ الصفة المشبَّهَة باسم الفاعل، وأفعل التفضيل ينصبان المصدر، فتقول: زيد حسنٌ حُسنًا، وكريمٌ كرمًا، وأفضل منك فضلًا، وما أشبه ذلك؛ لأن كل واحد منهما يسمّى وصفًا في الاستعمال العرفي، ويمتنع أن ينصِبَ المصدر من حيث هو مصدر، فإطلاق الناظم غير صحيح. وأيضًا يلزمه نحو هذا في الفعل؛ إذ لم يقيّده بكونه متصرّفًا، وهو شرط لازم؛ إذ الفعلُ إذا كان غير متصرّف لا ينصب مصدرًا، ولا يُشتَقُّ منه، فلما لم يقيّد الفعل بكونه متصرفًا أوَهَم أنك تقول: نِعم الرجل زيدٌ نعمةً، وبئس الرجل زيدٌ بؤسًا وحبَّذا زيدٌ حبًا، وما أشبه ذلك، وذلك وغير صحيح. فهذا كله فيه ما ترى. والجواب عن الأول: أنّ مما يدل على مراده، وأنه أراد الموافق في اللفظ ما قبل الكلام وما بعده، فأما ما قبله فتعريفه المصدر بأنه الذي دل عليه الفعل بحروفه، وتمثيله بأمنٍ من أمِنَ، وإذا كان مع الفعل على هذا السبيل أشعر بأنَّ

فعلَه أقرب إلى العمل فيه من غيره، ثم يجري المصدر والوصف مجراه، وأما ما بعده فقوله: "وكونه أصلًا لهذين انتُخِب"، لأن من المعلوم أن مصدر قعد لا يكون أصلًا لضرب، ولا يُدَّعى ذلك فيه، وكذلك العكس. وعلى هذا السبيل يجري سائر المصادر من الأفعال، بل لا بُدَّ أن يكون محصول الحكم بالعمل دائرًا بين الفعل ومصدره الذي من لفظه ومعناه، وكذلك المصدر والوصف فقد ظهر من مساق الكلام اشتراطُ ذلك الشرط. وأما الثاني: فلا أجد الآن جوابًا عن وروده إلّا أن يُقال: إنه قد تبيّن في أبواب الصفة المُشبَّهة قصور عملها عن عمل الأفعال، وأنّ الصفة المشبَّهة وأفعل التفضيل عملها مقصور على السببيّ، وأن أفعل التفضيل إنما يعمل في الضمير الرفع، وفي الظاهر في موضع واحد. فقد يُقال، ولكنه ضعيف. أما الأفعال التي لا تتصرّف فبيّن خروجها؛ لأنها لا مصادر لها، فكيف يصحُّ أن يُتوهَّم نصبها للمصادر. ثم قال: " وكونه أصلًا لهذين انتُخِب" الضمير في (كونه) عائد إلى المصدر المُبَوَّب عليه، وانتُخِب: معناه انتُقِيَ واختير، ورجل نُخبَةٌ من ذلك، يعني: أنَّ المختار كون المصدر أصلًا لهذين المشار إليهما بأداة القُربِ، وهما الفعل والوصف، فالفعل والوصف معًا فرعان للمصدر، يريد في الاشتقاق خاصّة؛ إذ ليس المصدر أصلًا لهما في كل شيء، ألا ترى أن الفعل أصلٌ للمصدر في العمل؛ إذ لا يعمل إلا بالنيابة عن الفعل، أو بما تضمّن من معناه، وكذلك اسم الفاعل فرع عن الفعل في العمل، فإنما يريد أصليَّة الاشتقاق، فالمصدر هو الذي اشتُقَّا منه وليس هو بمشتقّ من شيء؛ لأن لو اشتُقَّ من شيء لكان مشتقًّا من المصدر فيكون مشتقًا من نفسه، وهو محال، بل هو من المُرتَجَلات الأُوَل لكن قد يكون المصدر

مشتقًا من المصدر على وجه آخر، كالتعلّم والاستعلام، فإنهما مشتقان من العلم، ولبسط هذا موضع آخر من علم الاشتقاق. والناظم قد أشار هنا إلى خلاف في الاشتقاق، أعني في اشتقاق الفعل والصفة من المصدر، وارتضى أنهما مشتقان منه. والخلاف في الفعل غير الخلاف في الصفة، فأمّا الفعل فمذهب البصريين فيه ما ذهب إليه، وذهب الكوفيون أن المصدر هو المشتَق من الفعل، وبيان رجحان ما ارتضاه من وجوه ذكر منها في الشرح جملة: أحدها: أن المصدر كثُرَ كونه واحدًا، والأفعال ثلاثة ماض وأمر ومضارع، فلو اشتُق المصدر من الفعل لم يخْلُ أن يشتق من الثلاثة، أو من بعضها. واشتقاقه من الثلاثة محال، واشتقاقه من واحد منها يستلزم ترجيحًا من غير مرجح؛ فتعين اطِّراح ما أفضى إلى ذلك. والثاني: أن المصدر معناه مفرد، ومعنى الفعل مركب من حدث وزمان، والمفرد سابق للمركّب، والدالّ عليه أولى بالإصالة من الدالّ على المركب. الثالث: أنّ مفهوم المصدر عام، ومفهوم الفعل خاص، والدال على العام أولى بالأصالة من الدال على الخاص. الرابع: أنّ كل ما سوى المصدر والفعل من شيئين أحدهما أصل والآخر فرع فإن في الفرع منهما معنى الأصل وزيادة، كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الواحد، والفعل فيه معنى المصدر وزيادة تعيين الزمان، فكان فرعًا، والمصدر أصلًا. الخامس: أن من المصادر ما لا فعل له لفظًا ولا تقديرًا، وذلك ويح، وويل

وويس، وويب، فلو كان الفعل أصلًا لكانت هذه المصادر فروعًا لا أصول لها، وذلك محال، وإنما قلنا لا أفعال لها تقديرًا؛ لأنها لو صِيغ من بعضها فعل لاستحقَّ فاؤه من الحذف ما استحق فاء يَعِدُ، أعني في المضارع، ولاستحقَّ عينه من السكون ما استحق عين يبيع، فيتوالى اعتلال الفاء والعين، وذلك مرفوض في كلامهم، فوجب إهمال ما يؤدي إليه. وليس في الأفعال مالا مصدر له مستعملًا إلا وتقديره كتبارك، وفعل التعجب؛ إذ لا مانع له في اللفظ، وأيضًا فتقابل تلك الأفعال مصادر كثيرة لا أفعال لها كالنبوّة والأبوة والخؤولة والعمومة، والعبودية واللصوصية، وقَعْدَك الله، وبَلْهَ زيدٍ، فبطلت المعارضة بتبارك ونحوه، وخلص الاستدلال بِوَيْح وأخواته. هذا ما استدل به، ولنقتصر عليه، فالكلام فيها طويل الذيل مع قلة الفائدة؛ إذ لا ينبني عليها حكم صناعي، وإنما فيها بيان وجه الصناعة خاصة، والباحث عنها بالحقيقة هو صاحب علم الاشتقاق. وأما الصفة فحكي فيها الخلاف، وهل هي مشتقة من المصدر أو من الفعل؟ وارتضى أنها مشتقة من المصدر، والقول الآخر يؤثَر عن الفارسي أنه نبَّه عليه، وارتضاه عبد القاهر. والذي ذهب إليه الناظم أرجح؛ لأن في الفرع ما في الأصل وزيادة، وقد وجدنا في الصفة معنى المصدر وزيادة، وهي الدلالة على ذات الفاعل، ولم نجد في الدلالة على الزمان المعيّن، فلو كان مشتقًا

من الفعل لوُجدت فيه الدلالة على الزمان المعيّن، لكنه ليس كذلك، فدلّ على أنّه غير مشتق منه، وإنما هو مشتق من المصدر، وأيضًا فإن الصفة في الغالب متحدة والأفعال متعددة، فلو اشتُقَّت من الفعل لزم اشتقاقها من الجميع أو من واحد معيّن، وكلاهما فاسد، لما تقدّم ولغير هذا من الأدلّة، وهذا البحث أيضًا لا ينبني عليه حكم، وإنما حَدَا إلى الاستدلال إشارة الناظم إلى الترجيح والتوجيه. والله المستعان. ثم قال: توكيدًا أو نوعًا يُبين أو عدد ... كسِرْت سيْرتَين سيرَ ذي رَشدْ نصب توكيدًا وما بعده على المفعول بِيُبين، والتقدير: يبين توكيدًا أو نوعًا أو عددًا، أي هذا شأنه، وقصده تبيين أنواع المصدر، وأنه على ثلاثة أنواع: أحدها: المصدر الذي هو لمجرد التوكيد لا يفيد زيادة على ذلك، فهو مفيد مثل ما أفاده الفعل، نحو: قام قيامًا، وقعد قعودًا، و {كلّم الله موسى تكليمًا} و {كبره تكبيرًا}، ولم يحتج إلى تمثيله لبيانه. والثاني: المبيّن للنوع، وهو الذي يبين نوع الفعل المذكور، ففيه زيادة على معنى التوكيد، نحو ضربته ضربًا شديدًا، وعاقبته معاقبة الأمير اللص. وقعد قِعدة سوء وتكلم تُكلّم حليم. والثالث: المبين للعدد وهو قوله: (أو عددًا) لأنه معطوف على نوعًا لكن وقف عليه بالسكون على لغة من قال: رأيت زيدْ. والمبين للعدد هو الذي يفيد زيادةً على توكيد الفعل عدد المرات، ومثّله بقوله: سِرْتُ سيرتَيْن، فسيرتين أفاد

عدد مرات السير، ومثله: سرت سيرات أو سيرة واحدة، وخرجت خرجات أربعًا، ونمت نوماتٍ كثير، وأما قوله: "سير ذي رشد"، فهو مثالٌ للنوع الثاني. ثم قال: وقد ينوب عنه ما عليه دَل ... كجِدّ كل الجِدّ وافرح الجَذَل هذا بيان لكون المصدر قد ينوب عنه غيره مما ليس مصدرًا لذلك الفعل المعين، وألقى لذلك ضابطًا، وهو أن النائب عن المصدر لا يكون إلا دالًّا عليه؛ لأنه إذا لم يدل عليه لم يُفِد فائدته، وإذا لم يُفِد فائدته لم يكن نائبًا عنه، فالضمير في (عنه) عائدٌ على المصدر المذكور، ومن (عليه) عائدٌ على المصدر أيضًا، وضمير (دَلّ) عائد على ما، وما واقعة على النائب عن المصدر، والنائب عن المصدر تارة يكون من لفظ الفعل، وإن كان غير جار عليه، وتارة يكون من غير لفظه. فأمّا الذي من لفظه فكقولهم: أنبت الله الزرع نباتًا، وفي التنزيل: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} وهو مصدر عن سيبويه جارٍ على غير الفعل، فكأنّه نائب عن قوله إنباتًا، ومنه قوله تعالى: {وتبَتَّل إليه تَبْتِلًا} فتبتيلًا ليس بمصدر لِتَبَتَّل، وإنما هو مصدر بتَّل، وفي قراءة ابن مسعود: {وأُنْزِل الملائكة تنزيلًا} ومصدر أنزل إنزالًا،

وتنزيلًا مصدر نزَّل كقراءة الجماعة، وأنشد سيبويه للقَطَامي: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأنْ تتبَّعه اتِّباعًا ويَحتملُ أنّ الناظم لم يقصد هذا؛ لأنه إنما مثل بالمخالف اللفظ. ويدخل في هذا القسم أيضًا اسم المصدر نحو: كلّمته كلامًا، وسلّمتُ عليه سلامًا وصليت صلاة، وقام مقامًا، وقعد مقعدًا، ونحو ذلك. وأمّا الذي من غير لفظ الفعل فهو الذي مثَّل، إذ أتى بمثالين كلاهما مما يُقاس عليه. أحدهما: قوله: (كجِدَّ كل الجد) وهو فعل أمر من جَدَّ في الأمر يَجُدُّ ويَجِدُّ جِدًّا: إذا عزم عليه، فالجيم تضبط بالضم والكسر، وهو أحد الأفعال التي جاءت في المضاعف على يفعُل، وليست بمتعدية. والقياس فيما يتعدَّى منه الضم، وفيما لا يتعدّى الكسر، وما عدا ذلك سماع. وقوله: "كل الجد" وضع فيه كلًّا عِوَض المصدر فنصبه نصْبَه، فهو اسم موضوع موضع المصدر، إلَّا أنَّه في قوّة المصدر، ولما قال ككذا، فشبّه به دخل مع كل ما هو في حكمها، والذي في حكمها هو ما كان من الأسماء في معنى ما أضيف إليه أو فُسِّر به من المصادر، نحو: بعض، وجملة، وجميع، والضمير، واسم الإشارة، وأسماء الأعداد، وصفة المصدر على رأيه في الشرح، وما أشبه ذلك، نحو: ضربتُه بعض الضرب، وأكرمته بعض الإكرام، وسرتُ نوعًا من السير، وجملة من السير، وسرت جميع السير، وقمته أي قمت القمات، ومن قوله تعالى: {فإني

أُعذِّبه عذابًا ولا أُعذِّبه أحدًا من العالمين}، وضربته هذا الضرب، وضربته كثيرًا، وضربته شديدًا، ومنه: {واذكر ربَّك كثيرًا} وضربته ثلاث ضربات، وأربعًا، وخمسًا، وقمت مائة قومة، وألفَ قومة، وخمسًا وعشرين قومة. وما أشبه ذلك. والثاني قوله: "وافرح الجذل" الجَذَلَ هو الفرح يقال جَذِلَ -بالكسر- يجْذَل جَذَلًا كفَرِحَ يفْرَح فَرَحًا، وهذا المثال وضع فيه المرادف موضع مرادفه، ومنه قول;: جلستُ قعودًا، وقعدتُ جلوسًا، وذهبت انطلاقًا، ومنه قول امرئ القيس: ويومًا على ظهر الكثير تعَذَّرتْ ... عليَّ وآلتْ حلْفَةً لم تَحَلَّلِ وأنشد سيبويه لرؤبة: لوحها من بعد بُدنَ وسَنَق ... تضميرك السابق يدعى للسبق فمعنى آلَت حلفت، ومعنى لوّحها: ضمَّرها، فهذا أيضًا ممّا يُقاس عند الناظم كالمثال الأول. وقد حصل بالمثالين جميع ما فيه القياس جارٍ من ذلك

فخرج ما ليس بقياس نحو: قعد القرفصاء، واشتمل الصماء، ورجع القهقري، ومشي الخَطَرى ومشت الهيذبي، والخَوْزَلى، وما أشبه لك إذ ليس داخلًا تحت واحد من المثالين، وقد حصل من كلامه: أنَّ العامل في النوعين هو الفعل الظاهر، ولا يحتاج إلى تقدير فعل؛ فأمّا النوع الأول فلا أذكر فيه خلافًا، وأمّا الثاني فاختلف فيه النحويون على قولين: أحدهما: أن العامل في المصدر هو الظاهر لا غيره، وإليه ذهب المبرد والسيرافيْ، وبعض المتقدمين والمتأخرين، وهو الذي ظهر من الناظم. والثاني: أنَّه منصوب بإظمار فعل من لفظه، وهو ظاهر الكتاب، واستدلَّ السيرافي على صحة الأول بدليلين: أحدهما: ما لا يختلف فيه أهل اللغة من أنَّه قد يجيء المصدر من لفظ الفعل وليس بمبنى من بنيته كقوله: {وتبتل

إليه تبتيلًا} ومثله: تجاورَ القوم اجتوارًا واجتوروا تجاورًا، ويقال: افتقر فقرًا، ولا يستعمل لفقرٍ فِعلٌ، وقال الشاعر: *وقد تطوَّيتٌ انطواءَ الحِضْبِ* والثاني: أنّ قولك: قعد زيد جلوس عمر، وتقديره: قعودًا مثل جلوس عمرو، ثم حذف من الكلام [لدلالة] ما بقي على ما حُذِفَ، ولو نَطَقْت بالأصل لم يُحتج إلى تقدير فعل، فكذلك بعد الحذف، وهكذا القول في قولهم: تَبَسَّمَتْ ومِيض البرق، وقال ابن خروف: ودليل أنّ تضميرك -يعني في بيت رؤبة- ينتصب على هذا الفعل الظاهر قوله تعالى: {ولا تَضَرُّونَهُ شيئًا} {ولا يظلمون نقيرًا}، و {فتيلًا} وهو كما قال؛ إذ لا ذاهب هنا إلى إضمار فعل؛ إذ ليس له فِعْلٌ، وهو نائب عن المصدر فلا فرق بين البنائين: ثم قال: وما لتوكيد فَوَحِّد أبدًا ... وثَنِّ واجْمَع غَيْرَهُ وأفرِدا يعني أن المصدر إذا كان لمجرد التوكيد فهو موحِّدٌ أبدًا لا يُثَنَّى ولا يُجمَع؛ لأنه كتكرير الفعل؛ إذ لا يزيد في دلالته على دلالة الفعل شيئًا، أعني دلالته على

المعنى الواقع من الفاعل أو المتصف به؛ إذ هو مبهم ينطلق على القليل منه والكثير، فالمصدر في هذا المعنى كالفعل، والفعل لا يُثنَّى ولا يُجمَع اتفاقًا، فكذلك ما في معناه، فلذلك قال: "فوحّد أبدًا" و"ما" في قوله: "وما لتوكيد" موصولة، وهي في وضع نصب بوحِّدِ، أي: وحّد المصدر الذي للتوكيد، أو موصوفة، والتقدير: وحد مصدرًا كائنًا للتوكيد، وأما غير المؤكد من الأنواع الثلاثة فيجوز تثنيته وجمعه وإفراده، وذلك النوع المبيّن للعدد، والمبيّن للنوع، أما المبيّن للعدد فظاهر، وهو المحدود بالهاء نحو: قومة وضربة، وقتلة، فتقول: ضربت زيدًا ضربتين، وضربات، وقمت قومتين وقومات كثيرة، ولا خلاف في هذا. وأمّا المبيّن للنوع فظاهر الناظم جواز تثنيته وجمعه قياسًا، فتقول غسلته غسليْن غسلًا عنيفًا وغسلًا رفيقًا، وضربته ضربيْن ضربًا شديدًا وضربًا خفيفًا، وضربته ضروبًا مختلفة. وهذا فيه خلاف فمن النحويين من يجيزُ تثنيته وجمعه قياسًا، منهم الزجاجي حسب ما يظهر منه في الجمل، ومنهم من منع ذلك، وأنّه لا يُقال منه إلّا ما سُمع، وهو مذهب سيبويه، ورأىُ الناظم الأول أرجحُ لأمرين: أحدهما: أنَّ ذلك سُمع في الكلام، فحكي سيبويه: أمراض، وأشغال، وعقول، وقالوا: الحلوم بمعنى العقول، فقال:

هل من حُلومٍ لأقوام فتنذرهم ... ما جرَّب الناس من عَضِّي وتضريسي والثاني: أنَّ المانع من تثنية المصدر وجمعه إنّما هو كونُه يقع على القليل والكثير، فهو اسم جنس كسائر أسماء الأجناس، فإذا أُزيل عن ذلك فصار يدلُّ على شيء بعينه من نوع أو شخص صار كأسماء الأشخاص يُثنَّى ويُجمَع فكما تقول: ضربتان وضربات من جهة تعيين أشخاص الضرب، كذلك تقول ضربان وضروب من جهة تعيين أنواع الضرب، فظهر وجه ما اختاره الناظم، والله أعلم. وقوله: "وأفرِدا" أراد: وأفرِدَن، فأبدل من النون الخفيفة الألف كما يجب في قياس الوقف. ويظهر أن قوله: "وأفرِدا" حشو لا يفيد؛ لأنّ كلامه إنما هو في جواز التثنية والجمع، لا في جواز الإفراد؛ إذ هو الأصل. فكيف يقول (وأفردا) لغير حاجة؟ والجواب: أنّه بحسب لفظة لابد منه؛ لأنّه لما قال: (وثن واجمع غيره) لم يُفهَم له منه إلا التزام التثنية والجمع؛ إذ لم يأت بلفظ التخيير كما فُهم له لزوم التوحيد في المصدر المؤكد بقوله: "فوحد" فإن الأمر محمول على الوجوب، فيعطي انحتام المأمور به فلما كان قوله: "وثن واجمع" يعطي ذلك أتى بقوله: "وأفردا" ليحصل جواز الأمور الثلاثة فلا حشو إذًا في كلامه. ثم قال: وحذف عامل المؤكد امتنع ... وفي سواه لدليل مُتسَّع هذا ابتداء فصل يذكر فيه ما لا يُحذ ف من عوامل المصدر وما يُحذف، وأنّ ما يُحذَف على قسمين: قسم لا يجوز إظهاره، وقسم يجوز إظهاره، فبيّن أولًا أنَّ

المصدر الذي جيء به لمجرّد التوكيد يمتنع حذفُ عامله على الإطلاق، فلا يجوز أن تقول: زيدًا ضربًا بمعنى اضرب زيدًا ضربًا، وإذا قيل لك: هل ضربت زيدًا فلا يجوز لك أن تقول: نعم ضربًا، حتى تقول: نعم ضربته ضربًا، ولا ما أشبه ذلك. ووجه ما زعم من ذلك أن القصد بالتأكيد الإسهاب والإكثار؛ ولذلك بذكر المؤكد مرتين وأكثر فتقول: زيدٌ زيدٌ قائم، وقام قام زيدٌ، وقال: لا لا أبوح بحب بثينة إنها ... أخذت على مواثقًا وعهودًا والقصد بالحذف الإيجاز فتدافعا، فأنت لو حذفت عامل المصدر المؤكد -والعامل هو المؤكد، والمقصود أن يذكر أولًا، ثم يُؤتَى بمصدره القائم مقام تكراره لكنت قد ناقضت؛ ولذلك لم يُجِز الأخفش توكيد الهاء المحذوفة من صلة الذي نحو: الذي ضربت زيدٌ، فامتنع أن يقال: الذي ضربت نفسَه زيد، قال: لأنّ ذلك نقضٌ من حيث كان التوكيد اسهابًا، والحذف إيجازًا، وذلك أمر ظاهر التدافع. إلى هذا المعنى يرجع ما علّل به المؤلف منع الحذف؛ إذ قال: إنّ المصدر المؤكد يقصد به تقويه عامله، وتقرير معناه، وحذفه منافٍ لذلك فلم يجُز، نقل ذلك عنه ابنه في شرح هذا النظم. وهذه المسألة لم يُنبّه عليها في التسهيل، ولا في الفوائد المحويَّة، وهي من المسائل المشكلة عليه، والاعتراض عليه من وجهين: أحدهما: أنّ منع الحذف لعامل المصدر المؤكد لا أعرفه منقولًا عن أحد من النحويين إلّا عنه في هذا النظم، وما ذكر عنه ابنه، وأمَّا غيره من النحويين

فيطلقون القول، ولا يقيدون العبارة في جواز حذف عامل المصدر إذا دلّ عليه الدليل فيما عدا مواضع التزام الحذف، فالظاهر جواز أن تقول: زيدًا ضربًا، في جواب من سألك فقال: من ضربت؟ وأن تقول: في جواب: ألم تضرب زيدًا؟ : بلى ضربًا، وقد تقدّم لسيبويه والخليل وغيرهما ما يُشعر بأن عامل المؤكد لا يلزم الإتيان به، بل يُحذَف، وارتضاه ابن خروف وغيره، ولقد استدرك عليه ابنه في هذا الموضع، وردّ عليه فقال بعد ما قرّر وجه المنع: "إن أراد أنّ المصدر المؤكد يُقصَد به تقوية عامله، وتقرير معناه دائمًا فلا شك أن حذفه منافٍ لذلك القصد، ولكنه ممنوع ولا دليل عليه. وإن أراد] أن [المصدر المؤكّد قد يُقصَد به التقوية والتقرير، وقد يقصد مجرّد التقرير فمُسلَّمٌ، ولكن لا نُسلِّم أن الحذف منافٍ لذلك القصد؛ لأنه إذا جاز أن يقرّر معنى العامل المذكور بتوكيده بالمصدر، فلأن يجوز أن يقرّر معنى العامل المحذوف لدلالة قرينةٍ عليه أحقُّ وأولى" وقال: " ولو لم يكن معنا ما يدفع هذا القياس لكان في دفعه بالسماع كفاية، فإنهم يحذفون عامل المؤكد حذفًا جائزًا إذا كان خبرًا عن اسم عين في غير تكرُّرٍ ولا حصر، نحو: أنت سيرًا، وحذفًا واجبًا في مواضع يأتي ذكرها نحو: سقيًا ورعيًا، وحمدًا، وشكرًا لا كفرًا، ثم ذكر أن المنع في

مثل هذا إما للسهو عن وروده، وإما للبناء على مجرد الدعوى. والوجه الثاني على تسليم صحة ما قاله ينتقض عليه بما ذكره بعد من وجوب حذف عامل المصدر المؤكد لنفسه، والمصدر المؤكد لغيره، فإن كل واحد منهما مؤكدٌ مع أن عامله لازمُ الحذف، نحو قوله: له عليّ ألف درهم اعترافًا، وزيد قائم يقينًا، فاعترافًا ويقينًا مصدران مؤكدان، فدخل له تخت إطلاق قوله: "وحذف عامل المؤكد امتنع" وذلك نقضٌ ظاهر. والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أن تلك القاعدة عند النحاة مسلّمة فقد مرّ من ذلك عن الأخفش والفارسي وابن جني ما فيه غناء، وتبيّن وجه ذلك؛ إذ كان التأكيد راجعًا إلى تكثير اللفظ، والحذف راجعٌ إلى تقليله، وأيضًا فقد قال ابن الباذش: التوكيد تمكين المعنى في النفس عند من خاف من المتكلم أن يضعف في نفسه، فيظن به غير ما قصده، فيطيل بالتوكيد ليقوي من نفس السامع أنّ الأمر على ما ذكره المتكلم، لا على ما توهمه، وهو مستعار من قولك وكَّدت العقد والسرج إذا شددتهما تشديدًا متمكنًا، قال فالتوكيد إذًا نقيض الحذف، لأن المتكلم إنما يحذف ثقة بعلم السامع أن الكلام لا يصِحُّ إلا بتقرير محذوف، وهذا هو المجاز عند العرب، فلا يصحُّ توكيده لتنافي الغرضين، وقال- هو أو غيره- أيضًا: الحقيقة عند النحويين الكلام الذي لا حذف فيه، فإن كان فيه حذف فهو مجاز، والمجاز لا يؤكد؛ لأن التوكيد إطالة، والمجاز اختصار، فتوكيد المجاز نقض الغرض. فهذه نصوص تدلُّ

على ما رآه الناظم على الجملة، ثم إن السماع موافق لما قالوا، وإلا فلو كان مخالفًا لهم لم يسعهم القول بمخالفته، وهم أئمة هذا الشأن، وأيضًا فإن ابن جني قد نصَّ على ما رآه الناظم خصوصًا، فقال في قولهم: القرطاس، لمن أرسل سهمًا نحو الغرض: "ولا يجوز توكيد الفعل الناصب للقرطاس لو قلت: إصابة القرطاس، فجعلت إصابة مصدرًا موكّدًا للفعل الناصب للقرطاس لم يجز، من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب، وجعلت الحال الشاهدة دالّة عليه، ونائبة عنه، فلو أكّدته لنقضت الغرض، قال: "وكذلك قولهم للمهوي بالسيف في يده: زيدًا، أي: اضرب زيدًا لم يجُز أن تؤكد الفعل الناصب لزيد، فلا تقول: ضربًا زيدًا، وضربًا توكيد لاضْربْ المقدَّر؛ لأنه قد حُذف اختصارًا، وأنيبت عنه الحال الدالة، فتوكيده نقضٌ للقضية التي كنت حكمت بها، لكن لك أن تقول: ضربًا زيدًا، على أن يكون المصدر بدلًا من الفعل لا على التوكيد". فهذا نص في خصوض المسألة مبني على تلك القاعدة العامة، وأما مسألة سيبويه فظاهره أن ذلك مسموع احتيج إلى توجيهه كما يحتاج إلى] توجيه [غيره من المسموعات المخالفة للقياس، والذي سهّله بعد السماع تقدُّم ذكر المؤكد في لفظ المتكلم، فكأن المؤكد مذكور قد جرى عليه التوكيد، وليس في كلام سيبويه ما يدل على أنه قياس أصلا، فليس في حُجّة على بطلان قاعدة ابن مالك، وكذلك

في: {إن هذان الساحران} على قول الزجاج؛ إذ لا يتعيّن في الآية ما تأوّله فيها. وأيضًا لم يأت: *أم الحليس لعجوز شَهْرَبَة* إلا شاذًا، والشاذ لا يُبنَى عليه، ولا يكسر قاعدة مستمر، وعند ذلك يشكل كلام ابن خروف. والوجه الثاني: أنّ السماع في حذف عامل المصدر المؤكد معدوم؛ إذ لا تجدُّ من كلامهم منقولًا مثل: نعم ضربًا، في جواب من قال: هل ضربت زيدًا، وما أشبه ذلك مما يحذف فيه الفعل جوازًا لدلالة القرينة عليه، وإنما ثبت الحذف في عامل المصدر المبيّن، والحذف فيه ظاهر؛ إذ لم يجيء لتأكيد الفعل وإنّما جيء به لبيان نوع الفعل المعروف باللفظ أو بالقرينة بعد ما عُرف الفعل، فصار مثل ذكر المفعول بعد حذف فعله، ونحن وإن قلنا: إن المبيّن أصله المؤكّد لا نعني أن قصد التأكيد باقٍ، بل قد تُنُوْسِيَ حتى صار في حكم المعدوم، بالإضافة إلى قصدِ بيان النوع، وإذا كان السماعُ معدومًا فهو الدليل على عدم الجواز، ويكون وجهه ما تقدّم، وعند ذلك يظهر أنّ ما قال ابن الناظم غير لازم إذا أُريد تقرير معنى العامل، فقد قُصِدَ الإتيان بلفظ آخر يُقرِّرُ معنى اللفظ الآخر ويؤكّده، فحذفه مع هذا القصد نقض الغرض كما مرّ. وأمَّا ما استدلّ به فلا دليل فيه؛ لأن تلك المصادر لم تأت للتوكيد أصلاً،

وإنما هي مصادر جعلت بدلًا من اللفظ بأفعالها، وعُوّضِت منها، ففائدتها النيابة عن أفعالها وإعطاءُ معانيها، لا تأكيدُها، كيف وهي القائمة مقامها بحيث تُنُوسِيَت الأفعالُ؟ ، فلو كانت مؤكدة لها لكانت مؤكدة لنفسها والشيء لا يؤكد نفسه والدليل على ذلك أن: سقيًا، ورعيًا، وحمدًا، وشكرًا، ونحوها لا قائل بأنها مؤكدّة للجملة المحذوفة من الفعل والفاعل والمفعول، وقد قام الدليل عند المحققين على أنها عِوَضٌ من الجملة لا من الفعل وحده، وسيأتي من ذلك طرفٌ إن شاء الله، فلو كانت مؤكِّدةً لَزِمَ أنْ تكون مؤكِّدَةً للجملة برأسها إن شاء الله، فلو كانت مؤكدةً لزم أن تكون مؤكدة للجملة برأسها، وذلك غير صحيح، أيضًا لو كانت مؤكدة لجاز إظهار الفعل، كما جاز في قولك: ضربتُ زيدًا ضربًا، لكنهم لا يظهرونه في: سقيًا ورعيًا، وشكرًا، ونحوها، فدلَّ ذلك على أنّها ليست بمؤكدة. فإن قال: فأنت تظهر الفعل في قولك: أنت سَيْرًا، وزيدٌ سَيْرًا ونحوهما كما سيأتي. فالجواب ما سيأتي ذكره هنالك إن شاء الله. والجواب عن السؤال الثاني: أنّ للمصدر المؤكد في هذا الباب إطلاقين: أحدهما: أن يُراد به المؤكد لفعله، وهو الذي أراد ههنا. والثاني: أن يُراد به المؤكد للجملة المذكورة قبله، وليس بمؤكد لعامله الذي هو الفعل المقدّر، ومنه "اعترافًا" في: له عليّ ألف درهم اعترافًا، وحقًا في قولهم: أنا قائم حقًّا، فالإطلاقان مختلفان في الاصطلاح؛ ولذلك قال بعد هذا: "ومنه ما يدعونه مؤكدًا لنفسه وغيره" فبيّن أنّهم سمَّوْهُ بذلك تسميةً

مقيَّدة بالنفسِ والغير تخالف ما تقدّم، وإذا تبايَن الإطلاقان لم يدخل أحدهما على الآخر. ثم قال: "وفي سواه لدليل متسع" استعمل (سوى) استعمال المتصرّف، وإن كان مخالفًا لمنع التصرف فيها، لأمرين: أحدهما: ضرورة الشعر، كما قال الأعشى -أنشده سيبويه-: *وما قصدت من أهلها لِسوائِكا* وسوى وسواء واحد، والثاني: أن رأيه فيها جواز التصرف حسب ما نبّه عليه في باب الاستثناء، وضمير "سواه" عائدٌ على عامل المؤكد، وهو على حذف المضاف تقديره: وفي حذف سواه لدليل متسع، ويريد أنَّ ما عدا عامل المصدر المؤكد فليس حذفه بممتنع، بل لك أن تحذفه بشرط أن يكون ثم ما يدلّ عليه، كقولك: سيرًا خفيفًا لمن قالت لك: أيُّ سير سرت؟ وبلى قيامًا طويلًا، لمن قال لك: أما قمت؟ وتقول لمن رأيته قادمًا من الحج: حجًا مبرورًا، أو مقدم من سفر: قدومًا مباركًا، أو تأهب للسفر: سفرًا مباركًا، على تقدير: سرت سيرًا خفيفًا، وقمت قيامًا طويلًا، وحججت حجًا مبرورًا، وقدمت قدومًا مباركًا، وتسافر سفرًا مباركًا. فإن لم يكن ثمَّ ما يدل على المحذوف لم يسُغ الحذف على القاعدة المعلومة. هذا معنى ما أراد على الجملة، ثم يبقى النظر في حكم الحذف، ولم يقع التصريح به في كلامه، فيحتمل قوله: "وفي سواه لدليل متّسع" تفسيرين: أحدهما: أن يكون شاملًا لجميع ما يُحذف كان جائز الحذف أو لازِمَه، واللازم سيأتي ذكره وتمثيله، وكأنه يقول: ما عليه دليلٌ من عوامل المصدر غير المؤكِّد فلا يمتنع حذفه كما امتنع الأول، فنفَى المنعَ بقوله إنَّ في الحذف متَّسعًا، أي ليس كحذف عامل المؤكد، ولا

يعني أنّ الحذف جائز على الإطلاق؛ لأنه قد يكون لازمًا، والقسمة تعطي منعًا وسواه، وسوى المنع يشمل الجواز واللزوم، فاللفظ لفظ التوسعة، والمساق يقضي بغير ذلك، ونظير ذلك مما جاء على لفظ التوسعة والإباحة مع أن المساق لا يُحَتم مقتضى اللفظ قول الله سبحانه: {فمن حجَّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يَطَّوَف بهما} فإن هذه الآية لفظها يقتضي الإباحة، وليس الطواف بهما مباحًا؛ لأنه إنما ذكر رفع الجُناح في مقابلة توهُّمية حين خافوا المنع بسبب ما تقدّم فيهما من أعلام الكفر، فرفع ذلك التوهُّم بقوله: {فلا جُناح عليه أن يطوف بهما} فكذلك هنا أتى بالمتسع لأنه مقابل لما لا متسع فيه. والثاني: أن يريد ظاهر اللفظ من جواز الحذف فقط، كأنه قال: وما سوى ذلك فجائز الحذف ويكون قسمًا برأسه، ويبقى] الكلام في [الحذف] اللازم [يذكره إثر ذلك بقوله: ] والحذف [حَتْمٌ في كذا، والتقدير: وما سوى] ذلك [جائز الحذف، ومنه لازم الحذف ككذا، ثم عدَّد مواضع اللزوم. والتفسير الأول أجرى على تحرير التقسيم. والله أعلم. ثم قال: والحذفُ حَتْمٌ مع آتٍ بَدَلًا ... من فعله كنَدْلًا اللَّذْكانْدُلا هذا هو القسم الثالث ممَّا تحرَّر من كلام الناظم من الأقسام، وهو اللازم الحذف

ويعني أن حذف عامل المصدر حتم، أي: لازم مع مصدر قد أتى في الكلام بدلا من ذلك العامل، دلّ علىذلك قصد العرب، والبدل والمبدل منه لا يجتمعان، وهذا القصد يشتمل على جميع الأنواع التي ذكر فيما بعد، فإن المصادر فيها جعلت بدلًا من اللفظ بالفعل حسب ما نص عليه سيبويه وغيره، إلا أن ما جاء من ذلك في كلام العرب على قسمين: أحدهما: ما لم يكثر حتى يصير قياسًا، بل هو موقوف على السماع كالمصادر المثناه، نحو: حنانيك، ولبيك وسعديك، ودواليك، وهذاذيك، ومثله سبحان الله. ويدخل في هذا المعنى المصادر التي لا أفعال لها. والثاني: ما كثر حتى صار قياسًا، وهو الذي تكلم عليه، وأتى منه بسبعة أنواع: أحدها ما كان معناه الأمر نحو: ندلا الذي معناه أندل، وإشارته به إلى ما أنشده من قول الشاعر: على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلًا زريق المال ندل الثعالب كأنه قال: اندل المال ندلًا، والندل: تناول الشيء باليدين جميعًا، وهو أيضا السرعة في السير، ويقال: ندل يندُل بالضم، ويندِل بالكسر، ومثله: ضربًا زيدًا، وقتلًا عمرًا، وإكرامًا أخاك، وصبرًا عليه، على معنى: اضرب، واقتل، وأكرمواصبر. فهذه نظير مثاله المذكور، وهو ما لا يظهر فيه الفعل كما قال.

ويدخل تحته ما كان في معنى الأمر، وذلك الدعاء، نحو: سُقيًا، ورعيًا، وجدعًا، وعقرًا، وخيبة، وبؤسًا، وجوعًا، وتبًا، وبعدًا، وسحقًا، وتعسًا، تقول: سقيًا لزيد، أي سقاه الله سقيًا، ورعيًا: بمعنى رعاه الله. وكأن هذا النوع مختص بما كان متعديا من الأفعال. فإذا قلت: سيرًا بمعنى: سر سيرًا، أو معنى: سرت سيرًا إذا أريد به الدعاء فلا يلزم إضمار الفعل بل يجوز أن تظهره بخلاف: ضربا زيدًا، وسقيا لزيد، وأشباههما، فإنك لا تقول: اضرب ضربًا زيدًا، ولا سقى الله زيدًا سقيًا له، ولا ما أشبه ذلك؛ ولهذا مثل ابن مالك ب"ندلًا" المتعدي، اللهم إلا أن يكون ثم تكرير فإن الإضمار يلتزم حسب ما يذكره، وقد زعم في الشرح أن مثل هذا عند سيبويه غير مقيس على كثرته، وأنه عند الأخفش والفراء مقيس بشرط أن يكون المصدر مفردا منكرا، نحو: سقيا له، ورعيا، وما أشبه ذلك. ووجه القياس ظاهر لكثرة ما جاء من ذلك في الأمر والدعاء، فلا مانع من أن تقول: أكلا الخبز، وشربا الماء، ولبسًا الثوب، وأن تقول: إطعاما له، وكفاية له، وإجلالا له، وإكبارا وما أشبه ذلك. وأعلم أن في قوله: "بدلا من فعله" ما يدل على أن ما ذكره مما له فعل معهود مستعمل، إذ لو لم يكن كذلك لم يصدق عليه أنه بدل من فعله؛ إذ لا فعل له، وأيضا فإنه مثل بما له فعل مستعمل، فكان الأظهر أنه أرداه، فثبت أن إجراء القياس فيما قال منوط بما كان له فعل مستعمل، فخرج عن ذلك ما كان منها لا فعل له مثل: ويحه وويله وويبه وويسه، وبله فيمن قال:

* بله الأكف ... * بالخفض، ورويد فيمن قال: رويد زيد بالخفض أيضًا، فإنهما هنا مصدران لا فعل لهما، وقد نبه على ذلك في باب أسماء الأفعال، فما كان من هذا القبيل فليس بقياس فلم يعبأ بذكره، وقوله: "اللذ كاندلا" جاء بالذي على لغة من حذف الياء وسكَّن الذال، وقد قدم التنبيه عليها في باب الموصول. والنوع الثاني: ما وقع من المصادر لتفصيل عاقبة طلب أو خبر وذلك قوله: وما لتفصيل كإما منا ... عامله يحذف حيث عنا فالتفصيل معطوف على ما بعد الكاف في قوله: "كندلا اللذ كاندلا"، أي: كهذا. وكالذي لتفصيل، ويجوز أن يكون (ما) مبتدأ خبره قوله: "عامله يحذف" ويعني أن المصدر يحذف عامله أيضا لزوما إذا جاء لتفصيل عاقبة أمر من الأمور التي لعاقبتها تفصيل، ودل على هذا التفصيل الخاص قوله: "كإما منا" فهو تفصيل عاقبة الطلب المتقدم في الآية المشار إليها وهي قوله تعالى: {حتى إذا أثخنتوهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} تقديره: فإما تمنون منا وإما تفادون فداء، إلا أنهم حذفوا الفعل وعوضوا المصدر عنه؛ فلا يجتمعان معا. وقد يكون ذلك في الخبر فتقول: لأجتهدن فإما بلوغًا وإما موتًا، وأنا أطلب، فإما قبولا وإما ردًا، وفلان يسعى فنيل مراد أو خيبة، وما أشبه ذلك. وهذا

التفسير بناء على رأيه في التسهيل أنه تفصيل لعاقبة الأمر، وإلا فكلامه هنا محتمل لذلك ولغيره، فإذا جعلت المثال قيدًا جاء منه ما قال في التسهيل، وإذا لم تجعله قيدًا دخل فيه ذلك وغيره، كمثال سيبويه: ألم تعلم يا فلان مَسيري فإتعابًا وطردًا؛ لأنه أجمل ذلك المسير أولا وفصله ثانيا، وأنشد سيبويهِ لجرير: ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا ويقال: عن الشيء عنونا وعننا إذا ظهر أمامك وعرض لك، ومنه قول امرئ القيس: *فعن لنا سرب كأن نعاجه* أي: عامله يحذف حيث وجد أو حيث كان، أو حيث ظهر. وفاعل عن عائد على المصدر المذكور، لا على العامل. والنوع الثالث والرابع: المصدر المكرر، والمصدر المحصور، وذلك ما قال: كذا مكرر وذو حصر ورد ... نائب فعل لاسم عين استند أما المصدر المكرر فهو الذي ذكر مرتين فلم يقتصر على الإتيان به مَرَّة واحدة،

ثم يحتمل أن يكون أراد تقييده بقوله: "لاسم عين استند"، فيريد أن المكرر يلزم إضمار ناصبه حيث وقع مستندا لاسم عين. وهذا هو الذي نصَّ عليه في التسهيل بقوله: "أو نائبا عن خبر اسم عين بتكرير أو حُصر" فيكون قوله: "لاسم عين استند" في موضع الصفة لفعل، وقوله: "نائب فعل" حالًا من المكرر وذي الحصر معًا، وأفرده وكان حقه أن يقول نائبي فعل لكن اعتبر جنس المصدر، ولم يعتبر ما ذكر من نوعية أو على اعتبار معنى ما ذكر كما قال: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق فكأنه قال ويلزم إضمار عامل المصدر إذا وقع ذلك العامل خبرا عن اسم عين وكان المصدر مكررا في الذكر، ومثال ذلك: زيد سيرا سيرا، وأنت سيرا سيرا، وإن زيدًا سيرا سيرا، وليت زيدا سيرا سيرا. وكذلك تقول في كأن، ولكن، ولعل، وكان، وما أشبه ذلك. ومن أمثلة سيبويه: كان عبد الله الدهر سيرا سيرا، وأنت منذ اليوم سيرا سيرا، وكأنه إنما قيده بالتكرار تحرزا من قولك: سيرا، فإنه لا يلزم إضمار عامله؛ لأن العرب جعلت تكراره عوضا من إظهار العامل، فكان الإتيان به جمعا بين العوض والمعوض عنه. وقيده بكون عامله خبرا عن اسم عين، لأن النصب هنالك أبين؛ إذ الرفع إنما يصلح على التأويل، لأنه لا يخبر عن العين بالمعنى في محصول الكلام إلا على مجاز كقول الخنساء -أنشده سيبويه-:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار وأيضا إن المعنى على الإخبار بالعمل المتصل في الحال، ولم ترد أن تجعل الآخر هو الأول، وإن كان مجازا بل قصدت حين قلت: أنا سيرا سيرا أنك في حال سير كثير، وعمل متصل، بخلاف قولك: سيرك سير حسن، فإن الآخر فيه هو الأول كـ"زيد أخوك"، فلا داعية إلى النصب. على هذا المعنى تقول: زيد سير، قال سيبويه: "واعلم أن السير إذا كنت تخبر عنه في هذا الباب فإنما تخبر بسير متصل بعضه ببعض في أي الأحوال كان". قال: "وأما قولك: أنت سير فإنما جعلته خبرا لأنت، ولم تضمر فعلا" ويريد أن ذلك مجاز، وهذا التفسير هو الأظهر إلا أنه معترض من وجهين: أحدهما: أنه كان حقه إذا أن نقول: نائبي فعل حين كان يرجع إلى المكرر والمحصور، وقد تقدم الجواب عنه. والثاني: أن عامل المكرر إذا كان خبرا لاسم معنى فلا يقع المصدر نائبا عنه، أو لا يلزم حذفه. وهذا على فرض جريان القياس في هذا الباب مشكل؛ فإنه يقتضي منع قولك: أملك نقصا نقصا، بمعنى أنه في حال نقص متصل، وحرصك ذهابا ذهابا، وشغلك زيادة زيادة، وما أشبه ذلك، وهو غير ممتنع؛ لأنه موازن لقولك: أنت سيرا سيرا، والتقدير: أنت تسير سيرا، فكذلك التقدير هنا: أملك ينقص نقصا، وحرصك يذهب ذهابا، وشغلك يزيد زيادة ومعنى الجميع اتصال العمل وكثرته في الحال، فلا يستقيم

مع القول بالقياس منع مثل هذا. والجواب عن ذلك: أن يقال لعل الناظم اقتصر على القياس في محل السماع، ولم يأت هذا النوع إلا في الإخبار عن العين، وكثير من هذه المصادر جاءت سماعا، فكأنما تحرى القياس [حيث] كثر في كلام العرب مثله وامتنع منه حيث عدم السماع أو ندر، ويحتمل كلامه في المكرر تفسيرا آخر، وهو أن يكون قوله: "كذا مكرر" جملة تامة لم يتقيد مصدرها إلا بالتكرار، وأما كون ذلك المصدر مستندا لاسم عين فغير لازم، فكأنه يقول: يلزم أيضا حذف عامل المصدر إذا كان مكررا، ويدل على هذا الوجه إفراده (نائب فعل) ولم يقل نائبي فعل؛ لأنه راجع إلى أقرب مذكور، وهو المحصور فيشمل إذا ما تقدم ذكره في التفسير الأول، ويشمل أيضا المصادر التي تجيء مثناة في الأمر، كقولهم: الحذر الحذر، والنجاء النجاء، وضربا ضربا، والقتال القتال، وسيرا سيرا، وكذلك تقول: اللهم غفرانا غفرانا وما أشبه ذلك، وفي كلام سيبويه ما يدل على صحة هذا، وأن التكرار كالعوض من إظهار الفعل حيث قال: "ولو قلت رأسك أو نفسك أو الجدار كان إظهار الفعل جائزا". ونص السيرافي على صحة ذلك، وأنك إذا أثنيت هذه الأشياء لم تذكر الفعل معها، وإذا وحدتها حسن ذكر الفعل، لو قلت: الليل الليل، لم يحسن أن تقول: بادر الليل الليل، وإذا قلت: الليل، حسن أن تقول: بادر الليل، قال: وكذلك الاسمان المعطوف أحدهما على الآخر لا يذكر الفعل قبلهما، ولو أفردت أحدهما لحسن ذكره، لو قلت: اتق رأسك، واتق الجدار جاز، وقد قبح التكرار فكأنهم شبهوا الأول

من اللفظين بالفعل فأغني عنه، وصار بمنزلة: إياك، النائب عن الفعل كما كانت المصادر كذلك كـ: الحذر، ونحوه، وقد زعم ابن خروف أن المُراعى في لزوم الإضمار كثرة الاستعمال سواء أكرر أم لم يكرر، قال ابن الضائع: والسيرافي أضبط في مثل هذا، فإذا ثبت هذا اقتضى قيد التكرار أن المصدر إن لم يتكرر لم يلزم إضمار فعله، فتقول: الحذر يا زيد، وإن شئت أظهرت فقلت: احذر الحذر، وتقول: سير البريد على تقدير: سر سير البريد، وإن شئت أظهرته. واقتضى عدم اشتراط إسناد العامل إلى اسم عين أن يجوز نحو: أملك نقصا نقصا، وحرصك زيادة زيادة، على لزوم إضمار العامل، ووجهه أن جريان القياس هنا لا مانع منه بعد تسليم القياس في نحو: أنت سيرا سيرا؛ إذ العلة في الجواز ليست إسناده إلى اسم عين، بل قصد الإخبار بالعمل المتصل الحالي كما قال سيبويه وغيره، وهو موجود في الأمثلة المذكورة، فكأن الناظم على هذا التفسير يقول: إذا تكرر المصدر المنصوب فذلك التكرار مانع من إظهار ناصب. وهي طريقة تفسير كلامه جارية، إلا أن في ذلك نظرا من وجهين: الأول: أنه يقتضي أنه إذا لم يتكرر لم يلزم إضمار عامله وإن استند إلى اسم عين نحو: أنت سير البريد، وزيد شُرْب الإبل، وزيد سيرا، وما أشبه ذلك، فتقول: إن شئت: زيد يسير سير البريد، وزيد يسير سيرا، وهذا هو الذي نص عليه في الشرح إذ قال: "ولو عُدِم الحصر والتكرار، لم يلزم الإضمار، بل يكون جائزا هو والإظهار" وهذا قد يسلم مع المصدر المبين وأما مع المؤكد فقد قال قبل: *وحذف عامل المؤكد امتنع*

وإذا قلت: أنت سيرا، فأجهزت إظهار الفعل وعدم إظهاره فهو إقرار بجواز حذف عامل المؤكد فكان كلامه متناقضا، أعني مفهوم هذا الموضع مع منطوق ما تقدَّم. والثاني: أن اشتراط التكرار في نحو: أنت سير البريد، وزيد سيرا، لم أره منصوصا لسيبويه، ولا لغيره، بل يطلقون القول بلزوم الإضمار من غير إعلام بلزوم التكرار، وإنما غاية ما عندهم في ذلك أن تمثيلهم يغلب عليه ذلك، ولكن ليس عدم التكرار بمهجور بل قد مثلوا بعدم التكرار مع الاستفهام نحو قولهم: أنت سيرًا؟ ولا فرق في هذا بين الاستفهام والخبر، فالحاصل أن هذا الشرط بالنسبة إلى ما يكون خبرا عن اسم عين غير محرر ولا مسلم. والجواب عن الأول: أنه لا تناقض في كلامه بل إن ثبت اشتراط التكرار فعدمه مجوز لإظهار العامل لكن في المصدر المبين، وهو الذي يجوز حذف عامله عنده، وأما المؤكد فلا يدخل لأنه مستثنى بنصه قبل، فعلى هذا تقول: أنت سير الأحمق، وأنت السير، وأنت سيرتين، وأنت سيرا شديدا، وإن شئت أظهرت فقلت: أنت تسير سير الأحمق، وأنت تسير السير، وأنت تسير سيرتين، وأنت تسير سيرا شديدا، وتقول في المؤكد: أنت تسير سيرا فتظهر لا غير، وغاية ما في كلامه هنا أن غير المكرر لا يلزم إضماره، فيبقى المفهوم بالنسبة إلى المبين جاريا على معنى عدم اللزوم، وهو الجواز بالنسبة إلى المؤكد معطلا بما تقدم فيه. وأما الثاني فيظهر وروده؛ لأن علة لزوم الإضمار في هذا النوع إنما هي قصد الإخبار بالعمل المتصل [في] الحال، وذلك يكون مقصودا مع التكرار

وعدمه بدليل وجود ذلك مع الاستفهام حسب ما نصوا عليه. ويمكن أن يعتذر عنه بأن التكرار يلزم معه قصد الإخبار بالعمل المتصل الذي هو علة لزوم الإضمار بخلاف ما إذا لم يكن تكرار، فإنه قد يُقصد وقد لا يُقصد، فإذا قُصد لزم الإضمار، وإذا لم يقصد لم يلزم، فإذا قد حصل مع عدم التكرار جواز الإظهار على الجملة، أعني من غير نظر إلى تفصيل القصدين، ولا نكر في ذلك فقد يطلقون القول بجواز أمرين في المسألة، وذلك بحسب قصدين لا يدخل أحدهما على الآخر، وعلى هذا يتعين في كلامه التفسير الثاني من التفسيرين المتقدمين من أن قوله: "كذا مكرر"، غير مقيد بما بعده من قوله: "نائب فعل" إلى آخره؛ إذ لا يجوز فيه الإظهار إذا كان نائبا عن الفعل كان مكررا أو غير مكرر، وأيضا فقيد النيابة بالنسبة إلى المكرر لا يحتاج إليه؛ إذ ليس فيه غير النيابة، وهو محتاج إليه بالنسبة إلى المحصور حسب ما يذكر بحول الله. وقد تم الكلام على المكرر. وأما المحصور فقال فيه: "وذو حصر" أي كذا ذو حصر، يعني أنه يلزم إضمار عامله إذا قُرِن بأداة حصر، نحو: إنما أنت سيرا، وما أنت إلا سيرا لكن بشرطين: أحدهما: أن يكون نائبا عن فعله، وإنما يظهر ذلك بقصد القاصد، والقصد في ذلك أن يؤتى به على معنى الإخبار بالعمل المتصل في الحال لا أن يخبر بعمل قد كان أو سيكون، فلو لم يقصد النيابة، وذلك بأن يراد الإخبار عن عمل قد مضى أو سيأتي بعد فلا يلزم الإضمار فتقول: إنما أنت شرب الإبل، وما أنت إلا سير البريد، وإن شئت أظهرت فقلت: إنما أنت تسير سير البريد، وإنما أنت تشرب شرب الإبل، ويبقى قولك: إنما أنت سيرا بمقتضى كلامه أولا غير جائز، لأنه مصدر مؤكد، ولا يحذف عامل المؤكد بل يلزم إظهاره، فنقول: إنما أنت تسير سيراً.

والشرط الثاني: أن يكون ذلك العامل مستندا لاسم عين نحو: إنما زيد سيرا، فلو استند لاسم معنى نحو: إنما سيرك سير حسن، وما سيرك إلا سير حسن لارتفع كما تقدم في: سيرك سير حسن، وكذلك يقتضي ألا يقال: إنما حرصك زيادة، وإنما أملك نقصا، وما أملك إلا نقصا، وقد تقدم الكلام فيه. فإن قيل: إن قوله: "نائب فاعل" لا فائدة له هنا لأنه قد ذكر ذلك في أول هذا الفصل حيث قال: "والحذف حتم مع آت بدلا من فعله" ثم أتى بالأنواع، فقد تقرر أنه بدل من فعله، فتكرار ذلك هنا غير محتاج إليه، وأيضا فقوله قبل هذا: "عامله يحذف حيث عنا" لا يحتاج إليه، إذ قد فرضه نوعا من أنواع المصدر النائب عن فعله، فعلى فرض النيابة تكلم. فالجواب: أن قوله: "نائب فعل" احترز به من ألا يكون نائبا، فإنه إن لم يكن نائبا جاز ظهور الفعل، نحو: ما أنت إلا تسير سير البريد، كما مر. فإن قيل: هذا المعنى بعينه قد استفيد من قوله أولا: "والحذف حتم مع آت بدلا من فعله" فإن مفهومه أنه إن لم يأت بدلا من فعله لم يلزم الحذف، فتكرار ذلك هنا تكرار. قيل: ليس كذلك بل إنما كرره لحاجة اقتضت ذلك، هي أنه قال قبل: وما لتفصيل كإمامنا ... عامله يحذف حيث عنا فنص على أن العامل هنا يحذف مطلقا، وليس ذا وجهين بل المصدر هنا نائب أبدا فكان قوله: "يحذف حيث عنا" بيانا لذلك، إذ لو سكت فلم يبين أنه

يحذف في كل موضع لتوهم أن له وجهين في الكلام: وجها يلزم فيه الحذف، وذلك إذا أتى المصدر بدلا من فعله، ووجها لا يلزم فيه ذلك، وهو إذ لم يأت بدلا من فعله حسب ما فهم من قوله: "والحذف حتم" إلى آخره. وهذا الفهم غير صحيح في نحو: "فإمامنا" فخلص الحكم فيه بقوله: "عامله يحذف حيث عنا" فليس بحشو، ثم لما قدم هذا وأردفه بقوله: "كذا مكرر وذو حصر" خاف أن يفهم في المحصور أن الحذف يلزم عامله أيضا كما لزم في المكرر في جميع الاستعمالات فقيَّده بالنيابة بقوله: *كذا مكرر وذو حصر ورد نائب فعل ... * أي إنما يلزم حذف عامله إذا ناب عنه لا إذا لم ينب عنه كما تقدم فلا حشو في كلامه. وقوله: "نائب فعل" حال من فاعل ورد المستتر، وهو عائد على ذي الحصر وحده، لا على المكرر والمحصور معا؛ لأن المكرر ليس له استعمالان من النيابة وعدمها، بل هو نائب مطلقا، فالحذف لازم معه مطلقا كالمصدر الذي في قوله: "فإما منا" بعد قوله: "كذا مكرر" يريد أن عامله أيضا يحذف حيث عنَّ، بخلاف الحصر فإنه ذو وجهين، فتقول على قصد النيابة: إنما أنت سيرا خاصة، ويجوز على القصد الآخر أن تقول: زيد يسير سيرا سيرا، وكذل في الحصر إذا كررت فقلت: إنما أنت سير البريد سير البريد، لاتقول: إنما أنت تسير سير البريد سير البريد، وبهذا يتضح صحة التفسير الثاني في كلام الناظم/ المتقدم الذكر.

وقوله: "لاسم عين" متعلق باستند واستند مطاوع لأسندته على غير قياس، والإسناد هنا بمعنى الإخبار، كأنه قال: نائب فعل صار خبرا الاسم عين، واسم العين عند النحاة: الاسم الواقع على معاين البصر، وهي الجثة؛ ولذلك يقسمون الأسماء لاسم عين، واسم معنى، وأسماء المعاني: هي الأفعال والأعراض والصفات القائمة بالذوات والجثث. والنوع الخامس: المصدر المؤكد لنفسه، والمصدر المؤكد لغيره، وهو الذي قال فيه الناظم: ومنه ما يدعونه مؤكدا ... لنفسه أو غيره فالمبتدأ نحو: له على ألف عرفا ... والثان كابني أنت حقا صرفا الضمير في (منه) عائد إلى المصدر اللازم حذف عامله، يريد: ومن المصدر المذكور المصدر المسمى مؤكدا، فيدعونه بمعنى يسمونه، تقول: دعوت ولدي زيدا، أي سميته زيدا، وهذا المصدر المؤكد ليس المؤكد لعامله؛ لأن ذلك لا يجوز معه حذف العامل كما مر، وإنما هو مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة عليه، لكنه على ضربين: أحدهما يسمى مؤكدا لنفسه، والآخر يسمى مؤكدا لغيره، والضمير المرفوع [في] يسمونه عائد على النحويين، وأصل ذلك لسيبويه قال: في الأول: "هذا باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا"، وقال في الثاني حين بوب عليه: "هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله"، وهو معنى مؤكد لغيره، وجرى على هذا الاصطلاح كثير، قال المؤلف في الشرح حين بين الفرق بينهما: "إن مضمون الجملة قبله

إن كان لا يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر سمي مؤكدا لنفسه؛ لأنه بمنزلة تكرير الجملة، فكأنه نفس الجملة، وكأن الجملة نفسه، نحو قولك: له على ألف درهم عرفا أو اعترافا -فإن قولك: "له عليَّ ألف درهم" اعتراف ثابت لا يتطرق إليه احتمال يرتفع بقولك عرفا أو اعترافا- وإن كان مضمون الجملة يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر فتصير الجملة به نصا سمي مؤكدا لغيره؛ لأنه ليس بمنزلة تكرير الجملة، فهو غيرها لفظا ومعنى" وهو قولك: هو ابني حقا. وهذه التفرقة للسيرافي مع زيادة بسط، وقد يسمى أيضا الأول التوكيد الخاص، والثاني التوكيد العام، ومعنى الخصوصية في الأول أن قوله "اعترافا" مقصور على قوله: له عليَّ كذا، وخاص به. وأما حقا فليس بخاص بتلك الجملة بعينها، بل يكون توكيدا لها، فتقول: هو ابني حقا، ولغيرها نحو: أبوك منطلق حقا، وزيد قائم، ومات زيد، وأبوك سائر، وغير ذلك من الأخبار، فيحق أن يسمى التوكيد العام، والأول خاصا، ثم أتى بتمثيل لكل واحد منهما، فقال: "فالمبتدأ نحو له عليَّ ألف عرفا" يعني بالمبتدأ المبدوءَ به أولا، وهو المصدر المؤكد لنفسه، ومثَّل بمثال من أمثلة الكتاب، فعرفا بمعنى اعترافا، ولكونه مسموعا أتى به، وإلا فقد قال الجوهري إنه اسم مصدر للاعتراف، فصار كالسلام من سلَّم، والكلام من كلَّم، والجاري على اعترف الاعتراف، وقد يقال: إنه جار على عرف بمعنى اعترف، فالعرب تقول: ما أعرف لأحد يصرعني، أي ما أعترف له، فكأنه لما قال: له عليّ ألفٌ قال

أعرف له عرفا، ومن أمثلة هذا النوع قول الله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله} فصنع الله توكيد لنفسه لأنه لما قال: {وترى الجبال تحسبها جامدة} علم منه أن ذلك صنع الله، فأكد قوله: "صنع الله" وكذلك عند سيبويه: {الذي أحسن كل شيء خلقه} فخلقه توكيد لمعنى "أحسن كل شيء"، إذ كان يعطي معنى الخلق، قال سيبويه: "ولكنه سبحانه وكَّد وثبت للعباد". وكذلك قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} إلى آخرها ثم قال: {كتاب الله عليكم} لأن المخاطبين يعلمون منها أن ذلك مكتوب مثبت عليهم، وقوله: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} إلى قوله: {وعد الله لا يخلف الله وعده}؛ لأن قوله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون ... ويومئذ يفرح المؤمنون} وعد من الله كريم، وكذلك قوله: {صبغة الله} بعد قوله: {قولوا آمنا بالله} وقالت العرب: الله أكبر دعوة الحق، وأنشد في الكتاب للأحوص:

إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إليك مع الصدود لأميل وأنشد أيضا لرؤبة بن العجاج: إن نزارًا أصبحت نزارًا ... دعوة أبرارٍ دعوا أبرارًا وهو كثير. ثم قال: "والثان كابني أنت حقا صرفا" حذف الياء من الثاني للشعر. وهذا مثال المصدر المؤكد لغيره، وهو الذي قال فيه: "لنفسه وغيره" وحقا صرفا صالحان لتوكيد ما قبلهما على الإفراد فكأنهما مثالان في مثال واحد، فتقول: أنت ابني حقا، وأنت ابني صرفا، والصرف: الخالص من كل شيء، الذي لم يمتزج ولا اختلط بغيره. ومن أمثلة ذلك: هذا زيد علما، وأنت عبد الله حقا، وهذا زيد غير ما تقول، وهذا القول لا قولك، وما أشبه ذلك. وجميع هذا يلزم إضمار عامله؛ لأن الجملة قبله تعطي معناه، فامتنع إظهاره، ولكنه مع ذلك منصوب بالفعل المقدر كما تقدم قبل. والنوع السابع: المصدر المشبه به الواقع على إثر جملة، وذلك قوله: كذاك ذو التشبيه بعد جملة ... كلي بكا بكاء ذات عضله يعني أن مثل ما تقدم من المصادر في لزوم حذف العامل المصدر ذو التشبيه،

وذلك المصدر المشبه به إذا كان على الصفة التي ذكر، وذلك أن المصدر المشبه على وجهين: أحدهما: أن يكون قبله فعله الذي من لفظه نحو: ضربته ضرب الأمير اللص، ودققته دقك بالمنحاز حب الفلفل، وصوَّت زيد صوت الحمار وبكى بكاء الحزين، وما أشبه ذلك. فهذا لا إشكال في أن ناصبه فعله. وقد مضى ذلك. والثاني: ألا يذكر الفعل قبله ولا مرادفه، وإنما يذكر قبله جملة تؤدي معنى الفعل، وهو الذي أخذ في ذكره، وأن عامله ملتزم الإضمار، فلا يجوز إظهاره، واشترط هذا الحكم شرطين: أحدهما: أن يكون المصدر واقعا بعد جملة تامة، تحرزا من أن يقع بعد مفرد؛ فإنه إن وقع بعد المفرد لم ينتصب فضلا عن أن يظهر فعله أو يضمر، فتقول: صوت زيد صوت حمار، وقيامه قيام السارية، ونومه نوم الفهد، وما أشبه ذلك؛ لأن المفرد قبله مبتدأ لابد له من خبر، فلابد أن يكون المصدر المشار إليه هو الخبر، فيرتفع، قال سيبويه بعد ما مثَّل: "لأن هذا ابتداء فالذي بنى على الابتداء بمنزلة الابتداء ألا ترى أنك تقول: زيد أخوك، فارتفاعه

كارتفاع زيد أبدا" قال: "فلما ابتدأه وكان محتاجا إلى ما بعده لم يجعل بدلا من اللفظ بيصوِّت -يعني صوت الحمار- وصار كالأسماء" ثم أنشد لمزاحم العقيلي: وجدي به وجد المضل بعيره ... بنخلة لم تعطف عليه العواطف ومثل ذلك: مررت به فصوَّت صوت حمار، فإن قلت: مررت به فإذا صوته صوت حمار، فلك فيه وجهان: فإن شئت جعلت ما بعد إذا مفردا على ظاهره، فلا بد من رفع (صوت الحمار) كما تقدَّم، وإن شئت عاملته معاملة الجملة فقدرت له خبرا كأنه قال: فإذا صوته حاضر أو موجود فيكون (صوت حمار) واقعا بعد حملة، فينتصب على إضمار الفعل اللازم الإضمار، فتقول: مررت به فإذا صوته صوت حمار أو صوت الحمار. والثاني من الشرطين: أن تكون الجملة مثل هذه الجملة الممثل بها في كون الفعل الموافق للمصدر غير مذكور فيها فإن قوله: "لي بُكًا بكاء ذات عُضْلة" لا فعل فيه جاريا عليه المصدر ولا غير جار، فلو كان ثم فعل لكان هو العامل، فلم يكن من هذا النوع، وقد تقدَّم، وكذلك لو لم يوجد فيها فعله الذي من لفظه لكن وجد مرادفه نحو: ذهبت انطلاق زيد، ومنه قول رؤبة أنشده سيبويه: لوحها من بعد بدن وسنق ... تضميرك لسابق يطوي للسبق وما أشبه ذلك، وعند هذا يظهر أن قولك: هو يصوت صوت الحمار، ولوَّحها

تضميرك السابق ليس على إضمار الفعل، وقد تقدم ذكر ذلك في قوله: "وقد ينوب عنه ما عليه دل" وإذا تبين أن الأرجح في قولك: ذهبت انطلاق زيد أن يكون العامل هو الفعل الظاهر، فأن يكون هو العامل في يصوت صوت حمار أحق وأولى، وقد أجاز سيبويه أن يكون صوت حمار على إضمار فعل آخر، وهو كما ترى خلاف قاعدته في كتابة: أن الواجب الحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، ألا ترى أنه حمل سيدا على أن عينه ياء وإن أمكن أن يكون من ساد يسود، فقال في تحقيره: سُيَيْد، كديك ودُييك، وبهذا استدل ابن جني على قوة أمر الظاهر عندهم فعقده أصلا يرجع إليه، فكذلك ينبغي في هذا. أما المرادف فالعذر فيه لمن قدَّر عاملا آخر أوضح، ولكن قد مر وجه ما رآه الناظم. وإذا تقرر هذا بقى النظر في تمثيله هل أشار به إلى شرط آخر سوى ما ذُكر آنفا أم لا؟ وذلك أن قوله: "لي بكا بكاء ذات عضلة" يؤخذ على وجهين: أحدهما: كونها جملة اسمية، واشتملت على فعل وفاعل مذكورين، أو على فعل مذكور وفاعل مدلول عليه بالجملة. والثاني: كونها جملة تدل عليهما من جهة المعنى خاصة، وسواء أكان فيهما لفظ لهما أو لأحدهما أم لا، ولك فيها مأخذ ثالث، وهو كونها جملة اسمية قد ذُكر فيها الفعل والفاعل باللفظ، فالفاعل في المثال ضمير المتكلم، والفعل البكاء، فيكون قد اقتصر على صورة المثال خاصة؛ فإن أراد الأول شمل مثاله مع الشرط المتقدم شرطين أحدهما: أن تكون الجملة اسمية، فإن كانت فعليةً لم

تدخل هنا كقولهم: تبسمت وميض البرق؛ إما لأن العامل هو الفعل الظاهر؛ إذ قوله تبسمت يؤدي معنى ومضت، فيجري مجرى قوله: * ... وآلت حفلة لم تحلل* وإما لأن مثل هذا ليس في جريان القياس كمسألتنا، بل هو قليل الاستعمال؛ لأنه من بابا الحمل على المعنى، والحمل على المعنى دون اللفظ موقوف في الأصل لعلى السماع، فإن كثر كثرة توجب القياس قيل به في محله، وإنما كثر حيث تكون الجملة اسمية لا فعلية. وهذا الوجه أولى من الأول ليتفق كلامه هنا مع ما تقدم في قوله: "وقد ينوب عنه ما عليه دل". ومن مثل الجملة الفعلية ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: إذا رأتني سقطت أبصارها ... دأب بكار شايحت بكارها فقوله: "سقطت أبصارها" يؤدي معنى تدأب في السير، وكذلك ما أنشده قول أبي كبير الهذلي: ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طَيَّ المحمل فمعنى ما إن يمس الأرض إلا كذا أنه قد طوى فكان هذا كله على إضمار فعل لا يظهر ولكنه سماع. والشرط الثاني: أن يكون الفعل مذكور في اللفظ، فإن لم يكن مذكورًا

لم يدخل، والفعل المراد هنا هو العلاج والعمل لا اسم الفعل الذي معناه الجنس، فإن قوله: "لي بكا" المراد فيه بالبكاء ما يراد قوله: أنا أبكي لا اسم جنس البكاء، فإذا أريد به اسم جنس البكاء الذي لا يعطي العلاج لم يدخل هنا، كقولهم: له علمٌ علمُ الفقهاء، وله رأيٌ رأيُ الأصلاء، وله حسنٌ حسنُ الشمس، وله ذكاءٌ ذكاءٌ الفطناء، وما أشبه ذلك، فإن مثل هذا لا يعطي معنى الفعل؛ إذ كان قولك: "له علم" يعطي أنه اتصف بمعنى العلم لا أنه يعالج التعلم كما كان "لي بكا" يعطي علاج البكاء واستعماله، فإذا اجتمع الشرطان انتصب المصدر بفعل لا يظهر، فدخل له نوعان من المصدر المشبه به. أحدهما: الموازن للمثال، ومنه: ممرت به فإذا له صوتٌ صوتُ الحمار، ومررت به فإذا به له صراخٌ صراخُ ثكلى، ومررت به وله دفعٌ دفعك الضعيف، ومررت به فإذ له دقٌ دقك بالمنخار حب الفلفل، وأنشد سيبويه للنابغة الذيباني: مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريفٌ صريفُ القعو بالمسد وأنشد أيضا للنابغة الجعدي يصف طعنة: لها بعد إسناد الكليم وهدئه ... ورنة من يبكي إذا كان باكياً

هديرٌ هديرُ الثور ينفض رأسه ... يذب بروقيه الكلاب الضواريا قال سيبويه: "فإنما انتصب هذا لأنك مررت في حال تصويب، ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأول، ولا بدلا منه، ولكنك لما قلت: له صوت علم أنه كان قد تم عمل، فصار قولك له صوت بمنزلة قولك: فإذا هو يصوت، فحملت الثاني يعني -صوت حمار- على المعنى". والثاني: ما شارك المثال في احتواء الجملة على ذكر الفعل، وإن لم يذكر الفاعل، فكأن ذكر الفاعل في المثال غير مقصود في الاشتراط، فيدخل نحو: فيها صوتٌ صوتَ الحمار، وفيها نوحٌ نوحَ حمام، وفيها صراخٌ صراخَ الثكلى، وأنشد سيبويه عن يونس لروبة بن العجاج: *فيها ازدهافٌ أيما ازدهاف* ينصب أيما، وهذا وإن لم يكن مصدر تشبيه فهو مثله في الحكم، ولا يضرنا كون النصب في هذا الموضع قليلا بخلاف الأول؛ إذ المقصود ذكر النصب على المصدر كيف يكون، وكونه قليلا أو كثيرا شيء آخر لم يتعرض إليه الناظم، لأن هذا المصدر المشبه به في هذه المسائل له في النصب والرفع حكم مختلف، فتارة يقوي النصب، وتارة يضعف بحسب ما يقتضيه الكلام، وليس النظر في ذلك من مسائل هذا النظم، وإنما النظر فيما ينتصب على أي وجه ينتصب، وما حكم عامله من الحذف أو الإظهار. والله أعلم.

وإن أراد الوجه الثاني دخل له بمقتضى المثال النوعان المذكوران المختصان بالجملة الاسمية، ودخل له أيضا ما كان من نحو: تبسمت وميض البرق، ونحو: *إذا رأتني سقطت أبصراها دأب ... * وما أشبه ذلك. وعلى هذه الطريقة يكون هذا النوع عنده من قبيل ما يقاس وإن قلَّ؛ لأنه راجعٌ إلى ما يفهم من الجملة من معنى فعل آخر، فينتصب المصدر من ذلك المعنى كما قيل في وصف النفوس الآبية عن الانقياد إلى أحكام الله سبحانه: "هذا وإن شمس آبقها، أو لبس بغير تلك اللبسة منافقها، فلم تزل عاكفة على باب منته حقائقها، بملازمة التسبيح والخضوع والسجود، رجوعا يقتضيه فقر العبيد إلى غنى المعبود، ويجليه نقض العزائم وحل العقود" فقوله: رجوعا مصدر يلزم إضمار عامله؛ لأن قوله: فلم تزل عاكفة إلى آخره يؤدي معنى أنها راجعة إليه، يعني إلى الله تعالى مصرفة تحت حكمه؛ ولذلك يجوز لك أن تقول: بوأت زيدا أرفع المجالس إكرام من يعرف قدره، ومررت به فلم يلتفت إلى إعراض العدو عن العدو، وما أشبه ذلك، فقد يقال بالقياس في مثل هذا، وإن قل في الكلام استعماله كما دخل له: فيها صوتٌ صوتَ حمار، وإن كان قليل الاستعمال. وإن أراد الوجه الثالث كان قد اقتصر من ذلك كله على ما يماثل المثال، وهو النوع الأول نحو: له صوتٌ صوتَ حمار، ويبقى ما عداه مقصود الخروج؛ إذ كان المثال يتضمن شرطين: أحدهما: كون الجملة اسمية. والثاني: كونها اشتملت على الفعل والفاعل معا في الذكر، ويكون إخراجه لما سوى ذلك إما لكونه لم يبلغ عنده مبلغ القياس، وإما لأنه مقصوده بيان أنواع يكثر استعمالها لزم فيها حذف الفاعل؛ إذ لم يقصد حصر جميع

الأنواع المدَّعى فيها القياس كما سيذكر، وإنما أتى بأمثلة وأنواع من ذلك ليلحق بها ما سواها. والله أعلم. والبكا والبكاء [لغتان] ليست إحداهما من الأخرى، لأنه بينهما اختلافا ما؛ إذ زعم الخليل أن البكاء بالمد ما كان معه صوت، والبكا بالقصر ما لم يكن معه صوت، وإنما هو بمنزلة الحزن حكلا ذلك عنه النحاس في كافيه، فكان من حق الناظم أن يأتي بأحدهما مكررا كأن يقول: لي بكاءٌ بكاءُ ذات عضلة؛ لاختلاف معنى اللفظين فإن ما أتى به يماثل قولك: لي بكا صراخ ذات عضلة، وليس هذا مما يوضع في هذه الأمثلة. وقال الجوهري: البكا يمد ويقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون من البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: بكت عيني وحق لها بكاها ... ولا يغني البكاء ولا العويل فهذا كله عضد الاعتراض على مثال الناظم. والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن يقال: لعله أتى بهما بناء على أنهما بمعنى واحد لنقل وجده عن

أحد من أهل اللغة، أو لأن المعنيين متقاربان كالمعنى الواحد. والثاني: أن يكون البكا قصر البكاء ضرورة، لأنه أتى بالمقصور في الأصل، فإن الناظم يضطر إلى مثل هذا كثيرا. والثالث: أن يكون قصد الإتيان باللغتين على اعتقاد اختلاف المعنيين بناء على أنه أراد بالمثال إدخال الأنواع الثلاثة المذكورة في الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة فأتى بالمثال من النوع الذي لم يذكر فيه الفعل في الجملة إلا من جهة معنى الجملة كقوله: "سقطت أبصارها دأب بكار" فدخل النوعان الآخران من باب الأولى. وإذا أمكن هذا كله لم يكن في كلامه اعتراض. وهنا مسألة، وهي أنه قال: "والحذف حتم مع آت بدلا من فعله" ككذا أتى بسبعة الأنواع كالتمثيل لكل ما أتى من المصادر بدلا من فعله، وعلى هذا المساق فلم يقتصر على ما ذكر حصرا للمقيس منها فاحتمل أن يكون منبها على أنواع أخر يمكن فيها ادعاء القياس، واحتمل أن يكون ما ذكر منها؛ لأنها التي اشتهرت عنده، واتضح فيها جريان القياس، فإن أراد الأولى فقد ترك أنواعا: منها المصدر الوارد في خبر غير إنشائي نحو: حمدًا وشكرًا، أو عجبا وقسما لأفعلن كذا، ومنها الوارد في خبر غير إنشائي نحو: نَعْم ونِعمة عين ونَعَام ونُعام عين، ونُعم عين، ونَعَامة عين، ونُعمى عين، وأفعل ذلك وكرامة ومسرة، ولا أفعله ولا كيدا ولا هما، ولأفعلن ما يسؤك ورغما وهوانا، ومنها المقترن بالاستفهام توبيخا نحو: أقياما وقد قعد الناس؟ وأقعودا وقد سار الركب؛ وأنشد سيبويه للعجاج:

* أطربا وأنت قنسرى * وأنشد أيضا لجرير بن الخطفي: أعبدا حل في شعبي غريبا ... ألؤما لا أبالك واغترابا وقال عامر بن الطفيل: "أغدة كغدة البعير، وموتا في بيت سلولية". فهذه أشياء يمكن أن يقصدها الناظم فتدخل له تحت كاف التشبيه، ويمكن أن يدخل له ما كان مستفهما عنه تحت إشارة الطلب لظاهر الطلب أو تحت معنى التكرير؛ لأنه المراد الاستمرار الحالي؛ لأن سيبويه جعل هذا النوع مع قولك: إنما أنت سيرا سيرا بابا واحدا، وما عدا ذلك يوقف على السماع كسبحان الله، وقعدك الله وويل زيد وويحه، ولبيك وسعديك، وحنانيك، ودواليك، وما أشبه ذلك فلا يكون منبها بأداة التشبيه على غير ما ذكر، وقد مرَّ وجه ذلك في باب المعرب والمبني في قوله: "كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا" إلى آخره. والله أعلم.

المفعول له

المفعول له هذا هو النوع الثاني من المنصوبات التي ينصبها كل فعل كان متعديا أو غير متعد، ويسمى مفعولا له، ومفعولا من أجله، والمعنى واحد، وإنما أتى به بعد المصدر؛ لأنه إنما يكون مصدرا، فكأنه نوع منه، لكنه فصله من باب المصدر فدل على أنه ليس بمنتصب على ما انتصب عليه نوع المصدر، وإنما هو منصوب على إسقاط الجار، فالواصل إليه الفعل الأول، لا بمعناه فقط، بل بلفظه ومعناه. وقد نُقِل عن الزجاج أنه منصوب على ما انتصب عليه نوع المصدر؛ لأنك إذا قلت: قصدتك ابتغاء الخير، فمعناه: ابتغيت الخير ابتغاء بقصدي إياك، فقصدت في معنى: ابتغيت، فهو مصدر، وأسقط المفعول له من الوجود، فالمفعولات عنده أربعة لا خمسة، ورد بأن قصدت ليس معناه ابتغيت، ولا يجوز أن ينتصب المصدر إلا بفعل من لفظه أو بمرادف له كـ"آلت حلفه" وأيضا فالدليل على أنه منصوب على إسقاط الجار مجيئه كثيرا في جواب لم فعلت؟ فتقول: لابتغاء الخير، ويجوز أن يقول: ابتغاء الخير، فلو كان مصدرا لم يجز وقوعه في جواب الاستفهام المجرور بلام التعليل؛ لأن الجواب إنما يكون على حد اسم الاستفهام في إعرابه. ولا يجوز جر المصدر باللام، إذ لا يقال: قعد

للقرفصاء، ولا: عد للبَشكَى، ولا ما أشبه ذلك، وأيضا فإن نوع المصدر متحد بعامله معنى كقَعَد القرفصاء، فإن القرفصاء هو القعود المذكور، وأنت إذا قلت: قصدتك ابتغاء الخير، فابتغاء الخير ليس نفس القصد. فهذا دليل على صحة ما رآه الناظم، ورد ما قاله الزجاج. وقد زعم بعضهم أن هذا المصدر ليس بمفعول له، ولكنه حال، فالمصدر فيه واقع موقع الحال كقتلته صبرا، وسرت إليه ركضا، وغير ذلك مما يأتي في باب الحال. ورد بأنه لو كان كذلك لم يأت معرفة بالألف واللام، ولا بالإضافة، وقد أجازوا في القياس جئتك ابتغاء الخير، وفعلت ذاك حذر الشر، وفي القرآن الكريم: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت}، ومنه ما أنشده سيبويه لحاتم الطائي: وأغفر عوراء الكريم إدخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما وأنشد أيضا للعجاج: يركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الأمور وهو كثير، فالصحيح أنه ليس كما قال هذا القائل. وقد قال النحاة: إن قولك

فعلته حذر، جواب لقوله: لم فعلت كذا؟ وقولك: قتلته صبرا، جواب لقوله: كيف قتلته؟ فالأول سؤال عن السبب، والآخر سؤال عن الكيفية، وبينهما بوْن، ولا يصح أن يقع أحدهما موقع الآخر، قال سيبويه: "واعلم أن هذا الباب أتاه النصب كما أتى الباب الأول ولكن هذا -يعني باب قتلته صبرا- جواب لقوله: كيف قتلته؟ كما كان الأول جوابا لقوله: لمه؟ " ولنرجع إلى تفسير كلامه بعد ما تبين اختياره: ينصب مفعولا له المصدر إن ... أبان تعليلا كجد شكرا ودن المفعول له هو: الاسم المنتصب بالفعل على أنه علة في وجوده، بهذا حده بعضهم، وقيل هو: السبب الذي له يقع ما قبله، وهو بمعنى الأول؛ وذلك أنك إذا قلت: قصدتك ابتغاء الخير، فالابتغاء علة في وجود القصد، وهو قول الناظم: "إن أبان تعليلا" أي إن أبان سبب الفعل وعلته الذي لأجله أوقع الفاعل الفعل، والحاصل من كلام الناظم أن المفعول له: هو ما اجتمع فيه أربعة أوصاف. أحدها: أن يكون مصدرا، وهو المشار إليه بقوله: "ينصب مفعولا له المصدر" فلو كان غير مصدر لم يصح أن ينتصب على المفعول له، كقولك: جئت لزيد، وأتيت لك أي لأجلك، فما كان هكذا فلا ينصب بل يلزم الجر باللام، ولا تحذف أصلا؛ قال بعضهم: "لأن اللام إنما تحذف من المصدر هنا تشبيها به إذا اقتضاه فعله المشتق منه، وغير المصدر لا يشبه ذلك المصدر"، وللزوم الجر تعليل آخر، وهو أنه لو انتصب لوقع اللبس بينه وبين غيره؛ لو قلت: فعلتك هذا، وأنت تريد: فعلت لك هذا، بخلاف المصدر؛ إذ لا لبس فيه إذا قلت: فعلت هذا حذرًا من زيد.

والثاني: أن يدل على معنى السببية والعلة، وذلك قوله: "إن أبان تعليلا" وقد تقدم. فلو لم يبين تعليلا لم يكن مفعولا له، كقولك: قتلته صبرا، وأتيته ركضا، وما أشبه ذلك فهو على هذا من نوع آخر، وباب آخرن وكذلك: رجع القهقري، واشتمل الصماء، *أرسلها العراك* وما أشبه ذلك مما لا يدل على التعليل. والثالث والرابع: أن يتحد المفعول له مع الفعل في الزمان والفاعل وذلك قوله: وهو بما يعمل فيه متحد ... وقتا وفاعلا وإن شرط فقد فاجرره بالحرف وليس يمتنع ... مع الشروط كلزهد ذا قنع فقوله: "وهو بما يعمل فيه متحد" جملة في موضع الحال من ضمير أبان، أو من المصدر، كأنه قال: إن أبان المصدر تعليلا في حال اتحاده بكذا، أو ينصب المصدر في هذه الحال، ويحتمل أن يكون الكلام معطوفا على الكلام قبله، على معنى أنه من شأنه اتحاده بكذا، فأما اتحاد المفعول له بما يعمل فيه وقتا فأراد به أن يكونا معا واقعين في زمان واحد، فقولك: قصدتك ابتغاء الخير، قد اتحد فيه القصد مع الابتغاء في الزمان غير أن أحدهما علة للآخر، فلو لم يتحد الزمان لرجعت إلى الجر باللام كما إذا قلت: أكلت للعيش، وسرت للحاق فلان، وقد قال امرؤ القيس:

فجئتُ وقد نضَت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لِبْسة المُتفضِّل وفي المثل السائر: *لدوا للموتِ وابنوا للخراب* فالأكل ليس بمتّحد مع العيش في الزمان بحسب القصد، كذلك النوم لم يقع في زمان خلع الثياب، وكذا سائر المُثُل؛ فلأجل هذا قال: "وهو بما يعمل فيه متّحد وقتًا" أي والمفعول متّحد بفعله العامل فيه. ووقتًا منصوب على التمييز المنقول من الفاعل، والمعنى وهو متّحد وقته بوقت فعله. وفي قوله: "بما يعمل فيه نصٌّ على أنّ الفعل المتقدّم هو العامل فيه، وهو صحيح لكنه على إسقاط الجار كأحد المفعولين في باب الأمر. وأما اتحاده بالعامل فيه فاعلًا فمعناه أنْ يكون فاعل العامل وفاعل المفعول له واحدًا، كقصدتك ابتغاء الخير، فلو اختلف فاعلهما لروجع الأصلُ، ونحو: أكرمتك لإجلالٍ زيدٍ إياك، ومن ذلك قول الشاعر: وإني لتعروني لذكرك فترة ... كما انتفض العصفور بلَّلَه القَطْرُ

ففاعل تعرو الفترة، وفاعل الذكر المتكلّم، فلا يصح نصب الذكر. ونصُّ الناظم على هذين الشرطين دليل على أنّ كلّ واحد منهما مُنفَكٌّ عن الآخر فقد يفترقان فيتّحد الفاعل دون الزمان تارة، وبالعكس أخرى كما تقرّر، وزعم بعضهم أنّ ذلك شرْطٌ واحد؛ إذ لا يتصوَّر ألا يتّحد الزمان إلّا إذا كانا لفاعلين كما تقول: أكرمُك لإجلالك إيّاي، وردّ عليه ابن عصفور بأنّك تقول: أكرمتك أمس طمعًا في معروفك غدًا، قال ابن الضائع: وهذا الردُّ فاسد؛ لأنك وقت إكرامك إيّاه طامعٌ، ولو لم تكن طامعًا في ذلك الوقت لم يكن الطمع علّة في وجود الإكرام، قال: وإنّما الغد ظرفٌ لحصول المعروف. قال: "وإنما يرُدُّ عليه بالمثال الذي قدمنا، وهو أن يكون الفعل مستقبلًا وسببه ماضيًا -يعني قوله: أكرمك غدًا إكرامي إيَّاك أمس- يريد: لإكرامي، وما تقدم أيضًا من الأمثلة في الشرط الثالث ردٌّ عليه. ونصُّه عليهما أيضًا دليلٌ على أنّه لم يأخذ بمذهب ابن خروف في إسقاطه الشرط الرابع؛ إذ ردَّ على الأعلم في اشتراطه، وقال: إنَّه لم ينُصَّ عليه أحدٌ من المتقدّمين، ولا يمتنع جئتك حَذَرَ زيدٍ الشر، قال: "ويظهر من تمثيل سيبويه، وهو في الكلام والشعر موجود". والأصح ما ذهب إليه الناظم، وهو رأي الشلويين أيضًا والمتأخرين، وعمدتهم في ذلك السماع، فالأصل في هذا المفعول حرف الجر، ولا خلاف أن أكثر ما وجد في كلامهم بتلك الشروط، فلا ينبغي أن يقاس مع خلافها كما لا ينبغي أن يُقاس في غير المصادر بل مواضع الاتساع لا ينبغي أن تُتَعدَّى أصلًا. هذا إن جاء من ذلك

شيء في السماع، وهو قليل ومحتمل للتأويل. وقد احتج ابن خروف على الجواز بقول الله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا} فالخوف والطمع ليس من صفة الفاعل. قإن قيل: ذلك من فعل الله تعالى. قيل: هذا المشترط لا يريد بقوله: " فعلًا لفاعل الفعل المعلّل" إلا صفة للموصوف بالفعل المعلّل، وإلا فكل شيء فعل الله، ومما احتجّ به لمذهبه أيضًا ما أنشده في الكتاب للفرزدق: منا الذي اختير الرجال سماحةُ ... وجودًا إذا هَبَّ الرياح الزعازعُ فسماحة مفعول له، وليس فعلًا للمختار الفاعل. وقول العجاج: يركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور فإن الزعل -وهو النشاط- للمحبور لا للراكب، وأنشد السيرافي: مدّت عليك الملك أطنابها ... كأسٌ رَنَوْناةٌ وطِرْفٌ طِمِرْ أراد: مدت عليك كأس أطنابه من أجل الملك، فالملك ليس من فعل الكأس.

ولا حجة في هذه الأشياء على قلتها؛ أمّا الآية فلاحتمال أن يكون خوفًا وطمعًا مصدرين على حذف الزيادة، كأنه قال: إخافة وإطماعًا، كقوله: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} وقال المؤلف في شرح التسهيل: إنّ معنى يريكم: يجعلكم ترون، ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل الخوف والطمع، وقيل: هو على حذف المضاف، أي إرادة الخوف والطمع، وقد جعل الزمخشري الخوف والطمع حالين، وإذا اتحملت هذه الأمور لم يصحّ الاستدلال بها. وأمَّا بيت الفرزدق فسماحة فيه تمييز منقول من الفاعل، أي اختيرت سماحته. وأما (زعل المحبور)، فالمحبور هو الحمار الموصوف بأنه يركب. وأما: (مدّت عليه الملك أطنابها) فحمله السيرافي على الحال، وجعله كقولهم (أرسلها العراك) هذا وإن كان ذلك سماعًا فهو محتمل، والمحتمل لا تقوم به حُجَّة فالأصح ما رآه الناظم. فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الأربعة كان الموصوف بها مفعولًا [له]، ونُصبَ على ذلك نحو: ما مثَّل به في قوله: "كجُد شكرًا ودِن"، فشكرًا مصدر قد أبان التعليل للجود، واتّحد بفعله العامل فيه، وهو الجود في الزمان والفاعل؛ لأن الشاكر هو الجائد، واتَّحد بفعله العامل فيه، وهو الجود في الزمان والفاعل؛ لأن الشاكر هو الجائد، وكلاهما حاصلان في زمان واحد، ومن ذلك قول النابغة: وحَلَّت بُيوتي في يَفَاعٍ مُمنَّع ... يُخال به راعي الحمولة طائرًا

حِذارًا على أن لا تصابَ مَقادَتي ... ولا نِسوَتي حتَّى يَمُتنَ حرائرًا وقال الحارث بن هشم -أنشده وما قبله سيبويه: فَصَفَحْتُ عنهم والأحبة فيهمُ ... طمعًا لهم بعقاب يومٍ مُفسِد وقوله: "ودِن" يحتمل أن يكون تكميلًا للمثال، وهو أمرٌ من: دان يدين بالشيء إذا اتخذه دينًا وعادة، أي اجعل ذلك عادة، فلا تزال تجود على الناس شكرًا لما أُعطِيت، ويَحتمل أن يكون إشارة إلى مثال ثانٍ حُذف منه المفعول له لدلالة الأول عليه، كأنه قال: ودِن شُكرًا، ويكون أمرًا من: دان لع يدينُ إذا ذلَّ وخضع، كأنه يقول: اخضع لمن أعطاك شكرًا له، أو من: دِنتُه إذا جازيتُه، أي: جازِ من أعطاك شكرًا له. هذا تمام الكلام على هذه الأوصاف التي بمجموعها تبيّن المفعول له، إلا أنّ كلام الناظم فيها غير تام من أوجهٍ ثلاثة: أحدها: أنّ حقيقة المفعول له هو: الاسم المنصوب على أنّه عِلَّة لحصول الفعل المُتَقَدِّم كما تبيّن قبل، ثم ما سوى ذلك شروط للنصب خارجةٌ عن حقيقته في الاصطلاح، والناظم عكس الأمر فعرَّفه بأنه المصدر بشرط أن يُبين تعليلًا، وبشرط كذا، وأنت تعلم أنّ كونه مصدرًا ليس عِلَّةً في كونه مفعولًا له، ولا المصدرية من حقيقته، وأنَّ كونه يُبيّن التعليل ليس بشرط خارج عن

حقيقته، بل هو أصله، لذلك سموه مفعولًا من أجله، فما فعل الناظم من ذلك مخالفٌ لما عليه الأمر في نفسه. وعلى هذا ينبني الاعتراض الثاني، وهو أنّه لما بيّن الشروط وأتى في أثنائها بقوله: "إن أبانَ تعليلًا" ظهر منه أنّ كونه يُبين التعليل من جملة الشروط، ثم بنى على ذلك أنّه إن فُقد شرطٌ من الشروط المذكورة جُرَّ بالحرف الجار، وذلك ظاهر في جملتها ما عدا إبانة التعليل، فإنه لا يلزم جرّه باللام؛ لأنّك إذا قلت: رجع القهقري، وقتلته صَبْرًا لم يصحَّ دخول الحرف عليه، وكلامه يقتضي ذلك، فكانت إحالته على فَقْد شرط مما ذكر غير صحيحه. والثالث: أنَّ النحويين يستثنون من هذا المفعول قِسمًا لا يلزم فيه الجر بالحروف مع فقد الشروط، فيقولون: إذا كان المفعول له أنْ وأنَّ فإنّه يجوز إسقاط حرف الجر منه على الإطلاق من غير شرط؛ لأنَّ هذين الحرفين يُحذَفُ معهما حرفُ الجر على كل حال، فتقول: جئتك أن تكرمني، وجئتك أنَّك كريم، ولو قلت: جئتك إكرامك، أو جئتك كرمَك لم يجز، ولا بد من اللام، وكلامه يقتضي أن لا بد من الشروط في جواز نصب هذه المفعول، ولا يقال: لعله يجعل أنْ وأنَّ في موضع جر؛ لأنا نقول: ليس هذا مذهبه، وقد تقدّم في باب تعدّي الفعل ولزومه نَصُّه على أنّهما مع إسقاط الجار في موضع نصْبٍ بقوله: "وإن حُذف فالنصبُ للمنجر" إلى آخره فكان إطلاقه قاصرًا عن بلوغ المقصود. فأمَّا الأول والثاني فلا جواب لي عنهما الآن. وأمَّا الثالثُ فسهْلٌ وهو أن

المفعول له إذا كان أنْ وأنَّ فقد قدم حكمه في الجملة فيما قَدَّم، وإنما تكلّم هنا على ما إذا كان اسمًا صريحًا، وزاد الشلوبين في الأسئلة والأجوبة شرطًا أغفله الناظم: وهو أنْ يكون من أفعال القلوب كقولك: جئتك رغبة ورهبة، فلو كان من أفعال الجوارح لم يصحّ نصبه، كقولك: جئتك لبُنْيان الدار، وقد أشار الرُّندي إلى أنَّ غالب هذا المفعول أنْ يكون من أفعال القلوب، فكان من حقِّ الناظم أن يذكر هذا الشرط. والجواب: أنّه مُستغني عنه بشرط اتحاد الزمان؛ لأنّ أفعال الجوارح لا تجتمع في الزمان مع الفعل المُعلَّل، كما أنّه لم يشترط ألا يكون من لفظ الفعل؛ لأنّ المصدر لا يكون علَّة لفعله فما فعل الناظم من ذلك لا دَرَكَ فيه. ثم قال: "وإنْ شرطٌ فُقِد فأجْرُوه بالحرف" يعني أنَّه إذا تخلّف شرطٌ من هذه الشروط المتقدّمة في المفعول له فأجرُره بالحرف. والحرف المراد: هو المختصُّ بمعنى التعليل، والمشهور من الحروف المؤدية معنى التعليل هو اللام، وإنما لم يَقُل فأجُروه باللام لمشاركة غيره له في تلك الدلالة، وفي الاستعمال في هذه المواضع كالباء ومن وفي، فأمَّا الباء فنحو قوله تعالى: {فَبِظُلمٍ من الذين هادُوا حرَّمنا عليهم طيِّبات أُحِلَّت لهم} الآية. وأمَّا مِنْ فنحو قوله تعالى: {وإنَّ منها لما يَهْبِطُ من خشية الله} وقوله: {لَرَأَيتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا من خشية الله}. وأمَّا في

فنحو قول النبي عليه السلام: "إنَّ امرأة دخلت النار في هِرَّة ربطتها" على رأي الناظم في هذا الحرف، فهذه الأحرف وما كان نحوها بمعنى من أجل، وهو المعنى الذي في اللام، فالمثال الأول المجرور بالباء امتنع النصب فيه لعدم اتحاد الفاعل؛ لأنَّ فاعل التحريم غير فاعل الظلم. والمثال الثاني المجرور بمنْ متوفر الشروط فلو قال: لما يهبط خشيةَ الله، ولرأيته خاشعًا متصدعًا خشية الله لصحَّ، فهو مما جُرَّ على الجواز لا على اللزوم. والمثال الثالث امتنع فيه النصب؛ لأنَّ لفظ الهِرَّة ليس بمصدر. فإذا ثبت أنَّ الجار قد يكون يكون اللام وقد يكون غيرها. فلك أن تجُرَّ ما اجتمعت فيه الشروط، على ما ذكر من الجواز على إثر هذا بأحد هذه الأحرف حسب ما يذكر، وقد تقدّمت أمثلة ما عُدِم فيه بعض الشروط، وأنَّه يلزم الجر. ثم قال: "وليس يمتنع مع الشروط"، الضمير في (ليس) وفي (يمتنع) عائد على الجر بالحرف المفهوم من قوله: "فاجرُرْه بالحرف" وذلك جائز: أن يعودَ الضمير على ما تَضَمَّنَه الفعلُ من الحدث، ومن قوله تعالى: {اعدِلوا هو أقرب للتقوى} أي العدل أقربُ، وقوله: {وإنْ تشكروا يَرْضَهُ لكم} أي يرضى الشكر، ويعني: أنّ المفعول له إذا توفَّرت فيه الشروط المذكورة أولًا فلا يمتنع جرُّه بالحرف الجار بل يجوز، فتقول: قصدتُك لابتغاء الخير، وجئتك لرغبَةٍ في معروفك، وداريتُك من مخافَةِ شَرِّكَ، ومثَّل هو ذلك بقوله: "لزُهدٍ ذا قنع"

أصله قَنِعَ ذا زُهدًا، فالشروط موجودةٌ، والجر بالحرف جائزٌ، فتقول: قَنِعَ ذا لزهد، وقنِعَ بِزُهدٍ. وقد نصَّ ابنُ خروف على دخول الباء ومن في هذا الباب، ولكنّ التفسير على اللام؛ لأنّها الأصل، والأكثر في الاستعمال؛ فلذلك قدّمها الناظم في المثال، وآثرها على غيرها. وأمَّا في فذلك رأيه فيها، وقليلٌ من يثبتها، وفي إطلاقه القول بجواز الجر ما يَدُلُّ على أنَّه لا يختص بالمفعول له المعرفة بل يجوز وإنْ كان نكرة فكما تقول: جئتك للرغبة في معروفك، وجئتك لابتغاء الخير، كذلك تقول: جئتك لرغبة فيك، وكففت عنك لتكرُّمٍ، ويُعَيَّنُ هذا القصدَ من كلامه تمثيله بالنكرة في قوله: "لزهد ذا قَنِع" وهو تنكيت على ما ذهب إليه أبو موسى الجزولي من أنَّ النكرة لا يجوز جرُّها مع استيفاء الشروط. حيث قال: "ولا يكون منجرًا باللام إلا مختصًا" قال الشلوبين: "وهذا غيرُ صحيح، بل هو جائز لا مانع منه" قال: " ولا أعرفُ له سلفًا في هذا القول" انتهى. فالواجب الرجوع إلى رأي الجمهور لكن يجب أن يُبحَث عن السماع في هذا فإنّه إن كان الجزولي يزعم ذلك عن استقواء منه أو مِمّن أخذ عنه فلا إشكال في قوّة قوله، وإن كان بخلاف ذلك لم يلتفت إليه، وقد جاء الجر في المختص كما تقدّم في قوله تعالى: {وإنَّ منها لما يهبطُ من خشية الله} وقوله: {لرأيتهُ خاشِعًا مُتصّدّعًا من خشية الله} ولا أحفظه في غيره، ولكن الناظم زعم أنّه موجود لكنه قليل كما سيأتي. وفي تمثيله بقوله: "لزهد ذا قنع" ما يشعر بأنّه يجيز تقديم المفعول له على العامل فيه، فالأصل: قنِعَ لزُهدٍ ثم قدَّمه. وهذه المسألة لم يَنُصَّ عليها في التسهيل، ولا شرحه، ولا الفوائد، وهي

صحيحة، فقد نصَّ الرماني في شرح الموجز على جواز قولِك: مخافة شَرِّه جئتُه؛ لأنّ العامل متصرف في نفسه فيتصرف في معموله إلّا أنْ يمنع من ذلك مانعٌ طاريءٌ. وقنِعَ هنا بكسر النون -على فَعِل- يَقْنَعُ قَنَاعَةً وقَنَعانًا إذا رضي عن الله تعالى، وقنِعَ أيضًا بقسمه، وقنِع بقولك، وبالشيء: إذا رضي به، وقَنَع بالفتح يقْنِعُ قُنوعًا إذا سأل، وقد يطلق القُنُوع بمعنى القناعة. ثم أخذ يُبيّنُ مراتب هذا المفعول في جواز الجر، وقوته، وضعفه، فقال: وقلَّ أنْ يصْحَبَهُ المُجَرَّدُ ... والعكس في مصحوب أل وأنشدوا "لا أقعُدُ الجبنَ عن الهيجاء ... ولو توالت زُمَرُ الأعداء" فبيّن أنَّ جرّ المجرد -يعني من الإضافة والألف واللام- قليل في الكلام، والأكثر فيه النصب، فإذا قلتَ: جئتك إعظامًا لك، فهو أكثر من: جئتك لإعظامٍ لك، وقولك لإعظامٍ لك قليل، وهو الذي منعه الجزولي، فالضمير في (يصحبه) عائد على الحرف الجار، مصحوب أل -وهو الذي دخلت عليه- بعكس المجرّد، يعني أنّ نصبَه قليلٌ في الكلام، والأكثر فيه الجرُّ فقولك: جئتك للحذر منك أكثر من: جئتك الحذر منك. وحقيقة العكس أنَّ تقدير الكلام في المجرد: وقلَّت المصاحبة للحرف في المجرد وكثُرَ فيه عدم المصاحبة. فإذا حَوَّلت هذا الكلام على وجهٍ يَصْدُقُ قلتَ: وقَلَّ في مصحوب أل عَدَمُ المصاحبة وكَثُرَت فيه المصاحبة. ولما أخبر بحكم المجرد وتفضيل النصب فيه، وبحكم مصحوب أل وتفضيل الجرِّ فيه بقي المضافُ المسكون عنه دون تفضيل، فاقتضى التسوية بين الأمرين فقولك: جئتُك ابتغاء الخير، وجئتك

لابتغاء الخير لا مَزيَّة لأحدهما على الآخر، وكذلك قال في التسهيل والفوائد: "ويستوي الأمران في المضاف". فإن قيل: كيف يفهم له حكم المضاف، وهو لم يتعرَّض له بمنطوق ولا مفهوم. فالجواب: أنَّه مرادُ الذكر، ومفهوم الحكم من قوله: "وقَلَّ أنْ يصْحَبَه المجَرَّد"؛ لأنّ المجرَّد يكون تجريده من الألف واللام ومن الإضافة؛ إذ لم يُقَيَّد التجريد بأحدهما دون الآخر، ثم لما ذكر المصحوب بأل بقيَ المصحوب بالإضافة مشعورًا به، مشعورًا بحكمه، وهذا ظاهر. وهذا الكلام يقتضي بسياقه أنّ المفعول له يكون مجرّدًا، وذلك نحو ما تقدّم، ومنه في القرآن: {ادعوا ربَّكم تضرُّعًا وخُفية} و {ادعوه خوفًا وطمعًا} وقول النابغة: *حذارًا على ألّا تنال مقادتي* وهو كثير، ويكون بالإضافة نحو قول حاتم الطائي أنشده سيبويه: وأغفر عوراء الكريم ادّخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرّمًا ومن في القرآن: {ومن يفعل ذلك ابتغاءً مرضات الله} الآية {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاءَ مرضات الله} وهو كثير أيضًا، ويكون بالألف واللام نحو ما أنشده الناظم من قوله:

لا أقعد الجبن عن الهيجاء ... ولو توالت زُمَرُ الأعداء وهذا الشاهد لا أحفظه عن غيره، ولا أعلم قائله. قال في الشرح: "ويمكن أنْ يكون القسط من قوله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} مفعولًا له، لأنه مستوفٍ للشروط. وممّا اجتمع فيه ثلاثة الأنواع قول العجاج -أنشده سيبويه- يصف حمارًا: يركبُ كلَّ عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الأمور فقوله: مخافة، من المجرد، و: زعل المحبور، من المضاف، والهول، من ذي الألف واللام، ومعنى البيت الذي أنشده ظاهر، يقول: لا أقعُدُ عن الهيجاء جُبنًا وفزعًا ولو توالت وتتابعت عليّ الأعداء زُمرًا بعد بَعْدَ زُمرٍ يتلو بعضها بعضًا، فإني لا أكترث بهم، ولا أجبُنُ عنهم، يصف نفسه بالشجاعة، والهيجاء: الحرب تُمَدُّ وتقصر، وهي من هاج الشيء يهيج إذا ثار، والزمر: الجماعات وأحدها زمرة. وتوالت: تتابعت وأتت شيئًا بعد شيء يتبع بعضها بعضًا.

المفعول فيه وهو المسمى ظرفا

المفعول فيه وهو المسمّى ظرفًا هذا هو النوع الثالث والرابع من المنصوبات التي ينصبها كل فعل كان متعدّيًا أو غير متعدّ، وهما ظرف الزمان والمكان؛ وإنما جمعهما في باب واحد لاتحاد أحكامها في الأكثر، وشرع أولًا في التعريف بالظرف على الجملة فقال: الظرف وقت أو مكان ضُمِّنا ... في باطِّراد كهُنا أمكث أزمُنًا يعني أنّ الظرف المصطلح عليه عند النحويين: ما كان اسمًا لوقت -أي لزمان- أو اسمًا لمكان، فلا يكون من جنس غير جنسهما إلّا إذا ضُمِّن معناهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فيريد ما كان اسم زمان أو مكان بالوضع الأول أو بوضع ثانٍ؛ إذ ليس في لفظه ما يدل على اختصاصه بأحدهما. وهذا هو الجنس الأقرب. وقوله: "ضُمِّنا في" (في) هنا اسم للحرف مفعول ثانٍ لضُمِّنا، والألف في ضمنا يحتمل أن تكون ألف الضمير، وإن تقدّمت (أو)؛ إذ المراد الأمران، وإنّما جاءت للتفصيل كقول الله تعالى: {إن يكُن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما} ويحتمل أن يكون وصلًا، والضمير مستتر مفرد عائد على أحد الأمرين اعتبارًا بلفظ (أو)، ويريد أنّ من خاصيّة الظرف أن يكون مُضمَّنًا معنى "في"،

فيخرج عن ذلك قولك: أعجبني يومُ الجمعة، وأعجبني مكان زيدٍ؛ فإن اليوم والمكان ههنا ليسا بظرفين اصطلاحًا، وإن كان يومُ اسم زمان، ومكانُ اسمَ مكان؛ لأنهما يتضمنا معنى "في". فإذا تضمناه استحقّا اسم الظرفية، وكذلك كل ظرف استُعمِل استعمال الأسماء، وسُلِّط عليه من العوامل ما يتسلّطُ على سائر الأسماء، وسُلّط عليه من العوامل ما يتسلّط على سائر الأسماء من الرفع والنصب ولجر على غير معنى (في)؛ ذلك حيث لا يكون بينه وبين غيره من الأسماء فرق، فإذا قلت: جئت في شهر كذا إلى موضوع كذا، وأحببت عام كذا، وكرهت موضع كذا، وقعدت عن يمينك، وعن شمالك، وعرفت أن يوم الجمعة مبارك، وأن وسط الدار مُتَّسع، وما أشبه ذلك، فليس كل هذا بظرف؛ إذ لم يتضمّن معنى "في"، فإن قلتَ: جئت شهر كذا وقعدت موضع كذا، وقعدت يمينك أو شمالك يوم الجمعة، وأقعدتُكَ وسط الدار كانت هذه ظروفًا لتضَمُّنها معنى في. وقوله: "باطراد" فصل ثانٍ، وهو متعلّق بضُمِّنا يعني أنّ من شأن هذا التضمين المتعلّق بالظرف أنْ يكون مُطَّردًا في كل موضع لا يختصُّ به مكان دون آخر كيومٍ وليلةٍ وخلف وأمام، فإنك تقول: صحتبك يوم الجمعة، وأكرمتك يوم الجمعة، وجلست يوم الجمعة، وأضرب زيدًا يوم الجمعة، وقدوم زيدٍ يوم الجمعة، فيجري في الكلام كلّه، فكذلك: قعدت خلفك وقمت خلفك، وزيدٌ خلفك، ونحو ذلك، فلا يُقتصرُ به على موضع دون آخر. فإذًا كل ما كان من الأسماء يُضمَّن معنى "في" لكن على غير اطراد فليس بظرف، وذلك أنّ العرب تقول: مُطِرنا السهل والجبل، وضُرِبَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ، فهذه على معنى في؛ لأنّ المعنى: في السهل والجبل، وضرب في الظهر والبطن، لكنها ليست

بظروف؛ لأنّ تضمينها معنى في ليس بمطرد فيها لو قلت: أخصبنا السهل والجبل أو: أجدبنا السهل والجبل، أو مُطرنا القيعان والتلول، أو ضُربَ زيدٌ اليد والرجل، أو الرٍأس والجسد لم يَجُز، فلما كانت على هذا السبيل لم تستحق بذلك أن تكون ظروفًا، قال سيبويه لما تكلم عن نصب هذه المُثُل، وأنها على تقدير في: "وليس المنتصب ههنا بمنزلة الظروف، لأنك لو قلت: هو ظهره وبطنه، وأنت تعني شيئًا على ظهره لم يجز"، قال: "ولم يجيزوه -يعني حذف حرف الجر- في غير السهل والجبل والظهر والبطن كما لم يجز: دخلت عبدالله"، قال: "فجاز هذا في ذا وحده كما لم يجز حذف حرف الجر إلا في الأماكن في مثل: دخلت البيت". ومن قبل هذا القبيل أيضًا الأماكن المختصّة مع دخلت هي على إسقاط الخافض؛ إذ لو كانت منصوبة على الظرفية لم ينفرد به دخل وحده، بل كنت تقول: قعدتُ البيت، ومكثتُ السوق، كما يقال: دخلت البيت، ودخلت

السوق، وكان يقال: زيدٌ البيت، وزيد السوق، وعمرو الدار، فينتصب بمقدّر كما يفعل بالمحقق الظرفية نحو: زيد مكانَ كذا، أو زيد خلفك وأمامك؛ لأنّ كلّ ما ينتصب على الظرفية يصحُّ وقوعه خبرًا فينتصبُ بعامل مقدّر، وإلى هذا أشار سيبويه في كلامه المذكور آنفًا، قال المؤلف: "وقد غفل عن الموضع الشلوبين وجعل نصب المكان المختص بدخل عند سيبويه على الظرفية، قال: "وهذا عجب من الشلوبين مع اعتنائه بجميع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها ببعض". وقد حكي ابن خروف عن الفراء أنّك تنصب بدخَلْتُ وذهبت وانطلقتُ جميع البلدان، تقول: ذهبت الكوفة، وانطلقت الغور، فأنفذوها في جميع البلدان؛ لأنها نواحٍ، وحكى سيبويه: ذهبت الشام، وهذه كلها -وإن اطّردت- كما قال الفراء- فاطّرادُها لا يخرجها عن كونها سماعًا، لالتزامهم ذلك مع الأفعال الثلاثة، فقد خرجت بذلك عن الاطّراد. والحاصل أنّ عدم الاطراد يكون بأمرين: أحدهما: ألا يُستعمَل نظائر المسموع مكان المسموع وإن اتّحد العامل، كما مرّ في: مُطرنا السهل والجبل. والثاني: ألّا يعمل في المسموع كل عامل، كما مرّ في (دخلت) مع الأماكن المختصّة. ويجمع ذلك ألا يُستعمَل المتضمِّن معني (في) خبر مبتدأ، وهو الذي اعتمد سيبويه، فإذا ثبت أنّ غير المطَّرِد لا يكون ظرفًا، وأنّ هذه الأمثلة كلّها من غير المطّرد تبيّن أنّها منصوبة على إسقاط الحرف لا على الظرف، وذلك ظاهر، فلذلك قال: "باطراد". وقوله: (كهنا امكث أزمنًا) مثالان: أحدهما لظرف المكان، وهو (هنا)، والآخر لظرف الزمان، وهو (أزمنًا) جمع زمن كجبل وأجبُل. وفي هذا الحدِّ نظرٌ من أربعة أوجه:

أحدها: أنه قال: "الظرف وقت أو مكان" فجعل الظرف هنا هو نفس الزمان والمكان، وهذا، وإن كان المعنى صحيحًا، فهو في الاصطلاح النحويّ غير صحيح؛ فإنّ الظرف عند النحويين إنّما يطلق على اسم الوقت واسم المكان، لا على معنى الاسم؛ إذ لا يتكلّم النحوي إلا في الألفاظ الدالة على المعاني، فكان من حقّه أن يقول: الظرف اسم وقت أو مكان، كما قال في التسهيل: "هو ما ضُمِّن من اسم وقت أو مكان معنى في بإطراده" إلى آخره، فقيّده بالاسم كما ترى. وكذلك قوله: "ضُمِّنا في" غيرُ صحيح في ظاهره؛ إذ ليس المُضَمّنُ حرف "في" المنطوق به، وإنّما المضمّن معناه كما صرّح به أيضًا في التسهيل، فعبارته في هذا الموضع غيرُ سديدة. والثاني: أنه عبّر بلفظ التضمين في قوله: "ضُمِّنا في"، والمتقرر في التضمين لمعنى الحرف أنّه موجب للبناء، وهو الشبه المعنوي الذي قدّم ذكره، فلذلك يقولون: المبنى من الأسماء ما أشبه الحرف أو تضمَّن معناه، وليس هذا كذلك؛ إذ لو كان مثله لبُنِيَ كلُّ ظرف في الكلام، وليس كذلك. وهذا الاعتراض وارد عليه في التسهيل أيضًا، لأنّ تضمُّن معنى الحرف قد ثبت موجبًا للبناء، فكان من حقِّه أن يجتنب هذه العبارة إلى ما يقتضي عدم البناء، فيقول مثلًا: أفهما في، أو أفهما معني في، كما قال في الحال: "مُفْهِمُ: في حالٍ"، ولم يقل: ضُمِّن معنى "في حال".

والثالث: أنّ قوله: بإطرادٍ غيرُ محتاجٍ إليه؛ لأنَّ المتحرز منه -وهو قولهم: مطرنا السهل والجبل، وضُربَ زيدٌ الظهر والبطن -قد تقدَّم أنه منصوبٌ على إسقاط الخافض لا على تضمُّن معنى الخافض، فإذا كان غير مضمّن معناه فلم يدخل تحت قوله: "ضُمِّنا في" قطُّ، فلا يختاج إلى الاحتراز منه، وحين احترز منه دلَّ على أنّه عنده مضمَّنٌ معنى في، وإذا كان كذلك فهو ظرفٌ عنده؛ لأن كل مضمن معني "في" ظرف بإطلاق، كان مُطّردًا أو غير مطرد، فظهر أنّه تناقض في هذه العبارة من حيث قصد تحريرها. والرابع: أنّه يخرُجُ به من الظروف المجمع على أنّها ظروف أشياء كثيرة، فمن ذلك قولهم: هو مني منزلة الولد، ومقعد القابلة، ومزجر الكلب، وهو مني دَرَجَ السيول، فهذه كلها أو ما كان من بابها ظروفٌ باتّفاق مع أنّها لا تتضمّن معنة في باطراد؛ إذ لا تقول: أجلسته منزلة الشغاف، ولا قعَد زيدٌ منزلة الشغاف، كما تقول: أجلسته قريبًا مني، وقعد قريبًا مني، ولا تقول أيضًا: قعد منزلة زيدٌ مزجر الكلب، كما تقول: قعد بعيدًا مني، ولا مكانك دَرَجَ السيول، ولا نحو ذلك مما الظرفية فيه سماعٌ، فصارت هذه الأشياء كلها بمنزلة: مُطرنا السهل والجبل، فاقتضى كلامه أنّها غيرُ ظروف، وليس كذلك بل هي ظروفٌ عندهم، فإذا يخرج عن حدّه هذه الأشياء، عن كونها ظروفًا، وذلك فاسدٌ.

هذا إلى ما له في أصل التعريف من الجمع بين مختلفي الحد في حدّه، لأنه جمع نوعي الظرف، وهما مختلفان، وليس من شأن أهل الحدود أنْ يجمعوا في حدٍ واحد بين محدودين مختلفين، كما لا يجمعون بين الانسان والفرس فيحدونهما بحدٍ واحد، ولا بين النبات والحيوان قاصدين لتعريف كل نوع بما يخصه. وهذا فعل الناظم في حدّه الظرف، فلم يستقم هذا التعريف لا من جهة ترتيب الحد في نفسه، ولا من جهة حصول المقصود به، وهو العلم بالمحدود. والجواب عن الأول: أنّ مراده، حاصلٌ مفهوم من حيث انتصب لصناعة الألفاظ، وهو النحو، ولم يقصد بيان الظرف المعنوي، فذلك الذي يُعيِّن أنّه على حذف المضاف أي: اسم وقت أو اسم مكان، وكذلك قوله: "ضمنا في" معلوم أن المضمن ليس نفس الحرف الملفوظ به بل معناه. وهذا ظاهر. وعن الثاني: أنّ تضمين معاني الحروف على ضربين: أحدهما: تضمين في أصل الوضع، فيكون الاسم في أصله موضوعًا للدلالة على معنى الحرف. وهذا هو التضمين الموجب للبناء: والثاني: تضمينٌ طاريءٌ على الاسم بعد وضعه غير مضمّن معنى حرف، فأسماء الزمان والمكان موضوعة للدلالة على ما وُضِعَت له من معاني الأسماء كسائر أسماء الأجناس، فيومٌ في الزمان كرجل في الأناسي، ويمين وشمال في المكان كذلك أيضًا، ولا تضمين في شيء منها ثم إنّهم أرادوا الدلالة على تعيين وقوع الفعل في الزمان أو في المكان فضمّنوا الظرف ذلك حالة التركيب، فالتضمين ههنا بعد استقرار الدلالة الإفرادية، وذلك ليس بموجبٍ للبناء، كما لم

يكن الافتقار إلى المفسر موجبًا للبناء في نحو: عشرين، وكل، وبعض، وكلا، ونحو ذلك لما كان الافتقار طارئًا بعد استقرار المعنى الإفرادي، وقد جعلوا ذا الإضافة مُضمَّنًا معنى اللام في نحو: غلام زيدٍ، ومعنى من في نحو: ثوبُ خَزٍّ، ومعنى في عند ابن مالك في نحو: {ألَدُّ الخِصامْ}، ولم يكن ذلك موجبًا للبناء لما كان ذلك التضمين عارضًا. وفي كلام العرب من هذا أشياء. والتضمين في كلا الوجهين مخالف لتقدير الحرف في نحو: دخلت البيتَ، ومُطرنا السهل والجبل، فيقال: إنّه منصوب على إسقاط الخافض لا على تضمين الحرف. ويقال في: جئت يوم الجمعة: إنه منصوب على تضمين معنى الحرف لا على إسقاطه؛ لأن بين الأمرين عندهم فرقًا يعرفه نُظَّار الصناعة، كما أنّ عندهم فرقًا بين قولك: اخترتُ الرجال زيدًا، وبين قولك: شكرتُ زيدًا؛ حيث قالوا: إنّ الرجال منصوبٌ على إسقاط الخافض، وزيدًا في: شكرتُ زيدًا منصوبٌ لا على إسقاط الخافض، مع أنّك تقول فيهما: اخترتُ من الرجال زيدًا، وشكرتُ لزيدٍ؛ إذ ذلك كلّه مقصودٌ في الاصطلاح، ومبنيٌّ على معنى صحيح، فإطلاق الناظم لفظ التضمين هنا هو على أحد الوجهين فلا اعتراض عليه. وعن الثالث أن يقال: لا يخلو أن يكون هذا التعريفُ عنده بالذاتيات حتى يكون حدًّا حقيقًا، أو بالخواصّ الخارجة عن الذات حتى يكون حدًّا رسيمًا؛ وذلك أنّ القاعدة عن أرباب الحدود أنّ الحدّ إنما يطلب به أن يكون معرِّفًا للماهية على كمالها، ومُبيّنًا لها بجميع أجزائها على التفصيل فيُؤتى فيه بالجنس الأقرب أولًا -وهو الجزء المشترك، ثم يؤتى بعده بالفصول الذاتية للمحدود، وإن كانت أبعد- وكانت ممّا يحصل بالواحد منها الكفاية في التمييز -فإن ترْكَ بعض الفصول، ولو كان مستغنى عنه في التمييز -تركٌ لتعريف جزء من الذات.

والحدُّ وضْعُه أنّه عنوان الذات، وبيان لها فيجيب أنْ يقود المحدود في النفس صورة معقولة في الذهن، مساوية للصورة الموجودة في الخارج على الكمال، وحيئنذ يعرض للمحدود أن يتميز عن غيره، لا أنّ التمييز عن الغير هو المقصود من الحد الذاتي، وإنما ذلك مقصود في الحدِّ الرسمي. وإذا كان كذلك فقوله: "باطّراد" وصفٌ من الأوصاف المحتاج إليها في التعريف؛ لأنَّ الظرف هذا شأنه ووصفه من حيث هو ظرفٌ، فمطرنا السهل والجبل، خارج عن الظرفية على كل تقدير، والظرف مُعرَّفٌ به على كل تقدير. وإن كان الثاني فيمكن أن يقال: إنّ التضمين المذكور قد يُطلَق مجازًا على نحو: مُطرنا السهل والجبل من جهة اجتماعه في التقدير؛ فإنّ الجميع على تقدير "في" على الجملة، فكأنه أطلق التضمين بهذا المعنى، أو توهّم أن يُفهم منه؛ فأتى بقوله: "باطّراد" ليخرج ذلك التضمين الآخر. وهذا قد ينهض عذرًا في الموضع. ا وأمّا الرابع فلم يحضرني فيه جواب محرَّر. وأمّا كونه جمع بين مختلفي الحدّ فليس كذلك بل إنما قصد حدّ الظرف المطلق، إلا أنّه عرض له فيه تنويع الظرف فافتقر إليه كما افتقر النحاة في تعريف الفاعل إلى تنويعه، وتنويع عامله حيث قالوا: الفاعل اسم أو ما هو في تقديره أسند إليه فعل أو ما جرى مجراه ... إلى آخره. وكما قيل في حدّ الخبر: إنّه الذي يدخله الصدق أو الكذب، أو ما أشبه ذلك ممّا يعرض فيه التنويع. أو يقال: إنّه حدٌّ واحدٌ أتى به في قوّة حدين لما اشتركا في الفصول المميزة فكأنه قال: ظرف الزمان هو: اسم الزمان المضمَّن معنى (في) باطّرادٍ كأزمنٍ، وظرف المكان هو: اسم المكان المضمّن معنى (في) باطّراد كهنا، وإذا أمكن هذا سَهُل الأمر فيه. والله أعلم.

ثم قال: فانصبه بالواقع فيه مُظهرا ... كان وإلّا فانوه مُقدَّرا لما كان الظرف إعرابه النصبُ، ولا بُدَّ له من ناصب عرَّف بالناصب ما هو، فبين أن الناصب له لا يكون إلا الفعل الواقع في ذلك الظرف؛ وذلك أنّ الفعل أو ما في معناه مما يصلح للعمل في الظرف على ضربين بالنسبة إلى طلبه: فضربٌ يطلبه على أنه واقع فيه -وهو الذي عيّن الناظم للعمل فيه من حيث هو ظرفٌ- فينصبه على الظرفية، كقولهم: خرجتُ يوم الجمعة، وقعدتُ أمامك، فإن نصب اليوم بخرج إنما هو على أنّ الخروج واقعٌ في اليوم، وكذلك نصبُ الأمامِ بقعد إنما كان على أن القعود حاصل فيه، فانتصب اليوم والأمام انتصاب الظرفية. وضربٌ يطلبه لا على هذا الوجه، بل على وجهٍ آخر -وهو الذي احترز منه- فيكون نصبُه على المفعول به، أو على غير ذلك، كقوله: أحببت يومَ الجمع، فجرى ههنا الظرف مجرى زيد، كما لو قلتَ: أحببتُ زيدًا، ومثله: أحببتُ مكانَك، نصبه نصب زيد في قوله: أحببتُ زيدًا، وكذلك إذا قلتَ: هذه عشرون يومًا، فنَصْبُ يوم هنا كنصب رجل إذا قلت: هذه عشرون رجلًا، ومثله قولك: شاهدت عشرين مكانًا، أو ما أشبه ذلك، فلم ينتصب هنا على الظرفية؛ إذ ليس العامل واقعًا فيه؛ فلأجل ذلك قال: "فانصبه بالواقع فيه". قد ظهر من الناظم مذهبه في العامل في الظرف، وأنه الفعل الواقع فيه لكن هذا الفعل لا يلزم أن يكون ظاهرًا، بل قد يكون كذلك نحو: خرجتُ يومَ الجمعة،

وقعدتُ خلفك، وقد لا يكون ظاهرًا نحو: خروجك يوم الجمعة، وزيدٌ خلفك، فألزَمَ أن يقدَّر له ناصبٌ هو الفعل الواقع فيه؛ لقوله: "فانصبه بالواقع فيه مظهرًا كان وإلا فانوِهِ" يعني أنه لا بد أن يقدر له فعل واقع فيه إن لم يظهر، ويكون هو العامل فيه. والمقدّر لا بد أن يكون مفهومًا من الكلام، فقد يكون الكلام يدل على كون خاص وفعال خاص فيكون هو المنوي، وقد يكون دالًا على كون عام وفعل عام فهو المنوي، فإذا قلت: أين زيدٌ قاعد؟ فقلت: خلفك، فهذا كونٌ خاصٌ تقديره: زيد قاعد خلفك، وإذا قيل: متى أبوك قائم؟ فقلتَ: يومَ الجمعة، فالمعنى على: هو قائم يوم الجمعة، وإذا قلتَ زيدٌ خلفك، فالتقدير: كائن خلفك أو مستقر، وإذا قلت: قدومك يومَ الجمعة، فالتقدير: كائن أو مستقر يوم الجمعة، فلا بد من هذا التقدير عنده؛ وذلك المقدّر هو العامل، وهو الفعل الواقع في الظرف، فاستمر القانون، وانتظم التقدير مع معنى الكلام، فإذا لا يعمل في الظرف غير الفعل الواقع فيه، وهو رأي أهل البصرة وأهل الكوفة معًا إذا كان الفعل ظاهرًا، إذا لم أرَ من نقل في ذلك خلافًا بينهم، وكذلك يقتضي النقل إذا كان المقدَّر [كونًا خاصًا]؛ لأنه بمنزلة المُصرَّح به، ولو صرَّح به [لكان، وإنما] نقل الخلاف بينهم إذا كان المقدر عامًا -وهو الذي لا ينطق به عند الجمهور من الفريقين -كقولك: زيدٌ أمامك، وقدومك يوم الجمعة، فإنهم اختلفوا في العامل في الظرف هنا؛ فجمهور أهل البصرة- بل جمعيهم عند السيرافي وغيره- أنّ الناصب فعلٌ مقدّر هو الواقع فيه، فقولك زيدٌ خلفك على تقدير مستقر أو استقر، أحدهما حتمًا -أعني اسم الفاعل أو الفعل- أو على التخيير حسب

ما تقدّم ذكره في باب المبتدأ. ونقل صاحب الإنصاف عن ثعلب ما يقرب من هذا، وذهب جمهور أهل الكوفة إلى أنّه منصوب على الخلاف، ومعنى ذلك إنّك إذا قلت: زيدٌ أخوك، فالأول هو الثاني؛ فيترافعان. فإذا قلت زيد خلفك أو قدومُك غدًا، خالف الثاني الأول؛ إذ ليس به؛ فانتصب بذلك المعنى ليحصل الفرق بينهما. قال ابن خروف: إنّ العامل في الظرف المبتدأ نفسه، وزعم أنّه مذهب سيبويه، وقدماء البصريين. وقال المبرد: "انتصب الظرف هنا لأنه ظرف" هكذا قال. والأولى من ذلك كله ما رآه الناظم، إذ هو المطرد في الأبواب كلّها، أعني في الأبواب التي لا يظهر فيها عاملٌ كباب الصلة، والصفة والحال، وأيضًا قد ثبت عمل الفعل في الظرف فيما ظهر فهو العامل فيما لم يظهر، حملًا لما خفي على ما ظهر، ويشهد لذلك معنى الكلام؛ إذ لا ينفكُّ الظرف هنا عن معنى الكون

والاستقرار؛ وإنما لم يظهر للزوم الدلالة على ذلك المحذوف، ومما يشهد لذلك أيضًا على طريقة الناظم أن ما ادّعى أن مَنْوِيٌّ قد ظهر في بعض المواضع حسب ما تقدّم في باب المبتدأ. وما ذكره الكوفيون من النصب بالمخالفة، أو المبرد من النصب بكونه ظرفًا فلا يستقيم وجه الصناعة فيه. فثبت أنّ قولك: زيدٌ خلفك، وقدومك يوم الجمعة منصوبان على نيّة فعلٍ هو الواقع فيه إلّا أنّ تقديره فعلًا أو اسم فاعل قد مضى ذكره في باب المبتدأ، وتحقيق ذلك التقدير. وقوله: "فانصبه" الهاء فيه عائدة على الظرف، والواقع فيه هو الفعل، ومظهرًا خبر كان، وكان في موضع نصب على الحال من باب لأضربنّه ذهب أو مكث، كأنه قال: مظهرًا كان أو مضمرًا لكن جاء بقسيم المظهر على المعنى لما أفاد فيه من المعنى الزائد، وينظر هذا إلى مجيء (إلّا) عِوَض إمّا في قوله: فإمّا أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثٍّي من سميني وإلّا فاطرحني واتخذني ... عدوًا أتّقيك وتتقيني وقوله: "وإلّا فانوِه" أي إن لا يكن مظهرًا فانوِه. ومقدرًا حال مؤكدة على ما يظهر، لأن قوله فانوِه يعطي معنى قدِّره في نيّتك. ثم قال: وكلُّ وقت قابلٌ ذاك وما ... يقبله المكان إلّا مُبْهِما

نحو الجهات، والمقادير، وما ... صيغ من الفعل كمرْمَى من رَمَى لما كانت أسماء الزمان والمكان على قسمين: أحدهما: ما يقبل أنْ يكون ظرفًا اصطلاحًا؛ بأن ينتصب بفعله الواقع فيه على معنى في. والثاني: ما لا يقبل ذلك -أخذ يعرّف بالقابل من غير القابل، فأخبر أنَّ كل اسم زمان قابل للنصب على ذلك التقدير كان مبهمًا أو مختصًّا، فالمبهم نحو: صمتُ يومًا، وقمت ليلةً، وسرت شهرًا، واعتكفت عشرًا، وقمت ليلةَ الخميس، وصمت شهرَ رمضان، واعتكفت العشرَ الأواخر منه، وجئتك اليومَ الأولَ، وما أشبه ذلك. وأمَّا المختص فنحو: سرتُ الجمعةَ، وصمت الخميسَ، وصمت رمضانَ، وسرت شوالاً، ونحو ذلك. أو تقول: إنّ قولك: صمت رمضانَ وسرت شوالاً، ليس من المختص بل هو من المبهم، أو قسمٌ آخرُ برأسه يسمّى معدودًا، وهو تقسيم الجزولي. والأمر قريب. وأمّا اسم المكان فليس كاسم الزمان في قبول ذلك الحكم، بل هو ضربان: أحدهما: ما يقبل ذلك، وهو المبهم، وهو قوله: "وما يقبله المكان إلّا مبهمًا". والمبهم ما ليس له جهات تحصره، ولا أقطار تحيط به. وقسّم المبهم إلى ثلاثة أقسام: أحدهما الجهات الست، وما جرى مجراها، وذلك قوله: "نحو الجهات" يعني فوق، تحت، واليمين، والشمال، وخلف وأمام، ووراء، وقُدَّام، وما لحق بها نحو: ذات اليمن، وذات الشمال، وأمثلتها ظاهرة ومنه قولهم: "داره شرقيَّ المسجد،

وغربيَّ المسجد. وأنشد سيبويه لجرير: هبَّتْ جنوبًا فذكرى ما ذكرتُكُم ... عند الصَّفاة التي شرقيَّ حوْرانا وقال عمرو بن كلثوم، أنشده سيبويه: صددتِ الكأس عنّا أمَّ عمروٍ ... وكان الكأسُ مجراها اليمينا قالوا: هو قصدَكَ، وناحيتَك، ويقال: هما خطَّان جَنابَتَيْ أنفها، يعني الخطين اللذين اكتنفا جانبي أنف الظبية، فجنابتي ظرْفٌ، وكذلك جَنْبَيْ في قول الأعشى، أنشده سيبويه: نحن الفوارسُ يومَ الحنو ضاحية ... جَنْبَيْ فُطيْمَةَ لا ميلٌ ولا عُزُلُ وكذلك: هو قُربَك، وهو قريبًا منك، وبعيدًا منك، وما أشبه ذلك مما يجري مجرى الجهات إلا أنّ أعرفها في القياس الجهات الست، وجميعها

ينتصب على الظرفية، ويصح فيه ذلك. والثاني: المقادير، وذلك قوله: "والمقادير"، وهي ما يقدَّر به المكان كالمِيل والفرسخ والبريد، فهذه أيضًا تنتصبُ على الظرف، فتقول: سرتُ بريدًا، وفرسخًا، ومِيلًا، وداري خلف دارك فرسخين، وما أشبه ذلك. والثالث: المشتق من الفعل الواقع فيه، نحو: قعدت مَقعدًا حسنًا، وجلست مَجلسًا، وصلاتي مُصلّي زيد، وقيام زيد مقامك، وما أشبه ذلك ومثّل ذلك بقوله: "كمرمى من رمى" يعني إذا قلتَ: رميتُ مرمى حسنًا، ورمى زيد مرماك. هذه الأنواع الثلاثة التي عيّن لقبول الظرفية من أسماء الأمكنة، فإذا تبيّن أنها هي المتعيّنة للقبول، وهي التي اشتمل عليه لفظُ المبهم كان ما بقي بعد ذلك غير قابل للنصب على الظرفية، وهو المختص، وهو الضرب الثاني إلّا أنه لم يبيّن إعرابه، والذي يقتضيه عدم تضمين "في" -أن تكون ظاهرة، فيكون المختص مجرورًا بها، وهو المُطَّردُ فيه، نحو: قعدت في البيت، وصليتُ في المسجد، وقمت في السوق، وأقمتُ في غرناطة، وذهبت في البلد، وما أشبه ذلك. وقد نَصَّ سيبويه على أنّك "لا تقول: هو جوف المسجد"، ولا هو داخل الدار، ولا خارج الدار (حتى) تقول: "في جوفها، وفي داخل الدار، ومن خارجها. وفرَّق بين هذه الأشياء، وبين خلف وأمام، ونحوهما بأنّ هذه الأشياء صارت مختصَّة بمنزلة الظهر، والبطن، واليد، وغير ذلك من المختصَّات المعيّنات بخلاف خلف، وأمام، ونحوهما فإنّهما مبهماتٌ تدخل على كل اسم، وتلي الاسم من نواحيه وأقطاره"، فلذلك صارت تلك الأشياء لا ينصبها الفعل الواقع فيها. وربما سقط الحرفُ الجارُّ فانتصب المختصُّ، كقولهم: ذهبت الشامَ، ودخلت

البيت، وكان الأصل: ذهبتُ في الشام، ودخلت في البيت، وأنشد سيبويه لساعدة بين جويَّة: لَدْنٌ بهزِّ الكف يعسِلُ مَتنَه ... فيه كما عسل الطريق الثعلبُ فالأصل: في الطريق، ثم حُذِف الجار، وكذلك قنا وعوارض في قول عامر بن الطفيل، أنشده سيبويه: فلأبغينَّكم قنا وعوارضًا ... ولأقبلَنَّ الخيل لابة ضرغد لكن الظاهر من نصبه عند الناظم ليس على الظرفية، بل على إسقاط الجارِّ؛ إذ لو كان على الظرفية لم يقل: "وما يقبله المكانُ إلا مُبهمًا" لقبوله ذلك سماعًا، وأيضًا فقد قال في حدّ الظرف: "ضمنا في بإطراد" فأخرج غير المطرد. وهذا ليس بمطرد كما تقدم، فلا يكون ظرفًا. فالقابلية في قوله: "وما يقبله المكان" مطلقةٌ في القياس والسماع معًا. وهنا يظهر أنّ نصب هذه الأشياء عنده ليس على الظرفية كما قاله الشلوبين تأويلًا على سيبويه، وليس مذهب سيبويه. ومع ذلك فهو مذهب مرجوح؛ فإنها كسائر الأسماء التي يتعدَّى إليها الفعل بحرج الجر من غير أن يطَّرد إسقاطه كمررت زيدًا، فإنّ نصبه على إسقاط الجارّ لا على الظرفية فكذلك هذا. وبَعْدُ فعلى هذا الكلام سؤالان: أحدهما: أنّ قوله: "وكلّ وقتٍ قابلٌ ذاك إلى آخره" ليس على إطلاقه، بل

اسم الزمان أو المكان إنْ كان ظاهرًا فكما قال، وإن كان ضميرًا فلا ينصبه على الظرفية فعله الواقع فيه، بل يلزم جرُّه بالحرف، فتقول: يوم الجمعة سرت فيه، ومكانك قعدتُ فيه، ولا تقول سرتُه ولا قعدتُه، وهو على ظرفيته، وإنما يقال ذلك على تصييره مفعولًا به على الاتساع كقوله: ويومٍ شهدناه سليمًا وعامرًا وقو الأخر أنشده سيبويه: طبَّاخِ ساعاتِ الكري زاد الكسل هو على هذا التقدير كما تقول: سير يوم الجمعة، وولد له ستون عامًا، وجُلِس مكانك، وإطلاقه يوهم أنّك تقول: سرتُه وقعدتُه على حقيقة الظرفية، وذلك غير صحيح. والثاني أنّه ذكر (في) في ظرف المكان المشتق، ولم يذكره هو ولا غيره في ظرف الزمان، وكان من الحقّ ذكرُه، فإنك كما تقول: قعدت مَقعَدًا، تريد المكان، فكذلك تقول: قعدتُ مَقعَدًا تريد الزمان، ولا فرق بينهما في صِحّة

تقدير في، ونصبه على الظرفيّة، فكان إهماله لذلك هو وغيره إهمالًا لأمر قياسيًّ ضروريّ؛ إذ لا فرق بينهما في القياس، ولا في الحكم، ولا في الاستعمال فكان ذِكرُ الزمن المشتق لازمًا كما لزم في المكان. والجواب عن الأول: أنّ اسم المكان أو الزمان في الحقيقة إنّما هو الظاهر، وأمّا الضمير فكناية عن ذلك الظاهر، وليس به فكأنه أراد الظاهر لا الضمير، وعلى ذلك يصحّ كلامه، أو يقال: إنّ الإضمار من عوارض الكلام اللاحقة للأسماء فالناظم إنّما تكلمّم عن الأصل، ولم يتعرّض للتحرُّز مما يعرض فيه، فلذلك أطلق القول في قبول الظرفية حسب ما فصَّل. والله أعلم. وعن الثاني: أن السؤال ظاهر الورود على المتأخرين من النحويين الذين يذكرون في أقسام ظرف المكان المشتقّ ولا يذكرونه في أقسام ظرف الزمان، وأما الناظم فلا يرِد عليه؛ إذ لم يُقسِّم ظرف الزمان بل أجمل القول فيه، فيمكن أن يريد إدخاله فلا يتحتم السؤال عليه. والله أعلم. وفي كلامه إشارة إلى مسألة من الاشتقاق، وذلك قوله: "وما صيغ من الفعل كمرمى من رمى" فظاهره أن اسم المكان هنا مشتق من الفعل لا من المصدر، وهي مسألة تحتمل الخلاف من مسألة اشتقاق الصفة، فالجاري على قول الناظم هنالك باشتقاق الصفّة من الفعل يقول بظاهر هذا، فإن حملنا مذهب الناظم هنا على ظاهرة كان كالمتناقض؛ إذ قد تقرَّر هناك أن من حقيقة المشتق أن يفيدَ المشتق منه وزيادة: هي فائدة الاشتقاق. واسم المكان هنا لا يفيد معنى الفعل

على تمامه لسقوط دلالته على الزمان المعيّن، كالصفة من كل وجه، وهو دليله على اشتقاق الصفة من المصدر لا من الفعل، فإذا كان هنا يختار اشتقاق اسم المكان من الفعل فقد ارتكب أنّ المشتق لا يلزم أن يفيد معنى المشتق منه. وذلك تناقض ظاهرٌ، ولو كان قائلًا في الصفة بما يظهر منه هنا لكان له وجهٌ من القياس؛ لأنَّ القائل باشتقاق الصفة من الفعل يحتجُّ بأنها قد جرت في أحكامها على الفعل فعملت عمله وبُنيت على وزانه، وانحطت عن درجته في قوة العمل؛ إذ الفعل يعمل بلا شرطٍ، والصفة لا تعمل إلا بشرط، وأيضًا فسقوط الدلالة على الزمان المعيّن غير ضارٍّ، لأن الدال عليه الصيغة في الفعل وهي قد عُدِمت في الصفة، فلا يلزم أن يدلّ الفرع المشتق إلا على ما يبقى الدال عليه في الفرع، وهكذا يقول هنا من من يدّعي أن اسم المكان مشتقٌّ من الفعل؛ لأنه جارٍ على الفعل المضارع، ألا ترى أن المضارع في الثلاثي إذا كان على يَفْعِل بكسر العين كان اسم المكان على مَفْعِل كيضرِب ومضرِب، وإن كان على يفعَل -بفتح العين- كان اسم المكان على مفعَل كيذبَح، ومذبَح، وما خرج عن ذلك فلعلل اقتضت ذلك، فصار اسم المكان مع الفعل كالصفة معه، فالذي يقال هنالك يقال مثله هنا، فقد كان هذا مما يمكن الاحتجاج به لظاهر كلامه هنا لولا ما يلزمه بين المذهبين من ظاهر التناقض. والأولى أن يعتذر له عن أحد الموضعين، ويُردُّ إلى الموضع الآخر. وقد وجدنا الموضع الأول في باب المفعول المطلق مقصود الذكر منبهًا عليه، منصوصًا على مخالفته لغيره فيه، ووجدنا هذا الموضع محتملًا لمثل ذلك، ولأن يريد الاجتماع مع الفعل في الاشتقاق، لا أنّه فرع عنه لحاجته إلى ذكره ذلك في عمل الفعل فيه، لكنّه أطلق عليه أنَّه صيغ منه مجازًا، واتساعًا في العبارة. ومثل هذا يُغتَفَر لمثله إذا كان قد قرّر الحق عنده في المسألة، وبيَّن

مذهبه فيها، وإنما الذي لا يغتفر له أن يطلق مثل هذه العبارة من غير أن يكون قد بين وجه المسألة في الكتاب أصلًا، فلا تناقض في كلامه إذا حملنا عبارته هنا على التسامح. والجمع بين الكلامين ولو بوجه ما أولى. والله أعلم. ولما كان القسم الأخير من أقسام المبهم وهو المشتق لا ينتصب ظرفًا مع كل فعل، وإن فرض وقوعه فيه، بل له اختصاص ببعض الأفعال دون بعض أخذ يبين ذلك فقال: وشرط كون ذا مقيسًا أن يقع ... ظرفًا لما في أصله معه اجتمع ذا: إشارة إلى أقرب مذكور، وهو ما صيغ من الفعل كمرمى من رمى، ويريد أن من شرط كون هذا القسم مقيسًا أن يقع ظرفًا للفعل الذي اجتمع معه في أصله، وأصله الحروف الأول التي بني منها، ومعنى ذلك أن يكون العامل فيه إما الفعل المشتق من مصدره نحو: قعدت مقعد زيد، وقمت مقامك، أو اسم فاعله أو اسم مفعوله نحو: أنا قاعد مقعدك، وزيد مقام مقام عمرو، ونحو ذلك، فلو لم يجتمع اسم المكان مع عامله في أصله لم يصح عمله فيه قياسًا، فلو قلت: قعدت مقام زيدٍ، واعتكافك مقعد عمروٍ لم يجز؛ لأن العامل لم يجتمع مع اسم المكان في الحروف الأول التي هي أصله. وفي هذا الكلام إشارة إلى ثلاث مسائل: إحداها: أنه قد يأتي مثل: اعتكافك مقعد زيد سماعًا لقوله: "وشرط كون ذا مقيسًا"، ولم يقل: "وشرط وجود ذا" فدل على أنه قد يجيء ويكون غير مقيس، وذلك نحو قولهم: هو مني منزلة الشغاف، وهو مني منزلة الولد، وأنت مني مقعد القابلة، وهو مني مقعد الإزار، وهو مني مزجر الكلب، ومناط الثريا، وأنشد سيبويه للأحوص:

وإن بني حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها وأنشد لأبي ذؤيب الهذلي: فوردن والعيوق مقعد رابيء الـ ... ـضرباء خلف النجم لا يتتلع فهذه كلها ظروف مشتقة لم يعمل فيها ما شركها في أصلها، فلم تكثر كثرةً يقاس على مثلها، فوقفت على السماع. قال سيبويه لما ذكر هذه الأمثلة: "وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو مني مجلسك، ومتكأ زيد، ومربط الفرس لم يجز، فاستعمل من هذا ما استعملته العرب، وأجز منه ما أجازوا". وإنما كان مثل هذا سماعًا، وإن كان مشتقًا، والمشتق مبهم على ما تقدم؛ لأنها إذا لم يعمل فيها ما اجتمعت معه في الاشتقاق كانت مختصة لا مبهمة، ولذلك ترجم عليها سيبويه بقوله: "هذا باب ما شبه من الأماكن المختصة بالمكان غير المختص" وذلك من حيث كانت لا تقع إلا على ما وقع فيه فعلها؛ إذ كان التقدير: هو مني بمنزلة الشغاف من القلب، وبمنزلة الولد، وكذا سائرها، هي مما يتعدى بالحرف، ويتكلم به لكنها لما كان معناها المكان، فكأنه يقول: هو

مني مكانًا قريبًا، ومكانًا بعيدًا، والمكان مبهم شبهوها به، وعاملوها معاملته فنصبوا. والثانية: أن كلامه صريح في أنه لا يقاس الظرف هنا، وإن كان الفعل مرادفًا لما اشتق منه الظرف، فلا تقول قعدت مجلسًا، ولا جلست مقعدًا، ولا ذهبت منطلقًا، ولا ما أشبه ذلك. وقد نص ابن خروف على امتناع: نزل مني مقعدًا، أو قعد مني منزلة؛ لأن المصدر ليس من لفظ الفعل، واستدل بقول سيبويه: "ويتعدى إلى ما اشتق من لفظه اسمًا للمكان وإلى المكان" فقيد تعدي الفعل إلى الظرف المشتق بكونه مشتقًا من لفظ الفعل، ومثل ذلك بقولك: "ذهبت المذهب البعيد وجلست مجلسًا، وقعدت المكان الذي رأيت" وهذا بين في اشتراط ما قال الناظم، ومنع ما عداه. والثالثة: أن تخلف ذلك الشرط غير مقيس، خلافًا لمن خالف فقد أجاز الأخفش في كتابه: مررت مقعد القابلة منك بزيد، فيظهر من هذا أنه لا يقتصر على المواضع المسموعة حيث سمعت، بل يعديها إلى غيرها، وذلك معنى القياس، وإذا كان كذلك فالناظم لم يرد ذلك؛ لأنه لم يكثر كثرةً يقاس عليها. وعلى ذلك الأئمة، فما رآه هو الأولى. وما في قول الناظم: "لما في أصله" واقعةٌ على العامل في الظرف، وهو الواقع فيه، والعائد عليها فاعلُ اجتمع، والضمير في: (معه وأصله) عائدان على الظرف الذي أشير إليه بذا، كأنه قال: للمظروف الذي اجتمع مع الظرف في أصل الظرف. وأن يقع وما بعده خبر قوله: (وشرط). ثم قال: وما يرى ظرفًا وغير ظرف ... فذاك ذو تصرفٍ في العُرْف

/ وغير ذي التصرف الذي لزم ... ظرفية أو شبهها من الكلم هذا الفصل يبين فيه معنى التصرف المستعمل في الظروف في قولهم: ظرف متصرف، وظرف غير متصرف، فأخبر أن تصرف الظرف أن يصح استعماله ظرفًا وغير ظرف، أي يصح أن يعمل فيه فعله الواقع فيه، فينتصب على تضمين معنى في، ويصح أن يعمل فيه غير ذلك الفعل فيجري بوجوه الإعراب أو ببعضها، لا على معنى في، وذلك كيومٍ وليلةٍ في ظروف الزمان، فإنك تقول: سرت يومًا، وقمت ليلةً، فينتصب نصب الظرف، وتقول: أعجبني يومٌ لقيتك فيه، وأحببت ليلةً ألقاك فيها، وسررت بيومٍ ألقاك فيه، وبليلةٍ أراك فيها، وكذلك: أعجبني يومُ الجمعة، وعجبت من يومِ الجمعة، ورغبت في ليلةِ كذا، فاستعمال هذا فاعلًا ومفعولًا به ومجرورًا بين أنه متصرف، أي يتصرف بوجوه الإعراب. ومثال ذلك في ظرف المكان: يمين وشمال، فإنك تقول: قعدت يمينك وقمت شمالك. فهذا ظرف، فإذا قلت: يمينُك أحسن مقعدًا، وشمالُك أليق مكانًا، ورأيت يمينَك أحسن، وشمالَك أوطأ، وملت إلى يمينِك عن شمالِك، وكذلك مكان، وذات اليمين، وذات الشمال وما أشبهه مما شأنه أن يستعمل هكذا بوجوه الإعراب كسائر الأسماء فهو المتصرف، وذو التصرف. فقوله: "وما يرى ظرفًا وغير ظرف" يعني في الاستعمال العربي وقوله: "ذو تصرف في العرف" يريد في عرف النحاة فإن هذه العبارة، وهي عبارة التصرف- اصطلاحية. وهذا التعريف إحالة على السماع؛ إذ لا يقاس التصرف أو عدمه، ولا فيه علة توجب القياس، فإن أسماء الأماكن محصورة، والأسماء المحمولة عليها قليلة، وقد جعلها سيبويه غرائب. والمصادر وإن كثرت بعض كثرةٍ في الظروف فإنها نائبةٌ عنها، وقليلة لا يقاس عليها فمن هنا أحال في تصرفها على السماع. والله أعلم.

ثم قال: (وغير ذي التصرف الذي لزم) إلى آخره يعني أن ما كان لازمًا لطريقةٍ واحدة فلم يستعمل إلا على وجه واحدٍ، ظرفًا مثلًا، ولم يؤت به غير ظرف فهو غير المتصرف، يعني في العرف الاصطلاحي، ومثال ذلك في ظروف الزمان: سحر، وعشاء، وعشية، وضحى، وضحوة، وعتمة لأوقات بأعيانها، لا تقول: عشية أفضل من ضحوة؛ ولا: أحببت عشيةً، ولا ما أشبه ذلك، وأنت تريد أوقاتًا بأعيانها، فلو كانت نكراتٍ لتصرفت، وكذلك بعيدات بينٍ، وصباح مساء، ويوم يوم، ونحوها، ومثاله في ظروف المكان: مع، وبين بين، ووسط ساكن السين، وما أشبه ذلك. ومستند عدم التصرف السماع كما مر، فما رأينا العرب استعملته على وجوه سميناه متصرفًا، وما رأيناها قصرته على طريقة واحدة ظننا بأنه عندها كذلك فسميناه غير متصرف. ويتعلق بكلام الناظم ثلاث مسائل: إحداها: أن ظرف الزمان بحسب التصرف، وعدمه، والانصراف وعدمه أربعة أقسام: متصرف منصرف، ومقابله، ومتصرف غير منصرف وعكسه. فالأول: كل ما كان من أسماء الزمان غير معين أو بالألف واللام، أو بالإضافة، مثل: سرت يومًا، وسرت يوم الجمعة، واليوم الذي تعلم. والثاني: سحر إذا كان ليوم بعينه، نحو: سرت يوم الجمعة سحر. والثالث: غدوة. وبكرة من يوم بعينه، نحو: لقيته يوم الجمعة، غدوة أو بكرة، فهذا يتصرف، فتقول: موعدك غدوة، وإن بكرة موعدهم كما تقول في القسم الأول: عجبت من يوم الجمعة، واليوم مبارك. والرابع: نحو ضحى وصباحًا ومساءً وعشاء لأوقات بأعيانها، تقول: لقيته

يوم الجمعة ضحى، وصباحًا ومساءً، ولا تقول: موعدك صباحٌ ولا ما لقيته مذ مساء، ولا نحو ذلك ما لا تقول في القسم الثاني: موعدك سحرُ ولا ما لقيته مذ سحرَ، ولا ما أشبه ذلك. وظرف المكان أيضًا ينقسم بحسب التصرف وعدمه- على ما قسمه المؤلف في التسهيل- أربعة أقسام: كثير التصرف، ومتوسطه، ونادره، وعديمه. فالأول: كمكان ويمين وشمال وذات اليمين وذات الشمال، وقد تقدم تمثيله. والثاني: كوراء وقدام وخلف وأمام وأسفل، وذلك قولك: أمامك أوسع لك، ووراءك أوسع لك، وجلس قدامك وأمامك، ومن ذلك ما أنشد سيبويه من قول لبيد: فعدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولي لمخافة خلفها وأمامها وقرأ بعض القراء: {والركب أسفل منكم}. ومن هذا القسم (بين) عنده كقول الله تعالى: {قال هذا فرق بيني وبينك} وقال عبد الله بن عمر في سالم

ابنه رضي الله عنهم أجمعين: يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم والثالث: كدون وحيث، فالأكثر هنا النصب على الظرفية، ومن التصرف في حيث قول زهير بن أبي سلمى: فشد ولم يفزع بيوت كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم ومنه في دون قول الشاعر: ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها وأنشد لذي الرمة: وغيراء يحمي دونها ما وراءها ... ولا يختطيها الدهر إلا مخاطر والرابع: كمع، وبين بين لا يجوز في هذا إلا النصب على الظرفية. والثانية: أنه يظهر من كلامه أن العديم التصرف هو: ما لم يستعمل في

[غير] النصب على الظرفية فإذا ما جر بحرف ليس بعديم التصرف، بل هو متصرف، ولو كان الجار من كغيرها من حروف الجر نحو إلى وفي وعن، ونحوها. وهذا الرأي مخالف لما ذهب إليه في التسهيل من التفرقة بين من وغيرها من الحروف الجارة، فإن الجر بمن عنده ليس بدليل على التصرف، بخلاف الجر بفي، وإلى، ونحوهما، فقال هناك: "فإن جاز أن يخبر عنه أو يجر بغير من فمتصرف وإن لا فغير متصرف". وبين ذلك في الشرح فقال: "وبدخول إلى على متى يعلم أنها ظرف متصرف؛ فلذلك أجاز سيبويه أن يقال: يوم كذا بالرفع لمن قال: متى سير عليه؟ على تقدير: أي الأحيان سير عليه، برفع أي، وقال سيبويه: "والرفع في جميع هذا عربي كثير جيد، في لغة جميع العرب على ما ذكرت لك من سعة الكلام والإيجاز، يكون على كم غير ظرف، وعلى متى غير ظرف". هذا نصه. قال ابن مالك: "ولا يحكم بتصرف ما يجر بمن وحدها كعند وقبل وبعد لأن من كثرت زيادتها، فلم يعتد بدخولها على الظرف الذي لا يتصرف، بخلاف غيرها كمذ، وحتى، وفي، وإلى، وعن، وعلى" انتهى، وما عول عليه في التسهيل- وقد يشير إليها [كلامه هنا]- طريقه ابن خروف، وأما غيره فدخول حرف الجر عندهم دليل على التصرف، بل هو

التصرف. وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال: "وتقول سير عليه أيمن وأشمل، وسير عليه اليمين والشمال؛ لأنه يتمكن. تقول: على اليمين وعلى الشمال، ودارك اليمين، ودارك الشمال" ثم أنشد بيت أبي النجم: يأتي لها من أيمنٍ وأشملِ قال السيرافي: "واستدل بالجر على جواز الرفع؛ لأن كل ما جاز أن تدخل حروف الجر عليه من الظروف كان متمكنًا، وجاز أن يرفع". قال ابن خروف: "ليس بشاهد قوي، لأن من تدخل على جميع الظروف المتمكنة وغير المتمكنة، كجئت من عنده" فهما طريقتان للنحويين في تعريف المتصرف من غيره. وسيبويه موافق لظاهر هذا النظم، ولذلك لم يكن تأويل ابن مالك عليه في الشرح ظاهرًا إذ جعل رأي سيبويه في تصرف متى مبنيًا على جواز جرها بإلى دون جرها بمن، فاستدلاله على التصرف ببيت أبي النجم يرفع ذلك، وأيضًا فإن سيبويه جعل سوى وسواء من قبيل الظروف العديمة التصرف وجعل جرها بمن تصرفًا خاصًا بالشعر، فقال في باب ما يحتمل الشعر: "وجعلوا ما لا يجري من الكلام إلا ظرفًا بمنزلة غيره م الأسماء، وذلك قول المرار بن سلامة العجلي: ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا"

فجعل الجر بمن تصرفًا ثم قال: "فعلوا ذلك لأن معنى سواء معنى غير" فقد تبين أن من عنده كإلى وغيرها من حروف الجر، ولم يقل ذلك سيبويه إلا بعد تحقق أن لا فرق بين حروف الجر في ذلك، وكون بعض الحروف يكثر في الدخول على الظروف أو يقل أمرٌ آخر لا يقدح في دعاء التصرف بدخوله إلا أن من الظروف ما يقل التصرف فيه فلا يتعدى به محل السماع، ومنها ما يكثر ذلك فيه، فيحكم له بحكم التصرف على الإطلاق، وقد قسم هو الظرف المكاني إلى الأقسام الأربعة، فإذا وجدنا ظرفًا دخلت عليه من حكمنا بتصرفه في ذلك الموضع، فإن توارد عليه تصرف آخر وكثر ذلك فيه أطلقنا القياس فيه، وإلا وقفنا القياس وتلقينا السماع بالقبول في موضعه، وعلى هذا نقول: إن ما كثر دخول من عليه دون غيرها كثرةً يتعدى بها محلها جعلنا التصرف فيه بمن دون غيرها قياسًا، كحيث فإن دخول من عليها كثيرٌ جدًا بحيث لا يتوقف استعمال من معها على السماع، بخلاف دخول لدى عليها فإنه نادر فلا نقيسه بل نقفه على مثل: * لدى حيث ألقضت رحلها أم قشعم * وكذلك دون في استعمالها فاعلًا وخبرًا بنفسها، وهذا ظاهر جدًا. وإذا تبين هذا صار الخلاف لفظيًا في تسمية ما جر بمن دون غيرها متصرفًا، فالناظم ومن رأى رأيه هنا يسمي ما جر بمن أو غيرها متصرفًا من حيث أخرج عن النصب على الظرفية، ولكن لا يسميه متصرفًا بإطلاق، بل تصرفت العرب فيه على الجملة. وهذا التصرف قد يكون قياسًا في محله إذا كثر، وقد لا يكون كذلك. ولا يكون متصرفًا بإطلاق في الحكم بالجر بمن وحدها، ولا بإلى أو غيرها وحدها، بل لا بد من ضمائم أخر، كتنكيره، وتعريفه، واستعماله فاعلًا أو مفعولًا وما أشبه ذلك، فهي قرائن منضمة بمجموعها يحكم على الظرف بالتصرف المطلق، وهو ظاهر كلام سيبويه إذا جمع أوله

وآخره؛ ولهذا لما استشهد سيبويه بقوله: * يأتي لها من أيمنٍ وأشملِ * ضعف ذلك ابن خروف ظنا أنه أتى به دليلًا مستقلًا على التصرف بإطلاق، وليس كذلك ثم قال: "والشاهد الثوي تصرفه، وتعريفه، وتنكيره" وما قال لا ينكره سيبويه بل هو قوله، لكنه ادعى أن الجر تصرف في نفسه كيف كان، فإذا انضم إلى غيره من وجوه التصرف حكم على الكلمة بذلك قياسًا، وقد لا ينكر هذا ابن خروف، فيرجع الخلاف إلى الوفاق، ويصير كلام الناظم هنا موافقًا لكلامهم؛ ولذلك قال: "فذاك ذو تصرفٍ" ولم يقل: فذاك متصرف؛ لأن ما حصل له التصرف سماعًا في بعض المواضع يطلق عليه أنه ذو تصرف، ولا يطلق عليه أنه متصرف، لأن لفظ المتصرف يختص بما حصل له كماله، وليس كذلك ذو التصرف لإطلاقه على من حصل له كماله وبعضه، فقد تبين ما في هذا النظم، فإن قصد في التسهيل هذا المعنى، وأن المجرور بمن لا يلزم أن يكون متصرفًا بإطلاق فصحيح، وإن أراد أنه حالة الجر غير متصرف فغير صحيح، والله أعلم. والمسألة الثالثة: أن قوله: "وغير ذي التصرف الذي لزم ... " إلى آخره تعريف إجمالي للظرف وغيره، فليس "غير" في كلامه واقعًا على الظرف بخصوصه، بل عليه وعلى غيره بدليل قوله: "أو شبهها من الكلم" فكأنه يقول: غير المتصرف من الكلم العربية ما لزم حالة واحدة، وطريقة واحدة من ظرفية أو شبهها، ويكون قوله: "من الكلم" راجعًا إلى غير ذي التصرف حالًا منه، وحصل في مضمن ذلك التعريف بالظرف غير المتصرف، وقد مر شرحه والتعريف بغيره أيضًا كان اسمًا غير ظرف أو فعلًا. أما الحرف فلا مدخل له هنا في ذلك المعنى جملةً، وعند ذلك يتعين التنبيه

على غير المتصرف مما سوى الظرف، فأما الأسماء فمنها ما لزم النصب على المصدرية كسبحان الله، وقعدك الله، وعمرك الله، ولبيك وسعديك، وحنانيك وما أشبه ذلك مما هو مذكور في الكتاب، وفي المطولات، ومنها ما لزم النداء فلا يستعمل في غيره كملأمان ومخبثان، وفل وفلة، وما أشبه ذلك، فجملة هذه وما كان نحوها تسمى غير متصرفة؛ للزومها طريقةً واحدةً. وأما الأفعال فمنها عسى، ونعم، وبئس وفعل التعجب نحو: ما أحسنه وأحسن به فهي أيضًا غير متصرفة للزومها طريقة واحدة، وقد تقدمها وجها الاصطلاح في تصرف الأفعال، وعدم تصرفها عند النحويين، والذي أراده هنا هذا المشار إليه لا الذي يشاكل قولهم: سقط في يده، وعلى ذلك كلامه في هذا النظم، والله أعلم. وقد ينوب عن مكانٍ مصدر ... وذاك في ظرف الزمان يكثر هذا فصل يذكر فيه نيابة المصدر عن الظرفين: ظرف الزمان وظرف المكان، فإن العرب فعلت ذلك في كلامها اتساعًا واتكالًا على فهم المعنى، واختصارًا حتى كأن الموضع من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. فأما ظرف المكان فبين أن ذلك فيه قليلٌ بقوله: "وقد ينوب عن مكان مصدر" لأن قد تفيد التقليل فمن ذلك: هو قربك، وهو وزن الجبل، وزنة الجبل أي هو: في مكان قربك، وفي مكان وزن الجبل أي مسامته، وفي مكان زنته، ومنه: هو صددك أي: قصدك، وهو قرابتك، وسقبك أي قربك. وهو قليل كما ذكر. وأما ظرف الزمان فيكثر فيه نيابة المصدر عنه، وهو قوله: "وذاك في ظرف

الزمان يكثر" والإشارة إلى معنى النيابة المفهوم من قوله: "ينوب" فإن اسم الإشارة كإعادة الضمير في ذلك، وقد بوب سيبويه على هذا المعنى فقال: "هذا باب ما يكون فيه المصدر حينًا لسعة الكلام والاختصار" وأتى لذلك بأمثلةٍ كقوله: متى سير عليه؟ فتقول: مقدم الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلان، وصلاة العصر، والتقدير: زمن مقدم الحاج، وحين خفوق النجم، وزمن خلافة فلان، لكنهم حذفوا الظرف وأقاموا المصدر مقامه توسعًا واختصارًا، وقال أيضًا: "تقول سير عليه مبعث الجيوش، ومضرب الشول، وأنشد لحميد الأرقط: وما هي إلا في إزار وعلقةٍ ... مغار ابن همام على حي خثعما" وأنشد غيره لذي الرمة: تقول عجوز مدرجي متروحًا ... على بابها من عند رحلي وغاديا وإنما كان ذلك كثيرًا في ظروف الزمان، وقليلًا في ظروف المكان، لقرب ظرف الزمان من المصدر، وبعد ظرف المكان منه ألا ترى أن الزمان شارك المصدر في دلالة الفعل عليهما، فهو يدل على المصدر بحروفه، وعلى الزمان بصيغته، وأن الزمان: مضي الليل والنهار كما قال سيبويه، وإذا نظرت إلى المضي وجدته

مصدرًا، وهو مراد الزجاجي بقوله: "الزمان حركة الفلك، والفعل حركة الفاعلين" بخلاف ظرف المكان فإنه لم يبن له فعل، ولم يكن للفعل دلالة عليه، وأيضًا فهو أشبه بالأناسي كما قال سيبويه قال: "ألا تراهم يختصونها بأسماء كزيد وعمرو في قولهم: مكة وعمان ونحوهما، وتكون منها خلقٌ لا تكون لكل مكان ولا فيه، كالجبل، والوادي، والبحر. والدهر ليس كذلك. والأماكن لها جثة، وإنما الدهر مضي الليل والنهار" فلما كان لظرف الزمان هذا القرب من المصدر كثر قيامه مقامه، ولما كان لظرف المكان هذا البعد من المصدر حصل بينهما من التباين ما بعد به أحدهما من أن يقوم مقام الآخر إلا أن المكان لما كان لازمًا للمصدر لزومًا خارجيًا، لأن كل فعل لا بد له من مكان يقع فيه راعوا هذا المقدار من القرب، فعاملوا المكان معاملة الزمان بحيث لا يقوى في ذلك قوته، ولا يبلغ رتبته، فكان إقامة المصدر مقام المكان قليلًا. والله أعلم. وفي قوله: "وقد ينوب عن مكانٍ مصدر" ما يدل على عدم القياس، وإن كان من عادته أنه يأتي بقد مشعرة بقياس ضعيف، ولكن هنا قرينة تشعر بخلافه؛ إذ هو يحكي ذلك عن العرب لقوله: "وذاك في ظرف الزمان يكثر" لأنه لا يريد أنه يكثر في استعمال القياس، وإنما يريد يكثر في السماع، ولم يشعر أيضًا في نيابة المصدر عن الزمان بقياس فيحتمل أن يكون عنده موقوفًا على السماع، وإن كثر، ويحتمل أن يكون عنده قياسًا، فتقول: سير عليه طلوع الشمس، وغروب الشمس، وقدوم الأمير، وأذان الظهر، وارتفاع النهار، وانتهاء القتل، واندفاع السيل، ودفع الحاج، وما أشبه ذلك.

المفعول معه

المفعول معه هذا هو النوع الخامس من المنصوبات التي ينصبها كل فعلٍ، وهو المفعول معه، والناظم لم يعرفه تعريفًا مصرحًا به، وإنما عرفه بالمثال، على عادته في الاتكال على الأمثلة فقال: ينصب تالي الواو مفعولًا معه ... في نحو سيري والطريق مسرعه ومعنى ما قاله أنه ينتصب على المفعول معه كل اسم واقع بعد الواو المتصفة بمثل ما اتصفت به الواو في قولك: سيري والطريق، وهذه الواو في المثال لها وصفان: أحدهما: أن ما بعدها صار معها في المعنى كالمجرور بمع، لأن المعنى بها وبمع واحد؛ لو قلت: سيري مع الطريق مسرعةً كان كمعنى: سيري والطريق مسرعة. والثاني: أن صيرورة ما بعدها معها بمعنى مع من الواو نفسها، أي هي التي دلت على المعية، لا من أمرٍ خارج. فالوصف الأول تحرز به من الواو التي تكون لمطلق الجمع؛ فإنها لا تعين مفهوم مع، فلم تكن مراده، كقولك: قام زيدٌ وعمرو. والثاني تحرز به من المعطوف بالواو بعد ما يفهم المصاحبة كقولك: أشركت زيدًا وعمرًا، ومزجت الخل والعسل، وخلطت البر والشعير؛ فإن مفهوم مع ههنا حاصل مما قبل الواو، وهو أشركت، ومزجتُ وخلطتُ،

وكذلك ما أشبهه. وهذان الوصفان حاصلان في مثال الناظم، فلا بد من تقييد كلامه بهما. فينتظم إذًا من المجموع حد للمفعول معه، وهو أن يقال: "هو الاسم التالي واوًا تجعله بنفسها في المعنى كمجرور مع، وفي اللفظ كمنصوب معدى الهمزة". وهذا عين ما حده به في التسهيل. وقوله: "في نحو: سيري" متعلق بتالي أو بينصب، ومفعولًا معه حال من تالي، والعامل فيه ينصب، وإنما خص هذا المثال دون سائر ما يجوز فيه ذلك من المثل لكونه يتعين فيه النصب ولا يجوز العطف فمعنى مع في الواو فيه صريح، ويشمل مع ذلك كل ما يصح فيه ذلك المعنى، وإن كان يجوز فيه العطف، نحو: قام زيد وعمرًا، فلا يتوهم أنه أخرج مثل هذا عن حكم الباب، وإنما ذكره ليتعين معنى الواو فيحمل عليه ما يتحمله؛ لأن مراده أن ما كان معنى الواو فيه كمعناها هنا، ولفظ ما بعدها كلفظ ما بعدها هنا، فإنه يحكم له بحكمه كان ذلك المعنى معينًا فيه أو محتملًا له ولغيره. هذا الذي قصد بدليل كلامه في الباب. وهذا الكلام دال على أنه عنده- أعني المفعول معه- مقيس، لأنه سوغ هذا العمل، وأجاز أن يستعمل كل ما كان نحو مثاله، وكذلك في الأقسام الآتية، وحكى في الشرح الاقتصار فيه على السماع عن بعض النحويين، وصحح استعمال القياس فيه على الشروط المذكورة. وأصل حكاية الخلاف عن الأخفش؛ قال في قولهم (استوى الماء والخشبة): بعض الناس يقيس عليه، وبعضهم اقتصر على ما سمع ولا يقيس. قال الفارسي في التذكرة: "يقول من لم يقس أرى الواو حرفًا غير عامل، كما أن إلا حرف غير عامل فقد وصل الفعل بكل واحد منهما إلى ما بعده، فكما لا

يقاس على إلا غير الاستثناء كذلك لا يقاس في باب استوى الماء والخشبة إلا ما سمع" قال: "والذي يقيس يقول: إن الواو حرف قد أبدل من الباء في نحو والله وبالله، وقولك: الشاء شاة ودرهم، أي بدرهم فلما أشبه الباء في هذا، وقاربه في المعنى أيضًا جعله بمنزلة حرف الجر". قال أبو علي: "وأبو الحسن يذهب إلى أنه لا يقاس". وفيه أيضًا دلالةٌ على مسألة أخرى، وهي عدم اشتراط صحة العطف في هذا الباب؛ لأن تمثيله بقوله: "سيري والطريق" يعين؛ ذلك أنه لا يصح العطف في الطريق لفساد المعنى فكأنه قصد بتعيين ذلك المثال التنكيت على مدعي ذلك، فقد حكى ابن خروف عن ابن جني أن العرب لم تستعمل هذه الواو إلا في موضعٍ يصلح أن تقع فيه عاطفة. وهذا المعنى وقع له في الخصائص في باب شجاعة العربية، ورده بأن سيبويه قد أجاز أن تقول: أنت أعلم ومالك، وأكثر من ذلك، وأنشد لكعب بن جعيل: فكان وإياها كحران لم يفق ... عن الماء إذ لاقاه حتى تقددا وقال في شرح التسهيل: "أنكر قوله ابن خروف، وهو بالإنكار حقيق؛ فإن العرب استعملت الواو بمعنى مع في مواضع لا يصلح فيها العطف، وفي مواضع يصلح فيها"، قال: "والمواضع التي لا يصلح فيها العطف على ضربين: أحدهما: ترك العطف فيه لفظًا [ومعنى، والثاني: استعمل فيه العطف لمجرد اللفظ ... فمن الأول قولهم: ] استوى الماء والخشبة، وما زلت

أسير النيل، وقوله: * فكان وإياها كحران لم يفق * ومن الثاني قولهم: أنت أعلم ومالك، أي: أنت أعلم مع مالك كيف تريده، والمال معطوف في اللفظ، ولا يجوز رفعه على القطع وإضمار الخبر؛ لأن المال لا يخبر عنه بأعلم، ثم ذكر باقي التقسيم. وما قاله صحيح. فالوجه ما أشار إليه من الجواز صلح ما بعد الواو للعطف أو لم يصلح. بما في الفعل وشبهه سبق ... ذا النصب لا بالواو في القول الأحق تكلم في هذين الشطرين على مسألتين: إحداهما بالقصد، والأخرى أتى بها بحكم الانجرار. الأولى: أن النصب الحاصل في المفعول معه هو بما سبق في أول الكلام من الفعل أو ما أشبهه من اسم فاعل، أو مفعول، أو غيرهما، فإذا قلت: سررت والنيل، أو استوى الماء والخشبة، فالنصب في النيل، والخشبة بالفعل الذي هو سرت، واستوى، وكذلك قولك: الناقة متروكة وفصيلها، والماء مستوٍ والخشبة، وعرفت استواء الماء والخشبة، حكم هذا حكم قولك: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، واستوى الماء والخشبة. هذا إذا ظهر فعلٌ أو شبهه وإلا قدر فعلٌ أو شبهه كما في قولهم: مالك وزيدًا، فإنه على إضمار الملابسة وقولهم: ما أنت وزيدا، فإنه على تقدير: ما كنت وزيدًا كما سيأتي. والواو في

هذا كله للتعدية، وليست بعاملة وهو رأي سيبويه، والمحققين. قال سيبويه بعد ما ذكر أمثلة من الباب "والواو لم تغير المعنى، ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها" انتهى. وهو ظاهر؛ لأن الفعل وإن كان في الأصل غير متعد قد قوي بالتعدي بالواو فنصب كما تعدى الفعل غير المتعدي بالهمزة والتضعيف، نحو: أقمت زيدًا، وفرحته، ونظيره الاستثناء في تعدي ما قبل إلا لما بعدها بواسطة إلا في قولك: ما ضربت القوم إلا زيدًا، وجاء القوم إلا زيدًا، نصب الفعل زيدًا بوساطة إلا للمعنى الموجب لذلك، فلا نكير في توسط الواو لمعناها بين العامل والمعمول حتى يصل إليه. والمذاهب المخالفة للناظم أربعةٌ: أحدها: ما نبه عليه بقوله لا بالواو، وهو مذهب عبد القاهر الجرجاني: أن الواو هي الناصبة بنفسها. والثاني: مذهب الزجاج: أن النصب بإضمار فعلٍ بعد الواو كأن التقدير إذا قلت: ما صنعت وأباك؟ ما صنعت ولابست أباك؟ وجاء البرد والطيالسة على معنى ولابس الطيالسة، ونحو ذلك: والثالث: مذهب أهل الكوفة أن النصب بالمخالفة على حد ما ذهبوا إليه في

نصب الظرف إذا وقع خبرًا للمبتدأ، لأن ما بعد الواو لما لم يصلح أن يجري على ما قبلها كقام زيد وعمرو؛ لمخالفته له في المعنى انتصب على الخلاف. والرابع: مذهب الأخفش أن نصب ما بعد الواو على حد نصب مع لو وقعت عوض الواو كما كانت غير في الاستثناء منصوبة نصب ما بعد إلا. فأما المذهب الأول فرده في الشرح بأوجه ثلاثة: أحدها: أنه لو كانت الواو هي الناصبة لم يشترط وجود الفعل أو شبهه قبلها، ولجاز أن يقال: كل رجلٍ وضيعته، ونحوه نصبًا، ولما لم يجز ذلك دل على أن الناصب غير الواو. والثاني: أن حرفًا يعمل النصب، ولا يشبه الفعل كإن وأخواتها، أو يشبه ما أشبه الفعل كلا التبرئة، غير موجودٍ في كلامهم. والواو لا تشبه الفعل، ولا تشبه ما أشبهه، فدعوى العمل لها غير صحيح؛ إذ لا نظير لذلك أيضًا. والثالث: أنه لو كان كما قال للزم اتصال الضمير إذا وقع مفعولًا معه، ولم يكن انفصاله إلا شاذًا نحو: * تكون وإياها بها مثلًا بعدي *

ولا خلاف في وجوب الانفصال في مثل هذا. وأما المذهب الثاني فرده السيرافي بأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتصل به المفعول، فإن كان لا يحتاج في عمله فيه إلى وسيط، فلا معنى لدخول حرف بينهما، وإن كان يحتاج إلى وسيط عمل بتوسطه، نحو: ضربت زيدًا وعمرًا، فالواو توجب الشركة بينهما في: ضربت، ولم تمنع الواو من وقوع ضربت على ما بعدها وكذلك إلا في قولك: ما ضربت إلا زيدًا، تنصب زيدًا بضربت، وإن كان بينهما إلا؛ للمعنى الذي أوجب ذلك. وقال ابن الأنباري: "قد بينا أن الفعل قد تعلق بالمفعول معه بتوسط الواو، وأنه يفتقر في عمله إليها، فينبغي أن يعمل مع وجودها، فكيف يجعل ما هو سببٌ في وجود العمل سببًا في عدمه؟ ". وأما المذهب الثالث فمردود بالعطف الذي يخالف بين المعنيين، نحو: ما قام زيدٌ لكن عمروٌ؛ فإن ما بعد لكن يخالف ما قبلها، وليس بمنصوب لزومًا عندنا وكذلك عندكم، فلو كان كما زعمتم لوجب ألا يكون ما بعدها معطوفًا عندكم؛ لمخالفته الأول، بل كان يجب النصب إذا حصلت المخالفة، فلما لم يكن الخلاف موجبًا للنصب مع لكن، وهو حرف يلزم أن يخالف ما بعده ما قبله فألا يكون موجبًا مع الواو التي لا يجب أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها أحق وأولى. وكذلك يبطل بلا، وبل إذا قلت: قام زيدٌ لا عمروٌ، وما قام زيد بل عمروٌ، ونحو ذلك.

وأما المذهب الرابع فضعيفٌ جدًا؛ لأن مع إذا وقعت موقع الواو يجب لها النصب على الظرفية، ولا يصح القول بأن نصب الخشبة في: استوى الماء والخشبة على الظرفية، وما ذكر في غير مع إلا لا يطرد إذا كان سِوى وسُوى وسواء في الاستثناء منصوبة على الظرفية عند سيبويه وجماعة، وهي واقعة موقع ما بعد إلا، وكذلك ما خلا وما عدا هما في تقدير المصدر الموضوع موضع الحال، أي مجاوزتهم زيدًا، كرجع عوده على بدئه، وليس ما بعد إلا كذلك. فالصواب ما ذهب إليه الناظم. المسألة الثانية: أنه أشار إلى أن الفعل في هذا الباب إنما يعمل متقدمًا، ولا يعمل متأخرًا ولا متوسطًا، لأنه قال: "بما من الفعل وشبهه سبق، يعني بسبقه لما قبل الواو وما بعدها، وذلك: جاء البرد والطيالسة، فلو لم يسبق لكان المفهوم من الكلام أنه لا يعمل، ومحصول ذلك عدم جواز تقدم المفعول معه على الفعل والمصاحب معًا، أو على المصاحب وحده، لأن السبق في كلامه مطلق كأنه قال بما سبق في أول الكلام ذا النصب، فلا يقال على هذا: والطيالسة جاء البرد، ولا: جاء والطيالسة البرد. أما منع التقديم للمفعوا معه فمتفق عليه حكى ذلك في التسهيل. وأما منع التوسط بين الفعل والمصاحب فحكى فيه المنع أيضًا خلافًا لابن جني، فإنه قال عنه: إنه أشار في الخصائص إلى جواز التوسط، وأنك تقول: جاء والطيالسة البرد، فإن كان ابن مالك يشير إلى ما ذكر في باب التقديم والتأخير من ترجمة شجاعة العربية من قوله فيه: "ولكنه يجوز: جاء

والطيالسة البرد، كما يجوز: ضربت وزيدًا عمرًا" فهذا لا دليل فيه على ما قال، بل كلامه يدل على امتناعه إلا في الشعر، ومن طالع كلامه هنالك وجده كما ذكرته، وإن كان يشير إلى موضع آخر في الخصائص فلا أعرفه، وإن كان فقد تناقض في كلامه، فالله أعلم بصحة هذا النقل عن الخصائص. فإن ثبت لابن جني أو غيره، فالصحيح المنع، وهو المفهوم من كلامه هنا. والحجة للجواز قد ذكرها في الشرح وذلك من وجهين: أحدهما: أنه قد جاز ذلك في العاطفة فليجز فيها؛ لأنها محمولة عليها. هذا

من جهة القياس. والثاني: أنه قد سمع ذلك كبيت الفزاري من أبيات الحماسة: أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوءة اللقبا فقوله: والسوأة مفعول معه مقدم على المصاحب، وقول الآخر: جمعت وفحشًا غيبة ونميمة ... ثلاث خصالٍ لست عنها بمرعوي ثم رد الأول بأن العاطفة أقوى وأوسع مجالًا، فجعل لها مزية بتجويز التقديم؛ لأن المعطوف بالواو تابع، نسبة العامل إليه كنسبة المتبوع، فلم يكن في تقديمه محذور، بل كان فيه إبداء مزية للقوي على الأضعف، فلو شرك بينهما في الجواز خفيت المزية، وأيضًا فإن الواو هنا وإن أشبهت العاطفة لها شبه بالهمزة يقتضي لزومها مكانًا واحدًا كما لزمت الهمزة مكانًا واحدًا. ثم رد الثاني بإمكان جعل البيتين من باب تقديم المعطوف على المعطوف عليه، فالأول على تقدير: ولا ألقبه اللقب وأسوءه السوأة، من باب. * فزجحن الحواجب والعيونا *

والثاني ظاهر. (هذا ما يقال). والحق أنه لو صح ما قاله لوجد كثيرًا في الكلام فلما لم يوجد لم يصح القول به، وأما الاحتجاج بالقياس فإن فيه مقالًا لمن تأمله. والله أعلم. ثم قال: وبعد ما استفهام أو كيف نصب ... بفعل كونٍ مضمرٍ بعض العرب والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق ... والنصب مختارٌ لدى ضعف النسق والنصب إن لم يجز العطف يجب ... أو اعتقد إضمار عاملٍ تصب هذا الفصل يذكر فيه أوجه الإعراب فيما بعد الواو؛ من النصب على المفعول معه، أو العطف على ما قبلها. وجملة الأوجه المتصورة ثلاثة تتفرع إلى خمسة أوجه. أحدها: وجوب النصب. والثاني: وجوب العطف. والثالث: جواز الوجهين؛ وهو على ثلاثة أوجه: ما يختار فيه النصب، وما يختار فيه الرفع، وما يتساوى فيه الأمران. وكل هذه الأوجه تخرج من كلام الناظم إلا الخامس فإنه لم يأت به. فأما وجوب النصب على المفعول معه، فحيث لا يتصور العطف، وذلك قولك: ما زلت أسير والنيل، واستوى الماء والخشبة، وسرت الطريق؛ إذ لو عطف هنا لكان على التشريك في العامل، والتشريك هنا ممتنع؛ ولا يجوز:

سرت وسار النيل، ولا استوت الخشبة والماء، فلا بد في هذا من النصب مفعولًا معه. وذلك منصوص عليه بقوله: "والنصب إن لم يجز العطف يجب". وأما وجوب العطف فحيث لا يمكن إلا هو، نحو: كل رجلٍ وضيعته، وأنت وشأنك وأنت أعلم ومالك؛ إذ لم يتقدم فعل ولا ما يشبه الفعل، ولا ناصب هنا إلا ذلك فامتنع النصب. ويؤخذ هذا للناظم من قوة كلامه؛ لأنه قال: "والعطف إن يمكن بلا ضعفٍ أحق" إلى آخره. فجعل الأحق فيما يجوز فيه الوجهان: النصب والعطف، هو العطف إن أمكن بلا ضعفٍ، وإن أمكن بضعفٍ فالنصب أحق، وإن لم يكن العطف فالنصب وحده واجبٌ، فاقتضى أن النصب إن لم يكن فالعطف واجبٌ، لأنه لم يتقدم ما يعمل فيه النصب، ولا هو موضع يحتمل تقدير الفعل، قال سيبويه لما مثل هذا النحو: "فكله رفع لا يجوز فيه النصب؛ لأنك إنما تريد أن تخبر بالحال التي فيها المحدث عنه في حال حديثك، فقلت: أنت الآن كذلك، ولم ترد أن تجعل ذلك فيما مضى ولا فيما تستقبل، وليس موضعًا يستعمل فيه الفعل". يعني كما استعمل في: ما أنت وزيدًا؟ فجاز النصب، فهذا ليس كذلك. وعلى هذا جمهور النحويين. وأجاز الصميري النصب ظهر الخبر أو لم يظهر، والذي صححوا رأي الجمهور فإن كلام العرب عليه، والقياس يعضده كما تقدم. وقد جاء في الحديث ما يعضد قول الصميري، وهو قول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول

الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي وأنا وإياه في لحاف". وفي الحديث: "أبشروا فوالله لأنا وكثرة الشيء أخوفني عليكم من قلته"، بنصب كثرة، ذكره الشلويين عاضدًا به ما ذهب إليه الصميري، وأصل الاستدلال لابن خروف، لكنه استدل بذلك على جوازه مع ظهور الخبر، قال: وبعض العرب ينصب إذا كان معه خبر، وهو قليل لأنه يتوهم الفعل ومعنى مع" ثم أتى بالحديثين، ولكن المؤلف لم يرتض ذلك المذهب فقال: "من ادعى جواز النصب [ ... ] على تقدير: كل رجل كائن وضيعته فقد ادعى ما لم يقله عربي، فلا التفات إليه، ولا تعريج عليه" وإنما قال ذلك حيث لا يظهر الخبر، وأما مع ظهوره فقد أجاز النصب نادرًا كابن خروف، فيحتمل أن يكون مذهبه هنا مذهب الجمهور في التزام الرفع مطلقًا؛ إذ لا يتأتى النصب، وإن ظهر الخبر إلا على استكراه يتأتى مثله فيما لم يظهر فيه الخبر، ولذلك قال ابن خروف بعد ما ذكر الشاهد: "والنصب ضعيف لعدم العامل"، ويرشح ذلك أنه لو كان النصب جائزًا عنده لأتى به مع مسألةٍ ما وكيف كما في التسهيل، إذ قال: "وربما نصب بفعل مقدر بعد ما، أو

كيف، أو زمنٍ مضافٍ أو قبل خبرٍ ظاهر" إلا أنه لم يفعل ذلك فدل على أنه داخل في وجوب الرفع. وأما اختيار النصب فحيث يضعف العطف، نحو قولك: مالك وزيدًا؟ وما شأنك وعمرًا، وأنشد في الكتاب: فمالك والتلدد حول نجدٍ ... وقد غصت تهامة بالرجال وأنشد أيضًا: وما لكم والفرط لا تقربونه ... وقد خلته أدنى مرد لعاقل وهذا الوجه منصوص عليه بقوله: "والنصب مختار لدى ضعف النسق" لأن العطف هنا على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، أو الضمير المرفوع من غير فصل ضعيف. ومن النحويين من يجعل هذا القسم مما يلزم فيه النصب. وهو بناء على منع العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض.

والناظم قد أجاز ذلك في باب العطف فلا بد من البناء على ما ذهب إليه. ومن هذا القسم أيضًا قولهم: كنت وعمرًا كالأخوين، وما صنعت وأباك؟ وأنشد سيبويه: فكان وإياها كحران لم يفق ... من الماء إذ لاقاه حتى تقددًا وهذا أيضًا مبني على جواز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وهو جائز على ضعفٍ عند الناظم كالضمير المخفوض، وبيان ذلك كله في باب العطف. وأما اختيار العطف فحيث يتأتى من غير ضعفٍ، ولكن الفعل غير موجود، ويمكن تقديره لكون الموضع مما يستعمل فيه الفعل نحو: ما أنت وزيد؟ وكيف أنت وقصعة من ثريد؟ وما شأنك وشأن زيد. وأنشد سيبويه للمخبل: يا زبرقان أخا بني خلف ... ما أنت ويب أبيك والفخر وأنشد أيضًا قول الآخر: وأنت امرؤ من أهل نجدٍ وأهلنا ... تهامٍ، وما النجدي والمتغور

وأنشد أيضًا: وكنت هناك أنت كريم قومٍ ... وما القيسي بعدك والفخار وإنما كان العطف هنا أولى؛ لأنه لم يتقدم فعل [يعمل] فيما بعد الواو، والمعنى: ما أنت وما عبد الله؟ إذ كنت تريد أن تحقر أمره، وكيف أنت وعبد الله؟ سؤال عن شأنهما، كأنك قلت: وكيف عبد الله؟ فصارت الواو بمعنى مع كهي لمجرد التشريك لكون العطف على الابتداء مثل: أنت وشأنك، لكن جاز النصب ضعيفًا؛ لكون الفعل يستعمل هاهنا كثيرًا، قال سيبويه: "وزعموا أن ناسًا يقولون: كيف أنت وزيدًا، وما أنت وزيدًا. وهو قليل في كلامهم" ثم علل بمعنى ما تقدم، وأنشد من ذلك: فما أنا والسر في متلفٍ ... يبرح بالذكر الضابط وأنشد أيضًا: أتوعدني بقومك يا ابن حجل ... أشاباتٍ يخالون العبادا بما جمعت من حضن وعمرو ... وما حضن وعمرو والجيادا وهذا الوجه منصوص عليه بقوله: "والعطف إن يمكن بلا ضعفٍ أحق".

ويدخل تحته أيضًا قولك: ما شأن عبد الله وزيدٍ؟ وما لزيدٍ وعبد الله؟ قال سيبويه: "وسمعنا بعض العرب يقول: ما شأن عبد الله والعرب يشتمها" لأن العطف هاهنا ممكن بلا ضعف من حيث صار المجرور ظاهرًا، وإنما ضعف في الوجه الآخر العطف لكون المعطوف عليه مضمرًا، فقد زال الضعف، فصار العطف أولى. وأما استواء الأمرين ففي نحو: ما صنعت أنت وأباك؟ وأبوك، هما جائزان على السواء؛ إذ هما مختاران، قال سيبويه [في]: ما صنعت وأباك؟ : "ويدل على أن الاسم ليس على الفعل- يعني ليس مشركًا مع الفاعل- في: ما صنعت فيرتفع بالعطف- قبح: أقعد وأخوك، حتى يقال: أنت، فإذا قلت: ما صنعت أنت، ولو تركت هي، فأنت بالخيار" يعني في العطف والنصب. وهذا مذهب الجمهور. والذي يؤخذ من كلام الناظم هنا اختيار العطف؛ من قوله: "والعطف إن يمكن بلا ضعفٍ أحق"، لأن هذا المثال يمكن فيه العطف بلا ضعفٍ؛ لأن توكيد الضمير المتصل قد حصل. فيبقى أربعة مأخوذة من كلامه، ويظهر أن الخامس خالف فيه الناس هنا. ومن حجته في ذلك أن العطف هو الأصل، لإيثارهم المشاكلة بين ما قبل العاطف وما بعده، وفي سائر الأبواب، وإذا كان كذلك فالحمل على الأصل أولى، فلا يتساوى الوجهان إذًا، هذا مع أن العطف يحتمل من المعنى ما في النصب، إذ قولك: قام زيد وعمرو محتمل للمعية، والملابسة في القيام، وهو معنى: قام زيدٌ وعمرًا. فإن قيل: النصب هو المطابق لقصد المعية، ألا ترى أن العطف لا يقتضي

التباسًا بينهما بلا بديل، بل يمكن أن يسأل عن صنع كل واحد منهما على انفراده من غير أن يكون ملتبسًا بصنع الثاني، فالنصب قد يكون على هذا أولى، لأنه المطابق، والعطف أيضًا هو المطابق لقصد التشريك، وإذا تعارض القصدان لاقتضاء كل واحد منهما رجحان وجهٍ حصل من المجموع جواز الوجهين على السواء، كما استوى الوجهان في باب الاشتغال في: زيدٌ ضربت وعمرو كلمته حسب ما تقدم فكذلك هنا. فالجواب: أن قصد مجرد التشريك هنا يقتضي العطف حتمًا، فلا يجوز معه النصب، وقصد الالتباس والمعية لا يقتضي النصب حتمًا، بل يجوز العطف على ذلك القصد، فإذًا للعطف في الباب مزية ليست للنصب، فكان العطف أولى كما قال الناظم، مع أن كلام سيبويه ليس بنص في مخالفته، بل يجوز أن يكون تخييره بين الوجهين يريد به أن كل واحد منهما سائغ ليس بقبيح كما كان قبيحًا قبل أن [يؤكد، ويبقى] ترجيح أحد الوجهين على الآخر غير معترض له في كلامه. والله أعلم. فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى تنزيل ألفاظه على ما ذكر، فقوله: "وبعد ما استفهامٍ أو كيف نصب" ... إلى آخره، يعني أن بعض العرب ينصب ما بعد الواو وإن لم يتقدم فعل ولا ما أشبهه إذا تقدم ما الاستفهامية أو كيف، ولا تكون إلا أداة استفهام، فتقول: ما أنت وزيدًا؟ وكيف أنت وقصعةً من ثريد؟ وقد تقدمت الأمثلة. وفي قوله: "بعض العرب" نص على أنه لا يقول بالنصب جميعهم، وإنما هو مسموعٌ من بعضهم، وكأنه أراد حكاية ما حكى سيبويه إذ قال: "وزعموا أن ناسًا

يقولون: كيف أنت وزيدًا؟ وما أنت وزيدًا؟ وهو قليل في كلام العرب" ولابد [على هذا] من عامل هو كان أو يكون، لأن هذا الوضع مما يستعمل الفعل فيه كثيرًا، فنصبوا على معناه، وحضور الدلالة عليه، وذلك أداة الاستفهام. وقوله: "بفعل كونٍ مضمرٍ يدل على طلب الموضع لكان، وهذا المجرور معلق بنصبوا، أي: نصبوا ذلك بفعل مضمرٍ من أفعال الكون؛ لأن الكون مع الاستفهام مفهوم، وهو مما يستعمل فيه من غير أن ينقص معنى الكلام. وفي هذا إشارة إلى مسألةٍ، وذلك أن سيبويه قدر الفعل الموضوع من الكون ماضيًا مع ما، ومضارعًا مع كيف، فقال: "كأنه قال: كيف تكون وقصعةً من ثريد؟ وما كنت وزيدًا؟ " فرد عليه المبرد، وقال: يصلح في كل واحدٍ منهما الماضي والمستقبل نحو: ما يكون وزيدًا؟ وما كنت وزيدًا؟ وكيف يكون وزيدًا؟ وكيف كنت وزيدًا؟ قال ابن خروف: "وتابعه الأستاذ- يعني ابن طاهر الخدب- وقال: إنما قدر مع ما الماضي، ومع كيف المستقبل لكثرة ذلك في الكلام، ولا يمتنع في القياس العكس كما قال المبرد إلا أن الاستعمال ورد على ما ذكره سيبويه فيوقف عنده" قال ابن خروف: "ونعم ما قال" وزعم ابن ولاد: أن ما قال سيبويه لازم، واعتل لذلك بأن (ما) قد دخلها معنى التحقير والإنكار، وليست سؤالًا عن مسألةٍ مجهولة ولا ينكر إلا ما ثبت واستقر". قال: "ولو كنت هنا لمجرد الاستفهام لجاز فيها الماضي، والمضارع". قال ابن

خروف: "وهذه الحجة كانت ممكنة في ما وحدها لولا ما ورد الإنكار في المستقبل، من ذلك قوله: * فما أنا والسير في متلفٍ؟ ! * فهذا إنكار في شيء لم يقع. قال: "ولا تتجه هذه العلة أيضًا في كيف". قال ابن الضائع: يكفي في تخصيص سيبويه أنه الأكثر، وكأن كيف في مثل هذا إنما تستعمل في عرض الأمر على الشخص، والذي يليق به فعل المضارعة الذي يحتمل الحال والاستقبال، والأكثر في الإنكار أن يكون فيما مضى، وإنما يكون في المستقبل إذا عزم عليه فكأنك إنما تنكر الذي قد ثبت من العزم، وإذا قلت: ما أنت وزيدٌ فقد يكون على أن تحقره، وقد يكون على أن تعظمه، وقد يكون على أن تسأل عن شأنهما، أي عرفني شأنكما". وقال في السيرافي: "إن سيبويه لم يذهب إلى هذا الاختصاص بالقصد، بحيث قصد تخصيص (ما) بالماضي، وكيف بالمستقبل، إنما مثل على ما يمكن، والتمثيل ليس بحد لا يتجاوز". فهذا كما ترى اضطراب كثير، والأقرب فيه ما قال السيرافي؛ فلذلك اختاره الناظم، فإنه قال: "بفعل كون" هكذا مطلقًا، أي ليس بمقيد ماضٍ دون غيره لا في ما ولا في كيف. وأما قوله: "مضمرٍ" فنعت للفعل لا لكونٍ. وقوله: "والعطف إن يمكن بلا ضعفٍ أحق" يعني أن العطف متى أمكن أن يحمل عليه الكلام من غير ضعفٍ يقع فيه بسببه فهو أثبت؛ لأنه الأصل، والرجوع إلى الأصل أولى من غيره، نحو: ما شأن عبد الله وزيدٍ؟ وما لزيدٍ

والعرب؟ لأن العطف هنا على الظاهر، فلا محذور، ولا ضعف، وكذلك قوله: كنت أنا وزيد كالأخوين، يجوز هنا العطف على الضمير المتصل جوازًا حسنًا من أجل الفصل بالتوكيد، ولأن المعنى عليه في هذه الأمثلة غير متكلف، فرجح العطف إذًا، فإن كان ضعفٌ لازمٌ عن العطف فالنصب أحسن؛ ليسلم من الضعف، وهو معنى قوله: "والنصب مختار لدى ضعف النسق". والضعف على وجهين: ضعف من جهة اللفظ، وضعف من جهة المعنى، وإن كان اللفظ قويًا. فأما الأول فنحو: ما صنعت وأباك، وما شأنك وعمرًا، ونحو ذلك مما مر؛ إذ العطف على الضمير المتصل إذا كان مرفوعًا أو مجرورًا ضعيف كما سيأتي إن شاء الله. وأما الثاني فأن يكون العطف يؤدي إلى تكلف معنوي نحو: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها، فالعطف هنا من جهة اللفظ سهل إلا أنه متكلف المعنى؛ إذ كان المعنى: لو تركت الناقة لولدها أو لو تركت مع ولدها لرضعها، ولو عطفت لكان المعنى: لو تركت الناقة ترأم ولدها وترك ولدها لرضعها، وهذا تكلف وكذلك ما أنشده سيبويه: فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال فالمعنى: كونوا لهم على هذه الصفة، فهم المخاطبون وحدهم دون بني أبيهم والعطف يعطي معنى كونوا لهم وليكونوا لكم، وهو خارجٌ عن المقصود. وكذلك قول الآخر أنشده في الشرح:

إذا أعجبتك الدهر حال من امرئٍ ... فدعه وواكل أمره واللياليا فالمعنى: واكل أمره إلى الليالي، فلو عطفت لتكلفت أن يكون المعنى: واكل أمره إلى الليالي، وواكل الليالي إلى انقلاب أمره، أو ما أشبه ذلك، وذلك ضعيف؛ فكان النصب المختار. قوله: "إن يمكن" ضعف من جهة العربية. وقد تقدم مثله، وله من ذلك مواضع أخر سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله. وفي قوله: "وبعد ما استفهام ... " إلى آخره. سؤال وهو ما يظهر فيه من عدم الفائدة لدخوله تحت قوله: "والعطف إن يمكن بلا ضعفٍ أحف"؛ لأن قولك: ما أنت وزيدٌ، وكيف أنت وزيدٌ قد أمكن فيه العطف بلا ضعفٍ مع أنه الأصل، والنصب ضعيف؛ لكونه على إضمار، وهو خلاف الأصل، فما الفائدة في النص عليه؟ . والجواب أن يقال: ليس داخلًا تحت ما بعده، لأن ضعف النصب [فيه] ليس لأجل تكلف الإضمار؛ لرجحان الإضمار فيما ضعف فيه العطف نحو: مالك وزيدًا؟ وقد نص عليه. فإن قيل: إنما ترجح الإضمار هنا لأجل معارضة ضعف العطف، ولولا هو لكان ضعيفًا. فالجواب: أنه لو كان كذلك لكان العطف أولى من حيث هو الأصل؛ إذ العطف والنصب معًا ضعيفان، فكان يكون العطف راجحًا، لأنه الأصل حملًا على أحسن الأقبحين، أو كانا يكونان متساويين لتكافئ الضعفين، فلما لم يكن

ذلك علمنا أن الإضمار لا يكون سببًا لضعف النصب قويًا، وإذا كان كذلك لم يصلح أن يدخل تحت قوله: "والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق". وإن سلمنا ذلك فإنما نص عليه لأنه لو سكت عنه لتوهم أنه داخل في قسم المنع من النصب مطلقًا؛ إذ لم يتقدم فعلٌ ولا ما يشبهه، وقد قال: إن المفعول معه ينتصب بما تقدمه من الفعل أو ما يشبه الفعل، فيظن أنه من باب: أنت أعلم ومالك، وكل رجلٍ وضيعته، فلما نص عليه ارتفع هذا الإيهام، واضطر إلى تقدير ناصبٍ له، وهو الملابسة المفهومة من الكلام، فإن المعنى مالك وملابستك زيدًا أو ملابسةٌ زيدًا، وكذا: وتلابس زيدًا حسب ما ذكروه في وجه تقدير هذا العامل، ولم يتعرض الناظم لتقديره فلم نتعرض له. وأيضًا فلتجريد هذه المسألة مما بعدها فائدتان. إحداهما: تعيين جهة السماع، وأن طائفة من العرب اختصت بالنصب مع ما وكيف إما لزومًا وإما جوازًا، وليس كل العرب يفعل ذلك، وهو ظاهر سيبويه في الحكاية عنهم؛ إذ قال؛ "وزعموا أن ناسًا" ولم يطلق جواز النصب على ضعفٍ على جميع اللغات فتحرى الناظم في النقل. والثانية: تعيين وجه النصب، وأنه على إضمار كونٍ لا غيره، وأن ذلك الكون مطلق لا مقيد. أما أنه مطلق لا مقيد فقد مر وجهه. وأما أن الإضمار مختص بالكون، فإن الإضمار في هذا الباب على ضربين:

إضمار كونٍ، وإضمار ملابسةٍ، فإضمار الكون في نحو: ما أنت وزيدًا؟ وكيف أنت وزيدًا؟ وإضمار الملابسة في نحو: مالك وزيدًا؟ وما شأنك وعمرًا؟ كذا قدره سيبويه، وإن كان الناس قد تكلموا في ذلك. وقد سوى في التسهيل بين التقديرين في: ما أنت وزيدًا؟ ونحوه، فخير بينهما، وله وجه يشير إليه كلام ابن الضائع في شرح الجمل، وهو ظاهر صاحب الجمل، لكن يمكن أن يكون الناظم قصد ما تقدم فلا اعتراض عليه. ثم قال: "والنصب إن لم يجز العطف يجب ... " إلى آخره، يعني: أن العطف إذا لم يجز مع هذه الواو التي بمعنى مع فلك وجهان سواءٌ: أحدهما: النصب على المفعول معه. والثاني: إضمار عامل لما بعد الواو، فأما الأول فكقولك: سرت والنيل، وسيري والطريق. وأما الثاني: فنحو قول الله تعالى: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} فشركاءكم منصوب بإضمار فعل على أنه مفعول به تقديره: وأحضروا شركاءكم، وقد يكون منصوبًا على المفعول معه أي: أجمعوا مع شركائكم أمركم، وفي القرآن: {والذين تبوؤا الدار والإيمان} يصح عند بعضهم فيها الوجهان، وأما نحو: يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحًا ونحوه فلا يصح فيه إلا الإضمار، وظاهر هذا الكلام التخيير بين الوجهين مطلقًا

في كل مسألة لا يسوغ فيها العطف، وذلك غير صحيح، بل ما بعد الواو إذا لم يمكن عطفه على ثلاثة أقسام: قسم يتعين فيه النصب على المعية كمثاله المذكور أولًا: سيري والطريق، وما كان من بابه، فمثل هذا لم يحمله أحدٌ علمته على الإضمار، ولا يصح من جهة المعنى. وقسم يتعين فيه الإضمار، ولا يحمل على المفعول معه؛ إذ لا يسوغ وضع مع موضع الواو نحو: يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحًا وقوله: علفتها تبنًا وماء باردًا ... حتى شتت همالةً عيناها وسيأتي بيان ذلك في باب العطف إن شاء الله. وقسم يجوز فيه الأمران، وهو ما ذكره؛ إذ يسوغ في الاثنين عند الناظم الوجهان، فأنت ترى هذه الأقسام وتباين أحكامها مع أن كلامه يعطي بظاهره

فيها حكمًا واحدًا، وليس له في الباب ما يزيل هذا الإشكال، ويمكن أن يعتذر عن هذا بأن يقال: لعله لم يرد تسويغ الوجهين في الأقسام كلها بل قصد أنها على هذين الوجهين يخرج حكمها إذا أمكن ذلك، ولا شك أنها في ذلك الإمكان على الأقسام الثلاثة فاتكل على فهم الناظر في كلامه، وتنزيله المسائل عليه؛ إذ قصد الاختصار، وله من هذا القبيل مواضع يأتي فيها بالقاعدة مجملة؛ لأنه يمكن تفصيلها بالتهدي إليها، وهو وجه من وجوه التدريب. والله أعلم.

باب الاستثناء

باب الاستثناء ثم قال: هذا هو النوع السادس من المنصوبات التي ينصبها كل فعل، وهو المستثنى. وترك الناظم حد الاستثناء فلم يذكره، ولم يشر إليه اتكالًا على فهم معناه من مساق الكلام، ومفهوم الجملة، وحد في التسهيل المستثنى بأنه: المخرج تحقيقًا أو تقديرًا [من مذكور أو متروك] بإلا أو ما في معناها بشرط الفائدة. فقوله: "المخرج" هو الجنس الأقرب، لأن المستثنى مخرج عن ما تقدم من مذكور أو مقدر، ومعنى إخراجه أن ذكره بعد إلا مبين أنه لم يرد دخوله فيما تقدم، فبين ذلك للسامع بتلك القرينة لا أنه كان مرادًا للمتكلم ثم أخرجه. هذه حقيقة الإخراج عند أئمة اللسان: سيبويه وغيره، وهو الذي لا يصح غيره حسب ما تبين موضعه. وقوله: "تحقيقًا" أراد به المتصل. "أو تقديرًا" أراد به المنفصل، وسيبينه. وقوله: "بإلا" وكذا، هي خاصة المستثنى فيتميز بها عن التخصيص بالصفة وغيرها. وقوله: "بشرط الفائدة" احترازًا من نحو: جاءني ناسٌ إلا زيدًا، وجاءني القوم إلا رجلًا، وما أشبه ذلك مما لا يفيد. [ثم قال].

ما استثنت إلا عن تمام ينتصب ... وبعد نفي أو كنفي انتخب اتباع ما اتصل وانصب ما انقطع ... وعن تميم فيه إبدال وقع اعلم أن المستثنى على قسمين: أحدهما: ما توقف الكلام قبله عن أن يتم دونه، فلا يتم إلا به من حيث القصد، وهذا هو الاستثناء المفرغ، أي فرغ العامل فيه لطلب ما بعد إلا فصار معربًا بحسب ما يطلبه. وسيأتي. والثاني: ما تم الكلام دونه، واستقل بمعناه، فصار لما بعد إلا حكم الفضلة المستغنى عنها. وهذا القسم هو الذي شرع فيه الآن، ويكون على وجهين: متصلًا، ومنفصلًا. وقد أجمل الكلام فيهما أولًا ثم فصله، فيريد بقوله: "ما استثنت إلا عن تمام" هذا القسم يعني أن ما كان واقعًا بعد إلا مستثنى بها فإنه ينتصب إذا كان الكلام تامًا لم يفرغ العامل له، وسواء أكان متصلًا أو منقطعًا، ومثال ذلك: قام القوم إلا زيدًا، ورأيت القوم إلا زيدًا، ومررت بالقوم إلا زيدًا. هذا في المتصل. ومثاله في المنقطع: جاءني بنو تميمٍ إلا زيدًا الهاشمي. ورأيت القوم كلهم إلا فرس بني فلان، ومنه في القرآن الكريم: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} الآية وقال تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيةٍ ينهون عن الفساد في

الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم} وذلك كثير، وجميعه مما وقع الاستثناء فيه بعد تمام الكلام من غير افتقر إلى ما بعد إلا. هذا معنى الكلام على الجملة، ثم فيه بعد مسائل خمس: إحداها: أن قوله: "ما استثنت إلا" نسب فيه الاستثناء إلى الأداة، وليست هي المستثنية، وإنما هي مستثنى بها، ولكن لما كانت الأدوات في هذه الصناعة إليها ينسب العمل، وتضاف الأحكام ساغ ذلك فيها أيضًا، فجرى على مطلق الاصطلاح، كما يقال: ما النافية، وإن المؤكدة، وما الكافة، وليست هذه المعاني إلا فعل المتكلم، وله أصل في كلام العرب أن ينسب الفعل إلى ما انتسب إليه بوجهٍ ما، كقولهم: نهاره صائمٌ، وليله قائمٌ، وفي التنزيل الحكيم: {بل مكر الليل والنهار} وهو كثير. والثانية: أن الظاهر في إطلاقه الاستثناء إنما هو بمعنى الإخراج حسب ما فسره في التسهيل، فكأنه قال: ما أخرجت إلا، والإخراج في الحقيقة إنما يظهر في الاستثناء المتصل، وأما المنقطع فلا يصلح فيه الإخراج؛ إذ كان الإخراج مخصوصًا بما كان من الجنس، فلا يقال: إن الفرس في قولك: رأيت بني فلان إلا فرس أحدهم مخرجٌ؛ إذ ليس الفرس من جنس بني فلان، إلا أن يتأول ذلك بمجازٍ بعيد. وهو قد يشمل المتصل والمنقطع بكلامه، فقد يشكل هذا. والجواب: أن الاستثناء شامل لهما معًا، لأن الإخراج حاصلٌ فيهما لكن تارةً يكون الإخراج تحقيقًا، وذلك في الاستثناء المتصل، وتارةً يكون تقديرًا، وهو في الاستثناء المنقطع، وهذا يتنزل بناء على ما رآه المازني في وجه الإبدال

عند بني تميم بأن يطلق الأول على ما بعد إلا، فيشمل المستثنى منه والمستثنى معًا مجازًا، فيكون المستثنى في المنقطع على هذا إخراجًا من الجنس، أو على النحو الآخر. ولكن هذا الجواب غير مخلص، إذ لا يطرد ذلك في جميع مسائل الاستثناء المنقطع. ويمكن على بعدٍ أن يكون جاريًا في ذلك على مذهب الفراء الذي يجعل الاستثناء من العامل لا من الاسم، فإذا قلت: ما رأيت أحدًا إلا حمارًا، فالحمار مستثنى من الرؤية لا من أحد، فعلى هذا يكون قوله: "ما استثنت إلا" واقعًا على القسمين تحقيقًا، لكنه لم يعرج عليه في غير هذا الكتاب، فيبعد أن يقصد إليه لاسيما، وهو مشكل في نفسه. والأولى في الجواب- والله أعلم-: أن يكون أراد ما وقع بعد أداة الاستثناء منصوبًا لا أنه يريد ما أخرج بإلا. والثالثة: أنه عين إلا في أول كلامه ولم يقصد غيرها إلا بعد ما قرر أكثر أحكام الباب بها لأنها أم الباب لا معنى لها في الأصل إلا الاستثناء وإنما يدخلها غيره بالعرض حملًا على ما هو الأصل في غيرها، (فغيرُ أصلها الوصف، وإنما دخلت في الباب لعروض معنى إلا، وكذلك سوى، وغيرها من الأدوات، وأيضًا فإن الاستثناء بها مطرد بخلاف غيرها). والرابعة: أنه أطلق القول في الانتصاب هنا مع أن غير النصب جائز، وذلك في الاستثناء المتصل؛ فإنك إذا قلت: قام القوم إلا زيدًا جاز لك أن تقول: إلا زيدٌ بالرفع، فيجري صفةً على الأول حملًا على غير؛ إذ كان أصلها الصفة، وكذلك تقول: مررت بالقوم إلا زيدٍ، ومن كلامهم: لو كان معنا أحدٌ إلا زيدٌ

لغلبنا وفي القرآن الكريم {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا} على قول سيبويه، وأنشد سيبويه لذي الرمة: أنيخت فألقت بلدةً غير بلدةٍ ... قليل بها الأصوات إلا بغامها وأنشد أيضًا: لو كان غيري سليمى اليوم غيره ... وقع الحوادث إلا الصارم الذكر وأنشد لعمرو بن معدي كرب: وكل أخٍ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان فهذا كله، وما كان مثله مما وقعت فيه إلا صفةً بمعنى غير، وهو باب واسع،

وقاعدة مطردة في باب الاستثناء حتى في النفي إذا قلت: ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ، فإن إلا يحتمل أن تكون صفة إذا أردت معنى غير، وإذا كان كذلك أشكل إطلاقه القول بالنصب من غير تعريج على غيره. الجواب: أنه قد حرر كلامه فلم تدخل له الصفة حين قال: "ما استثنت إلا" فشرط فيها أن تكون للاستثناء بمعنى أنها تدل عليه في تلك الحال، وإلا الواقعة صفة ليست كذلك، بل هي بمعنى غير، وغير خالية في الأصل عن معنى الاستثناء حتى تضمنه، فكذلك (إلا) الصفة تجرد من معنى الاستثناء حتى تصير موافقةً لمعنى غير في الأصل، فقولك: قام القوم إلا زيدٌ، بمعنى قام القوم غير زيدٍ أي القوم المغايرون لزيد، فليس في هذا أن زيدًا مستثنى من جملة القوم، فإذًا ليس بعد إلا التي يستثنى بها إلا النصب على الاستثناء، أعني في الإيجاب، وعلى أن الناظم لم يتعرض هنا للوصف بإلا، ولا تكلم فيه، وهو فصل يجب التنبيه عليه، وليس من الأحكام الأقلية التي يباح لمثله إغفالها، بل هي من الجلائل التي لا غنى به عن ذكرها، ولعله لم يذكر هذه المسألة هنا في إلا، ولا في غير؛ لأنها من باب الوصف، وليس فيها معنى الاستثناء الذي يقتضي النصب. فإن قيل: فكان ينبغي إذًا أن يترك البدل، نحو: ما جاءني أحدٌ إلا زيدٌ؛ لأنه ليس من باب الاستثناء، بل من باب البدل فلم ذكره وترك ذكر الوصف. فالجواب: أن البدل عريقٌ في الباب من جهة المعنى وإن كان اللفظ مخالفًا له؛ فيكون رفعًا وجرًا، فالمعنى معنى النصب على الاستثناء، فليس بخارج عن باب الاستثناء بخلاف الوصف، فإنه في المعنى مخالف لمعنى الاستثناء، وإذا ثبت هذا أمكن أن يكون عذرًا للناظم. والخامسة: أنه قال: "ينتصب" ولم يعين له ناصبًا، وعادته تعيين الناصب

في هذه المنصوبات حسب ما تقدم. والمسألة قد اضطرب الناس فيها على ثمانية أقوال: أحدها: أنه انتصب بعد تمام الكلام انتصاب الدرهم بعد العشرين على التشبيه بالمفعول به، ويعزى لسيبويه. والثاني: أنه انتصب بإلا وحدها، وهو رأي ابن مالك، وزعم أنه مذهب سيبويه، والمبرد. والثالث: أنه انتصب بالفعل المتقدم بوساطة إلا وهو رأي السيرافي، والفارسي، وابن الباذش، وزاد أن النصب في غير بغير واسطة، بل عمل فيها كعمله في الظروف المبهمة لأن غيرًا تشبهها في الإبهام. والرابع: أن النصب بالفعل المتقدم بغير وساطة إلا، وهو رأي ابن خروف. والخامس: أن النصب بما في إلا من معنى الاستثناء، فكأن النصب بفعل، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدًا، فالتقدير: استثنى زيدًا، ونسب هذا إلى المبرد، ونحوه منقول عن الزجاج. والسادس: أنه منصوب بالمخالفة؛ لأن ما بعد إلا مخالف لما قبلها، وهو أصل الكوفيين، وحكي عن الكسائي.

والسابع: أن النصب على إضمار أن، والتقدير: إلا أن زيدًا لم يقم، وينسب أيضًا إلى الكسائي. والثامن: أن إلا مركبة من إن ولا ثم خففت إن وركبًا، فإذا انتصب ما بعدها فعلى تغليب حكم إن، وإذا لم ينتصب فعلى تغليب حكم لا؛ لأنها عاطفة. وجميع هذه الأقوال القصد بها واحدٌ، وهو ربط القوانين وتثبيتها في النفس، ويمكن على بعدٍ أن يؤخذ له من هنا تعيين الناصب من جهة أنه لما جعل الحكم في الاستثناء إلى الأداة، ونسبه إليها ثم أطلق الانتصاب، ولم يعين له خلافًا كان في ذلك إشارة إلى أن الحكم في النصب لها أيضًا، وهو المختار عنده في التسهيل، وغيره، وحجته في ذلك أن إلا مختصة بالاسم. وليست بجزء منه، فيجب لها العمل كسائر عوامل الأسماء التي هي كذلك ما لم تقع بين عامل مفرغٍ تحقيقًا أو تقديرًا ومعمول، فلا يجب العمل كلا في: لا مرحبًا، تعمل إذا لم تدخل على عامل ومعمول، ولا تعمل هنا. فإن قيل: فإن إلا تدخل على الأفعال.

قيل: كل فعلٍ دخلت عليه في تأويل الاسم، وذلك لا يبطل الاختصاص بالاسم، وإلا لم يضف إلى الفعل، ولا وقع حالًا، ولا خبرًا لكان أو إن ولا مفعولًا لظن، فلما لم يبطل ذلك الاختصاص بالاسم في تلك الأبواب، فكذلك هنا. فإن قيل: لو كان كذلك لاتصل بها ضمير النصب، وأن لا تقول إلا: ما ضربت إلا إياه. قيل: لم يتصل لأنه أشبه المنصوب على النداء في أنه منصوب لا مرفوع معه، وأشبهت أيضًا ما النافية في موافقة الفعل معنى، وفي إعمالها مرةً وإهمالها أخرى. ومعمول ما إذا كان ضميرًا- منفصلٌ، فكذلك ما أشبهه. وأشبهت أيضًا العاطفة في وقوعها وسطًا، ومخالفة ما بعدها لما قبلها، والضمير إذا وقع بعد العاطف منفصلٌ، فكذلك هذا، وأيضًا لما التزم الانفصال مع التفريغ أجروا الباب كله على سننٍ واحد، وأيضًا فإلا وما بعدها في قوةٍ جملة مختصرة، واتصال المنفصل اختصار فيكون إجحافًا، وأيضًا فقد وصلوا تنبيهًا على الأصل في نحو: * ألا يجاورنا إلاك ديار * و* ... فما لي عوض إلاه ناصر *

وقد تضع العرب المنفصل موضع المتصل، نحو: * ... ضمنت إياهم الأرض ... * والعكس غير موجود، فلو لم يكن الأصل الاتصال لم يسغ لقائل البيتين الانفصال، وأيضًا ليس فيهما ضرورة لتمكن الأول أن يقول: ألا يكون لنا خلٌ ولا جار، والثاني أن يقول: فما لي غيره عوض ناصر فإن قيل: اللائق بالعامل الذي لا يشبه الفعل الجر. قيل: بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل، وهو الجر أو نصب لا رفع معه، ثم رجح وجوب النصب مع إلا، والخفض مع غيرها من حروف الاستثناء. وكلامه في ذلك كله طويل، وفي استقراء مذهبه من كلام سيبويه، فمن أحبه بكماله طالع الشرح، ولولا الإطالة لاجتلبته، ونبهت على ما فيه. ثم قال: "وبعد نفي أو كنفي انتخب" إلى آخره هذا الكلام قسيم الكلام المتقدم، لأن الاستثناء على ضربين:

أحدهما: أن يقع في كلامٍ مثبت. والثاني: أن يقع في كلامٍ منفي أو ما أشبه المنفي. ولكل قسم حكم يختص به. فأما الأول فهو الذي تقدم لكنه لم يكن فيه ما يشعر بأنه قسيم المثبت، فلما أتى بالقسم الثاني، وهو قسم المنفي دل على المقصود بالأول، وتعين أنه المثبت، فكأنه قال: "ما استثنت إلا بعد الإثبات مع تمامٍ ينتصب" وكثيرًا ما يجري له مثل هذا؛ أن يجتزئ بتعيين القسم الثاني عن الأول، وقد مضى منه بعض المواضع. ويعني أن الاستثناء بإلا بعد النفي أو ما أشبه النفي يختار فيه الاتباع للأول، فيجري على حكمه في الإعراب، إن كان مرفوعًا ارتفع، وإن كان منصوبًا انتصب، وإن كان مجرورًا انجر، وذلك إذا كان الاستثناء متصلًا، نحو: قولك: ما قام القوم إلا زيدٌ، وما رأيت القوم إلا زيدًا، على الاتباع لا على الاستثناء، وما مررت بأحدٍ إلا أخيك، وما أشبه ذلك. وهذا مثال النفي الصريح، وأما ما أشبه النفي فمنه النهي، نحو: لا تضرب أحدًا إلا زيدًا، ولا يقم أحدٌ إلا زيدٌ، ولا تمرر بأحدٍ إلا زيدٍ، ومنه الاستفهام، نحو: هل قام أحدٌ إلا زيدٌ، وهل مررت بأحدٍ إلا زيدٍ، ومن أكرمك إلا زيد؟ وفي التنزيل: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} وقال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. وقد يكون من النفي ما ليس بصريح لكنه كالنفي الصريح فيدخل تحت قوله: "أو كنفي": ما كان [نحو]: أقل رجلٍ يقول ذلك إلا زيدٌ، وقل رجلٌ يقول ذلك إلا زيدٌ، فهو على معنى: ما يقول ذلك إلا زيدٌ، فالرفع هو المختار في هذه

الأمور، ويجوز النصب لكن مرجوحًا غير منتخبٍ، فتقول: ما قام أحدٌ إلا زيدًا، وما مررت بأحدٍ إلا زيدًا، وفي القرآن: {ما فعلوه إلا قليلًا منهم} على ما في مصحف أهل الشام، وكذلك تقول: هل يقوم أحدٌ إلا زيدًا، ومن يقوم إلا أخاك؟ وقد حمل على هذا الوجه قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} فجعل من منصوب المحل، و (نفسه) توكيد له، والنصب لغةٌ لبعض العرب، قال سيبويه: "حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعًا أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول: ما مررت بأحدٍ إلا زيدًا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدًا، وعلى هذا: ما رأيت أحدًا إلا زيدًا، فتنصب زيدًا على غير رأيت"- يعني على الاستثناء قال: "وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلًا من الأول، ولكنك جعلته منقطعًا مما عمل في الأول" يعني منصوبًا، ووجه اختيار الإتباع أن المعنى فيه معنى التفريغ فأجري الكلام على معناه. هذا معنى تعليل سيبويه، وغيره. وقال في الشرح: "وإنما رجح الإتباع في غير الإيجاب على النصب؛ لأن معناه ومعنى النصب واحد، وفي الإتباع تشاكل اللفظين". ثم هنا مسائل: إحداها: أن قوله: "انتخب إتباع ما اتصل" أطلق فيه القول، ولم يقيد فدلَّ على

ارتضائه مذهب الجماعة، وخلاف قول القائل: إن المستثنى إن تباعد من المستثنى منه رجح النصب، كقولك: ما ثبت أحد في الحرب ثباتًا ينفع الناس إلا زيدًا، ولا تنزل على أحدٍ من بني تميم إن وافقتهم إلا قيسًا، وإليه ذهب المؤلف في الشرح، قال: "لأن سبب ترجيح الإتباع طلب التشاكل وقد ضعف داعيه بالتباعد" قال: "والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها، فقال له العباس: إلا إلاذخر يا رسول الله، فقال: إلا إلاذخر" وأتى بحديث آخر. والأصح في هذا قول الجماعة بعدم التفصيل بناء على تعليل سيبويه، ولموافقته كلا العرب، وما استشهد به لا شاهد فيه لندوره. والثانية: أنه لما أجاز الوجهين من غير تقييد دل على مخالفته من ألزم النصب حيث يقدر ما قبل الاستثناء مستقلًا، وهو ظاهر ابن السراج حيث قال: "إن لم تقدر البدل جعلته كقولك: ما قام أحد- كلامًا تامًا لا ينوى فيه الإبدال من أحد. ثم استثنيت، نصبت، فقلت: ما قام أحدٌ إلا زيدًا". والأولى مذهب الجمهور؛ إذ لم يفصلوا هذا التفصيل، وليس في كلام العرب عليه دليل.

والثالثة: أن إطلاقه في جواز الوجهين دليلٌ على مخالفته للفراء القائل بأن المستثنى منه إن كان معرفة فالوجهان، وإن كان نكرةً فلا يجوز النصب، فقوله تعالى: {ما فعلوه إلا قليل منهم} لما كان معرفةً جاز الوجهان، ولما كان نكرة في قوله: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} لم يقرأ إلا بالاتباع. قال المؤلف: "ولا حجة له؛ لأن النصب هو الأصل، والاتباع داخلٌ عليه، وقد رجح عليه لطلب المشاكلة فلو جعل بعد ترجيحه عليه مانعًا منه لكان ذلك إجحافًا بالأصل". والقاطع في المسألة ما حكى سيبويه عن يونس وعيسى بن عمر: "أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم يقول: ما مررت بأحدٍ إلا زيدًا، وما أتاني أحدٌ إلا زيدًا" وهو نص في موضع الخلاف. والرابعة: أنه بإطلاقه قائلٌ بجواز الوجهين كان المنفي مما يصلح في الإيجاب أولا خلافًا لمن قال من القدماء: إن المنفي إذا صلح أن يقع في الإيجاب فلا يجوز فيه إلا النصب، فيجوز عندهم أن تقول: ما قام أحدٌ إلا زيدٌ، ولا يجوز أن تقول: ما قام القوم إلا زيدٌ. وإنما تقول: إلا زيدًا، ورد عليهم سيبويه بالسماع والقياس، فأما السماع ففي القرآن الكريم: {ما فعلوه إلا قليلٌ منهم} وأيضًا فإنه حكى عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الوجه

في اللغة: ما قام القوم إلا عبد الله بالرفع. وأما القياس فإن للنفي أحكامًا ر تكون في الواجب كحذف المستثنى منه، وتفريغ العامل للمستثنى، وذلك لا يكون في الواجب فلو كان حكم النفي حكم الواجب لما جاز أن تقول: ما أتاني أحدٌ كما لا يجوز أن تقول: أتاني أحدٌ. وهذا ظاهرٌ فلكل واحد من النفي والإيجاب حكمٌ يخصه، وقد يجتمعان في بعض الأحكام، وذلك غير منكر، وإنما المنكر دعوى التزام الاجتماع في جميع الأحكام. والخامسة: أنه بإطلاقه أن الاتباع جائز كان المستثنى منه مفردًا أو جمعًا خلافًا للفراء حيث أجازه إذا كان المستثنى منه مفردًا، نحو: ما قام أحدٌ إلا زيدٌ، ولم يجزه إذا كان جميعًا، نحو: ما قام القوم إلا زيدًا بل ألزم النصب لأنه راعى في البدل اللفظ. ورد قوله سيبويه بأنه إن كان وجوب النصب، لأن الذي قبل إلا جمع فقد قال الله تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} فقد وقع الجمع قبل إلا، والقراء على الاتباع، وإن كان جواز الإتباع لأن الذي قبل إلا واحد فينبغي أن يجوز الرفع في مسألة: ما أتاني أحدٌ إلا قد قال ذلك إلا زيد؛

لأن الذي قبله واحد، وذلك لا يجوز البتة، بل الواجب النصب؛ لأنه قد صار موجبًا بدخول إلا الأولى. قال ابن خروف: لا يراعي في الباب إلا كون الثاني بعض الأول موافقًا له في الإعراب. والسادسة: أنه يشترط [في] هذا الحكم المذكور كون المستثنى مؤخرًا عن المستثنى منه، وذلك مستفادٌ من كلامه من موضعين: أحدهما: قوله: "انتخب إتباع ما اتصل"، والاتباع لا يتصور إلا كذلك، فإتباع ما اتصل هو إتباع المستثنى المتصل، وإتباعه أن يجعل تابعًا، والتابع شأنه أن يتبع ما قبله لا ما بعده. والثاني: أنه قد بين على إثر هذا حكم المستثنى إذا تقدم المستثنى منه وقرره على خلاف هذا الحكم، فدل على أنه هنا ليس بمقدم. وهذا ظاهر. والسابعة: أنه أطلق القول في الإتباع ولم يبين هل يكون على اللفظ أو على الموضع، أو عليهما. وكان من حقه ذلك كما فعل في باب المصدر الموصول وغيره، فإن الإتباع قد يكون على اللفظ خاصة، وهو بين. وقد يكون على الموضع خاصة، وذلك أن يكون ما قبل إلا مجرورًا بمن الزائدة، كقولك: ما جاءني من أحد إلا زيدٌ، فالرفع هنا لازمٌ، وقولك: ما رأيت من أحدٍ إلا زيدًا، النصب واجبٌ، وكذلك المجرور بالباء الزائدة، نحو: ليس زيدٌ بشيءٍ إلا شيئًا لا يعبأ به، وكذلك اسم لا الجنسية لا يتبع إلا على الموضع خاصة كقولك: لا إله إلا الله، ولا عالم إلا زيد، لا يجوز هنا النصب على لفظ لا أصلًا.

والثامنة: أن الإتباع هنا لم يقيده الناظم اتكالًا على تفهيم المعلم، وخروجًا عن تعيين أمرٍ مختلفٍ فيه، فإن البصريين يقولون: إنه إتباع على البدل ومذهب الكوفيين أنه على العطف. وعلى أنه قد يؤخر له أنه على البدل من نصه عليه في الاستثناء المنقطع بقوله: "وعن تميم فيه إبدال وقع"، إذ هو الإتباع ههنا، فلو كان مذهبه أنه ليس على البدل لنص على العطف؛ إذ الإتباع في الجميع إما إبدالٌ وإما عطفٌ. وقد تقدم أنه لم يتعرض هنا لحكم النعت، فلا يدخل له تحت قوله: "إتباعُ ما اتصل"؛ إذ لو دخل له لكان الإتباع على النعت عنده راجحًا كالبدل، وليس كذلك. وعلى الجملة فالأصح مذهب الناظم؛ إذ هو على حقيقة البدل من صحة وقوعه موقع المبدل منه على حكم الاستقلال، وإلغاء الأول. وأيضًا فإن إلا لم يثبت أن تكون عاطفةً بعد فكيف يبنى على ما لم يثبت. قال ثعلب: كيف يكون بدلًا، والأول منفي، وما بعد إلا موجب. وأجاب السيرافي بأنه لا يخرجهما اختلافهما عن حقيقة البدلية؛ لأن معنى البدل أن تقدر الأول كأنه لم يذكر، وتقدر الثاني في موضعه. قال: "وقد يقع في العطف والصفة ما يكون الأول فيه موجبًا، والثاني منفيًا، نحو: جاءني زيد لا عمرو- كمسألتنا- وفي الصفة: مررت برجلٍ لا كريمٍ ولا لبيبٍ". قال ابن الضائع: كان الأول أن يجيء بهذا في البدل ألا ترى أنك تقول: مررت برجل لا زيدٍ ولا عمروٍ هذا بدل، وليس بعطفٍ؛ لأن من شرط لا

العاطفة أن تكون مؤكدة لثبوت الحكم الأول، وهي هنا مبينة أن المجرور به ليس بزيد ولا عمرو، ولو جاز أن تكون هنا عاطفة لجاز: مررت برجلٍ لا زيد، كما تقول: مررت بزيدٍ لا عمرو، فلزوم التكرار دليل على أنها غير عاطفة. والتاسعة: أنه ذكر اختيار الإتباع، ولم يصرح بمقابله، والذي يقابله النصب على الاستثناء. فإن قيل: من أين يؤخذ له هذا. قيل: من حكم القسم المقابل؛ إذ كان قد حكم عليه بالنصب في قوله: "ما استثنت إلا عن تمام ينتصب" فجعل النصب فيه حتمًا، ثم اختار في هذا القسم الإتباع فدل على أن غيره هو النصب المذكور، فكأنه قال: يتحتم النصب في الإيجاب، ولا يتحتم في النفي، وإذا لم يتحتم فلا بد من وجه آخر فعينه، وجعله المختار، فصار النصب المذكور فيه غير مختار. ويمكن أن يكون النصب في كلامه منصوصًا عليه على طريقة أخرى من التفسير في قوله: "ما استثنيت إلا" إلا آخره، وهو أن يكون معناه أن ما بعد إلا حكمه النصب على الإطلاق كان موجبًا أو منفيًا، وهذا على الجملة ثم استثنى المنفي، وما أشبهه، فأثبت له على المختار حكمًا آخر، وهو الإتباع، فبقي غير المختار داخلًا تحت الإطلاق المتقدم وهو النصب. وإتباع: مفعول بانتحب. و (بعد) المتقدم متعلق به. وقوله: "ما اتصل" يعني من الاستثناء، والانتخاب: الاختيار، ورجل نخبة، والجمع نخب، كرطبةٍ ورطب، يقال: جاء في نخب أصحابه، أي: في خيارهم. وقوله:

"وانصب ما انقطع"، أي: انصب من الاستثناء منقطعًا، وهو ما كان فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، يعني أن المنقطع من الاستثناء حكمه النصب بإطلاق إلا عند بني تميم فإنه جاء عنهم الإبدال، فتقول: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا، وما لي عليه سلطان إلا التكلف. وفي القرآن من ذلك قوله تعالى: {ما لهم به من علمٍ إلا اتباع الظن} وقوله: {وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمةً منا ومتاعًا إلى حين} والقرآن نزل في غالبه بلغة أهل الحجاز، وأنشد سيبويه للنابغة الذبياني: وقفت فيها أصيلانًا أسائلها ... عيت جوابًا، وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيًا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد قال سيبويه: "وأهل الحجاز ينصبون الأواري"، وأنشد أيضًا للنابغة: حلفت يمينًا غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظنٍ بصاحب وإنما نصب أهل الحجاز هذا؛ لأنه لا يصح فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، قال سيبويه: "جاءوا به على معنى:

ولكن، وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول، فيصير كأنه من نوعه، فحمل على معنى ولكن". وأما بنو تميم فيرفعون هذه الأمثلة على البدل، فيقولون: ما فيها أحدٌ إلا حمارٌ، وينشدون بيت النابغة: * ... وما بالربع من أحد * * إلا الأواري ...... * بالرفع. وأنشد سيبويه: وبلدةٍ ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وأنشد أيضًا لابن الأيهم التغلبي: ليس بيني وبين قيسٍ عتاب ... غير طعن الكلي وضرب الرقاب وأنشد أيضًا للحارث بن عباد: والخيل لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح

وأنشد أيضًا: لم يغذها الرسل ولا أيسارها ... إلا طري اللحم واستجزارها وأنشد أيضًا: عشية لا تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم فهذه الأبيات ونحوها مما جاءت على لغة تميم، وحين ذكر سيبويه: ما له عليه سلطانٌ إلا التكلف، وذكر الآيتين، والبيت: * حلفت يمينًا غير ذي مثنوية * قال: وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله ... وينشدون بيت ابن الأيهم رفعًا. وأهل الحجاز ينصبون". وهذا كله على ما قال الناظم: "وعن تميم فيه إبدال وقع" فالضمير في (فيه) عائدٌ على: "ما انقطع"، وبين أن حكمه الإبدال من الأول، وهذا يستلزم إعرابه بإعرابه، فكأنه قال: وعن تميم فيه ابتاعٌ على البدلية وقع، كأن الأصل النصب لما تقدم في التعليل لكن راعى فيه بنو تميم أحد معنيين: إما أنهم حملوا على معناه؛ لأن المقصود هو المستثنى، فالقائل: ما في

الدار أحدٌ إلا حمارٌ، المعنى فيه: ما في الدار إلا حمارٌ، وصار ذكره أحدًا توكيدًا؛ ليعلم أنه ليس ثم آدمي ثم أبدل من أحدٍ ما كان مقصوده من ذكر الحمار، وإما على جعل الحمار إنسان الدار، أي: الذي يقوم مقامه في الأنس كما قال، أنشده سيبويه: * تحية بينهم ضربٌ وجيع * جعلوا الضرب تحيتهم؛ لأنه الذي يقوم مقام التحية، وكذلك قوله أنشده أيضًا: * أنيسك أصداء القبور تصيح * وكقوله: ما لي عتاب إلا السيف. ذكر الوجهين سيبويه في تأويل الرفع. وهذا كله إنما هو إذا تقدم المستثنى نفي أو شبهه، وفيه تكلم؛ إذ هو داخلٌ تحت قوله: "وبعد نفي أو كنفي انتخب" كذا، أما إذا لم يتقدم شيءٌ من ذلك فالنصب هو الواجب دل على ذلك. قوله: ما استثنت إلا عن تمام ينتصب. وفي كلامه بعد نظران: أحدهما: أنه لما قال: "وعن تميم فيه إبدال وقع" لم يصرح بكيفية هذا الإبدال عندهم أهو لازمٌ في لغتهم لزوم النصب في لغة أهل الحجاز فلا يجوز

عندهم: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا، أم جائزٌ؟ فيجوز مع الإتباع النصب، فتقول: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا كالحجازيين، وإلا حمارٌ كالمتصل، والذي نص عليه في التسهيل الجواز، وهو نص ابن خروف وغيره، أن الاستثناء المنقطع إذا رفعه بنو تميم فعلى حدٍ ما يرفع الجميع المتصل، فالمختار الإتباع، ويجوز النصب على غير الوجه المختار؛ لأن المنقطع في التأويل قد صار إلى معنى المتصل، وإذا صار إليه فيجري على حكمه، وقد يؤخذ من كلام الناظم جواز الوجهين؛ فإنه لما قال: "وانصب ما انقطع" ثبت أن النصب فيه حاصلٌ بإطلاق على كل لغةٍ، وحين قال: "وعن تميم فيه إبدال" دل على أنه وجه ثانٍ لهم فيه زائدٌ على النصب، فحصلت الإشارة من كلامه إلى ثبوت الوجهين على الجملة، وإلى تعيين الأرجح على مذهبهم وهو الإتباع. والثاني: أن شرط الإبدال عند بني تميم أن يصح وقوع المستثنى موقع المستثنى منه، نحو ما تقدم من الأمثلة، فإنك إذا قلت: ما في الدار أحدٌ إلا حمارًا، فلك أن تسقط أحدًا، فتقول: ما في الدار إلا حمارٌ، وتقول أيضًا: ما بالربع إلا الأواري، والخيل لا يبقى لجاحمها إلا الفتى الصبار، وبلدةٍ ليس بها إلا اليعافير وإلا العيس. وهذا كله كلامٌ مستقيمٌ، أما إذا لم يصح أن يقع موقعه فليس في المستثنى إلا النصب كقولهم: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر، ففاعل زاد ونفع ضمير مستتر، فكأنه قال: ما نفع ذلك الشيء ولكن ضر، ولا زاد ذلك الشيء ولكن نقص. وما التي بعد إلا مصدرية، وفي إعرابها اضطراب، ولكن الحاصل أنه ليس بمرفوع على البدل، ولا يصح وقوعه موقع

الضمير فلا يصح أن يقول: ما زاد إلا النقص، وما نفع إلا الضرر، وكذلك قول الفرزدق، أنشده سيبويه: وما سجنوني غير أني ابن غالبٍ ... وأني من الأثرين غير الزعانف فلا يمكن أن يقال هنا: وما سجنوا غير ابن غالب على أن يكون غير مفعولًا بسجنوا، ومن ذلك كثير، فإذا تقرر هذا. فكلام الناظم لا يخرج عنه مثل هذه الأشياء بل أطلق القول بأن الإبدال واقعٌ عن تميم، فيقتضي فيها جواز الإبدال، وهو باطل، وقد تحرز هو في التسهيل منه فقال: "وأجاز التميميون إتباع المنقطع إن صح اغناؤه عن المستثنى منه" فكان من حقه أن يفعل ذلك هنا. ويجاب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنه إنما قال: إن الإبدال وقع لبني تميم في الاستثناء المنقطع على الجملة وليس فيه ما يعين أن كل استثناء منقطع كذلك، ولا شك أن الأمر كذلك، وغاية ما فيه أنه لم يبين موضع الإبدال، وذلك قريب؛ إذ قد يقصد في هذا النظم التعريف الإجمالي ويحيل في بيانه على الشيوخ، وقد تقدم منه أشياء، وستأتي أخر، ولا يقال: إن هذا إخلالٌ، إذ يوهم أن الإبدال تتابع في الجميع، لأنا نقول: إنما يكون إخلالًا إذًا أتى بعبارة عامة محكومٍ عليها في جميع أفرادها بحكم غير مطردٍ، كما لو قال: وجوز فيه الإبدال عند تميم، أو نحو ذلك، وأما حين قال: قد وقع فيه الإبدال عند تميم، فليس فيه ما يدل على شمول الحكم، لأنه جعل الاستثناء المنقطع محلًا لوقوع الإبدال، ولا يلزم من وقوع الشيء في

محلٍ شموله لجميع أجزاء ذلك المحل؛ لصحة وقوعه في محلها. والثاني: أن قوله: "فيه إبدال" قد يشعر بذلك الشرط، وذلك أن من حقيقة البدل أن يصح وقوعه موقع المبدل منه من حيث هو مقصودٌ بالحكم، كما قال في باب البدل: "التابع المقصود بالحكم"؛ ولذلك سمي بدلًا، وإذا كان كذلك فلا يتأتى الإبدال إلا حيث يصح الاستغناء به عن الأول، وذلك عين ما قيده به في التسهيل بقوله: "إن صح اغناؤه عن المستثنى منه" وإذا تأملت جميع ما تقدم من المثل فلا يصح فيها الإبدال؛ لأنه لا يغني عن الأول، ويدل على هذا القصد من كلامه إتيانه بلفظ الإبدال ولم يأت بلفظ الإتباع، فيقول: وعن تميم فيه إتباع وقع، كما قال في البيت المتقدم: "وبعد نفي أو كنفي انتخب. إتباع ما اتصل" وهذا حسن من التنبيه في حسن من الاختصار لا تنبو مقاصده عن مثله، وفي هذا النظم من هذا القبيل أشياء. والله أعلم. وغير نصب سابقٍ في النفي قد ... يأتي ولكن نصبه اختر إن ورد يعني أن المستثنى إذا كان سابقًا على المستثنى منه فلا يخلو أن يكون في النفي أو في الإيجاب، فإن كان في الإيجاب فليس إلا النصب على الاستثناء، ولم يذكره هنا لأنه داخلٌ فيما تقدم في الإثبات إما بالشمول، وإما بالقياس من باب أولى. وإن كان في النفي فقد أجاز هنا فيه وجهين: أحدهما- وهو غير المختار-: أن يعرب بإعراب المستثنى منه رفعًا أو نصبًا أو جرًا، فتقول: ما قام إلا زيدٌ أحدٌ، وما رأيت إلا زيدًا أحدًا، وما مررت إلا بزيد أحدٍ، ويكون الثاني بدلًا من الأول، وهو المتقدم الذكر فيما إذا كان متأخرًا، وأتى الناظم في هذا الوجه بقد فقال:

"قد يأتي" أي قد يأتي قليلًا غير النصب، وهو الإتباع في المستثنى السابق؛ إذ ليس بكثير في كلام العرب، قال سيبويه: "وحدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ما لي إلا أبوك أحد، فيجعلون أحدًا بدلًا، كما قالوا: ما مررت بمثله أحدٍ، فجعلوه بدلًا" وإنما كان غير مختار لأنهم كرهوا أن يبدلوا الأكثر من الأقل، إذ كان البدل على خلاف ذلك، لأنه لا يوجد بدل كلٍ من بعض. بهذا يعلل النحويون، ويفسرون به كلام سيبويه في التعليل حين قال: "وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما حملهم على نصب هذا- يعني ما لي إلا أباك صديق- أن المستثنى إنما وجهه عندهم أن يكون بدلًا، ولا يكون مبدلًا منه؛ لأن الاستثناء إنما حده أن "تدارك به بعد ما تنفي، فتبدله". قال: "فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجهٍ قد يجوز إذا أخرت المستثنى" يعني النصب، وفسره ابن الضائع بأن الأصل في الاستثناء أن يأتي بعد المستثنى منه، فحده إذًا أن يكون بدلًا لا مبدلًا منه؛ لأن البدل ثانٍ عن المبدل منه؛ فلذلك لم يجز: ما أتاني إلا زيدٌ أحدٌ، على أن يكون أحدٌ بدلًا من إلا زيد، فإنه في تقدير: ما أتاني إلا زيد، ما أتاني أحدٌ، فلما لم يكن حده كذلك، ولم يكن مع التقديم أن يكون بدلًا حملوه على وجهٍ قد يجوز فيه وهو مؤخر، وهو

النصب. قال ابن الضائع: "ويظهر من سيبويه أنه يمكن أن يكون المستثنى منه بدلًا من المستثنى، ولذلك علله بذلك التعليل". ثم ذكر أن من علل بما تقدم لم يفهم عن سيبويه، وبين أن المراعى في البدل في الاستثناء أن يقع موقع المستثنى منه، والبعض في الاستثناء لا يقع موقع الكل إلا مع إلا، وذلك قولك: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ، وزيدٌ مع إلا بمعنى غير زيد، وغير زيدٍ هو مدلول أحد، فهو من بدل الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدة، فإلا زيد أشبه ببدل الشيء من الشيء منه ببدل البعض؛ ولذلك لا يقع البدل هنا موقع المبدل منه إلا مع إلا، فليس البدل إلا الحرف مع الاسم، والدليل على أن سيبويه أراد هذا الذي فسرت تشبيهه البدل في الاستثناء بقولك: مررت برجلٍ زيد، وهذا ليس بدل بعض من كل، ولم يتعرض حيث ذكر البدل لبدل البعض من الكل أصلًا، قال: "وتعليله في منع البدل في المستثنى المقدم دليلٌ على ذلك، ولم يفهم عنه أحدٌ مراده" قال: "فعلى هذا كان يصح البدل في: ما قام إلا زيدٌ أحدٌ؛ لأنه يقع موقعه، ويبدل مكانه، ويقع موقع "إلا زيدٌ" لا موقع زيدٍ وحده" انتهى المقصود من كلامه، وبه تبين وجه الإتباع، ووجه اختيار النصب. ومما جاء على الإتباع ما أنشده يونس في نوادره من قول الشاعر:

رأت إخوتي بعد الولاء تتابعوا ... فلم يبق إلا واحدٌ منهم شفر وأنشد الفراء لذي الرمة: مقزع أطلس الأطمار ليس له ... إلا الضراء وإلا صيدها نشب ولحسان رضي الله عنه: لأنهم يرجون منه شفاعةً ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع والوجه الثاني- وهو المختار- النصب على الاستثناء، وهو الذي قال [فيه]. ولكن نصبه اختر إن ورد" فتقول على المختار: ما لي إلا زيدًا أحدٌ، وما قام إلا زيدًا القوم، وما مررت إلا زيدًا بأحدٍ، ووجه ذلك ما تقدم من الخروج عن قبح البدل، كما فعلوا في نحو: فيها قائمًا رجلٌ، لما لم يحسن أن يجري قائم على رجلٍ مع تقديمه، ولا رجلٌ على قائمٍ نصبوه على الحال، قال سيبويه: "لما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجهٍ قد يجوز إذا أخرت المستثنى، كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفةً في قولهم: فيها قائمًا رجلٌ، حملوه على وجهٍ قد

يجوز لو أخرت الصفة- يعني النصب على الحال- وكان هذا أمثل عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه". ثم أنشد لكعب بن مالك رضي الله عنه: والناس ألبٌ علينا فيلك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القناوزر وقال الكميت: وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب هذا تحصيل ما قصد. ثم فيه بعد نظر من وجهين: أحدهما: أن السبق الذي ذكر إما أن يريد به السبق المطلق كان سبقًا على جزأي الجملة معًا أ، على أحدهما دون الآخر، أعني أن يكون السبق على المستثنى منه وحده دون العامل، فإن كان الأول فهو غير صحيح؛ إذ لا يجوز تقدم المستثنى على الجملة كلها أصلًا، فلا تقول: إلا زيدًا قام القوم، ولا: ما إلا زيدًا في الدار أحدٌ، فإن جاء من ذلك شيءٌ فهو خاص بالشعر، كقول الشاعر- أنشده الزجاجي- وغيره: خلا أن العتاق من المطايا .. حسين به فهن إليه شوس

وهو لأبي زبيد الطائي، وقال الآخر- أحسبه الأعشي-: خلا الله لا أرجو سواك وإنما ... أعد عيالي شعبة من عيالكا وقال الآخر: وبلدةٍ ليس بها طوري ... ولا خلا الجن بها إنسي فلا يبنى على مثل هذا، وإطلاق لفظ السبق في كلامه يقتضي جواز مثل هذا. وأما إن أراد الثاني فصحيح إلا أن لفظه لا يقتضيه بخصوصه، فكان كلامه غير محرر، وقد وجه في الشرح امتناع التقديم بأن المستثنى جارٍ من المستثنى منه مجرى الصفة المحضة من الموصوف بها، ومجرى المعطوف بلا من المعطوف عليه، فكما لا يتقدمان على متبوعهما كذا لا يتقدم المستثنى على المستثنى منه إلا إذا تقدم ما يشعر به مما هو المسند إليه أو واقع عليه.

والجواب: أن إجازته الرفع على البدل يعين أن التقديم لا يكون إلا على المستثنى منه خاصةً؛ لأنك إذا قلت: إلا زيدٌ لم يقم القوم لم يصح أن يكون واحدٌ منهما بدلًا، وكذلك: إلا زيدٍ لم أمر بإخوتك، وما أشبه ذلك، فلا بد من محل يتصور فيه البدل، وذلك لا يكون إلا عند توسط المستثنى. هذا وجهٌ من الاعتذار جارٍ، ويمكن أن يعتذر عنه بأنه قد ذهب في ذلك مذهب من رأى جواز التقديم على الجملة بأسرها، حكاه ابن الأنباري عن الكسائي من الكوفيين، وعن الزجاج من البصريين. وإذا كانت المسألة خلافية أمكن أن يطلق العبارة بناءً على القول بالجواز، ويترجح هذا المذهب بأمرين: الأول: السماع في نحو ما ذكر، والآخر: أن المانع عند البصريين من التقديم شبهه بالصفة مع الموصوف، أو بالبدل مع المبدل منه، أو بالمعطوف بلا مع المعطوف عليه، وذلك الشبه غير معتبر، ولا محصل؛ إذ لو كان كذلك لم يجز تقديمه على المستثنى منه وحده، وهو جائز باتفاق من المختلفين. وما فرق بن ابن مالك في الشرح ليس بفرقٍ قوي يعمل مثله في بناء الأحكام عليه، وكذلك قول من قال: لما تجاذبه شبهان شبهه بالمفعول، وشبهه بالبدل، والأول طالبٌ بجواز التقدم مطلقًا، والثاني مانع منه مطلقًا، أعطي منزلة بين المنزلتين إعمالًا للشبهين فلو أجيز التقديم بإطلاق

لأهمل أحدهما، وهو خلاف الأولى. فهذا فرقٌ ضعيف لا يقوى أن يبنى عليه قياس، وإنما يكون توجيهًا للسماع بعد ثبوته. هذا إن سلمنا صحة شبهه بالمفعول. وإلا فلقائل أن يقول بمنعه وأيضًا إذا ثبت أن إلا هي العاملة فلا محذور في تقديم المستثنى؛ إذ كانت (إلا) تتقدم أيضًا، وإنما كان يلزم المحذور على القول بأن الفعل هو العامل بوساطة إلا، فالحاصل أن للقول بجواز التقديم مطلقًا وجهًا لا يبعد من أجله ميل الناظم إليه. والله أعلم. والنظر الثاني: أن قوله: "ولكن نصبه اختر إن ورد" عبارة غير محررة وذلك أن الكلام مفروض على أن التقديم قياسٌ لا أنه سماع، وهذه العبارة تؤذن بأنه سماع لا قياس، ألا ترى أن قوله: "إن ورد" إنما معناه: إن ورد في السماع، إذ لا يقال فيما كان قياسًا الوجه فيه كذا إن ورد عن العرب، [لأن ما ورد عن العرب]، وكان الكلام فيه موقوفًا على الورود عنهم بعيدٌ من أن يقال إنه قياس، وأيضًا فإن قوله: "نصبه اختر" مع قوله: "إن ورد" كالمتناقض؛ فإنه إذا توقف الحكم باختيار النصب على وروده، فوروده لا بد أن يكون منصوبًا أو مرفوعًا، وعلى كلا التقديرين لا اختيار فيه؛ إذ لا يقال إلا كما سمع، فثبت أن قوله: "إن ورد" غير محصل ولا محرر، فلو قال مثلًا: "ولكن نصبه قد اعتمد" أو ما أشبهه مما يزيل ذلك اللفظ المشكل لكان أولى. ولا جاوب لي عنه الآن. ونصبه مفعول (اختر) قدم عليه. [ثم قال: ]

وإن يفرغ سابق إلا لما ... بعد يكن كما لو إلا عدما هذا هو القسم الثاني من قسمي المستثنى، وهو المفرغ، والتفريغ: عبارة عن كون ما قبل (إلا) طالبًا لما وقع بعدها طلبًا لا يفتقر إلى (إلا) من حيث التركيب، فلا يتم الكلام من حيث القصد إلا به، فيطلبه إما بالفاعلية وإما بالخبرية، وإما بالمفعولية على أقسامها، وإما بالحالية، وإما بغير ذلك من الأحكام التي يقتضيها فيه ما قبل (إلا)؛ لأنه لم يذكر له قبلها شيءٌ من ذلك، فيريد أن ما قبل (إلا) إذا كان مفرغًا لما بعدها لأن يطلبه بما تقتضيه من الأحكام، فإنه يعرب بإعراب ما يطلبه به على حد ما لو عدمت (إلا) من الكلام فلم تذكر، لكن لا بد أن يتقدم نفي أو شبهه؛ إذ لا يصح التفريغ من عدمها كما يأتي، فتقول في الفاعلية: ما قام إلا زيدٌ، فزيدٌ فاعل بقام كما كان فاعلًا في قولك: ما قام زيدٌ، وفي الخبرية: ما زيدٌ إلا قائمٌ، فقائم خبر زيد على حد قولك: ما زيد قائم، وعلى ذلك يجري الأمر في المفعولية نحو: ما ضربت إلا زيدًا، وما قمت إلا قيامًا حسنًا، وما خرجت إلا يوم الجمعة، وما قعدت إلا مكانك، وما ضربته إلا تأديبًا، وفي الحال: ما سرت إلا مسرعًا، وفي المجرور: ما مررت إلا بزيدٍ، وما اشتريت إلا من السوق، وفي التمييز: ما امتلأ الإناء إلا ماءً، أو ما شبه ذلك؛ وإنما كان كذلك لأن المستثنى صار خلفًا من المستثنى منه حين ترك؛ إذ كان الأصل: ما قام أحدٌ إلا زيدٌ، وما رأيت أحدًا إلا زيدًا، وما زيدٌ في موضع من المواضع إلا مكان كذا، وكذلك سائرها، فلما ترك ذكرها لفهم معانيها أقيم المستثنى مقامها، فأعطي اللفظ حقه من العمل فيها على حسب ما كان يطلب المستثنى

منه، وقطعه على الحكم بذلك بناءٌ منه على مذهب الجمهور القائلين بأن لا مقدر قبل (إل) ايعتد به في أحكام اللفظ. ومن الناس من ذهب إلى أنه يصح تقدير معمول للعامل المتقدم، ويكون له الحكم دون ما بعد إلا، لكن على تفصيل، فقال: لا يخلو أن يكون المعمول الذي يطلبه العامل مما لا يجوز حذفه، أو مما يجوز حذفه، فإن كان مما لا يجوز حذفه لم يصح تقديره قبل (إلا)، ويلزم أن يكون ما بعد (إلا) هو معموله، فوجود إلا هنا كعدمها، كالفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله، كقولك: ما قام إلا زيدٌ، وما ضرب إلا زيدٌ. وإن كان مما يجوز حذفه جاز فيما بعد (إلا) وجهان: أحدهما: أن تجعله على حسب العامل المتقدم. والآخر: أن تنصبه على الاستثناء، وتجعل معمول العامل المتقدم محذوفًا فتقول على الأول: ما مررت إلا بزيد، وعلى الثاني: ما مررت إلا زيدًا. وما قاله دعوى لا تقوم عليها حجة، وكلام العرب يخالفها، ولو كان على ما قال لجاز ذلك في الفاعل والمفعول الذي لم يسم فاعله، فيكونان مضمرين لا محذوفين كما يقولون في: قام القوم ليس زيدًا، ولا يكون زيدًا. فإن قيل: الفرق بينهما أن الفضلة يجوز حذفها والفاعل لا يحذف، ولا يصح أن يكون مضمرًا؛ إذ لا دليل عليه، ولا يفهم العموم إلا بعد ذكر زيد، والدليل على أنه حذف في الجميع، وأن ذلك المحذوف معتبر في غير المرفوع ما أنشده الفارسي في التذكرة من قوله: نجا سالمٌ والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفنَ سيفٍ ومئزرَا

فلولا أن ثم محذوفًا مقدرًا لم ينصب مع التفريغ، ومثل هذا لم يأت في المرفوع، فدل على أن مثل: (ما قام إلا زيد) ليس فيه مقدر، وأن مثل: ما مررت إلا بزيدٍ فيه مقدر في أحد الوجهين. فالجواب: أن هذا الفرق غير صحيح؛ لأمرين: الأول: أن هذا البيت من الشاذ الذي لا يقاس عليه مع احتمال أن يكون الأصل: فلم ينج إلا بجفن سيف ومئزرٍ، لكنه حذف الجاز فانتصب المجرور كما قال: * تمرون الديار ولم تعوجوا * والثاني: أنه إن كان مثل هذا حجةً في جواز تقدير محذوفٍ فليكن مثل ذلك حجةً في تقدير المرفوع؛ فإنهم قد نقلوا أن الراجز قد قال: لم يُعن بالعلياء إلا سيدًا ... ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى فيستوي إذًا تقدير المرفوع وغيره، فيبطل ما ذهب إليه من التفصيل، وأيضًا لو صح اعتبار التقدير بإطلاق لجاز البدل من ذلك المقدر، ولو جاز لتكلموا به، فكانوا يقولون: ما مررت إلا زيدٍ- بغير باء، كما يجوز ذلك مع ذكر المستثنى منه؛ إذ لا يشترط في البدل تكرير العامل، فالصحيح أن ما بعد إلا هو مطلوب الفعل، نعم لا ينكر أن يكون المعنى طالبًا بتقدير أمر لا يعتبر لفظًا؛ إذ لا يلزم من التقديرات المعنوية اعتبار الأمور اللفظية بها، قال السيرافي: "إنما جاز أن يستثنى الشيء من لا شيء؛ لأنه وإن "اعتمد لفظ ما قبل حرف الاستثناء على الاسم

الذي بعده في العمل، فلا يخرجه ذلك من معنى الاستثناء كما أن الفعل إذا بني للمفعول ... لم يخرجه ذلك أن يكون مفعولًا به" قال: "وكذلك ما قام إلا زيد نعلم أن القيام نفي عن غير زيد لكن تصحيح اللفظ ألا يعرى الفعل من فاعل يجعل ما بعد إلا فاعله مع فائدة إلا، وهي نفي الفعل عما سواه". وقوله: "وإن يفرغ سابق" السابق عبارة عن العامل الطالب، و (إلا) مفعولٌ بسابق؛ لأنه اسم الحرف حكاه على العادة في الاصطلاح، ولما متعلق بيفرغ، و (بعد) على حذف المضاف إليه، وهو الضمير العائد على إلا، والتقدير: وإن يفرغ عاملٌ سابقٌ أداة الاستثناء لما بعدها يكن ذلك الواقع بعد إلا في الإعراب كما يكون لو عدمت من الكلام. فإن قيل: من شرط التفريغ أن يتقدم الكلام نفي، أو استفهام، أو نهي، كقولك: ما زيدٌ إلا قائمٌ، وهل أنت إلا قائمٌ، ومنه في القرآن: {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا} {وما محمد إلا رسول} {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} و {لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} ونحو ذلك، والناظم لم يأت بما يعطي اشتراطه بتصريحٍ أو إيماءٍ، فالظاهر أن هذا تقصير، وإلا فمن أين يفهم له ذلك الشرط، وكلامه في التسهيل أصح حيث قال بعد ما ذكر التفريغ: "ولا يفعل ذلك دون نهيٍ أو نفيٍ صريحٍ أو مؤولٍ" فالجواب من وجهين:

أحدهما: إمكان أن يكون ترك ذلك لما لم يستقم التفريغ إلا كذلك، فإن الإيجاب لا يصح فيه ذلك، لو قلت: قام إلا زيد، وضربت إلا زيدًا لم يكن كلامًا مستقيمًا، بخلاف ما إذا لم يكن موجبًا. والثاني- وهو أشبه-: أن كلامه فيما تقدم إنما هو على الاستثناء الواقع بعد النفي وشبهه من لدن قوله: "وبعد نفي أو كنفي انتخب" إلى ههنا فيكون فصل التفريغ إذًا داخلًا تحت ذلك التقييد، ومنتظمًا في سلكه. والله أعلم. [ثم قال]: وألغ إلا ذات توكيدٍ كلا ... تمرر بهم إلا الفتى إلا العلا هذا الفصل يذكر فيه تكرير إلا في الاستثناء، أعني أن تكرر مع ما يقع مستثنًى بها. وهو قد قسمها أولًا قسمين بحسب التكرير المذكور: أحدهما: أن تكرر لمجرد التوكيد لما قبلها، والآخر: أن تكرر لا لتوكيد. فأما الأول فهو الذي ذكر في هذين الشطرين، فبين أن حكمها حكم ما لو لم تذكر إلا بخصوصها، وهذا معنى الإلغاء في قوله: "وألغ" أي أن ما بعدها يجري على إعراب ما قبلها إبدالًا منه تحرزًا مما يذكره بعد في القسم الثاني من مخالفة ما بعدها لما قبلها في الإعراب، ومثل ذلك بقوله: لا تمرر بهم إلا الفتى إلا العلا، فإلا الفتى بدلٌ من الضمير المجرور بالباء، والعلا بدلٌ من الفتى، وإلا لمجرد التوكيد، كأنه قال: إلا الفتى العلا، ويتعلق بهذا الحكم مسائل ثلاث: إحداها: أن هذا الحكم مشروطٌ بأن يكون ما بعد إلا الثانية بحيث إذا سقطت إلا صح معه الكلام، وهو حقيقة كونها مؤكدة، وذلك يتصور على أن يكون الثاني بدلًا من الأول، أو

معطوفًا بالواو. فأما البدل فأن يكون الثاني هو الأول، وهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، وهو الذي مثل به، ومثله: قام القوم إلا زيدًا إلا أبا عبد الله، إذا كان أبو عبد الله هو زيد، ومنه في أحد الاحتمالات ما أنشد الإمام للفرزدق: ما بالمدينة دارٌ غير واحدةٍ ... دارُ الخليفة إلا دار مروانا على أن يكون غير واحدةٍ استثناء لا صفةً، وإلى ذلك ينحو قول القطامي: أما قريش فلن تلقاهم أبدًا ... إلا وهم خير من يحفى وينتعل إلا وهم جبل الله الذي قصرت ... عنه الجبال فما ساواهم جبل وبدل البعض من الكل نحو: ما أعجبني إلا زيدٌ إلا وجهه، وما قطع إلا زيدٌ إلا يده، ومن ذلك عند بعضهم ما أنشده سيبويه من قول الراجز: مالك من شيخك إلا عمله ... إلا رسيمه إلا رمله الرسم والرمل بعض عمله، وظاهر سيبويه أنه من الأول. وبدل الاشتمال كقولك: ما أعجبني إلا زيدٌ إلا حسنه. وبدل الإضراب كذلك أيضًا، وتقول: ما أتاني إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله إذا كان غيره على الغلط، والنسيان،

والبداء. وأما العطف بالواو فكذلك أيضًا إذا قلت: جاءني القوم إلا زيدًا وإلا عمرًا، فهذا من ذلك لأنك إذا أسقطت إلا صح الكلام، فتقول: جاء القوم إلا زيدًا وعمرًا، وأنشد المؤلف على ذلك قول الشاعر: وما الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها وكل هذا داخلٌ تحت عبارته. والثانية: أنه حين بين أن إلا إذا كانت مؤكدة فهي ملغاة في الحكم كأنها لم تكن، فلا بد أن يكون ما بعدها تابعًا لما قبلها في الإعراب، فتقول: ما قام إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، وما أعجبني إلا زيدٌ إلا وجهه أو إلا حسنه، وما مررت إلا بزيدٍ إلا أبي عبد الله، وما أشبه ذلك، فلا تنصب واحدًا منهما على الاستثناء إلا إذا نصبت الآخر على الاستثناء أيضًا، كما أنك إذا لم تأت بإلا المؤكدة لم يختلفا أصلًا، فتقول: ما جاءني إلا زيدٌ أبو عبد الله، وما مررت إلا بزيدٍ أبي عبد الله، ولا تقول: ما جاءني القوم إلا زيدٌ إلا أبا عبد الله، كما لا تقول: ما جاءني القوم إلا زيدٌ أبا عبد الله، وهذا ظاهر. والثالثة: أنه أطلق القول، ولم يقيده كما تقدم، فاقتضى أن ذلك الحكم يكون في الإيجاب كما يكون في النفي، وكذلك في الاستفهام، والنهي، وكذلك اقتضى أنه ثابت مع التفريغ وغيره، وأيضًا فيشعر بذلك من كلامه أنه قسم التكرير إلى ما هو توكيد، وإلى ما هو على غير التوكيد، ثم فصل ما هو على

غير التوكيد إلى ما هو مع التفريغ، وإلى ما ليس كذلك، ولم يفصل ما هو توكيد، فدل على أنه لا تفصيل فيه، وأيضًا فيدل على أن هذا الحكم مطلق تقدم الاستثناء أو تأخر لا يختلف الحكم في المستثنى مع التكرار للتوكيد، وأشعر بالإطلاق تقييده في قسم التكرار لغير توكيد، وتفصيله الحكم مع التقديم والتأخير، فعلى هذا تقول في الإيجاب: قام القوم إلا زيدًا إلا أبا عبد الله، وهل قام إلا زيدٌ إلا أبو عبد الله، ولا تكرم إلا زيدًا إلا أبا عبد الله. وتقول: ما قام إلا زيد إلا أبو عبد الله، وقام الناس إلا زيدًا إلا أبا عبد الله، وكذلك: قام إلا زيدًا إلا أبا عبد الله القوم، وما قام إلا أبو عبد الله إلا زيدٌ القوم، وما أشبه ذلك كله يشمله كلامه. القسم الثاني من قسمي تكرار إلا، وهو أن تكرر لغير توكيد، ذكر فيها الناظم ضابطًا أذكره على الجملة ثم أمشيه على لفظه، فاعلم أنه إذا تكررت إلا فلا يخلو أن يكون ما قبلها مفرغًا لما بعدها أو غير مفرغ له، فإن كان مفرغًا له شغل بواحد من تلك المستثنيات على حسب ما كان يطلبه من فاعليةٍ أو مفعوليةٍ أو غير ذلك، ونصب الباقي منها على الاستثنائية، فتقول: ما جاءني إلا زيدٌ إلا عمرًا، وما مررت إلا بزيدٍ إلا عمرًا. وما أشبه ذلك. وإن كان ما قبل إلا غير مفرغٍ لما بعدها فإما أن تكون المستثنيات متقدمة على المستثنى منه أو لا تكون كذلك، فإن تقدمت فالنصب لا غير في جميع المستثنيات، ولا يجوز الإتباع، فتقول: ما جاءني إلا زيدًا إلا عمرًا أحدٌ، وما مررت إلا زيدًا إلا عمرًا بأحدٍ، ومنه قول الكميت أنشده سيبويه:

فمالي إلا الله لا رب غيره ... ومالي إلا الله غيرك ناصر وإن تأخرت عن المستثنى فلأحدها حكمه إن كان منفردًا، وللبواقي النصب على الاستثناء، فتقول: قام القوام إلا زيدًا إلا عمرًا، وما قاموا إلا زيدٌ إلا عمرًا على المختار، وما قاموا إلا زيدًا إلا عمرًا على غير المختار، هذا معنى ما قاله على الجملة، ثم رجع إلى لفظة فقال رحمه الله: وإن تكرر دون توكيدٍ فمع ... تفريغٍ التأثير بالعامل دع في واحدٍ مما بإلا استثنى ... وليس عن نصب سواه مغني يعني أن إلا إذا كررت مع مستثنى ولم يرد بالتكرير التوكيد فمع تفريغ ما قبلها لا يصح تأثير العامل في واحدٍ من تلك المستثنيات، وإنما يعمل فيه المفرغ له، وهذا يدل على أن العامل المتقدم على إلا ليس هو العامل في المستثنى، أعني المفرغ لما بعد إلا، والمشغول في القسم الآتي، وإنما يعمل فيه غير ذلك، وهو إلا نفسها على ما تقدم، ولا أثر للفعل، ولا لغيره في نصب المستثنى؛ لأنه جعل المفرغ مانعًا لعمل العامل فيه، وهذا يدل على أنه غيره، وإذا كان غيره فهو ما حصلت الإشارة إليه فيما تقدم، فالعامل في قوله: "التأثير بالعامل دع" هو إلا، و"التأثير" منصوب بدع، و"في واحد" متعلق بدع أيضًا، ولا يتعلق بالتأثير؛ لما يلزم من اعتراض دع بين أثناء الصلة، وهو أجنبي منها، وقوله: "في واحد" يريد أي واحد كان منها، متقدمًا كان على البواقي أو متأخرًا؛ إذ الرتبة في هذا غير لازمةٍ، بل يجوز أن تقول: ما جاءني إلا زيدًا إلا عمرو، فيكون "إلا عمرو" هو

المفرَّغُ له، وهو متأخر، ويجوز: ما جاءني إلا زيدٌ إلا عمرًا؛ وسبب ذلك أن المستثنى يجوز تقديمه على المستثنى منه أو ما يقوم مقامه، قال سيبويه: "وإن شئت قلت: ما أتاني إلا زيدًا إلا عمرو، فتجعل الإتيان لعمرو، ويكون زيدٌ منتصبًا من حيث انتصب عمرو" يعني على الاستثناء في المسألة الأولى، قال: "فأنت في ذا بالخيار إن شئت نصبت الأول ورفعت الآخر، وإن شئت نصبت الآخر، ورفعت الأول". ثم قال: "وليس عن نصب سواه مغنٍ" يعني أن ما عدا المستثنى الذي اشتغل به العامل المفرغ له لا بد له من النصب، ولا يغني النصب غيره فلا يتبع على البدل؛ لما يلزم من إبدال المستثنى من المستثنى؛ لأنهما معًا مستثنيان. قال السيرافي: "لا بد من رفع أحدهما مع التفريغ؛ لأن الفعل المنفي لا فاعل معه، ولا يرفع الآخر؛ لأن المرفوع بعد إلا على أحد وجهين: إما على التفريغ، وإما على البدل، ولا يصح واحدٌ منهما، فوجب النصب لأحدهما" و"مغنٍ" واقع على ما عدا النصب، وهو الرفع أو الجر على البدل، وهو اسم ليس، وخبرها محذوفٌ و"عن نصب سواه" متعلق بمغن، والتقدير: ليس ثم أو ليس في الوجود أو في الحصول إعراب ٌ مغنٍ عن نصب سواه، واستعمل سوى متصرفة على مقتضى اختياره فيها على حسب ما يأتي ولا يعني بالنصب هنا مطلق النصب على أي وجهٍ كان، وإنما يعني النصب على الاستثناء. فكأنه يقول: لا بد فيه من النصب على الاستثناء، ولو حملت العبارة على إطلاقها لأوهم أنه يصح النصب على البدل إذا كان المستثنى الأول المفرغ له

العامل منصوبًا نحو: ما رأيت إلا زيدًا إلا عمرًا، والنصب على البدل كالرفع من غير فرق، ويبين هذا القصد من كلامه نصه على التزام النصب؛ إذ لا يكون ذلك إلا مع النصب على الاستثناء، وأما النصب على البدل إذا كان ما قبله منصوبًا فغير متجهٍ؛ لأنه كالرفع والجر، فمن حيث امتنعا يمتنع النصب، ولا وجه لجواز البدل في النصب، ومنعه في الرفع والجر. ثم قال: ودون تفريغٍ مع التقدم ... نصب الجميع احكم به والتزم يعني إذا تقدمت المستثنيات على المستثنى منه؛ وذلك مع عدم التفريغ؛ إذ هناك يتصور التقديم فلا بد من نصبها كلها، فتقول: ما جاءني إلا زيدًا إلا عمرًا أحدٌ، ولا يجوز الرفع في واحد منها كما جاز في قولك: ما جاءني إلا زيدٌ أحدٌ؛ لأن البدل لا يصح كما لو تأخرت المستثنيات؛ لأن المستثنى لا يكون بدلًا من المستثنى، قال سيبويه: "وذلك أنك لا تريد أن تخرج الأول من شيء تدخل فيه الآخر" يعني أنك لم ترد أن يكون الأول مستثنًى منه، والثاني مستثنًى، وإنما هما معًا مستثنيان من المتروك، والبدل إنما يكون حيث يوجد مدخل ومخرج، وذلك معدوم هنا، فامتنع الرفع؛ فلذلك قال الناظم: "نصب الجميع احكم به" وأكده بقوله: "والتزم" أي التزم الحكم بالنصب، ولا تتعداه إلى غيره، ويريد النصب على الاستثناء، لا النصب مطلقًا كما تقدم في قوله: "وليس عن نصب سواه مغن"، و"نصب" منصوب بمقدرٍ من باب الاشتغال، والمفسر قوله: "احكم به" و"دون تفريغ" متعلق باسم فاعل هو حالٌ من الضمير في (به) أي احكم بالنصب حال كونه دون تفريغ، و"مع التقدم" متعلق باحكم، وقوله:

"والتزم" على حذف المفعول أي: والتزم الحكم بذلك أو النصب. وانصب لتأخير وجيء بواحد ... منها كما لو كان دون زائد كلم يفوا إلا امرؤ إلا علي ... وحكمها في القصد حكم الأول قوله: "وانصب لتأخير" أراد النصب على الاستثناء، ومعنى الكلام أن تلك المستثنيات إذا تأخرت عن المستثنى منه فالنصب أيضًا لازمٌ فيها إلا في واحدٍ منها أي واحدٍ كان، فإن حكمه في جواز النصب أو الإتباع كما لو كان وحده دون استثناءٍ آخر، فتقول: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ إلا عمرًا، برفع زيد على البدل، وهو المختار، وما أتاني أحدٌ إلا زيدًا إلا عمرًا بنصبهما معًا على غير المختار، ومثل ههنا بقوله: لم يفو إلا امرؤ إلا علي" وعلي خلاف امرئ فأتى بأحدهما مرفوعًا على ما يجب، وكان الأصل أن يقول: إلا عليًا، وبه يتم المثال ليتبين المراد إلا أن النظم ألجأه إلى الإتيان به على لغة. * جعل القين على الدف إبر * وكذلك تفعل في الإيجاب إلا أنه لا أثر للحكم في الظاهر، وقوله: "وجيء بواحدٍ منها" لم يقيد فيه ذلك الواحد بكونه أولًا أو ثانيًا ليظهر أن كل واحدٍ منهما قابلٌ لما حكم به، فيجوز أن يكون المحكوم عليه الأول أو الآخر فتقول: ما أتاني أحدٌ إلا زيدًا إلا عمروٌ فترفع الآخر على البدل، وتنصب الأول، وذلك

ظاهر، إلا أن هذا المثال في ظاهره ليس من هذا القسم بل من قسم المفرغ له العامل، فكان حقه أن يأتي به هنالك، أو يأتي هنا بغير مفرغ، ولكن يقال: هذا مثال لقسم المكرر على غير التوكيد، أتى به في آخره كما أتى للأول، وهو المكرر للتوكيد، بمثال في آخره فاتفق أن كان من المفرغ. وأما قوله: "وحكمها في القصد حكم الأول" فالضمير في حكمها عائدٌ على المستثنيات الثواني للأول، ويعني أن المستثنى الثاني وما بعده حكمه في المعنى المقصود حكم المستثنى الأول في أنها كلها مخرجات من المستثنى منه المذكور أو المتروك، قال في الشرح: "وما بعد الأول من هذا النوع مساوٍ له في الدخول إن كان الاستثناء من غير موجبٍ، وفي الخروج إن كان موجبًا" انتهى. واختلاف إعرابها لا يخرجها عن ذلك المعنى، قال السيرافي: "المستثنيان وإن اختلف إعرابهما مشتركان في معنى الاستثناء، وإنما رفع أحدهما ونصب الآخر على ما يوجبه تصحيح اللفظ" قال: "ويدل على أنهما مستثنيان معًا أنك لو أخرت المستثنى منه وقدمتهما نصبتهما"، وقال ابن خروف: إن الكل مستثنى من مقدر. فإن قلت: فإذا كان حكمها كلها واحدًا على حكم الأول فكان ينبغي أن يعطف بعضها على بعضٍ، فإن ابن الناظم قال: "إنهم قصدوا بالمستثنى الثاني إخراجه من جملة ما بقي بعد المستثنى الأول، وبالثالث إخراجه من جملة ما بقي بعد المستثنى الثاني" قال: "ولم يقصدوا إخراجها دفعة واحدة وإلا وجب العطف".

واعلم أن هذا الحكم الذي ذكر عامٌ فيما كان من المستثنيات يمكن استثناء بعضها من بعضٍ، وفيما لا يمكن فيه، أعني الحكم بوجوب النصب فيها أو جوازه، ورفع أحدها في التفريغ أو غيره، إلا أن التمثيل بقوله: "كلم يفو إلا امرؤ إلا علي" تعيين لأحد القسمين، وهو قسم ما لا يصح فيه استثناء بعض المستثنيات من بعض، فعلى هذا القسم حكم بأن حكمه حكم الأول؛ لأن المستثنيات فيه لا يصح رجوع بعضها إلى بعض، ولا استثناؤه منه حسب ما أعطاه التمثيل، وانبنى على ذلك أمران: أحدهما: أن كل ما كان من المستثنيات كذلك فهذا حكمه، فإذا قلت: له عندي عشرة إلا اثنين إلا اثنين فالمقر به ستة؛ لأن الجميع مخرج من العشرة، وكذلك إذا قلت: له عندي عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة، أو قلت: له عندي [عشرة إلا] ثلاثة إلا أربعة، وهو رأي الأكثر في هذا؛ لأن الأخير لا يمكن استثناؤه مما قبله، والقائل: إلا اثنين إلا ثلاثة مقر بخمسة، والقائل: إلا ثلاثة إلا أربعة مقر بثلاثة. وذهب الفراء إلى أنهما ليسا بمستثنيين من العشرة- فيكون قد أقر بخمسة أو بثلاثةٍ بل يحكم بأنه قد أقر بأحد عشر؛ لأنه عنده في تقدير: له عندي عشرة إلا اثنين فليسا له عندي إلا الثلاثة التي له عندي، وكذلك الأخرى في تقدير: له عندي عشرةٌ إلا ثلاثة، فليست له عندي سوى الأربعة التي له عندي، وارتضاه المؤلف في التسهيل، وشرحه، وظاهر إشارته هنا أنه مع الجمهور، وهو الأصح قياسًا على مسألة: قام القوم إلا زيدًا إلا عمرًا،

ولأن الاستثناء الثاني لا يمكن على هذا المعنى إلا أن يكون منقطعًا، فيكون التقدير: له عندي عشرةٌ إلا ثلاثة سوى الأربعة التي له عندي، ومتى أمكن حمله على الاتصال لم يجز حمله على الانفصال. فإن قيل: يعين الحمل على الانفصال هنا أنه لو أراد استثناءها من الأول معًا لقال: عشرة إلا سبعة لأنه أخصر، فتخصيصه الثلاثة بالاستثناء ثم جاء بالأربعة دليل على أن الأربعة تزاد على ما أقربه أولًا، وهي السبعة. فالجواب: هذا لازم في: عشرة إلا ثلاثة، فلقائل أن يقول: لو أراد استثناء الثلاثة من الأول لقال: له عندي سبعة لأنها أخصر، فأن لم يفعلوا ذلك دليل على أنهم قصدوا أمرًا آخر، وهذا فاسدٌ. فإن قيل: إن للعرب في كلامها تصرفاتٍ كثيرةً فلا يمتنع مثل هذا عليها. قيل: فكذلك يلزم في مسألتنا. والأمر الثاني: أن قاعدته تشعر بأنه إذا أمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض فليس الحكم كذلك خلافًا لمن زعم أن الحكم في القسمين واحدٌ. وفي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن الجميع مخرجٌ من الأول، فإذا قلت: له عندي عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة فالمقر به خمسة كما تقدم، وإذا قلت: عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين فكذلك وهذا إذا أمكن أن تكون المستثنيات كلها مخرجة من الأول. والثاني: مذهب الفراء المتقدم فيجعل الاستثناء الثاني منقطعًا كما تقدم. والثالث: مذهب الأكثر أن يجعل الثاني مستثنى من الأول، والثالث مستثنى من الثاني، فإذا قلت: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، فالثلاثة مخرجة من العشرة، والاثنان مخرجة من الثلاثة، فالمقر به إذًا تسعة، وليس في كلام

الناظم ما يعين هذا الأخير، ولا ما قبله، وفيه ما يعين مخالفته للأول من جهة ما أشار إليه من مخالفة القسم الأول لهذا القسم في حكم الإخراج، ولما لم يتعين له رأي في هذا القسم لم نتعرض للاحتجاج عليه. وبالله التوفيق ثم قال: واستثن مجرورًا بغيرٍ معربًا ... بما لمستثنًى بإلا نسبًا أدوات الاستثناء على أربعة أقسام: قسم هو حرف فقط، وذلك إلا، وهو الذي قدم الكلام عليه، وقد فرغ من شرحه، والحمد لله، وقسم هو اسم فقط، وذلك غير وسوى، بلغاتها، وهو الذي شرع في الكلام عليه، وقسم هو فعل فقط، وذلك ليس، ولا يكون، وقسم هو متردد بين الفعلية والحرفية، تارة يكون فعلًا، وتارةً يكون حرفًا، وهو خلا، وعدا، وحاشا بلغاتها. وإذا تقرر هذا فاعلم أن الأصل في غير أن تكون صفةً؛ لأنك تقول: مررت برجلٍ غيرك، تريد أنه مغايرٌ لك، كما تقول: مررت برجل مثلك على معنى مماثلك غير أنها ضمنت معنى إلا حيث يصح ذلك فيها، وذلك إذا تقدم ما يكون المضاف إليه غير جزءٍ منه، فتقول: قام القوم غير زيدٍ، تريد غايرهم في أنه لم يقم، لأنك لا تريد أن القوم ليسوا زيدًا، وإذا صح فيها معنى إلا بتضمينها إياه جرت مجرى إلا في الاستثناء بها كما يستثنى بإلا؛ فلذلك أدخلوها في حكمها، فيريد الناظم أن غيرًا يستثنى بها ما أضيفت إليه فتعرب معه بإعراب الاسم الواقع بعد إلا، فكل حكم لزم فيما بعد إلا فهو لازمٌ في غير، من نصب، وإتباعٍ، واتصال، وانقطاع غير أن إعراب ما بعد إلا من رفعٍ أو نصبٍ أو جرٍ حاصلٌ في غيرٍ لا فيما بعدها؛ إذا كان ما بعدها قد استحق الجر بالإضافة؛ لأن غيرًا من الأسماء فهي بمنزلة ما بعد إلا في الإعراب، وبمنزلة إلا نفسها في معنى الاستثناء، فقوله: "واستثن مجرورًا بغيرٍ" أي اجعل المجرور بغيرٍ هو المستثنى، وغيرًا أداة الاستثناء،

و (معربًا) حالٌ من غير، أي استثن بهذا الاسم حالة كونه معربًا بإعراب ما بعد إلا مما نسب إليه فيما تقدم، والذي نسب إلى ما بعد إلا هو جميع ما تقدم من الوجوه، فإذا كان الكلام موجبًا فالنصب في غيرٍ، نحو: أتاني القوم غير زيدٍ، وإن كان غير موجب فالإتباع إن لم يكن العامل مفرغًا هو المختار، نحو: ما أتاني القوم غير زيدٍ، ويجوز النصب قليلًا، نحو: ما أتاني القوم غير زيدٍ، وإن كان مفرغًا فالجريان على حكم العوامل المتقدمة، نحو: ما أتاني غير زيدٍ، وما مررت بغير زيدٍ، وما زيدٌ غير قائمٍ، وكذلك يجري الاستفهام والنهي فيها مجرى النفي، فتقول: هل أتاك أحدٌ غير زيدٍ، على البدل، وغير زيد- على الاستثناء، وهل أتاك غير زيدٍ- على التفريغ، ولا تمرر بأحدٍ غير زيدٍ، ولا تمرر بغير زيدٍ. وسائر الأحكام في الاتصال كذلك، وكذلك في الانقطاع أيضًا النصب في الإيجاب لازمٌ، وفي غير الإيجاب النصب في لغة الحجازيين، والإتباع جوازًا في لغة التميميين، نحو: جاءني القوم المسافرون غير زيدٍ المقيم، وما في الدار أحدٌ غير حمارٍ وغير حمارٍ، وما أشبه ذلك. وكذلك يكون النصب مع تقديم المستثنى على المستثنى منه أولى في النفي وشبهه، نحو: ما أتاني غير زيدٍ أحدٌ، وما أتاني غير زيدٍ أحدٌ، على خلاف المختار. وما جرى من المسائل في تكرير إلا جارٍ في تكرير غيرٍ، فقد تقول: ما أتاني غير زيد غير أبي عبد الله، وما أتاني أحدٌ غير زيد غير أبي عبد الله، وما أتاني غير زيدٍ غير عمر أحدٌ، وما أتاني أحدٌ غير زيدٍ غير عمروٍ، وما أشبه ذلك- الحكم في هذه المسائل كلها واحدٌ، والمعنى واحدٌ؛ إذ قد اشتركا أيضًا في معنى الوصف الأصلي؛ فلذلك أتى الناظم بما المقتضية للعموم في قوله: "بما لمستثنى بإلا نسبا"، أي معربًا بجميع ما نسب للمستثنى بإلا، فإذا تقرر هذا فههنا ثلاث مسائل متعلقة بهذه القاعدة.

إحداها: أنه لما جعل حكم غير حكم ما بعد إلا كان ذلك ظاهرًا في أن نصبها في المواضع التي ينصب ما بعد إلا على الاستثناء فيها نصب على الاستثناء، فإذا قلت: جاء القوم غير زيد، فغير منصوب على الاستثناء إذا أشربت معنى إلا لا على الحال خلافًا لمن زعم ذلك؛ لأن الحال أصلها الصفة "لكن امتنع جريانها على الموصوف حين اختلفا في التعريف والتنكير، وإذا كان أصلها الصفة"- وهي الآن كذلك بالفرض- فلم يدخلها معنى إلا كما في نحو: قام القوم غير زيدٍ، فالظاهر أن النصب على الاستثناء، ولا يحتمل الحال مع إشراب معنى إلا. نعم يجوز أن تكون حالًا من حيث أن تكون صفةً بغير إشكال. والثانية: أن قوله: "معربًا بكذا" مشعرٌ بتصرفه بوجوه الإعراب، وذلك ظاهرٌ في أنه لا يجوز بقاؤه على حالةٍ واحدةٍ بإطلاقٍ، وهو معنى كونه لا يبنى مطلقًا أضيف إلى معرب أو إلى مبني، وهذا مذهب البصريين: أنه لا يطلق فيه جواز البناء، ونقل عن الفراء أن ذلك جائز لتضمنه معنى إلا، فيجوز أن تقول على مذهبه: ما قام غير زيدٍ، وما أتاني غير عمروٍ، ولم يعجبني غلى أن قلت كذا، قياسًا على قول الشاعر: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامةٌ في غصون ذات أوقال وكلام العرب على خلاف ما قال، إذ لم يأت ذلك في غير إلا عند إضافته إلى

مبني، وهناك يجوز أن تبنى على الفتح اتفاقًا، وأما مع إضافته إلى معربٍ فلا. والثالثة: أنه أحال في أحكام غيرٍ على حكم ما بعد إلا على العموم فاقتضى أن كل موضع تقع فيه إلا يصح أن تقع فيه غير، وذلك غير مستقيم، لأن إلا قد يقع بعدها المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، فتقول: ما أتاني أحدٌ إلا زيدٌ خيرٌ منه، وما جاءني إلا يضحك، ولا تقع غير في هذا الموضع فلا تقول: ما أتاني أحدٌ غير زيدٌ خيرٌ منه، ولا غير يضحك، لأن غيرًا مختصة بالإضافة إلى المفرد فلا تضاف إلى جملة، وأيضًا فإن غيرًا تخالف إلا في مواضع أخر. وجملة ما يتخالفان فيه خمسة مواضع: أحدها: ما تقدم من صحة وقوع الجملة بعد إلا، ولا تقع بعد غير. والثاني: أن غيرًا يوصف بها حيث لا يتصور الاستثناء وإلا ليست كذلك، فتقول: عندي درهمٌ غير جيد، ولا تقول: عندي درهمٌ إلا جيد. والثالث: أن إلا إذا كانت مع ما بعدها صفةً لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه، فتقول: قام القوم إلا زيد، ولو قلت: قام إلا زيدٌ لم يجز بخلاف غير فإنك تقول: قام غير زيدٍ كما تقول: قام القوم غير زيدٍ. والرابع: أنك إذا عطفت على الاسم الذي بعد إلا لم تعتبر إلا اللفظ، فتقول: قام القوم إلا زيدًا وعمرًا، وما قام إلا زيدٌ وعمرو، وإذا عطفت على

الاسم الواقع بعد غير كان لك وجهان: أحدهما: الحمل على اللفظ، فتقول: ما أتاني أحد غير "زيدٍ وعمروٍ، بالجر حملًا على لفظ زيد. والثاني: الحمل على المعنى، فتقول: ما أتاني أحدٌ غير زيدٍ" وعمرو، برفع عمرو؛ لأن المعنى: ما أتاني إلا زيدٌ وعمروٌ، فهو من باب الحمل على المرادف الذي يقول فيه النحويين الحمل على التوهم. والخامس: أنك إذا فرغت العامل قبل إلا لما بعدها على أن يكون مفعولًا له صح نصبه بخلاف غير فإنه لا بد من جره، فتقول: ما جئتك إلا ابتغاء الخير نصبًا، وتقول في غير: ما جئتك لغير ابتغاء الخير، ولا تحذف اللام. فهذه المواضع كلها تنقض على الناظم كليته التي عمم، وقاعدته التي أصل. والجواب: أن الناظم لم يذكر وقوع الجمل بعد إلا، ولا وقوعها مع ما بعدها صفةً، ولا حكمك العطف على المستثنى، ولا تعرض في هذا النظم لتلك الأحكام المعترض بها في إلا، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه؛ لأنه إنما أحال على ما ذكر هنا، ألا تراع كيف قال: "بما لمستثنى إلا نسبا" يعني ما أضيف إليه في نظمه هذا من الأحكام، ولا شك أن جميع ما ذكر في ما بعد إلا جارٍ في غير. وأما مسألة المفعول له فغير داخلة عليه، إذ قد قدم أن من شرطه أن يكون مصدرًا، وغير ليس مصدرًا، فقد تخلف فيه شرط النصب فلا بد من الجر باللام. والقاعدة العامة في غير مع إلا أن غيرًا لا تقع موقع إلا في الاستثناء إلا أن تكون غير على أصلها وتجري في الاستثناء، وأصلها أن تجري صفة على

ما قبلها كما أن إلا لا تقع موقع غير في الصفة إلا حيث تكون إلا على أصلها من الاستثناء، ولا تكون كذلك إلا ومعنى الاستثناء حاصلٌ فيها، فإلا لا تفارق أصلها كما أن غير لا تفارق أصلها. وهذه القاعدة هي أصل النظر في الأداتين فتأملها. [ثم قال]: ولسوى سوى سواءٍ اجعلا ... على الأصح ما لغير جعلا أراد: ولسوى وسوى وسواء فحذف العاطف على عادته في أمثال هذا، ونبه بذلك على أن فيها ثلاث لغاتٍ: سوى بكسر السين، وسوى بضمها، وكلاهما مع القصر، وسواء بفتحها لكن مع المد، ومعناها معنى غير، ويريد أن سوى بجميع لغاتها من أدوات الاستثناء، ولها في الاستثناء من الحكم ما تقرر لغير؛ فتقول: قام القوم سواك، وما قام سواؤك بالرفع، لأنه فاعل، وما قام أحد سواؤك، وما مررت بأحدٍ سوائك، كما تقول ما قام غيرك، وما قام أحد غيرك، وما مررت بأحدٍ غيرك، وكذا سِوى وسُوى. ومما جاء من ذلك قول الفند الزماني من شعراء الحماسة: ولما صرح الشر ... فأمسي وهو عريان ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا وعلى هذا يجري الحكم في سائر المسائل، والحاصل عنده في سوى أنها مثل غيرٍ بإطلاق، فيكون إعرابها كإعراب غير، وأحكامهم كأحكام غير، ويشمل ذلك

الإطلاق غير باب الاستثناء، فتقع عنده مبتدأ، وفاعلًا، وقد تقدم آنفًا كونها فاعلًا، ومثال كونها مبتدأ ما أنشده ابن الأنباري من قول الشاعر: وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري وأنشد المؤلف على دخول إن عليها: لديك كفيلٌ بالمنى لمؤملٍ ... وإن سواك من يؤمله يشقى وتقع مضافًا إليها بحرفٍ، وغير حرفٍ، فمثال الإضافة بالحرف قول أبي دؤاد، أنشده ابن الأنباري: وكل من ظن أن الموت يخطئه ... معلل بسواء الحق مكذوب وأنشد سيبويه للمرار بن سلامة العجلى: ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منا ولا من سوائنا

وأنشد أيضًا للأعشى: تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا وأنشد ابن الأنباري: أمر على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها فالتقدير: أم في سواها، ومثال الإضافة بغير حرفٍ ما أنشده المؤلف من قول الشاعر: ذكرك الله عند ذكر سواه ... صارفٌ عن فؤادك الغفلات وقوله: "على الأصح" متعلق باسم فاعل محذوف هو حال من "ما"، والتقدير: اجعل لسوى جميع أحكام غير كائنًا على الأصح، أو مشتملًا أو مستقرًا على الأصح- أو باجعلا. وهذا إشعار بمخالفته في التعميم للبصريين، فإن الخليل، وسيبويه، والجمهور لا يجعلون سوى وأختيها كما جعلها ابن مالك، بل هي عندهم لازمة النصب على الظرفية، فلا تقع مبتدأة، ولا ترفع على الفاعلية، ولا تجر بالإضافة، فهي من الظروف غير المتصرفة غير أن العرب ضمنتها معنى الاستثناء، إذ وقعت في موضع نصب، نحو: قام القوم سواء

زيدٍ، وسوى زيدٍ، فلا تجري في هذا الباب مجرى غيرٍ إلا في كون ما بعدها مستثنى بها في نحو المثال المذكور، وإنما تجري عندهم مجرى غير في ضرورة الشعر كالشواهد المتقدمة، وأما في الاختيار فلا. وما ذهب إليه الناظم- هو مذهب الكوفيين أنها تكون عندهم غير ظرف. وحجته في ذلك القياس والسماع. أما القياس فإن سواءً أصلها الوصف كقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم}، وقوله: {في أربعة أيامٍ سواءً} الآية، وإذا كانت غير ظرف في أصلها بل صفة متصرفة، فالأصل بقاءها على ما كانت عليه من التصرف حتى يقوم الدليل على عدم التصرف، ولم يقم بعد، ثم تضمينها معنى حرف الاستثناء لا يوجب لها عدم التصرف، ولو كان ذلك كذلك لوجب ألا تتصرف غير حين ضمنت معنى حرف الاستثناء فلما لم يكن ذلك موجبًا في غير لم يكن موجبًا في سواءٍ، وأيضًا فإن معنى سوى وسواء معنى غير، وقد ثبت تصرف غير في باب الاستثناء وغيره، فكذلك يجب فيما كان في معناها، وقد أقر سيبويه بموافقتها لغير في المعنى فقال في: باب ما يحتمل الشعر، بعد ما أنشد بيتي المرار، والأعشى:

* إذا جلسوا منا ولا من سوائنا * و* ما قصدت من أهلها لسوائها * "فعلوا ذلك لأن معنى سوى معنى غير" فهذا تصريح بأن معناها معنى غير، وذلك يستلزم انتفاء الظرفية كما هي منتفية عن غيرٍ، ولو كانت ظرفًا لأعطت معنى (في) الذي كانت تتضمنه؛ إذ معنى الظرف ما ضمن معنى (في) من أسماء الزمان أو المكان، وسوى ليس فيها معنى (في)، ولا هي اسم زمان ولا مكان، فلا ظرفية فيها البتة، فهي وغير سواء. وأما السماع فقد تقدم من الشعر جملة، ومنه في النثر ما في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوت ربي ألا يسلط على أمتي عدوًا من سوى أنفسهم" وقوله عليه السلام: "ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود" الحديث، وحكى ابن

الأنباري: أتاني سِواؤك، ومن أمثلة الفراء: أتيت سواك، أي غيرك. فهذا كله دليل واضح على صحة ما تقدم، ولا يبقى في المسألة إلا أن يقال: إن العرب تقول: مررت بمن سواك في شهير الكلام، فتصل الموصول بها كما تصل بسائر الظروف، ولولا أنها ظرفٌ لما جاز ذلك. والجواب: أنه لا يلزم من معاملتها معاملة الظرف أن تكون ظرفًا "فإن حرف الجر يعامل معاملة الظرف ولم يكن بذلك ظرفًا" وإن سمي ظرفًا فمجاز، فكذلك إن أطلق على سوى لفظ الظرف مجازًا فجائزٌ، أما إطلاقه حقيقة فممنوع. فإن قيل: فلم وقعت سوى صلةً دون غير، فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن ذلك من النوادر كنصب غدوةٍ بعد لدن، وإضافة ذي إلى تسلم في قولهم: اذهب بذي تسلم. والثاني: أن سوى لزمتها الإضافة لفظًا ومعنى فأشبهت عند ولدي فعوملت معاملتها في الوقوع صلةً مع كثرة الاستعمال، بخلاف غيرٍ فإنه لا يلزم الإضافة لفظًا فلم يتحقق الشبه. وقد ظهر من هذا أن سوى وأختيها عند الناظم لا تكون ظروفًا كما زعم البصريون؛ فإنه لما قال: "ما لغير جعلا" ظهر أنها لا تكون ظرفًا؛ لأن عدم الظرفية مما جعل لغير، ودليله ما مر.

واعلم أنَّ جميع ما استدل به الناظم أو استدل له به مبناه على السماع، فإن القياس عند أهل اللسان تابعٌ غير متبوع، أي تابعٌ للسماع من العرب، فالسماع هو الحاكم على القياس، وليس السماع تابعًا للقياس، فلا يكون القياس حاكمًا على السماع، ولذلك قال الإمام: "قف حيث وقفوا ثم فسر" فأخذ الناس هذا منه أصلًا يرجعون إليه. والسماع الذي اعتمده الناظم أمران: أحدهما: الشعر والآخر الحديث. أما الحديث فإنه خالف في الاستشهاد به جميع المتقدمين؛ إذ لا تجد في كتابٍ نحوي استدلالًا بحديثٍ منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على وجه أذكره بحول الله، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم، وبأشعارهم التي فيها ذكر الخنا والفحش، والذين لا يعرفون قبيلًا من دبيرٍ، بل روى أبو حاتم عن أبي عمر الجرمي أنه أتى أبا عبيدة معمر بن المثنى بشيءٍ من كتابه في تفسير غريب القرآن، قال: فقلت له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة، فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء، فقال لي: هذا تفسير لأعراب البوالين على أعقابهم، فإن شئت فخذ، وإن شئت فذر. ويتركون الأحاديث الصحيحة كما ترى. ووجه تركهم للحديث أن يستشهدوا به ما ثبت عندهم من نقله على المعنى، وجواز ذلك عند الأئمة؛ إذ المقصود الأعظم عندهم فيه إنما هو المعنى لتلقي الأحكام الشرعية لا اللفظ، ولذلك تجد في الأحاديث اختلاف الألفاظ كثيرًا، فترى الحديث الواحد في القصة الواحدة، والمقالة

الفذة التي لا ثانية لها قد اختلفت فيه العبارات اختلافًا متفاوتًا، ما بين جارٍ على ما عرف من كلام العرب، وما لم يعرف، وليس ذلك إلا لما ساغ لهم- أعني للرواة- من نقله بالمعنى. ومن ههنا أجاز المحققون ذلك للعارفِ بدلالات الألفاظ؛ لأن المعاني إذا سلمت في النقل فلا مبالاة بمجرد الألفاظ إلا من باب الأولى خاصة، خلاف ما عليه الأمر في نقل الشعر، وكلام العرب فإنهم- أعني رواته- لم ينقلوه أخذًا لمعناه فقط، بل المعتنى به عندهم كان اللفظ لما ينبني على ذلك من الأحكام اللسانية فاعتنى النحويون بالاستنباط مما نقل من كلام العرب عن الثقات، وتركوا ما نقل من الأحاديث لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي، فيكون قد بنى على غير أصلٍ، وذلك من جملة تحريهم في المحافظة على القواعد اللسانية، فاعتنى النحويون بالاستنباط مما نقل من كلام العرب عن الثقات، وتركوا ما نقل من الأحاديث؛ لاحتمال إخراج الراوي لفظ الحديث عن القياس العربي، فيكون قد بنى على غير أصل، وذلك من جملة تحريهم في المحافظة على القواعد اللسانية ولو رأيت اجتهادهم في الأخذ عن العرب، وكيفية التلقي منهم لقضيت العجب فليس بمنكرٍ تركهم للاستشهاد بالحديث والاستنباط منه، كيف وهم قد بنوا على ما نقل أهل القراءات من الروايات في ألفاظ القرآن، فبنوا عليها لما كان اعتناؤهم بنقل الألفاظ، وإذا فرض في الحديث ما نقل بلفظه، وعرف بذلك، بنص أو بقرينةٍ تدل على الاعتناء باللفظ صار ذلك المنقول أولى ما يحتج به النحويون، واللغويون، والبيانيون، ويبنون عليه علوهم. وعلى هذا نقول: إن الحديث في النقل ينقسم قسمين:

أحدهما: ما عرف أن المعتنى به فيه نقل معانيه لا نقل ألفاظه، فهذا لم يقع به استشهاد من أهل اللسان. والثاني: ما عرف أن المعتنى به في نقل ألفاظه لمقصودٍ خاص بها، فهذا يصح الاستشهاد به في أحكام اللسان العربي، كالأحاديث المنقولة في الاستدلال على فصاحةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ككتابه إلى همدان: أن لكم "فراعها ووهاطها وعزازها، تأكلون علافها، وترعون عفاءها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب، والناب، والفصيل، والفارض، والداجن والكبش الحوري، وعليهم فيها الصالغ، والقارح" وكتابه إلى وائل بن حجر الذي فيه: "في التيعة شاةٌ لا منوطة الألياط ولا ضناك" إلى آخر ما كتب عليه

السلام، ومن هذا ما روي أن قومًا وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أنتم، فقالوا: بنو غيان، فقال: بل أنتم بنو رشدان"، فاستدل ابن جني بهذا الحديث على أن النون في غيان زائدة، وأنه مشتق من الغي لا من الغين، لأن مثل هذا مقصود فيه نقل اللفظ، وروي أن رجلًا قال: يا رسول الله أيدالك الرجل امرأته؟ فقال: نعم إذا كان ملفجًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما قلت وما قال لك رسول الله، فقال عليه السلام: قال لي: أيماطل الرجل امرأته، فقلت: نعم إذا كان فقيرًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد طفت في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح منك يا رسول الله فقال: وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد" إلى أمثال هذا من الأحاديث المتحرى فيها اللفظ، وابن مالك- رحمه الله- لم يفصل هذا التفصيل الضروري الذي لابد منه، فبنى الأحكام على الحديث مطلقًا، ولا أعرف له فيه من النحاة سلفًا إلا أن ابن خروف يأتي بأحاديث في تمثيل جملةٍ من المسائل، وقصده في الغالب لا يتبين في ذلك حتى قال ابن الضائع: لا أدري هل يأتي بها بانيًا عليها أم هي لمجرد التمثيل، هذا معنى كلامه، وكأن ابن مالك بنى- والله أعلم- على القول بمنع نقل الحديث بالمعنى مطلقًا، وهو قولٌ ضعيف يرده المقطوع به من نقل القضايا المتحدة بالألفاظ المختلفة غير مختصٍ بزمان الصحابة دون غيرهم، ولا مقتصر به على العرب دون من عداهم، ومن تأمل في كتب الحديث وجد فيها

من ذلك من الألفاظ الحائدة عن كلام العرب أشياء كثيرةً حتى تقع تخطئة الرواة من الأئمة الناقدين، والعلماء العارفين بكلام العرب من غير نكيرٍ من غيرهم، فالحق أن ابن مالك في هذه القاعدة غير مصيب، كما أنه غير مصيب في قاعدته الأخرى في اعتبار ما في الشعر من الضرورات اعتبار ما يجوز تبديله أو لا يجوز، وأما اعتماده على الشعر مجردًا من نثر شهيرٍ يضاف إليه، أو يوافق لغةً مستعملة يحمل ما في الشعر عليها- فليس بمعتمد عند أهل التحقيق؛ لأن الشعر محل الضرورات. وسيأتي بيان هذا الأصل بعد- إن شاء الله تعالى- والمقصود بيان ضعف مدرك الناظم في جعله سوى متصرفةً كغيرٍ، فإن اعتماده هنا كان على هذين الأصلين، وهو يعتمدها كثيرًا كما أنه يعتمد غيرهما مما لم يعتمده غيره من الأئمة حسب ما ذكر بعضه، ويأتي باقيه- إن شاء الله-: وقوله: "اجعلا" الألف فيه مبدلة من نون التوكيد الخفيفة. واستثن ناصبًا بليس، وخلا ... وبعدا، وبيكون بعد لا هذا هو الكلام على القسم الثالث والرابع من أدوات الاستثناء، فمن القسم الثالث الذي أدواته أفعالٌ ليس ولا يكون. ومن الرابع المتردد بين الفعلية والحرفية خلا، وعدا وحاشا التي يذكرها آخرًا. وصدر الكلام بالأربعة، وهي غير حاشا وأخر الكلام في حاشا لمخالفتها للبواقي في حكم يذكره. و"ناصبا" حالٌ من فاعل (استثن) ويعني أن هذه الأدوات الأربعة، وهي ليس المعروفة الفعلية، وخلا، وعدا المفسرين بعد، ولا يكون، وهي المعبر عنها بقوله: "وبيكون بعد لا"

يستثنى بها ما بعدها، فيكون منصوبًا بها؛ لأنها إذ ذاك أفعالٌ، والفعل لا بد له من فاعل، وقد يقتضي منصوبًا، ففاعلوها ضمائر مستترة فيها، ولم ينبه على ذلك علمًا به، والنصب بحسب ما تطلبه تلك الأفعال، لا على محض الاستثناء كما بعد إلا في الفعل المشغول، بل كما بعدها في الفعل المفرغ، فلذلك قال: "واستثن ناصبًا بكذا" فليس ولا يكون تطلبان ما بعدهما بالنصب على الخبرية لأنهما من باب كان الداخلة على المبتدأ والخبر، فتقول: قام القوم ليس زيدًا، وقام القوم لا يكون زيدًا، فزيدًا خبر ليس وكان، فذلك وجه نصبه معهما، وخلا، وعدا فعلان يطلبان الاسم الذي بعدهما بالمفعولية، فتقول: قام القوم خلا زيدًا، وقام القوم عدا زيدًا، فزيدًا مفعولٌ؛ لأن معنى خلا وعدا عند سيبويه جاوز، كأنه قال: جاوز بعضهم زيدًا، ضمنا في الاستثناء هذا المعنى، والبعض المضمر هم من عدا زيدًا، وهذه الأفعال ضمنت معنى إلا؛ فلذلك عدمت التصرف، وقد دل على عدم تصرفها حين قال: "بليس وخلا" وكذا فعيّن لخلا وعدا صيغة الماضي، وعين ليكون صيغة المضارع، وعين لها حرف (لا) دون غيرها من حروف النفي، فلا يجوز إذًا أن يقال: قام القوم يخلو زيدًا، أو: يعدو زيدًا، أو ما يكون زيدًا، أو ما كان زيدًا، أو ما أشبه ذلك، وأيضًا فأتى بها على لفظ المسند إلى ضمير مفردٍ مذكرٍ، فدل على أن مرفوعها مفردٌ مذكر أبدًا، وهو ضمير البعض المقدر، وهو رأي البصريين، أو ضمير المجهول- كنايةٌ عن الفعل، والاسم في موضع الفعل كأنه قال: ليس فعلهم فعل زيدٍ. وليس

في كلامه ما يعين أحد المذهبين. وهذا كله يبين عدم تصرف هذه الأفعال، وأنها تأتي على لفظ واحدٍ، فلا تقول: قامت الفرقة ليست زيدًا، ولا تكون زيدًا، ولا خلت، ولا عدت، ولا: قام القوم ليسوا زيدًا، ولا يكونون زيدًا، وأنت تريد الاستثناء، ولا قام القوم خلوا، أو عدوا زيدًا، وإنما جرت مجرى ما ضمنت معناه وهو إلا، فلو خلت من معنى إلا لجاز تصرفها ولحاق الضمائر المطابقة. ولما ذكر النصب في الأربعة وأطلق ذلك فيها إطلاقًا، وكان منها ما يكون ذلك فيه على اللزوم، وما يكون فيه على الجواز استدرك لما كان النصب فيه على الجواز وجهًا آخر، وهو الجر، فقال في ذلك: واجرر بسابقي يكون إن ترد ... وبعد (ما) انصب وانجرار قد يرد سابقي يكون هما خلا وعدا، ويعني أنك إن أردت الجر بهذين الفعلين فجائز لك ذلك. فإذًا قد حصل في استعمال ما بعدهما وجهان: أحدهما: النصب الذي قدم، ومنه في خلا ما أنشده ابن خروفٍ، وغيره من قول الشاعر: وبلدةٍ ليس بها طوري ... ولا خلا الجن بها إنسي ومنه في عدا ما أنشده ابن خروف أيضًا: يا من دحا الأرض ومن طحاها ... أنزل بهم صاعقةً أراها تحترق الأحشاء من لظاها ... عدا سليمى وعدا أباها

والثاني: الجر المنبه عليه الآن، ومنه في خلا قول الشاعر الأعشى: خلا الله لا أرجو سواك وإنما ... وأعد عيالي شعبة من عيالكا ومنه في عدا قول الآخر أنشده ابن خروف: تركنا بالحضيض بنات عوجٍ ... عواكف قد خنعن إلى النسور أبحناحيهم قتلى، وأسرى ... عدا الشمطاء، والطفل الصغير وسوى بين خلا وعدا في إجازة الجر بهما. أما في خلا فقال السيرافي: لا خلاف أعلم في جواز الجر بخلا، وأما في عدا فللنحويين في إجازة الجر بها خلاف، فذهب ابن خروف إلى الجواز كالناظم، وفي كلام الأخفش ما يشعر بذلك، فإنه قال: وأما عدا فقد ينصبون بها ويجرون، فإذا جروا فهي حرفٌ بمنزلة من، وإذا نصبوا فهي فعلٌ كأنك قلت: جاوز بعضهم زيدًا، قال: وكذلك خلا، وذلك أنك إذا قلت: ما جاءني أحد، توهم السامع أن زيدًا هو أحد الذين لم يأتوك، فقلت: عدا أحدهم زيدًا، أي ليس في الآتين، ولم يذكر سيبويه الجر بعدا، فحمل على أنه غير جائزٍ عنده، وذلك أن السماع في ذلك قليلٌ، فلم يبلغ سيبويه، فلذلك سكت عنه، وبلغ الأخفش فألحقه بخلا،

وأيضًا فإن خلا عند الناظم يجوز فيها النصب على غير قلةٍ؛ إذ لم يقيده بذلك، وهو مذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن النصب بها لا يكاد يعرف، وقد استدل ابن خروف على صحة ما حكاه سيبويه من النصب بالنصب بها بعد (ما) باتفاق، ما عدا الجرمي فإنه أجاز الجر بها بعد (ما) حكايةً عن العرب كما سيأتي، فإذا ثبت ذلك فيها مع (ما) جاز فيها دونها من حيث ثبتت فعليتها، وأيضًا فإن سيبويه ما أثبت إلا ما ثبت عنده فليس قول الأخفش حجةً عليه، لأنه نافٍ وسيبويه مثبت، والمثبت مقدم على النافي في مثل هذا، فالأصح ما ذهب إليه الناظم. وهذا كله ما لم يتصل بهما (ما). فأما إن اتصلت بهما (ما) فإن الوجه المختار هو النصب كما نص عليه بقوله: "وبعد ما انصب". فبين أن النصب هو الوجه والقياس المطرد إذا وقعا بعد (ما)، وأما الجر فقليل، لقوله: "وانجرار قد يرد" يريد عن العرب قليلًا، فتقول على المختار: قام القوم ما خلا زيدًا، وقام القوم ما عدا زيدًا، وتكون (ما) مع ما بعدها في موضع نصبٍ، وهي مصدرية كأنه في التقدير: قام القوم مجاوزتهم زيدًا، وهو مصدرٌ منصوبٌ نصب غير وسوى عند ابن خروف، ومصدر في موضع الحال عند السيرافي من باب: رجع عوده على بدئه ونظائره، أي مجاوزين زيدًا أو خالين من زيدٍ؛ فإذا كانت مصدرية لم يصلح أن يكون ما بعدها من خلا وعدا إلا فعلًا، لأن (ما)

المصدرية لا توصل إلا بالفعل، ومن ذلك في الشعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيمٍ لا محالة زائل وروى الجرمي الجر بهما بعد (ما)، نحو: قام القوم ما عدا زيدٍ، كأنه على تقدير زيادة (ما)، قال في الشرح: "وفيه شذوذ؛ لأن (ما) إذا زيدت مع حرف جر لا تتقدم عليه بل تتأخر عنه، نحو: {فبما رحمة من الله} و {عما قليل}. ثم قال: وحيث جرا فهما حرفان ... كما هما إن نصبا فعلان يعني أن خلا وعدا إذا كان ما بعدهما مجرورًا فذلك لأنهما حرفا جر؛ لأن الفعل لا يعمل الجر، ولا يقع بعده المجرور، وإنما يعمل الجر الحرف أو الاسم، وهما ليسا باسمين، فلا بد أن يكونا حرفين. وأما إذا نصبا ما بعدهما فهما فعلان؛ لأنه قد ثبتت لهما الفعلية قبل دخولهما في هذا الباب فلا يخرجان عن ذلك إلا بدليل، ولا دليل على ذلك، فلذلك قال: "كما هما أن نصبا فعلان" وهو تشبيه تنظير، لا تشبيه تعليل لكن قوله: "كما هما أن نصبا فعلان" إن أراد أنهما كذلك بغير مطالبةٍ بالدليل فهذا لا يسلم، وإن أراد بالدليل فلا يلزم من النصب كونهما فعلين؛ إذ قد ينصب الحرف على مذهبه؛ ولأجل ذلك ذهب إلى أن النصب قبل بإلا إذا قلت: قام القوم إلا زيدًا، وقد اعترض هنالك على نفسه فقال: "فإن قيل: لو كانت إلا عاملة

لجرت؛ لأن الجر هو اللائق بعامل الاسم الذي لا يشبه الفعل، ولذا حكم لعدا وخلا وحاشا بالحرفية إذا جرت وبالفعلية إذا نصبت، فالجواب: لا نسلم أن اللائق بعامل الاسم الذي [لا يشبه الفعل] هو الجر خاصة، بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل، وهو جر أو نصب لا رفع معه" ثم أتى على باقي كلامه فقد ثبت أن نفس النصب لا يستلزم الفعلية، فالذي تثبت به الفعلية على مذهبه في هذين اللفظين وقوع ما المصدرية قبلهما كما قاله ابن خروف، ولذلك أنكر الجمهور الجر مع ما، فإذا ثبت لهما الفعلية مع النصب في موضع حمل عليه الموضع المحتمل، وأقوى من هذا أن يقال: كما ثبت لهما وهما حرفان عمل الجر لم يصلح أن ينصبا وهما حرفان أيضًا؛ إذ ليس في أدوات الجر ما يعمل تارةً جرًا وتارةً نصبًا، بل إذا ثبت له عملٌ ما لم ينصرف عنه إلى غيره، فلا بد إذا نصبا أن يكونا غير حرفين، فتعينت الفعلية. والله أعلم. وهنا انقضى كلامه في خلا وعدا، وبقي الكلام في ليس ولا يكون. وهل تتعين لهما الفعلية أم لا، والأمر فيهما يسير؛ إذ قد ثبتت لهما الفعلية بإطلاق، وتبين أن ما بعدهما ينصب، ولم يذكر غير ذلك، فدل على أن لا زائد على ما ذكر فيهما، وهذا ظاهر. ثم أخذ في الكلام على حاشا فقال: وكخلا حاشا ولا تصحب ما ... وقيل: حاش وحشى فاحفظهما يعني أن حاشا لها وجهان أيضًا: الجر على أنها حرف، والنصب على أنها

فعل كما كان ذلك لخلا، فتقول في الأول: قام القوم حاشا زيدٍ، ومنه ما أنشده السيرافي وغيره: حاشا أبي ثوبان إن له ... ضنا على الملحاة والشتم وهذا هو المشهور فيها، وتقول في الثاني: قام القوم حاشا زيدًا، حكى أبو عمرو الشيباني عن بعض العرب: "اللهم اغفر لي ولمن سمعني حاشا الشيطان وأبا الأصبغ". وذكر عنه أن العرب تخفض بها وتنصب حكاه عنه السيرافي، وأنشد ابن خروف قول الشاعر: حاشا قريشًا فإن الله فضلها ... على البرية بالإسلام والدين وفيما ذهب إليه في حاشا ما يدل على مخالفته للنحويين من وجهين:

أحدهما: أنه خالف أهل الكوفة القائلين بأنهما فعلٌ أبدًا، إلا أن منهم من قال: هو فعلٌ ماضٍ، ومنهم من قال: هو فعلٌ استعمل استعمال الأدوات، فأما إذا انتصب ما بعدها فلا إشكال على مذهبهم، وأما إذا انخفض فعلى تقدير اللام، ولذلك تظهر فتقول: حاشا لزيدٍ. والدليل على أنها مع الجر حرفٌ أن الفعل لا ينجر ما بعده أبدًا، وتقديرهم حرف الجر غير صحيح، لأن الجار في الأمر العام المطرد إذا حذف زال عمله، وقد يقال: إن اللام زائدة، والأصل عدمها. وأيضًا إذا جر ما بعدها باللام فليست حينئذ أداة استثناء، ولا ما بعدها مستثنى؛ لأنها تقع في أول الكلام لزومًا أو غلبةً، وليس ثم ما يستثنى منه. والثاني: أنه خالف سيبويه حيث التزم في حاشا الحرفية وجر ما بعدها؛ وذلك أنه لم يحكِ معها غير الجر. ولم يجز أن تأتي بما كعدا وخلا، فلم يكن لها وجهٌ يحكم لأجله بفعليتها، وحكى غيره النصب بعدها، وقد تقدم من ذلك أشياء- وإن كانت قليلة، فهي حجة للنصب الذي أثبته الناظم ومن اقتفى أثره، ودليلٌ على فعليتها، قال الأخفش: "وأما حاشا فقد سمعنا من ينصب بها" قال وهذه أشبه؛ لأنها من حاشيت، فقد ثبت النصب بها على الجملة، وإن كان قليلًا فهي مثل خلا في جواز الوجهين، ولا شك أنها إذ ذاك فعل، لكن كونها من حاشيت فيه نظر. والحاصل أن سيبويه لم يحك النصب بها، وحكاه غيره فلا مخالفة في الحقيقة بين سيبويه والأخفش كما تقدم في عدا. ولما قال: "وكخلا حاشا" وكانت خلا يجوز أن تصحب ما المتقدمة أوهم ذلك أنها مثلها في مصاحبة ما أيضًا، فرفع ذلك بقوله: "ولا تصحب ما" فبين أنها تخالف خلا في هذا الحكم، فلا تلحقها ما، فلا تقول: قام القوم ما حاشا

زيدًا، كما تقول: قام القوم ما خلا زيدًا، ولأجل هذه المخالفة- والله أعلم- لم يدخلها مع خلا وعدا في الذكر، وإنما لم تلحقها ما؛ لأن الغالب عليها الحرفية، فلم يصلح لها من التصرف أن تدخل عليها ما عند إرادة الفعلية لندور ذلك، ثم حكى في حاشا ثلاث لغات: إحداها: ما بدأ به وهي حاشا على وزن ماشى، وهي الشهيرة، والثانية: حاش على وزن عاش، والثالثة: حشى على وزن مشى، ومنها ما جاء في قوله الشاعر: حشا رهط النبي فإن منهم ... بحورًا لا تكدرها الدلاء وقوله: "فاحفظهما" تنبيه على قتلهما، وأنهما من المحفوظ القليل الاستعمال، وإنما المستعمل ما قدم. وهناك ثلاث مسائل: إحداها: أنه أطلق القول في جواز الوجهين في خلا وعدا وحاشا من غير أن اعتنى بترجيح أحد الوجهين على الآخر. وقد أتى بالترجيح غيره؛ فإن الحرفية أغلب على حاشا، والفعلية أغلب على عدا. وأما خلا ففيها خلافٌ، فعند سيبويه أن النصب هو المختار، وعكس الأخفش فجعل الجر هو المختار، وكلاهما مدرعٍ أن السماع كذلك، وكأن الناظم مائلٌ إلى رأي الأخفش، ألا ترى أنه قال: "وكخلا حاشا" والمعلوم في حاشى أن الجر هو الشهير المختار، وهو قد شبهها بخلا دون عدا، فدل على قصده لاختيار الجر فيها. والله أعلم. والثانية: أن حاشا التي تكلم عليها هنا هي التي تفيد الاستثناء كما تفيده إلا،

ولم يتعرض لغير ذلك، فإن حاشا لها استعمالان: أحدهما في الاستثناء، وقد تقدم. والآخر أن تستعمل استعمال المصادر الموضوعة لإنشاء أمرٍ من تنزيه أو دعاء أو غير ذلك، وهي التي تستعمل باللام فتقول: حاشا لزيد وحاشا لله، وتقول: حاشا الله وحاشا زيدٍ، فالأول مثل تنزيهًا لله، والثاني مثل: سبحان الله. كما أن خلا وعدا لهما استعمالان أيضًا: أحدهما: في الاستثناء، والآخر كسائر الأفعال المتصرفة من خلا يخلو وعدا يعدو. والثالثة: أنه قال في حاشا: "ولا تصحب ما" وذلك مشكل مع أنه قد حكى في الشرح في بعض الأحاديث: "أسامة أحب الناس إلي ما حاشى فاطمة" ونبه عليه في التسهيل، فكيف يقول هنا: "ولا تصحب ما". والجواب: أنه أراد لا تصحب ما قياسًا، وسكت عن السماع الآتي، فلم ينفه ولا أثبته، ولو أراد نفي السماع لقال: ولم تأت بما، أو لم ترد بما، أو ما أشبه ذلك، فعبارته بينة لا إشكال فيها. والله أعلم.

الحال

الحال هذا هو النوع السابع من المنصوبات التي ينصبها كل فعل متعديًا كان أو غير متعدٍ، وهو الحال، وابتدأ بتعريف الحال أولًا قبل الحكم عليه على غالب عادته، وهو الصواب؛ لأن الكلام في أحكام الشيء وأوصافه ثانٍ عن فهم معناه، فقال في تعريف: الحال وصف فضلة منتصب ... مفهم في حالٍ كفردًا أذهب فأتى بأربعة أوصاف مساق الجنس والفصول المترتبة في الحدود: أولها: أنه وصف، وهو الجنس الأقرب للحال، ومعنى كونه وصفًا أنه يصح أن يتصف به، لا أنه يريد الجاري على الموصوف، وهو النعت؛ لأن من شأن الحال ألا يجري على صاحبه وهو حال في الاصطلاح، بل إذا جرى عليه عاد وصفًا وخرج عن كونه حالًا، وهذا ظاهر. والثاني: أنه فضلة، والفضلة مقابل العمدة، وهو ما استغنى الكلام عنه، نحو: جاء زيدٌ راكبًا، فراكبًا لو لم يأت به لصح الكلام وتم بأجزائه، وكذلك إذا قلت: زيدٌ منطلقٌ راكبًا، فلو لم تأت للفعل بفاعل، ولا للمبتدأ بخبر لكان "راكبًا" فاعلًا مع الفعل وخبرًا مع المبتدأ، فكنت تقول: جاء راكبٌ، ويزيد راكبٌ، فيكون إذ ذاك عمدةً لا فضلة؛ لأن الكلام لا يستغني عنه، فلا يكون إذ ذاك حالًا. فهذا معنى كونه فضلة، فتحرز إذًا منه في قولك: قام راكبٌ، وزيدٌ راكبٌ، وإن كان وصفًا من الأوصاف،

ويخرج عنه بذلك أيضًا المفعول الثاني في باب علمت، نحو: علمت زيدًا راكبًا، فإنه عمدة، فلم يتناوله الحد فليس بحال. والثالث: كونه منتصبًا، فبين بذلك أن إعرابه أبدًا النصب لا غيره من وجوه الإعراب، وخرج عن ذلك النعت أيضًا، نحو: جاءني رجل راكب، ومررت بزيد القائم، فإن القائم [والراكب] في المثالين وصفٌ وفضلة جاءت بعد تمام الكلام مع أنها ليست بحال. والرابع: أنه مفهم: في حال، أي مفهم هذا اللفظ المحكي الذي هو (في حال) هكذا مخفوضًا بغير تنوينٍ مهيأ للمضاف إليه كأنه اختزل من قولك: جاء زيدٌ في حال كذا، لأن تقدير الحال هكذا، فإذا قلت: جاء زيدٌ راكبًا، فالتقدير: جاء زيد في حال ركوب. وإذا قلت: جاء ضاحكًا، فالتقدير: في حال ضحك، وكذلك سائر المثل، فأتى بقوله (في حال) مقتطعًا من الكلام المقدر ليبين لك خصوصية الحال التي بها يفارق الوصف، وذلك أن راكبًا في قولك: رأيت رجلًا راكبًا وصف فضلة منتصب لكنه غير مفهم معنى (في حال كذا)، وإنما مفهومة رأيت رجلًا صفته كذا، لا في حال كذا، بخلاف: رأيت زيدًا راكبًا فإنه مفهم معنى: في حال ركوب، وكذلك إذا قلت: رأيت زيدًا الراكب لا فرق بينه وبين قولك: رأيت رجلًا راكبًا في منع تقدير (في حال كذا)، وهذا معنى تعريفه.

ثم فيه بعد نظر. فإن هذه الأوصاف لم توف بالمقصود على ما ينبغي في التعريف، أما الأول فإما أن يريد بالوصف [الوصف] المعنوي، أي هو وصف من الأوصاف التي لصاحب الحال، وذلك لا يستقيم، لأن راكبًا من قولك: جاء زيدٌ راكبًا لا يقال فيه إنه وصفٌ معنويٌ، بل هو موصوفٌ بالركوب، والركوب هو الوصف المعنوي، وأيضًا إن كان المعتبر هو الوصف المعنوي لم يصلح له ما بعده من الأوصاف، وهي قوله: "فضلة منتصب إلى آخره"، لأن [هذا] شأن الألفاظ لا المعاني. فهذا الوجه غير متجه، وإما أن يريد الوصف الاصطلاحي، فراكبٌ في المثال وصفٌ بلا شك لكن إنما يدخل له من الأحوال ما كان مشتقًا، وأما ما كان جامدًا فلا يدخل فيه، كما في قولك: بعته مدًا بدرهم، وبعته يدًا بيد، وهو كثيرٌ جدًا بحيث لا يقال فيه: إنه قليل، أو إنه مقصور على السماع، فلذلك لم يعتبر به، بل هو كثير، وقد نبه على كثرته بقوله: "ويكثر الجمود في سعر إلى آخره" فالجمود على الجملة في الحال شهير كثير بحيث لا يخرج عن باب الحال، كقول الله تعالى {فانفروا ثباتٍ} وقوله {فما لكم في المنافقين فئتين}، {فتم ميقات ربه أربعين ليلة}، {هذه ناقة الله لكم آية} إلى أشياء لا تنحصر إلا أن الاشتقاق أكثر على كل

حال، وإذا كان كذلك أشكل تفسير الوصف بكل تقدير. فإن قيل: إن التأويل فيما جاء من الأحوال الجامدة ممكن، فينصرف به الجامد إلى الاشتقاق، ولا يبقى في هذا الوجه إشكال. فالجواب: أن كلامه يدفع هذا حيث أثبت الجمود في الحال، وارتضاه، ولم يرتض القول بلزوم الاشتقاق، وتأويل ما جاء من الجوامد. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله، فالإشكال واردٌ. وأما الوصف الثاني فغير مخلص أيضًا، لأن الحال تأتي كثيرًا غير مستغنًى عنها، إذ لا يتم الكلام دونها [بل] إذا فرض طرحها صار باقي الجملة غير مفيد كقول الله تعالى {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} فكسالى حال لو فرض سقوطها لم يفد قوله {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا} فائدةً، وكذلك قوله {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} ومن ذلك كثيرٌ، وكذا قولهم: ضربي زيدًا قائمًا، وبابه، فإن الحال هنا غير مستغنًى عنه، وكل ما لا يستغنى عنه في الكلام فهو عمدة في ذلك الكلام، وبهذا المعنى بعينه اعترض بعض الناس على النحويين هذا الموضع؛ إذ يشترطون في الحال أن يكون بعد تمام الكلام، وهو معنى ما قال الناظم من كونه فضلة- بقول الشاعر، وهو عدي بن الرعلاء: إنما الميت من يعيش كئيبًا ... كاسفًا باله قليل الرجاء

فكئيبًا حال مع أنه لا يتم الكلام دونه؛ إذ لا يصبح أن يكون قوله: "إنما الميت من يعيش" كلامًا حتى يأتي بالحال، فكيف يكون الحال فضلة لزومًا؟ ! وأما الوصف الرابع، وهو قوله: "مفهم في حال" فقد اعترضه عليه ابنه بأنه يشمل النعت؛ لأن معنى: مررت برجلٍ راكبٍ هو معنى قولك: مررت برجلٍ في حال ركوب، كما أن قولك: جاء زيد راكبًا في معنى: جاء زيدٌ في حال ركوب. وما قاله بدر الدين ابنه قد ألم هو به في التسهيل، وفي الشرح، فإنه قال في التسهيل حين عرف بالحال "وهو ما دل على هيئةٍ وصاحبها متضمنًا معنى في غير تابعٍ ولا عمدةٍ". وقال في الشرح: "إذا قلت: جئت ماشيًا، وزيدٌ متكئٌ، ومررت برجلٍ متكئٍ، فإن معناه جئت في حال مشيٍ، وزيد في حال اتكاءٍ، ومررت برجل في حال اتكاء ثم قال: "فشارك الحال في هذا المعنى بعض الأخبار، وبعض النعوت فأخرجتها بقولي: "غير تابع ولا عمدةٍ". فإذا كان كذلك فقوله: "مفهم في حال" يشمل النعت، ويشمل أيضًا بعض الأخبار إلا أن الخبر قد خرج بقوله: "فضلة" فبقي النعت كما قال ابن الناظم، ثم إن تقدير (في حال) غير مبينٍ ولا مبينٍ؛ فإنك إذا قلت: جاء زيدٌ راكبًا فكيف يقال في تقديره، هل يقال: في حال راكبٍ، فلا يصح؛ لأن الراكب هو زيدٌ نفسه، وأنت لا يستقيم لك أن تقول: جاء زيدٌ في نفسه، أو في حال نفسه، وأما قولك: في حال

ركوب، فلا يفهم أيضًا من كلامه هذا دون الأول؛ إذ لا معين له، والإشكال أيضًا واردٌ فيه؛ لأن حال الركوب هو الركوب، ولا يصح أن يقال: جاء زيدٌ في ركوبه. فالحاصل أن هذا التعريف غير معرف. والجواب عن الأول: أن المراد الوصف الاصطلاحي لكن الوصفية في الحال ضربان: ضربٌ هي فيه صريحةٌ، وذلك حيث الاشتقاق، وضربٌ هي فيه بالتأويل، وذلك حيث الجمود حسب ما يأتي بحول الله، ولا يخرج الجامد بذلك عن كونه جامدًا، وأيضًا فالعمدة في مجيء الحال أن يكون مشتقًا؛ ولذلك قال: "وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب" فجعله الغالب في الباب كما ترى، فهو المحدود إذًا، وما سواه يرجع إليه بالتأويل. وعن الثاني: أن الفضلة في الاصطلاح ما جاز الاستغناء عنه في الأصل أعني أصل التركيب، والعمدة ما لا يجوز الاستغناء عنه في الأصل، وقد يعرض لكل واحد منهما ما يخرجه عن أصله فيستغنى عن العمدة، كقولك: كل رجلٍ وضيعته، وأقائمٌ الزيدانِ؟ ويمتنع الاستغناء عن الفضلة كقولك: زيدًا، في جواب: من ضربت؟ ولا تخرج العمدة بهذا العارض عن كونها عمدةً، ولا الفضلة عن كونها فضلة، ويعبر عن هذا المعنى بأن معنى كون الحال فضلة وبعد تمام الكلام أن يكون الفعل قد أخذ فاعله، والمبتدأ خبره، وذلك حاصل في قوله: * إنما الميت من يعيش كئيبًا * ونحوه. والعبارة الأولى أعم. وعن الثالث: أن ما قاله ابن الناظم غير مسلمٍ، فإن النعت تخصيصٌ

للمنعوت لتقع الفائدة في الإخبار عنه، فالنكرة الموصوفة توافق من جهة المعنى التعريفي الاسم المعروف، فكأنك لفظت باسمٍ واحدٍ مخصصٍ معرفٍ، بخلاف الحال فإنك لم تقصد به تخصيصًا ولا تعريفًا بل اكتفيت بما حصل لك من معرفته بالاسم المتقدم، ثم عبرت عن حالته التي هو فيها كما تخبر عنه بما شئت من الأخبار. والنعت ليس بخبرٍ عن المنعوت بالوضع اتفاقًا، وإنما هو من تمام المنعوت وتكملة له فافترقا، والدليل على ذلك أنه يصح الإتيان برأيت زيدًا قائمًا في جواب: كيف رأيت زيدًا؟ لأن معنى كيف: على أي حال، أو: في أي حال، بخلاف قولك رأيت زيدًا القائم، وما كان نحوه، لا يصلح جوابًا لكيف؛ وما ذاك إلا لأنه لا يفهم معنى: في حال كذا، فخرجت الصفة عن حده، ولعل ما قاله في التسهيل وشرحه لم يقل به ههنا. وهو الصواب. والله أعلم. وعن الرابع: أن قوله: مفهم كذا دال على أن المراد ما يصح معناه، وذلك أن يقدر: في حال ركوب، فهو المعنى المفهوم من الحال، ولا يفهم منه معنى: في حال راكبٍ، إذ لا يصح من جهة المعنى، فكأن الناظم لم يحتج إلى بيانٍ زائدٍ على معنى: في حال، لقرب فهمه، ووجه هذا الفهم أن راكبًا وإن كان زائدًا في المعنى لا يمتنع فيه تجريد معنى الركوب لأن راكبًا يدل على الركوب. ألا تراهم قد قالوا: * إذا نهي السفيه جرى إليه *

أي إلى السفه، لما كان في الصفة ذكر المصدر، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يفهم: جاء زيد في حال ركوبه، وإذا سلم أن معنى ذلك: جاء في ركوبه فلا يمتنع ذلك، كأنه يجعل الركوب ظرفًا لفعله مجازًا؛ لأن المصادر قد تكون ظروفًا نحو: مقدم الحاج، قال أكثر هذا المعنى الفارسي في التذكرة، فطالعه ثمة. وقوله: "كفردًا أذهب" مثال من الحال متقدم على العامل، والفرد بمعنى المنفرد: وكونه منتقلًا مشتقًا ... يغلب لكن ليس مستحقا يشترط في وقوع الاسم حالًا شروطٌ سبعةٌ، منها لازمة لا بد لكل حال منها، ومنها غالبةٌ على جمهور باب الحال، وقد يأتي الحال بدونها. فاللازمة: أن يكون منصوبًا، بعد تمام الكلام، مقدرًا بفي من جهة المعنى، نكرة. والثلاثة الأول قد تقدمت، وهي التي أتى بها فصولًا في تعريفه. والرابع سيذكره بعد. وأما الغالبة فأن يكون مشتقًا، منتقلًا، وصاحبه معرفة، فالشرطان الأولان هما اللذان شرع الآن في ذكرهما، وإن كان قد أشار إلى شرط الاشتقاق في التعريف لكنه لم يبين فيه ما يحتاج إلى بيانه. والثالث سيذكره بعد. ويريد هنا أن كون الحال منتقلًا وكونه مشتقًا يغلب في الاستعمال، وليس بوصفٍ لازم له، ولا يستحق الحال أن يشترط ذلك فيه لزومًا عند العرب. والانتقال معناه: أن يكون الحال وصفًا غير لازمٍ لصاحبه، ولا ثابتٍ له، كقولك: ذهب زيدٌ

مسرعًا، وسار راكبًا، وجاء ضاحكًا، وما أشبه ذلك، فالإسراع لزيد ليس بصفةٍ لازمةٍ له لا تفارقه، وكذلك الركوب ليس بصفةٍ لازمةٍ له، وكذلك سائر الأمثلة. والاشتقاق: أن يتضمن معنى الفعل كقائمٍ، وقاعدٍ، ومسرع، وراكب، فهذان الوصفان غالبان للحال، وأكثر مجيء الحال عليهما. وقد يكون على خلاف هذين الوصفين، فلا يكون منتقلًا بل لازمًا، ولا مشتقًا بل جامدًا. فمما جاء منه غير منتقل قول الله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط}. فقائمًا حالٌ من اسم الله، وهو وصف ثابت لا ينتقل، وكذلك قوله تعالى {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلًا}، وقوله تعالى {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وقوله {ويوم أبعث حيًا}، وقوله {طبتم فادخلوها خالدين}، وقالت العرب: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها. ومما جاء منه غير مشتق قوله تعالى {فانفروا ثباتٍ} أي: جماعات في تفرقة، فهذا غير مشتق، وكذلك قوله تعالى {فما لكم في المنافقين فئتين} حال ولا اشتقاق فيه، وقوله تعالى {هذه ناقة الله لكم آية}. ويكثر ذلك في السعر كما قال. ومما اجتمع فيه الثبوت

والجمود ما مثل به سيبويه من قوله: هذا خاتمك حديدًا، وهذه جبتك خزًا. ووجه عدم التزام هذين الوصفين أن الحال خبرٌ من الأخبار، والأخبار لا يشترط فيها اشتقاق ولا انتقال باتفاق، فكذلك ينبغي أن يكون ما في معنى الخبر. وقد يسمي الحال خبرًا سيبويه في بعض المواضع اعتبارًا بأن ذلك معناه. وكأن الناظم نبه هنا على مسألتين: إحداهما: أن المستقر في كلام العرب من وصف الاشتقاق والانتقال أنه يغلب ولا يلزم. فقوله: "وكونه منتقلًا مشتقًا يغلب" بيان أن كلام العرب هكذا، ولا يريد أنه شرط للنحويين شرطوه غالبًا؛ لأن هذا لا معنى له، وإنما كان يكون شرطًا للنحويين لو قال مثلًا: "والأحسن أو والأولى كونه منتقلًا مشتقًا" أو يقول: "ويضعف في القياس كونه غير مشتق أو غير منتقل" أو ما أشبه ذلك. وعلى هذا يجري في كلامه كل ما كان نحوه كقوله: "وغالبًا ذا التا لزم"، وقوله: "غالبًا جا ذا البدل"، "وشارع نحو خاف ربه عمر"، وما كان مثل ذلك. وينبني على ذلك المسألة الثانية، وهي: أن شرطي الانتقال والاشتقاق عنده غير مشترطين بل يجوز عنده أن يأتي الحال جامدًا ولازمًا؛ إذ لم يستحق كونه كذلك في السماع، فلا يستحق ذلك في القياس خلافًا لمن جعلهما شرطين مستحقين، فإن طائفةً من المتأخرين يقولون بذلك، ويؤولون الجامد واللازم

حتى يصيروهما في حكم المشتق والمنتقل، فيعود الشرط لازمًا قياسًا. وقال الشلويين ليس من شرط الحال الانتقال إلا أن تكون غير مؤكدة، فإنها إن كانت مؤكدة فقد تكون غير منتقلة، ثم أتى بقوله {ويوم أبعث حيًا} {ثم وليتم مدبرين}. ثم بين أن المؤكدة على خلاف الأصل، فعدم الانتقال على خلاف الأصل، فالاشتراط صحيح. وما ذهب إليه الناظم أصوب فقد تقدم أمثلة مما الحال فيه مبينة، وهي مع ذلك غير منتقلة، وقد تأول ابن عصفور بعض هذه الأحوال التي هي غير منتقلة وردها إلى معنى الانتقال، وهو على بعده لا ينجيه من وجود الحال غير منتقلة، وكذلك أولوا ما جاء من الأحوال غير مشتقة، وصححوا لزوم الاشتراط. والإنصاف ما قاله الناظم لكثرة ما جاء من ذلك، ولأن التأويل فيها لا يخرجها أو أكثرها عن كونها جامدةً. والضمير في (ليس) عائدٌ إلى كونه، أي ليس ذلك الكون المذكور مستحقًا للحال أن يكون عليه بلا بد، بل قد يكون على خلاف ذلك. ثم أتى بمواضع مجيء الحال جامدًا على غير الغالب فقال: ويكثر الجمود في سعرٍ وفي ... مبدي تأولٍ بلا تكلف كبعه مدًا بكذا يدًا بيدٍ ... وكر زيدٌ أسدًا أي كأسد يعني أن الحال يكثر مجيئه جامدًا في موضعين: أحدهما: السعر مطلقًا، وذلك نحو: بعته الشاء شاةً ودرهمًا، بعته الشاء شاةً بدرهم، وقامرته درهمًا في درهم، وبعته داري ذراعًا بدرهم، وبعت البر قفيزين بدرهم، وبعت السمن منوين بدرهم، واشتريت الخبز رطلين

بدرهم، وأخذت زكاة ماله درهمًا لكل أربعين درهمًا، ولك الشاء شاةً بدرهمٍ شاة بدرهم، وما أشبه ذلك. ومنه مثاله: "بعه مدًا بكذا"، فمدًا حالٌ من الهاء، وبكذا بيان، كذا قال سيبويه كما كان (لك) في سقيًا لك بيانًا أيضًا، وهذا جار في الأمثلة التي فيها المجرور، وأما نحو شاةً ودرهمًا، فإن الواو فيه بمعنى مع، كقولك: كل رجلٍ وضيعته، فهذه كلها أحوال وقعت في التسعير من غير اشتراط للاشتقاق عند سيبويه، والحذاق، وإنما يقدرون فيها الاشتقاق تقديرًا معنويًا، وذلك غير كافٍ في اشتراط الاشتقاق، فقولك: شاةً ودرهمًا، أو بدرهمٍ في تأويل مسعرًا هذا التسعير، ودرهمًا في درهم في تأويل معادلًا هذا بذاك، أو باذلًا هذا البدل، وذراعًا بدرهمٍ في تأويل مقدرة أو مقومة هذا التقدير أو التقويم، وكذلك سائر الأمثلة المذكورة، وغيرها. والثاني من الموضعين: حيث يكون الحال الجامد يتأول بالمشتق بسهولة من غير تكلف ولا تعسف، وذلك قوله: "وفي مبدي تأولٍ بلا تكلفٍ". فمعنى مبدي: مظهر، والتأول صفة المؤول، فيريد أن الحال إذا أظهر بنفسه المعنى الذي يؤول عليه من غير تكلفٍ حتى يصير في معنى المشتق بسهولةٍ. فذلك أيضًا يكثر عند العرب استعماله، وأتى لذلك بمثالين يحذى حذوهما:

أحدهما قوله: "يدًا بيد" إذا قلت: بعته الثوب يدًا بيد، فيدًا بيدٍ حالٌ في تأويل معاجلًا أو مناجزًا. وهذا المثال دال على المفاعلة ومنه سايرته قدمًا بقدم، وقابلته دينارًا بدينارٍ، وفاخرته أبًا بأب، وما أشبه ذلك. والثاني: قوله: "كر زيدٌ أسدًا" على حذف المضاف المشتق كأنه قال: مثل أسدٍ أو شبيه أسدٍ، وهو معنى تقديره بالكاف في قوله: "أي كأسد"، ومنه عند المؤلف قول النميري: تضوع مسكًا بطن نعمان إن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات أي: تضوع مثل المسك، ومنه في الحديث قوله عليه السلام: "أحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا" أي: مثل رجل، وما أشبه ذلك مما كان على حذف المضاف. فهذان نوعان من الأنواع التي يسهل فيها التأويل، ويظهر معناه من الحال بلا تكلف. ومنها: أن يوصف الحال بصفة مشتقة كقولك: رأيته رجلًا جميلًا، ومنه قوله تعالى: {فتمثل له بشرًا سويًا}. فالتأويل هنا قريب، لأن الصفة هي المقصودة فكأنه على معنى: رأيته جميلًا، وتمثل لها سويًا في صفة البشر. ومنها: أن يكون دالًا على ترتيب نحو قولهم: بينت له الحساب بابا بابًا،

يريد مرتبًا سويًا، وادخلوا رجلًا رجلًا، يريد مرتبين هذا الترتيب، وتصدقت بمالي درهمًا درهمًا أي مصروفًا هذا النوع من الصرف. ومنها: أن يدل على أصالة نحو: هذا خاتمك حديدًا، ورأيت ثوبك خزًا، وفي القرآن {قال أأسجد لمن خلقت طينًا} تقديره: متأصلًا في هذا الجنس، أو مصنوعًا من كذا. ومنها: أن يدل على فرعية كقولك: هذا حديدك خاتمًا، وهذا ذهبك سوارًا، ورأيت فضتك خلخالًا، والتقدير: مصوغًا على هذا النحو. ومنها: أن يدل على نوع الشيء، كقولك: هذا تمرك شهريزًا، وهذا تمرك عجوة، أي متنوعًا هذا النوع. ومنها: أن يدل على تطوير وقع فيه تفضيل، نحو: هذا بسرًا أطيب منه رطبًا، وهذا الذهب سوارًا أحسن منه خلخالًا، وهذا عنبًا أحسن منه زبيبًا، وما أشبه ذلك، والتقدير: هذا مطورًا هذا التطوير (أحسن منه هذا التطوير) الآخر. فهذه ثمانية أنواع مما وقع الحال فيه جامدًا لقرب تأوله بالمشتق يقاس عليها ما سواها، والجميع ينتظمه كلام الناظم بإشارة التمثيل، وينضم ذلك إلى نوع السعر، فالجميع تسعة أنواع، وهو ما نص عليه في التسهيل بقوله: "ويغنى عن اشتقاقه وصفه، أو تقدير مضاف قبله، أو دلالته على مفاعلة، أو سعرٍ، أو ترتيب أو أصالةٍ، أو تنويع، أو طورٍ واقعٌ فيه تفضيل" لكن فصلها في التسهيل، وأجملها

هنا في ضابط، وهو أن يكون الجامد يظهر فيه التأويل بلا تكلفٍ فهذا أخصر، والأول أظهر. والله أعلم، ثم إن كلامه يتم النظر فيه بذكر مسائل أربع: إحداها: أنه لم يصرح هنا بقياس في هذا الذي كثر ولا عدمه بل قال: "ويكثر الجمود في سعر" إلى آخره، والكثرة تحتمل أن تبلغ مبلغ القياس عليها، وتحتمل ألا تكون كذلك، لكن قوله أولًا: "لكن ليس مستحقًا" دليل على أنه قياس؛ إذ لو كان موقوفًا على السماع لكان الشرطان مستحقين، فهذا مشعرٌ بالقياس في هذه الكثرة. والثانية: أن قوله: "ويكثر الجمود في سعر" من غير تقييد بأن يكون التأويل غير متكلف، ثم قال: "وفي مبدي تأولٍ بلا تكلف". فشرط عدم التكلف في التأويل دال على أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون السعر غير محتاج إلى التأويل عنده (فكأنه يقول: ويكثر الجمود في سعر من غير افتقار إلى تأويل) بخلاف غير السعر فإنه مفتقر إليه، فيصح أن يقع الجامد حالًا في السعر من غير احتياج إلى تأويل، ولا يصح أن يقع حالًا في غير السعر إلا مع صحة تأوله بالمشتق. وإما أن يكون السعر قد كثر فيه ذلك، وإن كان التأويل متكلفًا فكأنه يقول: يكثر الجمود في السعر على التأويل، لكن لا يشترط ألا يكون متكلفًا، بل قد يكون كذلك وقد لا يكون كذلك، بخلاف غير السعر.

وإما أن يكون التأويل في السعر ظاهرًا غير متكلف لزومًا بحيث لا يوجد الجامد في السعر إلا ظاهر التأويل بخلاف غير السعر فإن الأمر فيه يختلف، فيكون منه متكلف، وغير متكلف، فغير المتكلف هو الذي يكثر، والمتكلف قليل أو معدوم وكأن هذا الثالث أولى؛ لأنه الموجود في السعر كما تقدم. والثالثة: المتكلف التأويل من الأحوال الجامدة ظاهر أنه ليس بقياس، إذ أخرجه عن الكثرة في السماع فهو إما معدوم فلا يصح القياس، لأن القياس إنما ينبني على أصلٍ وقد فرض معدومًا، وإما قليل لا يقاس على مثله، إذ لو كان عنده قياسًا لم يخرجه عن حكم غير المتكلف التأويل؛ لأنه لا أثر للقلة والكثرة إذا كان الجميع مقيسًا عليه، فلا معنى لقوله: "بلا تكلف" إذًا، فإذا كان الأمر على هذا ثبت أن ذا التأويل المتكلف لا يقاس عليه أصلًا. والرابعة: ما ذو التأويل المتكلف المتحرز منه. فاعلم أنك إذا قلت: هذا مالك دينارًا، وجمعت دراهمي أربعةٌ، ومررت برفيقك رأسين، وما أشبه ذلك فتأويل مثل هذا بعيد متكلف لو قدرت معنى دينارًا قليلًا أو متنوعًا، أو قدرت معنى أربعة معدودة، وكذلك الباقي- بخلاف قولك: بينت له حسابه بابا بابًا؛ فإن معنى مفصلًا فيه تأويل ظاهر المعنى، والحال يدل عليه- فمثل هذا لا يقع حالًا، وإن وقع حالًا فمسموع لا يقاس عليه. والكر ضد الفر، وهو راجع إلى معنى الإقدام. وقوله: "أي كأسد" بيان لوجه التأويل في المثال؛ إذ لو لم يبينه لخفي مقصوده فكان البيان أولى. والله أعلم. [ثم قال]

والحال إن عرف لفظًا فاعتقد ... تنكيره معنى كوحدك اجتهد هذا هو الشرط الرابع من الشروط اللازمة المنبه عليها قبل، ولم يأت به تصريحًا ولكنه أتى به ضمنًا، فمعنى كلامه أن الحال إن ج اء معرفًا بأحد وجوه التعريف، فليس في الحقيقة بمعرفٍ، وإنما هو منكر، وهذا الكلام لا يقال إلا فيما ثبت له التنكير أصلًا يرجع إليه، فيريد أن الحال لا يكون أبدًا إلا نكرة، نحو: جاء زيدٌ مسرعًا، وكر زيدٌ راجعًا، ومر بشرٌ ضاحكًا، وما أشبه ذلك، فإن ظهر في اللفظ تعريفٌ فليس في المعنى كذلك، وإنما كان كذلك؛ لأن الحال غالب أمره أن يكون مشتقًا، وصاحبه معرفة، والحال خبرٌ من الأخبار فألزموه التنكير؛ لئلا يتوهم كونه نعتًا لا حالًا، وأيضًا فإن الحال فضلةٌ ملازمٌ للفضيلة؛ إذ لا يكون في الكلام عمدةً أصلًا، فلا يقام مقام الفاعل كغيره من الفضلات: المفعول به، والمجرور والظرف، وغيرها. فلم يستحق أن يعرف؛ إذ لا فائدة لتعريفه، واستحقه غيره من الفضلات لوقوعه عمدةً، وقيامه مقام الفاعل، فجاز مجيئه معرفةً، بهذا وجه التنكير في الشرح. وإذا صح استحقاقه للتنكير فمتى وجدته معرفةً في اللفظ فاعتقد تنكيره في المعنى. والتعريف للحال يكون بالإضافة، ويكون بالألف واللام. فمما جاء مضافًا مثاله الذي مثل به، وهو: وحدك اجتهد، فوحدك حالٌ من ضمير اجتهد، ومثله جاء زيدٌ وحده، ومررت بهم وحدهم، ومررت بالزيدين وحدهما، فهذا ليس على ظاهره من التعريف، وإنما هو منكرٌ في المعنى؛ إذ معناه: منفردًا، ومنفردين، ومنفردَيْن، ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز: مررت بهم ثلاثتهم، وأربعتهم، وكذلك إلى العشرة. قال سيبويه: "وزعم

الخليل رحمه الله [أنه] إذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول مررت بهؤلاء فقط، لم أجاوز هؤلاء. كما أنه إذا قال وحده فإنما يريد أن يقول: مررت به فقط لم أجاوزه". ومثل ذلك: مررت بهم قضتهم بقضيضهم، وأنشد سيبويه للشماخ: أتتني تميم قضها بقضيضها ... تمسح حولي بالبقيع سبالها ومعناه: جاؤوا جميعًا، وهو من الانقضاض، كأنه يقول: انقض آخرهم على أولهم، ومنه: رجع عوده على بدئه، ومعناه عائدًا على بدئه، أي: راجعًا على طريقه. وقالوا: كلمته فاه إلى في، يريد مشافهًا له، وحكى ابن خروف عن الفراء: جانبته ركبته إلى ركبتي، وجاورته بيته إلى بيتي، وصارعته جبته عن جبتي، وناضلته قوسه عن قوسي، وحكى أبو زيد: بعته ربح الدرهم للدرهم. فهذه جملة من الحال المعرف بالإضافة، وهو الذي وقع التمثيل به. وأما التعريف بالألف واللام الذي شمله قوله: "إن عرف لفظًا" فمثاله قولهم: ادخلوا الأول فالأول، أي: ادخلوا مرتبين واحدًا فواحدًا، فهو في تقدير النكرة، وقالوا: جاؤوا الجماء الغفير، والناس فيها الجماء الغفير، ومعناه جميعًا. وقالوا: أرسلها العراك، أي معتركة، أنشد سيبويه للبيد بن ربيعة:

فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال وقرأ الحسن {لنخرجن الأعز منها الأذل} معناه ذليلًا، أو أذل من غيره. وقد يكون التعريف بالعلمية نحو: جاءت الخيل بداد، أي متبددة، ومنه: ذو الرمة ذا الرمة أشهر منه غيلان، والمعنى: ذو الرمة مسمى بهذا الاسم أشهر منه مسمى بالآخر. فهذه كلها على خلاف الأصل؛ فلذلك أمر باعتقاد كونها في المعنى نكرات. وبقي النظر هنا في ثلاث مسائل: إحداها: أن كلامه يشعر بأن ما جاء من الحال معرفًا فإنما هو سماعٌ لقوله: "إن عرف لفظًا" يريد في كلام العرب، فهو قد أوصى بتأويله على التنكير. ولو كان قياسًا لم يحتج إلى ذلك بل كان يقول: إن الحال يجوز الإتيان به معرفة صح تأويله بالنكرة أو لم يصح. فإن قيل: أمره بالتأويل لا يدل على عدم القياس؛ إذ قد أحال على التأويل قبل هذا في قوله: "وفي مبدي تأويل بلا تكلف". وقد تقدم أنه مقيس، فالتأويل لا ينافي القياس.

فالجواب: أنه لم يقل هناك أول الحال الجامد بالمشتق إذا أتاك من كلامهم، ولو قال ذلك لكان سماعًا، وإنما عرف المقيس بكونه يسهل تأويله فذلك الذي لا ينافي القياس، وقال هنا: إذا أتاك المعرفة فأوله بالمنكر، ولا تعتقد تعريفه تعريفًا صحيحًا. فهذا ظاهر في أن تعريف الحال لا يصح قياسًا، وأنه لو كان قياسًا لم يحتج إلى تأويله. والثانية: في وجه اعتقاد التنكير، إذ قد أمر به في قوله: "اعتقد" واعتقاد التنكير قد يكون في ذي الأداة باعتقاد زيادتها، وفي ذي الإضافة باعتقاد كونها غير محضة، وفي ذي العلمية باعتقاد التنكير، وقد يكون بغير ذلك. والذي يشعر به كلامه اعتقاد التنكير من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ فإنه قال: "فاعتقد تنكيره معنى" يريد أن تنكيره ليس من جهة اللفظ بأن تقدر اللام زائدة، والإضافة غير محضةٍ، فإن هذا أمرٌ لفظي، بل هو من جهة المعنى؛ لأن معنى وحده: منفردًا، ومعنى ثلاثتهم: جميعًا، وكذلك سائر المثل. وعلى هذا المجرى أجراه النحويون على أن بعضهم أجاز أن تكون الألف واللام فيما هي فيه زائدة، ولكن مثل هذا لا يجري في ذي الإضافة، فالأولي أن يكون التنكير بالتأويل المعنوي كما أشار إليه فهو المطرد. والثالثة: أنه مثل الحال المعرفة بوحدٍ فدل على أنه عنده حالٌ بنفسه، ويظهر ذلك منه في شرح التسهيل أيضًا. والنحويون في (وحده) مختلفون على ثلاثة أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أنه اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فالأصل في قولك: اجتهد وحدك: اجتهد منفردًا،

فمنفردًا حال ثم وضع موضعه (انفرادًا)، فـ (انفرادًا) مصدرٌ في موضع الحال، ثم وضع موضعه وحدك، فوحدك اسم- لأنه لا فعل له في موضع المصدر الموضوع موضع الحال. وذهب قومٌ إلى أنه مصدرٌ موضوعٌ موضع الحال؛ إذ حكي يوحد وحدًا ووحدةً ووحادةً. وذهب يونس إلى أنه ظرفٌ بمنزله عند، أو منصوبٌ على إسقاط الجار، ولم يأخذ به سيبويه. وما ذهب إليه المؤلف مذهبٌ رابعٌ، فهو عنده اسمٌ جامدٌ حالٌ بنفسه على الظاهر من كلامه في هذه الأحوال المعارف؛ إذ بها مثل مع أنها ليست عند غيره بمنزلةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو حالٌ بنفسه، ومنها ما هو مصدرٌ في موضع الحال، ومنها ما هو كوحده اسمٌ في موضع المصدر الذي في موضع الحال؛ ولجعله هذه الأنواع بمنزلة واحدة خلطتها أنا في التمثيل المتقدم كما رأيت، فإن كان الأمر فيها على ظاهر كلامه من أنها أحوال بأنفسها حقيقةً فله وجهٌ من النظر، فإنه قد تقرر أن الجامد من الأسماء يقع حالًا قياسًا إذا كان ذا تأويل غير متكلفٍ، ولا شك أن هذه المعارف كلها يصح فيها التأويل على غير تكلف كما تقدم. فهي إذًا في عداد: بعته يدًا بيد، وكر أسدًا، وما أشبه ذلك، وإنما خالفتها في القلة والكثرة، فقل الحال المعرفة فوقف على محله، وكثر النكرة فقيس، فكما لم يقدر في: يدًا بيدٍ ونحوه أنه اسم في موضع الحال، أو في موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فكذلك لا ينبغي أن يقدر هنا لأنه غير محتاج إليه. وإن كان مراده أنها وقعت أحوالًا على الجملة من غير نظر إلى نيابةٍ أو عدمها فصحيحٌ، ويكون موافقًا لغيره

على هذا الوجه. ويدل على هذا القصد من كلامه قوله على إثر هذا: "ومصدر منكر حالًا يقع" فجعله- كما ترى- حالًا بنفعه، وهو مصدر، وعادة النحويين أن يقولوا في نحو: قتلته صبرًا: إنه مصدرٌ في موضع الحال، ولا يقولون عادةً: إنه حالٌ بنفسه، فكذلك يقدر جعله هذه الأشياء أحوالًا بأنفسها أمرًا جمليًا. وبهذا الوجه تظهر مخالفته ليونس في جعله وحده ظرفًا أو منصوبًا على إسقاط الجار، وهو مذهب مرجوح لم يره سيبويه؛ لأن معنى الظرفية فيه بعيدٌ، وأيضًا فإنه يلزم على قوله أن تقول: زيدٌ وحده، فتجعل وحده واقعًا موقع خبر المبتدأ، كان المبتدأ مصدرًا أو جثةً كسائر الظروف، وليس ذلك بجائزٍ عند سيبويه والخليل لما يلزم على مذهبها من رفعه، ولا يرتفع أبدًا. وعلى مذهب يونس لا يلزم رفعه؛ لأنه ظرف. ويبقى المذهبان الآخران أن يكون وحدك عند الناظم على رأي سيبويه والخليل، وأن يكون على رأي من يجعله مصدرًا في موضع الحال. فالله أعلم بمراده. ثم قال: ومصدر منكرٌ حالًا يقع ... بكثرةٍ كبغتةً زيدٌ طلع يعني أن المصدر المنكر يكثر في كلام العرب وقوعه حالًا كما تقول: طلع زيدٌ علينا بغتةً، فبغتةٌ مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، وكان الأصل فيه ألا يقع حالًا؛ لأنه غير صاحب الحال لكنهم لما كانوا يخبرون بالمصادر عن الجثث كثيرًا مجازًا واتساعًا، كقولهم: زيدٌ عدلٌ، وزيدٌ رضا، وصومٌ وفطرٌ، و: * فإنما هي إقبالٌ وإدبار *

فعلوا مثل ذلك في الحال؛ لأنه خبر من الأخبار كما تقدم، فقالوا: قتلته صبرًا، ولقيته فجاءة ومفاجأة، وكفاحًا ومكافحة، ولقيته عيانًا، وكلمته مشافهةً، وشفاهًا، وأتيته ركضًا وعدوًا ومشيًا، وأخذت الحديث عنه سمعًا وسماعًا، ومن ذلك في القرآن الكريم {ثم ادعهن يأتينك سعيًا}، {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية} الآية، {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية}، {وادعوه خوفًا وطمعًا}، {ثم إني دعوتهم جهارًا}، وأنشد سيبويه لزهير بن أبي سلمى: فلأيًا بلأيٍ ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوكٍ ظماءٍ مفاصله وأنشد أيضًا: ومنهلٍ وردته التقاطا يريد فجأة، وقال أوس بن حجر: فكان من أفلت من عامرٍ ... ركضًا وقد أعجل أن يلجما

وذلك في الكلام كثير كما قال: "بكثرة"، لكن هذا اللفظ يشعر بأمرين: أحدهما: أن هذا المصدر حال بنفسه لا بالنيابة، وهو مذهب الجمهور. وذهب الأخفش والمبرد [إلى] أن المصدر ههنا منصوبٌ بفعل مضمرٍ نصب المصادر المطلقة، والفعل المضمر في موضع الحال، لكن حذف وقام مصدره مقامه، فأما الأخفش فذلك عنده على الجواز، ولم ينكر مذهب سيبويه. وأما المبرد وأصحابه فالتزموه، ولم يقولوا بغيره. قال السيرافي: "كان المبرد يدعي أن هذا القياس قول النحويين" قال: "وكان الزجاج يذهب إلى تصحيح قول سيبويه، وهو الصواب؛ لأن قول القائل: أتانا زيدٌ مشيًا يصح أن يكون جوابًا لقول من قال: كيف أتاكم زيدٌ؟ وكذلك: كيف لقيت زيدًا؟ فيقول: فجأة"، قال: "ولو كان على قول المبرد لجاز: أتانا زيدٌ المشي، وهو لا يجيزه". هذا ما قال السيرافي. ورد غيره قول المبرد بأنه إن كان الدليل على الفعل المضمر لفظ المصدر المنصوب به فينبغي أن يجوز ذلك في كل مصدر له فعلٌ، وألا يقفوا ذلك على السماع، وإن كان الدليل هو الفعل الظاهر، فذلك لا يمكن؛ لأن القتل لا يدل على الصبر، ولا اللقاء على الفجأة، ولا الإتيان على الركض؛ ولذلك منع سيبويه من دخول السرعة قياسًا.

فإن قيل: فقد أجاز سيبويه أن يكون (سيرًا) في قولك: سير عليه سيرًا على إضمار فعلٍ، وذلك قياسٌ. فهذا مثل ذلك. فالجواب: أنه إنما أجاز الإضمار لما كان عليه دليل، وهو الفعل الظاهر، فليس ذلك كمسألتنا؛ إذ لا دليل فيها. وتمام هذا الوجه في شرح ابن خروف فتأمله هنالك. والأمر الثاني: التوقف في القول بالقياس في هذا المصدر؛ إذ لو كان عنده قياسًا لم يحتج إلى قوله: "بكثرة"، فلما قال ذلك دل على أن في القياس مغمزًا. ومذهب سيبويه والأكثر أنه ليس بقياس، فلا تقول: أتانا سرعةً، ولا أتانا رجلةً، كم تقول: أتانا عدوًا، وأتانا ركضًا، وقاس ذلك المبرد في كل شيء يدل عليه فعل من المصادر، فأجاز: أتانا سرعةً، ورجلةً، لأن السرعة والرجلة من ضروب الإتيان، ولا يجيز: أتانا ضربًا، ولا ضحكًا؛ لأنه ليس من ضروب الإتيان. والمذهب الأول أولى، لأن الحال- كما تقدم- في معنى الخبر، فكما لا يقع المصدر خبرًا عن الجثة قياسًا، وإنما يكون بالسماع فلا تقول: زيدٌ ضربٌ- ولا: أنت قيامٌ ولا عمروٌ أكلٌ قياسًا على قولهم: زيد عدلٌ، وزيدٌ رضا، فكذلك الحال لا يكون بالمصادر قياسًا، وكذلك الحال وصفٌ من الأوصاف التي تجري على النكرات فكما لا تقول: مررت برجل ضربٍ قياسًا على قولهم: مررت برجل عدلٍ، فكذلك لا تقول: أتيته سرعةً كما تقول: أتيته سعيًا. وهذا ظاهر. وقوله: "ومصدرٌ منكرٌ حالًا يقع بكثرة" فقيد الكثرة فيه بكونه منكرًا تحرز من المصدر المعرف، فإن وقوعه حالًا قليلٌ، ومنه قولهم: أرسلها العراك، قال لبيد:

فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال وقال أوس بن حجر: فأوردها التقريب والشد منهلًا ... قطاه معيدٌ كرة الورد عاطفٌ ومن ذلك: طلبته جهدك وطاقتك، وفعله رأي عيني، وسمع أذني، وأنشد ثعلب عن الأثرم عن أبي عبيدة: تعفي الشيب جهدك بالخضاب ... لترجع فيلك أبهة الشباب وذلك كله قليلٌ كما قال. ويبقى على كلام الناظم إشكالٌ وهو أن المساق مشعرٌ بعدم القياس في وقوع المصدر حالًا كما سبق، وثم من المصادر ما يقع حالًا قياسًا لا على مذهب المبرد فقط، بل على مذهب غيره من النحويين فقد نص في التسهيل على ثلاثة مواضع: أحدها: ما كان نحو: أنت الرجل علمًا، وأنت الرجل أدبًا، وأنت الرجل نبلًا، وأنت الرجل فطنةً، أي: أنت الكامل في حال أدبٍ، وحال نبلٍ، وحال علمٍ، وحال فطنة. والثاني: ما كان نحو: هو حاتمٌ جودًا، وزهيرٌ شعرًا، وهو يوسف حسنًا، وما أشبه ذلك، فالتقدير: هو مثل حاتمٍ في حال جود، ومثل زهير في حال شعرٍ، ومثل يوسف في حال حسنٍ.

والثالث: ما كان نحو: أما علمًا فعالمٌ، وأما سمنًا فسمينٌ، وأما نبلًا فنبيلٌ، وما أشبه ذلك، ومعنى الكلام مهما يذكر إنسانٌ في حال علم فالموصوف به عالم، أو مهما يكن من شيء فالمذكور عالمٌ في حال علمٍ، ويكون على هذا التقدير حالًا مؤكدًا، وإنما يصح هذا التقدير حيث يجوز عمل ما بعد الفاء فيما قبلها على ما هو مقرر في موضعه. فهذه المواضع ليست بموقوفةٍ على السماع. والجواب: أن إطلاق القول بالكثرة قد يقال: إنه لا يعطي منه القياس حتمًا، وإنما هو تصريحٌ بمجرد الكثرة في السماع، ويبقى النظر بعد ذلك في القياس، فيكون الأمر عنده في القياس مختلفًا، فمنه ما هو مقيسٌ، ومنه ما ليس كذلك، وسكت عن تفصيل الحكم لنظر الناظر في المسألة، ويترجح هذا القصد بأن النظم الذي في اليد لا يبلغ فيه بسط مثل هذه الأمور لاسيما باب: أما علمًا فعالم، فإن فيه من الصعوبة ما قال بسببها الزجاج: إنه لم يفهمه أحدٌ، إلا الخليل وسيبويه، فإذا كان كذلك لم يلق التفصيل بهذا الموضع، وأيضًا فلا يدخل هنا باب: أما علمًا فعالمٌ على مذهبه في الشرح؛ إذ هو عنده منصوبٌ على المفعول به، والتقدير: مهما تذكر علمًا فالذي وصفته عالم. وأولى من هذا أن يقال: إن تمثيله قيد في المصدر الذي أراد ذكره، وعلى هذا يبقى ما تقدم غير متعرض له، ولا يلزمه ذكر كل مسألة في الحال، كما لا يلزمه ذلك في غيره. والبغت أن يفجأك الشيء، تقول: بغتة بغتًا أي فاجأه، ولقيته بغتة أي فجأةً، ثم قال: ولم ينكر غالبًا ذو الحال إن ... لم يتأخر أو يخصص أو يبن

من بعد نفيٍ أو مضاهيه كلا ... يبغ امرؤٌ على امرئٍ مستسهلًا هذا هو أحد الشروط الغالبة للحال، وهي ثلاثة، تقدم منها اثنان، وهما: الاشتقاق، والانتقال، وهو الآن يشرع في الثالث، وهو: أن يكون صاحب الحال معرفةً، والغالب فيه أن يكون معرفةً، لأن الحال خبرٌ من الأخبار- كما مر- فكما يشترط التعريف في المخبر عنه؛ لأن به حصول الفائدة غالبًا، فكذلك يشترط في صاحب الحال، وأيضًا فإن النكرة أحوج إلى الصفة منها إلى الحال؛ لأن الصفة مبينة ومخصصة للموصوف بخلاف الحال، فعلى هذا يكون صاحبها نكرة إلى مع حصول الفائدة كما كانت النكرة لا تقع مبتدأ ولا فاعلًا إلا مع حصول الفائدة، فالناظم أتى بالمواضع التي تحصل فيها الفائدة مع النكرة إذا أتى الحال منها، فيريد أن الحال لا يكون صاحبه نكرةً في الغالب إلا في أحد ثلاثة مواضع: أحدها: أن يتأخر صاحب الحال عنه ويتقدم هو، وسيأتي بيان تقديم الحال على عامله، وذلك قوله: "إن لم يتأخر" فضمير يتأخر عائدٌ على صاحب الحال، ويريد يتأخر ويتقدم عن الحال، ومثال ذلك: فيها قائمًا رجلٌ، وهذا قائمًا رجلٌ، الأصل: هذا رجلٌ قائمٌ، وفيها رجلٌ قائمٌ، وإذا كان كذلك فالأصل أن يجري قائمٌ نعتًا على رجلٍ، وإن كان النصب جائزًا، فالنعت أقوى. وقال سيبويه: "إنما كان النصب بعيدًا هنا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالًا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالًا حين قالوا: هذا زيدٌ الطويل، وهذا عمروٌ أخوك، فألزموا صفة النكرة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفة، وأرادوا أن يجعلوا حال النكرة فيما يكون من اسمها كحال

المعرفة فيما يكون من اسمها" يريد بحال النكرة وحال المعرفة حكمها، أي حملوا حكم النكرة على حكم المعرفة في الامتناع من نقل صفتها إلى الحال. وقال ابن السراج: "إنما ضعف الحال هنا؛ لأن الحال خبر، وحمل الصفة على الصفة أقرب من حملها على الخبر" انتهى. فلما أرادوا أن ينصبوا القائم على الحال على غير ضعفٍ نقلوه إلى موضع لا يجري فيه على موصوفه، فقالوا: هذا قائمًا رجلٌ، وفيها قائمًا رجلٌ؛ إذ لا يصح في النعت أن يجري على منعوته، وهو متقدمٌ عليه؛ لأن من شرط جريانه التأخير عن الموصوف، ولا يختص هذا الحكم بتقديمه على صاحبه وحده، بل ينصب إذا تقدم صدر الكلام حيث يجوز ذلك، كقولك: ضاحكًا جاءني رجلٌ، وقائمًا رأيت رجلًا، وما أشبه ذلك، ومن ذلك ما أنشد سيبويه لذي الرمة: وتحت العوالي في القنا مستظلةً ... ظباءٌ أعارتها العيون الجآذر وأنشد أيضًا: وبالجسم مني بينًا لو علمته ... شحوب وإن تستشهدي العين تشهد وأنشد أيضًا لكثير عزة: * لمية موحشًا طلل *

وتمامه عند الأعلم: * يلوح كأنه خلل * وروي هكذا: لمية موحشًا طلل قديم ... عفاه كل أحسم مستديم وقال آخر: وما لام نفسي مثلها لي لائم ... ولا سد فقري مثل ما ملكت يدي ومن أبيات الحماسة: فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوثًا شجاعٌ وعقرب

والثاني: أن يتخصص صاحب الحال النكرة بوجهٍ من وجوه التخصيص، وذلك قوله: "أو يخصص" ومثاله قولك: مررت برجلٍ قائمٍ مستلقيًا، وجاءني أخٌ كريمٌ ضاحكًا، ومنه قول الله تعالى: {فيها يفرق كل أمرٍ حكيمٍ أمرًا من عندنا}. فهذا من التخصيص بالوصف، وقد يتخصص بالإضافة كقولك: مررت بغلام امرأةٍ فارسًا، وفي القرآن الكريم {وقدر فيها أقواتها في أربعة أيامٍ سواءً للسائلين}، وقال: {وحشرنا عليهم كل شيءٍ قبلًا} على قراءة غير نافعٍ وابن عامر، هو جمع قبيلٍ، أي: قبيلًا قبيلًا، وصنفًا صنفًا، وإنما ساغ هنا الحال من النكرة المخصصة كما ساغ الابتداء بالنكرة إذا خصصت؛ لأنها بذلك تقرب من المعرفة فعوملت معاملة المعرفة في صحة نصب الحال عنها. والثالث: أن يكون صاحب الحال واقعًا بعد نفي أو شبهة، وذلك قوله: "أو يبن من بعد نفي أو مضاهية". فمعنى يبن: يظهر، أي ما لم يظهر بعد كذا أو كذا. والمضاهي: معناه المشاكل والمشابه، فأما النفي الصريح، فنحو: ما سافر أحد ضاحكًا، ولا أتى أحدٌ راكبًا، وفي القرآن الكريم {وما أهلكنا من قريةٍ إلا ولها كتابٌ معلوم} فقوله: {ولها كتابٌ معلومٌ} جملة حالية مصدرة بواو الحال، وكذلك: {وما أهلكنا من قريةٍ إلا لها منذرون} بغير واوٍ جملة حالية أيضًا. وأما المضاهي للنفي فالنهي والاستفهام، فالنهي قد مثله بقوله:

"لا يبغ امرؤٌ على امرئٍ مستسهلًا". البغي: التعدي، يقال بغى الرجل على الرجل إذا استطال عليه، أي لا يتعد امرؤٌ على امرئ مستسهلًا لذلك ومستخفًا له، ومن ذلك ما أنشده في الشرح: لا يركنن أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفًا لحمام وأما الاستفهام فنحو قولك: هل أتاك أحدٌ طالبًا، وأجاءك امرؤ راغبًا، وأنشد في الشرح: يا صاح هل حم عيش باقيًا فترى ... لنفسك العذر في إبعاده الأملا وإنما ساغ ههنا انتصاب الحال من النكرة من حيث أشبهت المعرفة في حصول الفائدة بها كالمبتدأ إذا تقدمه نفي أو استفهام. فهذه ثلاثة مواضع حصر الناظم فيها ما يصح أن ينتصب الحال منه من النكرات قياسًا، وعلى هذا يكون ما عداه مما جاء صاحب الحال فيه نكرة نادرًا، وهو الذي نكت عليه بقوله: "غالبًا"؛ إذ نص أنه لم ينكر غالبًا ذو الحال في غير هذه المواضع، فيفهم له أنه نكر في غيرها قليلًا، وقد أجاز سيبويه على ضعف: هذا رجلٌ قائمًا، وفيها رجلٌ قائمًا. قال لما ذكر: هذا قائمًا رجلٌ، وهو قائمًا رجلٌ، وذكر وجه النصب فيها، وحمل هذا النصب على جواز: فيها رجلٌ قائمًا، فكأنه جائزٌ عنده على قلة-

أعني: فيها رجل قائمًا- (ومن ذلك قولهم: مررت بماءٍ قعدة رجلٍ، وعليه مائة بيضًا). وفي هذا الحصر نظرٌ، لاقتضائه أن ما عدا ما ذكر نادرٌ، وليس كذلك فقد استثنى في التسهيل مع تلك المواضع الثلاثة ثلاثة مواضع أخر جاريةً مجراها في القياس غير الأقلي: أحدها: كون جملة الحال مقرونة بالواو كقوله تعالى {أو كالذي مر على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها}. فالحال هنا من نكرة سائغٌ واردٌ في الكلام الفصيح الذي لا أفصح منه، ومنه قول الشاعر: مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع وإنما ساغ ذلك لكون الجملة لا يتوهم فيها أنها نعت له. والثاني: كون الحال لا يصح أن يكون وصفًا لكونه بالجامد، كقولهم: هذا خاتمٌ حديدًا، وعندي راقودٌ خلًا، وهذه صفة خزًا، الظاهر من كلام سيبويه انتصاب هذه الأشياء على الحال، وحسن ذلك التخلص من قبح جريانه نعتًا. والثالث: اشتراك المعرفة مع النكرة في الحال، كقولك: هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين، وهذان رجلان وعبد الله منطلقين بنصب منطلقين على الحال؛ إذ لا يصح جريانه نعتًا على أحدهما للمخالفة التي بين النكرة والمعرفة، وقد بوب

سيبويه على هذا النوع بابًا على حدة. وثم مواضع أخر: منها: أن تكون النكرة لا يصح وصفها بمعرفة ولا نكرة، وذلك قولك: مررت بكل قائمًا ومررت ببعضٍ قائمًا، لا يصح أن يجري قائمٌ وصفًا عليهما؛ لأنهما في التقدير معرفتان بنية الإضافة، ولا يصح أن يوصفا بالمعرفة أيضًا؛ لأنهما في اللفظ نكرتان، فلم يسغ إلا أن تنصب الصفة حالًا. ومنها: أن تجتمع نكرتان مختلفتا الإعراب، نحو: قاتل رجلٌ غلامًا فارسين، ومررت برجلٍ ولقيت غلامًا راكبين، فقولك فارسين ينتصب على الحال؛ إذ لا يصح جريانه عليهما مع اختلاف الإعراب، فإذا تقرر هذا فالناظم قد أدخل هذه المواضع بمقتضى كلامه في حيز القليل النادر مع أنها ليست كذلك. وقد يجاب عن الأول بأنه داخلٌ في باب القليل، ولم يشتهر مثل ذلك، وكونه جاء في فصيح الكلام لا يخرجه عن كونه قليلًا، فكم في القرآن، والكلام الفصيح من الأمور التي تدخل في هذا النصاب، نعم لو منع ذلك جملةً لكان عليه الدرك، وهو لم يفعل ذلك، فلا درك عليه. وعن الثاني أن النحويين مختلفون فيه، والأظهر فيه النصب على التمييز، فلا يكون حجةً عليه؛ إذ لعله أخذ هنا بمذهب من جعل النصب فيه على التمييز، قال السيرافي: وهو القياس، وجوزه ابن خروف مع تسليم الحال حسب ما ظهر من سيبويه، وقد قال ابن مالك في الشرح: إن المشهور في غير كلام سيبويه نصبه

على التمييز، وإذا احتمل أن يكون رأيه هذا فلا اعتراض عليه، بل الظاهر من حصره أنه رأيه. وعن الثالث أته لما اشتركت المعرفة مع النكرة في الصفة صار جريانها على الاسمين جريانًا على المعرفة/ أو كالجريان عليها؛ إذ لم تختص النكرة بها فلا يصدق على الحال أن صاحبه نكرة، فخرج بهذا الاعتبار عن مسألته. وعن الرابع أنه من القليل أيضًا؛ إذ لا تكاد تجد من ذلك إلا كلًا وبعضًا، وعليهما بوب سيبويه. وعن الخامس أنه لم يذكره لإمكان النصب فيه على إضمار فعل لا على الحال، ألا ترى أنه يجب ذلك إذا اختلف عاملا الاسمين، فلم يجتمعا في معنى عاملٍ واحد كما تقول: فوق الدار رجل وقد جئتك برجل آخر عاقلين، لا يصح الحال هنا لعدم اجتماع العاملين في معنى عامل واحد، فقد يقال: إنهما إذا اجتمعا في معنى العامل الواحد فالأولى النصب على غير الحال فلما كان الأمر كذلك ترك ذكر هذا الموضع؛ إذ ليس الحال فيه بضرورة. والله أعلم. ثم قال: وسبق حال ما بحرفٍ جر قد ... أبوا ولا أمنعه فقد ورد هذا الفصل يتكلم فيه على الحال من المجرور بحرف هل يجوز تقديمه عليه أم لا يجوز؟ وهذا الحكم ثانٍ عن كون الحال يجوز تقديمه على صاحبه، وثانٍ عن جواز الحال من المجرور بحرف مطلقًا، بخلاف المجرور باسمٍ، فإن فيه تفصيلاً، وسيأتي ذكر ذلك كله إن شاء الله. وقوله: "وسبق" مفعول بأبوا، و (حال) مضاف إلى (ما)، وهي موصولة صلتها (جر)، و (بحرفٍ) متعلق بجر،

والتقدير: قد أبوا- يعني النحويين- سبق حال الاسم الذي جر بحرفٍ، ويعني أن النحويين منعوا إذا كان صاحب الحال مجرورًا بحرف أن يتقدم الحال عليه، وإنما يكون عندهم متأخرًا عنه لزومًا بحيث لا يجوز في القياس غيره، فإذا قلت مررت بزينب ضاحكة، فهو اللازم، وكذلك إذا قلت: مررت بالزيدين قائمين لا يجوز أن تقول: مررت ضاحكة بزينب، ولا مررت قائمين بالزيدين، وإلا يجوز تقديمه على متعلق الجار وهو الفعل ونحوه أولى، فلا يقال ضاحكة مررت بزينب ولا قائمين مررت بالزيدين. هذا ما حكاه عن النحويين، ولم يذكر المسبوق ما هو، إذ هو مفهوم أن المراد سبق الحال على صاحبه، وسبقه على صاحبه تارة يكون مع سبق العامل عليهما، وتارة مع سبق الحال على صاحبه والعامل معًا، ثم ذكر ما اختاره مذهبًا ورجحه على غيره، وهو الجواز، فقال: "ولا أمنعه فقد ورد" يريد: لا أمنع ذلك السبق الذي منعتم بل أجيز سبق الحال لصاحبه المجرور بحرفٍ، وسبقه لصاحبه وللعامل معًا، وبين سبب هذه الإجازة، والمخالفة، وأنه السماع المقتضى للجواز بقوله: "فقد ورد" يعني أنه ورد من كلام العرب فهو فيه موجود، وإذا كان مسموعًا فلا سبيل إلى المنع جملة؛ إذ السماع هو الإمام المتبع، فمن ذلك قول الله تعالى {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا}. فالظاهر في كافةٍ أنه حال من الناس كما لو/ قال: للناس كافة. والعرب لا تستعمل كافة قط إلا حالًا، وهو الزمخشري: إن كافة صفة لموصوف محذوف، أي إلا إرسالة كافة للناس، ضعيف، وكذلك قول الزجاج في جعل كافة حالًا من الكاف؛ إذ هو إذ ذاك مؤنث حال من مفرد

مذكر، وذلك كله لا يعرف إلا بالسماع، ولا سماع إلا ما في محل النزاع، ومن أمثلة الفارسي في التذكرة: زيد خير ما تكون خير منك، على أن مراده: زيد خير منك خير ما تكون، فقدم الحال على صاحبه المجرور بحرفٍ، ومن المنظوم قول الشاعر من أبيات الحماسة: إذا المرء أعيته الرياسة ناشئًا ... فمطلبها كهلًا عليه شديد فكهلًا حال من ضمير عليه، وأنشد المبرد: لئن كان برد الماء حردان ... صاديًا إلى حبيبًا إنها لحبيب فحران حال من الياء في إلي، والعامل حبيبًا، والتقدير: لئن كان برد الماء حبيبًا إلى حران صاديًا، فقدم الحال على صاحبه والعامل، وأنشد في الشرح من ذلك أيضًا: مشغوفة بك قد شغفت وإنما ... حتم الفراق فما إليك سبيل وأنشد أيضًا منه:

غافلًا تعرض المنية للمرء ... فيدعى ولات حين إباء تقديره: تعرض المنية للمر غافلًا، وكذلك تقدير ما قبله: قد شغفت بك مشغوفةً، ومثل الآية في تقديمه على صاحبه خاصة قول الآخر، أنشده في الشرح: تسليت طرًا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي تقديره: تسليت عنكم طرًا. فهذه الأدلة كلها، وما كان مثلها تشهد بصحة القول بالجواز، لكن التقديم على ذي الحال والعامل معًا قليل. وقد احتج المانعون لتقديم الحال هنا بأوجهٍ من القياس: منها: أن تعلق العامل بالحال ثانٍ لتعلقه بصاحبه، فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى إليه بتلك الواسطة، لكن منع من ذلك خوف التباس الحال بالبدل، وأن فعلًا واحدًا لا يتعدى بحرف واحدٍ إلى شيئين، فجعلوا عوضًا من ذلك التزام التأخير. ومنها: أن منع التقديم هذا بالحمل على حال المجرور بالإضافة. ومنها: أن حال المجرور شبيه بحال عمل فيه حرف جر مضمن معنى الاستقرار، نحو: زيد في الدار متكئا، فكما لا يتقدم الحال على حرف الجر هذا وأمثاله كذلك لا يتقدم عليه في نحو: مررت بهند جالسة، وهذه التعليلات ضعيفة في أنفسها:

أما الأول: فلا نسلم أن حق الحال تعدي الفعل إليه بواسطة إذا تعدى إلى صاحبه بها، بل حقه الاستغناء عنها لشبهه بالظرف، ولذلك يعمل فيه ما لا يتعدى بحرف كاسم الإشارة، وغيرهما. وأما الثاني: فإن المجرور بحرف أصل للمجرور بالإضافة أو كالأصل له فلا يصح له أن يحمل حال المجرور عليه؛ لئلا يكون الأصل تابعًا للفرع عكس القاعدة، وأيضًا فالمضاف إليه بمنزلة الموصول مع الصلة، والحال بمنزلة جزء الصلة فيجب تأخيره، وحال المجرور بحرفٍ/ لا يشبه جزء الصلة، فأجيز تقديمه. وأما الثالث: فالرف ظاهر؛ فإن جالسه منصوب بمررت وهو فعل متصرف لا يفتقر في نصب الحال إلى واسطة كما لا يفتقر إليها في نصب الظرف والمصدر، وحرف الجر الذي عداه إلى صاحب الحال لا عمل له إلا الجر، ولا جيء به إلا لتعدية مررت، والمجرور به بمنزلة المنصوب فيتقدم حاله كما يتقدم حال المنصوب. وأما متكئًا في مسألة التنظير فمنصوب بفي لتضمنها معنى الاستقرار، وهي رافعة لضميرٍ هو صاحب الحال فلم يجز تقديمه (متكئًا) على (في)؛ لأن العمل لها وهي عامل ضعيف فمانع التقديم في: زيد في الدار متكئًا مفقود في: مررت بهندٍ جالسة. فهذا وجه ضعفها، وإذا فُرضت قوية لم تُعتبر لوجود السامع مخالفًا لها كما تقدم. وهذا الوجه هو الذي اعتمد الناظم في الرد؛ إذ قال: "ولا أمنعه فقد ورد". والصواب_ والله أعلم_ مع النحويين دون ابن مالك، لأنهم لم يأتوا بوجه المنع إلا بعد استقراء كلام العرب، وأنهم لم يجدوا التقديم إلا في شعر لا يجعل وحده مأخذ قياس، أو في الآية الكريمة مع احتمالها وعدم نظير لها في ظاهرها، ومعارضة الاستقراء للقياس في المسألة، فحينئذ جزموا بمنع المسألة، وأولوا الآية الكريمة حين لم يجدوا لها في الكلام

نظيرًا، ولم يثبت عندهم جواز التقديم في لغةٍ من اللغات، فالحق ما ذهبوا إليه. ومن عادة ابن مالك التعويلعلى اللفظة الواحدة تأتي في القرآن ظاهرها جواز ما يمنعه النحويون، فيعول عليها في الجواز، ومخالفة الأئمة، وربما رشح ذلك بأبيات مشهورة أو غير مشهورة، ومثل ذلك ليس بإنصاف، فإن القرآن الكريم قد يأتي بما لا يُقاس مثله، وإن كان فصيحًا، وموجهًا في القياس لقلته، ولما تكلم ابن ملكون على بيت الحماسة: إذا المرء أعيته الرياسة ناشئًا ... فمطلبها كهلًا عليه شديد مذيلًا على كلام ابن جني فيه قال: "وإنما منع سيبوية من إجازته- يعني تقديم الحال هنا- أرى؛ لقلته في كلامهم، فجرى ما جاء منه مجرى الأشياء الموقوفة على السماع لقلتها، وإن كان لها أقيسة تجوزها كما يتكلم بما تكلموا به، فإن القياس يدفعه، ألا نسمع قوله: "وليس لك أن تريد إلا ما أرادوا" انتهى كلامه. وهو واضح في أنه ليس كلما تكلم به العرب يُقاس عليه، وربما يظن من لم يطلع على مقاصد النحويين أن قولهم: شاذ، أو: لا يُقاس عليه، أو: بعيد في النظر القياسي، أو ما أشبه ذلك ضعيف في نفسه، وغير فصيح، وقد يقع مثل ذلك في القرآن فيقومون في ذلك بالتشنيع على قائل ذلك، وهم أولى لعمر الله أن يُشنع عليهم، ويُمال نحوهم بالتجهيل والتقبيح؛ فإن النحويين إنما قالوا ذلك

لأنهم لما استقروا كلام العرب ليقيموا منه قوانين يحذى حذوها وجدوه على قسمين: قسم سهل عليهم فيه وجه القياس ولم يعارضه معارض لشياعه في الاستعمال، وكثرة النظائر فيه فأعملوه بإطلاق علمًا بأن العرب كذلك كانت تفعل/ في قياسه. وقسم لم يظهر لهم فيه وجه أو عرضه معرض لقلته وكثرة ما خالفه. فهنا قالوا: إنه شاذ، أو موقوف على السماع، أو نحو ذلك، بمعنى أننا نتبع العرب فيما تكلموا به من ذلك، ولا نقيس غيره عليه، لا لأنه غير فصيحٍ، بل لأنًا نعلم أنها لم تقصد في ذلك القليل أن يُقاس عليه، أو يُغلب على الظن ذلك، وترى المعارض له أقوى وأشهر وأكثر في الاستعمال، هذا الذي يعون لا أنهم يرمون الكلام العربي بالتضعيف والتهجين حاش لله، وهم الذين قاموا بفرض الذب عن ألفاظ الكتاب، وعبارات الشريعة، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فهم أشد توقيرًا لكلام العرب وأشد احتياطًا عليه ممن يغمز عليهم بما هم منه بُراء. اللهم إلا أن يكون في العرب من بعد عن جمهرتهم، وباين بحبوحة أوطانهم، وقارب مساكن العجم، أو ما أشبه ذلك ممن يخالف العرب في بعض كلامها وأنحاء عباراتها، فيقولون: هذه لغة ضعيفة، أو أشبه بذلك من العبارات الدالة على مرتبة تلك اللغة في اللغات. فهذا واجب أن يُعرف به، وهو من جملة حفظ الشريعة والاحتياط لها، وإذا كان هذا قصدهم، وعليه مدارهم فهم أحق أن يُنسب أليهم المعرفة بكلام العرب ومراتبه في الفصاحة، وما من ذلك الفصيح قياس، وما ليس

بقياس، ولا تضر العبارات إذا عُرف الاصطلاح فيها، وعلى هذا المهيع جرى النحويون في منع هذه المسألة، فلم يغفلوا السماع أصلًا ثم مالوا إلى المنع بالقياس، وإنما قالوا بالقياس عضدًا لما حصل لهم بالاستقراء من امتناع العرب من التقديم، ولكن للكوفيين هنا قاعدة يبنون عليها القياس- مخالفة لما تقدم، وهي أنهم قد يعتبرون اللفظ الشاذ فيقسون عليه، ويبنون على الشعر الكلام من غير نظر إلى مقاصد العرب، ولا اعتبار لما كثر أو قل، فمن ههنا وقع الخلاف بينهم في مسائل كثيرة. والناظم قد ينحو نحوهم في مسائل كثيرةٍ، وهذه المسألة منها، وكذلك مسألة تقديم التمييز على عامله، ومسألة العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، ومسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه، وغير ذلك مما سيأتي ذكره. وقدمرت منه مسائل، ولعله ينبه على بعض ذلك إن شاء الله. فقد ظهر قصد الناظم في إعمال القياس في هذه المسألة، وتبين علام بنى في أمثالها على الجملة، وتفصيل النظر في القاعدة المبني عليها مقرر في علم الأصول النحوية. ثم على الناظم في هذا الموضع سؤالان: أحدهما: أنه نسب إلى جملة النحويين المنع في المسألة بقوله: "قد أبوا". فظاهر هذا أنه متفق على المنع فيه، وهذا غير صحيح؛ أما البصريون فإن الجمهور منهم على ما قال، وقد ذهب ابن كيسان إلى جواز المسألة، وقال ابن جني: "رأيت أبا علي يُسهل تقديم حال المجرور عليه، ويقول: هو قريب من حال المنصوب"، وفي التذكرة ما يدل على إجارته إياه، وقال ابن ملكون:

"هو الذي يقتضيه القياس عندي على ما يصفون به الحال من أنه زيادة في الخبر" قال: "ولا شك أن الخبر في مثل: / مررت بزيد إنما هو الفعل دون الحرف، فإذا كان الحال زيادة في الخبر الذي هو الفعل، وفضله من فضلته، وجب التصرف فيه حسب ما يُتصرف في غيره من فضلات الفعل". هذا ما قال فيه وجه القياس، وأنت تراه قد مال إلى ما فر عنه الجمهور. وذكر ابن أبي الربيع أنه منقول عن بعض الكوفيين. فهؤلاء جماعة قد قالوا بمثل ما قال به الناظم، فإذا ليس جميع النحويين بقائلين بالمنع، فكان إطلاق ذلك اللفظ عنهم غير لائقٍ من جهتين: من جهة إيهام الاتفاق في المسألة، ومن جهة مخالفة لهم بعد ذلك الإطلاق حتى يتوهم أنه صرح بمخالفة بالإجماع. وفي ذلك ما فيه. والثاني: أنه أظهر حجة على ما ذهب أليه ليس فيها متعلق لقوله (فقد ورد) وهذا لا ينجيه؛ لأن المخالفين مقرون بأنه قد ورد، فهم الين أنشدوا أكثر الأبيات المتقدمة، وأتوا بالآية الكريمة، وتكلموا عليها، وأولوا ظاهرها، وحملوا الأبيات على الاضطرار الشعري، وأولوا منها ما أمكن، وإذا كان كذلك فأي حجة في قوله: "فقد ورد" فإن الوارد في كلام العرب على قسمين: قسم يُقاس عليه، وقسم لا يُقاس عليه لا اعتبار به في القياس، وإنما الاعتبار بالآخر فهو الذي كان الحق أن يعنيه فيقول: "فقد ورد كثيرًا في الكلام" أو نحو ذلك، مما يُعطي أنه حجة، أما إذا لم يفعل ذلك، فكلامه كالعبث الذي لا يليق بمثله. والعذر له عن الأول أنه لم يجهل أن المسألة مختلف فيها، كيف وقد ذكر الخلاف في التسهيل وشرحه؟ ولكنه أطلق لفظ الجميع على الأكثر، وهذا

سائغ في كلام العرب، شهير الاستعمال، فيقال: جاءني أهل غرناطة إذ جاءك جمهورهم، بل تقول ذلك وإنما جاءك كبراؤهم، وهم قليل بالإضافة إلى جميعهم، فلا محذور فيه. وعن الثاني: أن مقصوده إنما هو ورود يُعتد بمثله في القياس، لا مطلق الورود بدليل عدم اعتباره للشذوذات في هذا النظم كثيرًا، فعرفالاستعمال يعين له ما أراد، وهذا ظاهر. والله أعلم. ولما تكلم هنا على صاحب الحال المجرور بحرفٍ، وكان المجرور تارة يجر بحرف، وتارة باسم، وحصل حكم النوع الأول، وأن الحال أصبح أن تأتي منه لكنه لا يتقدم- شرع الآن في الكلام على المجرور باسمٍ، وهل تأتي الحال منه أم لا؟ وهو الحال من المضاف إليه فقال: ولا تجر حالًا من المضاف له ... إلا إذا اقتضى المضاف عمله أو كان جزءًا ما له أضيفا ... أو مثل جزئه فلا تحفيا يعني أن الحال من المضاف إليه لا يجوز، فلا يقال: هذا غلام هندٍ ضاحكة، ولا هذه دار اليزيدين ساكنين فيها، ولا جاءني كتابك قاعدًا، ولا أشبه بذلك؛ لأنه كما لا يكون صاحب خبر لا يكون صاحب حال؛ إذ الحال خبر من الأخبار، وإنما كان كذلك؛ لأن المضاف إليه مكمل للمضاف، وزائد عليه. /لأنه واقع منه موقع تنوينه الزائد عليه، فالعمدة هو الأول المضاف لا الثاني المضاف إليه، وهذا هو الفرق بينه وبني المجرور بحرفٍ؛ إذ المجرور بحرف هو مطلوب العامل بالقصد إلا أنه لم يتصل إليه إلا بواسطة الحرف، فلذلك جاز الحال، والمضاف إليه ليس مطلوب العامل أصلًا فلم يكن الحال من جائزًا، ثم استثنى منه المنع الكلي ثلاث مسائل، فأجاز فيها الحال من المضاف إليه. إحداها: أن يكون المضاف في الأصل عاملًا في المضاف إليه الرفع أو النصب، فتكون الإضافة ثانية عن ذلك، وهو معنى قوله: "إلا إذا اقتضى

المضاف عمله" سعني أن يكون المضاف مقتضيًا أي طالبًا عمل المضاف إليه، يريد عمله فيه، فالعمل في الحقيقة للمضاف، ونسبة إلى المضاف إليه من حيث كان واقعًا فيه، ويعني بالعمل هاهنا العمل المقدر لا الظاهر الآن؛ لأن المضاف هو العامل في المضاف إليه الجر على كل حال، وإنما يريد العمل الخاص الذي لا يكون له مضاف، وهو الرفع أو النصب، ومثاله قولك: عرفت قيام زيد مسرعًا، فمسرعًا حال من زيد، وإن كان مضافًا إليه؛ لأن القيام قد اقتضى الرفع في زيد، فإن التقدير: عرفت أن قام زيد مسرعًا، أو أن يقوم زيد مسرعًا، وكذلك: هذا الشارب السويق متلوتا فمتلوتًا حال من السويق، إذ كان (شارب) قد اقتضى النصب فيه، فالتقدير: هذا شارب السويق ملتوتًا، وإنما جاز هذا اعتبارًا بالأصل من الرفع أو النصب، والمرفوع والمنصوب مقصود في الكلام فهو في الحقيقة خارج عن كونه من المضاف إليه، ومما جاء في ذلك قوله تعالى: {إليه مرجعكم جميعًا}، وأنشد المؤلف: تقول ابنتي: إن انطلاقك واحدًا ... إلى الروع يومًا تاركي لا أباليا وأنشد سيبويه:

وإن بني حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها والثانية: أن يكون المضاف جزءًا من المضاف إليه، وذلك قوله: "أو كان جزء ما له أضيفا". فالضمير في (كان) عائد إلى المضاف إليه في قوله: "إلا إذا اقتضى المضاف عمله". والضمير في (له) عائد على (ما) وهي المضاف إليه، وفي (أضيف) عائد على المضاف، والتقدير: أو كان المضاف جزء الاسم الذي أضيف له ذلك المضاف، وذلك إذا كان المضاف جزء المضاف إليه صار كأنه هو، فصار الحال في التقدير من المضاف الذي هو المقصود في الكلام، لا من المضاف إليه، وذلك نحو قولك: أعجبني وجهك راكبًا، ومنه قوله تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين}. وقال الفند الزماني: وطعن كفم الزق ... غدا والزق ملآن فغدا حال من الزق عند أبي جني، وكثيرًا ما يعتبرون المضاف إليه إذا كان جزءه، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه، فأنث البعض؛ لأن بعض الأصابع كأنه الأصابع، وأنشد سيبويه للأعشى: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم

قال سيبويه: لأن صدر القناة من مؤنث، وأنشد أيضًا لجرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدين والجبال الخشع وذلك كثير. فهذا كله إما على أن بعض الشيء كأنه الشيء، فكأن الحال من المضاف لا من المضاف إليه، وإما على توهم إسقاط المضاف اعتبارًا بصحة الكلام دونه؛ ومن هنا أجاز الفارسي في قول الشاعر: أرى رجلًا منهم أسيفًا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفًا مخضبًا أن يكون (مخضبًا) حال من الهاء في (كشحيه) وهو مضاف، ولكن هفي تقدير: يضم إليه؛ لأنه إذا ضمه إلى كشحيه فقد ضمه إليه، فهو في التقدير حال من المجرور بحرف وهو جائز كما تقدم، وكذلك جعل (مضاعفا) من قوله: عوذ وبهثة حاشدون عليهم ... حلق الحديد مضاعفًا يتلهب حالًا من الحديد.

والثالثة: أن يكون المضاف كجزء من المضاف إليه، وذلك قوله: "أو مثل جزئه" يعني أنه إذا كان المضاف جزءًا من المضاف ولكنه يشبه الجزء منه، فحكمه حكم الجزء الحقيقي في جواز انتصاب الحال من المضاف إليه، وذلك نحو قولك: أعجبني حسن زيد راكبًا وفصاحته متكلمًا، ومنه قول الله تعالى {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا}. فهذه صفات أضيفت إلى موصوفاتها قامت مقام الجزء منها، والعرب تعامل غير جزء الشيء معاملة الجزء إذا كان ملتبسًا به، كما قال العجاج، أنشد سيبويه: * طول الليالي أسرعت في نقضي * وأنشد لذي الرمة أيضًا: مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم فأنث طول الليالي، لأنه من صفتها، ولذلك أنث مر الرياح، فعامل ذلك معاملة الجزء كما تقدم، وكأن المضاف هنا في حكم السقوط، والمراد المضاف إليه بدليل صحة الكلام مع إسقاطه، وبذلك علل في الشرح جواز الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزأه أو كجزئه، وهي طريقة الفارسي في البيت المتقدم، وهو ظاهر. وقد علل امتناع الحال من المضاف إليه بأن العامل في الحال هو العامل في

صاحبه، والمضاف هو العامل في المضاف إليه، ولا يصح أن يعمل في الحال؛ لأنه ليس بفعل، ولا مؤد معنى فعل، والحال إنما يعمل فيه فعل، أو معنى فعل، ولو عمل فيه الفعل، وعمل فيه صاحبه المضاف لكان خلاف ما استقر من كلامهم. فعلى هذا إذا كان في المضاف معنى الفعل جاز كما في المسألة الأولى لاتحاد العامل، وإن كان عمله من جهتين؛ لأنه راجع إلى العمل من جهة معنى الفعل؛ وكذلك إذا كان المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه فهو كالزائد لصحة الكلام مع إسقاطه كما تقدم، فهو من الكلام المحمول على المرادف فكأنه لا مضاف ثم، وإنما هو مرفوع أو منصوب أو مجرور بحرف، وقد تقرر من هذا أن المضاف إن لم يكن أحد هذه الثلاثة لم يجز وقوع الحال من المضاف إليه، فلا تقول: ضربت غلام هندٍ ضاحكة؛ إذ ليس الغلام جزء من هند، ولا كالجزء؛ ولذلك لا يصح إسقاطه، فلا تقول: ضربت هندًا ضاحكة في معنى: ضربت غلام هندٍ ضاحكة. وهذه المسألة حكي في شرح التسهيل الإجماع على منعها، وفي نقل الإجماع نظر؛ فقد حكى غيره الخلاف فيها، وأن من الناس من يجيز الحال من المضاف إليه مطلقًا. وليس بصحيح ما تقدم. وقوله: "فلا تحيفا" الألف فيه بدل من نون التوكيد، كقوله: * ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا *

والحيف: الجور، والظلم، وقد حاف عليه يحيف حيفًا، وأشار بقوله: "فال تحيفا" إلى اعتبار ما هو من الشيء كجزئه، فإنه رب كل شيء يظن كالجزء فيعامل معاملته، فيجاء بالحال من المضاف إليه، وليس في الحقيقة المضاف كالجزء كما تقول: أعجبني مال زيد تاجرًا، فإن المال ليس كالجزء، فلا يجوز انتصاب الحال من زيد؛ إذ لا تقول: أعجبني زيدٍ تاجرًا، وأنت تريد ماله، كما تقول: أعجبني زيد ماشيًا، وأنت تريد: أعجبني حسن زيد ماشيًا، وكذلك لا تعامل ما هو كالجزء معاملة ما ليس كذلك، فتمنع ما كان نحو: أعجبني حسن زيد ماشيًا كما تمنع: أعجبني/ مال زيد تاجرًا، فهذا هو القانون في ذلك فلا تخف فتعامل ما هو كالجزء معاملة ما ليس كذلك، وبالعكس، وقد يكون قوله: "فلا تحفيا" أيضًا إشارة إلى التنكيت على من أجاز الحال من المضاف إليه بإطلاق؛ وذلك أن المجيز لذلك إنما أجازه لما وجد جائزًا في المسائل الثلاث المستثناه من المنع، فكأنه اعتبر المضافات كلها اعتبارًا واحدًا، وهذا حيف في النظر، وتقصير في الاعتبار، فالحق في ذلك التفصيل، وان يجاز حيث وجد المجيز، ويمنع حيث وجد المانع. ثم قال: والحال أن ينصب بفعل صرفا ... أو صفةٍ اشبهت المصرفا فجائز تقديمه كمسرعًا ... ذا ذهب، ومخلصًا زيد دعا هذا الفصل يذكر فيه ما يصح من الحال أن يتقدم على عامله، وما لا يصح، والحال لابد له من عامل يعمل فيه؛ لأنه منصوب، والنصب لابد له من ناصبٍ، ودل على أنه لابد له من عامل مساق كلامه، وتقسيمه له إلى لفظي وإلى معنوي.

وقسم العامل في الحال قسمين: أحدهما: ما كان من العوامل فعلًا متصرفًا أو ما أشبهه من الصفات الجارية مجراه، فهذا يجوز فيه تقديم الحال على عامله إن لم يمنع مانع من خارج. والثاني: ما كان من العوامل مضمنًا معنى الفعل، وليس بجارٍ مجراه، أو كان فعلًا غير متصرف فلا يتقدم الحال على عامله، بل يلزم التأخير، وذلك على تفصيل يذكره. وابتدأ بالقسم الأول، فيعني أن الحال إن كان عامله فعلًا متصرفًا أو صفة من الصفات التي تشبه ذلك الفعل المتصرف فإنه يجوز تقديم الحال على ذلك العامل، فمثال الفعل المتصرف فإنه يجوز تقديم الحال على ذلك العامل، فمثال الفعل المتصرف: زيد دعا مخلصًا، فدعا فعل متصرف، فيجوز تقديم (مخلصًا) عليه، فتقول: مخلصًا زيد دعا، وهو مثاله الذي مثل به، وكذلك تقول: ضاحكًا جاء عمرو، وراكبًا ضربت زيدًا، وما أشبه ذلك. ومثال الصفة المتصرفة قولك: هذا ذاهب مسرعًا، فمسرعًا حال العامل فيه صفة تشبه الفعل المتصرف، لأن (ذهب) فعل متصرف، فذاهب مثله في التصرف، فجائز أن تقول مسرعًا هذا ذاهب، وهو مثال الناظم. ومعنى كون الصفة تشبه الفعل: أن تكون متضمنة معناه وحروفه، وتجري مجراه في عمله، ولحاقه العلامات، وغير ذلك من الأحكام اللاحقة للفعل المتصرف، والذي يدل على قصد المشابهة في تضمن أنفس حروف الفعل قوله بعد: "وعامل ضمن معنى الفعل لا حروفه" فدل على أنه أراد هنا أن يدخل في ضمن المشابهة الحروف، وبذلك فسر في الشرح الصفة التي تشبهه. ويدخل في ذلك اسم الفاعل كما مثل، واسم المفعول، كقولك: زيد مضروب قاعدًا، فيجوز أن تقول: قاعدًا زيد مضروب، والصفة المشبهة، كقولك: زيد سمح ذا يسار، لأنها جارية مجرى الفعل في العمل، والمعنى، ولحاق علامات التأنيث، والتثنية، والجمع،

فيجوز أن تقدم الحال فتقول: ذا يسار زيد سمح/ وأنشد في الشرح: * لهنك سمح ذا يسار ومعدما * ثم قال: "فلو قيل في الكلام: إنك ذا يسار ومعدما سمح لجاز، لأن سمحًا عامل قوي بالنسبة إلى أفعل التفضيل؛ لتضمنه حروف الفعل ومعناه، مع قبوله لعلامات التأنيث، والتثنية، والجمع" وقيل من يذكر في العوامل المشبهة، وذكرها مما ينبغي كما فعل ابن مالك، وقد دل المثالان على أن كلامه هنا في تقديم الحال على العامل خاصة، وسكت عن حكم تقديمه على صاحبه، فيرد عليه الاعتراض نصًا من وجهين: أحدهما: أنه موهم جوازه هنا بإطلاق إذا كان العامل ما قال؛ إذ لم يستثن من ذلك إلا حال المجرور بحرف، فحكى المنع عن النحويين، وارتضى هو الجواز، فاقتضى أن الجواز منسحب على جميع المواضع سوى ذلك الموضع، وذلك غير صحيح؛ فإن التقديم على صاحبه فقط قد يمتنع في مواضع: منها: أن يكون صاحبه مضافًا إليه، نحو: أعجبني قيام زيد مسرعًا، فلا يجوز هنا أن تقدم الحال فتقول: أعجبني قيام مسرعًا زيدٍ؛ للفصل بين المضاف والمضاف إليه في غير موضعه. منها: أن يكون الحال مقرونًا بإلا أو في معنى المقرون بإلا، نحو: ما جاء زيد إلا مسرعًا، وإنما جاء زيد مسرعًا، وما أشبه بذلك، وقد تقدم مثل ذلك في

الفاعل والمفعول. ومنها: أن يكون صاحب الحال ضميرًا متصلًا، نحو: زيد لقيني طالبًا له، فلا يجوز هنا تقديم الحال على (ني)، لما يلزم من فصله بغير موجب، إلى أشياء من هذا القبيل يُوهم هذا الموضع جوازها، وليست بجائزة. والثاني: أنه أطلق هنا جواز تقديم الحال على العامل ولم يستثن شيئًا، وذلك غير صحيح أيضًا، فإن التقديم على العامل قد يمتنع في مواضع: منها: أن يكون العامل مصدرًا موصولًا، نحو: أعجبني قيام زيد مسرعًا، فلا يجوز أن تقول: أعجبني مسرعًا قيام زيد. ومسرعًا حال من زيدٍ؛ لأن الحال من صلة المصدر، وصلته لا تتقدم عليه، ولا شيء منها. ومنها: أن يكون العامل صلة الألف واللام، نحو: أعجبني الآتي مسرعًا؛ إذ لا يتقدم ما في حيز الموصول إليه. ومنها: أن يكون الحال مقرونًا بإلا أو في معناه، نحو: لم يأت زيد إلا مسرعًا، إلى أشياء من هذا النوع. وأيضًا فإنه قال: "فجائز تقديمه كذا" فاقتضى أنه لا يكون إلا كذلك، وهو غير صحيح أيضًا بل قد يكون واجبًا كإضافة صاحب الحال إلى ضمير ما لابس الحال، نحو: جاءني زائر هندٍ أخوها، فلا يجوز هنا: أن تقول: جاءني أخوها زائر هندٍ؛ لما يلزم من عود الضمير على ما بعده لفظًا ومرتبة، وذلك ممنوع كما تقدم. والجواب عن الأول: أن كلامه في تقديم الحال على صاحب المجرور بحرف قد دل على إجازته إذا لم يكن صاحبه مجرورًا، بل مرفوعًا أو منصوبًا؛ لأنه إذا لم يذكر المنع إلا في قسم واحد دل على أن ما عداه غير ممنوع، وعند ذلك نقول إنه أجاز التقديم، وإن كان صاحب الحال منصوبًا، /نحو: لقيت هندًا راكبة،

فيجوز أن تقول: لقيت راكبة هندًا، وكذلك إن كان مرفوعًا، نحو: جاءت راكبة هند، وما أشبه ذلك. وهو في الجواز على رأي البصريين، وذهب الكوفيون على أنه لا يجوز أن يقال: لقيت راكبة هندًا؛ لئلا يتوهم أن الحال هو المفعول وأن صاحب بدل منه قال في الشرح: "والصحيح جواز التقديم مطلقًا؛ لأن راكبة من قولنا: لقيت راكبة هندًا يتبادر الذهن إلى حاليته، فلا يلتفت إلى عارض توهم المفعولية". وأنشد على التقديم: وصلت ولم أصرم مسيئين أسرتي ... وأعتبتهم حتى تلافوا ولائيا وانشد أبياتًا أخر أيضًا. وعلى الجملة فالاعتلال باللبس في مثل هذا ضعيف جدًا، ويلزم إن روعي هذا اللبس ألا يجوز عطف البيان في نحو: رأيت زيدًا أخاك؛ لئلا يتوهم أن ذا العطف بدل، ولا أن يخب رعن المبتدأ بخبرين فصاعدًا؛ لئلا يتوهم أن الثاني بدل أو نعت، وطول لهم القصة، بل ينعكس ألا يتأخر الحال في المسألة السابقة، لئلا يتوهم أن الحال بدل، وكل هذا فاسد، فما أدى أليه مثله. وإذا ثبت الجواز من إشارة كلامه فلا يقدح فيه ما اعترض به؛ لأن هذه الأمور قد تقدم أمثالها في أبوابها فما عرض هنا من العوارض القادحة في الجواز تعرف مما تقدم، وأخص الأبواب بهذا الباب باب المفعول به، فيه يتبين. ونحو هذا يتمشى في الجواب الثاني أيضًا؛ لأن امتناع تقدم ما في حيز الصلة على الموصول مبين في بابه، وحكم المقرون بإلا معروف من باب الابتداء والمفعول، وكذلك القول في

الاعتراض على نفي الجواز، فإن ما اعترض به يُعرف من باب المفعول به، وإنما يتمكن الاعتراض بما يخالف ما كر مما يختص بالحال، وقد ذكروا أن الحال إذا كان جملة قد تقدمه الواو فلا يجوز تقديمه، فلا تقول: وهو نائم جئته؛ لأن الواو هنا أصلها العاطفة، فلا تقع إلا حيث تقع العاطفة، والعاطفة لا تقع صدر الكلام. ويعتذر عنه بأن الواو لها نظير تقدم، وهو واو المفعول معه، والمفعول معه قد تقدم أنه لا يتقدم فكذلك لا يتقدم هنا الحال المصدر بالواو. والله أعلم. وأعلم أن هنا مسألتين: إحداهما: أن ما ذكره من جواز التقديم على العامل هو مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم الحال على العامل فيه مع الاسم الظاهر، فلا يقال عندهم: راكبًا جاء زيد، ويجوز مع الاسم المضمر، نحو: راكبًا جئت، بناء منهم على أنه لا يجوز تقديم المضمر على المظهر، وأنت لو قلت: راكبًا جاء زيد كان في (راكبًا) ضمير زيد، وقد تقدم عليه. والصحيح الجواز، ولا يمتنع تقديم المضمر على المظهر إ ذا كان المضمر مؤخرًا في الرتبة على المظهر، كمل قال زهير: إن تلق يومًا على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا ومن أمثالهم: في بيته يؤتى الحكم، وفي أكفانه يلف الميت، وقد تقدم بيان هذا، وأيضًا فإذا كان العامل متصرفًا في نفسه وجب أن يكون متصرفًا في معموله مل لم يمنع مانع، ولا مانع هنا، فوجب الحكم بالجواز. وإلى هذا

فالسماع يدل على الجواز. ففي المثل السائر: شتى تؤوب الحلبة. وأنشد في الشرح: * سريعًا يهون الصعب عند أولي النهى * ولم أقيد بقيته كما أحب والثانية: أن تقييده العامل بالتصرف الدال على أن ما ليس بمتصرف من العوامل لا يتقدم عليه الحال، فالفعل غير المتصرف، نحو: ما أحسن زيدًا راكبًا، وما أنصره مستنصرًا، فلا يجوز هنا تقديم الحال أصلًا بمقتضى مفهوم الشرط، وكذلك: أحسن به راكبًا. لا تقول: راكبًا أحسن بزيدٍ، والصفة غير المتصرفة أفعل التفضيل، نحو: زيد أكفى القوم ناصرًا، وهو أسمحهم ذا يسار، فلا يجوز هنا أيضًا التقديم. أما فعل التعجب فلإلزام العرب له طريقة واحدة حتى صار كالمثل الذي لا يُغير عما وُضع عليه، وأما أفعل التفضيل فلضعفه عن مشابهة الفعل بكونه لا يرفع ظاهرًا في الغالب، ولا يؤنث، ولا يُثني، ولا يُجمع فلما لم يتصرف تصرف الفعل الذي تضمن حروفه ومعناه لم يتقدم الحال عليه؛ ولأن أفعل التفضيل جارٍ مجرى فعل التعجب في أشياء كثيرة فلزمه حكمه، لكنه قد جاء تقديم الحال على أفعل التفضيل في موضع خاص يذكره الناظم على إثر هذا. ثم أخذ في ذكر القسم الثاني من عوامل الحال فقال: وعامل ضمن معنى الفعل لا ... حروفه مؤخرًا لن يعملا كتلك ليت وكأن وندر ... نحو: سعيد مستقرًا في هجر يعني أن العامل الذي ليس بفعل ولا ما أشبه الفعل من العوامل التي ضمنت

حروفه بل ضمن معنى الفعل خاصة من غيرتضمن حروفه لا يعمل في الحال مؤخرًا عنه، فتقدم الحال عليه، بل يتمنع تقدم الحال عليه، فلا يعمل فيه إلا مؤخرًا. ثم فسر هذا العامل المذكور فأتى له بأربعة أمثلة هي: اسم إشارة، وليت، وكأن المجرور- وفي معناه الظرف- فأما ليت فتعمل في الحال بما فيها من معنى التمني، فتقول: ليتك زائرًا زيد، وليت زيد ضاحكًا عمرو. وأما كأن فكذلك تعمل بما فيها من معنى التشبيه، فتقول: كأنه مقاتلًا أسد، وكأنه مسرعًا ريح، وقال النابغة: كأنه خارجًا من جنب صفحته ... سفود شرب نسوه عند مفتاد وقال زهير: كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا لأن (وقد خلفت) جملة حالية، فالعامل فيها معنى كأن، وأنشد الفارسي وغيره: بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قدك كانت فراخًا بيوضها فقوله: (قد كانت) حال من (قطا الحزن) والعامل معنى كأن. وأما تلك

فكذلك أيضًا لأن الإشارة ضمن معنى الإشارة، فتقول: تلك هي منطلقة، فمنطلقة حال منتصب بما في (تي) أو (تا) من معنى الإشارة، ومنه في القرآن الكريم {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} وقوله {وهذا بعلي شيخًا} وهذا كثير، وسائر أسماء الإشارة تجري على هذا الحكم. ولما قال كتلك وكذا وكذا دل على أن العامل المعنوي المراد ليس مقتصرًا به على ما ذكره دون غيره، وقد جاء مثل ذلك أشياء كثيرة في كلامهم ضمونها معنى الفعل وليس ذلك لها في القياس، فمن ذلك لعل فإنها كأن وليت، ألا تراهم قالوا: * لعلك يومًا أن تلم ملمة * فعلق / الظرف بلعل، إذ لا يصح تعقله بتلم فكذلك يجوز أن تقول: لعلك قائمًا فشل. ومنه الاستفهام في نحو قول الأعشى: * يا جارتا ما أنت جارة * فجارة حال من أنت، العامل فيه [ما] بما فيها من معنى الاستفهام المراد به

التعظيم أو التعجب، أي أنت المعظمة في هذا الحال. ومنها اسم الجنس المراد به التعظيم، نحو: أنت الرجل علمًا ودينًا وفضلًا، أي أنت الكامل في هذه الحال. ومنها المشبه من الأعلام أو غيرها، نحو: زيد شهير شعرًا، وحاتم جودًا، والأسد شدة، أي البالغ درجته في هذه الحال، أو نحو ذلك. ومنه أما وذلك بما تعطيه من معنى الفعل، نحو: أما عالمًا فلا علم له، وما أشبه ذلك، والتقدير: مهما ذكرته عالمًا فلا علم له. ومنه عند بعضهم- وإن لم يره ابن مالك- الأعلام التي تُعطي معنى المعروف أو المذكور نحو قولك: أنا زيد شجاعًا، وأنت زيد حليمًا تقديره: أنا المعروف في هذه الحال أو المذكور أو نحو ذلك؛ ولذلك ينصب الظرف، ألا ترى الشاعر قال: أنا أبو المنهال بعض الأحيان فهذه العوامل كلها ليس بأفعال، ولا تضمنت حروفها، ولكنها عملت بما ضمنت من رائحة الفعل، فلا يتقدم عليها ما عملت فيه من الحال لضعفها عن تصرفها تصرف الأفعال. فإن قيل: فإن كان يدخل له في كلامه كل ما ضمن معنى الفعل من الكلم فالحروف كلها من هذا القبيل، فإن العرب وضعتها مواضع الأفعال، فحروف النفي عوض من أنفي، وحروف الاستفهام عوض من أستفهم، وحروف العطف عوض من أعطف، وحروف الإضافة عوض من أضيف، وكذلك سائرها. نص على هذه الأئمة كابن السراج، والفارسي وابن جني، وغيرهم، وإذا كان كذلك فيقتضي أن يقال: أزيد أبوك قائمًا؟ بمعنى: أستفهم عنه في هذا الحال، وكذلك، ما زيد أخوك راكبًا بمعنى أنفيه راكبًا،

وأن يجوز أيضًا: زيد أخوك وعمرو محترمًا، بمعنى أعطفه محترمًا، أو ما كان مثل ذلك، وهو غير جائز اتفاقًا فكيف يطلق القول في أن ما ضمن معنى الفعل يعمل في الحال؟ فالجواب: أن الحروف لم تضمن معاني الأفعال على حد ما ضمنته ليت ولعل ونحوهما، وإنما عبروا عن ذلك بأن الحروف في أصل الوضع جُعلت عوضًا من الأفعال، ونائبة عنها لا أنها تضمنت معانيها، وفرق بين تضمين معنى الفعل والتعويض عنه. أم التضمين فهو طارئ على الوضع الأول، حادث بعد التركيب. وأما التعويض- هنا- فهو في أصل الوضع، لا مثل تعويض (ما) عن الفعل في نحو: * أم أنت ذا نفر * فإن هذا عرض أيضًا بعد التركيب، وتعويض ما مثلًا عن أنفي أصلي قبل التركيب. وأيضًا فإن معنى الفعل في الحروف قد استهلك جملة كما استهلك معنى الفعل من يزيد، ويشكر وأحمد التي/ هي أعلام، ومعنى الفعل في كأن، وليت لم يستهلك بل لُحظ واعتبر. وأيضًا فإن المعنى المضمن ليس ذلك المعنى الأصيل بل هو زائد عليه، ولذلك عبر عنه بضمن الذي هو في الاصطلاح لجعل معنى لم يكن، ولم يقل عوض عن الفعل؛ لأن التعويض أتم من التضمين عندهم. فالحاصل أن لفظ (ضمن) أحرز أن المعنى المراد هنا ليس المعنى الأصلي الذي في الحروف، وإنما هو معنى طارئ، فتأمله. وقد بين هذا المعنى ابن جني في كتاب التعاقب.

ثم أتى بالمثال الرابع وهو المجرور، فقال: "ونذر نحو سعيد مستقرًا في هجر" فقدم فيه أولًا أن ما ضمن من العوامل معنى الفعل لا حروفه فلا يتقدم عليه معمولة- وهو الحال- وكان ذلك لازمًا في الأمثلة الثلاثة لا في الرابع، فبين الآن في الرابع أن ذلك الحكم غالب فيه لا لازم؛ فقد نُقل في كلام العرب تقديم الحال عليه لكن نادرًا؛ فلذلك قال: "ونذر نوح كذا" وتمثيله مشعر بشرطٍ في هذا التقديم معتبر، وهو كون الحال متوسطًا بين العامل وصاحب الحال كما في قوله: زيد مستقرًا في هجر، فمستقرًا عامله مجرور، وصاحبه زيد هذا الظاهر إما حقيقةً وإما مجازًا، فلو قدمت الحال عليهما معًا فقلت: مستقرًا زيد في هجر لكان ممنوعًا، ولم يأت من كلام العرب. أما من كان كالمثال فقد وجد في كلامهم حسبما يذكر، فأما تقديم الحال عليهما معًا فلم يذكروا خلافًا في منعه وأما تقديمه على العامل وحده ففيه خلاف، فمذهب سيبويه والجمهور المنع إلا في الشعر، وحجتهم أن المجرور- في معناه الظرف- ليس من العوامل القوية فلم يقو أن يتصرف في معموله تصرفها، وعمله في الحال إنما كان لشبه الحال بالظرف الذي يعمل فيه رائحة الفعل. والعامل المعنوي لا يقوى على التصرف بتقديمه عليه كما قد يقوى على تقديم الظرف؛ لأن المشتبه لا يقوى قوة ما شبه به. وأيضًا فالسماع في ذلك نادر، ومحتمل التأويل. وذهب الأخفش إلى جواز ذلك بإطلاق، وحجته ما جاء في السماع من ذلك كقراءة عيسى بن عمر {والسموات مطويات بيمينه} بنصب مطويات على الحال، والعامل ليس إلا المجرور. وقول من قال إنه منصوب على إضمار فعل، والعامل السموات بما

فيها من معنى السمو تكلف. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متواريًا بمكة، بنصب متواريًا، والعامل قوله (بمكة). وأنشدوا للنابغة الذبياني: رهط ابن كوز محقبي أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعة ابن حذار فمحقبي حال الفاعل فيه قوله (فيهم)، ولما كان هذا المسموع لا يبلغ أن يطلق القياس عليه إطلاقًا أخبر أن مثل هذا نادر، وكأنه توسط بين المذهبين فلم يطرح السماع جملة، ولم يطلق القياس البتة. والشائع في المسألة/ أن تقول: زيد في هجر مستقرًا، وزيد عندك مستقرًا، ومنه قوله تعالى: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} وهي قراءه غير نافع من السبعة، وحكى سيبويه: أتكلم بهذا وأنت هنا قاعدًا؟ وأنشد أيضًا: إن لكم أصل البلاد وفرعها ... فالخير فيكم ثابتًا مبذولا وهجر: اسم موضع وهو المذكور في قولهم: كمبضع تمرٍ إلى هجر. ثم قال:

ونحو زيد مفردًا أنفع من ... عمرو معانًا مستجاز لم يهن هذه المسألة مستثناه أيضًا من الحكم المتقدم في العامل غير المتصرف، وهو منع تقديم الحال عليه، فأتى هنا بحكم في أفعل التفضيل مخالف لما تقرر فيه، فيعني أن أفعل التفضيل إذا توسط بين حالين كهذا المثال الذي أتى به، وهو: زيد مفردًا أنفع من عمرو معانًا، فهو جائز مغتفر فيه تقديم الحال، لم يضعف الكلام لأجل التقديم ولم يمنع، كما ضعف ومنع فيما إذا لم يكن أفعل التفضيل إلا ناصبًا حالًا واحدًا. وقد تقدم شرحه، وأتى بالمثال مشعرًا بالوجه الذي يتوسط معه أفعل التفضيل بين الحالين، وهو أن يأتي لتفضيل شيء في حال على شيء في تلك الحال أو في حال آخر. وقد يكون التفضيل لشيء على نفسه لكن في حالين، فمثاله من تفضيل شيء في حال على شيء آخر في حال آخر هو مثال الناظم، ففضل زيدًا في حال الإفراد على عمرو في حال الإعانة، ومثاله من تفضيل شيء في حال على شيء آخر في ذلك الحال: مررت برجل خير ما يكون خير منك ما تكون، ومررت برجل أخبث ما يكون أخبث منك أخبث ما تكون. ومثاله من تفضيل شيء في حال على نفسه في حال آخر: هذا بسرا أطيب منه رطبًا، وهذا زبيبًا أفضل منه عنبًا، وما شبه ذلك. ومعنى مثال الناظم أن زيدًا يفضل نفعه إذا كان مفردًا على نفع عمرو إذا كان معانًا غير منفرد. وهذا يفضل طيبة بسرًا على طيبة رطبًا، وكذلك سائر المثل. قال ابن خروف: انتصب بسرًا ع سيبويه على الحال من الضمير في أطيب، وأنتصب رطبًا على الحال- أيضًا- من الضمير المجرور في منه، والعامل فيهما أطيب بما تضمنه من معنى المفاضلة بين شيئين، كأنه قال: هذا في حال كونه بسرًا أطيب منه في حال كونه رطبًا، يريد أن يفضل

البسر على الرطب. قال: فأطيب ناب مناب عاملين؛ لأن التقدير: يزيد طيبه في حال كونه بسرًا على طيبه في حال كونه رطبًا. وأشار بهذا إلى التمر. والمعنى بسره أطيب من رطبه، فعلى ما قال ابن خروف جرى الناظم، ولم يجعل العامل في الحال كان مضمره كما زعم السيرافي، ومن ذهب مذهبه، لأن التقدير عند سيبويه: هذا إذا كان بسرًا أطيب منه إذا كان رطبًا. قال سيبويه: "وإنما قال الناس منصوبًا على / إضمار (إذ كان) فيما يُستقبل، (وإذا كان) فيما مضى؛ لأن هذا لما كان [ذا] معناه أشبه عندهم أن ينتصب على إذا كان أو إذ كان". وبهذا الكلام تعلق السيرافي فجعل بسرًا وتمرًا حالين من المشار إليه في زمانين والعامل في الحال كان، وكان ما قال يظهر من كلام سيبويه، ولكن الناظم عدل عنه إل ما قال ابن خروف، وهو مذهب طائفة كابن كيسان، والفارسي، وابن جني، وغيرهم. وضعف مذهب السيرافي ومن قال بقوله لما فيه إذا أضمرت (كان) من تكلف إضمار ستة أشياء لا حاجة إليها، وهي: إذا أو إذ في الموضعين، وكان وضميرهما المرفوع في الموضعين أيضًا، ولأن أفعل في هذا الباب هي أفعل في قول الله تعالى {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} في أن القصد بهما تفضيل شيء على نفسه باعتبار متعلقين، فكما اتحد هنا المتعلق به كذلك يتحد في الأمثلة المذكورة، وأيضًا على تسليم الإضمار يلزم إضمار أفعل في إذ وإذا؛ لأنه لابد منه لهما فيكون ما وقع فيه شبيهًا بما فر منه. هذه الأدلة مما استدل بها المؤلف

في الشرح، وأصلها لأبن خروف وتأول كلام سيبويه المتقدم ذكره بأن ما قاله تفسير معنى الكلام لا تقدير للعامل، وإنما العامل أفعل. وقوله: (لم يهن) معناه لم يضعف، وهو من: وهن الشيء يهن وهنا إذ ضعف ووهنته أنا ووهنته أصله يوهن فاعل بحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة. وفي هذا الموضع سؤال، وهو أن شرح كلام الناظم جرى على أن مراده في قوله: (ونحو زيد مفردًا) إلى قوله: (مستجاز لم يهن) أراد به أن أفعل التفضيل هو العامل في الحال مع التقديم، وليس في كلامه نص على ذلك؛ إذ غاية ما قال: إن هذا المثال وما كان مثله مستجاز عند العرب غير ضعيف، وليس فيه أن العامل هو أفعل أو غيره، لا تعيين في كلامه لشيء من ذلك. والجواب عنه: أن الناظم وإن لم يذكر ذلك نصًا قد أشار إليه بما هو مبين لمقصوده، وذلك أن كلامه في هذا الفصل في تقديم الحال على عامله، وما يجوز من ذلك، وما يمتنع، فقدم أن الذي يتقدم عليه الحال من العوامل هو المتصرف من الأفعال، وما أشبهها، فخرج أفعل التفضيل عن جواز تقدين الحال عليه حسب ما وقع في تفسيره، ثم استثنى من ذلك صورة هي هذه منبهًا عليها بقوله: (مستجاز لم يهن)، أي: لم يضعف كما ضعف تقديم الحال على أفعل التفضيل إذا لم يتكرر الحال، وكما ضعف تقديم الحال على عاملها المجرور في قولهم: زيد مستقرًا في هجر، فحصل بهذا المساق، وهذا الاقتران أن المستجاز هنا هو التقديم على العامل غير المتصرف الذي هو أفعل التفضيل المذكور في مثاله، لا (كان) مضمرة، ولا غير ذلك، إذ لا يستقيم فهمه على اعتبار غير أفعل في العمل وهو الظاهر. والله أعلم./ ثم قال: والحال قد تجيء ذا تعدد ... لمفرد فاعلم وغير مفرد

لما كان الحال خبرًا من الأخبار، وكان الخبر يتحد تارة، نحو: زيد قائم، ويتعدى أخرى، نحو: زيد ناظم ناثر، وعالم شاعر- كان الحال كذلك أيضًا، فيجوز أن يتعدد كما كان ذلك في الخبر، فتقول: لقيت زيدًا راكبًا مصاحبًا زيدًا مفارقًا عمرًا، كما تقول: زيد راكب مصاحب عمرًا مفارق بكرًا، وكما تقول في النعت: رأيت رجلًا راكبًا مصاحبًا زيدًا مفارقًا عمرًا، وذلك سائغ من جهة اللفظ والمعنى، فأخبر الناظم بهذا الحكم وأن الحال قد يأتي متعددًا كان صاحبه مفردًا أو غير مفرد بل متعددًا أيضًا فلا محذور فيه، وهو تنكيت على رأي من منع ذلك كابن عصفور؛ إذ زعم أن عاملًا واحدًا لا ينصب أكثر من حالٍ واحدٍ لصاحبٍ واحدٍ قياسًا على الظرف، قال: كما لا يجوز أن يقال: قمت يوم الخميس يوم الجمعة كذلك لا يقال: جاء زيد ضاحكًا مسرعًا، واستثنى منه ذلك الحال المنصوب بأفعل التفضيل الذي تقدم ذكره. وما قاله ابن عصفور غير صحيح للفرق بين المسألتين، إذ وقع قيام واحد في يوم الخميس ويوم الجمعة، محال، ومجيء زيد في حال ضحك وحال إسراع ممكن غير محال، فما أبعد ما بين الموضعين، وإنما نظير مسألته: جاء زيد راكبًا راجلًا، أو مسرعًا مبطئًا أو رأيته سائرًا قاعدًا، وما أشبه ذلك، هذا هو الذي لا يمكن وجوده إن لم يحمل على وجه يصح ولو بمجاز، وإذ ذاك لا يكون الامتناع من جهة العامل بل من جهة المعنى. وأما الظرفان فلهما حكم آخر غير حكم الحال. وقوله: "لمفرد وغير مفرد" أما مجيئه لمفرد فهو الذي فرغ منه، وأما مجيئه لغير مفرد بل لمتعدد فيتصور ذلك على نحوين:

أحدهما: أن يكون الحالان أو الأحوال مجتمعة في اللفظ بتثنية، أو جمع إن وجد لذلك موجب. والثاني: أن تكون مفرقة إن لم يحصل موجب الاجتماع. أما الأول فقد يتفق فيه أن يكون العامل واحدًا وعمله عملًا واحدًا، نحو: جاء زيد وعمرو مسرعين، ومنه قول الله تعالى {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} وقوله تعالى {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} ومنه قولهم: هذه ناقة وفصيلها راتعين، على جعل الفصيل معرفة. وقد يكون العامل واحدًا وعمله مختلفًا، نحو: لقيت زيدًا مسرعين، وضار زيد عمرًا راكبين، ومنه قول أمريء القيس: خرجت بها نمشي تجر وراءنا ... على أرينا ذيل مرط مرحل فقوله (نمشي) حال من التاء في خرجت، والهاء في (بها). وقول عنترة: متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا ففردين حال من الضميرين المتصلين بتلق. وقد يكون الفاعل متعددًا والعمل

متحدًا، نحو: جاءني زيد وأتاك أخوه مسرعين، وذهب بكر وانطلق رجل آخر مبادرين، وما أشبه ذلك، وقد يكون العامل متعددًا وعمله مختلفًا نحو: هذا زيد مع عمرو مارين، ورأيت زيدًا مع امرأة ماشيين، وما أشبه ذلك. وأما الثاني وهو تفريق الحالين أو الأحوال/ فقد يتفق- أيضًا- إعراب صاحبي الحالين، نحو أقبل زيد وهند محبوبة محبًا، وجاء زيد والعمران باكيين ضاحكًا. وقد يختلف الإعراب نحو: لقيت زيدً مصعدًا منحدرًا. ومنه بيت امرئ القيس: * خرجت بها نمشي تجر وراءنا * فتجر حال من الهاء في (يها) ونمشي حال من الضميرين معًا. وقال عمرو بن كلثوم: وأنا سوفتدركنا المنايا ... مقدرة لنا ومقدرينا فمقدره حال من المنايا، ومقدرين حال من الضمير المنصوب في تدركنا. وأنشد في الشرح: عهدت سعاد ذات هوى معنى ... فزدت وعاد سلوانًا هواها ولاحظ في هذا القسم تعدد العوامل، وإنما جاء مع اتحاده. والله أعلم.

وقوله (فاعلم) جملة اعتراضية تفيد توكيد النظر في هذه المسألة وتحصيلها، وأنه مما لا ينبغي أن يغفل؛ إذ تعدد الحال مع اتحاد صاحبه قد أنكره فإياك أن تنكره، فإن الإقرار به هو الصواب. وعامل الحال بها قد أكدا ... في نحو: لا تعث في الأرض مفسدا وإت تؤكد جملة فمضمر ... عاملها، ولفظها يؤخر هذا فصل الحال المؤكد، فإن الحال عل ضربين: مبينة، ومؤكدة. فالمبينة هي الأصل فتكلم عليها بحكم الإطلاق، ثم خص الكلام على المؤكدة، وإنما بين الناظم هنا ما يؤكده بها، وهو العامل فيها أو الجملة الواقعة قبلها، فدل ذلك من كلامه أنها تأتي للتوكيد، ثم إن توكيدها حسب ما قرر عليه وجهين: أحدهما: أن تكون مؤكدة للعمل فيها، وهو قوله: (وعامل الحال بها أكدا) يعني أن الحال تعطي من المعنى ما يعطيه العامل فيها لكن أتى بها توكيدًا على حد ما يؤكد المفرد بالمفرد، والجملة بالجملة، بل كما يؤكد الفعل بمصدره، ومثل ذلك قوله: (لاتعث في الأرض مفسدًا) فإن مفسدًا حال مؤكده لمعنى: لا تعث، لأن معناه: لا تفسد، تقول: عثا يعثو، وعثى يعثي عثوًا في الأول، وعثا في الثاني. وعلى اللغة الثانية جاءت الآية الكريمة {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. ومثال الناظم يحتمل الضبطين على اللغتين. وعلى الجملة فالحال المؤكدة لعاملها لما كانت مؤكدة لمعناه تارة تأتي موافقة في اللفظ والمعنى، وتارة تأتي موافقة له في المعنى خاصة. فأما الموافقة في المعنى فقط فهو الممثل به، وكأنه أشار إلى الآية الكريمة {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ومنه أيضًا قوله {ثم وليتم مدبرين}

وقوله {ويوم أبعث حيا} وقوله {فتبسم ضاحكًا من قولها} ومنه ما أنشده لأمية بن أبي الصلت: سلامك ربنا في كل فجر ... بريئًا ما تغنثك الذموم فسره أبو الخطاب على معنى: براءتك ربنا في كل فجر. وأما الموافقة فيهما كقوله: قم قائمًا قم قائمًا ... إني عسيت صائمًا وينشد أيضًا: قم قائمًا قم قائمًا ... صادفت عبدًا نائمًا وأنشد في الشرح: أصخ مصيخًا لمن أبدى نصيحته ... وألزم توقي/ خلط الجد باللعب

وهذا الضرب قليل بخلاف الموافقة في المعنى فقط، فإن ذلك كثير؛ لأن العرب تتحاشى في أكثر كلامها عن التكرار اللفظي، ولكن فد جاء في القرآن الكريم {وأرسلنا للناس رسولًا} {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}، ولأجل قلة هذا القسم لم يُمثل به الناظم، وإنما مثل بالأول؛ لأن الباب الغالب، وترك التمثيل بالآخر؛ لأنه ليس في درجته، ولكنه في المعنى لاحق بالأول. ويمكن أن يكون أتى بالمثال تقييدًا لما تقدم من لإطلاق الحكم حتى يكون قاصدًا لإخراج نحو: قم قائمًا؛ لأنه عنده غير مقيس، فلا يجوز على هذا التنزيل أن تقول: خرجت خارجًا، ولا ضربت زيد ضاربًا، ولا ما أشبه لك. وهو خلاف ما يظهر منه في التسهيل. وقد نص في الشرح أنه قليل، فذلك احتمل هذا التمثيل البيان، واحتمل التخصيص والتقييد، وتوجيه كل واحد من الوجهين ظاهر، فإن الجميع مستند إلى السماع، فيمكن أن يقول بالقياس لمجيئه في الكلام، وإن كان قليلًا كعادته، في أمثال ذلك، ويمكن أن يقول بوقفه على السماع لقلة استعماله وضعف قياسه. والثانيمن وجهي الحال المؤكدة: أن تقع مؤكدة لمعنى جملة ليس واحد من جزئيها بصالح للعمل في الحال، ولا يكون ذلك إلا وهما اسمان جامدان، وذلك قوله: (وأن تكون جملة) يريد: ليس فيها ما يصلح للعمل، ويعين هذا المقصد أنه لو كان واحد من جزئيها صالحًا للعمل لكانت الحال مؤكدة له،

ودخلت في قوله أولًا (وعامل الحال بها قد أكدا) ولذلك جعل هنا العامل مضمرًا، فلو كان ثم ما يصلح للعمل لم يحتج إلى تقديره، ومراده أن الحال قد تؤكد معنى الجملة، فإن أردت ذلك- ولابد من عامل في الحال- فأضمر لها عاملًا، إذ المنصوب مفتقر إلى ناصب، أما التوكيد بها، فنحو: قولك: هو الحق بينًا، وهو زيد معروفًا، وأنا زيد معلوم المرتبة، وما أشبه ذلك مما يكون فيه المبتدأ والخبر معرفتين؛ لأن مقصودك أن تخبر عن المكور باسمه المعروف به من كان يجهله، أو ظن أنه يجهله ثم أتيت بالحال تؤكد أن المذكور زيد وتحققه، وكأنك إنما أردت بقولك: هو زيد أنه هو المعروف المعلوم الخبر والقصة فأكدت ذلك المعنى بالحال. وعلى هذا لا يجوز أن تذكر بعد هذه الجملة من الأحوال إلا ما يعطيه قصد الجملة أولًا من اليقين، نحو ما مثل به، وأنشد سيبويه لسالم بن دارة: أنا ابن دارة معروفًا له نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار أو الفخر بصفةٍ يفخر بها، نحو: أنا زيد شجاعًا، وأنا عبد الله كريمًا. ومنه ما أنشده ابن خروف من فول الشاعر: فإني الليث مرهوبًا حماه ... وعيدي زاجر دون افتراسي وقول الآخر:

وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أن الليث معديًا عليه وعاديا أو التعظيم، نحو: هو زيد عظيمًا في قومه، وأنا زيد جليلًا مهيبًا. أو التحقير، نحو أن عبدك فقير إلى رحمتك/ وأنا عبد الله آكلًا كما يأكل العبد. أو التهديد والوعيد وقد يكون منه قول الشاعر: فإني لليث مرهوبًا حماه ... وعيدي زاجر دون افتراسي وهو أظهر من كونه فخرًا، ومنه قولك: أن زيد متمكنًا منك، وما أشبه ذلك. ولا يكون الحال هنا بغير ذلك مما لا ينبئ عنه معنى الجملة، كما تقول: أنا زيد قاعدًا، وهو زيد منطلقًا، فإن معنى الجملة لا يُشعر بالحال فليست الحال مؤكدة كما كانت مؤكدة في قولك: أنا زيد معروفًا، فلو فرض أن يكون في الجملة مع منطلق معنى التنبيه والتعريف كما كان مع معروف لجاز، كما إذا قيل ذلك الكلام خلف حائط أو موضع يجهل فيه المسمى؛ لأنه جواب لمن قال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله فإنه لو يعرفه باسم قد علمه، فكأنه قال: أنا من تعرف منطلقًا في حاجتك فهذا جائز؛ فإنه في عداد قولك: أنا عبد الله معروفًا، فهذا كله يجري هذا المجرى. وقد جرى مجرى التصدير بالضمير التصدير باسم الإشارة، فتقول: هذا زيد معروفًا أو فاخرًا، أو نحو ذلك، وكذلك: أخوك زيد معروفًا، والذي في الدار زيد مشهورًا، وما كان نحو ذلك؛ فلهذا لم تحتج الناظم إلى تقييد المبتدأ بأن يكون ضميرًا وإن كان ذلك فيه كثيرًا. فإن قيل: فكان حقه استيفاء ما تحتاج إليه الجمل المذكورة من القيود المعتبرة في الإتيان بالحال المذكورة، وهي أن يكون جزآها معرفتين جامدين جمودًا

محضًا، أما كونهما جامدين فقد تقدم التنبيه على، وأما كونهما معرفتين فلا دليل في كلامه على ذلك، وهو قيد ضروري، إذ لا يقال: أنا أخ لك معروفًا، ولا: هو رجل معروفًا إلا والحال غير مؤكدة، لأن الجملة لا تنبئ عن ذلك. فالجواب: أن قوله (وإن تؤكد جملة) يستلزم أن الجملة تعطي من المعنى ما تعطيه الحال حتى يصدق عليها أنا مؤكدة لمعنى الجملة، وإذا كان كذلك لم يتصور أن تكون الجملة إلا مركبة من معرفتين كما تقدم بيانه، فإن كان أحد جزأيها نكرة لم يتصور، فلا يصدق أن الحال مؤكدة، فترك التقييد بذلك اعتمادًا على هذا المعنى. والله أعلم. وأما العمل في هذه الحال فليس في اللفظ ما يمكن أن يجعل عاملًا فلابد من تقديره، وقد اختلف فيه النحويون، فمذهب الناظم أنه مضمر، وهو فعل تفسره الجملة، وذلك: أحق ونحوه، أو أعرفه، أو أتحققه، أو شبه ذلك، فإذا قلت: هو زيد معروفًا، فالتقدير: أحقه أو أعلمه معروفًا، وإذا قلت: أنا زيد معروفًا، فالتقدير: اعرفني، أو أعرف، أو نحو ذلك. وهذا مذهب السيرافي. وذهب الزجاج إل أن العامل هو الخبر لتأوله بمسمى ونحوه. وذهب ابن خروف إلى أن العامل هو المبتدأ بما فيه من معنى تنبه. والظاهر من كلام سيبويه أن العامل معنى الجملة لا معنى المبتدأ بانفراد، ولا الخبر بانفراد، إذ معناها إذا قلت: هو زيد معروفًا، أي انتبه له، أو ألزمه معروفًا، فإنما/ قدر معنى قدر الجملة، وأما تقدير ذلك في المفرد فمتكلف، ولأنه أمر معنوي فلا يكون إلا من الجملة، وعلى هذا يقرب رأي الناظم، ويؤنس به بأنه قد يريد

ههنا تقدير فعل عليه الجملة ما تقدم في المصدر المؤكد لنفسه إذا قلت: له علي ألف درهم عُرفًا؛ إذ هو عنده وعند غيره على إضمار الفعل المتروك إظهاره، فكذلك ينبغي أن يكون هذا. وهو ظاهر. واعلم أن قوله: (فمضمر عاملها) تنبيهًا على مسألتين: إحداهما: التنكيت على مذهبي الزجاج وابن خروف، أي ليس العامل بظاهر في اللفظ كما يقوله المخالف، بل هو مضمر يدل عليه الكلام. والثانية: التنبيه على لزوم الإضمار، ودل على ذلك تقديمه الخبر في قوله (فمضمر عاملها) إشعارًا بتأكيد الحكم بذلك، وكذلك الأمر فيه؛ إذ لا يجوز إظهاره، فلا تقول: أنا زيد اعرفني معروفًا، وذلك لأنهم جعلوا الجملة كالبدل من اللفظ بالعامل كما جعلوا الجملة في قولهم له علي [ألف عرفًا] عوضًا عن العامل في المصدر. ولا أعلم في هذا الحكم خلافًا. ثم قال: (ولفظها يؤخر) الهاء عائد على الحال، ويعني أن الحال في هذه المسألة يؤخر، ولا يجوز تقديمه فلا تقول: معروفًا هو زيد، ولا شجاعًا أنا زيد، وكذلك لا تقول: أنا معروفًا زيد، ولا أنا شجاعًا زيد، وإنما لزم تأخيرها لأنها إنما أعطت من المعنى ما أعطت الجملة من قبل، إذ كان قولك: هو زيد، أو أنا زيد معناه: أنا المعروف أو هو المعروف أو أعرفني أو أعرفه، فصار قولك: معروفًا يعطي عين ما يعطيه: أنا زيد، وهو زيد، فصار كالجملة المؤكدة لجملة أخرى، أو المفرد المؤكد لما قبله. ومن شأن المؤكد التأخير عن المؤكد. وأيضًا الجملة إذا قامت مقام العامل لم يبق للعامل ذلك التصرف الذي كان قبل أن يُحذف، ويُعوض عنه، يُبينه أنك لا تقول: صوت حمارٍ له صوت، ولا: عرفًا له على ألف، ولا حقًا أنت ابني، ولا ما أشبه ذلك، بل يلزم المعمول التأخير لعدم تصرف ما ناب عن العامل.

فإن قيل: هذا الحكم الذي قرر من لزوم تأخير الحال هل هو مقتصر به على الحال المؤكد بها الجملة أم هو شامل للحال المؤكدة كانت مؤكدة لعاملها أو للجملة؟ . فالجواب: أن الظاهر من كلامه الاقتصار على المؤكد بها الجملة. وأيضًا فإن العامل النائب عنه غيره لا يقوى قوة العامل الظاهر كما تقدم بخلاف نحو: (لا تعث في الأرض مفسدًا). فإن العامل لفظي وهو قوي كما في المصدر المؤكد، فكما يجوز تقديم المصدر المؤكد على عامله كذلك يجوز هنا، فإذا قوله (ولفظها يؤخر) راجع إلى الوجه الثاني، وهو الحال المؤكد للجملة. والله أعلم. ثم قال: وموضع الحال تجيء جملة ... كجاء زيد وهو ناوٍ رحله لما كانت الحال خبرًا من الأخبار، وكان الخبر يأتي مفردًا، وهو الأصل، ويأتي جملة في موضع المفرد/ جاءت الحال كذلك، وكذلك النعت، فالثلاثة جارية من وادٍ واحد، فالأصل في الحال أن تأتي مفردة ثم أنها قد تأتي جملة، وتكون تلك الجملة مقدرة بالمفرد الذي يقع عليه النصب على الحال، وقد ذكر حكم المفرد فيما فمضى فأخذ يذكر حكم الجملة، فيريد أن الحال قد تأتي في موضعها جملة، وهذا مشعر بأن الجملة ليست الحال بنفسها بل هي في موضعها فحيث جاءت كذلك فلابد من تقديرها بالمفرد، لأنه الأصل فيها، وأيضًا لم يقيد الجملة بكونها اسمية أو فعلية فدل على أن كل واحدةٍ منهما في موضع الحال، فتقول: جاءني زيد وهو ضاحك، وجاءني يضحك ... فإن قيل: تقييده بالمثال يُشعر بأنها إنما تكون اسمية، لأن التقدير: وموضع الحال تجيء جملة تسبه هذه الجملة، وقوله (وهو ناوٍ رحله) جملة اسمية، فكأن التقدير: وموضع الحال تجيء جملة اسمية، فخرجت الفعلية عن ذلك، وهو غير صحيح.

فالجواب: أن مراده الجملة على [نوعيها، والدليل] على ذلك قوله بعد (وذات بدء بموضع ثبت) وهذا تفصيل لمجمل قد [سبق، والجملة المبدوءة] بالمضارع فعلية بلا بد، فالجملة في كلامه إنما المقصود بها كيف كانت، وإنما أتى بالمثال إشعارًا بقيد آخر ضروري للجملة الواقعة حالًا، وهو كونها خبرية، فإن الطلبية لا تقع في موضع الحال، لو قلت: جاء زيد كيف حاله؟ أو جاء زيد هل رأيته؟ على أن تكون الجملة الطلبية في موضع الحاللم يصح، كما لا يكون ذلك في النعت لأنهما من باب واحد، ألا ترى أن النكرة يجري الحال عليها نعتًا في الأكثر، ولا تقع حالًا إلا قليلًا، بخلاف المعرفة فإنه لابد من انتصابها معه، إذ لا يصح جريانها نعتًا عليها، فالحال جارية بين شبه خبر المبتدأ أو شبه النعت، فتأخذ من الخبر أحكامً كثيرة، ومن النعت أحكامًا أخر. وهذا الموضع مما غلب فيه شبه النعت، فلذلك لا تقع جملة الحال طلبية، كما لم تقع جملة النعت حسب ما يذكره. ثم أتى بمثال للجملة الحالية، وهو قوله: جاء زيد وهو ناوٍ رحله، أي: جاء: في هذه الحال، والتقدير جاء زيد ناويًا رحلة، فقد وقع (وهو ناوٍ) موقع قولك: ناويًا، والشأن أبدًا أن تقدر المفرد من الخبر، لا من المخبر عنه، ففي الجملة الفعلية تقدرها من الفعل، وفي الجملة الاسمية تقدرها من خبر المبتدأ، لأن ذلك هو محل الفائدة، فتقول في قولك: جاء زيد يضحك: جاء ضاحكًا، كما قلت: جاء زيد ناويًا رحلة، وهكذا الأمر في خبر المبتدأ إذ وقع جملة، وفي النعت كذلك لا فرق بينهما. وهذا ضابط لابد منه، لكنه قد يعرض في ذلك عوارض لفظية ربما يُشكل على

من لم يثبت قدمه في هذه الصناعة، ولعله يأتي من ذلك في أثناء الكلام على بعض المسائل التقديرية في الحال أو في النعت إن شاء الله. فإن قيل: هذا الحكم الذي أتى به مجملًا للجملة الحالية ناقصة الشرائط، فإن جملة الحال لها شرط آخر لابد منه، وهو ألا تكون مفتتحة بدليل استقبال، وقد اشترطه في التسهيل، وهو ضروري أيضًا، إذ لا تقول: جاء زيد سيضحك ولا جاء زيد لمن يضحك، ولا ما أشبه ذلك للتناقض بين الحال /240/ والاستقبال، وليس في/ الإتيان بذلك المثال ما يشعر بهذا الشرط؛ لأنه من الجملة الاسمية بمعزل؛ إذ دلائل الاستقبال يختص الاستفتاح بها الجملة الفعلية فيوهم إطلاقه دخولها، وهو غير صحيح. فالجواب: أن دلائل الاستقبال عارضة الدخول على الأفعال ليست بأصلية لها، فالسابق للفهم من الجملة الفعلية ما كان للفعل أول سابقٍ فيهما من غير شعور بما يتقدمه أداة من الأدوات، وإذا ثبت هذه فالعوارض لها أحكام إذ عرضت، ولا يلزم من ثبوت حكم أصلي في موضع أن يكون ثابتًا له مع العوارض الطارئة، فلا يلزم إذًا التحرز منه ابتداء في تقرير الحكم الأصلي؛ فلذلك لم يتحرز من الجملة المفتتحة بدليل استقبال. فإن قيل: لم لم يذكر هنا وقوع الظرف والمجرور حالًا ألكونهما بمعزل عن ذلك أم لكونهما يدخلان تحت حكم المفرد إن قدروا بالمفرد، أو حكم الجملة؟ [وقد ترك] ذكرهما في التسهيل وهنا فما وجه ذلك؟ فالجواب: أن

الظرف والمجـ[ـرور لا مانع يمنع من وق] سوعهما حالين كما يقعان صفة وخبرًا، فأنت إذا قلت: ضرب زيد عمرًا في الدار، أو: ضرب زيد عمرًا أمامك أو يوم الجمعة فجائز أن يكونا متعلقين بضرب، وعلى هذا لا يكونان حالين. وجائز أن يكونان متعلقين باسم فاعل حالٍ من المفعول وحده، أو من الفاعل وحده. وأن يكون حالًا منهما معًا. وقد حمل الزمخشري قولهم: لقيته عليه جبة وشي على أنه في تقديره: مستقرة عليه جبة وشي. وتأول ابن العصفور قولهم: رأيت الهلال من داري من خلل السحاب، على أن يكون (من خلل السحاب) متعلقًا باسم الفاعل على تقدير: باديًا من خلل السحاب، وحمل ابن مالك قول الله تعالى {فلما رآه مستقر عنده} على أن مستقرًا هو ذلك المحذوف في قولك: رآه عنده- ظهر في الآية، ولا شك أنه حال من الهاء في رآه، فكذلك الحكم لو لم يظهر على مذهبه. وحدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبيد الله بن الفخار- رحمه الله- عن شيخه أبي إسحاق الغافقي أنه كان يقول: الظرف والمجرور الذي في معناه لا يتعلق واحد منهما بالفعل المذكور إلا بشرط أن يكون الفاعل والمفعول في ذلك المحل، فإن كان فيه أحدهما دون الآخر كان الظرف أو المجرور متعلقًا بحال من الكائن في ذلك المحل، قال: وعلى ذلك يُحمل قول امرئ القيس: فشبهتهم في الآل لما تكمشوا ... حدائق دوم أو سفينًا مقيرًا فقوله (في الآل) متعلق بحالٍ من ضمير المفعول دون الفاعل، لأنه لم يكن معهم

في الآل؛ لأن الآل لا يُرى إلا عن بعد، قال: وكان يقول على ذلك: رأيت أمامك زيدًا خلفك، فيكون أمامك معلقًا بحالٍ من الفاعل، وخلفك معلقًا بحال من المفعول. فإذا تقرر هذا فلا يمتنع وقوع الظرف والمجرور في موضع الحال، ويكون الناظم اكتفى بذكر المفرد عن ذكر بناءً/ على أنه في تقدير المفرد، ويمكن أن يكون في تقدير الجملة، كما يمكن ذلك في النعت، وقد أجاز الوجهين في باب الابتداء في قوله: * ناوين معنى كائن أو استقر * ثم قال: وذات بدء بمضارع ثبت ... حوت ضميرًا، ومن الواو خلت وذات واو بعدها انو مبتدأ ... له المضارع اجعلن مسندًا فقسم الجملة الواقعة في موضع الحال إلى قسمين: أحدهما المصدرة بالفعل المضارع المثبت غير المنفي. والثاني ما سوى ذلك. فأما القسم الأول فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون بلا واو، والآخر أن يكون بالواو، فقوله: (وذات بدء بمضارع ثبت) يريد أن الجملة المبدوءة بالمضارع إما أن تكون قد دخلها نفي أو لا، فإن دخلها النفي فيأتي حكمها، وإن لم يدخلها نفي بل كان المضارع فيه مثبتًا فلابد فيها من ضمير يعود على ذي الحال، كما يلزم في الصفة والخبر إذا وقعا بالجملة؛ ليربط بين الحال وصاحبها كانت الجملة بالواو أو دونها، فتقول: جاء زيد يضحك، وجاء أخوك يضحك، ففاعل الفعلين هو الضمير العائد على ذي الحال، ودل على ذلك بقوله: (ومن الواو خلت ... وذات واو) يريد أن الضمير لابد منه مطلقًا فقوله: (ومن الواو خلت) جملة في

موضع الحال من الضمير (في حوت) وهي مصدرة بالماضي عاريًا من قد، كأنك قلت: حوت ضميرًا من الواو. وقوله: (وذات الواو) معطوف على موضع الجملة، أي: خالية من الواو، وذات واو. ثم قال (بعدها انو مبتدأ) فأتى بجملة مستأنفعة تبين حكم المضارع بعد الواو أنه على تقدير مبتدأ يكون المضارع خبرًا له، فقولك: جاء زيد ويضحك، في تقدير: وهو يضحك. فإن قيل: هذا التفسير غير لائق وظاهرة عدم الارتباط بين قوله: (بعدها انو مبتدأ) وبين ما قبله، فلم لم تجعل الجملة الأولى وهي قوله: (ومن الواو خلت) حالًا، وقوله: (وذات واو بعدها انو) جملة أخرى مستأنفة، ويكون المعنى: أن الجملة ذات واو لابد أن ينوى بعد الواو فيها المبتدأ، وما المانع من هذا التفسير؟ حتى تكلف في البيت هذا التكلف. فالجواب: أن الضرورة دعت إلى ذلك؛ لأن قوله: (حوت ضميرًا) يحب أن يكون قيدًا في الجملتين معًا ذات الواو والعارية من الواو، إذ لا يقال جاء زيد ويضحك عمرو، على أن الجملة في موضع الحال، فلو جعلت قوله: (وذات واو) جملة منقطعة من الأولى لاقتضى استغناء ذات الواو عن الضمير، بل كان يقتضي بحكم المفهوم ألا تكون ذات ضمير أصلًا، لأنه قيد الجملة العارية من الواو بأنها حوت ضميرًا، فاقتضى أن ذات الواو على خلاف ذلك، وذلك غير صحيح، / ولا يضر جعل قوله: (بعدها انو مبتدأ) جملة مقطوعة، لأنه قد يفعل مثل ذلك كقوله في باب ظن: وإن، ولا، لام ابتداء أو قسم ... كذا، والاستفهام ذا له انحتم وغايته في القبح أن يكون حذف حرف العطف، وذلك في نظمه شائع،

وعلى هذا فقد أعطى كلامه أمرين: أحدهما: أن لابد من ضمير في الجملة المصدرة بالمضارع، كانت بواو أو بغير واوٍ، فإنك لا تقول: جاء زيد يضحك عمرو، ولا يضحك عمرو. والثاني: أن النوعين معًا جائزان في الكلام قياسًا؟ ؛ إذ لم يُفرق بينهما. فأما العارية من الواو فلا إشكال في جواز القياس فيها، وأما المصدرة بالواو فمن الناس من يمنع القياس فيها، فلا تقع عندهم حالًا إلا أن يُتلقى مسموعًا لقلة ما جاء من ذلك؛ لأن القياس يأباه، فإن المضارع في تقدير اسم الفاعل، وأنت لو قلت: جاء زيد وضاحكًا لم يستقم، وكذلك ما كان في تقديره. وأجاز ذلك ابن مالك في التسهيل لكن قليلًا، فقال هنالك: "وقد تصحب الواو المضارع المثبت أو المنفي بلا فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر" لكن القياس فيه جاز عنده، واستدل على ذلك بالقياس، والسماع. فالسماع نحو ما رواه الأصمعي من قولهم: قمت وأصك عينه وقول عنترة: علقتها عرضًا وأقتل قومها ... زعمًا ورب البيت ليس بمزعم وقال زهير: بلين وتحسب آياتهن ... عن فرط حولين رقًا محيلا وقال عبد الله بن همام السلولي:

فلما خشيت أظافيرهم ..... نجوت وأرهنهم مالكًا فقوله: (وأوصك عينه) جملة في موضع الحال، وكذلك: (وأقتل قومها) وقوله: (وتحسب آياتهن) وقوله: (وأرهنهم)، قال المؤلف: "ويمكن أن يكون من هذا قول الله تعالى {قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} وقوله {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله}. فهذا كله مما يقوي الجواز. وأما القياس فكما تقع سائر الجمل الفعلية حالًا فكذاك هذه، وما ألزموه من التقدير الفاسد فلا يلزم؛ فإنه كما تقدر الجملة الاسمية ذات الواو بغير واو فكذلك تقدر الجملة الفعلية ذات الواو بغير واو. فإن قيل: الفعل المضارع في تقدير اسم الفاعل، فإذا تقدمته الواو كان بمنزلة تقدمه على اسم الفاعل، فكما لا تقول: جاء زيد قائمًا، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويقوم، بخلاف الجملة الاسمية فإن المبتدأ فيها ليس في تقدير اسم الفاعل، فلا يقبح أن يتقدم الواو عليها، وإذ ذاك لا تتقدر الحال بعد الواو بغير واوٍ، وإذا ثبت هذا فالجملة كلها إذا كانت اسمية في موضع الحال، فلا تذكر الواو مع تقديرها، وإذا كانت فعلية فالفعل وحده هو الواقع في موضعه، فلذلك لزم ذكرها في التقدير؛ وسبب ذلك كله أن الواو تصلح مع الجمل، لأنها كأنها عاطفة جملة على جملة فروعي اللفظ فجاز الإتيان بالعاطف، فإذا قدر المفرد لم تصلح الواو؛ لأن عطف المفرد على جملة لا موضع لها من الإعراب لا

يصح، فإذا أتى بالحال/ جملة مصدرة بالمضارع كان المضارع مقدرًا بالمفرد؛ لأنه على وزانه، ومموله عليه- أعني اسم الفاعل- فلم تصلح الواو معه ولذلك لزم الضمير، فإذا أجيز دخول الواو كان تجويزًا لدخولها على المفرد فكان (ويضحك) في تقدير: ضاحكًا، وذلك فاسد. فالجواب: أن هذا منتقض بالفعل الماضي فإنه مقدر باسم الفاعل ومع ذلك فلم تمتنع الواو، فتقول: جاء زيد وضحك، وإن كان في تقدير: وضاحكًا؛ اعتبار بلفظ الجملة الآن، وإذا قدر المفرد سقطت الواو، فكذلك تقول في المضارع: إن الواو دخولها من حيث كان لفظه مع فاعله لفظ الجملة. والتقدير بالمفرد أمر آخر تسقط معه الواو، فإن العرب تراعي أحكام اللفظ وتحافظ في التقديرات على ما يليق بها، ويُصدق هذا وجود الواو مع المضارع سماعً كما تقدم كما وجدت مع الماضي، فلا فرق بينهما في المعنى. وهذا كله مع عدم التعرض إلى التأويل الذي ذكر مع كون المضارع يُقدر قبله المبتدأ. ثم إنه لم يكتف بهذا الطريق من الاستدلال حتى جعل الجملة الفعلية في تقدير الاسمية بأن قال (بعدها انو مبتدأ) إلى آخره، يريد: قدر بعد الواو مبتدأ يكون الفعل المضارع مسندًا إليه- أي خبرًا عنه- فقوله: قمت وأصك عينه في تقدير: وأنا أصك عينه، وكذلك قول عنترة: (وأقتل قومها) تقديره: وأنا أقتل قومها، وكذلك سائر الأمثلة، فإنه إذا كان الأمر في المسألة على هذا التقدير صارت في عداد الجمل الاسمية، ولم يبق إشكال، ولا احتيج إلى اعتذار عن الواو. والذي يسوغ تقدير المبتدأ هنا أن الباب الأكثر والطريق المهيع مع المضارع تقدم الاسم عليه إذا وقعت جملته حالًا، فتقول: جاء زيد وهو يضحك، وضربته وأنا أبكي، وما أشبه بذلك، فإذا كان معظم الباب هكذا حملنا على الأقل- وهو

عدم ظهور المبتدأ مع الواو- على ما هو الأكثر فقدرناه على القاعدة المستمرة في حمل ما خُفي على ما ظهر، ولا يدل هذا التأويل على الوقف على السماع؛ إذ يمكن القياس على ذلك تأويل بعينه، وهذا صحيح من الاعتبار. ويمكن في ترتيب هذا الكلام وجه آخر وه أن يكون قوله (حوت ضميرًا ومن الواو خلت) معطوفًا أحدهما على الآخر، واقتضى المضارع المثبت يقع حالًا بشرطين: أحدهما: أن يكون معه ضمير يعود على ذي الحال. والآخر: أن يخلو من واو تتقدمه، فيكون الخلو من الواو شرطًا لازمًا في القياس. وقوله (وذات واو) إلى آخره جملة مستقلة تفيد تأويل ما جاء من المضارع المثبت حالًا، وقد دخلت عليه الواو، بأن يكون على إضمار مبتدأ، كأنه قال: إن جاءت جملة المضارع بالوا فقدر قبلها المبتدأ- أعني قبل الجملة وبعد الواو- لتخرج بذلك الملة عن كونها مبدوءة بالمضارع، وانتصب (ذات) على إضمار فعل من باب الاشتغال يفسره قوله: انو مبتدأ) ولا يُعترض هذا التفسير بما تقدم من توهم استغناء ذات الواو عن الضمير، لأن شرط احتواء الجملة على ضمير ثابت لم يتخلف عنه شيء بخلاف شرط الخلو من الواو. وهذا الوجه أسهل مما تقدم لكنه يقتضي المخالفة لما ذهب إليه/ في التسهيل من أن ذلك قياس، فإن هذا التنزيل يقتضي كون دخول الواو موقوفًا على السماع من حيث أولها على إضمار المبتدأ بعدها، ولو كانت المسألة عنده قياسًا لم يحتج إلى ذلك، ونظير هذا قوله في الإلغاء في باب ظن: وانو ضمير الشأن أو لام ابتدا من موهم إلغاء ما تقدما إلا أن هذه المخالفة لا تضر؛ فهو بذلك موافق لأكثر النحويين في أنه لا يجوز في الكلام: جاء زيد ويضحك، وكثيرًا ما يرى هنا خلاف ما يراه هنالك. وقد تقدم منه أشياء، وستأتي أخر غن شاء الله. وإذا قلنا بالتفسير الأول، وأن ابن مالك وافق هنا قوله في التسهيل فكونه ذهب إلى التأويل بإضمار المبتدأ نبذ لمذهب

من لم يره، فإن من النحويين من لم يقدر شيئًا كما لم يحتج إلى تقديره مع الماضي. وهذا رأي من قوي عندما تقدم من الاحتجاج غير أن الناظم حمل الأقل على الأكثر كما تقدم، وفرق بين المضارع والماضي بأن الماضي قد كثر فيه مصاحبة الواو فدل على أن ذلك فيه أصل، وانه غير راجع إلى غيره، بخلاف المضارع فإن قلة مصاحبته للواو دل على أن له أصلًا يرجع إليه. وهذا من باب الاستدلال بالأثر، فلذلك رأى الناظم رأي الإضمار. والله أعلم. وأما القسم الثاني من قسمي جملة الحال فهو الذي قال فيه الناظم: وجملة الحال سوى ما قدما ... بواو أو بمضمر أو بهما يعني أن عدا ما تقدم من الجمل الواقعة موقع الحال تارة تكون بالواو خاصة من غير أن يكون فيها ضمير عائد على صاحب الحال، وتارة يكون فيها ضمير من غير واو تدخل عليها، وتارة تجمع بينهما فتكون ذات واو وضمير معًا. والذي قدم من الجمل هو الجملة المصدرة بالفعل المضارع المثبت بواو كانت أو بغير واو، والذي بقي من الجمل الثلاث، وهي: الجمل المصدرة بالاسم مطلقًا كانت موجبة أو منفية، والجمل المصدرة بالمضارع المنفي، والجملة المصدرة بالماضي مطلقًا كانت موجبة أو منفية. وكل واحدة منها تأتي- كما قال- على أحد ثلاثة أوجه: فأما الجملة الاسمية- وهي المصدرة بالاسم- فمثالها بالواو خالية من الضمير قولك: جئت والشمس طالعة، وطلع الفجر وزيد قائم، ومنه قوله تعالى {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نُعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم}. فقوله: {طائفة قد أهمتهم} في موضع الحال، ولا ضمير فيها عائد على صاحب الحال. وقوله تعالى {لئن أكله الذئب ونحن

عصبة إنا إذًا لخاسرون} وقوله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغن فريقًا من المؤمنين لكارهون} وقال امرئ القيس: وقد أغتدى والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل وقال أيضًا: إذا ركبوا الخيل واستلاموا ... تحرقت الأرض واليوم قر وقوله أيضًا: بعثت إليها والنجوم طوالع ... حذارًا عليها أن تقوم فتسمعا وهو كثير في الكلام والشعر. ومثال الجملة الاسمية بالضمير خالية من الواو/ قولك: جاء زيد يده على رأسه، ومنه قول الله تعالى {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} [فقوله: بعضكم لبعض عدو] في موضع الحال من واو (اهبطوا). وقال تعالى: {قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو}، وقال تعالى: {ويوم القيامة ترى

الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، وكذلك قوله تعالى {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون}. وهي من الجمل الداخل عليها الناسخ، وكذلك قوله: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام} وحكى سيبويه: كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه. ومنه قول الشاعر- أنشده الجمهور-: فعدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها وقال امرؤ القيس: حتى تركناهم لدى معرك ... أرجلهم كالخشب الشائل ومنه في النفي عند ابن مالك {والله يحكم لا معقب لحكمه}، وأنشد في الشرح: من جاد لا من يقفو جوده حمدا ... وذو ندى من مذموم وإن مجدا وقال عنترة:

فرأيتنا ما بيننا من حاجز ... إلا المجن ونصل أبيض مقصل وهو كثير. ومثال ما اجتمع فيه الأمران الضمير والواو قولك: جاء زيد ويد على رأسه. ومنه في القرآن الكريم: {فلا تجعلوا لله أندادًا أنت تعلمون}، وقوله {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنت تتلون الكتاب}، وقوله {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، ومن الشعر قول امرئ القيس: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال على أن يكون (وأهلها بيثرب) حالًا من مفعول تنورت، وكذلك قوله: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقوله أيضًا: أيقتلني وقد شغفت فؤادها ... كما شغفت المهنوءة الرجل الطالي وتخييره بين الوجه الثلاثة في الجملة الاسمية يقتضي أنه مخالف لمن زعم خلاف ذلك. ومحل الخلاف الواو، فزعم الكوفيون أنه لازمة في الجملة

الاسمية، ونحا هذا النحو الزمخشري في المفصل؛ إذ جعل ما جاء من ذلك شاذًا، فقال: "فإن كانت اسمية- يعني الجملة الحالية، فالواو إلا ما شذ من قولهم: كلمته فوه إلى في، وما عسى أن يعثر عليه في الندرة" قال: "وأما لقيته عليه جبه وشي فمعناه مستقرة عليه جبة وشي" وما قال وقالوه غير صحيح، وقد تقدم جملة من كلام العرب في هذا، وهو من الكثرة بحيث لا يُعذر مخالفة، ولذلك أكثرت من المثل والشواهد بحيث لا يمكن فيها ما تأوله الزمخشري. هذا وإن كان ذلك لم يكثر كثرة وجود الواو فإنه جائز قياسًا وذلك ظاهر من كلام سيبويه. وأما الجملة المصدرة بالمضارع المنفي فمثالها بالواو خالية من الضمير قولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، ومنه قول عنترة: وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم ... /قرائب عمرو وسط نوحٍ مُسلب ومثالها بالضمير خالية من الواو قوله تعالى {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} وقوله {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا} ومنه قول زهير:

كأن فتات العهن في كل منزلٍ .... نزلن به حب الفنا لم يُحطم وقول امرئ القيس: فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه ... يمر كخذروف الوليد المثقب وقول عنترة: إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولو أني تضايق مقدمي ومثال ما اجتمعا فيه قول الله تعالى {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} وقوله {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}. ومنه قول كعب ابن زهير: لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب وإن كثرت في الأقاويل وقال النابغة الذبياني: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد وقال الآخر:

بأيدي رجال لم يُشيموا سيوفهم .... ولم تكثر القتلى بها حين سُلت والمضارع المنفي بلما كالمنفي بلم قياسًا، إذ لا فرق بينهما، ومما استعمل منه بالواو والضمير معًا قول الله تعالى {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} الآية، وقوله {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم}. وأما الجملة المصدرة بالماضي فمثال مجيئها بالواو خالية من الضمير قول امرئ القيس: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها .... لدى الستر إلا لبسة المتفضل وقول النابغة: فلو كانت غداة البين منت ... وقد رفعوا الخدور على الخيام وقول علقمة: فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من الشمس النهار غروب ومثال مجيئها بالضمير بغير واو قول الله تعالى {أو جاءوكم حصرت صدورهم} وقوله {قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا} وقوله

{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه}. ومنه قول امرئ القيس: له كفل كالدعص لبده الندى ... إلى حارك مثل الغبيط المذاب وقوله: درير كخذروف الوليد أمره ... تقلب كفيه بخيط موصل وقول النابغة الذبياني: وقفت بربع الدار قد غير البلى ... معارفها والساريات الهواطل ومثال اجتماعهما معًا قوله عز وجل {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقًا منهم يسمعون كلام الله} وقوله {قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون} وقوله {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون}. ومنه قول زهير بن أبي سلمى: كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بها عن منكبي ردائيا

وقول علقمة بن عبدة: يُكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عوادٍ بيننا وخطوب والأصل في الربط بالضمير؛ لأنه هو الرابط في جملة الخبر، وجملة النعت، وقد أدخلت العرب الواو في جملة / الحال، ربطت بها بين الحال وصاحبها واستغنت بها عن الضمير، وقد يجتمعان تأكيدًا للربط، ولكن الجملة لا تخلو من واحد منهما، فلو لم يأت بواحدٍ منهما لم يحصل الربط بين الجملتين، ولا عُلم أن أحدهما قيد في الأخرى، فلو قلت: جاء زيد عمرو ضاحك، أو: أقبل محمد على عمرو قلنسوة، أو: جئت قد قام عمرو، أو: جئت لم يأت أخوك، على أن تكون هذه الجمل أحوالًا لم يجز؛ إذ لم تأت برابط من واو أو ضمير، غير أنه قد تأتي جملة الحال خالية منهما على تقدير الضمير، ويكون جائزًا كقولك: بيع السمن منوان بدرهم، تقديره: منوان منه بدرهمٍ، ومررت بالبر قفيز بدرهم، أي قفيز منه بدرهم، كما تقول: البر قفيز بدرهم، ومررت ببر قفيز بدرهم، وأبعد من هذا ما أنشده ابن جني من قول الشاعر: نصف النهار الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يردي يصف غائصًا في الماء من أول النهار إلى انتصافه ورفيقه على شاطئ الماء ينتظر ولا يدري ما كان منه، فهذه الجملة التي هي (الماء غامره)

حالية ولا رابط فيها من ضمير يعود على الاسم المتقدم، ولا واو تنوب عنه، لكن قدر صاحب الحال محذوفًا، والعائد عليه الهاء في (غامره)، فكأنه قال: نصف النهار على الغائص الماء غامره. هذا تمتم المقصود من شرح كلامه على الجملة، غلا أن في التفصيل نظرًا معتبًرا في الجمل الثلاث. فأما الجملة الاسمية فلا يخلو أن تكون مؤكدة أو غير مؤكدة، فإن كانت غير مؤكدة فالحكم كما ذكر، وإن كانت مؤكدة فلا تدخل عليها الواو أصلًا، فتقول: هو الحق لاشك فيه، ويمكن أن يكون منه قوله تعالى: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} أي: ذلك الكتاب يقينُا، وهكذا أيضًا يجري الدرك فيما إذا وقعت الحال المؤكدة جملة فعلية نحو قوله: أخوك زيد قد عرفته، وقال امرئ القيس: خالي ابن كبشة قد علمت مكانه ... وأبو زيد وكلهم أعمامي فهذه الجملة لا تدخل عليها الواو، ووجه امتناعها أن الجملة مؤكدة، والمؤكد هو المؤكد في المعنى، فالواو تنافي الدخول بين التوكيد والمؤكد، فكما لا يصح أن تقول: قام زيد نفسه وعينه، لا يقال: هو الحق ولا شك فيه، على أن تكون الجملة حالًا، ولا أخوك زيد وقد عرفته كذلك. وأما الجملة الفعلية المصدرة بالماضي فلا يجري فيها ذلك الحكم إذا كان الماضي تاليًا لإلا، نحو قوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه}، {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}.

وهو كثير، فقد نص هو على أنه لا يصح الإتيان بالواو هنا، وكذلك إذا كان الماضي متلوا بأو، نحو: أكرم زيدًا أحسن أو أساء؟ وأنشد في الشرح: كن للخليل نصيرًا جار أو اعتدلا ... ولا تشيح عليه جاد أو بخيلًا فالواو عنده أيضًا لا تصلح ههنا، فلا /تقول: ما يقوم زيد إلا وبكى، ولا أكرم زيدًا أحسن أو أساء؛ إذ لم يُسمع في كلام العرب، وأيضًا فقد تقدم ما في الجملة المؤكدة. وأما الجملة المصدرة بالمضارع المنفي فإنما يجري فيها ذلك الحكم- على ما نص عليه في التسهيل- إذا كان النفي بلم حسب ما مر في التمثيل، وأما إذا نفُي بلا أو ما فلا سبيل للواو، وغنما لا تأتي بلا واو كقوله تعالى {ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق} {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم} وقال امرئ القيس في ما: ظللت ردائي فوق رأسي قاعدًا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي وأنشد في الشرح: عهدتك ما تصبو وفيك شبيبة ... فما لك بعد الشيب صبًا متيمًا وأيضًا فإن الجملة المصدرة بالماضي لابد فيها من قد ظاهرة أو مقدرة،

فقولك: جاء زيد وقد ركب هو الأصل، فإن قلت: جاء زيد وركب، فيجوز لكن على تقدير قد، فإن لم تقدرها لم يجز أن تكون حالًا، ويلزم ظهورها عند ابن مالك إذا لك يكن في الجملة ضمير يعود على ذي الحال، نحو قول امرئ القيس: فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل وقول النابغة: فلو كانت غداة البين منت ... وقد رفعوا الخدور على الخيام وقول علقمة: فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم ... وقد حان من شمس النهر غروب وسبب التزام قد لفظًا أو تقدير أمران: أحدهما: أن الفعل الماضي لا يدل على الحال، فينبغي ألا يقوم مقامه. والثاني: أنه إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال فيه الآن أو الساعة، وهذا لا يصلح في الماضي فينبغي ألا يكون حالًا، ولهذا لم يجز أن يقول: مازال زيد قام، ولا: لبس زيد قام؛ لأن ما زال وليس يطلبان الحال، وقام فعل ماضي الزمان، فلو جاز أن يقع الماضي حالًا لجاز هذا، وأيضًا فإذا لم يقع المستقبل في المعنى حالًا إلا بتأويل، نحو: زيد في يده اليوم صقر صائدًا به غدًا، فهو على تقدير: مقدرًا اليوم الصيد به غدًا، فكذلك لا يجوز في الماضي إلا بقرينه تقربه في الحال، وذلك قد، فإنها تقرب الماضي إلى الحال؛ ولذلك كان جوابها، لما يقم. ولما لنفي الماضي المتصل بزمان الحال، ولذلك تقول: قد

قام الآن، وقد خرج اليوم. قال ابن الأنباري. فإذا ثبت هذا فالناظم لم يتعرض لهذا التقدير، فاقتضى أن جملة الفعل الماضي تقع حالًا قدر مع الماضي قد أو لا، وذلك غير صحيح على ما تقرر، وأيضًا، فإن الجملة المصدرة بالمضارع الماضي معنى محتاجة إلى الواو في القياس كان فيها ضمير أو لم يكن. قال ابن خروف، كقول النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد إلى غير ذلك من الشواهد المذكورة، ولا يقال عنده قياسًا: سار زيد لم يسرع. وهذا خلاف ما قاله الناظم في ظاهر إطلاقه. والجواب: أن الجملة المؤكدة لا يتعين كونها في موضع الحال، لاحتمال كونها في المواضع المذكورة خبرًا أو بعد خبر/ أو جملًا لا موضع لها من الإعراب، وإنما أتى بها توكيدًا لما قبلها، وإذا لم تتعين لم يثبت أن الحال المؤكدة تأتي جملة فعلية بعد الدليل على إثباتها، وإن سلمنا أنها أتت فهي بالجملة قليلة فلم يعتبرها. وأما ما اعترض به في جملة الماضي ففيه نظر؛ فإن النحويين لا يفصلون ذلك التفصيل الذي ذكر في التسهيل. وإنما يأتون بالمسالة على ما أشار إليه هنا. قال ابن عصفور: "إن كانت الجملة فعلية وكان الفعل ماضيًا لفظًا ومعنى أو معنى دون لفظ واشتملت على ضمير فالاختيار الواو، وقد يجوز ألا تأتي بها، وإن لم تشتمل على ضمير فلابد من الواو" وهذا المعنى ذكره الجزولي أيضًا. وقال صاحب المفصل في الجملة الفعلية "لا يخلو أن يكون فعلها مضارعًا أو ماضيًا، فإن كان مضارعًا لم يخل من أن يكون مثبتًا أو منفيًا، فالمثبت بغير واو، وقد جاء في المنفي الأمران وكذلك في

الماضي ولا بد من قد ظاهرة أو مقدرة" فإذا كان هؤلاء وغيرهم يقرون المسالة على هذا الترتيب اعتمدت، وبقي النظر فيما أتى به من الشواهد، وما الذي يليق هنالك من الإعراب. وأما المضارع المنفي بلا فقد لا يدخل هنا من حيث اشترط في جملة الحال ألا تكون مفتتحة بدليل استقبال، وظاهر سيبويه وعليه عول الأكثرون أن لا مخلصة للاستقبال. وإنما يرد السؤال على مذهبه في أنها لا تختص بالاستقبال، ولا يُدرى ما مذهبه حين نظم هذه الأرجوزة، فإن فُرض أن رأيه ما قال في التسهيل، فالسؤال وارد، إلا أنه حكى في التسهيل أن الواو قد تدخل على المضارع المنفي بلا، واستشهد عليه بقوله تعالى {إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} في قراءة غير نافع، فقوله: (ولا تسأل) جملة حالية دخلت عليها الواو. وهذا الشاهد لا شاهد فيه لعطفه على بشيرًا ونذيرًا فالواو عاطفة، وإنما الشاهد في قراءة ابن ذكوان: {ولا تتبعان} بتخفيف النون. فالنون فيه نون الرفع، وهو خبر لا نهي، والجملة في موضع حال، أي: فاستقيما غير متبعين، أجاز ذلك

الفارسي وغيره، ولم يجيزوا إلا وهو عندهم جائز أن يقع المضارع المنفي بلا حالًا، وإن كان ذلك قليلًا. وأما النفي بما فما قاله في التسهيل من امتناع دخول الواو عليه فيه نظر، فإنها إذا دخلت على المنفي بلا، وهي تدخل على المستقبل، فأولى أن تدخل على المنفي بما؛ لأنها خاصة بفعل الحال مع عدم القرائن، فقد قال: عهدتك وما تصبوا، وأعد الحصى وما تنقضي عبراتي، فلنظر في هذا الموضع. وأما تركه الكلام على قد فالاعتذار عنه أن رأيه في التسهيل عدم التزامها في اللفظ ولا في التقدير، كمذهب الكوفيين والأخفش، ورد على من قال بالتزام ذلك- وهم جمهور البصريين- بأن الأصل عدم التقدير، فالقول به دعوى، ولأن وجود (قد) مع الفعل المشار إليه لا يزيده معنى/ على ما يفهم به إذا لم يوجد، ومن حق المحذوف المقدر ثبوته أن يدل على معنى لا يدرك بدونه. فإن قيل: إنما تدل على التقريب. قلنا: دلالاتها على التقريب مستغنى عنه بدلالة سياق الكلام على الحالية كما أغنى عن تقدير السين وسوف- سياق الكلام في مثل {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث} بل كما استغنى عن تقدير (قد) مع الماضي القريب الوقوع إذا وقع نعتًا أو خبرًا، وأيضًا فلو كان الماضي معنى لا يقع حاًلا إلا وقبله قد لامتنع وقوع النفي بلم حالًا ولكان النفي بلما أولى منه بذبك؛ لأن لم

لنفي فعل، ولما لنفي قد فعل. وقد حصل بهذا كله الجواب عن توجيه تقديرها إذا لم توجد. وإذا كان مذهبه عدم الاحتياج غليها فلا يلزمه ذكرها لكن يرد عليه ما التزم من إظهارها إذا لم يكن في الجملة ضمير. وقد يُجاب عنه بأن ذلك لا يلزم فقد تقول: آتيك طلعت الشمس. وما الفارق بين أن يعود من الجملة ضمير على ذي الحال أو لا يعود، ففي التزام ما قال هناك نظر. وأما ما ذهب إليه ابن خروف فلم يرتضه الناظم بل رده بالشواهد المتقدمة الدالة على خلاف ما ذهب إليه. هذا ما يمكن في البحث من المقال في الجواب عن ذلك الاعتراض. والحق أنه إنما أتى فيما عدا الجملة المصدرة بالمضارع المثبت بحكم جملي أكثر يصح إذا أخذت المسألة مأخذ الناس؛ إذ غالب الناس لم يُفصلوا ذلك التفصيل كله، وكثير منه غنما [هو] استقراء من ابن مالك قلما تجده كذلك لغيره. وقد تقدم من كلام الزمخشري والجزولي، وابن عصفور، وغيرهم ما يشير إلى نحو مما ارتكب هنا. وذلك كاف في مثل هذا المختصر. فإن قيل: فكان الأولى ألا يعترض لهذه الإشكالات وأن تجتنب تلك الإيرادات التي يغلب على الظن أن الناظم لم يقصدها حتى يقصر من هذا التقييد ما استبان طوله، ويكتفي بحاصل ما نص عليه خاصة. فالجواب: أن القصد في الشرح غير ما ذكرت، وهو استيعاب ما يسر الله من الكلام على ألفاظه وما احتملته بمنطوقها أو مفهومها، وتفصيل مجمل ما ذكر لتتضح معانيه وتكثر مسائله، وتعظم الفائدة به، ويكون عونًا للناظر على التهدي إلى النظر والبحث والاستنباط وفي غيره مما يحتمل ذلك النظر، ولا يكون تعسفًا على مقصده. ونحن نعلم أن ابن مالك في كتبه مما يقصد في وضع

الألفاظ وضبط القوانين، والتحرز من الاعتراض، والتوقي من تداخل القواعد، وانكسار الأصول ما لا يقصده غيره، وقد ظهر بما تقدم من ذلك ما يُستحسن ويُستملح، ويُنشط الكسل، ويُنهض العزائم في النظر في هذا النظم خصوصًا، وسيأتيك من ذلك ما تقر به عين المنصف من مفيد ومستفيد بحول الله. وقوله: (وجملة الحال سوى ما قدما) / مبتدأ خبره (بواوٍ) وما بعده معطوفات. و (سوى) منصوب على الاستثناء. والحال قد يحذف ما فيها عمل .... وبعض ما يُحذف ذكره حظل هذه مسألة من أحكام العوامل في الحال، وهو المحذوف، فبين أن عامل الحال قد يُحذف في بعض المواضع كما يُحذف عامل غيره كعامل المفعول به، والعامل في خبر المبتدأ، وهو المبتدأ، ومن شأن العرب الحذف اختصارًا إذا استطالت الكلام، فهو من جملة تصرفاتها في الكلام، ثم إن الناظم هنا ترك بيان أمور: أحدها: أنه لابد من أن يكون على المحذوف دليل، فربما يوهم ذلك أن هذا العامل يجوز حذفه وإن لم يكن عليه دليل، كما قد يوجد بعض المحذوفات لا دليل عليه. والثاني: أن عامل الحال قد يكون فعلًا، وقد يكون صفة، وقد يكون حرفًا من الحروف المشربة معنى الفعل، أو من الأسماء الجامدة التي أشربت معنى الفعل، فلم يبين ما الذي يحذف من هذه الأمور، وقد يتوهم أنه مستعمل في هذه الأنواع كلها، أو قد يختص ببعضها، وذلك البعض لم يتعين فيقع الإشكال. والثالث: أن هذا الحذف يمكن أن يكون قياسًا كله أو سماعًا كله أو يكون بعضه قياسًا ويعضه سماعًا. وهو قد أطلق هنا القول بقلة الحذف على الجملة، ولم يحصل تصريح بقياسٍ ولا سماع، فقد يُوهم إطلاقه أمرًا لم يقصده الناظم.

فهذه مواضع كان الأولى بها بيانها، والظاهر أنه لم يفعل، وقد يقال: إنه وإن لم يُصرح فقد أشار وقصد البيان. أما الأول، فإن قاعدة الحذف أنه لا يحذف إلا ما دل عليه لدليل، ولو عدم الدليل لم يجز الحذف. أما بالنسبة إلى الكلام المنقول عن العرب فإن إدعاء الحذف في موضع لا دليل فيه تحرص على الغيب، وأيضًا إذا قصدت البيان ثم لم تدل على المحذوف لكان نقص الغرض. وأما بالنسبة إلينا أيها القائسون فإن الحذف من غير دليل ليس من كلام العرب، وأيضًا إذا لم يجعل على المحذوف دليلًا فهو غير مخبر به، ولا عنه فليس بمحذوف في الحقيقة، إذ المحذوف ما جُعل له في الكلام اعتبار ومنزلة، وما لم يدل عليه ليس كذلك أصلًا، فمدعي الحذف من غير دليل مدع لما لا برهان عليه، ومن عادة الناظم ألا يذكر الحذف إلا مع التنبيه على الدليل عليه. كقوله: * ولا تجز هنا بلا دليل * إلى آخره. وقوله: * ويحذف الناصبها إن عُلما * أو شبه ذلك. وإنما ترك ذكره في المفعول به الذي ليس أصله المبتدأ والخبر؛ للزوم الدليل عليه، فكذلك ترك التنبيه هنا عليه علمًا بتلك القاعدة لتقدم ذكرها مرارًا.

وأما الثاني، فإن القاعدة أن الحذف نوع من أنواع التصرف، وأصل /252/ التصرف إنما هو للفعل حسب ما تقرر في غير موضع، فالفعل/ إذًا أول ما يدعى أنه المحذوف، وأيضًا فإن أصل العوامل الفعل، وإنما عمل غيره بالتشبيه به- أعني عوامل الأسماء في الغالب- فإذا كان ثم عامل محذوف فأول سابق إلى الذهن أنه الفعل، فالمحذوف إذا هنا الفعل لا غيره. إن قلت: فإن اسم الفاعل أيضًا قريب الفهم فلمدع أن يدعي أنه المحذوف. فالجواب: أنه ما قرب إلا من جهة فهم الفعل به، فالفعل إذًا سبق للذهن فلا يدعى خلافه، فلأجل هذا ترك الناظم تعيين الفاعل المحذوف، وأيضًا فإن الفعل في باب العمل أكثر دورًا في الكلام فقد صارت له أصالة في العوامل التي تؤدي معنى الفعل، فكان هو الأولى بأن يتصرف فيه بالحذف نظيره (أن) في عوامل الأفعال لما كثر دورها في الكلام دون أخواتها صارت هي التي تنوى من بين سائر النواصب التي لم تدر دورها، ولا استعملت استعمالها وهذا ظاهر. وأما الثالث: فإن قول الناظم: (والحال قد يحذف ما فيها عمل) يشعر بالقياس، لأن (قد) في استعماله وإن دلت على التقليل إنما يطلقها في موضع القياس، وإلا فيقول شذ أو ندر أو ما يعطي هذا المعنى. وقد تقدم لذلك نظائر كثيرة. وهذا الإطلاق شامل لما الحذف فيه جائز أو واجب؛ لأنه لما أطلق هذا القول قسم الحذف إلى جائز ولازم، فقوله: (وبعض ما يحذف ذكره حظل) يعني أن هذا الحذف المذكور بعضه لا يجوز ذكر المحذو معه فذكره حظل أي منع فلا ينطق به البتة- وأصل الحظل: المنع من التصرف والحركة، ويقال حظل عليه يحظل وحظله أيضًا يحظله حظلًا وحظلانًا إذا منعه، ومنه حظل الأيم وهو منعها النكاح. قال الراجز:

فلا ترى بعلًا ولا حائلًا ... كهو ولا كهن إلا حاظلا والحظل والحظر يتقاربان معنى- وبعضه يجوز معه ذكر المحذوف. وهذا القسم لم يصرح به لكنه مفهوم من كلامه، ولم يعين للقياس في القسمين موضعًا، فأما الجائز الحذف فلا يحتاج إلى تعيين موضع. وأما اللازم الحذف فله مواضع يقاس فيها لم يعتن الناظم بتعيينها بل اكتفى بالإشارة خاصة، فمثال الجائز قولك للراحل عنك: راشدًا مهديًا، تقديره: تذهب راشدًا مهديًا، دلت قرينة الحال على ذلك. وقولك للقادم: مبرورًا مأجورًا، أي: قدمت على هذه الحال، وللمحدث: صادقًا، أي: تقول ذلك صادقًا، وللمشتكي: محقًا أو مبطلًا، وما أشبه ذلك. وهذا مما حذف فيه العامل لقرينة حالية. وتقول فيما حذف لقرينةٍ لفظية: راكبًا، لمن قال: كيف أتيت؟ [أي: أتيت] راكبًا، لمن قال: كيف أتيت؟ [أي: أتيت] راكبًا، وكذلك قولك: بلى مسرعًا، لمن قال لك: لم تلأتني أو لمن قال: لا تأت فلانًا، ومن ذلك في القرآن {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه. بلى قادرين على أن نسوي بنانه} تقديره: بلى نجمعها قادرين. وقال سويد المرائد الحارئي- من أبيات الحماسة-: /لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعي حي أن فارسكم هوى أجل صادقًا والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولًا أنبط الماء في الثرى

أي: تقول ذلك صادقًا. فهذه المثل، وما كان نحوها يجوز إظهار المحذوف معها وأما الذي يلزم فيه الحذف ولا يجوز الإظهار، فله مواضع: منها: حيث يكون الحال تبين ازدياد ثمن أو غيره شيئًا فشيئًا، أو نقصه كذلك، نحو قولك: أخذته بدرهم فصاعدًا، واشترتيه بدينار فزائدًا، والتقدير: فزاد الثمن صاعدًا، وكذلك تصدقت بدينار فسافلًا، تقديره: فنقص الثمن سافلًا، أو ما أعطيته سافلًا، أو انحط سافلًا، أو نحو ذلك. ومنها الحال السادة مد الخبر في قولهم: ضربي زيدًا قائمًا، وأكثر شربي السويق ملتويًا، وأخط ما يكون الأمير قائمًا، وما أشبه ذلك وقد مر ذكره في باب المتبدأ. وأخطب ما يكون الأمير قائمًا، وما أشبه ذلك وقد مر ذكره في باب المتبدأ. ومنها الواقعة بدلًا من اللفظ بالفعل في التوبيخ كان مع استفهام وهو الأكثر أو بدونه، فالاستفهام، نحو قولهم: أقائمًا وقد قعد الناس؟ وأقاعدًا وقد سار الركب، ؟ وذلك أنه رأى رجلًا في قيام أو قعود فأراد أن ينبهه ويوبخه، فكأنه قد لفظ بقوله: أتقوم قائمًا، وأتقعد قاعدًا، ولكنه حذفه لدلالة الحال على المحذوف، وصار بدلًا من اللفظ بالفعل فلزم ألا يؤتي به مع الاسم، ومثل ذلك قولهم: أتميميًا مرة وقيسيًا أخرى. يقال ذلك لمن هو في حال تلونٍ وتنقل، فكأن التقدير: أتتحول تميمًا مرة وقيسيًا أخرى؟ ، ولكنهم حذفوا الفعل. وحكى سيبويه عن بعض العرب أن رجلًا من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطير، فقال: يا بني أسد: أعور وذا تابٍ؟ فالمعنى: أتستقبلون أعور وذا ناب، وذلك على جهة التنبيه لهم ليحذرهم لا على أنه يستفهمهم عنه. وأنشد سيبويه لهند بنت عتبة:

أفي السلم أعيارًا جفاء وغلظة ... وفي الحرب أشباه النساء العوارك أي أتتلونون وتنتقلون مرة كذا ومرة كذا، فتتحولون في السلم مثل الأعيار- وهي الحمير- جفاء وغلظة وفي الحرب أشباه النساء الحيض جبنًا وضعفًا، وأنشد أيضًا: أفي الولائم أولادًا لواحدةٍ ... وفي العيادة أولادًا لعلات أي: أتتحولون عند الولائم متواصلين، وعند النوائب متقاطعين. ومن ذلك في غير الاستفهام قولك: قاعدًا قد علم الله وقد سار الركب، وقائمًا قد علم الله وقد قعد الناس، يوبخه بذلك، كأنه قال: يقوم قائمًا ويقعد قاعدًا. وقد يدخل تحت المقيس ما كان منه في الدعاء نحو: عائذًا بالله من كذا، تقول العرب: عائذًا بالله من شرها، كأنه رأى شيئًا يتقى فصار عند نفسه في حال استعاذةٍ، وحذف الفعل؛ لأن الاسم بدل منه، كأنه قال: أعوذ بالله من شرها، وأنشد سيبويه لعبد الله بن الحارث رضي الله عنه: ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا/ وعائذًا بك أن يعلوا فيطغوني وتقول على هذا: بريئًا إليك من كذا، ومتوسلًا بكذا على حسب ما يفهم الحال. هذا كله مما يقبل القياس فيدخل تحت كلام الناظم. والله أعلم.

التمييز

التمييز / هذا خو النوع الثامن من المنصوبات التي ينصبها كل فعل متعديًا كان أو غير متعد، وهو آخرها، وذلك التمييز. ولم يأت له بحد أو رسمٍ من حيث هو تمييز، وإنما رسم ما يصح أن يكون تمييزًا، وذلك قوله: اسم بمعنى من مبين نكره ... ينصب تمييزًا بما قد فسره كشر أرضًا وقفيز برًا ... ومنورين عسلًا وتمرا فالاسم هو الجنس الأقرب، إذ لا يكون إلا من جنس الأسماء، ويردي بقوله: (بمعنى من) أنه يفهم معناها، كما يفهم الظرف معنى (في)، والحال معنى (في حال)، ولا يريد أنه يرادف من، كما يرادفها بعض مثلًا، وكما ترادف مذ الاسمية مذ الحرفية، وإنما أراد أنه يفهم منه ذلك المعنى، كما لو لفظ بمن. فإذا قلت: (شبر أرضًا) فهو يفهم معنى: شبر من أرضٍ، وكذلك سائر المثل. واحترز بذلك من الحال، فإنها تصدق عليها ألفاظ الرسم، لكنها لا تنتصب على التمييز لأنها ليست بمعنى (من)، وإنما هي بمعنى: في حال، وكذلك يخرج له الظرف بهذا التقدير. فإذا قلت: زيد أمامك، فهو في تقدير: زيد في هذا المكان. وإذا قلت: زيد في الدار قاعدًا، فمعناه في حال قعود، فليسا بتمييز.

وقوله: (مبين) يعني أنه يبين غيره ويفسر ويوضحه وكذلك التمييز؛ إذ هو مبين لما استبهم من الذوات، كما أن الحال مبينة لما استبهم من الهيئات، فيفترقان في أن الحال مبينة للهيئات، والتمييز مبين للذات، ويجتمعان في أن كل واحٍد منهما مبين لشيء مستبهم، واحترز بذلك مما قد يجيء في الكلام من الأسماء وفيه معنى (من) لكنه ليس بمبين لغيره ولا مفسرًا، كذنبا في قول الشاعر - أنشده سيبويه -: أستغفر الله ذنبًا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل فإنه يصدق عليه أنه اسم بمعنى (من)، ولم ينتصب على التمييز، لأنه لم يقع هاهنا مبينًا لشيء غيره، وإنما وقع في الكلام لأنه المحل المستغفر منه، كما يقع المفعول به في الكلام، ولا يقال في المفعول: إنه مبين ومفسر لغيره، وإن قيل ذلك فعلى معنى تعيين [محل] وقوع الفعل خاصة، وبهذا القيد [أيضًا] يخرج له اسم لا العاملة عمل إن؛ إذ كان اسمًا بمعنى من؛ لأن معنى قولك: لا رجل في الدار، لا من رجٍل في الدار، من حيث كان نفيًا لقولك: هل من رجٍل في الدار؟ وقد نطق به الشاعر فقال: فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال: ألا لا من سبيٍل إلى هند

وأيضًا هو نكرة؛ إذ لا تعمل لا إلا في نكرٍة، فكان يدخل عليه هنا، فأخرجه بقول (مبين) لأن اسم لا ليس بمبيٍن ولا مفسٍر لشيء. وقوله: (نكرة) يعني أن التنكير من وصف الاسم الذي يصح انتصابه على التمييز، فلا يكون معرفًة قياسًا. وهذا مذهب البصريين. وذهب/ الكوفيون إلى جواز تعريفه. والصحيح ما أشار إليه الناظم من لزوم التنكير بالقياس والسماع. أما القياس: فإن التمييز إنما وضعه أن يكون بيانًا لما استبهم، وهذا المعنى يمكن مع التنكير، وإذا كان كذلك فالعدول إلى التعريف من غير حاجٍة إليه تكلف تأباه حكمة العرب، وأيضًا فإن التمييز لم يوضع ليخبر عنه أصلًا، والتعريف إنما يدخل الاسم من حيث تحصل الفائدة بالإخبار عنه، فما لا يخبر عنه لا حاجة إلى تعريفه، ولذلك لم يصح تعريف الأفعال، وأيضًا هو تفسير لمبهم، فلم يحتج إلى التعريف قياسًا على الحال، وأيضًا لو صح تعريفه لصح إضماره، لكن إضماره لا يصح ولم يأت في كلامهم - أعني مضمرًا - فثبت أنه لا يصح تعريفه. فإن قيل: القياس إنما يصح إذا عضده السماع، والسماع موجود بخلاف ما زعمتم، فقد قالت العرب: "غبن فلان رأيه، ووجع بطنه ورأسه". وفي القرآن: {إلا من سفه نفسه}. وفي الحديث: (تهراق

الدماء). وجاء من كلامهم: قبضت الخمسة عشر الدرهم. وحكى الكسائي: هو أحسن الناس هاتين، يريد عينين. وأنشد السيرافي: رأيتك لما أن عرفت جلادنا ... رضيت وطبت النفس يا بكر عن عمرو وقال الآخر: أيجمع ظهري وألوي وأبهري ... ومال الصحيح ظهره كالأدبر وقال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان: إلى ردحٍ من الشيزى ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد

وأيضًا قالوا: مررت برجٍل حسٍن وجهه، والسماع بمثل هذا كثير، فدل على أن التعريف في التمييز جائز. فالجواب أن يقال: إن ما فيه الألف واللام عندهم - أعني البصريين - محمول على زيادة الألف واللام، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في باب المعرفة بالأداة. وأما الإضافة: فهو عندهم على تضمين الفعل غير المتعدي، معنى فعٍل يتعدى، أو على إسقاط الجار، فكان التقدير في: غبن في رأيه أو جهل رأيه، وكذلك سفه نفسه ووجع بطنه، أي من بطنه، أو عرف ذلك شذوذًا. وأما هاتين: فإما على نية التنكير كقولهم: * ولا أمية بالبلاد * وإما على حذف الجار، كأنه قال: هو أحسن الناس بهاتين، أي زاد حسنه على الناس بعينيه. قال الفارسي. وأيجمع ظهري، كغبن رأيه، وإنما احتاجوا إلى تأويل ذلك كله لأنهم وجدوا عامة كلام العرب في التمييز على أن يكون منكرًا، ولو جاز تعريفه عند العرب لكانوا خلقاء أن يستعملوه كذلك كثيرًا شائعًا، فلما لم يكن كذلك دل على قصدهم للتنكير، وأن ما عداه راجع إلى ما يعرض لهم من الشذوذات الخارجة عن معتاد كلامهم. فإذا تقرر هذا، فاشتراط الناظم التنكير في الاسم الذي ينصب على التمييز صحيح بناء على الاصطلاح البصري، وعلى هذا يكون قولهم: مررت برجٍل حسٍن وجهه، منصوبًا على التشبيه بالمفعول به لا على التمييز. والذي حصل من

أوصاف ذلك الاسم الخاصة بصحة نصبه تمييزًا ثلاثة: أن يكون بمعنى (من)، مبنيً نكرة. ويرد عليه السؤال في هذا التعريف/ من أوجٍه أربعة: أحدها: أن التمييز على ضربين: ضرب يكون بمعنى (من) كما قال، كأمثلته التي مثل بها في قوله: (كشبٍر أرضا) وما بعده. وضرب لا يكون كذلك، وهو المنقول من الفاعل وما أشبهه نحو: طاب نفسًا، وكرم أبًا، وسفه نفسًا، وقررت عينًا، وما أشبه ذلك، وكذلك ما انتصب من النكرات في باب الصفة المشبهة نحو: مررت برجٍل حسٍن وجهًا، وكذلك مع أفعل التفضيل نحو: أنت أعلى منزلًا، فليس التمييز في هذه المواضع بمعنى (من) البتة؛ ولذلك لا تقول: طاب زيد من نفٍس، ولا أنت أعلى من منزل، كما تقول: قفيز من بر، وشبر من أرٍض، فاقتضى كلام الناظم هنا أن هذه النكرات التي هي فواعل في المعنى لا تنصب على التمييز، وذلك غير صحيح، فقد جعلها في الباب نفسه مما ينصب على التمييز، فهذا فيه ما ترى. والثاني: أن (من) التي تضمن التمييز معناها هي الجنسية لا غيرها. والناظم قد أجمل الأمر فيها، فلم يبين من أي قسٍم هي من أقسام (من) المذكورة في باب الجر، فقد تشتبه بمن التي لابتداء الغاية، أو للتبعيض، أو غير ذلك من أقسامها، فلا يحصل المقصود من التعريف مع الإبهام والإجمال. والثالث: أنه يدخل له التابع إذا كان مميزًا في المعنى كقول الله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا}. فأسباط ليس بتمييز؛ إذ لو كان تمييزًا لكان سبطًا، مفردًا؛ لأن مميز ما فوق العشرة مفرد منصوب، فدل على أن أسباطًا ليس إلا تابعًا لقوله: (اثنتي عشرة) تبعية البدل. وعلى ذلك

أيضًا جاء قوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين} في قراءة تنوين مائٍة، وهي لغير حمزة والكسائي، فيوهم أن أسباطًا وسنين منصوبان على التمييز، وكذلك ما كان نحوهما مثل: قبضت أحد عشر دراهم، وستة عشر دنانير، وعشرة أثوابًا، وأشباه ذلك، وهو مخل بالقصد. والرابع: أنه يدخل عليه تابع اسم لا إذا كان منصوبًا نحو: لا رجل عاقلًا؛ لأن حكمه في تقدير معنى (من) حكم متبوعه، وهو أيضًا مبين صفة الرجل، فتناوله الرسم، وليس بمنصوب على التمييز أصلًا. وهذه الأشياء الثلاثة الأخيرة قد تحرز منها في التسهيل؛ إذ حد التمييز فقال: "وهو ما فيه معنى (من) الجنسية من نكرٍة منصوبٍة فضلٍة غير تابٍع" وبين مقصده في الشرح بما ذكر أن التحرز منه واجب. والجواب: أما الأول فوارد عليه هنا وفي كتاب "التسهيل"، وقد حد الناس التمييز، فلم يقيدوا هذا التقييد الذي لا يشمل إلا أحد قسميه فقال ابن الضائع: هو الاسم النكرة المنتصب بعد تمام الكلام أو بعد تمام الاسم بيانًا لما انبهم من الذوات. وقال بعضهم: الاسم النكرة المنصوب المبين لما انبهم من الذوات. وقيل غير ذلك مما لم يذكر فيه التقييد بمعنى (من).

فالحاصل أن الناظم حد بعض ما ينتصب على التمييز، فأخرج بذلك غيره عن أن يكون نصبه على التمييز، وقد كان يمكن الاعتذار بأنه يمكن أن لم يلتزم النصب على التمييز في نحو: سفه نفسًا، وحسن وجهًا، وأن يجعل نصبه على المفعول به، كما يعرب: مررت برجٍل حسٍن/ الوجه، وحسن وجهه كذلك، ويكون مخالفًا للنحويين في مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم لولا أنه نص على أن مثل: طب نفسًا، وأنت أعلى منزلًا تمييز، فلم يمكن اعتذار عنه بذلك. وأما الثاني: فإنه لم يحتج إلى تقييد (من) بالجنسية؛ لأن غاية ما في ذلك أن تحرز به من قوله: * أستغفر الله ذنبًا لست محصية * وهذا النوع قد خرج عنه بقوله: (مبين)، إذ ليس (ذنبًا) بمبيٍن غيره كما تقدم. فقوله: (مبين) قام مقام تقييد (من) بأنها الجنسية. وأما الثالث: فإنه لم يحد التمييز نفسه، وإنما حد ما يصح انتصابه على التمييز، فالتوابع المعترض بها مفتقرة إلى النظر فيها بما حد به فإن اجتمعت فيها الأوصاف المذكورة، صح انتصابها على التمييز حيث يحتاج إليه إذا لم يختص باب من الأبواب المحتاجة إلى التمييز بزيادة شرط كباب العدد، فإن ما فوق العشرة فيه إنما يفسر بواحٍد منصوب، فاختص بزيادٍة على ما عهد في التمييز. وأما غير باب العدد، فانتصاب تلك الأسماء المذكورة فيها على التمييز جائز، كقولك: هو أكثر الناس دراهم أو ثيابًا، وهو أكثر الناس سنين، وما أشبه ذلك، فكان {أسباطًا} يمكن فيه هذه الأوصاف، إذ هو اسم بمعنى

(من) مبين نكرة، أي يصلح لمعنى (من) وإذا أمكن اجتماع الأوصاف فيه صح انتصابه على التمييز، فقلت: هم أكثر الناس أسباطًا، لكن لما كان فوق العشرة، إنما يقع التمييز فيه مفردًا لم يصلح أن يعد في الآية تمييزًا، وإن أمكن فيه معنى (من)، فأول على غير التمييز، وجعل بدلًا، فشرط الإفراد في {أسباطًا} يختص بباب العد، وليس مشترطًا في كون التمييز تمييزًا، فبان الاعتراض على الناظم بهذا. وأما الرابع: فإن تابع اسم لا ليس بمضمن معنى (من) بل اسم لا هو المضمن إن فرض - وإن قدر كذلك، فمن حيث هو تابع لما فيه ذلك المعنى مجازًا لا حقيقة. وبيان ذلك أن تضمن معنى (من) إنما جاء من جهة قصد عموم النفي، وهو إنما توجه على الاسم لا على التابع؛ لأن التابع إنما قصد فيه قصد التبعية لا قصد عموم النفي، ومن ثم كان التابع لا يقتصر به على منفي دون موجٍب، ولا على نكرٍة دون معرفة، ففي الحقيقة لم يتضمن معنى (من) فلا يصح الاعتراض به، وهذا كله على تسليم أن (من) المقدرة في اسم لا هي الجنسية، وأما إذا لم يكن كذلك فالاعتراض ساقط من أصله، وقد تقدم الكلام في دخول اسم لا في الحد أو عدم دخوله، فإذا كان اسم لا قد خرج عن الحد بقوله: (مبين) فصفته أولى ألا تدخل فيه. وأما إتيانه في التسهيل بقوله: (غير تابع) ليخرج صفة اسم لا، فإنه لما أخرج اسم لا بقوله: (فضلة) بقي التابع لأنه فضلة في الحكم، فأخرجه بقوله: غير تابٍع، وكان اسم لا داخلًا عليه في قوله: ما ضمن معنى (من) الجنسية حتى أخرجه بقوله: فضلة. وهذا كله غير محتاٍج إليه هنا، ولو لم يأت

بهذا القيد في التسهيل لم يحتج إليه؛ إذ ليس في التابع معنى (من) الجنسية لما ذكر، فأحرى ألا يحتاج إليه ها هنا وقوله: (ينصب تمييزًا بما قد فسره) هو خبر المبتدأ الذي هو (اسم) ويعني أن الاسم الموصوف/ بهذه الأوصاف المذكورة يصح أن ينصب على التمييز بخلاف ما لم تجتمع فيه هذه الشروط، فإنه لا ينصب على التمييز، فما ليس بمعنى (من) لا ينصب تمييزًا كالحال، والظرف، وما ليس بمبيٍن كذلك لا ينصب هذا النصب كاسم لا، وما ليس بنكرٍة لا ينصب هذا النحو من النصب كالوجه في حسٍن الوجه، وسفه نفسه، وغبن رأيه، وما أشبه ذلك؛ بل إن نصبت فعلى غير التمييز مما تقدم ذكره في أبوابه، أو على التشبيه بالمفعول به، أو غير ذلك، وكان هذا تقرير لاصطلاح مقرٍر لاصطلاح مقرٍر عند النحويين، وهو أن المنصوب على التمييز إنما هو عندهم هذا الموصوف، وعند هذا لا يعترض بما اعترض به أهل الكوفة؛ وذلك أن الاعتراض على الاصطلاح لا يسمع، وقول النحويين: إن التمييز لا يكون إلا نكرة، معناه أن التمييز عندنا عبارة عن المفسر الذي لا يكون إلا نكرة، فإذ كان معرفة لم يكن عندهم تمييزًا في الاصطلاح، فلا ينبغي أن يعترض على من التزم هذا بأن التمييز قد يأتي معرفة، فإنه يقول: إني لم أصطلح على أن أسمي المعرفة تمييزًا، وينبغي أن يقال لمن اعترض بهذا: التمييز عندك لا يكون إلا منصوبًا، وهو منتقض عليك بقولهم: ثلاث أبواٍب، ومائة درهٍم، فإن أثوابًا ودرهمًا تمييز، وهو غير منصوب. فإن قال: إنهم لا يسمون هذا تمييزًا. قيل له: وكذلك أيضًا لا يسمون المعرفة تمييزًا، فأي فرٍق بين الموضعين. وقوله: (بما قد فسره) متعلق بينصب، ويريد أن الناصب لهذا التمييز الكلام الذي قد فسره التمييز أو الاسم الذي قد فسره، وذلك أن التمييز على قسمين:

قسم ينتصب عن تمام الكلام نحو: طاب زيد نفسًا {واشتعل الرأس شيبًا} وقسم ينتصب عن تمام الاسم (كشبر أرضًا) ورطٍل زيتٍا. فالأول يعمل فيه الفعل، لأنه مفسر به بوجٍه ما. ألا ترى أن الفعل بالنسبة إلى من أسند إليه غير بين، كما أن المسند إليه بالنسبة إلى الفعل غير واضٍح، فصار نفسًا في قولك: طاب زيد نفسًا، مفسرٍا للطيب بالنسبة إلى زيٍد بوجه وبوجه للنسبة الحاصلة بين زيٍد والطيب، أو لمحل تلك النسبة، وهو زيد، فعلى هذا ينبغي أن يفهم قوله (بما قد فسره) بالنسبة إلى مميز الجملة، إذ كان قد يشمل القسمين معًا مميز الجملة ومميز المفرد، وإنما كان ذلك لأن أصل الكلام على غير ذلك الوضع؛ إذ كان أصل قولك: طاب زيد نفسًا، طابت نفس زيٍد، ثم نسب الفعل إلى زيٍد والمراد نفسه مبالغة، فلما أسند الفعل إلى زيٍد، وأريد بيان ذلك المعنى المقصود أتوا بالنفس منصوبٍة؛ إذ لم يمكن رفعها لوجود المرفوع في اللفظ وأشبهت المفعول به من جهة مجيئها بعد تمام الكلام، فانتصب على التشبيه بالمفعول به، وخصوها باسم التمييز حين كانت نكرة، وخصوا ما كان معرفة بالتشبيه فرقًا بينهما، وإلا فكل واحد منهما منصوب على التشبيه. وعلى هذا الحد انتصب شيبًا في {اشتعل الرأس شيبًا} وسائر ما جاء من ذلك. وأما/ القسم الثاني: وهو ما انتصب عن تمام الاسم، فالعامل فيه ذلك الاسم فقوله: (شبر أرضًا) الناصب لأرضًا قولك: (شبٍر) تشبيهًا له بضارب إذا قلت: ضارب زيدًا. وذلك أنك إذا قلت: عندي شبر، فليس التمييز لهذا المقدار نفسه؛ بل للمقدر به، فالمعنى عندي قدر شبٍر، فلما استبهم القدر فسر،

وهو في التقدير مضاف إلى المقدار، فينبغي ألا يضاف إلى المفسر الذي هو (أرضًا) لأنه قد أضيف قبله إلى المقدار، فلما اقتضاه ولم تمكن إضافته إليه؛ إذ هو قد تم بما أضيف إليه أشبه الصفة المشبهة باسم الفاعل، فنصب ما بعده على التشبيه. ويسمى تمييزًا كما تقدم، فهذا معنى كونه ناصبًا له، وكذلك تجري سائر المثل المنتصبة عن تمام الاسم. ثم تأتي بأمثلٍة من التمييز لكن مما هو منصوب عن تمام الاسم فقال: (كشبرٍ) أرضًا) إلى آخره، وهي ثلاثة كلها مميز للمقدار. والمقادير أربعة: مقدار المساحة، ومقدار الكيل، ومقدار الوزن، ومقدار العد. فقوله: (كشبرٍ أرضًا) من مقدار المساحة، وقوله: (وقفزٍ برًا) من مقدار الكيل. وقوله (ومنوين عسلًا وتمرًا) من مقدار الوزن. وبقي المقدار الرابع لم يأت له بمثال، وكان حقه أن يأتي به؛ لأنه قصد بهذه الأمثلة بيان أنواع المقدار، وهو مقدار العد نحو: عشرين درهمًا، وخمسة عشر ثوبًا وكأنه ترك ذكره لبابه. ومن الأول قولك: عندي ذراع ثوبًا، وما في السماء موضع راحٍة سحابًا، ومن الثاني قولك: عليه نحي سمنًا، وهذا راقود خلا. ومن الثالث: {فمن يعمل مقال ذرٍة خيرًا يره ومن يعمل مثقال درٍة شرًا يره}. فتكثير الناظم المثل إشعار بأنواع المقادير. وأيضًا فإن فيها إشارة إلى ما به تمام الاسم، وذلك أن الاسم الذي ينتصب بعده التمييز لا يكون إلا تامًا، ومعنى تمامه أن يكون فيه تنوين أو نون تشبهه، وهي نون التثنية والجمع، وما جرى مجراهما، وما يعاقب التنوين وذلك الإضافة، والألف واللام، فالتنوين في قوله: (كشبرٍ أرضًا وقفيزٍ برًا) والنون التي

تشبهه في قوله: (منوين عسلًا وتمرًا). وأما الإضافة والألف فنحو: لله دره فارسًا، {وملء الأرض ذهبًا} وما فعل الشبر أرضًا والذراع ثوبًا. وقد نبه على الإضافة بعد، وترك ذكر الألف واللام؛ لأنه قليل في الاستعمال وأكثر ما يستعمل في العدد، وسيأتي ذكره هنالك. فأما إن كان الاسم غير تام فلا بد من الإضافة، نحو: شبر أرٍض وقفيز بر ومنوى عسٍل وتمٍر، وسيأتي ذكره. وإنما جرى الحكم هكذا لما ذكر من تشبيه الاسم هنا بالصفة كضارٍب وحسٍن، فكما تنصب ما بعدهما إذا نونتهما، وما بعد ضاربين وحسنين إذا ثبا نونهما، وتخفض بالإضافة إذا حذفتهما كذلك تفعل في هذا الباب. والشبر: معروف. والقفيز: مكيال يقدر بثمانية مكاكيك، والمكوك: ثلاثة كيلجاتٍ، والكيلجة: منا وسبعة أثمان منا، / والمنا: مفرد المنوين، وهو رطلان وهو المن أيضًا. ثم قال: وبعد ذي ونحوها اجرره إذا ... أضفتها كمد حنطٍة غذا (ذي) إشارة إلى الأمثلة المتقدمة الذكر، وهي أن هذه الأمثلة وما كان نحوها مما انتصب بعد تمام الاسم بالتنوين أو بالنون التي تشبهه لك فيها وجه آخر من الإعراب غير النصب على التمييز، وهو الجر بالإضافة، وذلك إذا حذفت ما به التمام، ثم أضفتها إلى ذلك المنصوب فتقول: ما حنطٍة وكان الأصل فيه على ما تقدم مد حنطًة، لأنه مثل قوله قفيزٍ برًا، لكن لما حذفت التنوين أضفت فقلت: مد حنطٍة، وعلى هذا تقول: شبر أرٍض، وقفيز بر، ومنوا عسل وتمر،

وراقود خل، ونحي سمن، وما أشبه ذلك. فقوله: (إذا أضفتها) يريد إذا أردت إضافتها فأجرر التمييز بالإضافة، فإن الإضافة توجب الجر، أو إذا حصلت الإضافة معنى، فاجرره بسبب حصولها. والحاصل من كلامه أن التمييز في هذه المثل وما كان نحوها يجوز فيه الأمران: النصب المتقدم، والجر بالإضافة. و (غدا) في قوله: (كمد حنطٍة غذا) بدل أو حال. ثم هنا مسألتان: إحداهما: أنه قيد الجر بالإضافة، ولم يقل (وبعد ذي ونحوها أجرره) فيطلق الجر ولا يقيده، وكان ذلك أولى؛ إذ معلوم أن الجر هنا إنما يصح معها، فإنه لا موجب له في الموضع إلا هي، فكان الإتيان به كالفضل غير المفتقر إليه، فيسأل لم أتى به هل تحت ذلك التقييد فائدة أم لا؟ والجواب: أن له فائدة حسنة، وذلك أنه لو لم يقل: (إذا أضفتها) فيقيد بالإضافة لسبق الوهم إلى بقاء التنوين والنون في المميز وجر التمييز بمن المقدرة، وأن يقال: مد حنطٍة، ومنوان سمٍن وتمٍر على تقدير: مد من حنطة ومنوان من كذا، وهذا غير جائز باتفاٍق، فلما قيد بالإضافة زال هذا التوهم، وتبين أن الجر إنما موجبه الإضافة. فإن قيل: هذا التوهم غير متوهٍم، إذ يسبق مثل هذا إلى ذهن نحوي، لأنه ليس بمعهوٍد في القياس عند أحٍد منهم أن يحذف الجار ويبقى عمله في غير رب على خلاٍف في ذلك، ولو توهم ذلك لتوهم مثله في الحال والظرف؛ إذ هما في تقدير في، فكما لا يجب ولا يحسن التحرز من ذلك في الحال والظرف لا يجب ذلك أيضًا هنا. فالجواب: أن في باب التمييز من ذلك ما يقع التوهم به في هذا الموضع

وذلك في موضعين: أحدهما: أنه أجاز بعد الجر بمن ظاهرة بقوله: (وأجرر بمن إن شئت غير ذي العدد) إلى آخره، فلو لم يقيد الجر هنا بالإضافة لتوهم أنه يريد ما قال هناك من الجر بمن ظاهرة وليس ذلك مقصوده. والثاني: أن من التمييز ما يجر بمن مضمرًة لا بالإضافة، وذلك مميز (كم) فإن الجر هناك إذا قلت: بكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ بمن مضمرة عند المؤلف، ذكر ذلك في التسهيل، ونصره في الشرح، / وارتضاه فيهذا النظم فقال في باب (كم): وأجز أن تجره من مضمرا ... إن وليت كم حرف جر مظهرا وكذلك الجر في (كم) الخبرية عند الفراء إذا قلت: كم درهٍم أعطيت؟ بمن مضمرة لا بالإضافة. ويسهل ذلك أن (من) في قوة الظهور، ولذلك تقول: شبر من أرٍض، وقفيز من بر، كما تقول في (كم): بكم من درهٍم اشتريت ثوبك؟ وكم من درهٍم أعطيت؟ فلما كان الأمر كذلك لم ينبغ أن يترك تقييد الجر بالإضافة رفعًا لتوهٍم ربما لحق في الموضع لو لم يقع البيان. والثانية: أن قوله: (ونحوها) إشارة إلى كل ما كان مثل المثل المتقدمة مما كان فيه تمام الاسم بالتنوين أو بالنون المشبهة به، فذلك هو الذي يجوز فيه الجر، لإمكان حذف ما به التمام، فلو تم الاسم بالإضافة لم تجز الإضافة وجر التمييز بها، لأن ذلك لا يمكن إلا مع حذف المضاف إليه الذي به وقع تمام الاسم،

والمضاف إليه لا يحذف كما يحذف التنوين، ولا - أيضًا - تمكن الإضافة مع بقائه، وهذا هو الذي أراد بقوله: والنصب بعد ما أضيف وجبًا ... إن كان مثل "ملء الأرض ذهبا" يعني أن ما كان من الأسماء تمامه بالإضافة، فإن نصب التمييز بعده واجب لا يجوز غيره، لأن الإضافة لا تكون إلا بعد حذف ما به التمام، وحذف ما به التمام هنا لا يصح. فإذا قلت: عندي ملء الإناء عسلًا، فملء تام بالمضاف إليه وهو الإناء، فلو حذفته وأضفت إلى التمييز فقلت: لي ملء عسٍل لاختل الكلام، وكذلك: ما في السماء موضع راحٍة سحابًا. و {من يعمل مثال ذرٍة خيرًا يره}. وأتى هو بمثاٍل قرآني وهو قول الله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا}. وشرط في وجوب النصب بع الاسم المضاف أن يكون ذلك المضاف مماثلًا لـ (ملء) المذكور في المثال في وصفه، وهو ألا يكون أفعل تفضيٍل على الوصف الذي يذكر، فإن كان المضاف أفعل التفضيل فليس النصب فيه واجبًا مطلقًا؛ بل فيه تفصيل، وهو أنه لا يخلو أن يكون التمييز هو ما ينطلق عليه أفعل من جهة المعنى أو يكون غيره، فإن كان غيره فالنصب بلا بد، وهو المذكور في البيت الآتي على إثر هذا، وإن كان إياه، فمفهوم هذا الكلام أن الوجهين فيه جائزان، وذلك أنه ذكر أن النصب بعد المضاف واجب إن كان مثل كذا أو كان المضاف أفعل تفضيٍل ليس هو التمييز في المعنى، فاقتضى أن ما سوى هذين القسمين لا ينحتم فيه النصب ولا يجب، فدخل له هنا أفعل التفضيل إذا كان هو التمييز في المعنى، فكأنه جعل التمييز من المضاف كالتمييز

من غير المضاف إلا في موضعين: أحدهما: ما كان مثل {ملء الأرض ذهبًا}. والآخر: ما كان مثل: أنت أعلى منزلًا، فما سواهما يجوز فيه النصب والجر، ومثال ذلك قولك: زيد أفره الناس عبدًا، وهو خير الناس رجلًا، وهما خير الناس اثنين، / وهو أشجع الناس رجلًا على رأي سيبويه، لأن التمييز عنده هو الأول لما مثل بهذين المثالين الأخيرين: "والرجل: هو الاسم المبتدأ والاثنان كذلك، إنما معناه: هو خير رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس". ووجه النصب ظاهر لوجود ما به التمام في اللفظ وهو بالإضافة. وأما الجر: فعلى حذف ما به التمام فتقول: زيد أفره عبد في الناس، وخير رجل في الناس، وهما خير اثنين في الناس، وهو أشجع رجل في الناس. قال سيبويه: "لأن الفارهَ هو العبد ولم تلق أفره ضميرًا خيرًا على غيره، ثم تختص شيئًا، فالمعنى مختلف" يعني أن في أفره ضميرًا يرتفع به وهو الأول. والفراهة له لم تنقل له عن سببي، والمضاف إليه هو المضاف، لأن المعنى: أفره العبيد، فصار هذا مخالفًا لقولك: هو أفره الناس عبدًا، فلما كان المعنى مختلفًا اختلف حكم اللفظ، وفي هذا الكلام بعد مسألتان: إحداهما: أن الإضافة فيما أضيف تارة تكون ظاهرة - وذلك ما فرغ من الكلام فيه. وتارًة تكون مقدرًة، فتجري مجرى الإضافة الظاهرة، كما أن من

التنوين ما هو ظاهر، ومقدر، والمقدر يجري مجرى الظاهر. فإذا قلت: الإناء ممتلئ ماء أو ملآن ماء، أو زيد ممتلئ غضبًا، والإناءان ممتلئان ماء، والزيدون ممتلئون غضبًا، فالظاهر في مثل هذا جواز النصب والجر كالذي فيه التنوين أو النون المشبهة، لكنه لا يجوز فيه إلا النصب لأنه على تقدير الإضافة كأنه في التمثيل ممتلئ الأقطار أو ملآن الأقطار ماء أو غضبًا، وإذا كان كذلك امتنع أن يضاف إلى التمييز وهذا بعينه حكم التنوين المقدر. فإذا قلت: هند شنباء أنيابًا، فقدرت التنوين نصبت ى غير، ولا تضيف إلا مع تقدير طرحه فتقول: شنباء أنياٍب، وهذا داخل تحت إطلاق الناظم بقوله: (بعدما أضيف) إذ يصدق على المقدر الإضافة أنه أضيف. والثانية: أن قوله: (إن كان مثل ملء الأرض ذهبًا) كما يدخل له فيه المقادير المذكورة يدخل له فيه ما أشبه المقادير، وذلك قولك: لي مثله عبدًا، وما في الناس مثله فارسًا، وعلى التمرة مثلها زبدًا، وما كان من المثل والشبه فهو جاٍر مجرى الملء؛ إذ جعل سيبويه جميع ذلك من المقادير، وذلك أن المقدار عام في أنواع، فجيء بالنوع لبيان المقدار المراد، وكذلك إذا قلت: لي مثله، المثل عام في أنواع الصفات كالعبودية والفروسية والشجاعة وغير ذلك، فاستبهم لفظ المثل، فجيء بقولك: عبدًا أو فارسًا أو شجاعًا مفسرًا ذلك كما جيء بقوله (ماًء) مفسرًا لقولك: ملء كذا. ومن ذلك قولك: داري خلف دارك فرسخين؛ لأنه لما قال: خلف دارك علم أن بين الدارين مسافًة، فميزت ذلك بالفرسخين، فصار كقولك: ما في السماء موضع راحٍة سحابًا. وعلى هذا الباب

حمل الشلوبين قول الله تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة}. قال: لأنه تعالى لما قال: {وواعدنا} علم أن / هناك مسافًة في الزمان، فميزت بثلاثين. ثم قال الناظم: والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ... مفضلًا كأنت أعلى منزلا قد تقدم أن التمييز بعد أفعل التفضيل على قسمين: أحدهما: أن يكون هو أفعل في المعنى وهو الذي مر الكلام عليه. والثاني: ما هو غيره، وهو الذي أراد ذكره هنا، فيريد أن التمييز إذا تقدمه أفعل التفضيل وكان في المعنى فاعلًا به، فإنه ينتصب لا غير، نحو قولك: أنت أعلى منزلا، فمنزلا يلزم نصبه لأنه في المعنى فاعل بأفعل، وعلامة ذلك أن تقدر أفعل فعلًا فيكون التمييز فاعلًا به، فإذا سبكت من أعلى فعلًا فقلت: علا - صار (منزلا) مطلوبًا له بالرفع على الفاعلية فتقول: علا منزلك. وعلى هذا تقول: زيد أكثر منك مالًا، وأعز حمى، وأفضل أما، وأحسن وجهًا. هذا إذا كان المميز غير مضاٍف، وكذلك إذا كان مضافًا، نحو: زيد أكثر الناس مالًا وأعزهم حمى، وأفضلهم أما وأحسنهم وجهًا. فهذا الباب ونحوه التمييز فيه فاعل معنى بأفعل؛ إذ التقدير: زيد كثر ماله وعز حماه، وفضلت أمه وحسن وجهه. وإنما لزم النصب هنا لأن أفعل لازم للإضافة أو الفصل بمن، لأن معنى قولك: أنت أعلى منزلًا، أنت أعلى من فلاٍن، أو من الناس، أو أنت أعلى الناس

منزلًا، فلم يصلح أن يحذف ما به التمام وهو المضاف إليه كما تقدم. وأيضًا فإن أفعل هنا المميز غير المميز، فلا تصلح إضافته إليه، إذ لا يضاف أفعل التفضيل إلا إلى ما هو بعضه، والأعلى هنا غير المنزل، فلم يمكن أن يضاف إليه، فلزم النصب كما ترى، وبهذين فارق القسم المتقدم في أفعل، فجازت فيه الإضافة، لأن أفعل هو المميز، فإذا قلت: هو أشجع الناس رجلًا، فأشجع هو الرجل، فجازت إضافته إليه على معنى هو أشجع الرجال، ولم يكن ثم فضل بمن ولا بإضافٍة. وأيضًا لما كان أفعل هنا متضمنًا لمصدر الفعل وزيادته ومشعرًا به، فإن معنى قولك: أنت أعلى منزلًا من زيد، علو منزلك يزيد على علو منزله، كان بمنزلٍة الفعل الذي تضمن المصدر والزمان، فلم يضف، كما لم يضف الفعل؛ ولذلك أيضًا منع أفعل التثنية والجمع والتعريف لما لم يكن ذلك في الفعل. وقول الناظم: (انصبن بأفعلا) يعني انه انتصب عن تمامه، فهو العامل فيه. وقوله: (كانت أعلى منزلا) مثال معين لما يقع من الأسماء تمييزًا مما هو فاعل معنى، وذلك أن كل ما كان من سبب الأول، كما تقدم من الأمثلة؛ إذ هو الذي يصح أن يصاغ منه فعل وفاعل، هما خبر عن المبتدأ المتقدم ويستقيم الكلام به، فلو قلت: زيد أفضل رجلًا، والرجل ليس الأفضل في المعنى، لم يصح، لأن رجلًا ليس من سبب الأول، فلا يستقيم أن يقدر منه كلام فيه فعل وفاعل يكون خبرًا عن زيٍد، فلا تقول: زيد فضل رجل./ قال سيبويه لما ذكر الأمثلة: "ولا يكون المعمول فيه إلا من سببه" وإنما قال (مفضلًا) فقيد به أفعل، ولم يقتصر على قوله: (بأفعل) لأن ما ذكر من الحكم لا يكون إلا لأفعل المراد به التفضيل، فلو كان أفعل لا يراد به التفضيل، لم يلزم النصب كقولك: زيد أحمر أبًا، وأحمر

أبٍ وأشنب أنيابًا وأشنب أنياٍب، وفلان أشعر جسدًا وأشعر جسٍد، على حد قولك: زيد حسن وجهًا وحسن وجٍه لأن (أفعل) هنا من الصفة المشبهة. و(مفضلًا) حال من فاعل (انصبن) و (الفاعل) مفعول به. وأصل الكلام: وانصب التمييز الفاعل معناه بأفعل حالة كونك مفضلًا به أو حالة كونك مفضلًا، كأنه ينسب التفضيل إلى (أفعل) لما كان التفضيل به يكون، وإنما نسب الفاعلية إلى المعنى مجازًا، ومراده الفاعل في المعنى. والله أعلم. وبعد كل ما اقتضى تعجبا ... ميز كأكرم بأبي بكٍر أبا (بعد) متعلق بميز، يعني أن من المواضع اللازم فيها النصب أن يقع المميز بعد كل ما يقتضي معنى التعجب، وما يحصله من أنواع الكلام، وذلك أن ما يؤدي معنى التعجب على قسمين: أحدهما: يرجع إلى القياس، وإلى الأبنية الخاصة به، وذلك ما أفعله وأفعل به وفعل الجاري مجراهما. والثاني: ليس داخلًا تحت قانون القياس؛ بل يأتي في الكلام في مواضع يوقف عليها، وكلا القسمين داخل تحت (كل) في قوله: (وبعد كل ما اقتضى تعجبا). فأما الأول فنحو ما أتى به من قوله: (أكرم بأبي بكر أبا) فـ (أبًا) منصوب على التمييز من أبي بكر، ومن مثل سيبويه: أكرم به رجلًا. وعلى هذا تقول: ما أكرم زيدًا أبًا! وما أحسن زيدًا فارسًا! وفي التنزيل الكريم: {ساء مثلًا القوم الذين كذبوا بآياتنا} وقوله: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} وقوله:

{وساءت مرتفقا}. {وحسنت مرتفقا}. وهو كثير. وأما الثاني: فنحو قولك: ويحه رجلًا، ولله دره رجلًا، وحسبك به رجلًا، ولله دره فارسًا. وأنشد سيبويه لعباس بن مرداس: ومرة يحميهم إذا ما تبددوا ... ويطعنهم شزرًا فأبرحت فارسا وأنشد أيضًا للأعشى: تقول أبنتي حين جد الرحيل ... أبرحت ربًا وأبرحت جارًا وأجاز الفارسي أن تكون جارة من قول الأعشى: بانت لتحزننا عفاره ... يا جارتا ما أنت جاره تمييزًا لجواز دخول من عليها لأن ما استفهام على معنى التعجب، فجارة يصح أن يقال فيها: (ما أنت من جارة). كما قال الآخر:

يا سيدًا ما أنت من سيد ... موطأ الأكناف رحب الذراع ومن ذلك قولهم: لا كزيٍد فارسًا، أراد: لا فارس كزيٍد، فلما حذف الاسم استبهم ففسره، وكذلك سائر ما تقدم لما أردت التعجب من المذكور، واستبهم المعنى الذي تمدحه أتيت بما يفسر المراد. ومثل قولك: لا كزيد فارسًا، ما أنشده سيبويه: لنا مرفد سبعون ألف مدجٍج ... فهل في معد فوق ذلك مرفدا فمرفد: تمييز، والأصل: فهل في معد/ مرفد فوق ذلك؟ فلما لم يذكره احتاج إلى تفسيره لاستبهامه، وعلى هذا الحد سائر ما فيه معنى التعجب، كان التعجب فيه قياسيًا أو سماعيًا. فإن قيل: أما إذا كان التعجب قياسيًا، فهذا ظاهر. وأما غير القياسي فمشكل، لأن الناظم جعل نصب المميز ها هنا قياسيًا. وكون التعجب سماعيًا بنافي كون نصب التمييز والإتيان به معه قياسيًا، بل الظاهر أن التمييز معه سماعي أيضًا، وإذ ذاك لا يصح قوله: (وبعد كل ما اقتضى تعجبا). فالجواب: أن هذا غير لازٍم، بل قد يصح أن يكون الكلام سماعًا ويجري القياس في بعض أحواله؛ ولذلك نظائر قد مضى منها بعض ويأتي منها أشياء إن

شاء الله. فمن الكلام الذي يتعجب به (تالله) يستعمل بمعنى ما رأيت مثله أو ما في الدنيا مثله. وقولهم: ما أنت، وويحه ولله دره، ونحوها تستعمل في التعجب على غير قياٍس ولكن منها ما يكون ظاهر المعنى فيما قصدت في التعجب، كما إذا قلت: ما أحسن زيدًا وأنت متعجب من حسنه، أو قلت: وقد ذكر في الفروسية: لله دره! فهذا غير محتاٍج إلى التمييز لظهور القصد، وقد يكون وجه التعجب خفيًا، فتحتاج إلى بيانه. فإذا بينته بتمييز يكون حكمه النصب على ما بين، فيكون معنى القياس أنك إذا تعجبت بلفٍظ لا يقاس وخفي لك وجه التعجب، فجائز أن تفسره بمميٍز على هذا الوجه، ولا تناقض في هذا، وإنما التناقض في كون وجه القياس هو بعينه وجه الوقف على السماع، وليس كذلك؛ لأن القياس في الإتيان بالتمييز، والسماع في اللفظ المتعجب به، فقد ظهرت المباينة بين موضعي القياس والسماع، فلا تناقض. والله أعلم. وقوله: (ميز) معناه انصب المفسر على التمييز حتمًا لازمًا البتة، ويستوي ها هنا المميز المضاف وغيره، كما كان لازمًا في قوله: (والنصب بعدما أضيف وجبا) إلى آخره. فالمسألتان سواء، لأنه لا يصح أن تقول: أكرم برجٍل! ولا: لله در رجٍل! ولا: حسبك برجٍل! ولا ما أشبه ذلك. وقد يحتمل من جهة اللفظ أن يكون معنى قوله: (ميز) ايت بالتمييز إن شئت بعدما اقتضى تعجبا؛ وإنما قال هذا لأن التعجب يقتضي متعجبًا منه، فقد شئت بعدما اقتضى تعجبًا؛ وإنما قال هذا لأن التعجب يقتضي متعجبًا منه، فقد يكون بينًا نحو: ما أشجع زيدًا! وأحسن بزيد! وقد يكون مبهمًا، فإذا قلت: أحسن بزيٍد، أو حسن زيد، وأنت تريد التعجب من شجاعته أو كرمه أو نحو

ذلك لم يفهم ما المتعجب منه، فاحتجت إلى التمييز لتبين ما أردت التعجب منه فقلت: شجاعًا أو كريمًا، كما كان قولك: (عشرون) مبهمًا في المعدودات حتى قلت: درهمًا أو ثوبًا. قال سيبويه: حين تكلم على وجه نصب هذه الأشياء: "ومع هذا أنك إذا قلت: ويحه فقد تعجبت وقد أبهمت من أي أمور الرجل تعجبت وأي الأنواع تعجبت منه، فإذا قلت: فارسًا أو حافظًا، فقد اختصصت ولم تبهم وبينت في أي نوٍع هو". فلما كان للتعجب وجه في الإبهام نص على أن التمييز يقع بعده، ويلزم من ذلك النصب، لأن التمييز لا/ يكون إلا منصوبًا، والظاهر في تفسير كلامه الوجه الأول. وعلى كل تقديٍر فالنصب لازم، لأن التمييز هنا إما من مضاٍف، وإما من مؤوٍل بالمضاف فقولك: لله دره فارسًا في تأويل: ما في الدنيا مثله فارسًا، وكذلك: حسبك به عالمًا وما أحسنه فارسًا. وسائر ما تقدم على هذا التأويل يجري، فيصير المبهم هو المثل وهو مضاف، فلا يمكن فيه الجر. والله أعلم. ثم قال: وأجرر بمن إن شئت غير ذي العدد ... والفاعل المعنى كطب نفسًا تفد يعني أن التمييز يجوز جره بمن ظاهرة، فتقول: لي ملوه من عسل. وهذا راقود من خل، ورطل من زيٍت، ومنوان من عسٍل، وما في السماء موضع راحة من سحاٍب، ولله دره من رجل، وحسبك به من رجٍل. وما أشبه ذلك كله جائز، وإنما جاز لأن التمييز هذا أصله، فهو إذا انتصب إنما ينتصب على تضمين معنى من، فساغ إظهارها والجر بها، ولا يريد بقوله: (واجرر بمن) أن الجر بها جائز وهي مقدرة متضمنة؛ لأن حروف الجر لا يبقى عملها مع عدم ظهورها، وما جاء من ذلك في الشذوذ لا معتبر به،

وإنما يريد: ايت بها في الكلام وجر بها إن شئت ذلك، لكن ليس في كلامه نص على إظهارها، وبذلك يكون كلامه غير محرٍر؛ إذ قد يفهم منه الجر بها مضمرة، لأن من التمييزات ما يجر كذلك، وذلك مميز كم الاستفهامية، إذا أدخل عليها جار نحو: بكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ فدرهم عند الناظم مجرور (بمن) مضمرٍة، نص عليه في بابه، وكذلك قولك: كم غلاٍم أعتقت. في الخبرية، الغلام عند بعض القدماء مجرور (بمن) مضمرة، لأن المعنى في الجميع شاهد من حيث كان معنى (من) مفهومًا ظاهرًا، فقد يقول القائل: هذا كذلك، وليس بصحيح؛ إذ لا يجوز هنا الجر إلا (بمن) ظاهرًة أو بإضافٍة كما تقدم. فعبارة الناظم موهمة. والعذر أنه لو كان قصده الإضمار لبين ذلك، ولا يحتاج إلى بيانه إذا لم يكن إضمار، وذلك أن قاعدة العوامل وأصلها أن تعمل ظاهرًة ملفوظًا بها، فإن عملت وهي مضمرة فذلك عارض لها ليس بأصٍل، ولا بد من التنبيه على ذلك العارض، فعادته وعادة غيره أنه إذا تكلم في العمل لا يحتاج إلى تقييد العامل بكونه ظاهرًا إذا كان باقيًا على أصله، فإن عرض له الإضمار نبه عليه، وكذلك فعل في كم حين بين أن درهمًا في قولهم: بكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ وفي غير ذلك من المواضع التي يضمر فيها الجار، فلما يقيد هنا (من) بكونه مضمرًة، علمنا أنها إنما تعمل على أصلها من الإظهار. وهذا بين. وقوله: (إن شئت) تخيير بين النصب المذكور أولًا والجر، أي أن أحدهما ليس بخارج عن القياس؛ بل هما معًا جائزان قياسًا، فلك الخيرة بينهما في الاستعمال إلا في موضعين استثناهما:

أحدهما: تمييز العدد، وذلك قوله: (غير ذي العدد) فـ (ذي) بمعنى صاحب، واقع/ على التمييز كأنه قال: غير التمييز صاحب العدد، يعني أن تمييز الأعداد لا يجر (بمن) ظاهرًة أصلًا؛ بل يلزم النصب على التمييز لا غير، فتقول: أحد عشر درهمًا، وعشرون درهمًا، ولا تقول: أحد عشر من درهم، ولا عشرون من درهم ولا ثلاثون من ثوب، ولا ما أشبه ذلك، وإنما كان ذلك لأن (من) إنما تدخل على النوع الذي المميز بعضه، فيحتاج إلى أن يكون ذلك النوع أكثر من المميز. وهذا واضح في: رطل من عسٍل، وراقود من خل، ونحو ذلك، وأما الأعداد فقد عرف مقدارها وعدد أفرادها من لفظها، فبقي حقيقة الإفراد، فاكتفى في ذلك بواحد منها، فلم يصح أن تدخل (من) لأنها جنسية تفيد أن ما دخلت عليه جنس لبعٍض تقدم قبلها، فإذا كان العدد على خلاف ذلك لأن الدرهم بعض مما قبله، لم يصح دخولها لما يلزم من عكس القضية، وهو أن يكون ما تدخل عليه وهو التمييز بعض المميز، وذلك خلاف ما عليه الأمر في (من) الجنسية بخلاف: رطل من عسٍل، فإنه على القاعدة الظاهرة. بهذا علل المسألة بعضهم، وفيه نظر، فإن درهمًا إنما المراد به الجنس لا درهم واحد. والموضع الثاني: التمييز الذي هو فاعل من جهة المعنى، وذلك قوله: (والفاعل المعنى) وهو معطوف على (ذي) أي: غير ذي العدد وغير الفاعل المعنى، يعني أن التمييز الذي هو فاعل في أصل المعنى لا يصح أن تدخل عليه (من)، نحو قولك: زيد أكثر مالًا، وأعز نفرًا، فمالًا ونفرًا فاعل في المعنى، والمراد: زيد كثر ماله وعز نفره، وكذلك: زيد أطيب نفسًا، ومثله الناظم بقوله: (طب نفسًا) أي لتطب نفسك، فلا يجوز ها هنا الجر بمن، فلا تقول: زيد أكثر من ماٍل، ولا أعز من نفٍر، ولا أطيب من نفٍس، ولا طب من نفٍس، ولا ما أشبه ذلك، ومثله: مررت برجٍل حسٍن وجهًا، لا تقول: حسن من

وجه، لأنه فاعل في المعنى، والتقدير: حسن وجهه، وإنما امتنع دخول (من) ها هنا اعتبارًا بما في التمييز من معنى الفاعلية، فلم يدخلوها عليه؛ لأن الفاعل لا يقع مجرورًا بحرف غير زائد، هذا تعليل بعضهم. وأيضًا: فإن التمييز ها هنا ليس على معنى (من) كما كان في نحو: رطل زيتًا، وما أفضله رجلًا، فلا ينجر بحرٍف لا يقتضيه معناه، وقد كان التمييز يقتضي معنى (من) في عشرين درهمًا وشبهه، لأن المعنى: من الدراهم، ولكن لم ينطق بها مع الإفراد، فأحرى ألا يؤتى بها إذا لم يقتضيها معنى التمييز. و(تفد) جواب لقوله: (طب نفسًا) ومعناه: تعطى الفائدة من: أفاده يفيده إفادة، والاسم الفائدة، وهي ما استفاده الإنسان من علم أو ماٍل أو غيرهما. ثم قال - رحمه الله -: وعامل التمييز قدم مطلقا ... والفعل ذو التصريف نزرًا سبقا عامل التمييز على قسمين: فعل متصرف نحو: طاب زيد نفسًا، {واشتعل الرأس شيبًا}. وامتلأ الإناء/ ماء، وما أشبه ذلك. وفعل غير متصرٍف، أو غير فعل نحو: {كبرت كلمة}، وأكرم بزيٍد أبًا، وزيد أفضل أبًا، ولي ملء الإناء عسلًا، وما لي مثله عبدًا، ونحو ذلك، وكلاهما يلزم فيه تقديم العامل عند الناظم في هذا الكتاب لقوله: (وعامل التمييز قدم مطلقا) يعني أنه يلزم تقديمه عليه كان متصرفًا أو غير متصرف، فلا يجوز تأخير العامل، نحو: نفسًا طاب زيد، وشيبًا اشتعل الرأس، ولا كلمة كبرت،

وأبًا أكرم بزيٍد، ولا عسلًا لي ملء الإناء، ولا ما كان مثل ذلك، فإن ورد من ذلك شيء فهو من محفوظات الشعر، نحو ما أنشده الفراء من قول الراجز: ونارنا لم ير نارًا مثلها ... قد علمت ذاك معد كلها وأعني مع كون العامل غير متصرٍف، وإذا كان متصرفًا فسيأتي ما فيه، ولم يلتفت إلى تقديم التمييز على صاحبه دون العامل، لأن العامل إما أن يكون هو المميز أو غيره، فإنه كان هو المميز، فالنص على تقديم العامل نص على تقديم المميز، لأنه هو، وإن كان غيره فلا مبالاة بتقديم التمييز على المميز إذا كان العامل متقدمًا، فيجوز: اشتعل شيبًا الرأس، وطاب نفسًا زيد، ونحو ذلك. قال ابن الضائع: وهو متفق عليه. وإنما اختلفوا في تقديم التمييز على العامل على تفصيل، وهو أنه لا يخلو أن يكون العامل متصرفًا أو غير متصرف، فإن كان غير متصرف في خلاف في منع التقديم، وأما إن كان متصرفًا، فإن النحويين اختلفوا فيه، فالجمهور من البصريين على منع التقديم، وإليه مال ابن مالك هنا، وفي الفوائد المحوية له، لأنه جعل التقديم نزرًا بقوله: (والفعل ذو التصريف نزرًا سبقا) يعني أن الفعل المتصرف قد جاء في السماع مسبوقًا بالتمييز، لكن نزرًا: نادرًا لا يعتبر. فإن قيل: لعله أخذ في القياس بذلك النزر لأن النزر بمعنى القليل، والقليل عنده قد يقيس عليه، وقد تقدم من ذلك. فالجواب: أن قوله أولًا: (وعامل التمييز قدم مطلقا) نص في وجوب التقديم، فاللازم عن ذلك أن تقديم التمييز عنده ممنوع مطلقًا في القياس، ثم

أخبر عن السماع، والذي جاء في السماع من ذلك نزر كما قال. ومنه ما أنشده المازني للمخبل، وهو ثابت له في كتاب سيبويه. أتهجر ليلى بالفراق حبيبها ... وما كان نفسًا بالفراق تطيب والتقدير على قوله: وما كان تطيب نفسًا بالفراق. وأنشد المؤلف في الشرح: ضيعت حزمي في إبعادي الأملا ... وما ارعويت ورأسي شيبًا اشتعلا التقدير: اشتعل شيبًا، وأنشد أيضًا: ولست إذا ذرعًا أضيق بضارٍع ... ولا يائٍس عند التعسر من يسر وأنشد أيضًا: أنفسًا تطيب بنيٍل المنى ... وداعي المنون ينادي جهارا والذي اشتهر عند النحويين الأول، والجميع إن صح نادر، فلا اعتداد به في القياس عنده.

وذهب الكسائي من أهل الكوفة، والمازني وتلميذه المبرد - من أهل البصرة/ إلى جواز التقديم، وهو مذهب ابن مالك في التسهيل وشرحه. والصحيح منع ذلك من جهة القياس والسماع. أما السماع: فلو كان مقولًا لسمع، لكنه لم يسمع إلا نادرًا في الشعر الذي هو محل الضرورة، فدل على أن العرب تمتنع منه قصدًا. وأما القياس: فإن التمييز هنا منقول من الفاعل، فأصله أن يكون فاعلًا، فكرهوا أن ينقلوه عن موضعه الأصلي، وهو أن يؤخروه عن العامل فيه؛ إذ كان الفاعل لا يتقدم على عامله. وهذا قاله الفارسي وغيره. ورد ذلك ابن عصفور باتفاقهم على جواز التقديم في نحو: أذهبت زيدًا، وإن كان فاعلًا في أصله. وأجيب بأن التمييز فاعل في أصله بهذا الفعل الذي نصبه، وزيدًا في: أذهبت زيدًا، لم يكن قط فاعلًا بهذا الفعل الذي هو أذهبت، وإنما كان فاعلًا بالفعل الذي نقل منه، وهو ذهب، وهو الآن مفعول صحيح، فوجب أن يغلب عليه الحكم الحاضر، وأما التمييز فإنما هو فاعل في الحقيقة وانتصابه إنما هو مجاز، وعلى التشبيه هذا وجه. ووجه ثاٍن: أن المانع شبهه بالنعت في أنه بيان لما قبله، فلا يتقدم، كما لا يتقدم النعت. وهذا منقول عن الفارسي أيضًا، واستحسنه ابن خروف، ورده

ابن عصفور بأنه لو كان كالنعت لم يتقدم على المميز متوسطًا بينه وبين الفعل، كما لا يتقدم النعت. قال ابن الضائع: ولهم أن يفرقوا بأن النعت بيان للمنعوت والتمييز ليس بيانًا للمرفوع فيه، وإنما هو بيان لمن له الفعل حقيقة، فهو بيان للفعل وإسناده حقيقة فلا يتقدم عليه. ووجه ثالث: أن المانع كون عامله غير متصرفٍ، لأن ناصبه تمام الكلام لا الفعل المذكور. قاله ابن عصفور. ورد بأن ذلك دعوى؛ إذ لا يصح أن ينسب العمل إلى غير الفعل مع حضوره وإمكان نسبة العمل إليه. فإن قال: قد ثبت في المنتصب بعد تمام الاسم أنه لا يعمل فيه الفعل. أجيب بأن الأحكام من جره عند زوال التمام، دلت على تعذر نسبة العمل إلى الفعل، فليس حكمهما واحدًا، بل هما نوعان مختلفان، ولذلك يمتنع التقديم هنا باتفاق، وكالحال أيضًا إذا عمل فيها الفعل تقدمت عليه، وإذا عمل فيها المعنى لم تتقدم. ووجه رابع: أن الأصل في الحال والتمييز امتناع التقديم لضعف العامل. ألا ترى أنه لا يعمل فيها إلا نكرتين، لكن الحال أشبهت الظرف، فجاز تقديمها، كما جاز تقديم الظرف، وبقى التمييز على أصل الامتناع. وهذا منقول عن الجرمي. ووجه خامس: أن المانع أنهم كرهوا الاتساع بعد الاتساع مع اعتبار الفاعلية في الحقيقة. قاله بن أبي الربيع، وهو معنى ما نقل ابن مالك في الشرح عن المانعين من أن هذا النوع من التمييز فاعل في الأصل، وقد أوهن بجعله

كالفضلات، فلو قدم لازداد وهنا إلى وهنه، فمنع، لأنه إجحاف، ورده من أوجه ستة - أجاب عن جميعها / شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار، رحمة الله عليه: أحدها: أنه دفع روايات برأي لا دليل عليه. والجواب: أنا لم نرد قط رواية برأي، وإنما قلنا: إن ما سمع من التقديم مخصوص بالشعر الذي يجوز فيه تقديم ما لا يجوز تقديمه في النثر على تسليم أن إعرابه تمييز، وقد يتجه له إعراب آخر. والثاني: أن جعل التمييز كبعض الفضلات محصل لضرب من المبالغة، ففيه تقويه لا توهين، فإذا حكم بعد ذلك بجواز التقديم ازدادت التقوية وتأكدت المبالغة. والجواب: أن المسألة من باب تشبيه الأصول بالفروع، وإذا شه أصل بفرع لم يقو الفرع أن يحمل عليه الأصل في جميع وجوهه، وإنما يحمل عليه في الوجه الذي وقع فيه التشبيه دون ما لم يقع فيه تشبيه، وفي تقديم التمييز زيادة بعد عن الأصل، وإنما وقع التشبيه بالمفعول في مجرد النصب لا في جواز التقديم، فوجب الامتناع. والثالث: أن أصالة فاعلية التمييز المذكور كأصالة فاعلية الحال نحو: جاء راكبًا رجل، فإن أصله جاء راكب على الاستغناء بالصفة، وجاء رجل على عدم الاستغناء بها، والصفة والموصوف شيء واحد في المعنى، فقدم راكب ونصب بمقتضى الحالية، ولم يمنع ذلك تقديمه على جاء مع أنه يزال عن إعرابه الأصلي وعن صلاحية الاستغناء به عن الموصوف، فكما تنوسي الأصل في الحال، كذلك تنوسي في التمييز. والجواب: أن هذا تلفيق بعيد جدًا، وذلك أن ما ذكره من أصالة فاعلية

الحال غير صحيح؛ لأن الحال لم تكن قط فاعلة لا لفظًا ولا أصلًا، وإنما أصلها أن تكون تابعة لموصوف تكون على حسبه من رفع أو نصب أو خفض، ولم يكن قط راتبًا لها، فيكون كالتمييز. والرابع: أنه لو صح اعتبار الأصالة في عمدة جعلت فضلة، لصح اعتبارها في فضلة جعلت عمدة، فكان يجوز لنائب عن الفاعل من التقديم على رافعه ما كان يجوز له قبل النيابة، والأمر بخلاف ذلك، لأن حكم النائب فيه حكم المنوب عنه، ولا يعتبر حاله التي انتقل عنها، فكذلك التمييز المذكور. والجواب: أن النائب إنما ناب عن الفاعل في وجه لا يصح معه تقدم، وهو شغل الفعل به وبناؤه له، وجعله معه كالشيء الواحد، وامتناع حذفه، كما أن الفاعل كذلك فيما ذكر، بخلاف التمييز، فإنه لمن يشبه بالمفعول إلا في مجرد النصب خاصة من حيث اشتغل الفعل بغيره لفظًا، فأشبه الفضلات، فانتصب انتصابها. والخامس: أن منع تقديم التمييز المذكور عند من منعه مرتب على كونه فاعلًا في الأصل، وذلك إنما هو في بعض الصور، وفي غيرها هو بخلاف ذلك، نحو: امتلأ الكوز ماء، و {فجرنا الأرض عيونًا}. وفي هذا دلالة على ضعف علة المنع لقصورها عن عموم جميع الصور. والجواب: أنه قد صح في غير موضع من العربية حمل ما ليس فيه سبب/ على ما فيه السبب إذا كان الجميع من باب واحد ليجري الكل على أسلوب واحد، كتعد ونعد وأعد مع يعدـ وكيذر مع يدع، وكامتناع نعت الضمير

بغير نعت البيان حملًا على امتناع نعته به. ونظائره كثيرة، وهذا من ذلك. والسادس: أن امتناع أصالة الفاعلية في منع التقديم على العامل متروك في نحو: أعطيت زيدًا درهمًا، فإن زيداً في الأصل فاعل وبعد جعله مفعولًا لم يعتبر ما كان له من منع التقديم؛ بل أجيز فيه ما يجوز فيما لا فاعلية له في الأصل، فكذا ينبغي أن يفعل بالتمييز المذكور. والجواب: أن هذا بعينه هو رد ابن عصفور، وأجيب بالفرق بين المسألتين: أن زيدًا هنا، لم يكن قط فاعلاً بهذه البنية الناصبة له، وإنما كان فاعلًا في بنية أخرى وهي عطا قبل النقل، وهما بنيتان مختلفتان كما ترى، وأما التمييز فإنه فاعل في الأصل والمعنى بهذه البنية الناصبة له في الحال، وليس مفعولًا صحيحًا كزيد في أعطيت زيدًا درهمًا، وقد تقدم هذا المعنى. هذا ما احتج به ابن مالك، وما رد به الأستاذ - رحمه الله. قال ابن الضائع: والصحيح في المنع عدم ورود السماع به، وذلك أن التمييز كثير في الكلام، فإن لم يرد مقدمًا في موضع أصلًا - يعني في الكلام - دليل على رفضه. قال: ويدل على ذلك أن مجوز تقديمه لم يعثر على اتساعه في كلام العرب واتساع من بعده إلا على هذا البيت - يعني بيت المخبل - وليس بنص فيما زعموا، ولو كان نصًا لوجب حمله على الضرورة؛ إذ لم يرد. وما قال ابن الضائع من الاعتماد على السماع هو الأصل عند الجميع، ولكنهم مع ذلك أظهروا للمنع وجوهًا من القياس، فالحق إذا ما ذهب إليه الناظم هنا. حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار - رحمة الله عليه - قال: أخبرني من أثق به من أصحابنا - يعني تلميذه الشيخ أبا جعفر الشقوري شيخنا أنه

لقي الشيخ أبا حيان الغرناطي بالقاهرة، فسأله عن مذهب مدرسي العربية بغرناطة في هذه المسألة. قال: فأخبرته بامتناع التقديم، فقال: بل الصحيح الجواز قياسًا وسماعًا، ثم قام، فأخرج له مبيضة على تسهيل ابن مالك، وقرأ عليه وجه القياس. وأنشد له من السماع أبياتًا كثيرة. قال الأستاذ: يرحم الله أبا حيان لقد أغفل أصلًا عظيمًا من أصول النحو مع كثرة دوره على ألسنة المقرئين، وذلك أن تقديم التمييز على عامله إذا كان فعلًا - يعني متصرفًا- لو كان جائزًا عند العرب لكثر نظمًا ونثرًا كثرة لا يمكن فيها تأويل، كما كثر تقديم الحال على عاملها إذا كان فعلًا نظمًا ونثرًا كثرة لا يمكن فيها تأويل. قال: فلما كان الأمر على خلاف ذلك، دل دلالة واضحة على امتناع العرب من تقديمه على عامله وإن كان فعلًا، لأن اختصاص ذلك الشعر مع كثرة استعماله دليل على أنه من ضرائره. وزادني شيخنا أبو عبد الله البلنسي - أجله الله - في هذه الحكاية أن أبا حيان لما قرأ عليه تلك الأبيات على كثرتها قال له: ما تقولون/ في هذه الشواهد؟ فقال له الفقيه أبو جعفر: نجمعها جميعًا، ونقول هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. قال: فانزعج الشيخ أبو حيان لهذا الكلام، وإنما نبه الفقيه أبو جعفر بما قال على الأصل الذي أشار إليه شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه - وهو أصل متفق عليه عند الأكابر: الخليل وسيبويه، فمن دونها إلى الآن، وابن مالك قد يعتبره في مواضع كهذا الوضع، وقد لا يعتبره كما فعل في مسألة دخول واو الحال على المضارع الموجب، وفي مسألة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمعمول المضاف، وغيرهما من المسائل التي تقدمت إلى أخر ستأتي في مواضعها إن شاء الله.

والأصل المذكور قد تبين في الأصول، وسيقع التنبيه عليه في باب الإضافة إن شاء الله، و (سبق) فعل مبني للمفعول للعلم بالفاعل، وهو التمييز، أي نزراً سبقه التمييز، والنزر: القليل التافه. يقال: نزر الشيء - بالضم - ينزر نزارة، وانتصب هنا على الحال من ضمير سبق. وهنا انقضى الكلام على المنصوبات ونصب الأفعال إياها، وأخذ بعد يتكلم على المجرورات وعواملها وأحكامها الخاصة بها. وهذا حين ابتدائه.

حروف الجر

حروف الجر لما كان الجر لا يكون إلا بالإضافة، والإضافة على وجهين: إضافة اسم إلى اسم نحو: غلام زيد، وإضافة فعل إلى اسم بواسطة الحرف المضيف، نحو: مررت بزيد، وكان لكل واحد من القسمين أحكام تختص به، خص كل قسم بباب على حدة، وبدأ بإضافة الفعل إلى الاسم، وهي المختصة بالحروف، فقال: هاك حروف الجر وهي من إلى ... حتى خلا حاشا عدا في عن على مذ منذ رب اللام كي واو وتا ... والكاف، والبا، ولعل ومتى (ها) مقصورا، وهاء ممدودًا أسما فعل معناهما: خذ، ويجوز لحاق الكاف لهما حرف خطاب بحسب المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، كما في اسم الإشارة، فتقول: هاك، وهاك، وهاكما، وهاكم، وهاكن، وكذلك سائر الحالات، فمعنى قوله: (هاك حروف الجر): خذ حروف الجر، وكأنه على حذف المضاف، أي خذ أحكام حروف الجر، من معانيها، ومواضعها، وغير ذلك من أحكامها، وسماها حروف الجر، لأنها تعمل الجر فيما دخلت عليه؛ فسميت بأثرها، وتسمى أيضًا حروف الإضافة، وذلك من جهة معناها؛ لأنها تضيف إلى الاسم ما قبله أو ما بعده، فإذا قلت: مررت بزيد، فقد أضفت المرور إلى زيد بالباء. وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب، وكذلك سائر الحروف. ثم أخذ في تعدادها فقال: (وهي من إلى) إلى آخرها، عطف بعضها على

بعض بحرف عطف تارة، وبغير حرف تارة، بل على تقديره حسب ما / اعتاده في حذفه إياه اختصارًا، والذي ذكر منها عشرون حرفًا، وهي: من، نحو: جئت من الدار، وإلى نحو: ذهبت إلى السوق، وحتى، نحو: {سلام هي حتى مطلع الفجر}، وخلا، نحو: قام القوم خلا زيد، وحاشا، ؟ نحو: قام القوم حاشا زيد، وعدا، نحو: جاء القوم عدا زيد، وفي، نحو: زيد في الدار، وعن، نحو: أعرضت عن زيد، وعلى، نحو: قعدت على الحصير، ومنذ ومذ، نحو: ما رأيته منذ يوم الجمعة، ومذ يوم الجمعة، ورب، نحو: رب رجل يقول ذاك، واللام، تحو: المال لزيد، وكي، نحو: جئتك كي تكرمني، على قولهم: كيمه، والواو في القسم نحو: والله لأكرمن زيدًا، والتاء كذلك نحو: تالله لا يقوم زيد، وكاف نحو: زيد كأسد، والباء نحو: مررت بزيد. ولعل حرف جر عند بني عقيل، سمعه أبو زيد من بني عقيل. وروى الجر بها أيضًا الفراء وغيره، ولامها الأخيرة مفتوحة أو مكسورة؟ ، وأنشدوا على ذلك: لعل الله يمكنني عليها ... جهاراً من زهير أو أسيد

وروى الفراء الجر بعل، وأنشد: عل صرف الدهر أو دولاتها ... يدنيننا اللمة من لماتها فيستريح القلب من زفراتها ومتى أيضًا حرف الجر عند هزيل، حكى يعقوب عنهم أنهم يستعملونها بمنزلة (من). وقال الكسائي، قال معاذ: سمعت ابن جوية يقول: وضعته في متى كمي، أي: في كمي. وأنشد الأصمعي لأبي ذويبٍ الهذلي: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لججٍ خضر لهن نئيج

وقال أبو المثلم الهذلي: متى ما تنكروها تعرفوها ... متى أقطارها غلق نفيث وفي كون (متى) في هذه اللغة حرفًا نظر، فقد قال يعقوب في كتاب المقصور والممدود: إنها بمعنى وسط، وإن معنى قولهم: جعلته في متى كمي، أي: في وسط كمي، فأدخل عليها (في) كما ترى، وذلك شاهد على أنها اسم لا حرف. ثم قال: وقد تكون بمعنى (من)، ثم أنشد البيتين، فحكاية معاذ لهذا لا دليل فيها لوضوح كونها اسمًا؛ بدليل دخول (في) عليها، قال ابن جني: أما (متى) في لغة هذيل، فإنها اسم. قال: وكذلك التي بمعنى (من) هذه، وكأن

حرف الجر مراد معها، أي: ترفعت من متى لجج، أي: من أوساط لجج، وكذلك قول الآخر: متى أقطارها، أي: من متى أقطارها، ثم قال: ولا ينكر أيضًا أن يكون حرفًا كـ "من"، فإذا لم يتحصل يعد كون (متى) في لغة هذيل حرفًا، فإثبات الناظم لها في حروف الجر دعوى لا دليل عليها. والجواب: أن كون (متى) بمعنى: وسط في تلك اللغة ثابت، وليس هو مراد ابن مالك، وإنما مراده الاستعمال الآخر؛ إذ اللغويين حكوا في (متى) في لغة هذيل استعمالين: أحدهما: أن تكون بمعنى وسط، وذلك قولهم: وضعته في متى كمي. والآخر: أن يكون بمعنى (من) كما في الأبيات المذكورة. وأما ما جوزه ابن جني فبناء على قول من قال: إنها في الشعر بمعنى / وسط أيضًا؛ إذ للعلماء فيها قولان: أحدهما: هذا، وأن كونها بمعنى (من) لم يثبت بعد، فرد المحتمل إلى المحقق. والثاني: أنها تستعمل بمعنى (من)؟ ، وهو رأي يعقوب، وجماعة من اللغويين والنحويين - وإلى هذا القول ذهب الناظم هنا، وفي التسهيل ميلًا مع الأكثر - حكى هذين القولين ابن السيد في قوله: متى لجج خضر، فكأن ابن جني جوز كل واحد من القولين واعتمد الناظم على أحدهما. ولم يذكر من حروف الجر (لولا) إذا جاء بعدها الضمير المتصل نحو: لولاك، ولولاه، وإن

كان مذهب سيبويه أنها في تلك الحال جارة؛ لقلة مجيئها كذلك؛ ولذلك لما ذكر (لولا) لم يعرج عليها في ذلك القليل، بل قال: لولا ولو ما يلزمان الابتدا ... إذا امتناعًا بوجود عقدا ويحتمل أن يكون مذهبه هنا مذهب الأخفش والفراء القائلين بأن هذه الضمائر بعد (لولا) في موضع رفع، كأنه من وضع المتصل موضع المنفصل، ويكون قوله: (يلزمان الابتدا) نفيًا لرأي سيبويه فيها، فلا تكون على هذا من حروف الجر أصلًا. أو يكون هنا رأي [رأي] المبرد في أن لولاك، ولولاه ليس من كلام العرب. وهذا أظهر في نفي وقوع (لولا) حرف جر، وسيأتي الكلام على هذا كله في: فصل (لو) إن شاء الله. وأعلم أن هذه الحروف تأتي على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون حروفًا لا غير، كالباء، والواو، والتاء، ورب، ومن، وإلى، وحتى، وفي، واللام، وكي، ولعل. والثاني: أن تكون حروفًا تارة وأفعالًا تارة, وذلك: خلا، وعدا، وحاشا، وقد مر ذكر ذلك في باب الاستثناء. والثالث: أن تكون حروفًا تارة وأسماء تارة، وذلك: عن، وعلى، ومذ، ومنذ، والكاف، ومتى.

وإنما هذا التقسيم بالنسبة إلى وضع اللفظ بعينه، لا بالنسبة إلى اشتراك اللفظ بسبب الإعلال التصريفي، فإن ذلك عارض، كـ (من) الجارة مع: (من) أمرًا من: مان يمين، و (في) الجارة مع (في) أمرًا للمخاطبة من: وفي يفي، وكذلك ما أشبهه، فليس المراد هذا، وإنما المراد ما كان فيها في أصل الوضع عومل معاملة الحرف والاسم، أو معاملة الحرف والفعل والمعنى واحد، وعلى هذا التقسيم بني الناظم كلامه هنا. وهذه الحروف تقدم منها في باب الاستثناء: خلا، وحاشا، وعدا، ويختص منها بباب القسم: الواو، والتاء، فأحكامهما مستوفاة هناك، ولم يذكر هنا من أحكامهما إلا بعضًا: وهو ما يتعلق بهما من حيث هما حرفا جر، وأما ما يتعلق بهما في القسم، فلم يذكره في هذا النظم؛ إذ ترك باب القسم جملة، فلم يبوب عليه فيه أصلًا، وهو ضروري الذكر كسائر الأبواب؛ بل الضرورة إليه أشد من الضروري إلى باب الإخبار. وما أدري ما الذي صده عن ذكره؟ وعلى كل تقدير فالأحرف الجارة في القسم هي هذه، وما / يتعلق بها من أحكام الجر قد ذكره. فإن قيل: فقد نقصه من حروف القسم الجارة (من)، فإنك تقول: من ربي لأفعلن، إما على أن (من) وضعت موضع الباء. والأصل: (بربي). وإما على أن المعنى: من أجل ربي، وكذلك: مـ الله لأفعلن، على أن أصلها الواو، كأنه قال: والله لأفعلن. فالجواب: أن (من) أصلها عنده (أيمن)، فهي مما غير في القسم، وكذلك: مـ الله، فهي أسماء لا حروف؛ فلذلك لم يذكرها. والله أعلم. ثم لما عدها أتى قبل ذكر أحكامها التفصيلية المختصة بكل حرف بأحكام لها

عامَّة مشترك فيها، فقال: بالظاهر اخصص منذ، مذ وحتى ... والكاف، والواو، ورب، والتا فقسم الحروف الجارة أولًا على قسمين: أحدهما: ما لا تدخل من الأسماء إلا على الظاهر دون المضمر، وذلك سبعة أحرف: أحدها والثاني: مذ، ومنذ، وهو قوله: (بالظاهر اخصص منذ، مذ) فتقول: ما رأيته منذ يومين، ومذ يومين، ولا تقول: ما رأيته مذهما، ولا منذهما، ولا مذه، ولا ما كان نحو ذلك. قال سيبويه: "واستغنوا عن الإضمار في (مذ) بقولهم: مذذاك؛ لأن ذاك اسم مبهم، وإنما يذكر حين يظن أنك قد عرفت ما يعني"، فهو عنده من باب الاستغناء، كما استغنوا عن وذر، وودع بترك، وبليلة عن ليلاة، ولذلك قالوا: ليال وبلمحة عن ملمحة، ولشله عن مشبه، وعليه جاء ملامح ومشابه أغنى عن المتروك، واستغنوا بذكر عن مذكار أو مذكير، وعلى المتروك جاء مذاكير، وعن جمع الكثرة بجمع القلة كأرجل وآذان، وعن جمع القلة بجمع الكثرة كشسوع ورجال. وهو باب واسع. والثالث: حتى، فتقول: دع القوم حتى يوم كذا، ورأيتهم حتى زيد، ولا

تقول: دع القوم حتاه، ولا رأيتهم حتاه، ولا رأيتهم حتاك. قال سيبويه: "واستغنوا عن الإضمار في (حتى) بقولهم: رأيتهم حتى ذاك، وبقولهم: دعه حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم: دعه حتى ذاك وبالإضمار في (إلى) من قولهم: دعه إليه لأن المعنى واحد". والرابع: الكاف فتقول: أنت كزيد، وعمرو كالأسد، ولا تقول: أنت كه، ولا كك، ولا نحو ذلك. قال سيبويه: "وذلك أنهم استغنوا بقولهم: مثلي وشبهي عنه فأسقطوه". والخامس: الواو فتقول: والله لأفعلن. {قل بلى وربي لتبعثن}. ولا تقول: وه لأفعلن، ولا وك، فإن أردت الإتيان بالضمير أتيت بالباء مكان الواو، ومن هنا ظهر لهم أن الباء هي الأصل؛ لأنها أعم استعمالًا، وأقوى تصرفًا، وإنما أبدلت من الباء لمضارعتها لها لفظًا ومعنى. أما اللفظ: فلان مخرجهما معًا من الشفتين. وأما المعنى: فإن الباء للإلصاق، والواو للجمع، والشيء إذا لاصق الشيء فقد اجتمع به، قاله ابن جني. والسهيلي ينكر إبدالها من الباء، وليس هذا موضع الاحتجاج على الصحيح من المذهبين. والسادس: (رب) فتقول): رب رجل / يقول ذاك، و:

* ألا رب خصم فيك ألوي رددته * ولا يجوز أن تقول: ربك، ولا ربني، ولا زيد ربه؛ لأن (رب) خاصتها العرب بالدخول على النكرات، فلا تقول: رب زيد، ولا رب هذا، ولا رب الرجل، والضمائر أعرف المعارف، فلا تدخل عليها من باب أولى. وأما من جاء من نحو: ربه رجلًا، فإنما ساغ من جهة أن هذا الضمير قد انتفى عنه المعنى الذي كان به ضمير النكرة معرفة، وهو عودة على معروف تقدم، فذلك هنا مفقود؛ فإنه عائد على ما لم يعقل إلا بعد الفراغ من ذكره، فلم تدخل عليه (رب) إلا وهو أشد إبهامًا من النكرة الظاهرة؛ لأن النكرة الظاهرة تدل بنفسها على جنس أو نوع منه بخلاف الضمير المفسر بمذكور بعده. والسابع: التاء، فتقول: تالله لا يقوم زيد، ولا تقول: ته ولا تك، كما تقول: به وبك. ووجه ذلك أن التاء لما كانت عندهم بدلًا من الواو المبدلة من الباء، وكانت الواو لا تدخل على المضمر كانت التاء أولى ألا تجر المضمر؛ ولذلك اختصت باسم الله تعالى فلم تدخل على غيره إلا شاذًا كقولهم: ترب الكعبة. هذا تمثيل ما ذكر. وقد ذكر سيبويه من هذه الحروف: الكاف، وحتى، ومذ في باب مفرد من أبواب الضمائر، ولكن لا يخالف فيما تقدم؛ إذ قد ذكر أحكام البواقي في مواضعها. وحكى السيرافي أن المبرد أجاز في الكاف، وحتى، ومذ ما منع سيبويه

فيقول: حتى هو رفعا، وحتى إياه نصبا، وحتاه، وحتاك جرًا، وكذلك: مذه، ومذهو. وعلى هذا يقول: زيد كك وأنت كه ونحو ذلك. قال السيرافي: وقول سيبويه هو الموافق لكلام العرب. وما جاء من ذلك على خلاف ما تقرر فمحفوظ كما سيذكر بعد. وسكوته عن الحروف البواقي يقتضي أن حكمها مخالف لهذه، وأنها لا تختص بالظاهر؛ بل تدخل على كل ظاهر ومضمر، وهو القسم الثاني، فيجوز أن تقول: المال لزيد، والمال له، ومررت بزيد، ومررت به، وبك لأفعلن، وعلى زيد مال، وعليك مال، وجئت من الدار، وقرب مني، وكذلك سائر الحروف، لكنه يلزم من هذا التقسيم أن تكون حاشًا، وخلا كـ "إلى" و"على" تدخلان على الظاهر والمضمر. وقد نص الفارسي في بعض كتبه على أنهما كحتى لا يضافان إلى المضمر، فيبقى هذا الموضع مشكلًا إلا أن يدعي الناظم خلاف ذلك، فقد أنشد في الرشح في فصل حاشا قول الشاعر: في فتية جعلوا الصليب إلههم ... حاشاي إني مسلم معذور

فيمكن أن يدعي مثل ذلك في (خلا) أيضًا؛ إذ لا مانع منه. والله أعلم. ثم قسم القسم الأول من القسمين تقسيمًا آخر فقال: وأخصص بمذ ومنذ وقتًا وبرب ... منكرًا والتاء لله ورب فجعله ضربين: أحدهما: ما يختص ببعض الأسماء الظاهرة دون بعض، وذلك أربعة أحرف: الأول، / والثاني: مذ ومنذ، وهما مختصان بالزمان، وذلك قوله: (وأخصص يمذ ومنذ وقتًا) فتقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة، ومنذ يومين، ولا تقول: ما رأيته مذ قيام زيد، ولا منذ قيام زيد، وهذا الذي قال هو الذي يظهر من كلام سيبويه وغيره حيث جعلوهما لابتداء الغاية في الزمان أو للغاية كلها، لكن في الزمان أيضًا، فيقتضي ذلك أنهما لا يدخلان إلا على الزمان. وهذا مشكل على رأيه؛ لأنه أجاز في التسهيل أن يضافا إلى المصدر، فتقول: ما رأيته مذ قيام زيد، ومنذ قيام زيد. فإذا ليس بمختص بالزمان على رأيه، وكذلك تقول: ما رأيته مذ أن زيدًا قائم، وهو على ذاك لا يختص بالزمان، فكيف يقول: (وأخصص بمذ ومنذ وقتًا). والجواب عن ذلك: أن (مذ) و (منذ) إذا جرا المصدر، فعلى تقدير الزمان لابد من ذلك، كأنك قلت: مذ زمان قيام زيد، ومذ زمان أن زيدًا قائم، فلم ينفكا إذًا عن الاختصاص بالزمان إما لفظًا وإما تقديرًا، وكذلك أيضًا يقدر الزمان وإن كان اسمًا، ووقع بعدهما الجملة، نحو: مذ قام زيد، حسب ما

يذكر في موضعه إن شاء الله. والثالث: رب، وهي مختصة بجر النكرة لقوله: (وبرب منكرًا) أي: وأخصص برب منكرًا من الأسماء، فلا تدخل على المعارف، فتقول: رب رجل يقول ذاك، ولا يقال: رب زيد الذي يقول ذاك، وما جاء من قولهم: ربه رجلًا، فقد تقدم العذر عنه، وأنها إنما جرت هنا المضمر لإبهامه كالنكرة مع أنه نادر كما سيأتي بعد. فإن قيل: كيف تختص بالنكرة، وأنت تقول: رب رجل وأخيه، فتعطف على مخفوضها النكرة معرفة، والمعطوف مقدر الوقوع في موضع المعطوف عليه، فكأنك قلت: رب أخيه. وأبين من هذا أنك تقول: رب ضارب زيد. وقد قرر النحويون أن (رب) تصرف زمان ما تدخل عليه إلى الماضي، فهي مختصة بالماضي من الزمان، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي إضافته محضة. فالإضافة إذًا في رب ضارب زيد محضة، وإذا كانت محضة، فضارب معرفة بالإضافة، وقد دخلت عليه (رب)، فـ (رب) إذًا يجوز أن تجر المعرفة والنكرة، فلم تختص إذًا بالنكرة، كما قال- أنشد سيبويه لجرير -: يا رب غابطنا لو كان يعرفكم ... لاقي مباعدة منكم وحرمانًا ولا يقال: لعل الناظم يقول: إن إضافة اسم الفاعل غير محضة، وإن كانت بمعنى الماضي؛ لأنه نص على اختصاص إضافة التخفيف بما كان من اسم الفاعل

بمعنى الحال أو الاستقبال، فالذي بمعنى الماضي إذًا إضافته لغير التخفيف، وهي إضافة التخصيص أو التعريف. فالجواب: أن قولك: رب رجل وأخيه، ليس مما نحن فيه؛ إذ يجوز عندهم في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه في مواضع معدودة هذا منها. ومنها: كل رجل وأخيه، وكل شاة وسخلتها، وكم رجل وأخيه، و: *أي فتى هيجاء أنت وجارها* ولا رجل وأخاه، وهذه ناقة وفصيلها/ راتعان، وهل من رجل وأخيه؟ فلا اعتراض برب رجل وأخيه؛ إذ لا يحل محل المعطوف عليه وإن كان معطوفًا، كما لا تحل هذه المعطوفات كلها محل ما عطفت عليه. وأما: رب ضارب زيد، فالإضافة فيه غير محضة، إما على ما رآه في التسهيل من أنها لا يلزم مضي ما تتعلق به، بل قد يكون حالًا ومستقبلًا، فليس بصارفة للمضي. قال ذبك في باب حروف الجر. ونقل عن ابن السراج جواز أن يكون

حالًا ومنع أن يكون مستقبلًا، وأيضًا فإنه نص في باب الإضافة على أن رب تدخل على ما هو حال أو مستقبل، فقال: وإن يشابه المضاف يفعل ... وصفًا فعن تنكيره لا يعدل ثم قال: *كرب راجينا عظيم الأمل* فجعل (رب) داخلة على ما شابه (يفعل) الذي هو للحال أو الاستقبال. وإما أن يكون يرى هنا أن (رب) تخلص للمضي كمذهب غيره من النحويين، ويتأول (يا رب غابطنا) على حكاية الحال الماضية، فكأن (رب) دخلت اعتبارًا بمعنى المضي الحاصل في الوجود و (غابط) حكت حاله فيما مضى، فصح انفصال إضافته. وعلى الجملة فقد اتفقوا على أن ما بعد (رب) لا يكون إلا نكرة، وقد ظهر ذلك بما أنشده سيبويه لأبي محجن الثقفي رضي الله عنه: يا رب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق فوصف مثلك بالنكرة، فدل على أنه نكرة وإن كانت رب مختصة بالماضي، فصح ما نص عليه الناظم من اختصاص رب بأن تجر النكرة ويتعلق برب هنا مسألتان:

إحداهما: أنه قد تقرر فيها جعله لها من حروف الجر، فالحرفية فيها ثابتة عنده، وهذا مذهب البصريين، وذهب الكوفيين إلى أنها اسم، والأصح ما ذهب إليه الناظم؛ لخلوها من العلامات اللفظية الدالة على الاسمية، وكذلك خلت من الدلالات المعنوية؛ ولأنها مساوية للحرف في عدم استقلالها بالمفهومية دون ذكر مجرورها، وقد خرجت (كم) عن هذا بصلاحيتها لعلامات الأسماء، وهي الإضافة إليها، نحو: غلام كم رجل ضربت؟ ودخول حرف الجر عليها، نحو: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ والابتداء بها نحو: كم مالك؟ ووقوعها مفعولًا نحو: كم أكرمت؟ وغير ذلك من خواص الأسماء وليس في (رب) شيء من هذا، وليست بفعل باتفاق، فدل على أنها حرف. فإن قيل: إن الذي يدل على أسميتها أمور: منها: أنها مساوية لكم في معنى العدد، ونظيرتها في معنى التكثير، أو نقيضتها إن كانت للتقليل، والشيء يحمل على نظيره ونقيضه في الحكم. ومنها: اختصاصها عن حروف الجر بما لا يكون في سائرها كلزومها صدر الكلام واختصاصها بجر النكرة الموصوفة، وحذف متعلقها. ومنها: دخول التصرف فيها بالحذف فتقول: رب. وقد قرئ بالوجهين: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}. والتصرف بعيد عن الحروف قريب من الأسماء، فإذا كان كذلك لحقت بجنس ما يتصرف.

ومنها: وقوعها مبتدأ مثل (كم) فتقول: / رب رجل قائم، وأنشدوا: إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عارًا عليك، ورب قتل عار فالجواب: أن هذا كله لا دلالة فيه، أما كونها للعدد فليس كذلك؛ بل هي للتقليل أو التكثير أولهما، وكلاهما من معاني الحروف لا من معاني الأسماء. وأما لزومها الصدر؛ فلمضارعتها لحروف النفي، لأن التقليل تقريب من النفي؛ ولذلك تستعمل (قل) في النفي، فتقول: قلما يقوم زيد، بمعنى: ما يقوم زيد، وغن كانت للتكثير فلمضارعة (كم)، ولا يلزم من ذلك أسميتها، كما لم يلزم من مضارعة (قل) للنفي أن تصير حرفًا. وأما اختصاصها بجر النكرة الموصوفة فلا يلزم من اختصاصها ببعض الأسماء أسميتها، وإلا لزم من اختصاص التاء أو الواو بالظاهر أن تكون أسماء. وأما التصرف: فقد يأتي في الحروف الحذف، وأكثر ذلك في المضاعف كأن وأن ولعل، تقول فيه: عل، وحاشا: حاش وحشا. والكوفيون يزعمون أن سوف يلحقها الحذف، وليست باسم باتفاق. وأما (رب قتل عار) فعار: خبر مبتدأ محذوف، أي هو عار، لا أن (رب) مبتدأ فقد ثبت أن (رب) حرف لا اسم، والله أعلم. والثانية: أن الناظم أتى هنا برب هكذا خفيفة ساكنة، فيمكن أن يكون ذلك لأجل القافية، والأصل (رب)، فيحتمل أن يكون أتى بذلك على أصل اللغة في استعمالها، فرب منقولة بضم الراء وإسكان الباء. وفي (رب) لغات غير

هاتين، فيقال: رب ورب ورب ورب، وتلحقها التاء مفتوحة ورب ورب. وذكر في التسهيل لها عشر لغات. والرابع من الحروف المختصة ببعض الأسماء الظاهرة: التاء، فزعم أنها مختصة باسمين من أسماء الله تعالى، وهما: الله والرب، فأما دخولها على اسم الله فهو الشهير نحو: {تالله تفتوا تذكر يوسف}. {تالله لقد آثرك الله علينا}. وأنشد سيبويه: تالله يبقي على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس وأما دخلوها على الرب، فحكى الأخفش: تربى، ولكن هذا شاذ محفوظ. ومن هنا يكون قول الناظم مشكلًا؛ لأن حقيقة الأمر في التاء اختصاصها باسم الله ولا تدخل على غيره إلا ما شذ من دخولها على الرب، ولا يصح أن تكون مختصة بالرب بهذا الشذوذ؛ بل هي مختصة بألا تدخل عليه، والشاذ لا

يكسر هذا الاختصاص، كما لا يكسر اختصاص حروف الجر بالأسماء قول من قال: *والله ما زيد بنام صاحبه* ولا اختصاص (ال) بالأسماء قولهم: اليجدع، وما أشبه ذلك، وإذا كان كذلك فإطلاقه اختصاص التاء بالاسمين معًا موهم أنهما في ذلك سيان، وذلك غير صحيح، وأيضًا يقتضي أن ذلك قياس في الرب، وأن تقول: تربى، وترب الكعبة، وترب الناس، وتالرب، وتربك، وما/ أشبه ذلك، وهو أيضًا غير صحيح؛ بل هو موقوف على محله بنصه في التسهيل وشرحه على ذلك. فقوله: (لله ورب) فيه ما ترى. والقسم الثاني: ما عدا هذه الأربعة، لا يختص ببعض الأسماء الظاهرة دون بعض، فحتى، والكاف، والواو تدخل على كل ظاهر، فتقول: حتى زيد، و {حتى مطلع الفجر}. وحتى يوم كذا، وكذا سائرها، ثم استدرك ذكر ما خرج عن هذا الضابط المذكور فقال:

وما رووا من نحو ربه فتى ... نزر كذاكها ونحوه أتى يعني أن القاعدة المطردة في (رب) إنما هي الدخول على الظاهر النكرة، فما جاء فيها من الدخول على المضمر وجرها له نزر قليل، ولا يكون ذلك إلا والضمير قد لزمه بعده مفسر منصوب على التمييز، فلا يكون الضمير مما يعود على ما قبله أصلًا، وإنما يكون ضميرًا موضوعًا على الإبهام يفسر بمنصوب كنعم في قولك: نعم رجلًا زيد، فتقول: ربه رجلًا، وربه غلامًا، وربه امرأة، وربه امرأتين، وربه رجالًا، وريه نسوة، لا يختلف الضمير وإن اختلف ما يفسره؛ بل يلزمه الإفراد والتذكير في أشهر الاستعمالين. وقد نبه الناظم على اشتراط المفسر بعده، وأنه لا يفسره متقدم بمثاله الذي مثل به، وهو (ربه فتى) لكنه لم ينه على لزومه طريقة واحدة، أو جواز أن يختلف باختلاف المفسر كرأي الكوفيين، وحكايتهم، ولكن المطابقة قليلة الاستعمال بالنسبة إلى عدمها، فإذا كان الأمران منقولين، فلا يضيره السكوت عن ذلك مع أن جرها للضمير قليل في نفسه. ثم قال: (كذاكها ونحوه أتى) يعني أنه أتى من كلامهم دخول الكاف على الضمير المتصل، لكن نزرًا أيضًا لقوله: (كذاكها)، ونبه بهذا المثال المخصوص الذي دخلت الكاف فيه على ضمير الواحدة المؤنثة على ما جاء في الشعر بهذا اللفظ بعينه، كأنه يشير إلى سماع في ذلك معين، وذلك قول العجاج أنشده سيبويه:

*وأم أوعالٍ كها أو أقربا* كأنه قال: مثلها أو أقرب. ونبه بقوله: (ونحوه) على ما جاء في كلامهم من نحو هذا الضمير، وهو ما أنشده سيبويه للعجاج: فلا ترى بعلًا ولا حلائلًا ... كهو ولا كهن إلا حاظلًا وأنشد الفراء: وإذا الحرب شمرت لم تكن كي ... حين تدعو الكماة فيها نزال وقال الفراء: سمعت بعض من يروي عن الحسن، وكان فصيحًا: "حتى يكون كك وتكون كه". وأنشد الفارسي في دخولها على الضمير المنفصل قول الشاعر: فأحسن وأجمل في أسيرك إنه ... ضعيف ولم يأسر كإياك آسر

وحكى الأخفش أو غيره: ما أنا كانت ولا أنت كأنا. وهذا الأخير أعني دخولها على الضمير المنفصل ضعيف في القياس، والقياس الاتصال. قال سيبويه/ في توجيه ما أنشده: إلا أن الشعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف؟ ، فيجرونها على القياس" ثم أتى بالشاهدين. ثم قال: "شبهه بقولهم: له ولهن". قال: "ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف؟ إلى نفسه قال: "كي". وقد ورد مثل هذا في حتى. قال الشاعر: فلا والله لا يلفى أناس ... فتى حتاك يا ابن أبي يزيد أنشده ابن خروف، ولم ينبه على مثله الناظم. وإنما ترك ذلك لشذوذه جدًا بخلاف ما نبه عليه، فإنه شهير في النقل، وفيه على شذوذه كثرة ما في الشعر، وقد وجد بعضه في الكلام.

فإن قيل: فكذلك الأمر في (حتى) و (مذ) و (منذ) عند المبرد هو مما يقاس، فكان أولى أن ينبه عليه. قيل: إنما تعرض الناظم للتنبيه على السماع، والمبرد لا سماع له في مذهبه، وإنما يقول بمقتضى القياس، كما أجاز (أعطاهوني) و (منحتنيني) قياسًا، وإن لم يسمع، فاقتصار الناظم على ما اقتصر عليه حسن. وقوله: (كذاكها ونحوه أتى) يعني أنه أتى نزرًا أيضًا. ثم شرع في الكلام على الحروف على التفصيل فقال: بعض وبين وابتدئ في الأمكنة ... بمن وقد تأتي لبدء الأزمنة وزيد في نفي وشبهه فجر .... نكرة كما لباغ من مقر فابتدأ في ذكر معاني هذه الحروف حرفًا حرفًا. وقبل الشروع في شرح كلامه لابد من إيراد سؤال يسأل عنه ابن مالك في هذا النظم وغيره من تواليفه؛ بل هو سؤال وارد على جميع من تكلم في حصر معاني هذه الحروف حتى إن باب حروف الجر صار غالب ما يذكر فيه تفسير معانيها بحيث صارت الأحكام المتعلقة بها في القياس أقلية بالنسبة إلى تفسير المعاني، ولا شك أن هذا نحلة اللغوي لا نحلة النحوي من حيث هو نحوي، فمن تعرض لتفسير معاني الحروف وصيرها كالأمر الضروري في صناعة النحو فليتعرض لتفسير معاني الأسماء والأفعال وحينئذ يصير لغويًا ولا نحويًا، أو ليترك تفسير الجميع حتى يكون تحويًا فقط وهو الأحق، لأن غيره تخليط لبعض العلوم ببعض. فالجواب عن هذا: أن حروف المعاني على الجملة مما يحتاج في إدراك

حقائق معانيها إلى قياس ونظر، كما يحتاج في سائر أبواب النحو إلى القياس والنظر لتمييز الصواب من الخطأ، وهذا النحو ليس على وضع تفسير الغريب؛ إذ كنت تفسر الشيء بمرادفه فقط. وأيضًا تفسيرها يصعب لأنها تدور بين المولدين والعرب على معنى واحد لشدة الحاجة إلى معانيها، فتفسيرها أشد من تفسير الغريب، لأن الغريب له / ما يساويه من اللفظ المعروف للمعنى الواحد، فإذا طلب ذلك وجد ما يقوم مقامه، فيفسر به، ولأنه قد كان يستغني به عن الغريب العربي. وأما الحروف فليست كذلك، لأنها تجري في كلام العرب والمولدين سواء. فليس في كلام المولدين ما يستغني به عنها، كما كان في الأسماء والأفعال، فإذا طلب ما تفسر به أعوز ذلك، فصار بيانها أشد من بيان غيرها. هذا ما قال ابن سيدة في المخصص في توجيه المسألة، وكأنه منتزع من كلام سيبويه، فإنه لما تكلم على معاني الحروف وما أشبهها من الأسماء في باب عدة ما يكون عليه الكلم ختم الباب بأن قال: "وإنما كتبنا منن الثلاثة وما جاوزها غير المتمكن الكثير الاستعمال من الأسماء وغيرها الذي تكلم به العامة، لأنه أشد تفسيرًا، وكذلك الواضح عند كل أحد هو أشد تفسيرًا؛ لأنه يوضح به الأشياء، فكأنه تفسير التفسير". ثم قال: "وإنما كتبنا من الثلاثة على نحو الحرف والحرفين، وفيه الإشكال والنظر". هذا ما قال، وهو يشير إلى ما تقدم، فكان إذًا تفسير الحروف العربية وما أشبهها من مشكلات الكلم التي لا مرادف لها تفسر به مما يلحق النظر فيه بعلم النحو بهذا التقرير، وعلى هذا جرى النحويون فيما أشكل معناه من

الأدوات أو ما أشبه الأدوات، فما فعل الناظم في هذا الباب وغيره صواب لم يخرج به عن النظر القياسي النحوي على هذه الطريقة. ثم نرجع إلى كلام الناظم فقوله: (بعض وبين وابتدئ في الأمكنة (بمن) ... ) إلى آخره جعل (من) أولاً على قسمين: زائدٍة، وغيره زائداة. فأما غير الزائدة: فلها عنده في الوضع الأول أربعة معانٍ: أحدها: أن تأتي للتبعيض بقوله: (بعض) أي بعض بها ما أتى بعدها، أي أجعل الفعل الذي تعلقت به مسلطًا على مجرورها بقيد التبعيض فيه، وذلك قولك: أكلت من الرغيف، وشربت من الماء. وفي القرآن الكريم: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعٍض، منهم من كلم الله}. {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر}. {والله خلق كل دابٍة من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع}. {ومنهم من يستمعون إليك}. {ومنهم من ينظر إليك}. وعلامة كونها للتبعيض صلاحية بعٍض مكانها، كما جاء في قراءة عبد الله: {تنالوا البر حتى تنفقوا بعض ما تحبون}. وهذا المعنى متفق عليه في (من). والثاني: أن تأتي لبيان الجنس، وهو قوله: (وبين) أي أجعلها للبيان مثاله

قولك: لبست ثوبًا من كتان وسوارًا من ذهب، وجعلوا من ذلك قول الله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}. وجعل بعضهم علامة كونها لبيان الجنس أن تقع بيانًا لما قبلها مقدرة بالذي كما في الآية. ورد هذا ابن أبي الربيع بأنه لو كان كما قال لصح أن تقول على مثله: مررت برجٍل من زيد، ومررت/ بزيد من أخيك، على تقدير الذي هو زيد والذي هو أخوك. وهذا لا يقال. وللناظم أن يجيب عن هذا بأن (من) لم تدخل فيه على الجنس، فإنها إذا كانت لبيان الجنس، فيلزم دخولها على الجنس الذي تكون به مبينة. وعلى هذا تقول: مررت بالعصبة من الرجال، فتكون على تقدير: الذين هم الرجال. ومررت بالمنتجعة من بني تميم، وبالفرسان من قريش. ومن ذلك أيضًا قول الله تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهٍب ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندٍس وإستبرٍق}. وما كان نحو ذلك. ومنه أيضًا: (من) الجارة للتمييز نحو: لي ملؤه من عسل، وبكم درهٍم اشتريت ثوبك؟ وما ذهب إليه من إثبات هذا القسم في (من) مذهب طائفة ونفاه

بعضهم، وهو رأي الشلويين، ويظهر من سيبويه، وتأولت هذه الأمور على أن تكون (من) فيها للتبعيض، وابن مالك إنما وقف مع ظاهر المعنى بناء على قاعدة سيبويه وغيره من الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره، فإذا كان ظاهر المعنى شاهدًا بأمر، فلا ينبغي أن يتعدى إلى ما يكون فيه تكلف. فإن قيل: فإن الأولى أيضًا تقليل المعاني، وردها إلى أقل ما يمكن، بناء على قاعدة تقليل الأوضاع. فالجواب: أن هذا يعارضه الحمل على الظاهر، فإذا تعارضت القاعدتان وجب الرجوع إلى الترجيح، فمال الناظم إلى ترجيح قاعدة الظاهر، ومال غيره إلى ترجيح قاعدة تقليل الأوضاع. والثالث: أن تأتي لابتداء الغاية في المكان وهو قوله: (وابتدئ في الأمكنة)، أي: اجعلها لابتداء الغاية في المكان بمعنى أن يكون ما بعدها أول غاية الفعل

الذي تعلقت به، وعلامتها أن يصلح معها (إلى) التي هي لانتهاء الغاية، نحو: سرت من الدار إلى المسجد، وكذلك تعرف التي لابتداء الغاية في الزمان بصلاحية (إلى) معها. ومثال ذلك قول الله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}. وقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض}. وقوله: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى}. وهو كثير. ولا خلاف في ثبوت هذا القسم. والرابع: أن تأتي لابتداء الغاية في الزمان. وذلك قوله: (وقد تأتي لبدء الأزمنة). يعني أن (من) قد تدخل قليلًا على الأزمنة، فتكون لابتداء الغاية فيها، كما كانت كذلك في الأمكنة إلا أنها في الأزمنة لا تكثر كثرتها في الأمكنة، وحقيقة المعنى: وقد تأتي لبدء الغاية في الأزمنة لكن حذف واختصر، وأضاف البدء إلى نفس الأزمنة لما كان المبدوء واقعًا فيها، نظير قوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار}. فالمعنى: بل مكر كم في الليل والنهار، فحذف واختصر لعلم المخاطب، فكذلك هذا. وهذا القسم مختلف في ثبوته، فمذهب أكثر البصريين نفيه، وأن (من) هنا لا تدخل على الزمان أصلًا، وإنما هي في المكان نظير (مذ) في الزمان، فكما لا تدخل مذ على الأمكنة باتفاق كذلك لا تدخل (من) على الأزمنة.

وأما الكوفيون: /فأجازوا ذلك - ووافقهم المؤلف في التسهيل - واستدلوا على ذلك بالسماع، ففي القرآن: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}. فدخلت (من) على (أول يوم) وهو زمان. وحكى الأخفش عن بعض العرب: من اليوم إلى غد. وقال النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب تورثن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب وقال زهير بن أبي سلمى: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر وقال أبو صخر الهذلي:

كأنهما ملآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر وقال قيس بن ذريح: فمن كان محزونًا غدًا لفراقنا ... فملآن فليبك لما هو واقع والمراد من البيتين (من الآن) فحذقت نون (من) ضرورة. وأنشد في الشرح: ألفت الهوى من حيث ألفيت يافعًا ... إلى الآن مبلوًا بواٍش وعاذل وأنشد أيضًا: ونجوت من عرض المنو ... ن من الغدو إلى الرواح إلى أبيات أخر ذكرها في شرحه. وفي الحديث: "من يعمل لي من نصف النهار على قيراط، فعملت النصارى

من نصف النهار على قيراط، ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين، ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر" الحديث. وفي الحديث: "فمطرنا من يوم جمعة إلى جمعة". وقال عائشة رضي الله عنها: "ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل"؛ وهذا على رأي المؤلف في الاستشهاد بالحديث، فهذه الشواهد تدل على صحة ما رآه الكوفيون، وقد تردد الفارسي في المسألة، فذكر في التذكرة مذهب سيبويه، وأن (من) و (مذ) لا تدخل إحداهما على الأخرى، ثم ذكر ما خالف ذلك من كلام العرب مما تقدم ذكره ومن غيره. ثم قال: فلو قال قائل: إن (من) قد لزم الجر وكثر تصرفه، والحروف التي تلزم ولا تنتقل إلى موضع آخر قد يكون فيها من الاتساع والتصرف ما لا يكون فيما ينتقل ولا يلزم، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن تدخل (من) على الزمان ولا تكون كمذ؛ لأنها تنتقل عن عمل الجر. قال: "وينبغي أن يستقرأ هذا، فإن أصيب في مواضع تكثر قطع على هذا، يعني على دخولها على الزمان، ولم يحمل على حذف المضاف، كما تأول أصحابنا قوله: {من أول يوم} و:

"* ... من حجج ومن دهر *" هذا كلامه. وقد أنصف؛ فلذلك أتى الناظم - رحمه الله - فاعتبر المسألة بكلام العرب، فوجد دخول (من) على الأزمنة قليلًا لا يقوى أن يقاوم دخولها على الأمكنة ولا يقارب، فأقرها على ما هي عليه، ولم يطلق القول بالجواز، ولا حتم بالمنع، ولا شك فيما رأى أنه الصواب. وقد تأول المانعون ما جاء من الشواهد مخالفًا لمذهبهم، فقدروا مصادر من قبل الزمان، فيقولون: التقدير: من تأسيس أول يوم، ومن مر حجج، ومن مر أزمان يوم حليمة، وكذلك سائرها: وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أن السماع هنا قد كثر كثرة تؤذن بأن التأويل فيها تكلف؛ إذ التأويل إنما يسوغ في النوادر، وليس هذا منها، وإن كان قليلًا، فمثله لا يصرف بالتأويل إلى خلاف ظاهره. والثاني: أني سمعت شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه - يحكي عن شيخه أبي عبد الله بن عبد المنعم إبطال تقدير المصدر لما يلزم عليه من التسلسل، وأن مذهب الكوفين هو الصواب، لأنك إذا قدرت في الآية: من تأسيس أول يوم، اقتضى قصد التاريخ تقدير زمان قبل التأسيس حتى يكون المعنى: من زمان تأسيس أول يوم، فترجع المسألة إلى أول أمرها، فيفتقرون إلى تقدير مصدٍر هكذا أبدًا، وهو باطل، وهكذا سائر الشواهد، فالذي تلخص من هذا أن دخولها على الزمان ثابت غير مندفع، لكنه قليل عملًا بالاستقراء، ولمن معنى آخر سيذكره بعد هذا إن شاء الله.

فإن قيل: ما ذكره قاصر من وجهين: أحدهما: أنه ذكر في التي لابتداء الغاية تقييدًا لو سكت عنه لكان أتم، فإنه ذكر أنها لابتداء الغاية في الزمان والمكان، وهي في الحقيقة لابتداء الغاية مطلقًا، كانت في زمان أو مكان أو غيرهما، فقد قال سيبويه: "وتقول إذا كتبت كتابًا من فلان إلى فلان"، قال: "فهذه الأسماء سوى الأماكن بمنزلتها"، يعني أنها ليست بأماكن كقولك: من مكان كذا إلى مكان كذا، لكنها بمنزلتها في ابتداء الغاية وانتهائها، وكذلك قال غيره، وهو صحيح، فالصواب هنا ما قاله في التسهيل حيث قال: "وهي لابتداء الغاية مطلقًا على الأصح". والثاني: أنه ذكر لمن هنا من المعاني أقل مما ذكره في التسهيل؛ لأنه ذكر هنا التبعيض، وبيان الجنس، وابتداء الغاية في المكان والزمان، والبدل. ونقصه أن تكون للتعليل، نحو: جئتك من أجل إكرامك. ومنه: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق}. {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}. الآية. وأن تكون للبدل نحو: {أرضيتهم بالحياة}

الدنيا من الآخرة} بمعنى بدلًا من الآخرة. {ولو نشأ لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}. وأن تكون للمجاوزة نحو: عذت منه، وأنفت منه. وفي القرآن: {إني عذت بربي وربكم من كل متكبر}. ومن ذلك: زيد أفضل من عمرو، لأن المعنى جاوزه في الفضل. وأن تكون لانتهاء الغاية نحو: قربت منه؛ لأنه يفيد معنى قربت إليه. وأن تكون للاستعلاء فتوافق على كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي على القوم. قاله الأخفش. وأن تكون للفصل بين المتضادين نحو: {والله يعلم المفسد من المصلح}، {حتى يميز الخبيث من الطيب}. وأن تكون بمعنى الباء كقوله: {ينظرون من طرٍف خفي}. حكاه الأخفش عن يونس قال كما تقول: ضربته من السيف، أي بالسيف، وأن تكون بمعنى (في) كقول الشاعر، وهو من أبيات الحماسة:

/ عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلًا أن يكون له غد وهذا منتهى ما زاد في التسهيل، فذكر هنا أقل من النصف، فهو تقصير ظاهر. فالجواب عن الأول: أنه يمكن أن يكون جعل ابتداء الغاية للمكان هو الأصل، وما سواه راجع إليه بالمجاز، فكأنه جعل الأشخاص أماكن بالتأويل لملازمة الأماكن لها؛ إذ لا يقال من فلان إلى فلان إلا ولهما مكانان بينهما مسافة، ويصل الكتاب من أحد المكانين إلى الآخر. وعن الثاني: أن يقال: إن ما ذكر هنا من المعاني هو الأشهر في الذكر، والأكثر في الاستعمال، وهذا النظم لم يوضع للتتبع؛ بل للاقتصار على جل المهمات كما قال في آخره: * نظمًا على جل المهمات اشتمل * وبهذه الطريقة لا يعترض عليه فيما ترك من معاني هذه الحروف، وإنما ينظر معه فيما ذكر خاصة. وأما الزائدة: فهي التي قال فيها: (وزيد في نفي وشبهه) أي: زيد الحرف الذي هو من، والحروف تذكر وتؤنث على تأويل الحرف، أو اللفظ، أو الكلمة، ومعنى كونه زائدًا كونه يدخل في موضٍع يطلبه العامل بدون ذلك الحرف، فيعمل فيه.

فإذا قلت: ما في الدار أحٍد، فأحد قد تسلط عليه عامل الابتداء من جهة المعنى ليرفعه بأنه مبتدأ، وكذا: ما جاءني من أحٍد، الفعل طالب لأحد بالفاعلية، فجاءت (من) عاملة في اللفظ مع طلب العامل الأول العمل كذلك في اللفظ، فسميت زائدًة لذلك، لأنها مقحمة بين طالب ومطلوب، ولذلك قد يقولون في (لا) من قولهم: جئت بلا زاٍد، إنها زائدة وإن كان سقوطها مخلا بالمعنى المراد، فإنما قصدوا بالزيادة ما ذكر، فعلى هذا قولهم: ما جاءني من رجٍل. (من) فيه زائدة، وإن كانت تدل على الكثرة والعموم، لأن ذلك المعنى المذكور موجود فيها، فلا يرد إذًا على النحويين على هذه الطريقة اعتراض المبرد في جعلهم (من) في هذه المواضع زائدة لحدوث معنى الكثرة بحدوثها، لأنك إذا قلت: ما جاءني رجل، احتمل أن تريد: ما جاءني رجل واحد، بل اثنان أو ثلاثة، أو: ما جاءني رجل في قوته ونفاذه، بل ضعيف الرجولية، أو ما جاءني رجل بل امرأة. فإذا قلت: ما جاءني من رجٍل، عم جميع ذلك، فأين كونها زائدة. فأجيب عن ذلك بهذا المعنى المقرر. وذكر بعضهم طريقة أخرى في الزيادة: وهي الزيادة لمجرد التوكيد من غير

إفادة كثرة ولا عموم، ورد على المبرد بقولهم: ما جاءني من أحد؛ إذ لا دلالة على عموم ولا كثرة؛ لأن أحدًأ قد أفاد ذلك المعنى؛ إذ هو مرادف لكراٍب، وعريٍب، ودياٍر ونحوها، وهي موضوعة لعموم النفي، فإذًا لا يمكن إلا الزيادة. فإذا ثبتت زيادتها البتة في: من أحٍد جاز في: ما جاءني من رجٍل أن تزاد، فتكون على ضريين: تكون زائدة على حد زيادتها في: ما جاءني من أحٍد، وتكون / /287/ أيضًا مفيدًة للعموم، وهذا المعنى قرره الفارسي، وهو صحيح في نفسه إلا أن اعتراض المبرد قد يرد عليه؛ لأن زيادة (من) هنا للتوكيد، فالتوكيد هو أصل معناها، فليست بزائدة لأن حقيقة الزائدة ما دخوله كخروجه، وهذه ليست كذلك لأن التوكيد قبل دخولها مفقود، فلما أتى بها حصل بها التوكيد، وهو معنى كالتبعيض، والابتداء، فلا تسلم هذه الطريقة على هذا التقدير، كما أن في الطريقة الأولى محلا للبحث. فقد يمكن أن يريد الناظم بالزيادة على هذه الطريقة ما لم يأت لمعنى العموم. وأما على الأولى: فهي تسمى زائدة، وإن جاءت لمعنى العموم، ومذهبه في التسهيل يشير إلى الطريقة الأولى، وإليها يشير تمثيله هنا؛ لأنه يمكن في قوله: (ما لباغ من مقر) أن تكون (من) للتوكيد، أو لإفادة العموم. فإذا تقرر معنى زيادة الحرف، فنرجع إلى كلام الناظم، فقوله: (وزيد في نفٍي وشبهه) إلى آخره، يعني أن (من) تزاد بشرطين: أحدهما: أن تقع في نفٍي أو ما أشبه النفي. أما زيادتها في النفي، فنحو: ما

جاءني من رجٍل، وما في الدار من رجٍل، وما ضربت من أحٍد، هذا على الطريقة الأولى. وعلى الثانية: إنما يصح التمثيل بما في الدار من أحد، وما جاءني من أحد، وما أشبه ذلك، فعند ذكر أحد تتعين الزيادة، ولكن إنما يقع الاعتماد في التمثيل هنا على الأولى، وعند ذلك يتسع مجال التمثيل، ففي القرآن: {وما من إله إلا الله}. {وما من إله إلا إله واحد}، {أن تقولوا ما جاءنا من بشيٍر ولا نذير}. {وما آتيناهم من كتٍب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير}. وذلك كثير. وأما شبه النفي: فالاستفهام، والنهي، فالاستفهام نحو قولك: هل جاءك من أحد؟ ، وهل في الدار من أحٍد؟ وفي القرآن: {هل من خالق غير الله}. {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحٍد}. {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء}. والنهي نحو: لا تضرب من أحد، ولا تقم من أحد. واشتراطه هذا الشرط بناء منه على مذهب الجمهور من البصريين. وذهب الكوفيون والأخفش إلى جواز زيادتها في الواجب من غير اشتراط نفٍي أو شبهه، وإليه مال في التسهيل، واستدل عليه في الشرح

بأشياء محتملة. والصواب ما ذهب إليه ها هنا؛ لأن السماع المستمر قضى أنها تختص بالنفي، إذ لم تأت زيادتها في الإيجاب إلا في محل الاحتمال أو في النذور، فلا يصح أن يقضى بالقياس حتى يتبين من الاستقراء إليها بكثرة مجيئها في الكلام، فإذا لم يكن ذلك، فيجب الوقوف مع السماع؛ لئلا ندعي على العرب ما لا نعرف. فإن قيل: قد ثبتت الزيادة كثيرًا في الواجب بحيث لا يسع إلا القول بمقتضاها، فمن ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين}. وقوله: {يحلون فيها من أساور من ذهب}. {ويكفر عنكم من سيئاتكم}. {يغفر لكم من ذنوبكم}. {تجري من تحتها

الأنهار}. {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}. وقال المؤلف: "إذا دخلت (من) على قبل، وبعد، ولدن، وعن، فهي زائدة" فهي إذًا في قوله: {لله الأمر من قبل ومن بعد}. {قد بلغت من لدني عذرًا}. وقول الشاعر: * من عن يمين الحبيا نظرة قبل * ونحو ذلك زائدة؛ لأن دخولها لا يزيد معنى على ما كان قبل دخولها. وعلى ذلك حمل الكسائي قوله عليه السلام: "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون". وعلى ذلك أيضًا حمل ابن جني القراءة المروية عن الأعرج: {لما آتينا كم من

كتاب وحكمة} على أن أصلها لمن ما، فزاد (من). وقد حكى الناس: قد كان من مطٍر، وقد كان من حديٍث فخل عني. وأما الشعر: فمن ذلك قول الشاعر: وكنت رأى كالموت من بين ساعة ... فكيف يبين كان موعده الحشر وقال الراجز: * أمهرت منها جبة وتيسا *

إلى غير هذا من الأبيات المذكورة في الشرح، فهذا سماع كثير ثابت نظمًا ونثرًا، فما الذي يمنع من القياس؟ فالجواب: أن جميع ما ذكر من السماع لا يثبت به ما قال. أما أولًا: فإن الأصل الثابت في الحروف ألا تدعى فيها الزيادة إلا إذا تيقنت، وقام الدليل عليها، وأما مع بادي الرأي فذلك غير مخلص. وأما ثانيًا: فإن هذه المواضع المستشهد بها محتملة لما قال، ولغير ذلك. أما الآية الأولى: فعلى حذف الموصوف حملها طائفة كأن قال: نبأ من جملة نبأ المرسلين تعبر به أو تتأسى أو نحو ذلك مما يليق، فـ (من) إذذاك للتبعيض، وعلى هذا يجري الحكم في الآية التي تليها، وفي قوله: {يغضوا من أبصارهم}، وقولهم: كان من مطر، ومن حديث. وقد تحذف العرب المفعول لمقاصد، وتجتزئ دونها لدلالة عليها، ولغير دلالة. وأما {يكفر عنكم من سيئاتكم} {يغفر لكم من ذنوبكم}. فإنه مؤول كله على تضمين الفعل معنى فعل آخر، كأنه قال: يخلصكم من ذنوبكم، فرجع إلى معنى قوله في الآيات الأخر {يغفر لكم ذنوبكم}. فـ (من) إذًا لابتداء الغاية، كقولك: خلصت منه، وخرجت منه، وكذلك هي لابتداء الغاية مع قبل وبعد ونظرائهما، فالمعنى استقر له الأمر من هذه الغاية، ومن هذه الأخرى، ولم يذكر انتهاء الغاية؛ إذ لا يلزم ذكرها، وقد يكون ترك ذلك أبلغ، أو تكون غير محتاٍج إلى ذكرها للعلم بها، أو لغير ذلك.

وأما حديث: "إن من أشد الناس عذابًا"، فعلى إضمار الشأن؛ فلذلك رفع (المصورون). والعجب أن المؤلف حمل الحديث في التسهيل على إضمار الشأن، وصرح بمخالفة الكسائي، ثم التزم هنا مذهبه، فاستدل به في الشرح على الزيادة. وأما {لما آتيناكم} فإن ما قاله ابن جني فيها تفريع على مذهب الأخفش، والرواية فيها مقال، وإن سلم ما قال فذلك شاذ كشذوذ ما أتى في الشعر من ذلك. وأما {تجرى من تحتها} فـ (من) لابتداء الغاية كسائر الظروف المجرورة بـ (من)، / وإذا كان كذلك لم يثبت لها زيادة في الواجب. وأجاز بعض الناس زيادتها في غير النفي والاستفهام والنهي، وذلك الشرط، فيقال عنده: إن أكرمت من رجٍل أكرمك. ورد بأن القائل: إن ضربت، وإن كان غير واقٍع مفروض الوقوع بخلاف الاستفهام، فالشرط في معنى الواجب، وإن كان غير واجب؛ ولذلك يخالف الاستفهام في الأحكام الجوابية، وفي غيرها، مع أن السماع في ذلك معدوم أو نادر فلا يلتفت إليه. فإن قيل: فقول الناظم: (وزيد في نفٍي وشبهه) يقتضي دخول الشرط، فإنه يشبه النفي في كونه غير واقع. قيل: وكذلك يدخل له إن اعتبر هذا المقدار من الشبه، الأمر، والعرض، والتحضيض، والتمني، والترجي، والدعاء، فكنت تقول على هذا المفهوم: اضرب من رجل، وهلا ضربت من رجل، وليتك تضرب من رجل، وكذلك

سائرها، وذلك غير صحيح، وكانت هذه الأشياء داخلًة عليه في الاستثناء المفرغ، وفي زيادة الباء في الخبر، وفي غير ذلك من المواضع التي قيد فيها بالنفي وشبهه، وإنما أراد بشبه النفي ما اختص بخصوصية النفي، وذلك أن يدخل على الأسماء المختصة بالنفي كأحٍد، وغريٍب، ودياٍر، وكتيٍع، ونحوها، وذلك يختص بالاستفهام، والنهي؛ لأن النهي إنما محصوله نفي الفعل، والاستفهام يفهم هذا المعنى من حيث كان يستدعي الجواب بالنفي، ولذلك لا تدخل (من) مع كل أداة استفهام، فلا تقول: أين قام من رجٍل؟ أو متى ضربت من رجٍل؟ وإنما تدخل مع هل؟ وما يكون مثلها؛ إذ كان؛ لأن متى، وأين، ونحوهما لا تستدعي نفي الفعل؛ بل تقتضي ثبوته، وأن الاستفهام إنما هو عن وصٍف من أوصاف الفعل الواجب، وليس الفعل واجبًا مع هل، فقد تبين أن غير الاستفهام ليس بشبيٍه بالنفي بهذا الاعتبار، فلا يشمله قول الناظم: (وشبهه) أصلًا. والشرط الثاني: لزيادة (من) أن تدخل على نكرة كما تقدم تمثيله، وذلك قوله: (فجر نكرة). ومثل اجتماع الشرطين بقوله: (كما لباغ من مقر)، والباغي: الظالم. المتعدي. يقال: بغى الرجل: إذا تعدى، وبغى عليه: تعدى، وجاوز حد القصد. والمقر: ما يستقر فيه من الأرض، والشرط المذكور هنا يشترطه البصريون، ويوافقهم على اشتراطه الكوفيون إلا الأخفش من البصريين، فإنه يزعم أنها تزاد على الإطلاق من غير شرط، ونحا نحوه المؤلف في التسهيل أيضًا، إذ قال في المجرور بمن الزائدة: "ولا يمتنع تعريفه، ولا خلوه من نفي أو

شبهه، وفاقًا للأخفش". واستدل على ذلك بما تقدم، وما استدل به غير ثابت كما مر. ثم في هذا الكلام مسألتان: إحداهما: أن ظاهره يعطي أن هذه الزيادة سماع؛ لأن قوله: (وزيد) يخبر عن أمٍر ماٍض، وأنه مفروغ منه، وذلك إنما يصدق على العرب، فإنهم الذين زادوا، ولو أراد زيادة القياس لقال: يزاد، أو يزاد في كذا، أو يجوز زيادته، أو ما يعطي معنى القياس، ولكنه لم يفعل ذلك، فأشكل كلامه من حيث إنه يوهم الوقوف على السماع/ وليس كذلك؛ بل هو قياس مطرد. والجواب: أن قوله: (وزيد) لا يتعين للعرب؛ بل يمكن أن يريد أن أهل القياس من النحويين المتقدمين زادوه، فإذا أمكن هذا لم يحمل على الأول لأمرين: أحدهما: أنه إنما انتصب للإخبار عما يقاس، فهو الأصل الذي انتصب لتقريره، فلا يحمل على غيره إلا بدليل. والآخر: أنه قيد الزيادة بقيود، ومثلها بمثاٍل مرتجٍل مقيٍس، ولم يعين للمثال مثالًا مسموعًا، فدل على أنه قصد تقرير القياس لا التنبيه على السماع. والثانية: أن هذه الزيادة لم يعين لها موضعًا مخصوصًا، وكان من حقه ذلك؛ إذ لا تزاد في كل موضع، وإن كان ثم نفي أو ما أشبهه؛ إذ لا تقول: ما زيد من قائٍم، وما هذا من رجٍل، ولا ما كان نحو ذلك، وإنما تزاد في مواضع مخصوصٍة، وهو لم ينبه عليها، فكان كلامه غير محرر. والجواب: أن تمثيله أعطى شرطًا ثالثًا لا بد منه، وهو أن تكون النكرة يراد بها العموم، فيكون الحرف داخلًا يفيد نصية العموم أو تأكيده، فإن قوله: (ما

لباغ من مقر (مقر) فيه يراد به العموم، نفى كل مقر في الدنيا على أي وصٍف كان أو أي جهٍة كان، فإذا كان كذلك لم يدخل له: ما زيد قائم ونحوه؛ إذ لا يراد بقائٍم العموم أصلًا، بخلاف ما إذا قلت: ما في الدار رجل، فإنه يصح أن يراد فيه برجل العموم، فتدخل (من) إن شئت، فتقول: ما في الدار من رجٍل، وكذلك تقول: ما قام من رجٍل، لأن رجلا يراد به العموم، فإذا كان كذلك فقد حصل للزيادة ضابط صحيح، فيجوز دخولها على المبتدأ في نحو: ما في الدار من رجل، وما من عالٍم إلا زيد. وفي القرآن: {ما لكم من إلهٍ غيره}. {وما من إلهٍ إلا الله}. وعلى الفاعل نحو: ما قام من أحٍد، وما جاءني من رجٍل، وفي القرآن: {هلا يراكم من أحٍد}. وعلى المفعول نحو: ما ضربت من رجٍل، وقال الله: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء}. ويونس بمعنى العموم في الموضع صلاحية (أحد) في مكان النكرة التي تريد أن تدخل عليها (من)، فإن كانت لغير عاقل فقدرها للعاقل، فإن صلح (أحد) مكانها فهو موضع زيادة (من)، وإلا فلا. ولقد أسقط هذا الشرط الثالث بعض النحويين. ومنهم ابن عصفور، وهو مخل بموضع القياس، وممن اعتنى به ابن أبي الربيع، فزاد: أن يراد بالنكرة

استغراق الجنس، واعترض عليه بأن استغراق الجنس مستفاد من زيادة (من) في أحد الوجهين، فكيف يشترط ما هو لازم عنها. وأجيب بأن (من) لا تزاد في النكرة إلا بشرط أن يراد بها استغراق الجنس قبل دخول (من) عليها، ودخول (من) علامة على ذلك المعنى، فإن كانت تلك النكرة غير مراٍد بها استغراق الجنس، لم يجز دخول (من) عليها، كقولك: ما قام رجل واحد بل اثنان، أو أكثر، فالصحيح اشتراطه. وأيضًا إن لم تقيد بذلك القيد لم يكن دخولها على المنفي النكرة منضبطًا، وهذا ظاهرة. / للانتها حتى ولام وإلى ... ومن وباء يفهمان بدلا يعني أن هذه الأحرف الثلاثة، وهي: حتى، واللام، وإلى تأتي لانتهاء الغاية، أما (حتى) فهي على أربعة أقسام: حرف عطٍف، وحرف ابتداٍء، وحرف تعليل، وحرف جر. فالثلاثة الأولى سيأتي حكمها في مواضعها إن شاء الله. وأما الجارة: فهي التي تكلم فيها هنا، ومعناها انتهاء الغاية كما ذكر، إلا أن مجرورها قد يكون مصدرًا مؤولًا، أي مسبوكًا من فعٍل وحرٍف مصدري، نحو قولك: صل حتى يطلع الفجر، تقديره: حتى طلوع الفجر، ومنه: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض}. الآية، وموضع ذكر هذا باب إعراب الفعل. وقد يكون اسمًا صريحًا، نحو قوله تعالى: {سلام هي حتى مطلع

الفجر}، وقوله: {ليسجننه حتى حين}. وقوله: {فتول عنهم حتى حين}. وقال الشاعر: قيل: هو الملتمس، وقيل غيره. ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها يروى برفع النعل، ونصبه، وجره. والشاهد في الجر، فإن قوله: (للانتها حتى) يريد الجارة، لأنها التي ذكرها هنا بخلاف غيرها، فإنها ليست بهذا المعنى، بل لها معاٍن أخر، فالعاطفة كالواو، والتعليلية كاللام، أو كي، والابتدائية كإنما، ونحوها من حروف الابتداء، إلا أن الغاية يصحبها معناها، فإنه المعنى الأصلي لها، فحتى هنا مرادفة لـ (إلى)؛ ولذلك يصح تعويض (إلى) منها. وأما (اللام) فتكون أيضًا كما قال لانتهاء الغاية، وهو أحد معانيها التي يذكرها بعد، نحو قولك: هديته للطريق، كهديته إليه. قال الله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا}. كقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى

صراط مستقيم}. وقال تعالى: {بأن ربك أوحى لها}. فاللام بمعنى إلى كقوله: {وأوحى ربك إلى النحل}. وقال العجاج: * وحى لها القرار فاستقرت * ووحى وأوحى بمعنى واحد. ومنه أيضًا قوله تعالى: {حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلٍد ميٍت}. لقوله في الآية الأخرى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه إلى بلٍد ميٍت}. وقال: {كل يجري لأجٍل مسمى}. وفي موضع آخر: {كل يجري إلى أجٍل مسمى}. وأما (إلى) فمثالها في انتهاء الغاية قولك: جئت من الدار إلى المسجد. وفي القرآن: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض}. {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}. {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}. {إليه مرجعكم جميعًا} {وإليه ترجعون}. وأطلق القول

في انتهاء الغاية، فدل على أنها في (إلى) لا تختص بالمكان، كما كانت (من) في ابتداء الغاية لا تختص بالمكان، فكما تقول: سرت من الدار إلى المسجد تقول: سرت من يوم الجمعة إلى يوم الخميس. ومنه قول النابغة: تورثن من أزمان يوم حليمٍة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب وقال كثير: وما زلت من ليلى لدن طر شاربي ... إلى اليوم كالمقتضى بكل سبيٍل وحكى الأخفش: / من الآن إلى غد. وفي الحديث: "فمطرنا من جمعة إلى جمعة". والكلام في (إلى) كالكلام في (من)، ولا يرد عليه هنا ما ورد عليه

من كون الغاية توجد لا في زمان ولا في مكان، كما قال سيبويه: "وتقول - إذا كتب كتابًا: من فلان إلى فلان"؛ لأنه أطلق القول هنا في الغاية، ولم يقيدها بالزمان والمكان، كما فعل في (من) فكان كلامه ها هنا محررًا. وقوله: (ومن وباء يفهمان بدلًا) يعني أن هذين الحرفين، وهما (من)، والباء يكونان لمعنى البدلية، أي: عن ما دخلا عليه يفهمان أنه أبدل منه غيره. فأما (من) فهو المعنى الرابع، أو الخامس لها من المعاني المذكورة لها قبل، مثال ذلك: رضيت من إكرامك بالكلام الحسن. وفي القرآن: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلقون}. {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}. وقال الشاعر - ويقال هو أبو الغول الطهوي: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا وأما الباء: فمعنى البدلية من جملة معانيها التي يذكرها بعد، وذلك نحو: عوضت كذا بكذا. ومن قول رافع بن خديٍج - رضي الله عنه -: "ما يسرني

أني شهدت بدرًا بالعقبة". وقال الطهوي المذكور: فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرسانًا وركبانا وعلامة كون الباء أو (من) للبدلية صحة وقوع (بدل) موقعها، وكان قول الناظم: (يفهمان بدلًا) يشير إلى هذا، أي: يفهمان معنى هذا اللفظ حتى يصح وقوعه موقعه، وهو صحيح، والله أعلم. واللام للملك وشبهه وفي ... تعديٍة أيضًا، وتعليٍل قفي وزيد، والظرفية استبن ببا ... و (في) وقد يبينان السببا هذه معاني اللام الجارة، وذكر هنا أنها تجيء على قسمين: زائدة، وغير زائدة، فغير الزائدة تتصرف على خمسة أوجه من المعنى: فتأتي للملك، ولشبه الملك، وللتعدية، وللتعليل، والخامس: ما ذكره قبل من انتهاء الغاية. أما كونها للملك فمعناه أن مجرورها مالك لما ذكر قبلها أو بعدها في الكلام، ومثال ذلك: المالك لزيٍد، والدابة لعمرٍو، ومن ذلك قولنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي القرآن: {قل إن الأمر كله لله}. {إن الأرض لله} الآية. وهو كثير.

وأما كونها لشبه الملك: فيدخل تحته أشياء: منها الاستحقاق، نحو: الجلباب للجارية، والسرج للدابة، والجل للفرس، ومنها النسب، ويعبر عنه بالتخصيص أيضًا، نحو: لزيٍد عم، ولعمرٍو خال، وأما أبوك فلك أب، وما أشبه ذلك. ومنها التمليك الذي عده في التسهيل نحو: وهبت لزيد، وشبه التمليك، نحو: {والله جعل لكم الأرض بساطًا}. {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا}. ومنه قولهم: أدوم لك ما تدوم لي. وفي الشعر ما أنشده في الشرح: ما لمولاك كنت كان لك المو ... لي ومثل الذي تدين تدان ومنها المقابلى لعلى/ نحو: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وقال النمر بن تولب: فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر ومنها اللام التي سماها لام التبليغ: وهي التي تأتي مع قول أو ما في معناه، نحو:

قلت له، وبينت له، وأذنت له، وفسرت له، وما أشبه ذلك، فكل هذه الأنواع داخلة تحت شبه الملك. وأما التعدية: فإن المؤلف لم يذكر اللام - حيث استوفى معانيها - معنى تعديٍة، ولا ذكر أحد من المتقدمين - فيما أعلم - لها هذا المعنى. وأيضًا فليست التعدية من المعاني التي وضعت الحروف لها، وإنما ذلك أمر لفظي مقصوده إيصال الفعل الذي لا يستقل بالوصول بنفسه إلى الاسم فيتعدى الفعل إلى ذلك الاسم بوساطة ذلك الحرف، وهذا القصد يشترك فيه جميع حروف الجر، فإنها وضعت لأن توصل الأفعال إلى الأسماء، فهي كما قالوا في الواو التي بمعنى مع في باب المفعول معه، و (إلا) في باب الاستثناء وما أشبه ذلك؛ ولأجل هذا المعنى سميت حروف إضافٍة، فإنها تضيف الأفعال إلى الأسماء ولم تكن الأفعال لتصل إليها دون تلك الحروف، فإذا توسطت صار الاسم مطلوبًا للفعل وصار في موضع نصب به، ولذلك تعطف على موضع الحرف نصبًا. وبهذا المعنى فسر السيرافي قول سيبويه: "ولكنها - يعني حروف الجر - يضاف بها إلى الاسم ما قبله أو ما بعده"، وهذا الحكم في هذه الحروف غير منفرد عن معانيها التي وضعت لها؛ فلذلك صار هذا الموضع مشكلًا جدًا، وقد فسر ابنه التعدية بنحو: {فهب لي من لدنك وليا}، وقلت له: افعل. ومعنى التعدية في هذا غير ظاهر إلا بالمعنى العام لجميع الحروف، وأيضًا قد جعل أبوه لما مثل به من ذلك معنى غير التعدية، فجعل للمثال الأول معنى التمليك، وللثاني معنى التبليغ. ولقائل أن يقول: قد

جاءت الباء للتعدية في نحو: ذهبت به بمعنى أذهبته، كقوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}. فلم لا تكون اللام كذلك؟ والجواب عنه: أن ذلك لم يثبت في اللام، كما ثبت عند الجمهور في الباء؛ إذ لا يقال: دخلت لزيٍد، بمعنى أدخلته، كما يقال: دخلت به، فالتعدية على هذا المعنى غير ثابتٍة للام مطلقًا، بل ولا لحرٍف من حروف الجر عند المبرد. وأقرب ما يعتذر به عنه أن يريد بلام التعدية اللام التي تلحق المفعول به للمتعدي في الأصل بنفسه لضعٍف لحقه أن يبقى على أصله، فكأنه لما ضعف عن تعديه بنفسه بإطلاٍق قوي باللام، فصارت اللام لاختصاصها بتقوية ما صار ضعيفًا تسمى لام التعدية، ولذلك مواضع: أحدها: أن يتقدم معمول الفعل المتعدي بنفسه، فيجوز دخول اللام على المفعول قياسًا، فيتعدى الفعل بها، نحو قولك: لزيٍد ضربت، ولزيٍد أعطيت درهمًا. وفي القرآن/ الكريم: {إن كنتم للرويا تعبرون}. ويقاس على هذا، ولا يقتصر به على السماع. والثاني: ما كان من العوامل فرعًا عن الفعل المتعدي بنفسه كاسم الفاعل، والمفعول، وأمثلة المبالغة، فإن الفرع لا يقوى في أحكامه قوة الأصل، نحو: هذا ضارب زيدًا، فتقول: هذا ضارب لعمرٍو. ومنه في القرآن: {إن ربَّك

فعال لما يريد}. وهذا أيضًا قياس مطرد، وكذلك المصدر الموصول كقولك: أعجبني ضربك زيدًا، فجائز أن تقول: ضربك لزيٍد؛ لأنه فرع، والفروع لا تقوى قوة الأصول. والثالث: ما كان من الأفعال المتعدية قد بني للتعجب على صيغة (ما أفعله) نحو: ما أضرب زيدًا لعمرٍو وما أعطى زيدًا لعمرٍو الدراهم. قالت طائفة: إنما دخلت اللام على المفعول به في الأصل؛ لضعف الفعل بدخول معنى التعجب فيه، كما ضعف الفعل حين قدم مفعوله عليه؛ لأن الفعل قد رد في التعجب إلى (فعل)، و (فعل) ضعيفة مختصة بغير المتعدي، وإنما تعدى بنفسه إلى المفعول الآخر من أجل النقل بالهمزة. وهذا توجيه حسن. والرابع: الفعل النائب عنه حرف النداء، إذا دخله معنى التعجب أو الاستغاثة جاز جره باللام، وقد كان قبل دخول ذلك المعنى يصل بنفسه؛ لأنه لما حذف الفعل ودخله معنى الإنشاء ضعف عن التعدي بنفسه، وخص ذلك بباب الاستغاثة والتعجب لما دخل على إنشاء النداء إنشاء آخر، فكانت اللام مقوية للعامل على التعدي، وهو معنى كون اللام معدية، وذلك أن اللام في هذه المواضع لم يؤت بها لإفادة معنى زائٍد قصد الإتيان به زيادًة على التعدية، وإلا كان سائر حروف الجر آتيًا فيها عند قصد معانيها، وليس كذلك. فهذا دليل على قصد التعدية وحده دون الالتفات إلى المعاني التي وضعت لها، ولكن لما كان هذا محتاجًا إليه في الكلام على الجملة صار هذا

الاستعمال نحوًا من أنحاء اللام، فعده الناظم. فإن قيل: أما في باب التعجب فقد نص في غير هذا الكتاب على أن المتعدي بنفسه يتعدى فيه باللام، فالظاهر ما تقدم فيه. وأما لام الاستغاثة: فيمكن أن يقول به، ولم ينص فيه على مخالفٍة. وأما ما عدا ذلك فقد نص في التسهيل على زيادتها، وأنها ليست للتعدية؛ إذ قال: "وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياسًا في نحو: {للرويا تعبرون}، {إن ربك فعال لما يريد}. وإذا كانت عنده زائدة بطل كونها للتعدية عنده، ولم يصح ذلك التفسير المتقدم. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه يمكن أن يكون هنا رأي خلاف ما رآه هنا؛ لوجٍه ظهر له، ودليٍل عن له. وهذا من عادته، فقد يرى هنا ما يرى في التسهيل خلافه، وقد مضى من هذا مواضع، وستأتي أخر يقع التنبيه عليها إن شاء الله لله تعالى. والثاني: أن القول/ هنا بالزيادة على خلاف الدليل من وجهين: أحدهما: أنه خروج عن أصل وضع الحروف، وذلك لا يصلح إلا إذا اضطر إليه، ولم يوجد عنه مندوحة، وقد وجدت بما ظهر له هنا. والآخر: أن العلة في زيادتها عنده في هذا الموضع ضعف العامل عند تقدم المعمول على العامل، أو كونه فرعًا عن مباشرة العامل فيه بنفسه، وهذه العلة

أولى في الاعتلال لقصد التعدي باللام منها لقصد الزيادة؛ إذ لا يناسب ضعف العامل زيادة اللام من حيث هي زيادة ويناسب الإتيان بها للتعدية، فإن أراد بالزيادة هذا المعنى فصحيح، ويرجع الخلاف في اللفظ، وسماها زائدة بمعنى أن العامل مما يصل بنفسه على الجملة، فعدي بحرف، ولا مشاحة في الألفاظ، وقد أطلق لفظ الزيادة على اللام هنا شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه، ثم قال: ويمكن أن يقال: إنها في هذه المواضع غير زائدٍة، ولكنها لتعدية ما ضعف عن التعدي إما بالتأخر، وإما بكون عمله غير أصيٍل، كما قالوا في لام المستغاث ونحوها، فكأنه - رحمه الله - أجاز الإطلاقين باعتبارين، والذي يصح دعوى الزيادة فيه ما كان نحو: {ردف لكم}؛ لأنه لا وجه لدخول اللام المعدية هنا؛ لعدم الموجب إلا أن يقال ما يقال في نحو: نصحت لك، وكلت لك على القول بأنهما أصلان في نحو: جئتك، وجئت إليك، فيمكن - وقد أشار إليه ابن أبي الربيع، فلا زيادة إذًا في نحو: {ردف لكم}. فإن قيل: كيف حملت القول بالزيادة وعدمها على أنه خلال في لفٍظ، والخلاف موجود نقلًا، فمنهم من قال: إنها توجد زائدة، ومنهم من قال: لا تكون زائدًة البتة، والقائل الأول هو المبرد، واستدل بقوله: {للرؤيا تعبرون}. وبقوله: {ردف لكم}. ورد عليه بأن (ردف لكم) مضمن معنى الوصول، فلذلك تعدى باللام وأن (للرؤيا تعبرون) قد ضعف العامل فيه عن الطلب، فقوي. فهذا كله نزاع معنوي لا لفظي.

فالجواب: أن تحقيق الخلاف راجع إلى ما تقدم، فإن أراد القائل بالزيادة أنها لم تأت لقصٍد آخر أصلًا، فقوله غير صحيح؛ إذ لو كانت اللام في نحو: {للرؤيا تعبرون}. كما قال، وقد كثر ذلك فيها مع التقدم لكانوا خلقاء أن يزيدوها مع التأخير كثيرًا حتى يصير قياسًا، لكن ذلك باطل، فما أدى إليه كذلك، فلما اختصت بالتقديم، أو بكون العامل فرعًا، دل على أن الزيادة لقصٍد، وهو معنى كونها غير زائدة. ثم دلنا الدليل أن التقديم يضعف به العامل عن طلب المعمول بدليل أنك تقول: زيد ضربت، فلا يتسلط (ضربت) على (زيد)، ولا تقول: ضربت زيد البتة، وما ذاك إلا أن التقديم يضعف العامل عن العمل في ذلك المقدم، فذلك بعينه هو السبب في دخول اللام كثيرًا، وأن اللام لتقوية الفعل على الوصول إلى ذلك المتقدم، وهو معنى التعدية. وأما كون اللام للتعليل، وهو معنى السببية، / أي أن المجرور بها على للحكم المذكور قبلها أو بعدها، فمثاله: جئت لكرمك، وأتيتك لنيل فضلك، وكلمتك لنصحك، ومنه: كل لامٍ دخلت على المفعول له. ومنه بالتأويل قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس} الآية. وقد جعل الزمخشري من ذلك ما كان نحو قوله تعالى: {وقال الذين كفروا آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه}. وقوله: {وقالت أخراهم لأولاهم}. {ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يوتيهم الله خيرًل}. وما أشبهه من القول المحكي

على الغيبة. ومنه قول أبي الأسود الدؤلي: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدًا وبغيًا: إنه لذميم وعلامة هذه اللام أن يصح تقدير (من أجل) أو (بسبب) في موضعها. و(قفي) في كلام الناظم فعل مبني للمفعول من: قفوت أثره، أي اتبعته، والضمير فيه اللام. وقوله (في تعديٍة) متعلق به، والتقدير: وقفي اللام في التعدية والتعليل، أي اتبع واعتمد يعني أن ذلك ثابت في اللام من كلام العرب. وأما الزائدة: فهي التي نبه عليها بقوله: (وزيد)، والضمير اللام، وكل حرف من حروف المعجم يجوز تذكيره وتأنيثه، فمن التذكير قول الراجز: * وكافًا وميمين وسينًا طاسما * ومن الثابت قول الآخر أنشدهما معًا سيبويه: * كما بينت كاف تلوح وميمها *

ويعني أن العرب زادت اللام لغير معنى من تلك المعاني، بل جعلت دخوله كخروجه وأكثر زيادته بالسماع. فمن ذلك الآية الكريمة: {قل عسى أن يكون ردف لكم}. وقد تقدم. ومثل ذلك قول ملحة الجرمي: عملس أسفاٍر إذا استقبلت له ... سموم كحر النار لم يتثلم أراد استقبلته. ومن ذلك أيضًا قول النابغة: قالت بنو عامٍر خالوا بني أسٍد ... يا بوس للحرب ضرارًا لأقوام وقول سعد بن مالك بن قيس بن ضبيعة جد طرفة: يا بوس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا أراد: يا بوس الحرب، ثم أقحمت اللام بين المضاف والمضاف إليه. وهذا مختص بالشعر، وكذلك قول الآخر، وهو أضعف:

فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدًا دواء أي: ولا لما بهم، فزاد اللام ضرورة، وتزاد قياسًا على مذهب الجمهور بين المضاف والمضاف إليه في باب (لا)، نحو: لا أبا لك، ولا يدي لك بهذا الأمر. وأنشد سيبويه: أهدموا بيتك لا أبا لكل ... وزعموا أنك لا أخا لكا فأنا أمشي الدالي حوالكا إلا أن ابن مالك لم يرتض هذا المذهب في الشرح، ولم يتكلم في هذا النظم على هذه اللام فيظهر أنه موافق للشرح أو مخالف. ثم قال: (والظرفية استبن بيا)، الظرفية مفعول بـ (استبن)، ومعنى استبان: عرف، يقال: استبان الشيء بمعنى ظهر، واستبنته أنا: عرفته، فهو يتعدى ولا

يتعدى، فأتي الناظم بالمتعدي، فالمعنى: أعرف الظرفية بسبب الباء أو أعرف الظرفية في الباء وفي، فتكون الباء في (ببا) سببية أو ظرفية، ويريد أن هذين الحرفين يأتيان لمعنى الظرفية، فيكون ما جر بهما ظرفًا للفعل الواقع قبلهما أو بعدهما. فأما الباء: فمعنى الظرفية لها هو ثاني معنى تأتي له؛ لأنه قدم لها معنى البدلية / وسيذكر باقي معانيها التي قصد ذكرها، ومثال الظرفية فيها قولك: زيد بالبصرة، وأقمت بمكة، وفي القرآن الكريم: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا}. {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}. {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى}. {ولقد نصركم الله ببدٍر وأنتم أذلة}. {إلا آل لوٍط نجيناهم بسحر}. {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل}. وعلامة كونها للظرفية صحة وقوع (في) موقعها، وهي علامة أكثرية ينكسر أطرادها، بقولهم: علمت به، وظننت به، وهي عندهم للظرفية، ولا تقع موقعها (في). وأما (في): فالظرفية فيها ظاهرة أيضًا، كقولك: زيد في الدار، والمال في الكيس. ومنه قوله تعالى: {واذكروا الله في أياٍم معدوداٍت}. {ويذكروا

اسم الله في أياٍم معلومات}. {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}. {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. إلا أن الظرفية فيهما قد تكون حقيقية، وذلك كما في الأمثلة، وقد تكون مجازية، كما في قولك: فلان ينظر في العلم. وفي القرآن: {ولكم في القصاص حياة}. {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين}. {لقد كان في قصصهم عبرة الأولي الألباب}. وفي الباء نحو: علمت به، وظننت به بمعنى جعلته موضع علمي أو ظني. ثم قال: (وقد يبينان السببا) ضمير (يبينان) عائد على الباء وفي، يعني أنهما قد يأتيان لمعنى السببية، فيبينان معناها بمعنى أن المجرور بهما يكون سببًا لما ذكر قبلهما أو بعدهما. فأما الباء فقولك: أكرمتك بإكرامك زيدًا، ومنه قوله تعالى: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل}. وقوله: {فبظلٍم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباٍت أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا}. {فبما رحمٍة من الله لنت لهم}. وقال الشاعر: ولكن الرزية فقد شخص ... يموت بموته بشرٌ كثيرٌ

وهذا معنى ثالث ذكره للباء؛ إذ قدم معنى البدلية والظرفية. وأما (في) فلم يقدمها لها معنى إلا الظرفية، وهذا معنى ثاٍن لها، ومثالها في السببية: عذلتك في حب فلان، وأحببتك في لومه. ومنه في القرآن: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} {قالت فذلكم الذي لمتنبي فيه}. وفي الحديث: "عذبت امرأة في هرٍة ربطتها". فمعنى (في) هنا السببية؛ ولذلك يصح في موضعها (بسبب). ومن ذلك قول الشاعر: فليت رجالًا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقولي وهنا مسألتان: إحداهما: أن السببية التي ذكر هنا بمعنى التعليل كما تقدم في الأمثلة. وقد أطلق في التسهيل عليها لفظ التعليل، أعني على (في)، وأطلق على الباء التي يسميها النحويون باء الاستعانة باء السببية، نحو: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، وضربته بالسوط. واعتذر عن إيثار هذا الإطلاق الذي اصطلح عليه

من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله عز/ وجل، فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز، نحو قوله تعالى: {فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم}. {فأخرجنا به من كل الثمرات}. {فأخرجنا به نبات كل شيء}. وهذا الإطلاق لم يرده الناظم هنا، ولا أراد بالسببية إلا معنى التعليل؛ لأنه شرك مع الباء (في)، و (في) لا تأتي للاستعانة أصلاً، وتأتي للتعليل كما تبين. وأيضًا فسيذكر للباء معنى الاستعانة على إثر هذا، فهو هنا فيما يظهر لبادي الرأي موافق لإطلاق النحويين ومفارق لنظره في استحداث ذلك الاصطلاح. وسيأتي توجيه الموضع بما يمكن بحول الله. والثانية: أن قوله: (وقد يبينان السبب) يقتضي أن هذا المعنى فيهما قليل. وهذا مسلم في (في) إن سلم ما قال فيها، فإن كونها لمعنى السببية قليل. أما إن قيل بنفي هذا المعنى فواضح. وأما الباء فالسببية فيها معنى شهير كثير لا يوصف بالقلة، فإتيانه بقد المعطية لمعنى التقليل غير محرر، والله أعلم. ثم أخذ في تكميل معاني الباء فقال: بالبا استعن وعد عوض ألصق ... ومثل مع ومن وعن بها انطق فذكر لها في هذين البيتين سبعة معاٍن، فجميع ما ذكر للباء عشرة معانٍ: الأول: الاستعانة، وهو قوله: (بالبا استعن) أي اجعلها في الكلام لمعنى الاستعانة، وهي في محصول الأمر الباء الداخلة على الآلات، نحو: كتبت بالقلم، فالقلم آلة يحصل بها للكاتب الكتب، وكذلك: ضربت بالسوط،

وقطعت بالسكين. ومنه في القرآن: {الذي علم بالقلم}. {ترهبون به عدو الله وعدوكم}. واعلم أنه حيث أثبت معنى الاستعانة للباء هنا يلزمه أحد أمرين: إما أن يطلق القول بذلك بالنسبة إلى ما جاء للعباد، وما جاء لله عز وجل، فيلزم من ذلك أن يطلق على الله عز وجل لفظ الاستعانة، وأنه مستعين، كما أن العبد مستعين، وذلك لا يجوز كما قال في الشرح، فإن الله هو المستعان، وليس بالمستعين. وإما أن يقال: إن الباء للسببية بالنسبة إلى الله تعالى في نحو: {فأخرجنا به من كل الثمرات} فيلزم مثل ذلك فيما كان راجعًا إلى العباد، ويرتفع معنى الاستعانة عن الباء جملة؛ فلا يكون إتيانه به هنا صحيحًا على هذا التقدير، فعلى كلا التقديرين يلزم المحذور. والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجٍه: أحدها: أن القرآن إنما نزل بلسان العرب على حسب ما يخاطب به بعضهم بعضًا وعلى ما يتعارفون بينهم، ومن جملة ما تعارفوا أن وضعوا الباء تدل على أن ما دخلت عليه آلة للفعل، وهي التي سماها النحاة المتأخرون باء الاستعانة، فإذا جاء في القرآن من خطاب الله للعباد ما هو على ذلك التقرير، فلا نكر فيه بناء على أن كتاب الله أنزل على قانون كلام العباد، كما أنه لا نكر في دخول أداة الترجي في خطاب الله تعالى للعباد في نحو: {لعلة يتذكر أو يخشى}. وقوله:

{عسى الله أن يتوب عليهم}. / بناء على جريانه على قانون كلام العباد، فباء الآلات التي تسمى في الاصطلاح باء الاستعانة كلعل وعسى اللتين تسميان حرفي ترج، والترجي والاستعانة على الله محال. فإذا قيل: لا يقول ابن مالك لأن لعل وعسى للترجي في الآيتين، بل للتعليل. قيل: فقد قال: إن لعل في قوله: {لعلك باخع نفسك}. إنها للإشفاق، ونسبة الإشفاق إلى الله عز وجل كنسبة الترجي إليه في أن ذلك عليه مستحيل. فإن قيل: فإن في ذلك الإطلاق إبهامًا فيجتنب. قيل: فكذلك في إطلاق لفظ الترجي والإشفاق، فكما يسوغ أن تقول في (لعل) مثلًا أنها للترجي أو للإشفاق بإطلاٍق، مع تنزه الله عن الاتصاف بهما، فكذلك تقول في الباء إنها للاستعانة إذا دخلت على الآلات بإطلاق مع تنزه الله عن الاستعانة. والثاني: أن معنى الاستعانة لا يلزم فيه أن يكون المستعين مفتقرًا إلى الآلة المستعان بها ولا بد، بل معنى ذلك إيقاع الفعل بآلةٍ، وقد يكون الفاعل غنيًا عن الآلة، وقد يكون مفتقرًا إليها، فلا يكون معنى الاستعانة مفهومًا من هذا الاصطلاح، ولا فرق بين قولك: باء الاستعانة وبين قولك: الباء الداخلة على الآلات، أو الدالة على أن المجرور بها آلة، أو نحو ذلك، فالخلاف إذًا في لفٍظ ليس تحته معنى يخالف فيه. فإن قيل: كيف يصح أن ينسب إلى الله تعالى الفعل بآلة.

قيل: يصح على الوجه الذي ينسب إليه الفعل بسبٍب. فإن قيل: إن الآلة تقتضي الاحتياج إليها. قيل: فيلزم أن يكون السبب مقتضيًا للاحتياج إليه. فإن قلت في السبب: إن الله مسببه، فكذلك الآلة الله مصيرها آلة، فهو خالق الآلة وما صنع بها، وخالق السبب والمسبب عنه. فإن قلت: الآلة تقتضي أن لها فعلًا لا يكون دونها. قيل: فكذلك السبب، [لأنه] من حيث وضع سببًا، إنما وجد المسبب بوساطته حتى إذا [لم يوجد السبب] لم يوجد المسبب، فقد صار المحذور المتوهم في الآلة لازمًا في السبب، فإن لزم في القول بباء الآلة أمر لزم مثله في القول بباء السبب، فلزم ابن مالك ما فر منه. فإن قيل: فالمراد إذًا من باء السبب وباء الاستعانة معنى واحد، وإذا كان كذلك فما أطلقه المؤلف على الباءين من المعنى الواحد لا محذور فيه، إذ لم يلزم فيهما محذور في كلام الله تعالى. قيل: إطلاقه على باء الاستعانة أنها باء السبب خطأ؛ بل معقول السببية غير معقول الاستعانة، فجعل إحداهما هي الأخرى مخالف للوضع والمعقول، فإن السبب علة معقول وجد الفعل لأجلها، وليس كذلك الآلة؛ ولذلك تقول: أكرمتك بإكرامك إياي، فيعقل منه أن إكرامه لك علة في إكرامك له لا آلة؛ لأن الإكرام لا يتوهم فيه أنه آلة. وتقول: كتبت

بالقلم، فيعقل منه أن القلم آلة لا علة؛ إذ لا يتوهم أن كتبك وقع بسبب القلم، وكذلك تفهم من قوله تعالى: {الذي علم بالقلم}. أن/ القلم آلة التعليم، ولا يفهم أنه سبب التعليم. وهذا ظاهر. والثالث: أنا إن سلمنا أن ما وقع من ذلك في كلام الله تعالى يجب حمله على أن الباء معناها السبب، فلا يجب ذلك في كلام العباد، بل نقول: إن قولك: كتبت بالقلم، وضربت بالسوط، وسائر ما تدخل الباء فيه على الآلات في كلام العباد تحمل الباء فيه على ظاهرها من الاستعانة؛ لظهور ذلك المعنى فيها. ويحصل بهذه الطريقة الجمع بين كلامه هنا وتحرزه في الشرح، ويؤيد ذلك أن ما ذكره من الأمثلة في القرآن يظهر فيه معنى التعليل لصحة تقدير الباء بقولك (بسبب) أو (لأجل)، فتقول: فأخرجنا بسببه من كل الثمرات، وذلك صحيح بخلاف قولك: كتبت بالقلم كما تقدم. والثاني من معاني الباء التعدية، وذلك قوله: (وعدى) أي: عد بها بمعنى أجعلها لذلك المعنى، ومعنى التعدية أن تدخل في الكلام على معمول الفعل، فيصير في المعنى كالمعدى بالهمزة، وذلك قولك: ذهبت به، بمعنى أذهبته، وخرجت به بمعنى أخرجته، وقعدت به، بمعنى أقعدته. ومنه في القرآن الكريم: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}. بمعنى: لأذهب سمعهم وأبصارهم؛ إذ لا يصح توهم المعنى الآخر؛ إذ فيه نسبة الذهاب إلى

الله، وهو محال، وكذلك قوله: {ذهب الله بنورهم}. معناه: أذهب الله نورهم. ومنه قول امرئ القيس: كميت يزل اللبلد عن حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل فالمعنى كما أزلت الصفواء المتنزل، وإلا فالصفواء لا تزل. وقال قيس بن الخطيم: ديار التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب فالمعنى تحلنا. ومن كلامهم: تكلم فلان فما سقط بحرف، وما أسقط حرفًا، على معنى واحد، وأنكر المبرد أن تقع الباء للتعدية، وحمل ما جاء مما ظاهره ذلك على أنها للمصاحبة، وما تقدم من الأمثلة لا يسوغ له هذا التأويل في

جميعها، فإنه إن ساغ له في الآية الأولى أن يقول إن المعنى: ولو شاء الله لذهب البرق بسمعهم، فيعيد الضمير على البرق - لم يسغ له في قوله: {ذهب الله بنورهم}، ولا في البيتين، ولا في المثال الآخر، فالأصح ما ذهب إليه الناظم من إثبات هذا المعنى للباء، وهو مذهب الجمهور. والثالث: من معاني الباء التعويض وذلك قوله: (عوض)، والمراد: وعوض، فحذف العاطف على عادته، وكذلك في (الصق) يعني أنها تجيء أيضًا لمعنى التعويض، يريد أن يقع ما جر بها عوضًا مما بعدها أو قبلها أو معوضًا منه، ويشمل هذا الموضع موضعين مما ذكره في التسهيل، وهما معنى البدل، والمقابلة، كقولهم: اشتريت الفرس بألٍف، وقابلت الإحسان بضعٍف. وفي القرآن: {أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}. {أولائك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة}. ويقال: بعته ناجزًا بناجٍز، والسمن منوان بدرهٍم. وقال الشاعر، وهو من أبيات الحماسة: فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شدوا الإغارة فرسانًا وركبانا ومنه أيضًا/ قول الله تعالى: {اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}.

وقال معن بن أوس: وكنت إذا ما صاحب رام ظنه ... وبدل سوءًا بالذي كان يفعل قلبت له ظهر المجن ولم أدم ... على ذاك إلا ريثما أتحول وقال عبد الله بن الحارث يذكر نفي قريٍش له، ولمن أسلم من بلادهم: وبدلت شبلًا شبل كل ضعيفٍة ... بذي فخٍر مأوى الضعاف الأرامل وفي الحماسة قول الآخر: أبدلها الله بلوٍن لونين ... سواد وجٍه وبياض عينين وقال عدي بن زيد: وبدل الفيج بالزرافة والـ ... أيام خون جم عجائبها والرابع: من معاني الباء الإلصاق، وذلك قوله: (ألصق) يريد أن الباء تقع أيضًا للإلصاق، ومعنى الإلصاق: أن تأتي لمعنى وصل الشيء بالشيء حقيقة أو

مجازًا، كقولك: مررت بزيٍد، ومسحت برأسي، وضربته بيدي، وما أشبه ذلك، وهي عند المؤلف: ما وقع في نحو: وصلت كذا بكذا. وخلطت كذا بكذا. وهو عند غيره على أعم من هذا، فإنها الأصل عندهم في معاني الباء، وما عدا ذلك من معانيها إلى معنى الإلصاق يرجع في الغالب، قال سيبويه: "وباء الجر إنما هي للإلصاق والاختلاط وذلك قولك: خرجت بزيد، ودخلت به وضربته بالسوط، ألصقت ضربك إياه بالسوط". قال: "فما اتسع من هذا في الكلام، فهذا أصله" وما قاله صحيح، ولذلك قال الجزولي: "الباء للإلصاق، ويدخلها معنى الاستعانة، ومعنى الظرف، ومعنى المصاحبة". قال الشلوبين - لما ذكر معانيها - ومعناها إنما هو الإلصاق، وما سوى ذلك من المعاني المذكورة، فليس بخارج عنه، أي أنه مناسب له. ولم يعول ابن مالك على هذا الأصل؛ بل عد لها ما كان أصلًا أو فرعًا بناء على أنها في أصل وضعها لذلك، حملًا على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وقد تقدم لهذا نظائر في كلامه. والخامس: أن تأتي مرادفة في المعنى لـ (مع)، وذلك قوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطق) مثل: منصوب بانطق، أي انطق بها مثل كذا، يريد أنها تقع مواقع هذه الأدوات على معانيها، فتنطبق بالباء في الموضع الذي تنطق فيه بمع،

وكذلك ما ذكر معها، فأما كونها تقع بمعنى (مع) فهي التي تسمى باء المصاحبة، وهي التي يصلح في موضعها (مع)، ويغني عنها وعن مجرورها الحال، وذلك قولك: "المرء بأصغريه". أي مع أصغريه، ومصاحب لهما، وذهبت بزيد، أي مع زيٍد، وخرجت بثيابي، أي معها، ومصاحب لها. وفي القرآن الكريم: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم} أي مع الحق. وقال تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلاٍم منا وبركاٍت عليك}. أي مع سلام. وكذلك قوله: {تنبت بالدهن}. وسمى هذه الباء في التسهيل باء المصاحبة. وأما كونها تقع بمعنى (من)، وهو السادس من معانيها، فمثاله قول الله تعالى: {عينًا يشرب بها عباد الله}. تقديره: يشرب منها، وعلى هذا حمل ابن قتيبة قوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم فأعلموا أنما أنزل/ بعلم الله}. أي: من علم الله. وقال أبو ذؤيب الهذلي.

شربت بماء البحر ثم تصعدت ... متى لجٍج خضٍر لهن نئيح وقال عنترة العبسي: شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم وقال عمر بن أبي ربيعة: فلثمت فاها آخذًا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج ولم يعين الناظم أي تصريف (من) تقع الباء موقعه، فيوهم أحد أمرين كلاهما محذور. أحدهما: أن تكون واقعة موقع (من) في جميع تصاريفها، فيوتى بها لابتداء الغاية، وللتبعيض، ولبيان الجنس، ولغير ذلك من معاني (من). والثاني: أن تقع موقعها في معنى واحٍد من تلك المعاني، وهو لم يبينه، فربما يسبق أنها تقع موقع التي لابتداء الغاية، أو لبيان الجنس، وذلك غير صحيح؛ لأنها إنما تقع موقع التبعيضية خاصة، كما تبين في التمثيل. وقد نص على ذلك في التسهيل إذ قال: "ومن التبعيضية"، فكان الواجب أن يقيد هنا كذلك. ويمكن أن يعتذر عنه بأنه أحال على ما وقع في كلام العرب من ذلك؛

إذ لا توجد إلا بمعنى (من) التبعيضية، فلم يضطر إلى الاحتراز من غيرها. وليس هذا الاعتذار بجيٍد؛ لأنه لم يتكلم في المسموع، وإنما تكلم في القياس؛ ولذلك قال: (بها انطق) أمرًا لمن أراد أن يتكلم بها كذلك قياسًا، فالظاهر أن كلامه غير مخلص. وهنا مسألة وهو أنه إذا ثبت وقوع الباء بمعنى (من) التبعيضية، وأنها مرادفتها ثبت أن الباء تقع للتبعيض عند الناظم، فيقرب مذهب الشافعية في دعوى أن الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} للتبعيض، كما لو قال: وامسحوا من رءوسكم، كما أن قوله: {عينًا يشرب بها عباد الله} بمعنى: يشرب منها. فإن قلت: من أين يتعين في الآية أن الباء هي التي بمعنى (من)، ولعلها بمعنى آخر كالإلصاق أو الاستعانة، ونحوهما، أو زائدة؟ قيل: هي عندهم متعينة إذا دخلت على مفعول يتعدى إليه الفعل بنفسه، فإنك تقول: مسحت رأسي، ومسحت برأسي، فإذا لم تدخل اقتضى مسح جميعه، وإذا دخلت اقتضى مسح البعض. قال الرازي: نحن نعلم بالضرورة الفرق بين أن تقول: مسحت يدي بالمنديل والحائط، وبين أن تقول: مسحت المنديل والحائط، في أن الأول يفيد التبعيض، والثاني يفيد الشمول، وقد اعترض على هذا بأمرين:

أحدهما: إمكان كونها زائدًة، لأن معنى الزيادة ممكن؛ إذ يقال: مسحت رأسي، ومسحت برأسي على معنى واحد. والثاني: أن ابن جني ذكر أن كون الباء للتبعيض شيء لا يعرفه أهل اللغة. وأمر ثالث: وهو إمكان أن تكون للإلصاق كأنه إلصاق المسح بالرأس. وقد قيل بهذا، كما أنه قد قيل بالزيادة. وأجيب عن الأول: أن الزيادة على خلاف الأصل، فلا يقال بها ما وجد عنها مندوحة، وقد وجدناها بأن تكون للتبعيض. وعن الثاني: بأن قول ابن جني شهادة على النفي، وقول من أثبت التبعيض شهادة على الإثبات، وشهادة الإثبات مقدمة حسب ما تقرر في علمه. وعن/ الثالث: أن كونها للإلصاق لا ينافي كونها للتبعيض؛ لأن معنى الإلصاق هو الأصل فيها، ثم يدخل عليه ما سواه من المعاني حسب ما بينه الحذاق. وأيضًا إذا ثبت التبعيض بها في المثل المتقدمة، لم يصح نفيه عن الآية، وقد رد بوجه رابع حكاه عياض في "ترتيب المدارك" عن محمد بن عبد الحكم قال: قلت للشافعي: لأي شيء أخذتم أنه إذا مسح الإنسان بعض رأسه وترك بعضه أنه يجزئه؟ قال: من سبب الباء الزائدة. قال الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} ولم يقل رءوسكم. قال قلت: فأي شي ترى في التيمم إذا مسح الإنسان بعض وجهه

وترك بعضًا؟ قال: لا يجزئه. قلت: لم؟ وقد قال الله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}. قال: فسكت. انتهى. وهذا إلزام للشافعي حسن غير أن الرازي قد اعتذر عنه بأنه الأصل أيضًا في آية التيمم، التبعيض، فكان الواجب القول به لولا معارضة ما دل على وجوب مسح جميع الوجه من السنة أو الإجماع، فقوي على هذا مذهب الشافعية بعض القوة. وهذا شيء عرض، والمقصود أن هذا الموضع من كلام ابن مالك يعضد ما ذهب إليه الشافعية من إثبات معنى التبعيض على الجملة. وأما كون الباء بمعنى (عن) وواقعة موقعها فأكثر ما يكون مع السؤال إذا قلت: سألت به، فإنه في معنى سألت عنه. ومنه قوله تعالى: {فاسأل به خبيرًا} أي: عنه. ومنه قول علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب وقال ابن أحمر، واسمه عمرو: تسائل بابن أحمر من رآه ... أعارت عنه أم لم تعارا

وقال الأخطل: دع المغمر لا تسأل بمصرعه ... وسل بمصقلة الكبرى ما فعلا وقال مالك بن حريم، أو خريم أو خزيم الهمداني: ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا ... بما زجرت قدري له حين ودعا وقد تقع موقع (عن) في غير السؤال. ومنه في القرآن: {ويوم تشقق السماء بالغمام}. قال في الشرح: أي عن الغمام. وكذلك قال في قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}: "أي وعن أيمانهم". ويقوي ذلك الآية الأخرى: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم

وعن شمائلهم}. فإن الباء هنا أعطت من المعنى ما أعطته (عن) هنالك. فإن قيل: فإن الباء على قسمين: زائدة، وغير زائدٍة، ومواضع الزائدة كثيرة قياسية، وغير قياسية، فلم لم يذكر قسم الزائدة هنا، كما ذكر قسم (من) الزائدة، واللام الزائدة، وغيرهما. فالجواب: أنه قد تقدم له ذلك في باب ما ولا وإن المشبهات بليس، فذكر هنالك المواضع القياسية وما لحق بها، والذي لم يذكره من ذلك إنما هو نادر أو شاذ، نحو قوله عز وجل: {تنبت بالدهن} على قراءة ابن كثير. وقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} على احتماٍل. وفي قراءة أبي جعفر: {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار}. ومن ذلك في الشعر قول قيس بن زهير: / ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد

وقول الآخر: فكفى بنا فضلًا على من غيرنا ... حب النبي محمٍد إيانا إلى أشياء من هذا القبيل لا يقاس عليها، وقد زيدت أيضًا قياسًا في أفعل به في التعجب، وقد وقعت الإشارة إليه في بابه فلم يحتج إلى ذكر شيء من ذلك هنا. ثم أعلم أن هنا نظرًا من وجهين: أحدهما: أن هذه المواضع التي توضع فيها الحروف بعضها مكان بعض ظاهر مستنكر؛ وذلك أنه قد تقرر في الحروف أنها لا تتصرف وتلزم مواضعها التي وضعت فيها، وكون الحرف يخرج عن أصل معناه فيضمن معنى حرف آخر حتى يوضع في موضعه تصرف ظاهر، فالواجب فيما كان ظاهره هذا ألا يرسل القول فيه إرسالًا، وألا يقال بظاهره إلا إذا دعت إليه ضرورة، ولم يوجد عنه ملتحد. وأما إذا لم تضم إليه ضرورة فلا ينبغي أن يحمل على ظاهره حتى يعطى من التأمل حقه، ومن القياس ما يسوغه، وقد وجدنا هذه المواضع التي استشهد بها محتملة لخلاف ما قال الناظم، ومن وافقه هو. وإثبات معنى لكلمٍة ما بالمحتمل لا يسوغ؛ لأنه تقول على كتاب الله، وكلام العرب، وذلك أن هذا الاتساع بوضع الكلم بعضها مكان بعض أولى أن ينسب إلى الأفعال التي لها التصرف بحق الأصل بحيث يصير الفعل إلى معنى فعل آخر، فيبقى الحرف على وضعه الأصلي، فإن الحمل على المعنى في الأفعال سنن واضح، وأمر

مستعمل كثيرًا جدًا، مناسب في القياس، فإذا ساغ ذلك في الأفعال فلا يصح أن ينسب إلى الحروف، ولابن جني في "الخصائص" فصل بين فيه هذا المعنى وأظهر وجه الصنعة فيه فقال ما معناه: إن الفعل إذا كان في معنى فعٍل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف جر، والثاني: بحرف جر آخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع الآخر مجازًا وإيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، كما صححوا عور وحول إيذانًا بأنهما بمعنى أعور وأحول، واجتوروا إشعارًا بأنه بمعنى تجاوروا، وكان جاءوا بمصادر بعض الأفعال على غير ما يقتضيه القياس حملًا لذلك الفعل على فعٍل هو في معناه كقوله: * فإن شئتم تعاودنا عوادًا * وكان القياس تعاودًا، فجاء به على عاود؛ إذ كان تعاود راجعًا إلى معنى عاود، وكذلك قول القطامي: * وليس بأن تتبعه إتباعا * والقياس تتبعًا، ولكن لما كان تتبع يؤول إلى معنى اتبع حمله عليه، وكذلك وجدناهم يحملون الشيء على الشيء إذا كان بينهما علقة لفظية أو معنوية، فاللفظية كحملهم تعد، ونعد، وأعد على يعد في حذف الواو، وتكرم،

ونكرم، ويكرم على أكرم في حذف الهمزة. وأما المعنوية: فكقول أبي كبيٍر الهذلي: ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طي المحمل لأن قوله: (ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق) يفيد أنه طاٍو، فأنابه لذلك مناب الفعل لو ذكره، فصار كقوله: طوى (طي المحمل). ولهذا نظائر كثيرة في كلامهم، فكذلك حملوا بعض هذه/ الحروف على بعض لتساوي المعاني وتداخلها، أعني معاني الأفعال التي تعلقت الحروف بها. ثم ذكر من هذا الباب أمثلة كثيرة رد فيها الحروف إلى أصول معانيها بكون أفعالها في معنى أفعاٍل أخر، وكان هذا عنده أولى من إثبات معنى لحرٍف لم يثبت فيه من استقراء صحيح. وهذا الأصل جاٍر فيما تقدم من الأمثلة في وقوع الباء موقع مع، أو عن، أو من. أما قولهم: "المرء بأصغريه". فمعنى الإلصاق فيه ظاهر؛ لأن المعنى موجود أو كائن بهما، فقد ألصق وجوده بهما، كما كان معنى مررت بزيٍد: ألصقت مروري بزيد، وكذلك قولهم: ذهبت بزيد، أي ألصقت ذهابي به، وخرجت بثيابي، على معنى ملتبسًا بها، فالمجرور في موضع الحال، ولو نطق بذلك كان الإلصاق فيها ظاهرًا. وأما قول الله تعالى: {قد جاءكم الرسول بالحق}

فالمجرور في موضع نصٍب على الحال؛ إذ هو حال من الفاعل وحدة، ولو كان من الفاعل والمفعول معًا لصح تعلقه بالفعل الظاهر، فلا يكون في موضع الحال بناء على ما تقرر قبل في باب الحال، وإذا كان كذلك كان التقدير: آتيًا أو ملتبسًا بالحق، فتخرج الباء إلى معنى الإلصاق والاختلاط، وكذلك الباء في قوله: {اهبط بسلاٍم منا}. و {تنبت بالدهن. وسائر ما جاء في الباب من ذلك. وعلى هذا النحو أو ما يرجع إليه يتخرج كونها بمعنى (من) أو (عن) من غير استحداث معنى لم يتقرر بعد؛ فإذًا ما ارتكب الناظم غير مخلص. والثاني من النظرين: أن ظاهر هذا الكلام أن وضع الباء موضع هذه الحروف مقول أو معمول به قياسًا؛ لقوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطق) أي ضعها في وضع هذه الحروف، واستعملها فيها من غير قيد، وهذا غير صحيٍح. ألا ترى أنك لا تقول: جعلت يزيٍد رفيقًا، بمعنى جعلت معه رفيقًا، ولا: وضعت درهمي بالدراهم، تريد مع الدراهم، ولا: سيرت زيدًا بالبريد، تريد مع البريد، ولا: زيد بعمرو، تريد مع عمرو، وتقول: الله معك، كما قال الله تعالى: {والله معكم}. {وهو معكم أينما كنتم}، ولا يصح أن تقول: الله بك. فإن قيل: إنما منع هذا للإبهام. قيل: إن سلم فالوجه الآخر مانع أيضًا. وهو الشامل لها، وذلك أن هذه المواضع التي استشهد بها المؤلف على تلك المعاني، وإن كان فيها كثرة لم تبلغ مبلغ أن يقاس عليها غيرها، وكذلك جميع ما يذكره من هذا اللفظ لا يبلغ مبلغ القياس، فلا يقال منه إلا ما سمع، بخلاف المعاني الأصلية التي أثبتها

الأئمة - سيبويه، وغيره - فإن القياس جاٍر فيها، وما ذكر في الباء بمعنى (مع) مقول في التي بمعنى (عن) و (من)؛ إذ لا يقال: أعرضت بفلان، تريد: أعرضت عنه، ولا: نبت به، بمعنى: نبت عنه، ولا: رضيت به، بمعنى: / رضيت عنه، وكذلك لا تقول: أكلت بالرغيف، تريد: من الرغيف، ولا: أنفقت بالدراهم، تريد: من الدراهم، وهذا كله واضح، فما أطلق فيه من القياس غير مستقيم، أو يلتزم القول بقياس هذه الأمثلة، وهو غير صحيٍح. والجواب عن الأول: أن هذا الموضع مختلف فيه بين النحويين، فأجازه قوم أكثرهم الكوفيون، ومنع منه قوم أكثرهم البصريون والخلاف راجع إلى تحقيق أصٍل، وذلك أن أهل البلدين متفقون على أنه موقوف على السماع؛ إذ المجيزون لا يجيزونه في كل موضع، والمانعون إنما سوغوا التأويل فيما سمع، وهم لا يجيزون مثل ذلك على ذلك التأويل، وأيضًا الحمل على المعنى لا يقاس في كل موضع، ولم يعدوا هذا الموضع مما يقاس. وإذا ثبت هذا، وكان ما ورد من وقوع الحروف في مواضع أخر لم يكثر كثرة يعتد بها في القياس رده المانعون إلى أصل آخر لاحتماله، ولم يعتبر المجيزون ذلك الاحتمال أخذًا بالظاهر، وعملًا بالظن في أن تلك الحروف قد أدت تلك المعاني، كما أدت معانيها المتفق عليها، فكأن الباء مثلًا مرادفة لمع في معنى (مع) ولمن وعن في معناهما في الاستعمال، إلا أنهم لم يبلغوا الأصل الذي اعتبره المانعون جملة؛ بل جعلوا الحرف منسوبًا إلى الحرف، فقالوا: الباء تأتي بمعنى (من) مثلًا، ولم يقولوا: إن الباء ومن تأتيان للتبعيض؛ إعلامًا - والله أعلم - بأن معنى التبعيض في

الباء دخيل غير أصيٍل، ويشهد لذلك عدم كثرته، وقصوره عن بلوغ ما يقاس عليه حتى إنه لو فرض كثيرًا شهيرًا لما نسبوه إلى الحرف، بل نسبوا الحرفين معًا إلى المعنى، كما قال المؤلف في إلى واللام إنهما معًا لانتهاء الغاية، ولم يقل إن (وإلى) لانتهاء الغاية، واللام بمعنى إلى، كما قال هنا: إن الباء بمعنى مع، وكذا؛ إيذانًا بأصالة اللام عنده في ذلك، وعدم أصالة الباء فيه. وعلى هذا المهيع يجري سائر ما ذكروا من ذلك، فاعتبروا الحال الظاهرة، فأثبتوا من المعاني ما شهدت لهم به، ولم يهملوا الأصالة والفرعية، فبينوها بإشارة لطيفة يهتدي إليها الذكي. فهذا هو الذي اعتمد عليه الناظم، وقد بان وجهه، وزال بعده، ولم يبق فيه إلا أن يقال: إن هذا التصرف غير لائق بالحروف، وهم قد نسبوها إليها؛ إذ قد عوض بعضها من بعض، ولم يجعلوا ذلك منسوبًا إلى الأفعال، فيقال: لا ينكر في الحروف تعويض بعضها من بعض، فقد عوضوا همزة القطع، وهمزة الاستفهام من حرف القسم في اسم الله فقالوا: الله لأفعلن، والله؟ وعوضوا الواو من رب في قولهم: * وبلدٍة ليس بها أنيس * وعوضوا لم ولن من ما. فقال الأعشي: * أجدك لم تغتمض ليلة *

أراد: ما تغتمض؛ لأن (لم تغتمض) في موضع الحال، و (لم) لنفي الماضي، فالمناسبة لنفي الحال (ما) الموضوعة لذلك. وقال الآخر: * أجلدك لن ترى بثعيلباتٍ * أراد: ما ترى؛ لأن (لن) لا تنفي الحال، فهي إذًا في موضع (ما) النافية للحال، هذا كله من وقوع حرف المعنى عوض حرف المعنى على الجملة، وقد عوضوا الحرف من الاسم والفعل/ والجمل، والكلام في ذلك يطول، وكله تصرف في الحرف؛ لأنه إذا عوض من شيء فقد وقع التصرف فيه، كما أنه إذا عوض منه حرف مثله فذلك أيضًا تصرف فيه، لكن مثل هذا لا يعد تصرفًا يوازن تصرف الأفعال. وإذا أردت الاطلاع على وقوع الحرف موضع غيره، فطالع كتاب "التعاقب" لابن جني، ففيه شفاء الغليل، وإذا كان كذلك حصل الأنس بوقوع بعض حروف الجر موقع بعٍض لوجود النظائر. والجواب عن الثاني: أن الناظم يمكن أن يكون قصد تخصيص بعض المواضع الممكن فيها القياس لا جميع المواضع، وذلك أن وقوع الباء في موضع أحد هذه الأحرف على ضريين: أحدهما: ما لا يصح فيه القياس، وذلك ما لا يرتبط إلى قياٍس مخصوص، ولا موضٍع معلوٍم من المواضع التي تقع فيها تلك الأحرف، فهذا لا يصح أن تجري فيه الباء مجراهن؛ إذ يلزم أن تساويهن في الاستعمال، وقد فرضناها فرعًا

عنهن، والفرع لا يقوي قوة الأصل حسب ما تقرر في الأصول العربية. ومن هنالك امتنعت المسائل المعترض بها، فلا بد إذًا أن يكون الفرع قاصرًا وهو الباء عن أصله الذي هو هذه الأحرف في الاستعمال، فلا يستعمل إلا في بعض المواضع التي تصلح فيها هذه الأحرف، كما قصر اسم الفاعل أن يقع في العمل في جميع مواقع الفعل، والصفة المشبهة أن تقع في جميع مواقع اسم الفاعل، وما الحجازية أن تعمل عمل ليس بإطلاٍق، وكذلك جميع النظائر. فإذًا إن صح في الباء أن تقع قياسًا في بعض مواضع هذه الأحرف، صح كلامه وإلا فحينئذ يلزمه السؤال، وترد عليه الشناعة، وقد وجدنا فيها مواضع يصح القياس فيها، أما في وقوعها موقع (مع) فبين؛ لأنه فسر المواضع بباء المصاحبة، وباء المصاحبة قد أتى بها القياس في جملة أنواع الباء. فإذا قلت: جاء زيد بثيابه، وخرج بأخيه، وأتى بالحق، وما أشبه ذلك مما في معناه مما يعطى المصاحبة كان صحيحًا، ولم يشكل قياسه بخلاف: جعلت بزيد رفيقًا، ونحوه فإنهما لا تفهم من المصاحبة ما تفهم الباء في: جاء زيد بثيابه. وأما في وقوعها موقع (من) فحيث كان الفعل في معنى الشرب ونحوه، كما مر في الأمثلة بخلاف ما إذا تعدى بها ذلك الموضع كالمثل المعترض بها. وأما في وقوعها موقع (عن) فحيث وجد معنى السؤال كالأمثلة المذكورة ونحوها بخلاف ما اعترض به.

وإن وجد لها موضع آخر مثل هذا لم يلزم في القياس محظور، ولم يتأت فيه نزاع؛ لأن ذلك في الحقيقة راجع إلى استعمال موضع السماع على نحٍو مما سمع لا التزام عين ما سمع. وهذا ظاهر لا خفاء به، وإذا ثبت هذا انكسرت سورة الاعتراض، وظهر وجه هذا الأغراض، وبالله التوفيق. ثم قال الناظم: على للاستعلا ومعنى في وعن ... بعن تجاوزا عني من قد فطن وقد تجي موضع (بعٍد) وعلى ... كما على موضع عن قد جعلا أما (على) فذكر لها ثلاثة معان هنا، وبين بعد هذا أن على وعن يقعان اسمين: أحدها: أن تكون للاستعلاء، وذلك قوله: (على للاستعلا) بمعنى أن ما يقع مجرورًا بها مستعلى عليه، إما حسا، كقولك: صعدت على الحائط، وجلست على الحصير، وصليت على الأرض. وفي القرآن: {كل من عليها فاٍن} {وعليها وعلى الفلك تحملون}، وهو كثير. وإما معنى كقولهم: عظم علي الأمر، وضاقت علي الأرض، وسهل علي الأمر، وصعب علي.

قال سيبويه: "وأما: مررت على فلاٍن، فجرى هذا كالمثل، وعلينا أمير كقولك: وعليه مال؛ وهذا لأنه شيء قد اعتلاه" قال: "وتقول: عليه مال، وهذا كالمثل، كما يثبت الشيء على المكان كذلك يثبت هذا عليه". وفي القرآن {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}. {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} " {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وأنشد سيبويه للنمر بن تولب. فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر والثاني من معاني (على) أن تقع موقع (في) الظرفية، وذلك قوله: (ومعنى في) وهو معطوف على الاستعلاء، أي: ولمعنى (في)، وذلك قولك: كان هذا على عهد فلان، تقديره في عهد فلان. وفي القرآن: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان}. {ودخل المدينة على حين غفلٍة من أهلها}. {يبين لكم على فترٍة من الرسل}. وأنشد سيبويه:

يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلًا زريق المال ندل الثعالب والثالث: أن يكون بمعنى (عن) أي: تسد مسدها في معنى المجاوزة الذي يذكره، ومثال ذلك: بعد علي المكان، وتعذر عليه الأمر، وأبطأ عليه، وخفي علي مكانك. ومنه أيضًا قول القحيف العقيلي: إذا رضيت علي بنو قشيٍر ... لعمر الله أعجبني رضاها فـ (على) في هذه المواضع بمعنى (عن) لصحة وقوعها موقعها، فتقول: بعد عنه، وتعذر عنه، وأبطأ عنه، وخفي عنه، ورضيت عني بنو قشير، وأنشد سيبويه: أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرٍع وإصبع التقدير: أرمي عنها، لقولهم: رميت عن القوس. وقال ذو الإصبع العدواني: لم تعقلا جفوة علي ولم ... أوذ صديقًا ولم أنل طمعا

يريد عني. وقال دوسر بن غسان اليربوعي: إذا ما أمرؤ ولى علي بوده ... وأدبر لما يصدر بإدباره ودي أي: ولى عني. فإن قيل: فأين جريان القياس في وقوع (على) موقع (في) و (عن)؟ فالجواب: إن القياس جاٍر في بعض ما تقدم في التمثيل: أما في وقوعها موقع (في) فحيث يكون الموضع تاريٍخ وتعيين وقت، فيؤتى بالزمان كقوله: {على حين غفلة}. أو بمصدر يقدر معه الزمان كقوله: على عهد فلاٍن، إذ المعنى: على حين عهد فلان، وعلى/ وقت كذا، فلا يمنع هنا القياس. وأما في وقوعها موقع (عن) فقد قال في الشرح: واستعمالها للمجاوزة كوقوعها بعد: بعد، وخفي، وتعذر، واستحال" وأشباه ذلك من: أبطأ، وأحال، وولى نحوها، فهذه المواضع قد يسوغ قياسها. والله أعلم. ثم قال: (بعن تجاوزًا عنى من قد فطن) ... إلى آخره. أتى لعن أيضًا بثلاثة معاٍن: أحدها: وهو الأصل: أن تكون للمجاوزة، بمعنى أن مجرورها مجاوز أو مجاوز، نحو قولك: صددت عن زيٍد، وأعرضت عنه، ووليت عنه،

فالمعنى: جاوزته بهذه الأشياء، وكذلك أضربت عنه، وانحرفت عنه، وعدلت عنه ورحلت عنه، وغفلت عنه، وسهوت عنه. قال سيبويه: "وأما (عن) فلما عدا الشيء، وذلك قولك: أطعمه عن رجوٍع، جعل الجوع منصرفًا تاركًا له قد جاوزه. وقال: سقاه عن العيمة، وكساه عن العري، جعلهما قد تراخيا عنه، ورميت عن القوس؛ لأنه بها قذف سهمه عنها وعداها". قال: "وتقول: جلس عن يمينه، فجعله متراخيًا عن بدنه وجعله في المكان الذي بحيال يمينه. وتقول: أضربت عنه، وأعرضت عنه، وإنما تريد أنه تراخى عنه وجاوزه إلى غيره". قال: "وتقول: أخذت عنه حديثًا، أي عدا منه إلى حديث" انتهى كلام سيبويه، وإنما أتيت به شرحًا لمعنى المجاوزة، وبسطًا له، وردا للمواضع المختلفة في (عن) إلى هذا المعنى (الأصيل، وكان الناظم إلى هذا المعنى أشار، أي أن التجاوز في (عن) هو المعنى) المعني المقصود المطرد، و (من قد فطن) يمكن أن يريد به العرب، يعني أن التجاوز هو الذي وضعت العرب له هذا اللفظ. والفطنة كالفهم، فطنت للشيء بمعنى فهمته، وفي التعبير بـ (من قد فطن) هنا عن العرب بعد ما، ويمكن أن يريد بذلك النحويين: سيبويه،

ومن حواليه؛ لأنهم الذين فطنوا لمقاصد العرب في (عن)، وأنها للمجاوزة في جميع تصرفاتها، أو أكثرها. والثاني: من معانيها أن تأتي بمعنى (بعد)، وهو قوله: (وقد تجي موضع بعد) يعنى أنها قد تأتي قليلًا واقعة موقع (بعد) التي هي ظرف الزمان، كقولك: عن قليل يندم زيد. وفي القرآن الكريم: {عما قليل ليصبحن نادمين}. فالمعنى بعد قليل يكون كذا، وكذلك قوله: {لتركبن طبقًا عن طبق}. معناه: حالا بعد حال. وقال الحارث بن عباد: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال أي: بعد حيال، والمعنى: حملت بعد أن كانت تضرب فلا تحمل. وقد امرؤ ألقيس: ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل وقال العجاج: ومنهل وردته عن منهل ... قفرين هذا ثم ذا لم يوهل

وقال النابغة الجعدي: واسأل بهم أسدًا إذا جعلت ... حرب العدو تشول عن عقم فـ (عن) في هذه الأبيات بمعنى (بعد)، وهو قليل، كما قال؛ فلذلك لا يطالب هنا بالقياس في وضع (عن) موضع (بعد)، وكذلك في وضعها موضع (على)؛ لأنه قد قيد مجيئها كذلك بالقلة. / وأعلم أن وقوع (عن) في موضع (بعد) إما أن يكون بالنيابة، كما تنوب مثلًا واو (رب) عن (رب) من غير أن تضمن معناها، وكما تنوب (يا) عن (أنادي). و(أما) في نحو: * ... أما أنت ذا نفر* عن الفعل. وإما أن يكون على أن تفيد معناها بنفسها لا أنها نائبة، فإن كان الأول فلا إشكال في صحة حرفية (عن) عند ذلك، إلا أن ظاهر النقل إن (عن) هي المودية لمعنى (بعد)، وحينئذ يلزم أن تكون اسمًا لا حرفًا؛ إذ الحرف إنما يؤدي معنى الاسم، ولم يعهد في كلام العرب أن يرادف الحرف- وهو حرف- الاسم، بل إذا أدى معنى الاسم صار اسمًا؛ ولذلك لما دخل على (عن، و (على) حرف الجر صارا اسمين مرادفين لناحية،

وفوق، وكذلك الكاف لما صارت اسمًا صار معناها معنى مثل، لا معنى التشبيه. ومثله: مذ ومنذ، وغيرها، وهذا أيضا بعينه لازم في الباء التي بمعنى (مع (؛ لأن (مع) اسم، والباء مودية معناها فهي مرادفة له، فيلزم أن يكون اسمًا، وإذا كان الأمر كذلك فالناظم كان من حقه أن يذكر ذلك كما ذكر الاسمية في (مذ)، و (منذ)، و (عن)، و (على) لكن لم يذكر ذلك، فيوهم أن (عن) إذا أدت معنى (بعد)، أو الباء إذا أدت معنى (مع) باقيتان على حرفيتهما. والقاعدة تأبى ذلك. فإن قيل: بل الظاهر البقاء على الحرفية- كما يشير إليه كلامه- ولا يلزم إذا أدى الحرف معنى الاسم أن يصير اسمًا، وإنما يلزم القول بأسمية الحرف إذا دخلت عليه خاصة من خواص الاسم، كحرف الجر، ووقوعه جزء الكلام. والدليل على أن دلالة الحرف على معنى الاسم لا يصير الحرف اسمًا أنه لو كان كذلك لصارت الواو التي بمعنى (مع) اسمًا، ولم يقل بذلك أحد من أهل البلدين، ولوجب أن يكون اسم الفعل فعلًا؛ لدلالته على معنى الفعل، ولكان الاسم المتضمن لمعنى الحرف حرفًا؛ لدلالته على معنى الحرف، فلما لم يكن ذلك لازمًا لم يلزم أيضا أن تكون (عن)، والباء في مسألتنا اسمين حتى يكون ثم خاصة دالة على ذلك، وليست بموجودة، فلا تخرجان عن أصلهما من الحرفية بذلك. فالجواب: أن النحويين قد جعلوا الدلالة على معنى الاسم علامة على الاسمية، وابن مالك واحد منهم، فإنه قال في التسهيل حين عدد ما يعرف به الاسم، فقال: "وبموافقة ثابت الاسمية في لفظ أو معنى" ولم يقتصر على الخواص اللفظية، ومن هناك حكيم على (سبحان) ونحوه بالاسمية؛ إذ هو بمعنى

الاسم الذي هو البراءة، وكذلك (قد) جعلوه اسمًا في نحو: قدك درهم؛ لأنه بمعنى حسبك درهم. وكذلك استدل على أن "كيف" اسم بإبدال الاسم منه، وهو راجع إلى موافقتها إياه في المعنى، وكذلك اعتبر الناظم في هذا النظم المرادف بمرادفه، فجعل دخول الألف واللام في المرادف دليلًا على كون الآخر معرفة في قوله: نكره قابل (أل) مؤثرًا ... أو واقع موقع ما قد ذكرا وهذا مشعر بصحة الاعتبار/ بالمرادف وأنه إذا ثبت لأحدهما حكم ثبت للآخر، وإذا كان كذلك فالسؤال وارد أولًا. وأما إلزام اسميه الواو التي بمعنى (مع)، وفعلية اسم الفعل، وحرفية الأسماء المتضمنة معنى الحرف فنقول بموجبه لو لم يكن ثم معارض، وقد ثبت المعارض، فإن المعارض في الواو ثابت عنده وهو أنه ليس في الأسماء ما هو على حرف واحد إلا وموقعه موقع العجز لا موقع الصدر، كتاء الضمير، وبائه، وإنما يقع موقع الصدر ما هو حرف كباء الجر ولامه، فلو حكم على الواو المذكورة بالاسمية لزم عدم النظير، وهذا- وإن كان فيه نظر- فهو على الجملة صحيح- أعني وجود المعارض- ولوجود المعارض حكيم على أسماء الأفعال بالاسمية، وعلى أسماء الشرط، والاستفهام بالاسمية لوجود خواص الاسم، وفقد خواص الفعل والحرف ما عدا الدلالة على المعنى. قال ابن مالك: والدلالة اللفظية أقوى من المعنوية، فإذا بنينا على طريقة ابن مالك في هذا قلنا في الباء: إنها لم تخرج عن الحرفية لوجود المعارض في دعوى الاسمية، وهو

المعارض في الواو المتقدمة. وأما (عن) فيلتزم أنها حينئذٍ اسم، ويجوز دخول (من) عليها عند ذلك ويدخل تحت قوله بعد (واستعمل اسمًا) - يعنى الكاف- (وكذا عن وعلى) إلى آخره، فتقول من مواضع استعمال (عن) اسمًا أن يكون بمعنى (بعد)، والذي يرد عليه في كلامه في الواو أن الكاف قد صحت أسميتها، وهي على حرف واحد غير واقعة موقع العجز، لكن له أن يقول: لم يتعارض هنا أمر لفظي وأمر معنوي، بل أمران لفظيان، وهو كون الكاف على حرف واحد- وليست في العجز، ودخول الحروف الجارة، ووقوعها فاعلة، ومفعولة. وليس أحدهما أولى بالاعتبار من الأخر إلا من حيث الترجيح، ونحن وجدنا من الأسماء ما هو على حرف واحد في الجملة، ولم نجد ما دخل عليه شيء من الخواص اللفظية، فلم نحكم بالاسمية، فرجحنا ما له نظير على الجملة على ما ليس له نظير البتة، فحكمنا باسمية الكاف الجارة، وإن وقعت على حرف واحد صدرًا؛ لأن لها نظيرًا من الأسماء في وقوعها على حرف واحد، ولم نحكم بالحرفية؛ إذ لم نجد حرفًا يدخل عليه حرف الجر لغير معنى التوكيد كقوله: "ولا للما بهم أبدًا دواء* فثبت على هذا أن الباء التي بمعنى (مع) حرف كواو المصاحبة تغليبًا للحكم اللفظي على المعنوي، وأن (عن) التي بمعنى (بعد) اسم؛ إذ لا معارض للاسمية فيه، كما أنه لا معارض لدعوى الاسمية في (قد) بمعنى حسب، إلا أن أخذ ذلك من كلام الناظم هنا هو من حيث سكت في الباء عن التنبيه، وحكم على (عن) بها بعد هذا. وهذا كله تكلف، والصواب ألا يحكم على (عن) بالاسمية إلا مع دخول (من)

لا دونها، فعن التي بمعنى (بعد) إذا لم يدخل عليها (من) لا يحكم عليها بالاسمية. فالأولى في هذا الموضع أن يقال: إنما تدعي الاسمية في الكلمة إذا وجدت فيها خواص/ الاسم كان معناها معنى الاسم أو معنى الحرف، وإذا لم يوجد فيها شيء من ذلك، فالمدعي فيها الحرفية كان معناها معنى الاسم أو معنى الحرف، هذه طريقة المحققين. وقد سمعت شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني- رحمه الله- ووقع الكلام في الفرق بين (من) و (بعض) في قولهم: أكلت من الرغيف، وأكلت بعض الرغيف: لا فرق بينهما أصلًا إلا من جهة جريان أحكام الأسماء على (بعض) من وقوعها فاعلة، ومفعولة، ودخول الجر، والتنوين فيها، وغير ذلك، وعدم ذلك في (من). وأما من جهة المعنى فهما واحد. وكذا قال الشلوبين في كلامه على جملة من الأسماء المبنية بحق الأصل: أنها لا فرق بينها وبين الحروف إلا في الأحكام، وإذا كان كذلك لم يكن في وقوع (عن) بمعنى (بعد) دليل على الاسمية، إلا أن كان ثم دليل لفظي، وإلا فهي حرف لا غير، وهو أدرى على كلامه هنا. والله اعلم. والثالث: من معاني (عن) أن تأتي بمعنى (على) - يعني للاستعلاء- وذلك قوله: (وعلى) وهو معطوف على (بعد)، والمعنى أنها تجئ في موضع (على) قليلًا مؤدية معناها، ومثال ذلك قول ذي الإصبح العدواني: لا ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ... عني ولا أنت دياني فتخزوني

أراد: لا أفضلت علي؛ لأن المعنى لا تفضل في الحسب علي من قولهم: أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلًا. وقال قيس بن الخطيم: لو أنك تلقي حنظلًا فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي سامه المتقارب أي: على ذي سامه المتقارب. وقوله: (كما على موضع عن قد جعيلا) يعني أن (عن) وضعت موضع (على) في نحو هذه الأمثلة كما وضعت (على) موضع (عن) في قوله: * إذا رضيت علي بنو قشير* ونحوه مما مر ذكره، حملت إحداهما على الأخرى، فكان بينهما ضرب من التكافؤ، وحذف الهمزة من (تجئ)، وهي لغة لبعض العرب يحذفون الهمزة من يجئ ويسوء، فأتى بتجي في هذا النظم على تلك اللغة القليلة. ثم قال الناظم: شبه بكافٍ، وبها التعليل قد ... يعني وزائدًا لتوكيد ورد واستعمل اسمًا، وكذا عن وعلى ... من أجل ذا عليهما (من) دخلا ذكر للكاف قسمين أولين: الزيادة، وعدم الزيادة، وذكر لها في عدم الزيادة معنيين:

أحدهما: التشبيه، وذلك قوله: (شبه بكاف) يريد أن الكاف تقع للتشبيه، بمعنى أن المجرور بها مشبه به، كقولك: زيد كالأسد، وهنا كالبدر. وفي القرآن: {أو كصيب من السماء} {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر} {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا}. وهو كثير. والثاني: التعليل، وذلك قوله: (وبها التعليل قد يعني) الضمير في (بها) للكاف، وكذلك في قوله: (وزائدًا لتوكيد ورد) للكاف أيضًا، لكنه أتى بالأول مؤنثًا على معنى الكلمة، أو اللفظة. وبالثاني مذكرًا على معنى الحرف /313/ أو اللفظ؛ إذ/ الحرف يؤنث ويذكر، ويريد أن الكاف قد تأتي قليلًا مؤدية معنى التعليل، كاللام، والباء، وذلك قولك: زرني كما أحسنت إليك. وفي التنزيل الكريم: {واذكروه كما هداكم}. وقال الأخفش في قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم}. الآية. إن التقدير والمعنى: "كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم فاذكروني، أي كما فعلت هذا فاذكروني، واشكروا لي"، وهو معنى كلام الفراء فيها؛ إذ قال: الكاف تكون شرطًا. تقول: كما أحسنت إليك فأحسن؛ لأنها يدخلها معنى إذ، ولذلك دخلت الفاء.

وحكي سيبويه: كما أنه لا يعلم ذلك، فتجاوز الله عنه. ثم قال الناظم: (وزائدًا لتوكيد ورد). هذا هو القسم الثاني من قسمي الكاف، يعني أن الكاف تأتي زائدة لمعنى التوكيد في كلام العرب. مثال ذلك قوله تعالى: {ليس كمثله شيء}. لأن المعنى: ليس مثله شيء، ولا يجوز أن تكون هنا غير زائدة؛ لأنه يؤدي معنى أثبات مثل ينفي عنه المثل، وذلك محال مبني على مجال آخر. وقال تعالى {وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}. ويمكن أن يكون من ذلك قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا}. وأشباهه. وحكي الفراء قال: قيل لبعض العرب كيف تصنعون الأقط؟ قال: كهين، يريد هينا، فزاد الكاف. وقال رؤية: * لو أحق الأقراب فيها كالمفق* المعنى فيها المفق، وهو الطول. وقال خطام المجاشعي، أنشده سيبويه: * وصاليات ككما يؤثفين*

الكاف الأولى حرف زائد. وقال الآخر: * فصيروا مثل كعصف مأكول* ثم قال: (واستعمل اسمًا) يعني أن العرب استعملت الكاف المذكورة اسمًا لا حرفًا دل على ذلك الدليل؛ لأن الأصل فيها الحرفية، لكن لما قام على أسميتها الدليل قيل بها. وفي قوله: (واستعمل اسمًا) إحالة على كلام العرب، وأنه لم يطلق القول باسميتها قياسًا، بل أخبر عن السماع، وذلك يشعر عنده بأنه أقلي وموقوف على السماع. وفي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حرف مطلقًا، ولا يكون اسمًا إلا في الشعر. والثاني: أنها اسم مطلقًا، وهذا مذهب الأخفش. والأول رأي سيبويه

والجمهور. والثالث: أنها أكثر ما تكون اسمًا في الشعر، وأقل ما تكون اسمًا في الكلام، وهذا مذهب ابن أبي الربيع، ونحوه نحا الناظم. أما مذهب الأخفش فرد بأمرين: أحدهما: وقوعها صلة في نحو: أعجبني الذي كزيدٍ، وهو كثير جدًا. ووجه الدليل: أن الصلة محصورة في أربعة أشياء، وهي إما جملة اسمية، أو جملة فعلية، أو ظرف، أو جار ومجرور. وقولك (كزيدٍ) في صلة (الذي) قد انتقي عنه أن يكون واحدًا من الثلاثة الأول، فتعين الرابع، وذلك يقضي بالحرفية. فإن قيل: إنها في الصلة اسم مبني على مبدأ محذوف تقديره: أعجبني الذي هو كزيد. أجيب: بأن حذف المبدأ/ من صلة (الذي) مع عدم الطول قليل جدَا، ووقوع الكاف صلة للذي مطرد كثير، فكثرة هذا، وقلة ذاك دليل على أنها حرف في الصلة. والثاني: قول الله تعالى: {ليس كمثله شيء}. ووجه ذلك أنه إن قال باسميه الكاف مطلقًا لزم أن تكون في الآية غير زائدةٍ؛ لامتناع زيادة الأسماء عنده. والقول بذلك يؤدي إلى ما هو كفر؛ لأن تقديره على ها: ليس مثل مثله شيء، وهذا إثبات مثل لله- تعالى عن ذلك- وذلك لمن يقول به كفر صراح، فلزم إذا أن تكون زيادة للتوكيد، وإذا لزمت الزيادة تعينت الحرفية على الأصل الذي قال به البصريون.

وأما مذهب سيبويه: فإنه أتبنى على ما سمع، ولم تثبت أسميتها، إلا في الشعر، فقال بذلك. وأما الناظم، ومن قال بقوله، فإنه لما رأي ذلك قد جاء في الكلام، وإن كان قليلًا، وذلك كقول الله تعالى: {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}. فالكاف هنا مفعولة بأخلق؛ لأن المعنى: أنى أخلق لكم من الطين مثل هيئة الطير، وذلك يقضي بالاسمية في ظاهر الأمر، وجاء في الشعر ما يعين الاسمية أيضًا، وكثر ذلك فيه، فقد وقعت فيه فاعلا نحو قول الأعشى: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل فالكاف في كالطعن هو فاعل ينهي، وكذلك قول امرئ ألقيس: وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغليك مثل مغلب ومفعولة أيضا، ومبتدأ، واسم كان في أبيات ذكرها في الشرح، لم أقيدها كما أحب، فأحلت عليها، وتكون مضافًا إليها كقول الشاعر أنشدده في الشرح: تيم القلب حب كالبدر لا بل ... فاق حسنًا من تيم القلب حبا وتجر بالحرف الجار نحو قول ابن غادية السلمي:

وزعت بكالهراوة أعوجي ... إذا ونت الركاب جرى وثابا وبيت الكتاب: * وصالياتٍ ككما يوثقين* فالكاف الثانية مجرورة بالأولى. وقال امرؤ ألقيس، وهو ثابت في ديوان شعره، ويروي لعمرو بن عمار الطائي: ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فيه العين طورًا وترتقي وقال امرؤ ألقيس أيضا، ويروي لسلامة ألعجلي: على كالخنيف السحق يدعو به الصدى ... له قلب عفي الحياض أجون

وقال الآخر، ونسبه ابن جني إلى ذي الرمة أبيت على مي كئيبًا وبعلها ... على كالنقا من عالجٍ يتبطح إلى أبيات كثيرةٍ في الباب تقضي كثرتها ألا يحكم ألا يحكم عليها بالشذوذ، وعند ذلك يصبح ما ذهب إليه الناظم. ثم قال: (وكذا عن وعلى) يعني أنهما استعملا اسمين كما استعملت الكاف اسمًا، وإنما يدعي ذلك فيهما عند إقامة الشاهد على الاسمية، وذلك دخول حرف الجر عليهما، ولذلك قال: (من أجل ذا عليهما من دخلا) يريد أن دخول من: الجارة عليهما إنما كان بسبب كونهما اسمين لكونهما في موضع/ جر بمن، وإلا، فلو كانا عند دخول (من) عليهما حرفين لم يدخل لم يدخل عليهما حرف الجر، لأن حرف الجر لا يدخل علي حرف الجر، لأن حرف الجر لا يدخل عليه حرف الجر، وما جاء من نحو: "ولا للما بهم أبدا دواء" فليس من ذلك؛ لأن هذا من باب إعادة الحرف توكيًدا، كقوله:

لا لا أبوح بحب بثنة إنها ... أخذت على مواثقًا وعهودًا فثبت أن (عن) و (على) عند دخول حرف الجر عليها اسمين. وفي قوله: (من أجل ذا عليهما (من) دخلا) تنبيه على أمرين: أحدهما: اختصاص (من) من بين سائر حروف الجر بالدخول عليهما؛ إذ قال: (من أجل ذا) أي من أجل الاسمية دخلت (من)، ولم يزد على ذلك، فقيه إشارة إلى اختصاص (من) بذلك؛ إذ لو كان دخول غيرها سائغًا عنده لقال: من أجل ذا دخل عليهما حرف الجر، أو نحو هذا من الكلام الذي يعطي عدم الاختصاص بمن. والثاني: أنه لا علامة لهما عن الاسمية إلا دخول هذا الحرف؛ لأنه قيد وقوعها اسمين بدخول (من)، ولو كان له خاصة أخرى لم يقل ذلك، ولأطلق القول كما أطلق القول في الكاف؛ إذ قال: (واستعمل اسمًا) فلم يقيد؛ لأنها تقع فاعلة، ومفعولة ومضافًا إليها، وداخلًا عليها حروف الجر، فلما أطلق في الكاف، وقيد في غيرها دل تقيده على الاختصاص بما قيد، وهذا حسن من التنبيه، فإن الذي سمع فيهما دخول (من) وحدها كقول ذي الرمة: وهيف تهيج البين بعد تجاوز ... إذا نفخت من عن يمين المشارق وقال القطامي: فقلت المركب لما أن علا بهم ... من عن يمين الحبيا نظرةٌ قبل

هذا مما دخلت فيه من على عن. ومن دخولها على على قول مزاحم بن الحارث العقيلي، أنشده سيبويه: غدت من عليه بعد ما تم ظموها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل وعلى هذا ينبني النظر في مسألتين: إحداهما: أنه لا يرى رأي من رغم أن (على) لا تكون إلا اسمًا مطلقًا، دخل عليها خافض أو لم يدخل. واستدل على ذلك بأنها في كل موضع لها موضع من الإعراب، وهو المفرق بين الاسم والحرف، فإذا كان لها موضع من الإعراب، فهي اسم، فإن إعرابها يحدثه العامل، ولا يعمل فيها إلا على معنى من المعاني، وهي الفاعلية، والمفعولة، والإضافة، وفي كل واحد من هذه الأحوال الثلاثة يقع الإخبار عنها، فتصبح لها الاسمية بخلاف ما لا موضع له. قال: فانظر أبدا (على) تجدها ذات موضع، ن فينبغي أن تدعي فيها الاسمية حتى يجئ ثبت. وما قاله هذا القائل قد يظهر من سيبويه في باب: عدة ما يكون عليه الكلم، ولكنه غير قاطعٍ، لأنه بين في قوله: * آليت حب العراق الدهر أطعمه"

أنه من باب: * أمرتك الخير ... * فليست عنده اسمًا بإطلاق، لكن كما قيد في (عن) حين قال: "وأما عن فاسم إذا قلت: من عن يمينك" وايضأ فقد قال الخد: لا يبعد في "عن" أو: لا / يمتنع في "عن" أن تكون مقرًا، لكونها اسمًا بمعنى ناحية، ألا ترى قول ساعده: أفعنك لا برق كأن وميضه ... غاب تشيمه ضرام مثقب أبو سعيد: أفعن شقك هذا البرق، أو عن ناحيتك هذا البرق. تقول العرب هذا كله، وجعل (لا) زائدة. قال ابن خروف: وهو صحيح، فظاهر هذا الحكم عليها بالظرفية وإن لم تدخل عليها (من)، وهو مخالف لما أشار إليه الناظم، وشاهده البيت؛ لأن ظاهره النصب على الظرفية، وهو خبر المبتدأ. فأما من خالف في (على) فلا دليل فيما قال، وليس الأمر كما زعم، فإنك إذا قلت: جلست على الحصير، فهمت المباشرة، وحروف الجر إنما جيء

بها لتوصل معاني الأفعال إلى الأسماء وتضيفها إليها، وإضافة معاني الأفعال إلى الأسماء لا تتصور إلا في الحروف، فإذا قلت: جلست فوق الحصير، كان الفعل واقعًا بمدلول (فوق) لا بمخفوضها، فدل ذلك على انتقاء المرادفة، فلا يصح إن قال: إن (على) بمعنى فوق، إذا قلت: جلست على الحصير. أما إذا تعين ذلك فلا محيص عن القول به، وذلك إذا دخل عليها حرف الجر كما تقدم، وأيضا فإن دعوى من ادعى أن لها موضعًا من الإعراب في كل موضع غير ظاهرة؛ إذ لا دليل يدل على إن قولك: جلست على الحصير، (على) فيه في موضع نصب، وإنما كان يكون الدليل على ذلك لو وقعت فاعلة أو مفعولًا بها كالكاف، أو مضافًا إليها، فعند ذلك يتعين كونها في موضع الإعراب. وأما إذا قلت: جلست على الحصير، فلا دليل فيه لإمكان أن يكون الواقع في موضع النصب المجرور لا (على). فإن قيل: إن الظرفية ظاهرة المعنى فيها، فهو الدليل. قيل: إن كان معنى الظرفية هو الدليل لا على أنها في موضع نصب، فليكن ذلك دليلًا في (في) إذا قلت: قعدت في الدار، فهي أولى بذلك، وكذلك الباء بمعنى (في)، وإذ ذاك يلزم اسمية هذه الحروف. وهذا كله شنيع من القول، ومخالفة للإجماع، ثم إنا نقول: إن (على) لا يفهم منها الظرفية، وإنما يفهم منها معنى الاستعلاء، ولو كان معنى (على) الظرفية، وأنها مرادفة لـ (فوق) للزم أن يكون معنى: على زيدٍ مال، فوق زيدٍ مال، وأن توضع موضعها (فوق) في كل موضع، وذلك غير صحيح. ومثله يشنع في نحو: {توكلت على الله}. {ولا تقولوا على الله

إلا الحق}. {إن الله وملائكته يصلون على النبي}. الآية. فإن قيل: وكذلك الاستعلاء يقبح، بل يستحيل في هذه الأشياء، فهو مشترك الإلزام. فالجواب: أن مثل هذا راجع في المعنى إلى قولك: على زيدٍ حق، وعليه مال، والفوقية لا تصلح فيما تقدم لا حقيقية ولا مجازًا، فافترقا. والكلام هنا له مجال واسع يكفي هذا منه. وأما من خالف في (عن)، فلا حجة له على ما قال. والبيت المستشهد به محتمل لأن تكون فيه (عن) عن أصلها من الحرفية على حذف المضاف؛ لكونه مفهومًا، أو جعل البرق مجازًا للمخاطبة نفسها/ واتساعًا. ويجري هنا من: : البحث اسمية عن وعلى بحالة دخول حرف (من) عليهما. والمسألة الثانية: أن الناظم لم يعول على ما قاله ابن عصفور في تعيين أسميتها، وذلك أنه جعل لأسميتها موضعين: أحدهما: ما أشار إليه الناظم من دخول الجار. والآخر: أن يؤدي جعلها حرفًا إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى مضمره كقولك: دع عنك كذا، وهون عليك، كما قال امرؤ ألقيس: دع عنك نهبأ صيح في حجراته ... ولكن حديثًا ما حديث الرواحل وأنشد سيبويه:

* هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها * وقال الآخر: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرس وقال زهير بن أبي سلمى: فلما تبلج ما فوقه ... أناخ فسن عليه الشليلا وضاعف من فوقها نثره ... ترد القواضب عنها فلولا فإنك إذا جعلت (عن) و (على) هنا حرفين، أدى ذلك إلى باب ممنوع، وهو تعدي (هون) الذي فاعله ضمير المخاطب إلى مضمر المخاطب الذي هو (عليك)، وهو متصل، وذلك غير حائرٍ، كما لم يجز: ضربتني، ولا: أضربك، ولا: زيد ضربه، تريد: ضرب نفسه إلا في باب ظنت، فإذا ادعي في (على) في قوله: (هون عليك): أنه اسم صار (هون) إنما تعدى إلى غير ضمير المخاطب، فصار كقولك: اضرب غلامك. وهكذا القول في (دع عنك) وفي بقية النظائر. وهذا المرتكب غير مرضي من وجهين: أحدهما: أنه لو كان كما قال لم يجز أن يتعدى فعل المضمر المتصل إلى مضمره المتصل بحرف جر أصلًا حتى تصبح أسميته، وليس كذلك، فإنك تقول:

قربت زيدًا إلى، وبعدته مني، وأدنيته مني، ومتعت زيدًا بي، ولا أعلم أحدًا يمنع هذا ممن تقدم. وفي القرآن الكريم: {واضمم إليك جناحك من الرهب}. و (إلى) لا تصح أسميتها باتفاق. ومنه: {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون}؛ لأن المعنى على تعلق (لهم) بـ (يجعلون)، ولا يمكن جعل اللام اسمًا. ومثل ذلك في الكلام كثير. والثاني: أن الضمير المجرور ليس بمتصل بالفعل لفظًا، فليس إذ ذاك بجارٍ مجرى المنصوب المتصل؛ ولذلك لم يذكره سيبويه حين ذكر امتناع نحو: أضربك، بل هو جارٍ في الحكم مجرى الاسم الظاهر بمثابة أن أو نطقت بالنفس، ونحو ذلك، فتقول: ضربت نفسي، كما تقول، ضربت غلامي، فالحق إذًا ما ذهب إليه الناظم، وهو رأى شيوخنا- رحمهم الله-. فإن قيل: إن النحويين يقولون: لا يكون (عن) و (على) اسمين إلا إذا دخل عليهما الجار، فيجعلون دخوله هو السبب في الاسمية، والناظم عكس الأمر، فجعل دخول الجار عليهم مسببًا عن كونهما اسمين يقوله: / من أجل ذا عليهما من دخل) أي: من أجل إنهما يكونان اسمين دخل عليهما (من) الجارة، وذلك يقتضي أنهما قبل دخول (من) محتملان للاسمية والحرفية، فلا يدخل عليهما إلا بعد استقرار الاسمية، وظاهر كلام غيره أنهما لا تستقر أسميتهما إلا إذا دخل [عليهما] (من) فكيف هذا؟ فالجواب: أن ما قاله الناظم صحيح؛ إذ لا يصح دخول الجار إلا على

مستقر الاسمية وإلا فلو كان الجار داخلًا قبل استقرارها لما كان دليلًا عليها، وحينئذٍ يلزم أن يكون (عن) و (على) محتملين مع التجريد من الجار. فإن قيل: فهل لنا أن ندعي أنهما عند التجريد محتملان كالكاف الجارة. قيل: إنما يدعي هذا على رأي من يدعي أن الاسمية فيهما قياس، وإن كان ضعيفًا. وأما على رأي من لا يرى ذلك فلا ينبغي دعوى الاحتمال فيهما لأمرين: أحدهما: أن الأصل فيهما الحرفية، فلا يخرجان عنه إلا بدليل، ولا دليل؛ إذ لم يثبت لهما الاسمية على الإطلاق. والثاني: أن ما جاء فيهما متعين الاسمية نادر لا يقوى أن يقاس عليه غيره، وإذا كان كذلك كان كلام الناظم واردًا على اعتقاد العرب فيهما الاسمية، لا على اعتقادنا؛ إذ كان اعتقادنا لها ثانيًا عن وجود الجار داخلًا عليهما، عكس اعتقاد العرب؛ إذ كانت إنما أدخلته عليهما بعد اعتقاد الاسمية، فلا إشكال، فإذا وقع لنا في شعر أو غيره أن ندخل الجار عليهما، فلذلك قياس على ما نطقت به العرب، لا على مجرد الاحتمال، فكان الناظم تكلم على حسب اعتقاد العرب (قبل إدخال الجار، وغيره إنما تكلم على حسب اعتقادنا) فيما تكلمت به العرب، فإذا قد انتظم كلامه مع كلام النحويين. فإن قيل: هل في كلامه دلالة على كون أسميتها وإدخال الجار عليهما قياسًا أو سماعًا أم لا؟ فالجواب/: (واستعمل اسمًا) ظاهر أنه يريد أن العرب استعملته كذلك- يعني الكاف-، ثم قال: (وكذا عن وعلى) أي استعملتهما العرب

اسمًا كذلك، فهذا إخبار عن السماع، فالظاهر أن ذلك عنده غير قياسٍ كما تقدم في الكاف. ثم قال: ومذ ومنذ اسمان حيث رفعا ... أو أوليا الفعل كجئت مذ دعا وإن يجرا في مضي فكـ (من) ... هما، وفي الحضور معنى (في) استنب جعل الناظم: (مذ ومنذ) على وجهين: أحدهما: أن يكونا اسمين: والثاني: أن يكونا حرفين، فإن قال: (ومذ ومنذ اسمان) في موضع كذا، ثم قال: (وإن يجرا في مضى فكمن) يعني حرفين. وهذا رأي الجمهور. وذهب بعض النحويين إلى أنهما اسمان أيضا إن انجر ما بعدهما؛ لأنهما قد ثبت لهما الاسمية إذا ارتفع ما بعدهما، أو أوليا الفعل، فليكن كذلك إذا انجر ما بعدهما؛ إذ الجر لا ينافي الاسمية. والأصل بقاء ما كان على ما كان، فوجب استصحاب الحكم الثابت لهما قبل أن يجرا ما بعدهما. ورد هذا المذهب بأمرين: أحدهما: قاله ابن عصفور أن الظرف إذا نفي عنه الفعل استغرقه النفي ولم يتعده، كقولك: ما رأيته يوم الجمعة، فقد استغرق النفي جميع أجزاء يوم الجمعة/ ولم يتعدها، وإذا نفيت الفعل قبل (مذ) لم يستغرقها وتعداها، فإذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فلا بد أن تكون رأيته في جزء من يوم الجمعة، ثم لم تره إلى زمانك الذي أتت فيه، فقد رأيت تعدي النفي لها، وامتنع استغراقه، فلو كانت (مذ) ظرفًا لكان حكمها حكم الظرف فيما ذكر، فلما

اختلف الحكمان، دل على فساد قول من قال فيها بالظرفية، فلما ظهر فساده تعين صحة قول الجماعة في أنها حرف إذا جرت ما بعدها، واسم إذا رفعت. قال شيخنا الأستاذ- رحمه الله-: لا يلزم ذلك القائل بالظرفية؛ لأن تلك المعنى موجود فيها إذا ارتفع ما بعدها، وهى هنالك اسم أو ظروف، ولم يوجب ذلك أن تكون حرفًا، وإنما وجب أن يكون كذلك من جهة أنها كلمة موضوعة لابتداء الغاية، أو للغاية كلها، فكل كلمة لها حكم نفسها الذي وضعت له. ثم استدل على صحة قول الجماعة، وبطلان قول الآخر المخالف بأنها إذا جرت ما بعدها كلمة لا معنى لها إلا من غيرها، ولم توجد إلا مبنية ليس لها حكم من أحكام الأسماء في ذلك الموضع، فوجب القول بالحرفية، وقد كان ينبغي أن يحكم عليها بذلك إذا ارتفع ما بعدها لولا أن فيها هنالك حكمًا من أحكام الأسماء، وهو استقلال الكلام بها مع ما بعدها، وليست بفعل، فهذا هو السبب في القول بحرفيتها إذا انجر ما بعدها، وهو الثاني من الوجهين، فثبت أن (مذ) و (منذ) على وجهين، كما قال الناظم. وأيضا فإن (مذ) و (منذ) في الزمان كـ (من) في الزمان والمكان لابتداء الغاية، وللغاية كلها، فقد ساوتا (من) في المعنى، وساوتاها أيضا في عمل الجر، فهما مثلها، ولو تأتت دعوى الحرفية إذا وقع بعدهما المرفوع، أو الجملة لم ينتقل عنها. أما مع المرفوع؛ فإن حروف الجر لا يرتفع ما بعدها. وأما مع الجملة؛ فلان حروف الجر لا تدخل على الجمل اختيارًا؛ فقيل بالاسمية لذلك. فإذا تقرر هذا فالناظم ابتدأ بقسم الاسمية، وعين لها موضعين:

أحدهما: أن يرتفع ما بعددها، وذلك قوله: (اسمان حيث رفعا) يريد: رفعا ما بعدهما، نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة، وما رأيته منذ يوم الجمعة، فها هنا لا يمكن أن يكونا حرفين، ولكن يكونان اسمين، لكن يبقى النظر في إعرابهما ما هو؟ هل هما مبتدآن ما بعدهما خبر لهما؟ وإليه ذهب الفارسي وطائفة، فقولك: ما رأيته منذ يومان، تقديره: أمد ذلك يومان. أو هما ظرفان خبران للمرفوع بعدهما؟ والتقدير: بيني وبين لقائه أو رؤيته يومان، أو نحو ذلك، وهو رأي الزجاجي. أو ظرفان ما بعدهما مرفوع بفعل مضمر، فقولك: ما رأيته مذ يوم الجمعة أو مذ يومان في تقدير: مذ كان يوم الجمعة، ومذ كان يومان. وهو مذهب الكوفيين، وإليه ذهب المؤلف في غير هذا الكتاب، وليس في نظمه هذا صريح نص على اختيار أحد هذه المذاهب إلا ما يستشعر من قوله: (حيث رفعا)؛ فإنه لما أسند رفع ما بعدهما إليهما لم يستقم ذلك إلا على مذهب الفارسي، فإن المبتدأ هو الرافع/ للخبر عند الناظم، وإذا كان كذلك فهو مخالف هنا لما ذهب إليه في غير هذا، وكان هذا المذهب أرجح من جهة النظر، وذلك أنه إذا قدر بعدهما الفعل فلا بد من تقدير الزمان قبل ذلك الفعل؛ لأن (مذ) و (منذ) مختصان بالزمان، فيلزم على مذهبه تقدير فعلٍ أيضًا قبل ذلك الزمان، وإذا تقدر

الفعل فلا بد من تقدير زمانٍ لاختصاص (مذ) و (منذ) بالزمان، فيتسلسل الأمر، وذلك فاسد، فالأولى عدم تقدير الفعل. وقد يجاب عن هذا بأنه لا يسوغ تقدير زمان مع القول بظفريتها؛ لأنا إذا فرضنا (مذ) مثلًا ظرفًا، فهي الموقوع فيه، وهي أيضًا الدالة على ابتداء الغاية، أو الغاية كلها، فصارت (مذ) كاسم تضمن معنى حرف، كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام هي نائبة عن الأمرين، فكذلك (مذ) إذا كانت ظرفًا هي دالة على الزمان، وعلى ابتداء الغاية فيه كما كانت (من) في قولك: من زيد؟ دالة على الاستفهام، والمستفهم عنه، فإذا قدرت الزمان بعد (مذ) فقد جردتها عن الاسمية، وصارت حرفًا لابتداء الغاية في ذلك المجرد، كما أنك إذا ذكرت الجزء الثاني في: من زيد؟ أتيت بحرف الاستفهام فقلت: أفلان زيد أم فلان؟ وإذا كان كذلك لم يلزم على تقدير الفعل محظور، فهذا مما يمكن أن يجاب به، لكن الذي يرجح به رأي الناظم على رأي الكوفيين أن الإضمار على خلاف الأًصل، فلا ينبغي أن يدعي إلا بدليل، ولا دليل، بل الكلام تام من غير دعوى الإضمار، فكان القول به تكلفًا من غير حاجة. فإن قيل: إن في دعوى الإضمار فوائد، منها: إجراء (مذ) و (منذ) في الاسمية على طريقة واحدة، وذلك أولى من اختلاف الاستعمال. ومنها: التخلص من الابتداء بالنكرة بلا مسوغ إن ادعى التنكير، ومن تعريف غير معتاد إن ادعى التعريف، والتخلص من جعل جملتين في حكم جملةٍ واحدة من غير رابط ظاهرٍ ولا مقدرٍ، فإذا لم يدع الإضمار لزم ارتكابُ

هذه الأمور، وهي مما لا ينبغي ارتكابه لمخالفته صنعة القياس. فالجواب: أن الإضمار لما كان يلزم منه مخالفة الأصل، وكان عدم الإضمار أيضًا يلزم عليه ما قال من اختلاف الاستعمال تعارض الأصلان، فرجح جانب عدم الإضمار حملًا على الظاهر، وليس فيه ما يخل بالكلام، والإضمار دعوى زيادة في الكلام لو سكت عنها لم تخل به. وأيضا فإضمار شيء- لو ظهر لم تحصل به فائدة- عبث. وأما الابتداء بالنكرة من غير مسوغ فلنا أن نجيب عنه بأمرين: أحدهما: أن ندعي التنكير، والمسوغ للابتداء بها حصول الفائدة، فإن تعداد المسوغات ثان عن حصول الفائدة، (فليس فيها حصر إلا بحصول الفائدة؛ وهي هنا حاصلة، فلا مطلوب سواها). وقد تقدم في باب الابتداء بسط هذا المعنى. والثاني: أن تدعي أن (مذ) و (منذ) لفظهما لفظ النكرة، والمعنى معنى المعرفة، ولذلك نظير، وهو قول العرب: لقيته عامًا أول، فلظه لفظ النكرة، والمعنى معرفة؛ لأنه يريد العام الذي قبل عامك. وعلى هذا حمل طائفة قولهم: لقيته ضحى وضحوه وعشاء وعشية/ وأخواتها من يوم بعينه، / 321/ فليس (مذ) و (منذ) على هذا عديمي المسوغ للابتداء بالنكرة إن ادعي أنهما نكرتان، ولا غير معهودي التعريف إن أدعى أنها معرفتان. وأما التخلص من جعل الجملتين جملة واحدة من غير رابط، فإن (منذ) و (مذ) إذا ارتفع ما بعدها فقد أختلف في الجملة الاسمية الحاوية لواحدة منهما

هل لها موضع من الإعراب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن لا موضع لها، وإنما هي مفسرة لمقدار الزمان الذي اقتضاه ما قبلها؛ لأنك إذا قلت: ما رأيته، دل على أن انقطاع الرؤية في زمان لا يدري السامع من اللفظ ما مقداره، فجاءت الجملة الثانية مفسرة لهذا المعنى، كما قيل في قوله تعالى: {وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم}. وذلك أن هذه الجملة الثانية مفسرة للموعود الذي هو مفعول ثانٍ لـ (وعد)، لما استحال أن تكون هذه الجملة مفعولًا ثانيًا له، لأن لـ (وعد) من باب أعطى، والمفعول الثاني من باب أعطى لا تقع الجملة موقعة، وإنما ذلك لباب ظنت، وسائر ما يدخل على المبتدأ والخبر. وإذا كانت مفسرة فلا موضع لها، فكذلك هذه الجملة. والثاني: أن لها موضعًا من الإعراب، وهو النصب على الحال، كأنه قال: ما رأيته متقدمًا، أي تقدمًا زماني؛ لأن انقطاع الرؤية متصل بزمانه الذي هو فيه، وهذا فيه تكلف، وإشكال، ولكن به صارت الجملتان في حكم الواحدة برابط الضمير المقدر، والقول الأول أولى، وعليه الأكثر. ويبقى النظر بين رأي الناظم ورأي الزجاجي، فيرجح بأنه أقوى- أعنى رأي الناظم من جهة المعنى- بأنك إذا قدرت قولك: ما رأيته مذ يومان: أمد ذلك يومان. وقولك: ما رأيته منذ يوم الجمعة، ابتداء انقطاعها يوم الجمعة، أو أول ذلك يوم الجمعة كان صحيحًا، وأنت إذا قدرت- على مذهب الزجاجي- بيني وبين لقائه يوم الجمعة لم يستقم هذا التقدير حتى تقول: وما بعده إلى

اليوم، وهذا حذف كثير، وتكلف في الت 4 قدير، وهذا، وإن كان وقوع الاسم المبتدأ غير متصرف قليلًا كأيمن الله، ولعمر الله بخلاف وقوعه ظرفًا، فإنه كثي ر، فلا ضرر إذا كان اللفظ سائغًا سهل المأخذ، والمعنى قويًا، ومن قاعدة سيبويه: الاعتبار بالمعنى، وإن ضعف حكم اللفظ، وقد يهمل جانب اللفظ محافظة على المعنى. وهو مذهب المحققين. والموضع الثاني من موضعي الاسمية: أن يقع بعدهما الجملة من الفعل والفاعل وهو معنى قوله: (أو أوليا الفعل) أي: جعل الفعل واليًا لهما، وكأنه يقول: ومذ ومنذ اسمان حيث وأيهما الفعل كمثاله الذي مثل به، وهو: جئت (مذ) دعا، ومثله: ما رأيته منذ طلعت الشمس، ومذ قام زيد، وأنا قائم عليه منذ ولد، وما أشبه ذلك. ومنه قول الشاعر: ما زال مد عقدت يداه إزاره .... فسما فأدرك خمسة الأشبار. وقال أبو ذويب: / قالت إمامة ما لجسمك شاحبًا ... منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع وهذا الموضع مما اختلف فيه، فذهبت طائفة إلى ما قاله الناظم من تعين الاسمية. وذهب بعضهم إلى أنه محتمل الاسمية والحرفية، وهو رأي السيرافي، فإنه قال في: ما رأيته منذ كان عندي، أو منذ جاءني: إن (منذ) محتملة أن تكون

من أسماء الزمان، أو حرفًا جارًا يختص به الزمان، وعمله فيما بعده كعمل الاسم المضاف، فجاز إدخاله على الفعل؛ إذ كان معناه، وعمله كزمان مضاف إلى فعل، وما قاله هنا خلاف وذع الحرف؛ إذ حرف الجر مختص بالدخول عن الأسماء لا على الجمل. ألا ترى أنك تقول: جئتك في حين مات زيدٍ. ولا تقول: جئتك في مات زيدٍ؛ بل الذي يدل على أنها ليست بحرفٍ دخولها على الفعل. فإن قيل: فإن الاسم غير الظرف أيضًا لا يضاف إلى الفعل، وإنما يضاف إلى الفعل الظرف، وقد تقدم أن (منذ) و (مذ) عند الناظم غير ظرفين، فكما لا يقال: هذا غلام قام، فكذلك لا يقال: منذ قام، فإن قدرت زمانًا هنا، فكذلك يقدره هنالك، فالسؤال مشترك الإلزام. فالجواب: أن هذا غلط، أو مغالطة؛ إذ لم نقل: إن (مذ) مضافة إلى الجملة، بل هي غير مضافةٍ، كما كانت غير مضافة مع المفرد إذا قلت: ما رأيته مذ يومان، بخلاف ما أدعى أنها حرف، فلا بد من أن يكون ما بعدها جرا، فلزم الإشكال على دعوى الحرفية، فلم يصح القول بذلك، وصح كلام الناظم. وهنا مسألتان: إحداهما: أنه لم يقدر بين (مذ) و (منذ) وبين الفعل شيئًا، فدل على أنه لم ير رأى من قدر هنالك الزمان، وذلك أن الجز ولي، وجماعة يقدرون بينهما زمانًا، فيقولون: إن المعنى- في قولك: ما رأيته مذ قام زيد، : ما رأيته مذ

زمان قام زيد، وكذلك في (مذ) بناء منهم على أنهما مختصان بالزمان لا يدخلان إلا عليه، فإذا وقع بعدهما ما ليس بزمان، فلا بد من تقديره طردًا للأصل فيهما، وأيضًا فالمعنى يدل على ذلك. ويبقي النظر في الزمان هل يقدر مرفوعًا أو مجرورًا؟ أمر آخر يثبت بعد ثبوت هذا التقدير. وأيضا فإن سيبويه قد جعلهما من الأسماء المضافة إلى الأفعال، وذلك مختص بالزمان نحو: جئت إذ قام زيد، وأثبت يوم قام زيد. وقد تقرر أن مذ ليسا بظرفين، فلا تصح إضافتهما إلى الفعل، وإذا كان كذلك فلا بد من تقدير زمان تصح إضافتهما إلى الفعل، وإذا كان كذلك فلا بد من تقدير زمان تصح إضافته إلى الفعل. وما قالوه فيه نظر. أما أولًا: فإن الإضمار على خلاف الأصل، فلا ينبغي أن يقال به ما وجد غيره. وأما ثانيًا: فإن مذ ومنذ إذا كانا اسمين فهما دالان على الزمان، وإن لم يقعا ظرفين فلا يحتاج مع ذلك إلى تقدير الزمان، وإنما كان يحتاج إلى ذلك على فرض كونهما حرفين أو ظرفين، ولا يصح هنا كونهما حرفين؛ فلا ينبغي تقدير زمان. وأما جعل سيبويه لهما من باب ما أضيف إلى الفعل، فلذلك عند جماعة بناء على أنهما ظرفان على ما هب إليه الزجاجي، وإذا كانا ظرفين فلا حاجة بنا إلى تقدير الزمان كسائر/ الظروف المضافة إلى الفعل. فإن قيل: منذ في: منذ قام زيد، لا بد أن يكون مبتدأ على مذهبك خبره ما بعده، وإذا لم يكن بد من ذلك فلا يصح أن يكون الفعل خبرة. ألا ترى أنك لا تقول: أول ذلك قام زيد، كما تقول: أول ذلك يوم الجمعة، وإنما يستقيم مع تقدير الزمان، كأنه يقول: أول ذلك زمان قام زيد، فلا

يصح الكلام مع عدم تقدير الزمان أصلًا. فالجواب: أن الناظم ليس في كلامه ما يدل على أن مذ ومنذ هنا مبتدآن، وإنما دل كلامه على أنهما مبتدآن إذا وقع بعدهما المرفوع، وهو الموضع الأول. وأما هنا فإنما قال: (أو أوليا الفعل) وإبلاؤهما الفعل يحتما أن يكون على ذلك، أو على أنهما ظرفان لا مبتدآن، لكن لما جعلهما مبتدأين لا يصح معه أن يكون الفعل خبرًا من غير تقدير زمان، وكان جعلهما ظرفين يصبح معه أن يكون الفعل خبرًا من غير تقدير زمان، وكان جعلهما ظرفين يصح معه وقوع الفعل خبرًا من غير افتقار إلى تقدير، كان الواجب أن يعتقد أنهما هنا ظرفان عنده لأنه لو كان عنده مبتدأين لم يسغ له السكوت عن تقدير الزمان؛ إذ لا يصح الكلام إلا بتقديره، فلما لم يفعل ذلك أشعر بأنهما عنده في هذا الموضع ظرفان، وهو الظاهر من سيبويه، وإياه ارتضى في شرح التسهيل، ويتحصل إذاك في مذ ومنذ إذا رفعا أو أوليا الفعل ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما مبتدآن بإطلاق، ويقدر مع الفعل زمان. والثاني: أنهما ظرفان بإطلاق. والثالث: ما رآه هنا من التفرقة بين أن يقع بعدهما المرفوع فيكونان مبتدأين، وبين أن يقع بعدهما الفعل فيكونان ظرفين. ووجه التفرقة على هذا التنزيل: أن الاسمية مع المرفوع على غير الظرفية أولى لما تقدم. وأما مع الفعل فظاهر أن مذ ومنذ معه على حد سائر الظروف من الإضافة إلى الفعل، فكان القول بذلك الظاهر فيهما، وأن يكونا متعلقين بما قبلهما أولى لا سيما إذا كان جعلهما هنا اسمين يلزم منه تكلف الإضمار، وما الكلام غنى عن تقديره، وأيضًا فتصير الجملتان بذلك جملة واحدة، فهذه أمور ترجح القول بهذا مع موافقة ظاهر الكتاب، وعليه جماعة كابن

خروف، وغيره. والمسألة الثانية: أن قوله: (كجئت مذ دعا) يظهر أن الناظم أتى به في معرض التقييد للفعل المذكور؛ لأن قوله: (أو أوليا الفعل) مطلق لا يختص بماضٍ دون مضارع أو أمر، والمستعمل مع مذ ومنذ من الأفعال إنما هو الماضي فلا يقال: ما أفعل ذلك منذ يقوم زيد، وأولى ألا تدخلا على فعل الأمر؛ لأن زمان المضارع إن كان مستقبلًا فهو غير متحصل، فلا يقدر به، وإن كان حالًا، فكذلك ايضًا؛ لأن مذ ومنذ للغاية كلها، أو لابتدائها، وإن كانا اسمين أو ظرفين، ومعنى الغاية كلها مختص بما كان حاضرًا، والفعل لا يعطي انتهاء تلك الغاية إذا قلت: منذ يقوم زيد؛ إذ لعله بعد يقوم، فلا يكون للغاية كلها. ثم قال: (وإن يجرا في مضى فكم هما) هذا هو القسم الثاني، وهو الذي يكونان فيه حرفين، وهو أن يقع بعدهما الاسم مجرورًا لقوله: (وإن يجرا) إلا أنه قسم المجرور بعدهما/ قسمين: أحدهما: أن يكون ماضيًا في المعنى نحو: ما رأيته منذ يوم الجمعة، وما رأيته مذ يوم الخميس، فمذ ومنذ في هذا القسم مؤديان معنى ابتداء الغاية، لكن في الزمان كما كانت (من) كذلك لابتداء الغاية في المكان فقط، أو فيهما معًا، وهذا معنى قوله: (وإن يجرا في مضى فكمن هما) يعني لابتداء الغاية. فإذا قلت: ما رأيته منذ يوم الجمعة، فمعناه: ابتداء زمن القطاع الرؤية يوم الجمعة. والثاني: أن يكون المجرور بهما حاضرًا نحو: ما رأيته منذ يومنا، ومذ

شهرنا ومذ عامنا، فمذ ومنذ في هذا القسم مؤديان معنى (في) التي تقتضي الظرفية، وهو مراده بقوله: (وفي الحضور معنى (في) استبن) أي: استنبن في جر الزمان الحاضر بهما معنى (في)، فإذا قلت: ما رأيته منذ يومنا، فمعناه: ما رأيته في يومنا، وكذلك ما رأيته منذ عامنا، معناه: في عامنا. ومعنى قوله: (في مضي) في اسم ذي مضى، فهو على حذف المضاف وكذلك قوله: (وفي الحضور) أي في ذي الحضور معنى (في) استبن. فإن قيل: إن الناظم هنا لم يقيد كون مجرورهما زمانًا ولا بين معناهما، كما بين سائر معاني الحروف الجارة، وذلك قصور في البيان. فالجواب أن تقول: بل قد بين ذلك. أما كون مجرورهما زمانًا فقد تقدم له أول الباب بقوله: (واخصص بمذ ومنذ وقتًا). وأما بيان معناهما فبقوله هنا: (وإن يجرا في مضي فكمن هما) يعني أن معناهما معنى (من)، وهو ابتداء الغاية. وقوله: (وفي الحضور معنى (في) استبن) يعني أن معناهما الغاية كلها، ولذلك يصح أن يقدرا بمن وإلى معًا، فتقول في نحو قولك: ما رأيته مذ عامنا، تقديره: ما رأيته من أول عامنا إلى آخره. فإن قيل: هذا من قوله غير مفهوم؛ لأن قوله: كـ (من) ليس فيه ما يدل على معنى ابتداء الغاية، ألا ترى أنه أحال في معناها على (من)، ولمن معانٍ جملة ذكرها، فما الذي يعين معنى ابتداء الغاية دون غيره؟ وقوله: (معنى (في) استبن) إنما يدل على أن معناهما الظرفية؛ إذ هي معنى (في)، ومعنى الظرفية ليس هو معنى الغاية كلها، بل هما معنيان مخلفان، فلا يدل أحدهما على الآخر.

فالجواب: أنه يمكن أن يكون أحال على معنى ابتداء الغاية في (من)؛ لأنه أول معنى ذكره، أو لأنه الذي يتوهم ابتداء في (مذ)؛ لأن غير هذا المعنى في (مذ) و (منذ) لا يصح. وهذا تلفيق، والظاهر ورود السؤال. وقد مر له مثل هذا في فصل الباء في قوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطلق)؛ إذ أحال على معنى (من)، ولم يبين أي المعاني أراد. وأما (في) فلما كان معناها يشعر بمعنى الغاية استغنى بذكرها عن ذكر الغاية، أو يكون ذهب إلى أنهما هنا- أعنى مذ ومنذ- طرفتين بمعنى (في) حقيقة. وقد قال بذلك بعض النحويين كالجز ولي؛ إذ يصح وضعها موضعهما، فتقول: ما رأيته في عامنا، وفي شهرنا، وإذا صح وقوعها موقعهما، فذلك الدليل على أن معناهن واحد على حكم الترادف. ولكن هذا مخالف لما ذهب إليه كثير من النجاة، وقد تبين وجهة. ثم أعلم أن هذا الفصل لم يخلصه الناظم كل التخليص؛ بل فيه نظر من ستة أوجه زيادة على ما تقدم: أحدهما: / أن ظاهر مساقة أن (مذ) على وجهين، لكن إذا تأملته لم يحصل ذلك؛ لأنه إنما قال: (ومذ ومنذ اسمان) في موضع كذا، ثم قال: (وإن يجرا في مضي فمعناه كذا) وليس كونهما بمعنى (من) و (في) بدالين على كونهما حرفين؛ إذ الأسماء المتضمنة معنى الحرف دالة على معنى الحرف، وليست لذلك بحروف، وكذلك يقال هنا: إنهما بمعنى (من) و (في) مع ثبوت الاسمية لابتداء الغاية، أو للغاية كلها، ولذلك يقول النحويون: إنما بنيا لشبه الحرفين في اللفظ، وأصل المعنى، فهذا ممكن أن يدعيه مدع، فلا يظهر

كونهما إذ ذاك حرفين، وكذلك الجر لا يدل بنفسه على الحرفية حتى يبينه من تعرض لبيان كلام العرب كالناظم، فكان من حقه أن يقول: (وأن يجرا فحرفان ككذا) وما أشبه ذلك مما ينص على الحرفية، إلا أنه لم يفعل، فكان معترضًا عليه. والثاني: أنا إذا سلمنا أنهما على وجهين من الاسمية والحرفية فليسا على وجهين؛ بل على ثلاثة أوجه: وجه يكونان فيه اسمين لا غير. ووجه يكونان فيه حرفين لا غير. ووجه يكونان فيه محتملين للاسمية والحرفية. والأولان قد بينا، والثالث المحتمل: أن يقع بعدهما (أن) وصلتها، نحو: ما رأيته منذ أن الله خلقتني، فهذا على رأيه ورأي غيره يحتمل أن يكون في موضع جر على أن تكون الحرفية، أو في موضع رفع على أن تكون الاسمية. وأما غيره فيقولون مثل ذلك، أعنى أنهم يقسمونهما ثلاثة أقسام، لكن على طريقة أخرى، فيقولون، يكونان حرفين إذا دخلا على الزمان الحاضر، وإذا دخلا على كم، نحو: ما رأيته مذ يومنا، ومنذ كم سرت؟ . ويكونان اسمين إذا دخلا على الفعل الماضي، قيل: أو على الجملة الاسمية، نحو: * ما زال مذ عقدت يداه إزاره* وأنشد سيبويه قول الآخر:

وما زلت محمولًا على ضغنية ... ومضطلع الإضغان مذ أنا يافع وما عدا ذلك فجائز أن يكونا اسمين أو حرفين. والناظم لم يأت إلا بقسمين فقد نقصه ثالث. والثالث: أنه لما قرر أنهما حرفان في كذا، واسمان في كذا، ولم يبين ترجيحًا بين الاستعمالين، ولا قرر ما للعرب فيهما ظهر أن الوجهين سائغان فيهما على كل لغة، وأن الوجهين لا ترجيح بينهما، وليس كذلك؛ فإن الخفض بمنذ أكثر من الرفع، والرفع بمذ بعكس ذلك؛ لأن الاسمية أغلب على (مذ) المحذوفة النون، والحرفية أغلب على الثابتتها، هذا بالنسبة إلى الاستعمال. وأما نقل اللغات: فقد نقل فيهما ثلاث لغات. منهم من يرفع بهما على كل حال. ومنهم من يخفض بهما على كل حال. ومنهم من يفرق بين مذ ومنذ، فيخفض بمنذ ابدً، ويفرق في مذ، فيرفع بها ما مضى، ويخفض بها ما أتت فيه، هكذا حكاها الشلويين، وإذا ثبت ذلك لم ينبغ أن يطلق القول فيهما إطلاقًا، فإنه موهم لاتفاق العرب فيهما،

ولتساوي الاستعمال بينهما. وذلك كله فيه ما ترى. والرابع: أن تعريفه بأحكامها يقتضي أنها موقوفة على السماع؛ لأنه قال: /326/ إنهما اسمان حيث رفع ما بعدهما، أو أوليا/ الفعل، وحرفان حيث جرا، وهذا تقرير فيما سمع، فاقتضى ذلك أن جميع ما ذكر لهما موقوف على السماع، وأن تأويله ما ذكر، والمقصود إنما هو التعريف بالقياس فيهما لا بالسماع. والخامس: أن مقصود النحويين في هذا الفصل بيان حكم (مذ) و (منذ) إذا كانا حرفين، وإذا كانا اسمين، فيقولون: إذا كانا حرفين انجر ما بعدهما، أو أسمين ارتفع، ويجرون القياس. وكذلك يقولون: إذا وقع بعدهما الحاضر، فإنهما يجرانه، وفي الماضي الوجهان، فكان الزمان الحاضر لا يدخل عليه إلا الحرفية منهما بخلاف الماضي، فإن كل واحدة من الاسمية والحرفية تدخل عليه، وكذلك ما أشبه هذا الكلام الدال على إجراء القياس بناء على الحرفية أو الاسمية. أما الناظم فإنه عكس الأمر، فجعل تلك الأحكام المحكية عن العرب المسوقة مساق السماع دلالة على الحرفية والاسمية. وهذا يلزم فيه الدور بناء على قصد النحويين، فإنه إذا قيل له: أين يكونان اسمين؟ فقال: في موضع كذا. فقيل له: ما حكم موضع كذا؟ فلا بد أن يقول: إن كانا اسمين فحكمه كذا، أو حرفين فحكمه كذا، فقد توقف العلم بكونهما اسمين أو حرفين على حكم الموضع الذي يقعان فيه، وتوقف العلم بحكم الموضع على كونهما اسمين أو حرفين، فلا يعرف واحد منهما إلا بعد معرفة الآخر، وذلك محال. والسادس: قوله: (أو أوليا الفعل) تقييد غير محتاج إليه؛ بل هو موهم لحكم غير صحيح، فإنه يقتضي بمفهومه أن الجملة الاسمية إذا وقعت بعد

(مذ) أو (منذ) فلا يكونان معها اسمين. وهذا غير مستقيم، فإنهما لا يكونان معها حرفين؛ لأن حروف الجر كما لا تدخل على الجملة الفعلية لا تدخل أيضًا على الجملة الاسمية، وقد ترك في التسهيل هذا القيد، وهو الصواب، فإن العرب تقول: ما زلت قائمًا مذ زيد قاعد، وما رأيته مذ هو مريض. وما أشبه ذلك ومنه: * ... مذ أنا يافع* وإذا كان كذلك ظهر أن هذا الفصل قاصر. والجواب عن الأول: أنه قد قدم أولًا بيان كون (مذ) و (منذ) حرفين حين عد حروف الجر؛ إذ لم يعدها إلا من حيث هي حروف جارة، لا من حيث هي جارة فقط، وإلا فكان الواجب عليه أن يعد كل ما يخفض من الأسماء المتمكنة، وغيرها. وذلك فاسد، فلا بد أن يكون ما عد حروفًا على مقتضى ترجمته لكن منها ما يستعمل اسمًا أو فعلًا، فإذا كان كذلك فلا بد من بيانه، فإذا رجع إلى بيان معاني الكلم علم أنه رجع إلى أصل الباب من الحرفية، وأن الجر المذكور في قوله: (وإن يجرا) هو جر الحرف لا غيره. وهذا ظاهر كسائر ما ذكر من الحروف المستعملة أسماء. وعن الثاني: أن قصد الناظم في تقرير حكم هذين الحرفين غير قصد غيره، وذلك أن قصده من حيث أتى بهما مع حروف/ الجر أن يبين معانيهما، وقد/ 327/ فعل في قوله: (وإن يجرا) ... إلى أخره، وأن يبين استعمالهما اسمين، ويعين مواضع ذلك، وهو الذي ابتدأ به فقال: إنهما اسمان حيث لم يجرا، ولا وقع بعدهما ما ينجر، فإذا جرا فلذلك الذي قصد ذكره في الباب، فلم يحتج إلى

ذكر القسم المحتمل، وأيضا: فإن المحتمل ظاهر حكمه من القسمين المذكورين إذا اعتبر بهما، فلم ينقصه من تلك الجهة قسم ثالث. وعن الثالث: أن الحاصل من كلام العرب ما ذكر من أنهما يستعملان اسمين وحرفي جر/ وإن قصد أن يبين ما لهما من الحكم إذ كانا حرفين، وينجر بعد ذلك من أحكامهما في الاسمية أو غيرها ما ينجر، فلا عليه في ترك الترجيح إذا كان الجميع بما يقاس. وعن الرابع: أن قصده من التفرقة بين الاسمية والحرفية اقتضى أن يحيل على ما استقر عند العرب، فيقول: أنهما إذا كان بعدهما المرفوع، أو الجملة، فهما اسمان وإذا كان بعدهما المجرور فهما حرفا جر، معناهما كذا، ووجه كونهما حرفين هناك، واسمين هنا قد تبين. هذا قصده، وهو حاصل بإحالته على كلام العرب، ويبقى القياس على ما سمع لم ينص عليه، كما أنه لم ينص على خلافه، وإنما تركه اعتمادًا على ما تقدم له من ذلك في حروف أخر، وفي أحكام أخر من غير هذا الباب؛ لأنه يذكر ما للعرب من غير تعرض إلى كون ذلك قياسًا أو غير قياس، فيحمل على أنه قياس حتى يبين أنه ليس كذلك، كقوله مثلًا: أنه نادر، أو شاذ أو قليل، أو ما أشبه بذلك، فهذا هو وجه المأخذ في هذا النحو، فلا إشكال. وعن الخامس: أنه إذا تبين أن المقصود تعريف الفرق بين الاسم والحرف من (مذ) و (منذ)، وقد تبين، وأن ما قرر من السماع جار مجرى القياس-تبين أن كونهما اسمين يقتضي رفع ما بعدهما، أو كونه فعلًا، وكونهما حرفين يقتضي جر ما بعدهما على الوجهين من معنى (من) أو (في)، فها أنت وذاك من غير توقف ولا دور. وأما السادس: فالظاهر وروده، ولم يحضرني له جواب. والله أعلم بمراده.

ثم قال: وبعد (من) و (عن) وباء زيد (ما) ... فلم نعق عن عمٍل قد علمنا وزيد بعد (رب) والكاف فكف ... وقد تليهما وجر لم يكف هذا فضل يذكر فيه دخول (ما) على بعض حروف الجر كافة، وغير كافٍة، وأين يجوز كفها، وأين يمتنع؟ فذكر أولًا قسمين: أحدهما: لم تأت فيه (ما) كافة للحرف عن عمله الذي ثبت له قبل دخول (ما). والثاني: جاءت فيه (ما) كافة للحرف عن عمله. فأما القسم الول: فجعل له ثلاثة أحرٍف، وهي: من وعن، والباء، وذلك قوله: (وبعد من وعاء وباٍء زيد ما) ... إلى آخره. يعني أن العرب زادت (ما) بعد هذه الأحرف الثلاثة فاصلة بينها وبين ما جرته، فلم يعقها ذلك، ولا أزالها عن عملها الثابت لها، المعلوم فيها. أما (من) فمثالها قولك: مما كرمك أكرمتك. ومنه القرآن الكريم: (مما/ خطيئاتهم أعرقوا فأدخلوا نارًا}. وأما (عن) فمثاله قولك: عما قريٍب آتيك. ومنه قول الله تعالى: {عما قليٍل ليصبحن نادمين}. وأما (الباء) فنحو: بما إكرامك أكرمتك. وفي القرآن: {فبما نقضهم

ميثاقهم لعناهم}. ويظهر من هذا أنه لم يأت في هذه الأحرف (ما) كافة عن العمل، وفي هذا نظر؛ فإن الباء قد تكفها (ما) فلا تطلب اسمًا تعمل فيه، كقول الشاعر: فلئن صرت لا تحير جوابا ... لبما قد ترى وأنت خطيب وقول عمر بن أبي ربيعة: فلئن بان أهله ... لبما كان يؤهل وقول كثير عزة: مغاٍن يهيجن الحليم إلى الهوى ... وهن قديمات العهود دوائر ثم قال: بما قد أرى تلك الديار وأهلها ... وهن جميعات الأنيس عوامر فهذا عند المؤلف مما كفت فيه الباء عن العمل (ما) فهيأتها للدخول على الفعل، وإنما أتى بالباء في التسهيل على أنها مثل الكاف ورب يجوز أن تدخل عليها ما

كافة وغير كافة، فإذًا قوله: (فلم تعق عن عمٍل قد علما) بالنسبة إلى الباء غير صادق. أما بالنسبة إلى (من) و (عن) فهو صحيح. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأمرين: أحدهما: أن كون (ما) كافة في تلك الشواهد غير متعين؛ لإمكان كونها مصدرية على معنى: لئن صرت غير مجيٍب لرؤيتك خطيبًا، أي: هذا بذاك، وكذلك باقي الأبيات يمكن حملها على هذا التقدير، فلا يكون فيها دليل على ثبوت الكف لما، كما لو يثبت لها ذلك مع من وعن في نحو: عجبت مما صنعت، أي من صنعك، وما أشبه ذلك. والثاني: أنا لو سلمنا وجود ذلك كما أنشد لكان لنا أند ندعي قلته وأنه لم يبلغ من الكثرة مبلغ ما يقاس عليه؛ فلذلك لم يذكره، كما لم يذكر في هذه الحروف اللام، وقد لحقتها (ما) غير كافة. قال الأعشى: إلى ملٍك خير أربابه ... فإن لما كل شي قرارا إلا أن ذلك قليل، فلم يعتن بذكره. وأما القسم الثاني: وهو ما جاء فيه الكف بما عن العمل فحرفاٍن: وهما رب، والكاف، وذلك قوله: (وزيد) يعني حرف (ما)، (بعد رب والكاف فكف) يريد أن (ما) زيد بعد هذين الحرفين، فكفهما عن العمل، وهيأتهما للدخول على الأفعال فصارا من حروف الابتداء، وذلك قولك: ربما يقوم زيد. قال الله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}. وأنشد أبو عمرو، وغيره قول الشاعر:

ربما تكره النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل المقال قال سيبويه: "جعلوا رب مع (ما) بمنزلة كلمة واحدة، وهيئوها ليذكر بعدها الفعل؛ لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى "رب يقول" ولا إلى "قل يقول" - يعني في (قلما) - فألحقوها (ما) وأخصلوهما للفعل". وأما الكاف، فنحو: أكرم زيدًا، كما أكرمت عمرًا. قال الله تعالى: {وقل لو كان معه آلهة كما يقولون}. الآية. وقال: {واذكروه كما هداكم}. وقوله: {كما أرسلنا فيكم رسولًا منكم}. الآية. وأنشد سيبويه لروبة: * لا تشتم الناس كما لا تشتم * قال سيبويه: "وسألت الخليل - رحمه الله - عن قول/ العرب: انتظرني كما آتيك، فزعم أن ما والكاف جعلتا بمنزلة حرٍف واحد، وصيرت للفعل كما صيرت ربا". ثم أنشد بيت روبة، وأنشد معه قول أبي النجم:

قلت لشيبان أدن من لقائه ... كما تغذي القوم من شوائه ولم يقيد الناظم كفهما عن العمل بكونهما تهيآ للفعل، كما قال سيبويه في (ربما)، لأنهما عنده مما لا يليه إلا الفعل بخلاف الكاف، فإنها عنده يليها الجملتان، بل أطلق الناظم القول في ذلك، فاقتضى أنهما عنده قد يدخلان على الجملة الاسمية، والمسألة مختلف فيها، فنقل عن الكسائي أن (ربما) تدخل على الجملة الاسمية والفعلية، وإليه ذهب الجزولي. ومنه قول الشاعر: ربما الحامل الموبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار وسيبويه يرى ما تقدم من اختصاصها بالفعل. وأما الكاف: فعدم اختصاصها بالفعل صحيح عند سيبويه وغيره، ففي القرآن الكريم: {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة} وفي مثال من أمثلة سيبويه: كما أنت ها هنا. ومن أبيات الحماسة: وإن بنا لو تعلمين لغلة ... إليك كما بالحائمات غليل

وقال كثير: جزيت أبا بكرٍ عن الود نضرة .... كما الخير محمود على القول قائله ثم ذكر جواز دخول (ما) على الحرفين معًا غير كافة، فقال: (وقد يليهما وجر لم يكف) يعني أن (ما) قد تلي رب والكاف، والجر الذي كان موجودًا قبل دخولها باق على حاله لم تؤثر (ما) في ذلك شيئًا، وذلك قليل على ما يفهم من إتيانه بقد. فأما رب: فمثال ذلك فيها ما أنشده في الحماسة: ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصرى وطعنة نجلاء وأما كما: فمثاله قول الآخر: وننصر مولانا ونعلم أنه ... كما الناس مجروم عليه وجارم وقال سيبويه: "وسألته - يعني الخليل- عن قوله: كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الله عنه، وهذا حق كما أنك ها هنا: فزعم أن العاملة في (أن) الكاف و (ما) لغو، إلا أن (ما) لا تحذف مما هنا كراهة أن يجيء لفظها مثل لفظ كأن، كما ألزموا النون لأفعلن، واللام قولهم: إن كان ليفعل؛ كراهة أن يلتبس اللفظان". ثم

استدل على صحة قول الخليل بما لا يحتاج إلى ذكره هنا. وقوله: (وجر لم يكف) جملة في موضع الحال من ضمير المفعول، أي: وقد يليهما غير مكفوفي الجر، أو من ضمير الفاعل، وهو ضمير (ما)، أي: وقد يليهما غير كاف للجر. ويقال: عاقه الشيء عن كذا يعوقه عوقًا وإعتاقه: حبسه وصرفه عنه، ومنه عوائق الدهر، وهي شواغله وأحداثه، فمعنى قوله: (فلم يعق عن عمل) أي: لم يحبس عنه؛ ولم يصرف عنه. ثم قال الناظم: وحذفت رب فجرت بعد بل ... والفا، وبعد الواو شاع ذا العمل وقد يجر بسوى رب لدى ... حذف، وبعضه يرى مطردا هذا فصل آخر يذكر فيه حذف حرف الجر وإبقاء عمله، وذلك أن حذف الجار تارة يكون العمل / معه زائلًا بزوال الحرف، كقوله - أنشده في الكتاب-: استغفر الله ذنبًا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل وقول الآخر - أنشده المبرد - وغيره -: تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم علي إذًا حرام وهذا القسم هو الأكثر في كلام العرب؛ إذ لم يقو الجار أن يحذف ويبقى عمله، كما قوي الفعل، ولكن هذا الحذف قد يكون قياسًا كالبيت الأول، وقد يكون سماعًا كالثاني، وليس كلامه في هذا. وتارة يحذف الجار

ويبقى عمله، وهو أقلي. وهو أيضًا على ضربين: قياسي، وسماعي، وجميع ذلك يذكره. وبدأ الكلام على (رب)؛ لأنها قسم برأسه، فيريد أن رب قد حذفت من اللفظ وبقي عملها بعد ثلاثة أحرف: أحدها: بل، نحو قولك: بل دار للأحبة عرفتها، تريد: بل رب دار للأحبة عرفتها. ومنه قول رؤبة أو غيره: *بل بلد ملء الفجاج قتمه* وقول أبي النجم: *بل جوز تيهاء كظهر الجحفت* تقديره: رب بلد، ورب جوز تيهاء. والثاني: الفاء، نحو قول امرئ القيس الكندي - في بعض الروايات -: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا ... فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

وقال ربيعة بن مقروم الضبي، وهو من أبيات الحماسة: وإن أهلك فذي حنق لظاه ... علي يكاد يلتهب التهابًا وقال الهذلي: فحور قد لهوت بهن دهرًا ... نواعم في المروط وفي الرياط والحذف بعد هذين الحرفين قليل، ودل على ذلك من كلامه قوله: (وبعد الواو شاع ذا العمل) ويعني أن حذف رب مع بقاء عملها إنما شاع بعد الواو، فاقتضى أنه لم يشع بعد غيرها من الأحرف الثلاثة. والواو هو الحرف الثالث، فتقول: وكتاب حفظته في ليلة، وليلة سهرتها في طلب الريح، ومن ذلك قول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي وقول رؤبة بن العجاج:

*وقاتم الأعماق خاوي المخترق* وقال رؤبة أيضًا: وبلدٍ عامية أعماوه ... كان لون أرضه سماؤه وقال الشماخ: ودوية قفر تمشي نعامها ... كمشي النصارى في خفاف اليرندج وقال ذو الرمة: ودويةٍ مثل السماء اعتسفتها .... وقد صبغ الليل الحصى بسواد وأنشد سيبويه: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس

وذلك كثير شائع كما قال. وفي قوله: (فجرت بعد بل)، وكذا وكذا، ما يقتضي أن (رب) نفسها هي الجارة لا الحروف الثابتة قبلها، وهذا في بل والفاء متفق عليه على ما حكاه في التسهيل. وأما في الواو فالجمهور من البصريين أن الأمر كذلك. وذهب الكوفيون والمبرد من أهل البصرة إلى أن الواو نفسها هي الجارة، وهو مذهب مرجوح من أوجه: أحدها: أن الواو عاطفة هنا، والعاطف ليس بعامل، ولا يخرجها عن العطف كونها تقع في أوائل القصائد نحو: *وبلد عامية أعماؤه* *وبلدة ليس بها أنيس* لاحتمال العطف على كلام تقدم ملفوظ به لم ينقل، أو مقدر حكم له - منويًا في النفس - بحكم المنطوق به. والثاني: أنها مع ذكر (رب) عاطفة باتفاق، فكذلك / يكون الحكم مع حذفها، ولا تنقل عن ذلك إلا بدليل، والأصل عدمه. والثالث: أن الواو لم يثبت كونها حرف جر بنفسها إلا في المبدلة من الباء في القسم، وليست إذ ذاك بحرف عطف، فلا يثبت كونها حرف جر بالاحتمال. والرابع: أنها تضمر بعد (بل)، ولا يقول أحد أن (بل) تجر، وكذلك تضمر بعد الفاء كما تقدم، وليست نائبة عن (رب)، ولا عوضًا عنها، فكذلك

ينبغي أن يكون الحكم مع الواو. والخامس: أن الذي يدل على عدم النيابة عنها، وأنها ليست بعوض منها، أنه يحسن ظهورها معها، فيقال: ورب بلد، ورب بلدة، ولو كانت عوضًا عنها لما جاز ظهورها معها؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين العوض والمعوض عنه، كواو القسم لا يجوز أن يجمع بينها وبين الباء، فلا يقال: وبالله لأفعلن، على أن يكون الواو حرف قسم كالباء، فأما قول الله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم}. فالواو فيه عاطفة، لا حرف قسم، فلم يمتنع الجمع بينها وبين التاء، فلما جاز الجمع بين واو (رب) و (رب) دل ذلك على أنها لم تنب عنها، ولا عوضت منها. وفي هذه الأدلة كلها نظر، وأقربها الرابع، إن ثبت الاتفاق من الفريقين على أن الفاء وبل ليستا جارتين عند حذف (رب)، فإن الفرق بينهما وين الواو فيه بعد. وبعد فهذه المسألة لا ثمرة لها في النحو، وإنما البحث فيها مظهر للمرتكب الأولى في ضبط القوانين خاصة، وإذا كان كذلك فما قاله أهل البصرة له وجه صحيح، وما قاله الآخرون كذلك. والله أعلم. هذه مسألة تعلقت بقوله: (فجرت بعد) كذا. ومسألة أخرى: وهو أنه لما قيد الحذف مع بقاء الجر بكونها بعد الأحرف الثلاثة دل أن ذلك الحكم لا يكون لرب بعد غيرها من حروف العطف، فلا يقال: ثم رجل لقيته، على تقدير: ثم رب رجل لقيته، ولا أو رجل لقيته، ولا حتى رجل لقيته، ولا ما كان نحو ذلك. وهذا صحيح، وكذلك أيضًا لا تحذف ويبقى عملها دون أن يكون بعد عاطف أصلًا، فلا يقال: رجل لقيته،

تريد: رب رجل لقيته، وما جاء مما خالف هذا فشاذ، نحو ما أنشده ابن الأنباري، وغيره لجميل: رسم دار وقفت في طلله ... كدت أقضي الحياة من جلله فلا يعتد بمثل هذا في القياس. ثم قال: (وقد يجر بسوى رب لدى حذف) يعني أن هذا الحكم المذكور في (رب)، وهو الجر مع حذف الحرف قد يوجد في غير (رب) من حروف الجر، لكن ذلك على الجملة قليل؛ دل على قلته قوله: (وقد يجر) وهذا الحذف على قلته على وجهين: مطرد، وغير مطرد، ولأجل ذلك قال: (وبعضه يرى مطردًا) يريد: وبعض آخر لا يطرد، فأما غير المطرد فمعلوم أنه لا يقاس عليه، ولكن يقبل ما سمع منه ليحفظ، فمن ذلك قول رؤبة - وقيل له: كيف أصبحت؟ -: خير عافاك الله. يريد بخير، أو: على خير. وأنشد المبرد قول الشاعر: ألا تسأل المكي ذا العلم ما الذي .... يحل من التقبيل في رمضان فقال لي المكي أما لزوجة .... فسبع، وأما خلة فثمان يريد: وأما لخلة فثمان، فحذف. ومنه أيضًا قول الآخر:

إذا قيل: أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع يريد: أشارت إلى كليب. وأما المطرد: فلم ينبه الناظم على مواضعه، بل اكتفى بالإيماء إليه بقوله: (وبعضه يرى مطردًا) وقد أطرد ذلك على قلته في مواضع الحاضر الآن منها ثمانية: أحدها: المعطوف على الخبر الصالح للباء في النفي بليس، أو ما أشبهه نحو: ما زيد قائمًا ولا قاعد، وليس زيد قائمًا ولا قاعد، توهمًا للباء موجودة في الخبر. ومن ذلك قول زهير - أنشده سيبويه -: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا كأنه توهم الباء داخلة على (مدرك)، وكذلك قول الأخوص الرياحي، أنشده سيبويه أيضًا: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة .... ولا ناعب إلا ببين غرابها

كأنه قال: ليسوا بمصلحين، فلذلك قال: ولا ناعب، وينظر إلى هذا في الجر بالإسم على توهم الإضافة قول امرئ القيس: وظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل وأنشد المؤلف من ذلك في (ما) قول الشاعر: ما الحازم الشهم مقدامًا ولا بطل ... إن لم يكن للهوى بالعقل غلابا وهذا- وإن كان قليلًا- قياس عند المؤلف والبغداديين. والثاني: مميز (كم) إذا جرت بحرف جر، فإنها إذا كانت كذلك جر المميز بمن مقدرة، نحو: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ يريد: بكم من درهم؟ فحذفت (من)، وأبقى عملها. قال ابن خروف: وهو مذهب الخليل، وسيبويه، والجماعة، فهذا حذف قياسي لم يخالف فيه على ما نقلوا إلا الزجاج. وهذا الموضع قد ذكره الناظم في باب كم. وسيأتي الاحتجاج عليه هنالك، إن شاء الله تعالى. والثالث: القسم بالله يجوز فيه حذف الحرف وإبقاء عمله مع تعويض إثبات

الألف، نحو قولك: الله لأفعلن، أو تعويض (ها) ساقطة الألف، نحو: هالله لأفعلن، أو ثابتة الألف نحو: هالله، هكذا ممدودة مع وصل ألف الله، أو مع قطعها، نحو: ها الله لأفعلن، وقد جاء فيه الجر بغير تعويض شيء حكى الأخفش أن من العرب من يجر اسم الله مقسمًا به دون جار موجود، ولا عوض. وذكر غير الأخفش أنه سمع بعض العرب بقول: كلا الله لآتينك، وهذا كله جائز قياسًا عند النحويين، وإن كان قليلًا في نفسه، والجار المحذوف هنا الواوي أو الباء التي للقسم. والرابع: جواب السؤال الذي تضمن حرف الجر، فيجوز فيه عند المؤلف حذف ذلك الحرف لتقدم ذكره، فتقول - في جواب من قال: بمن مررت؟ -: زيد. التقدير: بزيد، لكنه حذف اختصارًا. وفي الحديث: "وقيل له عليه السلام: فإلى أيهما أهدي؟ قال: أقربهما إليك بابًا" ونحو ذلك. وكان الناظم يزعم أن هذا النوع جائز عند جميع النحويين إلا الفراء. وهذا النقل ظاهر التسهيل، وما أنا من صحته على يقين.

والخامس: ما عطف على الاسم الذي دخل عليه مثل ذلك الحرف، فيجوز حذفه من المعطوف/ لتقدم ذكره في المعطوف عليه، وهذا مخصوص بالعطفعلى معمولي عاملين على رأي من يمنع ذلك كسيبويه، وأتبعه المؤلف نحو: رأيت زيدًا في الدار والسوق عمرًا، فإنه على تقدير إعادة الجار لتقدم ذكره لا أنه على حقيقة العطف؛ إذ لا يجوز أن ينوب العاطف عن عاملين، بل عن واحد خاصة، وهو الفعل هنا، وبقدر الآخر. ومن ذلك في القرآن الكريم: {وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون* واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون}. فجر (اختلاف) بفي مقدرة لتقدم ذكرها في قوله: (وفي خلقكم). وهو نظير ما أنشده سيبويه: أكل امرئ تحسبين امرءًا ... ونار توقد بالليل نارا ومن أبيات الحماسة: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

والسادس: المقرون بالهمزة أو هلا بعد كلام تضمن الحرف الجار، حكى الأخفش في كتاب: "المسائل" أنه يقال: مررت بزيد، فيقال: أزيد بن عمرو، وكذلك هلا نحو قولك: جئت بدرهم، فيقال: هلا دينار. قال: "وهذا كثير". والسابع: المقرون بأن والفاء الجزائيتين، نحو ما حكاه يونس من قول العرب: مررت برجل صالح إلا صالح فطالح. والتقدير: إلا أكن مررت بصالح فقد مررت بطالح. (وأجاز أيضًا أن يقال: أمرر على أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو)، وهذا قليل ولكنهم قاسوه. قال سيبويه بعدما ذكر المسألة الأولى وضعفها: (ولكنهم لما ذكروه- يعني الجار- في أول الكلام شبهوه بغيره) .. قال: (وكان هذا عندهم أثوى إذا أضمرت رب ونحوها في قولهم: *وبلدة ليس بها أنيس* يريد من غير أن يتقدم قبلها شيء يدل عليها. قال. (ومن ثم قال يونس: أمرر على أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو) فإذا كان أقوى عند سيبويه من إضمار (رب)، وإضمارها قياس، فكذلك يكون الإضمار هنا في مسألتنا. والثامن: المقرون بأن الجزائية في نحو مسألة يونس: أمرر على أيهم أفضل إن زيد وإن عمرو وقد مر ما فيه.

فهذه مواضع جاء فيها حذف الجار مع بقاء عمله قياسًا مطردًا، وهو الذي أشار إليه بقوله: (وبعضه يرى مطردًا) والرائي أطراده هم النحويون- الناظم أحدهم- وقد أتت أشياء مما يوافق عليها المؤلف أو يخالف، وفيما ذكر هنا كفاية. وقوله: (وقد يجر بسوى رب) الجار هنا العرب، فمعنى الكلام أن الجر مع حذف الحرف جاء في كلام العرب قليلًا في مواضع معدودة، وبعض هذه المواضع رأى فيها النحويون الاطراد، فقاسوها وطردوها. وقوله: (لدى حذف). بمعنى عند حذف، يريد حذف الحرف الجار.

الإضافة

ثم قال الناظم {الإضافة} هذا هو القسمُ الثاني من أقسام الإضافةِ، وهي (1) إضافةُ الاسمِ إلى الاسمِ نحوُ: غلامُ زيدٍ، وصاحبُ الدابةِ. وخُصَّ بهذا القسم (2) اسمُ الإضافة، وإن كان اسمُ الإضافة يشملُ القسمين عند الأقدمين (لأنَّ المتأخرين يخصُّون هذا الاسم بهذا القسم وحدَه دون إضافةِ / الفعلِ ... 334 إلى الاسم. وأما الأقدمون: فاسمُ الإضافةِ عندهم يُطلَق بعمومٍ وخُصوصٍ، فَيطلَقُ بعمومٍ على كلا القسمين، ويُطْلَقُ بخصوصِ على هذا الثاني (3). وابتدأَ الناظمُ ببيان أحكامِ الإضافةِ الأُوّلِ اللاّزِمةِ لها في ماهيَّتها، إِذْ لم يذكر لها حَدَّا فقال: نُونَّا تَلِى الإعرابَ أَوْ تَنْويِنَا مما تُضِيفُ احْذِفْ كطُورِسِينَا والثانَيِ اجْرُرْ وانْوِمِنْ أَوْفى إِذا لم يَصْلُحِ إلاّ ذاكَ واللامَ خُذَا لِمَا سِوَى ذَيْنِكَ واخْصُص أَوَّلا أو أَعْطِه التَّعْرِيفَ بالّذِي تَلاَ

______ (1) س: وهو (2) س: بهذا الاسم. (3) انظر الكتاب 1/ 419.

نوناً: منصوبً (1) على المفعولية باحذِفْ، وأو تنويناً عطف على نوناً، ومما تُضْيِفُ أيضا متعلق باحذف. والتقدير: احذِفْ مما تضيفه نوناً تلى الإعرابَ أو تنويناً، ويعني أن الاسم الذي يُضافُ يلزمهُ حذفُ النُّون التي (2) في آخره تابعةً لإعرابه، وهي نونُ التنثيةِ وجمعِ التصحيح بالواو والنون، وما جَرَى مجراهما، أو حَذْفُ تنوينه إن كان مفرداً، أو جمع تكسير، أو تصحيح بالألف والتاء. ولم يَحْتَجْ إلى تقييد التّنوين بأنّه يلي الإعراب، لأنه لا يكون إلا كذلك بخلاف النون، فإنها قد تكونُ تاليةً للإعراب (وهي الجارية مجرى التنوين في الحكم المذكور (وقد تكون غيرَ تاليةٍ للإعراب، فلا تُحَذف من المضاف في الإضافة، فمثال النون التي تُحذَف عند الإضافة وهي التي (3) تلي الإعراب قولكَ: هذان ضاربا زيدٍ، وهؤلاءِ ضارِبُو زيدٍ، وًثنتا حَنْظَل (4) وقوله تعالى: {سيقولُ لك المخلَّفون من الأعرابِ شَغَلَتْنا أموالنُا وأهلونَا (5)}. و {من أوسط ما تُطْعِمُون أَهلْيكم (6)}. ونحو ذلك. ومثال النون التي لا تُحَذفُ عند الإضافة، وهي التي لا تلي الإعراب؛ بل

______ (1) الأصل: منصوباً. (2) الأصل: الذي. (3) التي: ليست في س. (4) جزء من بيت لخطام المجاشعي، وهو كأنّ خُصْيْيَيْهِ من التَدلْدُلِ ظَرْفُ عَجُوزِ فيهِ تنْتَا حَنْظَلِ أنظر البيت في الكتاب 3/ 569، 624، والمنصف 2/ 131. (5) من الآية 11 من سورة الفتح. (6) في النسخ: ومما تطعمون أهليكم. وصواب الآية ما أثبتناه، انظر الآية 89 من سورة المائدة.

الإعرابُ هو الذي يليها (1) قولك: هذا حَيْنُكَ، وهذه سِنِيُنك، على من قال (2): دَعانِيَ من نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَه وأعجبني إحسانُه، فلا تُحَذفُ هذه النونُ لأنها غيرُ جاريةٍ مجرى التّنوين، ولابُدَّ، فكذلك ما ناب عنه (3). وأما نونُ حينٍ وغِسْلينٍ وإحسانٍ ونحو ذلك: فالإعرابُ يكونُ فيها، فليست بتاليةٍ لأنَّها من أصلِ الكلمة ومن بِنْيَتِها، فهي جاريةٌ مَجْرَى ميم غلامٍ وباءِ صاحبٍ إذا قلت: غلامُ زيد، وصاحبُ عمرو. فالذي تَحْذِفُ الإضافةُ هنا التنوينُ خاصَّةً. ((ومَثَّلَ (4) الناظم)) ما قال بمثال مما يحذَفُ فيه التنوينُ وهو طور سيناءَ. والتنوينُ المحذوف هُنا لم يُقَيِّده بظاهر ولا مُقَدَّر، فيشملُ من حيث الإطلاقِ الجميعَ، فالظاهرُ قد تقدم مثاله، والمقدَّرُ نحو: أحمَرُ القوم، وذكرى الدار، وصحراء بني فلان، فإن التنوين هنا مقدر، فمنَعت الإضافةُ تقديرَه. والدليلُ على ذلك ظهورُه في ضرورةِ الشِّعر، ولابد أن يكون مراداً للناظم، وإلاَّ خرج باب مالا ينصرف عن قاعدته المطلقة. ولقائلٍ أن يقولَ: إنّ مالا ينصرفُ لم يدخُلْ له، فإنه قال: احذف،

______ (1) س: وهي التي لا تلي الإعراب وهو الذي يليها. (2) الصمة بن عبدالله الشقيري، وعجز البيت: لعبن بنا شيباً وشَيّبْنَنَا مُرْداً والبيت في الأمالي الشجرية 2/ 53، وشرح المفصل لابن يعيش 5/ 11. (3) س: وراءِ عَمْروٍ. وهو خطأ. (4) ما بين القوسين مكانه بياض في س، وفي صلب الأصل: ومثال، والمثبت عن الهامش.

والحذف حكم لفظيٌّ لا تقديري، فإذا كان كذلك فكأنَّه قال / ((نوناً تلي الإعرابَ 335 أو تنوينا)) ظهرا فيما أريدت إضافتُه احِذْف وأزل حتى تتأتى الإضافة، لأن المضاف إليه قائم في محل تنوين المضاف، فإذا لم يُوجَدْ نونُ ولا تنوينٌ، فالمحلُّ قابلً لوقوع المضاف إليه هناك. وأحمر وذكرى ونحوهما لا تنوين فيها ولا نون، فلا يحتاج إلى حذف شيء. والدليل على ذلك وأَنّ مُراده الظاهرُ من التّنوين أو النون تقييده بالتمثيل، وهو طور سيناءَ، إذ كان التنوين في طورٍ ظاهراً حالة ترك الإضافة، فكأنه يقول: إن كان ثَمَّ تنوينٌ أو نونٌ حذَفْتَه، وإلاّ فلا حاجة إلى أمر زائد، وإلاّ فكيف يُصنع بما لا نونَ فيه ولا تنوينَ، لا ظاهرٍ ولا مُقَدَّرٍ، ولا يصح فيه ذلك، نحو: كم دِرْهمٍ أعطيتَ؟ فإنَّ درهمٍ)) مضاف إليه كم، وكم مبنُّي بحق الأصل، وكذلك لَدُنْ مبنية بالإصالة وهي مضافة نحو: من لَدُنْه ومن لدنِّي وما أشبه ذلك، فأين تقديرُ التنوين (1)؟ وهو إنما يتبع في هذا النحو حركةَ الأعِرابِ، وكذلك تَقُولُ: إذا أَضَفْتَ المثنّى والمجموع بالواو والنون، وقد حذفت النون لتقصير الصلة نحو (2): [الفارِجُو بابِ الأميرِ المبْهَمِ] لا نون هنا فَتُحذفَ فلابد أن يقال: إنَّ مراده التنوينُ والنونُ الظاهرانِ خاصةً، وَإِلاَّ (3) كان كلامُه مُشْكِلاً. والجواب أنَّ رأي المؤلِّفِ هو الأوّلُ، وأنَّ الحذف يَتَسلَّط على المقدَّر، كما يَتَسلَّط على الظاهر، وذلك أنه لما قام الدليل على أن مالا ينصرف مقدر فيه التنوين، وأن الاضطرار هو الذي بين ذلك، بدليل أن مالا يُقدَّر

______ (1) في صلب الأصل: النون. والمثبت عن الهامش، س. (2) يُنْسَبُ إلى رجُلٍ من ضبَة، والبيت في الكتاب 1/ 185، والمقتضب 4/ 145، والجمل للزجاجي 89. (3) س: وإن كان. وهو خطأ.

((فيه التنوينُ لا ينون (1))) في الاضطرار، كذي الألف واللام، لم يكن بدُّ من القول بتقدير حذفه، لأنَّ التنوين مضاد للإضافة، فإذا قُدِّر لم تصح الإضافة، لأن الإضافة تقتضي اتصال المضاف بالمضاف إليه، والتنوين يقتضي انفصالها فتنافيا، وكونُ ذلك لا أثر له في الظاهر لا يمنع، فإن له أثرا من جهة المعنى، وهو ما تقدم، فلابد من القول ((به (2))). ويُحْمَل (3) تمثيلُ الناظم على أنه ليس بتقييدٍ، ولا مُخْرِجَ لشيءٍ. وأما الاعتراض بكم درهمٍ ولدُنْه، وبقوله (4): ((الفارجو بابِ الأمير)). فذلك من القلّةِ بحيثُ لا يعتبرُ في هذه الكُلِّية، وأيضا إذا كانت النونُ محذوفةً لتقصير الصلِّة (5)، فهي محذوفةٌ رأساً غير مقدَّرة في الموضع، فأغنى حذفُها للطول عن حذفها للإضافة، وهذا ظاهر. ثم قوله: ((مما تضيفُ)) يشُعِرُ بالاعتماد على قَصدِ الإضافة في هذا العمل وذلك صحيح؛ إذ لابد من قصد ذلك وإلاّ لم تحصُلْ؛ إذ لا تحصُلِ الإضافة من غير قصدٍ إليها، وإذا قُصدَت حَصَلَ ما قالَ من العمل. ثم قال: ((والثاني اجرُرْ))، يعني بالثاني المضافَ إليه وهو ((زيد)) في قولك: غلامُ زيدٍ، فتقول: غلامُ زيدٍ يا هذا، وصاحبا عمرو، ((بجرِّ عمرو (6)))، وكذلك ((القوم)) في قولك: منطلقو القوم، وما أشبه ذلك. والجرُّ هنا أيضا تارة يكون ظاهرا نحو ما تقدم ((ذكره (6)))، وتارة يكون

______ (1) ما بين القوسين مكانه بياض في الأصل. وفي صلب الأصل: لا ينوى. والمثبت عن الهامش. (2) سقط من س. (3) س: ويحتمل. (4) س: وقوله. (5) انظر الكتاب 1/ 186 - 187. (6) ما بين القوسين سقط من س.

مقدَّرا بأن تجعل الموضع موضع جَرٍّ، وذلك إذا كان المضاف إليه مبنياً نحو: غلامك وغلامُه وصاحباك وضاربونا، فإن موضع الضمير لابد أن يقدر أنه جَرُّ (1) / والدليل على ذلك 336 أنه إذا عُوِّض منه الظاهرُ ظَهَر فيه الجرٌّ وأيضا فالجرُّ المقدَّرُ ضربان: أحدهما: هذا. والآخر: أن يكون التقديرُ في مُعْرَبٍ تَعَذَّر ظهوره فيه، كالمقصور والمضاف إلى ياء المتكلم والمنقوص، نحو: غلامُ الفتى، وغلامي، وغلام القاضي. وما كان مثَل ذلك. فإطلاقُ الناظمِ صالحٌ لهذا كلِّه، ثم بيَّن أن الإضافة على ثلاثة أقسام: إضافة بمعنى من، وإضافه بمعنى في، وإضافة بمعنى اللام، فالإضافة بمعنى اللام هي الأصل لأنها الأكثر في الكلام، ولأنه لا يُدَّعى غيرها إلا إذا تعين ذلك المعنى في الموضع على ما يظهر من قوله: ((وانو من أوفى إذا لم يصلح إلا ذاك))، يعني أن الإضافة قد تكون على نية مِنْ على أن معنى مِنْ موجودٌ تقديرا، وقد تكون بمعنى في كذلك، لكنْ هذان الوجهان لا يُرجَعُ إليهما إلا إذا لم يصلح في الموضع غيرهما، فيتعيَّنُ كلُّ واحدٍ منهما في موضعه. فمثالُ ما يتعيّنُ فيه تقديرُ مِنْ ما كان فيه المضافُ بعضَ المضافِ إليه نحو: خاتمِ حديد، وثوبِ خَزٍّ، وبابِ ساجٍ، وخاتِم طينٍ، ورطلِ زيتٍ، وما أشبه ذلك، فالإضافة هنا بمعنى من والتقدير: خاتمٌ من حديد، وثوبٌ

______ (1) س: موضع جرّ.

من خزٍّ، ((وبابٌ من ساج (1))) وخاتمٌ من طين ورطلٌ من زيت وكذلك ((سائر (2) الأمثلة)) ويتعين هذا التقدير فيها، إذ لا يصح أن يُقَدَّر فيها معنى اللام، فلا تقول: خاتمٌ لحديدٍ، ولا ثوبٌ لخزٍّ، ولا ما أشبه ذلك. ومن هذا القسم جميعُ المقادير إذا أُضِيفَتْ إلى المقَدَّرات، كشِبْرِ أرضٍ، وقفيزِ برٍّ وخمسةِ أثوابٍ، وعشرةِ رجالٍ، وما كان منه. ويبقى النظرُ بعد هذا في نحو: رِجْلِ زيدٍ ويدِ عمروٍ' وبعض القومٍ، وكلِّ الرجالِ، فإن تقدير مِنْ فيه سائغ؛ إذ يصح أن يقال: رجْلٌ من زيدٍ، ويدٌ من عِمْروٍ، لأنها بعضٌ منه، فصار بهذا الاعتبار كخاتمِ حديدٍ، لأن الخاتم بعضُ الحديدِ، وكذلك بعضٌ القوم، لصحة قولك: بعضٌ من القوم، لكن يمكن أن يُقِدِّر فيه اللامُ، فتكون الإضافةُ على معنى اللام، ويصلح (3) أن تُقِدِّره: رجلٌ لزيد ويدٌ لعمرو وبعض للقوم، وإذا صلح ذلك خرج عن أن تكون الإضافة فيه بمعنى من، بنص كلام الناظم؛ إذ قال: ((وانو من أوفي إذا لم يصلح إلا ذاك))، وههنا صَلَح غير ذاك، فلا تنوي من. وبهذا القيد ضَبَطَ هذا المعنى، وهو صحيح جارٍ على ما ذهب إليه في غير هذا الكتاب. وإنما ضَبَطَ في التسهيل إضافة من يكون الأول بعض الثاني مع صحة الإخبار به عنه، فتقول: خاتَمُك حديدٌ، وثوبُك خزٌّ. وهذا صحيح أيضا. ولا تقول: اليد زيد، ولا الرجل عمرو، وقد يكون تقْييِدُه في هذا النظمِ أنسبِ وأَدَلَّ على المقصود وأوضح في الاستدلال على صحة ما ضبط لأن قوله: ((إذا لم يصلح إلا ذاك، يعطي أنه لا يقدم على تقدير من أوفي إلا إذا لم يوجد عن ذلك

______ (1) سقط من س. (2) مكانه بياضٌ في س. (3) س: ويصحّ.

مندوحة. وهو (1) استدلال قياسيٌّ في الموضع، وإلاّ فالأصل الذي هو معنى اللام طالب له، فإذا صَلَح تقديرُ اللاَّمِ / لم يُنْتَقَلْ عنه إلا بدليل واضح وسبَبٍ قَوِيٍّ، وذلك موجود في ... 337 خاتم حديد، وثوب خَزٍّ ونحوه، وغير موجود في نحو: يد زيد، وبعض القوم وما ضبطه (2) في التسهيل لا يعطي هذا المعنى، فكأن ((ما (3))) هنا أولى. وقد ذهب ابن كيسانَ والسيرافي إلى أن إضافةَ كلٍّ وبعضٍ من الإضافة التي بمعنى من، ولم يَرِه الناظمُ، لأنَّ تقدير منِ تقدير منِ لا يتعين فيهما، فلا ينبغي أن يقال به إلا إذا تعين كما تقدم، فالظاهر مذهب الناظم، وقد عزا في الشرح معنى ما ذكر في التسهيل إلى ابن السراَّجِ. وأما الإضافة التي بمعنى في، فمعناها على أن يكون المضافُ إليه ظرفاً وَقَع فيه المضافُ، وهذه الإضافةُ قد أغَفَلها أكثرُ النحويِّين وأثبتَها المؤلِّفُ في كُتُبِه، وقال بها لوجودها (زَعَم (في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كقوله تعالى: {وهو أَلِدُّ الخصامِ} (4). لأن المعنى وهو أَلَدُّ في الخصام، وكقوله تعالى: {للذين يُؤْلُون من نِسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أَشْهرٍ (5)}. فالمعنى: تَربُّصُ في أربعة أشهر. وقوله (6) تعالى: {يا صاحِبَي

______ (1) س: وهذا. (2) الأصل: ضبط. (3) سقط من س. (4) من الآية 204 من سورة البقرة. (5) من الآية 226 من سورة البقرة. (6) س: وكقوله.

السجنِ (1)}، أي: يا صاحِبَيَّ في السجن وقوله: {بل مَكْرُ اللَّيلِ والنَّهارِ (2)}. وفي الحديث: ((لا يَجِدُون عالِماً أَعلَمَ من عالمِ المدينةِ (3))). والعربُ تقولُ: شهيدُ الدارِ وقتيلُ كربلاءَ. ثم أنشد أبياتاً على هذا المعنى، تُشْبِه ما أَنْشَدَ سيبويه للكُميت (4): شُمٍّ مهاوينَ أبدانَ الجَزُورِ مخا ميصَ العَشِيَّاتِ لا خُورٍ ولا قَزَمِ ثم قال: فلا يَخْفَى أنّ معنى ((في)) في هذه الشواهد كلِّها صحيح ظاهر، لا غنى عن اعتباره وأَنَّ اعتبار غيره ممتنع أو مُتَّصِلٍ إليه بتكلُّف لا مَزِيدَ عليه، فيصح ما أردناه والحمدلله، ولقد رد عليه ابنه في الشرح بأوجه ثلاثة (5): أحدها: أَنَّ إثبات هذه الإضافةِ يستلزم دْعَوْى كَثْرَةِ الاشتراكِ في معناها، وهو على خلاف الأصل. وله أنْ يُجِيب عن هذا بأنَّ الدليلَ هو المتَّبَع، وقد دلَّ على وجود إضافه ((في)) (6) كما بُيِّن، فلابد من اتِّباعه.

______ (1) من الآية 29 من سورة يوسف. (2) من الآية 33 من سورة سبأ. (3) تحفة الأحوذي، أبواب العلم 7/ 418، وفيه ((لا يجدون أحداً أعلم .. )). وكلمة ((عالما)) ساقطة من س. (4) الكميت، ديوانه 188، والكتاب 1/ 114، وشرح المفصل لابن يعيش 6/ 74، وشرح الكافية للرضى 3/ 421، والخزانة 8/ 150، واللسان: هون. وقبله: يأوي إلى المجلسٍ بادٍ مكارمهُم لا مُطعمي ظالمٍ فيهم ولا ظُلُم مهاوين: جمع مِهْوان، وهو مبالغة مُهِين، من أهانه إذا أذلّه، والإضافة في مخاميص العشيات اتساع، والأصل: في العشيات. والقَزَم: رُذَّال الناس. (5) انظر شرح ابن الناظم 382 - 383. (6) مكانه بياض في س.

والثاني: أن كل ما استُدلّ به يصحُّ فيه معنى إضافة (1) اللامِ مجازاً، وهو أرجح من جهتين، إحدهما أن المجاز خيرٌ من الاشتراك، والثانية: أنَّ الإضافة لمجازِ الملكِ والاختصاص ثابتةٌ باتفاق، كما قوله (2): إِذَا كوكبُ الخَرْقَاء لاح بِسُحْرةٍ وقولِ الآخَرِ (3): لِتُغْنِي عَنِّي ذا إِنائِك أَجْمعاَ والإضافة بمعنى في مُخْتلَفٌ فيها، والحملُ على المتَّفق عليه أولى. وله أن يجيب عن الأولى بأنها معارضةٌ بقول من عَكَس القضيةَ، فجعلُ الاشتراك أولى، والمسألة خلافيَّةٌ، يذكرها أربابُ الأصولِ. وعن الثانية: بأنّ الدليل قد دلَّ على وجودِ ما اخُتِلف فيه، فَتَرْكُ القولِ به مع قيامِ الدليل عليه إهمالٌ للدليلِ من غير موجِبٍ، وهو باطل باتفاق. والثالث: أَنَّ الإضافةَ في نحو: {بل مكرُ الليلِ والنهارِ}. إِمَّا بمعنى اللام على جَعْلِ الظَرْف مفعولاً به على السعَّة، ((4 - وإِمَّا بمعنى في، على بقاء الظرفية، والاتفاق على جواز جَعْلِ الظَّرْفِ مفعولاً به على السعَّة -4)) كما في: صيِد عليه يومان وُوِلد له ستّون عاما. والاختلافُ في جواز إضافة في، والمتَّفَقُ عليه أرجَحُ.

______ (1) في هامش الأصل: الإضافة بمعنى. (2) مجهول. وعجزه: سهيلً أذاعت غزلها في القرائب وهو من شواهد ابن يعيش 3/ 8، وفي الخزانة 3/ 112، 9/ 128، واللسان: غرب. (3) حريث بن عَنّاب الطائي، وصدره: * إذا قال: قدني، قال بالله حِلْفَةً * وهو من شواهد ابن يعيش 3/ 8، والهمع 4/ 242، وفي الخزانة 11/ 434. (4) سقط من س.

ويعارض هذا الاتفاق باتفاقهم على أن الأصل في الظرف/ الذي (1) وقع فيه ... 338 الفعل أن يبقى على ظرفيته، كما إذا سبكت من المضاف فعلا نحو قولك، بل مَكَرْتُم الليل والنهار، وزيد لدَّ في الخصام، وتربص أربعة أشهر، وما أشبه ذلك، وإذا كانت الإضافة هذا أصلها باتفاق، فالأصل بقاءُ معناها وعدم نسخه بمعنى آخر. هذا مما يُعتذرُ بع عما يرد عليه، وقد اعتُرض عليه أيضا في ارتكاب هذا المذهب بأشياء، منها ما ذكره ابنُه، وتأوُّلُ ما استشهد به المؤلِّفُ، على غير تكلف، والأمر في ذلك كله قريب؛ إذ لا يختف حكم الكلام مع تقدير أحد الأمرين. ثم قال: ((واللام خُذَ الماسوى ذين)). خذا: أصله خُذَنْ، بالنون التوكيدية، أبدلت في الوقف ألفا كقوله (2): ولا تَعْبُدِ الأوثانَ واللَّهَ فاعبُدَا ويعني أن ماسوى هذين القسمين فالإضافة (3) فيه على معنى اللام، واللام فيه منوية، وهو الباب الكثير، سواء أحسُنَ ذكرها لفظا أم لم يَحْسُن، فإن اللام مقدرة، فقولك: زيدٌ عند عمرو، على تقدير اللام بلابُدٍّ، وإن لم يصح أن تقول: زيد عنداً عمرو، كما كانت الظروف غير المتصرفة على تقدير فْي وإن لم يحسُن تقديرها نحو: زيد عندك، وقد يحسُن ذكرها لفظا، وهو الباب، نحو: غلامُ زيد، وصاحبُ عمرو، وسرجُ الدابة،

______ (1) سقط من س. (2) الأعشى، ديوانه 137، وصدره: فإيّاك والميتات لا تقربنّها وهو من شواهد الكتاب 3/ 510، والمقتضب 3/ 12. (3) س: الإضافة.

وثوب المرأة، وما أشبه ذلك. وفي قوله: ((واللام خُذ الماسوى ذين)) إشعار بأن اللام هي الأصلُ؛ إذ المعنى: واللام خُذْ لما لم يتعين فيه تقدير من أوفى، فرجَّح اللام كما ترى وإن احتمل غيرها، وما ذاك إلا لأصالتها في باب الإضافة، وقد تقدم هذا المعنى. وهنا مسألتان: إحدهما: أنَّ في كلامه هنا ما قد يُستشعر منه أن الجارَّ للمضاف إليه هو الحرفُ المنويُّ لأنه لما قال ((والثاني اجرُرْ وانوِمِنْ)) ... إلى آخره. فهو في حكم ما لو قال: والثاني: اجرر بكذا أو كذا منوياً هناك لا ظاهرا، فإن أراد ذلك فهو أحد المذاهب الثلاثة أن الجر بالحرف المقدَّر الذي ناب عنه المضاف، وهو رأي ابن الباذش. والثاني: أن الجر بمعنى الإضافة، فالعامل هنا على هذا الرأي معنويٌ لا لفظي، وهذا رأي السُّهيلي (1). وذهب الأكثر إلى أن الجارَّ هو المضاف نفسه، لكن من هؤلاء من يطلق هذا القول هكذا، ومنهم من يقول: أنه عمل الجر لتضمُّنه معنى حرفه، وظاهر التسهيل موافقةُ الجماعة، ولكل مذهبٍ حُجَّة قيل به (2) من أجلها، والذي يغلب على الظن أن الناظم لم يتعرض للعامل ما هو، فلا يحتاج إلى تكلُّف الاحتجاج، وإنما أراد أن الإضافة تأتي على هذه المعاني خاصة. والثانية: أن الناظم جعل للإضافة (3) التقدير بالحروف من غير أن

______ (1) انظر أمالي السهيلي 20، 50. (2) س: فيه. (3) الأصل: الإضافة التقدير بالحرف.

يفصل بين الإضافة المحضة وغيرها، كما جعل حَذْفَ التنوين والنون والجرَّ في المضاف إليه عاما في نوعيها (1) ولم يُفَصِّل، فدل ذلك (2) على أنه ذهب إلى تقدير الحرف في الإضافة غير المحضة، كما جعلها في المحضة، وهذا مخالف لظاهر كلام النحويين، فإنهم إنما يُقَدِّرون الحروف في الإضافة المحضة ولا يُعَرَّجون على تقديرها في غير المحضة، لأنها عندهم لمجرد التخفيف، وهي في قوة الانتفاء، ولذلك يسمُّونها لفظية، أي أن تأثيرها إنما هو في اللفظ لا في المعنى، فكأنها مقصودةٌ، وتقدير اللام أو/ غيرها ثانٍ عن حصول معنى الإضافة ولم يَحْصُلْ، فلا يصح تقدير ... 339 الحرف، ولكن ما رآه الناظم قد قال به ابن جنَّي حين تكلم على بيت (3) عَبْدَةُ بن الطبيب من شعراء الحماسة (4): تحية من غادرته غرض الردى إذا زار عن شحط بلادك سلما فزعم أن غرض الردى لما كان في معنى الصفة حالٌ، وأن الإضافة غير محضةٍ، وأن تقديره غرضا للردى (5)، فَحُذِفَت (6) اللام كما تُحذف من اسم الفاعل نحو: مررت بزيد ضارب عمرو، أي ضارباً لعمرو، أو من

______ (1) س: نوعها. (2) عن س. (3) س: ارجوزة عبدة. (4) الحماسة 1/ 387. (5) قال ابن جنّي في إعراب الحماسة، ورقة 116: ((ونصب (غرض الردى) على الحال (وإن كان مضافا إلى معرفة (لما كان [في] معنى الصفة، ، أي: منصوب الردى ومقصود الردى، وتقديره غروضا للردى ... )). (6) س: حذفت.

اسم المفعول نحو: جاءني زيد منصوباً للأذى، ثم منصوبَ الأذى، فجعل الإضافة غير المحضة (كما ترى (في تقدير اللام. قال الشَلَوبينُ: لابد عندي مما قال أبو الفتح، وتَتَأَوَّلُ الظواهر (يعني ظواهر كلام النحويين سيبويه وغيره (فإن الخفض إذا كان بالإضافة فلابد أن تُقدر أن الأصل ضاربٌ لزيدٍ، حتى يكون في الكلام معنى الإضافة. وأن قُدر (1) أن الأصل ضاربٌ زيداً لم يكن هناك إضافة أصلا، وإنما يكون فيه المعنى الذي يقتضي به الفعلُ مفعوله، ولا إضافه هناك، فلا سبيل إلى الخفض، فإذا أردت التخفيف في هذا النوع أدخلت في الكلام معنى إضافة الصفة إلى المفعول بواسطه اللام لضعفها عن قُوة الفعل، ثم أضفت الصفة إلى المفعول إضافة تخفيفٍ لا تعريف، فحذفت اللام والتنوين لذلك. [قال] (2) وهذا من أبي الفتح تنبيهٌ عالٍ جداً قلَّ من يعرفُ قدره أو يُلْقِى له باله. هذا ما قال، ولا مزيد عليه في توجيه ما رآه الناظم، وهو من التنبيهات الحسنة وبالله التوفيق. ثم قال: ((وأخصُص أولا))، ، إلى آخره. هذه تتمةُ التعريف بأحكام الإضافة اللازمة لماهيتها (3)، وقد جعل هذه الإضافة على قسمين: قسمٌ يفيد تعريفا للمضاف بالمضاف إليه أو تخصيصا، وهو الذي قال فيه: ((واخصص أولا أو أعطه التعريف)). وقسمٌ لا يفيد تعريفاً ولا تخصيصاً، وإنما يفيد تخفيفا في اللفظ، وهو الذي

______ (1) في الأصل: وأن تقدر. (2) عن س. (3) الأصل: لما هياتها.

قال فيه بعد: ((وأن يُشابه المضاف يفعل)) .. إلى آخره. فأما كلامه في القسم الأول: فيعني أن الأول من الاسمين، وهو المضاف، يحصل له بتاليه الذي بعده، وهو المضاف إليه، أحد أمرين: إما التخصيص به وإما التعريف به. فأما التعريف: ففيما إذا كان الثاني معرفةً نحو: غلامُ زيدٍ، وصاحبُ الدابَّةِ، وفرسك، ما أشبه ذلك، لأن المضاف لما وقع من المضاف إليه موقع تنوينه واتصل به اتصال الجزء منه اكتسى منه التعريف الذي هو وصْفُه. وأما التخصيص: ففيما إذا كان المضاف إليه نكرةٍ نحو: غلامُ امرأةٍ، وصاحبُ رجل صالح، ونحو ذلك، فالمضاف هنا ليس بمكتسٍ من المضاف إليه تعريفا؛ إذ ليس بمعرفةٍ ولكنه يتخصَّصُ به من سائر الأنواع والأجناس، فقولك: غلامُ امرأةٍ، قد تخصَّص بإضافته إلى المرأة على أن يكون غلامَ رجلٍ، فالتخصيص المفهوم من قوله: ((واخصص أولا)) راجعٌ إلى النكرة، والتعريف/ 340 راجعٌ إلى المعرفة، هذا وإن كان التخصيص في المعنى أعمَّ من التعريف، إذ المضاف إلى معرفةٍ قد تخصَّص به وتعرَّف، والمضاف إلى نكرةٍ تخصَّص به ولم يتعرَّف، إلا أن اصطلاح النحاة هنا في التخصيص أن يخصُّوه بما لا يحصل معه التعريف كأنه قسيمٌ (1) للتعريف. وقوله: ((بالذي تلا)) مطلوبٌ للفعلين معا. في قوله: ((واخصص)) وقوله: ((أو أعطه التعريف))، فاخصُصْ والتعريفُ يطلبانه معا من باب

______ (1) س: قسم.

الإعمال؛ إذ التقديرُ (واخصص أولا) بالذي تلا أو عرِّفه (بالذي تلا) فأعمل الثاني وهو التعريف، ولو أعمل الأول لقال: أو أعْطِهِ التعريف (به (بالذي تلا، ويقال: خَصَصْتُ الشيء بالشيء: إذا أفردته [به (1)]، فقوله: ((واخصُصْ أولا)) من هذا. وأما القسم الثاني من قسمي الإضافة، فهو الذي قال فيه: وَإِنْ يُشَابِهِ المضافُ يَفْعَلُ وصفاً فَعَنْ تنكيره لا يُعْدَلُ (2)، كَرُبَّ راجِينا عظيمُ الأمَلِ مُرَوَّعُ لقَلْبِ قَلِيلُ الَحِيلِ يعني أن المضاف إن كان شبيهاً بالفعل الموازن ليفعل، وهو المضارع، وواقعا موقعه، وهو وصفً من الأوصاف، فإن الإضافة لا تُؤَثِّر فيه تعريف ولا تخصيصا؛ بل يبقى على ما كان عليه من التنكير قبل الإضافة، فإنه من حيث وقع موقع الفعل وأشبه الفعل في نِيَّة الانفصال، لأن المضاف إليه إما مرفوعُ المحلِّ بالمضاف أو منصوبهُ، والإضافةُ غيرُ ناسخةٍ لهذا المعنى، فكلما كان قبل الإضافة نكرةً، فكذلك بعدها، إذْ لا فائدةَ للإضافة هنا إلا مجرد تخفيف اللفظ حسب ما أَشْعَر به قوله بعد: ((وذي الإضافة اسمها لفظية)) (3). فإذا قلت: مررت برجل ضاربِ زيدٍ غدا، فهو في تقدير: ضاربٍ زيداً غداً، وكذلك إذا قلت: [مررتُ] برجل قائمِ الأبِ، هو في تقدير: قائمٍ أبُوه، فلا

______ (1) ليست في س. (2) في هامش الأصل: يُعْزَل. وسينبه الشارح إلى هاتين الروايتين. (3) عن س.

تخصيص ولا تعريف. وقد حصل من هذا الكلام وصفان مشترطان في الحكم المذكور: أحدهما: كونُ المضاف شبيهاً بالفعل الموازن يَفْعَلُ، وهو المضارع. فإذا كان المضاف شبيهاً به فهناك يكون ما قال، فإن لم يشابهْه كانت الإضافة محضةً، والشبه المراد هو المعنوي لا اللفظي، وإن كانت لفظة المشابهة تصدق على المشابهة اللفظية [والمعنوية (1)]، لتقييدها بالأمثلة المذكورة بعد؛ إذ لم يُلتزم فيها إلا المشابهة المعنوية، فذلك أن يكون المضاف مرادا به الحال أو الاستقبال، فهناك تكون الإضافةُ غير معرفة ولا مُخصصة، فلو كان بمعنى الماضي كاسم الفاعل الماضي الزمان لم تكن إضافته إلا محضة من القسم الأول، فتقول: مررت بزيد ضارب عمرو أمسٍ، كما تقول: مررت بزيد صاحبِ عمروٍ، أو أخي عمروٍ، أو غلامِ عمروٍ، لأن اسم الفاعل بمعنى يفعل، إنما كانت إضافته غير محضة لكون المضاف في نية الانفصال من المضاف عليه؛ إذ الأصلُ الرفعُ أو النصبُ كما تقدم، / أعني في المضاف إليه. وأما اسم ... 341 الفاعل بمعنى الماضي، فإنما المضاف إليه معه في موضع جر بالإضافة على ظاهر لفظه، وليست إضافته من رفعٍ ولا نصبٍ، لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يرفع ظاهرا ولا ينصب مفعولا البتة عند البصريين، والناظم منهم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. والثاني: كون المضاف وصفاً، وهو أن يكون مشتقا شأنه أن يجري على موصوف، فإذا كان كذلك صحَّ ما قال، فإن لم يكن وصفاً،

______ (1) عن هامش الأصل، وليست في س.

فإضافته محضةٌ تُخصِّصُ وتعرفُ، وذلك المصدر الواقع موقع أن والفعل، فإنه شبيه بيفعل وواقع موقعه والمضاف إليه في موضع رفع به نحو: أعجبني قيام زيدٍ غداً، لأن التقدير: أعجبني أن يقوم. أو في موضع نصب نحو: أعجبني أكلُ الطعامِ وشربُ الماءِ الآن أو غداً، فإن التقدير: أن آكلَ الطعامَ، وأن أشربَ الماءِ، لكن إضافته ليست في تقدير الانفصال؛ بل هي محضةٌ تفيد نكرتُه التخصيص ومعرفتُه التعريف، فلذلك قيَّد المضاف بكونه وصفا لأن المصدر المقدر بأن والفعل ليس بوصفٍ. وما ذهب إليه هنا في المصدر هو رأي الجمهور، وذهب بعضهم إلى أن إضافته غير محضةٍ؛ لأن المجرور به إما مرفوع المحل به أو منصوبهُ، وذلك يحقق كون إضافته في نية الانفصال كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة. وضعف غيره هذا الرأي من أربعة أوجهٍ: أحدها: أن المصدر المضاف أكثر استعمالا من غير المضاف، فلو جعلت إضافته في نية الانفصال لزم جعل ما هو اقل استعمالا أصلا لما هو أكثر استعمالا، وذلك خلاف المعتاد. والثاني: أن إضافة الصفة إلى مرفوعها أو منصوبها منويَّة الانفصال بالضمير المستتر فيها، فجاز أن ينوي انفصالها باعتبار آخر، والمصدر بخلاف ذلك، فتقدير انفصاله (1) مما هو مضافٌ إليه لا مُحْوِجَ إليه، ولا دليل عليه. والثالث (2): أن الصفة المضافة إلى مرفوعها أو منصوبها واقعة موقع الفعل المجرد (3)، والمصدر المشار إليه محكوم بتعريفه، فليكن الواقع موقعه كذلك.

______ (1) الأصل انفصالها. (2) س: والثالثة. (3) الأصل: المفرد.

والرابع: أن المصدر المضاف إلى معرفةٍ معرفةٌ ولذلك لا يُنْعَتُ إلا بمعرفةٍ، فلو كانت إضافته غير محضة لحُكِمَ بتنكيره ونُعِتَ (1) بنكرة، ولجاز دخول رُبَّ عليه، وأم يجمع فيه بين الألف واللام والإضافة، كما فُعل في الصفة المضافة إلى معرفة، نحو: ياربَّ غابِطنِا. ورأيتُ الحسَنَ الوَجْهِ. هذا ما استُدل به على ضعف قول من جعل إضافة المصدر غير محضةٍ، وهو رأي ابن برهان (2). وأظهرها في الاستدلال الرابع، وفيما عداه نظرٌ ليس هذا موضع ذكره. وأتى الناظم بأمثلة أربعة تحتوي على ثلاثة أنواع مما إضافته غير محضة. أحدهما: راجينا، وهو من إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه ومثله: مررت برجلٍ ضارِبِك/ وامرأةٍ مكرمةِ أخيكَ. ومنه في القرآن الكريم: {قالوا: ... 342 هذا عارضٌ مُمطرنا (3)}. {هدياً بالغ الكعبة (4)}. {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه (5)}. ومنه في الشعر ما أنشد سيبويه لجرير (6):

______ (1) الأصل: ونعته. (2) انظر الهمع 4/ 272. (3) من الآية 34 من سورة الأحقاف. (4) من الآية 95 من سورة المائدة. (5) الآية 8، 9 من سورة الحج. (6) الكتاب 1/ 425، والهمع 5/ 179، وديوانه 454.

ظَلِلْنا بِمُسْتَنِّ الحَرُور كأنَّنا لذي فَرَسٍ مُسْتَقْيلِ الريح صائِمِ وأنشد أيضا للمَرَّار الأسَدِي (1): سَلِّ الهُمومَ بكل مُعْطِي رَأسِه ناجٍ مُخَالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ مُغْتَالِ أَحْبُلِهِ مُبِينٍ عُنْقَهُ في مَنْكِبٍ زَيَنَ المَطِيَّ عَرَنْدَسِ وأنشد أيضا لذي الرُّمَّةِ (2): سَرَتْ تَحْيِطُ الظلْماءَ مِنْ جَانِبَيْ قَساً وَجُبَّ بِها من خَبِطِ الَّليلِ زَائِرِ وأنشد لجرير (3): يارُبَّ غابِطِنا لو كان يَعْرِفُكُمً (4) لاقَى مباعَدَةً منكم وحِرْمَانَا وأنشد لأبي مِحْجَنٍ الثقفي رضي الله عنه: يارب (5) مثلك ... البيت، وليس من هذا.

______ (1) الكتاب 1/ 168، 426، والمحتسب 1/ 184، وشرح المفصل 2/ 120 معطي رأسه: ذليل ناج: سريع (والصهبة: بياضُ يضرب إلى الحمرة. والمتعيس: الأبيض تخالطه شقرة. ومغتال أحيله: كناية عن عظم بطنه، لأنه يستوفي الحبال التي يشد بها رحله. والزبن: الدفع. والعرندس الشديد. (2) الكتاب 1/ 426، والبيت في ديوانه 1683. وقسا: موضع. (3) الكتاب 1/ 427، والبيت في المقتضب 3/ 227، 4/ 150، 289. وانظر ديوانه 492. (4) في صلب الأصل: يطلبكم. والمثبت عن هامشه، س. (5) سيأتي البيت كاملا عن قريب. (1) الكتاب 1/ 195، وديوانه 172.

والثاني: عَظِيمُ الأَمَلِ، وهو من إضافة الصفَّة المشبَّهة باسمِ الفاعلِ إلى مرفوعها في الأصل. ومثله: مررتُ برجُلٍ حسنِ الوَجْهِ جَميِلِه. ومنه ما أنشده سيبويه لِزُهَيرٍ (1): أَهْدَى لها أَسْفَعُ الخَدَّينِ مُطَّرِقٌ ريشَ القَوادِمِ لم يُنْصَبْ له الشَّبَكُ وأنشد أيضا للشَّمَّاخ (2): أقامَتْ على رَبْعَيْهِما جارتَاَ صَفاً كُمُيْتا الأَعَالِي جَوْنَتَا مُصْطَلاَهُمَا وأنشد أيضا للنابغة (3): وَتأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنابِ عَيْشٍ أَجَبِّ الظُّهْرِ ليسَ له سَنَامُ على رواية جَرِّ الظهرِ. وقال طَرَفَةُ بن العبد (4): رحيبُ قِطابِ الجَيْبِ منها رَفِيقَةٌ بِجَسِّ النَّدامَى بَضَّةُ المُتَجَرَّدِ

______ (2) الكتاب 1/ 199، وشرح المفصل 6/ 86، وشرح الكافية 2/ 235، 3/ 437، والخزانة 4/ 293، وانظر ديوانه 308. (3) الكتاب 1/ 196، ومعاني القرآن للفراء 3/ 24، وشرح الكافية للرضي 4/ 231، والخزانة 9/ 363، وانظر ديوانه 106. (4) من معلقته، انظر الديوان 30، والبت في شرح الكافية للرضي 2/ 235، 443، والخزانة 4/ 303. وقطاب الجيب: مجتمعه. والجسّ: اللمسُ. والبضَّة: البيضاء الناعمة البدن. والمتجرَّد: ما ستره الثياب من الجسد.

والثالث: مُرَوَّعُ القَلْبِ، وهو من إضافة اسم المفعول إلى مرفوعِه في الأصل المقامِ مقام الفاعل، ومثله: مررتُ برجُلٍ مضروبِ الأبِ، محبوسِ الَيدِ. ومنه ما أنشد سيبويه لبعض الأسديَّين (1): فَلاَقي ابنَ أُنْثى يَبْتَغِي مثلَ ما ابتَغَى مِنَ القومِ مَسْقِىُّ السِّهامِ حَدِائِدُهْ والرابع: قَليلُ الحِيَلِ، وهو مثلُ: عظيمُ الأملِ. ثم يُنْظَرُ بعدُ في مسألتين: إحداهما: أنه أتى في أول الأمثلة بِرُبَّ المقتضية لتنكير ما دَخَلَت عليه، إشعاراً بأنَّ دخولَها على هذا المضافِ علامةٌ على أنَّ الإضافة غير مُعَرِّفةٍ له، وأن القولَ بأنها (غير (2)) محضةٍ إنما هو بدليل يدلّ على ذلك، ولذلك استدلَّ في الشرح على كون إضافةِ المصدرِ محضةً بعدمِ دُخُولِ رُبَّ عليه، لأنها لو كانت غير محضةً لدخلت عليه، كقوله: رُبَّ راجينا، فغابِطُنا في قولِ جريرٍ (3): يا ربَّ غابِطِنا لو كان يَعْرِفُكُم نكرةُ، وكذلك ((مثلك)) في قول أبي مِحْجِنٍ (4): ياربَّ مِثْلِكِ في النساءِ غَريرةٍ بيضاءَ قد مَتَّعْتُها بِطَلاَقِ

______ (1) هو مضرِّس بن يعبي، أو أشعث بن معروف. وكلاهما أَسَدِيّ. أنظر الكتاب 2/ 45، والتكملة 116. (2) عن س. (3) تقدم البيت من قريب: انظر 20. (4) الكتاب 1/ 427، والمقتضب 4/ 289، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 126.

وهو أحد الأدلة على التنكير، أتى به (1) تنبيها على ما في معناه، وجملتها أحد عشر دليلا: أحدها رُبَّ. والثاني: كَمْ، نحو: كَمْ مِثْلِكَ (2) أَكْرَمْتُ. والثالث: كلّ، نحو (3): سل الهموم بكل مُعِطى رأْسهِ والرابع: أيّ، نحو: أيُّ قاتلِ الأبطالِ زيد؟ والخامس: لا النافية الجنسية، نحو: لا مكرمَ زيد في الدار. والسادس: من الزائدة/ نحو: هل من شريف الآباء عندك؟ ... 343 والسابع: وقوعُ هذا المضاف صفة للنكرة نحو: {هذا عارضٌ مُمْطرِنُا (4)}. والثامن: وصفهُ بالنكرة، كقوله (5): سَلِّ الهُمُوم بِكُلِّ مُعْطِى رَأْسِهِ ناجٍ مُخَالِطٍ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ والتاسع: الإخبار به عن النكرة، نحو: هل أحد مكرك؟ وهذا مبني

______ (1) في الأصل: أتى تنبيها به. (2) س: مثاله. (3) تقدم البيت من قريب: انظر 20. (4) الآية 24 من سورة الأحقاف. (5) تقدم البيت من قريب: انظر 20.

على أن المبتدأ النكرة إنما يُخْبَر عنه بالنكرة. والعاشر: وقوعه حالا نحو: {ومن الناس من يجادلُ في الله بغير علمٍ}. ثم قال: {ثانيَ عِطْفِهِ (1)}. الآية. والحادي عشر: وقوعهُ تمييزا نحو: أكرم بزيد مطعمَ الضيفِ، ومنه لكن مجرورا بمن ما أنشده سيبويه لذي الرُّمَّةِ (2): وحُبَّ بها من خابِطِ الَّليلِ زائرِ وقالوا: لي عشرون مثلَه، ومائةٌ مثلَه. وذلك أنَّ هذه الأشياء من أحكام النكرات، فمن هنا ظهر للنحويِّين أنَّ هذه الإضافة ليست على ظاهرها من اقتضاء التعريف؛ بل هي في تقدير الانفصال، فكان من جملة محاسن هذا النظمِ التنبيهُ على أصل الدليل على بقاء المضاف في مثله على تنكيره، ليحصل البرهان على صحة دعواه أولا. والثانية: أنَّ فيما قرّر هنا نظراً من وجهين: أحدهما: أنه جعل ما إضافتُه غير محضةٍ محصورا في ثلاثة أنواع، وهي التي أتى بأمثلتها: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وبَقَيِ أشياءُ أُخَر لم تدخُلْ له، منها: أمثلة المبالغة نحو: مررت برجلٍ ضَرّابِ زيدٍ، وأفعل التفضيل نحو: مررت برجل أفضلِ الناسِ، وإضافة الاسم إلى الصفة كمسجدِ الجامعِ، وصلاةِ الأولى، وإضافة المسمى إلى الاسم كشهرِ رمضانَ، ويومِ الخميسِ، وذاتِ اليمينِ، وهذا ذو زيد، وسعيد كرز، وإضافة الصفة إلى الاسم

______ (1) الآية 8، 9 من سورة الحج. (2) تقدم البيت من قريب: انظر 20.

نحو: كرامِ الناسِ وشجعانِ القومِ في نحو (1): وإن سقيت كرام الناس فاسقينا واقُتْل شجعانَ القوم، وإضافة الموصوف إلى القائم مقامَ الوَصْف، نحوُ قولِهِ (2): عَلاَ زيُدنا يوم النَّقا (3) رأْسَ زَيْدِكُمْ التقدير: زيدٌ صاحِبُنا، ورأسَ زيدٍ صاحِبِكُمْ، ثم حُذِفت الصفة وأقيم الضمير مقامها، ومنه: قريشُ الحقَّ، وسعيدُ الخَير، وزيدُ الخيلِ. وإضافة المؤكِّد نحو: يومَئِذٍ، وحينَئِذٍ، ولقيته يومَ يومٍ وليلةَ ليلةٍ، هو عند الفارسيِّ من هذا النوع. وإضافة المُلْغَى إلى المُعْتَبَرِ كقول لَبِيدٍ (4):

______ (1) البيت لبشامة بن مزنٍ النهشلي، وصدره: أنا مُحَيّوكِ يا سلمى فحيِّينَا وهو من الحماسة 77، وخزانة الأدب 8/ 302 عرضاً. (2) رجل من طئِ، وعجزه. بأبيض ماضي الشفرتين يماني والبيت في شرح الكافية للرضى 1/ 328، 2/ 209. والخزانة 2/ 224. (3) س. وهامش الأصل: ((اللقاء)). والنقا: كثيب من الرمل. (4) ديوانه 248. والبيت في الخصائص 3/ 29 (30، ونتائج الفكر للسهيلي 47، وشرح الكافية للرضى 2/ 242، وخزانة الأدب 4/ 337.

إِلَى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ومنه: {كمن مثله في الظلمات (1)}، {مثل الجنة التي وعد المتقون (2)} .. الآية. وإضافة المُعتبر إلى المُلغى نحو: أي الموصولة إذا قُلت: اضرب أيهم أساء، فإضافة أي غير محضة، وإلا لزم أن يجتمع عليها تعريف الإضافة وتعريف الصلة. ومنه: مررت برجل حسنٍ وجهُه، وحسنِ وَجْهِه، فإضافة الوجه إلى الضمير غير محضةٍ لعدم اعتباره في قصد التعريف، وقال (3): فلو بلغت عَوَّا السماِ قَبِيلةٌ / ... 111 وما أشبه ذلك. ومنها: ألفاظ اشتهرت في الاستعمال، وهي: مثلُك، وشِبْهُك، وغيرُك، وحَسْبك، وهَدُّك (4)، وشَرْعُك، وهَمَّك، وناهيك، وقيْدُ الأوابد، وعُبر

______ (1) الآية 122 من سورة الأنعام. (2) الآية 35 من سورة الرعد. (3) الحطيئة، ديوانه 68، والبيت في مجالس العلماء للزجاجي 149، وشفاء العليل للسلسيلي 705، واللسان: عوا. والعوّا: اسم نجم، مقصور، يكتب بالألف. وفي الديوان: دون السماء. (4) أي: حَسْبُك، وكذلك شَرْعُك. ويقال: هذا رَجُلٌ هَمُّك من رجل وهِمَّتُك من رجل، أي: حَسْبُك: ومثله: ناهيك ونَهْيَك، ونهاك. وفرس قيدُ الأوابد: أي هو لسرعته كأنه يقّيد الأوابد (وهي الحمر الوحشية (بلحاقها. ويقال: جمل عُبْر أسفار (وكذلك جمال عُبْر أسفار، بتثليث الفاء (أي: قوي علّى السفر، أو: لا يزال يسافر عليه. والهواجر: جمه هاجره، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر.

الهواجر، فإنك تقول: مررت برجل مثلِك، وبرجل شِبْهِك، وهَدَّك من رجل، وحَسْبِك من رجلِ، وشَرْعِكَ من رجل، وهَمِّك من رجل، وناهِيك من رجل، (ونَهْيِك من رجل (1) ونَهَاكَ من رجل، ومررت برجل غَيْرِك، ومررت على ناقة عُبْرِ الهواجر، وأنشد سيبويه (2): بِمُنْجَرِدٍ قَيدٍ الأوابد لاحَةُ طراّدُ الهَوَادى كُلَّ شَأَوٍ مُغَرِّبِ وقال الكنديُ أيضا (3): بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ وضابطها: كُلُّ ما ليس بمشتقٍ أُجري مُجْرَى المُشْتَقَّ، فيدخلُ فيه ما ذُكِرَ وغيرُه. ومنها: المضاف إلى ضمير النكرة إذا عُطف عليها في المواضع المختصة بالنكرة، أو ما كان نحو ذلك، نحو: كم رَجُلٍ وأخيه؟ وربَّ رَجُلٍ وأخيه، وكلُّ شاةٍ وسَخْلَتُها بِدِرْهَمٍ [وأي فَتَى هَيْجاء أنت وَجَارِها (4)] ولا رَجُلَ وأخاه، وهذه ناقةٌ وفَصيلها راتعان، وما أشبه ذلك. فهذه كلُّها مما إضافتُه غيرُ محضة، ولم ينصَّ عليها، ولا بيَّن حكمها، كما

______ (1) سقط من س. (2) الكتاب 1/ 424، واللسان قيد. وينسب البيت إلى امرئ القيس وهو في ديوانه 46، وإلى علقمة بن عبدة، وهو في ديوانه أيضا بشرح الأعلم 88. (3) امرئ القيس، ديوانه 19، والخصائص 2/ 220، وشرح المفصّل لابن يعيش 2/ 68، 3/ 51، 9/ 95، وشرح الكافية للرضي 2/ 8، 10، 223. (4) الكتاب 2/ 187، ومغني اللبيب 772. وقائله مجهول. ويروي عجزه: إذا ما رجال بالرحال استقلّت

بيَّن حكم الأنواع الثلاثة، فقد ظهر أن أنواع الإضافة غير المحضة أربعة عشر لم يَذْكُرْ منها إلا ثلاثةً وهو إخلالٌ كبيرٌ. والثاني: أنه قال فيما ذكر من تلك الأنواع: ((فعن تنكيرِه لا يُعْدَلُ))، والنحويون يقولون: إن تعريفها بما أُضِفَتْ إليه جائزٌ، فتقول: مررت بزيدٍ ضاربكَ، ومررت بزيدٍ مثلِكَ، ومررت بعبدالله غَيْرِك، وكذلك سائر الأمثلة، إلا الصفة المشبهة باسم الفاعل، فإن التعريف لا يدخُلُها البتَّةَ. قال سيبويه (بعد ما ذكر أنواع ما إضافتُه عنده غيرُ مَحْضَةٍ (: ((وزَعَمَ يونُس والخليلُ (رحمه الله (أن الصِّفاتِ المضافةِ (يعني إلى المعرفة (التي صارت صفةً للنَّكِرِة (قد يَجُوزُ فيهن كلهن أن يكنَّ معرفةً)) قال ((وذلك معروفٌ في كلام العرب، يدلّكُ على أنه يجوزُ لك أن تقولَ: مررت بُزيدٍ مثلك، أرادوا مررت بزيد المعروف بِشْبَهِكَ)). قال: ((ويدلُّك على ذلك قولك: هذا مثلك قائما كأنه قال: هذا أخوك قائما، إلا حَسَن الوجه، فإنه بمنزلة رجلٍ (1))). واستدل على ذلك بأنه يجوزُ لك أن تقول: هذا الحسنُ الوجهِ، فيصير معرفةً بالألف واللام، كما يصيرُ الرجلُ معرفةً بالألف واللام. فلو كان معرفةً لم يصلُح دخولها عليه، فإذا قد عُدل عن تنكير ما زعم أنه لا يُعدل عن تنكيره، ووقع في بعض النسخ: [فَعَنْ تَنكيره لا يُعْزَل]. والمعنى واحد، وهذا كلٌّه ظاهرُ المخالفة والفساد. والجواب عن الأول: أن مقصوده ما مثل به في قوله: (ربَّ راجينا) .. إلى آخره وكلُّ ما تقدم في السؤال غيرُ مراد له إلا أمثلة المبالغة، فإنها في معنى

______ (1) الكتاب 1/ 428 (429.

اسم الفاعل وقد الحقها به في بابه كما سيأتي إن شاء الله. وأما أفعل التفضيل/ فمختلف فيه: هل إضافته محضةٌ أم غير محضة؟ على ... 345 أقوالٍ ثلاثةٍ، فالجمهور على أن إضافته محضةٌ بإطلاق. قال ابُن الضائع: وهو مذهبُ البصرييَّن وظاهرُ كلام سيبويه، لأنه قال (1): لو قلت: هذا زيدٌ أَسْوَدَ الناس، لم يَجُزْ لأن الحال لا تكون إلا نكرة. ومهب الفارسيَّ في: ((الإيضاح (2))) أنها غير محضة، ومنهم من قال: إن كانت إضافتهُ على معنى من كانت غير محضةٍ، وإن كانت على معنى في كانت محضةً والذي رآه هُنا هو رأيهُ في التسهيل (3) أيضا. واستدل على صحته في الشرح بأن الحامل على اعتقاد عدم التمحُّضِ في إضافة الصفة إلى مرفوعها ومنصوبها وقوعُ الأول منها موقع الفعلِ، ووقوع الثاني موقع مرفوع ذلك الفعل ومنصوبه، وأفعل المضاف بخلاف ذلك، فلم (4) يَجُزِ اعتقاد كون إضافته غير محضةٍ. هذا وجه. ووجهٌ آخَرُ: أن أفعل التفضيل إذا أُضيف إلى مَعْرِفَةٍ لا ينُعَت إلا بمعرفةٍ، ولا يُنعَت به إلا معرفة، ولا تَدْخُلُ عليه رُبَّ، ولا يُجْمَعُ فيه بين الإضافة والألف واللام، ولا ينصبُ على الحال إلا في نادرٍ من القول، ولو كانت إضافته غير محضة لكان نكرةً، ولم يَمْتَنِعْ وقوعهُ نعتا لنكرة

______ (1) الكتاب 2/ 113. (2) الإيضاح 269 (270. (3) التسهيل 156. (4) س: فإن لم.

ولا منعوتاً بها، ولا مجروراً بُربَّ، ولا مجموعاً فيه بين الألف واللام والإضافة، ولا منصوباً على الحال دو استندار. واحتُرِزَ بالاستندار مما في الحَدِيثِ من قَوْل المرأة: ((وما لنا أكثرً أَهلِ النار (1))). وأما إضافة الاسم إلى الصفة فمحضةٌ، فإن الأوّلَّ (غير (2)) مفصول بضمير مَنْويٍّ، كما في الصفَّةَ، ولا هو واقع موقع الفعلِ، ولا الثاني واقع موقع مرفوعٍ ولا منصوبٍ، فيكون الموضُع في نيَّةِ التنوين، فلا مُوِجبَ لعدم تمحُّضها قياسا، ولا أيضا عومل هذا المضافُ معاملةَ المنكَّرِ عندما أُضِفَ إلى معرفةٍ، فلا سبيلَ إلى دعوى أن إضافته غيرُ محضة. فإن قيل: أنه في تقدير الانفصالِ بموصوفِ الثاني، أي: مسجد الوقتِ الجامع، وكذا سائرها. قيل: بل هو من حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفة مقامه، وإذا قامت الصفة مقامه كانت في الإضافة على حكمه' ولو حضر الموصوف لكانت إضافته محضةً، فكذلك إذا حَضر نائبِهُ. (فإن (3)) قيل: معنى الانفصال هنا مُعْتَبَرٌ من جهة أن المعنى يَصحُّ به دون تَكَلُّف، وهو أن يكون صفةً وموصوفاً كالمسجِدِ الجامِعِ، فأمَّا مسجدُ الجامِعِ فمحتاج إلى تَكَلُّفِ التقدير. وأيضا جَعْلُ الأوَّلِ منعوتاً والثاني نعتاً

______ (1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب فتنة النساء، الحديث 4003/ 1326 بإسناده إلى عبدالله بن عُمَر. (2) سقط من س. (3) عن س.

مُطَّرِدٌ كالحبَّةِ السَّمراءِ والحبَّة السَّوداءِ والحبَّةِ الخضراءِ، للحنطة والشُّونيِزِ (1) والبُطْمِ، والإضافةُ غير مطَّرِدَة، ولذلك يجوزُ الإتباعُ فيما جازت فيه الإضافةُ كالمسجدِ الجامعِ دون العكس، فلا يجوز: حبَّةُ السَّمراءِ، فإذاً إضافةُ هذا النوعِ منويةُ الانفصالِ لأصالتها بالاطَّرادِ والإغناءِ عن تَرْكِ الظَّاهِرِ. قيل: هذا كله لا مانِعَ فيه تَمحُّضِ/ الإضافة لأن العرب استعملت هذا النوع ... 346 على وجهين، ولكلِّ وجهٍ معنىً مستقلٌ، فلا يجبُ أَن يُرَدَّ أحدهُما إلى الآخر ولا أن يكون أصلاً له، وإذا لم يكن أصلاً له كانت الإضافة على أصلها من التمحضِ، حتى يُلِجئُ ملِجئُ إلى خلاف ذلك، ولا مُلْجِئَ إلى خروجها هنا عن أصلها، فهي إذاً محضة، وأيضاً، فالوجهان مسموعان، والإضافة وإن كانت غير مُطَّرِدَةٍ فلا بُدَّ لها من وجهٍ، وهو ما ذَكروه من إقامةِ الصَّفَةِ مقامَ الموصوف، وإذا قامت مقاَمه فهي على حُكْمِه في تمحض إضافة الأول إليها، ولو حذُف الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه موجباً للانفصال لكانت إضافةُ نحو: غلامِ الخَيَّاطِ، وفَرسِ الشجاع، وثوب العاقل، غير مَحْضةٍ، وذلك غيرُ صحيحٍ، فكذلك هنا. وأما إضافةُ المسمى إلى الاسم. فلا فرق في الحاصل بينها وبين إضافة نحو: غلامِ زيدٍ ودارِ فلان، فكما تُعَرَّف هذه الإضافة وتُخَصَّص، فكذلك يوم الخميسِ وذو زيد، لأن المعنى: صاحب هذا الاسم المعروفِ كما (2). تقول: غلامُ زيدٍ المعروفِ.

______ (1) هذه تسمية الفرس للحبة السوداء. (2) في الأصل: لا تقوم.

وأما إضافة الصفة إلى الاسم: فمن باب إضافة (الخاص إلى العام (1)) والنوع إلى الجنس، وهي إضافة معَّرفةٌ بلا إشكال. وأما إضافة الموصوف إلى القائم مقام الوصف: فليس ذلك بِمُتَحصل؛ بل قوله: ((علا زيدنا)) ونحوه، من باب اعتقاد تنكير الأعلام، ثم تعريفها، فإنك تقول: جاءني زيد وزيد آخر، فكذلك تقول على هذا: زيدُ بني فلانٍ، كما تقول: شيخ بني فلان، وجعله من ذلك الباب تَكَلُّفٌ لا معنى له. وأما إضافة المُؤكَّد إلى الموكد: فمن باب إضافة المسمى إلى الاسم، وقد تَقَدَّم. وأما إضافة المُلْغى إلى المُعْتَبر: فليس الأمر فيها كما قال، وليس ثَمَّ مُلْغىً، وهو عند الفارسيِّ وغيره على غير ذلك، فاسمُ السلام (2). على حَذْف المضاف، أي اسمُ معنى السلام، واسم معنى السلام هو السلام، أو هو على أَنْ جَعَل اسماً بمعنى مُسمَّى كأنه قال: ثم مُسَمَّى هذا الاسم عليكما. وقوله: مِثل كذا، مما أقيم فيه مثلُ الشيء مقام الشيء، وقد تفعل ذلك العرب بالمِثْل والمَثَلِ، ولذلك تقول: مِثْلُك يفعل الخير، وإنما المعنى أنت، ولكنهم أتوا بالمثل لمعنى من المبالغة في وصفه، وهذا النوع من ذلك. وأما إضافة المعتبر إلى المُلغى: فليس ثَمَّ مُلْغىً؛ بل إضافةُ الوجه في: حسنٍ وَجْهُه مقصودةٌ، كما يقصدُ التعريف في مواطن تبُّرعاً وتوكيدا ومطابقةً بين العبارة والمُعَبَّر عنه، ونظيرُ هذا الإتيانُ بالنَّعت في موضعٍ لا يجب (فيه (3)) لعلم المخاطب، وإن كان الأصل غير ذلك، فلا يخرجه العْلُم به عن كونه مُعْلَماً،

______ (1) سقط من س. (2) انظر نتائج الفكر للسهيلي 48. (3) سقط من س.

وهذا من باب التطوع بما لا يلزم. وأما أيُّ الموصولة: فإنها قد اكتنفها إبهامان: إبهامٌ من جهة نفسها قبل النظر في أقسامها، وذلك الذي أزالته الإضافة، وإبهامٌ من جهة خصوص الموصولية: فلا بُدَّ لها من صِلَتها لتوضِّح معناها حتى يَتَشَخَّصَ، كما أنها تتخصص وتتشخص/ بجوابها إذا كانت استفهامية، فلم يتوارد عليها تعريفان من جهةٍ واحدةٍ، ... 347 فلا مُلْغى في المسألة. وأما عَوَّى (1) السماء فمن باب: علا زيدنا. وأما الألفاظ المذكورة من مثل وغير وشبههما: فهي (مما (2)) قُصد إخراجها عن مقصود كلامه، لأن مقصوده ما كان مقيسا من الإضافةِ غيرِ المحضةِ، وأما ما تقدم فألفاظ غير مقيسةٍ، بل يقتصر فيها على المسموع، فلم يَحْفِل (3) بها، وإنما اعتنى بما هو قياس خاصة. وكانّ (4) ما كان نحو: رُبَّ رجل وأخيه مسموع أيضاً، فلم (5) يقصْده. والذي يُشْعِرُ بقصده لما ذكر أنه بأربعة أمثلةٍ، ثلاثةٌ منها لثلاثة أبواب والرابع تكرار، وهو قوله: ((قليلِ الحِيَلِ))، فإنه متحد مع قوله: ((عَظِيِم الأَمَلِ)) وكان يمكنه أن يأتي بمثالٍ رابعٍ يَدُلُّ به على مالم يذكر، فتكريرهُ للمثال إشعار بهذا القصد.

______ (1) في قول الفرزدق: فلو بلغت عوى السماء قبيلة لزادت عليها نهشل وتعلت وقد تقدم. (2) عن س. (3) في الأصل: يجعل. (4) في الأصل: وكذلك. (5) س: فلا.

والجواب عن الثاني: أن إضافة الصفة إلى مرفوعها أو منصوبها إذا كانت بمعنى يفعل على وجهين: أحدهما: أن تكون على اعتبار معنى الفعل فيها، وأن القصد إنما هو التخفيف، فالإضافة في هذا القسم غير محضةٍ، ولا تكون مع هذا القصد محضةً أصلا، لأن الموضعَ موضعُ الفعل، فكأن الفِعْلَ ثَمَّ موجودٌ وهذا القسمُ هو الذي تناوله كلامُ الناظم لقوله: ((وإن يشابه المضافُ يَفْعَلُ))، يعني أن يكون القصد بالمضاف رفعَ ما بعده أو نصبه كالفعلِ، لا غير ذلك، وإنما أضيفَ تخفيفا، ولم يُرَدْ تخصيصه بالثاني، فعلى هذا القصد لا يُعَدلُ عن تنكيرِهِ أصلا كما قال. والثاني: أن يكون على غير اعتبار معنى الفعل ولا القصد إليه، وإن كان أصله معنى الفعل، بل اعتبر فيه الاسمية مجردة عمَّا (1) تعلق بها من شبه الفعل في قصد القاصد، فهذا القسم الإضافةُ فيه محضةً، ولا تكون غير محضةٍ مع وجود هذا القصد أصلا، لأنه إذ ذاك اسمٌ أضيف إلى اسمٍ كغلام زيدٍ، وصاحبك، ولم يتناوله كلام الناظمِ، لأن شبه الفعل (هنا (2)) من حيث القصد مُهْمَلُ الاعتبار، وإنما المقصود تخصيص الأول بالثاني والثاني مَعْرِفَةٌ، فحصل التعريفُ بلا بُد، فدخل له بهذا القصد في قسم ما يتعرف أو يتخصصُ وأما الحسنُ الوجهِ: فإنما لم يدخله التعريف، لأن الوجه هو فاعل الحسن، فتقدير (3) التنوين قائم إذا حققنا معنى الفعل له، وهذا التحقيقُ غيرُ

______ (1) في الأصل: ((من ماء)). (2) ليست في س. (3) الأصل: بتقدير.

زائلٍ أصلاً، فلا يمكن أن تكون إضافتهُ محضة (1). وأيضاً: فالحسنُ هو الوجه في المعنى، فالإضافة المحضة فيه تؤدي إلى إضافة الشيء إلى نفسه، فلم تصح فيه إضافة محضة. فإذا تقرر هذا فقد حصل لنا أن الإضافة في هذه الأمور على وجهين: محضةٌ وغير محضة، كما قال/ سيبويه وغيره، وأن كلام الناظم لم يتناول إلا أحد الوجهين، وهذا ... 348 من الناظم احترازٌ حسنٌ، وبناء للمسألة على أصل صحيح مليحٍ، وبالله التوفيق. ثم بَيَّن أسماء القسمين في الاصطلاح فقال: وذي الإضافةُ اسمها لفظية وتلك محضة ومعنوية. يعني أن هذه الإضافةَ المذكورة أخيرا، وهي القريبه (الذكر (2)) المشار إليها بذي المقتضيةِ للقرب اسمها الواقعُ عليها في الاصطلاح الإضافة اللفظية، أي التي المقصود بها تخفيف اللفظ خاصةً، لأن معنى قولك: مررت برجلٍ ضاربِ زيدٍ غداً (بالإضافة (هو معنى قولك: ضاربٍ زيداً غداً، بغير إضافة، لكن حُذِف التنوين، فأضيفَ تخفيفاً، ومعنى التنوين مرادٌ كأنه موجود، فلا تعريف ولا تخصيص. وأما تلك الإضافة المتقدمة الذكر قبل، فذكر أنها تسمى إضافة محضة، لأنها خالصةٌ من شائبة الانفصال، ومعنويةٌ لأنها تنقل المضاف من الإيهام إلى التعريف أو التخصيص، ففائدة تلك راجعة إلى المعنى، كما أن هذه راجعةٌ إلى اللفظ، وقد اقتضى هذا التقديرُ أن الإضافةَ غير

______ (1) الأصل، س: غير محضة. (2) عن س.

المحضة لا تخصيص فيها أصلا ولا تعريف. أما عدم التعريف فَمُسلَّم حسن ما مَّر، وأما عدم التخصيص فغير مُسلَّمٍ، وهذا المعنى بعينه. قاله ابن عصفورٍ (1)، فَرَدَّه عليه ابن الضائع فقال: أما قوله: لا تعريف (2)، فصحيح. وأما قوله: ولا تخصيص (2)، فغير صحيح؛ لأنك إذا قلت: هذا ضاربُ امرأةٍ، فقد خَصَصْتَ المضاف بالمضاف إليه مع كون الإضافة غير محضة. هذا ما قاله، وهو اعتراض على كلام الناظم، فكان ينبغي على هذا ألاَّ ينفي عن هذه الإضافة التخصيص بإطلاقٍ. وقد أجاب عن ذلك شيخُنا الأستاذ الشهير (رحمة الله عليه ((يعني [أبا] سعيد بن لُب (3)) وقال: إن كلام ابن الضائع تحامل على ابن عصفور قال: لأن هذا التخصيص قد (4) كان موجودا قبل حصول الإضافة، فلما حَصلت بقى التخصيص على ما كان عليه، فلم تُحدِثِ الإضافة شيئاً. وما قاله الشيخ (رحمه الله (واضحٌ، وهو الجواب عن الناظم، والله أعلم. ثم قال: ووصلْ أل بذا (5) المضافِ مُغتَفَرْ إِنْ وُصِلَتْ بالثَّانِ كالجَعْدِ الشَّعَرْ

______ (1) شرح الجمل 2/ 70. (2) س: لا تعرف ولا تخصيص. (3) عن هامش الأصل. (4) الأصل: على ما كان. (5) س: بذي.

أو بالذّي لَهُ أُضِيفَ الثَّانِي كزَيدٌ الضاربُ رَأْسِ الجسانِي وَكَوْنُها في الوَصْفِ كافٍ إِنْ وَقَعْ مُثَنَّى أُو جَمْعاً سَبِيلهُ اتَّبَعْ يعني أن هذا المضاف الذي لا يتعرف بالإضافة ولا يتخصص، يُغْتَفرُ فيه وصل الألف واللام (به (1)) فَيُجْمَعُ فيه بين الألف واللاَّمِ والإضافة، بخلاف المضاف في القسم الأول، فإنه لا يجوزُ ذلك فيه، فلا تقولُ: جاءني الغلامُ الرجِل، ولا مِرِرْتُ بالصاحبك (2)، ولا بالفَرَسِ عَمْروٍ، ولا الغلامِ امرأةٍ. وإنما لم/ يَجُزْ ذلك، لأن الإضافة فيها يراد بها التعريفُ أو التخصيصُ للمضاف، 349 وكلاهما غيرُ محتاجٍ إليه، لوجود التعريف فيه، فكان ذلك تحصيلاً للحاصلِ وزيادةً من غير فائدة. وَدَلَّ على أن هذا الحكم لا يجوزُ في القسم الأول قوله: وَوَصْلُ أَلْ بدا المضافِ مُغَتَفَرْ كأنه قال: وَصلها بهذا وحده مغتفرٌ فدل على أنه في غيره غيرُ مغتفرٍ. لكن إنما يُغْتَفَرُ في هذا القسم في موضعين: أحدهما: أن يكون المضافُ إليه قد لحقته الألفُ واللام، أو أضيف إلى ما لحقته الالف واللام، وهذا المعنى قد ضم وصفين: أحدهما: أن يكون معرفةً لا نكرة، فإنه إن كان نكرة لم تلحقه الألف واللام البتة، فلا تقول: مررت بزيدٍ الضاربِ غلامٍ، ولا بالرجل

______ (1) عن الأصل. (2) س: بصاحبك.

الحسِن وَجْهٍ (خلافا للفراء في المسألة الأولى (لأن المضافَ إليه معاقِبٌ للتنوين، والتنوين مع وجود الألفِ واللامِ غيرُ مُقَدَّرٍ، فلا يصح تقدير حذفه، فتكون الإضافة معاقبةً له، وجاز ذلك في الضاربِ الرجلِ، والحسن الوجه لما يأتي. والثاني: أن يكون تعريفه بالألف واللام أو بالإضافة (1) إلى ما هما فيه، فلا يصح دخولها على المضاف إلى معرفة بالعلمية، فلا يقال: مررتُ بالرَّجلِ الضاربِ زيدٍ، ولا على المضاف إلى الضمير فلا يقال: مررت بالرجلِ الضارِبِك، على أن تكون الكاف في موضع جرَّ، ولا على المضاف إلى مضافٍ إلى غير ذي الألف واللام. ويستوي في ذلك أن يكون مضافا إلى ضمير ما فيه الألف واللام' أو إلى مضاف إلى ضمير ما هما فيه، أو إلى غير ذلك، فلا يقال مررت بالرجل الضارب أخيك، أو الضارب أخى زيد، ولا مررت بالرجلِ الحسن وجه أخيه، ولا بالرجل الحسن وَجْهه، ولا بالرجل (الضارب (2)) أبى أخيه، ولا الضاربِ أخيه، ولا ما أشبه ذلك. فأما مسالةُ لضاربِ زيدٍ، ونحوه، من المضاف إلى المعرفة ما عدا المستثنى، فإن الجمهور على ما أشار إليه من المنع، ورأى الفراءُ (3) جوازَ ذلك، والأصح المنعُ من جهة القياس والسماع. أما السماع فغيرُ ثابتٍ فيه، والمتَّبَعُ هو السماعُ، والقياسُ إنما يأتي من ورائه. وأما القياس: فإن صورة المسألة صورة الممتنع، من الجمع بين أداتي تعريفٍ، وإن كانت إحداهما غيرُ مُؤَثِّرة، ولو جازَ ذلك على تقدير لحاقَ الألفِ

______ (1) الأصل: الإضافة. (2) سقط من س. (3) شرح الكافية للرضي 2/ 227.

واللام بعد الإضافة لجاز مثله في غُلامِ امرأةٍ، إذا أريد تعريفُ الغلامِ، وكذلك في ضارب رجل ونحوه، وهذا كله ممنوعٌ بإطلاق. فإن قيل: إن ذلك قد يجوزُ على تأويل الذي هو ضارب زيد، كما يصحُّ أيضا الضاربُ رجلٍ، على ذلك التأويل. فالجواب أن هذا المعنى هو الذي احتج به الفراءُ، ورُدَّ بأنه يلزمه أن يُجيز هذا الحسنُ وجهٍ، وهذا الغلام زيدٍ' على تأويل: الذي هو حسنُ وجهٍ، والذي هو غلامُ زيدٍ. وهو غيرُ جائز باتفاق. وأما مسألة: الضاربك، فإن قولك: هذا الضاربك، ومررت بالرجل الضاربك والضاربه، جائز على الجملة، إلا أن حمله على أن الكاف والهاء/ في موضع خفض بالإضافة هو ... 350 المتنازعُ (1) فيه، فذهب المبردُ (في قوله الأول (والرّماني والزمخشري إلى جواز ذلك، ويوافقهم الفراء من المسألة التي فوق هذا (2). وذهب غيرهم، ومنهم الناظم، إلى المنع، وأنه إنما تكون الكافُ هنا أو الهاءُ في موضع نصبٍ على المفعولية، اعتباراً بالظاهر، لأنه هو الأصل، فكما إنك إذا قلت: هذا الضارب زيداً نَصَبْتَ البتَّةَ، فكذلك مع المضمر لأنه نائبٌ عنه، إذ لا يصحُّ أن يُنسب إلى النائب مالا يُنسب إلى المنوب عنه. وهذه طريقةُ سيبويه في اتصال المضمر باسم الفاعل أنْ يَعْتَبِرهُ بالظاهر. وأما مسألة: هذا المكرمُ غلامه، والضارب أبى (3) أخيه، فإن

______ (1) س: المنازع. (2) في هامش الأصل: قبل هذه. (3) الأصل: أي.

بعض النحويين أجاز هنا أن يعامل ضمير ما فيه الألف واللام معاملة ظاهره. والناظم اشار هنا إلى منع ذلك، وإن كان قد أجازه في التسهيل (1). والصحيحُ المنعُ؛ إذ لو جاز معاملة الضمير معاملة ظاهره، لجاز ذلك مطلقا، فكام يجوز: رُبَّ رجلٍ وأخيه، ونحوه، جوازاً حسناً، ولجاز أن تقول في جواب ما أتاني رجل: كلُّه أتاك (2)، وما أشبه ذلك، ولكان قولك: جاءني رجلٌ فأكرمتهُ في معنى: فأكرمتُ رَجُلاً. وكلُّ ذلك غيرُ صحيح. وأما مسألةُ: الحَسَنِ وَجْهه، ونحوها، فغيرُ جائزةٍ باتفاق (3)، لأن الأولَ مقرونٌ بالألف واللام دون الثاني، فالمعرفة مضافة إلى النكرة، وذلك عكسُ وضع الإضافة، لأن الأصل في الإضافة أن يضاف المنكَّرُ إلى المعرَّفِ ليكتسي منه التعريف أو التخصيص (4)، فهذا عكسُ ذلك، ولأجله امتنع الحسن وجهٍ (3) وتزيد هذه المسألة بأن جُمع فيها بين الضمير المنقول من الوجهِ إلى الصفة، وتكراره في الوجه، فكان ذلك نقضَ الغرضِ، فلهذين الأمرين امتنعت هذه المسألة. وإذا اثبت هذا فمثالُ كون المضاف إليه بالألف واللام قولك: مررتُ بالرَّجُل الحَسنِ الوجه، وبالرجل الضاربِ الغلامِ. وكذلك اسم المفعول إذا قلت: هذا المضروبُ الغلامِ. ومنه قوله: ((الجَعْدِ الشَّعَرِ)) (والجَعْدُ: اسم فاعل من جَعُدَ شعره جُعُودة: ضد سَبُطَ سبوطةً، فيصحُّ هاهنا الجمع بين الإضافة والألف واللام.

______ (1) التسهيل، باب اسم الفاعل 137 (138. (2) س: أتاني. وانظر نتائج الفكر للسهيلي 276. (3) انظر شرح الكافية للرضي 3/ 435 (436. (4) س: والتخصيص.

ومثالُ كون المضاف إليه مضافاً إلى ما هما فيه قولك: مررت بالضاربِ وَجْهِ الأخ، والحسنِ وَجْهِ الأب. ومنه مثاله: زيدٌ الضاربُ رأس الجاني، وإياه عَنَى بقوله: أو بالذي له أُضيف الثاني فبالذي معطوف على بالثاني، وكلاهما متعلق بِوُصِلتْ. والضمير (1). في ((وُصلِتْ)) عائد على أل، كأنه قال: إن وصلت بالذي أضيف له الثاني، يعني أنه إذا وُصاَت الألف واللامُ بما أُضيفَ له الثاني، وهو المضاف إليه، فهو لو كان المضاف إليه نَفْسهُ بالألف واللام، وهذا المثال من باب اسم الفاعل، والأول من باب الصفة المشبهة. والأصلُ في المسألتين: حَسَنُ الوَجْهِ، وضاربُ الرجلِ، بتعريف المضاف إليه، فلما كان المضافُ إليه لا يتعرَّف بهذه الإضافة، لأن إضافة الحسن الوجه لا تُعَرَّف أبدا، وإضافة الضارب الرجل مع بقاء معنى الفعل كذلك، أدْخَلُوا الألف واللامَ لتعريف المضافِ، فقالوا: الحسن الوجهِ، وحملوا عليه الضارب الرجل لأنه (وإن كان لا/ يَتَعرَّف بالإضافة مع بقاء معنى الفعل (351 ويصحُّ أن يتعرف بها على الجملة مع عدم اعتبار ذلك المعنى، فصارت العلَّةُ في الحسنِ الوجهِ موجبةً، وفي الضاربِ الرجلِ مجوزةً، والعلة المجوزة إذا لم يتحتَّمِ الحكمُ معها لم يُنْسَبْ إليها حسب ما يتبين في الصول، فلذلك قالوا بالجمل. وإنما اشتُرِط في المضاف إليه الألفُ واللامُ، لأنه إما أن يكون نكرةً أو معرفةٍ، فإن كان نكرة لم يَسُغ من قَبِلِ أَنّا لما أعطينا الصفة لفظ

______ (1) الأصل: وضمير وصلت.

الإضافة، وإن لم يكن معناها، لم يَجُزْ أن يكون لفظُها خارجاً عن لفظ الإضافة الصحيحة، لأنا شبهناها به، وليس في شيء من الإضافات لفظاً وحقيقةً، في غير النداء، ما يكون المضافُ فيه معرفةً والمضافُ إليه نكرةً، فلو أجزنا هذا لكان مخالفاً لما شبهاه به. وإن كان المضاف إليه معرفةً فذلك غير مستنكر، إذ كان التعريف والإضافة لا يتنافيان. ألا ترى أن ((غلام زيد)) معرفتان: الأول بالإضافة، والثاني بالعلمية، فلما لم بَتَعرَّفِ الأولُ بالإضافةِ أّدْخَلُوا ما يقع به التعريف، ومقتضى هذا أن يجوز: الحسنُ وَجْهِهِ أيضا، إلا أنهم امتنعوا منه لما ذكر، فلم يبق إلا أن يكون الثاني مُعَرَّفاً بالألف واللام، أو بما أضيف إليهما، لأن كونهما المضاف إليه قريب كم كونهما في المضاف، لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد ومن أمثله الف واللام في المضاف إليه قول المرَّاد الأَسَديِّ، أنشده سيبويه (1): انا ابنُ التّاركِ البكريِّ بشْرٍ عَليهِ الطيرُ تَرْقُبُةُ وُقُوعاً وقال الفرزدق أنشده الزَّجَّاج (2) في الكتاب: أبَانا بها قَتْلَى وما في دمائها وفاءٌ، وهُنَّ الشَّافِياتُ الحَوائِم

______ (1) الكتاب 1/ 182، والأصول 1/ 88، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 72، وشرح الكافية للرضي 2/ 234، 382، 395، والخزانة 4/ 284، 5/ 183، 225. (2) في هامش الأصل: ((وسيبويه)) عطفا على الزجاج. وليس البيت في الكتاب، ولعل الزجاج ذكره في شرحه لشواهد الكتاب، والبيت في ديوان الفرزدق 2/ 310. هذا ويقال: أباء السلطان فلانا: إذا اقتصَ رجلا برجل، والحوائم: جمع حائمة، وهي العطاش جدا.

والموضعُ الثاني من موضِعَيْ لَحَاقِ الألف واللام المضافَ أن يكون مُثَنَّى أو مجموعاَ على حدَّه، وذلك قوله: ((وكونُها في الوَصْفِ كافٍ إن وَقَعْ)) .. إلى آخره، يعني أن الألف واللام إذا دخلت على الصفة وهي (1) مثناةٌ أو مجموعةٌ جَمْعَ السلامة بالواو والنون، فذلك كافٍ فلا يحتاجُ إلى اشتراط دُخُولها في المضاف إليه وهو الثاني، فيجوزُ لك أن تقولَ في اسم الفاعل: هم الضارِبُو الرجل، هم الضاربوُ وجهِ الأخ، وهما الضاربا الرجلِ، والضاربا وجهِ الأخ (2)، كالمفَردِ. ويجوزُ أيضا: هم الضاربو زيدٍ (والضاربا (3) زيد). وكذا في الصفةِ المشبَّهةِ فتقول: هم الطيِّيبو الأخبار، وهم الطيِّبوُ أخبار الآباء، وهما الطيِّبا الأخبار، وأخبار الآباءِ، وهم الطيِّبُو أخبارٍ، وهما الطيبا أخبارٍ. وما أشبه ذلك، وإنما كان هذا جائزاً هنا دون غير المثنى والمجموع على حدِّه، لأن حذف النون هنا ليس للإضافة، بل لطول الاسم بالنون، لأن الألف واللام موصولة، فكما حُذِفت النون في الموصول لغير إضافة في نحو ما أنشده سيبويه للأخطل (4): أَبَني كُلَيبٍ إن عَمَّى اللَّذَا قَتَلاَ المُلُوكَ وفَكَّكا الأَغْلاَلاَ وقول أشهب بن رميلة، أنشده أيضا (5):

______ (1) في الأصل: مع مثناة. (2) في الأصل: وجه الأول. (3) سقط من س. (4) الكتاب 1/ 186، والمقتضب 4/ 146، وشرح الكافية للرضي 3/ 19، 424، والخزانة 6/ 6، 8/ 210 والبيت في ديوانه 387. (5) الكتاب 1/ 187، والمقتضب 4/ 146، والمحتسب 1/ 185، وشرح الكافية للرضي 3/ 20، 420، والخزانة 6/ 25.

[و] إنّ الذَّيِ حانَتْ بِفْلج دماؤهُمْ همُ القومُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالدِ فكذلك حذفت لغير إضافة في/ نحو قول الفرزدق (1) 352 أُسَيَّدُ ذو خُرَيَّطةٍ نهاراً من الملُتَقِّطي فَرَدِ القُمامِ أنشده سيبويه (2)، وأنشد أيضا (3): الفارجى بابِ الأميرِ المُبْهَمِ وقولَ الآخرَ وهُوَ من الأنصار (4): الحافِظُو عَوْرَةِ العَشِيرةِ لا يَأتِيهُمُ من وَرَائِنا نَطِفُ وإنما حُذِفت لطول الاسم بالصلة، قاله سيبويه، والدليلُ على صِحَّة ذلك جوازُ الحذفِ مع عدم الإضافة فتقول: الفارجي بابَ الأميرِ المُبْهَمِ الحافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرةِ وما أشبه ذلك، إلاَّ أَنَّ الخفْضَ أولى لموافقة اللفظِ، وهذا بخلافِ

______ (1) ديوانه 2/ 290. وفي اللسان: ((يعني بالأسيّد هنا سويداء وقال: من المتلقطي قرد القمام، ليثبت أنها امرأة، لأنه لا يتتبع قَرَدَ القمام إلا النساء)). والخريطة: تصغير خريطة، وهي مثل الكيس. والقرد: نفاية الصوف والوبر والشعر مما يغول. (2) الكتاب 1/ 185، ومعاني القرآن للفراء 2/ 226، واللسان: قرد. (3) تقدم البيت، انظر. (4) كذا نسب في الكتاب 1/ 185، وقد نسب إلى قيس ابن الخطيم، وهو في ديوانه 63، 172، وإلى مالك بن العجلان، وإلى عمرو بن أمرئ القيس وإلى غير هؤلاء، وانظر الخزانة 4/ 272، 5/ 122، 469، 8/ 29، 209.

الضَّاربِ زيد، والحَسَنِ وَجْه، فأنها ليست كذلك. وفاعلُ ((وَقَعْ)) ضميرُ الوَصْفِ. وقوله: (سَبِيلهُ اتَّبَعْ) في موضع الصفةِ لجمع، وضميرُ ((سبيله)) عائد على المثَنَّى، والضميرُ الفاعلُ في ((اتَّبعْ)) ضميرُ الجمع، والتقدير: أو جمعاً مُتَّبعا سبيل المُثَنَّى، واتباعُ الجمع سبيلَ المثنَّى هو كونُه على حدِّه، وجاريا مجراه في لَحَاقِهِ المَدَّةُ والنونُ، وهو معنى إطلاق النحويَيِّن: الجمع الذَّي على حدِّ التثنية. وتحرَّز به من جمع التكسير، وجمع المؤنث السالم، فإنهما جاريان في الحكم مَجْرَى المُفْرَد، فلا تَدْخل عليهما الألف واللام، إلاَّ مع كونهما في المضاف إليه، فلا تقول: جاءني النَّسوةُ الضَّواربُ زيدٍ، ولا الضارباتُ زيدٍ وإنما (1) يقال الضارباتُ الرَّجُلَ، والضارباتُ الرَّجُلِ، والضواربُ غلامَ الرجلِ، والضارباتُ غُلامِ الرَّجُلِ، ونحو ذلك على حدِّ ما يُقال في المفرد، فلأجل هذا قَيَّد الجمع بقوله: ((سَبِيَلَهُ اتَّبَعْ)). والله أعلم. ثم قال الناظم: وَرُبَّما أكْسَبَ ثانٍ أولاً تأْنِيثا أنْ كانَ لِحَذْفٍ مُوهَلاَ كَسَبَ وأكسَبَ يتعديان فتقول: كَسَبته مالا وأكْسَبْتُه إياه، وأنشد ابن الاعرابي (2): فأكسَبَني مالاً وأكسَبْتُه حَمْدَا

______ (1) في الأصل: ولا يقال. (2) في التهذيب 10/ 79 (80: ((وقال أحمد بن يحيى: كل الناس يقولون: كسبك فلان خيراً، إلا ابن الاعرابي فإنه يقول: أكسبك فلان خيراً)).

وكَسَبَ يتعدى إلى واحد أيضاً فتقول: كَسَبْتُه (1) مالا فَكَسَبَ، مما جاء فيه فَعَلْتُه (2) [ففعل (3)] ومفعولُ ((أكَسَبَ)) هنا أعني الثاني قوله: ((تأنيثا)) والأول قوله ((أَوَّلاَ)) و ((مُوْهلا)). بمعنى مُؤْهلا، أي: جُعِل أهلا للحذف. يقال: أهَلَكَ الله للخير، جعلك له أهلا. وهذان البيتان يذكر فيهما أنَّ المُضاف (وهو الأول (قد يكتسي من المضاف إليه (وهو الثاني (التأنيث وهو قليلٌ (جدا (4))، ولذلك قال: ((وَرُبَّما))، يعني أنه قد يجئ قليلا في المضاف أن يكتسب من المضاف إليه التأنيث في اللفظ، كما يكتسب منه التعريف، ولكن يُشْتَرط أن يكون المضاف سائغاً حَذْفُهُ وإقامة المضاف إليه مُقَامَه، من غير أن يُخلَّ ذلك بالمعنى المراد، بل يكون المضاف إليه مؤديا معنى (5) المضاف وإن كان ذلك مجازا، هذا معنى كونِهِ مُؤْهَلاً للحذف، لأن المضاف إذا أَخَلَّ حَذْفهُ بالمعنى، فليس بِمُؤْهَلٍ للحذفِ، فقولُكَ: جاءني غلامُ هندٍ، وأتاني أبو زينَبَ، لا يجوز (فيه (4) حذفُ الغلام ولا الأب، لفساد المعنى، فلا يصحّ (6) لك أن تقولَ: جاءتني غلامُ هندٍ، ولا أتتني أبو زينَبَ/، ولا ما أشبه ذلك. ... 353 قال سيبويه: ((فإن قلت: من ضَرَبَتْ عبدُ أُمِّك، وهذه عَبدُ زينَبَ،

______ (1) في الأصل، س: كسبت. (2) في الأصل: فعلت. (3) عن س. (4) عن الأصل. (5) س: يعني. (6) الأصل: يصلح.

لم يجز، لأنه ليس بها (1) ولا منها، ولا يجوزُ أَنْ (2) تَلْفِظ بها، تريد (3) الغُلاَم (4): يعني أن العبد ليس بعضَها ولا إياها، ولا يجوز لك أن تَحْذِفَ الغُلام، وهو مُراد؛ لأن الكلام غير مستقيم بذلك، إذ لا تلفظ بالمرأة وأنت تُريدُ غلامها، وإنما المقصود أن يُلْفَظَ بالمضاف إليه وهو يؤدي (5) معنى المضاف ولو بالمجاز، فهذا هو الذي يُعاملُ فيه المضافُ معاملةَ المضافِ إليه. ومثاله قول العرب: اجتمعت أهل اليمامة، فأثنوا الأهل لإضافتهِ إلى المؤنث، لأنك لو حَذَفْتَ الأهل فقلت: اجتمعت اليمامةُ، لصحَّ الكلامُ وفُهِم المرادُ، وكذلك يقول من تكلم بالأهل. قال سيبويه (6): ((وسمعنا من العَربَ من يقول ممَّن يوُثقُ بَعَربِيَتِهِ (7): اجتمعتْ أهل اليمامة))، (8 (قال: ((لأنه يقولُ في كلامِهِ: اجتمعت اليمامةُ، والمعنى أهلُ اليمامة (8) وحاصل ما يكون هكذا أن المضافُ جُزْء المضافِ إليه أو كجُزْئهِ، فمثالُ ما هو كجُزئِهِ ما ذكر آنفا. وفي القرآن الكريم: {يا بُنَيَّ إنَّها إن تَكُ مِثقالَ حَبَّةٍ من خَرْدَل (9))). برفع المثقال، لأن مثقال الحَبّة كالجزء من الحَبَّة (أو كأنه الحبة (10)).

______ (1) س: فيها. ونص الكتاب: ليس منها ولا بها)). (2) س: ((ولا يجوز ذلك أن .. )). (3) نص الكتاب: ((و [أنت] تريدُ العَبْدَ)). وقال المحقق: ((في الأصل الغلام، وأثبتّ ما في ط)). (4) الكتاب 1/ 53 (54. (5) س: يوجب. (6) الكتاب 1/ 53. (7) الكتاب: يوثق به. (8) سقط من س. (9) الآية 16 من سورة لقمان. (10) عن س.

وأنشد سيبويه لذي الرُّمَّةَ (1): مَشَيْنَ كما اهتَّزتْ رِماحٌ تَسَفَّهتْ أعالِيَها مَرُّ الرياحِ النَّواسمِ وأنشد للَعجَّاج (2): طولُ اللَّياليِ أَسْرَعَتْ في نَقْضي وبعده أَخَذْنَ بَعْضيِ وتَرَكْنَ بَعْضيِ وأنشد ابنُ خَرُوفٍ (3): أيا عُرْوَ لا تَبْعَد فكلُّ ابن حُرةٍ سَتَدْعُوهُ داعيِ مِيْتَةٍ فَيُجِيبُ وأنشد الفَّراءُ (4): إذا مات مِنْهمُ سَيَّدٌ قام سَيَّدٌ ودَانَتْ لَه أهلُ القُرىَ والكنائس ومثالُ ما هو جُزْءٌ: قراءة الحَسَنِ، وأبي رجاء العَطَاردي، ومجاهدٍ،

______ (1) الكتاب 1/ 52، 65، والمقتضب 4/ 197، والخصائص 2/ 417، وخزانة الأدب 4/ 225 عرضا، والبيت في ديوانه 754. (2) الكتاب 1/ 53، والمقتضب 4/ 199، 200، وشرح الكافية للرضي 2/ 215، والخزانة 4/ 224. وليس في ديوانه. (3) قائله مجهول. والبيت في معاني الفراء 1/ 187، وشرح المفصل 2/ 20، وشرح الكافية للرضي 1/ 394، وخزانة الأدب 2/ 336. (4) أنشده الفراء في المعاني عن الكسائي 2/ 37.

وقتادةَ، وزيد بن أسلم: (تَلْتَقِطْهُ بعضُ السّيَّارة (1)). ورُوِيتْ أيضاً عن ابن كثير وحَمَزةَ. وحكى سيبويه: ((ذهبت بعض اصابعه (2)))، فالبعضُ هنا جزءٌ من المضافِ إليه. وأنشد سيبويه (3): وتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذيِ قد أَذَعْتَهُ كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ من الدَّمِ وأنشد أيضا لجرير (4): إذا بعضُ السِّنينَ تَعَرَّفّتْنا كفى الأيتامَ فقد أَبِى اليِتَيِم ,انشد له (5): لَمَّا أتى خَبَرُ الزُّبيرِ تَواضَعَتْ سُورُ المدينَةِ والجبِالُ الخُشَّعُ فإن قيل: أِنَّ الناظم شَرَط في هذا الحكْم أن يكون المضافُ جائِزَ الحذفِ، ولم يشترط كونه جُزْءَ المضاف إليه أو كجُزْئِهِ، فيدخل عليه كلُّ ما

______ (1) الآية 10 من سورة يوسف. وانظر القراءة، في البحر المحيط 5/ 284. (2) الكتاب 1/ 51. (3) الكتاب 1/ 52، ومعاني الفراء 2/ 37، والمقتضب 4/ 197، والبيت للأعشى، وهو في ديوانه 123. (4) الكتاب 1/ 52، والمقتضب 4/ 198، وشرح الكافية للرضي 2/ 215، والخزانة 4/ 220، والبيت في ديوانه 412. (5) الكتاب 1/ 52، والمقتضب 4/ 197، وشرح الكافية للرضي 2/ 215، والبيت في ديوان جرير 270.

يحصُلُ فيه هذا الشرط، وهو مما لا يؤنث لتأنيث ما أُضيفَ إليه كيوم الجُمُعة، ويوم الثلاثاء، ويوم عاشوراء، فإنَّ حَذْفَ اليوم سائغ مع إنك لا تقول: أعجبتني يومُ الجُمُعة، ولا جاءت يومُ عاشوراء. وأيضا فإن عَباَرَتَه قد قَصَرَتِ الحكمَ على تأنيث المضاف لتأنيث المضاف إليه، ولم يذكر تَذْكِيَره لتذكير المضافِ إليه، وكان قادرا على أن يأتي بعبارةٍ تَشْمَل (1) الحكمين فيقول مثلا: وربما أكسب الثاني الأول تأنيثاً أو تذكيراً، أو ما يعطي ذلك المعنى، فإنه قد جاء هذا النوع نظماً ونثراً، ففي القرآن الكريم: {فَظَلَّت أعناقُهم لها خاضِعين (2)} فقال: (خاضعين)، اعتباراً بتذكير ما أضيف إليه/ الأعناق قال في الشرح: ... 354 ويمكن أن يكون منه: {إنَّ رَحْمَةَ اللهِ قريب من المحسنين (3)} وأنشد (4): رُؤْيةُ الفِكِرْ ما يَؤُول له الأمرُ مُعين على اجتنابِ التَّوَانِي وأنشد أبياتا أُخَر لم أُقَيِّدها، وكلُّ ذلك دليلٌ على صحَّة وُجُودِ هذا النَّوعِ، وأيضا فالقياسُ يُوجبه لو لم يُسْمع؛ إِذْ لا فَرْقَ بين النَّوعين، فإن لم يُنَبَّهْ على أحدهما ونَبَّه على الآخر تقصير، ظاهرٌ، أو تَرْجِيحٌ لأَحدِ المتماثلين على الآخر من غير مُرَجِّحٍ.

______ (1) الأصل: تشتمل. (2) الآية 4 من سورة الشعراء. (3) الآية 56 من سورة الأعراف. (4) مجهول. وهو في شرح ابن الناظم 387، والهمع 4/ 280، والأشموني 2/ 248، والعيني 3/ 369.

فالجواب عن الأول: أنّا قُلنا بالقياس في مثل هذا فَلِقَائِلٍ أن يلتزم مُقْتضى السؤال فَيُجيزَ أن يُقال: أعجبَتْنِي يومُ الجُمُعةِ، ونحو ذلك، وأما إن لم يُلْ به، وهو يَظْهرُ من قوله ((وَرُبَّما)) (لأن مقتضى رُبَّ التقليل (فلا اعتراض أيضا، فإن كلامه مشعر بمجرد حكاية السماع. وعن الثاني: إما بأن نقول: إنه لم يَعْتَبِرْ النوع المعتَرَضَ به لندُوره بالنسبة إلى الأول، أو لعَدَم ثبوته لاحتمال التأويل في تلك الأمثلة، وإما أنه نبَّه باحد النوعين على الآخر وأراد (1) أن يذكرهما معا، فاكتفى بأحدهما لأنهما بمعنى واحد في القياس، فلا اعتراض على ذلك أيضا والله أعلم. (ثم قال (2)): ولا يُضاف اسمٌ لما بِهِ اتَّحَدْ معنى، وأوِّل مُوِهما إذا وَرَدْ يعني أن الاسم لا يضافُ إلى اسمٍ آخَرَ بمعناه من كلِّ وجهٍ، بحيث يكون مُتَّحِداً به في المعنى من غير فَرْقٍ، فإنَّ القاعدة أنه لا يُضافُ الشيءُ إلى نفسه؛ لأن الإضافةَ كما تَّقدم إما للتعريف وإما للتخصيص، وكلاهما غير مُتَصَوَّر في إضافةِ الشيء إلى نفسه، إذ الشيءُ لا يُعرف نَفْسه ولا يٌخصص نَفْسه' وإنما يقع ذلك بغيره (3).

______ (1) س: فأراد. (2) عن الأصل. (3) انظر هذه القضية في نتائج الفكر للسهيلي 37 (38، والروض له 1/ 15، وأماليه 70، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 10، والإنصاف 436، وشواهد التوضيح 193، وشرح الكافية للرضي 2/ 246، وأبو القاسم السهيلي 393 - 396.

فإذا قلت: غلامُ زيدٍ، وزيدٌ هو الغلامُ، أو صاحبُ الرجلِ، والرجلُ هو الصاحبُ (كان محالاً. وهذه قاعدةُ البصريين، وقد أجاز ذلك الكوفيون مستدلين على ذلك بالسَّماع الفاشي في كتابِ الله وكلام العَرَبِ. فمن ذلك إضافةُ الموصوف إلى الصفة، وهما شيءٌ واحدٌ، نحو قول الله تعالى: {وَلَدارُ الآخرةِ خيرٌ (1)}، [و (2)] الآخرةُ هي الدارُ، لأن المعنى للدَّارُ الآخرةُ، بدليل قوله في الآية الأخرى: {وللدَّارُ الآخِرَةُ (3)} بل قرِئت آية الأنعام بالوجهين. {وللدارُ الآخِرَةُ خيرٌ للذين يتَّقُون (3)}. وهي قراءة الجماعة غير ابن عامر (4): {وّلّدارُ الأخرةِ}. وهي قراءة ابن عامر، وفي القرآن أيضاً: {وما كنتَ بجانِبِ الغَرْبِيِّ (5)}. والجانبُ هو الغربيُّ، وتقديره: وما كنت بالجانِيِ الغَرْبِيِّ. وفيه أيضاً: {إنَّ هذا لهو حَقُّ اليقين (6)}، المعنى: لهو الحقُ اليقينُ. وقالوا: صلاةُ الأولى، ومسجدُ الجامعِ، وبْقَلةُ الحمقاءِ. وهكذا كله معناه على النعت والمنعوت: الصلاةُ الأولى، والمسجدُ الجامعُ، والبقلةُ الحمقاءُ، ويمكن أن يكون من هذا القسم قوله تعالى {وحَبَّ الحصيد (7)}، لأن الحبَّ هو الحصيدُ، فكأنه قال: والحبُّ الحصيدُ، أي: المحصودُ. وأن لم يكن من النعت والمنعوت فهو على كل حال من إضافةُ الشيء إلى نفسه.

______ (1) الآية 109 من سورة يوسف. (2) عن س. (3) الآية 32 من سورة الأنعام. (4) الإقناع لابن الباذش 638. (5) الآية 44 من سورة القصص. (6) الآية 95 من سورة الواقعة. (7) الآية 9 من سورة ق.

ومن ذلك إضافة الصفة إلى الموصوفِ، فمن ذلك قول الشاعر، وهو من أبيات الحماسة (1): ... / ... 355 إنا مُحَيُّوكِ يا سَلْمى فَحَيَّينَا وإن سَقَيْتِ كرامَ النّاس فاسْقِينَا فالمعنى: وإن سَقَيتِ الناسَ الكرامَ فاسِقيناه، وعلى هذا تقول: (لقيت (2)) شجعانَ القومِ، بمعنى: القوم الشجعان، وعقلاءَ الأهلِ، أي: الأهلَ العقلاءَ، ونحو ذلك وهو بابٌ (3) واسعٌ. (4 - ومن ذلك قولهم: شهرُ رمضان، وشهرُ ربيعٍ، ويومُ الخميسِ، وذاتَ اليمين -4). وذات الشمالِ، وَذُو صباحٍ. وأنشد سيبويه (5): عَزَمْتُ على إقَاَمِة ذي صَبَاحٍ لأَمْرِ مَّا يُسَوَّد من يَسُودُ فهذا أيضا من إضافة الشيءِ إلى نفسه، ومن ذلك (أيضا (2)) قولهم: هذا حَيُّ زيدٍ، وأتيتك وحَيُّ فلانٍ قائمٌ. وسمع الأخفش أعرابيا يقول: قالهُنَّ حَيُّ رَياحٍ. يعني أبياتا، فحيُّ هنا مذكَّرُ حَبَّةٍ من الحياة، وليس مرادفا (6) للقبيلة، والمراد بحيٍّ هو المرادُ بما بعده، كما كان ذلك

______ (1) البيت لبشامة بن حزن النهشلي، وهو في الحماسة 77، وخزانة الأدب 8/ 302، وقد تقدم من قريب. (2) عن س. (3) في الأصل: ((وهو من باب)). (4) سقط من س. (5) الكتاب 1/ 227، والمقتضب 4/ 345، وشرح المفصل 3/ 12، وشرح الكافية للرضي 1/ 495، 3/ 53، وخزانة الأدب 3/ 87، 16/ 119. والبيت لأنس بن مدركة الخثعمي. (6) الأصل: مرادف القبيلة.

أيضاً في (نحو (1)) قول الأعشى (2): فكذبوهما بما قالت فصبحهم ذو آل حسان يزُجىِ المُوت والشرعا يريد: فصبَّحهم آلُ حسَّانَ. وقال الكُمَيت (3): إليكُمْ ذَوِي آلِ النبيِّ تَطَلَّعَتْ نوازعُ من قلْبِي ظِماءٌ وألْبُبُ ورُوي عن العرب: هذا ذُو زيدٍ. وهو كله من إضافة الشيءِ إلى نفسه، ومالم يُذكر منه أكثر مما ذكر (4). هذا مُتَعَلَّقُ الكوفيِّين. ولما رأى الناظمُ هذا كله مخيلا وموهماً يمكن أن يتمسكَ به مُتَمسِّكٌ، كما وقع، أحال فيه على التأويل، وأشعر بأن التحقيق فيه إخراجهُ بالتأويل عن مُقْتَضَى ذلك الظاهر، جمعاً بين الأدلة، وذلك بأن يُقَدَّر في القسم الأول موصوفٌ محذوفٌ كأنه قال: ولدار الساعة الآخرة، فإن الساعة توُصَف بالآخرةِ كما وُصِف اليومُ بالآخِرِ في قوله تعالى: {وارجُوا اليوم الآخر (5)}. وقوله: {بجانِبِ الغربيِّ (6)}. وتقديره: بجانب المكان الغربيِّ. و (حق اليقين (7))

______ (1) سقط من س. (2) ديوانه 103، ويزجى: يسوق. والشرع: جمع شرعة-بكسرٍ فسكون- وهي الحباله- التي يصيد بها الصائد. (3) الهاشميات 51. والبيت في الخصائص 3/ 27، وشرح الكافية للرضي 2/ 243، 3/ 344. وخزانة الأدب 4/ 307. (4) س: مما لم يذكر. (5) الآية 36 من سورة العنكبوت. (6) الآية 44 من سورة القصص. (7) الآية 95 من سورة الواقعة.

على تقدير: حَق الأمر اليقين. وصلاة الأولى. على (1) تقدير: صلاة الساعة الأولى. ومسجد الجامع، أي: الموضع الجامع. وبقلة الحمقاء، على تقدير: الحبة الحمقاء قالوا: لأن البقلة اسم لما يَنْبُت من تلك الحبَّه، ووصفُ الحبَّة بالحمقِ هو التحقيقُ لأنها الأصلُ، وما نبت عنها فرعٌ، ووصف الأصل أولى. وقوله: {وحبَّ الحصيد (2)} على تقدير: وحَبَّ الزرعِ الحصيدِ، ووصفُ الزرعِ بالحصيدِ أولى لأنه المحصودُ حقيقة لا نفس الحب، فإنك تقول: حَصَدتُ الزَّرع، ولا تقول: حَصَدْتُ الحبَّ، إلا مجازا. وأما القسم الثاني: وهو إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس كما زَعَمُوا، وإنما المضافُ إليه عامٌّ والمضافُ خاصٌّ، فقولك: كرامُ الناسِ، يريد المرامَ منهم، والناسُ ليسوا الكرامَ فقط، وكذلك شجعان القوم، وعقلاء الأهل، وما أشبه ذلك. وأما شهرُ رَمَضَانَ، وأخواته، فمن باب إضافة المسمَّى إلى الاسم، كأنه قال: شهر هذا الاسم، ويومُ هذا الاسم، وصاحبُ الاسم الذي هو صَباحِ. وكذلك حَيُّ زيدٍ ونحوه، أي حَيُّ هذا الاسم، أي الشخصُ المسمَّى بهذا الاسم، وكذلك ذو وما أُضيفَ/ إليه بمعنى 356 صاحب هذا الاسمِ، وإضافة المسمَّى إلى الاسم كثيرةٌ، هذا منها. وعلى هذا التقدير لا يكونُ المضافُ والمضافُ إليه في جميع ما تقدم وأمثالهِ مُتَّحدين معنىً؛ بل متغايِريَن، فقد حَصَلَ مقصودُ الناظمِ في

______ (1) الأصل: في تقدير. (2) الآية 9 من سورة ق.

قوله: ((وأَوِّلْ موهماً إذا وَرَد))، يعني إذا وَرَد من كلام العربِ أو أُجرِيَ على كلامها بالقياس (فَأَوِّله (1)). فسواء أكان الآتي من ذلك قياساً أو غير قياسٍ على هذا التأويل يُجْرَى، ويُخَاَلفُ فيه الظاهرُ، للقياس المتقدم الذي استدَلَّ به البصريُّون، ولأن عامَّة كلامِ العربِ على أنّ الشيء لا يضافُ إلى نَفْسِهِ. وقوله: ((وأَوَّلْ)) هو من التأويل، وهو في اللغةِ تفسيرُ ما يَئُول إليه الشيءُ، أي (2): ما يرجع إليه، فكأنه يقول: رُدَّه إلى ما يرجع إليه بالدَّليل الدَّال على ذلك. والمُوِهمُ من أوهم غَيْرَه إيهاماً: إذا جَعَله يَهِمُ. وهو منقولٌ من وَهِمَ الرحلُ في الشيء يَهِم وَهْماً: إذا ذَهَبَ وَهْمُه وَظَنُّه إليه، وهو يريد غيره، أو من وَهِمَ يِوْهَمُ: إذا غَلِطَ، وأكثرُ ما يستعمل هذا في الحساب، فكأنه يقول: أَوِّل ما يُوقِعُ الناظِرَ في الوَهَم والغَلَط. والله أعلم. (ثم قال (3)): وَبَعْضُ الأسْمَاء يُضَافُ أَبَدا وَبَعْضُ ذا قدْ يأتِ لَفْظاً مُفْرَدَا هذا فَصْلٌ يذكُر فيه ما يلزمُ الإضافة من الأسماء وما يلومهُا، وذلك أَنَّ الأسماءَ بِحَسبِ ما قُصِدَ من التقسيم على قسمين: لازمٌ للإضافة، وغيرُ لازمٍ لها. فغيرُ اللازمِ للإضافة لا إشكالَ فيه، فلم يَحْتَجْ إلى الكلامِ عليه، وذلك نحو: غلامُ زيدٍ وراكبُ الفرسِ، وصاحبُ أخيك، واللازمُ للإضافة على ضربين: لازمٌ لها لفظاً ومعنى، ولازم لها معنىً دون لفظٍ.

______ (1) سقط من س. (2) س: أو. (3) ليس في س.

فقوله: ((وبعضُ الأسماء يُضافُ أبداً))، يشملُ الضَّرْبَيِن معاً، ما يلزمُها لفظاً ومعنى، وما يلزمُها معنىً لا لفظاً. وقوله: ((وبعضُ ذا قد يأتِ لفظاً مفردا))، هو التقسيمُ المذكورُ إلا أَنّه نصَّ على أحد القسمين، وهو ما يأتي في اللفظِ مفرداً ومعناه معنى المضافِ، وترك القسمَ الآخَرَ لفهمهِ مما ذُكِرَ كأنه قال: وبعض ذا قد يأتِ مُفْرَداً في اللفظ، وبعضهُ الآخَرُ لا يفردُ لفظاً؛ بل لا بدَّ له من الإضافةِ لفظاً. فأما اللازمُ للإضافةِ لفظاً ومعنىً فمنها: أَيْمنُ الله (في القسم (وَلَعَمْرُ الله، وقِعْدَك الله وقَعِيدَكَ اللهَ، وعودٌ وبَدْءٌ في قولهم: رجعَ عودُهُ على بَدْئِه، ومعاذَ الله، وريحانَه، ولَبَيِّك وَسَعْدَيكَ وحنانَيْكَ، ونحو ذلك. ومن الظروف: لدى وعند نحو: لديه مالٌ، وعنده مالٌ، وحولَ وحوالي، نحو الناس حَوْلَ زيدٍ وَحَواليْه، ووَسْطَ نحو: قعدت وَسْطَ الدار. ومن غير ذلك: حُمادَى وقُصَارَى نحو: حماداك أن تفعل كذا، وِقُصَاراك أن تفعل، أي: غايتك أن تفعل. وَوَحْد نحو: جاء زيد وَحْدَه، وجاء القوم وَحْدَهم. وكلا وكلتا، نحو: جاءني كلا الرجلين، وكلتا المرأتين. وذُو وفروعه من: ذات وذَوَى وذَوَاتَىْ وأولى وأولات نحو: ذو مال، وذاتُ مال، و {ذَوَا عدْلٍ (1)}، و {ذواتا أَفْنَان (2)}، و {أُولُو العِلْمِ (3)} و {أولاتُ الأحمال (4)}.

______ (1) الآية 95، 106 من سورة المائدة. (2) الآية 48 من سورة الرحمن. (3) الآية 18 من سورة آل عمران. (4) الآية 4 من سورة الطلاق.

وأما اللازمُ للإضافة معنىً/ لا لفظا، فكقبلُ وبَعْدُ، فإنهما لازمان 357 للإضافة، غير أنه يجوزُ قطعهماُ عنها: نحو {لله الأمرُ من قَبْلُ ومن بَعْدُ (1)}. وذلك فَوْقَ وتَحْتَ نحو: قعدتُ من فوقُ، ومن تحتُ. وكلُّ، وبعضُ، وقُدَّام ووراء (، ومَثْلٌ بمعنى واحد (ومَعَ، وتلقاء، وغير، وكثير من ذلك في الظروف وغيرها، وجميعها مأخوذ من السماع، وذللك لم يأْتِ فيها بقياسٍ ولا ضابطٍ يحصُرها، ولكن ما جاء منها على ضربين: أحدهما: أن تكون جاريةً على أصلِ الإضافة، بمعنى أنه لا يحدثُ في المضاف حكمٌ زائدٌ على ما كان لو لم يُضف، ولا في المضاف إليه كذلك؛ بل يمون كلُّ واحدٍ منهما كالغلام وزيد في قولك: غلامُ زيدٍ، وما أشبه ذلك. والثاني: أن يحدُثَ في المضافِ أو في المضاف إليه حكمٌ زائدٌ، أو اختصاصٌ بأمر يخرج به عن الاكتفاء بالتعريف الأول، كما في قبلُ وبعدُ، فإنهما إذا قُطِعا عن الإضافة بُنيا. وكإذا فإنها تَخْتَصُّ بالإضافة إلى الجُمَلِ، وكيوم وحين وغير، فإنها إذا أضيفت إلى غير المفرد المعرب جاز بناؤُها على تفصيلٍ، ونحو: كلا وكلتا، فإنهما لا يضفان إلاَّ إلى المثنى، وما أشبه ذلك من الأحكام الزائدة. فأما الضَّربُ الأولُ: فبم يحتج إلى الكلام عليه (2)؛ إذ ليس فيه زائدٌ على ما ذكروا (3).

______ (1) الآية 4 من سورة الروم. (2) الأصل: إلى الكلام عليه إذا، إذ ليس ... )). (3) الأصل: ذكروا.

وأما الثاني: فهو المُفتَقر إلى التنبيه على ما فيه، فَلأجلِ ذلك خَصَّه بالذكر حسب ما تراه بحول الله. وقوله: ((قد يأتِ))، بحذف الياء من يأتي، كقوله تعالى: {يوم يَأْتِ لا تَكلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِه (1)} ... الآية. و((لفظاً مفردا)): يَحْتَمِلُ أن يكونَ على ظاهره، فلفظاً حالٌ، ومفرداً صفةٌ، أي: مفرداً عن ذكر الإضافة. ويَحْتِمِلُ أن يكون ((لفظاً)) حالاً مقدَّماً صاحبه الضميرُ في ((مفردا))، أي: مفرداً لفظاً لا معنىً. ثم أخذ في تفصيل الأحكام الزائدة فقال: وَبَعْضُ ما يُضافُ حتماً امْتَنَعْ إيلاؤُهُ اسْملً ظاهراً حيثُ وَقَعْ كوَحْدَ لَبَّى ودّوّالّىْ سَعْدَىْ وَشَذَّ إِيلاءُ يَدَىْ لِلَبَّىْ فذكر الناظمُ هنا تقسيما آخر مختصا بما يلزمُ الإضافةَ لفظاً ومعنىً لقوله: ((حَتْماً))، أي: على كلِّ تقدير، وتلك هي الإضافة اللازمةُ لفظاً لا معنىً، فيريدُ أنَّ هذا القسمَ على ضربين: أحدهما: ما يلزمُ فيه الإضافة إلى المضمرِ خاصَّةً. والثاني: مالا يلزمُ فيه ذلك؛ بل تصحُّ إضافته إلى الظاهرِ والمضمرِ. فأما مالا يلزم فيه ذلك فلا كلام فيه نحو: حُمادى وقُصارى وكلا وكلتا، فإن هذه ونحوها تُضافُ إلى الظاهر والمضمر نحو: قُصارى زيدٍ أن يفعل كذا، وزيدٌ قصاراه أن يفعل كذا، وكلا الرجلين قام، وكلاهما خرج، ونحو ذلك.

______ (1) الآية 105 من سورة هود. وانظر إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس 2/ 302.

وأما ما يلزم فيه الإضافة إلى المضمرِ عنده، فأَتى له بِمُثلٍ أربعةٍ: أحدهما: ((وَحْدَ))، وهو من الاسماء الموضوعة موضعَ المصدرِ الواقعِ حالاً، وهو لازمٌ للإفراد، فلا يُثَنَّى ولا يُجمعُ، ولاومٌ للتذكير فلا يؤنَّثُ مع لزوم الإضافة إلى المضمر، فتقول: جاء زيد وَحْدَه، وجاءت هند وَحْدَها، وجاءا وحدهما، (وجاءتا وحدهما (1)) وجاءوا وحدهم، وجِئْنَ وِحْدَهُنَّ، وما أشبه ذلك. أنشد سيبويه (2) لعبدالله بن عبد الأعلى القُرَشِىّ: / وكُنْتَ إذْ كُنْتَ إِلَهي وَحدَكما ... 358 لم يَكُ شَيءٌ يا إلهي قَبْلَكا وما قاله من التزام هذه الإضافة في وَحْد صحيحٌ، وقد يُجَرَّ وَحْد أيضا، وهو مع ذلك باقٍ على حُكْمِه نحو: نسيجُ وحدهِ وجُحَيشُ وَحْدِه، وعُيَيْرُ وَحْدِه، وقَرِيعُ وَحْدِه، ورَحِيلُ وَحْدِهِ (3). وقال ابن الأعرابي: يٌقالُ: جَلَسَ فلانٌ وَحْدَه، وعلى وَحْده، وجلسا وَحْدَهما (4)، وعلى وَحْدِهما، وعلى وَحْدِهم. وقال أبو زيدٍ: اقتضيت كلَّ دِرْهَمٍ على وَحْدِه، أي: على حِدَتِهِ. والثاني: ((لبَّى)) هكذا مُثَنىً، وهو من المصادر التي جاءت مثناةً لازمة الإضافة (5) إلى الضمير. تقول: لَبَّيكَ اللهمَّ لبَّيكَ (لبيك (6))، لا شريكَ

______ (1) عن س. (2) الكتاب 2/ 210، والمنصف 2/ 232، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 11. (3) انظر اللسان، مادة، وحد. ففيه نقولُ جيدة عن استعمالات وَحْد. (4) في اللسان: وجلسا على وحديهما. (5) س: لازمةٌ للإضافة. (6) سقط من الأصل.

لك لَبيَّك. ويقال: لَبيه، ولبيكما، ولبيكم، قال (1): لَبيكُما لبيكما هّأّنَذَا لَديكُما ولا يقال: لبى فلانٍ، إلا شاذا عنده، كما سيذكر، ومعناه: إجابةً بعد إجابةً. والثالث: ((دَوَالَىْ)) وهو مصدر (مُثَنَّى (2)) إلا يقعُ في موضع الحال، كذا قال سيبويه وأنشد لعبد بني الحَسْحَاس (3): إِذَا شُقَّ بُرْدٌ شُقَّ بالبُرْدِ مِثْلُهُ دَوَاليكَ حَتَّى لَيْسَ للِبُرْدِ لابِسُ ومعناه: مُداولةً بعد مُداولةٍ، ولا يجوز إضافته إلى الظاهر، فلا يقال: دَوالَىْ زيدٍ، ولا دَوَالَىْ أَخِيكَ. والرابع: ((سَعْدَى)) نحو: ((لَبَّيكَ وسَعْديكَ، والخير في يديك)). وكذلك (4) لَبَّيْهِ وسَعْدَيه ولا يقال: سَعْدَىْ زَيدٍ، ومعناه: مساعدةً (بعد مُساعدةٍ (5)، و) هذه كلها مما يلزمُ الإضافة إلى المضمر. وقوله: كوَحْدَ وكذا، يَشْمَلُ ما ذُكر وما لم يُذْكر، وقد جاء من ذلك أسماءٌ أُخَرُ كحنانَيْكَ المثنى تقول: حَنانَيْكَ، وسُبْحانَ اللهِ، وَحَنانَيهِ، فلا يقال حنانَىْ زيدٍ، وأنشدَ سيبويه لَطَرَفَةَ بنِ العَبْدِ (6):

______ (1) الرجز في مجالس ثعلب 129 غير منسوب، ونسب إلى أمية بن أبي الصلت في الأغاني 3/ 182، وانظر الدمنهوري على متن الكافي 98. (2) عن س. (3) الكتاب 1/ 350، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 119، وخزانة الأدب 2/ 99. ويقول المحقق: أغفل هذا الشاهد طبعة شرح الكافية للرضي سنة 1275. (4) الأصل: وكذا. (5) سقط من س. (6) الكتاب 1/ 348، والمقتضب 3/ 224، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 118. وديوان طرفة: 172.

أبا مُنْذِرٍ أفنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا حَنَانَيكَ بَعْضُ الشرِّ أَهْونُ من بَعْضِ وقال سيبويه: ((وسمعنا من العَرَبِ من يقولُ: سُبْحان اللهِ، وحَنَانَيه، كأنه قال: سبحانَ اللهِ واسترحاماً (1))). ومثلُ ذلك: هَذَا ذَيْكَ، أَيْ هذا بعد هذٍّ، من الهذِّ وهو الاسراع، وأنشد سيبويه (2): ضَرْباً هَذَا ذَيْكَ وطَعْنَا وخَضا ومثله: حَوَالَيْكَ وحَوْلَيْكَ، وهما ظرفان. ومنه قول كعبِ بن زُهير (3): يَسْعَى الوُشَاةُ حَوَالَيْها وَقَوْلُهُمُ إنَّكَ يا ابن أبى سُلْمَى لَمَقْتُولُ وقال الآخر أنشده ابن جني (4): يا إِبِلى، ماذَامَهُ فَتَأْبَيْه مَاءٌ رَوَاءٌ ونَصِىٌّ حَوْلَيَهْ وثَمَّ أشياءُ أُخَرُ من هذا الباب لا تُضاف إلى الظاهر أصلا، إلا أن الناظم استثنى من ذلك لبَّىْ فقال (وشَذَّ إيلاءُ يَدَىْ لِلَبَّىْ). فَنَشَأَ عن ذلك مسائل:

______ (1) الكتاب 1/ 349. (2) الكتاب 1/ 350، والمحتسب 2/ 279، وشرح الكافية للرضي 1/ 330 والخزانة 2/ 106. وانظر ديوان العجاج 92. (3) ديوانه 19. (4) الخصائص 1/ 332، ونوادر أبى زيد 331. والرجز للزفيان السعدي، شاعر إسلامي. النَّصِيّ: نبتٌ أبيضُ ناعمٌ من أفضل المرعى.

إحداها: أن ما ذَكرَ من الأسماء لم يأت فيها سماعٌ بإضافة إلى الظاهر غير ما استثنى لقوله: (وَشَذَّ) كذا في كذا، ولو كان قد سُمِعَ في غير لَبَّى، لم يقل: ((وّشَذَّ إيلاءُ يَدَىْ للبَّىْ))، وَلأَتَى بعبارةٍ تَشْمَلُ جَميِعَ ما سُمِع فيه منها شَيء، لكنه لم يفعل ذلك، فَدَلَّ على اختصاص السَّماعِ بلَبَّىْ. والثانية: إشعاره بموضع السماع في لَبَّى، وهو كونُه أضيف من الأسماء الظاهرة إلى لَفْظِ يَدَىْ، وإشارته إلى نحو ما أنشد سيبويه من قول الشاعر (1): دَعَوتُ لما نَابَنِىِ مِسْوَرَا فَلَبَّى، فَلَبَّىْ يَدَىْ مِسْوّرِ وكأنه لم يُسْمَع في غير اليدَينِ أصْلاً. ورُوِي في بعض الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسم- أنه قال: ((إذا دعا أحُدكم أخاه/ فقال: لَبَّيك. فلا يَقُولَنَّ: لَبَّى يَدَيْكَ. وليقل: 359 أجابَكَ اللهُ بما تُحِبُّ (2))). وهذا مما يُشْعِرُ بأنَّ عادَةَ العَرَبِ إذا دَعَتْ (3) فأُجِيبَتْ بلبَّيكَ أن تقولَ: لَبَّىْ يَدَيْكَ، فَنَهَى عليه السلامُ عن هذا القولِ وعَوَّض منه كلاماً حَسَناً، ويُشْعِرُ بهذا أيضا معنى البيت المتقدِّمِ، فعلى هذا ليس بمختصٍّ بالشِّعرِ.

______ (1) الكتاب 1/ 352، وشرح الكافية للرضي 1/ 329، والخزانة 2/ 92 وانظر اللسان: لبب، لبى، سور. وينسب البيت إلى رجلٍ من بني أسد. (2) سنن أبي داوود، كتاب الأدب. (3) س: دعيت.

والثالثة (1): أن إضافة يَدَىْ للبَّىْ شاذٌّ، فيعطي أنه لا يُقاس عليه، وهذا يُشْكِلُ من جِهتينِ: إحداهما: جعلُه إيَّاه من الشاذِّ، والشاذُّ هو عنده ما اختص بالشعر، أو جاء في كلام نادِرٍ لم يكثُر ولم يشتهر في الاستعْمال. وهذا ليس كذلك لما تقدَّم آنفا من دلالة الحديث على أنه كان مستَعْملاً عند العرب معهودا، ولذلك نهي عنه - صلى الله عليه وسلَّم- ولو لم يشتهر عندهم لم يَنْهَهُم عنه، وهذه عادَتُه- عليه السلام- فيما اعتادُوه من الأقوالِ والأفعالِ المخالفةِ للشَّرْعِ. وأيضا فإنَّ بيتَ الكتابِ يُشْعِر بذلك، فليس من الشاذِّ النادرِ؛ بل هو من الكثير المستعملِ، لكن مختصُّ باليدين، فكان من حَقِّه أن يجعله قياسا في موضعه، ولا يمنعَ منه، وهذه هي الجهةُ الثانيةُ من جِهَتَيِ الإشكالِ. والجواب: أنَّ الحديث لا نُسَلِّم أنه يُشْعِرُ بكثرة ذلك، وإنما (2) فيه دلالةٌ على أنّه سَمِعه أو بَلَغه (3) عمن قاله فيمكن أن تكون كلمةٌ قيلت على غير عادة، فيكون من النادر والشاذ، وإذا احتَمَلَ هذا لم يكُنْ فيه دليلٌ، وإن سُلِّم أن ذلك اعتِيدَ في الاستعمال، فلا يلزم من ذلك خروجهُ عن نصاب الشاذّ ودُخولُه في القياس، لأن الشاذّ عند النحويين على ثلاثة اقسام: شاذٌّ في الاستعمال دون القياس، وشاذٌّ على العكس، وشاذٌّ في القياس والاستعمال جميعاً، فيكون هذا من الشاذَّ في القياس دون الاستعمال كأنه لم يكثر (كثرة) (5) توجب (6) القياس عليه، وقد تقدَّم

______ (1) الأصل: والثانية. (2) س: فإنما. (3) س: وبلغه. (4) كذا في صلب الأصل، س. وفي هامش الأصل عن نسخة: ((عمن قال ذلك فيحتمل أن .. )). (5) عن س. (6) الأصل: توجه.

التنبيهُ على هذه القاعدة. وإن سُلِّم أنه بَلَغَ مبلغَ القياسِ عليه في كلام العرب، فقد يقال: إن الناظم لم يعتبره حيث كان الحديث قد نهى عن استعماله، فصار القياس على ما سُمِع ممنوعاً شرعاً؛ ألا تراه قال: ((لا (1) يَقُولَنّ لَبَّى يَدَيْكَ))، فهذا معنى المنعِ من القياسِ على ما قيل منه، وهذا من غرائب أحكام العربيَّةِ أن يُمنَعَ من القياس لمانعٍ شرعيِّ، ولكنْ له نظائر كالمنع من تثنية أسماء الله تعالى وجمعها وتصغيرها، وإن كان قياس العربية يقتضى تثنية الأسماء المعربات على الجُمْلة، وكذلك تصغير الأسماء التي سُمِّى بها نَبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلَّم تسليما- فإنه أعظمُ الخَلْقِ عند الله تعالى، فلا يجوزُ تصغيرُ اسمهِ وإن كان لفظاً، لِعظَمِ المدلولِ-عليه السلام- والألفاظ تشرُفُ بِشَرَفِ مدلولها شَرْعاً، وهذا الموضع مما مَنَعَ الشرع من استعماله، وذلك يستلزم مَنْعَ القياس عليه، فمنَعَهُ الناظمُ وسمَّى ما سُمِع منه مخالفا للمشروع شاذاً، لمساواته للشاذِّ العربِّي الذي لا يقاس عليه، والله أعلم. والرابعةُ: أن هذه المسألة/ اقتضتْ مَنْعَ إضافة هذه الأسماء إلى الظاهرِ بإطلاق، ... 36 وهو مِّشِكِلٌ؛ فإن كلام سيبويه يُشعر بخلافه، وذلك أنه حين تكلم مع يُونُس في زعمه أن لَبيك اسمٌ مفردٌ لا مثنى، وأن قلب ألفه مع المُضمر كقلب ألف عليك، استدل على أنه ليس كذلك بأن قال: ((لأنك تقول (2): لَبَّى زيدٍ، وسَعْدى زيد (3)))، فظاهرُ هذا جوازُ ما منعه الناظم، ويمكن أن يكون معنى قول سيبويه: لأنك إذا أظهرت الاسم، أي في نحو:

______ (1) الأصل: ليقولن. (2) في مطبوعة الكتاب: ((لأنك [لا] تقول)). بزيادة لا. وسياق نصّ سيبويه يقضي بحذفها. (3) الكتاب 1/ 351.

((فَلَبَّىْ يَدَىْ مِسْوَر)) مما جاء في الشعر أو في الكلام ندورا، لا أنه يريد أن ذلك جائزٌ في الكلام. فإذا احتمل هذا لم يكُن فيه دلالة على (مخالفة (1)) (ما (2)) ذكره الناظم، والله أعلم. ويقال: أَوليتُ الشّيءَ (الشيءَ (3)) بمعنى جعلتُه يَليهِ، أي: يقع بعده مجاوراً له، فَضَميرُ ((إيلاؤُه)) عائدٌ على ما يُضافُ، وهو الاسم الأول، والاسم الظاهر هو المضاف إليه، وهو الثاني، أي: امتنع أن يلي المضافَ الظاهرُ مضافاً إليه. وكذلك قولهُ: ((وشَذَّ إيلاءُ يّدَىْ لِلَبَّىْ)). يريد: وشَذَّ أن يلي لَفظ (يَدَىْ لَفْظَ (4)) لَبَّىْ. وألزمُوا إضافة إلى الجُمَلْ حيثُ وَإِذ، وأِنْ يُنَوَّنْ يُحْتَملْ إفرادُ إِذْ، وما كإذْ معنى كإِذْ أَضِفْ جَوَازاً نحوُ حِين جانُبِذْ حيث وإِذْ في موضع نَصْبٍ على المفعولِ الأولِ لألزموا. والمفعولُ الثاني قوله: ((إضافةً إلى الجُمَلْ))، ويعني أن حيثُ من ظروفِ المكان، وإِذْ المختصَّةُ بالماضي من ظروف الزمان، التزَمتِ العربُ فيهما أن يُضافا إلى الجُمل في اللفظ وإن كانت الجملة في تقدير المفردِ معنى، ولم يُضيفُوهما إلى المفرد الذي هو الأصلُ في الإضافةِ؛ بل عَدَلُوا عن ذلك، وخَرَجُوا عن الأصل، ولذلك قالوا في ((حيثُ)) إنها بُنيت لخروجها عن نظائرها بالإضافة إلى الجمل (أي (5): ظروف

______ (1) عن س. (2) عن الأصل. (3) عن س، وكان فيها: للشيء. (4) سقط عن الأصل. (5) عن س.

المكان سواها لا يسوغُ فيها ذلك، وما ألزموا من الإضافة إلى الجمل) هنا إنما هو القياس، وإلا فقد حُكى إضافةُ حيثُ إلى المفردِ، وأنشدوا قول الراجِزِ (1): أَما تَرَى حيثُ سُهَيلٍ طالعاً وقول الآخر (2): وتَطعُنُهم حَوْلَ (3) الحُبَى بَعْدَ ضَرْبِهم بِبِيضِ المَوَاضى حَيثُ لىِّ العَمائمِ ولكنه شاذٌّ، فلذلك يعتَبره الناظم. ولم يُقَيِّد الجملة التي يضافان إليها بكونها اسميةً أو فعليةً، فدلَّ إطلاقه على عَدَم الاختصاص بإحداهما، وذلك صحيحٌ. فأما ((حَيْثُ)) فتضافُ إلى الجملة الاسمية فتقول: جلست حيث زيدٌ جالسٌ، وإلى الجملةِ الفعليةِ فتقول: جلستُ حيثُ جلستَ. ومن ذلك في القرآن الكريم {وَكُلاَ منها رَغَداً حيثُ شِئْتُما (4)}، و {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُم (5)}، {وامضُوا حيثُ تُؤْمَرُون (6)}. وذلك كثير.

______ (1) البيت في المفصل 4/ 90، وشرح الكافية للرضي 3/ 183، والهمع 3/ 206، والخزانة 7/ 4 ويروي بعده نجماً يُضئُ كالشهاب لامعاً ولا يعرف قائله (2) نسب في شرح العيني 3/ 387 إلى الفرزدق. والبيت في شرح المفصل لابن يعيش 4/ 92، وشرح الكافية للرضي 3/ 183. والخزانة 6/ 553 والحُبَى: جمع حُبْوَة، وهو الثوب الذي يُحتبى به. (3) في شرح المفصل وشرح الكافية: حيث الحبى. وقد ذكر البغدادي هذه الرواية، وأخرى وهي: تحت الحبى. (4) الآية 35 من سورة البقرة. (5) الآية 161 من سورة الأعراف. (6) الآية 65 من سورة الحجر.

وأما (إِذْ) فتضاف أيضا إلى الجملة الاسمية نحو: جئتُ إذ زيدٌ أميرٌ. ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُروا إِذْ أَنتُمْ قليلٌ مستَضْعَفُون في الأَرْضِ (1)}، {وَإِذْ أنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُون أُمَّهاتِكُم (2)}. وإلى الجملة الفعلية كان الفعلُ ماضياً أو مضارعاً نحو: جِئْتُ إِذْ جاءَ زيدٌ. (وإذ يجئُ زيد) (3) ومنه في القرآن: {واذكُروا إذْ جَعَلَكُم خُلَفاءِ (4)}، {وَإِذْ اتينا مُوسى الكتابَ والفُرقْانَ (5)}، {إِذْ تُصعِدُون ولا تَلْوُون على أَحَدٍ (6)}، {إِذْ تأتِيهم حيتانُهُم يومَ سَبْتِهِم/ شُرَّعَّاً (7)}. 365 ثم قال: ((وَإِنْ يُنَوَّن يُحْتَمَلْ إِفرادُ إِذْ))، الضمير في ((يُنَوّن)) راجعٌ إلى إِذْ، لأنه أقربُ مذكورٍ. وقوله: ((إفرادُ إِذْ))، أظهره والموضعُ موضعُ الضمير لأجل البيان، يعني أن إِذْ إذا نُوِّنَ، أي: لحقه تنوينٌ في آخرِهِ احتُمِلَ (أي: اغتُفِر واستُجِيزَ (إفرادُه عن الإضافة (8) فيبقى دون مضافٍ (إليه (9)) لفظا وإن كان مراداً معنى، وهو الجملة المذكورة. وفي هذا الكلام إشعارٌ بجوازِ تَنْويِنِه، لأن ما ذُكِرَ من الحكم مبنيٌّ

______ (1) الآية 26 من سورة الأنفال. (2) الآية 32 من سورة النجم. (3) عن س. (4) الآية 69 من سورة الأعراف. (5) الآية 53 من سورة البقرة. (6) الآية 153 من سورة آل عمران. (7) الآية 163 من سورة الأعراف. (8) س: عن الإضافة إليه. (9) عن س.

عليه، وذلك نحو قولك: قام زيدٌ فقمتُ أنا حينَئذٍ. ومنه قوله تعالى: {وأنتم حينئذٍ تنظرون (1)}، {ويلٌ يومئذٍ للمكذِّبين (2)} وما أشبه ذلك. ويعني بالإفرادِ الإفرادَ اللفظيَّ، وهو التعرِّي عن الإضافة، ولم يُرِدْ ايضاً الإفراد لفظاً ومعنىً؛ بل معنى الإضافة باقٍ، ولذلك قالوا في التنوين: إنه تنوينُ العِوَضِ، كأنه وقع عِوضا عن (3) ذكر المضاف إليه، وهو الجملة، والذي يدلّ من كلامه على بقاء معنى الإضافة قوله: ((وألزموا)) كذا، لأن هذا الإفرادَ المذكورَ جائزٌ قياسا، فلو كان على غير معنى الإضافة لم يقل: وألزموا، فلابد أن يكون معنى قوله: ((يُحْتَمَل إِفرادُ إِذْ)) الإفرادُ اللفظيُّ خاصة، فيبقى معنى الإضافة إلى الجُمَل غيرَ زائلٍ، ولذلك كان قولك: قام زيدٌ فقمتُ حينئذٍ، معناه: حين قام زيدٌ. وكذلك قوله: {وأنتُمْ حينَئِذٍ} أي: حين إِذْ بلغتِ الحلقومَ، وكلٌّ ما جاء من ذلك فعلى هذا السَّبِيلِ. ثم قال: وما كإِذْ معنى كإِذْ؛ يعني أن هذا الحكم المذكور، وهو الإضافةُ إلى الجُمَلِ ليس بمختصٍّ بإِذْ وحدها من ظروف الزمان؛ بل الحكمُ منسَحبٌ على غيرها، لكن بشرط أن يكون بمعناها، وهو الزمان الماضي المبهم ((4 - فكلُّ ظرف زماني كان مدلولُه الزمان الماضي المبَهَم (4)) الذي ليس بمعدود كأسبوع، ولا محدودٍ كأمس، وإنما تَقَيَّد بالإبهام، لأنّ إِذْ كذلك هي للزمان الماضي غير المعدُودِ ولا المحدَودِ، وهو مْثلُ به في قوله: ((حين جاء)) فحين مشتملٌ على معنى إِذْ، لأنه تضمَّن الوصفين، وهما كونه للماضي غير المعدود ولا المحدود، ولذلك

______ (1) الآية 84 من سورة الواقعة. (2) الآية 15 من سورة المرسلات. (3) س: من. (4) عن س.

تقع إِذْ في موضعه فتقول: نُبِذَ زيدٌ إِذْ جاء، كما تقول: نُبِذَ حين جاء، فلو كان معدودا أو محدودا كالأسبوع وأسماء الشهور والأيام وأمس، ونحو ذلك، لم يُضَفْ إلى الجُمَل لمخالفةِ معنى إِذْ، بخلاف يومٍ، ووقتٍ، وزمانٍ، ونهارٍ، وليلٍ، وصباحٍ، ومساءٍ، وغداةَ وعَشِيَّةَ، لأنها غير مختصة، فجميعها وما كان نحوها ينسحبُ عليها حكم إِذْ، فتضاف إلى الجُمَل مطلقاً، كانت اسميةً أو فعليَّةً، فتقول: قمنُ يوم قام زيد، ويوم زيد قائم، وقمتُ حين قام زيد، وحين زيدٌ قائمٌ، وقمتُ وقتَ قام زيد، ووقتَ زيدٌ قائم، وكذلك سائرها، وحِكُى من كلامهم: جئتُكَ زمنَ الحجاجُ أميرٌ. وأنشد الأصمعي عن ابن مَرْتَدٍ (1): أَزْمانَ عَيْنَاءُ سُرُورُ المَسْرُورْ عَيْنَاءُ حَوْراءُ من العِينِ الحِيِرْ وقال الأعشى ميمونُ (2): أَنْجَبَ أَيَّامَ والدِاهُ بِه إِذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ ما نَجَلاَ قالوا معناه: أيام احتاج أبوه إلى عَوْنِهِ، (كما تقول (3)): أنا باللهِ ثُمَّ بِكَ. وقال الرَّاعي (4): ... / ... 366

______ (1) هو منظور بن مرثد. والبيت في النوادر لأبي زيد 571، وشرح المفصل لابن يعيش 4/ 114، والمنصف 1/ 288 - 289، ونتائج الفكر للسهيلي 149. (2) ديوانه. والمحتسب 1/ 152. (3) سقط من س. (4) ديوانه 24. والكتاب 1/ 111، واللسان: هيج، أخا.

لَيَالِيَ سُعْدَى لَوْ تَرَاءَتْ لراهِبٍ بدَوْمَةَ تَجْرٌ عَنْدَه وَحَجيجُ قَلى ديِنَه واهتاجَ للشَّوقِ إِنَّها على الشَّوق إِخوانَ العَزَاءِ هَيُوجُ والبيت الثاني أنشده سيبويه، وهو في الكتاب منسوبٌ لأبي ذُؤَيبٍ. قال السيرافي: وإنّما هو للراعي، ويَحْتَملُ أن يكون هذا على إضمار (كان (1))، كما قدَّر سيبويه في قول الرَّاعي أيضاً (2): أزمانَ قَوْمِي والجماعةُ كالَّذي مَنَع الرِّحالة أن تَمِيل مَمِيلا تقديره عنده: أزمان كان قومي كذا. ومن إضافَتِهِ إلى الجملةِ الفعليَّة قولُ الشاعرِ، أنشده سيبويه (3): على حين أَلْهَى الناسَ جُلُّ أُمورِهمْ فَنَدْلاَ زريقٌ المالَ نَدْلَ الثعالبِ وقال امرؤ القيس (4): كأنَّني غداة البينِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا لدى سَمُراتِ الحيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ

______ (1) سقط من الأصل. (2) الكتاب 1/ 305، وشرح الكافية للرضي 1/ 524، والخزانة 3/ 145 وديوانه 234. (3) الكتاب 1/ 115 - 116، والكامل للمبرد 1/ 184، والأصول 1/ 167، والخصائص 1/ 120، وفرحة الأديب 88. وقد نسب في الكامل إلى أعشى همدان، وفي الإصابة إلى أبي الأسود الدؤلي. وذكر العيني 3/ 46 أنه ينسب للأحوص. (4) ديوانه 9. والبيت في الخزانة 4/ 376 عرضاً.

وقال الفرزدق (1): غَداةَ أَحَلَّتْ لابن أصرم طعنَةٌ حُصَينٍ عَبيطاتُ السَّدائِفِ والخمرُ وقال علقمةُ بن عَبَدَةَ (2): طحابك قلبٌ في الحسانِ طروبُ بُعَيدَ الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُ وقال النابغة الذبياني (3): على حينَ عاتبتُ المَشِيبَ على الصِّبا وقلت: أَلَمَّا أصْحُ والشيبُ وازعُ ولما كانت إضافةُ هذه الظروفِ التي هي بمعنى إِذْ إلى الجُمَل غيرَ لازمة، كما كانت لازمةً في إِذْ وقد أحالَ في ذلك الحكمِ على إِذْ بقوله: ((وما كإذ معنى كإذ))، يريدُ وما كان بمعنى إذ فهو مثل إذ في الحكم- خاف أن يُتَوهَّمَ اللزومُ، فحرَّرَ ذلك بقوله: ((أَضِفْ جَوازاً))، إذْ لو لم يَقُلْ ذلك لفهمِ له أن يومَ وحينَ وزمانَ ووقتَ ونحوها تلزمُ إضافتها إلى الجمل، ((4) فرفعَ هذا الفهمَ تقييدهُ بقوله: ((أَضِفْ جوازاً))، أي: ليس إضافتها إلى الجمل (4)) بلازمةٍ لزومَها في إِذْ؛ بل يجوزُ أن تُضافَ إلى المفردِ نحوُ: سرتُ يومَ (5) الجمعة. وقوله: ((كأنِّي غداةَ

______ (1) ديوانه 254. والجمل للزجاجي 204، والإنصاف 70، وشرح المفصل 1/ 32، 8/ 70. (2) ديوانه 32. وأمالي ابن الشجري 2/ 267. (3) ديوانه 32، والكتاب 2/ 330، والمنصف 1/ 58، وشرح الكافية للرضي 3/ 180، 307. والخزانة 6/ 550. (4) س من س. (5) س: نحو الجمعة.

البَيْنِ))، وقوله تعالى: {وَلاَتَ حِينَ مناصٍ (1)}. ونحو ذلك، وهو الأصل أن الإضافة إنما تكونُ إلى المفردِ لا إلى الجملة، وأيضا فليست بلازمةٍ للإضافة مطلقا؛ بل هي كسائر الأسماء تضافُ تارةً وتُفْرَدُ أخرى، بحسب مقاصد الاستعمال، نحو: سرت يوماً، وقعدت ساعةً، وسرت عشيةً. وقال تعالى: {ولاَ تْطُرِد الذين يدعُونَ رَبَّهم بالغَدَاةِ والعَشى (2)}، {وَلَهُمْ رزْقُهُمْ فيها بُكْرَةً وَعشيِاً (3)}. وذلك شهير، فَصَحَّ أن يحكم بجوازِ الإضافةِ التي ذكر الناظمُ، لَعَدم الإضافةِ الشائع فيها جملةً، أو الإضافةِ إلى المفرد الذي هو الأصلُ. وإنما صَحَّت الإضافةُ إلى الجُمَلِ في هذه الظروفِ المذكورةِ حَمْلاً على إِذْ التي هي الأصلُ في تلك الإضافة، لأنها فيها لازمةٌ، فَحُمِلَ عليها غيرُها لاجتماعهما في المعنى، فتكون إذاً إضافةُ يوم وحين (ووقت (4)) ونحوها إلى الجُمَل فرعاً عن إضافة إذْ إليها، وإضافة إذْ إلى الجمل ((5) فرعٌ عن الإضافة إلى المفرد، إذ هي الأصل، فإضافة يوم وحين ونحوهما إلى الجمل (5)) في الدرجة الثالثة. وفي كلام الناظمِ إشعارٌ بفرعيَّةِ هذه الإضافة في يومٍ وحينٍ ونحوهما، لأنه لما بيِّن حُكْم إِذْ أحال في حكم ما هو (6) بمعناها عليها، فكأنها فرع بالشَّبَهِ بإِذْ في أداءِ معناها المذكور أولا. وقوله: ((حِينَ جا نُبِذْ))، مثالٌ مما يَجْرِي مَجْرِى إِذْ. ويقال: جاء يجيء، وهو

______ (1) الآية 3 من سورة ص. (2) الآية 52 من سورة الأنعام. (3) الآية 62 من سورة مريم. (4) سقط من س. (5) سقط من الأصل. (6) س: هي.

الأصل، وبعضُ العربِ (1) يقول: جا يَجى، وسا يَسُو، من غير هَمْزٍ (2)، : كانه حذفه/ تخفيفا، وذلك نادر، فعليه جاء لفظُ الناظمِ، وله من هذا كثيرٌ في نَظْمِه للضرورة. ... 367 والنَّبْذُ: الإلقاء من اليَدِ، وقد يكون (ذلك (3)) حقيقةً نحو: نَبَذْتُ الثوبَ والخاتَمَ، وقد يكون مجازاً نحو: نبذت فلاناً: إذا طردتَه وأبعدتَه عنك. وهذا منه، أي: حين جاء طُردَ وأُبعدَ. وفي كلامه (4) بعْدُ نظرٌ من أوجُهٍ أربعةٍ: أحدها: أنه أطلق القولَ في إضافة إِذْ إلى الجُمَل، وليس على إطلاقه، وذلك أَنَّ الجملة الابتدائيةَ الواقعةَ بعد إِذ إِمَّا أن يكون خبر المبتدأ فيها اسماً أو فعلا، فإن كان اسماً فالقولُ ما قالَ، وإن كان فعلاً فإمَّا أن يكون مضارعاً أو ماضياً، فإن كان مضارعاً أو ماضياً، فإن كان مضارعاً: جاز أيضا وصحَّ كلامه فيه، فتقول: جئتك إِذْ زيدٌ يقومُ، كما تقول: جئتك إذ يقومُ زيدٌ، وإن كان ماضياً: فالنحويّون يستقبحون نحوَ جئت إذ زيدٌ قامَ؛ قال السيرافي: ويقبُح التقديمُ. يعني تقديم الاسمِ مع الماضي لا يقولون: جئتك إذ زيدٌ قام، إلا مُسْتَكْرَهاً. وعلل ذلك بأن إِذْ للماضي، فاختارُوا ما إيلاؤُه إياها للمطابقة بينهما. قال ابن مالك في الشرح: مدلول إِذْ وقام من الزمان واحد، وقد

______ (1) الكتاب 3/ 556. (2) الأصل: من غيرهم. (3) سقط من س. (4) في صلب الأصل: وفي قوله. والمثبت عن الهامش، س.

اجتمعا في كلامٍ (1) فلم يحسُنِ الفصلُ بينهما بخلاف ما سواه، فإن الذي بعد إِذْ في جَمِيعه غيرُ موافقٍ لها في مدلولها، فاستوى اتِّصالُها وانفصالُها عنه. وكذلك نقولُ: الجملة الابتدائية الواقعة بعد حيثُ إما أن يكون خبر المبتدأ فيها اسماً أو فعلاً، فإن كان اسماً صحَّ ما قال، وإن كان فعلاً كان قبيحاً كان الفعلُ مضارعاً أو ماضياً، كما يَقْبُح بعد إِذْ، نَصَّ على ذلك سيبويه، كما نَصَّ على ما تقدم في إِذْ، لأن حيثُ تَجري في المعنى مجرى إِذْ وَهَلْ ونحوهما. وإذا ثَبَتَ هذا لم يصح ما ذكر من الإطلاق. والثاني: أنه جعل هذه الإضافة إلى الجملة مطلقة، وليس كذلك؛ بل الإضافة في جميع ما تقدم على وجهين: إضافة إلى نفس الجملة كما قال، وذلك إذا كانت الجملة المضافُ إليها اسمية من مبتدأ وخبر نحو: جئت زمن الحجاجُ أميرٌ، وإضافة إلى الفعل لا إلى الجملة نفسها، وذلك إذا كانت الجملة فعلية. فإذا قلتَ: جئتُ يومَ قام زيد، فليست الإضافة فيه إلى نفس الجملة؛ بل إلى جزئها الذي هو الفعل، وكأنَّ الإضافة هنا إنما جازت لدلالة الفعلِ على مصدره، فكأن الإضافة إلى المصدر. وأما أن يُقال: إن الإضافة إلى نفس الجملة، كما كان ذلك في الاسمية، فلا يصح والدليل على هذه الدعوى بناؤُهم المضافَ إلى الماضي دون المضارع في الأمر العام، فإن البناءَ مع الماضي جائزٌ بإطلاقٍ كثيرٍ في السماع، بخلاف البناء مع المضارع، فإنه غيرُ موجودٍ أو هو قليلٌ، فتفريقُ العَرَب بين الموضعين دليلٌ على أن الإضافة للفعلين، ولو كانت إضافةً إلى الجملة من حيثُ هس جملةٌ لتساوى الأمران، فَجَعْلُ الناظم كلا الضربين من الإضافة إلى الجُمَلِ فيه ما تَرَى.

______ (1) في صلب الأصل: مكانه. والمثبت عن الهامش، س.

والثالث: أنه قَدَّم لإِذْ من الحكم أمرين (1): الإضافة إلى الجمل، والإفراد/ عن الإضافة 368 لفظاً وتعويض التنوين. ثم قال: وما كإذ معنى كإِذْ))، يعني أن ما كان مثلها في المعنى فهو مثلها في الحكم مطلقا، فاقتضى أن ما كان مثلها في المعنى يضافُ إلى الجمل، وذلك صحيحٌ، ويُفْرَد عن الإضافة فيعوَّضُ منها التنوين، وذلك فاسدٌ؛ لأن العرب لم تفعل ذلك إلا في إذْ خاصةً. ولا يقال: إن قوله ((أضِفْ جوازا)) عَيَّن المرادِ، وأن المقصودَ في الإحالة على حكم إِذْ الإضافةُ المذكورةُ خاصةً، وإذا كان كذلك فلا اعتراض، لأنا نقول: ذلك غير متعيَّن، لأنه قد قال: ((أَضِفْ جوازا)) فقيدَّ الإضافة بكونها جائزةً لا واجبةً؛ إِذْ كانت واجبةً في إِذْ، فظهر أن المقصود تحريرُ وَجْهِ الحكم بالإضافة، وهو كونها على الجوازِ. وإذا أمكن أن يكون المقصودُ هذا، فمن أين يتعيَّنُ أن ذلك في الإضافة لا في الإفراد وتعويض التنوين؟ وعلى هذا التقرير يلزمُ حكمٌ آخر، وهو البناءُ، لأنه لما قال: ((وما كإِذْ معنى كإِذْ))، ولم يعيَّن وجها من الوجوه، وجب حملهُ على جميع الأحكام اللاحقة لإِذْ، ومن جملتها البناءُ، فيتعيَّن دخولُ حكمه فيما كان مثلها من الظروف، والطروف التي في معنى إِذْ لا يلزم فيها البناءُ، فبان بهذا أن كلامه مُشْكِلٌ. والرابع في قوله: ((وإن يُنَوَّنْ يُحْتَملْ إفرادُ إِذْ))، وهو أن بني إفرادها عن الإضافة على تنوينها على حَدَّ بناءِ المُسَبَّبِ عن السبب، أي: إن نُوِّنت ساغ إفرادُها. وهذا عكس ما عليه الحكمُ، إِذِ الإضافة لم تسقط

______ (1) س: أمران.

بسبب التنوين، بل الإضافة هي الساقطة أولا، ثم أُتى بالتنوين عَوِضاً مما سقط، ولذلك سُمي تنوينَ العِوَض، وإذا كان كذلك لم تصلح تلك العبارةُ أن يُؤتى بها، لأنها تُفْهم عكس المراد. والجواب عن الأول أن يُقال: أما حيثُ فإنه أطلق هنا وقيد في باب الاشتغال فبيَّن أن حيثُما لا يليها الاسمُ بعده الفِعْلُ إلا على إضمار، فتبين أنها لا يقع بعدها اسمٌ يليه فعلٌ، وحيث قد تجري مجرى حيثما في هذا الحكم حسب ما تقدم، إِذْ يدخلها معنى الجزاء وإن لم يُجزَمْ بها دون ((ما)) عند البصريين، ففيما تقدم إشارة إلى هذا المعنى، فصار الإطلاق هنا مقيدا، وهذا (1) تلفيقٌ. وأما إِذْ فلا أجدُ الآن فيها جوابا. وعن الثاني: أن ما قيل من التفرقة بين الجملتين لا ينهض من وجهين: أحدهما: أن يمنع الفرقُ ابتداءً، إِذِ البناء والإعراب- على الجملة- جائزان في حال الإضافة إلى الماضي والمضارع على رأي الناظم، كما أنهما جائزان عنده في حال الإضافة إلى الجملة الاسميّة، كان أولُ الجزأين مبنياً أو معرباً. وإذا كان كذلك لم يكن الفرق مُعتبراً ولا معتداً به، فكان (2) في حكم الساقط. والثاني: إذا سلم الفرق فإنما ذلك اعتبارٌ لفظي مع أن الإضافة في الحقيقة للجملة لا للفعل وحده، وإنما جازت الإضافة إلى الجملة مطلقاً لتقديرها بالمفرد، فقولك: يومَ قام أو يقومُ زيد، في تقدير: يوم قيامِ زيد/ وقولك: زمان الحجاجُ أميرٌ' في تقدير: إمارةِ الحجَّاج. وإنما ... 369

______ (1) الأصل: وذلك. (2) الأصل: فصار.

الإعراب والبناء باعتبارين، كما سَيُذكر إن شاء الله. وعن الثالث: أنه لما كان يدخُل عليه الأمران المعَتَرضُ بهما، وأَمرٌ آخرُ وهو لزومُ الإضافة، أتى بما يُحَرِّرُ عبارته، فأخبر أن مراده بالإحالة على أحكام إِذْ إنما هي الإضافة، لكن على الجواز فقال: ((أضف جوازا))، وأن البناء أيضا على الجواز فقال: ((وابن أَوَ اعرِبْ)). والذي يُعَيَّن هذا المراد أن قوله: ((أَضِفْ جوازا)) وما عُطف عليه من قوله: ((وابن أَوَ اعرِب)) جملتان مُبَيِّنتان للحكم المتقدِّم، وكأنهما مُبْدَلَتان (1) معنى من قوله: ((كإِذْ))، والتقدير: وما كإذ معنى يشابه إِذْ في الحكم فَيُضاف إلى الجمل لكن جوازا ويُبنى جوازاً. وإذا كانتا على حكم البدل لم يمكن إلا أن يُحَمَل الكلامُ الأولُ على ما قُيّد به ثانيا. فعلى هذا يكون البيتُ بعده وما يليه تفسيراً لما تضَمَّنه قوله: ((وما كإِذْ معنى كإِذْ)). أو يكون قوله: ((أضِف جوازا)) وحده هو المفسِّر لقوله: كإذ، وما ذكر بعدُ من حكم البناءِ والإعرابِ كلام مستأنَفٌ، وعليه يَدُلُّ قوله: ((وما كإِذْ قد أُجْريا))، أي: ابن أو اعرب ما حُكِمَ له بحكم إِذْ في الإضافة وحدها. وهذا هو الأظهرُ. وعلى كلا الوجهين لا يبقى لإفراد يوم وحين ونحوهما عن الإضافة مدخَلٌ، وهو ما أَرَدْنا. وعن الرابع: أنه لا يتعيَّن من كلامه ترتيبُ الإضافة (2) على وُجودُ التنوين، بل إنما يظهر منه أن احتمال الإفرادِ مَبْنِيٌّ على التنوين، واحتمالُ الإفراد غيرُ الإفراد، وكأنه عبارةٌ عن استعمالها (مفردةً (3)، ولا شك أن استعمالها مفردةً لا يكونُ إلا بعد التنوين، والتنوين لا يكونُ (4) إلا بعد إسقاطِ المضافِ إليه، وهو

______ (1) الأصل: مبتدآن. (2) كذا، وصواب العبارة أن يقالك ((ترتيب الإفراد عن الإضافة)): وراجع الاعتراض الرابع. (3) سقط من س. (4) الأصل: لا يصحّ.

معنى الإفراد، فإذاً الإفرادُ سابقٌ في القياس والتقدير على التنوين، والتنوين ستبقٌ على استعمال إِذْ مفردةً، وهذا في نفسه صحيحٌ، فلا إشكالَ. (والله أعلم (1)). وابن أِوَ اعرِبْ ما كَإِذْ قّدْ أُجرِيا واختَرْ بنا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيا وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أِوْ مُبْتَداَ أَعْرِبْ، وَمَن بَنَى فلن يُفَنَّدا يعني أن ما أُجري مُجرى ((إذْ)) من الظروف فأُضيف إلى الجمل يجوزُ فيه الإعرابُ والبناءُ مطلقاً، كان الذي يليه من أجزاء الجملة معرباً أو مبنياً، لكن في الموضع الذي أُجري فيه الظرفُ مُجرى إِذْ، فلذلك قال: ((ما كإِذْ قد أُجرِيا))، أي إن هذا التخيير إنما يكون إذا أُضيف إلى الجمل، ففي حال إضافته إلى المفردات لا يكونُ ذلك فيه. وهكذا الحكمُ إذا قلت: عجبتُ من يومِ قُدومِ زيدٍ، ومنْ حينِ القيام، ومن يومِك، ومن وقتِ طلوع الشمس. وما أشبه ذلك؛ إذ لا مُوجِب هنا للبناء، وإنما يحضُر (2) الموجبُ عند الإضافة إلى الجمل، كما قال. وأطلق القول بجواز الوجهين على الجملة، فبم يُقيده بأمرٍ، ولا فَصَّل الحكم بحسب الجمل، وإنما فَصّل في (3) الاختيار بين الوجهين الجائزين، فذكر أنه لا يخلو أن يكون الظرفُ قد وَلِى فعلاً مبيناً أولا، فإن كان كذلك فالمختارُ بناءُ ذلك الظرفِ، فتقول: أعجبني/ يومَ قام زيدٌ، وانتظرته من حين ... 370 طلعتِ الشمس إلى زمَنَ

______ (1) عن الأصل. (2) في: يخص. (3) في الأصل: بالاختيار.

غَرَبت. ومنه قول النابغة (1): على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا وقلتُ: أَلَمَّا أَصْحُ والشيب وازع وأنشد سيبويه (2): على حينَ أَلهى الناسَ جُلُّ أمورهِمْ فَنَدلاً - زُرَيقُ- المالَ نَدْلَ الثعالبِ وتقول على غير المختار - وهو الإعرابُ-: أعجبني يومُ قام زيدٌ، وانتظرته من حينِ طلعتِ الشمسُ إلى وقتِ غَرَبت. ورُوي البيتان بالوجهين: على حينِ عاتبتُ المشيبَ، وعلى حينِ أَلهى الناسَ جلٌّ أمورهم. وإن كان الظرفُ لمَ يلِ فعلاً مبنياً فليس البناءُ بمختارٍ، وذلك إذا ولى فعلا معرباً- وهو المضارع- أو اسملً مبتداً، بل الإعراب هو المختار، وذلك قوله: ((وقبلَ فِعْلٍ مُعَربٍ أو مبتدأ أَعرِبْ))، فتقولُ: اقوم من حينِ تقومُ، وأكرمُك في يومِ تقومُ. وفي القرآن قال الله: {هذا يومُ ينفعُ الصَّادقين صدقُهم (3)}، في قراءة غير نافعٍ، وكذلك: {يومُ لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئاً (4)} في قراءة ابن

______ (1) ديوانه 32. وهو من شواهد الكتاب 2/ 330، والمنصف 1/ 58، وأمالي الشجري 1/ 46، 2/ 132، 264، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 16، 81، 4/ 91، 8/ 136، والإنصاف 292، والمغني 517، والرضي على الكافية 3/ 180، 307، والخزانة 6/ 550، وشرح أبيات المغني 7/ 123. (2) الكتاب 1/ 116. وقد نسب إلى الأحوص، وأعشى همدان، ورجل من الأنصار. وهو من شواهد الخصائص 1/ 120، والإنصاف 293، والتصريح 1/ 33. وفي فرحة الأديب 88، والعيني 3/ 46، 523، واللسان، مادة: ندل. والندل: نقل الشيء من مكانه لآخر. وزريق: بطن من الخزرج. انظر فرحة الأديب. (3) الآية 119 من سورة المائدة. وانظر الإقناع لابن الباذش 637. (4) الآية 19 من سورة الانفطار. وانظر الاقناع لابن الباذش 806.

كثير وأبي عمرو. وتقول: جئتك في جينِ زيدٌ قائم، وهذا حينُ زيدٌ قائم. وقال قيسُ بن الخطيم (1): وعهدي بها أيامَ نحنُ على مِنىً وأحسِنْ بها عذراءَ ذاتَ ذوائبِ وأما غيرُ المختار فهو الذي قال فيه: ((ومن بَنَى فلن يُفَنَّدا))، يعني أن من قال بجواز البناء إذا كان الظرف قبل فعل مٌعْربٍ أو قبل مبتدأ، فقوله صحيح جارٍ على كلام العرب، فقد نُقل عنها البناء هنا، فمن شواهد البناء قبلَ المضارع قراءةُ نافع: {هذا يومَ ينفعُ الصادقين صدقُهم (2)}، بنصب اليوم والإشارة إلى اليوم، فلا يكن ظرفاً، بدليل القراءة الأخرى، والجمع بين معاني القرآن هو الأحقُّ. وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٍ وقُراء الكوفة: {يومَ لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً}، بالفتح، والمعنى في القراءتين واحد، لأن {يوم لا تملك} تفسير لـ {يومُ الدين (3)}، فكأنه قال: هو يومُ كذا. ولا يقدّر فيه: أعنى {يوم لا تملك}، قال المؤلف: ((لأن تقدير ((أعنى)) لا يَصْلُح إلا بعد مالا يدل على المسمى دلالة تعيين، ويوم الدين دال عليه تعيين، فتقدير ((أعنى)) غير صالح معه (4))). وأنشد في الشرح (5): إذا قلت: هذا حينَ أسلُو يَهِيجني نسيمُ الصَّبا من حيثُ يطلع الفجر

______ (1) ديوانه 36. وفيه رواية أخرى لصدر البيت، وهي: ولم أرَها إلاّ ثلاثاً على منى. (2) انظر الاقناع لابن الباذش 637. (3) من الآية 18 من سورة الانفطار. (4) شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 178. (5) ن. م والورقة. والبيت لأبي صخر الهذلي، انظر شرح السكري 957، وهو من شواهد المغني 518، وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 125.

ومن شواهد البناءِ مع الجملة الاسمية ما أنشده في الشرح من قوله (1): تذكَّر ما تذكَّر من سُلَيْمِى على حينَ التراجعُ غير دانِ وأنشد قول الآخر (2): ألم تعلمي- يا عمرَكِ الله- أنني كريمٌ على حينَ الكرامُ قليلُ وله أبياتٌ أُخَر لم أُقَيِّدها. وأنشد سيبويه لِلَبِيد (3): على حين من تَلْبَث عليه ذَنُوبُهُ يَرِثْ شِرْبُهُ إِذْ في المقام تَدَابُرُ وهو مُقيَّد بالوجهين. والتَّفنيدُ: اللومُ وتضعيفُ الرأي، وأصله من الفَنَدِ، وهو ضعفُ الرأي من الهَرَمِ. ويُقال: أفندَ في كلامه: إذا أخطأ. وأفندته: إذا خَطَّأتَه.

______ (1) شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 178. وهو من شواهد التصريح 2/ 42، والهمع 3/ 230، والأشموني 2/ 257، وفي العيني 3/ 412. وقائله مجهول. (2) شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 176، والبيت من شواهد المغني 518، وهو لبشر بن هذيل الفزاري، رُوِي ذلك عن الأحول. انظر أبيات المغني للبغدادي 7/ 126. (3) الكتاب 3/ 75. وهو من شواهد الإنصاف 291، والرضي على الكافية 4/ 101، والهمع 4/ 334، وفي الخزانة 9/ 61. وديوان لبيد 217، ورواية عجزه فيه: يجد فقدها وفي الذئاب تداثر ونبه في التحقيق على الرواية التي هنا. وقبل البيت: فزُدت معداً والعباد وطيئاً وكلبا كما زيد الخماس البواكر واللبث والريث: البطء. والذَّنوب: الدلو العظيمة. والتداثر: التزاحم والتكاثر. والذود: الطرد. والعباد: قبائل شتى. والخماس-بالكسر-: الإبل التي لا تشرب أربعة ايام. والبواكر: التي تبكر غداة الخميس. يقول: ذُدتُ عنك في ذلك الوقت، وإنما مثل، أراد الألسُن التي كثرت عليه.

ثم هنا مسائلُ: إحداها: أن قوله: ((ومن بَنَى فلن يٌفَنَّدا))، معناه: من قال بجواز البناءِ فيما يليه المضارع أو المبتدأ، فقولهُ غيرُ خطأٍ. وهذه إشارة إلى الخلاف الواقع في المسألة، وذلك أن ما كره هنا هو مذهب/ الكوفييِّن ومال إليه بعص البصريين كالسيرافي، أعنى إلى جواز البناء مع المضارع، ... 371 والكوفيُّون يقولون ذلك مع ومع المبتدأ. ورأيُ البصريين عدمُ الجواز في ذلك كلِّه (1)، بناءً على عدمِ السماع الذي يُقاسُ على مثله، فإن ما ذكر من الأبيات محتملٌ لغير البناءِ، وما في الشعر نادرٌ محفوظ، وأكثره لم يقع عليه القدماء مع شدَّةِ بحثهم. وأيضاً فإن الإضافة إلى المبني غير مؤثرة في غير هذا البابِ جوازَ البناء، نحو قوله تعالى: {إنه لحقٌّ مثلَ ما أنكم تنطقون (2)}، على قراءة نصب (مثل). وأنشدوا (3): لم يَمْنَعِ الشَّرْبَ منها غَيْرَ أن نَطَقَت حمامةٌ في عصونٍ ذاتِ أوقالِ فكذلك تُؤَثِّر هنا، وأما الإضافة إلى المعرب فلم نجدها تُؤَثِّر البناء. وأما ابن مالك فلم ينهض عنده هذا، بل ذكر الشواهد المذكورة ورَجّحها بما ذكر. وأيضا إذا كانت الجمل في نحو ((على حينَ التراجعُ غير دان)) مصدرة بمعربات إعراباً أصليا، وقد جاءت

______ (1) انظر المساعد 2/ 356. (2) الآية 23 من سورة الذاريات، وهي قراءة في السبعة، أنظر الإقناع 772. (3) لأبي قيس بن الأسلت. والبيت من شواهد الكتاب 2/ 329، وأمالي الشجري 1/ 46، 2/ 264، والإنصاف 287، وابن يعيش 3/ 80، 8/ 135، والمغني 159، 517، والرضيّ على الكافية 2/ 127، 3/ 175، 181، وفي الخزانة 3/ 407، 6/ 532، 552، واللسان، مادة: وقل. والأوقال: جمع وقل-بفتح فسكون-وهو ثمر الدَّوم.

على (1) حالٍ لم يُضطَّر لمثلها، بل توازى مجيئها في الاختيار؛ إذ كان يُمكن الشاعرَ أن يجرَّها وقد بُينت الظروفُ معها، فَلأَن تُبنى مع المضارع الذي ليس إعرابه إعراباً أصلياً، بل هو بالشَّبَهِ، أحقُّ وأولى؛ ولذلك جعله السيرافي من الإضافة إلى غير المتمكن، إذ المضارع غير متمكن باعتبار أنه غير مُعَربٍ في الأصل. وأيضا فقال ابن مالك في الشرح: ((سبب بناء المضافِ إلى جملةٍ مصدرة بفعل مبنىٍّ إمَّا قصد المشاكلة، وإمّا غير ذلك، فلا يجوز أن يكون الأول (2) لأمرين، أحدهما: أن البناء قد ثبت مع تصدير الجملة المضاف إليها باسم معرب، ولا مشاكلة، فليس (3) لقصدها. والثاني: أن المضاف إلى جملة مصدرة بفعل مبني لو كان سبب بنائه قصد المشاكلة، لكان ما (4) أضيف إلى اسم مبنيٍّ أولى؛ لأن إضافة ما أضيف إلى مفردٍ إضافةٌ في اللفظ والمعنى، وإضافة ما أضيف إلى جملةٍ إضافة في اللفظ (5) لا في المعنى، وتأثيرُ ما يخالف لفظُه معناه أضعفُ من تأثير ما يوافق لفظه معناه، وقد ثبتَ انتفاء سببية الأقوى فانتفاء سببية الأضعف أولى (6)، فثبتَ أن البناء لأمرٍ آخر سيأتي. فالصوابُ ما ذهب إليه الناظم، والله أعلم. والثانية: أن قوله: ((وابن أو أعرِب))، وقوله: ((ومن بَنَى فلن يفنَّدا))، أثبت به البناءَ ولم يذكُر له سببا، وإنما ذكرَ في باب المعربِ والمبني سبباً للبناءِ جُمْليا هو شَبَهُ الحرف، فيُسأل هنا عن ذلك والجوابُ من وجهين:

______ (1) أ: في. (2) في شرح التسهيل مكان الأول: ((قصد المشاكلة)). (3) في شرح التسهيل: ((فامتنع أن يكون البناء لقصدها)). (4) في شرح التسهيل: ((لكان بناء ما ... )). (5) في شرح التسهيل: ((إضافة في اللفظ، وإلى المصدر في التقدير)). (6) شرح التسهيل، ورقة 179. وقد تصرف الشاطبي كثيرا في أواخر هذا النص المقتبس.

أحدُهما: أن تقول: إن البناءَ هنا على الجوازِ ولا نقولُ: إن السبب الإضافةُ إلى مبنيٍّ، لما يلزُم عليه من إيراد المؤلف. ولا [أيضا] (1) يلزم أن يُتَكَّلف القولُ بشبه الحرف هنا بناءً على أن ما ذكر في باب المعرب والمبنيِّ إنما هو سبب لزوم البناء لا سببُ جوازِه. والثاني: أن نلتزم أن لا سبب لبناء جائزٍ أو لازمٍ إلا شَبَهُ الحرف، بناءً على المحمل الآخر في كلام الناظم، فتقول: لما كان المضافُ إلى الجملة المستقلة بالإفادة يُصيِّرها غير تامة ولا مستقلة حتى يَتِمَّ بغيرها/ فتقول: حين قمتَ قمتُ، ويوم أتيتَ أكرمتُك، ونحو (2) ذلك، أشبه 372 المضاف بذلك حرف الشرط فإنه كذلك، إلا ترى أنك تقول: إن قمتَ أكرمتك، وإن قعدتَ ضربتُك، وكان قولك: ((قمتَ)) و ((قعدتَ)) قبل دخول ((إن)) مستقلا، ثم صار بعد دخولها غير مستقلٌ، بل محتاجاً إلى كلام آخر، فالبناء على هذا سببُه شبُه الحرف، لكن لما كان هذا الاعتبارُ غير لازمٍ كان البناء كذلك. فإن قيل/ على أيِّ نوعٍ من أنوع شَبَه الحرف يتفرَّع؟ فالحواب: أنه يمكن أن يرجع إلى الافتقار، لأن الظرف لما صار مفتقرا إلى تلك الجملة، وإن كان ذلك الافتقار عارضا، اشبه الافتقار الأصيل الذي وُضِعَ الاسم المبنيُّ عليه، نحو: الذي، والتي، وقد تقدّم نحو هذا في باب ((لا)) التي لنفي الجنس. أو تقول- وهو الأجرى على تعليل البناءَ: إنه يرجع إلى شِبه

______ (1) عن أ، س. (2) في الأصل: ((وما أشبه ذلك)).

الحرف المعنوي، إذ كان في الظرف معنى رُبِط به إحدى الجملتين بالأخرى، كمعنى الشرط الذي يربط بين الجملتين. هذا هو الذي ينبغي أن يقال، لا الأول. والثالثة: فيما عسى أن يُشكِل من كلامه، وذلك ثلاثةُ مواضعَ: أحدها: أنه ذكر البناء ولم يذكر عَلاَمَ يُبْنَى ذلك المضاف؟ أعلى الضم أم الفتح أم الكسر؟ وكان من حقه ذلك، لأنه قال: ((وابن أو اعرب)). وكلاهما لابَّدَ له من صورة، أما الإعرابُ فيظهر من تقدم العامل، وأما البناء فليس بمعروفٍ إلا أن يُعرَّف به، فلما لم يُعَرَّف بذلك كان كلامه ناقصَ الفائدةِ. والثاني: أنه لما قال: ((ما كإذْ قد أُجريا))، أقتضى أنه إذا لم يَجْزِ مجرة إِذْ، وذلك حين إضافته إلى المفرد، فهو خالٍ عن ذلك الحكم. وليس كذلك، بل المفرد الذي يُضاف إليه ضربان: أحدهما: ماعدا إِذْ، فلا يُبنَى معه المضاف وإن كان المضافُ إليه مبنياً، نحو: يومك، وحين ذلك، وما أشبهه. والثاني: إِذْ، فالمضاف هنا يجوزُ أن يُبنَى فتقول: ما جئتك من يومَئِذْ قام زيد، وانقطعتُ عنك من حينئذِ. ويجوز أن يُعرَب فتقول: من يومِئِذْ [قام زيد] (1)، ومن حينئِذٍ. ومنه القراءتان المشهورتان: (ومن خِزْيِ يومَئذٍ) (2)، على البناء، وهي لنافع والكسائي، (ومن خِزْيِ يومِئِذٍ)، بالإعراب، وهي للباقين من السبعة (3). وكذلك: (من عذاب يَومَئِذٍ) (4)، و (من عذابِ

______ (1) عن أ، س. (2) الآية 66 من سورة هود. (3) انظر: الإقناع لابن الباذش 665. (4) الآية 11 من سورة المعارج.

يومِئِذٍ) (1)، وذلك مشهور كثير في الكلام، ومفهوم كلام الناظم يقتضي الإعراب خاصة، كما ترى. وهو غير صحيح. والثالث: أنه تكلَّم في بناء الظرفِ الذي بمعنى إِذْ، وهو المختص بالزمان الماضي، وإذا وقع بعد الظرف فعلٌ معربٌ- وهو المضارع - فإنما يكون بمعنى الحال أو بمعنى الاستقبال، نحو: (هذا يوم ينفعُ الصادقين صدقُهم) (2)، و (يوم لا تملكُ نفسٌ لنفس شيئا) (3)، فإذاً لا يصحّ ذكر الفعل المضارع؛ إذ لا يصح ان يقع بعد الظرف المراد به الماضي ماعدا إذ، لأنك تقول: قام زيد إذ يقوم عمرو، وفي القرآن: (وإذْ تقولُ للذي أنعم الله عليه) (4). وأما أن يقال: قام زيدٌ يومَ يقوم عمرو- وانت تريد: يوم قام عمرو فهذا ممنوعٌ. وكلام الناظم صريحٌ أو كالصّريح في جواز ذلك. فإن قيل: / لعلّه يريد الظرف الذي بمعنى إذا، وهو الذي للاستقبال، إذ لا شكّ أن 373 الظرف الذي بمعنى إذا حكمه حكمُ إذا في الإضافة إلى الجملة الفعلية كما سيأتي. وعلى ذلك يجوز بناؤُه وإعرابه، وإذا كان كذلك صحّ كلامه. فالجواب: أنه بعيدٌ عن قَصْدِ هذا، لأنه لما ذكر جواز البناء فيما أُجرِيَ مجرى إِذْ، فصَّل الأمر في ذلك على تلك الوجوه، فرجَّح البناءَ فيما يليه الماضي، والإعراب في غيره، وهذا تفصيلُ تلك الجملة، فكيف

______ (1) الآية 11 من سورة المعارج. (2) الآية 119 من سورة المائدة. (3) الآية 19 من سورة الانفطار. (4) الآية 37 من سورة الأحزاب.

يصحُّ إدخالُ ما بمعنى إذا في ذلك الحكم؟ ثم إنه لا دليل عليه، فلا سبيل إلى المَصيِر إليه، فكان في كلامه تثبيجُ (1) وتخليط. ووجه رابعٌ، وهو أنه يقتضي أن الظرف ذو وجهين، وإن كان مثنى نحو اليومين والليلتين، وليس كذلك، بل الإعراب لهذا (2) لازمُ وإن أضيف إلى الجملة. والجواب أن يقال: أما الأول فهو واردٌ، ولا جواب عنه، إلا أنْ يقال: تركه اعتماداً على إلقاء الشيخ للتلميذ، وهذا المنزع قد كان بعضُ شيوخنا - رحمهم الله- يُؤنِّس به في بعض المواضع من الكتاب المقروء عليه إذا وقعت منه مسألة [مشكلة (3)] أو غير مُخَلَّصة حقّ التخليص (4)، فيقول: هذا مما تركه الشيخ ليقع الافتقار من التلميذ إلى الشيخ المقرئ في فهم ما أَشكَل، وإلا فلو بَيَّن كُلَّ شيءٍ لم يُعْرَفْ مقدارُ الشيخ، بنحو هذا كان يُؤَنِّس- رحمه الله- لكن على مأخذ آخر، فكذا نقولُ هنا اقتداءً به. وهكذا يُقال فيما كان نحو هذا. وأما الثاني فإن جمهور الإضافة إلى المفرد لا يقتضي بناءً أصلا، وإنما اختصت بذلك إِذْ فَبُني المضاف معها وحدها، فهي في ذلك من النادر الخارج عن القياس. ووجه ذلك أن ذكر إِذْ في نحو: يومئذٍ وحينئذٍ كالتكرار للتوكيد، لأن الحين وإذْ بمعنى واحدٍ، وقد قال الكُميت (5):

______ (1) ثَبجَ الكتاب والكلام تثبجاً: لم يُبينه. وقيل: لم يَأت به على وجهه. (2) أ: في هذا. (3) هن أ، س. (4) في الأصل، س: التلخيص. (5) لم أجده في ديوانه.

لياليَ إِذْ غُصِني وريقٌ ولِمَّتىِ أُكَفِّئُها محلوسَ لبٍّ وخَالِسَا وقد عَدَّهما الناسُ في باب إضافةِ الشيءِ إلى نفسه حَسَب ما تقدّم. والمتأوِّلُون جعلوهما من باب إضافة المسمى إلى الاسم، وإذا كان كذلك، وكانت إِذْ لازمةً الإضافةِ إلى الجملة، صار الحينُ في حينئذٍ كأنه هو المضاف إلى الجملة، فعُومِل معاملةَ م أُضيف إليه مباشرةً، فلا اعتراض على هذا مع تسليم أن مفهوم كلام الناظم ما قيل في السؤال، وإلا فلا نسلّم أن له مفهوما، لأن قوله: ((وابن أو اعرِب ما كإِذ قد أُجرِيا))، في معنى أن لو قال: وابن أو أَعرِب ما ذُكر، أو: ابنه أو أعربه، لأنه لما قال: ((وما كإذ معنى كإذْ))، كان وجهُ العبارة أن يقول: وابنه أو أعربه، أو: وابن ما ذُكر أو أعرِبْه. فهو في موضع الضمير، فقوله: ((ما كإذ قد أُجرِيا)) هو كإعادة ذكر الظاهر، وإذا كان كذلك فلا مفهومَ له إلا مفهومُ اللقب، وهو باطل عند الجمهور (1). وأما الثالث فيمكن أن يكون قَصَدَ ذكْر ما هو بمعنى إذ [(2) وإذا معاً، ويكون قوله: ((ما كإذْ قد أُجرِيا)) حكمٌ مفردٌ بالذكر، ثم ذكر عبارة تشمل ما هو بمعنى إذ (2)] وما هو بمعنى إذا، وهي محل التفصيل المذكور في قوله: واخَتْربنا كذا إلى آخره، ويسهل الأمر في ترتيب عبارته/. ... 374 وأما الرابع فقد تقدّم أنه لا يدخل له من أسماء الزمان في قوله:

______ (1) قال السهيلي في النتائج 258 عن العلم: ((ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين إلا الصيرفي من الشافعية)). (2) عن هامش الأصل، أ، س.

((وما كإِذْ معنى كإذْ)) ما هو معدودٌ ولا محدود، والمثنى من قبيل المعدود كالأسبوع ونحوه. وعلى أنه [قد (1)] نقل في الشرح عن ابن كيسان جواز إضافة نحو يومين وليلتين إلى الجملة، ثم ردّه بعدم السماع، فإذاً ليس المثنى بذي وجهين لعدم المقتضى لذلك فيهن وهو عدم الإضافة إلى الجملة، والله أعلم. وألزمُوا إِذَا إضافةً إلى جُمَل الأفعالِ كَهُن إِذا عتَلَى هذا الكلامُ على إذا التي وُضعت للزمان المستقبل، ويعني أن الإضافة في إذا لازمةٌ، فلا تُوجدُ وهي ظرفٌ دونَها، لكن لا تضاف إلا إلى الجملة، ولا من الجملِ إلا إلى الفعلية، وهي المصدَّرة بالفعل، وهو معنى قوله: ((إلى جُمل الأفعال))، أي: إلى الجمل المنسوبة إلى الأفعالِ، وذلك لا يكونُ إلا إذا صُدرت بالأفعال، وذلك قولك: آتِيكَ إذا قام زيدٌ، وآتيك إذا يأتيك زيدٌ، وما أشبه ذلك، ومنه مثاله: هُنْ إذا اعتلى. وإنما اختصَّت بالجملة الفعلية لأنها يغلب عليها معنى الشرط، ولذلك تقع جوابها الفاء كما تقع في جواب إِنْ، نحو: إذا جاءك زيدٌ فأكرِمْه، وإذا لم يأتك فأهِنْه. ومنه: {إذا لَقِيتم فئةً فاثبتُوا (2)}، {فإذا لقيتم الذين كفروا فَضَربَ الرِّقاب (3)}، ولذلك يقع بعدها الماضي موضع المستقبل، فتقول: إذا قام أكرمتُه، كما تقولُ: إن قام أكرمتُه، والمعنى فيهما: إذا يقومُ، وإن يَقُمْ؛ ولا يقع موقعها حينٌ ولا غيره من الظروف، فلا تقول: حين جاءك فأكرِمْهُ- وأنت تريد الاستقبال

______ (1) عن أ، س. (2) الآية 45 من سورة الأنفال. (3) الآية 4 من سورة محمد.

ولذلك أيضاً يجزم بها في الشعر كَأِنْ، نحو (1): وإذا تُصْبك خصاصةٌ فَتَجَّملِ هذا معنى كلامه على الجملة. ثم يتعلق به مسائل: إحداها: أن جُمَل الأفعال التي ذَكَر تارة تكون جُمل أفعالٍ لفظاً وحكما، كالمُثُل المتقدمة، وتارة تكون جمل أفعال حكماً وتقديراً، وذلك إذا تصدّر فيها الاسم ورَدِفَه فعلٌ، نحو: إذا زيدٌ قام أكرمتُه. وفي القرآن: {إذا السماءُ انفطرَتْ. وإذا الكواكبُ انتثَرتْ (2)} ونحو ذلك، فإن الاسم المصدَّر عندهم في هذه المُثُل فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه هذا الظاهر، تقديره: إذا انشقّت (3) السماء انشقت، وإذا انفطرت السماءُ انفطرت؛ إلا أن هذا المقدَّر لا ينطق به لقيام الظاهر مقامه. وهذا قد مَرَّ له في باب الاشتغال. والثانية: إنه لما ذكر الإضافة إلى جمل الأفعال، ويم يقيِّد فعلاً ماضياً من مضارع، دل على جواز ذلك ملّه، فسواءٌ كان فعلُ تلك (4) الجملة ماضياً أو مضارعا، فتقولُ: إذا قمتَ أكرمتك، وإذا تقوم أُكرِمُك. أما الأمر فلا موقع له هنا، فلذلك لم يتحّرر منه وأيضا فإن التمثيل قد يُشِعِر بإخراجه.

______ (1) صدره: استَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغنى والبيت لعبد قيس بن خفاف، جاهلي أدرك الإسلام. وهو في معاني القرآن للفراء 3/ 158، والأصمعيات 230، والمغني 93، 96، 698، والهمع 3/ 180، وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 222، والخزانة 4/ 243 عرضاً. (2) الآيتان 1، 2 من سورة الانفطار. (3) كذا، ولم تتقدم آية الانشقاق. (4) في الأصل، أ: ذلك.

والثالثة: أنه حين نص على التزام جُمَل الأفعال كان ذلك نصاً في ارتضاء مذهب سيبويه ومخالفة غيره، وهو الأخفش ومن قال بقوله. والمسألة مختلفٌ فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: هذا، وهو التزامُ وقوع الجملة الفعلية مضافاً إليها، إلا أنه لا/ يلزم أن 375 يتصدر الفعلُ لفظاً بل يجوز أن يتصدر الاسم على أنه معمولٌ لعاملٍ مقدَّرٍ تصديُره، فنحو: إذا زيدٌ يقومُ، على تقدير: إذا يقومُ زيدٌ يقوم، كما تقدم. والثاني: مذهب الأخفش، وهو جواز وقوع الجملة الاسمية مضافاً إليها إذا، ويستوي في ذلك أن يكون خبرُ المبتدأ فيها اسماً أو فعلاً، فيُجِيز أن تقول: آتيك إذا زيدٌ قادمٌ، فزيدٌ مبتدأ خبره قادمٌ، وأن تقول: إذا زيدٌ قَدِمَ، على أن يكون ((قَدِم)) خبر المبتدأ الذي هو زيدٌ. والثالث: مذهبٌ لابن أبي الربيع بالفرق بين أن يكون الاسم الواقع بعد إذا مخبراً عنه بالفعل أو بالاسم، فإن كان مخبراً عنه بالاسم فالقولُ ما قاله سيبويه والجماعةُ من منع المسالة إلا أن يُسمع فيوقفَ على محلّه. وإن كان مخبراً عنه بفعل فالقول ما قال الأخفش؛ إذ لا يتعيّن ما قال سيبويه، وإلى هذا كان يذهب تلميذُه أبو اسحق الغافقي (1). قال شيخنا الأستاذُ أبو عبدالله بن الفخار-رحمةُ الله عليه-: وخلافُ القوم مع الأخفش مبنيٌّ على تغليب ما ضمنته إذا من معنى الشرط، أو تغليب ما وضعت له من الزمان، فمن غَلَّب عليها أصل وضعها

______ (1) ابراهيم بن أحمد بن عيسى بن يعقوب، شيخ نحاة وقراء سبتة، ولد باشبيلية سنة 641 هـ، له شرح على الجمل وغيره، توفى سنة 710 هـ. انظر البغية 1/ 405.

أطلق القول في العامل فيها وفي الجملة الواقعة بعدها، أعني أن العامل فيها لا يلزم التأخير، ولكن يكون معها كما يكون مع ظرف الزمان غير المضمَّن معنى الشرط، وأن الجملة التي بعدها يجوز أن تكون فعلية واسمية. وإذا كان بعدها مبتدأ لم يلزم أن يكون خبره فعلا. هذا معنى الإطلاق المنسوب للأخفش. ومن غلّب عليها الوجه العارض فيها وهو ما ضُمِّنته من معنى الشرط منع الإطلاق، وقيد العامل فيها بالتأخير عنها، وقيد الجملة الواقعة بعدها بأن تكون مصدّرة بفعلٍ لفظاً أو تقديراً. ومن أوقع المبتدأ بعدها وقيد خبره بأن يكون فعلاً، فإنما ذلك لأن الجميع في حكم إذا وفي قبضتها، فقد حصل الفعلُ فير خبرها على الجملة. هذا مقال شيخنا-رحمه الله- وهو تحقيق مناط الخلاف، إلا أنه يبقى النظر في استقراء السماع وتنزيله على ما قاله، ولا شك أن السماع على ما قاله الناظم، لأن عامة استعمال ((إذا)) أن يقع بعدها الفعلُ في الجملة التي أُضيفت إليها، فلو غُلِّب عليها حكمُ أصلها من الظرفية لوقع بعها الجملة التي جزآها اسمان صريحان كثيراً، كما كان ذلك في إِذْ، فلما امتنعوا عن ذلك وعُوِمَلتْ معاملةَ الشرط، دلَّ على أن الاسم الواقع بعدها يليها ليس مبتدأ، كما لم يكن مبتدأ مع أدوات الشرط. وأما قولهم (1): إذا الكواكبُ خاوِيَة

______ (1) من بيت ينسب إلى هند بنت عتبة، وقبله: من كلّ غيث في السنين وقد ذكر ابن هشام ابياتاً من هذه القصيدة في السيرة 2/ 39، وقال: ((وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها لهند))، وانظر شرح أبيات المغنى للبغدادي 3/ 213.

وقوله (1): إذا باهليٌّ تحتَه حنظليَّةً له ولدٌ منها فذاكَ المذَرَّعُ وما كان نحو هذا فنادرُ لا يُبنى عليه. وقد خالف هنا رأيه في التسهيل (2) حيث اختار هناك رأي الأخفش، ولم يره هنا، واحتجّ عليه في الشرح (3) بأن طَلَبَ إذا للفعل ليس كطَلَب إِنْ، بل طَلَبَها له كطلب ما هو/ 376 بالفعل أولى مما لا عمل له فيه كهمزة الاستفهام، فكما لا يلزم فاعلية الاسم بعد الهمزة لا يلزم بعد إذا، قال: ((ولذلك جاز: إذا الرجل في المسجد فظُنَّ به خيرا. وأنشد: إذا باهليٌّ .. )) البيت. ثم قال: فاستُغنى بالظرف عن الفعل، ولا يفعل ذلك بما هو مختصٌّ بالفعل. وما قاله هنا دعوى لم يأتِ عليها بحجةٍ إلا بالبيت، وهو شاذٌّ. واستدل أيضاً بدخول أَنْ الزائدة بعد إذا وبعدها جملةٌ اسمية في قوله (4): وَأَمْهَلَهُ حَتَّى إِذَا أَنْ كَأَنَه

______ (1) الفرزدق، ديوانه 1/ 416 وهو من شواهد المغني 93، والتصريح 2/ 40، والهمع 3/ 181، وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 216. المذرع: الذي أمه أشرف من أبي قال ابن مالك في شرح التسهيل: ((فجعل بعد الاسم الذي ولى إذا ظرفاً، واستغنى به عن الفعل، ولا يفعل ذلك بما هو مختص بالفعل)). (2) قال في التسهيل 94: ((وقد تغنى ابتدائية اسم بعدها عن تقدير فعلٍ، وفاقاً للأخفش)). (3) انظر شرح التسهيل، باب المفعول فيه. (4) أوس بن حجر، ورواية عجزه كما في الديوان 71: معاطي يدٍ من جَمَّة الماء غارفُ والبيت في شرح المفضليات للضبي 866، والمغنى 34، وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 164 - 169.

وذلك لا يُفعل بما هو مختصٌّ بالفعل. وأنشد ابن جني لضيغم الأسدي (1): إذا هو لم يَخَفني في ابنِ عَمِّي وإن لم ألقَهُ-الرجلُ الظلومُ وقال: في هذا دليلٌ على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء، لأن هو ضميرُ الأمر والشأن، وضمير الأمر والشأن لا يرفع بفعل يفسره ما بعده. وأنشد معه المؤلف بيتا آخر مثله (2). وجميعُ ذلك لا ينهض دليلاً مع ندوره ومعارضته بجزمها في الشعر، فلولا اختصاصُها بالفعل لم تجزم. والحقُّ أن جوازَ وقوع المبتدأ بعدها لا يثبتُ بمثل هذا كلّه، والصواب ما ذهب إليه هنا. والله أعلم. والرابعة: أن تمثيله بقوله: هُنْ إذا اعتلى، وقد يُشير إلى التحرُّز من إذا الفجائية، من جهة أن إذا في المثال تُعطي معنى الشرط، والفجائية إنما تُعطي معنى فاجأ، كما إذا قلت: خرجتُ فإذا الأسدُ، أي: ففاجأني الأسدُ. وكقوله تعالى {ثم إذا دعاكم دَعوةً من الأرضِ إذا أنتم تخرجُون (3)}، أي: فاجأكم الخروج. وهكذا سائر مُثُلها، بخلاف قولك: هُنْ إِذا اعتلى، فإنه لا يصحُّ فيه تقديرُ: فاجأك الاعتلاء. وإذا ساغ هذا التحرّز ففائدة إخراج إذا المفاجأة

______ (1) الخصائص 1/ 104. (2) البيت هو: وأنت امر} خِلْط إذا هي أرْسَلَت يمينك شيئا أمسكته شمالكا قال ابن مالك: ((لأن هي ضمير الشأن والقصة)). وخلط: لا يستقيم أبدا والبيت في اللسان: خلط. (3) الآية 25 من سورة الروم.

وجهان: أحدهما: أنها ليست عند المؤلف ظرفاً، وقد نصّ على ذلك في غير هذا الكتاب، قال في التسهيل: ((وتدل على المفاجأة حرفا لا ظرف زمانٍ، خلافاً للزجاج، ولا ظرف مكان خلافاً للمبّرد (1))). وقد ذكرها في باب الجزاء، إلا أنه لم يحكم عليها بشيءٍ من حرفيةٍ ولا اسميةٍ، بل جعلها تخلُف فاء الجزاء (2)، فدل على أنها عنده حرفٌ مثل الفاء. وقد استدل على [صحة (3)] حرفيتها- وهو رأي الأخفش- بأمور، بدلالتها على معنى في غيرها، وعدم الصلاحية لعلامات الاسم والفعلِ، وأنها لا تقع إلا بين جملتين، فصارت كلاكنَّ حتّى، وأنها لا يليها إلا جملةٌ ابتدائية مع انتقاء علامات الأفعال، ولا يكون ذلك إلا في الحروف، ولو كانت ظرفاً لم يختلف في ظرفيتها، هل هي زمانية أو مكانية، إذ ليس في الظروف ذلك. ولم تربط بين جملتي الشرط والجزاء كالحرف، ولوجب اقترانها بالفاء إذا صُدِّر بها جواب الشرط، فلذلك لازمٌ لكل ظرف صُدِّر به الجواب، ولأغنت عن خبر ما بعدها، فيكثر نصبُ ما بعده على الحال، شأنُ الظرف المجمع عليه، كعندي زيدٌ قائماً، ولم يقع بعدها إن المكسورة غير مقترنة بالفاء كسائر الظروف (4)، نحو

______ (1) التسهيل 94. (2) وذلك في قوله: وتخلُف الفاءَ إذا المفاجأة كإن تجُدْ إذا لنا مكافأة (3) عن أ، س. (4) عبارة ابن مالك في شرح التسهيل: ((أنها لو كانت ظرفاً لم تقع بعدها إن المكسورة غير مقترنة بالفاء كما لا تقع بعد سائر الظروف، نحو: عندي أنا فاضل، وأمرُ إن بعد إذا المفاجأة بخلاف ذلك، كقوله .. )). وذكر البيت.

عندي أنك قائم، لكنهم قالوا (1): إِذا إِنه عبدُ/ القفا واللهازِمِ ... 377 فدل ذلك كلّه على الحرفية وانتفاء الظرفية. والوجه الثاني من وجهي فائدة إخراج إذا المفاجأة: أنها لا تُضاف إلى جملة فعلية أصلا، وإنما هي مختصة بالدخول على الجملة الاسمية، نحو: {إذا هُم يقنَطونَ (2)}، {إذا أنتم تخرجون (3)}، ((فإذا أنه عَبُد))، فلذلك أخرجها بالمثال. و((إضافةً)): مفعولٌ ثان لألزموا، والمفعول الأول لفظ ((إذا))، أي: الزموا هذا اللفظَ حكم كذا. ومعنى ((هُنْ إذا اعتلى)): خَفِّض له من نفسك، وأعطه من جانبيك اللِّين. وفي المثل: ((إذا عَزَّ أخوك فَهُن (4)))، يُقال بضم الهاء وكسرها. والخامسة: أنه لم يذكر في إذا ما ذكر في إِذْ من أن ما كان مثلها في المعنى فهو مثلها في الحكم، فقد قالوا: إذا أُريد بالظرف المبهم الاستقبال فيجوز فيه ما لزم في إذا من الإضافة إلى الجملة الفعلية،

______ (1) صدره: وكنت أُرَى زيداً- سيداً وقائله مجهول. وهو من شواهد الكتاب 3/ 144، والمقتضب 2/ 350، والخصائص 2/ 399، وابن يعيش 4/ 97، 8/ 61، والرضي على الكافية 4/ 344، وفي الخزانة 10/ 265. اللهازم: أصول الحنكين. (2) الآية 36 من سورة الروم. (3) الآية 25 من سورة الروم. (4) الأمثال لأبي عبيد 155.

ولذلك قالوا في قوله تعالى: {يومَ هم على النار يُفْتَنُون (1)}: إن ((هم)) مرفوع بفعل مضمر دل عليه الظاهر. وكذلك ما كان مثله من نحو: {يومَ هم بارِزُون (2)}، وبابه. كما قَدَّروه في باب {إذا السماء (3) انشقت} وبابه. وهو صحيح. فكان من حق الناظم كما ذكر هذا الحكم في مرادف إِذْ أن يذكره في مرادف إذا، لكنه لم يفعل، فكان فيه إيهام انفراد إِذْ بذلك الحكم دون إذا، وذلك إخلال. لمفْهِم اثنَينِ مُعَرَّفٍ بِلاَ تَفَرُّقٍ أُضِيفَ كِلْتا وكِلاَ يعني أن حكم كلتا وكلا في هذا الباب أن يُضافا إلى الاسم بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون ذلك الاسم المضاف إليه مُفِهم اثنيت، وهو أن يكون دالا على اثنين لا على مفرد، ولا على أكثر من اثنين، وذلك قوله: ((لمفهم اثنين)). فلو دلّ على واحدٍ لم يُضافا إليه، نحو: كلا الرجل قام، أو: كلتا المرأة قامت. فهذا لا يجوز. وكذلك لو دلّ على أكثر من اثنين لم يضافا إليه، نحو: كلا الرجال، أو كلتا الجواري، وإنما يضافان إلى ما يدل على اثنين، والذي يدلّ على اثنين أربعة أشياء: أحدها: المثنى وما جرى مجراه، فالمثنى نحو: كلا الرجلين قام، وكلتا المرأتين قامت وفي القرآن الكريم: {كلتا الجنتين آتت أكلها (4)}، ومنه قولُ جُبيهاء الأشجعي (5):

______ (1) الآية 13 من سورة الذاريات. (2) الآية 16 من سورة غافر. (3) الآية الأولى من سورة الانشقاق. (4) الآية 33 من سورة الكهف. (5) ويقال له أيضا: جبهاء. والبيت في معاني القرآن للفراء 2/ 143، والحماسة الشجرية 955. بقال: جمل ثفال-بفتح الثاء- وهو: البطئ الثقيل الذي لا ينبعث إلا كَرْها.

كلا عَقَبِيهِ قد تَشَعَّثَ رأسُها من الضرب في جَنْبَي ثَفَالٍ مباشرِ وأنشد سيبويه للبيد (1): فغَدَت كلا الفَرْجينِ تحسِبُ أَنّه مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفُها وأمامُها وقال ذو الرمة (2): حتى إذا كنّ محجوزاً بنافذةٍ وزاهقاً، وكلا روقيه مختضبُ وهو كثير. والجاري مجرى المثنى اسمُ الإشارة إن قلنا إنه ليس بمثنى حقيقة، نحو: كلا هذين قائم، وكلتا هاتين قائمة، وكذلك الموصول إن قيل: إنه لا يُثَنّى حقيقةً، نحو: كلا اللَّذين قاما أكرمته. والثاني: الضمير الموضوعُ للمثنى، شاركه فيه غيره أو لم يشاركه، كان لمتكلم أو مخاطبٍ أو غائبٍ. فالمتكلم نحو: كلانا قائم، وكلتانا قائمةٌ. ومنه/ قولُ جميلِ بن مَعْمر (3): 378

______ (1) الكتاب 1/ 407، وهو من شواهد المقتضب 3/ 102، 4/ 341، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 44، 129، والهمع 3/ 199. وانظر شرح القصائد السبع الطوال 565، واللسان: كلا. (2) ديوانه 1/ 109. يصف كلباً. محجوزا: أصابته الطعنة في موضع محتجز الرجل ومؤتزره. والزاهق: الذي قد مات. وروقاه: قرناه (3) ديوانه 78.

كلانا بَكَى أو كاد يَبْكِي صَبَابةً إلى إِلْفِهِ، واستعجَلتْ عَبرةً قبلي وأنشد الفارسيُّ للنَّمِر (1): فإنَّ الله يَعْلَمْني وَوَهبا وَيَعْلَمُ أن سَنَلْقاهِ كلانَا وقال طرفة (2): غَنِينا، وما نَخْشَى التفرُّقَ حِقبةً كلانا غَرِيرٌ ناعم العيشِ باجلُه والمخاطب نحو قولك: كلاكما قائم، وكلتاكما قائمة. والغائب نحو: كلاهما قائم، وكلتاهما قائمة. وفي التنزيل: {إمَّا يبلغَنّ عندك الكَبِرَ أحدهما أو كلاهما (3)} .. الآية وقال الفرزدق (4): كلاهُا حين جَدَّ الجريُ بينهما قدْ أَقْلَعَا، وكلا أَنْفَيهما رابى

______ (1) ديوانه 122. والبيت في شرح المفصل لابن يعيش 3/ 2، 77. (2) ديوانه 120 - والباجل: الناعم الحسن. (3) الآية 23 من سورة الإسراء. (4) البيت في النوادر 453، والخصائص 2/ 421، 3/ 314، والإنصاف 447، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 54، والمغني 204، والتصريح 2/ 43، والهمع 1/ 41، وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 260. أقلع عن الأمر: تركه. ورابى من الربو، وهو النفس العالي المتتابع. والبيت تمثيل، يقول الفرزدق لجرير وقد خلع ابنته من زوجها: هما كفرسين جداً في الجري، ووقفا قبل الوصول إلى الغاية.

وقال الآخر أنشده ثعلب (1): وكلتاها قد خطَّ لي في صحيفتي فلا العيشُ أهواه ولا الموت أروحُ وهو كثير. والثالث: اسم الإشارة الموضوع للمفرد البعيد، فإنّ العرب قد اتسعَت فيه فاستعملته للمثنى، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {عَوانٌ بين ذلك (2)}، أي: بين الفارض والبِكْر، فأوقع ((ذلك)) على الإثنين (3). وكذلك استعملته للجمع فأضافت كُلا إليه في نحو: {وإِنْ كلُّ ذلك لما متاعُ الحياةِ الدنيا (4)}. فعلى هذا يجوز أن تقول: جاءني زيدٌ وعمرو، وكِلاَ ذلك فاضلٌ. ومنه ما أنشده ابن هشام في السيرة، والفارسيّ في الشِّيرازيات لعبدالله بن الزِّبَعْري (5): إِنَّ للخَيرِ وللشَّر مَدَىً وكِلاَ ذَلِكَ وَجْه وقَبَلْ قال الفارسيُّ: فهذا يراد به التثنية كما أُرِيدَتْ بالضَّمير في ((كلانا)) التثنية، وإن كانت اللفظة تقعُ على الجميع. والرابع: الجمعُ الذي يُراد به المثنى في نحو: قطعتُ رُءوسَ الكبشَينِ

______ (1) البيت بلا نسبة في معاني القرآن للفراء 2/ 142، والإنصاف 446. (2) الآية 68 من سورة البقرة. (3) في الأصل اثنين. (4) الآية 35 من سورة الزخرف. (5) سيرة ابن هشام 2/ 136، والبغداديات 202، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 2، والمغني 203، والهمع 4/ 283، وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 251. وقد نُسِبَ إلى لبيد في البحر المحيط 1/ 251.

وقوله (1): ظهراهما مثلُ ظهورِ التُّرْسَين فتقول على هذا في نحو: ((وكلا أنفَيهما رابى)): وكلا أُنوفهما رابى، وقطعت كلا رءوس الكبشين، وجدعتُ كلا أُنوف الزيدين. وما أشبه ذلك، فهذا والذي قبله داخلٌ تحت قول الناظم: ((لِمُفْهِم اثنين)). فإن قلت: هذا بِدْعٌ من القول في كلا وكلتا! وأين السماع في هذا؟ فالجواب: أنَّ السماع إِن يأت فالقياس قابلٌ؛ قال الفارسيّ في المسائل الشيرازيات: فإن قلت: فهل يجوزُ في قول الفرزدق: ((وكلا أَنفَيهما رابى)): وكلا أنوفهما رابى، لأن هذا يُجْمع فيه المثنى؟ فالقول: أَنَّ ذلك ليس بحسن، لأن هذا النحو قد يُستعمل فيه التثنية كما يُستعمل الجمع، نحو: ((ظهراهما مثلُ ظُهور الُّترسَين))، فإذا كان كذلك قبح استعمالُ الجمعِ بعد كلا؛ لأنه موضعٌ لم يُستَعمل فيه هذا الضربُ من الجمع. قال: فإن قلت: إن هذا

______ (1) هو خطام المجاشعي كما في الكتاب 2/ 48، أوهميان بن قحافة كما في الكتاب أيضا 3/ 622. والبيت في البيان والتبيين 1/ 156، والمخصّص 9/ 7، وشرح المفصل لابن يعيش 4/ 1550156، والرضي على الكافية 3/ 361، والهمع 1/ 174. وانظر أبيات المغني للبغدادي 4/ 140، وشرح شواهد الشافية له 94.

الضرب من الجمع قد جرى مجرى التثنية عندهم؛ ألا تراهم قالوا (1): رءُوس كَبِيرَيهنَّ ينتطحانِ فأخبِر عنه بالتثنية وقد تقدم الجميع. وقيل في قوله (2): ... جونتا مصطلاهما إنه على هذا التقدير، يعني أن ((هما)) عائد على ((الأعالي))، لأن المراد الأعليان. قال: فإن حُمِل هذا فمذهبٌ. ثُمَّ قوي ذلك بمجئ لفظ الجميع في كلانا، لما أريد به التثنية، وباسم الإشارة المذكور. فعلى هذا لا يمتنع القياسُ في هذه المواضِعِ، فيصحّ اشتمالُ قوله: ((لمفهم اثنين)) على جميع ما تقدّم. والشرطُ الثاني من شروط المضافِ إليه كلا وكلتا: أن يكون المضافُ إليه معرفةً، وذلك قوله: ((لمفهم اثنين معرَّفٍ))، يعني أنهما لا يضافا إلا إلى/ معرفةٍ بأحد وجوه التعريف، أما ... 379 الضمير كقوله: {أحدهُما أو كلاهُما (3)}، وأما العلمُ كقوله: كلا الزيدين قام، وإما المبهمُ

______ (1) صدره رأت جبلا فوق الجبال إذا التقت وهو الفرزدق ديوانه 2/ 332. والبيت في معاني القرآن للأخفش 410، والبغداديات 139، والخصائص 2/ 421، والخزانة 4/ 299، 301. (2) هو الشماخ، والبيت بتمامه أقامت على ربعيهما جارتا صفا كميتا الإعالي جونتا مصطلاهما انظر الديوان 307 - 308، والكتاب 1/ 99، وابن يعيش على المفصل 6/ 86، والرضي على الكافية 2/ 235، 3/ 437، والخزانة 4/ 293. والربع: الدار والمنزل، وضمير المثنى للدمنتين. والصفا: الصخر الأملس، ويعني بجارتا صفا: الأثفيتين لأنهما مقطوعتان من الصفا الذي هو الصخر. كميتا الأعالي: صفة جارتا. والكمتة: الحمرة الشديدة بالأعالي: أعالي الجارتين. والجونة: السوداء. (3) الآية 23 من سورة الاسراء.

نحو قوله: ((وكلا ذلك وجهٌ وقَبَل))، وأما ذو الألف واللام نحو: {كِلتْا الجنتَين آتَتْ أُكُلها (1)}، وإما المضافُ إلى معرفة نحو: وكلا أنفَيهما رابى)). ولا يجوزُ أن يُضافا إلى نكرةٍ، فلا يُقال: كلا رَجُلين قام، قال الفارسيّ في كِلاَ: لم نعلمها أُضِفَتْ إلى المنكور لا مفرداً ولا مضافاً. قال الأخفش: العرب لم تضع ذا إلا على المعرفة. ونَقَلَ بعضهم عن الكوفيِّين (2) أنهم يُجِيزون ذلك لكن بشرط أن تكون النكرةُ محدودةً مخصَّصةً. فيقولون: كلا رَجُلين عندك قائم، وكلتا امرأتين في الدار مُرْضعٌ؛ وحكَوا عن العرب: كلا جاريتَينِ عندك مقطوعةٌ يدُها (2) - قالوا: وقَطْعُ اليد هنا: تَرْكُ الغَزْل - فلو كانت النكرة غير محدودةٍ لم تُضف إليها كِلاَ وكِلْتا، نحو: كلا رجلين قائم، وكلتا امرأتين مرضع. وهذا يحفظه البصريون، وهو شاذٌّ لا يُبنى عليه، ولذلك لم يُعوِّلِ الناظم عليه ولا غيره. والشرط الثالث: أن يكون فهم الاثنين من لفظٍ واحدٍ، فلا يكون ذلك المعنى (3) مفهوما من لفظين، معطوفٍ ومعطوفٍ عليه، وذلك قوله: ((بلا تفرُّقِ))، يعني أن اللفظ المفهم للاثنين لابدَّ أن يكون واحداً غير مفرَّق بالعطفِ كما تقدَّم، فلا يقالُ: كلا زيد وعمروٍ قام، ولا الحرّ والعبد خرج. وما جاء مخالفا لذلك فشاذٌّ مختصٌّ بالشعر، نحو ما أنشده في الشرح من قول الشاعرِ (4): كلا أَخِي وخَلِيلي واجِدِى عَضُداً وساعداً عند إلمام المُلِمَّاتِ

______ (1) الآية 33 من سورة الكهف. (2) الهمع 4/ 283. (3) كلمة ((المعنى)) ساقطة من أ. (4) هو أبو الشعر الهلالي كما في شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 257، وقال: ((ولم أقف له على ترجمة. والظاهر أنه إسلامي من شعراء بني أمية)). والبيت في المغني 203، والعيني 3/ 319، والتصريح 2/ 43، والهمع 4/ 283.

ويُروى: في النَّائباتِ وإلْمامِ الملماتِ وقول الآخر (1): كلا الضَّيفَنِ المَشْنُوءِ والضَّيف نائل لديَّ المُنَى والأمنَ في البسر والعُسْرِ وأنشد الفارسي (2): كلا السيفِ والساقِ الذي ضُرِبَتْ به على دَهَش ... ... ... ... ... ... ولم أقيد باقي البيت. قال الفارسيّ: لم يُجِيزوا إلى المظهر المخصوص وإن عطفت عليه مثله، لم يجيزوا: كلا أخيك وابيك ذاهب، كما لم يُجيزوا: كلُّ عبدالله وأخيه وأبيه ذاهبون، وكما لم يقولوا: جميع زيد وعمرو ذاهبان. قال الأخفش: لأن هذا يجري مجرى: ثلاثة رجال وأربعة أناسيَّ، ولو قلت: اربعة صاحبين، وأنت تريد أربعة اصحاب، لم يَجُزْ. وإنما ذلك في الشعر لأن العطف بالواو كالتثنية في المعنى، فحمل الكلام في الشعر على المعنى؛ ألا ترى أنك تقول: زيد وعمرو قاما، كما تقول: الزيدان قاما. ولو قال: كلا زيد وعمرو، لم يجز في شعرٍ ولا غيره، لأن كِلاَ فيه مضافةٌ إلى واحدٍ غير جارٍ مجرى المثنى، وذلك لا يجوزُ في كلا وكلتا.

______ (1) مجهول. والبيت في الأشموني 2/ 260، والعيني 3/ 421، وقال: ((احتج به ابن الانباري، ولم يعوه إلى قائله)). (2) تتمته كما في هامش الأصل: ... القاه يابَتنً صاحبه والبيت في المغرَّب 1/ 211، وابن يعيش 3/ 3.

وهذا الشرط من الناظم يقتضي أن لا يجوز نحو: كلاكَ وكلا زيدٍ قائم، وكلتاك زولتا زينبَ قائمةٌ، لأن هذا تفريق. وأحسب أني وقفت على إجازته لبعض النحويين حملا على المعنى، لأن الكلام على معنى: كلاكما قائم، وكلتاكما قائمة. ولم يأت في ذلك سماع، ولكنّهم قاسوه/ 380 على إجازة ذلك في ((أيّ))، إذ جاء في كلام العرب نحو: أيّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله؛ لأن المعنى: أَيَّنا، وأيّ الثانية توكيدٌ كالمطّرح، فكذلك تكون كِلاَ الثانية هنا كالمطَّرحة. وأيضاً فقد قالوا: هو بيني وبينك، والمراد: بيننا، فتجوز مسألتنا كما يجوز هذا. فالناظم إمَّا أن يكون لم يرتضِ هذا المذهب لعَدَمه في السماع، أو لضعفه في القياس، وإمَّا أن يكون تركَ التنبيه عليه رأساً لِقِلَّة القائلين به، وغَرابة نقله. فإن قيل: كلا وكلتا مما تلزم فيه الإضافة فلا يُفْردان أصلا كما يُفْرَدَ كُلٌّ في اللفظ وإن كان غير مُفْرَدٍ في المعنى، وإنما هما لازمان للإضافة اللفظية، وكلامُ الناظم هنا لا يُعطي لزومَ الإضافة وإنما فيه أَنَّ الإضافة لا تكون إلا للمثنى غير المفُرَّق، فقد يُتَوهَّم أنهما مما يصحّ فيه الإفراد. فالجواب: أنَّه يؤخَذُ له لزومهما الإضافة من مَسَاقِ كلامه، فإن الفصل كله من لدن قوله: ((وبعض الأسماءِ يُضَافُ أَبَدا)) إلى قوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خَلَفَا)) في الإضافة اللازمة، وإذا كان كذلك لم يضطَرَّ إلى التنبيه على اللزوم، بل إن أطلق القول فيها أخذت له على حقيقتها من مطلق اللزوم، ومفهومه الأول- وهو اللزوم لفظاً ومعنىً- وَإِنْ قَيَّدها فذكر فيها لفظاً، أخذنا به حيث ذكره، فلا إيهام في كلامه على هذا التقرير، والله أعلم.

______

وقوله: ((لمفهم اثنين)) متعلّق بأضيف. و ((بلا تفرق)) متعلّق باسم فاعلٍ محذوفٍ هو صفةٌ لمفهم، والتقدير: أُضِيفَ كلتا وكلا لاسمٍ مفهمٍ اثنين معرّفٍ كائن بلا تفرُّق. * * * وَلاَ تُضِفْ لمفرَدٍ مُعَرَّفِ أيّا، وأنْ كرَّرْتَها فَأضِفِ أو تَنْو الأجزا، واخْصُصَن بالمعرفَهْ مِوصُولَةً أياً، وبالعكسِ الصِّفَهْ وَإِنْ تَكُن شرطاً أِوِ اسِتفْهامَا فَمُطلقا كَمِّل بِها الكَلاَمَا هذا فصلُ الكلام في إضافة أيٍّ، وهي على الجملة لازمةٌ للإضافة في هذه الأقسام التي ذكر، ويتبيَّن ذلك من سياقِ الكلامِ كما تقدَّم في البيت المذكور آنفا. فإن قلت: لم يَذْكُر هنا لقسمٍ من أقسامها الإفرادَ في اللفظ، فاقتضى - على ما تقدم- لزومَ الإضافة لفظا، وذلك غير صحيح، بل أيّ في ذلك ضربان: ضربٌ لا يجوز فيه الإفراد لفظاً البتّة، وذلك الواقعة صفةً وفي معناها الواقعةُ حالاً، فإنك تقول: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، وبفارسٍ أيِّ فارسٍ. ولا تقول: مررتُ برجلٍ أيٍّ، ولا بفارسٍ أيٍّ، وإن عُلِم المحذوفُ، لأن العرب التزمت ذكر المضاف إليه هنا، فلا يجوز مخالفتها. وضربٌ يجوز [ذلك (1)] فيه، وذلك إذا كانت شرطاً أو استفهاماً أو

______ (1) عن أ، س.

موصولة تقول: أيَّا تضرِبْ أضرِبْ. وفي القرآن: {أيامَّا تدعو فله الأسماءُ الحُسنى (1)}. وفي الحديث ((أيُّ العمل أفضلُ؟ فقال: الصلاةُ لميقاتها. قال: ثمّ أيٌّ؟ قال كذا. قال: ثم أيٌّ؟ قال كذا (2))). وتقول في الموصولة: اضرِبْ أيَّا أفضلُ، وأيَّا هو/ أفضل. وذلك كلُّه مع العلم بالمحذوف، 381 فكيف يُطلقُ القولَ هنا بلزوم الإضافة لفظا ومعنى؟ هذا لا يستقيم! فالجواب: أنه قد بيّن في باب الموصول أن أيّاً الموصولة تُفَردُ عن الإضافة، أشار إلى ذلك قولهُ: ((أيٌّ كما، وأعربت مالم تُضَفْ)) إلى آخره، وأما غيرها من أقسام أيٍّ فلم يذكر فيها شيئاً، فالسؤالُ ورادٌ. وقدَّم أولاً في إضافة أيٍّ حكماً عاماً، وهو أنها لا تُضاف إلى مفردٍ معرَّفٍ، وأراد بالمفرد هنا مفرد الشخص، فلا تقول: أيّ زيدٍ جاءك؟ ولا: أيُّ الرجلِ الفاضل جاءك؟ لأنّ أيّا موضوعةٌ على الإبهام فيما يصحُّ فيه التبعيض، فلا يجوز أن يقعَ المفردُ المعرفةُ، بخلاف المفردِ النكرة، والمعرفةِ غير المفرد، فإنه يجوز أن يقع بعدها كلّ واحدٍ منهما على الجملة، فتقول في الأول: أيُّ رجلٍ جاءك؟ وأيُّ رجل يأتِكَ أكرمُه. وتقول في الثاني: أيُّ الرجال جاءك؟ وأيُّ الرجال يأتِكَ أَكرِمْه. وكذلك: أيّ رجلين جاءاك؟ وأيُّ رجال جاءوك؟ حسب ما يأتي؛ فقوله: ((ولا تُضف لمفردٍ معَّرف أياً))، يعني مطلقاً في جميع أقسامها التي يذكرها، ثم استثنى من هذه الجملة موضعين صحّ فيهما الإضافة إلى المفرد المعرفة: أحدهما: أن تتكرر أيّ بالعطف فإِذْ ذاك يجوزُ أن تضاف إلى

______ (1) الآية 110 من سورة الإسراء. (2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد 4/ 17.

المفرد المعرفة، فتقول: أَيِّيِ وأيُّ زيدٍ قائمٌ؟ وأَيِّيِ وأيُّك كان شراً فتاب الله عليه. ونحو ذلك. وهذا معنى قوله: ((وإن كرَّرتها فَأَضِف)). يعني: إن كرَّرت أيَّا، وذلك مثلُ ما أنشد سيبويه من قول العبّاسِ بن مرداس (1): فأيِّيِ، ما، وأيُّك كان شراً فَسِيقَ إلى المنيَّةِ لا يَرَاها وأنشد أيضاً لخِدِاشِ بن زُهير (2): ولقد علمتُ إذا الرجالُ تناهَزُوا أِيَّي وأيُّكُمُ أَعزُّ وأمنَعُ وأنشد له أيضا (3): فأيِّيِ وأيُّ ابن الحُصَين وعَبْعَبٍ غَداةَ التقينا كان عندكَ أعذَرا وقال عنترةُ (4): فلئن لقيتُك خالِييَن لتعْلمْن أيّي وأيُّك فارسُ الأحزاب

______ (1) الكتاب 2/ 402، وابن يعيش على المفصل 2/ 131، والرضي على الكافية 2/ 253، والخزانة 4/ 367، واللسان: أيا. (2) الكتاب 2/ 403، وابن يعيش على المفصل 2/ 133، واللسان نهز. والمناهزة: المبادرة، يقال: ناهزتهم الفرص، وناهزت الصيد فقبضت عليه قبل إفلاته. (3) الكتاب 2/ 402، وعبعب، هكذا في جميع النسخ، ومثله في بعض نسخ الكتاب، والمثبت في المطبوعة: وعثعث. (4) كذا، ولم أجده في ديوانه. وقال العيني 3/ 422: ((ولم أقف على اسم قائله)). والبيت في المحتسب 1/ 254، والتصريح 2/ 133، 138، والهمع 4/ 287، والأشموني 2/ 261.

وقال جُمَيح بن الطَّمّاح، وهو جاهليّ (1): وقد علم الأقوام أييّ وأيكمُ بني عامرٍ أوفى وفاءً وأكرمُ وقال قرط اليربوعي، جاهلي (2): أبني سُلَيطٍ لأ أبا لأبيكم أيَّي وأيُّ بني صُبَيرةَ أكرمُ وإنما جاز ذلك لأن الكلام محمول على معناه، إذ معنى ذلك: أيُّنا؟ قال سيبويه: ((وسألتُه-رحمه الله- يعني الخليلَ- عن ((أِسِّي وأيُّك كان شرا فأخزاه الله)). فقال: هذا كقولك: أخزى الله الكاذب مِنِّي ومِنْكَ، وإنما يريد: مِنّا. وكقولك: هو بيني وبينك. تُريد: بيننا (3)، قال: فإنما أراد: أيُّنا كان شراً، إلا أنهما لم يشتركا في أَيٍّ- يعني فيقال: أيّنا- ولكنهما أخلصاه لكل واحدٍ منهما (4)))، يعني: ((ولكن المتكلم والمخاطب أخلصا أيَّا لكلّ واحد منهما (5))). وإذا ثبت هذا لم تُضَف أيُّ في حقيقة المعنى إلى المفرد المعرفة، وإن كان ذلك في محصول اللفظ. والثاني من الموضعين: أن تنوي التبعيض في المضاف إليه، وذلك فيما يصحُّ فيه التبعيضُ. وهذا معنى قول الناظم: ((أوتَنْوِ الاجزا)). وهو معطوفٌ على

______ (1) نوادر أبي زيد 20، وابن يعيش على المفصل 2/ 133، واللسان: أيا، برواية: وأظلم، وقال: علموا أني أوفى وفاءً وأنتم أظلم)). (2) الكامل للمبرد 951 - 952، ونسبه إلى رجل من بني عامر بن صعصعة، وروايته فيه: أبني عقيل لا أبا لأبيكم أيّي وأيّ بني صبيرة أكرم وانظر خزانة الأدب 4/ 103. (3) في الكتاب ((هو بيننا)). (4) الكتاب 2/ 402. (5) ليست في أ.

((كرّرتها)) عطف الموضع، لأن موضعه جزمٌ، كأنه قال: وإن تكرِّرْها/ أو تنو الأجزاء ... 382 فيما أُضيفَتْ إليه فأضِفْها إلى المفرد المعرفة، وذلك قولك: أيُّ ثوبك خَلَق؟ معناه: أيّ النواحي منه خَلَق؟ فالتبعيض في هذا متأتٍّ فجازت الإضافة باعتباره. وكذلك تقول على هذا: أيَّ غرناطةَ نزلتَ؟ المعنى أَيَّ نواحيها نزلْتَ؟ أو أَيَّ مواضعها نزلْتَ؟ ومن ههنا جاز في بين أن تضاف إلى المفرد كقول امرئ القيس (1): ((بين الدَّخول فحوملِ. فتُوضِحَ فالمقْراةِ (1)))، لأن الدَّخولَ موضع يحتوي على أماكن فكأنه قال: بين أماكن الدَّخول فأماكن حَوْمَلِ، وكذلك تُوضِحَ والْمِقراةِ. وإلا فلا يجوز أن تقول: جلست بين زيد فعمرو (2)، إذ لا بينَ لزيدٍ وحده ولا لعمرو وحده، وإنما جاز ذلك كلُّه لأنَّ اعتبار الأجزاء يُخرج الاسم عن باب الإفراد إلى باب الجمع، فكأنك قلت: أيُّ أجزاء ثوبك خَلَق؟ وأيَّ نواحي غرناطةَ نَزَلْتَ؟ وعلى الناظم في قوله: ((وإن كرَّرتها فأضِفِ)) دَرْكٌ من أوجه أربعةٍ: أحدها: أن هذا التكرار لم يُبيِّن على أيّ وجه يكون؟ فقد يمكن أن يفهم على أنه بغير عطفٍ كقولك مثلا: أَيِّي أيُّك قائم؟ أو بحرفِ عطفٍ غير الواو نحو: أَيِّي فأيّك، أو أَيِّي ثم أيكّ؟ وما أشبه ذلك من حروف العطف. وذلك كله غير صحيح، وإنما التكرار مخصوص بالواو وحدها من

______ (1) من بيته في صدر معلقته 8، وهما: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمالِ (2) أ: وعمرو. وهو خطأ.

حروف العطف، فلا يجوز أن تقول: أَيِّي فأيُّ زيد أكرم؟ ولا أَيِّي ثم أيّ زيد أفضل؟ وإنما يجوز ذلك مع الواو، لأن المفردين مع الواو في حكم الاسم المثنى بخلاف غيرها، وذلك من حيث كانت لا تعطي رتبةً، وإنما تعطي مجرّد الجمع من غير زيادة، فصارت كالتثنية. وأما غيرها من الحروف فإنما يقتضي تفريق المعطوف من المعطوف عليه ولو في الرتبة الزمانية، فلم يرادف المفردان مع غير الواو التثنية، فصار كلُّ اسم عُطِف بغيرها له حكم نفسه، فامتنع العطف ههنا بما عدا الواو، وكلامُ الناظم لا يعطي شيئا من هذا، فكان مُعتَرَضاً. والثاني: أن هذا التكرار في ظاهرِ مَسَاقِه قياسيّ، فجائز أن يَتَكلَّمَ به في غَير الشعر، لأنه قال: ((وإن كرَّرتها فأضِف)). فوكَلَ ذلك إلى السامع لا إلى العرب. وليس الأمر كذلك، بل هو موقوفٌ على السماع، وقد نَصَّ على ذلك الفارسي، وجعل جوازه كجواز تكرار المفرد بعد كِلاَ في نحو قوله (1): كلا السيفِ والساقِ الذي ضُرِبَتْ بِهِ في أنّ كلّ واحدٍ منهما موقوف على السماع، محمول على معناه. ولا يقاس عند الناظم على نحو: كلا السيف والساق، فكذلك ينبغي في: أَيِّي وأيُّ زيد أعرف؟ وهكذا قيل. ويظهر من مساق سيبويه في باب أَيّ، وإذا كان كذلك ظهر أنّ ما أعطاه مساق الكلام من القياس غير صحيح. والثالث: لو سُلِّم أَنَ التكرار قياسيّ فإنما يكون كذلك حيث كان المجرور بأ] ٍّ أولاً ضمير المتكلم، نحو: أَيِّي وأيُّ زيدٍ أعلم؟ وهو الذي عيّنه السماع كما تقدّم، فلا يقال: أيّك وأيّ زيدٍ أفضل؟ ولا: أيّ زيد وأيّ عمرو أعلم؟ وعبارة

______ (1) تقدّم البيت وتخريجه من قريب، انظر: 105.

الناظم هنا وكذلك في التسهيل (1) / تقتضي جواز الجميع، فهو مشكل! ... 383 والرابع: أن قوله ((فأضِفِ)) يقتضي لزومَ الإضافة إلى المفرد المعرفة، لأن قوله ((فأضِفِ)) أمرٌ بذلك، لم يُقيِّده بالجواز، كما قال في المسألة قبل هذا: ((أضِفْ جوازاً)) فدلّ على أنه يريدُ وجوبَ الإضافة التي قَدَّم، وهي الإضافة إلى المفرد المعرف. وذلك حكمٌ غير صحيح؛ بل هو على الجواز إذا كُرِّرت، فلك أن تَضِيفَ إلى النكرة، فتقول: أيَّ رجل وأيَّ امرأةٍ أكرمتَ؟ وإلى المعرفة غير المفردة فتقول: أيُّ الرجلين وأيُّ المرأتين أكرمُ؟ وكذلك أيُّ بني تميم وأيُّ بني فلان أفضلُ؟ وما أشبه ذلك. فلا يُقتصر به على المفرد المعرفة، خلافُ ظاهر كلامه. والجواب عن الأول: أنَّ تأتيِّ التكرار في محصول الاعتياد (2) إنما يحصلُ مع العطف، والواو أصلُ البابِ، فهو الذي يَسبقُ للأذهان، فترك ذكره اتكالاً على فهمه، وعلى أنه قال عِوَضَ ذلك: ولا تُضِفْ لمفرَدٍ مُعَرَّفِ أيّا وكرّرها بواوٍ تُضِفِ أو انْوِ الاجزا ... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لكان أولى. وعن الثاني: أن ظاهر كلامه هنا وفي التسهيل (3) إجراء القياس،

______ (1) التسهيل 37. (2) أ: الاعتبار. وهو خطأ. (3) التسهيل 37.

إذْ لم يقيِّد ذلك بأمرٍ، وليس في كلام سيبويه نصُّ بأنه سماعٌ، وقد تقدَّم نصُّ كلامه. وأيضا قد يبعُد الفرق بين قولك: أيِّي وأيّك (1) أعلم؟ وبين قولك: أيِّك وأيّ زيد أعلم؟ وما أشبه ذلك. وإذا فرض أنه قائل بالقياس فلا اعتراضَ إلا من جهة بطلان القياس من نفسه، وذلك نزاعٌ في أصل خلافٍ لا يعترض بمثله على الناظم بأن يقال: لم خالفت فلانا ولم توافقه؟ لأن الدليل هو المتّبع، ولا إجماع يعارَضُ به هذا القياس، بل نقول ان سيبويه والخليل شبَّها قولهم: ((أيِّي وأيُّك كان شراً فأخزاه الله))، بقولهم: هو بيني وبينك، ونحوه، ومثل هذا لا يُقتَصَرُ به في ((بين)) الأولى على ضمير متكلم دون مخاطب أو غائب، بل يقال: هو بينك وبينه، وهو بينك وبين زيد، وفي القرآن: (فإذا الذي بينَكَ وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم) (2)، وكذلك الأمر في: ((أخزى الله الكاذب منّي ومنك))، لا مانع من أن بقال: منك ومن زيد، فكما يجوز هنالك فكذلك يجوز هنا. فإن قيل: فَلْيجُزْ على ذلك: كلاك وكلا زيدٍ قائمٌ، وكذلك: كلا زيد وعمروٍ قائمٌ؛ إذ لا فرق. قيل: قد مَرَّ القولُ على هذا، وأيضاً لما فَهِم من العَرَب اعتزامهم على إضافة كلا وكلتا للمثنى غير المفرَّق، قال: يمنع التفريق بإطلاق، وكأنه لم يفهم مثل ذلك عن العرب في أيٍّ فأطلق الجواز. فإن قيل: فإن جاز مثلُ: أيُّ زيدٍ وأيُّ عمرو في الدار؟ فليُجزْ: المال بين زيد [وبين (3)] عَمْرو، بتكرير بين، وذلك غير جائز، وقد عُدَّ ذلك من لحن

______ (1) أ: وأيّ زيد. (2) الآية 34 من سورة فصلت. (3) سقط من أ.

الخواصِّ حسب ما نصّ عليه الحريريُّ في ((دُرَّة الغواص (1))). وغيره. وكذلك يلزم أن يجيز: أخزى الله الكاذب من زيدٍ زمن عمرو. فالجواب: أنه يقال: لعلّه أجاز ذلك بناءً على قياسه وإن كان ضعيفا، أو على سماع شيء منه. والله أعلم. وهذا قد حصل الاعتذار- على ما فيه- عن الثاني/ والثالث من الاعتراضات. 384 وأما الرابع فالجوابُ عنه: أن الأمر هنالك إنما هو للإباحة لا للوجوبِ، بقرنية تَقَدُّم الحظر في قوله: ((ولا تُضِف لمفردٍ معرَّفِ)). والأمر إذا ورد في الشريعة بعد الحظر فهو للإباحة حسب ما ذكره الأصوليون، فهو الراجح عندهم من المذهبين، وإذا كان على الإباحة فهو معنى التخيير، فقوله: ((وإن كرّرتها فأضِفِ))، معناه: إن شئت. فلا محذور. [أقسام أيّ] ثمَّ فصّلَ الكلام في أقسام أيٍّ، كيف تكون الإضافة إليها فقال: ((واخصُصَنْ بالمعرفة موصولةً أيّا)) .. إلى آخره، فذكر لها أقساما ثلاثة: قسم تكون فيه مضافةً إلى المعرفة خاصةً، وقسم يُخَصّ بالنكرة وحدها، وقسم يجوز فيه الأمران. فأما الأول فهو الذي ذكر أوّلاً، وهو قسم الموصولة. و((موصولةً)) حال من ((أيّ)) تقدمت عليها، كأنه قال: واخصُصْ بالمعرفة أياً حالة كونها موصولةً. يعني أنها إذا كانت موصولة كالذي والتي فلا تُضاف إلاّ إلى

______ (1) درة الغواض 79 - 82.

المعرفة، فتقول: اضرِبْ أيَّهم هو قائم، وسلِّم على أيِّهم هو أفضلُ، لأن معناها معنى الذي، ولا يجوز أن تقول: أيَّ رجلٍ هو أفضلُ، أو: سلِّم على أيِّ رجلٍ هو قائم. ومن ذلك في القرآن: (ثمَّ لننزعنَّ من كلِّ شيعةٍ أُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً (1)). وأنشد سيبويه (2): إذا ما أتيتَ بني مالك فسلِّم عَلى أَيُّهم أفضَلُ وأما الثاني فهو أيُّ إذا وقعتْ صِفةً، وذلك قوله: ((وبالعكسِ الصِّفَهْ))، يعني أنها إذا وقعت صفةً فإضافتُها على العكس من إضافة الموصولة، وقد تقدّم أن الموصولة تضافُ إلى المعرفةِ، فإذاً الصفة لا تضافُ إلى المعرفة، وإنما تضاف إلى النكرة، فتقول: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، ومررتُ بفارسٍ أيِّ فارسٍ، وبفتىً أيِّ فتىً، ومنه قوله (3): دعوتُ امراً أيَّ امرِئٍ فأجابني وكنتُ وإيّاه ملاذاً وموئِلاَ وقال الآخر، إلاّ أنه حذَفَ الموصوف (4): إذا حارَبَ الحجاجُ أِيَّ منافقٍ علاه بسيفٍ كلما هُزَّ يَقطعُ

______ (1) الآية 69 من سورة مريم. (2) لم أجده في الكتاب، والبيت لغسان بن وعلة، وهو في الإنصاف 715، وابن يعيش على المفصل 3/ 147، 4/ 21، 7/ 87، والرضي على الكافية 3/ 26، والمغني 78، 409، والهمع 1/ 313، والخزانة 6/ 61. (3) مجهول. والبيت في الهمع 1/ 319، والأشموني 2/ 99. (4) الفرزدق، ديوانه 1/ 417، وهو في الهمع 1/ 319.

ويجري مجرى الصفة الحال، فتقول: رأيت الرجلَ أيَّ رَجُلٍ، وأي فتىً، أنشد في الكتاب للراعي (1): فأومأتُ إيماءً خفياً لَحبْترٍ ولله عينا حَبْتَرٍ أَيَّما فَتَى ولا يجوز أن تضاف إلى المعرفة، فلا تقول: مررتُ بالرجل أيِّ الرجل، ولا: بالفارسِ أيِّ الفارسِ، وما أشبه ذلك. وفي قوله: ((وبالعكس الصفه)) شيءٌ من النظر؛ لأن العكس في اللغة ردُّك آخر الشيء أوَّله، وهكذا هو في اصطلاح أهل النظر، فإنهم قالوا: عَكْسُ القضية تحويلُ مُفرَدَيها على وجه يصدق. ونحن لا نجد في كلام الناظم ذلك، لأنه قال: ((واخصُصَن بالمعرفَه موصولةً أيا)) وليس في هذا الكلام ما يصحّ فيه العكس بحيث يُعطي ما قَصَد من المعنى، وإنما يظهر أن موضع العكس في كلامه للضدِ، فلو قال: ((وبالضدّ الصفَهْ))، لكان صحيحاً، لأن النكرة ضدّ المعرفة وليست بعكسٍ لها، ولم يقصد الناظم إلا ذلك المعنى، ولكن ذهب عليه هذا، فوضع العكس موضع الضدِّ. وقد يُجاب عن ذلك بأن العكس المصطلح عليه يصح هنا من قوّة الكلام/، ... 385 من جهة أن قوله: ((واخصُصَن بالمعرفَةَ كذا، في قوة أن لو قال: لا بالنكرة، فكأنه قال: اخصُصَنْ كذا بالمعرفة دون النكرة. فلو صَرَّح

______ (1) الكتاب 2/ 108، وديوان الراعي 3، والهمع 1/ 319، وشرح الحماسة للمرزوقي 1502، والرضي على الكافية 4/ 234، والخزانة 9/ 370. حبتر: ابن أخي الراعي. ومعناه في اللغة: القصير من الناس.

بهذا لكان عكس الكلام: اخصُصَن الصفة بالنكرة دون المعرفة. وذلك صحيح. فالناظم إنما قصد العكس بحسب اللفظِ المقدّر الذكر مع الملفوظ به، فلا دَرْك عليه. وأما القسم الثالثُ الذي يجوزُ فيه الأمران فأيُّ الشرطية أو الاستفهامية، وذلك قوله: ((وإن تكن شرطاً أو استفهاما)) .. إلى آخره. ضمير ((تكن)) عائدٌ على ((أيّ)). و ((مطلقاً)): حال من التكميل المفهوم من قوله: ((كَمِّل))، على حدّ قولهم: ضربته شديداً. يعني أن أَيّا الشرطية، وأيّا الاستفهامية، يَكمُلُ فيها الكلامُ بالإضافة مطلقاً، أي: سواءً أكانت الإضافة إلى معرفة أم نكرة، فالضمير في ((بها)) عائد على الإضافة المتقدمة الذكر؛ فتقول في الشرط: أيُّ الرجالِ يُكرمْنِي أكرِمْه، وأيُّ رجلُ يكْرِمني أكرِمْه. ومن الإضافة إلى النكرة ما أنشده سيبويه لابن هَمّامٍ السلولي (1): لما تّمكَّنَ دُنياهم أطاعَهُمُ في أيِّ نَحوٍ يُميلوا دينَه يَمِلِ وتقول في الاستفهام: أيُّ الناسِ جاءك؟ وأيُّ رجلٍ جاءك؟ ومن النكرة قولُ الله عزَّ وجل: ((وسيعلم الذين ظَلَموا أَيَّ منقلبٍ ينقلبونَ (2))). ومن المعرفة قوله: (لنعلم أيُّ الحِزْبين أحصى لِما لَبِثُوا أمَداً (3)).

______ (1) هو عبد الله بن همام، شاعر إسلامي، والبيت في الكتاب 3/ 80، واللسان: مكن، والأشموني 4/ 10. وانظر التعريف بابن همام في طبقات فحول لشعراء 625 - 637. (2) الآية 227 من سورة البقرة. (3) الآية 12 من سورة الكهف.

والحاصلُ للناظم من أضرُبِ أيٍّ أربعةٌ، وذلك: الموصولة، والصفة، والشرطية، والاستفهامية. وترك ذكر قسمين، وهما: النكرة الموصوفة، وصلة المنادي. فالأولى نحو: مرت بأيٍّ مُعجِبٍ لك. والثانية نحو: يأيُّها الرجل. وكلا القسمين لم يحتج إلى ذكره. أما الموصوفة فمن وجهين، الأوّل: أن إثباتها في هذا القسم للأخفش؛ إذ لم يذكرها سيبويه، ولم يرتض في التسهيل رأي الأخفش من جهة أن السماع بما قال معدوم أو نادرٌ، والقياس على ما ومن في وقوعها نكرتين موصوفتين، ضعيف. والآخر أنها على تقدير ثبوتها لا تحتاج إلى إضافة، فتَرَكَ ذكرها كسائر مالا يلزم الإضافة. وكذلك صلة المنادي قد كفَّتها ((ها (1))) عن الإضافة، وحكمها يذكر في بابه، فلا مدخل لها هنا. * * * وألزمُوا إضافةً لَدُنْ فَجَرْ ونَصْبُ غُدْوةٍ به (2) عَنْهُم نَدَرْ إضافةً: مفعولٌ ثان لألزموا، والأول لفظ لَدُنْ. والضمير في ((به)) عائدٌ على لَدُن. ويريدُ أن لَدُنْ من الظروف، يلزم الإضافة فيجرُّ ما بعده مطلقاً، فتقول: سِرْتُ من لَدُنْ الظهرِ إلى العَصْر، وجاء الأمرُ من لَدُنْ فلان.

______ (1) في النسخ: ((كفتها ما)) والمثبت عن هامش الأصل. (2) في هامش الأصل: ((بها)).

وفي القرآن: (لِيُنْذِرَ بأساً شَديداً من لَدُنْه (1))، (قد بَلَغْتَ من لَدُنِّي عذراً) (2). وأنشد الأصمعي (3): مِن لَّدُ ما ظُهرٍ إلى العُصَيرِ حَتّى بَدَتْ لي جَبْهةُ القُمَيرِ لأربع غَبَرُن من شُهَير وقد يُنْشد: مِن لَّدُنِ الظُّهر إلى العُصَيرِ حَتَّى بَدَتْ لي جَبْهةُ القُمَيرٍ لأربع غَبْرنَ من شُهَير وقد يُنْشد: مِن لَّدُنِ الظُّهر إِلَى العُصَيرِ وقال الآخر (4):

______ (1) الآية 2 من سورة الكهف. (2) الآية 76 من سورة الكهف. (3) لرجل من طئ كما في العيني 3/ 429. والأبيات في الخصائص 2/ 235، والهمع 3/ 217، 6/ 178، والأشموني 2/ 262. (4) هو غيلان بن حرمث الربعي، قال البغدادي: ((لم أقف له على ترجمة، وقبله: يستوعب البَوْعينِ من جُرِيره والبيت في الكتاب 4/ 234، وابن يعيش على المفصل 2/ 127، وشرح شواهد الشافية للبغدادي 161، وفي اللسان: نحر، ولدن. البوع- بضم الباء وفتحها- والباع: مسافة ما بين الكتفين. والجرير: الجبل. واللحى: العظم الذي ينبت عله الأسنان. والمنحور: لغة في النحر. يريد أن طول الحبل الذي هو مقوده من لحييه إلى موضع نحره مقدار بوعين، يريد طول عنقه.

/ مِن لَدُ لَحْيَيْهِ إلى مُنْحُورِهِ ... 386 وإنما كانت خافضةً على حكم سائر الظروف غير المتصرّفة، ويقتضي هذا الإطلاقُ جَرَّ ((غدوة)) أيضا، وأن يقال: سرت من لدن غُدْوَةٍ إلى العَصْرِ، وهو نصّه في الشرح أنّ الجرّ بها مع ((غدوة)) جائز على القياس، وانما ينصب غدوةٌ بعدها ندوراً، وذلك قوله: ((ونصبُ غدوةٍ بها عنهم ندر))، يعني عن العرب. ويظهر هذا من الجوهريِّ حيث قال: ((وقد حمل حذفُ النون بعضَهم-يعني في لَدُ-إلى (1) أن قال: لَدُن غدوةً، فنصب غدوةً بالتنوين)) (2). فاقتضى [هذا (3) أن] بعض العرب هم الذين ينصبون بها غُدْوةً وحدها. وهذا النصبُ حكاه سيبويه (4) وغيره، ومنه قول كُثَير (5): لَدُن ما غدوةً حتى اكتسينا لِثِنْىِ الليل أَثناء الظلالِ وقال ذو الرمة (6): لَدُن غدوةً حتى إذا امتدَّتِ الضُّحىَ وَحَثَّ القطين الشِحشحانُ المكلَّفُ

______ (1) كذا في النسخ. وفي الصحاح: ((على)). (2) الصحاح، مادة: لدن. (3) عن أ، س. (4) الكتاب 1/ 51، 58 - 59. (5) لم أجده في ديوانه، وفي الديوان قصيدة من البحر والروى 227 - 232. وفي تاج العروس: ((ثِنْى من الليل-بالكسر-أي: ساعة منه، أو وقت منه)). (6) ديوانه 1565، وهو من شواهد ابن يعيش 4/ 102، وفي البيان والتبيين 2/ 274، واللسان: شحح، ولدن. والقطين: الخدم. والشحشحان: الجادَ الماضي، وأراد بالمكف: الحادي.

وقال أوسُ بن حجرٍ (1): لَدُن غُدوةً حَتَّى أغاثَ شَرِيدهم طويلُ النباتِ والعيونُ وضَفْلَعُ وقال الآخر (2): وما زال مُهرِي مَزْجَرَ الكلبِ منهمُ لَدُن غدوةً حتَى دَنَتْ لغرُوُبِ ولم يأت ذلك في غير غُدوة، ولذلك عيّنه الناظم بقوله: ((ونصبُ غدوةٍ به (3) عنهم ندر))، وإلا فكان يقول: والنصب به نادرٌ. فإن قلت: فقد أنشد سيبويه (4): من لَدُ شولاً فإلى إِتْلاَئِها فنصب شولاً بعد لَدُ. فالجواب: أن شولاً هنا ليس بمنصوب بلَدُ، بل بإضمار فعلٍ هو كان ونحوها، والتقدير: من لد كانت شولاً، لأن شولاً هنا جمع شائلة، فلا يجوز أن

______ (1) ديوانه 59. في الأصل: شديدهم. وهو خطأ. وطويل النبات: جبل بين اليمامة والحجاز، سمي كذلك بهضبات طوال حواليه. والعيون: اسم جبل. وضفلع: ماء لبني عبس. يقول: ذهب روعهم عندما انتهوا إلى هذه المواضع. (2) هو أبو سفيان بن حرب، كما في سيرة ابن هشام 2/ 75. والبيت من شواهد التصريح 2/ 46، والهمع 3/ 218، والأشموني 2/ 263، وفي العيني 3/ 429. (3) س: بها. (4) الكتاب 1/ 264. وهو من شواهد ابن الشجري في أماليه 1/ 222، وابن يعيش على المفصل 4/ 101، 8/ 35، والمغني 422، والرضي على الكافية 2/ 152، والهمع 2/ 105، وفي الخزانة 4/ 24. والشول: واحدها شائلة، وهي التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فخف لبنها. وناقة مُتْل ومتلية: يتلوها ولدها، أي يتبعها.

يُقَال: من لدن زيدٍ إلى دخوله الدارَ، والبيت على هذا المعنى، فلما لم يصحّ جرّه على هذا التقدير أُضمرِ ما يَصِحُّ معه الكلامُ، فصار المعنى: من لَدُنْ كونها شولاً إلى إتلائها. بخلاف: لَدُنْ غدوةً، فإنه لا مانع من الجرّ، فلما نصبت دلّ على أن ذلك من جهة ((لَدُن)) لا من جهة الإضمار. فإن قيل: ما فائدةُ قولِ الناظم: ((فَجُرّ)) ومعلوم أن الإضافة لا يكون معها إلا الجرّ، فهو إذاً حشوٌ من غير مزيد فائدة. فالجواب: أنه إنما ذكر الجرّ لِذِكْرِ مُقَابِلِه وهو النصب. وهنا مسألتان: إحداهما: أنه أتى بلَدُن تامّةً غير محذوفة النون، ثم أسند الحكم إليها، فلابَّد أن يؤخذ له مقيّدا بتمامها، وينبني على ذلك أمران، أحدها: أنها لا تنصبُ إلاّ على لغة التمام، وأما إذا حُذِفت نونُها فلا. والنقلُ موافقٌ لهذا التقييد، فلم يُسمَع منهم مثل: لَدُ غدوةً، وانما تكلّموا به مع النون. والثاني: الإشعارُ بوجه النصب، وذلك أن من نَصَب شبَّه نون لَدُنْ بنون عشرين، حين كان بعض العرب يقول: لَدُ، من غير نونٍ، فانتصب غُدوةً انتصاب الاسم بعد المقادير، كقولك: عشرون درهماً. هذا معنى تعليل سيبويه، فيكون على هذا غدوة منصوباً على التمييز لإبهام لدن (1)، كما استبهم/ العشرون فَفُسرِّ، وهذا حسنٌ من التنبيه. ... 387 والثانية: أَنه أسند النصب إِلى لَدُن، لقوله: ((بِهِ عنهُم نَدَرْ))، أَي: بلدن، وأراد أنه منصوبٌ عن تمامه، كما انتصب الدِّرهم عن تمام العشرين بالنون.

______ (1) في النسخ: ((لإبهام غدوة)). ولا يستقيم الكلام عليه.

فإن قيل: فَلِم نَسَبَ العملَ إلى لَدُنْ وهي لم تعمل في الحقيقة؟ قيل: بل هي العاملةُ لأنها شُبِّهت بالعشرين، والعشرون شُبَّه في عمله بالضاربين، والضاربون هو العامل في بابه، فكذلك ما تفرَّع عليه بالتشبيه، فإذا سمعتَ النصبَ عن تمام الاسم فمعناه أنّ الاسم هو الناصب، إلا أنهم عبَّروا بتلك العبارة إِشارةً إلى أنه لولا التمام لانجرَّ بالإضِافَةِ، كما أنَّ الضاربين زيداً لولاَ تمتمه بالنون لانجرَّ فقلت: ضاربو زيدٍ. فافهم هذا من اصطلاحهم، وأيضاً فلقوله: ((به)) فائدةٌ أخرى، وهو التنبيه على أن ((غدوة)) ليس منصوباً بإضمار فعلٍ، كما كان ((شولاً)) في قوله: ((من لَدُ شولاً)) منصوبا بإضمار فعلٍ. وهو تنبيه حسن أيضاً. * * * ومَعَ مَعْ فيها قليلٌ ونُقِلْ فَتْحٌ، وكسرٌ لسكونٍ يَتَّصِلْ هذا أيضاً من الظرف اللازمة للإضافة كغيره مما تقدَّم ذكرُه، نحو قولك: جئتُ مَعَك، وذهبتُ مَعَ زَيدٍ، وأتيتُ مَعَ الناسِ. ودلَّ على لزومه للإضافة من كلامه مساقُه له في جملة ما يلزمُ الإضافةَ. فإن قلت: إنّ ((مع)) على وجهين، أحداهما هذه التي مَثّلت، والأخرى تأتي [غير (1)] مفتقرة إلى الإضافة نحو قولك: جاء الزيدان معاً، وجاء الناسُ معاً، ومنه قول امرئ القيس (2):

______ (1) سقط من الأصل. (2) ديوانه 19 وعجزه: كجلمود صخر حطَّه السيل من علِ. والبيت من شواهد الكتاب 4/ 228، والمحتسب 2/ 342، وابن يعيش على المفصل 4/ 89، والمغني 154، وشرح شواهد المغني للبغدادي 3/ 360، 373.

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبرِ معاً وقوله (1): ... ... ... وشعبا كما معاً وما أشبه ذلك، وقد قال السيرافي: إن معاً أُردت يجوز أن تكون ظرفاً وحالاً، وإنما أضيف في الوجه الأول إلى غير الأول، فإذا قلت: ذهبا معاً، فليس في الكلام غير المذكورين تضيفُ ((مع)) إليه، ولا يجوز أن تضيف ((مع)) إليهما، لأنه لا يصحُّ أن يُقال: ذهب زيد مع نفسه، فلذلك أفردت عن الإضافة هنا (2). فعلى الجملة قد ثبت استعمالُ ((مع)) الظرفية على وجهين، فكيف يصحّ جعلُها لازمةً للإضافة مطلقا؟ فالجوابُ: أن الذي استُقرِئَ من كلام الناظم صحيح، ولا تكون إذا أُرِدَت عنده ظرفاً، بل تكون بمعنى جميع، فتجري مجراه في الأحوال كلها من كونها تقع حالاً، نحو: ذهب الزيدان معاً، ومنه قول المرقِّش (3): بِأَنّ (4) بنى الوخْم ساروا معاً بجيش كضوءِ نجوم السَّحَرْ وخبراً نحو: الزيدان معاً، أي مجتمعان، ومنه قول الصِّمَّة بن عبدالله، ويُروَى لقيس بن الملوَّح، وهو من أبيات الحماسة (5):

______ (1) من بيت سيأتي بتمامة بعد قليل. (2) هذا معنى كلام السيرافي، وليس بلفظه، انظر شرح السيرافي، باب الظروف المبهمة 4/ 124. (3) المرقش الأكبر، ديوانه، مجلة العرب، الجزء العاشر من السنة الرابعة، وقبله: أتتني لسان بني عامر فحلت أحاديثها عن بصر (4) في الأصل: فإن. (5) الحماسة بشرح المرزوقي 1215، والعيني 3/ 431.

حَنَنْتَ إلى رَيَّا ونَفْسُك باعَت مَزَارك من ريَّا وشَعبا كما مَعِّا وقال حاتم (1): أكفُّ يَدِي عن أن يَنَال التماسُها أكفَّ صحابي حين حاجتُنا معاً من أبيات الحماسة .. وما قاله السيرافي وابن خروف وغيرهما من الظرفية، لا يلزم المؤلِّفَ القولُ به مع/ ... 388 أنَّ ظاهر. كلام سيبويه موافقٌ لما ارتكبه في التسهيل وشرحه، مع موافقته لجميعٍ في المعنى، وجميعٌ لا يكون ظرفاً، وهو المفهوم هنا؛ قال سيبويه: ((وسألت الخليل-رحمه الله- عن معكم، ومعَ، لأيِّ شيء نصبتها؟ فقال: لأنها استُعمِلَتْ غير مضافةٍ اسماً كجميع، ووقعت نكرة، وذلك قولك: جاءا معاً، وذهبا معاً)). يعني أنها انتصبت كما انتصب جميعُ، قال: ((وقد ذهبوا مَعَه، ومِنْ مَعِهِ، صارت ظرفاً، فجعلوها بمنزلة أمام وقُدَّام))، يعني إذا لم يفردوها، فهذا الكلام غيرُ ما فُهِم من مقصود الناظم. فإن قيل: فإذا كانت كذلك فكان الواجبُ أن تُرفَعَ إذا قلت (2): الزيدان معاً، فتقول: معٌ، كما تقول: الزيدان جميعٌ.

______ (1) ديوانه 183. والبيت في الحماسة 2/ 343، والهمع 3/ 228. (2) في الأصل: ((قيل)).

فالجواب: أنّ معاً من الثلاثي هنا الذي لم يُحذَفْ منه كفتىً، لا (1) أنه محذوف كَيَداً. والمسألة مختلفٌ فيها، فيونُس والأخفش على أنها كفتىً، وسيبويه والخليل على أنها كيداً. والأصح ما ذهب إليه يونسُ بدليل المعنى واللفظ، والكلام في صحَّة مذهبه يطولُ، وليس مقصوداً هنا. وإذا ثبت هذا كلَّه فمع المذكورة هنا هي اللازمةُ للإضافة، ولم يتعرض للأخرى إِذْ ليس لها في هذا البابِ مدخَلٌ. وقوله: ((ومَعَ مَعْ فيها قليل))، يعني أنَّ الوجه فيها أن تكون مفتوحة العين، وهو مشهور كلام العرب، فتقول: قعدتُ مع زيدٍ، وجئت مَعَك. وما أشبه ذلك. وانشد سيبويه للراعي (2): يشِي مِنْكُم وَهَوايَ مَعْكُمْ وإن كانَتْ زيارتُكم لِمَامَا ثم يتعلّق بهذا الكلام مسألتان: إحداهما: أنّ مَعَ اسم من الأسماء إذا كانت مفتوحة العين، إذ لو كانت عنده حرفاً لذكرها في حروف الجرّ دون هذا الباب، وهذا مالا أعلم فيه خلافاً. وأما الساكنة العين فالظاهر من الناظم أنها اسم كذلك؛ إذ لم يُفَرِّق بينهما في الحكم، بل أشعر بأنها [(3) هي قوله: مَعْ فيها قليل. يريد أنَّ للعربِ استعمالين في اللفظ، ولم يقل إنها (3)] مع السكون حرف

______ (1) في الأصل: ((إلا أنه)). وهو خطأ. (2) الكتاب 3/ 287 منسوبا إلى الراعي، وهو لجرير في ديوانه 410. والبيت في أمالي ابن الشجري 1/ 245، 2/ 254، وابن يعيش 2/ 128، 5/ 138، والتصريح 2/ 48، والأشموني 2/ 265، والعيني 3/ 432. (3) سقط من صلب الأصل.

[(1) فَدَلّ على أنه مخالفٌ لمن قال: إنها مع السكون حرف (1)]. وقد حُكِي عن النحاس أن النحويين مجمعون على أنها حرفٌ، قال المؤلف: ((وهذا منه عَجَبٌ، لأن كلام سيبويه مشعر بلزوم الاسمية على كلّ حالٍ، وأن الشاعر إنما سكنّها اضطراراً)). والحاصل أن المسألة مختلف فيها، وقد رَجَّح في الشرح الاسميةَ بأن المعنى في الحركة والسكون واحدٌ، فلا سبيل إلى الحرفية؛ إذ لا يثبت ذلك فيها إلاّ بدليل، والأصل عدمه، وقد ثبتت الاسميّة مع الحركة باتفاق فيسُتَصْحَبُ الأصلُ حتى يَرِد ما يَخرُجُ عنه، وهذا معارضٌ بالسكون، فإنه لا يصحُّ في اسم معرب سكونٌ في التركيب من فتحَ بغير موجب. وقد يجاب بأن يُدَّعى البناء على هذه اللغة لتضمّنها معنى حرف المصاحبة، وضُعِ للمصاحبة حرفٌ أو لا، ولا يقال: إنها قد استعملت مفردةً في قولهم: معاً، وإذا استعملت مفردةً ونكرةً أيضاً، فقد دَخَلها التمكّن فلا تبنى؛ إِذْ لقائلٍ أن يدّعي أنهما لفظان متباينان، وكذلك نقول: إنها مع المحَّركة العين مختلفتان استدلالاً بالأثر، ولا يلزم على ذلك محذورٌ، أما إن قلنا برأي سيبويه والخليل أَنَّ السكون للاضطرار فلا إشكال، ولكن يأباه/ رأي الناظم لما سيجئ بحول الله. ... 389 والمسالة الثانية: أن قوله: ((مَعْ فيها قليل))، يدلّ على أن السكون ليس مختصاً بالضرورة، بل هو واقعٌ في الكلام؛ قد نُقِل عن الكسائي أن ربيعة تقول: ذهبتُ مَعْ أخِيك، وجئت مَعْ أبيك، بالسكون، وعليه حمل المؤلفُ بيت الراعي:

______ (1) عن أ، س.

يشيِ منكُم وهَواي مَعْكُمْ وهذا النقل يقتضي خلاف ما ذهب إليه سيبويه من أن السكون اضطرارٌ شعريٌّ؛ إذ لم يثبتُ عنده لغةً، وإذا ثَبَتَ لغةً، وإذا ثَبَتَ لغةً فلا يقالَ لأحدٍ، لسيبويه من السماعِ، ومن حَفِظ فمحفوظُه حجةٌ على من لم يحفَظ. ثم قال بعد إثباتِ سكون العين: ((ونُقِل فتحٌ وكسرٌ لسكونٍ يتصل)) يعني أنه إذا اتصل بمَعْ الساكنةِ العينِ ساكنٌ بعده، فالمنقول عن المُسْكِنينَ فيها وجهان: الفتح والكسر، فالفتح نحو: سرت مَعَ القوم، ومْعَ ابْنِك. والكسر نحو: سرتُ مَعِ ابنِك، ومَعِ القومِ. وهذا ممّا يدلّ على أن السكون بناءٌ لا عارضٌ لموجبٍ غيرِه. ووجه الكسر ظاهرٌ على أصلِ التقاء الساكنين، وأما الفتح فللإتباع، أو لاعتبار اللغة الأخرى. فإن قيل: لِمَ حملْتَ قوله: ونُقِل كذا، على إنه يريدُ في لغة التسكين وحدها؟ قيل: لأنَّ مَعَ في اللغة الأخرى معربة، وحركة الإعراب لا تختلف مع الساكن، فلم يفتقر إلى التنبيه عليها، وإنما ينبغي التنبيه على ما نَبَّه عليه. فقوله: ونُقِل كذا، إنما يريد في لغةِ ربيعةَ خاصة. * * * واضمُمْ بناءً غيراً أن عَدِمَتْ ما له أُضِيفَ، ناوياً ما عُدِما هذا فصلٌ يذكر فيه حكم اُسماء لازَمَتِ الإضافةَ، إلا أنها قُطعت عنها لفظا، فَبُنِيت عند ذلك، فيعني أن غيرا يُضمّ آخرها ضمةَ بناءٍ لا ضَمَة إعرابٍ إذا قُطِعت عن الإضافة وكانت مرادةً معنىً، فتقول: جاء القومُ الفُلانيُّون لا غيرُ،

______

وجاء أخوك ليس غيرُ. وما أشبه ذلك. وقولُه: بناءً، تنكيتٌ على من يقولُ: إن الضمَّة في قولك: جاء بنُو فلانٍ لا غيرُ، أو: ليس غيرُ-ضمةُ إعرابٍ، وهو الأخفش (1)، فيرى أنَّ التنوين نُزِعَ للإضافة، لأنَّ المضاف إليه ثابت في التقدير. وقد جاز ذلك ابنُ خروفٍ ايضاً، على أن يكون ((غير)) اسم ليس في قولك: ليس غيرُ، وقطعت عن الإضافة لفظاً، وعلى ذلك تكون ((غير)) في قولك: لا غيرُ، مبتدأةً محذوفةً الخبر إن كان يوجد، وإلا فقد نَصُّوا على أن العرب لا تقطع غيراً عن الإضافة إلا بعد ليس خاصة، فإن وقعت بعد غيرها من أدوات النفي لم تقطع. وأكثرُ النحويّين على ما رآه الناظم من انه ضَمُّ بناءٍ، فإن المقطوع عن الإضافة مع إرادتها لا يعدو في الشائع أمرين: البناء على الضم، او إلحاق التنوين، فالأول كقبل وبعدُ، والثاني ككلٍّ وبعضٍ. ويبقى النظر في وجه بنائها، فقالوا: إنها محمولةٌ على قبل وبعد لشبهها بهما في الإبهام والقطع عن الإضافة. وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله. وقد قيل/: إنها بُنِيت لوقوعها موقع الحرف، 390 الأن العرب تقول: ليس إلاّ، في معنى: ليس غيرُ، فكأنها لما وقعَتْ موقع إِلاَّ عُومِلت معاملته في البناء. وإنما بُنيت على حركةٍ للمزيّة التي لها على مالم يُعرَب قطُّ، وكانت الحركة ضمّةً حملاً على قبلُ وبعدُ. فإن قيل: هذا البناءُ، إلى أيِّ نوع من أنواع شَبَهِ الحرفِ يرجعُ؟ فالجواب: أنَّا إِنْ فَرَضْنا أن كلَّ بناء جائزٍ أو لازمٍ راجعٌ إلى شَبِه

______ (1) مغنى اللبيب 157 - 158.

الحرف فحينئذ يلزمُنا الجوابُ، فنقول: أَمّا على القول بالبناء حملاً على قبلُ وبعدُ فسيذكر بعدُ، وأما على القول الآخر فكأنها ضُمّنت معنى إِلاَّ، أو حُمِلت على ما تضمّن (1) ذلك، فيرجع إلى شبه الحرف المعنوي. ثم نرجع إلى كلامه فنقولُ: إنه شَرَط في هذا البناءِ المذكورِ شرطين: أحدهما: أن تُعدَم الإضافةُ لفظاً، وذلك قولُه: ((إن عَدِمت ماله أُضِيف))، أي ك ما أُضِيفْ غَيرُ له، نحو قولك: قام زيدٌ ليس غيرُ. وهذا الشرط مبنيٌّ على جواز قطع غير عن الإضافة، وإلا فلو كان غير جائز لم يتصوّر هذا الحكم الذي هو البناء. فأما إذا لم تُعدَم الإضافة فمفهوم هذا الشرط ألاّ يُضَمَّ ضَمَّة بناءٍ، بل يبقى على أصله من الإعراب، فتقول: جاءني بنو فلانٍ ليس غيرُهم، وليس غَيرَهم، ولا غَيرهُم، ورأيت بني فلان لا غَيْرَهم، وما أشبه ذلك. و((ما)): في موضع نصب بَعَدِمت. والضمير في ((له)): عائد على ما، وهي واقعة على ما أضيف إليه غير. والذي في ((أُضيف)): عائد إلى غير، كأنه قال: إن عَدِمت الاسمَ الذي أُضيف إليه غيرُ. والثاني من الشرطين: أن يكون المضافُ إليه مراداً في التقدير، ولا يكون مُطَّرحاً جملةً، وذلك قوله: ((ناوياً ما عُدِما)). ناويا: حالٌ من فاعل ((اضمُم)). وذلك أنك إذا قٌلْتَ: ليس غيرُ، فالمعنى: ليس غيرُ ذلك المعنى الذي حَدَّثتُك به. إشارةً إلى ما تقدم ذكره في الكلام، كائناً ما كان. فلو لم يكن المضاف إليه منويا ولا مُقَدَّر الذكر، لم يُبنَ غيرُ، بل يجري مجرى قبل وبعدُ. فتقول: ليس غيرٌ، ولا غيراً، أي: ليس ثَمَّ غيرٌ، بمعنى: ليس ثمَّ مغايرٌ. ووجه

______ (1) أ: ((تضمن معنى ذلك)).

الإعراب هنا سيأتي ذكره إن شاء الله مبسوطاً، وإن كان ظاهرا لأنه الأصل، ولأن غيراً هنا نكرةً لفظاً ومعنىً، فجرت كسائر الأسماء النكرة غير المفتقرة لما بعدها. فإن قيل: فقد تقرّر إذاً أن غيراً ليست من الأسماء اللازمة للإضافة، بل هي تُضافُ تارةً، ولا تضافُ أخرى، وإذا كانت كذلك فكيف يجعلها من الأسماء اللازمة للإضافة؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن غيراً أصلُها الإضافة لافتقارها في أصل الاستعمال لما يُبَيِّن معناها، كقبل وبعدٍ، وكلٌ وبعضٍ، وما جاء فيها من قصد التنكير أمرٌ طارئ عليها، على قصد تناسي المضاف إليه، مع أنك تجده ملحوظاً من طرفٍ خفيٍّ، لكنه أُهمِل في محصول الاستعمال، فالقياس يطلبه والقياسُ يلغيه. وإذا (1) تعارض أصل القياس وأصل الاستعمال فالمقدّم أصل الاستعمال، فبهذا الاستعمال عُدَّ نكرةٌ غير منويّ الإضافة، وإلاّ فلا فَرْقَ في القياس/ يدل على ذلك المعنى الأصلي في 391 غير، وربما يَصعُبُ فهمُ هذا التقرير، ولكنه واضح في علم الأصول العربية، مقرَّرٌ في الكلام على الأصل والفرع. والثاني: إن سُلِّم أن لها وجهين في الاستعمال، وهما الافتقار إلى الإضافة وعدمه، فالناظمُ إنما تكلَّم على القسم اللازم لها، لِمَا يَنْبَنِي له عليه من الأحكام، وتَرَك ذِكْر غَيره بأن أخرجه بالشرط الثاني، إذ لا حاجةَ له إليه في حكم البناء، وهذا ظاهر. ثم أخذ في ذِكْر ما جرى مجرى غير فقال:

______ (1) في الأصل: ((وأما)).

* * * قبلُ كغيرُ، بعدُ، حسبُ، أوَّلُ ودُونُ، والجهاتُ أيضاً، وَعَلُ حَذَف هنا حرف العطُف، والمرادُ: وبعدُ وحسبُ وأوّلُ. وهي مبتدآتٌ حُذِف خبرُها لدلالةِ قولِه ((كغيرُ)) عليه. والتقدير: وبعدُ وحسبُ وكذا كغيرٍ. يعني أن الأسماء كلها، الظروف منها وغيرها، وهي: قبلُ وبعدُ وحسبُ وأولُ ودونُ، والجهاتُ السِّتُ- وهي: فوقُ وتحتُ، وقُدّامُ وخلفُ، وأمامُ ووراءُ- وسائر أسمائها، وعلُ حكمُها حكمُ غيرٍ في البناء على الضمّ بالشرطَين المذكورين فيها، وهما: أن يكون المضافُ إليه غيرَ مذكورٍ معها في اللفظ، وأن يكون منويُّ الذكر، مقدَّر الظهور. فلم لم يتوفَّر الشرطان لم يَجُز البناءُ، بل يلزمُ الإعراب، حسب ما يُذكر بعدُ' إن شاء الله. أما قبلُ وبعدُ فمثالُ ذلك فيهما: {للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ} أي: من قبل الحوادِث المذكورة ومن بعدها. وأما حسبُ فإنك تقول: هذا رجلٌ حسبُك من رجلٍ، وهذا زيدٌ حسبُك من رَجُلٍ. وتقطعه عن الإضافة فتقول: مررت بزيدٍ فحسبُ يا فتى، وأخذتُ درهماً فحسبُ، كأنه قال: فحسبُك، أو: فحسبي، فحذف لدلالة المعنى، وبنى حسبُ على الضمّ. وأما أوّل فكقولهم: ابدأ بهذا أولُ. يريد: أولَ الأشياء، لكنه حذف المضاف إليه. ومنه قولُ مَعْنِ بنِ أوس (1):

______ (1) معاني القرآن للفراء 2/ 320، والمقتضب 2/ 246، والمنصف 3/ 35، وأمالي ابن الشجري 1/ 328، 3/ 263، وابن يعيش على المفصل 4/ 87، 6/ 98، والرضي على الكافية 3/ 461، والخزانة 8/ 289. وديوانه 93.

لعُمرك ما أدرِي وإنِّي لأوجلُ على أيِّنا تَعدُوا المنيّة أولُ وأما دونُ فنحو قولك: جلست من دونُ. تريد: من دونِ ذلك المكان المعروف. أنشد سيبويه (1): لا يحملُ الفارسَ إلاَّ المَلْبُونْ المَحْضُ من أمامِه ومن دُونْ فالقافية هنا لو كانت مطلقة الرَّوِيّ لكان مبنياً على الضمِّ، لأنه في نية الإضافة. وأما الجهات فتقول فيها: جلستُ عند زيدٍ من خلفُ، أو: من أمامُ، أو: من قدّامُ، أو: من فوقُ، أو: من تحتُ. وما أشبه ذلك. ومنه ما أنشد سيبويه، لأبي النجم (2): أقبُّ من تحتُ عريضٌ من علُ وقال الآخر (3):

______ (1) الكتاب 3/ 290، والتصريح 2/ 52، واللسان: دون، لبن. وفرس ملبون: يغذى باللبن. والمحض: اللبن الخالص. (2) الكتاب 3/ 290، والخصائص 2/ 363، والأشموني 2/ 262، واللسان: علا. والأقبّ: الضامر، والقبب: دقة الخَصْرِ وضمور البطن، والأنثى: قبَاء. (3) هو طرفة، ديوانه 113. والبيت المثبت ملفق من بيتين كما في الديوان، هما أدّت الصنعة في أمتُنها فهي من تحت مَشَيحات الحُزُمْ وَتفرّي اللحم من تعدائها والتغالي فهي قبٌّ مالعَجَمْ الصنعة: القيام على الخيل بالعلف. مشيحات: جادات سريعات. وقيل المشيح: الذي لحق بطنه بظهره فضمر وارتفع حزمه. تفري: تقطع وذهب. والتغالي: التباري في العدو. والعجم: النوى. شبه الخيل في صلابتها بالجم وهو النوى.

وتَفَرْي اللحمُ من تَعْدَائِها فَهْيَ مِنْ تَحتُ مُشِيحاتُ الحُزُمْ وقال الآخر (1): تَظْمأ من تحتُ وتَرْوَى من عَالْ وينشد هكذا: ضَمْأَي النَّسا من تحتُ رَيَّا من عَالْ وقال أيضاً (2): قَبَّاءُ من تحتُ وريَّا مِنْ عَالْ وأنشد الفراء والأخفش وغيرهما (3): إذا أنا لم أُومَنْ عَليكَ وَلم يكنُ لقاؤُك إِلاَّ من وَراءُ وراءُ وقال/ رجلٌ من بني تميم (4): ... 392 لَعَن الإله تعِلَّةَ بن مُسَافِرٍ لَعْناً يشَنُّ عَلَيه مِنْ قدَّامُ والقوافي مرفوعة في هذا وما قبله. وأما عَلْ فمعناه معنى فوق، تقول: جئتُ من عَلُ، كما تقول: جئت من

______ (1) الرجز لدكين بن رجاء، انظر في شرح المفصل لابن يعيش 4/ 89، والمخصص 13/ 144، واللسان: ظمأ، وعلا. (2) ابن يعيش على المفصل 4/ 89. امرأة قبَّاء: دقيقة الخصر، ضامرة البطن. (3) معاني القرآن للفراء 2/ 230، وابن يعيش على المفصل 4/ 87، والهمع 3/ 195، والتصريح 2/ 52، والصحاح واللسان: ورى: ونسب في اللسان إلى عُيي بن مالك. (4) أمالي ابن الشجري 1/ 329، والتصريح 2/ 51، والهمع 3/ 196، والأشموني 2/ 268، والعيني 3/ 437.

فوقُ. ومنه قولُ أوسٍ (1) فَمَلَّكَ باللِّيطِ الذي تحتِ قشْرِها كَغِرْقِئِ بيضٍ كَنَّه القَيْضُ من عَلُ وأنشد السيرافي (2): ولقد سَدَدْتُ عليك كلّ ثنيَةٍ وأتيت فوق بني كُليبٍ من علُ هذه جملة ما أتى به الناظم من السماء التي تُبنى على الضم إذا قُطعت عن الإضافة مع بقاء معناها. ودخل في الجهات الستِّ: يمنةُ وشأمةُ. ولكن السماع فيها قليل، والقياس قابل. وكذا كل ما وقع على الجات الست كَتُجاه وقُبالَةَ، وحِذاء وإزاء وتلقاء، وأعلى وأسفل. وما كان نحوها من الجهات التي تقع ظروفا، كل ذلك داخلٌ تحت قوله: ((والجهات أيضا)). وسببُ البناء فيه كلِّها الشبه بقبل وبعد في الإبهام والقطع عن الإضافة. وأما قبلُ وبعد فلمناسبة الحرف، ومناسبتهما له من جهة أن أصلهما الإضافة واكتُفِى بمعرفة المخاطب، فَحُذِف المضاف إليه، فلما بقى المضاف وَتَضَمَّن معنى الإضافة وجب أن يُبنيَ، لأن بعض الاسم مبني.

______ (1) ديوانه 97. وفي الأصل، أ: ((فمن ذلك)) بَدَلَ ((فَملّكَ)). والبيت في الخصائص 2/ 363، 3/ 172. ملّك: شدد، أي: ترك من القشر شيئا يتمالك به لئلا يبدو قلب القوس حتى لا تنشق. والليط: القشر. والقيض: قشر البيضة الغليظ. والغرقئ: القشر الرقيق. (2) البيت للفرزدق، ديوانه 2/ 161، وروايته فيه: إني ارتفعت عليك ثنية وعلوت ... ... ... ... وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل 4/ 89، والتصريح 2/ 54، والهمع 3/ 196، وفي العيني 3/ 447.

وقال في الشرح المؤلِّفُ: إنهما وغيرهما مما تقدم بُني لشبه الحرف لفظا من قَبلِ الجمود، وكونها لا تثنى ولا تجمع، ولا يخبر عنها، ولا تصغَّر (1)، ولا يُشتق منها. وبالجملة لا تتصرّفُ تصرّف السماء. وشبهه معنى من جهة الافتقار لما يُبين معناها لزوما، قال: فكان مقتضى هذا أن تُبنى أبداً، إلا أنها أشبهت الأسماء التامة الدلالة بأن أُضيفت إضافةً صريحةً، وبأن جُرِّدت تجريداً صريحاً قصداً للتنكير، فوافقتها في الإعراب، فإذا قُطعت عن الإضافة ونُوِى معنى الثاني دون لفظه أشبهت حروف الجواب في الاستغناء بها عن لفظ ما بعدها. والحاصلُ لها الآن ثلاثةُ أحوال: حالُ التصريح بترك الإضافة عند قصد التنكير، وحالُ التصريح بالإضافة عند قصد التعريف، وحالُ تركِ الإضافة لفظاً وإرادتها معنى، فكان البناءُ مع هذه الحال الأخيرة أليقَ لأنها على خلاف الأصل، وبناءُ الاسم على خلاف الأصل، فَجَمع بينهما التناسبُ، وتعيّن كون الإعراب مع الحالين الأخيريين لأنهما على وَفْقِ الأصل، وإعراب الاسم على وفق الأصل. وإنما بُنيت على حركة للمزيّة الثابتة لها على مالم يُعْربْ قَطُّ، وكانت ضمةٌ لأنها حالة لا تعرب عليها قبلُ وبعدُ، وحًمِلت البواقي عليها، أو لأن الفتحة قد استحقَّها الإعراب ظرفا أو حالاً، والكسرة لم يُبن عليها لإيهام الجرّ بالإضافة، فلم يبق إلا الضمةُ.

______ (1) كذا في النسخ، وهو خطأ لعله من الناسخ، فالمعروف أن قبل وبعد تصغَّران، وعبارة ابن مالك في شرح التسهيل، ورقة 176، هي: ((ويستوجبان البناء على الضمّ إذا قطعا لفظا لا معنى، وذلك أن لهما مناسبة للحرف معنوية ولفظية، أما المعنوية فمن قبل أنهما لا يفهم تماما ما يراد بهما إلا بما يصحبهما. وأما اللفظية فمن قبل جمودها وكونهما لا يثنيان ولا يجمعان ولا ينعتان ولا يخبر عنهما، ولا ينسب إليهما ولا يضاف. ومقتضى هاتين المناسبتين أن يبينا على الإطلاق، لكنهما أشبها الأسماء المتمكنة بقبول التصغير والتعريف والتنكير ... )).

فإن قيل: إلى أي وجهٍ شبه الحرف يرجعُ؟ فالجواب: أنا قلنا: أن الناظم لم يحصر أوجه شبه الحرف في الأنواع الأربعة، فلا إشكال، لأن ما كر هنا نوعٌ آخرٌ من الشبه، وهو الشبه بحرف الجواب. وكذلك/ إن قلنا: إنه ذكر 393 الشبه اللازم المقتضي للبناء اللازم، وأما أن قلنا: أنه حصر أنواع الشبه في الأربعة، وأن البناء اللازم وغير اللازم يرجع إليها فنقول: إنه يرجع إلى الافتقار الأصيل لأنه يشبههه، أو للشبه المعنوي لتضمنه معنى الإضافة، كما أشار إليه السيرافي. ولما كان هذا ابناء- كما تقدم- مشروطاً بشرطين، وهما عدم الإضافة لفظاً وأرادتها معنى، كان ما تخلف عنه شرطٌ منهما في هذه الأسماء المتقدمة يرجع إلى الإعراب، وذلك ما كان مضافاً في اللفظ، نحو: جلست خلفَك وأمامك وقُدَّام زيد، وجئت قبلَ زيد. ولا إشكال في هذا، أو ما كان غير مضافٍ ولا منويّ الإضافة، وهذا في حكم إعرابه نظرٌ ما يتكلم عليه في البيت بعد هذا، وهو قوله: وأعربُوا نَصْباَ إذا ما نكَّرا قبلاً، وما مِنْ بعدِ قد ذُكِرا الواو في ((أعربوا)) ضميرُ العرب، يعني أن العرب أعربوا قبلاً وما ذكر الناظم بعده مِنْ: غيرٍ، وبعدٍ، وحسبٍ، وأوّلٍ، والجهات، وعلٍ. إذا اعتُقد تنكيرُها وخلوُّها من تقدير الإضافة وتخفيفها (1) - وذلك بالنصب- وهو قوله: ((وأعربوا نصباً)). فتقولُ: جئتُك قبلاً- تريد: في زمانٍ متقدم مطلقاً، لا تريد زماناً معيناً- وجئتك بعداً، كذلك في زمان

______ (1) في الأصل، س: ((وتحقيقها)). وهو خطأ.

مّا متأخَّرٍ. حكى ذلك سيبويه عن بعضِ العرب. وكذلك: جئتُك أولاً، وجلستُ فوقاً وتحتاً وخلفاً وأماماً وقدّاماً ووراءً. وما أشبه ذلك. ومن ذلك ما أنشده (1) من قول الشاعر: فَساغَ لي الشرابُ وكنتُ قبلا أكاد أَغَصُّ بالماءِ الفراتِ وأنشد السيرافي عن أبي زيد (2): حَبوتُ بها بني عمرو بن عوفٍ على ما كان قبلاً من عتابِ ويروى: قبلٌ من عتاب وأنشد ابنُ خَروف عن الفراء (3): هَتَكْتُ بيوتَ بني طَريف على ما كان قبلٌ من عتابِ بالرفع.

______ (1) في الأصل: ((أنشدوه)). ويعني ابن مالك، والشاهد عنده في شرح التسهيل، ورقة 177. وهو لعبدالله بن يعرب أو يزيد بن الصعق استشهد به الفراء في معاني القرآن 2/ 321، وابن يعيش في شرح المفصل 4/ 88، والرضي في شرح الكافية 1/ 253، 3/ 168، والشيخ خالد في التصريح 2/ 50، والسيوطي في الهمع 3/ 194، والأشموني 2/ 269 في الخزانة 1/ 426، 6/ 510. ويروى: بالماء الحميم. (2) البيت لخالد بن سعيد المحاربي، جاهلي. وهو في نوادر أبي زيد 445، بروايتين، أولاهما على ما كان قبلٌ من عتاب والأخرى: على ما كان قبلُ من العتاب. (3) معاني القرآن للفراء 2/ 321.

وقال سيبويه: ((وتقول في النصب على حدّ قولك من دونٍ، ومن أمامٍ: جلست أماماً، كما قلت: يمنةً وشأمةً، قال الجعديّ (1): لها فَرَطٌ يكونُ ولا تَراهُ أَماماً من مُعَرَّ سنا ودُونَا فإن قيل: تخصيصُه النصبَ في هذه الأشياءِ إذا قُصِد تنكيرهُا دون الجرّ والرفع، ظاهرُ التحكُّم من غير دليلٍ، وأمرٌ لا يساعده عليه سماعٌ؛ فإن أكثر ما ذُكِر يدخل فيه الجرُّ وغيره؛ ألا ترى أنك تقول: أتيتُه من فوقٍ ومن تحتٍ، وفي بعض القراءات المحكيَّةِ: (لله الأمرُ من قبلٍ ومن بعدٍ (2))، ومن دونٍ، ومن دُبُرٍ (3)، وما أشبه ذلك. قال سيبويه: ((وسألته- يعني الخليل- عن قوله: من دونٍ، ومن فَوقٍ، ومن تحتٍ، ومن قَبْلٍ، ومن بَعْدٍ، ومن دُبُرٍ، ومن خلفٍ- فقال: أجروا هذا مُجرى الأسماء المتمكنة لأنها تضافُ، وتستعمل غير ظرفٍ)). ثم قال: ((وكذلك من أمامٍ، ومن قُدَّامٍ، ومن وراءٍ/، ومن قبُلٍ، ومن دُبُرٍ)). قال: ((وزعم الخليلُ أنهنَّ 395 نكراتٌ كقول أبي النجم (4):

______ (1) النابغة الجعدي، شعرُ 210. والبيت في الكتاب 3/ 291، واللسان: دون. الفرط: المتقدّمون. يصف كتيبة إذا عرست في مكان كان لها فضول متقدمة ومتأخرة لا تقع العين عليها لبعدها. (2) الآية 4 من سورة الروم، وقد نسبت هذه القراءة إلى أبي السمال والجحدري وعون العقيلي كما في البحر المحيط 7/ 162، ولم يَحْك الفراء في هذت قراءة ولكنه أجازها عربية، انظر المعاني 2/ 320 - 321، وإعراب القرآن للنحاس 2/ 578 - 579. (3) بعده في الأصل: ((ومن خلف)). ولعله زيادة دخلت النصّ من الفقرة التالية. (4) الكتاب 1/ 221، 3/ 290، 607، ونوادر أبى زيد 165، والخصائص 2/ 130، 3/ 68، والمنصف 1/ 61، وأمالي ابن الشجري 1/ 306، والإنصاف 406.

يأتي لها أيمُنٍ وأشمُلِ وزعم أنهنّ نكراتٌ إذا لم يُضفَن 'لى معرفة، كما يكون ايمن وأشمل نكرة. وسألنا العربَ فوجدناهم يوافقونه، يجعلونه كقولك: من يَمْنَةٍ وشَأْمةٍ (1))). ثم ذكر في قُدَ يديمةٍ وَوُريِّئَةٍ مثل ذلك من الجرّ بمن. وليس في هذا كلِّه نزاع، أعنى في صحّة الجرّ فيها بالحرف، وأيضاً فمنها مالا ينصب أبداً، وإنما تجده في السماع مجروراً بمن، وذلك عل في قولهم إذا نَكَّروا وإذا عَرفّوا: من علُ، ومن علِ، وقيل: من عليه، والجميع يلزمه الجرّ بمن، كما تَقدّم، وكما قال امرؤ القيس (2): مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبلٍ مُدُبرٍ معاً كَجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيلُ مِنْ عَلٍ وقول أبى النجم (3): على ما كان قبلٌ من عتابِ فأين إلزامُ الإعرابِ نصباً؟ وأيضاً فلا أعلم في السماع تنكير حسبَ ونصبه بحيث يقال: لقيت زيداً حسباً، أو: فحسباً. وما اشبه ذلك، وكلامه يقتضيه كما اقتضى نصب ((عل))

______ (1) الكتاب 3/ 289 - 291. (2) تقدّم البيت وتخريجه، انظر ص: 124 - 125. (3) تقدّم تخريجه من قريب، ص: 139.

حالة التنكير، وذلك غير موجودٍ. وكذلك القول في أوّل، فإنك تقول: مالكذا أوّلٌ ولا آخرٌ، وأتيت الأمر من أولٍ ومن آخرٍ. وما كان نحو ذلك فلا يُقْتَصر به على النصب وحده، فالحاصل أن هذا الموضَع عارٍ عن التحصيل (1)! وَمَا يَلي المضافَ يَأْتِي خَلَفَا عَنْهُ في الإِعرابِ إِذَا ما حُذِفَا وَرُبَّما جَرُّوا الّذيِ أَبقَوا كَمَا قد كانَ قَبْلَ حَذْفٍ ما تَقَدَّما لكِنْ بَشْرطِ أَنْ يكونَ ما حُذِفْ مُماثِلاً لَما عَلَيه قَدْ عُطِفْ لما كان المضافُ والمصافُ إليه قد يُحذَفُ كل واحد منهما قياساً للعلم به، أتى في هذا الباب بفصل يَذكُر فيه ذلك، وابتدأ بذكرِ حّذْفِ المضاف. فيريدُ أن الاسم الذي يلي الاسم المضاف-وهو المضاف إليه-يأتي في الكلام قائماً مقامَ المضاف وخَلَفَاً منه فيما كان يستحقه من وجوه الإعراب، من الرفع على الفاعلية أو غيرها، والنصب على المفعولية أو ما أشبهها، والجرّ على الإضافة بالاسم أو بالحرف، وذلك إذا حُذِف المضاف. وهذا في الكلام كثيرٌ، ولكن المضاف إليه إذ ذاك على وجهين: أحدهما: أن يصحّ استبدادُ العاملِ الأول به، ويصلح لأن يكون معمولا له حقيقةً. والثاني: ألاّ يصحّ ذلك فيه.

______ (1) انظر في هذا: نشأة النحو للشيخ/ محمد الطنطاوي 278 - 279، وأوضح المسالك 3/ 164 - 167.

فالأول موقوفٌ على السماع لا يُتعدى إلى القياس فيه عنده، ذكره في شرح التسهيل (1)، فإنك إِذا قُلْت: ضربتُ زيداً، وأنتَ تريد: ضربتُ غُلامَ زيد، أو أخا زيد لم يَجُزَ، لأنه لا يُعلم أنّ الغلام هو المراد، لصلاحية ((زيدٍ)) لذلك، لكنه قد يأتي قليلاً اتَّكالاً على قرينةٍ حاليَّةٍ وقتيةٍ أو لعادةٍ مختصةٍ، أو لفَسْرِ الشاعرِ مرادَه، كقولِ عُمَرَ بن أبي ربيعة (2): لا تَلُمْنِي-عتيقُ-حسبي الَّذي بي إِنَّ بي-يا عتيقُ-/ ما قَدَ كَفَانِي 396 قال من عُنِي بشعر ابن أبي ربيعة: إن مراده: ابن أبي عتيقٍ. وقال الآخر (3): عَشيَّةَ فَرَّ الحارثيوَّنَ بَعْدَ ما دنا نحبُه في مُلْتَقَى القومِ هَو برُ وإنما أراد: ابنُ أبي هَوْبرٍ (4). كذا قال أهل البَصَرِ (5) بمثل هذا، فمثلُ هذا من المضافات المحذوفة لا يُقاسُ عليها؛ إذ ليست من قبيل ما يُعَهدُ حذفُه وما هو معلومٌ إذا حُذِف، ومن شَرْط الحذفِ العِلْمُ بالمحذوفِ، وأما إذا لم يعلَم فهو لا يجوز حذفُه، لأن طلب علمه مع عدم الدليل ضربٌ من تكليفِ علم الغيب، وهذا يمكنُ إن لم يُرِده الناظم،

______ (1) شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 180. (2) ديوانه 441، والبيت في شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 180، والتصريح 2/ 55. (3) ذو الرمة، ديوانه 647، وابن يعيش على المفصل 3/ 23، والهمع 4/ 290، واللسان: هبر. (4) في شرح الديوان لأبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي: ((يعني يزيد بن هوبر الحارثي، فقال: هوبر، للقافية)). (5) أ: البصرة. وهو خطأ.

ويمكنُ إن أراده. وأما الثاني-وهو أن لا يستبدَّ العاملُ بالمضاف إليه، ولا يصلحُ له حقيقةً- فهو قياس مُطَّرد، ومنه قوله تعالى حكايةً عن إِخوة يوسفَ-عليه السلام: - (واسأل القريةَ التي كُنَّا فيها (1))، الآية، المرادُ: واسأل أهلَ القريةِ، وقوله تعالى: {وأُشرِبُوا في قلوبهم العِجْلَ بِكُفرِهْم (2)}، المراد: حُبَّ العِجْلِ، وقوله: {ولكن البَّر من أتقّى (3)}، (ولكن البَّر من آمن بالله واليوم الآخر (4))، أي: بِرُّ من اتّقى، وبِرُّ من آمن وقوله: {فترى الذيِن في قلوبهم مَرَضٌ يسارعون فيهم (5)}، يريد: في موافَقَتِهمِ. وقوله تعالى {قَالَ هَلْ يسمعونكم إِذْ تَدْعُون (6)}، قال الفارسيّ: إنما المعنى: هل يسمعون دعاءكم؟ لأنك لا تقول: سمعتُ زيداً حتى تصل به شيئاً مما يكون مسموعاً، كقولك: كذا، أو يتحدث بكذا. قال: ويدّل على هذا قولُه تعالى: {إن تَدْعُوهم لا يسمعوا دُعاءَكم (7)}، وقال تعالى: {كلاّ إنا خلقناهم مما يعلمون (8)}، أي: من أجل ما يعلمون، يريد من أجل الطاعة، كقوله: {وما خلقتُ الجنَّ والإِنسَ إِلا ليعبُدونَ (9)}، وهو في القرآن كثيرٌ. وقالت العرب: بَنُوا فلانٍ يَطَؤُهم الطريقُ. أي: أهلُ الطريقِ (10). وقالوا: صِدْنا قَنَوين.

______ (1) الآية 82 من سورة يوسف. (2) الآية 93 من سورة البقرة. (3) الآية 189 من سورة البقرة. (4) الآية 177 من سورة البقرة. (5) الآية 52 من سورة المائدة. (6) الآية 72 من سورة الشعراء. (7) الآية 14 من سورة فاطر. (8) الآية 39 من سورة المعارج. (9) الآية 56 من سورة الذاريات. (10) الكتاب 1/ 213، 3/ 247، والخصائص 2/ 446، واللسان: وطأ.

يريدون: وَحْشَ هذا الموضعِ المختصِّ (1). ومن الشعر قولُ النابغة، أنشده سيبويه (2): وكان عَذِيرهم بجنوب سِلَّى نعامٌ قاق في بلدٍ قَفارِ أراد: عَذِير نعامٍ. وأنشد أيضاً للنابغة الجعدي (3): وكيف تُواصلُ من أصبحَتْ خِلاَلتُه كأبى مَرْحَبِ يُريد: كخلالة أبى مَرْحَبِ. وانشد أيضاً للحُطيئةِ (4): وشَرُّ المنايا مَيِّتٌ بيَن أَهْلِهِ كَهُلْكِ الفَتى قد أَسْلَم الحيَّ حاضِرُهْ أي: منيةُ ميِّتٍ. وقال زهير (5):

______ (1) الكتاب 1/ 213، واللسان، مادة: صيد. (2) الكتاب 1/ 214، وهو من شواهد الإنصاف 63، واللسان: قوق، وسلل. وانظر ملحقات شعره 242. قاق النعام: صوّت. وسِلّى: اسم موضع بالأهواز كثير التمر. (3) الكتاب 1/ 215، وهو من شواهد المقتضب 3/ 231، والمحتسب 2/ 264، والإنصاف 62، واللسان: رحب. وانظر شعر النابغة الجعدي 26. ودلائل الإعجاز 301. وابو مرحب: الظلّ، أو الذئب، أو الرجل الحسن الوجه لا باطن له. (4) الكتاب 1/ 215، والإنصاف 61. وديوان الحطيئة 45. (5) ديوانه 49. والدوابر: مأخير الحوافز، يقول: أكلت الأرض حوافرها. والأبق: شبه الكتان، أو حبال القنب، والحكمة-بفتحات-: التي على الأنف، جعل لها القدّ حكمات.

القائد الخيلَ منكوباً دوابرُها قد أُحكِمَتْ حَكمَات القِدّ والأَبَقَا وقال النابغة الذبياني (1): يوما بأجودَ منْه سَيبَ نافِلَةٍ ولا يحولُ عطاءُ اليوم دونَ غدِ وأنشد الفارسي لكثَيِّر (2): إذا ما أرادتْ خُلَّةٌ كي نزيلها أبينا وقلنا: الحاجبَّية أَوّلُ وقال رؤبةُ بن العجاج (3): وبلدٍ عاميةٍ أعماؤُهُ كأنَّ لونَ أرضهِ سماؤُهٌ وقال امرؤ القيس الكنديُّ (4): ذَعَرْتُ بها سِرْباً نقياً جلودهُ وأكرُعُه وشْىُ البُرودِ من الخالِ

______ (1) ديوانه 47 والسيب: العطاء. (2) ديوانه 255، وهو في الدلائل 379. اراد بالحاجبية عّزة، فهي من بني حاجب بن غفار. (3) ديوانه 3، والبيت في أمالي بن الشجري 1/ 366، والإنصاف 377، والمغني 695، والتصريح 2/ 339، وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 111. (4) ديوانه 37.

وقال عمران بن حطّان (1): لكِنْ أَبَتْ لِيَ آياتٌ مُنَّزلةٌ منها التلاوةُ في طه وعمرانِ وهو أكثر من أن يحصى. وقوله: ((يأتي خلفا عنه في الإعراب))، يريد أنه يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف إذا/ حُذِف، 397 فضمير ((يأتي)) عائد على ((ما)) في ((ما يلي المضاف))، وهو المضاف إليه. وفي ((عنه)) عائد على المضاف. وإنما يأتي خلفاً عنه في الإعراب غالباً لا لازماً، لقوله على أثره: ((وربّما جَرُّو الذي أبقوا)). فالمضاف إليه عند حذف المضاف على وجهين: أحدهما: أن يبقى على إعرابه كأن المضاف موجود لم يُحذف. وهو القليل. والثاني: أن ينوب عنه في إعرابه كما قال، فيرتفع على الفاعلية، كقولهم: بنو فلانٍ يَطَؤُهم الطريقُ (2). أو على الابتداء (3) كقوله: (ولكن البَّر من آمن بالله)، وعلى خبر الابتداء نحو (4): وشّرُ المنايا ميتٌ بيت أَهْلِه

______ (1) شعر الخوارج 23. ورواية عجزه فيه: عند الولاية في طه وعمران. (2) الكتاب 1/ 213، 3/ 247، والخصائص 2/ 446، واللسان: وطأ. (3) كذا في النسخ، وقد تقدّم تخريجه من قريب على أنه الحذف من الخبر، فقال: ((بّر من آمن بالله)). وهو تخريج سيبويه وقطرب. وهناك تخريج للزجاج على أنه الحذف من الاسم، والتقدير: ((ولكن ذا البرّ)). فلعله أراد هنا هذا التخريج، وهو يريد بالابتداء ما صار اسماً لِلكنَّ. انظر البحر المحيط 2/ 3. (4) تقدم البيت من قريب.

وعلى مالم يُسمَّ فاعله، كما قال ابن جني فيما رَوَى عن أبي عمرو: {ونزَّل الملائكةُ تنزيلا (1)، إنه على حذف المصدر، كأنه قال: ونُزِّل نزولُ الملائكة. وينتصب على المفعولية نحو: (واسأل القرية التي كنا فيها (2))، (قال هل يسمعونكم إذ تدعون (3). وعلى الظرفية نحو قولهم: أتينا طلوعَ الشمس وقوله (4): وقَد جَعَلَتْني من حَزِيَمةَ إِصْبَعَا أي: ذا مسافة إِصبَع وعلى المصدر كقول الأعشى، ميمون (5):

______ (1) الآية 25 من سورة الفرقان. (2) الآية 82 من سورة يوسف. (3) الآية 72 من سورة الشعراء. (4) هو الكلحبة العُرني، وصدره: وأدرك إبطاء العرادة كلُمها وهو في نوادر أبي زيد 436، والمفضليات 32، وابن يعيش على المفصل 3/ 31، والمغني 624، والرضى على الكافية 2/ 257، والخزانة 4/ 401. والعرادة: اسم فرس الكلحبة. والإبقاء: ما تبقه الفرس من العدو؛ فعتاق الخيل لا تعطي ما عندها من العدو، بل تبقي شيئاً إلى وقت الحاجة. يقول: تبعت حزيمة في هربه فلما، قربت منه أصاب فرسي عرج فتخلفت عنه، ولولا عرجها لما اسره غيري. (5) ديوانه 135، ورواية العجز فيه: وعادك ما عاد السليم مسهدا وهو من شواهد المحتسب 2/ 121، والخصائص 3/ 322، والمنصف 3/ 8، وابن الشجري في أماليه 1/ 297، وابن يعيش على المفصل 10/ 102، والمغني 624، والتصريح 2/ 55، والهمع 3/ 102. وفي شرح ابيات المغني للبغدادي 7/ 301.

أَلَم تَغْتَمِضْ عيناك لَيْلَةَ أَرْمَدا وبِتَّ كما باتَ السَّلِيمُ مُسَهَّداً أراد: اغتماضَ ليلةِ أَرمدَ، وينجرُّ بالحرفِ كقولهِ تعالى: (كالذي يُغشَى عليه من الموتِ (1))، أي: كدوران عيني الذي يُغشى عليه من الموتِ. وبالإضافة نحو (2): ولا يحولُ اليومِ دونَ غدِ أي: دون عطاء غدٍ. هذا بيان ما قال، وفيه بعد ذلك مسائلُ اربعٌ: إحداها: أَنَّ الناظم قد أطلق القول في حذف المضاف بقوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خلفاً عنه))، فدلّ على أنه عنده قياسٌ لاسماع، وإلاّ فلو كان عنده سماعاً لقيده بذلك. فإن قيل: ولو كان أيضاً قياساً لقيده بذلك. فالجواب: أن عِلْم النحو إنما هو الكلام على قياس كلام العرب، فإذا اطلق القول فيه فهو محمولٌ على أصله الذي بُني عليه. وأما السماع فإنما يتكلّم فيه النحويُّ بالانجرارِ وعلى جهة الاحتراز أن لا يقاسَ، فلذلك هنا لما لم يقيد كلامه حُمِل على ما هو الأصل في علم النحو من تقرير القياس، وإذ ذاك يتبين أن الناظم هنا آخذٌ بمذهب من قال بالقياس في حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، خلافاً للأخفش القائل بعدم القياس فيه، وذلكن القياس سائغ فيه من حيث كان الحذف في كلام العرب-على الجملة- جائزاً في العُمَد

______ (1) الآية 19 من سورة الأحزاب. (2) تقدم البيت من قريب، ص 146.

والفضلات لدلالة المعنى على المحذوف، إلا ما استُثني من الفاعل ونحوه. وإذا كان كذلك فالمضاف من جملة ذلك فيجوزُ حذفه لاسيَّما وقد ناب عنه نائبٌ لفظي، فهو أقوى في جواز الحذفِ من المبتدأ والخبر، بل هو اشبهُ شيءٍ بالفاعل إذا حُذف ومقام المفعول مقامه، وهذا قياسه. وأما السماع فكثير جداً في الكلام والشعر بحيث لا يَسَع (1) في القياس عليه إنكار. وقد مرَّ من ذلك جملةٌ، وبَّوب عليه سيبويه، وأتى منه بجملةٍ صالحةٍ نثراً/ ونظما، وقال: ((هو أكثر من ... 398 أِن أُحِصَيه)). فإن قيل: القياسُ عليه يلزمُ أمران: أحدهما: مخالفةُ الأصلِ؛ إِذ حَذْفُ المضافِ ومعاملة المضاف إلي هـ معاملته مجازٌ، والأصل الحقيقةُ، فيلزم من القياس تكثيرُ مخالفة الأصلِ والحملُ على غير الحقيقة، وذلك غير سائغٍ. وأيضاً يلزم القياسُ في الأمور المجازيّة، وذلك ممنوع. والثاني: أنه يلزم أن يقال: ضربتُ زيداً، وإنما ضربتُ غلامه أو ولده. ومثلُ هذا لا يجوز؛ إِذْ لا دليل عليه، ولا مُعرِّف به. فالجواب: أن ذلك-وإن كان مجازاً- لا يمنعهُ كونُه مجازاً من قياسه واطراده؛ ألا ترى أنك قلمَّا تجدُ كلاماً إلا وقد دخله المجازُ؛ فأشهر الكلام في الاستعمال: ضربتُ زيداً، وهو مجازٌ من أوجه ذكرها ابن جني في الخصائص (2) وغيره. وكذلك: قام أخوك، وجاء الجيشُ، وما أشبه ذلك. ومع ذلك فإنه قياسٌ مطردٌ وطريق مَهْيَعٌ، فكذلك نحوُ:

______ (1) في الأصل: ((سمع)). (2) الخصائص 2/ 452.

(اسأَلِ القرية (1)). فإن قيل: ضربتُ زيداً ونحوه كثير جداً، فكذلك حذفُ المضاف. وأما قوله: إنه مخالف للأصل فَمُسلَّم، ولكن لا يلزم عدمُ القياس فيه، لأن مخالفة الأصل القياسيّ قد يكون قياساً استعمالياً كما في ((قام)) ونحوه، أصله القياسي: قَومَ، ولم يلزم من مخالفته محذورٌ، بل صار إعلالهُ إلى إن صار ((قام)) أصلا ثانياً استعمالياً قياسياً. وبهذا يظهر أن القياسَ في الأمور المجازية سائغ إذا كثرت واطّردت. وأما الأمر الثاني فقد أجاب عنه ابن جني بأن ما شَنَّعتَ به جائز، إلا ترى أنك تقول: إنما ضربتُ زيداً، بِضَرْبِك غلامه، وأهنتهُ، بإهانتك ولده. قال: ((وهذا باب إنما يصِلحه ويفسده المعرفة [به (2)]؛ فإن فُهِم عنك في قولك: ضربتُ زيداً أنك إنما أردتَ بذلك: ضَربتُ غلامه أو أخاه أو نحو ذلك - جاز، وإن لم يُفهَم عنك لم يَجُزْ، كما أنَّك إن فُهِم بقولك: أكلت الطعام، أنك أكلتَ بعضه، لم تحتَجْ إلى البدل، وإن لم يُفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه، لم تجد بداً من البيان وأن تقول: بعضه أو نصفه أو نحو ذلك؛ ألا ترى أن الشاعر لما فُهِم عنه ما أراد بقوله، قال (3): صَبَّحن من كاظمة الحِصْن الحَزِبْ يَحْمِلن عَبَّاسَ بنَ عبدالمطلبْ وإنما أراد: عبدالله بن عباس. ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد

______ (1) الآية 82 من سورة يوسف. (2) عن الخصائص. (3) الخصائص 2/ 452، واللسان: وصى: ويروى: الخصّ الخرب.

بداً من البيان. وعلى ذلك قول الآخر (1): عَليمٌ بما أعْيَا النَّطاسيَّ حِذْيما أراد: ابنَ حِذْيمٍ (2))) فالصحيح ما ذهب إليه الناظم، والله أعلمُ. والمسألة الثانية: أنَّ قوله: ((وما يلي المضاف))، إنما يريدُ به المضاف إليه، فكأنه يقول: إن المضاف إليه يقومُ مقام المضاف إذا حُذِف. وهذا الكلامُ لا يقتضي خذفَ مضافٍ واحدٍ فقط، بل الحكم فيه مطلق، فيجوز إذاً حذفُ أكثر من مضافٍ واحدٍ، وقيامُ ما أضيف إليه مُقامه. فَحَذْفُ المضافين كقول الله تعالى: {تدورُ أَعينُهم كالّذي يُغْشَى عليه من الموتِ (3)}، فالتقديرُ: كَدَوران عَيْنَيِ الذي يُغشَى عليه من الموت. وقال الشاعر (4): وَقَدَ جَعَلتْنيِ من حَزِيَمةَ إِصْبَعَا تقديرهُ: ذا مسافَة إصَبعٍ، أو: ذَا مساحةَ إِصْبَعٍ. وقالوا: تبسَمَّت وميضَ البرقِ، أي: مثل تبَسُّمِ وميض البرق، في أحد التأويليين/ ومن ذلك قوله أيضاً قوله تعالى، حكايةً: {فَقَبَضْتُ قبضةً من أَثَر الرسول (5)}،

______ (1) أوس بن حجر، ديوانه 111، وصدره: فهل لكم فيها إلىّ فإنني والبيت في الخصائص 2/ 453، وابن يعيش على المفصل 3/ 25، والرضى على الكافية 2/ 254، والخزانة 4/ 370. أراد: فهل لكم ميل في ردّ المعزى إلىّ. وحذيم: رجل من تيم الرباب، كان متطببا عالماً. (2) الخصائص 2/ 450 - 453. (3) الآية 19 من سورة الأحزاب. (4) تقدم البيت من قريب، ص 148. (5) الآية 96 من سورة طه.

التقدير: من أثر حافِرِ فرسِ الرسول. وعلى الجملة فلا يُقَتصَر في حذفِ المضاف على الواحد، بل يجوز حذفُ مضافين فأكثر إذا كان معلوماً. والمسألة الثالثة: أنه لما قال: ((يأتي خَلَفَاً عنه في الإعراب)) كان ذلك ظاهراً في أنّ القائم مَقَام المضافِ من شرطِهِ أن يَصلُح إعرابه بإعراب المضاف، فيُرفَع ويُنَصب ويُجرّ، لأنه قال: ((يأتي خلفاً عنه)) في كذا، وما لا يقبل الإعراب كيف يكون خلفاً عنه؟ فإذاً إِذَا كان المضاف اسماً مضافا إلى جملة لم يجز خذفُه، كما قلت: انتَظرتك طَلَعَتِ الشمسُ، تريد: زَمَن طَلَعتِ الشمس، أو كان كذا الحجاجُ أميرٌ، تريد: زمن الحّجاجُ أميرٌ، وما أشبه ذلك. ولا أعني بكون المضاف إليه يُرفَع وينصب ويُجَرّ أن يكون معرباً في اللفظ، بل مما يقبُل الفاعلية والمفعولية والإضافة، فإن المضاف إليه قد يكون مبيناً نحو: {كالذي يُغْشَى عليه من الموت}، فإذا كُلُّ ما لا يصلح لواحدٍ من تلك الوجوه لا يصلح أن يُحذفَ ما أُضِيف إليه. والمسألة الرابعة: أنَّ فيما قَرَّر هنا نظراً من أربعة أوجه: أحدها: أنَّ من شَرْطِ خذِف المضافِ العِلْمَ به، إما من قرينة حالٍ، وإما من جهة أمرٍ لفظيٍّ أو معنوي، وعلى ذلك جرى الحكم عند العربِ والنحويين، وإلا فلو لم يُعَلم ما حذف لم يُدَّعَ أوَّلاً حذفُه، وكيف يُدَّعى حذفُ شيءٍ لم يدلّ دليل أن المتكلم أراده، ولو أراده المتكلم ولم يجْعَلْ على إرادتِه دليلاً، ولا أخبر بذلك، لم يصحّ لنا دعواه، إذ دعواه وَهْم مجرّدٌ لا حكم له، وإذا كان كذلك فكان الواجب على الناظم أن يشترط ذلك الشرط، لكنه لم يفعل، فاقتضى أنه يجوزُ الحذفُ من غير دليل، وذلك غير صحيح.

______

فإن قيل: قد تَقَدّم له مِراراً اشتراطُ العلم بالمحذوف على الجملة فلعلّه اكتفى بلك؛ إِذ عُلم من كلامه اشتراطهُ له. فالجواب: أنّ هذا غيرُ مطَّردٌ له، فقد يجوز الحذف وإن لم يعلم المحذوفُ، كما يحذفُ المفعول اقتصاراً، وقد تَقَدّم وجهُ ذلك. وإذا كان الحذفُ ذا وجهين في العلم به وعدمه، كان الإخلالُ بشرطه إخلالاً بالحكم المقرّر. والثاني: أنه جَعَل حَذْفَ المضافِ في التسهيل-وإن عُلمٍ- على وجهين: قياسٍ وسماعٍ، فالقياسُ هو فيما إذا امتنع استبدادُ العامل بالمضاف عليه دون المضاف، نحو: (واسأل القرية (1))؛ إذ لا يصلح أن تُسأل القريةُ نفسُها، فلابُدَّ من تقدير الأهل، وكذلك جميع ما مرَّ، والسماعُ هو فيما إذا لم يمتنع استبدادهُ به، نحو: ضربتُ زيداً، تريد: ضربتُ غُلامَ زيد، فإنه يُقِع اللَّبسَ وإن كان معلوماً من خارج، فلا يجوزُ مالم يكن في اللفظ ما يدّلُ على المراد، كقول القائل: مررت بالقرية فأكرمتني، فإنه جائز، وإن كان أهلُ القريةِ والقريةُ صالِحَين للمرور عليهما حقيقةً، لكن ذكر الإكرام بَيَّن أن المراد الأهل/ فجاز. قال: وكذلك لو فُهم بغير قرينة لفظية 400 كقولة (2) ((لا تلمني، عتيقُ))، وأتى بأشياء من هذا، فجعل المضاف-كما ترى- منه ما هو سماعٌ، ومنه ما هو قياس، والناظم هنا قد أطلق القولَ في الإجازة قياساً، ففيه ما ترى.

______ (1) الآية 82 من سورة يوسف. (2) من بيت عمر بن أبي ربيعة المتقدم، وهو: لا تلمني-عتيق-حسبي الذي بي إن بي-يا عتيق- ما قد كفاني.

والثالثُ: أن قوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خلفاً عنه))، يقتضي أنه لا يُحذفُ إلا مضاف واحد، لأن ما يلي المضافُ قد جعله هو الخلف عن المحذوف، وإذا كان خلفا عنه لم يجز حذفه، لأنه جمعٌ بين حذفُ العوِض والمعوض عنه، وايضاً فحذفه نقضُ الغرضِ، لأن معنى كونه خَلَفَاً عنه أنه قائم في اللفظ مقامه، فحذفه يناقِضُ هذا المعنى، لكن هذا غير صحيح، لأنّ حذف المضافين المتوالييين جائزٌ كما تقدم ذكره، فكان كلامهُ هنا غير محرَّرٍ. وأيضاً فإن المضاف الثاني مضافٌ إليه الأولُ، فلا يدخل تحت قوله: ((وما يلي المضافَ يأتي خلفاً)). والرابع: أن قوله ((يأتي خلفاً عنه في الإعراب)) يُعِطي بظاهره أنه إنما يَخلُفُه في وجوهِ الإعرابِ خاصَّةً؛ إِذ لو أراد غير الإعراب معه لم يُقيِّده به، فكان يقول: ((يأتي خَلَفَاً عنه))، ويسكت، فيدخلُ الإعراب وغيره. فلما لم يقل ذلك وَقَيَّد بالإعراب دلّ على اختصاص النيابة فقط، وليس كذلك، بل ينوبُ عنه في غير ذلك، فقد يقُع موقعه في التنكير فيكون نعتاً للنكرة وينتصب حالاً من المعرفة وإن كان معرفةً، لأنه ناب عن نكرة فيقول: مررتُ برجُلٍ زهيرٍ شعراً، وعنترة إقداماً، وحاتمٍ جوداً، فتصف به النكرة لأنه في تقدير: مررتُ برجلٍ مثل فلان، ولو نطقت (1) بمثل لجرى على النكرة فكذلك إذا حُذف وناب عنه المعرفة. وكذلك تقول: مررت بزيد زهيراً شعراً، وحاتما جوداً، ونحو ذلك. وكذلك يقع موقعه في غير ذلك. بل لقائل أن يقول: إن قوله ((في الإعراب))، إنما يقتضي النيابة عنه في مجرّد الرفع والنصب والجر، لا في مقتضى العامل من فاعلية أو مفعولية أو إضافة أو غير ذلك، وليس الأمر على ذلك. بل ينوب

______ (1) في الأصل، أ: قطعته.

عنه في مقتضى العامل، فقولك: بنو فلان يطؤهم الطريقُ (1)، الطريقُ فيه فاعل، وقوله: (واسأل القرية (2))، القرية فيه مفعولة، وكذلك سائر الأمثلة، فظاهر هذا لا يستقيم. والجواب عن الأول: أنَّ شرط العلم بالمحذوف لابدَّ منه، وإنما تَرَكه لكثرة المواضع التي نبَّه فيها على اشتراطه، وما اعِترُض به من مواضع الحذفِ اقتصاراً فقد تقدّم أن ذلك ليس من مواضع الحذفِ على غير علمٍ، بل هو حذفٌ بشرط العلم بالمحذوف، إلا أن العلم به تارةً يكون جُمْليا وتارة يكون تفصيليا. وقد تقدم الكلامُ على ذلك قبلُ بما يُغني عن الإعادة، فلا معنى للتكرار. وعن الثاني: أنَّ كلاَ القسمين المذكورين في التسهيل قسم واحد/ وشرطُ العلم 401 فيهما (3) معا لازمٌ، فإذا قلت: ضربتُ زيداً، وأنت تريد ضربتُ غلامه، لا يخلو أن يكون ثَمَّ ما يدل على المحذوف أولا، فإن كان ثَمَّ ما يدَّل عليه فلا إشكال في الجواز؛ إذ الدليلُ يمنعُ كون الضربِ واقعاً بزيدٍ، فلم يَستبدَّ العامل إذاً بالمضاف إليه الذي هو زيدٌ، ولا كان في حذف المصاف لبسٌ. وقد تقدّم نصُّ ابن جنِّي في ذلك، وإن لم يكن ثَمَّ ما يدلّ على المحذوف لم يجز الحذفُ بإطلاقٍ في مذهب أحدٍ من أهل العربية، فصار هذا التقسيم لا حاصل له، وصحّ إطلاقُه هنا، والله أعلم. وعن الثالث: أن حذف المضافَين يدخل تحت كلامه بطريقةٍ صناعية،

______ (1) الكتاب 1/ 213، 3/ 247، والخصائص 2/ 446، واللسان: وطأ. (2) الآية 82 من سورة يوسف. (3) فوقها في الأصل: بهما.

وذلك أن المضاف الثاني مضافٌ إلى ما يليه، فجاز حذفُه وإقامته مقامه، وأما الأول فإن الثاني لما ناب عنه غيرُه وقام مقامه حتى كأنه هو صار الأول مضافاً في التحصيل إلى ما يليه، وهو النائب عن الثاني، وكأنه في التقدير مضافٌ إلى الثاني، لأنه أُضيف إلى ما قام مقام الثاني، فكأن الثاني ثابتٌ من حيث النائب، فَصَدَق بهذا الاعتبار أن الأول مضاف إلى الثاني الذي يليه، وأن الثاني هو الذي قام مقامه. وأيضاً فيترشَّح ها بطريقة التدريج، وهي طريقةٌ صناعية، ارتضاها الأئمةُ، وذلك أنّ قولهم: تبسَّمَتْ وميضَ البرق، كان أصلهُ: تبسمَتْ مثل تبسُّم وميضَ البرق، وصار التبسّم خلفاً في الإعراب من مثْل، ثُم حذف التبسُّم من حيث كونه مضافاً لا من حيث كونُه نائباً وخلفاً وأقيم مقامه وميض، فصار: تَبسمت وميض البرق. وهو أحسنُ في الصنعةِ من حذف المضافين في التقدير عَبطةً حسب ما قرره ابن جني في الخصائصِ في نحو قوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً (1)}، والأصل فيه: لا تجزي فيه، ثم قَدَّر حذف الجارَّ فصار: لا تَجْزِيه، ثم حذف الضمير، وَجَعَله أحسنَ من حذف الجار والمجرور معاً ابتداءً، وهو رأي الأخفش (2) فيها، خلافُ ظاهر سيبويه (3). وإذا كان كذلك ساغ دخول حذف المضافين تحت كلام الناظم بمقتضى هذه الصفة؛ إذ ليس فيها ما يدفعها. وعلى أنّا إن قلنا بموجب الاعتراضِ فلا يضرّ، فالغالب في الباب حذف الواحد، وأما حذفُ أكثر من واحدٍ فقليل، ولا تكاد تجدُه إلا في مضافين خاصّة؛ إذْ لا أعلم في السماع حّذْفَ ثلاثة مضافات على التوالي، ولا أكثر من

______ (1) الآية 48 من سورة البقرة. (2) مغني اللبيب 617. (3) الكتاب 1/ 386.

ذلك، فلا دَرْك على الناظم في اختصاص حذف المضاف الواحد، على فرض انه أراد ذلك. وعن الرابع: أن اللازم للمضاف إليه من النيابة عن المضاف هذه النيابةُ المخصوصةُ في الإعراب، وأما نيابته عنه في مقتضى العامل من الفاعلية وغيرها فلازمٌ وتابع للإعراب؛ ألا ترى أَنَّك تُعرِبُ المرفوع فاعلاً أو مبتداً أو خبراً، حسب ما يطلبه العامل. وكذلك المنصوب تُعرِبه على حسب مقتضى العامل، وكذلك/ المجرور فاستغنى بذكر الملزوم عن ذكر اللازم. وأنا نيابته عن 402 المضاف في التعريف أو التنكير فأمرٌ غير لازم ولا مُسَلَّمٍ فيما قال، ولا مُطَّردٍ إن سُلِّم. أما أوّلاً فإن زُهَيرا في قولك: مررتُ برجلٍ زهيرٍ شعراً، ليس بنعتٍ (1) من النيابة؛ إذ لا نُسلِّم أنه نائب، بل من حيث تأولة بنكرة، إذ كان معنى شاعر. وأما ثانيا فإن سُلَّم أنه على حذف المضاف فليس بمطّرد في كلّ ما حُذِف منه المضاف، ولا في حكم ثابت للمضاف، وإنما هو مخصوص بنيابته عن ((مِثْلٍ)) وحده في التنكير وحده، مع أنه قليلٌ، وقد نبه على ذلك في التسهيل بقوله: ((وقد يخلُفُه في التنكير إن كان المضافُ مِثْلاً (2))) فلو أطلق النيابة لكان يُفهم له ذلك في كلِّ حكمٍ، وذلك غير صحيح. فإن قيل: وكذلك إن قٌيِّدَتِ النيابةُ بالإعراب اقتضى أنها لا تكون في غيره، وذلك غير صحيح. وأيضاً فإن المضاف-وإن حُذِف- يبقى حكمه فيكون ملتفتاً إليه في أحد الوجهين؛ ألا ترى أنك تقول: قرأت هوداً، تريد سورة هود، فلا تمنع صرف هود، وتقول: هذه الرحمن،

______ (1) في جميع النسخ: ((بحال)). وهو خطأ. (2) التسهيل 160.

فتؤنث، والمراد سورة الرحمن؛ إذ لا يجوزُ جعله اسماً للسورة، وقال الشاعر (1): يسقُون من وَرَد البريصَ عَلَيهمُ بَردَى يُصَفَّق بالرَّحيق السَّلسل فقال: يًصَفَّق، مراعاةً للمضاف. وما ذلك إلا للنيابة. فالجوابُ: أن ذلك غير صحيح، أما اختصاص النيابة في الإعراب ومقتضاه، فقد تقدم، وأما مررت برجلٍ زهيرٍ شعراً، فلا اعتراض به كما مرّ، وأما الالتفاتُ إلى المحذوف فليس للنيابة، ولكن لأن معناه حاضر فكأنه موجودٌ لفظاً، ولذلك أبقَو الإعراب الأصلي له مع حَذْفِه، حسب ما يأتي في الوجه الثاني: [(2) وإذا لم يكن للنيابة لم يبق إلا النيابة في الإعراب، وهو الذي اعتمده الناظم. ثم أخذ في الوجه الثاني (2)] من وَجْهَي حالِ المضاف إليه بعد حَذْفِ المضاف، فقال: ((وربما جّروا الذي أبقَوا)) إلى آخره. يعني أن العرب قد جاء عنها قليلاً إبقاءُ المضاف إليه على حالة من الجرّ الذي كان له قبل حذف المضافِ، ويجوز أن يكون ضمير ((جَرّوا)) عائداً على النحويين، ويكونُ ذلك عبارةً عن إجاتهم له قياساً لكن ضعيفاً، وإن كان عائدا على العرب، ففي ((ربَّما)) إشعارٌ بوجود ذلك في الكلام قليلاً.

______ (1) حسان بن ثابت، والبيت في ديوانه 122، وهو من شواهد ابن يعيش على المفصل 3/ 25، 6/ 133، والرضى على الكافية 2/ 257، والهمع 4/ 291. وفي الخزانة 4/ 381. والبريص: نهر بدمشق. والرحيق: الخمر. والسلسل: السهلة اللينة، وتصفق: تمزج. (2) سقط من أ.

وفي قوله: ((وربَّما حرّضوا)) بعضُ قلقٍ، والأولى أن لو قال: ((وربما أبقوا جَرَّ المضافِ إليه))؛ فإن قوله: ((جَروا)) يُعطي تجديد الجرِّ بعد الحذف، وليس كذلك، بل هو الجرُّ الأولُ الموجودُ قبل الحذفِ. ثم اشترط في جواز هذا الحكم أن يكون ما حُذِف-وهو المضاف-مماثلا لمضافٍ متقدّم [عُطِف (1)] عليه ذلك المحذوف، وذلك قوله: ((ولكن بشرط أن يكون ما حِذُفْ)) إلى آخره، والضمير في قوله: ((لما عليه)) عائدٌ على ((ما))، و ((ما)) واقعة (2) على المضاف المعطوف عليه، والضمير في ((عُطِف)) عائدٌ على المضاف المحذوف، و ((عليه)) متعلق/ بعطف، و ((بشرط)) متعلِّقُ ... 403 باسم فاعلٍ محذوفِ هو حالٌ من فاعل جرُّوا))، أي: ملتبسين بشرط كذا. والتقدير: وربما جرُّوا كذا بشرط أن يكون المحذوفُ مماثلاً للمضافِ الثابت الذي عطف عليه المضاف المحذوف. وقد مشتمل هذا الشرطُ على شرطين: أحدهما: أن يكون المحذوفُ معطوفاً على مضافٍ ثابتٍ، فإن كان كذلك جاز حذفُ المضاف، وإن لم يكن كذلك لم يجز، وما جاء من ذلك فلا يقاس عليه كقراءة ابن جَمّاز (3): (والله يريدُ الآخرةِ (4)))، بجرَ (الآخرةِ)؛ فإن المضافَ المحذوفَ، وهو ((عَرَضَ)) ليس بمعطوف على (عَرَضَ) الأول في قوله: (تريدون عرضَ الدنيا (4)). وكذلك ما في الحديث

______ (1) سقط من الأصل، أ. (2) في الأصل، أ: ((وافقه)). وهو خطأ. (3) هو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز الزهري المدني، مقرئ جليل ضابط، مات بعد 170 هـ انظر: غاية النهاية 1/ 315. (4) الآية 67 من سورة الأنفال. وانظر المحتسب 1/ 281 - 282، والبحر المحيط 4/ 518 - 519.

من قول الصحابي: ((قلنا: يا رسول الله، مالُبْثُه في الأرض؟ قال أربعين يوماً (1)))، على تقدير: لبثُ أربعين. وكذلك ما أنشدوه من قوله (2): رحم الله أَعظُما دَفَنُوها بسجستَان طَلْحةِ الطّلَحاتِ يريد: أَعُظمَ طلحةِ الطلحات. فهذا ونحوه مما تقدَّم فيع المضاف، ولكن/ ... 403 [لم (3)] يعطف عليه المحذوفُ. وكذلك إذا لم يتقدَّم مضاف أصلاً نحو قولهم: رأيت التيمىً تَيْمِ عَدِىًّ، على تقدير من قَدَّر (4): ذا تَيْمِ عَدِىًّ، فإنه لا يقاس عليه. والثاني: أن يكون المضافُ المحذوف مماثلا للمضافِ المتقدّم في اللفظ والمعنى، فلو كان غير مماثل له لم يجز القياس (5) فيه، فإن وجد فسماعٌ يحفظ: (والله يريدُ الأخرةِ (6))، إذا قدرنا: والله يريد باقي الآخرة، وهو تقدير شيوخنا ومن قبلهم، فلو فرضناه معطوفاً على المضاف المتقدّم لم يجز قياسهُ بمقتضى الشرطِ المذكور، فإذا توفَّر

______ (1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب خروج الدجال 4/ 117، والإمام أحمد في مسنده 4/ 181. (2) هو عبيدالله بن قيس الرقيات، ديوانه 20. والبيت من شواهد المقتضب 2/ 186، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 47. والإنصاف 41، والهمع 5/ 216، وفي الخزانة 8/ 10، واللسان: طلح. (3) سقط من صلب الأصل، أ. (4) انظر شرح المفصل لابن يعيش 5/ 142. (5) سقط من أ. (6) الآية 67 من سورة الأنفال.

الشرطان معاً جاز الحذف قياساً، نحو: ما مثُل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك، فالتقدير: ولا مثلُ أبيك. وكذلك إذا قلت: ما مثل أخيك يقول ذاك زلا أبيك، تقديره: ولا مثلُ أبيك. ومثلهُ: ما كلُّ سوداء تمرةً ولا بيضاءَ شحمةً، أي: ولا كلُّ بيضاء. وأنشد سيبويه لأبي دُؤاد (1). أكلَّ امرئٍ تَحسبينَ امرأً ونارٍ توقَّدُ باللَّيل نارا وانشد في الشَّرحِ (2): لم أَرَ مثلَ الخيرِ يتركُه الفَتَى ولا الشرِّ يأتيه الفتى وهو طائعُ؟ وقول الآخر (3): لو أنَّ الأنسِ والجن داويا الَّـ ذي بِيَ من عَفْراء ما شَفَياني وقول الآخر (4): لو أنَّ عُصمَ عمايتين ويذبُلٍ سَمِعا حديثَك أنزلا الأَوْعالا في أبيات أُخَرَ.

______ (1) الكتاب 1/ 66، والبيت في أمالي ابن الشجري 1/ 296، والإنصاف 473، وابن يعيش على المفصل 3/ 26، 27، 29، 79، 5/ 142، 8/ 52، 9/ 105، والمغني 290، وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 165، 3/ 304. (2) شرح التسهيل، ورقة 181، والهمع 4/ 292، الأشموني 2/ 273. وهو مجهول القائل. (3) شرح التسهيل، ورقة 181، والهمع 4/ 292. ولا نعرف له نسبة. (4) جرير، ديوانه 361، وهو في البغداديات 445، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 46، والهمع 1/ 142، ومعجم ما استعجم 966.

وهنا النظر في مسألتين: إحداهما: أن الناظم لم يشترط في جواز هذا الحذفِ غير ما تقدّم، فدّلَ على أنه لا يرتضي من رأى اشترطَ تَقَدُّم نفيٍ أو استفهامٍ، كما في مثل قولهم: ما مثلُ أخيك ولا أبيك يقولان ذاك، وقوله: أكلَّ امرئٍ تحسبينَ امرأً البيت. وهذا الرأيُ مرجوحُ بوجود الحذفِ مع عدم الشرط، كقول الشاعر: لو أن طبيب الجنَّ والإنسِ .. وأنشد في الشرح (1): لَغَيرُ مُغْتَبِطٍ مغْرىً بطوعِ هَوىٍ ونادِمٌ مولعٌ بالحَزْمِ والرُّشْدِ وقول الآخر (2): كلّ مُتْرٍ في رهطِه ظاهرُ الـ عزَّ دي غربةٍ وفقرٍ مَهينُ فالصواب/ عدمُ اشتراط ذاك الشرط. ... 404 والثانية: أن هذه المسألة تضمَّنت مسألتين: إحداهما، مسألة: ما مثُل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك، وما كان مثلها، وذلك مما يتعينّ فيه حذفُ المضاف؛ إذ لو كان قوله ((ولا أبيك)) على العطف لقال: ((يقول ذاك))، لأنه راجع إلى ((مثل)) الأول، وهو مفر،

______ (1) شرح التسهيل، ورقة 181. (2) شرح التسهيل، ورقة 181، والهمع 4/ 292.

فلما قال: ((يقولان))، وكان ذلك من كلام العربِ، تعيَّن أن التقدير: ((ولا مثل أبيك)). وكذلك يقال: ما مثل أخيك يقولُ ذاك ولا أبيك، يصحّ حمله على ((مثل)) الأول. والثانية، مسألة: ما كلُّ سوداءَ تمرةً ولا بيضاءَ شحمة. وهذا النمط في نفسه محتمل لأن يكون من باب العطف على معموليَ عاملين، فإن ((ما)) حجازية هنا، وكلُّ خافضة، والواو شرَّكت ما بعدها في العاملين معاً، ومحتمل أن لا يكون من باب حذف المضاف-كما قال الناظم- فهو قد ضَمَّ المسألة في ضابطه، وحكم فيها بأحد الوجهين دون الآخر، فدلَّ على أنه لم ير فيه جواز العطف على معمولي عاملين، وأنَّ رأيه في مسألة العطف رأيُ سيبويه وأكثرِ النحويين، خلافا للأخفش ومن وافقه (1). والخلافُ فيها خلافٌ في تأويل، إذ هم مُتّفقُون على جواز المسألة على الجملة، وأما الراجح في النظر عندهم فرأيُ الناظم، واحتجّوا له بأمور: منها أن حذف ما دلَّ عليه دليلٌ من حروفِ الجرّ وغيرها مجمعٌ على جوازه، والعطف على معمولي العاملين مختلفٌ في جوازه، والأكثر على منعه، وإذا كان كذلك كان المسير إلى المجمع عليه من الحذْفِ للدليل، وإلى موافقة الأكثر في منع ذلك العطف أولى من غير ذلك. ومنها: أَنَّ هذا العطف شبيه بتعدِّيين بتعدٍّ واحد، فكما لا يجوز أن يتعدى الفعلُ إلى شيئين بمعدٍّ واحدٍ، كذلك لا يجَوزُ ما هو بمنزلته. ومنها: أن العاطف نائبٌ عن العامل، وعاملٌ واحد لا يعمل رفعاً وجراً، فكذلك ما أشبهه. ومنها: أن الواو حرفٌ فلا يَقْوى أن تنُوب مناب عاملين، وإذا كان الفعلُ

______ (1) انظر الكتاب 1/ 65 - 66، والبغداديات 566، والمغني 486.

لا ينوب مناب عاملين، فالحرف أحرى بذلك الحكم لضعفه وقوة الفِعْلِ؛ ألا ترى أنه يضعُفُ عند قومٍ الفصلُ بين الواو وبين معطوفها، نحو: ضربتُ اليوم زيداً وغداً عمراً؟ فالأصحّ ما ذهب إليه الناظم، والله أعلم. * * * ثم ذكر حَذْف المضافِ إليه فقال: ويُحذَفُ الثانيِ فَيَبْقَى الأَوَّلُ كحالهِ إِذَا بِهَ يتَّصلُ بِشَرْطِ عَطْفٍ وإضافةٍ إِلى مثْل الَّذي لَهُ أَضَفْتَ الأَوَّلا يعني أنَّ المضاف إليه-وهو الثاني-يجوزُ حذفُه، كما جاز حَذْفُ المضاف، لكن يبقى إذ ذاك/ المضافُ على حاله قبل أن يُحَذفَ المضافُ إليه، فيجرّ بالكسرة وإن كان فيه ... 405 مانعُ الصَّرفِ، ولا يُرَدُّ إليه ما نُزِعَ منه للإضافة من نونٍ أو تنوينٍ، ولا يُبْنَى من أجلِ هذا الحذفِ وإِن كان مما يُبنى للقطع عن الإضافة، بل يُعَدُّ كأنَّ المضاف إليه موجودٌ، وهو معنى قوله: ((فيبقى الأولُ)) يعني المضافَ ((كحاله إذا به يتّصل))، أي: إذا يتّصل به الثاني. وهذا الحكم إنما يكون بشرطٍ ذكره، وهو أن يكون ثَمَّ عطفٌ وإضافةٌ إلى اسم يماثل الاسم الذي أَضَفْتَ إليه الأول، ومعنى هذا أن يكون ثَمَّ معطوف ومعطوف عليه، وكلاهما مضافٌ إلى اسم واحدٍ، أي: إن المضاف الأول المعطوف عليه مضاف إلى مثل ما أضيف إليه الثاني

المعطوف، وبالعكس، وذلك أنك تقول: ضربت يَدَ ورِجْلَ زيدٍ، فالأصلُ فيه: ضربت يدَ زيدٍ ورجلَ زيدٍ، وَإِنْ شِئتَ أظهرتَ ذلك، لكنّ المختار إضمارُ الثاني، أرادوا التخفيفَ وحذفَ المضافِ إليه الأول لدلالة الثاني عليه، وإبقاءَ المضاف الأول على تهيئته له، كأنه ثَمَّ، لوجوده مع المضاف الثاني، فلذلك لم يُنَوِّنوا ((يداً)). وكذلك إذا قلت: ضربتُ يَدَىْ ورِجْلَ زيدٍ، تترك ((يَدَىْ)) محذوف النون كما لو لُفِظ بزيدٍ معه. وكذلك مررتُ بأفضَلِ وأكرمِ مَنْ ثَمَّ، تترك ((أفضل)) على جرّه بالكسرة وإن كان فيه مُوجِبُ منعِ الصرف، وذلك الوصف والوزن، لأن مَنْ (1) في حكم الملفوظ به معه. وكذلك تقول: قمتُ قبلَ وبعدَ زيد، فتبقى قبل على نصبه وإِن عُدِم المضافُ إليه، ولا تَبنيهِ على الضمّ. وقد حصل الشرط الذي شرطه الناظم؛ إذ حصل في الكلام-على الجملة- عطف، وهو ((ورجْلُ زيد))، وإضافةٌ كما وصف، وهي إضافة الرجل إلى مماثلِ ما أُضِيف إليه الأولُ الذي هو اليد، وذلك قولك ((زيدٌ)). وكذلك إذا قلت: أعطيتك ستةَ دراهمَ أو سبعةَ، تريد: سبعةَ دراهمَ، فقد حصل الشرط من العطف والإضافة إلى مثل ما أُضِيف إله الأولُ، وهو الدارهم، فجاز الحذفُ قياساً. فعلى هذا يدخلُ تحت مضمونِ هذا الكلام نوعان: أحدهما: أن يكون حذفُ المضاف إليه موجوداً في المعطوف عليه، ودل على المحذوف المضافُ إليه في العطوف، كقولهم: ((قطع الله يد ورجل من قالها))، حكاه الفراء (2)، أراد: يد من قالها ورجلَ من قالها، وأنشد سيبويه

______ (1) في النسخ: ((لأن زيداً)). وهو سهو. (2) في معاني القرآن للفراء 2/ 322: ((وسمعت أبا ثروان العكلي يقول: قطع الله الغداة يد ورجل من قاله)).

للأعشى (1): وَلا نقاتِلُ بالعِصِىِّ وَلاَ نُرَامى بالحجِارَة إِلاَّ عُلاَلَةَ أو بُدَاهَةَ قَارحٍ نَهْدِ الجُزَارَةْ أراد: إِلاَّ علالة قارح أو بداهة قارح. وأنشد أيضا للفرزدق (2): يا مِنْ رِأَى عارضاً أُسَرُّبه بين ذِراعَيْ وجبهةِ الأسدِ قال ابن جنِّي: ((ومنه قولُهم: هو خيرُ وأفضلُ مَنْ ثَمّ. والنوع الثاني: أن يكون حذفُ المضاف إليه في العطوف لا في المعطوف عليه، وهو أقربُ في القياس /لتقدّم الدليل على المحذوف، ومنه ما وقع في البخاريّ من قول أبي برزَةَ ... 406 الأسلمي-رضي الله عنه- ((غَزَوتُ مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم-سبعَ غزواتٍ أو ثمانيَ (3))). هكذا بفتح الياءِ من غير تنوينٍ، يريد: أو ثمانيَ غزوات، فَحذَفَ.

______ (1) الكتاب 1/ 179، 2/ 166. وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن 2/ 321، والمبرد في المقتضب 4/ 228، وابن جني في الخصائص 2/ 407، وابن يعيش في شرح المفصل 3/ 22، والسهيلي في أماليه 131، والرضى في شرح على الكافية 1/ 117، 2/ 258، 3/ 167، وفي الخزانة 1/ 172. وانظر ديوانه 159. والعلالة: البقية من الشيء. والبداهة: المفاجأة. نهد القوائم: ضخمها. الجزارة: أطراف الجزور، وهي اليدان والرجلان والرأس. يقول لن يكون بيننا إلا مفاجأة فرس طويل العنق والقوائم يستنفد القتالُ البقية من نشاطه. (2) الكتاب 1/ 180، وهو في معاني القرآن للفراء 2/ 322، والمقتضب 4/ 229، والخصائص 2/ 407، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 21، وشرح الكافية للرضى 1/ 387، 2/ 258، والخزانة 2/ 319، 4/ 404. (3) البخاري، أبواب العمل في الصلاة، إذا انفلتت الدابة في الصلاة. انظر فتح الباري 3/ 324.

وقد يكون من لأولِ ما يتقدّمُ فيه الدليلُ على المحذوف، كما يقول: مُطِرنا سهلُ وجبلُنا، يريد: سهلُنا وجبلُنا. وأنشد المؤلِف بيتاً صدرا (1) سُقَى الأرضين الغيثُ سهلَ وحزنَها فإن تخلَّف الشرط الذي شرطه الناظم في الجواز امتنع حذفُ المضافِ قياساً، وإن جاء منه شيءٌ فموقوفٌ على محلّه، نحو ما حكاه أبو علىّ من قولهم (2): ابدأ بهذا من أوّلُ-مثلَّث اللاَّم-والشاهد فيه كسر اللاَّم من غير تنوين، والتقدير: من أولِ الأشياء، ونحو ذلك. وحكى الكسائيّ عن بعض العرب: ((افوق تنام أم أسفلَ))، على تقدير: أفوق هذا تنام أو أسفلَه؟ )) أو نحو ذلك. وقرأ ابنُ مُحيصِنٍ-فيما يروى عته-: {فلا خَوفُ عليهن (3)} بِرَفْع الفاء من غير تنوين، أي: فلا خوفُ شيءٍ عليهم. وعلى هذا حمل المؤلِّفُ قولَ بعضِ العرَب: ((سَلاَمُ عليكم (4)))، بغير تنوين، أي: سلامُ الله عليكم. وقال ذو الرُّمة (5): فلما لَبِسْنَ الليل أو حين نَصَّبَتْ له من خَذَا آذانِها وَهْو جانحُ

______ (1) عجزه: فَنِيطَتْ عُرَى الآمالِ بالزرع والضرع والبيت في شرح التسهيل لابن مالك، ورقة 177، وشواهد التوضيح له 40، والأشموني 2/ 274، والعيني 3/ 483، ولم ينسب. (2) انظر شرح الكافية الشافية لابن مالك 966 - 967، والأشموني 2/ 268. (3) الآية 38 من سورة البقرة، وانظر البحر المحيط 1/ 169. (4) انظر البحر المحيط 1/ 169، ففي الآية وهذا القول تخريجات أخرى. (5) ديوانه 897، وهو من شواهد ابن جني في الخصائص 2/ 365. يصف ذو الرمّة أُتُنا. لبسن الليل: دَخَلْن فيه، يقول: كانت مُنَكِّباتِ الرءوس، ثم رفعتها ونصبت آذانها حين برد الليل وجنح، أي: دنا. والخذا: الاسترخاء؛ يقلب: خَذِيت الأذن خذاً: استرخت من أصلها وانكسرت مقبلة على الوجه.

أراد: أو حين أقبل، كذا، قدرَّه ابنُ جني (1). فمثلُ هذا عنده غيرِ مقيس، وإنما جاز (2) ما تقدّم دون هذا لقلة هذا بالنسبة إلى ذاك، ولأن المضاف فيما تقدم لما كان مذكوراً مماثلاً للآخر، صار أحدهُما كأنه مغنٍ عن صاحبه، بخلاف ما استثنى فإنه لا دلالة في اللَّفظِ على المحذوف، فلم يكن من شأنِ اللفظ أن يَبْقى على حاله قبل الحذفِ، وصار كقبلُ وبعد وبابهما إذا قطعت عن الإضافة، تلحقها الأحكام التي من شأنها أن تلحق غير المضاف فلهذا فرّق الناظم بين الموضعين، وهو سديدٌ من النظر (3). ويبقى هنا نظرٌ في المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: النوع الأول، فإن الناظم ارتضى فيه الجواز قياساً، على تأويل حذف المضاف إليه من الأول. أما الجوازُ قياساً فهو أحد المذهبين على الجملة، وهو رأي الفراء والسيرافي. والجمهورُ على المنع، وهو مذهب سيبويه، لأنه لما أنشدَ بيتَ الأعشى المتقدّم أنشد معه بيتاً من الفصل، ثم قال: ((وهذا قبيح، يجوز في الشعر على هذا: مررتُ بخيرِ وافضلِ مَنْ ثَمَّ (4))). والراجح عند الناظم الأول، وذلك من جهة القياس والسماع. أما السماع فقد كثُر فيه كثرةٌ توجب القياس وأن قلَّ في نفسه، فلا مانعَ من القياسِ عليه.

______ (1) هذا تقدير الأصمعي كما في أدب الكاتب. ويقول ابن سيده في الاقتضاب 362: ((وذهب غير الأصمعي إلى أن (حين) يضاف إلى (نصّبت)، وأن جواب (لما) في البيت الذي بعد هذا))، بالبيت قول ذي الرمة بعدُ: حداهنَّ شحّاج كأنَّ سحيله على حافَتَيِهنْ ارتجازٌ مفاصحُ (2) في الأصل: ((أجازه)). (3) في أ: ((سديد في النظم)). وهو خطأ. (4) الكتاب 1/ 180.

وأما القياسُ فإنَّ المضاف إليه الثاني لما كان هو الأول بعينه، صار كأنه حاضرٌ في موضعه، فلذلك بَقِى بعد الحذفِ على تَهيِئَتِهِ. وأيضاً فإنَّ ذلك شبيهٌ بالإعمال، فالمضافُ الأولُ كأنه طالبٌ للمضافِ إليه الثاني / فصار حذفُ الأول كلا حذفَ، وكأنه موجودٌ. وأما تأويلُ حذفِ 407 المضاف [إليه (1)] فهو رأي المبِّرد، لأنه يُقَدِّر المسألة إعماليةً، والمختار عند البصريين إعمالُ الثاني، فكذلك هنا، قُلْتَ: قطع الله يَدَ ورجلَ من قالها، أعملت الرِّجْلَ في ((مَنْ))، وقُدِّر لليد ما يعمل فيه، ويكون محذوفاً. وهذا أحدُ المذاهبِ في تأويل المسالة. وذهب سيبويه إلى أنها من باب الفصل بين المضافِ والمضاف إليه، فكأنَّ الأصل: قطع الله يد من قالها ورجله، ثم أقحم الرِّجلُ بين المضاف والمضاف إليه، فصار في التقدير: يد ورِجلْه من قالها، ثم حذفت الهاء اجتزاءً بِمَنْ عن الضمير، وإصلاحاً للفظ، فصار: يدَ ورجلَ من قالها (2). والراجُح عن الناظم الأولُ؛ لأنك بين أمرين: أن تُقَدِّر المسألة من باب الفصلِ بين المضاف والمضاف إليه، أو تجعلها إعمالية، أما الأول فخاصٌ بالشعر أو شاذٌ في الكلام، لأنه قبيحٌ أن يُفصلَ بين شيئين هما كشيءٍ واحدٍ وليسا في تقدير المنفصلين، بل الثاني حالٌّ من الأولِ محلَّ التنوين، فلم يَسُغِ الفصل بينهما. ولا يُعَتَرضُ بنحو: {قَتْلُ أولادْهم شركائِهم (3)}، لأنه من باب الفصل بين الفعل والفاعل كما سيأتي، فهما في تقدير ما يصحُّ انفصاله، فلم يبق إلا أن يكون من باب الإعمال، حُذِفَ

______ (1) سقط من الأصل، أ. (2) هذا بيان لتخريج سيبويه نحو هذا التركيب، انظر: الكتاب 1/ 179 - 180. (3) الآية 137 من سورة الأنعام، وهذه قراءة ابن عامر، انظر: الإقناع 644.

معمولُ الأولِ وأُعمِل الثاني. ولا يقال: إن الاسمين معاص مضافان إلى الثاني، للاتفاق على بطلان ذلك؛ إِذ لا يضاف اسمان معاً إلى اسم واحد. فإِن قيل: لو كانت إعماليةً لجاز إعمالُ الأوّل عند الجميع، وإن كان غير مُنكر عند البصريين، فكنت تقول: قطع الله يد ورِجْلَه من قالها، كما يُعمِلُ الأول في الفعل. فالجواب: أن ذلك لم يجز لما يلزم من الفصل الذي فُرَّ منه، وأيضاً فيلزم على مذهب سيبويه التهيئة والقطع، لأنه حَذَفَ الضمير من الرِّجْلِ وهيَّأه للعمل في ((مَنْ))، ثم لم يُعمله. وهو ممنوعٌ عندهم، بخلاف ما ذهَبْنا إليه. فإن قيل: يلزمُ من الحذف أن يُنَوّن المضافُ؛ إِذْ صار كالمقطوع عن الإضافة، فلمَّالم يفعلوا ذلك دَلَّ على أنه مضافٌ في اللفظ إلى ((مَنْ))، ووقع الفصلُ بالرِّجْلِ المُقحَمةِ. فالجواب: أنَّ هذا مُشَتَرك الإلزامِ، فإنكم مقرُّن بأنّ الرِّجْلَ غير مضافٍ في اللفظ، بل قُطع عنها، فيلزم أن يُنَوَّن ويجرى مجرى المقطوع عن الإضافة في أحكامه. فإن قيل: إِن الظاهر وهو ((مَنْ)) ناب عن الضمير المحذوف، فكأَنَّ الرِّجْلَ مضافٌ إلى الظاهر لأنه يليه، وهو المضمرُ بعينه، فلذلك بقي المضاف على حالِهِ قبل حذف الضمير. قيل: وكذلك نقولُ نحن: لَمَّا كان اليدُ مضافاً في الأصل إلى ((مَنْ)) والدليلُ عليها المماثل لها حاضرٌ، صارت كأنهّا هي، فبقى المضاف على تهيئته وعلى الجملة. فَحَذْفُ المضاف أسهلُ من الفصل، والله أعلم. والموضعُ الثاني: هو النوع الثاني، فإِنّ الناظم حَكَم بالقياس فيه، وظاهر

______

كلام الناس أنه سماع/، وكأنه رأى مجيئَه في الحديث الذي هو أفصحُ كلام البشر، وأنه 408 ... في صحة النظر كالنوع (1) الأول؛ لأن الدليل حاضرٌ، والمحذوفَ مماثلٌ له' فصار في حكم الموجود، فعُومِل معامَلَةَ الموجود. والموضع الثالث: حيث تخلَّف الشرطُ، فإنه حكم فيه بعدم القياس، حسب ما يقتضيه مفهومُ الشرط، وظاهر التسهيل فيه القياس، فإنه قال هنالك: ((ما أُفرد لفظا من اللازم الإضافة معنىً إن نُوِى تنكيره، أو لفظ المضاف إليه، أو عُوِّض منه تنوين، أو عطف على المضاف اسم عامل في مثل المحذوف، لم يغيّر الحكم، وكذا عُكس هذا الأخير (2))). فقوله: ((أو لفظ المضاف إليه))، وهو الضَّرْبُ الذي تحرَّز منه في هذا النظم فأخرجه عن القياس، وقوله: ((أو عُطِف على المضاف اسمٌ عاملٌ في مثلِ المحذوفِ))، وقوله: ((وكذا لو عكس هذا الأخير))، هو الضرب الذي أجازه قياساً. والأظهر ما ذهب إليه هنا؛ حُكى من السماع لا يبلُغ مبلغ القياس في أمثاله، مع إمكان التأويل في بعضِه، وأيضا فقد تقدَّم فرقُ ما بين الموضعين في القياس وعدمه. * * * فَصْلَ مُضافٍ شِبْهِ فِعْلٍ ما نَصَبْ مَفعولاً أوْ ظَرْفاً أَجزْ ولم يُعَبْ فَصْلُ يَمِينٍ، واضِطراراً وُجِداَ بِأَجْنَبِيٍّ أوْ بنَعْتٍ أوْ نِداَ

______ (1) في أ: ((كالأول)). (2) التسهيل 158، وفيه: ((هذا الآخر)).

ذَكَر في هذا الفصلِ مواضعَ جوازِ الفصل بين المضافِ والمضافِ إليه، ثم أَتبعها بما لا يجوزُ ذلك فيه إلاّ ضرورةٍ، وذلك أَنَّ الأصل أن لا يُفصلَ بيتهما كما لا يُفصل بين أجزاءِ الاسم؛ إذ كان المضافُ إليه قد تنَزَّل منزلة الجزءِ أو ما هو كالجزءِ من المضافِ، لأنه واقعٌ موقع تنوينه، فصار الفصلُ بينهما محظوراً، فإن جاء جهة الاضطرار والشذوذ، لكن لما جاء فيه ما فيه كثرةٌ في بعض المواضع وساعده النظر قال بالقياس حيث كَثُر، وأبقى ما سوى ذلك على المنع إلا أن يسمع فيحفظ، وموضعُ القياس عنده على ما ذكر هنا موضعان: أحدهما: أن يكون المضافُ اسماً يُشِبه الفعلَ، والفاصلُ منصوباً على المفعولية أو الظرفية معمولاً للمضافِ، وذلك قولُه: ((فصلَ مضافِ شبْهِ فِعلٍ ما نَصَبْ))، إلى آخره. فقولهُ: ((فصلَ)) منصوب بأَجِزْ، والمصدرُ الذي هو ((فَصْلَ)) مضافٌ إلى مفعوله، و ((ما نَصَب)) هو الفاعلُ الي رفعه ((فَصْلَ)). و ((مفعولاً)): حالٌ من الضمير المحذوف من ((، نَصَب)) العائد على ((ما)) وثَمَّ مجرورٌ محذوفٌ دلّ عليه الكلامُ متعلِّق بِفَصْلَ، وتقدير الكلام: أَجِزْ أن يَفصِل مضافاً يُشبِه الفعلَ من المضاف إليه الاسمُ الذي نصبه ذلك المضافُ، مفعولاً به أو ظرفاً. فحصل من هذا الكلامِ أنّ الفصل بين المضافِ والمضاف إليه جائز بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون المضافُ اسماً يُشبِه الفعل، وذلك المصدرُ المقدَّر بأَنْ والفعِل، واسمُ الفاعل، واسم المفعول؛ لأنها التي/ تعملُ عَمَلَ الفعلِ وتُؤَدِّي معناه على التمام، وهو ... 409 الذي قال فيه: ((فَصْلَ مضافٍ شِبْهِ فِعْلٍ)).

______

والثاني أن يكون الفاصلُ بينهما معمولاً للمضاف، ولا يكون أجنبياً منه معمولاً لغيره. والثالث: أن يكون منصوباً على المفعولية أو الظرفية، فلا يكون مرفوعاً (1) به. ويجري مجرى الظرف المجرور؛ إذ هما في الحكم واحد. فإذا اجتمعت هذه الشروطُ الثلاثةُ ساغ القياسُ، فتقول: أعجبني ضَرْبُ زيداً عَمْروٍ، وقيامُ زيدٍ، وسَيرُ يومَ الجمعةِ زيدٍ. وتقول: هذا ضاربُ غداً زيدٍ، وهذا مُعطي درهماً زيدٍ. وما أشبه ذلك. وإنما قال بالقياس في هذا النمط لِمَا ثَبَتَ فيه السماعِ الذي يقاس على مثله، فمن ذلك قراءةُ ابن عامر: {وكذلك زُيِّنِ لكثير من المشركين قَتْلُ أولادَهم شُرَكائِهم (2)}، فقتلُ: اسمٌ يُشبِه الفعلَ، والفاصل الذي هو (أولادَهم) معمول القتل، وهو أيضاً منصوب، والتقدير: أن يقتلُ أولادَهم شركاءُهم. وهذه القراءة وحدها عُذرٌ لمن قاس في الموضع، لأنها نُقِلت عن موثوقٍ بعربَّيته قبل التعلّم، فإنه كان من كبار التابعين، ومن الذين يُقتَدى بهم في الفصاحة كأمثاله الين لم يعلم منهم مجاورةٌ للعجم يَحدُث بها اللحن، كذا قال ابن مالك (3). وأيضاً فهو من العدول الذين لا يُظَنّ بمثلهم إدخالُ الرأي في القراءة (4)، كما ظُنَّ بغيرهم، ولا اتباعُ خطّ المصحف مع عدم اعتباره الرواية. فالأولى في هذه القراءة (أن تجعل (5)) حجةً في الجواز، فإنها من أقوى ما يُحتَجّ به، وقد جاء

______ (1) في الأصل: معمولان. وهو خطأ. (2) الآية 137 من سورة الأنعام. (3) شرح التسهيل، ورقة 182. (4) في أ: ((القرآن)). (5) سقط من أ.

ما يُؤَيِّدها من السماع والقياس. فأما السماع فنُقِل أيضاً عن بعض السلَّفِ أَنَّه قرأ: {فلا تحسبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِه (1)}، أراد: مخلِفَ رٌسٌلِه وَعْدَه. واسمُ الفاعلِ والمصدر سواءٌ في الإضافة. ونُقل عن عبدالله بن ذَكْوَانَ (2) في كتابه أنه قال: سألني الكسائيّ عن هذا الحرفِ-وبَلَغه من قراءتنا (3)، يعني: {قتلُ أولادَهم شركائِهم} - فرأيتُه قد أعجبه ونزع بهذا البيت فيه (4): تَنْفِى يداها الحَصَى في كلِّ هاجرةٍ نَفْىّ الدراهِمَ تنفاد الصياريف هكذا أنشده، وأنشدوا من ذلك للطرمَّاح (5): يَطُفْنَ بِحُوزِىِّ المراتِعِ لم يُرَع بِواديِه من قَرعِ القسِي الكنائِنِ

______ (1) الآية 47 من سورة إبراهيم. وانظر معاني القرآن للفراء 2/ 81 - 82، والبحر المحيط 5/ 439، والمساعد 2/ 373. (2) هو عبدالله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشي الفهري، أبو عمرو ولد سنة 173 هـ، وتوفى بدمشقِ سنة 1242 هـ، روى هو وهشام بن عمار قراءة ابن عامر من طريق أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث الذماري، عنه. الف كتاب (أقسام القرآن وجوابها)، و (ما يجب على قارئ القرآن عند حركة لسانه). انظر الإقناع 105 - 106، 112 - 114، وغاية النهاية 1/ 404 - 405. (3) في الأصل: قرائنا)). (4) للفرزدق وهو من شواهد الكتاب 1/ 28، والمقتضب 2/ 256، والمحتسب 1/ 69، 258، 2/ 72، والخصائص 2/ 315، وابن الشجري في أماليه 1/ 142، 221، 2/ 93، 197، والإنصاف 27، 121، وشرح المفصل لابن يعيش 6/ 106، والرضي في شرح الكافية 2/ 261، وفي الخزانة 4/ 426. (5) ديوانه 486. والبيت في الخصائص 2/ 406، والإنصاف 429، واللسان: حوز. الحوزي: الوعل الفحل تجعله الظباء رأساً، تتبعه في المرعى ومورد الماء، وهو الذي يحوزهن ويحميهن. لم يُرَع: لم يُفَزّع. والكنائن: جمع كنانة هي جعبة السهام.

وأنشد الأخفش (1): فزججتُها بِمِزحَّةٍ زَجَّ القَلوصَ أبى مَزَادَهْ وأنشد أبو عُبَيدة مَعْمَرُ بن المثَنَّى (2): وحَلَقِ الماذِىِّ والقَوانِسِ فداسَهَمْ دَوْسَ الحصادَ الدائسِ وأنشد أيضاً لجندل بن المثنّى (3): يَفْرُكن حَيَّ لسُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بالقاع فَرْك القُطنَ المَحَالجِ هذا مما وقع فيه الفصل بالمفعول. ومما وقع فيه الفصلُ بالظرف-وفي

______ (1) البيت في معاني القرآن للفراء 1/ 358، 2/ 81، والخصائص 2/ 406، والإنصاف 427، وابن يعيش على المفصل 3/ 19، 22، والخزانة 4/ 415. يقول البغدادي عن البيت: ((من زيادات أبي الحسن الأخفش في حواشي سيبويه، فأدخله النساخ في بعض النسخ حتى شرحه الأعلم وابن خلف في جملة أبياته)). وقال الطبري في تفسيره: 8/ 44 عن هذا البيت: ((وقد رُوِى عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيّد من قرأ بما ذكرت من قراءة أهل الشام، رأيت رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه .. )). وذكر البيت. زججته: طغته بالزُّج، وهو الحديدة التي في أسفل الرمح. والمزج: رمح قصير. وأبو مزادة: كنية رجل. (2) البيت في العيني 3/ 461، وعجزه في الأشموني 2/ 276. والماذي والماذية من الدروع: السابعة. والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى البيضة من الحديد. (3) البيت في العيني 3/ 457، واللسان: كنفج، وحنبج، وحندج. ونسب في العيني إلى أبي جندل الطهوي. والبيت من قصيدة يصف فيها الجراد. الكنافج: الممتلئ. والقاع: المستوي من الارض. والمحالج: جمع محلج-بكسر الميم-وهو الآلة التي يحاج بها القطن.

معناه المجرور-ما في الحديث من قوله عليه السلام: ((هل أنتمُ تاركوُ لي صاحبِي (1)))، أراد: تاركو صاحبي لي. وقال بعضُ العربِ: تركُ يوماً نَفْسِك وهواها سعيٌ في رداها)). وأنشد سيبويه للشماخ (2): ربّ ابن عمٍّ لسْلَيمى مُشْمَعِلْ طَبّاخ ساعاتِ الكرى زادِ الكَسِلْ / على من رواه بجرِّ الزادِ. وانشد أيضاً للأخطل (3): ... 410 وكَرَّارِ خَلْفَ المُحْجَرين جَواده إذا لم يُحامِ دُون أُنْثَى حليلُها وأنشد المؤلف (4): لأَنْتَ معتادُ في الهيجا مُصَابرةٍ يَصْلَى بها كلُّ من عَاداكَ نِيرانا وأما وجهُ القياس فإنّ ما تقدَّم من الشواهد استمل على فصلٍ بِفَضلةٍ بين عاملها المضاف إلى ما هو فاعلٌ في المعنى أو مفعولٌ وبين

______ (1) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذاً خليلا 5/ 6، وشواهد التوضيح لابن مالك 167. (2) الكتاب 1/ 177، وهكذا نسب للشماخ في الكتاب، وهو في الديوان 389 - 390 منسوباً إلى جبار بن جزء أخي الشماخ. ويريد بابن عم لسليمى: عمه الشماخ. ومشمعل: سريع ماضٍ نشيط في كلّ ما أخذ فيه من العمل. وسليمى: أمرأة الشماخ. (3) الكتاب 1/ 177، وهو من شواهد الرضي في شرح الكافية 3/ 424، والخزانة 8/ 210 وانظر شعر الأخطل 620، وروايته فيه: وكرار خلف المرهقين جواده. حفاظاً إذا لم يحم أنثى حليلُها المرهق: الذي قد غشيه السلاح. (4) شرح التسهيل، ورقة 181. والبيت في المساعد 2/ 367، والعيني 3/ 485، وقال: ((لم أقف على اسم قائله)).

معموله (1)، فَحسَّن ذلك ثلاثة أمور: أحدها: كونُ الفاصلِ فضلةً، إما ظرفاً، وإما مفعولاً به، فإنه بذلك صالح لعدم الاعتداد به. والثاني: كونُه غير أجنبيّ لتعلُّقِه بالمضاف. والثالث: كونه مقدَّر التأخير؛ من أجل أن المضاف إليه مقدّر التقديم، بمقتضى الفاعلية مع المفعولية، أو المفعولية مع الظرفية. فلو لم تستعمل العرب الفصل المشار إليه لاقتضى القياسُ استعماله، لأنهم قد فَصَلوا في الشعر بالأجنبيّ كثيراً، فاستحقّ الفصلُ بغير الأجنبي مزيّةً تقتضي القول بجوازه. هذا معنى ما قاله المؤلف (2) مع زيادة شيءٍ مّا، ويُسوِّغ ذلك أيضاً كونُ الإضافة أصلُها الرفعُ أو النصبُ، فكان محصولُ هذا الفصلِ فصلاً بين فعلٍ ومرفوعه أو منصوبه ببعض معمولاته، فهو في الحقيقة تقديمُ مفعولٍ على فاعلٍ، أو ظرفٍ على مفعول؛ إِذْ كان قولُك: من قَرْعِ القِسِىَّ الكنائنِ كقولك: من قَرْعٍ (القِسِىَّ الكنائنُ (3)). وقولُك: طباخِ ساعاتِ الكرى زادِ الكَسِلْ كقولك: ((طباخٍ ساعاتٍ الكرى زادً الكًسِلْ. وكذا سائر المُثُلِ، فصار ذلك كلُّه كقولك: ضَرَبَ عمراً زيدٌ، وضربت اليوم زيداً. ولا إشكال في جواز مثل هذا. فهذه المسألة راجعةٌ إليها من جهة المعنى ومن جهة التقدير اللفظي، فلا

______ (1) في أ: ((مفعوله)). وهو خطأ. (2) شرح التسهيل، ورقة 182. (3) ما بين القوسين سقط من أ.

يُسْمَع قولُ من قال بِتَخْطِئِة ابن عامرٍ والغضِّ منه بأنه اتّبع رأيه، وخطَّ المصحف، وترك الرواية، وأن تلك القراءة لحنٌ وغير جاريةٍ على أصول كلام العرب؛ فإن هذا القول تخرُّصٌ عليه، وعدمُ توفيةٍ لحقِّ الإمامة والتقدمِ والعدالةِ ولقاءِ الصحابةِ والأَخْذِ عنهم؛ إذ كان من شيوخه الذين عَوَّل عليهم عثمانُ بن عفانَ، رضي الله عنهم أجمعين. وأيضا فهو ممّن اتّفَق الجمُّ الغفير على اتِّباعه الأثَر وعدمِ أخذه بالرأي كسائر السبعةِ وغيرهم، وممن اشتهر بِنَبْذِ الرأي واتباع السنَدِ في القراءة. ولا أعني بهذا الكلام من زَعَمَ أن [مثل (1)] هذا مختصٌّ بالشعر، وأنه شاذ غير مقيس؛ فإنَّ قائِلَ ذلك مُقِرٌّ بأنه (2) لم يُحَفَظْ مثلُه في كلام العرب، أو لم يكثر كثرةً تُعْتَبر في القياس، أو لم يُدرِكْ وَجْهَ القياس فيه، أو أدركه لكن رآه ضعيفاً. فمثلُ هذا لا كلام مَعَه ولا عَتْبَ عليه، وإنما المراد من زعم (3) أن هذه القراءة خطأٌ، وأن ابن عامرٍ رأى في مصحف الشاميّين فيه ياءٌ مُثبَتةً في (شركائهم)، فقدَّر أن الشركاءَ هم المضلُّون لهم الداعون إلى قَتْل أولادهم، فأضافَ القَتْلَ إِليهم كما يُضافُ المصدر إلى فاعله، ونصب الأولاد، ولو أضافه إلى/ المفعول وهم الأولاد لزمه ... 411 رفعُ الشركاءِ فخالف المصحف. ثُمَّ وَجّه كون (شركائهم) مرسوما بالياء على خفضه بدلاً من الأولاد لأنهم شركاء آبائهم في إهلاكهم. وأيضاً فقد تكون الياء مضمومةً بدلاً من

______ (1) سقط من صلب الأصل، أ. (2) أ، س: أنه. (3) تكلم في هذه القراءة بنحو هذا غير واحدٍ من الأعلام، انظر الفراء في معانيه 2/ 357، والطبري في تفسيره: 8/ 44، والنحاس في إعراب القرآن 1/ 583، ومكي في الكشف 1/ 454، والزمخشري في الكشاف 2/ 42، والرضي في شرح الكافية 2/ 261. وانظر النشر 2/ 263.

الهمزة على لغة: شفاه الله شفايا (1)، ويُقَدَر: زيّنه شركايُهم قال هذا القائل: وهذان الوجهان تخريج لخطّ المصحف، ولا وجه لقراءة ابن عامر. هذا ما قال. وقد تقدَّم-والحمدلله- وجهُها على ما يساعدُ عليه القياسُ المكور مضافاً إلى ما تقدَّمَ من النقل، وذلك غاية ما قصد في توجيه القراءة. وحصل من مجموع ذلك رُجحانُ ما ارتكبه الناظمُ من القول بالقياس في المسألة. غير أنّ ههنا قاعدةٌ يجب التنبيهُ عليها في الكلامِ على هذا النَّظْمِ، وما ارتكب صاحبُه فيه وفي غيره، وذلك أنَّ المعتمد في القياس عند واضعيه الأوّلين إِنما هو اتباع صلب كلام العرب وما هو الأكثر فيه فنظروا إلى ما كثُر مثلاً كثرةً مسترسلة الاستعمال فَضَبطوه ضبطا ينقاس (2) ويُتكَّلم بمثله لأنه من صريح كلامهم. وما وجدوه من ذلك لم يكثُرْ كثرةً تُوازي تلك الكثرة، ولم يَشِع في الاستعمال، انظروا: هل له من معارضٍ في قياس كلامهم أم لا؟ فما (3) لم يكن له معارض أجروا فيه القياس أيضاً، لأنهم علموا أن العرب لو استعملت مثله لكان على هذا القياس، كما قالوا في النسب إلى فَعُولة: فَعَلِىٌّ، ولم يذكروا منه في السماع إلا شَنَئِياً (4) في شَنُوءَةَ فقاسوا عليه أمثاله لعدم المعارضِ له، فصار بمثابة الكُلِّىَّ الذي لم يُوجَد من جُزئيّاته إلا واحد كشمس وقمر. وكذلك إذا تكافأ السماعان في الكثرة بحيث يصحُّ القياسُ على كلِّ واحد منهما-وإن كانا متعارِضَيْنِ في الظاهر- لأن ذلك راجع إلى جواز الوجهين كلغة الحجازيين وبني تميم في إعمال ما وإهمالها، والتقديم والتأخير في المبتدأ مع الخبر، والفاعل مع المفعول، وغير

______ (1) انظر الخصائص 1/ 292، واللسان: حما. وفيه يقول الجوهري عن نحو هذا: ((وهي لغة لبعض العرب)). (2) في صلب الأصل: ((فيقاس)). والمثبت عن هامشه، أ، س. (3) في النسخ: ((فمن لم)) , (4) في النسخ: ((إلا شنئي)).

ذلك، فليس في الحقيقة بتعارض، لا سيما إن كانا في لُغَتين مفترقتين؛ فْإنَّ اللغاتِ المفارقة الْسِنَةٌ متباينة، وقياساتٌ مستقلة، فلا تعارُضَ فيها البتة، وإن قلَّت إِحداهما بالإضافة إلى الأخرى، إلا أن تضعفَ جداً فلها حكمُها. وأما الوجهان في اللغة الواحدة فحكمها ما ذُكِر. وما كان له معارضٌ توقفوا في القياس عليه، ووقفُوه على محلّه، إذا كان المعارضُ له مقيساً، وذلك كدخول أَنْ في خبر كاد تشبيهاً بعسى، لو أعملنا نحن القياس في إدخالها لانحرفت لنا قاعدةُ عدمِ إدخالها، مع أنه الشائع في السماع. وهذا كلّه مُبَيّن في الأصول. وإِذا ثبت هذا فمسألة الناظم من هذا القبيل، أما إذا فرضناها عامةً في الفصل بين المضاف والمضافِ إِليه بإطلاقٍ، فلا مِرْيةَ أَنَّ الفصلَ قليلٌ، وعامَّتهُ في الشعر، فهو بحيثْ لا يُلتَفتُ إلى / القياس، وإذا فرضناها خاصّة في إضافة المصدر أو الصفة إلى معمولها، فنحن لا نَشُكّ 412 أَنّ عدم الفصل فيها هو الشائعُ الذائعُ، وأنّ الفصل بالنسبة إلى عدمه كالمعدوم، وأنّ ما جاء منه في الشعر وما جاء في الكلام شاذٌ في غاية الندور، فكيف نُجري فيه القياس وهو مصادمةٌ لما شاع في كلامهم من عدم الفصلِ؟ إِذ لو عزموا على القياس لكانوا خُلَقاءَ أن يتكلموا به ويكثُر في كلامهم كما كثُر عدمُ الفصل، فإن لم يفعلوا ذلك-بل أطبقوا على عدم الفصلِ-دليلٌ على عدم مراعاة ما راعاه الناظم واضحٌ، ولا يصح أن يقال: هو-وإن كان قليلا-قد ظهر له وجه من القياس، حيث جرى مجرى العامل غير المضاف في جواز بعض معمولاته على بعض؛

______

لأنا نقول: ذلك غيرُ معتبرٍ من وجهين: أحدهما: أن العلَّةَ إذا وُجِدت، وَوَجْهَ القياس إذا ظهر، لا يعتبر إلا مع شياع السماع، أو كونه في قوة الشائع لعدم المعارض، كما تقدم، وهذا ليس كذلك. والثاني: أنَّ هذا لو كان مراعىً عندهم لَكَثُرَ في كلامهم كما كثر تقديم (1) المنصوب على المرفوع في غير المضاف. ولا يلزم من عدم القول بالقياس في هذه الأشياء الواقعة في القرآن الكريم أن يكون عَدَمَ مراعاةٍ للفظ القرآن أو إخراجاً له عن الفصاحة أو نحو ذلك، كما يَظُن من لا تحقيق له! بل هو في أعلى الدرجاتِ في الفصاحة، لكنه لم يكثر مثلُه فيقاس عليه. وعلى هذا بنى سيبويه والمحقِّقُون، هذا الصواب، ولكن ابن مالك رُبَّما أهمل هذه القاعدة كما فعل هنا، ولعله يقع التنبيه على بعض مواضعَ من هذا النوع إن شاء الله. وقد خرجنا عن المقصود الأصلي لعارضٍ عَرَضَ فَلْنرجِعْ. فإن تخلَّف أحدُ الشروط المتقدمة لم يَجُزِ الفصل بين المضاف والمضاف إليه قياساً على مقتضى كلام الناظم، فلو كان المضافُ غير شبيه بالفعل لكان الفاصل أجنبياً منهما، فلم يصحَّ أن يقع بينهما. وكذلك إذا لم يكن الفاصل معمولاً للمضافِ، وإن كان المضافُ شبيهاً بالفعل. ومذلك لو كان الفاصلُ مرفوعاً، لأنه عند ذلك متمكِّن في موضعه؛ إذ كان له رتبة التقديم على المضاف إليه، فكان الفصل به فصلاً حقيقةً، فاستُكرِه الفصلُ لذلك، فإذا قلت: أعجبني غلامُ في الدار زيدٍ، لم يجز، وكذلك لو قلت: أعجبني ضاربُ عندك زيدٍ، أو قلت: أعجبني ضربُ زيدٌ عمروٍ، أو: الضاربُ أبوه الغلامِ.

______ (1) في صلب الأصل: ((ذكر المنصوب)).

وما جاء مما خالف القاعدة فسماعٌ إلا الفصل باليمين فإن ظاهر كلامه هنا إجازته قياساً، لقوله: ((ولم يُعَبْ فصلُ يمين))، وهو الموضع الثاني من موضِعَي الفصل القياسيّ، يعني أنّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالقسم لم يعيبوه حتى لا يجئَ إلا في ضرورة الشعر، بل استسْهلوا أمره، ففصلوا به في الكلام لكن قليلا، فحكى الكسائي/: هذا غلامُ-واللهِ-زيدٍ (1)، ونُقِل ... 413 عن أبي عٌبيدة أنه حكى: ((إِنَّ الشاة تسمعُ صوتَ -والله-رَبِّها فتقبلُ إليه وتَثْغُو (1)))، وحكاه ابنُ خروفٍ عنه أنه سمع ابا الدُّقَيش يقول: ((إن الشاة تسمع صَوْتَ-قد عَلِمَ الله- رَبِّها، فتقبل إليه وتثغُو)). وهذا قسمٌ أيضاً، كما فَصلوا بين حرفِ الجرّ ومجروره بالقسم أيضاً، حكاه الكسائي في الاختيار، نحو: اشتريته بِوَالله درهمٍ، فتقول على هذا قياساً: رأيت غلام-والله-زيدٍ، وأتيت بعدَ -لعمروُ الله-عمروٍ، ونحو ذلك. ووجهُ استسهال الأمر في فصل القسم خصوصاً، حتى لم يشترطوا فيه شرطاً، أَنَّ العرب استعملته على جهة التأكيد زائداً على أصل معنى الكلام، كالجلة المعترضة في أثنائه، فكأنه لا فصل ثَمَّةَ، ولذلك وقع بين إِذَنْ ومنصوبها فلم يُعَدَّ فَصْلا، ولم يمنعها أن تُؤَثّر في الفعلِ فتنصبَه، فقالوا: إذنْ-والله-أكرمَك. وهذا الموضعُ ممّا خالف فيه الجمهور من النحويين كالموضع الأول، فإن الفصل بين المضاف والمضاف إليه ممتنع في القياس عندهم بإطلاقٍ. ووجْهُ مذهب الناظم قد مرَّ آنفاً، مع أن السماع-وإن لم يكثر-فقد جاء منه ما يُمكن القياسُ عليه، وقد حَكى (2) الكسائي ذلك في الاختيار فيما هو

______ (1) الإنصاف 431. (2) في الأصل: ((حكى عن الكسائي)).

أشدّ، وذلك حرفُ الجرّ والمجرور؛ فإن الحرف أشدُّ طلباً للاتصال بمجروره من الاسم، فالاسم أحرى بالجواز. وأيضاً فقد زعم أبو عُبيدة أن من شأن العرب أنهم ينقُلون المضافَ إليه الذي موضعُه إلى جنب المضاف الأول، فيؤخِّرونه ويُقدِّمون بينه وبين المضاف الأول كلاماً، ثم لا يُغَيِّر ذلك معناه ولا إعرابه عن حاله إذا احتاجوا إلى ذلك. ,انشد على ذلك جملة أبيات، وحكى كلام أبي الدُّقَيش، فهذا كله مؤنسٌ بوجوده في النظم والنثر على الجملة، أعني الفصل على الجملة. وكونُ الفاصلِ هو القسمُ أسهلُ من غيره، فكان القول (1) بالقياس فيه صحيحاً على هذا الترتيب. وفي إطلاقه القياس في الموضعين نظرٌ من جهة أنه يقتضي جواز الفصل بإطلاق، كان المضافُ إليه ظاهراً أو مضمراً؛ أمّا الفصل مع كونه ظاهراً فمسلَّمٌ على ما قال، وأمّا مع كونه مضمراً فغيرُ مساَّم، لأنّ ضمير الجرِّ متصل أبداً فلا ينفصل البتَّة، ولا ينوبُ عنه في الفصلِ ضميرُ رفعٍ ولا نصبٍ، كما ناب في نحو [قوله (2)]: ولم يَأْسِرْ كإيَّاك آسِرُ (3) وقولهم: ما انت كأنا (4). فكان من حقِّه أن يتحرَّزَ من ذلك.

______ (1) في صلب الأصل: ((فكأن القياس فيه)). (2) عن هامش الأصل. (3) من بيت مجهول القائل، وقبله: فأجمل وأحسن في أسيرك إنه ضعيف ... والبيت في التمام في تفسير أشعار هذيل 33، وشرح الكافية للرضي 4/ 326، والهمع 4/ 197، والخزانة 10/ 194. (4) قد يدخل الكاف في السعة على الضمير المرفوع، انظر أمالي السهيلي 43، وشرح الكافية للرضي 4/ 326 - 327.

وكذلك يقتضي أيضاً جوازَ الفصل بالقسم إذا كان المضاف إليه جملة، نحو جئت يوم قام زيدٌ، وحين زيد قائم، [(1) فتقول: جئت يوم-والله-قام زيد، وحين-والله-زيدٌ قائم (1)]. وجوازُ مثل هذا بعيدٌ؛ إذ لم يسمع مثلُه، ولا يقاسُ إلا على مسموع. والجواب عن الأول: أن حكم الضمائر المتصلة مأخوذٌ من بابه، فلم يحتج إلى ذكره ههنا، وعن الثاني من وجهين، أحدهما: أن كلامه في أصل الإضافة، والأصل فيها أن يكون المضاف إليه مفرداً لا جملة. والثاني: على تسليم أنه أطلق القول قصداً، فلا مانع من الفصل وإن كان المضاف إليه جملةً، بناءً على القياس في أصل المسألة، فإنه إذا ثبت إجراء القياس كان تخصيصُ بعض المواضع دون سائرها تحكّماً بغير دليل. فإن قيل: لا يُقاس إلاّ على مسموع/ ولا سماعَ هنا ... 414 قيل: قد ثبت السماع على الجملة، ولم يكن الفصلُ ممتنعاً في الأصل من جهة وصفٍ في المضاف إليه، من كونه مفرداً أو جملة، بل من جهة أنه وقع من المضاف موقع التنوين، فالمفرد والجملة في ذلك سواء، فإذا جاز الفصلُ بينهما في بعض المواضع، إمّا لكون المضافِ إليه في الحكم لم يقع موقع التنوين لكونه منصوباً به تقديراً كالموضع الأول، وإمّا لكون الفاصل كالمعدوم حكماً كالموضع الثاني، فلا فرقَ بين المفرد والجملة في جواز الفصلِ أو منعه. وهذا واضحٌ. ثم رجع الناظمُ إلى التنبيه على ما نُقِل مخالفاً لما أَصَّل ولم تتوفَّر فيه شروطُ الجواز، فقال: ((واضطراراً وُجِدا بأجنبيٍّ))، إلى آخره، يعني

______ (1) سقط من صلب الأصل، أ.

إن الفصل بين المضاف والمضاف إليه إذا لم تُوجَد الشروطُ المذكورة، ولا الفصل بالقسم، قد وجُد في الشعر في حالة الاضطرار، وذلك الفصلُ بالأجنبي، وهو الذي لم يتعلق بالمضافِ ولا كان نعتاً له، ولا كان نداءً، وبالنعت وبالنداء، وأراد النعتِ ونعتَ المضافِ، وبالنداء مع المنادي؛ فإن حقيقة النداء هي التصويتُ بالمنادى، وذلك راجعٌ إلى الحرف المصَّوت به. ولم يقع الفصلُ به إلا مع المنادى، فلابُدَّ أن يُفسَر بهذا، أو يكون على حَذْف مضافٍ، أي: أو ذى نداء. فأما الفصل بالأجنبيِّ فنحو قول عَمرو بن قميئةَ، من أبيات الكتاب: لما رَأَتْ ساتيد ما استعبَرَتْ لله درُّ-اليومَ-مَنْ لاَمَها (1) فاليوم أجنبيّ من ((دَرّ))، لأن العامل فيه ((لامها)). وأنشد لأبي حيَّة النُّميري (2): كما خُطَّ الكتابُ بِكفِّ يوماً يَهُودِيٍّ، يُقَارِبُ أو يزِيلُ فالعامل في ((يوماً)) خُطَّ. وأنشد أيضاً لذي الرمَّة (3):

______ (1) الكتاب 1/ 178. وهو من شواهد المقتضب 4/ 377، والإنصاف 432، وشرح المفصل لابن يعيش 2/ 46، 3/ 19، 20، 77، 8/ 66. والبيت لعمرو بن قميئة، انظر ديوانه 182. ساتيد ما: جبل. واستعبرت: بكت (2) الكتاب 1/ 179. وهو من شواهد المقتضب 4/ 377، والإنصاف 432، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 103، والهمع 4/ 295. وفي العيني 3/ 470، واللسان: عجم. ورواية صدره فيه: كتحبير الكتاب بكف يوماً (3) الكتاب 1/ 179، 2/ 166، 280. وهو في المقتضب 4/ 376، والخصائص 2/ 404، والإنصاف 433، وشرح المفصل لابن يعيش 1/ 103، 2/ 108، 3/ 77، وشرح الكافية للرضي 2/ 182، 260. والخزانة 4/ 108، 413.

كأن أَصواتَ-من إيغالِهِنَّ بنا- اواخِر الميس أصواتُ الفراريج وأنشد ايضاً لِدُرْنَى بنتِ عَبْعَبة (1): هما أَخَوَا-في الحرب- من لا أَخاله إذا خافَ يوماً نبوةً فَدَعَاهُما وقال ذو الرّمّة (2): نَضَا البُرْدَ عنه وَهْوَ ذُو-مِنْ جُنُونه- أجارىَّ مِنْ تَسهاكِ صَوْتٍ صُلاصِلِ

______ = والبيت في ديوان ذي الرمة 996. والميس: الرحل، وهو في الأصل شجر تُعمل منه الرحال. والإيغال: المضيّ والإبعاد، يقال: أوغل في الأرض، أي أبعد. يريد أن رحالهم جديدة، وقد طال سيرهم فبعضُ الرحل يحكُّ بعضا، فيحصلُ مثل أصوات الفراريج من اضطراب الرحال، ولشدة السير. فصل الشاعر بين المضاف والمضاف إليه، فالتقدير: كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا. (1) الكتاب 1/ 180، والخصائص 2/ 405، وفرحة الأديب 50 - 51، والإنصاف 434، وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 19، 21، والهمع 4/ 292، والعيني 3/ 472، واللسان: أبى. نسب في اللسان إلى عمرة الخثعمية. وقد ردّد ابن السيرافي نسب دُرْنى بين أن تكون: درنى بنت عبعبعة، من بني قيس بن ثعلبة، ودرنى بنت سيّار بن صبرة بن حطان بن سيار بن عمرو بن ربيعة، وصوَّب الغندجاني النَّسب الثاني. فصل هنا بين المضاف والمضاف إليه، فالتقدير: هما أخوا من لا أخاله في الحرب. (2) ديوانه 1350، وروايته فيه: نضا البرد عنه، فهو ذُو-من جنونه أجارىَّ تسهاكٍ وصوتٍ صلاصل يصف حماراً. الأجارى: ضربٌ من العدو. والتسهاك: الإسراع في العدد. وصلاصل: له صلصلة كصوت الحديد. أراد: فهو ذو أجارى من جنونه، ففرق بين المضاف والمضاف إليه. وانظر عيار الشعر 4، والموشح 292.

وأنشد ابن جني (1): فأصبَحَتْ بعد-خَطَّ-بهجتِها كأن قَفْرتً رسُوُمَها قلَما وأما الفصلُ بالنعت، وهو نعتُ المضاف، فنحو قول الشاعر يخاطب معاوية رضى الله عنه (2): نجوتَ وقد بلَّ المرادىُّ سَيْفَه من أبي شيخِ الأباطحِ-طالبِ أراد: ابن أبي طالبٍ شيخ الأباطح، وابن أبي طالب هو عليّ رضي الله عنه: وقال الفرزدق (3): وَلَئِن حلفتُ على يديك لأحِلفَنْ بيمين- أصدق من يمينك- مقسمِ اي: بيمين مُقسِمٍ أصدقَ من يمينك. وأما الفصل بالنداء فنحو ما أنشده ابن جني وغيره (4):

______ (1) الخصائص 1/ 330، 2/ 393، والإنصاف 431، واللسان: خطط. اراد الشاعر: فأصبحت قفراً بعد بهجتها كأن قلماً خط رسومها، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالأجنبي. (2) التصريح 2/ 59، والهمع 4/ 296، والأشموني 2/ 278، والعيني 3/ 478. (3) ديوانه 2/ 226، وهو الأشموني 1/ 278، والعيني 3/ 484. (4) الخصائص 2/ 404. وهو في التصريح 2/ 60، والهمع 4/ 296، والأشموني 2/ 278، والعيني 3/ 80، وقال: ((لم أقف على اسم قائله)).

كأنَّ برذون-أبا عصامِ- زيدٍ حمار دقّ باللجامِ وَيَردُ على الناظم سؤال من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قصد هنا الإتيان بما يخالف الشروط، فكان من حقِّه أن يأتي لكل شرطٍ خُولِفَ بمثالٍ من السماع، لكنه لم يفعل، وإنما أتى بالأمثلة للفصل بما ليس بمعمولٍ للمضافِ، وهو الأجنبي، وترك غير ذلك، مع أنه قد وُجِد الفصلُ بما ليس بمنصوبٍ، بل بمرفوع، وهو معمول للمضاف/ أو لغيره، فالمعمول للمضاف قولُ الراجز (1): ... 415 ما إِنْ وَجَدْنا للهوى منِ طبِّ ولا جَهِلْنا قَهْرَ وَجْدٌ صَبِّ والمعمول لغيره ما أنشده الفارسيُّ من قول الشاعر (2): أَنْجَبَ أيامَ- والداه به- إِذْ نَجَلاه، فنِعْمَ ما نَجَلا على تأويل: أيام إذ نجلاه، ووالداه: فاعل أنجب. وهو أظهر

______ (1) التصريح 2/ 59، والهمع 4/ 297، والأشموني 2/ 279، والعيني 3/ 483، وقال: ((لم أقف على اسم قائله)). (2) الأعشى، ديوانه 235. والبيت في المحتسب 1/ 152، والتصريح 2/ 58، والهمع 4/ 297، والأشموني 2/ 277. والعيني 3/ 477. ورواية الديوان: انجب ايامُ والديه به برفع ((أيام)) وجرّ ((والديه)) بالإضافة. والبيت من قصيدة شكك ابن قتيبة في نسبة بعضها إلى الأعشى، انظر الشعر والشعراء 69.

التأويلين في البيت. وكذلك قولُ الآخر، في أظهر التأويلين (1): تَمُرُّ على ما تستمرُّ وقد شَفَت غلائِلَ-عبدُ القيس منها- صدورِها فكان أولى أن يذكره، إذ كان تتميماً لشرط نصب الفاصل، كما ذكر الفاصل الأجنبي تتميماً لشرط كونه معمولاً للمضاف. والثاني: أنه قال: ((واضطراراً وُجِد بأجنبي أو بنعتٍ أو ندا))، فجعل الأجنبي قسيماً للنداءِ، وهو قسمٌ منه؛ إذ النداء جملة مستقلة بنفسها ليس للمضاف فيها عمل، أما النعت فهو غير أجنبي فلا اعتراضَ به. والثالث: أن قوله: ((بأجنبيٍّ))، ظاهره أنه متعلق بالضمير في ((وُجِد))، وهو ضمير المصدر الموصول، كأنه يقول: واضطراراً وُجِدَ الفصلُ بأجنبي، والمعنى على هذا بلابُدٍّ، لكن فيه نظرٌ؛ فإن الضمير لا يعملُ وإن كان ضمير عاملٍ لجموده في نفسه، فلا يجوز أن يقال: مروري (2) بزيد حَسَنٌ وهو بعمر قبيحٌ، ولأنه مُغَيرَّ عن لفظ فعله؛ ألا ترى أن المصدر الصريح لا يعمل مصغراً [فأولى أن لا يعمل مضمرا؟ (3)] وإذا كان كذلك لم يستقم كلامُ الناظم في القياس، فكان مُعتَرَضاً. والجواب عن الأول: أن إتيانه بشروط جواز الفصل هو المقصودُ الأعظم، وقد عُلِم أنّ ما تخلَّف فيه شرطٌ منها غيرُ جائزٍ في القياس، ولم يبق بعد ذلك إلا

______ (1) الإنصاف 428، وشرح الكافية للرضي 2/ 260، والخزانة 4/ 413، بلا نسبة. وفي البيت تخريج آخر، تكون ((غلائل)) فيه مقطوعة عن الإضافة، ولم تنون لأنها على صيغة منتهى الجموع، فأما ((صدورها)) بالجر فهو مضاف إلى محذوف مماثل للمذكور، وأصل الكلام: شفت غلائل عبدُ القيس منها، غلائِلَ صدورها. انظر تعليق محقق الإنصاف. (2) في الأصل، أ: ((مررت)) وهو خطأ. (3) عن أ.

التنبيهُ على شُذوذٍ إِن كان، وليس من ضروريّات هذا النظم، فإن أتى بشيءٍ من ذلك فبها ونعْمَتْ، وإلاّ فلا عَتْبَ عليه؛ وأيضاً فإن قوله: ((واضطراراً وُجِدا بأجنبي)) تَنبيه على ما خالف الشرطِين الأولين، وإنّما بقى عليه التنبيه على ما خالف الثالث، ولم يأت في سماعٍ شُهِر نقلهُ عند النحويين كما شُهِر غيره مما ذكر، أعني كون الفاصِل معمولاً للمضافِ وهو مرفوع، فلعَّله تركه لهذا. وعن الثاني: أنه إنما ذكر الأجنبي ثم النداء، وجعاه قسيماً له من جهة أنه جملة معترِضةٌ تشبه جملة الاعتراض وجملة القسم، وإذا كانت كذلك بدليل وقوعها بين إِذن ومنصوبها، فليست بأجنبية، ولا أيضاً هي في موضع معمول المضاف، فلم يكن بمنزلته، فصار لها حالً بين حالين، فلم يصح أن تدخل تحت الأجنبي، ولا هي داخلة فيما تقدّم، فخالفت ما ذكر بعدها قسيماً. وعن الثالثِ من وجهين: أحدهما أن نقولَ: لا نُسلِّم أن المجرور متعلق بالضمير، بل باسم مفعولٍ (1) خاصً حذف لدلالة لفظ الفصل عليه، ويكون الضمير في ((وْجِد)) عائداً إلى المضاف، وكأنه في التقدير: واضطراراً وُجِد المضاف مفصولاً بأجنبي وبكذا وكذا، يعني من المضاف إليه، كما قال: ((فصلَ مضاف شبه فعل ما نصب))، يريد من المضاف إليه. والثاني: على تسليم أن ضمير ((وُجِدَ)) للفَصْلِ فهو يعملُ عند جماعة

______ (1) في النسخ: فاعل. والصواب ما أثبتّ.

قياساً، وعند الأكثر سماعاً/، وأنشدوا قول زهير (1): ... 416 وما الحربُ إِلاَّ ما عَلمْتِم وذقُتْمُ وما هُوَ عَنْهَا بالحدِيتِ المرجَّمِ فعنها متعلق بهو، لأنه ضمير العِلْمِ عند الأعلم (2)، وعن بمعنى الباء. أو ضمير الحديث الذي دلّ عليه الكلام. فكذلك يكون المجرور هنا متعلقا بالضمير في ((وُجِد))، ولا اعتراضَ إذاً، أَي: وُجِد الفصلُ بأجنبي حال كونه ذا اضطرارٍ * * *

______ (1) ديوانه 18، وهو من شواهد الرضي في شرح الكافية 3/ 407، والهمع 5/ 66، وفي الخزانة 8/ 119. (2) قال الأعلم: ((هو: كناية عن العِلْم، يريد: وما عِلْمُكم بالحرب. وعن بدل من الباء)). انظر الخزانة 8/ 120، وشرح الكافية للرضي 3/ 407.

المضاف إلى ياء المتكلم

بسم الله الرحمن الرحيم المْضَافُ إلى يَاء المتَكَلَّم إنما فَصل الإضافةَ إلى ياء المتكلم فَصْلا على حِدَه، لأن للمضاف لها أحكاماً ليست تُوجد مع الظاهر، ولا مع المضاف إلى الضمير غير الياء. وذلك أن المضاف إلى الياء لا يَبْقَى على حاله كما كان قبل الإضافة، بخلاف ما أضيف إلى غير الياء، فإنه يبقى على حاله قبل الإضافة، فأتى هنا بالأحكام الزائدة على ما ذكَر، المتعلقِة بالإضافة إلى الياء، فقال: اَخِرَ مَا أُضِيفَ للِيْا اكْسِرْ إذا لَمْ يَكُ مُعْتَلاً كَرَامٍ وقَذَا أَوْيَكُ كابْنَيْنِ وزَيْديِنَ فَذِى جَمِيعُها الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احتُذِى وتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ والوَاوُ وإنْ ما قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ يَهُنْ وألِفَاً سِلَّمْ وفي المقَصْوُرِ عَنْ هُذَيْلٍ انْقِلاَ بُهاَ ياءَّ حَسَنْ يعني ان آخر المضاف يكسر لأجل الياء المضافِ إليها، فيزول إذ ذاك إعرابُها، ويصير مقدَّرا بعد ما كان ظاهرا، إن قيل ببقاء إعرابه، وهو الذي يظَهر من مَسَاقه، وذلك لأن الياء تَطْلب ما قبلها بالكسر للمناسبة، والعاملُ يَطْلبه بغير ذلك، والمحلُّ واحد، لا تَسَعُه حركتان مختلفتان، فلابد أن يقضي إحداهما. وقد تقرر في الأصول أنه إذا توارد حكمان على محلٍّ واحد لا يَسع إلا

أحدهما- فالمعتبرَ الطارئ، والطارئ هنا هو الإضافة للياء، فكان كَسْر ما قبلها أولى، واطُّرِح حكمُ ظهور الإعراب، لكنه شَرطَ في هذا الحكم شرطين: أحدهما أن يكون المضاف صحيحَ الآخر، أو معتلا جاريا مَجْرى الصحيح، وذلك قوله: ((إذَا لَمْ يَكُ مُعْتَلاَّ)) إلى آخره. فـ (رَامٍ، وقَذَا) كلاهما يقدَّر فيه الإعراب على الجملة، فما لم يكن كذلك فهو الذي يُكْسَر آخره، وذلك قولك في (غلام، وصاحب): غُلاَمِي، وصَاحِبِي، وفي (فَرَس، وجارية): فَرَسيِ، وجَارِيَتيِ، وما أشبه ذلك. فهذا هو الصحيح الآخر. والجاري مَجراه ما كان آخره واوٌ مشدَّدة، أو ياء مشدَّدة، أو مُخَفَّفتان قبلهما ساكن نحو: عَدُوِّي في (عَدُوّ) ووَلِيّي في (وَلِيً)، دَلْوِي في (دلْوٍ) وظَبْيِي في (ظَبْيٍ). فاشتراطُ كونه صحيحَ الآخر مأخوذٌ من قوله: ((إذا لم يَكُ مُعْتلاً)) واستدراكُ كونه جارياً مجرى الصحيح/ مأخوذُ من المثالين في قوله: ((كرامٍ وقَذَا)) فـ (رامٍ) من القسم الذي آخره ياء قبلها كسرة، 417 هو ((المنقوص)) و (قَذَا) من القسم الذي آخره ألف، وهو ((المقصور)). وليس في الأسماء ما آخرُه واوٌ قبلها ضمة، فبقى ما آخرُه ياءٌ أو واوٌ مشدَّدتان أو مخفَّفتان قبلهما ساكن أو همزة، فدخل فيما يُكْسَر آخره والشرط الثاني ألاَّ يكون المضاف إلى الياء مُثَنَّى، ولا مجموعاً على حدِّ التثنية (1)، وذلك قوله: ((أَويَكُ كابْنَيِن وزَيْدِيِنَ)) يعني في كونهِما مثنى

______ (1) يعني جمع المذكر السالم دون غيره من الجموع.

أو مجموعاً بالواو والنون، بل يكون إمَّا مفردا، كغُلاَمِي، ويِدي، وأَخِي، أو مجموعاً جمع تكسير، كغِلْماَنِي، أو مجموعا بالألف والتاء نحو: ثَمَراتِي، وبَنَاتِي. فحينئذ يجب كَسْر آخر المضاف إذا اجتمع الشرطان. فإن تخلَّف شرطُ منهما فلا يصح كسرُ ما قبل الياء، ولكن لها حكم نَصَّ عليه بقوله: ((فَذى .. جميعُها اليا بَعْدُ فتحُها احْتُذى)) إلى آخره. ((ذى)) إشارة إلى مجموع الأمثلة التي استثناها، يعني أن حكم ياءِ المتكلمِّ. معها الفتحُ أبدا، ثم ينُظر، فإن كان آخر الاسم ياء كـ (رَامٍ) و (أبنَين) في حاله النصب والجر، و (زَيْدِينَ) كذلك في النصب والجر- أُدغمت تلك الياء في ياء المتكلم، فتقول: رامِيَّ، وغازِيَّ، في (رَامٍ، وغَازٍ) وأبصرت ابنَيَّ، ومررت بابْنَيَّ، وأكرمت زَيْدِيَّ. ومُكْرِمِيَّ، ومررت بضارِبيَّ ومُكْرِمِيَّ ووجهُ الإدغام ظاهرُ، لاجتماع المثلين. وإن كان آخر الاسم واواً كـ (زَيْدِين) في حالة الرفع- إذا لا يكون اسم متمكّن آخرهُ واوٌ قبلها ضمةٌ إلا في جمع السلامة، وإنما تصير الواو آخراً بعد حذف النون للإضافة- قُلِبت الواو ياءً، وأُدغمت في ياء المتكلك، فتقول: جاءني زَيْدِيَّ، وأقبل مُكْرِمِيَّ. وفي الحديث ((أو مُخْرِجيَّ هُمْ)) (1)؟ واصل ذلك: زَيْدُويَ، ومْكرِ مُويَ، ومُخْرِ جُويَ، فاجتمعت الواو والياء، وسَبقت إحداها بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأُدغمت في الياء، فصار: زَيْدُيَّ، ومُكْرِمُيَّ، ومُخْرِجُيَّ، بضَمَّ ما قبل الياءين، وكُسِر ما قبل الياءين لمناسبة

______ (1) أخرجه البخاري ((في كتاب بدء الوحي)) [باب 3 حديث رقم 3] فتح الباري 1/ 23.

الكسرة للياء، ومنافرة الضمة لها، فصار: زَيْدِيَّ، ومُكْرِمِيَّ، ومُخْرِجِيَّ، على لفظ المنصوب والمجرور. وإن كان آخر الاسم ألفاً فلك فيها إن كان الاسم مقصورا وجهان: أحدهما أن تتركها على حالها، فتقول: عَصَاىَ، ورَحَاىَ، وفَتَاىَ، وذلك في اللغة المشهورة. والثاني أن تقلبها ياءً، وتُدغمها في ياء المتكلك، فتقول: عَصَىَّ، ورَحَىَّ، وفَتَىَّ. وإن كان مثنى مرفوعاً فليس لك فيه إلا وجه واحد، وهو أن تتركها على حالها فتقول: غُلامَاىَ، وصًاحباىَ، وفَرَساىَ، ولا تقلبها ياء في لغة من يقلب ألف (عَصَاى) ونحوه (1). قال الفارسي: ووجهُ قلب الألف أن الموضع موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو (غُلامِى) فلم يتمكنوا من كسر الألف فقلبوها ياء، كما أنهم لما لم يتمكنوا في (الزَّيْدِينَ) من كسر الألف قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا قلب الف التَّثنية لأنه عَلَم للرفع، فلو قُلب لم يبق للرفع علامة، والتْبَسَ بالجر، فلذلكلم يَجْرِ ألفُ المثنَّى هذا المجرى. هذا وجه القلب. وأما إبقاؤها على أصلها فلا نظرَ فيه؛ إذ لا يمكن كسرهُا وهي باقية على/ حالها، 418 فتركوها كما كانت، ورَأَوْا ذلك أوْلَى من القلب. هذا شرح ما قال في حكم المعتلَّ. ثم بقى التنزيلُ على لفظه. فقوله: ((فَذِى جَميعُها الْيَا بَعْدُ فَتْحُهَا احْتُذِى)). ((ذى)) مبتدأ، وهي إشارة إلى المُثُل المذكورة، والضمير في

______ (1) وهي لغة هذيل كما سيأتي.

((جَميِعُها)) عائد على ((ذى)) والضمير المضاف إليه ((بَعْدُ)) في التقدير عائد على ((الجميع)) وفي ((فتحها)) عائد على ((الياء)). ويريد بالياء ياءَ المتكلَّم المضافَ إليها، و ((ذى)) مبتدأ أول، و ((جميعُها)) مبتدأ ثان، و ((الياء)) مبتدأ ثالث، و ((فتحُها)) مبتدأ رابع خبره ((احتُذِى)) والعائد عليه ضمير ((احتُذِى)) المقامُ مقامَ الفاعل، والجملة خبر ((الياء)) والعائد عليه منها هاء ((فتحها)) و ((الياء)) وما بعدها خبر ((جميعُها)) والعائد عليه من الخبر هو المضاف إليه ((بَعْدُ)) المقدَّر، و ((جميعُها)) وما بعده خبرُ ((ذى)) والعائد عليه هاء ((جميعُها)). فصار هذا الكلام على وِزَان قولك: فَرَسُكَ سَرْجُها فِضّتُهُ أكثرُها مُحْرَق. وأراد أن هذه المثُل تُفتح معها ياء المتكلم. و((احتُذِى)) معناه: التُزِم، ومن قولك: احتذْيتُ مثالَ كذا، أي اقتديتُ به واتبعتُه فلم أخالفه، وإذا كان كذلك فهو مُلْتزَم، إذ لو جاز غير الفتح لم يكن الفتح مُقْتَدَىً به، لجواز الانصراف منه إلى غيره. وهذا صحيح جارٍ في أقسام المعتل الذى ذَكر، فلا يجوز إسكان الياء لئلا يَلْتقي ساكنان على غير شَرْطه (1)، فلابد من التحريك. ولا يجوز أيضاً الضمُّ ولا الكسرُ لِثقَلهما على الياء، فلم يبق إلا الفتح لخفِتَّة على الياء، ولذلك تظهر في المنقوص فتحةُ الإعراب دون ضَمَّته وكسرته.

______ (1) انظر في التقاء الساكنين على غير شرطه: ابن يعيش 9/ 120، وما بعدها، والهمع 6/ 176 - 182.

وما قال هو صُلْب اللغة، ونَدر إسكانُها بعد اللف في قوله تعالى: {ومَحْيَاىْ (1)} في الوصل. وقرأ يذلك من القراء نافعُ بخلاف عنه (2). وكذلك ندر كسرُها مع غير الألف، فقد حُكى أنها لغة لبعض العرب. وعليها قراءة حمزة من السبعة {ومَا أَنْتمُ بِمُصْرِخِىَّ (1)} وهذا نادر لم يعَتد به الناظم. فإن قيل: فما حكم الياء في غير هذا؟ ومن أين يُؤخد للناظم؟ فالجواب أن الفتح والإسكان فيها جائزان، فتقول: يا غلمَى ويا غلامِى، وقد قُرئ بالوجهين في ياءات القرآن على الجملة (2). وقد يُسْتَشعر من كلامه ذلك هنا، لأنه قال: إن الفتح احتُذِى في المعتل والمثنَّى والمجموع على حَدَّه، وهو بمعنى الالتزام كما فُسَّر، فما عداه إذا لا يُلتزم فيه ذلك، بل يجوز الوجهان. ثم قال: ((وُدْغَمُ اليَافِيه والوَاوُ)). الضمير في ((فيه)) عائد إلى ((الياء)) وقبل ذلك قال: ((فَتْحُها)) فأعاد مرةً ضميرَ المؤنث، ومرةً ضميرَ الذكر، لأن الحروف تُذَكَّر تارة، وتُؤَنَّث أخرى،

______ (1) سورة الأنعام/ آية: 162. (2) السبعة لابن مجاهد 274، والنشر لابن الجزري 2/ 267. (1) سورة ابراهيم آية: 22. وانظر: السبعة 362، والنشر 2/ 298، والكشف عن وجوه القراءات 2/ 26 وقد احتدم الخلاف بين النحاة والقراء حول هذه القراءة. (2) جرت عادة المؤلفين في ((علم القراءات)) أن يفردوا باباً في ((الأصول)) لياءات الإضافة المختلف في فتحها وإسكانها في القرآن الكريم، كما جرت عادتهم بأن يعقدوا في ((الفرش)) فصولا في آخر كل سورة يذكرون فيها ما في السورة من ياءات الإضافة المختلف فيها، ومذهب القراء في فتحها أو إسكانها. وانظر مثلا: النشر 1/ 161، وما بعدها.

كما قال الراعي، أنشده سيبويه (1): كَمَا بُيّنتْ كافٌ تَلُوحُ ومِيمُها وأنشد أيضاً (2): كَافاً ومِيمَيْنِ وسِيناً طَاسِماَ ويعني أن الياء والواو اللَّذَيْن يقعان قبل ياء المتكلم يُدغمان في ياء المتكلم. أما الياء فيَجتمع المثلان فيُدغم الأولُ في الثاني، فتقول: قَاضِىَّ وغَازِىَّ، ومررتُ بابنَىَّ. وأما الواو فلا يصح إدغامها في الياء وهي واوٌ، وإنما حكُمها أن تُقْلب ياء للعلة/ 419 المتقدَّمة، وحينئذٍ تُدغم في الياء، لا أن تدغم قبل القلب، إذ لا يمكن ذلك، فكان حقه أن يحرِّر وجهَ العمل. والجواب أن إدغام الواو في الياء، وإن كان لا يصح إلا بعد القلب، أطلق عليه إدغاماً، ولم يُشْعِر بالقلب، كما يُطلق عامةُ النحويين في الحرفَيْن المتقاربين لفظَ الإدغام، من غير أن يُشعروا بقلب الأول حتى يَصيَر مع الثاني مِثْلَيْن، إذْ لا يصح إدغامُ الحرف فيما ليس مثلَه. فلما كانوا يُسامحون أنفسَهم في هذا القَدْر تابعهم الناظم فيما هو مثلُه. وايضاً فإنه أطلق القولَ بالإدغام، ولم يُبَين كيفيةَ الوصول إليه، إذ ليس موضَعه، وإنما بَيَّنه في ((التصريف)) فمنه يُؤخذ ذلك لا من هنا.

______ (1) الكتاب 3/ 260، والمقتضب 1/ 372، 4/ 40، والجمل 286، وابن يعيش 6/ 29 واللسان (كوف). وصدره: أَهَاجَتكَ آياتُ أبانَ قديمُها ويروى: أَشَاقتُك أطلالُ تَعَفتْ رسوُمُها شبه آثار الديار بحروف الكلمة، على ما جرت به عادتهم من تشبيه الرسوم بحروف المعجم. (2) الكتاب 3/ 260، والمقتضب 4/ 40، والجمل 286، وابن يعيش 6/ 29، والمخصص 17/ 49 والطاسم: الدارس، وكذلك: الطامس. والقول فيه كالقول في سابقه، استشهاداً ومعنى.

ولما كانت الضمة قبل الياء لا تَثْبُت، بل تُقلب كسرة لمناسبة الياء، ولتِصَحَّ- نَبَّه على ذلك بقوله: ((وإنْ ما قَبْلَ وَاوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ يَهُنْ)). يَعني أن الواو المدغمة في ياء المتكلم إن قبلها ضمةٌ كُمْسلمِوُنَ وصَالِحُونَ- فالحكمُ التصريفيُّ فيهما مضافيْن إلى الياء يُؤَدِّي إلى قلب الضمة كسرة، وذلك سيأتي ذكره في ((التصريف)) إن شاء الله. ووجهُ قلب الضمة هنا استثقالُها، لعدم مناسبتها للياء، بخلاف الكسرة، فإنها تناسب الياءَ بعدها، فيزول الاستثقال، ويَسْهُل النطق. وهذا معنى قوله: ((فَكْسِرْهُ يَهُنْ)) أي اكسر الحرف المضموم يَسْهُل النطقُ بالكلمة، تقول: هانَ الشيءُ يَهُونُ، هَوْناً، إذا خَفَّ، وهَوَّ نَهُ اللهُ، أي خَفَّفه وسَهَّله. فأما إن لم يَنْضم ما قبل الواو فلا يُكسر بعد إدغامها في الياء، بل يبقى على حالته بمقتضى المفهومِ الشَّرْطِيَّ في قوله: ((وإنْ مَا قَبْلَ واوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ)) فتقول في (مُصْطَفَوْنَ): مُصْطَفَىَّ، فتترك ما قبل الياء على فَتْحه، وكذلك تقول في (مُوسَوْنَ): مُوسَىَّ، وفي (الأعْلَوْنَ): أَعْلَىَّ. وما أشبه ذلك. وإنما لم يكُسْر لأمرين: أحدهما أن سبب الكسر في (زَيْدِيَّ) استثقالُ الضمة، وهي هنا مُنْتَفية، فلا مُوجِب للانتقال إلى الكسر مع أن الفتح قبل الياء غير مُسْتثقل. والثاني أنهم لو كَسروا هنا لالْتَبس المقصورُ بالمنقوص في الجمع المضاف إلى الياء، فإنك تقول في (قَاضُونَ): قاضِىَّ. فلو قلت في (مُوسْونَ): مُوسِىَّ: لأوهم أنه جمع (مُوسٍ) لا جمع (مُوسىَ) فالفتحة قبل الواو في (مُوسَوْنَ) إنما هي مُحْرِزَة للألف المحذوفة، فلا سبيلَ إلى زوالها لغير مُوجِب.

واعلم أن قوله: ((وإنْ ما قَبْل واوٍ ضُمَّ فاكْسِرْهُ)) مُشْكل، فإن الواو في الحكم الذي قَررَّ إما أن تكون موجودة لم تَنْقلب بَعْدُ إلى الياء، أو قد انقلبت إلى الياء، فإن كانت لم تَنْقلب بعدُ فلا سبيل إلى الكَسْر، لأن الواو تَطْلُب بضم ما قبلها، ولا يتأتىَّ الكسرُ معها. وإن كانت قد انقلبت كان تعبيره بالواو غيرَ صحيح، لأن الواو في الحال معدومة، والياء هي الموجودة، فكان الأحقَّ أن يقول: وإنْ ما قبلَ ياءٍ ضُم فاكْسِرْه، لأنه قد أَمرَ بقَلْبها ياء/ 420 بقوله: ((وتُدْغَم الْيَا فِيهِ والواوُ)) فإذا كانت الواو قد أُدغمت فهي ياءٌ لا واوٌ، فكلامهُ على كلا التقديَريْنِ لا يستقيم. والجواب عن ذلك أنا نَلتزم كلَّ واحد من التقديَريْن، فإنه يمكن أن يُقصد أحدُهما، لصحة كل واحد أن يُنَزَّل كلامهُ عليه. أما إن أراد الثاني، وهو أن تكون الواو قد انقلبت، ثم كُسِر ما قبلها- فعبارته صحيحة، وإنما ذكَر الواو اعتباراً بما كانت عليه في الأصل، فكأنه يقول: وإن كان ما قبل الواو المنقلبة الآن مضموماً فاكْسِرْه يَسْهُلْ بذلك النطقُ بها. ومعنى ذلك أن للواو في الإعلال حكمين: أحدهما إدغامُها في الياء، والآخر كسرُ ما قبلها. ولو عَبَّر بهذه العبارة لم يكن عليه اعتراض، فكذلك ما قال. وهو ظاهر. وأما إن أراد الأول، وهو أن يقع الكسرُ قبل الانقلاب، فإن ذلك صحيح أيضاً في الصَّنْعة التَّصْريفَّية، بناء على أحد الوجهين الجائزين في الإعلالين إذا عَرَضا في الكلمة: بأيَّهما يُبْدأ، أبأولهما أم بآخرهما

فهذا على البدء بأولهما. ووجهُه أنه ينبغي أن يكون العمل في التغيير على حسب العمل في النطق، لِيجْتَاز بالحروف وقد ترتَّبت على حسب ما يُوجبه العملُ فيها. وما أُورد، من أن الواو تَطْلب بضم ما قبلها، فغيرُ وارد، لانهم لمَ يقصدوا إقرار الكسرة مع بقاء الواو، فهنالك يلزم المحذور المذكور، وإنما قَصدوا بالكسر أن تَنْقلب الواو ياء، لِيتَوَصَّلوا إلى الإدغام، لأن الواو لا تُدغم في الياء إلا بعد قلبها ياء، فمِنْ شأنهم أن يُعِلوُّا الحركة والحرف، لا لعلَّةٍ فيه، بل لِيتَوصَّلوا إلى ما قصَدوا، من الإعلال في موضع آخر. ألاَ ترى أنهم قالوا في وَجْه تصريف (مَطَايَا): إنه لما صار إلى (مَطَائِىُ) على مثال (مَطَاعيُ) قلبوا كسرة الهمزة فتحة، لا لعِلَّة هنالك، بل لِيتَوصَّلوا إلى قلب الياء التي بعدها ألفا، فصار (مَطَاءَيُ)، ثم قلبوا الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وكذلك (أَوَزَّةُ) أصله (أَوْزَزَةٌ) على (أَفْعَلَةٌ) فأرادوا أن يتوصلوا إلى إدغام المثلَيْن لِثقَلهما في النطق، فلم يُمِكنْهم ذلك مع تحريك الزاي الأولى، فنقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، لا لِعلَّة فيها نفسِها، بل ليَتَوصَّلوا إلى الإدغام. وأمثلة هذا الأصل في ((التصريف)) كثيرة جداً، أصلها كلها أنهم ممَّا

يُقْدِمون على التَّغيير عَبْطَةً (1). ليتَوصَّلوا إلى التغيير القياسي، ولذلك إذا فرضنا أنهم أدغموا في مسألتنا قبل الكسر فلابُدَّ لهم من قلب الواو ياء، لِيَتأَتَّى لهم الإدغام، وإلا فلا يمكن مع بقاء الواو على حالها، فالسؤال بعينه لازمٌ فيه، إذ يقال: كيف يصح قلبُ الواو ياء وقبلَها ضمة، وهذا الواو، كما في (مُوقِنٍ، ومُوسِرٍ) أصله (مُيْقِنٌ، ومُيْسِرٌ) فما أَلزْم السائلُ في الابتداء بالكَسْر قبل الإدغام لازمُ له الابتداء بالإدغام قبل الكسر، وكلاهما إعلال أيضاً لغير مُوجِب، بل ليُتَوصَّل به إلى إعلال آخر يصح في قياس الصناعة، فإن قلب الواو ياء لا مُوجِب له إلا التوصَّل، كما أن قلب الضمة / كسرة لا مُوجب له إلا التوصَّل، فالإعلال للتوصل لا يَمنع منه مانعٌ لفظي، وإلاَّ كان 421 نقضاً للغرض، وإنما يكون مانعاً مع فرض بقاء اللفظ بعدُ على حاله، وذلك غير موجود في مسألتنا. فإن كان الناظم قَصد قَلْب الضمة كسرة، والواوُ بعدُ لم تنقلب، فهو بناءٌ على طريقة الابتداء بتغيير أول المعتلَّين. وعلى هذا الترتيب يكون قوله: ((فاكْسِرْه يَهُنْ (معناه اكْسِرْ ما قبل الواو الموجودة بَهُن الإدغامُ، فيكون ضمير ((يَهُنْ))) (2) عائدا على الإدغام المفهوم من قوله: ((وتُدْغَمُ الْيَا فِيهِ والواوُ)). وإنما يَسْهُل الإدغام بذلك، لأنك إذا قلبتَ الضمةَ كسرةً لم يصح للواو، وهي ساكنةٌ، استقرارُ بعدها، بل يجب قلبُها ياء، كواو (مِيزَان،

______ (1) يقال: عَبط الذبيحةَ، يَعْبِطها عَبْطا، واعتبَطها، إذا نحرها من غير داء ولا كسر، وهما سمينة فتيّة. ومات عَبْطةٌ، أي شاباً، وقيل: شاباً صحيحاً. هذا أصل المادة، والمراد هنا التغيير بدون سبب واضح. وقوله: ((ممَّا)) معناه ((رُبَّما)) وهو منتشر في كتاب سيبويه. (2) ما بين القوسين ساقط من الأصل، و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

ومِيَعاد) أصله (مِوْزَان، ومِوْعَاد) وإذا انقلبت حصل الإدغام لوجود شَرْطه، فهو لذلك سَهْل. بخلاف ما إذا كان ما قبل الواو باقياً على ضَمَّة، فإن قلب الواو إذ ذاك فيه تَكَلُّفٌ في الصناعة، كما سيَذكره بُعَيْد هذا. وإن كان قد قصد أن الكسر حصل بعد الإدغام، على ما تقدم- فشاذٌّ على الوجه الآخر في الإعلالين إذا وَرَدا، بأيَّهِما يُبْدأ؟ وهو البَدْء بآخرهما. ووجهُه أن الأواخر أضعفُ من غيرها، فلذلك كثر الإعلال فيها دون الأوائل (1)، فكأنهم، على هذا الوجه، أرادوا الإدغام، فاجتملوا قلب الواو ياء، ليتوصَّلوا إلى ذلك، ثم ناسَبُوا بين الياء والحركة، بأن قلبوا الضمة كسرة ليهَوُنَ النطق، كما تقدم في تفسيره. فإن قيل: فقد تحصَّل إذ في قوله: ((فاكسِرْهُ بَهُنْ)) تفسيران، كلاهما تعليلُ للكسر، أحدهما أن يكون المعنى: يَسْهُل النطق به مع الياء، وهو على طريقة البدء بآخر التَّغييرَيَنْ. والثاني أن يكون المعنى: يَسْهُل الإدغام، أو التوصُّل إلى الإدغام، وهو على الطريقة الأخرى. وهذان التعليلان غيرُ ما ذكره الناس، إذ العباره المعتادة في هذا أن يقال: وقُلٍبت الضمة كسرةٌ لتصحَّ الياء، يريدون أن الضمة لو بَقيت بعد قلب الواو ياءً لم يَسُغْ للياء أن تبقى على حالها، بل تصير إلى أصلها من الواو، للضمة قبلها، وذلك نقضَ للغرض. فهذا تعليلهم، وهو مناسب. وما تقدم أمرٌ آخرُ غريب، فكان الأَوْلَى أن

______ (1) في الأصل، و (ت) ((دون الأواخر)) وهو سهو من الناسخ، وما أثبته من (س).

يعلِّل بما قاله الناس. فالجواب أن كلا التعليلَيْن صحيح في نفسه ومناسب، وغير خارج عما قاله الناس. أما تسُهْيل النطق فهو الحِكْمة في صحة الياء إذا كُسر ما قبلها، أو قَلْبِها واوا إذا بقى على ضمه، فإنك إذا قلت: (زَيْدُىَّ) فضممت الدال بعد قلب واو الرفع ياء- كان ذلك ثقيلا، تطَّرِح العربُ التكلمَ بمثله، فلا بد من أحد أمرين: إما أن لا تُراجع الأصل، فتقول: (زيْدُوى! ) لتَتنَاسب الواوُ والضمة، فيَسْهُل النطق بهما. وإما أن تكَسْر ما قبل الياء لتتناسب الياء والكسرة فيسهل النطق بهما أيضا، إلا أن الأول يلزم منه الرجوع/ إلى ما فَرُّوا منه، من اجتماع الواو والياء وسَبْق إحداهما بالسكون، وهو 422 ثقيل في النطق، فلم يَبْقَ إلا الثاني. فما عَلَّل به الناظم هو حِكْمةُ ما عَلَّل به الناس، والحكمة إذا كانت ظاهرةً منُضَبِطةً فالتعليلُ بها جائز حسبما أَصَّله أهلُ الأصول. وإنما عَلَّل النحاة الكسرَ بتصحيح الياء بناءً على إحدى الطريقتين. وأما تسهيل الإدغام فهو، وإن لمَ ينُصُّوا عليه على الخصوص، فهو في قوة المنصوص عليه، فإنه داخل تحت قاعدة ((الإعلالُ الذي يُتَّوصَّلُ به إلى إعلال آخر)) وأكثر النحاة لم يُفَرَّعوا في مسألتنا عليه، مع أنه صحيح في نفسه، وهو تعليل بالمَظِنَّة، والأول تعليلُ بالحكمة. فإن قيل: فما رأى الناظم في اختيار إحدى الطريقتيْن؟

فالجواب أن مذهبه محتَمل، لا أقطعُ له على أحد الوجهين، ولعلهما معاً جائزان عنده، إلا أن الذي ختار ابنُ جني أن الأول هو الموافقُ لطريقة الملاطَفة والملاينة، وترِك العُنْف على اللفظ إلا تدريجا وَتأْنيساً، كما إذا قلت في (أجْرٍ) جمع (جَرْو) وأصله (أجْرُوٌ): إنهم قلبوا الضمة كسرةً أولا، لأنها أضعف، ثم تدَرَّجوا إلى قلب الواو ياءً لأجلها، فلم يقُدموا على الحرف الأقوى إلا بعد أن أَنَّسُوا بالإقدام على الحركة الضعيفة، ولو عكسوا لكان إقداماً على الأقوى من غير تدريج ولا تَأْنيس، فلم يكن موافقا للملاطفة. وعلى هذا يكون رأيه في مسألتنا البدءَ بقلب الضمة كسرة. وقد نَصَّ على مثلها في كتاب ((الخصائص)) (1). واعلم أني إنما تَتَبَعَّتُ هذا الموضع هنا، وكان اللائق به ((باب التَّصْريف)) لأن الناظم لم يتعرَّض للمسألة هنالك، وإنما ذكَر هناك قلبَ الواو ياء، وإدغامَ الياء في الياء، وتَرَك ذكرَ انقلاب الضمة مسرة، فأظنُّه إنما تَرك ذلك هنالك إحالةً على هذا الموضع. وسيأتي التَّنْبيه على ذلك إن شاء الله. فكان تَخْلِيصُ المسألةِ هنا بحسب ما أعطاه النَّظَرُ في كلامه أوْلَى. ثم قال: ((وألفاً سَلِّمْ)) يعني أن الألف في آخر المعتلِّ بخلاف الياء والواو، فالحكم فيها أن تُبقيها على حالها دون إعلال أو قلب، كانت الألف للتَّثْنية أو لغيرها، ولا تَقْلِب ألف التَّثْنية هنا أصلا. وأما ألف المقصور فعدمُ القلب وتركُها سالمةً هي اللغة المشهورة. وجاء في المقصور خاصةً عن هذيل قلبُ الألف ياء وإدغامُها في الياء كالواو. وبَيَّن ذلك بقوله: ((وفي المقْصِورِ عَنْ هُذَيْلٍ ياء حَسنُ)) الضمير

______ (1) انظر: الجزء 2/ 470 ((باب في ملاطفة الصنعة)).

في ((أنقِلاَبُها)) راجع إلى ألف المقصور، يَعني أن انقلاب الألف في المقصور ياء عند هُذَيْل حَسَنٌ، فتقول: (عَصَىَّ) في عَصَاىَ، و (هُدَىَّ) في: هُدَاىَ، وما أشبه ذلك قراءة عاصم الجَحْدري، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر البصري (1) - {فَمَنْ تَبِعّ هُدّىَّ} (2) و {إنَّهُ رَبَّي أَحْسَنَ مَثْوىَّ} (3) ... / و {قَاَل هِيَ عَصَىَّ} (4) ورُوِيت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ... 423 وكذلك قرأ ابن أبي إسحاق وابن أبي عَبْلة وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر (يَا بُشْرَىَّ هَذَا غُلاَمٌ) (5) وقال أبو ذُؤَيْب الهُذَلي (6): سَبَقُوا هَوَىَّ وأعْنَقُوا لِهَواهُم فَتُخرِّمُوا ولِكُلِّ جِنْبٍ مَصْرَعُ

______ (1) البحر المحيط 1/ 169. (2) سورة البقرة/ الآية: 38. (3) سورة يوسف عليه السلام/ الآية: 23، وانظر: البحر المحيط 5/ 294. (4) سورة طه/ الآية 18، وانظر: البحر المحيط 6/ 234. (5) سورة يوسف عليه السلام/ الآية: 19، وانظر البحر المحيط 5/ 290. (6) المحتسب 1/ 76، وابن الشجري 1/ 281، وابن يعيش 3/ 33، والتصريح 2/ 61، والأشموني 2/ 282، والهمع 4/ 298، والدرر 2/ 68، والعيني 3/ 493، وديوان الهذليين 1/ 2، والبيت من قصيدة له، يرثي بنيه الخمسة الذين ماتوا جميعا في طاعون واحد. وأعنقوا: أسرعوا، من (العَنَق) بفتحتين، وهو نوع من السير السريع، أو تبع بعضهم بعضا في الموت وتخرموا: اخترمتهم المنية، واختطفتهم واحدا بعد واحد. والضمير في قوله: ((سبقوا)) عائد على بنيه الذين ذكرهم في بيت سابق، وهو: أَوْدَى بَنْيِ وأعْقَبوني حَسْرةٌ عند الرُّقادِ وعَبْرَةٌ لا تُقْلِعُ

وأنشد قُطْرب وغيرْه للمنَخَّل الَيشكُرى (1): يُطَوِّفُ بِي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ وَيْطعُنُ بالصُّمُلَّةِ في قَفَيَّا فإن لم تَثْأرا لي مِنْ عِكَبٍّ فلا أرْوَيْتُما أبداً صَدَيَّا وقال أبو دُؤَاد (2): وفَأَبْلُونَيِ بَليَّتُكُمْ لَعَليَّ أصَالٍحكُمْ وأسْتَدرِجْ نَويَّا وهُذيل: حَيٌّ من مُضَر، وهو هُذَيْل بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر، أخو خُزَيْمة ابن مُدرْكِة، أمهما هِنْدُ بنت وَبَرَة أخت كَلبْ بن وَبَرة. وفي قوله: ((انْقلاَبُها ياءً خَسَنٌ)) ما يُشْعر بأن هُذَيْلا لاَ تلتزم قلب الألف مع ياء المتكلم، بل قد تَقْلب وقد لا تَقْلب، لقوله إن ذلك عندها حسن، ولم يقل: إنه واجب، وذلك مقتضى كلامه في ((التَّسْهيل)) إذ قال: وإن كان ألفاً لغير تَثْنيه

______ (1) الخصائص 1/ 177، والمحتسب 1/ 76، وابن يعيش 3/ 33، واللسان (عكب، حرر) وعكب: صاحب سجن النعمان بن المنذر. والصملَّة: الحربة. وصَدَىَّ: يريد صَدَاى. والصدى- في زعم الجاهلية- طائر يخرج من رأس القتيل، يسمونه (الهامة) لا يزال يصيح عند قبره، ويقول: اسقوني، حتة يؤخذ بثأره. وكانت المتجردة زوج النعمان تهوى المنخل، فرآها النعمان يوما وهي تلاعبه فدفع به إلى عكب صاحب سجنه، فقيده، وجعل يطعن في قفاه بالصملة. (2) الخصائص 1/ 176، 2/ 341، 424، وابن الشجري 1/ 280، والمغني 423، 477. واللسان (علل) وديوانه 350، وقبله: ألم تَر أنني جاورتُ كعباً وكان جوارُ بعض الناس غَيَّا وقوله: ((فأبلوني)) من: أبلاه، إذا صنع به صنعا جميلا، والبلية: اسم منه وأستدرج: أرجع أدراجي حيث كنت. والنوى: الوجه الذي يقصده المسافر من قرب أو بعد. يقول: أحسنوا إلي، فإنكم إن أحسنتم فلعلى أصالحكم وأعود حيث كنت، جاراً لكم.

جاز في لغة هُذَيل القلبُ والإدغام (1)، ولم يقل: وجب ذلك. وايضاً ففي قوله: ((حَسَن)) تنبيهُ على أن هذا القلب في لغة هُذَيْل ليس بقبيح ولا مختصٍّ بالشعر، بل هو مما يُسْتَحسن استعمالهُ في نظمها ونثرها، وهو تحرُّز حَسَن، غير أن في تخصيصه ذلك الحكم بهُذَيْل نظرا، فإن ابن جنِّي نَقل أن هذا القلب شهير في غير هُذَيْل، فليس بخاصٍّ بها وحدها (2). ويدل على ذلك أن أبا دَؤاد قد قلب الألف حين قال (3): * وأَسْتَدِرْجْ نَوَيَّا * وهو ينتسب إلى إياد بن نزار أخى مُضر الذي تنتسب إليه هُذَيل، فلا يَثْبت اختصاصُ هُذَيل بذلك، فكلام الناظم مُعْتَرض إذاً. والجواب من وجهين: أحدهما أنا لا نسلِّم أن كلامه مُشعر بالاختصاص، وإنما فيه تصريح بأن ذلك الحكم منقول عن هُذَيْل، وليس فيه ما يعطى مفهوماً يقتضى أن غير هُذَيْل لا يفعلون ذلك إلا مفهوم اللَّقَب (4)، وهو غير ثابت. وإذا لم يُعط مفهوماً فلا إشعار في كلامه بالاختصاص. والثاني أنا إن سلَّمنا أنه لم يَشْتهر به عنده غيرهم أو لعله لا يرى القلبَ عند غيرهم حسناً، ولا معمولاً به قياسا، فلذلك أشار إلى الاختصاص. والله أعلم. و((ما)) من قوله: ((وإنْ ما قَبْلَ واوٍ)) مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعله، بفعل

______ (1) التسهيل: 162. (2) انظر: الخصائص 1/ 176، 177. (3) هو أبو دؤاد، وسبق البيت بتمامه. (4) مفهوم اللقب- عند الأصوليين- هو تخصيص اسم غير مشتق بحكم، كقولنا: محمد رسول الله، فإن هذا الحكم لا يقتضي أن غيره صلى الله عليه وسلم ليس برسول، وكذلك يقال في قول الناظم: ((وفي المقصور عن هذيل انقلابُها ياء حسن)).

مضمر مبني، دلَّ عليه ((ضُمَّ)) الظاهر. و((ألفاً)) مفعول ((سَلِّمْ)) و ((في المقصور)) متعلق بـ ((انقلابُها)) وهذا شذوذ، لأن ((انقلاب)) مصدر موصول، فلا يتقدم عليه ما في صلته، لكن يقال بجوازه في الضرورة مراعاةً لمن قال بجواز ذلك في نحو (وكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِيِنَ (1)) ونحو قول الشاعر (2): / أزَوْجِيَ هَذَا بالرَّحَى المُتَقَاعِسُ ... 424 و((عن هُذَيْل)) متعلق باسم فاعل حال من ((الانقلاب)) أي حالة كون الانقلاب عن هُذَيْل.

______ (1) سورة يوسف/ الآية: 20. (2) الخصائص 1/ 245، والمنصف 1/ 130، وشرح الحماسة للمرزوقي 696، واللسان (ردع) وينسب لنعيم بن الحارث السعدي، أو للهذلول بن كعب، وصدره: تقولُ وصَكَّتْ صَدْرَها بيَميِنها والمتقاعس: الذي يخرج صدره، ويدخل ظهره، وتلك صورة من يطحن بالرحى. وكان الشاعر قد عقد له النكاح على امرأة، ولم يدخل بها بعد، فمرت به نسوة وهو يطحن بالرحى لضيوف نزلوا به، فقال: أزوجي هذا؟ تعجباً واحتقاراً له. فقال هو الأبيات. ويروى ((أبَعْلَي َهذا))؟

إعمال المصدر

إعمال المصدر هذا الباب يَذكر فيع إعمالَ المصدر الموصول، وذلك أن المصدر على قسمين، عاملٍ وغير عامل. فغير العامل هو ما جاء للتوكيد وما جرى مَجراه، نحو: ضربتُ ضَرْباً، وضربتُ ضَرْبةً، وضَرْبتْين، وقعَد القُرْفُصَاء، وما أشبه ذلك. فهذا لا يعمل، لأن مدلوله الجنسُ، أو نوعٌ من أنواعه، أو فردٌ من أفراده، ولا دلالَة فيه على العلاج، فلا رائحةَ فعلٍ فيه. وقد تقدم حكم هذا القسم في ((باب المفعول المطلق)). والعاملُ على ضربين: ضربُ يعمل عملَ فعله بالنيابة عنه، وذلك كالنائب عن فعل الأمر، نحو: ضَرْباً، أو غير فعل الأمر، نحو: أضَرْباً زيداً؟ * عَلاَقةً أُمَّ الولُيِد (1) * وقد تقدم هذا الضرب أيضا. وضربٌ يعمل لتقديره بالفعل مع حرف مَصْدَرِيٍّ، وهو الذي يسمى ((المصدر الموصول)) لأنه مقدَّر بحرف، وهو (أنْ) أو ما جرى مجراها. فأخذ الآن يذكر أحكام هذا المصدر، فقال:

______ (1) جزء بيت للمرار الأسدي، وهو بتمامه: أعَلاقَةً أمَّ الولُيِّد بعدما لأفنانُ رُأسِكَ كالثَّغَامِ المُخِلْسِ والبيت من شواهد الكتاب 1/ 116، والمقتضب 2/ 54، وابن الشجري 2/ 242، وابن يعيش 8/ 131، 134، والمغني 311، والخزانة 11/ 232، والهمع 3/ 194، والدرر 1/ 176، واللسان (علق). والوليد: تصغير الولد. والتصغير هنا للتحبيب والأفنان: جمع فَنَن، وهو الغصن، وأفنان الرأس: خصل شعره. والثَّغام: نبت إذا يبس صار أبيض، أو نبت له نَوْر أبيض. والمخلس: ما اختلط فيه السواد بالبياض. يصف كبر سنه، وأن الشيب قد جلل رأسه، فلا يليق به اللهو والصبا.

بِفِعْلِهِ المْصْدرَ في العَمَل مُضَافاً أوْ مُجَرَّداً أوْ مَعَ أَلْ إنْ كانَ فِعْلٌ مَعَ أَنْ أو مَا يَحُلْ مَحَلَّهُ ولاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ يعني أن المصدر يُلْحَقُ بفعله الذي اشَتُقَّ منه في عمله مطلقا، من رفع أو نصب، وعمل في جميع المفعولات وما أشبهها، كما كان الفعل كذلك، لا يضعف (1) عن مرتبة فعله، وذلك قياس مُطَّرِد. فيرفعُ الفاعلَ نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ، وعَظُم نَفْعُ زيدٍ وحلمُه، وضَرَرُ عمروٍ وجَهْلُه. واسمَ ((كان)) نحو: أعجبني كونُ عَدُوِّنا المقهورَ. وينصب المفعولَ نحو؛ أعجبني ضربُ زيدٍ عَمْراً، وإكرامُ أخيك عمراً. وخبرَ ((كان)) نحو: أعجبني كونُ زيدٍ قائماً. والظرفَ نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ أمامكَ، وإكرامُ عمروٍ يومَ الجُمُعةِ. والمفعولَ معه، ومن أجله نحو: أعجبني إتيانُ الَبرْدِ والطَّيَالِسَةَ، وأعجبني ضربُك زيداً تأديبا له. والحالَ نحو: أعجبني قيامُ زيدٍ ضاحكاً. وما أشبه ذلك, وأيضاً فيتعدَّى فعله، فتقول: مرُورُك بزيدٍ حَسَنٌ، وإعراضُك عن عمرو قبيحُ، ورغبتُك في الخير خيرٌ، وإكرامُك زيداً حَسَنٌ، وإعطأوُك زيداً درهماً جزاءٌ له، وعلمُك زيداً قائماً معروفٌ، وإعلامُك زيداً عماً أخاه غريبٌ، وأَمْرُك زيداً الخيرَ خيرٌ، ونحو ذلك. وأيضاً لًمَّا قال: ((بفِعْلهِ المَصْدَرَ الحِقْ في العَمَلْ)) ولم يُقيَّد فعلاً من فعل - دَلَّ على أنه ... / يعمل عمل كل فِعْل، ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً، فتقول: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ 425 عمراً أمسِ، ويعجبني ضربُ زيدٍ عمراً الآنَ أو غداً.

______ (1) في الأصل، و (ت) ((يضعف)) بدون ((لا)) وهو سهو من الناسخ، وما أثبته من (س) هو الصواب.

بخلاف اسم الفاعل، فإنه لا يعمل إلا بمعنى الحال أو الاستقبال. قال المؤلَّف: لأن المصدر أصل، والفعل فرعه، فلم يَتَقَيَّد عمله بزمان دون زمان، بل يعمل عملَ الماضي والحاضر والمستقبل، لكونه أصلَ كلِّ واحدٍ منها، بخلاف اسم الفاعل، لأنه عمل لشَبَهِه (1)، فتَقَيَّد عملهُ بما هو مشبهُه، وهو المضارع (2). هذا ما قال، ولذلك يقدَّره بالماضي والمضارع، وإنما تعذَّر تقديرهُ بفعل الأَمْر، لأن الحروف المصدريَّة لا توصل بفعل الأمر، حسبما يذكر بحول الله. فعلى هذا كلِّه احتوى قولهُ: ((بِفِعْلِه المَصْدَرَ أَلْحِقْ)). و((المصدرَ)) منصوب بـ ((أَلْحِقْ)) وبه تعلَّق المجرورات معاً، وهما ((بِفِعْلِه، وفي الَعَمَلِ)) وضمير ((بِفِعْلِه)) عائد على ((المصدر)). وإنَّما قيدَّ هذا الإلحاق بالعمل، لأن ذلك هو المقصود، إذْ ات يُلْحق به في غير العمل من الأحكام الجارية على الفعل، لأن الفعل والمصدر نوعان متباينان، هذا فعلٌ تَجْري عليه أحكامُ الأفعال، وهذا اسمُ تَجْري عليه أحكام الأسماء. وأَوَّلُ ذلك أن الفعل يدل على زمان الفعل الواقع من الفاعل، ماضياً وحالاً ومستقلاً، والمصدر ليس كذلك. والفعلُ مبنيٌّ لفاعله فلا يُستغنى عنه، والمصدر ليس كذلك. والفعلُ لا يقع مبتدأً، ولا فاعلاً، ولا مفعولاً لم يُسَمَّ فاعلهُ، ولا مفعولاً يُسَمَّى فاعلهُ، ولا نحو ذلك، والمصدر بخلاف ذلك. وبالجملة فهذا اسمٌ، وهذا فعلٌ، فلذلك قال: ((في العَمَلِ)). ثم قال: ((مُضافاً أو مُجَرَّداً أو مَعَ أَلْ))

______ (1) في شرح التسهيل للناظم ((للشبه)). (2) شرح التسهيل (ورقة 156 - أ) مع اختلاف يسير.

يريد أن هذا الحكم جارٍ على المصدر في جميع أحواله، من كَوْنه مضافاً، أو بالألف واللام، أو مجَّرداً منهما، أي إن إضافته أو دخولَ الألف واللام عليه، وإن كانا مما يَخْتَصُّ بالأسماء، لا يُؤَثِّران في عمله عملَ فعله، بل يبقى عملُه كالمجَّرد منهما، فكما لا يُؤَثَّر التنوينُ، وإن كان من خصائص الأسماء، كذلك لا تُؤَثَّر الإضافةُ ولا الألفُ والام. إلا أنه في هذه الوجوه ليس على رُتْبةٍ واحدةٍ في العمل، بل على مراتبَ في الحُسْن والكثْرة، فعمله مضافاً أكثرُ من عمله غير مضاف. قال المؤلف: لأن الإضافة تَجْعل المضاف إليه كالجزء من المضاف، كما يَجْعل الإسنادُ الفاعلَ كالجزء من الفعل، وتَجْعل المضافَ كالفعل في عدم قبول التَّنْوين والألف واللام (1). وعملُه منوَّناً أكثرُ من عمله بالألف واللام، فالترتيب في الحُسْن والكثرة على حَسَبَ ما رَتَّبه الناظم، فكأنه قصد بذلك التَّنْبيه. وهذا ليس مُتَّفَقاً عليه فقد قيل: إن المنوَّن أقوى، ثم المضاف، ثم ذو الألف واللام. وإنما يعنون: أقوى في القياس. صَرَّح بذلك صاحب ((الإيضاح)) (2) لموافقته الفعلَ في التنكير. والناظم اعتبر الكثرة، ولا شك أن المضاف أكثرُ في الإعمال من غيره فصار الخلاف/ 426 وفاقاً. فمثال إعماله مضافاً قولُك: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، وإكرامُ بِشْرٍ خالداً. ومنه في القرآن {ولَولاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ في الدُّنْيَا

______ (1) المصدر السابق (ورقة 157 - ب). (2) يعني أبا علي الفارسي رحمه الله، وانظر: الإيضاح: 160.

والآخِرَةِ (1)} وقوله: {فَاذْكُروا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أو أشَدَّ ذِكْرا (2)} وقالوا: سَمْعُ أُذُنِي زيداً يقولُ ذاك (3)، وأنشد سيبويه للَبِيد (4): عَهْدِي بهِ الحَيَّ الجَمِيعَ وفيهِمُ قبلَ التَّفَرُّقِ مَيْسِرٌ ونِدَامُ وأنشد أيضا لرُؤْبَة بن العَجَّاج (5): ورَأْيُ عَيْنَيَّ الْفَتَى أخَاكَا يُعْطِي الجَزِيلَ فعليكَ ذَاكا وهو كثير. ومثال إعماله منوَّناً قولُك: أعجبني ضَرْبُ زيدٌ عمراً. وفي القرآن الكريم {أوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبةٍ. يتيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (6)} وفي قراءة أبي بكر بن عاصم- {إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بزِينَةٍ الكَوَاكِب (7)} - أي بأَنْ زِنَّاهَا. يقال: زانَه وزَيَّنه.

______ (1) سورة النور/ الآية 14. (2) سورة البقرة/ الآية 200. (3) سيبويه 1/ 191. (4) الكتاب 1/ 190، وابن يعيش 6/ 62، وديوانه 288، واللسان (حضر) والجميع: المجتمعون. والميسر: اللعب بالقداح. والندام: إما جمع نديم، كظريف وظراف، أو ندمان، كغرثان وغراث. والنديم والندمان: الرجل الذي يرافقك ويشاربك. (5) الكتاب 1/ 191، والهمع 5/ 69، والدرر 2/ 124، وملحقات ديوانه 181 وقبله: تقولُ بِنْتِي قد أَنَى إناكَا يا أبتَا عَلَّكَ أو عَساكَا والجزيل: العطاء العظيم. ويروى ((الفتى أباكا)). (6) سورة البلد/ الآيتان 14، 15. (7) سورة الصافات/ الآية 6. وانظر: السبعة 546، والنشر 2/ 356.

وقد يكون من ذلك قوله تعالى: {ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَالاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً من السَّموات والأَرْض شَيْئاً (1)} - أي مالا يملك لهم أن يرزقهم شيئا. وأنشد سيبويه (2): فَلَوْلاَ رجاءُ النَّصْرِ مِنْكَ ورَهْبَةٌ عِقَابَكَ قَدْ صَارُوا لنا كَالمْوَارِدِ وأنشد أيضا قول الآخر (3): أَخَذْتُ بسَجْلِهمْ فَنَفَحْتُ فيِهِ مُحَافَظَةً لَهُنَّ إخَا الذِّمامِ وأنشد أيضا (4): بِضَرْبٍ بالسُّيُوفِ رءوسَ قَوْمٍ أَزَلْنَا هَامَهُنَّ عن الْمَقِيل ومثال إعماله بالألف واللام قولك: أعجبني الضربُ زيداً، والإكرامُ عمراً،

______ (1) سورة النحل/ الآية 73، وقد مثل بها الفارسي في الإيضاح: 155. (2) الكتاب 1/ 189، وابن يعيش 6/ 61، والدرر 1/ 66. يقول: لولا رجاؤنا في أن تنصرنا عليه، ورهبتنا لعقابك لنا إن انتقمنا منهم بأيدينا-لوطئناهم وأذللناهم، كما تُوطأ الموارد، وهي الطرق إلى الماء. وخصَّها بالذكر لأنها أعمر الطرق، وأكثرها استعمالا. (3) الكتاب 1/ 189. والسجل: الدَّلو المملوء ماء. ونفحت: أعطيت. والذمام: الحق والحرمة. وإخا الذمام: إخاء الذمام. ومعناه أنه عاملهن بمثل ما فعلن به محافظة على ما بينه وبينهم من عهد. (4) الكتاب 1/ 116، وابن يعيش 6/ 61، والأشموني 2/ 284، والعيني 3/ 499 والبيت للمرار بن منقذ. والهام: جمه هامة، وهي الرأس. والضمير المتصل به راجع إلى ((الرءوس)) وإضافة الشيءِ إلى نفسه إذا اختلف اللفظان جائزة للتوكيد كما في قوله تعالى ((حبل الوريد)) و ((حبَّ الحصيد)). والمقيل: مقيل الرأس، وهو العنق، وأصله مكان القيلولة وقت الظهيرة.

وأنشد سيبويه للمرار (1): لَقَدْ عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرةِ أَنَّنيِ لَحِقْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عن الضَّرْب مِسْمَعَا وأنشد أيضا (2): ضَعِيفُ النَّكَايةِ أعْدَاءَهُ يَخَالُ الفِرَار يُرَاخِي الأَجَلْ وجعل الفارسيُّ من هذا القسم قوله تعالى: {لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ (3)} فـ (مَنْ) في موضع رفع بـ (الجَهْر) وهو حَسَن. ونَبَّه بقوله: ((مُضَافاً اوْ مجَّرداً أو مَعَ أَلْ)) على خلاف من خالف في بعض هذه الأقسام، وهم الكوفيون، فوافقوا البصريين في المصدر المضاف أنه يرفع وينصب وخالفوا فيما عدا لك، فزعموا أن المجرد ينصب ولا يرفع، فيجوز

______ (1) الكتاب 1/ 193، والمقتضب 1/ 152، والجمل 136، وابن يعيش 6/ 64، والخزانة 8/ 129، والعيني 3/ 40، 105، والهمع 5/ 72، والدرر 2/ 125، والأشموني 2/ 100، 284. والبيت للمرار أو لمالك بن زغبة الباهلي. وأولى المغيرة: أولها. والمغيرة: الخيل تخرج للإغارة، والمراد فرسانها. والنكول: النكوص والرجوع جبنا وخوفا. مسمع: هو مسمع بن شيبان أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان خرج مطالبا بدماء. يقول: علم أول من لقيت من المغيرين أني صرفتهم عن وجوههم هازماً له، وأنني لحقت عميدهم فلم أتراجع عن ضربه بسيفي. ويروى ((كررت)). (2) الكتاب 1/ 192، والمنصف 3/ 71، والخزانة 1/ 127، وابن يعيش 6/ 59، والتصريح 2/ 63، والهمع 5/ 72، والدرر 2/ 52، والأشموني 2/ 284. والنكاية: مصدر: نكيت العدو، ونكيت فيه، إذا أثرت فيه. ويراخي الأجل: يباعده ويطيله. يهجو رجلا، ويصفه بأنه أضعف من أن ينال من اعدائه، وأنه جبان لا يثبت لقرنه، ويلجأ إلى الفرار يظنه يؤخر أجله. (3) سورة النساء/ الآية 148.

عندهم: أعجبني ضربٌ زيداً، ولا يجوز: أعجبني ضربٌ زيدٌ، ولا ضربٌ زيدٌ عمراً، وأن ذا الألف واللام لا يرفع ولا ينصب، فلا يقال: أعجبني الضربُ زيدٌ، ولا أعجبني الضربُ زيداً، ولا الضربُ زيدٌ عمراً. وما جاء مما يخالف ذلك فشاذّ ومؤوَّل، كما أن الذي جاء به السماع في المجرَّد إنما هو النصب وحده. هكذا حَكى الخلافَ عن الكوفيين ابنُ ابي الرَّبِيع، وحكى الشَّلَوْبين عنهم أن المصدر لا يعمل إلا إذا كان منوَّناً، فإن كان مضافاً أو بالألف واللام لم يعمل شيئاً، وكان المنصوب بعدهما على إضمار فِعْل. ومنهم من حكى الخلافَ في ذى الألف واللام وحده، وأنه عندهم غير عامل، ومِمَّن حكى هذا الأخير عن البغداديين ابنُ السرَّاج (1). قال الفارسي: ولم أرَهُ يَحكي عنهم في الإضافة شيئا، أعني في الإضافة إلى المعرفة. وذكر ابن عُصْفور عن الفراء في المجرَّد ما ذكره ابنُ الرَّبيع وعن قومٍ لم يعيِّنهم في ذي الألف/ واللام، ما ذكره غيرُه. ... 427 والذي تحقَّق من النقل وجودُ الخلاف في ذى الألف واللام. وغالبُ الظن صحةُ ما نقله ابن أبي الرَّبيع وابن عُصْفور. وما ذكره الشَّلَوْبين غريب. وإن صَحَّ ثَبت الخلاف في الأقسام الثلاثة. والأرجح ما رآه الناظم. أما ((المضاف)) فهملهُ شهير جدا، وقد تقدم منه، وهو من الكثرة بحيث لا ينبغي أن يُنْكر قياسه. وأما ((المنَّون)) فالسماع موافقٌ لما قال الكوفيون، إذ لا تكاد تجده رافعاً. ولكن القياس سائغٌ، إذ لا فرق في ذلك بين المضاف والمنوَّن، فإن

______ (1) انظر: كتاب الأصول في النحو 1/ 162.

كل واحدٍ منهما يَطْلب فاعلاً ومفعولاً من جهة المعنى، فَلْيَكُن كل واحدٍ منهما عاملاً فيما طلبه. وقد عمل المضاف في الفاعل فَلْيَعمل المنوَّنً فيه كذلك. وأيضا فقد جاء الرفع في المنوَّن، فُحِكى: إعجبني قراءةٌ في الحمام القرآنُ، فـ (القرآن) قائم مقام الفاعل، وهما في الحكم سواء. وإذا كان كذلك ثَبتت صحةُ رفعه. لا يقال: إن هذا نادر، والنادر لا يُعْتُّد به، لأنا نقول: إذا جاء السماع قليلا، وعَضَده القياس، ولم يعارضه معارض- وجب أن بكون أصلاً يُعَوَّل عليه. ألا ترى أن النسب إلى (فَعُولَة): فَعَلِىُّ، وهو عند سيبويه والنحويين قياس (1)، ولم يُسمع منه إلا (شَنَئَئٌّ) في شَنُوءة، لكنه جاء على القياس، لأن حمل (فَعُولة) على (فَعِيلَة) قياس، إذ ليس بينهما فرق إلا الواو والياء، وهما متقاربان، إذْ يقعان ردْفَيْن في القصيد الواحد (2)، ويُدغم أحدهما في الآخر، إلى غير ذلك من الأحكام. فكذلك هذا الموضع. وقد تقدم ما يُستفاد منه هذا المعنى في باب ((الإضافة)) وأما ((ذو الألف واللام)) فعمله غير ممتنع وإن كان ضعيفا، لأن الألف واللام لا تمنعانه من العمل كما لا تمنعه الإضافة (3)، إذ كلاهما من خصائص الأسماء، وكذلك التنوينُ من خصائصها، فيلزم تقديرُ الفعل في الجميع، وذلك باطل باتفاق.

______ (1) الكتاب 3/ 345. (2) الرَّدف- في الشعر- حرف لين ومدّ يقع قبل الروى متصلاً به. (3) في الأصل، و (ت): تمنعانه من العمل كما تمنعه الإضافة)) وما أثبته من (س) وهو الصواب.

وأيضاً إن كان ما تقدَّم من السماع محتملاً فيه (1) تقديرُ الفعل فلا يصلح في كل موضع. فقوله: ((ضَعِيفُ النِّكَايةِ أَعْدَاءَهُ (2))) معناه، على أن ((أعداءه)) معمول ((النِّكَاية)) لأنه أبلغ في الهجاء من أن يريد ضَعْفَ النكايةِ مطلقا. هكذا قالوا. وكذلك قول الآخر (3): لَحِقْتُ فًلْم أَنْكُلْ عن الضَّرْبِ مِسْمعَا إن كان يؤوَّل على أن ((مِسْمَعاً)) معمول ((لَحِقْتُ)) فقد روى ((كَرَرْتُ)) ولا يصح أن يُحمل على حذف الجار؛ كانه قال: كررتُ على مِسْمع، إذ لا يصح الحمل على ذلك إلا لضرورة. وتقدير الفعل في الموضعين خلافُ الظاهر. ورَدَّه المؤلف أيضا بأن النصب قد جاي فيما لا يمكن فيه تقدير الفعل، وذلك نحو قول كُثَيِّر عَزَّة (4):

______ (1) في الأصل، و (ت) ((ففيه)) والصواب ما أثبته من (س). (2) عجزه: * يَخالُ الفِرارَ يُراخِي الأجل * وقد تقدم. (3) هو المرار الفقعسي، أو مالك بن زغبة الباهلي، وصدره * لَقَدْ عَلِمتْ أولى المُغِيرةِ أَنَّني * وقد تقدم. (4) شرح التسهيل للناظم (ورقة 157 - ب) وديوانه 173. وعُنفوان الشيء: أوله، ويقال: هو في عنفوان شبابه، أي في نشاطه وحدته. والأشياع: جمع شيعة، وهم الأتباع والأنصار والصبابة: الشةق أو رقته. ويروى ((الضلالة)). يقول: تلوم رجلا مازال في مطالع الشباب على أن يلهو ويتلذذ بالحياة مع أصحابه، مع أن ترك اللهو مع هؤلاء له وقت معين.

تَلُومُ امْرَاً في عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ وللتَّرْك أَشْيَاعَ الصبَّابَ حينُ ثم أتى بشاهد آخر نحو ذلك (1). ولابن الطَّراوة هنا قول ثالث فيما فيه الألف واللام' فإنه جعله على وجهين: أحدهما أن تكون الألف واللام معاقِبةً للإضافة، كقوله (2): * فَلَمْ أَنْكُلْ عِنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا* وقوله (3): * ضَعِيفُ النَكايَةِ أعداءَهُ * وما أشبه ذلك، فإن المعنى: عن ضَربْي مِسْمعاً، ونكايته أعداءَه، فحكم/ ... 428 هذا حكم المضاف، لأن العرب تَحْكُم للمعاقِب بحكم المعاقَب.

______ (1) هو قول الآخر: فإنكَ والتأبينً عُرْوَةَ بعدما دَعاكَ وأيدينا إليه شوارعُ لَكالرَّجلِ الحادى وقد تَلَع الضُّحَى وطيرُ المنايَا حولهنَّ أَوَاقِعُ والشعر في شرح التسهيل (ورقة 157 - ب) والعيني 3/ 524، والأشموني 2/ 284، وشرح الكافية الشافية 1014، وشرح ابن عقيل 2/ 184، واللسان (وقع). والتأبين: مدح الرجل بعد موته وذكره بخير. وشوارع: جمع شارعة، وهي القريبة الدانية. والحادي: سائق الإبل. وتلع الضحى: ارتفع وانبسط. وأواقع/ جمع واقعة، وهمزت الواو الأولى. والضمير في ((حولهن)) يعود على الإبل. ويروى ((فوقهن)). (2) سبق الاستشهاد بالبيت، وصدره: * لَقَدْ عَلِمتْ أوُلَى المُغيرةِ أَنَّنِي * (3) عجزه: * يَخالُ الفِرارَ يُراخِى الأجَلْ * وسبق الاستشهاد به.

وإن كان الألف واللام غيرَ معاقِبة للإضافة، وإنما هي لمجرد التعريف، لم تعمل شيئاً كما قاله الكوفيون. والجواب أن المعاقبة للإضافة لم تَثْبت من أقسام الألف واللام. وما رُدَّ على الكوفيين به جارٍ هنا، فالأَوْلَى ما ذهب إليه الناظم، من صحة إعمال الأقسام الثلاثة. ثم بَيَّن شرط هذا الإعمال المذكور فقال: ((أنْ كانَ فِعْلً مع أَنْ أوْ مَا يَحُلُّ مَحلَّهُ)). اسم ((كان)) قوله: ((فِعْلٌ)) وخبرها ((يَحُلُّ محلَّه)) يعني أن ذلك الحكم لا يَثْبُت للمصدر إلا إذا صح أن يَقدَّر في موضعه فعلٌ مُصَاحِبُ لـ (أنْ) المخفَّفة المفتوحة، وهي الناصبة للمضارع، أو (ما) التي تجتمع معها في مُرَادَفة المصدر، وهما الحرفان المصدريَّان. فإذا صح التقدير، ووقوعُ الفعل مع أحد الحرفين موقعَ ذلك المصدر- صحَّ عملُ المصدر عملَ ذلك الفعل. فمثال (أن) مقدرَّةً مع الفعل قولُك: أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً، فإن تقديره: أعجبني أن ضَربَ زيداً عمراً. وكذلك: يعجبني ضربُ زيدٍ عمراً، على تقدير: أن يضربَ زيدٌ عمراً. وهذا المقدَّر يصحُّ التكلُّمُ به عوَضَ التكلم بالمصدر. وفي القرآن {ولَوْلاَ دَفْعُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ ببَعْض لَفَسَدتِ الأَرْضُ (1)} - فَبِمَا نَقْضهِم ميثَاقَهُمْ وكُفْرِهْم بآياتِ اللهِ وقَتْلِهُم الأَنْبِياءَ (2)} إلى آخرها.

______ (1) سورة البقرة/ آية 251. (2) سورة النساء/ آية 155.

ومثال (ما) مقدَّرةً مع الفعل قولُك: أَكْرِمْ زيداً كإكرامِكَ عمراً، فالتقدير: كما أكرمتَ عمراً. وفي القرآن الكريم: {فاذْكُرواُ الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْراً (1)} فلو كان المصدر لا يتقدَّر بالفعل مع أحد هذين الحرفين، ولا يصلح أن يَحُل معهما محلَّه- لم يَجُز أن يعمل عملَه مطلقا. وذلك المصدرُ المؤكِّد، والمبيَّن. إذ لا يصح إذا قلت: ضربتُه ضَرْباً بـ (أن ضربتُ) ولا (ما ضربتُ). وكذلك إذا قلت: ضربتُه ضربَتَيْنِ- لا يصلح في موضعه (أن) والفعل، ولا (ما) والفعل. وكذلك قولك: مررتُ به فإذا له صَوْتٌ صَوْتَ حمارٍ- لا يصح أن ينتَصب ((صوتَ حمار)) بـ ((صوتً)) الأول، إذ ليس معناه: فإذا له يُصَوَّتَ. وإنما المعنى: فإذا له تَصْويت، أي هذا الفعل المذكور، فانتصب ((صوتَ حمارٍ)) على فِعْل من معنى ((له صَوْتٌ)) لا من لفظ ((صًوْت))، وبينهما فرق. فأما إذا كان المصدر يصلح أن يحل محلَّه الفعل، لكنه لا يصلح أن يقدَّر معه (أن) ولا (ما) فقد مَرَّ من كلامه أنه يَعمل مطلقا عملَ فعله، لكن بالنِّيابة لا بنفسه، بخلافه هنا، كقولك: ضرباً زيداً، وأضرباً أخاك؟ وما كان نحو ذلك (2). وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذا المصدر هو العمل في المعمولات بعده، وليس الفعل هو العامل. وهذا كأنه مُتفَق عليه، بخلاف نحو: ضَرْباً زيداً، وسَقْياً لزيدٍ، وما أشبهها، فإنه مُخْتَلف فيه. وقد تقدم بيان ذلك في ((باب

______ (1) سورة البقرة/ آية 200. (2) مثل: سَقياً لزيدٍ، ورَعْياً له.

المفعول المطلق)) ويرد على الناظم هنا سؤال من أوجه أربعة: أحدها أن قوله: ((بِفِعْلِه المَصْدرَ ألْحقْ في الْعَمَل)) يُبِيِّن أن المصدر لابد له من مرفوع، كما أن الفعل لابد له منه، إذ لا يَسْتَغنى الفعل/ عنه ظاهراً أو مضمراً، فكذلك يكون ... 429 المصدر هنا بحكم هذا الإطلاق، لكن ذلك غيرُ مستقيم، فإنك تقول: أعجبني ضربً زيداً، ولا تذكر فاعلاً ولا تَنْويه، وليس تَم مَنْوِيٌّ، لأنه لا يؤكَّد، ولا يُبْدَل منه، ولا يُعطف عليه، كما يكون ذلك في الفعل واسم الفاعل وغيرها. وأيضاً فإن الفعل يَطلب الفاعلَ من جهة بنائه له، وكذلك اسم الفاعل ونحوه. بخلاف المصدر، فإنه لم يُبْن للفاعل، نعم هو يَطْلبه من جهة اللزوم المعنوي، وأن كل حَدَثٍ، كالفعل الذي لم يُسَمَّ فاعله. وأيضاً فإن الفعل لو ذُكر دون مرفوع لكان حديثاً عن غير محدَّث عنه. وكذا ما يعمل عملَه من صفة أو غيرها، فإنه لا يعمل إلا هو بنفسه واقعٌ موقع الفعل، ومُؤَدٍّ معناه، فاستَحق ما يستحقُّه الفعل، من مرفوع محدَّث عنه ظاهراً أو مضمراً، فلو خَلاَ منه لكان في تقدير فعل خلا من مرفوع، وليس كذلك المصدر، لأنه إذا عمل العملَ المنسوب إليه لم يكن إلا في موضعٍ غيرِ صالحٍ للفعل، فجرى مَجرى الأسماء الجامدة في عدم تحمُّل الضمير. وجاز أن يَرفع ظاهراً لكونه أصلاً لما لا يَسْتَغنى عن مرفوع.

______

ولم يَرْتَضِ في ((التسهيل (1))) إلا أنه لا يلزم ذكر المرفوع، وهو الصواب، خلافَ ما اقتضاه ظاهرُ هذا الإطلاق. والجواب عن هذا بأمرين: أحدهما أن يقال: لعله ذهب إلى القول بلزوم ذلك، ولا نُكْر في اختلاف قوله هنا وفي ((التسهيل)) إذ قد يَرى في وقتِ ما لا يراه في وقت آخر، بحسب اختلاف اجتهاده، لأنه من أهل الاجتهاد، ويكون وجهُ قوله أنَّ المصدر نائبٌ (2) عما لا له من فاعل، فلابد فيه من تقدير فاعل إن لم يكن ظاهرا. والثاني أن كلامه قد لا يلزم منه ذلك، لأنه إنما نَصَّ على أن المصدر عند عمله عملَ فعله، وذلك قوله: ((بِفِعْلِه المصدرَ ألْحِقْ في العَمَل)) أي إذا عمل فعلى منْهاج فِعْلِه، ولا يلزم من ذلك أن يَنْحتم عليه جميعُ أنواع عمله، بحيث أن إذا أُعْمِل أُعمْل في كل ما يَعمل فيه الفعل، وطَلَب كلَّ ما يطلبه لزوماً أو جوازا. وأيضا ففي قوله: ((وبَعْدَ جَرِّهِ الَّذيِ أُضيِفَ لَهُ كِمِّلْ عَملَه بكذا)) ما يدلُّ على هذا، إذ مرادُه: كَمِّل عملَه بذلك إن أردتَ ذلك، والإلزم ألاَّ يصح حذفُ منصوبه. وذلك غير صحيح. وعلى الجملة فالسؤال قوي. والثاني أنه أطلق القول في إعمال المصدر، ولم يَشترط إلا التقدير بـ (أن) أو (ما) والفعل، ونحن نجده لا يعمل ذلك العمل إلا بشروط أربعة سوى ما ذَكر: أحدها ألاُّ يُضْمر المصدر، لأنه إنما يعمل إذا كان باقياً بصيغته الأصلية، وهو، إذا أُضمر، مُبَايِنٌ لها، فلا يعمل مضمرا، فلا يقال: مُرورُك بزيدٍ حَسَنٌ،

______ (1) ص: 142. (2) المصدر المؤوّل من (أن) واسمها وخبرها في هذه العبارة خبر قوله ((يكون)) واسمها قوله: ((وجهُ قوله)).

وهو بعمروٍ قبيحً، فيتعَلَّق المجرور بـ (هو). ولا: ضَرْبُك زيداً حَسَنٌ، وهو عمراً قبيحٌ. وقد شَذَّ من هذا قولُ زُهَيْر بن أبي سُلْمى (1): ومَا الْحَرْبُ إلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ أي: وما الحديثُ عنها. أو: ما العلُم/ عنهما، كما تقدَّم عن الأعلم. 430 فـ ((عنها)) متعلِّق ب ((هو)) على ذلك المعنى، ولا مُعْتَبر بالشُّذُوذات. والثاني ألا يكون المصدر مُصَغَّرا، فلذلك للمصدر بالصِّغَر، فهو في معنى وَصْفه قبل العمل. ومن شرطه أيضا إلاَّ يُوصَف قبل العمل، وهو الثالث، لأن الوصف يُمَحِّضُه إلى جهة الاسمية، كما كان ذلك في ((اسم الفاعل)). وأيضاً فإن معمول المصدر منه بمنزلة الصِّلة من الموصول، فلا يتقدَّم نعتُ المصدر على معموله، كما لا يتقدَّم نعتُ الموصول على صلته، فلا يجوز أن تقول: ضَرْبُكَ الشديُد زيداً حَسَنٌ، ولا: عرفتُ سَوْقَكَ الحثيثَ الإبلَ.

______ (1) من معلقته، وانظر: الخزانة 8/ 119، والهمع 5/ 66، والدرر 2/ 122، وذقتم: جَرَّبتم، وأصل ((الذوق)) في المطعوم، واستعير هنا للتجربة. والمرجم: الذي يرجَّم بالظنون، أي يُرمى فيه بها. والترجيمُ والرجم: الظن. يخاطب قبيلة ذبيان وأحلافهم من أسد وغطفان، ويحرضهم على الصلح مع بني عمهم بني عبس، ويقول لهم: ليس الحرب إلا ما عهدتموها وجربتموها، ومارستم كراهتها، وما هذا الذي أقوله بحديث مظنون، بل هو ما شهدت به الشواهد الصادقة من التجارب.

وكل ما جاء مما ظاهُره هذا فمؤوَّل. والواجب أن يقال: ضَرْبُك زيداً الشديدُ حَسَنٌ، وعرفتُ سوقَكَ الإبلَ الحثيثَ. ومنه ما أنشد في ((الشَّرح)) من قوله (1): إنَّ وَجْدِي بِكِ الشَّدِيدَ أراني عَاذِراً مَنْ عَهِدْتُ فِيكِ عَذُولاَ والرابع ألا يكون محدوداً بالتاء قَصْداً للمَّرة الواحدة، فلا تقول: أعجبتني ضَرْبتُكَ زيداً، لأنه مُغَيَّر عن الصيغة التي اشْتُقَّ عليها الفعل، فلم يكن دالاً على معنى الفعل بتمامه، ولا الصيغةُ التي اشْتُق منها الفعل باقية. فإن رُوى ما عَمِلَ محدوداً فشاذٌ يُحفظ، كقول كثير عزة (2): وأَجْمَعُ هِجْراناً لأَسْمَاءَ إنْ دَنَتْ بِهَا الدَّارُ لاَ مِنْ زَهْدَةٍ في وصَالِهَا فو كانت التاء في أصل بناء المصدر لم يَضُر، نحو (3): فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ ورَهْبةٌ عِقَابُك ... فإذا تقرَّر هذا، وأنَّ هذه الشروط مُعْتَبرةٌ في العمل- فإطلاقُ الناظم القولَ بالعمل غيرَ مقيَّدٍ بها يَقتضي أنه يعمل قياساً عمل فِعْله، مضمراً

______ (1) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب) والتصريح 2/ 27، والهمع 5/ 70، والدرر 2/ 124، وابن الشجري 2/ 143، والعيني 3/ 366. والوَجد: الحب. والعَذُول: اللائم. (2) شرح التسهيل (ورقة 156 - أ) وديوانه 92. والزهدة كالزهد: الإعراض عن الشيءِ لقلة الرغبة فيه. (3) سبق الاستشهاد بالبيت، وهو بتمامة: فَلْولاَ رَجَاءُ النصرِ مِنْكَ ورَهْبَةٌ عِقابَكَ قد صَارُو النَا كالموارِدِ

ومصغَّرا، وموصوفاً قبل العمل، ومحدوداً بالتاء، وذلك إخلال كثير، إلا أن يقال: إنه اعتَبر الشُّذُوذاتِ في مخالفة تلك الشروط، فأجرى القياسَ فيها، وذلك غير مستقيم أيضا. والجواب عن ذلك بأن الناظم غيرُ محتاجٍ إلى اشتراط شيءٍ مما ذُكِر، زائدٍ على ما شَرط، وهو أن يكون دالاً على معنى (أن) والفعل، فإنه الذي تَضَمَّن ما زاد، لأن شرطاً منها إذا فُقد لم يَبْقَ المصدر دالاً على معنى (أن) والفعل، أو (ما) والفعل. أما ضمير المصدر فهو دالٌ على نفس المصدر الذي عاد عليه، فالذي يَحَلُّ محلَّه هو المصدر، لا أن، والفعل، ولذلك امتنع عمله. إذ لو دَلَّ على عَيْن (1) ما دَلَّ عليه المصدرُ لعمل عمله قَطْعا، فلم يوجد فيه ما شَرط الناظم. وأيضا فهنا زيادةُ تُخْرج الضمير، وهي أن ضمير المصدر لا يسمى مصدراً حقيقة، كما لا يسمى ضميرُ اسم الجنس [اسمَ جنس] (2) ولا ضميرُ العلم علماً، فإن أطُلق على ضمير المصدر مَصْدَرً فمَجاز، وعلى غير الاصطلاح، وإنما قال الناظم: ((بِفْعِلِه الْمَصْدرَ أَلْحقْ في العَمَلْ)) فلا يَدْخل له إلا ما هو مصدرٌ حقيقةً، وإلا فلو كان قَصْده ما يُطلق عليه مصدرُ حقيقةً أو مجازاً- لكان ((اسم المصدر)) أَوْلَى بالدخول، لأنه قد تَضَمَّن حروفَ الفعل، كما تضمن معناه في الجملة، فأشبه الحقيقيَّ، وكان لا يَحتاج إلى النصِّ عليه بقوله: ((ولاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلٌ)) فلما خرج ((اسم المصدر)) بقوله: ((بِفِعْلِه المَصْدَرَ أَلْحِقْ)) كان خروج ضمير المصدر أَوْلَى.

______ (1) في الأصل، و (ت) ((غير)) وهو تحريف، وما أثبته من (س) وحاشية الأصل. (2) ما بين القوسين ساقط من الأصل، و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

وأما المصغَّر فإنما التصغيرُ له وصفٌ في الحقيقة للمصدر، لأنك إذا قلت: ضُرَيبٌ- فمعناه: ضَرْبٌ / يَسيِر، أو ضَرْبٌ خَفيف. ... 431 والوصف إنما يكون وصفاً للجنس، فإذا قلت: ضَرْبٌ يسير- فالقَصْد وصفُ جنس الضرب، فأخرجتَ المصدَر عن قَصْد الفعل، فصار كالمؤكِّد إذا قلت (1): ضربتُ ضرباً يسيراً، ولذلك قالوا: إن التَّصغير في اسم الفاعل والوصف يُزِيلان شَبَه الفعل، لأنهما من خصائص الأسماء، وهو إشارة إلى هذا المعنى. وكذلك المحدودُ بالتاء القصدُ بتحديده راجعٌ إلى قَصْد الجنس فيه، لأنه عَدٌّ لأفراده، كأنك قلت: ضَرْبَةً واحدةً، فصار كضَرْبتَيْنِ وضَرَباتٍ، فرجع إلى المصدر المبيِّن للعدد. وقد تقدم أن المصدر المؤكِّد والمبيِّن للنوع أو للعَدَد لا يَعمل، لأنه لا يصلح في موضعه (أَنْ) والفعل، ولا (ما) والفعل. فخرج إذاً المضمرُ والمصغَّرُ والموصوفُ والمحدودُ بالتاء باشتراط الناظم أن يكون فِعلٌ مع (أن) أو (ما) يحلُّ محلُّه على أبلغ معنى في فِقْه العربية (2)، فصار كلامه هنا- على اختصاره-مُحصِّلا لما قَصَد في ((التسهيل)) تحصيلَه على طولُ، إذ قال هنالك: يعمل المصدر مُظْهَرا مُكَبَّرا غيرَ محدودٍ ولا منعوتٍ قبل تمامه عملَ فِعْله (1))) إلى آخره. وقليلاً

______ (1) من هنا إلى قوله: ((إذا لم يشترط في العمل إلا تقدير المصدر)) ساقط من (س). (2) في الأصل ((في هذه العربية)) وفي (ت) ((في فقد العربية)) ولا معنى له، وما أثبته من حاشية الأصل. وأرى أنه هو الصواب.

ما ترى النحويِّين يشترطون هذه الشروط لهذا المعنى. والثالث أنه قال: ((إنْ كان فِعْلٌ مع أَنْ أوْ مَا)) ولم يزد على ذلك. وهو ناقص، إذ ليس كل مصدر يقدَّر بالفعل مع أحد الحرفين فقط، بل ثَمَّ ما يقدَّر به دونهما، وذلك (أنْ) المخفَّفة من الثقيلة، فإن المصدر يقدَّر بها بعد ((العِلْم)) وبالجملة حيث تقع (أنْ) هذه المخفَّفة، كقول الشاعر، أنشده في ((الشَّرْح (2))): عَلِمْتُ بَسْطَكَ للمَعْروفِ خيَر يَدٍ فلا أَرىَ فِيكَ إلاَّ باسطاً أَمَلاَ فالتقدير: علمت أنْ قد بَسَطْتَ للمعروف خيَر يدٍ. ولا يصلح هنا تقدير (أن) الناصبة للمضارع. وأنشد أيضا (3): لَوْ عَلِمَتْ إيثَارِيَ الذي هَوَتْ ما كنتُ مِنْهَا مُشْفِياً على الْفَلَتْ التقدير: لو علمت أن أوُثَر الذين هَوَتْ. فهذا لا يصح فيه تقدير الناصبة للمضارع أيضا. فكان من حقه أن يأتي بـ (أَنْ) هذه، لكنه لم يفعل، فكان معترضاً عليه.

______ (1) ص: 142. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة 156 - ب) والهمع 5/ 68، والدرر 2/ 123 ويروى ((بالعروف)) والمعروف: الصنيعة يسديها المرء إلى غيره. ويقال: بسط يده بالمعروف، إذا مَدَّها به. (3) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب) والهمع 5/ 68، والدرر 2/ 123. ومشفيا: مشرفا، يقال: أشفى على الشيءِ، وأشفى على الهلاك، إذا أشرف عليه. والفلت: الهلاك. وقد حُرِّف الثاني في الهمع ((المحقق)) والدرر تحريفاً شنيعاً.

والجواب بأمرين: أحدهما أن تقدير المصدر بـ (أنْ) هذه قليل، لا يكثر كثرةَ (أنْ، وما) والغالب أن تؤتى بعد أفعال ((العِلْم)) بـ (أنْ) المخفَّفة والفعل، أو بـ (أنْ) الداخلة على الجملة الابتدائية، فقولهم: علمتُ أنَّك تقومُ، وعلمتُ أنْ سوف تقومُ، أو ألاَّ تقومُ-أشهرُ في الاستعمال من قولهم: علمتُ قيامَك، ونحوه- وإذا كان كذلك لم يَنْهض بالقليل اعتراضٌ. والثاني أن التقدير بـ (ما) سائغ هنالك، فتقدَّر: علمتُ ما قمتَ، كما تقول: علمتُ ما صنعتَ، وعلمتُ صُنْعَك، فقد يمكن أن يكون استَغْنى عن تقدير (أنْ) المخفَّفة بتقدير (ما) وإذا صح التقدير بـ (ما) كام ما عداه زيادة. فإن قلت: فكان من حَقِّه إذ قَصد الإتيان بما يُحتاج إليه من الحروف المصدرية من غير زيادة أن يأتي بأحد الحرفين دون الآخر. فالجواب أن إتيانه بهما معاً ضروري/ لأن زمان الفعل الذي يُقَدِّر المصدرية قد يكون ... 432 ماضياً وحالاً ومستقبلاً. أما الماضي فيصحُّ تقديرهُ بـ (أنْ) وبـ (ما) مع الفعل. وأما الحال فلا يقدَّر بـ (أنْ) بل بـ (ما)؛ لأن (أنْ) لا تُخَلِّص المضارع للاستقبال. وأما المستقبل فلا يقدَّر بـ (ما) بل بـ (أنْ)؛ لأن (ما) مختصة بالحال، إذا دخلت على المضارع خَلَّصته له، فإذاً لابد من تقدير الفعل بما يَليق بزمانه، ولا يكون ذلك في الأزمنة الثلاثة إلا مع عَدِّ (أنْ) و (ما) معاً. بخلاف المخفَّفة من الثقيلة، فإن التقدير بها غير مضطرا إليه. وهذا أيضا من مقاصد هذا النظم الحِسَانِ التي قَلَّمَا يُتفَطَّن لها. والله أعلم. والرابع أنه قيَّد عمل المصدر بصحة حلول الحرف مع الفعل محلَّه،

______

فاقتضى مفهومُ هذا الشرط أن التقدير المذكور إن تعذَّر لم يَعمل المصدرُ هذا العمل. وليس كذلك، بل قد يتعذَّر هذا التقدير مع صِحَّة العمل. قال في ((الشرح)) بعد ما بَيَّن التقدير بالأحرف الثلاثة: وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاثة شرطاً في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك (1). قال (2): ومن وقوعه غيرَ مقدَر بأحدها قولُ العرب: سَمْعُ أُذُنِي زيدا يقول ذلك (3). وقول إعرابي: اللهم إنَّ استِغْفَارِي إيَّاك مع كَثْرة ذنوبي لَلُؤْمٌ، وإن تَرْكيَ الاستغفارَ مع علمي بسَعة عفوكَ لَعَجْزً (4)، وقولُ الشاعر (5): عَهْدِي بِهِ الحيَّ الجِمَيعَ وفيِهِمُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مَيْسِرٌ ونِدَامُ وقول الراجز (6): ورَأْيُ عَيْنَيَّ الْفَتَى أبَاكَا يُعْطِي الجَزيل فَعَلَيْكَ ذَاكَا وقول الآخر (7):

______ (1) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب). (2) المرجع السابق (ورقة 156 - ب). (3) من شواهد سيبويه في الكتاب 1/ 191. (4) في شرح التسهيل ((لَعِىٌّ)) والعى: العجز عن أداء الكلام، وضد الإبانة فيه. (5) سبق الاستشهاد بالبيت، وهو للبيد. (6) الرجز لروبة. وسبق الاستشهاد به. (7) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب).

لا رَغْبَةً عَمَّا رَغِبْتِ فيهِ مِنِّيَ فَانُقُصِيهِ أوْ زِدِيهِ ومن أمثلة سيبويه: مَتَى ظنُّكَ زيداً أميراً. وذكر سيبويه في ((باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع (1))) عجبت من ضَرْبٍ زيدٌ عمراً، إذا كان هو الفاعل. ثم قال: كأنه قال: عجبت من أنه يضربُ زيدٌ عمراً. ولم يقدَّره في الباب بغير (إنَّ) الثقيلة. قال المؤلف: وإذا ثبت أن إعمال المصدر غيرُ مشروط بتقدير حرف مصدريٍّ أمكن الاستغناءُ عن إضمارٍ في نحو قوله: له صوتٌ صوتَ حمارٍ (2). وما قاله ظاهر، وليس ما حَكَى بقليل، بل هو أبوابٌ مستقلَّة متعدِّدة، كلُّها لا يصح فيه تقدير (أنْ) أو (ما) مع الفعل في موضع المصدر. أحدها: باب ((ضَرْبِي زيداً قائماً)) فإن ((ضَرْبِي)) عامل عملَ فعله مطلقا، مع أنه لا يصح في موضعه تقدير الحرف مع الفعل. والثاني: باب ((إنَّ)) إذا دخلت على المصدر العامل)) نحو: إنَّ إكرامَك زيدا لَحَسَنٌ، و [إن] (3) إعراضَك عنه لَقَبِيحٌ. والثالث: باب ((لا)) إذا قلت: لا إعراضاً عن أحدٍ عندي، ولا ضَرْباً أحدا من شأني. والرابع: باب ((متى ظَنُّكَ زيداً قائماً)). فجميع هذه الأبواب لا يصح فيها تقديرُ الناظم مع صحة عمل المصدر

______ (1) الكتاب 1/ 189. (2) شرح التسهيل (ورقة 156 - ب). (3) ما بين الحاصرتين زيادة يستقيم بها التمثيل، وليست في جميع النسخ.

عمل فعله، كالمقدَّر بالحرف والفعل. ومن ذلك أيضا باب ((كان)) كقولك: كان إكرامي زيدً حسناً. وباب ((ما)) نحو: ما إكرامي زيداً/ مفقودً. ... 433 وإلى ذلك فإن سيبويه لم يلتزم التقدير بواحدٍ من الحرفين، بل قَدَّر بـ (أنَّ) الثقيلة، فصار دليلاً على اطِّراح الحرفين عن حكم الضرورة التي ادُّعَيِتْ أولا، فإذاً اشتراطُ الناظم إخلال. والجواب أن ما قال الناظم صحيح، ولا يَلزم ما اعتُرِض به. أما باب ((كان)) و ((إنَّ)) و ((لا)) فتقدير (أَنْ) والفعل سائغ في الأصل. والدليل على ذلك أنك إذا أزلتها صح التقدير، لكن العرب التَزمت ألاَّ تُولي الحرفَ المصدري هذه العوامل، كما لا تُوليها (أنَّ) الثقيلة، فكما لا تقول: كان أنَّكَ قائمٌ حسناً، كذلك لا تقول: كان أنْ قمتَ، أو أنْ تقومَ حسنٌ، ولا أنَّ أَنْ تقومَ حسنٌ، ولا ما أشبه ذلك. فإن أردت ذلك أخَّرْتَ الحرف المصدري فقلت: كان حسناً أن تقومَ، أو إنَّ عندي أن تقومَ، كما تقول: كان عندي أنَّكَ قائمٌ، أو كان حسناً أنَّكَ قائمٌ. ونظير ذلك في قولهم في (رَأَيْتُ) أنشد سيبويه لابن حَسَّان (1): إنِي رأَيْتُ من المَكَارِمِ حَسْبُكُمْ أنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وتَشْبَعُوا ولو قال: إني رأيتُ أن تَلْبَسوا حَسْبُكم لم يجز، بخلاف ما إذا أتى بالمصدر. فالحاصل أن مانع الموضع عَرَضَ في هذه المسائل، فلم يصح

______ (1) هذه الكلمة ساقطة من الأصل، و (ت) ومستدركة على حاشية الأصل. ينظر: الكتاب 3/ 153، الهمع 4/ 92.

النطقُ بـ (أنْ) و (الفعل) والتقديرُ الصِّناعي لا مانع له، فصدَق عليه أن هذا المصدر في هذه المواضع يصح أن يحل محلَّه الفعلُ مع الحرف. وأما المصدر في نحو (ضَرْبِي زيداً قائماً) فالقول فيه على نحو ما قيل فيما تقدم، وذلك أن العرب التزمت في هذا النحو رَفْضَ (أنْ) والفعل، فلا يُتكلَم بذلك مع التزام حذف الخبر. فلو أظهرت الخبر رجع إلى أصله، وجاز أن تقول: أنْ أضربَ زيداً قائماً حسنٌ، وأن تقول: ضَرْبِي زيداً قائماً حسنٌ، وفي القرآن: {وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (1)}. وإذا كان امتناع النطق به لعارض فلا مانع من التقدير الصناعي، وأن نَدَّعي أن المصدر في محل (أنْ) والفعل تقديراً لا يُنطق به، ويَصْدُق عليه أنَّ (أنْ) والفعل يَحُلان محلِّه لفظاً أو تقديراً. ونظير هذا الموضع من كلامِه قوله في باب ((إنَ)): وكسْرَ إنَّ افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ مَسَدِّهَا ..... مع أن (لوْ) تُفْتح بعدها لزوما، ولا يصح أن يسد المصدرُ مسدَّها فتقول: لو أنَّكَ قمتَ لَقَامَ زيدٌ، ولا تقول: لو قيامُك ثابتٌ لكان كذا. ومَضَى الاعتذار عنه بما هو مذكور هنالك، وهو هذا المعنى بعينه، فشَرْطُ الناظم صحيح. وأما (متى ظَنُّكَ زيداً قائماً) فمن المصادر النائبة عن الأفعال، لأن

______ (1) سورة البقرة/ آية 184.

التقدير: متى ظَنَنْتَ زيداً قائماً. فهو باب آخر، لا من هذا الباب، فيخرج عنه بقوله: ((إنْ كانَ فِعْلٌ معَ أَنْ)) إلى آخره. كما خرج عنه بابُ ((ضَرْباً زيداً)) وأما تقدير سيبويه في (عجبتُ من ضَرْبٍ زيدٌ عمراً (1)) فيمكن أن يكون تفسيرَ معنى، لا تقديرَ إعراب، كما قَدَّر/ في قوله: 434 من لَدُ شَوْلاً (2) من لدُ أنْ كانتْ شَوْلاً. وهو تقدير لا يصح عند جماعة. وكما قال في ((أهْلَكَ واللَّيْلَ)) إن معناه: الْحَقْ أهلَك قبلَ اللَّيْلِ (3). وليس هذا تقديرَه اللفظي. وكما يقال: إن قولك: ((انتَ وشَأْنُكَ)) (4) في تقدير: أنتَ مع شَأْنِك. فهذا وما كان من بابه تقديرُ معنى لا تقديرُ صناعةٍ لفظية، وبينهما فرق. وسيبويه كثيراً ما يَجْتَزِئ بتقدير المعنى عن تقدير الإعراب، فلعل هذا الموضع من ذلك، فلا يلزمُ به اعتراضٌ على ما تقدم فقد ظهر إذاً أن اشتراطه ضابطٌ للمسالة مُخْتَصرٌ حَسَن. والله أعلم.

______ (1) الكتاب 1/ 189. (2) الكتاب 1/ 264، وابن الشجري 1/ 222، وابن يعيش 3/ 101، 8/ 35، والخزانة 4/ 24، والمغني 422، والعيني 2/ 51، والتصريح 1/ 194، والهمع 2/ 105، والدرر 1/ 91، والأشموني 1/ 194، واللسان (شول، لدن). وهو بتمامة: مِنْ لَدُ شَوْلاً فَإلَى إتْلاَئِها ولَدُ: أصلها (لَدُنْ) ظرف زماني ومكاني بمعنى (عند) وحذفت النون لكثرة الاستعمال. وشولا: جمع شائلة، وهي الناقة التي ارتفعت ألبانها، وجفت ضروعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر وثمانية. والإتلاء: أن تصير الناقة مُتْلية، أي يتلوها ولدها بعد الوضع. (3) الكتاب 1/ 275، وفيه ((بادراً هلك)). (4) المصدر السابق 1/ 299، 304.

ووجهُ خامس، وهو أن إطلاقه يَنتظم إعمالَ المصدر عمل فعل المفعول، كما اقتضى إعمالَه عملَ الفعل المبنيَّ للفاعل، إذْ لم يَشترط في هذا العمل إلا تقديرَ (1) المصدر بـ (أنْ) أو (ما) والفعل، ولم يقيَّد الفعل. لكن النحويين أبَوْا ذلك، لأن قَصْد البناء للمفعول في الفعل إنما هو بِنْية الفعل طالبة له، فإذا قُصد إلى تَرْك ذكره غُيِّرت البِنْية، والمصدرُ لا ضرورةَ تدعو إلى ذكر الفاعل معه، لجواز حذفه من اللفظ، وعدم اعتباره جملة، فكان من حَقِّه أن يُخرج عن إطلاقه التقديرَ بالحرف وفعْلِ المفعول. وقد يجاب عن ذلك بأن المسألة مختلَف فيها، فطائفةٌ تمنع ذلك، منهم الخِدَبُّ (2)، وطائفة تُجيز، ومنهم السِّيرافي وابن خروف. والدليلُ على الجواز السماعُ في قولهم: أعجبني قراءةٌ في الحَمَّامِ القرآنُ. وعلى ذلك تقول: أعجبني أكلُ الخبزِ وشربُ الماءِ، وتُضيف المصدرَ إليه، على اعتقاد معنى الرفع. وبذلك قَدَّر سيبويه قولَهم: عجبتُ منِ إيقاع أنْيابِه بعضِها فوقَ بعضٍ، أي: من أن أوُقِعَتْ (3). وحمله جماعة على ذلك. فإذا ثبت هذا فلا بُعْدَ في أن يذهب الناظم إلى هذا، وهو رأيه في غيره أيضا. ثم قال: ((ولاِسْمِ مَصْدرٍ عَمَلٌ))

______ (1) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (س). (2) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري الإشبيلي، نحوي مشهور، حافظ بارع، اشتهر بتدريس كتاب سيبويه، وله عليه طُرر مدوَّنة مشهورة، اعتمدها تلميذه ابن خروف في شرحه، وله تعليق على الإيضاح، وغير ذلك. توفى في عشر الثمانين وخمسمائة. بغية الوعاة 1/ 82. (3) الكتاب 1/ 154.

يعني أن اسم المصدر له عملٌ كعمل المصدر نفسه، يريد العملَ الذي للمصدر، لا أن له عملاً مَا هكذا مطلقا، فيَرفع كما يَرفع المصدر، وينَصب كما يَنصب، ويَتعلق به الظرفُ والمجرور كما يتعلَّق بالمصدر نفسه. واسم المصدر يُطلق عند النحويين بإطلاقَيْن: أحدهما أن يكون معناه الاسمَ المشتقَّ من المصدر بزيادة ميمٍ في أوله، كقولك: ضَرَبَ مَضْرِباً، وقَتَل مَقْتَلاً، وأكرمَ مُكْرَماً، وقاتَلَ مُقَاتَلاً. ومنه {مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ (1)} وقال العَجَاج (2): * جَاباً تَرى بَلِيِتِهِ مُسَحَّجا * وأنشد ابن جنِّي (3): * أُقَتِلُ حَتَّى لاَ أَرى لِي مُقَاتَلاً *

______ (1) سورة سبأ/ الآية 7. (2) الخصائص 1/ 366، 3/ 294، واللسان (سحج) وديوانه 9. والجأب: حمار الوحش الغليظ. والِّيت: صفحة العنق. والتسحيج: الخدش. (3) الخصائص 1/ 367، 2/ 304. وهذا صدر بيت لشاعرين، أحدهما مالك بن أبي كعب، أو كعب بن مالك الأنصاري، وعجزه: * وأنجوا إذا غُمَّ الجَبَانُ من الكَرْبِ * وهذا البيت من شواهد سيبويه 4/ 96، والمقتضب 1/ 213، والمحتسب 2/ 64، وابن يعيش 6/ 50، 55، واللسان (قتل) وديوان كعب (184). ومقاتلا: قتالا. والمعنى: أقاتل حتة لا أرى موضعاً للقتال، لغلبة العدو وظهوره، أو لتزاحم الأقران وضيق المعترك عن القتال، وأفر منهزماً إذا لم يكن بدّ من ذلك، وأنجو والجبان قد أحاط به الكرب فلم يقدر على الفرار وطلب النجاة. والثاني زيد الخيل، وعجزه: * وأنجو إذا لَمْ يَنْجُ إلاَّ المُكَيْسُ * وهو أيضا من شواهد سيبويه 4/ 96، ونوادر أبي زيد 79، والمحتسب 2/ 64، وابن يعيش 6/ 50، 55، واللسان (قتل). والمكيَّس: الحاذق العالم بتصريف الأمور. ومعناه مثل سابقه.

وهو كثير جدا. فمثل هذا يَعمل عمل المصدر بإطلاق، لأنه هو في المعنى، فتقول: أعجبني مَضْرِبُ زيدٍ عمراً، ومُقَاتَلُ بَكْرٍ بِشْراً، ومُقلمُ زيدٍ في الدار، وما أشبه ذلك. ومنه أنشد ثعلب وغيره (1): أَظَلُومُ إنَّ مُصَابَكُمْ رجلاً أَهْدىَ السَّلامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ أراد: إن إصابتكم رجلا. وأنشد سيبويه لكَعْب بن زُهَيْر (2): / فَلْم يَجِدَا إلاَّ مُنَاخَ مَطِيَّةٍ 435 تَجافَى بَها زَوْرٌ نَبِيلٌ وكَلْكَلُ ومًفْحَصَها عنها الحَصَى بجِرانِها ومَثْنَى نَواجٍ لم يُخنْهُنَّ مَفْصِلُ

______ (1) مجالس ثعلب 270، وابن الشجري 1/ 107، والمغني 538، 673، والعيني 3/ 502، والتصريح 2/ 64، والهمع 5/ 77، والدرر 2/ 126، والأشموني 2/ 288، 310، وديوان العرجي 193. والبيت للعرجي، وظلوم: اسم امرأة، والهمزة فيه للنداء. ومصابكم: إصابتكم، مصدر ميمي من (أصاب) ومعناه واضح. (2) الكتاب 1/ 173، وديوانه 52 - 54. والضمير في قوله: ((يجدا)) عائد على الغراب والذئب اللذين ذمرا في بيت سابق. والزور: ما بين ذراعيه من صدره. والكلكل: الصدر. والمفحص: موضع فحصها الحصى عند البروكَ. والفحص: البحث وجران البعير: ما يلي الأرض من عنقه. والمثنى: موضع الثني، يعني قوائمها حين تثنيها للبروك. والنواجي: السريعة، ويعني قوائمها. ولم يخنهن مَفْصلُ: أي مفاصلها قوية تمنح أرجلها التماسك والشدة.

وقال جرير، أنشده في الكتاب (1). ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوافِي فَلاَعِيّا بِهِنَّ ولا اجْتِلاَبَا والثاني أن يكون معناه: الاسمُ الدالُّ على معنى المصدر، المخالفُ له بعدم جَرَيانه على فِعْله. وحقيقتُه أن اسم المصدر هو مَفْعولك، والمصدر فِعْلك، كذا قال بعضهم. ومثاله: الكَلاَم، والسَّلام، والعَوْن، والكِبْر، والطَّاقَة، والطَّاعَة، والعَطاء، والعِشْرة، والتَّوَاب. فإن هذه ونحوها غيرُ جارية على أفعاله، وهي واقعة على المعنى الواقع من الفاعل، مجرَّدا عن مباشرة الفاعل بها. والجاري على (سَلَّم): التَّسْليم، وعلى (كَلَّم): التَّكْلِم، وعلى (أعَان): الإعَانة، وكذلك سائرها. فالجاري هو المصدر، وغير الجاري هو الاسم. فإعماله عملَ المصدر جائز عند الناظم، لأن معناه معنى المصدر نفسه، فتقول: أعجبني عَطاؤُك زيداً، وكلامُك أبا عبدِ الله، كما تقول: أعجبني إعطاؤُك

______ (1) الكتاب 1/ 233، 336، والمقتضب 1/ 57، 2/ 121، والخصائص 1/ 367، 3/ 294، وابن الشجري 1/ 42، وديوانه 62. يخاطب العباس بن زيد الكندي مفتخراً. ومسَّرحي: تسريحي. والعيّ: العجز، ويقال: عَيّ في منطقة، إذا عجز عنه فلم يستطع بيان مراده منه. والاجتلاب: من جلب الشيء، إذا ساقه من موضع الآخر، ويقصد هنا سرقته من شعر غيره. يقول له: إنه يسرح القوافي ويطلقها سهلة لينة، اقتداراً عليها، فلا يعيا بهن، ولا يسرقها من شعر غيره- وسكّن الياء من ((القوافي)) للضرورة، إذ حقها النصب، لأنها مفعول به للمصدر الميمي وهو ((مسرحي)).

زيداً، وتكليمك أبا عبدِالله. وفي الحديث ((مِنْ قُبْلَةِ الرجلِ امرأتَه الوضوءُ (1))) وقال حسان رضى الله عنه (2): كَأنَّ ثَوابَ اللهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ جِنَانٌ من الفِرْدَوْسِ فيَها يُخَلّدُ وقال القُطامي (3): أَكُفْراً بعد رَدِّ المَوْتِ عَنِّي وبعدَ عَطائِكَ المائَة الرِّتَاعَا وقال ذو الرمة (4): أطَاعَتْ بكَ الْوَاشينَ حَتَّى كأنَّمَا كلامُكَ إيَّاهَا عَلَيْكَ حَرَامُ وهنا مسائل: أحداها أن إعمال المصدر بالمعنى الأول كأنه مُتَّفق عليه، لأنه المصدر بعينه، غير أنه بُنِي بناء خاصاً، وجرى على فعله جَرَيانا خاصاً.

______ (1) رواه مالك في الموطأ [كتاب الطهارة- باب الوضوء من قبلة الرجل امرأته] حديث رقم 65، 66 (ص 1/ 44). (2) شذور الذهب 413، والهمع 5/ 78، والدرر 2/ 128، وديوانه 150. (3) الخصائص 2/ 221، وابن الشجري 2/ 142، وابن يعيش 1/ 20، والعيني 3/ 505، والتصريح 2/ 64، والهمع 5/ 77، والدرر 1/ 161، 2/ 127، والأشموني 2/ 288، وديوانه 41. من قصيدة يمدح فيها زفر بن الحارث الكلابي، وكان قد أسر القطامي في حرب، ثم مَنَّ عليه، وأعطاه مائة من الإبل. ويقال: رتعت الماشية رتوعا، إذا رعت كيف شاءت في خصب وسعه. والرتاع: جمع راتع. (4) ديوانه 563. والضمير في ((أطاعت)) يعود إلى ((مَيَّة)) المذكورة في البيت السابق. والواشون: جمع واش، وهو النمام، ويجمع جمع تكسير على ((وشاة)) ومعناه واضح.

وأما بالمعنى الثاني فغير مُتَّفق عليه فيما أحسب. والذي ارْتَضى الناظم مذهبُ مَنْ أعمله، وحجته مجيئُه سماعاً، وظهور وجهه القياسي، وهو أن محصول المصدر واسمِه واحد، ولا كبيرَ فرقٍ بينهما، فكما يُعتبر في المصدر معنى الفعل والحرف المصدري، كذلك يُعتبر في اسمه. فإذا قلت: عَطاؤُك زيداً حَسَنٌ، فتقديره بـ (أنْ) والفعل لا مانع منه، كما كان في المصدر نفسه، فمن فَرَّق بينهما فقد فَرَّق بين الشيء ومِثْله. وأيضا فلو صَحَّ الفرق لَصَحَّ في اسم المصدر بالمعنى الأول. فإن قيل: الفرق بينهما ظاهر، وهو أن المصدر هو نفس مُباشرة الفاعل، واسم المصدر هو المعنى الحادث في تلك المباشرة كما تقدم، فما كان فيه معنى المباشرة والعلاج هو الصالح للعمل، فهو مِثْل الفعل، ومالم يكن كذلك لم يصلح للعمل، كما لم يصلح اسم الجنس المعنوي للعمل، وقد ظهر تأثير هذا الفرق في كلام العرب، حيث أعملوا المصدر من غير تحاشٍ، ولم يُعملوا اسم المصدر إلا نادراً، فلو كان مثلَه في المعنى لكان مثلَه في كثرة الإعمال، فلما لم يكن كذلك دَلَّ على صحَّة الفرق. فالجواب أن هذا الفرق غير بَيِّن / لأن المصدر اسم للمعنى الصادر من الفاعل، 436 وكذلك اسم المصدر، لا فرق بينهما في هذا، فكلاهما اسمُ جِنْس، ولذلك لا يَعمل إذا كان مؤكِّدا أو مبيِّنا، وإنما يعمل إذا اعتُبر فيه معنى العلاج، وهو اسم المصدر في ذلك سواء، إلا أن المصدر لَمَّا أحرز الفعلَ بجرَيانه عليه كان أقربَ من اسم المصدر الذي تَعطَّل فيه ذلك الجريان، فلهذا المعنى قلَّ إعمال اسم المصدر، لا لما قالوا. ومع ذلك فعِلَّتُه لا تُؤْذن بعدم القياس، إذ قد جاء نظماً ونثراً كما

______

تقدَّم. وقد اجتمع مع المصدر في المعنى والمادَّة فساع القياس عليه. والثانية أن الناظم ذكر هنا إعمالَ المصدر، وألحق به اسمَه على كلا المعنيين، واقتصر على ذلك، فدل على أن ما لحق باسم المصدر وشابَهه لا يَلحق به في العمل عنده، فاسمُ الزمان والمكان لا يَعملان عمل الفعل، وإن تَضَمَّنا معناه، لبُعْدهما عن المصدر وفعله، بتضمُّن الدلالة على الزمان والمكان المُبْهَمين، فلا يقال: أتَت على الناقةُ مَضْرِب الفَحْل إيَّاها، ولا ما أشبه ذلك. فإن جاء من ذلك شيء فسماعٌ ومؤوَّل، كقول النابغة (1): كأنَّ مجرَّ الرَّامِسَاتِ ذُيُولَها عليْهِ حَصِيرٌ نَمَّقَتْهُ الصَّوَانِعُ ((مجر)) هنا اسم مكان، لأنه إنما شَبَّه بالحصير موضعَ الجَرِّ، وكذلك قولُ ذي الرُّمة (2): وظَلَّتْ بَملْقَى وَاحِفٍ جَرَعَ المِعَا قياماً تُفالِي مُصْلَخِماً أميرُهَا فـ (المَلْقَى) هنا موضع التقاء واحِفٍ وجَرَعَ المِعَا، وهما موضعان.

______ (1) ابن يعيش 6/ 110، 111، وشرح شواهد الشافية 106، واللسان (نمق، فضم) وديوانه 50، والرامسات: الرياح تثير التراب، وتدفن الآثار. ونمقته: حسنته وجودته، ويقال: نَمَّق الجلدَ والثوب ونحوه، إذا نقشه وزينه بالكتابة. والصوانع: جمع صانعة، وهي المرأة الماهرة الحاذقة المجيدة في عمل اليدين. ويروى ((قضيم نمقته الصوانع)) والقضيم: الجلد الأبيض يكتب فيه. وقيل حصير منسوج خيوطه سيور. (2) ديوانه 310، واللسان (صلخم). يصف حميرا. وواحف والمعَا: موضعان. والجرعَ: جمع جَرَعة، وهي الرملة لا تنبت شيئا. وتفالي: يكدم بعضها بعضا. والمصلخم: المستكبر، والغضبان.

والمعنى: حيث واجه واحفٌ جرعَ المِعَا، لأنه من الالتقاء. وكذلك قوله (1): تَقُولُ عَجُوزٌ مَدْرَجِي مُتَرَوِّحا على بابِها مِنْ عنْد رَحْلِي وغَاديَا أي وقت دُروُجِي. وأنشد سيبويه لحُمَيْد الأرْقَط (2): وما هيَ إلا في إزَار وعلْقَةٍ مُغَارَ ابن هَمَّامٍ على حَيَّ خَثْعَمَا أي في وقت إغارة ابن هَمَّام. فمثلُ هذا لا يُعْتَد به في عمل اسم المكان ولا اسمِ الزمان، فأما البيتان الأوَّلان وما أشبههما فقليلٌ، ومحمول على حذف المضاف، والتقدير: كأنَّ موضع جَرِّ الرامساتِ، وظَلَّت بموضع مَلْقَى وَاحِفٍ. وبهذا يصير العامل اسمَ المصدر لا اسمَ المكان. وأما الآخَران فمن باب ((ما نابَ فيه المصدر عن الظرف)) وهو الذي نَبَّه عليه الناظم في قوله:

______ (1) المحتسب 2/ 266، والمغني 42، وديوانه 653. والدروج: المشي الضعيف والدبيب. ومتروحا: سائر وقت الرواح، وهو من لدن زوال الشمس إلى الليل. وغاديا: سائرا وقت الغدوة، وهي الوقت ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. وبعد: أَذُو زوجةٍ بالمِصْر أم ذُو خصومةٍ أراكَ لها بالبَصْرةِ العامَ ثاويَا؟ فقلتُ لها: لا، إن أهليّ جيرةٌ لأكْثبِة الدَّهنا جميعاً وماليا وما كنتُ مْذْ أبصرتني في خصومةٍ أراجعُ فيها يا ابنةَ القومِ قاضيَا (2) الكتاب 1/ 235، والمقتضب 2/ 120، والخصائص 2/ 208، والمحتسب 2/ 266، وابن يعيش 6/ 109، واللسان (علق). والإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن. والعِلْقة: قميص بلا كمين تلبسه الجارية. يصف امرأة بأنها كانت صغيرة السن وقت إغارة ابن همام على هذا الحي من اليمن، وهو خثعم.

وقَدْ يَنُوبُ عن مكانٍ مَصْدَرُ وذاكَ في طَرْفِ الزَّمانِ يكْثُرُ وكذلك لا يعمل الاسمُ المتضمِن لحروف الفعل إذا كان اسماً لما يُفْعَل به أو فيه، وإن أشعْرَ بمعنى ذلك الفعل، فلا تقول: أعجبني دَهْنُ زيدٍ رأسه، ورِزْقُ اللهِ العبدَ، وخَبْزُ زيدٍ دَقيِقَه، وما أشبه ذلك. فإن جاء من ذلك شيء فموقوفٌ على السماع، ومؤوَّل أيضا. ويظهر من ((الصَّيْمري)) إجازةُ ذلك (1)، وهو مذهب مرجوحٌ لندُوره عن العرب، وإمكان نصبِه على إضمار فعل يدل ذلك الاسم، كأنه يقول: أعجبني دَهْنُ زيدٍ يَدهن رأسَه، أو ما معناه ذلك. ومن ذلك قولُ الله تعالى: {أَلَمْ نجْعَلِ الأَرْضَ كِفاناً/ أحْيَاءً وأمْواتاً (2)} 437 فالكفَات: اسمُ ما يُكْفتَ به، أي يُلَفُّ ويُحْفظ، وأوِّلت على إضمار الفعل. وقيل: جَعل الفارسيُّ من ذلك قوله تعالى: {ويَعْبُدوُنَ مِنْ دوُنِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمواَتِ والأَرْضِ شَيْئاً ولاَ يَسْتَطِيعُونَ (3)} فـ ((شيئاً)) عنده منصوب بـ ((رِزْقاً (4))) والرِّزق: اسم لما يُرْزَقه العبدُ عندهم. فلذلك رَدَّ عليه الناسُ ذلك، وعَدُّوه ذاهباً إلى نحو ما رأى ((الصَّيْمري)). ولا حاجة إلى الاعتذار عن الفارسي هنا إلا من جهة تعلُقه بهذا

______ (1) التبصرة والتذكرة 1/ 240. (2) سورة المرسلات/ الآيتان 25، 26. (3) سورة النحل/ الآية 73. (4) الإيضاح 155.

النَّظْم، فالشَّلَوْبيِن وغيرهُ قالوا: يُحتمل أن يكون ((رِزْقا)) مصدرا كـ (رَزْق) بالفتح، ولا يمون في الآية بمنزلة (الَطّحْن) مع الطَّحْن، و (الرَّعي) مع الرَّعي، فلا حجة فيها على عملِ مثلِ هذا، فبحقٍّ ما أهمله الناظم هنا. والله أعلم. والثالثة: أنه قال: ((ولاِسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلُ)). فأثبت له عملاً ما، ولم يَقُل المصدر في العمل، وأنه يساويه، تنبيهاً على أنه غيرُ ملتزِم للقول بإعماله مطلقا، كان مضافاً أو مجرداً أو مع أل، بل الأمر في ذلك بعدُ في محلِّ النظر، وذلك أن السَّماع فيه إنما ورد بالمضاف كما تقدَّم تمثيلهُ، ولم يَأتِ- فيما أحفظ- مثل: أعجبني عَطاءٌ زيداً، (أو أعجبني طاعةٌ العبدُ ربَّهِ، أو ثوابٌ المؤمنَ، ولا مثل: أعجبني العطاءُ زيداً (1)) ولا الثوابُ المؤمنَ، ولا ما كان نحو ذلك. وكذلك لا أحفظ مثل: أعجبني مُعْطيً زيدٌ عمراً، ولا مُعْطيً عمراً، ولا المُعْطي زيدٌ عمراً، ولا المُعْطَي زيداً، ولا نحو ذلك. ولم يَأْتِ المؤلف في ((الشرح)) من ذلك بمثال، ولكنه قال في ((التسهيل)): إن اسم المصدر يعمل عملهَ (2)، فظاهرُ هذا إعمالهُ في جميع أحواله قياساً كالمصدر، فتقول: أعجبني العطاءُ زيداً، وعَطاءٌ زيداً، كما تقدم. فالموضع- بلا شك- محتمِل للقياس في جميع الأحوال، أو قصْره على ما وَرد فيه. فلذلك- والله أعلم- لم يَحْتِم بإطلاق القول في إعماله في الأحوال الثلاثة كالمصدر، وهو أولَى. فتبقى المسألة نظريَّةً إلى أن يَرِد مُرَجَّح لأحد الاحتمالين. والرابعة أن اسم المصدر ضربان، ضربٌ هو اسم جِنْس غير علم،

______ (1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل. (2) التسهيل: 142.

كالمُثُل المتقدَّمة. وكلامُه فيه صحيح على التفسير المذكور. وضربٌ هو عَلَم، كيَسَارِ للمَيْسَرة، في نحو قوله، أنشده سيبويه (1): فَقُلْتُ امْكُثِي حَتَّى يَسَار لَعَلَّنَا نَجُحُّ معاً قَالتْ أعاماً وقَابِلَهْ و(بَرَّةُ) للمَبَرَّة، و (فَجاَرِ) للفَجْرة في قول النابغة، أنشده سيبويه أيضا (2): أنَّا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَينَنَا فَحَملْتُ بَرَّةَ واحْتَملْتَ فَجَارِ فلا تَعْمل، لأن مِثْل هذه الأسماء دال على معنى المصدر دلالة تُغْني عن الألف واللام، لكونها لا تتصرَّف تصرفَها في الإضافة، والشَّيَاع، والألِف واللام، وقَبُول الوصف، والوقوعِ موقع الفعل، فامتنع لذلك أن تعمل كالمصدر. وكلام الناظم يَنتظم مثل هذا، فيقتضي انه قد يَعمل، وذلك لا يصح. والجواب أن كلامه، وإن كان ظاهرهُ الإطلاق، مُقَيَدٌ بما قُيدَّ به المصدر. من كونه يصلح في موضعه الفعل مع (أنْ) أو (ما) إذ لا يصح أن يعمل

______ (1) الكتاب 3/ 274، والجمل 235، وابن الشجري 2/ 113، وابن يعيش 4/ 55، والتصريح 1/ 125، والهمع 1/ 94، والدرر 1/ 8، واللسان (يسر). طلب منها الإنتظار حتى يوسر فيستطيعا الحج، فأنكرت ذلك عليه، وقالت: أأنتظر هذا العام والعام القابل؟ ! (2) الكتاب 3/ 274، والجمل 234، والخصائص 2/ 298، 3/ 261، 265، وابن الشجري 2/ 113، وابن يعيش 1/ 38، 4/ 53، والخزانة 6/ 327، والعيني 1/ 405، والهمع 1/ 94، والدرر 1/ 9، والأشموني 1/ 137، وديوانه 34. بقوله لزرعة بن عمرو الكلابي، وكان قد عرض على النابغة وعشيرته وبنيه أن يغدروا ببني أسد، وينقضوا حلفهم، فأبى النابغة، وجعل خطته في الوفاء ((برة)) وخطة زرعة لما دعاه إليه من العذر ونقض الحلف ((فجارِ)).

المصدر بشرطٍ وهو الأَصْل، ويعمل اسم المصدر بغير شرطٍ وهو الفَرع، لأنه لم يَعمل إلا بمعنى المصدر، فلابد من تقييده بما تَقَيَّد به المصدر، / وإذ ذاك يَخْرج اسم المصدر العَلَمَ، ... 438 إذْ لا يصلح في موضعه (أنْ) والفعل، ولا (ما) والفعل، فقد أغناه الشرط المتقدم عن إخراج العَلَم من إطلاقه هنا، فلا إشكال في كلامه. ثم قال: وبَعْدَ جَرِّةِ الَّذي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بنَصْبٍ أو بِرَفْعٍ عَمَلَهْ يعني أن المصدر واسم المصدر إذا اضيف إلى معمولٍ من معمولاته، لابُدَّ من جَرَّه لأنه مضاف ومضاف غليه، أتيتَ بعد ذلك بمعموله الذي يَطلبه بعد المجرور، وذلك إمّا منصوباً إن أضيف إلى مرفوعٍ أو منصوب، وإمَّا مرفوعاً إن أضيف إلى منصوب، وذلك بحسب طَلبه له. فقد يضاف إلى ما هو مرفوع في التقدير، فيبقى ما عداه منصوباً، وقد يضاف إلى ما هو منصوب تقديراً، فيبقى ما عداه مطلوباً بنَصْبٍ آخر أو برفع، فتقول: أعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، وأعجبني إعطاءُ زيدٍ الدراهمَ، وضربُ زيدٍ عمروُ، وما اشبه ذلك. ثم هنا ثلاث مسائل: إحداها أن كلامه يقتضي جوازَ إضافة المصدر إلى المنصوب بحَضْرة المرفوع، لأنه إذا قال: ((كَمِّل بْرَفْعٍ)) دَلَّ على أن المضاف إليه المصدرُ غيرُ مرفوع، إذ لا يَرفع فعلٌ أو ما جرى مجراه مرفوعين على غير جهة التَّبَعية.

______

وهذا صريح في جواز إضافة المصدر إلى المفعول بِحَضْرة الفاعل، وإلى الفاعل بِحضْرة المفعول. أما هذا الثاني فسائغ، نحو: أعجبني إكرامُ زيدٍ عمرا وفي القرآن المجيد {ولَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ (1)} - {فاذْكُروُا اللهِ كَذِكْرِكُمْ أَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً (2)} وهو كثير. وأما الأول فقليلٌ ضعيف، قال الفارسي: لا يكاد يُوجد إلا في شعر، لكن قد جاء منه في الكلام شيءٌ، فروُى عن ابن عامر أنه قرأ {ذِكْرُ رَحْمِة رَبِّكَ عَبْدُه زَكَرِيَّا (3)} برفع ((العَبْد)) وتابعه، وما ذاك إلا على نصب ((الرحمة)) والتقدير: أنْ ذَكر رحمةَ رَبِّكَ عَبْدُه زكريِّا (4). وفي الحديث ((وحِجُّ البْيْتِ مَنِ استْطاعَ إليه سَبِيلاً (5))) وهو تأويل بعضهم في قول الله: {وللهِ على النَّاسِ حِجُّ البْيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إليْه سَبيلاً (6)} وأجازه ابن خروفٍ ايضا، وأنشد سيبويه (7):

______ (1) سورة البقرة/ آية 251. (2) سورة البقرة/ آية 200. (3) سورة مريم/ آية 2. (4) لم أجدها في البحر ولا الطبري ولا المحتسب ولا كتب السبعة. (5) رواه مسلم في كتاب الإيمان- باب السؤال عن أركان الإسلام، حديث رقم 10 (1/ 42). (6) سورة آل عمرات/ آية 97. (7) الكتاب 1/ 28، والمقتضب 2/ 258، والمحتسب 1/ 69، 258، 2/ 72، والخصائص 2/ 315، وابن الشجري 1/ 142، 221، 2/ 93، 197، والإنصاف 27، 121، والخزانة 4/ 426، والشعر للفرزدق (ديوانه 570). والهاجرة: وقت اشتداد الحر في الظهر. يصف سرعة الناقة في سير الهواجر، ويقول: إن يديها لشدة وقعهما في الحصى تنفيانه فيقرع بعضه بعضا، ويسمع له صليل كالدنانير إذا انتقدها الصيرفي لينفي رديئها عن جيدها. وخَصَّ الهاجرة لتعذر السير فيها.

تَنْقي يَدَاهَا الحَصَى في كُلِّ هَاجِرَةٍ نَفْيَ الَّدراهمِ تَنْقَادُ الصَّياَرِيفِ وأنشد الزجاجي (1): أَفْنَى تَلاَدِي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ فضرْعُ القَواقيز أفْواهُ الأَباَرِيقِ وجعل الفارسيُّ من ذلك قولَ الحُطَيئة (2): أَمِنْ رَسْمِ دَارٍ مَرْبَعٌ ومَصِيفُ لِعيْنيكَ من ماءِ الشُّئْون وَكيِفُ وإنما أطلق الناظم القولَ بالجواز اتَّباعاً لسيبويه حيث قال: وإن شئتَ حذفتَ التنوينَ كما حذفتَ في الفاعل- يعني: في ((اسم الفاعل- وكان المعنى على حاله، إلا أنك تجرُّ الي يلي المصدرَ، فاعلاً كان أو مفعولاً، لأنه اسمُ قد كَفَفْتَ عنه التنوينَ، كما فعلتَ ذلك بفاعلٍ، ويصير المجرورُ بدلا من التنوين مُعَاقِباً له. قال: وذلك قولك: عَجْبتُ من / ضَرْبِه زيداً، إن كان فاعلاً، أو 439

______ (1) المقتضب 1/ 159، والجمل 134، والإنصاف 233، والمغني 536، والعيني 3/ 508، والتصريح 2/ 64، والأشموني 2/ 289، واللسان (قفز). والشعر للأقيشر الأسدي. والتلاد: كل ما ورثته عن آبائك، ومثله: التالد والتليد. والنشب: العقار، أو المال الأصيل من ناطق وصامت. والقرع: الضرب. والقواقيز جمع قاقوزه، وهي الكأس الصغيرة. والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان له عروة فإن لم يكن له عروة فهو كوز. (2) الإيضاح 158، وابن الشجري 1/ 351، وابن يعيش 6/ 62، والخزانة 8/ 121، وديوانه 39. والبيت مطلع قصيدة له يمدح بها سعيد بن العاص الأموي لما كان واليا على الكوفة لعثمان بن عفان رضى الله عنه. ويقال: رسم المطرُ الدار، إذا عَفَّاها وصَيَّرها رسما. والمربع: اسم زمان للربيع. والمصيف: اسم زمان للصيف. والشئون: مجاري الدمع من الرأس إلى العين، واحدها: شأن. والوكيف: سيلان الدمع أو المطر شيئا فشيئا.

من ضَرْبه زيدٌ، إن كان المضمر مفعولا. قال: وتقول: عجبتُ من كِسْوَة زيدٍ أبوه، وعجبت مَن كِسْوِة زيدٍ أباه، إذا حذفتَ التنوين (1). فذلك إطلاقُ في الجواز كإطلاق الناظم. وما يُقال هناك يقال هنا. وإن قيل: إن ذلك قليلُ بالنسبة إلى العكس- فِقلَّتُه لا تَمنع من اطلاق الجواز، فقد جاء نثراً ونظما. وقد نَبَّه الناظم على الترجيح حيث قال: ((كَمِّلْ بنَصْبٍ أو برَفْعٍ عَمَلَهُ)) فقدم النصب الذي يُكَمَّل به، وذلك- في الغالب- مع الإضافة إلى الفاعل. وقد نَصَّ علي الجواز أيضاً غيرُ سيبويه كالسَّيرافي وغيره. والثانية أنه قال: ((وبَعْدَ جرِّهِ الذَّي أُضِيفَ لَهُ كَمِّلْ بكذا)) فلم يعيِّن للإضافة معمولاً مِنْ معمول، بل أطلق في ذلك، فاقتضى أن كل معمول تصحُّ الإضافةُ إليه يجوز أن يقع هنا مضافاً، فيضاف إلى الفاعل، والمفعول به، والظروف المتصرَّف، ونحو ذلك. فالمصدرُ، إذ ذاك، إما أن يكون لفعلٍ غيرِ مُتَعَدٍّ، أو لفعلٍ متعدٍّ إلى مفعولٍ واحدٍ، أو إلى اثنين، أو ثلاثة. فإذا كان مصدرَ فعلٍ غيرِ متعدٍّ جاز فيه وجهان، إضافتهُ إلى فاعله، وإضافتهُ إلى ظرف مُتَّسَعٍ فيه، فتقول: أعجبني قيامُ زيدٍ اليومَ، وقيامُ اليومِ زيداً. وهذا من باب قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهَارِ (2)} وقد أجاز سيبويه أن تقول: عجبتُ من ضَرْبِ اليوم زيداً، كما تقول:

______ (1) الكتاب 1/ 190. (2) سورة سبأ/ الآية 33.

يا سارقَ اللَّيْلَةِ أهلَ الدارْ (1) ثم بيَّن أنه ليس من باب: * لِلَّهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لاَمَها (2) * فهذا جائز في الكلام، ومثل البيت لا يُوجد إلا في الشعر. وإذا كان مصدرَ فعل متعدٍّ إلى واحدٍ جاز فيه ثلاثة أوجه، إضافتُه إلى فاعله، وإلى مفعول الأول، وإلى الثاني، وإلى ظرف مُتَّسَع فيه، فتقول: أعجبني ضْربُ زيدٍ عمراً اليومَ، وأعجبني ضربُ عمروٍ زيدٌ اليومَ، وأعجبني ضربُ اليومِ زيدٌ عمراً. وإذا كان مصدر فعلٍ متعدٍّ إلى اثنين جاز فيه أربعه أوجه، إضافته إلى فاعله، وإلى مفعوله الأول، وإلى الثاني، وإلى ظرفٍ متسعٍ فيه، نحو: أعجبني إعطاء زيدٍ عمراً الدرهمَ اليومَ، وإعطاء عمروٍ زيدٌ الدرهمَ اليومَ، وإعطاء الدرهمِ زيدٌ عمراً اليومَ، وإعطاء اليومِ زيدٌ عمراً الدرهمَ. وإذا كان مصدرَ فعلٍ متعدٍّ إلى ثلاثة مفاعيل جاز فيه خمسة أوجه،

______ (1) الكتاب 1/ 175، 193، والخزانة 3/ 108، وابن الشجري 2/ 250، وابن يعيش 2/ 45، 46. (2) الكتاب 1/ 178، 194، والمقتضب 4/ 377، ومجالس ثعل 152، والإنصاف 432، وابن يعيش 2/ 46، 3/ 19، 20، 77، 8/ 66، والخزانة 4/ 406، ومعجم البلدان (ساتيدما). والبيت لعمرو بن قميئة (ديوانه 62) وصدره: * لَمَّا رَأتْ سَاتيدَهَا اسْتعْبَرَتْ * رأت: يعني بنته التي ذكرها في بيت قبله، وهو قوله: قد سألتني بنُت عمروٍ عن الْ أرضِ التُي تُنْكِرُ أعلامَها وساتيدما: جبل. واستعبرت: بكت. وكان عمرو قد خرج مع امرئ القيس ومعه بنته إلى ملك الروم، فبكت من وحشة الغربة، ولبعدها عن أراضي أهلها، وبعده: تذكرتْ أرضاً بها أهلها أخوالَها فيها وأعمامَها

وأمثلتها بَيَّنة مما ذُكر. والثالثة أنه قال: ((كَمِّلْ بنَصبٍ أو برَفعٍ عَمَلَهُ)) يريد أنك إذا أضفته إلى أحد معمولاته فإنك تأتي بما عداه على ما يستحقُّ من رفعٍ أو نصب، فتقول: أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً اليومَ، وضربُ عمروٍ زيدٌ اليومَ، وسائر ما تقدم من المُثُل. وأيضاً فقوله: ((كَمِّل بْكذا))، ولم يقل: ((كَمِّل بالفاعل أو بالمفعول)) أو ما أشبه ذلك لَيْدخل في عموم الرفع ما يُرفع فاعلاً نحو: أعجبني ضربُ زيدٍ عمرُوُ، أو مفعولاً لم يُسَمَّ فاعله حسبما تقدَّم من مذهبه، نحو: أعجبني قراءةُ اليومِ القرانُ، وركوبُ يومِ الجمعةِ الفرسُ. أو اسم ((كان)) وأخواتها نحو: أعجبني كونُ أخيك عمروٌ، ونحو ذلك. وليدخل / ما يُنْصب مفعولاً به، نحو: أعجبني ضربُ زيدٍ عمراً، أو خبر ((كان)) ... 440 نحو: أعجبني كونُ زيدٍ قائماً، أو ظرفاً نحو: أعجبني قيامُك اليومَ، وقعودُك مكانَ زيدٍ، أو حالاً نحو: أعجبني مجيئُكَ راكباً، أو مفعولاً له، نحو: أعجبني قيامُك إكراماً لزيدٍ. وغير ذلك من سائر ما يُنصب. ويدخل له المجرور هنا لأنه في موضع نصب، نحو: أعجبني مُكث زيدٍ في الدار، ومرورهُ بك، وإعراضهُ عن زيد، وخروجهُ من الدار، وإتيانهُ إلى المسجد. وما أشبه ذلك. إلا أن في قوله: ((كَمِّل)) إشكالا، لأنه إن أُخذ بظاهر لفظه اقتضى وجوبَ التكميل، وألاَّ يجوز إذا أُضيف المصدرُ إلى الفاعل ألاَّ يُتْرك المفعول إن كان المصدر من متعدٍّ، ولا إذا أضيف إلى المفعول إلا أن يُؤْتى بالفاعل. وذلك غير صحيح، لأن حذف ما سوى المضاف إليه سائغ، كان فاعلاً أو مفعولاً أو غَيَرهما، إلا ما كان من باب ((ظَنَّ)) و ((أَعْلَم)) و ((كان))

______

فإن الحذف هنالك غير سائغٍ لما تقدَّم. فجائز أن تقول: أعجبني ضربُ زيدٍ، وركوبُ الفرسِ. ومن حذف المفعول في القرآن {فَاسْتَبْشرِوُا بَبْيِعكُمُ الَّذي بَايَعْتُمْ بِهِ (1)} - {ومَا كانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأَبيِه (2)} - {وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذّا أَخَذَ القُرىَ وهِيَ ظَالمِةُ إنَّ أَخْذُه أَلِيمٌ شَدِيدٌ (3)} - {وإنَّ رَبَّكَ لَذوُ مَغْفِرَةٍ للنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ (4)} - {ويَوْمئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بنَصْرِ اللهِ (5)}. ومن حَذْف الفاعل {لاَ يَسْأَمُ الإْنْسانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ (6)} - {وهُوَ مُحَرَّم عَلَيْكُمْ إخَراجُهُمْ (7)} - {وإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَاَل زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ (8)} - {وَلا تَهِنُوا في ابتِغَاءِ الْقَوْمِ (9)} - {إنَّ اللهَ يَأمُرُ بالَعدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى (10)} - {قَالَ لَقَدْ ظَلَمكَ بسُؤال نعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ (11)}. وأما نحو: أعجبني ظَنُّكَ عمراً قائماً، وإعلامُك زيدً كَبْشَكَ السَّمينَ، وكون زيدٌ قائماً، ونحو ذلك، مما خبرٌ ومخَبرٌ عُنه في الأصل- فلا يجوز

______ (1) سورة التوبة/ آية 111. (2) سورة التوبة/ آية 114. (3) سورة هود/ آية 102. (4) سورة الرعد/ آية 6. (5) سورة الروم/ الآيتان 4، 5. (6) سورة فصلت/ الآية 49. (7) سورة البقرة/ آية 85. (8) سورة النساء/ آية 20. (9) سورة النساء/ آية 104. (10) سورة النحل/ آية 90. (11) سورة ص/ آية 24.

الاقتصارُ فيه كما تقدم بيانه. ويمكن أن يُجاب عنه بأنه يَقصد إيجابَ الإيتان بالمعمولات الباقية، وإنما أراد الإتيانَ بها على مقتضى أحكامها في جواز الحذف، فيكون ذلك إحالة منه على حكم العوامل في طلب الفَضَلات والعُمَد. لكن هذَا ينكسر له في الفاعل، فإنه جائزُ الحذفِ هنا، ولا يجوز حذفه مع سائر العوامل الطالبة له. وقد يمكن الجواب عنه بأن يقال: لعله ذهب مذهبَ من يرىَ أن المصدر لابد له من فاعل، فإن كان ظاهراً فذاك، وإلاَّ فهو مَنْوِيٌ في المصدر، لكنا نقول: إذا كان الفاعل منويَّا لا يبقى له بعد الإضافة ما يكملَّ به إلا منصوب، ولا تكون إضافته أيضاً إلا إلى منصوب، إذ المنويُّ لا يضاف إليه المصدر، كما يضاف إلى غير المنوي. أو يقال: قوله: ((كَمِّلْ بكذا)) مثل قوله: ((بِفعْلهِ المصدرَ ألحقْ في الْعَمَلِ)) فما قيل هناك يقال هنا. والله أعلم. / وَجُرَّ ماَ يْتَبعُ مَا جُرَّ ومِنْ ... 441 رَاعَى فِي الاتْبَاع المَحَلَّ فَحسَنْ تكلم هنا في تابع المجرور والمضاف إليه المصدر خاصَّةً، وذلك لأن تابع معمول المصدر إذا كان مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً بغير إضافة المصدر إليه لا إشكال فيه، لأنه على حكم سائر التوابع، يُتْبع على اللفظ، فتقول: مرورُك بزيدٍ الفاضِل حَسَنٌ، وضَرْبُك عمراً الكريم قبيحٌ، وأعجبني إكرامُكَ زيدٌ الخياطُ. وأما إذا كان معمول المصدر مضافاً إلى المصدر فله حكمٌ آخر يَختص به، فإن له لفظاً وموضوعا، فلفظُه مخفوض بالإضافة،

______

وموضعُه مرفوعٌ إن كان فاعلاً معنى، أو اسم ((كان)) أو مفعولاً لم يسمَّ فاعله إن قدرتَه مصدر فعلٍ مبنيٍّ للمفعول، أو منصوبٌ إن يكن كذلك. فأخذ في بيان ما يلحق التابع بسبب لك، فيريد أنك إذا أتبعت ذلك المجرورَ فلك الخِيَرَةُ في إجراء التابع عليه، أيِّ تابعٍ كان، من نعت أو عطف أو توكيد أو بدل. فإن أجريتَه على لفظه فأتيتَ مجروراً مثله فتقول: أعجبني قيامُ زيدٍ العاقِل، إن كان التابع نعتا، وأعجبني قيامُ زيدٍ وأخيه، إن كان عطَف نسق، وأعجبني قيامُ أبي عبدِ الله زيدٍ، إن كان عطفَ بيان، وأعجبني قيامُ الناس كُلِّهم، إن كان توكيدا، وأعجبني قيامُ زيدٍ أبي عبدِ الله، إن كان بدلا. وإن شئتَ أجريتَه على الموضع، فأتيتَ به مرفوعاً أو منصوباً، على حسب ما أعطاه المعنى، فتقول: قيامُ زيدٍ العاقُل حَسَنٌ، وقعودُ زيدٍ وأخوه قبيحٌ، وأعجبني قدومُ زيدٍ أبو عبد الله، ومرورُ أبي عبد الله زيدٌ بك، وأعجبني قيامُ الناسِ كلُّهم. وما أشبه ذلك. وتقول أيضاً: أعجبني ركوبُ الفرسِ الفارِه، على اعتبار اللفظ، وركوبُ الفرسِ الفارهُ، على اعتبار الموضع، وأن ((الفرس)) مفعولٌ لم يُسَمُّ فاعله، وركوبُ الفرسِ الفارهَ، على اعتبار حذف الفاعل من اللفظ، وأن ((الفرس)) مفعول نُوِي فاعله، أو ترُك مع إرادته في اللفظ: فهذه ثلاثة أوجه. فإن قلت: أعجبني ضربُ زيدٍ العاقل، فلك في النعت هنا أربعة اوجه، الإتباع باعتبار اللفظ، والرفع على أن ((زيدا)) في موضع رفع على الفاعلية، أو على المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، أو في موضع نصب على المفعولية. وعلى هذا الترتيب يجري حكم سائر التوابع، من العطف والتوكيد

______

والبدل، إذ لم يَخُصّ الناظم بهذا الحكم تابعاً من تابع، وذلك صحيح. ومن الحمل على الموضع ما أنشده سيبويه من قول الراجز (1): قَدْ كُنْتُ دايَنْتُ بها حَسَّانَا مخافةَ الإفْلاسِ واللَّيَّانَا يُحْسِنُ بَيْعَ الأَصْلِ والِقيَانَا فـ ((اللَّيَّان)) و ((الِقيَان)) معطوفان على الموضع على ((الإفلاس)) و ((الأصْل)) هذا في العطف النَّسَقَي. وقال لبيد في النعت (2): حَتَّى تهَجَّرَ في الرَّواحِ وَهاَجه طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المَظْلوُمُ / فـ ((المظلومُ)) نعتٌ لـ ((المُعَقِّب)) وهو مرفوع، لأن ((المُعَقِّبَ)) في ... 442

______ (1) الكتاب 1/ 191، وابن الشجري 1/ 228، 2/ 31، وابن يعيش 6/ 65، والمغني 486، والعيني 3/ 520، والتصريح 2/ 65، والأشموني 2/ 191. والرجز لرؤبة (ملحقات ديوانه 187) وينسب كذلك إلى زياد العنبري. وداينت: من المداينة، وهي البيع بالدين. والضمير في قوله: ((بها)) عائد على الإبل. وحسان: اسم رجل. والليان: مصدر: لويته بالدين لَيَّا ولَيَّاناً، إذا مصلته. والأصل: أصل المال، ولعله يعني الإبل، لأنها أكرم أموالهم. والقيان: جمع قينة وهي الأمة مغنية كانت أو غير مغنية. (2) ابن الشجري 1/ 228، 2/ 32، والإنصاف 232، 331، وابن يعيش 2/ 24، 46، 6/ 66، والخزانة 2/ 240، والعيني 3/ 315، والتصريح 1/ 278، 2/ 65، والهمع 5/ 293، والدرر 2/ 202، والأشموني 2/ 290، واللسان (عقب) وديوانه 128. وتهجر: سار وقت الهاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر. والرواح: الوقت من زوال الشمس إلى الليل. وهاجه: أزعجه، ويروى ((هاجها)) والضمير المستتر يعود إلى حمار الوحش، والبارز يعود إلى الأتان. والمعقب: الذي يطلب حقه مرة عقب مرة، ولا يتركه. يصف حمار وحش وأتانه، شبه به ناقته.

موضع رفع. وعلى هذا المعنى حَمل المؤلف قراءة الحسن {أْوَلئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنُةُ اللهِ والْمَلائكةُ والنَّاسُ أجْمعُونَ (1)}. وأنشد معه (2): يَالَعْنَةُ اللهِ والأقوامُ كُلُّهم والصَّالِحُونَ على شِمْعَانَ مِنْ جَارِ وفي الحديث ((أمَر بقَتْلِ الأَبْتَر وذُوا الطّفَيتْين (3))) وإلى الإتباع على الموضع ذهب جماعة. ورأىُ سيبويه الحملُ على إضمار فعل، ذكر ذلك في ((باب المصدر الجاري مجرى فعله (4))) قال ابن خروف: وكلاهما حَسَن. وعلى الإضمار حمل ابنُ جِنِّي قراءة الحسن، أي: ويَلعنهم الملائكةُ والناسُ أجمعون (5). وهما مذهبان متقاربان، وسيأتي بيانُ وجهِ اختيار الناظم في الباب بعد

______ (1) سورة البقرة/ آية 161. وانظر المحتسب 1/ 116، وشرح التسهيل (ورقة 158 - أ). (2) شرح التسهيل (ورقة 158 - أ) وكتاب سيبويه 2/ 219، والإنصاف 118، وابن الشجري 1/ 325، 2/ 154، وابن يعيش 1/ 24، 40، 8/ 120، والهمع 3/ 45، 4/ 367، والحماسة بشرح المرزوقي 1953. والمغني 373، والعيني 4/ 261. والبيت من المجاهيل يدعو على سمعان جاره بأن تناله لعنة الله والناس كلهم. لأن لم يرع حق الجوار. (3) رواه البخاري في ((كتاب بدء الخلق- باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)) حديث رقم 3311 (فتح الباري 6/ 351). والأبتر: حية لينة خبيثة قصيرة الذنب. وذو الطفيتين: حية لها خطان أسودان يشبهان بالخوصتين. وقيل: الذي له خطان أسودان على ظهره. (4) الكتاب 1/ 189. (5) المحتسب 1/ 116.

هذا إن شاء الله. ومن ذلك أيضا قول امرئ القيس (1): أحَارِ تَرىَ بَرْقاً أُرِيكَ وَميِضَهُ كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ يُضِئُ سَنِاهُ أو مَصَابِيحُ راهبٍ أهانَ السَّلَيطَ في الذُّبالِ الُمفتَّلِ يُروى برفع ((مصابيحُ)) عطفاً على موضع ((اليدَيْن))، وجَرَّه عطفا على لفظه. وقول النابغة (2):

______ (1) كتاب سيبويه 1/ 252، والمقتضب 4/ 234، والخصائص 1/ 69، وابن الشجري 2/ 88، والإنصاف 684، وابن يعيش 9/ 89، والخزانة 9/ 425. والشعر من معلقته. والوميض: اللمعان الخفي. والحَبِيُّ: السحاب المعترض بالأفق، أو المتداني. والمكلل: المتراكب. شبه انتشار البرق وتشعبه بحركة اليدين وتقليبهما. والسنا: الضوء. والسليط: الزيت أو الشيرج. ومعنى ((أهان السليط)) أكثر من الإيقاد به. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة. يقول: هذا البرق يتلألأ ضوءه، فهو يشبه في تحركه لمع اليدين، أو مصابيح الرهبان التي أميلت فقائلها يصب الزيت عليها في الإضاءة. (2) ديوانه 65. وانشق عنها: انكشف عن الناقة وتبيَّن. وعمود الصبح: الخط المستطيل الذي يرى في وجه الصبح. وجافلة: مسرعة ماضية في سيرها. والنحوص: الأتان التي لا لبن لها، ولا حمل بها. شبه ناقته بها في قوتها وسرعتها وشدة سيرها. والقانص: الصائد، واللَّحِم: الذي يأكل اللحم كل يوم، أي أنه محظوظ لا يكاد يخيب وقيل: اللحم هنا: القَرِم إلى اللحم، فهو أحرص له على طلب الصيد. وتحيد: تعدل وتنفر. والأستن: شجر أسود، واحدتها أستنة. وقيل: ثمرة لهذا الشجر. ومش الإماء الغوادي: شبه الأستن في سواد أسافله وطوله بإماء صود يحمان الحُزُمَ. وذو وشوم: ثور وحشي بقوائمه سواد. وحوضي: اسم موضع. والمنكرس: المتداخل المتقبَّض. وأخضلت ديما: أي بلت الأرض بديم، أي مطر دائم لين. وإنما قال ((في ليلة من جمادى، لأن جمادى وافقت في ذلك زمن الشتاء والبرد، فلذلك خصها.

فَانْشَقَّ عنِها عَمُودُ الصُّبْح جَافِلةً عَدْوَ النَّحوُصِ نَخافُ القانِصِ اللَّحمِاَ تَحِيدُ عن أَسْتَنٍ سُودٍ أسَافِلُهُ مَشْيَ الإَماءِ الغَوادِي تَحْمِلُ الحُزُمَا أَوْذُو وُشُوم بَحْوضَي باتَ مُنْكَرِساً في ليلةٍ من جُمَادى أَخْضَلَتْ دِيَمَا فقوله: ((أوذوُوُشُومٍ)) عطف على موضع ((النَّحوصِ)) وهو كثير. وقوله ((وجُرَّ)) الأول، فعلُ أمرٍ، و ((ما)) في قوله: ((ماَ يتْبَعُ)) مفعول به. ويحتمل أن يكون فعلَ ما لك يسمَّ فاعله، و ((ما))، مرفوع به، وهو اسم موصول عائده الضمير المستتر في ((يَتْبَعُ)) فعل مبني للمفعول، كأنه قال: واجْرُرِ التابَع للمجرور بالمصدر. ومن راعى محلَّ المجرور فأتْبع على اعتباره، ومن رفعٍ أو نصبٍ، فلذلك وجهُ حَسَن.

______

إعمال اسم الفاعل اسمُ الفاعل هو الاسمُ الجاريِ على فعله المضارع في الحركات والسكنات وعدد الحروف مطلقا، ومُقابلة الزائدِ بالزائد، والأصليِّ بالأصلي، وتعييِن الزيادة في غير الثلاثي، ما عدا زائدَ أولِ الكلمة، مع كونه دالاً على معنى الفعل وفاعله. والنظر فيه في أمرين: أحدهما: الأَبْنِيةُ التي يأتي عليها قياسا، والتي لا يأتي عليها قياسا. والثاني: إعمالهُ عملَ ما جَرَى عليه من الفعل. وكذلك المصدرُ، والصفةُ المشبهَّة باسم الفاعل يُنظر في كل واحدٍ منهما هذان النظران. وقد تعَّرض الناظم في هذا الموضع لكل واحدٍ منهما في الثلاثة، فتكلم أولاً في إعمال المصدر، فلما أتمَّ ما احتاج إليه فيه شرَع الآن في إعمال اسم الفاعل فقال: كَفِعله امُ فاعلٍ في العَمَل إنْ كانَ عَنْ مُضِيِّهِ بِمَعْزِلِ / وَوَلى اسْتِفْهَاماً اوْ حَرْفَ نِدَا ... 443 أو نَفْياً اوْجَا صِفَةً أو مُسْنَدَا يعني أن اسم الفاعل يعمل عملَ فعله الموافقِ له في المادَّة والمعنى، الجاري هو عليه في التصريف، كقولك ضَارِب، ومُسْتَخَرِج، فإنهما

______

يَعملان عمل: يَضْرِبُ، ويَسْتَخْرِجُ، فتقول: ضاربٌ زيداً غداً، كما تقول: هذا يضربُ زيداً غداً. وهذا مُسْتخِْرجٌ المالَ الآنَ، كما تقول: هذا يَستَخِرجُ المالَ الآنَ. وكذلك ما أشبههما. لكن لما كان اسم الفاعل في العمل فَرْعاً عن الفعل، والفرعُ أبداً لا يَقْوَى قوةَ الأصل- لم يَعمل في كل موضعٍ يَعمل فيه الفعل. وأيضاً فإنه لما كان عملهُ بالشَّبَه بالفعل المضارع، لجريانه عليه من جهة اللفظ والمعنى، حتى حُمِل عليه المضارع في الإعراب- صار لا يعمل إلا مع تمام الشَّبَه، وكمال الحَمْل. فلهذين الأمرين صار اسم الفاعل لا يعَمل إلا بقُيُودٍ أتى بها الناظم في قوله: ((إنْ كانَ عِنْ مُضِيَّه بِمَعْزِل)) إلى آخره. وجملة القيود التي أتى بها في صِحَّة عمله هي: ألاَّ يكون بمعنى الماضي، وأن يَليِ استفهاماً، أو حرفَ نداء، أو حرف نفي، أو أن يأتي صفةً، أو مُسْنَداً إلى غيره. والجامع لذلك كله شرطان: أحدهما: إلاَّ يكون اسم الفاعل بمعنى الفعل الماضي، وذلك قوله: ((إنْ كانَ عَنْ مُضيَّه بَمعْزِلِ)) يريد ألاَّ يكون زمانه ماضياً، وإنما يكون بمعنى الحال أو الاستقبال. فلو كان بمعنى الماضي لم يعمل، فلا تقول هذا ضارِبٌ زيداً أمسِ، وإنما تقول: هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ، مضافاً إضافةَ تخصيصٍ لا تخفيف، قال سيبويه: فإذا أَخْبر أن الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير تنوينٍ البَتَّة (1).

______ (1) الكتاب 1/ 171.

يعني أنه لابد من الإضافة المحضة، لأنه إنما أُجْريِ مُجرى الفعل المضارع له، كما أُجري الفعلُ المضارعُ مُجراه في الإعراب، حيث اشْتبَهَا لفظاً ومعنى. قال: فكلُّ واحدٍ منهما داخلُ على صاحبه. قال: فَلَمَّا أراد سِوىَ ذلك المعنى جرى مَجرى الأسماء التي من غير ذلك الفعل (1). يَعْنى: فلم يَعمل فيما بعده، وإن كان في المعنى مفعولا، إذ لم يُضارع الفعلَ فجرى مَجرى الأسماء الأجنبيَّة، فأضِيف إضافةً محضة. وما تقررَّ رأي البصريين. وزعم الكسائي أنه يجوز إعمال اسم الفاعل بمعنى الماضي وإن كان عارياً من الألف واللام، وكأنه اعتَبر معنى الفعل مجرَّدا مع أن في القرآن {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِراعَيْهِ بالْوصِيدِ (2)} وحُكى هذا مارُّ بزيدٍ أمسِ. وأيضاً فمن كلام العلاب: هذا مُعْطِي زيدٍ درهماً أمس، وسيبويه قد مثل بباب ((أعطى)) ههنا، وتكلم عليه (3). وحكى ابن خروف أن من كلام العرب: هذا ظانُّ زيدٍ شاخصاً أمسِ، وهي المسألة التي أوردها ابن جِنِّي في ((كتاب القد (4))) وأن الفارسي انقطع فيها. وهذا كلُّه ليس فيه حجة على ما قال. أما الآية فمن باب ((حكاية الحال الماضية)) كقول تعالى: {فَوَجَدَ فيَها رَجُلَيْنِ يَقْتتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِه وِهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ (5)} فهو بمعنى الحال إذاً، وأما

______ (1) الكتاب 1/ 171. (2) سورة الكهف/ آية 18. (3) الكتاب 1/ 175. (4) في (س) ((كتاب القد)) وفي (ت) ((كتاب القدر)). وما أثبته من الأصل. (5) سورة القصص/ آية 15.

(هذا مارٌّ بزيدٍ أمسِ) فقيل /: إنهم لَمَّا لم يُمكنهم الإضافة نَوَّنُوا. 444 قال ابن خروف: وهذا ضعيف. قال. والأحسن أن تكون حكاية حالٍ كقوله (1): ولَقَدْ أَمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنيِ فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيِنيِ وأما مسألة (هذاُ مُعْطيِ درهماً أمسِ، وظانٌ زيدٍ شاخصاً أمسِ) فسيأتي الكلام على ما فيها بعد إن شاء الله. والشرط الثاني: أن يعتمد على شيء يأتي قبله، واعتمادُه على خمسة أمور: أحدها: حرف نفي، نحو: ما مَارٌّ أنتما بزيدٍ، وما ضاربٌ أنتما عمراً. والثاني: حرف استفهام، نحو: أضاربٌ أنت زيداً؟ والثالث: حرف نداء، نحو: يا طالعاً جبلاً، ويا ضارباً عمراُ. والرابع: أن يكون صفةً لموصوفٍ مذكورٍ أو مقدَّر. فأما المقدَّر فسيُذكر بعد. وأما المذكور فنحو: مررتُ برجلٍ ضاربٍ زيداً غداً. والخامس: أن يكون مُسْنَداً إلى مبتدأ، لفظاً أو أصلاً، فالمسند إلى المبتدأ لفظاً نحو: زيدٌ ضاربٌ عمراً. والمسند إلى المبتدأ أصلاً نحو:

______ (1) الكتاب 3/ 24، والخصائص 3/ 330، 332، وابن الشجري 2/ 203، والخزانة 1/ 357، والمغني 102، 429، والعيني 4/ 58، والتصريح 2/ 111، والهمع 1/ 23، والدرر 1/ 4، 2/ 192، والأشموني 1/ 180، 3/ 60، 63. وهو لرجل من سلول. يعني أنه ينزل من يسبه من اللئام بمنزلة من لم يعنه ولم يقصده احتقاراً له، فهو لذلك لا يرد عليه بالسباب.

إنَّ زيدًا ضاربً عمراً. فإن لم يَعتمد على شِيء من ذلك لم يَعمل، على مفهوم كلام الناظم، فلا يقال: ضاربٌ الزَّيدانِ أخاكَ، إلا على رأي أبي الحَسَن (1). وقد تقدم الكلام على ذلك في ((باب الابتداء (2))) فإذا اجتمع ما ذُكر من الشرطين فلا إشكال في الجواز. فمن ذلك في القرآن {إنَّ اللهَ بلِغٌ أمْرَهُ (3)} - {وَاللهُ غَالبٌ علَى أَمْرِهِ (4)} - وقُرِئ {وَلاَ اللَّيْلُ سَابقٌ النَّهارَ (5)} وأنشد سيبويه لامرئ القيس (6): إنَّي بَحبْلِكَ واصلٌ حَبْليِ وبرِيشِ نَبْلِكِ رائِشٌ نَبْليِ

______ (1) يعني سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط (ت 210 هـ). (2) انظر: 1/ 594. (3) سورة الطلاق/ آية 3. وقرأه السبعة إلا حفصاً عن عاصم بالتنوين والنصب، وقرأ حفص بالإضافة وانظر: السبعة لابن مجاهد 639. (4) سورة يوسف/ آية 21. (5) سورة يس/ آية 40. وانظر: البحر المحيط 7/ 338. (6) الكتاب 1/ 164، والجمل 98، وديوانه 239. ورائش: من قولنا: راش السهم بريشه، إذا ركَّب فيه الريش. والنبل: السهام، لا واحد له من لفظه. يقول له: أمرى من أمرك، وهو اي من هواك. وهما مَثَلان ضربهما للمودة والمواصلة.

وأنشد لزُهَيْر (1): بَدَالِيَ أَميِّ لَسْتُ مُدُرِكَ ما مَضَى ولا سَابِقاً شَيْئاً إذا كاذَ جَائِيَا وأنشد أيضا لأبي الأَخْوصِ الريَّاحَي (2): مَشَائِيمُ لَيْسُوا مصلُحينَ عَشيرَةً ولانَا عِباً إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا وأنشد لأبي الأَسْوَد (3):

______ (1) الكتاب 1/ 165، 3/ 29، والجمل 96، والخصائص 2/ 353، 424، والإنصاف 191، 395، 565، وابن يعيش 2/ 52، 7/ 56، والخزانة 9/ 102، والمغني 96، 288، والعيني 2/ 367، 3/ 351، والهمع 5/ 278، وديوانه 287. ومعناه: ظهر لي أني لا أستطيع أن أجلب لنفسي خيراً، أو أدفع عنها شراً. (2) الكتاب 1/ 165، 306، 3/ 29، والخصائص 2/ 354، والإنصاف 193، 395، 595، وابن يعيش 2/ 52، 5/ 68، 7/ 57، 8/ 69، والمغني 478، 553، والخزانة 4/ 158، والأشموني 2/ 235. وينسب للفرزدق أيضا (ديوانه 23). ومشائيم: جمع مشئوم، من الشؤم، وهو الشر. وعشيرة الرجل: بنو ابيه الأقربون والجمع: عشائر. والناعب: الصائح، اسم فاعل من النعيب، وهو صوت الغراب، وكانت العرب تتشاءم به، وتجعله نذيرا للفرقة وتصدع الشمل. والبين: الفراق. يهجو بني يربوع، ويصفهم بالشؤم وقلة الخير والصلاح، وأنهم لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم، ويروى ((ولانا عبٍ)) بالجر، على تقدير الباء الزائدة في ((مصلحين)) وانظر: الكتاب (3/ 29). (3) الكتاب 1/ 169، والمقتضب 1/ 19، 2/ 313، والخصائص 1/ 12، والمنصف 2/ 231، وابن الشجري 1/ 383، والإنصاف 659، وابن يعيش 2/ 9، 9/ 34، والمغني 555، والخزانة 11/ 374، والهمع 6/ 179، والدرر 2/ 230، وملحقات ديوانه 220. ومستعتب: راجع بالعتاب على قبيح ما يفعل، يعني امرأة أغرته بجمالها، وعرضت عليه الزواج فتزوجها، ثم وجدها على غير ما زعمت له من حسن التدبير، فهجاها بقصيدة منها البيت. وانظر: الخزانة 11/ 374، والأغاني 11/ 107.

فَأَلفيْتهُ غَيْرَ مُسْتَعتِبٍ ولا ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاَ وأنشد أيضا للهُذَلَى (1): مِمَّن حَمْلنَ به وهُنَّ عَوَاقِدُ حُبَكَ النَّطاقِ فَعَاشَ غيرَ مُهَبَّلِ وأنشد للعجاج (2): * أَوَالِفاً مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِ * ثم قال: وقَدْ يَكُونُ نَعْتُ مَحْذوُفٍ عُرِفْ فَيْستَحِقُّ الْعَمَل الذَّيِ وُصِفْ

______ (1) الكتاب 1/ 109، والإنصاف 489، وابن يعيش 6/ 74، والخزانة 8/ 192، والمغني 686، والعيني 3/ 558، والأشموني 2/ 299، وديوان الهذليين 2/ 92 وهو لأبي كبير الهذلي، ويروى ((فشَبَّ)). والُحبَك: جمع حَبْكة، وهي الحبل يشد به على الوسط، ومن السراويل: ما فيه التَّكة والنطاق: إزار تشده المرأة في وسطها، وترسل أعلاه على أسفله، تقيمه مقام السراويل. والمهَّبل: الثقيل، كأنه المدعو عليه بالهبل، أي فقدامِّه له يصف رجلا شهم الفؤاد نجيبا، وأن علة نجابته أن النساء حملن به، وهن عواقد لنطقهن، ويزعم العرب أن الولد اذا حملت به أمه كرهاً خرج مذكراً نجيباً. (2) الكتاب 1/ 26، 110، والخصائص 2/ 135، 473، والمحتسب 1/ 78، والإنصاف 519، وابن يعيش 6/ 74، 75، والعيني 3/ 554، 4/ 285، والتصريح 2/ 189، والأشموني 3/ 183، والهمع 3/ 77، 5/ 344، واللسان (حمم) وديوانه 59. وقبله: ورَبِّ هذا البَلدِ المحرَّمِ والقاطناتِ البيت غيِر الرُّيَّمِ والقاطنات: المقيمات. والبيت: الكعبة شرفها الله. والرُّيَّم: اللاتي يبرحنَ ويفارقن. والوُرْق: جمع ورقاء، وهي الحمامة التي لونها بين السواد والغبرة. والحم: الحمام، رُخِّم على غير قياس.

هذا هو الضرب الثاني من كَوْن اسم الفاعل جارياً على مَوْصوف، وهو أن يكون الموصوف محذوفاً، نحو: مررت بضاربٍ زيداً، ومنه ما أنشده سيبويه (1): ومَا كُلُّ ذِي لُبٍّ بُمْؤتِيكَ نُصْحَهُ وما كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ وأنشد أيضا لعمر بن أبي ربيعة (2): ومِنْ مَالِئٍ عَيْنَيْهِ من شِيْء غَيْرِه إذا رَاَحَ نَحو الجَمْرةِ البِيضُ كالدُّمَى وأنشد للمرار الأسدي (3): سَلِّ الهُمومَ بكلِّ مُعْطِي رَأسِهِ ناجٍ مُخَالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ

______ (1) الكتاب 4/ 441، والهمع 5/ 80، والدرر 2/ 128، والمغني 198، والأغاني 11/ 105. والبيت لأبي الأسود الدؤلي، ديوانه (99) وقيل: لمودود العنبري، وبعده: ولكن إذا ما استَجْمعَا عند واحدٍ فحُقَّ له من طاعةٍ بنَصِيبِ ومعنى البيت: أن العاقل قد يضن عليك بنصحه، كما قد ينصحك غَير اللبَيب فلا ينفعك نصحه، ويعني بذلك ندرة الناصح العاقل. (2) الكتاب 1/ 165، والجمل 97، والعيني 3/ 521، وديوانه 451 وقبله: وكم من قتيلٍ لأيباءُ به دَمُ ومن غَلِقٍ رَهْناً إذا ضَمَّه مِنَي ومن شِيء غيره: يعني نساء غيره. والجمرة: موضع رمي الجمار بمنى. والبيض: النساء البيض. والدمى: صور الرخام. شبه النساء بها الان الصانع لا يدَّخروُ سْعاً في تحسينها، ولمالهن من السكينة والوقار (3) الكتاب 1/ 168، 426، والمحتسب 1/ 184، واللسان (عردس). ومعطي رأسه: ذلول منقاد، يعني البعير. وناج: سريع، والنجاء: السرعة. والصهبة: بياض يضرب إلى الحمرة، وذلك علامة الكرم والغنق. والمتعيس والأعيس: الأبيض تخالطه شقرة. يقول: سل همك اللازم لك بفراق من تهوى بُعْده عنك بكل بعير ترتحله للسفر، هذه صفته.

وإنما عمل هنا وإن لم يَجْرِ على موصوفٍ في الظاهر لأنه في التقدير جارٍ عليه، فصار كالجاري حقيقة، فلذلك قال: ((وقَدْ يكونُ نعتَ محذوفٍ عُرِفَ فَيسْتِحق كَذا)) أي صار لأجل هذا الجريان المقدَّر يعمل عملَ فعله. وإنما يُحذف الموصوف/ إذا عُرف، وإلاَّ فمررتُ بقائمٍ- لا يجوز، فلابد أن يكون 445 معروفا، بأن تكون الصفةُ مختصَّةً، كمررتُ بعاقلٍ، فكذلك هنا. هذا بيان ما ذكَر من شرط الإعمال. وقد بقى في كلامه دَرَكُ من أربعة أوجه: أحدها: أن اسم الفاعل بمعنى الماضي قد أخرجه عن حكم العمل، وهذا العمل المنفيُّ أنه الرفع والنصب لفظاً أو محلاً، فلا يعمل رفعاً، أعني في الظاهر أو ما جرى مجراه، ولا نصباً أيضاً. أما كونُه لا يَعمل نصباً فظاهر. وأما كونه لا يعمل الرفعَ المذكور ففيه نظر، فقد قال بعض النحويين: إن الخلاف إنما وقع في النصب، وأما الرفع فيجوز باتفاق، فتقول: مررت برجلٍ ضاربٍ أمسِ، بجر ((ضاربٍ)) ورفع ((الأبُ)) على الفاعليه. واحْتُجَّ على ذلك بأن قال: لا خلاف في أن اسم الفاعل بمعنى الماضي إذا جَرى على مَنْ هو له- يرفع المضمر، رَفع المضمر يَرْفع الظاهر، إذا جرى على غير مَنْ هو له. وهذا النحوَ نَحا ابنُ عُصْفور حسبما وقع له في تقييد الصفَّار (1)

______ (1) سبقت ترجمته.

عنه. فإذا كان الأمر على ما وصفة فكيف يُطلق الناظم القولَ بالعمل، ثم يَستثني الذي بمعنى الماضي، فإذاً لا يرفع الظاهر ولا الضمير المنفصل، وذلك غير مستقيم. أما رفع الضمير المستتر فلا كلام فيه، لأنه لازم لكل صفة، من حيث الاشتقاق أو الجريان مَجرى المشتق. فالحاصل أن كلامه مُعْتَرض. والثاني: أنه ذكَر شرط الاعتماد ومواضعَه، ولم يُوفِ بها، إذ عادة النحويين أن يزَيَدوا فيها: أن يقع اسم الفاعل حالاً لذِي حال، أوصلةً لموصوف. أما وقوعه صلةً فلذلك لا يكون إلا مع الألف واللام، فذلك هو الموصول، وسيذكره وأمَّا وقوعه حالاً فلم يذكره، وقد كان من حَقِّه ذلك، لصحة قولك: مررتُ بزيدٍ ضارباً عمراً، ومنه قول أبي الأسود (1): فَأَلْفَيْتُهُ غَيرَ مُسْتَعْتِبٍ ولا ذَاكرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاَ فإذا ثبت هذا فكلامه يقتضي أنه بذلك الاعتماد، وذلك لا يستقيم باتَّفاق. والثالث: أنه ذكر شرطين، وترك ثلاثة شروط. أحدها: الأَّ يُصَغَّر، فلا يقال: هذا ضُوَيْربٌ زيداً، وما حُكى من قولهم: انا مُرْتَحِلُ فسُوَيْئرٌ فَرْسَخاً- فشاذ. وأيضاً فلا حجة فيه، لأن الظرف والمجرورات يعمل فيها رائحةُ الفعل، ولذلك أيضا ساغ: أنا مارٌّ بزيدٍ أمسِ.

______ (1) سبق الاستشهاد به.

والثاني: ألا يُوصف قبل العمل، فلا يقال: هذا ضاربٌ عاقلٌ زيداً. نصَّ عليه سيبويه وغيره. فإن جاء من ذلك شِيء فشاذ، كقول طُفَيل، أنشده الفارسي، وقال: أنشدنيه أبو إسحاق (1): ورَاكِضَةٍ ما تَسْتَجِنُّ بِجُنَّةٍ بَغِيَر حِلاَلٍ غادَرَتْهُ مُجَعْفَلِ وقال بِشرْ بن أبي خازم (2): إذَا فَاقِدٌ خطْبَاءُ فَرْخَيْنِ رَجَّعَتْ ذكرتُ سُليْمَى في الخَليِطِ المُبايِنِ مع أنه قد يُتأول على حذف الجار، أي على بَعِيرِ حِلالٍ، وعلى فَرْخَيْن. ويتعلَّق الأول باسم فاعل صفة/ والثاني بـ ((رَجَّعَتْ)) أو يُنصبان بفعل يفسِّره اسم الفاعل، فلا يكون في ... 446 ذلك حجة. والثالث: أَلاَّ يَجرىَ مُجرى الأسماء الجامدة، فإنه إذ أُجرى مُجراها لم يعمل على حال، فتقول: هذا ضاربُ زيدٍ، كما تقول: هذا صاحبُ زيدٍ، أو: هذا أخو زيدٍ.

______ (1) اللسان (جعفل، حلل). والراكضة: من ركض الدابة، إذا ضرب جنبيها برجله. وتستجن: تستتر. والجنة: ما واراك من السلاح، واستترت به منه. والحلال: مركب من مراكب النساء. والمجعفل: المقلوب. (2) العيني 3/ 560، والأشموني 2/ 294، واللسان (فقد). وليس في ديوانه. والفاقد من الظباء والبقر والحمام: التي شبع ولدها، ومن النساء: التي مات زوجها أو ولدها أو حميمها. والخطباء: من الخُطبة، وهو لون يضرب إلى الكدرة، مشرب حمرة في صفرة. ورجعت: قطَّعت الصوت. والخليط: المخالط. والمباين: المفارق.

نصَّ على ذلك سيبويه (1)، ولا أعلم فيه خلافا. ولم يَنُضَّ الناظم على شيء من ذلك، فلا جَرَم أنه قاصر. والجواب عن الأول أن المراد عملُ الرفع والنصب، وأن اسم الفاعل بمعنى الماضي لا يعمل نصباً ولا رفعا، أعني رفعَ الظاهر، وما حَكى ذلك المتأخرُ من الاتفاق لاَ يَثْبت. وأما رفعُه للضمير المنفصل إذا جَرى على غير من هو له فإنما أُبرز لضرورة اللَّبس، ومع ذلك فهو بمنزلة الضمير المتصل. ألا ترى أنك لا تقول: ما ضربتُ إلا إيَّايَ، كما تقول: ضَرَبْتُنيِ، فلا يتعدَّى فعلُ المُضْمَرِ المتصل إلى مُضْمَرهِ، متصلاً كان أو منفصلاً، فلم يُعتبر بانفصاله هنا، ولم يُلحق بالظاهر فيجازُ كما جاز: ما ضربتُ إلا نفسي. فهذا واضح في أن انفصال الضمير لا يصيَّره كالظاهر من كل وجه. وإذا كان كذلك لم يصح أن يُقاس الظاهر على الضمير المنفصل. وأيضاً لو صَحَّ قياس الظاهر على الضمير لصحَّ في نحو: مررتُ بقاعٍ عرْفجٍ كُلُّه (2)، وفي: مررت بقومٍ عَرَبٍ أجمعون (3)، وبابُه أن يرفع الظاهر. وكذلك (أفعل التفضيل) فإنه يَرفع الظاهر بلا شرط، كما يرفع الضمير كذلك. وهذا كله غير صحيح. فإطلاق الناظم في العمل، وتحُّرزه من الذي بمعنى الماضي، وأنه لا يعمل

______ (1) الكتاب 2/ 22. (2) الكتاب 2/ 24. (3) المصدر السابق 2/ 31.

رفعا ولا نصبا، صحيحُ جارٍ على الطريقة (1). وعن الثاني أن وقوعه حالاً في معنى وقوعه خبراً، لأن الحال خبرُ مُن الأخبار. وأيضا فأصله النعت، إلا إنه لم يصح جريانه على الموصوف للاختلاف نُصِب، فهو راجع إلى جريانه نعتاً لمنعوت. وعن الثالث أن اشتراط عدم التصغير وعدمِ الوصف مختلَفٌ فيه، فالكسائي يجيز الإعمال مع وجود الأمرين. وغيُره يمنع، فيمكن أن يكون الناظم ذهب إلى مذهب الكسائي محتجاً بما احتَج به، وهو بعيد. والأظهر أن ذلك مِمَّا نّقّصه. فلو قال مثلا بعد قوله: ((وَوَلِى اَسْتِفْهَاماً)) إلى آخر الشَّطْرَيْن: غيرَ مَصَغَّرٍ ولا قَبْلُ وُصِفْ كذا إذا جَا نَعْتَ مَحْذوُفٍ عُرِفْ يعني: قبل العمل- لصلح (2) القانون، ولم يُخِلّ إسقاطُ قوله: ((فَيَسْتَحِقُّ العملَ الذي وُصِفْ)) لأن قوله في البيت المُصلَح به: ((كذا إذا جَاءَ)) يؤدِّي معناه. وأما عدم جَرَيانه مَجرى الأسماء فاشتراطه مستفادُ من قوله أول الباب: ((كَفِعْلِه اسمُ فاعلٍ في الْعَمَلِ)) فإن اسم الفاعل في الإصطلاح إنما يُطلق على ما كان فيه معنى الفعل باقياً مُستفاداً، بخلاف ما تُنُوسِيَ فيه معنى الفعل، فإنه لا يسمَّى اسم فاعل حقيقة، كما لا يسمى ((صاحبٌ)) اسم فاعل. فإذا ثبت هذا فلادَ دَرَك بذلك على الناظم. والله أعلم. وجميعُ ما ذُكر إنما هو فيما إذا كان اسم الفاعل مُعَرى عن الألف

______ (1) في الأصل، و (ت) ((على الظرفية)) وهو تحريف. وما أثبته من (س) وحاشية الأصل. (2) في (س، ت) ((لصح)).

/ واللام. فأما إن كان ذا ألفٍ ولامٍ فله حكمٌ آخر في الإعمال، ذكَره في قوله: ... 447 وَإنْ يَكُنْ صِلَةَ أَلْ فَفِي المُضِي وغَيْرِه إعْمَاُلُه قَدِ ارْتُضِي يعني أن اسم الفاعل إذا وقع صلة (أل) لم يَحتج في إعماله إلى اشتراط ما تقدَّم، من كونه بمعنى الحال أو الاستقبال، بل يَعمل عملَ فعله مطلقا، كان بمعنى الماضي أوْ لاَ، فتقول: أعجبني الضاربُ زيداً أمسِ، كما تقول: أعجبني الضاربُ زيداً الآنَ أو غداً. وسبب ذلك انه وقع موقعاً يجب فيه تأوُّلُه بالفعل، كما يجب أن تُؤَوَّل الألف واللام بـ ((الذي)) و ((التي)) أو غيرهما من الموصولات، فكأنَّ اسم الفاعل إذ ذاك عاملٌ بالنِّيَابة لا بالشَّبَه. وإذا كان كذلك فالمضيُّ وغيرهُ في ذلك سواء. ثم هنا مسألتان: إحداهما: أنه قال: ((فَفِي المُضيِّ وغيرِه)) ففيه تصريح بأن ذا الألف واللام يكون بمعنى الحال والاستقبال، ويستعمل كذلك، كما يكون بمعنى الماضي. وهذا رأي الأكثر، وذهب الرَّماني (1) وجماعة إلى أن اسم الفاعل المقرونَ بالألف واللام لا يكون عاملاً إلاَّ بمعنى الماضي. والحاملُ لهم على ذلك أن سيبويه حين ذكر اسم الفاعل المقرونَ بهما لم يقدِّره إلا بالذي فَعَل. قال في أبواب ((الاشتغال)): ومما لا يكون

______ (1) هو أبو الحسن بن عيسى بن علي الرماني، كان إماماً في العربية، علامة في الأدب، في طبقة الفارسي والسيرافي، أخذ عن الزجاج وابن سراج وابن دريد. صنف: التفسير، والحدود الأكبر والأصغر، وشرح اصول ابن السراج، وشرح سيبويه وغيرها (ت 384 هـ).

فيه إلا. الرفعُ: أعبدُ اللهِ أنت الضاربُه؟ لأنك إنما تريد معنى: أنت الذي ضَربَه (1)؟ وقال في بابٍ من ابواب ((اسم الفاعل)): ((هذا بابٌ صار فيه الفاعل بمنزلة الذي فَعَل في المعنى)). ثم قال: وهذا قولك: هو الضاربُ زيداً، فصار في معنى الذي ضَربَ زيداً، وعَملَه (2). ولم يُعرِّج على معنى الحال والاستقبال. وأجاب السَّيرافي وغيره عن هذا بأنه قد استقَرَ عمله بمعنى الحال والاستقبال دون الألف واللام، ولا يشُك أحد أنه عَمِل بمعنى الماضي أنه بمعنى الحال والاستقبال أَوْلَى بذلك. وأيضاً فالإعمال فيه لا بمعنى الحال شهيرٌ في كلام العرب وفي القرآن الكريم، كقوله تعالى: {والْحَافِظِينَ فُرُجَهُمْ والْحَافِظَاتِ والذَّاكِرينَ اللهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتِ (3)} وقوله: {وَالْمقُيِميِنَ الصَّلاَةَ والُمؤْتُونَ الزَّكَاةَ والْمؤْمُنِونَ باللهِ والْيَوْم الأخِر (4)} وقوله: {والصَّابِينَ على مَا أَصَابَهُمْ والْمُقِيميِ الصَّلاَةِ (5)} وذلك كثير. وقال عمرو بن كُلْثوم (6).

______ (1) الكتاب 1/ 130. (2) المصدر السابق 1/ 181. (3) سورة الأحزاب/ آية 35. (4) سورة النساء/ آية 162. (5) سورة الحج/ آية 35. (6) من معلقته، شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري (419) والصَّفو والصفاء: ضد الكدر، وصفوة كل شيء: خالصه. وقد ضرب الماء مثلا، يريد أننا نغلب على الأفضل من كل شيء فنحوزه، ولا يصل الناس إلا إلى ما ننفيه ولا نريده، لعزنا وامتناع جانبنا.

وأَنَّا الشَّارِبُونَ الماءَ صَفْواً ويَشْرَبُ غيرُنَا كَدِراً وطِينَا وأنشد سيبويه، وزعموا أنه مصنوع (1): هُمُ القائِلُونَ الخَيْرِ والآمِرُونَهُ إذا مَا خَشُوا من مُحْدَثِ الأمرِ مُعْظَمَا وإذا كان كذلك لم يصح أن يُجعل كلام سيبويه على ظاهره مع كثرة ما جاء بخلافه، فيَبْعُد غاية البُعْد أن يغيب مثلُ هذا عن سيبويه، مع تبحُّره واتساع حفظه واطلاعه. والانية: أنه قد ظهر من كلامه أن إعمال ذي الألف واللام إعمالٌ صحيح، على حد إعمال الفعل، لقوله: ((إعمالُه قَدِ ارْتُضيِ)). وهو رأي الجمهور، ونقل السَّيرافي عن الأخفش أن نصب نحو: الضاربُ زيداً- إذا كام ماضيا- كنصب ((الوجَه)) في (الحَسَن الوجْه) يريد على التشبيه بالمفعول به، لا على المفعوليَّة الصحيحة. ووجه ذلك عنده أن اسم الفاعل بمعنى الماضي/ أصلُه ألاَّ يعمل، وأن يضاف إلى ما هو ... 448 مفعول (2) في المعنى إضافةَ تخصيص، فإذا دخلت الألف واللام امتنعت الإضافة، واحْتِيج إلى ذكر المفعول للفائدة الحاصلة به فنُصِب تشبيهاً.

______ (1) الكتاب 1/ 188، وابن يعيش 2/ 125، والخزانة 4/ 269، والهمع 5/ 342، والدرر 2/ 215. ومحدث الأمر: حادثه. والمعظم: الأمر يعظم دفعه. (2) هذه الكلمة ساقطة من الأصل، و (ت) وأثبتها من (س) وحاشية الأصل.

وما قاله قد يُشعر به كلامُ سيبويه، ولكنه لا ينهض عُذْراً لما قال، إذ قد تقدَّم أن عملَه ليس بالشَّبَه، إذ لا شَبَه له بالفعل إذْ ذاك إلا من جهة المعنى، ولو كان الشبهُ المعنويُّ كافياً لكَفى في إعماله بمعنى الماضي مجرَّداً عن الألف واللام، فكنت تقول: هذا ضاربٌ زيداً أمسِ، وهو رأي الكسائي. فَلمَّا لم يكن كذلك دَلَّ على أن الشبَه غيرُ معتبرٍ هنا، وأنه إنما عمل بالنِّيَابة. وإذا ثبت ذلك، وكان إعمال النائب إعمالاً صحيحا، كضَرْباً زيداً، وما أشبه ذلك- فالواجب هنا كذلك، فالأظهر ما نَصَّ عليه الناظم. وقوله: ((فَفِي المُضِي)) يَحتمل أن يتعلق باسم فاعل حال من ضمير ((ارْتُضِى)) أي إعمالُه قد ارْتُضِى كائناً في المضي، وهو على حذف المضاف، تقديره: في ذي المُضِي، أو بفعلٍ مضمر يفسره الصدر الذي هو ((إعمالُه)) والتقدير: فيعمل في المضي إعمالُه فيه قد ارْتُضى. فَعَّالٌ اوْ مشفْعَالٌ اوْ فَعُولُ في كَثْرةٍ عن فاعلٍ بَدِيلُ فَيَسْتَحِقُّ مَالَهُ من عَمَلِ وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذَا وفَعِلِ هذا فصل ((أمثلة المبالغة)) وحكمها. وهي خمسة، ابتدأ الكلام على ثلاثةٍ منها، وهي (فَعَّال، ومِفْعال، وفَعُول) لكونها في كثرة الاستعمال هنا أدخلَ من الباقين. ويعني أن هذه الأمثلة بدلٌ من اسم الفاعل، وعِوَضٌ منه من جهة المعنى، لكن حيث يُقصد الإخبارُ بالمبالغة في كثرة الفعل، فهي مُشْعِرة بكثرة وقوع

______

الفعل الذي يُقال بسببه للفاعل: فاعل. وهذا معنى قولك ((في كَثْرَةٍ)) أي موضع كثرة الفعل، فـ (قَوَّامٌ) معناه: قائمٌ كثيرا، و (ضَرُوبٌ) معناه: ضاربٌ كثيرا، و (مِنْحَارٌ) معناه: ناحرٌ كثيرا. فإن قيل: فإذاً ليس واحدٌ منها بدلاً عن اسم الفاعل من جهة المعنى، إذْ كان اسم الفاعل لا إشعار له بكثرةٍ ولا مبالغة، بخلاف هذه الأمثلة، فكيف يصح أن يقول: إنها بَدَلٌ عنه؟ فالجواب أن اسم الفاعل دالٌّ على مُطْلق الفعل، كان كثيراً أو قليلاً، فيقال: (فاعل) لمن تكرَّر منه الفعل وكَثُر، ولمن وقع منه فعلٌ ما، لكنه من جهة وَضْعه لا إشعار له بخصوص فعل، فإذا أرادوا أن يُشْعروا بالكَثرة وَضعوا لها مِثَالاً دالاً عليها فقالوا: (فَعُول) أو (فَعَّال) أو (مِفْعَال). فـ (فَعُول) في الحقيقة إنما هو بَدَلٌ من (فاعل) المراد به الكثرة، وليس بدلاً من (فاعل) مطلقاً. وكذلك سائر الأمثلة. وإذا فُهم هذا تبيَّن أن كل واحد منها بدل من (فاعل) في المعنى، فظهر أن قوله: ((عَنْ فَاعلٍ بَدِيلُ)) صحيح. أي عن (فاعل) الموضوع في موضع الكثرة، ولذلك قال: ((في كَثْرة)) إذْ ما قال: إنه / بدل عن (فاعل) إذا كان في موضع الكثرة. ويتحرَّز بهذا القيد من هذه الأمثلة 449 إذا لم يُقْصد بها كثرةُ الفعل العلاجي، فإنها لا تجري (1) مجرى اسم الفاعل في العمل، وذلك أن هذه الأمثلة تأتي في الكلام في الجملة على ثلاثة أقسام:

______ (1) في الأصل، و (ت) ((فإنها تجري)) والصواب ما أثبته من (س) وحاشية الأصل.

أحدها: هذا الذي شَرَع فيه. والثاني: أن تأتي للمبالغة في الصفة، لا في كثرة الفعل، كـ (مِحْسَانٍ) إذ كان عند سيبويه في معنى: ما أحسَتَه (1)، وكذلك إذا دخلها معنى النَّسب، نحو: قَؤُول، ومِقْوال، فإن معناها المبالغة في القول وتكثيره، لكن لا على معنى الفعل، بل على معنى: ذي كذا، كأنه يقول: ذو قَوْل، أو على الياء، كأنه يقول: قَوْلِيٌّ، في: قَؤُولٍ، ومِقْوالٍ، وضَرْبيُّ، في: ضَرُوبٍ. فهذا كله ليس على معنى الفعل العلاجي، كحائضٍ وطامثٍ، ولذلك لا تدخلها الهاء للمؤنث، فلذلك لا تعمل عمل الفعل اصلا، لما دخله من معنى النَّسَب، كما لا يعمل نحو: تَمَّار، وفَكَّاه، ونَهِر، وفي قول الشاعر (2): * لَسْتُ بِلَيْلىٍّ ولَكِنِّي نَهِرْ * ومثل ذلك كثير، وهو الذي يُذكر في باب ((المذكر والمؤنث)). والثالث: أن تأتي لغير مبالغةٍ أصلا، نحو: كَرُمَ فهو كَرِيمٌ، وشَرُفَ فهو شَرِيفٌ، وصَدِىَ فهو صَدٍ، وكَلِفٌ، فهو كَلِفٌ وما أشبه ذلك، مما هو جارٍ على فعله قياساً، أعني في البناء. فهذا القسم أيضاً لا يعمل عمل اسم الفاعل، إذ ليس بمقصودٍ به تكثيرُ الفعل، وإنما هو من بابٍ آخر. فمن هذا كلِّه تحرَز بقوله: ((في كَثْرةٍ عن فاعلٍ بَديلُ))، إذ ليس جميعُ هذا

______ (1) الكتاب 4/ 98. (2) الكتاب 3/ 384، ونوادر أبي زيد 249، والعيني 4/ 541، والتصريح 2/ 337، والأشموني 4/ 201، واللسان (نهر، ليل) وبعده: * لا أُدْلِجُ الليلَ ولكنْ أبتكرْ * والإدلاج: سير الليل كله. يقول: أسير بالنهار، ولا أستطيع سرى الليل.

بديلاً عن (فاعل) فكان مضطراً إلى إخراجه. فإن قيل: لِمَ أَتى بهذا كُلِّه، وكان أخصرَ أن يقول كما قال غيره: إن أمثلة المبالغة تعمل عملَ اسم الفاعل؟ قيل: فائدته أمران: أحدهما: ما تقدم من إخراجه تلك الأمثلة التي على معنى النَّسَب أو التعجُّب، فإنها للمبالغة والكَثْرة، لكنها لا تقتضي كثرة فعلٍ عِلاَجي. والثاني: أن هذه المقدمة عِلَّةٌ واعتذار لعمل هذه الأمثلة عملَ الفعل، وهي غير جاريةٍ على الفعل، ولا تامَّةِ الشَّبَه به، إذ لم تُشْبهه إلا في المعنى خاصة، والشَّبَه المعتبرَ عند الجمهور إنما هو اجتماع الشَّبَهين، المعنوي واللفظي، ولذلك لم يعمل اسم الفاعل بمعنى الماضي. فكأن القائل يقول: كيف أُعْمِلتْ هذه الأمثلة، وليست شبيهةً بالمضارع، ولا جاريةً عليه جريانَ اسم الفاعل، فاعتذر عن هذا بأن هذه الأمثلة موضوعةٌ في موضع اسم الفاعل التامِّ الشَّبَهِ، فكأنها إنما تعمل بالنيابة. فلأجل هذا القَصْد أَتى بالفاء المقتَضِية للعِلَّة، في قوله: ((فيَسْتَحِقُّ مَالَهُ من عَمَلٍ)) أي إنه بدلٌ منه، فيعمل لذلك عملَه، وهو ظاهر. وقسم الناظم هذه الأمثلة قسمين: أحدهما: ما يعمل كثيرا، فهو مما يَكْثُر استعمالُه، وذلك (فَعَّالٌ، ومِفْعَالٌ، وفَعُولٌ). والثاني: ما يعمل بقلّة، وهو (فَعِيلٌ، وفَعِلٌ). ودَلَّ على ذلك قوله: ((وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذا وفَعِلِ)) فقَيَّد هذين بالقلة، وأطلق القول فيما تقدم، فدل على أنها في باب الإعمال كثيرة الاستعمال.

______

فأما الأول فمثال (فَعَّالٍ) فيه قولك: أنا ضَرَّابٌ زيداً، وقَتَّالٌ الأبطالَ. وحكى سيبويه: أما العَسَلَ فأنا شَرَّابٌ (1). / وأنشد للقُلاَخ (2): ... 450 أخَا الْحَربِ لَبَّاساً إليها جِلاَلَهَا ولَيْسَ بَولاَّجِ الخَوالِفِ أَعْقَلاَ وأنشد أيضاً لرؤبة (3): * بِرَأْسِ دَمَّاغٍ رُءوُسَ العِزِّ * ومثال (مِفْعَالٍ) قولك: أنا مَضْرابٌ زيداً. ومن كلامهم: إنه لمنْحارٌ بوائكَها (4). ومثال (فَعُولٍ) قولك: أنا ضَرُوبٌ زيداً، وأنشد سيبويه لذي

______ (1) الكتاب 1/ 111. (2) الكتاب 1/ 111، والمقتضب 2/ 113، وابن يعيش 6/ 70، والتصريح 2/ 68، والهمع 5/ 86، والدرر 2/ 129، والأشموني 2/ 296، والعيني 3/ 535. وأخو الحرب: الملازم لها، والمتهئ المستعد. والجلال: جمع جُل (بالضم) وأصله ما يلبس المحارب من سلاح كالدرع ونحوها. والولاج: الكثير الدخول في البيوت يتردد فيها، من ضعف همته وعجزه. والخوالف: جمع خالفة، وهي عمود في مؤخر البيت. والأعقل: الذي تصطك ركبتاه في المشي ضعفا أو خلقة. (3) الكتاب 1/ 113، وديوانه 64. وهو من أرجوزة يمدح بها أبان بن الوليد البجلي. والدمَّاغ: مبالغة دامغ، وهو الذي يبلغ بالشجة إلى الدماغ. والمراد رءوس العز رءوس أهل العز. (4) الكتاب 1/ 112، والبوائك: جمع بائكة، وهي السمينة الحسنة.

الرمة (1): هَجُومٌ عَلَيْهَا نَفْسَهُ غيَر أنَّهُ مَتَى يُرْمَ في عَيْنَيْهِ بالشَّبْحِ يَنْهَضِ وأنشد أيضاً، وهو منسوب في الكتاب لأبي ذُؤَيب، قال السِّيرافي: وإنما هو للراعي (2): قَلَى دِينَهُ واهْتَاجَ للِشَّوْقِ إنَّهَا على الشوقِ إخْوَانَ العَزَاءِ هَيُوجُ وأنشد لأبي طالب بن عبد المطلب (3):

______ (1) الكتاب 1/ 110، والحيوان 4/ 347، وديوانه 324. يصف ظليما، وهو ذكر النعام. والشبْح- بالسكون- لغة في الشبَح بفتحها، وهو ما بدا لك شخصه غير جليٍّ من بعْد. وشبح الشيء كذلك: ظله وخياله. يقول: يلقي نفسه على البيض حاضناً له، فإذا فوجئ بشبح شخصٍ فارق بيضه ونهض هاربا. (2) الكتاب 1/ 111، والعيني 4/ 536، والأشموني 2/ 297، واللسان (هيج، أخا) والصواب أنه للراعي، كما في اللسان والعيني، وليس في ديوان الهذليين. وقبله: عَشِيَّةَ سُعْدَى لو تَراءتْ لراهبٍ بدُومَةَ تَجْرٌ دوُنَهُ وحَجِيجُ ودومة- بضم الدال وفتحها- موضع بين الشام والعراق، وتسمى ((دومة الجندل)) وتجر: جمع تاجر. وحجيج: جمع حاج. وقلى: أبغض. واهتاج: ثار. وإخوان العزاء: الذين يصبرون فلا يجزعون ولا يخشعون. يصف امرأة بأنها لو نظر إليها راهب لكره دينه واهتاج شوقا إليها، وإنها لإفراط حسنها وجمالها تسلب أصحاب العزاء والسلوة عن النساء وعزاءهم، وتحملهم على الصبا. (3) الكتاب 1/ 111، والمقتضب 2/ 14، وابن يعيش 6/ 70، وابن الشجري 2/ 106، والخزانة 8/ 146، والعيني 3/ 359، والتصريح 2/ 68، والأشموني 2/ 297. من قصيدة له يرثي بها أبا أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكان زوج أخته عاتكة بنت عبدالمطلب، فخرج تاجرا إلى الشام فمات في الطريق. ونصل السيف: سنه وشفرته. والسمان: جمع سمينة، يعني سمان الإبل. وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت، ثم نحروها.

ضَروُبٌ بِنَصْلِ السَّيفِ سُوقَ سِمَانِها إذا عَدِمُوا زاداً فإنَّكَ عَاقِرُ وأنشد أيضا (1): بَكَيْتُ أخَاَلا وَاءَ يُحْمَدُ يَوْمُهُ كَرِيمٌ رُءُوسَ الدَّارِعِينَ ضَرُوبُ وأما القسم الثاني فمثال (فَعِيلٍ) قولك: إنَّ الله سميعٌ دعاءَك. وأنشد سيبويه لساعدة بن جُؤَيَّة (2): حَتَّى شَاهَا كَلِيلٌ مُوْهِناً عَمِلٌ باتَتْ طِرَاباً وبات اللَّيْلَ لمَ ينَمِ فنصب ((مَوْهِناً)) على المفعول بـ ((كَلِيلِ)) لأنه في معنى: مُكِلٍّ. وأنشد لابن أحمر في إعمال (فَعِلٍ) (3):

______ (1) الكتاب 1/ 111، وابن يعيش 6/ 70، 71. يرثي رجلا شجاعا كريما فقده فبكى عليه. واللأواء بالشدة. والدارع: لابس الدرع. ومعنى ((يحمد يومه)) أن كل أيامه محمودة، أما في الحرب فلبسالته، وأما في السلم فلعطائه وبذله. (2) الكتاب 1/ 114، والمقتضب 2/ 114، والمنصف 3/ 76، وابن يعيش 6/ 72، والخزانة 8/ 155، والمغني 435، وديوان الهذليين 1/ 198، واللسان (طرب، عمل، شأى). وشَاها: شاقها وطَرَّبها. والمَوْهِن والوَهْن: نحو من نصف الليل، أو ساعة تمضي من الليل. وعَمِل: ذو عمل. وطرابا: جمع طَرِب، من الطرب، وهو خفة تعتري عند شدة الفرح. يصف حمارا وأتنا عطاشا، نظرت إلى برقٍ، فطربت له منساقة إليه في أماكنه، وبات البرق ليله لم ينم، أي استمر في لمعانه. وقوله: ((كليل موهنا)) مجاز، كما تقول: أتعبت ليلي، إذا سرت فيه سيرا حثيثا. (3) الكتاب 1/ 112، وابن يعيش 6/ 72، والخزانة 2/ 241، والأشموني 2/ 298، والعيني 3/ 513، واللسان (عضد، عمل). والبيت للبيد (ديوانه 125) وليس لابن أحمر كما ذكر سيبويه رحمه الله =

إوْ مِسْحَلٌ شَنِجٌ عَضَادَةَ سَمْجَحٍ بَسراتهِ نَدْبٌ لها وكُلُومُ وأنشد أيضا (1): حَذِرٌ أموراً لا تَضِيُر وآمِنٌ ما لَيْسَ مُنْجِيَهُ من الأَقْدَارِ وهو قليل في هذا القسم، بخلاف القسم الأول قال سيبويه (2): فما هو الأصلُ الذي عليه أكثرُ هذا المعنى: فَعُولٌ، وفَعَّالٌ، ومِفْعَالٌ، وفَعِلٌ. ثم قال: وقد جاء (فَعِيلٌ) كرَحِيم، وعَليم، وسميع، وبصير. ثم قال بعد ذلك: و (فَعِلٌ) أقلُّ من (فَعِيل) بكثير (3). فقوله: ((وقد جاء فَعِيلٌ)) يُؤْذن بالقِلَّة فيه، ثم جعلَ (فَعِلاً) أقلَّ منه. وتقديم الناظم (فَعِيلاً) قد يُؤذن بتقديمه في الكثرة على (فَعِلٍ) وذلك نَصُّ سيبويه. وبعد، فهنا سِتُّ مسائل:

______ = ... والمسحل: الحمار الوحشي، وسحيله: أشد نهيقه. وشنج: ملازم. والعِضادة: الجانب. والسمجح: الأتان طويل الظهر. والسراة: أعلى الظهر. والندب: آثار الجراح. والكلوم: الجراح، جمع (كَلْم). يقول: إن الإتان ترمح الحمار وتكلمه تخلصاً من حمله عليها. (1) الكتاب 1/ 113، والمقتضب 2/ 116، والجمل 155، وابن الشجري 2/ 107، وابن يعيش 6/ 71، والخزانة 8/ 169، والعيني 3/ 543، والأشموني 2/ 298. ولا تضير: ات تضر. يصف رجلا بالجهل وقلة المعرفة، وأنه يحذر مالا ينبغي أن يُحذر، ويأمن مالا يصح أن يُؤمن. (2) الكتاب 1/ 110. (3) المرجع السابق 1/ 112.

إحداها: أن كلامه دالٌّ على أن هذه الأمثلة إذا كانت بغير ألف ولام لا تعمل بمعنى الماضي، لأنه جعلها في العمل عِوَضاً من اسم الفاعل العامل، والذي بمعنى الماضي لا يَعمل، فكذلك ما كان عوضاً منه، وهذا رأي الجمهور. وذهب ابن خروف إلى أنها تعمل بمعنى الماضي، وعلى ذلك حَمل الأبيات التي تقدَّمت: * هَجُومٌ عليها نَفْسَه (1) * * وقوله: أخَا الْحَرْبِ لبَّاساً إليها جِلاَلَها (2) * وكذلك بيت أبي طالب (3). وما قاله خلافُ ما اتفق عليه المتقدمون من النحويين. وأيضاً فإن هذه الأمثلة فَرْعٌ في العمل عن اسم الفاعل، واسم الفاعل لا يَعمل بمعنى الماضي، فالأمثلة أوْلَى بذلك، إذ لا يكون الفرع أقوى من الأصل، وكما أن جَمْع اسم الفاعل لا يَعمل إلا في موضع الذي يَعمل فيه المفردُ فكذلك هذا. فإن قال: لَمَّا كانت فيها مبالغةٌ ليست في اسم الفاعل قَوِيَتْ على مالم يَقْوَ عليه، فعملت في معنى الماضي. وأيضاً فإذا كانت قد وقعت مَدْحاً فالمدح لا يكون إلا بما ثَبت واستقرَّ.

______ (1) تقدم الاستشهاد به، وهو لذي الرمة، والبيت بتمامه: هَجُومً عليها نفسَه غيرَ أنَّه متى يُرْمَ في عَيْنَيْهِ بِالشَّبْح يَنْهَضِ (2) تقدم الاستشهاد به أيضاً، وهو للقلاخ بن حزن، وعجزه: * وليس بِوَلاَّجِ الخوالفِ أعقْلاَ * (3) وهو قوله، وتقدم الاستشهاد به: ضَروبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِها إذا عَدِمُوا زاداً فإنكَ عاقرُ

فالجواب: أن المبالغة والتكثير لا تقتضي تكثيرَ عَمَل، وإلاَّ لزم في (قَتَّل) أن يكون/ 451 أوسعَ عملاً من (قَتَل) وكذلك (كَسَر) و (مُقَتِّل) مع (قَاتلِ) وهذا كله غير صحيح بالاستقراء، وأما ما استُشْهد به من أبيات المدح فمحمولةٌ على أنها للحال، لأنها أحوال مُسْتَقِرَّة، وثابتة مُسْتَمِرَّة. فإن قال: وكيف ذلك وفيها ما هو رِثَاء، كقوله (1): * بَكَيْتُ أخَا لأْوَاءَ ... * قيل: هي من ذلك، كأنه نَزَّله منزلة الحَيِّ، ولذلك قال: ((يُحْمد)) فأتى بالمضارع الدال على الحال لا على الماضي. والأصح مذهب الناظم والجمهور. والثانية: أن في كلامه ما يدل على أن إعمال هذه الأمثلة قياسٌ في جميعها، وإن قَلَّ في بعضها، لقوله: ((عَنْ فاعلٍ بَدِيلٌ)) وقوله: ((وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذَا وفَعِلِ)) ولم يقل: شَذَّ، ولا: نَدَرَ، فدَلَّ على أنه مما يَعمل فيه القياس على ضعف. وفي هذا اختلاف، فمنهم من جعله قياساً بإطلاق، ومنهم من وَقَفه على السمَّاع في الجميع. منهم ابن أبي الربيع، ذكره في ((البسيط)) (2). ومنهم من جعله قياساً في بعضها دون بعض.

______ (1) سبق الاستشهاد به، وهو بتمامه: يكيتُ أخَاَ لأوَاءَ يُحْمَدُ يومُهُ كَرِيمٌ رءوسَ الدارعينَ ضَرُوبُ (2) انظر: ص 933 (تحقيق الدكتور عياد الثبيتي- ومحفوظ بكلية اللغة العربية- جامعة أم القرى)

والأصح هو الأول، لكثرة ما جاء من ذلك، ولأنه لا فرق بينها وبين اسم الفاعل في العمل، كما تقدم. فإن قيل: إن بناء هذه الأمثلة للتكثير، بالحَمْل على بناء الفعل للتكثير، وذلك في الفعل غيرُ مَقِيس، فأوْلَى أن يكون في اسم الفاعل غير مَقَيس. قيل: لا نسلِّم أنه في الفعل غير مَقِيس، بل هو مَقِيس، لكثرة مجيئه. واسم الفاعل جارٍ مجرى الفعل في العمل قياساً، فكذلك ينبغي أن يكون في بناء التكثير والمبالغة. والثالثة: كما أن إعمالها قياسٌ عنده فهو عنده إعمالٌ صحيحٌ فيها، إذ كان إعمالاً صحيحاً في أصلها، وهو اسم الفاعل. وقد ذهب الكوفيون إلى أن هذه الأمثلة غير عاملة، وإن ما انْتَصب بعدها فعلى إضمار فعل، فقولك: هذا ضَرُوبً زيداً- على تقدير: هذا ضَرُوبٌ يَضْرِبُ زيداً. والصواب صحة الإعمال كما ذهب إليه البصريون، لوجوده نظما ونثرا. وما زعموه من الإضمار لا يَثبت مع قاعدة ((الحَمْل على الظاهر)) إذ لا يصح أن يُدَّعى الإضمار إلا لمُوجِب يُضطر إليه، ولا مُوجِب لذلك هنا، فكان القول بإعمالها حقيقةً، وهو الصحيح. والرابعة: أن الناظم أطلق القول في إعمال جميعها، وإن قَلَّ في بعضها، وهو رأي الجمهور من البصريين. وذهب المبّرد وشيخُه المازنيُّ أن (فَعِلاً، وفَعِيلاً) لا يعملان (1)، فلا يقال: زيدٌ

______ (1) المقتضب 2/ 113.

حَذر عمراً، ولا: زيدٌ رَحِيمٌ أخاه، بدليل أنهما إنما يُبنيان للذات، لا لأَنْ يجريا مجرى الفعل، فهما كنَبِيلٍ، وظَرِيفٍ، وكَرِيمٍ، وعَجِلٍ، إذ كان ذلك في طبعه. وما استَشْهد به سيبويه لا حجة فيه. أما ((شَنِجٌ عِضَادَةَ سَمْجَحٍ (1))) فـ ((عَضَادَةَ)) منصوب على الظرف، لأن معنى ((شِنَج)) لازم، والعِضَادةً: الناحية، فكأنه قال: لازمٌ ناحيتَها، ولو كان كذلك لكان ظرفا، فكلك ما في معناه. وأما ((مَؤْهِناً (2))) فإنه ظرفٌ كـ (عِضَادَة) والظروف تُنصْب بمعاني الأفعال. وأما ((حَذِرٌ أمُوراً (3))) فلا يُحْتَج به، قال المبرد: حَدَّثني أبو عثمان قال: حَدَّثني أبو يحيى اللاحقي قال: لَقِيَني سيبويه فقال لي: هل تحفظ في إعمال (فَعِلٍ) / 452 شيئاً؟ فقلت له: نَعَمْ، وصنعتُ له هذا البيت

______ (1) من قول لبيد السابق: أوْ مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادَةَ سَمْجَحٍ بسَرَاتِه نَدْيٌ لَهَا وكُلُومُ (2) من قول ساعدة بن جُؤَيَّة السابق: حَتَّى شاهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ باتت طِرَاباً وبات اللَّيْلَ لم يَنَمِ (3) من قول الشاعر السابق: حَذِرٌ أموراً لا تَضِيرُ وآمنٌ ما ليس مُنْجِيَةُ من الأقْدَارِ

فإذا كان البيت مصنوعاً سقط الاحتجاج به، كما سقط الاحتجاج بالبيتين الأوَّليْن للاحتمال. والجواب أن معنى ((شَنِج)) مُلازِم، وإذا كان كذلك لم تكن ((عَضَادة)) إلا مفعولاً به. قال ابن خروف: ومن جعل ((العِضَادَة)) ظرفاً كان مُخْتَصاً، والمختص لا ينصبه إلا المتعدي. وهو يرجع إلى معنى ما حَكى السيرافي أن ((القوائم)) وهي العِضَادَة، لا تكون ظرفا، كما قال الشاعر (1): قالَتْ سُلَيْمى لستَ بالحادِي المُدِلْ ما لك لا تَلْزمُ أعْضَادَ الأبِلْ قال: فأعْضَادُ بمنزلة عَضَادَة، فلا يصح إذا جعلُه ظرفا (2). وأما ((حَذِرٌ أموراً)) فقد نقله سيبويه، وهو ثقة ثَبْتٌ في النقل، لا يَنقل إلا عن مثله، كالخليل ويونس وأبي الخطاب وأبي زيد وأشباههم. وليس اللاَّحقي من هؤلاء بإقراره على نفسه بالكذب، وإذا كان كذلك فعدمُ تصديقه في هذا الإخبار الثاني أَوْلَى. وقد أنشد النحويون في إعمال (فَعِلٍ) مِمَّا لا يحتمل التأويل، وهو مرويٌّ عن الثِّقَات، قولَ زيد الخيل (3):

______ (1) شرح السيرافي (المجلد الأول- ورقة 224 - ب) وابن يعيش 6/ 73. وينسب لجبار بن جزء. والحادي: الذي يسوق الإبل ويغني لها. والمدل: من أدلَّ عليه، إذا وثق بمحبته فأفرط عليه. والأعضاد: جمع عضد، وهو من الإنسان وغيره: الساعد، وهو ما بين المرفق إلى الكتف. (2) شرح السيرافي (المجلد الأول- ورقة 224 - ب). (3) ابن يعيش 6/ 73، والهمع 5/ 87، والدرر 2/ 130، والتصريح 2/ 68، وشذور الذهب 394، والحلل لابن السيد 131، ومعجم البلدان (كرملين) ومعجم ما استعجم (الكرملان) وجَدَّبه: حَظِي به. =

أَلَمْ أُخْبِرْكُمَا خبراً أتَانيِ أبو الكسَّاحِ جَدَّبه الوَعِيدُ أتانِي أنهم مَزَقُونَ عِرْضِي جِحَاشُ الكِرْمِلَيْنِ لَهُمْ فَدِيدُ فـ (مَزِقٌونَ) جمع (مَزِق). وأما ((كَلِيلٌ مَوْهِناً (1))). فقالوا أيضاً: لا شاهد فيه، لأن ((مَوْهِناً)) ظرف، والكِلَيل هو الَبْرق الضعيف، من: كَلَّ يَكِلُّ، وهو لا يتعدَّى. والمَوْهِنُ: الساعة من الليل. وأجيب بأن معناه: مُكِلًّ، لا كَالٌّ، كعذابٍ أليمٍ، وداءٍ وجَيِعٍ، وداعٍ سميعٍ، قال (2): * أَمِنْ رَيْحَانةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ * و((المَوْهِنُ)) منصوب على المفعول به اتِّساعا، بدليل قوله: ((وباتَ اللَّيْلَ لم يَنَمِ)) فوَصفه بالدوام، وذلك مُنَاقِض لكونه ضعيفا.

______ = ... وفي (س) وحاشية الأصل ((جَرَّبه)) وفي (البلدان) ((يُرْسِل)) والوعيد: التهديد، ولا يكون إلا في الشر، عكس الوَعْد. ومزقون. من المزق، وهو شق الشيء. وعرض الرجل: جانبه الذي يصونه ويدافع عنه، من نسب وحسب وخلق. والجحاش: جمع جحش، وهو ولد الحمار. والكرملين: اسم ماء في جبل طئ. ِ والفديد: الصياح والتصَويت. يقول: إن هؤلاء القوم عندي بمنزلة الجحاش التي تنهق عند ذلك الماء، فلا أعبأ بهم. (1) يعني بيت ساعدة بن جؤية السابق. (2) ابن الشجري 1/ 64، 2/ 106، والخزانة 8/ 178، والأصمعيات 172، والأغاني 14/ 31، وهو لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، وعجزه: * يُؤَرِّقني وأصحابي هُجُوعُ * وريحانة: اخت الشاعر أو زوجته. والداعي: يريد به الشوق الداعي. والسميع: المسمع. ويؤرقني: من الأرق، وهو امتناع النوم. وهجوع: جمع هاجع، وهو النائم.

قال المؤلف في ((الشرح (1))): وهذا عندي تكلُّف. قال: وإنما ذَكر سيبويه هذا البيت شاهدا على أن (فاعلا) قد يعُدل به إلى (فَعِيلٍ) و (فَعِلٍ) على سبيل المبالغة، كما يُعْدل به إلى (فَعَّالٍ) و (فَعُولٍ) و (مفعْالٍ) فذكر البيت لاشتماله على ((كَلِيلٍ)) (2) المعدول عن (كَال) وعَمِلٍ المعدول عن (عامِلٍ) ولم يَتَعرَّض للإعمال. قال (1): وإنما يُحتج له في ثبوت إعمال (فَعِيلٍ) بقول العرب: ((إن الله سَميعٌ دعاءَ مَنْ دَعاه)) رَواه الثقات. وأنشد محتجاً قولَ الشاعر (3): فَتَاتَانِ أَمَّا مِنْهُما فَشَبِيهَةٌ هِلاَلاً وأُخْرىَ مِنْهُمَا تُشْبِهُ الْبَدْرَا وقد ذهب بعضهم غلى أن سيبويه لم يَأْتِ بالشاهد إلا على إمكان أن يكون من الباب، وإنَّما الدليلُ على إعمال (فَعِيلٍ) كونُه أتى للمبالغة بمنزلة (فَعُولٍ) و (فَعَّالٍ) فَلْيكن مثلَه في العمل، كما كان مثلَه في المعنى. والخامسة: أن إتيانه بالأمثلة الخمسة دون زائدٍ دليلٌ على أن هذا العمل مُقْصَرٌ به عليها، فلا يُلحق غيرهُا بها. وهذا رأي الجماعة، وزارد بعض النحويين فيها (فِعِّيلاً) فقال: أقول: هذا شِرِّيبٌ العسلَ، لأن (فِعِّيلاً)، للمبالغة كشَرَّاب، فكما عمل (فَعَّال) باتفاق فَلْيَعمل (فِعِّيلٌ) كذلك.

______ (1) ورقة (151 - ب). (2) في نسخ الكتاب ((لاستعماله كليلا)) وما أثبته من شرح التسهيل. (3) شرح التسهيل (ورقة 151 - ب) والعيني 3/ 542، والأشموني 2/ 297 وينسب إلى عبدالله بن قيس الرقيات. و ((فتاتان)) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره ((هما)) و ((منهما)) صفة لمبتدأ محذوف تقديره ((واحدة)) و ((شبيهة)) خبره.

وما / قاله مخالف لما اتفق عليه الأولون. وهذا كافٍ في رَدِّه. 453 وأيضاً فإن تلك الأمثلة لم يُقَلْ بها إلا بعد السماع، تحقيقاً ويقيناً أو ظَناً، ولم نَسمع في إعمال (فِعِّيل) شيئا، فدل على أن العرب لم تستعمل (فِعِّيلا) إلا للمبالغة في الصفة خاصة، والأصل الوقوفُ عندما وَقَفوا حتى يَثْبت أمرٌ آخر فيُقال به. والسادسة: أن هذه الأمثلة لم يُفَرقِّ بينها وبين اسم الفاعل، فدَلَّ على أنها في الأحكام مثلُه. ومن جملة أحكامه جوازُ تقديم معموله عليه، فتقول: أنا زيداً ضاربٌ، فكذلك تقول: أنا زيداً ضَرَّابٌ، وكذلك في سائرها. ومن ذلك قول الراعي (1): * عَلَى الشَّوْقِ إخْوانَ العَزاءِ هَيُوجُ * وقول الآخر (2): * كَرِيمٌ رءُوسَ الدَّارِعينَ ضَروُبُ * وخالف الكوفيون في هذا بناء على ما تقدَّم من مذهبِهم في مَنْع إعمال الأمثلة، وقد تقدم أن الصحيح خلافه، فَيثْبت جوازُ التقديم مالم يَمنع من ذلك مانع. و ((الْبَدِيلُ)): الُمْبَدل، يقال: بَديل وبَدَل وبِدْل. ثم ذكر نوعاً آخر مما ليس بجارٍ على الفعل، ولا شبيهٍ به، وهو اسم الفاعل غير المفرد، لأنه تكلم أولاً في المفرد، فقال:

______ (1) سبق الاستشهاد به وصدره: * قَلَى دِينَهُ واهْتَاج للشَّوْقِ إنَّها * (2) سبق الاستشهاد به وصدره: * بَكَيْتُ أخا لا وَاءَ يُحْمَدُ يَوْمُه *

وَمَا سِوَى المُفْرَدِ مِثْلَهُ جُعِلْ في الحُكْمِ والشُّرُوطِ حَيْثُمَا عَمِلْ وذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول: إن التَّثْنية والجمع من خصائص الأسماء، وذلك يُبطل عمل اسم الفاعل، إذ هو يُقَرِّبه من الأسماء، ويُبعْده من الأفعال كالتَّصْغير. وأيضاً فإنه يُزيل الصيغةَ الجارية على الفعل في الحركات والسكنات وعدد الحروف. وإذا كان يَبْعد بذلك عن شَبَه الفعل فينبغي أن يَبْطُل عمله. فنَبَّه ههنا على أن ذلك لا يُخرجه عن الشَّبَه الحاصل له. أما التثنية وجمع السلامة فلم يُغَيرِّا لفظاً ولا معنى، وإنما حصل في ذلك معنى عَطْف الأفراد، إذ كان معنى (ضَاربَاتِ): ضَارِبٌ وضارِبٌ. ومعنى (ضَارِبُونَ): ضارِبٌ وضارِبٌ، إلى آخرها. وأما التكسير، وإن غَيَّر الصيغة، فلا اعتبار بذلك، لرجوعه إلى معنى العطف، فكان مثلَ عملِ الأمثلة عملَ اسم الفاعل، لأنها راجعة إليه في التحصيل. والتثنية وجمع السلامة أقرب في الإعمال، لأن الشَّبَه بالفعل باقٍ، ألا ترى أن (ضارِبَاتِ) يُشبه (يَضْرِبَاتِ) و (ضَارِبُونَ) يشبه (يَضْرِبُونَ) فلهذه الأوجه بقى العمل كما كان. ثم نرجع إلى كلامه، فأخبر في هذين البيتين أن ماعدا المفرد، وهو المثنى والمجموع كيف كان، قد جعلته العرب في الحكم مثلَ المفرد، فحيث لا يعمل المفرد لا يعمل سواه، وحيث عمل مع الشروط فذلك ثابتٌ في غير المفرد بتلك الشروط بعينها.

______

فإذا كان غيرُ المفرد بالألف واللام عمل بلا شرط، وإذا كان مجرداً منها لم يعمل بمعنى الماضي، وعمل بمعنى الحال والاستقبال بشرط الاعتماد المذكور، فتقول: هؤلاءِ ضُرَّابُ زيدٍ غداً، أو الآنَ، وهؤلاء / ضارِبُون عمراً غداً، وهذان ضارِبَانِ زيداً الآن. ... 454 وتقول: هؤلاء ضاربوُ زيدٍ أمسِ، وهذان ضاربَا زيدٍ أمسِ، وما أشبه ذلك. وتقول: هؤلاء الضُرَّابُ زيداً أو غداً، وهؤلاء الضارِبُونَ عمراً أمسِ أو غداً. ومن ذلك في جمع التكسير ما حكاه سيبويه من قولهم: هنَّ حَواجُّ بيتَ اللهِ (1). وقالوا: قُطَّانٌ مكةَ، وسُكَّانٌ البلدَ الحرامَ (2)، وانشد لأبي كَبِير الهذلي (3): مِمَّنْ حَمَلْنَ به وهُنَّ عَوَاقِدٌ حُبَكَ النِّطاقِ فعَاشَ غيرَ مُهَبَّلِ وأنشد للعجاج (4): * أَو الِفاً مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الْحِمَ * ومن إعماله في جمع التصحيح قول الله تعالى:

______ (1) الكتاب 1/ 109. (2) المصدر السابق 1/ 110. (3) سبق الاستشهاد به. (4) سبق الاستشهاد به.

{والْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحَافِظَاتِ والَّذاكرينَ اللهَ كَثيراً والَّذاكرات (1)}. وقال الله تعالى: {ولا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ (2)}. وقال القُطَامي (3): والضَّارِبُونَ عُمَيراً عَنْ بُيُوتِهمِ بِالتَّلِّ يومَ عُمَيْرٌ ضَارِبٌ عَادِي وأنشد سيبويه لابن مُقْبل (4): يَا عَيْنُ حُنَيْفاً رأسَ حَيِّهِمِ الْكاَسرينَ القَنَا في عَوْرَة الدُّبُرِ وهذا كله ظاهر. والتَّثْنية بتلك المنزلة، وكذلك جمع المؤنث السالم. وإطلاقه هنا يتناول ما كان غير مفرد من اسم الفاعل، وهو الذي مُثِّل به، وما كان كذلك من ((الأمثلة)) فإنك تقول: هؤلاء ضُرَّابٌ زيداً، وهؤلاء مَنَاحيرُ

______ (1) سورة الأحزاب/ آية 35. (2) سورة المائدة/ آية 2. (3) المقتضب 4/ 145، والجمل 100، والحلل لابن السيد 119، وابن الشجري 1/ 132، وديوانه 12. وعمير: هو عمير بن الحُباب السلمي، وكانت تغلب قد قتلته. والتل: موضع كانت فيه وقيعة من وقائعهم. والعادي: المعتدي. (4) الكتاب 1/ 184، ونوادر أبي زيد 6، واللسان (دبر)، وديوانه 82. وحنيف: قبيلة من قيس، وهو أحد جنود ابن مقبل. والقنا: الرماح، وواحدها قناة. والدبر: الأدبار، عبر بالواحد عن الجمع. يرثي هذه القبيلة ويقول: كانوا سادة حيهم بمثابة الرأس من الجسد، وكانوا إذا اشهدوا الحرب فانكسر جيشهم كَرُّوا وقاتلوا دونهم، وكسروا رماحهم في سبيل حفظ عورتهم وحمايتها من عدوهم.

بَوائِكَها، وما أشبه ذلك. ومنه ما أنشده. سيبويه للكميت (1): شُمٍّ مَهَاوِينَ أبْدانَ الجَزُورِ مَخَا مِيصِ العَشِيَّاتِ لا خُورٍ ولا قَزَمِ وأنشد أيضا لطرفة بن العِبِد (2): ثُمَّ زَادُوا أنَّهْم في قَوْمِهمْ غُفُرٌ ذَنْبَهُمُ غيرُ فخُر والتثنية وجمع السالم في ذلك أَبْيَنُ وقوله: حَيْثُما عَمِلَ)) جملة شرطية حُذف جوابها لدلالة ما تقدم عليه. و((في الحكم)) متعلق بـ ((مِثْلَهُ)) أي مُماثِلاً في الحكم والشروط. ثم قال: وَانْصِبْ بِذِي الأعْمالِ تِلْواً واخْفِضِ وهُوَ لنَصْبِ ما سِوَاه مُقْتَضِي

______ (1) الكتاب 1/ 114، وابن يعيش 6/ 76، والخزانة 8/ 150، والعيني 3/ 569، والهمع 5/ 89، والدرر 2/ 131. وشُمٍّ: جمع أشم، وهو ارتفاع في قصبة الهواء مع استواء أعلاه. ويكنون به عن العزة والأنفة. ومهاوين: جمع مهوان، مبالغة في (مهين) والبدن: جمع بدنة، وهي الناقة المسَّمنة المتخذة للنحر، وكذلك الجزور. ويروى ((أبداء الجزور)) جمع بَدْء، وهو أفضل الأعضاء. يريد أنهم يسمنون الإبل لينحروها للأضياف. ومخاميص: جمع مِخْماص، وهو الشديد الجوع. ومعناه أنهم يؤخرون العشاء انتظارا لضيف يطرقهم، فبطونهم خاوية في عشياتهم لتأخر الطعام عنهم. والخور: جمع اخور، وهو الضعيف. والقزم-بالتحريك- رذال الناس وسفلتهم، وقبل البيت: يَأوْيِ إلى مجلسٍ بادٍ مكارمُهم لا مُطمِعِي ظالمٍ فيها ولا ظُلُمِ (2) الكتاب 1/ 113، والجمل 106، ونوادر أبي زيد 10، وابن يعيش 6/ 74، 75، والخزانة 8/ 188، والعيني 3/ 548، والتصريح 2/ 69، والهمع 5/ 88، والدرر 2/ 131، والأشموني 2/ 299، وديوانه 68. ويروى ((فُجُر)) بالجيم. وصف قومه بأنهم زادوا على قبيلتهم بأنهم يغفرون ذنوبهم بالعفو والصفح، وأنهم لا يفخرون بما أسدوا من صنيِع ستراً لمعروفهم.

يعني أن اسم الفاعل ذا الإعمال، أي الذي أُعمل عملَ فعلِه، وهو المشروط بالشروط المتقدمة، أو الذي فيه الألف واللام- إذا وَلشيه معمولُه جاز فيه وجهان: أحدهما النصب، وهو الأصل، فتقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً، وآكلٌ الخبزَ غداً. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ (1)} - {إنَّ اللهَ بالِغٌ أَمْرَهُ (2)}. وجميع ما تقدَّم التمثيلُ به. والثاني الجرُّ، وذلك بمقتضى كون اسم الفاعل اسماً يصلح أن يُضاف كعَبْدِ الله، وامرىِء القَيْس، فتقول: زيدٌ ضاربُ عمروٍ غداً. ومنه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (3)} - {إنَّا مُرْسِلُوا النَّاقِةِ فِتْنَةً لَهُمْ (4)} - {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ (5)} - {ولَوْ تَرَى إذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ (6)} - {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ (7)} وهو كثير. وذلك انهم أرادوا التخفيف بحذف التنوين، فانْجرَّ المفعولُ لذلك، واستخفُّوا ذلك إذ كانت الإضافة لا تَنْقُص شيئاً من المعنى، لأن معنى النصب باقٍ، ولذلك لم تُؤَثِّر الإضافة تعريفا، من حيث كان القَصْد بها تخفيفَ اللفظ

______ (1) سورة المائدة/ آية 2. (2) سورة الطلاق/ آية 3. والقراءة بالتنوين هي قراءة السبعة غير حفص عن عاصم (السبعة 639). (3) سورة آل عمران/ آية 185. (4) سورة القمر/ آية 27. (5) سورة المائدة/ آية 95. (6) سورة السجدة/ آية 12. (7) سورة المائدة/ آية 1.

فقط. وقالوا: هذا رجلٌ ضاربُ عمروٍ، فوصفوا بها النكرة. وفي القرآن المجيد {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا (1)} - {هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ (2)} وهو ظاهر فيما ليس فيه ألف ولام. / وأما ما هما فيه فالخفض إنما يجوز في تاليه إذا كان بالألف واللام أو مضافاً إلى ما 455 هو فيه. وقد تقدم ذلك في بابه، فلم يَحْتَج إلى التَّقْييد هنا، فتقول: مررت بالرجلِ الضاربِ الغلامَ، بالنصب، والضاربِ الغلامِ، بالخفض، وما أشبه ذلك. وإنما قال: ((بِذِي الأعْمَالِ)) ولم يقل: باسم الفاعل ذي الإعمال، لِيَعُمَّ بذلك اسمَ الفاعل وأمثلَة المبالغة، فإنك تقول: هذا ضَرَّابٌ زيداً، وضَرَّابُ زيدٍ، وهذا [ضَرُوبٌ زيداً، وهذا (3)] ضروبٌ رءوسَ الدَّارِعِين، وضروبُ رءوسِ الدارعين. وأيضاً، فإن قوله: ((بِذِي الأعْمَالِ)) تحرُّزٌ من اسم الفاعل الذي لا يَعمل، وهو ما تخلَّف عنه شرط من تلك الشروط المذكورة، كالذي بمعنى الماضي، فإن فيما يليه وجهاً واحداً، وهو الخفض بالإضافة، إذ ليس المعنى معنى النصب، ولا القَصْدُ بالإضافة التخفيف، وإنما القصد بها التعريفُ أو التخصيص، فتقول: مررت بزيدٍ ضارب عمروٍ أمسِ، ولا تقول: مررتُ برجلٍ ضاربِ زيدٍ أمسِ، لأن ما يليه ليس بمعمولٍ له.

______ (1) سورة الأحقاف/ آية 24. (2) سورة المائدة/ آية 95. (3) ما بين الحاصرتين زيادة من حاشية الأصل.

وقوله: ((تِلْواً)) شرطٌ في خفض معموله، وهو أن يكون والياً له، لأن من شروط الإضافة أن يكون المضاف إليه والياً للمضاف، حتى يحل محلَّ تنوينه، فإن كان بينهما فاصلٌ فالنصب، نحو: هذا ضاربٌ أبوه زيداً، ومررتُ برجلٍ ضاربٍ أبوه زيداً، ولا تقول: ضاربٌ أبوه زيدٍ، بل النصب هو اللازم، وهو الذي أراد بقوله: ((وهو لِنَصْبِ ما سِوَاهُ مُقْتَضٍ)) يعني أن ما سوى التالي لاسم الفاعل من المعمولات حكمُه النصب، فلا يَقْتَضي اسمُ الفاعل فيه جَرَّا، لأجل الفاصل، فتقول: هذا مُعْطٍ زيداً درهماً غداً، وهذا مُعْطِي زيدٍ درهماً غداً، وهذا ظانٌ زيدٍ شاخصاً غداً، وهذا ظانٌ زيداً شاخصاً غداً. وفي قوله: ((وهو لِنَصْبِ ما سِوَاهُ مُقْتَضٍ)) أنَّ ما سوى التالي لاسم الفاعل منصوبٌ إذا كان عاملا، وأنه لا يجوز فيه غير ذلك. وهذا ظاهر إذا قلت: هذا مُعطِي زيدٍ درهماً، وهذا ظانٌ زيدٍ شاخصاً، وهذا مُعْلِمُ زيدٍ عمراً أخاك غداً أو الآن. فالحاصل أن ما يليه فيه وجهان، النصبُ به والجر، وما سواه فيه النصبُ به خاصة، بشرط كَوْن اسم الفاعل عاملا. ومفهومه أنه إذا لم يكن عاملا، وذلك عند تخلف شرط العمل، فلا يجوز فيما يليه الوجهان، إذ لا يَنصب مفعولا، ولا فيما عداه النصبُ به لذلك السبب، إذْ فَرضناه غيرَ عامل. فإذا قلت: هذا مُعطي زيدٍ درهماً أمسِ- فـ (زيد) ليس فيه إلا الجُّر بالإضافة، وأما ((درهماً)) فلا ينتصب باسم الفاعل، بل يقدَّر له ناصب، كأنه في تقدير: أعطاه درهماً. وكذلك قولك: هذان ظَانٌ زيدٍ شاخصاً أمسِ، وما كان مثل ذلك. وهذا أحد

______

المذاهب الأربعة في المسألة. والثاني: مذهب الكسائي، أنه يعمل بمعنى الماضي مطلقا كما تقدم. والثالث: مذهب السِّيرافي أنه منصوب بهذا الظاهر (1)، لتعذر إضافته إليه، لأن المضاف إليه كالتنوين، فصار كَراقٌودٍ خَلاَّ، مع ما/ فيه من معنى الفعل. ... 456 والرابع: الفَرقْ، فإن كان ما انْتَصب بعد المضاف إليه من باب ((ظَنَنْتُ)) كان اسمُ الفاعل هو العاملَ فيه، كما قال السِّيرافي. وإن كان من باب ((أَعْطَى)) أو ((أَمَرَ)) كان منصوباً بإضمار فعل يدل عليه اسم الفاعل. والأظهرُ مذهبُ الناظم، لأنه إذا ثبت انه بمعنى الماضي لا يعمل إذا كان متعدِّياً إلى واحد في المعنى، كضاربٍ وآكلٍ، فكذلك يجب أن يكون إذا طَلَب بمعناه أكثرَ من مفعول واحد. وفي المسألة قولٌ خامس، أن ((شاخِصاً)) على إضمار فعل، ومعمولاَ ((ظَانٍّ)) مُقَدَّران محذوفان اختصارا، و ((زَيْد)) محلٌّ للظن. والتقدير: هذا ظانٌ في زيدٍ لأن سيبويه قال: تقول: ظَنَنْتُ به، أي جعلتُه موضعَ ظَنِّي (2)، وهو قول يُعْزَي للشَّلَوْبِين. ثمَّ على الناظم دَرَكٌ من ثلاثة أوجه:

______ (1) شرح الكتاب للسيرافي (ج 1 ورقة 221 - ب). (2) الكتاب 1/ 41.

أحدها: أنه قال: ((وانْصِبْ بذِي الإعْمَالِ تِلْواً واخْفِضِ)) وهذا الإعمال إما أن يكون إعمالاً في المفعول خاصَّةً، أو ما هو أعمُّ من ذلك. فإن أراد الأولَ اقْتَضى أن هذا الحكم لا يكون في الظرف، وهم يُنشدون قوله (1): * طَبَّاخِ ساعاتِ الْكرَىَ زادَ الكَسِلْ * بنصب ((زادَ)) وخَفْضِه، فالنصب على أن ((طَبَّاخ)) مضاف إلى ((السَّاعات)) فالكسرةُ فيها علامةُ خفض، والخفض على الإضافة إلى ((طَبَّاخ)) و ((الساعات)) منصوبةٌ بالكسرة، وكلاهما جائز على رأيه ورأي غيره. وإن أراد الإعمال مطلقاً لزمه، بحكم الإطلاق، أن يُجيز ذلك في الحال والفاعل وغيرهما من المعمولات، وذلك فاسد، إذْ لا يقال في: هذا [ضاربٌ قاعداً زيداً: هذا (2)] ضاربُ قاعدٍ زيداً، ولا يقال في (هذا ضاربٌ أبوه زيداً): هذا ضاربُ أبيه زيداً، ولا هذا ضاربٌ اباه زيداً. وإذا ثبت هذا فإطلاقُه إجازةَ الجرِّ والنصب في التالي، ولم يُقيِّده بكونه مفعولاً به، غيرُ صواب. والثاني: أن هذا الكلام يقتضي أن ما يلي اسم الفاعل يجوز فيه الوجهان، وهذا صحيح على ما تقدم فيه. ويَقتضي أن ما بعد التالي لا يكون إلا

______ (1) سيبويه 1/ 177، وديوان الشماخ (109). وينسب للشماخ وإلى أبي النجم، وإلى جبار بن جزء، وهو ابن أخي الشماخ. وقبله: * رُبَّ ابنِ عَمٍّ لسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ * والمشمعل: الجاد في الأمر، الخفيف في جميع ما يأخذ فيه من عمل. والكرى: النعاس. والكَسِل: الكسلان. (2) ما بين الحاصرتين موضعه بياض بجميع النسخ، وقد كتب على حاشيتي الأصل و (س).

منصوبا، وهذا ليس بصحيح بأمرين: أحدهما: أن ما سوى التالي قد يكون فاعلاً فيجب رفعه، نحو: هذا ضاربٌ زيداً أبوه، ومررتُ برجلٍ مُكْرِمٍ عمراً أخوه، وهو قد قال: إنه لِنَصْب ما سوى التَّالي مُقْتَضٍ، وذلك غير صادق. الآخر: أنه قَرَّر في ((باب الإضافة (1))) جوازَ الفصل بين المضافُ والمضاف إليه بالمفعول في ((اسم الفاعل)) إذا قلت: هذا مُعْطِي درهماً زيدٍ، كما قُرِئ- {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِهِ (2)} وقد تقدم ذلك، فلا يستقيم إطلاق القول بأنه مقتضٍ لنصب ما سواه. والثالث: أن التزامه لانتصاب ما سوى التالي بفعلٍ مضْمرٍ يقتضي أن يكون مطلوبُ اسم الفاعل محذوفا، وإذا كان كذلك فاسم الفاعل من باب ((أَعْطَى)) لا يلزم فيه محظور. فإذا قلت: هذا مُعْطِي زيدٍ أمسِ درهماً، فجعلت ((درهماً)) مفعولاً لفعل مُضْمر صَحَّ ذلك، سواءٌ أقَدَّرت حذفَ مفعولِ اسم الفاعل اختصاراً أم اقتصارا (3). / وأما في باب ((ظَنَّ))، فمذهبه فيه مشكل جدا، فإنك إذا قلت: هذا ظَانُّ زيدٍ ... 457 شاخصاً أمسِ- لا يخلو أن يكون العامل في ((شاخصاً)) ((ظانُ)) أو غيرَه. فإن كان هو العامَل فقد أعملتهَ بمعنى الماضي، وهو مناقض لما الْتَزم.

______ (1) انظر: ص 175. (2) البحر المحيط (5/ 439) قال: ((وهو كقراءة- {قتل أولادَهم شركائِهم}. (3) الحذف اختصارا: هو ما كان لدليل، واقتصارا: ما كان لغير دليل (وانظر الهمع 2/ 224، 250).

وإن أضمرت فعلاً فإمَّا أن يكون مفعولُ ((ظانٍّ)) قد حُف اختصاراً أو اقتصارا. فإن كان حَذْفُه اقتصاراً فممنوعٌ لما تقدَّم في بابه، وإن كان اختصاراً فهو في حكم المُثْبَت، فما العامل فيه؟ فإن قيل: ((ظَانٌّ)) أعملَه بمعنى الماضي. وإن قيل: فعلٌ مضمر رجع السؤال إلى حذف مفعول ((ظَانٍّ)) ويَتَسَلْسل إلى غير نهاية (1). هذا تقرير الشَّلَوبين حسبما حكاه لنا شيخنا الأستاذ أو عبدالله بن الفخار رحمة الله عليه، عن شيخه أبي إسحاق الغافقي، عن شيخه ابن أبي الربيع، عن شيخه الشَّلَوْبين (2). وأصله لابن جِنِّي في ((كتاب القَدِّ (3))) وأنه قال للفارسي: إن قلت: إنَّ ((شاخصاً)) منصوب بـ ((ظَانٍّ)) فقد أعملتَه بمعنى الماضي، وإن كان منصوباً بفعل مضمر فقد اقْتَصرت. قال: فسكت الفارسي، وعَدَّ ذلك منه ابنُ جني انقطاعاً. وهو لازمٌ لكل من قال في المسألة بقول الناظم، وهو الذي التَزم الفارسي، فألزمه ابنُ جِنِّي ما رأيتَ. والجواب عن الأول أن المراد هنا الإعمال في المفعول به خاصة. أما الفاعل فقد تبين في ((باب الفاعل)) حكمهُ وتبين في ((باب الإضافة)) امتناعُ إضافة الشيء إلى نفسه.

______ (1) التسلسل- عند المقاطعة- توقف كل من الشيئين على الآخر، وهو الدور أيضا. (2) سبقت ترجمة ابن الفخار وأبي إسحاق الغافقي وابن أبي الربيع والشلوبين. (3) في (ت) ((كتاب القدر)) وهو تحريف، ويسمى في بعض كتب التراجم ((ذا القد)) وانظر: مؤلفاته في مقدمة ((الخصائص)).

فإذاً الفاعلُ هنا إذا كان تاليا لاسم الفاعل لا يجوز في النصبُ، لأنه فاعل، ولا الخفضُ، إذ لا يضاف اسم الفاعل إلى مرفوعه، للزوم إضافة الشيءِ إلى نفسه. فقوله: ((وانْصِبْ بذِي الاعْمَالِ)) إلى آخره، يُخْرج الفاعل عن ذلك. وكذلك قوله: ((وهُوَ لِنَصْبِ ما سَواهُ مُقْتَضٍ)) لأن الفاعل لا يُنصب، ولا يَقَتضي فيه اسمُ الفاعل نصبا. وأما الظرف والحال فلا اعتبار بهما هنا، إذ لا يظهر بالعمل فيهما صحةُ العمل مطلقا، لأن الظرف يَعمل فيه رائحةُ الفعل، فإن نُصب على المفعول به اتساعاً جاز فيه ما جاز في المفعول، ودَخل في ضمن كلامه، وإذا كان كذلك ارتفع الإشكال. وعن الثاني أن كلامه مُقَيَّد بكلامه، وذلك بأن يكون هنا إنما تكلم على حكم الأصل في المسألة، وتكلم في ((الإضافة)) على ما يَعْرِض من الفصل، أو نقول: إن قوله: ((وانْصِبْ بذِي الإعمالِ تَلْوً)) يريد به التالي بإطلاق، كان ذلك لفظاً أو تقديراً، فاللفظ كقولك: مُعْطِي زيدٍ درهماً، والتقدير كقولك: مُعْطِي درهماً زيدٍ، لأن أصله: مُعْطِي زيدٍ درهماً، ولذلك جعله في ((باب الإضافة)) فَصْلاً، فـ ((درهماً)) وإن تلا ((مُعْطِياً)) في اللفظ غيرُ تالٍ في التقدير، و ((زيد)) وإن كانت في اللفظ غير تالٍ هو في التقدير تالٍ، فنجري في كل واحدة من المسألتين حكمُها، على ما نَصَّ عليه. وكذلك القول في الظرف المتَّسَع فيه. وقد تقدم الكلام في / الفاعل. ... 458 وعن الثالث أن ما التزمه ابنُ جني غيرُ لازم لأمرين: أحدهما: أن مسألة (هذا ظَانُّ زيدٍ شاخصاً أمس) لا نسلِّم ثبوتها من كلام العرب. وهو جواب ابن أبي الربيع، لكنه قال (1): إن ثَبت أنه من

______ (1) انظر: البسيط شرح جمل الزجاجي (894) تحقيق الدكتور عياد الثبيتي.

كلام العرب كان الوجهُ مذهبَ من فَصَّل، وهو المذهب الرابع هنا، على أن أبا القاسم بن الصفَّار (1). قال: سألت ابنَ عصفور: هل ورد من كلام العرب (هذا ظَانُّ زيدٍ منطلقً)؟ يعني في معنى الماضي، فقال لي: وردَ من ذلك قوله تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً} الآية (2). قال: فقلت له: ((جَاعِلُ)) في ذلك بمعنى: خالق، و ((سَكَناً)) حال، فقال لي: إن الله تعالى لم يخلقه في حال أنه سَكَن. قال: فقلت له: تكون الحال تقديريَّة، فقال: إن ذلك يؤدي إلى وصف الله تعالى بما لم يَصِفْ به نفسه، وهو وصفه بمقدَّر قال: فقلت له: قد حصل وصفُه بذلك بقوله: ((سَكَناً)) فقال لي: إن الله خلقه غيرَ سَكَن، ثم جعله سَكَناً بعد ذلك. ههنا وقف الكلام بينهما. وقد أجيب بأن لابن الصفار أن يقول حين أورد عليه وصفَ الله بمقدَّر: قد قال سيبويه (3): خلق اللهُ الزرافةَ يَدَيْهَا أطول من رِجْلَيْها. والزرافُة لم تَنْتقل بعد وجودها عن حالها، ومفاده: أن الله تعالى قَدَّر خلقها كذلك، فخلقها على نلك الصورة. والظاهر أن الآية ليست من هذا القبيل، فلا يقوم بها حجة على ثبوت المسألة. والثاني: أن نُسَلَّم ورودَها سماعاً، ولا يلزم محظر، لأن ((ظاناً)) ههنا قد قال الناظم: إنه لا يَعمل، وإذا لم يَعمل فليس بمتوجَّه على ((الجملة)) كالفعل،

______ (1) سبقت ترجمته. (2) سورة الأنعام/ آية 96. والقراءة باسم الفاعل هي قراءة بن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي- (وجَعَل) - فعلا ماضيا [السبعة لابن مجاهد 263]. (3) الكتاب 1/ 155.

وإنما هو اسمُ مضافُ إلى اسم، كإضافة ((صاحب)) والإضافة فيه إضافةُ تَخْصيص، فرُوِعي فيه جانبُ الاسمية خاصة، كما روُي في ((صاحب)) وإذا كان ذلك قد يراعَى في الذي بمعنى الحال والاستقبال، فلا يَطلب معمولا- فأَخْرىَ في هذا. ولما قال: (هذا ظَانُّ) زيدٍ) أراد أن يُعْلِم فيما أَوقع ((الظنَّ)) فقال: قائماً، أي: ظَنَّهُ قائماً، لأنه يدل على الفعل، كما يدل عليه (ضاربُ زيدٍ أمٍ وعَمْراً) فإذاً ليس (ظانٌ) مفعول يقع بسببه إشكال. وهذا جواب الشَّلَوْبين، وهو أحسن ما يُقال في الموضع. ويُوَجَّه سكوتُ الفارسي عن جواب ابن جِنَّي بأحد الوجهين، لأن ابن جِنَّي كأنَّه فَرض مسأله على غير وجهها، فلم يَستحق الجوابَ عنها، لا أنه سَكت منقطعاً عن الجواب. والله أعلم. وَاجَرُرْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الذَّي انْخَفَضْ كمُبْتَغِي جاهٍ ومَالاً مَنْ نَهَضْ هذا من تمام الحكم المذكور قبل هذا، لأنه ذكر لِتَالِي ذي الإعمال الجَّر والنصب، فإذا كانا منصوباً فتابعه مثلُه منصوب بلا إشكال ولا نظر، فتقول: هذا ضاربُ زيداً وعِمْراً، ولا تقول: هذا/ ضاربُ زيداً وعَمْروٍ، لأن اللفظ منصوب، والموضعُ موضعُ نصب، فلا وجه لخفض 459 التابع، فلذلك لم يَنُصَّ هنا على هذا الحكم، إذ لا زائدَ فيه على ما يذَكره في ((باب التَّوابع)). وقد تقدَّم أن عادته وعادةَ غيره أنهم إنما يَذكرون في تفاريق الأبواب من أحكام التوابع ما لا يدَخل لهم تحت قانونها المذكورِ في بابها.

______

ولْنَرْجع إلى ما كُنَّا فيه. وأما إذا كان التالي لذي الإعمال مجروراً فذكر الناظم أن لم في تابعه وجهين: أحدهما: النصبُ على اعتبار الموضع. والآخر: الجرُّ على اعتبار اللفظ، وذلك قوله: ((وَاجْررْ أوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذيِ انْخَفضْ)). فتقول على اعتبار اللفظ هذا ضاربُ زيدٍ وعمروٍ، وهو الوجهُ، ولذلك قَدَّمه، لأنه من التَّبَعيه بغير تأويل. وتقول على اعتبار الموضع: هذا ضاربُ زيدٍ وعَمْراً، لأن الموضع للنصب، وإنما الجرُّ تخفيفُ بحذف التنوين، ومن ذلك تمثيلهُ بقوله: ((مُبْتَغِي جاهٍ ومالاً مَنْ نَهَضَ)) كأنه قال: الناهض مُبْتَغ جاهاً ومالاً، وأنشد سيبويه من ذلك القولَ رجل من قَيْس عَيْلان (1): بينَا نَحْنُ نَرْقُبُه أتَانَا مُعَلّقَ وَفْضةٍ وزِنادً راعي وأنشد أيضا، وقال: زعم عيسى أنهمُ ينشدون هذا البيت (2): هَلْ أنتَ باعثُ دِينَارٍ لحاجَتِنَا أو عَبْدَ رَبٍ أخَا عَوْنِ ابنِ مِخْراَقِ

______ (1) الكتاب 1/ 171، والمحتسب 2/ 78، وابن يعيش 4/ 97، 6/ 11، والمغني 377، والهمع 3/ 201، والدرر 1/ 178. ويروي ((فبيننا نحن)) و ((نطلبه)) والوفضة: الكنانة توضع فيها السهام والزناد: جمع زند، وهو العود الأعلى الذي تقدح به النار، والأسفل هو الزندة. (2) الكتاب 1/ 171، والمقتضب 4/ 151، والجمل 99، والخزانة 8/ 215، والعيني 3/ 563، والهمع 5/ 295، والدرر 2/ 204، والأشموني 2/ 301. وباعت: موقظ أو مرسل. ودينار وعبدرت: رجلان. وأخا عون: عطف بيان أو نعت. ويجوز أن يكون نصبه على النداء.

وقد ظَهر منه بهذا التَّقرير أن النصب هنا ليس على إضمار الفعل، وإنما هو على التَّبعَية، وهو مخالف لظاهر سيبويه، إذ جعله على إضمار الفعل، كأنه قال: هذا ضاربُ زيدٍ ويضربُ عمراً، أو وضاربُ عمراً، ولم يعرَّج على العطف على الموضع (1). ونَصَّ الفارسيُّ على أن النصب بالعطف على الموضع، فظاهرُ هذا اختلافُ من القول، ولكن ابن أبي الربيع قال (2): كلا الوجهين جائزٌ عند سيبويه وأبي عَلِيً، إلا أن الذي يَظهر من سيبويه أنه يختار الإضمار، لأنه لم ي ذكر في هذا الموضع غيرَه، ويظهر من أبي عَلِيًّ أن الأحسن عنده العطفُ على الموضع. قال: ويقتضي كلامهما جوازَ الوجهين. فإن كان كما قال ابن أبي الربيع فالخلاف بينهما في الاختيار، وإلاَّ فالخلاف بإطلاق. والأظهر ما ذهب إليه الناظم، لأن تالِي اسم الفاعل إذا اثبت أن له لفظا وموضعا جاز اعتبارُ كل واحد منهما في التَّبعيَة، كما جاز ذلك باتفاق في نحو: ليس زيدُ بجبانٍ ولا بخيلاً، {ومَا لكُمْ مِن إلهٍ غَيْرُهُ (3)} وما كان نحو ذلك. فالخروج بالمسألة إلى تكلفُّ الإضمار خلافُ القاعدة، فإن الإضمار من غير حاجة إليه تكلفُ ما لا دليل عليه.

______ (1) انظر: الكتاب 1/ 169، 171. (2) انظر: ((الوسيط)) شرح الجمل: 914، وما بعدها. (3) سورة الأعراف/ الآيات: 59، 65، 73، 85، وهد 50، 61، 84، والمؤمنون: 23، 32. وقرأه الكسائي وحده بالخفض، وقرأ باقي السبعة بالرفع في كل القرآن. وانظر: السبعة لابن مجاهد 284.

والخلاف هنا كالخلاف في العطف على موضع اسم (أنَّ) وقد تقدم الكلام في ذلك. وجمعُيه نُزوع إلى مذهب البغداديين الذين يُجيزون العطف على التوهم بإطلاق، لكن قد يَقِلُّ في موضع، ويكثُر في موضع. وهذا الباب مما كَثُر فيه ذلك، أعني اعتبارَ المرادفِ الأصلي، ولذلك وافقهم البصريون عليه الجُمْلة، وإن اختلفوا في التأويل. ثم هنا مسألتان: إحداهما: أن هذا الكلام مُخْتَصُّ بما إذا كان اسم / الفاعل عاملاً، لا مطلقاً، لأن 460 الذي لا يَعمل إذا اجَرَّ مجرورُه في موضع نصب، إذ فرضناه غيرَ طالب بنصب، كما أن مجرور (صاحب) ونحوهْ، مما استُعمل استعمال الأسماء ليس في موضع نصب، ولا يُعطف على موضعه نصبُ، وإذا كان كذلك لم يدَخل في كلامه مجرورُ اسم للماضي؛ فإن العرب لا تَعطف على موضع ما لا موضع له، إذ لا تقول: هذا صاحبُ زيدٍ وعمراً، فكذلك ما هو بمنزلته. فإن جاء ما ظهرُه ذلك فعلى إضمار فعل. فقد أجاز النحويون: هذا ضاربُ زيدٍ أمس وعمراً، على معنى: ضَربَ عمراً، لا على الموضع. ومنه قوله تعالى: {وجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً والشَّمْسَ والْقَمَر حُسْبَاناً (1)} ولا يكون هذا من الحمل على الموضع إلا على القول بإعمال الذي بمعنى الماضي. وقد منعه الناظم.

______ (1) سورة الأنعام/ آية 96. وسبق أن القراءة باسم الفاعل هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر. وانظر: السبعة لابن مجاهد 263.

فإن قيل: ما المانع من أن يكون الناظم قصَد بـ ((الذَّيِ انَخَفَضَ)) ما انخفض باسم الفاعل بإطلاق، كان: بمعنى الماضي أو لا، لكن إن كان بمعنى الماضي كان التبع منصوباً على إضمار الفعل، وإلا كان معطوفاً على الموضع، أو على إضمار فِعل كما قال سيبويه (1). فالجواب أن هذا القصد لا يصح، لأنك إذا فرضتَ التابع منصوبا بإضمار فعلٍ لا بالتَّبعَية فليس بتابعٍ أصلا، وإنما هو من جملة أخرى، وهو إنما قال: ((تَابعَ الَّذي انخَفَضَ)) فخرج هذا، إذ ليس بتابع، وهذا ظاهر. وقد فَسَّر ابنُ الناظم هذا الموضع بما يَقَتَضي دخول المخفوض باسم الفاعل، كان للماضي أو لا، إلا أن ما خُفِض بالذي للماضي يُتْبع على إضمار الفعل، وما عداه فيه وجهان، إضمار الفعل وعدمُه (2). فإذا أراد بذلك حقيقة التَّبَعِيَّة فغيرُ صحيح على أصله، مِنْ منْع إعمال تابع الذي للماضي. والثانية: أن ظاهر كلامه أن هذا الحكم جارٍ في كل تابعٍ من التوابع، ولا يختص بواحد منها، فيجوز إتباعُ النعت على اللفظ، وعلى الموضع، وكذلك عطُف البيان والبدلُ والتوكيدُ، فتقول: هذا ضاربُ زيدٍ العاقلِ، والعاقلَ، وهذا ضاربُ زيدٍ أبى عبدالله وأبا عبدالله. وكذا سائرها إذا كان اسم الفاعل لغير الماضي، أو كان بالألف واللام. وأكثرُ ما يَذكر الناسُ هنا العطفُ النَّسقِي خاصة. ولا شك أن غيره من التوابع جارٍ مجراه، بناءً على ثبوت الموضع هنا، وهو الذي اختاره الناظم كما

______ (1) الكتاب 1/ 169، 171. (2) شرح الألفية له 432.

تقدم، فلا فرق بين المخفوض باسم الفاعل هنا والمخفوضِ بالمصدر الموصول كما تقدَم. وقد أجيز هنالك اعتبار الموضوع في التوابع كلها، فكذلك يجب هنا أن يجوز ذلك. فإن قيل: لعل مراده بالتابع التابعُ، بالعطف، ولم يقَصد غير ذلك، إذ ليس في كلامه ما يَقتضي جميع، بل فيه ما يدل على التابع بالعطف خاصة، وهو التمثيل بقوله: ((كَمُبْتَغيِ جَاهٍ ومَالاً من نَهَضَ)) فالجواب أنه لو أراد العطف وحده لَتبيَّن ذلك بياناً واضحاً، لقال: واجْرُرْ أوِ انْصبِ المعطوفَ، أو نحو هذا. وأيضا تمثيلُه لا يعيَّن عطفاً دون غيره، لأن لفظ ((التابع)) الظاهرُ عُمومهُ، ووقع/ 461 التمثيُل بواحد منها، كما لو مَثَّل بالنعت أو بالتوكيد فلا يكون في ذلك دليل على الاختصاص. فإن قيل: ظاهرُه أنه أجاز هنا العطف مطلقاً من غير تقييد، والنحويون قد قَيَّدوا جواز الوجهين بأن يصح وقوعُ المعطوف في موضع المعطوف عليه، فإن لم يصح وقوعهُ في موضعه لم يَجُزْ إلا النصب، وذلك نحو: هذا ضاربُ زيدٍ وعمروٍ، فالوجهان هنا سائغان، لأنك تقول: هذا ضاربُ عمروٍ. وإذا قلت: هذا الضاربُ الرجل وعمروٍ- بالخفض- لم يَجُزْ؛ لأنك لا تقول: هذا الضاربُ عمرٍ، إلا على مذهب الفَرَّاء، وهو مردود عند النحويين. وفي هذا النظم أيضا ما يدل عليه، فإنه منع في ((باب عطف البيان)) أن تقول: مررت بالضاربِ الرجلِ زيدٍ، على البدل، إذ قال: * ولَيْسَ أنْ يُبْدَلَ باَلمْرضِىَ *

______

ووجهُ ذلك أن البدل في تقدير الوقوع موقعُ المبدَل منه، وهذا بعينه موجود في العطف. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يكون ملتِزمِاً لرأي الفَراَّء، ولا محظوَر في هذا إذ كان الدليل هو المتَّبعَ. وقد جعل ل في ((شرح التسهيل (1))) حظاً من القياس، وذلك على أن تقدير الإضافة قبل دخول الألف واللام، إذ كانت الإضافة قبلها ليست للتعريف، والمانعُ من الجمع بين الألف واللام والإضافة إنما هو الجمع بين تَعْرِيَفينْ، وهذا الموضع ليس فيه ذلك، فدخلت الألف واللام لِتُعَرِّف مالم يَتَعَّرف بالإضافة، كما كان ذلك في (الحَسنِ الوجهِ) ولا يَلزم على هذا جوازُ (الحسنِ وجههِ) لأن المضاف والمضاف إليه فيه وفيما كان نحوهَ شيءٌ واحد في المعنى، بخلاف (الضَّاربِ زيدٍ) فإذا كان كذلك لم يَلزم ما أورده السائل. والوجه الثاني: أن اشتراط صحة وقوعِ المعطوف موقعَ المعطوف عليه ليس مُتَّفقا عليه، فالنحويون في ذلك على فرقتين. فرقة تَشترط ذلك، منهم المبرد والجُزولي. وفرقة لا تشترط ذلك، منهم السَّيرافي وابن خروف. وحُجَّتُهم أنه قد يجوز في المعطوف مالا يجوز في المعطوف عليه، كقولك: كلُّ شاةٍ وسَخْلَتِها (2)، وكلُّ رجلٍ وأخيه، ويا زيدُ والحارثُ، ومررت بزيدٍ وعمراً، ونحو ذلك، فقد يكون الناظم جَرَىَ على مذهب من لا يَرى اشتراطَ ذلك.

______ (1) ورقة (152 - أ). (2) من أقوال العرب (الكتاب 2/ 55، 82، 300) وكذلك قولهم: كل شاة وسَخْلَيِها بدرهم. والسخلة: ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرا كان أو أنثى.

وهذا الوجه أمثلُ في الجواب من الأول، فإن ابن مالك قد نَصَّ على أن (الضاربُ زيدٍ) ممنوع، وهذا الذي ذهب إليه الفراء. وذكر ذلك في ((باب الإضافة)) من هذا النظم فإن قيل: فقد رَدَّ هذا في ((الشرح (1))) بأن حرف العطف قائم مقام العامل في المعطوف عليه، واسم الفاعل ذو الألف واللام لا يجرُّ ((زيداً)) ونحوه، فلا يصح عطفه على المجرور به، قال: ولا حجة في نحو: رُبَّ رجلٍ وأخيه، ولا: * أيُّ فَتَى هَيْجاء أنتَ وجَارِهَا (2) * لأنهما في تقديرك وأخٍ له، وجارٍ لها (3)، ومثل هذا التقدير لا يصح في مسألتنا، فلا يصح جوازُه. قيل: هذا لا يطَّرد له في نحو (يا زيدُ والحارثُ). والظاهر أن للعطف في هذا الاتَّسَاع ما ليس لغيره، فإذا أمكن قَصْدُ الناظم لهذا فلا اعتراض عليه. والباغي: من: بَغَيتُ الشيءِ، أبْغِيِه. وأْبَتَغَيْته: طَلَبْتُه. / والنَّاهِض: القويُّ العزمِ الذي 462 لا يُخلْدِ إلى الراحة والدَّعة.

______ (1) ورقة (152 - ب). (2) سبق الاستشهاد به في ((باب التعجب)) وبعده: * إذا مِا رِجَالٌ بالَّرجال اسْتَقَلَّتِ * (3) في شرح التسهيل (ورقة 152 - ب) ((لأنهما في تقدير: رُبَّ رجلٍ وأخٍ له، وأيُّ فتى هيجاَء أنت وجارٍ لها)).

وكُلُّ ما قُرَّرَ لاسْمِ فَاعِل يُعْطِي اسْمَ مَفْعُولٍ بلا تَفَاضُلِ فَهْوَ كَفِعْلٍ صيِغَ للَمَفْعولِ في مَعْنَاهُ كالمُعْطَى كَفَافاً يَكْتَفِي لما كان اسم المفعول غيرَ جارٍ بإطلاقٍ على الفعل المضارع، ولم يَكْمُل شِبِهُه به، وكان حكمه حكمَ اسم الفاعل في هذا الباب، فيما عدا أحكامِ مالم يُسَمَّ فاعله- خاف أن يُتَوهم أنه لا يجَرى مجراه، فنَصَّ على جَرَيانه مَجراه كما فعل في ((أمثلة المبالغة))، وجَمعْ اسم الفاعل. فيريد أن اسم المفعول حكمه حكمُ اسم الفاعل في جميع ما تقرر لاسم الفاعل من الأحكام، من كَوْنه يعمل عملَ فَعْله بالشروط المذكورة، وهي ألا يكون بمعنى الماضي، وأن يكون مُعْتَمِداً، ولا يُصَغَّر، ولا يوُصف قبل العمل. هذا إذا كان مجرداً من الألف واللام. فإن كان بهما عمل من غير اشتراطٍ لمعنى الحال أو الاستقبال. فتقول: هذا مُعْطى أبوه درهماً الان أو غداً، وأمَكْسُوُّ الزيدانِ ثوباً غدا؟ وهذا المُعْطي درهماً أمس أو غداً. ومن ذلك قول الشاعر (1): ونحُنَ تَركْنَا تَغْلِبَ ابَنَةَ وَائلٍ كَمَضْروبةٍ رجْلاَهُ مُنَقَطِعِ الظَّهْرِ فهذا البيت مما اعتمد فيه اسم المفعول (2) على موصوفٍ محذوف، أي

______ (1) هو تميم بن مقبل، ديوانه 107، والهمع 3/ 90، والدرر 2/ 131. (2) في جميع النسخ ((اسم الفاعل)) وهو وهم، وما أثبته من حاشية الأصل هو الصواب.

كرجَلٍ مضروبةٍ رجلاه. فإن كان بمعنى الماضي مجرداً من الألف واللام لم يَعمل، فتقول: هذا مُعَطىَ درهمٍ أمسِ، ولا تقول: مُعْطىً درهما. وكذلك سائر الأحكام، من جواز إضافته لتاليه، وجواز نصبه، وأنَحتاَم نصبِ ما بعد ذلك، ومن تَبَعِيَّة ذلك التالي على اللفظ، وعلى الموضع، ومن إجراء جَمْعه مُجْرى اسم الفاعل. وجميعُ ما تقدَّم ذكرهُ جارٍ هنا. وقوله: ((بِلاَ تَفَاضُلٍ)) يعني أنه لا يَفْضُله اسم الفاعل في شيءِ من أحكام هذا الباب، بل يجَري مجراه في كل حكم. لكن لَمَّا كان في هذا الكلام احتمالٌ يُتَوهَّم منه أن اسم المفعول يَجري في كل شيءِ مَجراه، فيَرفع الفاعل، ويَنصب المفعولاتِ كلَّها، وما كان نحو ذلك، وذلك غير صحيح- حَرَّر ذلك وبَيَّن أن حكمه حكمُ فعله المبنيَّ للمفعول، لا حكمُ المبنيَّ للفاعل، فقال: ((فَهُوَ كَفِعْلٍ صِيغَ للمَفْعُولِ في مَعْنَاهُ))، فهو جارٍ مجرى اسم الفاعل مع مراعاة بنائِه للمفعول، فتقول: هذا مَضْرُوبٌ أبوه غداً، كما تقول: يُضْرَبُ أبوه غداً، ولا تقول: هذا مُعْطى درهماً، كما تقول: هذا يُعْطَى درهماً. وكذلك سائر الأحكام. وقوله: ((في مَعْنَاهُ)) يَعني به أن اسم المفعول مثلُ الفعل المبنيَّ للمفعول في معناه، لا في لفظع، فيُعْطَى كلُّ واحدٍ منهما من الأحكام اللفظية ما يَقتضيه، فاجتماعُهما إنما هو في المعنى. وأما في اللفظ فلكل واحد منهما حكمٌ لفظي يَخْتَص به. فالفعل لا يُضاف، بخلاف اسم المفعول، فإنه يضاف إلى مفعوله، نحو:

______

/ هذا مُعْطَى درهمٍ غداً. فلو لم يَقُل: ((في مَعْنَاهُ)) لأَوهم امتناعَ الإضافة، وكذلك ... 463 التنوين، وما كان نحوَهما من الأحكام المختصة بالأسماء، كالتعريف والتثنية والجمع. وقوله: ((في مَعْنَاهُ)) خبرٌ بعد عبر، أي: فهو في معنى الفعل المَصُوغ للمفعول. وضمير ((صِيغَ)) عائد على الفعل، لا على ((هو)). ومَثَّل بقوله: ((المُعْطَى كَفافاً يكْتَفِي)) وهو من اسم المفعول بالألف واللام، فيعمل بمعنى الماضي، وبمعنى الحال والاستقبال. وهذا كله ظاهر. والكَفَاف: ما يَكَفي الإنسانَ من غير إسراف. وحقيقته: ما كَفَّ عن الناس، أي أغنى عنهم وعن الَّلجَأ إليهم. والمعنى: أن الذي أُعطِي من العيش كَفَافاً يَكتفي بهَ عمَّا في أيدي الناس، ويَستغني به عن الكَدَّ في الزيادة، والحرِص على مالا يزيده إلا تعباً وهًماً. ثم قال: وقَدْ يُضَافُ ذَا إلى اسْمٍ مُرَتِفعْ مَعْنىً كمَحُمودِ المِقَاَصِدِ الوَرعْ يعني أن هذا المذكور القريبَ المشارَ إليه بـ ((ذا)) وهو اسم المفعول- قد يُخالف اسم الفاعل من بعض الوجوه، فيضاف إلى المرفوع به في المعنى، وذلك أن اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه البتَّةَ، فلا تقول: هذا ضاربُ أبيه زيداً، ولا ما أشبه ذلك لأنه يلزم فيه إضافةُ الشيءِ إلى نفسه، إذ كان مدلول (ضارب) هو (الأب)، وقد مَنع من ذلك في ((باب الإضافة)).

______

فكان الأصل في اسم المفعول أن يَجْري مَجراه في ألاَّ يُضاف إلى مرفوعه، فلا يقَال: أمضروبُ الأبَويْن زيدٌ؟ ولا: أمضروبٌ أبوَيْه زيدٌ؟ في أمضروبٌ ابواه زيدٌ؟ كما لا تقول: أضاربُ الأبوَيْن، ولا: أضاربُ أبوَيْه زيدٌ؟ في أضاربٌ ابواه زيدٌ؟ لأن فيه إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك ممنوع. لكن لما كان اسم المفعول إذا تعدَّى إلى واحد يكون سَبَبِيَّاً، فلا يظهر له عمل في شيءِ إلا في السَّبَبِيَّ- أشبه الصفة المشبَّهة باسم الفاعل، فجاز فيه ما جاز فيها، فتقول: زيدُ مضروبُ الأبِ، كما تقول زيدُ كريُم الأبِ. وكما أن (كريُم الأبِ) قد تحملت الصفةُ فيه ضَميراً عائداً على الأول، فخرج بلك عن إضافة الشيءِ إلى نفسه [لأن الضمير غير الأب- إعتبر مثل ذلك في اسم المفعول، فلم يبق فيه إضافةُ الشيءِ إلى نفسه (1)] لأن الأب غير الضمير في ((مضروب)) وصاحب الضمير هو (مضروب). ومَثَّل ذلك بقوله: محمودُ المقاصدِ الوَرِعُ. أصله: الورعُ محمودٌ مقاصدهُ، ثم أضمر في ((محمود)) ضمير ((الوَرِع)) فصارت ((المَقَاصِدُ)) في حكم الفَضْلة، فانتصب على التشبيه بالمفعول به. ثم أضيف حملاً على اسم الفاعل حين أضيف إلى منصوبه. وما قاله صحيح، بناءً على أن اسم الفاعل إذا أريد به الثبوت جرى مَجرى الصفة المشبهة، نحو: زيدٌ قائمٌ أبوه، وقائمٌ أباً، وقائمُ الأبِ. فكذلك يقال في اسم المفعول: هذا مضروبٌ ابوه، ومضروبٌ أباً، ومضروبُ الأبِ، وذلك إذا أُرِيد به الثبوت، أي ثبوت الصفة.

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (س، ت).

فأما إذا أريد به العِلاَجُ فلا يمكن ذلك فيه، لأنه جارٍ مَجرى الفعل، فلا تقول في قولك: (زيدٌ قائمٌ ابوه غداً): زيدٌ قائمُ الأبِ غداً، ولا قائمٌ أباً الآن، ولذلك لم يكن هذا الحكم ليِجَري في اسم المفعول من المتعدي إلى اثنين/ ولا ثلاثةٍ أصلا. فقول الناظم: ((وقَدْ يُضَافُ ذا إلى اسْمٍ ... 464 مُرْتَفعٍ مَعْنىً يعني أنه قد يجري مجرى الصفة المشبَّهة اسمُ المفعول، فيضاف إلى مرفوعه كما تضاف الصفة إلى مرفوعها، فتقول: زيدٌ مرفوعُ الرأسِ، ومضروبُ الأبِ، ومنه مثاله: الوَرِعُ محمودُ المقاصدِ، والأصل: محمودٌ المقاصدُ منه، أو محمودٌ مقاصدهُ. ثم أُضيف إليه اسمُ المفعول. ولكن هذه الإضافة إنما تجوز بشرطين: أحدهما: أشار إليه بالمثال، وهو أن يكون اسم المفعول من متعدً إلى واحد، فلا يجوز أن يكون من غير متعدً، إذ لا تُتَصَوَّر الإضافة، ولا من متعدً إلى اثنين ولا ثلاثة، فلا تقول: هذا مُعْطَى الأبِ درهماً، ولا مُعْلَمُ الأخِ زيداً قائماً، ولا ما أشبه ذلك. والثاني: أن يُقصد ثبوتُ الوصف، ويُتناسَيَ فيه العلاجُ، كما تقدم. وهذا لم يُشِرْ إليه، ولكن هو داخل تحت مضمون الشرط الأول، لأنه لما مُنِع أن يكون من متَعدً إلى اثنين- كان ضمن ذلك ألاَّ يكون له مفعول مذكور، وذلك معنى كونه غيرَ مقصود به العلاجُ، وسيأتي لهذا مَزِيدُ بُيان. فإن قيل: فأنت تقول على مذهبه: هذا مُعْطَى الأبِ، ومَكْسُوٌ الأخ فتجعله كمحمود المقاصد، وهما مِمَّا يتعدَّى إلى اثنين، وكذلك: هذا مُعْلَمُ الأبِ، وهو من المتعدَي إلى ثلاثة.

______

فالجواب: أنَّا لا نسلَّم ذلك، بل نمنع ذلك، لأن المتعدَيَ إلى أكثرَ طالبٌ بمعناه للمنصوب، فمعنى العلاج باقٍ فيه. وإن سُلَّم فقد يقال: إن المراد بالمتعدَّي إلى واحد ما عَمِل في واحد خَاصَّةً، مقتَصِراً عليه، فرُفع بإسناده إلى فعل المفعول، فلو كان عاملاً في مفعول آخر لم يكن من هذا الباب الذي أشار إليه، فهو المتحرَّزُ منه. وقوله: ((مَعْنىً)) راجح إلى ((مُرْتَفِع)) أي رفعُه إنما هو من جهة المعنى، لا من جهة الحكم اللفظي. وبَيّن بهذا أن ((المَقَاصدِ)) في مثاله، وما كان نحوهَ- ليس خَفْضُه من رَفْعٍ لفظَّي، فإن الإضافة من نَصْبٍ على التمييز، أو على التشبيه بالمفعول به. ولو كان مضافاً من حقيقة الرفعِ لزم المحظور، وهو إضافة الشيءِ إلى نفسه، بل أُضيف بعد ما نُقِل إليه ضمير الأول، فصار هو المُسْنَدَ إليه. ولَمَّا استغنت الصفة بمرفوعها اشبه السَّبَبِيُّ المفعولَ الذي هو فَضْلة، من حيث استغنى عنه اسم المفعول، فانتصب على التشبيه بالمفعول به، وبعد ذلك أُضِيف، لمَّا صار اسمُ المفعول، بما تَحَّمل من ضمير الأول، مغايراً للسَّبَبِي، فلم تكن فيه إضافة الشيءِ إلى نفسه، فلذلك قال: ((إلى اسم مُرْتَفعٍ مَعْنىً)). وفي هذا الكلام بعدُ مسائل: إحداها: أن إجراء اسم المفعول من المتعدَّي إلى واحد مِمَّا أغفله النحويون فلم يذكروه، واعتنى هو بذكره هنا، وفي غير هذا من تواليفه. وزعم في ((شرح التسهيل (1))) أنه يجري مجرى الصفة المشبَّهة مطلقا إن كان مصوغاً من متعدً إلى واحد، كمَضْروُب، ومَذْهُوب، ومَرْفُوع، ونحو ذلك.

______ (1) ورقة (155 - ب).

وأنشد عليه أبياتاً لم أقيدَّها (1) / ولكنَّ ما استَدرك ظاهرُ الصحة، واضح الموقع، ... 465 فبحقَّ ما استدركه هنا. والثانية أنه أشار إلى أن هذا الإلحاق، وهذه الإضافة مما يقلُّ في الاستعمال، لقوله: ((وقَدْ يُضَافُ)) فأتى بـ ((قَدْ)) المُقَللَّة على عادته في أمثال ذلك، إلا أنه لم يُقَيَّده بالقلة في ((التسهيل)) وإنما قَيَّد بها الجامدَ الجاري مجرى المشتق فقال: والأصح أن يُجعل اسمُ المفعول المتعدَّي إلى واحد من هذا الباب مطلقا. وقال: وقد يُفعل ذلك بجامدٍ لتأولُّه بُمشْتَق (2).

______ (1) هي قول الشاعر: تَمنَّى لِقَائِي الجَوْنُ مغرورُ نفسِه فلما رآني ارتاعَ ثُمَّتَ عَرَّدَا وهو من شواهد الجر، نظير قولهم: (حَسَنُ وَجْهِهِ). واستشهد به كذلك في التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 103، والدرر 2/ 135. والجون: علم عن شخص. وعَرَّد: فَرَّ. وقول الأخر: لَوْ صُنْتَ طَرْفَكَ لم تُرَعْ لصفاتها لَمَّا بَدَتْ مَجلُوَّةٌ وَجَناتها وهو من شواهد النصب، نظير قولهم: (حَسَنُن وُجْهَهُ). واستشهد به كذلك في التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 103، والدرر 2/ 134. ولم ترع: لم تفزع. والوجنات: جمع وجنة، وهي ما ارتفع من الخد. وقول الآخر: بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ فهل أنت مرفوعٌ بما ههنا راسُ وهو من شواهد الرفع، نظير قولهم: (حَسَنٌ وجهُ). واستشهد به كذلك في التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 99، 102، والدرر 2/ 133، 134. (2) التسهيل 141. ولم يتعرض الشارح- رحمه الله- لمسالة الجامد المؤول بمشتق. وتتميما للفائدة نذكر هنا ما قاله النحاة فيها، فإنهم قالوا: قد يقال: وردنا منْهَلا عَسَلاً ماؤه وعسلاً ماءٌ، ونزلنا بقومٍ أسْدٍ الأنصارَ، وصاهرنا حياً أقماراً نساؤه، =

فأنت ترى مخالفةً مَا بين الكلامين، فأحدهما يزعم أن هذا الاستعمال قليل، والآخر يُطِلق القوَل بالجواز، ولكنَّ رأيه هنا أحسنُ، إذْ استعمالُ اسم المفعول استعمالَ الصفةِ المشبَّهة قليلٌ كما قال، والأكثر إجراؤه مُجرى أصلِه، وهو اسم الفاعل حسبما تقدم. وعلى ذلك ظاهرُ كلام غيره، إلا أنه استدرك هذا الاستعمال الثاني القليل، فهو حَسَنٌ ولا عَتْبَ عليه. وأما زعمه هنالك (1) أنه خارج عن ((باب اسم الفاعل)) بإطلاق، جارٍ مَجرى الصفة المشبَّهة بإطلاق فهو رأيٌ غريب يَقتضي امتناع (هذا مضروبُ غداً أو الآنَ) و (هذا مُكْرَمٌ أبوه الآنَ) وما أشبه ذلك. وهو غير صحيح، نعم، لاُ ينْكَر أن يُقْصد بمعناه الثبوت، فيجري مجرى الصفة، لا أن يكون كذلك البتَّةَ، ولا أعلم له في هذا القول مُسْتنَدَا.

______ = وأقمار النساءِ. على تأويل (عَسَل) بحلو، و (أُسْدِ) بشجعان، و (أقمار) بحسان، ومنه قول الشاعر. فراشةُ الحِلْم فِرْعَوْنُ العذابِ وإنْ تَطْلُبْ نَداه فكَلْبٌ دونَه كَلْبُ فعاملَ ((فراشة)) معاملة: طائش، و ((فرعون)) معاملة: مهلك. وقول الآخر: فَلوْلاَ اللهُ والمُهْرُ المْغَدىَّ لأبْتَ وأنتَ غِرْبالُ الإهابِ فعامل ((غربال)) معاملة: مثقب. قال ابن مالك في ((شرح التسهيل)) (ورقة 155 - ب): ((وأكثر ما يجئ هذا الاستعمال في أسماء النسب، كقولك: مررتُ برجل هاشمي أبوه، تميميةٍ أمُّه. وإن أضفت قلت: مررت برجلٍ هاشميَّ الأب، تميمي الأم، وكذلك ما أشبهه)). وانظر: التصريح 2/ 72، والهمع 5/ 103.

والثالثة: أنه قال: ((وقَد يُضَافُ ذا إلى اسْمٍ مُرْتَفِعٍ)) فخَصَّ بالذكر الإضافة وحدها، والجاري مجرى الصفة المشبهة، من اسم المفعول وغيره، لا يختص بالإضافة إلى المرفوع وحدها، بل يجوز مع ذلك النصبُ على التشبيه أو التمييز، فتقول: هذا مضروبٌ الأبَ، أو أباً، وهذا مضروبُ الأبِ، ولا فرق بين النصب والجر في هذا. فقد يَسأل السائل: لِمَ خَصَّ الإضافة بالذكر دون النصب، فقد كان الأولى أن يذكرهما معاً، أو يُحيل باسم المفعول هنا على ((باب الصفة المشبهة))؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن يُقال: لعلَّه عَيَّن ما هو السماع أكثرُ من غيره، فكأن الإضافة والنصب مسموعان قليلان، إلا أن النصب أقلُّ، فذكر ما هو أكثرُ شيئاً من غيره، خروجاً من عُهْدة السَّماع. والثاني: أن يكون اكْتَفى بذكر أحدهما عن الآخر إذا كانا معاً في ((باب الصفة المشبهة)) كالمتلازمين، فحيث يجوز أحدهما يجوز الآخر على الجملة، فلم يَحْتج إلى ذكرهما معاً. وأيضاً فإن الإضافة أخصُّ عنده بباب الصفة المشبهة. ألا ترى أنه عَرَّفها بها إذ قال: ((صِفَةٌ اسْتُحْسِنَ جَرُّ فَاعِلٍ مَعْنىً بِهَا))؟ فإذا جاز الجر فالنصبُ في الضَّمن. والله أعلم. والوَرِعُ- في كلامه- اسم فاعل من: وَرضعَ يَرَعُ وَرَعاً، فهو وَرِعٌ، إذا كَفَّ عن المعاصي، فهو مُتَّقٍ كافٌّ عَمَّا لا يَحِل. ومعنى المثال: أن الوَرِعَ المُتَّقِيَ لله مقاصُده كلها محمودة، لأن قَصْده في كل شيء تقوى الله تعالى.

______

أبنية المصادر

أبنية المصادر مراده أن يبَّين أبنيةَ المصادر القياسية من غير القياسية. واعلم أن القياس في العربية يُطلق/ على وجهين: أحدهما أن يُلْحَق بكلام العرب ... 466 ما ليس منه لجامع بينهما (1)، من غير أن يُبْحث: هل قالته العرب أو لم تَقُله، لأن الاستقراء قد أفادنا أنها لو تكلمت به لكان على هذا النحو يقيناً أو غلبةَ ظَنً، وذلك كرفع الفاعل والمبتدأ، ونصب الحال، والمفعول به إذا ذكر الفاعل، واتصال الضمير بالفعل وانفصاله عنه، وما أشبه ذلك؛ فتقول: قَام زَيْدٌ، وضَربَ زيدٌ عَمْراً، وجاء مَسْرِعاً، وأَعْطَيْتُه إياَّه، من غير أن تقفَ، أو تنتظرَ ما تقوله العرب. والثاني أن تقيس أيضاً مالم تَقُله على ما قالته، لكن بعد البحث والتَّنقير: هل تكلمت به العرب أم لا؛ فإن كانت قد تكلمت به لزمنا العملُ عليه وإن خالف القياسَ الذي اسْتَقْرَيْناه في المسألة، ونترك القياس فلا نلتفته (2). وإن لم تكن قد تكلمت به أجرينا فيه ما حصل لنا من القياس، وحملناه على الأكثر. وهذا كالمصادر، والإفعال المضارعة.

______ (1) في الأصل: ((يجامع بينهما)) وما أثبته من (ت، س). (2) ت ((فنلتفته)) وهو تحريف. والشارع يريد: فلا تلتفت إليه.

الجارية على الماضية وبالعكس، وكالصفات، وجموع التكسير، وما أشبه ذلك كقولنا: إذا كان الفعل الثلاثي على (فَعَل) متعديا فإن قياس مصدره (فَعْل) لأن الاستقراء أبرز لنا أنه الأكثر، فما لم تنطق له العرب من الأفعال بمصدر جئنا به له على (فَعْل) قياساً على ما نطقت به من ذلك، كضَرَبْتُه ضَرْباً، وشَتَمْتَه شَتْماً. فإن نطقت له بمصدر على (فَعْل) فهو القياس فنلتزمه، وإن على غير ذلك اتَّبعْناه وتركنا القياس، كقولهم: سَرَقَةُ سَرَقاً وطَلَبَه طَلباً، فلا تقول هنا: سَرْقاً، ولا طَلْباً، قياساً على (ضَرَب ضَرْباً) وبابه، وهذا معنى القياس (1). في قول الناظم: فَعْلٌ قِياسُ مَصْدَرِ المعَدَّي مِنْ ذِي ثَلاثَةٍ كَرَدَّ رَدَا والقياس بالمعنى الأول هو المراد في جميع ما تقدم قبل هذا (2). ويعني أن (فَعْلا) المفتوح الفاء، الساكن العين من أبنية المصادر- قياسٌ في مصدر الفعل الثلاثي المعدَّي إلى مفعول به، على أب بناءٍ كان ذلك الفعل، مِنْ (فَعَل) بفتح العين، أو (فَعِل) بكسرها. وأما (فَعُل) بضمها فلا يكون متعدَّيا أبدا إلا بالتَّحويل من بِنْية أخرى، إلا حرفاً شاذاً حكاه الخليل عن نَصْر بن سَيَّار: أَرَحُبَكُمُ الدخولُ في طاعة

______ (1) انظر في معنى القياس في العربية: الخصائص 1/ 109 - 133، 357 - 374. (2) يعني أبواب النحو التي سبقت هذا الباب.

الكَرْمَاني (1)؟ اي أَوَسِعَكُم؟ وأطلق القول في القياس، سواء كان الفعل صحيحا، أو معتل الفاء أو العين أو اللام، أو مضاعفَا. وكذلك يستَوِي في ذلك ما تعدَّى إلى واحد أو الى أكثر من ذلك. فالصحيح في (فَعَل) بفتح العين: قَتَلهُ قَتْلاً، وخَلَقَهُ خَلْقاً، وضَرَبَهُ ضَرْباً، وشَتَمهُ شَتْماً، وجَبْذَهُ جَبْذاً (2)، وصَرَفَهُ صَرْفاً، وطَرَقَ الحديدَ طَرْقاً، وصَرَعهُ صَرْعاً، ونحو ذلك. والمضَاعَف نحو: رَدَّهُ رَدَّا، وهو مثاله (3)، وشدَّهُ شَداً، وعَدَّهُ عَداً، ومَجَّهُ مَجَّاً (4)، ودَعَّهُ دَعَّاً، أي دَفعه. والمعتلٌ الفاء نحو: وَعَدَهُ وَعْداً، ووَزَنَه وُزْناً، ووَأَدَهُ وأْداً، ووَهَنَهُ وَهناً أضعفه، ووَتَرْتُ العددَ وَتْراً/، أفرتهُ. ... 467 والمعتلّ الين نحو: باعَهُ بَيْعاً، وكالَهُ كَيْلاٌ، وساقَهُ سَوْقاً، وجَابَ الأرضَ جَوْباً، قَطعها وخَرقها.

______ (1) نصر بن سيار الكناني، أمير من الدهاة الشجعان، ولى بلخ وخراسان للدولة الأموية، غزا ما وراء النهر، ففتح حصونا وغنم مغتنم كثيرة، وهو صاحب البيات التي يحذر فيها بني أمية، من قوة الدعوة العباسية والتي أولها: أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون له ضرام (ت 131 هـ) وأما الكرماني فهو جديع بن علي الأزدي، شيخ خراسان وفارسها في عصره، وأحد الدهاة الرؤساء، أقام في خراسان إلى أن وليها نصر بن سيار، فخاف شر الكرملني فسجنه، ولكنه فر من السجن، ولما ظهر أبو مسلم الخراساني اتفق معه على قتال نصر بن سيار والي خراسان، ولكن نصراً قتله عام 129 هـ. (2) حبذ الشيء: جذبه، وفي الحديث ((فجبذني رجل من خلقي)). (3) اي المثال الذي ذكره الناظم. (4) مَجْ الماءَ أو الشرابَ من فيه مَجَّا: لفظه، ومن المجاز قولهم: كلام تمجه الأسماعَ.

والمعتلّ اللام: رَمَاهُ رَمْياً، وطَلاَهُ طَلْياً، ومَرَاهُ مَرْياً (1)، وغَزَاهُ غَزْواً، وَطَواهُ طَيَّاً، وشَوَاهُ شَيَّاً، وكَوَاهُ كَيَّاً. وأما (فَعِل) بكسر العين فكذلك. ففي الصحيح منه: لَحِسَهُ لَحْساً، ولَقِمَهُ لَفْمِاً، وشَرِبَهُ شَرْباً، وسَرِطَهُ سَرْطاً، وزَرِدَهُ زَرْداً (2)، وِلَثَمهُ لَثْماً، ولَبِسَهُ لَبْساً، وقَضَمِت الدابَّةُ شعيرَها قَضْماً (3)، وَبِلعَ الشيءَ بَلْعاً، ونحو ذلك. والمضاعف نحو: مَسِسْتُ لشِيءَ مَساً، وشَمِمْتهُ شَماً، ومَصِصتْهُ مصاً، وعَضضْتهُ عَضاً، وسَفِفْتُ الدواء سَفاً. والمعتلّ الفاء: وَطِئْتُ الشِيءَ وَطْئاً، وهو في نفسه قليل. والمعتلّ العينِ: خِفْتُهُ خَوْفاً، ونلتُهٌ نَيْلاً. وبالهمز: رَئمَت الدابَّةُ ولدَها رَأْماً، أحَّبته فشمَّته. والمعتلّ اللام: قَنِيَ حياءهُ قَنْياً، لزمه، ونَشِيتُ الخبر نَشْياً، تَعرَّفْتُه (4). والمتعدَّي في (فَعِل) قليل، ولكن الغالب والأكثر في ذلك القليل في المصدر (فَعْل) كما قال الناظم. وأكثرُ ما يستعمل المتعدَّي منه في العمل بالفم. و((ذُو الثَّلاثةِ)) في كلامه هو الفعل الذي على ثلاثة أحرف، لم يُخرجه عن ذلك لا أصليُّ من الحروف ولا زائد، كالمُثُل المتقدَّمة.

______ (1) مَرَى الشيءَ: استخرجه، ومَرَت الربحُ السحاب: أنزلت منه المطر، ومَرَى فلانا حقه: جحده. (2) سَرِط الطعام واسترطه: ابتلعه. وزَرِد اللقمة وازدردها: ابتلعها كذلك. (3) القضم: الأكل بأطراف الأسنان، أو أكل الشِيء اليابس. ويقابله الخضم، وهو الأكل بجميع الفم، أو أكل الشيء الرطب. (4) اللسان (نشا).

أمَّا إن خرج عن ذلك بأصلي نحو: دَحْرجَ، أو بزائد نحو: أَكْرَمَ، فله في المصادر أبنية أخرى سيأتي منها ما قَصد ذكرهَ. وقوله: ((مِنْ ذِي ثَلاَثةٍ)) على حذف الموصوف، أي من فعْل ذي ثلاثة، وكذلك قوله: ((الْمُعَدَّي)) و ((مِنْ)) لبيان الجنس أو للتبعيض، وهي في موضع الحال، أي قياسُ مصدر الفعل المتعدي كائنا من الأفعال الثلاثية (فَعْلُ). ثم انتقل إلى مصدر اللازم فقال: وفَعِلَ اللاَّزِمُ بَابُه فَعَلْ كَعَرَجٍ وكَجوَىً وكَشَلَلْ لما كان قد شَمِل له البيتان المتقدمان بناءين (فَعَل وفَعِل) بفتح العين وكسرها، وتكلم على مصدرهما في التعدَّي أتمَّ النظرَ فيهما بمصدر اللازم منهما. وابتدأ بذكر (فَعِلَ) المكسور العين، فيَعنيِ أن قياس مصدر (فَعِلَ) المكسور العين أن يُبنى على (فَعَلٍ) بفتح الفاء والعين، كان صحيحاً، وإليه أشار بقوله: ((كعَرَجٍ (1))) أو معتلا، وإليه أشار بقوله: ((وكجَوىً)) أو مضاعَفاً، وإليه أشار بقوله: ((وكشَلَل)). واللازم خلاف المتعدَّي، وهو الذي لزم فاعلَه، فلم يَطلب غيره، وقد تقدم تفسيره في ((باب التعدَّي)). فمثال الصحيح: عَرِجَ عَرَجاً، ومَرِضَ مَرضاً، وغَضِبَ غَضَباً، وأَنِفَ أَنَفاً (2)، وأَكِلَتِ النَّاقَةُ أكَلاً؛ تأذَّت بوبَر جَنِينها في بطنها، وأَكِلَتِ الأسنانُ،

______ (1) الرواية المشهورة ((كَفَرحٍ)). (2) أَنِفَ منه أَنَفَاً: وأَنَفَةً: استنكف واستكبر، ويقال: فيهم انَفَةُ وأنَفهُ.

تكسَّرت، وأَسِفَ أَسَفاً، حَزِنَ، وعَسِمَتِ اليدُ عَسَماً؛ يَبِسَتْ، وعَبِدَ عَبَداً، أَنِفَ، وعَتِبَ الأمرُ عَتَباً؛ صار فيه عَيْب (1). ومثال المعتلّ الفاء: وَجِلَ وَجَلاً، ووَجِعَ وَجَعَاً، ووَبِئَتِ الأرضُ وَبَاً، ووَهِمَ وَهَماً، ووَهِلَ وَهَلاً (2)، ووَكِعْتِ الّرجْلُ/ وَكَعاً؛ مال إبهامُها عليها، ووِرِمَ وَرماً، ووَصِبَ وَصَباً (3)، ووَقِصَ وَقَصاً؛ ... 468 قَصر عنقُه. ومثال المعتلّ العين: حَوِلَ حَوَلاً، وعَوِرَ عَوَراً، وخَوِصَتْ عينُه خَوَصاً؛ صَغُرت، وحَوِرَتْ حَوَراً (4)، وخِلْتُ إِخَالُ خَالاً وَخيَلاً، وغَار يَغَارُ غاَراً وغَيْرَةً. ومثال المعتلّ اللام: رَدِىَ رَدىً (5)، ولَوِىَ لَوىً (6)، وخَفِىَ خَفىً، ووَجِىَ وَجىً (7)، وصَوِيَتِ النَّخْلَةُ صَوىً؛ يَبِسَتْ، وصَغِىَ صَغىً؛ مال في جانبٍ خِلْقةً. ومثال المضاعَف: شَلَّ يَشَلُّ شَلَلاً، وبَحِحْتُ بَحَحاً (8)، وشَمَّ الأنفُ

______ (1) اللسان (عتب). (2) يقال: وَهِلَ الرجلُ، يَوْهَلُ، وَهَلاً، إذا ضعف أو جبن أو فزع. (3) وَصِيَ يَوْصَبُ وَصَباً: مرض ووجَد وجعا، فهو وَصَب. وقد يطلق الوصبَ على التعب والفتور في البدن. والأوصاب: الأسقام، واحدها وَصَب. (4) حَوِرَتْ العينُ: اشتد بياضها وسوادها، واستدارت حدقتها، ورقت جفونها، وابيض ما حواليها وحَوِرَتْ، أيضا اسودَّت كلها، مثل أعين الظباء والبقر. والوصف منه: أَحْوَرُ وحَوراءَ، والجمع: حُورُ. (5) رَدِىَ الرجلُ، يَرْدىَ، رَدّى: هلك. ورَدِىَ في الهُوَّة: سقط، فهو ردٍ. (6) كوِىَ الرملُ وغيره، يَلوَى، لَوى: اعوجَّ، فهو لَوٍ، ولَوِى القرنُ، فهو ألوى، ولَوِىَ الرجل: اشتدت خصومته، وصار جدلا سليطا، فهو أَلْوىَ. (7) وَجِىَ يَوْجىَ، وَجىً: رقت قدمه أو حافره أو خفه من كثرة المشي، فهو وَجٍ، ووَجِىُّ. (8) يقال بَحَّ الرجلُ، يَبَحُّ، بَحَحاً، إذا غَلظ صوته وخَشنُ، فهو أَبَحُّ، وهي بحَّاء.

يَشَمُّ شَمَماً؛ ارتفع أعلاه، وصَمَّمتْ أُذُنُه تَصَمُّ صَمَما، ولَحِحَتْ هينُه لَحَحاً، الْتصَقَتْ. واعلم أنه مَثَّل هنا بثلاثة أمثلة ترجع إلى معنى واحد، وهو ما كان عَرَضاً طارئاً على استقامة الخِلْقة في الأصل، فالعَرَج شِيء يصيب الرَّجلَ خِلْقَةً، لا يستقيم به المشيُ. والجَوَى: من جَوِىَ الرجلُ، إذا لم يَشْتَهِ الطعامَ، أو من جَوِىَ، إذا عَرَضت له حُرْقةُ باطنة، من حُزْن أو عِشْق، وكلاهما عَرَض طارئ. ويقال: جَوِىَ الشيءُ جَوىً، إذا أنْتَن، وهو من ذلك ايضا. والَشَّلَل: فساد في اليد، يقال: شَلَّتْ يدُه؛ إذا بَطَلت منفعتُها. فهذا كلُّه من الأعراض الطارئة، إلا أن المثال الأول مما كان عَرَضا في أصل الِخلْقة، والباقيان مما كان عَرَضاً طارئاً عليها. وكلا المعنيين عَرَض يجري في هذا مَجْرىً واحدا. ثم قال: وفَعَلَ الَّلازِمُ مِثْلُ قَعَدَا لَهُ فُعُولٌ باطَّراَدٍ كغدا هذا هو البناء الثاني، وهو المفتوح العين، كـ (قَعَدَ) الممثَّل به. يعني أن مصدر هذا الفعل اللازم قياسهُ (فُعُولُ) بضم الفاء باطراد، كان صحيحاً أو معتلاٍ أو مضاعَفاً، ما لم يدخله من المعاني ما يصرفه عن ذلك إلى أبينة أُخَر. فمثال الصحيح: قَعَدَ قُعُوداً، وجَلَسَ جُلُوساً، وسَكَتَ سُكُوتاً، وثَبَتَ ثُبُوتاً، وذَهَبَ ذُهُوباً، ورَكَنَ رُكُوناً، ومَكَثَ مُكُوثاً، وطَلَعَتِ الشمسُ طُلُوهاً، وغَرَبَتَ غُرُوباً، وما أشبه ذلك. ومثال المعتلّ الفاء: وَقَفَ وَقَوفاً، ووَكَفَ الدَّمْعُ والمَطَرُ وُكُوفاً (1)، ووَضَحَ

______ (1) وَكَفَ الماءُ وغيره، يَكِفُ، وَكْفاً ووُكُوفاً: سال وقطر قليلا قليلا.

الأمرُ وَضُوحاً، ووَجَبَ وُجُوباً، سَقَط أو ثَبَت، ووَصَبت وُصُوباً، دام. ومثال المعتلّ اللام: دَنَا دُنُواً، وقَوَى ثُوُياً (1)، ومَضَى مُضِيَّاً، ويَدَا بُدُوَّا، وغَدَا غُدُوَّا، وَعَتَا عُتُوَّاَ، ونَمَا نُمُوَّاَ، وصَبَتِ الرَّيحُ صُبُوَّاَ؛ هَبَّت صَباً (2)، ومثال المضاعَف: مَرَّ مُروراً، وكَلَّ البصر كُلُولاً، وكَمَّت النَّخْلَةُ كُمُوماً، أَطْلَعَتْ، وسَدَّ الشِيءُ سُددُاً، وسَدَاداً؛ إذا كان صوابا. وأما المعتلّ العين فَقَلَّ فيه (الفُعُولُ) لأجل الياء والواو، قالوا: غَابَتِ الشمسُ غُيُوباً، وغُرْتُ في الشِيء غُؤُوراً (3)، وبَادَ يِبِيدُ بُيوُداً، وسَارَ إليه يَسْورُ سُؤُوراً؛ وَثَب (4)، وآبَتِ الشمسُ أُوُوباً (5). وهذا كلُّه قليل، كراهية (الفُعُول) في بنات الواو والياء، ففَرُّوا إلى (الفِعَالَة، والفِعَال، والفَعَال (6)) ونحوها، فقالوا: صَامَ صِيَاماً، وراحَ رَوَاحاً، ونَاحَ نَياحَةً/، وسَارَ سَيْراً، ... 469 وما أشبه ذلك. فبَانَ أن (الفُعُول) في المعتلَّ العينِ ليس بقياس، وإطلاق الناظم يقتضى أنه قياس؛ إذا لم يَخُص صحيحاً من معتل، لا سيما وقد نَبَّه على النوعين بالمثال، فَمَّثل الصحيحَ بـ (قَعَدَ) والمعتلَّ على الجملة بـ (غَدَا)، فكان من حقه أن يُخرج المعتلَّ العين من ذلك.

______ (1) ثَوَى بالمكان فيه، يَثْوىِ ثَوَاءً وثوِباً: أقام واستقر. والوصف منه ثاوٍ. (2) الصَّبَا، بفتح الصاد، ريح مَهبُّها من مشرق الشمس إذا استوى الليل والنهار. (3) غَارَ في الشِيء غَوْراً وغُؤوُراً وغِيَاراً: دخل. وغار الماء غَوْرا وغُؤوُراً، وغَوَّر: ذهب في الأرض، وسفل فيها. (4) اللسان: (سور). (5) في اللسان (أوب): آبَت الشمسُ تَؤوبُ، إياباً ولأُيُوباً: غابت في مآبها، أي في مغيبها، كأنها رجعت إلى مبدئها)). (6) قوله: ((والفَعَال)) بفتح الفاء ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من حاشية الأصل، و (س).

والجواب أن نقول: (لعله (1)) نَبَّه بالمثالين على النوعين اللذين يدَخلهما القياس، وهما الصحيح والمعتلُّ اللام، فيخرج المعتلُّ العين، ويصح الإطلاق. فإن قيل: فيَبْقى المضاعَفُ والمعتلُّ الفاءِ يوُهِم فيهما القولُ بحكمٍ لا يصح، وهو ألاَّ يُقاس فيهما. قيل: المضاعَف والمعتلُّ الفاء جاريان في أنفسهما مَجْرى الصحيح في غالب أحكام المصادرُ والصفات والجموع، ونحوِهما من الأحكام التَّصرِيفيَّة، وإنَّما تختلف الأحكام في المعتلَّ العين واللامِ مع الصحيح، فإذا نَبَّه على الصحيح والمعتلّ اللام جرى المضاعَف والمعتل الفاء مَجرى الصحيح، وبقي المعتلُّ العينِ منفياً عنه ما ذكر من الحكم. والأَوْلى أَنْ لو نَصَّ على ذلك. ثم استثْنى من اطّراد هذا البناء ما استَحق بناءً آخر باطّرادٍ أيضاً حتى صار (الفُعُول) فيه نادراً غيرَ مَقِيس، فقال: مَالَمْ يكُنْ مُسْتَوجْباً فِعَالاَ أَوْ فَعَلاَناً فَادْرِ أوْ فُعَالاَ فَأَوَّلٌ لِذِي امْتنَاعٍ كَأَبىَ والثَّانِ للذِي اقْتَضَى تَقَلُّبَا لِلدَّا فُعَالٌ أَو لصَوْتٍ وشَمِلْ سَيْراً وصَوْتاً الفَعِيلُ كصَهَلْ يعني أن (فُعُولا) في (فَعَل) اللازم قياسٌ، إلا إذا غلب عليه أحد هذه الأبنية الأربعة، لمعانٍ اقتضَتها تدل عليها؛ فإن (فُعُولا) يخرج عن أن يكون

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

قياساً فيه، وهي: (فِعَالٌ) بكسر الفاء، كَنَفَر نِفَاراً، و (فَعَلانٌ) بفتح العين، كغَلَتِ القِدْرُ غَلَيَاناً، و (فُعَالٌ) بضم الفاء، نحو: بَكَىُ بُكَاءً، و (فَعِيلٌ) نحو: صَهَلَ صَهِيلاً. فالثلاثة الأُوَل في قوله: مَالَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِباً فِعَالاَ أَوْ فَعَلاَناً فَادْرِ أو فُعَالاَ وقوله: ((فَادْرِ)) تأكيد لمعنى الكلام، كأنه يقول: ليس (الفَعُول) في (فَعَلَ) اللازم بمطَّرد على الإطلاق، وإنما يكون مطَّرِداً في غير ما اطَّرَدت فيه هذه الأبنية، فأعلم ذلك، ولا تُهمله. والرابع في قوله: ((وشَمِلَ سَيْراً وصَوْتاً الفَعِيلُ)). ثم شرع في تفسير المعاني التي استَحق (فَعَلَ) اللازمُ هذه الأبنية عِوضَاً فقال: ((فَأَوَّلٌ لِذِي امْتِناعٍ)) فالأول هو (فِعَالُ) بكسر الفاء، وهو لكل فِعْل على (فَعَلَ) فيه معنى الإبَايَة والامتناع، وذلك نحو: فَرَّ فِرَاراً، ونَفَر نِفَاراً، وشَرَدَ شِرَاداً، وجَمَحَ جِمَاحاً، وشَمَس شِمَاساً (1)، وطَمَحَ طِمَاحاً؛ ارتفع، وشَبَّ شِبَاباً، وخَلأَتِ الناقةُ خِلاَءً، وهو كالحِرَان في الدواب (2). وهذا هو الكثير. وقد رجعوا به إلى (الفُعُولَ) كنَفَر نُفُوراً، وشَمَس شُمُوساً، وطَمَح طُمُوحاً. وأما تمثيله بـ (أَبىَ) فمشكل؛ فإنه، وإن جاء مصدرو على (فِعَال) نحو: أَبِى إِبَاءً وإبَايَةً، فإنه من المتعدِي، فتقول: أَبَيْتُ الشيءَ، إذا كرهتَه وامتنعتَ منه،

______ (1) شَمَست الدابة شُموساً وشِمَاساً: جحمت ونفرت. (2) (ت) ((وهو الحران في الدواب)).

فليس من الأفعال اللازمة، فكيف يمثِّل به/ وهو لم يَقصد الإخبار عن حكم اللازم؟ ... 470 والجواب أنه يمكن أن يكون عنده مستعملاً على وجهين، متعدياً وغيرَ متعدٍّ، فَمَثَّل بما هو لازم دون ما هو متعدٍّ، والله أعلم. ثم قال * والثَّانِ لِلَّذِي اقْتَضَى تَقَلَّبَا * الثاني هو (فَعَلاَنٌ) بفتح العين، وهو بناءُ مصدرٍ لكل ما فيه معنى التقلُّب والحركة والاهتزاز، نحو: غَلَتِ القدرُ غَلَياناً، ونَزَا نَزَواناً؛ وثب، وقَفَزَ الظَّبْيُ قفَزانا؛ كلاهما وَثَب، ودَارَ دَوَرَاناً، وجَالَ الشيءُ جَوَلاَناً (1)، وذأَلَ ذَأَلاَناً؛ أسرع، وطَارَ طَيَراناً، وهَذَي يهَذي هَذَيَاناً (2)، ومَالَ مَيَلاناً، عَسَلَ الذئبُ عسَلاناً (3). و((الذي)) في كلام الناظم واقع على الفعل، كأنَّه قال: بناءُ (فَعَلاَن) للفعل الذي اقتضى معنى التقلُّب. ثم قال: ((لِلدَّا فُعَالٌ)) هذا البناءُ الثالث، وهو (فُعَالٌ) بضم الفاء. وأراد أن هذا البناء يختص قياسا بكل فِعْلٍ فيه معنى الدَّاء، ومعنى التصَّويت. فأما معنى الدَّاء فنحو: سَبَتَ سُبَاتاً (4)، وسَكَتَ سُكَاتاً (5)، ونَعَسَ نُعَاساً، وعَطَس عُطَاساً، وسَعَلَ سُعَالاً، ودِير بالرجل دُوَاراً (6)،

______ (1) في الأصل و (ت، س) ((وجال بالشق)) وما أثبته من حاشية الأصل. (2) الهَذَيان: التكلم بغير معقول لمرض أو غيره. (3) يقال: عَسَلَ الذئبُ والفرسُ، إذا عَدا واهتزَّ في عدوه. (4) السُّبات: النوم الخفيف كنوم المريض والشيخ المسن، وأصله من السبت، وهو الراحة، أو القطع وترك الأعمال. ويقال: سُبِتَ المرض، بالبناء للمفعول، فهو مسبوت. (5) السَّكَات: مداومة السكوت، وداء يمنع من الكلام، وموت السكتة. (6) يقال: دِير الرجل وعليه، إذا أصابه الدُّوَار، وهو الدوران الذي يأخذ في الرأس.

وصُدِعَ صُداعاً، وزُكِم زُكاماً. وفي جَعْل هذا النوع من باب (فَعَلَ) اللازم نظرٌ؛ فإن أكثر ما جاء (فُعَالٌ) في مصدر (فُعِلَ) المبني للمفعول، لا (فَعَلَ) المبني للفاعل، وأكثر ما يُبنى للمفعول ما كان من المتعدي لا من اللازم، كما تقدم في: سَكَتَ وسَبَتَ وصُدِعَ، و (هُلِسَ هُلاَساً) منه، وهو بمعنى: سُلَّ سُلاَلاً، وهُزِلَ هُزالاً، وجُحِفَ جُحَافاً؛ أصابه الانطلاق من كثرة الأكل، وقُصِعَت الدابةُ قُعَاصاً (1)، وقُعِسَتْ قُعَاساً (2)؛ سَعَلَتْ، وسُهِمَ سُهَاماً؛ مرض (3)، وسُعِرَ الكلبُ سُعاراً، وكُبِدَ كُبَاداً (4)، وُسِلسَ سُلاَساً (5)، وصُفِر صُفَارً (6)، وضُنِك ضُنَاكاً (7)، وهو كثير جدا- كأن المعنى على: فَعَله اللهُ، وإذا كان كذلك فقوله: إن باب اللازم أن يكون مصدره على (فُعَال) في الأدواء، مع أن اللازم فيه نادر، والغالب فيه هو المتعدِّي- لا يَتَحَصَّل. والعذرُ عن هذا أن اللازم منه هذا شأنه، كما في: نَعَسَ، وعَطَسَ، وسَعَل، ونحوهما، وإن كان قليلاً في نفسه فالغالبُ على مصدر ذلك القليلِ (فُعَالٌ) وهذا صحيح، وإنما يبقى أنه لم يّذكر حكم (فُعِلَ) في الأدواء، وهذا قريب. وأما معنى التَّصْويت فمثاله: نَبَح نَبِيحاً ونُبَاحاً، وصَاحَ صُيَاحاً، لغةٌ في الصِّياحَ، ودَعَا دُعَاءً، وعَوَى عُوَاءً، ورَغَا رُغَاءً، وثَغَتْ ثُغَاءً (8)، وزَقَا زُقَاءً (9)، وهَتَفَ

______ (1) قُعِصَت الدابةُ: أصابها القُعَاصُ، وهو داء في الصدر. (2) قُعِسَتَ الدابةُ: أصابها القُعَاسُ، وهو التواء في العنق يأخذ به إلى خلف. (3) السُّهَام: الضمور والتغير. (4) يقال: كُبِد الرجل، إذا شكا كبده، فهو مكبود. والكُبَاد: مرض يصيب الكبد. (5) السُّلاَس: ذهاب العقل، يقال منه: سُلِسَ الرجل، فهو مَسْلوس. (6) الصُّفَار: الجوع. (7) الضُّنَاك: الزكام، أو لزومه. (8) ثَغَت الشاةُ ونحوها، تَثْغُو ثُغَاء: صاحت. (9) يقال: زَقَا الطائرُ والديك، يزْقو، إذا صاح.

هُتَافاً، وحَدَا حُدَاءً، وبَكى بُكَاءً، وضَغَا ضُغَاءً (1)، ومَكَا مُكَاءً (2)، وهو كثير. ثم ذَكر البناء الرابع فقال: ((وشَمِلْ سَيْراً وصَوْتاً الفَعِيلُ)) فذكر أن بناء (فَعِيل) يختص قياساً بكل فعلٍ لازمٍ كان فيه معنى السَّيْر أو معنى التصويت. فأمّا نعنى السَّيْر فنحو: ذَمَلَ ذَمِيلاً، ورَسَمَ رَسِيماً، ووَجَفَ وَجِيفاً، وخَبَّ يَخِبُّ خَبِيباً (3)، وطَمَّ في الأرض طَمِيماً (4). وأمّا معنى التَّصْويت فنحو: زَفَر زَفِيراً، ونَبَحَ نَبِيحاً، ونَهَقَ نَهِيقاً، ونَعَقَ نَعِيقاً، ونَغِق نَغِيقاً، بالغين المعجمة، ونَعَبَ نَعِيباً (5). ومنه: صَهَل الفرسُ يَصْهِل- بالكسر- صَهِيلاً/؛ إذا صَوَّتَ، وهو مثاله (6)، وصَفَر ... 471 الطائرُ صَفيراً، وأَنَّ أَنِيناً، وزَجَرَ زَجِيراً، وحَنَّ حَنِيناً، وصَرَفَ صَرِيفاً، وصَرَّ صَرِيراً (7)، ونحو ذلك. فُعُولَةٌ فَعَالةٌ لَفَعُلاَ كَسَهُلَ الأَمْرُ وزَيد جَزُلاَ

______ (1) ضَغَا، يضغو، ضغاء: صَوَّت وصاح. (2) مَكَا، يَمْكُو، مُكَاء: صفر بفيه، أو شبك بأصابع يديه، ثم أدخلها في فيه ونفخ فيها. (3) الذَّميل: ضرب من سير الإبل، سريع لين. والرسيم: عَدْو فوق الذميل. ويقال: وَجَفَ البعير أو الفرس، إذا أسرع، ووَجَف القلبُ: خفق، ووَجَف الشيء: اضطرب. والخبيب: العدو، ويقال: خَبَّ الفرس، إذا نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدو. (4) طَمَّ في الأرض: خف وأسرع. (5) نَعق الراعيِ بغنمه: صاح بها وزجرها. والنغيق: صياح الغراب خاصة. ويقال أيضا: نَعَبَ الغراب، ينعَب، إذا صاح وصوت, (6) أي مثال الناظم. (7) صَرَف البابُ أو القلم: صَوَّت. وكذلك صَرَفَ نابُه، وينابه. ويقال: صَرَّ العصفورُ والجندُب، وصَرَّ الباب والقلم، إذا صَوَّت.

هذا آخر الأبنية الثلاثية من الأفعال الثلاثية، وهو (فَعُلَ) بضم العين. وقد تقدم أنه لا يَتعدَّى، وإنَّما وُضع للمعاني الثابتة وما لَحَق بها. وبناءُ المصدرِ المقيسِ فيه، على ما أخبر به هنا، بناءان: (فُعُولَةٌ) بضم الفاء، و (فَعَالَةٌ) بفتحها. أمّا (فُعُولَةٌ) فَمَّثله بـ (سَهُلَ) لأن مصدره السُّهُولة، يقال: سَهُلَ الأمرُ سُهُوَلةً، وهو خلاف: صَعُبَ صُعُوبَةً. ومثله: حَزُنَ المكانُ حُزُونَةً، وجَهُمَ جُهُومَةً (1)، ومَلُحَ مُلُوحةً، وجَثُلَ جُثُولَةً، وجَعُدَ جُعُودَةً، وكَدُرَ كُدُورَةً (2)، وسَخُنَ الماءُ سُخُونَةً، ورَعُنَ رُعُونَةً، وفَسُلَ فُسُولَةً (3). وأمّا (فَعَالَةٌ) فَمثَّله الناظمُ. بـ (جَزُلَ) لأن مصدره الجَزَالةُ، يقال: جَزلُ الشِيء جَزَالَةً؛ إذا اعَظُمَ، ومنه العَطاءُ الجَزْل، وجَزُل الرجلُ جَزَالةً؛ جاد رأيُه. ومنه: وَسُمَ وَسَامةً، وقَبُحَ قَبَاحَةً، وسَمُج سَماجَةً، وشَنُعَ شَنَاعةً (4)، ونَظُفَ نَظَافَةً، وصَبُحَ صَبَاحَةً (5)، وطَهُرَ طَهارةً، وعَظُمَ عَظَامةً، ونَبُل نَبَالةً، ووَضُعَ وَضَاعَةً، وما أشبه ذلك. و(الفَعَالَةُ) في باب (فَعُلَ) أكثرُ وأعمُّ من (الفُعُولَة) وإن كان (الفُعُولَة)

______ (1) حَزُن المكان: خَشُن وغَلُظ. وجَهُم الرجل جُهومة، إذا صار عابس الوجه كريهه. (2) يقال: جَثُل الشجُر والنبات والشَّعْر، جَثالة وجُثولة، إذا طال وغلظ والتف. ويقال: جَعُد الشعرُ جعُودة وجَعادة، إذا اجتمع وتقبضَّ والتوى. والكُدورة في الماء: نقيض الصفاء. (3) رعُن الرجل، فهو أرعن، وهو الأهوج في منطقته. والفُسولة والفَسالة: الجبن والضعف وسوء الرأي. (4) سَمُج سَماجة وسُموجة: قَبُح. والسَّمْج: الخبيث الطعم أو الرائحة. والشَّناعة: شدة القبح. (5) صّبُح الوجه: صَباحة: أشرق وجَمُل، فهو صبيح.

وكثيًرا فيه. وما تقدَّم، مما جاء فيه (الفَعُولَةُ) فأكثرُه جاء فيه (الفَعَالَةُ). وَمَا أَتَى مُخَالِفاً لِمَا مَضَى فَبَابُه النَّقْلُ كَسُخْطٍ ورِضَى يعني أن ما جاء من الأبنية في مصادر هذه الأفعال على غير ما تقدم، ومخالفاً له، فليس بقياس، وإنما يُحكى حكايةً تُستعمل فيما نُقلت فيه، ولا يقاس عليه. و((الذي مَضَى)) هو ما ذُكر من أول الباب إلى هنا. وذكر لذلك مثالين من (فَعِلَ) المكسور العين الذي له (الفَعَلُ) وهما (سُخْطٌ) وهو مصدر: سَخِط الشيءَ يَسْخَطُه، ضد: رَضِيَهُ يَرْضَاه، رِضى، وهو المثال الثاني. أو مِن الذي له (الفُعُول) إذا جعلناهما غير متعدِّيين، من: سَخِطَ عليه، ورَضِىَ عنه. وعلى كل تقدير فـ (سَخِطَ) مصدره المسموع، سُخْطٌ وسَخَطٌ، و (رَضِىَ) مصدره: رِضىً. والرِّضوانْ كالرِّضَى أيضا. وحين أشار إلى أن ثَمَّ ما يخالف ما ذَكر تعيَّن ذكرُ بعض ما جاء من ذلك موقوفاً على النقل. فممَّا جاء في (فَعَلَ) المتعدِّي على غير (فَعْلٍ) قولُهم: وَرَدَ الماءَ ورُوداً، وجَحَد الحقَّ جُحوداً، وحَلَب الشَّاةَ حَلَباً، وسَرَق المتاعَ سَرَقاً، وخَنَقه خَنَقاً، وطَلَبْتُه طَلَباً، وقَاَلُهِ قيلاً. وفي (فَعِل) المكسور العين: عَلِمَه عِلْماً، ولَقِيتُه لقْيَاناً وِلقَاءً، وشَرِبَهُ شُرْباً، ووَدِدْتُه وُداً، وحَفِظْتُه حِفْظاً، وحَسِبَه حُسْبَاناً.

______ (1) (ت) ((وسكت سُكاتاً)) وهما سواء، ويقال أيضا: سكت سكوتاً.

ومما جاء في (فَعَل) المفتوح العين غير المتعدَّي قولهم: ذَهَبَ ذَهَاباً، وقامَ قِيَاماً، وسَكَتَ سَكْتاً (1)، وعَجَز عَجْزاً، وهَدَأَ اللَّيْلُ هَدْأً، وفَسَق فِسْقاً، وحَلَفَ حَلِفاً، ومَزَحَ مُزَاحاً. وفي (فَعِلَ) المكسور العين: لَبِثَ لُبْثاً / ولَبْثاً، وحَرِدَ حَرَداً (1)، وحَمِيت الشمسُ حَمْياً، ... 472 ولَعِبَ لَعشباً، وضَحِكَ ضَحِكاً، وأَدِمَ أُدْمةً، وشَهِبَ شُهْبَةً، وقَهِبَ قُهْبَةً (2). وفي الأمثلة المُسَتَثْاة قالوا: شَبَّ الفرسُ شَبَّا، وخَلأَت الناقةُ خَلأً، بالفتح (3). وقالوا: غَلَتِ القِدْرُ غَلَياناً، وطافَ طَوْفاً وطَوَفَاناً، وجَالَ جَوُلاً، وقَفَزَ قَفْزاً. وقالوا: صاحَ صِياحاً وصَيْحاً، وهَتَفتَ الحمامةُ هَتْفاً؛ مَدَّتْ صوتَها، وخَبَّ خَبَباً (4)، وسار سَيْراً. وقالوا: نَعَقَ بالغنَمَ نَعَقَاناً، ونَعَبَ الغرابُ نَعْباً ونَعَبَاناً، وَحَبَ نَحْباً؛ أعلن بالبكاء. ومما جاء في (فَعُل) المضموم العين مخالفاً لما مضى قولهم: جَمُلَ جَمَالاً (5)، وقَبُحَ قُبْحاً، وحَسُنَ حُسْناً، وبَهُوَ بَهاءً، وطَهُرَ طُهْراً، ومَكُثَ مُكْثاً، وصَغُر صغَراً، وكَبُرَ كِبَراً، وبَطُنَ بِطْنَةً، وضَعُفَ ضَعْفاً، وما أشبه ذلك. وأكثرُ ذلك ذكره سيبويه (6). وجميعُه موقوف على السماع كما قال

______ (1) حَرِد، يَحْرَد، حَرَدا: غضب، واغتاظ فتحرش بالذي غاظه وهَمَّ به. (2) أَدم، يأدَم، وأَدَماً: اشتدت سمرته. وشَهِبَ، يَشْهَب، شَهَبا وشهبة: خالط بياض شعره سواد، وقَهِبَ، يَقْهَب: كان لونه القُهْبَة، وهي غُبْرة تعلو أي لون كان. (3) خَلأَت الناقةُ تخْلأ، خَلأ، وخِلاَء، وخُلوءا: حَرَنت. (4) خَبَّ الفرسُ، يُخبُّ. خَباً وخَبَباُ وخَبِيباً: عدا. وخبَّ الرجل في الأمر: أسرع فيه. (5) (ت) ((جمل جملا)) وهو تصحيف. (6) انظر: الكتاب 4/ 5 - 55.

الناظم. إلا انه يبقى في هذا الحصر نظر؛ فإنَّ مما لم يذكره قبلُ ما يكون قياسا. من ذلك (الفِعَالَة) في (فَعَلَ) إذا كان مراداً به الوِكَالُة والقيام على الشِيء (1)، كتَجَر تِجَارَةً، وحَرَثَ حِرَاثَةً، وصَنَعَ صِنَاعَةً، وسَاسَ سِيَاسَةً، وعَرَفَ عِرَافَةً، وآلَ إِيَالَةً، وعافَ عِيافَةً، وقافَ قِيَافَةً (2)، وأَمَرَ إِمَارَةً، وخَلَفَ خِلافَةً، وهو كثير. ومن ذلك (الفِعَال) بكسر الفاء للتَّصويت، نحو: صَاحَ صِيَاحاً، وزَمَرَ النَّعامُ زِمَاراً، وعَرَّ الظليمُ عِرَاراً (3)، وهَتَفَ هِتَافاً، وما أشبه ذلك، وهو من الفعل الذي لا يتعدَّى على (فَعَلَ). ومن ذلك (الفِعَال) أيضا للهِيَاج من الذكر والأنثى، فالذكر نحو: الهِبَاب والقِرَاع والضِّرَاب والنِّكَاح. والأنثى نحو: الصِّراف والحِرَام والوِدَاق، يقال: هَبَّ التَّيْسُ وهِبَاباً (4)، وقَرَعَ الفحلُ النَّاقة قِرَاعاً، وضَرَبها ضِراباً، ونكَحَهَا نكَاحاً، وصَرَفَتِ الأُنْثى صِرَافاً؛ اشتهت الضِّراب، ووَدَقَتْ وِداقاً (5)، وكذلك سائرها. ومن ذلك (الفُعْلَة) لـ (فَعِلَ) في الألوان؛ نحو: شُهْبِة في: شَهِبَ، وقُهْبة

______ (1) في الأصل ((الوكاة والقياد على الشيء)) وهو خطأ واضح. وما أثبته من (ت، س). (2) يقال: عَرَفَ فلان على القوم، يَعْرُف، عِرافة، إذا دَبَّر أمرهَم، وقام بسياستهم. ويقال: آل فلان الرعية، يؤول، إيَالة: ساسهم، وآل المالَ: أصلحه وساسه. والعِيافة: زجر الطير للتفاؤل أو التشاؤم. وأما القِيافة فهي تتبع الأثر. (3) الزَّمار: صورت النعامة. والظليم: ذكر النعام، وعِرَاره: صياحه. (4) يقال: هَبَّ التيس، إذا صاح وهاج للضراب. والمِهْباب من الفحول: الكثير الصياح والهياج للضراب. (5) الوِدَاق في كل ذات حافر: إرادة الفحل، والحرص عليه.

في: قَهِبَ، وكُدْرَة في: كَدِرَ (1)، ومثله: قَتَمَ قُتْمَةً، وكَمُتَ الفرسُ كُمْتَةً، وكَهِبَ كُهْبَةً (2)، وشَهِلَت العينُ شُهْلَةً، وشَقِرَ شُقْرَةً (3)، ورَبِذَ رُبْذَةً (4)، وهو كثير جدا بحيث لا يُتَحاشَى من قياسه. فالحاصل أن هذا مما دَخل له في السَّماع، مع أنه كثر كثرةً يُقاس على مثلها، ويمكن أن يفوته غير ذلك، فكان من حقه أن يحرِّر ضابطَ القياس هنا من غيره. فهذا وجه من الاعتراض، ووجه ثان أن تنبيهه على هذا غير محتاج إليه، لأنه إذا كان قد ذكر القياس في مصادر هذه الأفعال، فسكوتُه عما بقي يُشعر بأنه سماع، فإتيانه ببيَتْين فارغين في هذا المختصر نقض الغرض. الجواب عن الأول أن ما تقدَّم ذكره لا يدَخل عليه هنا وإن كان قياسا، فإن (الفِعَالَة) غير مختصة بـ (فَعَلَ) دون (فَعِلَ) ولا باللازم دون المتعدِّي، ألا ترى أن الوِلاَيَةِ من: وَلِىَ، والخِلافةَ من: خَلَفَ، وكذلك: الخِيَاطةُ من: خَاطَ الثَّوْبَ، فهو مما يتعدَّى، و (خَلَفَ) مما لا يتعدَّى. وأيضا فقد يكون بناء. (الفِعَالة) جارياً على غير مَنْطُوقٍ به من الثلاثي،

______ (1) سبق تفسير هذه الألفاظ. (2) في الأصل ((قثن قثمة)) بالثاء المثلثة، وهو تصحيف واضح. والُتْمة: لون فيه غُبْرة وحمرة، أو سوا ليس بالشديد. ويقال: أسود قاتم، أي شديد السواد، وأحمر قاتم، أي شديد الحمرة. وكَمُت الفرسُ، يكمُت، كماتة وكُمْته، أي كان لونه بين الأسود والأحمر. ويقال: كِهَبَ لونه، إذا علته غُبْرة مشربة سوادا. والكُهبة: الدُّهمة، أو غُبْرة مشربة بالسواد. (3) شَقِر، يَشْقَر شُقْرة: أشرب بياضه حمرة. (4) في الأصل ((زَيِدَ رُيْدَةً)) وفي (ت) ((زَبَدَ زُبْدةً)) وكلاهما تصحيف وما أثبته من (س) هو الوجه، لأنه يتكلم على الألوان. والرُّبَذة: السواد.

وإنما يُستعمل في موضعه المزيدُ، كالوِكَالَة / من: تَوَكَّل، والحِرَابَة من: حَارَبَ، ونحو ذلك ... 473 مما لم يستعمل له ثلاثي. فلما كان كذلك لم يَأْتِ به الناظم؛ لأنه إنما يَذكر ما يَطِّرد في بناء الثلاثي، وهذا ليس كذلك. وأيضا فإنه إنما تكلَّم في الأبنية لكل فِعْلٍ على حِدَته، إلا ما كان من المتعدِّي الذي اطَّرد فيه (فَعْل) على الإطلاق، و (الفِعَالَة) ليس مما يَختص ببناءٍ دون بناء. ومع ذلك لو تأملَّتَ كلَّ بناءٍ للفعل لشكَّكتَ هل يَطَّرد فيه (الفِعَالَة) أم لا. وأيضاً فَلماَّ لم يَختص بالثلاثي دون غيره أَشْبه الأسماءَ التي ليست بمصادر، من حيث لم يَطَّرد جريانُه على بناء الثلاثي فصار مثل: السَّلاَم من: سَلَّم، والكَلاَم من: كَلَّم، فَترك ذكرَه كما تَرك ذكر (الفُعَالَة) فيما كان من بقايا الشِيء، وذلك نحو: القُرَاضَة، والكُسَاحَة (1)، وكما تَرك ذكرَ (الفِعَال) في انقضاء الزمان، كالصِّرَام والحِصَاد (2). وأما (الفِعَال) في التَّصويت وفي الهَيجَان فليس بكثير، فقد يكون تَرَك ذلك لأنه عنده لم يبلغ مبلغَ القياس، ولذلك لم يَذكره في ((التَّسْهيل)). وأما (الفُعْلَة) فالاعتراض به قوي، والله أعلم. وعن الثاني أن المسموع في هذا الباب كثير جدا، ومحتاج إلى

______ (1) القُراضة: ما سقط بالقَرْض، وهو القطع بالمِقْراضَيْن، كقراصنة الذهب والفضة، ومقُرضى الثوب، وهو ما يقطعه الخياط بالمقراض ويلقيه. والَسَاحة: الكُنَاسة، وزناً ومعنى. (2) الضِرِّام، بالفتح والكسر: جنى الثمر، وأوان نضجه. والحصَاد، بالفتح والكسر كذلك: الحَصْد، وأوان الحصد، والزرع المحصود، وثمر الشجر. (3) انظر: ص 205.

التَّنْبيه عليه، لأنه لا يجوز استعمال القياس فيه وفي أشباهه إلا بعد استقصاء المسموع، لكنه لم يُضبط بالقياس، فكان التَّنْبيه عليه ضروريا. وكذلك قوله بعد: ((وغَيْرُ مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلُه)). وغَيْرُ ذِى ثَلاَثَةٍ مَقِيسُ مَصْدُرهُ كقُدِّسَ التَّقْدِيسُ وزَكِّهِ تَزْكِيَةً وأَجْمِلاَ إجْمَال مَنْ تَجَمُّلاً تَجَمَّلاَ واسْتَعِذِ اسْتِعَاذَةً ثم أَقِمْ أقَامَةً وغَالِباَ ذَا التَّا لَزِمْ لما أَتَمَّ الكلامَ على مصادر الثلاثي القياسية أَخذ في الكلام على المَزِيد منه. وأما الرُّبَاعِيُّ الأصولِ مزيدُه فسنذكره. و((مَصْدَرُهُ)) يحتمل أن يكون مبتدأ خبرُه ((مَقِيسُ)) والجملة خبر قوله: ((وغَيْرُ ذِي ثَلاَثَةٍ)) ويَحتمل أن يكون ((مَصْدَرُهُ)) مرفوعاً بمَقِيس على المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه. ويَعْني أن المزيد من الثلاثيِّ الأصولِ يُقاس مصدرهُ على هذا السَّبيل الذي يُذكر في الأمثلة، ولا يَعني أنه مَقِيس هكذا على الإطلاق؛ فإن ما تقدَّم أيضا مَقِيس كذلك. وأيضاً فالإخبار بقياسٍ لم يُعَيِّنه غيرُ مفيد، فإنما يريد أن هذا النوع من الأفعال يُقاس مصدرُه هذا النوع من القياس الذي يُذكر في الأمثلة ثم ذَكر أفراد أبنية الأفعال، وما يجري على كل واحد منها من أبنية المصادر؛ فذكَر أولاً (فَعَّلَ) مضاعَفَ العين، وجَعل له بناءين، بحسب صحة اللام واعتلالها، فإن كانت اللام صحيحةً فالمصدرُ يأتي على (التَّفْعِيل) وذلك قوله: ((كَقُدِّسَ

______

التَّقْدِيسُ)) إلا أنه بَنى الفعلَ للمفعول، ورَفَع به مصدرَه لضرورة النَّظْم، والمعنى المقصود حاصل. ومن مُثُله: كَلَّمْتُه تَكْلِيماً, وسَلَّمْتُ تَسْلِيماً، وكَرَّمَ تَكْرِيماً، وشَرَّفَ تَشْرِيفاً. ولم يفرقِّ فيه بين أن يكون متعدَّياً أو لازماً، ولا بين أن يكون مضاعَفاً أو غير ذَلك. والحكم في الجميع صحيح. وإن كانت اللام معتلَّة بالواو أو الياء فإن المصدر يأتي على (التَّفْعِلَة) وهو / الذي ... 474 بَيَّنه بقوله: ((وزَكِّهِ تَزْكِيَةَ)) ومِثْله: قَوَّاهُ تَقْوِيَةً، وعَدَّى تَعْدِيَةً، ورَوِّى تَرْوِيَةً، ووَفَّى تَوْفِيَةً (1). ونحو ذلك. فكأنه يقول: ما كان صحيح اللام من (فَعَّلَ) فمصدرُه المقيسُ (التَّفْعِيل) كان مضاعفاً او معتلَّ العين أو الفاء أَوْ لاَ. وما كان معتلَّ اللام فمصدرُه المقيسُ (التَّفْعِلَة) وهذا صحيح إلا فيما كانت اللام منه همزة، فإن النحويين يَحكون فيه الوجهين، فتقول في هَنَّأَ: تَهْنِيئاً وتَهْنِئَةً، وفي جَزَّأ: تَجْزِيئاً وتَجْزِئَةً، وفي خَطَّأَ: تَخْطِيئاً وتَخْطِئَةً، ونحو ذلك. والأجوَدُ، على ما قال المبرِّد في مثل هذت، الإتمامُ، حَكاه عن أبي زيد، وحَكَى أن النحويين أجمعين يقولونه بالوجهين. وقال المؤلف في ((التَّسْهيل (2))): إن الغالب على ما لامه همزة (التَّفْعِلَة). وإذا كان كذلك، فلا يخلو أنَ يُجعل هذا النوع ههنا من الصحيح اللامِ أو من المعتلَّة؛ فإن جعلتَه من الصحيح اللام لزم على ما تقدَّم أن يكون القياس فيه (التَّفعِيل) وما عدا ذلك مسموع على ما نَصَّ عليه في

______ (1) (ت): ((وَصَّى تَوْصية)) وفي (س) ((رَضَّى ترضية)) وهي سواء في التمثيل. (2) نص قوله في التسهيل (206) هو ((ومن ((فَعَّل)) على تَفْعِيل وقد يشركه ((تَفْعِلَة)) ويغني عنه غالبا فيما لامه همزة، ووجوبا في المعتل)).

قوله: ((وغَيْرُ ما مَرَّ السَّماعُ عادَلَهُ)) وسيأتي إن شاء الله تعالى. وليس ذلك بصحيح؛ لأن (التَّفْعِلَة) قياسٌ فيه أيضا، نَصَّ عليه سيبويه (1). وغيره. وإن جعلتهَ من المعتلَّ اللامِ لزم أيضاً أن يكون القياس فيه (التَّفْعِلَة) وما عدا ذلك مسموع، وليس كذلك؛ لأنهم جعلوا (التَّفْعِيل) فيه قياسا أيضا. ويُجاب عن هذا بأربعة أوجه؛ أحدها أن يُدَّعَى أنه لم يَتعرض لذكر ما لامهُ همزةٌ بقياس ولا سماع، بل أغفله جُمْلة، وذكَر ما قَيَّده بالأمثلة خاصة، وهي: قَدَّسَ وزَكَّى، فيبقى غيرُ ذلك مُغْفَلَ الذِّكر، كسائر ما أَغفل في هذا النَّظْم، ولا اعتراض عليه في ذلك. والثاني ان يكون تعرَّض له بإشارة (تزكىَّ) لأن ما آخره همزةٌ يسمَّى في باب التَّصريف معتلا، لورود الإعلال على الهمزة بالتَّسهيل والإبدال والحذف، كالألف والواو والياء، فيكون قد جَعل المهموزَ الآخِرِ من المعتلِّ اللام، وحَكَم بأن القياس فيه (التَّفْعِلَة) على ما اسَتقْراه هو من كلام العرب، فإنه كثيراً ما يَعتمد استقراءَ نفسه، ويَبني عليه عَرَبِيَّتَه، ولذلك قال في ((التسهيل)): ((وقد يَشْرَكُه (تَفْعِلَة) يعني (التَّفْعِيل) ويُغْنِي عنه غالباً فيما لامُه همزةٌ (2))) فَجعل الغالبَ على ما لامُه همزةٌ (التَّفْعِلَة) وذلك يُعطي أن (التَّفْعيل) عنده فيه قليل، كأنه مما يُعَدُّ في المسموع. والثالث أنه يُحتمل أن يكون مذهبه مذهبَ المبرِّد في فهم كلام سيبويه، وذلك أن سيبويه لما تكلَّم في تعويض الهاء من الحرف المحذوف في (الإقَامة،

______ (1) الكتاب 4/ 83. (2) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: 206.

والتَّعْدية) ونحوهما لأجل حذفِ حرفٍ منهما قال فيه: ((وأما عَزَّيْتُ تَعْزِيَةً (1))) ونحوها فلا يجوز الحذف فيه، ولا ما أشبهه، لأنهم لا يَجِيئون بالياء في شيء من بنات الياء والواو، مما هما منه في موضع اللام (2) يَعني أن الحذف والتعويض من المحذوف لازم. ثم قال: ((ولا يجوز الحذف ايضا في تَجِزْئَةٍ وتَهْنِئةٍ)) قال: ((لأنهم ألحقوها بأختيها من بنات الياء والواو (3))). ففَهِم المبرّدُ من هذا الوضع أن سيبويه لا يُجيز: تَهْنِيئاً وتَجْزِيئاً، فاستدرَك عليه بذلك طُرَّةً (4) في الكتاب، فلعل الناظم تبعه في هذا الفهم، وأجراه مُجرى المعتل. وكلام سيبويه عند غير المبرّد محمولٌ على غير ذلك المعنى فتأمَّلْه. والرابع أن يكون تَرك ما لامُه همزةٌ لا إغْفالاً بل قَصْداً للنَّظر يَنظر فيه، إذ كان له شَبَهان، وشَبَهٌ بالصحيح / ولذلك يَجْرِي بوجوه الإعراب كالصحيح، فيسَتحق بهذا الشَّبه بناء ... 475 (التَّفِعْيل) وشَبَهٌ بالمعتلَّ من حيث يَلحقه الإعلالُ، فيسَتحق بهذا الشبَه بناءَ (التَّفْعِلَة) وكذا ثبت النقل. والله أعلم. ثم ذَكر (أَفْعَلَ) وجعل له بنائين للمصدر، أحدهما (الإفْعَالُ) وذلك قوله: ((وأَجْمِلاَ إجْمَالَ كَذَا)) وهو لما صَحَّت عينُه ولم تَعتل، ولا مبالاَة بغير ذلك؛ إذ لا يَفترق الحكم مع كون الفعل مضاعَفاً أو معتلَّ اللام، بل حكمُ

______ (1) في الأصل ((غَذَّيْتُ تَغْذِيَةً)) وما أثبته من (ت) ومن كتاب سيبويه 4/ 83، وهما سواء. (2) الكتاب 4/ 83. (3) نفسه 4/ 83، وفيه ((ألحقوهما بأختيهما)) وفي بعض نسخه كما نقل الشارح. (4) اي حاشية على كتاب سيبويه. ومن معاني الطرة: الحاشية والناصية، وطرة كل شِيء حرفه، وطرة الثوب: شبه علمين يخاطان بجانبي البرد- اللسان (طرر).

ذلك حكمُ الصحيح، فتقول: أَسْنَدْتُه إِسْناداً، وأَكْرَمْتُه إكراماً، وأعْلَمْتُه إعلاماً، وأْكَملْته إكمالاً (وأجَمَلْتُه إجْمالاً (1)) وأجْلَلْتُه إجْلالاً، وأضَلَّه اللهُ إضلالاً، وأعطيتُه إعطاءً، وأوليتُه إيلاءً، وما اشبه ذلك. وكذلك لا يَفِترق بالتعدِّي وعدمه، كأَصْبحَ إصباحاً، وأَمْسَى إمساءً، وأَسْجَد إسجاداً، ونحوه. والثاني (ألإفْعَال) بلَحاق الهاء في آخره عوضاً من أحد الحرفين المعتلَّين بعد حذفه، إمَّا العينِ على رأي الأخفش والفراء، وإمَّا الألفِ على رأي الخليل وسيبويه، فيكون أصله (إفْعَالَة) ويبقي بعد الحذف على (إفَالَة) أو (إفْعَلَة) وهو الذي أراد بقوله: ((ثُمَّ أَقِمْ إِقَامَةً)) وسيأتي على أثر هذا بحول الله. ثم ذكَر (تَفَعَّلَ) وجَعل مصدرَه (التَّفَعُّل) وهو المشار إليه بقوله: ((تَجْمُّلاً تَجَمَّلاَ)) ولا يَفترق الحكم عنده في هذا بين الصحيح العينِ والمعتلَّه، كما في (أَفْعَل) ولا بين الصحيح اللامِ والمعتلَّه، كما في (فَعَلَ). فتقول في الصحيح العين: تَجَمَّل تجمُّلا، وتحمَّل تحمُّلاً، وتَكرَّم تكرُّماً، وتَجبَّر تجبُّراً، وتكَبَّر تكبُّراً. وفي المعتلَّه: تَقَوَّلَ تَقَوُّلاً، وتحوَّل تحوُّلاً، وتَميَّز تميُّزاً، وتَبيَّن تبيُّناً. وتقول أيضا: تَرَدَّى تَرَدِّياً، وتَبَدَّى تَبَدِّياً، وتَدَلَّى تَدَلِّياً، وتَوَلِّيِّ تولياً وأصل ذلك (التَّفَعُّل) بضم العين، لكن دَخلها الإعلال بكسر ما قبل الياء لأجلها حسبما يَذكره في ((باب التَّصريف)). وحكم ما لامُه همزةٌ في هذا والذي قبله حكمُ الصحيح؛ فإنك تقول: أَقْرَأ إقْرَاءً، وأَوْطَأَ إِيطاءً، وتَهَّيَأَ تهيُّأً، وتجزَّأَ تَجَزُؤاً.

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

وأما في (أَفْعَلَ) فلا نظر، فإن الصحيح اللامِ والمعتلَّه على حكمٍ واحد، فلم يكن مردَّداً بين وجهين كما كان ذلك في التَّهْنِئِة والتَّهِنْئ. وأما في (تَفَعَّلَ) فكذلك أيضا؛ إذ لا فرق بينهما في الإعلال، وذلك من أحكام التَّصريف، فلا حاجة إلى ذكر ذلك هنا. ثم ذَكر (اسْتَفْعَل) ومصدَره، وكان حقه أن يَذكره مع ما أوَّلُه همزةُ الوصل؛ إذ هو داخلٌ في عموم العبارة المذكورة فيه، وإنما أتى بالمعتل منه هنا، لأجل مخالفته لما يَذكره بعدُ، بسبب الإعلال الحاصل في عينه؛ إذ أخرجه إلى حَذْف حرفٍ منه، وتعويضِ الهاء من المحذوف، فلما لم يكن حكمه حكم الصحيح وسواه مما يُذكر هناك، واجتمع مع الإفعال في الحكم- ذَكره هنا مع مُشاكِله، وهو ((الإقَامَةُ)) لاجتماعهما في حذف حرفٍ والتعويض منه. فيريد أن (اسْتَفْعَلَ) المعتلَّ العينِ بالواو أو الياء يأتي المصدر منه على (الاسْتِفْعَال) محذوفَ العين، أو الألفِ واللام على المذهبين ملَحقاً هاءً، وذلك قوله: ((واسْتَعِذِ اسْتِعَاذَةً)) ومثله: اسْتَبَانَ اسْتِبَانَةً، واسْتَطالَ اسْتِطَالَةً، واسْتَقامَ اسْتِقَامَةً، واسْتَعَانَ اسْتِعَانَةً. ووزنه في الأصل (اسْتِفْعَالَة) وفي اللفظ (اسْتِفَالَة) أو / (اسْتِفْعَلَة). ... 476 وأما المعتل اللامِ من هذا فحكمهُ حكمُ الصحيح، نحو: اسْتَدْعَى اسْتِدعَاءً، واسْتَغْنَى اسْتِغْنَاءً، وما أشبه ذلك. ثم ذكَر البناء الثاني لـ (أَفْعَالَ) المعتلِّ العينِ، وأن حكمه كـ (الاسْتِفْعَال)

______

في الحذف والتعويض؛ فتقول: أَقِمْ إقامَةً، وهو مِثَاله (1)، ومِثْله: أَعَانَ إعَانَةً، وأَبَانَ إبَانَةً، وأجَازَ إجازَةً، ونحو ذلك. ثمَ بيَّن أن هذه الهاء اللاحقة بالبناء ليست بلازمة، وإنَّما عي غالبة، إلا أن إشارته بـ (ذا) يَحتمل أمرين: أحدهما أن تكون إشارةً إلى أقرب مذكور، وهو (الإقَامَةُ) ونحوها، فكأنه يقول: هذا التاء لازم اللَّحاق هنا في غالب كلام العرب، ويجوز قليلا أَلاَّ تَلحق، فتقول: أقَام إِقَاماً، وأنَاب إنَاباً، ونحو ذلك، بخلاف (التَّعْدِيَة، والتَّعْزِيَة) فإن ترك التاء شاذٌ جدا. وفي القرآن الكريم {وإِقَامِ الصَّلاَةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (2)، ومثل ذلك يُحكى عن بعض العرب. والثاني، وهو الأظهر، أن يكون إشارته بـ (ذا) في قوله: ((وغَالِباً ذَا التَّا لِزمْ)) راجعا إلى المحذوف منه الحرف، وهو أيضاً أقربُ مذكور، فيدخل فيه (الاسْتِفْعَال، والإفْعَال) أي إن (الاستِفْعَال، والإفْعَال) معاً قد يأتيان دون تاء. وهذا موافق لما حَكى في ((التَّسهيل (2))) وهو ظاهر سيبويه، إذ مَثَّل التعويض فقالك ((وذلك قولك: أقَمْتُه إقَامةً، واستَعَنْتُه اسْتِعانةً، وأرَيَتْهُ إراءَةً (3))). قال: ((وإن شئتَ لم تعوِّض، وتركتَ المحذوف على الأصل (4))) ثم أتى بالآية التي فيها {وإِقَامِ الصَّلاَةِ} ولكن ليس هذا القليل عنده بقياس. وقد بَيَّن ذلك في ((التصريف)) إذ قال هنالك: ((وحَذْفُها بالنَّقْلِ رُبَّمَا عَرضْ (5)))

______ (1) أي المثال الذي مَثَّل به الناظم. (2) سورة النور/ آية 37. (3) حيث قالوا في ص 207: ((تلزم تاء التأنيث الإفعالَ والاستفعالَ معتلي العين عوضا من المحذوف، وربما خَلَوا منها)). (4) الكتاب 4/ 83، وفيه ((وتركت الحروف)) وأظنه تصحيفا. (5) انظر: الألفية (فصل في نقل الحركة إلى الساكن قبلها).

فأما مثال (الإفْعَال) فقد تقدَّم. ومثال (الاسْتِفْعَال) اسْتَقَام اسْتِقَاماً، واسْتَدَان اسْتِداَناً، ولا أحفظه منقولاً عن العرب. وإنما جاز حذف التاء هنا بخلاف (التَّعْزِية) ونحوه؛ لأنهم قد يأتون بالأصل فيرُّدون المحذوف، وإن كان حرف علة، كالاسْتْحِواذ والإجْوَاد ونحوهما، فرُوعيَ رَدُّهم لها للأصل، فاستخَفُّوا (1) حذف التاء. وأما مثل (التَّعْزِية) فلم يقولوا: تعزِّياً ولا تعدِّياً، فيردُّوا المحذوف أصلا، فللك أَلزموا العِوَض. هذا معنى تعليل سيبويه (2). و((ذَا)) في كلامه مبتدأ، خبره ((لَزِم))، و (التَّا) مفعول ((لَزِمَ))، و ((غالبا)) حال. وبقي هنا النظر غي أمرين، أحدهما: إن رَأْي الناظم في نحو {إقَامِ الصَّلاَةِ} أن تكون التاء حُذفت لغير الإضافة، فإنه لا يستقيم الاستدلال بالآية إلا على ذلك. فأمَّا إن جَعل حذفَها من باب قوله، أنشده الفراء (3):

______ (1) في الأصل: ((فاستحقوا)) وهو تصحيف. وما أثبته من (ت، س). (2) حيث يقول (4/ 83): ((وأما عزيت تعزية ونحوها فلا يجوز الحذف فيه ولا فيما أشبهه، لأنهم لا يجيئون بالياء في شيء من بنات الياء والواو مما هما فيه في موضع اللام صحيحتين)). (3) معاني القرآن (2/ 254) وصدره: * إنَّ الخليط أجَدُّوا البَيْنَ فانْجردُوا * وقد استشهد به الفراء على جواز حذف الهاء للإضافة حيث يقول: ((وإنما استجيز سقوط الهاء من قوله {وإِقَامِ الصَّلاَةِ} لإضافتهم إياه، وقالوا: الخافض وما خفض بمنزلة الحرف الواحد، فلذلك أسقطوها في الإضافة)). والبيت للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب. وهو من شواهد الخصائص 3/ 171، والتصريح 2/ 396، والأشموني 2/ 237، و 4/ 341، وانظر: العيني 4/ 573، وشرح شواهد الشافية للبغدادي 4/ 64. والخليط: المخالط، كالجليس والمجالس، يريد الفريق المخالط في الإقامة وقت النجعة. وأجدوا: أحدثوا، والبين: الفرق والبعد. وانجردوا: بعدوا.

* وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأمرِ الذي وَعَدوُا * فلا يستقيم الاستشهاد بها، إذ مذهبه في (التسهيل) جواز حذف التاء للإضافة على قِلَّة (1). والثاني أنه قال هنا: ((وغَالِباً ذَا التَّا لَزِمْ)) وهذه عبارة في ظاهرها متناقضة لأن لفظ الغَلَبة يَقَتضي عدمَ اللزوم، ولفظ اللزوم ينافي الغَلبَة، ولكن الأمر في هذا قريب. والتقدْيس: التَّطهير، من القُدُسْ، والقدس الطُّهْر. / وزَكَّى المالَ تَزْكَيةً، إذا أخرج زكاتَه، 477 وزَكَّى نفسَه: مدَحها، وزَكَّى أيضاً بمعنى طَهَّر، وهو الأصل في هذه المادة. وأجْمَل الشيءَ إِجْمَالاً، إذا فَعل فيه جميلاً، وأَجْمَل في الطَّلَب إجمالاً: رَفَق واقتصد، وتجمَّل الرجُل تجمُّلاً، إذا تكلَّف فِعْلَ الجميل، واسْتَعاذ بالله اسْتِعَاذةً، وعَاذَ به، بمعنى: لَجَأ إليه. وأَقَام بالمكان إقامةً: لَزِمَه، وأقامَ الصلاةَ أيضاً: أدامها لأوقاتها ومَا يَلِيِ الآخِرَ مُدَّ وَافْتَحَا مَعْ كِسْرِ تِلْوِ الثَّانِ مِمَّا افْتُتِحَا بهَمْزِ وَصْلٍ كاصْطَفَى وضَمَّ مَا يَرْبَعُ في أمثَالِ قَدْ تَلَمْلَمَا يَعني أن ما كان من الأفعال أولُه همزةُ وصل فإن بناء مصدره مُوَافق لبناء فِعْله إذا مُدَّ ما قبل الآخر وفُتح، وإذا كُسر ما تلا الحرفَ الثاني، وهو الحرف الثالث.

______ (1) عبارة الناظم في التسهيل (207) ((تلزم تاء التأنيث الإفعال والاستفعال معتلي العين عوضا من المحذوف، وربما خَلَوَا منها)).

فـ (ما) في قوله: ((وما يَلِي الآخِرَ)) مفعول بـ (مُدَّ وافْتَحا) وهي واقعة على الحرف الذي قبل الآخر. و((ما)) في قوله: ((مِمَّا افْتُتِحَا)) واقعٌ على الفعل الذي أولُه همزةُ الوصل، كأنه قال: مُدَّ وافْتَحا ما يلي الآخَر مع كسر الثالث من الفعل الذي افْتُتِح بهمزة وصل. ولم يفيدِّ هذا الإطلاق، فدَلَّ على أنه جارٍ في الفعل الصحيح والمضاعَف والمعتل، إلا ما تقدم في (اسْتَفْعَل). والأمثلة التي أوّلها همزة وصل اثنا عشرَ بناء (افْتَعَل، وانْفَعَلَ، واسْتَفْعَلَ، وافْعَلَل، وافْعَنْلَلَ، وافْعَنْلَى، وافْعَوَّلَ، وافْعَوْعَلَ، وافْعَلَّ، وافْعَالَّ، وافْعَوْلَلَ، وافْعَيَّلَ). فمصدر (افتَعَلَ) على ما رسَمه الناظم (افْتِعَالٌ) لأنَّي فتحتُ العينَ ومددتُها، فكانت المَدَّةُ ألفاً، وكسرتُ التاء، فجاء منه ذلك البناء، نحو: اقْتَدَرَ اقْتِدَارً، واكْتَسَب اكتِسَاباً، واخْتَارَ اخْتِيَارً، واصْطَفَى اصْطِفَاءً، واعْتَدَّ بكذا اعْتِدَاداً. ومصدر (انْفَعَلَ) (انْفِعَالٌ) نحو: انْطَلَقَ انْطِلاَقاً، وانْكَسَر انْكِسَاراً، وانْقادَ انْقِيَاداً، وانْحَازَ انْحِيَازاً، واطَوىَ انْطِوَاءً، وانْدَقَّ انْدِقَاقاً. ومصدر (اسْتَفْعَلَ) (اسْتِفْعالٌ) كاسْتَكْبَر استِكْبَاراً، واستَعْطَفَ استِعْطَافاً، واسْتَدْعَى اسْتِدعَاءً، واسْتَسَقَى اسْتِسْقَاءً، واسْتَرَدَّ اسْتِردَاداً. وأما المعتلُّ العينِ فقد تقدَّم ذكرهن وأن مصدره (اسْتِفْعَالَةٌ) كاسْتَبان اسْتِبَانَةً.

______

ومصدر (افْعَلَلَّ) (افْعِلاَلٌ) نحو: اطْمَأَنَّ اطْمِئْناناً، واقْشَعَّرا اقْشِعْراراُ، واشْمَأَزَّ اشْمِئْزازاً (1). وقد تقدم للناظم في هذا البناء أنه (افْعَلَلَّ) على ظاهر الأمر في (اطْمَأَنَّ) ونحوه، وأن غيره يقول فيه (افْعَلَّلَ). وإفراد هذا البناء بـ (الافْعِلاَّل) يدل على أن (الفُعَلِّيلَة) ليس بمصدر، وهو ظاهر سيبويه (2)، أي ليس بجارٍ عليه، أو هو اسم مصدر: كالطَّمأْنِيِنَة والقُشَعْرِيرة، أو هو غير قياس فلم يُلْحقه به. ومصدر (افْعَنْلَل) (افْعِنلاَلٌ) نحو: احْرَ نْجَم احْرِ نْجَاماً، واسْحَنْكَكَ اسْحِنْكَاكاً، واقْعَنْسَسَ اقْعِنْسَاساً (3). ومصدر (افْعَنْلَى) (افْعِنْلاَءً) نحو: اسْلَنْقَى اسْلِنْقَاءً، واحْرَ نْبَى احْرِ نْبَاءً (4). ومصدر (افْعَوَّلَ) (افْعِوَّالٌ) نحو: اجْلَوَّذَ اجْلِوَّاذاً، واعْلَوَّطَ اعْلِوَّاطَّا، واخْرَوَّطَ اخْرِوَّاطاً (5).

______ (1) اقشعَرَّ الجِلْدُ: أخذته رِعدةٌ، واقشعرّت الأرضُ: لم ينزل عليها المطر. والنباتُ: لم يُصب رِياً. ويقال: اشمأزَّ بالأمر ومنه، إذا ضاق به ونفر منه كراهة. (2) الكتاب (4/ 85) حيث يقول: ((والطمأنينة والقشعريرة ليس واحد منهما بمصدر على اطمأننتُ واقشعررت، كما أن (النَّبات) ليس بمصدر على (أنْبَتَ) فمنزلة اقشعررت من القشعريرة واطمأننت من الطمأنينة بمنزلة أنبت من النبات)) يعني أنهما اسما مصدر، وليس مصدرين لهذين الفعلين. (3) احْرَ نْجم القومُ والدواب: اجتمعت، واحْرَ نْجم الرجل: أراد أمرا ثم رجع عنه. والمُسْحَنْك من كل شيء: الشديد السواد، يقال: اسْحَنَكك الليلُ، أي اشتدت ظلمته، وشعر مسحنَكِكُ، أي شديد السواد، واقْنَعْسسَ، وتقاعَس، وفَعَس: تأخر ورجع إلى خلف. (4) اسْلَنْقَى: نام على ظهره. واحْرَ نْبَى: أضمر الشر، وتهيأ للغضب. (5) اجْلَوَّذَ: مضى وأسرع، أو امتدَّ ودام. والاعْلوَّاط: ركوب الرأس والتقحم في الأمور بغير روية. يقال: اعْلَوَّط فلان رأسه. واعْلَوَّط بغيرَه اعْلِوَّاطاً، إذا تعلق بعنقه وعَلاه. والاخْرِوَّاط في السير: المضاء والسرعة. واخَرَوَّط بهم الطريقُ والسَّفر: امتدَّ.

ومصدر (افْعَوْعَلَ) (افْعِيعَالٌ) نحو: اعْشَوْشَبت/ الأرضُ اعْشِيشَاباً، واخْشَوْشَنَ 478 اخْشيشَاناً، واحْلَوْلَى احْلِيلاَءً، واذْلَوْلَى اذْلِيلاَءً (1). ومصدر (فْعَلَّ) (افْعِلاَلٌ) نحو: احْمَرَّ احْمِرَاراً، واسْوَدَّ اسْوِدَاداً، وابْيَضَّ ابْيضَاضاً. ومصدر (افْعَالَّ) (افْعِلاَلٌ) نحو: احْمَارَّ احْمِيرَاراً، وادْهَامَّ ادْهِيمَاماً (2). ومصدر (افْعَوْلَلَ) (افْعِيلاَلٌ) نحو: اعْثَوجَجَ اعْثِجَاجاً (3)، وهو نادر معدود في المستدرك على ابنية الكتاب. ومصدر أفْعَيَّلَ) (افْعِيَّالٌ) قالوا: اهْبَيَّخَ (4)، والمصدر: اهْبِيَّاخاً، وهو نادر أيضاً من المستدرك. وإنما قال الناظم: ((مُدَّ وافْتَحَا)) ولم يكتف بقوله: ((مُدَّ)) وقد كانت الألف اللاحقة قبل الآخر يَلزم معها فتحُ ما قبلها؛ لأن المدَّ لا يُعيِّن الألفَ، إذ قد تكون واواً مضموماً ما قبلها؛ وياءً مكسوراً ما قبلها. فلو قال:

______ (1) اذْلَوْلَى: ذَلَّ وانقاد، أو أسرع مخافة ان يفوته شيء، أو انطلق في استخفاء. (2) احْمَرَّ الشيء واحْمارَّ بمعنى، غير أن احْمَرَّ أكثر استعمالا. ويقال: احْمَرَّ الشيء احمرارا، إذا لزم لونه فلم يتغير من حال إلى حال، واحمارَّ يحمارُّ احميرارا، إذا كان عرضا حادثا لا يثِبت، كقولك: جَعل يحمارُّ مرة ويصفارُّ أخرى. وانظر اللسان (حمر). والدهمة: السواد، والأدهم الأسود. ويقال: ادهامَّ الشيء، إذا اسوَدَّ، وادهامَّ الزرع، إذا علاه السواد رِيلً. (3) في الأصل ((اعْشَوْجج اعْشِيجَاجاً)) وهو تصحيف. والمثبت من (ت، س) والعَثَوْجَج: البعير الضخم السريع المجتمع الخَلق، ويقال منه: اعْثَوْجَج البعيرُ اعثيجَاجاً. (4) الهَبيخَة: المرضعة، والجارية الممتلئة. وقد اهْبَيخَّت المرأة في مشيها، إذا تبخترت ونهادت. والهَبَيَّخ: الرجل الذي لا خير فيه، أو الأحمق المسترخي. والهبيَّخ: الغلام بالحميرية، وكل جارية بالحميرية: هَبَيَّخة.

اجْعَل ألفاً قبل الآخر لم يَحتج إلى ذكر الفتح. وأما حين لم يَذكر إلا مجردَ المَدِّ فلابد ان يذكر الفتح ليعيِّن بذلك أن المَدَّة هي الألف وحدها؛ لأن الواو والياء لا يكونان مَدَّة وقبلهما مفتوح أصلا، فصار ذكُر الفتح معِّيناً. فإن قيل: بل ذِكْر الفتح فضلٌ لا يُحتاج إليه، لأن إحالته على بناء الماضي يعيِّن أن ما قبل الآخرِ مفتوح، كـ (افْتَعَل، وانْفَعَلَ، واسْتَفْعَلَ، وافْعَوْلَلَ، وافْعَوْعَلَ) وغير ذلك، وإذا كان كذلك فالوجه أنْ لو اكتفى بالمد فَتَتعَيَّن الألفُ لذلك وحدها. فالجواب أن الفتح قبل الآخرِ لا يتعيَّن من وجهين: أحدهما أن من هذه الأبنية ما يكون ما قبل آخرِه غيرَ مفتوح، كـ (افْعَلَّ، وافْعَالَّ، وافْعَلَلَّ (1)) على رأيه. وأيضاً من الأمثلة ما يَعْرِض لما قبل آخره السكونُ، إما بإدغام، كاعْتَدَّ واسْتَرَدَّ، وإما بإعلال، كانْقَاد واسْتَزَادَ، والناظم إنما أتى بضابط يَشمل جميعَ الأبنية وجميعَ الأمثلة، فلم يكن بُدٌّ من إلزام الفتح، فإن كان موجوداً في الفعل فذاك، وإلاَّ فقد شَرَطه، فكلامه صحيح، وإلزامُه الفتحَ ضروري. ثم أتى بضابط آخر لمصادر ما أوَّلُه تاءٌ من الأفعال غير الثلاثية فقال: ((وضُمَّ ما يَرْبَعُ)) إلى آخره. ((مَا يَرْبَعُ)) هو ما يصيِّر الثلاثة أربعةً، تقول: رَبَعْتُ القومَ، إذا صَيَّرتَهم أربعةً، كما تقول: ثَلَثْهُم وخَمَسْتُهم، إذا صَيَّرْتَهم ثلاثةً وخمسةً. و ((ما)) واقعةٌ على الحرف الرابع. يريد أن ما كان من الأفعال مثال (تَلَمْلَمَ) أو مقارباً له، في كونه على عدد

______ (1) في الأصل ((أفْعَولَلَ)) وما أثبته من (ت، س).

هذه الحروف، وموازِناً له (1) في الحركات والسَّكَنات وعدد الحروف، والتاء في أوله زائدة- فالمصدر منه على وزنه إذا ضُمَّ منه الحرف الرابع. وهذا العَقْد يحتوي على أبنية جملتها عشرة (تَفَعْلَلَ، وتَفَعْلَى، وتَفَاعَلَ، وتَفَعَّلَ، وتَمَفْعَلَ، وتَفوعَلَ، وتَفَعْولَ، وتَفَيَعْلَ، وتَفَعْنَلَ، وتَفَعْلَتَ). فمصدر (تَفَعْلَلَ) على (تَفَعْلُلٍ) حسبما قَيَّده الناظم، نحو تَدَحْرجَ تَدَحْرُجاً، وتَسَرْبَلَ تَسَرْبُلاً، وتَجَلبَبَ تَجَلبُبُاً (2). ومصدر (تَفَعْلَى) على (تَفَعُّلٍ)، وأصله (تَفَعْلُىٌ) إلا أن اللام كُسرت لأجل الياء، فالضمة مقدرة، نحو: تَقَلْسَ تَقَلُسِياً، / وتَجَعْبَى تَجَعْبِياً (3) ... 479 ومصدر (تَفَاعَلَ) على (تَفَاعُلٍ) نحو: تَغَافَلَ تَغَافُلاً، وتَكَاسَلَ تَكَاسُلاً، وتَرامى تَرامِياً، وتَوَانَى تَوَانِياً. ومصدر (تَفَعَّلَ) على (تَفَعُّلٍ) نحو: تَكَبَّر تَكَبُّراً، وتَكَسَّر تَكَسُّراً. وكان من حقه ألاَّ يَذكر هذا البناء قبلُ، حين قال: ((وأَجْمِلاَ إجْمَالَ مَنْ تَجَمُّلاً تَجَمَّلاَ)) فإنه داخل تحت هذا الضابط فصار ذكره هنالك حشواً، ولا جواب عنه. ومصدر (تَمَفَعْلَ) على (تَمَفْعُلٍ) نحو: تَمَسْكَنَ تَمَسْكُناً، وتَمَدْرعَ تمَدْرُعاً (4).

______ (1) على حاشية الأصل ((وموافقا له)). (2) تَسِرْبَل: لبس السِّربال، وهو القميص أو الدرع، وجمعه سَرابِيل. وتَجَلْبَب: لبس الجِلْباب، وهو القميص أو الخمار، أو الملاءة تشتمل بها المرأة، وجمعه جَلابِيب. (3) يقال: قَلْسَيْتُه، إذا ألبستَه القلنْسُوه، وهي من ملابس الرءوس، وتَفَلُسَى: لبسها. ويقال: جَعْبَى فلان فلانا جِعْبَاءً، إذا صَرعه. وتَجَعْبَى: مطاوع جَعْبَى. (4) تَمَدْرَعَ مِدْرَعَته: لبسها، والمِدْرَعة: ضرب من الثياب التي تُلبس، ولا تكون إلا من الصوف خاصة.

ومصدر (تَفوعَلَ) (التَّفَوعُلَ) نحو: تَجَوْرَب تَجَوْرُباً (1). ومصدر (تَفَعْولَ) (التَّفَعْوُلُ) نحو: تَسَهْوَكَ تَسَهْوُكاً، وتَرهْوَكَ تَرَهْوُكاً (2). ومصدر (تَفَيَعْلَ) على (تَفَيْعُلٍ) نحو: تَشِيْطَنَ تَشِيْطُناً (3). ومصدر (تَفَعْنَلَ) (تَفَعْنُلٌ) نحو: تَقَلْنَس تَقَلْنُساً (4). ومصدر (تَفَعْلَتَ) (التَّفَعْلُتُ) نحو: تَعَفَرتَ تَعَفْرُتاً (5). و(تَلَمْلَمَ) الذي مَثَّل به هو من (تَفَعْلَلَ) المذكور، والتَّلْملُم أصله الاجتماع، يقال: كَتِيبةٌ مُلَمْلَمة ومَلْمُومَة، أي مجتمعة مضمومُ بعضها إلى بعض، وصَخْرةٌ مُلَمْلَمة ومَلْمُومة، مستديرة مضمومٌ بعضُها إلى بعض. فِعْلاَلٌ أَوْ فَعْلَلَةٌ لفَعْلَلاَ واجْعَلْ مَقِيساً ثَانِياً لاَ أَوَّلاَ يعني أن ما كان من الأفعال على (فَعْلَلَ) فإن مصدره يأتي على بناءين، أحدهما: (الفِعْلاَلُ) بكسر الفاء، نحو: دَحْرَج دِحْرَاجاً، ولم يَحفظه السِّيرافي (6)، وحفظه غيره.

______ (1) يقال: جَوْربَه، إذا ألبسه الجَوْرَب، وتَجَوْرَب: مطاوعه. والجَوْرَب: لباس الرَّجل، وجمعه جَواربةٌ، وجَوارِب. (2) يقال: سَهْوَكْتُه فَتَسَهْوَكَ، إذا ادبر وهلك. والتَّرَهْوُك: مشى الذي كأنه يموج في مِشيته. فيقال: مَرَّ الرجلُ يَتَرَهْوَكُ، أي كأنه يموج في المشي. (3) تَشَيْطنَ: صار كالشيطان، أو فعل فعله. (4) تَقَلْنَسَ: لبس القَلَنْسُوَة. وقد مر تفسيرها. (5) تَعَفْرَتَ: صار عِفْريتا، والعِفْريت: الخبيث المنكر، أو النافذ في الأمر مع دهاء. (6) قال أبو سعيد السيرافي: والأغلب فيه الألزم الفَعْلَلَة، لأنها عامة في جميعها، وربما لم يأت فِعلال نحو: دَحْرَجته دَحْرة، ولم يُسمع دِحْراج)).

وسَرْهَفَ سِرهَافاً، قال (1): * سَرْهَفْتُهُ ما شِئْتُ مِنْ سِرْهَافِ * وزَلْزَل زِلْزالاً، وقَلْقَلَ قِلْقَالاً. وفي التنزيل: {وزُلْزِلُوا زلْزَالاً شديداً (2)} والثاني (الفَعْلَلَةُ) نحو: دَحْرَج دَحْرَجةً، وقَرْطَسَ قَرْطَسَةً (3)، وزَلْزَلَ زَلْزَلةً، وقَلْقَلَ قَلْقَلَةً، وسَرْهَفَ سَرْهَفَةً، وعَرْقَبَ عَرْقَبَةً (4)، وما أشبه ذلك. ويَدخل بمقتضى المثال ما كان مزيداً بالتَّضعيف، نحو: جَلْبَبَ جَلْبَبَةً، وشَمْلَلَ شَمْلَلَةً (5). ويَبْقَى عليه ما أُلحق بـ (دَحْرَجَ) بغير تضعيف، بل بحروف (سألتمونيها) فلم يَنُصَّ على قياس مصدره، وكان من حقه ذلك؛ إذ لا يَدخل له تحت بناء الفعل الذي أَتى به، وهو (فَعْلَلَ). والأمثلة الملحَقة بـ (فَعْلَلَ): (فَوْعَلَ) نحو: صَوْمَعَ، وحَوْقَلَ (6). و (فَيْعَلَ) نحو: بَيْطَرَ وهَيْنَمَ (7)، و

______ (1) للعجاج من أرجوزة يعاتب فيها ابنه رؤبة، ديوانه 40، والخصائص 1/ 222، 2/ 302، والمقتضب 2/ 95، وابن يعيش 6/ 47، 49، اللسان (سرعف). ويقال: سَرْهَفَ غذَاءَه، إذا أحسنه، وسَرْهَفَتُ الرجلَ: أحسنتُ غذاءه، وجهدت في تربيته. ويروى ((سَرْعَفتُه ما شئتُ من سِرْعَافِ)) بالعين بدل الهاء، وهما سواء. (2) سورة الأحزاب/ آية 11. (3) يقال: رَمى فقرطَس، إذا أصاب القِرُطاس، وهو كل ما يُنْصب للنِّضال، وهو الغرض. (4) عَرْقَبَ الدابة: قطع عُرْقوبها. والعرقوب من الدابة: ما يكون في رجلها بمنزلة الركبة في يدها. وكل ذي أربع عُرْقوباه في رجليه، وركبتاه، في يديه. (5) شَمْلَلَ: اسرع. وشملل الشجرة: لقط ما عليها من الثمر. والشِّمْلال والشِّمْليل: السريع الخفيف. (6) صَوْمَعَ الشيء: جمعه، وصومع البناء: عَلاَّه. وحَوقَلَ حَوْقَلة وحِيقالا: اعتمد بيديه على خصريه، أو أسرع في مشيه وقارب الخطو، أو أعيا. (7) بَيْطَرَ الدابَة: شق حافرها ليعالجها. والبَيْطار: معالج الدواب. والبَيْطرة: مهنة البيطار. وهَيْنَم: دعا الله، أو تكلم وأخفى كلامه.

(فَعُوَلَ) نحو: جَهْوَرَ، وهَرْوَلَ (1)، و (فَعْلَى) نحو: سَلْقَى وجَعْبَى (2)، و (فَعْنَلَ) نحو: قَلْنَسَ، [و (يَفْعَلَ) نحو: يَرْنَأَ لحيتَه (3)، و (فَعْنَلَ) نحو: سَنْبَل الزرعُ، ودَنْقَعَ (4). وجميعها جارٍ في المصدر مجرى (دَحْرَجَ) فنقول: صَوْمَعَ صَوْمَعَةً، وَبيْطَرَ بَيْطَرَةً، وَجَهْوَرَ جَهْوَرَةً، وسَلْقَى سَلْقَاةً، وفَلْنَسَ (5)] قَلْنَسَةً، وبرْنَأَ بَرْنَاةً: وسَنْبَلَ سَنْبَلَةً. وإنما ترك ذكرها لجرَيانها في الأحكام مجرى (دَحْرَجَ)، فكان ما زِيدت فيه الياءُ أو الواوُ بمنزلة المعتلِّ الفاءِ أو اللامِ أو العينِ. وهذان البناءان، وهما (الفِعْلاَلُ، والفَعْلَلَةُ) ليسا في (فَعْلَلَ) بمنزلة واحدة، بل أحدهما قياسً، والآخر غيرُ قياسُ، ولكنه كَثُر، فخاف أن يُتَوهَم أنهما معاً قياس فقال: ((واجْعَلْ قَيَاساً ثَانِياً لاَ اَوَّلاَ)) يعني أن ثاني البناءين هو المَقيس، وهو (الفَعْلَلَة) لا طِّراده في كل بناء من الرباعي، مُلْحَقاً وغيرَ ملحق، وأما (الفِعْلاَل) فلا. ولذلك لا تجده في الملحَق إلا نادرا، فلا تقول: جَهْوَر جِهْوَاراً، ولا بَيْطَرَ بِيطَاراً، ولا ما أشبهه.

______ (1) جَهْوَر فلان: رفع الصوت بالقول. ويقال: جَهْوَر الصوتُ ايضا، فالرجل جَهْوَرِيٌّ، والصوتُ جَهْوَرِيٌّ. وهَرْوَل: أسرع بين العَدْو والمشي. (2) سَلْقَاه: طعنه فألقاه على جنبه. وجَعْبَاه صَرعَه. (3) قَلْنَسَه: ألبسه القَلَنْسُوَة. وقد مرَّ تفسيره. ويقال: يَرْنَأ الرجلُ لحيته، إذا صبغها باليَرنَّاء، وهو الحناء، أو مادة مثل الحناء. (4) سَنْبَلَ الزرعُ: أخرج سُنْبُلَه، وهو جزء النبات الذي يتكون فيه الحب. ودَنْقَعَ الرجلُ: افتقر. (5) ما بين الحاصرتين ساقط في الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

وقد قالوا: حَوْقَلَ الرجلُ حَوْقَلَةً وحِيقَالاً، وأنشدوا (1): / ... 480 يا قَوْمُ قد حَوْقَلْتُ أو دَنَوْتُ وبَعْدَ حِيقالِ الرِّجالِ الْمَوْتُ قال سيبويه في باب مصادر الأربعة (2): ((فاللازم لها الذي لا ينكسر عليه ان يَجئ على مثال (فَعْلَلَة) وكذلك كلُّ شيء ألحق من بنات الثلاثة بالأربعة (3))) ثم قال: ((وقالوا: (زَلْزَلْتُه زِلْزَالاً) وقَلْقَلْتُه قِاقَالاً، وسَرْهَفْتُه سِرْهَافاً (3))) فجَعل (الفِعْلاَل) داخلاً على (الفَعْلَلَة) ومُنْكَسِرا، بخلاف (الفَعْلَلة). ثم قال: لِفَاعَلَ الفِعَالُ والمُفَاعَلَهْ وغَيْرُ ما مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ يعني أن (فَاعَلَ) والأفعال المزيدة له من أبنية المصادر بناءان، أحدهما (الفِعَالُ) بكسر الفاء وتخفيف العين، نحو: قَاتَل قِتَالاً، وضَارَب ضِراَباً، وجَادَلَ جِدَالاً، وحَارَب حِرَاباً. وكذلك المعتلَّ، نحو: مَارَى مِرَاءً، وزَانَى زِنَاءً، وعَادَى عِدَاءً (4).

______ (1) لرؤبة، ملحقات ديوانه 170، والمقتضب 2/ 94، والمنصف 1/ 39، 3/ 70، والمحتسب 2/ 358، وابن يعيش 7/ 155، ويروى ((وبعض حيقال)). والحوقلة: الإعياء والضعف. ويقال: حوقل الرجل حوقلة وحيقالا، إذا كبر وفتر عن الجماع. (2) في الكتاب (4/ 85) ((هذا باب مصادر بنات الأربعة)). (3) نفسه 4/ 85. (4) مَارَاه مِراء ومُماراة: ناظره وجادله. وماراه: خالفه وتلوَّى عليه. وزَانَى الرجل زِنَاء ومُزاناة: زَنَى والزِّناء بالمدّ لغة بني تميم، والزنى بالقصر لغة أهل الحجاز. وعادى عِداء ومعاداة: خاصم وكان عدوا. وعادى بين الشيئين: والى وتابع، يقال: عادى بين الصيدين.

والثاني (المُفَاعَلَةُ) نحو: جَالَسْتُه مُجَالَسَةً، وجَالَدْتُه مَجَالَدَةً، ومارَيْتُه مُمَارَاةً، وعَانَيْتُه مُعانَاةً، وعَايَنْتُه مُعَاينةً، وذلك كثير. وفي جَعْله البناءين معاً قياساً مطَّرِداً نظرٌ، فإن القياس إنما هو (المُفَاعَلة) خاصة، وأما (الفِعَال) فلا. قال سيبويه: ((وأما (فَاعَلْتُ) فإن المصدر منه الذي لا ينكسر أبداً (مُفَاعَلَةٌ))) (1) وأتى بالمُثُل. ثم قال: ((وقد قالوا: مَارَيْتُه مِراءً، وقاتَلْتُه قِتَالاً)) (1). قال: ((وجاء (فِعَالٌ) على (فَاعَلْتُ) كثيرا)) (1). انتهى. ولم يَجْعل (فِعَالاً) قياساً وإن كَثُر عنده، ولأنهُ منْكَسِر غير مُطَّرد، فالظاهر أن هذين البناءين كالبناءين المتقدِّمين في (فَعْلَلَ) أحدهما قياس، والآخر ليس بقياس. وقال السِّيرافي: ((اللازمُ عند سيبويه (المُفَاعَلَة) وقد يَدَعون (الفِعَال) و (الفِيعَال) لم يقولوا: جِلاَسَا، ولا جِيلاَساً في (جَالَسْتُه) ولا في (قَاعَدْتُه): قِعَاداً ولا قِيعاداً بالياء (2))). فيلزم على رأي الناظم أن يقول: في (قَاعَدْتُه): قِعَاداً، وفي (جَالَسْتُه): جِلاَسَا، وفي (كالَمْتُه): كِلاَماً، ورَاوَدْتُه رِوَاداً، ونحو ذلك. وإلى ما ظهر هنا ذهب في (التسهيل) فقال: ((ومصدر (فَاعَلَ) مُفَاعَلَة وفِعَال (3))). وأيضاً فإن الناظم إذا سَلَّمنا له القياسَ فذلك فيما لم تعتلَّ فاؤه بالياء، فإن (الفِعَال) فيه نادر، قالوا: يَاوَمْتُه مُيَاومَةً ويِوَاماً (4)، فكان من حقه أن

______ (1) الكتاب 4/ 80، 81. (2) نص كلام السيرافي (5/ 99 أ) ((واللازم عند سيبويه في مصدر فاعلتُ المفاعلة، وقد يَدَعون الفِيعال والفعال في مصدره، ولا يدعون مفاعلة، قالوا جالسته مجالسة، وقاعدته مقاعدة، ولم يقولوا: جِلاسا ولا جِيلاسا، ولا قِعادا ولا قِيعادا)). (3) التسهيل 206. (4) ياوَمْتُه: استأجرتُه اليوم، ويقال: عاملتُه مياومة، كما تقول: مُشَاهرة.

يَستثنى ما فاؤه ياء، وإلا لزم ان يُقاس على مذهبه ما كان مثل (يَاوَمْتُه) فيقال: يَاسَرْتُه يِسَاراً، ويَامَنْتُه يِمَاناً، ويَاءَسْتُه يِأساً، (1) وما أشبه ذلك، وليس كذلك، فهذا مُشْكل. والجواب عن الأول أن يُلْتَزم مقتضى ذلك الظاهر، من إجراء القياس في (الفِعَال). وليس في كلام سيبويه ما يَدفع القياس، وإنما جَعل (المُفَاعَلة) لا تَنْكَسِر، وجَعل (الفِعَال) كثيرا في الكلام قد يَنْكسر، لقوله: ((وجاء (فِعَالٌ) على (فَاعَلْتُ) كثيرا (2))) وذلك قال السِّيرافي: ((وقد يَدَعُون (الفِعَال (3))). وهذا يُشعر بأن (الفِعَال) غالبٌ في (فَاعَلَ) وذلك يكفي في القياس، كالفِعْل والمفعول في فِعْل المتقدم. وعن الثاني بأن ما فاؤه ياء قليل في اللغة/ وبناءُ (فَاعَلَ) من فِعْله قليلٌ في ذلك 481 القليل، و (الفِعَال) ليس بلازم في (فَاعَل) لا سيما وهو يُؤَدِّي إلى كَسْر الياء، وياءٌ مكسورة في أول الكلمة نادرٌ، فلهذا كله لم يَسْتَثنه الناظم، ولم يَعْبأ به. ثم نَبَّه على ما خرج من أبنية المصادر عن القياس في هذا الفصل بقوله: ((وغَيْرُ ما مَرَّ السَّمَاعُ عَاد لَهْ)). معنى ((عَادَلَهُ)) كان له عَدِيلاً ونَظِيراً في أنه لا يُقْدَم عليه إلا بالنَّقْل، ولا مجال للقياس فيه. وأصله من قولهم: عَادَلْتُ كذا بكذا، أي وَازَنْتُه به، وجعلته عَديلاً، والعَدِيل هو الذي يُعَادِلُك في الوزن والقَدْر، ومنه سُمِّي العِدْلُ عِدْلاً (4)، لأنه يُعادل أخاه، فيريد أنك لا تُعَادِلْ غيرَ ما مَرَّ بالقياس،

______ (1) ياسرته: لاينته وساهلته. ويقال: يامَنَ الرجلُ، أي أخذ ذات اليمين. ونقيضه ياسر، أي أخذ ذات الشمال. وياءسته: أيأسْتُه. (2) الكتاب 4/ 81، وقد مر. (3) انظر: الحاشية رقم (2) ص (361). (4) العِدْل: المِثْل والنظير، ونصف الحِمْل يكون على أحد جنبي البعير.

وإنما تُعادله بالسَّماع، أي لا تقَيسُ على غير ما مَرَّ، وإنما تَقْبله من حيث النَّقل في محله المنقول فيه. فأما (فَعَّلَ) الصحيح اللام فقد جاء فيه (التَّفْعِلَة) قليلا، قالوا: كَرَّمْتُه تَكْرِمَةً، وعَظَّمْتُه تَعْظِمَةً، وألفاظ من ذلك قليلة لا يُقاس على مثلها. و(التَّفْعِيلُ) في المعتلِّ اللامِ شاذٌ، قالوا: نَزَّى تَنْزِياً، أنشد البَكْريُّ وغيره، والبيت من المجاهيل (1): بَاتَ يُنَزِّي دَلْوهُ تَنْزِيَّا كما تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا وعلى أن السِّيرافي في كلامه ما يُشعر بجواز الوجهين في الصحيح، إذْ نَصَّ على أنه يقال: كَرَّمتُه تَكْرِمةً وتكريماً، وعَظَّمتُه تَعْظِمَةً وتَعْظيماً، قال: والباب التَّفعْيل (2))) انتهى. وهو محتمل؛ فقد نَبَّه في (التَّسْهيل) على قلة (التَّفْعِلَة) فيه (3)، وهو موافق لما هنا. وندر في مصدر (فَعَّلَ) (الفِعَّالُ) بالتشديد، قالوا: كَذَّبْتُه كَذَّاباً، وفي القرآن: {وكَذَّبُوا بآيَاتِنَا كِذَّاباً (4)} وقالوا: كَلَّمْتُه كِلاَّماً، وحَمَّلْتُه حِمَّالاً، وهو غير مقيس.

______ (1) الرجز في الخصائص 2/ 302، والمنصف 2/ 195، وابن يعيش 6/ 58، والتصريح 2/ 76، واللسان (نزا)، وانظر: العيني 3/ 571. ويروى ((باتت تنزى دلوها)) للمؤنث، كما يروى ((فهي تنزى)) وينزَّى: من النَّزْو، وهو الوَثْب والتحرك. والشَّهْلة: العجوز. (2) نص السيرافي هو ((يريد أن ما كان على فَعَّل فمصدره التفعيل أو تفعلة في الصحيح، كقولك: كرمته تكرمة وتكريما، وعظمته تعظمة وتعظيما، والباب فيه تفعيل)) أهـ (3) انظر: ص 206. (4) سورة النبأ/ آية 28.

وفي (تَفَعَّلَ) قالوا: (تِفِعَّال) نحو تَحمَّل تِحِمالاً، قال سيبويه: ((وأما الذين قالوا: كِذَاباً فإنهم قالوا: تَحَّمْلْتُ تِحِمَّالاً (1))). وفي (فَاعَل) جاء (الفِيعَال) بالياء، قالوا: قَاتَلَ قِيتَالاً، وهم الذين يقولون: تِحِمَّالاً. قال سيبويه: ((فيُوَفِّرون الحروف، ويَجيئون به على مثال (إفْعَالٍ) وعلى مثال قولهم: كَلَّمْتُه كِلاَّماً (2))) يعني أنهم يَتَحرَّوْن أن يأتوا به على مثال (إفْعَال) ليكون مُوَفَّرَ الحروف، وجارياً على فِعْله بزيادة ألف قبل الآخر، ليماثل (أَفْعَلَ إِفْعَالاً) وكأن هذا الذي حَكى لغةٌ لبعض العرب في (فَعَّلَ، وتَفَعَّلَ، وفَاعَل) إلا أنها لا يقاس عليها. وفي (فَعْلَلَ) جاء (الفَعْلاَلُ) بالفتح، فقالوا: الزَّلْزَالُ، والقَلْقَالُ، فَفَتحوا كما فتحوا تاء (التَّفْعِيل). هذا في المضاعَف. وجاء في (حَوْقَلَ) الْحِوقَال وعليه يُروى قوله (3): * وبَعْدَ حِوْقَالِ الرِّجَالِ الْمِوتُ * فجميعُ هذا وما كان مثله موقوفٌ على السماع كما قال. وفَعْلَةٌ لَمرَّةٍ كَجَلْسَهْ وفِعْلَةٌ لهِيْئَةٍ كَجِلْسَهْ في غَيْرِ ذِي الثلاثِ بالتَّا المرَّهْ وشَذَّ فِيهِ هَيْئَةٌ كالحِمْرةْ

______ (1) الكتاب 4/ 79. (2) نفسه 4/ 80. (3) سبق تخريج الرجز، وقبله: * يا قومُ قد حَوْقَلْتُ أو دَنَوْتُ *

كل ما تقدم الكلام فيه من المصادر إنما هو فيما يُراد به الجنسُ، وهو الذي يُفهم مدلوله من ... فعله./ ... 482 وأخذ الآن يتكلم (1) فيما يُراد به المرَّةُ الواحدةَ من الفِعْل، أو الهيئةُ المخصوصة منه، ولابد فيه من إلحاق التاء، لأن المصادر أجناس، ومن شأن الأجناس أن يُبَيَّن (2) أحدُها بالتاء، كَتْمرةٍ وتَمْرٍ، وثَمَرٍ، ونحو ذلك. وتنقسم المصادر بحسب ذلك قسمين، أحدهما مصادر الثلاثي، الثاني مصادر غير الثلاثي، وهو الرباعي فما زاد. فأما مصادر الثلاثي فَبيَّن الناظم أنها تأتي أبداً إذا أُرِيد بها المرَّةُ على (فَعْلَة) بفتح الفاء، لقوله: ((وفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ)) أي لمرة واحدةٍ من ذلك المعنى، كـ (جَلَسَةٍ) فإن المصدر المطلقَ لـ (جَلَسَ) الجُلوسُ على ما تقدم. ومن ذلك قولك: ضَرَبْتُ ضَرْبَةً، وأَكَلَ أَكْلَةً، وشَرِبَ شَرْبَةً، وشَتَمَ شَتْمةً، وقَتَلَ قَتْلَةً، وما أشبه ذلك. وفي تمثيله بـ (جَلْسَة) ما يُبَيِّن أن مصادر الثلاثي إذا كان فيها زيادةٌ على ما في الفعل لا مُعْتَبر بها في البناء للمرَّة الواحدة، بل تُطرح الزيادة، وتُبْنى من الباقي (فَعْلَةٌ) لأن مصدر (جَلَسَ) الجُلُوس، فتُحذف الواو، ولا يقال: جُلُوسَةً واحدةً، ولا قَعَد قُعُودَةً واحدةً، ولا ثَبَتَ ثَبَاتَةً واحدةً، وإنما تقول: قَعْدَةً، وثَبْتَةً. وأَتَى أَتْيَةً واحدةً، ولا يقال: إتْيَانَةً، إلا أن يُسمع.

______ (1) على حاشية الأصل ((وأما الآن فتكلم)). (2) على حاشية الأصل ((أن يتميز)) وكأنه تفسير.

وكذلك إذا لم يكن في المصدر زيادة إلا أنه على غير بناء (فَعْل) إنما يُؤتى فيه بـ (فَعْلَة) كَبطِرَ بَطْرَةً، وهَدَيْتَه هَدْيَةً، وحَلَبَ حَلْبَةً، وحَلَفَ حَلْفَةً، ونحو ذلك، فلا يتعدى (فَعْلَة) أصلا. ووجه ذلك أن منزلة (الجَلْسَة) من (الجُلوس) منزلةُ التَّمْرةَ من التَّمْر، فالأصل في الجنس ووَاحدِه أن يفرق بينهما بالتاء، فالأصل الجَلْس في (جَلَسَ) والقَعْد في (قَعَدَ) والكَذِب في (كَذَبَ)، فإذا قلتَ: القُعود والجُلوس فقد ألحقتَ في المصدر ما ليس في الفعل، مع أن هذه الزيادة غير لازمة، إذ قد يجئ فيه (فَعْل) بلا زيادة كما يجئ بالزيادة، فتقول: جَحَدَ جَحْداً وجُحوداً، وأَتَى أَتْياً وإتْيَاناً، ونحو ذلك. بخلاف مصدر المزيد فيه، كـ (استَفْعَلَ، وأَفْعَلَ) فإن الزيادة في المصدر لابد منها، فلذلك فَرَّقوا بين مصدر الثلاثي إذا أرادوا به المرَّةَ ومصدرِ غير الثلاثي. هذا معنى تعليل سيبويه (1). وشَذَّ في هذا النوع: أَتَيْتُه إتْيَانَةً واحدةً، ولَقِيتُه لِقَاءَةً واحدةً، ولُقْيَانَةً واحدةً. الأخيرة عن الجوهري (2)، والأوُلَيَانِ عن سيبويه. ثم قال: * وَفِعْلَةٌ لهِيْئَةٍ كجِلْسَهْ * يعني أنه إذا أرادوا نوعاً من الفعل مخصوصاً، أو هيئةً منه، فأرادوا أن يُشْعِروا بذلك، ويَدلُّوا عليه باللفظ أتَوْا بالمصدر على (فِعْلَة) مكسَور الفاءِ، ملَحق الهاء، كـ (جِلْسة) إذا أرادتَ بها ضَرْباً من الجلوس. ومثل ذلك: قَتَلْهُ قِتْلةً مُنْكَرَة، وقَعَدَ قِعْدةَ سَوْءٍ، وفلان حَسَنُ الطَّعْمَةِ

______ (1) الكتاب 4/ 45. (2) في الصحاح (لقى) ((لُقْيانةً واحدة، ولَقْيَةً واحدة، ولقَاءَةً واحدة)).

والرِّكْبَة، وماتَ مِيتَةً حَسَنةً وفي الحديث ((إذا قَتَلْتُم فأَحْسِنُوا القِتْلَة (1))) و ((مَنْ فارقَ الجماعةَ ماتَ مِيتةً جاهلَّيةَ (2))) وهو كثير. وحُكم هذا حكم ما تقدم في المصدر المراد به المرَّةُ، لا يُتَعَّدى فيه هذا البناء وإن كان المصدر/ مَزيداً فيه، كالقعْدة من (القُعود) والرِّكْبَة من (الرُّكوب). وكذلك مَثَّله الناظم بـ ... 483 (الجِلْسَة) التي هي من (الجُلوس). وأما مصادر غير الثلاثي فهو الذي قال فيه: ((في غَيْرِ ذِي الثَّلاَثِ بالتَّا المَرَّة)). ((المَرَّةُ)) مبتدأ، وخبره ((بالتَّا)) و ((في غير كذا)) حالٌ من (المَرَّة) والعامل فيه ((بالتاء)). يعني أن ما زاد من الأفعال على الثلاثة فإن المرَّة منه بزيادة التَّاء على المصدر المعهود خاصَّة، لا يُتَعدَّى ذلك فيه، فتقول في الإكرام: إكْرَامَةً، وفي التعظيم: تَعْظِيمةً، نحو: أكرمتُه إكرامةً حَسَنةً، وعَظَّمْتُه تعظيمةً واحدةً، واكْتَسَبْتُ اكْتِسَابَةً، وتَقَاعَسَ تَقَاعُسَةً، وانْطَلق انطِلاَقةً، وتَدَحْرَجَ تَدَحْرُجَةً واحدةً، وما أشبه ذلك. وبقي بعدُ النظرُ في ثلاث مسائل؛ إحداها أن ما ذَكر من الحكم ظاهرٌ فيما لا تاءَ فيه من المصادر، وأمَّا ما كانت فيه التاء بأصل الوضع نحو: أَقَامَ إقامةً، ودَحْرَجَ دَحْرَجَةً، وقاتَل مقاتلةً، واسْتَعان اسْتِعانةً، ونحو

______ (1) سنن أبي داود-أضاحي: 12، والترمذي-ديات: 14، والنسائي-أضاحي: 22، 26، 27، ومسند أحمد: 4/ 123، 124. (2) البخاري-فتن: 2، مسلم-إمارة: 53، 54، 55، وسنن أبي داود-سنة: 27، والترمذي-أدب: 28، والنسائي-تحريم: 6، 28.

ذلك- فلا يُزاد على ذلك فيه لقوله: ((بالتَّا المَرَّة)) ولم يَزِد على ذلك، فإذا كانت فيه التاء فلا يحتاج إلى إلحاقها، وتصير إذ ذاك دلالةُ التاء على المَرَّة بقصد القاصد. ولو قال: تَحلق التَّاءُ للمَّرة لَسَاغ أيضاً، لأن التاء التي تدل على المرَّة غيرُ التاء التي لا تدل عليها. والدَّليل على ذلك أنها لو لم تكن للمرَّة لم تًثَنِّ ما هي فيه ولم تجمعه، كما لا تفعل ذلك بما لا تاء فيه مما يُراد به الجنس. والأمر في ذلك كله قريب. فتقول: أَقَمْتُه إقامةً واحدةً، واستَعَنْتُه اسْتِعانًةً واحدةً، وقاتلتُه مقاتلةً واحدةً. والثانية أن الناظم لم يَنص على ماله مصدران فأكثرُ لَيِّهما تَلحق التاء؟ لكنَّه أطلق القولَ بجواز اللَّحاق، فاقتضى أن لك ذلك في كل واحدٍ منها. وليس كذلك، بل نَصَّ سيبويه وغيرُه على أن التاء تلحق من المصادر الأغلب في الاستعمال لا غير (1)، فالذي على (فَاعَلَ) له (الفِعَالُ، والمَفَاعَلَة) وهذا الثاني هو المستعمل للمرَّة وإن كانت فيه التاء، ولا يقال: ضَارَبَ ضِرَابَةً واحدةً، وإنما يقال: ضَارَبَ مضاربةً واحدةً، والذي على (فَعْلَلَ) له (فَعْلَلَه، وفِعْلاَل) والمستعمل له في المرَّة (الفَعْلَلَة) لأن الأول هو الأغلب. فالحاصل أن الفعل إذا كان له مصدران قياسيَّان فالأغلب هو المَقُول للمرَّة، ا, سَماعيَّان فكذلك، أو قياسيٌّ وسَمِاعيٌّ (2) فالقِياسِيُّ. فكان من حق الناظم بيانُ ذلك كله، لكنه لم يَفعل فبقى إطلاقُه محتاجاً إلى التَّقييد.

______ (1) الكتاب 4/ 86. (2) في الأصل و (ت): ((أو قياسيا وسماعيا)) بالنصب، والوجه الرفع كما أثبت.

والثالثة أن بناء الهَيئْة في الزائد على الثلاثة مَفْقُودٌ في كلامهم، لأن بناء (الفِعْلَة) لا يَتأتَّى فيه، إذ يلزم عن ذلك هدم البِنْية بحذف ما قُصِد إثباتُه فيها، فكأنهم اجتنبوا ذلك واستغنوا عنه بنفس المصدر الأصلي، أو المستعمل للمرَّة. وإنما جاء فيه ذلك نادراً، وهو قوله: ((وشَذَّ فِيهِ هَيْئَةٌ)) الضمير في ((فيه)) عائد إلى ((غير ذي الثلاث)) ويريد أن (الفِعْلَة) فيه للهيئة شاذٌّ، فَتْركُ ذلك إذاً هو الباب. ومما شَذَّ من ذلك قولهم: الخِمْرة، وهي هيئة الاخْتِمار، من الخِمَار، وهو / ما تُغَطِّي 484 به المرأةُ رأسَها. أَتى به مثالاً للشاذّ؛ يقال: اخْتَمرت المرأةُ اخْتِماراً فهي حَسَنَةُ الخِمْرَة، وفي المثَل ((إنَّ العَوانَ لا تُعَلَّم الخِمْرَة (1))). وقالوا: فلان حَسَن العِمَّة، من: اعْتَمَّ الرجلُ وتَعَمَّمَ، اعْتِماماً وتَعَمُّماً، وانْتَقَبتِ المرأةُ انْتِقاباً، وإنها لَحَسَنةُ النِّقْبَةِ. وكان القياس عدم الحذف، إلا أنَّهم هَدَمُوا بِنْيَةَ المصدر، فَبنوا (الفِعْلَة) حرصاً على البيان. والله أعلم.

______ (1) أمثال أبي عبيد 108، واللسان (خمر، عون). والعوان: المرأة الثيب. ومعناه أن هذه المرأة قد عرفت كيف تختمر، لا تحتاج إلى تعلم، وكذلك الرجل المُسِنُّ المجرِّب. ويضرب في الرجل قد حنكته السن مع الحزم والعقل.

أبنية أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة بها

أَبْنِيَةُ أسماء الفاعلين والمفعولين والصِّفاتِ المُشَبَّهةِ بها * هذا الباب تكلم فيه على ما يُقاس من أبنية الصفات الجارية على أفعالها، إذ هي تختلف باختلاف أفعالها، كما تختلف مصادرها على ما تقدم، فإذا حُصر ما يُقاس عليه خرج الباقي إلى باب السَّماع. وفي إشراكه اسمَ الفاعل والصفةَ المشبَّهة في الحكم نظر، وذلك أن اسم الفاعل يُفارق الصفة المشبَّهة في هذا الباب من وجه، ويوافقه من وجه آخر، وليس القياس فيهما سواءً بإطلاق؛ فيتَوافقان فيما فوق الثلاثة؛ فيكون بناء اسم الفاعل كبناء الصفة المشبهة من كل وجه، وإنما يفترقان في المعنى والتعدي وعدمه. ويَتخالفان في الثلاثي، فيكون اسم الفاعل على بناء (فَاعِلٍ) أبدً؛ كان الفعل متعديا أو غير متعدٍّ. ويستوي في ذلك ما كان منه على (فَعَلَ، أو فَعِلَ، أو فَعُلَ) فتقول: زيدٌ قائمٌ غَداً، وضاربٌ الآنَ، وعالمٌ غَداً، وعَامٍ غداً، من: عَمِيَ، وحَاسِنٌ غداً، من: حَسُنَ، فلا يفارق (فَاعِلاً) أصلا إلا إلى أمثلة المبالغة أو بناء اسم المفعول. وأما الصفة المشبهة فقياسها هو المقرَّر في صدر الكتاب، فإذا إنما ذكر في الباب أبنيةَ الصفة المشبهة لا أبنية اسم الفاعل، فكيف يُتَرْجِم عليهما معاً فيقول: ((باب أبنية أسماء الفاعلين والصفات الشبَّهة بها))؟ ثم يقول بعد: كَفَاعلٍ صُغٍ اسْم فاعلٍ)) ثم يأتي بِصَيغ الصفات المشبَّهة، ولم يتعرضَّ لصيغة اسم الفاعل، وهما في الاصطلاح مُتَباينان؟ فالظاهر أن الترجمة غير مُطابِقة، وتبويبُه غير محرَّر، وإنَّما البابُ لأبنية

______ * كلمة ((والمفعولين)) ليست في النسخ، وأثبتها من الألفية وسائر شروحها.

الصفة المشبَّهة خاصة. والفعل على ضربين، ثلاثي وغيره، ولكل واحدٍ منهما قياسٌ في بناء الصِّفة له، فأفردَ كُلاً بحكمه، وابتدأ بالثلاثي فقال: كَفَاعِلٍ صُغِ اسْمَ فَاعِلٍ إذَا مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ يَكُوُن كَغَذَا هذا الكلام يَحتمل تفسيرين، أحدهما أن يريد أن صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي الحروفِ يأتي في القياس كَفَاعلٍ، أي على زنة (فَاعِلٍ) هذا البِنَاءِ، لكن بشرط أن يكون شبيهاً بـ (غَذَا) وذلك أن (غَذَا) فِعْل على (فَعَلَ) بفتح العين، فهو الوصفُ المعتَبر في التقييد بهذا المثال، لأن صيغة/ (فَاعِلٍ) قياسٌ في (فَعَلَ) المفتوحِ العين، كان صحيحاً أو معتلاً، متعدِّياً أو غيرَ 485 متعدٍّ، فلا أَثَر لاعتلال لام (غَذَا) في التَّقْييد، بدليل أنه جعل مُقَابِلَه (فَعُلَ، وفَعِلَ) بالضم والكسر. ولو أراد قيدَ الاعتلال لأتى بعده بمقابِله الصحيح، كما فعل في المصادر. ولا أثَر أيضاً لتَعَدٍّ أو عدمِه؛ لأن (غَذَا) يَتَعدَّى ولا يَتَعدَّى. فمثال تَعَدِّيه: غَذَا الطعامُ الصبيَّ، وغَذَوْتُه أنا باللَّبَن، وقال امرؤ القيس (1): كَبِكْرِ مُقَانَاةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ غَذَاهَا نَمِيرُ الماءِ غَيْرَ المُحَلَّلِ ومثالُ عدم تَعَدِّيه قولُهم: غَذَا الماءُ، إذا سَالَ، وغَذَا العِرْقُ، إذا سالَ

______ (1) من معلقته، وانظر اللسان (نمر، حلل، قنا). ويراد بالبكرْ هنا البَيْضة الأولى من بيض النعام، وخصها لأن الأولى لا يخلص بياضها خلص سائرها. أو هي الدَّرة التي لم تُثْقب. والمقاناة: المخالطة، يريد أنها بيضاء يخالط بياضها صفرة والنَّمير: الماء العذب الناجع في الري. وغير المحلل: أي لم ينزل أحد عليه فيكدر، أو لأنه ملح لا يتغذَّى به.

دَمً، غَذْواً، وغَذَا البَوْلَ، إذا انقطع، وغَذَا الشيءُ، إذا أَسْرَع. وإذا كان مشتركاً في التعدِّي واللزوم لم يتعيَّن فيه واحدٌ منهما، فكان إطلاقه مُشعِراً بأن القياس جَارٍ في الضَّرْبين. ومن مُثُل المتعدِّي: ضَرَبه فهو ضاربٌ، وأَكَلَ فهو آكلٌ، وظَلَم فهو ظالمٌ، وخَلَقَ فهو خالِقٌ، وحَبَسَ فهو حابسٌ (وما أشبه ذلك. ومن مُثُل اللازم: قامَ فهو قائمٌ، وقَعَد فهو قاعدٌ، وجَلَس فهو جالسٌ، وسكت فهو ساكتٌ، وذَهَب فهو ذاهبٌ، ومَشَى فهو ماشٍ) (1) وسارَ فهو سائرٌ، ومَرَّ فهو مارٌّ، وما أشبه ذلك. فحاصل هذا التفسير أن المثال قْيدٌ في ((ذي الثَّلاثَة)) وأنه إنما تَكَلَّم على (فَعَلَ) وحده. والثاني من التفسيريْن أَلاَّ يكون مثالُه تقييداً، بل يريد بقوله: ((إذَا مِنْ ذِي ثَلاثةٍ يكونُ)) أن الفعل الثلاثي على أَيِّ بِنْيَةٍ كان، على (فَعَلَ) أو (فَعِلَ) أو (فَعُلَ) يُصاغ منه مثلُ (فَاعِلٍ) إلا أن هذه الأْبنِية تختلف في إجراء القياس. فأما (فَعَلَ) بفتح العين فـ (فَاِعلٌ) فيه مَقيس، كما مَثَّل. وأما (فَعِلَ، وفَعُلَ) فقد ذَكر أن بناء (فَاعِلٍ) فيهما قليل في قوله بعد: ((وهُو قَلِيلٌ في فَعُلْتُ وفَعِلْ)). وعلى هذا المَنْزَع حَمل ابنُ النَّاظم كلامَه هنا، وهو على الجملة ممكن، إلا أن فيه قَلَقاً في العبارة، وذلك أن الناظم قال: ((كفَاعلٍ صُغِ اسْمَ فَاعِلٍ)) فأمَر بالصَوْغ مطلقا، ومثلُ هذه العبارة لا يُطلقها الناظم أو غيره عُرْفاً إلا فيما كان قياساً، ومَوْكولاً إلى خِيَرة (2) المتكلِّم، فيقال له: افْعَلْ، وليس من شأن ما يُوقَف على السَّماع أن يُطْلَق القول فيه للمتكلِّم. وإذا كان كذلك فلا يصح مثلُ هذا

______ (1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل، وهو الصواب. (2) الِخيَرَة والخيَرة: الاختيار، وهو اسم مصدر من (اختار) وانظر: اللسان (خير).

الإطلاق إلا بالنسبة إلى ما كان القياس فيه جارياً بإطلاق، وذلك (فَعَلَ) المفتوحُ العين وحده. وأما (فَعِلَ، وفَعُلَ) فَـ (فَاعِلٌ) فيهما ليس بقياس، فلا يصح أذاً أن يَدخل تحت كلامه هذان البناءان. فإن قال: بل يَدْخل تحته (فَعَلَ، وفَعِلَ) المتعدِّي وغيره، إلا أنه استَثْنى منه غير المتعدِّي بقوله: ((وفَعِلْ غَيْرَ مُعَدَّى)) فبقي (فَعِلَ) المعدَّي يشمله قولُه: ((مِنْ ذِي ثَلاثَةٍ)) وإذا كان كذلك فهو مطلَق في الثلاثي كلِّه، واستَثْنى ما يجب استثناؤه، وهو كالعمِّ يُخَصَّص، فكأنه يقول: الثلاثي قياسُه (فَاعِلٌ) إلا (فَعُلَ، وفَعِلَ) اللازم فإنه فيهما سَمَاعي. فالجواب أن هذا، وإن أمكن، خلافُ ظاهر المَساق، والظاهر التفسيرُ الأول، وأنه أخذ كلَّ فِعْلٍ يَذكره على حِدَته. والله أعلم. وقوله: ((كَفَاعِلٍ)) في موضع الحال من ((اسْم فَاعِلٍ)) / و ((مِن ذِي ثًلاثةٍ)) خبرُ ((يَكوُنُ)) 486 واسمها مضمر فيها عائد على ((اسْم فَاعلٍ)) و ((ذِي)) صفةٌ لمحذوف، وهو الفعل الممثَّل بـ (غَذَا) والتقدير: صُغ اسَم فاعلٍ شبيهاً بـ (فَاعِلٍ) إذا يكون اسم الفاعل من ذي ثلاثة أحرف كغَذَا. وَهْوَ قَلِيلٌ في فَعُلْتُ وفَعِلْ غَيْرَ مُعَدَّى بَلْ قِيَاسُهُ فَعِلْ وأَفْعَلٌ فَعْلاَنُ نَحْوُ أَشِرِ ونَحْوُ صَدْيَانَ ونَحْوُ الأَجْهَرِ يعني أن صيغة (فَاعِلٍ) قليلٌ استعمالُها عند العرب في (فَعُلَ) المضموم العين مطلقا ولا يكون إلا غيرَ متعدٍّ، وفي (فَعِلَ) المكسور العين بشرط أن يكون غيرَ متعدٍّ، لأن (فَعِلَ) قد يكون متعدِّيا ولازما.

______

فمثال (فَاعِلِ) لـ (فَعُلَ) المضموم العين: حَمُضَ الشيءُ فهو حامض، وفرُه فهو فارِهٌ، وخَثُرَ اللَّبَنَ فهو خاثِرٌ (1)، ومَكُثَ، بالضم، فهو ماكِثٌ، وطَهُرَ فهو طاهِرٌ. ومثاله في (فَعِلَ) الكسور العين الذي لا يتعدَّى: سَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلِىَ فهو بَالٍ، ورَشِدَ [رَشَداً (2)] فهو راشِدٌ، وحَرِدَ؛ أي غَضِبَ، فهو حارِدٌ، ونَقِه من مرضه فهو نَاقِهٌ، حكاه سيبويه (3). ولَبِثَ فهو لابِثٌ، وذلك قليلٌ لا يُقاس عليه. واشتراطُه في (فَعِلَ) المكسور العين عدم التعدي يدل على أنه إن كان متعدياً فليس (فَاعِلٌ) بقليل فيه، بل هو كثير، فيكون إذاً قياساً، وذلك صحيح، نحو: عَلِمَ فهو عالِمٌ، وجَهِل فهو جاهِلٌ، وعَمِلَ فهو عامِلٌ، ولَحِس فهو لاحِسٌ، ولَقِم فهو لاقِمٌ، وشَرِب فهو شارِبٌ، وصَبَّ فهو صَابٌ، ووَطِئَ فهو وَاطِئٌ، وهو كثير. ولما ذكر أن صيغة (فَعِلٍ) قليلةٌ في البنائين احتاج إلى ذكْر ما هو قياسٌ في كل واحد منهما. فأما (فَعُلَ) فأَخَّر ذكره. وأما (فَعِلَ) اللازم فقال: إن قياس الصفة فيه تأتي على ثلاثة أبنية، أحدها (فَعِلٌ) وهو قوله: ((بَلْ قِيَاسُه فَعِلْ)) وضمير ((قِيَاسُه)) عائد إلى (فَعِلَ) القريبِ الذَّكر، و (فَعِلٌ) في كلامه بِنَاءُ الصِّفة، و (فَعِلَ) في الشَّطر قبله بناءُ الفِعْل. ومثال ذلك: وَجِعَ فهو وَجِعٌ، وحَبِطَ فهو حَبِطٌ، وَوَجِلَ فهو وَجِلٌ (4)، وفَزِع

______ (1) فَرُة، فَراهِة وفُروهة: جَمُلَ وحَسُنَ، أو حَذِق ومَهرَ. وخَثُر اللبن خَثارة، وخُثورة، أي ثَخُن وغَلُظ. (2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (3) الكتاب 4/ 35. ويقال: نَقِه الرجل من مرضه، نَقَهاً ونُقُوهاً، إذا بَرِئ، ولكن لا يزال به ضعف. (4) حَبِط العملُ، يَحْبطُ حَبَطاً: بطل. وحَبِطت الدابَّةُ: انتفخ بطنها من كثرة الأكل، أو من أكل ما لا يوافقها. ووَجِلَ الرجلُ، يَوْجَل وَجَلاً: خاف وفزع.

فهو فَزِعٌ، ورَدِىَ فهو عَمٍ (1)، وهو كثير. والثاني (أَفْعَلُ) نحو: أَدِمَ فهو آدَمُ، وشَهِبَ فهو أَشْهَبُ (2)، وعَمِىَ فهو أَعْمَى، وقَهِيَ فهو أَقْهِبُ (3)، وعَوِرَ فهو أَعْوَرُ، وحَوِلَ فهو أَحْوَلُ، وأَدِرَ فهو آدَرُ (4). والثالث (فَعْلاَنُ) نحو: عَطِشَ فهو عَطشانُ، وظَمِئَ فهو ظَمْآنُ، وصَدِىَ فهو صَدْيَانُ، وغَرِثَ فهو غَرْثَانُ (5)، وشَبِعَ فهو شَبْعَانُ، ورَوِىَ فهو رَيَّانُ، وسَكِرَ فهو سَكْرَانُ، وحَارَ يَحارُ فهو حَيْرَانُ. ومَثَّل الناظم لكل بناء مِثَالاً، فأتى للأول بـ (أَشِرٍ) وهو من: أَشرَ يأْشَرُ أَشَراً، إذا لم يَحْمد النَّعمة والعافية. وللثاني بت (صَدْياَنَ) وهو من: صَدِىَ يَصْدىَ صدىً؛ إذا عَطِشَ. والثالث بـ (الأَجْهَرَ) وهو من: جَهِرَ جَهْراً؛ إذا لم يُبْصر في الشمس. هذا ما قال. إلا أن فيه نظراً. وذلك أنه أطلق القولَ في كَوْن هذه الأبنية الثلاثة/ تأتي جارية على (فَعِلَ) من غير ... 487 تَقْييدها بمعنىً أو بموضع، فَيَقتضي ذلك أن يأتي القياسُ بها كلِّها في (فَعِلَ) مطلقا، وليس كذلك بصحيح (6)، بل فيها تفصيلٌ لابُدَّ من اعتباره.

______ (1) رَدِىَ، يَرْدَى ردىً: هلك. ورَدِىَ في الهُوَة: سقط. وعَمِىَ القلبُ أو الرجلُ، يَعْمَى عَمّى: ذهبت بصيرته، ولم يهتد إلى خيرن فهو أعمى أو عَمٍ، وهي عمياء أو عَمِيَة، من قوم عَمِين. وعَمَيت الأخبارُ والأمور عنه وعليه: خفيت والتبست. (2) أَدِمَ، يَأْدَمُ أَدَماً وأُدْمَة: اشتدت سُمرته، فهو آدم، وهي أدماء. وشَهِب، يَشْهَب شَهَباً وشُهْبة: خالط بياض شعره سواد، فهو اشهب، وهي شهباء. (3) عَمِىَ الرجلُ، يَعْمَى عَمىً: ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، فهو أعمى، وهي عمياء. وقَهِبَ، يَقْهَب قَهَباً: كان لونه القُهْبَة، وهي غُبرة تعلو أي لون كان. (4) أَدِرَ الرجل، يَأْدَرُ أَدَرَةً: انتفخت خُصيْته لانسكاب سائل في غلافها. (5) غَرِثَ، يغْرَثَ غَرثاً: جاع. (6) يعني أن الأمر على الوضع السابق، من إطلاق القياس في هذه الأبنية، ليس بصحيح.

فأمَّا (فَعِلٌ) ففي الأدواء وما لَحِق بها، وفي الفَرح وما أشبهه، مما هو راجع إلى الخِفَّة والتحُّرك. وأمَّا (فَعْلاَنُ) ففي الجوع والعطش، والامتلاء والحَيْرة، وإن اختصرتَ فهو للامتلاء حِسً أو مَعْنىً. وأمَّا (أَفْعَلُ) ففي الألوان والعاهات العائبة، والآفات اللازمة، ونحوها. وقد يَدخل بعضُ هذه الأشياء على بعض في بناء الصِّفة، ولكنه قليل وغير مُقيس، وإنَّما الأصل ما تقدم، وإذا اعتبرتَ ذلك بالاستقراء وجدتَه. فإذا ثبت هذا تبيَّن أن كلام الناظم محتاج إلى التَّحرير. والجواب عن ذلك أنه قد أشار بالأمثلة إلى [التَّفصيل المذكور، أعنى (1)] تفصيل المعاني المذكورة. فـ (أَشِرٌ) مبنيٌّ من الفعل الذي يُعطي معنى الخِفَّة والحركة، كالفرَح ونحوه. و(صَدْيَانُ) مبنٌّى من الفعل الذي يُعطي معنى العطش. و(أَجْهَرُ) مبنٌّى من الفعل الذي يعطي معنى الآفة والعاهة. ولم يُرِد أن كلَّ مثال من الثلاثة يَقتضي فِعْلُه أن يُبْنى منه الثلاثة، وإنما مراده ما تقدم. وقد يَحتمل معنى الفعل المعنيَينْ معاً فيُبنى له البناءان، كما يقال: صَدِىَ، فهو صَدٍ وصَدْيَانُ، وأَشِرَ، فهو أَشِرٌ وأَشْرَانُ، لمقاربة ما بينهما. مثل ذلك لا يُنكر، وإن كان على غير ذلك فقليلٌ لا يُعْتَدُّ به.

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل ز (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل.

ثم ذكَر ما يكون من أبنية الصِّفات قياساً في (فَعُلَ) المضموم فقال: وفَعْلٌ أوْلَى وفَعِيلٌ بفَعُلْ كالضَّخْمِ والجَمِيلِ والفِعْلُ جمُلْ وأَفْعَلٌ فيهِ قَلِيلٌ وفَعَلْ وبِسِوَى الْفَاعِل قَدْ يَغْنَى فَعَلْ يعني أن اسم فاعل الفعل الذي على (فَعُلَ) بضم العين يجئ على أبنية كثيرة، ذكَر منها في (التَّسهيل (1)) بضعة عشر بناء، وإنَّما ذَكر هنا منها أربعةً لا غير، منها بناءان هما الأَوْلَى به، يعني أنهما القياسُ فيه إن قيل به. أحدهما (فَعْلٌ) بفتح الفاء وإسكان العين، ومَثَّله بـ (الضَّخْم) وهو من: ضَخُم الشيءُ ضَخامَةً وضَخَماً، إذا غَلُظ (2)، فهو ضَخْمٌ، وضُخَام أيضا. ومِثْله: سَمُحَ فهو سَمْحٌ، ونَذُلَ فهو نَذْلٌ، وفَخُمَ فهو فَخْمٌ، وعَبُلَ فهو عَبْلٌ، وجهُمَ فهو جَهْمٌ (3)، وصَعُبَ فهو صَعْبٌ، وسِهُلَ فهو سَهْلٌ، وحَزُنَ المكانُ فهو حَزْنٌ؛ وجَزُلَ فهو جَزْلٌ (4)، وما أشبه ذلك. والثاني (فَعِيلٌ) نحو: وَسُمَ فهو وَسِيمٌ (5)، وقَبُحَ فهو قَبِيحٌ، وجَمُلَ فهو جَمِيلٌ، وجَرُؤَ فهو جَرِئٌ، وعَظُمَ فهو عَظِيمٌ، وصَغُرَ فهو صَغِيرٌ، ومَلُحَ فهو مَليحٌ،

______ (1) ص 195. (2) على حاشية الأصل ((إذا عَظُم)) والضَّخامة تجمع بين الصفتين. (3) سَمُحَ، يَسْمُح سماحة: صار من أهل السَّماحة، وهي الجود والكرم، أو السهولة واللِّين. ونّذُل الرجل، يَنْذُل نذالة، أي خَسَّ وحَقُر. وفَخُم الشِيء، يَفْخُم فخامة: ضَخُم وعظم قدره. وفخامة المنطق: جزالته. وعَبُلَ الرجل، يَعْبُل عَبالة: غَلُظ وضخم وابيضَّ. وجَهُمَ يَجْهُم جَهامة: صار عابس الوجه كريهه. (4) حَزُن المكان، يحزُن حُزونة: خشن وغلظ. وجَزُل جَزالة: عظم. وجزالة اللفظ: استحكام قوته، ومجانبته الرقة. (5) وَسُمَ يَوْسُمُ وَسَامة: جَمُل، وحسن حُسْنا وضيئا ثابتا.

وسَمُجَ فهو سَمِيجٌ، وصَبُحَ فهو صَبيحٌ (1)، ونحو ذلك. وهذان البناءان هما اللذان كَثُرا في الباب (فَعُلَ) وما سواهما قليل. وتمثيل الناظم بـ (جَمُلَ فهو جَمِيلٌ) بمعنى: تَمَّ حُسْنُه وكَمُل. وهنا سؤالان: أحدهما أن يُقال: إن الناظم هنا قال: ((وفَعْلٌ اوْلَى وَفعِيلٌ بفَعُلْ)) فَعَبَّر بالأولوية، ولم يَنُصَّ على القياس فيهما، فهل يكون ذلك بمعنى أنه مَقيس أم لا؟ والجواب أنه إنما لم يصرِّح بالقياس، لأنه لم يَطَّرد فيهما السَّماعُ عنده اطِّراداً يُقَطع بالقياس فيهن وإنما جاء في الكلام كثيراً / خاصَّة، والكثرةُ على الجملة في هذه المعاني لا ... 488 تقتضي القياسَ البَتَّةَ، بل قد تكون وقد لا تكون، فكأنه تردَّد في إجراء القياس، فأخبر بأن هذين البناءين أَوْلَى من غيرهما، وبَقى النظر في القياس لاجتهاد المجتهد. ولهذا قال في كتابه ((التسهيل)): وكَثُر في اسم فاعله (فَعيلٌ وفَعْلٌ (2)) وقال في ((الشرح)) (3): ومن استعمل القياس فيهما لعدم السماع فهو مصيب. فلم يَجزم، كما ترى، في ذلك بجرَيان القياس. هذا ما رأى. وأما غيره فيرى أن (فَعِيلاً) في (فَعُلَ) قياسٌ مطَّرِد؛ إذ قد كَثُر كثرة يُطلق معها القياسُ إطلاقا، وهو ظاهر كلام سيبويه (4)،

______ (1) سَمُجَ، يَسْمج سَماحة: قَبُح. والسَّمِيج والَّمْج: الخبيث الطعم أو الرائحة. وصَبُحَ الوجه، يَصْبحُ صَباحة: أشرق وجمل، ويقال: صَبح الغلام' فهو صَبِيح. (2) ص: 195. (3) انظر: شرح التسهيل للناظم [ورقة 208 - ب]. (4) الكتاب 4/ 28 فما بعدها.

وعليه فَسَّر الشُّراح (1). وأما (فَعْلٌ) فليس عندهم بقياسٍ أصلاً، ولم يَكثر كثرةً يُظَنُّ معها القياس، وشاهدُ هذا الاستقراءُ. ولا شك أن القدماء اعرفُ بذلك من المتأخِّرين؛ فَتَوقُّف الناظم عن التصريح بالقياس في (فَعْلٍ) ظاهرٌ، وعدمُ القياس هو الأظهرُ، وأما توقُّفه عنه في (فَعِيلٍ) فغيرُ ظاهر، والصوابُ إجراؤه. والسؤال الثاني: لِمَ قال: ((والفِعْلْ))؟ ومِمَّاذا تحرَّز به؟ فإن الظاهر أنه حَشْو. والجواب أنه حَسَنٌ من التحرُّز؛ إذ كان ((جَمِيلٌ)) يقال صفةً للفاعل، وهو الي فِعْله (جَمُلَ) ويقال صفةً للمفعول (فَعِيلٌ) بمعنى (مَفْعُول) لأنه يقال: جَمَلَ فلانٌ الشَّحْمَ، بالفتح، أي أَذَابَه، وجُمِل هُوَ، أي أُذِيب، فهو مَجْمُولٌ وجَمِيلٌ، كمَجْروحٍ وجَرِيحٍ، فخشى أن يُظن أن (جَمِيلاً) (فَعِيلٌ) بمعنى (مَفَعْوَل) من: جَمَلْتُه، وليس كلامه إلا في (فَعُلَ) واسم فاعله، فعَيَّن ما قَصد تمثيلًه. ثم بَيَّن أن من الأبنية القليلة الاستعمالِ في (فَعُلَ) بناءَيْن، أحدهما (أَفْعَلُ) والآخر (فَعَلٌ) بفتح الفاء والعين. أمّا (أَفْعَلُ) فقليلٌ فيه كما قال، كقولهم: شَنُعَ شَنَاعَةً، فهو شَنيعٌ وأَشْنَعُ (2)، وحَمُقَ فهو أَحْمَقُ، وخَرُقَ فهو أَخْرَقُ (3). وأمّا (فَعَلٌ) فكذلك ايضاً، نحو: حَسَنَ فهو حَسَنُ، وبَطُلَ فهو بَطَلٌ،

______ (1) يعني شراح كتاب سيبويه. (2) شَنُع، يَشْنُع شَناعة: اشتد قبحه. ويقال: شَنَّع عليه، إذا فضحه وشَوَّه سمعته. (3) خَرُق، يَخْرُق خُرْقا: حَمُق.

وسَبُطَ الشَّعْرُ، فهو سَبَطٌ وسَبِطٌ (1). وقد ظهر بهذا أن (فُعَالاً) بضم الفاء، عند الناظم، من القليل الذي لا يُقاس عليه، وذلك عند غيره [غيرُ] (2) صحيح، بل (فُعَالٌ) شريكُ (فَعِيلٍ) بنص سيبويه، وإن كان أقلَّ استعمالاً منه، فهو في الكثرة بحيث لا يقال: غنه قليل، نحو كَبير وكُبَار، وشَجِيع وشُجَاع، وطَوِيل وطُوَال، وعَرِيض وعُرَاض، وعَظِيم وعُظَام، وعَجِيب وعُجَاب، ومَلِيح ومُلاَح، وهو كثير. فإذا كان كذلك لم يصح جَعْلُ (فُعَالٍ) من الذي لا يُقاس عليه، وكذلك فَعل في (التَّسهيل) أَدخل (فَعْلاً) في باب الكثير، وأخرج عنه (فُعَالاً) (3) والأمر عند الأئمة بالعكس، غير أن عادة ابن مالك الاستبدادُ برأيه في أمثال هذا، والاتكالُ على استقرائه، فإن كان السَّماع كما قال فيَشْتبَه، ولكنه بعيد مع تَضافُر الأئمة على خلافه، فالله أعلم. ثم قال: ((وبِسِوَى الفَاعِلِ قَدْ يَغْنَى فَعَلْ)) يعني أن الفعل الذي على (فَعَلَ) بفتح العين قد يَستغني عن بناء (فاعِلٍ) بغيره من الأبنية، وذلك أنه قد قَدَّم أن ما كان على (فَعَلَ) فاسم الفاعل منه على (فَاعِلٍ) فأخبر هنا أنه قد يَنتقل عن ذلك إلى بناء آخر من غير أن يأتي في الفعل غيرهُ، لأن حقيقة/ الاستغناء أن يُترك القياسُ المطَّردِ في الكلام، فلا يُستعمل في الموضع الذي 489 شأنُه أن يُستعمل فيه، استغناءً بغيره، واطِّرَاحاً للأوَّل، كان المستَغْنَى به من مادة لك اللفظ المهملَ أو من غيره، كما استغنَوْا بـ (لَمْحَة) عن مَلْمَحة الآتِي عليه (مَلاَمح) وبـ (شِبْهٍ) عن مَشْبَهٍ الذي جاء عليه (مَشَابِهُ) وبـ (لَيْلَةٍ) عن لَيْلاَةٍ التي أتى عليها (لَيَالٍ) وكما استغَنوا بـ

______ (1) السبط من الشعر: المسترسل غير الجَعْد، ومن الرجال: الطويل. (2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل و (ت)، ومستدرك على حاشية الأصل. (3) ص 195.

(تَرَكَ، وتَارِكٍ) عن: وَذِرَ ووَاذِر، ووَدَعَ ووَادِعٍ، وأشباهُ ذلك كثير (1). فكذلك استغَنْوا هنا عن (فَاعِلٍ) بغيره، ومثال ذلك: شَاخَ يَشِيخُ، فهو شَيْخٌ، ولم يقولوا: شائِخٌ. وشَابَ فهو أَشْيَبُ، ولا يقال: شَائِبٌ. وطَابَ يَطِيبُ، فهو طَيَّبٌ، ولا يقال: طائِبٌ. وعَفَّ يَعِفُّ، فهو عَفِيفٌ، ولا يقال: عَافٌّ. فلو اسْتُعْمِل ما هو قياسٌ وما هو سماعٌ فليس موضعَ استغناء، كقولك: مَالَ يَمِيلُ، فهو مَائِلٌ وأَمْيَلُ، وما أشبه ذلك. وكل هذا قليل فبم يَعتبره. وهنا تَمَّ كلامه على الثلاثي، ثم شرع فيما فوقه فقال: وزِنَةُ المُضَارعِ اسْمُ فَاعِلِ مِنْ غَيْرِ ذِي الثَّلاَثِ كالمُواصِلِ مَعَ كَسْر مَتْلُوِّ الأَخير مُطْلَقَا وضَمِّ مِيمٍ زائدٍ قَدْ سَبَقَا يعني أن اسم الفاعل من غير الثلاثي الحروفِ زنتُه كزِنَة فِعْله المضارع، لا يخالفه إلا في موضعين، أحدهما الحرف الذي قبل الآخِر، فإنه في اسم الفاعل مكسورٌ أبداً، ولا يَلزم ذلك في المضارع؛ إذ قد يكون مكسورا، نحو: يُوَاصِلُ، ويَنْطَلِقُ، وقد لا يكون كذلك، نحو: يَتَغَافَلُ، ويَتَواصَلُ، وَيَتَكَبرَّ، ويَتَدحْرَجُ، ويَتَبَيْطَرُ. وذلك قوله: ((مَعَ كَسْرِ مَتْلوِّ الأَخِيرِ مُطْلَقَا)) أي إن ذلك لازم في اسم الفاعل من أَيِّ الصِّيغَ كان من صِيَغ المضارع، بخلاف المضارع. والثاني: الحرف السابق في أول الكلمة؛ فإنه في اسم الفاعل ميمٌ مضمومة، وفي المضارع أحدُ حروف (أنيت) وذلك قوله: ((وضَمُّ مِيمٍ زَائدٍ قد سَبَقا)).

______ (1) انظر الخصائص 1/ 266، 267 (باب الاستغناء بالشيء عن الشيء).

ومَثَّل ذلك بقوله: ((كالمُواصِل)) فقد حصل فيه ما شَرط من موازنة مضارعه، وهو ((يُوَاصِلُ)) مع كسر ما قبل آخِره، وجَعْلِ ميمٍ مضمونةٍ أولَه. ومِثْله: مُكْرِمٌ، من (أَكْرَمَ)، ومُنْطَلِقٌ من (انْطلَقَ) ومُقْتَدِرٌ من (اقْتَدَر)، ومُتَماسِكٌ من (تَماسَكَ)، مُسْتَكْبِرٌ من (اسْتَكْبَر)، ومُدَحْرِجٌ (1) من (دَحْرَجَ) ومُسَحْنِككٌ من (اسْحَنْكَكَ (2). وكذلك المعتلّ، نحو: مُتَمَادٍ من (تَمَادَى)، ومُلْقٍ من (أَلْقَى)، ومُسْتَدْعٍ، من (اسْتَدْعَى) وما أشبه ذلك. ومعنى قوله: ((كالمُواصِلِ)) اي مع مضارعه الذي هو (تُواصِلَ) وعلى هذا المعنى يَسْتَتِبُّ قوله ((وزِنَهُ المُضَارعِ اسْمُ فَاعِل)) إذا (يُوَاصِلُ) و (مُوَاصِلٌ) متوازيان في الحركات والسكنات، وعدد الحروف، ومُقابلة الزَّائد بالزائد، والأصليِّ بالأصلي، عَيْناً لا جِنْساً، إلا ما ذكره من كَسْر ما قبل الآخر، وتعويضِ الميم من حرف المضارعة. وإنَّما قال: ((وضَمُّ مِيمٍ)) فأَلزم الضمَّ، لأن الضم في أول المضارع قد يكون نحو: يُوَاصِلُ، وقد لا يكون نحو: يَتَدَحْرَجُ، بخلاف اسم الفاعل، فإن الضمَّ فيه لازم. وما جاء من نحو: مِنْتِنٌ من (أَنْتنَ)، ومِعِين في (مُعِين) من (أَعَانَ)، ومِغِيرَة في مُغِيرَة، فشاذٌّ يُحفظ ولا يُقاس عليه، والأصل الضَمُّ، وإنما / كُسِرت إتْباعاً لحركة ما بعدها (3). ... 490

______ (1) في الأصل و (ت): ((مُتَدحرِج)) وما أثبته من (س) وحاشية الأصل، وهو الصواب. (2) يقال: اسْحَنْكَكَ الليُل، إذا اشتدت ظلمته. والمُسْحَنْكِك من كل شِيء: الشديد السواد. (3) الخصائص 2/ 143، واللسان (نتن).

وقوله: ((مُطْلَقَا)) يريد أن كَسْر ما قبل الآخر مُطَّرِد لا يَنْكسر، إلا ما شَذَّ من قولهم في (مُنْتِنٍ): مُنْتُنٌ (1)، وقالوا: مُنْحُدُرٌ في (مُنْحَدَرٍ) (2). وما عسى أن يجئ من ذلك، بخلاف المضارع فإن الكسر فيه ليس بإطلاقٍ كما مَرَّ. فإن قيل: إن اشتراط كسر ما قبل الأخِر لزوماً قد يُخَلُّ بعضَ إخلال، لأن المضاعَف لا يَنْكسر ما قبل الآخر فيه، نحو: مُعْتَلٌ، من (اعْتَلَّ) ومُكِبٌّ، من (أَكَبَّ) ومُسْتِكَنٌ، من (اسْتَكَنَّ) ومُحْمَرٌّ، من (احْمَرَّ) ومُحْمَارٌ، من (احْمَارَّ). وكذلك المعتلُّ العينِ كمُسْتَفِيد، من (اسْتَفَادَ) ومُنْقَاد، من (انْقَادَ) ومُحْتَال، من (احْتَالَ) ونحو لك. وأيضاً فأن قوله: ((وضَمُّ مِيمٍ زَائدٍ قَدْ سَبَقا)) ليس فيه ما يُبَيِّن كيف تَسْبِق هذه الميم، أمعَ حرف المضارعة أم في موضعه؟ فالجواب عن الأوَّل أن كَسْر ما قبل الآخِر نارةً يكون ظاهراً كالأمثلة المذكورة، وتارةً يكون مقدرا، وذلك أن ما اعتُرِض به من الأمثلة الأصلُ فيها كَسْرُ ما قبل الآخِر، لكن أَدَّى التَّصريفُ والإدغام إلى الخروج في اللفظ عن ذلك الأصل، فأطلق الناظمُ الكسَر اعتباراً بالأصل في الجميع؛ فالصحيحُ منها بقى على الأصل كما مَثَّل، وما سواه دَخله الإعلال، والأصل: مُعْتَلِلٌ، ومُكْبِبٌ ومُسْتَكْنِنٌ ومُحْمَرِرٌ، ومُحْمَارِرٌ.

______ (1) الخصائص 2/ 143، وذكر فيه ثلاث لغات هي: مُنْتِن، وهي الأصل. ومِنْتِن- بكسر الميم والتاء معا، على إتباع كسرة الميم لكسرة التاء. ومُنتُن- بضم الميم والتاء معا، على اتباع ضمة التاء لضمة الميم. (2) المُنْحَدَر: اسم لمكان الانحدار، ومنه: مُنْحَدَر الجبل. ومن قال: مُنْحُدُر، بضم الحاء والميم، فقد أتبع الضمة الضمة، مثل أُنْبِيك وأُنْبُوك. وانظر: الخصائص 2/ 143، واللسان والتاج (حدَر).

وكذلك: مُسْتَفْيِدٌ ومُنْقَوِدٌ، ومُحْتَوِلٌ، فلا اعتراض. وعن الثاني أن مثاله بَيَّن ان الميم عِوَضٌ من حرف المضارَعة لا زائدٌ على ذلك. وأيضاً فحرفُ المضارعة مختصٌّ بالفعل، فلا يُتَوهَّم بقاؤه في اسم الفاعل. وأيضاً فلو بقي حرف المضارعة مع الميم لم تَحصل الموازنةُ بينه وبين المضارع، وهو قد قالك ((وَزِنَةُ المُضَارِعِ اسْمُ فَاعِلِ)) فلم يُمكن إلا أن تكون الميم عِوَضاً لا زائدة. وقوله: ((اسمُ فاعلِ)) مبتدأ، خبرُه ما قبله، وهو على حذف المضاف، أي زِنَةُ اسم الفاعل زِنَةُ المضارع، يريد: كَزِنَته، أو اسمُ الفاعل ذو زِنَةِ المضارع. و((مِنْ غَيْر ذِي الثَّلاَث)) في موضع الحال من ((اسم الفاعل)). وإِنْ فَتَحْتَ مِنْهُ مَا كَانَ انْكَسَرْ صَارَ اسْمَ مَفْعُولٍ كمِثْلِ الْمُنْتَظَرْ يريد أن بِنْية ((اسم المفعول)) من غير ذي الثلاث موافقةٌ لبِنْية ((اسم الفاعل)) لا فرق بينهما إلا في فتح ما قبل الآخِر الذي كان في اسم الفاعل مكسورا. وما سوى ذلك فهو مِثْلُه من زِنَة المضارع، مع سَبْق الميم المضمومة. ومثاله (المُنْتَظَرُ) فإن اسم فاعله كان (مُنْتَظِراً) بكسر الظاء، فلما فُتِحت صار اسمَ مفعول. ومثله: مُنْطَلَقٌ إليه، ومُسْتَمْسَكٌ به، ومُتَطَاوَلٌ عليه، ومُكْرَمٌ، ومُوَاصَلٌ، ومُدَحْرَجٌ، ومُتَدَحْرَجٌ عليه، وما أشبه ذلك. والمضاعَف والمعتلُّ العينِ قد يَشترك مع اسم الفاعل في اللفظ، فلا فرق بينهما إلا في التقدير، فُيقَدَّر هنا الفتحُ، كما يقدَّر هنالك الكسرُ، فتقول: مُعْتَلٌّ، ومُنْدَقٌّ، ومُخْتَارٌ، ومُنْقَادٌ، إلا ما كان من نحو: مُسْتَعَانٌ، ومُسْتَكَنٌّ، ومُكَبٌّ، فإن

______

الفرق في ذلك ظاهر. والضمير / في (مِنْهُ) عائد إلى القسم المذكور أخيرا، وهو ما زاد على الثلاثة، وأما ... 491 القسم الثلاثيُّ الحروفِ فهاهو يَذكره، وذلك قوله: وَفِي اسْم مَفْعُولِ الثُّلاَثِىِّ اطَّرَدْ زنَةُ مَفْعُولٍ كَآتٍ مِنْ قَصَدْ يعني أن اسم المفعول الذي من الفعل الثلاثي اطَّردَ فيه بناءٌ واحد، وهو بناء (مَفْعُول) وذلك كالمثال الآتي من هذا الفِعْل الذي هو: قَصَدَ، يَقْصِدُ، إذا بنيتَه للمفعول فقلت: مَقْصُودٌ. ومثل ذلك: مَضْرُوبٌ، ومَأْكُول، وكذلك مَشْرُوبٌ، ومَعْلُومٌ. فالأوَّلان من (فَعَلَ) والآخِران من (فَعِلَ). ويستوي في ذلك المتعدِّي واللازم، فتقول: مَذْهُوبٌ به، ومَقْعُودٌ به، ومَوْثُوقٌ به، وما أشبه ذلك. وكذلك المعتَلُّ نحو: مَرْمِىٌّ، ومَغْزُوٌّ، ومَغْزِيٌّ، ومَقُولٌ، ومَبِيعٌ، ومَكِيلٌ. أصلها: مَرْمُويٌ، ومَغْزُووٌ، ومَخْوُوفٌ، ومَقْوُولٌ، ومَبْيُوعٌ، ومِكْيُولٌ. إلا أن الإعلال صَيَّرها إلى ما رأيتَ، فهي في الأصل على (مَفْعُول) وبذلك الاعتبار دَخلت في زِنة (مَفْعُول) كما تقدم في نظيره. ونَابَ نَقْلاً عِنْهُ ذُو فعِيلِ نَحْوُ فَتَاةٍ أَوْ فَتى كَحِييِ ((ذُو فَعِيل)) هو صاحب هذا البناء الذي على (فَعِيل) وهو المثال الذي يُؤْتَى به على وزن (فَعِيل) كـ (الكَحِيل) فإنه (ذو فَعِيل) أي ذو الوزن المشار إليه.

______

يعني أن بناء (فَعِيل) قد ينوب عن بناء (مَفْعُول) لكن ذلك موقوف على السَّماع، وهو قوله: ((نَقْلاً)) فلا يُقاس على ما سُمع منه. ومَثَّله بقوله: فَتىً كَحِيل، وفَتَاة كَحِيل، وهو ممَّا لا تَلحقه التاءُ في المؤنَّث. ونَبَّه على ذلك هنا بالمثال، وتمامُ بيانه في باب ((التأنيث)) لأنه (فَعِيل) بمعنى (مَفْعُول) (1). ومثل ذلك: كَلَمْتُهُ فهو كَليمٌ، وجَرَحْتُه فهو جَرِيحٌ، وقَتَلْتُه فهو قَتِيلٌ، وأَسَرْتُه فهو أَسِيرٌ، وجَمَلْتُ الشَّحْمَ، فهو جَمِيلٌ، ودَهَنَ لحيتَه، فهي دَهِينٌ، وخَصَفَ النَّعْلَ، فهو خَصِيفٌ، ولُدِغَ فهو لَدِيغٌ، وغَسَلَ ثَوْبَه، فهو غَسِيلٌ، وما أشبه ذلك. وما ذَهب إليه، من وَقْف هذا على السمَّاع، هو مذهبُه أيضاً في (التَّسهيل) (2). وحُكي عن بعض النحويِّين (3) أنه يَجعله قياسا، لكن فيما ليس له (فَعِيل) بمعنى (فاعِل) كقَتِيلٍ وجَريح، فإن كان له (فَعِيل) بمعنى (فاعِل) لم يُقَس فيه، نحو: عَلِم فهو عَلِيمٌ، لا يُبْنى له (فَعِيل) بمعنى (مَفْعُول) لأن له (فَعِيلاً) بمعنى (فاعِل) نحو واللهُ عَلِيمٌ حَكِيم، وكذلك: ضَرِيبُ قِدَاحٍ، للضَّارب بالقِدَاح، وصَريمٌ للصَّارِم (4).

______ (1) حيث يقول الناظم في ذلك الباب: ومِنْ فَعِيلٍ كقَتِيلٍ إنْ تَبِعْ مَوْصُوفَه غالباً التَّا تَمْتَنِعْ (2) قال في التسهيل (254): ((وصَوْغ فَعِيل بمعنى مفعول مع كثرته غير مقيس)). (3) في (ت) ((اللغويين)). (4) القداح: جمع قِدْح، وهو قطعة من خشب تعرَّض قليلا وتسوَّى، وتخطُّ فيها حزوز، تميَّز كل قِدْح بعدد من الحزوز، وكان يستعمل في الميسر. والضَّرِيب: الموكلَّ بتلك القداح، يضرب بها والصَّرِيم والصارم: السيف القاطع.

والذي حَمل هذا القائلَ على ما ذَهب إليه كثرةُ ما جاء من ذلك في السمَّاع. ولَم يبلغ عند ابن مالك مبلغَ القياس، قال (في التسَّهيل) (1): وهو على كثرته مقصورٌ على السمَّاع. ويبقى في هذا الباب مسألةٌ تتعلق بكلامه، وهي ما يظهر منه أن اسم الفاعل والمفعول مبنيَّان من الفعل، ومشتقَّان منه، ألا ترى إلى قوله: ((كَآتٍ مِنْ قَصَدْ)) فإن معناه: كالمفعول من (قَصَدَ) وكذلك قوله أول الفصل قبل هذا: ((وزِنَةُ المُضارع اسْمُ فَاعِلِ ... مِنْ غَيْرِ ذِيِ الثَّلاَثِ)) وقول أولَ الباب: كَفَاعِلٍ صُغ اِسْمَ فاعل/ اذا ... 492 مِن ذِي ثَلاَثَةٍ يَكُوُنُ كَغَذا وهذا أَصْرَحُ من ذلك. والمسألة مختلَف فيها، فمن النحويين البصريين من يجعل اسم الفاعل والمفعول مشتقَّين من الفعل، لا من المصدر، وهو رأي لم يَرْتضه الناظمُ قبل هذا في ((باب المفعول المطلق)) بل قال بعد ما ذكر الفعل والصفة: ((وكَوْنُه أَصْلاً لهَذَيْنِ انْتُخِبْ)) يعني ((المصَدْر)) فخالفه هنا حَسْبَما أعطاه ظاهرُ كلامه، فإن كان رَأىَ هنا خلاف ذلك فهما

______ (1) قال في التسهيل (254): ((وصَوْغ فَعِيل بمعنى مفعول مع كثرته غير مقيس)).

مذهبان له في وقتَيْن، وهو بعيد، لكن كوُن الفعلِ هو الأصلَ للصفة رأيتُه منقولاً عن بعضهم. وصرح به عبد القاهر (1)، واستَدل على هذا المذهب بأن ((اسم الفاعل)) قد جرى على الفعل في أحكامه وأنحائه، وأيضاً فهو دَالٌّ على معناه، فكان الظاهر انه فَرْعُ عنه، وأن الفعل هو الأصل. ويرجَّح المذهبَ الأولَ، وهو عدم الاشتقاق من ((الفِعْل))، أن المشتق يَدُلُّ على معنى ما اشتُقَّ منه على التَّمام، كالفعل مع المصدر. وإذا كان كذلك لزم أن يدل ((اسمُ الفاعل، والمفعول)) على الزمان المعيَّن، لكنها لا يدلان عليه، فليسا بمشتقَّيِنْ من ((الفعل)) الدالَّ على الزمان المعيَّن، فرجع الأمرُ إلى ما يدلان عليه على التمام، وهو ((المصدر)). ولِبَسْط الكلام على الاحتجاج موضع غير هذا (2). وقد كنت ذَكرتهُ في كتاب ((الاشتقاق)) مُسْتَوْفي. وإن كان الناظم لم يَنْتقل عما تقدم له فهذا الكلام متناقض لذلك. والحق أن الذي اعْتَمد عليه هو ما تَقدَّم، وإنَّما أتى هنا بهذه العبارة على عادة النحويَّين في التَّساهل في مثلها، حتى إذا أخذوا في تحقيق المسألة أوضحوا مقاصدهم فيها. وحقيقة العبارة أن لو قال: إذَا من مَصْدرِ فِعْلٍ ذي ثلاثةٍ يكون كغَذَا، لكن لو قال هذا لفاته قَصْدُ جَريان ((اسم

______ (1) لعله يقصد الإمام الكبير أبا بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرحاني النحوي. وكان من كبار أئمة العربية والبيان، وصنف: المغني في شرح الإيضاح، والمقتصد في شرحه أيضا، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والجمل، والعوامل المائة، والعمدة في التصريف، [ت 471 هـ]. (2) انظر الخلاف في أصل الاشتقاق، وهل هو الفعل أو المصدر، في الإنصاف 2/ 235 (المسألة الثامنة والعشرون).

الفاعل)) على فِعْله في الحكم، وهو المقصود، فأَتَوْا (1) بعبارة على ما قَصدوا من الجرَيان في الحكم على الفعل، ولم يبالوا بالاشتقاق (2).

______ (1) في (ت) ((فأتى)). (2) إلى هنا ينتهي الجزء الثاني. وقد كتب بعده ((نجز الجزء المبارك بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه. ويتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث الصفة المشبهة باسم الفاعل)) سنة 804. كما كتب على الحاشية بخط مغربي مخالف ((الحمد لله، انتهيت في مطالعة هذا السفر والذي قبله على التوالي مطالعة تفهم وتدبر واستفادة إلى هذا المحل ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى عام 1057، وكتب عبد الله تعالى محمد بن محمد بن علي القوجبلي وفقه الله بمنه)). كما كتب على الحاشية أيضاً ((بلغ مقابلة جهد الاستطاعة ليلة الأربعاء أوائل شهر ربيع الأول النبوي عام سبعة وخمسين وألف. وكتب عبد الله تعالى محمد بن محمد بن علي القوجبلي، وفقه الله وسامحه بمنه)).

الصفة المشبهة باسم الفاعل

/ بسم الله الرحمن الرحيم 493 رَبَّ يسر وأعن يا كريم (1) الصفة المشبهة باسم الفاعل عَرَّف في (التَّسهيل) الصفة المشبَّهة باسم الفاعل بأنها ((المُلاَقِية فعلاً لازماً، ثابتاً معناها تحقيقاً أو تقديراً، قابلةً للمُلابسة والتجرُّدِ، والتَّعريفِ والتَّنكير، بلا شرط (2))). وتحرَّز ب (المُلاقِية فِعْلاً) من المنَسْوب، وبـ (كَوْن الفعل لازما) من المتعدَّي، وبـ (ثَبَات معناها) من نحو: قَائِم وقاعِد، وبـ (تقدير الثبوت) على ما يجري من غير الثابت لمعنى مجراه، وبـ (قَبُول المُلابسة والتجرُّد) من نحو: أَخٌ، وأَبٌ، وما أشبهها، وبما بعد ذلك من (أَفْعَل) التَّفضيل. واجتَزأ هنا بخاصةٍ واحدةٍ من خَواصِ الصفة التي لا توجد في غيرها، وذلك أن قال: صِفَةٌ اسْتُحْسِنَ جَرُّ فَاعلِ مَعْنىً بِهَا المُشْبِهَةُ اسم الفَاعِلِ فيريد أن خاصية الصفة المشبَّهة المعرفِّة لها استحسانُ جَرِّ الفاعل بها، أي فاعِلها من جهة المعنى، وذلك أنك تقول: مَرَرْتُ برجلٍ طاهرِ

______ (1) البسملة والدعاء ساقطان من (ت؛ س). (2) التسهيل 139.

الثَّوبْ، فهذا مستَحسن من الكلام، واصله: طاهرُ ثوبُه، لكنه جُرَ لمعنىً سيُذكر في موضعه. فـ (طاهرٌ) إذاً صفة مشبَّهة باسم الفاعل. ومثل ذلك: ضَامِرُ البَطْنِ، وخَامِلُ الذَّكْرِ، وخَفِيفُ الظَّهْرِ، وحَسَنُ الوَجْهِ، وضَخْمُ الجُثَّةِ، ويَقْظَانُ القَلْبِ، ونحوه. والأصلُ في هذه الأسماء المضافِ إليها الفاعليَّةُ، فاستُحْسِنَ جَرُّها، فهي إذاً، أعني الصفات الجارَّةَ لها، صفاتٌ مشبَّهة. ويدَخل في هذا (أَفْعَلُ فَعْلاَءَ) و (فَعْلاَنُ فَعْلَى) ومؤنَّثَاهما، فتقول: أحمرُ الوجهِ، وحَمْراءُ الثَّوْبِ، ويَقْظَانُ القلبِ، ويَقْظَى الذِّهِن. وكذلك الصفات التي لا تَجِرْي على فِعْلٍ، كالمَنْسوب إذا قلت: قُرَشِيُّ الأبِ، هاشميُّ الأمِّ، غَرْنَاطِيُّ الدَّارِ، مَدَنيُّ المذهبِ، أَشْعَرِيُّ العقيدةِ. وكالصَّفات الخُماسِيَّة إذا قلت: شَمَرْدَلُ الأبِ، جَحْمَرِشُ الأمَّ، وما اشبه ذلك. وقد تَحَّرز في (التَّسهيل) من هذا القسم كما تقدَّم (1)، فصار ((المنسوبُ)) وما لا يُلاَقِيِ فعْلاً عنده ليس من الصفة المشبَّهة. وليس كذلك، فقد عَدَّها غيرهُ من ذلك، وقد أنشد سيبويه للفرزدق (2):

______ (1) يعني قوله في تعريفها: ((الملاقية فعلا لازما)) ص: 139. (2) الكتاب 2/ 40، وديوانه 50، والخصائص 2/ 194، وابن يعيش 3/ 89، 7/ 7، والخزانة 5/ 234 (هارون)، 3/ 293، 334، 4/ 554 (بولاق). وديافي: منسوب إلى دِيَاف، وهي قرية بالشام تنسب إليها الإبل والسيوف. وحَوْران: إقليم بالشام. والسليط: الزيت. يهجو عمرو بن عفراء الضبي، ويصفه بأنه قروي يكد ويشقى لكسب عيشه، وليس حاله حال العرب الخلص الذين تشغلهم الحروب والنجعة.

وَلكِنْ دِيَافِيٌّ أَبوه وأُمُّهُ بَحَوْراَنَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهْ ومَثَّل بقوله: أَقُرَشِيُّ قَوْمُك؟ وأَقُرَشِيٌّ أَبَواكَ (1)؟ وإذا رَفع الظاهرَ قياسا، ولم يكن جارياً على الفعل، وساغ أن يثنَّى وُجمع، ويُؤنثَّ ويذكَّر- فهو شأن الصفة المشبَّهة، فيقال: قُرَشِيُّ القومِ، وقُرَشِيُّ الأبَويْن، ولا مانع من ذلك، وكذلك ما كان من نحو: جَحْمَرش، وإن لم يُلاقِ فعلاً أصلا، فالصَّحيح ما ذَهب إليه هنا. وقد ظَهر أن الصفة إذا لم يُستحسن جَرُّ الفاعل بها فليست من هذا الباب/، ... 494 وذلك قولك: مررت برجلٍ ماشٍ أبوه، وجالسٍ أخوه، ومتجاهلٍ ابنُه، ومُنْطِلقٍ غلامُه، ونحو ذلك، وبها مثَّل في ((الشرح (2))). فليست هذه من الصفات المشبَّهة، لأن لا يُستحسن أن يُجرَّ بها الفاعل فتقول: مَاشِى الأبِ، وجالسُ الأخِ، ومتجاهِلُ الابنِ، ومنطِلقُ الغلامِ، فمثل هذا لا يقال لوجود معنى الفِعْل العِلاَجي (3). وإنما قال: ((مَعْنىً)) لمعنىً حَسَن، وهو أن الإضافة هنا ليست من جهة كون المضاف غليه فاعلاً لفظاً ومعنى، حتى يقال: إنَّ خَفْضه من رَفْع؛ لأنه يلزم من ذلك إضافةُ الشيء إلى نفسه، وإنما هي من جهة كون المضاف إليه منصوبا، كضاربُ زيد، كما سيَتَبيَّن إن شاء الله.

______ (1) الكتاب 2/ 36. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: أ-153). (3) الفعل العلاجي هو ما يفتقر في إيجاده إلى استعمال جارحة أو نحوها، نحو ضربت زيدا، وقتلت عمرا. وغير العلاجي مالا يفتقر إلى ذلك، بل يكون مما يتعلق بالقلب، نحو: ذكرت زيدا، وفهمت الحديث.

فلو قال: ((استُحْسِن جَرُّ فاعلٍ بها)) وسكت عن تقييد الفاعليَّة بأنها معنوية، لأوهم أن الفاعل في حقيقة اللفظ هو المخفوض بالصفة، وذلك غير صحيح، لأن الفاعل، وهو فاعلٌ، لا يُخفض بالإضافة أبدا. هذا ما عَرَّف به، وهو جارٍ، غير أن فيه نظراً، وذلك [أن] (1) جواز إضافة الصفة إلى فاعلها معنى مبنيٌّ على كَوْنها صفةً مشبَّهة، لأنها لا تضاف إليه إلا بعد تحقُّق ذلك عند المتكلِّم، وذلك بالفارق بين اسم الفاعل وبينها، الذي قَرَّره هو وغيره، من كونها بمعنى الثبوت الحالي تحقيقاً أو تقديرا، وهو الفارق الأصلي. فإذا تقررَّ أن الصفة لا تُضاف إلى فاعلها معنى إلا بعد تحقُّق كونها صفةً مشبَّهة فتعريفُ كَوْنها مشبَّهةً بجواز إضافتها إلى فاعلها دَوْرُ (2)، فلا تَتَعرَّف أبداً. وأيضاً فكلُّ ما مَثَّل به أن الإضافة فيه إلى الفاعل مستقْبَحةُ فيمكن أن يُعتقد فيها الثبوت، فتصير صفاتٍ مشبَّهة، تُستحسن فيها الإضافةُ إلى الفاعل، فلا يستقيم إذاً هذا التعريف بَوجْه. وقد اعترض عليه ابنُه (3) بهذا بعينه، ولم يُجِب عنه. والجواب عنه أن الفارق بين اسم الفاعل والصفة المشَّبهةَ ما بيَّنه الناظم

______ (1) ما بين الحاصرتين زيادة تستقيم بها العبارة. (2) الدَوْر- عند المناطقة- توقف كل من الشيئين على الاخر. (3) هو بدر الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن مالك الدمشقي النحوي. كان إماماً في النحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والمنطق، جيد المشاركة في الفقه والأصول. صنف: شرح ألفية والده، وشرح كافيته، وشرح لاميته، وتكملة شرح التسهيل، والمصباح في اختصار المفتاح في المعاني، وغير ذلك (ت 686 هـ).

في التعريف المذكور، فهو المعتَمد عنده دون غيره. وقد صَرَّح بذلك في كتاب ((التسهيل)) فقال: ويميَّزها من اسم فاعل الفعل اللَّازم اطَّرادُ إضافتها إلى الفاعل معنى (1). هذا ما قال، وهو غير ما عَرَّف له هنا، إلا أنه شرطَ هنا أن تكون من لازمٍ ولحاضرٍ، فإن كان من متعدٍّ أو لغير حاضر لم تكن صفة مشبَّهة، وذلك يَتَبَيَّن بما يكون من معمول. وإذا كان كذلك فجميع ما تقدَّم من الأمثلة التي أَتى بها المؤلف في ((الشَّرح)) على أنها ممَّا يُستقبح فيها الإضافة إلى الفاعل معنىً غيرُ مطابقة للمقصود، من حيث هي مشترِكةٌ في قَصْد الثبوت والعِلاج (2). وإنما مثال ذلك فيما كانت الصفة يُفهم منها العلاج، إمَا بالعمل في ظرف الزمان، وإمَّا بنصب المفعول، كقولك: زيدٌ قائمٌ أبوه غداً، أو الآن، فها هنا لا تُستحسن الإضافة/، ... 495 فلا يقال: زيدٌ قائمُ الأب غداً، وكقولك: زيدُ ضاربٌ أبوه عَمْراً، فلا تقول: زيدٌ ضاربُ الأبِ عَمْراً، لأن ((قائمُ)) فيهما بمنزلة ((يَقُومُ)) والمخفوض إنَّما انخفض من نَصْبٍ، فلو قلت ضاربُ الأبِ عمراً لكان فرعاً عن قولك: ضاربٌ الأبَ عَمْراً، وهو ممنوع، لأنك لا تقول: زيدُ يضربٌ الأبَ عمراً، والأبُ غيرُ عمرو. فإذا عمل في ظرفٍ أو غيرِه فالعلاجُ له لازم، وإذا لم يَعمل فذلك قد يدلُّ على الثبوت. على أن عمله في الظرف إذا كان حالا لا يعيَّن العلاج على طريقة

______ (1) التسهيل: 139. (2) سبق التعريف بالفعل العلاجي وغير العلاجي.

ما قال المؤلف في ((باب الحال)) (1) من أن الصفة تعمل في الحال، نحو: زَيْدٌ سَمَحٌ ذَا يَسَارٍ، فكذلك تَعمل في الظرف من باب أوْلَى، فإذا كان الظرف (الآنَ) وما في معناه لم يكن فيه دليل على العلاج، وإنما يعيِّن العلاجَ عملهُ في الظرف المستقبَل أو في المفعول. وإذا ثبت هذا فالعامل لا يَصلح أن يضاف إلى فاعله مَعْنىً. فخرج من ذلك الرَّسْمِ جَرِّ الفاعل سوى عدم العمل المذكور، ولا في استقباحِه سوى العمل. ولا شك أن مالم يَعمل يُستحسن فيه جَرُّ الفاعل على الجملة. وإنما يَبْقى عليه في هذا أن مالم يَعمل من الصفات، وهو محتمِلٌ للعلاج، فيكون اسمَ فاعل، وللثبوت فيكون صفةً مشبَّهة- لم يَتَبيَّن الفرقُ بينهما الفرقُ بينهما في الحدَّ، ولا كبيرَ ضَيْرٍ في هذا، وأن يَبْقَى ذلك محتِملاً للوجهين، ومُحالاً به على القصْدين، فلا اعتراض إذاً على الناظم في هذا، لأنه لم يَقصد أن يبيَّن الصفَة المشبَّهة إلا بالإضافة إلى الوجه الآخر الخاصِّ باسم الفاعل، وهذا صحيح كما تقرر. فإن قيل: بل الإشكال باقٍ فيما إذا لم يكن ثَمَّ عملٌ في مفعول ولا ظرف، وهو الموضع المحتاج إلى الفَرْق، فإنك إذا قلت: زيدُ قائمُ ابوه فـ (قائمُ) محتمِل أن يكون اسم فاعل مُرَاداً به الثبوت، وأن يكون صفةً مشبَّهة مراداً به الثبوت، وعلى فَرضْ العلاج لا تصحُّ إضافته إلى فاعله، ويصحُّ على الوجه الآخر. وإذا كان كذلك فخِنَاقُ الإلزام لَم يَتَّسع، وقَيْدُ الإشكال لم يَنْحَلَّ. فالجواب أن الفرق يتبيَّن بلك وإن لك يكن تصريحا؛ فإن اسم الفاعل إنما يظهر كونُه اسمَ فاعل بعمله النصبَ في مثل هذا، أو بكونه بمعنى

______ (1) انظر: التسهيل: 110.

(سَيَفْعَل) إذا نَصب الظرف، فإذا لم يكن واحدٌ من القسمين، وهو مَصُوغ- كما قال- من فعلٍ لازم، ومعناه الحاضر (1) فظاهُره أنه صفة مشَبهة لا اسم فاعل، بدليل اطِّراد جَرِّ الفاعل فيه (2)، فلا ينبغى إذاً أن نقول على رأيه: إن نحو ((قائمٌ أبوه)) محتمِل، بل الظاهر فيه أنه صفة مشبهَّة، فإذا أحْتَمل غير ذلك فخلافُ الظاهر، ولا يقدح في التعريق. وقوله: ((المُشْبهةُ اسمَ الفاعِل)) مبتدأ، وهو على حذف الموصوف. وخبره قوله: ((صِفَةٌ)) و ((بها)) متعلِّق بـ ((جَرُّ)) والتقدير: الصفةُ المشُبِهةُ اسمَ الفاعل صفةٌ استُحسن جَرُّ فاعلٍ في المعنى بها. و ((معنىً)) منصوبٌ على التَّمييز، كقولك: زيدٌ زُهْيرٌ شعراً، أي: ما هو في المعنى كالفاعل. / وصَوْغُهَا مِنْ لَزِمٍ لِحَاضِر ... 496 كَطَاهِرِ القَلْبِ جَمِيلِ الظاَّهِرِ قَصْدُه هنا أن يذكر ما تُفارق فيه الصفةُ المشبَّهةُ اسمَ الفاعل من الأحكام، فإنها تُجامعه في أحكام، وتُفارقه في أخرى. فالتي تُجامعه فيها كدلالتها على الحدثِ وصاحبه، وكونِها تَقْبل التَّثنيةَ والجمع، والتذكير والتأنيث، وما أشبه ذلك. والتي تُفارقه فيها كصَوْغها من غير المتعدِّي لزوماً، ولزومِ تأخير ما تَعمل فيه، وكونِه سَبَبِياً، ونحو ذلك مما يذَكره. وقصْدُه الأولُ إنما هو ذِكْر ما به يَفترقان، فهو الضروريُّ هنا، لما

______ (1) (ت) ((ومعناه الحال)). (2) على حاشية الأصل ((إضافته إلى الفاعل)) وكأنه تفسير له.

يَنْبني على ذلك من الأحكام. واللاَّزِم هنا مقابِل المتعدِّي، والحاضرُ هو الزَّمان الحاضر. يريد أن الصفة المشبَّهة إنما تُصاغُ من فعلٍ غير متعدّ يكون زمانه حالا، فلا يجوز أن تُصاغ، أي تُصاغ، اي تُشْتق، من الفعل المتعدِّي لتضادَّ العلاج والثبوت، إذ كان التعدَّي يقَتضي العلاجَ والفعلَ في الغير، والصفةُ المشبَّهة من لوازمها الثبوتُ، فلا يجتمعان، فلا تقول: زيدٌ مضُارِبُ الأَبِ عَمْراً، لأن ((مُضَارِبا)) هنا في معنى ((يُضارِبُ)) وقد تقدَّم بيان هذا. وكذلك لا يجوز ان تُصاغ من الماضي ولا من المستقبل، لأن ذلك أيضا يَقتضى أنه قد كان الفعلُ وانقطع، وذلك يَلزمه العلاجُ، أو سيكون بعد أن لم يكن، ويلزمه العلاج أيضا. ولذلك تقول: زيدٌ حاسِنٌ أمسِ أو غداً، ولا تقول: حَسَنٌ، لأن اسم الفاعل من الثلاثي على (فَاعِل) أبداً، بخلاف الصفة، فإنها قد تكون كذلك وقد لا تكون كما تقدَّم. فالحاصل أن الفعل الذي تُصاغ منه الصفةُ لا يكون متعدِّياً، ولا يكون ماضياً ولا مستقبلاً. وأتى لها بمثالين وهما: طاهِرُ القَلْبِ، وجَمِيلُ الظَّاهِر. وإنما مَثَّل بمثالين، وقد كام يُجزئه مثالٌ واحد، لوجهَيْن: أحدهما أن يدل على أنَّ الصفة المشبَّهة تكون منقولة من باب ((اسم الفاعل)) وذلك قوله: ((طَاهِرُ القَلْبِ)) وتكون غير منقولة، بل مَبْنيَّةً في الأصل

______

للمعنى اللازم الحاضر، وهو قوله: ((جَمِيلُ الظَّاهِر)) وقد بَيَّن في ((باب اسم الفاعل)) أن اسم المفعول قد يَدخل في هذا الباب وإن لم يكن اصله ذلك (1). والثاني أن يدل على أن الصفة المشبَّهة لا يَلزم فيها الجريانُ على فعلها حتى تكون موازنةً له كاسم الفاعل، بل قد تكون كذلك، كطَاهِر القَلْبِ، وقد لا تكون كذلك كجَميلِ الظَّاهِر. وهذا الثاني أكثرُ إن كانت مَصُوغة من الثلاثي، كقولك: ضَخْمُ الجُثَّةِ، ولَيَّنُ العَرِيكَةِ (2)، وعَظِيمُ المِقْدارِ، وحَسَنْ الوَجْهِ، ويَقْظَانُ القَلْبِ، ويَقِظ القَلْبِ، وأَحمْرُ اللَّوْنِ. وأما أن كانت من الرباعيِّ فأكثرَ فجرَيانُها على الفعل لازمٌ، كمُنْطِلَقِ اللِّسانِ، ومُسْتَسْلِم/ النَّفْسِ، ومطْمَئِنِّ القَلْبِ، ومُتَناسِبِ الخَلْقِ. ... 497 ثم هنا نَظَران: أحدهما انه قال ((وصَوْغُهَا مِنْ لازِمٍ)) فدَلَّ على أن صَوْغها من المتعدَي لا يَسُوغ. وهذا خلافُ ما رآه في (التسهيل) فإنه أجاز هنالك صَوْغها من المتعدَّي، لكن بشرط ان يُقصد به الثبوت. بحيث لا يكون في اللفظ متعدَّيا، وذلك قوله: ((وإن قُصِدَ ثبوتُ معنى اسم الفاعل عُومل معاملةَ الصفةِ المشبَّهةِ ولو كان من متعدٍّ إن أُمِن اللَّبْسُ وِفاقاً للفارسيِّ)) (3). وشَرَط أَمْنَ اللَّبْس أيضاً، ولم يَشترطه الفارسيُ، بل قال: إن من قال: زَيْدٌ الحسَنُ عَيْنَينِ فلا بأس أن يقول: زيدٌ

______ (1) انظر: ص 314. (2) العَرِيكَة: الطبيعة والنَّفْس، ويقال: هو ليَّن العَرِيكة، أي سَلِس منقاد، وهو شديد العريكة، أي أبيُّ النفْس. (3) التسهيل: 141.

الضاربُ أَبَوَيْينِ، والضَّاربُ الأَبَوَيْن، والضَّاربُ الأبَوانِ. و (الأَبَوَانِ) فاعلان على قولك: الحسَنُ الوَجْه. الأمرُ في ذلك كلِّه واحدٌ، فهي أذاً ثلاثةُ أقوال: أحدها مَنْعُ ذلك بإطلاقٍ، والثاني جوازهُ بإطلاق، والثالث أنه جائزٌ. مع أَمْن اللَّبْس، ممنوعٌ مع اللَّبْس. فإن كان هنا مخالفاً لـ (التَّسهيل) حسبما يَظَهر منه فإن رأيه هنا أصحُّ، لأن عامَّةَ الباب بِنَاؤُها من اللازم لا من المتعدِّي. وأيضاً فإن معنى الفعل المتعدِّي ينافي قصدَ الثبوت ظاهراً، إذ كان المفعول مطلوباً للفعل، فكأنَّه محذوفٌ اختصاراً أو اقتصاراً مع أنه مُراد، فلا يجتمعان في الاعتبار. ويمكن أن يكون رأيه هنا كرأي الفارسيِّ، ويكزن قائلاً بالجواز، ويُحمل قوله: ((مِنْ لاَزِم)) [على أنه] (1) يُريد به كونَ الفعل لازماً بالوَضْع أو بالقَصْد، فإن الفعل المتعدِّي إذا قُصِد فيه تركُ ذكر المفعول أشْبَهَ اللازمَ، فكأنَّه موضوعُ (وضعاً ثانياً) (2) لِلَّزوم لا للتعدَّي. ويدلُّ على ذلك أمران: أحدهما الاعتبارُ بالفعل المبنيَّ للمفعول، فإنه قد عُومل معاملةَ اللازم، فجَرتْ منه الصفةُ المبْنِيَّةُ للمفعول المقُامُ فيها المفعولُ الصَّريحُ مَجرى الصفةِ المشبَّهة كما تقدَّم في باب ((اسم الفاعل)) (3). وإذا ثبت ذلك هناك مع ذكر المفعول تصريحا، نحو: مَضْروُب الأبِ، ومحمودُ المقَاصدِ، فهنا أَجْوَزُ حين لم يُذكر المفعولُ أصلا، بل قُصِد اطَّراحُه. والثاني: وجودُ السَّماع بذلك وإن كان قليلا، فهو تَنْبيه على معاملة

______ (1) ما بين الحاصرتين زيادة تستقيم بها العبارة، وليست في النسخ. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت). (3) انظر: ص 318.

المتعدَّي معاملةَ اللازم، فمن ذلك ما أنشَد في ((الشَّرح)) من قول الشاعر (1): مَا الرَّاحُم القَلْبِ ظَلاَّمٌ وإنْ ظُلِمَا ولا الْكَرِيمُ بَمنَّاعٍ وأنْ حُرِمَا والثاني من النَظَرين أن الناظم نَقَصه شرطٌ ثالث في الصفة المشبَّهة لم يَنُص عليه، وهو قَصْدُ الثبوت، وهو شرط ضروريٌّ، فإنه الوصفُ اللازمُ لها، الذي به تتميَّز من اسم الفاعل، إذ الصفة قد تكون مَصُوغةً من لازم ولحاضرٍ، ولا تكون صفةً مشبَّهة، فتقول: زيدُ ((حاِسنٌ)) الآن، بمعنى أنه في حال وجودِ الحُسْنِ، ولا تقول هنا: زيدٌ حَسَنٌ، بخلاف/ ما إذا اردتَ ثبوتَ الوصف ... 498 له في الحال، فإنك تقول: حَسَنٌ، ولا تقول: حَاسِنٌ، ولذلك قال الله تعالى لنبيَّه عليه السلام: {وضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} (2) [على (فاعل) إشعارا بأنه في حال حدوث الضِّيق، ولم يقل: ((وضَيَقٌ به صَدْرُكَ))] (3) إذ لم يكن الضيِّق وصفاً ثابتاً في صدره عليه السلام. وعلى الجملة فهذه قاعدةٌ مُتَّفقٌ عليها عند أهل اللسان، فاشتراط الثبوت للصفة المشبَّهة لابُدَّ منه. والناظم لم يَشترطه، فكلامه مَدْخول (4). فإن قيل: إنَّما قَصد بيانَ ما يُشترط في الفعل المصُوغِ منه لا في

______ (1) المساعد 2/ 223، والهمع 5/ 104، 105، والدرر 2/ 137، والعيني 3/ 618 ويروي ((ظلاما)) بالنصب على عمل ((ما)) الحجازية. وقائله مجهول، ومعناه واضح. (2) سورة هود/ آية 12. (3) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل و (ت) واثبته من (س) وحاشية الأصل. (4) الدَّخَل بالتحريك: العيب والغش والفساد.

الصفة المصُوغة، ووصفُ الثبوت إنما يُشترط في الصفة المصُوغة لا في الفعل المصوغ منه. قيل: هذا غير مَخْلص، لأن الصفة إذا لم يُقصد بها الثبوت فليست بصفة مشبَّهة، وإن كانت من لازمٍ لحاضرٍ، وهو إنَّما قَصد الفرقَ بين البابين، ولكنَّ العُذْرَ عنه أنه اتَّكل على التعريف الأول، وهو استحسان جَرَّ الفاعِل بها، فهو الفارقُ والمستلِزمُ للثبوت، لكنْ بالشرطين المذكورين هنا، فكأنَّه إذا حَضَر الشَّرطان ظَهر قصدُ الثبوت؛ لأنه الغالب في الاستعمال، فلم يَحْتَجْ إلى ذكره، إذ بَيَّن مَظِنَّته، والله أعلم. وأما الآية فهي من القسم الذي ليس بغالب، فلا يَقَدْح فيما قصَد، وكذلك جميعُ ما ذُكر من بابها. هذا غايةُ ما وجدتُ في الاعتذار عنه، فمن وَجد أقوى منه فَلُيَأْتِ به. وعَمَلْ اسْم فَاعِلِ المُعَدَّي لَهَا على الحَدِّ الذي قَدْ حُداً يعني أن الصفة المشبَّهة لها من العمل مثلُ ما لاسم الفاعل المَصُوغ من الفعل المتعدِّي إلى المفعول، فتَرْفع وتَنْصب، كما يرفع اسمُ الفاعل المتعدَّي وتَنْصب، فتقول: زيدٌ حَسَنٌ ابوه، كما تقول: زيدٌ ضاربٌ ابوه، إذا اقتصرتَ على الفاعل دون المفعول. وتقول: زيدٌ حَسَنٌ أَباً، كما تقول: زيدٌ ضاربٌ عَمْراً. وكذلك تقول: زيدٌ حَسَنُ الأبِ، كما تقول: زيدٌ ضَاربٌ الغلام، وسيُبَيِّن عملهَا الرفعَ والنصبَ والجرَّ. فهذا الذي قَصَد، لكن قوله: ((على الحَدِّ الذي قد حُدَّا)) فيه نظر، وذلك أن ظاهره عدمُ الفائدة، لأن معناه: كما تقدَّم في اسم الفاعل، وهو معنى

______

قوله: ((وعَمَلَ اسُمِ فَاعِل المُعدَّي لَهُ)) فأي فائدة في الإخبار بذلك؟ والجواب أن له فائدتين، إحداهما أن ظاهر هذا الكلام التضادُّ مع ما قَدَّم آنفاً، لأنه ذَكر أن بناء الصفةِ هذه من غير المتعدِّي، ثم أخبر أن عملها عملُ اسم فاعل الفعل المتعدِّي، فظاهرُ هذا التضادُّ. فنَبَّه على أنهما ليسا بمتضادَّيْن، وأن الحدَّ المحدود من كونها من الفعل غير المتعدِّي لا يُضادُّ عملها عملَ ما يتعدى في اللفظ. فأجمع بينهما على ما تقتضيه ملاطفة الصَّنعة (1). وبيانُ ذلك أن العرب حين قالوا: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهُه- أرادوا تخفيفَ هذا الكلام على وجهٍ لا يُخِلُّ بالمعنى، فنقلوا الضمير/ الذي في (الوَجْه) إلى الصفة، ليستكنَّ فيها، فيخفَّ ... 499 اللفظُ ولا يَخْتَلَّ المعنى، إذ كان نسبةُ الحسن إلى (الوَجْه) نسبةً له إلى صاحب الوجه، ولم يريدوا أن يحذفوا الضمير جملةً، لئلا تبقى الصفة دون ضمير يعود منها إلى الموصوف، فلما تحملَّت الضمير ارتفع بها، فصار ((الوَجْه)) في اللفظ دون ضمير، كأنه مُسْتغْنىً عنه، مع أنه مطلوب من جهة المعنى، لأنه صاحب الحُسْن في الحقيقة، ولا يصح أن يُحذف، بل لابد من ذكْره ليُعلم أن الحُسْن منقول للأول عن غيره، فأشبه ((حَسَنٌ)) عند ذلك اسمَ الفاعل المتعدَّي إلى واحد، من حيث كان كلُّ واحدٍ منهما طالبا بعد مرفوعه مَحَلاً، فنُصِب ((الوَجْهُ)) على التَّشبيه بالمفعول به، فصار قولك: (زيدُ حِسِنٌ وجهاً) كقولك: زيدٌ ضاربٌ عمراً. وكما جازت الإضافة في اسم الفاعل إلى منصوبه أُضيفت الصفة

______ (1) (ت) ((الصفة)) وهو تصحيف.

أيضاً إلى منصوبها على التَّشبيه، فقالوا: زيدٌ حَسَنُ الوجهِ، كما قالوا: زيدٌ ضاربُ عمروٍ، فإذاً لا تضادَّ بين الموضعين. والثانية الإشارةُ إلى ما حُدَّ في اسم الفاعل من شروط إعماله، فكأنَّه يقول: تَعمل عملَ اسم الفاعل بالشروط المذكورة، وذلك أن تعتمد على شِيءٍ كالنَّفْي والاستفهام والندِّاء، وأن تقع خبراً لدى خبر، أو حالاً لدى حال، أو صفةٍ لموصوف، فلا تعمل على غير ذلك. وأما شرط ألاَّ تكونَ بمعنى الماضي فَبيَّنٌ من قوله: ((وصَوْغُها من لازمٍ لحاضرِ)) إذ لا يتأتَّى كونُها مشبَّهة بدونه. وبهذا فَسَّر ابنُ الناظم (1) قوله: ((على الحَدِّ الَّذِي قَدْ حُدَّ)) وهو صحيح إذا انضمَّ إلى الوجه الأول، فكأنَّ قوله: ((على الحدِّ الَّذِي قَدْ حُدَّ)) يريد: في هذا الباب، وفي باب ((اسم الفاعل)). وقوله: ((لها)) خبر المبتدأ الذي هو ((عَمَلُ)) و ((على الحدَّ)) متعلِّقٌ بـ (اسم فاعلٍ) حالٌ، أي: وعملُ اسم الفاعل المذكور كائنٌ لها حالةَ كونها على الحدِّ المحدود قبل هذا. ثم لما كان الظَّاهر من هذا الإطلاق جَرَيانَ الصَّفة مَجرى اسم الفاعل في توابع العمل، من كونه يعمل في كل اسم، ويتصرف في معموله بالتقديم- استدرك ذلك فأخرجه من ذلك الإطلاق بقوله: وسَبْقُ ما تَعْملُ فِيهِ مُجْتَنَبْ وكَوْنَه ذَا سَبَبيَّةٍ وَجَبْ يعني أن الصفة المشبَّهة في عملها تَفْترِق من اسم الفاعل في أمرين:

______ (1) سبقت ترجمته.

أحدهما أنها لا يتقدَّم معمولهُا عليها بخلاف اسم الفاعل. ونَفْىُ التَّقديم في غير المنصوب ظاهر، وإنما المخبِّل (1) للجواز المنصوبُ خاصَّة؛ إذ لا يخلو المعمول أن يكون مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً. فإن كان مرفوعاً فهو فاعل، وقد مَرَّ له أن الفاعل لا يتقدَّم على فعله. ذَكره في ((باب الفاعل)). وإن كان مجروراً فهو مضاف إليه، والمضاف إليه لا يتقدَّم على المضاف. وهذا مذكور في ((باب الإضافة)). فلم يتناول هذا/ اللفظُ إلا لمنصوبَ خاصة، وذلك نحو: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوجهَ، ... 500 فلا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ الوجهِ حَسَنٍ، كما تقول: مررتُ برجلٍ زيداً ضاربٍ، فكما لا يجوز تقدُّم الفاعل على فعله كذلك لا يجوز هنا تقدم (الوَجْه) على (حَسَن). ولا يُعترض هذا التوجيهُ بنحو: أعطيتُ زيداً درهماً، من حيث كان أصل ((زيد)) الفاعليَّة؛ إذ كان منقولاً من (عَطَا يَعْطُو) وإذا كان كذلك فاقتضى ألا يتقدَّم على ((أَعْطْيتُ)) لكن تقديَمَه جائز، فاعتبارُ أصله من الفاعليَّة لا يصح، لأنا نقول: إن ((زيدا)) في (أعطيتُ زيداً درهماً) إنَّما

______ (1) المْخَبَّل: المُفسد، من قولنا: خَبَل فلان الإنسانَ والحيوانَ، وخَبَّلهَ، إذا أفسد أعضاءه بقطع أو غيره' فلا تؤدي عملها. (2) حيث قال هنالك: وبَعْدَ فِعْلٍ فاعلٌ فإنْ ظَهَرْ فَهْوَ وإلاَّ فضَميرُ اسْتَتَرْ

أصلهُ الفاعليةُ في بِنْيةٍ أخرى قد ذَهبت، وصار ((أعْطَى)) إنَّما يَطلبه بالمفعوليَّة فَصَحَّ التقديم، كضربتُ زيداً، وزيداً ضربتُ، بخلاف (حَسَنٍ الوجهَ) فإن ((حَسَناً)) هو الطالبُ له أولاً وثانياً، غير أن اللفظ شُغل الآن بالضمير الذي كان في ((الوجه)) والطلبُ المعنويُّ باقٍ كما كان، فلذلك لم يتقدَّم. وأيضاً فإن الصفة إنما عَملت بالشَّبَه باسم الفاعل، من حيث اجتمعا في أن كلاً منهما صفة مُتَحَمِلةٌ لضميرٍ، طالبةٌ للاسم بعدها، تُذَكَّر وتُؤنَّث، وتُثَنَّى وتُجمع، فإذا كانت كذلك فلا تَقْوَى أن تَلحق بالمشبَّه به، لأنه خلاف القاعدة؛ ألا ترى أن ((ما)) لَمَّا عملت في لغة الحجاز بالشَّبَه بـ (لَيْس) لم تعمل في الخبر مقدَّما على الاسم، فكذلك هنا. وأيضا فإن نصب ((الوَجْهِ)) هنا أشبهُ شيءٍ بالتمييز، حتى إنه إذا نُكِّر أعُرِب تمييزا، والتمييز لا يتقدَّم على العامل فيه، فكذلك ما أَشْبَهه. الأمر الثاني من الأمرين اللْذَيْن تَفْتَرِق بهما من اسم الفاعل كونُ معمولها لا يكون إلا سَبَبِياً، وذلك قوله: ((وكَوْنُهُ ذَا سَبَبِيَّةٍ وَجَبْ)) والضمير في ((كَوْنُه)) عائدٌ على ((ما)) في قوله: ((ما تَعْمَلُ فِيه)) وهو المعمول. يعني أنه يجب أن يكون معمول الصفة ذا سَبَبِيَّة منها، وهو قول سيبويه: ((وإنَّما تَعمل فيما كان من سَبَبها)) (1). ومعنى السببيَّة أن يكون المعمول مضافاً إلى ضمير صاحب الصفة لفظاً أو معنىً، فاللَّفظ نحو: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهُه وحَسَنٍ وجهَه. والمعنى نحو: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهاً، وحَسَنٍ الوجهُ. هذا هو المصطَلح عليه بالسببيَّ عندهم. ويَجري مَجْراه ما كان نحوه.

______ (1) الكتاب 1/ 194.

وهما، بَعْدُ، نَظَرٌ في مسألتين: إحداهما أن معمول الصفة هنا لم يُصِّرح فيه بحالة يكون عليها، وإنما قال: ((وكَوْنُه ذَا سَبَبيَّةٍ وَجَبْ)) فيَحتمل أنه يريد بلك أنه لابد أن يكون سَبَبِياً، كان مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، فلا يكون مرفوعُه إلا من سَبَبه، كما لا يكون منصوبُه ومجروره إلا كذلك. ويحتمل أن يُريد غيرَ المرفوع، بل المنصوب، ويتبعه/ المجرور لأنه أصله. 501 فإن أراد الأولَ اقتضى ألاَّ يجوز نحوُ: مررتُ برجلٍ شريفٍ زيدٌ بخِدْمِته، ولا كريمٍ أخوك به، ولا غَنِيٍّ عمروٌ بسَبَبِه. ولا أن يقال: أحَسَنٌ أخوَاكَ؟ وأكَرِيمٌ الزَّيدْانِ؟ ولا ما أشبه ذلك، لكنه مَقوُل. وقد نَصَّ النحويون على ذلك، وأنه من كلام العرب. وإنَّما أَتَى سيبويه بالصفة مع مرفوعها في ((باب الصفات)) (1) ولم يتعرض للرَّفع بها في ((باب الصفة المشبَّهة)) بل خَصَّها بالنصب وقال: ((إنَّما تعمل فيما كان من سَبَبِها)) (2) ولم يقل ذلك في ((باب الصفات)). فهذا كُّله يدل على أن عملها بالتَّشبيه باسم الفاعل إنما هو النصبُ لا الرَّفع، لأن الرفع لا تَلْزم فيه السَبَبِيَّةُ، بل قد تكون وقد لا تكون، كرفع الفعل واسم الفاعل، فإذا كان كذلك أَشْكَل هذت المحَمْل. فإن قيل: وما الداعي إلى حمل كلام الناظم عليه، وليس فيما أَتَى به نَصٌّ يَقْتَضيه؟

______ (1) الكتاب 2/ 22، وما بعدها. (2) المصدر السابق 1/ 194.

قيل: إن لم يكن فيه نَصٌّ يقتضيه ففيه ما يُشعر بذلك، وهو قوله على أَثَر هذا: ((فَارْفَعْ بِهَا وانْصِبْ وجُرَّ)) إلى آخره. فلو لم يَقْصد عملَ الرَّفع لم يَذكره في تفصيل المسائل، فحين فصَّل ذلك التفصيلَ دَلَّ على أنه يُفَسِّر حالَ المعمول الذي أجمل ذكرهَ. وقد ذهب ابن أبي الرَبيع (1) إلى أن عمل الصفةِ الرفعَ والنصبَ معاً إنَّما هو على التَشبيه (2)، خلافَ ما ذهب إليه غيرهُ، إلا أن ابن الربيع لم يَلتزم ما التزمه الناظم، بل أجاز أن تَرفع الصفةُ السَّبَبِيَّ وغَيرهَ، وإن كان ذلك على التَّشبيه، فيجوز عنده: هذا رجلٌ شَرِيفٌ زيدٌ بخِدْمته، وإنما الْتزَم العملَ في السَبَبِيِّ في النَّصْب. وابنُ عُصْفور (3) يَذهب إلى ظاهر سيبويه، وهو رأيُ ابن خَروُف (4) وغيره. وإذا ثَبت هذا فما أشار إليه الناظمُ مُشِكْل إن كان قَصَده، وأما إن أراد

______ (1) هو عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله أبو الحسين ابن أبي الربيع القرشي الإشبيلي السَّبتي، إمام أهل النحو في زمانه، ولم يكن في طلبة الشلوبين أنجب منه. صنف في النحو مصنفات قيمه، منها شرح سيبويه، وشرح الجمل. وتوفي عام 688 هـ. بغية الوعاة 2/ 125. (2) انظر: البسيط، شرح جمل الزجاجي له (ص 952، 953) بتحقيق الدكتور عياد الثبيتي (مخطوط). (3) هو علي بن مؤمن بن محمد بن علي أبو الحسن بن عصفور النحوي الحضرمي الإشبيلي. حامل لواء العربية في زمانه. ومن تصانيفه الممتع في التصريف، والمقرب، وشرح الجزولية، وثلاثة شروح على الجمل. توفي عام 663 هـ. انظر: شرح جمل الزجاجي له 1/ 568. بغية الوعاة 2/ 210. (4) هو علي بن محمد بن علي بن محمد نظام الدين أبو الحسن ابن خروف الأندلسي النحوي. كان إماماً في العربية، محققاً مدققاً. صنف: شرح سيبويه، وشرح الجمل، وكتاباً في الفرائض. توفي عام 609 هـ. بغية الوعاة 2/ 203.

الثاني، وهو غيرُ المعمولِ المرفوعِ فيَسْهل الخَطْب، ويكون رأيهُ رأي ابن عُصْفور. ويترجَّح من جهتين: إحداهما ظاهر ((الكتاب)) (1) لأنه إنما تكلم في ((باب الصِّفة المشبَّهة)) في النصب خاصَّةً (2)، ولم يتعرَّض للرفع إلا حيث تعرَّض لرفع الصفات كلِّها كما تقدَّم (3). والثاني أنه لو كان الرفعُ على التَّشبيه لاقْتَصر به على السَبَبِيِّ، لأن العلة في الاقتصار عليه كونُ الصفةِ في العمل فَرْعاً عن اسم الفاعل، والفرع لاَ يقْوَى قوةَ الأصل، فلما لمَ يقْتصر به عليه، بل أَعمل في السببيِّ وغيره دَلَّ على أنه في رُتْبته. فإن قيل: قوله بعدُ ((فَارْفَعْ بِهَا)) يدل على خلاف هذا المَحمْل. قيل: قد يمكن أن يكون قصدهُ مجرَّدَ تصوير المسائل في السببيِّ، وهو الذي يَطَّرد فيه الأوجه الثلاثة، من الرَّفع والنَّصب والجر، لا أن نقول: إنه قَصد تفصيلَ أحوال المعمول المذكور. ويترجَّح قصدُه لهذا المحَمل بأن اسم الفاعل إنَّما تكلَّم فيه بالقَصْد على النصب، وقد تقدَّم التَّنْبيه/ 502 على ذلك في قوله: * ((وانْصِبْ بِذِي الإعْماَلِ تْلِواً واخْفِضِ)) إلى آخره. فإذا كان كذلك، وهو هنا يتكلَّم في العمل الشَّبيه بذلك فلا بد أن يكون النَّصبَ خاصَّةً، دون الرفع. وهذا الوجه أرجح في تفسير كلامه،

______ (1) يعني كتاب سيبويه. (2) الكتاب 1/ 194. (3) انظر: الكتاب 2/ 22، وما بعدها.

والله أعلم. المسألة الثانية: أنا إذا قلنا: إنه أراد بالمعمول المنصوبَ فقط، وأنْ لابد من أن يكون سببياً فيُشْكل ذلك بما ذَكر في (التَّسهيل) من أن مَعمول الصفة أعمُّ من ذلك، إذ جَعل من مَعمولاته الضميرَ، نحو: مررتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهِ جَمِيله، وبالرجلِ الحَسَنِ الوجهِ الجَميلهِ، ولم يجعله سببياً، بل جعله قسيماً له (1). وهو عنده مما يَعمل فيه النصبَ والجرَّ على تفصيلٍ مذكورٍ هنالك. وهذا السؤال سَهْلُ؛ فإن مدلول الضمير من سبب الأولِ، ولو أظهرتَه لظهر (وَجْهُه) كما لو قلت: الحِسِنِ الوجه، الجميل الوجهِ، وما أشبه ذلك، كما كان الموصول سَبَبِيَّا، نحو: مررتُ برجلٍ حَسَنِ ما بَيْنَ العَيْنَيْن، عَظيمِ ما بين الجَنْبَيْن، ومنه قولُ ابن أبي رَبِيعة (2): أَسِيلاَتُ أَبْدانٍ دِقَاقٍ خُصورُهَا وَثِيراتُ ما الْتَفَّتْ عليه المَلاَحِفُ فقوله: ((وَثيراتُ ما الْتَفَّتْ)) في تقدير: وَثِيرات الجُسوم، أو نحو ذلك. فإن قلت: فهل ذلك داخلٌ تحت ضابطه الآتي إثْر هذا؟ لا، بل سَكت عن ذلك كما سكت عن عمل اسم الفاعل فيه، لكن الظاهرَ على مذهب سيبويه

______ (1) التسهيل: 140. (2) ديوانه 254 (بيروت 1398 هـ) بهذه الرواية. وروايته في الأشموني 3/ 6، والتصريح 2/ 86، والعيني 3/ 629، ومعجم شواهد العربية 155 ((ما التَفَّتْ عليه المآزرُ)) وأسيلات: جمع أسيلة، والأسيل: الأملس المستوي ويقال: خد أسيل، إذا كان سهلا لينا. والخصور: جمع خَصْر، وهو وسط الإنسان المستدق فوق الوركين. والوثير: الوطيء اللين، وامرأة وثيرة العجيزة: وطيئتها ضخمتها. واللِحاف والمِلحف والمِلحفة: اللباس الذي فوق سائر اللباس من دثار البرد وغيره- يصف هؤلاء النسوة بنعومة الأبدان وملاستها وطولها، وبضمور الخصور، وعظم الأرداف.

هو الأصل، فحيث جاز في اسم الفاعل النصبُ والجرُّ جاز في الضمير، وحيث امتنع أحدُهما امتنع في الضمير، ذكَره في ((اسم الفاعل)) (1) والصفة جاريةٌ مَجراه في ذلك' فصار تفريغُ حكم الضمير من حكم الظاهر سهلاً، فهو في قوَّة المنصوص عليه في هذا النظم. والله أعلم. وقوله: ((مُجْتَنَبْ)) من الأجتناب، وهو المباعدة. فَارْفَعْ بِها وانْصِبْ وجُرَّ مَعَ أَلْ ودوُنَ إلْ مَصْحُوبَ أَلْ وما اتصَلْ بِهَا مُضَافاً أو مجرَّداً ولا تَجْرُرْ بها مَعْ أَلْ سُماً من ألْ خَلاَ ومِنْ إضَافةٍ لتَالِيها ومَا لَمْ يَخْلُ فهو بالجوَازِ وُسِمَا هذا ضابطٌ لما يُتصور في باب الصفة المشبَّهة من المسائل الجائزة قياساً، وذلك أن نحو (الحَسَن الوَجْه) يُتَصوَّر فيه بالتقسيم النظري ثمانيةَ عشرَ وجهاً، لأن الصفة قد تكون نكرةً، ويكون معمولها عبى ثلاث أوجه، مجرداً، وبالألف واللام، وبالإضافة، فهذه ثلاثة أوجه، وعلى كل وجهٍ فإما أن يكون مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، فالمجموع تسعة أوجه. وقد تكون الصفة مَعْرِفَة، وذلك بالألف واللام، ويكون معمولها على تسعة أوجه (2). فالمسائل المتصوَّرة ثماني عشرة مسألةً في الأصل، وتتفرَّع إلى أكثر من

______ (1) انظر: ص 297. (2) أي على النحو السابق فيما لو كانت الصفة نكرة.

ذلك. ولكن ليس المقصود من كلام الناظم إلا الأصول/ وليست كلُّها جائزة، بل منها ما 503 يجوز، وهو ما وافقَ ضابطَ الجواز عنده، ومنها ما لا يجوز، وهو ما خرج عن ذلك. ومعنى ما ذكره أنه يجوز رفعُ المعمولِ بالصفة على الفاعليَّة، ونصبُه على التَّشْبيه بالمفعول به مطلقا، أو على التَّمييز إن كان نكرة، وجَرُّه بالإضافة. ويستوي في ذلك كونُها مجرَّدةً من الألف واللام أو مصحوبة بها، فهي عاملةٌ في المعمول الرفعَ والنصبَ والجرَّ إذا كان مصحوباً بالألف واللام، أو مضافاً إلى ما صَحِبَتْه. فإن كان مجرَّداً أو مضافاً إلى غير ذي الألف واللام فلا تعمل فيه الصفةُ الجَّر إذا كانت الألف واللام، وإنما تَعمل فيه الرفعَ والنصبَ فقط. فقوله: ((فَارْفَعْ بها)) أي الصفة، ((وانْصِبْ وجُرَّ)) أي الصفة أيضاً. ((مع ألْ ودون أَلْ)) يريد أن الصفة تَعمل الرفعَ والنصبَ والجرَ، صَحِبَتها الألف واللام أو لم تَصْحبها. وقوله: ((مَصْحُوبَ أَلْ)) مفعول ((ارَفعْ وانْصِبْ وجُرَّ)) من باب ((الإعمال)) (1) وأعمَل الأخير. وقوله: ((ومَا اتَّصَلْ. بِهَا مُضَافاً أو مجرَّداً)) ((ما)) معطوفة على

______ (1) الإعمال هو ما يسميه النحويون المتأخرون ((التنازع في العمل)) وهو أن يتقدم عاملان فأكثر على معمول، وكل منها طالب له في المعنى.

((مَصْحُوبَ أَلْ)) يعني أنها تَعمل في مَصْحوب (أل) والمضافِ والمجرَّدِ. و((مضَافاً)) حالٌ من الضمير في ((اتصَّلَ)) والضمير في ((بها)) عائد على الصفة. فمثالُ كَوْن الصفةِ مجردةً من الألف واللام، ومعمولُها مرفوعٌ مضافُ قولك: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهُهُ، وهو الأصل الأوَّل، ومنه قولُ الله تعالى {ومَنْ يَكْتُمْهَا فَانَّهُ آثمٌ قَلْبهُ} (1). وقال الرَّاجز (2): * عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ * وأنشد سيبويه للفرزدق (3): ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أَبُوهُ وأُمُّهُ بَحَوْراَنَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهْ وأنشد أيضاً للفرزدق (4): كُنَّا وَرِثْنَاهُ عَلى عَهْدِ تُبَّعٍ طَوِيلاً سَوَارِيهِ شَدِيداً دَعَائِمَهْ

______ (1) سورة البقرة/ آيه 283. (2) هو زياد الأعجم. وبعده: * من عَنَزِيَّ سَبَّنيِ لم أضْرِبُهْ * والعنزي: منسوب إلى عَنَزة، اسم قبيلة. (3) تقدم البيت، 2/ 557. (4) ديوانه 756، سيبويه 2/ 44, وتُبَّع: ملك من ملوك اليمن القدماء. والسواري: جمع سارية، وهي الأسطوانة من حجر أو آجر. والدعامة: عماد البيت الذي يقوم عليه. يفخر بعزة قومه وعراقتهم في المجد، ويذكر أن عزهم ومجدهم قديمان قدم عصر تبع.

وأنشد له أيضاً (1): قَرَنْبَي يَحُكُّ قَفَا مُقْرِفٍ لئيمٍ مَآثِرُهُ قُعْدُدِ وهو كثير. ومثال المنصوب المضاف: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهًهُ، ومنه قراءة ابن أبي عَبْلة (2) {ومَنْ يَكْتُمْهَا فإنَّه آثِمٌ قَلْبَهُ} بالنصب (3). وأنشد اللِّحياني (4): أَنْعَتُها إنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا كُومُ الذُّريَ وَادِقَةٌ سُرَّاتِهَا وفي هذا الوجه إعادة الضمير مكَّررا، فإنه لَمَّا نُقِل من ((الوَجْه)) إلى حَسَنٍ)) كان القياس أَلاَّ يعاد إذْ قَصَدوا التَّخفيف، ولكنهم كَرَّروا ذكره تأكيدا، وليتعرف بالإضافة كما يتعرف بالألف واللام. وكذلك في الوجه الذي بعد هذا.

______ (1) ديوانه 205، وسيبويه 2/ 44، والمقتضب 2/ 145، واللسان (قعد) وروايته فيه ((يَسُوفُ قَفَا)) والقرنبي: دويبة تشبه الخنفساء. والمقرف: اللئيم الب، أو الذي أمه عربية وأبوه غير عربي. والمآثر جمع مأثرة، وهي الأفعال والأخبار التي تؤثر عن الرجل. والقعدد: الجبان القاعد عن الحرب والمكارم، ، أو الذي يقعد به نسبه للؤمه. يهجو أبا جرير، ويشبهه بالقرنبي. (2) هو أبو إسماعيل بن أبي عبلة الشامي الدمشقي، تابعي ثقة كبير، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة (ت 151 هـ). (3) البحر المحيط 2/ 357. (4) شرح الرضي على الكافية 3/ 438، والخزانة 8/ 221، وابن يعيش 6/ 88، والأشموني 3/ 11، العيني 3/ 583، الأصمعيات 34. والشعر لعمر بن لجأ التيمي. والضمير في قوله: ((أنعتها)) راجع إلى الإبل. والنعات: جمع ناعت. والكُوم: جمع كَوْماء، وهي الناقة العظيمة السنام. والذري: جمع ذروة، وهي أعلى كل شيء، ويراد بها هنا أعلى السنام. ووادقة: دانية قريبة. وسراتها: جمة سرة، وهي موضع ما تقطعه القابلة من الولد. وكني بقوله: ((وادقة سراتها)) عن سمنها، لأنها إذا سمنت دنت سراتها من الأرض.

ومثال المجرور المضاف: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهِه. ومنه في الحديث في صفة الدَّجَّال ((أعْوَرُ عَيْنِه اليُمْنَى)) (1) وفي وَصْف النَّبي صلى الله عليه وسلم ((شَثْنُ أَصَابِعه)) (2) وفي حديث آخر طِوَيلُ أَصَابِعِه)) (3) وفي حديث أم زَرْع ((صِفْرُ وِشَاحِهَا)) (4). وأنشد سيبويه للشمَّاخ (5): أَمِنْ دِمْنتَيْنِ عَرَّجَ الرَّكْبُ فِيهمَا بَحقْلِ الرُّخامَى قد عَفَا طَللاَهُمَا

______ (1) البخاري- اللباس: 68، والفتن: 36، ومسلم-الإيمان: 273، 274، 277، فتن: 100، والترمذي- الفتن: 60، ومسند أحمد: 2/ 132، 144. (2) البخاري- اللباس (فتح الباري 10/ 357) بلفظ ((شثن القدمين والكفين)) والترمذي-المناقب: 8، بلفظ ((شثن الكفين والقدمين)). الشَّثن: هو غِلظ الأصابع والراحة، وقيل: الخشونة فيهما. (3) لم أجده بهذا اللفظ والذي وقفت عليه: طويل المسْربة. شمائل النبي، للترمذي، ص: 35, (4) صحيح مسلم (4/ 1902). (5) ديوانه 86، وهما من شواهده سيبويه 1/ 199، والخصائص 2/ 420، وابن يعيش 6/ 86، وشرح الرضي على الكافية 2/ 235، والهمع 5/ 98، وانظر الخزانة 4/ 293، والعيني 3/ 587 - والراوية السائدة في الأول ((عَرّسَ الركب)) بالسين والهمزة للاستفهام التقريري، والجار (من) متعلق بمحذوف تقديره: أتحَزن أو أتجزع من دمنتِين رأيتهما فتذكرت من كان يحل بهما! والخطاب لنفسه والدمنة: الموضع الذي أثر فيه الناس بنزولهم وإقامتهم فيه. التعريح: أن يعطف القوم رواحلهم في الموضع ويقفوا فيه. أما التعريس فهو نزول القوم من السفر في آخر الليل. والركب: جمع راكب. وحقل الرخامى: موضع بعينه. والرخامى: شجر مثل الضال، وهو السدر البري. وعفا: درس وتغير. والطلل: ما شخص وأشرف من علامات الدار. والربع: موضع النزول. والمراد بالصفا هنا الجبل. ويريد بجارتي صفاً الاثفيتين اللتين يسندان إلى الجبل حينما يراد الاصطلاء، ويكون الجبل هو ثالثة الاثافي، فتوضع القدر عليها. والكميت: ما لونه بين الحمرة والسواد، وإنما لم تسود أعاليهما لبعدها عن النار. والجون: الأسود. والمصطلى: موضع الصلا، وهي النار، إنما سودت أسافلهما من أثر الوقود ودخانه ورماده.

أَقَامَتْ على رَبْعَيْهمَا جارتَا صَفاً كُميْتَا الأَعَالِي جَوْنَتَا مُصْطَلاَهُمَا والضمير في ((مُصْطَلاَهُما)) عائد على الجارَتَيَنْ. ومثال المرفوعِ ذي الألفِ واللام قولك: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوَجْهُ. وفي القرآن الكريم {جَنَّاتِ/ عَدْنٍ مُفَتَّحةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} (1)، وقال النَّابغة الذُّبياني (2). 504 ونَأْخُذُ بَعْدهُ بذِنَابِ عَيْشٍ أَقَبَّ الظَّهْرُ لًيْسَ له سَنَامُ يُروى ((الظَّهْر)) مثلَّثاً. ونحوه قول طَرفَة بن العَبْد (3): رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفَيِقَةٌ بجسَّ النَّداَمَى بَضَّةُ المُتجرَّدِ والإضافة إلى ذي الألف واللام، أعني في المعمول، بمنزلة ما لو

______ (1) سورة ص/ آية 50. (2) ديوانه 75، وسيبويه 1/ 196، وشرح الرضي على الكافية 4/ 231، وابن يعيش 6/ 83، 85، والخزانة 9/ 363، والعيني 3/ 579، واللسان (حبب، ذنب) ويروى ((أجبّ الظهر)) بالجيم. والذَّنَاب: عقب كل شيء ومؤخره. والأقبّ: الضامر. والأجبّ: الذي لا سنام له من الهزال. يذكر مرضى النعمان، وأنه إن هلك عاش الناس بعده في أشر حال. (3) من معلقته (ديوانه 48) والمحتسب 1/ 183، وشرح الرضي على الكافية 2/ 235، 3/ 443، والخزانة 4/ 303. واللسان (قطب) وقبله: ... نَدامايَ بِيضٌ كالنحومِ وقَيْنةٌ تَروُحُ عَلَيْنَا بَيْنُ بُرْدٍ ومُجْسَدِ والرحيب: الواسع. وقطاب الجيب: مخرج الرأس من الثوب. وصف قطاب جيب القينة بالسعة لأنها كانت توسعه ليبدوا صدرها منه، فينظر إليه ويتمتع به. ورفيقة: من الرفق، وهو اللين والملاءمة. وجس الندامى: ما طلبوا من غنائها. وقيل جَسُّهم لها بأيديهم ولَمْسها تلذذا. والبضة: البيضاء الناعمة البدن، الرقيقة الجلد. والمتجرَّد: ما ستره الثوب من الجسد. يقول: هي بضة الجسم عند التجرد من ثيابها، والنظر إليها.

كان هو بالألف واللام. وهذا الوجهُ ممَّا حُذف فيه الضمير العائد على الموصوف للعِلْم به. وهو جائزُ على الجملة، وإن لم يكن في الحُسْن بمنزلة ما لم يُحذف فيه الضمير. ونظيرهُ قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وآثَرَ الحْيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الجَحِيَم هَيِ المْأوْىَ} (1) وكذلك ما بعده (2). تقديره: المَأْوَى له. فكذلك يقدَّر هنا: حَسَنٍ الوجهُ منه، وعلى هذا التقدير فلا إشكال في الجواز. ومثال المنصوب ذِي الألف واللام: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوَجْهَ، ومنه قوله، أنشده سيبويه (3): ونَأْخُذُ بَعْدَهُ بذِنَابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْرَ ... ... ... هكذا أنشده بنصب ((الظَّهْرَ)) وأنشد في نَحْوه لزُهَير بن أبي سُلْمى (4): أَهْوَىَ لَهَا أَسْفَعُ الخَديَّن مطَّرِقٌ رِيشَ القَوادِمِ لم تُنْصَبْ لَهُ الشَّبَكُ وأنشد للعَجَّاج (5):

______ (1) سورة النازعات/ 37، 38، 39. (2) يعني قوله تعالى بعد هذا {وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبَهِ ونَهَى النَّفْسَ عن الهوى. فإن الجَنَّةَ هِيَ المَأوْىَ}. (3) تقدم البيت في الباب نفسه، ص 414. (4) ديوانه 172، وسيبويه 1/ 195، وروايته في الديوان ((لم تُنصبْ لَهُ الشُّرُكُ)) يصف صقرا انقض على قطاة. وأهوى لها: انقض عليها. والأسفع: الأسود. والمطرق: من الإطراق، وهو تراكب الريش. والقوادم. جمع قادمة، وهي ريش مقدم الجناح، والشبك: جمع شبكة، وهي شبكة الصائد. أو الشُّرُك فهي جمع: شَرَك، بفتحتين، وهو حبالة الصائد، يريد أن هذا الصقر وحشي لمُ يصد حتى يذلل، وذلك أشد له، وأسرع لطيرانه. (5) ملحقات ديوانه 79، وسيبويه 1/ 196. يصف بعيراً بالشدة والجسامة. والمحتبك والمحبوك: الشديد القوي. وشئون الرأس: ملتقى أجزائه.

* مُحْتَبِكٌ ضَخْمٌ شُئُونَ الَّرأْسِ * ومثال المجرور ذِي الألف واللام: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوجهِ، وهو كثيرٌ نظماً ونثراً. وفي التنزيل الكريم {واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (1)، {واللهُ شَدِيدُ العِقَابِ} (2)، وفي الحديث ((كان عليه السلام ضَخْمَ الهامَةِ، شَثْن الكَفَّيْنِ والقَدَمْينْ، ضَخَم الكَرَادِيسِ، أَنْوَر المَتجَرد)) (3)، وقال (4): أَهْوىَ لَهَا أَسْفَعُ الخَدَّيِنْ .... البيت وقال (5): ((بَضَّةُ المتجرَّدِ)) ومثال المرفوع المجرَّد: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهُ، وأنشد عليه في ((الشَّرح)) بيتاً فيه: ... ... ... ... شَهْمٍ قَلْبُ مُنَجَّذٍ لاذي كَهامٍ يَنْبوُ ولم أقيِّد كماَل البيت (6).

______ (1) سورة البقرة/ آية 202. (2) سورة آل عمران/ آية 11. (3) سنن الترمذي- المناقب (5/ 598) وشمائل ابن كثير: 50، ودلائل النبوة للبيهقي 1/ 240. (4) هو زهير، وتقدم البيت. (5) هو طرفة، وتقدم البيت. (6) البيت الأول بتمامه هو: * ببُهْمَةٍ مُنِيتُ شَهْمٍ قَلْبُ * وهو من شواهد الأشموني 3/ 10، 14، والهمع 5/ 99، وانظر الدرر 2/ 134، والعيني 3/ 577، والبهُمة: الفارس الذي لا يُدْرى من أين يؤتى من شدة بأسه. ومُنِيت: ابتليت. وشهم جلد ذكي الفؤاد. ومنجذ: مجرب حنكته الأمور. والسيف أو الروح الكَهام: الكليل الذي لا يقطع. وينبو: من نبا الشِيء، أي تباعد وتجافى.

وهو- في الجواز- نظيرُ (حَسَنٍ الوجهُ) فكما جاز هناك حذوفُ الضمير يجوز هنا، إذ لا اعتبار عند البصريَّين بالألف واللام في التعويض من الضمير، إذ لا يقولون به، وإنَّما يخالف في ذلك الكوفيون، حسبما يُذكر بَحْول الله وقُوَّته. ومثال المنصوب المجرَّد: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهاً. لَمَّا نَقل الضَمير من ((الوَجْه)) إلى الصفة انْتَصب لاستغناء الصفة عن رفعه، فأشبه الفضلة. ومثلُه من كلام العرب ما أنشده سيبويه لأبي زُبَيْد (1): كَأَنَّ أَثْوابَ نَقَّادٍ قُدِرْنَ له يَعْلُو بخَمْلتِها كَهْبَاء هُدَّابَا وقال أيضا، أنشده كذلك (2): هَيُفَاءُ مُقِبْلةً عَجْزَاءُ مُدْبِرةً مَحْطوُطةً شَنْبَاءُ أَنْيَابَا

______ (1) ديوانه 39، وسيبويه 1/ 198، ومجالس ثعلب، واللسان والأساس (نقد). ويصف الأسد. والنقاد: صاحب النقد أو راعيها، وفسره ثعلب بصاحب موك النقد. والنَّقَد- بالتحريك- صغار الغنم. وقدرن: جعلن على قدر جسمه. والخملة: ثوب مخمل من صوف كالكساء. والكُهبة: غبرة مشربة بسواد، أو لون ليس بخالص الحمرة. وهُدَّاب الثوب: الخيوط التي تبقى في طرفيه دون أن يكمل نسجها. (2) لأبي زبيد الطائي يصف امرأة جميلة، وهو من شواهد سيبويه 1/ 198، وابن يعيش 6/ 83، 84، وانظر: العيني 3/ 593 والهَيف: ضمور البطن والخصر. والعجزاء: الضخمة العجز. والمحطوطة: الملساء الظهر. وجدلت: أحكم خلقها، من الجديل، وهو الزمام المجدول من أدم. والشنباء: من الشنب وهو بريق الثغر وبرده. وصفها بصفات الحسن عندهم من ضمور البطن، وكبر العجيزة، وملامسة الجلد ونعومته، وحسن الخلقة، وطيب الثغر.

وأنشد لعديِّ بن زَيْد (1): مِنْ حَبِيبٍ أو أخِى ثِقَةٍ أو عَدُوٍّ شَاحِطٍ دَارَا ومثال المجرور المجرَّد: مررتُ برجلٍ حَسَنِ وَجْهٍ، وهو نحو النَّصب في الجواز، ومنه قولهم: هو حَدِيثُ عَهْدٍ بكذا (2). وأنشد سيبويه لَعْرو بن شَأْس (3): أَلِكْنِي إلَى قَوْمِي السَّلاَمَ رِسَالَةً بآيِة ما كانُوا ضِعَافاً ولا عُزْلاَ / ولا سَيِّئِي زِيٍّ إذَا ما تَلَبَّسُوا إلَى حَاجَةٍ يَوْماً مُخَيَّسَةً بُزْلاَ 505 وأَنْشد لُحَمَيْد الأَرْقَط (4):

______ (1) ديوانه 101، وسيبويه 1/ 198، والمغني 459، والتصريح 2/ 82، والعيني 3/ 621 ويروى ((أراحٍ ثقةَ)) على النعت والمنعوت. وأخو الثقة: من يوثق به في الشدائد. والشاحط: البعيد. يصف الدهر بأنه يعم بمصائبه الصديق والعدو، والقريب والبعيد. (2) يقال: هو حديث عهد بكذا، أي قريب عهدٍ به. (3) سيبويه 1/ 197، والمقتضب 4/ 160، والمغني 420، 421، والعيني 3/ 596. وألكنى: بلغ عني وكن رسولي. والاية: العلامة. والعزل: جمع أعزل، وهو الذي لا سلاح معه. وتلبسوا: ركبوا وغشوا. والإبل المخيَّسة: التي لم تسرَّح، ولكنها جبست للنحر أو القَسْم. والبُزْل: جمع بازل، وهو المسن من الأبل. كان الشاعر غريبا عن قوم، فأرسل إليهم رسولا يبلغهم سلامه، وجعل علامة كونه منهم، ومعرفته بهم ما وصفهم به من القوة والعدة، وحسن زيهم إذا وفدوا على الملوك. (4) من شواهد سيبويه 1/ 197، والمقتضب 4/ 159، وابن يعيش 6/ 83، 85، واللسان (رزن) واللاحق: الضامر. والقر: الظهر. يصف فرسا بأنه ضامر البطن، وأن هذا الضمور ليس من الهزال، لأنه سمين الظهر.

* لاَحِق بَطْنٍ بَقراً سَمِينِ * وقد انتهت مسائل تجريد الصفة. وأمَّا إذا كانت الصفة بالألف واللام، ومعمولُها مرفوعٌ مضاف فمثاله: مررتُ بالرَّجلِ الحَسَنِ وَجْهُه. وهذا أصلُ هذه المسائل، كما في تنكير الصفة، ومنه قول الجَعْديِّ، أنشد سيبويه (1): ولا يَشْعُرُ الرُّمْحُ الأصَمُّ كُعُوبُهُ بثَرْوَةِ رَهْطِ الأَعْيَطِ المُتَظَلِّمِ ومثال المرفوع ذي الألف واللام: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ الوجُه، وهي مثل مالو كانت الصفة مجرَّدة من الألف واللام. ومثال المرفوع المجرَّد: مررتُ بالرجلِ الحَسنِ وَجْهٌ، وهو مثل ما إذا كانت الصفة مجرَّدة ومثال المنصوب المضاف: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهَهُ. والمسألة كما في تنكير الصفة. ومثال المنصوب ذِي الألف واللام: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ الوَجْهَ، قال سيبويه: وهي عَرَبِيَّةٌ جَيِّدة (2)، ثم أنشد للحارث بن ظالم (3):

______ (1) للنابغة الجعدي، ديوانه 144، وسيبويه 2/ 42، وشرح القصائد السبع 347، واللسان (غيظ، ظلم) وكعوب الرمح: العقديين أنابيبه، وعلى قدر صلابتها تكون صلابة الرمح كله. والأصم: الصلب. والثروة: الكثرة في المال أو العدد. ورهط الرجل: قومه وقبيلته. والأعيط: الطويل العنق. والمراد به هنا الأبي الممتنع. والمتظلم هنا: الظالم، قال: تظلمني حقي، أي ظلمني. يقول متوعدا: إن من كان عزيزا كثير العدد فرماحنا لا تشعر به ولا تباليه. (2) الكتاب 1/ 201 من شواهد سيبويه 1/ 201، والمقتضب 4/ 161، وابن يعيش 6/ 89، وابن الشجري 2/ 143، والإنصاف 133، والأشموني 3/ 14، والعيني 3/ 609. (3) والشعر: جمع الأشعر، وهو الكثير شعر القفا ومقدم الرأس. والعرب ترى ذلك من علامات الغباء وكان الحارث قد فك بخالد بن جعفر بن كلاب، وهو في جوار النعمات بن المنذر، ثم هرب يستجير القبائل فقال هذا الشعر ينتفي من قومه.

فَما قَوْمِي بَثَعْلَبةَ بْنِ سَعْدٍ ولا بفَزارَةَ الشُّعِرْ الرِّقَابَا ومثال المنصوب المجرَّد: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهاً، ومنه قول رُؤْبَة، أنشده سيبويه (1): * الحَزْنُ بَاباً والعَقُورُ كَلْبَا * وأنشد أيضا بَيت الحارث هكذا: فما قَوْمِي بثَعْلَبةَ بْنَ سَعْدٍ ولا بفَزارَةَ الشُّعْرَى رِقَابَا وأَمَّا المعمول إذا كان مجرورا فإن الناظم قال في ذلك: ... ... ... ... ولا تَجرْزُه بِهَا مَعْ أَلْ سُمً مِنْ أَلْ خَلاَ يعني أنه لا يجوز أن يَجُرَّ بالصفة إذا كانت مصاحبةً للألف واللام اسماً خَلاَ من الألف واللام، أو خَلاَ من الرضافة لما صَحِبَها، وهو قوله: ((ومِنْ إضَافةٍ لتَالِيها)) وهاء ((تَالَيِها)) عائدةٌ إلى الألف واللام، أي لما يَتْلو (أَلْ) وهو ما دخلت عليه، فعلى هذا إذا كان المعمول مضافا أو مجرَّدا فالمسألةُ ممتنعةٌ، فلا تقول: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْه، ولا بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهٍ، إذا لا ألفَ ولامَ في

______ (1) لرؤبة بن العجاج، ديوانه 15، وسيبويه 1/ 200، وشرح الرضي على الكافية 3/ 440، والخزانة 8/ 227، والعيني 3/ 617. والحزن: ضد السهل. والعقور: الذي يعقر ويجرح. وهو كناية عن البخل، كما أن (جبان الكلب) كناية عن الجود. ويصف رجلا بشدة الحجاب ومنع الضيف، فجعل بابه صعبا وثيقا لا يستطاع فتحه، وكلبه عقورا لمن حل بفنائه طالباً معروفه.

المعمول، ولا هو مضاف إلى ما هي فيه. أما أمتناع (الحسَنِ وَجْهٍ) فظاهرٌ، لأن ذلك عكسُ الإضافة، إذ كان الشأن أن تضاف النكرة إلى المعرفة، لتتعرَّف بها أو تتخصَّص، دون العكس. وأما امتناع (الحَسَنِ وَجْهِه) فلأنه اجتمع فيه أمران مكروهان، الجمعُ بين الألف واللام والإضافة، إذ لا يجوز إلا في هذا الباب، وفي العَدَد قليلا، وتَكْرارُ الضَّمير، إذ كلُّ مسألةٍ يتكرَّر فيها الضمير قليلةُ الاستعمال كما سيأتى، وقبيحةٌ عند الأئمة من جهة القياس، لأنه إذا كان نقلُهم الضميرَ من ((الوَجْه)) إلى الصفة مقتضياً لترك الإتيان به كان الإتيان به كالرجوع عما عَزموا على الخروج عنه، وذلك نَقضُ الغرض. وقد تقدَّم في ((باب الإضافة)) أن ذا الألف واللام من الصفات لا يضاف إلا إلى ما هما فيه، أو أضيف إلى ما هما فيه (1). ثم قال: ... ... ... وَمَا لم يَخْاُ فهو بِالجَوازِ وُسِمَا يعني أن المعمول إذا لم/ يَخْلُ من الألف واللام أو من الإضافة إلى مصحوبها، بل ... 506 كان على إحدى الحالتين فهو مَوْسوم بالجواز، أي معروف، لما تقدَّم في ((باب الإضافة (2))).

______ (1) وذلك حيث يقول الناظم: ووصلُ أل بذا المضافِ مُغْتَفَرْ إن وُصِلَتْ بالثَّانِ كالجَعْدِ الشَّعَرْ أو بالذي به أُضِيف الثَّانِي كزيدٌ الضاربُ رأسِ الجاني (2) انظر: الحاشية السابقة.

فتقول: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ الوَجْهِ. ومثله: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهِ الأخِ. وإليه الإشارةُ بقوله: ومِنْ إضَافَةٍ لتَالِيها)). فالحاصل من كلامه أن الممتنع من هذه المسائل مسألتان، وهما: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهِه، والحَسَنِ وَجْهٍ، وما سواهما، وهي ستَّ عشرة مسألة جائزةٌ في القياس. ويَبْقَى بعدُ في هذا الضَّابط مسائل: أحداها أن المسائل الجائزة عنده لم يُبَيَّن فيه الحًسْنَ من غيره، فربَّما فُهم منه تَسوِيها عنده. وليس كذلك، بل منها ما هو حَسَن كثيرُ الاستعمال، ومنها ما ليس كذلك. فاعلم أن الوجوه الحَسنة بإطلاق تسعةٌ، وهي: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهُه، حَسَنٍ الوَجْهُ، حَسَنٍ وَجْهاً، حَسَنِ الوَجْهِ، حَسَنِ وَجْهٍ. وبالألف واللام في الأربعة الأول، مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهَه، الحَسَنِ الوَجْهَ، الحَسنِ وَجْهاً، الحَسَنِ الوَجْهِ. وما عداها، وهي سَبْعة، فضعيفةٌ في القياس، قليلةُ الاستعمال، هي: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهٌ، حَسَنٍ الوَجْهَ، حسنٍ وجههَ، حسنِ وجهِه. وبالألف واللام في الثلاثة الأُوَل، مررت بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهٌ، الحِسنِ الوَجْهَ، الحَسَنِ وَجْهَه. فالجميع ستة عشر وَجْهاً جائزة. وضابطُها ما قاله الجُزًولىُّ، (1) مِنْ أن كلَّ مسألةٍ تكررَّ فيها الضَمير، أو لم

______ (1) هو أبو موسى عيسى بن عبدالعزيز البربري الجُزولي، نسبة إلى (جُزولة) بطن من البربر، وكان إماما في العربية لا يشق غياره، مع جودة التفهم وحسن العبارة. شرح أصول ابن السراج، وله المقدمة المشهورة، وهي حواش على الجمل للزجاجي (ت 607 هـ). بغية الوعاة 2/ 236.

يُذكر فيها البَتَّةَ فهي قبيحة، وما ذُكر فيها الضميرُ ولم يتكررَّ فهي حَسَنة. وقد مَرَّ استثناء الممنوع منها. والثانية أن جميعها عنده جائزً قياساً، أَغْنِى ما سوى المسألتين الممنوعتين، وإن اختلفت في القوة والضَّعف لوجود السَّماع بذلك كما تقررَّ. وقد وقع الخلافُ في القياس في مسائل منها، بالإجازة والمنع. فأما مسالة (الحَسَنِ وَجْهً) ومسألة (حَسَنٍ وَجْهٌ) فغير جائزين عند الكوفيِّين، وسبب ذلك عدمُ الضميَّر أو ما يَنوب مَنابَه، وهو الألف واللام. وقال ابن خَروف (1): ليس من كلام العرب. وكأن ذلك عنده بناء على صحة وقوع الألف واللام عَوِضاً من الضمير، فإنه قال: وقد أشار سيبويه إلى ذلك في قولهم: ضُرِبَ زيدٌ الظَّهْرُ والبَطْنُ (2)، على معنى: ظَهْرُه وبَطْنُه، ولم يَقُل: الظَّهْرُ منه. ولم يَرْتَض إذا غيرهُ، فإن العرب قد تجمع بين الألف واللام والضمير فتقول: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ الوَجْهُ مكنْه، ولو كانت عِوَضاً منه لم تَجْتًمع معه، إذ (لا يصحُّ الجمعُ بين العِوَض وما عُرِّض منه. ومثل اجتماع الألف واللام مع الضمير قول طَرَفة (3): رَحِيبٌ قَطَابُ الجَيْبِ منها رَفِيقَةٌ فإذا ثَبت ذلك لم يَنْبَغِ اعتقادُ التَّعويض، وإذا لم يكن ثَمَّ عِوَض فلا معنى

______ (1) تقدمت ترجمته. (2) الكتاب 1/ 158. (3) عجزه: بَجَسَّ النَّدامَى بَضَّةُ المتجرَّدِ. وقد استشهد به المصنف من قبل، وسبق تخريجه.

لمنع الحذف، كما حُذِف في نحو: {فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى (1)} ويصير إذ ذاك/ المعمولُ ... 507 المجرَّد وغيرهُ سواء في جواز الحذف، كما جاء: ((شَهْمٌ قَلْبُ (2))) فالأظهر على هذا مذهب النَّاظم في الجواز، والله أعلم. وأما مسألة (الحَسَنِ الوَجْهُ، وحَسَنٍ الوَجْهُ) فإن الناظم يُجيزهما على رفع ((الوَجْهُ)) على الفاعَّلية كما تقدَّم. وهو رأى الزجَّاجي وشَيْخِه، (3) وبه قال ابن عُصْفور (4). والمسألة مختَلفٌ فيها على ثلاثة أقوال، أحدها هذا، ويكون الضمير العائد على الموصوف محذوفاً، كما تقدَّم في المسألة قبلها. الضَّمير، وهو الألف واللام، وقد تقدَّم ما فيه (5). والثالث مذهب الفارسيِّ وابن أبي الرَّبِيع (6) أن ((الوَجْهُ)) هنا ليس

______ (1) سورة النازعات/ 41. وقد سبق استشهاد المصنف بالآية الكريمة على هذه المسألة. (2) يقصد قول الراجز: بُبُهمةٍ فَنِيتُ شهمٍ قَلْبُ مُنَجَّذُ لاذى كَهَامٍ يَنْبُو وقد سبق الاستشهاد بالبيت وتخريجه. انظر: ص 416. (3) الزجاجي هو أبو القاسم عبدالرحمن بن اسحاق الزجاجي، منسوب إلى شيخه إبراهيم الزجاج الذي لزمه حتى برع في النحو. صنف: الجمل، وهو أشهر مصنفاته، والإيضاح، والكافي، وكلاهما في النحو. وشرح كتاب الألف واللام للمازني وشرح خطبة أدب الكاتب، واللامات، والمخترع في القوافي، والأمالي (ت 339 هـ) وأما شيخه فهو أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج، كان يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، فلزم المبرد حتى برع فيه. وله من التصانيف: معاني القرآن، والاشتقاق، وخلق الإنسان، وشرح أبيات سيبوبه، والقوافي والعروض، والنوادر، وغير ذلك (ت 311 هـ). (4) انظر: شرح جمل الزجاجي له 1/ 569، 570. (5) انظر: ص 417. (6) انظر: الإيضاح للفارسي 154، و ((البسيط)) شرح جمل الزجاجي لابن أبي الربيع: 970، وما بعدها.

بفاعل بـ (حَسَنٍ) إنَّما هو بدلٌ من الضمير المستتر في ((حَسَنٍ)) ولا يصحُّ أن يكون فاعلاً لما فيه من حذف الضمير من الصفة، وحَمل قوله تَعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ (1)} على أن ((الأَبْوَابُ)) بَدَلُ بعضٍ من كُلٍّ، وفي ((مُفَتَّحة)) ضميرٌ هو المبَدل منه (2)؛ إذ لابد للحال من ضمير يعود على صاحبها. ولو جَعلتَ ((الأَبْواب)) مرفوعاً بـ (مُفَتَّحة) لم يكن ثَمَّ ضميرٌ يعود على صاحب الحال. وبذلك رَدَّ على الزَّجاج قولَه في الآية. ورُدَّ عليه بأمرين: أحدهما أن ما قال لا يَطَّرِد له، فإنهم قد أجازوا الرفع على الفاعليَّة في نحو: مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ الأَبُ، والقائمِ الأخُ، وهو مما لا يصحُّ فيه البدل؛ إذ كان من شرط بدل البعض والاشتمال صِحَّةُ إطلاق الأول والمرادُ الثاني. وأنت تقول: فَتَحْتُ الدارَ، إذا فتحتَ أبوابَها، كما تقول: قُطِعَ زيدٌ، إذا قُطِعَتْ يدُه، فإن صَحَّ ذلك في ((الوَجْه)) فلا يصحُّ في (الأب والأخ) لا تقول: زيدٌ حَسَنٌ، إذا كان أبوه أو أخوه حَسَناً، فلا بد إذاً من الرفع على الفاعلّية، وهو المطلوب. وأجاب ابن أبي الربيع (3) عن هذا بأن الفارسيَّ يمنع المسألة، فلا يُجيز: مررتُ برجلٍ حسنٍ الأبُ (4). وهذا مشكل، فقد حَكى ابنُ عصفور الاتِّفاقَ على الجواز (5)، فلا سَنبغي المنع. والثاني أن بدل البعض والاشتمال كلاهما لابد فيه من ضميرٍ يعود على

______ (1) سورة ص/ آية 50. (2) الإيضاح 154، والإغفال له 121 - 122. (3) سبقت ترجمته. (4) على حاشية الأصل ((مررت برجل قائمٍ الأبُ، حسنٍ الأخُ)) وهو مطابق لما في البسيط 973. (5) انظر: شرح جمل الزجاجي له 1/ 572.

المبَدل منه، كما أنه لابد في الوصف والحال والخبر من ضمير يعود على مَنْ هي له. فقد وقع الفارسيُّ فيما فَرَّ منه، فإنه إن مَنع من حذف الضمير في غير البَدل لزمه في البَدل، وإن أجاز ذلك لزمه الجواز في غير البدل. وأجاب ابنُ ابي الرَّبيع عن هذا، وفَرض المسألَة في الصِّفة بأنه إنما فَرَّ من حذف الضمير من الصفة إلى حذف الضمير من البَدل؛ لأن حذف الضمير من الصفة لم يَثبت إلا أن تكون الصفة جملة، لأنها إذ ذاك شَبِيهة بالصِّلة، وثَبت حذفُ الضمير من البدل. والفِرارُ ممَّا لم يثبت من كلامهم إلى ما ثَبت هو الصواب. قِفْ حيث وَقَفُوا، ثم قِسْ (1). وما قاله/ (2) ظاهرٌ إن ثَبت ما قال، وإلا فالخَصْم يُنازِع في عدم ثبوت الحذف ... 508 من الصِّفة، فقد زعموا أن من كلامهم: مررتُ برجلٍ حسنٍ الأبُ. ومع ذلك لا يصح الفرقُ بين البدل والصفة، قال شيخنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفَخَّار رحمة الله عليه (3): الظاهر أن مسائل هذا الفصل ثلاث: (مسألة تتعين فيها الفاعليّة، وهي: مررت بالرجل الحسِن الأبُ، وما أشبهها) (4). ومسألةٌ يتعَّين فيها البَدليَّة، وهي ما كان من نحو قول امرئ القيس (5):

______ (1) البسيط في شرح جمل الزجاجي له: 972. (2) من هنا إلى آخر باب الصفة المشبهة ساقط من الأصل. (3) هو أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد الخولاني، يعرف بابن الفخار وبالألبيري، كان نحوياً بصيراً بالعربية، لا يشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولا تشذ عنه حجة، جَدَّد بالأندلس ما كان قد درس من العربية من لدن وفاة أبي علي الشلوبين (ت 754 هـ). (4) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س). (5) تقدم الاستشهاد بالبيت، وتخريجه. انظر: ص 370.

كِبَكْرِ مُقَانَاةِ البَياضُ بصُفْرَةٍ غَذاهَا نَمِيرُ الماءِ غيرُ المُحَلَّلِ برفع ((البَيَاضُ)) إذ لا وجه لارتفاعه إلا أن يكون بدلَ اشتمال من ضمير في ((مُقَانَاة)) لأن إلحاق التَّاء لهذه الصفة على تأنيث المرفوع بها، وليس إلا ضميرَ ((البِكْر)) المستتر في ((مُقَانَاة)). قال: ومسألةٌ يجتمع فيها ما افتَرق في المسألتين على طريق الاحتمال، وهي قولك: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوَجْهُ. وما قاله الأستاذ بَيِّنٌ، وهو يصحِّح ما ذَهب إليه الناظم في المسألة. وما قيل هنا جَارٍ في مسألة: (حَسَنٍ وَجْهٌ، والحَسَنِ وَجْهٌ). وأما مسألة (الحَسَنِ وجْهَه، وحَسَنٍ وَجْهَه) فالجمهور على أنها إنما تجوز في الشِّعر للقياس والسَّماع، أما القياس فما تقدَّم من لزوم نَقْض الغرض بتكرار الضمير (1). وأما السَّماع فشاذٌ لا ينبغي أن يُقاس عليه ولو كان شائعاً لكثرة استعماله كغيره، فَلمَّا لم يكن ذلك دَلَّ على أن العرب قَصدت إهمالَه. ويُجاب عن هذا بأنه قد جاء في القرآن مَرْويِاً عن بعض السَّلف أنه قرأ به {فَإِنَّهُ آثمِ قَلْبَهُ (2)} وما جاء في القرآن لا ينبغي أن يُترك قياسُه. قال لنا شيخنا القاضي أبو القاسم الحسني رحمه الله (3): إنَّ من عادة ابن مالك التأدُّبَ مع القرآن، والاعتمادَ على ما جاء فيه فَيقيسه، وإن لم يُجِز غيرهُ ذلك على الإطلاق. وقد جَعل تحقيقَ الهمزتَيْن مع الاِّتصال لغةً، ولم يَثبت ذلك اختياراً إلا في (أَئِمَّة)

______ (1) انظر: ص 370. (2) سورة البقرة/ آية 283، وهي قراءة ابن أبي عبلة رحمه الله، وقد تقدم. (3) انظر ترجمته في مقدمة التحقيق (شيوخ الشارح).

عند جماعة من القراء (1)، فجعَله لغةَ القرآن. وقد مَرَّ من ذلك مواضع. (وستأتي أخُرَ. ولكن ما رد غيره قد حسن وجهه) (2). وأما مسألة (حَسَنِ وَجْهِه) فالجمهور على أنه إنما تجوز في الشِّعر، وأجازه الكوفيون (3). ومال ابنُ خروف إلى الجواز حين جاء منه في الحديث مواضعُ (4)، فهو أكثر في السَّماع من (حَسَنٍ وَجْهَه) وإنما فيه من جهة القياس قبحُ تكرار الضمير، وهو غير معتبر مع السَّماع، لأن القياس تابع للسَّماع لا متْبوع له، فالأَوْلى ما رآه الناظم، والله أعلم. والمسألة الثانية في وجوه الإعراب المستعمَلة في هذه الوجوه. أمَّا الرَّفع فعلى الفاعليَّة مطلقا، لقوله: ((فَارْفَعْ بِهَا)) يعني بالصفة، وذلك على ظاهره من الفاعليَّة، وذلك مُتَّفَق عليه إلا في نحو: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوَجْهُ، أو وَجْهٌ؛ فإن فيه الخلافَ المذكور عن الفارسيِّ (5). وقد يتعيَّن الرفعُ على الفاعليَّة كما في: حَسَنٍ الأَبُ، وقد يتعين عدم ذلك كما في: مررتُ بامرأةٍ حَسَنةٍ الوَجْهُ، وقد يجوز الأمران كما في: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ الوَجْهُ (6) كما تقدَّم.

______ (1) وهم: ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وروح. وسهَّل الثانية فيها الباقون وهم: نافع وأبو عمرو، وابن كثير وابو جعفر ورويس [النشر 1/ 378]. (2) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) واثبته من (س). (3) قال ابن مالك في شرح الكافية الشافية (1609): ((وهو عند الكوفيين جائز في الكلام كله، وهو الصحيح، لأن مثله قد ورد في الحديث، كقوله في حديث أم زرع: ((صِفْر وشاحَها)) وفي حديث الدجَّال ((أعورُ عينه اليمنى)) وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ((شَثْنُ أصابعه)) ومع جوازه ففيه ضعف)). (4) كالأحاديث التي ذكرت في الحاشية السابقة. (5) يرى الفارسيّ أن ((الوجُه)) في هاتين الصورتين ليس بفاعل، وإنما هو بدل من الضمير المستتر في ((حسن)) وقد تقدم رأيه، والردُّ عليه. انظر: ص. (6) في (س) ((حسن وجهٌ)) وهما سواء.

وليس في قوله: ((فَارْفَعْ بها)) ما يُعَيِّن وَجْهاً دون غيره، فإنه قد ذَكر في باب ((البدل)) جوازَ بدل الظَّاهر من المضمَر بدلَ البعضِ، والاشتمالِ، فإذا جُمع حكمُ البابين حَمَلت كلُّ مسألة ما تَتَحمَّله، فترجع المسائل إلى الأقسام الثلاثة. وأمَّا النَّصب فلم يُبَيِّن وجَهه نَصاً، ولكنَّ أصل الباب مبنيٌّ على التَّشبيه، فالمنصوبُ في هذا الباب على التشبيه (بالمنصوب في باب اسم الفاعل، وهو معنى قولهم: منصوب على التشبيه) (1) بالمفعول به، وهذا ظاهرٌ في المعرفة والنكرة. وقد يجوز في النَّكرة وجهٌ آخر، وهو النَّصب على التمييز، فإذا قلت: مررتُ برجلٍ حَسَنٍ وَجْهاً، أو بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهاً، فـ (الوَجْه) يجوز فيه أن يكون منصوباً على التمَّييز، وعلى التَّشبيه بالمفعول به. ولم يُنَبِّه على التمَّييز هنا، لأن الآخَر هو الإعراب المطَّرِد؛ إذ هو جَارٍ في النكرة والمعرفة، بخلاف التَّمييز، فإنه لا يَجْري في المعرفة، ولأن النَّكرة هنا لا يَطَّرِد فيها جَرَيانُ التمييز، فلا يجوز أن تُعرب ((الأَبَ)) في قولك: (حَسَنٍ أَباً، والحَسَنِ أَباً) تمييزاً؛ لأن التمييز لا يصحُّ إلا فيما يُطلق فيه الأولُ ويُراد الثاني. وأنت لا تقول: حَسُنَ زيدٌ، إذا حَسُنَ أبوع، وتقول حَسُنَ زيدٌ، إذا حَسُنَ وجهُه. فلما كان التَّشبيه هو المطَّرِد اكْتَفى بالإشارة إليه دون ذِكْر غيره. والمسألة الرابعة أنه قال هنا: ((ومِنْ إضَافَةٍ لِتَالِيهَا)) فأشعر أن المضاف إلى المعمول إذا تَقَيَّد بإضافةٍ أو بألفٍ ولامٍ أو تجريدٍ فذلك كما لو تقيَّد المعمولُ نفسُه بها، فإنه شَرط في إضافة الصفة ذات الألف واللام إلى معمولها أن يكون مصحوباً بالألف واللام، أو مضافاً إلى مصحوبها.

______ (1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س).

وفُهم من ذلك الشَّرط أنه إن لم يكن كذلك فلا يجوز الإضافة، فصار عنده المضافُ إلى المعمول بمنزلة المعمول؛ فإذا قلت: (مررتُ بالرجلِ الحَسَن وَجْهِ الأخِ) فهو في الجواز بمنزلة (مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ الوَجْهِ) و (مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وَجْهِ أَخِيه) في المنع بمنزلة (مررتُ بالرجلِ الحَسَنِ وجهِه). وكذلك (الحَسنِ وَجْهِ أخٍ) بمنزلة (الحَسَن وَجْهٍ) وهذا صحيحٌ مطَّرِد. وإذا قلت: (حَسَنِ وَجْهِ أخِيهِ) فهو بمنزلة (حَسَنِ وَجْهِه) وكذلك (حَسَنِ وَجْهِ الأَخِ) بمنزلة (حَسَنِ الوَجْهِ) وقولك: (مررتُ برجلٍ حَسَنِ وَجْهِ أخٍ) بمنزلة (حَسَنِ وجهٍ) وكذلك مع الألف واللام في الصفة. ومثل ذلك جارٍ في النَّصب والجر. وممَّا جاء من ذلك في السَّماع قول خرْنق، أنشده سيبويه (1): النَّازِلينَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ الأزْرِ فهذا بمنزلة ((الطَّيِّبُونَ الأَخْبارَ، والحَسَنُونَ الوُجُوهَ)) وأنشد أيضاً لزهير (2):

______ (1) الكتاب 1/ 202، 2/ 58، 64، وشرح الرضي على الكافية 2/ 323، والهمع 5/ 183، وابن الشجري 1/ 344، والخزانة 5/ 41، والعيني 3/ 602، وقبله: لا يَبْعَدَنَّ قومي الذين هُمُ سمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجُزْرِ والبيتان من قصيدة لخرنق بنت هفان ترثى بها زوجها وابنها وأخويه ومن قتل معهم من قومها. والمعترك: موضع القتال، تريد أنهم ينزلون عن الخيل عند ضيق فيقاتلون على اقدامهم. والمعاقد: جمع مَعْقِد، وهو موضع العَقدْ حيث يثنى طرف الإزار. والإزار: ما يستر النصف الأسفل من جسم الإنسان. وطيب المعاقد كناية عن العفة، وأنها لا تحل الفاحشة. (2) سبق الاستشهاد بالبيت.

أَهْوَى لَهَا أَسْفَعُ الخَدَّيْنِ مُطَّرِقٌ رِيشَ القَوادِم لم يُنْصَبْ له الشَّبَكُ فهذا نظير ((حَسَنٌ الوَجْهَ)) ومثله قول العجاج (1): * مُحْتَبِكٌ ضَخْمٌ شُئُونَ الرَّأَسِ * وحكى سيبويه: هو أَحْمَرُ بَيْنِ العَيْنَين (2)، وهو جَيِّدُ وَجْهِ الدَّارِ، فهذا نظير ((حَسَنِ الوَجْهِ)) وكذلك سائرُ المسائل.

______ (1) سبق الاستشهاد بالرجز. (2) في (ت) ((أحمر العينين)) وما أثبته من الكتاب 1/ 195، و (س) وهو الصواب.

التعجب

التَّعَجُّبُ التعجبُّ في اصطلاحهم العام: / استعظام زيادةٍ في وصف الفاعل خَفَى سببُها، ... 509 وخرج بها المذكورُ بها عن نظائره، أو قَلَّ نظيرُه، بلفظٍ دالٍّ على ذلك. وقوله: ((استعظام زيادةٍ)) تنبيهٌ على أنه إنَّما يصحُّ مما يَقبل الزيادةَ والنُّقصان. وقوله: ((في وصف الفاعل)) تنبيهٌ على أنه إنما يتعلَّق التعجبُ بمَن قام به ذلك الوصف. وقوله: ((خَفِىَ سببُها)) تحرُّزٌ من الخِلَق الظَّاهرة والألوان؛ إذ لا يُتَعَّجب منها. وما بعد ذلك بيانُ أن الوصف إذا لم يَقِلَّ نظيرُه لا يُتَعَّجب منه. بهذا عَرَّف التعجبَ بعضُهم (1)، ولم يعرِّفه الناظم اتِّكلا على المعرفة به عند النحويِّين، وإنَّما شَرع في صيغ االتعجُّب فقال: بِأَفْعَل انْطِقْ بَعْدَ مَا تَعَجُّبَا أو جِئْ بأَفْعِلْ قَبْلَ مَجْرورٍ بِبَا وتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ كَمَا أَوْفَى خَلِيلَيْنَا وأصْدِقْ بِهَما

______ (1) على حاشية الأصل ((هو ابن عصفور)) وهو حق مع اختلاف يسير. وانظر: شرح جمل الزجاجي له 1/ 576.

يعني أنك إذا أردتَ أن تُعَبِّر عما عَرض لك من التعجبُّ من شيء، وأن تُبَيِّن أنك قد تعجَّبتَ- فلذلك صيغتان في الأصل. إحداهما (أَفْعَلَ) على وزن (أَكْرَمَ) آتياً بها بعد ((ما)) ويكون ما بعدها يَتْلوها، وهو المتعجَّب منه، منصوباً. مثال ذلك: ما أَوْفَى خَلِيَلْينَا. ومثله: مَا أكْرمَ زيداً، وما أَحْسَنَ عَمْراً. وفي القرآن {فَمَا أَصْبَرهُمْ على النَّارِ (1)}. والثانية (أَفْعِلْ) على وزن (أكْرِمْ) آتياً بها قبلَ اسم مجرور بباء، لا بغيرها من حروف الجر، والمجرور هنا هو المتعجَّب منه، وهو المنصوب في صيغة (ما أَفْعَلَه) ولذلك قال: ((وتِلْوَ أَفْعَلَ انْصِبَنَّهُ)) فَردَّ الضمير إلى المجرور بالباء، فيُريد أن ذلك الاسم يأتي منصوباً بعد صيغة (ما أَفْعَلَ) ومجروراً بالباء في صيغة (أَفْعِلْ) وذلك قوله: ((وأَصْدِقْ بِهمَا)) أي بَخَلِيْلْنْنَا. ومثله: أَكْرِمْ بزيدٍ، وأَحْسِنْ بِه. وفي القرآن {أَسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ (2)}. وقد أشعر هذا الكلام بأن المنصوب بعد (ما أَفْعَلَ) والمجرور بعد (أَفْعِلْ) لازمُ الذِّكْر، فلابد من الإتيان به، لكونه جَعله من جملة صِيغة التعجُّب. وذلك في الأصل صحيح، إلا انه قد يُحذف للعلم به كما سيأتي ذكرهُ بعد. هذا بيانُ ما قال. وفيه دَركٌ (3) من وجهين: أحدهما أنه حَصَر صِيَغ التعجُّب في صيغتين وهما: (مَا أَفْعَلَهُ) و (أَفْعِلْ بِه) إذ قَدَّم المجرورَ في قوله: ((بأفْعَلَ انْطِقْ)) والتَّقديم في مثل هذا يُشعر

______ (1) سورة البقرة/ آية 175. (2) سورة مريم/ آية 38. (3) الدَّرك- بإسكان الراء وفتحها- التبعة، يقال: ما لحقك من درك فعلىَّ خلاصه.

بالحَصْر، والحَصْر في هاتين الصِّيغَتْين باطل؛ فإن في كلام العرب صِيَغاً كثيرة تَقْتضي من معنى التعجُّب ما يَقْتضيه (ما أَفْعَلَهٌ وأَفْعِلْ بِه). من ذلك (فَعُلَ) نحو: لَقَضُوَ الرجلُ (1)، وفي القرآن {سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ (2)} - {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ (3)}. ومنه: لِلَّهِ أنتَ، لِلَّه دَرُّكَ (4)، ووَاهاً لزيدٍ (5). * ولِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ تَفَرُّقِ (6) * وحَسْبُك به رجلاً، و ((كَفَى باللَّهِ شَهِيداً (7))) و* للَّه يَبْقَى على الأَيَّام ذُو حِيَدٍ (8) *

______ (1) يجوز التعجب من كل فعل ثلاثي ينقل إلى (فَعُلَ) مضموم العين، وإذا بُنى من فعل معتل اللام من ذوات الياء قلبت الياء واو لانضمام ما قبلها، مثل: رَمُوَ الرجل، وقَضُوَ الرجل، في معنى: ما أرماه، وما أقضاه. (2) الأعراف/ آية 177. (3) الكهف/ آية 5. (4) الأصل في هذا القول أن الرجل إذا كثر خيره وعطاؤه وإنالته الناسَ قيل: لله دَرُّه، أي عطاؤه وما يؤخذ منه، فشبهوا عطاءه بدَرّ الناقة، ثم كثر استعمالهم حتى صارو يقولونه لكل متعجب منه. وانظر: اللسان (درر). (5) في اللسان (ويه): ((وإذا تعجبت من طيب الشِيء قلت: وَاهاً له ما أطيبه! ومن العرب من يتعجب بواهاً فيقول: وَاهاً لهذا، أي ما أحسنه)). (6) عجزه: * أشتَّ وأنأى من فراق المحصَّبِ * وهو من شواهد اللسان (حصب) والتذييل والتكميل لأبي حيان (ج 3 ص 210 - ب). والمحصب: موضع رمي الجمار بمنى. وقيل: الشِّعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومنى. (7) سورة الفتح/ آية 28. (8) من شواهد سيبويه 3/ 497، والمقتضب 2/ 324، وابن يعيش 9/ 98، 99، وشرح الرضي على الكافية 4/ 315، والخزانة 10/ 95، وديوان الهذليين 3/ 1 وعجزه: * بُمشْمَخَرٍّ به الطيَّانُ والآسُ * ... =

/ و ((تَاللَّهِ)) وبالتاء أيضاً. فالَّلام والتَّاء في القَسَم يَقتضيان معنى التعجُّب، وهو من ... 510 معانيها. وفي الحديث ((سُبْحَانَ اللهِ، إنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ (1))) ومثل قولهم: يَا لَلْعَجبِ، ويالَلْمَاءِ، ويا لَلْفَلِيقَةِ (2)، وقول الأعشى (3): * يا جَارَتَا ما أَنْتِ جَارَه! * * ويَالَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ (4) *

______ = وينسب إلى ابي ذؤيب الهذلي، أو أمية بن ابي عائذ، أو مالك بن خالد الخناعي الهذلي. ويروي (تَاللَّهِ) ويبقى: معناه لا يبقى. والحِيَد: جمع حَيْد: وهو ما شخص من نواحي الشِيء. ويراد بالحيد هنا كعوب قرن الواعل. والمشمخر: الجبل العالي. والظيان: ياسمين البر. والآس: الريحان. وذكرهما هنا إشارة إلى أن الوعِل في خصب وسعة، فلا يحتاج إلى النزول إلى السهول فيصاد. والوعل- بكسر العين- التيسر. (1) البخاري- الغسل: 23، والجنائز: 8، ومسلم- الحيص: 115، 116، وسنن أبي داود- طهارة: 91. (2) الفليقَة: الداهية والأمر العجب. وهو من أمثالهم، انظر: جمهرة الأمثال 2/ 425، والمستقصي 2/ 407، واللسان (فلق). (3) ديوانه 11، وابن يعيش 3/ 22، والأشموني 3/ 17، وشرح الرضي على الكافية 2/ 73، والخزانة 3/ 308 وصدر البيت: * باتت لتَحْزُننَا عَفَارَه * وعفارة: اسم زوجته. ويا جارتا: التفات من الغيبة إلى الخطاب، واصله (يا جارتي) وجارة الرجل: امرأته التي تجاوره في المنزل. و ((ما)) استفهامية مبتدأ، خبرة ((أنت)) و ((جارة)) تمييز أو حال. والمعنى: ما أنبلكِ، أو ما أكرمكِ من جارة، أو حالة كونك جارة. وقد تكون (ما) نافية، ويرشحه الرواية الأخرى (ما كنت جارة) وعلى هذا يخرج من باب التعجب. (4) من معلقة امرئ القيس، وعجزه: * بكُلِّ مُغَار الفَتْلِ شُدَّتْ بَيذْبُل * والمغار: الشديد الفتل. ويذبل: اسم جبل. ويقول: كأن هذه النجوم شَدت بحبل مفتول قوي إلى جانب هذا الجبل، فكأنها لا تسري، يصف طول الليل.

وقالوا: ما رأيتُ كاليومِ وَفاءَ وافٍ (1). وما أشبه هذه المُثُلَ وداناها. وفي كلامهم من هذا كثير. و(ما أَفْعَلَهُ، وأَفْعِلْ بِه) صيغتان من جملة الصِّيغَ المؤدِّية معنى التعجُّب، فإذا ثَبت ذلك فاقتصارُه على ما ذَكر هنا ظاهُره التَّقصير. والثاني أن هذا التَّعريف الذي أتى به بيانٌ لكيفيَّة لفظ التعجُّب، وَقع فيه التنكيرُ والإبهام من جهات. منها أنه لم يُبَيِّن (ما) ما هي؟ أهي الاستفهاميَّةُ أم الموصولة أم غير ذلك، بل لم يبيِّن أحَرِفْيَّةٌ هي أم اسميَّة؟ (وهي اسميَّة بلابُدٍّ) (2). واختلف فيها، فقيل: نكرةٌ بمعنى (شِيء) وهو مذهب الخليل وسيبويه (3) والجمهورِ من البصريين. وقيل موصولة بمعنى (الَّذِي) وهو رأي الأخفش (4). وقيل استفهاميَّة، وإليه مال الفَرَّاء (5). ومنها أنه لم يبيِّن حكم (أَفْعَلَ) أهو اسمٌ أم فِعْلٌ، إذ ليس في لفظه ما يدلُّ على شِيء من ذلك. وقد اختلفوا فيه، فقال الكوفيون: اسمٌ، وقال البصريون: فعلٌ ماض (6). وكذلك لم يبيِّن كونَ (أَفْعِلْ) فعلَ أَمْرٍ أو غَير فعل أمر. والجمهور أن معناه معنى الخَبر، وإن لفظه لفظَ الأَمْر فليس بفعلِ أمر. وذهب الفراء إلى أنه

______ (1) روايته الصحيحة ((ما رأيتُ كاليومِ قَفَا وافٍ)) وانظر المثل ((هو قَفَا غادرٍ شَرٍّ)) في جمهرة الأمثال 2/ 355، والمستقصي 2/ 399. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت). (3) الكتاب 1/ 72. (4) شرح الكافية 2/ 310، وابن يعيش 7/ 149. (5) نفسه 2/ 310، ونفسه 7/ 149. (6) انظر: الإنصاف 126 (المسألة الخامسة عشرة).

بمعنى الأمر على ظاهره، ومال إليه الزمخشري (1)، وقَوَّاه ابن خروف. وينبني على ذلك الخلاف في موضع المجرور بالباء، هل هو رفعٌ أم نصبٌ؟ فالقائل بأنه أمر بَجعله، أعني المجرورَ، في موضع نصب. والقائل بأنه خبرٌ يجعله في موضع رفع بالفاعليَّة، وعلى هذا الثاني لا يكون في (أَفْعِلْ) ضمير، وعلى الأول لابد فيه من ضمير، وهو نَصُّ الفراء. وعلى ذلك ايضا يَنْبنى كونُ الباء الجارة زائدةً أو غير زائدة، ولم يبيِّن ذلك الناظم، فمن جعل الفاعل خَبَرياً عَدَّ الباء زائدةً كزيادتها في ((كَفَى باللهِ))، ومن جَعله فعلَ أمر لم يلزمه القولُ بزيادتها. ومنها أنه لم يبيِّن كونَ الاسم بعد (أَفْعَلَ) أو (أَفْعِلْ) هو المتعجَّب منه دون غيره، ولا بَيَّن مِمَّ يُبنى (أَفَعْلَ) أو (أَفْعِلْ) وأنَّهما إنَّما يُبنيان من المصادر التي وقع من أجلها التعُّجب، فإنه لما قال: ((بأَفْعَلَ انْطِقْ)) يقول له المخاطب: مِنْ ماذا اَبْنِي هذه الصِّيغة من المصادر؟ فصار كلاماً مجَملاً متغلِّقاً دون الفهم، وهذا هو عمدةُ التَّعريف والمحتاجُ إليه في البيان. فالحاصل أنه لم يَأت في التَّعريف بكافٍ ولا جاز، فصار كاللُّغْز الذي لم يُنْصَب على فهمه دليل. والجواب عن الأول أن ما ذُكر من الصِّيَغ المفهوم منها التعجبُ غيرُ منضَبِطة ... لقانون/ حاصر (2)، ولا مُنْضَمَّة (3) بقياس قاضٍ من وجهين: ... 511

______ (1) ابن يعيش 7/ 147. (2) في الأصل ((خاص)) وما أثبته من (ت، س). (3) في (س) ((ولا مُضَمَّنة)) وما أثبته هو الأوضح، لتلاؤمه مع قوله: ((مُنْضَبِطة)).

أحدهما أنها إنما جاءت مُؤَدِّية معنى التعجُّب على غير اطِّراد يُقاس على مثله، فصارت من قَبيل المسموع الذي لا يُقاس عليه، إلا (فَعُلَ) في نحو: لَقَضُوَ الرجلُ، فإنه اطَّردَ. وقد ذكَره الناظم بعدُ فلم يُهمله. والثاني أن معنى التعجُّب في أكثرها ليس بالصِّيغة والبِنْية والوضَعْ الأصلي، وإنَّما هو في الأكثر مفهومٌ من فَحْوى الكلام (1)، وبِساط التَّخاطب. وإذا كانت دلالتها على التعجُّب من خارجٍ، ولم تَنْضَبط لصِيَغ معيَّنة مطَّرِدة لم يَعْتبرها، من جهة أن قصد النحويِّ عَقْدُ القوانين فيما يمكن عقدُها فيه. وما تقدَّم ليس من ذلك، إلا (ما أَفْعَلَه) و (أَفْعِلْ بِه) فإنهما صيغتان مختصَّتان بهذا المعنى، راجعتان إليه، فلذلك اقتصرَ عليهما، وضَمَّ إليهما صيغةَ (فَعُلَ) إلحاقاً بهما، لا أنه أصلٌ في باب (التعجُّب) فأتى به آخِراً ولم يُصَدِّر به إشعاراً بعدم الأصَالة، ولم يَتركه لا طِّراده، ومن هنا صدَّر الجُزُولِيُّ (2) باب (التعجُّب) بالاعتذار عن هذا السؤال، فقال: للتعجُّب الذي يُبَوَّب له في النَّحو لفظان (ما أَفْعَلَهُ) و (أَفْعِلْ بِه) فاعتذر كما ترى قبل ايراد السؤال، عِلْماً بأنه مما يُوَرد مثلُه على النَّحوي. ونظير هذا بابُ (التَّوكيد) حين تكلَّموا فيه على الألفاظ المخصوصة كالنَّفْس والعَيْن وأخواتهما، وتركوا التَّبويَب على ما عداها من عبارات التَّوكيد وأدواته؛ لأن تلك الألفاظ المختصَّة مُنْضَبِطه للدخول تحت القوانين، وما سواها لا يَنْضبط في الأكثر، ولا يَجرى على مَهْيَع واحد (3). وقد ألحق ابنُ مالك بتلك الألفاظ أشياء كما ضَبَطها قانونُ القياس.

______ (1) فَحْوى الكلام: مضمونه ومرماه الذي يتجه إليه القائل. (2) تقدمت ترجمته. (3) المَهْيَعُ من الطرق: البَيِّن.

وأيضاً فقد يقال: إن كل ما ذُكر، من الألفاظ المؤدِّية معنى التعجُّب، راجعةٌ إلى معنى (ما أَفْعَلَه) و (أَفْعِلْ بِه) وعنهما تفرَّعت، فذَكَر في التَّبْويب الأصلَ، وتَرك ما سواه. والله أعلم. والجواب عن الثاني أن ما اعتُرِض به لم يُغْفله جملة، بل في كلامه ما يشير إلى ما يُضْطَرُّ إليه فيه. ومالا يُضطر إليه فيه. ومالا يُضطر إليه لا يَفْتَقر إلى التَّنبيه عليه. فأما (أَفْعَلَ) و (لأَفْعِلْ) فهما عنده فِعِلاَن، ودَلَّ على ذلك من كلامه قولُه بعد: ((وفي كِلاَ الفِعْلَيْن قِدْماً لَزِمَا)) فهذا نَصٌّ على أنهما فِعْلان. وايضاً فقد قَدَّم في أول الكتاب أن الفعل يَنْجلى بنون التَّوكيد (1)، وفعلُ التعجُّب تلحقه نونُ التَّوكيد نحو (2): * فَأَحْرِ بِهِ لِطُولِ فَقْرٍ وأَحْرِيَا * أراد ((وأَحْرِيَنْ)). وإذا ثَبتت فِعْليَّة (أَفْعِلْ) فـ (أَفْعَلَ) نظيره، فهو إذاً فعلٌ مثلُه. وايضاً فلزوم إلحاق نون الوقاية دليلٌ على ذلك، نحو: ما أَحْسَنَنِي، وما أكَرْمَنَيِ. وهذا لم يَذكره في دَلائل الفعل في هذا النظم (3).

______ (1) حيث قال في ((باب الكلام وما يتألف منه)): ((ونُون أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْجَلى)). (2) مغنى اللبيب 339، والهمع 4/ 400، والدرر 2/ 98، والأشموني 3/ 221، والعيني 3/ 645، واللسان (حرى، غضا) ويروي ((من طول)) و ((بُطون)). وصدره: ... * ومسْتَبِدلٍ من بَعدٍ غَضْيا صُرَيْمَةَ * والغَضْا: مائة من الإبل. وصُريَمْة: تصغير (صِرْمَة) وهي القطيع من الإبل او الغنم، ما بين العشرين إلى الثلاثين، يعني أبلا قليلة. وأحْرِبه: ما أحراه وما أجدره. (3) يقصد ما ذكره الناظم في باب ((الكلام وما يتألف منه)) من علامات الفعل.

ولا يُقال: إن ذلك لا دليلَ فيه/ فإنَّك قد تقول: لَيْتَنِي، وعَلَيْكَنِي، ورُوَيْدَنِي، فتُدخل 512 النون على الحرف وعلى الاسم (1)، وهي نون الوقاية، فليست بمختصَّة بالفعل، فلا دليلَ فيها على فِعِلِيَّة ما دَخلت عليه. وكذلك لا دليلَ على فِعْليَّة (أَفْعَلَ) [بِفعلية (أَفِعْلْ)] (2) لتباينهما في أحكام، وإن اتَّفقا في أحكامٍ أُخَر، وإلاَّ لَزم أن يُقال بفعليَّة (أَفْعَلِ التَّفْضيل) وذلك فاسد؛ لأنا نقول: دخولُ نون الوقاية على الأسماء والحروف غيرُ مطَّرِد فيها، وإنَّما ألحِقت سماعاً في بعضها بحيث لا يُقاس عليها غيرُها، بخلاف (أَفْعَلَ) فإن نون الوقاية مطَّرِدة الدخولِ على (أَفْعَلَ) في التعجُّب، لا يَخْتَصُّ بواحدة من الموادِّ دون أخرى، نحو: ما أكَرْمَني، وما أَحْسَنَنِي، وما أَقْبَحَنِي، وما أَبْخَلَنِي، وما أَشْجَعَنِي. وما كان نحو ذلك. وأما القياس على ألإَفْعِلْ) فظاهرٌ، لموافقته له في البِنَاء ومعنى التعجُّب وعدم المعارِض، بخلاف (أَفْعَلِ التَّفضيل) فإن إعرابَه وجَرَّه ودخولَ الألف واللامِ عليه وغيرَها من خَواصِّ الاسم عارضت دَعْوَى الفِعْلية فلم يُقَل بها. ومما استُدِلَّ به على الفِعْليَّة فَتْحُ آخِر (أَفْعَلَ) على مُشَاكلة الماضي، ونصبُ ما بعده على ترتيب عمل الفاعل الماضي. وقد أُجيب عن ذلك بأن بناءه على الفتح لتضُّمنه معنى التعجُّب، وأنه إنَّما نَصب ما بعده، وكان أصله الجرَّ بالإضافة، فَرْقاً بين الاستفهام المحض والتعجُّب الذي صار إليه.

______ (1) يقصد اسم الفعل، الذي مثله بقوله: ((عَليْكَنِي)) وهي فعل أمر بمعنى: الزمني، و (رُوَيْدَنِي) اسم فعل أمر بمعنى: أمهلني، أو رفقاً بي. (2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وقد استدرك على حاشية الأصل.

وهذا غير صحيح، فإن المبنىَّ لتضُّمن معنى الحرف إنَّما هو القائمُ مقامَه، أداةٌ مثلُه، وذلك (ما) لا غيرُها. وأمَّا التَّفرقة بين المعاني فلا يُزيل الإعرابَ عن وَجهه. وأيضاً فهو مبنىٌّ على أن (أفْعَلَ) أصُله الرَّفع، وهو مضاف إلى ما بعده، ولو كان كذلك لم يَحْسن الفصلُ بينهما، فلا يقال: (ما أحسنَ بالرجل أن يَصْدُق) في فصيح الكلام؛ لأنه في تقدير: (ما أحسنُ) (1) بالرجل الصِّدْقِ. والفصل بين المضاف والمضاف إليه لا يجوز إلا في الشَّعر، أو في نادر لا يُعْتَدُّ بالقياس فيه (2). وهذا ليس كذلك، فَدلَّ على أنه ليس منه، فما زَعَموه دَعْوى، وأَقْوَى احتجاجاتهم تصغيرُه قياساً، وتصحيحُه كذلك، فإنك تقول: ما أَقْوَمَه، وما أَبْيَن معنى كذا، وهذا لا يكون إلا في الأسماء. وأما الأفعال فيجب فيها الإعلال حسبما يأتي في التصريف (3). وأيضاً فإنهم يقولون: ما أُحَيْسِنَ زيداً، ومَا أُمَيْلِحَ عَمْراً، وأنشدوا (4): يَامَا أُمَيْلِح غْزِلاَناً شَدَنَّ لَنَا مِنْ هَؤُلِيَّاًئِكُنَّ الضَّالِ والَّسمُرِ

______ (1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل. (2) على حاشية الأصل ((لا يقاس عليه)) وهو إما من نسخة أخرى، أو تفسير. (3) اي من إعلال الأفعال الجوفاء التي على زنة (أَفْعَلَ) مثل: اقام، وابات. (4) أمالي ابن الشجري 2/ 130، 132، 135، والإنصاف 127، وابن يعيش 1/ 61، 3/ 134، 5/ 135، 7/ 143 وشرح الرضي على الكافية 1/ 49، 4/ 230، والخزانة 1/ 93، والهمع 1/ 261، 263، 5/ 54، والعيني 1/ 416، 3/ 463 واللسان (ملح، شدن). وينسب البيت للعرجي تارة، ولمجنون ليلى تارة، ولذى الرمة تارة أخرى. وأميلح: تصغير (أملح) من الملاحة، وهي البهجة وحسن المنظر. ويقال: شدن الظبي شدونا، إذا قوى وطلع قرناه واستغنى عن أمه. وهؤليَّاء: تصغير (هؤلاء) على غير قياس. والضال: السدر البري. والسَّمُر: شجر الطلح، وهو شجر عظام، واحدة سَمرُة.

فلو كان فعلا لم يصغَّر، فالتَّصغير من خواصِّ الأسماء. والجواب أن التَّصحيح (1) لا دليل فيه، فلو كان مستقلاً بالدلالة على الاسميَّة لَدَلَّ على اسمية (أَفْعِلْ) فإنك تقول: أَقْمِمْ بِه، وأَبْيِعْ بِه. وإذا لم يخرج (أَفْعِلْ) عما ثَبت له من الفعليَّة فلا يخرج (أَفْعَلَ) عن ذلك. وأما التَّصغير فهو/ اصعبُ ما في المسألة. وقد اعتذر البصريون عنه باعتذرات ... 513 جميعُها يَستلزم تسليَم الإشكال، فقيل: لَمَّا أشبه السماءَ للزومه لفظَ الماضي وقلَةِ تصرفهِ، ولأنه في معنى (أَفْعَل التَّفضيل) وهو اسم، حَمَلُوه عليه في التَّصغير وتَرْكِ الإعلال. ولأن التصغير قد يُراد به التَّحقيرُ والتَّقليل والتَّقريب والتعطُّف والتَّعظيم، وقد يُراد به المدح. وإنَّما قَصدوا هناك (2) تصغيرَ (المَلاَحة) الذي هو مصدر (مَلُحَ) لكن لَمَّا لم يكن للمصدر في التعُّجب استعمال، وكان الفعل يَدُلُّ على مصدره، ولذلك يعود عليه ضميرهُ في نحو: {مَنْ كَذبَ كانَ شَراً له (3)} اجتَرؤوا على الفعل فصَغَّروه، لأنه متضمِّن لمعنى مصدره، وقد يُعامل معاملةَ لتضمُّنه إياه، ولذلك أضيف إلى الفعل في نحو: جئتُ يومَ قام زيدٌ، واذْهَبْ بذي تَسْلَمُ (4)، وقوله (5):

______ (1) على حاشية (ت) ((صوابه أن التصغير)) وهو خطأ، لأنه سيتكلم عن التصغير بعد ذلك. ومراده بالتصحيح تصحيح العين في نحو ما أقْوَمَه، وما أبْيَنَه. وقد تقدم. (2) أي في البيت السابق. (3) الكتاب 2/ 391. (4) نفسه 3/ 118، 121، 158. (5) عجزه * كأنَّ على سَنَابِكها مُدَامَا * وقد نسبه سيبويه للأعشى (3/ 118) وليس في ديوانه. وانظر: ابن يعيش 3/ 18، والخزانة 3/ 135، حيث قال البغدادي هناك: ((ولم اره منسوبا إلى الأعشى إلا في كتاب سيبويه)). =

* بآيَةِ تُقْدِمُونَ الخَيْلَ شُعْثاً * فكذلك عاملوه ههنا معاملتَة، فصَغَّروا الفعَل والمراد المصدر. وعَلَّل ذلك سيبويه بأنهم أرادوا تصغيرَ الموصوف بالملاَحة، كأنك قلت: مُلَيِّحٌ، لكنهم عدلوا عن ذلك، وهم يَعنون الأول. ومن عادتهم أن يَلْفِظُوا بالشِيء وهم يريدون شيئاً آخر، كما قالوا: بنو فلان يَطَؤُهم الطَّرِيقُ، وصِيَد عليه يَوْمَان. ونحوه كثير (1). والحاصل أنهم يُقِروُّن بالتصغير، ولا يُقِروُّن بما يلزمه من الاسمية، وإنما لم يُقِروُّا بذلك لمعارِض ثبوتِ الفعليَّة، فاحتاجوا إلى الاعتذار عنه. وأمَّا حُكْم (ما) فالدَّليلُ على اسَميتَّها أنه إذا ثَبت كونُ (أَفْعَلَ) فِعلاً اقتضَى أَنْ لابد له من فاعل، وليس ثَمَّ مرفوع ظاهر، فلابد من إضماره في الفعل عائداً على (ما) إذ لا غيرُها (2)، فمدلولُ (ما) فثَبت أنها اسم، ثم كونُها استفهاميَّةً، أو نكرةً بمعنى (شَيءْ) أو موصولةً، مسكوتٌ عنه (عنده) (3)، وذلك لا يَقدح في فهم التعجُّب، مع أنه قد قيل بكلِّ واحد من تلك الاحتمالات، فكأنَّه تَرك التعبيرَ فلم يَنص على اختيارٍ فيها، لأن جميعها راجع في التَّقريب

______ = والآية: العلامة، والشَّعث: جمع أشعث وشعثاء، يقال: شَعِث الشَّعْر، شَعَثا وشُعوثة إذا تغير وتلبَّد. وشعِث راسهُ وبدنه، إذا اتسخ. والَّنابك: جمع سُنْبك، وهو مقدَّم الحافر. والمُدام: الخمر. (1) الكتاب 3/ 477، 478 بتصرف. وقال السيرافي تعليقاً على العبارتين ما ملخصه: يريدون: يطؤهم أهل الطريق الذي يمرون فيه، فحذف (أهلا) وأقام (الطريق) مقامهم. ومعنى (يطؤهم الطريق) أن بيوتهم على الطريق، فمن جاز فيه رآهم، وقوله: (صيد عليه يومان) معناه: صيد عليه الصيد في يومين، فحذف الصيد، وأقام اليومين مقامه. (2) اي لا يوجد قبل فعل التعجب اسم يعود عليه الضمير المستتر فيه غير كلمة (ما). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت).

الصِّناعي إلى قَصْد واحد، فكأنَّه يرى أن كل واحدٍ منها ممكن. فالاستفهام قد يُؤْتَى فيه في معرِض التَّعظيم فتقول: ما أَحْسَنَ زيداً؟ على معنى: أَيُّ شِيءٍ أَحْسَنَهُ؟ والمقصود تعظيمُ الأمر الذي أَحْسَنَه، كما قال الله تعالى: {الحَاقَّةُ مَا الحَاقَّةُ (1)} و {فَأَصْحَابُ الْمَيْمْنَةِ ما أَصْحابُ المَيْمنَةِ (2)} وقولهم: أيُّ رجلٍ زيدٌ؟ وهو كثير. وكذلك النكرةُ تُعْطِي، بما فيها من الإبهام، معنى التعظيم، وهو ظاهر. وكذلك الموصولُة، وإن أُوضِحت بالصِّلة، ففيها من الإبهام ما ليس في (الَّذِي) وأيضاً ففي حذف الخبر (3) إبهامٌ يَصلح للتعجُّب، فقد ظهر لكل قولٍ وَجه. ويحتمل أن يكون تضرك تعينَ مذهبٍ هنا لما يلزم على كل/ مذهب منها من 514 الإشكال. أما الاستفهاميةُ فقال المؤلف (4): القائلُ بذلك إما أن يَدَّعى تجردَها للاستفهام، وإما أن يَدَّعى كونَها للاستفهام والتعجُّب معاً (5)، كما هي في قوله: {فأَصْحَابُ الْمَيْمنَةِ ما أَصْحَابُ الْمَيْمنَةِ (6)} فالأول باطلٌ بالإجماع. والثاني باطلٌ أيضا؛ لأن الاستفهام المُشْرَب بتعجُّب لا يَليه غالباً إلا

______ (1) سورة الحاقة/ آية 1، 2. (2) سورة الواقعة/ آية 8. (3) في الأصل ((حذف الضمير)) وهو تحريف. (4) شرح التسهيل [ورقة 143 - أ]. (5) في الأصل ((والتعجب معنى)) وهو تصحيف، وما أثبته من (ت، س) وشرح التسهيل (ورقة 143 - أ). (6) سورة الواقعة/ آية 8.

الأسماء، نحو الآية المتقدِّمة، وقوله: {الْحَاقَّةُ ما الْحاقَّةُ (1)} {وأَصْحَابُ الشَّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمالِ (2)} ونحو قوله (3): * يَا سَيِّداً مَا أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ * وقوله (4): * يَا جَارتَا مَا أَنْتِ جَارَهْ * و((ما)) المشارُ إليها مخصوصةٌ بالأفعال، فعُلم أنها غير المتضمِّنة استفهاماً. وأيضاً فلو كان فيها معنى الاستفهام لجاز أن تَخْلُفها (أَيٌّ) كما جاز ذلك في: * يَا سَيِّداً ما أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ (5) * فيكون كقوله (6):

______ (1) سورة الحاقة/ آية 1، 2. (2) سورة الواقعة/ آية 41. (3) للسفاح بن بكير اليربوعي، والبيت من شواهد شرح الكافية للرضي 3/ 50، والخزانة 6/ 95، والهمع 3/ 42، 5/ 56، والدرر 1/ 149، 208، 2/ 119، والتصريح 1/ 399. وعجزه: * موطّأ الأكنافِ رَحْبِ الذِراعْ * ويروي: ... * موطَّأ البَيْتِ رحيب الذراعْ * وموطأ: سهل مذلل. والأكناف: جمع كَنَفَ- بفتحتين- وهو الناحية، وكنف الرجل حضنه، يعني العضدين والصدر. ومعناه: دمث كريم مضياف لا يتحمل قاصده من زيارته عنتا. والرَّحْب والرحيب: الواسع، ورحب الذراع: سخي واسع القوة عند الشدائد. (4) الشعر للأعشى، وقد تقدم، أنظر: (5) حيث يمكن أن يقال فيهك يا سيداً أيَّ سَيِّدٍ. (6) سيبويه 2/ 55، وشرح التسهيل (ورقة 143 - أ) بدون نسبة. وعجزه: * إذَا ما رجالٌ بالرجال اسْتَقلَّتِ * والهيجاء: الحرب. وفتاها: القائم بها المُبْلى فيها. وجارها: المجير منها، الكافي لها. واستقلت: =

* أَيُّ فَتَى هَيْجَاءَ أَنْتَ وَجَارُهَا * وأيضاً فَقَصْد التعجُّب في ((ما)) متَّفق عليه، وكونُه مُشْرَباً باستفهام زيادةٌ لا دليل عليها، فلا يُلْتفت إليها (1). وأما الموصولةُ فمخالَفةٌ للنَّظائر، لأن الإبهام عنده حصل بحذف الخبر، والإفهام متقدِّم عليه، وذلك بيان (مَا) بالصِلة، وهو عكس ما عليه كلام العرب، حيث يَقصدون الإبهاَم أولاً، ثم الإفهامَ ثانياً، كضمير الأَمْرِ، وضَمِيرَيْ ((نِعْمَ وبِئْسَ)) مع مفسِّراتها، وكالعموم والتَّخصْيص، والمميَّز والتَّمييز، وأشباه ذلك. ولأن فيه دَعْوَى حذف الخبر لزوما، وفيه مَحْظوران، أحدهما أن كَوْنَ الخبر هنا مُلْتَزَمَ (2) الحذفِ دون شيء يَسُدُّ مَسَدَّه خلافُ المعتاد، لأن عادة العرب في مِثْله أن يَسُدَّ مسدَّه شِيء يَحصل به استطالةٌ كما كان مع ((لَوْلاَ)) وفي ((لَعَمْرُكَ)) وأشباههما، وهذا ليس كذلك، فلا يُعوَّل على دَعواه. والثاني أن يقال لُمِدَّعِي الحذف: أمعلومٌ هذا المحذوف أم مجهولٌ؟ فإن قال: (مَعْلوم) أبطل الإبهامَ المقصودَ في التعجَّب، وإن قال: (مَجْهول) لزمه [حَذْفُ مالا يجوز (3)] حذفُه؛ إذ من شرط الحذف أن يكون المحذوف دليل. وأما النكرةُ فيلزم على القول بها محظورٌ. حَكى ابن الأنباريّ في (الإنصاف (4)) أن بعض أصحاب المبرِّد قَدِم على بَغْداد، فحضر في حَلْقة ثَعْلبَ، فسُئل عن هذه المسألة فأجاب بمقتضى قول سيبويه (5) وقال: إن التقدَّير في

______ = ... نهضت. (1) في (ت) ((فلم يلتفت إليها)) وإلى هنا انتهى النقل من (شرح التسهيل: ورقة 143 - أ). (2) في (ت) ((مستلزم)). (3) ما بين القوسين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (4) انظر: 1/ 147.

((ما أَحْسَن زيداً)) شِيءٌ أحْسَنَ زيداً (1)، فقيل له: ما تقول في قولنا: ما أعْظَمَ اللهَ؟ فقال: شَيءٌ أعظمَ اللهَ، فأنكروا عليه وقالوا: هذا لا يجوز، لأن الله تعالى عظيمٌ لا بجَعْل جاعلٍ، وسَحبَوه من الحَلْقة فأخرجوه (2). فهذا كلُّه، وإن كان فيه بحثٌ ونظر، فتخليصُه عَسِير، والاشتغالُ به تكثير، والقَصْدُ حاصل، والكلام مُنْضبط بدون هذا التطويل، فترَكَه لمن يَتَرجَّح (3) عنده النَّظُر فيه، ونِعمَّا فَعَل. وحُذَّاق الصَّناعة إنَّما يتكلَّفون البحثَ فيما يَنْبني عليه حكم، وما/ عداه فهم فيه ما 515 بين تاركٍ له رأساً، وناظر فيه اتِّباعاً لمن تقدَّم له فيه نظر، إذ الخروج عن المعتاد مُنَفِّر، والله أعلم. وأما حكم (أَفْعِلْ) وما يَلزم عنه من الأحكام فالكلامُ فيها متعلِّق بشرح البيت الآتي بعدُ، ففيه يَظهر قصدُه وما أشار إليه في ذلك بحول الله، فلم يُهمل النَّظر فيه جُملة. وايضاً فإذا فرضنا انه لم يتعرَّض لحكمٍ فيه فقد ثبت أنه فِعْل، وهو متَّفَق عليه بين أهل البلدين. والفعل إذا كان على (أَفْعِلْ) ظاهرُه أنه فعل أمر، لأن هذه الصَّيِغة مختَصَّة به، فَيدَّعي أن مذهبه كَوْنُ (أَفْعِلْ) فعلَ أمر، لكن لا مطلقا، بل على

______ (5) في الإنصاف ((فأجاب بجواب أهل البصرة)). (1) في (ت) ((شيء حَسَّنَ)). (2) بعده في الإنصاف ((فلما قدم المبرد إلى بغداد أوردوا عليه هذا الإشكال، فأجاب بما قَدَّمنا من الجواب، فبان بذلك قبح إنكارهم عليه، وفساد ما ذهبوا إليه)). والمراد بقول ابن الأنباري: ((فأجاب بما قدمنا من الجواب)) قوله قبل ذلك: ((معنى قولهم: شِيء أعظم الله، اي وَصَفه بالعظمة، كما يقول الرجل إذا سمع الأذان: كَّبرتَ كبيرا، وعظمت عظيما، اي وصفته بالكبرياء والعظمة، لا صَيَّرته كبيرا عظيما، فكذلك ههنا ... )). (3) في (ت، س) ((لم يترجح)) ولا معنى له.

وَجْهِ ما دَخَله من معنى التعجُّب، حتى صار هو المعنى الغالب على الصِّيغة، فهو في لفظه، محكومٌ له بحكم فِعل الأمر في كون فاعله ضميراً مُتَّصلا، وما بعده يطلبه طلب الفَضْلة، والتُزم في الضمير الإفرادُ والَّتذكير، لجريانه عندهم مَجرى الأمثال (1)، وليكون مُوازِناً لصاحبه، وهو (أَفْعَلَ) إذ فاعلُه ضميرٌ مستتر أبداً، وإن كان سبب الاستتار فيهما مختلفاً. ولا يقال: إن كَوْنَ الأمر مفيداً لمعنى التعجَّب دَعْوَى لا دليل عليها، لأنا نقول: إذا كان الأمر يُفيد معنى الخبر، والخبر يُفيد معنى الأمر نحو {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَداً (2)} ونحو- {والمُطَلَّقاتُ يتَربَّصْنَ بأنْفُسِهنَّ ثَلاثَةَ قُروُءٍ (3)} والأمر والخبر ضِدَّان من جهة احتمال الخبر الصدقَ والكذبَ، وامتناع ذلك في الأمر- كان الأمرُ- بإفادة معنى التعجُّب، وهما غيرُ ضِدَّيْن، لاجتماعها في عدم احتمال الصدق والكذب- أحقَّ وأولى. وقد زعم المؤلف في ((الشرح)) أن الأمر يستفاد من الاستفهام نحو {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (4)} فكذلك يكون الحكم هنا قياساً لو لم يكن ثَمَّ سَماعٌ دَالٌّ، فكيف وقد قالوا (5): *يَا سَيِّداً ما أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ *

______ (1) من قواعد اللغة أن الأمثال لا تغيَّر، بل تحكي على ما جاءت عليه، بغض النظر عما ضربت له، أي سواء أكان مذكرا، أم مؤنثاً، وسواء أكان مفردا أم مثنى أم جمعاً. كل ذلك لا ينظر فيه غلا إلى الصيغة الأولى التي ورد عليها المثل، لأن المثال ما هو إلا استعارة تمثيلية، والمستعار فيها هو ألفاظ المثل بأعيانها، حتى أنه يقال للمذكر والمثنى والجمع: الصيف ضيعتِ اللبن)) بصيغة المفرد المؤنث، لأن المثل هكذا جاء عن العرب، فلا يصح المساس به. (2) سورة مريم/ آية 75. (3) سورة البقرة/ آية 228. (4) سورة الأنبياء/ آية 108. (5) تقدمت هذه الأشعار في الباب نفسه، انظر:

* يا جَارتَا مَا أَنْتِ جَارَهْ * * أيُّ فَتَى هَيْجَاءَ أَنْتَ وَجَارُهَا * وهذا كثير في أقسام الإنشاءات، أن يَدخلها معنى التعجُّب، كقوله في الحديث: ((سُبْحانَ اللهِ، إنَّ المُؤْمَن لا يَنْجُسُ (1))) وقالوا: * تَاللَّهِ يَبْقَى على الأَيَّام ذُو حِيَدٍ (2) و((للهِ يَبْقى)) ويَا لَلْعَجبِ، ويا لَلْماءِ. * ويَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كأنَّ نجومَهُ * (3) وهو كثير جدا. فلا بُعْد في استفادة التعجُّب من الأمر، من حيث اجتمعا في الإنشاء، كما لم يَبْعُد فيما ذُكر. وأيضاً فإن المجرور بعد (أَفْعِلْ) يجوز حذفه كما سيأتي، نحو {أَسْمِعْ بِهْم وأَبْصرْ (4)} وإذا حذف الجارُّ انْتَصب، نحو (5): * وأَجْدِرْ مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَا * والفاعل لا يُحذف ولا يَنتصب مع وجود فعله الطالب الطالب له بالفاعليَّة.

______ (1) تقدم تخريج الحديث الشريف، انظر: 435. (2) عجزه: * بمُشْمَخِرٍّ به الظّيَّانُ والآسُ * وتقدم في الباب نفسه، وانظر: 435. (3) عجزه: * بكل مُغَارِ الفَتْل شُدَّت بَبذْبُلِ * وهو من معلقة امرئ القيس، وتقدم الكلام عليه، انظر: 435. (4) سورة مريم/ آية 38. (5) شرح التسهيل للناظم (ورقة 143 - ب).

وأيضاً قال ابن خروف (1): تلخيص مذهب الفراء أن المعنى: فَعُل، وما أَفْعَلَه، وجاء اللفظ دليلاً على استدعاء المخاطب/ للتعجُّب مع المتكلِّم. ... 516 وقد اعتَرض المؤلف في ((الشرح)) هذا المذهب، إذ خالفه في ((التسَّهيل (2))) من أربعة أوجه: أحدها أن الناطق بـ (أَفْعِلْ) لو كان آمراً بالتعجُّب لم يكن (الآمرُ (3)) متعجِّبا، كما لا يكون الآمرُ بالحَلفِ والتَّشْبيه والنِّداء حالفاً ولا مُشَبِّهاً ولا مُنَادِياً، ولا خلاف أن قائل (أَفْعِلْ) متعجِّب، وإنَّما الخلافُ في اجتماع الأمر معه، وهذا لا يلزم مع غَلَبة معنى التعجُّب، ويلزم مثله في نحو {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (4)} فإن المستفهم عن الشِيء لا يكون آمراً بالشيء، كما لا يكون المستفِهم عن قيام زيد، وطلوع الشمس، ودخول رمضان آمراً بذلك، فما يكون جوابَه هو أيضا جوابُه، وهكذا يقال له في جميع ما تقدَّم التأنيسُ به (5)، بل يلزمه ذلك في (أَفْعِلْ) هنا، إذ هو في أصله خَبَرٌ دَخله معنى التعجُّب. والثاني أنه يلزم إبرازُ ضميره في التأنيث والتثنية والجمع، كما يَلزم في كل فعل متصِّرف أو غيرِه، ولا يُعْتَذر بأنه جرى مَجرى المثَل، فإن الأمثال تَلزم لفظاً واحدا كـ ((الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ (6))) والجاري مجرى

______ (1) سبقت ترجمته. (2) انظر: ص 130. وانظر كذلك شرح التسهيل للناظم (ورقة 143 - أ). (3) ما بين القوسين ساقط من (ت، س). (4) سورة الأنبياء/ آية 108. (5) يقال: أَنَّسَه تأْنيسا، إذ لاطفه وأزال وحشته. (6) انظر: كتاب الأمثال لأبي عبيد 247، واللسان (صيف).

المثَل يَلزم لفظاً واحداً، وإن تَغَيَّر بعضَ التَّغيير فذلك مُغْتَفر، نحو (حَبَّذَا) فيُجَاز أن يَخْتم الجملةَ بما للناطق فيه غَرضَ. و (أَفِعْلْ) لا تلزم لفظاً واحداً، فليس بَمَثلٍ ولا جارٍ مَجراه، وهذا غير لازم، لأنه في معنى (مَا أَفْعَلَه) فكأنه مُسْنَد إلى غير فاعلة حقيقةً، فهو كلام مُخْرَج عن حَدِّه. وأيضاً كما جاز في (حَبَّذَا) تغييرُ باقي الجملة من حيث تعلَّق بها غرضٌ جاز تبديُل المادَّة مع بقاء الوَزْن المخصوص، من حيث تعلَّق بذلك غرض، وهو بيان ما كان التعجُّب من أجله، فمثال (أَفْعِلْ) هنا نظيرُ لفظ (حَبَّذَا) هنالك. والثالث: لو كان كذلك لم يَجُز أن يَلي (أَفِعْلْ) ضميرُ المخاطَب، نحو: أَحْسِنْ بِكَ، لأن في ذلك إعمالَ فعلٍ واحد في ضميريْ فاعلٍ ومفعول لمسمى واحد. والجواب أن هذا رأي ابن عُصْفور، إذ هو يُجري المتَعدَّي إليه بالحرف مُجرى المتَعَدَّى إليه بغير حرف. وقد تقدَّم بطلان ذلك. وفي القرآن المجيد: {واضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ (1)}. والرابع: أنه كان يجب إعلالُه إذا كانت عينه ياء أو واوا/ كما وجب ذلك لـ (أَبِنْ، وأَقِمْ) ولم يَجُز: أَبْيِنْ بِه، ولا أَقْوِمْ بِه، كما لا تأمر كذلك، فَلمَّا لم يكن كذلك لم يصحَّ أن يكون أمرا، وهذا مُشْتَرَك الإلزام في (ما أَفْعَلَهُ) إذ هو عنده فِعْلٌ ماض، والماضي يجب فيه: أَقَامَ، وأَبَانَ، فكان يمتنع فيه: ما أَقْوَمَهُ، وأَبْيَنه، كما يَمتنع في الماضي. فالجواب عن هذا هو جوابُنا، وإلاَّ فلا يصح اعتراضُه فلا يَفتقر إلى الجواب.

______ (1) سورة القصص/ آية 32.

وإذا تقرَّر هذا كلُّه سَهُل الأمر في فاعلِ أَفْعِلْ) وأنه مضمر، وفي المجرورِ وأنه في موضع نصب، وأن الباء غير زائدة، وهو/ ظاهر. ... 517 وأما الاعتراض الأخير فإن جميع ما ذُكر فيه قد أشعر به المثالان، وهما ((مَا أَوْفَى خَلِيلَيْنَا، وأَصْدِقْ بِهَمِا)) ففيهما ما يعيِّن المتعجَّب منه، وأنه ما بَعْدَ الأفعال، وأن المتعجَّب من أجله هو مدلول الفعل، وها هو يَذكر على أَثَر هذا: مِمَّ يُبْنَيَان؟ فَيتَبَيَّن بعضُ كلامه ببعض. وبالله التَّوفيق. ويمكن أن يكون المقال أيضاً أشعر بمعنىً آخر، وهو كَوْن المتعجَّب منه مختصاً، إمَّا معرفةً نحو ما مَثَّل به، وإمَّا ما يَجري من النكرات مجراه نحو: ما أَسْعَدَ رَجُلاً اتَّقَى اللهَ. فلو كان غير مختَصٍّ لم يُتَعجَّب منه، ولا يقال: ما أَحْسَنَ رجلاً من النَّاسِ، ولا: ما أَسْعَدَ غُلاماً. وهو نظير النُّدْبة، لا يُنْدَب من لا يُعرف، وإنما يُندب مَن اشتَهر باسم أو فَعال، كما سيأتي إن شاء الله. ويمكن أَنْ لم يَقصد هذا، ولكنه اتَّكَل على معنىً آخر، وهو حصول الفائدة، إذ قال في أول النظم: ((كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ (1))) فإذا كان التعجُّب مفيدا، وذلك بكون المتعجَّب منه مختصاً- صَحَّ، وإلاَّ فَلاَ. ونُصب قوله: ((تِلْوَ أَفْعَلَ)) على الحال من الهاء في ((انْصِبَنَّهُ)) والإضافة لفظية، أي انْصِبْه حالهة كونه تالياً لـ (أَفْعَلَ). و((تَعَجُّباً)) نُصب على الحال أيضاً، وهو مصدر، لكن على معنى ((مُتَعَجِّباً)) أو ((ذَا تَعَجُّبٍ)).

______ (1) هو أول بيت في الألفية بعد الخطبة، استهلَّ به باب ((الكلام وما يتألف منه)).

وحَذْفَ مَا مِنْهُ تَعَجَّبْتَ اسْتَبِحْ إنْ كَانَ عِنْدَ الحَذْفِ مَعْنىً يَتَّضِحْ (1) يعني أن المتعجَّب منه وهو المنصوب في (ما أَفَعْلَهُ) والمجرور بالباء في (أَفْعِلْ بِه) يجوز حذفهُ، ويُستباح ذلك فيه، وإن كان مقصودَ الذّكْر في التعجُّب، لكن إذا كان معناه مع الحذف واضحاً ظاهراً، لدليلٍ دَلَّ عليه حتى صَيَّره كالملفوظ به. فأما (مَا أَفْعَلَهُ) فتقول: رأيتُ زيداً فما أحْسَنَ وأَجْمَلَ! ، تريد: ما أَحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ! وخَبَرْتُ عُمراً فما أفْضَلَ وأَكْرَم! قال الشاعر، ويُعْزَى إلى عليٍّ رضي الله عنه (2): جَزَى اللهُ عَنَّا والجَزَاءُ بفَضْلِهِ رَبِيعَةَ خَيْراً ما أَعَفَّ وَأكْرَمَا وأما (أَفْعِلْ به) فتقول: أَحْسِنْ بزيدٍ وأَجْمِلْ! تريد: وأَجْمِلْ بِه، قال تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ (3)} وأنشد ابن الأنباري (4):

______ (1) الرواية الأشهر في البيت ((إنْ كانَ عند الحَذْف معناهُ يَضِحْ)) وقد كتبت هذه الرواية على حاشية (ت) كما ذكرها الشاطبي فيما يلي. (2) الهمع 5/ 59، والدرر 2/ 121، والتصريح 2/ 89، والأشموني 3/ 20، والعيني 3/ 649 ومعنى: والجزاءُ بفضله- أن المجازاة على فعل الخير تفضل من الله على المحسن. وما أعف وأكرما: ما أعفها وأكرمها، وفيه الشاهد. (3) سورة مريم/ آية 38. (4) تقدم البيت في الباب نفسه.

ومُسْتَخْلِفٍ مِنْ بَعْدِ غَضْيَا صُرَيْمَةً فَأَحْرِ بِه لِطُولِ فقْرٍ وأُحْرِيَا وانشد ابن خروف وغيرُه لعُرْوة الصَّعاليك العَبْسِيّ (1): فَذَلِكَ أنْ يَلْقَ المَنِيَّةَ يَلْقَهَا حَمِيداً وإن يَسْتَغْنِ يَوْماً فَأَجْدِرِ وفي قوله (اسْتَبِحْ) إشعارٌ بأن المتعجَّب منه لم يكن حَقُّه أن يُحذف، وإنما كان الواجب فيه الإثبات، لأن العرب تقول: اسْتُبِيحَ حَمِى فلان، واسْتُبِيحَ دَمُ فلان، ونحو ذلك مِمَّا شأنُه أن يكون ممنوعَ الحَوْزَة حَتْماً. ولا يقال هنا في غالب الاستعمال: أُجِيزَ، ولا سُوِّغَ، ولا نحو ذلك، مما يُعطى/ مجردَ 518 معنى الإقدام من غير إشعار بالامتناع، فكأنَّ الناظم قَصد هذا، لما في (أَفِعْلْ بِه، ومَا أَفْعَلَهُ) مما يَقْتضي امتناعَ الحذف حَتْماً، وذلك أن المتعجَّب منه مقصودُ الذِّكر، والكلامُ مبنيٌّ عليه، لأن جملة التعجَّب لأجله سيقت، فصار بمنزلة الاسم الواقع بعد (إِلاَّ) في قَصْد الحصْر إذا قلت: ما أَكْرَمنِي إلاَّ زيدٌ، وما أكرمتُ إلاَّ عَمْراً، وما مررتُ إلاَّ بعَمْروٍ، إذ لا يجوز الحذف فيه وأن كان فَضْلة، لأن الكلام مبنيٌّ عليه، فكذلك هنا. فكأنَّه يقول: هو، وإن كان مقصودَ الذِّكر، جائزُ الحذف، لأن إيضاح معناه قائمٌ مقامَ ذِكْره. وحين أجاز حذفَ المتعجَّب منه مطلقا إذا عُلم كان دليلاً على أن المجرور بالباء ليس هو الفاعل البتَّةَ، إذ لو كان كذلك لامتنع الحذفُ، بناءً

______ (1) ديوانه 27، والتصريح 2/ 90، وشرح الكافية الشافية (2/ 1089) وانظر: الأصمعية العاشرة: 46.

على مذهبه في أن الفاعل لا يُحذف، حَسْبَما مَرَّ بيانُه في قوله في ((باب الفاعل)): ((وبَعْدَ فشعْلٍ فاعلٌ فإنْ ظَهَرْ فَهْوَ وَإلاَّ فضَمِيرٌ اسْتَتَرْ)) فهذا الموضع داخل في مُقْتَضَى ذلك الحُكْم، فلا يصح على مذهبه أن يكون المجرور هنا فاعلاً أصلا، وهذا واضح. وقد تقدَّم الاستدلالُ على صحَّة ما ذَهب إليه. وقوله: ((وحَذْفَ كذا)) مفعول ((اسْتَبِحْ)) و ((مَعْنىً)) تمييزٌ لقوله ((يَتَّضِحْ)) أي يَتَّضِح مَعْنىً، وهو منقولٌ من الفاعل، وقَدمَّه على العامل فيه بناءً على جوازه نادراً إذا كان العاملُ متَصِّرفاً، كقوله (1): * ومَا كَانَ نَفْساً بالفِراقِ تَطيبُ * وقد مَرَّ في بابه. ويحتمل أن يكون ((مَعْنىً)) فاعلَ ((كان)) على أنها تامَّة. و ((يَتَّضحُ)) في موضع الصفة لـ (مَعْنىً) ويكون المراد: إن وُجد عند الحذف معنىً، ويريد: معنى المحذوف. أو تكون ناقصة. وحُذف الخبر لدلالة الكلام عليه إن وُجد له معنىً يَتَّضِح.

______ (1) المقتضب 3/ 37، والخصائص 2/ 384، والأشموني 2/ 201، والهمع 4/ 71، والدرر 1/ 208، والعيني 3/ 235، واللسان (حبب) وصدره: * أتهْجرُ ليلى للفراق حَبِيبَها * وينسب للمخبل السعدي، أو أعشى همدان، أو مجنون ليلى.

ووجدتُ في طُرَّة (1) بعض النُّسَخ عِوَض ذلك ((أنْ كانَ عِنْدَ الحَذْفِ مَعْناهُ يَضِحْ)) يريد معنى المحذوف. و ((يَضِحْ)) مضارع: وَضَح الشِيءُ، يَضِح وُضُوحاً، وهو صحيح. وَفِي كِلاَ الفِعْلَيْن قِدْماً لَزِمَا مَنْعُ تَصَرُّفٍ بحُكْمٍ حُتِمَا ((في كِلاَ الفِعْلَيْن)) متعلِّق بـ (لَزِمَ) و ((قِدْماً)) ظرف، و ((مَنْعُ)) فاعلُ ((لزم)) أي لَزِم قديماً في الفعلين مَعاً منعُ التصرُّف. ويريد أن العرب ألزمت هذين الفعلين، وهما: (ما أَفْعَاهُ، وأَفْعِلْ بِه) عدمَ التصرُّف، والجريانَ على طريقة واحدة لا يتعَّداها، بل لابد أن نَتْبع العربَ على ما أَلزمتْ من ذلك. وعدم التصرُّف فيهما من جهات: أَمَّا أولاً فلا يَتَصَّرف منهما غيرُهما من الأفعال. (فمَا أَفْعَلَهُ) لا يُبْنى منه أمر ولا مضارع، و (أَفْعِلْ بِه) لا يُبْنى منه ماض ولا مضارع، ولا لهما اسمُ فاعل ولا مفعول، ولا صفة مشبَّهة، ولا يَدلان على زمان، فـ (أَفْعَلَ) لا دلالة له على الزمان الماضي بصيغته، و (أَفْعِلْ) لا دلالة له على المستقبل كذلك. ولا يَنْتصب عنهما مصدرٌ مؤكِّد، ولا يُرفع بهما ظاهر، ولا يُتْبع/ مرفوعهما بعطف 519 ولا توكيد ولا إبدال. وأما ثانياً فإنهما لا يُغَيَّران عن حالهما في تقديم أو تأخير، بل يلَزمهما ما عُرِّف به أولاً من تقديم ((ما)) وتأخير الاسم المتعجَّب منه في

______ (1) الطُّرة: طرف كل شيء وحَرْفه، ويُقصد بها هنا حاشية النسخة.

(ما أَفْعَلَهُ) ومن تأخير المجرور في (أَفْعِلْ به) أو حَذْفه إلا شاذاً، نحو (1): * وأَجْدِرْ مِثْلَ ذلكَ أن يَكوُنَا * ومن عدم الفَصْل بين ذلك كله غلا ما يَذكره آخر الباب. وأيضاً فهما في الأفراد والتذكير وأضدادهما على طريقةٍ واحدة، فتقول: ما أَكْرمَ زيداً، وما أَكْرمَ الزَّيْدَيْنِ، وما أَكْرمَ الزَّيْديِنَ. وما أَكْرمَ هِنْداً، وما أكرم الهنْدَينِ، وما أكرم الهِنْداتِ. وتقول: أَكْرِمْ بزيدٍ، وبالزيديْن، وبالزيدِينَ، وأَكْرِمْ بهندٍ، وبالهنديْنِ، وبالهنْدات. وما أشبه ذلك، فيَستوي حالُ الإفراد والتذكير مع التثنية والجمع والتأنيث. وعَلَّل ذلك بقوله: ((بحُكْمٍ حُتِمَا)) يريد أن عدم التصرُّف إنَّما لزم بسبب حُكْمٍ من العرب حُتِمَ عليهما وأُلْزِماه، فالحكم بعدم التصرُّف مُسَبَّب عن حُكْم آخر، وهو إجراؤُهم لهما مجرى المثل أن يتركوه على طريقةٍ واحدة، وهي الطريقة التي وضُع عليهما أولاً، كقول من قال، وهو طَرَفة (2): * خَلاَلَكِ الجَوُّ فَبِيضِي واصْفِريِ * يقال هذا لكل أحد، من مذكرَّ ومؤنَّث، ومفرد ومثنى ومجموع، وكذلك

______ (1) تقدم في الباب نفسه، وانظر: شرح التسهيل للناظم (ورقة 143 - ب). (2) من شعر له بديوانه 157، والشعر والشعراء /188، ويقول فيه: يَالَكِ من قُبَّرةٍ بَمعْمرِ خَلالِك الجوُّ فبِيضِي واصْفِريِ ونَقِّري ما شِئْتِ أن تنقِّري وهو من أمثالهم السائرة، وانظر كتاب الأمثال لأبي عبيد 251.

قولهم: ((أَطِرِّي إِنَّكِ نَاعِلَةٌ (1))) يقال لكل من وقع عليه معناه. وقولهم: ((الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ، أو ضَيَّحْتِ اللَّبَن (2))). ومثل (ما أَفْعَلَه، وأَفْعِلْ بِه) في ذلك (حَبَّذَا) حَسْبَما يَذكره بعد هذا. فكأنَّه تقريرُ حكمٍ، وتعليلٌ له، فلا يُعترض عليه بما اعتَرض في ((الشرح)) على مذهب الفراء الذي ذهب إليه هنا. ثم أخذ في ذكر ما يُبْنَيان منه فقال: وَصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلاثٍ صُرِّفَا ... قَابِلِ فَضْلٍ تَمَّ غَيْرِ ذي انْتِفَا وغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلاَ ... وغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلاَ ((ذِي ثَلاثٍ)) هنا هو الفعل، ويريد أن هذين الفعلين يُبنيان قياساً من كل ثلاثي اتَّصف بهذه الصفات التي يذكرها، وجملتها ثمانية أوصاف. أحدها أن يكون ذلك المَصُوغُ منه فعلاً، وهو قوله: ((مِنْ ذِي ثَلاثٍ)) ودَلَّ على أنه أراد من (فِعْلٍ ذِي ثلاثٍ) ما ذكر من الأوصاف، وقولُه فيها: ((وغَيْرِ سالكٍ سَبِيلَ فُعِلاَ)) فهذا كلُّه لا يكون إلا لِفِعْل. فلو لم يكن ثَمَّ فِعْل لم يُبْن فعل التعجَّب من غيره في القياس، فلا يقال في

______ (1) كتاب الأمثال لأبي عبيد/ 115، واللسان (طرر). وأطرَّي: خُذي طُرَر الوادي، وهي نواحيه. وإنك ناعله: أي عليك نعلان. وأصله أن رجلاً قاله لراعية له كانت ترعى في السهولة، وتترك الحزونة، ومعناه: اركب الأمر الشديد فإنك قوي عليه. (2) كتاب الأمثال لأبي عبيد/ 247، واللسان (صيف). ولم أعثر على رواية ((ضَيَّحتِ)) في كتب الأمثال ولا اللغة. والضَّيْح والضَّياَح: اللبن الخاثر يصب فيه الماء، ثم يُجْدح. يقال: ضَيَّحَ اللبنَ تضييحاً، أذا مزجه بالماء حتى صار ضْيحا.

كمال الرجوليَّة: ما أَرْجَلَه! ولا في قوة الحمارِيَّةِ: ما أَحْمَرهُ! فإن جاء من ذلك شِيء حُفِظ. قالوا في نظيره: هو أَحْنَكُ الشَّاتَيْن، وأَحْنَكُ البَعِيريْنِ (1)، يريدون: أشدُّهما أَكْلاً، من (الحَنَك) وليس له فعل، قال سيبويه: كأنَّهم قالوا: حَنِكَ، ونحو ذلك (2). وأفعلُ التفضيل وفعل التعجُّب حكمهما في هذا واحد. وحكى سيبويه ايضاً: هو آبَلُ الناسِ، وقال: إنهم لم يتكلَّموا/ بالفعل (3). وحَكى 520 ... غيرُه الفعلَ، قال الجَوْهَرِيّ: أَبِلَ الرجلُ، بالكسر، يَأْبَلُ، أبَالَةً، فهو أَبِلٌ وآبِلٌ، أي حاذقٌ بمصلحة الإبل. وفلان من أبَل الناس، أي من أشدِّهم تَأَنُّقاً في رِعْية الإبل، وأعلمهم بها (4). والثاني أن يكون الفعل ثلاثياً، وهو قوله: ((مِنْ ذِي ثًلاثٍ)) والمراد أن يكون مع ذلك مجرَّداً من الزوائد، فلا يريد أنه ثلاثيُّ الأصول خاصَّةً. فقد اشتمل هذا الوصفُ على شيئين في التحرزُّ، أحدهما أن يكون رباعياً كدَحْرَجَ، فلا يُبنى منه (ما أَفْعَلَه) ولا (أَفْعِلْ بِه) لكَسْر البِنْية. والثاني ألا يكون مَزِيدا فيه، بل مجرَّداً من الزيادة جُملة، نحو: عَلِمَ، وفَقُه، وكَرُمَ، وما أشبه ذلك. (وتَحرَّز من الثلاثي المزيد فيه نحو: تَعَلَّم، واسْتَعْلَم، وكَارَمَ، إذ لا يُبْنى من ذلك (5)) لاختِلاَل البِنْية. والثالث أن يكون الفعل المبني منه متصرفاً، لأن التصرف أصل

______ (1) من أمثلة سيبويه في الكتاب 4/ 100. (2) نفسه 4/ 100. (3) نفسه 4/ 100. (4) الصحاح (أبل). (5) ما بين القوسين ساقط من (س).

ذلك تحرُّزاً من أن يكون غير مَتصرِّف' فإنه يَمتنع ذلك فيه، لأن البِنَاء منه تَصَرُّفٌ فيه، والتصرُّفُ فيما لا يَتَصرَّف نَقْضٌ لوَضْعه. وعدم التصُّرف على وجهين، أحدهما يكون بخروج الفعل عن طريقة الأفعال من الدلالة على الحَدث والزمان، كنِعْمَ، وبِئْسَ، ولَيْسَ، وعَسَى. والثاني يكون بمجرَّد الاستغناء عن تصرُّفه. بتصُّرف غيرِه، وإن كان باقياً على أصله من الدلالة على الحدث والزمان. مثاله: يَذَرُ، ويَدَعُ، حيث استُغني عن ماضيهما بماضي (يَتْرُكُ). وكلا القسمين مرادٌ هنا، فلا يقال: ما أَنْعَمَهُ، وأَنْعِمْ بِه، وهو باقٍ على معناه، من إنشاء المَدْح. وكذلك (بِئْس) وغيرها. وكذلك لا يقال أيضاً: ما أَوْذَرَهُ، ولا مَا أَوْدَعَهُ، ولا ما أشبه ذلك. الرابع أن يكون قابلا للفَضْل، أي قابلاً لأن يَفْضُل فيه واحدٌ من المتَّصفِين به الآخرَ، كَعِلَم، وجَهِلَ؛ فإن العلم والجهل يُتصوَّر فيهما الزيادةُ والنُّقصان، وأن يَفْضُل فيهما الرجلُ رجلاً آخر، وهو المراد بقوله: ((قَابِلِ فَضْلٍ)). وضابط ذلك من الأوصاف الأوصافُ الإضافيَّةُ التي لا تكون على حالةٍ واحدة، بل تختلف بحسب الآراء والمذاهب والأمزجة والطباع، كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد في حَالَيْن، كالعِلْم والجَهْل، أو شَخْصَيْن كالحُسْن والقُبْح، فإنك تقول: ما أَعْلَمَهُ، وما أَجْهَلَهُ، وما أَحْسَنَهُ، وما أَقْبَحَهُ. ولا يُعتبر في ذلك كونُ الشخص الواحد لا يتَغَير ذلك الوصف فيه بالأشدِّ والأَضْعف (1)، بل المعتبر تصوُّرُ الصفة كذلك لا بقَيْدِ شخص.

______ (1) على حاشية الأصل ((بالأشديَّة والأضعفيَّة)) على أنه من نسخة أخرى.

وهذا التفسير جارٍ على كلام الناظم؛ إذ لم يُقَيِّد المفاضلةَ بكونها بالنسبة إلى الشخص الواحد. فلو كان الوصف غير قابل للمفاضلة بهذا التفسير لم يُبْن منه فعلُ التعجُّب، فلا تقول: ما أَعْمَى زيداً، وأنت تريد عَمَى البَصَر، ولا ما أَمْوَتَ زيداً، ولا ما أَعْوَرهُ، ولا ما أشبه ذلك. والخامس أن يكون/ الفعل تاماً، وهو قوله: ((تَمَّ)) وتمامه قد بَيَّنه في باب ((كان)) في 521 قوله: ((وذُو تَمَامٍ ما بِرفْعٍ يَكْتَفِي)) وذلك جميعُ الأفعال ماعدا الأفعال العاملة عملَ (كان) فـ (كان) وأخواتها هي النَّواقص، فلا يجوز بناء فعل التعجُّب منها، فلا يقال: ما أَكْوَنَ زيداً قائماً، ولا ما أَظَلَّ زيداً سائراً، ولا نحو ذلك، لأنك بين أمَريْن؛ إما أن تَنصب الخبرَ ولا تجرهَّ باللام، وإما أن تحذفه رأساً، وكلاهما ممنوع. ولا تجرُّه أيضاً باللام، لأنه يَصِير على معنى آخر، وجر الخبر باللام أيضا غيرُ صحيح، إذ لا يقال: زيدٌ لِقَائمٍ، على معنى: زيدٌ قائمٌ. والسادس ألاَّ يكون منفياً، وهو قوله: ((غَيْرِ ذي انْتِفَا)) يريد أن من شرطه أن يكون موُجَبا، كَلطُفَ، وكَثُفَ، فلو كان منفياً لم يُبْن منه فعلُ التعجُّب، فلا يقال في ((لَمْ يَقُمْ)): ما أَقْوَمَهُ، ولا في ((لَمْ يَخْرُجْ)): ما أَخْرَجَهُ، ولا ما كان نحو ذلك. ووجه المنع التباسُ المنفيِّ بالمُثْبت. والسابع أَلاَّ يكون له وصف على (أَفْعَلَ) للمذكَّر و (فَعْلاء) للمؤنث، وهو قوله: ((وغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلاَ)) يعني ألاَّ يكون مِمَّا قَياسُ (1)

______ (1) في الأصل و (ت) ((ما يُقاس)) وما أثبته من (س) وهو الصواب.

وصفه عند العرب أن يُبنى على ما كان يُبْنى عليه ((أَشْهَلُ (1))) من كونه للمذكر هكذا، وللمؤنث على ((شَهْلاَء)) فكل فعل استَحَقَّ وصفُه هذا البناءَ فلا يُبنى منه فعلُ تعجُّب، فلا يقال في (شَنِبَ): ما أَشْنَبَهُ، ولا في (صَيِدَ): ما أَصْيَدَه، ولا في (لَمِىَ) ما أَلْمَاهُ، ولا في (دَعِجَ): ما أَدْعَجَهُ، ولا في (حَمُقَ): ما أَحْمَقَه، ولا في (بَرِص): ما أَبْرَصَهُ (2)، ولا في (بَرِشَ): ما أَبْرِشَه (3)، ولا في (كَحِلَ): ما أَكْحَلَهُ. وللناس في مَنع هذا ثلاثُ عِلَل: إحداها أن حَقَّ صيغة التعجُّب أن تُبنى من الثلاثي المَحْض الذي ليس في معنى غيرِه، من مَزِيدٍ فيه. وهذه الأفعال التي جاءت صفاتُها على (أَفْعَل، وفَعْلاَء) وإن كانت ثلاثيَّةً أصلُها الزيادة، وأن تكون على (افْعَلَّ)، وافْعَالَّه وذلك ظاهر في الألوان نحو: احْمَرَّ، فهو أَحْمرُ، وهي حَمْراءُ، وكذلك اصْفَرَّ وابْيَضَّ، واحْمَارَّ واصْفَارَّ وابْيَاضَّ. فكذلك أصلُ سائر ما تقدم، أن يكون على (افْعَلَّ، وافْعَالَّ) ولذلك صَحَّت العين في: حَوِلَ، وعَوِرَ، وصَيِدَ، وهَيِفَ، ونحو ذلك، لَمَّا كان في معنى: احْوَلَّ، واعْوَرَّ، واصْيَدَّ، واهْيَفَّ، كما صَحَّ: اجْتَوَروُا، واعْتَوَنُوا، حَمْلاً على ما في معناه

______ (1) يقال: شَهِل اللونان شَهَلا، إذا اختلط أحدهما بالآخر. وشَهِل فلان: كانت في عينه شُهْلة وهي أن يشوب إنسانَ العين حمرة. (2) على حاشية الأصل إزاء هذا قوله: ((ولا في مَرِض: ما أمرضه، ولا في قَرَش: ما أقرشه)) على أنه من نسخة أخرى. (3) الشَّنَب-بفتحتين- جمال الثغر وصفاء الأسنان. والصَّيَد-بفتحتين كذلك-داء بالعنق لا يستطاع معه الالتفات، والكبْر. والوصف منه: أَصْيَدُ وصَيْداء. واللَّمَى: سُمرة في الشفة تُستحسن. وشَفة أو لثة لمياء: لطيفة قليلة الدم، أو قليل اللحم. والوصف منه: ألمى ولمياء. ودَعِجت العينُ، دَعَجاً ودُعوجة، اشتد سوادها وبياضها واتسعت، فهي دَعجاء. ويقال: بَرِش بَرَشاً وبُروشة، إذا اختلف لونه، فكانت فيه نقطة حمراء، وأخرى سوداء أو غبراء. والوصف منه: أبرش وبَرشاء.

من: تَجَاوَرُوا، وتَعَاوَنُوا. فلو لم تكن الأَبْنِية في معنى غيرها لاعْتَلَّت كما اعْتَلَّ (قَامَ، وتَابَ، وهَابَ، وبَاعَ) فكنتَ تقول في (حَوِلَ): حَالَ، وفي (عَوِرَ): عَارَ. وكذلك في سائرها، فدَلَّ على ما ذُكر. وهذه العلة عَلَّل بها الجمهور. والثانيةُ للخليل ومَن قال بقوله، أن هذه المعاني من الألوان والعيوب الظَّاهرة جَرَتْ مَجرى الخِلَق الثابتة التي لا تزيد ولا تنقص، التي لا أفعالَ لها، كالَيدِ والرِّجل وسائر الأعضاء التي لا تزيد ولا تنقص، فكما لا / يُتعَّجب من الأعضاء لثبوتها وعدم تغيُّرها وفَقْد استعمال أفعالها، ... 522 كذلك هذه التي أشبهتْها، وجَرَتْ مجراها وإن كان لها أفعالٌ مستعملة. قال في الكتاب: زَعم الخليلُ-رحمه الله- أنه مَنعهم من أن يقولوا في هذا: ما أَفْعَلَهُ، لأن صار عندهم بمنزلة (اليَدِ، والرِّجْلِ) وما ليس فيه فشعْلٌ من هذا النَّحْو. ألا ترى أنك لا تقول: ما أَيْدَاهُ، ولا مَا أَرْجَلَهُ، إنما تقول: ما أَشَدَّ يَدَهُ، وما أَشَدَّ رِجْلَهُ، ونحو ذلك (1). قال، ولا تكون هذه الأشياء في (مفْعال ولا فَعُول) كما تقول: رَجلٌ ضَرُوبٌ، ورجلٌ مِحْسَانٌ، لأن هذا في معنى، ما أَحْسَنَهُ، إنَّما تريد أن تُبالِغ، ولا تريد أن تجعله بمنزلة كُلِّ مَن وقع عله: قاتِلٌ وحَسَنٌ (2). يعني أن هذه المعاني لا يصحُّ فيها المبالغة، لأنها في نَفْسها لا تزيد ولا تنقص، فلا يعبَّر عنها بـ (مَا أَفْعَلَهُ) ولا (فَعُول) ولا (مِفْعَال) ولا غير ذلك مما يَقْتضي المبالغة. وهذا حَسَنٌ من التعليل.

______ (1) الكتاب 4/ 98. (2) نفسه 4/ 98، وفيه ((ضاربٌ وحَسَن)).

والثالثةُ للمؤلف في ((الشَّرح)) (1) أنه لَمَّا كان بناء الوصف من هذا النوع على (أَفْعَل) لم يُبْن منه (أَفْعَلُ التفضيل) لئلاَّ يَلتبس أحدهما بالآخر، ولَمَّا امتنع صَوْغ (أَفْعَل التفضيل) امتنع صَوْغُ (فِعْل التعجُّب) لجَريانهما مَجرىً واحداً في أمور كثيرة، وتساويهما في الوَزْن والمعنى. قال: وهذا الاعتبار بَيِّنٌ هَيِّنٌ، ورُجحانه متعيِّن. وهذا تعليل ضعيف. والثامنُ من الأوصاف أَلاَّ يكون الفعل مَبْنياً للمفعول، وذلك قوله: ((وغَيْرِ سَالِكٍ سَبِيلَ فُعِلاَ)) يعني أنه لا يُبنى فعلُ التعجُّب مما كان على طريقة (فُعِلَ) مبنياً للمفعول، فإنك تقول في (عَلِمَ): ما أَعْلَمَهُ، وفي (ضَرَبَ): ما أَضْرَبَهُ. ولا تقول في (ضُرِبَ): ما أَضْرَبَهُ، ولا في (عُلِمَ): ما أَعْلَمَهُ، وكذلك سائر الباب. ولتعليل ذلك وجهان، أحدهما اللبَّسُ الواقع بين فشعْل الفاعل وفِعْل المفعول، فإنك تقول في: (ضَرَبَ زيدٌ): ما أَضْرَبَ زيداً، وفي (ضُرِبَ زيدٌ): ما أَضْرَبَ زيداً كلك، فلا يقع فرقٌ بين التعجُّب من الفاعل والتعجُّب من المفعول. والثاني أن فشعل المفعول لا كَسْبَ فيه للمفعول، فأَشْبه أفعالَ الخِلَق، وأفعالُ الخِلَق لا يُتعجُّب منها، فكذلك ما أشبهها. هذه جملة الأوصاف المعتبرة فيما يُبْنى منه فعلُ التعجُّب، وقد ظهر أن الناظم ضبط هذا الموضع ضبطاً حسناً، لم يقع مثلُه في أكثر المطوَّلات، فضلاً عن المختصرات. ويتبيَّن ذلك إلى أقصاه بفَرضْ مسألتين: إحداهما فيما وَقع فيه الخلاف من هذه الأوصاف المذكورة.

______ (1) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 145 - ب).

ففي الشرط الثاني الخلافُ في موضعين؛ أحدهما ما كان من المَزيد فيه ليس له ثلاثي، ولكنه عُومل معاملَة الثلاثي المجرَّد، نحو: افْتَقَر، وتَمَكَّنَ، واسْتَغْنِى، وامْتَلأَ، واشْتَدَّ، واتَّقَى، وما أشبه ذلك. فهذه الأمثلة وأشباهُها جاريةٌ/ مَجرى الثلاثي لا مَجرى الزائد، لقولهم في الصِّفة: فَقِيرٌ، وغَنِيٌّ، وشَدِيدٌ، وتَقِيٌّ، وقد قالت العرب فيها: ومَا أَفْقَرَهُ، ومَا أَمْكَنَهُ، وما أَغْنَاهُ، ومَا أَمْلأَهُ، وما أَشَدَّهُ، وما أَتْقَاهُ. ففي جَريَان هذا الباب مَجرى الثلاثي المجرَّد فيصحُّ أن يُبْنى منه، أو مَجرى الزائدِ فلا يُبْنى منه، إلاَّ أن يُسْمَع فيوُقَف على مَحَلِّه- قولان الأولُ لابن السَّرَّاج وطائفةٍ (1)، والثاني لابن خَروف وجماعةٍ (2). وهذا الثاني أصحُّ، لأن العِلَّة التي من أجلها امتنع بناؤه من المزيد غيرِ الجاريِ مَجرى المجرَّد موجودةٌ هنا، وهو هَدْمُ البِنْية وحذفُ زوائدها لغير مُوجِب، مع وجود الغَنَاء عن ذلك بـ (ما أَشَدَّ) ونحوه. فإن قيل: إتيانُهم بـ (فَعِيل) في اسم فاعله مع أنهم لم يَنْطقوا بفِعْلٍ منه دليلٌ على أنهم لم يَعتبروا الزائد، بل عَدُّوه كالعَدَم، إذ ليست الزيادة بدالَّةٍ على معنى، فصار الثلاثي المجرَّد مرادفاً (3) لها، فكما أَجْرَوا الصِّفة عليه باعتبار خُلُوِّه من الزيادة فكذلك يجب هنا- قيل: هذا التعليل لاَ ينْهض أن يَجرى القياسُ بسببه، وإنَّما يَصلح أن يكون تعليلاً للسَّماع، إذ لم يكثر في السَّماع كَثْرةً يُعَتبر مثلُها في القياس، وإنَّما جاز ذلك نادراً فلا يُعتد به.

______ (1) انظر: كتاب الأصول لابن السراج 1/ 121. (2) انظر: ابن يعيش 7/ 144. (3) على حاشية الأصل ((موافقا لها)).

فَثبت أن الوجه مذهبُ ابن خروف. وإليه ذهب الناظم. والثاني ما كان على (أَفْعَلَ). اختلفوا في بناء فعل التعجُّب منه على ثلاثة أقوال: الجَوازُ مطلقاً، ويظهر من سيبويه (1)، وإليه ذهب في (التسَّهْيل) و ((شَرْحه)) (2). والمنعُ مطلقاً، وهو مذهب جمهور المتقدِّمين، حكَى ابن السرَّاج عن أبي العَبَّاس أن الخَلْق على خلاف قول سيبويه، قال ابن السرَّاج: والقياس ما قال أبو العباس. نَصَّ عليه في الأصول (3). ونَصَّ الجَرْمي والأخفشُ وغيرُهما على أن التعجُّب من (أَفْعَلَ) قليلٌ شاذٌ (4)، وهو رأي الفارسي في ((الإغْفَال)). والفرق بين أن تكون الهمزة التعَّدية أو لغير ذلك، فإن كانت للتَّعدية فلا يجوز، وإلاَّ جاز، وهو رأي ابن عصفور (5). وظاهر هذا النظم القولُ الثاني، وهو الراجح سماعاً وقياساً. أما السَّماع فقد نَصُّوا على أنه شاذٌ ولم يَكْثر. وفي رواية الزجَّاج في ((الكتاب)) النصُّ على القلة، ففيها ((وبناؤُه أبدأ من فَعَل وفَعِل وفَعُل، وهو في (أَفْعَلَ) قليلٌ جدا (6))). (وفي النسخة الشَّرقية ((وبناؤه أبداً من: فَعَل وفَعِل وفَعُل وأَفْعَلَ، وهو في (أفعل) قليلٌ جدا))) (7). قال بعض المتأخرين: السَّماع قاطعٌ بأن بناءه من (أَفْعَلَ) ليس على حَدِّ

______ (1) انظر: الكتاب 1/ 73 حيث قال: ((وبناؤه أبدا من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ)). (2) التسهيل: 132، وشرحه (ورقة: 146 - أ). (3) لم أجده في باب التعجب. (4) التصريح 2/ 91. (5) شرح جمل الزجاجي له 1/ 580، والتصريح 2/ 91. (6) الذي في نسخة الكتاب التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون هو ما سبق أن نقلته، ونصه: ((وبناؤه أبدا من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ)) فقط. (7) ما بين القوسين ساقط من (س).

بنائه من (فَعُلَ) في الكثرة. وذلك حظ هذا الموضع، وعليه يَنْبَنِي جوازُ اقْتِياسه ومنعه، قال: والقول في ذلك وفي بناء أَفْعَل التفَّضيل، وفَعُول، ومِفْعال، وفَعَّال واحد، ولا/ شك في أن ... 524 ((باب هذا)) إنما هو في (فَعلَ) لا (أَفْعَلَ). فإن قيل: قد قال سيبويه في الباب الأول: ((وإن كان من حَسُنَ وكَرُمَ وأَعْطَى (1))) وهذا يقتضي تسويغَ لك في (أَفْعَلَ) وقال في أبنية الأفعال في النصف الثاني إنهم استَغْنَوْا عن (مَا أَجْوَبَهُ) واستغنوا عن (ما أَقيَلَهُ) بـ (ما أَجْوَدَ جَوابَهُ) و (أكثرَ قائلتَه) كما استغنوا عن: وَذَر، ووَدَعَ بتَرَكَ (2). ولا شك أن هذا الاستغناء هنا خروجٌ عن القياس إلى ما ليس بقياس، فكذلك ههنا. فالجواب أن كلام سيبويه مجمَل، يُفَسِّره روايةُ الزجاج، فلا يُلتفت معها إلى المحتمَل. ووجه ما قال أولاً أنه أتى بجامعٍ لما جاء من ذلك، وبعضهُ مَقيس وبعضه غير مقيس. ولَمَا كان ما جاء من غير المقيس على (أَفْعَلَ) أوسع شيئاً من غيره ذكَر ما هو أوسع، ولم يذكر غيرَه. وأمَّا قال في (الاستغناء) فقال بعض المحِّققين: لا يَبعد عندي ما قاله ابن الطَّراوة (3) في ذلك، من أن هذا ممتنع لأجل معناه، فـ (قَالَ) معناه:

______ (1) الكتاب 1/ 73. (2) نفسه 4/ 99 (بتصرف في الألفاظ). (3) هو ابو الحسن سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي ابن الطراوة. كان مبرزا في علوم اللسان، نحواً ولغة وأدبا، وله في النحو آراء تفرد بها، وخالف فيها جمهور النحاة. وألف: الترشيح في النحو، والمقدمات على كتاب سيبويه، ومقالة في الاسم والمسمى (ت- 528 هـ).

دَخل في القائلة ولا يُتَصوَّر في هذا مفاضلة، وكذلك قولهم: (أَجَابَ) إنما هو مُعاقِبٌ لكلام المخاطب فلا يُتَصَّور فيه مفاضلة. قال: وهو، وإن كان ممتنعاً لأجل أنه من غير الثلاثي، فإنما قَصد أن يَذكر مانعاً معنوياً غير مَا ذُكر في الخِلقَ والألوان ليُتَنَبَّه له. قال: وجَعْلُ ذلك من (الاستغناء) لا يقتضي أَلاَّ مانعَ له من جهة اللفظ، ولا من جهة المعنى، فقد يُستعمل (الاستغناء) حيث المانعُ موجود. فإذا كان كلام سيبويه لا يُعطي القياسَ البَتَّةَ، ونَصَّ الأئمةُ على أنه قليل، فلا ينبغي أن يُقاس عليه. قال بعضهم: ولم يَذهب إلى اقْتِياسه، فيما أعلم، أحدٌ إلا مُتَمَذْهِباً بَمذْهب ((الكتاب)) استِنْبَاطاً منه (1)، فعلى هذا إنَّما وقع الخلاف، في الحقيقة، في فَهْم ((الكتاب)) وإذ ذاك اعْتَمد نَقْلَه مَن اعْتَمد حَسْبَما أعطاه كلامه. فإن قيل: بل قد كَثُر في السَّماع كثرةً يُعتمد على مثلها في القياس، كقولهم: ما أَعْدَمَ زيداً، وما أَحْسَنَ الدارَ، وما أَمْتَعَ زيداً، وما أسْرَفَهُ، وما أَفْرَطَ جَهْلَهُ، وما أَكَرَمَهُ لي، وما أَقَفَرَ المَوْضِعَ، وهو أَفْلَسُ من طَسْتٍ (2)، وأَسْرَعُ من الرِّيح (3)، وأَخْلَفَ من عُرْقُوب (4)، وأَوْلَمُ من الأَشْعَث (5). ومن ذلك كثير ممَّا لم يُسمع له ثلاثي مجرَّد، وكذلك فيما سُمع له مجرَّد نحو: ما أَخْطَأَهُ، وما أَصْوَبَهُ، وما أَظْلَمَهُ، وما أَضْوَأَهُ، وما أَنْتَنَهُ.

______ (1) يقال: تَمَذْهَب بَمذْهَب فلان، إذا اتَّبَعه. (2) الطَّسْت: إناء كبير مستدير، من نحاس أو نحوه يُغسل فيه، معرَّب من (تَشْت) وجمعه: طُسُوت. (3) الدرة الفاخرة 1/ 217. (4) نفسه 1/ 177. (5) نفسه 2/ 423.

وكذلك ما كانت همزته للتَّعدية نحو: ما آتَاهُ للدَّراهمِ، وما أَعْطَاهُ لَها، وما أَوْلاَهُ للمَعروف، وما أَضْيَعَه للشَّيءِ، وما أشبه ذلك. فالجواب أن هذا كُلَّه من قبيل النادر عند كبار النحوييِّنِ كما تقدَّم، ومنهم الأخفشُ أيضاً قد نَصَّ على قِلَّته وعدمِ قياسه (1)، فعلى هذا يكون البناء من (أَفْعَلَ) داخلاً تحت النادر المُنَبَّه عليه في قوله بعد هذا: وبِالنُّدوُرِ احْكُمْ لغَيْرِ/ ما ذُكِرْ ... 525 ولا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ وكذلك سائر ما ذُكر مما هو خارجٌ عن شروطه. وأما وجه المنع قياساً فظاهر، لأن المانع من بناء التعجُّب من المزيد فيه، كـ (انْفَعَلَ) و (افْتَعَل) من إفساد البِنْية موجودٌ في (أَفْعَلَ) ولابُدَّ، فالقياس لا يَقْبل هدمَ البِنْية أصلا، كما لم يَقْبلها في بناء (الفِعْلَة) للهَيْئة، بل جَعَل ما كان نحو (الخِمْرَة) شاذاٌ (2). وكما لم يَجمعوا نحو: سَفَرجْلَ على مثل (مَفَاعِل) إلا على استكراه من هَدْم البناء. ولولا الضرورة ما فَعَلوا حِسْبَما يتبيَّن في موضعه إن شاء الله. فإن قيل: بل له وجهٌ قياسيٌّ' وهو مشابهةُ (أَفْعَلَ) للمجرَّد لفظا، وكثرةُ موافقته له معنى. فأما مشابهة اللفظ فلأنَّ مضارعَه، واسم فاعِله وزمانِه ومكانه كمضارع الثلاثي، بخلاف غيره من المزيد فيه.

______ (1) التصريح 2/ 91. (2) الخُمَرَة: لِبْسَة الاختمار، وهي اسم هيئة من: اختمرت المرأة، إذا لبست الخمِار، وهو ثوب تغطي به رأسها. وفي المثل ((أنَّ العَوان لا تعلَّم الخِمْرة)) ويضرب للرجل المجرَّب.

وأما موافقة المعنى فمن موافقته لـ (فَعَلَ) سَرىَ وأَسْرىَ، وطَلَع على القوم وأَطْلَعَ، وطَفَلت الشمسُ وأَطْفَلت (1)، وعَسَم اللَّيْلُ وأَعْتَم إلى أشياء كثيرة. ومن موافقته لـ (فَعِلَ) غَطِش اللَّيْلُ وأَغْطَشَ، وعَوِزَ الشيء وأعْوَزَ، وعَدِمَ الشِيءَ وأَعْدَمَهُ، وعَبِسَتِ الإبلُ وأَعْبَسَتْ. ومن موافقته لـ (فَعُلَ) خَلُقَ الثوبُ وأَخْلَقَ، وبَطُؤَ وأَبْطَأَ، وبَؤُسَ وأَبْأَسَ. ومن ذلك كثير. فإذا كان كذلك جرى (أَفْعَلَ) في التعجُّب مَجرى (فَعُلَ) كما جرى مجراه في أشياء كثيرة. فالجواب أن هذه المشابهة لا يَنْهض اعتبارُها مع هَدْم البِنْية، مع أن تلك المرادفة قد يُنَازَع فيها. ومن تأَمَّل كلامَ سيبويه في ((باب افتراق فَعَلْتُ وأَفْعَلْتُ (2))) من أبنية الأفعال لم يَغُرَّه (3) مثلُ هذا، فقد يَتَوهَّم أن (فَعَلْتُ وأَفْعَلتُ (مترادفان، وليسا كذلك، كما في طَرَدْتُه وأَطْرَدْتُه، وأَطْلَعَتْ وطَلَعْتْ، وفَتَنْتُه وأَفْتَنْتُه، وسَقَيْيُهُ وأَسْقَيْتُه، وقَبَرْتُه وأَقْبَرْتُه، وشَفَيْتُه وأَشْفَيْتُه. وقَتَلْتُه وأَقْتَلْتُه. وكذلك: جَرِبَ وأَجْرَبَ، وحَالَتِ الناقةُ وأَحَالَتْ (4)، وحَمْدِتُه وأَحْمَدْتُه، ومن ذلك كثير، لا يكون (أَفْعَلُ) فيه مساوياً في المعنى لـ (فَعَلَ) فيُظَن به ذلك، كما أنه قد يكون بمعناه، وذلك ظاهر في افتراق اللغتَيْن. وأما مع كونهما في لغةٍ واحدةٍ فلا دليل على اجتماعهما في المعنى إلا بعد

______ (1) في الأصل و (ت) ((طَلَعت الشمسُ وأطْلَعت)) والمثبت من (س) وحاشية الأصل. ومعنى: طفلت الشمس، وأطفلت الشمس: مالت للغروب. (2) الكتاب 4/ 55. (3) في الأصل ((لم يعزه)) وما أثبته من (ت، س). (4) أَجْربَ الرجلُ: جَرِبَتْ إبلُه. وحالت الناقةُ، وأحالت، وحَوَّلت، إذا حُمل عليها فلم تلقح، وقيل: الحائل الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات.

البحث الشديد، والاستقراء التام. وحينئذ يُحمل على أنهما في الأصل لغتان اخْتلطتا، فيَرجْع إلى أنهما لغتان. وإذا كانتا لغتًيْن لم يَنْبَغِ أن تُعتبر إحداهما بالأخرى، وإنَّما كان يَسْهُل ذلك لو ثبت أنهما في الأصل من لغة واحدة. وهذا كله لا يَثْبت فلا يصحّ ما يُبْنى عليه. وأمّا تفرقة ابن عُصفور (1) فقال في ((الشَّرح)) (2): إنه تحكُّم بغير دليل، مع أن سيبويه قد مَثَّل في الجواز بـ (أَعْطَى) وهو منقول عن: عَطَا الشيءَ، بمعنى (تَنَاوَله وهذا الردُّ بناءً على إجازة للتعجُّب من (أَفْعَلَ) والذي يَرِدُ عليه على مذهبه/ هنا أن هذه التفرقة لم يَقُل بها أحد، ولا ذهب ... 526 إليه نحويٌّ، ويكفيه في الردِّ مخالفتُه للإجماع، بناءً على أن إحداث قول ثالث خَرْقٌ للإجماع. وأيضاً فإن (أَفْعَلَ) ضربان، ضَرْبٌ لم يُستعمل منه المجرَّد نحو: أَلْفَى، وأَذْعَنَ، وأَفْلَسَ، وضَرْبٌ استُعمل منه، وهو قسمان: قسم استُعمل منه فعلُ المجرَّد على معنى (أَفْعَلَ) كأَجَرَهُ اللهُ وآجَرَهُ، وهَدَرْتُ الدمَ وأهدرتُه. وقسم استُعمل منه فعل على غير معنى (أَفْعَلَ) وهو نوعان: ما (فَعَلَ) منه بمنزلة المطاوِع، وهو الذي همزتُه للتَّعدية، كذَهَب وأَذْهَبْتُه، وقام وأقمتُه. وما ليس كذلك، وهو أيضاً ضربا، ضَرُبٌ يكون (فَعَلَ) فيه لمعنى مخالفِ من كلِّ وجه لمعنى (أَفْعَلَ) نحو: سَرَرْتُ الرجلَ، فَرَّحْتُه، وأَسْرَرْتُ

______ (1) وهي قوله: إن الهمزة إذا كانت للتعدية لا يجوز التعجب منه، وإن كانت لغير ذلك جاز- وقد تقدم. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة 145 - ب).

الشِيءَ أخفيتُه وضَرْبٌ يكون معناه مجتمعا مع معنى (أَفْعَلَ) في معنى المادة في الأصل نحو: كَلَّ الرجلُ، أَعْيَا، وأَكَلَّ القومُ، ضَعُفَتْ دوابُّهم. فهذه جملة أقسام، خَصَّ ابنُ عصفور منها ما همزتُه للتعَّدية بالمنع، ولا يظهر للاختصاص مُوجِب يَقْضي بالامتناع هنا والجوازِ في البواقي. بل الذي يظهر لأول النَّظر في البواقي أن لا يُتَعجُّب منها، لأنه يؤدِّي إلى الالتباس، وهو التباس التعجُّب من (أَفْعَلَ) بالتعجُّب من (فَعَلَ) فكان ينبغي على هذا ألاَّ يجوز التعجُّب إلا من القسْم الأول خاصَّةً، وهو الذي لم يُستعمل منه (فَعَلَ) أصلا، وهم مِمَّا يُحافظون في هذا الباب على رفَع اللَّبس، ولذلك لم يتعجبَّوا من المنفىِّ ولا فعلِ المفعول، وفَرَّقوا في قولهم: (ما أَبْغْضَهُ لِي، وإليَّ، وما أَحَبَّهُ لِي، وإليَّ) بين المعاني. فالذي ذَهب إليه من التَّفرقة غيرُ صحيح. وفي الشَّرط الرابع وقع لابن عُصفور خلافُ ما عليه الناس، وذلك أنه قد تقدم في معنى قابليَّة الفَضْل أنها تصوُّر المفاضلةِ أو إمكانُها بحسب شخْصَيْن أو حالَيْن أو وقتَيْن، فما لا يُتصور فيه مفاضلةٌ بحسبِ هذه الأشياء فلا يتعجَّب منه. فـ (العَمَى والموت) مثلاً ممَّا لا يُمكن فيه المفاضلة، لأنه لا يختلف شخصان مشترِكان في العمى أو الموت أن يقال: إن أحدهما أَفْعَلُ من الآخر فيما دَلَّ عليه مدلولُ العمى والموت، بخلاف (الكرَم والشَّجاعة) مثلا، فيمكن أن يقال فيهما: إن هذا الرجل أفعلُ من الآخر، من لفظ الشجاعة والكرم. وحاصل ذلك أن كل ما يقال فيه: (فعلٌ جداً) أو (فاعلٌ كثيراً) وما أشبه ذلك، يُتَصَّور ان يقال فيه: (ما أَفْعَلَهُ، وأَفْعِلْ به، وهو أَفْعَلُ من كذا) وأن يقال منه: (لَفَعُل) ومَا لاً فَلاَ.

______

ويَقتضي كلامُ ابن عصفور أن الأمر ليس كذلك، لأنه جَعل من الخِلَق الثابتة التي لا يُتَعجَّب منها قياسا الحُسْنَ والقُبْحَ، والطُّولَ والقِصَر، والهَوَجَ والنُّوك، والْحُمْقَ والشَّنَاعة، وما أشبه ذلك (1)، كأنه إنَّما اعتبر/ أن كلَّ متَّصِف بالحُسْن لا يتغيَّر عن ذلك، فالحُسْن صفة لا تزيد ولا ... 527 تنقص بحسب الشخص، وكذلك القبح وغيره، وجَعل التعجبَ من هذه الأشياء شاذاً. وما يوهمه غير صحيح؛ فإن المقصود ما تقدَّم من تصوُّر المفاضلة على الجملة، وجميعُ ما ذُكر تُتصَّور فيه المفاضلة في أنفسها، وبحسب الأشخاص أيضا، فالحُسْن والقُبْح يختلف في الشخص الواحد بحسب انتقالات الحيوان، من الطفولة إلى الشباب، ثم إلى الكُهُولة، ثم إلى الشيَّخوخة. وكذلك الهَوَجُ والنُّوكُ والحمقُ والشَّناعة، فإنها أوصاف تَختلف بحسب الأشخاص، وبحسب حالَيْن ايضا في الشخص الواحد، إذ ليست تُطلق في كل موضع على فَقْد العقل الفاصل بين الإنسان والفَرَس، بل قد تُطلق على الوصف الذي هو في نظر الواصف بها قريبٌ من ذلك، فتُطلق على خِفَّة الحركة، وقِلَّة التثبُّت، وعدم الإحكام والتُّؤَدة، فقد يكون هذا الوصف أشدُّ في حَقِّ الشخص الواحد وأضعفَ في حالَيْن. فأما عدمُ العقل جملةً فلا يمكن فيه اختلاف، فلا يصح التعجُّب منه، وليس كلامنا فيه. هذا ما يقال فيه من جهة النَّظر. وأما النَّقل فلا يَحتاج إلى شاهد لكثرته، وقد اعتَرف هو بوجوده. وقد نَصَّ سيبويه على وجه جواز:

______ (1) شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 1/ 576.

ما أَرْعَنَهُ، وما أَهْوَجَهُ، وما أَشْنَعَهُ، وما أَنْوَكَهُ، وما أَحْمَقَه. ودَلَّ كلامه فيها على أنها ليست عنده شاذَّة (1). ونَصَّ أيضاً على جواز: ما أَحْسَنَهُ، وعلى جواز: مِحْسَان (2)، وهو للمبالغة في (حَسُنَ) وقال في (ما أَشْنَعَهُ): لأنه عندهم من القبح، وليس بلون ولا خِلْقة (3). وهذا تصريح بأن (ما أَقْبَحَهُ) وضِدَّه ليس فيه علةٌ مانعة، فالحقُّ ما ذهب إليه غيره (4)، وهو الذي يُشْعِر به كلامُ الناظم. وفي الشَّرط الخامس خلاف بين البصريين والكوفيين، فالبصريون هم الذين يشترطون تمامَ الفعل، وأما الكوفيون فقد حُكى أنهم يُجيزون: ما أَكْوَنَ زيداٍ لأَخِيك. ولا يُجيزون: ما أَكونَ زيداً لقَائمٍ. وحَكى ابن السَّراج والزجَّاج عنهم إجازة: ما أَكْوَنَ زيداً قائماً، واشار إلى أن نصب هذا عندهم، أعني (قائماً) على الحال. وهذا على أصلهم في أن المنصوب بعد (كان) على الحال (5)، فسَهُل الأمرُ عليهم. وأما على رأي أهل البصرة فذلك صَعْب، ولم يَأْتِ بذلك سمَاع، والقياس

______ (1) انظر: الكتاب 4/ 98، حيث يقول: ((وأما قولهم في الأحمق: ما أحمقَه، وفي الأرعن: ما أرعنَه: وفي الأنوك: ما أنوكه، وفي الألد: ما ألده، فإنما هذا عندهم من العلم ونقصان العقل والفطنة، فصارت ما ألده بمنزلة: ما أمرسه وما أعلمه، وصارت ما أحمقه بمنزلة: ما ابلده وما أشجعه وما أجنه؛ لأن هذا ليس بلون ولا خلقة في جسده، وإنما هو كقولك: ما ألسنه وما أذكره، ما أعرفه وأنظره، تريد نظر التفكر، وما أشنعه، وهو أشنع، لأنه عندهم من القبح، وليس بلون ولا خلقة من الجسد، ولا نقصان فيه، فألحقوه بباب القبح كما ألحقوا ألدَّ وأحمق بما ذكرت لك)). (2) نفسه 4/ 98. (3) نفسه 4/ 98، وتقدم نقل نصه بأكمله. (4) يعني غير ابن عصفور. (5) انظر: الأصول لابن السراج 1/ 127.

لا يقبله، فلا يصح القول به. وقد تقدَّم تعليل ذلك. وفي الشرط السابع خلافٌ على الجملة، فإن الكوفيين يُجيزون التعجُّب من البَياض والسّّواد خاصَّةً من بين سائر الألوان، كقولك: ما أَبْيَضَ هذا الثوبَ، وما أَسْوَدَ هذا الشَّعْر. ومال إليه من الحُذَّاق البصريين ابنُ الحاجّ تلميذ الشَّلَوْبين (1). / وأما سائر البصريين فلا فرق عندهم في المنع بين السَّواد والبياض وغيرهما (2). ... 528 وقد مَرَّ توجيُه المنع. وأيضاً فلا سَماع يُعتمد عليه في القياس، فلا قياس. فإن قيل: إن استعمال التعجُّب في هذين اللَّوْنين يَسُوغ لكثرة استعمالهما في (أفعل التفضيل) كما قال (3): إِذَا الرِّجَالُ شَتَوْا واشْتَدَّ أَكْلُهمُ فأَنْتَ أَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ

______ (1) سبقت ترجمتهما. (2) انظر: الإنصاف 148 (المسألة السادسة عشرة). (3) لطرفة بن العبد من قصيدة يهجو فيها عمرو بن هند ملك الحيرة. ديوانه 15، وابن يعيش 6/ 93، والإنصاف 149، والتصريح 1/ 325، واللسان (بيض). وشتوا: صاروا في زمن الشتاء، وهو عندهم زمان قحط وجدب. واشتد أكلهم: صار حصولهم على ما يأكلون عسيرا شديدا عليهم. والسربال: القميص، والدرع، أو كل ما يلبس، وجمعه سرابيل. وقوله: فأنت أبيضهم سربال طباخ كناية عن شده بخله، لأن معناه: تكون ثياب طباخك في هذا الوقت بيضاء ناصعة البياض، نقية من آثار اللحم والطبخ، لأنه لا يطبخ فتتدنس ثيابه.

وقال الراجز (1): جارِيَةٌ في دِرْعِهَا الفَضْفَاضِ تُقَطِّعُ الحَدِيتَ بالإيمَاضِ * أَبْيَضُ من أُخْتِ بَنِي أَبَاضِ * وباب (أَفْعَل التَّفضيل، والتعجُّب) من نوع واحد. وقد استُعمل في ((السَّوَاد)) ذلك أيضا، ففي الحديث عنه عليه السلام قولُه: ((لَهِي أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ (2))) والاستعمال فيها كثير، فلابد من القول بالجواز. وأيضاً فهما أصلُ الألوان، فَلْيُتصَّرْف فيهما، على ما عُهد في الأصول، مالا يُتَصَرَّف في غيرهما مما هو فَرْع. فالجواب أن الاستعمال فيهما لا نسلِّم أنه كَثُر كثرةً يُقاس مثلُها، وإنما هو قليل مما يوُقَف على محله، وهو (باب التفضيل) وإلا لزم أن يُقاس (التعجُّب) على كل ما شَذَّ في التفضيل، والتفضيل على كل ما شَذَّ في التعجُّب، وذلك غير صحيح. وأيضاً فلا يلزم إذا كثر استعمالُ الشاذِّ في باب أن يُقاس عليه في بابٍ آخر. والدليل على ذلك أن ((خَيْرَا، وشَراً)) كثر استعمالهُما في التفضيل دون همزة، فتقول: زيدٌ خَيْرٌ من عَمْرو، وشَرٌّ من بَكْر، ولا يقال: أَخْيَرُ، ولا أَشَرُّ إلا

______ (1) هو رؤبة بن العجاج، ملحقات ديوانه 176، وابن يعيش 6/ 93، 7/ 147، والإنصاف 149، وشرح الرضي على الكافية 3/ 450، والخزانة 8/ 230. والدرع: القميص. والفضفاض: الواسع. والإيماض: لمعان البرق، شبه به ما يبدو من بياض أسنانها عند الضحك والابتسام. معنى (تقطع الحديث بالإيماض) أنها إذا ابتسمت، وكان لناس على حديث قطعوا حديثهم، ونظروا إلى جمالها وحسن ثغرها. وبنو اباضك قوم. وأخت بني أباض مشهورة بالبياض. (2) الموطأ- كتاب جهنم (باب ما جاء في صفة جهنم) 2/ 994.

قليلا. ثم إنهم لم يقيسوا ذلك في (باب التعجُّب) بل جَعلوا ما جاء من ذلك شاذاً محفوظاً غيرَ مقيسٍ حين قالوا: ما خَيْرُ اللَّبَنِ، وما شَرُّه؟ وإنما القياس: ما أَخْيَرهُ وما أَشَرَّهُ؟ فلو كان البابان متوازِنَيْن من كل وجه لم يقولوا هذا، وإنما يتوازنان فيما كان على القياس. وفي الشرط الثامن خلافٌ وتفصيل، فالمبنىُّ للمفعول من الأفعال أمَّا أن يقع فيه لَبْس إذا بُنِي منه للتعجُّب، فَيلْتبس بفعل الفاعل أولا. فإن الْتَبس بفعل الفاعل لم يُبْن منه، فلا تقول في (ضُربِ زيدٌ): ما أَضْرَبَ زيداً، ولا في (رُحِمَ): ما أَرْحَمَهُ، ولا في (عُرِفَ): ما أَعْرَفَهُ، ولا ما أشبه ذلك. وإن يَلْتَبس فالجمهور أيضاً على المنع، ومنهم الناظم. ومنهم مَن ذَهب إلى الجواز. واشار في ((التَّسْهيل)) إلى أن ذلك جائز على قَلَّة (1)؛ لأنه جاء من ذلك شِيءٌ صالح نحو: ما أَعْنَاهُ بحاجَتِكَ. وفي كلام سيبويه: وهُمْ بِبَيَانِه أَعْنَى، وما أَسَرَّني به (2). وحكى الفارسيُّ في ((التَّذْكرة)) عن المازني: ما أَزْهَاهُ، من: زُهِيَ. وحَكى غيرهُ: ما أَشْهَرَهُ، وقالوا: ((وهو أَزْهَى مِنْ دِيكٍ (3))) و ((أَشْغَلُ من ذَاتِ النّحْيْينْ (4))) و ((أَشْهَرُ من غَيْره (5))) وأَعْذَرُ، وأَعْنَى، وأَعْرَفُ، وأَنْكَرُ، وأَخْوَفُ، وأَرْجَى.

______ (1) انظر: التسهيل 131. (2) الكتاب. (3) الدرة الفاخرة 1/ 213. (4) نفسه 1/ 260، 2/ 405. (5) قالوا: أَشْهَرُ من البَدْر، وأشهر من الشَّمْس، وأشهر من الصبح، وأشهر من راكب الأَبْلَق، واشهر من راية البَيْطار (انظر: فهارس الدرة الفاخرة).

وجميعُ ذلك من فِعْل المفعول، ولا لَبْس فيه، لكنه لمَ يكْثُر، فأجازه في ((التسهيل)) على قلة، ومَنعه هنا. والمنع أرجح، لأن ما ذُكر لم يَبلغ عنده مبلغَ أن يُقاس عليه، فهو داخل تحت قوله: ((وبِالنُّدوُرِ احْكُمْ لَغْيرِ/ ما ذُكِر)). ... 529 وهذا أما بناءً على التعليل بالعلة الثانية المتقدِّمة، أو على التعليل بالعلة الأولى، وأجْرَى مالا لَبْس فيه على ما فيه اللَّبْس، ليجَري البابُ كلُّه مَجْرىً واحداً، وهو نظيرُ ما تقدَّم في إبراز الضمير إذا جَرى اسمُ الفاعل على غير مَن حوله، وهو باب واسع تَعتبره العرب كثيرا. وقد تقدم هنالك له نظائر. والمسألة الثانية أن هذه الشروط إذا اجتمعت فكلامُ الناظم يَقتضي جوازَ التعجُّب بإطلاق، وهو صحيح في الجملة، غير أنه قال في ((التَّسهيل)): وقد يُغْني في التعجب فِعْلٌ عن فِعْل مستوفٍ للشروط، كما يُغني في غيره (1). فهذا نَصُّ في أن ما اسَتْوفى الشروط لا يَقتضي الجوازَ بإطلاق، وعَدَّ من ذلك في ((الشَّرح)) (2): شَكَرَ، و (قَعَد، وجَلَس) ضِدَّي (قَامَ) وقَالَ، من القائِلَةِ، وكذلك (قَامَ) من النَّوم، عَدَّها ابن عصفور مع ما تقدم (3)، فعندهما أنه لا يقال: ما أَنْوَمَ زيداً، ولا ما أَقْعَدَهُ، وكذلك سائرها، مع أنها مستوفية للشروط.

______ (1) التسهيل: 132. (2) شرح التسهيل (ورقة 146 - أ). (3) شرح جمل الزجاجي له: 1/ 581.

ووجه ذلك أن العرب استَغنت عن البناء من غيرها، كما قال سيبويه في (قَالَ) من القائلة، قال: ((ولا يقولون في (قَالَ، يَقيِلُ): ما أَقْيَلَهُ، استَغْنَوا بـ (ما أَكْثَر قَائِلتَه) وما أَنْوَمَه في ساعة كذا، كما قالوا تَركْتُ، ولم يقولوا وَدَعْتُ)) انتهى (1). والقاعدة أن العرب إذا فُهم منها الاستغناءُ لم يَجُز أن يُنْطق بما استَغنت عنه، بل يُرْجع إلى ما استَغنت به. فهذه الألفاظ قد كَسَرت عليه قاعدتَه وأصلَه. ولكن يُجاب عن هذا بأن هذه الألفاظ قليلة جداً، لا يَقْدح مثلُها في مِثل هذا الأصل المطَّرِد، وإلاَّ فلو اعتُبر هذا في: كَسْر القواعد لاعتُبرت الشذوذاتُ المتقدمة والآتيةُ كلها، فلم يَنْتَظم قياس، ولا تَمَهَّد أصل. وأيضاً فإذا تُتُبِّعتْ هذه الألفاظ وُجِدت لا تَنهض في الدلالة على الاستغناء، بل منها ما التعجُّبُ منه جائزٌ لوجود تلك الشروط، ومنها ما هو ممنوعٌ لفَقْد شرط، لا للاستغناء. فأمَّا (القيام، والقعود، والجلوس) فمن قَبِيل ما لا يَقْبل الفَضْلة، إذ ليس ثَمَّ قيامٌ راجح على قيام، ولا قعودٌ أبلغُ من قعود، وكذلك الآخر ماعَدا (النوم). وإنما يرجَّحها كثرةُ التَرداد والتَّكرار، وإذ اك يُتَعجَّب منها بـ (أقلَّ وأكثر). وإن جاء على غير ذلك فعلى معنى الكثرة، كما قالوا في المبالغة: ضُجَعَةٌ وقُعَدَةٌ وعلى هذا الترتيب يَجري القولُ في (السُّكْر، والغَضَب) فقد حُكي الخلاف في التعجُّب منهما، فالأظهرُ جواز ذلك فيهما لقَبُولهما الزيادةَ والنقصان، من جهة تصُّور معناهما، وهو ظاهر.

______ (1) الكتاب 4/ 99.

وأما الاستغناء فلم يَثْبت عن مَوْثوق به. وسيبويه لم يذكرهما في الاستغناء وإنَما ذكر: (قَالَ) من القائلة (1). وقد جَعل ابن الطَّراوة (2) المانعَ فيه معنوياً؛ إذ لا يُتَصَّور فيه المفاضلة، لأن معناه: دَخَل في القائِلَة، وإنما أطلق/ سيبويه عليه لفظَ الاستغناء لما تقدم ذكره (3). ... 530 وأما (النوم) فقد استعملوا منه: ((هو أَنْوَمُ من فَهْدٍ (4))) و ((أَنْوَمَ من غَزالٍ (5))) وقالوا في المبالغة: نَؤُومٌ، ونُؤَمَةٌ، وجاء في لفظ سيبويه استعمال: ما أَنْوَمَ (6)، على أنه كالمُغْنِي عن: ما أَقْيَلهَ. فقد ظهر أن هذه الألفاظ المستَثناة ليست بمستثناة كما تَوَهَّم من استثناها. والله أعلم. وقول الناظم: ((مِنْ ذِي ثَلاَثٍ)) بتأنيث ((الثَّلاَثِ)) والمراد الحروف، اعتباراً بأن الحروف تُذَكَّر وتُؤَنَّث. وقد تقدم التنبيه على ذلك. وفي كلامه من كثير. ولَمَّا كان ما عَدِم من الأفعال شرطا، أو كان ليس بفْعِل، غيرَ مذكورِ الحكم في التعجُّب إذا تعلَّق به ذلك، أَخذ في ذِكْرِ حُكْمه فقال:

______ (1) المصدر السابق 4/ 99. (2) تقدمت ترجمته. (3) انظر: (4) الدرر الفاخرة 2/ 400. (5) نفسه 2/ 401. (6) الكتاب 4/ 99، وفيه ((ما أنومه في ساعة كذا)).

وأَشْدِدَاوْ أَشَدَّ أو شِبْهُهُمَا يَخْلُفُ ما بَعْضَ الشُّرُوطِ عَدِمَا ومَصْدَرُ العَادِمَ بْعْدُ يَنْتَصِبْ وبَعْدَ أَفْعِلْ جَرُّه بالبَا يَجِبْ يرد أن ما عَدِم من المتعجَّب منه شرطاً من تلك الشروط، أو أكثر من شرطٍ واحد، ولم يَستوفِ جميعَها فلا يجوز أن يُتَعجب منه بالصّوغ من لفظه فإذا أُريد التعجُّب منه فيُتَوَصَّل إلى ذلك بَصْوغ (أَفْعَلَ، وأَفْعِلْ) من (الشدَّة) أعني من فِعله الثلاثي المقدَّر الاستعمال، وما ضَارَع ذلك وأشبهه، فتقول: ما أَشَدَ كذا، وأَشْدِدْ بكذا. والذي يُشبههما في المعنى (أَكْثَرَ وأكْثِرْ، وأَقَلَّ وأَقْلِلْ، وأَضْعَفَ وأَضْعِفْ، وأَعْظَمَ وأَعْظِمْ، وأصْغَرَ وأَصْغِرْ، وأَحْسَنَ وأَحْسِنْ، وأَقْبَحَ وأَقْبِحْ) وما أشبه ذلك. وإذا بَنَيْتَ الفعلَ من ذلك أتيتَ بمصدر الفعل الذي أردتَ التعجُّبَ منه، إن كان له مصدرٌ، أو ما يقوم مَقامه، وذلك ((ما)) المصدريَّةُ مع فِعْلها، أو الاسم إن لم يكن له مصدر، فَينْتَصِب بعد (أَفْعَلَ) ويَنْجَرُّ بالباء بعد (أَفْعِلْ) على حَدِّ ما كان المتعجَّب منه، وذلك قوله: ((ومَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ)) إلخ. ولم يَنُصَّ على أن انتصاب المصدر بعد (أَفْعَلَ) لأنه معلوم. وقد نَبَّه عليه أيضا بتعيين الجر بعد (أَفْعِلْ) فبم يبق للنصب إلا (أَفْعَلَ). فإذا عُدِم الشرطُ الأول، وهو وجود الفِعْل، أتيتَ بالاسم بعد (أَفْعَلَ، وأَفْعِلْ) عِوَضَ المصدر، فقلت: ما أَكْثَر إبِلَ زيدٍ، وما أَحْسَنَ إبِلَ زيدٍ، وما أَجْوَدَ إبلَه، وما أشبه ذلك. وإذا عُدم الشرط الثاني، وهو كون الفعل ثلاثياً، قلتَ: ما أشدَّ استكبارَهُ،

______

وأشْدِدْ باستكبارِه، وما أَكْثَر إكرامَه، وما أَحْسَن انطلاقَه، وما أشبه ذلك. وإذا عُدم الشرط الثالث، وهو كونُه متصِّرفا، قلتَ في نحو (يَذَرُ، ويَدَعُ): ما أَشَدَّ تَرْكَهُ، وما أَحْسَن تَرْكَهُ، فأتيتَ بمصدر المستَغْنَى به، لأن مصدر المستغنَى عنه قد أُهمل. وأما نحو (عَسَى) فليس له مصدر ولا اسم، فلا يُتَعجَّب منه رأساً، لأنه قد قال: ((ومَصْدَرُ العَادِم بَعْدُ يَنْتصِبْ)) فجعلَ المصدرَ هو الذي يقوم مقام المتعجَّب منه، فإذا لك يكن له مصدر لم يصحّ هذا العملُ فيه. وإلى هذا المعنى يَرْجع نحو (يَذَرُ، ويَدَعُ) إذ ليس له مصدر يُؤْتي به، لكن لَمَّا/ أنابت العرب عنه مصدر غيره صار كأنه مصدرُه مجازاً، فأَتى به على حكم باب ... 531 الاستغناء، من أن المستغنَى به يقوم مقام المستغنَى عنه. وإذا عُدم الشرط الرابع، وهو كونُه قابلاً للفَضْل قلتَ: ما أَشَدَّ سَوادَهُ، وما أَقْبَح عَرَجَهُ، وأَشْدِدْ ببَياضه، ونحو ذلك. وإذا عُدم الشرط الخامس، وهو كونُه تاماً، قلتَ: ما أَطْوَلَ كَوْنَ زيدٍ قائماً، وما أَكْثَر كونَه نائماً، وأَكْثِرْ بكَوْنِه ضاحكاً، وشبه ذلك. وإذا عُدم الشرط السادس، وهو كونُه غيرَ منفيٍّ، فلا يُؤتى بالمصدر فقط، لأنه مُخِلٌّ بالكلام لسقوط حرف انفي، إذ لا يصحّ أن تقول: ما أَشَدَّ قيامَ زيدٍ في قولك: ما قَام زيدٌ، فهذا من المُشكل في الموضع. وإذا عُدم الشرط السابع، وهو كونُه ليس له وصف على (أَفْعَلَ، فَعْلاَءَ) قلتَ: ما أَكْثَر حُمْقَهُ، وما أَشّدَّ عَوَرَهُ، وما أّشَدَّ حُمْرتَهُ أو احمرارَه، ونحو ذلك. وإذا عُدم الشرط الثامن، وهو كونُه غيرَ مبنيٍّ للمفعول، فهذا لا يَتَأَتَّى

______

فيه الإتيان بالمصدر أيضاً، لأن اللَّبْس حاصل به، لأنك إذا قلتَ: ما أَشَدَّ ضَرْبَ عمروٍ، وما أَضْرَبَ عَمْراً- كانا سواء في عدم بيان أن المتعجَّب منه المفعولُ، وأن المراد: ضُرِبَ عمروٌ جِداً، فلابد أن يُلْقَى فيه المحظورُ المذكور في تقرير الشروط، لكن له مَخْرج ههنا بأن يُؤْتَى بـ ((ما)) المصدرية بعدها الفعلُ مبنياً للمفعول، فتقولك مَا أكْثَر ما ضُرِبَ عمروٌ. وكذلك تقول في فَقْد الشرط السادس: قد يُمكن أن يُؤْتَى بـ ((ما)) المصدرية (1) داخلةً على الفعل منفياً، فتقول: ما أَكْثَر مالَمْ يَقُمْ زيداً، ونحو ذلك. ووجهُ الانصراف إلى البِناء من (الشدَّة) ونحوها في هذه الأشياء أن (ما أَشَدَّهُ، وأَشْدِدْ به) مما يصح التعجُّب منه في كل نوع، وفي كل وصِف، إذ كانت، في لفظها، ومن فِعْل قابلٍ أن يُبْنى منه فعلُ التعجُّب، وفي معناها، قابلةً للفَضْل، لأن (الشدَّة والخِفَّة، والقِلَّة، والكَثْرة) مختلِفةٌ بالنِّسَب والإضافات، بخلاف غيرها. وأيضاً فهي تؤدِي من المعاني بالنسبة إلى جميع المعاني، مثلَ ما كانت الأفعال تؤدِّيه. ولذلك كان ما يجوز التعجُّب منه من الأفعال المستوفية للشروط يجوز أيضاً أن يُتَعَجَّب منها بـ (أَشَدَّ) ونحوه، لأن التعجب إنما هو بلوغ النهاية في معنىً لم يَبلغ إليه غيرُ المتعجَّب منه، وهو الذي يُعطيه (أَشَدُّ) ونحوه. ومن ثَمَّ يجوز لك أن تفسِّر به معنى التعجب فتقول: معنى (ما أَحْسَنَهُ): ما أَشَدَّ حُسْنَه، أو كَثُر، و (ما أَكْرَمَه) أي كَثُر كَرَمُه، وهذا ظاهر. و(ما أَشَدَّه، وأَشَدِدْ به) لم يُستعمل منه الفعلُ الثلاثي إلا نادراً. حَكى

______ (1) من هنا إلى قوله: ((حتى يتأدى معنى الفعل على ما هو عليه)) ساقط من (س).

أبو زيد في كتاب ((المصادر)) (1): شَدُدْتُ، وهو قليل الاستعمال، لكنه قد يكون التعجُّب معتداً به وإن قَلَّ. ويعضِّده قولُهم: شَدِيدٌ. وفي هذا الفصل على الناظم دَرَكٌ (2) من خمسة أوجه: أحدهما أنه ألزم في انعدام بعض تلك الشروط أن يُؤْتَى بالمصدر عِوَضَا من المتعجَّب منه، وهذا إنما يَتَأَتَّى له فيما له/ مصدر، ويكون ذلك المصدر مستعملا، ويكون الإتيان به ... 532 غيرَ مُوقعٍ فيما فُرَّ منه من اللَّبْس. فأما ما ليس له مصدر كـ (نِعْم، وبِئْس، وعسى، وليس) أو كان له مصدر أُتِي به في القياس إلا أنه غير مستعمل كـ (يَذَر، ويَدَع) أو كان له مصدر مستعمل لكنه إذا أُتِي به أوقع اللَّبْسَ بمصدر المنفيَّ ومصدر فِعْل المفعول- فلا يَتَأَتَّى به عوضاً من المتعجَّب منه بوجه، بل يُترك التعجبُ منه رأساً، كما في (نِعْم، وبِئْس) أو يُؤْتَى بمصدر ما استُغني به، كالتَّرْك في (يَذَر، ويَدَعَ) أو يُؤْتَى بـ (ما) المصدرية حتى يَتَأَدَّى معنى الفعل على ما هو عليه. وهذا كله بَمَعْزِل عن كلامه. والثاني أنه قد يُعْدَم بعضُ الشروط فيُؤْتَى بـ (أَشَدَّ) ونحوه، ولا يُؤْتَي بعده بمصدرٍ بحال، ويُتَعجَّب منه قياسا، وذلك نحو: ما أَكْثَر إبلَه، وما أَكْثَر مالَه، وما أَشَدَّ عَبْدَه، وأَحْسِنْ بوجهِه، وهو باب واسع، إذ كان كل ذلك قد عَدِم شرطاً من شروط البناء للتعجب، وهو وجود الفعل المبنيِّ منه في الكلام مستعَملا. وهذه المُثُل كلها أجناس وأعيان لا مصادر لها. [ولا أفعال.

______ (1) ذكره السيوطي في ((بغية الوعاة)) 1/ 583. (2) الدَّرْك- بفتح الراء وإسكانها- التَّبِعة.

والثالث أن أسماء المصادر قد تقوم هنا مقام المصادر (1)] فلا تتعين المصادر أنفسها في هذا العمل، بل مَثل: ما أَشَدَّ كلامَ زيدٍ، وما أكثر عطاءَهُ، وما اَبْلَغَ سَلاَمَهُ، وما أشبه ذلك. فإذا لم تَتعَيَّن المصادر فقوله: ((ومَصْدَرُ العَادِمِ بَعْدُ يَنْتَصِبْ)) إلى آخره ليس بلازم. وقد أَتَى بما يَقتضي اللزومَ، ففيه ما تَرى. والرابع أن قوله: ((وأَشْدِدِاوْ أَشَدَّ أو شِبْهُهُمَا: يخْلفُ كذا)) يَقتضي أن هذه الألفاظ تخلُف في البناء للتعجُّب ما لم يَتَأَتَّ منه البناء له في أداء معناه، حتى يكون قولك مثل: (ما أَشَدَّ حُمْرةَ زيدٍ) على معنى: ما أَحْمَر زيداً، لو قِيل. هذا معنى كَوْنِه يَخْلُفه، إذ لا يخلفُ الشِيءُ غيرهَ إلا فيما كان لذلك الغَيْر من أمرٍ لفظيٍّ أو معنوي، ولا يقال في الأمَريْن المختلفَيْن بإطلاق: إن هذا يَخْلفُ هذا، وإذ كان كذلك كان قوله: ((يَخْلُفُ كذا)) غيرَ صحيح. ألا ترى أنهم يقولون: إن المانع من التعجُّب من الألوان كونُها لاحقةً بالخِلَق الثَّابتة، كاليَدِ والرِّجْل. وقد مَرَّ تعليل ذلك بأن الألوان لا تَقبل الفَضْل، فإذاً معنى (ما أَحْمَرهُ) غيرُ معنى (ما أَشَدَّ حُمْرتَه) إذ لو كان هو معناه لاقتَضى في القياس أن يُتَعجَّب منه. وكذلك الخِلَق والأَدْوَاء، وهو أَبْيَنُ فيها إذْ وُجِد لها الفعلُ الثلاثي، ومع ذلك فإنهم لم يَبْنوا منها للتعجُّب اعتباراً بأنها لا تَقْبل الفَضْل. وهكذا كلُّ فِعْل لا يَقْبل الفَضْلَ لا يَخْلُفه (أَشَدُّ) ونحوه في معناه، إذ لو خَلَفه في معناه لم يُتَعجَّب منه، فهذا ايضاً من كلامه لا يصح.

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل و (ت) واثبته من حاشية الصل، وهو موافق لما في نسخه (س) وهو الصواب.

والخامس أن الفعل الثلاثي في هذه الأشياء المتعجَّب منها إذا كان كثير الاستعمال في كلام العرب فظاهرٌ أن بِنَاء (أَفْعَلَ وأَفْعِلْ) منه هو القياس المستقيم، وإذا كان معدوماً البَتَّةَ فلابد من الانتقال إلى (أَشَدَّ) ونحوه. وأمَّا إذا كان نادراً في الاستعمال فمقتَضَى إطلاقه فيما تقدَّم أنه لا يُفتقر فيه إلى (أَشَدَّ) ونحوه إذا/ وُجدت الشروط الأُخَر، لأنه قال قبلُ: ((وصُغْهُمَا مِنْ ذِي ثَلاُثٍ)) فأَطْلق، ... 533 فَدخل له ما كان كثيرا في الاستعمال، وما نَدَر فيه. وإذا كان كذلك لم يُفْتَقر فيه إلى (أَشَدَّ) ونحوه مما يَخْلُفه، إذ لم يَعْدِم على هذا التنزيل شرطا. وفي هذا نظر، وذلك أن نُدُور الاستعمال حاكمٌ بأن هذا الفعل لا يقع على الألسنة إلا نادرا، بحيث لا يعتبره العربيُّ في بناء فِعْل التعجُّب منه، وإن اتَّفق كثرةُ استعماله عند بعض العرب لم يَتَّفِق عند الباقين، وبذلك يُعد نادرا؛ إذ لو تداولت العرب استعماله لَسُمِع كثيرا، ولو سُمع كثيرا لم يكن نادراً عندهم، أعني عند النَاقِلين عن العرب، فَعَدُّهم إياه نادرا دليلٌ على أنهم فهموا ذلك من العرب، وعند ذلك لا يصح الحُكْم بعدم الافتقار في هذا الموضع إلى (أَشَدَّ) ونحوه، بل نقول: لابد منه كما لابد منه في غيره، لأن العرب لم تَعْهَد هذا النادر أن تَلتفت إليه فتَبْني منه، فإذا وُجد فعلُ تعجُّب لم يكن فعلُه المبنيُّ هو منه كثيرَ الاستعمال فهو شاذ لا يُقاس عليه، إلا إن ثَبت استعمالُه لبعض العرب، فحينئذٍ يُقاس بالنسبة إليهم، لا بالنسبة إلى من لا يَستعمله. ولذلك عَدَّ المتقدمِّون من شاذ التعجُّب قولهَم: (ما أَفْقَرَهُ) لأنه عندهم

______

من (افْتَقَر) وإن كان قد سُمع (فَقُر، وفَقِر) بمعنى: افْتَقَر، و (ما أَرْفَعَهُ) وإن كان قد جاء (رَفُع) و (ما أَغْنَاهُ) وإن سُمع (غَنِىَ) بمعنى اسْتَغْنَى، و (ما أَتْقَاهُ) وقد سُمع (تَقِىَ) بمعنى خَافَ، حكاها ابنُ القُوطِيَّة (1) لغةً في (اتَّقَى)، و (ما أَقْوَمَهُ) من (استَقَام) وقد قالوا: قامَ، بمعنى: استقام، و (ما أَمْكَنَهُ) وقد سُمع (مَكُنَ عند المَلِك)، و (ما أَمْلأَهُ) وقد سُمع (مَلُؤ) بمعنى: امْتَلأَ. وقالوا: أَبِلَ الرجلُ، كَثُرَتْ إِبلُه كما تقدَّم (2)، وجعلوا (ما آبَلَ زيداً) شاذا. وكذلك في البناء من فِعْل المفعول جَعلوا منه قولَهم: (ما أَمْقَتَهُ) وقد قالوا: مَقَتَ، إلى أشياء من هذا القَبِيل يُعد التعجبُ فيها شاذاً مع وجود الثلاثي، ما ذاك إلاَّ لأنهم لم يَعتبروا ذلك المسموع، لشُذوذه ونُدوره، فإطلاقُ الناظم في هذا الموضع لا يستقيم في مَدارج القياس. والجواب عن الأول أن خِلاَفة (أَشَدَّ) أو (أَشْدِدْ) ونصبَ المصدر أو جَرَّه بالباء إنما يُريد به حيث يُتَصَّور وضع هذا للمجموع، وذلك لا يُتصَوَّر إلا في فِعْل متصِّرف، فاشتراط التصُّرف في الفعل أولاً قَضَى بأن غير المتصِّرف لا يمون له مصدر، لأن معنى التصُّرف أن يكون له ماض ومضارع وأمر وصِفَةٌ وغير ذلك، ومن جُمْلتها المصدر، وهو الأصل، فما لا مصدر له لا يَتَأَتَّى فيه ذلك الوضع ولا ذلك العمل فيُرْفضَ. وأمَّا ما استُغْنِيَ عنه بغيره من الأفعال فذلك الغَيْر يقوم مصدرهُ مقامَ

______ (1) ينظر كتاب الأفعال 284. وابن القوطية هو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز القرطبي النحوي، المعروف بابن القوطية. كان إماما في اللغة العربية حافظا لهما، مقدما فيهما على أهل عصره، لا يشق غباره، ولا يلحق شأوه. وكان حافظا لأخبار الأندلس. صنف: تصاريف الأفعال، والمقصور والممدود وتاريخ الأندلس وغيرها (ت 367 هـ). بغية الوعاة 1/ 198. (2) انظر: الصحاح (أبل).

مصدر هذا المرفوض، فكأنَّه موجود، فـ (التَرْك) قائم مقام (الوَدْع) كما / كان ... 534 (تَرَكَ) قائماً مقام (وَدَعَ). وأما ما له مصدرٌ يُوقِع الإتيانُ به في اللَّبْس فالإتيان في موضعه بـ (ما) المصدرية بمنزلة الإتيان بالمصدر نفسِه، إذ هما في المعنى كالمترادِفَيْن (1)، ولذلك يصرِّح سيبويه في الحرف المصدري أنه اسمٌ اعتباراً بتأويله مع ما بعده بالاسم (2). وإذا أُتِي بـ (ما) والفعلُ بعدهما مبنيٌّ للمفعول لم يَبْق لَبْس، كما أنه إذا أُتِيَ بعدها بالفعل المنفيِّ لم يَبْق لَبْس، ولكن لفظ الناظم لا يُعطي هذا الحكمَ بخصوصه، ولا يُفْهَم منه، فالاعتراض متمكِّن هنا، لا سيما بالفعل المنفيِّ، فإن في جواز نحو (ما أَكْثَر ما لَمْ يَقُمْ زَيْداً) نظراً. ولا أعلم الآن في المسألة نَقْلاً اَقْتَفِى اثرهَ، ولكن لا يُعد في القياس أن تَدخل (ما) على الفعل المنفي كما تَدخل المصدريَّةُ الظرفيَّةُ عليه، نحو ما جاء في الحديث: ((لا يَزالُ الرجلُ في فُسْحَة مِنْ دِيتهِ مالَمْ يَسْفِكْ دَماً حَراماً)) (3) أو كما قال عليه السلام. والجواب عن الثاني أن التعجُّب بـ (أَشَدَّ) ونحوه يأتي في مَعْهود الاصطلاح على وجهين، أحدهما أن يُقْصَد إليه أولاً في التعجُّب، فهذا يَجرى مجرى سائر أفعال التعجب، كأَحْسَنَ وأَفْضَلَ وأَكْرَمَ. فقولك: (ما أَكْثَر مَالَهُ، وما أَشَدَّ وَلَدَه) كقولك: ما أَحْسَنَهُ، وما أَفْضَلَ أبَاهُ،

______ (1) التَّرادُف: أن تكون الكلمتان أو الكلمات بمعنى واحد. (2) انظر الكتاب 3/ 119، وما بعدها. (3) البخاري- ديات: 1، ومسند أحمد: 2/ 94.

وما أَكْرَمَ وَلَدَهُ. وهذا لا اعتراضَ به لأنه غيرُ واقع خَلَفاً من غيره، ليُتوَصَّل به إلى التعجب مما لا يَتَأَتَّى البناء منه. والثاني أن يكون التعجُّبُ بـ (أَشَدَّ) ونحوه توصُّلا واستِخْلافاً، حيث لا يتأَتَّى بناءُ التعجُّب من الفعل المذكر، وهذا لا يُؤْتى فيه إلا بالمصدر كما قال. والكلام هنا في هذا الثاني لا في الأول، وجميع ما اعتُرِض به من الأمثلة من القَبِيل الأول لا من الثاني، فلا إشكال. وعن الثالث أن المصدر المراد هنا هو الموصول، وقد تقدَّم في بابه أن اسم المصدر يَجري مَجراه، لما فيه من معناه، فليكنْ هنا كذلك بمقتضى ذلك الحكم المتقدَّم. ويقال أيضا: إن أسماء المصادر في الاستعمال، بالنسبة إلى المصادر، قليلة، فاعَتبر الأصلَ الكثير، وتَرك ما عداه مسكوتاً عنه حتى يُلحقه به مَن أراد إلحاقَه بالقياس. وعن الرابع أن (ما أَشَدَّ) و (أَشْدِدْ) إنما يَخْلُفان ما كان بمعناهما، مما تعذَّر بناء (أَفْعَل) منه، فإن التعجُّب لا يمكن إذا كان الفعل غيرَ قابل للفَضْل، فلا يقال: ما أَمْوَتَ زيداً، إذ الموتُ لا يزيد ولا ينقص، لكن يَبْقَى أن يقال: هل يقال: ما أمْوَت زَيْداً (1)، على معنى: ما أَشَدَّ مَوْتَه، أو ما أَسْهَلَ مَوْتَه، أو ما أَسْهَلَ، أو نحو ذلك. أو ما أَمْوَتَ أَهْل بلدةِ كذا، بمعنى: ما أَكْثَرَ مَوْتَهم، إذا نَزَل بهم الموتُ الكثير. فيقال: مِثْلُ هذا لا يقال حتى يُسمع، ولم نَسمع العربَ قالت: ما أَمْوَتَ كذا، بمعنى: ما أَشَدَّ أو ما أَكْثَر، أو نحوهما، كما قالوا في النوم: ((هو أَنْوَمُ من

______ (1) في (ت) ((ما أَمْوَتَ بلدةَ كذا)).

فَهْدٍ (1) و ((أَنْوَمُ من عَبُّودٍ (2))) و ((نَؤُومٌ)) على اعتبار الكثرة أو الطُّول، أو كما قالوا: ما أَضْرَبَهُ، وما أَمْشَاهُ، على معنى الكثرة/، ولذلك جاء: ضَرَّابٌ وَشَّاءٌ. ... 535 فإذا ثَبت استعمالُهم لذلك جاز لنا التعجب على ذلك المعنى المستعمَل، وإلاَّ لم يَجُزْ، فصار إذاً (ما أَمْوَتَ كذا) - بمعنى: ما أَشَدَّ، أو أَكْثَر، أو نحوهما- مهملاً، لإهمال الفعل الذي يُبنى منه، فإذا قُصِد قَصْدُه (3) أُتَىِ بما يدل على معناه، وهو (أَشَدُّ) أو نحوه، فـ (أَشَدُّ) ونحوه إذاً إنَّما ناب عن فِعْل بمعناه، فلذلك عَبَّر الناظم بعبارة ((يَخْلُفُ)). ولم يَقصد النحويون قَطُّ بالإتيان بـ (أَشَدَّ) ونحوه أن يَدُلَّ على معنى مالا يُتعجَّب منه، وهذا المعنى جارٍ في غير هذا الموضع من الشروط المذكورة، وهو مما نَبَّه على أصله بعضُ المتأخِّرين قال: المعتبَر فيما يجوز التعجُّب منه ومالا يجوز إنَّما هو مدلولُ اللَّفْظة، فأما أن يقال: ما أَفْعَلَ كذا، بمعنى: ما أَكْثَرَ فِعْلَهُ- فتحريفٌ لا يَسُوغ، فليس ما جاز فيه (ما أَكْثَرَ كذا) يجوز فيه (ما أَفْعَلَهُ). والدليل على ذلك أنهم لا يقولون: ما أَعْمَى زيداً؛ لأجل فساد معناه، فإنْ فَرضْتَ أن يكون (العَمَى) في بلدٍ ما كثيراً شائعاً، أو غيرُه من

______ (1) الدرة الفاخرة 2/ 400، والعسكري 2/ 318، والميداني 2/ 355. قال حمزة الأصبهاني: ((لأن الفهد أنوم الخلق، وليس نومه كنوم الكلب، لأن الكلب نومه نعاس، والفهد نومه مصمت)). (2) الدرة الفاخرة 2/ 402، والفاخر 135، والعسكري 2/ 319، والميداني 2/ 355. وكان عبّود عبداً حطاباً أسود، فغبر في محتطبه أسبوعاً لم ينم، ثم انصرف فبقي أسبوعاً نائماً، فضرب به المثل عن ثقل نومه، فقالوا: ((قد نام نومة عبود)). (3) يقال: قَصَدَ قَصْدَه، أي نحا نَحوه.

الخِلقَ، كما يَحِكيِ الناسُ كثيراً من ذلك عن كثير من البُلدانَ- لم يصح التعجُّب أيضاً، وإن كان معنى الكثْرة شائعاً متصورا. أو يكون الموتُ شائعاً في بلدٍ ما (1)، كما يكون في المواضع الوَبِئية- فلا يجوز أن يقال في ذلك: ما أَمْوَتَ أهل مَوضِع كذا، وإن كان معنى الكثرة شائعا. فليس ما يُعطيه معنى (ما أَفَعْلَهُ) منحصراً فيما تُعطيه الكثرةُ خاصَّة، بدليل ما قَدَّمْتُه. قال: وهذا موضع خَفِيٌّ ينبغي لأن يُنَتَبَّه له. والجواب عن الخامس أن الَّماع إذا أثبته ثقةٌ لم يُطْرَح بسبب أن ثقةً آخر لم يُثْبِته لعدم اطِّلاعه عليه، بل القاعدة المستمِرَّة أن المُثْبِت في أمثال هذه الأمور مُقَدَّم على النافي، لأنه النَّافي لم يَقُل: إنه غير موجود بإطلاق، وإنما قال: لم أَحْفَظْه، أو لا أَعْلَمُه، وعدمُ علمِه لا يدلُّ على عَدَمِه، فمن هنا كان قول المثبِت أولى. ثم إن ما أثبته بعضُهم إنَّما أثبته غير مقيد بندُور، فيحُمل على إطلاقه حتى يَدُل دليل على الندُّور، أو أنه لغةٌ لبعضٍ لا يَستعمله الباقون، فحينئذٍ يكون ما قال في السؤال. ومثل ذلك لا يُوجد في الاستقراء إلا نادرا، فلا يُعْبَأ به، فلهذا أطلق الناظم القولَ في مجيء الفعل الثلاثي، بناءً على أن النُّدور فيما استُعمل منها لا يثبت إلا نادرا. وعلى هذا الأصل اعتَمد في ((الشَّرح)) (2) حيث زعم أن أكثر النحوييِّنِ يَجعلون من شواذِّ التعجُّب: ما أَفْقَرَهُ، وما أَشْهَاهُ، وما أَحْيَاهُ، وما أَمْقَتَه، بناءً على أن الثلاثي منها لم يُستعمل. قال: وليس الأمر كما زعموا، بل استَعملت

______ (1) هذه الجملة معطوفة على قوله: ((أن يكون العَمَى في بلدٍ ما كثيرا شائعا)). (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 145 - ب).

العرب: مَقُتَ، وفَقُرَ، وشَهِى، وحَيِىَ. ثم قال: وممَّن خَفِىَ عليه استعمالُ (حَيَىَ) بمعنى (اسْتَحْيَا) أبو علي الفارسي، وممن خَفِىَ عليه استعمال (فَقُر، ومَقُت) سيبويه قال: ولا حُجَّة في قول من خَفِىَ عليه ما ظهر لغيره، بل/ 536 الزيادةُ من الثِّقة مقبولة. وقد ذكَر استعمالَ ما ذُكر جماعةٌ من أئمة اللغة. يَعني: كابْن سيَدَه، وابن القُوطيَّة وابن القَطَّاع وغيرهم (1)، ونقلوها عن أئَّمة، فإذا ثبت هذا وجب المصير إليه وطَرْح ما عجاه. وما ذَهب إليه هنا قد ذَهب غيرُه إلى ذلك (2). ولكن ههنا قاعدةٌ هي من المتقدِّمين على بَال، ويُغلفها أكثرُ المتأخِّرين إلا من فَهم مقاصد المتقدِّمين، وحَذَا حذوَهم، وذلك أن إثبات السَّماع من حيث إنه سُمع، أو نَفْىَ السَّماع من حيث لم يَبْلُغ النافي ذلك - سَهْلٌ يسير، لأنه نَقْل وإخبار عن أمرٍ محسوس لا يُنكره عاقل. وأما إثباتُه أو نَفْيه، من جهة ما يُقاس عليه أو لا يقاس، فليس بالسَّهْل ولا باليسير، فالذين اعتنوا بالقياس والنَّظَر فيما بُعَدُّ من صُلْب

______ (1) ابن سيده هو علي بن أحمد بن سيده اللغوي الأندلسي أبو الحسن الضرير. كان حافظا لم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بها، متوفراً على علوم الحكمة. صنف: المحكم والمخصص في اللغة، وشرح إصلاح المنطق، وشرح الحماسة، وشرح كتاب الأخفش وغير ذلك (ت 458 هـ) بغية الوعاة 2/ 143. وابن القطاع هو علي بن جعفر بن محمد عبدالله السعدي، المعروف بابن القطاع الصقلي. كان إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب، وصنف: الأفعال، وأبنية الأسماء، وحواشي الصحاح، وتاريخ صقلية، والدرة الخطيرة في شعراء الجزيرة (ت 515 هـ). بغية الوعاة 2/ 153. وتقدمت ترجمة ابن القوطية. (2) أي إليه.

كلام العرب ومالا يُعد لم يُثبتوا شيئاً إلا بعد الاستقراء التام، ولا نَفَوْه إلا بعد الاستقراء التام، وذلك كلُّه مع مُزاولة العرب، ومُداخلة كلامها، وفَهْمِ مقاصدها، إلى ما يَنْضَمُّ إلى ذلك من القرائن ومقتضَيات الأحوال، التي لا يقوم غيُرها مقامَها، فبَعدَ هذا كلِّه ساغ لهم أن يقولوا: هذا يُقاس، وهذا لا يُقاس. هذا يقوله مَن لا يقول كذا. وهذا ممَّا استُغني عنه بغيره، إلى غير ذلك من الأحكام العامَّة التي لا يُفْضِي بها إلا من اطَلع على مآخذ العرب، وعَرف مآل مَقاصدها. وهذا أمر مقطوع به عند أرباب هذا الشأن. ومَن فَهم كلام الأئمة في تَوَالِيفهم لم يَخْفَ عليه ما ذُكر. وإذا ثبت هذا فإنهم لم يَدَّعُوا في (ما أَفَقَرَهُ) وأخواته أنه شاذٌ إلاَّ بعد أن عرفوا بالاستقراء التامِّ أن قائله لا يتكلم ب (فَقُرَ) ونحوه، وإن تكلَّم به ففي شِعْرٍ أو نادِر كلام، ومالا يَنْبَنِي عليه القياس، وإلا لكان نفيهم لذلك نفياً لما لا عِلْمَ لهم بنَفْيه ولا إثباتِه، وهذا لا يصح أن يُنسب إلى عَدْلٍ منهم على حال، كما لا يُنسب مثلُ ذلك إلى فَقِيهٍ أو أُصُوِلىٍّ أو غيرهما. ومن هنا قال بعض المحقِّقين في مسألةٍ من مسائل التعجُّب: إثباتُ أنهم تعجَّبوا من فِعْلٍ مَا بأن يُسْمَع التعجُّب منه هَيِّنً سَهْل، وأمَّا نَفْي أنهم لا يتعجبَّون منه بأن لم يُسْمَع صَعْبٌ عسِرٌ شاقٌ، إلا على إمامٍ موثوقٍ به، قد فَهم من قرائِن ومجموعِ أحوالٍ وظواهَر تعمُّدَهم لترك ذلك، وما أعزَّ ذلك وأقلَّه. هذا ما قال، وهو واضح. فمن كان مثلَهم فواجبٌ أن يُقبل قولُه نفياً وإثباتاً، وهم قد قالوا: إن (ما أَفْقَرَهُ) وأخواته شاذٌ، لعد جريَانه على الثلاثي، فلم يقولوا ذلك إلا بعد فَهْمه من العرب كذلك، فإذا سُمع بعد ذلك الثلاثيُّ فالواجبُ على المتأخِّر التوقُّفُ حتى يَدخل من حيثُ دَخل المتقدِّم، فإن وجَد الأمر مُسْتَتِباً مطَّرِداً على خلاف

______

ما قال الأول لم يَسَعْه إلا مخالفتُه، وإن لم/ يَجِده كذلك فَلْيَتوقَّف، فإن اجتمع على ما ... 537 قال الأولُ أئمةً مثلهُ فينبغي تقليدُهم، لأنهم عن السَّماع يُخْبرون لا عن آرائهم، وإلاَّ لم يَقْطع في المسألة بنفيٍ ولا إثبات غن حصل له في الاستقراء شَكٌّ يَستند إلى سبب، وإن لم يكن له سببٌ في الشك يَسْتَند إليه فالأَوْلَى الوقوفُ مع ما قال الأولُ، لأنه إنما حَكَم عن بَصِيرة، وهذا ليست له في المسألة بَصِيرةٌ يَستند إليها، والكلام هنا واسع، ومحلُّ بَسْطه ((الأصول)). والحاصل أن ما استَدْرك المتأخرون هنا غيرُ مُخَلَّص (1). وابن مالك منهم. فإن قيل: فإذا نَقل أهلُ اللغة هنا الثلاثي وإن لم يقيدِّوه بقلَّةٍ ولا نُدور، ولا اختصاصٍ بقومٍ دون قوم- فذلك دليل على كثرة استعمالها، وهكذا فَعلوا في أكثر ما تقدم، وإذا كان كذلك فهو دليل على صحة الاستدراك. فالجوابُ أن أكثر اللغويِّين إنما يَنَقلون في السَّماع مطلقاً من غير تَتَبُّعٍ لهذه الأمور، وإنما يتعرضَّ لها من كان نحوياً في الغالب، ولا عَتْبَ عليهم، فإنهم سالكون سبيل مَجرَّد النَّقْل، ولا سِيَّما أهل النَّوادر منهم، والتفقُّهُ في المنقول مِن صناعةٍ أخرى. فَلْيُتَحفَّظ الواردُ على أمثال هذه المسائل، فالمتقدم أعرفُ بمآخذ هذا الكلام من هؤلاء المتأخرِّين، ولذلك نَرى الحُذاق يعتنون بقواعد المتقدِّمين، ويَتَحامَوْن الاعتراض عليهم، بل يقلِّدون نقلَهم وقياسَهم، ويحتجُّون لهم ما استطاعوا، مراعاةً لهذه القاعدة، فَيظُن الشَّادِي (2) في النحو أن ذلك

______ (1) يقال: خَلَّص فلان الشِيء، إذا صَفَّاه ونَقَّاه مما يشوبه، وخَلَّص! الشيءَ: مَيَّزه من غيره. (2) الشَّادِي من الأدب أو العلم: الذي حَصَّل منه طَرَفا، وهو من: شَدَا يَشْدُو، شَدْواً.

من باب التعصُّب للمذهب، وليس كذلك فاعلم. وقوله: ((يَخْلُفُ)) خبر للمبتدأ الذي هو ((أَشْدِد أو أَشَدَّ)) باعتبار حكاية اللَّفظ والإخبارِ عنه، وأفرد الضميرَ لأنه عطف بـ (أَوْ) المقتضِية لأحد الشيئين أو الأشياء. و((بَعْضَ الشُّرُطِ)) مفعول ((عَدِمَ)) و ((ما)) واقعةٌ على الفعل المَبْنِّي منه صيغةُ التعجُّب، وهي موصولة عائدُها فاعلُ ((عَدِمَ)) والتقدير: ومصدرُ الفعل العادمِ بعضَ الشروط يَنْتَصب بعده، ويَنْجرُّ بالياء بعد ((أَفْعِلْ)). وبالنُّدوُرِ احْكُمْ لِغَيْرِ ما ذُكِرْ ولا تَقِسْ على الذَّي مِنْهُ أُثِرْ يعني أن ما تقدم ذكره من الأحكام المشروطة وغير المشروطة هو القياس يَطَّرِد فيما سُمع ومالم يُسمع، وأما غير ذلك فاحكم بندُوره وقِلَّته، وأَثْبِتْه في قسم المسموع المأثور الذي يُوقَف على محلِّه ولا يُقاس عليه. فممَّا جاء من المبنيِّ من غير فِعْل قولُهم في التفصيل: هو أحْنَكُ الشَّاتْينْ (1)، وآبل النَّاسِ كِّلهم (2)، وما أَفْرَسَهُ، وهو أَفْرَسُ النَّاس (3). / ومن المبنيِّ من غير الثلاثي: ما أَفْقَرَهُ، وما أَغْنَاهُ، وما أَحْوَجَهُ، ... 538

______ (1) أي أكلهما بالحنك (اللسان- حنك) وهو من شواهد سيبويه في الكتاب (4/ 100) وقد تقدم في الباب نفسه. (2) جاء من ذلك قولهم: آبَل مُن حُنَيْف الحناتم، وأبَلُ من مالك بن زيد مناة (انظر: فهارس الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة). (3) جاء من ذلك قولهم: أفرس من بِسطام، وأفرس من سمّ الفُرسان، وأفرس من صياد الفوارس، وأفرس من عامر، وأفرس من ملاعب الأسنة (انظر: فهارس الدرة الفاخرة).

وهو أَبْيَضُ من كذا، قال (1): جَاريَةٌ بَيْضَاءُ في نَفَاضِ مَائِسَةٌ في دِرْعِهَا الفَضْفَاضِ ولم يقولوا: بَيِضَ، وقالوا: (سَوِدَ (2)) وقالوا: ((أسْوَدُ من القَارِ)) (3) وقال نُصَيْبٌ في (سَوِدَ) أنشده سيبويه (4): سَوِدْتُ فَلَمْ أَمْلِكْ سَوَادِي وتَحْتَهُ قَمِيصٌ من القُوِهيِّ بِيضٌ بَنَائقُهْ وممَّا بُني من العَديِم التصُّرفِ قولهم: ما أَعْسَاهُ، وأَعْسِ بِه، بمعنى: ما أحقَّه، وأَحْقِقْ به. وممَّا بُني من الوصف المصَوُغ على (أَفْعَل، فَعْلاءَ) قولهم: ما أَحْمَقَهُ، وما أَنْوَكَهُ، وما أَرْعَنَهُ، وما أَهْوَجَهُ، وما أَلدَّهُ، في أشياء من هذا قليلة.

______ (1) الرجز لرؤبة بن العجاج، وسبق أن ساقه الشارح في الباب نفسه برواية أخرى هي: جاريةٌ في دِرْعها الفَضْفَاضِ تُقَطَّع الحديث بالإيماضِ * أبيضُ من أخت بني أبَاضِ * وبعد الأول في اللسان (نفض) * تَنْهَضُ فيه أيَّما انْتِهاضِ * والنَّفاض- بكسر النون- إزار من أزر الصبيان. ومائسة: متبخترة في مِشيتها. (2) ساقط من (ت). (3) القار: مادة سوداء صلبة، تسيلها السخونة، تتخلف من تقطير المواد القِطرانية، وهي الزِّفت. (4) الكتاب 4/ 57، والخصائص 1/ 216، وابن يعيش 7/ 157، 162، واللسان (سود، بنق) وسودت: اسودَّ لوني. ولم أملك سوادي: لم أجتلبه لأنه خِلقة. والقوهي: ضرب من الثياب البيض تنسب إلى قوهستان بفارس. والبنائق: جمع بنيقة، وبنائق القميص: العرا التي تدخل فيها الأزرار. ويريد القميص الذي تحت سواده قلبه وخلقه.

ومن ذلك جميعُ ما ذُكر في الأسئلة على النَّاظم فيما بُنِي من (أَفْعَلَ) ومن (فِعُل) (1) ونحو ذلك، فقد سبق منه أمثلةٌ كثيرة، وجميعها نادر في موضعه، يُحفظ حفظا، ولا يُقاس عليه حَسْبَما ارتضاه في هذا النَّظْم. فإن قيل: ظاهر قوله: ((ولا تَقِسْ على الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ)) أَنَّه حَشْوٌ لا فائدة فيه، إذ كان صَدْر هذين المُزْدَوَجَيْن يَقضي بذلك، وهو قوله: ((وبالنُّدوُر احْكُمْ لَغْيرِ ما ذُكِرْ)) فإنه إذا كان نادرا كان غير مَقيس فلم يُفد شيئا زائدا على ما تقدم، بل نقول: إن مجموع الشَّطْرَيْن حَشْو، لأن جميع ما تقدم ذكرهُ قياس، فلو تَرك التنبيهَ على ما عده لَفُهِمَ أنه غير مَقِيس بحكم مفهوم الشروط المذكورة، وذلك عَيْنُ ما ذكُر هنا، فهذان سؤلان، أحدهما: ما فائدة ذكر الشَّطرين؟ والثاني على تسليم أنه أَفَادَ بالشَطر الأول ما فائدة الثاني؟ فالجواب عن الأول أنك إذا تأملَّتَ ما تقدم في الشروط وجدتَ ما خرج منها على قسمين، منه ما قيل بأنه قياس، وذلك كما في البناء من (أَفْعَلَ) ومن فِعْل المفعول، فإن النحويِّين قد اعتَبروا السَّماع في ذلك، وكَثُر عندهم كثرةً يُقاس عليها، وقد اعتَبرها هو في ((التَّسْهيل)) (2). ومنه ما ليس بقياس اتفاقا، وذلك: ما أَعْسَاهُ، وأَعْسِ به، ونحو ذلك. فلو سكت عن التَّنبيه على النُّدور لَتَوهَّم الناظر فيه أنه إخلال، فأَشْعَر هنا أنَّ تَرْك ما تُرِك ليس بمَغْفُولٍ عنه، بل هو مُغْفَلٌ عَمْداً، غيرُ معتَبر في القياس قَصْداً. وعن الثاني أن الشطر الأول أخبر عن حقيقة الأمر في ذلك المسموع المنبَّه عليه، وأنه نادر قليل، لا كثيرٌ كما يزعمه مَن ادَّعى القياسَ في تلك المسائل،

______ (1) يعني ما سمع من التعجب من الفعل الذي على وزن (أفعل) ومن الفعل المبني للمجهول. (2) التسهيل: 131.

وعادته أن يعبِّر بالقليل عما جاء في الكلام، ولم يَختص بالشِّعر. وقد تقدم التَّنْبيه على ذلك في مواضع. ويعبِّر أيضا بالنُّدور عما جاء في الكلام وهو مُحْتَمِلٍ للقياس عليه وعدمِه. فلما كان الأمر كذلك حَرَّرَ ما عسى أن يُفهم له منه إجراءُ القيَاس بقوله: ((ولاَ تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْه أُثِرْ)) اي لا تظن أنه مِمَّا يُقاس وإن كان قليلا، بل اعتَقِدْ أنه عندي في هذا الكتاب غيرُ مقيس بإطلاق/ وإن كان قد جَعل في ((التَّسهيل)) بعضَه قياسا (1)، وهذا المعنى يُحْتاج إلى ... 539 ذِكْره، فليس في الكلام حَشْو. وابن مالك ممَّا يَقْصد قَصْدَ هذه التَّنْبيهات، فلا تُهمل النظرَ في كلامه، والتأمُّلَ لمَنَاحِيه، فإن تحت كلامه دقائقَ محتاجاً إليها. و((أُثِرَ)) معناه: ذُكِر ونُقِل عن العرب، يقال: أَثَرْتُ الحديثَ آثِرُه، إذا ذكرتَه عن غيرك، ومنه يقال: حَدِيثٌ مَأْثُور، أي يَنقله الآخِرُ عن الأول. ومنه في حديث عمر رضي الله تعالى عنه ((فما حَلَفْتُ به ذَاكِرا ولا آثِراً (2))) أي: ولا مُخْبِرا عن غيري، يعني الحِلَفَ بأبيه. ثم قال: وَفِعْلُ هَذَا الْبَابِ لَنْ يُقَدَّمَا مَعْمُولُهُ ووَصْلَهُ بِه الْزَمَا يعني أن الفعل في التعجُّب، وهو (أفْعَلَ، وأَفْعِلْ) يلزم طريقةً واحدةً مع معموله، فَيتقدم الفعلُ على معموله، ويَتأخَّر المعمولُ لزوما، ولا يتقدم المعمول.

______ (1) المصدر السابق: 131. (2) البخاري- الأيمان: 4، ومسلم- الأيمان: 1، والترمذي- النذور: 8، والنسائي: الأيمان: 5.

ويلزم أيضاً وَصْلُ المعمول بفعله، فلا يُفصل بينهما بفاصل سوى ما يَسْتَثنى. هذا عَقْد ما قاله. فأما التقديم والتأخير فتقول: ما أَحْسَنَ زيداً قائماً، وأَحْسَنَ بزيد راكباً، فلا تقول: ما أَحْسَنَ راكباً زيداً، ولا أحْسِنْ راكباً بزيدٍ، ولا زيداً ما أَحْسَنَ، ولا بزيدٍ أَحْسِنَ، ولا ما زيداً أَحْسَنَ. وكذلك لا تقول في قولك: (ما أَنْفَع مُعْطِيكَ عند الحاجة): ما أَنْفَع عندَ الحاجةِ مُعْطِيَكَ، ولا في قولك: (ما أَكْرَمَ مُعْطِيكَ ثَوْباً): ما أَكْرَمَ ثوباً مُعْطِيكَ. فالحاصل أن الصورة التي ذكر أول الباب ملتَزمة، لا تتخلَّف إلا في موضع واحد، وهو الفَصْل بين الفعل ومعموله بالظرف والمجرور على خلافٍ فيه كما سيَذكره، وذلك أن العرب التَزمت في فِعْلَيِ التعجُّب وعدمَ التصُّرف، ولذلك لا يدُلاَّن على زمان/ كعَسَة ولَيْس، ونِعْم وبِئْس، ولا يأتي منهما مضارعٌ ولا أمر. وإذا لم يتصرَّفا في أنفسيهما لم يتصرَّفا في معمولاتهما بتقديم ولا تأخير. وأيضاً لَمَّا جَرَيا مَجرى الأمثال كما تقدم صار التقديم والتأخير والفَصْلُ مُخْرِجا لهما عما قَصَدت بهما العرب، فلذلك قال سيبويه: ولا يجوز أن تقدم (عبَط الله) وتؤخِّر (ما) يعني في قولك: ما أَحْسَنَ عبدَ اللهِ، ولا تُزيل شيئاً عن موضعه، ولا تقول فيه: ما يُحْسِنُ، ولا شيئاً مما يكون في الأفعال سوى هذا (1). فإذا كان هكذا فاللازم فيهما صيغةٌ واحدة. وقد حَكى المؤلف الإجماعَ على منع الفصل بغير الظرف والمجرور، قال في ((الشرح)) (2): وكذا لا خلاف في منع إيلائهما ما يتعلَّق بهما من غير

______ (1) الكتاب 1/ 73. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 144 - ب).

ظرف وجار ومجرور، نحو: ما أَحْسَنَ زيداً مُقْبِلاً، وأَكْرِمْ به رجلاً، قال: فلو قلت: ما أَحْسَنَ مُقْبِلاً زيداً، وأكْرِمْ رجلاً به- لم يَجُز بإجماع. انتهى. وفي هذا الإجماع نظر، فقد نُقل عن الجَرْمي في كتابه ((الفَرْخ)) (1) أن الفصل بين ((أَحْسَنَ)) ومعموله بالظرف والحال والمصدر قبيحٌ، وهو على قبحه جائز/ والمصدر أقبحُها عنده، ... 540 فالخلاف واقع كما تَرى، ولكن الجمهور على ما قاله. وقد مَنع الناس (الإعمالَ) (2) في فِعْل التعجُّب فِراراً من الفَصْل بينه وبين معموله، فلا يقال عندهم: ما أَحْسَنَ وأَجْمَلَ زيداً، ولا ما أَحْسَنَ وأَجْمَلَهُ زيداً، لأن فيه مع إعمال الثاني الحَذْفَ، ومع إعمال الأول الفصلَ. وأمَّا إذا كان معمولُ فِعْل التعجُّب ظرفاً أو مجرورا فقد قال فيه الناظم: وفَصْلُهُ بَظْرفٍ أو بِحْرفِ جَرْ مُسْتَعْملٌ والخُلْفُ في ذَاكَ اسْتَقَرْ الضمير في ((فَصْلُه)) عائد على ((المعمول)) أي: وفَصْلُ المعمول، يريد: مِنْ عامِله الذي هو فعُل التعجُّب، قد استعملته العرب، ففَصلت بينهما بالظرف، وحرف الجر، أي مع مجروره، وجَرى ذلك في كلامها

______ (1) الجرمي هو أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي البصري النحوي. أخذ عن الأخفش وغيره، ولقى يونس بن حبي ولم يلق سيبويه. وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وطبقتهم، وكان أثبت القوم في كتاب سيبويه، وعليه قرأت الجماعة. ,غليه وإلى أبي عثمان المازني- تلميذه- انتهى علم النحو في زمانهما. وكتابه ((الفرخ)) في النحو كتاب جيد، ومعناه: فرخ كتاب سيبويه. (ت 225 هـ) [إنباه الرواة 2/ 80]. (2) يقصد بالإعمال التنازع في العمل.

جَرَياناً معتبَراً. وقوله: ((مُسْتَعْمَلٌ)) يُشعر بأنه في كلامهم غيرُ قليل، بل هو موجود نظماً ونثراً. فأمّا النثر فمنه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين مَرَّ بَعَّمار (1) فَمسح الترابَ عن وجهه وقال: أعْزِزْ عَليَّ أبا اليَقْظان أَنِّي أراكَ صَرِيعاً مُجَدَّلاً (2). ففَصَل بـ (عَلَيَّ) والمنادي. وقال عمرو بن مَعْدِ يكَرِب: لله دَرُّ بني سُلَيْم، ما أَحْسِنَ في الهَيْجاء لقاءَها، وأَكْرَمَ في الأَزَمات عطاءَها، وأَثْبَت في المَكْرُمات بقاءَها. وحكى المبرّد وابن السَّرَّاج (3): ما أَحْسَنَ بالرجل أن يفعلَ كذا. وأما النظم فأنشد ابن الدهَّان (4): وقالَ إمامُ المُسْلِمين تَقَدَّمُوا وأَحْبِبْ إلَيْنَا أن يكونَ المُقَدَّمَا وقال عمرو بن العاص السَّهْمي يَرثى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:

______ (1) هو عمار بن ياسر رضي الله عنه. وكان ذلك بعد موقعة صفين سنة 37 هـ وانظر: ارتشاف الضرب (1043). (2) في (ت) ((منجدلا)). (3) سبقت ترجمتها، وانظر: المقتضب 4/ 187، وأصول ابن السراج 1/ 126. (4) ابن الدهان هو سعيد بن المبارك بن علي ناصح الدين بن الدهان النحوي، كان من أعيان النحاة المشهورين بالفضل ومعرفة العربية. صنف شرح الإيضاح، وشرح اللمع لابن جني وغيرهما (ت 569 هـ). بغية الوعاة 1/ 587. والبيت للعباس بن مرداس، من قصيدة قالها في غزوة حنين، ديوانه 102، وهو من شواهد التصريح 2/ 89، والهمع 5/ 57، 60، 6/ 287، والأشموني 3/ 19، والعيني 3/ 656، 4/ 593، والدرر 2/ 119، 121، 240.

غَداةَ نَعَى النَّاعِي النّبِيَّ محمَّداً فأعْزِزْ عَلَيْنَا بالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ وأنشد المؤلف (1): خلِيلَيَّ ما أَحْرَى بذِي اللُّبُ أن يُرَى صَبُوَرا ولَكِنْ لا سَبِيلَ إلى الصَّبْرِ وأنشد أيضا أبياتاً أُخَر لم أقِّيدها. والذي يَعْضُد ذلك من جهة القياس أن الفَصْل بالظرف والمجرور في أبوب العربية مُغْتَفَر محتَمل فيما هو أشدُّ من هذا، وهو الفصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، وهما كالشِيِء الواحد، فهذا أشدُّ من الفصل بهما بين معمولٍ وعاملٍ ليسا كالشيِء الواحد. وأيضاً فالقياسُ على (بِئْسَ) مع معمولها مع أنها أضعف من فعل التعجُّب، وقد ورد الفصلُ فيها في قول الله تعالى {بِئْسَ للظَّالِمينَ بَدَلاً (2)} فإذا جاز الفصل في (بِئْس) فهو في فعل التعجُّب أولى. وهذا التقرير محتِمل لأن يكون معتبراً في القياس، فيُقاس الفصلُ بالظرف والمجرور، ولأَن يكون غيرَ معتَبر لقلَّة ما جاء في السَّماع من ذلك. ولذلك- والله أعلم- لم يَقطع هنا الناظمُ بأحد الوجهين، وإنما بَيَّن أن الفصل بالأمرين قد استُعمل. ثم حكى [الفصل قياساً (3)] وذكر الخلافَ في

______ (1) الأشموني 3/ 24، والعيني 3/ 662. ويقال: ما أحراه بكذا، أي ما أجدره به. (2) سورة الكهف/ آية 50. (3) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت) و (س).

القياس على ما سُمِع بقوله: ((والخُلْفُ في ذَاك اشْهَرْ)) أي في جواز الفصل قياساً. وذكر في ((التسهيل)) وشرحه (1) / أن الجواز مذهب الفَرَّاء والجَرْمِيِّ والفارسيِّ 541 وابن خَرُوف والشَّلَوْبِين (2). ومن المُجيزِين ايضا الزجَّاجُ والسِّيرَافي (3). وممَّن نُقل عنه المنعُ الأخفشُ، ونَقل السِّيرافي عن المبّرد المنعَ، وانظر في ((المقتضب)) (4) ونَسَبه الصَّيْمري (5) لسيبويه، وإنَّما تعلَّق بقوله: ((ولا تُزيل شيئاً عن موضعه (6))). وذهب إليه طائفة دون مَنْ ذَكر. والأمر في المسألة محتِمل كما تقدم. وهنا مسألتان، إحداهما أنه لما نَصَّ على منع الفصل بغير الظرف والمجرور كان ظاهراً في مخالفة ابن كَيْسان (7) حين أجاز الفصل بـ (لولا) بين الفعل ومعموله، نحو: ما أَحْسَنَ، لولا بُخْلُهُ، خُلُقَ زيدٍ. قال في

______ (1) التسهيل: 131، وشرحه للناظم (ورقة: 144 - ب). (2) سبقت تراجمهم. (3) سبقت تراجمهما. (4) قال في المقتضب (4/ 178): ((ولو قلت: ما أحسن عندك زيداً، وما أجمل اليومَ عبد الله- لم يجز، وكذلك لو قلت: ما أحسن اليومَ وجهَ زيد، وما أحسن أمسِ ثوبَ زيد، لأن هذا الفعل لما لم يتصرف لزم طريقة واحدة، وصار حكمه كحكم الأسماء)). (5) بنظر: التبصرة والتذكرة 1/ 268. والصيمري هو أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري النحوي. صنف كتاب ((التبصرة والتذكرة)) في النحو: حققه الدكتور فتحي علي الدين (مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى عام 1402 هـ-1982 م). (6) الكتاب 1/ 73. (7) انظر: التسهيل: 131.

((الشرح)) (1): ولا حجة على ذلك. ولم يُنَبِّه على الفصل بـ (كان) بين (ما) والفعل، لأنه قد تقدم ذلك في ((باب كان)) في قوله: وقَدْ تُزَادُ كَانَ في حَشْوٍ كَمَا كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا وأمَّا: ما أَصْبَح اَبْرَدَهَا، وما أَمْسىَ أَدْفَأَهَا- فيُشَكُّ في كَونْه محكياً من كلام العرب، فإن ابن السَّراج (2) والسِّيرافي لم يُورِداه على أنه مسموع، ولكن على أن قوماً من النحويِّين أجازوا ذلك، ورَدَّاه. وثبت في مَتْن الكتاب من كلام الأخفش: ((وقالوا: ما أَصْبَح أَبرَدَهَا، وما أَمْسَى أَدْفَأَهَا (3))) وإنما يَعْنِي النحويِّين لا العرب، ولو عَنَى العرب لم يَجُز لأبي بكر (4) ولا لغيره رَدُّه. وكلام الأخفش في كتابه ((الأَوْسَط)) يدل على أنه لم يَحْكِه. وقد حمله ابن خروف على أنه سَماع، وضَعَّفه بعضُ المتأخرين، فإذاً لا اعتراض على الناظم بَترْك التَّنْبيه عليه. والثانية انه أطلق القول بجواز الفَصْل بالظرف والمجرور، ولم يبيِّن ان الجواز مخصوص بما إذا كان متعلِّقاً بفعل التعجب، إذ قال: ((وفَصْلُه بظَرْفٍ

______ (1) شرح التسهيل للناظم (ورقة 145 - أ). (2) قال ابن السراج في الأصول (1/ 125): ((وقد أجاز قوم من النحويين: ما أَصْبَح أبردها، وما أمسى أدفأها، واحتجوا بأن (أصبح وأمسى) من باب ((كان)) فهذا عنيد غير جائز، ويُفسد تشبيههم ما ظنوه أن (أمسى وأصبح) أزمنة مؤقتة، و ((كان)) ليست مؤقتة، ولو جاز هذا في (أصبح وأمسى) لأنهما من باب ((كان)) لجاز في (أضحى، وصار، ومازال))). (3) انظر: حاشية الكتاب 1/ 73. (4) يعني أبا بكر بن السراج.

أوْ بَحْرفِ جَرُّ .. مُسْتَعْمَلٌ)) ولم يقيِّد، فاقتَضى ذلك جوازَ: ما أنَفْعَ عِنْدَ الحاجةِ مُعْطِيَكَ، وما أَحْسَنَ في الخير مُوافِقَكَ، على أن يكون الفاصل متعلقاً بالمعمول. وهذا غير جائز على ما نَقله المؤلف. ومعلومٌ أنه لم يُرِد من الفصل إلا ما كان من قبيل ما تقدَّم من الشواهد، مَمَّا الفاصلُ فيه متعلِّق بفعل التعجب لا بغيره، فكان إطلاقُه غيرَ مطابق لمراده، فكان غير مَستقيم، ولأجل هذا قال في ((التسهيل)): ولا يَليهما غيرُ المتعجَب منه إن لم يتعلَّق بهما، (1) ولم أجد الآن له في هذا عذْراً، فلو قال عِوضَ ذلك: وفَصْلَ مَعْمُولٍ لَهُ ظرفاً ومَا ضَاهَى أَجِزْ والخُلْفُ فيه عُلِمَا أو ما أَعْطى هذا المعنى لَصَحَّ، ويكون ضمير ((له)) عائداً إلى الفعل في قوله: ((وفِعْلُ هَذا البابِ لَنْ يُقَدَّمَا)) و ((ظَرْفاً)) حال، أي أَجِزْ أن يَفْصِل معمولُ فعل التعجب حالة كونه ظرفاً أو ما ضَاهَاه، وهو المجرور.

______ (1) التسهيل: 131.

((نعم وبئس)). وما جرى مجراهما

((نعم وبئس)). وما جرى مجراهما الذي جرى مجرى ((نِعْمَ وبِئْسَ)) (فَعُلَ) المبنيُّ من الثلاثي نحو: (سَاءَ) في معنى (بِئْسَ) و ((حِسُنِ)) نحو: حَسُنِ ذَا أدباً، في معنى (نِعْمَ) و (حَبَّذَا) أيضا في معنى (نِعْمَ) وكل ذلك مذكور في هذا الباب. واعلم أن لـ (نِعْمَ، وبِئْسَ) استعمالين، أحدهما أن يجريا مَجرى سائر الأفعال في التصرُّف وبناءِ المضارع والأمرِ منهما، واسم الفاعل ونحو ذلك، وهما إذ ذاك للإخبار بالنِّعْمة والبُؤْس، كما أن (قَامَ، وقَعَد) للإخبار بالقيام والقعود، فتقول: نَعِمَ زيدٌ بكذا، يَنْعَم به. وبَئِسَ يَبْأَسُ بكذا. أصلهما (نَعِمَ، وبَئِسَ) لكن ما كان على (فَعِلَ) مما عينُه حرفُ حَلْق فيه لغات أربع: الأصْل: الأَصْل، والتَّسْكين منه، والإتباع (1)، والتسكين منه. والثاني أن يُستعملا لإنشاء المدح والذم، وهما في هذا الاستعمال لا يتصَّرفان لخروجهما عن أصل معاني الأفعال، من الدلالة على الحَدث والزمان، فأشبها الحرف لذلك. وهذا القسم هو المذكور هنا؛ إذ الأول معلومٌ حكمهُ، فقال رحمه الله: فِعْلاَنِ غَيْرُ مُتَصرِّفَيْنِ نِعْمَ وبِئْسَ رَافِعَانِ اسْمَيْن

______ (1) أي إتباع حركة الفاء لكسرة العين، فيكون بكسرتين.

مُقَارِنَىْ أَل مُضَافَيْنِ لِمَا قَارَنَها كنِعْمَ عُقْبَى الْكُرَمَا عَرَّف أولاً أن (نِعْم وبِئْس) فعلان لا اسمان، لكنهما لا يتصرَّفان تصرفَ الأفعال، من كَونْهما يُبْنيان للماضي والحال والاستقبال وغير ذلك، لمانعٍ مَنع من ذلك، وهو لزومُهما إنشاء المدح أو الذم على سبيل المبالغة، فلَزِما طريقةً واحدة. وهي مسألة خِلاَفية بين أهل الكوفة وأهل البصرة (1). فأما أهل البصرة فرأوا أنهما فِعْلان، وهو رأي الناظم، وإليه ذهب الكسائيُّ من الكوفييِّن. وذهب باقي الكوفيين إلى أنهما اسمان لا فعلان. والذي يدل على صحة ما ذهب إليه الناظم (2) من نظمه قولُه أولاً عند التَّعريف بالفِعْل (3): بِتَا فَعَلْتَ وأَتَتْ ويَا افْعَلِى ونُونِ أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْجِلى فأخبر أن لَحَاق ناء التأنيث الساكنة آخرَ الكلمة التي لا يَقْلبها (4) أحدٌ من العرب هاءً في الوقف، ولا تقبل الحركة لغير مُوجِب-من خَوَاصِّ الأفعال، كما كانت التاء في (فَعَلْتَ) وهي ضمير الفاعل دليلاً على ذلك باتفاق. وإذا ثَبت دخولُ الأداة المختصَّة بالفعل على (نِعْمَ وبِئْسَ) في قولهم: نِعْمَتِ المرأةُ، وبِئْسَت الجارية، قال: نِعْمَ الفَتَى، وبِئْسَت القبيلة- دَلَّ ذلك على فِعْليَّتهما.

______ (1) انظر: الإنصاف 97 (المسألة الرابعة عشرة). (2) في (ت): ((ما رآه الناظم)). (3) ذكره أول الألفية في باب ((الكلام وما يتألف منه)). (4) في الأصل و (ت) ((لا يقبلها)) وهو تحريف.

ومثل ذلك في الدلالة على الفِعْلية اتصالُ ضمير الرفع البارز، كما حَكى الكسائي: الزيدان نَعْمَا رَجُلَيْن، والزيدون نِعْمُوا رجالا، ونحو ذلك (1). فإن قيل: الدليل على أنهما اسمان صَلاَحِيةُ خواصِّ الأسماء معهما، وجَريَانُهما مجراها، فمن ذلك/ أنهما لا يتصرَّفان للماضي ولا للأمر ولا للمضارع، ولا يدلاَّن على زمانٍ ماضٍ ولا 542 حاضرٍ ولا مستقبل. وهذا سبيل الأسماء لا سبيل الأفعال. ومن ذلك دخولُ الجارِّ عليهما، وهو مختصٌّ بالأسماء، كقولهم: ما زيدٌ بِنِعْمَ الرجلُ، وقال بعض العرب: نِعْمَ السَّيْرُ على بِئْسَ العَيْرُ (2)، وحَكى الفراء: واللهِ ما هي بنِعْمَ المولودةُ (3). وكذلك دخولُ حرف النداء، نحو: يَا نِعْمَ المَوْلَى، ويا نعْمَ النَّصِيرُ. ولا يسوغ تقدير المنادى هنا، إذ لا يكون ذلك إلا في الأَمْر وما جرى مجراه، نحو قراءة الكسائي {أَلاَ يا اسْجُدُوا لِلَّه (4)} وقول ذي الرُّمة (5):

______ (1) ابن يعيش 7/ 127. (2) العَيْر: الحمار، وحشياً كان أو أهليا. قاله رجل سار إلى محبوبته على حمار بطيء السير. (3) في ابن يعيش (7/ 128) ((وحكى الفراء أن اعرابيا بُشِّر بمولودة، فقيل له: نعم المولودة مولودتُك، فقال: والله ماهي بنعم المولُودة)) ويروى ((والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبِرُّها سرقة)). (4) سورة النمل/ آية 25، وفي التيسير (167) ((ويقف ((ألاَيَا)) ويبتدئ ((اسْجُدوُا)) على الأمر، أي: ألا يأيها الناس اسجدوا)). (5) ديوانه 206، وأمالي ابن الشجري 2/ 151، والمغني 243، والتصريح 1/ 185، والهمع 2/ 66، 4/ 96، 367، والأشموني 1/ 37، 228، والعيني 2/ 6، والدرر 1/ 81، 2/ 23، 26. والبِلى: القدم والتقرب إلى الفناء، يقال بَلِي الثوبُ يَبْلَى، بِلى وبَلاء. ومنهلا: منصبا منسكبا. والجرعاء: كل رملة مستوية لا تنبت شيئا. والقطر: المطر. يدعو لدار مَيّ محبوبته بالسلامة وطول البقاء على الرغم من قَدَمها، وأن تبقى في خصب وسعة كما عهدها، بدوام نزول الأمطار عليها.

ألاَ يَا اسْلَمِي يا دَارَمَيَّ على البِلىَ ولاَزَالَ مُنْهَلاً بَجْر عَائِكِ القَطْرُ وقال الآخر (1): * يَا قَاتَلَ اللَّهُ بَنِى السِّعْلاَتِ * وذلك في كلامهم كثير. وأما الماضي فلا يُحذف المنادى معه. فالجواب أن عدم التصرف لِمَا لحقهما من المعنى المقصودِ به نهايةُ المدح والذم، فجُعِلت دلالتُهما (2) على الحال، لأنه لا يُمدح إلا بما هو ثابت موجود في الحال، لا ما كان ماضياً فانقطع، أو مستقبلاً لم يَقَع. وأيضاً لَمَّا دَخلهما معنى الإنشاء صَرفهما عن أصلهما، كـ (أَفْعِلْ به) في التعجُّب. وأما دخول الجارِّ فعلى الحكاية وتقدير القول، كأنه قال: ما زيدٌ بمقولٍ فيه هذا الكلام، كما قال الشاعر (3):

______ (1) هو علباء بن أرقم اليشكري، وقد استشهد به في الخصائص 2/ 53، والإنصاف 119، وابن يعيش 10/ 36، 41، وشرح شواهد الشافية 469، واللسان (نوت، سين). ويروي ((يا لعن الله)) و ((يا قبح الله)) وبعده: عَمرو بن يَرْبوعٍ شرارَ الناتِ غير أعِفَّاءَ ولا أكْياتِ والسَّعلاة: الغول، أو ساحرة الجن، وتشبه بها المرأة إذا كانت قبيحة الوجه، سيئة الخلق. وأصل (النات، والأكيات) الناس، والأكياس، فأبدلت السين تاء، وهي لغة لبعض العرب. (2) في (ت) ((فجعل في دلالتهما)). (3) الخصائص 2/ 366، والإنصاف 112، وشرح الرضي على الكافية 4/ 246، والخزانة 9/ 388، وابن يعيش 3/ 62، والأشموني 3/ 27، والعيني 4/ 3، واللسان (نوم). وبعده: * ولا مُخالطِ اللَّيّانِ جانُبْه * واللَّيان- بفتح اللام والياء- أحد مصادر (لان) يريد أن جنبه لا يجد مكاناً سهلاً لينا. وهذا البيت مجهول القائل على الرغم من كثرة دورانه في كتب النحو.

* واللهِ ما لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ * فدخلت الباء، وهو فِعْل بإجماع، وما ذاك إلا لقصد الحكاية، أي مقولٍ فيه: نامَ صاحبهُ. والقَوْلُ يُحذف كثيرا. أو يكون على حَدِّ الجواب عن قول القائل: زيدٌ نِعْمَ الرجلُ، فيرد الرادُّ عليه كلامَه على غير تقدير القول، كما قال القائل: دَعْنَا من تَمْرتَانِ (1)، على طريقة الحكاية المحضة، وكذلك سائر المُثُل. وأما حرفُ النداء فقد أدخلته العرب على الأمر، والماضي وإن كان في معنى الأمر، وعلى الجملة أيضاً، نحو (2): يَا لَعْنَةُ اللَّهِ والأَقْوامِ كُلِّهِمِ والصَّالحينَ على سَمْعَانَ مِنْ جَارِ وذلك كله دليل على أن العرب قد توسَّعت في حرف النداء حتى صارت تَدُل به على مجرد التنبيه من غير قصد نداء، قاله ابن جني وغيره (3). وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في دخولها على (نِعْم، وبِئْس) دلالة على الاسمية بلابُدٍّ. والكلام في هذا النحو كثير. وقوله: ((نِعْم، وبئْس)) مبتدأ، خبره ((فِعْلاَنِ غَيرُ مُتَصَرِّفَيْنِ)) ومعناه: أن لهما أحكاما، منها أنهما فعلان، وقد تقدم أنهما غير متصرِّفين كـ (ليس وعسى) وفِعْلَي التعجب. وقد تبين وجهُ ذلك

______ (1) في الأصل ((من ثمرتان)) بالثاء المثلثة، وهو تصحيف. وفي الأشموني (4/ 93) في (باب الحكاية) ((وضرب بغير أداة، وهو شاذ كقول بعض العرب- وقد قيل له: هاتان- تمرتان: دعنا من تمرتان)). (2) تقدم تخريجه في باب ((إعمال المصدر)) والرواية هناك: ...... والأقوامُ كلُّهم والصالحون ......... (3) الخصائص 2/ 196، 278، 376.

ومن الأحكام أيضاً أنهما يطلبان مرفوعاً على وجه مخصوص، وذلك قوله: ((رَافِعَانِ اسْمَيْن)) إلى آخره. يعني أنهما من حيث كانا فعلين لا بدَّ لهما من فاعل كسائر الأفعال، لكن لا يرفعان كلَّ اسم على الفاعلية لقصورهما، بعدم التصرف/ عن جَرَيانهما مَجرى الأفعال المتصرفة ... 543 فاخْتَصَّا برفع ثلاثة أسماء على البدل لا على الجمع (1). أحدهما كلُّ ما كان مصحوباً بالألف واللام الجِنْسية، أو ما أُضيف إلى ما هما فيه، وذلك قوله: ((مُقَارِنَيْ أَلْ أَوْ مُضَافَيْنِ لِما قَارَنَها)). فتقول: نعم الرجلُ زيدٌ، وبئس الغلامُ عَمْروٌ، ولا تقول: نعم زيدٌ، ولا بئس عمروٌ. ومن ذلك قول الله تعالى: {نِعْم العْبدُ إنَّه أَوَّابٌ (2)}، (فلنِعْمَ المُجيبُونَ (3)}، {فَنِعْم الْقادِرُونَ (4)}. وتقول أيضاً: نعم صاحبُ القومِ، وبئس خَدِيُم القومِ (5)، ومنه في القرآن الكريم {منِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ (6)}، {بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِين كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ (7)}، {وبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمينَ (8)} ومَثَّله

______ (1) يعني أن مرفوعهما يكون واحدا من ثلاثة أنواع من الأسماء، لا كل الأنواع الثلاثة مجموعة في تركيب واحد. وهذا أمر واضح، ولم يكن في حاجة إلى هذا التقييد. (2) سورة ص/ آية 30. (3) سورة الصافات/ آية 75. (4) سورة المرسلات/ آية 23. (5) الخديم: الخادم والعبد. (6) سورة آل عمران/ آية 136. (7) سورة الجمعة/ آية 5. (8) سورة آل عمران/ آية 151.

الناظم بقوله: ((نِعْمَ عُقْبَى الكُرَمَاء)) والكرماء: جمع كريم، والعُقبى: العاقبة وأصل الكرم الشَّرَف، كذا قال ابن قُتَيْبَة. ووجه رفعهما لما فيه الألف واللام أن (نعم، وبئس) للمدح والذم، فبُولِغ أن جُعِل فاعلُهما جِنْسَ الممدوحِ أو المذمومِ مجازا، ولأَنْ يُذكر أولاً مُبْهَماً في جنسه، ثم يُخَصُّ ثانياً ويُفَسَّر- مبالغةٌ في ذلك القصد، إذ كان الإبهام أولا، ثم البيان ثانيا يُعْطِي تفخيماً وتعظيماً للأمر. والثاني من مرفوعات (نعم وبئس) الضمير المبهم المفسَّر بما بعده، وذلك قوله: ويَرْفَعانِ مَضْمَراً يُفسِّرهْ مُمَيِّزً كَنِعْمَ قَوْماً مَعْشَرُهْ يعني أن مرفوعهما يكون أيضاً مضمراً مستتِراً مُبْهَماً، يفسِّره مميِّز يُذْكر بعده منصوباً بالفعل، نحو ما مَثَّل به في قوله: ((نِعْم قَوْماً مَعْشَرُهْ)) ففي (نعم) ضمير مبهم يفسِّره ((قوماً)) وليس مرفوعهُ قولَه: ((مَعْشرُه)) لأمرين، أحدهما أنه لا يحتاج إلى مفسِّر، لبيان معناه، فصار ((قوماً)) لا فائدة له، وأيضاً فالمفسِّر لا يتقدَّم على مفسَّره، كما مَرَّ في بابه. والثاني أن فاعل (نعم وبئس) إذا كان ظاهرا لا يكون إلا بالألف واللام، أو ما أُضِيف إلى مصحوبها، أو ((ما)). و ((ما)) فيها خلاف سيذكره. فثبت أن فاعله ليس هذا الظاهرَ، وإنما هو ضمير مستتر دَلَّ عليه التفسير بعده، ولأنهم قد قالوا: نِعْمُوا قوماً، ونِعْمَا رَجُلَيْنِ. وعلى الجملة فلابد من مرفوع، ولا شِيء في الظاهر يصلح أن يكون فاعلا،

______

فلابد أن يقدَّر لقوله في باب الفاعل: وبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ فإِنْ ظَهَرْ فَهُوَوَ إلاَّ فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ وهذا ظاهر. ثم كلامه وتمثيله مُشْعِر بفوائد، إحداها أن هذا المضمر لا يختلف باختلاف المميِّز، من إفراد أو تثنية أو جمع، ولا يَبْرز أصلا، وذلك في اللغة المشهورة (1) وإنما تقول: نعم رجلاً زيدٌ، ونعم رجلَيْن الزيدان، ونعم رجالاً الزيدون، ونعم امرأةً هندُ، ونعم امرأتين الهندان، ونعم نساءً الهنداتُ. ووجهُ الإتيان به مُبْهَما هكذا نحوٌ مِمَّا تقدم في الإتيان بالألف واللام الجنسية، من أنه أُبْهِم ذكر/ الممدوح أو المذموم تفخيماً للأمر، وتعظيماً للشأن، ثم فُسِّر بعْدُ تعريفاً له، 544 وتخصيصاً من بين سائر أفراد الجنس، وهو في هذا القَصْد نظيرُ ضمير الأمر والشأن. والثانية أن هذا الممِّيز لازم لقوله: ((ويَرْفَعَانِ مُضْمَراً يُفَسَّرهُ مُمَيِّز)) أي مضمراً هذه صفتُه وحالُه، فلا يجوز إذاً أن يأتي فاعلُهما مضمرا غَير مميَّز لفظاً وإن كان معلوماً إلا قليلا، دَلَ على ذلك الاستقراء. ومن ذلك القليل قوله عليه السلام: ((مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الجُمعُةِ فبِهَا ونِعْمَتْ (2))) أي: فبالسنَّة أَخَذ، ونِعْمَت سنةُ الوضوء، لكن حُذف للعلم به. والثالثة بيان أن المميِّز لابد أن يكون فيه وصفٌ هو موجود في

______ (1) سبق أن ذكر الشارح أن الكسائي حكى عن العرب قولهم: الزيدان نْعَما رجلين، والزيدون نِعْموا رجالاً، وانظر: ابن يعيش 7/ 127. (2) سنن أبي داود- الطهارة (1/ 97) حديث 354، والترمذي- الصلاة (2/ 369) حديث 497، والبغوي في شرح السنة 2/ 164.

((قوماً)) وذلك كَوْنُه يَقبل الألف واللام، فإن ((قَوْماً)) يصح أن يَدخل عليه على الجملة، فلو لم يصلح لها لم يميِّز، فلا يجوز الإتيان بـ (أيٍّ ولا غَيْر، ولا مِثْل) ولا (أَفْعَلُ مِنْ) ولا ما أشبه ذلك، فلا يقال: نعم مِثْلَكَ زيدٌ، وبئس غيرَكَ عمروٌ، ونعم أفضلَ منك بكرٌ، لأن التمييز نائب عن الفاعل الذي بابُه أن يكون بالألف واللام، فيصح أن يصحبها ويرتفع فاعلاً، فتقول: نعم القومُ مَعْشَرُه. فإن كان هذا القيد مقصوداً في المثال فهو تَنْكيت على مَن جَعل ((ما)) في قولك (نِعْمَ مَا صَنَعْتَ) وشبِهه تمييزاً، وأن الأمر ليس كذلك، بل ((ما)) هما فاعل، وهو رأيه في ((التسهيل وشرحه (1))) ولكنه لم يعيِّن ذلك بعد، بل أطلق القول بالخلاف حين قال: ((ومَا مُمَيِّزٌ وقِيلَ فاعلُ)) وسيأتي ترجيح هذا المذهب بحول الله تعالى. ثم قال: وجَمْعُ تَميِيْزٍ وفَاعِلٍ ظَهَرْ فِيه خِلاَفٌ عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ هذه مسأله تتعلق بالنوعين المتقدمين، إذ كان الفاعل إذا أَتَى ظاهراً لا يَحتاج إلى تميز، وإن أَتَى ضميراً احتاج إليه، وذلك أن أصل التمييز أَلاَّ يَجتمع مع الفاعل الظاهر، لأنه إنما أُتِي به ليفسِّر جنس الممدوح أو المذموم حين لم يَتَبيَّن بالإضمار، فإذا أُظهر كان الجنس بَيِّناً بنفسه، مستغنياً عن التفسير، فكان الجمع بينهما جمعاً بين العِوَض والمعوَّض منه، لكن لما جاء السَّماع به اختُلف في إجراء القياس على ما سُمع وعدم إجرائه. فحكى الناظم الخلافَ في ذلك، فيريد أن جَمْعَك بين التمييز المذكور والفاعل الظاهر في اللفظ فيه خلافٌ بين النحويين قد اشْاَهر عنهم وشاع، هل

______ (1) انظر: التسهيل 126، وشرحه للناظم (ورقة: 140 - أ).

يُقاس على ما سُمع من ذلك أم لا؟ والخلاف المُشْتَهِر بينهم هو أن طائفة مَنعوا من الجمع بينهما لما تقدم من أنه جمع بين العِوضَ والمعَّوض منه، ولا فائدة فيه، إذ هو تفسير المفسَّر فذِكُرهُ فَضْل (1)، فامتنع لذلك. وهو ظاهر كلام سيبويه، إذ قال حين ذكر الوجهين في (نعم): ((فنِعْمَ تكون مرةً عاملةً في مضَمر يفسِّره/ ما بعده، فيكون هو وهي بمنزل (وَيْحَهُ، ومِثْلَه) ثم يَعملان في الذي ... 545 فَسَّر المضمَر عملَ (مِثْلَه، ووَيْحَه) إذا قال: لي مِثْلُه عَبْداً)) (2). يعني: يلزمه التفسيرُ كما لزم في: وَيْحَهُ رجلاً وعَبْداً، فتقول: نعم رجلاً زيدٌ. قال: ((ومرةً أخرى تعمل في مُظْهَر لا تُجاوزُه)) (3) أي لا تجاوزه إلى مفسِّر استغناءً به عنه. بهذا تعلَّق مَن زعم أن مذهب سيبويه المنع، وله نحوٌ من هذا في أول ((الاشتغال (4))) ومنهم من أجاز ذلك، منهم المبّرد وابن السَّراج (5) وظاهر الفارسي في الإيضاح (6).

______ (1) أي زيادة لا حاجة إليها. (2) الكتاب 2/ 177، وفيه ((إذا قلت)). (3) نفسه 2/ 177، وفيه ((وتكون مرة أخرى ... )). (4) الكتاب 1/ 81. (5) المقتضب 2/ 148، وكتاب الأصول في النحو 1/ 138. (6) قال في الإيضاح (ذ/88): ((وتقول: نعم الرجل رجلاً زيدٌ، فإن لم تذكر رجلا جاز، وإن ذكرته فتأكيد، قال جرير: تَزَوَدّ مثلَ زادِ أبيك فينا فنعم الزادُ زادُ أبيك زاداً)).

وشبَّه ذلك المبرّد وابن السَّراج بقولهم: لي من الدراهم عشرون درهما. ولابن عُصفور قولٌ ثالث بالتفرقة بين أن يكون التمييز من لفظ الفاعل فيَمتنع، أو من لفظٍ غير فَيجوز إذا أفاد معنىً زائداً على ما دَلَّ عليه الفاعل. ولم يبيِّن الناظم في هذه المسألة مُرْتضىً من هذه الأقوال. والذي مال إليه في ((التَّسهيل)) القولُ بالجواز (1) تعويلاً على القياس والسَّماع. أما القياس فإن حامل سيبويه على المنع كَوْنُ التمييز في الأصل مَسُوقاً لرفع الإبهام، ولا إبهام إذا ظهر الفاعل، فلا حاجة إلى التمييز. ويلزم من هذا الاعتبار منعُ التمييز من كل ما لا إبهام فيه، كقولك: له من الدراهم عشرون درهما. ومثل هذا جائزٌ بلا خلاف. ومثله قوله: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُور عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً (2)} وقوله: {واخْتَار مَوُسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِميقَاتِنَا (3)} وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعينَ لَيْلَةً (4)} وقوله: {فَهِيَ كَالحِجْارةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (5). فكما حُكم بالجواز في مثل هذا، وجُعِل سببُه التأكيدَ لا رفعَ الإبهام، كذلك تقول في: نِعْم الرجلُ رجلاً، لأن تخصيصه بالمنع تحكُّمٌ بلا دليل. وأما السَّماع فمنه في ((كتاب البُخَاري)) في حديث عبد الله بن عمر ((فَيَسْأَلُها عن بَعْلِها فتقول له: نِعْم الرجلُ مِنْ رَجُلٍ، لم يَطَأْ لنا فِرَاشاً، ولم

______ (1) التسهيل: 127. (2) سورة التوبة/ آية 36. (3) سورة الأعراف/ آية 155. (4) سورة الأعراف/ آية 142. (5) سورة البقرة/ آية 74.

يُفَتِّش لنا كَنَفاً مُذِابْتَنَي)) (1) وأَدْخل ((مِنْ)) على المفسِّر. وقالوا: نعم القتيلُ قتيلاً أصلح الله به بين فِئَتَيْن (2). وقال جرير يمدح عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه (3): تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أَبِيكَ فِينَا فِنعْمَ الزَّادُ زَادُ أَبِيكَ زَادَا وقال يَزِيد بن طُعْمة (4): بِئْسَ ذَاكَ الحَيُّ حَيّا نَاصراً لَيْتَ أَحْيَاءَهُمُ فِيمَنْ هَلَكْ وقال المُغِيرة بن حَبْنَاء التَّميمي (5): فنِعْم الخُلْفُ كان أَبُوكَ فِينَا وبِئْسَ الخلْفُ خُلْفُ أَبِيكَ خُلْفَا وقال الآخر (6):

______ (1) البخاري- فضائل القرآن: 34، والنسائي- صيام، ومسند أحمد 2/ 158. (2) قائله الحارث بن عباد لما قتل ابنه بجير في حروب البسوس (الكامل لابن الأثير 1/ 322)، ويروى ((أصلح الله به بين ابني وائل)) و ((بين بكر وتغلب)) وانظر: ارتشاف الضرب ص 1029، 1031. (3) ديوانه 135، والمقتضب 2/ 148، والخصائص 1/ 83، 396، وابن يعيش 7/ 132، وشرح الرضي على الكافية 4/ 249، والخزانة 9/ 394، والمغني 463، والأشموني 2/ 203، 3/ 34، والعيني 4/ 30. (4) الهمع 5/ 39، والدرر 2/ 114، بدون نسبة. (5) لم أجده. (6) ابن يعيش 7/ 133، والتصريح 1/ 399، والأشموني 2/ 200، 3/ 35، والخزانة 9/ 395، والعيني 3/ 227، 4/ 14. والشعر لبجير بن عبد الله القشيري أو أبي بكر بن الأسود الليثي. وأصطبح: أشرب الصبح، وهو كل ما يشرب أو يؤكل في الصباح، وهو خلاف الغبوق. ونقب: بحث وفحص فحصاً بليغاً. وهشام بن المغيرة، وكان من أشراف قريش. وتهامي- بفتح التاء وكسرها: نسبة إلى تهامة بالكسر-وهي ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز. فمن فتح التاء خفف الياء كيماني وشآم، ومن كسرها شدَّد الياء.

ذَرِينِي أَصْطَبِحْ يا بَكْرُ إنِّي رأيتُ المَوْتَ نَقَّبَ عن هِشَامِ تَخَيَّرهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ ونِعْم المَرْءُ مِنْ رَجُلٍ تَهَامِ استشهد بهذا بعضُهم على المسألة، لأن ((من)) زائدة. وإذا كان ثابتاً نظماً ونثراً، وساغ له وجهٌ من القياس صحيحٌ كان القول بقياسه لازما. والمانع من القياس يَحتجَ بالقياس والسَّماع. وأما القياس فقد تقدَّم. وما أَتَوا به من الشواهد على الإتيان بالتمييز توكيداً/ لا يدلُّ على الجواز، لأن جميع ما تقدَّم إنما جاء على الأصل؛ 546 من بيانِ ما هو مبهَم، لكن عَرضَ للكلام عارضٌ خارج صار به التمييز مستدلاً عليه، فلا يَمتنع الإتيانُ به اعتباراً بالأصل، لأن [المبهم (1)] المطلوبَ تفسيرُه باقٍ، إذا زالت القرينةُ الخارجية رجع إلى إبهامه. وأما (نِعْم الرجلُ) فليس فيه ما يحتاج إلى بيان، لا في أصله ولا في استعماله، فلا يحتاج إلى مفسِّر يَصير توكيداً مع قرينة خارجية، فصار التمييز هنا لا فائدة له بحال، لا أصلاً ولا فرعاً. وهذا فرقٌ صحيح لمن تأمَّله. وأما السماع فالنقلُ فيه قليل، وقد أنشد المؤلف بيتاً آخر زائداً إلى ما تقدم، وأنشد في نحو ذلك أيضاً (2):

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (2) لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ديوانه 4، والتصريح 2/ 96، وشرح الكافية الشافية 1107، والعيني 4/ 8، والخزانة 9/ 397.

ولَقَدْ عَلِمْتُ بَأَنَّ دِيَن محَّمدٍ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ البَرِيَّة دِينَا وهذا كله نادر. ومنه ما هو في الحديث. والاستشهاد به كما ترى. وقد تقدَّم ما يصح الاستشهادُ به من الحديث وما لا يصح. وقال الشَّلَوْبِين في قوله (1): * ونِعْمَ المرُء مِنْ رَجُلٍ تَهَامِ * إن ((مِنْ)) لا تَدخل على تفسير ((نعم)) بَوجْهٍ، فلا يقال: نِعْم مِنْ رَجُلٍ زيدٌ، لا سماعاً ولا قياساً، لأن ((مِنْ)) لا تدخل إلا في موضعٍ يصح فيه التَّبْعيض، أو يكون أصل التمييز فيه الجرَّ بـ (مِنْ) نحو: لِلَّهِ دَرُّه فارساً، وامتَلأَ الإناءُ ماءً، وليس هذا البيت كذلك. وأيضاً فليس البيت من باب: نعم الرجلُ رجلاً، وإنما كان يكون مثله لو قال: ونِعْمَ المرُء التِّهَامِيُّ مِنْ رجلٍ تَهامِ، ولكن لَما اسْتَبْهَم قولُه: نِعْم المَرْءُ، من جهة أنه مَدْحٌ عامٌّ فُسِّر بخاص، كما فُسِّر: لِلَّهِ دَرُّه من فارسٍ. ودخول ((مِنْ)) على ((رجل تَهامٍ)) كدخولها على ((فارسٍ)) من قولك: لِلَّهِ دَرُّهُ من فارسٍ. فليس من مسألتنا في شِيء. وهذه الفِقْه في البيت صحيح، وهو جارٍ في الحديث (2)، وكذلك قولهم: نْعِم

______ (1) صدره: * تخيَّرهُ ولم يَعْدِلْ سِوَاهُ * وقد تقدم في الباب نفسه. (2) يعني قوله صلى الله عليه: ((فيسألها عن بعلها فتقول له: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشا، ولم يفتش لنا كنفا مذابتني)) وسبق تخريجه.

القتيلُ قتيلاً صفتُه كذا (1)، لتَقْيِيده التمييز. وكذلك قول الآخر (2): * بِئْسَ ذَاكَ الحَيُّ حَيَّا نَاصِراً * فخرَج أكثر ما ذَكر من الشواهد عن المسالة. وقد يُؤَوَّل أيضاً بيتُ جرير (3) على أن (زَاداً) عاملُه (تَزَوَّدْ) لا (نِعْم) فلا دليل فيه. وإذا انهدمت قاعدةُ السماع والقياسِ لم يَبْق ما يعوَّل عليه في الجواز. وأما مذهب ابن عصفور فكأنه عَوَّل على المنع إلا في مثل: * ونِعْمَ المَرْءُ مِنْ رَجُلٍ تَهَامِ * وقد تقدَّم ما فيه. واعلم أن من المحققِّين مَن لا يجعل بين سيبويه والفارسيِّ وغيرهِ خلافا، وإنما تكلَّم سيبويه على الشَّائع في الباب، وتكلَّم غيرُه على ما جاء من ذلك قليلا، فالخلاف إذاً غيرُ محقَّق عند هؤلاء. والناظم إنما بَنى على ظاهر كلامهما لا سيَّما وقد انضَمَّ إلى ذلك القولُ الثالث بالتَّفرقة. والله أعلم. وأما النوع الثالث من مرفوعات (نعم، وبئس) فهو الذي قال فيه: ومَا مُمَيِّزٌ وقِيلَ فَاعِلُ في نَحْوِ نِعْمَ ما يَقُولُ الفَاضِلُ

______ (1) يعني قوله: نعم القتيل قتيلا اصلح الله به بين فئتين. وقد تقدم. (2) هو زيد بن طعمة، وعجزه: * ليت أحياءَ همُ فَيمنْ هَلَكْ * وتقدم. (3) يعني قوله: تَزَزَّدْ مثلَ زادِ أبيكَ فِينَا فنعَم الزادُ زادُ أبِيكَ زَادا وقد سبق الاستشهاد به.

/ إلا أنه ذكر في ذلك خلافاً بين النحويين، وهو ما في نحو قولك: نِعْمَ ما صَنَعْتَ، ... 547 وبِئْسَ ما فَعَل زيدٌ. ومنه مثال الناظم ((نِعْمَ ما يقولُ الفاضلُ)) ومنه في القرآن: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (1)}، {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (2)}، {قُلْ بِئْسَما يَأَمركُمْ بِهِ إِيَمانُكُمْ (3)}، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ (4)} الآية. وعَيَّن للخلاف قولَيْن، أحدهما أن ((ما)) تمييز، فهي في موضع نصب، وفاعل (نعم، وبئس) مضمَر فيهما على حد: نَعْمَ رجلاً زيدٌ، وبِئْس غلاماً عَمْروٌ. وهو منقولٌ عن جماعةٍ، منهم الفارسيُّ والزمخشريُّ وغيرهما (5). وإليه ذهب الجُزوليُّ (6) وجَمْعٌ من المتأخِّرين. لكن اختَلفوا: هل هي نكرةٌ موصوفة بذلك الفعل الظاهر، أم غيرُ موصوفة، و ((صَنَعْتَ)) صفةٌ للمذموم المحذوف على قياس قول علي بن حمزة الكسائي الآتي. فالأولُ هو المشهور في النَّفل، والثاني كأنه مَخْرج. وهذا معنى قوله: ((وما مميِّز)) أي عند بعض. والثاني أن ((ما)) في موضع رفع على الفاعلية، إلا أن هؤلاء اختلفوا في ((ما)) فذهبت طائفة إلى أنها اسم تامٌّ مَكْنِيٌّ به عن اسمٍ معرَّفٍ بالألف

______ (1) سورة المائدة/ آية 63. (2) سورة البقرة/ آية 90. (3) سورة البقرة/ آية 93. (4) سورة المائدة/ آية 80. (5) انظر: ابن يعيش 7/ 134. (6) تقدمت ترجمته.

واللام الجِنْسية، فمعنى قولك: (نِعْمَ ما صَنَعْتَ) نعم الشِيءُ صنعتَ، و ((صنعتَ)) في موضع الصِّفَة، من باب قولهم: ما يَحْسْنُ بالرجلِ خيرٍ منكَ أن يَفَعْلَ. وذهبت طائفة إلى أن ((ما)) موصولة بمعنى ((الذي)) واكتُفي بها وبصلتها عن المخصوص بالمدح والذم. وحَكى النَّحاس (1) عن الكسائي أن ((ما)) والفعل الذي بعدها في موضع رفع بـ (نِعْمَ). وغيرُه يَحكى عنه موافقةَ القولِ الأول أنها اسم تام مرفوع، ولكن على أن ((ما)) بعدها ((ما)) أخرى مقدَّرة، كأنه قال: نعم الشِيءُ ما صنعتَه، وهو قول رابع. وحكى بعض المتأخرين أن منهم من يَجعل ((ما)) نكرةً موصوفة مرفوعة، كأنه قال: نِعْمَ شَيِءٌ صنعتَ. فهذه خمسة أقوال تفَّرعت على القول بأن موضع ((ما)) رفعٌ، وهو قوله: ((وقِيلَ: فاعل)). وفي المسألة قول ثالث بالتخيير بين الوجهين، وهو مذهب طائفة. وقال به الفارسيُّ في بعض مسائله. ولم يَنص الناظم على اختيار واحد من القولين اللَّذَين حَكَى. وفي كلامه ما يشير غلى الاختيار، لكنها إشارة ضعيفة، فقد تقدَّم في قوله: ((كنِعْمَ قَوْماً مَعْشَرُهْ)) ما يُشعر أن رأيه أنه فاعل، وتقديمُه هنا القولَ بالتمييز قد يُشير إلى اختياره. ويمكن، وهو الأظهر، أَنْ لم يَقْصِد اختِياراً بحال.

______ (1) لعله يعني أبا جعفر أحمد بن اسماعيل ابن النحاس النحوي المصري، صاحب ((إعراب القرآن)) و ((معاني القرآن)) وغيرهما من الكتب في النحو والأدب (ت 338 هـ) وانظر: إعراب القرآن له 1/ 197.

ولكن نقول: إن كان قد مال إلى القول بالفاعليَّة فقد رَجحَّه الناس بأمور، أحدها التعلُّق بكلام سيبويه (1) مع موافقته للمعنى، فإنك إذا قلت: (نَعْمَ ما صَنَعْتَ) فمعناه: نعم الشِيءُ صنعتَ، وفي {إَنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ (2)} معناه: فنعم الشِيءُ إبداؤها. قال ابن خروف (3): وتكون ((ما)) تامَّةً مَعْرفة بغير صِلَة، نحو: دققتُه دَقاً نِعِمَّا. قال سيبويه: أي نعم الدَّقُّ (4)، و {نِعِمَّا هِيَ} أي نعم الشيءُ إبداؤُها، و: نعم ما صنعتَ، وبِئْسَمَا صنعتَ، أي نعم الشيءُ صنعتَ. هذا قول ابن خروف معتمِداً على كلام سيبويه. وسَبقه إلى ذلك السِّيرافيُّ (5)، وجعل نظيرَ ((ما)) هنا/ قولَ العرب: إنِّي مِمَّا أَنْ أَصْنَعَ، ... 548 أي من الأمر أَنْ أصنعَ، فجعل ((ما)) وحدها في موضع ((الأَمْر)) ولم يصلها بشيء. وتقدير الكلام [إنِّي من الأَمْر] (6) أي من الأَمْر صُنْعِي كذا، فالياء اسم ((إنَّ)) ((وصنعي)) مبتدأ، و ((من الأمر)) خبرُ ((صُنْعِي)) والجملة في موضع خير ((إنَّ)). وهذا موافق لكلام سيبويه، إذ قال (7): ونظير جَعْلَهم ((ما)) وحدهَا اسماً قولُ العرب: إنِّي مِمَّا أَنْ أصنعَ، أي من الأمر أن أصنعَ، فجعلوا

______ (1) الكتاب ب 2/ 175 فما بعدها. (2) سورة البقرة/ آية 271. (3) انظر: التصريح 2/ 97. (4) الكتاب 1/ 73، حيث يقول: ((ونظير جعلهم ((ما)) وحدها اسما قول العرب: إني مِمَّا أن أصنع، أي من الأمر أن أصنع، فجعُل ((ما)) وحدها اسما. مثل ذلك: غسلته غَسْلا نِعمَّا، أي نعم الغَسْل)). (5) السيرافي (ورقة: 183 - أ). (6) ما بين الحاصرتين زيادة من (ت، س). (7) الكتاب 1/ 73.

((ما)) وحدها اسماً. ومثُل ذلك: غسلتُه غَسْلاً نِعِماً، أي: نِعْم الغَسْلُ. فَقدَّر ((ما)) بالأَمْر وبالغَسْل، ولم يقدِّرها بأمرٍ ولا غَسل، فعُلم أنها عنده معرفة. والثاني أن ((ما)) قد كثر الاقتصارُ عليها في نحو: غَسَلْتُه غَسْلاً نِعمَّا. والنكرة التالية ((نِعم)) لا يُقتَصر عليها إلا نادرا. والثالث أن التمييز إنما يُجاء به ليُزيل الإبهامَ، ويَرفع الإشكال عن جنس الممَّيز، و ((ما)) المذكورة مساوية للمضمر في الإبهام، فلا يكون تمييزاً على هذا. والرابع أن ((ما)) هنا إمَّا مَعْرفةٌ ,إمَّا نكرة موصوفة، إذ لم يَثْبت لها إلا هذان القسمان، و ((ما)) في {نِعمَّا هِيَ} وفي (غَسْلاَ نِعمَّا) ليست بموصوفة، فلا تكون نكرة، وإذا لم تكن هنالك نكرة فلا تكون في (نِعْم ما صَنَعْتَ) نكرة، إذ لم يثبت ذلك في نظيرتها. وإن كان الناظم مائلاً إلى القول بأن ((ما)) في موضع نصب على التمييز فيرجَّح بأشياء: أحدها أن فاعل ((نعم، وبئس)) لم يَثْبت فيه إلا أن يكون بالألف واللام الجِنْسية، أو مضافاً إلى ما هما فيه، أو مضمراً فيهما على شَرِيطة التفسير، وليس هناك ما فيه ألف ولام، ولا ما أضيف إليه، فلابد أن يَتعيَّن أن الفاعل مضمر كما تعيَّن في نحو: نِعْم قوماً مَعْشَرُه، وإذ ذاك تكون ((ما)) في موضع نصب على التمييز نظير ((قوماً)) في المثال المذكور، ولا مَنْع في ذلك وإن كانت ((ما)) مبهَمة، لأنها بمعنى ((شِيء)) أو غيره من النكرات التي يصح وقوعها تمييزاً هنالك، وكما تقع ((ما)) صفةً في قولهم: (شِيءٌ مَا) مع أن أصل الصفة أن تأتي للبيان، كذلك تقع هنا تمييزا، وإن كان أصله البيان. والثاني أن ((ما)) إذا ادُّعِي أنها في موضع رفعٍ إمَّا أن تكون موصولةً أو

غير موصولة، [فإن كانت موصولة (1)] لم يَصح، لأن الموصولة تَتَبيَّن بالصلة، فتصير في عداد الأسماء المعيَّنة، وهي لا تكون فاعلة لـ (نعم، وبئس) فإن لم يكن لها صلة فموصولٌ بغير صلة لا يكون. وإن كانت غيرَ موصولة فإمّا نكرةً أو معرفة، فإن كانت [نكرة] (2) لم تقع فاعلة في هذا الباب لاختصاص الفاعل فيه بالتعريف، وإن كانت معرفةً فخلافُ الظاهر (3)، لأن ((ما)) قُوتُّهَا قوةُ النكرة إذا لم تكن موصولة. ومَا قَدَّرها به سيبويه من المعرفة لعلَّه على غير تفسير الإعراب، بل على التساهل في تقدير المعنى، وإذا لم يَثْبت لها بحكم الظاهر إلا التنكير صَحَّ أن الفاعل أمرٌ آخر، ووجب نصب ((ما)) على التمييز لِمَا قُدِّر فاعلاً، وهو الضمير. ثم هنا مسائل؛ إحداها أن ((ما)) في وقوعها بعد ((نعم، وبئس)) على ضربين/ ... 549 أحدهما أن تكون صالحة لأن تكون موصولةً فاعلة، أو نكرةً موصوفة منصوبة على التميز، أو مرفوعةً حَسْبَما تقدَّم من الخلاف، كقولك: نِعْمَ ما صنعتَ، وبئس ما فَعل زيدٌ. والثاني ألاَّ تكون صالحةً لذلك كقولك: نِعْمَ ما أَنْتَ، وقوله: {فَنِعَّما هِيَ (4)}. وحكَى الزَّجَّاج عن النحويين (5) أنهم حَكَوا: بِئْسَمَا تزويجٌ ولا مَهْرٌ.

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، و (ت) وأثبته من (س). (3) في النسخ ((بخلاف الظاهر)) وما أثبته هو وجه الكلام. (4) سورة البقرة/ آية 271، وقد مر الاستشهاد بها غير مرة. (5) من هؤلاء الفراء الذي قال في ((معاني القرآن 1/ 58)): ((وسمعت العرب تقول في ((نعم)) المكتفية بما: بئسما تزويجٌ ولا مهرٌ، فيرفعون التزويج ببئسما)).

وحَكى ابن الطَّراوة. بئسما بَطٌّ ولا نَرْعَاها. وحكَى سيبويه: غسلتُه غَسْلاً نِعِمَّا (1)، وما أشبه ذلك. فأمّا الضرب الأول فظاهر الناظم أنه الذي عَيَّنَ لما ذكَرَ من الحكم، لقوله: ((في نحو كذا)) يعني أن ذلك الخلاف المحكيَّ هو في هذا الضَّرْب. فبقى الضَّرْب الثاني غيرَ محكوم عليه، بل مسكوتاً عنه. وظاهر ما في ((الشرح)) (2) أن الضربَيْن عنده واحج، وأن الخلاف فيهما واحد. وهذا مما فيه نظر. أمّا الأول فقد مضى ما فيه. وأما الثاني فقد استَقْرأ بعضُ حُذَّاق المتأخرين من كلام سيبويه أن ((ما)) في الأول موصولةٌ، وفي الثاني اسمٌ تامٌّ بلا صلة، وإن كان غيره يرى غير ذلك. وفَرقَّ بينهما الفارسيُّ ايضاً، فإنه قال في ((الشِّيرَازِياَّت)): إن نحو (بئس ما صنعتَ) يحتمل أن تكون ((ما)) فيه موصولة أو موصوفة، وقال في {نِعِمَّا هَيِ}: هي نكرة، لا غير. وقال الفراء (3): إن ((ما)) تَلِي ((نِعْم)) على أوجه ثلاثة، أحدها ألاَّ يكون لها موضع من الإعراب، وتكون كبعض حروف الاسم، كـ (ذا) من: حَبَّذا، ولا تتغيَّر ((نعم)) في تأنيث ولا تثنية ولا جمع. وتُرفع الأسماء بعدها، وعليه حَمل قولَ الله تعالى: {فَنِعمَّا هِيَ} وقولَهم: بِئْسَما تزويجٌ ولا مَهْر. والثاني أن تكون زائدة لا أثر لها، فتقول: نِعْمَا رجلَيْن الزيدان، ونِعْمَا

______ (1) الكتاب 1/ 73. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة 140 - أ). (3) انظر: معاني القرآن 1/ 57، 58.

رجالاً الزيدون، ولم يمثِّل بنحو: نِعْمَ مَا الرجلُ زيدٌ. والثالث نحو قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَروْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ (1)} فنَصَّ على أنها مرفوعة (2)، وظاهره أنها مَعْرِفة موصولة. ومذهب الكسائي أن ((ما)) في (نعم ما صنعتَ) بمنزلة ((الرَّجُل)) تامَّة، وبعدها ((ما)) أخرى مضمرة. وفي نحو: نِعْمَ مَا زيدٌ، بمنزلة: نعم الرجلُ زيدٌ (3). فالحاصل أن الواقعَ بعدَها الفعلُ غيرُ الواقعُ بعدها الاسمُ، أو التي لم يقع بعدها اسمٌ ولا فِعْلَ في جَرَيان الأحكام، لكنهما قد يتفقان في بعض الأحكام دون بعض. وظَهَر أن الخلاف فيهما ليس على حَدٍّ واحد، فلذلك- والله أعلم- قَيَّد الكلامَ، ولم يُهمل القولَ بنقْل الخلاف، إلا أنه أهمل القولَ في الضَّربْ الآخَر، إمَّا لأنه أقلُّ بالنسبة إلى هذا، وإما لأنه موضع نَظَر، هل يُلحق بها أم لا؟ مع أنه يمكن أن يكون المثال ليس بِقَيْد، فَيَدخل له الضَّرْبان معا، حَسْبَما ذكر في ((التَّسهيل)) (4). وهذا بعيد، والله أعلم. والثانيةِ أنه نَصَّ على الخلاف في ((ما)) وأَهمل ذكَر ((مَنْ)) وهي مِثْلُها في هذا الباب، فكما تقول: نعم ما صنعتَ كذا، كذلك تقول: نعم مَنْ لقيتَ زيدٌ. ويصح هنا تقدير ((مَنْ)) في موضع رفع على الفاعلية، وفي موضع نصب/ على ... 550 التمييز، على تقدير: نعم الرجلُ، أو نعم رجلاً، فيظهر أن

______ (1) سورة البقرة/ آية 90. (2) معاني القرآن 1/ 56. (3) المصدر السابق 1/ 57. (4) ص 126.

ذِكْر أحدهما دون الآخر تقصير. وقد جاء في الكلام ذلك، أنشد الفارسيُّ وابنُ دُريَدْ وغيرهما (1): فَنِعْمَ مَزْكَأُ مَنْ ضَاقَتْ مَذَاهِبُهُ ونِعْم مَنْ هُوَ في سِرٍّ وإعْلاَنِ فَنصَّ الفارسيُّ في ((الأبيات المشكلة (2))) على أن ((مَنْ)) تمييز، كمذهبه المتقدم في ((ما))، ومن الناس من أجاز فيها الرفعَ كـ (ما) فالحاصل أنها مِثْلُها، فإذا كان كذلك فلِمَ تَركها الناظم دون ((ما))؟ والجواب أن من النحويين مَن زعَم ذلك، وأن ((مَنْ)) كـ ((ما)) بإطلاق، ومنهم ابن جنيِّ (3)، فقد قال في قول ساعِدَةَ بن جُؤَيَّة (4): * هَجَرَتْ غَضُوبُ وحُبَّ مَنْ يَتَجنَّبُ * إن ((مَنْ)) يجوز أن يكون فاعلا، و ((حَبَّ)) هنا من باب ((نعم)) كما سيأتي إن شاء الله.

______ (1) شرح الرضى على الكافية 4/ 252، والخزانة 9/ 410، والمغني 329، 435، 437، والأشموني 1/ 155، والهمع 1/ 317، و 5/ 37، والدرر 1/ 70، 2/ 114، والعيني 1/ 487، واللسان (زكأ) وقبله: وكيف أرهبُ أو أُرَاعُ له وقد زَكَأتُ إلى بشر بن مروان والمزكأ: الملجأ، وزكأت إليه: لجأت واعتصمت. وقائل الشعر مجهول. وكان بشر بن مروان سمحا جوادا، ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الملك. (2) ذكره الفارسي في ((باب من الصلات والأسماء الموصولة)). (3) (4) ابن يعيش 7/ 138، والخزانة 9/ 429، وديوان الهذليين 1/ 167، واللسان (حبب، شعب، ولى) وعجزه: * وعَدَتْ عَوَادٍ بعدَ وَلْيك تَشْعَبُ * والولى: القرب والدنو، وتشعب، تصرف وتمنع، أولا تجيء غلى القصد، وعوادي الدهر: مصائبه ونوائبه، واحدها عادية.

ويحتمل أن يكون الناظم ذَهب هنا إلى أن ((ما)) فاعل لا تمييز، وأنها اسم تامٌ لا موصول، وإذا كان كذلك لم يصلح في ((مَنْ)) أن تكون فاعلاً غير موصول، إذ لم يثبت لها ذلك، وإنما تكون في غير الشرط والاستفهام إما نكرةً موصوفة، وإما موصولةً بمعنى ((الذي)) أو ((التي)) وهذا رأيه في ((التسهيل)) (1) فَتَرك إلحاقَ ((مَنْ)) هنا لعدم جَرَيان الحكم فيها على مذهبه. والثالثة أنه ذكر الخلاف في ((ما)) ولم يُعَيِّن ما هي على كلا القولين، إذ على القول بالفاعليَّة فيها يُحتمل أن تكون اسماً تاماً بلا صلة، أو موصولاً بمعنى ((الذي، والتي)) أو نكرةٌ موصوفة. وعلى القول بأنها تمييز يُحتمل أن تكون نكرةً موصوفة، أو غير موصوفة. وقد تقدم ما في ذلك من الاضطراب. والناظم تَرك ذلك كله، والعُذْر عنه أن كثيراً من المسائل التي لا يَنْبني على الخلاف فيها حكمٌ لفظي لا يَعْتنى بنقل الأقوال فيها، فكأنَّه رأى نقلَ الخلاف هنا شَطَطا، فتَركه. والله أعلم. وإن الرابعة أنه لما اقتصر بفاعل ((نعم، وبئس)) على هذه الأنواع الثلاثة دَلَّ على أن ما سوى ذلك لاَ يْرتفع بهما على الفاعلَّيةِ، فإن جاء من كلام العرب ما يَنْقض ذلك فغيرُ معَتدٍّ به لقلَّته أو إمكان تأويله. فمن ذلك (الذي، والتي) وما أشبههما من الموصولات التي فيها الألف واللام، فإنها إن عُنِى بها معهودٌ فظاهر امتناعُ جعلِها فاعلاً هنا، كالرَّجل والغلام إذا أردت معهودا. وإن أردتَ بها الجنس كما أردت بـ (الرجل) الجنسَ ففي جواز ذلك

______ (1) ص: 36.

خلاف، فمنهم من منع، وهو الذي رأى الجَرْمي (1). ومنهم من أجاز، إذ لا فرق بين الموصول وغيره إذا كان في الحكم مثلَه. وهذا رأي المبّرد (2)، ونحا نحوهَ ابنُ السَّراج على تردُّد (3). وهو مذهب ابن الحاجِّ (4) من المتأخرين، وحَمَلِة لفظ الكتاب، حيث تَمَّم سيبويه ذكر ما فيه الألف واللام أو ما أضيف إلى ما هما فيه بقوله: وما أشبه (5). والأظهرُ في مثل هذا المنعُ، إذ لو كان جائزاً عندهم لكان حَرِياً بأن يَكثر في كلامهم، لأنه مِمَّا يُحتاج إليه في التخاطب. فلما لم يُسمع منهم، أو سُمع نادراً دَلَّ على أنهم قد اطَّرحوه، فلا يسوغ القياس على نحو (الرَّجُل). وايضاً/ فليست الألف واللام في الموصولات لتعريف عَهْد ولا جِنْس، بل هي تُشبه ... 551 الأصلية للزومها الكلمة، فالأولى المنعُ، وهو الظاهر من الناظم. ومن ذلك ما أُضيف إلى ضمير ما فيه الألف واللام الجِنْسية نحو: نعم صاحبُ الدابَّة ونعم أخوه عبدُ الله، والراكبُ نعم صاحبُه زيدٌ، وما أشبه ذلك.

______ (1) هو أبو عمر صالح بن إسحاق. (2) المقتضب 2/ 141. (3) كتاب الأصول 1/ 132، 133. (4) ابن الحاج هو أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الإشبيلي. كان متحققا بالعربية، حافظا للغات، مقدما في العروض وله على كتاب سيبويه إملاء، ومصنف في علوم القوافي، ومختصر خصائص ابن جني وغيرها (ت 647 هـ). بغية الوعاة 1/ 359. (5) الكتاب 2/ 178.

أجازه بعضهم، وأنشد على ذلك قولَ الشاعر (1): * فَنِعْم أَخُو الهَيْجَا ونِعْمَ شِهَابُها * وظاهر إطلاقات الناس منعُ هذا، ولو كان يَكثر في السَّماع لَقالوا به، ولكنه نادر، فلا اعتبار به. وأيضاً يمكن تأويله على مثل مَا تأوَّل ابنُ مالك وقوعَ العَلَم بعدهما حَسْبما يُذكر على إثر هذا بحول الله. ومن ذلك الضمير البارز نحو: مررت بقومٍ نِعْمُوا قوماً، والزيدان نِعْمَا رجلَيْن. حَكى هذا الكسائيُّ عن بعض العرب (2)، ولكنه قليل لا يقاس على مِثْله. ومن ذلك العَلَمُ والمضافُ إليه، فقد جاء منه في النثر ما يمكن أن يُدَّعى قياسُه، ففي الحديث ((نِعْمَ عبُد اللهِ خالدُ بن الوليدِ (3))) وقول بعض عبادلة الصحابة (4): بئس عبدُ الله أَنَا إن كان كذا. وقول سَهْل بن حُنَيْف: شهدتُ صِفِّينَ وبئست صِفُّونَ (5)، وهو نادر، ومن باب الاستشهاد بالحديث، وقد مَرَّ

______ (1) الهمع 5/ 30 والأشموني 3/ 28، والعيني 4/ 11، والخزانة 9/ 416، والدرر 2/ 110، ولم يوقف له على تتمة ولا قائل. والهيجا- بالمد والقصر- الحرب. الشعلة الساطعة من النار، والنجم المضيء اللامع، والنجم المضيء المنقض من السماء، ويقال: هو شهاب علم وحرب ونحوهما، للماضي الماهر. ويروى (شِبابها) بكسر الشين، والباء، والشِّباب والشَّبوب: ما يوقد به النار. (2) في ارتشاف الضرب (ص 1031) ((وحكى الأخفش عن بعض بني أسد: نعما رجلين الزيدان، ونعموا رجالا الزيدون، ونعمتم رجالا، ونعم نساء الهندات)). (3) رواه الترمذي في: المناقب: 50، رقم (3846) 5/ 688، وانظر: جامع الأصول 10/ 98. (4) الأشموني 1/ 29، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 140 - أ) وفيه ((كقول ابن مسعود رضي الله عنه أو غيره من العبادلة)). (5) الهمع 5/ 39، والسان (صفن) برواية ((الصِّفُّونَ)). وسهل بن حنيف الأنصاري الأوسي، صحابي من السابقين، شهد المشاهد كلها، واستخلفه علي ابن ابي طالب رضي الله عنه على البصرة بعد وقعة الجمل، ثم شهد معه صفين (ت 38 هـ).

ما فيه (1). وإذا سُلِّم فندورُه يَمنع من القياس عليه. وقد تأوَّله ابن مالك على أن يكون التمييز قد حُذف، والفاعل ضمير، والظاهر المرفوع هو المخصوص. و ((أنا)) و ((خالد)) بدلان، فلا يكون فيه على هذا دليل (2). فإن قيل: قد تقدَّم أن التمييز هنا لا يُحذف قيل: ذلك هو الشائع، وقد يُحذف نحو قوله عليه السلام: ((مَنْ تَوَضَّأَ يومَ الجُمعةِ فَبِهَا فَبِهَا ونِعمَتْ (3))) فالتقدير: ونِعْمَتْ سُنَّةً، لأنه أضمر الفاعلَ على شريطة التفسير، كأنه قال: ونِعْمَتْ سنةً فعِلَتُه، أو نحو ذلك. ومن ذلك النكرةُ المضافة نحو: نِعْمَ صاحبُ قومٍ زيدٌ، فقد جاء في الكلام مِثْلُه، وهو حَسَّان بن ثابت رضي الله عنه (4): فَنِعْمَ صاحِبُ قَوْمٍ لا سِلاَحَ لَهُمْ وصاحبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بن عَفَّانَا وهذا مما حكاه الأخفش والفرَّاء عن طائفة من العرب أنها تقوله (5). وقد يظهر أنهما قائلان بجوازه.

______ (1) انظر: 3/ 401. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 140 - أ). (3) سنن أبي داود- الطهارة: (1/ 97) حديث (354) والترمذي- الصلاة (2/ 369) حديث (497) والبغوي في شرح السنة 2/ 164. (4) شرح الرضي على الكافية 4/ 253، والخزانة 9/ 415، وابن يعيش 7/ 131، والهمع 5/ 36، والدرر 2/ 113، والأشموني 3/ 28، والعيني 4/ 17. والشعر لكثير بن عبد الله النهشلي لا لحسان، وقبله: ضَحَّوْا بأشمطَ عنوانُ السجود به يقطَّع الليل تسبيحا وقرآنا وقوله: ((فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم)) إشارة إلى قوله رضي الله عنه يوم الدار: ((من رمى سلاجه كان حرا)) وقوله ((صاحب الركب)) أي ركب الحج. (5) انظر: الأشموني 3/ 28.

واعتلَّ العَبْدي (1) للجواز بأن النكرة قد تدل على الجنس، كما يدل عليه ما فيه الألف واللام، وأنها قد تؤدِّي في بعض المواضع من المعنى ما تُؤَدِّيه المعرفة الجِنْسية، كقول حَسَّان رضي الله عنه (2): كَأَنَّ سَبِيئَةً منَ بْيتٍ رَأْسٍ يكونُ مِزَاجَها عَسَلٌ ومَاءُ وهذا كله نادر لا يُعتمد على مثله في السماع. وما ذُكر من وجه القياس يَنْتقَض بما لو كانت النكرة غير مضافة، وهما لا يقولان بذلك، إذ خَصَّا الجوازَ بالنكرة المضافة. ومن ذلك اسمُ الإشارة نحو: نعْمَ ذا أدبُك، على معنى: نعم الأدبُ أدبُك، فقد أجاز بعضهم في قول الشاعر، أنشده ابن السكيت وغيره (3): لَمْ يَمْنَع الِنَّاسُ مِنِّي ما أَرَدْتُ ومَا أُعْطِيهمُ ما أَرادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا ب أن يكون ((ذا)) فاعلاً بـ (حَسُنَ) وهو من (فَعُلَ) الملحق بهذا الباب. وحكمُ

______ (1) هو أبو طالب أحمد بن بكر بن أحمد بن بقية العبدي، أحد أئمة النحاة المشهورين، قرأ على السيرافي والرماني والفارسي. وله: شرح الإيضاح للفارسي، وشرح كتاب الجرمي (ت 406 هـ). بغية الوعاة 1/ 298. (2) ديوانه 3، وسيبويه 1/ 49، والمقتضب 4/ 92، وابن يعيش 7/ 91، 93، والمغني 463، 695، وشرح الكافية 4/ 193، والخزانة 9/ 224، واللسان (سبأ) والسبيئة: الخمر. وبيت رأس: موضع بالشام. وخبر (كأن) في البيت الذي بعده، وهو قوله: على أنيابها أو طعمُ غَضٍّ من التفاح هَصَّره اجتناءُ (3) إصلاح المنطق 41، والخصائص 3/ 40، وشرح الرضي على الكافية 4/ 257، والخزانة 9/ 431، واللسان (حسن) والأصمعيات 56. يريد أنه يقهر الناس فلا يمنعونه ما يريد منهم، وهو لعزته يمنع ما يريدونه منه. وقد استحسن الشاعر هذا الخلق، وجعله أدباً حسنا. وقال قوم: إنه ينكر على نفسه هذا العمل لأن العرب لا تفتخر بمثل هذا الخلق.

(فَعُلَ) حكمُ (نعم، وبئس) كما سيأتي بحول الله. فكما تقول: حَسُن ذَا أدباً (1)] على معنى: حَسُن الأدبُ/ أدبُك أدباً، كذلك تقول: نعم ذا أدبك أدباً؛ وعلى إسقاط التمييز؛ لأن ... 552 اسم الإشارة مبهَم يقع على كل شِيء، فجرى مَجرى الأجناس، قال ابن السَّراج: والنحويون يُدخلون (حَبَّذاً زيدٌ) في هذا الباب، من أجل أن تأويلها: حَبَّ الشيءُ، لأن ((ذا)) اسمٌ مبهَم يقع على كل شِيء (2). وبَيَّن إبهامَ اسم الإشارة الفارسيُّ في ((الإغفال)) و ((الشِّيرازيات)) بياناً شافياً حين تكلم على قوله سبحانه {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ (3)} وهذا كله لا دلالة فيه، لشذوذ السَّماع بذلك، ولأن ((ذا)) مع ((حَبَّ)) على حكمٍ آخر مختصٍّ بها، سيذكره على حِدتَه، فقياس ((نِعْم)) على ((حَبَّذَا)) غير ظاهر. والفاضل: ذو الفَضْل والفَضِيلة، وهو ضد النَّقْص والنَّقِيصة. ويُذْكَرُ المَخْصُوص بَعْدُ مُبْتَدا أو خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا المخصوص في كلامه وكلام النحويين هو المقصودُ بالمدْح بعد (نِعْمَ) وبالذَمِّ بعد (بِئْسَ) وذلك نحو (زيدٌ، وعمروٌ) في قولك: نعم الرجلُ زيدٌ، وبئس الرجلُ عمروٌ. وإنما سُمِّى مخصوصاً لما فيه من ذلك المعنى؛ إذ كان قد ذُكر أولاً جِنْسُه، ثم خُصَّ بعد ذلك بذكر شَخْصه. وقَصَد الناظمُ هنا ذكرَ ما يتعلَّق به من الأحكام، فأخبر أولاً أنه

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (2) كتاب الأصول في النحو 1/ 135، وفيه ((حب الشِيء زيد)). (3) سورة البقرة/ آية 68.

يُذكر فلا يُترك، لأنَّ بذكره حصولَ الفائدة في المدح أو الذم، لأن ذكرَ جنسه لا يُعَيِّنه، فافَتقَر إلى تعيينه. ثم بَيَّن أنه يُذكر بعد ذكر الفاعل بقوله: ((وُيْذَكرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ)) أي بعد ما تقدَّم الكلام عليه، وهو الفعل والفاعل، فإذاً ما تقدَّم عليهما فليس هو المخصوص، بل هو دليل عليه، وبذلك يُشْعر قولُه بعد: ((وإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كَفَى)) حسبما يُذكر بحول الله. ثم ذَكر حكمه في الإعراب لأنه مُشْكل، إذ لا يصح أن يكون فاعلا، لأن الفعل قد أَخَذ فاعلَه، ولا يصحّ أيضاً أن يكون بدلاً حسبما يُذكر، ولابد له من إعرابٍ آخر، بناءً على أن كل اسم لابد أن يكون له موضع من الإعراب. فذَكر له إعرابَيْن ساقهما مَساق التخيير. أحدهما أن يكون مبتدأ، ولم يُعَيِّن له خبرا، وواضحٌ أن يكون الجملةَ المتقدِّمة، إذ بهما تمامُ الفائدة. وقد قال في باب ((الابتداء)): ((والخبرُ الجزُء المُتِمُّ الفَائِدهْ)). فإذا قلت: نعم الرجلُ زيدٌ، فـ (زيدٌ) مبتدا، خبره قولك: ((نعم الرجلُ)) ولو كان الخبر غيرَ الجملة لَبَيَّن ذلك، كما بَيَّن في الإعراب الآخر أن المبتدأ محذوف. والثاني أن يكون المخصوص خبرَ مبتدأ محذوف لازمِ الحذف، وهو قوله: ((أو خبرَ اسْمٍ)) إلى آخره. فكأنه قال: هو زيدٌ، أو الممدوحُ زيدٌ. وهذا التخييرُ يَحتمل أن يكون ظاهره، فيكون مذهبه في المسألة جوازَ الإعرابَيْن، وهو مذهب الجمهور، كالَجْرمي والمبّرد

______

وابن السَّراج/ والفارسيّ وابن جنِيِّ وغيرهم. ... 553 ويًحتمل أن يكون رأيه إعرابَه مبتدأ، لتقديمه إيَّاه. وكثيراً ما يَأْتى بالخلاف في مَساق التخيير، كما ظهر في قوله قبلُ: ((أَلْ حَرْفُ تعريفٍ أو اللاَّمُ فَقَطْ (1))) وفي قوله أيضاً: ((نَاوِينَ مَعْنَى كائنٍ أَوِ اسْتَقَرْ (2))) ويُشْعر بهذا الثاني أنه الذي نَصَّ في شرح ((التَّسهيل (3))) وهو أحد المذاهب الأربعة، أنه مبتدأٌ لا غَيْر. والثاني التخيير، والثالث تجويزُ أن يكون المخصوص مبتدأ محذوفَ الخبر، وهو مذهب ابن عُصفْور (4). والرابع أنه بدل من الفاعل. فأما القول بإعرابه مبتدأً خبرُه ((نعم، وبئس)) فهو الراجح من خمسة أوجه: أحدهما أنه لو كان غيرَ مبتدأ لوجب أن يَنْتصبَ إذا دخلت عليه ((كان)) لأن خبر المبتدأ هذا حكمُه معها، فكنتَ تقول: نعم الرجلُ كان زيداً، وبئس الرجلُ كان أبا فلان. قال المؤِّلف: ولم نجد العربَ تَعْدِل عن الرفع في مثل هذا، فدَلَّ على أنه مبتدأ. وكذلك كان يجب أن يَبْرُز المحذوفُ إذا قلتَ: نعم الرجالُ كانوا الزيدين، ونعم النساءُ كُنَّ الهنداتِ. وهذا لا يقال.

______ (1) باب المعرف بأداة التعريف. (2) باب الابتداء. (3) شرح التسهيل (ورقة: 140 - ب). (4) شرح جمل الزجاجي له 1/ 605.

وكذلك كان يجب إذا دَخلت ((ظَنَنْتُ)) وأخواتُها هنا (1). نعم الرجلُ ظننتُه زيداً، ونعم الرجلان وُجِدا الزيَديْن، لكن العربَ إنما تقول: نعم الرجلُ ظننتُ زيداً، ونعم الرجلان وُجِدا الزيدان، قال زهير (2): يَمِيناً لَنِعْمَ السَّيِّدَانِ وَجدْتُماَ على كُلِّ حَالٍ من سَحِيلٍ ومُبْرَمِ فعُلم أن المخصوص لم يكن قبله ضمير فيكون هو خبَره، بل كان المخصوص مبتدأ مخبراً عنه بجملة المدح والذم. والثاني أن الكلام عند جَعْل ((زيد)) خبراً لمحذوف جملتان، ليست إحداهما في موضع إعراب، وهو خلاف الظاهر، وادِّعاءُ خلاف الظاهر من غير حاجة إلى ذلك ممنوع، فكان تقديرُ مبتدأ غيرَ جائز، لعدم الاحتياج إلى ذلك. وذلك أن (نعم، وبئس) لا يتمُّ المعنى المقصود بهما إلا باجتماع المختص بالمدح والذم من الجنس الذي هو منه، فلا يُقَدَّر على هذا إلا مبتدأ، كما لا يقدَّر ((زيد)) في قولك: (ذهب أخوهُ زيدٌ) إلا مبتدأ. والثالث أن المخصوص يجوز حذفه اتفاقاً إذا تقدَّم ذكره وكان معلوما، كقوله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ (3)}. فلو كان المبتدأ لازمَ الحذف، ثم حُذف الخبر، وهو ((زيدٌ)) في المثال المتقدِّم لأَدَىَّ ذلك إلى حذف الجملة كلها، وذلك غير

______ (1) أي كان يجب إبراز الضمير المحذوف، فيكون كما مثل. (2) من معلقته، واستشهد به الرضي في شرح الكافية 4/ 244، والسيوطي في الهمع 4/ 247، وانظر: الخزانة 9/ 387، والدرر 2/ 47. والسحيل: الحيط الذي لم يحكم فتله. والمبرم: الخيط الذي أحكم فتله، ويريد بهما الأمر السهل والأمر الصعب. يخاطب هرم بن سنان المري، والحارث بن عوف، ويثني عليهما بما فعلاه في الصالح بين عبس وذبيان. (3) سورة ص/ آية 30.

جائز، وإنما يُحذف من الجملة أحدُ جزءَيْها، ويبقى الثاني دَالاً عليه، ولا يُحذفان معاً إلا أن يُعَوَّض من ذلك، كقولك: أزيدٌ في الدار أم لا؟ ونحو ذلك. فكان القول بما يُؤَدِّي إلى ذلك ممتنعا. وبهذا الوجه يبطل أيضاً قول من جَوَّز أن يكون المحذوف هو المبتدأ. والرابع أن الكلام تامٌّ من غير تقدير محذوف، على تقدير أن يكون ((زيد)) مبتدأ خبرهُ ما قبله، فتكلُّف الحذفِ تكلُّف لما لا يُحتاج إليه. وأيضاً فَدعْوَى حَذْفٍ في موضعٍ لم يَظْهر فيه ذلك المحذوف/ مجردُ دَعْوَى من غير ... 554 حجة. والخامس أن ((نعم الرجلُ)) إنما هو في قُوَّة جزءِ كلام، وليس كلاماً مفيداً بوجه، فلابد من جزء آخر، لأن قولك: ((نعم الرجلُ)) في معنى: جامعُ المحَامِد الرجلُ، أو جَمَع محامدَ الرجلُ، فهو كلامٍ بلابُدٍّ، فافتَقر إلى جزء آخر، وهو المخصوص، فتقدير المحذوف نَقْضٌ للغرض، وجَعْلُ ما هو تام غيرَ تام. وأما قول ابن عصفور (1) فرُدَّ، زيادةً لما تقدم، بأن محصوله تكلُّف خبرٍ لمبتدأ قد وُجد معه ما يجوز أن يكون خبرهَ، ولُبعد هذا التقدير لم يذكر الناس هذا الوجه، وإلاَّ فقد كان ظَهر من حيث فهموا عن سيبويه أن هذا جوابُ مَنْ قال: مَنْ هو (2)؟ لأن جواب هذا إنما يكون فيه الاسم المذكور مبتدأ من حيث وقع السؤال بـ (مَنْ) عن خبر المبتدأ، وهي أيضاً

______ (1) وهو جواز أن يكون المخصوص مبتدأ محذوف الخبر. (2) انظر: الكتاب 2/ 177.

مبتدأ، وهو نظير قولك: مَنْ القائمُ؟ فتقول: زيدٌ، فزيدٌ مبتدأ، هذا هو الأظهر، ولكنهم استَقْبَحوا ما ذكرتُ من ذلك، فنَفَروا عنه. ورَدَّه المؤلفُ أيضاً بأن هذا الحذف ملتَزم، ولم نجد خبراً يُلْتَزم حذفُه إلا ومحلُّه مشغول، ليَسُدَّ الشاغلُ مَسَدَّه، كخبر المبتدأ بعد ((لَوْلاَ)) وهذا خلاف ذلك. وأما القول بالبدل فمردودٌ لوجهين، أحدهما أن من شأن البدل صحةَ الاستغناء عنه. وهذا لا يصحّ الاستغناءُ عنه إذا لم يتقدَّم ذكرهُ، أو لم يُعلَم. وهذا المعنى احتُجَّ على بعض أصحابنا، حيث ادَّعى في نحو (قَامَتْ هندُ) أن التاء هو الفاعل، وهو ضمير بارز، فأُلزِم أشياء. من ذلك أن يكون البدل لازماً في هذا النحو من غير أن يجوز الاقتصار على الفاعل وحده، ولا نظير لذلك، ولكنه التزمه. والثاني أن البدل من شرطه صحةُ وقوعه موقعَ المبدَل منه، وهذا ليس كذلك، إذ لا يستقيم أن يقال في (نعم الرجلُ زيدٌ): نعم زيدٌ. ومن هنا امتنع عند البصريين أن يكون ((بِشْر)) في قوله: أنشده سيبويه (1): أنا ابنُ التَّارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ عَلَيْهِ الطَّيْرَ تَرْقُبُه وُقُوعَا

______ (1) الكتاب 1/ 182، وابن يعيش 3/ 72، 74، وشرح الرضي على الكافية 2/ 234، 382، 395، والخزانة 4/ 284، والتصريح 2/ 33، والهمع 5/ 94، والدرر 2/ 153، والأشموني 3/ 87، والشعر للمرار الأسدي. وبشر هو بشر بن عمرو بن مرثد، قتله رجل من بني أسد. وترقبه الطير: تنتظر موته لتسقط عليه، لأنها لا تسقط على القتيل وبه رمق. ووقوعا: جمع واقع، خلاف الطائر.

بدلاً، لأنه لا يصح وقوعُه موقع ((الَبكْرِيِّ)) حسبما يُذكر في موضعه إن شاء الله. فالصحيح ما أشار إلى اختياره الناظم. فإن قيل: إن إجازة الإضمار قد صرح به سيبويه في قوله: كأنه قال: نعم الرجلُ، فقيل له: مَنْ هو؟ فقال: عبدُ اللهِ، إلى آخره (1). وأيضاً فالموضع موضع مدح أو ذم، فيَحْسُن فيه تكثيرُ الجمل. وأيضاً فالإضمار قد أجازه سيبويه، وفي إجازته لما أجاز حُجَّة. فالجواب أن سيبويه لم يذهب إلى إضمار. ومن تَأمَّل كلامه تَبَيَّن ذلك، فإنه قال: وأما قولهم: نعم الرجلُ عبدُ الله فهو بمنزلة: ذهب أخوه عبدُ الله، عَمل ((نعم)) في (الرجل) ولم يَعمل في (عبد الله) وإذا قال: عبدُ الله نعم الرجلُ فهو بمنزلة: عبدُ الله ذهب أخوه (2). فهذا ظاهر في أن /المخصوص مبتدأ، تقدَّم أو تأخر. ثم قال: كأنه قال: نعم الرجلُ، فقيل له: مَن هو؟ ... 555 فقال: عبدُ الله، وإذا قال: عبدُ الله فكأنه قيل له: ما شأنُه؟ فقال: نعم الرجلُ (3). فهذا ظاهر في أنه تفسير لما تقدم من التقرير الأول، كأنه يُبَيِّن احتياج المبتدأ إلى الخبر، والخبر إلى المبتدأ، لا أنه أراد أن الكلام على تقدير محذوف. والدليل على ذلك أنه لم يذهب أحدٌ ممن تقدم إلى أنه مبتدأ محذوفُ الخبر، وإن كان يُهمه كلامُ سيبويه. وأمَّا الترجيح بتكثير الجُمَل فإنما يكون ذلك بعد تسليم أن (نعم

______ (1) الكتاب 2/ 176. (2) نفسه 2/ 176. (3) نفسه 2/ 176.

الرجلُ) وحدهَ جملةٌ مستقلة، وليس كذلك. وإذا ثبت أن المخصوص مبتدأ خبرُه الجملةُ فلابد من رابط بينها وبينه، إعمالاً لقوله في ((باب الابتداء)) حيث ذكر الخبر: ومُفْرَداً يَأْتِي ويَأْتِي جُمْلَهْ حاويةً مَعْنَى الَّذِي سِيقَتْ لَهْ إلى أخره. والجملة هنا ليست هي نفسَ المبتدأ، فلابد فيها من رابط. ولم يَذكر هنا وجَه الرَّبط (فلابد أن يكون داخلاً تحت ضابطه هناك. وفي ذلك قولان، أحدهما أن الرجل (1)) لَمَّا كان اسمَ جنس شمل المخصوصَ وغيره، فحصل الربط بلك. وهذا هو المشهور والمتداوَل عند المُقْرِئين والمُعْربين. والثاني أن ((الرجل)) هو المبتدأ في المعنى، فلم يَحتج إلى رابط، لأن جزء الجملة إذا اتَّحدت بالمبتدأ لم تَفتقر إلى رابط، كما لو كانت الجملة هي المتَّحدة به معنى، نحو: هو زيدٌ قائمٌ، وقَوْلِي الحمدُ لِلَّهِ. وكِلاَ القولين صالح للدخول تحت قوله: ((حاويةً معنى الذي سِيقَتْ لَهْ)). وثَمَّ قولٌ ثالث، أن الكلام محمول على معناه، لأن معنى قولك: (زيدٌ نعم الرجلُ) زيدٌ هو الرجلُ الكاملُ، أو الرجلُ كلُّ الرجلِ، أو الممدوحُ، أو ما في معنى ذلك، فإن ((الرجل)) هنا ليس مدلوله جميعَ الجنس، أي الأشخاصَ المتعدِّدة، وإنما مدلوله ما في ذِهْنه من تصوُّر حقيقة الرجل الذي يُطلق على أشخاص كثيرة، لا أن الأشخاص الكثيرة هي بعينها ذلك المفهومُ بعينه. وهذا الرأي بَيَّنه المبرَّد وابن السرّاج وغيرهما (2)، وهو الذي ينبغي أن

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت). (2) المقتضب 2/ 140، وكتاب الأصول في النحو 1/ 131.

يُحمل عليه كلامُ من تقدَم، وإليه يشير القول الثاني، وهو رأي المؤلف رحمه الله. وليس هذا موضعَ بيان ذلك، إذ لم يتعرض له الناظم. وقد بَسط المسألةَ ابنُ الحاج فيما قيدَّه على ((مقرّب)) ابن عصفور. ثم قال رحمه الله تعالى: وإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بهِ كَفَى كالعِلْمُ نِعمَ المُقْتَنى والمُقْتَفَى يعني أن المخصوص يُحذف للعلم به، فإن تقدم قبل (نعم، وبئس) ما يُشعر به، ويُعْرَف به اكتُفِيَ به عن ذكره بعد (نعم، وبئس). فإذا قلت: (نعم الرجلُ زيدٌ) فلابد من ذكره هنا لعدم الدلالة عليه لو حُذف. فإن قلت: (قَدِمَ زيدٌ ونعم الفاضلُ) جاز الحذف للدلالة عليه. ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّا/ وَجَدْنَاهُ صَابِراً نَعْمَ الْعَبْدُ (1)} وقوله: {ولَقَدْ نَادَانَا ... 556 فَلِنعْمَ المُجِيبُونَ (2)}، {والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْم المَاهِدُوَن (3)} وهو كثير جدا. ومَثَّل ذلك بقوله: نعم المُقْتَنَى والمُقْتَفَى. والمُقْتَنَى: (مُفْتعَل) من الاقتناء، وهو الادِّخار والاتِّخاذ لنفسك، يقال: قَنَوْتُ الغنَم وغيرَها، قُنْوَةً وقِنْوَةً، وقنيتُها، قُنْيَةً وقِنْيَةً، واقتَنَيْتُها: اتَّخذتُها. والمُقْتَفَى أيضا: (مُفْتَعَل) من الاقتضاء، وهو اتِّباع الأثر، يقال: قَفُوتُ أثرَه قَفْواً، واقْتَفَيتُه مثلُه، وقَفَّيْتُ على أَثَره بفلان، أي أَتْبَعتُه

______ (1) سورة ص/ آية 44. (2) سورة الصافات/ آية 75. (3) سورة الذاريات/ آية 48.

إيَّاه. والمعنى في المثال: العلمُ نعم المالُ المتَّخَذ، والإمامُ المتَّبع الهادِي إلى سبيل الرشَّاد. وقد ظهر شمولُ كلامه لنحو: زيدٌ نعم الرجلُ، وأنه في دلالته على المخصوص كقوله: رأيت زيداً ونعم الرجلُ. وفي ذلك بيان أن (نعم الرجلُ) ليس خبرا عن ((زيد)) المتقدِّم، وأنه ليس هو المخصوص، لقوله: ((وإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ به كَفَى)) بل المخصوص محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه، فكأنه في تقدير: زيدٌ نعم الرجلُ هو. وظاهر كلام النحويين خلافُ هذا. ألا ترى أن سيبويه جعل قوله: ((نعم الرجلُ زيدٌ)) كقولك: ذَهب أخوه عبدُ الله، وقوله: زيد نعم الرجلُ، كقولك: عبدُ الله ذَهب أخوه (1). فظاهر هذا أنه الأصل، كما أن ذلك كذلك في: عبدُ الله ذَهب أخوه. وعلى ذلك النحويون، بل حكى شيخُنا الأستاذُ رحمه الله (2) الاتفاقَ على هذا. والمنصوص عليه في ((التَّسهيل)) (3) موافقةُ الناس. فالحاصل أن ظاهر كلامه هنا مخالفةُ ما اتُّفِق عليه، وهو ممنوع. فإن قيل: قد يقال: إنه أراد بقوله: ((كَفَى)) أنه المخصوص {تقدم، فيكون مبتدأ خبرُه ما بعده.

______ (1) الكتاب 2/ 176. (2) هو أبو عبدالله محمد بن علي بن أحمد الخولاني، يعرف بابن الفخار وبالألبيري النحوي (754 هـ) وتقدمت ترجمته. (3) انظر: ص 127.

فالجواب أن هذا لا يصح لأمرين، أحدُهما أنه قد أَعرب المخصوص (1)] إذا تأخَّر على وجهين، فاقتضى أنه إذا تقدَّم يُعرب على الوجهين، ولا قائل بهذا. والثاني أن من الصُّور الداخلة تحت كلامه ألاَّ يكون المخصوص مبتدأ، نحو: {إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْم الْعَبْدُ (2)} وهو إذ ذاك ليس المخصوصَ اصطلاحا، بل هو مقدَّر بعد الفاعل، وإذا كان كذلك ظهر أنه مخالف للناس في هذا، واقْتَضى جوازَ بُروُز المخصوص بعد الفاعل في نحو: زيدٌ نعم الرجلُ، فيقال: زيدٌ نعم الرجلُ هو. وكلام النحويين يَقْتَضي المنعَ منه، فتأمَّل هذا الموضع ففيه إشكالٌ ونَظَر. والله أعلم بمراده. واجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ واجْعَلْ فَعْلاَ مِنْ ذِي ثَلاثَةٍ كنِعْمَ مُسْجَلاَ لما أَتَمَّ الكلام على (نعم، وبئس) بحسب ما يَليق بهذا المختصر رجع إلى ما وَعد به في التَّرجمة، من ذِكرْ ((ما جَرى مَجراهما)) فأتى أولاً بلفظ (سَاءَ) لكثرة استعمالها وشُهرتها في القيام مقام (بئس). ويعني أن ((سَاءَ)) تَجري مَجرى (بئس) في حكمها المذكور في هذا الباب. ولما أَطْلق القولَ/ في جَعْلها مثلَها، ولم يخص ذلك بحكم دون حكم اقتضى أن ... 557 المراد إجراؤها في معناها أولاً، وفي جميع أحكامها المذكورة ثانياً.

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (2) سورة ص/ آية 44.

أما جَريانُها مَجراها في المعنى فهو الأصل لجريَان أحكامها عليها. وأصل (سَاءَ) فَعَلَ من السّوء، ضد السرور، سَاءَهُ الأمُر يَسُوءُه، إذا أحزنه، ثم صُيِّر إلى معنى (بئس) لإنشاء الذم، فترتَّب على حصول هذا لمعنى أن جرت مَجراها في جميع أحكامها، وذلك صحيح، فإنك تقول: ساء الرجلُ زيدٌ، وساءت المرأةُ هندُ، كما تقول: بئس الرجلُ زيدٌ، وبئست المرأةُ هندُ. وتقول: ساء رجلاً زيدٌ، وساءت امرأةً هندُ، كما تقول: بئس رجلاً زيدٌ، وبئست امرأةً هندُ. وفي القرآن العزيز: {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيَاتِنَا (1)} أي مَثَلُ القوم. وتقول: ساءَ مَا فَعَلْتَ، كما تقول: بِئْسَ مَا فَعَلْتَ، قال تعالى: {سَاءَ ما يَحْكُمُونَ (2)} {سَاءَ ما يَعْمَلُونَ (3)}. ولا يَختلف الضمير إذا أُضمر فيها منا لا يَختلف في (بئس) بل تقول: ساء رجلَيْن الزيدان، وساء رجالاً الزيدون، وساء امرأتَيِنِ الهندان، وساء نساءً الهنداتُ، وما أشبه ذلك. وفي إعراب المخصوص الوجهان، من الابتداء، أو خبرِ مبتدأ محذوف. وإذا تقدَّم ما يُشعر به كَفَى نحو: زيدٌ ساءَ الرجلُ، وزيدٌ ساءَ رجلاً، ورأيتُ زيداً وساءَ الرجلُ، ونحو ذلك. وهكذا سائر الأحكام. ثم قال: ((واجْعَلْ فَعْلاَ مِنْ ذِي ثلاثةٍ كنِعْمَ)) يعني أنه يجوز أن يُجعل في الأحكام ما صِيغَ من الأفعال على (فَعُلَ) بضم العين، وليس ذلك مختصاً بَفَعْل دون فعل، بل هو جائز قياساً في كل ثلاثي صِيغَ على (فَعُلَ).

______ (1) سورة الأعراف/ آية 177. (2) سورة الأنعام/ آية 136. (3) سورة المائدة/ آية 66.

وجَعْلُ هذا الفعل المصُوغ على (فَعُلَ) كـ (نِعْم) يريد به ما أراد بـ (ساء) من جَعْله يؤدِّي إنشاءَ المدح والذم كنِعْم وبِئْس أولاً، ثم إجرائِه مُجْراه في أحكامه اللفظية كما تقدم في (ساء) فتقول: حَسُنَ الرجلُ زيدٌ، وحَسُنَ رجلاً زيدٌ، وحَسُنَ ما تَصنع، كما تقول: نعم الرجلُ زيدٌ، ونعم رجلاً زيدٌ، ونعم ما تَصنع. ومثله: عَظُم الرَجلُ زيدٌ، وحَلُمَ الرجلُ زيدٌ، وكَبُرَ العملُ قيامُ زيدٍ، وصَغُرَ رجلاً زيدٌ. هكذا سائر الأفعال تجري على هذا الحكم وعلى غيره مما تقدم. ومنه قول الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ (1)} وقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (2)}. و((ذو الثَّلاثة)) هو الفِعْل، والثلاثُة: الحروفُ التي صِيغ منها الفعل. والجَعْل بمعنى التَّصْيير، أي صَيِّرْ هذا البناءَ في القياس كـ (نعم) و ((مِنْ ذِي ثَلاثة)) معمولٌ لاسم مفعول (3) هو حال من (فَعُلَ) أي مَصُوغاً من فعلٍ ذي ثلاثة، أو يراد بالجَعْل معنى الصَّوْغ كما تقول: جعلتُ الفِضَّةَ خَلْخَالاً، فيتعلَّق المجرور بالجَعْل على ذلك المعنى. فيقَتضي أنه يجوز أن يُبْنى (فَعُلَ) من كل فعل ثلاثي كان على (فَعَلَ، أو فَعِلَ، أو فَعُلَ) فتقول: لقَضُو الرجلُ زيدٌ، وكَمُلَ رجلاً زيدٌ، وكَسُبَ الرجلُ

______ (1) سورة الكهف/ آية 5. (2) سورة الكهف/ آية 31. (3) في جميع النسخ ((معمول لاسم فاعل)) والصواب ما أثبته بدليل انه قدره فيما بعد بقوله: ((أي مصوغا)).

عبدُ الله، وضَرُبَ رجلاً زيدٌ، ونَعُمَ الرجلُ زيدٌ، [وبَؤُسَ الرجلُ زَيدٌ (1)] وما كان/ نحو ذلك. 558 وذلك صحيح. ومن كلام العرب: لقَضُوَ الرجلُ، بمعنى: ما أَقْضَاهُ، أو نِعْم القاضِي هُوَ، ورَمُوَتِ اليدُ يَدُهُ (2). وتحرَّز بذي الثلاثة من ذي الأحرف الزائدة على الثلاثة، كان ما زاد أصلياً أو زائداً، فإنه لا يُبْنى منه (فَعُلَ) لمل يلزم من هَدْم البِنْية. و((مُسْجَلاً)) معناه: مطلقاً من غير تقييدٍ بأمر، ولا اختصاصٍ بحال دون حال، بحكمٍ من الأحكام دون آخر. وأَصْل الإسجال الإرسالُ، يقال: أَسْجَلْتُ كلامِي، أي أرسلتُه إرسالاً، والمُسْجَل: المبذول المباح الذي لا يُمنْعَ من أحد. وعلى الناظم هنا سؤالٌ من ثلاثة أوجه، أحدها أنه نَصَّ على أن (فَعُلَ) يصير في الحكم مثل (نِعْمَ) مطلقاً من غير تقييد، فهو إذاً مثلُه في أحكامه اللفظية والمعنوية. أمَّا في الأحكام اللفظية فكما قال. وأما في الأحكام المعنوية فقد قالوا: إن (فَعُلَ) هذا المذكور يُعطي معنى التعجُّب، فقولك: حَسُنَ الرجلُ زيدٌ، في معنى: ما أَحْسَنَهُ، ولَقَضُوَ الرجلُ زيدٌ، في معنى: ما أَقْضَاهُ، وهكذا سائر المُثُل، ومعنى التعجب خلافُ معنى إنشاء المدح، فكيف أَطْلق القولَ في جَرَيان (فَعُلَ) مجرى (نِعْمَ)؟ والجواب عنه أن كَوْنَ (فَعُلَ) لإنشاء المدح والذم صحيحٌ ثابت، وهو

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (2) أي ما أرماها!

الذي يُعطيه كلام الناظم. وأما معنى التعجُّب فداخلٌ على ذلك المعنى، إذ لا تَنَافُرَ بينهما، كما يَدخل معنى التعجُّب على معنى القَسَم والاستفهام في قوله (1): * لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ * وقال الأعشى (2): * يَا جَارَتَا مَا أَنْتِ جَارَهْ * ونحو ذلك، من غير أن يَتَناقض المعنيان، فكذلك هذا. والسؤال الثاني أن ظاهر كلامه يُعطي أن البناء من (فَعُلَ) إنما يكون على معنى (نِعْمَ) لا على معنى (بِئْسَ) وأما معنى (بِئْسَ) فمختصُّ بـ (سَاءَ) المتقدمة الذكر، لأنه أورد الحكم عليها في مورد التقسيم فقال: اجْعَلْ (سَاءَ) كبِئْسَ، وكُلَّ مبنيِّ من فعل ثلاثي كنِعْمَ، فالمفهوم من هذا أن (سَاءَ) كما اختصَتَّ بـ (بئس) كذلك يَختص (فَعُلَ) بـ (نِعْمَ). وهذا غير صحيح، بل يجري (فَعُلَ) مَجرى (نِعْمَ) ومجرى (بِئْسَ) فكما تقول: حَسُنَ رجلاً زيدٌ، بمعنى: نِعْمَ حُسْناً حُسْنُ زيدٍ، أو نِعْمَ رجلاً زيدٌ، تريد: لحُسْنِه، كذلك تقول: خَبُثَ الرجلُ زيدٌ، بمعنى: بئس الخُبْثُ خُبْثُ زيدٍ، أو بئس الرجلُ زيدٌ، تريد: لخُبْثِه. وكذلك: لَؤُم الرجلُ زيدٌ، ودَنُؤَ رجلاً زيدٌ، وما أشبه ذلك، على معنى (بئس)

______ (1) هو أبو ذؤيب أو مالك بن خالد الخناعي أو أمية بن أبي عائذ الهذليون، وقد تقدم الاستشهاد به في باب ((التعجب)) وعجزه: * بمُشْمَخِرٍّ به الظيَّانُ والآسُ * (2) تقدم الاستشهاد به في باب ((التعجب)) وصدره: * بَانَتْ لتَحْزُننَا عَفَارَهْ *

فليس معنى (نِعْم) في (فَعُلَ) بمتعيِّن، بل هما يشتركان فيه قياسا، فظهر أن ظاهر كلامه غيرُ مستقيم. والجواب أن قوله: ((كَنِعْمَ)) لا يَعني بع عَيْنَ المثال، إنما يريد به بابَ ((نعم)) أَجْمَعَ، فكأنه حَذف المصافَ لفهم المعنى. وبابُ ((نعم)) لا يَخُص ((نعم)) وحدها دون ((بئس)). وإنما خَصَّ أولاً (سَاءَ) لكثرة استعمالها في نَفْسِها بمعنى (بئس) وإذا أمكن حَمْلُه على هذا الوجه لم يَبْقَ إشكال. وعلى هذا التقرير أتى في ((التسهيل)) بَفَصْل (فَعُلَ) حيث قال: ونُلْحَق (سَاءَ) بـ (بئس)، وبها وبـ (نعم) فَعُلَ إلى آخره (1). والسؤال الثالث أن صبغة (فَعُلَ) إنما تُبْنَى مما يُبْنَى منه فعلُ التعجُّب، فلا يُبْنَى/ ... 559 من أفعال الألوان والخِلَق الثَّابتة والعيوب، فلا تقول: شَهُبَ الرجلُ زيدٌ، ولا مات رجلاً زيدٌ، ولا هَلُكَ الرجلُ خالدٌ، ولا ما أشبه ذلك. وكذلك لا يُبْنَى من فعلٍ غير متصرِّف، ولا من مبنيّ للمفعول، فإذاً لابد أن يُبْنَى من فِعْل ثلاثي تامٍّ متصرِّف قابلٍ معناه للكثرة، غير مغيَّر عن اسم فاعله بـ (أَفْعَلَ فَعْلاَء) ولا مبني للمفعول. والناظم لم يذكر من هذه إلا البناء من الفعل الثلاثي، وذلك إخلال، يبيِّن هذا أن (فَعُلَ) يُعِطي معنى (ما أَفْعَلَهُ) فلابد أن يكون بناؤه مما يصح فيه (ما أَفْعَلَهُ) والظاهرُ ورودهُ، ولا أجد الآن جواباً عنه. وهو أيضا وارد عليه في ((التسهيل)) إذ لم يَزد على ما هنا إلا التنبيه

______ (1) ص 128، وبقية العبارة ((موضوعا أو محَّولا من فَعَل أو فَعِل، مضمَّنا تعجبا)).

على تضمين معنى التعجب، وذلك لا يشعر باشتراط شروط التعجب فقال: وتلحق (ساء) ببئس، وبها وبنعم (فَعُل) مَصُوغاً أو محمولاً من (فَعَلَ أو فَعِلَ) مضمَّنا تعجبا (1). واعلم أن هذا الاستعمال في (فَعُلَ) غير لازم، فإنك تقول: حَسُن زيدٌ حُسْناً، وما حَسُنَ وجهُه، ولقد قًبُح قُبْحاً. وما أشبه ذلك. وإنما يلزم في المحَّول من (فَعَلَ، أو فَعِلَ) إذ لا تقول في (كَسُبَ رجلاً زيد): كسُب زيد، وكَسُبْتَ تكسُبُ كَسْباً، وكذلك في (فَعِلَ). فإن قلت: فإن ظاهر كلامه أن هذا الاستعمال غير لازم، وأنت تقول هو لازم، فما وجُه هذا؟ وذلك أنه قال: اجعل (ساء) كبئس، أي إن (ساء) المستعملة في قولهم: (ساءَهُ الأمُر يَسُوءُه) يجوز أن يُقصد بها قَصْدَ (بئس) فتجري مَجراها. وكذلك صيغة (فَعُلَ) من فعل ثلاثي على (فَعُلَ، أو فَعَلَ، أو فَعِلَ). أما (فَعُل) فلا كُلْفة فيه إلا اعتقاد المعنى فيه، فقد صَحَّ فيه الجواز في اللفظ الواحد باعتبارين. وأما (فَعَلَ، وفَعِلَ) فبالتحويل (إلى (فَعُل) فإذا اعتبرت ما بعد التحويل فلا يسوغ فيه الاستعمال الأصلي (2)) (ولا يسوغ فيه إلا استعمالُ (نعم، وبئس) وإن اعتبرتَ ما قبله فليس فيه إلا الاستعمال الأصلي (3)). وإذا اعتبرتَ الأمر في الجملة جاز فيهما، أعني في (فَعَل) و (فَعِل)

______ (1) نفسه 128. (2) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س). (3) ما بين القوسين ساقط من (س).

الاستعمالان معا. فبهذا الاعتبار الأخير أطلق القول بالجواز، فكيف يُطلق القولَ بلزوم معنى (نعم، وبئس) فيهما؟ فالجواب أن اللزوم لم يقل به إلا باعتبار اللفظ بعد التحويل كما تقدم تقريره في السؤال، فلا إشكال. والخطب يسير. ومِثْلُ نِعْمَ حَبَّذا الفَاعِلُ ذَا وإنْ تُرِدْ ذَمَّا فَقُلْ لا حَبَّذا وهذا أيضاً من الأفعال الجارية مجرى (نعم وبئس) وذلك (حَبَّذا) يعني أن (حَبَّ) هذا الفعل المسند إلى (ذا) والمقارن لها- جازٍ في أحكامه مَجرى (نعم) في أحكامها أيضا، وهذا على الجملة. وأما إذا لم تقارنه (ذا) فله حكم آخر يذكره. فمِنْ جملة مماثلةِ (حَبَّذَا) لنعم جريانُها مجراها في إنشاء المدح، وأداء معنى التعجب، فإن (نعم) تؤدِّي هذا المعنى. وكذلك تجري مجراها في غير هذا من الأحكام المذكورة، إلا ما يَذكره من المخالفة. ثم إن قوله: ((وَمِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا)) يشير إلى أنها أيضاً مثلها في الفِعْليَّة، ويدل على ذلك قوله: ((الْفَاعِلُ ذَا)) لأن الفاعل لا يكون فاعلاً إلا لفعلٍ أو ما جرى مجراه. و ((حَبَّ)) ليس جارياً/ 560 مجرى الفعل، فهي إذاً

______

فِعْل. وحصل بهذا أن مذهبه هنا فِعْليَّةُ (حَبَّ) لا اسميتُها. والمسألة مختلَف فيها على أقوال أربعة: أحدها ما ذكَر الناظم أنها فِعْل و (ذا) فاعل به. وإليه ذهب ابن كَيْسان والفارسي وابن خروف وجماعة (1). والثاني أن (حَبَّذَا) أصلها الفعلُ والفاعل، لكن صُيِّرا بالتركيب اسماً واحداً مبتدأً خبرُه ما بعده، وليست (حَبَّ) بباقيةٍ على ما كانت عليه من الفِعْلية. وهو رأي المبّرد وابن السَّراج والسَّيرافي وابن جِنِّي والزجَّاجي، وجمهور المتأخرين كالشَّلَوْبين وتلامذته (2). والثالث أن (حَبَّذَا) بجملتها فِعْلٌ، فاعله المخصوصُ بعد، صار (حَبَّ) و (ذا) بالتركيب فعلاً لا اسماً، وهو مذهب الأخفش وظاهر الجَرْمي في ((الفرخ)) والزُّبَيْدي (3). والرابع أن (حَبَّ) فعل، فاعله المخصوص، و (ذا) صِلةٌ، يعني زائدة، لكن لَزِمَتْ، وهولدُرَيوِد (4). والكلام في الترجيح طويل. وقد استدَلَّ في ((الشرح (5))) على ما ذهب إليه هنا بأوجه: أحدها أن الخصوم مُقِرُّون بأن (حَبَّذَا) في الأصل فعل وفاعل، وذلك فيما

______ (1) انظر: الأشموني 3/ 40. (2) المقتضب 2/ 143، والأصول في النحو 1/ 135، والأشموني 3/ 40. (3) انظر: ارتشاف الضرب (1036). (4) هو عبدالله بن سليمان بن المنذر بن عبدالله بن سالم الأندلسي القرطبي النحوي، الملقب بدَرْوَد، وربما صغر فقيل: دُرَيْوِد. معروف بالنحو والأدب، شرح الكسائي، وله شعر كثير. وكان أعمى (ت 325 هـ) [طبقات النحويين واللغويين 298، بغية الوعاة 2/ 44]. (5) شرح التسهيل لابن مالك (ورقة: 142 - أ).

قبل التركيب وهما بعد التركيب لم يتغيرا معنى ولا لفظا، فوجب ألا يتغيرا حُكْماً، وأن يَبْقيا على أصلهما، كما وجب بقاء (لا) وما رُكِّبَ معها على ما كانا عليه من حَرْفِيَّة (لا) واسميَّة اسمها، مع أنهما قد عَرض لهما التركيبُ والصَّيْرورةُ كالشِيء الواحد. والثاني أنه لو كان تركيبهما مُزِيلاً لهما عن حكمهما الأصلي لكان ذلك لازماً كلزوم (ما) لإذْ في (إِذْمَا) ومعلوم أن (ذا) مع (حَبَّ) ليس كذلك، إذ يجوز أن تُفصل (ذا) من (حَبَّ) كقوله عبدالله بن رواحة رضي الله عنه (1): * فَحبَّذا رَياً وحّبَّ دِينَا * يريد: وحَبَّذَا دِيناً. والثالث أنه لو كان كذلك لم يجز أن تدخل (لا) على (حَبَّذَا) إلا مع التكرار، فلم يكن ليُقال: لا حَبَّذَا زيدٌ حتى تقول: ولا المَرْضِيُّ، كما يلزم أن تقول: لا الممدوحُ زيدٌ ولا المَرْضِيُّ، ولكن ذلك غير لازم اتفاقا، فليس (حَبَّذَا) اسماً أصلا. والرابع أنه لو كان كذلك لدخلت على (حَبَّذَا) نواسخُ الابتداء، كما تدخل على سائر المبتدآت، فكنت تقول: إِنَّ حَبَّذَا زيدٌ، وكان حَبَّذَا زيداً، ونحو ذلك، وهو فاسد لا يقال باتفاق، فقد بطل أن يكون مبتدأ مع صحة كونه فعلاً وفاعلاً. وأما المذهب الثالث (2) فهو ضعيف جدا، لأنه مؤسَّس على دعوىً لا دليل عليها. وأيضاً ففيه تغليبُ أضعف الجزءين وهو الفعل، على أقواهما وهو الاسم.

______ (1) الهمع 5/ 46، 48، الدرر 2/ 116، الأشموني 3/ 42، المساعد لابن عقيل 2/ 144، وشرح الكافية الشافية لابن مالك 1116، وقبله: باسم الإله وبه بَدِينَا ولو عبدنا غيره شَقِينا (2) وهو أن (حبذا) بُرمَّتها فعل، فاعله المخصوص بالمدح.

وذلك خلاف القياس. وأيضاً ففيه عدمُ النَّظير، وهو تركيب فعل واسم، إذ لا يوجد في كلام العرب مثله، فظهر أن الأمر ليس كما زعم ذلك القائل. وأما الرابع (1) فدعوى أيضاً مجرَّدة. والذي استدل به قائلُه قولُه: * فَحَبَّذَا رَباًّ وحَبَّ دِينَا * وهو ظاهر فيما تقدَّم، لا فيما قال هذا القائل. هذا مقدارُ ما يُتَأَنَّس به في هذا الموضع. وقد قَيَّد شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن الفخار رحمة الله عليه (2) في هذه المسألة/ جزءا ... 561 رويناه عنه، وقَيَّدناه من خطه، ناظر فيه ابنَ مالك في احتجاجاته، لا حاجة إلى إيراده هنا. ثم قال: ((الفاعلُ ذَا)) يعني أن باب (حَبَّذَا) خالفَ بابَ (نعم) في أن فاعل (حَبَّ) لا يكون إلا لفظ (ذا) الذي هو إشارة إلى الواحد المذكَّر القريب، بخلاف (نعم) فإن فاعلها يكون أحدَ ثلاثة أشياء كما تقدَّم. واقتضى هذا الإلزامُ أن لفظ (ذا) لا يَختلف بحسب التثنية والجمع والتأنيث، بل تقول: حَبَّذَا زيدٌ، وحبذا الزيدان، وحبذا الزيدون، وحبذا هند، وحبذا الهندان، وحبذا الهندات. ومن ذلك قول جرير (3):

______ (1) يعني الرأي الذي يقول: إن (حب) فعل، فاعله المخصوص، و (ذا) صلة زائدة. (2) تقدمت ترجمته. (3) ديوانه 595، وابن يعيش 7/ 140، والمغني 558، والهمع 5/ 45، و 47، والدرر 2/ 115، واللسان (حبب) والبيتان من قصيدة لجرير يهجو بها الأخطل. والريان: جبل عظيم ببلاد طئ. والنفحة هنا: الطيب الذي ترتاح له النفس. واليمانية: نسبة إلى اليمن. وقبل: جهة أو ناحية.

يَا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ وحَبَّذَا ساكنُ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَا وحَبَّذَا نَفَحاتٌ من يَمَانَيِةٍ تَأْتِيكَ من قِبَلِ الرَّيَّانِ أَحْيَانَا وبعد هذا بيت الكتاب (1): هَبَّتْ جَنُوباً فَذِكْرَى مَا ذَكَرْتكُمُ عِنْدَ الصَّفَاةِ التي شَرْقِيَّ حَوْرَانَا وقال الراجز (2): يَا حَبَّذَا القَمْراءُ واللَّيُّل السَّاجْ وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاَءِ النَّسَّاجْ وأنشد المؤلف (3): حَبَّذَا أنتَما خَلِيلَيَّ إنْ لَمْ تَعْذُلاَنِي في دَمْعِيَ المُهْرَاقِ وذلك كثير. فعلى هذا لا يقال: (حَبَّ زيدٌ) ولا (حَبَّ الرجلُ) إلا قليلا، سيُنَبِّه عليه بعد،

______ (1) الكتاب 1/ 222، 404. والصفاة: الصخرة الملساء، وحَوْران: بلد بالشام، يقول: كلما هبت الرياح من قبل الجنوب ذكر أهله وأحبابه لهبوبها من ناحيتهم. وقد استشهد به سيبويه على أن ((شرقيَّ)) هنا ظرف ولا مناسبة له في هذا الباب! . (2) الخصائص 2/ 115، وابن يعيش 7/ 139، 141، واللسان (سجا) ونسبه للحارثي. والقمراء: الليلة المنيرة بضوء القمر. والليل الساجي: الساكن الهادئ. والملاء: جمع مُلاءة، وهي الملحفة أو الإزار. شبه الطرق وقد سطع نور القمر عليها بخيوط ملاءة بيضاء قد نسجت. (3) الهمع 5/ 45، والدرر 2/ 115. وعذله يعذُله- بكسر اللام وضمها- لامه. والمهراق: المصبوب.

بل التزمت العرب هنا الإتيان بـ (ذا). وكذلك لا يقال: حَبَّذِي هندُ، ولا حَبَّذان الزيدان، ولا: حَبَّ أوُلاءِ الزيدون، ولا ما أشبه ذلك حسبما ينبَّه عليه. ثم قال: ((وإنْ تُرِدْ ذَمَّا فَقُلْ لاَ حَبَّذَا)) هذا أيضاً مما خالف فيه هذا البابُ بابَ (نعم) وهو أن (حَبَّذَا) للمدح كـ (نعم) فإذا أريد الذمُّ فليس له فعل يشاركه في حكمه يُعْطِي معنى الذم، كما كان لـ (نعم) مشارك في ذلك، وهو (بئس) بل استَغنت عنه العرب بإدخال حرف (لا) على (حَبَّذَا) فإذا أرادت الذمَّ قالت: لا حَبَّذَا زيدٌ. وأنشد المؤلف (1): أَلاَ حَبَّذَا أَهْلُ المَلاَ غَير أَنَّهُ إذَا ذُكِرَتْ فَلاَ حَبَّذَا هِيَا فإن قيل: إن الناظم أتى بـ (ذا) رًوِيَّا في البيتين معا، وذلك هو الإيطاءُ المعَيب (2)، وليس ذلك من عادته. فالجواب أن الأمر ليس كذلك لوجود المخالفة بين (ذا) الأولى والثانية، وذلك من وجهين، أحدهما أن (ذا) في الأولى اسم لـ (ذا) المشار بها في (حَبَّذَا) لا المشار بها، فهي كـ (زيد) في قولك: زيدٌ ثلاثيُّ الحروف، فـ (زيد) الواقع على الشخص، لا الاسمُ الواقع على الشخص، فاختلفا، لأن أحدهما اسم اللفظ، والآخر اسم المعنى.

______ (1) البيت لذي الرمة، ديوانه 675، وينسب أيضا لكنزة أم شملة، من قصيدة قالتها في مية صاحبة ذي الرمة، وهو من شواهد الهمع 5/ 51، والدرر 2/ 117، والتصريح 2/ 99، والأشموني 3/ 40، والعيني 4/ 12. والملا: المتسع من الأرض، والصحراء، وموضع بعينه. (2) الإيطاء هو اتفاق القوافي في اللفظ والمعنى، وهو من عيوب القافية إذا تقارب، فإن تباعد سهل، مثل أن يأتي بعد سبعة أبيات فأكثر.

والثاني أنا لو سلَّمنا أنهما شِيء واحد لم يكن ثَمَّ إِيطاءٌ لأنهما قد اختلفا بالإفراد والتركيب، فـ (ذا) في الأول مفردة، وفي الثاني مركبة مع (حَبَّ) وذلك اختلافُ يُعتبر في القوافي مثلُه، فلا يكون إيطاء. ثم قال: وأَوْلِ ذَا المَخْصُوصَ أَيَّا كانَ لاَ تَعْدِلْ بِذَا فَهْوَ يُضَاهِي الْمَثَلاَ (ذا) مفعول أَوَّلُ لـ (أَوْلِ) والمفعول الثاني المخصوص، وليس ((المخصوصَ)) تابعَ (ذا). ويريد أن ((ذا)) لازم مع (حَبَّ) على هذا اللفظ في كل حال. فإذا أتيت بالاسم المخصوص، وهو المخصوص بالمدح/ أو الذم، فاجعله والياً لـ (ذا) ملاصقاً له بعده، ولا تَحْفَل ... 562 بكون المخصوص إذا أتيتَ به مفرداً مذكرا على مطابقة (ذا) بل تأتي به كيف كان، من إفراد أو تثنية أو جمع، أو تذكير أو تأنيث، مع بقاء (ذا) على لفظ الإفراد والتذكير، لا تَعْدِلْ به غيَره، فإنه يشبه المثلَ السائر الذي لا يغيَّر عن حالته في الاستعمال الأول. وقد تضمَّن هذا الكلام ثلاثةَ أمور، أحدها لزومُ كون المخصوص والياً لـ (ذا) بعده، فلا يقع قبله ولا بعده مفصولاً منه. وأما كونه لا يقع قبله فلا تقول: حَبَّ زيدُ ذَا، لأن (ذا) مع (حَبَّ) كالشيء الواحد، ولا تقول أيضاً: زيدُ حَبَّذَا، كما تقول: زيدُ نعم الرجلُ، لأن (حَبَّذَا فلانُ) جارٍ مَجرى المثَل كما قال الناظم. قال ((الشرح)) (1): وقد أغفل أكثر النحويِّين التنبيهَ على امتناع

______ (1) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 142 - أ).

تقديم المخصوص في هذا الباب، وهو من المهمَّات. قال: وتَنَبَّه ابنُ بابْشَاذ (1) إلى التنبيه عليه، لكن جعل سبب ذلك خَوفَ تَوهُّمِ كونِ المراد من (زيدٌ حَبَّذَا) زيدٌ أحَبَّ هذا. قال: وتوهُّم هذا بعيدٌ، فلا ينبغي أن يكون المنعُ من أجله. ثم عَلَّل بجرَيانه مَجرى المثَل، فلا يُعْدَل عن لفظ السابق في أصل الاستعمال، فلا يغيَّر بالتقديم والتأخير ولا بغير ذلك كما يأتي. وأمَّا كونه لا يقع بعده مفصولاً منه فذلك تنبيهٌ على أن نواسخ الابتداء لا تدخل على المخصوص ههنا، فإن من ضرورة دخولها أن تَفْصل بينه وبين (ذا) فلا تقول: حَبَّذَا كان زيدٌ، كما نعم الرجلُ كان زيدٌ، ولا حَبَّذَا علمتُ زيداً، كما تقول: نعم الرجلُ علمتُ زيداً. وكذلك ما أشبهه. وفيه أيضاً تنبيهٌ آخر على أن التمييز أو الحال إذا ذكر مع (حَبَّذَا) يجب تأخيره عن المخصوص، فلا يتقدم عليه، فلا يقال: حَبَّذَا رجلاً زيدٌ، ولا حَبَّذَا عالماً زيدٌ. وهذا رأي حكاه في ((الَّتْذكرة)) الفارسيُّ عن الكوفيين، أنهم لا يجيزون: حَبَّذَا رجلاً زيدٌ. ونَصَّ الجَرْمي على قبح ذلك إذا أُعرب المنصوب تمييزاً، لكن هذا منه بناءً على أن المخصوص هو الفاعل، و (حَبَّذَا) فِعْل، كما تقدم النقل عنه. وهذا الرأي، إن كان قَصَده، مخالفُ لجمهور البصريين، فإنهم يُجيزون ذلك كله. وله وجهُ من النظر وإن كان الفارسي قد قال: لا وجهَ له عندي، وذلك أن المنصوب إمّا أن يكون حالاً أو تمييزاً، فإن كان حالاً فإمّا أن يكون صاحبهُ

______ (1) هو أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي المصري، أحد الأعلام في النحو وفنون العربية، استخدم في ديوان الرسائل، وكانت له حلقة علم بجامع عمرو بمصر، ومن تصانيفه شرح جمل الزجاجي والمحتسب في النحو، وتعليق الغرفة في النحو أيضا (ت 469 هـ) بغية الوعاة 2/ 17.

(ذا) أو المخصوصَ، فإن كان صاحبه المخصوصَ فلا ينبغي التقديم، لأن المخصوص إمّا مبتدأُ خبرهُ ما قبله، والحال لا يتقدم على المبتدأ. وإمّا خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، فكذلك أيضاً، لزن العامل مَعْنىً، والعامل المعنويُّ لاَ يتصرف في معموله. وإن كان صاحبه (ذا) فغير لائق، لأن (ذا) مبهَم محتاج إلى التفسير أكثرَ من احتياجه إلى الحال، فلا فائدة في انتصاب الحال عنه، وهو غير معروف، كما ضَعُف انتصابُ الحال عن النكرة لعدم الفائدة. وإن/ كان تمييزاً فإنَّما يصلح تمييزاً لـ (ذا) لا للمخصوص. وعند ذلك ... 563 لا ينبغي أن يَلِيه وإن كان تمييزاً له، قياساً على التمييز في (نعم، وبئس) إذا قلت (1): * فَنِعْمَ الزَّادُ أَبِيكَ زَادَا * وما أشبه ذلك، لأن عامة السماع على تأخير التمييز عن المخصوص في باب (نعم) فكذلك ينبغي هنا لاتحاد البابين في المعنى وكثير من الأحكام. وأيضاً فلم يكن الكوفيون ليمنعوا إلا مَادلَّهم الاستقراءُ على امتناعه، فإذا لك يكن سماعُ يَشهد لجواز: حَبَّذَا رجلاً زيدٌ، وإنَّما فيه ما يدل على التأخير نحو قوله (2): * يَا حَبَّذَا جَبَلُ الريَّانِ مِنْ جَبَلٍ *

______ (1) عجز بيت لجرير من قصيدة يمدح بها عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، وقد تقدم، وصدره: * تَزوَّدْ مِثْلَ زادِ أبيكَ فِينَا * (2) صدر بيت لجرير من قصيدة يهجو به الأَخطل، وقد تقدم، وعجزه: * وحَبَّذَا ساكنُ الرَّيانِ مَنْ كانَا *

- كان القول بالامتناع أرجح. ورأى المؤلف في غير هذا الكتاب موافقةُ الناس في الجواز، ولكن اتباعَ عبارتِه هنا أَدىَّ إلى تفسيرها بما تقدم. ويمكن أن يكون له رأيُه رأيَ الجماعة، على أنه يرىَ تقديم المنصوب على المخصوص، لكنه لما كان قليلا جدا لم يَعْبَأ به في الذِّكْر، وإن كان قد يُقاس عليه عنده وهذا بَعِيد. والأظهرُ من لفظه منعُ ذلك، فلمَ يَذكره وإن كان قياساً عند غيره، لكونه لم يَره قياساً لندوره عنده. واعتبره في ((التسهيل)) (1) وغيره. وقد أنشد في ((الشرح)) على التقديم (2): أَلاَ حَبَّذَا قَوْماً سُلَيُمٌ فَإنَّهُمْ وَفَوْا إذْ تَواصَوْا بالإعانَةِ والنَّصْرِ ومثله نادر لا يُبنى على مثله، والله أعلم. الأمر الثاني: كون (ذا) لا يختلف مع اختلاف المخصوص بالتذكير والتأنيث، والإفراد والتثنية والجمع، وذلك قوله: ((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ أَيَّا كَانَ)) يعني: أيَّ اسمٍ كان لا تَعْدِل بذا غيرَه، فإذا وليه المؤنث أو المثنى أو المجموع فلا تتغير (ذا) عن لفظ المفرد المذكر، فتقول: حَبَّذَا زيدٌ، وحبذا هندٌ، وحبذا الزيدان والهندان، وحبذا الزيدوُن والهندات. وقد تقدم بيانُ هذا، والاستشهادُ عليه (3). الأمر الثالث: تعليل الحُكْمين المتقدِّمين، وذلك قوله: ((فَهُوَ يُضَاهِي المَثَلاَ))

______ (1) ص: 129. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 142 - ب) بدون نسبة. (3) انظر: ص 554.

يعني أن العرب أجرت (حَبَّذَا) مجرى الأمثال التي تُحكى ولا تُغيَّر عن حالها، فلذلك لم تُدخل على المخصوص النواسخَ، ولم يَتَقدَّم على (حَبَّ) ولا على (ذا) ولم يُفصل بين شيئين من ذلك، لكنهم لم يلتزموا فيه الحكاية كل الالتزام، إلا في (حَبَّذَا) خاصة، لأنه حين احتاجوا إلى ما يُسْنَد إليه المدح أو الذم صار ماعدا (حَبَّذَا) مختلفا باختلاف الممدوح أو المذموم، فلحقه من الأحكام القياسية ما يلحق (نعم، وبئس) وغيرهما. فقد ضاهى، أي شابه، المثلَ المحكىَّ بإطلاق، فالتُزِم هنا (ذا) و (حَبَّ) ما التُزم في الأمثال من الإتيان به على حالة واحدة، فكما التزموا خطاب المؤنَّث في قولهم: ((أَطرَّي إنَّكِ ناعِلَةٌ)) (1) وقولهم: ((الصَّيْفَ ضَيحَّتِ اللَّبَنَ)) (2) وقولهم: ((خَلا لكِ الجوُّ فَبِيضِي واصْفِري)) (3). وخطاب الواحد المذكر في نحو قولهم: ((ويَأْتيكَ بالأخبار مَن لم تُزِّوَدِ (4))) وقولهم: ((يدَاكَ أَوْكَتَا وفُوكَ

______ (1) كتاب الأمثال لأبي عبيد 115. وأطرى: حذى في طرر الوادي، وهي نواحيه. وناعلة: ذات نعلين. ومعناه: اركب الأمر الشديد فإنك قادر عليه. وأصله أن رجلا كانت له راعية، وكانت ترعى في السهولة، وتترك الحزونة، فقال لها المثل. (2) كتاب الأمثال لأبي عبيد 247. والرواية الأشهر ((ضَيَّعْتِ)) بالعين. والضَّيْح والضَّياح: اللبن الرقيق الكثير الماء. وضيَّح فلان اللبنَ: مزجه بالماء حتى صار ضيحا. ويضرب المثل في طلب الحاجة من غير موضعها، أو طلبها بعد فوات الفرصة السانحة. وانظر أصل المثل في الكتاب. (3) كتاب الأمثال لأبي عبيد 251. والمثل شطر بيت لطرفة بن العبد يخاطب به القُنبرة. ويضرب في الحاجة يقدر عليها صاحبها متمكنا، لا ينازعه فيها أحد. (4) كتاب الأمثال لأبي عبيد 206. وهو عجز بيت لطرفة بن العبد، وصدره: ... =

نفَخَ)) (1). وما أشبه ذلك، كذلك التَزموا إشارةَ المفرد المذكر القريب هنا، والتزموا اتصالَ (حَبَّ) ب (ذا) وعدمَ الفصل، وعدم تقديم/ المخصوص، كما التزموا نَظْمَ الأمثال فلم يغيِّروها ... 564 بفصل ولا تقديم ولا تأخير، وذلك ظاهر. وقولهُ: ((وأَوْلِ)) فعلٌ متعدٍّ إلى اثنين من: أَوْلَيْتُ زيداً عمراً، أي جعلتُه يَلِيه، فالمفعول الأول هنا (ذا) والثاني (المخصوص) كأنه قال: اجعل المخصوص يلي (ذا). وقوله: ((أيَّا كانَ)) أيَّا: مقطوعةُ عن الإضافة، منصوبةٌ على خبر ((كان)) يعني: سواء كان مفرداً أم مثنى أم مجموعا، مذكرا أم مؤنثا. وقوله: ((لاَ تعْدِلْ بِذَا)) أي بهذا اللفظ غيرهَ. وقوله: ((فهو يُضَاهِي المَثَلا)) يعني أنه جارٍ مجرى الأمثال التي لا تغيَّر عن لفظها وحالها، بل تقال لكل من شاكلت حالهُ حالَ المقول فيه أولا، وإن خالفه في التعدَّد والاتِّحاد، والتذكير والتأنيث، لأن المعنى فيه حينُ يذكر أن حال هذا المذكور الآن مثل حال صاحب المثل، ولذلك سُمِّي مثلا. ثم قال: ومَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بَحبَّ أو فَجُرْ بالبَا ودُونَ ذا انْضِمَامُ الْحاكَثُرْ

______ = ... * سَتُبْدِي لَكَ الأيامُ ما كنتَ جاهِلاً * ويضرب في تعجل المرء بالاستخبار عن الشِيء قبل أوانه. وقد تمثَّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1) كتاب الأمثال لأبي عبيد 331. وأوكتا: شَدَّتا الوِكَاء، وهو سير أو خيط يُشد به فم السقاء أو الوعاء ويضرب في الشماتة بالجاني على نفسه.

لما أتمَّ الكلام على (حَبَّ) المقرونة بـ (ذا) وهو أغلب استعمالها في معنى الإنشاء المذكور أخذ يذكر حكمَها في الاستعمال الثاني، وهو أن تقُرن بغير (ذا). فيريد أن (حَبَّ) إذا لم يكن فاعلها (ذا) فلها في نفسها حكمٌ مخالف لحكمها مع (ذا) ولفاعلها أيضا حكم آخر. فأمَّا حكم فاعلها فيجوز فيه وجهان: أحدهما، وهو الأصل، أن يُؤتى به مرفوعاً فتقول: حَبَّ الرجلُ زيدٌ، وحَبَّ رجلاً زيدٌ، ففي (حَبَّ) ضمير مرفوع هو الفاعل، كما في (نعم، وبئس)، وقال ساعدة بن جُؤَيَّة (1): هَجَرَتْ غَضُوبُ وحَبَّ مَنْ يَتَجَنَّبُ وَعَدَتْ عَوادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ وهذا هو المشار إليه بقوله: ((ارْفَعْ بِحَبَّ)). والثاني زيادة الباء في الفاعل، كما زيدت في {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (2) والمعنى: كَفَى اللهُ شهيدا، وكما قالوا فيما هو في معناه: أَكَرِمْ بزيدٍ، لأن ((زيداً)) عند جماعة في موضع رفع، والمعنى على فاعليَّة ((زيد)) فالباء، على الجملة، مما تُزاد في الفاعل، فكذلك زادوها هنا، فتقول: حَبَّ بالرجلِ، وكذا: حَبَّ به رجلاً زيدُ. ومنه قول الأخطل (3):

______ (1) تقدم الاستشهاد به في الباب نفسه. (2) سورة النساء/ آية 79، ومواضع أخرى من الكتاب العزيز. (3) البيت من أول قصيدة في ديوانه، واستشهد به الرضي في شرح الكافية 4/ 257، وابن يعيش 7/ 129، 138، 241، وانظر: الخزانة 9/ 427، والعيني 4/ 26، وشرح شواهد الشافية 14، وهذا البيت في وصف الخمر، ويعني بقتلها مزجَها بالماء حتى تنكسر قوتها.

فَقُلْتُ اقْتُلوهَا عنكمُ بمَزِاجهَا وحَبَّ بها مَقْتُولَةً حينَ تُقْتَلُ وقال الآخر (1): حَبَّ بالزَّوْر الذي لا يُرىَ مِنْهُ إلاَّ صَفْحَةٌ عن لِمَامْ وهذا الوجه هو المراد بقوله: ((أَوْ فُجرَّ بالبَاءِ)) وقَيَّد الجرَّ بالباء لأنه هو موضع السماع، فلا يُتَعدَّى إلى غير الباء، فلا يقال: حَبَّ للرجلِ، ولا حَبَّ من الزَّوْرِ، ولا غير ذلك، كما لا يقال: كَفَىِ لِلَّهِ شهيداَ، ولا كفى من اللَّهِ، ولا غير ذلك. وهذا ظاهر. وقد زيدت هذه الباء في (نعم) حكى ابن السراَّج (2): مررتُ بقومٍ نِعْمَ بِهْم قوماً. وأصله: نِعْمُوا قوماً، وهو في (نعم) قليل، وليس في (حَبَّ) بقليل. ولذلك أطلق الناظم القولَ في جواز الوجهين، ولم يقيِّد واحداً منهما بقلة ولا كثرة. وأما حكم (حَبَّ) في نفسها فذكَر لها وجهين، أحدهما أن تبقى/ حاؤها مفتوحة ... 565 كما كانت مع (ذا) فتقول: حَبَّ الرجلُ زيدٌ، وحَبَّ به رجلاً زيدٌ. والثاني أن تُضم حاؤها فتقول: حُبَّ الرجلُ زيدٌ، وحُبَّ

______ (1) للطرماح بن حكيم، ديوانه 99، والهمع 5/ 53، والدرر 2/ 119، والأشموني 3/ 39، والعيني 4/ 15، والتصريح 2/ 99، واللسان (زور). والزور: الزائراً والزائرون، يقال: رجل زَوْر، وقوم زَوْر. وصفحة كل شيء: جانبه. واللمام- بكسر اللام- جمع لمة، وهو الشعر يجاوز شحمة الأذن. ويروى ((أو لمامْ)). (2) الأصول في النحو 1/ 139.

به رجلاً زيدٌ. ومنه قوله (1): * هَجَرَتْ غَضُوبُ وحُبَّ مَنْ يَتجنَّبُ * يُروى هكذا مضموما، ويروى قول الآخر بالوجهين (2): * وحُبَّ بها مَقْتُولةً حيَنْ تُقْتلُ * والضم أكثر من الفتح، وهو مما غَلَب فيه الفرعُ الأصل. وقد نَبَّه على كثرة الضم بقوله: ((وانْضِمَامُ الحَاكَثُرْ)) يريد: وقَلَّ البقاءُ على الأصل، من الفتح. وهذا بخلافها مع (ذا) فإن الضم غير جائز، لأنه جَرى (حَبَّذَا) مع الفتح مَجرى المثل. وأصل الضم الفتحُ، لأن أصل (حَبَّ) حَبُبَ، أي صار حَبِيباً، وهو من الأفعال المضاعَفة التي جاءت على (فَعُلَ) وذلك قليل نحو: لَبُبْتَ يا هذا، أي صرتَ ذا لُبّ، حكاه يونس (3). والأكثر: لَبِبْتَ، وقالوا نحو: عَزُزْتِ يا ناقةُ تَعُزِّينَ، إذا صارت عَزُوزاً، وهي الضيِّقة الإحليل (4)، في أفعال نوادر. فنقلوا في أحد الاستعمالين ضمة عينه إلى فإنه فقالوا: حُبَّ، وهذا

______ (1) لساعد بن جؤية، وعجزه: * وَعَدتْ عَوادٍ دوُنَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ * وتقدم الاستشهاد به في الباب نفسه. (2) للأخطل، وصدره: * فقلتُ اقتلوها عنكمُ بمزِاجِها * وتقدم الاستشهاد به -أيضا-. (3) في تهذيب اللغة ((حُكي: لَبُبْتُ، بالضم، وهو نادر لا نظير له في المضاعف)). الإحليل: مخرج البول من الإنسان، ومخرج اللبن من الثدي والضرع. وإحليل الذكر: ثَقْبه الذي يخرج منه البول، والجمع أحاليل. والناقة العَزوُز هي الضيقة الأحاليل التي لا تَدِرُّ حتى تُحلب بجهد.

قياسٌ في كل فعل بُني على (فَعُلَ) لقصد إنشاء المدح أو الذم على سبيل المبالغة، فتقول: حُسْنَ الرجلُ زيدٌ، ومنه قول سَهْم بن حَنْظلة الغَنَوي (1): لَمْ يَمْنَع الِناسُ مني ما أَرَدْتُ ولا أُعطِيِهمُ ما أرادوُا حُسْنَ ذا أَدَبَا إلا أنه أجرى (حُسْنَ) مجرى (حُبَّ) فأسنده إلى (ذا). وقوله: ((ومَا سِوَى ذَا)) ((ما)) منصوب (2) بـ (ارْفَعْ) و ((أو)) للتَّخْيير، إلا أن الفاء (3) في قوله: ((فَجُرْ)) مشكلةٌ لدخول عاطف على عاطف. فإن قيل: هذا الموضع معترِض على الناظم، فإنه لم يقيد هنا فاعلَ (حَبَّ) إذا لك يكن (ذا) بقيد، ولابد من التقييد له، لأن فاعل (حَبَّ) مع غير (ذا) إنما يكون اسمَ جنس، أو ضميراً مفسَّرا بتمييز، أو (ما) أو (مَنْ) كفاعل (نعم، وبئس) من كل وجه، لأن (حَبَّ) جارياً مجراه كسائر الأفعال المبنيَّة على (فَعُلَ) لهذا المعنى، فلا يجوز أن يقال: حَبَّ زيدٌ، ولا حَبَّ أخوك، ولا ما أشبه ذلك. ولأجل هذا لم يستقم قولُ من جعل ((بُكَاهَا)) من قول حَسَّان بن ثابت، أو مَعْب بن مالك، أو عبد الله بن رواحة، رضي الله عنهم (4): بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لَهَا بُكَاهَا وما يُغْنِي البُكَاءُ ولا الْعَوِيلُ

______ (1) تقدم الاستشهاد به في الباب نفسه. (2) في جميع النسخ التي أرجع إليها ((مرفوع)) وهو سهو. وما أثبته من عندي. (3) في جميع النسخ ((إلا أن الواو)) وهو سهو. وما أثبته من عندي. (4) المقتضب 3/ 86، 4/ 292 (حاشية) والمنصف 3/ 40، وشرح شواهد الشافية 66، والروض الأنف 2/ 165.

- فاعلاً بـ (حُقَّ) على أن يكون مثلَ (حَبَّ) هنا، لأن ((بُكَاهَا)) لا يُسند إليه (نعم وبئس) قال الفارسيُّ في ((البغداديات)): لا يجوز: حَبَّ زيدٌ، كما لا يجوز نعم زيدٌ، لأنه فِعْلُ يقتضي اسماً عاماً مثلَه، ووضعُه للمدح، كما أن وضع (نعم) له. وأنشد أبو زيد في نوادره (1): قَدْ زَادَهُ كَلَفَاً بالحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ وحَبَّ شَيْئاً إلى الإنْسَانِ ماُ منِعَا فهذا كنِعْمَ شَيئاً ماُ منِعَا، وإذا ثبت هذا كان إطلاق الناظم غيرَ مستقيم. فالجواب أنه لم يَغْفَل عن هذا التقييد البتَّةَ، لأنه لَما ذكر أحكامَ (نعم، وبئس) أَلْحَق بهما (حَبَّذَا) في قوله: ((ومْثِلُ نِعْمَ حَبَّذَا)) فاقتضى أن (حَبَّ) بغير (ذا) مثل (نِعْم) في جميع الأحكام، إلا ما خَصَّها به دون (نعم) وهذا صحيح، فإنها فيما سوى ما ذكَر، فلم يحتج إلى ذكر قيد/ ... 566 لرجوعها إلى حكم الباب. والحاصل أن (حَبَّذَا) خالفت (نعم وبئس) في أحكام، ووافقتهما في أحكام أُخَر. فالتي وافقتهما فيه سبعة أحكام: أحدها أن (حَبَّ) فعل بإطلاق، وإن تركَّب مع (ذا) كما أشار إليه بقوله: ((ومِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا الفاعلُ ذَا)). والثاني أن له مخصوصاً بالمدح أو بالذم، لأنه أحال عليه بقوله:

______ (1) للأحوص، ديوانه 133، ونوادر أبي زيد 27، والهمع 6/ 45، والدرر 2/ 224، واللسان (حبب) وكَلِف بالشيء، يَكْلَف، كَلَفاً: أحبَّه وأولع به.

((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ كذا)) فالألف واللام فيه للعهد في المخصوص المذكور لـ (نعم وبئس). والثالث إن ذلك المخصوص إما مبتدأٌ خبرهُ ما قبله، أو خبرُ مبتدأ محذوف، فعلى الأول التقديرُ: زيدٌ حَبَّذَا، وإن كان ذلك لا يقال كما تقدم، والنظر في العائد هنا كالنظر هنالك (1). وعلى الثاني يكون على تقدير سؤال عن شخص المخصوص، كأنه لَمَّا قال: حَبَّذَا- قيل: مَن الممدوح؟ فقال زيدٌ. وقد تقدم الكلام على الخلاف في المسألة (2)، وأنَّ من النحويين مَن زعم أن المخصوص [هنالك مبتدأٌ محذوف الخبر، وهو جارٍ هنا. ومنهم من أعربه بدلا، وقد قيل به هنا نصا. وهو رأي ابن الحاج (3). والرابع أن المخصوص (4)] لا يتقدم، [لأنه قال هنا: ((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ)) وقال في (نعم): ((وَيَقعُ المخصوصُ بَعْدُ)) وقد تقدم ما فيه (5)] هنالك. والخلاف في المسألتين موجود، فقد زعم ابن خروف أن (زيدٌ حَبَّذَا) جائز، وأن التأخير هو الأكثر. والخامس جوازُ حذفه للعلم به، فكما تقول هنالك: زيدٌ نعم الرجلُ، فكذلك تقول هنا: رأيتُ زيداً وحَبَّذَا، اي: وحَبَّذَا هُوَ. وأنشد المؤلف (6):

______ (1) انظر: ص 557. (2) انظر: ص 559. (3) هو أحمد بن محمد الأزدي الإشبيلي، ت 651 هـ. بغية الوعاة 1/ 259. (4) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. وأثبته من (س، ت). (5) ما بين الحاصرتين ساقط من (س). (6) للمرار بن هماس الطائي، المغني 558، والهمع 5/ 48، والدرر 2/ 316، والأشموني 3/ 41، والعيني 4/ 24. ومنحت: أعطيت، والمتقارب: القريب. يقول: حبذا ذكر هؤلاء النساء لولا أن استحي أن أذكرهن، وربما أحببت من لا ينصفني، ولا مطمع فيه.

أَلا حَبَّذَا لَوْلاَ الحَياءُ ورُبَّمَا مَنَحْتُ الهَوَى مَنْ لَيْسَ بالمُتقارِبِ إلا أن هذا نادر، وذلك كثير. والسادس أن (حَبَّ) هنا فعل غير متصرَّف، فلا يُبنى منه أمرٌ ولا مضارع ولا اسم فاعل، وهو على حاله حتى يَنْتَقل عن معنى إنشاء المدح، فصار كـ (فَعُلَ) في الباب. وأيضاً فإنه فِعْل غير دالٌ على زمان، كما أن (نعم) كذلك. والسابع جوازُ الجمع بين الفاعل والتمييز إذا كان الفاعل ظاهرا، فتقول حَبَّذَا زيدٌ رجلاً، وحَبَّ الرجلُ زيدٌ رجلاً، كما تقول: نعم الرجلُ زيدٌ رجلاً: وهو مع (ذا) أحسنُ منه مع غيرها، لأنه في هذا الموضع مبيِّن لـ (ذا) فإنها مبهَمة، فافتَقرت إلى التفسير، وهو هنالك لمجرَّد التوكيد، لم يُفد زيادة على ما أعطاه الفاعل، فكان هنا أولى، اللهم إلا أن يكون التمييز موصوفا، أو بغير لفظ الفاعل، فإذ ذاك يَكثر مجيءُ التمييز، ويُساوِي التمييزَ هنا مع (ذا). وأمّا إذا كان الفاعل ضميراً مستترا فلابد من التمييز نحو: نعم رجلاً زيدٌ، ومثلُه في (حَبَّ): * وحَبَّ شيْئاً إلى الإنْسانِ ما مُنِعَا (1) * وأما الأحكام المخالفة المذكورة هنا فستة: أحدها جوازُ كون فاعل (حَبَّ) ذا، قياساً مُطَّرِدا، بخلاف (نعم، وبئس)

______ (1) للأحوص، وتقدم في الباب نفسه، وصدره: * قَدْ زَادَهُ كَلفاً بالحُبَّ أَنْ مَنَعَتْ *

وما جرى مجراها، فإن الفاعل فيها لا يكون (ذا) إلا نادرا، نحو قوله (1): * حُسْنَ ذَا أَدَبَا * والثاني أن هذا الفاعل يلزمه الإفراد والتذكير، بخلاف (نعم) وبابها، فإن ذلك غير لازم لفاعلها إذا لم يكن ضميرا. والثالث أنه ليس له مشارِك يَختص بأداء معنى الذم، وإنما يُستغنى عن/ ذلك ... 567 بدخول (لا) عليه، بخلاف (نعم) فإن مشاركة في ذلك (بئس). والرابع امتناعُ الفصل بين (ذا) والمخصوص حسبما تَفَسَّر عند قوله: ((وأَوْلِ ذَا المخصوصَ)) بخلاف (نعم) فإن الفصل هنالك جائز، فتقول: نعم الرجلُ كان زيدٌ، وبئس الرجلُ وجدتُ عَمْراً، وما أشبه ذلك. والخامس جوازُ دخول الباء على فاعل (حَبَّ) إذا لم يكن (ذا) لقوله: ((أَوْ فَجُرَّ بالباءِ)) بخلاف (نعم) فإن ذلك فيها غير جائز، ولا فيما جرى مجراها، فلا يقال: نِعْم بالرجل، كما يقال: حَبَّ بالرجل. والسادس جواز ضَمّ حاء (حَبَّ) مع غير (ذا) والتزامُ فتحها مع (ذا) وهذا الحكم مخصوص بلفظ (حَبَّ) ولا يُتصوَّر نَفْيه عن (نعم، وبئس) إذ لا يقبلان ذلك فينفي عنهما، بخلاف ما تقدم من الأحكام.

______ (1) هو سهم بن حنظلة الغنوي، وما ذكر جزء بيت له تقدم الاستشهاد به، وهو بتمامه: لمَ يْمنَع النِاسُ مِنَّي ما أردتُ ولا أعُطِيهُم ما أرادوا واحْسنَ ذا أدبَا

أفعل التفضيل

أفعل التفضيل هذا آخر العوامل التي لا تتصرَّف، ويسمى (أَفْعَل مِنْ) و (أَفْعَل التفضيل) يريدون هذا ابناء المقتضي معنى لـ (مِنْ) أن تأتي بعده، والذي يقتضي التفضيل بين الشيئين، تقول: زيدٌ أفضلُ من عَمْروٍ، وخالدٌ أكرمُ من بَكْر، فذَكر أولا أصلاً لهذا العامل يتضمن كثيراً من أحكامه، وذلك فيما يُصاغ منه، فقال: صُغْ مِنْ مَصُوغٍ مِنْهُ للتَّعجُّبِ أَفْعَلَ للتَّفْضيِلَ وأْبَ اللَّذْ أُبِي يريد: أن ما صِيغ منه للتعجب صيغتا (مَا أَفْعَلَهُ، وأَفْعِلْ به) من الأفعال قياساً فذلك هو الذي يصاغ منه للتفضيل بناءُ (أَفْعَلُ)، وما أَبَتِ العربُ أو النحويون أن يَبْنُوا منه للتعجب من الكَلمِ، ولم تُجْرِ القياسَ فيه فَأْبَهُ أنت، اي امتنع منه أيها الناظر في القياس النحوي. فقوله: ((مِنْ مَصُوغٍ)) متعلق بـ (صُغْ) و ((مِنْه)) متعلق بمصُوغ، و ((للتعجُّب)) متعلق بمَصُوغ أيضاً. و((أَفْعَلَ)) مفعول ((صُغْ)) و ((للتَّفْضِيل)) متعلق بـ (صُغْ) ايضاً. والتقدير فيه: صُغْ للتفضيل (أَفْعَلَ) من فِعْلٍ صِيغَ منه للتعجُّب: والإبايةُ: الامتناع. والحاصل أن باب ((أَفْعَل التَّفْضيل)) يجرى في بناء الصَّيغة له مَجرى باب التعجُّب، طَرْداً وعَكْساً، أي ما جاز في التعجب من هذا جاز في أفعل التفضيل، ومَا لاَ فَلاَ. ولذلك يقع للنحويين الاستشهادُ بأحدهما على الآخر.

______

وقد تقدم في ذلك في باب التعجب كثير، وذلك كله لأن العرب أجرت البابين في بناء الصِّيَغ على قانون واحد، إذ كان المعنى فيهما واحدا، لأن التعجب من الشِيء يَرفع ذلك الشِيء إلى غاية لا يبلغها غيرُ ذلك الشِيء، حقيقةً أو مجازاً، كما أن التفضيل بين الشيئين يَرفع المفضَّل إلى غاية لم يبلغها المفضَّلُ عليه إن ذُكر، أو لا يَبلغها غيرُ المفضَّل بإطلاقٍ إن لم يُذكر المفضَّلُ عليه. فجرى البابان كذلك مجرىً واحدا. فإذاً ما اشترطه الناظم في بناء فعل التعجُّب مشتَرط هنا، فلا يُبْنَى إلا من فعل ثلاثي، متصرِّف، قابلٍ معناه للكثرة، تام، غيرِ منفي، ولا صفةَ له على (أَفْعَلَ فَعْلاَء) ولا هو مبنيٌّ للمفعول. فإذا تخلف شرط/ من هذه الشروط لم يُبْن منه قياسا، وما سُمع منه وُقفِ من غير ... 568 فِعْل، فلا يقال: هو أَثْوَبُ من زيدٍ، تريد: أكثرُ ثيِاباً. ولا أَمْوَلُ منه ولا ما أشبه ذلك. وشَذَّ من ذلك قولهم: هو أَحْنَكُ الشَاتَيْن (1)، وما عسى أن يُنْقَل من ذلك. وكذلك لا يُبنى من غير الثلاثي، فلا يقال: أَكْبَرُ مِنْكَ، بمعنى أشدُّ استكباراً. وشَذَّ من هذا أشياء، نحو قولهم: ((هو أَفْلَسُ من طَسْت (2))) و ((أَسْرعُ من الرِّيح (3)))، ((وأَخْلَفُ من الرِّيح (4))) و ((وأَوْلَمُ من الأَشْعَث (5))).

______ (1) أي أكلهما بالحنك. وقد ذكر سيبويه هذا القول في ((باب ما تقول العرب فيه: ما أفعله، وليس له فعل، وإنما يحفظ هذا حفظا ولا يقاس)) (الكتاب 4/ 100) وانظر كذلك: اللسان (حنك). (2) الطَّسْت- بفتح فسكون- إناء كبير مستدير، من نحاس أو نحوه، يغسل فيه، يذكر ويؤنث، وهو معرب من (تشت) بالشين. وجمعه طُسُوت. (3) الدرة الفاخرة 1/ 217، 2/ 441. (4) لم أجده فيما رجعت إليه من كتب الأمثال واللغة. (5) الدرة الفاخرة 2/ 423، وهو الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي. وانظر أصل المثل في المصدر المذكور.

وكذلك لا يُبنى من غير المتصرِّف، فلا يقال: هو أَعسْىَ من فلان، إلا أن شَذَّ شِيء. وكذلك لا يقال: هو أَعْمىَ من زيدٍ، من عَمىَ البَصَر، ولا أَعْرَجُ من فلان (1). ولا هو أَكْوَنُ مِنْكَ قائماً، من ((كان)) الناقصة (2). ولا هو أَفْضَلُ، من قولك: مَا فَضُلَ (3). ولا هو أَحْمَرُ مِنْك (4)، إلا ما شَذَّ من قولهم (5): * فَأَنْتَ أَبْيَضُهمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ * وقول الآخر (6): * أَبْيَضُ مِنْ أُخْتِ بَنيِ أَبَاضِ * وفي الحديث في صفة جَهَنَّم، أعاذنا اللهُ منها ((أسْوَدُ مِنَ القَارِ (7))) وقالوا: ((هو أَحْمقُ من رِجْلَةٍ (8))).

______ (1) لأن معنى مثل هذه الأفعال لا يقبل الكثرة ولا التفاضل. (2) لأن تمام الفعل شرط في جواز التعجب منه، والتفضيل فيه بين الشيئين. (3) لأنه منفى غير موجب. (4) لأن الصفة منه على زنة (أَفْعَل فَعْلاَء). (5) لطرفة بن العبد، من قصيدة يهجو بها عمرو بن هند ملك الحيرة، وقد تقدم الاستشهاد بالبيت في باب التعجب، وصدره: * إذا الرَّجَالُ شَتَوْا واشْتَدَّ أَكْلُهمُ * (6) هو رؤبة، وتقدم أيضا في باب التعجب، وقبله: * جاريةٌ في دِرْعِها الفَضْفاض * (7) الموطأ- كتاب جهنم (باب ما جاء في صفة جهنم) 2/ 994. (8) الدرة الفاخرة 1/ 155، وكتاب الأمثال لأبي عبيد 366. والرَّجلة هي البقلة الحمقاء، وإنما حَمَّقها العرب لأنها تنبت في مجاري السيول، فيمر السيل بها فيقتلعها.

وكذلك لا يقال: هذا الطعامُ أكلُ من هذا الطعام (1). وقد شذَّ من هذا أشياء، كقولهم: ((أَزْهَى من دِيكٍ)) (2)، و ((أَشْغَلُ من ذَاتِ النَّحْيْيَن)) (3) وأَعْذَرُ من غيره. وقال سيبويه: هُمْ بِبِيَانِه أَعْنَى (4)، من: عُنيتُ بحاجتك. وقد مَرَّ في باب التعجب ذكرُ كثيرٍ مما شَذَّ هناك، إذ الجميعُ مسألةٌ واحدة. وكذلك كلُّ ما ذُكر هناك من الخلاف في بعض هذه الشروط، أو أُورد من الأسئلة، من لازم أو غير لازم، جارٍ هنا حَرْفاً بحرف، فلا معنى للتطويل به. وقوله: ((وَأْبَ اللَّذْ أُبِي)) جاء بـ (اللَّذْ) على غير اللغة الشهيرة لضرورة الوزن، كما قال (5):

______ (1) لأن فعله مبني للمجهول. (2) الدرة الفاخرة 1/ 213. والزهو: التيه والاختيال. والديك إذا مشى لا يزال يختال وينظر إلى نفسه، فضرب به المثل في الزهور كالغراب. (3) الدرة الفاخرة 2/ 403، وكتاب الأمثال لأبي عبيد 374. والنَّحْي: الزق الذي يجعل فيه السمن خاصة. وذات النحيين: امرأة من هذيل، كان لها حديث مع خوات بين جبير الأنصاري في سوق عكاظ، فصلته كتب الأمثال. وانظر فيه المثل ((أنكح من خوات)) في الدرة الفاخرة 2/ 404. (4) الكتاب 1/ 34. (5) الإنصاف 672، وابن يعيش 3/ 140، وابن الشجري 2/ 305، وشرح الرضي على الكافية 3/ 18، والخزانة 6/ 3، واللسان (زبى). والرجز لرجل من هذيل، وقبله: * فَظَلْتُ في شَرٌ من اللَّذّ كِيَدا * وتَزَبَّى: اتخذ زُبْيَة، وهي حفرة بعيدة الغور، تحفر لاصطياد السبع، إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها، وجمعها زُبى، ومن أمثالهم ((بلغ السيل الزُّبَى)) لأنها تحفر في رءوس الجبال ومعنى الرجز: لقد ظللت في شر من الذي كدت له، فكنت كمن حفر حفرة ليصطاد فيها الأسد، فوقع هو فيها. وهذا كقولهم في المثل: ((مَنْ حَفر مُغَوَّاةً وقع فيها)).

* كاللَّذْ تَزَبَّى زُبَيةً فَاصْطِيدَا * ثم لما اتَّحَد البابان، وكان هنا ما يمتنع البناءُ منه، أخذ في بيان الحِيلة إذا أُرِيد البناءُ لقَصْد معناه، كما ذَكر ذلك هنالك، لكن أحال عليه فقال: ومَا بِهِ إلى تَعَجُّبٍ وُصِلْ لِمانَعٍ بِهِ إلى التَّفْضِيِل صِلْ ((به)) في الشطر الأول متعلق بـ (وُصِلَ). وكذا قوله: ((إلى تعجب)) و ((به)) في الثاني متعلق بـ (صِلْ) وكذا قوله: ((إلى التفضيل)). (يعني أنه إذا منع في الكلمة مانعٌ من بناء (أَفْعَل التفضيل) منها، فأردتَ بناء التفضيل (1)) لضرورة الكلام إلى ذلك، فافْعَلْ كما فعلتَ في (التعجب) إذا قصدتهَ، ومنع منه مانعٌ، وهو تخلُّف شرط من الشروط المذكورة، فتأتي هنا بـ (أَشَدُّ) ونحوه بدلاً من بناء (أَفْعَلُ) من تلك الكلمة، ثم تأتي بالكلمة ذات المانع إن كانت اسما، أو بمصدرها إن كانت فعلا، كما فعلتَ ذلك في (التعجب) فتقول: هو أَكْثَرُ مالاً أو ثياباً، وأشدُّ استكباراً، وأكثُر تقلُّباً، وأَشَدُّ عَمىً، وأطولُ كَوْناً قائماً، وأشدُّ حمرةً أو احمراراً، وهذا الطعامُ أكثر أكلاً من هذا، وما أشبه ذلك. والعلة في ذلك قد تقدَّمت/ فلا نعيدها (2). ... 569 فإن قيل: من أين يُؤْخذ له أن المصدر هنا بعد (أَشَدُّ) ونحوه

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت). (2) انظر: ص 483.

منصوبٌ لا مجرور، وهو قد قَدَّم أولاً أنه ذو وجهين، ففي (ما أَفْعَلَهُ) هو منصوب، وفي (أَفْعِلْ بِه) مجرور، ولا يكون ههنا إلا منصوبا. ثم إنه أحال هذا على ما هناك، والإحالةُ عليه لا تُعَيِّن له نَصْباً من جَرٍّ، وإنما تَقتضي الوجهين، وهو غير صحيح. وأيضاً فإن المنصوب هنالك عوضٌ من المتعجَّب منه، فنصبُه نصبُ المفعول بـ (أَفْعَلَ) كما كان المتعجَّب منه كذلك، وههنا ليس كذلك، بل له وجه آخر من النصب، وهو النصب على التمييز، فهذا الموضع لم يبيِّن حكمَه، وكان من حقه ذلك. فالجواب أنه لم يُحِلْ على ((باب التعجب)) إلا في بناء (أَفْعَلُ) لا في نصب ما بَعْده ولا رفعِه ولا حرَّه، فما ذُكر هناك من حكم المصدر مختص بذلك الباب. وإنما يُؤخذ له حكمُ هذا المصدرِ أو الاسم من باب التمييز، حيث قال هنالك: والفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بأَفْعَلاَ مُفَضَّلاً كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلاَ فإن قولك: هذا أكثرُ إبلاً، وأشدُّ اسِتكباراً، وأشدُّ عَمىً، وما أشبه ذلك- داخل هنا، فينَتصب على التمييز من غير أشكال. وهذا ظاهر، والله أعلم. وأَفْعَلَ التَّفْضِيل صِلْهُ أَبَدَا تَقْدِيراً أوْ لَفْظاً بمِنْ إنْ جُرِّدَا وإنْ لِمَنْكُورٍ يُضَفْ أوْ جُرِّدَا أُلْزِمَ تَذْكيراً وأَنْ يُوحَّدَا

______

وتِلْوُ أَلْ طِبْقٌ وما لَمْرِفَهْ أْضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ عن ذِي مَعْرِفَهْ هَذا إذَا نَوَيْتَ مَعْنَى مِنْ وإنْ لَمْ تَنْوِ فَهُوَ طِبْقُ مَا بِهِ قُرِنْ لما أتم الكلام على الأحكام المشتَركِة مع ((باب التعجب)) شرع في الأحكام الخاصة بهذا الباب. ومن ذلك حكم مطلوب (أَفْعَلُ) من إضافةٍ وما أشبهها، وما يلزم عن ذلك من لزوم (أَفْعَلُ) طريقةً واحدة أو اختلافه، بحسب ما كان جارياً عليه. فلنذكْر أولاً ضابطَه الذي ارتضى، ثم بعد ذلك يُجْرىَ على ألفاظه. بحول الله. والذي ذَكَر من ذلك أن ((أفعل التفضيل)) على ضربين: أحدهما أن يكون مجرَّداً من الألف واللام والإضافة. والثاني أن يكون غير مجرد. فأما الأول فيَلزم أن يُذكر معه (مِنْ) ومجروُرها، إمَّا ظاهراً نحو: زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْروٍ، وبِشْرٌ أَكْرَمُ منَ بكْرٍ. ومنه في القرآن الكريم {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيِد} (1)، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ} (2). وإمَّا مقدَّراً نحو ذلك: اللهُ أكبرُ، قال سيبويه: معناه: من كل شيء (3)

______ (1) سورة ق/ آية: 16. (2) سورة الواقعة/ آية: 85. (3) الكتاب 2/ 33.

وقال تعالى: {ولَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) - {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكُبَرُ} (2)، فهذا على تقدير (مِنْ). وفي كلا الأمرين يَلزمه الإفرادُ والتذكيرُ وإن جرى على غير ذلك، فتقول: زيدٌ أفضلُ من عَمْروٍ، والزيدانِ أفضلُ من عمرو، والزيدون أكرمُ من بني فلان، وهندٌ أجملُ من دَعْدٍ، وأختاها أجملُ منها، والهنداتُ أفضلُ من الزَّيْنَبات. ونحو ذلك. ومنه قوله تعالى: {ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} (3) وقال/: {هُمْ للِكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ ... 570 مِنْهُم للإِيمَانِ} (4). وأما الثاني فعلى ثلاثة أقسام: أحدها ما فيه الألف واللام، وحكمُه المطابقةُ لما جَرى عليه مطلقا، فيثنَّى ويجمع ويؤنَّث، فتقول: مررت بالرجل الأفضلِ، وبالرجلين الأفضلَيْنِ، وبالرجال الأفضلَيِنَ، بالمرأة الفضْلى، وبالمرأتين الفُضْلَيَيْنِ، وبالنساء الفُضَلِ. قال الله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأْعْلَوْنَ} (5) - {وَأَنْذِرْ عَشيِرتَكَ الأْقْرَبِينَ} (6) وهو كثير. وإنَّما أُفرد مع (مِنْ) ولم يكن كذلك دونها، لأن (أَفْعَلُ) مع (مِنْ) كالفعل مع الفاعل، من جهة أن (أَفْعَلَ) طالبٌ ببنْيته لـ (مِنْ) على وجه اللزوم، كما أن الفعل طالبٌ ببِنْيَته لفاعله على اللزوم أيضا.

______ (1) سورة العنكبوت/ آية: 45. (2) سورة التوبة/ آية: 72. (3) سورة الواقعة/ آية: 85. (4) سورة آل عمران/ آية: 167. (5) سورة آل عمران/ آية: 139. (6) سورة الشعراء/ آية: 214.

أو نقول: إنه، حين لزم معنى (مِنْ) على اللزوم، جَارٍ مجرى فعل التعجب في المعنى، إذ كنت تريد ان تَرفع به من غاية إلى غاية أعلى، كما كان ذلك في التعجب. وهذا هو الذي نَصَّ عليه سيبويه (1). فلما أشبهه هذا الشَّبَه الخاص بالفعل، وكان لا يُثَنَّى ولا يُجمع ولا يؤنث، أعني التأنيثَ المعتبرَ في الأسماء أُلْحق (أَفْعَلُ) به، فأُلزم الأفرادَ والتذكير. فإذا دخلته الألف واللام زال معنى (مِنْ) لأنهما متعاقبان لا يجتمعان، كالألف واللام والإضافة، فزال بذلك الشَّبَهُ، فرجع (أَفْعَلُ) إلى أصله، يُثَنَّى ويُجمع ويُؤنَّث كسائر الأسماء. وهذا التعليل جارٍ فيما بقى من الأقسام حسبما يُذكر إن شاء الله تعالى. والقسم الثاني ما أضيف إلى نكرة، وحكمه حكم المجرَّد، لأن الإضافة فيه إنما تكون على معنى (مِنْ) فكان كما لو ظهرت معه (مِنْ) يلزم الإفرادَ والتَّذكير، فتقول: زيدٌ أفضلُ رجلٍ، والزيدان أفضلُ رجلَيْن، والزيدون أفضلُ رجالٍ، وهندٌ أفضلُ أمرأةٍ، والهندان أفضلُ امرأتَيْن، والهنداتُ أفضلُ نساءٍ؛ إذْ كان المعنى: زيدٌ أفضلُ من جميع الرجال إذا فُضَّلوا رجلاً رجلاً. والزيدان أفضل من جميع الرجال إذ اقسِمُوا رجلَيْن رجلَين، وهكذا فيما بقى من الأمثلة. والقسم الثالث ما أضيف إلى معرفة، فله اعتباران، اعتبارٌ فيه معنى (مِنْ) واعتبارُ لا يراد فيها معناها، بل يُهْمل جملة. فأما هذا الأخير فلابد فيه من المطابقة لما جَرى عليه، فتقول: زيدٌ أفضلُ الناسِ، والزيدان أفضلاَ الناسِ، والزيدون أفضلوا الناسِ، وأفاضلُ

______ (1) الكتاب 4/ 350.

الناس. وهند فُضْلَى النساءِ، والهندان فُضْلَيَاَ النساء، والهندات فَصَل النساءِ. ومنه في القرآن {وَمَا نَرَاكَ اَّتبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذلُنَا} (1) لأن المعنى في ذلك معنى ما فيه اللف واللام، فقولك على هذا: (الزيدانِ أفضلاَ الناسِ) المعنى فيه: هما الأفضلانِ في الناس، وليس على معنى أنهما أفضلُ من الناسِ. وأما الأول، وهو إذا نويتَ معنى (مِنْ) فلك فيه وجهان: أحدهما أن يأتي بـ (أَفْعَلُ) مطابقاً فتقول: الزيدان أفضَلاَكُمْ. والثاني أَلاَّ تأتي به مطابقا، فتقول: الزيدان/ أَفْضلكُم. ... 571 وكذا سائر المثُلُ في الوجهين، وقد جمعهما قوله عليه السلام ((أَلا أُخْبركُم بأحبَّكم إلَيَّ، وأقربكم منَّيِّ مَجْلِساً يومَ القيامة، أَحَاسِنكُم أَخْلاَقاً)) (2) فجمع (أَحْسَنَ) وأفراد (أَحَبَّ، وأقْربَ). وإنَّما وجبت المطابقة في الاعتبار المتقدم لزوال معنى (مِنْ) الذي من أحله حصل شَبَهُ الفعل. وجاز هنا الوجهان لأنها مَنزلة بين المنزلَتيْن فمن راعى معنى (مِنْ) وأنه مقدَّر عَدَّ (مِنْ) كالملفوظ بها. ومن راعى اللفظ، وأن (مِنْ) ليست بمذكورة فيه، ولا يمكن إظهارها مع بقاء الإضافة سَوَّى بينه وبين ذى الألف واللام، فكأنَّ معنى (مِنْ) مطَّرَح في الحكم.

______ (1) سورة هود/ آية: 27. (2) البخاري- فضائل الصحابة: 27، والمناقب: 23، والترمذي- البر: 271، ومسند الإمام أحمد 4/ 192، 194.

وبهذا افترق هذا الوجه من الوجه الآخر الذي هو مجرَّد، فإن التلفظ هنالك بـ (مِنْ) سائغٌ ممكن، وليس كذلك هنا. هذا مجمل ما ذكره الناظم من قاعدة هذا الموضع، أتيتُ به مقدِّمة لتفسيره، من غير تعرُّض لِسوى التَّوجيه، فَلْنُجرْهِ على لفظه مع زيادةِ ما يَحمله كلامه من الفوائد الزائدة. فقوله: ((وَأَفْعَلَ التَّفْضِيل صِلْهُ أَبَدَا)) إلى آخره. هذا هو الضَّرب الأول، يعني أن ((أفعل التفضيل)) إذا كان مجردا من الألف واللام والإضافة فلابد من وصله بـ (مِنْ) الداخلة على المفضول، ظاهرةً أو مقدَّرة، لا يَنْفَكُّ عن ذلك. وقوله ((أَبَدَا)) تَنْكيتٌ وتَنْبيه على مسألة، وهي أن المجرَّد لا يأتي بمعنى اسم الفاعل مجرداً من معنى (مِنْ) جملةً قياسا أصلا، خلافاً للمبرّد القائل بأنه جائز قياسا، فيجوز عنده أن تقول: (زيدٌ أفضلُ) غير مقصود به التفضيل على شِيء، بل بمعنى: فاضل. وزعم أن معنى قولهم في (الأَذَان) وغيره: (اللَّهُ أَكْبَرُ) الكبيرُ (1)، لأن المفاضلة تقتضي المشاركة في المعنى الواقع فيه التفضيل، والمفاضلة في الكبرياء ههنا تقتضي المشاركة إن قُدِّر فيه: مِنْ كُلَّ شيء، ومشاركةُ المخلوق للخالق في ذلك أو في غيره من أوصاف الربَّ تعالى محال، بل كلُّ كبيرٍ بالإضافة إلى كبريائه لا نسبة له، بل هو كَلَ شِيءَ، وكذلك قال في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيهِ} (2) - تقديره معنىً: وهو هَيِّنُ عليه (3)، لأن جميع المقدورات متساوية بالنسبة إلى قدرة الله، فلا يصح في مقدورٍ مفاضلةُ الهَوْن

______ (1) المقتضب 3/ 245. (2) سورة الروم/ آية: 27. (3) المقتضب 3/ 245.

فيه على مقدورٍ آخر. ومنه قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} (1)، إذ لا مشاركة لأحدٍ بين علمه وعلم الله تعالى. ومن ذلك قول الفرزدق (2): إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ أي عزيزة وطويلة. فهذه مواضح لا يصح فيها معنى المفاضلة، فثبت أنها صفات مجرَّدةٌ عن ذلك، ومساويةٌ لسائر الصفات. ومثل ذلك كثير. فقَاسَ المبرّدُ على ذلك ما في معناه، واسْتَتَبَّ عنده الباب. فالناظم نكَّت على هذا الرأي، وارتضى مذهب سيبويه ومن وافقه، وأن ((أفعل التفضيل)) لا يتجرَّد عن معنى (مِنْ) إذا كان مجرداً أصلا، وما جاء مما ظاهرُه خلافُ ذلك فهو راجع إلى تقدير معنى (مِنْ) أو إلى باب آخر. / فأمَّا المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى فهي بالنسبة إلى عادة المخلوقين في ... 572 التخاطب، وعلى حسب توهُّمهم العادي، فقوله: (اللهُ أكبرُ) معنى ذلك: أكبرُ من كل شيءٍ يُتَوهَّم له كِبَرٌ، أو على حسب ما اعتادوه في المفاضلة بين المخلوقين، وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كِبَر المخلوق.

______ (1) سورة النجم/ آية 32. (2) من قصيدة له يفخر بها على جرير ويهجوه، ديوانه 417، وابن يعيش 6/ 97، 99، وشرح الرضي على الكافية 3/ 453، والخزانة 8/ 242، والأشموني 3/ 51، والعيني 4/ 43. وسمك السماء: رفعها. وأراد بالبيت بيت العز والشرف الذي تربى فيه. والدعائم: جمع دعامة، وهي الأسطوانة.

وكذلك قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (1) يريد: على نحو ما جرت به عادتكُم، أَنَّ إعادة ما تقدم اختراعُه أسهلُ من اختراعه ابتداء. وقوله: {هَو أَعْلَمُ بِكُمْ} (2) اي منكم، حيث تَتَوهَّمون أن لكم علماً، ولله تعالى علماً، أو على حَدِّ ما تقولون: هذا أعلمُ من هذا. وهي طريقة العرب في كلامها، وبها نزل القرآن، فخوطبوا بمقتضى كلامهم، وبما يعتادون فيما بينهم. وقد بَيَّن هذا سيبويه في كتابه حيث احتاج إليه، أَلاَ ترى أنه حين تكلم على (لَعَلَّ) في قوله تعالى: {لَعَلَّه يَتَذكَّر أَوْ يَخْشَى} (3) صَرَف مقتضاها من الطَّمَع إلى المخلوقين فقال: والعِلْم قد أَتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا على طمعكما ورجائكما ومبلغكما من العلم. قال: وليس لهما إلا ذاك ما لم يَعْلَما (4). وهذا من سيبويه غايةُ التحقيق. وكثيراً ما يَذكر أمثالَ هذا في كتابه. وأما بيتُ الفرزدق فغيرُ خارج عن تقدير (مِنْ) فقد رُوي عن رؤبة بن العجاج (5)، أن رجلاً قال: يا أبا الجَحَّاف، أخبرْني عن قول الفرزدق: ((إنَّ الذَّيِ سَمَكَ السَّمَاءَ)) البيت: أَطْوَلُ من أي شٍيء؟ فقال له: رُوَيْداً، إن العرب تجتزئ بهذا. قال: وقال المؤذِّن: اللَّهُ أَكْبَرُ؟ فقال رُؤبة: أما تسمع إلى قوله:

______ (1) سورة الروم/ آية 27. (2) سورة النجم/ آية 32. (3) سورة طه/ آية 44. (4) الكتاب 1/ 331، ولفظه ((فالعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا أنتما في رجائِكما وطمعِكما ومبلغِكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا مالم يَعْلَما)). (5) هو أبو الجحاف رؤبة بن عبدالله العجاج التميمي السعدي. راجز من الفصحاء المشهورين، ومن مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، أخذ عنه أعيان أهل اللغة، وكانوا يحتجون بشعره مات بالبادية وقد أسن، ولما مات قال الخليل: دفنا الشعر واللغة والفصاحة (ت 145 هـ).

(اللَّهُ أَكْبَرُ) اجتَزأ بها من أن يقول: من كُلَّ شِيء. هذا ما قال. وهو ظاهر في صحة التقدير، وأنه مرادُ العرب ثم أن الذي يدل على أن المراد معنى (مِنْ) أَنَّ (أَفْعَلَ) في هذه المواضع ونحوِها لا تُثَنَّى ولا تجمع ولا تؤنَّث، وما ذاك إلا لمانعِ تقدير (مِنْ) كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقراً} (1) وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} (2) ونحو ذلك. والذي جاء من ذلك على الجمع شاذّ، نحو ما أنشده الفارسي من قول الشاعر (3): إذَا غَابَ عَنْكُمْ أَسْوَدُ العَيْنِ كُنْتُمُ كِراَماً وأَنْتُمْ مَا أَقَامَ أَلاَئِمُ أنشده المؤلف في ((الشرح)) (4)، على أنه جمع (أَلامُ) مجرداً عن تقدير (مِنْ) وحمله الفارسي على أنه جمع (لَئِيم) كَقِطيعٍ وأَقَاطِيع، وحَدِيث وأَحَاديث، وحذَف الزيادة. وقوله: ((تَقْدِيراً أو لَفْظاً)) ظاهره جوازُ حذف (مِنْ) مطلقاً، ويريد: إذا فُهم المعنى من غير تقييد بقلة ولا كثرة، فتقول: زيدٌ أفضلُ، وأكرمت زيداً ,وأَفْضَلُ.

______ (1) سورة الفرقان/ آية 24. (2) سورة الإسراء/ آية 46. (3) هو الفرزدق، المغني 381، والتصريح 2/ 102، والأشموني 3/ 51، والعيني 4/ 57، ومعجم البلدان (أسود العين) وليس في ديوان الفرزدق. أسود العين: جبل بعينه. وما أقام: مدة إقامته. يقول: أنتم لئام أبدا، لأن هذا الجبل لا يغيب ولا يزول أبدا. (4) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 148 - أ).

تريد: وأفضلَ منه. وهذا مُشكل مع ما قَرَّر في غير هذا الموضع، فإنه جَعل حذفها على وجهين، أحدهما جائز جوازاً حَسَناً، وذلك إذا كان (أفْعَلُ) خبراً، نحو {وَلَذكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1)، {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2)، {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأَقْومُ للشَّهَادةِ} (3)، {وَمَا تُخْفيِ صُدوُرُهُمْ أَكْبَرُ} (4)، وهو كثير جدا. والثاني قليل، وذلك إذا لم يكن (أَفْعَلُ) خبراً/ نحو قوله: {فإنَّهُ يُعْلَمُ السِّرَّ ... 573 وأَخْفَى} (5)، وأنشدوا (6): تَرَوَّحِي أَجْدَرَ أَنْ تَقِيليِ غَداً بجَنْبَيْ بَارِدٍ ظَلِيلِ أي تَرَوَّحي في مكانٍ أجدرَ أن تَقِيلي فيه. وقال رجل من طِيء (7):

______ (1) سورة العنكبوت/ آية 45. (2) سورة التوبة/ آية 72. (3) سورة البقرة/ آية 282. (4) سورة آل عمران/ آية 118. (5) سورة طه/ آية 7. (6) المحتسب 1/ 212، وابن الشجري 1/ 343، والأشموني 3/ 46، والتصريح 2/ 103، والعيني 4/ 36 والرجز لأحيحة بن الجُلاح، وقبله: * تَرَوَّحِي يا خَيْرَةَ الفَسِيلِ * وتروَّحي: من تَروَّح النبت، إذا طال. والفَسيل والفسائلَ: صغار النخل، واحدته فسيلة. وتقيلي من القيلولة، وهي النوم وقت الظهيرة، وكنى بذلك عن نموها وزهوتها. وبارد ظليل: مكان بارد ذي ظل. وبعضهم يجعل الخطاب للناقة لا للفسيلة، ومعنى ((تروحي)) على هذا: سيري في الرواح، أي العشى. وشبه الناقة بالفسيل في العراقة والكرم. (7) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 147 - ب) ونسبه لرجل من طيء أيضا.

عَمَلاً زاكِياً تَوخَّ لِكَىْ تُجْزَى جزاءَ أَزْكَى وتُلْفَى حَمِيَدا والناظم لم يبيِّن قلةَ هذا القسم، فاقتضى إطلاقُه حُسْنَ الجواز، وليس كذلك. والجواب أنهما وجهان جائزان في الكلام على الجملة، إذْ جاءا معاً في القرآن، فلا عَتْب على مَن أَطلق القياس، وإن كان أحدُ الوجهين أحسنَ من الآخر. وقد يُنْقَل (1) مثلُ هذا فلا يرجَّح اعتماداً على مطلق الجواز قياسا. وأيضاً فإن مقصوده الأولَ بيانُ وَصْل (أَفْعَل) بـ (مِنْ) ليَبْني عليه الأحكام، فهو الذي اعْتَنى به. وأمَّا كَوْن (مِنْ) ملفوظاً بها أو مقدرة فشيءٌ جاء بالقصد الثاني، وهو مع ذلك صحيح في الجملة. وقوله: ((وإِنْ لَمنْكُورٍ يُضَفْ)) إلى آخره. هذا هو القسم الثاني (من الضرَّب الثاني) (2) وهو المضافُ إلى نكرة، وأَتى معه بتكملة حكمِ الوَجْه الأول، وهو المجرَّد، لَمَّا اتَّحدَ حكمهما. ويريد أن (أَفْعَلَ) إذا أضيف إلى اسمَ مَنْكُور، وهو النكرة، أو كان مجردا فحمُه لزومُ التذَّكْير، أي لزوم الصِّيغة التي تقتضي بوضعها التذكيرَ ولزوم التوحيد. [أي الصيغة الدالة على الواحد، وذلك قوله: ((ألْزِمَ تَذْكيراً وأَنْ يُوحَّدَا)) والصيغة المقتضية التذكير والتوحيد] (2). هي صيغة (أَفعل) فتلزم وإن اختلف ما جرت عليه، بالتثنية أو الجمع، أو التأنيث. فأما المدر فقد تقدم تمثيلُه. وأما المضاف إلى النكرة فعلى وجهين

______ (1) في الأصل ((وقد يفعل)) وما أثبته من (ت، س). (2) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س).

يشملها كلام الناظم: أحدهما أن يُضاف إلى مَنكور مطابقٍ لما جرى عليه (أَفْعَلُ) لزوما، وذلك لا يكون إلا مع كَوْن المضاف إليه جامدا، فتقول: زيدٌ أفضلُ رجلٍ، والزيدانِ أفضلُ رجلَيْن، والزيدون أفضلُ رجالٍ. وهندٌ أفضلُ امرأةٍ، والهندان أفضلُ امرأتَيْن، والهنداتُ أفضلُ نسوةٍ. والمعنى تفضيلُ صاحبِ (أَفْعَلَ) على المضاف إليه إذا فُضِّل ذلك التفضيل فالمعنى: زيدٌ أفضلُ الناسِ إذا فُضِّلوا رجلاً رجلاً، والزيدان أفضلُ إذا فضِّلوا رجلَيْن رجلَيْن، وهكذا ما بقى. والثاني أن يُضاف إلى منكور تجوز فيه المطابقةُ وعدمُها، وذلك مع كون المضاف إليه مشتقاً، فتقول: زيدٌ أفضلُ عالمٍ والزيدان أفضلُ عالم، وأفضلُ عالِمْيِنِ، والزيدون أفضلُ عالِمٍ، وأفضلُ عالِميِنَ. وكذلك في المؤنث. ومن عدم المطابقة قولهُ تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ به} (1) ومما فيه الأمران ما أَنشد الفرَّاء وأبو زيد من قول الشاعر (2): وَإذا هُمُ طَعِمُواَ فَأَلأْمُ كَاعِمٍ وإذا هُمُ جَاعُوا فَشَرُّ جِيَاعِ ولم يتعرض هنا لمطابقة المضاف إليه لما قبله، ولا لعدم مطابقته، وإنما تَعَّرض إليه ((التسهيل)) (3).

______ (1) سورة البقرة/ آية 41. (2) معاني القرآن 1/ 33، ونوادر أبي زيد (152) ضمن ثلاثة أبيات نسبها إلى رجل جاهلي. والمساعد لابن عقيل 2/ 181. (3) انظر: ص 134.

وإنما جاز الإفرادُ وغيره هنا في المشتق بخلاف الجامد، لأنه مقدَّر بـ (مِنْ) والفعل، و (مِنْ) قد تقع موقع الجمع، وتُعامل مع ذلك معاملة المفرد. وقوله: ((وتِلْوُ أَلْ طِبْقٌ)). وهذا هو القسم الأول من الضَّرْب الثاني، يعني أن (أَفْعَلَ) إذا كانت تاليةً لـ (ال) فهي طِبْقٌ، أي مطابقةٌ لما قبلها في الإفراد والتذكير وفروعها/. ... 574 والمطابقةُ الموافقةُ، والتطابقُ الاتِّفاقُ، يقال: طابَقْتُ بين الشيئين، إذا جعلتَهما على حَذْوٍ واحد وألزقتهما. ثم قال: ((ومَا لِمَعْرِفَةٍ أُضِيفَ ذُو وَجْهَيْنِ)) إلى آخره. هذا هو القسم الثالث من الضرب الثاني، و ((لِمَعْرِفَة)) متعلق (أضِيف) يعني أنه يجوز فيه المطابقة لما قبله، وهو أحد الوجهين، فيكون في ذلك على حد التَّالي للألف واللام، ويجوز فيه أيضاً لزوم الإفراد والتذكير، فيكون كالمجرد والمضاف إلى النكرة. وذلك إنما يكون إذا كانت إضافته على معنى (مِنْ) وهي المقصود فيها معنى التفضيل بين صاحب (أَفْعَلَ) والمجرور بـ (مِنْ) وذلك قوله: ((هَذّا إذَا نَوْيْتَ مَعْنَى مِنْ)) فـ (هذا) إشارة إلى الحكم بجواز الوجهين، المطابقةِ وعدمِها. وأما إذا جُرِّدت الإضافةُ من معنى (مِنْ) فالمطابقة لا غير، وهو قوله: ((فَهُوَ طِبْقُ ما بِهِ قُرِنْ)) أي: وإن لم تَنْوِ معنى (مِنْ) فـ (أَفْعَلُ) مطابقُ لما قُرِن به.

______

وضميرُ ((فهو)) عائدٌ على (أَفْعَلَ) وكذلك المستتر في ((قُرِنَ)) وأما هاء ((بِهِ)) فعائد على ((ما)) وهي واقعة على متبوع (أَفْعَلَ). وإنما كان مطابقا لأنك لا تريد في هذا الوجه بقولك: (زيدٌ أفضلُ الناس) إلاَّ معنى: زيدٌ فاضلٌ في الناس، فصار كاسم الفاعل في الحكم، بخلاف ما إذا نويت معنى (مِنْ) فإنه ليس كاسم الفاعل، فكما تقول في اسم الفاعل: الزيدان فاضِلاَ الناس، والزيدون فاضلُو الناسِ، وهند فاضلةُ النساءِ، وكذلك تقول: الزيدان أَفْضَلاَ الناسِ، والزيدون أفضلُو الناسِ، وهند فُضْلَى النساء. وعلى هذين الاعتبارين ينبغي الجواز أو المنع في مسألة (يوسف أحسنُ إخوتهِ) (1) فعلى نية معنى (مِنْ) تمتنع المسألة، لأن الإضافة بمعنى (مِنْ) يلزم فيها أن يكون (أَفْعَلُ) بعضَ المضاف إليه، فإذا أضيف المضافُ إليه إلى ضمير الأول لزم إضافة الشِيء إلى نفسه، لأن صاحب الضمير، وهو في المثال (يوسف) داخل في للإخوة. وقد قال الناظم: ((ولاَ يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بهِ اتَّحدْ ((مَعْنىً)) (2) فلو قدرتَ أنه خارج منهم لإضافتهم إليه لزم إضافة (أَفْعَلَ) ألى ما ليس بعضاً له، وذلك ممنوع، إذ لا يقال: زيدٌ أفضلُ الحميرِ، على معنى (مِنْ) وإنما يقال هنا: يوسفُ أحسنُ أبناءِ يعقوبَ. ومنه قولهم: ((النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَلاَ بنَي مِرَوْانَ)) (3). وعلى طَرْح معنى (مِنْ) تجوز المسألة، إذ لا يلزم في هذه الإضافة أن

______ (1) انظر في هذه المسألة: شرح الكافية للرضي 2/ 216، وشرح الأشموني 3/ 49. (2) ذكره في باب ((الإضافة)) من الألفية. (3) أي عادلاهم، لأنهما لم يشاركهما أحد من بني مروان في العدل. والناقص هو يزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان، سمي بذلك لنقصه أرزاق الجند، وكان من أهل الورع والصلاح، لم يكن في بني أمية مثله ومثل عمر بن عبدالعزيز (ت 126 هـ). ... =

يكون (أَفْعَلَ) بعض ما أضيف إليه، فإن معنى (يُوسفُ أحسنُ إخوتِه) يوسفُ حَسَنٌ في إخوته، فالإخوة، من حيث فيهم يوسفُ، يضافون إلى ضميره. وعلى هذا تقول: فلان أَعْرَفُ بَنِي تميمٍ، وإن لك يكن منهم. ولا تقول ذلك على الوجه الأول إلا أن يكون منهم. وقد حصل أن الجواز والمنع مبنيَّان على إضافة (أَفْعَل) إلى ما هو بعضُه، أو إلى ما ليس بعضَه، وأن (أَفعلَ التفضيل) وهو باقٍ على أصله، إنما يضاف إلى ما هو بعضُه. والناظم/ لم يبيَّن شيئاً من ذلك. وكان حقُّه ذلك، لكنَّ ذكرَ هذا يختص بباب ... 575 الإضافة لا بهذا الباب. وقوله: ((عِنْ ذِيَ مَعْرِفَة)) تنكيتٌ على من يمنع المطابقةَ من النحويين مع إرادة معنى (مِنْ) وهو ابن السرَّاج، فإنه لا يجيز على ذلك القَصْد: الزيدانِ أَحْسَنَاكُمْ أخلاقاً، ولا الزيدون أَحَاسِنُكُم أخلاقاً، بل الواجب عنده الإفرادُ والتذكير كما يجب مع إظهار (مِنْ) (1). ورَدَّه المؤلف بالقياس والسَّماع. أمَّا السماع فما تقدم من قوله عليه السلام: ((أَلاَ أُخْبِركُم بأَحَبِّكُمْ إلىَّ، وأَقْربِكُم مِنيِّ مَجْلِساً يومَ القيامةِ أَحَاسِنكُم أخلاقاً)) الحديث (2). فأتى بالوجهين معاً في كلام واحد، ومعنى (مِنْ) مرادٌ في الجميع. وفيه نظر.

______ = ... والأشجُّ هو أبو حفص عمر بن عبدالعزيز بن مروان الأموي القرشي، الخليفة الصالح والملك العادل، وخامس الخلفاء الراشدين، كان يدعى ((أشجُّ بني أمية)) لأن دابة رمحته وهو غلام فشجَّته (ت 101 هـ). وانظر: شرح الأشموني 3/ 49. (1) انظر: الأصول في النحو 2/ 5. (2) سبق تخريج الحديث.

وأما القياس فإن المضاف على تقدير (مِنْ) أشبهُ بذي الألف واللام (منه بالعاري، فإجراؤُه مُجْرى ما فيه الألف واللام) (1) أَوْلَى من إجرائه مُجْرى العاري، فإذا لم يُعط الاختصاصَ بجرَيانه مَجراه فلا أقلَّ من أن يشارِك، وإلاَّ لزم ترجيحُ أضعفِ الشَّبهَين، أو ترجيحُ أحد المتساويِيْن دون مُرَجِّح. هذا ما قاله في ((الشرح)) (2). وأصل معناه لابن خروف في شرح ((الكتاب)) (3)؛ وظاهر كلام كثيرٍ من النحويين موافقةُ ابن السراج، إذ يُطلقون القول بأن تقدير (مِنْ) يمنع من المطابقة، فالمضاف مِمَّا يحتمل الأمرين، فيجوز فيه الوجهان على ذَيْنِكَ التقديرَيْن، فإن قدرتَ معنى (مِنْ) فالإفرادُ والتذكير، وإن عَنَيْتَ إطلاقَ التفضيل فالمطابقةُ. وقد يجرى ما في الحديث (4) على ذلك، فانظر في ذلك. وإنْ تَكُنْ بِتِلْوِ مِنْ مُسْتَفِهَما فَلهُمَا كُنْ أَبَداً مُقَدِّمَا كَمِثْل مِمَّنْ أَنْتَ خَيْرٌ ولَدَى إخْبَارٍ التَّقْدِيمُ نَزراً وُجِدَا (5) هذه المسألة اعتَنى بذكرها هنا لوجهين، أحدهما أنها من النحو الجَليل الذي لا يُعْذَر قارىُ هذا الباب في الجهل به، وليست من المسائل الغريبة التي

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت). (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 148 - أ). (3) يعني كتاب سيبويه، وانظر: بغية الوعاة 2/ 203. (4) يقصد قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأحبِّكم إلىَّ، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا)). وقد تقدم الاستشهاد به. (5) في متن الألفية ((نزراً وَرَدَا)).

يَنْدُر وقوعُها في الكلام، بل هي، في الحاجة إليها، كالمسألة قَبْلها. والثاني أنها على شدة الاحتياج إليها قد أغفل الكلام عليها أكثرُ النحويين، على ما زعمه المؤلف في ((الشرح)) (1)، وإنما نقلها من ((التذكره)) للفارسي، فتعيَّن عليه، من أجل ذلك، الاعتناءُ بذكرها. ويعني أن مجرور (مِنْ) التي يطلبها (أفعلُ التفضيل) على ضربين، أحدهما أن يكون مستفْهَماً به، أي اسماً من أسماء الاستفهام. فهذا يلزم فيه تقديم (مِنْ) ومجرورها على (أَفْعَل) فتقول: مِمَّنْ أنتَ أفضلُ؟ ومِنْ أَيِّهِمْ أكرم؟ ومِمَّ ثوبُك أَطْوَلُ؟ وذلك لأن الاستفهام له أبداً صدرُ الكلام، فلا يجوز تقديم ما يَعمل فيه عليه (2)، فاحتَمل ضَعْفَ التقديم لضرورة الاستفهام، وغَلَّبُوا جهة الاستفهام على جهة ضَعْف العامل الذي هو (أَفْعَلُ) غيرَ متصرِّف في معموله بالتقديم، والاستفهام لا يتأخر عن عامله اللفظي، فالتزموا أحسن الأقبحَينْ، وهو تقديم معمول/ (أَفْعَل) إذ كان قد يتقدم ... 576 قليلاً كما سيذكره. وكذلك إن كان ظرفاً أو مجرورا. والاستفهام لا يتأخر أبداً، إذ كانت العرب قد الْتَزمت فيه التقديمَ، كما في الشَّرْط والنَّفْي، فلذلك جَزم الناظُمُ بالتقديم في قوله: ((فَلَهُمَا كُنْ ابداً مُقدِّما)) و ((لهما)) متعلِّق بـ (مُقدِّما). ثم أتى بمثالِ ما قَرَّر، وهو قوله: ((كَمِثْلِ مِمَّنْ أَنْتَ خَيْرٌ))؟ والوجه الثاني من وجَهْي مجرور (مِنْ) ألا يكون مستفهما به، وذلك قوله: ((وَلَدَى إخْبَارٍ التَّقْديِمُ نَزْراً وُجِدَا)).

______ (1) شرح التسهيل. (2) في الأصل ((فلا يجوز تقديم معمول ما يعمل فيه)) وهو تحريف، والصواب ما أثبته من (س، ت).

وإنما قال: ((ولَدَى إخْبَارٍ)) لأنه إذا كان الكلام إخبارا لم يكن ثَمَّ مستفهَمٌ به، وإذا كان ثمَّ مُسْتَفَهمٍ به لم يكن الكلام إخبارا، فكأنه يقول: وإذا لم يكن مجرورها مستفهَماً به فتقديُمه نَزْرٌ، أي قليل، وذلك أن (أَفْعَلَ) عاملُ غيرُ متصرِّف في نفسه، فلم يكن له أن يتصرَّف في معموله، فلا يتقدم معمولهُ عليه كسائر العوامل غير المتصرفة، إلا أنه يُسمع من ذلك شيءِ فيُحفظ ويُقصر على محلِّه. وقد أخبر الناظم أن التقديم قد وُجد قليلا جداً، فدل على أن عدم التقديم هو الشائع، فتقول: زيدٌ أفضلُ من عمروٍ، وأنتَ أكرمُ منهما، ولا تقول: زيدٌ من عمروٍ وأفضلُ. إلا قليلا، كقول ذي الرُّمة (1): فَلاَ عَيْبَ فِيَها غيرَ أَنَّ سِرِيَعَها قَطُوفٌ وأَنْ وأَنْ لاَ شَيءْ منهنَّ أَكْسَلُ وقال الآخر (2): أَظَلُّ أَرْعَى وأَبِيتُ أَطْحَنُ الْمَوْتُ مِنْ بَعْضِ الحَياةِ أَهْوَنُ وهو نادر. فإن قلت إذا كان الناظم قد اعتنى بمسألة الاستفهام ههنا فهو لم يُكْمِلها، بل أتى ببعض أقسامها، وذلك أن الاستفهام هنا على وجهين؛ أحدهما أن يكون مضمَّنا في الاسم بـ (مِنْ) وهو الذي ذكَر. والآخر ألاَّ يكون

______ (1) ديوانه 461، والأشموني 3/ 52، والعيني 4/ 44. والضمير في قوله: ((فيها)) عائد على النساء المذكورة في الأبيات السابقة. والقطوف من الدواب هو المتقارب الخطو البطئ، ويستعمل في الإنسان. والبيت من تأكيد المدح بما يشبه الذم. (2) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 147 - أ).

كذلك، بل يُؤْتَى بحرف الاستفهام نحو: أَمِنْ زيدٍ أنتَ أفضلُ؟ فهذا النوع إما أن يكون حكمه التقديمَ، أعنى تقديمَ (مِنْ) لأجل ما دخل عليها من الاستفهام، فيصير بمنزلة: مِمَّنْ أنتَ أفضلُ؟ فكان من حقه أن يَأتي بكلام يشمل النوعين. وإما ألاَّ يكون حكمه التقديم، بل يقال: أأنتَ أفضلُ من زيدٍ، كالإخبار من كل وجه، فكان حقه أن يَأتي بعبارة تشمله مع الإخبار، ولا يقول: ((ولَدَى إخْبارٍ)) لكنه لم يفعل ذلك، فصارت المسألة قاصرة، وذلك غير لائق به. فالجواب أن لهذا المجرور نظرين، نظراً من جهة طلبه للأداة بخصوصه، وبهذا يُشبه الاسمَ المضمَّن، ونظراً من جهة انفصاله منها، وبهذا يُشبه المجرور في الإخبار، فيمكن على الأول أن يُلْحَق بالمضمَّن، إذا كان المضمَّن هذا أصلُه، فقولك: مِمَّن أنتَ أفضلُ؟ في تقدير: أَمِنْ فلانٍ أنتَ أفضلُ أم فلانٍ؟ إلى آخره. وهذا هو الأصل، أن تَدخل الأداةُ على الذي يضمَّن معناها لا على غيره. فلو قلتَ على ذلك المعنى: أَأَنْتَ أفضلُ من فلان؟ لتوهَّم السامع أنك مستفهِم عن المفضَّل لا عن المفضَّل عليه، فيقع اللَّبْس، فكان الوجهُ مباشرة الأداة للمستفهَم عنه، فيلزم هنا تقديمُ المجرور/ لأنه المستفهَم عنه بالفرض. ... 577 ويمكن على الثاني أن يلحق بما لا استفهام فيه فتقدم الأداة، ويؤخَّر المجرورُ، فتقول: أأَنْتَ أفضلُ من فلان؟ على أن الاستفهام عن

______

المفضَّل عليه، إذ لا محظورَ في تقديم الأداة وتأخير مطلوبها. ألا ترى أنك تقول: مَتَى تَظُنُّ زيداً قائماً؟ والاستفهامُ راجعٌ للقيام لا للظن، ويجوز أن يرجع إلى الظن، فكذلك هنا. ويكون المسوِّغُ للفصل قبحَ تقديم مجرور (أَفْعَلَ) عليه. وإذا ظهر وجه التردُّد في المسألة فيمكن أن يكون الناظم تَرك ذكرَها قَصْداً، لأنها محلُّ نَظَر، فكأنه لم يترجَّح عنده أحدُ النظرَين على الآخر، ولم يَجِدْ في المسألة سماعاً يَعتمد عليه فأغفل الكلامَ عليها لمن يأتي بعده. ويَحتمل أن يكون النظران عنده سائغين، فيجوز التقديمُ وعدمه بالاعتبارين، واتَّكل في فهم الناظر لذلك على ما قَرَّر من القسمين، والأول أظهر. والله أعلم. ورَفعُهُ الظَّاهِرَ نَزْرٌ ومَتَى عَاقَبَ فِعْلاً فكَثِيراً ثَبَتَا كلَنْ تَرىَ في النَّاسِ مِنْ رَفِيقِ أَوْلَى به الفَضْلُ من الصَّديق يَعني أن أفعل التفضيل شأنُه أن يَرفع المضمرَ فقط، لضَعْفه عن مقاربة الصفة المشَّبهة، وذلك أن الصفة المشبَّهة باسم الفاعل لما ضَعُفت عن لَحَاقها باسم الفاعل لم تعمل إلا فيما كان من سَبَبها، نحو: مررتُ بَحَسَنٍ أبوه، ولا يكون ذلك في (أَفْعَلَ مِنْ كذا) فلما قَصَّر عن الصفة في الأشياء لم يكن عملهُ الرفعَ مطلقا، ولم يَقْوَ أن يعمل إذا جرىَ على غير الأول، وإنما يَقْوَى إذا جرى على الأول، فصار رفعُه مقتصَراً به على الضمير دون الظاهر، فإذا رَفع الظاهر كان ذلك على خلاف قاعدته القياسية، وهو الذي نصَّ عليه الناظم بقوله: (نَزْراً) والذي أشار إليه حكاه يونس في لغة ضعيفة، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ

______

خَيْرٍ منه أبوه (1). قال السِّيرافي: كأنهم يتأوّلون معنى اسم الفاعل، فـ (خَيْرٌ منه) بتأويل: فاضلٍ عليه أبوه (2). وذلك قليل جدا، وإنما (أَفْعَلُ) عند سيبويه جارٍ مجرى (سَوَاء) و (أبي عَشَرةٍ) في قولك: مررتُ برجلٍ سواءٍ عليه الخيرُ والشرُّ، ومررتُ برجلٍ أَبي عَشَرةٍ أبوه، من حيث ضَعُف عن الصفات كما تقدم، ولذلك أتى بهما جميعاً في بابٍ واحد (3)، وعلى طريق واحد، وإن كان (أَفْعَلُ) أقوى في أعطاء معنى الفعل، لأنه مشتق. قال سيبويه: ((وزعم يونس أن ناساً يَجُروُّن هذا، يعني: خيرٍ منه أَبُوه، كما يجرون: مررتُ برجلٍ خَزٍّ صُفَّتُه)) (4). ثم أتى بموضع آخر مِمَّا يَرفع فيه (أَفْعَلُ) الظاهرَ، لكن كثيرا فقال: ((ومَتَى عَاقَبَ فعْلاً فكثيراً صَبَتَا)) يريد أن (أَفْعَلُ) إذا صار معناه في الكلام معنى الفِعْل فصار/ الفعل يصح أن ... 578 يعاقبه في موضعه من غير أن يَخْتَلَّ المعنى، ولا يُنقص منه شيء، وهذا معنى المعاقبة- فرفعُه الظاهرَ كثُير ثابت لا ضَعْف فيه ولا نُدور، وذلك هو الضابط عند الناظم، وهو المنبَّه على علة هذا الكلام، وذلك نحو ما مَثَّل به من قوله:

______ (1) الكتاب 2/ 27. (2) انظر: الكتاب 2/ 27 (حاشية). (3) هو ((باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة مجرى الأسماء التي لا تكون صفة)) [الكتاب 2/ 24]. (4) الكتاب 2/ 27. وفيه ((أن ناسا من العرب)) والخز من الثياب: ما يُنسج من صوف وإبرسيم، أو ما ينسج من إبريسم خالص. والصُّفَّة: ما غُشِّي به السَّرجُ أو الرَّحل، ما بين مقدمه ومؤخره.

((لَنْ تَرىَ في النَّاسِ مِنْ رَفيِق أَوْلَى به الفضلُ من الصِّدِّيِق فإنك تقول: لن ترى الناس مِنْ رفيقٍ، يَحِقُّ له الفضلُ كالصَّدِّيِق. فالمعنى في هذا الكلام كالمعنى في المثال. ومن ذلك قولهم: ما رأيتُ رجلاً أبغضَ إليهِ الشرُّ منه إلى زيدٍ، وما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عينيه الكُحْلُ في عين زيدٍ، و ((ما مِنْ أَيَّامِ أَحَبَّ إلى الله فيها الصومُ من ذِي الحِجَّة)) (1)، وما {ايتُ كِذْبَةً أكثر عَليها شاهجٌ من كِذْبَة أميرٍ على مِنْبَر (2). وأنشد سيبويه لسُحَيْم بن وَثيِل (3): مَرَرْتُ على وَادِي السِّبَاع وِلا أَرَى كوَادِي السِّبَاعِ حينَ يُظْلِمُ زاديَا أَقَلَّ به رَكْبٌ أَتَوْهُ تَئِيَّةً وأَخْوَفَ إلاَّ ما وَقَى اللهُ سارِيَا وأنشد المؤلف (4):

______ (1) مسلم- الصيام: 31، 32، وأبو داود- الصوم (2438) 2/ 325، والترمذي- الصوم- اب 52 حديث رقم (757) 3/ 130. (2) الهمع 5/ 109. (3) الكتاب 2/ 32، وشرح الرضي على الكافية 3/ 464، 471، والخزانة 8/ 327، والعيني 4/ 48، ومعجم البلدان (وادي السباع). ووادي السباع: موضع بين البصرة ومكة. والتئيَّة: التلبث والتوقف، وهي تمييز من قوله: ((أقل)) أي أقل توقفا. والساري: السائر ليلا. (4) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 148 - ب) والهمع 5/ 107، والدرر 2/ 137، وشرح شذور الذهب 416 ويروي ((ما علمت)) وقائله مجهول.

ما رأيتُ امْرَأَ أَحَبَّ إليه الْ بَذْلُ منه إليكَ با ابنَ سَنَانِ فهذا ونحوه كثيرٌ في كلام العرب، لأن الفعل فيه يُعاقب (أَفْعَلَ) على معناه. ألا ترى أنك تقول: ما رأيتُ رجلاً يُبْعضُ الشرَّ مِثْلَهِ، ولا رأيتُ رجلاً يَحْسُنُ في عينه الكحُل كحُسْنه في عيْنه، ولا أرَى كوادِي السباعِ وادياً يَقِلُّ به ركبٌ. وهذا ظاهر، ولذلك قَدَّره سيبويه باسم الفاعل، إذ قَدَّر: ما رأيتُ رجلاً عاملاً في عينيه الكحُل، وما رأيتُ رجلاً مُبغضا إليه الشَرُّ (1). فلو كان الفعل إذا عاقب (أَفْعَلَ) لا يُعْطِي معناه لم يَكْثر في الكلام، وإنما يكون نادرا من القسم الأول، كقولك: مررتُ برجلٍ أكرمَ منه أبوه. لو قلت: مررتُ برجلٍ يَكْرُم، أو كَرُمَ عليه أبوه-لتغيَّر المعنى، وكذلك إن قلت: رأيتُ رجلاً أَحْسَنَ في عَيْنيْه الكحُل منه في عينِ زيدٍ، فأتيتَ بالفعل- فَسَد المعنى المقصود من (أَفْعَل) إذ لم يَبْق مع الفعل معنى التفضيل. ونظيرُ (أَفْعَلَ) هنا اسم الفاعل بمعنى الماضي إذا صَحِب الألف واللام، فإنه كان قبلها لا يعمل لفَقْد شَبَه الفعل، فلما دخلت صار بذلك نائباً عن الفعل، إذ هو مُعاقِب في الصلة للجملة كما تقدم، فعمل بعد أن لم يكن عاملا، فلذلك لم يعمل في الإيجاب إلا نادرا. وكذلك إذا قلت: ما الكحُل في عينِ زيدٍ أحسنَ منه في عين عمروٍ- لا يُعاقِب هذا الفعلُ (أَفْعَل) على معناه فلا يَرفع ظاهرا، ولا المعنى أيضاً بموجود

______ (1) الكتاب 2/ 31، وعبارة سيبويه بتمامها ((فكأنك قلت: ما رأيت رجلا عاملا في عينه الكحُل كعمله في عين زيد، وما رأيت رجلا مبغضا إليه الشر كما بُغَّض إلى زيد)).

في (أَفْعَل) هنا على حدِّ ما هو في: ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عَيْنهِ الكحل منه في عينِ زيدٍ، لأن المنفىَّ هنا هو المَزِيَّةُ خاصة، وهناك المزيةُ والمساواة معاً، فصارت مسألة: (ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عَيْنهِ بكُحْلُ منه في عَيْنِ زيدٍ) تُؤَدي من المعنى ما لا يؤدي غيرُها من العبارات السابقة. ولذلك لا يقال: إنه يمكن في الموضع عبارةٌ أخرى تؤدِّي المعنى، وذلك أن/ تقول ... 579 ك ما رأيتُ رجلاً الكحُل في عينه منه في عِين زيد، ولا تحتاج إلى إخراج (أَفْعَل) عن بابه إلى رفع الظاهر، لأنا نقول: إن هذا الكلام لا يفيد ذلك المعنى، وإنما يُفيد نفَي المزية، لا نفي المزية والمساواة معاً، فالضرورة مُلْجِئة إليه. فإن قيل: فهل يمكن جَعْلُ (الكُحْل) مبتدأ خبرهُ (أَحْسَنُ) فلا يُتكَلَّف القولُ برفعه الظاهر، كما لمي ُتَكَلَّف ذلك في: مررتُ برجلٍ خيرٍ منه أبوه، على عامة اللغات؟ قيل لا، لأن ما أمكن في ((خيرٍ منه أبوه)) لا يمكن في مسألتنا، إذ لو جعلتَ (الكُحْل) مبتدأً خبرهُ (أحسنُ) لزم الفصل بالمبتدأ بين (أَفْعَلَ) و (مِنْ) وهما بمنزلة المضاف والمضاف إليه. وقد حصل أن القيد الذي ذكره الناظم، وهو معاقبةُ الفعل، كافٍ في المسألة، لكم المثال عَيَّنَ موضعَ ذلك حتى يُحْذَى حَذْوَه (1). وله في ((التسهيل)) قيودٌ لفية ضابطة لموضع الكثرة، يشير إليها مثالثه، وجملتها ثلاثة (2):

______ (1) يقال: حَذَا فلان حذوَ فلان، إذا فعل فعله، وفلان يَحَتذي على مثال فلان، إذا اقتدى به في أمره. (2) التسهيل: 135، والقيود الثلاثة التي ذكرها النظم هنالك تتمثل في قوله: ((لا يرفع أفعل التفضيل، في الأعرف، ظاهرا إلا قبل مفضول هو هو، مذكور أو مقدر، وبعد ضمير مذكور أو مقدر مفسر، بعد نفي أو شبهه يصاحب (أفعل))) وسيفصَّل الشاطبي القول في هذه القيود الثلاثة فيما يلي.

أحدها أن يكون الظاهرُ المرفوعُ بـ (أَفْعَل) مفضَّلا على ما هو هو في المعنى مذكورٍ بعده أو مقدر. وهو في مثاله مقدر، لأن التقدير فيه: لن تَرى في النَّاسِ مِنْ رفيقٍ أَوْلَى به الفضلُ منه بالصدِّيقِ. والضمير في ((منه)) عائد على (الفَضْل) وهو المفضَّل، فإذاً هو هو. ويجوز حذف المفضل عليه كما في المثال، فتقول: ما رأيتُ رجلاً أحسنَ في عينه المحلُ من عينِ زيدٍ، كما تقول: ((ما مِنْ أيامٍ أحبَّ إلى اللهِ فيه الصومُ من عَشْر ذيِ الحِجَّة)) أصله ((مِنْهُ في عَشْر ذيِ الحِجَّة)) وإنما حُذف للاختصار ولفهم المعنى. وإنما أَتى به محذوفاً ليُعلمك أنه جائزُ الحذفِ، ليس بلازم الذَّكرْ. والمعنى أيضا دال على موضعه، فلم يحتج إلى التنبيه على صحة الإتيان به. وتحرَّز بهذا القْيد من أن يكون الظاهر على ما هو غيرُه، كقولك: مررتُ برجلٍ خيرٍ منه أبوه، فإن هذا مما فُضِّل فيه الظاهرُ، وهو (الأبُ) على غيره، وهو (الرجلُ) وقد تقدم أن رفع الظاهر في مثل هذا لغةٌ ضعيفة، بخلاف مسألتنا. وتحرز بقوله: ((مذكور بعدة)) من أن يكون مذكورا قبله، أعني المفضَّلَ عليه، فإنه إذا كان كذلك لم يَكْثر رفعُ (أَفْعَل) للظاهر، إذ لا يقال به إلا حيث يَتَعَيَّن. وكذلك إذا قلتَ في مثال الناظم: أَوْلَى به من الصدِّيق الفضلُ، فصار كقولك: مررتُ برجل خيرٍ منك أبوه. والقيد الثاني أن يكون الظاهر المرفوع بـ (أَفْعَل) آتياً بعد ضمير مذكورٍ ملفوظٍ به، وذلك الضمير مفسَّر بصاحب (1) (أَفْعَلَ) الذي جَرىَ عليه. وهذا

______ (1) في (ت) ((مفسِّر لصاحب)) وهو تصحيف.

الضمير المشارُ إليه هو المجرور بالباء في قوله في المثال: ((أَوْلَى به الفضلُ من الصدِّيق)) والمرفوع هو (الفضلُ) فإذا كان على هذا الترتيب صَحَّ رفعُ (أَفْعَلَ) للظاهر، لأنه لا سبيل إلى غير ذلك، ... إذ لو/ جعلتَ (الفضْلُ) مبتدأ، و (أَوْلَى) خبره لكنتَ قد فصلتَ بين (أَوْلَى) وما في ... 580 صِلَته، وهو المجرور بعد (الفَضْل) بأجنبيٍّ منهما، وهو (الفَضْلُ) وقد تقدَّم. فلو لم يكن الضمير المفسَّر بصاحب (أَفْعَلَ) مذكوراً قبل المرفوع، بل كان بعده، وذلك إنَّما يُتَصَّور مع تقديم المرفوع، وتصييره مبتدأ لصار (أَفْعَلُ) لا يَرفع في اللغة المشهورة إلا المضمرَ على بابه، فتقول: لن ترى في الناسِ مِنْ رفيقٍ الفضلُ أَوْلَى به من الصدِّيق. فـ (الفضلُ) مبتدأ، (وأَوْلَى به) خبره، كما تقول: ما رأيتُ رجلاً زيدٌ أكرمُ منه إلا عَمْراً، فيكون رَفْعُ (أَفْعَل) هنا للظاهر مقتصراً به على اللغة الضعيفة. وأيضاً فحيث يتأَتَّى الابتداءُ والخبر يتغيَّر المعنى عما كان عليه في رفع الظاهر. فإذا قلت: ما رأيتُ رجلاً أبغضَ إليه الشرُّ منه إلى زيدٍ، تعرضتَ لنفي المزيَّة والمساواة معاً. وإذا قلت: ما رأيت رجلاً الشرُّ أبغضُ إليه منه إلى زيدٍ، فإنَّما تعرضت لنفي المزيَّة، وأما المساواة فلم تتعرَّض لنَفْيها، وإذا اختلف معنى الكلامين لم يَقُم أحدهما مقَام الاخر، فكان رفع الظاهر هنا ضرورياً من جهة اللفظ، محتاجاً إليه في التخاطب من جهة المعنى. وبهذا عَلَّل المؤلف رفعَ الظاهرِ هنا. وقد تقدم.

______

والقيد الثالث أن يكون هذا كله بعد نَفْي، لقوله في المثال: لن تَرىَ في الناسِ من رفيقٍ، لأن المعنى المقصود إنَّما يحصل بذلك. وأيضاً فهو موضع السماع كما مَرَّ في الأمثلة. فأمَّا لو قلتَ: رأيتُ في الناس صديقاً أبغضَ إليه الشرُّ منه إلى زيدٍ، لم يصح؛ إذ لا يُعاقبه الفعلُ هنا، فلا يصح أن يقال في معنى ذلك: رأيتُ صديقاً يُبْغض الشرَّ كزيدٍ، إذ ليس في ذلك المعنى. وقد تقدم أنه إنما رَفع الظاهرَ هنا لشبَهه باسم الفاعل، ومعاقبتِه إيَّاهُ من جهة المعنى. ويجري مَجرى النفَّيْ ما في معناه، وذلك (الاستفهام، والنهيُ) نحو: هل رأيتَ في الناس من رفيقٍ أَوْلَى به الفضلُ من الصدِّيقِ؟ وكذلك: لا تَرَ في الناسِ من رفيقٍ أوْلَى به الفضلُ من الصدَّيق؛ لأن النهي نفيُ مطلوبٍ، والاستفهامُ يقع بمعنى النَّفي، (وكذلك تقع بعده (مِنْ) الاستغراقية نحو {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرُ اللهِ} (1). وقد تقدم إجراؤه للاستفهام مَجرى النفي) (2) في مواضع، فكذلك يكون الحكم هنا مع القول بإعمال القياس. واعلم أن قوله: ((فكثيراً ثَبَتَا)) ليس فيه ما يدل على أنه قياس، وكأنَّه- والله أعلم- قَصد ذلك، وإلاَّ فكان يمكنه أن يقول: فقِيَاساً ثَبَتَا، أو ما يُعطي ذلك المعنى، فالظاهر أنه تردَّد في الحكم بالقياس، وذلك أن السيرافي (3) عَلَّل رفع الظاهر بما يقتضي الاضطرارَ إلى ذلك، وأنه ضعيفُ على خلاف

______ (1) سورة فاطر/ آية 3. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت). (3) السيرافي (جـ 2، ورقة 167 - ب).

القياس، فذكر أنه إنما خالف حكم هذه المسائل الحكمَ في ((خيرٍ منه أبوه)) لمفارقتها إياه من جهة اللفظ والمعنى. أما/ المعنى فإن (مِنْ) في: ((خيرٍ منه أبوه)) واقعةٌ على المفضول، وما بعده هو ... 581 الفاضل، فالهاء في ((منه)) للمفضول، و ((أبوه)) هو الفاضل، وهما غَيْران. بخلاف هذه المسائل، فإنَّ ما وقعت عليه (مِنْ) وهو المفضولُ، هو بعَيْنِه الفاضلُ، فهما شِيء واحد، وإنما افتَرقا بالمحل، وأنك تريد في ((مسألة الكُحْل)) مثلا تفضيلَ الكحِل في عينِ زيدٍ عليه في عين عمروٍ، وليس هنا في الحقيقة غَيْران، فأشبهت (أفعلُ) هنا اسمَ الفاعل بهذا القدر، إذ لا يجيء اسم الفاعل طالباً شيئين طلبَ (أَفْعَل). هذا مع أن (الأَبَ) في ((خيرٍ منه أبوه)) لا عملَ له ولا صُنْع، وللكُحْل عملٌ وعلاج يُرى أثره فأشبه اسمَ الفاعل. وأمَّا اللفظُ فما ذُكر من لزوم الفصل بين (أَفْعَل) وما في صلته، بخلاف ((خير منه أبوه)). قال: فضُمَّت الضرورةُ إلى رفع الظاهر هنا، بخلاف ((خيرٍ منه ابوه)). ورَدَّ ابن خروف هذا وقال الإتباعُ في هذه الصفات ليس بضرورة، لأنه في الكلام كثير، وليس بضعيف. قال: والصفةُ فيه للأول، وإن كانت قد رَفتت غيرَ الأول. قال: ومَن جعله ضرورةً فقد أخطأ (1). ثم عَلَّل بمعنى ما ذَكره السِّيرافي فكأنه فهم من السيرافي تضعيفَ

______ (1) غير معروف.

المسألة، فردَّ عليه بكثرة السماع. وأيضاً فظاهر سيبويه أنه قياس، فهذا-والله أعلم- هو السبب في أَنْ خرج الناظم عن عُهْده المسألة، وأخبر بالسَّماع فيها، إذ كان وجه القياس فيها ضعيفاً. وإنما عَلَّلوا بما يقتضي أنه خرج عن بابه ضرورةً، لكن صادم كثرةَ السماع في وجهه، والظاهر القياس، وإليه مال في ((التسهيل)) (1). والنَّزْر: القليلُ التافه، وقد نَزَر يَنْزُر نَزَارَةً. وعاقب الشيءُ الشيءَ، إذا جاء في عَقِبه، ومنه سُمَّيت (المُعَاقَبة) المصطلح عليها (2)، لأن أحد المتعاقبَيْن إنما يأتي في عَقِب الآخر وبعد ذهابه، ومن حكمهما أَلاَّ يجتمعا. والصِّدِّيق، مثل القِسَّيس: الدائم التَّصديق. قال الجوهري: ويكون الذي يُصَدق قولَه بالعمل، وكأنه أراد هنا أبا بَكْر الصدِّيقَ رضي الله عنه، خليفة رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم. واسمه عبدالله بن عثمان، وهو ابو قُحافة بن عامر بن عمرو بن كَعْب بن سعد بن تَيْم بن مُرَّة بن لُؤَيّ. يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُرَّة. أُمُّه أمُّ الخَيْرِ، واسمها سَلمْى بنت صَخْر بن عامر بن كَعْب بن سعد بن تَيْم. والصدِّيقُ لقبٌ له. وفي تسميته بالصدِّيق قولان، قيل: لتصديقه بالرسالة على غير تَلَعْثُم ولا توقُّف، رُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: قالت قريش: كَذَب محمد، وقال أبو بكر: صَدَق محمد، فسمَّاه الله صِدِّيقاً، قال: {والَّذِي جَاءَ بالصَّدْقِ

______ (1) ص 135. (2) المعاقبة في الزحاف: أن تحذف حرفا لثبات حرف، كأن تحذف الياء من (مفاعيلن) وتبقي النون، أو تحذف النون وتبقي الياء، وهو يقع في جملة شطور من شطور العروض [اللسان- عقب].

وصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (1)، فالذي جاء بالصدق محمدٌ، وصَدَّق به أبو بكر. ورُوي عن ابن المبارك (2) أنه سمى صِدِّيقا لانه لم يَكذب قط. وهو كان رفيقَ رسوله صلى اللها عليه وسلم في الهجرة، وصاحَبه في الغار، وفيهما نزلت الآية {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} (3). الآية، فلأجل هذا لا رفيقَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ منه. تُوفي/ لثمان بَقِينَ من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، رضي الله عنه. 582

______ (1) سورة الزمر/ آية 33. (2) هو أبو عبدالرحمن عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي المروزي، الحافظ شيخ الإسلام، وصاحب التصانيف والرحلات، أفنى عمره في الرحلات حاجا ومجاهدا وتاجرا، وجمع الحديث والفقه والعربية وأيام الناس، وكان شجاعا سخيا، وله كتاب في الجهاد، وآخر في الزهد والرقائق (ت 181 هـ). (3) سورة التوبة/ آية 40.

النعت

النعت لما تكلم الناظم رحمه الله على أحكام المرفوعات واستوفاها، ثم على أحكام المنصوبات، ثم على أحكام المجرورات، وذلك [بحسب العوامل المتصرِّفة أولا، ثم] (1)، بحسب العوامل غير المتصرفة ثانيا، أخذ الآن يتكلم في أحكام التوابع لتلك المعمولات، وأتى أولا بحكم عام يشمل التوابع كلها، ويعرَّف بمعنى التابع واسمِه فقال: يَتْبَعُ في الإعْرابِ الاسْمَاءَ الأُوَلْ نَعْتٌ وتَوْكيدٌ وعَطْفٌ وبَدَلْ يعني أن هذه الأنواع الأربعة المذكورة، وهي النعت والعطف والتوكيد والبدل، حكمها أن تَتبْع الأسماء المذكورة قبلها في الإعراب مطلقاً من غير تقييد. وهذه القاعدة تشمل حكمين عامَّينْ لجميع التوابع، ومن أجلهما سُمِّيت توابع. أحدهما لزوم التَّبَعية في الإعراب، فالأنواع الأربعة غير خارجة عن هذا الحكم، فتقول في النعت: مررتُ بزيدٍ العاقلِ، وفي التوكيد: مررتُ بزيدٍ نفسهِ وفي العطف: مررتُ بأبي عبدِ الله زيدٍ وأخيه، وفي البدل: مررتُ بزيدٍ أخيك. وكذلك في النصب والرفع. فهذه التَبعَية التي هي في الإعراب شاملة لجميعها.

______ (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (س، ت).

ولها تَبَعيَّةٌ أخرى لكنها غير شاملة، فإن النعت تابع في التعريف والتنكير، بخلاف غيره. والتوكيد تابع للمعرفة خاصة على الأمر العام بخلاف غيره. والمعطوف تابع للمعطوف عليه بواسطة حرف التَّشريك، بخلاف غيره. والبدل غيرُ لازمٍ فيه ذلك كلُّه، بل يَتبع النكرة وهو معرفة وبالعكس، ولا يكون فيه حرف، فإذاً قد صار كل نوع منها مختصاً بتعبيَّة أخرى. والحكم الثاني لزومُ كَوْنِ هذه الأنواع مذكورةً بعد الأسماء الأُوَل، لأنه قَيَّد المتبوعات بكونها الأَول في الذِّكر، فلابد أن تكون التوابع ثوانيَ عنها في الذِّكر، فلا يتقدم إذاً التابعُ على المتبوع، كما لا يختلفان في الإعراب، وإذا كان الحكم هذا فلا يجوز إذاً أن تقول: مررتُ بالعاقِل زيدٍ، و ((زَيْد)) هو المتبوع، بل يصير حكمُ (زَيْد) آخرَ، وهو أن يكون بدلاً أو عطفَ بيان. ((والعاقِل)) صفةٌ على أصلها، قائمةُ مقامَ موصوف متقدَّم، حُذف للعلم به، لا صفةُ لـ (زيْد) المتأخِّر. ومثل ذلك قوله تعالى: {إلىَ صراطِ الْعَزيزْ الحَميدِ، اللَّه} (1)، على قراءة الخفض، وهي لغير نافع وابن عامر (2). وكذلك العطفُ لا يجوز تقديمُ المعطوف على المعطوف عليه إلا في ضرورة شِعْر، كقول الشاعر ويُنسب للأحوص (3):

______ (1) سورة إبراهيم عليه السلام/ آية 1، 2. (2) وقرأ نافع وابن عامر (اللَّهُ) بالرفع [السبعة 362]. (3) ديوانه 173، والخصائص 2/ 386، وشرح الرضي على الكافية 1/ 246، 356، والخزانة 1/ 399، والهمع 3/ 39، 240، 4/ 308، والدرر 2/ 105. وذات عرق: موضع بالحجاز. وسلم على النخلة لأنها معهد أحبابه، وملعبه مع أترابه، لأن العرب تقيم المنازل مكان سكانها فتسلم عليها، وتكثر من الحنين إليها. ويحتمل أن يكون كنى عن محبوبته بالنخلة، لئلا يشهرها، وخوفا من أهلها وأقاربها.

أَلاَ يا نخْلَةً مِنْ ذَاتِ عرْقٍ عَلَيْكِ ورَحْمَةُ اللهِ السَّلامُ إذا لم تُجعل ((ورحمةُ الله)) معطوفاً على الضمير في ((عَلَيْكِ)) وقولِ ذي الرُّمَّة، أنشده سيبويه (1): كَأَنَّا على أَوْلاَدِ خَطْبَاءَ لاَحَهَا ورَمْىُ السَّفَا أنْفَاسَهَا بِسَهَامِ جَنُوبٌ ذَوَتْ عَنْها التَّنَاهِي وأَنْزَلَتْ / بها يومَ ذَبَّابِ السَّبِيبِ صِيَامِ 583 أراد في الأول: عليكِ السلامُ ورحمةُ اللهِ، وفي الثاني: لاَحَها جَنُوبُ وَرْمُى السَّفَا. وقول الناظم: ((يَتْبَعُ في الإعْرابِ)) ولم يَخُصَّ وجهاً من وجوه الإعراب- إنما أطلقه استظهاراً على النحو: علمتُ زيداً قائماً، ورأيتُ

______ (1) ديوانه ذي الرمة 610، والكتاب 2/ 99، والأشموني 3/ 118، واللسان (سهم) والرواية فيه كما في الديوان وغيره ((أولاد أحقب)). يصف إبلا سريعة ضامرة، ويشبهها بأولاد أحقب، وهي الحمر الوحشية التي في بطنها بياض مكان الحقيبة. ولاحها: أضمرها وغيرها. والسفا: شوك البهمي، والحمر تكلف بها. وأنفاسها: أنوفها، لأنها مخارج النفس. والسهام: وهج الصيف وغبرته. يقول: تأكله وقد هاج ويبس فيصيب مشافرها وأنوفها فيدمِيها. والجنوب: ريح تقابل الشمال. وذوت: جفت ويبست. وعنها: بسببها. والتناهي: الغدران واحدها تنهبة، وسميت بذلك لأن السيل ينتهي إليها من الوادي ويستقر بها. وقوله: ((أنزلت بها يوم)) معناه أن الجنوب أنزلت الحمير يوماً تذب فيها بأذنابها الذباب الذي يحوم حولها من شدة الحر. والسبيب من الفرس وغيره: شعر الذنب والعرف والناصية. وصيام: قائمة مكانها لا تبرحه، ممسكات عن الرغى وهي صفة لأولاد أحقب. وعلى رواية الشاطبي (خطباء) فالخطباء من حمر الوحش هي الأتان التي لها خط أسود على متنها والذكر أخطب.

زيداً راكباً، وما أشبهه، فإنها، وإن كانت تابعة لما قبلها في الإعراب الحاصل فيها، لم يَحْصُلْ فيها التَّبَعيَّة المطلقة، فإن هذه الأمثلة، أعني (قائماً، وراكباً) وسواهما من ثَوَانِي المفعولات لا تَتْبع في غير ذلك الإعراب الخاص، ألا ترى أنك إذا قلت: عُلِم زيدٌ قائماً، ورُئِيَ زيدٌ راكباً، انحرمت التَّبَعيَّة، فدل على أنها في الحقيقة ليست بتَبَعِيَّة، وإنما كانت موافقةً في الإعراب اتَّفَاقِيَّة، فإنَّما يريد بقوله: ((في الإعْرابٍ)) العمومَ في وجوهه كلها. وذكر أنواعاً أربعة، وهي في الحقيقة خمسة، يُزاد عليها عطفُ البيان، وقد كره وبَوَّب عليه اجتراء بلفظ ((عَطْفٌ)) لأن العطف على وجهين، عطفُ بيان، وعطفُ نَسَق، والعطف يقال عليهما باشتراكٍ لا بتَوَاطُؤٍ (1)، إذ لم يشتركا في معنى كُلِّي إلا في المعنى الذي اشتركت فيه التوابعُ كلها، فكان الأَوْلَى أَلاَّ يأتي لهما بلفظ واحد، لكن ذلك قريب، والخَطْب فيه يسير. وقد يَرِد عليه أن كلامه يقتضي أن التوابع مختصة بالأسماء، إذ حَكَم أن التوابع تتْبع الأسماء الأُوَل، فكأنه عنده حكمٌ ثالث مضافٌ إلى الحكمين المذكورين قبل هذا، وإلاَّ فما الفائدة في ذكر الأسماء هنا؟ وإذا كان ظاهر كلامه أنه حكم ثالث لازم انْتَقض عليه بأن العطف يكون في الأسماء والأفعال، وقدَ نَصَّ على ذلك في باب ((العطف)) إذ قال: ((وعَطْفُكَ الفِعْلَ على الفِعْل يَصحْ)). والبدل أيضاً يكون في الفعل كما يكون في الاسم، كقولك: إن تُكْرِمْنيِ تُحْسِنْ إلىَّ أشكرْك. ومن قوله تعالى: {ومَنْ يَفْعلْ ذَلِكَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ

______ (1) المشترك هو اللفظ الذي وضع لأكثر من معنى وضعا مستقلا، مثل العَين، والمتواطئ هو اللَفظ الذي وضَع لمعنى كلي يشمل أفراده بدون تفاوت، مثل: الحيوان، والإنسان.

العَذَابُ يومَ القِيَامَة وَيخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (1). وفي هذا أيضاً شاهدُ عطفِ الفعل (على الفعل) (2). وكذلك التوكيدُ يكون في الاسم والفعل والحرف والجملة، وذلك قِسْمُ الَّلفْظي. وإنَّما يخلو من هذا النعتُ وعطفُ البيان، فلا يكونان إلا في الاسم. وقد نَصَّ الناظم على البدل في الفعل بقوله: ((ويُبْدلُ الفِعْلُ من الفِعْل)) البيتين (3)، وكذلك بَيَّن في التوكيد اللفظي (4)، فأشكل قولهُ هنا ((الأسماءَ الأُوَلْ)). والجواب أن كلامه لا يقتضي اختصاصَ التوابع بالأسماء، لأن ذلك إنما هو بمفهوم الَّلقَب المرفوض عند أهل الأصول (5)، فذكرُه الأسماءَ ليس له مفهومٌ ولا مُقْتَضى غيرُ ما يدلُّ عليه صريُح لفظه، فلا تَنْتَفى التَّبَعيَّةُ عن الفعل وغيرِه بذلك، بل يبقى مسكوناً عنه، حتى إذا شَرع في كل واحد من التوابع على التفصيل بَيَّن ما يَحتاج إليه من ذلك بعد ذكر التَّبعيَّة للأسماء التي جَعلها ... أصلاً/ وإنَّما المفهومُ الصحيح ما اقتضاه ... 584

______ (1) سورة الفرقان/ آية 68، 69. (2) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل. (3) هو بيت واحد، وهو قوله: ويَبْدَلُ الفِعْلُ من الفِعْلِ كمَنْ يَصِلْ إلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَن (4) يقصد قول الناظم في باب ((التوكيد)): وما من التوكيدِ لَفْظِيُّ يجي مُكَرراً كَقْولكِ ادْرُجِي ادْرُجيِ (5) مفهوم اللقب قسم من أقسام مفهوم المخالفة. ومفهوم المخالفة-عند الأصوليين- هو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم، ويسمى دليل الخطاب. ومفهوم اللقب هو تخصيص اسم مشتق بحكم، مثل قولنا: محمد رسول الله، فإن هذا المنطوق لا يفهم منه أن غير محمد ليس برسول. وعامة الصوليين يرفضون الأخذ بهذا المفهوم. وانظر [المختصر في أصول الفقه لابن اللحام 134].

قولهُ: ((الأُوَلَ)) لأنه صفة، ومفهومُ الصفةِ معمولٌ به (1)، معلومُ الصحة عند المحقِّقين من أهل الأصول واللغة، فلا إشكال على هذا. ثم لما بَيَّن الحكمَ الجُمْلي العام للتوابع أخذ يتكلم في تفاصيلها نوعاً نوعاً، وبدأ بالنعت فقال: فالنَعْتٌ تَابعٌ مُتِمٌّ ما سَبَقْ بوَسْمِهِ أو وَسْمِ مِا بِهِ اعْتَلَقْ وهذا تعريفٌ بالنعت الرَّسْمي، وتمييزُه عن الأنواع الأُخَر. فقوله: ((تابعٌ)) هو الجنس الأقرب للتوابع، ومعنى التَّبَعِيَّة فيه هو المذكور أولا. وقوله: ((مُتِمٌّ ما سَبَقْ)) يعني أنه يُتم معنى الأسم السابق بالنِّسْبة إلى فهم لا بالنسبة إلى نفس الاسم، لأن الاسم في نفسه تامُّ الدلالة على معناه وَضْعاً، وإنما التفاوتُ في تمام الدلالة وعدمِ ذلك بالنسبة إلى فهم السامع، فقد يكون الاسم السابق بالنسبة إليه تامَّ الدلالة، أي معروفاً عنده، وقد يكون ناقص الدلالة، أي مبهَماً عنده. فإذا قلت: مررتُ بزيدٍ، فإن كان ((زيدٌ)) معروفاً عند السامع فقد تَمَّ، وإن كان غيرَ معروف عنده فهو ناقص حتى تقولك الخياطِ، أو النجارِ، أو القرشيِّ، فَيِتَمَّ ذلك عند السامع، وقد يحتاج إلى أكثر من نعت واحد، وحينئذِ يتم.

______ (1) مفهوم الصفة قسم من أقسام مفهوم المخالفة أيضا. وهو أن تقترن بعام صفة خاصة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((في الغنم السائمة الزكاة)) فإن مفهومه أن غير السائمة من الغنم، وهي التي تُعلف، لا زكاة فيها. وجمهرة الأصوليين يأخذون بهذا المفهوم. وانظر [المختصر في أصول الفقه 133].

وقد نَصَّ سيبويه على هذا المعنى، وأن ((زيداً)) عند مَنْ يعرفه كزيدٍ الأحمرِ عند من لا يعرفه (1). فهذا معنى قوله: ((مُتِمٌّ ما سَبَقَ)). ولما كان هذا غير كافٍ في التعريف، إذ قد يدخل عليه فيه البدلُ وعطفُ البيان إذا قلت: قام زيدٌ ابو عبدِ الله، وقام عبدُ الله زيدٌ، فإن البدل مثلُ النعت، فإنه يُبَيَّن ما قبله ويوضَّحه ويُتِمُّه، وكذلك عطفُ البيانِ- أخرجهما بقوله: ((بوَسْمِهِ أو وَسْم مِا به اعَتَلقَ)) وهذا المجرور بـ (مُتِمُّ) اي يُتِمُّه بهذا الوجه من الإتمام، وهو وَسْمه بِسِمةَ يُعرف بها. والوَسْم هنا مصدر: وَسَمْتُه، أَسِمُهُ، وَسْماً، أي جعلتُ عليه علامةً يعرف بها. والسِّمة التي يوُسم بها المعنى الذي يعطيه الاسمُ المشتق ونحوهُ، فإنك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ الخَيَّاطِ أو العاقِل، فقد أتممتَ دلالة لفظ ((زيد)) على مدلوله بالإتيان بمعنى الخياطة أو العقل المفهومَيْن من لفظ (الخَيَّاط، والعَاقِل). فخرج بذلك البدلُ وعطفُ البيان، فإن تبيينهما للأول ليس على هذا الحد، ولكن بالإتيان بلفظ مرادِف للأول أَبْيَنَ منه، لأنك وسَمت الأول بسمة عُرف بها مدلوله، وتَخَصَّص بها فافترقا.

______ (1) عبارة سيبويه في الكتاب (1/ 88) هي ((وإنما منعهم أن ينصبوا بالفعل الاسم إذا كان صفة له أن الصفة تمامُ الاسم، ألا ترى أن قولك: مررت بزيد الأحمر، كقولك: مررت بزيد، وذلك أنك لو احتجت إلى أن تنعت فقلت: مررت بزيد، وأنت تريد: الأحمر، وهو لا يعرف حتى تقول: الأحمر، لم يكن تمَّ الاسم، فهو يجري منعوتَ مجرى: مررت بزيد، إذا كان يعرف وحده، فصار الأحمر كأنه من صلته)).

وحصل أن الاسم الجامد إذا وقع تابعاً فليس بداخل تحت حَدِّ النعت أصلا، لأنه ليس بوَسْمٍ للأول، ولا لما اعْتَلق به، وإنما يدخل تحته المشتقُّ وما في معناه على حسب ما يذكره بعد في قوله: ((وانْعَتْ بُمشْتَقٍ)). ومعنى قوله: ((بوَسْمِه)) أي بوسم الاسم الأول، فالضمير في ((بوَسْمِه)) عائد على/ قوله: 585 ((ما سَبَقَ)) وكذلك في ((ما بِه اعْتَلَقَ)). والذي اعْتَلق بالأول هو ما كان من سَبَبه (فالذي للأول نحو: مررت برجل كريم، وبزيد العاقل. والذي من سببه) (1). نحو: مررتُ بزيدٍ الفاضلِ أبوه، وبرجلٍ كريمٍ أخوه. فالوَسْم هنا إنما للأب والأخ اللذين هما من سَبَب الأوَّل لا للأول. وإنما ساغ ذلك، وحصل به التعريف، لأن ما كان من سبب الأول، وله به تعلُّقٌ وملابسةٌ إذا وُسِم فكأنه قد وُسم الأول، فيحصل بذلك بيان الأول. والأوصاف التي يحصل بها هذا المعنى أربعة: (حِلىً) وهي الصفات الظاهرة، نحو: الطويل، والقصير، والقليل، والكثير. و(غرائز) وهي الصفات الباطنة، نحو: العالم، والجاهل، والشَّرِيف، والخامل. و(أفعال) نحو: الخَيَّاط، والتاجر، والقاضي، والفاجر.

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت) ومستدرك على حاشية الأصل.

و (نَسَبٌ) كالقرشيِّ، والهاشميِّ، ونحو ذلك. واعْتَلق بالشيء، وتعلَّق به بمعنى. وهذا الحد الذي حَدَّ به النعتَ هو معنى ما حَدَّ به غيرُه من قوله: ((هو الاسم الجاري على ما قبله لإفادة وصفٍ فيه أو فيما هو من سَبَبه)) وفي هذا التعريف (1) نظر من أوجه: أحدها أن البدل وعطف البيان داخلان عليه، ولا يُنْجيه من ذلك قوله: ((بوَسْمِه)) لأن الوَسْم كما يقع بالصفة المشتقة المؤدِّية لمعنى من المعاني الزائدة على الموصوف كذلك يقع بالاسم الجامد الذي يؤدِّي معنى الأول ويُبَيِّنه، لأن الاسم على الإطلاق سِمَة على مُسَمَّاه، وإطلاقُه على مسمَّاه وَسْمٌ له به، فلا يُنَجِّى قولُه: ((بوَسْمه)) عن وُروُد ما ليس بنعت في حَدِّه. نَعَمْ الذي لا يَحتمل دخول البدل وغيره عليه هو قوله: ((أوَ وَسْمِ ما به اعْتَلَق)) لأنه لا يصح وسُم ما بالأول اعْتَلَق إلا وهو مشتق (2). والثاني أن هذا التعريف لا يصدق إلا على (نَعْت البيان) خاصة، لأنه هو الذي أَتَمَّ الفائدةَ بالنسبة إلى السمع. ونعتُ البيان هو المسوقُ لتخصيص نكرة نحو: مرتتُ برجلٍ نَجَّارٍ، فإنك خَصَّصْتَه بـ (النجار) من الفَلاَّح (3)، والعاقل، والأحمق، وغيرهم ممن ليس بنجَّار.

______ (1) أي تعريف الناظم. (2) في الأصل و (ت) ((لأنه لا يصح ما بالأول إلا وهو مشتق)) وما أثبته من (س) وحاشية الأصل، وهو وجه العبارة. (3) في الأصل و (ت) ((بالنجار والفلاح ... )) وهو تصحيف بَيِّن.

أو لرفع اشتراكٍ عارضٍ في معرفة نحو: زيدٌ العاقلُ، فإنك أخرجتَ زيدا بـ (العاقل) من سائر من عُرف بهذا الاسم وليس بعاقل. زاد المؤلف: أو لتَعْمِيمٍ، نحو: إن الله رَزَّاقٌ لعباده المُطِيعين والعَاصِين. أو لتفصيلٍ، نحو: مررتُ برجلين مسلمٍ وكافرٍ. فهذا النوع من النعوت هو الذي تناوله التعريف، وبقى من أنواع النعوت أربعة: نعت المَدْح نحو: {الْحمْد لِلّهِ رَبِّ العَالَمِين * الرَّحْمنِ الرَّحِيم * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. ونعت الذم نحو: أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيمِ. ونعت الترحُّم نحو: مررتُ بزيدٍ المسكينِ البائسِ الفقيرِ. ونعت التوكيد نحو: مررتُ بغلامَيْن اثْنَيْنِ، وبرجلٍ واحدٍ. زاد المؤلف خامسا وهو نعت الإبهام نحو: مررتُ بصدقةٍ قليلةٍ أو كثيرةٍ. فهذه أنواعٌ لابُدَّ من إدخالها في النعوت، وهي لم تدخل له، فكان ذلك خَلَلاً في تعريفه. / والثالث أن النعت القائم مَقام المنعوت (1) غير جُارٍ على منعوتٍ سَبَق، مع أنه ... 586 نعت بلاشَكَّ، فخرج عن حَدِّه، فاقتضى أنه ليس بنعت.

______ (1) مثل قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ)) أي دروعا سابغات. وسيأتي تفصيل هذه المسألة عند قول الناظم. وما مِنَ المَنْعُوتِ والنَّعْتِ عُقِلْ يجوز حَذْفُهُ وفي النَّعتِ يَقِلّ

وليس كذلك. والجواب عن الأول أن مراده بالوَسْم- كما تقدَّم- المصدرُ، أي بأن تَسِم الاسَم الأولَ وأنت إذا أجريت الاسم الجامد على الأول إنَّما أتيتَ باسمٍ آخر أوضح، لا أَنَّك وسمتَ الأولَ بما يُعرف به، فلم يَصْدُق من هذا الوجه على عطف البيان أنه وسُم به الأولُ، وجُعل عليه علامة، وإنما يَصْدُق عليه أنك أتيتَ باسم آخر أعرفَ من الأول ليتضح معناه عند السامع، لا لقصدِ أن يتضح به الأول فافترقا. والجواب عن الثاني من وجهين، أحدهما أن نعت البيان هو الأصل، وإنما وُضع لهذا القصد، أعني إيضاح الأول، إذ المدح أو الذم أو غيرهما أمرٌ ثانٍ عن معرفة ذلك. وإذا كان كذلك فغيرُ نعتِ البيان محمولٌ عليه، فيكون الناظم قد عرَّف بالنعت الأصيل، وتَرك ما عداه، لأنه فرع وتابع. والثاني، وهو الأَوْلَى، أن ما عدا نعتَ البيان مثلُ نعت البيان في كَونْه مُتِماً ما سبق، لكن بحسب القصْد، وذلك أن القائل: مررتُ بزيدٍ الفاضلِ الكريم، أو القائل: مررتُ بزيدٍ الفاسقِ الخبيثِ، أو المسكينِ الفقيرِ أو نحو ذلك، إنَّما قصدُه التعريفُ بزيد، من حيث احتوى على خِلاَلٍ وأوصافٍ يُمدح بها أو يُذم. فالاسم الأول قد تَضَمَّنها من حيث العَلَمِيةِ، لكن بقى تقريرُها على السامع حتى يعرفَ صاحبَها معرفةً أخرى أتمَّ من تلك المعرفة المتقدِّمة له، فإذاً المادحُ أو الذامُّ أو غيرهما قاصدٌ للتعريف بزيد تعريفاً لم يَتِم بحسب السامع قبل النعت، وإن كان يَعرف عينه. فلم تَخرج نعوتُ المدحِ والذم والترحُّم عن كونها تُتِمُّ ما سبق. وأما نعت التوكيد ففيه أيضاً إتمامُ ما للأول. نَصَّ عليه أهل المعاني

______

والبيان، وكذلك نعت الإبهام، فتأمَّلْه. والجواب عن الثالث أن النعت له جَرَيانٌ على المنعوت إذا كان محذوفا، كجريانه إذا كان ثابتا، لأنه في حكم الملفوظ به. وأيضا الحذفُ على خلاف الأصل فلم يُعْتَدَّ به. ووجهٌ ثالث، وهو أن النعت إذا أُقيم مُقام المنعوت فهو مباشرٌ للفعل، ومطلوبٌ له، فليس إذ ذاك معرَباً نعتاً، بل فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً. والتقديرُ أمرٌ آخرُ وراء ذلك. و((ما)) في قوله: ((ما سبق)) مفعول ((مُتِمٌّ)) و ((ما)) في ((ما بِهِ اعْتَلَقَ)) مخفوضةُ اللفظ بإضافة ((وَسْمِ)) إليها، ومنصوبةُ الموضع بـ ((وَسْمِ)) لأنه مصدر مقدَّر بأَنْ والفعل. والضمير في ((اعْتَلَقَ)) عائد ((ما)) وَلْيعْطَ في التَّعْرِيفِ والتَّنكيرِ مَا لِمَا تَلا كامْرُرْ بقَوْمٍ كُرَمَا وَهْوَ لَدىَ التَّوْحِيدِ والتَّذْكيرِ أَوْ سِوَاهُما كالفِعْلِ فَاقْفُ ما قَفَوْا / يعني أن النعت يُعْطَى من التعريف والتنكير مثلَ ما يُعطاه المنعوتُ، فلابد أن ... 587 يماثله ويَتْبَعه في ذلك كما يَتْبَعه في الإعراب. هذا الحكم فيه لازمٌ، سواء أكان النعت حقيقياً أو سببياً، فتقول: مررتُ برجلٍ عاقلٍ، وبزيدٍ العاقل. ولا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ العاقلِ، ولا بزيدٍ عاقلٍ، و ((زيدٌ)) باقٍ على عَلًمِيَّته، ولا: بأبيكَ عاقلٍ. وكذلك تقول: مررتُ برجلٍ عاقلٍ ابوه، ومررتُ بأخيكَ العاقلِ ابوه. الحكمُ واحدٌ.

______

فإن جاء مُوهِمُ خلافَ ذلك أُوِّل، كقولهم: ما يَحْسُنُ بالرجلِ خيرٍ منك أَنْ يفعلَ، إذ الرجلُ في معنى النكرة وإن تَحَلَّى بالألف واللام، ولذلك يُنعت بالجملة كما سَيُنَبِّه عليه. وإنما لم تُنعت النكرةُ بالمعرفة، ولا المعرفةُ بالنكرة من جهة أن النعت والمنعوت في المعنى كالشِيء الواحد، والشِيء الواحد لا يكون معرفةً نكرةً في حال. وإلى هذا المعنى أشار سيبويه بقوله: زيدٌ الأحمرُ عند من لا يعرفه كزيدٍ عند من يعرفه (1). يريد: أن زيداً الأحمرَ عند من لا يعرفه وحده بمنزلة زيد وحده عند من يعرفه. وهذا ظاهر. وقال الفارسيُّ: إنما لم تُنعت المعرفة بالنكرة، ولا النكرة بالمعرفة، من حيث لم يُنعت الواحدُ بالجمع، ولا الجمعُ بالواحد، لأن النكرة تشبه الجمعَ من حيث الشِّيَاع، والمعرفة تشبه الواحد من حيث الاختصاص (2). وعَلَّل بعضهم ذلك بأن المعرفة إنما تُنعت بالنكرة لأن نعت المعرفة إنَّما وَضْعُه لرفع الاشتراك العارض فيها، والنكرةُ لا تَرفع الاشتراك عن نفسها، فكيف ترفعه عن غيرها! ولم يكن العكسُ، لأن حق المعرفة التقدُّمُ على النكرة، وحَقَّ النعت التأخُّرُ عن المنعوت، فهما متدافعان. ثم أتى بمثال لهذه المسألة، وهو قوله: امْرُرْ بقومٍ كُرَمَا.

______ (1) انظر: الكتاب 1/ 88. (2) عبارة الفارسي في الإيضاح (275) وهي ((ولا يجوز وصف المعرفة بالنكرة، ولا النكرة بالمعرفة، لأن الصفة ينبغي أن تكون على وفق الموصوف في المعنى، والنكرة تدل على العموم والشياع، والمعرفة مخصوص، فمن حيث لم يجز أن يكون الجميع واحدا، والواحد جميعا لم يجز أن يوصف كل واحد منهما إلا بما يلائمه، وما هو وفقه)).

وتخصيص هذا المثال مُشْعِر بقَصْدٍ صِنَاعي يَقصده أهلُ الحِذْق، وذلك أنه أتى بالنعت والمنعوت مخفوضين، ولم يأت بهما منصوبين ولا مرفوعين، لأن ذلك هو المُعَيِّنُ للمثال في النعت، إذ كان الإتيان بهما منصوبين أو مرفوعين غيرَ مُعَيِّن لذلك، إذ يمكن في النصب أن يكون النعت على إضمار فعل فلا يتعين كونُه نعتا، وفي الرفع يمكن أن يكون خبرَ مبتدأ، فلا يتعيَّن كذلك. وأما الجرُّ فلا يمكن فيه إلا الجَريانُ والتَّبَعِيَّةُ خاصة. وأصل هذا النحو لسيبويه، لأنه لما بَوَّبَ على الجر أتبعه بأبواب التوابع، ولم يذكرها مع المرفوعات ولا المنصوبات. وتَأَمَّلْ محافظتَه على ذلك في الشواهد على المسائل وفي المُثْل، وذلك مطردٌ في كلامه على جميع التوابع. وإنما يأتي بمُثُل الرفع والنصب حيث يكون القطع على إضمار، فلعلَّ الناظم نَحَا هذا النَّحو في تَخصيص هذا المثال. والله أعلم. ثم قال: ((وهُوَ لَدَى التَّوْحِيِد والتَّذْكِيرِ أَوْ سِوَاهُمَا كالْفِعْلِ)). يعني أن النعت في باب التوحيد والتذكير، وغيرهما من التثنية والجمع/ والتأنيث حكمُه 588 أَلاَّ يجري على حُكْم ما لو كان في موضعه فِعْلٌ، فحيث صَحَّ إفرادُ الفعل أفُرد النعت، وحيث صح أن يُثنى الفعل لو وقع في موضعه ثُنِّىَ النعت، وحيث صَحَّ جمعه أو تأنيثه فكذلك. فإن كان حقيقياً ثُنِّىَ وجُمع وأُنِّث لأن الفعل كذلك يكون، إذ هو رافعٌ لضمير الأول، وإن كان سببياً لم يَطَّرد فيه بإطلاق، لأن النعت

______

السَّبَبي هو الرافع للظاهر، وإذا رَفع الظاهر جرى مجرى الفعل، فيُفْرَد، في اللغة المشهورة، وإن كان المنعوت مثنى أو مجموعاً إذا كان المرفوعُ بالنعت مفرداً أو مثنى أو مجموعا. ويذكَّر النعت أيضاً إذا كان مرفوعه مذكَّراً وإن كان منعوته مؤنثاً. وبالجملة لا يُعتبر المنعوتُ في هذه الأشياء المذكورة، وهي الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث إذا كان النعت سَبَبِياً، وإنما يُعتبر ما أُسند النعت إليه من الأسماء الظاهرة، بخلاف الحقيقي، فإن المنعوت هو المعتبر حَسْبِ ما تقدَّم في ((باب الفاعل)) (1) وكذلك يجري الحكم على لغة ((يَتَعَاقَبُوَنَ فِيكُمْ مَلائِكَةً)) (2). فتقول: مررتُ برجلٍ قائمٍ، وبرجلين قائميْنِ، وبرجالٍ قائِمينَ، وبامرأةٍ قائمةٍ، وبامرأتْينِ قائمتْينِ، وبنساءٍ قائماتٍ. كما تقول: مررتُ برجلٍ يَقُومُ، وبرجلين يقومان، وبرجالٍ يقومون، وبامرأةٍ تقوم، وبامرأتين تقومان، وبنساء يَقُمْنَ، فتثنى النعت وتجمعه وتؤنثه، كما تفعل بالفعل. وتقول: مررتُ برجلٍ قائمٍ ابوه، وبرجل قائمٍ أبواه، وبرجل قائمٍ آباؤه، كما تقول: مررت برجلٍ يقوم أبوه، ويقوم أبَواه، ويقوم آباؤه. فلا يُظن في مثل هذا أنه جرى على ما قبله، وإنما جرى على الفعل. وتقول: مررتُ برجلَيْن قائمٍ ابوهما، ومررت برجلَيْن قائمٍ أبواهما،

______ (1) انظر: 2/ 561. (2) البخاري- المواقيت: 16، والتوحيد: 23، 33، ومسلم- المساجد: 210، والنسائي: الصلاة: 31. ويعبر عن هذه اللغة أيضا بلغة (أكلوني البراغيث) ويقولون: إنها لغة طِيء أو أزد شنودة، وانظر: والأشموني 2/ 47.

وبرجلَيْن قائمٍ آباؤُهما. (وعلى لغة ((يَتَعاقَبُونَ فيكم ملائكةٌ)) مررتُ برجلَيْن قَائِميْن أبواهما، وقَائِمينَ آباؤُهما (1)) وتقول: مررتُ برجلٍ قائمةٍ أختُه، وقائمةٍ أختاه. وعلى تلك اللغة: قائمتَيْنِ أختاه. وبرجلين قائمةٍ أختُهما، وقائمة أختاهما. وعلى تلك اللغة: قائمَتَيْن أختاهما. وبرجال قائمة أختُهم، وقائمة أختاهم، وقائمة أَخَوَاتُهم. وفي اللغة الأخرى: قائمتَيْن أُخْتَاهم، وقائمات أَخَوَاتُهم. وهكذا في جميع التصرفات الباقية، لأن الفعل لو خَلَف النعتَ في هذه المُثُل لكان على وِزَانهما في الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث. فضابط الناظم ذلك بالفعل حَسَنٌ، لكن يرد عليه ههنا أنك تقول في اللغة المشهورة: مررتُ برجلٍ قِيَامٍ إخوانُه، وهو أجود من قولك: قائمٍ إخوانُه، ولا تقول إذا خَلَفَ الفعلُ إلاَّ: مررتُ برجلٍ يقومُ إخوانُه، وتترك جمع الفعل، بخلاف ما إذا جمعتَ لنعتَ جمعَ السَّلامة، فإنه لا يجوز في اللغة المشهورة، وإنما يجوز في لغة ((يَتَعَاقَبُونَ فيكُمْ مَلائكةٌ)) فإطلاق الناظم يُشعر بأن جمع النعت جمعَ التكسير يجري على حكم الفعل، وليس كذلك. وقد يُعْتَذر عنه/ بأنه لما لم يذكر حكمَ الصفة في هذا في باب (الفاعل) ولا في ... 589 باب (الصفة) ولا تَعرَّض هنالك لهذا الحكم فيها، وكان حقه أن يذكره بَنَى على طَرْح المسألة جملة.

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

والضمير في قوله: ((وَلْيعُطَ)) عائد على النعت. و ((في التَّعْرِيف)) متعلق بالفعل، أو باسم فاعل حالٍ من الضمير على حذف المضاف. والتقدير: ولْيُعْطَ للنعت حالة كونه معتبراً أو مذكورا، أو مستِقرا في باب التعريف والتنكير. و((ما)) الأولى في قوله: ((مَا لِمَا تَلاَ)) واقعة على الحكم، أو على التعريف أو التنكير، وهي في موضع نصبٍ بـ (يُعْطَ). والثانية واقعة على الاسم السابق، وهو المنعوت. والعائد على الأولى الضمير الذي في المجرور، وعلى الثانية محذوف. والضمير المستتر في ((تَلاَ)) عائد على النعت. والتقدير: ولْيُعْطَ النعتُ في باب كذا الحكمَ الذي استقرَّ للمنعوت الذي تلاه النعت. والضمير ((وهُوَ لَدَى التَّوْحِيدِ)) عائد على النعت. و ((هو)) مبتدأٌ خبرهُ ((كالفِعْلِ)). وقوله: ((فَاقْفُ ما قَفَوْا)) معناه: اتَّبِعْ ما اتَّبَعُوا، يعني العربَ أو النحويين، تقول: قَفَوْتُ أثرَه، إذا اتَّبَعْتَه ومضيتَ في قَفَاهُ، قَفْواً، وقُفُواً. وقَفَّيْتُ على أثره بفلان، أي أتبعتُه إيَّاه. ويظهر لبادئ الرأي أن هذا الكلام لا فائدة فيه، لأن النحو كلَّه مبني على أن نَقْفُوَ أثرَ العرب فيه، فما الذي أَحْرَز هنا، وغالبُ عادته ألاَّ يأتي بما ظاهُره أنه حشوٌ إلا تنبيهاً على فائدة أو فوائد؟ فقد يقال: إنه نَبَّه على عارضٍ سماعي عارضَ القياسَ، وهو أن النعت والمنعوت كالشيء الواحد. ومن ثَمَّ لم تُنعت النكرة بمعرفة، ولا عُكِس الأمرُ، فكان الوجه ألاَّ يُنعت المفردُ بالمجموع ولا بالمثنى، ولا المثنى بالمجموع ولا بالمفرد. وكذا ما كان نحو ذلك فكان القياس أن يَجري الحكمُ في النعت الرافع

______

لضمير الأول، والرافع للظاهر على حد سواء، لولا أن السَّماع جاء باعتبار مرفوع النعت، ومعاملته معاملة الفعل إذا أُسند إلى الظاهر، من حيث كان مؤدِّياً معناه لاشتقاقه، فكأنه يقول: لا تَعتبر القياسَ إلا حيث لم يعارضه سماع، فإذا عارضه فاتَّبِع السماعَ واترك القياس. وهذه قاعدة أصولية. أو يقال، وهو الأولى: إنه مجردُ تكملة، كأنه يقول: حكمُه حكم الفعل في باب الإفراد والتذكير وأضدادهما، فاعْتَبِر ذلك هنا، واجْرِ في هذا الباب لدى التوحيد والتذكير أو سواهما على ما جَرَوْا عليه في الفعل لو كان واقعاً موقعَه. وقد تَمَّ الغرض. والله أعلم. ثم قال: وانْعَتْ بمُشْتَقٍّ كصَعْبٍ وذَرِبْ وشِبْهِهِ كَذَا وذِي والمُنْتَسِبْ هذا الفصل يذكر فيه ما يقع من الأسماء نعتاً ومالا يقع، وقد أشعر حَدُّه أول الباب بتعيين ذلك، وهو ما أَدَّى معنىً به يَتَّسم ما سَبَقَ، ولكن هذا تعريف إجمالي، لابد من ذكر أصنافِ ... ما / هو كذلك، فإنه غير منحصِر في المشتق، ولا أيضاً كلُّ مشتق يقع نعتا، فذكر ثلاثة أنواع: 590 أحدها المشتق وما جرى مجراه، والثاني الجملة، والثالث المصدر. فأما النوع الأول فقوله: ((وانْعَتْ بمُشْتَقٍّ كصَعْبٍ وذَرِبٍ. وشِبْهِه)) ومفعول ((انْعَتْ)) محذوف للعلم به، أو اقتصارا، أي انعت الاسمَ السابق. و ((بمُشْتَقٍّ)) نعتٌ أُقيم مُقام منعوته، تقديره: باسمٍ مُشْتَقٍّ. ويعني أن النعت يكون اسما مشتقاً من المصدر أو الفعل، على

______

حسب الخلاف المتقدم (1)، وذلك نحو: قائمٌ وقاعدٌ، من القيام والقعود، ومتكبِّر من التكبُّر، ومنه ما مَثَّل به من قوله: ((كصَعْبٍ وذَرِبٍ)) فصَعْبٌ: صفة مشبَّهة، من: صَعُب الأمر صُعُوبة، ضد: سَهُل، وبعيرٌ صَعْبٌ ضد الذَّلُول. و(ذَرِبٌ) يحتمل أن يكون بالدال المهملة أو بالذال المعجمة، فإن كان بالمعجمة فهو صفة مشتقة من: ذَرِبَ الشيءُ ذَرَباً وذَرَابَةً، إذا صار حديداً، ولسانٌ ذَرِبٌ، أي حادُّ، وامرأةٌ ذَرِبَةٌ، أي صَخَّابة. وإن كان بالمهملة فصفة أيضاً مشتقة من: دَرِبَ بالشيء، بكسر العين، دُرْبَةً ودَراَبَةٌ، إذا اعتاده وضَرِىَ به ولزمه. وهذان المثالان قد يُظَن أنهما لمجرد التمثيل فقط، ولم يُحرز بهما أمراً كما رآه ابن الناظم. ولقائل أن يقول: بل أحرز بهما أموراً ضروريةً عليه، فلو لم يمثِّل لدخلت عليه، وأَخلَّت بكلامه، وذلك أن (صَعْباً، وذَرِباً) مشتقان للفاعل أو للمفعول أو نحو ذلك فحينئذ يقع نعتاً، وذلك اسمُ الفاعل نحو: قائم، وقاعد، واسم المفعول نحو: مَضْرُوب ومُخْرَج، والصفةُ المشبهةُ باسم الفاعل، وهو مثال الناظم، وأفعلُ التفضيل نحو: مررتُ برجلٍ أكرمَ منك، و ((أَزْهَى من دِيك)) (2). فهذه الأشياء كلها مشتقة للفاعل أو للمفعول كما في المثال، فلو كان مشتقاً لغير ذلك لم يصح النعت، كأسماء الزمان، وأسماء المكان، وأسماء الآلات، نحو: مَضْرِب، ومَحْبِس، ومَقْتَل، ومِطْرَقَة، ومِطْرَقَة، ومُكْحُلة، وشبه ذلك. ولابد من

______ (1) انظر هذا الخلاف في الإنصاف 235 (المسألة الثامنة والعشرون). (2) من الزهو، وهو الاختيال والتيه، وانظر: الدرة الفاخرة 1/ 213.

التحرُّز من مثل هذا. وأيضاً ففي المثالين وصفٌ ثانٍ معتبَر، وهو كَوْنُ معنى الاشتقاق مقصوداً بالمشتق، لأن القائل: (مررتُ بجَملٍ صَعْبٍ) قاصدٌ لمعنى الصعوبة فيه (1). وكذلك القائل: (مررتُ برجلٍ ذَرِبٍ) قاصدٌ لمعنى الذُّرْبة أو الذَّرَابة فيه. وكذلك: قائمٌ وقاعدٌ وضاربٌ ومحاربٌ ونحو ذلك. فلو كان غير مقصود الاشتقاق لم يُنْعَت به، لأنه لم يُقْصَد فيه إلا ما قُصِد في العَلَم من التعريف باسمه فقط. ومن هذا القسم الأعلامُ الغَلَبِيَّة (2) كـ (الصدِّيق) لأبي بكر، و (الفَارُوقِ) لعمر رضي الله عنهما، و (الصَّعِق) لخُوَيلد بن نُفَيل بن عمرو بن كلاب، فلا شك أنها مشتقة من الصِّدْق والفَرْق والصَّعْق، / ولكن غَلب عليها الاستعمالُ حتى صار المفهوم فيه منها ما يُفهم من العَلَم، ... 591 فلا تقع نعوتاً. والدليل على ذلك أنك لا تَرفع بها الظاهر، ولا تُحَمِّلها الضمير، فلا تقول: مررتُ بعبد الرحمن الصدِّيقِ أبوه، ولا بعبد الله الفاروقِ أبوه، ولا

______ (1) على حاشية الأصل ((قاصد لمعنى الوصف الذي هو الصعوبة فيه)) وقد يكون تفسيرا، أو من نسخة أخرى. (2) العلم بالغلبة هو أن يغلب اللفظ على بعض أفراد ما وُضع له حتى يصير علما عليه دون غيره، كابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن مسعود فإن هذه الاسماء غلبت على العبادلة حتى صارت علما عليهم دون غيرهم من إخوتهم. وكالمدينة والكتاب والنجم، فإنها غلبت على المدينة المنورة وكتاب سيبويه، والثريا. وانظر: الجزء الأول عند شرح قول المصنف: وقد يَصيِر علماً بالغَلَبَهْ مضافٌ أو مصحوبُ آلْ كالْعَقَبَهْ

مررتُ بُنفَيْل الصَّعِقِ ابنُه، وهكذا ما جرى هذا المجرى، فقد تُرك معنى الفعل منها، وإن كانت في الأصل مشتقة. فإذاً المثالان مقصودان، وهما في موضع الصفة لمشتق، كأنه قال: وانْعَتْ بمُشْتَقٍّ شَبِيهٍ بهذَيْنِ. وقد أَخذ عليه ابنه في ((الشرح)) فقال: المشتق: ما أُخذ من لفظ المصدر للدلالة على معنى مَنْسوب إليه. قال: فلو قال: وانْعَتْ بوصفٍ مثلِ صَعْبٍ وذَرِبٍ -كان أمثلَ، لأن من المشتق أسماء الزمان والمكان والآلة، ولا يُنعت بشيء منها، إنما يُنعت بما كان صفة، وهو ما دَلَّ على حدثٍ وصاحبه، كصَعْب، وذَرِب، وضارب، ومضروب، وأفضل منك، ثم ذكر باقي المسألة، فحاصله أنه عَدَّ الأمثلة حشواً البتَّة (1). وهذا الاعتراضُ غير لازم، لأن التمثيل يُحرز ما قال. وقد عُرف من مقاصد الناظم الإشارةُ إلى التقييد بالمثال، واعتبارهُ في ضبط القوانين، وهو في كتابه هذا أشهرُ من أن يُدَلَّ عليه، وقد مضت منه مواضع كثيرة جدا، وهو شأنه فيما بقيـ حسب ما تراه إن شاء الله تعالى. والصواب من هذا كله أن قصده بالتمثيل البيانُ لما هو المشتق، كما بَيَّن ما هو شببهٌ به، وليس تمثيله بضروري، فلو تَرك ذكرَه لم يَدخل له اسمُ المصدر والزمان والمكان والآلة، ولا الأسماء الغالبة (2)، لأنه قد قال أولاً في النعت: إنه التابُع المُتِمُّ لما سبق بوَسْمه، إلى آخره، فشَرط فيه أن يَسِميه بوَسْم، وذلك هو معنى الوصف حسب ما تقدم، فإذا ذكر المشتقَّ ههنا فإنما يعني به ما فيه ذلك المعنى، فأسماء المصادر والأسماء الغالبة وما ذَكر معهما أو كاتن مثلَ ذلك

______ (1) شرح الألفية لابن الناظم: 493. (2) يريد العلم بالغلبة، وقد سبق التعريف به.

لا يدخل عليه، إذ لا يدلُّ على وَسم، ولا فيه معنى وَسْم، وإنما يَدخل له ما كان مثل: صَعْب، وذَرِب، وقائم، وسائر ما مَثَّل به. وأيضاً فإن المشتق يطلق بإطلاقين، أحدهما ما دل على معنى الفعل، وجرى مجراه في الاستعمال، فكان دالاً عليه بلفظه ومعناه، وعاملاً عملَه وإن ضَعُف، وهو الذي يُعْنَى في رَسْم ((المركَّبات)) من علم النحو، وهذا الاشتقاق هو الأصغر عند بعض العلماء (1)، فلا يدخل هنا اسم المصدر، والزمان، ولا الاسم الغالب، ولا ما كان من بابها، وهو الذي قصده الناظم جَرْياً على معهود الاصطلاح. والثاني ما دل على معنى الفعل في الأصل لا في الاستعمال، فليس بعاملٍ عملَ الفعل، ولا جارٍ مجراه، وهو الذي يُعْنَى في رَسْم ((المفردات)) من علم النحو، ويُستدل به على الزيادة والأصالة، والصحة والإعلال بالقلب والحذف والإبدال، كما تقول في (أحمد): إنه مشتقٌّ من الحمد، وفي (رُمَّان): إنه مشتق من الرَّم، ونحو ذلك. ويسميه بعضهم الاشتقاق/ الأكبر (1)، ولم يُرده 592 الناظم هنا جرياً على معهود الاصطلاح أيضا. وبه وقع الاعتراض. فإذا كان كذلك لم يبق في كلام الناظم إشكال، والحمد لله. وأمَّا ما أشبه المشتقَّ وليس بمشتق فهو الذي نَبَّه عليه بقوله: ((وشِبْهِه)) فذكر له أمثلة دالة على ثلاثة أنواع: أحدها (ذِي) وهو بمعنى (صاحب) فإنه يُنعت به وبفروعه، إذ كانت تؤدِّي معنى المشتق، فتقول مررتُ برجلٍ ذِي مال، وبامرأةٍ ذاتِ جمال،

______ (1) انظر في معنى الاشتقاق الأصغر والأكبر: الخصائص 2/ 133.

وبرجلين ذَوَي مال، وبامرأتين ذواتًيْ جمال، وبنساءٍ أولاتِ جمال، وذواتِ كمال وبرجالٍ أُولِي مالٍ وذَوِي حَسَب. وما أشبه ذلك. والثاني (ذَا) وهو اسم الإشارة فيصح أن يُنعت به لأنه في معنى المشتق، إذ كان قولك: (مررتُ بزيدٍ هَذَا) معناه: مررتُ بزيدٍ الحاضرِ أو المشارِ إليه. وكذلك فروعُه نحو: مررتُ بهند هذه هذهِ، وبالزيدَيْنِ هَذْينِ، وبالهنَديْن تَيْنِكَ، وبالزيدِينِ هؤلاء. وكذلك سائر الفروع. والثالث: المُنْتَسِب، وهو من الأسماء ما فيه معنى النَّسَب، وذلك في الاستعمالات الأربعة: أحدهما إذا كان بياء النسب نحو: مررتُ برجلٍ قُرشِيٍّ، وبرجل هاشميٍّ، وبامرأةٍ سَلُولِيَّة. ولا يَدخل هنا (كُرْسِيٌ، وبُخْتِيٌّ، وقُمْرِيٌّ (1)) ونحو ذلك مما ليست الياء فيه للنسب، لأن تلك الأسماء ليست بمنتسِبَة، والناظم إنما قال: ((والمُنْتَسِبْ)) فأتى بـ (مُفْتَعِل) الذي يقتضي اكتسابَ النِّسْبة وعملَها، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك كما احتاج إليه في (التسهيل) حيث قال: وأسماء النسب المقصود (2). والثاني: إذا كان وزن (فَاعِلٍ) نحو: مررتُ برجلٍ نابلٍ، وبرجلٍ ناشبٍ، ولابِنٍ، وتَامِرٍ، ودَارِعٍ (3). ومنه: حائضٌ، وطاهرٌ، وطامِثٌ (4)، و (عِيشَةٍ رَاضِيةٍ (5)).

______ (1) البُخْتِيُّ: واحد البُخْت، وهي الإبل الخراسانية، وهي جمال طوال الأعناق. والقُمْرِيُّ: ضرب من الحمام مطَّوق حسن الصوت، والجمع قُمْر. (2) التسهيل: 168. (3) يقال: رجل نابل، إذا كان معه نَبْل، وناشب صاحب النُشَّاب، وهو النَّبْل كذلك، ولابن لصاحب اللبن، وتامر: لصاحب التمر، ودارع: لذي الدِّرع. (4) الطامث: هي الحائض، أو المرأة أول ما تحيض. (5) سورة القارعة/ آية 7.

والثالث: إذا كان على وزن (فَعَّال) كتَمَّار، وفَكَّاه، وجَمَّال، وصَرَّاف (1). ونحو ذلك. والرابع: إذا كان على وزن (فَعل) نحو: نَهرٍ، وحرَجٍ، وسَتِهٍ (2). وذلك كله مذكور في النَّسب، وسيأتي بسطه إن شاء الله. وإنما ذكرتُ أقسامه ههنا لأنه [غير] (3) داخل تحت المشتق، مع أن الظاهر من أول الأمر أنه داخل فيه، لأنه غيرُ دال على الفعل، ولا مشتقٌ منه، لأن منها ما ليس له فعل أصلا. وهذه الأبنية فيه (4) مُطَّرِدة، ولذلك لم تَلحق التاءُ في (حائض، وطاهر، وطامث) ونحوها. ومن هنا لا يتعدَّى ولا يتعلَّق ولا يتعلَّق به ظرفٌ ولا مجرور ولا غير ذلك. وعلى الجملة فهو راجع إلى الصفة المشبَّهة باسم الفاعل، أو هو أضعف من ذلك. ولما كانت هذه الأنواع الثلاثة مشبهةٌ بالمشتق من حيث أَعطت من المعنى مثلَ ما يُعطيه المشتق كان ما جرى مجراها داخلاً أيضاً. فمن ذلك ما كان من الصفات غيرَ مشتق، لأنها ليس لها فعل ولا مصدر نحو (شَمَرْدَل) بمعنى: خفيف سريع/، و (صَمَحْمَح) بمعنى: شَدِيد، أو بمعنى: غَلِيظ، و (جُرْشُع) وهو من ... 593 الإبل: العظيم، و (لَوْذَعِيٌّ)

______ (1) التَّمار: الذي يبيع التمر. والفَكَّاه والفكهاني: الذي يبيع الفاكهة. والجمَّال: صاحب الجمل، والذي يعمل عليه. والحمَّال: محترف الحَمْل. والصَّراف والصَّيْرف والصيرفي: من يبدل نقدا بنقد، والمستأمَن على أموال الخزانة، يقبض ويصرف ما يُسْتَحق. (2) النْهر-بكسر الهاء- صاحب النهار، يُغير فيه، وهو مثل قولنا: نَهارِي. والحرج: الملازم للإحراج والمضايق. والسَّتِه: الملازم للأستاه يَطلبها. (3) ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من (ت، س). (4) أي في النسب.

بمعنى: فَطِنٌ ذَكيٌّ. وما أشبه ذلك. ومن ذلك ما كان من الموصولات مبدوءاً بألف وصل، و (ذو) الطائية (1) وفروعهما، نحو: الذي، وتثنيتُهما، وجمعهما. وكذلك ذو، وذاتُ وذوات. وأمَّا ما ليس في أوله ألفُ وصلٍ نحو (مَنْ، ومَا) فلا يوصف بها. ومنها (رَجْلٌ) إذا أريد به معنى (كامِلٍ) أو أُضِيف بمعنى (صالحٍ) إلى (صِدْقٍ) أو بمعنى (فاسدٍ) إلى (سَوْءٍ) نحو: مررتُ بزيدٍ الرجلِ، أي الكاملِ، ومررتُ برجلٍ رجلِ صِدْقٍ، وبرجلٍ رجلِ سَوْءٍ. وأكثرُ ما يقع كذلك خبراً للمبتدأ. ومنها (أيٌّ، وكُلٌّ، وحَقٌّ، وجِدٌّ) نحو: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ، وبالرجلِ كلِّ الرجلِ، ومررتُ بالرجلِ الرجلِ حَقِّ الرجلِ، وجِدِّ الرجلِ، أي الكامل في ذلك. وهذه الأنواع كلها يَطَّرِد الوصف بها، وهي داخلة تحت قوله: ((وشِبْهِهِ)) ولم يتعرَّض لكَوْنِ النعت دونَ المنعوت في الاختصاص أو مساوياً، كما تعرض له سيبويه (2) وغيره، إذ النعتُ عندهم لا يكون أخصَّ من المنعوت، لأن المتكلِّم إنما حَقُّه أن يبدأ بما يكون أعرفَ عند السامع، وأَبْيَنَ في تحصيله. فإن لم يَعْرفه أَتى من المعرفة بما يكون بيانا. وعلى هذا وُضِع النعتُ والمنعوت، وإذا عُكس الأمر فبُدِئ بالأعم كان مناقضاً لمقصود التفهيم. وقد أجاز الفرَّاء أن يُنعت الأعمُّ بالأخص.

______ (1) ((ذو)) الطائية من أسماء الموصول للمفرد المذكر، العاقل وغيره، عند طئ. والمشهور فيها البناء، وأن تكون بلفظ واحد، وكذلك ((ذات)) بمعنى ((التي)) و ((ذوات)) بمعنى اللاتي. وقد تقدم ذكرها في باب الموصول عند قول المصنف: ومَنْ ومَا وألْ تُساوِي ما ذُكِر وهكذا ذُو عندَ طَئٍ شُهِر وكالتِي أيضاً لديهم ذاتُ وموضعَ اللاَّتِي أَتَى ذَواتُ (2) الكتاب 2/ 7.

ولعل الناظم ذهب هنا مذهبَ الفراء، إذ هو مذهبه أيضاً في ((التسهيل)) (1) فلم يقل بما قال به الجمهور، وإنما رأى رأيَ الفراء، وحُكِى عن الشَّلوْبِين أنه صَحَّحه. وحَكى الفراء: مررتُ بالرجلِ أخيكَ، على النعت. وذكر المؤلف من ذلك أمثلة، كغلامٍ يافعٍ ومُراهقٍ، وجاريةٍ عَروبٍ وخَوْد، وماءٍ فُراتٍ وأُجَاجٍ، وتَمْر بَرْنيٍّ وشِهْرِيزٍ (2)، وأشياء غير هذه. فالظاهر أنه سكت عن ذلك لهذا الوجه. والله أعلم. ثم ذكر النوع الثاني من أنواع ما يُنِعت به، وهو الجملة، فقال: ونَعَتُوا بجُمْلَةٍ مُنَكَّرَا فَأُعْطِيَتْ ما أُعْطِيَتْهُ خبراَ وامْنَعْ هنا إيقَاعَ ذَاتِ الطَّلبِ وإنْ أَتتْ فالقَوْلَ أَضْمِر تُصِبِ يعني أن العرب أجرت الجملَة نعتاً على الاسم السابق، الجملة اسميةً أو فعليةً، لكن شرط في الاسم المنعوت بها شَرْطاً، وشَرط في الجملة نفسِها شرطين. فأمّا شرط المنعوت فإن يكون نكرة، وذلك قوله: ((مُنَكَّرَا)) أي اسماً منكراً،

______ (1) حيث يقول فيه (ص 167): ((وكونه مفوقا في الاختصاص أو مساويا أكثر من كونه فائقا)). (2) اليافع: من شارف الاحتلام، وهو دون المراهق. والمراهق: من جاوز طور الصبا، من أربع عشرة سنة إلى خمس وعشرين. والمرأة العروب: المتحببة إلى زوجها. والخَوْد: الشابة الناعمة الحسنة الخلقة. والماء الفرات: الشديد العذوبة يقال: ماء فرات، ونهر فرات. والأجاج: ما يلذع الفم بمرارته أو ملوحته. والتمر البرني: نوع جيد من التمر مدور أحمر مشرب بصفرة. ويقال كذلك: نخل برني، ونخلة برنية. والشهريز: ضربٌ من التمر. معرّب.

فتقول: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، ومررتُ برجلٍ يقومُ أبوه. والتنكير هنا أعمُّ من أن يكون في اللفظ والمعنى، نحو قوله: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ (1)} أو في المعنى دون اللفظ، وهو المقرون بالألف واللام الجِنْسية، نحو قوله: {وآيَةٌ/ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ 594 مِنْهُ النَّهَارَ (2)} وقال الشاعر (3): لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأَصَائِلِ وإنما لم تُنعت المعرفةُ بالجملة، لأن الجملة إنما تُعطى معنى الاسم المشتق، ولذلك وقعت نعتاً لَمَّا كانت في تأويل المفرد، وليس فيها ما يدل على التعريف، فلا يصح أن يُنعت بها المعرفة. ثم لما كان النعت في تَتْميمه للمنعوت كالصلة في تَتْميمها للموصول، وكان أيضاً خبراً عن المنعوت في المعنى، كالخبر للمبتدأ- أُعْطى، إذا كان جملةً، من لزوم الضمير الرابط ما أُعْطِى الخبرُ إذا كان جملة، وما أُعطِيت الصلة إذا كانت جملة، فكَمَّل الناظم المقصودَ بقوله: ((فَأُعْطِيَتْ مَا أُعْطِيَتْهُ خَبَرا)). ((ما)) مفعول ثان لـ (أُعْطِيَتْ) وهي واقعة على الأحكام المتعلِّقة بجملة الخبر. وعائدها الهاء في ((أُعْطِيَتْهُ)). و((خَبَراَ)) حال من مرفوع ((أُعْطِيَتْ)). ويَعْنى أن الجملة الواقعة نعتاً أُعْطِيت من الحكم مثلَ ما أُعْطِيتَه إذا وقعت

______ (1) سورة الإسراء/ آية 93. (2) سورة يس/ آية 37. (3) هو أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1/ 141، والإنصاف 723، وشرح الرضي على الكافية 3/ 15، 71، والخزانة 5/ 484، والهمع 1/ 292، والدرر 1/ 60، واللسان (فيأ). والأفياء: جمع فيء، وهو الظل. والأصائل: جمع أصيل، وهو الوقت الذي قبل غروب الشمس.

خبراً للمبتدأ، وذلك لزومُ الضمير العائد على مَن هي نعتٌ له أو خبرٌ، وكذلك الصلة، لأن الربط بين الجملتين محتاج إليه في فهم المراد، وذلك بالضمير العائد. وهذا هو الشرط الأول من شَرْطَيِ الجملة الواقعة نعتاً، فإذا قلت: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، فالهاء هو العائد. وكذلك إذا قلت: مررتُ برجلٍ قامَ، ففاعل ((قَامَ)) هو العائد. فلو خَلَت الجملةُ من ضمير لم تقع نعتا، فلا تقول: مررتُ برجلٍ قامَ زيدٌ، ولا برجلٍ زيدٌ قائمٌ، إذ لا ارتباطَ بين الجملتين. نعم قد يُحذف الضمير وهو مرادُ الثبوتِ، كقول جَرِير، أنشده سيبويه (1): أَبْحْتَ حِمَى تِهَامَةَ بعد نَجْدٍ وما شَيْءٌ حَمَيْتَ بمُسْتَبَاحِ وأنشد أيضاً للحارث بن كَلَدة (2): ومَا أَدْرِي أغَيَّرهُمْ تَنَاءٍ وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أَصَابُوا فهذا الحذف غير قادحٍ، فقد يُحذف أيضاً من الخبر، نحو قوله تعالى:

______ (1) الكتاب 1/ 87، 130، وابن الشجري 1/ 5، 78، 326، والمغني 503، 612، 633، والتصريح 2/ 112، والعيني 4/ 75، وديوانه (99). ويروى ((حميت حمى تهامة)) وتهامة. ما تسفل من بلاد العرب. ونجد: ما ارتفع منها، وكنى بهما عن أرض العرب جميعا. يخاطب عبدالله بن مروان، ويقول له: ملكت العرب، وأبحت حماها بعد إبائها عليك. وما حميته لا يستطيع أحد أن يستبيحه لقوة سلطانك. (2) الكتاب 1/ 88، 130، وابن الشجري 1/ 5، 326، 2/ 334، وابن يعيش 6/ 89، والعيني 4/ 60. والثنائي: التباعد. ومعنى البيت ظاهر.

{وكُلٌّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى (1)} في قراءة ابن عامر (2). وأنشد سيبويه لامرئ القيس (3): فَأَقْبَلْتُ زَحْفاً على الركُّبْتَيْنِ فَثَوْبٌ نَسِيبُ وثَوْبٌ أَجُرُّ ولهذا أحال في الحكم على الجملة الخبرية، ولم يَذكر في الخبر حكمَ الحذف لأنه قليل فيه. والشرط الثاني من شَرْطَي الجملة الواقعة نعتاً ألاَّ تكون طَلَبيَّة، وإنما تكون خَبَريَّةِ كما تقدم من المُثُل. وهذا الشرط غير مشترَط في الخبريةِ، ولذلك قال: ((وامْنَعْ هُنَا إِيقَاعَ ذَاتِ الطَّلَبِ)) أي في الواقعة نعتا، لأنه كما أحال في الحكم على الخبريَّة خاف أن يُفهم أنها تقع طَلَبِيَّة، فلذلك قال: ((وامْنَعْ هُنَا كَذَا)) وظهر أن إيقاعها خبراً غيرُ ممتنع. وقد أطلق القولَ في وقوع الجملة خبرا في باب ((الابتداء)) بقوله: ((ومُفْرَداً يَلأْتِي ويِأتِي جُمْلَهْ)) ولم يقيِّد ذلك بأَلاَّ تكون طَلَبِيَّة، وهو مذهب الجمهور فيها

______ (1) سورة الحديد/ آية 10. (2) وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون من السبعة ((وكُلاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنى)) بالنصب. وانظر السبعة لابن مجاهد: 625. (3) ديوانه 159، والكتاب 1/ 86، وابن الشجري 1/ 93، 326، والمحتسب 2/ 124، والمغني 472، 633، وشرح الرضي على الكافية 1/ 240، والخزانة 1/ 373، والعيني 1/ 545. يذكر أنه طرق محبوبته على خيفة من الرقباء، فجعل يزحف لئلا يشعر به أحد، وجر ثوبه لئلا يرى أثر قدميه فيعرفه القائف. ويروى صدر البيت ((فلما دنوت تسدَّيتُها)) وهي رواية الديوان، وتسديتها: علوتها وركبتها. كما يروي عجزه ((فثوباً نسيتُ وثوباً أجُرّ)) بالنصب، وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه.

خلافاً لابن الأَنباري ومن وافقه. وقد تقدَّم ذلك (1). ثم أخذ يدل على تأويل ما جاء مِمَّا يُخالف الشرطَ المذكور بقوله: ((وأنْ أَتَتْ فالْقَوْلَ أَضْمِرْ/ تُصِبِ)) ... 595 يعني أنه إن أتت الجملة ذاتُ الطَّلبَ في السَّماع جاريةً على منعوتٍ في الظاهر فأوِّلْها تأويلاً يُخرجها عن أن تكون بنفسها نعتاً، وذلك أنه لا يجوز أن تقول: مررتُ برجلٍ اضْرِبْهُ، ولا هل ضربَتهُ؟ ولا مررتُ برجلٍ لا تُكْرِمْه، ولا ما أشبه ذلك. بخلاف الخبر فإنك تقول: زيدٌ اضْرِبْه، وعمروٌ لا تُكْرِمْه، وخالدٌ هل أكرمتَه؟ وما أشبه ذلك. ومنه قولهم: كيف أنتَ؟ وأنشد في ((الشرح)) (2): قَلْبُ مَنْ عِيلَ صَبْرُه كيفَ يَسْلوُ صَالِياً نارَ لَوْعَةٍ وغَرامِ وقد مَرَّ هذا. والطلب الذي يمنع الجملة أن تقع نعتاً هو (الأمر، والنهي، والاستفهام، والعَرْض، والتَّحضيض، والتمنِّي، والترجِّي، والدعاء) فكلُّ هذه طلبٌ لا يَصْلُح للنعت، لأنه خبرٌ عن المنعوت، له خُصوصيَّةٌ في الخَبريَّة ليست لخبر المحض.

______ (1) انظر: 1/ 626. (2) الهمع 2/ 14، والدرر 1/ 73، ونسبه لرجل من طِئ.

والذي أُشار إليه في جملة النعت الواردةِ طلبيَّةً هو قوله (1): حَتَّى إذا كاد الظلامُ يَخْتَلِطْ جَاءوُا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ فأوقع (هَلْ) وما بعدها كالصفة لـ (مَذْقٍ) وهو اللَّبَن بالماء، ومراده أنه تغيَّر بياضُه بمخالطة الماء حتى أشبه لونُه لونَ الذئب. فهذا يُؤَوَّل على ما قاله الناظم. ومن أبيات الحماسة قوله: * تَخْضِبُ كَفاً بُتِّكَتْ من زَنْدِهَا * بُتِّكَتْ أي قُطِعَت، دَعَا عليها بذلك. وأنشد المؤلف في ((الشرح (2))): فإنَّمَا أنتَ أَخٌ لا نَعْدَمُهْ فَأَبْلِنَا منكَ بلاءً نَعْلَمُهْ فقوله: ((لا نَعْدَمُه)) دعاءٌ له. فما كان من هذا النحو كأنه كاسرٌ لما أَصَّل، فلابد من تأويله، وذلك على إضمار القول كما قال: ((فالْقَوْلَ أَضْمِرْ تُصِبِ)) أي اجعل الجملةَ الطلبيَّة معمولةً

______ (1) ينسب للعجاج، ملحقات ديوانه 81، وابن الشجري 2/ 149، والمحتسب 2/ 165، وابن يعيش 3/ 53، والتصريح 2/ 112، والأشموني 3/ 63، والإنصاف 115، والمغنى 246، 585، وشرح الرضي على الكافية 1/ 330، 2/ 256، 3/ 10، 62، 225، والخزانة 1/ 109، والهمع 5/ 174، والدرر 2/ 148، والعيني 4/ 61. ويروى الأول ((حتى إذا جن الظلام واختلط)) و ((حتى إذا جاء الظلام المختلط)) والثاني ((جاءوا بضَيْح)) والمذق: اللبن الممزوج بالماء، فإذا مزج به قل بياضه فأشبه لون الذئب. والضيح: اللبن الرقيق الممزوج بالماء، فهما سواء. يصف قوما أضافوه بالشح وعدم إكرامهم الضيف، وأنهم لم يقدموا له شيئا حتى مضى جانب من الليل، ثم جاءوه بلبن أكثره ماء. (2) المغني 585، وشرح شواهده للبغدادي 7/ 226، ومجالس ثعلب 194، 195 ضمن أبيات منسوبة لأبي محمد العذلي.

لقَوْل مقدَّر يقع صفة، فتَخرج الجملة الطلبيَّيةُ بذلك عن كَوْنها بنفسها صفة، ولا يبقى محذور، لأن الطلبية وغيرها تقع مَحْكيَّةً بالقول. فالتقدير: جاءوا بمَذْقٍ يقول فيه من يراه: هل رأيتَ الذئبَ، وكذلك: فإنما أنت أخٌ يقال له: لا نَعْدَمُه. وهذا كما جاء في الصلة مِمَّا يخالف أصلها، من وقوع الجملة الطلبيَّة صلةً في قوله (1): وإنِّي لَرَامٍ نَظْرَةً قِبَلَ التَّيِ لَعَلِّي وإنْ شَطَّتْ نَواهَا أَزوُرُهَا فأوَّلوها على إضمار القول، أي قِبَل التي يُقال فيها: كذا وكذا. و((القولَ)) مفعول بـ (أَضْمِرْ) و ((تُصِبْ)) جواب الأمر، والمعنى: تصب وجه ذلك وما أريد به. وإنما يكون مصيباً لأن إضمار القول جائز في مواضع ذكرها النحويون، كجواب ((أمَّا)) نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (2)} الآية. بناءً على أن القول قد يحذف في كلام العرب إذا دَلَّ عليه الدليل. وعلى الناظم في هذا سؤالان: أحدهما أن يقال: هل يَدخل الظَّرف والمجرور تحته إذا كانا يقدَّران بالجملة، فإذا قلت: مررتُ برجلٍ في الدارِ، أو عندَك، فهو في تقدير: استقَرَّ في

______ (1) هو الفرزدق، ديوانه 661، وشرح الرضي على الكافية 3/ 10، 67، والخزانة 5/ 464، والمغني 388، 391، 585، والهمع 1/ 296، والدرر 1/ 62، والأشموني 1/ 63. ويروى العجز ((لعلي وإن شَقَّت عليَّ أنالُها)) وهي رواية الديوان، وانظر: الخزانة 5/ 467. والنوى: البعد، والناحية يذهب إليها. وشطت بهم النوى: أمعنوا في البعدى. واستقرت به النوى: أقام. (2) سورة آل عمران/ آية 106.

الدار، أو عنَدك، أم ليس بداخلٍ فيبقي غيرَ مذكور في هذا النظم، ويُشْكِل حكمُه. والجواب أنه يصح أن نعتقد دخولَه تحت الجملة على اعتقاد تقديره بالجملة، وأن نعتقد خروجَه عن الجملة/ على اعتقاد تقديره بالمفرد، فيدخل في باب النعت بالمفرد، لأن ... 569 الناظم نَصَّ في خبر المبتدأ على جواز تقدير الجملة أو المفرد بقوله: ((وأَخْبَرُوا بَظْرفٍ أو بحرفِ جَرْ ناوِينَ معنى كائنٍ أو اسْتَقَرْ)) وإذا كان من الوجهين سائغاً عنده في الخبر، وهو قد أجرى جملة النعت على جملة الخبر، وأيضاً النعتُ خبرٌ في المعنى، فيجري على حكمه. ويمكن أن يقال: إنه لما قَدَّم هناك في الظرف والمجرور نظراً في تقديره بالمفرد أو بالجملة معنى، فكان لا يَعْزُو لبابين- تَرك ذكرهَما هنا، لأن إجراءهما نعتاً على التقديرين صحيح، فاستغنى عن ذكرهما لعلم الناظر في كتابه صحةَ الاجتزاء بما تقدَّم له في خبر الابتداء. والله أعلم. والسؤال الثاني: ما الفائدة في إحالته في حكم جملة النعت على حكم جملة الخبر حتى احتاج إلى استدراك ذكر حكمين، أحدهما: إخراجُ الجملة الطَّلَبية، والثاني تأويُل ما جاء من المخالفة، وأتى لذلك بمَشْطُورَيْن كان غنياً عنهما جملة، بأن يُحِيل على حكم الصلة، فإن الصلة يَلزم فيها أن تكون غير طلبية، وأنَّ ما جاء فيها على غير ذلك فمنويٌّ معها القول كما تقدم تمثيلُه، وسائر ما يُحتاج إليه موجودٌ فيها، ككونها لابد فيها من ضمير، وأنه يجوز حذفه وغير ذلك؟

______

والجواب أنه لو أحال على حكم الصلة لاقتضى في جملة النعت حكماً غير صحيح، وذلك أنه ذَكر في الموصولات حكم الضمير، وأنه جائز الحذف، على تفصيلٍ من كَوْنه مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، وعلى اشتراط شروط في كل قسم (1). وأيضاً فحذفُ الضمير في الصلة كثير جدا على الجملة. وهذا كله في جملة النعت (2) لا يستقيم، بخلاف جملة الخبر فإن الناظم لم يتعرَّض فيها إلا للزوم اشتمالها على ضمير وأما حذفُه فسَكَت عنه لقلته أو لغير ذلك، فإحالتُه على جملة الخبر أحقُّ وأَوْلَى، ولا يضُّر استثناء حُكم أو حكمين، فإنه قليل، بخلاف ما لو أحال على الصلة، فإن الاستثناء كان يكون أكثر. فإن قلت: إن إحالته على جملة الخبر يُوهم أن الحذف فيها إذا كانت نعتاً إمَّا غيرُ جائزٌ على قلة، وليس كذلك، بل الحذف فيها كثير. فمن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {واتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً (3)} أي لا تَجْزي فيه، هكذا تقديره عند سيبويه (4). وفي قراءة عِكْرِمة (5) {فَسُبْحانَ اللهِ حِيناً تُمْسُونَ وحِيناً تُصْبَحُونَ (6)}

______ (1) انظر: 1/ 518، 527، 533. (2) في الأصل وحده ((في باب النعت)). (3) سورة البقرة/ آية 48، 123. (4) الكتاب 1/ 386. (5) أبو عبد الله عكرمة مولى ابن عباس المفسر. روى عن مولاه وأبي هريرة وعبد الله بن عمر. وعرض عليه أبو عمرو بن العلاء وغيره (ت 105 هـ)، {طبقات القراء 1/ 515}. (6) سورة الروم/ آية 17. وانظر هذه القراءة في البحر المحيط 7/ 166، وإعراب القرآن للنحاس 2/ 585، ومختصر شواذ القراءة لابن خالويه 116.

أي تمسون فيه، وتصبحون فيه. وفي قراءة الأخفش: (لا تجْزيهِ) و (تُمْسُونَهُ، وتُصْبِحُونَهُ) وهو مختار ابن جني وغيره، أعني التدريج (1). وأيضاً قد جاء في الشعر، نحو ما أنشده سيبويه من قول جرير (2): أَبَحْتَ حِمَة تِهَامَةَ بعدَ نَجْدٍ ومَا شَيْءٌ حَمَيْتَ بمُسْتَبَاحِ أي حَمَيْتَه. وأنشد أيضا (3): ومَا أَدْرِي أَغَيَّرهُمْ/ تَنَاءٍ ... 597 وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أَصَابُوا اي أصابوه. وأيضاً فإذا كان مجرورا بـ (مِنْ) جاز مطلقا نحو: عِنْدِي بُرٌّ كُرٌّ بدرهم (4)، أي كُرٌّ منه, ومنه قول ذي الرمَّة (5):

______ (1) قال ابن جني في المحتسب (2/ 163): ((ثم حذف ((فيه)) معتبطا لحرف الجر والضمير لدلالة الفعل عليهما. وقال أبو الحسن: حذف (في) فبقي (تجزيه) لأن أوصل إليه الفعل، ثم حذف الضمير من بعد، ففيه حذفان متتاليان شيئا على شيء. وهذا أرفق، والنفس بع أبسأ من أن يعتبط الحرفان معا في وقت واحد)) وانظر في التدريج: الخصائص لابن جني 1/ 347. (2) تقدم الاستشهاد بالبيت وتخريجه في الباب نفسه. (3) للحارث بن كلدة، وتقدم الاستشهاد به في الباب نفسه. (4) الكر: مكيال لأهل العراق. (5) ديوانه 16، يصف حمر وحش. وسفح الجبل: ما ارتفع عن مسيل الوادي. ومعنى ((يقعن بالسفح)) يضربن بحوافرهن سفح الجبل من شدة العدو. والهاء في قوله: ((ما قد رأين به)) إما عائدة على سفح الجبل، لأن بيت الصائد يكون فيه، وإما عائدة على الصائد، أي مما قد رأين من تلهف الصائد وحرصه على صيدها. والمَعزاء والأمعز: المكان الكثير الحصى الصلب. والمعنى أن حصى المعزاء يكاد يلتهب من شدة عدوهن ووقع حوافرهن.

يَقَعْنَ بالسَّفْحِ مِمَّا قَدْ رَأَيْنَ بِه وَقْعاً يكادُ حَصَى لمَعْزاءِ يَلْتَهِبُ أي يكاد يلتهب منه. ومن الأول قول كُثَيِّر عَزَّة (1): من الْيَوْمِ زُورَاها خَلِيَليَّ إنَّهَا سَتَأْتِي علينا حِقْبَةٌ لا نَزوُرُهَا أي لا نزورها فيها. فهذا-كما ترى- قد جاء في الكلام والشعر، وقد كثر عندهم. بخلاف جملة الخبر، فإن حذف الضمير منها قليل على الجملة. ولذلك قال في ((التسهيل)): لكن الحذف من الخبر قليل، ومن الصفة كثير، ومن الصلة أكثر (2). فالجواب أن الخبر أيضاً يجوز حذفُ الضمير منه في الكلام. وقد جاء منه شيءٌ صالحٌ يُلحقه بكثرته في الصفة أو يكاد. فقد جاء في القرآن نحو {وكُلٌّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنى (3)} في قراءة ابن عامر (4). وقرأ يحيى بن وَثَّاب والسُّلَمي والأعرج (5) {أَفَحُكْمُ الجَاهِلِيَّةَ

______ (1) أمالي ابن الشجري 1/ 6، وليس في ديوانه. والحقبة من الدهر: المدة التي لا وقت لها، أو السنة. (2) التسهيل: 167. (3) سورة الحديد/ آية 10. (4) أي برفع ((كل)) على الابتداء، وكذلك كانت في مصاحف أهل الشام. وقرأ الباقون بالنصب. وانظر: السبعة لابن مجاهد: 625. (5) يحيى بن وثاب الأسدي الكوفي تابعي ثقة كبير، من العباد الأعلام، عرض القرآن على عبيد بن نضلة وعلقمة والأسود وغيرهم، وعرض عليه الأعمش وطلحة بن مصرف وغيرهما (ت 103 هـ) [طبقات القراء 2/ 380]

يَبْغُونَ (1)} والتقدير: وَعَدَهُ اللهُ الحُسْنَى، ويَبْغُونَه. وجاء في الشعر منه كثير، فلا يبعد أن يكون المؤلف أحال إحداهما على الأخرى في هذا الحكم لقرب ما بينهما. وهذا على تسليم أنه قَصد هذا المقدار، وقد يقال: إنه لم يَقصد فيه إلا لزومَ رجوع الضمير فقط. وأما الحذف فسكت عنه في الموضعين. وقد يكون هذا المَحْمل اقربَ إلى مراده. والله اعلم. وإذا ثبت هذا فلا عليه من ذكر الحُكْمين اللذين ذكرهما في الشَّطْرين. أما الأول فضروري، وأما الثاني فمكمَّل. وقد تم الكلام على النوع الثاني من أنواع ما يُنْعت به. والنوع الثالث المصدرُ، فإن المصدر قد يقع نعتاً، ويكثر في الكلام، ولذلك قال: ونَعَتُوا بمَصْدَرٍ كَثِيَرا فاَلَتَزَمُوا الإفْرَادَ والتَّذِكْيَرا ((كثيراً)) حال، كضربتُه شديداً، أو نعتُ مصدرٍ محذوف.

______ = والسلمي هو أبو عبد الرحمن عبدالله بن حبيب السلمي، مقرئ أهل الكوفة، إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا، أخذ القراءة عن عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وغيرهما وأخذ القراءة عنه عاصم، وعطاء بن السائب، ويحي بن وثاب وآخرون (ت 74 هـ) [طبقات القراء 1/ 413]. وأما الأعرج فهو أبو صفوان حميد بن قيس الأعرج المكي. أخذ القراءة عن مجاهد بن جبر، وروى القراءة عنه سفيان بن عيينة وأبو عمرو بن العلاء وسواهما (ت 130 هـ) [طبقات القراء 1/ 265]. (1) سورة المائدة/ آية 50. قرأها الثلاثة برفع ((حُكْمُ)) وقرأها ابن عامر بالنصب وبالتاء. وقرأ الباقون بالنصب والياء. وانظر: المحتسب 1/ 210، والسبعة: 244.

وكلامه لم يتضمن أنه قياس، بل فيه إشعارٌ بعدمه، نعم نَبَّه على وجه السماع فيه، فالضمير في ((نَعَتُوا)) للعرب. وأحال في ذلك على نظر الناظر المستقرِئ لكلام العرب، فإنه محلُّ نظر، فقد يُجعل قياساً لكثرته، وقد يُجعل سماعاً لضعف قياسه. والمسألة مختَلف فيها، فظاهر النقل عن الجمهور أن ذلك سماع يُقصر على مَحَلِّه. وقال ابن دَرَسْتَوَيْهِ (1): ليس من المصادر شيء إلا ووَضْعُه موضعَ الصفات جائزٌ مُطَّرِد، مُنْقَاس غيرُ مْنكَسِر. ووجه ما قاله الجمهور أن المصدر اسم جنس جامد غير مشتق، ولا معناه معنى المشتق، فلم يصح من جهة معناه أن يكون نعتاً، كما لم يصح في اسم الجنس أن يُنعت به، فكما لا يقال: عجبتُ من تَمْرٍ رُطَبٍ، ومررتُ بشخصٍ رجلٍ، على النعت، كذلك ألا يقال: مررتُ برجلٍ عَدْلٍ، أو صَوْمٍ، أو فِطْرٍ. لكنَّ العربَ أتت من ذلك بأشياء على اعتبار/ المبالغة في الوصف مجازاً (فقالت: ... 598 جاءني رجلً عَدْلً، تريد عادلاً، إلا أنها جعلته نفسَ العَدْل مجازا (2)). والمصدرُ، من حيث هو مصدرٌ، لا يُثنى ولا يُجمع ولا يُؤنث، فأجرَوْه على أصله، لأنهم على المجاز وصفوا به فقالوا: هذا رجلٌ عَدْلٌ، وامرأةٌ عَدْلٌ، ورجلان عَدْلٌ، وامرأتان عَدْلٌ، ورجالٌ عَدْلٌ، ونساءٌ عَدْلٌ.

______ (1) هو أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي الفَسَوي النحوي، نحوي لغوي جليل القدر، مشهور الذكر، جيد التصانيف، وكان شديد الانتصار لمذهب البصريين في اللغة والمحو (ت 347 هـ). بغية الوعاة 2/ 36. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت).

وكذلك: رجلٌ رِضاً، وزَوْرٌ، وصَوْمٌ، ودَنَفٌ، وحَرىً بكذا، وقَمَنٌ. وكذا: خَصْمٌ، وضَيْفٌ، فلم يُثَنَّوا ولم يَجمعوا ولم يُؤَنَّثوا، ولذلك قال الناظم: ((فَالتَزَمُوا الإفْرَادَ والتَّذْكِيرَا)). فلا يجوز أن يقال: امرأةٌ عَدْلَةٌ، بل أَلْزَموا التذكيَر، ولا يجوز أن تقول رجلان عَدْلان، وكذلك الجمع، فَأَلْزَموا الإفراد إلا أن يُسمع. وأما ابن دَرَسْتَوَيْهِ (1) فقال: إن أصل الصفة من المصدر، وتأويلها تأويلُ ذي الفعل، فإذا قلت: (عادلٌ) فمعناه: ذو عَدْلٍ، و (مَرْضِيٌّ) معناه: ذو رَضاً، فوُضع اسمٌ واحد موضعَ اسمين اختصارا. ومن كلامهم أن يُحذف المضاف ويُقام المضاف مُقامه إيجازاً إذا كان لا يَلْتَبِس، فقولهم: ((عَدْلٌ)) في (رجلٌ عَدْلٌ) معناه: ذو عَدْلٍ، و (امْرَأةٌ رَضاً) معناه: ذاتُ رِضاً، فكما وُضع الفاعل والمفعول موضعَ الصفة كذلك وُضع المصدر الذي هو أصل جميع ذلك، إذ لم يُلْبِس، لأنه قد علم أن الرجل جِسْمٌ، وأن العَدْل عَرَضٌ (2)، فلا يكون إياه، وإنما معناه: ذو عَدْلٍ، فعلى هذا جاءت المصادر صفاتٍ طلباً للاختصار. قال: فإذا جُعلت المصادر صفاتٍ فالوجه ألاَّ تُثَنَّى ولا تجمع ولا تؤنث اعتباراً بأصلها، وإنَّما ثَنَّوا منها وجَمعوا وأَنَّثوا ما كثر استعماله في الوصف حتى زال عن شبه المصادر، ودخل في باب الأسماء والصفات، وذلك قليل.

______ (1) تقدمت ترجمته. (2) الجسم: كل ماله طول وعرض وعمق. وعند الفلاسفة: الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، الطول والعرض والعمق. والعرض: ما يطرأ ويزول من مرض ونحوه. وعند الفلاسفة: ما قام بغيره، كالبياضُ والطول والقصر. وضده الجوهر، وهو ما قام بنفسه.

وكأنه يُجيز ذلك قياسا وإن قَلَّ في السماع، فمخالفته في وجهين، في جواز الوصف به، وفي جواز تثنيته وجمعه وتأنيثه إذا كثر استعماله. وللناظم أن يقول: إن السماع هو المتَّبَع، وهذا- وإن كثر- فلا يبلغ مبلغَ أن يُقاس. والمسألة مُحْتَمِلة، وهي نظيرة وقوع المصدر حالا، وقد قال هنالك: ((ومَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ حالاً يَقَعْ بكَثْرَةٍ)) البيت (1). فلم يتقيَّد لقياس كما فَعل هنا، فإن المسألة في النعت والخبر والحال واحدة، ولذلك يَستدلون على أحدها بالآخر. ومما ألزم فيه الإفرادُ والتذكير قولُ زُهَير (2): مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَوَاتُهُمْ هُمُ بَيْنَنَا فَهُمُ رِضاً وهُمُ عَدْلُ وقال العَّجاج (3): * والشَّمْسُ قد كادَتْ تَكونُ دَنَفَا *

______ (1) البيت بتمامه في باب ((الحال)) هو: ومَصْدَرٌ منكَّرٌ حالاً يَقَعْ بكَثْرةٍ كبَغْتَةٌ زيدٌ طَلَعْ (2) ديوانه 107، والخصائص 2/ 202، والمحتسب 2/ 107، واللسان (رضى). من قصيدة قالها في هرم بن سنان والحارث بن عوف المريين. ويشتجر: يختصم. وسرواتهم: أشرافهم. وهم بيننا: هم الحاكمون بيننا، كما تقول: الله بيني وبينك. (3) ملحقات ديوانه 82، والخصائص 2/ 119، واللسان (دنف). وأصل الدنف: المرض الملازم، ورجل دنف: براه المرض حتى أشفى على الموت. أراد: حين اصفرت الشمس، وتدانت للغروب، فكأنها دنف حينئذ وتلك استعارة مليحة.

وقالت الخنساء (1): تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حَتَّى إذا ادَّكَرَتْ فإنَّما هي إقُبَالٌ وإدْبَارُ وأنشد الكسائي (2): وهُنَّ حَرَّى أَلاَّ يُثِبْنَكَ نَقْرَةً وأنت حَرىً بالنَّارِ حينَ تُثِيبُ وقال العجاج (3): * تَذكَّرا عَيْناً رِوىً وفَلَجَا * فإن قيل: قوله: ((فَالْتَزَمُوا)) إمَّا أن يعود الضمير على العرب، وإمَّا على النحويين.

______ (1) ديوانها 48، وسيبويه 1/ 337، والمقتضب 3/ 230، 4/ 305، والخصائص 2/ 203، 3/ 189، والمحتسب 2/ 43، وابن يعيش 1/ 144، والتصريح 1/ 332، وشرح الرضي على الكافية 1/ 254، والخزانة 1/ 431 والرواية الأشهر ((مارَتعَت)) والبيت من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا. ويقال رتعت الإبل وأرتعتها، إذا تركتها ترعى. وادكرت: تذكرت ولدها. تصف بقرة فقدت ولدها، فكلما غفلت عنه رتعت، فإذا عاودتها ذكراه حنت إليه، وأقبلت وأدبرت في حيرة والم. وضربت حال هذه البقرة مثلا لفقدها أخاها. (2) اللسان (نقر، حرى) بدون نسبة. والحَرَى: الخليق والجدير، ويقال: إنه لحَرى، وحَرٍ، وحَريٌّ، كل ذلك سواء. ويقال: ما أغنى عني نقرة، اي نقرة الديك، لأنه إذا نقر أصاب، ويقال كذلك: ما أغني عني نقرة ولا فتلة ولا زبالا، وما أثابه نقرة، أي شيئا، ولا يستعمل إلا في النفي. (3) اللسان (فلج) ويروى ((فَصَبَّحا عيناً)) و ((تَذكَّرا عَيْناً رَواءً فَلَجَاً)) وبعده: * فراح يحدوها وباتَت نَيْرَجَا * يصف حمارا وأتُناً. والماء الرِّوَى: العذب، وكذلك الرَّواء والفلج- بالتحريك والإسكان- النهر الصغير، أو الماء الجاري من العين. ويقال: أقبلت الوحش والدواب نيرجا، إذا أسرعت في تردد.

(فإن كان عائدًا على العرب (1)) وهو الظاهر من قوله: ((ونَعَتُوا/ بمَصْدَرٍ كثَيِراً)) فإنما 599 يريد العرب، إذ لو أراد النحويين، وأنه قياسٌ عندهم لم يقل: ((كَثِيراً)) لأن الوصف بالكثرة لائقٌ بنقل السماع لا بإعمال القياس، فيُشكل على هذا إخبارهُ عنهم إلزامَ الإفراد والتذكير، لأنهم قد جَمَعوا وثَنَّوْا وأَنَّثُوا، ففي القرآن الكريم {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ (2)} وفيه {وهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّروُا المحْرَابَ (3)} ثم قال: {قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ (4)} وقالوا: خُصُومٌ ايضاً، وقالوا: عُدُولٌ، جمع عَدْل. وتقول العرب: رجالٌ ضَيْفٌ، وأَضْيَافٌ، وضُيُوفٌ، وضِيفَانٌ. وامرأةٌ ضَيْفَةٌ. وقال البَعِيث (5): لَقَدْ حَمَلَتْهُ أمُّهُ وهْيَ ضَيْفَةٌ فجاءَتْ بِيَتْنٍ للضِّيَافَةِ أَرْشَمَا إلى أشياء من هذا، إذا تُتُبِّعتْ وُجِدَتْ، فلا يقال فيما هذه سبيله: إنهم الْتَزموا فيه الأفرادَ والتذكير. وإن كان الضمير عائداً على النحويّين كان فيه قُبْحُ اختلافِ

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت). (2) سورة الحج/ آية 19. (3) سورة ص/ آية 21. (4) سورة ص/ آية 22. (5) اللسان (ضيف، رشم، يتن). والبيت من قصيدة للبعيث يهجو فيها جريرا، وفيه عدة رزايات. وضيفة: حائض، يقال: ضافت المرأة، إذا حاضت، لأنها مالت من الطهر إلى الحيض. وقيل: معناه أنها ضاقت قوماً فحبلت في غير دار أهلها. واليتن: الولد تضعه أمه منكوسا، اي تخرج رجلاه قبل رأسه ويديه. والأرشم: الذي يتشمم الطعام ويحرص عليه.

الضمائر، بعَوْد ضمير ((ونَعَتُوا)) على غير مضن عاد عليه ضمير ((فالْتَزَمُوا)) وأيضاً فإنه يقتضي أن هذا الباب قياس، لأن هذا الإلزام لا يكون إلا بالقياس، وإلا فالسماع لا يُلْزِم ذلك. فالحاصل أن كلامه مُشْكل. فالجواب أن الأَوْلَى أن يُجعل الضمير في ((فَالْتَزَمُوا)) للنحويين، وإن كان فيه مخالفةُ الضمائر، لأنهم الذين أَلْزَموا ذلك إذا قاسوا ذلك، أو قال بالقياس منهم أحد، من حيث كان شائعاً في الكلام، وكأنَّه يقول: إن العرب جاء عنها النعتُ بالمصدرَ كثيرا، فألزم النحويون لأجل ذلك ما يلزم المصدرَ غيرَ المحدود، من الإفراد والتذكير فإن ذلك غير شاذ (1). ونَعْتُ غَيْرِ وَاحِدٍ إذا اخْتَلَفْ فعَاطِفاً فَرِّقْهُ لا إِذَا ائْتَلَفْ النعوت على قسمين، أحدهما أن تكون جاريةً على منعوتٍ واحد، فهذا لا إشكال فيهن وهو الذي جرى الكلامُ فيه قبل هذا. والثاني أن تكون جاريةً على غير واحد، بل على اثنين أو جماعة. وهذا الثاني على ضَرْبينِ ايضا، أحدهما أن يكون المنعوت مثنىً أو مجموعاً غيرَ مُفَرَّق. والثاني أن يكون مفرقاً. وتفريقُه إمَّا لأن التَّثْنية والجمع فيه لا يَتَأَتَّى، فيقوم العطفُ مَقامها، وإمَّا لتعدُّد عاملِ المنعوت. فإن كان مثنىً أو مجموعاً فهو الذي تكلَّم فيه في هذين البيتين، ويعني أن نعت غير الواحد، وهو المذكور آنفاً، لا يخلو أن يكون مختلِفاً أو مؤتلِفاً. ومعنى كونه مختلِفاً أن يُنعت أحدُهما بخلاف ما يُنعت به الآخر. والمخالفةُ

______ (1) في (ت، س) ((فإن غير ذلك فشاذ)) وأظنه تحريفا.

إما في اللفظ والمعنى، كالعاقلِ والكريمِ، أو في اللفظ دون المعنى، كالذاهبِ والمنطلِقِ، أو في المعنى دون اللفظ، كالضَّارِب من (الضَّرْب) والضَّارِب في الأرض (1). ومعنى كونه مؤتلِفاً أن يتفق اللفظ والمعنى معاً حتى يمكن أن يعبَّر عنهما باسمٍ مثنى أو مجموع. فإذا اختلف النعتان فلابد من تفريقهما-إذ لا يمكن فيهما التَثنيةُ والجمع لفَقْد شرطهما- بعطف أحدهما على الآخر. وذلك قوله: ((فَعَاطِفاً فَرِّقْهُ)) فتقول: مررتُ برجَليْنِ صالحٍ وطالحٍ، ومررتُ بامرأتَيْنِ بِكْرٍ وثَيِّبٍ. وكذلك/ فيما زاد على الاثنين، نحو: مررت برجالٍ قرشيٍّ ... 600 وهاشميٍّ وأنصاريٍّ. ومن ذلك ما أنشده سيبويه من قول الشاعر (2): بَكَيْتُ ومَا بُكَا رَجُلٍ حَزِينٍ على رَبْعَيْنِ مَسْلُوبٍ وبَالِ وأنشد في ((الشرح)) لحسان بن ثابت (3):

______ (1) يقال: ضرب الرجل في الأرض، إذا ذهب فيها وأبعد، وكذلك إذا سار في ابتغاء الرزق. (2) سيبويه 1/ 431، والمقتضب 4/ 291، والمغني 356. وينسب لابن ميادة أو لرجل من باهلة. والربع: منزل القوم في الربيع خاصة، أو مطلق المنزل. والمسلوب: الذي سلب بهجته لخلوه من أهله. (3) ديوانه 135، من قصيدة قالها في غزوة الخندق، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 188 - ب). ورواية البيت في الديوان ((من مُردٍ)) والمرد: جمع أمرد، وهو الشاب الذي بلغ خروج لحيته وطَرَّ شاربه، ولم تظهر لحيته. والشيب: جمع أشيب، ذو الشَّيْب، وهو ابيضاض الشعر.

فَلاَقَيْنَاهُمُ مِنَّا بَجمْعٍ كأُسْدٍ مُرْدَانٍ وشِيبِ وإنَّما نُسِق بالعطف لأنه أصل التثنية والجمع، فإذا عُدم شرطُهما فيما أريد تثنيتُه أو جمعُه تُرِك على أصله. ولم يعيِّن الناظم العاطفَ اعتماداً على العِلْم بأن الواو هي الصل في ذلك. وهذا حكم المنعوت إذا كان معطوفاً ومعطوفاً عليه، إلا أنه لا يُفَرَّق النعتُ من منعوته، إذ لا ضرورة تدعو إليه، فتقول: مررتُ بزيدٍ الفاضِل، وعمروٍ الكريمِ. وهو داخل في حكم ما تقدم، كما تقول: ضَرب زيدٌ العاقلُ بكراً الكريمَ. وأمَّا إذا ائْتَلف النعتُ، وأمكن تثنيته أو جمعه فلا يفرَّق، فتقول: مررتُ برجَليْن عاقلين كريمين، وبرجالٍ فُضَلاء. ومنه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِريَنِ (1)} وقوله: {ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنيِنَ (2)} ولا يجوز أن تقول: مررتُ برجلَيْن كريمٍ وكريمٍ، كما لا يقال: مررتُ برجلٍ ورجلٍ كريَميْن، إلا في الشعر. ولذلك قال: ((لاَ إِذَا ائْتَلَفَ)) أي لا تفرِّقة إذا ائتلف. وكذلك تقول: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ الكريَكيْنِ، وجاء رجلٌ وامرأةٌ عاقلان. و ((نَعْتُ)) مبتدأٌ خبره (إِذَا) وما بعدها. و ((عاطفاً)) حالٌ من فاعل ((فَرِّقْهُ)) أي فَرِّقه حالة كونك عاطفا. وإن كان المنعوتُ مفَّرقا بسبب تعدُّد العامل فقال فيه الناظم:

______ (1) سورة المائدة/ آية 54. (2) سورة التوبة/ آية 14.

ونَعْتَ مَعْمُولَىْ وَحِيدَىْ مَعْنَى وعَمَلٍ أَتْبِعْ بغَيْرِ اسْتِثْنَا ((نعتَ)) مفعول ((أَتْبِع)) أي أتبع نعت معمولَىْ كذا. و (وَحِيدٌ، ووَحَدٌ، ووَحِدٌ) بمعنى: (وَاحِد ومُنْفَرِد) والمعمولان هما المنعوتان، والوحيدَيِ المعنى والعمل: بمعنى المُتَّحِدى المعنى والعمل، وهما عاملا المعمولين. فكأنه يقول: إذا كان المنعوتان معمولين لعاملين مُتَّفِقي المعنى والعمل فالإتباعُ صحيح. وكذلك إذا كانا أكثرَ من اثنين فالحكم حكم الاثنين. وبَسْط هذا أن النعت إذا كان في المعنى لمنعوت أكثر مَن واحد فلا يخلو، إن كانا اثنين مثلا، أن يعمل فيهما عاملٌ واحد، أو عاملان. فإن عمل فيهما عاملٌ واحد، وذلك بعطف أحدهما على الآخر، فهذا يُتْبع فيه النعتُ بلا إشكال، فتقول: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ العاقلين، ومررت بشيخٍ وطفلٍ وامرأةٍ جُلُوسٍ، لأن العطف بمثابة التثنية، فكان حكمهما كما لو قلت: مررتُ بالرجلين العاقلين، فرَجع إلى ما تقدَّم من نعت المفرد بالمفرد، أو نعت المؤتَلِف بالمؤتلف. وإن عمل فيهما عاملان فهذا الذي تَكَلَّم فيه الناظم هنا أنه يُتْبع النعت إذا اجتمع في العاملين وصفان، أحدهما أن يَتحَّدِ معناهما، وسواء اتَّفق لفظهما أم اختلف، فتقول: / ... 601 مررتُ بزيدٍ، ومررتُ بعمروٍ العاقلَيْن. وهذا زيدٌ، وهذا عمروٌ العاقلانِ. وضربتُ زيداً، وضربتُ عمراً العاقلَيْن. وكذلك تقول: سبقَ المالُ لزيدٍ وإلى عمروٍ العاقلين. وذهب زيدٌ وانطلق بِشْرٌ القرشيَّان. ورأيتُ زيداً وأبصرتُ عمراً الكريمَيْن. فالعوامل

______

هنا مُتَّحدة المعنى وإن اختلفت ألفاظُها فيصح الإتباع. والثاني أن يَتَّحد عملُهما في المعمولين فلا يعملان فيهما إلا رَفْعَيْن أو نَصْبَيْن أو جَرَّينْ، كما مضى بيانه في الأمثلة. فإن تخلف شرط من هذين الشرطين فيقتضي كلامه أَنْ لاَ إتباعَ أصلا، فإذا قلت: جاء زيدٌ وذهب عمروٌ العاقلان، فـ (العاقلان) لا يصح عنده أن يكون مُتْبَعاً. وكذلك إذا قلت: ضربتُ زيداً، وأكرمتُ عمراً الأحَمْرينِ، ومررتُ بزيدٍ، وجئت إلى عمروٍ الفاضلَيْن. لا يجوز في شيء من هذا الإتباعُ، لأنك إن أتبعتَ لابد أن يكون العامل في النعت هو العامل في المنعوت، وإذا كان كذلك والنعتُ لفظٌ واحد فَيقتضي أن يعمل عاملان يَقتضيان معنَيْن مختلفين في معمول واحد، وذلك غيرُ مْمكن، لأن العمل واحد فلا يتأتى إلا لواحد. وكذلك إن تخلف الشرط الثاني لم يصح الإتباع، فإذا قلت: ضربَ زيدٌ، وضربتُ عمراً العاقلان، أو العاقَليْن، لم يكن إلا قَطْعاً، لأن عملَيْن مختلفين في معمول واحد بجهة واحدة لا يصح. قال في الكتاب: ولا سبيل إلى أن يكون بعضُ الاسم جَراً، وبعضُه رَفْعاً (1). فأما إذا اتَّحدا معنىً وعملاً فلا مَحذور، لأن العاملين من جهة المعنى شِيء واحد، فكأن الثاني إنما سِيق لمجرد التوكيد، فقولك: جاء زيدٌ، وجاء عمروٌ العاقلان، بمثابة قولك: جاء زيدً وعمروٌ العاقلان، ولا إشكالَ في صحة مثل هذا، فكذلك في ما كان بمعناه. وإذا قلت: ذهب زيدٌ، وانطلق عمروٌ العاقلان- فهو في تقدير: ذهب

______ (1) الكتاب 2/ 58.

زيدٌ، وذهب عمروٌ، لأن الذهاب والانطلاق معناهما واحد، ولا اعتبارَ باختلاف اللفظ، لأن العمل ليس للفظ من حيث هو لفظٌ، بل من حيث معناه، وقد اتَّحد المعنى فصار كما لو اتَّحد اللفظ. وإذا لم يجز الإتباعُ فلابد من القَطْع، وهو مقتضى مفهوم الصفة في كلامه، فغنه وَصف النعتَ المُتْبَع بكَوْنه نعتاً لمعمولَىْ وحيدَىْ معنىً وعملٍ، فالمفهوم أنه إذا لم يكن كذلك فلا يُتْبع، وإذا لم يُتْبَع تَعَيَّن القطعُ إلى الرفع بإضمار مبتدأ، أو إلى النصب بإضمار فعل. وسَيتَكَّلم فيه بعد هذا بحول الله وقوته. وقوله: ((بغير استثنا)) يريد به أن الحكم جارٍ في نعت المرفوعَيْن والمنصوبَيْن والمجرورَيْن فإن العلة في الجميع موجودة، والقياس سائغ، فلا مانع منه، وقد تقدَّم تمثيلُه. ويستوي في المرفوعَيْن ما كان منهما خبرَيْ مبتدأَيْن أو فاعلْي فاعلَيْن، فكما تقول: جاء زيدٌ، وجاء عمروٌ العاقلان، كذلك تقول: هذا زيدٌ، وهذا عمروٌ الظريفان، ونحو ذلك. وهنا بَعْدُ مسائلُ، إحداها أن اتحاد العاملين في المعنى قد يكون اتحاداً في معنى/ 602 معيَّن نحو: ذَهَبَ وانْطَلَق، فهذا هو الذي وقع التمثيل به، وهو أن يكون معنى أحد العاملين مرادِفاً لمعنى العامل الآخر، حتى يصح أن يعبَّر عن أحدهما بالآخر. وقد يكون اتحاداً في معنى غير معيَّن، بل يكون اتحاداً في جنس المعنى، وذلك أن يكون معنى أحد العملين لا يصح أن يعبر عنه بالعامل الآخر، بل يصح أن يعبر عنهما معاً بعاملٍ آخر، فتقول: ذهب زيدٌ، وجاء بَكْرٌ العاقلان، فتُتْبِع النعتَ وإن اختلف

______

معنى العاملين في التعيين (1)، لأنه يصح أن يعبر عنهما بفعل جامع، فتقول: فَعَلَ زيدٌ وبكرٌ العاقلان كذا وكذا، وكذلك إذا قلت: أنا أخوك، وهذا أبوك الفقيران، لأنك تعبِّر عنهما بأن تقول: نحن كذا وكذا. وقد أجاز هذا النحويون على الإتباع. فلو اختلف العاملان بحيث لا يجتمعان في معنى عاملٍ آخر لم يجز الإتباع كقولك: رأيت أخا زيدٍ، ومررت بعمروٍ العاقلين، فلا يجوز الإتباع، إذ لا تجتمع الباء والأخ في معنى عامل واحد. ومن هنا منع سيبويه: مَنْ عبدُ الله، وهذا زيدٌ الرجلان الصالحانِ، رفعت أو نصبتَ، لأنك خلطتَ مَنْ تَعلم ومَنْ لا تَعلم، فجعلتهما بمنزلةٍ واحدة في النعت، وذلك متدافِع، وإنما الصفة عَلَمٌ فيمنْ عُلِم (2). ولأن المبتدأَيْن لا يمكن أن يعبَّر هنا عنهما بشيء واحد. وكذلك قولك: هذا رجلٌ، وفي الدار آخرُ كريمان، لا يجوز إتباعه لأن أحد العاملين الابتداءُ، والآخر المبتدأُ، ولا يجتمعان في لفظ واحد. وكذلك: هذا فَرَسُ أَخَوَيِ ابْنَيْكَ العُقَلاء، لا يُتْبع، لأن عامل ((الأخوَيْن)) ((الفرسُ)) وعامل ((ابْنَيْكَ)) ((الأَخَوان)) ولا يجتمعان في عامل واحد. والصفة ايضاً داخلةً فيما دَخل فيه الموصوف، فيكون (العُقَلاء) من تمام الأَخَويْن، من حيث كان صفةً للابنَيْن، وغيرَ تمام لهما من حيث كان صفة للأخوين، وذلك متناقض. والحاصل أن الاتحاد بالاعتبار الثاني هو أن يتفق العاملان في الاسمية والفِعْلية، وكذلك في الحَرْفية على ما قاله ابن الباذِش (3)، من أن قياس: مررتُ

______ (1) على حاشية الأصل ((في التعبير)). (2) عبارة سيبويه في الكتاب (2/ 60) وهي ((واعلم أنه لا يجوز: مَن عبدُ الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبتَ، لانك لا تُثْني إلا على من أثبتَّه وعلمتَه، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة عَلَمٌ فيمن قد علمتَه)). (3) هو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف بن محمد الأنصاري الغرناطي ابن الباذِش. كان عالما بالعربية، متقنا لها، ومشاركا في غيرها. وصنف: شرح كتاب سيبويه، والمقتضب، وشرح اصول ابن السراج، وشرح الإيضاح، وشرح الجمل، وشرح الكافي للنحاس (ت 528 هـ). بغية الوعاة 2/ 142.

بزيدٍ ودخلت إلى عمروٍ الطريفَيْن جوازُ الإتباع. قال: لأن العاملين حرفا جَرٍّ فهما كالفعلين. فإن كان الناظم أراد اتحادَ العاملين بالتفسير الأول فيقتضي امتناعَ جميع ما ذُكر جوازُه بالاعتبار الآخر. وإن أراد الاتحادَ بالمعنى الآخر فيقتضي جواز تلك المسائل، ويقتضي أيضاً جوازَ: هذا فرسُ أَخَوَيِ ابْنَيْك العُقَلاءِ، إتباعاً على قياس ابن الباذِش (1)، إلا ان يفرَّق بين الموضعين. وفيه نظر. والظاهر من عبارته أن مراده الاتحادُ بالمعنى الأول، وعلى ذلك يَجْري الاحتجاجُ على مذهبه بحول الله. المسألة الثانية: في تقرير الخلاف في الأقسام المذكورة أولاً، فلا يخلو العاملان أن يَتَّحدا لفظاً ومعنى أَوْلاَ، فإن اتَّحدا فإمَّا أن يُراد بالثاني مجردُ التوكيد أَوْلاَ، فإن أُريد مجردُ التوكيد فالمسألة جائزة ... / باتفاق، وإن لم يُردَ مجردُ التوكيد فالجمهور على الجواز. وعن ابن السَّراج، وهو ... 603 مذهبُ نحاة سَبْتة (2)، على ما أخبرنا به الأستاذُ رحمة الله عليه (3)، منعُ الإتباع وإن اتفق اللفظُ والمعنى، لأن الموجب لامتناع الإتباع في العاملين المختلفين هو اجتماعُ عملِ عاملين على معمول واحد، وذلك موجود هنا (4). والجواب أن عمل العامل في المعمول ليس مجردَ اعتبارٍ لفظي، بل

______ (1) تقدمت ترجمته. (2) سبتة: مدينة مشهورة بالمغرب، تطل على البحر الأبيض المتوسط، ومرساها من أعظم المراسي. (3) يقصد ابا عبد الله بن الفخار. وسبقت ترجمته. (4) انظر: كتاب الأصول في النحو 2/ 40.

ذلك راجع إلى كونه يطلبه طلباً معنوياً، ولو كان الأمر كذلك لم يجز اعتبارُ المعنى في العطف وغيره من التوابع، بل تقول: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، وهذا ضاربُ زيدٍ وعمراً. وتقول: هل تُكْرِمُنِي فَأْكْرِمْكَ وأُحْسِنْ إليك، بالجزم. وأعجبني ضَرْبُ زيدٍ العاقلُ عَمْراً، وما كان مثله، مِمَّا لا ينحصر من المسائل الجائزة على الحمل على المعنى والمرادِف. وإذا كان المعنى معتَبراً في عمل اللفظ فإذا اجتمع اللفظان على معنى واحد فكأنهما لفظ دالٌ على معناه، فلا مَحذور. واعتبارُ المعنى في عمل اللفظ أشهرُ في كلام العرب من أن يُذكر. وأمّا أن يتحدا في اللفظ والمعنى معاً فلا يخلو أن يتحدا معنىً بحيث يُعَبَّر بأحدهما عن الآخر أَوْلاَ، فإن اتَّحدا كذلك فقد ذَكر السِّيرافي اتفاقَ البصريين على جواز الإتباع فيه (1)، وما تقدَّم عن ابن السراج في المسألة فوق هذا يقتضي المنع من باب الأَوْلَى. وقد ذكر ابن خروف الخلافَ عن المبرِّد. وقد ذكر بعض المتأخرين المنعَ عن ابن السراج نَصاً، ووجه ذلك عنده ما تقدم من إعمال عاملين في معمول واحد. والأصح ما ذهب إليه الناظم والجمهور، لما تقدم من اعتبار المعنى في العامل. والعاملان هنا في معنى عامل واحد، ولا اعتبار باللفظ فيه. وإن لم يَتَّحدا كذلك فلا يخلو أن يتحد العاملان في الجنس أَوْلاَ، فإن اتحدا في الجنس بحيث يكونان فعلين أو اسمين أو حرفين، فإمَّا أن يتفقان في معنى عاملٍ ثالث يعبَّر به عنهما أَولاَ.

______ (1) السيرافي (جـ 2 ورقة: 186 - ب).

فإن لم يتفقان في ذلك فلا أذكر خلافاً منصوصاً في منع هذا، نحو: هل جاءَ زيدٌ فيكرمَه عمروٌ العاقلان، وجاء زيدٌ فهل أتاكَ أخزه العَاقلان؟ ووجه المنع ما ذكره سيبويه في مسألة: مَنْ عبدُ اللهِ وهذا أخوه الرجلان الصالحان، لأنك خلطت مَنْ تَعْلَمُ ومَنْ لا تَعلم، فجعلتَهما بمنزلة واحدة في النعت. وذلك متدافِع، وقد تقدم ذلك (1). وإن اتفقا في معنى عامل ثالث فالخليل وسيبويه يجيزان الإتباع، لأنهما أجازا: ذهبَ أخوك، وقَدِمَ عمرو الرجلان الحليمان، وهذا أبوك، وأنا أخوك الفقيران (2). ومنع ذلك الناظم، وهو رأي المبرّد والزجَّاج وابن السَّراج وجماعة (3). وحجةُ المجيز أن مذهب عمل الفعلين واحد وإن اختلف معناهما، لأنهما قد يجتمعان في معنى فعلٍ ثالث. ألا ترى أنك إذا قلت: قامَ زيدٌ، وقعَد عمروٌ العاقلان، في معنى (اخْتَلَفا) فقد رجعا إلى معنى فعلٍ واحد يعمل في المنعوتين، فيصحُّ الإتباع، فكأنا قلنا في المسألة: فَعَلَ أخوك وعمروٍ الرجلان الحليمان هذين الفِعْلَيْن.

______ (1) الكتاب 2/ 60، وانظر: ص 297 (هامش 1). (2) الكتاب (2/ 60) وعبارته ((وتقول: هذا رجل وامرأته منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحليمان)). (3) قال المبرد في المقتضب (4/ 315): ((وكان سيبويه يجيز: حاء عبد اللهِ، وذهب زيد العاقلان، على النعت، لأنهما ارتفعا بالفعل، فيقول: رفعهُما من جهة واحدة. وكذلك: هذا زيد، وذاك عبد الله العاقلان، لأنهما خبر ابتداء. وليس القول عندي كما قال، لأن النعت إنما يرتفع بما يرتفع به المنعوت، فإذا قلت: جاء زيد، وذهب عمرو العاقلان- لم يجز أن يرتفع بفعلين، فإن رفعتهما بجاء وحدها فهو محال، لأن عبد الله إنما يرتفع بذهب، وكذلك لو رفعتهما بذهب لم يكن لزيد فيها نصيب. وإذا قلت: هذا زيد فإنما يرتفع ومعناه الإشارة إلى ما قرب منك، وذاك لما بعد، فقد اختلفا في المعنى)) وانظر: كتاب الأصول لابن السراج 2/ 41، 42.

وهذا الاعتبار/ بعيدٌ بالنسبة إلى العمل المذكور، لأن المحذور فيه موجود من غير ... 604 ضرورة تدعو إلى ذلك، فإنهم اتفقوا على منع عملِ عاملين في معمول واحد من غير أن يكونا في التقدير واحداً. وهذا إنما يتأتَّى في مسألتنا، إذ الفَرضْ أن معنى العاملين مختلِف لا مُتَّفِق، وكونُهما في معنى عامل ثالث، أو يُقَدَّران بمعنىً عامٍّ- بعيدٌ عن الاتحاد، فصارا كفِعْل مبتدأ أو كفعل وحرف. وإذا كان ذلك غير جَائز فيه الإتباعُ فكذلك ما في معناه. وقد أشار السيرافي إلى أن القياس المنع (1). وإن لم يتحد العاملان في الجنس فالجمهور على المنع، ونقل الفارسي في ((التذكرة)) عن الجرمي أنه يجيز: هذا رجلٌ، وجاءني عمروٌ الظريفان، ومررتُ بزيدٍ، وهذا ثوبُ عمروٍ المحسنَيْنِ. قال الجرمي: وكان الخليل يكره ذلك، وهو جائز، لأن الرفع للصفة أنها صفةٌ لرَفْعٍ رفعتَه، والجَّر لأنها صفة لجَرٍّ جررتَه، والنصبَ لأنها صفةٌ لنصب نصبتَه، فلما كانت العلة فيه واحدة أُجريت كذلك. قال الفارسي: كأنه يذهب إلى أن العامل في الصفة كونُها وصفا، كما ذهب إليه أبو الحسن. وإذا كان كذلك فاختلافُ العوامل غير مؤثر اتحاد العامل. ورُدَّ هذا، مع تسليم أن العامل في النعت ما ذكَر من التبعيَّة، أن النعت داخلٌ فيما دَخل فيه المنعوت من جهة المعنى، فنعتُ الفاعل فاعلٌ في المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: قام زيدٌ العاقلُ، فكأنك قلت: قام

______ (1) السيرافي (جـ 2 ورقة: 187 - أ).

العاقلُ وإذا قلت: هذا محمدٌ العاقلُ فهو في تقدير: هذا العاقلُ، فالنعت هنا خبرٌ في المعنى. فلو أتبعتَ في قولك: هذا زيدٌ وقام محمدٌ العاقلان لكان (العاقلان) من حيث هو تابعٌ للخبر خبرا، ومن حيث هو تابعٌ للفاعل فاعل. وهذا غير جائز، أن يرتفع اسمٌ واحد من جهتين مختلفتين. وأيضاً فلو اعتُبر وصفُ التبعيَّة دون العامل لجاز الإتباع في قولك: ضرب زيدٌ عمراً العاقلَيْن، (لأن وصف التبعيَّة موجودٌ دون العامل، ولقلت: جاء زيد، ورأيت عمراً العاقلين كذلك) (1) وهذا باطل باتفاق. فإن قيل: المانُع هنا اختلافُ التبعيَّة بخلاف مسألتنا- قيل: فيلزم أن تقول: هذا زيدٌ، ومَنْ محمدٌ العاقلان؟ لأن التبعية مُتَّفِقة، ولا اعتبار عنده بالعامل. وهذا كله غير مستقيم. فالصحيحُ ما رآه الناظم والجمهور. هذا كله مع اتحاد العمل. فإذا اختلف العمل فلا أعلم خلافاً في منع الإتباع إلا في مسألة واحدة، وهي فيما إذا كان العاملان كلُّ واحد منهما من أفعال (المفاعلة) حتى يكون مرفوعُه في معنى المنصوب، وبالعكس، فإن النقل عندهم جوازُ نحو: ضارَبَ زيدٌ عمراً العاقلان أو العاقلَيْن، على الإتباع فيهما، لأن كل واحد من المرفوع والمنصوب في تقدير صاحبه وفي معناه، فكأنهما مُعربان بإعرابٍ واحد. وما يدل على صحة هذا القياس أن العرب تعامل المرفوع في باب (المفاعلة) معاملةَ المنصوب، حتى إنها ترفع فاعِلَيْن، وتنصب مفعولَيْن مع/ الاستغناء عن الفاعل، فتقول: ... 605 ضارَب زيدٌ عمروٌ، وضاربَ زيداً عمراً،

______ (1) ما بين القوسين ساقط من (ت).

فمن الأول ما أنشده سيبويه لأَوْس بن حَجَر (1): تُوَاهِقُ رِجُلاَهَا يَدَاهَا ورَأْسُهُ لَهَا قَتَبُ خَلْفَ الحقَيِبةِ رَادِفُ فرفع ((رِجْلاَها ويَداهَا)) معاً، اعتباراً بأن كل واحد منهما فاعلٌ مفعولٌ. ومن الثاني قول الآخر، أنشده سيبويه أيضا (2): * قَدْ ساَلَمَ الحَيَّاتِ منه القَدَمَا * روُى بنصب ((الحَيَّاتِ)) و ((القَدَم)) منصوب، ولا فاعل لـ (ساَلَمَ) اعتباراً بما تقدم. فإذا كان كذلك فلا محذور في جَرَيان النعت على ذلك التقدير، ويتخرَّج الجوازُ في العاملين على المعمول الواحد، فيجوز أن تقول: ضارَبَنِي زيدٌ، وضارَبْتُ عمراً العاقلان، والعاقلَيْن، لأنه في تقدير: ضاربَنِي زيدٌ، وضَاربنِي عمروٌ العاقلان، أو ضاربتُ زيداُ، وضاربتُ عمراً العاقلين. وهذا أَوْلَى بالجواز من مسألة العامل الواحد، فإن الاعتبارين يتضادَّان مع العامل الواحد، ولا يتضادَّان مع العاملين. والصحيح عدمُ الجواز في الجميع، لأن معنى التبعيَّة الموافقةُ في الإعراب،

______ (1) ديوانه 73، وسيبويه 1/ 287، والمقتضب 3/ 285، والخصائص 2/ 425، واللسان (وهق). وتواهق: تساير. والقتب: الرجل الصغير على قدر سنام البعير. والحقيبة: كل ما يحمل وراء الرجل. يصف حماراً من حمر الوحش يجري وراء أتان، فرجلاها توافقان يدي هذا الحمار، والحمار يضع رأسه خلفها في سيره، ملازما لها ومزعجا، وكأن رأسه قتب خلف حقيبتها. ويروى ((يداه)) كما في الديوان واللسان، وهي الأجود. (2) للعجاج أو مساور بن هند العبسي أو غيرهما. وهو من شواهد الكتاب 1/ 287. والخصائص 2/ 430، والأشموني 3/ 67، والعيني 4/ 80، واللسان (ضرزم). يصف راعيا بخشونة القدمين، وغلظ جلدهما، حتى أصبحت الحيات، مهما كانت خبيثة، لا تؤثر فيهما.

إمَّا بحسب اللفظ، وإمَّا بحسب الموضع، وليس شِيء منهما هنا، وإنما ذلك اعتبارٌ معنوي لا قياس له، ولا سماعَ يُقاس على مثله. ومِثْلُ البيتين شاذٌ لا يُقاس عليه، ولا يَلزم، من القياس على البيتين لو كان، القياسُ هنا، لأنه مناقضٌ لوضع التبعيَّة. وكلُّ قياس أَدَّى لنقض الغرض ممنوع كما تقدم في مواضع. ورُد أيضاً بأنه لو جاز مثلُ هذا لجاز أن تقول: ضارَبَ زيدٌ هنداً العاقلةُ برفع ((العاقلة)) على المعنى، لأن ((هِنْداً)) فاعلةٌ من جعة المعنى. ولجاز أن تقول: ضاربَ زيدٌ هنداً العاقَلَ، بنصب (العاقل). وهذا كله غير جائز، وإذا لم يجز في الانفراد فكذلك في الاجتماع من غير فَرْق مُؤَثِّر. ولو وَرد في النقل مثلُ قولك: ضاربَنيِ زيدٌ، وضاربتُ بكراً القائمان أو القائمَيْن- لكان مقطوعاً لا تابعاً. فإن قيل: فلم جاز نصبُ الحال منهما نحو: ضربتُ زيداً قائمَيْنِ، ولقيتُه راكبَيْنِ، قال عَنْتَرة (1): * مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ * وقد تقدم ذلك. فالجواب أن حالَ (الحالِ) أخفُّ، إذ لا يُطلب فيه تَبِعَيَّة، والحمل فيه على المعنى سائغ، إذ لا مُعارِضَ له. وأما (النعت) فوصفُ التبعيَّةِ فيه لازم، فلابد من اعتباره، وهو مناقض للجواز في القياس، فلم يصلح للقول بهز والله أعلم. وأما قوله: ((بِغَيْرِ اسْتِثْنَا)) فتنكيتٌ على من خَصَّ هذا الجواز المذكور

______ (1) ديوانه 108، وابن يعيش 2/ 55، 4/ 116، 6/ 87، والتصريح 2/ 294، والعيني 3/ 174، والهمع 4/ 340، والدرر 2/ 80، والبيت بتمامه: متى ما تَلْقَنِي فردَيْنِ تَرْجُفْ روانفُ أَلْيَتَيْكَ وتُسْتَطَارَا وقد تقدم في باب الحال.

المشروط بنعت المبتدأَيْن والفاعلَيْن. وذلك أن سيبويه إنما تكلم بالنص على ذلك، فأوهم الاختصاص. قال في ((الشرح)): وفي كلام سيبويه ما يُوهم منعَ جواز الإتباع عند تعدد العامل في غير مبتدأَيْن وفاعلَيْن، فإنه قال بعد أن مثل بـ (هذا فرسُ أَخَوَىْ ابْنَيْكَ العُقَلاءِ الحُكماءِ (1)) ثم قال: ولا يجوز أن يُجْرَي وصفاً لما انجرَّ من وجهين، كما لم يَجُزْ فيما اختلف إعرابُه (2). ثم قال: وتقول: هذا عبدُ اللهِ، وذاك أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا/ من وجه واحد، وهما اسمانُ ... 606 بُنِيَا على مبتدأَيْنِ، وانطلقَ عبدُ اللهِ، ومَضَى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعْلَيْن (3). قال المؤلف (4): فمن النحويِّين من أخذ من هذا الكلام أن مذهبه تخصيصُ نعتِ فاعلي الفِعْلين، وخبري المبتدأَيْن بجواز الإتباع. والأَوْلَى أن يُجعل مذهبه على رَفْق ما قررتُه قبل، يعني من عموم الجواز في وجوه الإعراب كلها. قال: لأنه مَنع الاشتراكَ في إعراب ما انْجَرَّ من وجهين، كما هو في (هذا فرسُ أخويِ ابنْيكَ) وسكت عن المجرورَيْن من وجهٍ واحد، وعن المنصوبَيْن من وجهٍ واحد، فعُلم أنهما عنده غيرُ ممتنعَيْن. قال: ويعضِّد هذا التأويلَ قولُه في: هذا عبدُ الله وذاك أبوك الصالحان، لأنهما ارتفعا من وجه واحد (5). انتهى كلامه. والظاهر تعميمُ الحكم كما قال، إذ لا فرق في القياس بين قولك:

______ (1) الكتاب 2/ 59. (2) نفسه 2/ 60. (3) نفسه 2/ 60. (4) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 189 - أ). (5) الكتاب 2/ 60، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 189 - أ).

ذهب زيدٌ، وانطلق عمرٌ العاقلان، وقولِك: أحببتُ زيداً، ووَدِدْتُ عمراً العاقلين. وقولك: مررتُ بزيدٍ، ومررت بعمروٍ العاقلين. فإذا جاز الأول جاز هذا، وهو ظاهر. وقد اختلفوا في اختلاف جنس العامل في الجر: هل هو مانع من الإتباع أم لا، فالجمهور على أنه مانع. ومذهب الجَرْمي أنه غير مانع، وقد تقدم. واختلفوا أيضاً في حَرْفَيِ الجر المختلفين، والإضافتَيْن مختلفين، هل ذلك كاختلاف جنس العاملين أم لا، على قولين. فمنهم من عَدَّهما كاختلاف الجنس. وذهب الأخفش في الإضافتين إلى جواز إتباع نعت مجرورهما. وعَلَّل ذلك بأننَّ جرَّ جميعها بالإضافة، فتقول على مذهبه: هذه جاريةُ إحدى ابْنَيْنِ لفلانٍ كِرَامٍ، وهذا فرسً أَخَوَيِ ابْنَيْكَ الحُكماء، وما أشبه ذلك. ورُدَّ بأن هذين الجَرَّيْن لا تستطيع على جمع حكميهما بوجه من وجوه الإفراد ولا الجمع، ولا الإشراك، كما ساغ ذلك في الفعلين وفي المبتدأين. وذهب ابن الباذِش إلى أن قياس الحرفين المختلفين نحو: مررتُ بزيدٍ، ودخلتُ إلى عمروٍ أن يكونا مثلَ الفعلين، وفَهِم من الكتاب أن سيبويه يجيزُ ذلك. والأظهرُ المنع، لأن ما يَسُوغ في الفعلين، من جمعهما في فعل واحد، واشتراكهما في معنىً ما لا يسوغ في الحرفين، لأن معانَي الأفعال تقبل

______

الاجتماع في معنى فِعْلٍ آخر، ويدل معنى الفعل على معنى فعل آخر، وإن لم يكن بمعناه من كل وجه، وليس الحرف كذلك. وكذلك الإضافتان ليستا كالفعلين في هذا، بل كالحرفين. وأيضاً فعاملا الجِّر، إذا لم يتفقا في المعنى اتفاقَ التماثل أو الترادف، لم يصح أن يُعاملا معاملة العامل الواحد. أمَّا إن اتفقا نحو: مررتُ بزيدٍ، ومررت بعمروٍ العاقلين، أو ترادفَا نحو: سِيق المالُ لزيدٍ، وإلى عمروٍ العاقلين فجائزٌ الإتباعُ لموافقة الشرط، وكذلك في الإضافة. المسألة الثالثة: فيما عسى أن يرد عليه من الاعتراضات في هذا الحكم، وذلك أنه قَرَّر أن الإتْبَاع بالشرطين المذكورين صحيح، فمقتضى ذلك أنهما إذا تخلفا أو/ تخلف أحدهما ... 607 فلابد من القطع. أما صحة الإتباع مع وجود الشرطين ففيه نظر، فإن الناس يشترطون في ذلك شروطاً أُخَرَ زائدةً على ما ذَكر، وهي الاتفاق في التعريف أو التنكير، أعني المنعوتَيْنِ، فلا يجوز أن تقول: جاءني رجلٌ، وجاءني زيدٌ العاقلان، ولا عاقلان، لما يلزم من نعت النكرة بالمعرفة أو بالعكس. ولكَوْنُ النعت جارياً على نكرة مطلوبِ التنكير، وكونُه جارياً على معرفة مطلوبِ التعريف، فاجتمع عليه الضدان من جهة واحدة فلا يصح. وأَلاَّ يكون أحد المنعوتَيْن، وهما المعمولان، اسمَ إشارة، فلا يجوز أن تقول: جاءني عمرو العاقلان، لما يلزم من الفصل بين المبَهم ونعته، وذلك لا يجوز، إذ لا يقال: جاء هذا من الدارِ الرجل، كما تقول: جاء زيدٌ من الدارِ العاقلُ، ولا يجوز ايضاً إن اخَّرتَ اسمَ

______

الإشارة، لأنه إذا نُعت بالمشتق فهو على حذف الجامد، والاسمُ الظاهرُ غير المبهم إذا نعت بالمشتق فليس على حذفِ جامد، فتدافع الأمران فامتنع. وكذلك لا تقول: جاءني هذا، وجاءك ذاك الرجلان، للفصل اللازم. وكذلك امتنع أيضاً في جمع المنعوت وتفريق النعت أن تقول: مررتُ بهذين الرجلين والمرأةِ. ومررت بذَيْنك الطويلِ والقصيرِ. وهو ايضاً مما يَرِدُ عليه في الفصل قبل هذا حيث قال: ((ونَعْتُ غيرِ واحدٍ إذا اخْتَلَفْ فَعَاطِفاً فَرِّقْهُ لا إذَا ائْتَلَفْ)) فإنه يقتضي جواز هذه المسألة وهي غير جائزة. وقد عُلِّل ذلك بأوجه؛ منها أن النعت يربطه بالمنعوت الضميرُ العائد عليه من النعت، فجاز أن يجيء النعت مُشَاكِلاً للمنعوت في التَّثْنية، وأَلاَّ يأتي كذلك، بخلاف نعت الإشارة، فإنه بالجامد إمَّا لفظاُ وإما تقديرا. والجامد لا ضمير فيه، فلم يبق رابط إلا المشاكلة، فلا يصح أن يقال: مررت بهذين الطويلِ والقصيرِ، ولا بهذين الرجلِ والمرأةِ. وعلى هذا أيضاً يمتنع ما تقدم، لأن قولك: جاءني هذا، وجاءك ذاك الرجلان، أو مررتُ بزيدٍ، ومررتُ بهذا العاقلان- قد فُقدت فيه مناسبةُ النعت لاسم الإشارة فالحاصل ثبوتُ الاعتراض على المسألتين معاً، فإن إطلاقه فيهما يقتضي حكماً غير صحيح. وأما كونُ أحد الشرطين يوجب القَطْع، أعني قطعَ النعت إلى الرفع أو النصب، فذلك غير صحيح على الإطلاق، بل ذلك على ضربين. أحدهما أن يكون كلا المنعوتين في جملة خَبَرية، أو جملة غير خَبَرية نحو

______

هذا عبدُ الله، وهذا زيدٌ العاقلان، ومَنْ عبدُ الله، ومَنْ زيدٌ العاقلان؟ وسائرِ ما كان مثلَ ذلك. فالجميع يجوز فيه الإتباع. فإن تخلَّف شرطٌ فالقطعُ نحو: مَنْ جاءكَ ـخوه ومَنْ ضَربك ابوه العاقلَيْن، وجاء زيدٌ وأكرمك عمروٌ العاقلين، ونحو ذلك. والثاني/ أن يكون أحدهما في جملة خَبَرية، والآخر في جملة غير خبرية نحو: جاء زيدٌ، 608 وهل جاء أخوه الصالحان أو الصالحين؟ ونحو: أكرمتَ أخاك، وهل أكرمتَ أباك الصالحان أو الصالحين، فلا يجوز هنا الإتباعُ ولا القطعُ، فقد منع سيبويه أن تقول: مَنْ عبدُ الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو نصبت كما تقدم (1)، لأن الاستفهام يستلزم الجهلَ بالصفة، والخبُر يستلزم العلمَ بها من حيث هو ممدوح، فيجتمع في الصفة العِلْمُ والجهلُ معا، وكلام الناظم يقتضي جواز ذلك إذ لم يُقَيِّده. ووجهٌ آخر من الاعتراض، وهو أنه ذَكر جمعَ النعوت مع كون عامل المعمولين متعدداً، ولم يذكره مع كونه مُتَّحدا، فإن مثل هذا حَرٍ (2) بأن يُذكر حكمُه هنا، إذ هو كثير الاستعمال، ومن جلائل النحو، وذلك أنك لا تقول: ضربَ زيدً عمراً العاقلان، ولا العاقلين، لاختلاف العمل، ويجوز مع العطف إذا قلت: جاء زيدٌ وعمروٌ العاقلان، كما تقدم (3).

______ (1) الكتاب 2/ 60، وانظر: ص 654. (2) يقال: فلان حَرِىَّ بكذا، وبالحَرىَ ان يكون كذا، أي جدير وخليق. (3) انظر: ص 652.

ويبقى النظر في نحو: أعطيتُ زيداً الغلامَ العاقلين، واخترتُ الرجالَ زيداً العُقَلاء، وكسوتُ زيداً الثوبَ الطويَليْن، وأعْلَمتُ زيداً أخاك العاقَليْن شاخصاً، وما أشبه ذلك. فيمكن أن يكون الإتباع فيها جائزاً أو ممتنعا، ولم يبيِّن ذلك، ولا أشار إليه، فكان الفَصْل قاصراً. وقد يُجاب عن ذلك بأن الشرط الأول لا يُحتاج إليه هنا، لأنه قد قَدَّم اشتراط ذلك أولَ الباب، وهو لا يختص بمسألة دون أخرى، فهذه المسألة داخلة تحت مقتضى شرطه، لأن ((العاقلَيْن)) أو ((عاقلَيْن)) في قولك: مررتُ برجلٍ ومررتُ بزيدٍ العاقلين، أو عاقلَيْن- قد جرى ما لا يوافقه في تعريفه أو تنكيره، فلم يصح في الإتباع. وأما مسألة ((اسم الإشارة)) فإن المؤلف يُجيز نعته بالمشتق، وظاهره أنه ليس على حذف الجامد، فعلى هذا يمكن أن يُجيز: جاء عمروٌ، وجاء هذا العاقلان، وأن يُجيز: مررتُ بهذين الطويلِ والقصيرِ، كما يجوز: مررتُ بالرجلين الصالح والطالح، لأن المشتق عنده مع اسم الإشارة ليس على تقدير الجامد، فلا يُعترض بها عليه. وإن كان الجاري على اسم الإشارة جامداً فليس بنعتٍ عنده، وإنما هو عطفُ بيان، وهو رأي لبن السَّيد وغيره (1)، فلا تدخل له مسألةُ الجامد في هذا الباب، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. والجواب عن مسألة القَطْع أنه قال اَتْبَعْ كذا بشرط كذا، فالمفهوم أنه إذا لم تتوَفَّر الشروط لا يُتْبَع، ونفُي الإتباع لا يستلزم إثباتَ القطع لأنه أعمُّ من ذلك،

______ (1) وهم: الزجاج وابن جني والسهيلي واختيار ابن مالك [ارتشاف الضرب-962].

إذ قد يَصْدُق على مسألة سيبويه أنها لا إتباعَ فيها (1)، لأن الإتباع وغيره ممتنعٌ فيها، لكن يبقى فيه أنه لم ينص على ما يكون من الحكم مع تخلف الشرط. نعم يتوجَّه الاعتراضُ عليه على وجه آخر، وهو أن للإتباع شرطاً آخر لم يذكره، وهو ألا يكون أحد المعمولين في جملة خبرية، والآخر في جملة غير خبرية، فهذا الشرط لابد منه، وإلا لزم جوازُ ما مَنع سيبويه/ حسبما يقتضيه كلامه، ... 609 وذلك غير صحيح. والعذُر أن المسألة من النوادر التي لا يذكرها إلا القليل. وقد أغفل ذكَرها في ((التسهيل)) وكان من حقه أن يذكرها هنالك، وهنا ليست من الضروريات. وأما الثالث فإنه أغفل ذكر ذلك القِسْم رأساً، فيمكن أن يكون تَرَكه للاستغناء عنه، أمَّا عند اختلاف العمل فظاهرٌ المنعُ مِمَّا شَرطه في قوله: وَحِيَديْ مَعْنىً وَعَملٍ)) لأن العلة واحدة في الوجهين. وأما مسألة (أَعْطَيْتُ) وما ذُكر معها (2) فهي من المسائل المُغْفَلة التي لا أعلم أحداً ذكر لها حكماً مخصوصا بجوازٍ أو مَنْع، فلم يتعرض لها هنا كما لم يتعرض لها في غير هذا الكتاب. فإن قلت: فما حكمُها؟ قيل: ليس هذا من مقاصد الشرح، وفيها نظر. والظاهر فيها منعُ الإتباع، وقد يَظهر وجهُ المنع مما تقدَّم في تفضيل المسألة قبل هذا، فتأمَّله.

______ (1) تقدم القول فيها 662، وانظر: المتاب 2/ 60. (2) يقصد الأفعال التي تنصب مفعولين أو ثلاثة، وقدَ مثَّل لها قبل ذلك بقوله: أعطيت زيدا الغلام العاقلين، واخترت الرجال زيدا العقلاء، وكسوت زيداً الثوب الطويلين، وأعلمت زيداً أخاك العاقلين شاخصاً.

وإِنْ نُعوتُ كَثُرَتْ وقَدْ تَلَتْ مُفْتَقِراً لذِكْرِهِنَّ أُتِبْعَتْ واقْطَع أَوَ اتْبِعْ إنْ يَكُنْ مُعَيَّنَا بَدُونِهَا أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا يريد أن النعوت إذا كَثرتُها أن تكون أكثر من واحد، وهو اصطلاح أهل العَدَد حيث يقولون في حَدِّ العَدَد: إنه الكثرةُ المؤلَّفة من الآحاد، ولا يريد الكثرةَ في اللغة (1)، بل معنى التعدُّد. وهذا، وإن كان خلافَ اصطلاح أهل العربية، متعيِّن في الموضع. فلا يخلو أن يكون المنعوت، وهو الذي تَلَتْه النعوت، مفتَقراً لذكرها كلِّها أو غيرَ لشٍيء منها، أو مفتقِراً لبعضها دون بعض، فهذه ثلاثة أحوال: فأَمَّا الحالُ الأولى، وهو أن يكون المنعوت مفتقِراً لذكرها كلِّها- ومعنى افتقارِه إليها أن تَتوقف معرفةُ المنعوت عليها، فلا تحصل معرفتُه في ظن المتكِّم إلا بها- فالذي نَصَّ عليه الناظم أنها تُتْبَع كلُّها، ولا تُقْطَع هي ولا شيءٌ منها، وذلك قوله: ((وقَدْ تَلَتْ .. مُفْتَقِراً لذِكْرِهَّن أُتْبِعَتُ)). وإنما لزم إتباعُها لأن القطع يُقصد به تكثيرُ الجمل، والإطنابُ في مدح أو ذم أو ترحُّم، وذلك إنما يكون بعد معرفةِ المنعوت والاستغناءِ عن بيانه. فأمَّا إذا كان القصد البيانَ، لأنه لم يُعَرَّف بعدُ، فلابد من البيان، لأن النعت حينئذ من تنام المنعوت، وكالجزء منه، أَلا ترى إلى قول سيبويه: زيدٌ الأحمرُ عند مَنْ لا يعرفهُ بعينه كزيدٍ وحدَه عند مَن يعرفه (2). فإذا كان من تمامه

______ (1) الكثرة في اللغة: نقيض القلة، ونماء العدد. (2) الكتاب 1/ 88.

فلا يصح إذاً أن يخالفه في الإعراب، لتنزُّله حينئذٍ منزلَة آخر المنعوت، فكما لا يصح قطعُ المنعوت عن اقتضاء العاملِ الأولِ فيه إعراباً معيَّناً، كذلك لا يصح فيما هو كالجزء منه، وهذا واضح، فتقول: مررتُ بزيدٍ الخياطِ القرشيِّ، وائتِني برجلِ مسمٍ عربيٍّ كاتبٍ فقيهٍ حاسبٍ، وما أشبه ذلك، ولا تَقْطع. وأما الحالُ الثانية، وهي أن يكون المنعوت غَير مفتِقر في معرفته إلى شيء من تلك النعوت- وهو معنى كونه معيَّناً بدون النعوت، أي معروفاً قبل ذكرها- فلك فيه ثلاثة أوجه، كلها جائزٌ أوجه، كلها جائزٌ داخلٌ تحت/ قوله: ((واقَطْع أَوِ اتِبْع)) إلى آخره. 610 أحدها قطعُها كلِّها إلى الرفع، فتقول: مررتُ بزيدٍ الفاضلُ الصالحُ العالمُ، أو إلى النصب فتقول: مررت بزيدٍ الفاضلَ الصالحَ العالمَ، ومنه قول الخرِنْقِ، أنشده سيبويه (1): لا يَبْعَدنُ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ النَّازِليَن بكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيبَّيِن مَعَاقِدَ الأُزْرِ

______ (1) الكتاب 2/ 57، 64، والمحتسب 2/ 198، وأمالي ابن الشجري 1/ 345، والإنصاف 468، 743، والعيني 3/ 602، 4/ 72 والتصريح 2/ 116، 204، والأشموني 3/ 68، 214، والخزانة 5/ 41، والهمع 5/ 183، والدرر 2/ 150. ولا يبعدن: لا يهلكن. وسم العداة: هم كالسم القاتل لأعدائهم، والعداة: جمع عاد، وهو العدو. والآفة: العلة والمرض. والجُزْر: جمع جزور، وهي الناقة تنحر. والمعترك: موضع ازدحام القوم في الحرب والأزُرْ: جمع إزار، وهو ما يستر النصف الأسفل من البدن. والمعاقد: جمع معقد، وهو حيث يعقد الأزار ويثنى، وطيب المعاقد كناية عن العفة، وأنها لا تحل لفاحشة. وصفتهم بالشجاعة والجودُ العفة.

فعلى تقدير ان يكون ((الذين هُمُ)) في موضع نصب لا يكون شاهدا (1). ويُنْشَد هكذا (2) النَّازلُونَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ برفع الجميع. والثاني أن تُتبعها كلَّها فتقول: مررتُ بزيد الفاضل الصالح العالم، ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مالِكَ يْومِ الدِّينِ} (3) وفي الشعر قولُ الراجز أنشده سيبويه (4): بأَعْيُنٍ مِنْهَا مَليحات النُّقَبْ شَكْلِ التِّجَارِ وحَلاَلِ الْمكْتَسَبْ وأنشد أيضاً لمالك بن خُوَيْلد الخُناعي (5):

______ (1) في الأصل و (ت) ((يكون شاذا)) وهو تحريف، وما أثبته من (س). (2) الكتاب 1/ 202، وكذلك المراجع السابقة. (3) سورة الفاتحة/ آية 2، 3، 4. (4) الكتاب 2/ 67، واللسان (نقب). يصف جواري أو إبلا- والنقب: يروى بضم النون وكسرها، فعلى الضم يكون جمع نُقْبة، وهي ما أحاط بالوجه من دوائره، وعلى الكسَر يكون جمع نقْبة، فِعلَةَ من الانتقاب بالنقاب، وشكل التجار: أي يصلحن للتجارة. ويروى ((شكل النجار)) بالنون، أي تشاكل نجارها وتشبهه. (5) ديوان الهذليين 3/ 3، والكتاب 2/ 67، وابن يعيش 6/ 32، واللسان (وحد). يصف اسدا. والحِيَد: نتوء في قرنه، واحدتها حِيَدة. ويروى (حَيَد) على المصدر. وحومة الموت: مجتمعه. والرزَّام: من الرزم، وهو الصَّرْع. والفراس: من الفَرْس، وهو دق العنق، ومنه: الفريسة، لاندقاق عنقها. والصريمة: رميلة فيها شجر، تنفرد وتنقطع مما حولها من والأرض. والهماس: من الهمس، وهو الصوت الخفي، وذلك من عادة الأسد. وأحدان: أصله وحدان، فقلبت الواو همزة، وهو جمع واحد. ويقال: رجل واحد، أي متقدم في العلم أو البائس أو غيرهما، كأنه لا مثل له، فهو وحده في ذلك. ومعنى الشعر أن الدهر لا ينجو منه أحد ولا شيء حتى هذا الأسد.

يامَيَّ لا يُعْجِزُ الأيَّامَ ذُو حِيدٍ في حَوْمَةِ الموتِ رَزَّامٌ وفَرَّاسُ يَحْميِ الصَّريمةَ أُحْدَانُ الرِّجالِ له صَيْدٌ ومُجْتَرِئٌ باللَّيْلِ هَمَّاسُ ويحتمل القطع. والثالث أن تُتْبع بعضاً دون بعض، وهو نَصُّه حين قال: ((أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا)) فتقول: مررتُ بزيدٍ العاقلِ الفاضلُ. وقد أُنْشِد بيتُ الخرِنْقِ هكذا (1): النَّازِلوُن بكلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبينَ معاقدَ الأُزْرِ وبالعكس (2) وأنشد سيبويه قولَ ابن خَيَّاط العُكْلي (3): وكلُّ قومٍ أَطاعُوا أمَر مُرْشِدِهمْ إلاَّ نُمَيْراً أَطَاَعَتْ أمرَ غاوِيَها

______ (1) انظر: المراجع السابقة. (2) أى هكذا: النازِلينَ بكُلَّ مُعْتَرَكٍ والطيَّبُونَ معاقَد الأُزْرِ (3) الكتاب 2/ 64، والإنصاف.47. ونمير: قبيلة من بنى عامر. وغاويها: مغويها: ، من الغي، وهو الضلال. وقيل: المراد بغاويها الضال نفسه، فهو غاوٍ في نفسه، مغو لمن أطاعه. والظاعنين: المرتحلين، يعني أنهم يخافون عدوهم لقلتهم وذلهم فيحملهم ذلك على الظعن والهجرة. وقوله: ((ولما يظغنوا أحدا)) معناه أن عدوهم لا يخافهم فيظعن عن داره. وقوله ((لمن دار نخليها)) معناه أنهم إذا رحلوا عن دارهم لم يعرفوا من يحلها بعدهم من قبائل العرب، لأنهم أضعف من كل قبيلة، وكل قبيلة يمكن أن تحل دارهم.

الظَّاعِنيِنَ وَلَمَّا يُظْعِنُوا أحداً والقائِلُونَ لِمَنْ دار نُخَلَّيهَا قال سيبويه: ومن العرب من يقول: الظَّاعِنُون، والقائِلَين (1). وهذا من القسم الذى قبل هذا. وأَنشد أيضاً لأمَيَّة بن أبى عائذ (2): وَيأْوِى إلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ وشُعْثاً مَراضيعَ مثلَ السَّعَالِى وإنما جاز القطع مبالغةً فى المدح أو الذم، لأنه يَستلزم تكثيرَ الجمل المتضمِّن للإطناب فى وصف المذكور، فوصفُه بجملٍ كثيرى أبلغُ من وصفه بجملة واحدة. وأيضاً فإن العِلْم به يُؤذن بالاستغناء عنه، فقَطَعوا إيذاناً بذلك، ليعرِّفوا أن المنعوت مستغنٍ عن نعته. وكأن تعليق حكم القَطْع على العِلْم فى قوله: ((واقَطْع أو اتْبِعْ إن يَكُنْ معيَّناً بدونها)) يُرشد إلى هذا الوجه الثاني من التعليل. قال سيبويه: وزعم الخليل -رحمة الله- أن نصب هذا - يَعنى ما تقدَّم من القطْع - على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس، ولا مَنْ تُخاطب، بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فَجعَله تعظيماً وثناء، إلى آخر ما

______ (1) الكتاب 2/ 65. (2) الكتاب 1/ 399، 2/ 66، ومعانى القرآن للفراء 1/ 108، والأشموني 3/ 69، والخزانة 2/ 426، وديوان الهذليين 2/ 184، واللسان (رضع). يصف صائدا يسعى لكسب رزقه، فيغترب عن نسائه في طلب الصيد، ثم يأوى إليهن فيجدهن في أسوأ الأحوال. والعطل: جمع عاطل، وهي التي لا حلى لها، أو التي لا شئ عندها، وهذا المعنى الثاني أولى في هذا الموضع. والشعث: جمع شعثاء، وهي التي تلبد شعرها لعدم تعهده بالدهن. والمراضيع: جمع مرضاع، وهي الكثيرة الإرضاع. والسعالى: جمع سِعلاة، وهي أنثى الغيلان، وتشبه بها المرأة إذا كانت قبيحة الوجه، سيئة الخلق.

قال (1). وأما الحالُ الثالثة، وهو أن يكون المنعوت مفتقِراً إلى بعض النعوت دون بعض فحكمُها إمَّا مأخوذُ من قُوَّة كلامه في الحالين الأَوَّلَيْن، وذلك أن يُتْبَع ما كان مفَتَقَراً إليه، ويُخيَّر في الباقي، فتقول: مررتُ بزيدٍ الخَيَّاطِ الصالح الفاضل. فـ (الخَيَّاطُ) مثلاً لازمُ الإتباع لأنه مفَتقر إليه في بيان المنعوت، ولك في (الصالح، والفاضل) الأتباعُ والقطعُ. لكن يبقى النظرُ في تقديم المفَتقَر إليه مسكوتاً عنه. ولابد من تقديمه/ لأنه لا ... 611 يجري نعتُ المدح والذم والترحُّم إلا بعد معرفة صاحبه. ولعل الناظم سكت عن هذا لأنه ظاهر المعنى. وقد ذهب ابن الناظم في ((شرحه)) (2)، إلى أن هذه الحالة الثالثة هي المرادة بقوله: ((أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا)) كأنه يقول: وإن يكن المنعوت معَنَّياً ببعضها فاقْطَعْ ما سواه. وهذا التفسير لا يَظهر، إذ لو أراد الناظم ذلك لقال: أو بَعْضها اقَطْع معلِناً إن كان معيَّنا بالبعض الآخر، ولم يقل ذلك، فإنَّما قوله: ((أو بَعْضِها اقْطَعْ مُعْلِنَا)) راجع إلى القسم الأخير، وهو أن يكون المنعوت معيَّنا بدونها كما تقدم. ويَدخل حكمُ الحالة الأولى تحت معنى العبارة، لأن ما تأتي به من النعوت المفتَقَر إليها يَشمله قوله: ((وقَدْ تَلَتْ مفتِقراً لذِكْرِهَّن)). وما يأتى به مما هو معيَّن بدونها يَشمله قولهُ: ((إنْ يَكُنْ معيَّناً

______ (1) الكتاب 2/ 65، وما قال بعد ذلك هو ((ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكر أهل ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره)). (2) شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم: 497.

بدوُنِها)) فظهر مراده، وبالله التوفيق. وقوله: ((مُعْلِنَا)) أي مبيِّناً ذلك، ومصرِّحاً به، وظاهره أنه فَضْل، ولكنه يمكن أن يكون تنِكْيتاً على رأي مَن رأى أن القطع لا يأتي إلا بعد الإتباع، فعند هذا القائل لا يجوز: مررتُ بزيدٍ الكريمِ الفاضل، برفعهما معاً، أو نصبهما، أو رفع أحدهما ونصب الاخر، بل اللازم إتباعُ الأول وقطعُ الثاني. وهذا غير مَرْضِيٍّ، فقد حكى سيبويه: الحمدُ للهِ الحميدَ، والحمدُ للهِ أهلَ الحمدِ (1)، بالقَطْع ولم يتقدم مُتْبَع، وأنشد للأخطل (2): نَفْسِي فِدَاءُ أميرِ المؤْمنيِنَ إذا أَبْدىَ النَّوَاجِذَ يومٌ باسِلٌ ذَكَرُ الخائضُ الغَمْرَ والمَيْمُونُ طائِرهُ خليفهُ اللهِ يُسْتَسْقَى به المَطَرُ وقد تقدم إنشاد بيت العُكْلى (3): * وكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ مُرْشِدِهمْ *

______ (1) الكتاب 2/ 62. (2) من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، ديوانه 98 - 122، وسيبويه 2/ 62، واللسان (جشر، بسل) وفي جميع نسخ الكتاب ((أبدى النواجذ يوما)) بنصب ((يوما)) وما أثبته من الديوان، واللسان وسيبويه. والنواجذ: الأضراس، أو أقصاها، أو أضراس الحلم. ويوم باسل: شديد كريه، والذكر: الشديد أيضا وإبداء النواجذ كناية عن الشدة والبسالة. والغَمْر: الماء الكثير. ويقال: هو ميمون الطائر، إذ كان كثير الخير، وممن يتبرك بهم. وكانوا يستسقون المطر بمن يأنسون فيه اليمن والخير. (3) عجزه: * إلاَّ نُمَيْراً أَطَاعَتْ أمرَ غَاوِيَها * وقد سبق.

وهو كثير، فلا مُسْتَنَد لهذا القول ولا سَلَف. فكأن الناظم يقول: اقطع الجميعَ أو أَتْبِعْها، أو اقطع بعضاً دون بعضٍ مُعْلِناً بذلك من غير قَيْد، فالجميع جائز. ولا فرق في ذلك بين المعرفة والنكرة، بل يجوز أن يقال: مررتُ برجلٍ عالمٍ صالحٌ، كما تقول: مررتُ بزيدٍ العالمِ الصالحُ. ثم على كلامه سؤالات، أحدها أن الذي يَتْبع من النعوت ثلاثةٌ، نعتُ البيان المنبَّه عليه، وهو المفتَقَر إليه. ونعت التوكيد نحو قوله تعالى {فَإذِاَ نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحدَةٌ} (1)، {وقَاَل اللهُ لاَ تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثنَيْنِ} (2)، ونحو ذلك وهذا مُتَّفَق على منع القطع فيه. وما وُضع من النعوت على اللزوم نحو: مررتُ بهم الجَمَّاءَ الغَفِيرَ، وطَلَعَتِ الشَّعْرىَ العَبوُرُ (3). وهذا أيضاً مُتَّفَق على منع القطع فيه. وأما القسم الأول فالظاهر من كلام النحويين لزوم الإتباع أيضا، إلا أن ابن أبى الرَّبيع (4) أجاز فيه القطعَ إلى النصب بإضمار فعل، وإلى الرفع

______ (1) سورة الحاقة/آيه 13. (2) سورة النحل/آيه 51. (3) يقال: جاء القوم الجماءَ الغفيرَ، أي جاءوا بجماعتهم، الشريف والوضيع، ولم يتخلف منهم أحد، وكانت فيهم كثرة. والغفير: وصف لازم للجماء، يعني أنك لا تقول: جاءو الجماء، وتسكت. وانظر: اللسان (غفر، جمم). والشعرى: شعريان، أحدها الغُمَيْصاء، وهو أحد كوكبي الذراعين، والثاني العَبُور، وهو كوكب نيَّر يقال له المرزم، يطلع بعد الجوزاء عند شدة الحر، وسميت عبورا لأنها عبرت المجرة. وانظر: اللسان (شعر، عبر) (4) هو أبو الحسين عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله بن محمد ابن أبي الربيع الإشبيلي. إمام أهل النحو في زمانه، صنف: شرح الإيضاح، وشرح سيبويه، وشرح الجمل، وعشرة مجلدات، لم يشذ عنه مسألة في العربية (ت 688 هـ). بغية الوعاة 2/ 125.

بإضمار مبتدأ، ويجوز إظهارُهما، كأنه على تقدير سؤال سائل يقول: مَنْ تَعْنِى؟ أو مَنْ هو؟ إذ لم تَبْنِ الكلامَ على ذكر النعت، لاعتقادك أن المخاطب يعرف مَنْ ذَكره، ثم يبدو لك أنه لا يعرفه، فتقول: مررتُ بزيدٍ الخياطَ، والخياطُ. وإن شئت قلت: أعني الخياطَ، أو هو الخياطُ (1). وما قاله ابن أبى الربيع ليس بمخالف/ لما تقدَّم من لزوم الإتباع، بل هو موافق لغيره. 612 وثَمَّ نوعٌ رابع يَلزم فيه الإتباعُ أيضاً، وهو نعت المشار إليه، نحو: مررتُ بهذا الفاضلِ وذلك الصالحِ، وما أشبه ذلك. وقد تقدم رأيهُ في نعت الإشارة بالمشتق (2). فالظاهر من كلام الناظم جوازُ القطع فيها كلِّها، وهو خلاف ما قاله الناس. وثَمَّ أنواعٌ أُخَر يلزم فيها الإتباع أيضاً لا تَعْسُر على مَن طَلبها، لكنها قليلة الاستعمال فلذلك لمُ تذكر هنا. وعلى الجملة فالشروط المذكورة في جواز القطع أربعة: أحدها أن يكون النعت للمدح أو الذم أو الترحُّم، فإن كان لغير ذلك لم يجز القطع إلا على ما قاله ابن أبى الربيع، وليس ذلك من القطع المذكور في ((باب النعت)). والثاني ألا يكون نعتُ المدح أو الذم الترحُّم خاصاً بمَنْ جرى عليه، لا يَليق بغيره، فإنه إذا لم يكن خاصاً كان القطع جائزاً بإطلاق،

______ (1) البسيط في شرح الجمل 171، 172. (2) انظر: ص 628.

بل هو عندهم الأفصح. فأما إذا كان خاصاً بمن جرى عليه في المعنى فالإتباع هو الوجه الشائع، والقطع قليل. ويَطَّرِد هذا في صفات الله تعالى، لاَ يتَّصِف بها غيرهُ، كقوله: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَميِن * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1)، فإن الجرَيان هنا على الموصوف هو الشائع. ولذلك لم يَقْرأ في بعضها بالقطع إلا قليلٌ. ومنه قوله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الكتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَليِمِ * غَافِر الذَّنْبِ وقَابِل التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَاب ذىِ الَّطْولِ} (2). ومثل هذا في القرآن كثير جدا. وفي الشعر قولُ عَمْرو بن الجَمُوح (3): الحمدُ لِلَّهِ الغنيِّ ذِى المِنَنْ الواهبِ الرزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ وهذا الشرط نَبَّه عليه سيبويه في قوله: وسمعنا بعضَ العرب يقول: {الحمدُ لَلَّهِ رَبَّ العَالَمِينَ} فسألت عنها يونس، فزعم أنها عربية (4). وبَسْطُ وجه ذلك ذَكره ابن الزُّبَيْر الأندلسي شيخُ شيوخنا (5) في كتابه ((مِلاَك الَّتْأوِيل)) وهي من مسائله الحِسَان.

______ (1) سورة الفاتحة/آيه 2، 3، 4. (2) سورة غافر/آيه 1، 2، 3. (3) لم أجده. (4) الكتاب 2/ 63. (5) هو الأستاذ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بي الزبير الأندلسي، كان محدثاً جليلا، ناقدا نحوياً أصوليا، أديبا فصيحا مفوَّها، مقرئاً مفسراَ مؤرَّخا. أقرأ القرآن والنحو والحديث بمالقة وغرناطة وغيرهما. صنف تعليقا على كتاب سيبويه، والذيل على صلة ابن بشكوال (ت 708 هـ). بغية الوعاة 1/ 291.

والثالث أن لا يَبْنى المتكلمُ كلامه على ذكر الصفة، وإنما يبدو له ذكرُها بعد شروعه في التكلم، فُيخرجها مُخرج الجواب على سؤال، فيَقطعها على ما يقدِّر السؤال، فيرفعُها أو ينصبُها، فإنه إذا ابتدأ كلامَه قاصداً ذكرَ الصفة أولاً لم يكن بُدٍّ الاتباع، لأن بناءه على ذكرها أولاً يَقتضي إجراءها عليه. والقطُع نقيضُ ذلك، إذ هو مقَتضٍ للاستئناف، لأن الصفة مع المقدَّر تصير جملةً مستقلة لا موضعَ لها من الإعراب. وهذا شأن الجمل المستأنَفة. ونظير ذلك الظنُّ في الغاية وعدم الغاية كما تقدم، و (أَوْ) مع (إمَّا) في الشك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1). وهذا الشرط نَصَّ عليه ابن مَلْكون في ردَّه على الصَّيْمري (2)، وهو ظاهر المعنى فلا ينبغي إهماله. والرابع ما ذكره الناظم من تقدُّم/ العِلْم بالمنعوت دون النعت، فنقصه ذكر ثلاثة شروط، 613 واقتصر على واحدٍ لا يفي بمعني ما ترك. والسؤال الثاني: أنه يقتضى جوازَ الاتباع والقطع كيف كان، من تقديم المُتْبَع أو تأخيره. وذلك ممنوع؛ بل الإتباعُ بعد القطع لا يجوز، فلا يقال: مررتُ بزيدٍ الفاضلُ الصالحُ الحسيبِ، وعُلَّل ذلك بأوجه ثلاثة:

______ (1) أي في باب ((عطف النسق)). (2) الصيمري هو أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري النحوي، ألف كتاب ((التبصرة)) في النحو. وصفه السيوطي بقوله في بغية الوعاة (2/ 49): ((كتاب جليل، أكثر ما يشتغل به أهل المغرب .. أكثر أبو حيان من النقل عنه)). وابن ملكون هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن ملكون الإشبيلي، أستاذ نحوي جليل، ألف شرح الحماسة والنكت على تبصرة الصيمري وغير ذلك (ت 584 هـ). بغية الوعاة 1/ 431.

أحدها ما يلزم على ذلك من الفصل بين النعت والمنعوت، أو بين النعتين، بجملة أجنبية. والثاني أن طباع العرب تأبى الرجوعَ إلى الأمر بعد الانصراف عنه. وكان الشَّلَوْبين يُنشد هنا قولَ مَعْن بن أَوْسٍ (1): إذَا انْصَرفَتْ نَفْسِي عن الشَّيْءِ لم تَكَدْ إليه بَوْجهٍ آخَر الدَّهْرِ تُقْبِلُ فكأنهم جعلوا ألفاظَهم جاريةً على حكم مقاصدهم، وذلك أن الأصل في صفة المدح القطعُ، وكذلك صفةُ الدم والترحُّم، لأن المقصود الاخبارُ عن الموصوف بحاله وصفته، بعد الإخبار عنه بفعله، وهما مقصدان مختلفان، فإذا قطعوا (ثم أتبعو) (2) فقد رجعوا عن الإخبار الثاني إلى الإخبار الأول بعد الانصراف عنه، وهذا شبيهٌ باعتبار (اللفظ بعد اعتبار) (2) المعنى، فإنه ممنوع، بخلاف العكس. والثالث حكاه لنا الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار (3) شيخنا، رحمه الله، عن بعض نحاة ((قُرْطَبة)) (4) أن المانع من ذلك ما يلزم عليه في ((علم البيان)) من تَسَفُّلٍ بعد تَصعُّد، وقصورٍ بعد كمال؛ لأن القطع أبلغُ في المعنى المراد من الإتباع، اعتباراً بتكثير الجمل. وعلى ذلك كان القطع.

______ (1) من قصيدة حكيمة به في شرح الحماسة للمرزوقي 1126 - 1131. (2) ما بين الأقواس ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من (س) وحاشية الأصل. (3) سبقت ترجمته. (4) قرطبة: مدينة عظيمة بالأندلس، وسط بلادها، لم يكن لها في المغرب شبيه في كثرة الأهل، وسعة الرقعة، وكانت قصبة البلاد، ومعدن الفضلاء، ومنبع النبلاء، وينسب إليها جماعة وافرة من أهل العلم.

ولولا ذلك ما ذُهب به هذا المذهب البعيد، وهو ظاهر. والسؤال الثالث: أنه تكلمَّ على الإتباع والقطع فيما كَثُرت النعوت، وتَرك الكلام على ذلك في النعت المفرد، وهو الأصل للكثرة. ولو تكلَّم على النعت المفرد لأُخِذ له منه حكمُ غير المفرد، ولا ينعكس، بل يُوهم ما ذَكر أن المفرد بخلافه، وإذا تقررَّ هذا كان ذِكْرُه لما ذَكَر، وترْكُه لما تَرك مشكلا. والجواب عن الأول أن الضابط الذي ذَكر يَجمع له مقصودَه، فلا يحتاج إلى شرط سوى ما شَرط، وذلك أن نعت البيان مقصودٌ بلا شك، لأنه مفتقَر إليه، ولذلك لزم إتباعُه على ما تقدَّم، من جهة أن رفع الاشترك في المعرفة وتخصيصَ النكرة (1) إنما يحصل بالإتباع إذا كان القطع على اعتقاد الاستئناف بعد استغناء الكلام الأول، والإتباع يُصَيَّر النعتَ والمنعوت كالشيء الواحد، ولذلك قال سيبويه: زيدٌ الأحمرُ عند مَنْ لا يَعْرفه بمنزلة زَيْدٍ عند مَنْ يَعْرفه (2). وأما نعت التوكيد فهو مفتقَر إليه على الجملة من وجهين، أحدهما أنه كتكرار الاسم الأول، ففائدته كفائدة التوكيد اللفظي، ولولا أنه مُحْتاج إليه لما كُرِّر، لأنه التكرار عندهم لغير فائدة عيٌّ (3)، وإذا كان كذلك صار نعت التوكيد مراداً به البيانُ على الجملة، وليس دخوله كخروجه.

______ (1) وهي وظيفة النعت الأصلية. (2) الكتاب 1/ 88. (3) في (س) ((على)) وفي (ت) ((عنى)) وكلاهما تصحيف. والعيُّ: ضد الإبانة في الكلام، وعدم الاهتداء لوجه المراد منه، والعجز عن أدائه.

فإذا قلت: كونُه مُبَيَّناً يناقض كونَه مؤكداً- فالجواب أنه/ سُمِّي مؤكدا وإن كان مفتقَرا إليه ... 614 في التخاطب، كما سمي التوكيدُ اللفظي، بل والمعنوي، توكيداً اعتباراً بأنه مِمَّا يُكْتَفى فيه بالمؤكَّد دونه على الجملة والثاني أن نعت التوكيد مُبَيِّن على وجه، سمعت من شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف (1)، رحمه الله، أن العرب تقول: (هذا رجلٌ) على معنَيْين، أحدهما أن تريد الحقيقة، أي حقيقةَ هذا المعنى من غير نظر إلى توحُّد أو تعدُّد. قال: وهذا لا يُثَنَّى ولا يجمع. والثاني أن تريده بقيد التوحُد والإفراد، وهذا هو الذي يُثَنى ويجمع. فإذا قال: أعطاك زيدٌ غلاماً، فقلت: إنما أعطاني ثوباً- فهذا من الأول. وإذا قال: أعطاكَ ثوبَيْن، فقلت: إنما أعطاني ثوباً- فهذا من الثاني. وإذا ثبت هذا فالمنعوت إنَّما هو الثاني لا الأول، ونعتُه إنما هو رفعٌ لتوهم التعدُّد الذي يحتمله المعنى الأول، لأن المعنى الأول لا نص فيه، من حيث الوَضْعُ، على أفراد، بل على حقيقة الجنس، والحقيقةُ حاصلة في الواحدُ والمتعدِّد، فكان نعت التوكيد مُبَيَّناً بهذا الاعتبار، وحيثما جاء في القرآن فإنَّما جاء على هذا القصد. وأما ما وُضع على اللزوم (2) فأصله البيانُ، وأيضاً فقد يقال: أَهمل ذكرهَ لقلته في بابه. فإن قيل: هذا الجواب مُشكل على ما قَدَّم في حَدِّ النعت، فإن الناظم قال هناك: إنَّه ((مْتِمُّ ما سَبَق)) واعتُرِض عليه بنعت المدح والذم والترحُّم.

______ (1) انظر ترجمته في مقدمة التحقيق (شيوخ الشارح). (2) مثل مَا مثَّل به فيما مضى من قولهم: مررتُ بهم الجماءَ الغفيرَ، وطلعت الشَّعْرَى العَبُورُ.

وأجيب بأن هذه النعوت تُتِّم ما سَبق بحسب القَصْد، فإذاً قد كان الكلام ناقصاً دونها بحسب القصد، وهو معنى كون المنعوت بها مفتَقِراً لذكرها. وعلى هذا التقدير تَدخل له نعوتُ المدح والذم والترحم في الحكم بلزوم الإتباع، وإذ ذاك لا يبقى لقوله: ((واقْطَعْ أَوِ اتْبَعْ)) معنىً ينزَّل عليه، وفَسدت المسألة جملة. فالجواب أن العبارتين منزَّلتان على معنيين لا على معنى واحد، لأن قوله أول الباب ((مُتِمُّ ما سَبَق)) لا يستلزم أن السابق مفتقَر له في العلم به، وإنما يستلزم أنه مكمِّل له على الجملة. وهذا التكميل تارةً يكون مفتَقَراً إليه، فيكون النعت إذْ ذاك لازمَ الإتباع، كنعت البيان، وتارةً يكون غير مفتَقَر إليه في معرفة النعوت، وذلك نعت المدح والذم والترحُّم، فلا يكون لازمَ الإتباع. وهذا صحيح. وأمَّا نعت الإشارة فهو للبيان، لأنه مفتقر إليه فلا اعتراض عليه. فقد حصل أن الخاصَّ بحكم جواز القطع نعتُ المدح والذم والترحُّم. وأمَّا اشتراطُ ألا يكون خاصاً بمن جَرى عليه فلا يُلْقَى من تَرْكه محظور، لأن القطع والإتباع جائزان في الخاص وغيره على الجملة وكثيراً ما يُطلق الناظم القولَ بجواز الوجهين وإن كان أحدهما أرجَح بناءً على صحة القياس فيهما. وأَمَّا اشتراط ما شَرطه ابن مَلكْون (1) فذلك غير لازم، بل هو توجيةُ القطع لمن قَطع ومن لمَ يَقْطع، فوجهُه بناءُ الكلام على ذكر الوصف، كما أنهم يُجيزون/ الوجهين في: زيدٌ طنتُه 615 قائمُ، وزيداً ظننتُ قائماً، بناءً على المقصدين، ولم يكن ذلك قادحاً في إجازة الوجهين عند أهل

______ (1) وهو ألا يبني كلامه على ذكر الصفة، وإنما يبدو له ذكرها بعد شروعه في المتكلم. وقد تقدم، انظر: ص 679.

النحو، فكذلك هنا، فإنه من باب اعتبار المقاصد البيَانِيَّه، وذلك وظيفةُ البَيَانِيَّ وليس على النحويّ اعتبارُ ذلك من حيث هو نحوي، فقد ظهر أن الوجه اعتبارُ ما اعتبره الناظم، وما سوى ذلك زيادةٌ. والله أعلم. والجواب عن الثاني أن الإتباع بعد القطع مختلفٌ فيه بين النحويين، فمِنْ مُجيز ومانع، فمِنْ حُجَّة المانع ما تقدَّم (1). ومن حجة الُمجِيز أنه لا يَلْقَى فيه من جهة القياس محظوراً إلا الفصلَ بين النعت والمنعوت، وذلك جائز على الجملة. وأيضاً فالنعت المقطوع هنا في حكم المتْبَع، لأن الجميع مستغنىً عنه، ولم يُؤْتَ به إلا لكونه مدحاً للأول، وذلك حاصل. وليس في حكم الجملة أيضاً، ولو كان في حكم في حكم الجملة لكان الموضع خَلِيقاً بأن يَظْهر الجزءُ الآخرُ يوماً مَا، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فدل على أن المقطوع في الحكم كالمُتْبَع، وإنما تقديرُ المحذوف أمرٌ صناعي، وهو في المعنى معدوم، يُنْظر إلى ذلك ما قالوا في (عَمْرو) من قولك: (إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ): إنه من باب عطف المفردات، وإن كان ظاهرُ الصناعة أنه مبتدأ محذوف الخبر، بناءً على تناسي المحذوف، حتى قالوا: إن زيداً قائمٌ لا عمروٌ، فعَطفوا بـ (لا) التي لا يُعطف بها إلا المفرد، فكذلك هنا قَطعوا بناءً على العلم بالمنعوت، ولم يُظْهروا إلا المقدَّر بناء على جَعْله وصفاً للأول. فإذا كان كذلك صار القطع والإتباع في نَمَطٍ (2) واحد من جهة المعنى.

______ (1) وهي ما يلزم من الفصل بين النعتُ والمنعوت، أو بين المنعوتين، بجملة أجنبية، وأن طباع العرب تأبى الرجوع إلى الأمر بعد الانصراف عنه. (2) النمط-بفتحتين- الطريقة أو الأسلوب، والجماعة من الناس أمرهم واحد، والصنف أو النوع أو الطراز من الشيء.

وأيضاً فإن ظاهر السماع شاهد، كقوله تعالى: {لَكِن الرَّاسِخُون في الْعِلْم مِنْهُمْ} إلى أن قال: {والْمُقِيميِنَ الصَّلاَةَ والْمؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (1)، وكذلك قول الخِرْنِق (2): النَّازِليَن بكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبُونَ معاقَد الأُزْرِ والمنعوت قبلُ مرفوع. وقول العُكْلى أيضاً (3): الظَّاعِنِيِنَ وَلمَّا يُظْعِنْوا أحداً والقَائِلينَ لِمِنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا والمنعوت قبلُ منصوب. ومن ذلك أشياء أُخَر. ولا يقال: إن ذلك على إضمار رافع أو ناصب، لأنه خلاف الظاهر، والأصل ((الحَمْلُ على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيرَه)) حسبما بَوَّب عليه ابن جِنِّي في ((الخصائص)) (4) وجَعله أصلاً من أصول سيبويه، وأتى له بشواهد من كلام العرب هي عاضدةٌ لهذا الموضع، فيمكن أن يكون مذهب الناظم هنا ما أعطاه ظاهرُ لفظه من جواز الإتباع بعد القطع خلافَ ما رآه في غيره. وقد تبيَّن مُدْرَكُه، والله أعلم. والجواب عن الثالث من وجهين، أحدهما أن كثرة النعوت أصلها الإفراد، وإذا لزم في المتعدِّد حكمٌ من حيث هو جارٍ على الأول لزم في الإفراد، إذ لا فرق في المعنى بين المتَّحد والمتعدِّد في الجرَيان وعدمه، فكأنَّه ذَكر حكمَ

______ (1) سورة النساء/آيه 162. (2) سبق الشعر بهذه الرواية في الكتاب 2/ 58. (3) سبق الشعر أيضا بهذه الرواية في الكتاب 2/ 65. (4) وذلك في الجزء الأول (251 - 256).

الكثرة لِمَا يختصُّ بها مما ليس في الإفراد، وهو الإتباعُ في البعض، والقطعُ في البعض. والثاني أن يقال: لعله ذَهب مذهبَ من لا يَرى القطعَ إلا مع تكرار/ الصفة، ... 616 وإن مذهباً مَرْجوُحاً، لأنه لا قياس َيَعَضُدُه، ولا سماعَ يؤيِّدَه. والله أعلم. وجَعْلهُ التاءَ في ((أُتْبعَتْ)) رَوياً مع قوله: ((تَلَتْ)) ولم يَجعلها كالهاء وصَلاً - هو رأي الجمهور أهلِ القوافي (1). وقد زعم بعضهم أنها كالهاء لا تقع رَوِياً إلا حيث تقع الهاء رَوِياً، وذلك ينكسر بما أنشده سيبويه في ((كتاب القوافي)) له من قوله الراجز (2): الحمدُ لِلَّه الَّذِي اسْتَقَلَّتِ بإذْنِه السَّماءُ واطْمَأَنَّتِ بإذْنِه الأرضُ ومَا تَعَنَّتِ الجاعِل الغَيْثِ غيَاثَ المُسْنِتِ أَوْحَي لها القرارَ فاسَتقَرَّتِ وشَدَّها بالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ وَلمَّا ذكَر القطع في هذه المسألة، ولم يبين كيفيته أخذ يذكر ذلك

______ (1) انظر: كتاب القوافي للتنوخي 78، وكتاب الكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي 150. (2) هو العجاج، ديوانه 5، وانظر: المحتسب 2/ 331، واللسان (عتا، وحى). واستقلت السماء: ارتفعت. وتعنت: عصت ولم تطع. والغيث: المطر والكلأ، والمطر هو الأصل. والمسنت: من أصابته سنة وقحط وجدب. أوحى لها القرار: أي أوحى الله تعالى للأرض بأن تقر قرارا، ولا تميد بأهلها، ويروى ((وحي)) والراسيات: الجبال الرواسخ الثوابت.

فقال: وَارْفَعْ أوِ انْصِبْ إنْ قَطَعْتَ مُضمِراَ مُبْتَدأً أو نَاصَبا لَنْ يَظْهَراَ يعني أن القطع إنما يكون إلى الرفع أو إلى النصب. وأما الجر فلا يُقطع إليه أصلا، لأن حرف الجر لا يُضمر. وإذا كان كذلك فالرفع لابد له من رافع، وهو المبتدأ مضمراً قبل النعت المقطوع. فإذا قلت: مررتُ بزيدٍ الفاضلُ - كان على تقدير: هو الفاضلُ. والنصب أيضاً لابد له من ناصب، وهو الفعل مضمَرا قبله. وإذا قلت: مررتُ بزيدٍ الفاضَل - فهو على تقدير: أمدُح الفاضلَ. ونحو ذلك، وهو معنى قوله: ((مُضْمِراً مُبْتَدأً أو نَاصِباً)). فمضمِراً: حال من فاعل ((ارْفَعْ أو انْصِبْ)) و ((مبتدأً)) راجعٌ إلى ((ارفَعْ)) و ((ناصباً)) راجع إلى ((انصِبْ)) والناصب هو الفعل. وإنما لم يعيِّنه لأنه معلوم، إذ الناصب للاسم لا يُضمر حتى يُعلم، كما أنه لم يُعيَّن من الأفعال نوعاً من نوعٍ إحالةً على فهم السامع، لأن قصد الكلام يعيِّن المراد، فإذا كان الموضع للمدح فالمقدَّر ((أَمْدَحُ)) ونحوه. وإذا كان للذم فالمقدر ((أَذُمُّ)) وإذا كان للترحُّم فيقدر ((أَرْحَمُ)) أو نحو ذلك. ولا ينبغي أن يقدَّر ((أَعْنِى)) لأنه قُصُور في موضع المبالغة، إلا أن يكون الموضع خالياً من معنى المدح والذم والترحُّم، فهنالك يصلح تقدير ((أَعْنِى)) ونحوه. ولم يعيِّن الناظم ما الذي يقدَّر، إمَّا اتَّكالاً على فهم ما يقدَّر، لأن الموضع يعيَّنه، فموضع المدح معيَّن لتقدير ((أَمْدَحُ)) وكذلك سائر المواضع معيَّنه لما يقدَّر فيها، فلم يَحتج إلى النص عليه.

وإمَّا لأنه رأى الخَطْب سهلاً في تقدير ((أَمْدَحُ أو أَعْنَى)) لأن المدح حاصل بالكلام، والفعل لم يَظهر قَطُّ، وإنَّما هو تقدير صناعي، فلا ضَرر في تقدير فعلٍ يَصلح في الموضع على الجملة. وهذا ظاهر. وقوله: ((لَنْ يَظْهَراَ)) الألفُ فيه ضمير التثنية، عائد على ((مُبْتَدأ وناصِبٍ)) وإن كان العطف بـ (أوْ) التي هي لأحد الشيئين أو الأشياء، لأنهما معا مرادان، كقوله تعالى: {إنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهْمِا} (1). ويريد أن مِنْ شرط هذا المقدَّر ألا يُنطق به لأن العرب هكذا فعلت. ووجههُ أنهم قصدوا إنشاء المدح أو الذم أو الترحُّم، فجعلوا إضمار الناصب / أمارةً على ذلك، كما فعلوا ... 617 في النداء، إذ لو أُظهر الناصب لَخفىِ معنى الإنشاء، وتوهم كونهُ خبراً مستأنَفا، فكان التزام الإضمار أحقَّ لهذا المعنى. وهنا شيء ينبغي عليه، وهو أن هذا الحكم المقرَّر مع كون ذلك المقدَّر لا يظهر إمَّا أن يكون عائداً إلى ما ذَكر آنفا في كثرة النعوت، وإمَّا أن يعود إلى ما فيه قطعٌ مطلقا. فإن عاد إلى ما فيه قطعٌ مطلقا لزم أن يكون المقدَّر لازمَ الإضمار في نحو قولك: مررتُ بزيدٍ وخرجتُ إلى عمروٍ القُرَشيَّيْنِ، وما أشبهه مما هو لمجرد التخصيص، لا لمدحٍ ولا لذمٍ ولا ترحُّمٍ. وهم قالوا هنا: يجوز إظهار الرافع والناصب، فتقول: أَعْنِى القرشيَّيْنِ، أو هما القرشيَّانِ، فكان الإطلاق غيرَ مستقيم.

______ (1) سورة النساء / آيه 135.

وإن عاد إلى ما ذَكر في كثرة النعوت خاصَّة استقام، إلا أنه يبقى حكم القطع في المسألة الأولى مبهمَا غيرَ مبيَّن. وهو قاصر. والجواب أن ظاهر كلامه أن هذا الحكم راجعٌ إلى المسألة الأخيرة. ألاَ ترى أنه قال: ((إِنْ قَطَعْتَ)) فأتي بـ (إِنْ) الداخلةِ على الممكن، والقطعُ في المسألة الأولى واجب، فلم تكن ((إنْ)) لائقةً بالموضع، فإتيانهُ بها دليلٌ على أنه قصد ما القطعُ فيه ممكن لا واجب. وأيضاً فإنه لم يصرَّح فيما تقدم بُحكْم قَطْع، ولا ذَكر ما يُقطع، وإنما نَصَّ على شرط الإتباع، وسكت عن غير ذلك، فلم يُضطر فيه إلى حكم القطع. والله أعلم بمراده. وَمَا مِنَ المَنْعُوتِ والنَّعْتِ عُقِلْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وفي النَّعْتِ يَقِلْ يعني أن كل واحد من النعت والمنعوت إذا عُلم جاز حذفه في فصيح الكلام على جهة الاختصار، وذلك أن الأصل الأثباتُ في الجميع، لكن عادة العرب أنها تَجتزئ بالقرائن عن النطق في كثير من كلامها، فإذا كان اللفظ معلوما، ولم يؤدِّ حذفُه إلى اختلال الكلام، بل يستقلُّ اللفظ والمعنى بما بقى - جاز ذلك. فعلى هذا لا يُحذف المنعوت إلا بشرطين، أحدهما مأخوذ من نصه، وهو يكون معلوماً معيَّناً معناه بعد الحذف، ولا إشكال في هذا. والآخر غير مأخوذ من ههنا، وهو أن يكون النعت مستقِلاً بمباشرة العامل، قابلاً له. فإذا قلت: (مررتُ بعاقلٍ، أو براكبٍ) عُلم أن المحذوف (رَجُل) وصَحَّ في ((العاقل)) مباشرتُه للعامل، وكذلك ((الراكب)) ونحو ذلك.

______

ومنه في السماع قوله تعالى: {وأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} (1)، أي دروعاً سابغاتٍ. وقوله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صَالِحاً} (2)، وقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمُ لِنَفْسِه ومِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ومِنْهُمْ سَابِقٌ بالْخيْراَتِ بإِذْنِ اللهِ} (3) وذلك كثير. فلو كان النعت غيرَ معلوم لم يَجُز حذفه، فلا تقول: ائْتني ببَارِدٍ، ولا ائْتِني بطويلٍ أو قصيرٍ، أو نحو ذلك، لأن المنعوت لم يَتَعيَّن. وكذلك إذا لم يصلح النعت لمباشرة العامل لم يَجُز حذفه، كما إذا كان النعت ظرفاً أو مجروراً أو جملة، كقولك: مررتُ برجلٍ عندَك، أو في الدار، أو برجلٍ قامَ أبوه. فلا تقول: مررتُ بِعندَك، ولا بِفِي الدار، ولا بِقَامَ أبوه. وما جاء على خلاف ذلك/ فشاذ نحو قوله (4): ... 618 * واللهِ ما لَيْلىِ بِنَامَ صَاِحُبْه * تقديره: بليلٍ نامَ صاحبُه. وكذلك قول الآخر (5).

______ (1) سورة سبأ/ آية: 11، 10. (2) سورة المؤمنون/ آية 51 والتقدير: عملاً صالحاً. (3) سورة فاطر/ آية 32 والتقدير: فمنهم فريق ظالم لنفسه، ومنهم فريق مقتصد، ومنهم فريق سابق بالخيرات. (4) سبق الاستشهاد به في باب ((نعم، وبئس)) وبعده: * ولا مخالطِ اللَّيَانِ جَانِبُهْ * (5) الخصائص 2/ 367، والمقتضب 2/ 137، وابن يعيش 3/ 59، والأشموني 3/ 71، والخزانة 5/ 345، وقبله:

* جَادَتْ بِكَفي من أَرْمَى الْبَشَرْ * أي بكفَّىْ رجلٍ كان من أرمى البشر. فإن قلت: من أين يُفهم هذا الشرط من كلام الناظم؟ فالجواب أن مثل هذا الشرط معلومٌ من قُوَّة العربية، لأن اللفظ لابد يُعطى حقَّه بعد الحذف. ألاَ تراهم حين فَرَّغوا العاملَ لما بعد (إلاَّ) جعلوا ما بعد (إلاَّ) هو الفاعلَ أو المفعولَ أو غير ذلك، على حسب طلب العامل، ونحن نعلم أن الفاعل في المعنى إنما هو المحذوف. وكذلك لما حذفوا ((الكائنَ، والمستِقرَّ)) مع الظرف والمجرور جعلوهما قائمين مقامه، متحملِّين لضميره، فكذلك هنا. فالمنعوتُ لابد أن يكون مبتدأ أو خبراً أو فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً، أو ما يتفرع عن هذه الأشياء. فإذا حُذف فنعتهُ قائمٌ مَقامه، فلابد أن يصلح لمباشرة العوامل، حتى يكون فاعلاً أو مفعولاً أو مبتدأ، أو نحو ذلك. فإذا لم يصلح لوقوعه في هذه المواضع لم يَقُم مقامه، فإذاً الجملة والظرف والمجرور إذا وقعت نعوتاً لا تقوم مقام المنعوت، فلا يُحذف معها. فقد يمكن أن يكون تَرَك ذكَر هذا الشرط اتَّكالاً على فهم معناه. ويمكن وجهٌ آخر أُبْيَن من هذا، وهو أن يكون هذا الشرط مأخوذاً من شرطه المنصوص عليه، وذلك أن الظرف لا يدل على المنعوت أصلا لو قلت: رأيتُ مكانَك، أو رأيتُ في الدار، تريد: رجلاً مكانَك، ورجلاً في الدار- لم يكن ثَمَّ دليلٌ على المنعوت، ولم يُعْقل.

______ = مالكَ عندي غيرُ سَهْمٍ وحَجَرْ وغيرُ كَبْدَاءَ شَدِيدة لوَتَرْ وجادت: حسنت. والقوس الكبداء: الغليظة الكبد الشيديدتها، وكبد القوس: ما بين طرفي مقبضها ومجرى السهم منها.

وكذلك لو أُقيمت الجملةُ مُقام النعت لم يُفهم المنعوت نحو: رأيتُ صاحبهُ في الدار، وما أشبه ذلك. فمن لوازم هذه النعوت أنها لا تدل على منعوتها لو حُذف، فقد استقَلَّ ذلك الشرطُ المذكور بحصول القَصْد من غير زيادة. وإذا فُرض العلمُ به في موضع لا يُلْقَى به محضورٌ لفظيٌ يجوز أن يُقاس، كما أذا كان المنعوت مبتدأ نحو قولك: ما مِنَ البشَرِ إلاَّ يَنْسَى، والناسُ رجلان، منهما يَعْقل ما يُراد به، ومنهما لا يَعْقل ذلك. وفي القرآن الكريم {وَإِنْ مِنْ أَهْل الكِتَاب إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1)، (التقدير: وإنْ من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤْمِنَنَّ بِهِ) (2). وكذلك قوله: {ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَموُا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (3)، وقال ابنُ مُقْبِل (4): ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تارتَانِ فمِنْهمَا أموتُ وأخرىَ أَبْتَغيِ العَيْشَ أَكْدَحُ وقال الآخر (5):

______ (1) سورة النساء/ آية 159. (2) ما بين القوسين ساقط من (ت، س). (3) سورة البقرة/ آية 96. (4) ديوانه 24، وسيبويه 2/ 346، والمقتضب 2/ 138، والمحتسب 1/ 112، والخزانة 5/ 55، والهمع 5/ 186، والدرر 2/ 151. والتارة: المرة والحين. يقول: لا راحة في الدنيا، فوقتها قسمان: موت تكرهه النفس، وحياة كلها كدح ومعاناة في كسب العيش. (5) سيبويه 2/ 345، والخصائص 2/ 370، وابن يعيش 3/ 59، 61، والأشموني 3/ 70، والتصريح 2/ 118، والخزانة 5/ 62، والهمع 5/ 187، والعيني 4/ 71. وتيثم: اصله (تأثم) فكسرت تاؤه على لغة من يكسر حرف المضارعة، فقلبت الهمزة ياء. والحسب: الشرف الثابت في الآباء. والميسم: الجمال، من الوسامة.

إنْ قُلتَ ما في قَوْمِهَا لم تيِثَمِ يَفْضُلُهَا في حَسَبٍ ومِيسَمِ وتعيينُ هذا أن يكون المنعوت بعضَ ما قبله من مجرور بـ (مِنْ) أو (في). فإن كان مما يُلْقَى في حذفه محظورٌ لفظي امتنع، كوقوع الظرف أو الجملة فاعلاً أو مجروراً. والله أعلم. وهذا الشرط الذي ذكره في مواضع: / ... 619 أحدهما أن تكون الصفة صفةً لظرف زمان أو مكان، نحو: قعدتُ قريباً، وفعلتُ ذلك قريباً، تريد: مكاناً قريباً، وزماناً قريباً. والثاني أن تكون الصفة هي المقصودةَ بالذَّكر نحو قوله تعالى {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِميِنَ} (1)، {قَالُوا إنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِريِنَ} (2). والثالث أن تكون الصفة منعوتةً بما يتبيَّن به الموصوف نحو: مررتُ بطويلٍ من الرِّجال، أو مضافةً إلى ما يتبيَّن به نحو: مررتُ بأفاضلِ الناس، وأكلتُ من أطايبِ الأطعمة. والرابع أن تكون الصفة قد استُعملت استعمالَ الأسماء نحو: (الأَبْطَح) لِمسَيِل الماء الواسع الذي فيه دِقَاقُ الَحصَى، و (الأَجْرع) للرَّمْلة المستوِية التي لا تُنْبِت شيئاً، و (الأَبْرَق) للون الذي فيه حمرةٌ وبياض وسواد، وما أشبه ذلك مما صار بالاستعمال كأنه اسم جنس لا اشتقاقَ فيه.

______ (1) سورة هود/ آية 18. (2) سورة الأعراف/ آية 50.

والخامس أن تكون الصفة مختصةً بجنس نحو: مررتُ بعاقلٍ، ومررت بأحمقَ. هذه المواضع هي المشهورة في المسألة. وما عداها راجع إليها، وقليل الاستعمال وقد تمَّ الكلام على خذف المنعوت. وأما حذف النعت فشرطُ العلم به لازمٌ فيه أيضا كما ذكرَ الناظم، كما تقول: اختبرتُ الناسَ فما وجدتُ رجلاً، تريد: رجلاً يُعجبني، أو يَملأ عَيْنيِ أو نحو هذا. وفي القرآن الكريم قوله تعالى: {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بالْحقِّ} (1)، أي بالحق البيِّن الظاهر، لأن موسى عليه السلام جاء بالحق في كل مرة. وجعَل المؤلف من ذلك قوله تعالى: {وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهُوَ الحَقُّ} (2)، أي قومُك المعاندون، وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمْرِ رَبِّهَا} (3)، أي كلَّ شيءٍ سُلِّطَتْ عليه، وقوله: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} (4)، أي إلى مَعادٍ كريم، أو مَعادٍ تحبُّه، وقولَ مُرَقِّش الأكبر (5): وَرُبَّ أَسِيلةِ الخَدَّيْنِ بِكْرٍ مُهَفْهَفَةٍ لها فَرْعٌ وجِيدُ

______ (1) سورة البقرة/ آية 71. (2) سورة الأنعام/ آية 66، وشرح التسهيل للناظم (ورقة 190 - أ). (3) سورة الأحقاف/ آية 25. (4) سورة القصص/ آية 85. (5) الأشموني 3/ 72، والعيني 4/ 72، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 190 - أ). وأسيلة الخدين: لينتهما طويلتهما. والمفهفة: الضامرة البطن الدقيقة الخصر. والفرع: الشعر التام. والجيد العنق.

أي فَرْعٌ وافر، وجيدٌ طويل، أو نحو هذا، وقال امرؤ القيْس (1): فَلَمَّا بَدَتْ حَوْرَانُ في الآلِ دُونَها نظرتَ فلم اَنْطُرْ بعَيْنَيكَ مَنْظَراَ يريد: منظراً يَسُرُّك. وقال الآخر (2): لَعَمرُ أَبِى الَّطْيرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى على خالدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ على لَحْمِ يريد: على لحمٍ شريفٍ، أو نحو ذلك. وقال العباس بن مِرداس (3): وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَاءٍ فلَمْ أُعْطَ شيئاً ولم أُمْنَعِ

______ (1) ديوانه 61، وحَوْران: مدينة بالشام. والآل: السراب. وقيل بالآل هو الذي يكون ضحى كالماء بين السماء والأرض. والسراب هو الذي يكون نصف النهار لا طئا بالأرض كأنه ماء جار. يقول: لما تجاوزتُ حوران فبدت لي في الآل دون أسماء لم أر شيئا أُسَرُّ به، فكان كل ما أراه غير مرئي لحقارته وقبحه في عيني. (2) هو أبو خراش الهذلي، ديوان الهذليين 2/ 154، والخزانة 5/ 75. ويروي الأول ((ألا أيها الطير)) و ((فلا وأبي الطير)). والمربة: من أربَّ بالمكان، إذا أقام به. وخالد: هو خالد بن الهذلي ابن أخت خراش. ووقعت على لحم: خطاب للطير على الالتفات. (3) شرح الرضي على الكافية 1/ 107، 155، والمغنى 627، والأشموني 3/ 71، والتصريح 2/ 119، والهمع 5/ 189، والدرر 2/ 153، والعيني 4/ 69، واللسان (درأ). وذو تَدْرَاء: ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب، ففيه قوة على دفع أعدائه. وهو اسم موضوع للدفع. والبيت من أبيات للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه وقد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين عدة أباعر، على حين أعطى كثيراً من المؤلفة قلوبهم، كلاً منهم مائة بعير. فلما أنشد هذه الأبيات يعاتب رسو الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((اقطعوا عني لسانه)) فأعطى حتى رضى. [سيرة ابن هشام ق 2/ 493 - 494].

يريد: لم أُعْطَ شيئاً يرُضِيني، لأنه قال: ((ولم أُمْنَعِ)). وقوله: ((وفي النَّعْتِ يَقِلُّ)) يعني أن الحذف في النعت قليل في الكلام، وإن كان، مع قلته، جائزاً- فليس في كثرة حذف المنعوت.

______

فهرس موضوعات الجزء الرابع الموضوع ... الصفحة الإضافة .............................................................................. ... 2 المضاف إلى ياء المتكلم ................................................................ ... 193 إعمال المصدر ....................................................................... ... 211 أبنية المصادر ......................................................................... 323 أبنية أسماء الفاعلين والمفعولين والصِّفات المشبَّهة .......................................... ... 369 الصفة المشَبَّهة باسم الفاعل ........................................................... ... 389 التعجُّب ............................................................................ ... 432 نِعْم وبئس وما جرى مجراهما ............................................................ ... 506 أفْعَل التَّفْضيل ....................................................................... ... 571 النَّعْت .............................................................................. ... 606

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة أمّـ القرى معهد البحوث العلمية مركز إحياء التراث الإسلامي المقاصد الشافية في شرح الخُلاصةِ الكافيةِ للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن مُوسى الشّاطِبيّ (790 هـ) الجزء الرّابع تحقيق الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم البنّا الدكتور عبد المجيد قطامِش

{التوكيد}

التوكيد

التوكيد هذا هو النوع الثاني من أنواع التوابع، وهو التوكيد. وهو على قسمين: توكيد معنوي، وتوكيد لفظي. أما التوكيد اللفظي فلا يختص بالاسم، بل يكون في الاسم والفعل والحرف والجملة، وسيذكره آخر الباب. وأما المعنوي فهو المختص بالأسماء، وهو الذي استفتح الكلام به /وابتدأ الكلام على ألفاظه، وهى أيضا ضربان: أحدهما يقصد به رفع توهم أن يراد بعموم المتبوع الخصوص، ويسمى "توكيد الإحاطة". والثاني يقصد به رفع توهم إضافة إلى المتبوع، وهو الذي يسمى "توكيد إثبات الحقيقة" وهذا الضرب هو الذي قدم أولا فقال: بالنفس أو بالعين الاسم أكِّدا مع ضمير طابق الموكدا يعني أن هذين اللفظين، وهما، (النفس، والعبن) يؤكد بهما الاسم إذا اتصل بهما ضمير مطابق للاسم المؤكد، أى موافق له فى الإفراد أو التثنية أو الجمع، وفى التذكير أو التأنيث، فتقول: خرج الأمير نفسه أو عينه، وجاء زيد نفسه أو عينه، وحاءت هند نفسها عينها. وجاء الزيدان أو الهندان أنفسهما أو أعينهما، وجاء الزيدون أنفسهم أعينهم، وجاءت الهندات أنفسهن أعينهن، وما أشبه ذلك.

وفي قوله" الاسم أكدا" إشارة إلى معنيين، قصد التوكيد بـ (النفس، والعين) وهو إثبات الحقيقة، وذلك أن معناه أن التوكيد راجع إلى نفس الاسم لا لمعنى فيه، وهو معنى إثبات حقيقته في نفسه، لئلا يحتمل أن يكون المراد غيره، بخلاف (توكيد الإحاطة) فإنه راجع إلى حالة دلالة الاسم، من كونه شاملا لجميع ما ينطلق عليه أو غير شامل، لا لإثباته في نفسه. فإذا قلت: (خرج الأمير نفسه عينه) رفعت بذلك توهم أن المراد جيشه أو خدمه أو عماله، لأن العرب تطلق ذلك اللفظ، وتريد المعنى المحترز منه على طريق المجاز، فكان نفس الاسم غير مراد، فجاء توكيد إثبات الحقيقة محققا لذلك الاسم أنه المقصود بالإخبار، لا ما يضاف إليه فكأنه أراد - والله أعلم - بقوله: "الاسم أكدا" هذا المعنى. والحامل على هذا التاويل، وإن كان فيه بعد، أنه ذكر في الضرب الثاني ما يراد به، حيث قال: "وكُلا اذكر في الشمول" فيبعد أن يذكر أحد القصدين نصاً، ويهمل الآخر جملة. والمعنى الثاني التنبيه على أن هذا القسم هو المختص بالاسم دون التوكيد اللفظي، فإنه يكون في الاسم وفي غيره كما ذكر. ويقال: أكدت ووكدت، تأكيدا وتوكيدا، والواو أكثر، ولذلك شاع فى استعمال النحويين بالواو. فالظاهر أن يكون "أكد" في عبارة الناظم من الواو، وأبدل الواو المضمومة همزة، كوقتت (¬1)، وهو من (الوقت) وبالهمز وقع في النسخ التي وقعت عليها، والخطب في ذلك يسير. ¬

_ (¬1) وكذلك: الأجوه فى (الوجوه) جمع وجه. وانظر سيبويه 4/ 331، واللسان (وجه).

و"بالنفس" وما بعده متعلق بـ (أكدا) وكذلك قوله: "مع ضمبر". ولما ذكر (النفس، والعين) بالنسبة إلى إضافتهما إلى ضمير المؤكد، ولم يذكر حالهما بالنسبة إلى إفرادهما أو عدم إفرادهما استدرك ذلك بقوله: واجمعهما بأفعل إن تبعا ما ليس واحدا تكن متبعا /يعني أن (النفس، والعين) إن تبعا في التأكيد غير المفرد، من مثنى أو مجموع، فإنهما يجمعان على (أفعل) جمع القلة، فتقول فى الجمع: جاء الزيدون أنفسهم أعينهم، وجاء الهندات أنفسهن أعينهن. وكذلك فى التثنية تقول: أنفسهما أعينهما، فتجمع وإن كانا اثنين، لأن تثنية ما هذه سبيله جمع، كقطعت رءوس الكبشين. ومنه فى جمع القلة على (أفعل) قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬1)، فإذا فعلت هذا كنت به متَّبعا سنن كلام العرب (¬2). واقتضى هذا التقرير أن الواحد إذا أكّد بـ (النفس أو بالعين) لا يجمع ولا يثنى، بل يبقى على إفراده كما مر تمثيله. فإن قيل: يظهر أن كلامه معترض من وجهين، أحدهما أنه لم يبين حكم الاجتماع فى (النفس، والعين) بل أتى بـ (أو) المقتضية لأحد الشيئين من غير اجتماع، فيفهم له من ذلك أنهما لا يجتمعان، فلا ¬

_ (¬1) سورة المائدة/ آية: 38. (¬2) انظر فى هذه المسألة: شرح الكافية للرضى (3/ 360) وما بعدها.

تقول: جاء الزيدان أنفسهما أعينهما، ولا جاء زيد نفسه عينه، وإنما تأتى بأحدهما. وذلك غير صحيح (بل جمعها جائز حسبما مرّ تمثيله، فهذا تقصير فى البيان) (¬1). والثانى أن قوله: "تكن متبعاً" فضل لا زيادة معنىً فيه، لأن من المعلوم أن كل حكم يقرر فالمتبع له متبع للعرب. فما الذي أحرز بهذا، ومن عادته الشح بالألفاظ إلا فيما يعطى الفائدة؟ فالجواب عن الأول أن "أو" آتية فى كلامه فى معرض إثبات حكم وإلزامه، و"أو" تقع هناك للإباحة، لأن الكلام فى معنى الأمر، فصار مثل قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين. وعلى هذا التقرير لا تقتضى "أو" منعاً من الجمع، وهو مراد الناظم، فلك أن تجمع بينهما فى التوكيد عنده، وهو المطلوب. وعن الثانى أن هذا الكلام أعطى فائدتين حسنتين، إحداهما عامة، وهى أن (النفس، والعين) إذا أضيفا إلى ضمير غير الواحد فإنه لا يقتصر فيهما على جمع القلة دون غيره. أما إذا أضيفا إلى ضمير جمع فإنه يجوز أن يجمعا جمع كثرة وجمع قلة، فتقول: أنفسهم زاكية، ونفوسهم زاكية، وأعينهم كالئة، وعيونهم كالئة، وذلك لأن كل واحد منها يجمع هذين الجمعين. ومن ذلك ما أنشد السيرافى وغيره من قول الشاعر (¬2): يا صاحبىّ فدت نفسى نفوسكما وحيثما كنتما لاقيتما رشدا ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من الأصل و (ت) وأثبته من. س) وحاشية الأصل. (¬2) المنصف 1/ 278، والإنصاف 563، وابن يعيش 8/ 143 وقائله مجهول. ومعناه واضح.

وأما إذا أضيفا إلى ضمير اثنين فإنه يجوز فيهما ثلاثة أوجه: جمعهما كما تقدم وتثنيتهما فتقول: نفساكما زكيّتان، وعيناكما قريرتان وإفرادهما نحو: نفسكما، وعينكما، وذلك على قاعدة: كل شيئين من شيئين. ولما كانت العرب قد قصرت ألفاظ التوكيد على وجه واحد من تلك الوجوه فلم تستعمل غيره فهم منها أنها أرادت الاستغناء بذلك الوجه عن باقى الوجوه، كما استغنت بـ (كلا وكلتا) عن (أجمعان، وجمعاوان) وما يليهما (¬1). فنبّه الناظم على ذلك الوجه، وأمر بالتزامه، وأن ذلك هو المستعمل عند العرب، فلا بد من اتباعها، فإذاً لا يجوز لك أن تقول: جاء الزيدان نفساهما، ولا نفسهما، ولا نفوسهما. وكذلك فى الجمع لا تقول: جاء الزيدون/ نفوسهم، ولا جاءت الهندات نفوسهن. و (العين) كذلك، لا تقول: جاء الزيدان عيناهما، ولا عينهما، ولا عيونهن. وكذلك لا تقول: جاء الزيود عيونهم، ولا النهود عيونهم، بل تلتزم جمع اللفظين على (أفعل) خاصة والفائدة الثانية خاصة، وهى التنكيت على ابن معطٍ فى أرجوزته (¬2)، حيث خالف الناس والعرب، فذكر فيها أن توكيد المثنى بـ (النفس والعين) يقال فيه: نفساهما عيناهما بتثنية (النفس والعين (فقال هنالك: ¬

_ (¬1) فى (ت) "وما بينهما" وهو تصحيف. (¬2) هو أبو الحسين زين الدين يحيى بن معط بن عبد النور المغربى الحنفى النحوى، كان إماما مبرزا فى العربية، شاعرا محسنا. أقرأ النحو بدمشق ومصر، وصنف الألفية فى النحو، والعقود والقوانين، وشرح الجمل، وشرح أبيات سيبويه، وقصيدة فى القراءات السبع وغير ذلك (ت 628 هـ) وقد أشار ابن مالك فى مقدمة الألفية إلى ألفية ابن معط، وأشاد بفضله.

والنفس والعين مقدمان كذلك فى نفسيهما عينيهما *وما لماثنى سوى كليهما* ويقع فى بعض النسخ هكذا "كذاك فى نفسهما عينهما" بإفراد (النفس والعين). وجميع ذلك مخالف لما قالته العرب والتزمته، فهو خطأ بلا شك، فلهذا، والله أعلم، أتى بقوله: "تكن متبعا" تنكيتا على من لم يتبع، وهو ابن معطٍ فى رجزه المنسوج هذا على منواله. ثم قال: وكلا اذكر فى الشمول وكلا كلتا جميعا بالضمير موصلا هذا هو الضرب الثانى من ضربى التوكيد المعنوى، وهو "توكيد الشمول والإحاطة" ومعنى ذلك أنك إذا قلت: (قام القوم) احتمل ظاهر مفهومه، واحتمل أن يكون القائمون بعض القوم لا جميعهم، فأكدت المعنى الأول، وهو معنى شمول اللفظ لجميع ما يدل عليه، وأثبت أنه المراد. وأتى الناظم لهذا التوكيد بستة ألفاظ: أحدها "كل" نحو: قام القوم كلُّهم. والثاني "كلا" نحو: قام الزيدان كلاهما. والثالث "كلتا" نحو: قام الهندان كلتاهما. والرابع "جميع" نحو: قام القوم جميعهم. والخامس "عامة" نحو: قام القوم عامتهم.

والسادس: ما تصرف من لفظ "الجمع" للمفرد والمجموع، كقولك: أكلت الرغيف أجمع، وأكلت الخبزة جمعاء، وقام القوم أجمعون، وقام إليك الهندات جمع. هذه ألفاظ التوكيد على الجملة، ولها أحكام تظهر فى تفصيل كلام الناظم. فقوله: "كلاّ اذكر فى الشمول" إلى آخره، يريد أن الألفاظ التي تذكر في الشمول منها: كل، وكلا، وكلتا، موصلات بالضمير، لا مجردة منه كما تجردت الألفاظ المذكورة بعد، من الجمع ومتصرفاته، ولا مضافة إلى ظاهر. والضمير هنا جار فى المطابقة على ما تقدم، وعلى ذلك أحال، إذ أتى بالألف واللام العهدية فقال: "بالضمير" أى المطابق لمؤكد، فتقول: قام القوم كلهم، وقامت الهندات كلهن. وكذا فى الإفراد إذا احتمل ذلك العامل نحو: أكلت الخبز كله، وشربت الكأس كلها، وما أشبه ذلك مما يصح فيه التبعيض. وفى المثنى: قام الزيدان كلاهما، والهندان كلتاهما، وليس لهما استعمال فى غير ذلك. ككل "جميع" نحو: أكلت الخبز جميعه، وشربت الكأس جميعها، وقام الزيدون جميعهم، والهندات جميعهن. و"موصلا" حال من "كل" وما بعده، عامله "أذكر" وإنما أفرده حملاً على معنى ما ذكر/ كما قال رؤبة (¬1): ¬

_ (¬1) ديوانه 104، والمغنى 678، والمحتسب 2/ 154، واللسان (ولع، بهق) والبلق: سواد وبياض - والتوليع: التلميع من البرص وغيره. ورجل مولع: أبرص والبهق: بياض يعترض الجسد بخلاف لونه. وهو دون البرص.

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه فى الجلد توليع البهق قال أبو عبيدة قلت لرؤبة: إن كانت "الخطوط" فقل: كأنها، وإن كان "سواد وبلق" فقل: كأنهما، فقال: [أردت] (¬1) كأن ذلك، ويلك، توليع البهق، فأخبر رؤبة بأن قصده عود الضمير على معنى المذكور، فكذلك هنا. أراد (كلتا، ، وجميعا) فحذف العاطف على عادته. وفى هذا الكلام تنبيه على معنيين، أحدهما أن هذه الألفاظ لا تجرد من الإضافة إلى الضمير المطابق لقوله: "بالضمير موصلا" فقيّدها بالاتصال به، فلا يقال: أعجبنى الزيدون كل، ورأيت الناس كلا، ومررت بهم كل. وكذلك (كلتا وكلا وجميع). أما ما عدا "كلا" فمتفق على هذا الحكم فيه. وأما "كل" فقد ذهب الفراء، وتبعه الزمخشرى إلى جواز تجريدها من الإضافة كما مر تمثيله، فقد ذهبا إلى أن "كُلا" فى قراءة من قرأ {إنا كلا فيها} (¬2) بالنصب يحتمل أن يكون توكيداً لاسم "إنّ". وردّه المؤلف بأنّ تجويز ذلك فى "كلّ" يؤدى إلى عدم النظير، لأن غير "كلّ" من ألفاظ التوكيد إما ملازم لصريح الإضافة إلى ضمير المؤكد، وهو (النفس، والعين، وجميع، وعامة). وإما ملازم لمنويّها، وذلك "أجمع" وأخواته. وقد أجمعنا على أن منوىّ الإضافة لا يستعمل فيها صريحها، وأن ¬

_ (¬1) ما بين الحاصرتين زيادة من المحتسب. انظر: المغنى واللسان (ولع). (¬2) سورة غافر/ آية: 48. وانظر: معانى القرآن للفراء 3/ 10، والكشاف للزمخشرى 3/ 374.

صريح الإضافة سوى "كل" لا يستعمل فيه منويها، فتجويز ذلك فى "كل" يستلزم عدم النظير فى الضربين، وما أفضى إلى ذلك مطَّرح، فالقول بجواز قطع "كل" هذه عن الإضافة لا يلتفت إليه. هذا ما قال: ثم وجه قراءة النصب بأن كلاً" حال من الضمير المنوىّ فى "فيها" والعامل هو المجرور، بناء على جواز ذلك عنده كما تقدم في قوله: "وندر نحو سعيد مستقراً فى هجر" (¬1). فإن قيل: قد استقرّ فى "كلٍّ" جواز قطعها عن الإضافة نحو {كلٌّ في فلكٍ يسبحون} (¬2). وهى هى، وإنما بين الموضعين من الفرق الجريان على المؤكد وعدمه. وأما معنى التوكيد فلا ينفك عن "كل" فيهما، فكما يجوز هنالك يجوز هنا، وقد ظهر ذلك في الآية المقروءة كذلك، فلا مانع من القول به. فالجواب أن العرب قد تخير بين استعمالين فأكثر فى موضع، ثم إذا خرجت إلى غيره التزمت أحد الاستعمالين، وأهملت الأخر، وهذا شائع فى كلامها، ألا ترى أنها استعملت (نعم، وبئس) فى الأصل على أوجه، فقالوا: نَعِم، ونَعْمَ، ونِعِمَ ونِعْمَ، وكذلك (بئسَ) وكلُّ فعل على فعل) ثانيه حرف حلق (¬3)، ثم لما نقلتهما إلى إنشاء المدح والذم التزمت فيهما وجهاً واحدا، وكذلك (حبَّ) في التعجب، تفتح حاؤها وتضم، فإذا جاءت بـ (ذا) التزمت ¬

_ (¬1) انظر: باب الحال فى الألفية، وفى هذا الكتاب، ص. (¬2) سورة الأنبياء/ آية: 33. (¬3) مثل: شهد، وكذلك كل اسم كذلك نحو: فخذ - يجوز فيه أبعة أوجه، وانظر: باب نعم وبئس، وقد سبق، وابن يعيش 7/ 128.

الفتح، و (العَمْر والعُمرْ) مستعملان، فإذا قالوا: لعمرك التزموا فتح العين (¬1)، إلى غير ذلك مما لا يحصى. فلما ثبت للعرب هذا الأصل لم يَجُزْ أن يجرى القياس للفظ في كل موضع إلا مع الالتفات إلى السماع، ولم نجد من العرب من يقول: قام القوم كُلٍّ، ولا مررت بالقوم كلٍّ، ولا ما أشبه ذلك، وإنما سمع هذا في موضعٍ/ محتمل، والقياس مع الاحتمال لا يستتب فالصحيح إذاً الوقوف على ما سمع، وهو الإضافة. والمعنى الثاني أن هذه الإضافة تختص بالضمير، فلا يضاف هذه الألفاظ إلى الظاهر، فلا تقول: قام القوم كلُّ القوم، ولا قام الرجلان كلا الرَّجُلين، وما أشبه ذلك. وكذلك (النفس والعين) ولذلك قال هناك: "مع ضمير طابق المؤكدا" وما جاء على خلاف ذلك فنادر، كقول الشاعر: (¬2) أنت الجواد الذي ترجى نوافله وأبعد الناس كلِّ الناس من عار وأقرب الناس كلِّ الناس من كرمٍ يعطي الرغائب لم يضهمم بإقتار ¬

_ (¬1) اللسان (عمر). (¬2) هو الفرزدق، ديوانه 412، والهمع 5/ 200، والدرر 2/ 155. والنوافل: جمع نافلة، وهي هنا: الهبة والعطية. والعار: كل ما يلزم منه سبّة أو عيب. والرغائب: جمع رغيبة، وهي العطاء الكثير. والإقتار: ضيق العيش.

وكأن هذا من قيبل قوله (¬1): * إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها* وهو قليل، فلذلك لم يعول الناظم عليه، أو يكون مما التزمت العرب فيه الضمير، كما التزمت الإضافة أيضاً. وفي هذا البحث وما قبله في المعنى الأول بحث. فإن قلت: أتى الناظم بهذه الألفاظ مرسلةً إرسالاً، فلم يخص منها لفظاً بمفردٍ دون مثنى أو مجموع، فاقتضى بإطلاقه أنها تستعمل في الجميع، وذلك غير صحيح، فإن "كُلاًّ، وجميعا" لا يدخلان في توكيد المثنى، و"كِلا، وكلتا" لا يؤكدان غير المثنى. فالجواب أن هذا كله سيأتي بيانه ووجه الاعتراض فيه عند قوله: "واغْنَ بكلتا في مثنَّى وكلا" إن شاء الله تعالى. ثم قال: واستعلموا أيضاً ككلٍّ فاعلهْ من عم في التوكيد مثل النافلهْ يعنى أن العرب استعملت في ألفاظ التوكيد وزن (فاعلة) مبنياً من لفظ (عمَّ) فأكدّوا به. و (فاعلة) من (عمَّ) تقول فيه: عامِّة. ولما قال: "ككلٍّ" دل على أنه لابد فيه من الإضافة إلى الضمير، فتقول قام القوم عامتهم، وقامت الهندات عامَّتُهنَّ، وكذلك في الإفراد نحو: أكلت الخبزَ عامَّتَه، وشبه ذلك. وقوله: "مثل النافلة" أراد به أنهم استعملوا وزن (فاعلة) من (عمَّ) مثلَ ¬

_ (¬1) هو النابغة الجعدي، وعجزه: * سواقط من حر وقد كان أظهرا * وهو من شواهد سيبويه 1/ 63، واللسان (سقط). يصف سيره في الهاجرة في الوقت الذي تستكن فيه الوحش من الحر. والظلات: جمع ظله وهو ما يستظل به. وسواقط الحر: ما يسقط منه. وأظهر: دخل في وقت الظهيرة.

استعمالهم إياه من (نفل) فقالوا: (النافلة) فكذلك قالوا: عامة، وأصله: عاممةُ. وفسّر ابن الناظم قوله: "مثل النافلة" بأنه يريد أن عدّ (عامّة) من ألفاظ التوكيد مثل النافلة، أى الزائدة على ما ذكره النحويون في هذا الباب، فإنهم أغفلوه، قال: وليس في الحقيقة بنافلة على ما ذكروه، لأن من أجلهم سيبويه، ولم يغفله. (¬1) هذا ما قاله، وهو توجيه ضعيف، لأن معنى (النافلة) إذا كان يقتضى أنّ ذكره زيادة غير مفتقر إليها فكون (عامة) كذلك غير صحيح، وإلا لزم أن يكون سائر ألفاظ التوكيد كذلك. وأيضا فإن (جميعاً) قد أغفله الجمهور فلم يذكروه، وإنما ذكره سيبويه فكان إذاً من حقه أن يقيده بمثل ما قيد به (عامة) ولم يفعل ذلك، فدل على أن ما فسر به غير مراد. أما كون الجمهور أغفلوا ذكر اللفظين سهواً أو جهلاً، كما قال في "شرح التسهيل" (¬2) فظاهر، فإن سيبويه ذكرهما/ فقال في "باب ما ينتصب لأنه حال وقع فيه الأمر وهو اسم: وأما (كلهم، وجميعهم، وأجمعون، وعامتهم، وأنفسهم) فلا يكون أبدا إلا صفة (¬3)، يعنى بالصفة التوكيد. وقال في "باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة، وهى معرفة لا توصف ولا تكون وصفا": وأما (جميعهم) فيكون وجهين، ¬

_ (¬1) شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم: 504، وفيه "فإن أكثرهم أغفله" و"ليس هو فى حقيقة الأمر نافلة". (¬2) شرح التسهيل (المطبوع) 3/ 291. (¬3) الكتاب 1/ 377.

يوصف به المضمر [والمظهر]، كمل يوصف بـ (كلهم) ويجرى في الوصف مجراه - يعنى بالوصف التوكيد - ويكون في سائر ذلك بمنزلة (عامّتهم، وجماعتهم) يُبتدأ ويُبنى على غيره، لأنه نكرة، وتدخله الألف واللام (¬1). فقد أثبت كما ترى في ألفاظ التوكيد (جميعاً، وعامّة) مضافين إلى المضمر كـ (كلٍّ) إلا أن المبرّد خالف فى (عامّتهم) ونفاه عن ألفاظ التوكيد. لأن (عامة) أقل مما جرى عليه. فإذا قلت: جاء القوم عامّتهم فـ (عامتهم) أقل من القوم، ولا يؤكد الشيء ببعضه. قال: وإنما يكون بدلاً (¬2). ورده ابن خروف بأن أصل (عامة) العموم، وهى مشتقة من: عممته، كـ (كفل) أصلها العموم والإحاطة، ثم تقع للبعض إذا كثرت، فكذلك (عامة) أصلها وبابها العموم، ثم استعملها بعضهم في الكثير، فالصواب إثباتها، كما فعل الناظم. ثم ذكر ما لا يحتاج إلى اتصال الضمير فقال: وبعد كل أكدوا بأجمعا جمعاء أجمعين ثم جمعا ودون كل قد يجئ أجمع جمعاء أجمعون ثم جمع يعنى أن العرب أكّدت أيضاً فى (الشمول) بهذه الألفاظ التى هى (أجمع، وجمعاء، وأجمعون، وجمع) نحو: نجُس زيدُ أجمع، نجست هند جمعاء، ¬

_ (¬1) الكتاب 2/ 116، وما بين الحاصرتين زيادة من سيبوية. (¬2) لم أجده في "المقتضب" وانظر: ارتشاف الشرب (ص 972).

وجاء الزيدون أجمعون، وجاءت الهندات جمع. ورتَّبها هذا الترتيب اتكالا علي سهولة المأخذ فى فهم المراد، لأن المفرد هو المقدَّم فى الترتيب الطبيعى على غيره، والمذكر هو المقدم فى الترتيب الوضعي الاصطلاحى على المؤنث، فاقتضى أن (أجمع) للمفرد المذكر، وأن (جمعاء) للمفرد المؤنث. ولما ذكر اختصاص المثنى واستغناءه بـ (كلا وكلتا) في قوله: "واغن بكلتا فى مثنى وكلا" ثبت أن (أجمعين) للمجموع المذكر، وأن (جمع) للمجموع المؤنث، فظهر وجه ما رتبه. ثم إن هذه الألفاظ إما أن يؤتى بها مع (كل) أو دونها، فإن أتى بها مع (كل) فالواجب تقديم (كل) لأن ترتيب هذه الألفاظ إذا جمعت مع (كل) أن تتقدم (كل) فتقول: رأيت زيداً كله أجمع، ولا تعكس فتقول: رأيت زيداً أجمع كله، لأن (كلاً) أقوى من حيث كان يستعمل تابعا وغير تابع. بخلاف (أجمع) فإنه لا يُستعمل إلا تابعا. ومن ذلك قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} (¬1). وأما إذا لم يذكر معها (كل) فلك أن تأتى بـ (أجمع) وحده، لكن إفراده عن (كل) قليل. وعلى هذا نبّضه بقوله: "ودون كل قد يجئ أجمع" إلى آخره. فأتى بـ (قد) المؤذنه بالتقليل، وكذلك ما ذكر من فروع (أجمع) ومع ذلك فليس عنده بسماع، بل الأمران مقيسان، وإن كان أحدهما أقوى من الآخر، فتقول/: ¬

_ (¬1) سورة الحجر/ آية: 30.

رأيت زيداً أجمع، وهنداً جمعاء، وجاء الزيدون أجمعون، والنهدات جمع. ومنه في القرآن الكريم {وإنّ جهنم لموعدهم أجمعين} (¬1)، و {لأغوينّهم أجمعين} (¬2)، وفى الشعر قوله (¬3): يا ليتني كنت صبيا مرضعا تحملني الذَّلفاءُ حولاً أكتعا إذا بكيت قبَّلتنى أربعا إذاً ظللت الدهر أبكى أجمعا فإن قيل: إنه لم يذكر ما صيغ من (الكتع، والبصع، والبتع) (¬4)، والنحويون أرباب المختصرات، فضلاً عن غيرهم، يذكرون ذلك، ولا يغفلونه، فكيف تركه؟ فالجواب أن ماعدا ما ذكر قليل الاستعمال، غير متداول في الكلام، ومن استقرأ كلام العرب وجد الأمر كذلك. ثم قال: وإن يفد توكيد منكورٍ قُبِلْ ¬

_ (¬1) سورة الحجر/ آية: 43. (¬2) سورة الحجر/ آية: 39. (¬3) المغنى 614، والهمع 5/ 201، 205، والدرر 2/ 157، الأشمونى 3/ 76، 78، والخزانة 5/ 168، والعينى 4/ 93. والزلفاء اسم امرأة بعينها، ويقال: إن أعربيا نظر إلى امرأة حسناء ومعها صبى يبكى فلما بكى قبلته فأنشأ يقول هذا الرجز. (¬4) يقال: كتع الرجل كتعاً، إذا تقيض وانضم، وكتع بالشي: ذهب به. والكتع أيضاً التمام، مأخوذ من قولهم: أتى عليه حول كتع، أى تام. والبصع - بكسون الصاد الجمع، وبتحيكها: الخرق الضيق لا يكاد ينفذ منه الماء والبتع - بفتحتين - طول العنق، مع شدة مفرزه، والبتع من الرجال: الطويل، أو الطويل العنق.

وعن نحاة البصرة المنع شمل أفاد هنا معنيين، أحدهما منصوص عليه، وهو أن الأسماء النكرات يصح توكيدها ويجوز قياسا، لكن بشرط حصول الفائدة به. وذلك أن توكيد النكرة تارة يكون غير مفيد فلا يجوز، نحو: رأيت رجلاً نفسه، وجاءنى رجل نفسه، وأتانى ناس كلهم، فهذا ونحوه ممنوع، من حيث إنه لا يحصل فائدة، ولأن التوكيد إنما يفيد فيما حصّل معناه عند المخاطب، والنكرة لم تتحصَّل بعد، فكيف تؤكد؟ وهذا معنى قول الزجاجى (¬1): لأن النكرة لم تثبت لها عين فتؤكد. وأيضا فإن التوكيد شبيه بالنعت، وقد تقرّر أن ألفاظ التوكيد معارف، فكما لا تنعت النكرة بالمعرفة كذلك بالمعرفة كذلك لا تُؤكَّد بها. وهذا التعليل الثاني جارٍ على طريقة البصريين (¬2). وتارةً يكون توكيد النكرة مفيداً فيجوز عند الناظم، لأن الفائدة هى المتَّبَعة. فإذا قلت: صمت شهراً كلَّه؛ أو قمت ليلةً كلَّها، وسرتُ يوماً أجمع، وهذا أسدُ نفسهُ، وعندى درهم عينه - فبذكر (كل) علم أن الصيام وقع فى جميع الشهر، والقيام وقع فى جميع الليلة، ولو لم يذكر لكان محتملاً كالمعرفة سواء. وكذلك (أجمع، والنفس) وغيرهما، فبذكر (أجمع) علم أن السير وقع فى اليوم كله لا فى بعضه، وبذكر (النفس) علم أن المشار إليه أسد حقيقى لا شبيه به، وبذكر (العين) علم أن الذى عندك درهم مصوغ، لا صرفه ولا موازنه. قال فى "الشرح" بعد التمثيل: فتؤكيد النكرة، إن كان هكذا - يعني ¬

_ (¬1) الجمل له (34) [الطبعة الثانية - باريس 1957 م]. (¬2) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف للأنباري: 455 (المسألة الثالثة والستون).

مفيدا حقيق بالجواز وإن لم تستعمله العرب، فكيف إذا استعملته؟ وأما ما لا فائدة فيه نحو: اعتكفت وقتاً كله، ورأيت شيئاً نفسه - فغير جائز، قال: فمن حكم بالجواز مطلقا، أو بالمنع مطلقا فليس بمصيب، وإن حاز من الشهرة أوفر نصيب (¬1). وإنما قال هذا لأن البصريين، غير الأخفش، يمنعون توكيد النكرة مطلقا، أفاد أولا ومن الكوفيين من يجيز مطلقا، أفاد أولا. حكاه في "الشرح". وما ذهب إليه الناظم هو مذهب بعض الكوفيين. ورأى الأخفش. والذي نقل هنا خلاف ما نقله ابن الأنبارى عن الكوفيين، من أن الجواز عندهم/ مقيّد بأن تكون النكرة مؤقتة لا مطلقا، ولم يحك عنهم خلاف ذلك (¬2). وهو أشبه بنقل الأئمة مما نقله المؤلف فى "الشرح". وكلام الناظم هنا لا مخالفة فيه لما ذكره الناس من الخلاف إلا فى شئ آخر حسبما يذكر على إثر هذا بحول الله. ومما استُدِكَّ به للجواز قول الراجز (¬3): أرمى عليها وهى فرع أجمعُ وهى ثلاث أذرع وإصبعُ ¬

_ (¬1) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 185 - ب). (¬2) الإنصاف في مسائل الخلاف (المسألة - الثالثة والستون) ص 451 - 456. (¬3) سيبويه 4/ 226، والخصائص 2/ 307، والتصريح 2/ 286، والعينى 4/ 504، واللسان (ذرع، فرع، رمى، علا) الرجز لحميد الأرقط، يصف قوسا، وقوله: "وهى فرع أجمع" معناه أنها عملت من غ صن كامل، ولم تعمل من شق عود، وذلك أقوى لها. وقوله: "وهى ثلاث أذرع وإصبع أى تامة. وانظر: شرح أدب الكاتب للجواليقى 353.

أرمي عليها وهى فرع أجمعُ وهى ثلاث أذرع وإصبعُ وقال الآخر (¬1): * قد صرّت البكرة يوماً أجمعا* ومن أبيات الحماسة (¬2) أولاك بنو خيرٍ وشرٍّ كليهما جميعاً ومعروفٍ ألمَّ ومنكر وقال الآخر (¬3): يا ليتني كنت صبيا مرضعا تحملنى الذلفاء حولا أكتعا إلى أشياء غير هذا. وما ذهب إليه الناظم حسن إن ساعد قياسه سماع يعتد به فى القياس، ويخرج بكثرته عن الشذوذ وتكلّف التأويل، وإلا فلنحاه البصرة أن يقولوا: إن النكرة لا يصح توكيدها قياساً، إذ ليس لها عين ثابتة كالمعرفة، فينبغى ألا تؤكّد، لأن توكيد ما لا يعرف غير مفيد. ¬

_ (¬1) ابن يعيش 3/ 45، والأشمونى 3/ 78، والهمع 5/ 204، والدرر 2/ 157، والخزانة 1/ 181، 5/ 169، والعينى 4/ 95. وقائله مجهول. وصرَّت: صوتت. والبكرة: هى التى يستقى عليها من البئر، وهى خشبة مستديرة، فى وسطها حز للحبل، وفى جوفها محور تدور عليه. والمعنى أن الاستقاء من البئر. لم ينقطع يوما كاملا. (¬2) الإنصاف 223، والخزانة 5/ 171، والحماسة بشرح المرزوقى 990، وبشرح التبريزي 3/ 34. والبيت لمسافع بن حذيفة العيسى. وأولاك: لغة فى: أولئك. وبنو خير وشر: ملازمون لفعل الخير والشر مع الإصدقاء والأعداء. والمعروف: الجميل الظاهر، وضده المنكر. وألم: نزل وعرض. (¬3) تقدم الاستشهاد به وتخريجه فى الباب نفسه. انظر: ص 16.

وأيضاً فالنكرة شائعة فى جنسها، والتوكيد يقتضى التخصيص، وهما كالمتنافيين فلا يجتمعان، ولهذا امتنع نعت النكرة بالمعرفة، والعكس، كما تقدم (¬1). هذا وجه القياس. وأما السماع فلم يأت منه ما يشفى غُلَّةً. ولهذا كله يشمل المنع ما أفاد وما لم يفد عند نحاه البصرة، فإن الفائدة عندهم ليست هي المانعة فقط، بل ثم عندهم أمر آخر زائد عليه، وهو الوضع العربى، فإذا كان الوضع لم يتبين استمراره لم يصح أن يعتمد على مجرد الفائدة فيه، كما لم يعتمدوا عليها فى نعت النكرة بالمعرفة، وبالعكس، فليعلم الناظر أن قول إمام الصنعة (¬2): "قف حيث وقفوا ثم فسِّرْ" أصل عظيم، لا يفهمه حق الفهم إلا من قتل كلام العرب علماً (¬3)، وأحاط بمقاصده. وكثيراً ما تجد ابن مالك وغيره من التأخرين يعتمدون على أشياء لا يعتمد على مثلها المتقدمون الذين لابسوا العرب، وعرفوا مقاصدهم، اتكالا على قياس مجرد، أو على حصول الفائدة أو غير ذلك. والصواب الاستناد إلى السماع، ثم النظر فى قياسه إن كان، لا العكس. وقد مر لهذا بيان فيما تقدم. والمعنى الثانى من معنيى هذين البيتين، وهو غير المنصوص عليه، إن باب التوكيد المعنوى أصله للمعارف دون النكرات، نحو: جاءنى الأمير نفسه، والقوم كلُّهم، لأن المعنى الذي لأجله منع توكيد النكرة مفقود فى المعرفة، إذ كانت المعرفة قد ثبتت عينها، وظهرت حقيقتها. ¬

_ (¬1) انظر 4/ 618، وأيضاً: الإنصاف في مسائل الخلاف 455. (¬2) يقصد بإمام الصنعة سيبويه رحمه الله، وقد ورد هذا القول في الكتاب (1/ 266) وفى نسخة منه "ثم قس بعد". (¬3) يقال: قتل فلان الشئ علما، إذا تعمق فى بحثه فعلمه علما تاما.

وإنما لم يصرح الناظم بصحة توكيد المعرفة لكون ذلك مفهوما من قيده فى النكرة. وهو قوله: "وإن يفد" إذ من المعلوم أن توكيد المعرفة مفيد على الإطلاق، اعنى من غير قيد تتقيد به فى حصول الفائدة. وقوله: "عن نحاة البصرة" متعلق بمحذوف، هو حال من فاعل (شمل) تقديره: المنع شمل منقولاً عن نحاة البصرة، أو يكون المجرور خبر المبتدأ الذي هو (المنع) و (شمل) جملة حالية وإن كان الفعل ماضيا، إذ قد أجاز المؤلف ذلك، وحمل عليه قوله تعالى: {قلت لا أجد ما أحملكم عليه} (¬1)، فـ (قلت) عنده جملة حاليه من ضمير الخطاب/ المتقدم، فكذلك يكون هنا. ولا يجوز تعلق المجرور بـ (المنع) لأنه مصدر لا يتقدم عليه معموله، ثم قال: وأغن بكلتا فى مثنى وكلا عن وزن فعلاء ووزن أفعلا لما كان قد ذكر أولا أنه يؤكد بعد (كل) بـ (أجمع) ومتصرفاته، وبقى (كلا وكلتا) مسكوتا عنهما أخذ الآن يذكر حكمها فى ذلك، فأخبر أنهما ليسا كـ (كل) فيما تقدم، بل يستغنى بهما عما بعدهما من (أجمع، جمعاء) فإذا قلت: (جاء الزيدان كلاهما) فلا تقول: أجمعان، وإذا قلت: (جاء الهندان كلتاهما) فلا تقول بعده: جمعاوان، لأن العرب استغنت بـ (كلا وكلتا) عن ذلك، فلم تتكلم به. وعدم السماع دليل على ¬

_ (¬1) سورة التوبة/ آية: 92.

الاستغناء. وقد نبه الناظم على هذه العلة بقوله: "واغن بكذا" أى استغن بذلك كما استغنت العرب. فإن قلت: من أين يفهم تعيين (كلا) للمذكر، و (كلتا) للمؤنث، وهو قد تقدم (كلتا) على (كلا) والتقديم إنما يستحقه المذكر؟ فالجواب أن ذلك يفهم له من قوله "عن وزن فعلاء ووزن أفعلاء" لأن وزن (فعلاء) للمؤنث، ووزن (أفعل) للمذكر كمل تقدم، فإذا رجع الأول للأول، والثاني للثاني تعين أن (كلتا) للمؤنث، و (كلا) للمذكر، وتعين أنهما معاً للمثنى بقوله: "في مثنى". لكن هنا نظر من أوجه: أحدها أن وزن (فعلاء) ووزن (أفعل) إنما هما توكيد للمفرد لا للمثنى، وهو قد قال: "اغن بكذا في النثنية عن وزن كذا" وهذا الكلام يقتضى أن المثنى كان مستحقاً لهما، وذلك غير صحيح، لأن المثنى لا يستحق في المذكر (أفعل) ولا في المؤنث (فعلاء) وإنما يستحق تثنيتهما. والعذر أن مراده تثنيتهما لا نفس الوزنين، فكأنه على حذف المضاف، أى عن تثنية وزن (فعلاء) ووزن (أفعل) وإنما ترك بيان ذلك اتكالا على فهم المراد، إذ لا يعسر فهم ذلك على طالب العلم، وهو عذر كما ترى. والثاني أنه قصر الاستغناء بـ (كلا وكلتا) عن (أجمع وجمعاء) فاقتضى أن (كفلَّا، وجميعاً، وعامَّةً) لا يستغنى بهما عنها، فيجوز أن تجتمع عنده، إذ لم يبين فيما قبل أن (كلا وكلتا) في المثنى عوض من (كل، وجميع، وعامة) فانضم إلى ذلك مفهوم هذا التقييد، فأوهم أنه يقال: جاء الزيدان كلُّهما كلاهما، أو بالعكس. وكذا في (عامة، وجميع) وهو غير مستقيم.

والجواب أن المفهوم هنا معطّل، لأنه مفهوم اللقب (¬1)، كما تقول: فلان عنىٌّ عن زيد، فلا يقتضى أنه غنىٌّ عن عمرو، كما يقوله الدقّاق وشذوذ (¬2)، فالصحيح خلافه. وإذا لم يكن للموضع هنا مفهوم فنقول: ذكر الناظم أولاً ألفاظاً ستة كلُّها بمعنى واحد، عين منها واحداً للتبعية لـ (كل) وهو (أجمع) فبقيت الخمسة يعطى النظر فيها أن كل واحد منها قائم مقام الآخر لا تابع له، فإذا أكِّد بأحدهما قام مقام التوكيد بالآخر. وإذا كان كذلك تبين من مساق كلامه، مع فهم المعنى المراد، أن وقوعها في التوكيد على البدلية، ثم أخرج (كلا، وكلتا) إلى باب المثنى، بخلاف (كل، وعامة، وجميع) فدل على/ منع اجتماعها معهما. ولما تبين أن (كلا) للمذكر، و (كلتا) للمؤنث لم يصح أن يتعاقبا على شئ واحد، بل يختص هذا بالمذكر، وهذا بالمؤنث، فصح معنى كلامه واستتبَّ. فإن قيل: إن هنا إيهاما في كلامه، وذلك أنه لما قال: "وكلا اذكر في الشمول" إلى آخره - اقتضى أن جميع تلك الألفاظ تستعمل في كل ما يقتضى الشمول، من مفرد أو مثنى أو مجموع، لكنه خص (كلا، وكلتا) بالمثنى، فبقى ما عداهما مستعملاً في الكل. وهذا غير صحيح، ¬

_ (¬1) سبق التعريف بمفهوم اللقب ومفهوم الصفة عند شرح قول الناظم. (¬2) الدقاق هو القاضى أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الشافعي، صاحب الأصول. تفقه وقرأ القرآن وسمع الحديث، وتوفى ببغداد سنة 392 هـ[الوافي بالواقيات 1/ 116]. ويقصد بقوله "شذوذ" ما شذ من الأصوليين عما عليه أكثرهم من تعطيل مفهوم اللقب، كالصيرفي وابن خوز منداد. وانظر: [المختصر في أصول الفقه لابن اللحام: 134].

فإن المثنى لا يؤكد بـ (كل) ولا (جمميع) ولا (عامة). على أنه قد نص في " التسهيل (¬1) " على أنه قد يستغنى بـ (كلهما) عن (كلتيهما وكليهما) ولم يأت له في "الشرح" بشاهد. وقال أبو حيان في هذا الموضع من "شرحه (¬2) " على امتداد باعه، وسعة حفظه: هذا يحتاج إلى نقلٍ وسماعٍ من العرب. فإذاً لا معوّل عليه، فهذا الموضع من "الخلاصة (¬3) " غير مخلّص - قيل: الإيراد صحيح، ولا جواب لي عنه الآن. ولو قال مثلا: وفي الشمول بالضمير موصلا يخص ماثُنِّيى كلتا وكلا وغير ما ثُنِّيَ كل ونقلْ مع ذا جميع والضمير يتّصلْ ثم قال: "واستعملوا أيضاً ككل فاعلة" إلى آخره - لكان المعنى مخلّصا من ذلك الشغب (¬4). والله أعلم. والثالث أن الناظم قد بين في "قسم الشمول" ترتيب ألفاظه بعضها على بعض بقوله: "وبعد كل قد يجئ أجمع" ولم ينبّه على ذلك في "قسم إثبات الحقيقة" وترتيب ألفاظه بعضها على بعض، ولا بيّن ذلك فيما إذا اجتمع القسمان، وإنما قال هنالك: "بالنفس أو بالعين الاسم أكذا" وليس فيه ما يدل على التقديم ولا الترتيب، فسكوته في الموضعين، وتنبيهه على الموضع الآخر قد ¬

_ (¬1) ص 164، وعبارته "وقد يستغنى بكليهما عن كلتيهما، وبكليهما عنهما". (¬2) التذييل والتكميل (ج 4 ص 105 - ب). (¬3) يقصد الألفية. (¬4) الشغب - بالفتح والإسكان - الجلبة والخصام. وكذلك تهييج الشر وإثارة الفتن الاضطراب.

يشعر بعدم الترتيب، وأنه غير مطلوب، وليس كذلك عند النحويين، بل إذا جمعت (النفس، والعين) قدمت النفس، لأنها أبين في أداء المعنى وإذا اجتمع "كل" و"أجمع" قدم "كل" لأنه يستعمل توكيدا وغير توكيد، تخلاف (أجمع) فإنه لا يستعمل إلا توكيدا. فلم يبق إلا الترتيب المذكور. وأما إذا اجتمع القسمان فالذي لـ (إثبات الحقيقة) هو المقدم، لأن إثبات الحقيقة أكد في تحصيل الإفادة، وهو ظاهر. فكان الناظم مقصراً بإهماله هذا الحكم جملة، وليس في تقديمه (النفس) ذكراً إشعار بذلك يعتمد عليه، مع أنه يبقى ترتيب أحد القسمين على الآخر، ولا جواب لي عنه. واعلم أن الاستغناء المذكور في قوله: "واغن بكلتا في مثنى وكلا" مختلف فيه، فالبصريون على ما قال. وأما الكوفيون فأجازوا الإتيان بـ (أجمع، وجمعاء) | مثنيين بعد (كلا، وكلتا) قياساً، فيقولون: جاء الزيدان كلاهما أجمعان والهندان كلتاهما جمعاوان. وإلى الجواز ذهب ابن خروف. والصحيح المنع كما تقدم، لعدم السماع المسوِّغ للقول به. ثم قال: وإن تؤكد الضمير المتصل بالنفس والعين فبعد المنفصل /عنيت ذا الرفع وأكّدوا بما سواهما والقيدلن يلتزما يعنى أن الضمير المتصل إذا أريد توكيده لإثبات الحقيقة بـ (النفس والعين) وكان ضمير رفع فإنما توكيده بعد الإتيان بالضمير

المنفصل، فتقول: زيد قام هو نفسه، وهند قامت هى نفسها، وقمت أنت نفسك، ونحو ذلك. وذلك أن الضمير المراد توكيده لا يخلو أن يكون متصلا أو منفصلا، فإن كان متصلا فلا يخلو أن يكون ضمير رفع أو غيره، فإن كان ضمير رفع فلا يخلو أن يكون تأكيده بـ (النفس والعين) أو بغير ذلك، فهذه أربعة أقسام. فأما الأول - وهو أن يكون ضمير رفع متصل مؤكداً بـ (النفس والعين) فالحكم ما ذكر، فلا يجوز أن تقول: زيد قام نفسه، وهند قامت عينها، إلا على ضعّف (¬1)، والتوكيد هنا جارٍ مجرى العطف حسبما يذكره في بابه (¬2). ووجه ذلك أن (النفس، والعين) لكا كانا يستعملان واليين للعوامل على غير التأكيد أتى بالضمير المنفصل ليرتفع اللبس الذي كان يعرض لو لم يؤت بالضمير. ألا ترى أنك لو قلت: المال قبض عينه، وهند خرجت نفسها - لم يتبين كون (النفس) توكيدا إلا بالضمير المؤكد. وكذلك (العين) مثل (النفس) ثم حملوا ما لا فيه على ما فيه اللبس، ليجرى الباب على حكم واحد، فقالوا: قاموا هم أنفسهم، وقمن هن أنفسهن، ونحو ذلك. وأيضاً فإن الضمير المتصل، وإن برز، جارٍ من الفعل مجرى الجزء، بأدلة كثيرة دلت على ذلك، فكأن التوكيد، إذا لم يؤكد الضمير، جارٍ على الفعل لا على الضمير، فأزالوا قبح اللفظ بهذا الضمير المنفصل. وأما القسم الثاني - وهو أن يكون ضمير رفع مؤكداً بغير النفس والعين - فقيد الإتيان بالضمير المنفصل غير ملتزم، بل يجوز جوازاً حسناً أن تقول: قاموا كلهم، وقمن جمع، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: ابن يعيش 3/ 42، والهمع 5/ 197. (¬2) انظر: ص 149، 150.

ووجهه ظاهر مما تقدم، لأن (أجمع) لما كانت لاتلى العوامل ارتفع اللبس من أصل، إذ لا يقال: (قام أجمعون) البتة، ولا يقال أيضا: قام كلهم، إلا على ضعف، فصح عدم الالتزام. وهذا القسم داخل تحت قوله: "وأكّدوا بما سواهما والقيد لن يلتزما". فالواو في قوله: "والقيد لن يلتزما واو الحال من ضمير "أكدوا" تأي أكدوا غير ملتزمين للقيد المذكور، وهو قيد الإتيان بالضمير المنفصل. والضمير في "سواهما" عائد على (النفس، والعين). وإنما قال: "والقيد لن يلتزما" تنبيهاً على أنه جائز أن يؤتى به، فيقال: قامواهم كلهم، وقمتم أنتم أجمعون. وسيأتي ذلك في التوكيد اللفظي على أثر هذا بحول الله تعالى. وأما القسم الثالث - وهو أن يكون ضميراً متصلا غير مرفوع - فلا يطلب فيه ذلك القيد أيضا، أخذاً من مفهوم قوله: "عنيت ذا الرفع" فبقي غير ذي الرفع على أصله من عدم التقييد، فيجوز أن تقول: رأيتك نفسك، وأكرمته نفسه عينه/ ونحو ذلك. ووجهه أن ضمير النصب غير قائم مع الفعل مقام جزئه، فحصل به الفصل، وبرز كلمة أخرى، فلم يحتج إلى توكيده بالضمير المنفصل. وكذلك ضمير الجر نحو: مررت بك نفسك، ومررت به عينه، ففارقا بذلك ضمير الرفع. وأما القسم الرابع - وهو أن يكون الضمير منفصلا - فمقتضى كلامه أيضاً عدم الافتقار إلى القيد المذكور، فدخل تحت ما تقدم أول

الباب من الجواز من غير قيد، وذلك صحيح، فإن الضمير المنفصل جارٍ هنا مجرى الظاهر، ولذلك يجوز العطف عليه من غير فصل فتقول: ما قام إلا أنت وزيد، فكذلك تقول هنا: ما قام إلا أنت نفسك، وما رأيت إلا إياه نفسه، وكذلك ما أشبهه. وقوله: "فبعد المنفصل" "بعد" معمول لفعل محذوف دلّ عليه فعل الشرط، أى فوكده بعد المنفصل، أو فجئ بهما توكيدا أو نحو ذلك. والكلام مختصر لفهم المعنى، وحقيقته: فوكده بهما بعد الإتيان بالمنفصل، أو يكون المعنى فاجعله بعد المنفصل. وهنا تم كلامه في التوكيد المعنوي. ثم انتقل إلى التوكيد اللفظي فقال: وما من التوكيد لفظي يجى مكررا كقولك: ادرجى ادرجى ويعنى أن التوكيد اللفظي معناه أن يوتى باللفظ المراد توكيده مكررا بنفسه، كما مثل في قوله للمؤنت: ادرجى ادرجى يا هند. وقد يكون للمذكر: ادرج ادرج يا زيد، بضم الجيم الأولى وكسرها. وعلى الكسر يستوى لفط المذكر مع لفظ المؤنث في (ادرج) الأول. وفي هذا المثال إعلام بأن هذا التوكيد غير مختص بالاسم، إذ لم يقيد بالمثال به. وهو يحتمل أن يكون من توكيد الفعل، وأن يكون من توكيد الجملة إذا قلنا: إنه أمر لمذكر وإذا أعطى عدم الاختصاص اقتضى الإطلاق في كل ملفوظ به، فيكون في الاسم والفعل والحرف والجملة.

فأما توكيد (الاسم) فنحو: قام زيد زيد، ومنه قول الشاعر (¬1): أخاك أخاك إنّ من لا أخا له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح وقالت العرب: ضبّا ضبّا كيف صدته! وإنما أنت سيراً سيراً (¬2). ويمكن أن يكون منه قول الله تعالى: {كلّا إذا دكّت الأرض دكا دكا (¬3)} وقال الآخر (¬4): هلّا سألت جموع كندة يوم ولو أين أينا! وقال مسروق بن الحارث الأرحبى يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5): وفدته النفوس ليس من الأمر فرار وأين أين الفرار! وقال الآخر (¬6): ¬

_ (¬1) سيبويه 1/ 256، والخصائص 2/ 480، والهمع 3/ 28، والتصريح 2/ 195، والخزانة 3/ 65، والعيني 4/ 305، والدرر 1/ 146، 2/ 158. والبيت لمسكين الدارمي، ديوانه 29، وقد ينسب لإبراهيم بن هرمة. والهيجا: الحرب، يمد ويقصر. يقول: استكثر من الإخوان فإنهم عون على الزمان فإن من عدم الإخوان كان كمن شهد الحرب ولا سلاح معه. (¬2) سيبويه 1/ 335. (¬3) سورة الفجر 21. (¬4) لعبيد بن الأبرص، ديوانه 135، وخزانة الأدب 1/ 322. (¬5) لم أجده فيما لديّ من المصادر. (¬6) سيبويه 2/ 315، والخصائص 3/ 229، والخزانة 2/ 162. والبيت لمهلهل بن ربيعة ضمن أبيات قالها بعد أن أخذ بثأر أخيه كليب. وأنشروا: أحيواء من أنشر الله الميت، إذا أحياه. وكان بنو بكر قتلوا أخاه كليبا في أمر البسوس التى دامت الحرب بسببها أربعين عاما. فقال هذه الأبيات يتوعدهم ويستهزئ بهم.

يا لبكر أنشروا لي كليبا يا لبكر أين أين الفرار؟ وأما توكيد (الفعل) فنحو: قام قام زيد. ومنه قول الشاعر (¬1): فأين إلى أين النجاة ببغلتى أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس وقام الراجز (¬2): بئس مقام الشيخ أمرس أمرس إما على قعو وإما اقعنسس وأما توكيد (الحرف) فنحو: نعم نعم، وبلى بلى، ولا لا. ومنه قول الشاعر (¬3): لا لا أبوح بحب بثنة إنها أخذت علىّ مواثقا وعهودا ¬

_ (¬1) الخصائص 3/ 103. 109، وابن الشجرى 1/ 243، والهمع 5/ 145. 207، والأشمونى 2/ 98، والتصريح 1/ 318، والخزانة 5/ 138، والعيني 3/ 9. ويروى "النجاء" وقائله مجهول، ومعناه واضح. (¬2) المنصف 3/ 14، وابن الشجري 2/ 149، والإنصاف 116، والهمع 5/ 43، والدرر 2/ 115، واللسان (مرس). وقائله مجهول، وهو مثل سائر. ومقام: اسم مكان الإقامة. وأمرس: أعد الحبل إلى موضعه من البكرة. والقعو أحد خشبتين تكبنفان البكرة، وفيهما المحور. واقعنسس: تأخر وارجع إلى خلف. ومعنى قوله: "إما على قعو وإما اقعنسس" أن المستقي إن استقى ببكرة فوقع حبلها في غير موضعه قيل له: أمرس، أى أعد حبلك إلى موضعه. وإن استقى بغير البكرة فوقع حبلها في غير موضعه قيل له: أمرس، أى أعد حبلك إلى موضعه، وإن استقى بغير البكرة ومتح حتى أوجعه ظهره قيل له: اقعنسس واجذب الدلو. (¬3) هو جميل بن معمر العذري، ديوانه 79، والأشموني 3/ 84، والهمع 5/ 208، والخزانة 5/ 159، والتصريح 2/ 129، والعيني 4/ 114. وأبوح: أظهر وأعلن. وبثنة: اسم محبوبته، والمشهور (بثينة) بالتصغير. والمواثق: جمع موثق، وهو العهد، وأما المواثيق فجمع ميثاق.

وقال الشاعر (¬1): / ليت شعري هل ثم هل أتينهم أم يحولن من دون ذاك الردى وقال الآخر (¬2): ليت وهل تنفع شيئاً ليتُ ليت شباباً بوع فاشتريتُ وأما توكيد (الجملة) فنحو: قام زيد قام زيد، ومنه قوله تعالى: {فقتل كيف قدّر. ثم قتل كيف قدّر (¬3)} وهى جملة دعاء أعيدت توكيدا. وقال تعالى: {كلّا سيعلمون. ثم كلّا سيعلمون (¬4)} وقوله: {فإنّ مع العسر يسراً. إنّ مع العسر يسراً (¬5)} وقال عوف بن الخرع (¬6): وكانت فزارة تصلى بنا فأولى فزارة أولى فزارا ¬

_ (¬1) المغني 2/ 29، والأشمونى 3/ 83، والعيني 4/ 109، والهمع 5/ 210، والدرر 2/ 161 والبيت للكميت بن معروف. والردى: الهلاك. ورواية العجز في المصادر السابقة "أم يحولنّ دون ذاك حمام" والحمام: الموت. (¬2) هو رؤبة، ملحقات ديوانه 171، وابن يعيش 7/ 70، والمغنى 393، والأشموني 2/ 63، والتصريح 1/ 294، والهمع 4/ 54، والعيني 2/ 254، والدرر 1/ 206. ويروى (بيع) على اللغة الأفصح. (¬3) سورة المدثر/ آية: 19، 20. (¬4) سورة النبأ/ آية 4، 5. (¬5) سورة الشرح/ آية: 5، 6. (¬6) البيت من شواهد سيبويه 2/ 243، وهو من المفضلية (124) المفضليات 416 ويروى الصدر "كادت فزارة تشقى بنا" أى نوقع بها فتشقى. وتصلى بنا: تعانى من شرنا. وأولى لك: كلمة تهديد ووعيد، ومعناها: الشر أقرب إليه.

وأنشد المؤلف (¬1): ألا حبّذا حبّذا حبّذا حبيب تحملت فيه الأذى وهذا كثير في الكلام. وقول الناظم: "يجي" أتى به محذوف اللام لأجل الضرورة، مع أنها لغة لبعض العرب، فإن منهم من يقول: (يجى، ويسو، ويستحى) ونحو ذلك (¬2). وحكى ذلك في "التسهيل (¬3) " و"ادرجى" من: درج الضّب والرجل، يدرج، دروجاً، إذا مشى. ولما ذكر التوكيد اللفظي مجملا، وكانت له أحكام زائدة على مجرد تكرار الأول أخذ يذكر ذلك فقال: ولا تعد لفظ ضمير متصل إلا مع اللفظ الذي به وصل كذا الحروف غير ما تحصّلا به جواب كنعم وكبلى الألفاظ المراد تكرارها على قسمين، قيم مستقل بنفسه كالاسم الظاهر، والفعل، والحرف القائم مقام الجملة، وهو حرف الجواب، فهذه - من حيث لا تفتقر إلى لفظ آخر تعتمد عليه - تعاد وحدها كما تعاد الجملة المؤكدة، كقولك: قام زيد زيد، وقام قام زيد، وبلى بلى، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) المنصف 1/ 82، والهمع 5/ 50، والدرر 2/ 117، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 186 - ب) وقائله مجهول. (¬2) أصلها: يجئ، ويسوء، ويسبحيى (ببائين). (¬3) ص: 314، وعبارته "وبعض العرب يحذف همزة (يجئ، ويسوء) وإحدى ياءى (يستحيى) ويجريهن مجرى (تفى، ويستيى) في الإعراب والبناء والإفراد وغيره" وانظر: سيبويه 3/ 556.

وقسم لا يستقل بنفسه، وإنما يأتي معمودا بغيره، ومتصلا به، وذلك الضمائر المتصلة، والحروف غير القائمة مقام الجملة، فهذه - من حيث لا تستقل بأنفسها - تفتقر إلى إعادة ما اتصلت به إذا كررت. وهذا المعنى أراد بقوله "ولا تعد لفظ ضمير متصل" إلى آخره، يعني أنه لا يجوز أن يكرر الضمير المتصل وحده دون اللفظ الذي وصل به، كان ذلك اللفظ اسما أو فعلا أو حرفا، فتقول إذا أكدت الضمير: فعلت فعلت، وضربك ضربك، ومررت به به، وجاءني غلامي غلامي، ونحو ذلك. وإنما كان ذلك لأن إعادته تصيره منفصلا، والمراد المتصل، فكان نقضا للغرض. وكذلك الحروف التي لم يتحصل بها جواب لا بد من إعاة ما اتصلت به معها، وذلك قوله: "كذا الحروف غير ما تحصل به جواب" وهو الحرف الذي يكون جوابا للمتكلم، وهو: نعم، ولا، وبلى، وما في معناها، فلا يحتاج إلى اتصال شيء بها، لأنها في تقدير كلام تام مستقل، فعوملت معاملة المستقل. وأما ما سواها فهو مفتقر إلى غيره، فلم يمكن إعادته وحده، فتقول إذا أكدت الحرف غير الجوابي: فيك فيك رغبتي، وإن زيدا إن زيدا قائم، ولزيد لزيد قائم. وهذا المعنى نص عليه ابن السراج في / "الأصول" (¬1). وخالف فيه الزمخشري، فأشار إلى جواز: إن إن زيدا قائم (¬2)، وليت ليت عمرًا منطلق. ¬

_ (¬1) حيث قال (2/ 18): "إلا أن الحرف إنما يكرر مع ما يتصل به، ولا سيما إذا كان عا ملا". (¬2) في الأصل "إن زيدا إن زيدا قائم" والصواب ما أثبته من (س، ت) ومن ابن يعيش 3/ 41.

قال المؤلف (¬1): وقوله مردود لعدم إمام يستند إليه، وسماع يعول عليه. وعد ما جاء من قول الشاعر (¬2): فلا والله لا يلفى لما بي ولا للما بهم أبدا دواء ونحوه من الضروراب. وفيما قاله هنا نظر من وجهين، أحدهما أنه قصر ما لا يستقل على إعادة ما اتصل به فقط، فا قتضى أنه فصل، لا بد من إعادة ما اتصل به، أعني فصل بين المؤكد والمؤكد، وليس كذلك (عنده (¬3)) فإن الفصل بينهما - في رأيه - قائم مقام إعادة ما اتصل به، فقوله (¬4): ليت وهل تنفع شيئا ليت ليت شبابا بوع فا شتريت ليس بضرورة، وكذلك ما كان مثله من المفصول نحو (¬5): ليت شعري هل ثم هل أتينهم ¬

_ (¬1))) شرح التسهيل للناظم (ورقة: 186 - ب). (¬2) الخصائص 2/ 282، والمحتسب 2/ 256، وشرح التسهيل للناظم (ورقة: 186 - ب) وابن يعيش 7/ 17، والأشموني 3/ 83، والهمع 4/ 396، 5/ 210، 348، والخزانة 6/ 264 والشعر لمسلم بن معبد الوالبي، ومعناه: لا يوجد شفاء لما بي من الكدر ولا لما بهم من داء الحسد. (¬3) ما بين القوسين ساقط من الأصل، وأثبته من حاشية ومن (س). (¬4) تقدم الا ستشهاد با لرجز وتخريجه في الباب نفسه. (¬5))) تقدم البيت وعحزه: أم يحولن من دون ذاك الردى

وكذلك ما أنشد الفارسي من قول الراجز (¬1): حتى تراها وكأن وكأن أعناقهن مشرفات في قرن هو عند المؤلف من هذا القبيل. وقد تقدم مذهب الفارسي فيه في "باب التنازع (¬2) " وعلى هذا نبه في كتابه "التسهيل (¬3) " بقوله: وإن كان المؤكد به ضميرا متصلا، أو حرفا غير جواب لم يعد في غير ضرورة إلا معمودا بمثل عامده أولا أو مفصولا. والثاني أن كلامه يقتضي في نحو (إن زيدا إن زيدا قائم) ألا يضمر الثاني وإن تقدم ذكره، لأنه قال: ولا تعد كذا إلا مع اللفظ الذي به وصل (¬4)، لأن اللفظ الذي وصل به هو الظاهر لا الضمير، وهم يقولون: إن الأحسن إضمار الثاني، وأن يقال: إن زيدا إنه قائم، فكان كلامه لا يستتب على ذلك، بل ظاهره خلافه، وأن إعادة لفظ الظاهر لازمة، وليس كذلك وقد قال في التسهيل (¬5) ": وإن عمد أولا بمعمول ظاهر اختير عمد المؤكد بضمير. ¬

_ (¬1))) ... الأشموني 3/ 83، والتصريح 1/ 317، 2/ 130، والهمع 5/ 209، والدرر 2/ 160، والعيني 4/ 100 والرجز لخطام المجاشعي أو الأغلب العجلي. والرواية الأشهر "أعناقها مشددات بقرن" والقرن: الحبل يقرن به البعيران. يقول: إن أعناق هذه الإبل مجتمعة من شدة سوقهم لها. (¬2) انظر: 3/ 180. (¬3) ... ص 166. (¬4) ... البيت بتمامه هو: ولا تعد لفظ ضمير متصل ... إلا مع اللفظ الذي به وصل وقد تقدم. (¬5) ... ص 166.

والجواب عن الأول أن الباب المطرد هو إعادة اللفظ المتصل به، وأما الفصل فلم يكثر تلك الكثرة، ولا اطرد اطرادا يعتد به، فكان ظاهر السماع _ من حيث لم يأت إلا في الشعر _ أنه شاذ محفوظ، فلم يعتن بذكره. وفي هذا الجواب نظر. وعن الثاني أن يقال: ليس مقصوده مجرد اللفظ بعينه، وإنما مقصوده الإتيان بما يتصل به، مما هو الأول في المعنى، ثم تجرى الألفاظ على أحكامها، فإن باب الاسم، إذا أعيد ذكره، الإضمار لا الإظهار، إلا لقصد معنوي أو لفظي، فليس كلامه بمناف لما قال في "التسهيل". وإذا لم يمتنع التوكيد بالمرادف، نحو: أعط زيدا آته، كما قال الأسود بن يعفر (¬1): فرت يهود وأسلمت جيرانها صمي لما فعلت يهود صمام - فأن لا يمتنع الإتيان بمرادف العامد للمؤكد أولى، فإن المترادفين ليسا متباينين، ولذلك تقول: قعد جلوسا، وذهب انطلاقا. وسيذكر على إثر هذا توكيد المتصل بالمنصل، وفي ذلك ما يبين مقصوده. ومضمر الرفع الذي قد انفصل أكد به كل ضمير اتصل ¬

_ (¬1))) ... الأشموني 3/ 81، والعيني 4/ 112، واللسان (صمم) وأسلمت: خذلت، وصمي: اخرسي يا داهية. وصمام: اسم فعل أمر بمعنى (صمي) مثل: نزال وتراك. والاستشهاد بالبيت لا يستقيم إلا أن (صمام) اسم فعل أمر، غير أن الأولى أن (صمام) اسم للداهية والحرب على زنة حذام وقطام، وكانوا يقولون للرجل يأتي بالداهية النكراء: صمي صمام، أي اخرسي يا داهية. وانظر: كتاب الأمثال لأبي عبيد 348 وعلى هذا فلا يصح الآستشهاد بالبيت هنا.

/ هذه مسألة لم يختلف فيها قول ابن مالك هنا وفي "التسهيل" مع قول غيره من النحويين، وهي جواز توكيد الضمير المتصل، كان ضمير رفع كـ (قمت) أو ضمير نصب، كـ (أكرمك) أو ضمير جر كـ (بك، وغلامك) - بضمير الرفع المنفصل. وضمائر الرفع المنفصلة: أنا، ونحن، وأنت، وأنت، وأنتما، وأنتم، وأنتن، وهو، وهي، وهما، وهم، وهن. فبين هنا الناظم أن هذه الضمائر يصح جريانها على كل ضمير متصل مطلقا، فتقول: قمتأنا، وقمت أنت، وقمتم أنتم، وقمتن أنتن. وتقول: أكرمني أنا، وأكرمنا نحن، وأكرمك أنت، ومررت بك أنت، ومررت بهما هما، وجاء غلامك أنت، وما أشبه ذلك. فيجري ضمير الرفع توكيدا على جميع الضمائر المتصلة، وإن اختلفت في الوضع. ووجه ذلك أن الضمائر المنفصل أصله للمرفوع دون المنصوب والمجرور، لأن أول أحوال الاسم الابتداء، وعامل الابتداء ليس بلفظ، فلم يكون بد من انفصال ضميره. وأما المنصوب والمجرور فلا بد لهما من لفظ يعمل فيهما، فيتصلان به، فإذا احتجنا إلى توكيدهما - لتحقيق الفعل الثابت للشيء بعينه دون من يقوم مقامه أو يشبهه - احتجنا إلى ضمير منفصل، ولا ضمير منفصل (¬1) في الأصل إلا ضمير الرفع، فا ستعملناه في الجميع، كما ¬

_ (¬1))) هذه الكلمة ساقطة من (س).

اشترك الجميع في (نا) نحو: قمنا، وأكرمنا، وغلامنا. لأن أصل الضمائر أن تأتي على لفظ واحد كا لأسماء الظاهرة. هذا تعليل السيرافي (¬1). وبقي وراء هذا حكم جريان الضمير الموافق في غير الرفع، هل هو عنده توكيد أم لا؟ والمسألة مختلف فيها بين أهل البلدين (¬2)، لسيبويه وأتباعه على أنك إذا قلت: رأيتك إياك، ورأيته إياه [فهو (¬3)] بدل لا توكيد، وإن كان البدل يراد به التوكيد أيضا (¬4). وذهب الكوفيون وابن مالك في "التسهيل" "وشرحه" (¬5) و "القواعد (¬6) " إلى أنه توكيد لا بدل. وليس في هذا الموضوع ما يدل على اخبيار له في ذلك، فلا عذر للكلام فيه هنا. ¬

_ (¬1))) السيرافي (جـ 3 ورقة: 161 - 6). (¬2))) في الأصل و (س) "البصرتين" وفي (ت) "البصريين" وما أثبته من هامش الأصل، وهو أوضح، ويريد بالبلدين البصرة والكوفة. (¬3))) ما بين الحاصرتين زيادة يستقيم بها التعبير. (¬4))) الكتاب 2/ 386. (¬5))) التسهيل: 166، وشرحه للناظم (ورقة: 187 - 1). (¬6))) ذكره السيوطي في البغية (1/ 132، 133).

العطف

العطف هذا هو النوع الثالث من أنواع التابع، وهو العطف، إلا أن العطف على وجهين، عطف بيان وعطف نسق. فلذك قسمه أولا فقال: العطف إما ذو بيان أو نسق والغرض الآن بيان ما سبق وذكره كل قسم وأحكامه بعد ما أشعر بأنه يبتدئ بذكر عطف البيان بقوله: "والغرض الآن بيان ما سبق" والذي سبق في ذكره هو عطف البيان، فأخذ أولا في التعريف به فقال: فذو البيان تابع شبه الصفة حقيقة القصد به منكشفة فقوله: "تابع" هو الجنس الأقرب. وقوله: "شبه الصفة" يريد أنه جار مجراها في بيان متبوعه / وإظهار، وكونه يتم به فهمه، ويتضح معناه. أو هو جار مجراها فيما هو أعم من هذا، لكن الأول أولى، لقوله مفسرا لذلك: "حقيقة القصد به منكشفة". فشبه الصفة هو كونه مبينا لمتبوعه، وذلك أنك إذا قلت: قام زيد، فأشكل على السامع أي الزيدين هو؟ فقلت: أخوك - تبين (زيد) من هو، ووضح أمره، كما لو كان طويلا فقلت: قام زيد الطويل، أو خياطا فقلت: قام زيد الخياط، فأشبه الصفة من هذا الوجه. وخرج له بذلك النعت، وعطف النسق، والبدل.

أما النعت فجَعله مشبَّها به، والمشبَّه به لا يكون هو نفسَ المشبَّه، وبذلك ظهر أن عطف البيان من حقيقته أن يكون جامدا أو بمنزلته، لأن من حقيقة النعت أن يكون مشتقًا أو بمنزلته. وكلا الموضعين خاصٌ بموضعه، فلا يمكن أن يَشْرَك عطفُ البيان النعتَ في الاشتقاق، لأنه إن شاركه صار نعتا حقيقة. وأما خروج العطف النَّسَقي فلبُعده عن شَبَه الصفة في كونه لا يُبَيَّن ولا يُوَضَّح، ولأنه قد جعله قسيما له في قوله: "إما ذُو بَيَانٍ أو نَسَق" وقسم الشيء لا يكون نفسَ الشىِء. وأما خروج البدل فلأن البدل هو المقصود بالحكم على حسَب الاستقلال، ولذلك كان على تقدير تكرار العامل، بخلاف عطف البيان فإن متبوعه هو المقصود بالحكم، وإنما أتى بالعطف زيادةَ بيانٍ له. وبهذا المعنى أشبه النعت؛ إذ كان النعت غير مقصود لنفسه، وإنما جيء به للأوَّل، والأول هو المقصود بالحكم، فخرج البدل بذلك. فإن قلت: هذا مشكل، فإن عطف البيان - حيث كان - يجوز فه البدل إلا في الموضعين المذكورين، وذلك يدل على أن المقصود فيهما واحد، ألا ترى أنك إذا قلت: قام زيدٌ أخوك، فـ (أخوك) يُعرب عطفَ بيان لأنه مبيَّن، ويُعرب بدلا، وهو مبيُن أيضا. فهل اختلف المعنى باختلاف الإعرابين؟ بل هذا الفَرْق الذي فَرَق به بينهما غيُر بَيَّن. فالجواب أن الفرق صحيح، وإنما جاز الإعرابان على مقصدين. فإن قصدتَ بالحكم الأولَ، وجعلت الثانىَ بيانًا له بحيث لا يُستغنى عن الأول فهو عطفُ البيان، وهو معنى شَبَهه بالنعت.

______ (1) سيأتي كلام الشارح عليها بالتفصيل.

وإن قصدتَ بالحكم الثانيَ، وجعلت الأولَ كالتوطئة فهو البدل، وهذا المعنى ليس النعت، فليس الإعرابان واردَيْن على قَصْد واحد. والدليل على ذلك خروجُ المسألتين المذكورتين بعدُ عن احتمال البدل، وهما: يا رجلُ زيداً ومررت بالرجلِ الضاربِ زيدٍ، على ما سيبيَّن إن شاء الله؛ إذ كانت هاتان المسألتان لا يُتَصور فيهما إلا أحدُ القَصْدين، وهو قصدُ كون الثاني بياناً للأول، نعم لا يُنْكَر أن يكون البدل يقع بيانا، لأنه إنما قُصِد، وصُرِف القُصد عن الأول إليه لأنه أبْيَنُ من الأول. وهذا ظاهر، وقوله: " حقيقةُ / القَصْد به مُنْكَشِفَة" تفسيرٌ لما أراده بقوله: " شِبْهُ الصفة" إذا كان أصل الصفة أن تأتي للبيان والكشف عن مراد المتكلم بالموصوف، فكذلك عطف البيان كما تقدم. لكنه يُعترض على هذا التفسير بدخول التوكيد، إذ يَصدق عليه أنه تابع يُشبه الصفة في أنه مبين لقصد المتكلم، لأنك إذا قلت: قَدِمَ الأميرُ احتَمل أن يكون القصد: قَدِمَ حَشَمُه، أو خَدَمُه، أو رسولهُ. وكذلك إذا قلت: قام القومُ- احتمل أن يكون القائم بعضَهم لا جميعَهم، فلم يتبيَّن إذاً قصدُ المتكلم من إرادة مقتضى اللفظ. فلما قلت: قدم الأميرُ نفسُه، أو قام القومُ كلُّهم- ارتفع ذلك الاحتمال، وصارت حقيقةُ القصد بالتوكيد منكشفِة، كما تقدم في بابه، فدخل التوكيد إذاً في هذا التعريف، فصار غيرَ معرف لكونه غيرَ مانع، مع أنه لو لم يَزد هذه الزيادة لكفى قوله: " شِبْهُ الصفة" على إبهامٍ مَا، وهو أحسنُ من زيادةٍ مُخِلَّة.

والعذر عنه أنه لما قال: «شِبْه الصفة» كان هذا التعريف غير تام، لأن شَبَه الصفة يقع من وجوهٍ عِدَّة، منها الاشتقاق وغيره، فلو اقتصَر على ذلك لم يكن فيه بيانُ أنه يشبهها من جهة دون أخرى، ولا تعيَّنت جهةُ الشَبَه، فبين بقوله: «حقيقةُ القصدِ به مُنْكَشفِة» ما أراد بقوله «شِبْه الصفة» وقد مَرَّ في «الصفة» أنه يبين ما سبَق بوَسْمه، فبيَانُه من جهة تعيين المتبوع وإيضاحه، حتى لا يختلط بغيره كما تقدم. فـ (عطف البيان) مبين ذلك البيانَ المعلوم، والتوكيد ليس كذلك، وإنما بَيانُه على وجه آخر، وهو إبراز جهة الحقيقة عن جهة المجاز في المتبوع الذى يبين معناه. فإذا قلت: (جاء الأمير) فهو محتاج إلى البيان من الجهتين: إحداهما من جهة تعيين مدلوله من بين سائر الأمراء، والنعت هو المبين لهذا المعنى وعطفُ البيان، فتقول جاء الأميرُ أبو عبدِ الله، أو جاء الأميرُ الفاضلُ ولا يُحتاج هنا إلى التوكيد، إذ لا يؤكَّد إلا بعد معرفته. والثانية من جهة كونه نسبة المجيء إليه حقيقة أو مجازا، إذ يمكن أن يريد المتكلم: جاء أمرُه، أو جاء غلامُه، أو نحو ذلك، حتى تقول: نفسُه أو عينُه. والنعت وعطف البيان غير داخلين هنا، لأن مدلول لفظ (الأمير) معروف. وكذلك إذا قلت: قام القومُ كلُّهم. فقد ظهر معنى قوله: «حقيقةُ القصدِ به منكشفة» حين كان بيانا لقوله: «شِبْه الصفة» وبَانَ أن التوكيد غيرُ وارد. ويمكن أن يكون قوله: «حقيقةُ القصدِ به منكشفة» يَعني به أن عطف البيان بين ظاهر من إطلاق الاسم عليه، لا يَحتاج إلى تعريف، لأنه إنما سمي

عطفَ بيانٍ لكونه مَسُوقا لبيان الأول وإيضاحه فهذا المعنى قد فُهم من نفس / التسمية، ويكون هذا القول اعتذارا عن استغنائه في تعريفه بقوله: «تابعٌ شِبْهُ الصفة» فكأنه يقول: عطف البيان هو التابع الشبيه بالصفة، وحقيقةُ القصد به تُغْنى عن تعريفه لبيانه. وعلى هذا لا يبقى في كلامه إيهام، ولا يَدخل له التوكيد أيضا. وبهذا التعريف يظهر أن تابع اسم الإشارة، إذا كان جامدا، عطفُ بيانٍ لا نعت، وهو رأيه في «التسهيل» أيضا. قال في «الشرح»: وأكثر المتأخرين يقلد بعضُهم بعضا في أنه نعت، ودعاهم إلى ذلك اعتقادهم أن عطف البيان لا يكون متبوعه أخصَّ منه. قال: وهو غير صحيح، فإن عطف البيان يُقصد به في الجوامد، من تكميل المتبوع، ما يُقصد بالنعت في المشتق وما جرى مجراه، فلا يَمتنع أن يكون متبوعُ عطفِ البيان أخصَّ منه، كما لا يمتنع أن يكون المنعوت أخصَّ من النعت. قال: وقد هُدِي أبو محمد بن السيد إلى الحق في هذه المسألة، فجعل ما تبع اسم الإشارة من (الرَّجُل) ونحوه عطفَ بيان. وكذلك فعل ابنُ جنى، وحكاه أبو علي الشلَّوْبِين.

وهكذا ينبغي، لأن اسم الجنس لا يُراد به -وهو تابع لاسم الإشارة- إلا ما يراد به وهو غيرُ تابع له، فلو كان نعتاً حين يَتبع اسم الإشارة نحو: رأيتُ هذا الرجلَ لكان نعتا حين يَتبع غيره نحو رأيتُ شخصاً رجلاً، وأنت لا تريد إلا كونَه رجلاً لا امرأة. ولا خلاف في امتناع كونه في هذه الصورة نعتاً، فيجب ألا يكون في غيرها نعتا، وإلا لزم عدم النظير، بجعل اسمٍ واحد نعتاً لبعض الأسماء دون بعض مع عدم اختلاف المعنى. هذا ما احتج به، وهو لَعَمْرى ظاهر. وإنما تَعَلَّق من قال: إنه نعت بظاهر كلام سيبويه في أبواب النداء، حيث حَكى عن الخليل أن (هذا الرَّجُلُ، ويَا أيُّها الرَّجُلُ) وقع (الرَّجُلُ) فيه وصفا. والأولى عطفُ البيان، لأن الجامد لا يقع في اصطلاحهم وصفا. وهذا جامد فلا يقع وصفا. ولعل الخليل وسيبويه أطلقا عليه لفظ الوصف مجازا، كما يُطلق على التوكيد لفظ الوصف أيضا. والله أعلم. وقد وقع للناظم في باب «النداء» أن (الرَّجل) هنا صفةٌ لا عطف بيان، حيث قال: «وأيُّها مَصْحُوبَ أَلْ بَعْدُ صِفَة» ثم قال بعد ذلك: «وذو إشَارَةٍ كأي في الصفة» فنَصَّ كما ترى على أن ذا الألف واللام في الموضعين صفة مطلقا، من غير فرق بين كونه جامدا أو مشتقا، وهو راجع إلى مذهب غيره، فَبيْن هذا الظاهر وبين ما نَصَّ عليه في باب «النداء» تعارض، سنتكلم عليه هنالك إن شاء الله. ثم أخذ في بيان أحكام العطف، ووجهِ التبعيَّة فقال:

فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاقِ الأولِ مَا مِنْ وِفَاقِ الأولِ النَّعتُ وَلِى فَفْد يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ كما يَكُونَانِ مُعَّرفَيْنِ «أَوْلِيَنْهُ» أمرٌ من أَوْلَيْتُه كذا، إذا أعطيتَه إياه، وأصله من: أوليتُه الشئَ إذا أدنيتَه منه. يريد أنك / تُعطيه من موافقة المعطوف مثل مَا أعطيتَ النعت من موافقة المنعوت. ولما كان قد تقرر في النعت أنه يوافق المنعوت في التعريف والتنكير، والإفراد والتثثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، فكذلك عطفُ البيان لا بد فيه من موافقة المعطوف عليه في هذه الوجوه كلها، ولذلك أكد هذا المعنى بقوله: فَقد يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ كما يَكُونَانِ مُعَرفَيْنِ فتقول: مررت بأخيك زيدٍ، وبأخوَيْكَ الزيدَيْن، وبإخوتك الزيدِين، وبأختك هِنْدٍ وبأختَيْكَ الهندَيْنِ وبأخواتك الهِنْداتِ. ومررت برجلٍ أخٍ لك، وبرجالٍ، إخوةٍ لكَ، وكذلك في التأنيث. وفي هذا الكلام تنبيهٌ على الخلاف في موضعين: أحدهما الموافقةُ في التعريف والتنكير، فإنه نُقل عن الفارسي إجازةُ عطف النكرة على المعرفة، وبالعكس، وجَعل من ذلك قول الله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيَّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ} فأجاز فيه البدلَ والعطفَ.

ووجه ذلك أن العطف شبيه بالبدل، إذ لا فرق بينهما إلا في نِيَّة تكرار العامل، والبدل يجوز فيه التخالف، بأن تُبدل النكرة من المعرفة، والعكس، فكذلك العطف. وهذا معارَض بشَبَهه بالنعت، إذ لا فرق بينهما إلا في الاشتقاق وعدمه. ويَزيد العطفُ مع النعت بأن كل واحد منهما منزَّل من المتبوع منزلة الشيء الواحد، ألا ترى أن: زَيْدًا الأحمرَ عند من لا يعرفه بمنزلة (زَيْدٍ) وحدَه عند من يعرفه. وأما البدل مع المبدل منه كالشيء الواحد باتفاق. فهذه العلة أوجبت في النعت مع المنعوت الاتفاقَ في التعريف والتنكير وغيرهما، كما مر ذكره، وأوجبت في البدل جوازَ الاختلاف. وأيضا فيلزم من هذا المذهب مخالفةُ الإجماع، إذ قد حَكى المؤلف الإجماعَ على خلاف ما قال. وفي مخالفة إجماع العلماء ما عرفتَ، فالصحيح ما ذهب إليه الناظم. والموضع الثاني صلاحيةُ عطف البيان في النكرات فإن من قَصر ذلك على المعارف، فَمنع أن يقال: مررتُ برجلٍ أخٍ لك، على العطف. وهذا المذهب يُنقل عن أكثر النحويين. ونَقل المؤلف عن الشَّلَوْبين أن هذا مذهب البصريين. ولم يرتضه الناظم، بل نصَّ على مخالفته بأنه مرجوح من جهة القياس والسماع.

أما القياس فإن الحاجة إليه في النكرة أشدُّ منها في المعرفة، لأن النكرة يلزمها الإبهامُ بحق الأصل، فهى أحوجُ إلى ما يبيَّنها من المعرفة, فتخصيصُ المعرفة بالبيان خلاف مقتضى القياس. وأيضاً فقد تقدم أن العطف كالنعت، وليس بينهما إلا الجمود والاشتقاق، والنعتُ في النكرة سائغ اتفاقا، فكذلك ينبغي في العطف. وأما السماع من القرآن الكريم: {يُوقَدُ / مِنْ شَجَرةٍ مُبَاركَةٍ زَيْتُونَةٍ} فالظاهر في «زَيْتُونَة» عطفُ البيان، وهو اختيار الفارسي. وكذلك قوله تعالى: {ويُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} وفي قراءة] غير [نافع وابن عامر {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكَيِن} وفي الموضع الآخر {وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيةٌ طَعامُ مَسَاكيِنَ} في قراءة غير نافع وابن عامر.

وقال ذو الرمة: لَمْيَاءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ وفي اللثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ وقد أشعر الناظم بوجه القياس لقوله: «كَمَا يَكُونَانِ مُعَرَّفَيْنِ» أي أن المعرفة والنكرة في الاحتياج إلى البيان متساويان، وهو مَقْصد حسَن، والتشبيه للتنظير. فإن قيل: لِمَ أتى الناظم بالشطرين، وهما قوله: «فَقَدْ يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ» إلى آخره. مع أنه قد حصل ذلك المعنى في «العَقْد» قبله حين قال: «فأولينه مِنْ وِفَاقِ الأوَّلِ كذا» فالظاهر أن هذا فضلٌ لا زيادةَ فائدةٍ فيه. فالجواب أنه أخرجه إلى التنصيص عليه، تنكيتاً على من ذهب إلى منع عطف النكرة. فإن قلت: فإذا كان كذلك فكان ينبغى أن يَفعل مثل ذلك في المذهب الآخر المخالِف له في منع المخالفة في التعريف والتنكير، وهو المنقول عن الفارسي، فِلَم أغفل ذكر ذلك؟ فالجواب أنه لم ينكت على مذهب الفارسي لأمرين، أحدهما أنه على مذهب شاذ ومَنْحًى ضعيف، لم يقل به إلا الفارسيُّ، على ما حكاه المؤلف، فلم يَعتبر به

خصوصاً، ولكنه اكتفي فيه بقوله: «فأولينه» إلى آخره، بخلاف المسألة الأخرى، فإن الخلاف فيها منقول عن البصريين حسبما نقله الشَّلَوْبِينِ، وأسنده تلميذه الأبَّذِى إلى أكثر النحويين، فلذلك اعتَنى بالتنبيه عليه خوفاً أن يُتَوَهَّم أن مذهبه مذهب البصريين، فيُعترض عليه في «العَقْد» الذى عقده بقوله: «فأولينه مِنْ وِفَاقِ الأوَّلِ» وليس كذلك في إهمال التنبيه على خلاف الفارسي. والثاني أن المؤلف ارْتَاب في هذا النقل عن الفارسي وقال: إنه لم يجده من غير جهة الشَّلَوْبِينِ، ولا يقول المؤلف هذا إلا بعد شدة البحث عن صحته، وذلك مَقامُ الوقوف والارتياب مع ما قام له من الدليل على صحة قول الناس، فلذلك زاد الشطرَيْن تأكيداً في مخالفة الناس، ولم يَزد شيئا في مخالفة الفارسي. والله أعلم. و«ولى» من قوله: «مَا مِنْ وِفَاقِ الأولِ النَّعتُ وَلِى» مطاوع (أوليته) و «ما» في موضع نصب (أَوْلِ) على المفعول الثاني، وهي موصولة، وصلت بالجملة الاسمية التي هي «النعتُ وَلِى» و «مِنْ وِفَاقِ» متعلق بـ (وَلِىَ) أى: ما النعتُ وَلِىَ من وِفَاق الأول. و «الأَوَّل» في الشطر السابق واقع على المعطوف عليه. وفي الثاني على المنعوت. ولَمَّا لم يكن عطف البيان متعينا في أكثر المواضع، وإنما يتعين في بعضها أَخذ يبيين مواضع التعيين فقال:

وصَالِحًا لبَدَلِيَّةٍ يُرَى في غَيْرِ نَحْوِ يَا غُلامُ يَعْمُرَا ونَحْوِ بِشْرٍ تَابعِ البَكْرى ولَيْسَ أَنْ يُبْدَلَ بالمرْضِى «صالحًا» حال من ضمير «يرى» وهو عائد على «عطف البيان» ويَعنى أن عطف البيان، حيثما وقع صالحٌ لأن يُعرب بدلا، فإنك إذا قلت: قام أبو عبد الله زيدٌ- يمكن فيه عطفُ البيان، ويمكن فيه البدلُ، ولكن كل واحد منهما مبنى على قَصْده، إذ ليسا بواردَيْنِ على قصْد واحد حسبما تقدم ذكره. وكذلك: هذا أبو عبد الله قُفَّةُ- يَحتمل البدل والعطف، فكما يصلح أن يكون الثاني بياناً للأول، والأول هو المقصود، كذلك يصلح أن يكون هو المقصود بالحكم دون الأول، إلا في موضعين، فإن العطف فيهما متعين، ولا يجوز البدل. أحدهما باب «النداء» نحو: يا رجلُ زيداً بنصب (زيد) فإن البدل ههنا ممتنع، إذ كان على تقدير تكرير العامل، فلم يصح فيه إلا ما يصلح فيه لو كان مباشَراً بالنداء، ولو كان مباشرا به لم يكن فيه إلا البناء فتقول: يا رجلُ زيدُ، لأنه على تقدير: يا زيدُ. وإلى هذا أشار الناظم بقوله: «في غيرِ نَحْو يا غُلاَمُ يَعْمُرا» ويَعْمُر: اسمٌ عَلَمٌ للغلام. وكذلك إذا رفعتَ (زيداً) فقلت: يا غلامُ زيدٌ، يا غلامُ يعمرُ- لا يجوز فيه إلا عطف البيان أيضا، فالنصب بالحمل على موضع المنادى، والرفع بالحمل على لفظه.

وهكذا الحكم إذا المنادى منصوبا لكونه مضافا أو ممطولا، و (زيد) منصوب، ويا أخانا زيدا لا يجوز فيه إلا العطف، إذ لو كان بدلا لوجب بناؤه على الضم. وجميع هذا داخل تحت إشارته بالمثال، بخلاف ما إذا قلت: يا زيد أبا عبدالله، فإن التابع هنا يحتمل العطف والبدل، وكذلك يا أخانا أبا عبدالله. والذي يضبط لك هذا في المثال كون التابع فيه مفردا، وهو (يعمر) وقد بين ذلك في «باب النداء» وإنما هذه إشارة إلى ما هنالك. والموضع الثاني باب «اسم الفاعل» إذا كان المعطوف خاليا من الألف واللام، والمتبوع مقرون بها، وهو مضاف إلى صفة مقرونه أيضا بها، نحو: مررت بالضارب الرجل زيد، فإن «زيدا» هنا، وهو مجرور، لا يصح فيه البدل، وإنما يعرب عطف بيان خاصة. والعلة فيه ما ذكر من أن البدل على تقدير تكرير العامل، وأنت لو قلت: (الضارب زيد) لم يجز، إذا القاعدة في «اسم الفاعل» أنه لا يضاف، وهو بالألف واللام، إلا إلى ما هما فيه. وقد بين الناظم ذلك في موضعه.

وأشار في تمثيل هذا النوع إلى البيت المشهور الذى أنشده سيبويه للمرار الأسدى: أنا ابن التارك البكرى بشر عليه الطير ترقبه وقوعا ف (بشر) هو تابع (البكرى) وتبعيته إياه على العطف لا البدل، لأن «بشرا» لا يصح أن يلى التارك مضافا إليه، فلو كان مكان «بشر» غلام الرجل مثلا- لجاز كونه بدلا / ولا يته ل (التارك) فلابد في تعين العطف من كون المعطوف مفردا بغير ألف ولام كما في مثاله، أو مضافا إلى ما ليست فيه. وهذا مبنى على مذهب البصريين كما سيأتي. وفي هذا الموضع نظر، وذلك أنه حصر تعين العطف في هذين الموضعين، وأعطى أن ما سواهما يصلح فيه البدل. وذلك غير صحيح، فإن موضع ثم مواضع أخر يتعين فيها العطف، ويمتنع البدل. وقد نبه بعض من قيد ذلك على جملة منها. والذى زاد على الموضعين عشرة مواضع: أحدها: أن يكون الكلام مفتقرا إلى رابط، ولا رابط إلا التابع، على أنه عطف البيان، نحو: هند ضربت الرجل أخاها، فلا يجوز أن يكون نعتا، لأنه أعرف مما جرى عليه، ولا بدلا لئلا تعرو والجملة الأولى من رابط، فتعين عطف البيان.

والثاني: أن يضاف «أفعل التفضيل» إلى عام، ويتبع بقسمى ذلك العام، ويكون المفضل أحد قسمى ذلك العام، نحو: زيد أفضل الناس الرجال والنساء، ف (الرجال والنساء) عطف بيان لا بدل من (الناس) لأن البدل على نية تكرار العامل، فيكون التقدير: زيد أفضل الرجال والنساء، وذلك لا يسوغ. وما جاء من قوله: أنا أشعر الجن والإنس. فقد غلط في ذلك، وتأوله أبو على أنه أراد: أشعر الخلق. قال: وهو قبيح، ولا يجوز القياس عليه. والثالث: أن يتبع وصف (أى) بمضاف نحو: يا أيها الرجل غلام زيد، ف (غلام زيد) لا يكون بدلا من الرجل، لأنه ليس في تقدير جملتين، ولا وصفا، لأن ما فيه (ال) لا يوصف بالمضاف إلى (العلم). والرابع: أن يفضل مجرور (أى) نحو: أى الرجلين زيد وعمرو أفضل؟ فلا يح بدل (زيد وعمرو) من (الرجلين) لأنه لا يجوز أن تقول: أى زيد وعمرو؟ لأن (أيا) لا تضاف إلى مفرد معرفة إلا عند قصد التجزئة نحو: أى الرجل أحسن؟ أعينه أم وجهه؟ والخامس: أن يفصل مجرور (كلا) نحو: كلا أخويك زيد وعمرو قائم، لأن (كلا) لا تضاف إلى مثنى لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ. والسادس: أن يتبع المنادى المضموم باسم الإشارة، نحو: يا زيد هذا، لا يجوز أن يكون بدلا، لأنه لو كان بدلا لكان منادى، وحرف النداء لا يجوز أن يحذف من اسم الإشارة على رأي البصريين

والسابع: أن يتبع وصف (أي) في النداء بمنونه، نحو: يا أيها الرجل زيد، لأنه لو كان بدلا لكان غير منون. والثامن: أن يتبع اسم الجنس أو غيره ذا (أل) لمنادى مضموم، نحو: يا زيد الرجل، ويا غلام الرجل الصالح ويارجل الحارث، أو منصوب نحو: يا أخانا الحارث، لأنه إن جعلناه بدلا أدى إلى تقدير مباشرة حرف النداء ما فيه الألف واللام، فيكون كقولك: ياالرجل، ويا الحارث. والتاسع: أن يتبع المنادى المضاف باسم الإشارة، نحو: يا غلام زيد هذا. والعاشر: أن يتبع وصف اسم الإشارة في النداء بمنون، نحو: يا هذا الطويل زيد وتعليل هذا الوجه وما قبله مفهوم مما تقدم. فهذه عشرة مواضع زائدة على ما ذكره الناظم، ولعل ثم مواضع أخر لمن تتبع المسائل، وإنما هذا تنبيه على غيره. وجميعه واضح في أن حصر الناظم قاصر جدا، وكذلك نص فى / «التسهيل» فلم يزد على الموضعين المذكورين إلا ثالثا، وهو أن يقرن ب (أل) بعد منادى، وهو الثامن هنا. والجواب عن ذلك أن أكثر النحويين هكذا فعلوا، فتراهم ينصصون على معنى ما نص عليه، ويقصرون تعيين العطف على الموضعين، أعنى باب «النداء» وباب «اسم الفاعل» فالاعتراض وارد على جميعهم ولا يختص به. ولكن يمكن الاعتذار عما فعلوا من أحد ثلاثة أوجه:

إما أن يقال: أن جميع ما استدرك عليه داخل له مثاليه، وذلك أن كله دائر على حرف واحد، وهو عدم صلاحية وقوع الثانى موقع الأول، وإذا تتبعت جميع المواضع وجدتها كذلك، فيكون على هذا قول الناظم: «في غير نحو كذا» مشيرا إلى كل موضع لا يحل فيه الثانى محل الأول. وإذا كان كذلك دخل جميع ما يحتاج إليه، مما ذكر ومما لم يذكر، وإنما عين الموضعين لشهرتهما في النقل. وإما أن يكون اقتصر على الموضعين لوجود السماع فيهما، فإن الذى سمع عن العرب في تعيين العطف محصور في البابين، وما سواهما فإنما هو تفريع بالقياس لا اتباع للسماع ويكون إذ ذاك قد نبه على جميع المواضع المتصورة في باب «النداء» ولأن السماع وارد فيه وإن لم يرد في جميع مسائله، فيدخل له، مما استدرك عليه، مسائل «النداء» كلها وهي ست، وتبقى المسائل الأربع كأنه لم يتعرض لها، لإمكان أن يقول قائل بعدم القياس فيها، أو بعدها من النوادر التى لا يعتد بها في مثل هذا المختصر. وإما أن يقال: إنه اتبع في ذلك الجمهور، وجرى على طريقهم من غير نظير فيما يلزم عن ذلك، وهذا خلاف عادته، ولكنه ممكن على الجملة. وإذا ثبت هذا فتلك المواضع المعترض بها ليست بمخلصة كلها، بل في بعضها نظر. أما الأول، فإن البدلية فيه سائغة، والربط بالبدل فيه خلاف، فقد مر ذلك في باب «الاشتغال» وتقدم أن ظاهر كلامه هناك أن «العلقة» حاصلة بالبدل كما تحصل بالعطف. وتبين وجهه هنالك.

وضبط ذلك سيبويه بالصفة، فما صح أن يكون رابطا في الصفة السببية صح أن يكون رابطا في «الاشتغال». والصفة السببية، في كونها صفة الموصوف أو خبرا المبتدأ، سواء، فما جاز في «الاشتغال» جاز في الصفة، وما جاز في الصفة جاز في الخبر. وهذا مسلم عند النحويين. فالربط بالبدل جائز في الخبر لجوازه في «الاشتغال» فقولك: زيد ضربت هند أخته، أو هند ضربت زيدا أخاها- جائز على البدل، وعلى عطف البيان، فلم يتعين فيه عطف البيان، فخرج عن أن يعترض به وأما السادس فليس مما نحن فيه، فإن اسم الإشارة يجرى نعتا على العلم فتقول: مررت بزيد هذا. وقد نص عليه الناظم وغيره، لأنه في تقدير المشتق، ولا مانع من ذلك / فلا يحتاج إلى تكلف عطف البيان إن سلم أنه يجرى نعتا فلا مانع من البدل أيضا، لأن تكرار العامل إنما معناه أن يقدر واليا له حقيقة، لا أن يكون العامل قبله مقدر الحذف، لكن جريانه على المبدل منه جار مجرى تكراره، كأن العامل مع المبدل منه عوض ومعوض منه. وإن قيل: إنه على تقدير طرح الأول فأوضح في الجواز، لأن حرف النداء ظاهر، فإذا وليه (هذا) جاز. فإن قيل: فلو فرض حذفه فقلت: زيد هذا- لم يصح فيه ذلك التوجيه- قيل: بل يصح، فإن المنادى كالعوض من حرف النداء، ولو قدر طرحه لجئ بالحرف، ليعامل كل اسم بما يليق به، وكذلك القول في التاسع من غير فرق.

ورأيت لهذا المقيد مثالا في أحد الموضعين المتقدمين في نظر أيضا، وذلك أنه قال: ومثل (يا أخانا زيدا) قول الشاعر: أيا أخوينا عبد شمس ونوفلا أعيذكما بالله أن تحدثا حربا في رواية من نصب «عبد شمس ونوفلا» قال: فلا يجوز هنا البدلية، لأن أحد المتعاطفين مفرد، وهما منصوبان، والبدل المجموع لا أحدهما، فلا يصح تقدير حرف النداء، وكلاهما تابع لمنصوب، لما يلزم من نصب أحدهما وهو المضاف، وبناء المفرد على الضم، والرواية بنصبهما. هذا ما قال، وهو غير لازم، بل البدل جائز وإن كان الثانى مفردا، ويصح تقدير حرف النداء، ولا يلزم ضم المفرد، لأنه قد صار مع المضاف شيئا واحدا، فلا يمكن أن يختلفا في الإعراب والبناء، لأنه كاختلاف بعض الكلمة مع بعض، بل نقول: لو كان الاسمان معا مفردين لتعين النصب فيهما بدلين، وعطفى بيان. أما مع البدلية فلأن مجموعهما هو البدل لا كل واحد منهما، إذ لو كان كل واحد منهما بدلا لكان من بدل المفرد من المثنى، وهو باطل، ولا يتأتى البناء فيهما إلا مع تقدير حرف النداء مع كل واحد، وذلك لا يصح، لأنه عند ذلك فلا يقدر حرف النداء إلا مع أول الاسمين، والمجموع هو البدل، فصار اسما مطولا بالعطف، كما لو سميت رجلا بزيد وعمرو، ثم ناديته لكنت قائلا:

يا زيدا وعمرا، فتنصب وجوبا كما تنصب المطولات، فمسالتنا بهذه المثابة من كل وجه، لأن الاسمين معا هما الاسم المثنى المنادى، فلو باشرا حرف النداء لانتصبا. وعلى هذا يبنى حكم عطف البيان، لأن مجموعهما هو المعطوف، وقد كانا في المثال تابعين لمنصوب، فلا يصح فيهما غير النصب. وكذلك إن تبعا مفردا، نحو يا صاحبان زيدا وعمرا، ويا زيدان بطة وقفة. والعطف والبدل في ذلك سواء. فثبت بهذا أن البيت لا يتعين فيه عطف البدل أصلا. وإنما ذكرت هذا لئلا يتوهم أنه مما يعترض به على الناظم في جملة تلك المواضع، وليظهر وجه يصوب في المسألة. وبالله التوفيق. وتأمل مسألة الفارسى في «الإيضاح» فهي مبينة لهذا الموضع، وهي مسألة: يا ثلاثة وثلاثين في «باب النداء» وقول الناظم: «وليس أن يبدل بالمرضى» الضمير في «يبدل» يحتمل أن يعود على «بشر» في مثاله الأخير ونحوه، ويريد أن إعرابه بدلا غير مرضى، وإنما يعرب عطف بيان، ويتعين فيه ذلك، وكأنه أراد التنكيت على موضع الخلاف المنصوص، وذلك أن من النحويين من أجاز البدل في باب «اسم الفاعل» لكن على طريقتين، إحداهما طريقة من أجاز أن يضاف «اسم الفاعل» بالألف واللام إلى ما ليس فيه ألف ولام، وذلك مذهب الفراء، فهو يجيز: مررت بالضارب زيد، فإجازته لنحو: مررت بالضارب الرجل زيد، على البدل أولى.

والثانية طريقة من لا يعتبر حلول البدل في محل المبدل منه، وذلك مذهب الأعلم وابن خروف. وحجتهما أن التابع قد يحل حيث يحل محل المتبوع، والبدل هنا كالعطف في: يا زيد والحارث، مع أنه لا يحل محله. وكذلك رب رجل وأخيه، وكل شاة وسلختها بدرهم. فإن أردت أن يحل محله. فإن أردت أن يحل ذلك محل الأول أزلت الألف واللام من (الحارث والتارك) في قوله: * أنا ابن التارك البكرى بشر * والضمير من (الأخ والسخلة) وهذا كله على خلاف الاستقراء من البدل لأن مواضع البدل يصح فيها حلوله محل المبدل منه، فإذا لم توجد هذه الخاصية وقع الشك في كونه بدلا. ولولا السماع في العطف لما قيس مع أنه نادر في السماع فلا يعتد به فالأصح مذهب الناظم. وفي إشارته إلى البيت أيضا تنبيه على أنه قائل بمذهب سيبويه والجمهور في صحة الجر في مثل هذا خلافا للمبرد، فإنه منع الجر في «بشر» ونحوه. وروى البيت بنصب «بشر». قال السيرافى: والقول قول سيبويه للقياس وإنشاد العرب والنحويين «بشر» بالجر.

ويحتمل أن يكون الضمير في «يبدل» عائدا على عطف البيان المعين في المثالين ونحوهما، فيكون المعنى على أن البدل في هذه المواضع وما أشبهها غير مرضى أن يقال به. ويكون تنكيتا على الخلاف الحاصل فيه في جميع المواضع، أو تخريجا، فالنص ما تقدم، والتخريج على قول الأعلم وابن خروف، إذ ظهر وجه مذهبهما، ومذهب الفراء لا أدرى هل يعتبر في الجواز ذلك الوجه أم لا، فلذلك لا ألتزم التفريع عليه. والله أعلم.

عطف النسق هذا هو الوجه الثاني من وجهي العطف، وهو عطف النسق. والنسق في اللغة: الكلام الذي يأتي على نظام واحد، ونسقت الكلام نسقًا، بالتسكين، إذا عطفت بعضه على بعض، وأصله/ من التنسيق، أي التنظيم، لأن الكلام ينظم بعضه مع بعض، فالنسق في هذا الاستعمال من باب: الخبط والنفض فقولهم: (عطف النسق) بمعنى عطف الكلام المنسوق. وليس المصدر إلا مسكنًا، فإذا أضيف العطف إلى المصدر قلت: عطف النسق. وأتى الناظم بحد هذا العطف في قوله: تالٍ بحرف متبع عطف النسق ... كاخصص بود وثناءٍ من صدق التالي هو التابع، وهو الجنس الأقرب، وقوله: "بحرف متبعٍ" أي بحرف وضع للتبعية، وهي أن يشرك الثاني مع الأول في عامله، فخرج بهذا الفصل سائر التوابع. وسيذكر الحروف المتبعة، إلا أنه مثل بواحد منها وهو (الواو) فقال: "كاخصص بود وثناء" فـ (ثناء) معطوف على "ود" بالواو الموضوعة لذلك. والكلام في هذا الباب في عطف المفردات لأن التبعية لا تتكون إلا فيها، وعليه يدل مثاله وكلامه.

و"عطف النسق" مبتدأ، خبره "تالٍ" وما تعلق به. ثم أتى بحروف العطف فقال: فالعطف مطلقًا بواو ثم فا ... حتى أم او كفيك صدق ووفا وأتبعت لفظًا فحسب بل ولا ... لكن كلم يبد امرؤ لكن طلا وهذه حروف العطف قد أتى بها، وهي تسعة: الواو، والفاء، وثم، وحتى، وأم وأو، وبل، ولا، ولكن. ولم يذكر غيرها، فدل على أن ما عداها عنده ليس بحرف عطف، وإن ذهب إلى ذلك غيره. والحروف التي اختلف فيها: هل هي للعطف أم لا، مما لم يذكره، سبعة: (إما) المكسورة، وإلا، وليس، وأين، وكيف، وهلا، و (أي) التفسيرية. فأما (إما) فيشير إلى رأيه فيها. وأما (إلا) فذهب الأخفش إلى جواز كونها حرف عطف، لأنها عنده تجئ بمعنى الواو، كقوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم}، وكذلك جعلها الفراء في قوله تعالى: {إني لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم}، الآية، وقوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك}.

وهذه المواضع لا يلزم فيها ما قالاه، لأن بقاءها على أصلها من الاستثناء ممكن، وذلك الاستثناء المنقطع، مع أن (إلا) قد ثبت لها أصل وهو الاستثناء، فلا تخرج عنه إلا مع التعين، ولم يتعين ذلك في هذه المواضع، فلا تصح دعوى ما لم يثبت بمجرد الاحتمال. وأما (ليس) فذهب الكوفيون إلى أنها تجئ حرف عطف، فيقولون قام زيد ليس عمرو، بمعنى: لا عمرو، محتجين بنحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: بأبي شبيه بالنبي ... ليس شبيه بعلي ويقول لبيد: وإن أقرضت قرضًا فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل وذلك لا حجة فيه، لأنه على حذف خبر (ليس) وإذا اتجه هذا لم يبق لهم متعلق، ولا يجوز الخروج عما ثبت إلى ما لم يثبت، لأنه تحكم بغير دليل/.

وأما (أين، وكيف، وهلا) فحكى السيرافي عن الكوفيين جواز العطف بهن، فيقولون: ما مررت بزيدٍ ههنا فأين أبي عبد الله، وما مررت برجل فكيف امرأةٍ، وما مررت بزيدٍ فهلا عمروٍ. وهذا كله غير جائز. ولما مثل سيبويه بـ (كيف) وأن ما بعدها مرفوع قال: فزعم يونس أن الجر خطأ، وقال: هو بمنزلة (أين) قال سيبويه أو يونس: ومن جر فهو ينبغي له أن يقول: ما مررت بعبد الله فلم أخيه، وما لقيت زيداً مرة فكم لقيت أبا عمرو؟ تريد: فلم مررت بأخيه؟ وفكم أبا عمرو؟ . وقال السيرافي: والكوفيون لا يلتزمون هذا. وأيضًا فما قالوا على خلاف شأن العاطف، فإن شأنه ألا يجتمع معه حرف عطف، فلا يقال: جاء زيد فو عمرو، ولا أكرمت الناس وحتى زيدًا إلا شاذًا في نحو قوله: أراني ما بت بت على هوى ... فثم إذا أصبحت أصبحت خاليَا

وأمثلتهم التي أجازوها قد اجتمعت فيها الفاء مع (أين، وكيف، وهلًا) وذلك خلاف القاعدة. على أن بعض المتأخرين يزعم أن الكوفيين يوافقون على أنها ليست مع الفاء حروف عطف، وإنما تكون حروف عطف دونها. وما حكاه السيرافي أثبت، وهو يستشعر من كلام سيبويه. وأما (أي) فحكى ابن مالك عن صاحب "المستوفي في شرح المستصفي"، أنها عاطفة لجريان ما بعدها على ما قبلها، كقولك: رأيت أسدًا، أي شجاعًا، ونهيتك عن الونى، أي الفتور. ورد هذا بأن حروف العطف لا يصح حذفها إلا شذوذًا، و (أي) يجوز حذفها جوازًا حسنًا، فإنك تقول في (مررت بغضنفر أي أسد): مررت بغضنفر أسد، وتستغني عن (أي) وسائر الحروف العاطفة على خلاف ذلك. وأيضًا فإن حق العاطف أن يكون ما بعده مباينًا لما قبله، نحو: مررت بزيد وعمرو. هذا في غير التوكيد، و (أي) بخلاف ذلك. قال المؤلف: إنها حرف تفسير، وما يليها من تابع عطف بيان موافق لما قبلها في التعريف والتنكير. فهذه السبعة هي الساقطة عن كلامه وفي اعتقاده فليست عنده عاطفة.

وما ذكر فهو الذي قال به، ولا أعلم في كونها للعطف خلاقًا إلا (لكن) فإنها مختلف فيها على حسب ما يأتي إن شاء الله في موضعه. ولما أراد عد هذه الحروف قسمها أولًا قسمين: أحدهما ما يأتي العطف المطلق، ومعنى ذلك أن يكون تشريك الثاني مع الأول في اللفظ والمعنى. ويدل على هذا القصد قوله في القسم الثاني: "وأتبعت لفظًا فحسب كذا وكذا". فأشار بهذا إلى أن الأول أتبع في اللفظ والمعنى، فهو قوله: "مطلقًا". واتى لهذا القسم بستة أحرف وهي: الواو، وثم، والفاء، وحتى، وأم، وأو. وعطف بعضها على بعض بغير حرف عطف ضرورة، وقصر لفظ (فا) ونقل همزة (أو) إلى ميم (أم). ثم مثل/ بالواو، وهو قوله: "كفيك صدق ووفا" أي: فيك هذان الأمران، فقد اشترك الصدق والوفاء في العامل الأول في لفظه ومعناه، فإنك إذا قلت: قام زيد وعمرو- فالقيام حاصل لهما معاً، وقد ارتفعا به على جهة واحدة. وكذلك قام زيد ثم عمرو، وقام زيد فمرو، وقدم المسافرون حتى المشاة، فالمشاة من جملة القادمين. وكذلك إذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ لأن قائل هذا الكلام عالم بأن الذي في الدار أحدهما، وغير عالم بتعيينه، فالذي بعد (أم) مساوٍ للذي قبله في الصلاحية لثبوت الاستقرار في الدار وانتفائه،

وحصول المساواة إنما هو بواسطة (أم) فقد شركتهما في المعنى كما شركتهما في اللفظ. وكذلك (أو) إذا قلت: قام زيد أو عمرو- مشركة لما بعدها مع قبلها فيما يجاء بها لأجله من شك أو إبهام كما في المثال، أو تخيير أو غير ذلك. وقد تقع موقع (الواو) فيكون حكمها حكم الواو. وهذا توجيه المؤلف لـ (أو، وأم) وهي طريقته فيهما، أعني أنهما عنده يشركان في اللفظ والمعنى. وفي هذا القسم تنبيهان: أحدهما أن كلامه في (أم، وأو) مخالف- فيما زعم- للنحويين، إذ قد نصوا على أنهما إنما يشركان في اللفظ لا في المعنى، لأنك إذا قلت: قام زيد أو عمرو، فما بعد (أو) مخالف في المعنى لما قبلها، لان القيام حاصل لأحدهما دون الآخر بلا بد في اعتقادك، بحيث لا يعريان عنه معًا، ولا يتلبسان به معًا. وكذلك إذا قلت: أقام زيد أم عمرو؟ فعندك أن أحدهما قائم، والآخر غير قائم، فسألت عن تعيين القائم منهما. وإذا كان كذلك فكيف يقال: إنهما يشركان في اللفظ والمعنى؟ بل صارا مثل قولك: قام زيد لا عمرو، أو: ما قام زيد لكن عمرو، إلا أن القائم في مسألتنا غير متعين، وهو مع (لا، ولكن) متعين. وقد رأيت الأستاذ شيخنا أبا عبد الله بن الفخار، رحمه الله، يحكى الإجماع على هذه الطريقة، تنكيتاً منه- والله أعلم- على ما ذهب إليه ابن مالك.

وقد صرح ابن مالك في "الشرح" بالمخالفة، وأن الصحيح ما ذهب إليه. وأقول: إنه لم يتوارد مع النحويين على قصد واحد في المسألة؛ فإن النحويين إنما تكلموا على التشريك في معنى العامل المتقدم، وعلى هذا المعنى اتفقوا في (الواو، وثم، والفاء، وحتى) ولا يشك أحد أن معنى العامل- في محل النزاع- إنما هو لأحدهما دون الآخر، لكنه غير معين، وعدم التعين لا يضر في هذا القصد. وابن مالك تكلم فيما يؤول إليه الكلام في قصد المتكلم، من عدم التعيين. وعدم التعيين لمعنى العامل قد تساوي فيه ما قبل (أو، أم) وما بعدهما. وما ذهب إليه مأخوذ من كلام سيبويه، فإنه قال في "باب العطف": ومن ذلك: مررت برجل أو امرأةٍ، فـ (أو) أشركت بينهما في الجر، وأثبتت المرور لأحدهما دون الآخر، وسوت بينهما في الدعوى. فقوله: "وسوت بينهما في الدعوى" هو معنى كلام ابن مالك. وقوله قيل: "وأثبتت المرور لأحدهما" هو كلام غيره، فإذا ينبغي أن يكون بينهما في المسألة خلاف، لأن إحدى الطريقتين لا تخالف الأخرى. وقد اجتمعنا في كلام الإمام، فلم يكن ينبغي للمؤلف أن يصرح بمخالفة أصلًا. والتنبيه الثاني أن (أم، وأو) على وجهين:

أحدهما أن يكونا بمعنى (بل) للإضراب: وحكمهما في المعنى حكم (بل) في أنهما من القسم الثاني الذي يشرهك في اللفظ فقط. والآخر أن يكونا لغير ذلك، وحكمها كما قال. فيقتضي إطلاقه هنا أنهما يشركان في اللفظ والمعنى في كلا الوجهين، وذلك غير صحيح. ولذلك تحرز في "التسهيل" فقال: وكذا (أم، وأو) إن اقتضيا إضراباً، يعني أنهما كـ (بل، ولا). والجواب أن كلامه هنا مطلق، قيده ما بعده، إذ تكلم على واحد منهما، وإذا كان مقيدًا لم يبق عليه فيه اعتراض. والقسم الثاني ما يأتي للعطف المقيد. ومعنى المقيد أن يكون التشريك في اللفظ لا في المعنى. وهو قوله: "واتبعت لفظًا فحسب بل ولا" إلى آخره. يعني أن هذه الأحرف الثلاثة، وهي (بل، ولا، ولكن) تتبع الثاني الأول في اللفظ خاصة، لا في اللفظ والمعنى معًا، كقولك: ما قام زيد بل عمرو، وقام زيد لا عمرو، وما قام زيد لكن عمرو. ومثل الناظم هذا بقوله: "لم يبد امرؤ لكن طلا" قيل: أثبتت للثاني ما نفي عن الأول، و (لا) بالعكس، نفت عن الثاني ما ثبت الأول، و (لكن) بمعنى (بل) توجب للثاني ما نفي عن الأول، فأنت ترى كيف لم تشرك هذه الأحرف الثلاثة في معنى العامل أصلًا. و (الطلا) بفتح الطاء ولقصر: الولد من ذوات الظلف، وهو المراد هنا. وقد يطلق ويراد به الشخص، قاله الجوهري، وليس بمراد هنا.

وقد تم تعدادها جملة، ثم أخذ في تفصيل معانيها وأحكامها، فقال مبتدئًا بالواو لأنها أم الباب: فاعطف بواو لاحقًا أو سابقًا ... في الحكم أو مصاحبًا موافقًا يعني أن الواو معناها في العطف الجمع المطلق من غير ترتيب ولامعية. فإذا قلت: (قام زيد وعمرو) احتمل أن يكون عمرو لاحقًا لزيد، أي قائمًا بعده، ولذلك يحسن أن يقال: قام زيد وعمرو بعده، واحتمل أن يكون سابقًا لزيد في القيام، ولذلك يصح أن يقال: قام زيد وعمرو قبله وقبله. واحتمل أن يكون مصاحبًا له في القيام، وموافقًا له في زمانه، فيكون فقيامها معًا، ولذلك يصلح أن يقال: قام زيد وعمرو معه. قالوا: وليس فيها دلالة على شيء من ذلك، وهو نص سيبويه، ورأى البصريين والكوفيين. حكى السيرافي الاتفاق من الطائفتين على ذلك. وبعضهم يحكى عن الفراء المخالفة في هذا، وليس بصحيح، إذ قد نص في "معاني القرآن" له على ما نص عليه غيره من/ عدم التزام الترتيب، لكن الأصوليين يحكون الخلاف في المسألة، فلعله ناشئ من جهتهم. فمما جاء في الترتيب اللفظي موافقاً للترتيب الزماني قوله تعالى {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها}، وقوله تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا}، وقوله: {إنا نحن نحيى ونميت وإلينا المصير}، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: هجوت محمدًا وأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء وذلك كثير. ومما جاء على عكس الترتيب قوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم}، وقوله: {وجاء فرعون ومن قبله} في قراءة غير أبي عمرو والكسائي. وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى: {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم}. ومما جاء على المعية قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}، ونحو: اختصم زيد وعمرو، وجلست بين زيد وعمرو، وهذان زيد وعمرو، وما أشبه ذلك. وهو كثير. ومعنى قوله: "في الحكم" أي في الحكم الذي حكم به المتكلم على المعطوف، من تقدم أو تأخر أو مساواة.

وقد يكون ذلك الحكم لفظيًا كما إذا قلت: قام زيد وعمرو بعده، أو قلت: قام زيد وعمرو قبله، أو قلت: قام زيد وعمرو ومعه. وقد لا يكون لفظيًا، كما إذا لم تلفظ بتلك الظروف، لكن معناها مستحضر عندك، فهو حكم منك أيضًا. فكل ما كان هكذا فعطف بالواو فالمقصود منه (مجرد التشريك) في العامل الأول من غير تعرض لما حكم المتكلم به من غير وجه التشريك. وتحرز بذلك من فهم السبقية في الوجود أو عدمها لا في الحكم. وليس ذلك بمراد، فإن المعتمد في الكلام حكم المتكلم بمقتضاه في الوجود، لا حصول الوجود، فقد يقول القائل: (قام زيد) اعتقادًا منه انه قام، ولم يقم. وقد يقوله كذبًا، وعلى غير ذلك، وليس في الخارج منه شيء. فلو كان ما في الخارج قيدًا في الكلام لم يكن ثم كذب ولا غلط ولا نسيان، فكذلك إذا قال: قام زيد وعمرو، قد يكون في اعتقاده أن زيدًا هو السابق لعمرو أو بالعكس، والأمر في الخارج على خلاف ذلك، فإذا قال: "في الحكم" كان متحرزًا من ذلك كله، ولم يستلزم الحكم على الخارج بأمر أن يكون كما حكم، بل قد يكون وقد لا يكون. وهذه المسألة مبينة في الأصول. والسبقية هنا أطلقها، وهي التقدم، ولم يقيد ذلك، فكان في الكلام إبهام ما، وذلك أن التقدم والتأخر المتكلم فيه عند الأدباء، ليس الزماني خاصة. بل التقدمات كلها معتبرة عندهم على حسب المقاصد ومقتضيات الأحوال، وهي التقدم بالطبع والرتبة والشرف والسببية، ومنها التقدم

بالزمان، فما الذي يخصص له تقدم الزمان وتأخره دون غيره؟ وهو الذي أراد بلا بد، إذ لا يتكلم النحويون إلا فيه. فقد يقال: إن الناظم اتكل في ذلك على ما عند النحويين، وأيضًا فإنه أسبق إلى الذهن/ فلذلك لم يحتج إلى تنبيه لبيانه. واخصص بها عطف الذي لا يغني ... متبوعة كاصطف هذا وابني ضمير "بها" عائد على (الواو) يريد أن الواو تختص من بين سائر أخواتها بعطف مالا يغنى عنه متبوعة، وذلك أن من العوامل مالا يستغنى بواحد دون أن يعطف عليه غيره فذلك العطف لا يكون إلا بالواو، لأنها التي تفيد الجمع المطلق. وأما مال عداها فلا يفيده إلا بزيادة تقتضي ترتب المعطوف على المعطوف عليه أو غير ذلك مما يناقض مقصود الجمع المراد في عطف مالا يغني متبوعة. فإذا قلت: (اصطف هذا وابني) وهو مثال الناظم، فالعطف هنا لابد منه، لأن الفعل فيه لا يقع إلا من اثنين، فلا يقال: اصطف زيد وتسكت. فكذلك لو قلت: اصطف زيد فعمرو، أو اصطف زيد ثم عمرو، لاقتضاء هذا الكلام انفراد كل واحد منهما بالفعل، وهو فاسد. ومثله: اقتتل زيد وعمرو، واختصم زيد وعمرو، (وتفاخر خالد وبكر، وكذلك مخفوض (بين) إذا كان مفردًا، ولا يغني دون أن يعطف عليه، فلا يعطف عليه إلا بالواو، فلا تقول: جلست بين زيد فعمروٍ،

ولا بين زيدٍ ثم عمرٍو) ولا ما أشبه ذلك، كما لا تقول: جلست بين زيدٍ - مقتصرًا، لأن المتبوع (لا يغني. فلو كان المتبوع)، مغنيًا عن التابع لجاز العطف بالواو وغيرها، فتقول: المال بين الورثة، وجلست بين الناس، ونحو ذلك، فعلى هذا تقول: المال بين أهل الفروض فالعصبة، أو ثم العصبة، وقعدت بين الرجال ثم النساء، وما أشبه ذلك. ون هذا قول امرئ القيس: قفانبك من ذكرى حبيب ونزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمال على ما سيأتي القول فيه بعيد هذا بحول الله.

ومن هذا قولك: هذان زيد وعمرو، وهو لا أبوك وأخوك وابنك، فلا يصح ههنا العطف إلا بالواو، إذا لا يغني المتبوع عن التابع، فلا تقول: هذان زيد، ولا هو أبوك، مقتصرًا. فكذلك لا تقول: هذان زيد فعمرو، ولا هو أبوك ثم أخوك ثم ابنك، وذلك أن المعطوف هنا مع المعطوف عليه في قوة الاسم المثنى والمجموع، والمثنى والمجموع مرادفان لما يقتضي معناهما من الجمع المطلق، وذلك للواو لا لغيرها، وإنما كانا في قوة المثنى والمجموع لأنهما جاريان على مثنى أو مجموع، فليس المعطوف عليه بمعتبر فيه تقديم، كما أن المعطوف لا يعتبر فيه تأخير، لأن المتبوع يطلبهما طلبًا واحدًا من غير اعتبار ترتيب ولا غيره، فالعطف بغير الواو ينافي ذلك القصد، ويقتضي أن المعطوف عليه في حكم الاستقلال، لكن ترتب عليه ما أريد ترتيبه. وكذلك الحكم في سائر حروف العطف، لا تقول: هذان زيد لا عمرو وهذان زيد بل عمرو، ولا اصطف هذا/ بل ابني، أو لا ابني، أو ما أشبه لك، وذلك فيه أجلي، وهذا التعليل مشار إليه بقوله: "الذي لا يغني متبوعة". ويدخل تحته أيضًا ما كان من نحو: مررت برجلين صالح وطالح، وبرجلين مسلم وكافر، ومررت برجال كاتب وشاعر وفقيه. قالوا: وتتعين هنا دون غيرها، إذ لا يغني المتبوع عن التابع، وأنشد سيبويه:

بكيت وما بكا رجلٍ حزينٍ ... على ربعين مسلوب وبال وانشد أيضًا الحجاج: خوى على مستويات خمس ... كركرة وثفناتٍ ملس وأنشد لكثير: وكنت كذي رجلين رجل صحيحةٍ ... ورجل يرمي فيها الزمان فشلت وفي قراءة مجاهد والحسن والزهري. {قد كان لكم آية في ... فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة}، على الإتباع. وهذا كله إذا أتبعت. وأما القطع فلا يدخل تحت هذا الحكم./ وما ذكر هنا للواو هو أحد الحكمين الخاصين بها. وسيذكر الثاني بعد. وفي هذا الفصل نظر في أمور.

أحدها أنه قد قدم قول السيرافي أنه لا خلاف في (الواو) أنها لا توجب تقديم ما قدم من لفظه، وتأخير ما أمر لفظه، غير أن المؤلف في "التسهيل" "وشرحه" زعم أن جهة استعمالها أن يكون ما قبلها متحد الزمان مع ما بعدها راجحًا، ومتأخرات الزمان عما بعدها مرجوحًا، ومتقدم الزمان على ما بعدها متوسطًا بين الاستعمالين. هذا مع التجريد من القرائن، وهذا اختياره بعد القول بأنها لا تقتضي ترتيبًا، فلا تنافي بين كلامه هنا وفي "التسهيل" (وشرحه)، وهو المعتمد في معنى (الواو). فإن ثبت خلاف في ذلك فالدليل على صحة مذهب الناظم من أوجه، أجلاها الاستقراء والنقل عن الأئمة، وقد تقدم من ذلك أشياء. وأيضاً فإذا ثبت عن أئمة الأدباء اعتبار غير الزمان من التقدمات، كالتقدم بالشرف والرتبة وغيرهما، وأنه لابد منه في مراعاة البلاغة، فلو اعتبر الزمان وحده لم يتمكن اعتبار غيره معه إلا إذا كان تابعًا له، وعند ذلك لا يتعين اعتبار غير الزمان، لكن ذلك باطل بالاستقراء، فما أدى إليه كذلك. فإن قيل: اعتبار غير الزمان مجاز وعلى خلاف الأصل، والكلام إنما هو في الأصل، والحقيقة قيل: دعوى المجاز خلاف الأصل، فلا ترتكب إلا لدليل. وقد استدل على ذلك بأمور أخر، كقوله تعالى {وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة}، وفي الآية الأخرى على عكس هذا الترتيب. فلو كانت (الواو) تقتضي الترتيب لتناقضت الآيتان.

وأيضًا فقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}، وقد قال الصحابة: بأيهما نبدأ؟ وهم العارفون بلسانهم، فلو كانت الواو للترتيب عندهم لم يحتاجوا إلى سؤال، إلى غير ذلك من الأدلة. والتطويل لا فائدة فيه، والمسألة قد تتبعها الناس، ولا زائد مع الاستقراء الصحيح. والثاني: أن قوله: "في الحكم" إن كان مفسرًا بما تقدم فيبقى عليه ما لم يحكم عليه المتكلم بتقدم ولا تأخر ولا معية/ مهمل الاعتبار، فإن المتكلم قد يكون عارفًا بقيام زيد وعمرو (وغير عارف بزمان قيامها، فيخبر بذلك فيقول: قام زيد وعمرو)، فلا يكون عندهم حكم بتقدم شيء من ذلك، فلا يدخل له هذا القسم تحت نصه، ويبقى مسكلًا عليه، حيث ذكر نوعين، وهما ما حكم فيه المتكلم بالتقدم أو التأخر أو المعية لفظًا أو نية، وترك نوعًا آخر فلم يذكره، وهو متأكد الذكر. إلا أن يقال: إنه أراد حكم من حكم على الجملة، لا حكم المتكلم، فإن المعطوف بـ (الواو) شأنه أن يحكم عليه بأحد الثلاثة المذكورة، فالحكم راجع إلى هذا المعنى. والله أعلم. والثالث: أنه ذكر الموضع الذي تختص به (الواو) دون غيرها، ولم يقيد (الواو) التي شأنها ذلك، وليست كل (واو) تقع في ذلك الموضع، وإنما تقع هنالك (الواو) التي يكون ما بعدها مصاحبًا لما قبلها في الحكم، فإن قولك: جلست بين زيد وعمرو- يقتضي مصاحبتهما معًا في الجلوس بينهما، ولا يصح غير ذلك.

وكذلك اختصم زيد وعمرو، وسائر ما تقدم التمثيل به. هذا شرط لابد منه. وشرط ثان، وهو أن يكون القصد الإخبار عن فعل واحد لا عن فعلين. وبيان ذلك أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو فهذا محتمل أن تكون أخبرت عن مرور واحد أشركتهما فيه، ولا يضر في ذلك كون المرور حصل من أحدهما قبل الآخر، ومعنى هذا أنك أخبرت عنهما معًا بوقوع جنس المرور منهما، ويحتمل أن تكون أخبرت عن مرور لكل واحد منهما، كأنك قلت: مررت بزيد، ومررت أيضًا بعمرو، فهما مروران، ولا يضر في هذا الوجه كون المرورين وقعًا معًا في زمان واحد، وكلا الاحتمالين موجود في الكلام، ونص عليه سيبويه وغيره. فعلى الاحتمال الثاني لا يصح استعمال (الواو) المصاحب ما بعدها لما قبلها في تلك الأمثلة، لأنها تقتضي استئناف الإخبار عن (المرور بعمرو) والموضع لا يقتضي ذلك، بل يجب فيه اعتقاد الاحتمال الأول والجزم به، وعند ذلك يصح العطف في الأمثلة. فهذان الشرطان لم يذكر الناظم واحدًا منهما، بل أطلق القول، فأفهم أنها يعطف بها ما لا يغني متبوعة على كل أحوالها، وليس كذلك. والجواب عن هذا أن مراده الاختصاص بـ (الواو) دون غيرها على الجملة، فكأنه يقول: لا يقع غير (الواو) هنا. وبقى عليه العلم على أي معنى تقع (الواو) فلم يصرح به.

وأيضًا فإن كلامه اقتضى هذين الشرطين، لأنه قال: "واخصص بها عطف الذي لا يغنى متبوعة" وإذا كان (الواو) غير مصاحب ما بعدها لما قبلها أغنى المتبوع معها عن التابع، لجواز الإخبار عن فعل أحدهما دون الآخر. وكذلك إذا قصد الإخبار عن فعلين، لأن الكلام إذ ذاك في تقدير كلامين، فإذا اجتمع الشرطان فعند ذلك لا يغني المتبوع عن التابع. فإن قيل: فقد تقول: قام زيد وعمرو، مع اجتماع الشرطين، ويكون لك أن تقتصر على المتبوع فتقول: قام زيد- قيل: لا أسلم جواز/ الاقتصار، بل يكون حكمه حكم. قوله: {وجمع الشمس والقمر} وما أشبه. فتأمله، والله أعلم. وإن سلم الاحتمال في: قام زيد وعمرو- فلا يحتمل ذلك في مسألتنا. ثم قال: والفاء للترتيب باتصال ... وثم للترتيب بانفصال وأخصص بفاء عطف ما ليس صلة ... على الذي استقر أنه الصلة يعني أن (الفاء) العاطفة معناها ترتيب ما بعدها على ما قبلها في الزمان كترتيب اللفظ، لكن بشرط الاتصال، ومعناه اتصال فعل المعطوف بفعل المعطوف عليه.

فإذا قلت: (قام زيد فعمرو) فالقائم أولًا زيدً، وبعده عم لكن امهلة بينهما، ولا فصل بين زمانيهما إلا بمقدارٍ ما، لا يمكن الشروع في الثاني بعد الفراغ من الأول إلا به عادة، فلا يلزم أن يقال: إن الثاني متصل بالأول من غير فصل البتة، ولا تراخ قليلٍ ولا كثير، بل ما ذكر، وهو الذي ينبغي تفسير الاتصال به في كلام الناظم، وهو التحقيق عند شيخنا الأستاذ، رحمه الله. قال: وقد أشار الفارسي في "الإيضاح" إلى هذا المعنى. فقول الناظم" "باتصال" معناه الاتصال العرفي الذي لا يعد به الثاني منقطعا من الأول. وهذا يقتضي أنها لا تكون لغير ترتيب، وهو الذي عليه الجمهور. وذهب بعض النحاة، فيما نقل، أن (الفاء) قد تكون للاجتماع كـ (الواو) فليس الترتيب يلازم لها عندهم. والاستقراء يشهد بخلاف ما قالوا. وقد احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء توهم دعواهم، منها قوله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطي فعقر {أي تعاطي الذنب فعقر، وتعاطي الذنب هو العقر نفسه. وقوله: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا {الآية، لأن الإهلاك بعد مجيء البأس أو معه، لا أن مجيء البأس مرتب على الإهلاك. وقوله تعالى: {ثم دنا فتدلى {- المراد- والله أعلم- تدلى، يعني جبريل، فدنا.

وقال امرؤ القيس: * بين الدخول فحومل * فأتى بـ (الفاء) وهو موضع (الواو) كما تقدم. فدل على أنها في البيت مرادفة لها. وليس فيما جلبوا دليل. أما قوله: {فتعاطي فعقر} فمعناه أن قوم قدار بن سالف نادوه، وأشاروا عليه بعقر الناقة، فتعاطي، أي تناول أمرهم وقبله، فعقر بعد تعاطي ما رغبوا فيه. وقيل: معنى (تعاطي) قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يده فضربها، فـ (الفاء) على معناها من الترتيب. وأما قوله: {أهلكناها فجاءها بأسنا} فهو على المعنى: أردنا إهلاكنا، فمجيء البأس عقيب الإرادة، والهلاك في الواقع بعد مجيء البأس، فهذا من إطلاق المسبب، وهو كثير في القرآن وكلام العرب. ومنه قوله: {فإذا قرأت القرآن فأستعذ بالله} وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية.

وأما قوله: {ثم دنا فتدلى} فقيل: معناه: ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فتدلى، أي بقي متدليًا بعد الدنو، ولم يصل إليه، والتدلي: التعلق في الهواء، وليس الهبوط. ومنه: دلى رجليه من السرير. وأما بيت أمريء ألقيس: * بين الدخول فحومل * فإن الرواية المشهورة فيه (الواو) وهي القياس، فإذا ثبتت رواية (الفاء) فنجيزها حيث ثبتت، لا تتعدى ذلك، ولا نقيس على المسموع فيه حكم كل شاذ، قال خطاب ألماردي: وقد يجوز عندي على أن (الدخول) مكان يجوز أن يشتمل على أمكنة كثيرة، فتم الكلام، كما تقول: قعدت بين الكوفة، تريد: بين دورها وأماكنها أو طرقها، أو ما أشبه ذلك مما يشتمل عليه، فإذا جاز هذا في (الكوفة) لم يمتنع في مثل (الدخول) على مثل هذا، فجئت بـ (الفاء) على تقدير: فبين حومل، وجعلت (حوملًا) مكانا متضمنًا لأمكنة أيضا، فصار هذا كقولك: اختصم إخوتك فأعمامك، إذا كان كل فريق منهم خصمًا لصاحبه.

قال: وهذا عندي أصح من أن أجعله شاذًا إذا ثبتت الرواية، وقد قال ابن حلزة: أوقدتها بين العقيق فشخصين ... بعودٍ كما يلوح الضياء وقال جرير: بين المحيض فالعزاف منزلة ... كالوحي من عهد موسى في القراطيس كذا وجدته بحظ أبي عبيد البكري. وجميع ذلك يجري على هذا المهيع، وهو مع ذلك قليل. وقال الآخر:

ربما ضربةٍ بسيف صقيلٍ ... بين بصري وطعنةٍ نجلاء ثم قوله: "والفاء للترتيب" يحتمل أن يريد الترتيب ألزماني وغيره، فإن العرب قد ترتب بالفاء في غير الزمان كثيرًا، كقواهم: نزل المطر بمكان كذا فمكان كذا. وقال امرؤ ألقيس: بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها وقال قيس بن ذريح أو غيره: عفا سرف من أهله فسراوع ... فجنبا أريك فالتلاع الدوافع فمكة فالأخساف أخساف ظبيةٍ ... بها من لبيني مخرف ومطبع

وقال النابغة الذبياني: عفاذ ذو وحسي من فرتني فالفوارغ ... فجنبا أريكٍ فالتلاع الدوافع فمجمع الأشراجٍ غير رسمها ... مصايف مرت بعدنا ومرابع وأكثر ما يكون هذا في الأماكن، والترتيب فيه ترتيب لفظي، فيدخل هذا كله تحت قوله: "والفاء للترتيب". ويحتمل، وهو الأظهر، أن يكون مقصوده ترتيب الزمان، وهو الذي يشعر به قوله: "باتصال" لأن تقييد الترتيب بالاتصال يشعر بأنه زماني، وكأنه إنما لم ينبه على هذا الترتيب الآخر لقلته، ولأنه كالمفرغ عن ألزماني. وأما (ثم) فذكر أنها لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لكن منفصلًا عنه انفصالًا معتدًا به. فإذا قلت: قام زيد بن عمرو- فالقائد أولًا (زيد) ثم تأخر عنه (عمرو) تأخرًا ينفسح عن ترتيب الفاء.

وقد اجتمع ترتيب (الفاء، وثم) في قوله في الحديث: "إن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلي الله عليه وسلم" إلى آخر الحديث. والتزام الترتيب فيها، كما أشار إليه الناظم، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم إلى أنها ترادف (الواو) في بعض تصريفها، فلا تعطي ترتيبًا، واستدلوا على ذلك بأشياء: منها قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة} ثم قال: {ثم كان من الذين آمنوا} فلو كانت للترتيب والمهملة لكان طلب الإيمان مرتبًا على طلب فروعه، وذلك فاسد. فالمعنى فلم يقتحم: ولا كان من الذين آمنوا، فالموضع موضع اجتماع. وقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم} والخلق والتصوير في زمان واحد، لأنهما راجعان إلى معنى واحد. وقال سبحانه: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} والهداية لا تتأخر عن التوبة والإيمان والعمل الصالح. وقال الشاعر:

إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد بعد ذلك جده فهذا موضع (الواو) لأن الموضع لمدح الابن، والابن متأخر عن الأب، فسؤدد الابن بعد سؤدد الأب في المعتاد، فقد أتى ما بعد (ثم) سابقًا بالزمان، و (ثم) لا تعطف المتقدم على المتأخر إلا إذا عدت كالواو. والجواب أن ما ذكر لا دليل فيه. أما الآية الأولى فـ (ثم) فيها على بابها، بمعنى أن الله عز وجل خلق الإنسان، وهداه طريق الخير والشر، فلم يعط مما رزق يتيمًا ولا مسكينًا، ثم بعد هذا المنع لم يؤمن، ولم ينتظر في سلك المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة. وقيل: إن (ثم) فيه لترتيب الأخبار كالفاء، إلا أنه قصد هنا التنبيه على تراخي الإيمان وتباعده في الرتبة عن العتق والصدقة، لا ترتيب الزمان. وأما قوله: {ثم اهتدى} فمعناه: تمادي على ذلك، ودام وثبت، كقوله: {أهدنا الصراط المستقيم} إنما طلبوا التثبيت على الهدى، لأنهم في الحين مهتدون. وأما البيت فـ (ثم) فيه لترتيب الأخبار، أو تكون على بابها والسيادة حصلت لأبيه ثم لجده مرتبة على سيادته، كأنه ساد أولًا، ثم ساد أبوه بسيادته،

ثم جده، على مثال قول الآخر. * كما علت برسول الله عدنان * والدليل على لزمم الترتيب لها استقراء المتقدمين المتحققين بكلام العرب. وأيضًا فلو صح جريانها مجرى (الواو) لجاز وقوعها حيث لا يصلح إلا معنى (الواو) فكنت تقول: اختصم زيد ثم عمرو، كما تقول: اختصم زيد وعمرو، لكن ذلك غير مقول باتفاق، فدل على أن ما ادعوه من معنى (الواو) غير صالح في (ثم) أصلا. وقال ألماردي: الدليل على أن (ثم) لا تكون بمعنى (الواو) إجماع الفقهاء على أنه لا يجوز أن يقال: هذا بيمن الله ويمنك، بالواو، ولكن أجازوا أن يقال: هذا بيمن الله ثم يمنك قال: ولو كانت بمعنى/ (الواو) ما قروا إليها. قال: وفي الحديث أن بعض اليهود قال لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تزعمون أنكم لا تشركون بالله وأنتم تقولون: ما شاء الله وشئت! فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تقولوها، وقالوا: ما شاء الله ثم شئت" حدث به قاسم بن اصبغ. فإن قيل: فهل يجوز: ما شاء الله فشئت، بالفاء؟ قيل: لا، لأن فيه خلافًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الفاء تدل على أن

ما بعدها يتلو ما قبلها بتراخٍ يسير، ومشيئة العباد لا تقارب مشيئة الله تعالى. فهذان دليلان يشترك فيهما الفاء وثم والله أعلم. ثم قال: "وأخصص بفاءٍ عطف كذا" يعني أن (الفاء) أيضا تختص دون أخواتها بحكم، وهو أن تعطف من الجمل ما ليس بصلة، ولا يصلح أن يقع في موضع الصلة، على ما ثبت أنه صلة، أي للموصول. ومعنى ذلك أنك تقول: أعجبني الذي رأيته فأكرمت زيدًا، فقولك: "رأيته" صلة "الذي" و "أكرمت" زيدًا" جملة معطوفة عن جملة الصلة، وليست بصلة. يريد أنها لا تصلح أن تكون صلة للموصول المتقدم، لأنك لو قلت: أعجبني الذي أكرمت عمرًا- لم يجز، لبقاء الموصول دون ضمير عائد عليه من صلته، وذلك أن الجملة المعطوفة على جملة الصلة لا بد فيها من ضمير به تصلح أن تكون صلة للموصول المتقدم. فمن شرط المعطوف صلاحيته لوقوعه موقع المعطوف عليه إذا كان العطف بغير الفاء، فلا تقول: أعجبني الذي أكرمته وخرج عمرو، ولا ثم خرج عمرو، ولا ثم خرج عمرو، ولا ما أشبه ذلك. وأما (الفاء) فجاز ذلك معها لما فيها من الربط المعنوي ألسببي، فصارت الجملتان بذلك كالجملة الوحدة، فصاغ العطف وإن لم يصح في الثانية وقوعها صلة، فتقول على هذا: (الذي يطير فيغضب زيد الذباب) و (الذي أكرمته فجاءني عمرو أخوك) ونحو ذلك. ويشبه هاتين الجملتين جملتا الشرط والجزاء إذا وقعتا صلة للموصول، فإنه يكتفي بضمير واحد في إحدى الجملتين لحصول التسبب الذي يصيرهما كالجملة الواحدة، فتقول: أعجبني الذي إن أكرمته فرح الناس ولا فرق في

المسألتين بين كون الضمير في الجملة الأولى والثانية. وفي هذا ما يدل على أن غير الفاء لا يقع في هذا الموضع موقعها. وقد زعم ابن عصفور أن (الواو) الجامعة مثل الفاء في هذا، فإن الواو قد تكون عاطفة غير جامعة، فلا يصير ما بعدها مع ما قبلها كشيء واحد، كقولك: هذان قائمان وضاحكان، فـ (قائمان) خبر هذين، و (ضاحكان) خبر ثان معطوف عليه. وقد تكون جامعة تصير ما بعدها مع ما قبلها كشيء واحد، كقولك: هذان زيد وعمرو، ألا ترى أن (زيدًا) على انفراده ليس بخبر لهذين، وكذلك (عمرو) على انفراده ليس بخبر لهذين، وإنما الخبر (زيد وعمرو) معًا، فالواو صيرتهما بمنزلة خبر واحد. وإذا ثبت هذا فإن قدرت (الواو) في قولك: (الذي يطير ويغضب زيد الذباب) جامعة، كأنك قلت: الذي يجتمع طيرانه وغضب زيدٍ الذباب. - صارت الجملتان بمنزلة الجملة الواحدة، فيكون الحكم مثله مع (الفاء). وإن قدرتها عاطفة غير جامعة كانت كل واحدة من الجملتين منفصلة من الأخرى فلم يجز. وهذا التفصيل لم يقل به غيره، لأن (الواو) وإن قصد به الجمع، لا بد أن يصلح ما بعدها لوقوعه موقع ما قبلها، وهذا لا يصح هنا للزوم خلو الصلة من ضمير ما تقدم، بخلاف (الفاء) فإن ربط التسبيب فيها لا يصح معه تقدير وقوع ما بعدها موقع وما قبلها، لأن الثانية مسببة عن الأولى، فلا يمكن أن تقدر هنالك غير مسببة. وجمع (الواو) لا يقتضى ترتيبًا تسبيبًا، فلذلك يقدر ما بعدها في موضع ما قبلها.

وكذلك (ثم) وغيرها من حروف العطف حكم ما بعدها مع ما قبلها حكم (الواو) وما ذكره ابن عصفور من تقدير الجملتين مع (الواو) الجامعة جملة واحدة تقدير معنوي، لا تقاس عليه أحكام اللفظ، وقد نزل الجملتين، ولا موضع لهما من الإعراب، منزلة ما له موضع من الإعراب لفعل غير موجود. وهذا كله ضعيف، فالصحيح ما ذهب إليه غيره من اختصاص الموضع بالفاء، إلا أن في هذا الموضع نظرًا من وجهين: أحدهما أنه خص هذا الحكم بالصلة وحدها، ولم يشرك معها غيرها. والصلة والصفة والخبر والحال في هذا الحكم سواء، فكما يجوز أن يقال: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، كذلك يجوز: مررت برجلٍ يبكي فيضحك عمرو، وزيد يقوم فيقعد عمرو، ومررت بزيدٍ يضحك فيبكي بشر. لا مانع من هذا كله. وكلامه هذا يقتضي اختصاص ذلك بالصلة، وليس كذلك. وقد نبه على هذا الموضع في "التسهيل" فقال في (الفاء): وتنفرد أيضًا بكذا، وبتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين، من صلةٍ أو صفة أو خبرٍ. وقال في "الشرح": أو حالٍ. ويمكن أن يعتذر عنه بأنه ذكر الصلة التي هي أشد افتقارا إلى الضمير العائد من غيرها، وترك ذكر ما سواها، ليلحقه الناظر به، فلا يعد تركه إغفالًا. والثاني: أنه أتى بالمسألة قاصرة، فإنه ذكر في هذا الاختصاص عطف ما ليس بصلة على الصلة، وترك العكس، وهو عطف ما هو صلة وحده على

ما ليس وحده بصلة، كقولك: التي يقوم زيد فأكرمها هند، والذي يطير الذباب فيغضب زيد، فإن هذا جائز كالمسألة الأولى، والحكم فيهما سواء، فإن ربط الجملتين بالفاء يصيرهما كجملة الشرط والجزاء، ولا فرق في جملتي الشرط والجزاء بين أن يكون الضمير في الأولى، وأن يكون في الثانية، فتقول: زيد إن يقم يقم عمرو، [وزيد إن يقم عمرو] أكرمه، فكذلك هنا. ولم ينبه على ذلك الناظم، فكأنه ذكر نصف المسألة، وترك النصف الآخر. والعذر أنه قصد هنا أن يبين وجه الاختصاص على الجملة وترك ما عداه لأنه راجع إلى باب "الابتداء" لا إلى هذا الباب، وينهض هذا عذرًا عن السؤال الأول. وأيضًا كما أنه يمكن أن يكون هنا نبه على إحدى المسألتين، وترك الأخرى لفهمها مما ذكر. والله أعلم. ووجه ثالث، وهو أن تخصيص هذا الحكم بـ (الفاء) ليس على إطلاقه كما هو الظاهر من كلامه، بل هو مشروط بأن تكون (الفاء) تؤدي معنى السببية، فقد قالوا في قولهم: (يطير الذباب فيغضب زيد): لا يخلو أن تجعل (الفاء) رابطة لإحدى الجملتين بالأخرى ارتباط السبب بالمسبب أولًا، فإن لم تجعلها رابطة، بل قصدت أن تخبر عن الذباب بأنه يطير، وعن زيد بأنه يغضب، لا من أجل طيران الذباب، كان حكم كل واحدة من الجملتين حكمها لو انفردت.

وأما إن قصدت التسبيب، وأن غضب زيدٍ يقع لطيران الذباب، فحينئذٍ تصير الجملتان كالجملة الواحدة، فإذا كان كذلك كقولك: الذي يطير فيغضب زيد الذباب- جائز على وجه، وممتنع على وجه آخر، فيجوز إذا قصدت بـ (الفاء) معنى التسبيب، ويمتنع إذا قصدت بها مجرد العطف من غير تسبيب، كما يمتنع مع (ثم) وغيرها. والناظم لم يفصل هذا التفصيل، بل قرينة ذكر الحروف العاطفة توهم أن هذا جائز مع قصد العطف من غير تسبيب، وذلك غير صحيح. والجواب أنه إنما قصد تخصيص الفاء بذلك الحكم دون غيرها، ولا شك في صحة ذلك، وأهمل ما سوى ذلك لقصده إجمال الحكم. وهذا ضعيف، والله أعلم. ووقع في هذين الشطرين لفظ واحد في القافيتين، لكن أحدهما منكر، والآخر معرف، وليس بإبطاء. وقد تقدم مثله. بعضًا بحتي أعطف على كل ولا ... يكون إلا غاية الذي تلا لـ (حتى) في الكلام متصرفات، فقد تكون جارة، وقد تقدم ذكرها في (باب الجر). وقد تكون حرف ابتداء، وسيأتي ذكرها في إعراب الفعل إن شاء الله تعالى.

وقد تكون عاطفة، وهي التي ذكر هنا، وهي أقل الأقسام في الكلام استعمالا. ومعناها الغاية هنا، واشعر بذلك منصرفها في العطف، ولذلك قال: إنها لا تكون إلا غاية الذي تلا. وكذلك هي في باب الجر. وقد عرف بذلك ثمة. ويريد هنا أنه لا يعطف بـ (حتى) إلا إذا اجتمع شرطان: أحدهما أن يكون ما بعدها بعضًا، وما قبلها كلا لذلك البعض، وهو قوله: "بعضًا بحتي اعطف على كل" فلو كان ما بعدها غير بعضٍ لما قبلها لم يجز العطف بها بمقتضى مفهوم كلامه، فلا تقول: عجبت من الجارية حتى من ابنها، كما تقول: أعجبتني الجارية حتى كلامها، وحتى شعرها. والثاني أن ذلك البعض لا يكون إلا غاية لما قبله، وذلك قوله: "ولا يكون إلا غاية الذي تلا" فضمير "يكون" عائد على "البعض" و "الذي" واقعة على "الكل" وعائده محذوف، وفاعل "تلا" هو "البعض" وتقديره: ولا يكون ما بعد (حتى) وهو البعض، إلا غاية الكل الذي تلاه بعضه. ومعنى كونه غايةً أي في زيادة أو نقصان، أو كثرة أو قلة، أو قوة أو ضعف، أو صفر أو كبر، أو نحو ذلك. فلو لم يكن ما بعد (حتى) غاية لم يعطف بها. فلو قلت: خرج الفرسان حتى بنو فلان، وهم من وسط (الفرسان) لم يجز، لأن الغاية لا تصح إلا في الأطراف العالية أو السافلة. وضابط ذلك أنه يزيد بذكره تعجبًا ومبالغةً في المعنى، بحيث لو لم يذكر لم يحصل الشعور به.

فإذا اجتمع الشرطان اقتضى العطف بـ (حتى) فقلت: فاق على الأبطال حتى عنترة، وعجز في العلم الأذكياء حتى الحكماء، وقصر عن وجوده الأجواد حتى حاتم. ومن كلامهم "استنت الفصال حتى ألقرعي" و "كل شيء يحب ولده حتى الحباري" وفي الحديث "كل شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ حتى العجز الكيس" ومن ذلك كثير، وأنشد المؤلف: قهرناكم حتى الكماه فأنتم ... تهابوننا حتى بنينا الأصاغرا والبعض الذي ذكر تارة يكون حقيقة كما مثل، وتارة يكون مجازًا، كقولك: أعجبتني الجارية حتى حديثهما. ومن ذلك قول الشاعر، وينسب للمتلمس، قال ابن سيده: ولم يقع في ديوان شعره، وإنما هو لابن مروان

النحوي قاله في قصة المتلمس: ألقي الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها على رواية نصب "النعل" كأنه جعل "النعل" بعضا لما قبل "حتى" مجازا، فصار في التقدير: ألقي ما يشغله حتى نعله. ويجوز في البيت غير هذا. وهنا مسألتان، أحدهما أنه لم يذكر لـ (حتى) ما ذكر لما قبلها من الترتيب، فدل ذلك على أنها لا تقتضيه، فإذا قلت: قدم الحاج حتى المشاة، وزارني الناس حتى الأمير- لم يكن في ذلك دليل على تأخير قدوم المشاة عن جملة الحاج، ولا تأخير زيارة الأمير عن زيارة غيره من الناس. وزعم بعض الناس أنها تقتضي الترتيب، فما بعدها مرتب على ما قبلها، فالأمير إنما زار بعد ما زار الناس، والمشاة إنما قدموا بعد قدوم الحاج، وكذلك سائر الأمثلة. وهذه دعوى لا دليل عليها، وفي الحديث ما يدل على خلافها، وهو قوله عليه السلام: "كل شيء بقضاءٍ وقدرٍ حتى العجز والكيس" وليس في القضاء ولا في القدر ترتيب، وإنما الترتيب في ظهور المقضيات والمقدورات.

وكذلك من قال: "كل شيء يحب ولده حتى الحباري" فليست الحباري ممن يتأخر حبها ولدها عن غيرها. وإذا كان هذا مشهورًا لم يصح الحكم عليها باقتضاء ترتيب. والثانية: أن الناظم نقصه هنا في اقتضاء (حتى) الغاية شرط، وهو حصول الإفادة. وقد اعتبره في "التسهيل"، وقال في "الشرح": وقيدت الغاية بأن يكون ذكرها مفيدًا تنبيها على أنك لو قلت: أتيتك الأيام حتى يومًا- لم يجز، لأنه لا فائدة فيه. قال: فلو وقت ما بعد (حتى) حسن، وكانت فيه فائدة نحو: صمت الأيام حتى يوم الجمعة. وإذا ثبت هذا دخل له في كلامه هنا ما أفاد وما لم يفد، وكان غير مستقيم. والجواب أن شرط الإفادة معلوم من أول الكتاب، فهو محال به على موضعه. وذكره بعد ذلك تكرارًا لا لقصدٍ آخر حسبما تقدم ذكره في موضع أخر. وأيضًا فإذا فسرنا الغاية بما تقدم أغنى ذلك عن اشتراط الإفادة. والله أعلم. وأم بها أعطف إثر همز التسوية ... أو همزة عن لفظ أي مغنيه "أم" على وجهين، متصلة ومنقطعة. والمتصلة هي العاطفة، وهي التي بدأ بالكلام عليها، وإنما سميت متصلة لأن ما بعدها مع ما قبلها

لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا تحصل الفائدة بأحدهما عن الآخر، بل هما كلام واحد. والمنقطعة بخلاف ذل، ما بعدها كلام منقطع مما قبلها. ولذلك سميت "منقطعة". وأخير الناظم أن المتصلة، وهي العاطفة ها موضعان: أحدهما أن تقع بعد همزة التسوية وهمزة التسوية هي همزة الاستفهام الواقعة بعد (سواء) ونحو ذلك، مما تكون الهمزة معه على الأخبار لا على السؤال كقولك: ما أبالي أزيدًا لقيت أم حمارًا. وسواء على أقمت أم قعدت. وفي القرآن الكريم {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} وقوله {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} و {سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} وأنشد سيبويه لحسان بن ثابت رضي الله عنه: ما أبالي أنب بالحزان تيس ... أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم وإنما سميت هذه "همزة التسوية" لأنك سويت الأمرين عليك، كما استويا عليك علمًا حين قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ فجرى على الاستفهام، وإن لم يكن استفهامًا حقيقة، كما جرى "الاختصاص" على حرف النداء، وإن لم يكن

نداءً حقيقة في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، لاجتماعهما في معنى الاختصاص والقصد، فالهمزة في التسوية على الإجبار لا على السؤال. وكذلك إذا قلت: علمت أزيد في الدار أم عمرو- من هذا القبيل أيضا، لأنه ليس باستفهام حقيقة. والموضع الثاني: أن تقع بعد همزة تغني عن لفظ "أي" أي تغني المتكلم عن إتيانه بلفظ "أي" الاستفهامية التي هي سؤال عن التعيين، يعني أنها مرادفتها. فإذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ فالهمزة هنا مع (أم) مرادفة لـ (أي) كأنك قلت: أيهما في الدار؟ تسأل عن تعيين المستقر في الدار، لا عن وقوع الاستقرار. فإذا اجتمعت الهمزة مع (أم) على هذا الوضع فـ (أم) متصلة عاطفة، وذلك نحو قوله تعالى: {قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون} وقوله: {أذلك خير نزلًا أم شجرة الزقوم} وقوله: {أأنتم أشد خلقًا أم السماء} وهو كثير. وما قاله الناظم هنا من كون الهمزة مع (أم) صالحةً لوقوع (أي) موقعها كافٍ في التعريف بـ (أم) المتصلة لأنه شرط واحد جامع لسائر الشروط التي ذكر غيره، لكنه تعريف مجمل، فلا بد من إيضاح الشروط التي تضمنها هذا الشرط. وإذ ذاك يتبين مراده حق التبيين بحول الله.

والذي تضمن هذا الشرط ستة شروط: أحدها أن تقع (أم) بعد استفهام كما تقدم، فلو كان ما قبلها خبرًا لم تكن عاطفة، كقولك: إن زيدًا قائم أم قاعد، لأن (أيا) لا تصلح ههنا. ومنه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وفي القرآن المجيد- {آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه} ومنه في أحد الاحتمالين ما أنشده سيبويه من قول الأخطل: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالًا وأنشد أيضًا لكثير: أليس أبي بالنضر أم ليس والدي ... لكل نجيب من خزاعة أزهرا والثاني: أن يكون الاستفهام بالهمزة لا بغيرها من أدواته، وهو نص قوله: "أو همزة صفتها كذا" فلو كان الاستفهام بغير الهمزة لم تكن عاطفة نحو قولك: هل زيد في الدار أم عمرو؟ لأن (هل) لا تقع موقع (أي) لأن (أيًا) سؤال

عن التعيين، و (هل) سؤال عن الوقوع، فلم يصح أن تقع موقعها، فـ (أم) في المثال منقطعة. ومن ذلك قول مالك بن الريب، أنشده سيبويه: ألا ليت شعري هل تغيرت الرحى ... رحى الحزن أم أضحت بفلجٍ كما هيا على رواية "أم" وأنشد أيضًا لعلقمة بن عبدة: هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذنأتك اليوم مصروم والثالث: ألا تقع بعد (أم) أداة استفهام، , فإنه يجوز أن تقع أدوات الاستفهام بعدها ما عدا الهمزة، فتقول: أعندك زيد أم هل عندك عمرو، وتقول: أيكرمني زيد أم من يكرمني؟ وتقول: أنتظرك أم كيف أصنع؟ فـ (أم) في هذه المواضع منقطعة. ومعنى (أي) فيها مفقود.

ومثله ما أنشده سيبويه لزفر بن الحارث، أو للجحاف بن حكيم السلمي: أبا مالك هل لمتني مذ حضضتني ... على القتل أم هل لامنى منك لائم واجتمع في هذا البيت فقد هذا الشرط والذي قبله. وكذلك بيتًا علقمة أنشدهما سيبويه أيضًا: هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم وقال أفنون التغلبي، أنشده ابن جني:

أني جزوا عامرًا سوأى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن وقال جرير: أين الذين بنار عمروٍ حرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع والرابع ألا يتكرر الخبر بعد (أم) كقولك: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ فإن الهمزة هنا لا تغني عن لفظ (أي) لأنك لو قلت: أيها عندك؟ لم يصح إلا على التوكيد، ولم يكن ذلك في أصل الكلام، فلابد أن يكون ما بعد (أم) منقطعًا عما قبلها. وكذلك إذا قلت: أقام زيد أم قام عمرو؟ وغن شئت قلت في هذا الشرط: ألا يكون ما بعد (أم) جملة ليست في معنى المفرد كما تمثيله- فهو صحيح. وكذلك إذا قلت: أقام زيد أم عمرو منطلق، لأن (أيا) لا تصلح هنا. ومنه في القرآن الكريم {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم/ ورسوله} وقوله حكاية عن فرعون: {أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين}.

فأما إن وقع بعدها جملة في معنى المفرد فلا يلزم أن تكون منقطعة، كقولك: أقام زيد ام قعد؟ فالمعنى: أي الفعلين أوقع؟ وكذلك قول الأسود بن يعفر: لعمرك مأدرى وإن كنت داريًا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر لأن "ابن سهم" و"ابن منقر" وإن كانا خبرين لـ (شعيث) - لا صفتان على ما قرره المؤلف- فالمعنى معنى المفرد، أي: أشعيث بن سهم أم ابن منقر؟ . وكذلك ما أنشده المؤلف: ولست أبالي بعد فقدي مالكًا ... أموتي ناءٍ أم هو الآن واقع المعنى: أمونى بعيد أم قريب؟ والخامس: ألا يكون ما بعد (أم) ردًا ونفيًا لما قبلها، كقولك: أقام زيد أم لم يقم؟ وأعندك زيد أم لا؟ فإن (أم) ههنا غير عاطفة، قال سيبويه: كأنه حين قال: أعندك زيد كان يظن أنه عنده، ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال: أم لا. ويحتمل أن يكون منه قول الأخطل:

* كذبتك عينك أم رأيت بواسط* على تقدير حذف الهمزة، لأن المعنى: أكذبتك عينك أم لا؟ وهذا إنما يكون كذلك مع غير همزة التسوية. فأما مع همزة التسوية فالمعنى معنى (أي). والسادس: أن يكون الكلام مع الهمزة و (أم) يؤدي معنى (أي) وهو المنصوص له الذي ضبط به هذه الشروط كلها، وذلك أنك إذا قلت: (أزيد عندك أم عمرو) فالشروط لخمسة موجودة ظاهرًا، ولكن الاحتمال في أن تكون متصلة أم منقطعة قائم، إذ يمكن أن يكون الكلام في تقدير: أيهما عندك؟ أو على تقدير: بل أعندك عمرو، فلابد من هذا الشرط. وبه حصل الناظم ذلك كله، وهو حسن. فإن قيل: إن هذا التقدير مشكل من وجهين، أحدهما أن العطف بـ (أم) بعد همزة التسوية غير محتاج إلى التنصيص عليه، لأن ما بعده يحصله، ألا ترى أن همز التسوية مغن عن لفظ (أي) إذ كان قولك: (سواء على أقمت أم قعدت) يؤدي معنى: سواء على أيهما كان، وكذلك (ما أبالي أزيدًا لقيت أم عمرًا) تقديره: ما أبالي أي هذين لقيت، وبذلك قدرها سيبويه. وإذا كان كذلك، وكان شأن الناظم الشح بالألفاظ جدًا حيث لا تعد حشوًا، فما ظنك بها إذا كانت تكرارًا من غير مزيد فائدة؟ ! والثاني: على تسليم أم تقدم فقوله: "أو همزة عن لفظ أي مغنيه" يقتضي بظاهره أن الهمزة وحدها هي المغنية عن لفظ (أي) وأن (أم) ليس لها في ذلك المعنى دخول. وهذا غير صحيح، بل المعطي لمعنى (أي) هو مجموعهما- ألا ترى أنك إنما تضيف (أيا) حين تقدر الكلام بها إلى ما دخلت عليه الهمزة و (أم)

معًا، ولا يصح غير ذلك، إذ ليس قولك/: (لا أدري أيهما قام) تقديرًا لقولك: (أقام زيد) وحده، دون قولك: (أم عمرو) وإذا ثبت هذا كان تخصيص الناظم هذا الحكم بالهمزة مشكلًا. فالجواب عن الأول أن يقال: لعله قصد التفرقة بين همزة الاستفهام إذا خلع عنها الدلالة عليه، وبينها إذا بقيت على أصلها، فإنها في التسوية قد خلع عنها معناها ولم يبق فيها من حكم الاستفهام إلا الحكم اللفظي وذلك قد يخرج (أم عن الاتصال إلى الانقطاع. ألا ترى كيف وجهوا الانقطاع في قوله: أليس أبي بالنضر أم ليس والدي ... لكل نجيب من خزاعة أزهرا بتكرار (ليس) وبالإثبات، فالاستفهام في الهمزة مستهلك، وذلك من أسباب الانقطاع، فربما يفهم ذلك في همزة التسوية، فيقضي بانقطاعها، بخلافها في غير ذلك الموضع، فإنه قال فيه: "أو همزة عن اللفظ أو مغنيه" وذلك مشعر بحصول معنى الاستفهام فيها، وبقائها على أصلها، فكأنه أراد بيان التفرقة بين الموضعين، والله أعلم. وأما الثاني فلعله اجتزأ في الإغناء بالهمزة اتساعًا وإتكالًا على فهم المعنى، والله أعلم. وربما حذفت الهمزة إن ... كان خفا المعنى بحذفها أمن

يريد أن (الهمزة) المذكورة قد تحذف من اللفظ، وهي مرادة في المعنى، وذلك قليل في الكلام، ولكن لا يجوز ذلك إلا إذا أمن اللبس بالخبر عندما تحذف. فإذا قلت: (ما أدري قام زيد أم قعد) فهو على تقدير الهمزة لدلالة الكلام عليها. وفي قراءة ابن محيصن {سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم} بهمزة واحدة، فالمراد "أأنذرتهم" فحذف الهمزة. ومن ذلك ما أنشد سيبويه للأسود بن يعفر: لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر وأنشد أبو الحسن في الكتاب لعمر بن أبي ربيعة: لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان

وأنشد المبرد وغيره لعمران بن حطان: فأصبحت فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا من ربيعة أم مضر أم الحي قحطان فتلكم سفاهة ... كما قال لي روح وصاحبه زفر والعرب قد تحذف الهمزة إذا دل عليها الدليل مطلقًا، فقد قيل في قوله: {وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل} إنه على تقدير: أو تلك نعمة. وأنشد ابن جني للكميت: طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب ... ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب قيل: أراد: أوذوا الشيب يلعب؟ ولكن هذا كله قليل كما قال، ووجه قلته أن حذف الحرف إجحاف، لأنه من اختصار المختصر. قال ابن جني: أخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس، وذلك أن الحرف نائب عن الفعل بفاعله. ألا ترى أنك إذا قلت: (ما قام زيد) فقد نابت (ما) عن (أنفى) كما نابت (إلا) عن (أستثني)

وكما نابت الهمزة عن (أستفهم) وكما نابت حروف/ العطف عن (أعطف) ونحو ذلك. فلو ذهبت تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه. والألف واللام في "الهمزة" للعهد في الهمزة المذكورة مع (أم) المتصلة، وهي همزة التسوية، والهمزة الأخرى، وأعاد ذكرها مفردة مع ذكره همزتين، إما لأنهما في الأصل واحدة، وإما لعطفه إحداهما على الأخرى بـ (أو) ولم يعرج على الهمزة في "المنقطعة" لعدم احتياجه إلى ذلك فيها، وإن كان حذف الهمزة معها جائزًا، فقد أجاز سيبويه في قوله: * كذبتك عينك أم رأيت بواسط* أن يكون على تقدير: أكذبتك، وإن كانت (أم) عنده منقطعة في البيت ثم ذكر المنقطعة فقال: وبانقطاع وبمعنى بل وفت ... إن تك مما قيدت به خلت

يعني أن (أم) إن خلت من ذلك القيد المتقدم، فلم تقع بعد همزة التسوية، ولا بعد همزة تغني عن ذكر (أي) فهي "المنقطعة" أو التي بمعنى (بل). واقتضى هذا الكلام أنها إذا خلت من التقييد المذكور تفي بأمرين اثنين، أحدهما الانقطاع، والآخر الإضراب المجرد، وهو معنى (بل) فالتي تقتضي الانقطاع هي المؤدية معنى (بل) والهمزة معًا، فإذا قلت: (إنها لإبل أم شاء) فالتقدير: بل أهي شاء؟ كأنه رأى أشباحًا على بعد فتوهم أنها إبل، فقال: إنها إبل، ثم أدركه الشك فاستدرك الاستثبات فقال: أم شاء، فأضرب عن ذكر الكلام الأول، ثم أخذ يسأل: أهي شاء؟ وهكذا سائر ما تقدم من الأمثلة في تفصيل شروط الاتصال، فلا معنى لتكرارها. وقد تبين معنى الانقطاع، إذ كان بـ (أم) مضربًا عما تقدم، ومستأنفاً سؤالًا. وجمهور النحويين متفقون على هذا المعنى لـ (أم) المنقطعة، وقد حكى الأبذى فيها خلافًا بين البصريين والكوفيين، فحكى عن البصريين ما ذكر، وعن الكوفيين قولين، أحدهما حكاه عن الفراء، أنها بمعنى (بل) وحدها مطلقًا، فإذا قلت: هل قام زيد أم عمرو قائم؟ أو قلت: قام زيد أم عمرو قائم؟ فالمعنى عنده: بل عمرو قائم.

والثاني حكاه عن الكسائي وهشام أنها بمعنى (بل) لكن ما بعدها بمنزلة ما قبلها، فإذا قلت: قام زيد أم عمرو قائم، فالتقدير: بل عمرو قائم. وإذا قلت: هل قام زيد أم عمرو قائم، فال تقدير بل هل عمرو قائم. وهذا كله لا دليل عليه، بل الذي دل عليه الاستقراء ما تقدم. قال الأبذي: والدليل على ذلك عندي أن العرب لا تدخلها على همزة الاستفهام، لا تقول: قام زيد أم أعمرو قائم؟ كما تقول: قام زيد بل أعمرو قائم: ؟ وما ذاك إلا لتضمنها معنى الهمزة، إذ لا يجوز دخول همزة الاستفهام على مثلها، وإنما تدخل (أم) على كلام فيه غير الهمزة من أدوات الاستفهام، لأن الهمزة قد تدخل على غيرها من أخواتها، كما قال: سائل فوارس يربوع بجهلتها ... أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم فكذلك تدخل (أم) عليها، كقوله، وهو علقمة: أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... إثر الأحبة يوم البين مشكوم

وقوله فقيل هذا: * أم حبلها إذا نأتك اليوم مصروم* بمنزلة قوله: بل أحبلها، يشهد له الاستفهام الذي بعده هذا مجمل ما قال. وللمنازع أن ينازع فيه. والثالث من ذلك ما تلقاه أهل الخبرة مشافهة من العرب/ كما تتلقى مفردات اللغة، ولاشك عند من مارس هذا الشأن من العارفين بمصادر اللغة ومواردها في ثبوت معنى (بل) والهمزة لـ (أم) هذه. لكن يبقى أن يقال: هل ثبت لها استعمال آخر أم لا فأثبته الناظم، وهو الثاني مما وفت به (أم) وذلك أن تكون بمعنى (بل) وحدها. وهذا يشير إلى أنها ترادفها في العطف، وهو نصه في غير هذا النظم، وذلك إذا وقع بعدها المفرد، وهو مذهب الفراء، أنها تأتي بمعنى (بل) من غير استفهام، وأنشد الفراء على ذلك: فو الله ما أدري أسلمي تغولت ... أم النوم أم كل إلى حبيب المعنى عنده: بل كل إلى حبيب. وعليه حمل قوله تعالى: {أم من

خلق السماوات والأرض} وما بعدها من الآيات في سورة "النمل". قال ابن طاهر: ولا يمتنع عندي، إذا أرادت بها مذهب (بل) أن تكون عاطفة مثلها، وتدخل في الغلط والنسيان. قال ابن خروف: وهو قول ظاهر صحيح المعنى. فابن مالك قال بقول الفراء في بعض مواردها، وجعل من ذلك في عطف المفرد قولهم: (إنها لإبل أم شاء) تقديره عنده: بل شاء. وظن أن بن جني هو المخالف في هذا المثال وحده، إذ قدره بـ (بل) والهمزة، فرد عليه بان ذلك دعوى لا دليل عليها، وأن العرب قالت: إن هناك إبلًا أم شاء، فنصب "الشاء" بعد (أم). وظاهر "الكتاب" في المثال المرفوع أنه على ما قاله ابن جني. وهو مذهب جمهور الناس فيه، ولا يخالف أحد في المثال المنصوب إذا ثبت في السماع أنها فيه كـ (بل) وحدها ولكن ذلك- ولا يد- قليل، فعليه ينبني النظر في المثال المرفوع، وإذ ذاك يقال فيه باحتمال الوجهين، لا على سواء، بل على وزان اتساع البابين. وإذا كان تقدير (أم) بـ (بل) والهمزة معًا هو الشائع الكثير، وتقديرها بـ (بل) وحدها قليل- فتجويز الوجهين على هذه النسبة. إلا أن الناظم قال:

"وبمعنى بل وفت" فلم يقيد ذلك بقلة، كما لم يقيد ذات الانقطاع بقلة، فيؤخذ من ذلك تجويز الوجهين عنده في المثال المذكور. والتحقيق في كلامه وكلام غيره أنها تكون "منقطعة" بلا إشكال، وتكون أيضًا بمعنى (بل) كذلك، ولا ينبغي أن يكون فيها خلاف، وذلك إذا وقع بعدها أداة استفهام، نحو: *أم هل كبير بكى* *أم كيف يجزونني السوءى من الحسن* وما أشبه ذلك، إذ لا يصح أن تتضمن معنى الاستفهام، ثم يتكرر بعدها، ولكن التأويل يختلف فيه هنا. فمن قال بوقعها بمعنى (بل) كالفراء أو كابن مالك يجعل هذا الضرب من ذلك بغير تكلف تأويل. ومن قال بنفي ذلك، كظاهر كلام سيبويه وابن جني، فيجعله من باب "خلع الأدلة" كأنهم خلعوا عن (أم) دلالتها على الاستفهام لوجود أدلة بعدها. (فهذا عنده عارض على غير الأصل، فإذا لم توجد الأداة بعدها) رجعت إلى/ أصلها من الانقطاع التام. وهذا المعنى معزز في الأصول.

ومن هذا القسم ما إذا وقع بعدها المفرد على غير تأويل الجملة، كما في قولهم: (إن فيها إبلا أم شاء) إن ثبت، فلا ينبغي في مثل هذا أيضًا خلاف، إلا في كونه يقاس عليه أولًا. وأما إذا وقع بعدها المفرد، وأمكن تأويله بالجملة، كما في قولهم: (إنها لإبل أم شاء) فقد تقدم ما لابن مالك فيه من الخلاف، وأن الاحتمال فيه قائم، ولا يتعين عليه ما قال. وهو مقتضي إطلاقه هنا. و(في، وأوفى): ؛ لغتان، والرباعية هي لغة القرآن، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله: أما ابن طوق فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها وهو من الوفاء بالعهد، أي أتمت الدلالة على المعنيين، وحافظت على ذلك. وفي هذا البيت ضرورة، وهو ظهور الجزم في فعل الشرط في قوله: "إن تك" مع أنه ليس له جواب ينجزم. وهو موجود في الشعر، وقد تقدم مثله، وسيأتي أيضًا إن شاء الله تعالى: خير أبح قسم بأو وأبهم ... واشكك وإضراب بها أيضًا نمي

وربما عاقبت الواو إذا ... لم يلف ذو النطق للبس منفذًا أتى لـ (أو) بأوجه من الاستعمال المعنوي سبعة وهي: التخيير، والإباحة، والتقسيم، والإبهام، والشك، والإضراب، ومعاقبة الواو. وأصلها أن تكون لأحد الشيئين أو الأشياء. وأما استعمالها لخصوص تلك المعاني فإنما ذلك بحسب قرائن الكلام، لا أنها وضع لها أصلي، هذا هو القياس. وما عد الناظم لها من المواضع فمن المعاني الاستعمالية. وليست هذه المعاني كلها متفقًا عليها، بل في ثبوت بعضها خلاف سيذكر إن شاء الله. فأما التخيير: فنحو قولك: (كل سمكًا أو اشرب لبنًا) فهذا على التخيير في استعمال أحد الشيئين، أيهما كان. وفي القرآن الكريم: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة}. وأما الإباحة: فنحو (جالس الحسن أو ابن سيرين) أي جالس أيهما شئت.

ومنه في القرآن الكريم: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} إلى قوله: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} والفرق عند ابن مالك بين التخيير والإباحة أن الإباحة يجوز فيها الجمع، ولذلك يحسن وقوع (الواو) فيها موقع (أو) فتقول: جالس الحسن وابن سيرين، بخلاف التخيير، فإنه يقتضي الجمع، ولا تصلح فيه (الواو) في موضع (أو). ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم}. وأما التقسيم: فالمراد به عنده كون (أو) لم تأت لمعنى من تلك المعاني المذكورة، بل مجردة منها، فإن مع كل واحدة منها تقسيمًا. وعبر عن هذا/ المعنى في "التسهيل" بالتفريق المجرد، وزعم أنه أجود عبارة من التقسيم، قال: لأن استعمال (الواو) في التقسيم أجود من استعمال (أو) يعتني بخلاف التفريق، كقولك: (الكلمة اسم وفعل وحرف) و (الاسم ظاهر ومضمر) و (الفعل ماض وأمر ومضارع) و (الحرف عامل وغير عامل) ومنه قول الشاعر:

وننصر مولانا ونعلم أنه ... كما الناس مجروم عليه وجارم ومن مثل هذا القسم عند المؤلف قوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} وقوله: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما}. وقد يدخل في هذا ما كان نحو قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} وقوله: {وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا} فالمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. وكذلك الآية الأخرى، وقالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى. وعن هذا عبروا بـ (التفصيل) وهو والتقسيم متقاربان، ولفظ التفصيل هنا أظهر. وأما الإبهام: فنحو قولك: (لقيت زيدًا أو عمرًا) وأنت تعلم من لقيت، ولكنك أبهمت على السامع. وفي القرآن: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}. وقد علم الرسول عليه السلام أنه هو ومن اتبعه على الهدى، وأن المعاندين في ضلال مبين، ولكنه أبهم ذلك تنزلًا للخصم، وكذلك قوله تعالى:

{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} في رأي طائفة، وقوله: {أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا} فالله أعلم بما كان، إلا أنه أبهم على عباده. وأما الشك: فكقولك: (قام زيد أو عمرو) إذا كنت شاكًا أيهما القائم. وقد يكون الكلام معها مبنيًا على الشك، وقد يكون الشك طارئًا بعدما انبنى على التحقيق بخلاف (إما) حسبما يذكر إن شاء الله تعالى. وأما الإضراب بها: فنحو قراءة أبي السمال {أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم) بإسكان الواو. ويؤكد ذلك قوله: {بل أكثرهم لا يؤمنون} فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهدًا، بل أكثرهم لا يؤمنون. وزعم أن ذلك موجود في الكلام كثيرًا، يقول الرجل لمن يتهدده والله لأفعلن بك كذا، فيقول صاحبه: أو يحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك. وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح

قال: معناه: بل أنت، وكذلك قال في قوله: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} وقوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} المعنى عنده: بل يزيدون، بل أشد قسوة وحكي الفراء: اذهب إلى زيدٍ أودع ذلك فلا تبرح اليوم. ومعنى "نمي" روى وأسند، يقال: نميت الحديث نميًا، إذا أسندته ورفعته، أي روى هذا المعنى في (أو) عن العرب، وعرف من كلامها، غير أن في كلامه إشعارًا بقلة ذلك في الاستعمال. وأما معاقبتها للواو: فهو قليل كما نبه بـ (ربما) لكنه شرط في ذلك ألا يقع في الكلام لبس باستعمالها في معنى (الواو) فيتوهم في (أو) أنها ليست بمعنى (الواو) بل بمعنى آخر من المعاني الثابتة لها، فلا بد من تعين ذلك فيها. وبهذا القيد ثبتت في السماع، فلا بد من اعتباره في القياس. فمما يتعين لذلك عند بعضٍ ما في الحديث من قوله عليه السلام: " اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وقول ابن عباس رضي الله عنه: "كل ما شئت، واشرب ما شئت ما أخطأك اثنتان، صرف أو مخيلة" وعند المؤلف أن قول الله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو

إثما} الآية. (أو) فيه معنى الواو، لأن الإثم بمعنى الخطيئة فهي بمعنى (الواو) التي في قول الشاعر: وهند أتى من دونها النأي والبعد وعلى ذلك أيضًا حمل قوله تعالى: {ولا تطع منهم أثمًا أو كفورًا} أي: وكفورًا. وكذلك قول النابغة: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنل ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد قالوا: أراد: ونصفه، كالرواية الأخرى. ومن ذلك أشياء تنقل، ولكنه ليس في كثرة ما تقدم. وأكثر ذلك محتمل، فلذلك، قال فيه: "وربما عاقبت الواو" فلو كان الموضع موهمًا في (أو) معنى من المعاني المتقدمة، ولم يتعين فيه معنى (الواو) لم يجز وقوعها هنالك، لأن الناطق قد وجد منفذًا للبس، فلا تقول:

قام زيد أو عمرو، وأنت تعني: قام زيد وعمرو، لأن قصد (الواو) غير متعين. وهذا ظاهر. ثم هنا نظران، أحدهما في مواضع الخلاف من معاني (أو) وذلك ثلاثة: الأول: معنى (التقسيم والتفصيل) فلم يثبته المتقدمون، وإنما أثبته من بعدهم، والظاهر إثباته، إذ يبعد تأويل ما جاء من ذلك على إباحة أو غيرها، وكذلك ما حكي سيبويه من قولهم: وكل حق له سميناه أو لم نسمه، وكل حق داخلٍ في كذا أو خارجٍ عنه، فـ (أو) هنا للتقسيم، إذ المعنى على (الواو) لكنهم أتوا بـ (أو) لما كانا نوعين لا يجتمعان وكذلك قول الشاعر: وكان سيان ألا يسرحوا نعمًا ... أو يسرحوه بها واغبرت السوح فهي هنا للتقسيم. وكذا قول أمريء ألقيس: وظل طهاة اللحم من بين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل

وقول أبي ذؤيب: فأبدهن حتوفهن فهارب ... بذمائه أو بارك متجعجع إلى أمثال ذلك، مما يبعد فيه الرجوع إلى المعاني المتفق عليها، فالأحسن التزام القول به. والثاني: معنى (الإضراب) فجمهور البصريين على إنكاره. ونقل ابن مالك عن أبي على القول به، وعده ابن جني مما يقال به، ويذهب إليه، وإن لم يظهر منه التزامه. وإليه ذهب الكوفيون، ومال إليه الناظم لظهور وجهه، ووضوح الشواهد عليه. والحمل على الظاهر أصل يرجع إليه تحاميًا من تكلف التأويل من غير ضرورة. /فقد تأول البصريون كثيرًا من الشواهد عليه، ولا حاجة إلى ذلك. وقد علمت من مذهب ابن مالك أنه متبع للظاهر، غير متعمق في القياس النظري، وهذا من ذلك. والثالث: معنى (الواو) فالبصريون لا يثبتونه، والكهفيون قائلون بثبوته على الجملة، ولم أر من يحكي عنهم أنهم يعدونه في (أو) نادرًا،

بل أطلق القول بالجواز عنهم، من غير تقييد بقلة، فكأن الناظم توسط بين المذهبين، فأجاز أن تأتي (أو) قليلًا. ومما جاء من ذلك قول جرير. نال الخلافة أو كانت له قدرًا ... كما أتى ربه موسى على قدر فالظاهر فيه معنى (الواو). والله أعلم. النظر الثاني: فيما ورد على الناظم في هذا الفصل، وذلك اعتراضان: أحدهما أنه أطلق القول في (أو) بالنسبة إلى استعمالها في هذا المعاني، ولم يقيدها. وهي مقيدة الاستعمال فيها. فالتخيير والإباحة يختصان بالطلب وما أدى معناه، والشك والإبهام يختصان بالخبر، ولا يدخل أحد القسمين على الآخر، فلا تكون في الخبر للتخيير ولا للإباحة، ولا تكون في الطلب للشك ولا للإبهام. وأما الثلاثة الباقية فظاهرها أنها تستعمل في الموضعين، وإذا كان كذلك فيوهم إطلاقه في الجميع عدم الاختصاص، وليس كذلك. والثاني: أنه جعل معاقبة (أو) للواو قسمًا على حدته، ونادرًا لا شهيرًا، وذلك شكل، فإن قسم الإباحة قد جعله مرادفًا للواو كما تقدم، حيث جعل علامة قصد الإباحة حسن وقوع الواو موقعها. ففي هذا شيئان، أحدهما تداخل التقسيم، فإن معاقبة (أو) للواو يدخل في قسم الإباحة بأسره، وكذلك يدخل فيه كثير مما تقدم في قسم التقسيم، إذا قال سيبويه هنالك: إن الواو تدخل في موضع (أو) وكل واحدة تجزيء من

أختها. فثلاثة الأقسام إذًا متداخلة، تقرب من الرجوع إلى قسم واحد، وذلك خلل في وضع التعليم. والثاني ينبني على هذا، وهو أن معاقبتها للواو ليست بنادرة لما تقدم، لأن بابي الإباحة والتقسيم واسعان. وأيضًا تعاقبهما في النفي وشبهه، فأما النفي فنحو قوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت أبائكم} إلى آخر ما جاء منها في قوله: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا}. وأما شبه النفي فقوله تعالى: {ولا تطع منهم أثمًا أو كفورًا} فالمعنى في هذا النوع أيضًا معنى (الواو). وليس بقليل، بل هو شائع كثير، فكان قوله: "وربما عاقبت الواو" مشكلا. والجواب عن الأول أنه إنما تعرض لمعانيها على الجملة، ولم يقيد موضعها طلبا للاختصار، ولأن التخيير والإباحة حكمان يقتصان بمعناهما الطلب، لأنهما حكمان يقتضيان طلبا نفسيًا كالوجوب والتحريم. وأما الشك والإبهام فتقتضيان للخبر، لأنهما تردد أو نحوه فيما من شأنه أن يقع في الخارج أولا يقع، فكأنه اجتزأ بذلك لعدم تأتي خلافه. وأما سائر الأقسام فعلى مقتضى الإطلاق. وعلى أنه كذلك فعل في "التسهيل" فلم يعين لها موضعا إلا في وقوعها بمعنى (ولا) فإنه قيده بالنهي والنفي، بخلاف ما فعل في "الفوائد المحوية".

والجواب عن الثاني أن مرادفة (أو) للواو، ومعاقبتها لها معلوم أنه أراد به كون (أو) لمعنى الجمع، وهذا هو النادر كما قال. وأما وقوع الواو موقع (أو) في الإباحة فليس على معنى الجمع المطلق، وذلك أن العرب قال: خذه بما عز أو هان، وهو الأكثر، وقال بعضهم: خذه بما عز وهان. فإذا كلن بـ (أو) فالمعنى: خذه بالهين، فإن لم تقدر فبالعزيز، فإن لم تقدر فيهما جميعا. والمعنى: لا يفوتك على حال، وهو المعنى في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، فـ (أو) بمعنى الواو في الحالة الثالثة، والواو في معنى (أو) في الحالة الأولى والثانية. فليست (أو) بمعنى (الواو) على الإطلاق، ولا (الواو) بمعنى نفسها على الإطلاق. ولذلك قال سيبويه: وكل واحده منهما تجزيء من أختها في معنى: لا يفوتك على حال. فليس إطلاق المؤلف أن (الواو) تحسن في موضع (أو) الإباحية يحسن على هذا، ولم يثبت تخلص (أو) فيها لمعنى (الواو) إلا باعتبار ما. وكذلك (أو) التقسيمية، القول فيها كالقول في هذه، لا تكون (الواو) فيها إلا في معنى (أو) وذلك أن الرجل قد يشتري دارًا بجميع حقوقها، داخلها وخارجها، أو داخلها وليس لها من خارج حق. عانت قال الكاتب: وكل حق لها داخلٍ فيها أو خارجٍ عنها- عم جميع حقوقها، قليلة كانت أو كثيرة، داخلًا أو

خارجًا، أو داخلًا لا خارجًا، فإن ذكر هنا (الواو) على معناها من الجمع المطلق، أثبتت حقوقًا داخلًا وخارجًا، وقد لا يكون لها حق خارجًا. فإذا قال: (أو) وقعت على الداخل والخارج، وعلى الداخل وحده إن لم يكن لها من خارج حق. وجاز ذلك للمعنى الذي فيها من التقسيم. فإذا وقعت (الواو) هنا، وقد سمع، حملت على معنى (أو) على تقدير: إن كان داخلا، وإن كان خارجا. فإذا نبين هذا علمت أن (أو) في الإباحة وفي التقسيم ليست معاقبة للواو الجامعة على معناها الأصيل أصلًا، وإنما تقع على معناه الأصيل نادرًا- كما قال- في غير الإباحة والتقسيم. ولأجل ما يعرض للواو في الإباحة من معنى (أو) ذهب مالك في أية أصناف الزكاة {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} إلى أخرها- إلى جواز إعطاء بعض الأصناف دون بعض؛ لأنها معطوفة بالواو في موضع الإباحة وموضع الإباحة تقع الواو فيه مجزئة من (أو) كما قال سيبوبه. وأما على رأي غيره فالواو محمولة على أصلها عنده من الجمع المطلق. وأما ما اعترض به في النفي وشبهه فغير وارد. فإن النفي إنما يتسلط على ما استقر في الإيجاب، وإذا كان الإيجاب في الإباحة على معنى أن كل واحد من المذكورات مباح لك على الانفراد والاجتماع فنفى هذا على الانفراد والاجتماع. ومنه قوله: {ولا تطع منهم أثمًا أو كفورًا}.

فـ (أو) على بابها، وتفسير ابن مالك لها بـ (ولا) تفسير معنى لا تفسير لفظ، وعلى هذا الترتيب يجري النفي في التخيير أيضًا. فكلام الناظم وتقسيمه صحيح، لا تداخل فيه. والله أعلم. ثم قال: ومثل أو في القصد إما الثانية ... في نحو إما ذي وإما النائية قوله: "إما الثانية" يشعر بأن ثم (إما) أولى لا بد منها في الكلام. وهذا صحيح في القياس، فإنك تقول: (قام إما زيد وإما عمرو) و (اضرب وما بشرا إما بكرًا) فلا يجوز أن يؤتي في الكلام بواحدة، وما جاء من ذلك فنادر لا يقاس عليه. ومثال ذلك قول ذي الرمة أو الفرزدق، وأنشده الفارسي. تهاد بدارٍ قد تقادم عهدها ... وإما بأمواتٍ ألم خيالها وأنشد سيبوبه للنمر تولب:

سقته الرواعد من صيفٍ ... وإن من خريفٍ فلن يعدما أصله عند سيبويه: وإما من خريف، فحذف (ما) كما قال، أنشده أيضًا: لقد كذبتك نفسك فأكذبها ... فإن جزعا وإن إجمال صبرٍ تقديره: فإما جزعًا وإما إجمال صبر. وهذا كله محظوظ غير مقيس، فللأجل هذا بني الناظم على تكرار (إما) في الكلام. ويريد أن (إما) الثانية في قولك: (قام إما زيد وإما عمرو) و (اضرب إما زيدًا وإما عمرًا) مثل (أو) في المعنى المقصود بها، من أنها في المحصول لأحد الشيئين أو الأشياء، وفي التفصيل لتلك المعاني المذكورة في (أو) فتكون للتخيير نحو: اطعم إما سمكًا وإما لبنًا، وفي الكتاب العزيز {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنًا} وقال تعالى: {فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} وتكون للإباحة نحو: جالس إما الحسن وإما ابن سيرين.

وتكون للتقسيم نحو قولك: الناس إما منصور وإما مخذول، ومنه في القرآن {إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا} وقال الراجز: البس لكل حالةٍ لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها وأنشد ابن جني وغيره: يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... إما إلى جنة إما إلى نادر وتكون للإبهام كقولك: (قام إما زيد وإما عمرو) وأنت عالم، ولكنك أبهمت على المخاطب. وتكون للشك، وهو أظهر المعاني فيها نحو (رأين إما زيدًا وإما عمرًا) على المخاطب. وتكون للشك، وهو أظهر المعاني فيها نحو (رأيت إما زيدًا وإما عمرًا) فعلى الجملة هي جاريها في معانيها مجرى (أو) وإنما قال: "في القصد" ولم

يطلق القول في المماثلة، احترازًُا من توهم كونها مثلها في الحكم اللفظي أيضًا، وهو العطف، فكأنه نفي أن تكون (إما) من حروف العطف، ولذلك لم يعدها في صدر الباب من جملة الحروف العاطفة كما عد (أو) فبين أنها مثل (أو) في المعنى لا في اللفظ. وهذا هو أحد المذاهب الثلاثة، أنها ليست بعاطفة، وهو مذهب يونس وابن كيسان والفارسي وجماعة. وذهب طائفة منهم الزجاجي والصيمري والجز ولي، إلى أنها حرف عطف كـ (أو) ومن الناس من زعم أنها مع (الواو) حرف واحد عاطف. والصحيح ما ذهب إليه الناظم من إسقاطها من الباب، للزوم الواو لها في كل موضع، وهي حرف عطف باتفاق، فلو كانت (إما) عاطفة أيضًا للزم اجتماع حرفي عطف في غير ضرورة، كقولك: (إما زيد وإما عمرو) فلا يقال: (إما زيد إما عمرو) إلا في الشعر، نحو: إما إلى جنة إنما إلى نار فهذا كقوله: كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يزرع الود في فؤاد الكريم تقديره: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فكذلك تقدير البيت: إما

إلى جنةٍ وإما إلى نار. وأما القائل بأنها عاطفة فشبهته ما يلزم على كون (الواو) وهي العاطفة من التدافع، وهو الجمع اعتبارًا بالواو، والتفريق اعتبارًا بـ (إما) وأيضًا فإن سيبويه ذكر (إما) في جملة الحروف العاطفة، فالظاهر أنها كذلك، وهذا لا شبهة فيه. فأما التدافع فغير ثابت، لأنه يتصور بقاء كل واحد من الحرفين على وضعه الأصلي، فيستفاد من (الواو) الجمع بين الشيئين أو الأشياء في المعنى الذي سيقت له (إما) من الشك أو غيره، كما أن (لكن) لإفادة معنى الاستدراك، و (الواو) معها على وضعها من العطف اتفاقا. وأما ذكر سيبويه لها مع الحروف العاطفة فتجوز لملازمتها لحرف العطف، كما تجوزوا في ألفي (الصحراء) ونحوه، والحرف المجاب به للشرط والقسم. ومعلوم أن الأمر على خلاف ذلك. وأما المذهب الثالث فألزم أن يقول بذلك في (ولكن) ولا قائل به. وفرق بملازمة الواو لـ (إما) دون (لكن) وأجيب بأن تجريد (لكن) من الواو لم يثبت من كلام العرب، وهو ظاهر كلام سيبويه، مع أنه قائل بأنها حرف عطف، وكذلك منعه يونس. وفي ذلك كلام أوسع من هذا. فالأظهر ما ذهب إليه الناظم. والله أعلم. فإن قيل: هذا الكلام فيه إشكال من وجهين: أحدهما أن الناظم أحال في معاني (إما) على معاني (أو) وقد قام لـ (أو) سبعة معانٍ، فاقتضى أن (ما) كذلك، وهذا غير صحيح، فإن معنى (الإضراب) ومعنى (الواو) مفقودان فيها، فإطلاق المماثلة غير صحيح.

والثاني على تسليم ما تقدم فإطلاقه أيضًا مشكل، لأن (أو) يحتمل الكلام معها أمرين، أن يكون مبنيًا أولًا على الشك، وأن يكون مبنيًا على اليقين، ثم عرض الشك فاستدركه، بخلاف (إما) فإن الكلام معها مبني على الشك بلا بد. ولذلك وقعت في أول الكلام لتؤذن بالمراد، فهذا في الشك، ولا يبعد مثله في الإبهام وغيره. فالجواب عن الأول أن المعاني المعتمد على القياس فيها، والمشهورة في (أو) هي الخمسة التي تشاركها فيها. وأما المعنيان الباقيان فمن القلة بمكان. ولذلك أشار إلى (النقل) في معنى (الإضراب) حين قال: "وإضراب بها أيضا نمي" وصرح بـ (الندور) في معنى (الواو) بقوله: " وربما عاقبت الواو" فلما كانت كذلك في المعنيين لم يعتبر بهما، وصارت المماثلة راجعة إلى ما كان قياسا. وعن الثاني أن أطلاقه للماثلة إنما هي بالنسبة إلى (إما) الثانية، ولا شك أنها مثل (أو) في إعطاء الشك أو الإبهام أو التخيير أو غير ذلك من المعانب، لا فرق بينهما في هذا، وأما بناء الكلام على الشك أو غيره حتمًا مع (إما) فإنما حصل بـ (إما) الأولى لا الثانية، ولذلك عرفوا الأولى بأنها حرف إشعارٍ بما سيقت له الثانية، ويعضد ذلك أنها إذا جاءت في الشعر غير مكررة فالفراء يجعلها كـ (أو) كما في قول الفرزدق أو غيره:

تهاض بدار قد تقادم عهدها ... وأما بأموات ألم خيالها كأنه قال: أو بأموات، فتصلح إذ ذاك لما تصلح له (أو) ولما كانت (أو) غير متعرضة لما قبلها كانت (إما) الثانية كذلك. وكون البناء على الشك يأتي من جهة أخرى لا يضر في صحة أداء اللفظ معناه. وإذا ثبت هذا كان قول الناظم: "ومثل أو في القصد إما الثانية" صحيحا بإطلاق، وزال الإشكال، والحمد لله. وأتى لـ (إما) بمثال، وهو قوله: " إما ذي وإما النائبة" و "ذي" إشارة إلى القريب و"النائبة" البعيدة، فكأنه قال: (إما) القريبة، و (إما) البعيدة. وأول لكن نفيًا أو نهيًا ولا ... نداءً أو أمرًا أو أثباتًا تلا قد تقدم أول الباب. عده (لكن) من حروف العطف، ونبه على أنها مختلف فيها. فذهب الناظم إلى أثباتها عاطفة، وهو رأي الأكثر. وذهب إلى أنها لا تكون عاطفة، وإنما معناها عنده الاستدراك. وإليه ذهب المؤلف في "التسهيل" و "شرحه" هذا إذا وقع بعدها المفرد، وكانت بغير واو. فإن وقعت (الواو) قبلها فالعطف للواو، و "لكن" تؤدي معناها الزائد على العطف. ودل على هذا من كلام الناظم عده لها حرف عطف، لأن حرف العطف لا يدخل على مثله.

ومن هنا ادعي في (إما) أنها غير عاطفة. وكذلك إذا وقع بعدها المفرد، فذلك موضع كلامه، لأنه أنما تكلم في عطف المفردات لا في عطف الجمل، وعلى أن الخلاف في (لكن) إذا وقع بعدها الجملة. ولكن الناظم لم يقصد ذكر ذلك، ودل على هذا القصد من كلامه شرط النفي قبل (لكن) وإذا وقعت بعدها الجملة لا يشترط فيها ذلك. والأظهر ما ذهب إليه هاهنا، لأن سيبويه قد عدها من الحروف المشركة، وقرنها بـ (بل، ولا) بل وشبهها في التشريك بـ (الواو، والفاء، وثم) وغيرها. وقد احتج في "الشرح" لنفي كونها حرف عطف بأنها لم يسمع فيها إسقاط (الواو) وأن ما جاء من نحو قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما رأيت زيدًا لكن عمرًا، فمن كلام النحويين لا من كلام العرب. قال: ولذلك لم يمثل سيبويه في العطف إلا بـ (ولكن) بالواو، إذ قال: ما مرت برجل صالح ولكن طالح أراد: ومثل (بل) في العطف. قال المؤلف: وهذا من شواهد أمانته، وكمال عدالته، لأنه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما استعملته العرب. ثم قال: ومع هذا ففي المفرد الواقع بعد (ولكن) إشكال، لأنه، على ما قدرته، معطوف بالواو، مع أنه مخالف لما قبلها، وحق المعطوف

بالواو أن يكون موافقًا لما قبلها، فالواجب أن يجعل من (عطف الجمل) ويضمر له عامل، وكأنه قال: ما قام زيد لكن قام عمرو وما رأيت زيدًا لكن رأيت عمرًا، لأن الجملة المعطوفة [بالواو] يجوز كونها موافقة ومخالفة. نحو: قام زيد وقام عمرو، ونحو: قام زيد ولم يقم عمرو. وما قاله فيه نظر؛ فإن النحويين لا يخترعون الكلام من عند أنفسهم على غير سماع من العرب، والقياس إنما يستعمل على المسموع، وليس لهم أن يجيزوا إسقاط الواو من (ولكن) كما لم يجز لهم ذلك مع (إما) الثانية، وفي غير ذلك. وإنما الشأن القياس على ما سمع. وأشد من هذا أدعى على سيبويه أنه قائل بكونها حرف عطف غير مسبوقة بواو، ثم يمثل بالمسبوقة بالواو محافظة على السماع، فسيبويه إذًا خالف، وذهب إلى غير مسموع. وهذا مخالف لما علم من مذهبه في إتباع المسموع، فلا يعول على ما تأول المؤلف على سيبويه هنا، نعم هل مذهب سيبويه أنها عاطفة دون واو أم لا؟ هذا النظر فيه موضع آخر. وأما ما أورده من الإشكال، والتزم بسببه من جعل المسألة من باب (عطف الجمل) فلا يستتب له، لأنه إن تأتى له في المرفوع والمنصوب فلا يتأتى له في مثال سيبويه: ما مررت برجلٍ صالحٍ ولكن طالحٍ، وما مرت برجلٍ ولكن حمارٍ، جر فيهما، وقد سلم ابن مالك أن مثل هذا مسموع.

والجواب عن الإشكال أن العطف مع (لكن) وإن كان من عطف المفردات في حكم عطف الجمل، فاغتفر لذلك، مع أن عطف المفردات معها صحيح بنص سيبويه. بهذا وجهه الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار شيخنا رحمه الله، فالأظهر ما ذهب إليه الناظم هنا من كون (لكن) ثابتة الحكم في الحروف العاطفة. وكثيرًا ما يخالف هنا رأيه في "التسهيل" وقد تقدم من ذلك أشياء، وستأتي أخر إن شاء الله تعالى. واعلم أن (لكن) على وجهين كما أشير أليه، أحدهما أن تقع في عطف الجمل، فهذه لا يقتصر بها على نفيٍ دون إثبات، ولا على نهيٍ دون أمر، بل تكون بعد الإثبات كما تقع بعد النفي، فتقول: قام القوم لكن عمرو لم يقم، وتقول: لم يقم القوم لكن عمرو قام. وكذلك تقع بعد الأمر كما تقع بعد النهي وغيره، فتقول: أكرم زيدًا لكن عمرًا لا تكرمه، وما أشبه ذلك، لكن بشرط أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها، ولم يتكلم الناظم في هذا الوجه. والثاني أن تعطف المفردات، وهي التي أخذ في تقرير حكمها، فبين أنها تقع بعد (النفي، والنهي) فلا تقع بعد (الإثبات) فتقول: ما وجدتني عاذلًا لكن عاذرًا، فلا تكن لي خاذلًا لكن ناصرًا. ولا يجوز أن تقول: رأيت زيدًا لكن عمرًا، وممرت بصالحٍ لكن طالحٍ. قال سيبويه. فإن قلت: مررت برجلٍ صالحٍ ولكن طالحٍ فهو محال لأن (لكن) لا يتدارك بها بعد إيجاب، ولكنها يثبت بها بعد النفي. يريد: بلا يتدارك بها

الغلط والنسيان كنا يتدارك بـ (بل) ولو كانت يتدارك بها لصح وقوعها بعد الإثبات والنفي. وهذا رأي البصريين أنها لا تقع إلا بعد النفي، والنهي نوع من النفي. وذهب الكوفيون إلى جواز العطف بها في الإثبات كالنفي. وحجة البصريين ما تقدم من كلام سيبويه، وأن العطف بها في الإثبات إنما يكون في الغلط والنسيان، لأنك تثبت بها للثاني ما أثبته للأول، فيعلم أن الأول مرجوع عنه. وهذا مستغني عنه بـ (بل) في الإثبات، وبقي حكمها في النفي على أصله. والاستغناء كثير في كلام العرب، وقد بوب عليه ابن جني في "الخصائص". وأتى له بنظائر كثيرة، ونبه عليه سيبويه في مواضع كثيرة، وعده من الأصول الثابتة، وبني في التعليل على مقتضاه، فهذا من ذلك. وشبهة الكوفيين القياس على (بل) فإنها يتدارك بها في الإثبات كما يتدارك بها في النفي باتفاق، فكذلك ينبغي في (لكن) لأنها بمعناها. وأجيب بأنه لا يلزم من الاشتراك في المعنى الاشتراك في الأحكام اللفظية. ألا ترى أنه يحسن دخول الواو على (لكن) ولا يحسن دخولها على (بل) فإن صاغ الاجتماع في الأحكام عند الاجتماع في المعنى فليصغ مثل هذا، وهو غير سائغ باتفاق. فلما لم يكن الأمر كذلك لم يلزم ما قلوه. وأيضًا فإذا

كان عطف (بل) في الإثبات لا يتصور إلا على الغلط والنسيان، وهو قليل في كلام العرب، لم يلزم أن يحمل عليه في (لكن) حتى يسمع، ولم يسمع ذلك، فلا سبيل إلى القول به. وقوله: "وأول لكن" "لكن": مفعول أول "نفيًا" مفعول ثان لـ (أول) يريد: أول هذا الحرف نفيًا، أي اجعله يليه بعده. ثم قال: "ولا نداء أو أمرًا أو إثباتا تلا". "نداء" وما بعده منصوب بـ (تلا) والجملة خبر المبتدأ الذي هو "لا" كأنه قال: و "لا" تلا كذا وكذا. ويعني أن العطف بـ (لا) إنما يكون بعد هذه الثلاثة، وهي النداء والأمر، والإثبات، وهو الخبر المثبت. فالنداء نحو: يا زيد لا عمرو، ويا سلمان لا قاسم. والأمر نحو قولك: اضرب زيدًا لا عمرًا. ويدخل فيه الدعاء نحو: اللهم ارحم زيدًا لا عمرًا، واغفر لمحمد لا لفلان. وكذلك: غفر الله لزيد لا لعمرٍ. ومن كلامهم "به لا بظبيٍ بالصرائم أغفر" معناه: أحل الله الداهية به لا بكذا. وقالوا: "أمت في الحجر لا فيك".

والإثبات نحو: رأيت زيدًا لا عمرًا، وجاءني محمدً لا أخوك. وما أشبه ذلك. ولما حصر مواضع العطف بـ (لا) دل على أن ما سواها لا يعطف فيه بها، كالنفي والنهي، فلا يقال: ما قام زيد لا عمرو، ولا تضرب زيدًا لا عمرًا، لعدم صحة المخالفة بين ما قبلها وما بعدها، فيفسد ما وضعت له (لا) من كون (لا) يخالف ما بعدها ما قبلها، فإن قدرت ما بعدها موجبًا، و (لا) نفي للنفي- لزم مخالفة وضعها، بأن صارت توجب ما بعدها لا تنفيه. وكذلك لا تقع بعد الاستفهام، فلا تقول: هل رأيت زيدًا لا عمرًا. قال بعضهم: لأن (لا) لنفي الثاني عمًا دخل فيه الأول، ولم يدخل الأول بعد الاستفهام في شيء، فلم يصلح أن ينفي بها ما لم يتحصل. ثم النظر في أمرين، أحدهما في مواقع الخلاف في هذه المسألة، وذلك ثلاثة مواضع: الأول: النداء فقد زعم بعضهم أن العطف بـ (لا) في النداء لم يأت عليه شاهد من كلام العرب، وإنما أجيز على ما اقتضاه المعنى والقياس. وهذا الذي قال غير بين، فقد نقل سيبويه في أمثلة العطف على المنادي: يا زيد لا عمرو، والظاهر أنه لا يمثل إلا يمثل إلا بما سمع بعينه، أو ما سمع مثله. وقال ابن خروف: إن العطف في النداء بجميع حروف العطف سائغ، فالظاهر خلاف ما قال.

والثاني: أنه ذكر من مواضع العطف الخبر المثبت، وأطلق فيه، فاقتضى جواز العطف بها بعد الماضي نحو: قام زيد لا عمرو، وهو رأي جماعة. وذهب بعضهم، وهو رأي ابن أبي الربيع، إلى المنع إلا مع التكرار، فإنك إذا عطف بها بعد الماضي فقلت قام زيد لا عمرو- كان التقدير: قام زيد لا قام عمرو، بناء على أن المعطوف على تقدير تكرير العامل، ولو أعدت العامل للزم التكرار فقلت: لا قام عمرو (ولا قام أخوه، إذ لا يقال: لا قام زيد) يا هذا، فكذلك ما كان في تقديره. والأرجح ظاهر مذهب الناظم من الجواز، لأن ما بنوا عليه من التقدير غير مسوغ لما قالوا، فإن تقدير التكرار ليس بحقيقي حتى يعتبر اعتبار المنطوق به، والإلزام ألا يوجد العطف في المفردات البتة، إذ ما من معطوف إلا وهو على تقدير تكرار العامل، فإذا اعتبرت فيه تكرار العامل صار المفرد جملة مع العامل، فزال عطف المفردات رأسًا، وهذا باطل باتفاق. وإذا كان كذلك لم يكن العامل المقدر هنا في حكم المنطوق به، فلا يلزم ما قال. وأيضًا فالسماع موافق للقول بالجواز إذا سلم أن سلم أن المقدر والمنطوق به سواء في الحكم، ففي الكتاب {فلا أقتحم العقبة}، وقال

الراجز: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبدٍ لك لا ألما وقال الآخر، وهو امرؤ ألقيس، في العطف بها بعد الماضي: كأن دثارًا حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب الفواعل والثالث أن النفي، بمقتضى ما قال، لا يعطف بـ (لا) بعده، ونقل عن ألكسائي جواز ذلك، والسماع يمنع من ذلك، إذ هو مفقود في هذه المسألة، وقد تقدم وجه ذلك. واستدل له على الجواز بقوله تعالى: {لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار

والدة بولدها}، وهذا ليس مما نحن فيه، بل الجملة الثانية بيان للأولى أو بدل منها، وليست (لا) الثانية عاطفة. فإن قيل: هذا الكلام معترض من وجهين: أحدهما: أن العطف بـ (لا) قد يجوز في موضع لا يكون السابق قبله نداًء، ولا أمرًا، ولا أثباتًا، وذلك في التحضيض والعرض، فتقول: هلا ضربت زيدًا لا عمرًا، وألا أكرمت عمرًا لا بشرًا، وما أشبه ذلك، بخلاف الاستفهام كما تقدم. وحصر الناظم مواضع العطف يقتضي ألا يعطف بها بعد هذين، وهو غير مستقيم. والثاني: أنه يدخل له في الإثبات أن تقول: قام رجل لا عمرو، ورأيت امرأة لا هندًا، وما أشبه ذلك لا يجوز، إذ شرطوا في العطف بـ (لا) أن يكون السم الذي قبلها لا يصح تناوله لما بعدها، لأن العطف بها إنما جئ به على جهة التأكيد لصحة الاقتصار على الأول دون الثاني، وذلك لأن العطف بها إذا قلت: قام زيد لا عمرو ورد على من ظن قيام زيدٍ وعمروٍ معًا، أو ظن قيام عمرو معًا، أو ظن قيام عمروٍ لا يزيدٍ، فلو قلت: قام زيد، واقتصرت لجاز، ولكنك أكدت، فصار الكلام بمنزلة ما لو قلت: إنما قام زيد، أو ما قام إلا زيد، ولذلك لا يعطف مع (إلا) بلا، لأن (ما) و (إلا) كالعوض من ذلك، فلم يجز اجتماعهما. وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون ما بعد (لا) ظاهر المنافاة لما قبلها، بحيث لا يصح تناول ما قبلها لما بعدها.

وكذلك لا تقول: قام زيد لا رجل، وهو عكس المسألة الأولى، ولا قام رجل لا فارس، على العطف، ولا ما أشبه ذلك. وما جاء من نحو: مررت برجلٍ لا فارسٍ ولا شجاعٍ- فعلى النعت لا على العطف (لا) وكلام الناظم يتناول ذلك كله، فكان غير سديد. فالجواب عن الأول أن العرض والتحضيض راجعان في المعنى إلى الأمر، فما جاز في الأمر جاز فيهما. وأما الثاني فلا جواب لي عنه، والموضع محل نظر والله اعلم. وبل كلكن بعد مصحو بيها ... كلم أكن في مربعٍ بل تيها وانقل بها لثان حكم الأول ... في الخبر المثبت والأمر الجلي جعل (بل) هنا على وجهين: أحدهما: أن تقع موقع (لكن) وذلك بعد (النفي، والنهي). والثاني: أن تقع في غير ذلك الموقع، وذلك بعد (الأمر، والخبر المثبت). فأما الأول فحكم (بل) فيه حكم (لكن) وذلك أن توجب للثاني ما نفي عن الأول، فإذا- قلت: ما قام زيد بل عمرو، ولا تكرم زيدًا بل عمرًا، فـ (عمرو) مثبت له الحكم المنفى عن (زيد) كما كان ذلك في (لكن) حيث قلت: (ما قام زيد لكن عمرو، ولا تكرم زيدًا. لكن عمرًا، فكل واحدة من الأداتين مخالف ما بعدها لما قبلها. والنفي المؤول في هذا كالصريح، نحو: زيد غير قائم بل قاعد، كما كان في (لكن) (نحو: زيد غير قائم لكن قاعد).

ومثل الناظم ذلك بقوله: "لم أكن في مربع بل تيها". والمربع: منزل القوم في الربيع خاصة، تقول: هذه مرابعنا ومصايفنا، أي حيث نتربع ونصيف. والتيهاء ممدودة: الفلاة التي يتاه فيها، فلا يهتدي فيها للمخرج منها، بل يتحير فيها إذا ولجت. و (أرض متيهة) من ذلك. أي لم أكن في منزلٍ أهلٍ بل بلدة قفز، لا أنيس فيها. وأما الثاني فذكر أنك تثبت بـ (بل) للثاني حكم الأول في الموضعين المذكورين، وهما (الخبر المثبت، والأمر). وأتى فيه بلفظ (النقل) لأن الحكم المذكور للأول ينقل بعينه للثاني بعد ما حكم به على الأول. لكن هذا النقل على ضربين: أحدهما أن يكون ذكر الأول فيه مقصودًا، والحكم عليه مقصودًا، ثم يضرب عنه إلى ذكر الثاني والحكم عليه، لقصد يقصده المتكلم في ذلك، كما تقول: زيد شجاع بل أسد، وهند بدر بل شمس. ونظير هذا في عطف الجمل قول الله تعالى: {بل إدراك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون}. والثاني أن يكون ذكر الأول والحكم عليه غير مقصود، وإنما وقع غلطًا أو نسيانًا، فيضرب عنه إلى ذكر الثاني والحكم عليه، كما تقول: رأيت رجلًا بل حمارًا، وأنت عبدي بل سيدي.

وكقولك في النسيان: له على درهمان بل ثلاثة، وأنت أخي بل أبن أخي، وما أشبه ذلك. وكذلك في الأمر نحوه: أضرب زيدًا بل عمرًا، وأعطني درهمين بل ثلاثة. واعلم أنه قال: "وبل كلكن" إلى أخره. فأقتضى أن ما بعد (بل) موجب لزوما، وإن كان بعد النفي أو النهي، كما أن ما بعد (لكن) كذلك. وهذا رأي الجمهور. وذهب المبرد إلى كونه موجبًا غير لازم، وفرق بين (بل) و (لكن) بأن (بل) لا يتكلم بها إلا غلطً، مثل: رأيت زيدًا بل عمرًا، أي بل (رأيت عمرًا، فغلطت، وكذلك في النفي إذا قلت: ما رأيت زيدًا بل عمرًا، أي بل) ما رأيت عمرًا، اعتمدت في الجحد على الثاني. قال: وفقد يكون في النفي كـ (لكن) أي: بل رأيته. قال: والجيد هذا، لأن (رأيت) أقرب، فيكون معناه: بل رأيت عمرًا. والصحيح ما عليه الناس، لأن السماع لم يأت بما ذكر، وهو المتبع، وإنما الوجه إتباع ما اتفق الناس عليه، وما دل عليه كلام العرب، وأيضًا لو كان كما يقول المبرد لجاز في (ما) الحجازية أن تقول: ما زيد قائمًا بل قاعدًا بناء على بقاء النفي، وأن التقدير: بل ما هو قاعدًا، وهذا أليس بمقول باتفاق، وإنما كلام العرب على الرفع في (قاعد) وما ذاك إلا لمكان بطلان النفي. ثم يبقى في كلامه مشاحة لفظية، ومشاحة معنوية. فأما اللفظية ففي قوله: "والأمر الجلي" فقيد الأمر بكونه جليًا، وهذا حشو لا فائدة فيه (وأيضًا فهو حشو مخل، إذ يقتضي أن الأمر إذا لم يكن

جليًا ظاهرًا فلا يعطف بها فيه)، وليس كذلك، لأن (التحضيض) يجوز العطف بها بعده فتقول: هلا أكرمت زيدًا بل غمرًا، وكذلك (العرض) نحو: ألا أكرمت زيدًا بل عمرًا، على الغلط والنسيان وغيرهما، كما قلت: أكرم زيدًا بل عمرًا. وأما المعنوية فإنه قال: "وبل كلكن" فأقتضى أنها مثلها في أحكامها اللفظية والمعنوية إذا وقعت بعد مصحوبيها. فأما كونها مثلها في الحكم اللفظي فنعم، وأما في المعنوي فلا، لأنهما يفترقان، ألا ترى أن (بل) يستدرك بها الغلط والنسيان، و (لكن) لا يستدرك بها ذلك، فقد حصل الفرق بينهما على الجملة، فكيف يقول: إن (بل) كـ (لكن)! والجواب أن (الجلي) ليس بقيد متحرز به، وإنما أتى به حشوا. وقد يندر من الناظم مثل هذا لضيق المجال في الشعر. وعن الثاني أن الكلام في (بل، ولكن) إنما هو عند وقوعهما معًا بعد (النفي والنهي) وليست (بل) عند ذلك يستدرك بها غلط ولا نسيان، وإنما يثبت بها للثاني ما نفي عن الأول كـ (لكن) من كل وجه. وحذف الياء من "ألثان"للضرورة، كما قال الأعشى:

وأخو الغوان متى يشأ يصر منه ... ويعدن أعداء بعيد وداد وفي النظم من هذا النوع أشياء كثيرة. وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل أو فاصلٍ ما وبلا فصل يرد ... في النظم فاشيًا وضعفه اعتقد هذه مسألة كليه في حروف العطف، وذلك أن المعطوف عليه تارة يكون ظاهرًا، ولا إشكال في جواز العطف عليه، كان مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا، وسواء كان المعطوف عليه ظاهرا أو مضمرا. وتارة يكون ضميرا، والضمير على قسمين، منفصل ومتصل. فـ (المنفصل) حكمه حكم الظاهر مطلقا، فيجوز العطف عليه مرفوعًا كان أو منصوبا. ولا يكون مجرورا إلا في الاضطرار، فتقول: زيد ما جاءني إلا هو وهند، وما رأيت إلا إياك وعمرًا، وأنا وزيد منطلقان، وما أشبه ذلك، فإنهم حكموا له بحكم الظاهر هنا، وخرج هذا عن كلام الناظم بقوله: "متصل" ففهم أن غير المتصل لا يشترط فيه ما ذكر. و(المتصل) إن كان منصوب الموضع جاز العطف عليه أيضًا مطلقا، لأنه في حكم المنفصل من حيث كان فضله، أو جاريًا مجرى الفضلة، فليس له مع عامله اتصال تام، كما كان لضمير الرفع مع عامله، فلذلك قيد ما أراد تقييده بقوله: "ضمير رفعٍ متصل".

وأما إن كان مرفوعًا أو مجرورًا فإذ ذاك لا يعطف عليه مطلقًا. بل بشرطٍ يقترن به. وقدم الكلام على ضمير الرفع، فقرر أنه إذا عطف عليه فالقياس المعتمد فيه، والشهير في كلام العرب، أن يفصل بينه وبين ما عطف عليه بفاصل، أي فاصل كان، إلا أن الأكثر والأولى الفصل بالضمير المنفصل المناسب له في الرفع، ولذلك قدم ذكره قبل غيره فقال: "فافصل بالضمير المنفصل". فتقول: قمت أنا وزيد، وقمت أنت وعمرو، وزيد يخرج هو وخالد، ونحو ذلك. ومنه في القرآن: {اسكن أنت وزوجك الجنة}، {فأذهب أنت وربك فقاتلا}، {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا}، وهو كثير. وقد يأتي الفصل بغير الضمير وهو قوله: " أو فاصل ما" كالمجرور والظروف و (لا) وغيرها. كقوله تعالى: {هو الذي يصلى عليم وملائكته}. فهذا فصل بالمجرور، والظرف مثله نحوه: جلست عندك وعمرو. ومن الفصل بـ (لا) إذا وقعت بين العاطف والمعطوف قوله: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركتنا ولا إباؤنا}. ومن الفصل بالمفعول قوله: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن}.

وبخبر (كان) قوله حكاية: {أئذا كنا ترابًا وإباؤنا}. وبالتمييز كقول الشاعر: ملئت رعبًا وقوم كنت راجيهم ... لما دهمتك من قومي بآساد وبالنداء قول الشاعر: لقد نلت عبد الله وابنك غاية ... من المجد من يظفر بها فاق سؤددا والفصل بغير ذلك أيضًا سائغ، كما قال: (أو فاصلٍ ما). وأما إذا لم يفصل بينهما بفاصل فهو في الشعر فاشٍ شائع مشتهر، وهو مع ذلك ضعيف في القياس، كما قلت: قمت وزيد، وهند قامت وأبوها. ومما جاء في الشعر من ذلك قول عمر بن أبي ربيعة، أنشده سيبويه:

قلت إذا أقبلت وزهر تهادى ... كنعاج الملا تعسفن رملًا وأنشد أيضًا للراعي: فلما لحقنا والجياد عشية ... دعوا يا لبكرٍ واعترينا لعامر وأنشد أيضًا: فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم وأنشد السيرافي وغيره لجرير: ورجا الأخيطل من سفاهة نفسه ... ما لم يكن وأب له لينالا

وقال الآخر: ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف وهذه المسألة مختلف فيها بين أهل البلدين، فذهب البصريون إلى منع العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وإنما يأتي عندهم في الشعر حيث لا يقاس عليه. وذهب الكوفيون إلى جواز العطف بلا فصل مستدلين على ذلك بما جاء في الشعر، وبقوله تعالى: {فاستوي وهو بالأفق الأعلى}، ففي "استوي" ضمير عندهم، و"هو" معطوف عليه، أي استوي جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا عند البصريين ليس فيه دليل. أما الشعر: فظاهر، وأما الآية فتحتمل أن تكون الواو في (وهو) واو الحال لا واو العطف، والضميران معًا لجبريل عليه السلام، أي أستوي في صورته التي خلق عليها حال كونه بالأفق الأعلى. وقد رأى المؤلف في "التسهيل" و "شرحه" رأيًا ثالثًا، وهو جواز العطف في الكلام على قلة،

واستشهد على ذلك بأمرين: أحدهما: ما جاء من ذلك في الكلام من قولهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدم، وفي الحديث قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: كنت وجار لي من الأنصار، وقول على بن أبي طالب- رضي الله عنه-: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، هكذا ثبت ضبطها في صحيح البخاري. والثاني: أن ما جاء في الشعر من ذلك منه ما يلحق بالنثر لإمكان الإتيان به على غير ضرورة، لتمكن الشاعر أن ينصب ما بعد (الواو) على المفعول معه في بيت ابن أبي ربيعة، والراعي، وجرير، وكذلك قال المؤلف في بيتي ابن أبي ربيعة وجرير، بناءً على أصله في ذلك، وقد مر الكلام على ما في ذلك فيما تقدم. فإن قيل: ظاهر الكلام متهافت، فإنه بين أن العطف بلا فصلٍ شائع في الشعر، وهذا يقتضي أنه قوي في قياس الضرائر، كصرف ما لا ينصرف، وقصر الممدود، فقوله بعد هذا: "وضعفه اعتقد" مضاد لهذا. وأيضا فإن أراد أنه ضعيف في الكلام- إن قيل- فهذا أيضًا كذلك، لأنه لم يلتفت هنا إلى نقلٍ في النثر، ولا نبه على أنه يقاس في النثر

على ما اختص بالشعر، ولو نبه عليه لكلن متناقضًا. ولا يقال: إنه أتي بقوله: (وضعفه اعتقد) تتمة للبيت لا لغير ذلك، فإن هذا أشنع عليه، فثبت أن هذه التتمة مشكلة. فالجواب: أنه إنما أراد اعتقاد الضعف فيه في القياس مطلقا، لا بقيد كونه في نظم أو نثر، فسلط الضعف على وروده، ولما قال ذلك، مع النص على شياعة في الشعر، دل ذلك على جواز إتيانه في النثر قليلًا، أو يكون قوله: (وضعفه اعتقد) يريد به: في الكلام، فكأنه يقول: إنه في الشعر قوي، وفي الكلام ضعيف، وعلى هذا يتفق رأيه هنا مع رأيه في "التسهيل" و "شرحه" ويكون الدليل على صحة رأيه ما تقدم، والله أعلم. وأما ضمير الجر فقال في العطف عليه: وعود خافضٍ لدى عطف على ... ضمير خفضٍ لازمًا قد جعلا وليس عندي لازمًا إذ قد أتى ... في النظم والنثر الصحيح مثبتًا عود الخافض: بمعنى إعادته، يعني أن أعاده الخافض في العطف على الضمير المخفوض- ولا يكون إلا متصلًا- جعله النحويون شرطًا لازمًا فقالوا: لا يجوز العطف عليه إلا مع إعادة الخافض. فإذا قلت: مررت بك، فأردت العطف عليه قلت: وبزيدٍ، ولا تقول: وزيدٍ، إلا في الشعر، كما في التنزيل الكريم: {قل الله ينجكم منها

ومن كل كرب}، {وعليها وعلى الفلك تحملون}، {ومنك ومن نوح}. {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا}. وكذلك إن كان الخافض اسمًا نحو: جلست عندك وعند زيٍد، وأعجبني خروجك وخروج زيٍد. وفي القرآن: {قالوا تعبد إلهك وآله أبائك}. وهو كثير أيضًا. فهذا لازم عند هؤلاء، وهم البصريون. ورأى الكوفيون أن ذلك غير لازم، بل يجوز عندهم ألا يعاد الخافض فتقول: مررت بك وزيٍد، وجئت إليك وعمرو، وتبع الكوفيين يونس والأخفش. ونقل عن الشلوبين في بعض المواضع اختيار هذا الرأي. وهو الذي ذهب إليه الناظم هنا: إذ قال: (وليس عندي لازمًا) أي اشتراط إعادة الخافض غير لازم في رأيي، لكن قد يشعر بأنه الأحسن، ولا شك في هذا، فإن الغالب في النقل إعادة الخافض وهو رأيه في "التسهيل" أيضًا. ومما جاء في النثر من ذلك قراءة حمزة: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} بالخفض في الأرحام، وهي مروية عن الحسن ومجاهد وقتادة

والنخعي ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف، وحملها على أن (الواو) للقسم ضعيف. وحكي قطرب: ما فيها غيره وفرسه، وفي البخاري: "إنما مثلكم واليهود والنصارى"، بالجر.

واحتج المؤلف أيضًا بقوله: "وكفر به والمسجد الحرام"، وذلك لا يتعين شاهدًا وأن كان قد رجحه، لأن المعنى ليس على أنهم كفروا بالمسجد الحرام، وإنما المعنى على أنهم صدوا على المسجد الحرام، فهو عطف على "سبيل". كالآية الأخرى: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس}، وعين الفارسي في "الحجة"، حمل الآية على هذا، ولم يعتبر ما اعتبره المؤلف الشلوبين من لزوم الفصل بين المصدر الموصول ومعمولة بأجنبي، بتقدير العطف على "سبيل الله". ونقل ابن الأنبا ري، عن الكوفيين الاستشهاد بآيات أخر لا يتعين فيها ما قالوا، فهذا مما جاء في "النثر الصحيح مثبتًا". وأما النظم فمنه ما أنشد سيبويه من قول الراجز: أبك أية بي أو مصدر ... من حمر الجلة جأبٍ حشور

فعطف على الياء من (بي) من غير إعادة الباء. وأنشد أيضًا: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فأذهب فما بك والأيام من عجب وأنشد الفراء: تعلق في مثل السواري وسيوفنا ... فما بينها والكعب غوط نفانف وأنشد للعباس بن مرداس: أكر على الكتيبة لا أبالي ... احتفى كان فيها أم سواها وأنشد قطرب والفراء

هلا سألت بذي الجماجم عنهم ... وأبي نعيمٍ ذي اللواء المحرق وقال الآخر: إذا أوقدوا نارًا لحرب عدوهم ... فقد خاب من يصلي بها وسعيرها فهذه جملة أيضًا من النظم، المنقول عن الثقات ثابتًا غير نادر، فلا بد من القول بجوازه وإن كان الأولى إعادة الخافض فالسماع هو المتبع. ووجه القياس في المنع، فيه نظر عند المؤلف، وذلك أنه نقل عنهم في ذلك وجهين: أحدهما: أن الضمير المجرور شبيه بالتنوين، ومعاقب له، فلا يعطف عليه، كما لا يعطف على التنوين. والثاني: أن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصلحا لحلول كل واحد منهما محل الأخر، وضمير الجر غير صالح لحلوله محل ما يعطف عليه، فامتنع العطف عليه إلا مع إعادة الجار، وما نقل عنهم ضعيف عنده جدا. أما الأول: فيلزم على اعتباره ألا يعطف عليه وأن أعيد الجار، لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه. وأيضًا فيلزم أن يمنع توكيده والبدل منه: إذ ليس في التنوين ذلك، والبدل والتوكيد من ضمير الجر جائز اتفاقًا، فللعطف أسوة بهما.

وأما الثاني: فلو كان من شرط المعطوف والمعطوف عليه حلول أحدها مكان الآخر لامتنع: رب رجلٍ وأخيه. * وأي فتى هيجاء أنت وجارها * "وكل شاةٍ وسخلتها"، وأمثال ذلك، فلما لم يمتنع في هذه الأشياء لم يمتنع في مسألتنا. هذا ما قال، وكأنه نقل تعليلي سيبويه والمازني. أما تعليل سيبويه فمعناه أن ضمير الخفض اجتمع فيه أمران: أحدهما: أنه لا يتكلم به إلا معتمدًا على غيره وهو الخافض، وأنه يقع من الخافض موقع التنوين، فصار عندهم بمنزلة التنوين، فلما اجتمع فيه هذان الوجهان من الضعف كرهوا أن يعطفوا عليه. ووجه التعليل بهذا أنه لما صار كبعض اسمٍ كرهوا العطف عليه؛ إذ لو عطفوا عليه مع الجار لكان من عطف / اسمٍ على اسم وحرف، أي من عطف اسم على جاًر ومجرور، وذلك قبيح، فلم يكن بد من إعادة الخافض لأن الكلام يقتضيه، وللمناسبة أيضا بين المعطوف والمعطوف عليه، حتى يكون كعطف الجار والمجرور على مثله.

وأما تعليل المازني فمعناه أنه حمل الشيء على مقابله، فكما امتنع نحو: مررت بزيدٍ وكه، حتى تقول: وبك، كذلك امتنع نحو: مررت بك وزيدٍ، حتى يقال: وبزيدٍ، ومن شانهم أن يحملوا النظير أو المقابل الذي ليس فيه موجب على نظيره أو مقابله الذي فيه الموجب، ليجرى الجميع مجرى واحدًا، فهذا تعليل مشبه، كما أن تعليل سيبويه مشبه أيضا، فلم يجعل وقوع الضمير موقع التنوين علةً مستقلة، بل مجموع الأمرين هو العلة كما تقدم. وإذا تقرر هذا فما أتى به المؤلف من الرد عليهما ينبغي أن يتأمل، وأمثل ما يتعلق به السماع، ومع هذا فقد تقدم في باب الإضافة ما يتعلق به هذا الموضع والله الموفق. ثم قال: والفاء قد تحذف مع ما عطفت ... والواو إذ لالبس وهي انفردت بعطف عاملٍ مزالٍ قد بقى ... معمولة دفعًا لوهم اتقى هذا فصل يذكر فيه ما يجوز حذفه من التابع أو المتبوع، فتكلم أولا في التابع، يعني أن التابع، وهو المعطوف، قد يحذف مع عاطفه قليلا، لكن في الكلام، ولا يختص ذلك بالشعر، ويدل على أنه قليل إتبانه بـ (قد) إذ عادته أنه لا يأتي بها إلا إيذانًا بالقلة. وذلك صحيح هنا، إذ ليس له في النقل كثرة. ويدل على أنه لا يختص بالشعر إطلاقه، إذ لو أراد الشعر لبينه، ولأنه إذا أشعر بالقلة دل ذلك من قصده أنه أراد في الكلام. لكنه لا يحذف إلا بشرطين:

أحدهما: أن يكون الحرف (الفاء أو الواو) إذ لا يجوز ذلك في غيرهما، فلا تقول: جئت زيدًا لأكلمه ثم أجابني، تريده ثم كلمته ثم أجابني، إذ لا دليل على (ثم) وكذلك غيرها من حروف العطف ما عدا (أم) فإن الشاعر قد قال: دعاني إليها القلب إني لأمرها ... سميع فما أدري أرشد طلابها يريد: أم غى، ولعله عنده قليل لا يقاس عليه فلم يعتبره. والثاني: أن يكون في الكلام دليل على المحذوف وهو قوله: (إذ لابس) أي إنما حذفت لأجل أن في الكلام ما يدل عليه، فلا يلتبس معنى الكلام بحذفه، فلو كان الكلام يلتبس بذلك لم يحذف أصلا. فإذا قلت: جاءني زيد فأكرمته، تريد جاءني فمدحني فأكرمته لم يجز، إذ لا دلالة على إرادة المحذوف، فإذا اجتمع الشرطان جاز. فأما (الفاء) فقولك: أتيت زيدًا لأكلمه فأجابني بكذا. التقدير: فكلمته فأجابني هذا محصول المعنى ولابد، وهو مفهوم، وفي القرآن: } اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون. قالت يا أيها الملأ {، فالمعنى: فذهب فألقاه فقالت. والآية شاهد / على حذف معطوفين اثنين وقد حذف أكثر من ذلك في قوله: } فأرسلون

يوسف أيها الصديق أفتنا {، فإن المعنى: فأرسلوه، فأتاه، فقال: يوسف أيها الصديق. ومنه أيضا: } فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت {، المعنى: فضرب، فانفجرت. وقال تعالى} فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى {أي فضربوه فحيي، فقلنا: كذلك يحيي الله الموتى. وقال: } ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم {أي: فامتثلتم، فتاب عليكم. وهذا كله من "عطف الجمل". وأما (الواو) فهو المنبه عليها بقوله: (والواو) وهو عطف على الفاء "عطف المفردات" وذلك عندهم جائز، كأنهم تناسوا الخبر للعلم به، ولذلك تقول العرب: زيد قائم لا عمرو، لأن (لا) إنما تعطف المفردات. ويجوز أن تكون (الواو) مبتدًأ محذوف الخبر، لتقدم ما يدل عليه، كأنه قال: والواو كذلك تحذف مع ما عطفت، فتكون المسألة من "عطف الجمل". ويجوز أن يعطف على الضمير في (تحذف) ويسهله الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. ومثال حذف (الواو) ومعطوفها قوله تعالى: } وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر {. المعنى عندهم: الحر والبرد، وقال تعالى: } وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل {. قالوا معناه: ولم تعبدني، وهذا من "عطف الجمل"

وقال: {نفرق بين أحدٍ من رسله {. أي بين أحدٍ وأحد، وقال: } لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل {. يريد: ومن أنفق بعده وقاتل، يدل على ذلك قوله: } أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا {، وقوله تعالى: } بيدك الخير {. قالوا معناه: والشر، لقوله تعالى: } تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء {. إلى آخرها. وقالت العرب: راكب الناقة طليحان، يريد: راكب الناقة والناقة طليحان، وأنشد سيبويه لميسون بنت بحدل الكلبية: للبس عباءةٍ وتقر عيني ... أحب إلى من لبس الشفوف

أي: ولا تقر عيني، وقال النابغة: فما كان بين الخير لو جاء سالمًا ... أبو حجرٍ إلا ليالٍ قلائل المعنى: فما كان بين الخير وبيني، وقال امرؤ القيس: كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها كف أعسرا أراد: إذا نجلته رجلها ويدها، والبيت وما قبله دال على ذلك، وقال مساور العبسي: قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما

* وذات قرنين ضموزًا ضرزما * أراد: قد سالم الحيات منه القدم والقدم، الأفعوان وكذا وكذا، على هذا حمله بعضهم. وظاهر كلامه أن مثل هذا الحذف يقاس عليه وإن كان قليلا في النقل إذ يسند ذلك إلى العرب، بل قال: (قد تحذف). ويحتمل أن يريد أنها تحذف في كلام العرب، ويبقي مسكوتا عنه في القياس. وعلى الجملة، فإذا تعين المحذوف ساغ حذفه. ثم قال: "وهي انفردت بكذا"، "هي" ضمير عائد على أقرب مذكور لأنه الأصل، وأقرب مذكور هو (الواو) فيريد أن الواو انفردت عن (الفاء) بعطف عاملٍ مزال، أي محذوفٍ قد بقي معمولة، على عاملٍ ظاهر، وذلك ليس بجائز في (الفاء). وأشار بهذه العبارة إلى نحو قوله / تعالى: } فأجمعوا أمركم وشركاءكم {فقوله: "وشركاءكم" لا يصح عطفه على "أمركم" إذ يلزم منه التشريك في العامل الذي هو "أجمعوا" وأنت لا تقول: أجمعوا شركاءكم، على (أفعل) وإنما يقال: اجمعوا، ثلاثيًا و (أجمع) مخصوص بالأمر والكيد ونحوه، وإذا كان كذلك فلابد من تقدير ما يصح أن يكون عاملا في "الشركاء" وذلك (جمع) الثلاثي، فكأنه قال: فأجمعوا أمركم، واجمعوا شركاءكم، فصارت (الواو) إنما عطفت عاملا محذوفا قد بقى معموله على عامل ظاهر.

ومن ذلك قوله تعالى: } والذين تبوؤا الدار والإيمان {التقدير واعتقدوا الإيمان، إذ لا يقال: تبؤوا الإيمان - إلا على مجاز، والأصل الحقيقة، وأنشد النحويون: إذا ما الغانيات بررن يومًا ... وزججن الحواجب والعيونا أراد: وكحلن العيون، وأنشد أيضا: علفتها تبنًا وماًء باردًا ... حتى شتت هملةً عيناها أي: وسقيتها ماء باردا، وأنشدوا أيضا: يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحا أي: وحاملاً رمحا.

فهذه المثل مما عطفت فيه (الواو) العالم المزال على الظاهر. ومن ذلك أيضا على رأى سيبويه: مررت بزيدٍ وعمرًا، لا يمكن أن يكون "عمرو" معطوفا على موضع "زيد" لأنه لا يمكن أن ينفصل الجار عنه فتقول: مررت زيدًا وعمرًا، كما جاز ذلك في قوله: * فلسنا بالجبال ولا الحديدا * وصحة العطف على الموضع متوقفة على صحة إظهار الموضع، فإنما صح: مررت بزيدٍ وعمرًا، على أضمار فعل، وذلك الفعل معطوف على (مررت) فدخل تحت ضابطه، وكذلك قولك: حسبك وزيدًا درهم. حمل سيبويه (زيدًا) على فعل مضمر دل عليه "حسبك" لأن معناه: يكفيك، فكأنه في التقدير: يكفيك ويكفى زيدًا درهم، ومثله: كفيك وزيدًا درهم ونحوه، وكذلك: ويل له وأباه، فـ (أباه) مفعول بفعل مضمر دل عليه (ويل له) لأن معناه ومعنى المنصوب واحد، فكأنه قال: وألزم الله أباه الويل. ومن ذلك قولك: هذا ضارب زيدٍ أمس وعمرًا، فإنه منصوب بفعل دل عليه "ضارب" أي: وضرب عمرًا، أو يضرب عمرًا؛ إذ لا يصح حمله على موضع "زيد" لأنه لا موضع له عند المؤلف والبصريين، فتعين الإضمار.

وكذلك اسم الفاعل المراد به الحال أو الاستقبال إذا عطف على مخفوضه منصوب، سيبويه يحمله على إضمار الفعل، فإذا قلت: هذا ضارب زيدٍ غدًا وعمرًا، فـ (عمرا) منصوب بفعل، وليس عطفا على الموضع لفقد شرطه، وهو وجود المجوز للنصب، وهو هنا التنوين الذي كان في "ضارب" وقد ذهب. فكل هذا داخل تحت قوله: (وهي انفردت بعطف عاملٍ مزالٍ قد بقى معموله) إذا فرضنا أن الناظم قائل بمقتضى هذه المسائل. أما الأمثلة المتقدمة فلا مرية / أنه قصد التنبيه عليها. وأما مررت بزيدٍ وعمرًا، فيمكن أن يكون قائلاً فيها بمذهب ابن جنى وابن خروف، وكذلك مسألة اسم الفاعل لغير الماضي، وقد تقدم في باب "اسم الفاعل" ما يشعر بأن لا حذف هنالك عنده، ويمكن في المسائل الأخر أن يقول فيها بالنصب على المفعول معه، فلا تتعين للتمثيل بها هنا. فإن قيل: هذا الكلام غير بين من وجهين: أحدهما: أن الناظم لم يبين فيه المعطوف عليه ماذا يكون، أهو عامل آخر أم لا؟ وإلى هذا فلعله ليس معطوفا إلا على جملة اسمية نحو: هذا لك وأباك، فإنه إنما يتصور نصب (الأب) على عامل مقدر وهو فعل، ولا فعل في (هذا لك) لكنها ممنوعة، فإطلاقه يدخلها في حكم الجواز على إضمار الفعل، وليس كذلك.

قال سيبويه: وأما (هذا لك وأباك) فقبيح، لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفًا فيه معنى الفعل، حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل. وأيضًا فعلى تسليم أنه ذكر ذلك لم يبين أهو ظاهر أم مضمر، ولابد أن يكون ظاهرا، فنقصه من العبارة (بعطف عاملٍ مزالٍ قد بقى معموله على عاملٍ ظاهر. والثاني: أن هذه المثل المتقدمة وما كان نحوها إنما جاز ذلك فيها بشرط أن يكون العاملان يجمعهما معنى واحد، وذلك هو الذي سوغ الحذف، ولأجل هذا والذي قبله قال في "التسهيل": وعامل مضمر على عاملٍ ظاهرٍ يجمعهما معنى واحد. لأن معنى الجمع في "أجمعوا" و "واجمعوا"، ظاهر، وإن كان "أجمعوا" مختصًا بالأمر ونحوه، وكذا "تبوؤا الدار والإيمان"، فيهما معنى "لازموا، أو صحبوا" أو نحوه. وقوله: * وزججن الحواجب والعيونا * فيهما معنى (حسن) وفي قوله:

* علفتها تبنًا وماًء باردًا * فيهما معنى (أعطيتها كذا). وفي قوله: * متقددًا سيفًا ورمحا * معنى (حاملاً) ونحوه، فلو كان على غير هذا لم يجز على ما اقتضاه كلام "التسهيل"، ولم يقيدها هاهنا، فكان قصورا في أداء معنى المسألة. فالجواب: أن شرط الحذف كما تقدم الدلالة على المحذوف، ولو كانت الجملة المعطوف عليها ليس فيها فعل ولا ما يدل على الفعل لم يكن ثم دال على المحذوف، فتكون المسألة ممتنعة من حيث أخرجها شرط الدلالة على المحذوف، وإذ ذاك تبقى مسألة سيبويه، خارجةً عن كلامه على مقتضى الشرط. فإن قلت: وأين شرط هنا الدلالة على المحذوف؟ قيل: قد تقرر من نظمه في مواضع متعدده أن اللفظ لا يحذف إلا لدليل منها البيت قبل هذا، بل هذه المسألة كأنها فرع مما قبلها. فإذا ثبت هذا لم يحتج إلى إعادة الاشتراط، وحصل / أن العامل لم يحذف حتى كان عليه دليل، وهو العامل المتقدم، فمن حيث

كان دليلاً عليه لابد أن يكون مجتمعا في المعنى معه، وإلا فليس بدليل، ولابد أن يكون ذلك الدليل هو المعطوف، لأنه الأصل، ولأنه دليل على ما حذف، ولو كان غير ظاهر لم يكن دليلا، بل محتاجا إلى ما يدل عليه. والجواب عن الثاني قد تضمنه الجواب عن الأول، لأن شرط الدلالة على المحذوف يستلزم اجتماعهما في معنى واحد، فلم يفتقر إلى زيادة، وهذا من جملة اختصاراته المستحسنة. وقوله: (دفعًا لوهمٍ اتقى مفعول له، يحتمل أن يرجع إلى قوله: (قد بقى معموله). يريد أن ذلك المعمول قد بقى ولم يحذف مثل ما حذف عامله دفعًا للوهم الذي كان يحصل بحذفه، واللبس الواقع بسببه، لأنه لو حذف المعمول معه عامله لم يبق ما يدل على أن ثم محذوفًا، وهذا متقًى ومحذور في الكلام، وإن فرض أن ما تقدم دال على عامل فإنما يدل إذا تعين موضع الدلالة، والمعمول هو الذي يعينه، فإنك لو قلت: مررت بزيدٍ، ولم تذكر (عمرًا) بأن تقول: مررت بزيدٍ وعمرًا - لم يكن ثم ما يدل على حذف عامل لـ (عمرو) وهو (لقيت) أو نحوه، فلما جئ بالمعمول اقتضى عاملاً، لأن كل معمول لابد له من عامل، فجاء العامل المعطوف عليه بتعيينه موافقًا لذلك المعمول، ولائقًا به، فتقدره من معناه في نحو: مررت بزيدٍ وعمرًا، ونحوه: * علفتها تبنًا وماًء باردًا * ومن لفظه ومعناه في نحو: هذا ضارب زيدٍ وعمرًا على رأي سيبويه.

ويحتمل أن يكون راجعا إلى الحكم الأول، وهو عطف العامل المزال، كأنه قال: انفردت (الواو) بعطف كذا دفعًا لوهمٍ اتقى ويعني أن هذا الحكم ثبت للواو، وهو عطفها للعامل المحذوف على العامل المذكور دفعًا لما يذهب إليه الوهم من عطف المعمول المذكور بعد (الواو) على ما قبلها، فإنك إذا قلت: * علفتها تبنًا وماًء باردًا * فالوهم يسبق إلى عطف "الماء" على "التبن" من غير تقدير شيء، وليس المعنى عليه. وإنما المعنى على تقدير عامل للثاني، والعامل هو المعطوف، وكذلك سائر مثل الباب، وهذا فيه نظر، والأول أوضح. ويقال: وهمت إلى الشيء وهمًا - بإسكان الهاء - إذا ذهب وهمك إليه، وهذا هو المراد، أي دفعًا لأن يذهب الوهم إلى غير المراد. وليس من (الوهم) المحرك الهاء، وهو الغلظ. ثم أخذ يذكر حذف المتبوع فقال: وحذف متبوعٍ بدا هنا استبح ... وعطفك الفعل على الفعل يصح واعطف على اسمٍ شبه فعلٍ فعلا ... وعكسًا استعمل تجده سهلا يعني أن المتبوع، وهو المعطوف عليه، قد يجوز حذفه إذا بدا وظهر معناه مع حذفه، ظاهر / إطلاقه أنه قياس وإن كان قد قال: "استبح"

وهذا لفظ يشعر بأن الأصل فيه المنع، ولذلك يقال فيما شأنه أن يمنع ويحتاط عليه هذا حمى لا يستباح، لكن السماع هو المتبع، وقد وجد الحذف كثيرا، فليقل به. والمعطوف عليه هنا تارًة يحذف بعد "بلى، ونعم" وشبههما، وتارة يحذف مطلقا لا بعد حرف. فالأول كقولك لمن قال: ألم تضرب زيدًا؟ فتقول: بلى وعمرًا، أو من قال: أأكرمت زيدًا؟ نعم وأخاه ومنه في القرآن الكريم: } أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون {فالعطف على معطوف غير مذكور، والتقدير: بلى ضربت زيدًا وعمرا، ونعم أكرمت زيدًا وأخاه، وكذلك سائر الباب. وحرف التصديق هو الذي قام مقام ما حذف. وجاء عن ابن الزبير أنه قال للرجل الأسدي إذ قال له: لعن الله ناقًة ساقتني إليك، فقال له ابن الزبير: إن وراكبها، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: يقولون أعمى قلت: إن وربما ... أكون وإني من فتًى لبصير

ومن أبيات الحماسة قول الشاعر: لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعى حيي إن فارسكم هوى أجل صادقًا والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى فقوله: "والقائل" معطوف على مقدر، كأنه قال: قلت حقًا إن فارسنا والقائل الفاعل لهو، ويجوز الرفع على تقدير: هو فارسنا والقائل والفاعل. ومما يجرى في المعنى هذا المجرى حكاية القرآن: } وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً {فالمعنى على تقدير: أفعل ذلك ومن كفر فأمتعه قليلا، وقوله تعالى: } ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم {. المعنى هم كذلك، وثامنهم كلبهم. وحمل السهيلي الآيتين على تقدير: نعم، والمعنى واحد، وهذا هو الثاني من الضربين.

ومنه أيضًا قول بعض العرب: وبك وأهلاً وسهلاً، لمن قال: مرحبًا وأهلاً، أي بك مرحبًا وأهلاً وسهلاً. ومن ذلك عند المؤلف قوله تعالى: } ولتصنع على عيني {أي لترحم ولتصنع على عيني، وقوله تعالى: } فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولوافتدى به {أي لو ملكه وافتدى به. ومنه أيضًا في الفاء قوله تعالى: } اضرب بعصاك الحجر فانفجرت" الآية. التقدير: فضربن فانفجرت، وقوله: } أن اضرب بعصاك البحر فانفلق {كذلك. وقدم الاستشهاد بهذا في حذف العاطف والمعطوف لصلاحيته شاهدا في الموضعين. وهنا تنبيهان: أحدهما: أن معظم هذه الأمثلة في كلامي متكلمين اثنين، لا في كلام متكلم واحد. وقد اختلفوا هل من شرط الكلام أن يكون من متكلم واحدٍ أم لا؟ فمنهم من اشترط ذلك بناًء على أن الكلام عمل / واحد، فلا يكون عامله إلا واحدًا.

ومنهم من لم يشترط ذلك لأن المتكلمين إذا اصطلحا على التكلم بكلامٍ واحد، أحدهما يتكلم بجزئه، والآخر بالجزء الآخر - فقد اشتمل على قيوده المعتبرة، فكما لا يشترط اتحاد الكاتب [كذلك لا يشترط اتحاد المتكلم]. فإن قيل: إذا لم يتحد المتكلم لم يترتب على الكلام مفهوم، كما يترتب على الكلام إذا اتحد المتكلم؛ إذ لا يعلم ارتباط أحد الجزءين بالآخر، فلا يفيد الكلام فائدة، ومن شرط الكلام الفائدة. فالجواب: أن هذا راجع إلى السامع لا إلى الوضع، فإن الوضع إنما كان لحصول الفائدة، وذلك هو المقصود، وإلا لزم أن يكون الكلام من متكلم واحد - إذا لم تحصل به للسامع فائدة لعدم فهمه له - أن لا يكون كلاما، وذلك باطل، فأصل الكلام لا خلل فيه، وإنما الخلل في فهم السامع، فلا يكر على الكلام بالإفساد، وهذا كله إنما هو نظر في أمر قياسي، والمعتمد إنما هو السماع، فإن سمع كلام واحد من متكلمين فذاك، وإن لا فلا ينبغي أن يهمل ذلك الشرط، وقد وجدنا كلاما من متكلمين، قال امرؤ القيس والتوأم:

أحار ترى بريقًا هب وهنًا ... كنار مجوس تستعر استعارا وفيها: كأن هزيزه لوراء غيبٍ ... عشار وله لاقت عشارا فلما أن دنا لقفا أضاخٍ ... وهت أعجاز ريقه فحارا ففي هذين البيتين الأخيرين المتبدأ والشرط في كلام أحدهما، والخبر والجواب في كلام الآخر، فالظاهر على هذا عدم اشتراط ذلك الشرط، إلا أن يقال: إن كلا من المتكلمين إنما اقتصر على كلمة واحدة اتكالاً على نطق الآخر بالأخرى، فمعناها مستحضر في ذهنه، فإذا اجتمع مع اللفظ المنطوق به صار المجموع كلاما، كما يكون كلاما قول القائل لقوم رأوا شبحًا: زيد، أي المرئي زيد. فإذًا كل واحد من المتكلمين متكلم بكلام تام، لكن أحد جزءيه غير ملفوظ به، وهذا الاحتمال بعيد وخلاف الظاهر. فإذا تقرر هذا فالعطف على كلام الغير من هذا القبيل، فإن العطف يصير الشيئين شيئًا واحدا في المفرد والمركب. فإذا قلنا باشتراط اتحاد المتكلم كان الكلام المعطوف في تلك الأمثلة ليس معطوفا على كلام الأول؛ بل على شيء آخر يقدر للثاني، ويصح التمثيل. وإذا قلنا بعدم الاشتراط لم يصح التمثيل، لأن العطف إنما هو على كلام الأول فلا حذف.

ومن أمثلة ذلك أيضا قول امرئ القيس والتوآم: فلم يترك بذات السر ظبيًا ... ولم يترك بجلهتها حمارا وليس في هذا "النظم" تصريح بأحد الرأيين. وكلامه في "شرح التسهيل" في "شرح الكلام" وقع فيه بعض تصريحٍ بشيء، لأنه لما نقل قول من اشترط اتحاد المتكلم، ثم بحث معه - قال آخرا: فثبت أن الزيادة المذكورة مستغنى عنها. فهذا يدل على أنه يجيز وقوعه من متكلمين، ويلزم على ذلك ألا يقدر معطوفا عليه في مسألتنا، لكنه في الوجه الثاني من وجهي البحث قدر أن كل واحد من المتكلمين / قد تكلم بكلامٍ بعضه ملفوظ به، وبعضه مقدر، فدل على اشتراط اتحاد المتكلم، وهذا تناقض فلا يعتبر كلامه هناك. وحين مثل في "الشرح" هذه المسألة أتى بالأمثلة التي اجتمع فيها كلام كتكلمين، فانظر في هذا كله، وكذلك إذا جعلنا سكوته هنا عن اشتراط اتحاد المتكلم في قوله أول النظرم: "كلامنا لفظ مفيد كاستقم" إشعارًا بأنه لم يرتضه - لزم من ذلك مثل ما لزمه في "الشرح" من إسقاط هذه المثل، وألا يضمر شيئا.

والثاني من التنبيهين أنه قال: (هنا استبح) فقيد ما ذكر من الحكم بالمكان الذي أشار إليه، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون إشارته إلى الباب الذي هو فيه تحرزًا من إيهامٍ كان يلحقه لو لم يذكره، لأنه قال: (وحذف متبوعٍ) ولفظ "المتبوع" لا يتقيد بهذا الباب دون غيره، فإن "المتبوع" من حيث هو متبوع، يتبعه النعت والبدل وسائر التوابع، وحذف المتبوع لا يجوز على الإطلاق، بل في موضع دون موضع، كباب (النعت) [وهذا الباب] وقد ذكر حكم النعت في موضعه حين قال: "وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه" فبحق ما قيد الحكم بهذا الموضع. ولو قال: وحذف معطوفٍ عليه استبح إذا علم لم يحتج إي القيد المذكور. والثاني: أن تكون الإشارة إلى المسألة القريبة الذكر، وهي مسألة الحذف، وقد قيدها بعطف (الواو والفاء) خاصة، فكأنه يقول: إن حذف المعطوف عليه إذا كان العطف بالواو والفاء مستباح لا حظر فيه، وندر ذلك مع (أو) فالنادر لا يعتد به هنا نحو قوله. فهل لك أو من والدٍ لك قبلنا؟ قال: أراد فهل لك من أخٍ أو من والدٍ؟ فبقيت الواو والفاء، فصار كلامه هنا موافقا لما قال هنالك، واقتصر هنا على موضع السماع. فدل على أنه أراد هنا ما كان من المثل من متكلم واحد، بخلاف ما كان من متكلمين، فإنه لا حذف فيه، فلا يسوغ أن يمثل له به، بناًء على أنه لم يشترط في الكلام اتحاد المتكلم.

وأيضا فإن العطف في كلام متكلمين لا يقتصر به على (الواو والفاء) دون غيرهما؛ إذ هو سائغ في جميع الحروف، وكذلك يسوغ في التوابع كلها، وهو لم يذكر حذف المتبوع إلا في "النعت" و"عطف النسق" فبان أن مراده في كلام المتكلم الواحد، فكلامه هنا غير متناقض، بخلاف "الشرح" كما تقدم، والله أعلم. "وحذف" مفعول "استبح" و"بدا" في موضع الصفة لمتبوع، أي لمتبوع بادي المعنى، "وهنا" متعلق بـ"استبح" لا بـ (بدا) ثم قال: "وعطفك الفعل على الفعل يصح" لما تكلم على عطف "الأسماء" بعضها على بعض أردف ذلك بالكلام على عطف "الأفعال" بعضها على بعض، وعطف "الجمل" مفروغ منه على الجملة. ويريد أن الفعل / يصح أن يعطف على الفعل، كما يصح أن يعطف الاسم على الاسم، وكما تعطف الجملة على الجملة، من غير مانع من ذلك. وإطلاقه عطف الفعل على الفعل يقتضي أنه لا يقتصر في ذلك على المماثلة في وقوع الفعل، بأن يعطف الماضي على الماضي، والمضارع على مثله؛ بل يجوز عطفه على مثله وعلى خلافهه. وهذا صحيح. لكنه شرط في ذلك في "الشرح" اتحاد الزمان، فلك أن تقول: إن يقم زيد وخرج أخوه أكرمهما، وإن قام زيد ويخرج أخوه أكرمهما.

ومنه في القرآن الكريم: } إن نشأ ننزل عليهم من السماء آيًة فظلت أعناقهم لها خاضعين {وقوله: } تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورًا {على قراءة الجزم، وهي لغير ابن كثير وابن عامر وأبي بكر، وأنشد سيبويه لقيس بن الخطيم: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب ومن اتفاق الفعلين قوله تعالى: } وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء {على قراءة الجزم أيضا، وهي لغير ابن عامر وعاصم، وقوله: } أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى {وقوله} وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون {وذلك كثير.

فإن قلت: من أين يؤخذ للناظم اشتراط اتحاد الزمان؟ فالجواب: أنه لم يتعرض لهذا المقدرار من التفسير، وإنما بين أن هذه المسألة صحيحة على الجملة، أو يقال: لعله لم يعتبر هذا الشرط، وذلك أن عطف الفعل على الفعل قد يتعين وقد لا يتعين. فإذا تعين فإنما ذلك إذا تأثر الفعل بناصب أو جازم، أو كان في موضع ما يتأثر، كما تقدم في الأمثلة، فلا يصح هنالك أن يكون من "عطف الجمل" كما يأتي، وإذا كان معمولاً لناصب أو جازم، ثم عطف عليه اقتضى دخوله تحت مقتضى العامل من التخليص إلى زمان واحد، فكان كما شرط من اتحاد الزمان. وإذا لم يتعين فإنما ذلك إذا لم يتأثر فيلتبس إذ ذاك بعطف الجملة على الجملة نحو: قام زيد ويقوم أخوه، فيمكن هنا الوجهان كما في قولك: قام زيد وخرج أخوه، ويقوم زيد ويخرج أخوه. ولا مانع يمنع من تقدير هذه المسال من عطف الأفعال بعضها على بعض، وإذا كانت جائزة في باب "العطف" لم يلزم فيها اتحاد الزمان، فيعطف الماضي على المضارع، وبالعكس، مع بقاء كل فعل على أصله، فلأجل هذا والله أعلم - لم يشترط اتحاد الزمان، وهو حسن من النظر. وبعد ففي هذه العبارة فوائد: إحداها: التنبيه على أن عطف الأفعال بعضها على بعض لا يندرج تحت "عطف الجمل" بل الأفعال في ذلك كالأسماء المفردة، وهذا مما يفتقر إلى التنبيه عليه، لأنه في أول الأمر يشكل، ولأجل إشكاله اعترض ابن

الضائع / على ابن عصفور قوله في حد "العطف": هو حمل اسمٍ على اسم، أو فعلٍ على فعل، أو جملةٍ على جملة إلى آخره، فاعترضه ابن الضائع بالتداخل، من جهة أن قوله: "أو فعلٍ على فعل" داخل تحت قوله: "أو جملةٍ على جملة" لأن الفعل لا ينفرد بنفسه؛ إذ لابد له من فاعل أو نائب عنه. قال شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار - رحمه الله عليه: والظاهر أن هذا تحامل على ابن عصفور، لأنك إذا قلت: إن يقم زيد ويخرج أبوه فأكرمهما - فهذه (الواو) قد شركت بين الفعل الثاني والفعل الأول في حرف "إن" منفردين دون اعتبارٍ بمرفوعهما، لأن الجازم إنما يتعلق حكمه بالفعل دون توابعه، ولا حكم له في الجملة أصلا؛ إذ كان الجزم من خصائص الأفعال، ولو كان تعلقه بالجملة لم يؤثر فيها، لأن الجمل لا تؤثر فيها العوامل إذا كانت مطلوبة لها طلبا واحدا. قال الأستاذ: والمسألة فيها طالب، ومطلوب مطلوبٍ، فحرف الشرط هو الطلب، والفعل بانفراده هو مطلوب الحرف، والفاعل هو الطالب الفعل، فإذًا لم يقع التشريك إلا بين الفعلين فقط، وما عدا الفعلين إنما هو تابع لهما، هذا كلامه - رحمه الله - وما قاله هو الصواب الذي لا إشكال فيه. فقول الناظم: (وعطفك الفعل على الفعل يصح) منبه على هذا.

والثانية: التنبيه على أن "باب العطف النسقي" لا يختص بالأسماء، كالنعت والتوكيد المعنوي؛ بل يكون بالأفعال أيضا كما تقدم ذكره. وأحسب أني رأيت نقلاً بجريان "عطف البيان" في الفعل، فقول الله تعالى: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة {. فقوله: "يضاعف" يحتمل" عطف البيان" ويحتمل "البدل" وإذا كان البدل في الأفعال سائغا، وعطف البيان شبيه بالبدل، فليجز فيه ما جاز في شبيهه. والنافي يقول: عطف البيان أشبه بالنعت منه بالبدل، ألا ترى أنه يجري على مثله في التعريف أو التنكير، بخلاف البدل فإنه تجرى النكرة منه على المعرفة وبالعكس. وأيضا: فإن البدل عندهم في تقدير جملة أخرى، والعطف في تقدير الجزء من المعطوف عليه، كالنعت، فعطف البيان إذًا أقرب إلى النعت منه إلى البدل، فيبعد أن يكون في الأفعال بخلاف البدل. وأيضا: فعامة النحويين على خلاف ما ذهب إليه هذا القائل، فالوجه إسقاط عطف البيان من الأفعال، كما فعل الناظم. والثالثة: التنبيه على أن الفعل إنما يعطف على الفعل، كما أن الاسم إنما يعطف على الاسم، لأن عطف اللفظ على اللفظ يقتضي تشريكه معه في معناه المختص به، أو في عامله المختص به، وهذا المعنى يوجب ألا يعطف الاسم على الفعل /، ولا الفعل على الاسم،

لأن عوامل الأسماء لا تطلب الأفعال، ولا بالعكس، ومعاني الأسماء لا تقتضيها الأفعال، ولا بالعكس، فلا يصح عطف اللفظ على ما ليس من جنسه ولا من شكله. ثم لما كان من الأسماء ما هو شبيه بالأفعال، ويعطي معنى الفعل - اقتضى هذا الشبه تسويغ عطف بعضها على بعض، اعتبارًا بالمشاركة في المعنى، فأخرجها الناظم من قاعدة الامتناع إلى الجواز فقال: "واعطف على اسمٍ شبه فعلٍ فعلا" إلى آخره. يعني أن عطف الفعل على الاسم الذي يشبه الفعل، وعطف الاسم المذكور على الفعل، سائغ لسهولة الخطب فيه؛ إذ كان الاسم من حيث أشبه الفعل كأنه فعل، فكأنك لم تعطف إلا فعلا على فعل، فلم يبق فيه ما تقدم من المحظور، فتقول: أعجبني الضارب زيدًا وأكرم عمرًا، وجاءني رجل ضارب زيدًا ويكرم أخاه. وتقول: إن زيدًا يقوم وخارج. فمن الأول قوله تعالى: } فالمغيرات صبحًا. فأثرن به نفعًا {وقوله: } أولم يروا إلى الطير فوقهم صافاتٍ ويقبضن {، وقوله: } إن لمصدقين والمصدقات وأقرضوا الله {الآية، وقوله: } فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا {على قراءة الكوفيين، ومن

الشعر قول الأخطل: وما الجار بالقاليك ما دام آمنًا ... ويدعوك عند المعضل المتفاقم ومن الثاني: قوله تعالى: } يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي {. وأنشد غير واحد: * أم صبى قد حبا أو دارج * وأنشد ابن السراج: بات يغشيها بعضبٍ باتر ... يعدل في أسؤقها وجائر

وقال الآخر: فألفيته يومًا يبير عدوه ... وبحر عطاءٍ يستخف المعابرا وهو للنابغة. وهذا الضرب الثاني هو المراد بقوله: "وعكسًا استعمل" أي استعمل عكس عطف الفعل على الاسم المذكور "تجده سهلا" وحقيقة العكس: واعطف على فعلٍ اسمًا شبه فعلٍ، والضمير في "تجده" للعكس.

البدل

البدل هذا هو النوع الرابع من أنواع التابع، وهو "البدل" وأخذ أولاً في تعريفه بالحد فقال: التابع المقصود بالحكم بلا ... واسطةٍ هو المسمى بدلا فقوله: "التابع" هو الجنس الأقرب، وقوله: "المقصود بالحكم" يعني أنه الذي قصد بالإخبار عنه في الحقيقة دون متبوعه. فإذا قلت: قام زيد أخوك، فـ (أخوك) هو المقصود بالحكم عليه، والإخبار عنه بالقيام، ومعنى كونه المقصود بالحكم أن البدل يقصد لمعنيين: أحدهما: أن يريد المتكلم ذكر المقصود بالحكم بخصوصه، فيأتي أولاً بما يعمه وغيره، ثم يأتي بالمخصوص قصدًا للتأكيد، كقولك: رأيت قومك ناسًا منهم. والثاني: أن يريد الإبهام على المخاطب، ثم يبدو له أن يبين، أو يتوهم أن المخاطب عالم بما يريد، ثم يشك في علمه، فيأتي بالاسم الآخر / على جهة البيان. ويلحق بذلك معنى ثالث، وهو أن يذكر المقصود بالحكم، ثم يبدو له، فيضرب عنه إلى غيره. لكونه غالطا أو ناسيا أو لمعنى آخر. وعلى كل تقدير فالبدل هو المقصود بالحكم، وما قبله في حكم الملغى وإن لم يكن كذلك.

ثم كونه مقصودا بالحكم يشمل وجهين: أحدهما: كونه محكومًا عليه وهو الخبر عنه، كما في المثال المتقدم، فالمخبر عنه يقال فيه: إنه مقصود بالحكم. والثاني: كونه محكومًا به، فإنك تقول: هذا زيد أخوك فـ (أخوك) مقصود بالحكم به إذًا، والمحكوم عليه (هذا) و (أخوك) مقصود أيضا بالحكم، أي بكونه محكوما به، ولابد من تحميله المعنيين معا، وإلا كان قاصرا عن الغرض المقصود. وتحرز بهذا القيد من "النعت" و"التوكيد" و"عطف البيان" فإن كل واحد منها ليس هو المقصود بالحكم، وإنما وضعه لبيان الأول أو لمعنًى يصلح له، والأول هو المقصود بالحكم لا الثاني. وكذلك يخرج له بهذا القيد المعطوف بالواو والفاء ونحوهما، لأن قوله: "التابع المقصود بالحكم" هكذا معرفا باللام - مؤذن عند طائفة بالحصر، فإذا قلت: العالم زيد، فمعناه أنه مختص بالعلم، والمقصور عليه العلم، فكذلك هذا يكون معناه أن المختص بقصد الحكم هو المسمى بدلا، فعلى هذا كل تابعٍ ليس بمختص بأنه مقصود بالحكم خارج بهذا القيد عن كونه بدلا، فيخرج المعطوف بالحروف المشركة في المعنى، لأن كل واحد من التابع والمتبوع فيها مقصود بالحكم، لم يختص به التابع دون المتبوع، وهذا ظاهر جدا. وقوله: "بلا واسطةٍ" تحرز من المعطوف بـ (بل، ولكن) ونحوهما، فإن المعطوف بها هو المقصود بالحكم دون الأول. فإذا قلت: قام زيد بل عمرو، فـ (عمرو) وهو المقصود بالحكم دون (زيد) وكذلك قولك: ما قام زيد لكن عمرو، لأن (لكن) أوجبت لما بعدها ما تحقق بطلانه

لما قبلها، وكذلك (أم) المنقطعة والإضرابية، وكذلك (أو) إذا كان مبتدأ كلامك معها على اليقين، ثم داخلك الشك نحو: قام زيد، أو عمرو، فالشك كالإبطال لليقين الأول. فكل واحد من هذه الحروف قد صير الثاني هو المقصود بالحكم، وهو الواسطة، فلو لم يقل "بلا واسطة" لدخل عليه ذلك كله. ولأجل هذا المعنى فيها جعل سيبويه العطف بها من باب البدل، وبوب عليها وعلى باب "بدل الإضراب" بابًا واحدًا لاجتماعهما في معنى الإضراب. فلما كان رسمه البدل يشمل هذا كله احترز منه بقوله: "بلا واسطة". وقوله: "هو المسمى بدلا" يعني المسمى في الاصطلاح الأشهر للنحويين في هذا، إشارًة إلى تسمية سيبويه المعطوف بـ (بل، ولكن، وأو) بدلاً ليس باصطلاحٍ نحوى اشتهر، وإنما هو اعتبار معنوي حين اتفق مع (بدل الإضراب) في المعنى. قال سيبويه: لما ذكر بدل الغلط والنسيان والإضراب: قولك: مررت برجلٍ حمارٍ، ومثل / ذلك قولك: لا بل حمارٍ، ومن ذلك: مررت برجلٍ بل حمارٍ، وهو على تفسير: مررت برجلٍ حمارٍ. قال: ومن ذلك: ما مرت برجلٍ بل حمارٍ، وما مررت برجلٍ ولكن حمارٍ، أبدلت الآخر من الأول، وجعلته مكانه.

ثم قال: ومن البدل أيضا قولك: مررت برجلٍ أو امرأةٍ، وإنما ابتدأ بيقين، ثم جعل مكانه شكًا أبدله منه، فصار الأول والآخر الإدعاء فيهما سواء. قال: فهذا شبيه بقوله: ما مررت بزيدٍ ولكن عمروٍ، ابتدأ بنفيه، ثم جعل مكانه يقينًا، فهذا كله - من سيبويه تفسير معنوي لا تقرير اصطلاحي، فلهذا حقق الناظم في تقرير البدل اصطلاحًا ما حقق. و"التابع" مبتدأ أو "المقصود بالحكم" صفة له و"بلا واسطةٍ" في موضع الحال من ضمير "المقصود" وخبر المبتدأ قوله: "هو المسمى بدلا". مطابقًا أو بعضًا أو ما يشتمل ... عليه يلفى أو كمعطوفٍ ببل (مطابقا) مفعول ثان لـ (يلفى) أي يوجد البدل أربعة أقسامٍ ترجع إلى خمسة: أحدها "المطابق" يريد: موافقًا للأول، ومساويًا له في معناه، وهذا هو "بدل الكل من الكل" ويسمى أيضا: بدل الشيء من الشيء، وهما لعينٍ واحدة، وذلك نحو: قام زيد أخوك، ورأيت عمرًا أباك، إذا كان (زيد) هو الأخ و (عمرو) هو الأب. ومنه في القرآن الكريم: } اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم {وقال: } إن للمتقين مفازًا حدائق وأعنابً {. وقال: } وإنك لتهدي إلى

صراطٍ مستقيمٍ صراط الله الذي له ما في السماوت وما في الأرض {. وقال} لنسفعًا بالناصية ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ {. ومنه في الشعر قول كثير، أنشده سيبويه: وكنت كذى رجلين رجلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رمى فيها الزمان فشلت وهو كثير. والثاني "البعض" يريد بعض الأول، ويسمى "بدل البعض من الكل" وذلك نحو: رأيت قومك أكثرهم، وصرفت وجوهها أولها. ومنه في الكتاب العزيز: } ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {فـ"من استطاع" خصوص من "الناس" لأن منهم المستطيع وغير المستطيع. ومنه قوله تعالى: } قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم {. وأنشد سيبويه:

وكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد فـ (حاجبيه) بدل من هاء (كأنه) وهو كثير أيضا. والثالث "ما يشتمل عليه" يعني ما يشتمل الأول المتبوع عليه، أو ما يشتمل هو على الأول، وهذا هو المسمى "بدل الاشتمال" أي لا يكون هو الأول، ولا بعضًا منه، نحو قولك: أعجبني زيد حسنه، وانتفعت بزيدٍ علمه. ومنه قوله تعالى: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. وأنشد سيبويه: وذكرت تقتد برد مائها ... وعتك البول على أنسائها وأنشد لعبدة بن الطبيب: فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما

وأنشد أيضاً لعدى بن زيد: ذريني إن أمرك لن يطاعا ... وما ألفيتني حلمي مضاعا / وأتى بعبارة "بدل الاشتمال" محتملةً لمذهبين، إذ الناس مختلفون في معنى "بدل الاشتمال". فمنهم من قال: إن الأول هو المشتمل على الثاني، ومعنى كونه مشتملاً عليه أنه يصح العبارة بلفظه عنه، والاستغناء عن البدل وأنت تعنيه. فإذا قلت: أعجبني زيد حسنه فـ (زيد) مشتمل على (الحس) بمعنى أنه يصح أن تقول: أعجبني زيد، مكتفيًا به عن ذكر (الحسن) وأنت تعينه، وعلى هذا تقول: أعجبني زيد علمه، ونفعني زيد علمه أو كرمه، وساءني زيد فقره، وكرهت المنزل ضيقه. ومنه الآية: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. وهذا المذهب يحتمله كلام الناظم، على أن يكون الضمير في (يشتمل) عائدًا على المبدل منه، وفي (عليه) على "ما" وهي عبارة عن بدل الاشتمال، كأنه قال: أو ما يشتمل عليه.

وعلى هذا المعنى لا يقال: أعجبني زيد عبده، لأنه لا يقال: أعجبني زيد، وأنت تعني عبده، وكذلك لا يقال: سلب زيد عبده، ويجوز أن يقال: سلب زيد ثوبه، وعلى هذا النمط قس ما يرد عليك. قالوا: وهذا المذهب يظهر من الفارسي في "الأيضاح" وهو مذهب السيرافي. ومنهم من قال: إن الثاني مشتمل على الأول، ويقوى ذلك في بعض المثل: سرق زيد ثوبه، فـ (الثوب) هو المشتمل على (زيد) لا على العكس. وهذا المذهب أيضًا يحتمله كلام الناظم على أن يكون الضمير في "يشتمل" هو العائد على "ما" وفي "عليه" عائدًا على المبدل منه. ولم يرتضه في "التسهيل" لأن نحو: أعجبني زيد كلامه وفصاحته، وكرهت عمرًا ضجره، وساءني خالد سوء خلقه، ونحو ذلك - ليس الثاني فيه مشتملاً على الأول، فالظاهر الأول. وثم مذهب ثالث، أن العامل هو المشتمل على البدل، بمعنى أن معنى العامل متعلق به، وإن تعلق في اللفظ بغيره، نحو أعجبتني الجارية حسنها، فالإعجاب متعلق بالجارية، وهو في المعنى متعلق بالحسن، ولأجل ذلك قالوا: أعجبني الجارية حسنها، بغير علامةٍ في الأكثر، وهو أقرب من الذي قبله، إلا أن بدل البعض بهذا المعنى داخل فيه، لأن المعنى معلق بالبدل لا بالمبدل منه، فيلزم أن يسمى بدل البعض بدل اشتمال. وارتضى هذا المذهب ابن أبي الربيع، وسلم أن بدل البعض والاشتمال في الحقيقة، سواء، إلا أن بدل البعض خص بهذه التسمية، وأبقوا التسمية على الآخر، ولا يحتمل كلام الناظم هذا المذهب.

والنوع الرابع من أنواع البدل: الذي يشبه المعطوف بـ (بل) يريد أنه يشبهه من جهة المعنى، ويصح فيه وقوع (بل) فيكون معطوفا بها، ويخرج عن باب البدل إلى باب العطف. وفي هذا التعبير إشارة إلى أن البدل غير المبدل منه، لأن المعطوف بـ (بل) كذلك، إلا أن هذا النوع على قسمين حسبما ذكر في قوله على إثر ذلك: / وذا للإضراب أعز إن قصدًا صحب ... ودون قصدٍ غلط به سلب "هذا" إشارة إلى أقرب مذكور، وهو الشبيه بالمعطوف بـ (بل) والعزو: النسبة، عزوته إلى الشيء أعزوه عزوًا، وعزيته أعزيه عزيًا، إذا نسبته إليه. فيعني أن هذا النوع إما أن يصحب ذكره قصد الذكر مع المبدل منه، بحيث يكون المبدل منه مقصود الذكر أولاً، ثم يبدل منه، أولا يصحب ذلك. فإن صحب ذلك القصد فهو البدل المعزو للإضراب، أي المسمى بدل "الإضراب" وقد يسمى أيضا "بدل بداء". وأضرب الناظم عن هذه العبارة لإبهامها في التسمية إذا أضيف البدل إلى كلام من لا يليق به البداء. وهذا البدل يقع في الكلام الفصيح، ومنه في الحديث: "إن الرجل

ليصلي الصلاة، وما كتب لها منها نصفها ثلثها ربعها، إلى العشر" والأظهر في قوله: (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره) أن يكون من هذا، وكذلك قول عمر - رضي الله عنه -: صلى رجل في إزارٍ ورداءٍ، في إزارٍ وقميصٍ، في إزارٍ وقباءٍ. وإن لم يصحب القصد، فإن تبعيته للمبدل منه إنما هي ليسلب بها الغلط العارض للمتكلم، ويسمى "بدل الغلط" بمعنى أن المتكلم ينسب الحكم إلى غير من هوله، ثم يتنبه، فيضرب عما ذكر، ويأتي بمن هوله كقولك: رأيت رجلاً حمارًا، إذا كنت قد رأيت الحمار، ثم أردت أن تخبر عنه، فغلطت، فأخبرت عن الرجل، ثم استدركت إزالة الغلط بذكر الحمار. وقالوا: إن هذا الضرب لا يقع في كلامٍ فصيح، ولا هو أصل كلام، وإنما يقع في سبق اللسان، والأولى فيه أن يؤتى بـ (بل) ثم (أتى) بأربعة أمثلة لأربعة أنواع وهي في قوله: كزره خالدًا وقبله اليدا ... واعرفه حقه وخذ نبلاً مدى فـ (زره خالدًا) لبدل الكل من الكل، وهو من إبدال الظاهر المعرفة من الضمير الغائب، و (قبله اليدا) لبدل البعض، وبدل البعض لابد فيه من ضميرٍ عائد على المبدل منه، كما قال في: "اعرفه حقه" في بدل الاشتمال، فتقول: قبلت زيدًا يده، وقبلت زيدًا اليد منه، وقبلت زيدًا يدًا له أو منه.

إلا أنه قد يجوز حذف المجرور، فيبقي البدل مقدرا معه الضمير، كما يجوز ذلك في خبر المبتدأ، وفي باب الصفة المشبهة نحو: } فإن الجنة هي المأوي {يريد: له، وقوله: } جنات عدنٍ مفتحةً لهم الأبواب {يريد: منها (واعرفه حقه) لبدل الاشتمال، لأن خالدا مشتمل على الحق. و"خذ نبلاً مدى" لبدل الإضراب إن فرضت البدل قد صحب القصد، أو لبدل الغلط إن فرضت عدم القصد، فالقسمان يفترقان بالقصد وعدمه، كما نص / عليه. والمدى: جمع مدية وهي الشفرة، هذا تمام الكلام على الإبدال. وبقي النظر فيها في مواضع: أحدها: أن الناس شرطوا في صحة (بدل الاشتمال) شرطين: أحدهما: أن يكون الفعل عند إسناده إلى الأول يستدعى الثاني ويكاد يعطيه، فالكلام قد ظهر منه عدم الاكتفاء بالأول، وسبقية التشوف إلى الثاني، وإليه أشار الشلوبين بقوله: إن من شرط بدل الاشتمال أن يكون الثاني مفهومًا من الأول. ومنه قول الله تعالى: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. فمعلوم أن السؤال لم يتوجه إلى الشهر الحرام من حيث هو شهر؛ بل إلى أمرٍ واقع فيه، وكذلك سائر المثل. فإذا قلت: (أعجبني الجارية حسنها) جاز، ونحو ذلك.

والثاني: أن يكون الفعل يصح إسناده إلى الأول مقتصرًا عليه مع إرادة الثاني، فإن لم يصح إسناده إلى الأول مسكوتًا عن الثاني، وإن قصد المجاز، فيمتنع البدل فلا تقول: أسرجت القوم دابتهم؛ إذ لا يصح فيه إسناد الفعل إلى الأول مقتصرا عليه وإن كان الثاني مفهوما من الأول، وأن الفعل يشير إلى الثاني ويفهمه، لأنك لا تقول: أسرجت القوم، وأنت تريد: أسرجت دابتهم، بخلاف قولك: سرق عبد الله ثوبه، أو نفعني زيد علمه، فإن البدل فيه سائغ، لجواز قولك: سرق عبد الله ونفعني زيد. فهذان شرطان في (بدل الاشتمال) لابد منهما، وقد يستغني عن الشرط الأول بالثاني لأنه لا يستغنى بالمبدل منه عن المبدل إلا وهو دال عليه، وإياه شرط في "الشرح" خاصة. وكذلك أيضا بدل البعض، لابد من جواز الاستغناء فيه بالأول مع إرادة الثاني وفهمه منه، فتقول: جدع زيد أنفه، لأنك تقول: جدع زيد، وأنت تريد: جدع أنفه، ولا تقول: قطع زيد أنفه، لأنك لا تقول: قطع زيد، وأنت تريد: قطع أنفه، كما لا تقول: قتل زيد أخوه، كما لأنك لا تقول: قتل زيد، وأنت تريد: قتل أخوه وكل هذا لم يذكره الناظم. وقد منع النحويون أن يقال: مررت بأربعة رجالٍ صريعٍ وجريحٍ، أو مررت بأربعةٍ رجلٍ وامرأةٍ على البدل، بل يجب القطع، ويمتنع الإتباع على (بدل البعض) قالوا: لأنه لا يصح إطلاق الأربعة والمراد اثنان، فيجب القطع على قصعد التبعيض. وكذلك إذا قلت: رأيت رجالاً زيدًا وعمرًا، لا يجوز الإتباع؛ بل يجب

القطع، فتقول: رأيت رجالاً زيد وعمرو، وإن جاء خلاف ذلك فشاذ نحو ما قال النابغة: توهمت آياتٍ لها فعرفتها ... لستة أعوامٍ وذا العام سابع رماد ككحل العين لأيا أبينه ... ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع يروى برفع "رماد، ونؤى" ونصبهما. وقد أجاز ابن خروف الإتباع في المسألة على بدل / البعض، ولم يذكر سيبويه إلا القطع. ووجه المنع، على ما تقدم، ظاهر. فالحاصل أن الناظم قصر في هذا الفصل، ثم ختمه بمثال يقتضى خلاف ذلك، وهو قوله: "اعرفه حقه" إذ يشكل أن يقال: عرفت زيدًا، إذا عرفت حقه، لصحة تسلط العرفان على نفس زيدٍ، وأن لا يراد الثاني. والثاني: من مواضع النظر أن إطلاقه يقتضي أن "بدل الغلط" صحيح كثير؛ إذ لم يقيده بقلة؛ بل أردفه في الإطلاق بـ (بدل الإضراب)

فإن فهم من إطلاقه في الإضراب الشياع والكثرة، فليفهم له مثل ذلك في بدل الغلط، وإذ ذاك يكون مخالفًا لما نص عليه غيره. والثالث: أنه ترك من أقسام النوع الرابع قسمًا ثالثا، وهو "بدل النسيان" فقد ذكره الناس، وفرقوا بينه وبين الغلط، فإن النسيان مختص بالقلب، والغلط مختص باللسان. فإذا قلت: رأيت رجلاً حمارًا، فقد يكون مرادك ذكر الحمار قصدًا، ولكن اللسان غلط، فنطق بزيد، فأبذدل منه الحمار، وقد يكون مرادك ذكر زيدٍ اعتقادًا أنه المرئي، ولم يكن هو المرئي في الحقيقة؛ بل الحمار، ثم لما ذكرت زيدًا تذكرت أن المرئي كان الحمار، فأبدلته منه، وهذا فرق واضح. وقد ذكر سيبويه الغلط والنسيان فقال وإنما يجوز: رأيت زيدًا أباه، ورأيت زيدًا عمرًا، أن يكون أراد أن يقول: رأيت عمرًا، أو رأيت أبا زيدٍ، فغلط أو نسى. ثم استدرك كلامه بعد، فأتى بـ (أو) في قوله: "فغلط أو نسى" فجعلهما قسمين. ثم أنه في "التسهيل" لم يذكر بدل النسيان كذلك. والجواب عن الأول أن يقال: لعله لا يقول باشتراط ذلك الشرط ولاسيما ومثالاه في بدل البعض والاشتمال لا يظهر منهما ذلك، وقد تبين في "اعرفه حقه". وكذلك قوله: (قبله اليد) إذ لا يقال: قبلت المرأة، إذا قبلت يدها، كما لا يقال: قطع زيد، إذا قطع أنفه، إلى غير ذلك من الأمثلة، فكأنه لم ير اشتراط ذلك الشرط ويكون مستنده في ذلك ما ذهب إليه ابن خروف: مررت

بأربعة صريعٍ وجريحٍ، من إجازة البدل وإن كان الأول لا يطلق فيه ويراد الثاني. وهذا الجواب مشكل فانظر فيه. وعن الثاني أن سيبويه ذكر بدل الغلط والنسيان، ولم يقلله ولا استقبحه بل أطلق القول فيه كسائر أقسام البدل. وقال في أبواب الصفات: والمبدل يشرك المبدل منه في الجر، وذلك قولك مررت برجلٍ حمارٍ، فهو على وجهٍ محال، وعلى وجه حسن. فأما المحال فأن تعنى أن الرجل حمار، وأما الذي يحسن: فهو أن تقول: مررت برجلٍ، ثم تبدل الحمار مكان الرجل فتقول: حمارٍ، إما أن تكون غلطت أو نسيت فاستدركت، وإما أن يبدو لك أن تضرب عن مرورك بالرجل، وتجعل مكانه مرورك بالحمار بعد ما كنت أردت غير ذلك. فانظر كيف جعل ذلك حسنًا، خلاف ما يقوله غيره من هؤلاء المتأخرين، غير أنه كما قال السيرافي: لا يقع / في شعر ولا كلامٍ معمولٍ محكك؛ بل يجيء على سبق اللسان إلى ما لا يريده، فيلغيه ويلفظ بما يريد. وما قال لا يدل على أنه ضعيف. وقال الفارسي: حق هذا أن يستعمل فيه (بل) وهذا أيضًا لا يدل على ضعفه. وعن الثالث: أن (بدل النسيان) قد يدخل تحت (بدل الغلط) لتقاربهما من جهة المعنى، أو يقال في ذلك ما رأيت في بعض التقاييد،

من أن الغلط لما كان معناه سبقية النطق بما لم يرد، ثم يتذكر فينطق بما أراد. قال: ويتصور وجود ذلك في حالة واحدة، ولذلك ذكره النحويون، ولم يذكروا النسيان، فإن معناه أن يكون أراد أبا زيدٍ مثلا، فنسى ونطق بزيدٍ، ثم استبان له مراده، فنطق بالأب. قال بعض الشيوخ: ويلزم على هذا وقوع النسيان والتذكر في زمن فرد، وهذا لا يتصور، فلهذا عدل النحويون عنه للغلط، ثم نزل إثبات من أثبته على أن يكون أراد أن يخبر برؤية الأب قبل قوله: رأيت، ثم نسى قبل إخباره بذلك، فأخبر برؤية زيد، ثم تذكر عند ذلك، فذكر من أراد، فيكون النسيان واقعا في غير زمان التذكر، وهو متصور. فقد ظهر من هذا أن النحويين، يعني كثيرا منهم، تحاموا ذكر بدل النسيان لما فيه من الإشكال، فيكون ابن مالك ترك ذكره لمثل ذلك، فلا اعتراض عليه، والله أعلم. واعلم أن (بدل الغلط) وإن قيل بجوازه، فإن الأولى عنده أن يؤتى بـ (بل) وقد نص كثير من النحويين على أنه لم يسمع، وإنما تكلم عليه سيبويه وغيره على جهة القياس، حتى قال الماردي: وقد عنيت بطلب هذا البدل في الكلام والشعر فما وجدته، ولقد طالبت به غيري فما عرفه، إلا أن بعض أصحابنا قال لي: هو في شعر ذي الرمة حيث يقول:

لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب فـ (الحوة) مبتدأ (ولعس) بدل غلط منه، لأن الحوة غير اللعس، والحوة: السواد بعينه، واللعس: سواد مشرب بحمرة. قال: وليس البيت على ما ذكر، وإنما اللعس: مصدر وصفت به الحوة، تقديره: حوة لعساء، كقولك: حكم عدل، وقول فضل، قال: فهذا أولى. هذا ما قال، وقد قيل: إن الحوة واللعس بمعنى واحد، وذلك حمرة إلى السواد، فلا دليل فيه. والظاهر أن هذا النوع، كما قالوا، قياس غير مسموع، لكن هذا ما يظهر من كلام الناظم. ومن ضمير الحاضر الظاهر لا ... تبدله إلا ما إحاطةً جلا أواقتضى بعضًا أو اشتمالا ... كأنك ابتهاجك استمالا هذه مسألة أشار فيها إلى أوجهٍ من البدل تتصور فيها، وأفاد ذلك بذكر وجه واحد من أوجهها، وسكت أيضا عن التقييد بقيد، فأفاد أوجهًا أخر في البدل، وذلك أنه لم يذكر / في هذا الباب للتبعية قيدًا بالنسبة إلى تعريف أو تنكير، كما فعل بالنعت؛ بل أطلق القول كما في العطف، فدل على أنه لا يشترط التوافق فيما بينهما، فيتصور إذًا في كل نوع من الأنواع أربعة أوجه.

أما في (بدل الكل من الكل) فيبدل المعرفة من المعرفة نحو: جاءني زيد أخوك ومنه في القرآن العزيز: } إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم {، وقوله: } بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله {، على قراءة الخفض، وهي لغير نافع وابن عامر. ويبدل النكرة ن من النكرة حو: جاءني رجل صاحب لك، وفي القرآن الكريم: } يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ {، على أحد الاحتمالين، وقال كثير: وكنت كذى رجلين رجلٍ صحيحةٍ ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت أنشده سيبويه، وأنشد أيضا للعجاج: خوى على مستوياتٍ خمس ... كركرةٍ وثفناتٍ ملس ويبدل النكرة من المعرفة كقولك: جاءني زيد أخ لك. ومنه في القرآن: } لنسفعًا بالناصية، ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ {.

ونقل المؤلف عن الكوفيين أنهم يشترطون في هذا الوجه وحده اتحاد اللفظين كما في الآية. قال المؤلف: والعرب لا تلتزم هذا، ثم أنشد الاحتجاج عليهم بيت حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما يتمما وأنشد بيتًا آخر لم أقيده، وسكوته في هذا النظم عن هذا القيد دليل على مخالفته للكوفيين، وأما في (بدل البعض) فكذلك أيضا، فالمعرفة من مثلها نحو: أكلت الرغيف ثلثله، وضده: أكلت رغيفًا ثلثًا منه، والمعرفة من النكرة: أكلت رغيفًا ثلثه، وعكسه: أكلت الرغيف ثلثًا منه. ومن الأول: قوله تعالى: } ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {. وقوله: } قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم {. الآية.

وأما في (بدل الاشتمال) فكذلك، نحو: نفعني زيد علمه، ومنه ما أنشده سيبويه: * وذكرت تقتد برد مائها * وأنشد أيضا: فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما وأعجبني جارية حسن منها، ومنه قول الأعشى: لقد كان في حولٍ ثواءٍ ثويته ... تقضى لبانات ويسأم سائم وأعجبني الجارية حسن منها، ومنه قوله تعالى: } يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه {. وأعجبني جارية حسنها، ومن ذلك كثير. وأما (بدل الإضراب والغلط) فلم يعتن الناظم بالتفريع عليه، وكذلك غيره، وإلا فالصور فيه ممكنة، فتركت التفريغ فيهما لذلك. وهذا - والله اعلم - مشعر بكونهما عنده ليسا في رتبة ما تقدم، وإن كانا جائزين على الجملة، فهذا مأفاده ترك التقييد المذكور.

وأما ما أشار إليه من الأوجه، فيتفرع بيانها على باين كلامه، وذلك أنه نص على أن الظاهر لا يبدل من ضمير الحاضر، كان الحاضر / متكلمًا أو مخاطبًا، إلا على أوجه ثلاثة: أحدها: أن يكون البدل مفيدًا للإحاطة، وهو قوله: (إلا ما إحاطًة جلا) يريد أن يكون البدل هنا يفيد ما يفيده (توكيد الإحاطة). فإذا كان كذلك جاز البدل من ضمير المخاطب وغيره، مثال ذلك: جئنا ثلاثتنا، ومطرنا سهلنا وجبلنا، وغنيتم أولكم وآخركم، وفي القرآن} تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا {. وإنما جاز لجريانه مجرى التوكيد في المعنى، ولذلك يطلق عليه سيبويه لفظك التوكيد، والتوكيد يجري على الضمير مطلقا، كما يجرى على الظاهر، فكذلك ما في معناه. فلو لم يفد توكيد إحاطة فمقتضى كلامه أنه لا يجوز، فلا تقول: ضربتك زيدًا، ولا ضربت زيد عمرًا، لأن الحضور قد أغنى عن ذلك، فصار البدل كالضائع؛ إذ لو سكت عنه لم يخل بمعنى ولا لفظ. وفي هذه المسألة خلاف، فالجمهور على ما قاله الناظم، وججتهم ما تقدم، وأيضًا فلا سماع يعتد به. وأجازه الأخفش، وإليه مال في "التسهيل" بعض ميل، بناءً على السماع والقياس.

أما السماع: فنحو قول أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "أتينا النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الشعريين". وقول الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدًا قد تذريت السناما وقال الآخر: بكم قريشٍ كفينا كل معضلةٍ ... وأم نهج الهدى من كان ضليلا وأما القياس فظاهر، فإن ضمير الغائب إذا كان البدل منه جائزا، كقول الشاعر: على حالةٍ لوأن في القوم حاتمًا ... على جوده لضن بالماء حاتم وعليه حمل قوله تعالى: } وأسروا النجوى الذين ظلموا {، كان هنا جائزا وأيضا إذا كان جائزا في (بدل البعض والاشتمال) وإن كان المبدل منه ضمير حاضر، فليجز في بدل الكل، .

أنشد سيبويه: ذريني إن أمرك لن يطاعا ... وما ألفنيتني حلمي مضاعا وقال الآخر: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وأيضا، فإذا كان امتناعكم من البدل هاهنا لأن ضمير الحاضر لا يدخله لبس فينبغي أن يمنع البدل من ضمير الغائب لأنه لا يدخله لبس، ولذلك لم ينعت المضمر مطلقا، ولما كان ضمير الغائب يبدل منه، مع أنه لا لبس فيه، دل على أن اللبس أو عدمه غير معتبر، وأن ضمير الغائب والحاضر في الإبدال منه سواء. والجواب أن ما ذكر من السماع محتمل ونادر، والنوادر لا يبني عليها حكم مع إمكان تأويلها. وأما القياس: فالفرق ظاهر، فإن ضمير الغائب قد يلتبس فيحتاج إلى البيان، والبدل يؤتى به للبيان، بخلاف ضمير الحاضر كما تقدم. وأما القياس على النعت فغير بين، لأن نعت الضمير لم يمتنع من أجل اللبس وإنما امتنع من جهة نيابته مناب ما لا ينعت، وهو الظاهر المعاد، ألا ترى أنك إذا قلت: لقيت رجلاً / فأكرمته، فالهاء نائبة مناب

إعادة "الرجل" وأنت لو قلت: فأكرمت الرجل - لم يجز نعت "الرجل" فتقول: فأكرمت الرجل العاقل، فكذلك لا يجوز نعت ما ناب منابه. والوجه الثاني: أن يكون البدل بعضًا، وهو قوله: (أو اقتضى بعضًا) أي: دل على بعض الأول، فهناك أيضا يجوز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر فتقول: عجبت منك من وجهك، وعجبت مني وجهى، وقد تقدم وجه الجواز. والثالث: أن يكون بدل اشتمال، وهو قوله: "أو اقتضى اشتمالا" نحو: عجبت منك حسنك، وعجبت مني حسني، وما أشبه ذلك. وأتى بمثال لهذا الوجه، وهو قوله: "كأنك ابتهاجك استمالا". والابتهاج والبهجة: الفرح والسرور، والاستمالة: الإمالة في المعنى، يقال: استمالني الشيء، واستمال بقلبي، إذا أماله إليه. ولم يذكر ذلك في بدل الإضراب والغلط كما تقدم، فلنضرب عنه صفحًا كما فعل. وإذا تقرر هذا فلابد من النظر فيما يشير إليه. وجملة النظر فيه يقتضي أن (ما عدا ما تقدم جائز) والأوجه المتصورة التي ينفصل عنها ما ينفصل، ويبقى ما يبقى أربعة أوجه: إبدال ظاهرٍ من ظاهر، وإبدال مضمرٍ من مضمر، وإبدال مضمرٍ من ظاهر، وإبدال ظاهرٍ من مضمر، وذلك في كل واحد من بدل الكل، والبعض والإشتمال. فأما (بدل الكل من الكل) فتقول في الظاهر من الظاهر: أكرمت زيدًا أخاك، وفي ضده زيد أكرمته إياه، في الغائب، وأكرمتك إياك، في المخاطب، وأكرمتني إياي، في المتكلم.

وهذه الأوجه في الضميرين جائزة على البدل عنده بمقتضى كلامه هنا، لأنه لم يتحرز من ذلك. وكذلك في باب (التوكيد) حيث قصر التوكيد بالمضمر على ضمير الرفع، إذ قال: ومضمر الرفع الذي قد انفصل ... أكد به كل ضميرٍ اتصل وقد منع ذلك في "التسهيل" وجعل ما جاء منه توكيدًا لفظيًا جريًا على مذهب الكوفيين، وكذلك بدل المضمر من الظاهر، وغيره من البصريين على ما ذهب إليه هنا، وقد تقدم في "باب التوكيد" نقل المذاهب. والظاهر ما فهم منه هنا من مذهب البصريين، لما ثبت عن العرب أنها إذا أرادت التوكيد أتت بالضمير المرفوع المنفصل فقالت: جئت أنت، ورأيتك أنت، ومررت بك أنت، فإذا أرادت البدل وفقت بين التابع والمتبوع فتقول: جئت أنت، ورأيتك إياك، ومررت به به، فيتحد لفظ التوكيد والبدل في الرفع. هكذا نقل سيبويه عن العرب، وتلقاه منه غيره بالقبول، وهم المؤتمنون على ما ينقلون، لأنهم شافهوا العرب، وعرفوا مقاصدها، فلا يعارض هذا بقياسٍ بأن يقال: إن نسبة المنفصل إلى المتصل في الرتبة الواحدة نسبة واحده، فكما كان في رتبة الرفع توكيدًا باتفاق، فليكن كذلك في رتبة النصب أيضا، وكذلك ينبغي في القياس في ضمير الجر إلا أنه متصل.

وتقول في بدل المضمر من الظاهر: أكرمت زيدًا / إياه، ومررت بزيدٍ بي، وجاء زيد هو، وهذا في (الغائب). وأما (الحاضر) فمثاله في المتكلم: أكرم زيد عمرًا إياي، ومررت بزيد لي، وجاء زيد أنا. وفي (المخاطب): أكرمت زيدًا إياك، ومررت بزيدٍ بك، وجاء زيد أنت. والأظهر: أن مثل هذا لا تقوله العرب إلا على الغلط والنسيان، لأن السماع في ذلك معدوم والله أعلم. وتقول في بدل الظاهر من المضمر، وهو (للغائب): زيد أكرمته أبا عبد الله، والذي مررت به أبي عبد الله زيدٍ، حكي هذا مسموعا. وأما (الحاضر): فقد مر استثناء الناظم له، ووجه ما ذهب إليه. وأيضا: فإن موضع (الحضور) ليس موضع الأسماء الظاهرة، وإنما يقع الاسم الظاهر على (الغائب) ولا يقع على (المتكلم) ولا (المخاطب) إلا في النداء والتحضيض نحو: يا زيد، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة، بخلاف غير (بدل الكل) من الأبدال، فإن ذلك فيها جائز، كما نص عليه، لأن مدلول الضمير الذي للمتكلم أو المخاطب ليس بالظاهر، فوقع في موقعه من مواضع الغيبة. وأما (بدل البعض) فتقول في الظاهر من الظاهر: قطع زيد يده، وفي ضده: زيد يده قطعته إياها، وثلث الخبزة أكلتها إياه.

وفي الظاهر من المضمر: زيد قطعته يده، وزيد عجبت منه من وجهه. ومنه قوله، أنشده سيبويه: وكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد فأبدل "الحاجبين" من هاء "كأنه". وفي (المخاطب): عجبت منك وجهك، ومنه قول الله تعالى: } لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر {. وفي (المتكلم): عجبت مني وجهي، ومن ذلك قول الراجز: أوعدني بالسجن والأداهم ... رجلي ورجلي شثنة المناسم وفي المضمر من الظاهر: ثلث الخبزة أكلت الخبزة إياه، ووجه هندٍ أعجبتني هند إياه. ولا يمثل مثل هذا إلا بتكلف، ولم يأت به سماع، وإنما قاسه النحويون.

وأما (بدل الاشتمال) فتقول في الظاهر من الظاهر: سرق زيد ثوبه، وفي ضده: حسن زينب أعجبتني هو. وفي الظاهر من المضمر: زينب أعجبتني حسنها، وفي عكسه: حسن زينب أعجبتني زينب هو. وهذا من قبيل (بدل البعض) في التكلف وعدم السماع وعدم تأتي الإبدال فيه وفيما قبله في ضمير الحاضر إلا بمضضٍ، إن كان. وقد حكي الشلوبين في هذا النوع من التفريع خلافًا في بدل المضمر من الظاهر أو من المضمر، فمنهم من أجاز ذلك، وهو ظاهر إطلاق الناظم، ومنهم من منعه ووجه الجواز ظاهر على طريقة من جعل البدل على تقدير طرح الأول. وإذا كان كذلك فقولك: ثلث الخبزة أكلت الخبزة إياه، أو أكلتها إياه - قد عاد فيه إلى المبتدأ ضمير من الخبز، وهو قولك: إياه. فإن قيل: إن الخبر (أكلت) ولم يعد منه ضمير إلى الثلث، والبدل خارج عن ذلك - قيل: إن البدل في الحكم في موضع المبدل منه، ولذلك قال في حده: إنه التابع المقصود بالحكم، أي إن الأول غير مقصود، بل الثاني، وهو الضمير الرابط. وقد مر التنبيه / على هذا المعنى في باب "الاشتغال" وباب "عطف البيان".

وإن قلنا: إن البدل على تقدير تكرار العامل فذلك أمر تقديري صناعي، واللفظ هو المعتبر لا التقدير، كما لم يعتبر التقدير في نحو: زيد قائم وعمرر. وأما (بدل الإضراب) وقسيمه فقد يتأتي فيهما أوجه مما تقدم، ولكنني تركته، لأنه ترك التنبيه عليه، ولا كبير فائدةٍ في تصوير تلك الأوجه. والهاء في "تبدله" عائد على "الظاهر" اشتغل عنه بضميره. و"الظاهر" مفعول لفعل مضمر من باب الاشتغال. و"من ضمير الحاضر" متعلق بـ"لا تبدله) كما في قولك: كل يومٍ زيدًا اضربه. و"جلا" بمعنى: أظهر، تقول: جلوت الشيء، بمعنى أوضحته، وجلوت العروس جلوًة أبرزتها لزوجها، وجلأ أيضا، أي: ما أظهر معنى الإحاطة من الإبدال. وفي هذا المثال، وهو قوله: "إنك ابتهاجك استمالا" تنبيه على مسألة حسنة، وذلك أنه أتى بالخبر الذي هو "استمال" جاريًا على "الابتهاج" وهو البدل، ولو أجراه على المبدل منه لقال: استملت، كأنه قال: إنك استملت، فكأنه اعتمد في الإخبار على البدل، وهذا جارٍ على ما مهد أولاً في البدل، من أنه المقصود بالحكم دون المبدل منه، ويظهر منه، إذا ضممنا حده للبدل، لهذا الموضع، أنه لازم، وهو على الجملة صحيح. إلا أنه يرد عليه إشكالات، وبالنظر فيها يتبين هذا الموضع إن شاء الله. فمن ذلك أنه لم يعتمد في "التسهيل" على لزوم هذا الحكم للبدل، بل قال هناك: والكثير كون البدل معتمدا عليه، وقد يكون في حكم الملغي.

قال في "الشرح"، ويقل الاعتماد على المبدل منه، وجعل البدل في الحكم الملغى كقول الشاعر: وكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد فجعل "حاجبيه" وهو بدل في حكم ما لم يذكر، فأفرد الخبر، ولو جعل الاعتماد على البدل لثنى الخبر، كما تقول: إن زيدًا يديه منبسطتان بالخبر، ولو جعلت البدل في حكم الملغى لقلت: إن زيدًا يديه منبسط بالخير، قال: ومثله قول الآخر: إن السيوف غودها ورواحها ... تركت هوازن مثل قرن الأعضب فجعل الخبر للسيوف، وألغى "غدوها ورواحها" ولو لم يلغها لقال: تركا، كما تقول: الجارية خلقها وخلقها سيان. قال: ومن الاعتماد على المبدل منه، وجعل البدل في حكم الملغى قولك: زيد رأيت أخاه عمرًا، وجاء الذي رغبت فيه عامر، انتهى كلامه. فهذان نوعان يردان نقضًا عليه هنا:

الأول: الأخبار عن المبدل منه دون البدل، والإخبار دليل على أنه المعتمد عليه الكلام. والآخر: عود الضمير على المبتدأ والموصول من المبدل منه دون البدل، وهو أيضا دليل على جعله عمدة الكلام. وهذا الثاني ليس بقليل؛ بل فيه كثرة تعتبر. وأما الأول / فإن كان المؤلف قد عده قليلا، فغيره قد جعله جائزا جوازا يقتضى الكثرة. قال ابن خروف في بيت الكتاب: أعاد الضمير في "معين" على اسم "كأن" وترك البدل، وكلاهما جائز، فهذا كما ترى. وأيضا فليس بمختص ببدل البعض، بل هو جارٍ في بدل الاشتمال كبدل البعض حرفًا بحرف، فتقول: هند وجهها حسن، وحسنة. ونوع ثالث، وهو أنك إذا قلت: أعجبتني الجارية حسنها - فلك في "أعجب" وجهان، إلحاق العلامة اعتبارًا بالمبدل منه، وعدم إلحاقها اعتبارًا بالبدل، كلاهما جائز، فعلى إلحاقها يكون المبدل منه هو المعتبر، والبدل في حكم الملغى، وليس بقليل في الكلام. فالحاصل: أن البدل على ضربين، منه ما يعتبر، ومنه ما لا يعتبر، فكيف يقول في البدل: إنه المقصود بالحكم؟ والجواب عن الأول أنه قليل بحيث لا يعتبره الناظم في مثل هذا النظم. وأيضًا، فقد أول بيت سيبويه على أنه مما أخبر فيه بالمفرد

عن المثنى، ورشح ذلك هنا تلازم الاثنين، كما أخبر عن "العينين" إخبار المفرد في قوله، أنشده النحويون: لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهل وبابه. وقال بعض المتأخرين: الصواب أن يخبر عن البدل لا عن المبدل منه، إذ هو في نية الطرح، وإنما المعنى على البدل، وجئ به آخرًا ليؤكد به، ويعتمد عليه. فالوجه: أن يخبر عنه، إلا أنهم أخبروا عن الأول منبهةً على أنه ليس في نية الطرح البتة، وأنه مراعي بتلفتٍ في بعض المواطن، والكثير الخبر عن الثاني، وخرج هذا، يعني البيت، منبهةً على ما ذكر. قال: ويدل على أن الأول ليس في نية الطرح قولهم: زيد ضربته أبا بكر، فلو كان الأول في نيه الطرح لما جازت المسألة، لخلوها من ضمير يعود من الخير، وهو جملة، إلى المبتدأ.

قال: فإن قيل: إذا كان الخبر إنما يكون عن الثاني، فإذا قلنا: أجبتني الجارية حسنها - فالصواب إسناد الفعل إلى الحسن، لأنه بدل، والأول مبدل منه. قيل: ليس كذلك، لأن البدل في تقدير تكرار العامل، فعامل الثاني محذوف مقدر مسند إليه، مذكر، وهذا الظاهر مسند إلى الأول وهو مؤنث، فالوجه التأنيث، بخلاف الخبر الصناعي الذي الوجه فيه الإخبار عن البدل، وقد يجوز تذكير الفعل اعتبارًا بالبدل، هذا ما قال، وهو قد يكفي في الجواب عن الأول والثالث. والذي يقال ها هنا، والله أعلم، أنه قد تقدم أن البدل يأتي على وجهين: أحدهما: أن يكون المتكلم أراد ذكر البدل، فأتى أولاً بموطئ له، ليكون ذكره ثانيا بعد التوطئة له أولاً أوفى بالغرض. والثاني: أن يكون ذكر المبدل منه أولاً اعتقادًا أنه كافٍ، أو إبهامًا، ثم بدا أن يبين ما لم يكن مبينا للمخاطب، وإذا كان كذلك، وكان / الثاني هو المعتمد عليه بحسب المعنيين كليهما - فذكر المبدل منه في الوجه الأول بالقصد الثاني، لا بالقصد الأول، بخلافه في الوجه الثاني، فإنه بالقصد الأول، لكن عرض ما صيره معدولاً عنه، وكالمتروك وإن كان غير متروك. فعلى هذا التقرير ينبني النظر هنا، وعند ذلك فلا يخلو أن يتأخر الخبر أو يتقدم. فإن تأخر كان المعتبر هو البدل، لأنه المقصود المقرر في كلا الوجهين، واستقام الجواب المتقدم.

وإن تقدم الخبر فهي مسألة: أعجبتني الجارية حسنها، فإن اعتبرت الوجه الأول كان ترك التاء هو الأولى، لأن ذكر "الجارية" فيه وقع بالقصد الثاني والمراد "الحسن". وإن اعتبرت الوجه الثاني كان الأولى والأحق إلحاقها إذا كان المقصود أولاً ذكر "الجارية" فأسندت الفعل إليها على ما ينبغي، ثم بدا لك أن تذكر "الحسن" فلم يكن إلحاق التاء قادحًا في كون "الحسن" مقصودًا دون "الجارية". وفي الوجه الأول: كان "الحسن هو المقصود، وإنما ذكرت "الجارية" تبعًا أو كالتبع. ولكن لا يمتنع في الوجه الأول إلحاق التاء إعتبارًا باللفظ، ولا في الوجه الثاني إسقاطها اعتبارًا بما انصرف القصد إليه. وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار بأن البدل في تقدير تكرار العامل، لأن ذلك غير بين، وقد تقدم له تقرير. والعامل عند سيبويه في البدل والمبدل منه واحد من غير تقدير عاملٍ آخر، وحيث ظهر منه ذلك فتفسير معنًى لا تقدير إعراب. وأما مسألة عود الضمير من المبدل منه دون البدل فمبنى على أصل آخر، وذلك أن البدل مع المبدل منه تابع ومتبوع، فحكمه حكم سائر التوابع، من النعت، وعطف البيان، وغيرهما، مع متبوعاتها، بل هو أشبه بالنعت وعطف البيان، ولا فرق بينهما إلا أن المقصود في النعت وعطف البيان هو الأول دون الثاني، وبالعكس في البدل، وذلك غير قادح في جريان حكم التابع عليه. ألا ترى أنه مفرد جارٍ على مفرد، وتابع له بحسب العامل الأول، وكما أن النعت وعطف البيان، وعطف النسق، مع متبوعاتها في عود الضمير منها إلى

المبتدأ والموصول على حكمٍ واحد في الجواز، كذلك في البدل مع المبدل منه، فكما يعود الضمير من النعت وإن لم يكن هو المقصود نحو: هند ضربت رجلاً يحبها، فكذلك يعود الضمير من المبدل وإن لم يكن هو المقصود، وعود الضمير من المنعوت كعوده من البدل. وقد منع بعض النحويين عود الضمير من البدل، بناًء على أنه من جملة أخرى، لأنه في تقدير تكرار العامل، وهذا ضعيف، وقد تقدم التنبيه عليه. ونص ابن الضائع على الجواز معتمدًا على أنه مع المبدل منه كغيره من التوابع وبأن عود الضمير من المعطوف جائز، فعوده من البدل أجوز لأنه بيان، فصار كالنعت، فيجوز إذًا أن يقال: زيد قام عمرو أخوه، وزيد قام أخوه عمرو، / وزيد مررت أبي عبد الله، وزيد مررت به بأبي عبد الله به، والذي مررت به أبي عبد الله زيد، والذي مررت بأبي عبد الله به زيد، إلا أن قولك: زيد قام عمرو أخوه، أو قام أخوه عمرو - حسن في الكلام، كثير في الاستعمال؛ وفي قوة ما هو كثير، بخلاف المسائل بعده، فإنها قليلة في الاستعمال. وسبب ذلك أن المسألة الأولى غير معدولٍ بها عن صوب الاستعمال؛ إذ لم يؤخر ما كان حقه التقديم، فوقع البدل موقعه من المبدل منه، فإن البدل لم يقع هنالك موقعه، فإن الأولى في باب الإخبار أن يخبر عن البدل والمبدل منه معا، كما يخبر عن النعت والمنعوت معا، وكما هو

الأولى في المعطوف والمعطوف عليه بيانًا، وفي المؤكد مع المؤكد، وقد نصوا على ذلك في باب "الإخبار". فإذا قلت: زيد مررت به أبى عبد الله، فـ (أبو عبد الله) في الحقيقة جارٍ على (زيد) فكان الأولى أن يقال: مررت بزيدٍ أبي عبد الله، أو يقال: زيد أبو عبد الله مررت به. وهذا كلام صحيح، كقولك: زيد قام أخوه عمرو، وليس فيه من الضعف شيء، ولذلك اختار النحويون: المازني وابن السراج وغيرهما في الإخبار أن يكون الإخبار عنهما جميعا، فتقول: الذي مررت به أبو عبد الله زيد. وهذا صحيح أيضا. فإن قيل: فكان الوجه إذًا في هذه المسائل أن يعتبر فيها البدل في إعادة الضمير دون المبدل منه، أو يكون اعتباره هو الأقوى، ويعتبر المبدل منه على ضعف، كما قالوا في بيت سيبويه: * كأنه .. ما حاجبيه معين بسواد * والأمر بخلاف ذلك. قيل ليس هذا من قبيل البيت، بل من قبيل: أعجبني الجارية حسنها، لأن الموصول والمبتدأ يحتاجان إلى رابط، كما يحتاج الفعل إلى فاعل، فلما اعتبر في الفاعل أقرب مذكور في أحد الوجهين، وكأنه راجح، اعتبر أقرب مذكور في إعادة الضمير أيضا، فهما في هذا المعنى مستويان، فصح إذًا أنه لا حجة لابن مالك، ولا لغيره، على أن البدل قد يكون في حكم الملغي.

وهي مسألة غامضة، نشأ النظر فيها من القاعدة الأولى وثبت أن حد ابن مالك في هذا النظم للبدل صحيح، وأن قوله: (كأنك ابتهاجك استمالاً) تنكيت على هذه النكتة الحسنة التي "يغفل عنها كثير من الناس، وأصلها لسيبويه - رحمه الله. وبدل المضمن الهمزيلي ... همزًا كمن ذا أسعيد أم علي؟ يعني أن المبدل منه إذا كان مضمنًا معنى الهمز، أي همزة الاستفهام، فإن البدل يقع واليًا لذلك الهمز، يريد تتقدمه همزة الاستفهام مواليًة له، فتقول: من هذا الرجل أسعيدٍ أم علي؟ وهو مثاله وكم هذه الدراهم أعشرون أم ثلاثون؟ وكيف أنت أصحيح أم سقيم؟ ولم أكرمت زيدًا لعلمه أم لجوده؟ وأي الناس جاءك أزيد أم عمرو أم فلان؟ وماذا أنت تصنع أتابوت أم كرسي؟ ولابد من الهمزة لأن المبدل / منه قد تضمنها لما أريد من معنى السؤال، فلابد إذا أبدل منه أن يؤتى بمعناه المراد، والبدل يقع تفصيلاً للمبدل منه إذا اقتضى التفصيل، فلابد من ظهور الهمزة داخلةً على كل تفصيلٍ ذكر، حتى يستوفي المقصود من مدلول الاسم المضمن معنى الهمزة. وهذا الإبدال إنما يكون بالهمزة وحدها، لأنها المضمنة في أسماء الاستفهام، وهي أم الباب عندهم: فلا يضمن غيرها، فلذلك قال: "المضمن الهمز"

ويبدل الفعل من الفعل كمن ... يصل إلينا يستعن بنا يعن يعني أن الفعل في باب (البدل) يشارك الاسم كالعطف، فيبدل الفعل من الفعل، كما يعطف الفعل على الفعل، فكما تقول: من يكرمني ويكرم زيدًا أكرمه، كذلك تقول: من يجئني يلمم بي أعطه. لكنه اشترط في (البدل) هنا شرطًا لم يصرح به، وإنما أشار إليه مثاله، لأنه أتى بالمبدل منه فعلاً مجملا، وهو "يصل إلينا" ثم أبدل منه فعلا مبينًا لمعنى "يصل" وهو "يستعن بنا" فأعطى المثال أن الفعل يبدل من الفعل إذا أفاد زيادة بيانٍ للأول. وعلى ذلك قوله تعالى: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا {. فقوله: } يضاعف له العذاب {بدل من} يلق أثامًا {وهو بيان للقى الأثام. ومنه ما أنشد سيبويه عن الأصمعي عن أبي عمرو: إن يبخلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا يغدوا عليك مر جليـ ... ـن كأنهم لم يفعلوا

فقوله: } يغدوا عليك {بدل من "لا يحفلوا" وهو تفسير له، وأنشد سيبويه: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلاً ونارًا تأججا وأنشد أيضا: إن على الله أن تبايعا ... تؤخذ كرهًا أو تجئ طائعا فإن تخلف الشرط لم يسغ لعدم الفائدة، فإنك إذا قلت: من يستعن بنا يصل إلينا يعن - لم يكن في البدل فائدة ولا بيان، فكان ضائعا، فإذا عكست المسألة كما في المثال الناظم، صحت لحصول الفائدة بذلك. ولما سكت عن إبدال الاسم من الفعل أو العكس دل على أنه عنده ممنوع مطلقا، وإن كان الاسم يشبه الفعل، بخلاف العطف كما تقدم. أما في البدل؛ فلا، لأن من حقيقة البدل أن يصح حلوله محل المبدل منه، ولا يمكن ذلك في الاسم مع الفعل مطلقا، وهذا ظاهر. واعلم أن في كلامه هنا تقصيرًا من وجهين:

أحدهما: أنه مثل بمثالٍ غير مطابق، لأن الذي ذكره النحويون في الفعل ما كان الثاني فيه مع الأول غير مباين، كما في الأمثلة المتقدمة. قال السيرافي: لا يبدل الفعل إلا من شيء هو هو في معناه، لأنه لا يتبعض، ولا يكون فيه اشتمال فـ (تؤخذ كرهًا أو تجئ طائعًا) هو معنى (المبايعة) لأنها تقع على أحدهما. وقد يظهر هذا من سيبويه فـ"باب ما يرتفع بين الجزمين". والناظم إنما مثل بما الثاني فيه غير الأول، فـ (الوصول) إليهم هو الإتيان والمجيء إليهم، و (الإستعانة) طلب العون، وهو غير المجيء. والثاني: أنه لم يبين / البدل في الفعل: هل يكون فيه ما تقدم في بدل الاسم من الأنواع أم لا؟ بل قد قال السيرافي: ما سمعت وعلى هذا لا يكون فيه إلا نوع واحد، وهو (بدل الكل من الكل) وإطلاقه يقتضى تلك الأنواع عطف الفعل على الفعل بالنسبة إلى حروف العطف. وفي ذلك ما ترى. والجواب: أن مثال الناظم واقع على بعض أنواع البدل، وهو بدل الإضراب أو الغلط، إلا أن يكون قصد (وصولاً) معنويًا، وهو وصول (الاستعانة) فيكون واقعا على (بدل الكل) وعلى كلا التقديرين، فالمثال صحيح، فإن بدل الفعل من الفعل يتصور في بدل الاسم من الاسم،

فقد يكون فيه (بدل الكل من الكل) ومنه قوله: * متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * وقول الآخر: * يغدوا عليك مرجلين * وكذلك الآية الكريمة: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا {قال الخليل: لأن مضاعفة العذاب هو لقي الأثام. وقد يكون فيه (بدل البعض) كقولك: إن تصل تسجد لله يرحمك. و(بدل الاشتمال) أيضًا، ومنه قوله: إن على الله أن تبايعا ... تؤخذ كرهًا أو تجئ طائعا لأن (الأخذ) كرهًا، و (المجيء) طائعًا من صفات المبايعة. وظاهر سيبويه يقتضى أنه أنشده شاهدًا على (بدل الاشتمال) لأنه أتى به مع قول الآخر:

* فما كان قيس هلكه هلك واحدٍ * وقول الآخر: * وما ألفيتني حلمي مضاعا * وذلك في بابٍ من أبواب (بدل البعض، والاشتمال). وإذا ثبت (بدل البعض)، ثبت (بدل الاشتمال) لأنه مشبه به، إذ عدوا وصف الشيء كالجزء منه. وقد يكون فيه (بدل الإضراب والغلط) نحو: إن تطعم زيدًا تكسه أكرمك. وقد سأل سيبويه الخليل عن قولك: إن تأتنا تسألنا نعطك، بجزم "تسألنا". فقال: هذا يجوز على غير أن يكون مثل الأول، لأن الأول الفعل الآخر تفسير له، وهو هو - يعني ما تقدم في بدل الشيء من الشيء - والسؤال لا يكون الإتيان. قال: ولكنه يجوز على الغلط والنسيان، ثم يتدارك. وقال بعد: فلو قلت: إن تأتني آتك أقل ذاك - كان غير جائز، لأن القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه "تسألنا".

فهذا نص بجواز (بدل الغلط والنسيان) وجواز (بدل الإضراب) أولى. فإذًا ما مثل به الناظم غير خارج عن أنواع البدل، وأنواع بدل الاسم جارية في بدل الفعل، وليس الأمر كما تقدم للسيرافي، فإطلاقه صحيح أيضا، والله أعلم.

النداء

النداء (النداء) بالكسر، ويقال: بالضم، وهو تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه، بحرفٍ من الحروف الموضوعة لذلك، هذا أصله. وقد ينادي من لا يراد إقباله، ولكن على وجه التفجع عليه. وقد تستعمل في التعجب هذه الحروف أو بعضها، لا لقصد الإقبال، كما سيذكر إن شاء الله / في موضعه. وابتدأ الناظم - رحمه الله - أولاً بالتعريف بحروف النداء، وهي أدوات التصوير بالمنادي. ولما كان (المنادى) ينقسم قسمين: قريب منك وبعيد - وضع لكل قسم منها ما يخصه. وعرف الناظم أولاً بالقسم الذي يستعمل للبعيد فقال: وللمنادى الناء أو كالناءيا ... وأي وآكذا أبا ثم هيا والهمز للداني ووالمن ندب ... أويا وغير والدي اللبس اجتنب (الناء) هو البعيد، نأى فلان ينأى نأيا، إذا بعد، وأراد (النائي) بالياء، ولكنه نقصه للضرورة، كما قال: * وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه * وهو في نظمه كثير.

ويريد أن (المنادى) البعيد له أدوات ينادي بها، وهي خمس: (يا) وهي أم الباب، ولذلك تستعمل حيث لا يستعمل غيرها من أخواتها، فيندب بها مع (وا) ولا يندب بغيرها معها، وقد ذكر ذلك، وأيضًا لا يقع في باب "الاستغاثة" "والتعجب" غيرها. و (أي) وهي مقصورة غير ممدودة، على ما أتى بها النظم مثل (كي) هذا نقل سيبويه والجمهور من البصريين. وحكي المؤلف عن الكوفيين مد (أي) نقلاً عن العرب، وهذا، وإن كان، فقليل، لذلك لم يعتد به هنا. وما ذكر من أن (أي) للبعيد هو أيضا مذهب جمهور البصريين، فإنه نقل عن العرب، وقد نقلوا أن وضعها لنداء (البعيد) فهو المقبول ولا يعارض بقياس وذهب طائفة إلى خلاف ذلك، إلا أنهم فرقتان، فمنهم من رأى أنها لنداء (المتوسط) وهو منقول عن ابن برهان. وإليه ذهب ابن أبي الربيع وبعض تلامذته. ومنهم من جعلها لـ (القريب) كالهمزة اعتبارًا بكون الصوت بها قصيرا، وإليه مال الجوهري في تفسير هذه الأداة، وهو رأى الجزولي في كراسته،

ونقله ابن مالك في "الشرح" عن المبرد، ولم أر مذهبه في كتابه "المقتضب" إلا كمذهب سيبويه والجمهور، فانظر من أين نقله؟ ! ، و (أ) مما نقله المصنف عن الكوفيين، واعتمد عليه، لأن الثقات رووه عن العرب، ورواية العدل مقبولة. وحُكي ذلك أيضا عن الأخفش، وذكره ابن الأنباري في "الزاهر". و(أيا) منقولة مشهورة، و (هيا) كذلك، وكأنها في الأصل (أيا) فابدلت همزته هاًء، كما قالوا في (أراق): هراق، وفي (إياك): هياك، ونحو ذلك. وعلى هذا لم يكن ينبغي أن يعدها في جملة الحروف لأن ذلك تكرار، غير أنه ربما وقف مع ظاهر الأمر، من عدم إربدال، وساعده عليه قاعدة التصريف أنه لا يدخل في الحروف ولا ما أشبهها، كما قال: * حرف وشبهه من الصرف برى * فوقف مع الأصل، وعد (هيا) وضعًا آخر؛ إذ لم يقم عليه دليل على الإبدال، وهو ظاهر. فإذا تقرر هذا، فمثال (يا) يا أيها الرجل، يا أيها الناس. ومثال (أي) موجود في الأحاديث "أي رب" وأنشد الزجاجي قول الشاعر: * ألم تسمعي أي عبد في رونق الضحى *

ومثال (آ) / قولك: آزيد، ولم أجد فيه سماعا. ومثال (أيا): * أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ * ومثال (هيا) ما أنشده ابن جني من قول الشاعر: فأصاخ يرجو أن يكون حيًا ... ويقول من طربٍ: هيا ربا وقال ابن الطثرية: هيا رب سق لي من هواها منيتي ... بحولك يدخل حبها معي القبرا وأما الذي قال الناظم فيه إنه (كالنائي) وليس به في الحقيقة، فهو الذي يعبر النحاة عنه بالبعيد حكمًا، وهو الذي يكون قريبا، لكنه يعامل معاملة البعيد، لأمرٍ يقتضى ذلك. وذكر سيبويه لذلك أسبابا ثلاثة:

أحدها: أن يكون المنادى معرضًا عنك، بحيث ترى أنه لا يقبل عليك إلا بالاجتهاد في النداء، ويدخل ها هنا العاقل، فتقول: يا زيد، وأيا زيد، وهو بحضرتك، إلا أنه مشغول عنك بأمرٍ استغرق باله عن إجابتك سريعًا، أو غافل عنك وعن ندائك إياه. والثاني: أن يكون نائمًا مستثقلاً، بحيث لا يجيب إلا بالاجتهاد في النداء ومد الصوت، فتفعل ذلك، فتقول: يا رجل، ويا نائم، رجاء أن يستيقظ فتخاطبه. والثالث: قصد التوكيد، وذلك أن يكون المنادى مقبلاً عليك، قريبًا منك، لكنك أكدت نداءه لأمرٍ عراك، فناديته نداء البعيد، فقلت: يا زيد، يا أخي، ليستبق إلى إجابتك. فهذه المواضع مما عومل فيها القريب معاملة البعيد. ثم أتى الناظم بالقسم الثاني وهو الداني، أي (القريب) وأتى له بأداة واحدة وهي الهمزة، فقال: "للداني" يعني الذي ينادى به الداني، فتقول: أزيد افعل. * أحار بن عمروٍ كأني خمر *

* أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل * ولم يقل هنا: أو كالداني، كما قال في القسم الأول: "أو كالنائي" لأن هذا الاعتبار معدوم في نداء (القريب) بالهمزة، فإن العرب لا تنادي (البعيد) نداء القريب، كما تنادى القريب نداء البعيد. قال سيبويه: وقد يستعملون هذه التي للمد - يعني أدوات البعيد - في موضع الألف - يعني للقريب - ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها. ثم قال: (ووالمن ندب أويا) يعني أن (وا) تستعمل في نداء (المندوب) وهو المذكور توجعًا منه أو تفجعًا عليه، بلفظ يدل على المعنى دلالًة منبهة على عذر النادب في ندبته نحو: وا من حفر بئر زمزماه. وكذلك (يا) المتقدمة الذكر، تستعمل للمندوب أيضا كقول جرير: * وقمت فيه بأمر الله يا عمرا * وما أشبه ذلك.

فإن قيل: إن (وا) يعدها النحويون في قسم ما ينادى به البعيد، لكنه بعد حكمي، والناظم أخرجها عن كلا القسمين، فكان حقه أن يعدها مع أخواتها. فالجواب: أن حقيقة (وا) في المندوب ليست على النداء بها، وإنما أتى بها أداًة لمد الصوت بذكر المندوب لا لينادى؛ إذ كان النداء تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه، وهذا المعنى في الميت مفقود، لكن لما كان للمندوب أحكام كأحكام المنادى، وأداة تشبه أداة النداء، أتى النحويون به في "باب النداء" لذلك. فالوجه ما فعل الناظم من / فصله بين الأدوات تنبيهًا على فصل المعاني، فكأنه جعل الأدوات ثلاثة أقسام: للمنادى البعيد قسم، وللقريب قسم، ولمن لا يقصد بالنداء، ولكن يصوت بذكره تفجعًا وتوجعًا، قسم. ثم إن (يا) لما كانت للنداء حقيقًة، ووقعت في الندبة، وكانت في بعض المواضع مما يقع بها اللبس بين المنادى والمندوب، فلا يدري المصوت به بـ (يا) هل هو منادًى أو مندوب - تحرز من ذلك، فأخرج (يا) من باب الندبة حيث يقع اللبس فقال: "وغير والدي اللبس اجتنب" وغير (وا) هي (يا) إذ لم يذكر مع (وا): أيا، فيريد أنك تجتنب (يا) في الندبة إذا وقع بها اللبس، وتقتصر على (وا) فهي المختصة ببابها. فإذا قلت: وامن حفر بئر زمزماه - فجائًز هنا أن تأتي بـ (يا) فتقول: يا من حفر بئر زمزماه، لأنه معلوم كونه مندوبًا، بما لحقه آخرًا

من مدة الندبة، فلا يختلط بالمنادى إذا لحقت؛ إذ لا تلحق المنادى مدة الندبة، وإذا ندبت ولم تلحق فقد يكون المندوب معلومًا، فلا يلتبس بغيره، كما لو قال قائل عند موت عبد المطلب: يا من حفر بئر زمزم، فهذا الوصف مختص به، فلا يفهم من الكلام إلا الندبة، بخلاف ما إذا قلت: يا زيد، وأمامك من اسمه زيد، فلا يتعين مقصودك بـ (يا) أهو نداء زيدٍ أم ندبة من أردت ندبته، ففي مثل هذا الموضع لابد من الإتيان بـ (وا) فتقول: وازيد، إعلامًا أن المراد الندبة لا نداء من أمامك، وكذلك إذا وصلت كلامك، فقلت: وازيد الفاضل، على رأى سيبويه لا تلحق هنا (يا) للبس، فإن تعين بقرينة أنك تندب جاز لحاق (يا) في موضع (وا) وكذلك ما أشبهه. وقوله: (وغيروا) منصوب بـ (اجتنب) وهو واقع على (يا) ثم لما استوفى ذكر الأدوات أخذ في ذكر ما يعرض لها من الحذف ومواضع الحذف فقال: وغير مندوبٍ ومضمرٍ وما ... جامستغاثا قد يعرى فاعلما وذاك في اسم الجنس والمشار له ... قل ومن يمنعه فانصر عاذله فالذي بين على الجملة أمران: أحدهما: أن حرف النداء قد يحذف مع بقاء معناه مرادًا، لأن المحذوف معلوم.

فقوله: "وغير مندوبٍ" وكذا وكذا "قد يعرى" يعني من حرف النداء، وحذف المجرور لفهم معناه، لتقدم ما يدل عليه. والثاني: حصر المواضع التي يجوز فيها الحذف، والتي لا يجوز فيها. وجعل مواضع منع الحذف على قسمين: قسم يمنع فيه باتفاق، وقسم يمنع فيه باختلاف، أعني في القياس. فأما ما يمنع فيه الحذف باتفاق فثلاثة مواضع: أحدها: المندوب، نحو: وازيداه، ويا عمراه، وإنما امتنع الحذف هنا لأن المقصود مد الصوت، والتصريح بالبكاء، والتفجع والإعلام بذلك، ولذلك لحقته الزيادة آخرًا مبالغًة في التصويت، فصار حرف النداء كالترنم / المقصود، فلو حذف الحرف هنا لكان فيه نقض الغرض، وهو ممنوع. والثاني: المضمر، وللمضمر، في كلامه وجهان: أحدهما: لفظه إذا كان هو المنادى، نحو قول الأحوص اليربوعي حين وفد مع أبيه على معاوية - رضي الله عنه - فخطب، فوثب أبوه ليخطب، فكفه وقال: يا إياك، لقد كفيتك، وقول الآخر:

يا أبجر بن أبجرٍ يا أنتا ... أنت الذي طلقت عام جعتا وإنما لزمت (يا) هنا لأنها إذا حذفت لم يبق عليها دليل؛ إذ لو قلت في (يا إياك قد كفيتك): إياك قد كفيتك - لم يكن ثم دليل على أنه منادى. والقاعدة أن الشيء لا يحذف إلا إذا دل عليه الدليل. وفي ذكر الناظم هنا للمضمر دليل على جواز ندائه، إلا أنه لم يبين: هل يؤتى فيه بضمير النصب أو بضمير الرفع، والقياس عند المؤلف الإتيان بضمير النصب، لأنه موضع نصب بالفعل الذي نابت عنه (يا) وهو (أنادى) فوضع ضمير الرفع موضعه شاذ، فلا يقاس عليه. والوجه الثاني: للمضمر أن يكون بمعنى المحذوف، وهو ما كان من المنادى محذوفا، وذلك بعد الأمر والدعاء ونحوهما، فإنه يجوز حذف المنادى هنالك قياسا. فبعد الأمر كقراءة الكسائي: } ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات {الآية، قالوا: أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وقال الراجز: * يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي *

وقال ذو الرمة: ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر وفي الدعاء، كقول الشاعر، أنشده سيبويه: يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحين على سمعان من جار وأنشد ابن جني وغيره: * يا لعن الله بني السعلات * وفي التعجب، كقول امرئ القيس: * فيا عجبًا من رحلها المتحمل *

وهذا كثير. فهذا النوع لا يجوز فيه حذف الحرف، لأن في بقائه دليلاً على المحذوف، فلو حذف الحرف مع المنادى لم يبق ما يدل على المحذوف، فلم يجز ذلك. والموضع الثالث: المستغاث، نحو: يا لزيدٍ، ويا لله للمسلمين، وإنما لم يجز الحذف هنا لما يؤدي إليه من نقض الغرض؛ إذ كان القصد في (الاستغاثة) مد الصوت، لأنه موضع تأكيدٍ واجتهادٍ في الاستصراخ والتصويت، لأنه المستغاث عندهم كالبعيد أو كالغافل، فالحذف نقيض هذا، فمنعوه، وعلى هذا المواضع نبه بقوله: "وغير مندوبٍ ومضمرٍ وما جامستغاثًا قد يعرى" وقصر لفظ "جاء" على قول من قال: جايجي، وسا يسو، وهو قليل، أداه إليه الاضطرار الشعري. وإذا تعين له ما يمنع فيه حذف حرف النداء مطلقا - دل على أن ما عدا ذلك يجوز فيه الحذف، وهو الذي قال: "وغير كذا قد يعرى" تقول: زيد افعل كذا، وفي القرآن: } يوسف أعرض عن هذا {، } رب احكم بالحق {. } ربنا اغفر لنا {.} سنفرغ لكم أيه الثقلان {، وما أشبه ذلك.

ووجه الحذف ظاهر، وهو العلم بالمحذوف، مع كون المنادى - وإن بعد - قد جعل بمنزلة من هو بالحضرة، مقبل على من يناديه، لا شاغل له عنه، فكان ترك التصويت به تركًا لما ينوب منابه، وهو القصد والإقبال، لأنه كافٍ بالنسبة إلى المقبل الحاضر. وعلى العمل على الحصر الذي ذكر يعترض بأمرين: أحدهما: أن (التعجب) الجاري مجرى (الاستغاثة) حكمه في امتناع الحذف حكم الاستغاثة، فالمتعجب منه لا يحذف معه الحرف، كما لا يحذف مع المستغاث، فتقول: يا للعجب، ويا للماء، ويا للفليقة، كما سيأتي إن شاء الله - ولا يحذف الحرف لأنه نقض الغرض - كما تقدم - في الاستغاثة، وحصره يقتضى جواز الحذف هنا، وهو غير صحيح. والثاني: أن لفظ (الله) إذا نودى لا يحذف الحرف معه، فتقول: يا ألله، ولا تقول: الله، فإن العرب التزمت فيه الإتيان بالحرف، وكلام الناظم لا يقتضي ذلك البتة. وأمر ثالث، وهو أن ما حكم له من المناديات بحكم الغافل المتراخي، الذي يجتهد في التصويت به والقصد إليه، لا يحذف منه حرف النداء، ولذلك ينادى نداء البعيد وهو قريب، فإذا كان كذلك - وكان قصد الحذف أن المنادى معدود في عداد الحاضر المصغي إليك - كان الجمع بين الحذف والحكم للمنادى بحكم المتراخي الغافل جمعًا بين المتنافيين، وهذا الوجه مفهوم من كلام سيبويه في تعليل المنع في المستغاث والمتعجب منه.

(قال: وإنما اجتهد لأن المستغاث عندهم متراخٍ أو غافل، والتعجب كذلك ويدخل هنا المستغاث والمتعجب منه) والمندوب. فكان الأولى به أن يتمم هذا الموضع ليرتفع الإشكال، ويزول الإبهام، وقد تحرز في كتاب "التسهيل" فأخرج اسم (الله) والمتعجب منه، ولم يذكر هذا الوجه الثالث. والجواب عن الأول: أن التعجب جارٍ مجرى الاستغاثة في أحكامه، ومعناه يجامع معناه، فكأنه سكت عنه لدخوله تحته، أو لقياسه عليه عند الناظر. وعن الثاني: أن لفظ (الله) ليس بجارٍ على القياس في أحكام كثيرة، منها هذا، بل له خواص في كلام العرب لا ينتظمها أصل، عدت نحوًا من خمس عشرة خاصة، فلا ينبغي أن يعترض به، لأنه معدود في جملة المسموعات بحسبها، فلا ضرر عليه في ترك ذكره. وأما الثالث: فلم يذكره غيره في معرض التأصيل، كما ذكر المستغاث والمندوب وغيرهما، لأنه أشد تعلقًا بعلم المعاني والبيان منه بعلم النحو، وكثيرا ما يخير النحويون بين أمرين أو أكثر لا يخير البيانيون بينها؛ بل يوجبون أوجه التخيير، كل وجهٍ في سياقٍ يختص فيه، لا يدخل فيه الآخر. ولقد أدخل المتأخرون، ومنهم ابن مالك، في النحو أشياء، علم البيان أخص بالنظر فيها من علم النحو، وقد مر منها أشياء نبه على بعضها، وكان الأولى أن لا يفعل ذلك، فإذا كان الأمر كذلك، وكان الوجه الثالث من هذا القبيل، لم يتمكن الاعتراض به، والله أعلم.

والقسم الثاني: من قسمي مواضع منع الحذف ما فيه / اختلاف وهو ضربان: أحدهما: اسم الجنس، والثاني: اسم الإشارة، وكلاهما يجوز عند الناظم فيه الحذف، لكن قليلاً، وهو قوله: "وذاك في اسم الجنس والمشار له قل" الإشارة بـ (ذاك) إلى التعري المفهوم من قوله: "قد يعرى" كأنه قال: والتعري في كذا قل، وهو كقوله تعالى: } وإن تشكروا يرضه لكم {أي يرض الشكر لكم. فأما اسم الجنس: فهو قليل كما قال، نحو: رجل افعل كذا، تريد: يا رجل، وفي الحديث "اشتدي أزمة تتفرجي" وفي الحديث الآخر حكايًة عن موسى عليه السلام: "ثوبي حجر" يريد: يا أزمة، ويا حجر. ومن كلام العرب في مثل: "افتد مخنوق" و "أطرق كرا"

يقال للكرى إذا صيد: أطرق كرا أطرق كرا، إن النعام في القرى. وقالوا: "أصبح ليل"، قال بشر: فبات يقول أصبح ليل حتى ... تجلى عن صريمته الظلام وأنشد سيبويه للعجاج: * جارى لا تستنكري عذيري *

أراد: يا جارية. وأما في اسم الإشارة فقال ذو الرمة: إذا هملت عيني لها قال صاحبي ... بمثلك هذا فتنة وغرام أراد: بمثلك يا هذا، وأنشد المؤلف قول الشاعر: ذي دعي اللوم في العطا ... ء فإن اللوم يعرى الكرام بالإجزال يريد: يا ذي دعى اللوم، وأنشد أيضا: لا يغرنكم أولاء من القو ... م جنوح للسلم فهو خداع وأيضا فاسم الإشارة يشبه العلم في كونه معرفًة مفردًا غير مضاف ولا شبيهٍ به، فكما يجوز أن يقال: زيد أقبل، كذلك يقال: هذا أقبل. هذا كله مما يسوغ جريان القياس، وجواز الحذف مع هذين النوعين، لكنه قليل، فلذلك قال: "وذاك في اسم الجنس والمشار له قل"

وقد تقدم أن القلة في كلامه تشعر عنده بجريان القياس على ضعف، ثم نبه على الخلاف وترجيح الجواز بقوله: "ومن يمنعه فانصر عاذله" الضمير في "يمنعه" عائد على (التعرى) المفهوم من "يعرى" وفي "عاذله" عائد على "من" والعاذل: اللائم، يقال: عذلته أعذله عذلاً، بالتسكين، والاسم: العذل بالتحريك. يريد أن من النحويين من منع حذف حرف النداء من اسم الجنس والمشار له، وهو حقيق بأن يعذل ويلام على منعه، وينصر من يعذله والخلاف منقول بين البصريين والكوفيين، فرأى البصريين منع القياس في هذين النوعين، ورأى الكوفيين الجواز، وإليه صغو الناظم لقوله: "ومن يمنعه فانصر عا ذله" وقد تقدم ما احتج به الكوفيون. إلا أن الناظم فارق الكوفيين بوجهٍ ما، لأنهم يجيزون الحذف مطلقا، وهو إنما أجازه على قلة اعتبارًا بقلة السماع كما تقدم، وجنوحًا إلى عبارة سيبويه في ذلك، إذ قال على ما ثبت في النسخة الشرقية: وقد تحذف (يا) من النكرة في الكلام ضعيفًا، ثم أتى بالشواهد. ثم قال: وليس هذا بكثيرٍ ولا قوي.

وعادة الناظم في كثير من المواضع أن يعتمد على استقراء نفسه من غير / تقليدٍ لغيره، لأنه نصب نفسه منصب الاجتهاد المطلق. وقد استدل من منع الحذف هنا أو استضعفه بأن حرف النداء صار مع (الرجل) و (هذا) كأنه بدل من (أي) حين لم تذكرها معهما، لأن (أيًا) في النداء لا توصف إلا بما فيه الألف واللام، أو باسم الإشارة، وذلك لازم في (أي) إذا قلت: يا أيها الرجل، ويا أيهذا، فلما لزمتها على هذا الحال ثم استغنى عنها بتعريف القصد والإشارة، وكان المعنى واحدا - صارت (يا) كأنها عوض من (أي) هذا معنى تعليل سيبويه على ما فهمه ابن خروف. وهو يدل على أنه تعليل السماع، ألا ترى أنه لم يجعله، أعنى حرف النداء، بدلاً من (أي) إلا بعد الاستقراء، إن الأمر كذلك، وأن لا مخالف له ولا معارض. وابن مالك يقول: إن المعارض القياسي قد ثبت، فلا يعتد بذلك التعليل في منع الحذف. ووجه السيرافي المنع بأن (الرجل) كان تعريفه بالألف واللام، فلا يجوز حذف ما كان يتعرف به وتبقيته على التعريف إلا بعوض.

وأيضاً: فما فيه الألف واللام يتعرف بالعهد، فإذا أردنا تعريفه بالإشارة نقدم قبله مبهمًا، ويصير ما فيه الألف واللام صفًة له، حتى يختلط به، ويصير للإشارة، كهذا الرجل، و (يا أيها الرجل) من هذا. فإذا قلنا: يا رجل، فقد جعلناه مكان (يا أيها الرجل) فلا يحسن حذف حرف النداء مع حذف (أيها) والألف واللام، فيكون إجحافًا. هذا ما قال في اسم الجنس، وهو مبني على أن السماع كذلك كما تقدم، فلا حجة فيه. وأما (هذا أقبل) فإنما قبح الحذف معه، لأن الإشارة إنما تقع للمخاطب إلى غير المخاطب [فإذا ناديت بالإشارة إلى المخاطب في النداء فلابد من (يا) ليعلم المخاطب] أنك تشير إليه وأيضا فقال المازني: إن (هذا) اسم تشير به إلى غير المخاطب، فإذا ناديته ذهبت منه تلك الإشارة، فعوض من ذلك التنبيه، وهذا أيضا فيه نظر. أما الأول فيقال: هذا لازم في العلم، لأنه موضوع على الغيبة، فإذا ناديته فقد أقمته في مقام الحضور، فلابد من (يا) ليعلم السامع أنك تناديه، ولما لم يلتزموا ذلك في العلم مع وجود مثل ما في اسم الإشارة - دل على أنهم لم يعتبروا ما قال. وأما قول المازني فرده ابن خروف بأنه يلزم مثله في الأعلام، لأنها قد انقلبت إلى حكم الحضرة، كما انقلب اسم الإشارة عنها إلى حكم الحضرة، ودخلها من المعنى ما لم يكن فيها قبل، فينبغي أن يلزمها (يا).

قال: وكذلك علته في (الرجل) - قال: ما كان أصله أن يعرف في النداء بالألف واللام، وهو معرفة، عوض منها لزوم التنبيه - فاسد أيضا، لأن لزوم التنبيه ليس بالحرف، وقد حذف الحرف وبقي القصد ولزوم التنبيه. وبقي النظر في قوله: "ومن يمنعه فانصر عاذله" ما هذا المنع؟ وعلى ماذا يتوجه؟ وهو يحتمل أمرين من جهة اللفظ: أحدهما: أن يكون متوجها على ما جاء من حذف الحرف هنا في النوعين، فكأنه / يقول: من أنكر ثبوت الحذف هنا قليلا فانصر عاذله، وهذا الوجه أشار إليه ابن الناظم في "شرحه" فإن كان قد وقف على إنكار منكر لذلك، فله وجه، ويكون الناظم قد اعتني بالتنكيت على المنكر للسماع خاصة، فهذا ممكن إلا أنه بعيد من جهتين: الأولى: كونه ترك التنبيه على الخلاف الشهير بين الكوفيين والبصريين، ونبه على منكرٍ لسماعٍ لا ينبني عليه حكم، فلا يكون في ذلك كبير فائدة. والثانية: إنكار ذلك السماع بعيد الثبوت، وقد نقله سيبويه والثقات الأثبات.

والثاني: أن يتوجه المنع على قبول القياس على ما سمع من ذلك وإن كان قليلا، وهذا هو الظاهر والموافق للمنقول، والحرى بالقبول، والمانع هنا أهل البصرة كما تقدم، ولم يمنعوا المسموع ولا أنكروه فيما علمت، والله أعلم. وابن المعرف المنادى المفردا ... على الذي في رفعه قد عهدا تكلم هنا على ما يكون من المنادى مبنيًا، وما يكون منه معربا، وابتدأ بالذي حكمه البناء. ويعني أن المنادى إذا اجتمع فيه وصفان فحقه البناء: أحدهما: أن يكون معرفا، والتعريف هنا على إطلاقه في تعريف القصد وغيره. فإنك إذا قلت: يا رجل، ويا قائم، فالمنادى هنا صار معرفة بالقصد، وإن كان نكرة في الأصل، لأنه مقبل عليه بالنداء، مقصود، فصار كـ (زيد) في الاختصاص، وكذلك إذا قلت: يا زيد، ويا خالد. فبين أن هذا معرف، إما بما كان عليه من العلمية قبل النداء على رأي، وإما بالقصد إليه على رأى. وأيًا ما كان فالتعريف حاصل فيه. واحترز بذلك من المنادى المذكور الذي يذكره بعد، فإنه لا ينبني؛ بل يعرب نصبًا. والثاني: أن يكون مفردا، كزيدٍ وعمروٍ ورجلٍ، وشبه ذلك. والمفرد هنا أطلقه في مقابلة المضاف، وما أشبه المضاف، نحو: يا غلام زيدٍ، ويا ضاربًا زيدًا، فإن ما كان من هذا الباب يعرب نصبًا حسبما يذكره.

وليس المفرد في مقابلة المركب أيضا [فإن المركب] تركيب مزج حكمه حكم المفرد، فتقول إذا سميت ببعلبك ورامهرمز يا بعلبك، ويا رامهرمز، هكذا مبنيًا على الضم ولابد. زلا في مقابلة المثنى والمجموع جمع سلامة أو جمع تكسير، فإنهما على حكم البناء أيضا، فتقول: يا زيدان، ويا زيدون، ويا هندات، ويا رجال، فإن قلت: من أين يفهم هذا، وهو إنما أراد قيد الإفراد، وهو يطلق في مقابلة المركب، وفي مقابلة المثنى والمجموع، كما يطلق أيضا في مقابلة المضاف والشبيه به، كما تقدم في باب (لا)؟ فالجواب: أن كلامه على أثر هذا يبين ذلك، لأنه أتى في "قسم المعرب" بما يظهر / أنها أضداد لما قيد هنا، فقال: "والمفرد المنكور والمضاف وشبهه انصب" فالمنكور في مقابلة المعرف المذكور، والمضاف وشبهه في مقابلة المفرد المتقدم، فلا يقع له إشكال في أن المقصود ما ذكر. وأما المركب تركيب إسناد فحكمه الحكاية حسبما تقرر في بابه. وينبغي أن يكون "المنادى" في كلامه بدلا من "المعرف" لا نعتًا له، إذ المقصود تقييد "المنادى" بالقيدين، وهما الإفراد والتعريف، لا تقييد "المعرف" بالنداء والإفراد. فالأصل أن لو قال: وابن المنادى إذا كان معرفا مفرداً.

وأما أن يقصد تقييد المعرف بكونه منادى مفردا فبعيد، ويصير قيد النداء حشوًا، لأنه فيه تكلم، وبأحكامه أتى، فلو قال عوض ذلك: وابن المنادى المفرد المعرفا ... على الذي في رفعه قد عرفا - لكان أبين في المقصود، وكأنه من باب تقديم النعت على أن يعرب بدلاً، نص على ذلك في "التسهيل" واستشهد عليه بقول الله تعالى} إلى صراط العزيز الحميد الله {على قراءة الخفض، وذلك بشرط صحة ولاية النعت العامل، والشرط حاصل هنا. ثم بين على ماذا يبني فقال: "على الذي في رفعه قد عهدا" يعني أن بناءه بعد النداء على ما كان يعرب به قبل النداء، من حركةٍ أو حرف إن كان معربا. ولا يريد أن نفس الحرف أو الحركة التي كان يعرب بها هي بعينها التي يبني عليها، لأن حركات الإعراب غير حركات البناء في الحكم، وإن تماثلت في الصورة فهي متضادة في الحكم، كما تقدم في بابه. وكذلك الحروف يعرب بها غير التي يبني عليها وإن تماثلت في الصورة. فإنما معنى قوله: "على الذي رفعه قد عهدا" أي على ما يشبه ذلك، لكن لما كانت حركات الإعراب والبناء وحروفهما على لفظ واحد تجوز في العبارة، وهو تقرير اصطلاحي.

والمقصود أنه إن كان المفرد المعرف يرفع قبل النداء بالضمة ينبني في النداء على الضم، وإن كان يرفع بالألف بني على مثل ذلك، أو بالواو فكذلك، فتقول: يا زيد، ويا رجل، فيما يظهر إعرابه وبناؤه، ويا قاضي، ويا داعي، ويا فتى، إن كان ذلك تعذر. كل هذا يشمله قوله: "على الذي في رفعه قد عهدا" لأن المعهود في (رجل) الضمة الظاهرة وفي (قاضي، وفتى) الضمة المقدرة، وكذلك تقول: يا زيدان، ويا عمران، ويا رجلان، ويزيدون ويا خالدون، وما أشبه ذلك. وهذا هو المذهب المشهور الذي عليه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين، وذهب بعض المتأخرين إلى أن (يا زيدان، ويا زيدون) معربان لا مبنيان، وكأنه على منهاج من قال من الكوفيين، وهو الكسائي، في المفرد المعرف في النداء: إنه مرفوع بغير تنوين. ويجري هنا الخلاف المتقدم في اسم (لا) المفرد. والخلاف في كونه معربًا أو مبنيًا شهيد، وقد تقدم القول فيه. ويجرى ذلك هنا. وأيضا لو كان معربا بإعراب الظاهر لم يكن له موضع من الإعراب كسائر ما يظهر فيه الإعراب، إذ ليس له ما يطلب باللفظ والموضع معا، وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجري تابعه على الموضع، فلا يقال: يا زيدان العاقلان والعاقلين، ولا يا زيد العاقل / والعاقل، ولا ما أشبه ذلك، ولما كان ذلك جائزًا دل على أن ما في اللفظ ليس بإعراب.

قال الكسائي: وجدت النداء لا معرب له يصحبه، من ناصبٍ ورافع وخافض، ووجدته مفعول المعنى، فلم أخفضه فيشبه المضاف، ولم أنصبه فيشبه ما لا ينصرف، ويحتمل وجهين، فرفعته بغير تنوين، ليكون بينه وبين ما هو مرفوع برافع صحيحٍ فرق. وهذا كله عند البصريين غير صحيح، وقد رد عليه ابن الأنباري والسيرافي وغيرهما بما يطول ذكره. وهذا كله في قسم المعرب قبل النداء، ودل على ذلك تقسيمه، وقوله: "على الذي في رفعه قد عهدا" وأما ما كان قبل النداء مبنيًا فهو الذي يذكره في قوله: وانوا انضمام ما بنوا قبل الندا ... وليجر مجرى ذي بناءٍ جددا يعني أن ما كان من المناديات مبنيًا قبل النداء فالحكم فيه أن تنوي في آخره الضمة، نحو: يا هؤلاء، ويا من فعل كذا، ويا سيبويه، يا رقاش، ويا أنت، ويا إياك، وما أشبه ذلك. وإنما عين الضم دون غيره لأنه لا يمكن فيه إلا تقدير الضم؛ إذ لا يثنى المبنى ولا يجمع، فيبنى على الألف أو الواو. فإن قلت: فأنت تقول: يا هذان؟

فالجواب: أنه عنده معرب لا مبنى، وقد تقدم ذلك في باب الإشارة والموصول فلأجل هذا عين فيه تقدير الضم. وأيضًا، لو كان معربًا لم يعرب إلا بالضمة، فلم يكن ليبنى إلا عليها، وضمير "بنوا" للعرب، وإنما عين تقدير الضم دون ظهوره، لأن آخره قد استحقته حركة البناء الأول أو سكونه، فلم يكن لينسخ بهذا البناء الطارئ. فإذا قلت: يا هؤلاء، لم يبق لفظه على الكسرة السابقة، وكذلك: يا هذا، ويا من فعل كذا، لا يبنى إلا على السكون، وكذلك جميع الباب. فإن قلت: ثبت في "الأصول" أن الحكم للطارئ، ألا ترى أنك إذا نسبت إلى (أمية أو جهينة) قلت: أموي، وجهني، فاعتبرت الطارئ وهو النسب، فلم تحفل بكسر بنية التصغير المتقدمة. وإذا صغرت (عصوى) المنسوب إلى (عصًا) قلت: عصيي، فلم تعتبر ما فعلت في (أموي) فكنت تقول: عصوي؛ بل اعتبرت الطارئ وحده. وهي قاعدة نبه عليها ابن جنى، وهي أصولية كلية، فكان الوجه هنا أن يبنى على الضمة، وهو البناء الطارئ، ويهمل اعتبار ما قبل، كما أهملوا ما تقدم، وكما أهملوا في الأسماء المعربة أصل التمكن، فبنوها وإن كان التمكن باقيًا. فالجواب: أن القاعدة صحيحة في نفسها، وما فعلوا هنا صحيح لا يخل بها، وذلك أن الحكم الطارئ إذا ورد على السابق، فتزاحما على محل واحد، فلم يمكن الجمع بينهما على وجهٍ لا يخل أحدهما بالآخر في شيء - فلا بد من

نسخ الحكم / المتقدم، لكن على وجهٍ لا يخل به المتأخر جملة، لأنه مطلوب أيضا كالطارئ وذلك كمسألة "التصغير" مع "النسب" لما كان كل واحد منهما يطلب ببنيةٍ مخصوصة، وحكمٍ مخصوص، ولم يمكن اعتبارهما معًا فيه، لأن ياء النسب تطلب في (أميي، وعصيي) بتخفيف إحدى الياءين، وقلب الأخرى واوًا، وبنية التصغير [تطلب بإثباتها، وعدم قلب الأخرى - تضادًا فلم يكن بد من اعتبار الطارئ بحيث لا يخل بالمتقدم، فاعتبروا ياء النسب في: أموي، وبنية التصغير] في: عصي، فحذفوا هناك إحدى الياءين، وقلبوا الأخرى ولم يحذفوا ههنا لالتباسه بالنسب إلى (عصية) وكذلك كل مسألة حكم فيها للطارئ لابد أن تجتمع مع هذه المسألة في هذا المعنى. وأما إذا كان كل واحد من الحكمين له وجه يجري عليه دون إخلال بالحكم الأول فلا ينصرف إلا غليه كمسألتنا، فإن الحركة قد يؤتى بها ظاهرة وهو الأصل، ومقدرة حيث لا يزاحمها حركة أخرى، كالقاضي، والفتى، وقاضي ونحوها، فما ظنك إذا زاحمها حركة أخرى، كـ (من زيدًا؟ ) و (من زيدٍ؟ ) في باب الحكاية، فلا نكر في ذلك، فإذا أمكن هنا تقدير الحركة الطارئة فهذا أولى. وأيضًا فشأن حركات الإعراب التساهل فيها، فلذلك يكثر تقديرها، ولاسيما عند شغل المحل بحركة أخرى لازمة، وحركة البناء الطارئ في النداء تشبه حركة الإعراب، ولذلك يعتبر لفظها وموضعها، فدخلت في

حكم حركة الإعراب، وبسط هذا كله في "علم الأصول العربية" وإنما نبهت عليه تبيينًا لمعنى كلام الناظم في تنبيهه على تقدير الضمة، وإشعار كلامه بالتنكيت على حكم القاعدة. ثم بين فائدة تقدير الضم في المبني قبل النداء بقوله: "وليجر مجرى ذي بناءٍ جددا" يعني أنه يجرى على حكم المبنى في النداء الذي كان قبله معربًا، نحو: يا زيد، ويا رجل، في جميع الأحكام. وبيان هذه الجملة أن المنادى المبنى على الضم في النداء إذا أتبع فإنه يجوز فيه الحمل على اللفظ وعلى الموضع، حسبما يذكر إن شاء الله. وإنما جاز الإجراء على اللفظ وإن كان مبنيا لاطراد البناء على الضم في ذلك الموضع، ألا ترى أنك تقول: كل منادًى مفردٍ مبنى على الضم، كما تقول: كل فاعل مرفوع، وكل مفعولٍ به مع ذكر الفاعل منصوب، وإذا كان كذلك فالمجدد البناء يجري فيه هذا الحكم نحو: يا زيد الطويل، والطويل. وأما المبنى قبل النداء فقد يتوهم أنه لا يجرى ذلك المجري من جهة أن لفظه على غير الضم، فليس له لفظ يجرى عليه التابع، فاحتاج إلى التنبيه على أن المبنى قبل النداء [إذا قدر له الضم يجرى بذلك التقدير على حكم المبنى في النداء المعرب قبله، ولا يمنعه البناء قبل النداء] حكم البناء الحادث الآن، ولا اعتبار حركته، وهذا من باب الحكم للطارئ المذكور آنفا، فقد أحسن الناظم في هذا التنبيه، وقل من ينبه عليه. وقوله: "مجرى" هو بالضم لأن (يجرى) مبنى من الرباعي من: أجريته مجرى كذا، أي جعلته يجرى مجراه، وعلى حكمه.

وبقي هنا سؤال، وهو أن يقال: في أي نوعٍ من أنواع البناء التي ذكر الناظم / قبل هذا يدخل بناء المنادى؟ وإنما قيل في بنائه: إنه أشبه الصوت كغاق وجوب، أو وقع موقع المضمر، أو أشبه كاف المخاطب، وهذه ليست تشبه الحرف؟ والجواب: أنا إن قلنا: إنه إنما تكلم هنالك على البناء اللازم فلا سؤال، أو قلنا: إنه أشار إلى بعض الموجبات تنبيهًا على البعض الباقي فكذلك. وإن قلنا: حصر موجبات البناء بإطلاق فعلى هذا يرد السؤال. ويمكن أن يكون مبنيا لشبه الحرف، وهو كاف الخطاب المجردة عن الاسمية في نحو قولك: النجاءك، ورويدك، وأرأيتك، أو حرف الخطاب الذي كان حقه أن يوضع له إن قلنا: إن كاف (لك، رويدك) ونحوه، أصله الاسمية، فإن (يا زيد) مقصود فيه معنى الخطاب، أو تضمن معنى حرف الخطاب الذي كان حقه أن يوضع له حرف، وقد قيل. وهذا كله مما يدخل تحت ما ذكر الناظم. ولم يبن المنكور والمضاف وشبهه - وإن كان فيه ذلك المعنى - لأن المضاف قد دخل فيه ما يرجح جانب الإعراب، وهو الإضافة المختصة بالأسماء المعربة في الغالب. والذي أشبه المضاف أجرى مجراه. وأما النكرة فلما لحقها التنوين طالت به، فأشبهت المضاف. وأيضًا، فإن المنادى جارٍ مجرى (قبل، وبعد) في أنهما يعربان حال إلحاق التنوين والإضافة، ويبنيان إذا لم يكونا فيه، ولذلك أيضا بنى المنادى على الضم كما بنيا عليه.

وقيل: إنه بني على حركةٍ للمزية التي له على ما أصله البناء، كـ (من، وكم) وعلى الضم لأنها حركة لا تكون له إعرابا. وما قيل في النكرة فيه نظر. ولما أتم الكلام على قسم المبنى، وحصر أنواعه، عطف بذكر المعرب، وحصر أنواعه أيضا، فقال: والمفرد المنكور والمضافا ... وشبهه انصب عادمًا خلافا يريد أن المنادى إذا كان منكورًا، أو مضافًا، أو شبيهًا بالمضاف - فهو منصوب، ليس له إلا ذاك. فأما (المنكور) فهو الذي كان قبل النداء نكرة، ولم يكن في النداء مقصودًا قصده، كقول الأعمى: يا رجلاً خذ بيدي. ومنه ما يقول المذكرون بالكسوف: اليوم اذكروا الله يا غافلين. ومنه ما أنشده سيبويه من قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي:

فيا راكبًا إما عرضت فبلغًا ... نداماى من نجران ألا تلاقيا وأما (المضاف) فيستوي في ذا الحكم ما كان منه معرفةً بالإضافة وما لم يكن كذلك، ولا يبالى بها أكانت محضًة أم غير محضة، وكان المضاف مقصودًا بالنداء أم لا، نحو: يا ضارب زيدٍ، ويا طالع جبلٍ، ويا غلام زيدٍ. ومنه: } ربنا تقبل منا {} يا صاحبي السجن {وهو كثير. وأما (الذي أشبه المضاف) فالمنادى إذا كان عاملا في غيره نحو: / يا ضاربًا زيدًا، ويا مارًا بزيدٍ، ويا خيرًا من زيدٍ، ويا قائمًا أمس، وما أشبه ذلك من العوامل التي تتعلق بها المعمولات، ومنه: يا حسنًا وجهه، ويا قائمًا أبوه، وكذلك المعطوف والمعطوف عليه مسمى بهما نحو: يا زيدًا وعمرًا، وكذلك يا ثلاثًة وثلاثين، مسمًى به، فإن لم تسم به فقولان، قول الفارسي: إنه مفرد معطوف على مفرد نحو: يا زيد والرجل. وقيل: إنه جارٍ مجراه في التسمية. وإنما وجب الإعراب هاهنا للطول بالعطف، فصار كالعامل والمعمول. فإن قلت: هل يدخل هنا في (شبه المضاف) النعت والمنعوت إذا كان المنعوت مفردا نكرة قبل النداء، نحو: يا حليمًا لا يعجل، ويا جوادًا لا يبخل، ويكون منه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:

"يا عظيمًا يرجى لكل عظيمٍ" وأنشد سيبويه لذي الرمة: أدارًا بحزوى عجت للعين عبرًة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق إذ لم يقصد إلا دارًا واحدة، فليس بمنكور، وكذلك ما أنشده أيضا لتوبة بن الحمير: لعلك يا تيسانزا في مريدةٍ ... معذب ليلى أن تراني أزورها وقال الآخر، وينسب إلى الأحوص: ألا يا نخلًة من ذات عرقٍ ... عليك ورحمة الله السلام

فهذا كله مما عومل فيه المفرد معاملة المضاف للطول بالصفة، وهو ظاهر من كلام سيبويه. ويرشح هذا احتياج النكرة إلى الصفة التي تبينها، فقد صارت بذلك معها كالشيء الواحد، على حد (المضاف والمضاف إليه). فالجواب: أن هذا ممكن، على أن يكون نقل إلى النداء موصوفًا، فبقي على ما كان عليه حين صارت الصفة له كالمعمول للعامل، وكالمعطوف في التسمية، وتعريف القصد لا يقدح في هذا، فإنه إنما ورد على الصفة وموصوفها معا، لا على الموصوف وحده. فإن قيل: يبقى فيه أمران: أحدهما: لزوم ذلك في المعرفة بغير النداء الموصوفة نحو: يا زيد الكريم، فكنت تقول على هذا: يا زيدًا الكريم، وذلك لا يجوز. والناظم ليس في كلامه ما يعين اختصاص ذلك بما عرف بالنداء خاصة. والثاني: إذا سلمنا ذلك، فإن النصب جائز غير واجب؛ بل يجوز أن تقول: يا رجلاً فعل كذا، ويا رجل فعل كذا. ومن البناء قول الأحوص، أنشده سيبويه: يا دار حسرها البلى تحسيرا ... وسفت عليها الريح بعدك مورا

وأنشد أيضا للطرماح: يا دار أقوت بعد أصرامها ... عامًا وما يعنيك من عامها وأنشد أيضا لعمرو بن قنعاس: ألا يا بيت، بالعلياء بيت ... ولولا حب أهلك ما أتيت أفلا ترى إلى البناء مع صلاحية، ما بعد المنادى لأن يجرى صفة، وقد نص في "التسهيل" على هذا المعنى فقال: ويجوز نصب ما وصف من معرف بقصدٍ وإقبال، فأتى بلفظ "يجوز" وكلام الناظم لا يقتضى / هنا إلا اللزوم، فقد يقال: إن هذين الوجهين مانعان من أن يجرى المنادى الموصوف إذا كان مفردا مجرى المنادى الممطول.

فالظاهر أن ما كان من المنادى منصوبًا، وهو موصوف بصفة النكرة، نكرة نحو ما تقدم من قوله: "أدارًا بحزو" وسائر النظائر، لأنه لو كان معرفة بالقصد والإقبال لكان لا يوصف إلا بالمعرفة. ألا ترى أنك لا تقول في وصف نحو: (يا رجل) إلا الكريم - بالألف واللام - ولا تقول: يا رجلاً كريمًا، أو كريم. وقد حكي يونس عن العرب: يا فاسق الخبيث، وأخبر سيبويه: أنه سمعه من العرب الموثوق بهم، أعنى تعريف الوصف، وحمل قوله: "يا دار أقوت" على أن "أقوت" استئناف، لا على الوصف، وكذلك قوله: * يا دار حسرها البلى تحسيرا * وسائر النظائر، وعليه رأى الخليل وسيبويه وغيرهما. والجواب عن الأول: أنه لو سمع في المعرفة لكان ولا مانع منه في القياس، لأن قصدك إلى نداء (زيد العاقل) كقصدك إلى نداء (رجل عاقل) فكما تقول: يا رجلاً عاقلاً، كذلك تقول: يا زيدًا العاقل، ويكون الفرق بينه وبين (يا زيد

العاقل) أنك في هذا وصفت ما كان منادى، وفي مسألتنا وصفت غير منادى، لكنك نقلته إلى النداء موصوفا، فأشبه العامل والمعمول كالنكرة الموصوفة. فالحاصل أن ما ألزم في السؤال يلتزم. سلمنا أنه لا يكون في المعرفة. فالفرق عدم السماع، ومن جهة المعنى: أن النكرة أحوج إلى الوصف من المعرفة فكون وصفها معها كالشيء الواحد أتم منه في المعرفة مع صفتها، فافترقا. والجواب عن الثاني أن النصب على ذلك القصد واجب لا جائز، وذلك لأن النداء تارًة يرد على الموصوف بصفته، وعند ذلك لابد من النصب، كما يرد على العامل مع معموله، والمعطوف مع المعطوف عليه في التسمية، فلا يكون بد من النصب. وتارة يرد على الاسم غير موصوف، فلابد من البناء، لأن الصفة إنما ترد على المنادى وحده، فهو مفرد مقصود، ثم يرد الوصف على معرفة، فلابد من تعريف الصفة. وإن لا فإذا وقع بعد المنادى جملة أو مجرور، فهو على تقدير الاستئناف. فعلى اعتبار القصدين جاء الوجهان، وإنما تدخل المسألة في المنادى الممطول على التقدير الأول ولا خيرة فيه، فصح كلام الناظم بدخول المسألة تحته. وأما ما رآه في "التسهيل" فعبارته فيه تقتضى أن المنادى معرفة، وهو مع ذلك موصوف بصفة النكرة، فلا يستقيم على ظاهره فهمه.

وما قيل من أن "أدارًا بحزوى" وأشباهه نكرات - فغير مسلم بأنه مشبه بالمعطوف والمعطوف عليه، والعامل والمعمول، وأنت تجعل (يا / طالعًا جبلاً) معرفًة، و (يا رجلاً وامرأًة) مسمًى به معرفة، وإن كان اللفظ لفظ النكرة، فكذلك تجعل (يا رجلاً عاقلاً) بجملته معرفًة، وإن كان اللفظ لفظ النكرة. فإن قيل: ما الدليل على أنها من المنادى المقصود دون المنكور؟ فالجواب: أن الدليل النقل عن الأئمة أنه كذلك، وأيضا فقوله: * لعلك يا تيسًا نزا في مريرةٍ * "التيس" فيه رجل بعينه، وهو زوج ليلى الأخيلية، فإذا ثبت هذا كان دخول المسألة تحت عبارة "شبه المضاف" ظاهرا. فثبت من كلامه أن المعرب من المناديات ثلاثة أنواع: المنكور المفرد، والمضاف، والشبيه بالمضاف. والنحويون يعدون من ذلك بحسب الإعراب نوعًا رابعًا، وهو المجرور باللام في "الاستغاثة". وفي "التعجب" الشبيه بها. وهو غير داخل على الناظم؛ إذ قيد إعرابها بالنصب، وهو مجرور، وسيذكره في موضعه.

وقوله: "عادمًا خلافًا" حال من ضمير "انصب" يريد أن نصب هذه الأنواع الثلاثة اتفاق من النحويين، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن قيل: فما فائدة التنبيه على نفي الخلاف هنا؟ فالجواب: أنه نبه به على خلاف ضعيف في المسألة، لا ينتهض خلافًا، وذلك أن "ثعلبا" أجاز النصب والرفع في المضاف الصالح للألف واللام نحو: يا حسن الوجه، ويا قائم الأب، فيجوز عنده ضم "حسن" و"قائم" لأنه لما كانت إضافته في نية الانفصال كانت كالمعدمة. قال المؤلف في "الشرح" وأظنه قاس ذلك على رواية الفراء عن بعض العرب: يا مهتم بنا لا تهتم - بضم مهتم - مع أنه شبيه بالمضاف. ثم أول الحكاية على أن "بنا" يتعلق بـ (لا تهتم) لا بـ (مهتم) وإذا كان كذلك فلابد أن يكون قائلاً أيضا بجواز الضم قياسًا في نحو: يا مهتم بنا لا تهتم. فالخلاف حاصل في المضاف، والشبيه به، لكنه خلاف شاذ، فكأنه الناظم يقول: هذا المذهب غير مرضى ولا معتد به أن يكون خلافًا، فلا خلاف في الحقيقة، وكذا عادة بعض المصنفين يحكون الوفاق نفيًا للخلاف الضعيف، وابن الحاجب مما يفعل ذلك في مواضع من "مختصره" الفقهي، نبهنا على ذلك بعض شيوخنا، فيكون هذا الموضع من ذلك.

فإن قيل: فثم أيضا خلاف غير ضعيف في المفرد المنكور، وذلك أن المازني يجعل ما جاء من ذلك في السماع مونًا ضرورًة لا قياسًا، والقياس عنده الضم فتقول: يا رجل خذ بيدي، وما أشبه ذلك. قيل: قد يكون هذا الخلاف عنده ضعيفا لا يعتد به، وأيضًا خلاف المازني في أصل المنكور، وذلك أنه يقول: لا يتصور نداء منادًى غير مقبلٍ عليه؛ بل لابد من القصد إليه، وإذا ثبت القصد إليه صار معرفة به، / فلا يكون فيه إلا الضم في غير ضرورة. فهو غير قائل بالضم في النكرة إلا بناًء على أنها معرفة، هذا إن ثبت خلاف المازنًي في النقل، وإن لا فيكون الأمر أسهل في طلب الاعتذار، والله أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: "عادمًا خلافا" يرجع إلى توافق السماع، [يريد أن السماع] لم يأت بخلاف ما ذكرت لك من النصب، تنكيتًا على ما رواه الفراء، وما أجازه ثعلب، وهذا الاحتمال ظاهر أيضا. ولم يتعرض الناظم للناصب ما هو، ولا للمبنى هل هو في موضع نصب أم لا؟ أما هذا الثاني فقد يستشعر من كلامه في التابع، حيث أجاز الحمل على الموضع. وأما الأول: فالجمهور من البصريين على نصبه بفعل مضمر لازم الإضمار، ومنهم من ذهب إلى أنه منصوب بأداته بالظاهرة، إلا أنهم اختلفوا فيها، فذهب الفارسي في "التذكرة" إلى أن النصب بها، مع أنها حروف، هذا ظاهر كلامه.

وذهب بعض المتأخرين إلى أنها (أسماء أفعال) نصبت ما بعدها، والكلام على ترجيح المذاهب غير لائق بالشرح: ونحو زيدٍ ضم وافتحن من ... نحو أزيد بن سعيدٍ لاتهن والضم إن لم يل الابن علما ... أويل الابن علم قد حتما هذه مسألة المنادى إذا وصف بـ (ابنٍ) ما حكمه؟ فأشار إلى أنه إذا اجتمعت للمنادى الموصوف بـ (ابنٍ) خمسة شروط جاز في المنادى وجهان: أحدهما: بقاؤه على ما كان عليه من الضم الذي استحقه بكونه مفردًا معرفة، سواء أكان غير موصوف أم موصوفًا بغير (ابن) فتقول: يا زيد بن عمروٍ. والثاني: فتحه إتباعًا لـ (ابنٍ) في فتحه نحو: يا زيد بن عمروٍ، وبهذا الوجه الأخير امتازت هذه المسألة عن غيرها، ولأجله ذكرت. الشرط الأول: ما نبه عليه تمثيله بقوله: "ونحو زيدٍ" وهو في الحقيقة موضوع المسألة، لأن المضاف والشبيه بالمضاف لا يصح فيه الضم، والمنكور لا يوصف بابن فلان، لعدم تعريفه في الأصل. والثاني: كون الضم فيه ظاهرا، وذلك ما نبه عليه المثال أيضا، لأن (زيدا) اسم ظهر فيه الضم، ففيه وفي أمثاله يصح هذا الحكم، فلو كان ضمه مقدرا فلا ينوى الفتح فيه.

قال المؤلف: إذ لا فائدة في ذلك، ثم حكي عن الفراء أنه أجاز في قوله تعالى: } يا عيسى بن مريم {الوجهين - الضم والفتح - فإذا اعتبرنا هذا الشرط أخذًا من المثال، وكثيرا ما يعتمد الناظم على الأمثلة، فيترجح مذهبه بما قال في "الشرح": إنه لا فائدة في تقدير الإتباع. ومن وجهٍ آخر، وهو أن الإتباع أمر لفظي لا يحكمى، ألا ترى أنه تناسب يحصل بإتباع الفتح الفتح بخلاف ما إذا لم يتبع، / فإن الضم والفتح غير متناسبين، وهما ملتقيان أو كالملتقيين. ومن عادتهم تحصيل التناسب اللفظي، وأما التقدير فلا تناسب بينه وبين اللفظ، ولذلك جاء نحو: منتن، و (الحمد لله) و (الحمد لله) بعيرٍ، ونحوه. فالصواب ما رآه من التقييد بالظهور، وإنما يحسن تقدير الأمور الحكميه، كالإعراب والبناء وغيرهما.

والثالث: أن يكون التابع له (الابن) لا غيره من الأسماء. نبه على هذا مثاله أيضا، فلو كان التابع غير (الابن) لزم في (زيد) الضم خلافًا للكوفيين، حسبما يذكر. والرابع: أن يقع قبل (الابن) علم يكون واليًا له، وذلك قوله: (إن لم يل الابن علما) وهذا الشرط يحترز به من أمرين: الأول: ألا يكون ما قبل (الابن) علمًا نحو: يا غلام ابن عمروٍ، ويا فاضل ابن زيدٍ فهذا لابد فيه من الضم حتما، لأنه لم يل (الابن) علمًا، فنص كلامه أن الضم متحتم عند فقد العلمية مما قبل (الابن) يفهم منه أن علمية ما قبله شرط في جواز الوجهين. والثاني: أن يكون ما قبله علمًا، لكن غير والٍ له؛ بل فصل بشيء آخر بينه وبينه، نحو: يا زيد الفاضل ابن عمروٍ، فلابد من ضم (زيد) بمقتضى قوله: "إن لم يل" وإطلاقه (الولاية) هنا يريد بها أن يكون بعده متصلاً به. والخامس: أن يقع بعد (الابن) علم أيضا، فإن لم يقع بعده علم فلابد من الضم في المنادى نحو: يا زيد ابن الرجل، ويا عمرو ابن صاحبنا، وما أشبه ذلك. فإذا اجتمعت الشروط جاز الوجهان كما تقدم. ومن ذلك ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: * يا حكم بن المنذر بن الجارود *

وأنشد أيضاً للعجاج: * يا عمر بن معمرٍ لا منتظر * ويدخل تحت تحت هذا الشرط ما إذا كان (الابن) بين علمين، كما مثل، أو بين لقبين نحو: يا كرز بن بطة، أو بين علم ولقب نحو: يا زيد بن كزرٍ ويا كرز بن زيدٍ، لأن الألقاب أعلام، وكذلك الكنى كما تقدم له في "باب العلم". ووجه الفتح الإتباع لحركة نون (ابن) لأن الاسمين لما كثر استعمالهما صارا كالاسم الواحد، فجاز فيهما من الإتباع ما جاز في الاسم الواحد نحو: امرئٍ وابنمٍ، فإنك تتبع في ذلك ما قبل الآخر الآخر، نحو: هذا امرؤ وابنم، ورأيت امرأ وابنمًا، ومررت بامرئ وابنمٍ. ولأجل أنهما استعملا كثيرا، فصارا كالشيء الواحد، لم يجز هذا الحكم عند ما فصل فاصل. ولأجل أنهما استعملا كثيرا، والأول علم، والثاني كذلك لم يسغ ذلك مع غير الأعلام إذ توسعوا في الأعلام ما لم يتوسعوا في غيرها، ويدلك على ذلك في الأعلام أنك تقول في غير النداء: هذا زيد بن عمروٍ، فتحذف التنوين، وهذه هند بنت عمروٍ، فيمن صرف (هندًا) فتحذف أيضا. فإذا قلت: هذا زيد ابن أخينا، لم تحذف التنوين، / وكذلك: هذا غلام ابن زيدٍ، فلا تحذف.

فإن قلت: لم يذكر هنا حكم (بنت) إذا وقع موقع (ابن) مع أن حكمهما واحد، فما المانع من ذكره؟ فالجواب: أن التصرف في (ابن) أكثر، والكلام به أشهر من (بنت) فلم يتعرض له، وعلى أن القياس على (ابن) سائغ فيها على ما تقدم من التعليل، وهو رأى أبي عمرو بن العلاء. ومعنى قوله: "والضم إن لم يل" .. البيت، أن الضم في المنادى لازم إذا لم يقع (الابن) بين علمين مواليين، فإن وقع كذلك لم يلزم الضم على ما تقدم في البيت قبله. وقوله: (أويل الابن علم) فعل معطوف على "يل" الأول، داخل تحت حكم الجزم بـ"لم" أي: ولم يل الابن علم، و (حتم) معناه: أوجب. وقوله في البيت قبله: "ونحو زيد" معمول في المعنى للفعلين بعده، تنازعاه، والمعمل فيه هو الثاني، وهو "افتحن" لأنه بغير ضمير منصوب، و"لاتهن" من: وهن يهن، إذا ضعف، أي لا تضعف عن أمرك، وهو من تمام المثال. واعلم أن هذا الاشتراط إنما هو في القياس وعلى رأى البصريين، أما في السماع فلا. فقد قالوا: يا فلان ابن فلان، وليس الاسم واقعا بين علمين، ويا سيد ابن سيد ويا ضل ابن ضل. وفي تمام الشروط روى الأخفش عن العرب. ضم نون (ابن) فتقول: يا زيد بن عمروٍ، وهو نظير قراءة من قرأ: "الحمد لله" بضم لام (لله).

وأما مخالفة البصريين، فذكر عن الكوفيين أنهم لا يقتصرون في فتح الموصوف على (الابن) بل يقولون: يا زيد الكريم، ودليلهم على ذلك قول الشاعر، وهو جرير: فما كعب بن مامة وابن سعدي ... بأجود منك يا عمر الجوادا رووه بنصب راء (عمر) ومثل هذا شاذ لا يعتد به. ويرد عليه اعتراض هنا، وهو أنه ترك شرطا معتبرا في الحكم الذي قرر، فإن جواز الوجهين لا يكون إلا إذا أعرب (الابن) صفًة للأول، فحينئذ يحكم له بحكم الإتباع. وأما إذا كان بدلاً، أو على تقدير نداءٍ آخر - فلا يصح فيه إلا وجه، وهو ضم الأول، وذلك قولك: يا زيد ابن عمروٍ، فـ (ابن عمرو) تعربه بدلا، فلابد من ضم (زيد) لأن البدل هو المقصود بالحكم دون الأول، فلا يتأتى فيه ما يتأتى في الصفة مع الموصوف، وكذلك إن قدرت قبل (الابن) حرف نداء فهو أولى بالانقطاع من الأول وكلامه ليس فيه ما يعطي هذا الشرط، وقد أشار في "التسهيل" إلى هذا الشرط، وهو حقيق بالاشتراط. والجواب: أنه فرض المسألة سماعية، لأنه قال: "ونحو كذا" ولم يفرضها صناعية، وإذا كان كذلك فالمثال الذي ذكر، وما أشبهه، جائز فيه الوجهان على

الجملة، لأنك إن فرضت (الابن) صفة، فهو ذاك، وإن لا، فأحد الوجهين لازم، فقد حصل جواز الوجهين، إلا أن أحدهما وهو الأصل على ثلاثة تقديرات، والآخر على تقدير / واحد، ولا خلل في عدم تفصيل الأوجه الصناعية. والله أعلم. واضمم أو انصب ما اضطرارًا نونا ... مماله استحقاق ضم بينا أخبر في هذين الشطر أن الشاعر إذا اضطر إلى تنوين المنادى الذي كان مستحًق للبناء على الضم، وهو المفرد المعرفة، جاز له وجهان: أحدهما: بقاؤه على ضمه، وهو الذي ابتدأ به في قوله: "واضمم" لأن التنوين عارض للضرورة، فلا يعتد به، بل يجعل كالمعدوم، فيبقى على ضمه. وأيضًا: فيقويه شبه حركة البناء في المنادى بحركة الإعراب. والثاني: رده إلى أصله من النصب، ولذلك قال: "أو انصب" ولم يقل: أو افتح، كما قال: "واضمم" إشعارا بأن الفتحة إعراب لا بناء. ووجه ذلك أن البناء إنما كان لشبهه بالمضمر، أو وقوعه موقع (كاف) الخطاب، أو تضمنه معناها. وعلى كل تقدير فقد ضعف بالتنوين لأنه من خصائص الأسماء كالإضافة، ومقل هذا الاسم الذي لا ينصرف، إذا نون ضرورًة رد إلى

الجر بالكسرة، كقول امرئ القيس: * ويوم دخلت الخدر خدر عنيزةٍ * وهذا الوجه أقيس من الأول، إذ لم يبق عربي الاسم على جره بالفتحة حين اضطر إلى صرف ما لا ينصرف [كذلك ينبغي أن يكون المنادى. وأيضا فإنه بالتنوين أشبه المطول، فكان الوجه فيه النصب، غير أن البقاء على الأصل أكثر في السماع، ولذلك لم يسمع سيبويه النصب حسبما حكي عن نفسه. وكأن الناظم قدم الضم على النصب إشعارًا بأنه الأولى عنده، واعتمادًا على ترجيح السماع. والمسألة مختلف في المختار فيها من الوجهين، ولا خلاف في جوازهما. فالخليل وسيبويه يختاران بقاءه على الضم، لما تقدم من القياس، ولشبهه بالممرفوع الذي لا ينصرف] ولأن السماع عليه، أنشد سيبويه للأحوص

سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام وقالت بنت النضر بن الحارث، واسمها قتيلة، حين قتل النبي صلى الله عليه وسلم أباها: أمحمد والضنء ضنء نجيبةٍ ... في قومها والفحل فحل معرق وقال لبيد بن أبي ربيعة: قدموا إذ قيل: قيس قدموا ... وارفعوا المجد بأطراف الأسل أراد: يا قيس. وأما أبو عمرو وأتباعه فيختارون النصب، لما تقدم من القياس، والسماع أيضا، كقول عدى بن ربيعة أو أخيه مهلهل:

ضربت صدرها إلى وقالت ... يا عديًا لقد وقتك الأواقي وقال كثير: ليت التحية كانت لي فأشكرها ... مكان يا جملاً حييت يا رجل ويروى "مكان يا جمل" على اختيار الخليل وسيبويه، وقال الآخر: يا سيدًا ما أنت من سيد ... موطأٍ الأكناف رحب الذراع وهنا مسائل ثلاث: إحداها: أن قوله: "مما له استحقاق ضم" أراد به كل حقه أن يبني، والذي هو كذلك المفرد العلم كما تقدم تمثيله، والنكرة المقصودة المفردة نحو: يا رجل، وعليه بيت كثير، والبيت بعده، فكأنه نبه على أنه لا يستثنى من المبنى على الضم شيء. وظاهر كلام النحويين كظاهر هذا النظم في تعميم الحكم في العلم وغيره مما يجب بناؤه. وذهب علماء سبتة، فيما حدثنا شيخنا

الأستاذ - رحمة الله عليه - إلى أن ذلك مختص بالعلم، وعللوا ذلك بأن المعرف بالقصد والإقبال لا ضرورة تلحق فيه، لأنهم إن / أرادوا تنوينه قدروه منكرًا فانتصب. ورواية بيت كثيرٍ يرد عليهم، وأيضًا، فإن التنكير لا يتأتى في كل موضع؛ بل لابد من موضعٍ يكون قصد التنكير فيه مخلاً بمقتضى الحال، فالأصح عموم الحكم. و(ما) من قوله: "ما اضطرارًا نونا" منصوبة المحل على المفعولية، تنازعها الفعلان قبلها. والثانية: أنه قال: "مما له استحقاق ضم بينا" فختم بقوله: "بينا" وهو في موضع الصفة لـ"ضم" بمعنى: ضم أظهر وفائدة هذا التقييد التحرز من الضم المقدر، فإنه، وإن كان مقدرًا، يلحقه التنوين على الجملة، كقاضٍ وفتًى، فأخرج الضم المقدر من هذا الحكم، لئلا يتوهم أنه ينون ضرورًة، وليس كذلك؛ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، لأنه إما مبنى أو معرب، وعلى كلا التقديرين لا يضطر إلى تنوينه، لأن الحرف الذي قدرت فيه الضمة ساكن، نحو: يا قاضي، ويا فتى، فإذا نون حذف لالتقائه ساكنًا مع التنوين، فلم يفد التنوين في وزن الشعر شيئا، كما أفاد إذا كانت الضمة ظاهرة، وفي هذا البحث نظر يتبين في باب ما لا ينصرف إن شاء الله.

والثالثة: أن هذه المسألة من المسائل المختصة بـ"الضرائر الشعرية" وكلامه فيها بناًء على أن تنويون المنادى جائز في الشعر، لأن الكلام في حركته المتبوعة ثانٍ عن كونه تابعا لحركة، وأن ذلك حاصل، وهذا صحيح. ولكن الكلام في أصلها، بالنسبة إلى هذا المختصر، كـ"الفصل" الذي لا يحتاج إليه، لأنه قد ترك من أحكام الكلام كثيرا، فكيف يذكر أحكام الشعر، وأحكام الكلام آكد بلا شك؟ فيعترض من جهتين، من جهة كلامه في "الضرائر" وهي أحكام أقلية، ومن جهة تركه أحكامًا أكثرية، وقواعد ضرورية، وكان قادرا على وضعها موضع تلك الأقلية. والعذر عن هذا من وجهين: أحدهما: عام، وهو أن الاحتياج إلى أحكام "الضرائر" أكيدة بالنسبة إلى الشعراء، كما كانت أحكام "الاختيار" أكيدًة بالنسبة إلى الجميع، فلابد من الإلماع بشيء منها في أثناء الأبواب، ليعمل عليها من كان من أهلها؛ إذ ليس كلام النحويين مختصًا بأحكام "الاختيار". إلا ترى أن سيبويه بوب على أحكام "الضرائر" على الجملة، ثم نبه في الأبواب على تفاصيلها، فاتبعه المصنفون على ذلك فني كتبهم المطولة والمختصرة، كالزجاجي وغيره، علما منهم بأن الاحتياج إليها لأهلها لا يقصر عن الاحتياج للجميع، فلا بعد في أن يكون الناظم قد اتبعهم في هذا المقصد.

وأيضاً فقد تكون المسألة شهيرة طبولية، فينبه عليها لشهرتها، ولا تقصير في هذا. والثاني: خاص، وهو أن لحاق التنوين للمبني في غير التنكير غريب، ويكاد يكون غير معترفٍ به؛ إذ كان تنوين صرف، وتنوين الصرف إنما يلحق حركة الإعراب اللاحقة للمتمكن من الأسماء، الذي لم يشبه الحرف ولا الفعل، فأنت ترى حركة الإعراب / لا يتبعها تنوين مع شبه [الفعل] المعرب، نحو: أحمد، وإبراهيم، فأولى ألا يتبع حركة البناء لشبه الحرف. فلما كان الأمر كذلك، وكانت العرب قد ألحقت هنا تنوين الصرف، أراد أن ينبه على ذلك، وأنه جارٍ على وجهٍ قياسي، ليبنى على ذلك القول في أحكام التوابع، لأن التابع في هذا الباب يحمل على لفظ، وهو اللفظ المبنى، وذلك أن حركة البناء هنا شبيهة بحركة الإعراب، ذلك أن الحركات في أواخر الكلم لغير التقاء ساكنين ثلاثة أضرب: ضرب حدث بشيء، وضرب حدث دون شيء، وضرب لم يحدث بشيء ولا حدث دون شيء. فالأول: هو الإعراب، وهو يحدث بالعامل. والثاني: هو البناء، ويحدث من غير عاملٍ ولا غيره. والثالث: المبنى هنا وفي باب (لا) فإنها تحدث عند حدوث حرف النداء و (لا) ولا تحدث بهما؛ إذ ليس حرف النداء بعاملٍ مطلقا، ولا حرف النفي بعاملٍ نصبًا في مفرد يقبل التنوين من غير تنوين.

فقد صار الضم في (المنادى) حادثًا بحدوث شيء، وبهذا أشبه حركة الإعراب، وغير أثر العامل، وبذلك دخل في حركات البناء، ومن حيث أشبه حركة الإعراب، ولم يلحقه تنوين أشبه حركة ما لا ينصرف، فلما كان كذلك لحقه التنوين في الضرورة، كما لحق ما لا ينصرف في الضرورة. هذا وجه لحاق التنوين على الجملة، إلا أن بعضهم حكم الشبه بما لا ينصرف، فرد عند (الضرورة) إلى الأصل من النصب، كما يرد في حالة الجر ما لا ينصرف إلى الأصل من دخول الجر بالكسرة. وبعضهم اعتبر مجرد شبه الحركة بحركة الإعراب في المنصرف، فأتبعها على لفظها، كما تتبع حركة المنصرف. وكلاهما له نظر، فقد يمكن أن يكون الناظم جعل هذا مقدمة لإتباع (المنادى) على اللفظ، كأنه يقول: إن الضم هنا كالرفع، ولذلك نون، فكذلك يتبع على اللفظ، والله أعلم. وباضطرار خص جمع يا وأل ... إلا مع الله ومحكي الجمل والأكثر اللهم بالتعويض ... وشذيا اللهم في قريض يعني أن حرف (النداء) لا يجمع بينه وبين الألف واللام، وهي (أل) في حالة "الاختيار" أصلا، وإنما يحص ذلك بالاضطرار الشعري، إلا ما استثنى، وذلك لأن (يا رجل) معناه كمعنى (يا أيها الرجل) فصار معرفة بالقصد والإشارة إليه، فاستغنى بذلك عن الألف واللام، كما استغنت "أسماء الإشارة" بتعريف الإشارة عن الألف واللام، وكما استغنى بـ (اضرب) عن (لتضرب) فصار القصد

والإشارة في النداء كالعوض من الألف واللام، فلا يجمع بينهما في الكلام، فلا يجوز لك أن تقول: يا الرجل، ويا الغلام، وهذا مذهب سيبويه والبصريين. وأجاز ذلك الكوفيون مطلقا، وأجاز بعض / النحويين دخول (يا) عليها إذا كان ثمه تشبيه، نحو: يا لأسد شدًة، ويا لخليفة جودًا. ودليل البصريين ما تقدم مضافًا إلى السماع، وأما الكوفيون فاحتجوا على ذلك بالقياس والسماع. وأما القياس فقاسوا ذلك على لفظ (الله) إذ جاز دخول (يا) مع الألف واللام فيه بإجماع، وليستا من أصل الكلمة، وإنما هما زائدتان، فكذلك يجوز أن تقول: يا الرجل، ويا لغلام، ويا الفاضل، ونحو ذلك. وأما السماع فقد أنشدوا: فيا الغلامان اللذان فرا ... إيا كما أن تكسباني شرًا وهذا، على طريقة ابن مالك، يمكن أن يدخل في قبيل "الاختيار" لتمكن قائله من أن يقول: فيا غلامان اللذان فرا

وأنشدوا أيضا: من أجلك يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلة بالود عني وهو من أبيات الكتاب، ولم يرتض الناظم البناء على ما احتجوا به. أما القياس على (يا الله) فغير صحيحٍ عنده، فلذلك استثناه من المسألة فقال: "إلا مع الله" وذلك لأن هذا الاسم قد اختص بأشياء خارجة عن القياس، منها هذا. وأيضًا، فلدخول (يا) عليه، مع الألف واللام، وجه من القياس ليس في غيره، حسبما يذكر إن شاء الله تعالى. وأما البيتان فهما من الشذوذ بالمكان المكين، وإنما شأن العرب إذا أرادت نداء ما هما فيه، إن لم ترد حذفهما، أن تأتي بـ (أي) فتقول: يا أيها الرجل، أو تأتي أيضا باسم الإشارة فتقول: يا هذا الرجل، ولا تقول: يا الرجل ونحوه، إلا في "الاضطرار" كما قال. وأما جواز (يا الأسد شدًة) فقال ابن مالك في "الشرح" هو قياس صحيح، لأن تقديره: يا مثل الأسد، ويا مثل الخليفة. قال فحسن لتقدير دخول (يا) على غير الألف واللام.

وفيما قاله ابن مالك نظر؛ إذ ليس تقدير (مثل) بمزيلٍ لقبح الجمع بين (يا) والألف واللام، وإلا فكان يلزمه أن يجيز (يا الرجل) لأنه في معنى (يا أيها الرجل) وليس مذهبه ذلك. ويلزمه أن يقول: يا القرية، لأنه في تقدير (يا أهل القرية) وما أشبه ذلك. ولا يقول به ابن مالك ولا صاحب المذهب المذكور، فدل على أن هذا كله غير صحيح، وأن ما ذهب إليه هنا، من منع إدخال (يا) على ما فيه الألف واللام، هو الصحيح إلا فيما استثنى. والذي استثنى من ذلك فأجاز اجتماعهما فيه شيئان: أحدهما: لفظ (الله) فإنه لا يختص اجتماعهما فيه بـ (الاضطرار) فيجوز ذلك فيه في (السعة) فتقول: يا ألله اغفر لي. وعلل ذلك سيبويه بأن الألف واللام لا يفارقانه، وهما فيه عروض من همزة (إله) فصارت بذلك كأنها من نفس الكلمة، وليس بمنزلة (الذي قال ذاك) لأن (الذي قال: ذلك) يعني الموصول، وإن كان لا تفارقه الألف واللام، ليس باسمٍ غالبٍ على مسماه كزيدٍ وعمروٍ، لأنك تقول: يا أيها الذي قال: ذاك كما تقول: يا أيها الرجل، فامتنع أن تقول: يا الذي قال: / ذاك، كما امتنع (يا الرجل) ولا يجوز أيضا: يا الصعق، ولا يا الدبران، وإن كانت الألف واللام لا تفارقانه لأنهما ليسا

عوضًا عن شيء من نفس الكلمة، كما كان ذلك في لفظ (الله) حين عوضتا من همزة (إلاه) هذا محصول تعليل سيبويه. والذي يصحح تنزلهما منزلة ما هو من نفس الكلمة [قطع الهمزة] كما قال: مبارك هو ومن سماه ... على اسمك اللهم يا ألله كما أن الفعل الذي أوله همزة وصلٍ إذا سمى به قطعت فقلت: جاءني أقتل وإضرب، ولو كانت في تقدير الانفصال لقالوا: (يا الله) موصول الهمزة، فهذا! وجه ما جاء فيه. والثاني: من المستثنيين محكي الجمل، يعني به المنادى المسمى بالجملة التي تلزم حكايتها بعد التسمية إذا كان في أولها الألف واللام، كما إذا سميت رجلاً بقولك: الرجل قائم، فإنك تقول: يا الرجل قائم. قال سيبويه: لأنه بمنزلة (تأبط شرًا) لأنه لا يتغير عن حاله؛ إذ قد عمل بعضه في بعض. يعني أنه جملة يجب أن تحكى ولا تغير عن حالها.

وعلل ذلك المؤلف بأن معناه: يا مقولاً له: الرجل قائم. قال: وقاس المبرد عليه دخول (يا) على المسمى به من موصولٍ فيه الألف واللام نحو: يا الذي قام. قال: وهو قياس صحيح. يعني من حيث هو في التقدير في معنى: يا مقولاً له كذا. ولم يعلل سيبويه إلا بما تقدم، فمنع دخول (يا) على (الذي قام) مسمى به، كما لا يجوز أن تنادى (الضارب أبوه) إذا كان اسما، لأنه بمنزلة اسم واحد فيه الألف واللام، فكذلك (الذي) وما بعده من صلته بمنزلة اسم واحد فيه الألف واللام، كالحارث والنضر ونحوهما، مما فيه الألف واللام. وظاهر كلام الناظم هنا موافقة سيبويه ومخالفة رأيه في "شرح التسهيل" لأنه قال: "ومحكي الجمل". و (الذي قام) ليس من محكي الجمل، لأنه يجرى بوجوه الإعراب، وصلته، وإن كانت جملةً داخلة فيه كالجزء. وإذا كان كذلك خرج عن مراده من ذلك اللفظ، فهذا الموضع من المواضع التي خالف فيها "التسهيل" و"شرحه" وكان فيها مصيبا؛ إذ ليس التقدير ما قدره المؤلف، وإلا لزم ذلك في كل منادى، فيقدر فيه: يا مقولاً له كذا، لأن الحكاية في التسمية بها وغيرها سواء، فزيد وعمرو ونحوهما في النداء لا يقدر معهما شيء، فكذلك كل ما جرى مجراها من الأعلام. وأما الموصول فاسم واحد كالاسم المبدوء بالألف واللام [فلم يسغ فيه إلا ما ساغ فيه] ثم قال: "والأكثر اللهم" لما قدم أنه يقال في النداء: يا ألله، في فصيح الكلام، ذكر الآن أن الأكثر في الكلام التعويض، وهو إلحاق الميم

المشددة آخر الاسم عوضًا من (يا) في أوله، فيقال: اللهم، فإذًا الوجهان جائزان، والأكثر (اللهم)، فعليه معهود الاستعمال، ولذلك لم يقع في القرآن إلا (اللهم). وفي قوله: "بالتعويض" تنبيه على أمرين: أحدهما: التنبيه / على المذهب الراجح في هذه (الميم) وهو كونها عوضًا من (يا) قال سيبويه: وقال الخليل رحمه الله: اللهم نداء، والميم هاهنا بدل من (يا) قال: فهي هنا فيما زعم الخليل آخر الكلمة بمنزلة (يا) في أولها، إلا أن (الميم) هنا مبنية في الكلمة، كما أن نون (مسلمين) في الكلمة بنيت عليها. وهذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى أن (الميم) ليست عوضا من (يا) وإنما هي مختصرة من (أم) وأصل الكلام: يا الله أمنا بخير، إلا أنهم لما كثر استعمالهم لذلك، وجرى في ألسنتهم، حذفوا بعض الكلمة للتخفيف، كما قالوا: (هلم) في: هل أم، و (ويلمه) في: ويل أمه، و (عم صباحًا) في: أنعم صباحًا، و (أيشٍ) والأصل: أي شيءٍ، وذلك كثير. ولو كانت عوضًا من (يا) لم يجمع بينهما، لكن العرب جمعت بينهما كما سيذكر، فدل على أنها غير عوض، لأن العرب لا تجمع بين العوض والمعوض منه. وقول البصريين أصوب، لأن المستفاد من قولك: اللهم، هو عين المستفاد من قولك: يا الله، فلو كان في الكلام معنى زائد لعلم، وكل ما قدره الكوفيون لا دليل عليه، فوجب اطراحه، وما جاء من الجمع بينهما

فشاذ لا يقاس عليه، وقد أفسدوا دعوى الكوفيين بأشياء أكثرها ضعيفة، فلا حاجة إلى إيرادها. والأمر الثاني: أن التعويض يقتضي ألا يجمع بين الميم و (يا) فلا يقال: يا اللهم لأن الجمع بين العوض والمعوض منه غير سائغ. ويقتضيه أيضا قوله: "وشذ يا للهم في قريض" لأن الشاذ هو الذي لا يجوز في الكلام قياسا، وهذا رأى البصريين أيضا أن ذلك لا يجوز. وذهب الكوفيون إلى جواز الجمع بينهما، وأن يقال في السعة: (يا اللهم) وما قالوه مرجوح، فإن القياس إنما يجري إذا فهمنا من العرب إجراء القياس، وذلك يكون بوجوده مسموعًا كثيرا جدا في النثر والنظم، أو بمجرد سماعه من غير وجود معارض له، وليس ما نحن فيه كذلك، لأن السماع إنما فشا بعدم الجمع، ولم يوجد الجمع إلا في الشعر، ولا وجد في الشعر إلا شاذا، كما قال الناظم: "وشذ يا اللهم في قريض". فأخبر أنه شاذ في نفسه، وأن ذلك الشاذ إنما أتى في الشعر لا في الكلام، وكل واحد منهما قد كان كافيا على الجملة عند اشتهار عدم الجمع، فقد فهم بسبب ذلك أن العرب لا تجمع بينهما في السعة. ولم يعتبر الكوفيون هذا، وهو حقيق بالاعتبار، فإن القياس لا ينبغي أن يعمل جزافًا وكيف اتفق؛ بل ينظر في كلام العرب بالاستقراء الصحيح، والتتبع الحسن، فما وجد مشهورا عندهم، لا يتحاشي من استعماله في النثر والنظم،

ساغ القياس عليه، كان له معارض أولا، لكن إن كان المعارض نادرا اطرح ذلك المعارض، وأعمل القياس فيما اشتهر، وإن كان مشتهرا مثله أعملا / معًا. وما وجد عندهم غير مشهور بل كان نادرا، فإن كان لمعارضٍ أشهر ترك الأندر للأشهر. وإن لم يكن له معارض أصلاً أعمل، وإن كان إنما سمع في الشعر؛ إذ لم يقم دليل على أنه مما اختص بالشعر، فيحمل على أنه من مطلق كلامها، حتى يوجد ما يعارضه، ويدل على أنه مما اختص بالشعر، قاله الشلوبين. وقد تقدم التنبيه منه على شيء من هذا، ومحل بسطه "الأصول" فالكوفيون لم يعتبروا هذا الأصل؛ بل تلقوا كل ما جاء في كلامٍ أو شعرٍ نادرًا أو شهيرًا، فقاسوا عليه، وجد له معارض أو لم يوجد، فلم يلتفتوا إلى المعارض. وبسبب ذلك اتسع عندهم نطاق القياس، وانخرمت عليهم أشياء من الضوابط الاستقرائية. ولما رأى أهل التحقيق البناء على مثل هذه "الأصول" المحققة الاستقرائية مطردًا عند الخليل وسيبويه، وغير مطرد عند الكوفيين - اعتمدوا على قياسهما، واعتمدوا على نقلهما وتحقيقهما، ونعما فعلوا. وقوله: "وشذ يا اللهم في قريض" يريد أن الجمع بين (يا) والميم شذ في القريض وهو الشعر وهو (فعيل) بمعنى (مفعول) من: قرضت

الشعر، أقرضه قرضًا، فهو قريض ومنه قول عبيد بن الأبرص: "حال الجريض دون القريض" قاله الجوهري. وقد يطلق (القريض) في مقابلة (الرجز) وهو نوع من الشعر، قال الأخفش: هو كل ما كان على جزءين أو ثلاثة من أوزانهم، وأنشد ابن الأنباري للأغلب العجلي: أرجزًا تريد أم قريضا ... أم هكذا بينهما تعريضا ومراد الناظم الأول فمما جاء في الشعر من ذلك ما أنشده الكوفيون وأبو زيد: إني إذا ما حدث ألما ... دعوت يا اللهم يا اللهما

وأنشد الكوفيون أيضا قول الراجز: وما عبيك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت يا أللهما أردد علينا شيخنا مسلما وقال الآخر: غفرت أو عذبت يا اللهما وهذا شاذ كما قال. فصل في تابع المنادى تابع ذي الضم المضاف دون أل ... ألزمه نصبًا كأزيد ذا الحيل وما سواه ارفع أو انصب واجعلا ... كمستقل نسقًا وبدلا وإن يكن مصحوب أل ما نسقا ... ففيه وجهان ورفع ينتقى

هذا الفصل يذكر فيه التوابع الخمسة، وهي النعت، وعطف البيان، وعطف النسق، والتوكيد، والبدل، وذلك إذا تبعت المنادى، لأن لها في تبعيته حكمًا زائدا على ما تقدم. ولما كان النعت داخلا في التوابع بمقتضى إطلاقه ظهر أنه مخالف للأصمعي في منعه نعت المنادى مطلقا، ومخالف لسيبويه في تفصيله؛ إذ منع نعت ما كان مختصًا بالنداء نحو: يا ملأمان، ويا لكاع، واللهم. ومن / ثم أعرب (فاطر) من قوله تعالى: "قل اللهم فاطر السماوات والأرض" منادى ثانيا أو بدلا. فالناظم موافق للمبرد المجيز لنعت المنادي بإطلاق. وحجة المؤلف أن المنادى اسم ظاهر كسائر الأسماء الظاهرة، فلا مانع من نعته. وأيضا فإن في القرآن: } قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة {والظاهر أنه نعت. وتقدير استئناف النداء خلاف الظاهر، و (البدل) في المشتق خلاف الأصل، وإنما باب التابع المشتق أن

يكون نعتاً. وحكي يونس: يا فاسق الخبيث، إلى غير ذلك من المسموع. وقال الشاعر: فما كعب ابن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا فالقياس والسماع متعاضدان على الجواز مطلقا، فيما اختص بالنداء وفي غيره. وما احتج به الأصمعي من أنه شبيه بالمضمر، والمضمر لا ينعت، مردود بأن مشابهة المنادى للمضمر عارضة، فمقتضى الدليل ألا تعتبر مطلقا، كما لم تعتبر مشابهة المصدر الأمر في نحو: ضربًا زيدًا، لكن العرب اعتبرت مشابهة المنادى للضمير في البناء استحسانًا، فلم يزد على ذلك. كما أن (فعال) العلم لما بني حملاً على (فعال) المأمور به لم يزد على بنائه شيئًا من أحوال ما حمل عليه، ونظائر ذلك كثيرة. وأيضا فإن سلم أنه يعتبر في غير البناء اعتبار الضمير - فعلى الجواز لا على اللزوم. وسبب ذلك أن العرب قد أبقت عليه حكم أصله في أحد الاعتبارين، ألا ترى أنهم قالوا: يا زيد نفسه، على الغيبة، ويا زيد نفسك، على الخطاب، فلو اعتبروا وقوعه موقع المضر البتة لاقتصروا على الخطاب كما يلتزمون: يا أنت نفسك، فلا يقولون: يا أنت نفسه.

وإذا ثبت الاعتبار أن لم يمتنع أن ينعت اعتبارًا بحال الاسم الظاهر، ولا يمنع القول بإطلاق الجواز، حسبما يظهر من الناظم. وبسط حكم التوابع على ما يعطيه كلامه، بمنطوقه ومفهومه، أن المنادى إذا أتبع على قسمين: أحدهما: أن يكون منصوبا، كالمضاف، والشبيه به، والمنكور، فهذا القسم لا يختلف حكم التابع معه في جميع ما تقدم في التوابع، فالنداء وغيره في ذلك سواء، وهو النصب في التابع، لأن المتبوع منصوب، لكن إذا كان نعتًا، أو توكيدا، أو عطف بيان، نحو: يا غلام زيدٍ الطويل، ويا ضاربًا أبوه الفاضل، وكذلك يا أبا عبد الله محمدًا، ويا بني تميمٍ أجمعين لا يجوز غير ذلك. وهذا مفهوم من تقييده هنا في قوله: "تابع ذي الضم حكمه كذا" فقيد موضع المخالفة الذي يحتاج إلى ذكره، فبقي غير ذي الضم على الأحكام المتقدمة. وخرج من هذا الإطلاق البدل، وعطف النسق، بقوله: "واجعلا كمستقل نسقًا وبدلا". فيكون التابع في قوله: "تابع ذي الضم" لا يريد به عموم التوابع؛ بل التوابع / الثلاثة: النعت، وعطف البيان والتوكيد، فلا يؤخذ له على إطلاقه، لتداخل التقسيم، فكأنه قال: تابع ذي الضم إذ كان أحد الثلاثة حكمه كذا، وأما إذا كان بدلاً أو نسقا فحكمه حكم المستقل.

والثاني من القسمين: أن يكون مبنيا على الضم، وهو الذي أخذ الآن في الكلام على تابعه، وجعله على ضربين. أحدهما: أن يكون التابع مضافا من غير أن تلحقه الألف واللام، فحكم هذا النصب مطلقا، وذلك قوله: (المضاف دون أل) و"المضاف" في كلامه صفة لـ"تابع" فتقول في (النعت): يا زيد ذا الجمة، ويا عمرو ضارب زيدٍ، ويا رجل صاحب عمروٍ، ومثله الناظم بقوله: أزيد ذا الحيل. وفي (العطف البياني): يا زيد أبا عبد الله، عمرو أخانا، وفي (التوكيد): يا تميم كلهم. ووجه ذلك في النعت أن العامل في النعت هو العامل في المنعوت، وحرف النداء لا يعمل في المضاف إلا النصب، وكذلك عطف البيان، هو كالنعت في وجه النصب، والتوكيد أيضا كالنعت في المعنى. والضرب الثاني من قسمي تابع المبنى على الضم ما سوى ما تقدم، وذلك التوابع الثلاثة، وما فيه الألف واللام من المضاف. وحكمها جواز وجهين، وهما الرفع حملاً على اللفظ. فتقول في (النعت): يا زيد الفاضل، ويا بكر الكريم، وفي (البيان): يا غلام زيد، ويا رجل بكر، وفي (التوكيد): يا تميم أجمعون. والنصب حملاً على الموضع، فتقول في (النعت): يا زيد الفاضل، وفي (البيان): يا غلام زيدًا، وفي (التوكيد): يا تميم أجمعين.

وعلى الوجهين في (عطف البيان) أنشد سيبويه لرؤبة: إني وأسطارٍ سطرن سطرا ... لقائل يا نصر نصر نصرا يروى هكذا. ويروى: "يا نصر نصرًا نصرا" بالرفع والنصب على (عطف البيان) ويروى أيضا بالضم على (البدل). ويدخل في هذا القسم ما استثنى في القسم الأول، وهو المضاف المصحوب بأل نحو: يا زيد الحسن الوجه [ويا عمرو الطويل القامة، يجوز في (الحسن، والطويل) الوجهان، الرفع، والنصب، فالنصب حملا على الموضع، لأن موضع المبني نصب فتقول: يا زيد الحسن الوجه] والرفع حملا على اللفظ نحو: يا زيد الحسن الوجه. وإنما جاز فيه الرفع وهو مضاف، لأن إضافته في نية الانفصال، ولذلك دخلت عليه الألف واللام، فكأنه غير مضاف، وهذا كله معنى قوله: "وما سواه ارفع أو انصب" أي ما سوى المضاف العاري من الألف واللام، من التوابع

الثلاثة، يجوز فيه الرفع والنصب معًا. وعلى هذا يجوز الوجهان في التابع المطول نحو: يا زيد الضارب عمرًا، والضارب عمرًا، فإنه أيضا في حكم المفرد. وإذا كان المضاف إضافة غير محضة يجوز فيه الوجهان لشبهه بالمطول] وهو: الحسن الوجه فالمطول أولى، وهذا صحيح. والقسم الثاني من التوابع: البدل، وعطف النسق، وحكمه، حسبما نص عليه، حكم المستقل بالنداء، وقد تقدم ذلك، وأن المنادى إن كان مفردا معرفا بني على ما كان يرفع به، وإلا أعرب نصبا، فكذلك يكون البدل هنا، وعطف النسق، وذلك قوله: "واجعلا كمستقل نسقًا وبدلاً". (نسقًا وبدلاً) نصب على المفعول الثاني لـ (اجعل). والمفعول / الأول الكاف في "كمستقل" على حد قول امرئ القيس: وإنك لم يفخر عليك كفاخرٍ ... ضعيفٍ ولم يغلبك مثل مغلب فالكاف اسم كـ (مثل) والنسق: أراد به المنسوق، ويريد أن هذين التابعين لهما حكم أنفسهما، لا حكم التبعية، فإن كانا مفردين مقصودين بالنداء بنيا على الضم مطلقا، إلا ما استثنى في المنسوق. فتقول في (المعطوف): يا زيد وعمرو، ويا خالد ومحمد.

وكذلك إن كان المنادى معربا نحو: يا عبد الله ومحمد، أو كان المعطوف عليه معربا أيضا والمعطوف مفرد أو مضاف نحو: يا عبد الله وزيد، ويا عبد الله وأبا بكر. وكذلك البدل نحو: يا زيد أخانا، ويا رجل زيد، ويا عبد الله أخانا، ويا أبا عبد الله زيد، وما أشبه ذلك. ووجه ذلك أن حرف العطف لما كان مشركا بين المعطوف والمعطوف عليه في حرف النداء وجب أن يكون حكم المعطوف مع العاطف على حكمه مع حرف النداء، وكذلك البدل، لأنه المقصود بالحكم، فكأن الحرف قد باشره، سواء أقلنا: إنه على تقدير تكرار العامل أم على تقدير طرح الأول. وقد ظهر من هذا الكلام موافقة الناظم للجمهور من البصريين في مسألتين إحداهما: مسألة عطف النسق، فإن مذهبهم، كما تقدم، اعتبار المنسوق بنفسه، كما لو ولى حرف النداء. وذهب المازني، ونقله المؤلف عن الكوفيين، إلى جواز إجرائه مجرى النعت يجوز فيه الرفع والنصب، فيقولون: يا زيد وعمرو، وعمرًا، كما تقول باتفاق: يا زيد والنضر، والنضر، ويا خالد والغلام، والعلام. وما قالوه مخالف للسماع، والفرق بين هذا وبين المعطوف ذي الألف واللام أن هذا صالح لولاية (يا)، فلم يكون بد من اعتباره بذلك، بخلاف ما فيه الألف واللام، فإنه غير صالح لذلك، فأشبه التوكيد والنعت.

قال المؤلف في "شرح التسهيل": ما رأوه غير بعيد من الصحة إذا لم تنو إرادة حرف النداء، فإن المتكلم قد يقصد إيقاع نداءٍ واحد على الاسمين، كما يقصد تشريكهما في عامل واحد، نحو: حسبت زيدًا وعمرًا حاضرين، وكأن خالدًا وسعدًا أسدان. وما قاله غير ظاهر، لأنك لو قصدت ذلك لكان المعطوف والمعطوف عليه في كم الاسم الواحد المثنى، وذلك يصيره ممطولا، فلا يسوغ فيه على ذلك التقدير إلا النصب، لأنه يشبه ما إذا سميت بـ (زيدٍ وعمروٍ) فإنك تقول: يا زيدًا وعمرًا، ليس غير، فصار مثل ندائك ثلاثًة وثلاثين رجلاً، فإنك تقول على كونهما كالشيء الواحد: يا ثلاثًة وثلاثين، وهو أحد القولين، وعلى كونهما أشياء منفصلة متعددة: يا ثلاثة والثلاثون، وهو قول الفارسي. والوجهان جائزان عند ابن خروف، فليس لك في (زيد وعمرو) إلا وجهان، كلاهما خارج عما قال المؤلف، وهما البناء فيهما، أو / النصب فيهما. وأما البناء في أحدهما دون الآخر فمشكل. فإن قيل: فليكن كالنعت والمنعوت وغيره قيل: النعت غير مقصود بالنداء لنفسه، وإنما هو من تمام الأول، كالتوكيد وعطف البيان، بخلاف المنسوق، فإن كل واحد منهما مقصود، فصارا شيئين منفكين، فالصواب ما ذهب إليه هنا. والله أعلم.

والثانية: مسألة البدل، فإن الناس فيها على ما تقدم، وأجاز ابن مالك في "الشرح" أن يجرى مجرى النعت والبيان والتوكيد، لأن للبدل عنده حالين، حالاً يجعل فيها كمستقل، وهو الكثير كما تقدم، وحالاً يعطي فيها الرفع والنصب، لشبهه فيها بالتوكيد، وعطف البيان، والنعت، وعطف النسق المقرون بأل، في عدم الصلاحية لتقدير حرف النداء قبله. قال: وصحة هذه المسألة مرتبة على أن العامل في البدل هو العامل في المبدل منه. وقد بين ذلك في (باب البدل) فإن القائلين بأن العامل في البدل والمنسوق غير العامل في المبدل منه والمعطوف عليه استدلوا بضم (زيد) في النداء في قولهم: يا أخانا وزيد، ويا أخانا زيد. قال المؤلف: والجواب أن العرب التزمت في البدل والمعطوف أحد الجائزين في القياس، وهو تقدير حرف النداء، تنبيهًا على أنهما في غير النداء في حكم المستقل بمقتضى العامل، فلم يجز لنا أن نخالف ما التزمته. هذا مقصود ما احتج به، فإن كان مقصوده بالإجازة ما أجاز الجواز القياسي الذي لا يعتبر التكلم به لأنه لم يسمع - فذلك لا يقدح فيما قال هنا، مع ما فيه من الإشكال المتقدم. وإن أراد الجواز الذي يتكلم به فقد صرح في (باب البدل) من "الشرح" على المنع من ذلك، فوافق كلامه هنا، فلا خلاف في المقصود، والله أعلم.

ومسألة ثالثة، وهي أن ابن الأنباري أجاز رفع النعت المضاف إذا كان المنعوت مبنيًا نحو: يا زيد صاحبنا. ورده المؤلف باستلزامه تفضيل فرعٍ على أصل، لأن المضاف لو كان منادى لم يكن بد من نصبه، فلو جوز رفع نعته مضافًا لزم إعطاء المضاف في التبعية تفضيلاً على المضاف في الاستقلال. وفيما قاله نظر، فإن ذلك لازم في النعت المطول، فلو اعتبر ما قال لم يكن في نحو: يا زيد الضارب الرجل، والضارب الرجل، والوجهان جائزان، مع أنه لو باشر حرف النداء لم يكن فيه إلا النصب. والذي ينبغي الرد به حكاية سيبويه عن العرب كلهم أنهم يقولون: "أزيد أخا ورقاء" بالنصب وهو عين مسألتنا، فالظاهر من النقل مخالفة ابن الأنباري. ثم في عبارته شيء، وهو أنه خص "التابع" هنا بـ"ذي الضم" دون غيره، وهذا يقتضى بظاهره أن هذا الحكم لا يكون في المبنى على الألف أو الواو نحو: يا زيدان، ويا زيدون، وهذا الاقتضاء غير صحيح؛ بل الحكم المذكور جارٍ في

المبني كله، فإنك تقول: يا زيدان القائمان والقائمين، / ويا زيدون القائمون والقائمين، إذا نعت بالمفرد. فإن نعت بالمضاف قلت: يا زيدان صاحبي عمروٍ، ويا زيدون أصحاب عمروٍ، هذا هو اللازم. وكذلك سائر التوابع، يجري فيها مع المبنى على غير الضم ما يجري مع المبني على الضم من الحكم، ولذلك قال في "التسهيل" حين أخذ في الكلام على التابع: "لتابع غير (أي) واسم الإشارة، من منادًى كمرفوع، إن كان غير مضاف الرفع والنصب" إلى آخره، فقال: "كمرفوع" ولم يقل: من منادى مضموم. وبين في "الشرح" مراده من ذلك، فكان من حقه هنا أن يحرر عبارته فيقول: تابع ذي البناء، أو ما يعطي معنى مراده. فلو قال مثلا: تابع مبنى مضافًا دون أل - لأعطى العموم في الجميع، وصح الإطلاق. ثم استثنى من المنسوق ما كان منه بالألف واللام بقوله: "وإن يكن مصحوب أل ما نسقا" إي آخره. يعني أن ما عطف على المنادى المضموم عطف النسق، وكان فيه ألف ولام، ففيه وجهان: الرفع والنصب، فإذا قلت: يا زيد والرجل - جاز لك في (الرجل) الرفع والنصب، فتقول: يا زيد والرجل، ويا زيد والرجل.

ومنه القراءتان: } يا جبال أوبي معه والطير {برفع (الطير) وهي قراءة الأعرج، وأبى نوفل، وأبى يحيي، وأبى عبد الرحمن. وبنصبه وهي قراءة السبعة. وأنشد الزجاجي: ألا يا زيد والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريق هذا بيان جواز الوجهين على الجملة: وأما المختار منهما فاختلفوا فيه على أقوال أربعة: أحدها: أنه الرفع مطلقا، وهو الذي رآه الناظم إذ قال: "ورفع ينتقي" أي يختار. انتقيت الشيء، بمعنى: اخترته، ونقاوة الشيء: خياره. وهذا مذهب الخليل وسيبويه، والمازنى. والثاني: أن المختار النصب مطلقا، وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، ويونس، والجرمي. والثالث: التفرقة، فإن كان المنادى نكرًة مقبلاً عليها فليس إلا الرفع، وإن كان على غير ذلك - فكما قال الخليل، وهو مذهب الأخفش.

والرابع: أنه إن كانت الألف واللام للمح الصفة فكما قال الخليل، وإن كانت لمجرد التعريف فكما قال أبو عمرو، وهو مذهب المبرد، واختاره ابن عبد المنعم السبتي، حسبما أخبرنا شيخنا الأستاذ، رحمة الله عليه، بذلك. ووجه اختيار الرفع مطلقا ما فيه من مناسبة اللفظ المتقدم، وهو لفظ المعطوف عليه، لأن البناء فيه شبيه بالإعراب، والتابع ليس بمضاف ولا شبيهٍ بالمضاف. وأيضًا فإنه مفرد، والأصل في هذا التابع إذا كان مفردا ألا ينصب. وأيضا فإن الرفع هو الأكثر في السماع، كانت الألف واللام للتعريف أو غيره، كان المنادى نكرًة أولا قال سيبويه لما حكي مذهب النصب: فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون: يا زيد والنضر - يعني بالرفع - فإذا كان يحكي عن العرب أن الأكثر هو الرفع، وأن النصب ليس في كثرة الرفع، كان /اختياره أولى، ولذلك اختاره الناظم لأنه منقاد للسماع في قياساته، ومذاهبه، وهو صواب، لأن القياس آتٍ من وراء السماع، ولذلك يقول سيبويه: قف حيث وقفوا، ثم فسر.

وهذه "قاعدةٌ" موضع شرحها "الأصول" فكل ما علل به أرباب المذهب الأخر لا تنهض مع السماع إلا بمقدار موافقتها له. وقوله أول الفصل "تابع ذي الضم" منصوب بإضمار فعل من باب "الاشتغال" مفسره (ألزمه) أي انصب تابع ذي الضم المضاف دون أل ألزمه نصبًا و"الحيل" جمع حيلة و"ما نسق" اسم "يكن" و"مصحوب أل" هو الخبر. والصحوب هو الذي صحبه غيره، أي صحبته الألف واللام. وأيها مصحوب أل بعد صفه ... تلزم بالرفع لدى ذي المعرفه هذا من تمام الكلام على "التوابع" فإن لـ (أي) واسم الإشارة هنا حكمًا غير ما تقدم ويريد أن (أيًا) الموصولة بهاء التنبيه إذا وقع عليها النداء فإن الذي يتبعها لزوما أحد ثلاثة أمور: إما الاسم المصحوب بالألف واللام، وإما اسم الإشارة، وإما الموصول الذي في أوله الألف واللام. وذلك أن (أيًا) إنما جئ بها ليتوصل إلى نداء ما فيه الألف واللام؛ إذ كانت أدوات النداء كما تقدم - لا تجتمع معهما، فأتوا بـ (أي) لذلك، كما أتوا بـ (ذي) التي بمعنى (صاحب) ليتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس ثم ألحقوها هاء التنبيه عوضًا من الإضافة والصلة، وتوكيدًا للتنبيه الذي في (يا) ثم أتوا بما أرادوا نداءه فقالوا: يا أيها الرجل، ويا أيتها المرأة، ونحو ذلك، وألزموها إياه لأنه المقصود بالنداء من جهة المعنى، وأجروه صفًة لـ (أي). فقوله: "أيها" مبتدأ، و"مصحوب أل" إن كان مرفوعًا، مبتدأ ثان، خبره صفة. و"تلزم" من صفة قوله: "صفة" أي صفة لازمة.

و"بعد" متعلق (مصحوب) و (بالرفع) في موضع نصب على الحال من ضمير (تلزم) العائد على (صفة). والتقدير: هذا اللفظ الذي هو أيها، مصحوب أل بعدها صفة لازمة لها حالة كونها مرفوعًة، عند ذي المعرفة. ومعناها أن (أيها يلزمها الوصف بما فيه الألف واللام مرفوعا، وهذا هو النوع الأول، وهو الأصل كما تقدم. وقوله: "لدى ذي المعرفة" يريد أهل المعرفة من النحويين، وإنما أتى بها تنكيتًا، لأنه حشو بغير فائدة؛ بل فيه فائدة، لكن هذا القول إما أن يكون راجعا إلى ما تقدم من الأوصاف، لأنه قدم لـ (أيها) أوصافًا، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، ولكن أهل الحذق والمعرفة التامة أثبتوا ذلك لـ (أي) فأما المتفق عليه فهو وقوع ما فيه الألف واللام بعدها، وكونه لازما لا يستغنى عنه، فلا أعلم خلافا في صحة قولك: يا أيها الرجل، وأن صفة (أي) لا يجوز تركها، فلا يقال: (يا أيها) مقتصرًا عليه. وأما المختلف فيه منها فكونه صفًة، وكونه مرفوعا. أما كونه صفًة فالخلاف فيه من موضعين: أحدهما: أن الجمهور ينفون عنه كونه / صفة؛ إذ ليست (أي) عندهم موصولة، وإنما هي اسم تام مبهم يتوصل به إلى نداء ذي الألف واللام.

وذهب الأخفش إلى إجازة كونها موصولًة، وأن ما بعدها صلةٌ لها، لكن حذف المبتدأ منها، وبقي الخبر والتقدير: يا أيها هو الرجل، كأنه: يا الذي هو الرجل، ولا يتكلم به. ورد عليه بأمور: أحدها أنه يلزمه النصب لأنه منادى مطول. قالوا: وهذا لا يلزم، لأن الصلة لا موضع لها من الإعراب، وإنما يطول الاسم بالمعمول. وأيضًا لو كان كذلك للزم النصب في (بعلبك) ونحوه إذا نودي، وليس كذلك. والثاني: أنه لو جاز كونها موصولًة لجاز أن ظهور المبتدأ، ولكان أولى من الحذف، لأن كمال الصلة أولى من اختصارها، فأن لم يفعلوا ذلك قط دليل على أنها على غير ما قال. والثالث: أنها لو كانت موصولًة لجاز يغنى عن المرفوع بعدها جملة فعلية، وظرف ومجرور، ولجاز أن يكون بغير ألف ولام، كما يجوز ذلك في (أي) في غير النداء، وفي جميع الموصولات مطلقا وإن قل، لكنهم التزموا معها ذا الألف واللام دون زيادة، فدل على أنها غير موصولة. والثاني: أن ذا الألف واللام الواقع بعد (أي) صفة مطلقا، كان مشتقًا أو جامدًا. أما إذا كان مشتقًا فظاهر إن قلنا: إنه ليس على حذف الموصوف، نحو: يا أيها الفاضل. وأما إذا كان جامدا فكذلك أيضًا، إلا أنهم استجازوا هنا الوصف بالجامد، وهو قول النحويين المتأخرين ونصهم.

وأما (ابن مالك) فقد ذكر أن تابع اسم الإشارة إذا كان جامدًا عطف بيانٍ لا صفة، ويجري مذهبه في (أي) وهو نص ابنه في "شرح هذا النظم". وقد تقدم استدلاله على أنه عطف بيان في "باب عطف البيان" وتقدم أن ظاهر "هذا النظم" أنه عطف بيان، ونص هنا على الصفة. ولما كان كذلك أمكن أن يكون رأيه كرأي النحويين في كونه صفًة وإن كان جامدًا، ويكون مستثنًى من حده المتقدم في "عطف البيان" فإنه كالعموم، أو كالإطلاق، ويكون ما هنا كالتخصيص، أو التقييد، وهو الأولى. ويمكن أن يكون أطلق هنا لفظ الصفة، والمراد عطف البيان، كما فعل في "التسهيل" اتكالاً على اشتراطه في "باب النعت" أن يكون النعت مشتقًا، فلا يدخل له (هذا الرجل) ولا (أيها الرجل) وأما كون ذي الألف واللام مرفوعًا فذلك لازم فيه عند الجمهور. وذهب المازني إلى إجازة الرفع والنصب فيه، فتقول: يا أيها الرجل، ويا هذا الرجل، كما يجوز في سائر الصفات إذا قلت: يا زيد الفاضل، والفاضل. قال الزجاج في "معانيه": ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله، ولا تابعه عليه أحد بعده، فهو مطروح مردود لمخالفة كلام العرب.

وهذا صحيح، فإن محالفة العرب والنحويين جميعًا خطأ، فلأجل هذه المسائل - والله أعلم -/ نبه بقوله: "لدى ذي المعرفة". وأما رجوع التنكيت على هذا الأخير، فممكن أيضا، ولاسيما وهو رأى ضعيف جدًا لا يليق بمنصب المازني. وإنما لزم الرفع في الصفة هنا لأمرين: أحدهما: أنه المنادى في التقدير كما تقدم، والمنادى المفرد لا ينتصب. والثاني: أن الشيء إنما يحمل على الموضع في الأمر العام بعد تمام الكلام، و (أي) لم تتم بعد، فلا تقول: يا أي، ولا يا أيها، وتسكت، لأنه مبهم يلزمه التفسير، فصار هو و (الرجل) بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت: يا رجل. والنوع الثاني مما توصف به (أي) اسم الإشارة، وهو الذي نبه عليه في قوله: وأي هذا أيها الذي ورد ... وصف أي بسوي هذا يرد يعني أنه قد ورد عن العرب وصف (أي) باسم الإشارة الذي هو (ذا) نحو: يا أيهذا الرجل، ومنه ما أنشد سيبويه.

ألا أيهذا المنزل الدارس الذي ... كأنك لم يعهد بك الحي عاهد وإنما وصفت (أي) بـ (ذا) وهي مبهمة مثلها، لأن (ذا) لما وصفت بما فيه الألف واللام، فصارت هي وصفتها بمنزلة شيء واحد - صح أن يوصف بها (أي) التي لا توصف إلا بما هما فيه. بهذا وجهها سيبويه، وعلى هذا بنه الناظم بقوله: "وأيهذا أيها الذي ورد" أي ذلك ثابت في النقل، فلا ينبغي أن يعترض عليه، فإن العرب تتوسع في كلامها كما شاءت. وروى عن الفارسي أنه قال: كنت قديمًا أستوحش من وصف (أي) بـ (ذا) وأرى أنه لا فائدة فيه، لأنهما معًا مبهمان، حتى رأيت لأبى عمروٍ في بعض كتبه مثل الذي أنكرت. قال بعضهم: قلت لأبي علي: إلا أن انضمام (الرجل) إليه هو الذي يفيده اختصاصا قال: فهذا يقع بـ (الرجل) فأي حاجةٍ بنا إلى (هذا)؟ قال ابن خروف: وهذا من أبي عمروٍ وأبي علي تحكم، ورد لما قالت العرب واستححسنته، ومنه. * ألا أيهذا المنزل * قال: وما يأتي على طريق التأكيد في كلامهم أكثر من أن يحصى، مع أن (هذا) يقرب به، و (أي) أكثر إيهامًا منه.

دليل ذلك أن (هذا) يتبعه عطف البيان، ولا يتبع (أيًا) ويوقف عليه، ولا يوقف على (أي) قال: وقد قال سيبويه في "باب وصف المبهمة": وكأنك أردت أن تقول: (يا الرجل) ولكنك قربت بـ (ذا) انتهى. فهذا وجه ثبوت الوصف بـ (ذا) مع ما تقدم قبله. والنوع الثالث: الاسم الموصول الذي في أوله الألف واللام نحو: يا أيها الذي قام، ومنه في القرآن الكريم: } وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون {وإنما وصل بـ (الذي) اعتبارًا بصورة الألف واللام، وكونه يعامل في النعت به معاملة ما هما فيه، ولشبهها بالألف واللام الموصولة في اسم الفاعل والمفعول، نحو: يا أيها القائم، ويا أيها الفاعل. وهذا النوع هو المراد بقوله: "أيها الذي". وقوله: "ورد" خبر قوله: "وأيهذا" وهو على حذف العاطف أي "وأيها ذا" و (أيها الذي) ورد في كلام العرب. وكان الأولى أن يقول: وردا، بضمير المثنى، لكن أعاد ضمير / المفرد على معنى ما ذكر، كقوله: فيها خطوط من سوادٍ وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق

ولم يقل: (كأنهما) لأنه على معنى ما ذكر. ثم في هذين المثالين تنكيت على أمرين: أحدهما: أنه قال: "وأيهذا أيها الذي ورد" يعني: ورد سماعًا، فكأنهما على غير الاستعمال المستمر؛ إذ كان الأصل هو النوع الأول، وما سواه قليل بالنسبة إليه. وعلى هذا يظهر أنه لم يجئ في المؤنث، ولا في المجموع غير (الذين) ونحو ذلك، فلم يأت (يا أيتها ذي) ولا (يا أيهال أولاء) وكذلك لم يأت (يا أيها اللذان) ولا (يا أيهها التي) ولا (يا أيتها اللائي) ولا ما أشبه ذلك. ولكن القياس على ما سمع من ذلك فيه نظر، تركه الناظم تحت الاحتمال، بإحالته على السماع، بخلاف ما فيه الألف واللام، فإنه مطلق الاستعمال كما نص عليه. والثاني: أنه أتى بـ (ذا) غير مكسوعة بـ (الكاف) فكان في ذلك إشارة إلى أن (الكاف) كالمنافية للنداءن وكذا نص عليه السيرافي في (أولئك) قال: (أولئك) لا ينادي، لأن الكاف للمخاطب، و (أولاء) غير الذي له الكاف، فكيف ينادى من ليس بمخاطب؟ وما قال لازم في كل اسم إشارة لحقته (الكاف) فيمكن أن يشير الناظم إلى هذا المعنى، فكأنه إنما أشار بقوله: "ورد" إلى هذه المعاني المتقدمة، ولم يلتزم فيها قياسا، لما فيها من النظر.

ثم قال: "ووصف أي يسوى هذا يرد" يعني أن (أيًا) في هذا الباب لا توصف بغير ما ذكر من الأنواع الثلاثة [وأن وصفها بسواها] مردود لا يقبل، لأنه ليس من كلام العرب، فلا يجوز أن يقال: يا أيها ذو الجمة، ولا يا أيها صاحب الرجل، ولا يا أيها زيد، ولا: يا أيها من جاءني، ولا ما أشبه ذلك. وفي كلام الناظم في المسألة اعتراض من وجهين أو ثلاثة: أحدها: أنه أطلق القول في (أل) وما صحبته، ولم يقيد ذلك بالجنسية، وهم قد نصوا أنها لا تكون إلا التي للجنس. فـ (أل) الغالبة على الاسم، كالصعق، والنجم، والدبران، والتي للمح الصفة، كالحارث والحسن - لا يجوز وصف (أي) بها، فلا يقال: يا أيها الصعق، ولا: يا أيها الدبران، ولا: يا أيها الحارث. وكذلك (أل) التي يجبر بها فقد العلمية نحو: الزيدان، والزيدون، والهندات، فلا تقول: يا أيها الزيدان، أو الزيدون، ولا: يا أيتها الهندات، ولا ما كان مثل ذلك. وقد نبه على هذا في "التسهيل" فقال: ويوصف بمصحوبها الجنسي، فترك هذا التقييد إخلال بلا بد. والثاني: إطلاقه أيضا في الوصف بـ (ذا) وهي عند سيبويه وغيره من النحويين إنما توصف بـ (ذا) التي وصفت بذي الألف واللام.

وتأمل ما تقدم للفارسي والجرمي في الوصف بـ (ذا) فإنه مشعر بهذا المعنى. فظاهر كلام الناظم صحة الاقتصار على اسم الإشارة في وصف (أي) وذلك مفتقر إلى / النقل، ومخالف للناس، ولو فرضنا ذلك لكان على خلاف القياس، كما قال الفارسي والجرمي. والثالث: أن قوله: "وأيها مصحوب أل بعد" فأطلق في (أي) بالنسبة إلى ما فيه الألف واللام، فإنه تارًة يكون مذكرًا، وإطلاق (أيً) بالنسبة إليه صحيح، وتارًة يكون مؤنثًا، وإطلاق (أي) بالنسبة إليه غير صحيح، فإنك تقول: يا أيتها المرأة، ويا أيها الرجل، ولا يقال: يا أيها المرأة. وكلام الناظم يقتضى جواز ذلك، وأنه المقول خاصًة، ولاسيما وقد قدم في (أي) الموصولة نحو هذا، وهو فيها صحيح، وهاهنا غير صحيح، قال الله تعالى} يا أيتها النفس المطمئنة {الآية، فعدم تقييد (أيً) هنا على ما ينبغي خلل ظاهر. والرابع: أن (ذا) و (الذي) إذا وقعا صفتين فهما مرفوعا الموضع، لأنهما كالمعرف بالألف واللام، وإذا كان الأمر كذلك فقد يتوهم أنهما ليسا كذلك، والحكم في الأنواع الثلاثة واحد، ولابد لها من الرفع إلا على قول المازني، وهو مردود عند الناظم، فلو بين ذلك لكان أولى، ويتأكد ذلك بسبب ذكر الصفة بعد (ذا) نحو: يا أيهذا الرجل.

والخامس: أن قوله: "ووصف أي بسوي هذا يرد" حشو لا فائدة، فيه لأنه لو بين أنها توصف بالأنواع الثلاثة، ثم سكت لكان الاقتصار عليها مفهوما من كلامه، كما أنه لما ذكر ما يقع فاعلا لـ (نعم، وبئس) وسكت فهم له أن غير ذلك يقع فاعلا لهما، فكذلك هذا الموضع، مع أن عادته في أمثال هذا أن يكون تحت تنبيهه فائدة أو فوائد. فما الذي أفاد بهذا الكلام؟ والجواب عن الأول: أنه يمكن أن يكون أطلق القول اعتبارًا بالأصل في الألف واللام، من أنها ليست للمح الصفة ولا للغلبه، ولذلك ترجع التي للمح الصفة إلى التي للتعريف المطلق، وكذلك الغالبة هي المعرفة في الأصل، لكن عرض لهما عارض طارئ، فاعتمد الناظم على الأصل، وعلى كثرة الاستعمال فيه، وألغى غيرها لذلك. وهذا جواب ضعيف. وعن الثاني: أن الذي اقتضاه كلامه من انفراد (ذا) عن الوصف قد يلتزم، فقد نص عليه بعض النحويين، وأنك تقول: يا أيها ذا، لأن (ذا) يجرى مجرى ما فيه الألف واللام ألا ترى أن قولك: (مررت بزيدٍ هذا) في معنى قولك: (مررت بزيدٍ الحاضر) فكما تدخل على ما فيه (أل) فكذلك تدخل على ما في معناه. وأيضا فقد أشار في "الشرح"، إلى عدم التزام وصف (ذا) وأنشد على ذلك:

أيهذان كلا زادكما ... ودعاني واغلاً فيمن يغل ثم قال: والأكثر أن يجمع بين الإشارة والألف واللام، ثم أنشد على ذلك بيتًا للفرزدق صدره: * ألا أيهذا السائلي عن أرومتي * ونظيره قول طرفة: ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي وقول جميل بن معمر: ألا أيهذا اللائمي أن أحبها ... تأمل كذا إني رأيتك أعنف / فلم يلتزم الفصل، ولذلك لم يقيده أيضا في "التسهيل"، ويكون وجه الجواز في قولك: (يا أيهذا) ما تقدم آنفا، وما في كلام ابن

خروف على استشكال الفارسي والجرمي؛ إذ ليس اسم الإشارة في الإبهام كأي. وأما الثالث: فلا جواب لي عنه. والجواب عن الرابع أنه قد يفهم له الرفع باقترانه بما له الرفع، وهو ذوا الألف واللام. وأيضا فقد يقال: لما أتى بهما في أسلوب النقل المحض لم يتعرض لإعرابهما، وترك ذلك للناظر القائس؛ إذ لا فرق في وصف (أيً) بين (الرجل) وغيره باعتبار الأحكام اللفظية. وعن الخامس: وذو إشارةٍ كأي في الصفه ... إن كان تركها يفيت المعرفه يعني أن اسم الإشارة حكمه في الصفة حكم (أي) في التزام وصفه، لكن بشرط أن يكون اسم الإشارة مفتقرًا إلى التفسير، لإبهامه عند المخاطب، فهو يفيت ترك الصفة معرفة المشار إليه عنده، فحينئذٍ لابد من وصفه، كما لابد من وصف (أي على الإطلاق، وهذا معنى قوله: "إن كات تركها" يريد: ترك الصفة (يفيت المعرفة). فتقول: يا ذا الرجل، ويا هذه المرأة. ووجه ذلك: أن اسم الإشارة مبهم كأي في الأصل، فيلزمه من التفسير ما يلزمها، إلا أن يكون معه ما يعينه.

ومن ذلك قول خزز بن لوذان السدوسي، أنشده سيبويه: يا صاح يا ذا الضامر العنس ... والرحل والأقتاب والحلس وأنشد أيضا لعبيد بن الأبرص مجيبًا لامرئ القيس في قوله: * والله لا يذهب شيخي باطلا * يا ذا المخوفنا بمقتل شيخه ... حجرٍ تمنى صاحب الأحلام وأما إذا كان اسم الإشارة مستغنيًا عن الصفة، لكون تركها لا يفيت المعرفة بل هي حاصلة دونها، فلا تلزم الصفة؛ بل يجوز لك أن تقول: يا هذا، وتسكت، ولك أن تأتي بها فتقول: يا هذا الرجل، وهذا ظاهر من مفهوم كلامه. والألف واللام في "الصفة" للعهد، يريد الصفة المذكورة في (أي) لا الصفة مطلقا، وعلى هذا فكل ما تقدم في صفة (أي) من لزوم الرفع، وعدم الاستغناء عنها، وغير ذلك من الأمور المتقدمة، جارٍ هنا.

إلا أنه، على هذا التقرير، معترض من جهة أنه أحال في التزام الصفة في اسم الإشارة على (أي) وقد قدم في (أي) أنها توصف بثلاثة أشياء: ما فيه الألف واللام، واسم الإشارة، والموصول المصدر بالألف واللام، فلابد أن يوصف اسم الإشارة على مقتضى كلامه بالثلاثة. ووصفه بالأول لا أشكال فيه، وكذلك الثالث، إذ لا يمتنع أن يقال: يا هذا الذي قام. وأما وصفه باسم الإشارة فغير صحيح، لا سماعًا ولا قياسًا، فعدم / السماع ظاهر. وأما القياس: فلو قلت: (يا هذا ذا الرجل) لكان تكرارًا من غير فائدة، والفائدة إنما حصلت بـ (الرجل) وكذلك إذا قلت: (يا هذا هذا) فلا يفيد الثاني غير ما أفاده الأول، وقد فرضناه مفتقرا للبيان، فتكراره لا بيان فيه. والجواب عن هذا: أنه قدم في (أي) ثلاثة أنواع من الصفة، واعتمد علي واحد منها وهو الأول، وأتى بما عداه في معرض أنه سماع، فالسماع لا يحال عليه إذا لم يكن قياسا، وهو إنما قال فيه: (ورد) ولم يحتم فيه بقياس، فلا إحالة عليه. فإن قلت: فأنت تصف (هذا) بـ (الذي) قيل: إن كان ذلك فليس في قوة ذي الألف واللام، فلم يحفل به، أو يقال: إنه أحال علي الأنواع الثلاثة على الجملة، وترك إخراج اسم الإشارة لأنه معلوم، والله أعلم. واعلم أنه إنما قال: (كأي في الصفة) لأنه لا يستوي حكم (أي) واسم الإشارة على الإطلاق، ولا أيضًا يستويان في أحكام (هذا الباب، أعنى باب النداء.

ألا ترى أن (أيًا) يجوز حذف حرف النداء معها، ولا يحسن مع اسم الإشارة، إلى غير ذلك، ولا أيضا يستويان في جميع أحكام التوابع وإن ساواها في الافتقار إلى الصفة، ألا ترى أن (أيًا) لا يجوز أن يجرى عليها من التوابع سوى ما تقدم إلا عطف النسق، والبدل، بخلاف اسم الإشارة، فإن التأكيد، وعطف البيان، يجريان عليه أيضا زيادة على جريان البدل، وعطف النسق. وهذا كله مبين في غير هذا الموضع، وإنما القصد بيان أن تقييد الحكم بالصفة في كلامه ضروري لابد منه. والله تعالى أعلم. في نحو سعد سعد الأوس ينتصب ... ثانٍ وضم وافتح أولاً تصب هذه مسألة أيضا تتعلق بـ (فصل التوابع) وهي مسألة ترجم عليها أبو القاسم في "الجمل"، "باب الأسمين اللذين لفظهما واحد والآخر مضاف منهما"، وذكر الناظم فيها أن (سعدًا) الثاني، وهو (سعد الأوس) ينتصب لا غير، إذ لم يذكر فيه سوى ذلك. وأما "سعد" الأول، فذكر فيه وجهين: أحدهما: الضم، فتقول: (يا سعد سعد الأوس)، ومثله: يا زيد زيد عمروٍ.

الوجه الآخر: الفتح، فتقول: يا سعد سعد الأوس، ويا زيد زيد عمروٍ. ومثله ما أنشد سيبويه لجرير: يا تيم تيم عدى لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوءةٍ عمر وأنشد أيضا: * يا زيد زيد اليعملات الذب * وأنشد الفراء:

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيانا عدى آخر الدهر وقدم الضم على الفتح لأنه القياس والأصل، بخلاف الثاني. هذا تصوير ما صور الناظم، وبقى وجه ذلك لم يتعرض إليه بالنص، لأنه بالنسبة إلى المقصد من تصوير كيفية النطق غير ضروري؛ إذ من يعرف ما قال ينحو في المسألة نحو كلام العرب وإن لم يعرف وجهًا لضم ولا فتح، وكذلك فعل في "التسهيل" / ولكنه قد أشار هنا إلى شيءٍ من توجيهها واختيار بعض التأويلات على بعض، فلابد من ذكر ذلك وشرحه، لأن أرباب المختصرات، كالجزولى وغيره، يشيرون إلى التوجيه، فليحذ حذوهم على الاختصار بحسب ما يليق بالموضع، والله المستعان. فأما إذا كان الأول مضموما فوجهه ظاهر، وينتصب الثاني إذ ذاك من خمسة أوجه: أحدها: أن يكون (عطف بيان) على الأول على الموضع. والثاني: أن يكون (بدلاً منه) كأنه في تقدير المباشرة لحرف النداء. والثالث: أن يكون على (نداءٍ) مستأنف حذف منه حرف النداء. والفرق بين هذا الوجه وما قبله أن هذا يجوز معه ذكر حرف النداء، ولا يجوز ذلك في البدل. وإن قيل: إنه على تقدير تكرار العامل؛ إذ هو عند ذلك العامل كالتقدير المعنوي الذي لا يتكلم به، بخلاف الآخر فإنه تقدير لفظي.

والرابع: أن يكون منصوبا بإضمار (أعني) كأنه لما قال: يا سعد - قيل له: من تعني؟ فقال: سعد الأوس. وهذا الفعل هو الذي يقدر في مواضع البيان. والخامس: أن يكون (نعتًا) للأول كأنه قال: يا سعد المنسوب للأوس. وهذا الوجه ضعيف، لأن الوصف بالجامد، على توهم الاشتقاق، موقوف على السماع فلا يقال به ما وجد عنه مندوحة، وقد وجدنا ذلك: بجواز ما تقدم من الأوجه. وقد يحتمل على ضعفه، بناًد على ما أصله ابن جنى بقوله: لا يمنعنك قوة القوى من إجازه الضعيف، وبني ذلك على أصلٍ عربي حسن. وأما إذا كان الأول مفتوحا: فذلك عند الناظم فتح بناءٍ أو ما أشبه البناء، لا فتح إعراب؛ إذا لو كان فتح إعراب لقال: وضم وانصب أو لا تصب. وإذا كان فتح بناء، والثاني: عنده معرب بالنصب لا مبني لقوله: (ينتصب) ولم يقل: ينفتح - كان ظاهر الميل المذهب السيرافي، وهو أن يكون أتبع حركه الأول المبنى حركة الثاني المعرب، لأن (سعد الأوس) في بيانه للأول مثل (ابن عمرو) ولاجتماع الأولين منهما في أنهما مبنيان مناديان.

وأجاز ذلك ابن خروف أيضا، فالفتح في الأول بناء، وفي الثاني إعراب، ولعمري إنه ظاهر، وثبت له نظير في "باب النداء" متفق عليه. والمسألة مختلف فيها على ثلاثة أقوال من التأويل، أحدها: هذا. والثاني: مذهب سيبويه: أن الاسم المضاف إليه مخفوض بالأول، والاسم الثاني: مقحم بين المضاف والمضاف إليه، ونظر ذلك بمسألة (لا أبالك) في إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه، وفي قوله: * يا بؤس للحرب * وقولهم: يا طلحة أقبل، وقول النابغة: * كليني لهم يا أميمة ناصب *

وهذا كله قد خولف فيه، ونقده المبرد من وجهين: أحدهما: أن اطراد الفصل بين المضاف والمضاف إليه مخصوص بالشعر، بشرط أن يكون / الفصل بظرف أو مجرور، وقول سيبويه يلزم عليه الفصل بالثاني بين الأول ومخفوضه وليس بظرفٍ ولا مجرور، ولا الفصل في شعر، فوجب القول بخلافه. والثاني: أن الاسم الثاني غير مضاف إلى ما بعده، وهو مع ذلك غير منون، ولو كان على ما يقول سيبويه لكان منونًا؛ إذ لا مانع يمنع من ذلك، وهذا وإن كان المنتصرون لسيبويه قد أجابوا عنهما فالتأويل المذكور لا يقوى قوة الأول. والثالث: مذهب المبرد، وهو أن المضاف إليه مخفوض بما يليه وهو "سعد" الثاني، ومخفوض الأول محذوف لفظا، مراد معنى، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه وهو نظير ما ذهب إليه في نحو: قطع الله يد ورجل من قالها، وقول الشاعر: * بين ذراعي وجبهه الأسد * وقد نقد عليه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه لو كان المضاف إليه الأول محذوفًا لوجب رجوع التنوين، لزوال ما أوجب حذفه، لأنه إنما حذف للإضافة، فلما حذف المضاف إليه المعاقب للتنوين وجب رده، كما في (كل، وبعضٍ) ونحوهما. والثاني: أنه لو كان كذلك لم يختص هذا الحكم بالنداء، فكنت تقول: هذا زيد زيد عمروٍ، ونحو ذلك، لأن مخفوض الأول عنده محذوف لدلالة الثاني عليه، وهو مطرد في "باب الإعمال"، فكونه اختص بالنداء دليل على خلاف ما قال. والثالث: أن تأخر الدليل عند الحذف على خلاف الأصول، فكان ما ذهب إليه من هذا الوجه مرجوحًا. هذا ما اعترضٍ به وإن كان فيه نظر، فما ذهب إليه أرجح، لأن رأى سيبويه والمبرد فيهما مخالفة القياس، وما ذهب إليه جارٍ على باب مقيس في النداء. فإن قيل: فقد ذهب الناظم إلى مذهب المبرد في نحو: قطع الله يد ورجل من قالها، حسبما تقدم في "باب الإضافة"، وجعلة قياسا، فلم لم يلحق هذا الموضع بذلك كما ألحقه المبرد؟ بل الناظم أولى بهذا من المبرد، لأنه يرى هنالك جريان القياس، فلو حمل المسألة هنا على حذف المضاف من الأول لحملها على وجه مقيس أيضا، فكأن عدوله عن ذلك إلى وده آخر ترجيح من غير مرجح. فالجواب بأمرين:

أحدهما: أنه قد شرط في مسألة الإضافة أن يكون في الثاني عطف في قوله: بشرط عطفٍ وإضافةٍ إلى ... مثل الذي له أضفت الأولا ومسألة "النداء" لا عطف فيها وإنما فرق بينهما، والله أعلم، لأن السماع إنما كثر مع العطف لا دونه فلو أجرى هذه المسألة على ذلك لكان قد أجرها على ما ليس بقياس، مع إمكان إجرائها على القياس. والذي يرجح هذا أن حذف المضاف مع عدم العطف قليل بالاستقراء، ومثل (يا سعد يا سعد الأوس) ليس بقليلٍ قلته في غير النداء، فدل ذلك على اختلاف البابين عند العرب. والثاني: أنا لو سلمنا استواءهما لكان حملها على ما / حملها عليه أولى بمسائل "النداء" وحمل بعض الباب على بعضٍ أولى من حمله على باب آخر، وأيضًا فإن هذا المحمل لا تقدير حذفٍ فيه، فهو أولى مما يقدر فيه الحذف، لأن الحمل على الظاهر أولى، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وهي من أصول العربية التي اعتمدها ابن مالك، وأخذها بكلتا يديه، فهذا ما اختار هنا. وإذا ثبت هذا فيجوز في (سعد) الثاني على رأيه وجهان: النعت كـ (يا زيد بن عمروٍ) وعطف البيان خاصة. ولا يجوز البدل لأنه في حكم الانفراد عن الأول، أعنى بالنسبة إلى الاستقلال بالعامل، وكذلك إن كان على نداءٍ ثانٍ أو على إضمار فعل، والتركيب ينافي ذلك كله.

وسعد الأوس هو سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وهو سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وهو أخو الخزرج بن حارثة بن ثعلبة [بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد. وقوله: "سعد الأوس" وقوله: "وافتح أولاً" جاء بهما على نقل]، والحركة وبذلك يستقيم الوزن، إذ لو لم ينقل لانكسر.

المنادى المضاف إلى ياء المتكلم

} المنادى المضاف إلى ياء المتكلم { بوب هنا على الإضافة إلى الياء، وإن كان قد وضع لها فضلاً في "باب الإضافة" لأن لها في "باب النداء" حكمًا زائدا على ما تقدم هنالك، كما فعل هنا في التوابع؛ إذ كان لها حكم مختص بالنداء. وذكر هنا ثلاث مسائل هي المشهورة في الباب: إضافة المنادى إلى الياء مباشرًة، [وإضافته إلى المضاف إليها]، وإضافته إلى الياء مع حذفها، والتعويض منها. فأما المسألة الأولى فهي التي في قوله: واجعل منادًى صح إن يضف ليا ... كعبد عبدي عبد عبدا عبديا يريد أن المنادى إذا أضيف إلى الياء - يعني ياء المتكلم - فإنه يجوز لك أن تجعله كهذه الأمثلة الخمسة؛ لكن بشرط أن يكون صحيح الآخر، فإن المنادى تاره يكون صحيح لآخر، وتارة يكون معتله. فإن كان معتل الآخر بالألف، فلك فيه وجهان: إبقاء الألف على حالها، وفتح ياء المتكلم بعدها على حده لو لم يكن منادى نحو: يا فتاى. وقلبها ياًء وإدغامها في ياء المتكلم، وفتح ياء المتكلم نحو: يا فتى، وهو لغة هذيل. وإن كان معتل الآخر بالياء أدغمتها في ياء المتكلم، وفتحت فقلت: يا قاضي.

وهذا كله قد تقدم في "باب الإضافة"، فلم يحتج إلى إعادته هنا؛ إذ لا يختلف الحكم فيه بالنداء. وإن كان صحيح الآخر: فهو المقصود، لأنه الذي يتصور فيه تلك الأوجه، وهي خمسة: أحدها: أن تحذف الياء، وتبقى الكسرة دليلاً عليها، وهو مقتضى المثال الأول، ومنه في القرآن الكريم: } يا عباد فاتقون {، } قال رب احكم بالحق {، على قراءة السبعة، } وقال نوح رب لا تذر {، وهو كثير جدا. ووجه حذفها أنها عوض من التنوين؛ إذ هما متعاقبان، وأيضًا. فالياء حرف واحد كاتنوين، وأيضًا لا تقوم بنفسها / حتى توصل بغيرها كالتنوين، وأيضًا موضعها الطرف كالتنوين، فلما أشبهت التنوين من هذه الوجوه، وكان التنوين يحذف في النداء - حذفت الياء كذلك، ولا محظور في ذلك؛ إذ الكسرة التي كانت قبلها باقية لتدل عليها. والثاني: إثبات الياء ساكنة نحو: يا غلامي، وهو الذي أعطى مثاله الثاني ومنه ما روى عن أبي عمرو: } يا عبادي فاتقون {، وقرأ هو ونافع وابن عامر: } يا عبادي لا خوف عليكم اليوم {.

وحكى سيبويه عن يونس أنها لغة، ثم أنشد لعبد الله بن عبد الأعلى القرشي: وكنت إذ كنت إلهي وحدكا ... لم يك شيء يا إلهي قبلكا ووجه إثباتها أنه الأصل، لكنها أسكنت لأنها شبيهه بالتنوين في تطرفه وكونه على حرف واحد، والتنوين ساكن، فأسكنت لذلك. وأيضًا: فالحركة مستثقلة على حرف العلة على الجملة، وذلك من أسباب إعلاله كقام وباع، فحذفت الحركة لذلك، وهذه العلة غير مختصة بالنداء؛ بل هي جارية في إسكان ياء المتكلم على الإطلاق. والثالث: حذف الياء وإزالة الكسرة وبناء الاسم على الضم، وهو الذي ينبغي أن يضبط به المثال الثالث في كلام الناظم، فإنه يمكن في ضبطه الضم. والفتح بغير ألف، وإن كان محكيًا في المسألة، فهي لغة ضعيفة لم يحكها سيبويه بخلاف لغة الضم، فإنها قوية فتقول: يا غلام، إذا ناديت غلامك، حكاها سيبويه عن بعض العرب.

ومنه ما حكي في قراءة: } قل رب احكم بالحق {، وهي قراءة أبي جعفر، وقرأ أيضًا: } قال رب انصرني بما كذبون {، وشبه ذلك بضم الياء، أراد (ربي) ولم يرد المنادى المفرد، بدليل حذف حرف النداء؛ إذ حذفه كذلك قليل، كما تقدم، فلا يحمل عليه مع وجود غيره. وقد قالت العرب: يا أبت ويا أمت، والتاء فيهما عوض من الياء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال شيخنا الأستاذ - رحمه الله -: هذا الوجه ينبغي ألا يجوز إلا في موضع البيان لئلا يلتبس بغير المضاب، حتى يكون مثل قراءة من قرأ: } قل رب احكم بالحق {بضم الباء، لأن الداعي مقر بالعبودية، لأنه في مقام الخضوع والاستكانة. قال: وحذف حرف النداء هنا دليل آخر، لأنه لا يطرد حذفه من النكرة المقصودة، واطراد حذفه في هذا الوجه دليل على أنه ليس بنكرة مقصودة. وقد حمل ابن جنى القراءة على أنها مثل: "افتد مخنوق" و"أصبح ليل"، والأظهر خلافه. ووجه هذه اللغة التكملة لشبه الياء بالتنوين من حيث أزيلت الكسرة المحرزة لها حين لم يكن للتنوين عندهم محرز.

ويمكن أن يكون نبه على لغة الفتح وإن كانت نادرة، وذلك قولك: يا عبد، تريد يا عبدي، واستشهد على ذلك بقولك الشاعر: فلست براجعٍ ما فات مني ... بلهف ولا بليت ولا لواني قالوا: أراد (يا لهفا) فحذف الألف / اجتزاًء بالفتحة منها، كما اجتزى بالكسرة من الياء في: يا عبد. والرابع من الأوجه: تحويل كسرة ما قبل الياء فتحةً، وقلب ياء المتكلم ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها نحو: يا غلاما أقبل، وهو مقتضى المثال الرابع. قال سيبويه: وقد يبدلون مكان الياء الألف، ثم قال: وتقول: يا عما لا تفعل، ويا أمننا لا تفعلي، أخبرنا بذلك يونس، عن العرب الموثوق بهم، ثبت هذا في النسنخة الشرقية. ووجه هذه اللغة: الفرار من الياء المتحركة المكسور ما قبلها، مع كثرة الاستعمال. وكل ما تقدم من التصرفات وأنواع الحذف إنما أعانهم عليه كثرة الدوران على ألسنتهم، فإن للنداء في ذلك كثرًة، ولذلك وقع فيه الترخيم وغيره، وإذا وقفت في هذا الوجه وقفت بهاء السكت فقلت: يا غلاماه، ويا عماه، فيضاهي المندوب.

والخامس: البقاء على الأصل من إثبات الياء وفتحها، وهو مفهوم المثال الأخير من أمثلته فتقول: يا غلامي أقبل، ويا عبدي لا تقم. ووجه ذلك أن ياء المتكلم في مقابلة كاف المخاطب، فوجبت لها الحركة لذلك، وكانت الفتحة لخفتها على الياء دون الكسرة. وقوله: (كعبد عبدي) إلى آخره، على حذف العاطف، أي كعبد، وعبدي، وعبد، وعبدا، وعبدي. * * * وأما المسألة الثانية من هذا الباب: فهي إضافة المنادى إلى المضاف إلى الياء، وذلك قوله: وفتح أو كسر وحذف اليا اشتهر ... في يا ابن أم يا ابن عم لا مفر ومقصوده أن (الابن) المنادى إذا كان مضافا إلى (الأم) أو إلى (العم) وهما مضافان إلى الياء، ففيه من أوجه الاستعمال ما ذكر. وبيان ذلك، على مقتضى كلامه، وإشارته، أن المنادى إذا أضيف إلى الياء فحكمه كحكم غير المنادى. هذا هو الأصل كما تقدم في "باب الإضافة". إلا أن العرب استثنت من هذا الحكم اسمًا واحدا، وهو (الإبن) إذا أضيف إلى (الأم) أو (العم) نحو: يا ابن أمي، ويا ابن عمي. ويلحق بهما ما أضيف إليهما (الابنة) عوض (الابن) فإن هذا له حكم آخر سيذكره.

وبقي ما سوى ذلك على ما تقدم، نحو: يا ابن غلامي، ويا ابنه أخي، ويا أخا أمي، ويا صاحب عمي، ويا غلام أخي، وما أشبه ذلك. والذي ذكر الناظم في هذين اللفظين بالنص وجهان: أحدهما: فتح الميم من (أم) فتقول: يا ابن أم، ويا ابن عم، ومنه قراءة الحرميين وأبى عمرو وحفص، عن عاصم (قال ابن أم إن القوم استضعفوني). الآية، (قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي). والثاني: كسر الميم من غير ياء، فتقول: يا ابن أم، ويا ابن عم، ومنه قراءة من سوى المذكورين من السبعة. وهذا الوجه هو قوله: (أو كسر وحذف اليا). فقوله: (وحذف اليا) قيد للكسر فقط، لأن الياء لا تثبت / مع الفتحة، فلا يصح نفي ما لا يصح ثبوته حقيقًة أو توهمًا. ويمكن أن يرجح حذف الياء إلى الفتح والكسر معا، لأن الألف أصلها الياء، فكأنه اعتبر مع الفتح أصلها، فيكون على هذا التقدير قد أشار في الكسر والفتح إلى وجهين، كما سيذكر.

ومثل هذا في إطلاقه لفظ الياء على الألف المنقلبة عن الياء إطلاق سيبويه على الألف هنا لفظ الياء وهي ألف؛ إذ قال: وإن شئت قلت: حذفوا الياء لكثرة هذا في كلامهم، قال: وعلى هذا قال أبو النجم: * يا ابنة عما لا تلومي واهجعي * يريد في (يا ابن أم) و (يا ابن عم) حال الفتح. وقاله الجرمي في بيت أبي النجم قال: يمكن أن يريد (يا ابن أمي) ثم قلب الياء ألفا، ثم حذفت استخفافا. وقال ابن خروف: يريد سيبويه بقوله: (حذفوا الياء) قلبوا الياء ألفًا، ثم حذفوها، فعلى هذا يكون قول الناظم: (حذف الياء) من هذا القبيل. وقوله: (اشتهر) الضمير فيه عائد على الفتح، أو الكسر مع حذف الياء، فاعتبر لفظ (أو) ويريد أن هذين الوجهين هما اللذان اشتهرا في الكلام، فهما أحسن من غيرهما. واقتضى هذا الكلام أن هنالك من الأوجه ما لم يشتهر، وقد أشار مفهوم الصفة في قوله: (وحذف اليا) إلى ذلك، لأن التقدير أن الفتح والكسر مع حذف الياء اشتهر، فهما إذا مع عدم حذفهما لم يشتهرا، وهذا صحيح، فقد قالوا: يا ابن أمين ويا ابن عمي - بإثبات الياء 0 ويجوز فيها الفتح والإسكان. وقالوا: يا ابن أما، ويا ابن عما، فالمجموع خمسة أوجه، هذه الثلاثة منها قليلة،

فمن إثبات الياء قول أبي زبيد الطائي أنشده سيبويه: يا ابن أمي ويا شقيق نفسي ... أنت خليتني لأمرٍ شديد وقال معد يكرب المعروف بغلفاء: يا ابن أمي ولو شهدتك إذتد ... عوتميمًا وأنت غير مجاب ويحتمل ألا يكون لقوله: (وحذف اليا) مفهوم، لأنه في قوة مفهوم اللقب، ويكون قوله: (اشتهر) هو المشير إلى ما يشتهر. وفي تقريره "الشهرة" في الوجهين ما ينبه على خلاف ما يظهر من الزجاجي في "الجمل"، من أن أثبات الياء أجود من حذفها، والأمر عند النحويين بخلاف ما قال، وقد اعترضوا عليه في هذا الموضع. ويبقى النظر هنا في مسألتين: إحداهما: في تنزيل هذه الأوجه وتوجيهها، فأما من يبقى ذلك على الأصل، فلا إشكال فيه، ووجهه ظاهر، فالنداء عنده لم يحدث أمرًا زائدًا على

ما كان قبل، والأسمان في هاتين اللغتين - أعني لغة فتح الياء ولغة إسكانها - غير مركبين؛ بل جاريان بالإعراب على ما ينبغي. وأما ما عداهما: فالاسمان فيهما مركبان، جعلا كاسمٍ واحد لكثرة الاستعمال؛ إذ / كان استعمالهم لهذين اللفظين كثيرًا، حتى صاروا يستعملونهما في غير موضعهما، فيقولون للأجنبي: يا ابن أم عم، فلما كان كذلك صير وهما كخمسة عشر، ولذلك يجوز كتبهما موصولين هكذا: يا ابنؤم ويا ابنعم، تشبيها ببعلبك، وكذا وقع رسمه في المصحف. ثم منهم: من أبقى الاسم على كسره بعد حذف الياء، كما قالوا: يا غلام ويا عم. ومنهم من قلبها ألفا، كما قلبها في: يا غلاما. ومنهم: من حذف وفتح الآخر إتباعًا لحركة نون (ابن) على العكس من: يا زيد بن عمرو. أو بنى على الفتح تشبيها بخمسة عشر. وقد نزل ابن أبي الربيع هذه الأوجه في التركيب على اللغات الخمس في (يا غلام) فمن أثبت الياء في (غلامي) ساكنة أو متحركة، أثبتها هنا، ومن حذف وكسر في ياء (غلام) قال هنا: يا ابن أم. ومن فتح هنالك مع إثبات الياء مقلوبًة ألفا فعل كذلك هنا.

وأما من ضم في (يا غلام) فلا يمكنه هنا إلا الفتح، لأن الضم مختص بالمفرد، و (يا ابن أم) غير مفرد، فبني على الفتح. وتبعه على هذا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار شيخنا، رحمه الله. وللنحويين هاهنا اختلاف في التوجيه كثير، فتأمله. والثانية: في حكم (ابنة) في هذا الباب، ولم يذكر الناظم ذلك، فيوهم أن حكمها مخالف لحكم (ابن) وليس كذلك، ولذلك استشهد سيبويه ببيت "أبي النجم" في الكلام على (ابن) فأتى في الشاهد (بإبنة)، فهذا دليل على جريانهما مجرًى واحدًا مع (الأم، والعم) فتقول: يا ابنة أمي، ويا ابنة أم، ويا ابنة أم ويا ابنة أما، كما في (الابن) سواء، وقد نص ابن عصفور على ذلك. فهذا فيه ما ترى، ولا جواب لي عنه، إلا إذا ثبت أن ما قاله ابن عصفور ليس كما قال، أو يقال لما لم يذكر ذلك الجمهور، ولم يفصلوا القول في (ابنه) كما فصلوه في (ابن) داخله الريب في إثبات ذلك الحكم له، وهكذا فعل في "التسهيل" و"الفوائد المحوية"، والله أعلم بما أراد. وأما المسألة الثالثة من هذا الباب فهي في إضافة المنادى إلى الياء مع حذفها والتعويض منها، فقال فيها:

وفي الندا أبت أمت عرض ... واكسرأوا فتح ومن اليا التا عوض ويريد أن (الأب، والأم) هما المختصان بهذا الحكم، وهو إلحاق التاء لهما عوضًا من ياء المتكلم، وذلك أن الأصل: يا أبي، ويا أمي، إلا أنه كثر في ألسنتهم، واستعملوها كثيرا، فحذفوا الياء على عادتهم، فكأنهم أرادوا ألا يخلوا بالاسم حين حذفت الياء منه، فألحقوا هاء التأنيث من ذلك المحذوف، كما أتوا بها في (الزنادقة) عوضًا من ياء (زناديق)، واختص النداء بهذا الحكم، كما اختص بأشياء كثيرة، فلأجل هذا المعنى قال الناظم: (ومن اليا التا عوض) فإذًا لا يصح الجمع بينهما /، فلا يقال: يا أبتي، ولا: يا أمتي، كما لا يجمع بين ياء (زناديق) وهاء (زنادقة) غير أنك إذا لم تلحق التاء عوضًا، فلك في (الأب، والأم) ما لك في المضاف إلى ياء المتكلم، من تلك الأوجه الخمسة، فتقول: يا أبي، ويا أب، ويا أب ويا أبا ويا أبى، فلذلك قال: (وفي الندا أبت أمت عرض) ولم يلزم ذلك الحكم؛ بل جعله عارضًا وواردًا على ما يتصور من الأوجه في مثله، قاله السيرافي. فإذا تقرر هذا ففي تحريك التاء عنده وجهان نص عليهما، وهما الكسر والفتح، فتقول: يا أبت، ويا أمت، ويا أبت ويا أمت، وقد قرئ

بهما: } يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبًا {، } يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر {، وذلك كثير، والفتح لابن عامر، والكسر للباقين من السبعة، وقد حكي الضم في التاء وهو قليل، فلذلك لم يذكره الناظم، ولا أشار إليه. وقوله: (ومن اليا التا عوض) قصر الياء والتاء على عادته، و"التاء" مبتدأ خبره (عوض) و (من الياء) متعلق به، لأنه بمعنى معوض، على حد قولهم: زيدًا أجله محرز. * * *

أسماء لازمت النداء

أسماء لازمت النداء هذا الباب يذكر فيه ألفاظا لم تستعمل إلا في النداء، وإنما تذكر في العربية، مع أنها مجرد لغة، لأن منها ما يطرد، وما يقرب من الاطراد. وذكر معها كلماتٍ هي موقوفة على السماع، وهذا شأن النحوي، قال: وفل بعض ما يخص بالندا ... لؤمان نومان كذا واطردا في سب الانثى وزن ياخباث ... والأمر هكذا من الثلاثي وشاع في سب الذكور فعل ... ولا تقس وجر في الشعر فل ما ذكره في هذا الباب على ضربين: أحدهما: ما جاء منقولاً نقلاً لا يجري فيه قياس البتة، وذلك ثلاثة ألفاظ: أحدهما: (فل) وهو بمعنى (فلان)، قال ابن خروف: "يحتمل أن يكون محذوفا من (فلان) وأن تكون كلمة مرتجلة استعملت في النداء كناية عن رجل". انتهى.

يقال: يا فل أقبل، بمعنى: يا فلان، وفي الحديث: "أي فل هلم" وقول الكميت: وجاءت حوادث في مثلها ... يقال لمثلي ويهًا فل فإذا بنينا على أنها كلمة مرتجلة بمعنى (رجل) فهي مختصة بالنداء بإطلاق، وإذا بنينا على أنها محذوفة من (فلان) فاستعمالها محذوفًة هو المختص بالنداء. وأما إذا استعملت تامًة ففي النداء وغيره، وما جاء في الشعر في غير النداء من استعمال (فل) فلا يقال عليه، وسيذكره. وقد يقال: (يا فلة) للمؤنث بمعنى: يا فلانة، وعلى هذا نبه بقوله: "وفل بعض ما يخص بالندا" أي إن هذا اللفظ من الألفاظ المخصوص استعمالها بالنداء. والثاني: (لؤمان) من اللؤم، بمعنى: لئيم، واللئيم هو الدنى الأصل، الشحيح النفس، يقال لؤم لؤمًا، ولامًة، وملأمًة. ولؤمان - كما / قال - لا يستعمل إلا في النداء. والثالث: (نومان) وهو من النوم، ويطلق على الكثير النوم، لأن (فعلان) للكثرة والامتلاء نحو: غرثان، وشبعان، وغضبان. قال الجوهري: ويقال: يا نومان، للكثير النوم، ولا تقل: رجل نومان، لأنه يختص بالنداء.

فهذا معنى قوله: "لؤمان نومان كذا" أي كـ: (فل) لا يستعملان إلا في النداء. والضرب الثاني: ما جاء من ذلك مقيسًا أو قريبًا من المقيس، وهو ثلاثة أنواع، النوعان منها من هذا الباب، والثالث: ليس منه، لكنه أدخله معهما بالتبع: أحدها: (فعال) في سب المؤنث، وذلك قوله: "واطردا في سب الآنثى وزن يا خباث" من الخبث، يعني أن ما كان على (فعال) مما يسب به المؤنث فهو مختص بالنداء، وهو مطرد فيه مقيس، لأنه كثر في السماع كثرًة يقاس على مثلها، نحو: (يا خباث) من الخبث، و (يا فساق) من الفسق، و (يا غدار) من الغدر، و (يا لكاع) من اللؤم بمعنى (لكعاء) وهي اللئيمة، وما أشبه ذلك. فيجوز لك على إطلاق القياس أن تقول: يا لآم، ويا نجاسن ويا قذار، ويا رجاس، من اللؤم، والنجس، والقذر، والرجس. وكذلك كل ما كان سبًا من الفعل الثلاثي يجوز فيه بناء (فعال) منه، فيختص بالنداء، ولا يقال في غيره. وهذا النوع مختلف فيه، فمنهم من يجعله قياسًا كالناظم، ومنهم من يقفه على السماع، وهذا الخلاف أصله الشهادة بكونه بلغ في الكثرة مبلغ القياس أولا، والناظم شهد بالأول، فلذلك قاسه. والثاني: وزن (فعال) المراد به الأمر المبني من الفعل الثلاثي، وهو قوله: "والأمر هكذا من الثلاثي". "الأمر" معطوف على "وزن" و "هكذا" الإشارة بـ (إذا) إلى وزن (خباث) كأنه قال: واطرد الأمر مثل (فعال) من الثلاثي من الأفعال، فأراد أن ذلك مطرد أيضًا مقيس، كما اطرد في اختصاصه بالنداء حين كان وصفا.

والاطراد في الشيء: تبعية بعضه على بعض حتى لا يتخلف، يقال: اطرد الأمر، إذا استقام، واطرد الشر: تبع بعضه بعضا، ومنه اطراد النهر، وهو جريانه. فأراد أن ذلك استقام في القياس ولم ينكسر. ومثال ذلك: (نزال) من: انزل، و (حذار) من: احذر، ومنه ما أنشد سيبويه للأعشى: مناعها من إبل مناعها ... ألا ترى الموت لدى أرباعها وأنشد أيضا قول الآخر:

تراكها من إبلٍ تراكها ... ألا ترى الموت لدى أوراكها فـ (مناع) من: امنع، و (تراك) من: اترك، وانشد أيضا لأبي النجم: * حذار من أرماحنا حذار * أي: احذر، وأنشد أيضا لرؤبة: * نظاركى أركبها نظار * أي: انظر، بمعنى انتظر، وأنشد لزهير: ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر

وأنشد أيضاً: نعاء ابن ليلى للسماحة والندى ... وأيدي شمالٍ باردات الأنامل / وأنشد لجرير: نعاء أبا ليلى لكل طمرةٍ ... وجرداء مثل القوس سمحٍ حجولها أي: انع، من النعي وهو خبر الموت. فهذا الباب أيضا مقيس عند الناظم، فتقول على هذا (ضراب) من: اضرب، و (خراج) من: اخرج، و (عمال) من: اعمل و (جبار) من: اجبر، و (قتال) من (اقتل) ونحو ذلك. وقد اختلف في هذا النوع أيضا، فحكي السيرافي عن بعض النحويين، ويذكر ذلك للمبرد، أنه لا يجعل الأمر من الثلاثي مطردا؛ بل يقفه على السماع.

والذي ذهب إليه سيبويه في هذا النوع، وفيما قبله، أنهما مطردان كمذهب الناظم، نص على ذلك في أبواب "ما لا ينصرف" فقال: واعلم أن (فعال) ليس بمطرد في الصفات، نحو: حلاق، ولا في مصدر، نحو: فجار، وإنما يطرد الباب في النداء، وفي الأمر. وقد مال الشلوبين إلى رأى المبرد، وحمل عليه كلام سيبويه، وزعم أن القياس أداه إلى ذلك، قال: لأن باب الأمر أن يكون بالفعل، والعدل عنه إلى الأسماء ليس بقياس، وعلى هذا المعنى اعتمد، ثم تأول كلام سييبويه على أن المراد بالاطراد الكثرة، وأراد بإطلاق الجواز أنه يريد الجواز على الجملة، على معنى قوله في الاطراد. وهذا كله خلاف الظاهر من كلامه، وما علل به منع القياس لا يلزم إذا كان السماع بحيث يصلح أن يقاس عليه لكثرته؛ لكن سيبويه شرط في اطراده شرطا، وهو أن يكون مبنيًا من الفعل الثلاثي، فقال: واعلم أن (فعال) جائزة من كل ما كان على بناء (فعل) أو (فعل) أو (فعل) قال: ولا يجوز من (أفعلت) لأنا لم نسمعه من بنات الأربعة، إلا أن تسمع شيئا فتجيزه فيما سمعت، ولا تجاوزه. وهذا الشرط هو الذي شرط الناظم في قوله: "من الثلاثي" فلا يجوز أن تقول: (كرام) من: أكرم، ولا (خراج) من أخرج، ولا نحو ذلك، وما جاء منه

فمسموع نحو: (دراك) من: أدرك، و (بدار زيدًا) من بادرته، لأنه يقال: بدرت إليه، وبادرته، فهو من (بادرته) المتعدى. وأنشد يعقوب، قال: أنشدوا: بدارها من إبل بدارها ... قد نزل الموت لدى صغارها وحذفوا الزيادة لأنها لما كانت غير أصل استسهلوا ذلك فيها. ولم يمكن ذلك في (قرقار) بمعنى قرقر، أي صوت، و (عرعار) بمعنى عرعر، أي اجتمعوا للعب، لأصالة جميع الحروف، فخرج بذلك عن بناء (فعال) إلى ما قرب منه وهو (فعلال) أنشد سيبويه لأبي النجم: قالت له ريح الصبا: قرقار وقال النابغة:

متكنفي جنبي عكاظ كليهما ... يدعو صبيهم بها عرعار وكأن الناظم أراد نقل نص سيبويه في المسألة؛ إذ أتى بلفظ الاطراد، وشرط كون الفعل ثلاثيا، فعلى هذا كل ما جرى لشراح الكتاب في عبارة سيبويه من النظر جارٍ هنا من أوله إلى آخره، فهو شرح لكلام ابن مالك هنا. / والنوع الثالث: (فعل) في سب الذكور، يعني صفة نظيره (فعال) في سب الأناث، فيريد أن ذلك شائع في كلام العرب، وكثر واشتهر، لكن مختصا بالنداء أيضا، كنظيره في سب الإناث، نحو: يا غدر، ويا فسق، ويا خبث. لكن لما كان هذا النوع عنده لم يكثر كثرة نظيره، لم يطلق فيه القياس، بل قال: "ولا تقس" فمنع من القياس فيه، ووقفه على النقل وإن كثر وشاع. وما ذهب إليه مذهب طائفة من النحويين، ومنهم من يجعله قياسا فيقول: يا كذب، ويا لؤم، وما أشبه ذلك، والتحاكم في هذا أيضا إلى السماع. ثم حكي ما في (فل) شاذًا، وهو مجيئه في غير النداء؛ فقال: "وجر في الشعر فل" يعني أنه يستعمل في غير النداء لكن في الشعر ضرورة. وعين موضع السماع، وهو كونه جاء مجرورا، تحريًا في النقل، وتعيينًا لموضع الشاهد، وتنبيهًا أنه إنما جاء في موضع واحد وإشارته

بذلك إلى بيت أبي النجم: * في لجةٍ أمسك فلانًا عن فل * وهنا تم قصده إلا أنه يرد عليه السؤال من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن هذا النظم إنما المقصود به الإتيان بالأمور القياسية دون السماعية، إلا أن ينبه على السماع تكلمًة بعد تحصيل المراد من القياس، وهو لم يفعل ذلك هنا؛ بل ترك من الأبنية ما هو عند طائفة من النحويين قياس مطرد فيما يختص بالنداء، كـ (فعال) عنده، وأتى بألفاظ شاذًة عوض ذلك، وهي: فل، ولؤمان، ونومان. فقالوا: إن (مفعلان) في هذا الباب قياس نحو: مكرمان، وملأمان، ومكذبان، ومخبثان، فهذا من المسموع. وأجازوا أن يقال: على هذا: مفسقان، ويا مغدران، ويا ملكعان، هذا إن اقتصرنا بالقياس على ما بنى للذم (وهو قول بعضهم: إن مفعلان) يختص بالذم) ورد عليه بقولهم: يا مكرمان، فيقال قياسًا عليه أيضا: يا مشرفان، من (شرف) ويا مفقهان، من (فقه) وما أشبه ذلك. وإذا سلمنا أنه غير قابل للقياس، ففيه من الشياع في الاستعمال، ومن الكثرة، ما يستحق به أن يذكر مع (فعل) فتركه لمثل هذا، وذكره لمثل (فل، ولؤمان) عكس ما عليه الحكمة الصناعية.

والثاني: أنه حين تعرض لذكر الألفاظ المسموعة كان حقه أن يذكر جميعها أو أكثرها، كما فعل في "التسهيل" فأتى بـ (فل، وفلة، ومكرمان وملأمان، وملأم، ولؤمان، ونومان). وحكي غيره: مخبثان، ومكذبان، وأشياء غير هذه. وإن سلمنا الإتيان ببعضها فكان حقه أن يأتي بأشهرها في النقل، وأكثرها تداولاً بين النحويين، كمكرمان، وملأمان، ونحو ذلك، ويترك ذكر (لؤمان، ونومان). والثالث: أنه ذكر الشذوذ في (فل) وهو من الأفراد المسموعة التي لو أهمل ذكرها لم يلم على ذلك، وترك ذكر الشذوذ في (فعال) المطرد عنده، لأنهم قد استعملوا (لكاع) / في غير النداء، وأنشد النحويون على ذلك: أطوف ما أطوف ثم آوى ... إلى بيتٍ قعيدته لكاع وقد تقدم أيضا شذوذ باب (فعال) في الأمر، وهو لم ينبه على ذلك، مع أنه آكد من ذكر الشذوذ في (فل).

والجواب عن السؤال الأول: أن القياس في (مفعلان) غير ثابت عنده؛ إذ لم يبلغ ما سمع منه مبلغ ذلك، فيكون ذاهبًا فيه مذهب من اقتصر على المسموع. وهذا لا اعتراض فيه. وأما كونه لم يذكره فيما شاع اختصاصه بالنداء (كما ذكر فعل) فإنما ذلك، والله أعلم، لأنه لم يتحقق عنده اختصاصه بالنداء) ابتداًء، وذلك لأنه قد حكي: رجل مكرمان، ورجل ملأمان، وامرأة ملأمانة. وحكي ابن خروف عن أبي الحسن أنه قال في "باب من التأنيث": فأما مفعلان نحو: مكرمان، وملأمان، ومخبثان، وملكعان، وما بنى على هذا البناء فإذا جعلته للمؤنث ألحقت فيه الهاء، نحو: مكرمانة ومخبثانة، وهذا يجعل معرفة، تقول: هذا مكرمان مقبلاً، ومكرمانة مقبلًة. قال ابن خروف: وفي هذا شيئان: أحدهما: استعمالها في غير النداء، الثاني: استعمال الباب في المدح. انتهى. فإذا كان الحكم هكذا فأي شياعٍ يثبت لـ (مفعلان) في استعماله مخصوصا بالنداء؟ والجواب عن الثاني: أنه إنما قصد أن يأتي بالبعض منبها على الباب، وموضع استيفاء المثل كتب اللغة أو المطولات في النحو، فالتنبيه في مثل هذا المختصر بالبعض يكفي، وقد بين أن ما ذكره بعض من جملة حين قال: "بعض ما يخص بالنداء" فعليك أنت بالبحث عنها.

وأما كونه لم يأت بالمشهور من تلك الألفاظ فذلك، والله أعلم، لأن ما أتى به هو الذي تحقق عنده أنه لم يستعمل في غير النداء، إذ كان غيرها قد نقل فيه الاستعمال في غيره حسبما وقع التنبيه عليه آنفا، ولم يكن ذلك كختصًا بالضرورة كما قال في (فل) بل استعمل في الكلام فلم يعبأ به، وأتى بما يتخلص به من الاعتراض عليه، وهو الألفاظ الثلاثة التي ذكر. والجواب عن الثالث: أنه ذكر الشذوذ في (فل) ولم يذكره في المقيس وهو موجود فيه، لأن المقيس إذا اطرد لم يضره المخالف الشاذ في اطراده؛ بل يبقي على حاله من الاطراد، ويوقف المسموع على محلة، بخلاف المسموع إذا عارضه في استعماله استعمال آخر نحو: (فل) فإن للقائل أن يقول: قد استعمل في النداء وغير النداء، فليس مختصا، فيعارض بذلك، فلا يتخلص له المثال من الاعتراض، فبين أن ما جاء في غير النداء إنما جاء في محل (الضرورة) لا في محل (الاختيار). ولذلك لم يسمع في غير بيت أبي النجم، كما نبه عليه بقوله: "وجر في الشعر فل" وبقي ما عدا هذا الموضع مشتعملا فيه (فل) في النداء خاصة استعمالاً شهيرا، يشهد فيه أنه اختص بالنداء. وهذا النوع من المسموعات الموقوفات على النقل قد يتفق كثيرا. ألا ترى إلى استغنائهم بـ (ترك) عن / (وذر، وودع) وذلك مسموع، ثم

إنهم حكموا (ودع) ولم تكن حكايته بمخرجةٍ له عن قاعدة الاستغناء، لأن الاستغناء عنه شهير، وترك الاستغناء غير شهير، فكذلك مسألتنا، ولها نظائر كثيرة. فتأمل مقصد الناظم في التنبيه على الشذوذ في (فل) وعدم التنبيه عليه في (فعال) يظهر لك أنه لو عكس الأمر لتوجه الاعتراض عليه، وهذا حسن من التنبيه، وبالله التوفيق.

الاستغاثة

الاستغاثة الاستغاثة: هي دعاء المستنصر المستنصر به، والمستعين المستعان به. فهي تختص بالنداء، فلذلك أتى بها في أبوابه، لكن لها حكم مختص بها دون ما تقدم في النداء، فلابد من ذكره. والاستغاثة لها متعلقان، وهما المستغاث به، والمستغاث من أجله، فابتدأ بذكر المستغاث به، فقال: إذا استغيث اسم منادًى خفضا ... باللام مفتوحًا كيا للمرتضى يعني أن الاسم المنادى إذا استغيث به فحكمه أن يدخل عليه لام الجر فيجر بها، لكنها تكون مفتوحة، ولا تكون مكسورة كحالها في غير النداء؛ بل ترجع إلى أصلها من التحرك بالفتح؛ إذ كان الأصل، فيما كان من الحروف على حرفٍ واحد يبتدأ به، أن يحرك بالفتح، لأنه أخف الحركات، فروجع هنا الأصل. وفي قوله: "خفض باللام" تنبيه على مسألتين: إحداهما: أن المنادى المفرد المبنى، والمنادى المعرب، في هذا الحكم على حد سواء، وهو الرجوع إلى الإعراب والخفض باللام، فلا يبقى المبني مبنيًا كما كان قبل دخول اللام، لأن اللام معارض في وجه سبب البناء، فلا يصح بقاؤه، فتقول: يا لزيدٍ، وفي المثنى: يا للزيدين، وفي المجموع: يا للزيدين، وفي المضاف: يا لعبد الله، ويا لأمير المؤمنين، ونحو ذلك.

وأما ما كان مبنيا قبل النداء فلا سبيل إلى إعرابه كغير المنادى. والثانية: التنبيه على أن هذه اللام هي الجارة لقوله: "خفض باللام" ولم يقل: خفض بغيرها، وذلك أن مذهب أهل البصرة أن هذه اللام ليست مختصرة من شيء؛ بل هي لام الجر التي في (لزيد، ولعمروٍ). وذهب الكوفيون إلى أنها ليست بلام الجر، وإنما أصلها (آل) بمعنى: أهل، ثم اختصر ذلك لكثرة الاستعمال، كما في أيشٍ، وويلمه، واللهم، في قولهم، فالأصل أن يقال: يا آل فلان، فلما اختصر صار: يال فلان. ومن دليلهم على هذا فتحها، لأن لام الجر لا تفتح إلا مع المضمر، وليس هذا بمضمر. وأيضًا فإن العرب وقفت عليها دون ما بعدها، كما قال، أنشده ابن جني:

فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يا لا ولام الجر لا يوقف عليها باتفاق. ولا حجة في هذا، أما البيت فقال المؤلف: يحتمل أن يكون الأصل فيه: يا قوام لا فرار، أو لا تفروا، ثم اختصر الكلام اكتفاًء بأوله، ونظيره قوله: بالخير خيرات وإن شرافا ... ولا أريد الشر إلا أن تا يريد: إن شرًا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. وأما فتح اللام فعلله البصريون بأوجه: منها أنها فتحت فرقًا بينها وبين لام المستغاث من أجله، لأنها لو بقيت على كسرها، واللام الأخرى مكسورًة أيضا، لوقع اللبس بينهما. ومنها أنها فتحت تشبيهًا للمنادى بالمضمر، ولذلك بني لوقوعه موقعه، فلما تمحض شبهه به عومل معاملته في دخول اللام، وهذا الوجه مكمل للأول. ومنها: أن أصل اللام الفتح، وإنما كسرت فرقًا بينهما وبين لام الابتداء حيث لا يظهر الإعراب، نحو: لهذا غلام؛ إذ لو بقيت مفتوحة لم يعرف معنى هذا الكلام، فلما وقعت في النداء، وهو موضع لا تدخل فيه لام الابتداء، روجع الأصل فيها.

قالوا: ومن الدليل على قولهم الرجوع إلى الأصل وجوبًا في المعطوف دون إعادة (يا) نحو: يا لزيد ولعمروٍ، كما سيأتي. ولو كانت بعض (آل) لم يكن لكسرها هنالك موجب. وأيضًا فلو كانت بعض (آل) لم تدخل على مالم تدخل عليه (آل) نحو: يا لله، ويا للناس، ويا لهؤلاء، ونحو ذلك. وأيضًا فما ادعوه خلاف الظاهر بغير دليل، والحمل على الظاهر هو الأصل، حتى يدل دليل على خلافه. فالصحيح إذًا ما ذهب إليه الناظم وموافقوه، من كونها حرف جر. وقوله: "كيا للمرتضى" مثال من ذلك. وفيه تنبيه على معنيين: أحدهما: أنه أتى بـ (يا) دون غيرها، ولم ينبه على سواها إشارة إلى أن الاستغاثة مخصوصة بـ (يا) فلا يستعمل فيها الهمزة، ولا (أيا) ولا (هيا) ولا غير ذلك من الأدوات، لأنها أم الباب، فتقول: يا لزيد، ويا لعمرو، ويا لعبد الله، وما أشبه ذلك. والثاني: أنه أتى في المثال بما فيه الألف واللام، فأشعر أنه ينادى في هذا الباب، وإن لم يناد في غيره كما تقدم، فتقول: يا لله، ويا للمسلمين، وقال:

يبكيك ناءٍ بعيد الدار مغترب ... يا للكهول وللشبان للعجب وأنشد سيبويه: يا لعطافنا ويا لرياح ... وأبي الحشرج الفتى النفاح وهو كثير. فلا يفتقر في نداء ما فيه الألف واللام إلى ما افتقر إليه قبل، وكأنه لما دخلت اللام وفصلت بين (يا) والمنادى زال قبح اجتماع أداتي تعريف. وقوله: "إذا استغيث اسم" فعدى "استغاث" بغير باء- مقصود منه، قال في "الشرح" المعروف في اللغة تعدى فعله بنفسه نحو: استغاث زيد عمرًا، قال الله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} وقال: {فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه}.

قال: فالداعي مستغيث، والمدعو مستغاث. قال: والنحويون يقولون: استغاث به، فهو مستغاث به، وكلام العرب بخلاف ذلك. وما قاله ظاهر في معظم النقل، إلا أن سيبويه يستعمله في كتابه بالباء، فلعله لم يقله إلا عن مستند، أو يكون مما لم يسمع. وقد قال ابن سيدة: إن "الاختزال" بمعنى "الحذف" لم يجده إلا في كلام سيبويه، فانظره فيه. وافتح مع المعطوف إن كررت يا ... وفي سوى ذلك بالكسر ائتيا يعني أن اللام المذكورة إذا دخلت على المعطوف، فلا يخلو أن تكرر (يا) أولا تكرر، فإن كررت فالفتح المذكور باقٍ مع المعطوف. فإن قلت: يا لزيد ويا لعمرو، فتحت لام (عمرو) كما فتحت لام (زيد) أن سبب الفتح حاصل، وهو دخولها على منادى مستغاث. ومنه قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حين طعنه العلج فيروز لعنه الله: يا لله ويا للمسلمين، وأنشد سيبويه: يا لعطافنا ويا لرياح ... وأبي الحشرج الفتى النفاح

وأما إذا لم تعد (يا) فإن اللام تكون على أصلها من الكسر، فتقول: يا لزيد ولعمرو فلام (عمرو) لا تكون إلا مكسورة. وهذا معنى قوله: "وفي سوى ذلك بالكسر ائتيا، أي في سوى المعطوف المكرر معه (يا) ومن ذلك قول الشاعر: *يا للكهول وللشبان للعجب* وإنما كسرت وإن كانت داخلة على المستغاث المستحق للفتح، لأنه لما عطف أحد الاسمين على الآخر علم أن الثاني داخل في حكم الأول، لأن خاصة (الواو) التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، لفظا ومعنى، فأغنى عن فتحها، فلم يقع لبس بين (لام) المستغاث و (لام) المستغاث من أجله. وهذا التعليل لمن جعل الفتح للفرق، ومن جعله لوقوعه موقع المضمر اعتل بأنه قد يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه، فلا يلزم الفتح في الثانية، لأن الموضع غير موجب وإن كان على التشريك في العامل كقولهم: رب رجل وأخيه، وكل شاة وسخلتها بدرهم، ومررت بزيد وعمرًا. ومن ذلك كثير. وهاهنا سؤال مضمنه دعوى الإخلال، وهو أن الناظم ذكر في هذا الباب حكم المستغاث، وما يتعلق به في نفسه، ولم ينص على حكم المستغاث من أجله، وهو ركن من أركان الباب، لأن الاستغاثة تفتقر إلى الكلام في ركنين [لا يتم حكم الباب إلا بذكرهما، وهما المستغاث والمستغاث من أجله، فالعالم

بأحدهما دون الآخر غير عالم بباب الاستغاثة على الكمال، بل لابد من العلم بأحكام الركنين معًا] وحينئذٍ يكمل. ولا يضر كون ذلك الكلام في أخصر ما يمكن، فالناظم اختصر هذا الباب اختصارا، أفضى به إلى الاقتصار على ما لا يستقل به الباب دون ما ترك. والجواب: أن يقال أولا: إن الكلام في المستغاث من أجله ليس بجزء من الباب يختص به حكم فيه دون حكمه في غيره، وإنما المستغاث من أجله اسم مجرور باللام المكسورة، على حد سائر المجرورات باللام، فلم يكن فيه أمر زائد يتكلم عليه هاهنا. وأيضا: فلا يلزم في الاستغاثة الإتيان بالمستغاث من أجله؛ بل يجوز الاقتصار على المستغاث دونه، كقول عمر- رضي الله عنه- يا لله، ويا للمسلمين، وقول مهلهل، أنشده سيبويه: يا لبكرٍ أنشروا لي كليبًا ... يا لبكرٍ أين أين الفرار؟ ! فلم يذكر المستغاث من أجله باللام، وإن كان قد أتى به [لأنه جائز أن يا تي به] على غير وجهٍ واحد، فتقول: يا لزيد ادفع عني الأسد، ويا لزيدٍ خفت الأسد، ويا لزيد قتلني الأسد، إلى غير ذلك من العبارات، كما أنه قد يذكر بلام العله. فتقول: يا لزيد للأسد، كقول أمية بن أبي عائذ، أنشده في الكتاب:

ألا يا لقومي لطيف الخيال ... أرق، من نازحٍ ذي دلال وأنشد أيضا لقيس بن ذريح: تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع والنحوين إنما ذكروا المستغاث من أجله مع المستغاث إذا أتى اللام، لينهوا على اختلافهما. قال السيرافي: حين تكلم في هذه اللام، وفي أصلها: ثم عرض دخولها في النداء على معنيين مختلفين، فاحتيج إلى الفصل بينهما فيمن تستغيث به، وتستغيث له، فإذا كان كذلك، وكانت لام المستغاث من أجله غير لازمة، وإذا أتى بها بقيت على أصلها الاستعمالي من الكسر، لم يحتج إلى النص عليهما. وأيضا: فإن معنى الكلام يبينهما، لأنك إذا قلت: يا لزيد للأسد، فمعنى الكلام يستدعي هنا لام التعليل، كأنك قلت: أدعو زيدًا للأسد، أي لأجل الأسد.

فإن قلت: فمن أين تتعين اللام دون غيرها من حروف التعليل، فربما يقول القائل: آتِي بالباء أو (في) ويبني على ذلك أن يقال: يا لزيدٍ بالأسد، أي بسبب الأسد، وذلك لا يقال.؟ فالجواب: أن في كلام الناظم ما يشير إلى اللام، وأنها التي تتعين دون غيرها، لأنه قال: "وفي سوى ذلك بالكسر ائتيا" وهذا الشطر لو كانت فائدته أن المعطوف غير المكرر معه (يا) تكسر لامه، ولم يفد غير ذلك، لكان حشوا؛ إذ كان ذلك مفهوما من الشطر الأول، وهو قوله: "إن كررت يا " لأنه يعطى بمفهوم الشرط أنها لا تفتح إن لم تكرر (يا) فلما لم يجتزئ بالمفهوم دون أن يذكر ذلك نصًا، وأتى بأداة الشمول وهي (ما) في قوله: "وما سوى ذلك" دل على أن ثم لامًا أخرى غير لام المعطوف، وما ذاك إلا لام المستغاث من أجله. فهذا وجه ثانٍ من الاعتذار، ولا تستبعد هذا، فإن لابن مالك في هذا "النظم" إشارات يجتزئ بها عن صريح العبارات، وقد مر من ذلك أشياء، وسترى أخرى فيما يا تي إن شاء الله تعالى. ثم قال: ولام ما استغيث عاقبت ألف ... وهكذا اسم ذو تعجب ألف يعني أن لام المستغاث في أول الاسم تعاقب بالألف في آخره، فتلحق هذه تارًة كما تقدم، وتلحق هذه أخرى فتقول: يا زيداه، بمعنى: يا لزيدٍ، وأنشد المؤلف في "الشرح": يا يزيدا لآملٍ نيل عز ... وغنى بعد فاقةٍ وهوانِ

ولا يجوز أن يجمع بينهما فيقال: يا لزيداه، لأنها كالعوض من اللام، ولا يجمع بين العوض والمعوض منه، كما لا تجتمع هاء (الجحاجحة) مع ياء (الجحاجيح) ولا ألف (يمانٍ) مع ياء (يمنى) ولا ميم (اللهم) مع حرف النداء، وأشباه ذلك كثير. وهذه الألف هي اللاحقة في المندوب، وعلى ذلك الحد تلحقه، كما سيأتي إن شاء الله، إلا أنها هنا عوض، وهناك غير عوض. وجاء قوله: "عاقبت ألف" على لغة من يقف على المنصوب بحذف التنوين، فيقول: رأيت زيد، ومنه: *وآخذ من كل حي عصم* ثم قال: "ومثله اسم ذو تعجب ألف" ضمير "مثله" عائد على المستغاث، فيريد أن الاسم الذي يتعجب منه يكون حكمه حكم الاسم المستغاث في جميع ما تقدم، فتلحقه اللام مفتوحة، وإذا عطفت عليه مع إعادة (يا) فتحت لام المعطوف، وإن لم تعدها كسرتها، وإذا أردت

الإتيان بالمتعجب منه أتيت بلامه مكسورة والخلاف الذي في اللام هنالك جارٍ هنا، وتعويض الألف آخرًا من اللام كذلك. وبالجملة فجميع تلك الأحكام جارية هنا، وأعطى ذلك من كلامه النص على المماثلة، فتقول: يا للعجب، ويا لزيدٍ للعجب، ويا للعجب ويا للماء، ويا عجباه، ومن ذلك قول الشاعر، أنشده سيبويه: لخطاب ليلى يا لبرثن منكم ... أدل وأمضى من سليك المقانب ثم قال سيبويه: وقالوا: يا للعجب، ويا للفليقة, يعني الداهية، كأنهم رأوا أمرًا عجبًا، فقالوا: يا لبرثن، أي مثلكم يدعى للعظائم. قال: وقالوا: يا للعجب، ويا للماء، لما رأوا عجبًا، أو رأوا ماًء كثيرا، كأنه يقول: تعال يا ماء، أو تعال يا عجب، فإنه من أيامك وزمانك. قال: ومثل ذلك: يا للدواهي، أي تعالين، فإنه لا يستنكر، لكن، لأنه من إبا نكن وأحيانكن.

ثم حكى عن الخليل تعويض الألف من اللام في الاستغاثة والتعجب معًا، وقال الأعشى: بانت لتحزننا عفاره ... يا جارتا ما أنت جاره وقوله: "ألف" في موضع الصفة للتعجب، كأنه يقول: ومثله اسم ذو تعجبٍ مألوف في ذلك الاسم، تحرزًا من أن يكون غير مألوفٍ في التعجب، وهذا يتصور حيث لا يعرف السامع مع ما أراد ببذلك النداء، إما بأن يكون المتعجب منه نكرة، نحو: يا لرجلٍ، فإن مثل هذا لا تألفه العرب في التعجب كما لا تألفه في الاستغاثة، فلا يجوز ذلك. وإما بأن يكون معرفة ولا قرينة تدل على قصد المستصرخ، لا لفظيًة ولا معنوية وذلك أن ما تقدم من أمثلة العرب يعرف السامع منها قصد المتكلم. فالقرينة اللفظية في البيت دليل، ويا للعجب ويا للفليقة- كذلك، لأن العجب لا يستغاث إذا وقع واشتهر، وكذلك ذكر الداهية كذلك يدل عليها، وكذلك: يا للماء، إذا كان الماء الكثير ظاهرًا للعيان، أو في معنى ذلك، وهكذا سائرها.

بخلاف ما إذا قلت: يا لصاحبنا، وليس ثم ما يدل على أنه متعجب منه، فإنه لا يقال، كما لا تقول: جاءني إنسان، لأنه لا فائدة فيه. وإذا كان كذلك فلابد من اشتراط كونه معروفا في التعجب منه، وهو معنى كونه ذا تعجبٍ مألوفٍ، وعلة ذلك تشبه علة "المندوب" التي تذكر في بابه إن شاء الله. فإن قيل: فقد سقط للناظم هذا الشرط من المستغاث، وهو مفتقر إليه كما في التعجب؛ بل التعجب فرع الاستغاثة، والمعنى فيهما واحد، فكان حقه أن ينبه على أنه لا يستغاث إلا معروف، تحرزًا من النكرة؛ إذ لا يستغاث من لا يعرف، فلا يقال: يا لرجلٍ، ولا يا لإنسانٍ، وكذلك المعرفة إذا لم تتعين [فلا يقال] يا لمن جاءني، ويل من قام أبوه، وما أشبه ذلك، وإطلاقه يقتضي هذا كله. فالجواب: إما أن يقال: إن ذلك غير مشترط لا في التعجب ولا في غيره إلا في المندوب، لأن النحويين لم يشترطوه هنا، واشترطوا ذلك في المندوب، فلو كان معتبرًا لذكروه، ويحمل قول الناظم على إطلاقه، وقوله: "ألف" لا يريد به زيادة معنى. وإما أن يكون عنده معتبرًا حسبما تقدم في التعجب، واتكل على ما يعطيه مثاله في قوله: "يا للمرتضى" والمسألة بعد في محل النظر، لم أجد فيها ما أعتمد عليه. وثم سؤال ثانٍ، وهو أنه شبه المتعجب منه بالمستغاث وحكم له بحكمه، فاقتضى أنه ليس له إلا ذاك، كما ليس للمستغاث إلا ما قال،

وليس للمستغاث إلا ما قال، وليس كذلك، لجواز خلو ذي التعجب من اللام والألف، فقد تقول: يا طول شوقي إلى زيد، ويا حسنه، ويا عجبًا منه، وما أشبه ذلك، وهو كثير. والجواب: أن المؤلف جعل هذا في "التسهيل" من قبيل النادر فقال: وربما استغنى عنهما في التعجب، وأنشد على ذلك بيتا فيه: *فيا طول ما شوقي* وإذا كان نادرا عنده لم يضره تركه، والله أعلم.

{الندبة}

{الندبة} الندبة: هي الاستصراخ بالمفقود، أو ما أقيم مقامة، على جهة التفجع أو التوجع، لا لأن يجيب. فإذا قلت: وازيداه، وهو ميت، فأنت لم تقصد بندائه أن يجيبك، وإنما قصدك التصويت باسمه تفجعا لفقده. وكذلك إذا كان غير مفقود، لكن تنزل منزلته كقول عمر- رضي الله عنه- حين أعلم بجدبٍ شديد أصاب قومًا من العرب: واعمراه، واعمراه، وكقول الخنساء ومن أسر معها من آل صخر، وهو غائب غير مرجو الحضور: واصخراه، وكقول الشاعر: فواكبدي من حب بمن لا يحبني ... ومن عبراتٍ مالهن فناء فهذا كله من المندوب الذي ليس بمفقود، ولكنه حكم له بحكم المفقود، لاجتماعهما في بعد رجائه بالنسبة إلى الأمر المقصود. وابتدأ الناظم ببيان الحكم العام للمندوب وغيره، فقال: ما للمنادى اجعل لمندوبٍ ما ... نكر لم يندب ولا ما أبهما

ويندب الموصول بالذي اشتهر ... كبئر زمزمٍ يلي وامن حفر يريد أن ما للمنادى من الأحكام المتقدمة يجعل للمندوب، يعنى إلا ما يذكره الآن من الأحكام المخالفة لحكم المنادى، وما تقدم ذكره من الاختصاص بالمندوب، لأن ما يذكره هنا زيادة على ما يشترك فيه المندوب مع غيره. وبيان ذلك أنه ذكر في المنادى أنه إن كان مفردًا معرفة بنى على الضم إن رفع بالضم، وإلا فما كان يرفع به قبل النداء. وإن كان مضافًا أو شبيها بالمضاف نصب. وإن كان مبنيًا قبل النداء يقدر فيه الضم بعده، وأن ما نون ضرورًة فيه وجهان، وأنه لا يجمع بين (يا) والألف واللام، وكذلك حكم التوابع كلها، وحكم المضاف إلى ياء المتكلم، وغير ذلك مما تقدم، فيجرى هنا. فإن قلت: كيف يجرى وكثير منه ينافى لحاق ألف الندبة كالمبنى على الضم، إذا لحقته الألف بنى على خلاف ذلك البناء، وكذلك المنادى المضاف، كان المضاف إليه معربًا بالخفض، فلما جاءت الألف زال ذلك، فلا يستتب ما ذكر، وقد تقدم له من أحكام المندوب أنه لا ينادى من الحروف إلا بـ "وا" أو (يا) وأنه لا يحذف معه حرف النداء فقد خالف المنادى من هذه الوجوه، وقد يمكن وحود غيرها؟ فالجواب: أن ما تقدم للمنادى قد استثناه، فخرج بدليله، وما عدا ذلك فداخل في المندوب على الجملة، لأن في المندوب استعمالين:

أحدهما: ألا تزيد فيه على ما تقدم في باب النداء من الاختصاص شيئًا، فتقول: وازيد، ووازيد الظريف، والظريف، ووا عبد الله العاقل، وما أشبه ذلك. فهذا هو الذي يجرى بجميع أحكام المنادى، وقد نبه على هذا الاستعمال في الباب الذي نحن فيه. والثاني: أن تزيد فيه هذه الأحكام التي تذكر هاهنا، وهي المخالفة لما تقدم، ولم يرد هو هذا الاستعمال بقوله: (ما للمنادى اجعل لمندبٍ) وهو الأظهر، على أنه مانع من جريان تلك الأحكام، إلا أنها تارًة تكون ظاهرة فتقدر، وتارًة تبقى على ظهورها. ألا ترى أنك إذا قلت: وازيداه، فالضم مقدر في آخر الاسم، ولا يقال: إنه مبنى على السكون أو على الألف، وكذلك: واغلاماه، في: (يا غلام) المضاف إلى الياء، والإعراب مقدر في آخره، ولا يقل: هو مبنى، إذ لا موجب لبنائه وهو مضاف، كوا غلامياه وواغلام زيداه. نعم، قد يحذف من آخره لالتقاء الساكنين، كما إذا ندبت من اسمه (يحيى) فقلت: يا يحياه، أو من اسمه (غلامي) فقلت في أحد الوجهين: واغلاماه. والمحذوف هاهنا في حكم الثابت، كما إذا حذفته في الدرج، نحو قولك: يحيى العاقل، وغلامي الفاصل.

وما عدا ذلك فعلى هذه الوجوه يجرى، فلا تفوت فيه أحكام المنادى بإطلاق، حتى التنوين الاضطراري، ألا ترى إلى قوله: *وافقعسًا وأين مني فقعس* ولو قال: (وافقعس) لجاز؛ فما أتى به من الإطلاق المتقدم صحيح، إلا ما استثنى هناك، وذلك أمران. والذي استثنى هنا من قاعدة ما ينادى فإنه أخرج من ذلك ثلاثة أنواع. أحدها: النكرة، وذلك قوله: (وما نكر لم يندب) يعني أن ما كان قبل النداء نكرة، وإن كان مقصودًا بالنداء، لا يصح أن يندب كرجلٍ وامرأةٍ وغلامٍ، إذا لم تقصد إضافته، فلا تقول: وارجلاه، ولا: وامرأتاه، ولا: يا غلاماه، ولا ما أشبهه, والثاني: المبهم، وذلك قوله: (ولا ما أبهما) وأراد بالمبهم اسم الإشارة [والضمير، لأن أسماء الإشارة]، تسمى مبهمات، من حيث كانت تقع على كل مشار إليه، وإنما يتعين اسم الإشارة بالقصد إليه أو بالنعت، نحو (هذا) فلا يجوز أن تقول: واهذا، وكذلك الضمائر أيضا مبهمات، من حيث كانت صالحة لكل مخاطب، ولكل متكلم، ولكل غائب، وألزمت التفسير، فلا بد لها منه فوضعها على الافتقار إليه، فهي في أنفسها، مع قطع النظر عن التفسير، مبهمات، كما أن

أسماء الإشارة موضوعة بقيد الإشارة إلى المشار إليه، فإذا قطع النظر عن ذلك القيد استبهمت، فلا يجوز أن تقول: يا هواه، ولا: وأنتاه، ولا ما أشبه ذلك. والثالث: الموصول من الأسماء بصلةٍ لا تعين المقصود عند الجمهور وذلك مفهوم قوله: (ويندب الموصول بالذي اشتهر) يعني أن الموصول إما أن تكون صلته شهيرةً بين الناس، وتميزه من غير أولا، فإن كانت كذلك جازت ندبته، كالممثل به في قوله: (كبئر زمزم يلي وامن حفر)، [وترتيبه: وامن حفر]، بئر زمزماه وهو مقول في ندبة عبد المطلب- جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- لأنه هو الذي اشتهر بحفرها واستخراجها، وقد كانت داثرة، أمر بذلك (في النوم، وعين له موضعها، ففعل، فصارت معلمًا بعبد ما كانت قد ذهب أثرها وعينها، فلما اشتهر بها صار ذلك كالعلم له. فوصل موصوله بها في الندبة. ويجرى ذلك المجرى كل موصول بما شهر به، من قولٍ أو فعل أو صفة. فإن كانت الصفة ما لا يعين ولا يشتهر فلا يجوز أن يندب، فلا تقول: وامن في الداراه، ولا وامن ذهباه ولا ما أشبه ذلك، وهو مفهوم ما اشترط. والعلة في منع ندبة هذه الأنواع الثلاثة واحدة، وهي أن الندبة حزن ونوح وعدم تصبر على فائتٍ لا عوض عنه عند الندب، من فضلٍ أو شجاعةٍ، أو كرمٍ أو قيامٍ بأمر لا يقوم بمثله غير صاحبه المفقود. وإظهار البكاء والجزع ضعف ممن يظهر ذلك منه، لأنه شأن النساء، ولذلك قال الأخفش: الندبة لا تعرفها العرب، أو لا يعرفها أكثر العرب، وإنما

هي من كلام النساء، أي إن التصبر والتعزي يغنيان عنها، والرجال بذلك أولى من النساء، فهم محتاجون إلى تعظيم الذي حزنوا له، والإتيان بأشهر أسمائه، وأحمد خصاله، ليكون عذرًا لهم فيما أظهروا من الحزن والجزع، فلا يحصن أن يا توا فيها من اللفظ بما لا يعرف. فإذا ثبت هذا فجملة ما يجوز ندبته من الأسماء: ما كان علمًا، كزيدٍ وعمروٍ، وعبد الملك، ورجل سميته بمعطوف ومعطوف عليه، أو كان في جملة ذلك الاسم ما يدل على فضيلة وشرف، كمن حفر بئر زمزم، وأمير المؤمنين، وما كان نحو هذا، وهو الذي يتلخص بعد إخراج الأنواع الثلاثة التي أخرج الناظم عن حكم الندبة. وظهر بذلك موافقته في هذه الجملة للبصريين، وذهب الكوفيون إلى نفي اشتراط التعريف، فأجازوا ندبة النكرة مطلقًا. وأشار ابن خروف إلى تفضيل، وهو أن النكرة إن ظهر بندبتها عذر جاز، وإلا فلا، كما في الموصول. والدليل على صحة ما ذهب إليه الناظم القياس والسماع. أما القياس فما تقدم، وأيضًا فقال سيبويه: ولو قلت هذا- يعني ما كان مثل: يا من في الداراه، أو يا رجلاه- لقلت: وامن لا يعنيني أمرهوه. قال فإن كان ذا ترك، لأنه لا يعذر بأن يتفجع عليه، فهو لا يعذر بأن يتفجع ويبهبم. وعلى ما قال سيبويه من بيان العذر في التفجع دارت الندبة.

وأما من فصل الأمر فيقول: قد يوجد في النكرة ما يكون فيه عذر. وقد حكى الجرمي عن بعضهم: يا رجلًا حماناه. قال ابن خروف: لأن فيه عذرًا، وإذا كان كذلك، مع أنه نكرة، فلا ينبغي أن تمنع ندبة النكرة على الإطلاق، وعليه قد يقال: وارجلًا أطعمناه، ويا رجلًا يكرم الضيفاناه، ونحو هذا. فإن قيل: هذا من المندوب بالموصوف، وليس للناظم نص في أن علامة الندبة تلحقه، فرأى سيبويه ألا تلحق الصفات. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن مذهب الناظم غير متعين الرجوع لمذهب سيبويه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والثاني: على فرض المنع من ذلك لا يمتنع أصل الندبة من النكرة؛ بل يجوز، ويكتفى بدخلو (وامن) أول الاسم، كما يكتفي بذلك إذا قلت: وازيد الظريف. فعلى كل تقديرٍ يصح أن تندب النكرة، إما بالاقتصار على (وا) وإما بها مع الألف في آخر الصفة. وعلى أن ابن خروف قال في هذا المثال: إنه ليس مثل الصفة التي أجاز يونس، وما قاله صحيح، بدليل نصب (الرجل) وعدم بنائه؛ إذ صار مثل ما تقدم في قوله:

* أدارًا بجزوى هجت للعين عبرة* أيضا، فقد تندب بالنكرة من غير وصف، ويظهر العذر كقولك: واعلماه، واكريماه، واصلحاه، واميراه، واسيداه، من غير قصد إضافة. فهذا وما كان م ثله لا يمتنع، لظهور العذر به ظهورًا بينًا، فالوجه التفصيل، هذا ما يحتج به لهذا القول. والناظم لم يفصل، لأن عمدته السماع، ولا سماع في المسألة يعتد به، والتعليل إنما ينهض، من ورائه. هذا كله في النكرة. وأما الموصول. فالذي ذهب إليه الناظم فيه رأى سيبويه. وحكى ابن الأنباري في "الإنصاف" الجواز مطلقا عن الكوفيين، والمنع مطلقا عن البصريين، فيظهر أن مذهب التفصيل ثالث، ولا أتحقق صحة هذا النقل عن البصريين، فإن سيبويه هو رأسهم. وقد قال حين بين [أن] النكرة واسم الإشارة: لا يندبان وكذلك: وامن في الداراه في القبح. قال: وزعم- يعني الخليل- أنه لا يستقبح (وامن حفر بئر زمزماه) لأن هذا معروف بعينه.

قال: وكأن التبيين في الندبة عذر للتفجع، فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب، هذا ما قال. ولا يظهر منه المنع ولا وقوف الجواز على السماع، ولم أر من الشراح من وقفه على السماع، فانظر في نقل ابن الأنباري. ووجه التفصيل ظاهر مما تقدم في تفصيل ابن خروف في النكرة وقوله: (بالذي استهر) يريد اشتهر به، فحذف الضمير المجرور لتكرر الجار مع الموصول، وهو قليل، لكن الناظم أجازه مطلقا من غير شرط سوى تكرر الحرف الجار. ومنتهى المندوب صله بالألف ... متلوها إن كان مثلها حذف كذلك تنوين الذي به كمل ... من صلهٍ أو غيرها نلت الأمل والشكل حتمًا أوله مجانسا ... إن لكن الفتح بوهم لابسا منتهى الاسم آخره، يعني أن آخر الاسم المندوب يوصل بالألف في الندبة، فقال: وازيداه واغلام زيداه، وما أشبه ذلك، وهو ظاهر على الجملة، إلا أن المنتهى يختلف الأمر فيه، وكله داخل تحت عموم لفظه، فيشمل أنواعا من المندوبات: أحدها: المفرد، وهو بين، نحو: وازيداه، وقول جرير يرثي عمر بن عبد العزيز- رضي الله تعالى عنه-:

حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له ... وقمت فينا بأمر الله يا عمرا والثاني: المضاف، كان علمًا كعبد الملك، وامرئ القيس، أو كنية كأبي عمرو، أو غير ذلك كغلام زيدٍ، وصاحب الأمير، فاخر الاسم في الجميع هو آخر المضاف إليه. أما في العلم فظاهر، فتقول: واعبد الملكاه، واامرأ القيساه، ونحو ذلك. وأما في غير العلم: فلأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ألا ترى أن المضاف إليه واقع موقع تنوين المضاف، فتقول: واغلام زيداه، وأمير المؤمنيناه. والثالث: الاسم الممطول مسمى به، فإنه بمنزلة الصلة والموصول، وبمنزلة المضاف والمضاف إليه، في إن ما تعلق به صار معه كالشيء الواحد، ولذلك يعرب في النداء كإعراب المضاف، فتقول: واحاميًا الذماراه، وامطعمًا الضيفاناه، وامفضلًا على الفقيراه، وما أشبه ذلك. أما إذا لم يكن مسمى به فلا يقع هنا، لأنه نكرة قبل النداء، ولا ينادى وفيه الألف واللام، وكذلك المعطوف والمعطوف عليه نحو: وازيدًا واعمراه، واثلاثًا وثلاثيناه. وقد مثل المؤلف في "الشرح" بقوله: واضروبًا رءوس الأعداء، واثلاثًا وثلاثين، وبلحاق الألف، ولم يقيده بالعلمية، وكذلك الأبذي في "شرح الجزلية" أجاز ندبة الممطول من غير تقييد، فانظر في ذلك.

والرابع والمثنى والمجموع، نحو: زيدان وريدون وهندات، فتقول: وازيداناه، وازيدوناه، وهنداتاه، وهذا داخل تحت المفرد. والخامس: الموصول، ,آخره آخر الصلة، لأن الموصول لا يتم اسمًا مخبرًا عنه إلا بصلته، نحو: من أكرمنا، ومن حفر بئر زمزم، فتقول: وامن أكرمناه، وامن حفر بئر زمزماه. والسادس: المركب، آخره آخر الكلام، وهو ثلاثة أقسام: مركب بتركيب مزج، نحو معد بكرب، بلالاباذ، فتقول: وامعد يكرباه وابلالاباذاه. ومركب تركيب إسناد، نحو: تأبط شرًا، فتقول: واتأبط شراه. ومركب بمن معطوف ومعطوف عليه، وقد تقدم. وهذا كله ظاهر الدخول تحت قوله: (ومنتهى المندوب صله بالألف) لأن المنتهى في ذلك كله ظاهر إما حقيقة وإما حكما، وأشعر بذلك أيضًا قوله: (كذاك تنوين الذي به كمل ... من صلةٍ أو غيرها). وبقى قسم سابع يحتمل الدخول، وهو الموصوف بصفته، أو عدم الدخول لأن الصفة من حيث هي بيان لموصوفها كالشيء الواحد معه، فتشبه المضاف إليه، والصلة والموصول، فكما تلحق آخر المضاف إليه وآخر الصلة، كذلك تلحق آخر الصفة، ويرجح ذلك أن الصفة قد جرت مجرى الموصوف في قولهم: هذا زيد بن عمرو، فلم يلحقوا الموصوف تنوينًا، توهمًا أنه وسط الاسم.

وفي قولهم: لا رجل ظريف لك، فبنيت الصفة مع الموصوف كما ترى اعتبارًا بأنها كجزء منه. وجاء بعض الموصوفات ملازمًا له الصفة مثل: يا أيها الرجل، والجماء الغفير، فإذا جرت الصفة مجرى الموصوف، أو مجرى جزء الموصوف في هذه المواضع- جرت مجراه في الندبة؛ إذ الصفة من الموصوف في المعنى، ولأن التفجع والتوجع والتأسف قد تقع على صفات المندوب، كما تقع على ذاته، فلا يمتنع أن تلحقها العلامة، وقد جاء ذلك عن العرب، فقال بعضهم: واجمجمتي الشاميتيناه، وهما القدحان. وقال الشاعر: ألا يا عمرو وعمراه ... وعمرو بن الزبيراه فلحقت كما ترى صفة المندوب، وتوكيد المندوب، وفي المضاف إليه نعت المعطوف على المندوب، وهذا رأيه في "التسهيل"، وهو رأي يونس والكوفيين، وللصفة أيضا نظر آخر من حيث إنها ليست مثل المضاف إليه، ولا مثل الصلة، ألا ترى أن المضاف إليه واقع موقع جزءٍ يحذف له من المضاف، وهو التنوين، فيقول مقامه بخلاف الصفة، وكذلك الصلة هي من الموصول كالجزء، بحيث لا يجوز السكوت عنها، بخلاف الصفة فإنك بالخيار في الإتيان بها وعدمه، وهذا كافٍ في صحة الانفصال حكمًا.

وأيضًا، إن ظهر لاتصالها بموصوفها وجه في: هذا زيد بن عمرو، وما ذكر، فقد ظهر وجه انفصالها منه في: يا زيد الطويل، فتعرب الصفة وتبنى الموصوف، وتشبيه صفة المندوب بصفة المنادى أولى، من جهة ما اجتمعا فيه من النداء، ومن تشبيهها بما ليس من بابها، وما ذكر من السماع فنادر لا يعتد به في القياس، وهذا رأي الخليل وتلميذه. وقد بسط الفارسي في "التذكرة" الاحتجاج للمذهبين فطالعه هنالك. فإن كان الناظم ذهب هنا مذهبه في "التسهيل"، فقد تبين وجهه، وإن كان مذهبه الرأي الآخر، فقد ظهرت حجته، والله أعلم. وهنا مسائل: أحدها: أنه ظهر من الناظم أن هذه الألف أصلية، ليست هي الألف المنقلبة عن التنوين، ولا يعوض منها. ونقل بعضهم عن بعض الكوفيين أنها ألف الندبة، ولكن يعوض منها التنوين في الوصل، فيقولون: يا زيدًا وعمرا إذا وصلوا، ويستدلون بقول الشاعر: *وافقعسًا وأين مني فقعس* وهذا شاذ، مع أنه مما نون في الضرورة، فنصب كقول الآخر: *يا عد يا لقد وقتك الأواقي*

والثانية أن قوله: (صله بالألف) فجعل مدة الندبة ألفا، ولم يقل: بالواو والياء، فإن الجميع مدات تلحق آخر المندوب، إيذانًا بأنها الأصل في الباب، لأن الأصل فيها المدة المجهولة التي تكون بحسب ما قبلها، كما يظهر من بعض النحويين والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن الغرض مد الصوت والإبعاد فيه، للمعنى المراد من الندبة والألف في ذلك أمد صوتًا من غيرها. قاله ابن جني. والثاني، أن الحركات اللازمة معها وغير اللازمة على سواء، إذا لم يكن لبس فلا تعتبران معها، فتقول واغلام زيداه، ولا تعتبر الكسرة، وكذلك إذا سميت بـ (قام زيد) أو بـ (رأيت زيدًا) لا تعتبر الضمة ولا الفتحة؛ بل تقول: واقام زيداه وارأيت زيداه. وكذلك حركات البناء فتقول في (يازيد) المبنى: يا زيداه وفي (رقاش) يا رقاشاه، وما أشبه ذلك. ولو كانت مدة مطلقة لكانت تجري مع الحركات بإطلاق، كما تجري مدة الإنكار والتذكر، وغيرهما من المدات، وهي نحو من عشرة، ذكرها ابن خروف. وأيضا، فلو كانت مدة تصير إلى الواو والياء كان ثم لبس أولا ولم يفعلوا ذلك؛ بل التزموا الألف وحذفوا لها التنوين وياء المتكلم، ولم يصيروا إلى غيرها إلا عند خوف اللبس، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والثالثة: أنه لما أطلق القول في إلحاق الألف دل على أنه لم يعتبر ما اعتبره في "التسهيل" من استثنائه ما آخر ألف وهاء، فإنه قال: ويستغنى

عنها- يعني الهاء- وعن الألف فيما آخره ألف وهاء، فلا يقال عنده في (عبد الله): يا عبد اللهاه، ولا في (جهجاه): يا جهجاهاه، ولا في (أواه)، مسمى به: يا أواهاه. وعلل ذلك بالثقل الذي فيه. وهذا يحتاج إلى توقيف وظاهر النحويين الإطلاق كما هنا، فلا يدعى استثناؤه إلا بدليل، والاستثقال هنا ضعيف الاعتبار، ولو لاعتبر فيما كثرت حروفه كفرزدق، أو فيما آخره هاء كمهمهٍ، مسمى به، فكان يمتنع: وافرزدقاه وامهمهاه، وما أشبه ذلك. أو يقال: لما كان مثل هذا المستثنى نادر الاستعمال عامله معاملة النوادر. ثم قال: (متلوها إن كان مثلها حذف) أخذ يذكر هنا ما يعرض للاسم عند إلحاقها، ويعرض لها إذا لحقت هي أيضا بالنسبة إلى آخر الاسم، وبالنسبة إلى وصلها أو الوقف عليها، فذكر هنا، مما يحذف لها، الألف والتنوين، وفي آخر الفصل ذكر حذف الياء في نحو: غلامي، ولم يذكر غير ذلك، فدل على أنه لا يحذف عنده من آخر المندوب غير ذلك، وبذلك ظهرت مخالفته للكوفيين في حذفهم همزة التأنيث، فيقولون: يا زكرياه، وفي رجلٍ اسمه (حمراء) يا حمراه، وهذا لا دليل عليه، فلا سبيل إلى القول به.

أما الألف فإنها تحذف كما ذكر، فتقول في (موسى): واموساه، وفي (يحيى): يا يحياه، وفي (مثنى): يا مثناه، وكذلك الألف في (ضربها) مسمى به، تقول: واضرباه، وفي (ضربكما): واضربكماه. وكذلك الألف المبدلة من ياء المتكلم عند من يقول: يا غلاما، فتقول: واغلاماه، فتحذف الألف وتأتي بألف الندبة. فقوله: (متلوها) الضمير فيه عائد على "الألف" في قوله: (صله بالألف) و (متلوها) هو السابق عليها الذي يجاورها من حروف الاسم، وذلك الحرف لأخير. وقوله: (إن كان مثلها حذف) يريد: إن كان ذلك المتلو ألفًا مثل الألف اللاحقة حذف، وإنما حذفت ألف الاسم دون اللاحقة، لأنك لما أتيت بها اجتمع ساكنان وهما الألفان، فلابد من حذف إحداهما لأن الألف لا تقبل الحركة، فتحرك إحداهما، وإذا وجب حذف إحداهما، فلو حذفت ألف الندبة لزم من ذلك نقض الغرض فلم يبق إلا حذف آخر الاسم. وأيضا، فإن ألف الندبة سيقت لمعنى يقصد فيها، وألف الاسم لم يؤت بها لمعنى بخصوصه على الجملة، فإذا حذفت بقى دليل عليها وهو ما بقى من الكلمة، وإذا حذفت ألف الندبة لم يكن منها خلف، واختل ما جيء بها لأجله، فلم يكن بد من حذف الألف السابقة. وأيضا، فإن إلحاق ألف الندبة حكم طارئ على الكلمة والقاعدة أن الحكم للطارئ، ولو فرضت الأولى لمعنى لكان إيثار الطارئ أولى. فإن قلت: هلا قلبوها ياء أو واوًا، فحركوها كما فعلوا في التثنية وجمع المؤنث السالم، وهو أولى من الحذف، لأنه رد إلى الأصل؟

فالجواب أن التثنية لابد من الإتيان بعلامتها، فالضرورة داعية إلى تغيير اللفظ لأجلها، بخلاف علامة الندبة، فإنك في إلحاقها وعدم إلحاقها بالخيار، فلم تدع ضرورة إلى تغيير اللفظ، بل صارت الألف تسقط كما سقطت في قولك المثنى الظريف. وأيضا، لو حذفت من المثنى أو المجموع لالتبس بالمفرد إذا قلت: موسان أو حبلات، بخلاف الندبة. وأما التنوين: فيحذف أيضا من آخر الاسم وذلك قوله: (كذاك تنوين الذي به كمل ... من صلةٍ أو غيرها) يعني أن التنوين اللاحق في آخر تكملة الاسم كانت تلك التكملة صلة الموصول أو غير ذلك، من ممطول، أو مركب، أو مضاف ومضاف إليه، أو معطوف ومعطوف عليه- لابد من حذفه أيضا عند لحاق ألف الندبة، فتقول: وامن أكرم زيداه، وامن ضربه عمراه، أو تأبط شراه، وازيدا وعمراه، واغلام زيداه، وهذا رأي البصريين. وأجاز الكوفيون إثبات التنوين (التابع لحركة الإعراب، فيقولون: واغلام زيدنيه أو زيدناه- بتحريك التنوين) بالكسر أو الفتح. وذلك غير موجود في الكلام، فلا يعول عليه. وإنما حذف التنوين معها، وإن كان الأصل أن يثبت ويحرك لالتقاء الساكنين، لأن ألف الندبة ليست بمنفصلة من المندوب، ولا في تقدير الانفصال، وإنما يثبت التنوين إذا كان الساكن منفصلا أو في تقدير الانفصال ألا ترى أنك تقول: زيدون العاقل، فتثبته محركا لأن

الساكن منفصل. وكذلك: أزيد نيه (في مدة الإنكار، يثبت التنوين، لأن علامة الإنكار في تقدير الانفصال. فإن قلت: كيف تفرق بين المدتين وهما على حد واحد، لأنهما أتيا بهما لمد عرض آخر الاسم، فإما أن يكونا عندك في تقدير الانفصال فيجيء منه قول الكوفيين، وإما أن يكون معا متصلين فيحذف التنوين في أزيدنيه)، وهو خلاف الإجماع. وأما التفرقة فلا يظهر لها وجه، فكان تحكما؟ فالجواب: أن التفرقة بينهما قد ظهرت في استعمال العرب. كما تقرر، فلو كانا معا على حد واحد في الاتصال أو الانفصال لم يفرقوا بينهما، فاستدللنا بتفرقتها على أن الحكم عندها كما قال البصريون، وهذا من باب "الاستدلال بالأثر على المؤثر" ولذلك قالت العرب: أزيدانيه، ففصلت بـ (إن) حقيقة. ووجه التفرقة من جهة المعنى. أن في الإنكار شيئًا من الحكاية، لأنه جارٍ مجرى الاستثبات، ولذلك جاء بهمزة الاستفهام بحركة الإعراب المتقدمة في الكلام المنكر، ولابد إذ أتيت، وحافظت عليها، وجعلت المدة تابعة لها، أن تحافظ على تمام الاسم، ومن تمامه التنوين، كما حافظت على ذلك في الحكاية، بخلاف الندبة، فإن القصد مجرد مد الصوت، وعلى ذلك بني الكلام لا على حكايته، فكانت المدة مبنيًا عليها قصدا، فلم يكن بد من البناء عليها حكما، والتنوين لا يلحق وسط الاسم، فتعين حذفه والله أعلم. وسيذكر حذف الياء بعد.

وقوله: (نلت الأمل) دعاء للمخاطب، كمل به البيت، وهذا النوع، من التكميل الذي لا يفيد معنى، قليل جدا في هذا النظم. ثم قال: (والشكل حتمًا أوله مجانسا) إلى آخره، يعني بالشكل الحركة، والحتم: اللازم، وأراد الحركة اللازمة التي هي حركة بناء. و"لازمًا" حال من هاء "أوله" أو من "الشكل". وتقدير الكلام: أول الشكل مجانسًا من الحروف حالة كونه لازما. ومعنى "أوله" اجعله يليه. والمجانس هو المشاكل، وهو هنا حرف المد الذي يتبع الحركة إذا مطلت، كالألف للفتحة، والواو للضمة، والياء للكسرة، فإذا مطلت الفتحة صارت ألفًا، أو الضمة صارت واوًا، أو الكسرة صارت ياء، كما قال الشاعر: *أعوذ بالله من العقراب* وقال: *من حيثما سلكوا أدنو فأنظور*

وقال: *نفى الدراهيم تنقاد الصياريف* [فإذا]، كانت الحركة مع حرف المد هكذا سميت مجانسة لها. ويريد أن آخر المندوب إما أن يكون ساكنا أو متحركا، فإن كان ساكنا ألحقت الألف، فتحرك ذلك الساكن بالفتح لضرورة لألف وذلك إذا كان يقبل الحركة، كالقاضي والداعي إذا ندبته فقلت: يا قاضياه، مالم يكن تنوينا أو ياء المتكلم، فإن التنوين- كما قال- يحذف، وياء المتكلم سيأتي ذكرها أن شاء الله. فإن لم يقبل الحركة فلا بد من حذفه كالألف، وقد تقدم. فإن كان متحركا فإما أن تكون الحركة إعرابية أو بنائيًة، فإن كانت إعرابية ألحقت الألف ولم تعتبرها، وذلك داخل تحت قوله: (ومنتهى المندوب صله بالألف) وقد تقدم ما يظهر منه عدم اعتبار حركة الإعراب. وإن كانت بنائية فإما أن يكون إلحاق الألف للاسم يوقع في المندوب لبسًا أولا، وذلك بأن يعوض من تلك الحركة الفتحة لأجل الألف. فإن لم يوقع لبسا

فحكمها حكم حركة الإعراب في عدم اعتبارها، فتقول: يا زيد يا زيداه، ولا تقول: يا زيدوه، كما تقول: أعمروه في الإنكار، لأن الألف هي الأصل كما تقدم فإذا قدر على إلحاقها وفتح ما قبلها من غير معارض لم يعدل عنه، وكذلك تقول في (رقاش وحذام): وارقاشاه واحذاماه، ولا تقول: واحذاميه، ولا يا رقاشيه، لعدم اللبس. وأجاز ذلك الكوفيون، أعني في الكسرة. وما قالوه لم يسمع من كلامهم، فلا تسمع دعواهم، وهذا حكم المضاف إلى ياء المتكلم على لغة من قال في (النداء): يا غلام- بالكسر- أو يا غلام- بالضم- فالضم والكسر ليسا بإعراب، مع أنهما غير معتبرين، فإنك تقول: يا غلاماه، لأن الكسر لا يقع بـ (غلام) المنكر لأنه لا يندب. وإن كان الفتح وإلحاق الألف يوقع لبسًا فاترك آخر المندوب على حاله من ضم أو كسر، وأتبعه من حروف المد ما يجانس تلك الحركة، فتأتي بعد الضم بالواو، وبعد الكسر بالياء، وهو قوله: والشكل حتمًا أوله مجانسا ... إن يكن الفتح بوهمٍ لابسا يعني باللابس الخالط، يقال: لبست عليه الأمر ألبسه، إذا خلطته عليه، فلم يعرف وجهه. ومنه قوله تعالى: {وللبسنا عليهم ما يلبسون}، أي إن يكن الفتح يلبس المقصود من الكلام بما يذهب إليه الوهم وهو غير مقصود.

والوهم: ذهاب ظن الإنسان إلى الشيء وهو يريد غيره، يقال: وهمت في الشيء- بالفتح أهم وهما، بالإسكان، إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره. وأما (وهم في الحساب) فهو بالكسر، يوهم وهمًا- بالفتح- إذا غلط وسها فيه، فهو غير الأول، فإتيان الناظم بالوهم الساكن الهاء صواب. ومثال ذلك ما إذا ندبت: غلامك، أو علامكم أو غلامه، أو غلامهم، وما أشبه ذلك، فإنك تقول: واغلامكيه، واغلامكموه، واغلامهموه. ولا تقول: واغلامكاه، فإنه يلتبس بندبة غلامك- بفتح الكاف- واغلامكماه لأنه يلتبس بندبة غلامكما، وكذلك ما بقى. وقد تحصل من هذا أنك إذا سمعت في كلام العرب (واغلامكاه) علمت أن الكاف كانت مفتوحة خطابًا للمذكر، وكذلك (واغلامهاه)، تعلم أنه ضمير المؤنث، وكذلك (واغلامكماه)، هو ضمير المثنى، وما أشبه ذلك مثله. واعلم أنه قد مر آنفا أن آخر المندوب إن ألحق الألف فوقع اللبس امتنع ذلك، وأتيت بمجانس الحركة، وكان عنده المثنى، حسبما ذكر في "الشرح"، مما يقع فيه اللبس إن لحقته الألف، كان من الداخل في هذا الحكم، فالأولى عنده أن يقال في الزيدين: وازيدنيه، خلافا للبصريين المانعين هذا. قال في "الشرح": والبصريون يلتزمون فتح نون التثنية في

ندبة المثنى، فيقولون: يا زيداناه، والكوفيون يجيزون هذا، ويجيزون أيضًا: يا زيدانيه قال: وهو عندي أولى من الفتح وسلامة الألف لوجهين: أحدهما: أن في الفتح وسلامة الألف إيهام أن اللفظ ليس لفظ تثنية، وإنما هو من الأعلام المختتمة بألف ونون مزيدتين كسلمان ومروان. والثاني: أن أبا حاتم، حكى أن العرب تقول في نداء "هن" مثنى: يا هنانيه، ولم يحك: يا هناناه، والقياس إنما يكون على ما سمع لا على ما لم يسمع، هذا ما قال. وهو يشير إلى التزام الكسر خلافا لمن التزم الفتح أو أجاز الوجهين، وهم أهل البصرتين. فإن كان مذهبه هذا، فهو حرٍ بأن يدخل المثنى تحت قوله: (أوله مجانسا) إن كان ثم لبس. وقد زعم أن هذا ملبس، فلا مرية في أرادته. ثم يبقى عليه سؤال: وهو أنه قدم أول الفصل أن آخر المندوب تلحقه الألف، وأن الألف والتنوين يحذفان لها، وذكر هنا أن الحركة اللازمة تتبعها المدة عند خوف اللبس، فأعطى مجموع الموضعين أن ما آخره ياء، سوى ما يذكره إثر هذا، أو واو لا يحذف بل يحرك بالفتح للألف اللاحقة، فتقول في نحو (قاموا) أو (قومي) مسمى بهما: واقامواه، واقومياه، وكذلك في (ضربتني) على لغة من أثبت الياء: يا ضربتنياه، وفي (ضربني): واضربنياه إلى أشباه ذلك، كما تقول في (القاضي) يا قاضياه، وفي (غلامي) في أحد الوجهين: واغلامياه. وهذا كله باطل لا يقوله عربي، وإنما حكمه أن تتبع الحركة بمجانسها، فإذا اجتمع المثلان من الياءين أو الواوين، كان الحكم

حكم الألفين، وذلك حذف إحداهما فتقول: واقاموه، واقوميه، واضربتيه، واضربنيه. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يقال: لعله رأى نظر المبرد في هذا متوجها، وذلك أن المبرد ألزم سيبويه القول بتحريك الواو والياء، كما حركها مع ياء المتكلم، وأن يقول: واضربواه، واضربتنياه، ونظائره. وتابعه عليه ابن ولاد المستنصر لسيبويه، وقال: هذا الفصل صحيح، ولا جواب في هذا أحسن منه، فكأن ابن ولاد مال إلى هذاـ، وجعله رأيا صحيحا، فيمكن، على بعده، أن يذهب إليه، والثاني: أن الواو والياء في هذه المواضع لم يعتبرها لعدم اعتبار ما هي فيه، لأن قصده في هذا الباب الكلام على المشهور الاستعمال من الأسماء التي شأنها أن تندب، ولاشك أن لمشهور منها في الاستعمال ما آخره ألف أو تنوين أو ياء متكلم، أو ياء أصلية. فالأصلية كالقاضي حكمها ظاهر. وياء المتكلم الثابتة الساكنة سيذكرها. وما آخره ألف أو تنوين قد ذكره. وما سوى ذلك دخيل في الكلام، غير مستعمل عند العرب، وإنما أجرى الناس فيه القياس كيف كان لو سمي بـ (قومي، أو ضربتني، وقاموا) ونحو ذلك مما هو نادر الاستعمال، غير ضروري الذكر.

وأيضاً، فما آخره واو من المعربات لا يوجد في الكلام إلا أن يسمى بجملة فيها ضمير رفع اختتمت به. وهذا كله وظيفة أرباب المطولات، ولذلك لم يبوب في هذا النظم على "باب التسمية" فلا ينبغي أن يمثل له هذا الفصل إلا بما هو مستعمل عند العرب؛ وإذا ذاك لا يبقى عليه في المسألة إشكال. وهذا هو الأولى في الجواب، وهو مقصد في كلامه حسن، وتنقيح لمحل الفائدة وإنما مثل فيما آخره الحركة بـ (غلامه وغلامكم وغلامهم) لتحرك الآخر في الأصل، وسقوط الصلات في أكثر الكلام، وإلا فـ (غلامُكَ، وغلامُكِ) ونون المثنى كافٍ في التمثيل، ويكون (غلامه وغلامكم) ونحوه مما لم يقصد لقلة استعماله والله أعلم. وقوله: (إن يكن الفتح بوهم لابسًا) أتى بـ (يكن) المضارع، وموضعه للماضي، لأنه لا جواب له ينجزم، فلا يؤتى فيه بالمضارع إلا قليلا، وقد تقدم مثله. وكذلك قوله: وواقفًا زد هاء سكت إن ترد ... وإن تشأ فالمد والها لا تزد فأتى بـ (إن ترد) والوجه: إن أردت، و (واقفًا) حال من فاعل (زد) أي زد هاء سكت حالة كونك واقفا. ويعني أنك إذا وقفت على آخر المندوب، وقد ألحقته الألف أو الياء أو الواو، زدت هاًء تقف عليها، وتسمى هاء السكت، فتقول: يا زيداه، يا عبد الملكاه واأمير المؤمنيناه، فتكون تلك الهاء لاحقة للقصد الذي لحقت لأجله في نحو: {يا ليتني لم أوت كتابيه}، لبيان ما قبلها، فإذا لحقت في نحو:

{كتابيه}. فلبيان الحركة، وإذا لحقت الألف في الندبة فلبيان الحرف الذي بمنزلة الحركة لضعفه. وقوله: (إن ترد) راجع إلى إلحاق الألف والهاء، فكأنه قال: ومنتهى المندوب صله بكذا مطلقًا، وبالهاء إذا وقفت إن شئت ذلك، وإن شئت فلا تزد شيئا من ذلك، بل تأتي بالاسم المندوب على حده لو كان منادى غير مندوب، فتقول: وازيد، واعبد الملك، واغلام، وما أشبه ذلك، وأنشد سيبويه لابن قيس الرقيات: تبكيهم دهماء معولة ... وتقول سلمى وارزيتيه إلا أن لحاق المدة أكثر، وإن كان الوجهان معًا سائغين، فكأنه قدم أحد الوجهين تنبيها على أولويته. فإن قيل: لِم لَم تحمل التخيير على إلحاق الهاء، وذهبت إلى ذلك المحمل البعيد، وقد لا تلحق الهاء في الوقف، كقول جرير: حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له ... وقمت فينا بأمر الله يا عمرا فوقف بغير هاء كما ترى؟ فالجواب أن الوقف بغير هاء غير معروف في الكلام؛ بل الهاء لازمة في الوقف، وهو مقتضى كلام النحويين.

وأيضاً، فما في بيت جرير لا حجة فيه، لأنه جارٍ مجرى الوصل لا مجرى الوقف، وإلى هذا فهو نادر غير معتد بهب. ثم هنا مسألتان: إحداهما: إنه لما قال: "وواقفًا زد هاء سكتٍ" فقيد ذلك بالوقف، دل بمفهومه على أنها لا تزاد في الوصل، وإنما اللاحق الألف خاصة، وذلك صحيح فتقول: واغلاما أين ذهبت؟ وازيدا من لي بك؟ وأنشد سيبويه لرؤية: *فهي تنادي بأبا وابنيما* هكذا روي في بعض الروايات، حكاية للندبة، وهو كثير. والثانية: أنه لما سماها هاء السكت أفهم ذلك أنها ساكنة لا تحرك، وأنها إذا وصل بها سقطت، وهذا ظاهر، إلا أن يشذ شيء فيحفظ، وينشدون هنا: *يا مرحباه بحمار ناجية* ومنه أيضا:

ألا يا عمرو عمراه ... وعمرو بن الزبيراه على أن يكون هاء "عمراه" متحركة. وقائل واعبدِ يا واعبدا ... مضن في الندا اليا ذا سكونٍ أبدى "من" في قوله: "من في الندا" مبتدأ، و "أبدى" صلته، و "في الندا" متعلق بـ (أبدى) و (أليا) مفعول به، و (ذا سكونٍ) حال من (اليا)، وفاعل (أبدى) هو العائد على (من) (وقائل) خبر المبتدأ، و (واعبديا) وما عطف عليه مفعول (قائل) وحذف العاطف ضرورًة. والتقدير: الذي (أبدى) في النداء الياء ذات سكونٍ قائل في الندبة: واعبديا واعبدا. ويعني أن من لغته من العرب إثبات الياء في (يا عبدي) ساكنًة لا متحركة، فإن له في ندبة هذا المضاف وجهين: أحدهما: تحريك الياء بالفتح، فيقول: واعبدياه، واغلامياه، واسيدياه، لأن الألف لفما كانت ساكنة، والياء ساكنة أيضا، لم يكن بد من تحريك الياء أو حذفها، فحركوها لأن أصلها الحركة، فزال المحظور، فوافق في هذا الوجه لغة من يحرك الياء. والثاني: أن تحذف الياء فتقول: يا عبداه، واغلاماه، واسيداه، وما أشبه ذلك، لأنها لما التقت ساكنًة مع الألف، وقرب شبهها بالتنوين على ما تقرر قبل هذا، حذفوها كما حذفوا التنوين وإن كانت مرادة.

وأما من أثبتها متحركة فلا إشكال في دخولها تحت الأصل المتقدم في قوله: "ومنتهى المندوب صله بالألف" وكذلك لغة من يقول: يا غلام، أو يا غلام، وفي لغة من قال: (يا غلامًا) تدخل تحت الاستثناء بقوله: "متلوها إن كان مثلها حذف". فقد تبين أن خمس اللغات في المضاف إلى ياء المتكلم مأخوذ حكمها من كلامه على اختصاره. وما ذكر في هذه المسألة من جواز الوجهين هو مذهب المبرد. وأما سيبويه فمذهبه تحريك الياء مطلقا في هذه اللغة، لأنه رأى تحريكها، وهي اسم معتبر محافظ عليه، هو الوجه. ولما ذهب إليه الناظم وجه آخر كما تقدم. وكأن تقديمه لقوله: "واعبديا" بإثبات الياء مشعر (بأنه أقوى من الوجه الآخر، وجعله في "شرح التسهيل" على العكس، وأن إثباتها قليل. والظاهر ما أشعر) به هنا. ولذلك لم يذكر سيبويه غيره.

الترخيم

الترخيم الترخيم في اللغة: التسهيل والتليين، رخم منطقها: لان. قال الجوهري: ويقال: هو الحذف. قال ومنه ترخيم الاسم في النداء. والمعروف في أصل اللغة ما تقدم، ومنه بيت ذي الرمة المشهور: لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر أي رقيق الحواشي سهلها. وعلى أصل اللغة، مع الإحالة على الاصطلاح، استعمله الناظم، إذ قال: ترخيمًا احذف آخر المنادى ... كياسعا فيمن دعا سعادا أي تسهيلًا وتيسيرًا. وذلك أن المنادى يلحقه الترخيم تخفيفًا من اسمه إذا طال، لكثرة النداء في كلامهم، ولأنك محتاج إليه أبدًا في كل كلام تخاطب به إنسانا لتعطفه على الاستماع منك لأمرك ونهيك وإخبارك. وترخيمه: نقصه عن تمام الصوت به، فهو في الاصطلاح حذف بعض حروف الاسم، ولذلك قال: "احذف آخر المنادى" ففسره بالحذف، وإنما قال: "آخر المنادى" فقيده بالنداء، لأن ترخيم المنادى هو المطرد في القياس.

وأما غير المنادى فلا يرخم إلا في الضرورة، كما وقع تنبيهه عليه في آخر الباب. وقيد الحذف بالآخر احترازًا من الوسط الأول، فلا يقع فيه ترخيم النداء. وأيضا، فالترخيم بمعنى (الحذف) في اصطلاح النحويين على وجهين: أحدهما: ترخيم النداء هذا، ولا يقع إلا في آخر الاسم كما قال. والآخر: ترخيم التصغير، وهو حذف زوائد الاسم لتقع بنية التصغير على أصول الكلمة، ويسمى التصغير هنالك تصغير الترخيم، وقد ذكره الناظم في بابه فقال: ومن بترخيمٍ يصغر اكتفى ... بالأصل كالعطف يعني المعطفا وهذا قد يحذف فيه الأول كالعطف، والوسط كفطيمة في (فاطمة) والآخر كأريط في (أرطى) وأما المختص بالآخر فهو ترخيم النداء، فلذلك عينه. وأفاد أيضا بقوله: "آخر المنادى" فائدة أخرى، وأحال فيما بعد عليها، وهي الإشعار بأن أصل (الترخيم) أن يكون بحذف حرفٍ واحد، لأن الآخر إنما يطلق بالحقيقة على الحرف الآخر وحده.

وأما ما قبله فلا يطلق عليه أنه الآخر إلا مع الآخر مجازًا لا حقيقة، ولذلك لا يحذف غير الآخر مع الآخر إلا إذا كان معه كالحرف الواحد حسبما يتبين في موضعه إن شاء الله. ومن هنا، والله أعلم، أتى بمثال من الترخيم الذي فيه حذف الآخر حقيقة، وهو (ياسعا) في قولك: (يا سعاد) فحذف الدال. ومثله (يا سعي) في (يا سعيد) و (يا ثمو) أو (ياثمي) في (يا ثمود) و (يا فاطم) في (يا فاطمة) ومن ذلك كثير. وسيأتي بيان الترخيم تفصيلًا، وإنما هذا بيان جملي. وقوله: "فيمن دعا سعادا" يريد: فيمن ناداها. وجوزنه مطلقا في كل ما ... أنث بالها والذي قد رخما بحذفها وفره بعد واحظلا ... ترخيم ما من هذه الها قد خلا إلا الرباعي فما فوق العلم ... دون إضافةٍ وإسنادٍ متم قسم الناظم الاسم المنادي بالنسبة إلى ترخيمه ثلاثة أقسام. قسم لا يحذف منه إلا الحرف الأخير. وقسم يحذف منه الأخير مع ما قبله. وقسم يحذف منه عجزه، ولا يكون ذلك إلا في مركب.

فأما القسم الأول: وهو الذي لا يحذف منه إلا حرف واحد، فهو الذي شرع الآن في ذكره، وجعله على ضربين: أحدهما: ما يحذف منه الآخر من غير شرط، وهو قوله: "وجوزنه مطلقًا في كذا" فأراد بالإطلاق عدم التقييد بشرط، يعني أن ذلك جائز، من غير شرط، في كل اسم مؤنث بالهاء، كان علمًا أو غيره، فتقول في (فاطمة، وعائشة): يا فاطم، ويا عائش أقبلي، ومنه قول امرئ القيس: أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي وقول القطامي، أنشده سيبويه: قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولايك موقف منك الوداعا أراد: أفاطمة، ويا ضباعة.

وتقول في غير العلم: يا مسلم أقبلي، ويا ضارب أقيمي، ومنه قول العجاج، أنشده سيبويه: *جاري لا تستنكري عذيري* وكذلك تحذف الهاء على مقتضى إطلاقه، كان الاسم الذي هي فيه على ثلاثة أحرف أو أقل أو أكثر، فيجوز أن تقول: يا طلح أقبل، ويا ثب أقبلي، إذا سميت امرأة: ثبة. وكذلك يا شا أقبلي، إذا شميت بشاة، وكذلك إذا لم تسم. ومن كلامهم: يا شا ادجني، أراد شاًة بعينها، ومعنى (ادجني) أقيمي. يقال: دجن بالمكان: إذا ثبت وأقام فيه. ولم يكثر الترخيم في شيء كثرته فيما آخره هاء التأنيث، لأن الهاء شيء مضاف إلى الاسم، وليس من بنيه، لأنها لا تعود في جمعٍ مكسر، ولا جمعٍ سالم، كما تعود ألف التأنيث، ولأنها لا يكسر الحرف الذي قبلها إذا وقعت بعد ياء التصغير، كما في: رعيشنٍ وأريطٍ. ودخولها في الكلام أكثر من دخول ألفي التأنيث، فكان حذفها أولى؛ إذ لا يختل الكلام بحذفها.

ثم ختم الكلام فيما فيه الهاء بحكمٍ لابد من ذكره فقال: "والذي قد رخما: بحذفها وفره بعد". يريد أن ما رخم بحذف الهاء لا يجوز أن يرخم بعد ذلك، وإن كان قابلا للترخيم لو لم تدخل الهاء، فلا يجوز أن تقول في (فاطمة): يا فط، ولا في (مروانة): يا مروا، إذا سميت بها ولا ما أشبه ذلك؛ بل يكتفى بحذف الهاء، قلت الحروف أو كثرت، كان ما قبل الهاء زائدًا أولا، وما جاء من ذلك نحو قول العجاج، أنشده سيبويه: لقد رأى الراءون غير البطل ... أنك يا معاويا ابن الأفضل حمله سيبويه والفراء على أنه رخم بعد حذف الهاء، وأن (يا) نداء ثانٍ، لأنه لو كانت الياء من تمام الاسم لم يصلح نعته؛ إذ المرخم لا ينعت. وأجاز الفراء حذف ما قبل الهاء إن كان زائدا، فيجوز عنده في (مروانة) يا مرو، وفي (مرجانة) يا مرج. والسماع بذلك معدوم. ووجه ما قال الناظم: أن ما قبل الهاء إن كان أصليًا، فالمنع ظاهر، لأن الحذف بعد الحذف إخلال، وإن كان زائدا لا يصلح للحذف، كالألف والنون في (مرجانة) فإنهما صارا بدخول الهاء عليهما كالأصلي الذي ليس بزائد. ومن هاهنا احتج سيبويه على الفراء بأنه لو جاز حذف الزوائد لكان ينبغي أن يقول في (فاطمة) يا فاط.

قال: من قبل: أن الهاء لو لم تكن بعد الميم لقلت: يا فاط، كما تقول: يا جارِ، فأنت تحذف ما هو من نفس الحرف، كما تحذف الزوائد. يعني: وهذا لا يقال باتفاق من الخصمين، فكذلك ينبغي في الزوائد التي قبل الهاء. وقوله: "وفره" أي استكمله واستوف حروفه، ولا تحذف منه بعد حذف الهاء شيئا. يقال: وفرت عليه حقه، إذا استوفيته له، وهذا من ذلك، لأن عدم الحذف منه استيفاء له، واستكمال لحروفه. هذا تمام الكلام على هذا الضرب. ويظهر أن الناظم أخل به من جهة عدم الاشتراط فيه، وذلك أن المؤنث بالهاء يشترط في ترخيمه بحذفها سبعة شروط: أحدها: ألا يكون مضافًا ولا مضافًا إليه المنادى، لأن المضاف إليه من المضاف بمنزلة الصلة من الموصول، وإذا رخمت فإما أن يقع الترخيم في آخر المضاف أو في آخر المضاف إليه، فإن وقع في آخر المضاف فقلت مثلا في (ضاربة زيدٍ): يا ضارب زيدٍ، لم يصلح، لأن الترخيم لا يقع إلا في المغير في النداء، وذلك المفرد المبني، لأن النداء لما غيره وصيره مبنيا بعد أن كان معربا في غير النداء تجرؤوا عليه، فغيروه بالترخيم، (لأن النداء باب تغيير، والترخيم تغيير، والتغيير عندهم يا نس بالتغيير، فما لم يتغير بالنداء لا يتغير بالترخيم) وهذا من ذلك. وأيضا، فإن الاسم المضاف لم يتم دون المضاف إليه، فلو رخم المضاف لم يكن الترخيم آخر، ولوقوع الالتباس بـ (ضارب زيد) وهو في هذا الباب محظور كما في غيره.

وإن وقع في آخر المضاف إليه فقد وقع في غير منادى لأن المنادى إنما هو المضاف، وأما المضاف إليه فسيق لتعريف المضاف أو تخصيصه، فليس به وما جاء من الترخيم فيه فشاد كقول رؤبة، أنشده سيبويه: إما تريني اليوم أم حمز ... قاربت بين عنقي وجمزي أراد: أم حمزة، وأنشد أيضا لزهير: خذوف حظكم يا آل عكرم واذكروا ... أواصرنا والرحم بالغيب تذكر وأنشد الكوفيون:

أيا عرو لا تبعد فكل ابن حرةٍ ... سيدعوه داعي ميتةٍ فيجيب وما أشبه المضاف مثل المضاف، فلا يجوز أن يقال في (ضارب طلحة): يا ضاربًا طلح، ولا في (ضاربة زيدًا): يا ضارب زيدًا، وما أشبه ذلك. والثاني: ألا يكون نكرة غير مقصودة بالنداء، فلا يقول في (مسلمة) إذا ناديتها نداء التنكير: يا مسلم خذ بيدي، ولا في (امرأة): يا امرأ خذ بيدي، إذا ناداها الأعمى، لأن المنادى هنا لم يتغير في النداء، فلا يلحقه تغير الترخيم كما تقدم. والثالث: ألا يكون موصولا نحو: يا من هي ضاربة، فلا يقال: يا من هي ضارب، ولا ضارب، لأن (ضاربة) ليس بمنادى، وإنما جيء به في الصلة بينًا للمنادى. والرابع: ألا يكون مركبا بواحد من التراكيب الثلاثة: أما (تركيب المزج) فكما إذا سميت رجلا بـ (خمس عشرة) فإنك لا تقول: يا خمس عشر، فتحذف الهاء، وإنما تقول: يا خمس، إذا رخمت فتحذف العجز. وأما (تركيب الإسناد) فلا يرخم بحذف الهاء أبدا، فلو سميت رجلا: (جاء طلحة) لا تقول: أصلا لأنه، إما أن يلتزم فيه منع الترخيم رأسا، كما ظهر من سيبويه في أبواب الترخيم، فلا يرخم بحذف هاء ولا غيرها، لأنه مما لا يغيره النداء، فلم يغير بالترخيم، فصار كالمضاف وغيره.

قال سيبويه في "تأبط شرًا" ونحوه: ولو رخمت هذا لرخمت رجلا يسمى: *يا دارعبلة بالجواء تكلمي* وإما أن تبنى على دخول الترخيم فيه: فلا يكون إلا بحذف العجز كله؛ لا بحذف الهاء، فالترخيم بالهاء لا يدخله البتة، لأن ما لحقه الهاء ليس هو المنادى. وأما (تركيب العطف) كما لو سميت رجلا بـ (عمرو وطلحة) فلا يرخم أيضا، لأنه في النداء معرب كالمضاف إليه والمنكر. وأيضا، فإن الهاء ليست في آخر المنادى، وإنما هي في آخر الكلمة المركبة مع ما قبلها فلا تقول: يا عمرًا وطلح، ولا: يا زيدًا وحمز. والخامس: ألا يكون مندوبا، فلا تقول في (واطلحة): واطلح، ولا في (واحمزة): واحمز لأن علامة الندبة، وهي الألف، إن ألحقت فيه، فإذا حذفت صار ذلك جمعًا بين حذفين وهو إجحاف. وأيضا، ففي حذفها بعد الإتيان بها نقض الغرض، لأنه إنما أتى بها لمد الصوت، والترخيم قصر للصوت بالمندوب، ولأنها، أعني الألف، كالتنوين، فإذا ثبتت لم تحذف قاله سيبويه. وإن لم تلحق الألف فهي بصدد أن تلحق، ولذلك كان الأكثر إلحاقها، فصار المندوب كأنه محذوف منه، فلا يكرر عليه الحذف. والسادس: ألا يكون مستغاثا ولا جاريًا مجراه وهو المتعجب منه، فلا يقال في (طلحة): يا لطلح، ولا في (حمزة): يا لحمز، إذا كان مجرورا باللام، فأشبه المضاف إليه، ولأنه لم يتغير في النداء، فلم يصح تغييره بالترخيم.

والسابع: ألا يكون موصوفا، لأن الترخيم حذف آخر الاسم للعلم به، والصفة بيان للموصوف لعدم العلم به، فهما متدافعان، ولذلك قال سيبويه في: *أنك يا معاوية بن الأفضل* إنه ترخيم بعد ترخيم. وقد نص على هذا الرماني، وتبعه ابن خروف، وقال في البيت: لا يصلح فيه النعت لأنه منادى مرخم، فهو في نهاية التعريف، فنعته بعيد، فعلى هذا يكون قول يزيد بن مخرم، أنشده سيبويه: فقلتم تعال يا يزي بن مخرم ... فقلت لكم إني حليف صداء أراد يزيد بن مخرم- شاذًا. ويجري مجرى النعت على هذا التقدير التوابع كلها، من العطف البياني، والتوكيد، إلا البدل، ففيه بحث، وإلا العطف النسقي، فإن كل واحد منهما، أعني من المعطوف والمعطوف عليه، مستقل بالعامل من جهة المعنى، وفيه نظر أيضا.

فهذه الشروط السبعة في ترخيم (المؤنث بالهاء) لازمة لابد منها، وأكثرها مشروط فيما ليس فيه الهاء مما يرخم بحذف آخره، كما سيذكر بحول الله. والناظم لم ينبه على شيء منها، وإنما نبه على اشتراط (النداء) في مطلق الترخيم خاصة. ثم إن في كلامه إيهامًا بمفهوم، لأنه اشترط فيما ليس فيه الهاء ألا يكون مضافا ولا ذا إسناد، فاقتضى، حين خص به هذين الشرطين، ألا يشترطان في ذي الهاء، كما أنه لما اشترط الزيادة على الثلاثة والعلمية أفهم ذلك أنهما لا يشترطان أيضا في ذي الهاء. واعلم أن هذه الشروط المذكورة التي لم ينص عليها راجعة في التحصيل إلى ثلاثة شروط، وهي أن يكون منادى، قد تغير في النداء بالبناء، غير مندوب. فأما كونه منادى فقد نص الناظم عليه أول الباب بقوله: "ترخيمًا احذف آخر المنادى" فيسقط به من الشروط السبعة: الأول، والثالث، والرابع، والسادس على وجه. أما الأول: فلأن الترخيم إنما يلحق آخر المضاف إليه، وهو تمامه. وإليه ذهب أهل الكوفة حسبما يذكر إن شاء الله، والمضاف إليه منادى، كما تقدم في توجيهه، وإنما المنادي: هو الأول، فخرج باشتراط النداء. ولا يلحق آخر المضاف لأن المضاف إليه من تمامه كالتنوين، فليس بآخر الاسم، والترخيم إنما يلحق آخر الاسم. وأما الثالث: فكذلك أيضا، لأن الصلة ليست هي ولا جزء منها منادى، والمنادى هو الموصول، فقد خرج هذا باشتراط النداء.

وأما الرابع: فكذلك، لأن الجزء الأخير من المركب هو الذي آخره الهاء، وليس بمنادى؛ بل المنادى هو المجموع، والهاء لا تنسب إلى المجموع؛ إذ ليس شأن الهاء أن تدخل على الجملة أو ما أشبهها، وإنما تدخل على المفرد، والمفرد في نفسه غير منادى، فخرج هذا أيضا باشتراط النداء. وأما السادس: فإن سيبويه شبه المستغاث الداخل عليه اللام بالمضاف إليه، لأنه مجرور مثله، فكأنه غير منادى؛ إذ لم تعمل أداة النداء في لفظه وإنما عملت في موضعه. ويقوى هذا قول من يقول: إن اللام متعلقة بفعلٍ مقدر لا بـ (أنادي) ولا بـ (يا) وكأنه يقول: ألجأ لزيدٍ، إذا قلت: يا لزيدٍ. وقد يكون هذا الشرط راجعا إلى الشرط الآخر، وهو أن يكون قد تغير بالنداء، فقد سقطت إذًا الشروط الأربعة باشتراط النداء. وأما الشرط الثاني: من السبعة، وهو الثاني من الثلاثة، فالاعتراض به لازم على الناظم وكذلك السادس؛ إن لم تعتبر شبه المستغاث بالمضاف إليه، وهو داخل تحت شرط حدوث البناء بالنداء. وأما الشرط الخامس من السبعة، وهو الثالث من الثلاثة، فلازم له كذلك؛ إذ ليس له ما يخرجه. وأما السابع فمنازع في اشتراطه. وأجاب الشلوبين بأنه قد يتوجه العلم المشترط في الترخيم على الاسم، وعدم العلم على المسمى، فلا يتدافعان.

وأما بيت سيبويه: فلعله إعراب من سيبويه، إذ كان الوجه الآخر لا غرابة فيه، أو لعله اختيار منه لذلك الوجه، لأنه موضع مدح، فتكرير النداء فيه أفخم من الإتيان به وصفا، هذا ما قال. ويقويه أن سيبويه أنشد: *فقلتم تعال يا يزي بن مخرمٍ* على أنه ليس من الشاذ؛ بل على أنه من الجائز بإطلاق، وهو مع ترخيم الهاء أجوز. ومثله قول امرئ القيس: أحار بن عمروٍ كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يا تمر وهذا الشاهد دال على جواز ترخيم الموصوف من باب الأولى، لأنه من الموصوف بـ (ابن) وتقرر في الكلام صيرورة (ابن) مع الموصوف في حكم المركب، بدليل حذف التنوين، فإن كان هذا يجوز ترخيمه، فمن باب أولى جواز ترخيم نحو: يا طلحة الفاضل، حارث الفاضل، فتقول: يا طلح الفاضل، ويا حار الفاضل، وكذلك المعطوف، والمؤكد، والمبدل منه.

فالحاصل: أنه ترك من الشروط الثلاثة شرطين. فلو قال أول الباب مثلا: ترخيمًا احذف آخر المبني في ... ندى سوى المندوب فالحذف كفي - لحصل له في ذلك الشروط الأول المذكورة في حذف آخر الكلمة، فيكون ما يذكره بعد من الشروط تاما. وفي قوله: "وجوزنه" أي الترخيم ما يبين أن ذلك ليس بلازم؛ بل هو من الجائز الموقوف على الاختيار الذي لك تركه وإبقاء الاسم على حالة تامًا إن شئت، وهذا حسن من التنبيه. *** والضرب الثاني: من المرخم الذي لا يحذف منه إلا حرف واحد، وهو ما لا يحذف منه ذلك الحرف إلا بقيود وشروط، وذلك (ما ليس فيه الهاء) فقال فيه: "واحظلا ترخيم ما من هذه الها قد خلا" إلى آخره. يعني بـ (الحظل) المنع، وهو بالظاء المشالة، يقال: حظل عليه الأمر يحظله- بالضم- إذا منعه منه، حظل الشيء، إذا كف بعضه، والحظل: المنع من التصرف والحركة، أي امنع ترخيم كذا. ويريد أنه لا يجوز ترخيم ما لم يكن مؤنثًا بالهاء إلا بشروط ثلاثة: أحدها: أن يكون رباعيًا فما فوقه، كان رباعيا مع زوائد تلحقه أولا، فلا يريد أن يكون رباعيا بالنسبة إلى الحروف الأصول فقط، وكذلك فيما فوق الرباعي، فيجوز لك في (القاسم) يا قاس، وفي (مالك) يا مال، وفي (أحمد) يا أحم، وفي (سعيد) يا سعي. كما يجوز في (جعفر) يا جعف، وفي (فرزدق) يا فرزد.

والترخيم هنا إنما هو كما قال أولًا، بحذف الحرف الأخير وحده؛ إذ هو الذي أشار إليه أولا، فلابد من استصحابه. فلو كان الاسم ثلاثيا لم يجز ترخيمه بمقتضى مفهوم هذا الشرط، فلا يقال في (يا زيد): يا زي، ولا في (قمر) اسمًا: يا قم، ولا نحو ذلك. وما قرره رأي البصريين. وذهب الكوفيون إلى جواز ترخيمه بشرط أن يكون محرك الوسط، إلا الكسائي منهم، فيمتنع عندهم: يا زي في (يا زيد) ويجوز في (أسد، ونمر، وزفر) يا أس، ويا نم ويا زف. وهذا مردود بالقياس والسماع. أما القياس: فإن الاسم المرخم عند العرب لابد أن يبقى بعد الترخيم على صورة الأسماء المعربة قبل: الترخيم، من كونه على ثلاثة أحرف فأكثر، لأن الأسماء المعربة لا تكون على أقل من ذلك إلا ما حذف منه، كابنٍ واسمٍ ودمٍ ويدٍ، وهو نادر. وأما السماع: فإن العرب لم تترك مرخما في النداء إلا على ثلاثة أحرف فأكثر، ولم يوجد لها اسم تركته بعد الترخيم على أقل من ذلك، فكان ما يؤدي إلى مخالفة السماع مطرحا، وقد احتجوا على أنه بعد الحذف يبقي على حرفين بأنه وجد في الأسماء ما هو على حرفين، حذف الثالث منه تخفيفا، كيدٍ ودمٍ وأخواتهما، فكما حذف من (يدٍ ودمٍ) تخفيفا إن قلنا: إنهما على (فعل) في الأصل، وكان ذلك في غير النداء، فكذلك في النداء وهو أولى.

ويؤيد ما قالوه: أن العرب حذفت من الرباعي المزيد حتى صار على حرفين أصليين نحو: يا قاس، ويا حار في (قاسم، وحارث) وكذلك الباب كله، وليس في كلام العرب اسم يتكمل ثلثه بالزائد مستقلًا بنفسه إلا في الترخيم، فكذلك ما نحن فيه، فإذا جاز هذا جاز الآخر، وإن امتنع [الآخر] امتنع هذا، لكنه غير ممتنع باتفاق، فليكن هذا مثله. وأجيب عن ذلك: بأن تلك الأسماء المحذوفة قليلة الاستعمال، غير قابلةٍ للقياس، فلا يلتفت إليها. والفرق بين نحو (نمر، وزفر) ونحو (قاسم، ومالك) أن نحو (مالك، وقاسم) محفوظ الصورة التي ينتهي إليها، وهي صورة الثلاثي، بخلاف نحو: (نمر، وزفر) فإنها غير محفوظة. ومن شأنهم في المحافظة على الثلاثي أن يعتبروا الزائد حتى يكون هو ثالث الحروف. ألا ترى أنهم يجتزئون به في إقامة بنية التصغير، فيقولون في تصغير (هارٍ): هوير، وفي ميت: مييت، وما أشبه ذلك، فلم يردوا الأصل اجتزاءً بالزائد في إقامة بناء الثلاثة في الصورة، فكذلك هذا، فهو غير مستنكر في كلامهم، ويستنكر أن يصير بناء الثلاثة إلى بناء الحرفين من غير ضرورة، وذلك لأنهما التزموا أن لا يجاوزوا الثلاثة، لأن قصدهم في الترخيم أن يقربوا الاسم إلى بنات الثلاثة، فما كان على خمسة أخرف صيروه إلى الأربعة، وما كان على أربعة صيروه إلى الثلاثة،

والثلاثة أخف الأسماء عندهم، فكرهوا أن ينتقصوه؛ إذ كان قصدهم أن ينتهوا إليه. والقاطع في المسألة عدم السماع بما قال الكوفيون. وقول الناظم: "فما فوق" مقطوع عن الإضافة، أي فما فوق الرباعي، وهو الخماسي والسداسي والسباعي. والشرط الثاني: أن يكون الاسم علما كجعفر وقاسم وخالد، فتقول: يا جعف، ويا قاس، ويا خال. وقد كثر الترخيم في بعض الأعلام لكثرة دورانها، قال سيبويه: وليس الحذف لشيءٍ من هذه الأسماء ألزم منه لحارثٍ ومالكٍ وعامرٍ، وذلك لأنهم استعملوها كثيرا في الشعر، وأكثروا التسمية بها للرجال. وأنشد قول مهلهل بن ربيعة: يا خار لا تجهل على أشياخنا ... إنا ذوو السورات والأحلام وأنشد أيضا لامرئ القيس:

أحار ترى برقًا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل وأنشد للنابغة: فصالحونا جميعًا! إن بدالكم ... ولا تقولوا لنا أمثالها عام قال: وهو في الشعر أكثر من أن أحصيه. انتهى. وقرئ في الشاذ: "ونادوا يا مال ليقض علينا ربك". وقد جاء في غير هذه الأسماء، وهو جائز فيها، كقول يزيد بن مخرم: *فقلتم تعال يا يزي بن مخرمٍ* البيت. وأنشد سيبويه لمجنون بني عامر: ألا يا ليل إن خيرت فينا ... بنفسي فانظري أين الخيار

أراد: يا ليلى. وأنشد لأوس بن حجر: *تنكرت منا بعد معرفة لمى* أراد: لميس، وهو كثير أيضا. وهذه الأمثلة صالحة للشرط الأول والثالث أيضا لاشتمالها على الجميع. فإن كان الاسم غير علم لم يصح ترخيمه، فلا تقول في (ضارب): يا ضار، ولا في (مسلم): يا مسل. وإن جاء في ذلك شيء فشاذ لا يقاس عليه، وذلك قولهم: يا صاح، يريد: يا صاحب، لأنه لما كثر استعمالهم لهذا اللفظ فحذفوه، كما حذفوا (يك، ولا أدر، ولم أبل) وكذلك قولهم: (يافل) إن قلنا: إنه مرخم من (فلان) وهذا أقرب إلى العلمية؛ بل هو من الأعلام، وهو بعد من الفصل الذي يلي هذا وإنما التزم ألا يقع هذا العمل إلا في علم، لأن الأعلام أكثر في كلامهم، وهم لها أكثر استعمالا، ولأجل ذلك حذفوا منها في غير النداء، كقولهم: هذا زيد بن عمروٍ، بحذف التنوين، ولم يقولوا: هذا غلام ابن أخيك، ولا هذا زيد بن أخيك، لما لم يكثر كثرة الأول، ففي النداء أولى أن يحذفوا؛ إذ هو محل التغيير لكثرة الاستعمال.

والشرط الثالث: أن يكون مفردا ليس بمضاف، ولا أصله الجملة، وذلك قوله: "دون إضافة وإسناد متم" أي قد تم ذلك العمل من غير أن يكون فيه إضافة ولا إسناد كالأمثلة المتقدمة، فإن كان مضافا، ويدخل فيه ما أشبه المضاف، أو مركبا تركيب إسناده، لم يصح أن يحذف من آخره شيء، فلا يجوز أن يقال في (ابن مالك): يا ابن مال، ولا في (صاحب جعفر): يا صاحب جعف. وأيضا، فلا يقال في (تأبط شرًا): يتأبط شر، ولا نحو ذلك. ويدخل له هنا العلم المركب تركيب مزج، فإنه يرخم ولك على ما يذكر بعد هذا من حذف عجزه، فلذلك لم يخرجه عن الترخيم جملة، ووجه ذلك ما تقدم. وقال السيرافي: لما كان المفرد حكمه في غير النداء مخالفًا لحكمه في النداء، وكان الترخيم إنما سوغه النداء جاز فيه، بخلاف غير المفرد، فإنه لما كان حكمه في النداء وغيره حكمًا واحدا لم يؤثر فيه الترخيم، من حيث كان الترخيم لا يجوز في غير النداء. وقد جاء الترخيم في المضاف في آخر المضاف إليه شاذا، أنشد سيبويه:

أسعد بن مالٍ ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقل يصدق وكذلك شذ في آخر المضاف، لكن في الهاء، أنشد المؤلف في ذلك: *يا علقم الخير قد طالت إقامتنا* وهذا يمكن أن يكون على طريقة المؤلف في حذف الهاء للإضافة، كما قال في نحو: {وإقامِ الصلاة}. وقوله تعالى: {لأعدوا له عدهُ} على قراءة معاوية ومحمد بن عبد الملك بن مروان. والذي يثبت من ذلك في الشذوذ الأول. وقد تعلق بذلك الكوفيون، وبأبياتٍ نحوه لا تخرج عن الشذوذ، فأجازوا ترخيم المضاف في آخر المضاف إليه، ولا وجه لذلك إلا ما يلزم مثله في الترخيم من غير النداء، فإن أجازوا هنا الترخيم، أعني في آخر المضاف إليه والمضاف [إليه] ليس بمنادى، وإنما سيق لتعريف الأول أو تخصيصه- كان ينبغي أن يجوز ذلك قياسا أيضا في غير النداء، وهذا لا يكون، ولا أعلم في المنع من ذلك خلافا، فالصحيح ما ذهب إليه الناظم والبصريون. والله أعلم.

وفي هذا الموضع على الناظم نحو مما عليه في المسألة قبلها، فإن ما ليس فيه الهاء يشترط فيه، زيادًة على ما ذكره، خمسة شروط: أحدهما: ألا يكون موصولا، فلا يجوز حذف آخر الصلة. فإن قلت: هذا الشرط يخرج باشتراط العلمية لأن الموصول ليس بعلم- فالجواب: أنه ليس بخارج، لأنه قد يكون علما وهو موصول، وذلك إذا سمى به، فقد نص سيبويه في أبواب "ما لا ينصرف" على أن الموصول، إذا سمى به، جارٍ مجراه قبل التسمية به، لأنه اسم مفرد ليس بجملة، ولذلك أجرى (الذي قام أبوه) مجرى (الضارب أبوه) فلم يدخل (يا) عليه، وإذا كان كذلك صح أن اشتراطه صحيح. والثاني: ألا يكون مركبا تركيب مزج؛ إذ لا يجوز: يا معد يكر، ولا يا مار سرج في (معدى كرب، ومارسرجس) ونحو ذلك. وكذلك إذا سميت بخمسة عشر، فإنما يكون الترخيم فيه بحذف عجزه. وكذلك يشترط ألا يكون تركيبه من معطوف ومعطوف عليه، كرجل سميته بـ (زيدٍ وعمروٍ) وقد تقدم بيان امتناع ترخيم هذين النوعين. والثالث: ألا يكون مندوبا. والرابع: ألا يكون مستغاثا.

وهذه الشروط هي المتقدمة، وكذلك الخامس وهو ألا يكون موصوفا، ويزيد هنا شرط سادس، وهو ألا يكون المنادى مبنيًا بحكم الأصل. وهذا الشرط نبه عليه ابن عصفور، وزعم أن الترخيم لا يكون في الأسماء المتوغلة في البناء، فعلى ما قاله لا يجوز الترخيم في نحو (حذام، ورقاش) في لغة أهل الحجاز، ولا في نحو (حذار) مسمى بها في اللغتين معا. والجواب: أن الأول والثاني داخلا تحت اشتراط كونه منادى، فلا يعترض بهما. والثالث والرابع والسادس: ترجع إلى الشرطين الباقيين من الثلاثة المتقدمة، ألا يكون مندوبا، وأن يكون قد تغير في النداء بالبناء. وهذا في السادس إن سلم أن ما قال ابن عصفور صحيح، وما تقدم في الشرطين من الثلاثة جارٍ هنا، فالموضع غير مخلص في كلام الناظم، فلو قال أول الباب معنى ما تقدم ذكره لزال هذا الشغب، والله أعلم. و"متمًا" حال من "الرباعي العلم" أي حالة كونه متمًا بلا إضافة ولا إسناد، وجاء على لغة (رأيت زيد). وأما القسم الثاني، وهو ما يحذف منه الآخر وما قبله، فذلك قوله: ومع الآخر احذف الذي تلا ... إن زيد لينًا ساكنًا مكملا

أربعة فصاعدًا والخلف في ... واوٍ وياء بهما فتح قفي يعني أنك تحذف مع الحرف الأخير أيضا ما قبله، يليه، إن اشتمل على شروط أربعة زائدةٍ على الشروط المتقدمة قبل، ويؤخذ له أن ما مر من الشروط مرادة هنا من محصول قوله: "ومع الآخر احذف" كأنه قال: مع الآخر المشترط في جواز حذفه تلك الشروط تحذف أيضا ما قبل الآخر إن كان فيه أربعة شروط زائدة: أحدها: أن يكون ما قبل الآخر زائدا لا أصليا، فلو كان أصليا لم يجز، فلا يقال في (فرزدق): يا فرز، ولا في (جحمرش) مسمى به: يا جحم، ولا في (مختار): يا مخت، ولا في (منقاد): يا منق، إذا سمى بذلك، ولا ما أشبه ذلك. وهذا الشرط يمنع جواز نحو: يا قم، في (يا قمطر) ويا هر، في (هرقل) وقد تقدم ما يرد على من قال بجواز ذلك. والثاني: أن يكون الزائد حرف لين. وحروف اللين هي الواو، والألف، والياء، وذلك قوله: "إن زيد لينًا". فقوله: "إن زيد" هو الشرط الأول. وقوله: "لينا" هو هذا، أي حالة كون الزائد ذالينٍ، فإن كان الزائد غير حرف لين لم يجز حذفه مع الآخر، فلا تقول في (ضفنددٍ، وخفيددٍ): يا ضفن

ولا يا خفى ولا في (رخود): يا رخو، ولا ما أشبه ذلك. والثالث: أن يكون حرف اللين ساكنا، وذلك قوله: "ساكنًا" وهو نعت لـ (لين) فإذا سكن حرف اللين، جاز حذفه، فإن تحرك لم يجز أن يحذف فتقول في (قنورٍ) يا قنو، وفي (هبيخ): يا هبي- بتشديد الواو والياء- ولا تقول: يا هبي، ولا يا قنو، وكذلك تقول في (حولايا، وبرد رايا): يا حولاي، ويا بردراي، ولا تحذف فتقول: يا حولا، ويا بردرا، وكذلك ما أشبهه. والرابع: أن يكون ذلك الحرف الذي قبل الآخر مكملا للأربعة، أي يكون رابع الأحرف المتقدمة فأكثر، وهو قوله: (مكملًا أربعًة فصاعدًا) مثل أن يكون خامسها أو سادسها. فكونه رابعا مثل: حمراء وعثمان، وكونه خامسا مثل: عنتريس، ورجل اسمه "مسلمون" ونحو ذلك، وكونه سادسا نحو: زكريا. فلو كان الحرف لا يبلغ أن يكون مكملا للأربعة، فلا يجوز حذفه مع الآخر نحو: عماد، وسعيد، وثمود، فلا يجوز أن تقول: يا سع، ولا يا عم، ولا يا ثم.

وخالف هاهنا الفراء فأجاز ذلك، وهو مردود عند البصريين، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في نظير هذا الشرط فيما تقدم في قوله: "إلا الرباعي فما فوق العلم". وبقى شرط خامس نبه عليه بعد هذا الشطر، يتبين عند ذكره إن شاء الله، وهو أن يكون حركة ما قبل الآخر مجانسًا له. فإذا توفرت هذه الشروط جاز حذف ما قبل الآخر، كان الآخر أصليًا أو زائدًا. فأما كونه أصليا فقولك في (منصور): يا منص، وفي (شملال) اسم رجل: يا شمل، وفي مسمى بقنديل: يا قند، وفي (عنتريس): يا عنتر، وفي (عضر فوط): يا عضرف. وأما كونه زائدا: فقولك في (عثمان): يا عثم و (أسماء): يا أسم، وفي (مروان): يا مرو، ومنه قول الفرزدق، وأنشد سيبويه: يا مرو إن مطيتي محبوسة ... ترجو الحباء وربها لم ييأس يريد: يا مروان، وأنشد أيضا: *يا نعم هل تحلف لا تدينها*

يريد: يا نعمان، وأنشد أيضا للبيد، وقال ابن السيد: هو لأبي زبيد الطائي: يا أسم صبرا على ما كان من حدثٍ ... إن الحوادث ملقى ومنتظر يريد: يا أسماء وقال عمر بن أبي ربيعة: قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ... أهذا المغيري الذي كان يذكر؟ وينتظم في هذا السلك ما إذا سميت رجلا بمسلمين ومسلمون وبقرشي، فإنك تقول: يا مسلم، ويا مسلم، ويا قرش، ونحو ذلك. وإنما اشترطت هذه الشروط لأسباب قياسية وافقها السماع، فاشتراط زيادة ما قبل الآخر لأن الزائد أسهل شأنًا من الأصلي؛ إذ كان حذف الأصلي بعده هدمًا لبنية الكلمة. واشتراط كونه حرف لين لأنه أضعف من الحرف الصحيح. واشتراط كونه ساكنا لأنه أضعف أيضا، بخلاف المتحرك، فإنه قوي بالحركة، وأيضًا فإنما يكون المتحرك زائدا للإلحاق، فهو واقع في مقابلة الأصلي، فكأنه أصلي، فلم يحذف لذلك.

واشتراط كونه مكملا للأربعة فصاعدا قد تقدم وجهه. وهذا تعليل قد ينهض، والتعليل الجاري على رأي سيبويه هو أن الحرفين لا يحذفا في الأصل إلا إذا كانا زيدتا معًا، كألفي صحراء، والألف والنون في (مروان، وعمران) فإنهما في مقابلة الألفين في صحراء، وكيائي النسب، وزيادتي التثنية وجمع السلامة في المذكر والمؤنث. ومعنى كونهما زيدتا معا أن إحداهما لم تتقدم على الأخرى، كما تقدمت الألف في نحو (سعلاة) على هاء التأنيث، لأن الهاء أتت لاحقًة للاسم بعدما تم بناؤه، فالألف مما بنيت عليه بخلاف ما تقدم، فإن الكلمة إنما بنيت عليهما معا، وكذلك زيادتا التثنية والجمع وياء النسب، لم تزد واحدة بعد أخرى، فلما كان كذلك لم يكونوا ليحذفوا واحدا ويبقى الآخر في زيادتين كالزيادة الواحدة، ثم أنهم ألحقوا بذلك نحو (منصور) لأنهم لما كانوا مما يحذفون الآخر في الترخيم، فصار لذلك كالزائد العريق في الزيادة، من حيث كانا يحذفان تارًة، ويثبتان تارًة، كان الزائد قبل الآخر [مع الآخر]، يشبه الزيادتين اللتين زيدتا معا، فحذفا معا. هذا أصل المسألة، فالأصلان على هذا لا يحذفان لأنهما ليسا بمنزلة حرف واحد زائد، وكذلك الزائد الآخر مع أصلي قبله نحو:

حبارى، فإن الألف إنما زيدت بعد تمام الكلمة بأصولها، فالراء قبلها بائنة عنها، أصلية دونها. وكذلك الزائدان إذا لم يزادا معا، تحرك الأول منهما أو سكن، كقنور وحولايا، ومثل: سعلاة، فإن واو (قنور) جعلت في مقابلة أصلي بعد ما كانت البنية قد كملت أصولها دونه، فلم يكن الآخر معها بمنزلة زيادتين زيدتا معا، وكذلك (يا حولايا) مع الألف بعدها؛ إذ لو زيدتا معا لكانت الياء ألفا، والألف همزة، كما في (حمراء) لأن ما جعل مما قبل الآخر مع الآخر كالزيادة الواحدة ساكن لا يتحرك، بخلاف واو (منصور) ونحوه، وكذلك (سعلاة) لو كانت الألف مع التاء بمنزلة زائدٍ واحد لقلت في تصغيره: سعيلاة، كما تقول: عثيمان، أو سعيليت، كما تقول: سريحين. ولما كنت تقول: (سعيلية) دل على الانفكاك بينهما. وأصل الزيادتين اللتين بمنزلة الزيادة الواحدة هما اللتان يكون أولهما حرف لين ساكن، لأن المتحرك في ذلك الموضع لا يكون إلا زائدًا للإلحاق أو شبهه، فلا يكون مع ما بعده بمنزلة الزيادة الواحدة، فلا يحذف إلا الأخير. هذا وجه حذف الزيادتين ترخيمًا، وهو من أسرار "الكتاب" التي لا توجد إلا فيه، أو في كتاب من نقل منه، وإنما أتيت به، وإن كان فيه طول، لأنه قاعدة الباب وسره، وبه يحصل بيان ما اشترطه الناظم حصولا تاما. والله المستعان. ثم قال: (والخلف في واوٍ وياء بهما فتح قفي) قفي: من قفوته، أي اتبعته، يريد: اتبع الفتح بهما. يعني أن الواو والياء اللذين يقعان قبل الآخر إذا كان ما قبلهما مفتوحا، ففي جواز حذفهما مع الآخر ومنعه خلاف بين النحويين.

فمنهم من يجيز حذفهما معه, ويحكم لها بحكم ما لو كان قبلهما من التحريك من جنسهما, وهذا مذهب الفراء والجرمى, فيقولان في (فردوس) مسمى به: يا فرد, وفي (إدرون) ياإدر, وفي (غرنيق): ياغرن, وفي (زميل): يازم. ومنهم من يمنع ذلك, ولايجيز إلا حذف الآخر, فيقول: يافردو, ويا إدرو, وياغرني, ويازمى. فالمجيز يقول: هذا زائد زيد قبل الآخر, وهو حرف لين ساكن, فيحذف وإن كان حركة ما قبله ليست من جنسه. وأيضًا, فالواو والياء المفتوح ما قبلهما يجريان مجراهما لو كان ما قبلهما من جنسهما, ألا ترى أنهما لا يقعان قبل حرف الروى, مع الحرف الصحيح, فلا يجمع في القافية بين (العقل, والميل, أو القول). وأيضا, فيقعان ردفين كحرفي المد, ويجمع معهما بين الساكنين كمديق ونحوه, فلما كانا كذلك عوملا معاملة حرف المد.

وأما المانع فيقول: الواو والياء في مثل هذا ليسا مع ما بعدهما بمنزلة زيادتين زيدتا معا, لأنهما إنما زيدتا بعد ما استقلت الكلمة بأصولها. وأيضا, فليستا للمد؛ بل لتكثير الكلمة أو للإلحاق, فالياء للتكثير, وزيادة التكثير كزيادة الإلحاق, إنما تلحق بعد حصول أصول الكلمة والواو للإلحاق, فلم تعد مع بعدها كواو (منصور) مع ما بعدها, فلم ينبغ أن يكونا كحرفي النداء. وهذا هو مذهب سيبويه, وهو الجاري على القياس المتقدم, فعلى هذا لابد في مذهبه من الشرط الخامس, وهو أن تكون حركة ما قبلهما من جنسهما, كما تقدم تمثيله, وكل ما كان هكذا فلا خلاف فيه, فقولك في (مروان): يا مرو, في (قنديل): يا قند, وفي (منصور): يا منص, مما يتفق عليه بمقتضى كلام الناظم, وإنما الخلاف فيما وراءه, ولم يختر هنا مذهبا معينا, كما فعل في "التسهيل", حيث ارتضى مذهب سيبويه, ولعله قوى عنده قياس الجرمى. والله أعلم. *** وأما القسم الثالث من أقسام المرخم, وهو ما يرخم بحذف عجزه, فهو الذي قال فيه: والعجز أحذف من مركب وقيل ... ترخيم جملة وذا عمرو نقل والمرخم هكذا هو المركب دون غيره, وقد تقدم أن المركب على ثلاثة أقسام: أحدها: المركب من المعطوف والمعطوف عليه. والثاني: المركب تركيب مزج وخلط.

والثالث: المركب تركيب إسناد. فأجاز هنا الترخيم في الثانى والثالث, فاقتضى أن الأول لا يصح فيه هذا الترخيم, كما أنه لا يصح فيه الترخيم المتقدم, ووجه ذلك إنه معرب لم يتغير في النداء عن حاله قبل النداء, فجرى مجرى الاسم الممطول, ومجرى المضاف إليه, بخلاف غيره فإنه إنما جرى مجرى المضموم في النداء. فأما المركب تركيب مزج فأجاز فيه الترخيم مطلقا من غير قلة, ولم يشترط فيه هنا شرط, لأن ما تقدم في القسم الأول لا يحتاج إليها فيه, لما يذكره على إثر هذا بحول الله, لكن هذا الترخيم بحذف العجز, وهو خلاف الصدر, لأن المركب, تركيب مزج أو تركيب إسناد, له صدر وعجز, فصدره نظير صدر الكلمة المفردة, وعجزه نظير عجزها. وأيضا, فالجزء الثاني مشبه بهاء التأنيث التي تحذف في الترخيم وذلك نحو: معد يكرب, ورامهرمز, وبلا لا باذ, تقول: يا معدى, ويا رام, ويا بلال, وكذلك في (عمرويه): يا عمر, وفي رجل اسمه (خمسة عشر): يا خمسة, ومن ذلك كثير. وإنما حذف العجز هنا لأنه قد جرى في كلامهم مجرى هاء التأنيث في كثير من الأحكام وذكر سيبويه من وجوه الشبه بينهما أربعة أوجه:

أحدها: التصغير, لأن الاسمين إذا جعلا اسمًا واحدا صغر الصدر, ثم أتى بالعجز على حاله, كما يفعل بالهاء. والثاني: النسب, يحذف له العجز في المركب, كما تحذف الهاء. والثالث: أن العجز لا يلحق بنات الثلاثة بالأربعة, ولا بنات الأربعة بالخمسة. كما أن الهاء كذلك. والرابع: أن العجز لا يغير ما دخل عليه, ولا يفسد بنيته كالهاء سواء وثم وجه آخر, وهو فتح ما قبل العجز, كما يفتح ما قبل هاء التأنيث. فلما جرى مجراها عومل معاملتها. واعلم أن هنا نظرين: أحدهما: أنه أطلق على المركب تركيب مزح لفظ المركب مطلقا من غير تقييد, وكان الأولى أن يقيده بتركيب المزج. والجواب: إن ابن الضائع, حكى أن المركب في اصطلاح النحويين هو المركب تركيب مزج, فإن كان كذلك فلا إشكال, لأن الناظم إذ ذاك اعتمد على الاصطلاح. والنظر الثاني: أنه لم يشترط هنا في ترخيم المركب شرطا, ولا بد فيه من شروط ثلاثة, وهو ألا يكون مندوبًا كما تقدم في نظائره, وألا يكون مستغاثًا ولا متعجبًا منه, وقد تقدم أيضًا, وإن يكون علمًا, فإنه إن لم يكن علما لم يرخم, فلا يقال في رجال عدتهم خمسة عشر: يا خمسة, وإنما يجوز ذلك في الأعلام. وإطلاق الناظم يقتضى أن يكون ذلك في كل مركب علمًا كان أو غيره, وذلك غير صحيح.

وكذلك المركب تركيب إسناد لا بد فيه من الشروط الثلاثة, ولم يذكر شيئًا من ذلك, فكان كلامه معترضًا. والعذر أن يقال: لعله اكتفى بذكر المركب عن اشتراط العلمية, فكأنه على حذف المرصوف, أى: من علم مركب, لأن غالب التركيب في الأعلام, وينتهض هذا جدًا في المركب تركب إسناد؛ إذ لا يتصور أن تنادي الجملة من حيث هي جملة, وإنما ينادي الاسم. وأما كونه غير مندوب أو مستغاث: ففيه ما تقدم قبل في نظائره. ثم قال: (وقل ترخيم جملة) أى بحذف عجزها لتقدم ذكره, يعني أن المركب تركيب إسناد قل فيه الترخيم, فيقال في (تأبط شرًا): يا تأبط, وفي (برق نحره): يا برق, وما أشبه ذلك, والأكثر في كلام العرب التزام حكايته, ووجه ترخيمه تنزيله منزلة المركب تركيب مزج لشبهه في التسمية بأكثر من كلمة واحدة. وجمهور النحويين يمنعون ترخيم ذي الإسناد استنادًا منهم لقول سيبويه بالمنع من ذلك في"أبواب الترخيم" إذ قال: واعلم أن الحكاية لا ترخم, لأنك تريد أن ترحم غير منادى وليس مما يغييره النداء, وذلك نحو: تأبط شر, وبرق نحره, وما أشبه ذلك. قال ولو رخمت هذا لرخمت رجلًا يسمى: (يا دار عبلة بالجواء تكلمي). يعني يلقب بهذا البيت, فجرى الناس على هذا المذهب. فجاء ابن مالك هنا وفي كتاب" التسهيل" فنص على جواز ترخيمه نقلًا عن سيبويه؛ إذ قال: (وذا عمرو نقل) , قال في "الشرح": ونص- يعني سيبويه- في باب النسب على أن من العرب من يرخمه

فيقول في (تأبط شرًا): يا تأبط, ورتب على ترخيمه النسب إليه قال: ولا خلاف في النسب إليه انتهى. فلا شتهار المنه في المسألة عن سيبويه اعتنى بذكرها, والتنبيه على أن صاحب المنع هو الناقل للإجازة عن العرب, والذي نقل عن سيبويه وقع له في "باب الإضافة إلى الحكاية" قال: فإذا أضفت إلى الحكاية حذفت وتركت الصدر بمنزلة عبد القيس وخمسه عشر, حيث لزمه الحذف كما لزمها, وذلك قولك في تأبط شرًا: تأبطي. قال ك ويدلك على ذلك أن من العرب من يفرد, فيقول: يا تأبط أقبل, فيجعل الأول مفردا, فكذلك تفرده في الإضافة. هذا نصه في المسألة, وهو كما قال ابن مالك, لكنه أسعد بكلامه هنا منه بكلامه في " التسهيل" إذ قال هنا: (وقل) فوافق قول الإمام: "من العرب من يقول كذا". وقال في "التسهيل" ويجوز ترخيم الجملة وفاقا لسيبويه, فأطلق الجواز. وأيضا, فإن كلامه هنا أقرب إلى مساعدة التأويل في الجمع بين الموضعين في كلام الإمام من كلامه في "التسهيل"؛ إذ ظاهره أن ما قاله في "باب الترخيم" خطأ وأن الصواب ما قاله في "النسب". ولا بد هنا من بث القاعدة الأصولية باختصار, فهي محتاج إليها, في هذا الموضوع, وذلك أن العالم إذا صدر عنه قولان, ظاهرهما التضاد,

فطريقة ابن جني أنه إما أن ينص على الرجوع عن أحدهما أولا, فإن نص على الرجوع فظاهر, وإن لم ينص, فإما أن يكون أحدهما مرسلا والآخر معللا أولا, فإن كان كذلك أخذ له بالمعلل, وإن لم يكن كذلك, فإن كانا مرسلين بحث عن التاريخ وأخذ بالمتأخر, فإن جهل التاريخ وجب البحث عن مدراكهما, فأخذ له بالأقوى, وجعل مذهبه تحسينًا للظن بالأئمة, فإن تساويا اعتقدا رأيين, فإن الداعي إلى التساوي عند الناظر هو الداعي لصاحبهما إلى القول بهما, هذا بمقتضى العرف وإحسان الظن, وأما القطع: فعلمه عند الله. قال ابن جنى: وقد كان أبو الحسن لا يتحشم من سلوك هذا المسلك, يعنى اعتقاد القولين, وأكثر كلامه عليه, ثم حكى عن الفارسي في (هيهات) نحوًا من ذلك. هذه قاعدة ابن جنى في القولين, فلنبن الآن عليها اصطلاحًا, وإن كان فيها نظر متشعب, فكأن المؤلف, والله أعلم اعتقد أن آخر القولين لسيبويه ما قاله في "النسب" أو أنه المعضود بالسماع فاعتمده, ولم يعتمد القياس في المنع في "باب الترخيم" لأنه لم يعضده بسماع, ولا نفي عن القول به فقوله الجواز مطلقا لذلك. والذي ينبغى التعويل عليه هنا أن يقال: إن النظر في القولين ثانٍ عن ثبوتهما قولين: إما نصًا وإما ظاهرًا, كما يقول سيبويه في تاء (بنت وأخت) مرة: إنها للتأنيث ومرة إنها ليست للتأنيث ونحو ذلك,

فيثبت على الجملة من كلامه فيها قولان, فينظر في تأويلهما إن أمكن, وإلاعدا قولين على ما ظهر. أما "مسألة الترخيم" فلم يثبت بعد فيها قولان, فكيف ينظر فيما لم يثبت؟ وبيان ذلك أن سيبويه تكلم في أبواب "الترخيم" على وجه القياس, وأنت تعلم شدة متابعته للسماع في وضع القياسات, فلابد أن يكون منعه لترخيم ذى الإسناد مستندًا إلى كلام العرب, وأن أكثر العرب على منعه. ثم لما جاء إلى باب "النسب" وهو باب يحذف فيه عجز الاسم مطلقا في كل مركب أنس جواز حذف العجز في ذي الإسناد في "النسب" بحذفه عند بعض العرب في "الترخيم" تشبيهًا بالمركب تركيب مزج, ولم يقل: إن ذلك قياس فيه, ولا إن قياس "النسب" مبني على "الترخيم"؛ بل كما يأتي في مواضع بالمثل القليلة الاستعمال والنادرة تأنيسًا في مواضع القياس وفي أبواب" النداء" من ذلك حظ صالح. وإذا كان كذلك فالذي حكى عن العرب من ترخيم ذي الإسناد قليل, وذلك مفهوم من قوله: "من العرب من يفعل كذا" ولم يقل: والدليل على ذلك: أن العرب تفعل كذا, وأما أشبه ذلك, فإذا لا يقدح ما نقل في "النسب" فيما اعتمد من المنع في "باب الترخيم" وإذا رجع كل واحد من الكلامين إلى معنى ظاهرٍ من لفظه لم يصلح أن يحمل على أنهما قولان متضادان, فإشارته في "هذا النظم" جارية على كلام سيبويه, وكلام سيبويه غير متضاد, فالأحسن ما فعل هنا, ولا يحتاج إلى إثبات قولين, وطلب الترجيح بينهما أو التأويل. والله أعلم. وقوله: (وذا عمرو نقل) هو سيبويه, وهو: عمرو بن عثمان بن قنبر, مولى لبني الحارث بن كعب بن عمرو. و (سيبويه) لقب له.

وزعم بعضهم أن معناه ثلاثون رائحة, قالوا: لأنه كان طيب الرائحة. كان- رحمه الله- ثقة ثبتا فيما ينقله, محققا في علمه, لم ير في زمانه مثله فهما لكلام العرب, وشرحا لمقاصده, وهو أثبت من أخذ عن الخليل على صغر سنه, وكان سنيا في مذهبه. أخذ عن جماعة من أهل النحو واللغة والقرآن والحديث, ولازم الخليل بن أحمد, ويونس بن حبيب, وعليهما عول في النحو, وأخذ عن عيسى بن عمر, والأخفش الكبر, وأبي زيد سعيد بن أوس البصري المصادري, وأبي عبيدة معمر بن المثنى, واللحياني, والأصمعي, وابن أبي إسحاق, وهارون القارئ. روى عنه الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة. توفى سنه ثمانين ومائة, وهو ابن ثلاث وثلاثين سنه. وإن نويت بعد حذف ما حذف ... فالباقي استعمل بما فيه ألف واجعله إن لم تنو محذوفا كما ... لو كان بالآخر وضعا تمما هذه المسألة يذكر فيها حكم آخر الاسم بعد دخول الترخيم فيه. وللعرب فيه وجهان: أحدهما: أن تنوى المحذوف, بمعنى أنك تقدره أنه موجود لم يحذف, فيبقى الاسم بعد الحذف على حكمه لو لم يحذف منه شيء, وهذا الوجه يسمى "لغة من نوى" وإليها أشار بقوله: (وإن نويت بعد حذف ما حذف).

والثاني: ألا تنوي المحذوف, بمعنى أنك تقدره كأنه لم يكن, فتعامل الاسم بعد الحذف معاملته لو كان كذلك في الأصل لم يحذف منه شيء. وهذا الوجه يسمى "لغة من لم ينو" وإليها أشار بقوله: (واجعله). يعني الباقي بعد الحذف "إن لم تنو محذوفا كما لو كان بالآخر وضعًا تمما" والأكثر في الترخيم الحمل على "لغة من نوى" ولذلك كانت مطردة في كل شيء, بخلاف "لغة من لم ينو" فإنه لا يحمل عليها إلا إذا لم يؤهد اعتبارها إلى لبس, كما سيذكر إن شاء الله. ولهذا, والله أعلم, قدم الناظم هنا "لغة من نوى" على الأخر. وقد شبهت هذه اللغة بقولهم في جمع (جارية): جوار- ببقاء الكسرة- دليلًا على ثبوت الياء تقديرا, وأن الإعراب منوى بها وشبهت الأخرى بحذف آخر المعتل, وجعل ما قبله حرف إعراب كيدٍ ودمٍ, ولا شك في اطراد الأول وعدم اطراد الثاني, فلذلك كثر الترخيم على اللغة الأولى, ولم يكثر على الأخرى. ومعنى كلامه: أن كلا الوجهين المذكورين جائزين قياسيا, إلا أنك إذا رخمت على "لغة من نوى" فالباقي مستعمل على ما كان ألف فيه قبل الترخيم, لا زيادة على ذلك ولا نقصان. وأما إن رخمته على اللغة الأخرى: فإن ما بقى من الاسم يعامل معاملة الاسم التام وضعًا, الذي لم يحذف منه شيء, فما لزم فيه في العربية, من إعراب أو تصحيح أو إعلال أو غير ذلك, لزم في آخر هذا المرخم. هذا معناه على الجملة من غير تمثيل ولا تفصيل, ثم أخذ في التمثيل فقال:

فقل على الأول في ثمود يا ... ثمو وياثمى على الثاني بيا يعني أن الوجه الأول إذا اعتبرته فإنك تقول في ترخيم (ثمود): يا ثمو, فتترك آخر الاسم المحذوف على حاله, كما كان قبل الحذف. ولو كانت الدال ثابته لقلت: يا ثمود- بإثبات الواو- فكذلك تقول: يا ثمود, بإثباتها على حالها غير منقلبة, لأنها في وسط الاسم لا في آخره, وعلى هذا يقول في (طلحة): يا طلح, فتبقى الحاء على فتحها, كما لو كانت التاء ثابتة, وفي (حمزة): يا حمز, وفي (قاسم): يا قاس- بكسر السين- إذ لو ثبتت الميم لكانت السين مكسورة, وكذلك في (حارث): يا حار. وعلى هذا الترتيب يجري سائر الأسماء, فتقول في (مروان): يا مرو, وفي (أسماء): يا أسم, وفي (مسلمان): يا مسلم, وفي (مسلمون): يا مسلم. ومن ذلك قراءة: (ونادوا يا مال). ومنه قول امرئ القيس: أحار ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل وقال: أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر

وأنشد سيبويه للقطامي: قفى قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا وأنشد أيضا لابن الخرع: كادت فزارة تشقى بنا ... فأولى فزارة أولى فزارا وهو من ترخيم غير النداء, وكذلك تقول في (كنهور): يا كنهو, وفي (فردوس): يا فردو, وفي (غرنيق): يا غرني, وفي (حولايا): يا حولاى, وفي (كروان): يا كرو, وفي (نفيان): يا نفي, وفي (هرقل): يا هرق- بالسكون- وكذلك ما أشبه, كل ذلك يعد فيه المحذوف كالموجود. وعلى هذا الاطلاق في الوجه الأول يتعلق النظر بأمرين: أحدهما: بيان أنه مخالف للكوفيين في امتناعهم من إبقاء آخر الكلمة بعد الحذف ساكنا ما لم يحذفوا الساكن مع الآخر, فيقولون في (قمطر, وهرقل): يا قم, ويا هر, ولا يقولون: يا قمط ويا هرق. والدليل على صحة مذهب البصريين: أن الفريقين اجتمعوا على أن حركة ما قبل الاخر بعد الترخيم باقية في هذه اللغة على ما كنت عليه بعده,

من ضم أو فتح أو كسر ليكون فيها دليل على المحذوف, فكذلك ينبغي في الإسكان, لأن فيه أيضا ذلك المعنى, فالتفرقة بينهما تفرقة لغير معنى. فإن قيل: إنما معنى حذف الآخر دون الساكن حذرا من أن يشبه الأدوات بسكون آخر ذلك الاسم, وذلك محظور. قيل: لو كان هذا معتبرا لامتنع ذلك فيما إذا كان قبل الآخر مكسورا, فكان يجب حذفه أيضا مع الآخر, لئلا يشبه المضاف إلى ياء المتكلم, ولما لم يكن ذلك مغتفرًا دون الإشعار بالمحذوف وجب أن يكون في مسألتنا كذلك. والثاني: أن هذا الاطلاق ظاهر في أن ما قبل المحذوف لا يزول عن حالته التى كان عليها لقوله: "فالباقي استعمل بما فيه ألف" يريد ما ألف قبل الحذف, فاقتضى لذلك أن تقول في (قاضون, ومصطفون) على هذه اللغة: يا قاض- بالضم- ويا مصطف- بالفتح- من غير رد شيء مما حذف لأجل سكون الواو, إذ كان الأصل: قاضيون, ثم نقلت حركة الياء لالتقائهما, وكذلك (مصطفون) أصله: مصطفيون, ثم مصطفاون, ثم مصطفون. وهذا الرأى رآه المؤلف, وخالف فيه النحويين: الخليل وسيبويه ومن دونهما, ونص في " التسهيل" على المخالفة. ورأيهم في ذلك أن تقول: يا قاضي, ويا مصطفى, برد المحذوف للساكنين, لأن الساكن الثاني لما حذف للترخيم لم يكن لبقاء

الأصلي, غير مرجوعٍ, وجه؛ إذ كان موجب الحذف قد زال, كما أنك تقول في الدرج (غير محلى الصيد) فتحذف ياء (محلى) فإذا وقفت عليها أثبتها, فقلت: (محلى) لزوال ما أوجب حذفها, هذا تعليل سيبويه. وألزم المؤلف عليه أن يعاد إلى كل متغير بسبب الترخيم ما كان يستحقه لو لم يكن ذلك السبب موجود أصلا, فكان يقال في ترخيم (كروان, نزوان): يا كرا, ويا نزا, قولا واحدا, قال: لأن سبب تصحيح واوهما هو تلافي الساكنين وقد زال, ومع ذلك يبقون الحكم المرتب عليه لكون المحذوف منوى الثبوت. قال: ولا فرق بين نية ثبوته ونية سبب حذف ياء (قاضون) وألف (مصطفون) حين يرخمان. ونقل أيضا: احتجاجهم بالتشبيه برد ما حذف لأجل نون التوكيد الخفيفة عند زوالها وقفا كقول الواقف على (تفعلن): هل تفعلون, برد واو الضمير ونون الرفع لزوال سبب حذفها, وهو ثبوت نون توكيد وصلا. قال: وهذا التشبيه ضعيف, لأن الحذف لأجل الترخيم غير لازم, فيصح معه أن ينوي ثبوت المحذوف. هذا ما احتج به الجمهور, وما رده به المؤلف, ومن هنا لم يرتض مذهبهم.

وظاهر هذا النظم اعتقاد هذا النظر, فإن كان مقصوده ما ظهر دخل عليه أن يقال في ترخيم (راد) مسمى به: يا راد- بإسكان الدال- وفي ترخيم (تضار, ومضار, وأسحار). ومسمى بها: يا تضار, ويا مضار, ويا أسحار, كما تقول في (مكر, ومفر) يا مكر, ويا مفر, لكنه إنما يقال فيه: يا راد, ويا تضار, أو تضار إن كان مبنيا للمفعول ويا مضار , أو مضار, فتحركها بحركة الأصل, ويا أسحار, فتفتحها, لمناسبتها للألف, وإذا كان كذلك فلم يستعمل الباقي بما ألف فيه, من حيث كان المألوف فيه السكون, فترك إلى التحريك. وبموافقة الجماعة يقول في هذا, فيلزمه في "التسهيل" و "شرحه" التناقض. فإن قيل: إن هذا لا يلزم, لأن التحريك فيه ضروري؛ إذ لا يجتمع ساكنان في مثله ما لم يكن الثاني مدغما, بخلاف نحو (قاضون, ومصطفون) فإنه لا ضرورة تدعو إلى رد المحذوف, فوجب التنبيه عليه دون الأول. فالجواب: أن الأمر في الجميع واحد, إذ هو حكم لفظي, فإن اعتبرت اللفظ بعد الحذف, لزم أن يقال: يا قاضي, لزوال الساكن, وكذلك يا مصطفى, كما تعتبره في التقاء الساكنين هنا, فتقول: يا مضار, وإن اعتبرت المحذوف لزم أن تقول: يا مضار- بالسكون- كما تقول: يا قاض, ويا مصطف, لا فرق بين الموضعين, فإن التزم هذا هنا حسبما يقتضيه ظاهر لفظه خالف الناس. والحق في أصل المسألة مع غيره. ويد الله مع الجماعة.

وقد تكلم معه شيخنا الأستاذ- رحمه الله- في "شرح الجمل" بما لا حاجة إلى ذكره هنا لخروجه عن قصد الشرح والله الموفق. وأما إن اعتبرت الوجه الثاني, وذلك "لغة من لم ينو" فتقول في (طلحة): يا طلح, وفي (حمزة): يا حمز, وفي (مالك): يا مال, وفي (قاسم): يا قاس فتبنى ذلك على الضم, لأنك لو فرضته غير محذوف منه ما تعديته, وكذلك تقول في (مروان) يا مرو, وفي (أسماء): يا أسم. ومن ذلك قول عنترة أنشده سيبويه: يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم يروى بضم الراء, وأنشد أيضا للأسود بن يعفر تصديقًا لهذه اللغة:

الأهل لهذا الدهر من متعلل ... عن الناس, مهما شاء بالناس يفعل وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلبني حقي أمال بن حنظل يريد: حنظلة. وإنما قال: "تصديقا" لأنه ترخيم في غير النداء, وكذلك أنشد قول رؤبة: إما تريني اليوم أم حمز ... قاربي بين عنقي وجمزي أراد: حمزة. وعلى هذه اللغة تقول في (ثمود): يا ثمي- بالياء- كما نبه عليه الناظم, لأن الواو في هذه اللغة وقعت كأنها في آخر اسم متمكن, والحكم أن الواو لا تقع كذلك في أواخر الأسماء المتمكنة, فإن اقتضى ذلك قياس رفض حسبما يأتي في التصريف إن شاء الله. فقلبت الواو ياء, والضمة كسرة. وكذلك إذا رخمت (بنون) قلت: يا بني, فقلبت الواو ياء, والضمة كسرة كذلك, وإذا رخمت (قمحدوة) تقلب الواو ياء, والضمة كسرة فقلت: يا قمحدي, وفي عرقوة: يا عرقي, وفي (قتول): يا قتى, وفي (قطوان): يا قطا, لأنك لما حذفت الألف والنون بقى الاسم (قطو) فوجب انقلاب الواو ألفا

لتحركها وانفتاح ما قبلها, كما تقول في (فتى): فتا, وكذلك في (نفيان): يا نفا وقولهم: (أطرق كرا, أطرق كرا. إن النعام في القرى). وكذلك من اسمه (علاوة) تقول فيه: يا علاء, لأنك لما حذفت التاء وقعت الواو طرفا بعد ألف زائده, فوجب قلبها همزة, كما قلت في (كساء) وكان أصله (كساو) وكذلك في عناية): يا عناء, كما قلت: رداء, والأصل رداى. وتقول في (هرقل): يا هرق, وفي (مضار, وتضار, وأسحار) ونحو ذلك مسمى به يا مضار, ويا تضار, ويا أسحار. وتقول في (قاضون): يا قاضي, وفي (مصطفون): يا مصطفى, فترد المحذوف. وتسوى اللغتان لفظا فى نحو: يا منص- ترخيم (منصور) إلا أن الحركتين مختلفتان حكما. وكلامه يقتضي أنه لم يعتبر عدم النظير في وزن أو غيره إن أدى إليه الحكم في هذا الوجه, فتقول في (سفرجل) على مذهبه: يا سفرج, وإن أدى إلى وزن (جعفر) وهو مثال غير موجود, وكذلك في (طيلسان) على لغة كسر اللام: يا طيلس, وإن أدى إلى وزن (فعيل) وهو بناء غير موجود إلا في المعتل العين نحو: سيد وميت. وتقول أيضا في (حذرية): يا حذري, و (فعلى) ليس في الكلام, وفي (حبلوى): يا حبلى, فتقلب الواو, فيؤدي إلى وزن

(فعلى) وفعلى, إذا كانت ألفه لغير التأنيث, غير موجود, وكذلك (حمراوى) تقول: يا حمراء, فتقلب الواو همزة, فيؤدي إلى كون همزة التأنيث منقلبة عن الواو, وذلك غير موجود فيها, فليست للتأنيث, و (فعلاء) إذا كانت همزته لغير التأنيث معدوم أو كالمعدوم. هذا كله جائز على ظاهر كلامه؛ إذ لم يستثن من ذلك إلا ما يوقع اللبس خاصة كما يأتي, وهذا مذهب الإمام والجمهور. وذهب المبرد إلى امتناع ترخيم ما أدى ترخيمه إلى عدم النظير في هذه اللغة, وارتضاه المؤلف في "التسهيل", وإنما يرخم عندهما على "من نوى" ليبقى محرزا بنيته الأصليه, فلا يبقى محذور, وكأن المبرد شبه اعتبار البنية باعتبار الإعلال, والوجه ما قاله غيرهما. قال السيرافي: لم يذكر سيبويه هنا شيئا اعتبر فيه بناء ما يبقى؛ بل اعتبر ما إذا عرض في الكلام غيرته العرب من حرف إلى حرف كما تقدم, لأنه حكم متلئب مستمر, التغيير في جميع ما تقدم ونحوه. قال: فأما البنيه العارضة في كلامهم, الخارجية عن أبنيتهم, فلا يلتزمون تغييرها إلى أبنيتهم, ولا إخراجها من كلامهم كإبراهيم, وإسماعيل, وقابيل, وإبريسم, ونحو ذلك, فكذلك (طيلس, وحبلى) إنما هو شيء عرض, هذا اعتذاره عن سيبويه باختصار. ثم أخذ في الرد على المبرد بأنه يقال له: مازون (حار)؟ فإن قال: (فاعل) فيلزم أن يكون (طيلس) فيعلان,

وإن قال: (فاع) فليس في الكلام. وإن قيل: (فعل) قيل له: قد علمت أن الألف زائدة لا أصلية, ويلزم أن يكون (منص) فعل, و (منذ) ترخيم (منذر) فعل, ويلزمه ألا يجيز ترخيم شيء من هذه الأسماء, وألا يرخم (خضم) لأن وزنه: فع ولا (قمحدوة) لأن: فعلى ليس في أصول الأبنية, فالقول ألا يعتبر الوزن. وهذا للسيرافي حسن من الإلزام, وهو لازم للمؤلف أيضا في "التسهيل" ولله دره في هذه الأرجوزة, فإنه يلتزم فيها مخالفة رأيه في "التسهيل" في مواضع كثيرة, فتكون مخالفته أحق من موافقته, وقد مضى من ذلك مواضع. ثم استثنى في هذا الوجه الثاني ما يؤدي إلى اللبس فقال: والتزم الأول في كمسلمة ... وجوز الوجهين في كمسلمة يعني أن الوجه الأول وهو "لغة من نوى" المحذوف ملتزم فيما كان نحو: مسلمة, تأنيث مسلم, فتقول: يا مسلم- بفتح الميم- في اللغتين جميعا. ولا تقول: يا مسلم, لأن "لغة من نوى" لا لبس يقع بسببها لبقاء الفتحة دليلًا على المحذوف, ولو قلت: يا مسلم- بضم الميم- لأوقع ذلك اللبس بنداء (مسلم) المذكر, فامتنع ذلك, لكنه قال: (التزام الأول في كذا) أى فى هذا المثال وما أشبهه مما يقع به اللبس بين صفة المذكرة

المؤنث, كمسلم ومسلمة, وصالح وصالحة, ومستكبر ومستكبرة, وما أشيه ذلك من الصفات غير الأعلام. وهذا مما تعطيه قوة المثال, وعلى ذلك لو كان الاسم علما جاز الترخيم على "لغة من لم ينو" من غير اعتبار بلبس أو عدمه, لأن الأعلام ليست بموضع لبس, لجواز تسميه المذكر بما فيه الهاء, وتسمية المؤنث بما لا هاء فيه, وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله: (وجوز الوجهين في كمسلمه) أى فيما كان عاما مطلقا نحو: (مسلمة) فتقول: يا مسلم على "لغة من لم ينو" كما تقول: يا مسلم, على لغة من نوى", وكذلك تقول في (حمزة): يا حمز, وفي (طلحة): يا طلح. قال عنترة: *يدعون عنتر والرماح كأنها* ... البيت فالحاصل أنه فرق في إجازة "لغة من لم ينو" بين العلم الذي لا لبس معه والصفة التي يقع معها اللبس, وهو المعتبر عند النحويين. قال سيبويه بعد ما أطلق الجواز في ترخيم الأعلام على "من لم ينو": واعلم أنه لا يجوز أن تحذف الهاء, وتجعل البقية بمنزلة اسم ليست فيه الهاء إذا لم يكن اسما خاصا غالبا, من قبل أنهم لو فعلوا ذلك التبس المؤنث بالمذكر, وذلك أنه لا يجوز أن تقول للمرأة: يا خبيث أقبلى. قال: وإنما جاز في الغالب- يعنى العلم- لأنك لا تذكر مؤنثا, ولا تؤنث مذكرا.

قال السيرافي: الاسم الذي هو مؤنث في الحقيقة إنما تدخله هاء التأنيث لتفصل بين المذكر والمؤنث, فكرهوا اللبس. قال: وهى في الأعلام لم تدخل فاصلة, فإنه قد يسمى الرجل بخبيثة, والمرأة بخبيث فلا لبس. وذهب المؤلف في "التسهيل", "وشرحه", إلى امتناع "لغة من لم يجز ترخيمه على "لغة من لم ينو" لأنه يلتبس إذا قلت يا ضخم, ويا عمرة, لم يجز ترخميه على "لغة من لم ينو" لأنه يلتبس إذا قلت يا ضخم, ويا عمر بنداء (ضخم, وعمرو) لأن الذهن يسبق إلى أنه ندا لرجل موصوف بالضخامة, أو لمسمى بعمرو, وكأنه عنده مخالف لمسلمة ونحوه, لأنك إذا قلت فيه: يا مسلم-بالضم- لم يقع فيه لبس؛ إذ ليس في المذكرين ما ينطلق عليه لفظ: مسلم بغير هاء. وكذلك تقول فى (طلحة): يا طلح, وفي (حمزة): يا حمز, إذ ليس في مستعملاتهم رجل يسمى بطلح ولا حمز, ولا يعتبر دون هاء. فهذا رأيه في هذا الموضع, كما ترى مخالفا للنحويين. والصواب: ما ذهب إليه غيره, والله أعلم. ولكن يمكن أن يكون رأى هنا ما رآه في "التسهيل" من مراعاة اللبس في الأعلام, ولذلك مثل بمسلمة, فيكون مثاله مشعرا بذلك, فإن كان مراده هذا فلما قاله وجه إن كانت المسألة غير مجمع عليها, وهو أنهم قد استقر منهم مراعاة اللبس ومجانبته؛ بل قد ثبتت مراعاته في هذا الباب, كما في (مسلمة). والمعنى الذي في (مسلمة) موجود في (ضخمة, وعمرة) وما أشبه ذلك, فلابد من مراعاة ذلك. والله أعلم.

ولاضطرارٍ رخموا دون ندا ... ما للندا يصلح نحو أحمدا يعني أن العرب قد وقع لها الترخيم في غير النداء, وذلك على وجه "الضرورة الشعرية" لا في "الاختيار" فلا يقاس عليه, إلا إن قيل به في شعر إن بلغ مبلغ القياس. والترخيم القياسي إنما يختص بالنداء, وعلى أنه لا يكون في الاضطرار إلا فيما صلح لأن يكون منادي, ومباشرًا لحرف النداء, فإذا لا يجوز أن يرخم ما فيه الألف واللام, فلا يجوز أن يقال في نحو ما أنشده سيبويه من قوله العجاج: *أو الفًا مكة من ورق الحمى* يريد "الحمام" أنه رخم ضرورة, لأنه لا يصلح أن يدخل عليه حرف النداء, لما فيه من الألف واللام, وكذلك كل ما هما فيه إن اتفق في الضرورة حذف آخره فليس بترخيم, وإنما هو حذف على غير جهة الترخيم الاصطلاحي. ومن ذلك أيضا قول لبيد:

درس المنا بمتالع فأبان ... فتقادمت بالحبس فالسوبان أراد " المنازل". فأما إذا صلح للنداء فيجوز فيه الترخيم للضرورة, ومثل ذلك (أحمد) وهو علم يصلح لمباشرة أداة النداء. ويتعلق بهذا الموضع التنبيه على ثلاث مسائل: إحداها: أنه لما أطلق القول في هذا الترخيم, ولم يقيده بلغة دون لغة دل على جوازه على كلتا اللغتين. أما على "لغة من لم ينو" فمتفق عليه, كقول الأسود بن يعفر: وهذا ردائي عنده يستعيره ... ليسلبني حقى أمل بن حنظل يريد "ابن حنظلة" وأنشد أيضا لامرئ القيس: لنعم الفتى تعشو إلى ضوء نادرة ... طريف بن مال ليلة الجوع والخصر

أراد "ابن مالك" وأنشد أيضا لرجل من بني مازن: على دماء البدن إن لم تفارقي ... أبا حردب ليلًا وأصحاب حردب أراد "حرد به" وأنشد أيضا: أسعد بن مالٍ ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقل يصدق وأما على "لغة من نوى" فرأى الجمهور كذلك, ومنه قول ابن أحمر, أنشده سيبويه: أبو حنشٍ يؤرقنا وطلق ... وعمار وآونة أسالا يريد "أثالة", انشد أيضا لجرير:

ألا أضحت حبالكم زماما ... وأضحت منك شاسعة أماما أراد "أمامه" وأنشد لا بن حبناء التميمي: إن ابن حارث إن أشتق لرؤيته ... أو أمتدحه فإن الناس قد علموا وخالف المبرد في هذا الوجه, فمنعه في غير النداء, وهو محجوج على ذلك كما تقدم, وقد قدح فيها بما لا يثبت له ما قال, أما قوله: *وآونةً أثالا* فمعطوف على مفعول "يؤرقنا". وأما بيت جرير فرد فيه رواية سيبويه وقال: وإنما الرواية هكذا: *وما عهد كعهدك يا أماما* فهو من ترخيم النداء. وزعم أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنشده إياه هكذا, ورد الناس هذا الرد بأن سيبويه أوثق من أن يتهم. وهكذا أخذ في تأويل جميع ما أنشده سيبويه, وذلك إن أمكن في البعض فلا يتأتى في الجميع. فالصحيح ما ذهب إليه عامة النحويين.

وأيضا, فما ذكر من أن الرواية على كيت إذا فرض أنه صحيح, فلا يلزم منه مقصوده, فإن القاعدة الأصولية أن رواية لا تقدح في رواية أخرى في الأحكام العربية إذا جاء الاختلاف من جهة العرب. وأيضا فإن القياس يقتضي عكس ما قال, فإن حذف بعض الاسم مع إبقاء دليل على المحذوف أحق, بالجواز من حذفه من غير إبقاء دليل. ألا ترى اطراد نحو: قاضٍ, وغازٍ, وقلة نحو: يدٍ, ودمٍ. والثانية: أن تمثيلية ب (أحمد) مع اشتراط ما يصلح للنداء من غير زيادة يدل على أن هذا الترخيم لا يختص بالهاء؛ بل يجوز وإن كان آخر الاسم غير الهاء (أحمد) الممثل به, فتقول في الشعر: جاءني أحم يا هذا, ومنه في الشعر: *أمال بن حنظل* وقول الآخر: *أسعد بن مال ألم تعلموا* وما أشبه ذلك. والثالثة: أن ذلك يدل على أن هذا الترخيم لا يختص بالأعلام دون غيرها, وإن كان أكثر الترخيم في الأعلام, فالهاء لا تختص ترخيم ما هي فيه بالأعلام, فتقول: على هذا في الشعر: مررت بحنظل, على"لغة من

نوى" وأنت تريد واحدة الحنظل, ومررت بامرأ, تريد (امرأة) وما أشبه ذلك. ومسألة رابعة: وهي أن يقال: لم أخرج ما كان نحو: *درس المنا بمطالع فأبان* ولم يدخله فيما تقدم له؟ ولم فرق بينهما, فجعل نحو: *أمال بن حنظل* ترخيمًا, ونحو: *درس المنا* ليس بترخيم وكلاهما حذف, وغاية ما بينهما أن يقال: أحدهما قليل فلم يعتبره, والآخر: كثير فاعتبره, وذلك لا يقدح في تسمية الجميع ترخيمًا. فالجواب: أن ما فعل من التفرقة ظاهر المعنى, وذلك أن الترخيم المصطلح عليه ما جرى على قانون معلوم, من حذف حرف واحد أو حرفين زائدين, أو أولهما أصلي, على صفات مخصوصة, ويشترط أن يبقي بعد الحذف ثلاثة أحرف أو أكثر, ما لم يكن المحذوف هاء التأنيث أو عجز المركب, وهذا المعنى موجود فيما سماه ترخيما في غير النداء. أما ما كان من باب "درس ألمنا" فليس بجار على ذلك.

ألا ترى أن المحذوف من "المنا" حرفان أصليان, وذلك لا يكون في الترخيم, وكذلك قوله: *مفدم بسبا الكتان* إذا فسر بسبنى الكتان, أو أراد بسبائب؛ إذ لا يحذف مع الآخر ما قبله من زائد إلا إذا كان حرف مد ولين كما مر, ومنه قوله الآخر: "ألاتا" فأجيب "بلى فا". وقول الآخر: *ولا أريد الشر إلا أن تا* وما أشبه ذلك. فليس هنا من شروط الترخيم شيء, فلما كان كذلك علم أن ما تخلف فيه شرط الترخيم في النداء فليس بترخيم في غير النداء. ومن هنا, والله أعلم, ضبط الناظم ذلك بما يصلح للنداء, إلا أن هذا التوجيه يقتضي أنه يسمى ترخيما إذا صاح للنداء, وإن لم يكن على شرط

الترخيم, كما لو قلت: مررت بسفر, تريد: (سفرجل) مسمى به, لأنه لم يشترط إلا أن يصلح لمباشرة حرف النداء حسبما فسر في "شرح التسهيل", وسكت عن اشتراط ما تقدم في الترخيم. وعلى هذا التوجيه المذكور يجوز أن يقال مثلا: *أو الفًا مكة من ورق الحما* *ودرس المناز أو المناز* والجواب: أن قوله: "ما للندا يصلح" يريد: مع ترخيمه بحيث لو باشره حرف النداء كان مرخما ترخيما صحيحا, فجمع بين الموضعين ولم يرد أحدهما, وقد نبه على اعتبار ذلك في "الشرح" فعلى هذا يستقيم كلامه على مقتضى التوجيه, فيجئ منه اشتراط الأمرين, وهما ألا يكون بالألف واللام, وأن يكون الحذف لائقا بطريقة الترخيم, ويلزم على اعتبار هذا ألا يحذف من غير العلم إلا هاء التأنيث خاصة, وأن يكون الحرف الأصلي أو الحرفان في علم خاصة, وهو ظاهر. وبالله التوفيق. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

{الاختصاص}

{الاختصاص}

{الاختصاص} معنى الاختصاص عند النحويين: أن تأتي بـ (أيها) المختصة بالنداء من غير حرف نداء, تفيد تأكيد الاختصاص للمتكلم بما ذكر في الخبر. والباعث عليه إما فخر "أو تواضع أو زيادة بيان. هذا أصله, وهو شبه النداء, كما قال الناظم: الاختصاص كنداء دون يا ... كأيها الفتى بإثر ارجونيا أما كونه يشبه النداء فلأوجه: أحدهما: إفادة الاختصاص بالمتكلم دون غيره, كما أن النداء أفاد اختصاص المخاطب دون غيره بالأمر والنهي والإخبار. والثاني: أن كل واحد منهما لا يكون إلا بالنسبة إلى الحاضر, فالنداء للمخاطب, والاختصاص للمتكلم, وقد يكون للمخاطب قليلا, ولم يذكره الناظم لقلته, ولا يكون للغائب, [كما أن النداء لا يكون للغائب]. والثالث: أن الاختصاص واقع في معرض التأكيد للكلام المتقدم, والنداء يكون كذلك أيضا, لأنك قد تقول لمن كان مقبلا عليك, منصتا لكلامك, مستمعا له: كان الأمر كذا يا فلان, فأثبت بالنداء توكيدا, وبهذا شبه سيبويه. ولما أشبه الاختصاص النداء من هذه الأوجه الثلاثة أتوا له بالأداة المختصة بالنداء وهي (أيها).

فمن هاهنا أخبر الناظم أن الاختصاص مثل النداء, نحو ما مثل به من قولهم: ارجوني أيها الفتى, وهو قوله: "كأيها الفتى بإثر ارجوا نوالي". ومعناه: أيها ارجوني, أى أرجوا نوالي فإني فتى, أي كريم. والفتوة: السخاء والكرم, يقال: فتى بين الفتوة, وقد فتى, وتفاتى, ووقع "أيها" على ضمير المتكلم في "ارجوني" أي ارجوني أيها الكريم. وقوله: "دون ياء" لما أخبر أنه مثل النداء أو شبهه توهم أن قائلا يقول: فلابد إذا أن تدخل عليه أداة النداء, وهي (يا) أو غيرها, فأزال التوهم بقوله: "دون" يريد أن حرف النداء لا يدخل على (أيها) فلا يقال: ارجوني يا أيها الفتى. ومن عادة الإمام إذا شبه شيئا بشيء, وقرب أوجه التشبيه أن يبين أوجه التفرقة, لئلا يتوهم متوهم أنه هو. فالناظم حذا هنا حذوه. و"يا" في كلامه مثال عبر به عن حرف النداء مطلقا؛ إذ لا يريد أن "يا" وحدها هي الممنوعة الدخول على "أيها" دون غيرها كـ (أيا, وهيا) ونحوهما, وإنما قصده نفي الأداة مطلقا. وأنما لم تدخل أداة النداء لأنك لا تريد أن تنبه غيرك ليستمع كلامك, لأن (أيها) واقعة على المتكلم, و (يا) لا تكون إلا تنبيها لمخاطب, وهذا تعليل الكتاب, وهو ظاهر.

ومن الأمثلة في هذا الفصل قولك: أما أنا فأفعل كذا أيها الرجل, ونحن نفعل كذا أيها القوم وقالوا: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. ولما أتى بـ هذا المثال المذكور ظهر أنه أحرز به أشياء: أحدها: أن المختص واقع بعد ضمير المتكلم لقوله: "ارجونى" فلا يكون بعد ضمير غائب البتة, فلا يقال: زيدا ارجوه أيها الفتى, ولا بعد ظاهر نحو: أكرموا زيدا أيها الفتى, ولا ما كان نحو ذلك. فإن قلت: فقد حكى سيبويه أو مثل بقولهم: على المضارب الوضيعة أيها البائع, فـ (أيها) اختصاص راجع إلى "المضارب" وهو ظاهر, ولم يأت به على أنه شاذ ولا ضرورة, وإنما أتى به على حسب التمثيل لمطلق الباب: فالجواب: أن هذا المثال ليس على ظاهره, لأن سيبويه نص بعد ذلك على أن الاختصاص لا يكون للغائب. قال: ولا يجوز أن تقول: إنهم فعلوا أيتها العصابة, إنما يجوز هذا للمتكلم والمكلم المنادي. وإذا كان كذلك عنده فقالوا: إنه من وضع الظاهر موضع المضمر, كأنه قال: على الوضيعة أيها البائع. وقيل: إن الرواية: وعلى صارت الوضيعة أيها البائع, أو أيها المضارب.

قال السيرافي: وهو أشبه بالصواب, فإذا لا اعتراض به على الوجهين. فإن قيل: مفهوم هذا القيد المثالي يقتضي أن الاختصاص لا يكون مع ضمير المخاطب, فلا يقال: أنت تفعل كذا أيها الفاضل. وهذا غير مستقيم, لأن الاختصاص يقع مع ضمير المخاطب, وقد نص عليه الناس, وحملوا ما كان نحو قول امرئ القيس: *الأعم صباحا أيها الطلل البالي* على الاختصاص, وعلى النداء, وليس بينهم في جوازه للمخاطب خلاف أعلمه, فكيف يقيده بالمتكلم خاصة؟ فالجواب: أن تقييد المثال لا يقصر الحكم على المتكلم؛ إذ لنا أن نقول: لا مفهوم له, فيبقى مع ضمير المخاطب مسكوتا عنه, لأنه عنده قليل, ألا ترى إلى قوله في "التسهيل": "وقد يلي هذا الاختصاص ضمير مخاطب, فأتى بـ (قد) المفيدة للتقليل, فلم يعتبره في هذا المختصر. أو يقال: إن المثال قد يشمل ضمير المخاطب؛ إذ لنا أن نعتبر في ضمير المتكلم الوصف الأعم وهو الحضور, كأنه يقول: كهذا المثال وما أشبهه مما فيه

ضمير حضور, ولا يسقط له شيء, ولا يضرنا في ذلك قلة أحد الحضورين, وهو حضور الخطاب, وكثرة الآخر, وهو خصوص المثال, فقد يقصد هذا المعنى. والأمر الثاني: وقوع ذي الاختصاص غير مبتدإ به الكلام. وإلى هذا المعنى أشار بقوله: "بإثر ارجونيا" فقيد (أيها) بكونه آتيا بأثر (ارجوني) لا متقدما عليه. وهذا قيد صحيح؛ إذ لا يجوز أن يقال: أيها الفتى ارجوني, لأنه واقع موقع التوكيد, ومحل التوكيد بعد تقرير المؤكد لا قبله. والأمر الثالث: الإيتان له بـ (أي) كالنداء, وهو قوله: (كأيها الفتى) وقد تضمن هذا القيد ما تضمنته (أي) في باب النداء, من لزوم "ها" التنبيه معها, ولزوم وصفها بما فيه الألف واللام, وكونها مع المذكر المفرد أو المثنى أو المجموع على لفظ (أي) ومع المؤنث المفرد أو المثنى أو المجموع على لفظ (أية) وما أشبه ذلك. وعلى ذلك قوله: "كنداء دون يا" فشبه الاختصاص بالنداء, فلابد أن تكون (أي) معه كما هي مع النداء, وهو ظاهر أيضا, لكنه لما أتى بـ (أي) في المثال خاف أن يتوهم لزومها للاختصاص, فأخذ يتحرز من هذا اللزوم المتوهم, فقال: وقد يرى ذا دون أي تلو أل ... كمثل نحن العرب أسخى من بذل

يعني أنه قد يوجد في كلام العرب هذا الاختصاص دون أن يؤتي فيه بـ (أي) المذكورة [وذلك قليل] , ولذلك قيده بـ (قد) وقلته بالنسبة إلى كثرته بـ (أي). وشرط ذلك أن يكون المختص تاليا لأل, يريد تابعا للألف واللام, أي ذا ألف ولام, نحو قوله: نحن العرب أسخى من بذل, فـ"العرب" منصوب على الاختصاص, والسخاء: ضد البخل, والبذل: العطاء, أي نحن أسخى من تسخى وبذل المال. ومنه: نحن العلماء أحق الناس بالعمل, ونحن العرب أقرى الناس للضيف. وإنما اشترط أن يكون تلو (أل) لأن (أيا) إنما تدخل على ما فيه (أل) فإذا حذفت (أي) بقي ما دخلت عليه. وأيضا: فإن الموضع لا يعتبر فيه صلاحيته للنداء, فيجوز دخول الألف واللام على المختص. وهذا الموضع فيه إشكال من وجهين: أحدهما: أنه اشترط شرطا لم يشترطه النحويون, ولا هو ممن يساعد عليه كلام العرب, وهو: تلو المختص لأل, وذلك أن العرب تنصب على الاختصاص أحد ثلاثة أشياء: الأول: ما فيه الألف واللام, وهو الذي مثل به, وقيد المختص به. والثاني: ما كان مضافا إلى ما هما فيه, كقولك: إنا معشر العرب نفعل كذا. وفي الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". وقالوا: إنا أصحاب

الشاء لا يبقى لنا مال, ولا تصبر أموالنا على السنة. ثبت هذا في النسخة الشرقية. وقالوا: (إنا معشر الصعاليك لا قوة بنا على المروءة). والثالث: العلم, والمضاف إلى العلم, نحو ما أنشده سيبويه من قول عمرو ابن الأهتم: إنا بني منقر قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعد وناديها وأنشد أيضا للفرزدق: ألم تر أنا بني دارم ... زرارة منا أبو معبد وأنشد أيضا لرؤبة: *بنا تميما يكشف الضباب*

وقال الآخر: نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... الموت أحلى عندنا من العسل هذه كلها أمثلة تدل على خلاف تقييده, فيكون غير صحيح. والوجه الثاني: أنه ترك النص على شرط معتبر, وهو أن يكون المختص المفسر ضمير متكلم أو مخاطب على ما تقدم في (أي) فإنه قد يشكل الأمر في غير (أي) والحكم واحد, فالذي يشترط مع (أي) يشترط هنا. فإن قلنا: باختصاصه بالمتكلم فذاك, وإن قلنا: بدخول المخاطب, فيكون كما تقدم. ومنه قول بعضهم: بك الله نرجو الفضل, وسبحانك الله العظيم, ونحو ذلك. وقد شرطوا أيضا في المنصوب أن يكون غير نكرة ولا مبهم, فلا يقال: أنا هذا أفعل كذا وكذا, ولا أنا رجلا أقرى الضيف, وإنما يؤتى بالأسماء الظاهرة, والألفاظ الواضحة المعروفة, لأن الأسماء إنما تذكرها توكيدًا وتوضيحا للضمير المتقدم, فإذا أبهم فقد سيق ما هو أشكل من المضمر, وذلك خلاف المقصود, ونقض الغرض, وكذلك النكرة بهذه المنزلة.

ولكن هذا الشرط قد تقيد باشتراطه في المنصوب (أل) فيبقى اقتصاره على ذلك, وتركه ما هو محتاج إليه. والجواب عن الأول: أن القسمين الأخيرين عند المؤلف قليلة الاستعمال, والأمر العام ما ذكر, فكأنه لم يعتن بالبناء عليه. وأيضا فما أضيف إلى الألف واللام بمنزلته, ألا ترى أنه كذلك في الحكم في "باب اسم الفاعل, والصفة المشبهة" حين جاز: مررت بالضارب صاحب الغلام, ومررت بالحسن وجه الأخ, كما جاز: مررت بالضارب الغلام, والحسن الأخ, وإذا كان بمنزلته في الحكم, فقد يكون مقصود الدخول في "تلو أل" والله أعلم. وعن الثاني: أن ما تقدم اشتراطه مستصحب هنا حتى يظهر نسخه, ولاسيما وقد مثل بما يقتضيه وما قبل هنالك. فإن قيل: باشتراط كون المنصوب غير نكرة ولا مبهم, هل يجري فيما تقدم أولا؟ فالجواب: أنه غير محتاج إليه لأنه لازم؛ إذ لابد من وصف (أي) ولا توصف بمبهم ولا نكرة, وإنما توصف بذي الألف واللام, وقد مر ذلك في بابه, فلا مزيد عليه. واعلم أنه ذكر هنا النصب, ولم يذكر وجهه, وقد يفهم من تسميته اختصاصا أنه على تقدير: أخص, أو أعنى, وهذا التقدير ظاهر في المنصوب, وجار في (أيها) لأن موضعه نصب, وإن كان لفظ المرفوع كالنداء بغير فرق.

التحذير والإغراء

التحذير والإغراء التحذير والإغراء متساويان في الأحكام, وإنما يفترقان في المعنى. فالإغراء هو الإلزام والتسليط, يقال: أغريت الكلب بالصيد, إذا أرسلته عليه, وحرضته وسلطته. والتحذير بضد هذا, وهو التخويف من الشيء, والحذر, والحذر: التحرز, يقال: حذر وحذر من الشيء, إذا تحرز منه, وابتدأ الناظم بالتحذير فقال: إياك والشر ونحوه نصب ... محذر بما استتاره وجب "إياك والشر" في موضع نصب بـ"نصب" وما في قوله: "بما استتاره وجب" واقعة على الفعل المضمر الناصب لـ"إياك" في مثاله, ولـ"نحوه". ويعني أن "إياك" إذا عطف عليه, ولا يعطف عليه إلا بالواو خاصة, ينصب هو ما عطف عليه بفعل مستتر لا يظهر أبدًا. وبيان ما قصد من ذلك أنه أتى في هذين الشطرين وما بعدهما بأقسام خمسة, يتفق الحكم في بعضها, ويختلف في بعضها, وجملتها محمولة على كلامه أنك أتيت بـ (إيا) معطوفا عليها أو غير معطوف عليها, فالفعل لازم الإضمار, وهو الناصب لهما, وإن لم يأت بـ (إيا) فإن لم تعطف ولا كررت فلا يلزم إضمار الفعل؛ بل يجوز الإضمار, وإن عكفت أو كررت فلابد من الإضمار, ولا يجوز الإظهار, وهذا بيان الأقسام على الجملة.

وأما على التفصيل فالقسم الأول: الإتيان بالأداة المشهورة في التحذير, وهي (إيا) الضمير المنصوب المنفصل, معطوفا عليها, نحو ما مثل به, من قوله: "إياك والشر" فهذا القسم ينتصب فيه (إيا) بفعل واجب الاستتار, تقديره: إياك باعد والشر, أو أياك اتق والشر, أو إياك نح, أو ما كان بهذا المعنى. ومثل ذلك: إياك والأسد, فالمعطوف والمعطوف عليه معًا ينتصبان بذلك الفعل, كما قاله الناظم, لأن واو العطف شركت بينهما في العامل, وكأن العرب جعلت هنا (إياك) بدل اللفظ بالفعل الناصب, فلا يظهر معه أصلا. وما مثل به الناظم فيه قيدان معتبران: أحدهما: تقييد (إيا) بالخطاب, فلا تقول: إياه والأسد, ولا إياي والشر, وسيأتي كلامه على هذا, وإنما يقال: إياك والشر, أو إياكم والشر, وكذلك إيكم, وإياكن. وسيأتي توجيهه عندما ينبه عليه إن شاء الله. والثاني: تقييد العطف بالواو من بين سائر حروف العطف, فلا تقول: إياك فالشر, ولا إياك ثم الشر, لأن المقصود التحذير من جمع هذين, وليس المراد أن تحذر هذا ثم هذا, ولا أن تحذر هذا فهذا, وإنما القصد أن تحذر هذا من هذا. فإن قلت: إن العطف يعطي أن كل واحد منهما محذر منه أو محذر, لأن المعطوف شريك المعطوف عليه في معنى العامل, وإذا كان كذلك فلا فرق بين الواو وبين الفاء وثم.

فالجواب: أن معنى التشريك فيه ليس على حقيقته, لأن (إياك) محذر لا محذر منه, و"الأسد" محذر منه لا محذر, فلا يجري هذا الحكم في غير الواو, وإنما جاز في الواو بلحظ التشريك في مجرد التحذير, وإن كان التحذير بالنسبة إليهما مختلفا, هذا محذر, وهذا محذر منه. ونظره السيرافي بقولك: خوفت زيدًا الأسد, فزيد مخوف, والأسد مخوف, وليس معناهما واحدا, لأن الأسد مخوف منه, وزيد مخوف, على [معنى] أنه يجب أن يحذر [منه] , ولفظ "خوفت" قد تناولهما جميعا, فـ (إياك والأسد) الناصب لهما معنى واحد, وطريق التخويف مختلف فيهما. وإذا كان كذلك فقد يحتمل هذا في الواو بعد السماع, ولا يحتمل في غيرها من حروف العطف. وقد حرر ابن الضائع هذا المعنى تحريرا حسنا, فطالعه في موضعه من كتابه. والقسم الثاني: أن تأتي بـ (إيا) دون عطف, وذلك قوله:

ودون عطف ذا لإيا انسب وما ... سواه ستر فعله لن يلزما إلا مع العطف أو التكرار ... كالضيغم الضيغم ياذا الساري فيريد أن (إيا) إذا أتت من غير عطف فانسب إليها ما نسب إلى (إيا) المعطوف عليها, وهو لزوم استتا الفعل, فـ (ذا) إشارة إلى النصب بما استتاره وجب, فلا يجوز إظهار الفعل فتقول: إياك يا زيد, أو إياك لا تفعل كذا. كأنك قلت: إياك نح, أو إياك باعد. وإنما لم يظهر فيه الفعل لأنهم لما كثر هذا في كلامهم ألزموه الحذف اختصارا لفهم المعنى. ولم يذكر مع (إيا) هذه ما يقع بعدها, وهي في ذلك على ثلاثة أوجه: ألا يقع بعدها شيء كما مثل, وأن يقع بعدها المحذر منه مصرحا به غير معطوف, نحو: إياك الشر, وأن يقع بعدها (أن) والفعل, نحو قوله: فيا الغلامان اللذان فرا ... إياكما أن تكسباني شرا وهو مع (أن) كثير. فإما أن يكون سكت عن ذلك جملة, لما في تفصيل الحكم فيه من الخلاف والشغب.

وإما أن يكون اعتقد أن المنصوب بعدها من جملة أخرى, كأنه على إضمار فعل آخر, وإن كان ذلك قليلا إلا أنه يصلح للقياس, كالذي أنشده سيبويه عن ابن أبي إسحاق: إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشرر دعاء وللشر جالب فنصب (المراء) على معنى: اتق المراء. وكذلك ما أنشده الفراء من قول الجعدى: ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... وإياك المحاين أن تحينا ويحتمل المعنى فيما إذا وقعت (أن) بعد إياك, نحو: إياك أن تفعل, فيقدره منصوبا بـ (اتق) ونحوه, ولا يجعله على حذف الجار. ومنه ما أنشده يونس لجرير: إياك أنت وعبد المسيح ... أن تقربا قبلة المسجد

وأنشد الفراء: فبح بالسرائر في أهلها ... وإياك في غيرهم أن تبوحا وأنشد الكوفيون: فيا الغلامان اللذان فرا ... إياكما أن تكسباني شرا أو يكون على حذف الجار أيضا, لكن هو مع (أن) كثير, أعنى وقوع (إياك) قبل (أن) بخلاف نحو: إياك المراء, وإذا فرضناه على الإضمار فذلك المضر يجوز إظهاره, فهذان الوجهان يمكن أن يكون الناظم قد ذهب فيهما مذهب الجمل, لا مذهب المفردات, فيكون (إياك) جملة, و (المراء) جملة أخرى. وكذلك (أن تفعل) بعد (إياك) جملة أخرى, والجمل قد يترك عطفها بعضها على بعض, لاسيما إن جرت مجرى التوكيد لما قبلها, وعلى تقدير الجملتين وجه سيبويه والشراح بيت ابن أبي إسحاق؛ إذ قدروه بفعلين, فكذلك نقول نحن في كل ما جاء من هذا, وإنما منع سيبويه والجمهور المسألة على أنها من عطف المفردات, فإذا قدرناها جملتين لم يمتنع.

قال ابن خروف: لا يجوز حذف حرف العطف من الأسماء المفردة إلا في الشعر, ويجوز حذفه من الجمل. قال: وهو في القرآن كثير, كقوله: {قال فرعون وما رب العالمين}. إلى آخر الآيات. قال: وإنما حذف مع الجمل لأن كل جملة قائمة بنفسها. هذا ما قال ابن خروف, والمعنى المقصود من كلامه صحيح, وهذا المعنى يظهر من كلامه في "التسهيل" حيث قال: ولا يحذف العاطف بعد (إيا) إلا والمحذور منصوب بإضمار ناصب آخر, أو مجرور بمن. فظاهر هذا الكلام جواز حذف العاطف قياسا, ولا علينا أن يكون ذلك قليلا. وإذا ثبت هذا كله فالناظم لم يتكلم على هذا, لأنا إن فرضنا وقوع المنصوب بعد (إيا) فعلى جملة أخرى من القسم التالي, لهذا كررت توكيدا, فلا حاجة إلى عاطف معها, وإن وقع بعدها (أن) والفعل فعلى ذلك أيضا, أو على إضمار الجار؛ إذ يجوز ذلك مع (أن, وأن) كما تقدم في بابه. وقد يجوز أن يقال: إياك من الأسد, على تقدير: باعد نفسك من الأسد, وهذا الحكم لا يختص بهذا الباب, فلم يذكره هاهنا؛ إذ هو محال به على موضعه, فعلى كلا الوجهين لا حاجة إي ذكر شيء من ذلك في هذا القسم, للاستغناء عن ذلك بذكره في موضعه. وما تقدم من النص عن "التسهيل" ربما يبحث عنه الناظر فيه, فلا يجده في النسخ المستعملة بأيدينا, لأن "باب الإغراء والتحذير" غير موجود فيها, وهو موجود في النسخة الكبرى منه.

وقد ذكر أبو حيان (بن حيان) في شرحه للتسهيل: أن هذا الباب يثبت في بعض النسخ, ويعني النسخة الكبرى. والقسم الثالث: ما عد (إيا) لكن من غير عطف ولا تكرار, وذلك قوله: "وما عداه ستر فعله لن يلزما". الضمير في قوله: "عداه" عائد على (إيا) على الوجهين, أي وما عدا (إيا) كانت بعطف أو بغير عطف, لن يلزم ستر فعله إلا مع كذا. يريد أنك إذا أتيت بما تحذر به دون (إيا) فيجوز أن يكون ناصبه مقدرا ويجوز أن يكون ظاهرا. فإذا قلت: نفسك يا زيد, فهو منصوب بفعل مضمر, تقديره: نفسك اتق, أو نفسك احذر, ويجوز أن تظهر ذلك الفعل, فتقول: اتق نفسك, أو أحذر نفسك. ومثله: الجدار يا هذا, والأسد يا فتى, والشر يا فتى, أي اتق الجدار, واتق الأسد, واحذر الشر, وما أشبه ذلك, ولك أن تظهر ذلك كله. وإنما جاز إظهاره هاهنا لأنه الأصل في كل مضمر مقدر, لأن هذه الأشياء ونحوها لم تكثر في كلامهم كثرة (إياك) وحدها, أو مع العطف.

ومن أمثلة الإظهار في هذا النحو قول جرير, أنشده سيبويه: خل الطريق لمن يبني المنار به ... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر والقسم الرابع: ما عدا (إيا) إذا صحبه العطف, وهو أحد ما استثنى في قوله: "إلا مع العطف أو التكرار". واستثناؤه هذا القسم والذي بعده من جواز إظهار الناصب دليل على أنه لا يجوز الإظهار فيهما؛ بل يلزم الاستتار فيما إذا أتيت بالمحذر معطوفا عليه محذر آخر, وذلك قولك: رأسك والحائط, ونفسك والشر, على تقدير: اتق نفسك والشر, أو: باعد نفسك والشر. والعطف هاهنا منزل على العطف مع (إيا) من حيث كان كل واحد منهما محذرا على الجملة, وإن كان المعنى على أن أحدهما محذر, والآخر منه لا على الاشتراك الحقيقي. فإن قيل: إن هذا الإطلاق يقتضي أن الإضمار هنا لازم مع العطف كيف كان, فيدخل فيه ما تقدم, ويدخل فيه أيضا ما إذا كان المعطوف مشاركا للأول في كونه محذرا, كقولك: الأسد والذئب, أو قولك: رأسك وجنبك, أو قلت: نفسك وغيرك, أو نفسك وولدك, أو ما أشبه ذلك, مما يصلح أن يؤتي بعده بالمتقى منه, فهل يكون هذا مثل ذلك, فليزم الإضمار, أم يكون حكم هذا حكم المفرد, فلا يلزم الإضمار, ويكون إطلاقه مشكلا؟

فالجواب: أن العطف المعتبر هنا إنما هو ما كان نحو: رأسك والحائط, ونفسك والشر, فهو الذي يلزم الإضمار, وأما ما كان غير ذلك فلا, لأنك إذا قلت: الأسد والذئب, فهما اسمان في حكم الاسم الواحد, كأنك تقول: هذين اتق, فكما أنك تنصب المثنى في التحذير إذا لم تعطف عليه بما يجوز إظهاره, فكذلك ما كان في تقديره. ألا ترى أنه يجوز لك أن تعطف المحذر منه عليهما, فليس إطلاق العطف بمستقيم, غير أن هذا لا يرد على الناظم, لأنه قال: "إياك والشر ونحوه" وإذا كانت للعهد فيما تقدم خرج عن ذلك ما كان العطف فيه مرادفًا للتثنية, وهذا حسن. والقسم الخامس: ما عدا (إيا) إذا صحبه التكرار, وهو تكرار الاسم الأول بلفظه, فالإضمار هنا لازم, نحو قولك: الأسد الأسد والجدار الجدار, أي احذر الأسد, واتق الجدار. وتقول: الصبي الصبي, أى لا توطئ الصبي, وإنما لم يظهر الفعل في هذين القسمين, لأن اللفظ الأول من اللفظين كأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل, فصار كـ (إياك) في قيامه مقام الفعل. ونظير ذلك في الأول من القسمين قولهم: ما أنت إلا سيرا, وإنما أنت سيرا. وفي الثاني: قولهم: زيد سيرا سيرا, وقد مر ذلك:

قال سيبويه: فلو قلت: نقسك, أو رأسك, أو الجدار, كان إظهار الفعل جائزا نحو قولك: اتق رأسك, واحفظ نفسك, واتق الجدار. قال: فلما ثنيت صار بمنزلة إياك, وإياك بدل من اللفظ بالفعل, كما كانت المصادر كذلك, نحو: الحذر الحذر. وقوله: "كالضيغم, الضيغم" مثال من التكرار, و"ياذا الساري تمام المثال, اسم فاعل من: سرى يسري, وهو سير الليل خاصة, والضغيم: الأسد. وشذ إياي ولإياه أشذ ... وعن سبيل القصد من قاس انتبذ لما ذكر أولا أن التحذير إنما يكون للمخاطب على حسب ما أشار إليه في المثال المتقدم نبه هاهنا على ما يخالف ذلك المثال أنه شاذ, وأتى في هذا القصد بمسائل ثلاث: إحداهما: بيان شذوذ (إيا) المتصلة بياء المتكلم, نحو: إياي, وإيانا, فلا يقال عنده: إياي والأسد, ولا إياي والشر, وإنما لم يجز ذلك لأن الإنسان لا يأمر نفسه, ولا ينهي نفسه, وإنما الأمر والنهي للمخاطب, وما جاء من ذلك فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. ومن ذلك قولهم: إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب, حكاه سيبويه, ومعنى الحذف أن يرميه بسيف ونحوه. وحكى أيضا عن بعض ملوك اليمن: إياى وإيا الركب. وحكى أيضا سيبويه: أن بعضهم يقال له: إياك, فيقول: إياك, فيقول: إياي, كأنه قال: إياي أحفظ وأحذر.

فحمل هذا على الخبر, ولم يحمله على الأمر, بخلاف الأول, وهو إياي وأن يحذف, فإنه حمله على أنه أمر للمخاطب, كأنه [قال]: إياي باعد أيها المخاطب وحذف الأرنب, ولم يأمر نفسه؛ إذ لا يصح ذلك, ولذلك لا يصح إضمار فعل, فهذا عند الناظم شاذ. والثانية: بيان أن (إيا) المتصلة بهاء الغائب أشذ من (إياي) وذلك قوله: "وإياه أشذ" يعني من (إياي) ". وذلك أن العلة في منعهما معا واحدة, من حيث كان الأمر والنهي مختصين بالمخاطب, فما جاء على خلاف ذلك نادر شاذ. وإشارته بذلك لما حكى سيبويه عمن لا يتهمه عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيا الشواب, أي إياه حذر والشواب, فهو أمر للمخاطب, كما في (إياي). وهذا المثال شاذ من وجهين: من الوجه الذي أشار إليه الناظم, ومن جهة إضافية (إيا) إلى الظاهر, ولذلك قال في "التسهيل": وشذ "إياه وإيا الشواب" من وجهين. والثالثة: إخباره بأن هذا الذي ذكر أنه شاذ لا يقاس عليه, ومن قاس عليه فقد أشد عن سبيل جماعة النحويين, وذلك قوله: "وعن سبيل القصد من قاس أشد" أي إن من قال بالقياس فقد خرج عن السبيل القاصد, والطريق المستقيم. وهذا الكلام قد يشعر بوجود خلاف في هذه المسألة, وهو خلاف لا أتحققه منصوصا عليه إلا ما أذكره لك.

وذلك أن سيبويه أتى بـ (إياك, وإياي, وإياه) في مطلق التمثيل غير مقيد بشذوذ ولا قلة, فقال في "باب التحذير": ومن ذلك قولك: إياك والأسد, وإياي والشر, كأنه قال: إياك فاتقين والأسد, وكأنه قال: إياي لأتقين والشر, فـ (إياك) متقى, و"الأسد والشر" متقيان. قال: ومثله: إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب. قال: ومثله: إياك, وإياه, وإياي, كأنه قال: إياك باعد, وإياه, أو نح. قال وزعم أن بعضهم يقال له: إياك, فيقول: إياي, كأنه قال: إياي أحفظ وأحذر. فهذه العبارة من سيبويه تشعر بأن تحذير المتكلم والغائب قياس كتحذير المخاطب, والشراح, كالسيرافي وابن خروف, حملوه على ظاهره, ولم يقيدوه إلا بأن التحذير هنا راجع للمخاطب, لا للمتكلم ولا للغائب. قال السيرافي: ما معناه: إن القائل: إياي والشر, ليس يخاطب به نفسه ولا يأمرها, وإنما يخاطب رجلا, يقول له: إياي باعد عن الشر, فينصب (إياي) بـ (باعد) وما أشبهه, ويحذف حرف الجر من "الشر" ويوقع الفعل المقدر عليه, فيعطفه على الأول, لأن الفعل قد وقع على الأول, قال: ومثله: إياي وأن يحذف أحدكم.

قال الشلوبين: هذا الذي قاله السيرافي واضح, لأن إضمار فعل المتكلم في الأمر وفعل الغائب لا يكون. قال: وقد نص سيبويه على أن فعل المخاطب هو الذي يضمر فيما تقدم. قال: ولكن يمكن أن يكون الإنسان يخاطب نفسه, فيقول: احذري إياي والشر, فلا يحذف إلا فعل المخاطب. وقال ابن خروف: ليس هذا أمرًا بنفسه, إنما خاطب رجلًا, فحذره نفسه والشر, أي بمباعدتها من الشر. قال: والمعنى لا تقرب الشر فيأتيك مني ما تكره, أي اتق الشر, واتق معاقبتي لك عليه. وأجاز الشلوبين في قوله: (ومثله إياك, وإياه, وإياي أن يكون أراد: ومثله أن تقرن إياك مع الشر, وإياه مع الشر, وإياي كذلك, يعني أن لا تكون (إياه) معطوفة على (إياك) وعلى (إياي) وإن كان الأظهر أن يكون معطوفا وقع موقع الظاهر في قولك: إياك زيدًا, وإياي زيدًا, فجعله محتملا لأن يكون سيبويه يجيز: إياي والشر, وإياه والشر. فكلام الشلوبين أقرب لتجويز القياس, وإن كانت عبارتهم لا تأباه كما تقدم. وقد أجاز ابن خروف في (إياي والشر) أن يكون خبرا, كأنه قال: إياي أحذر وأحفظ, كأنه جواب من قيل له: إياك والشر. فقال: إياي والشر, وجعله تأويلا لكلام سيبويه, قال: وهو صحيح, يعني هذا الوجه من التأويل.

فقد ظهر من مجموع هذا الكلام أن (إياي والشر) جائز على الوجهين, على الأمر وعلى الخبر, وكذلك (إياه) على ما ظهر من كلام الشلوبين, فإن كان الناظم أراد بالقائس من تقدم ذكره وإلا فلا أدري من المخالف في المسألة. والمستند الذي عول عليه الناظم هو السماع, لأن الذي اشتهر في الكلام تحذير المخاطب (إياك) لا بـ (إياي) ولا (إياه) وعلى أنه قد أجاز في "التسهيل": إياي والشر, ومنعه هنا, وهذه عادته في اضطرابه في الاختيار, وقد جعله في "الفوائد" نادرا. والسبيل: الطريق. والقصد: العدل, والقصد أيضا: إيتان الشيء والذهاب نحوه. واتتبذ فلان, أي ذهب ناحية, فكأنه قال: ومن قاس فقد خرج عن طريق العدل والصواب, أو خرج عن الطريق القاصد الموصل إلى الصواب والحق. وكمحذر بلا إيا اجعلا ... مغري به في كل ما قد فصلا لما أتم الكلام على أحكام التحذير, شرع في التنبيه على أحكام الإغراء. ولما كان التحذير والإغراء معا يجريان مجرى واحدا أحال في حكمه على حكم التحذير, ويعني أن الاسم المغرى به حكمه حكم الاسم المحذر في جميع ما تقدم تفصيله من الأحكام, من لزوم إضمار الناصب وعدم لزومه, وفي كونه مكررًا أو معطوفًا عليه, وغير ذلك. إلا في حكم واحد, وهو الإتيان بـ (إيا) فإنها لا تقع في الإغراء, كما تقع في التحذير [لأن معناها مختص بالتحذير, فلا موقع لها في غيره.

وقد تقدم في كلامه في التحذير] خمسة أقسام, اثنان منا مع (إيا) وثلاثة مع غيرها, فالتي مع (إياك) هي قولك: إياك والأسد, بتابع معطوف, إياك, بغير تابع أصلا. وهذان غير داخلين في الأغراء. لاختصاصهما بـ (إيا) فبقي الثلاثة الأخر, وهو الإتيان بالمحذور وحده, أو به مع معطوف, أو به مكررا, فهذه هي الأوجه التي تتصور في الإغراء. فالقسم الأول, وهو الإتيان بالمغرى به وحده, فنحو قولك: شأنك يا زيد, وأمرك يا عمرو, تريد: الزم شأنك, والزم أمرك. وتقول: زيدًا, أي: الزمه, ومنه قول أبي ذؤيب: جمالك أيها القلب القريح ... ستلقى من تحب فتستريح أي الزم تجملك وحياءك. ويجوز هنا إظهار الفعل, لأن الاسم إذا أتى به مفردا لم يجز مجرى المكرر, لكثرة لاستعمال في المكرر بخلاف هذا, فألزم المكرر الحذف لذلك دون المفرد. فإن قلت: فقد نصوا على لزوم الإضمار وإن كان مفردا, نحو قولك: حذرك يا زيد, وعذيرك من زيدٍ. قال عمرو بن معد يكرب, أنشده سيبويه:

أريد حباءه ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد والعذير: بمعنى العذر والمعذرة. وأنشد أيضًا لذي الإصبع العدواني: عذير الحى من عدوا ... ن كانوا حية الأرض ونحو هذا، إنما هو على معنى: الزم حذرك، والزم عذيرك، أي عذرك، وهو مما لا يظهر فيه الفعل، فقد خالف بهذا "باب التحذير". فالجواب: أن هذا ليس من باب (الزم) وإنما هو من باب المصادر التي عملت فيها أفعالها، فصارت مثل: ضربًا زيدًا، وإذا كانت كذلك خرجت عن كونها منصوبة من "باب الإغراء" وأيضا، فهذا إنما يكون في بعض الأشياء التي يكثر في الكلام استعمالها، فهي خارجة بكثرة الاستعمال عن جواز الإظهار، وهي مع ذلك موقوفة على السماع. والقسم الثاني، وهو الإتيان بالمغرى به مع العطف عليه، نحو قولك: شأنك والعلم، وشأنك والحج.

ومن ذلك "أهلك والليل" أي لزم أهلك، أو بادر أهلك والليل، يعني بادرهم قبل الليل. وهذا تمام ما يلزم فيه إضمار الفعل، فلا يجوز أن تقول: الزم شأنك والحج، كأنهم جعلوا المفعول الأول بدلًا من اللفظ بالفعل، والعلة هنا وفي التحذير واحدة، ولذلك أتى بهما سيبويه مختلطين، لم يفرق بينهما، لأن أحدهما أمر والآخر نهى. والقسم الثالث: الإتيان به مكررا بلا عطف، نحو: الليل الليل، أي الزمه وأدركه، والطريق الطريق، إذا أردت: الزمه، وأخاك أخاك، وأنشد سيبويه لمسكين الدارمي: أخاك أخاك إن من لا أخاله ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح ومنه قولك: الله الله في أمري، أي الزم تعظيمه والوسيلة به. وهذا أيضا لا يجوز فيه إظهار الفعل، وقد تقدم تعليل ذلك في التحذير. وهذا الباب كله، أعنى (باب الإغراء) مختص بالمخاطب، لا يكون لمتكلم ولا لغائب، فلا يقال: شأني والحج، لأن الإغراء أمر، كما أن التحذير نهى، وهما يختصان بالمخاطب.

فإن قلت: إن كلام الناظم يعطى بعمومه أنه قد جاء (الإغراء للمتكلم والغائب، وأنه اختلف في القياس عليه، وأن رأيه عدم القياس لقوله: إن) الإغراء كالتحذير في كل ما قد فصل، وهذه المسألة مما قد فصل قبل. فالجواب: أن هذه مغالطة، لأن الشذوذ إنما نقله في (إيا) وقد استثنى هو (إيا) في قوله: (بلا إيًا) فسقطت حكاية الشذوذ، والخلاف في القياس عليه. على أنه قد جاء الإغراء للغائب، ومنه في الحديث "من استطاع منكم الباءة فليتزوج" ثم قال: "وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء". فأغرى الغائب، وكذلك جاء إغراء المتكلم، كقولهم: على زيدًا، وقال سيبويه: وحدثني من سمع أن بعضهم قال: عليه رجلًا ليسني وهو من إغراء الغائب، ولكن هذا قليل، ومتأول على أن الأمر للمخاطب، كأنه قال: بصروه ودلوه على الصوم، وعلى زيدًا، أي أخذني زيدًا، أي اجعلني أخذه، وكذلك: عليه رجلًا ليسني، وكل هذا شاذ، كما تقدم.

أسماء الأفعال والأصوات

أسماء الأفعال والأصوات ما ناب عن فعلٍ كشتان وصه ... هو اسم فعلٍ وكذا أوه ومه اسم الفعل: هو الاسم الموضوع بالأصالة موضع الفعل نائبًا عنه فيما له من عملٍ ومعنى. واسم الصوت: هو اللفظ المخاطب به مالا يعقل، أو الموضوع حكاية لصوته. فهذا الباب مشتمل على ثلاثة الأنواع. وابتدأ الكلام في النوع الأول، وهو اسم الفعل، ويريد أن ما كان من الأسماء نائبًا عن فعل من الأفعال، قائمًا مقامه يسمى (اسم فعل). والمراد بالنيابة هنا النيابة المعنوية، أي ما ناب في أداء معناه حقيقة، ولا يريد النيابة مطلقا، في المعنى والعمل وغيره، لأنه قال بعد هذا: "وما لما تنوب عنه من عملٍ لها" فلو كان المراد هو النيابة في العمل أيضا لكان معنى الكلام: ولأسماء الأفعال النيابة عن الفعل في العمل ما للفعل من عمل، فيكون إخبارًا بأنها تنوب عنه فيما هي نائبة عنه، وهذا تكرار لا طائل تحته، فالمقصود نيابة المعنى خاصة. وقوله: "ما ناب عن فعلٍ" مشعر بأن اسم الفعل نائب عن الفعل بلا واسطة، فحصل من ذلك مسألتان مختلف فيهما:

إحداهما: أن (شتان، وصه، ومه) ونحوها أسماء لا أفعال؛ إذ لا يقال في الفعل: إنه ناب عن فعل. وهذا مذهب البصريين، وذكر عن الكوفيين أن أسماء الأفعال أفعال حقيقة، وهو مذهب غير جارٍ على طريقة صناعة، لأن الأفعال تتصل بها ضمائر الرفع البارزة، فتقول: اضربا يا زيدان، واضربوا يا زيدون، وأنت تقول: صه يا زيد، وصه يا زيدان، وصه يا زيدون، لا غير، فلو كانت أفعالا لاتصلت بها الضمائر. والثانية: أنها نائبة عن الأفعال أنفسها بلا واسطة، وهو مذهب الجمهور. وذهب قوم إلى أنها نائبة مناب المصادر النائبة مناب الأفعال، فقولك: (صه) نائب مناب قولك: سكوتًا، و (سكوتًا) في موضع (اسكت) وكذلك سائرها. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب. وعلى الثاني هي في موقع نصب، لوقوعها موقع ما هو في موضع نصب. وما ذهب إليه الناظم أولى، لأنها لو كانت موضوعة موضع المصادر لجرت بوجوه الإعراب كالمصادر، لأنها لم تكن دالة إلا على ما يستحق الإعراب، فكونهم التزموا بناءها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه، وصحة ما مال إليه الناظم. وقد استدل من ذهب إلى ذلك بأن الاسم يجرى مجرى المسمى في معهود اللغة، وهذه الأسماء يلحقها ما لا يلحق الأفعال، من التنوين نحو: صهٍ، ومهٍ، وأفً، وإيهٍ، ومن الألف واللام نحو: النجاءك، والتصغير نحو: رويدًا، والتثنية

نحو: "دهدرين سعد القين" أي هلك سعد القين، والتركيب نحو: هلم، وحيهل. فلو كانت معاقبة للفعل، ونائبة منابه وبمعناه من كل وجه- لما ساغت فيها هذه الأحكام التي لا تكون إلا للاسم. وهذا ضعيف، فإن ما يقوم مقام الشيء لو أعطى حكم ذلك الشيء من كل وجه لكان إياه، وهذا فاسد، بل الذي يقوم مقام الشيء، وكان من غير جنسه، يقوم مقامه فيما لا يخل بحكمه في نفسه، فأسماء الأفعال يعامل لفظها معاملة الأسماء، ويعامل معناها معاملة الأفعال، لأن معانيها معاني الأفعال. فالأصح ما ذهب إليه الناظم. ثم أتى بأربعة أمثلة نبه بها على مسألتين:

إحداهما: أن النيابة المرادة هنا هي الوضعية، فإن النيابة على وجهين: أحدهما: النيابة في معهود الاستعمال، لا في أصل الوضع، كنيابة المصادر عن أفعالها، نحو: ضربًا زيدًا، وهو أخي حقًا، وما أشبه ذلك، فالأسماء النائبة هذه النيابة ليست أسماء أفعال، وإنما هي على أصل وضعها، لكن عرض لها نيابة في الاستعمال، ولم تخرج بذلك عن حقيقة أصلها، ولذلك ظهر فيها تأثير العامل التي نابت عنه. والثاني: النيابة في أصل الوضع، وهي النيابة التي صيرت الأسماء على حكم الأفعال في العمل وغيره؛ بل على حكم الحروف التي وضعت نائبة عن الحرف، كـ (إن) وأخواتها كما تقدم. وهذه هي النيابة المرادة هنا، أحرز ذلك تمثيله. والمسألة الثانية: إشارته إلى أنواع اسم الفعل، وذلك أن اسم الفعل ينقسم بانقسام الفعل، والأفعال ثلاثة: أمر، وماضٍ، ومضارع، فكذلك أسماء الأفعال ثلاثة: أحدها: اسم فعل الأمر نحو (صه) بمعنى: اسكت و (مه) بمعنى: انكفف، و (إيه) معنى: حدث و (نزال) بمعنى: انزل، و (قرقار) بمعنى: قرقر، و (حيهل) بمعنى إيت، نحو: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر. وقد نبه عليه بمثالين، وهما (صه، ومه). والثاني: اسم الفعل الماضي، نحو (هيهات) بمعنى: بعد، و (همهام) بمعنى: فني، و (دهدرين) اسم: هلك، أو بطل، و (سرعان) بمعنى: سرع.

ورأت امرأة من العرب شاًة سال أنفها، فقالت: "سرعان ذي إهالة" أي سرع شحم هذه الشاة. والإهالة: الشحم، و (وشكان) بمعنى: سرع أيضا، و (شتان) بمعنى: افترق، وهو مثاله الذي نبه عليه به. و (بطان) بمعنى: أبطأ. والثالث: اسم الفعل المضارع، نحو: (واهًا) بمعنى: أعجب، و (وى) كذلك. و (أوه) بمعنى: أتوج، و (أف) بمعنى: أتضجر، و (كخ) بمعنى: أتكره، و (ها) بمعنى: أجيب، و (بجل، وقط) بمعنى: أكتفى، و (حس) بمعنى: أتوجع. فإن قلت: إطلاقه يقتضي أحد أمرين، كل منهما محظور، وذلك أنه لا يخلو إما أن يريد بالنيابة هنا النيابة بالأصالة أولا. فإذا أراد النيابة بالأصالة، فلا تدخل تحت إطلاقه سوى ما كان من نحو (صه، ومه، ونزال، وهيهات) ونحو ذلك مما تقدم ذكره، ويبقى (إليك، وعليك، ودونك، وعندك، ولديك) وما كتن نحوها غير داخلٍ، لأن كونها أسماء أفعالٍ ليس بحق الأصل؛ إذ كان أصلها أن تكون ظروفًا ومجروراتٍ، نحو: جئت إليك، واعتمدت عليك، ونزلت عندك ونحو ذلك، وهو قد نص على دخولها في الباب على أنها من أسماء الأفعال بقوله:

والفعل من أسمائه عليكا ... وهكذا دونك مع إليكا فجعلها أسماء أفعال كالذي قدم، فيناقض إطلاقه أولًا كلامه آخرًا، وإن أراد النيابة على أعم من ذلك، فيدخل له (عليك، وإليك) ويدخل معه المصادر النائبة عن أفعالها لزومًا، نحو: ضربًا زيدًا، وحمدًا، وشكرًا، وعجبًا، وما كان من ذلك، وهو كثير جدًا- فيقتضي أنها أسماء أفعالٍ اصطلاحًا، وداخلة في أحكامها، وهذا كما ترى ليس كذلك، فإن نيابة هذه المصادر عن الأفعال عارضة، وفي حالٍ ما، وهي باقية على بابها الأصلي، ولذلك لم تبن كما تبنى أسماء الأفعال، فلا بد من اإشكال على كلا التقديرين. فالجواب: أن المراد النيابة الأصلية وما جرى مجراها، فالأصلية ما في (صه، ومه، وهيهات). وأما اللاحقة بها فـ (دونك، وعندك، وإليك) ونحوها، وذلك أنها تمحضت للنيابة وإن كان أصلها غير ذلك، بخلاف (ضربًا زيدًا) ونحوه، فإنه ناب في بعض الأحوال، ويظهر الفعل في أحوال أخر. والدليل على عروض النيابة بقاء الإعراب، فإنها لو تمحضت لذلك لبنيت. فإن قلت: فـ (عندك، وقدامك، ووراءك) ونحوه معربة أو مبنية؟ فإن قلت: معربة، فهي مثل (ضربًا وزيدًا) وإن قلت: مبنية، فمن أين لك هذا وهي باقية على ما كانت عليه قبل النيابة من كونها منصوبة بفعلها الذي نابت عنه؟ فالجواب: أنها مبنية لما سيذكر عند ذكر الناظم له إن شاء الله.

وفي (أوه) لغات، إحداها: ما ذكره الناظم، وأوه، وأوه، وأوه، وأوه، وأه. وما بمعنى افعل كامين كثر ... وغيره كوى وهيهات نزر يريد أن اسم الفعل، بمعنى فعل الأمر، كثر في كلام العرب، نحو ما ذكر في التمثيل قبل هذا. ومنه: أمين، وأمين، ممدودا، وهو مثاله، ومقصورًا أيضا، فمن الممدود قوله: يا رب لا تسلبنى حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال أمينا ومن المقصور قوله: تباعد منى فطحل إذ سألته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدًا ومنه أيضا (ها، وهاء) مقصورًا وممدودًا، و (هال، وهاءك) وكلها بمعنى: خذ. ومنه بلا كاف: {هاؤم اقرءوا كتابيه}.

و (هلم) الحجازية، بمعنى: أقبل، أو أحضر، ومنه قوله تعالى: {والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} وقوله: {قل هلم شهداءكم}. و(تيد، ورويد) كلاهما بمعنى: أمهل. و (حيهل) بمعنى: إيت، نحو: فحيهلا بعمر، بمعنى: أقبل. و (هيت، وهيت، وهيا، وهيك، وهيك، وهيك) بمعنى: أسرع، و (بله) بمعنى: دع، وذلك كثير. وأما ما كان بمعنى الماضي أو المضارع فقليل كما ذكر. وقوله: "كوى" مثال من اسم فعل المضارع، وهو بمعنى: أعجب. ومنه عند الخليل وسيبويه. قوله تعالى: {ويكأن الله يبسط الرزق} الآية. وأنشد سيبويه: وى كأن من يكن له نشب يحـ ... ـــبب ومن يفتقر يعيش عيش ضر

وقد تقدم بعض الأمثلة، ومنه باب (فعال) ثلاثيًا وهو قياس، ورباعيًا وهو سماع، نحو: قرقار، وعرعار. وقوله: "هيهات" مثال من اسم الفعل الماضي، وفيه لغات: هيهات، وهيهات، فالفتح لأهل الحجاز، والكسر لتميم وأسد. ومن العرب من يضمها، ومنهم من ينون في اللغات الثلاث، وقرئ بجميع ذلك قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون}. فبالكسر لأبي جعفر المدني، ومع التنوين لأبي حيوة، وروي عنه الضم بالتنوين وعدمه، والفتح بلا تنوين للجماعة، وبالتنوين لخالد بن إلياس، وروى سكون التاء عن أبي عمرو، والأعرج، وعيسى بن عمر، وهيها بلا نون، وأيها، وأيهان، وهيهان، وأيهات. هذه كلها لغات منقولة. وإنما كثر ذلك في الأمر، لأن باب الأمر والنهي لا يكون إلا بالفعل، فلما قويت الدلالة فيه على الفعل حسنت إقامة غيره مقامه، بخلاف الخبر لأنه لا يخص بالفعل؛ إذ كنت تأتي بالخبر من غير فعل، نحو: زيد أخوك، وعمرو صاحبك، والأمر لا يكون ذلك فيه، فلما ضعفت الدلالة على الفعل في الخبر قل ذلك فيه. ونزر الشيء، نزارة ونزورًا، إذا قل. والفعل من أسمائه عليكا ... وهكذا دونك مع إليكا كذا رويد بله ناصبين ... ويعملان الخفض مصدرين

يعني أن من أسماء الأفعال ظروفًا ومجروراتٍ وفيرها، وعد منها خمسة: أحدها: (عليك) نحو: عليك زيدًا، بمعنى: الزم زيدًا، ومنه قوله تعالى: {عليكم أنفسكم}. والثاني: (دونك) نحو: دونك زيدًا، بمعنى: خذ زيدًا. قالت تميم للحجاج: أقبرنا صالحًا، وكان قد صلبه، فقال: دونكموه. ومنه قول الشاعر، أنشده أبو زيد: أعياش قد ذاق القيون مرارتي ... وأوقدت ناري فادن دونك فاصطل والثالث: (إليك) نحو قول المرار: إليكم يالئام الناس إني ... تشعت العز في أنفي تشوعا أي: اذهبوا وتنحوا، وقول القطامي:

* إليك إليك ضاق بها ذراعا * والرابع والخامس على وجهين، تارة يكونان اسمى فعل، وتارة مصدرين. فأما كونهما اسمى فعل فينصبان المفعول، وهو قوله: "كذا رويد بله ناصبين". فأما: (بله) فمعناها: دع، ومنه في الحديث: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، بله ما اطلعتم عليه. ويحتمل المصدر، وقال ابن هرمة: تمشي القطوف إذا غنى الحداة بها ... مشي النجيبة بله الجلة النجبا ويروي: *مشى الجواد فبله الجلة النجبا*

وأنشد اللحياني: بسطت إلى المعروف كفا عريضة ... تنال العدى بله الصديق فضولها وأنشد قوله: *بله الأكف كأنها لم تخلق* بالنصب والجر. وأما (رويد): فمعناها: أمهل، نحو: رويد زيدًا، وأنشد سيبويه للهذلي:

رويد عليا جدما تدى أمهم ... إلينا ولكن بغضهم متماين قال: وسمعنا من العرب من يقول: والله لو لأردت الدراهم لأعطيتك، رويد ما الشعر، يريد: أرود الشعر، كقول القائل: لو أردت الدراهم لأعطيتك فدع الشعر. ومن هذا النوع (على) بمعنى: أولني، نحو: على زيدًا، وعلى بزيدٍ. ومنه (عندك) بمعنى خذ، نحو: عندك زيدًا. ومنه (لديك) بمعنى: خذ أيضا ومنه قول ذي الرمة: فدع عنك الصبا ولديك هما ... توقش في فؤادك واختبالا أي: وخذهما. منه (وراءك) بمععنى: تأخر، و (أمامك) بمعنى: تقدم. ومن كلامهم: "وراءك أوسع لك" أي تأخر وائت أوسع لك. وقال الفرزدق:

إذا جشأت نفسي أقول لها ارجعي ... وراءك فاستحي بياض اللهازم ومنه (مكانك) بمعنى: اثبت، قال الشاعر، وهو ابن الإطنابة: وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي ومنه ما حكان ابن جني من (كذاك) بمعنى: احفظ، أو اتق، وأنشد: أقول وقد تلاحقت المطايا ... كذاك القول إن عليك عينا أي: اتق القول أو احفظه. ثم قال الناظم بعد ذكر (بله ورويد): "ويعملان الخفض مصدرين" يعني أنهما يكونان مصدرين منصوبين بفعلين لازمي الإضمار، فيعملان إذ ذاك الخفض فيما بعدهما على الإضافة. والدليل على كونهما غير اسمى فعلٍ إذا خفضا ما بعدهما: أن أسماء الأفعال لا تضاف أبدا، كما تضاف أسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر. وحكى الفارسي عن أبي عمرو الشيباني: ما بلهك لا تفعل كذا، أي مالك، وأنشدوا في الخفض بـ (بله) لكعب بن مالك:

تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها ... بله الأكف كأنها لم تخلق ويقال في (رويد): رويد زيدٍ- بالخفض- قال سيبويه: حدثنا من لا نتهم أنه سمه من العرب من يقول: رويد نفسه، جعله كقوله: "فضرب الرقاب". وكقوله: عذير الحي. وقد تأتي صفة أيضا كقولك: ساروا سيرًا رويدًا، هذا بيان كونهما غير اسمى فعل. وأيضًا هما مصدران، كما قال، أما (رويدًا) فتصغير (إرواد) مصدر: أرود إروادًا، تصغير الترخيم، بمعنى (إمهالًا) فـ (رويد زيدٍ) مرادف: إمهال زيدٍ. وأما (بله) فقولهم: ما بلهك؟ أي: ما حالك؟ - يرشد إلى معنى المصدرية. وقد أشعر كلام الناظم أنهما لا يعملان النصب وهما مصدران، وهذا مذهب أبي العباس، أن النصب بها ممتنع، فلا يقال عنده: رويدًا زيدًا، لأجل التصغير، كما لا يقال: ضويرب زيدًا.

قال ابن خروف: وهذا ليس مثل ذلك، لأن اسم الفاعل عمل بشبه الفعل، والفعل لا يصغر، فلم يعمل مصغرا، والمصدر عمل بنفسه، من حيث كان حدثا لا يشبه الفعل، فلا يمنع التصغير عمله، ونقل اجازة سيبويه: رويدك عبدالله، وذكره له في "باب: حذرك" وأنه إنما هو نصب بـ (رويد) المصدر، فقد أجاز النصب به. ولم يعرج عليه الناظم، وكأنه رأى النصب على خلاف القياس مع عدم السماع أو ظنه. وما لما تنوب عنه من عمل ... لها وأخر مالذي فيه العمل يعني أن هذه الأسماء التي سميت بها الأفعال لها من العمل ما للأفعال التي نابت عنها، فلابد لها من مرفوعٍ على الفاعلية، إما ظاهرًا إن كان مما يصح ظهور فاعله، كاسم الفعل الماضي، وإما مضمرًا إن لم يصح ذلك فيه، كاسم فعل الأمر. فمثال ما ظهر فيه الفاعل قول الشاعر: فهيهات هيهات العقيق وأهله ... وهيهات خل بالعقيق نواصله

وقال الآخر: تذكرت أيامًا مضين من الصبا ... فهيهات هيهاتٍ إليك رجوعها ومثال المضمر قوله تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا} وهو كثير. فإذا كل اسم فعلٍ لازم له الفاعل كالفعل، ثم بعد ذلك ينقسم إلى ما ينوب عن متعد، وإلى ما ينوب عن لازمٍ غير متعد. فأما ما ناب عما يتعدى: فنحو قولك: رويد زيدًا، وهلم زيدًا، بمعنى: قربه. وقد يكون بمعنى ما لا يتعدى نحو قوله تعالى: {هلم إلينا} أي: تعالوا، وحيهل التريد، وبله زيدًا، وتراكها، ومناعها، وعليك زيدًا، ودونك عمرًا. وأما ما ناب عما لا يتعدى فكثير، نحو: صه، ومه، وهيت، ونزال، وأمين، وهيهات، وسرعان، ووشكان، وهمهام، ونحو ذلك. وعلى هذا إذا كان الفعل يتعدى بالحرف تعدى اسمه كذلك، ولذلك قال: إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر، لما كان اسما لـ (عجل) وقالوا: حي على الصلاة، لما كان اسما لـ (أقبل) وقالوا: حيهل التريد، اسما لـ (إيت)

وظاهر هذا الإطلاق أن كل ما يكون للفعل من عملٍ في ظرف، أو مجرور، أو حال، أو مستثنى، أو تمييز، أو غير ذلك- فاسم الفعل قائم مقامه فيه، فتقول على هذا: نزال عندي، بمعنى: انزل عندي. ومنه في العمل في المجرور: *تراكها من إبلٍ تراكها* ومن العمل في الحال: ما أنشده سيبويه للكميت: نعاء جذامًا غير موتٍ ولا قتل ... ولكن فراقًا للدعائم والأصل فـ (غير موتٍ) حال، أي انعهم غير موتى ولا مقتولين. وكذلك في الاستثناء: هلم الشهود إلا زيدًا، وفي التمييز، نحو قول المرأة "سرعان ذي إهالة" وكذلك تعمل أيضا في جواب الأمر نحو: مكانك تحمدي أو تستريحي.

وأنشد ثابت في "دلائله" قول الشاعر: رويد تصاهل بالعراق جيادنا ... كأنك بالضحاك قد قام نادبه وأما النصب بعد الفاء فلا يكون فيها، لأن ذلك يحتاج إلى تقدير العامل بالمصدر نحو: جئني فأكرمك، أي: ليكن منك مجئ فإكرام مني، وهذا لا يتأتى في اسم الفعل، وعلى أن مثل هذا لم يقصد إليه الناظم فلا اعتراض عليه به. و"ما" في قوله: "وما لما تنوب" مبتدأ، خبره "لها" وهي واقعة على العمل، و"ما" الثانية للفعل، أي: ما للفعل المنوب عنه مستقر لأسماء الأفعال. ثم قال، "وأخر مالذي فيه العمل" لما كان إطلاقه في قيام اسم الفعل مقام الفعل في العمل يوهم جواز التصرف في المعمول بالتقديم- نبه لى عدم هذا التوهم، وأنه لا يجوز فيه تقديم المعمول، فلا تقول: زيدًا عليك، ولا عمرًا رويد، ولا نحو ذلك، وهذا مذهب البصريين والفراء. وذهب الكسائي إلى جواز التقديم في الاب مطلقا، محتجًا في ذلك بقوله تعالى: {كتاب الله عليكم} لأن المعنى عنده: عليكم كتاب

الله، أي الزموا، كما قال في الآية الأخرى {عليكم أنفسكم} وبقول الراجز: يا أيها المائح دلوى دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا فالمعنى عنده: دونك دلوى. وما استشهد به لا يتعين فيه ما قال، والظاهر في الآية أن "كتاب الله" منصوب على المصدر، أي كتب الله ليكم كتابًا، ودل عليه قوله تعالى قبل ذلك: {حرمت عليكم أمهاتكم} وكذا وكذا، كما انتصب (صبغة الله) فـ (صنع الله) ونحوه على مثل ذلك. وأما البيت فلى إضمار الفعل، كأنه قال: الزم دلوى، دونك دلوى، وإذا أمكن هذا لم يكن فيما ذكر متمسك مع فقد السماع. وأيضًا فالقياس مانع من ذلك، وذلك أن اسم الفعل لا يشبه الفعل لفظًا، ولا يتصرف تصرفه، ولذلك لا تتصل به ضمائر الرفع البارزة، ولا تلحقه نون التوكيد ولا نون وقاية في غير الشذوذ، ولا أداة من أدوات الأفعال.

وإذا كان كذلك لم يسغ أن يجرى مجراه، ولا أن يتصرف تصرفه في المعمول وهذا ظاهر. و"ذي" في قوله: "وأخر مالذي" إشارة إلى أقرب مذكور، وهو اسم الفعل المشتغل بذكره. وفي بعض النسخ: "وأخر مالذا فيه العمل" فالأول إشارة إلى الأسماء والثاني إشارة الأسم، ووقع في قافية البيت الأول "عمل" وفي الثاني "العمل" معرفا، وليس بإيطاء، وقد تقدم مثله. واحكم بتنكير الذي ينون ... منها وتعريف سواه بين يعني أن ما كان من هذه الأسماء قد دخله التنوين فهو نكوة، ومالم يدخله التنوين فهو معرفة. والتنوين الذي يدخلها يسمى "تنوين التنكير". وأسماء الأفعال بهذه النسبة على ثلاثة أوجه: أحدها: ما لا يأتي إلا معرفة، فلا يدخله تنوين نحو: رويد، بله، وأمين. والثاني: ما لا يأتي إلا نكرة، فيلزمه التنوين نحو (إيها) في الكف، و (واهًا) في التعجب و (ويهًا) في الإغراء و (فداءٍ لك) بالكسر والتنوين.

والثالث: ما يجوز فيه الوجهان، والتنكير: فيلحقه التنوين، والتعريف: فلا يلحقه، نحو: إيه وإيهٍ، وصه وصهٍ، ومه ومهٍ. وحكى الفارسي في "التذكرة" عن أبي عثمان، عن أبي زيد، أنه سمع أبا السماك يقول: هؤلاءٍ قومك، فنون على جهة التنكير. وهذا غريب في أسماء الإشارة. ومعنى التنكير أن يكون مدلول اسم الفعل غير معهود عند المأمور أو المنهي، فكأنه يأمره بأمرٍ غير معين أو ينهاه عنه، والتعريف بخلافه، وهو أن يكون مدلوله معهودًا عند السماع. فإذا قال: إيه، بغير تنوين، فكأنه قال له: حدث الحديث الذي أنت فيه، وإذا قال إيهٍ، فكأنه قال له ك حدث بكل ما تريد. وكذلك إذا قال: صه، فكأنه قال: اسكت عن هذا الذي أنت تذكر، وإذا قال: صهٍ، فكأنه قال: اسكت عن كل حديث. وكذلك سائر أسماء الأفعال. وقوله: (وتعريف سواه بين) أي وتعريف ما سوى المحكوم بتنوينه بين لا إشكال فيه. ويشعر قوله: (واحكم بينكير الذي ينون منها) بأن هذا موقف على السماع، كأنه يقول: ما جاء في السماع منونا حكمت عليه بالتنكير، وما لم ينون فاحكم عليه بالتعريف، فجعل إليك الحكم بالتنكير أو التعريف عند وجود التنوين أو عدمه، ولم يجعل لك إلحاق التنوين فيما ليس فيه، ولا حذفه مما هو فيه ولو أراد هذا لقال: إذا أردت التنكير فألحق التنوين، وإذا أردت التعريف فاحذفه أو لا تلحقه.

وما أشار إليه هو الحق، لأن ذلك متلقى من السماع، ليس للقياس فيه مدخل. وكذلك أصل هذا الباب إنما هو السماع، والأحكام القياسية فيه قليلة كما رأيت. واعلم أن هذا الكلام يقتضي أن ما لم تنونه العرب فهو معرفة، وأن ذلك بين ظاهر. وهذه المسألة تحتاج إلى نظرٍ فيها وتتع لكلام الأئمة، هل الأمر كذلك أم لا؟ وهنا فرغ من الكلام على النوع الأول من أنواع هذا الباب، ثم أخذ في النوع الثاني والثالث فقال: ومابه خوطب ما لا يعقل ... من مشبه اسم الفعل صوتًا يجعل كذا الذي أجدى حكايةً كقب ... والزم بنا النوعين فهو قد وجب وهذا النوع الثاني هو ما خوطب به غير العاقل على سبيل الزجر أو الحث أو الاستدعاء، أو غير ذلك مما يراد منها، فقال: إن هذا النوع مما خوطب به ما لا يعقل يسمى صوتًا، وإنما سمي صوتًا، ولم يطلق عليه أنه اسم فعل، لأنه لم يضع ليدل على فعلٍ وينوب منابه، وإنما وضع ليحصل به زجر البهيمة، أو دعاؤها، أو نحو هذا، لأن الكلام إنما يوضع للعاقل الذي يفهم الخطاب. فلو قيل: إنها تدل على معاني أفعالٍ- لصح أن يقال إن العرب وضعت لغير العاقل كلامًا تخاطبه به، وهذا غير صحيح، فلذلك يسمى صوتا.

فإن قيل: فقد أطلق عليها لفظ القول في نحو قول عدى بن الرقاع: هن عجم وقد عرفن من القو ... ل هئ واجدمى وياى وقومى وهذه أسماء أصوات لزجر الإبل، فجعلها من جملة ما يطلق عليه القول، والقول لا يكون إلا دالًا على معنى، كما مر من أنه يعم الكلمة والكلم والكلام، وكل واحد من هذه تدل على معانٍ وضع له، فهذه الأصوات إذا دالة على معنٍ، ومعانيها الأفعال بلا شك، فقد استوت مع أسماء الأفعال. فالجواب: أنه أطلق عليها لفظ القول مجازا، كما جعل البكاء قولًا في قول الشاعر: وقالت له العينان سمعًا وطاعةً ... وحدرتا كالدر لما يثقب وجعل ما يفهم من حال الشيء قولًا في قوله. امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلًا رويدًا قد ملأت بطني

وقول الآخر: قالت له الطير تقدم راشدًا ... إنك لا ترجع إلا حامدا فهذا كله من الإطلاق المجازي الذي لا يعد في الإطلاقات الحقيقية التي كلامنا فيها. لكنه لما كانت مفرداته شبيهة بألفاظ التخاطب بين العقلاء؛ إذ ليست بأصواتٍ مطلقة كالمدات والترنمات، وكانت مقاصدها كمقاصد الأمر والنهي في خطاب العقلاء، وألفاظها لا توازن الأفعال، أشبهت أسماء الأفعال من هذه الأوجه، فأتي بها الناظم وغيره مع أسماء الأفعال وقال فيها: (من مشبه اسم الفعل) أي مشبهه بالأوجه المذكورة، و"يجعل" في قوله: (صوتًا يجعل) بمعنى يسمى، تقول: جعلت ولدي زيدًا، ومنه قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا}، فسره الجوهري بـ (سموا)، فمما وضع منها للزجر (هلًا) للخيل، قال الشاعر: *وأي جوادٍ لا يقال له هلا* و(عدس) للبغل، قال ابن مفرغ:

عدس ما لعادٍ ليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق و(هيد) و (هاد) زجر للإبل، وأنشد أبو عمرو: *وقد حدوناها بهيدٍ وهلا* و(هيج) زجر للناقة، قال الشاعر: *تنجو إذا قال حاديها لها هيج* وكذلك (عاج قال الشاعر: كأني لم أزجر بعاجٍ نجيبًة ... ولم ألق ن شحطٍ صديقًا مصافيا ومما وضع منها للدعاء (هئ، وهؤ) دعاء للإبل إلى العلف. و(عو) دعاء للجحش، و (بس) للغنم، و (جوت) دعاء الإبل إلى الماء. و(هدع) لصغار الإبل، المسكنة عند النفار. ولا يقال: ذاك لجلتها ولامسانها ويكفي هذا المقدار في التمثيل.

ثم قال: "كذا الذي أجدى حكاية". "أجدى حكاية" بمعنى أعطى قصدها وأصل ذلك من (الجدوى) وهي العطية. والجادي: السائل، وأجديته: أعطيته الجدوى يعني أن ما كان من الألفاظ يعطي قصد الحكاية، ويفهم منه يسمى صوتًا أيضا. وهذا هو النوع الثالث من التنويع الأول، وهو عند الناظم، مع ما قبله، نوع واحد، لأنه يشبهه في كونه لفظًا غير مرادٍ به معنى من المعاني المرادة في التخاطب، لكن الأول يزيد على هذا بكونه زجرًا أو دعاءً، وهذا ليس كذلك، وإنما المقصود به أن يحكى به صوت ما واقع في الوجود، من حي أو غيره، فالذي من الحي كـ (غاق) في حكاية صوت الغراب، و (شيب) في حكاية صوت مشافر الإبل للشرب قال الشاعر: تداعين باسم الشيب في متثلم ... جوانبه من بصرةٍ وسلام و(عيط) في حكاية صوت الفتيان إذا تصايحوا في اللعب. و (طيخ) في حكاية صوت الضحك.

و (مص) في حكاية صويتٍ يخرج من ضم الشفتين، معناه (لا) وفيه إطماع. والذي من غير الحي وما في معنى غير الحي نحو (طاق) في حكاية صوت الضرب، تقول العرب: سمعت طاق طاق، و (طق) في حكاية صوت وقع الحجارة، و (قب) في حكاية صوت وقع السيف. وهذا مثال الناظم. ومنه أيضا (خاز باز) للذباب، أصله حكاية صوته، قال ابن أحمر: تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخاز باز به جنونا و(خاسن ماسن) للقماس، كأنه حكاية صوته إذا حرك. وأتى بالمثال لفائدة، وذلك أن الحكاية تطلق عند النحويين على وجهين معناهما واحد: أحدهما: حكاية الأصوات الواقعة في الوجود وهي التي تكلم فيها الأن. والثاني: حكاية الكلام، وهو الذي يحكى بالقول وغيره، نحو: قلت: زيد قائم. ويقال لزيد: ابن فلان، [ومن زيدًا؟ ] ومن زيدٍ؟ ونحو ذلك. فلو لم يأت بالمثال لأوهم أن المراد غير ما قصد له، فين مقصوده. بمثاله. ثم قال: "والزم بنا النوعين فهو قد وجب".

أراد بالنوعين أسماء الأفعال وأسماء الأصوات، يريد أن بناء هذين النوعين لازم على كل حال، لأن سبب البناء موجود، فلا بد من وجود مسببه. فأما (أسماء الأفعال) فسبب بنائها مختلف فيه، فمنهم من جعله تضمنها معنى لام الأمر، وهذا إنما يمشي في أسماء فعل الأمر. فإذا قلت: (نزال) فهو بمعنى: لتنزل، وكذلك (صه) بمعنى: لتسكت، و (مه) بمعنى: لتكفف، وكذلك سائرها. فلما تضمنت معنى الحرف بنيت كما بنيت أسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، لتضمنها معنى "إن" والهمزة. واتذر قائل هذا عما جاء منها للماضي والمضارع بأن الأصل والباب للأمر، وما عداه محمول ليه. وهذا رأي جماعة. ومن النحويين من جعل سبب البناء فيها مناسبتها لما وقعت موقعه، وهي الأفعال المبنية. وضعفه المؤلف بأن ما لا يعرب من الأفعال شبيه بالمعرب، لوقوع الماضي موقع المضارع في مواضعه المذكورة، ولذلك لم تلحقه هاء السكت، إذ كانت لا تلحق معربًا ولا شبيهًا به، ولكون الأمر جاريًا في أحكامه مجرى المجزوم، فيسكن آخره حيث يسكن آخر المجزوم، ويحذف حيث يحذف، بخلاف غيره من المبنيات كـ (الذي والتي) وأيضا فمنها ما وقع موقع المضارع، وهو مبني بخلاف فعله. والذي ارتضاه المؤلف في بناء هذه الأسماء ما قاله أول الرجز من كون هذه الأسماء. نابت عن الأفعال، وكانت عاملة غير معمولة، فأشبهت (إن) وأخواتها، فبنيت، وذلك قوله: (وكنيابةٍ عن الفعل بلا تأثرٍ) وقد تقدم شرحه.

وهو أولى مما ذهب إليه غيره. فإن قلت: إنه قد تقدم من جملة هذه الأسماء (عليك، ودونك، وإليك) وما جلب معها، فاقتضى هذا العموم أنها مبنية، وظاهرها أنها ليست بمبنية، لظهور النصب فيما كان أصله النصب منها كـ (دونك، وأمامك، ووراءك) ونحو ذلك، فمن لك ببنائها؟ وأيضًا، هي مضافات، والمضاف لا يبنى، لأن الإضافة تعارض البناء. وأيضًا، فإن البناء إنما يكون فيما كانت النيابة بحق الأصل والوضع الأول، كصه، ونزال، وأما ما كانت النيابة فيه عارضةً فلا. وهذه الأشياء من هذا القبيل الثاني، لأن (دونك، وأمامك، وإليك) ونحوها استعملت غير نائبة، ثم عرضت لها النيابة، فهي مثل (ضربًا زيدًا) وبابه في هذا المعنى، فأحد الأمرين لازم، إما بناء الجميع، فيبنى (باب. ضربًا زيدًا)، وإما إعراب الجميع، فيكون (دونك) وبابه معربًا، لكن الأول باطل بالإجماع، فثبت الثاني، وهو إعراب الجميع. وقد حكى ابن خروف الاتفاق على أنها معربه، ونصبها بالأفعال التي صارت أسماءً لها. ولا يمكن أن يقال: لم يردها في عقد البناء لقوله قبل: "والفعل من أسمائه عليك .. إلى آخره" فلم يجعله جنسًا خارجا عنها، بل أدخله فيها، فهذا مناقض لما قالوه، وكذلك فعل في "التسهيل" الصغير والكبير.

فالجواب: أن القول بإعرابها مما ينبغي أن ينظر فيه، وذلك أنهم أطلقوا على هذه الألفاظ أنها أسماء أفعال، ولم يطلقوا ذلك على قولك: ضربًا زيدًا، وسقيًا لزيدٍ، ورعيًا له، فدل على المخالفة بينهما في الأحكام. وإيضًا، فإن (عليك، ودونك) وابه قد تحملت ضمائر مرفوعة لابد منها، كالأفعال وأسماء الأفعال، كقولهم: عليك أنت نفسك زيدًا، ودونك أنت نفسك، وعندك أنت وزيد عمرًا، وما أشبه ذلك، فوكدوا وعطفوا ليها، وأجروها مجرى الأفعال. وأنت لا تقول في (ضربًا زيدًا) وبابه: إنه قد تحمل ضميرا فاعلا، فتفعل فيه هذه الأشياء؛ بل جرت (عليك) وأخواتها مجرى (صه، ومه، وهلم) ونحوها في ذلك، وإذا كانت كذلك فلا محذور في دعوى البناء فيها كلها، كسائر أسماء الأفعال، لأنها- وإن كان أصلها المصادر والظروف ونحوها- قد خرجت عن ذلك الباب إلى باب آخر، وإلى وضع آخر لازمٍ لها، فليس ذلك بمخرجٍ لها عن باب ما دخلت فيه في حكم من الأحكام. ومما يحقق لك تمحضها في أسماء الأفعال أنها لا يصح تعلقها بالفعل إذا ظهر، فإن القائل: (عليك زيدًا) بمعنى: الزمه- لو أظهرته. فقلت: الزم زيدًا عليك، لم يصح، كما صح في (ضربًا زيدًا) أن تقول: اضرب زيدًا ضربا، وكذلك (إليك) لو قلت: (تنح إليك) لم يسغ، وفي (دونك زيدًا) خذ زيدًا دونك، وإن ساغ في عضها لم يطرد في سائرها. وهذا دليل على عدم مراعاتهم لأصلها، وعلى تمحص النيابة، كما في (صه، ومه) ونحوه، فلا فارق في البناء بين البابين.

وأما كونها مضافاتٍ. فلا يخرجها ذلك عن حكم البناء، وذلك لأن من المضاف ما هو مبنى كـ (كم) في قولك: كم رجلٍ عندك؟ وأما موافقتها المعرب لفظًا: فلا يلزم منه كونها معربةً، كما كان (لا غلامين في الدار) ونحوه موافقًا لقولك: (مررت بغلامين) ولم يمنع ذلك من القول ببنائه مع (لا) ولذلك في العربية نظائر. قال الفارسي: فإن قيل: ما تنكر ألا تكون هذه الأشياء مبنيةً لأن فيها جارًا ومجرورًا، نحو (عليك، وإليك) والجار والمجرور إنما يقع في موقع المعرب، ألا ترى قولهم: مررت بزيدٍ وعمروٍ؟ فالجواب: أن ما ذكر لا دليل فيه، لأن الجار والمجرور قد يقعان موقع المبنى، ألا ترى قولهم: يا لزيد، ويا لرجال، فقد وقعا مفردين مبنيين نحو: يا زيد، ويا رجال، فكما جاز وقوع هذا موقع المبنية، وكذلك (عليك، وإليك). وإيضًا، فإذا ادعى فيها الإعراب لم يخل من أن يكون العامل فيها فعلها أو غيره. أما غيره فغير عاملٍ فيه باتفاق. وأما فعلها: فقد تضمنته، فهي العاملة دونه، والشيء لا يعمل في نفسه. وإن قلت: إنها لم تتضمنه (مطلقا- لزم ألا تكون أسماء أفعال، وقد فرض أن الأمر كذلك، هذا خلف. وأيضا، يلزم في (صه، ومه) ونحوها أن تكون معمولةً لعاملٍ هو الفعل الذي تضمنته)، وذلك فاسد.

فإن قلت: فهذا الذي زعمت خرق للإجماع الذي نقله ابن خروف، وخرق الإجماع ممتنع، وصاحبه مخطئ قطعًا، لأن يد الله مع الجماعة. فالجواب أن يقال: أما أولًا فادعاء الإجماع لا يصح، وذلك أني أظن أنه مر على ما تقدم في كلام ابن جنى في بعض كته أن شيخه الفارسي قال البناء فيها، محتجًا بما تقدم من تمحضها للدلالة على الأفعال حتى دخلت في أسمائها، ثم رأيته منقولا عن أبي الحسن، تحقيقًا لا ظنًا، ذكره عنه الفارسي في "التذكرة" فالإجماع الذي ادعاه ابن خروف غير ثابت. وأما ثانيا، فإن سلمناه فليست المخالفة للإجماع في حكمٍ من الأحكام المتقررة التي يلزم عنها المخالفة في قياسٍ أو سماع، لأن (عندك، ووراءك) ونحوهما مع القول بالإعراب والبناء على حد سواء، فإنما حقيقة الخلاف في تأويلٍ لا في حكمٍ، إذ كانت هذه الأشياء لازمةً للإضافة لا يجوز إفرادها، فلم يظهر فيها فرق بين الإعراب والبناء. وأما لو كانت المخالفة فيما يوجب حكمًا ظاهرًا لكانت المخالفة حينئذٍ محظورة: وعلى هذا النحو جاءت مخالفة ابن جنى في نحو: هذا جحر ضب خرب، إنما خالفهم في تأويل لا في نفس حكم قياسي أو سماعي. وقد نص الأصوليون، في مسألة إحداث دليلٍ أو تأويلٍ مخالفٍ لما أجمعوا عليه مع الموافقة في محصول الحكم، على الخلاف. ورجح المحققون منهم الجواز؛ إذ لا مخالفة في الحكم. وهذه المسألة مذكورة في "الأصول" وهذا أقصى ما ظهر في بيان هذه المسألة، والله الموفق للصواب.

وأما (أسماء الأصوات) فسبب بنائها أنها لا تكون في الكلام عاملة ولا معمولة؛ إذ لا يدخلها معنى من المعاني التي تستحق بها دخول العوامل، فصارت في الحكم كـ (هل وبل، وقد) ونحوها، فاستحقت البناء لذلك. فإن قلت: فأين ذكر الناظم هذا السبب؟ فالجواب: أنه قد يدخل له تحت قوله "وكنيابةٍ عن الفعل بلا تأثرٍ" لأن أسماء الأصوات تعطى من المقصود، في الزجر والاستدعاء، ما يعطيه الفعل لو كان المزجور أو المستدعى ممن يخاطب، فأشبه اسم الصوت اسم الفعل (لذلك، فكان داخلا تحت نيابة الفعل بلا تأثر، أو يكون لها عدم التأثر علةً تامة) على ما تقرضر في "باب المعرب والمبنى". وأما (حكاية الأصوات) كغاق، وقب، فحملت على أسماء الأصوات المزجور بها، أو المدعو بها، على اعتبار شبهها بأسماء الأفعال، أو يجعل عدم التأثر لها علةً تامة مستقلة، كما مر والله أعلم.

(نونا التوكيد)

(نونا التوكيد) للفعل توكيد بنونين هما ... كنوني اذهبن واقصدنهما أخذ يتكلم في نوني التوكيد، الشديدة والخفيفة، وما يلحق الفعل معهما من الأحكام. وابتدأ بالتعريف بهما، وبكونهما مختصين بالفعل. فأما اختصاصهما بالفعل فنبه عليه قوله: "للفعل توكيد بنونين". يريد أن التوكيد بهما مختص بالفعل. وأشعر بذلك تقديمه المجرور، لأن التقديم مؤذن بالاختصاص كقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين}، معناه: ما نعبد إلا إياك، وما نستعين إلا إياك. وما ذكره من الاختصاص صحيح، وقد تقدم به في "باب الكلام وما يتألف منه" أن النون من معرفات الفعل ومن خواصه في قوله: بتا فعلت وأتت ويا افعلي ... ونون أقبلن فعل ينجلي وما جاء على خلاف ذلك فشاذ لا يقاس عليه، نحو ما أنشده ابن جني:

أريت إن جاءت به أملودا ... مرجلا ويلبس البرودا *أقائلن أحضروا الشهودا* وأنشد أيضا: يا ليت شعري عنكم حنيفا ... أشاهرون بعدنا السيوفا؟ وقوله: "هما كنونى كذا" هذا هو التعريف بهما وبموضعهما، يعني أنهما نونان يشبهان النونين في "اذهبن، واقصدنهما" فالأولى مشددة، والثانية مخففة. وإنما قال: "كنونى كذا" ليعين عينهما وموضعهما، فإن النونات التي تلحق الفعل ثلاثة أنواع: هذا أحدها. والثاني: نون المضارعة في نحو (نفعل) وموضعها أول الفعل. والثالث: نون الرفع، وذلك إذا اتصل بالفعل ألف اثنين نحو: يضربان، أو واو جماعةٍ نحو: يضربون، أو ياء واحدةٍ مخاطبة نحو: تضربين، وموضعها الآخر، إلا أنها لاتشبه ما تقدم من جهة التشديد في إحداهما، والتسكين في الأخرى، ومن جهة المعنى أيضًا، لأن هذه تفيد التأكيد، بخلاف نون الرفع.

ومن أمثلة الشديدة: قوله تعالى: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم}. وقوله تعالى: {قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبأن بما عملتم}. ومن أمثلة الخفيفة قوله تعالى: {لنسفعًا بالناصية} واجتمعتا في قوله تعالى: {ليسجنن وليكونًا من الصاغرين}. ومن ذلك كثير. ونبه بقوله: (واقصدنها) على أن ضمير النصب، وإن كان متصلا بالفعل، فهو كلمة أخرى تلحق النون قبله، وهذا بخلاف ضمير الرفع، فإنه، وإذا اتصل، كالجزء مما اتصل به، ولذلك يسكن له آخر الفعل، فلا تلحق النون إلا بعد الضمير، كما سيتبين في أثناء كلامه في الباب. ثم أخذ يذكر ما تلحقان من الأفعال، وفي أي حالٍ تلحقان، فقال: يؤكدان افعل ويفعل آتيا ... ذا طلبٍ أو شرطًا اما تاليا أو مثبتًا في قسمٍ مستقبلًا ... وقل بعدما ولم وبعد لا

وغير إما من طوالب الجزا ... وآخر المؤكد افتح كابرزا واشكله قبل مضمرٍ لينٍ بما ... جانس من تحركٍ قد علما فعين أولًا أنها تلحق من الأفعال: الأمر والمضارع، بقوله: "يؤكد إن افعل ويفعل". يريد أنههما مختصان بهذين الفعلين، فيخرج الماضي ن أن تلحقاه، فلا تقول: قامن زيد، ولا استكبرن بكر، ولا نحو ذلك، وسواء أكان الماضي في معنى المستقبل أم لم يكن في معناه. أما مع كونه على أصله من المضى، فذلك ظاهر. وأما إذا كان بمعنى المستقبل فقد يقال: إنه ليس كذلك؛ بل تلحقه النونان إذ ذاك. وقد استشهد عليه في "شرح التسهيل" بما جاء في الحديث من قوله عليه السلام: "فإما أدركن أحد منكم الدجال". فلحقت "أدركن" وهو ماضٍ حين كان بمعنى المستقبل، وأنشد عليه: دامن سعدك إن رحمت متيمًا ... لولاك لم يك للصبابة جانحا

فلحقت (دام) لما كان دعاءً، وقال الآخر في (أفعل) في التعجب: ومستبدلٍ من بعد غضيا صريمة ... فأحربه لطول فقرٍ وأحريا أراد "وأحرين" و "أفعل" في التعجب نده ليس بأمر، وإنما هو خبر في الأصل كـ (أفعل) وأنت ترى أن الماضي كالمضارع في هذا والناظم لم يذكر ذلك. ويجاب عن هذا بأن دخول النون على الماضي فليل في الاستعمال، لم يذكره النحويون، ولاعولوا على ما جاء منه، وكذلك فعل هنا، وذكر ما تدخل عليه النونان، وهو الأمر والمضارع. وأطلق الحكم في الأمر ولم يقيده؛ إذ قال: "يؤكدان افعل" أي مطلقا، وقيد المضارع بقيود؛ إذ قال: (ويفعل آتيًا كذا وكذا" فـ (آتيًا) حال من (يفعل)، (ذا طلبٍ) حال من ضمير (آتيًا). وسكن لام (يفعل) إما إجراء للوصل مجرى الوقف، وإما ضرورة لتصور (عل) بصورة (فعل) و (فعل) يجوز تسكين عينه، و (فعل) كذلك، وقد جاء في مشابهة (فعل) قول الشاعر، أنشده أبو زيد:

*قالت سليمى اشتر لنا سويقا* أما (الأمر) فكونه أمرًا هو المسوغ لدخولهما فيه توكيدًا له، فتقول: أكرمن زيدًا، وأكرمن زيدًا، أنشد سيبويه للأعشى: وإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا أراد (اعبدن) وأنشد أيضا لزهير بن أبى سلمى: تعلمن ها لعمر الله ذا قسما ... فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك وهو كثير. وفي معنى الأمر الدعاء، نحو قول كعب بن مالك، أو عبد الله بن رواحة، رضي الله عنهما:

فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وأما (المضارع) فقيد لحاق النونين له بمواضع معلومة، منها ما لحاقهما فيه كثير، ومنها ما لحاقهما فيه قليل. فأما ما لحاقهما فيه كثير فثلاثة مواضع: أحدها: أن يكون المضارع تاليًا أداة طلب، وذلك قول الناظم: "تاليًا ذا طلب" أي تابعًا حرفا ذا طلب. والأدوات الطلبية أربع: أحدها: لام الأمر نحو: لتفعلن كذا وكذا، ولتكرمن زيدًا والثانية: (لا) النهي، فإنها طلبية أيضا نحو: لا تكرمن زيدًا، ومنه قوله تعالى: {ولا تتعان سبيل الذين لا يعلمون}. وقوله: {ولا تقولن لشيءٍ إني فاعل} الآية. وقوله: {فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا} الآية. وأنشد سيبويه للأعشى: أبا ثابتٍ لا تعلقنك رماحنا ... أبا ثابتٍ واقعد وعرضك سالم

وقال أيضًا: *وإياك والميتات لا تقربنها* .... البيت والثالثة: حروف الاستفهام، وهي (الهمزة) نحو: أتقومن يا زيد؟ وأنشد سيبويه: *أفبعد كندة تمدحن قبيلا* و(هل) نحو: هل تكرمن زيدًا؟ وأنشد سيبويه للأعشى: فهل يمنعنى ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن يأتين وأنشد أيضا:

*هل تحلفن يا نعم لاتدينها* و(متى) نحو: متى تقومن؟ وانظر متى تفعلن؟ و(كيف) نحو: كيف تقولن لزيد؟ وأنشد سيبويه قول الشاعر: فأقبل على رهطي ورهطك نبتحث ... مساعينا حتى نرى كيف نفعلا ومن نحو قولك: من يكرمني فأكرمه؟ و(ما) نحو: باتصنعن يا زيد؟ وعلى الجملة، فحروف الاستفهام داخله في هذا المعنى. وإنما لحقتا مع الاستفهام لأنه طلب، فلحق بـ (افعل) في المعنى. والرابعة: أدوات العرض والتحضيض، لأنهما يرجعان في المعنى إلى الطلب نحو: هلا تقومن؟ وألا تقولن كذا؟ ولولا تقولن؟ وكذا سائرها. الموضع الثاني: أن يكون المضارع فعل شرطٍ تاليًا لـ (إما) المكسورة، وذلك قوله: "أو شرطًا إما تاليا". يعني أن النون تلحق المضارع إذا كان فعل شرط وقع قبله "إما" وحقيقة (إما) هاهنا أنها (إن) زيد عليها (ما) توكيدا، وليست (إما) التي لأحد الشيئين، لكن اختصر ذلك مجتزئًا باللفظ على عادته.

ومثال ذلك: إما تكرمن أحدًا فأكرم زيدًا. ومنه قوله تعالى: {فإما تثقفنهم في الحرب، فشرد بهم} .... الآية. وقوله تعالى: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربك} ..... الآية. وقوله: {إما يبلغن عندك الكبر}. وهو كثير. ولحاق النون هو الأكثر وقد لا تلحق نحو قول حسان: إما ترى رأسي تغير لونه ... شمطا فأصبح كالثغام المخلس وأنشد الفارسي في "الإغفال". إما ترى شمطًا في الرأس لاح به ... من بعد أسود داجي اللون فينان فقد أروع قلوب الغانيات به ... حتى يملن بأجيادٍ وأعيان قال: وذلك كثير في الشعر.

وهذه المسألة فيها قولان لأهل العربية: أحدهما: مذهب أبي العباس أن النون هنا لازمة مع (إما) ولا تكون (إما) دونها إلا في الشعر، والاستقراء يشهد لهذا القول. والثاني: التخيير في النون وعدمها، وهو مذهب سيبويه، وكأن الناظم توسط بين المذهبين، فجعله أكثريًا، أعني لحاق النون مع (ما) وقليلًا بعد (ما) و (لم) وبعد (لا) وغير (إما) من طوالب الجزاء لأن السماع عنده كذلك. ووجه كثرة لحاقها مع (ما) أنهم شبهوا (ما) هاهنا في التوكيد بها باللام الداخلة في جواب القسم. وحكى الفارسي في "الإغفال" عن أحمد بن يحيى، أن النون أدخلت هنا ليفرق بينها أن تكون حشوًا، وبينها أن تكون في معنى (الذي) وكذلك "بعينٍ ما أرينك"، إذا أسقطوا (ما) أسقطوا النون. قال: وهذا فاسد، لأنه لو لم تدخل النون لجزم ما بعدها، فتبين به أن (ما) ليست بموصولة. الموضع الثالث: أن يكون المضارع في القسم مثبتا غير منفي، مستقبلا في المعنى، وذلك قوله: "أو مثبتًا في قسم مستقبلا".

"مثبتًا" عطف علي "شرطًا" وهو حال من "يفعل" وهو الضمير في "آتيًا" و "مستقبلًا" من صفة "مثتًا" و "في قسمٍ" في موضع نصب على الحال، يعني أن النون تلحقه أيضا كثيرًا إذا كان موصوفا بهذه الأوصاف الثلاثة، يعني فيما سوى ما تقدم: أحدها: أن يكون مثبتا غير منفي، فإنه إن كان منفيًا، فذلك قليل فيه إن جاء منفيًا بـ (ما) أو (لم) أو (لا) على حسب ما يذكره هذا. فقولك: (لم يقومن زيد) قليل، وكذلك (لا يقومن زيد) إذا كان نفيًا، و (ما يقومن زيد) كذلك. والثاني: أن يكون في قسم، يعني جواب قسم، نحو: لتفعلن كذا، فإنه إن كان مثبتا في غير قسم لم يجز لحاق النون له، فلا يقال: يقومن زيد، ولا: يخرجن أبوك، وما جاء من ذلك فشاذ محفوظ غير مقيس، أو قليل نادر. فمن ذلك ما حكى سيبويه من قولهم: بجهدٍ ما تفعلن كذا. وفي مثل:

"في عضةٍ ما ينبتن شكيرها" وقالوا في مثل: "بألمٍ ما تختننه"، وأنشد لجذيمة الأرش: ربما أوفيت في علمٍ ... ترفعن ثوبي شمالات وهذه المواضع قد لزمتها (ما) لتصرفها إلى غير الواجب، فيتوجه لحاق النون. وقد حكى أيضًا سيبويه عن يونس أنهم يقولون: ربما تقولن ذلك. فهذه الأشياء ليست بقياس، وهي قليلة نادرة، فلا اعتبار بها، فتقييد الناظم المثبت بكونه في قسم لابد منه في القياس. والثالث: أن يكون مستقبلا في المعنى لا حالًا، فإنه إن كان حالا لم يجز لحاق النون، لأن النون من الأدوات المخلصة الفعل للاستقبال، فلا يصلح أن تلحق ما هو حال في المعنى، فإذا جاء في القسم ما المراد به الحال أتى باللام دون النون، فتقول: والله ليقوم زيد، أي: لهو يقوم، كذا قدره ابن أبى الربيع وغيره على حذف المبتدأ. والمؤلف لم يلتزم هذا.

ومثاله في الحال قراءة البزي: "لأقسم بيوم القيامة"، "ولأقسم بهذا البلد". وأنشد المؤلف على ذلك قول الشاعر: لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع وأنشد أيضًا: وعيشك يا سلمى لأوقن أنني .. لما شئت مستحلٍ ولو أنه القتل وأنشد أيضًا: لعمري لأبغض كل امرئٍ ... يزخرف قولًا ولا يفعل فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الثلاثة، فمقتضى كلام الناظم أن النون تلحق الفعل المضارع إذ ذاك، نحو قوله تعالى: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين}.

وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}. وقوله: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا}. وأنشد سيبويه للبيد: فلتصلقن بني ضبينة صلقةً ... تلصقنهم بخوالف الأطناب وأنشد أيضا للنابغة الذبياني: فلتأتينك قصائد وليركبن ... جيش إليك قوادم الأكوار وذلك شائع كثير. وفي كلام الناظم في هذه لمسألة نظر من وجهين: أحدهما: أن قوله: "يؤكدان افعل" إلى آخره، لا يخلو أن يريد: على الجواز، أو على اللزوم، وعلى كلا التقديرين الإطلاق غير صحيح.

أما إن أراد على الجواز، وأن تلحق إن شئت- فيبطل ذلك بالنوع الثالث، وهو الفعل المثبت في القسم، فإن النون فيه، إذا اجتمعت الشرائط لازمة؛ إذ لا يجوز أن تقول: والله ليقوم زيد، وأنت تريد الاستقبال؛ بل لابد من النون نحو: والله ليقومن زيد. وأما إن أراد اللزوم فباطل أيضًا، لأن (افعل) إنما تلحقه النون جوازا، وكذلك (يفعل) عند كونه طلبا، وعند كونه فعل شرط قد تقدمه (إما) فإنه يجوز أن تقول: إما تقومن فافعل كذا، وإما تقم فافعل كذا قال سيبويه: وإن شئت لم تقحم النون- يعني مع (إما) - كما أنك إن شئت لم تجئ بها، يعني بـ (ما) مع (إن). وإذا كان كذلك كان إطلاقه مشكلا جدا، لا يقال: إنه أراد الوجه الأول، وهو جواز لحاقها مطلقا، لأن النون، وإن لزمت في القسم، فذلك أمر "أكثرى"، ولا يمتنع عدم اللحاق، فإنه قد جاء في الحديث من قوله عليه السلام: "ليرد على أقوم أعرفهم ويعرفونني"، فلم يئت بالنون وهو مستقبل، لأن الورود يوم القيامة. وعادته البناء على الحديث، واعتباره في القياس وإن كان قليلا، وقد جاء منه الشعر، قال الشاعر، أنشده ابن خروف وغيره:

تألى ابن أوسٍ حلفةً ليردني ... إلى نسوةٍ كأنهن مفائد وقال الآخر، ونسبه المؤلف لعبد الله بن رواحة: فلا وأبي لنأتيها جميعًا ... ولو كانت ها عرب وروم إذا كان ذلك جائزا فلا محذور في إطلاقه الجواز في ذلك، لأنا نقول: هو نادر جدًا، وغير معتبر به عنده، ولا عند النحويين، فلا ينبغي أن يجعل هذا النادر في مقابلة غلبة لحاقها، حتى يقال: هما وجهان جائزان، ففيه ما ترى. والوجه الثاني: أن الفعل المثبت المستقبل في القسم لا تلحقه النون إلا بانضمام قيدٍ آخر، وهو ألا يفضل بين اللام التي يجاب بها وبين الفعل بفاصلٍ، من معمولٍ أو حرف تنفيس، فإنه إن فصل بينهما بأحد ذينك لم تلحق النون أصلا، نحو قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}. ونحو ما أنشده المؤلف من قول الشاعر:

فوربي لسوف يجزى الذي أسـ ... لفه المرء سيئًا أو جميلا وكذلك المعمول إذا فصل به، نحو قوله تعالى: {ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}. وأنشد المؤلف: يمينًا ليومًا يجتني المرء ما جنت ... يداه فمسرور ولهفان نادم وأنشد أيضا قول الآخر: قسمًا لحين تشب نيران الوغى ... يلفى لدى شفاء كل عليل فهذا الشرط لابد منه في لحاق النون الفعل المثبت المستقبل في القسم والناظم لم يذكره، فيرد عليه جواز قولك: والله لسوف يقومن زيد، وهو غير جائز، وعلى أنه لم يبين أن هذه النون لازمة للام، لا تأتي في الكلام دونها إلا شاذًا. ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول: أن كلامه مشعر بالجواز لقوله: "يؤكدان افعل ويفعل" أي يحصل هذا في الوجود مطلقًا من غير لزوم، ويكون دخولهما المثبت المستقبل في القسم جائزًا أيضًا، إما اعتدادًا بالقياس على

القليل الذي حكاه، فجعلهما وجهين جائزين، ولم يذكر ترجيحًا وربما فعل مثل هذا في هذا النظم، وقد مر منه بعض مواضع. وإما أن يكون ذهب في ذلك مذهب الكوفيين، فإنه نقل ذلك عنهم، وأنهم يجيزون الأمرين مطلقا. حكى ذلك الأبذى في "باب القسم" من (شرح الكراسة)، وقد ينتقل المؤلف عن مذهب البصريين إلى مذهب غيرهم إذا رآه نظرًا، ويخالف هنا مذهبه في سائر كتبه. وقد مر لذلك نظائر. وهذا الجواب ضعيف والجواب عن الثاني: لم يحضرني الأن. ثم قال: "وقل بعدما ولم وبعد لا" .. إلى آخره. هذه المواضع التي لحاق النون فيها قليل، وذلك مواضع أربعة: أحدها: أن يقع الفعل بعد (ما) فلحاق النون فيه قليل، والأكثر أن تقول: ما يقوم زيد، وقد جاء نحو (ما يقومن زيد) قليلا. وقد تحتمل (ما) في كلامه أن تكون النافية كما مثل، ويحتمل أن يريد (ما) الزائدة، وبه فسرها ابن الناظم، وهي التي تقع في نحو: "ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها".

وقولهم: "بألمٍ ما تختننه"، وقولهم: "بعينٍ ما أرينك"، وقول جذيمة: ربما أوفيت في علمٍ ... ترفعن ثوبي شمالات وقد تقدم ذكره، وما حكى يونس من قولهم: ربما تقولن ذلك، وكثر ما تقولن ذاك وكذلك يقال: فلما يقومن زيد، وهذا جائز في الكلام على قلة، وذلك مع لزوم (مط) فأشبهت لام [الأمر]، في لزومها الفعل المستقبل طالبةً بالنون. وأيضًا، فإن الكلام غير واجب؛ إذ هو مستقبل، ودخلت (ما) تشيهًا لها في توكيدها الكلام بـ (ما) اللاحقة في الشروط، فحسن إدخال النون، وكذلك يقال في (ما) إذا حملت في كلامه على أنها النافية: لما كان الكلام غير واجب أشبه الاستفهام وغيره، فدخلت النون. والأولى أن يحمل كلامه على الوجهين، ولذلك لم يقيدها بالنافية، وإلا فلو أراد النافية لقال: "وقل بعد نفي ما ولم ولا" لكن كان الأولى به أن يبين ذلك، وإلا فيدخل عليه أيضا (ما) الاسمية الموصولة، وإن كان بعيدًا أن يتوهم دخولها.

والثاني: أن يقع بعد (لم) الجازمة، فإن النون تدخله أيضا، ولكن قليلًا، لكون المنفى غير واجب، فيجوز لك أن تقول: لم يقومن زيد، ومنه ما أنشده ابن جنى من قوله: *واحمر للشر ولم يصفرا* وأنشد سيبويه: يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخًا على كرسيه معمما قال سيبويه: شبهه بالجزاء حين كان مجزوما، وكان غير واجب. ويقال: أقسمت عليك لما لم تفعلن، لما كان في القسم شبه بقولهم: لتفعلن، لأنه طلب مثله. لكن جعله الناظم آتيًا في الكلام: لقوله: (وقل). وإنما يطلق هذه العبارة في الغالب على الجائز في الكلام، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر في الاضطرار. ووجه ذلك الحمل على (لا) و (ما).

والثالث: أن يقع بعد (لا) النافية لأن الناهية قد تقدمت له قبل في الأدوات الطلبية، فيجوز ههنا أن تقول أعجبني رجل لا يقومن غدا، لكنه قليل. ومنه قوله تعالى: {واتقوا فتنه لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}. فـ (لاتصيبن) ليس فيه إلا النفي بـ (لا) فدخول النون مع (لا) جائز. وقد تأوله المبرد على أن المعنى النهي، وهو واقع على الظالمين، كأنه قال: لا تتعرضن لأن تصيب الذين ظلموا منكم خاصه، كقولهم: لا أرينك ههنا، وكقوله تعالى: {لا يحطمنكم سليمان وجنوده}. وهذا عند الناظم خلاف الظاهر من الآية، وإنما قوله: "لاتصيبن" في موضع الصفة لـ (فتنه) وغير هذا تكلف. والرابع: أن يقع بعد غير (إما) من الأدوات الشرطية، وذلك قوله: "وغير إما من طوالب الجزا". أي إن نون التوكيد تدخل أيضًا على الفعل الواقع بعد الأدوات الطالبية للجزاء، ما عدا (إن) الداخلة عليهما (ما) فقد تقدم حكمها.

فإذا قلت: إن تقومن أكرمك، ومهما تطلبن أعطك، ومتى تأتينى أكرمك، وحيثما تكونن أذهب إليك، وكذلك سائرها، فهو جائز، لكنه قليل، وأنشد سيبويه: من يثقفن منهم فليس بائبٍ ... أبدًا وقتل بني قتيبة شافي والعلة كونه غير واجب قال سيبويه: وقد تدخل النون بغير (ما) في الجزاء، وذلك قليل في الشعر، شبهوه بالنهي حين كان مجزوما غير واجب. ويحتمل كلام الناظم أن أدوات الشرط مسوغة لدخول النون مطلقا، سواء كان الفعل معها في جملة الشرط أو في جملة الجزاء؛ إذ لم يقيد ذلك بفعل الشرط، فيجوز على هذا أن تقول: إن تكرمنني أكرمنك، ونحو ذلك وعلى ذلك قال الشاعر، وهو ضمرة بن ضمرة النهشلي: نبتم نبات الخيزراني في الثرى ... حديثًا متى ما يأتك الخير ينفعا وأنشد أيضا لابن الخرع:

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم ... ومهما تشأ منه فزارة تمنعا قال الأعلم: ليس من مواضع النون، لأنه خبر يحتمل الصدق والكذب. ثم لما ذكر مواضع لحاق النون الفعل، أخذ يتكلم في حكم آخر الفعل، وما يعرض له من التحرك بغير حركته، أو من حذفه، أو نحو ذلك. فقال: "وآخر المؤكد افتح" إلى آخره. يعني أن آخر المؤكد لا يخلو إما أن يكون قد لحقه ضمير أولا، فإن لم يلحقه ضمير فإن الآخر يحرك بالفتح، نحو قولك: (افعلن) في الفعل، و (افعلًا) أيضا. ومنه ما مثل به في قوله: (كابرزا) أراد ابرزن، فأبدلها ألفا، ومنه. *ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا* وقوله أيضا: *فلا يمنعنى ارتيادي البلاد*

فلا بد من الفتح، وذلك أن آخر الفعل إما أن يكون ساكنًا أو متحركا، فإنه كان ساكنا كـ (اضرب، ولا تضرب) فلاد من التحريك، لأن النون ساكنة إن كانت الخفيفة، وكذلك إحدى نوني المشددة، وهي الأولى، ساكنة، لأن الحرف المشدد من حرفين، فيلتقي ساكنان، فإذا حرك فإما بالفتحة، أو بالضمة، أو بالكسرة، فلا يجوز تحريكه بالكسرة لالتباسه بفعل المؤنث نحو: لاتضربن يا همد، ولا بالضمة أيضًا لأجل التباسه بفعل الجماعة المذكرين نحو: لاتضربن يا زيدون، فلم يبق إلا الفتح. وإما أن يكون آخر الفعل متحركًا نحو: ليضرب، في جواب القسم، فلابد من التحريك بالفتح أيضا؛ إذ لو بقى على حركته لالتبس بفعل الجماعة. وهذا القسم داخل تحت قوله: "وآخر المؤكد افتح" دل على مراده فيه أنه قال بعد: (واشكله قبل مضمرٍ لينٍ) إلى آخره، فدل على أن الأول لم يتصل به ذلك المضمر. ولا يختص هذا الحكم بالصحيح الآخر، بل يجرى فيما آخره واو أو ياء [نحو] هل تغزون يا زيد؟ وهل تقضين يا عمرو؟ إذ لم يفرق بين صحيحٍ ومعتل، لكن يبقى ما آخره محذوف للجزم أو شبهه. وذلك إذا قلت: اغز، واقض، فأردت إلحاق النون، هل يرد الآخر أولا؟ وإذا اتبعت ظاهر كلامه فلا بد من الرد، لأنه قال: (وآخر المؤكد افتح) فيقتضي أن ما حذف آخره لابد من رده، حتى يحصل فيه

هذا الحكم، وهذا صحيح، فتقول: اغزون يا زيد، واقضين يا عمرو، وكذلك إذا لحقت النون في الجزاء نحو: إما تقضين، فافعل كذا، وإما تغزون فاثبت. وأما الألف فلا يمكن فتحها وهي ألف، فلا بد من النص على الحكم فيها، فسيأتي ذلك له إثر هذا. ولم يتكلم ههنا إلا على اللغة الشهيرة، ولبني فزارة لغة فيما آخره ياء وهو حذفها، فيقولون: هل تقضن يا زيد؟ . وعليه أنشدوا: وابكن عيشًا تولى بعد جدته ... طابت أصائله في ذلك البلد وقال الطرماح: ولئن أردت لأن ترى بك زندتى ... لترن زندة مرخةٍ وعفار وجمهور العرب على ما تقدم، ومنه قوله تعالى: {قل بلى وربي لتأتينكم}، وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى} الآية. وأنشد سيبويه: فلتأتينك قصائد وليركبن ... جيش إليك قوادم الأكوار

وإن لحقه ضمير، فلا يخلو ذلك الضمير أن يكون حرف لين أولا، فإن كان حرف لين، وهو الألف والياء والواو، فالآخر يحرك بمجانس ذلك الحرف، فإن كان ألفًا حرك الآخر بالفتح، لأن الفتحة هي المجانسة له، فتقول: اضربان يا زيدان، وإن كان ياء حرك بالكسر، نحو: اضربن يا هند، وإن كان واوا حرك بالضم نحو: اضربن يا زيدون وهذا معنى قوله: "واشكله قبل مضمرٍ لينٍ بما جانس" إلى آخره وضمير "اشكله" عائد على "الآخر". والشكل: هو التحريك، أي حرك آخر الفعل إذا كان قبل مضمر، هو حرف لين بما جانس ذلك اللين. ومجانس كل حرفٍ من الحركات معلوم، وذلك قوله: (بما جانس من تحركٍ قد علما) إذ من المعلوم مجانسة الضمة للواو، والفتحة للألف، والكسرة للياء. وإن لم يكن الضمير حرف لين، ولا يكون إلا ضمير نصب للمخاطب أو الغائب، نحو: هل يضربنك زيد؟ وهل تكرمنه أنت؟ فلا حكم له أيضا، لأنه ككلمة أخرى، فالنون إنما تلحق قبله، فكأنه لم ياحقه شيء، فكان تحريكه بالفتح. فالحاصل من كلامه، ومن التفصيل المذكور، أن ما اتصل به ضمير رفعٍ بارز، هو حرف لين، فحركة الآخر بمجانس ذلك الحرف، وإن لا فلا بد من الفتح. وقوله: "لين" أصله لين، فخفف، وهو بدل من "مضمر" أو عطف بيان، أو نعت. ولما كان، وهو اللين، تارة يثبت مع النون إذا لحقت، وذلك إذا كان ألفًا، وتارةً لا يثبت، وذلك إذا كان ياء أو واوا، شرع في ذلك، فقال:

والمضمر احذفنه إلا الألف ... وإن يكن في آخر الفعل ألف فاجعله منه رافعًا غير اليا ... والواو ياءً كاسعين سعيا واحذفه من رافع هاتين وفي ... واوٍ شكل مجانس قفى نحو اخشين باهند بالكسرويا ... قوم اخشون واضمم وقس مسويا يعني أن المضمر المذكور، وهو اللين، لابد من حذفه إذا لحقت إحدى النونين، فتقول: اضربن يا زيدون، واضربن يا هند، فتحذف الواو والياء، لأنهما ساكنتان، والنونان كذلك، فيلتقى ساكنان، فيحذف اللين لالتقائهما، ما عدا الألف، فإنها لا تحذف، فلا تقول في (اضربا): اضربن يا زيدان، لالتباسه بفعل الواحد، فأبقوا الألف ولم يضر بقاؤها، وإن كان اجتماع الساكنين حاصلا، لأن النون المشددة بعد الألف [كالمشدد بعد الألف] في راد، ودابة، وشابة. فإن قلت: فهلا قالوا: اضربين، واضربون، لأنهم أيضا يقولون: تمود الثوب، وهل تضربيني يا هند؟ تريد تضربينني، وأصيم، ومديق، في تصغير أصم، ومدق.

فالجواب: أن الحذف إذا لم يقع به لبس أولى، لأنه أخف، بخلاف ما إذا كان ملبسا، فإنه مجتنب فتقول: اضران، وهل تضربان؟ كقوله تعالى: {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}. وإطلاق الناظم، مع ذكره ما آخره ألف، مشعر بأن ما آخره واو أو ياء مساوٍ في هذا الحكم لما آخره حرف صحيح، فإنه لم يتكلم فيه بغير ما حصل في إطلاق العبارة، فيقتضي أن مثل (يغزو، ويرمي) إذا اتصل به واو الضمير أو ياؤه قلت فيه: هل تغزن يا زيدون؟ وهل ترمن؟ وكذلك في الياء تقول: هل تغزن يا هند؟ وهل تدعن؟ فتحذف المضمر، كما نص عليه، وتحذف الآخر، لأنه كان قبل لحاق النون مع واو الضمير ويائه محذوفًا؛ إذ كنت تقول قبل النون: هل تغزون يا زيدون؟ وهل ترمون؟ وهل تغزين يا هند؟ وهل ترمين؟ فلما جاءت النون حذف الضمير أيضا على ما قال، فحذف الآخر لم يحتج إلى النص عليه، لأنه قد كان محذوفا، وليس حذفه لأجل نون التوكيد؛ بل للتصريف فإنما موضع ذكره باب آخر. ومن مثله قول خالد بن سعد المحاربي، جاهلي يخاطب امرأته:

ولا تهدي الأمر وما يليه ... ولا تهدن معروق العظام وأما إذا كان الضمير ألفا نحو: هل تغزوان؟ وهل ترميان؟ فإنها تبقى على حالها فتقول: هل تغزوان؟ واغزوان، وهل ترميان؟ وارميان. وفتح آخر الفعل لأنه كان كذلك قبل لحاق النون، فلم يحتج إلى التنبيه عليه. والعلة في بقاء ألف الضمير ما تقدم، فقد حصل حكم الصحيح الآخر، والمعتل الآخر بالواو أو بالياء مع التجرد من الضمير، ومع لحاقه. وبقي قسم واحد وهو المعتل الآخر بالألف مع التجرد من الضمير، نحو: يخشى، ويرضى، واخشن يا زيد، وارض، ومع لحاقه نحو: ارضوا يا زيدون، واخشى يا هند، وارضيا يا زيدان. أما هذا الأخير: فداخل أيضا تحت الأستثناء في قوله: "إلا الألف" فإنها لا تحذف أصلًا؛ بل تبقى على حالها قبل لحاق النون، كما تقدم في الياء والواو. وأما ما عداه فأخذ في حكمه فقال: "وإن يكن في آخر الفعل ألف" يريد أن الفعل إذا كان في آخره ألف نحو (يرضى، ويخشى) فإنه على قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك الفعل قد رفع فاعلًا ليس بياء الضمير ولا واوه. والثاني: أن يكون قد رفع فاعلًا هو الواو أو الياء. فإن كان الفاعل غير الواو والياء، وسواء كان مضمرًا أو ظاهرًا، فالحكم أنك تقلب الألف ياء مطلقا، كانت منقلبة عن ياء، كاسعين، فإنه من (السعي) أو عن واو كارضين، وكذلك المضارع منهما نحو: هل تسعين؟ وهل ترضين؟ لما يأتي في التصريف إن شاء الله.

وإذا انقلبت ياءً فتحتها، وذلك؛ قوله: (فاجعله منه رافعًا غير اليا والواو ياءً) والهاء في (اجعله) عائد إلى الألف. وفي (منه) عائد إلى الفعل و (رافعًا) حال من هاء (منه) و (غير) مفعول بـ"رافعًا" و"ياءً" مفعول ثان لـ"اجعل" أي اجعل الألف من الفعل ياءً حالة كونه رافعًا غير واو الضمير ويائه، فتقول: اخشين يا زيد، وارضين، ولتخشين، ولترضين. ومثل الناظم بقوله: "اسعين" من (السعي) وهو العدو، وأيضًا العمل والكسب ومنه قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}، لا يريد العدو في المشي، وإنما يريد العمل والاكتساب، وهو تفسير مالك بن أنس في الآية، وهو موافق للغة، وكل من ولى شيئًا على قوم فهو ساعٍ عليهم، ومنه: السعى على الأرمله واليتيم، و (الساعي) لوالي الصدقة. ومن مثل هذا الفصل قول الشاعر، أنشده سيبويه: استقدر الله خيرًا وارضين به ... فبينما العسر إذ جاءت مياسير وإن كان الفاعل الواو والياء، فإن آخر الفعل، وهو الألف، يحذف ههنا، وتبقى الياء والواو غير محذوفتين؛ بل تحركان بالحركة المجانسة، وذلك قوله: "واحذفه من رافع هاتين" إشارةً إلى الواو والياء، والهاء في "احذفه" عائد على الألف، أي احذف الألف من الفعل الرافع للواو والياء.

وأما الواو والياء أنفسهما فلا يحذفان؛ بل يثبتان ويحركان بالحركة المجانسة لهما، فالواو تحرك بالضم، والياء تحرك بالكسر، فتقول: اخشون يا زيدون، واخشين يا هند، ومنه قوله تعالى: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين}. وقال تعالى: {فإما ترين من البشر أحدًا} الآية. ودل على الإثبات فيهما قوله: "وفي واوٍ ويا شكل مجانس" لأنه لا يكون الشكل إلا في مثبت. واعلم أن كلامه في الألف والواو والياء فرضه على أنها ضمائر، لأنه قال: "واشكله قبل مضمرٍ لينٍ". ثم قال: "والمضمر احذفنه إلا الألف" ثم جرى على ذلك في بقية الكلام، ولم يتعرض لكونها علاماتٍ في لغة (يتعاقبون فيكم ملائكة) وكان حقه التنبية على ذلك، وأن الحكم فيهما مستوٍ، لكن لما كانت لغةً قليلة لم يتكلم عليها، ولا أنها ألف أو واو أو ياء، سواء كانت ضميرًا أو علامةً، فمعلوم أنه لا يختلف الحكم فيها بخلاف الاعتقاد. وإنما لم تحذف الواو والياء هنا، كما حذفت فيما إذا كان ما قبلهما من الحركة من جنسهما، وفرق بينهما مع أن الوجه أن لو كانا على حكم واحد من الحذف أو الإثبات والتحريك، لأن الواو والياء اللتين ما قبلهما من جنسهما إذا

جاء بعدهما ساكن حذفتا له نحو: اضربوا ابن زيدٍ، واضربى ابن زيدٍ، وإذا انفتح ما قبلهما لم يحذفا؛ بل حركا بمجانسهما نحو: اخشوا الله، واخشى الله. فإن قيل: لم لم ترد الألف المحذوفة فيقال: اخشاون، واخشاين، كما رد الساكن في (قولا) و (قولن). فقد أجاب المازنى عن هذا: بأن لام (قل) أصلها الحركة، فلما حركت رجعت إلى أصلها، فرجع الساكن فليست الحركة بعارضة، خلاف (اخشون) فإن واو الجمع وياء المؤنث لا أصل لها في الحركة، فكان تحريكهما عارضا، فلم يعتد بالحركة، فلذلك لم ترد الألف. وعورض هذا الجواب بـ (قل الحق) فإن اللام قد تحركت بحركة التقاء الساكنين، ولم يرد المحذوف. فأجاب السيرافي: بأن الساكن لم يرد في (قل الحق) لأن الساكن من كلمة أخرى، ولا يلزم لام (قل) أن يلقاها ساكن، بخلاف (قولن) فإن النون تثبت مع الكلمة فصارت لازمة، فلابد من العلتين، وهما لزوم النون، وأصالة التحريك. وقول الناظم: (قفي) أي اتبع. وقوله: نحو اخشين يا هند بالكسر) تمثيل للتحريك المجانس. وكذلك قوله: (يا قوم اخشون واضمم)

وقوله: (وقس مسويا) أمر بالقياس على ما ذكر، وأنك لا تقتصر على مثل ما ذكر. فإن قلت: ما فائدة الأمر بالقياس وقد علم أنه قياس، وأن ينبه على ذلك، وأيضًا فـ"مسويا" ظاهر أنه لا فائدة فيه؟ فالجواب: أن قوله: (وقس) توطئة لقوله: (مسويا) وذلك أنه ذكر مثل هذه المسألة، مما اللام فيه ياء، وذلك (اسعين) وهو من (السعي) و (اخشون) وهو من (الخشية) فلو لم يقل: (وقس مسويًا) لم تدخل له غير ما كانت اللام فيه أصلها الياء، واقتضى أن ما اللام فيه واو على خلاف ذلك الحكم، وهو غير صحيح، لأنك تقول: اقرين، وارضين. وقد قال: *استقدر الله خيرًا وارضين به* ومع الضمير: ارضون، وارضين، فلا فرق بين ذوات الواو وذوات الياء، فنبه على وجوب التسوية بين النوعين فقال (وقس مسويا). ولم يذكر هنا أن نون الرفع تحذف، ولابد من ذلك لأن النون التوكيدية إذا لحقت اجتمع النونات، فاستقبل ذلك، فحذفوا نون الرفع، فإذا وقف على الخفيفة حذفت وروجع الأصل. هذا التعليل يعلل به من يزعم أن ما لحقته نون التوكيد، واتصل به ألف الضمير أو واوه أو ياؤه، باقٍ على إعرابه وإليها ذهب الناظم.

وقد تقدم تنبيهه على الإعراب فيه في "باب المعرب والمبنى" حيث قال: "وأعربوا مضارعًا إن عربا من توكيدٍ مباشرٍ". ومن يزعم أنه مبني يعلل بأن نون الرفع حذفت للبناء، لا لاجتماع النونات، فصار إذ ذاك يشبه المنصوب. والناظم كان حقه أن يبين حذفها، ولا يتكل على ما يعطيه المثال في قوله: (اخشين، واخشون) ولكنه قد يجتزئ بالمثل في أمثال هذه الأشياء: ولم تقع خفيفة بعد الألف ... لكن شديدة وكسرها ألف وألفًا زد قبلها مؤكدا ... فعلًا إلى نون الإناث أسندا لما كان الناظم قد تكلم على حكم ما اتصل به الواو والياء من الأفعال، أخذ يتكلم فيما اتصل به الألف؛ إذ حكمه مخالف. وقد تقدم أنه لا يحذف مع نون التوكيد، فإذا ثبت فلثبوته حكمان ذكرهما فقال: "ولم تقع خفيفة بعد الألف، لكن شديدة". هذا هو الحكم الأول، يعني أن النون التوكيدية الخفيفة لا تقع بعد الألف، إذا أريد توكيد الفعل الذي في آخره ألف، سواء كانت تلك الألف ضميرًا أو علامةً، بخلاف الشديدة فإنها تقع بعدها مطلقا فتقول: اضران، ولتضربان، وهل تخرجان؟ ومنه قوله تعالى: {ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}.

ولا تأتي بالخفيفة هنا فلا تقول: اضربان، ولتضربان، وهل تخرجان؟ ووجه ذلك: أن الألف ساكنة، فإذا التقت مع النون وهي ساكنة لزم أحد أمرين: إما أن تبقى كما هي، وذلك محذور؛ إذ ليس في الكلام الجاري على الألسنة العربية ساكنان في كلمة يكون أولهما ألفا، والثاني غير مدغم؛ بل لابد من أن يكون مدغما، أو تحذف الألف، وهو القياس، لكن يلتبس الاثنان بالواحد، فيمتنع هذا القياس. وأما النون: فإما أن تحرك بالفتح أو بالكسر، فإن تحركت بالفتح الذي هو الأصل التبس بفعل الواحد، وإن تحرك بالكسر التبست النون بنون الإعراب، وإذا لم يكن سبيل إلى شيء من ذلك فلا بد أن تمتنع المسألة رأسًا. قال بعضهم: فمن وكد من العرب بالنون الخفيفة، ثم عرض له تأكيد أمر الاثنين لم يتجاوز لفظه قبل التوكيد وإن أراد التوكيد، وهو عنده معنى قول الخليل: إذا أردت الخفيفة في فعل الاثنين كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة في فعل الاثنين، في الأصل والوقف، لأنه لا يكون بعد الألف حرف ساكن ليس بمدغم، ولا تحذف الألف فيلتبس فعل الواحد والاثنين. وهذا المذهب الذي ذهب إليه الناظم، وهو مذهب الخليل وسيبويه، وقد مر وجهه.

وذهب يونس والكوفيون إلى جواز لحاق النون الخفيفة فعل الاثنين، والحجة لهم فيما ذهبوا أن النون الخفيفة مخففة من الثقيلة، وقد أجمع الجميع على أن الثقيلة تدخل هنا، فكذلك النون الخفيفة. وأيضًا أقصى ما في الباب أن يقال: ذلك يؤدي إلى التقاء الساكنين في غير إدغام، فكذلك جاء في كلام العرب من غير إدغام؛ إذ كانت الألف تقوم مقام الحركة لإفراط مدها، فجاء في قراءة نافع المدني {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي}. بإسكان ياء "محياي" وصلا، وفيه الجمع بين الساكنين على غير شرطه عندكم. وحكى بعض العرب: "التقت حلقتا البطان"، بإثبات الألف مع لام التعريف وعن بعضهم: ثلثا المال. وقرئ: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم}، و {أأشفقتم}، و {أأنتم أشد خلقًا}، ونحو ذلك بإبدال الهمزة الثانية ألفا، و {ها أنتم هؤلاء}.

وكذلك في غير الألف نحو: {هؤلاء إن كنتم صادقين}. و {أولياء أولئك}، بالأبدال أيضا. وهذه كلها يلزم فيها التقاء الساكنين. فإن قلتم: يمنع ذلك في نون التوكيد، فلابد من القول من هنا؛ إذ لا فرق بينهما، لكن القول بذلك باطل، فكذلك القول بالفرق باطل، وفي المسألة حجج غير هذه. وأجاب عنها البصريون، فأما كونها مخفة من الثقيلة، فغير مسلم، بل تقولها: إنها غيرها لمخالفتها لها لفظا ومعنى. أما (في اللفظ): فلأن الخفيفة تتغير في الوقف، فتقلب ألفا، وتحذف أيضا في الوقف رأسا، وتسقط للساكن الآتي بعدها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله، بخلاف الشديدة، فلو كانت أصلًا لاعتبر ذلك، فلم يكونوا ليغيروها بإبدال ولا حذف. وأما (معنى فلأن الشديدة أشد تأكيدا من الخفيفة، على ما نقل سيبويه عن الخليل، وهو رئيس أهل اللغة. ولو كانت أصلها لكان المعنى واحدا. وأما ما نقل من السماع فقليل، وإن سلم فذلك سماع في غير محل النزاع؛ إذ لم يقل عربي قط: اضربان، بالإسكان، ولا هل تضْربان؟

فإن قلت: فالقياس يثبت ذلك. فالجواب: أن كون العرب لم يتكلموا بذلك، مع اعتيادهم للتوكيد بالنون، دليل على اعتزامهم اطراح ذلك القياس، وإلا فلو كان معتبرا عندهم لنطقوا به ولو يومًا ما، فتركهم له رأسا دليل على اطراحه جملة. وهذا من "باب الاستدلال بالأحكام" وهو باب معروف في الأصول، يجري مجرى الاستدلال بالسماع، وقد بينه ابن جني في "الخصائص". وكان شيخنا القاضي- رحمه الله- يعتمده، ويحتج به. ثم قال: "وكسرها ألف" هذا هو الحكم الثاني، يعني أن الحكم المعتاد لهده النون، والمألوف في كلام العرب، وهو الكسر، وذلك إذا وقعت بعد الألف، نحو: هل تضربانّ؟ واضربانّ. وإنما كسرت، وكان الأصل فيها الفتح، لأنها هنا زائدة بعد ألف زائدة، فأشبهت نون الاثنين حين قلت: ضاربان، وغلامان. وأما في غير هذا الموضع: ففتحت لأنها حرفان، الأول منهما: ساكن، ففتحت، كما فتحت نون (أين) هذا تعليل سيبويه. ثم قال: "وألفًا زد قبلها مؤكدًا" إلى آخره. يريد أن هذه النون المتقدمة، وهي الشديدة، إذا أكدت فعلًا لحقه ضمير جماعة الإناث، وهو النون، فهي التي تؤكده بها دون الخفيفة، فزد قبلها ألفًا إذا أدخلتها على ذلك الفعل. فقوله: "مؤكدًا" حال من ضمير "زد" وهاء "قبلها" عائد إلى النون الشديدة المذكورة قبل، و"فعلا" مفعول بـ "مؤكد" أي زد قبل الشديدة ألفا حال كونك مؤكدًا فعلا أسند إليه نون الإناث.

فأما زيادة الألف: فلابد منها، لأنك لو قلت: (اضربننّ) لكان مستثقلا لاجتماع ثلاثة أمثال، كما استثقلوا ذلك مع نون الرفع في (اضربنّ) حتى حذفوها، ولم يمكن هنا الحذف لئلا يلتبس بفعل الواحد إن قلت: (اضربن) فاضطروا إلى أن زادوا ألفًا، فصلوا بها بين الأمثال، فزال القبح، وخف الاستثقال، وهذا معنى ما علل به سيبويه. فتقول إذًا: اضربنانِّ يا هندات، وهل تضربنانِّ، ولا تخشينانِّ، وهلا ترمينانَّ، وما أشبه ذلك. وأما إحالته في هذا الموضع على الشديدة وحدها دون الخفيفة، فلما تقدم ذكره في فعل الاثنين، فالخلاف فيهما واحد، والتوجيه واحد، فكل ما ذكر هناك فهو مذكور هنا، فلا معنى للإعادة، ومذهبه مذهب سيبويه والخليل والبصريين ماعدا يونس. وبقى النظر في النون بعد هذه الألف، وحكمها الكسر كالنون في فعل الاثنين؛ إذ العلة في كسرهما واحدة، وهي التشبيه بنون الاثنين. والناظم لم ينص عليها هنا، لكن تدخل له تحت عبارته الأولى في قوله: "وكسرها ألف" إذ معناه: أن كسرها بعد الألف مألوف، وهذه نون بعد ألف، فتكون مكسورة، فكأن قوله: "ولم تقع مفتوحة بعد الألف، قاعدة شاملة لما يقع في آخر الفعل من الألف، سواء أكان

ألف ضمير أو غيره كما هنا، فقد حصل حكم كسرها هناك، فلا معنى لإعادة ذكرها. واحذف خفيفة لساكن ردف ... وبعد غير فتحةٍ إذا تقف واردد إذا حذفتها في الوقف ما ... من أجلها في الوصل كان عدما وأبدلنها بعد فتح ألفا ... وقفًا كما تقول في قفن قفا تكلم في هذه الأبيات على العوارض اللاحقة للنون، وإنما تكلم في ذلك على النون الخفيفة، فدل ذلك من كلامه على أنها المختصة بهذه الأحكام التغييرية، بخلاف الشديدة، وهو كذلك، فإن الشديدة لا تتغير لقوتها في نفسها، حين كانت من حرفين مدغمٍ أحدهما في الآخر، ولتحركها، بخلاف الخفيفة، فكل ما ذكر من التغيير في الخفيفة منتف عن الشديدة، فإذا بقي الشديدة ساكن لم يؤثر شيئا، وكذلك إذا وقفت عليها فلا تغيير يلحقها من حذف ولا إبدال؛ بل تقول: أكرمنَّ ابن زيدٍ، ولتضربنَّ الرجل، ولتكرمانِّ زيدًا، وكذلك قول: يا زيد اضربنَّ، ولتخرجنَّ، ويا زيدون لتخرجن، ويا هندا اخرجن. وإن خففتها في الوقف على حد قولهم

* أصحوت اليوم أم شاقتك هر * فلا أثر له، لأنها الشديدة، والوقف عارض. ثم ذكر لحذفها موضعين: أحدهما: إذا جاء بعدها ساكن من كلمة أخرى، وذلك قوله: "واحذف خفيفة" يعني أن النون الخفيفة إذا ردفها ساكن، يريد: جاء بعدها، فإنها تحذف معه، فتقول اضرب ابنك، تريد: اضربن ابنك، ولتكرم الرجل، ولا تضرب ابنك" ومنه قول الشاعر: ولا تهين الفقير علك أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه وإنما حذفت هنا لضعفها وسكونها، فلم تقو أن تكون كالتنوين، فتكسر للساكنين، لأن التنوين مختص بما هو أقوى، وهو الاسم. وهذه النون مختصة بما هو أضعف وهو الفعل، وعلى أنهم قد عاملوا

التوين معاملتها، فقرئ: {قل هو الله أحد * الله الصمد}. {ولا الليل سابق النهار}، وأنشدوا لأبي الأسود: * ولا ذاكر الله إلا قليلًا * ثم قال: "وبعد غير فتحة أإذا تقف" وهو الموضع الثاني لحذفها، يعني أن النون الخفيفة تحذف أيضا إذا وقفت، وكانت بعد ضمة أو كسرة، ولا تكون بعد ضمة أو كسرة إلا لضمير محذوف واوٍ أو ياء، فتقول: يا زيدون اضربوا، ويا هند اضربي، ويا زيدون اخشوا، ويا هند اخشي وما أشبه ذلك. ووجه ذلك أن النون هنا شبيهة بالتنوين، لأن كل واحدة منهما زائدة على الكلمة ساكنة، فلما أشبهتها عوملت في الوقف معاملتها، فكما قالوا في الوقف على المرفوع: هذا زيد، بحذف التنوين، وفي الوقف على المخفوض: مررت بزيد، كذلك قالوا فيما هو نظير المرفوع والمجرور، وهو المضموم والمكسور من الفعل: اضربوا، واضربي. وهذا الذي قال جارٍ على اللغة الشهرى. وأما على قياس من قال: هذا زيدو، ومررت بزيدي، فينبغي ألا تحذف نون التوكيد؛ بل تبدل واوًا بعد الضمة، وياءً بعد الكسرة. فتقول: اخشييي واخشووا، وهو قياس صحيح.

وهذا الذي قرر الناظم: هو مذهب سيبويه والخليل. وأما يونس: فلا يحذف النون مطلقا؛ بل يقول: اخشووا، واخشيي على كل لغة، فيبدل الواو والياء من النون. وألزمه سيبويه أن يقول ذلك في غير الموقوف نحو: هل تضربوا؟ وهل تضربي؟ لأن النون إذا كانت باقية هي أو بدلها، فالواجب ألا يرجع ما حذف. ولما كان حذف النون هنا، على رأي الناظم، يلزم معه رد ما حذف أخذ يبين ذلك، فقال: واردد إذا حذفتها في الوقف" إلى آخره. يعني أنك إذا حذفت النون الخفيفة للوقف، فإنك ترد ما حذف لأجلها في الوصل، من ضمير أو علامة رفع، وذلك قوله: يا زيدون اضربوا، ويا هند اضربي، فرددت الواو والياء لزوال ما أوجب حذفهما، وهو النون الساكنة. وكذلك: اغزوا يا زيدون، واعزي يا هند. ويونس هنا موافق للخليل وسيبويه في اللفظ، ولذلك حكي عنه الموافقة للعرب. وأما التفسير فمختلف، لأن الخليل يقول: هي واو الضمير وياؤه، وعلى قول يونس هما بدل من النون.

فقول الناظم: (واردد ما كان عدم في الوصل) جارٍ على مذهب الخليل، لا على مذهب يونس. وتقول على هذا: يا هند اخشي، ويا زيدون اخشوا؛ إذ كان واو الضمير وياؤه لم يحذفا، فلم يكن ثم ما يرد. وعلى رأي يونس: اخشيي واخشووا، كما تقدم. وتقول: يا هند هل تقومين؟ ويا زيدون هل تقومون؟ فترد الواو والياء، وترد أيضا علامة الرفع لزوال موجب حذفها. وكذلك تقول: لتخشوون، ولتخشيين، ولتقضون، ولتقضين. وألزم سيبويه يونس أن يقول في هذا: لتخشووا، ولتخشيي، ولتضربوا ولتضربي، فلا ترد النون، لأنه يعوض من التنوين الواو والياء، وفي قوله: ولكن العرب على ما يقوله الخليل، وليس مع يونس سماع، وإنما قاله بالقياس على المفتوح، والمصير إلى ما قالته العرب هو الواجب. وفي قوله: "واردد" إلى آخره من النطر نظير ما تقدم قبل هذا، من عدم تنبيهه على حذف نون الرفع إذا أتي بنون التوكيد، فهاهنا لا يتبين أيضا ما الذي يرد، لأنه إذا قدم أنه يحذف الضمير، ولم يذكر خلافه، فلا يفهم له هنا الرد إلا فيما حذف، لكن هذا الموضع لا يعود عليه منه إشكال، وإنما يعود مما تقدم خاصة، فتأمله. ثم قال: "وأبدلنها بعد فتحٍ ألفًا وقفًا" يريد أنك إذا وقفت على النون الخفيفة، وكان ما قبلها مفتوحا، فلابد من إبدالها ألفًا، ولا يجوز الوقف عليها وهي على حالها، فلا تقول: يا زيد قفن، وإنما يقال: يا زيد قفا.

وكذلك: يا زيد ارضيا، وهل تقضيا؟ وهل تدعوا؟ في (ارضين، وهل تقضين؟ وهل تدعون؟ ) ووجه ذلك: شبهها بالتونين، فكما أنهم يبدلونه في الوقف، إذا تبع المفتوح، ألفًا فتقول: رأيت زيدًا، وأكرمت عمرا، فكذلك هنا، فهما متساويان في الوقف هنا، يحذفان مع المضموم والمكسور، ويبدلان ألفًا مع المفتوح. ومن مثل هذه المسألة قوله تعالى: {ليسجنن وليكونًا من الصاغرين}. وقوله: {كلا لئن لم ينته لنسفعًا} القراء كلهم على إبدالها في الوقف ألفًا. وقال الشاعر، أنشده سيبويه: * يحسبه الجاهل ما لم يعلما * وأنشد أيضًا قول الآخر: * ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا * وأنشد أيضا قول الآخر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبًا جزلًا ونارًا تأججا

يريد: تأججن، أي تأجج، وهو مما لحقته النون في الإيجاب ضرورة. وقال الآخر، أظنه ابن أبي ربيعة: وقمير بدا ابن خمسٍ وعشـ ... رين له قالت الفتاتان قوما وقال الآخر: * واحمر للشر ولم يصفرا * وذلك شهر. وقوله: "كما تقول في قفن قفا" أي كما تقول في (قفن) بالنون: قفا، بالألف. وينبغي أن يكتب الأول بالنون، والثاني بالألف، وإن كان القياس الكتب بالألف في النون الخفية مطلقا، اعتبارا بقصد الناظم من إظهار النون التي تبدل، فهو لم يقصد فيها إلا كونها نونًا حتى تتبين أولًا، ثم يحكم عليها بالإبدال.

ما لا ينصرف

ما لا ينصرف الصرف تنوين أتى مبينا ... معنى به يكون الاسم أمكنا هذا باب "ما ينصرف وما لا ينصرف" ولما كان الكلام في أحكام (الصرف) أو عدمه ثانيًا عن تصور معناه: ابتدأ الكلام في معناه، فاعلم أن (الصرف) هو تنوين يلحق الاسم مبينًا لمعنًى يكون الاسم بسببه أمكن، أي يدعى بأنه أمكن، وذلك أن الأسماء عند النحويين على قسمين، وذلك باعتبار التمكن وعدمه: متمكن، وغير متمكن. و(المتمكن) في اصطلاحهم: يطلق على ثلاثة معان: أحدها: أنه المعرب المتصرف بوجوه الإعراب، فغير المتمكن على هذا: ما اقتصر فيه على وجه واحد وإن كان معربا، نحو: ايمن الله، وسبحان الله. والثاني: أنه الاسم الذي تعتور عليه المعاني الموجبة للإعراب، وهي الفاعلية، والمفعولية، والإضافة، فأسماء الإشارة على هذا متمكنة وإن كانت مبنية، وهذا أعم من الأول، وكلاهما غير مراد الناظم. والثالث: وهو مراده، أنه كل اسم مستحق للإعراب، لكونه لم يشبه الحرف، أي هو متمكن في بابه، وغير المتمكن: هو كل اسم خرج عن استحقاق الإعراب، لشبهٍ حصل بينه وبين ما لا يدخله إعراب أبدًا، وهو الحرف أي لم يتمكن في الاسمية. والأول على قسمين:

(متمكن أمكن) وهو الذي يجري بوجوه الإعراب على أصلها، من الرفع بالضمة، والنصب بالفتحة، والجر بالكسرة، وهذا هو الذي قصد بالذكر. و(متمكن غير أمكن) وهو الذي نقص عن تلك الرتبة، ولم يخرج عن بابه جملة، وهو الجاري ببعض وجوه الإعراب وهو الرفع والنصب، دون بعض وهو الجر. فأخبر أن (الصرف) تنوين، و (التنوين): نون ساكنة مزيدة في آخر الاسم لمعنى يختص به. وذلك المعنى على أوجه: منها أن يدل على بقاء الأصالة، ويسمى "تنوين الصرف" وهو الذي أراد بقوله: "الصرف تنوين" أتى بالجنس الذي يشمل ما يدل على الأصالة وما لا يدل على ذلك؛ بل على معنى آخر كـ "تنوين التنكير" الدال على تنكير ما هو صالح للتعرف كـ (صه، ومه، وأف) وكـ "تنوين العوض" اللاحق عوضًا من مضاف إليه، كـ (حينئذ، ويومئذ) ونحوهما، وكـ "تنوين المقابلة اللاحق مقابلا لنون جمع المذكر، كـ (مسلمات) ولما كان ذلك داخلا عليه بين أنه يريد منها ما هو دال على معنى الاسم، وذلك المعنى من أجله سمي الاسم أمكن، والأمكنية، فكأنه قال! : التنوين هو النون الدالة على الأمكنية في هذا الاسم، وذلك نحو: رجل، وفرس، وزيد، وعمرو. فإن التنوين في هذه الألفاظ لا يدل على معنى زائد على الأمكنية؛ إذ ليس عوضًا من شيء، ولا مقابلًا لشيء، ولا مبنيًا تنكير شيء؛ إذ كان يلحق الفكرة والمعرفة، فتحصل تعريف (الصرف).

ومقصوده بتعريفه تبيين أن ما دخله (الصرف) يسمى منصرفا، وما لم يدخله يسمى غير منصرف، فـ (صه، ومه) ونحوه لا يسمى منصرفا، لأن ذلك التنوين فيه لم يلحق لمعنى الأمكنية، حتى لو فرضنا فيه التعريف ببحقه التنوين. وكذلك (إذ) في (حينئذ) ونحوه لا يسمى منصرفًا، إذ لم يلحق لالًا على الأمكنية. وكذلك (مسلمات) ونحوه لم يلحقه التنوين الصرفي، حتى لو فرضنا أن ليس له مقابل للحق. وإذا ثبت هذا التعريف ورد عليه أسئلة: أحدها: أن (الصرف) هو التنوين الدال على معنى الأمكنية، والأمكنية إنما وجدنا باستقراء مواقع التنوين، حتى رأينا أن تنوين نحو (رجل، وزيد) إنما لحق دالًا على معنى الأمكنية. فمعنى الأمكنية لم نجده من غير ذلك؛ إذ لم تشافهنا العرب بذلك. وإذا كانت معرفتنا لمعنى الأمكنية إنما صدرت من جهة (تنوين الصرف) صار هذا التعريف دوريًا لأنا لا نعرف (الصرف) إلا بكونه يدل على الأمكنية وهذا بالغرض، ومعنى الأمكنية لم نعرفه إلا بالصرف وهذا بالاستقراء، والدور في التعريفات فاسد. والثاني: أن المعنى الذي عرف به أتى به مبهما؛ إذ قال: مبينًا معنى من شأنه أن يكون الاسم به أمكن. وذلك المعنى لم يعينه باسمه ولا عرفه، كما ينبغي في (التعريف)

فحاصل ذلك أنه أحال في (التعريف) على ما هو مفتقر إلى التعريف، ولم توضع الرسوم إلا على البيان. والثالث: أن المعرف بالألف واللام، والمضاف، إما أن يقول: إنها منصرفة أو غير منصرفة، فالقول بأنها منصرفة غير صحيح على مقتضى التعريف؛ إذ لم تتصف بالصرف وهو التنوين، وهذا بالحس، وإذا لم تتصف به لم يصح أن يقال: إنها منصرفة، والقول بأنها غير منصرفة باطل، وإن لم يلحقه الصرف الذي هو التنوين، وهذا بإجماع. وأيضًا، يطلق النحويون على المضاف وذي الألف واللام الانصراف كثيرا، فيقولون: إن غير المنصرف إذا أضيف أو دخلته الألف واللام انصرف. ولا يقال: إن الألف واللام، والإضافة، لما كانا يعاقبان التنوين سمي ما هما فيه منصرفًا حكمًا للمعاقب بحكم ما عاقبه، ولذلك دخله الجر مع الألف واللام والإضافة، فلا غرو أن سموه منصرفا- لأنا نقول: إذا كان الاسم الذي لا ينصرف لم يكن فيه تنوين- فما الذي عاقبت الإضافة أو الألف واللام؟ فهذه ليست بمعاقبة صحيحة، وإنما تجرى المعاقبة بينة في نحو: الرجل، وغلام زيد. وأما مثل: حمراء الأسد، ومساجد بني فلان، فما الدليل على هذا؟ والرابع: أن هذا التعريف يقتضي أن نحو: (مسلمات، وصالحات) قبل التسمية، وكذلك بعد التسمية، نحو (عرفات، وأذرعات) غير مراد، لأن التنوين المذكور لم يلحقه. وإذا كان كذلك فإذا قلت: هذه عرفات مباركًا فيها، فمنعته التنوين والخفض على لغة من قال بذلك- فما الذي منع هنا؟ فإن قلت: تنوين الصرف. فكيف هذا وهو تنوين مقابلة وإن كان مسمًى به؟ والدليل على ذلك بقاء اللفظ على ما كان عليه في اللغة الأخرى، ومعاملته معاملة ما لو كان جمعًا حقيقة، ولا خلاف أن تنوين (عرفات) قبل التسمية به هو

التنوين بعد التسمية به على اللغة الشهيرة. وقد قالوا: إنه تنوين مقابلة، فكذلك بعد التسمية به. فقد حصل في ظاهر الوجود أن ثم من المنصرف ما لا يدخله تنوين الصرف المذكور، فصار التعريف غير منعكس. فأما السؤال الأول: فقد يجاب عنه بأن الدور ساقط في التعريف، لأن التعريف حصل أن الصرف هو التنوين المفيد لمعنى الأمكنية، فالصرف متوقف على معنى الأمكنية، والأمكنية لا تتوقف على معرفة (الصرف) بل إنما تتوقف على معرفة حصول وجوه الإعراب فيه، لأن وجوه الإعراب ما دخلت فيه واستوفاها إلا لمعنى فيه يسمى الأمكنية، أي هو متمكن في وجوه الإعراب الثلاثة. والتنوين الصرفي: تابع لوجوه الإعراب بعد تقرر حصولها له، وإنما كان يكون دورًا لو توقفت معرفة الأمكنية على معرفة التنوين الصرفي، وليس كذلك. وأما الثاني: فيجاب عنه بأن المعنى المعرف به مشروح، لأنه قال: "به يكون الاسم أمكنا" فاشتق له من الأمكنية وصفًا، فمعناه: يكون به الاسم ذا أمكنية، والمعنى المراد هو الأمكنية، فليس فيه إبهام كما زعم. وأما الثالث: فإن المنصرف إنما يطلق عند النحويين في مقابلة غير المنصرف، فلا يقال للاسم: (منصرف) إلا إذا كان بحيث

يدخله المانع، فيمتنع صرفه، وذلك إذا كان فيه التنوين. و (غير المنصرف) هو ما منع تنوين الصرف، كما يقرره الناظم. فإذًا لا يقال فيما فيه الألف واللام أو الإضافة إنه (منصرف) إلا بضربٍ من المجاز، وهو اعتبار المعاقبة على الجملة، حين كانا يعاقبان التنوين. والدليل على ذلك: أن سيبويه إنما يقول فيما فيه الإضافة أو الألف واللام: إنه انجر، ولا يقول: انصرف. ألا تراه قال في "باب المجاري": وجميع ما لا ينصرف: إذا دخلت عليه الألف واللام أو أضيف انجر، لأنها أسماء أدخل عليها ما يدخل على المنصرفة. ولم يقل: انصرف، كما عبر عما فيه التنوين بالمنصرف، فالحق فيما فيه الألف واللام ألا يقال فيه: منصرف، ولا غير منصرف، كما لا يقال للمثنى والمجموع على حده: إنه منصرف أو غير منصرف. فإذا لا يصدق على ما فيه الألف واللام أو الإضافة أنه منصرف، لأنه لا تنوين فيه، ولا غير منصرف، لأنه لم يكن المانع له منه شبه الفعل؛ بل الألف واللام أو الإضافة. وأما السؤال الرابع: فالجواب عنه أن المجموع بالألف والتاء لا يسمى منصرفا، وإن كان ابن النظام ينازع في ذلك، لأن "تنوين الصرف" مفقود منه وهو باقٍ على أصله، وكذلك إذا نقل إلى التسمية على اللغة الشهيرة اعتبارًا بالأصل.

وأما من منع فإنه اعتبر حالة التسمية وهو إذ ذاك مفردٌ فيه تاء التأنيث فأشبه (علقاة) إذا سميت به رجلا، فإنك تمنعه (الصرف) فكذلك (عرقات) ونحوه. وإذا كان معنى الإفراد فيه معتبرا خرج بذلك عن كون تنوين مقابلة، لأن تنوين المقابلة مختص بالجمع، وهذا ليس بجمع. فإن قلت: فكذلك (عرفات) ونحوه مفرد على اللغة الشهيرة؛ إذ هو اسم لجبل بعينه. فالجواب: أن معاملتهم إياه معاملة الجمع في كونه يجر بما ينصب به، ولا يمنع صرفه مع توفر علل المنع وهو التأنيث والتعريف- دليل على اعتبار معنى الجمع فيه، وعدم اعتبار معنى الإفراد، وهذا واضح والله الموفق. وقوله: "أتى مبينًا" جملة في موضع الصفة لـ (تنوين) و (معنى) مفعول بـ (مبينًا) و (به) متعلق بـ (يكون) والجملة في موضع الصفة. فألف التأنيث مطلقًا منع ... صرف الذي حواه كيفما وقع هذا أحد موانع الصرف، وهو الألف الذي للتانيث وجملة الموانع التي ذكر هنا عشرة: التأنيث بأقسامه الثلاثة، والألف والنون، والوصف، والوزن بقسميه، والعدل، والجمع على (مفاعل) أو (مفاعيل) والعلمية، والتركيب، والعجمة، وألف الإلحاق.

وزاد بعضهم ألف التنكير، كقبعثري، ضبغطري"، مسمى بهما، وهذا قليل فلم يعتبره، وزيد أيضًا شبه العجمة، وهو الجمع المتناهي مسمى به. وقد ذكر الناظم التسمية به، وأخبر أنه ممنوع الصرف، ولم يعين مانعه. والظاهر أنه منع الصرف عنده تشبيهًا بأصله. وزاد آخر: وشبه العلمية، كألفاظ التوكيد، ولعلها تدخل له تحت العلمية. وابتداء بألف التأنيث، وهو أحد أقسام التأنيث الثلاثة، وهو الذي يمنع مطلقا في المعرفة والنكرة، وذلك أنه جعل مانع الصرف على وجهين: أحدهما: ما منع مطلقًا. والثاني: ما منع في حال التعريف، دون حال التنكير. فأما المانع مطلقا: فثلاثة أشياء: ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة، والوصف إذا اجتمع مع زائدي (فعلان) أو مع الوزن، أو مع العدل، ووزن (مفاعل) أو (مفاعيل). وأما المانع حال التعريف خاصة بما سوى ذلك. وابتدأ الناظم بالقسم الأول، وبألف التأنيث منه، فقال: "فألف التأنيث" إلى آخره. يعني أن الألف التي للتأنيث، سواء كانت مقصورة أو ممدودة، يمتنع، بدخولها وحدها، صرف الاسم الذي حوى هذا الألف، كيفما وقع ذلك الاسم، كان نكرة، أو معرفة بالعلمية أو منكرًا بعد التعريف.

وكذلك الإفراد والجمع والاسم والصفة، الحكم سواء في ذلك، فتقول: هذه امرأة حبلى، وهذه بشرى حسنة، وذكرى بليغة، هذا في المقصورة. وتقول في الممدودة: هذه صحراء، وجبة حمراء، وصفراء، وكذلك كبرياء، وسيمياء، وفي العملية نحو: زكرياء، وعاشوراء. وإن نكرت قلت: زكرياء آخر. وهذا مما لا خلاف فيه بين النحويين. وأطلق عليها في (صحراء) ونحوه لفظ الألف اعتبارًا بأصلها. والأصل: صحراا، بألفين، فقلبت ألف التأنيث، وهي الثاني، همزة لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة. وقد يحتمل أن يرجع قوله: "مطلقًا" للمنع، كأنه قال: إن الألف يمنع الصرف مطلقا، في حال التعريف والتنكير. ويكون قوله: "كيفما وقع" راجعا إلى الألف، يعني سواء أكان الألف باقيًا على أصله غير منقلب أم منقلبًا همزة، الحكم واحد في إطلاق المنع. ولعل هذا التفسير أسعد بكلام الناظم لموافقته الاستعمال؛ إذ يقال: ألف التأنيث تمنع مطلقا، ووزن (مفاعل) يمنع مطلقا، يعني أنه يمنع في المعرفة والنكرة، مع أن الوجه الأول لا مانع له من جهة المعنى. وجعل ألف التأنيث هنا مانعًا منفردا، وشأن موانع الصرف ألا تمنع إلا إذا جاء اجتمع منها سببان فأكثر، ولكن هذا ثابت فيه، وفي موازن

(مفاعل ومفاعيل) وما عداهما فهو الذي لا يمنع وحده على ما سيأتي ذكره إن شاء الله. وعلى أن كثيرا من متأخري النحويين يردون ذلك إلى علتين، لا إلى علة واحدة، طردًا لما ثبت في غير ذلك. فأما شيخنا القاضي- رحمه الله- فكان يقول: قد يقال: إنه أشبه ما فيه علتان توهما، فكأن اجتماع التأنيث المعنوي مع اللفظي علتان ثنتان، وكأن معنى الجمع مع لفظه الذي لا نظير له علتان أيضا، طردًا لقاعدة "اجتماع العلتين اللفظية والمعنوية التي بسببها أثر الشبه. وغيره من شيوخنا وغيرهم يعبرون عن العلتين بالتأنيث، ولزوم التأنيث. وعبر عن ذلك شيخنا الأستاذ- رحمه الله- بلزوم حرف التأنيث، وبقاء الكلمة عليه. وفي (مفاعل) يقولون: المانع الجمع المتناهي، وعدم النظير في الآحاد، فقد صيروا العلة الواحدة علتين. والناظم إنما بنى على ظاهر الحال، وأن الاسم لم يوجد فيه، في الظاهر، إلا علة واحدة، وما فصل غيره فراجع إلى معنى واحد في التحقيق. والله أعلم. وإنما منع صرفه كيفما وقع، لوجود علة المنع، أما قبل التسمية فظاهر، وكذلك بعد التسمية، لأن العلمية إنما زادت ثقلا وسببية للمنع، فإن نكر بعد التسمية زالت العلمية، وبقي على أصله قبل العلمية. وجرى الناظم في هذا البيت على تذكير الألف إذ قال: "وألف التأنيث مطلقًا منع" ولم يقل: "منعت".

وكذلك قوله: "صرف الذي حواه" ولم يقل: "حواها" وذلك جائز، فـ (الحرف) يجوز تذكيره وتأنيثه، كما قال: * كافأ وميمًا وسينًا طاسمًا * وكما قال: * كما بينت كاف تلوح وميمها * وزائدا فعلان في وصف سلم ... من أن يرى بتاء تأنيث ختم هذا هو الأمر الثاني من موانع الصرف مطلقا، وهو الوصف، لكنه لا يمنع وحده؛ بل مع علة أخرى، وجعله مانعا مطلقا في ثلاثة مواضع، هذا أحدها، وهو مع زائدي (فعلان) وهما الألف والنون. ويريد أن الألف والنون إذا اجتمع مع الوصفية، وهو معنى قوله: "في وصف" فإنه يمنع صرف الاسم، سواء كان ذلك الاسم نكرة أو معرفة، فتقول: رجل غضبان، وإناء ملآن ماء، ونحوه. فإن قلت: من أين يفهم أنه يمنع مطلقا، ولعله في حال دون حال؛ إذ لم يذكر ذلك هنا؟ فالجواب: أنه يتحصل من وجهين: أحدهما: من إطلاقه المنع ولم يخصه، والأصل في الإطلاق حمله في كل ما يحتمله، ولو أراد حالة دون أخرى لقيد، كما يفعل ذلك في غير هذا الموضع.

والثاني: أن قوله: "وزائدا فعلان" معطوف على ألف التأنيث، كأنه قال: وألف التأنيث مطلقا منع، وزائد (فعلان) كذلك، وإلا فأين خبر قوله: "وزائدا فعلان"؟ فليس إلا معطوفًا كقولك: زيد في الدار وعمرو، فالمنع فيه مطلق. وقوله: "وزائدا فعلان" اشترط في وصفها علة الزيادة، فلو كانت إحداهما أصلية لم يكن لهما تأثير في المنع، كـ (تبانٍ) من: التبن، و (طحان) من: الطحن، و (سمان) من: السمن، وما أشبه ذلك. فإذا كانتا معًا زائدتين فحينئذ يترتب على ذلك منع الصرف، وينهض الزائدان موجبا. لكنه شرط في هذا المنع شرطا وهو أن يكون سالمًا من لحاق تاء التأنيث عند إطلاقه على المؤنث وصفًا له، وذلك أن يكون (فعلان) الذي في مقابلة (فعلى) نحو: سكران، وملآن، وغضبان، وعطشان، وعجلان، لأنك تقول في مؤنثة: سكرى، وغضبى، وملأى، وعطشى، وعجلى. فلو كان تأنيثه بلحاق الهاء لم يكن منع صرفه مطلقا، نحو: رجل سيفان، وخمصان، وعريان، وندمان، ونحو ذلك، فإنك تقول في تأنيثه: سيفانة، وخمصانة، وعريانة، وندمانة. وكذلك على من قال في نحو (سكران): سكرانة، لا يمنع صرفه مطلقا لفقد شرط الامتناع. وحكى المؤلف أنها لغة لبني أسد، يقولون في (سكران): سكرانة.

ويشمل اشتراط الناظم ما إذا لم يكن له مؤنث أصلا لا، بالهاء، ولا على (فعلى) لأن قوله: "سلم من أن يرى مختومًا بتاء تأنيث" أعم من أن يكون له مؤنث بغير تاء، أو لا مؤنث له أصلا. فعلى هذا تمنع صرف (رحمان) من أسماء الله تعالى. فتقول: الله رحمان رحيم. وهذا أحد القولين فيه. فمنهم من قال بما تقدم نظرًا إلى امتناع (فعلانة) فيه، فيمتنع لأنه لم يؤنث بالتاء. ومنهم من قال بصرفه في النكرة، نظرًا إلى أنه ليس له (فعلى) قال الأستاذ- رحمه الله-: والأول أولى، لأن باب (فعلى) أوسع من باب (فعلانة) والدخول في أوسع البابين واجب. ومن هذا ما حكي من قولهم: رجل لحيان، إذ ليس له (فعلى) ولا (فعلانة). ووجه امتناع صرف هذا القبيل مطلقا شبه الألف والنون بالألف والهمزة في باب (حمراء) والشبه بينهما من أوجه، وهي أنهما، في الموضعين، زيادتان زيدتا معًا، والأولى منهما ألف، وقبلها ثلاثة أحرف، ولا تلحقها التاء، وبناء المؤنث مخالف لبناء المذكر. فلما قوي الشبه بين (فعلان، فعلى) وبين (فعلى، أفعل) هذه القوة جرى مجراه في الامتناع مطلقا.

وهذا ظاهر تعليل سيبويه. وربما أطلق على (فعلان) أنها بدل من (فعلاء) أعني بدل النون من الهمزة، وقد فعل ذلك في "باب البدل". فإن قلت: جعله الوصف يمنع مطلقا مع الألف والنون مشكل، لأن ذلك لا يصح إلا إذا كان الاسم نكرة، أما إذا كان معرفة، فإن التعريف يذهب بالوصفية، لأن الوصفية والعلمية متنافيان لا يجتمعان، وإطلاقه يقتضي أن الوصفية مع صاحبها مانع في النكرة والمعرفة، وهذا لا يصح. وهذا الإشكال وارد في سائر المواضع التي يمنع فيها الوصف مع غيره مطلقا، وهو الوزن والعدل الآتي ذكرهما إثر هذا. فالجواب: أن الناظم لما قال: "وزائدا فعلان في وصف" فهذا المساق يقتضي أنه إنما تكلم على كونه وصفًا فيه الألف والنون، وما فيه الألف والنون من الأوصاف إنما يتصور في النكرة، كما في السؤال، فيصح أن يقال فيه: إنه يمتنع صرفه مطلقا، أي لا يختص ذلك بكونه غير مسمى به، أو مسمى به ثم نكر بعد التسمية، لأنه إذا نكر يراجع به الأصل حكما، فيلحظ فيه معنى الوصفية، فكأنه على أصله من التنكير. وهذا رأي سيبويه، وهو ظاهر كلام الناظم، ويلزم على طريقة الأخفش أن يصرفه بعد التنكير، كما يقول ذلك في (أحمر) إذا سمي به ثم نكر.

فإن قلت: فقد تقدم أنه يذكر في هذا القسم ما ينصرف في النكرة والمعرفة، وهذا الذي قرر هنا مخالف لذلك، من حيث صار الكلام فيه بالنسبة إلى تنكيره خاصة. فالجواب: أن محصوله أنه لا ينصرف لا في النكرة ولا في المعرفة. أما في النكرة: فلما ذكر آنفًا، وكلام الناظم صالح للتفسير به. وأما في المعرفة: فلما فيه من المانع الذي يذكره، بعد، وهو العلمية والألف والنون، فعلى كل تقدير لا ينصرف أصلًا. وقد يقال، وهو مختص بهذا النوع: إن الألف والنون منعت وحدها لها لما تقرر من الشبه بينها وبين همزة التأنيث حين قال سيبويه إن النون بدل من الهمزة. قال ابن خروف: يعني بدل العوض، فلما أجروا عليها حكم الهمزة جرت مجراها في المنع وحدها، وتكون العلمية على هذا غير مؤثرة. وهو ما يظهر من كلام الناظم، لأنه قال: "وزائدا فعلان في وصف" فجعل الوصفي موضوعا، والألف والنون مانعا، ولم يجعل الوصفية مانعا نصًا، وإلا فكان يقول: "وزائدا فعلان مع وصف سلم" إلى آخر وهذا المنزع هو ظاهر كلام سيبويه، لكن هذا التفسير غير مطرد في الأنواع الثلاثة، فالجواب الأول: أولى، وهو المطرد فيها، كأن المشبه لم يقو عنده أن يكون قائما مقام المشبه به. وقوله: "ختم" جملة في موضع الحال من ضمير "يرى" وهو ضمير "الوصف" وجاء الماضي حالًا خاليًا من (قد) إذ هو جائز عنده كقوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم} الآية. و"بتاء تأنيث" متعلق بـ "ختم".

ووصف أصلي ووزن أفعلا ... ممنوع تأنيث بتاكأ شهلا وألغين عارض الوصفية .... كأربعٍ وعارض الإسمية فالأدهم القيد لكونه وضع ... في الأصل وصفًا انصرافه منع وأجدل وأخيل وأفعى ... مصروفة وقد ينلن المنعا هذا هو الموضع الثاني من المواضع التي يكون فيها الوصف ممنوعًا من الصرف مطلقًا، وذلك مع وزن الفعل الغالب على الفعل، فإذا كان نكرة امتنع صرفه للعلتين نحو: أحمر، وأصفر، وأسود، وما أشبه ذلك. وقيد منع الصرف مطلقا في هذا النوع بقيدين: أحدهما: أن تكون الوصفية أصلية لا عارضة، بمعنى أن أصل الوضع في ذلك الاسم أن يكون صفة، ولا يضره بعد ذلك أن يستعمل استعمال الأسماء في بعض المواضع، كما سيذكره. فقول: (هذا ثوب أحمر وأخضر) موضوع على أن يكون وصفا، فيمتنع صرفه مطلقا، في النكرة، والمعرفة إذا سمي به، وإذا نكر بعد التسمية. حكى ابن خروف عن أبي زيد الأنصاري قال: قلت للهذلي: كيف تقول للرجل له عشرون عبدًا، كل واحد منهم اسمه "أحمر"؟ قال:

عشرون أمر، قال: فقلت: فكيف تقول: إذا كان يقال لهم: أحمد؟ فقال: عشرون أحمدًا، فأجرى "أحمدًا" ولم يجر "أحمر" وهذا موافق لما يعطيه النظم. فلو كانت الوصفية عارضة لم تعتبر، كما سنبنيه. والشروط الثاني: أن يكون تأنيثه بالتاء ممتنعا، وذلك قوله: "ممنوع تأنيث بتاء" وإنما يؤنث ببنية أخرى إن كان له مؤنث، وذلك أن (أفعل) إذا كان وصفا على ثلاثة أوجه: أحدها: (أفعل، أفعلة) نحو: أرمل، وأرملة، فهذا الضرب لا يحكم له بمطلق الانصراف، فإنه الذي تحرز منه، وإنما يذكر بعد هذا، حتى تدخله العلمية، فإنه مما ينصرف في النكرة، ويمتنع صرفه في المعرفة. والثاني: (أفعل التفضيل) مقدرًا بـ (من) فهذا يدخل له تحت إطلاقه هنا، لأنه قد اجتمع فيه أنه وصف أصلي، وأن التاء لا تدخل في مؤنثه، فلا ينصرف في معرفة ولا نكرة لا قبل التسمية ولا بعدها. أما قبل ذلك فظاهر، وأما بعده فلشبه الأصل عند سيبويه: يوافق الأخفش هنا سيبويه، لكن على معنًى آخر، وهو أن هذا عنده من باب الحكاية، فاتفاقهما من وجهين مختلفين. والثالث: (أفعل، فعلاء) نحو: أحمر، وأبيض، وقد تقدم. ويندرج تحت هذا الإطلاق نحو: رجل آدر، وآلي، أي عظيم الأليتين، وأكمر، للعظيم الكمرة، وما أشبه ذلك مما ليس له (فعلاء) ولا (أفعلة) وهو نظير (لحيان) في باب (فعلان).

ووجه المنع في هذه مطلقا أن الوزن المختص بالفعل، والوصف الأصلي موجودان فيه في حال التنكير أولًا. وأما حالة التعريف فللعلمية التي خلفت الوصفية، فإذا نكر بعد التعريف صار يشبه أصله قبل التسمية، فمنع الصرف، وهو مذهب سيبويه. وأما أبو الحسن فصرفه في التنكير بعد التسمية، وقال: إنما المانع له في التنكير الوصفية، وقد زالت بالتسمية، فلم يبق له مانع إلا الوزن وحده، وهو لا يمنع وحده. وكلام العرب على ما قال سيبويه، وقد تقدم ما حكى أبو زيد عن الهذلي. وقد نقل عن أبي الحسن أنه قال في كتابه "الأوسط": إن (أفعل) صفة لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. قال: والقياس أن ينصرف في النكرة. قالوا: فقد وافق سيبويه في السماع وذكر أن القياس هو الصرف، وهو ظاهر. وقد رجح الفارسي في "التذكرة" مذهب سيبويه، بإجماعهم على ترك صرف (أدهم، وأبطح) ونحوهما، مما استعمل استعمال الأسماء من هذه الصفات. وبيان ذلك: أنه ليس في تسميتهم بـ (أحمر) ونحوه أكثر من أن يستعملوها استعمال الأسماء، وقد سلبوا عنها معنى الصفات. وهذا المعنى موجود في قولهم: (أدهم) وبابه، وقد امتنعوا من صرفه، فكذلك ينبغي أن يكون (أحمر) وبابه إذا سمي به، ثم نكر.

وقد تقدم الاعتذار عن إطلاق الناظم، وإنما لم تؤثر العلتان عند لحاق التاء من قبل أنها قد أخرجت عن تأثير وزن الفعل؛ إذ كان الفعل لا تلحقه هاء التأنيث. وعلى هذا التعليل يستتب الحكم فيما له مؤنث بغير التاء، أو فيما ليس [له] مؤنث أصلا. ومثل ما منع التاء بـ (أشهل) وهو من قسم (أفعل، فعلاء) ثم لما قيد الوصف بالأصلي احتاج إلى بيان ما أشار إليه بالقيد، فقال: "وألغين عارض الوصفية". يريد أن الوصفية إذا كانت عارضة للاسم، ليست في أصل وضعه، لا معتبر بها، فلا تؤثر منعًا، كما أثرت الأصلية. فإذا قلت: مررت بنسوة أربع، ورأيت نسوة أربعًا، وهو الذي مثل به، فلا تمنعه الصرف، لأن (أربعًا) أصله الاسمية، وأن يدل على مجرد ذلك العدد. فمن قال: مررت بنسوة أربع، إنما اعتبر معنى غير المعنى الأصلي، وهو تاويله بمتعددات ونحوه من المشتق، وهو خلاف المعنى الأصيل. وكذلك أيضا، لا معتبر بالعارض في الاسمية؛ بل يعتبر الأصل من الوصفية، وهو قوله: "عارض الاسمية" [وهو معطوف على قوله: "عارض الوصفية"] مسلط عليه "الغين" أي وألغينّ" أيضا "عارض" الاسمية".

فإذًا من الأسماء ما أصل وضعه أن يكون وصفا، ثم عرض فيه أن وقع اسما من غير اعتبار معنى الوصفية، فتمنعه الصرف؛ إذ كانت الاسمية عارضة لا يعتد بها. وارتكب هنا قطع همزة الوصل في "الاسمية" إذ لم يستقم له تحريم اللام وسقوط همزة "اسم" لما يلقى فيه من "الكف" في (مستفعلن) والكف لا يقع في (وتد) فاضطر إلى إثبات الهمزة وإبقاء لام التعريف على إسكانها، كما قال الشاعر: إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... بنث وإفشاء الحديث قمين ثم بين بالمثال مراده بهذا الثاني، فقال: "فالأدهم القيد لكونه وضع" .. إلى آخره. يعني أن قولهم: "الأدهم" مرادًا به (القيد) انصرافه منع، لكونه وضع في الأصل لأن يكون وصفًا من (الدهمة) وهي السواد، كقولك: ثوب أدهم، وفرس أدهم، وبعير أدهم، وناقة دهماء، كأحمر وحمراء. ثم استعمل للقيد لدهمته، وتنوسي ذلك المعنى فيه، فصار يطلق لا باعتبار الوصف، ولكن بقي في عدم

الصرف على أصله، فتقول: جعل على رجله أدهم، ورأيت على رجله أدهم، كما تقول: رأيت على رجله قيدًا ولا تختلف العرب في منع صرف هذا النوع. ومنه (الأسود) للعظيم من الحيات وفيه سواد، أصله الصفة. ثم استعمل اسما. و(الأرقم) الحية، للحية التي فيها سواد وبياض، واستعمل اسما كذلك. فالدليل على أنها استعملت اسمًا، قولهم: الأداهم، والأساود، والأراقم، فجمعوها على (أفاعل) لأن مثل هذا الجمع يختص بالأسماء لا بالصفات، إنما الصفات على (فعل) كحمر، صفر. وقد يأتي في الصفات قليلًا نحو: الأبارق، والأجارع، والأباطح. والأبطح: المكان المنبطح. والأجرع: المكان المستوي من الرمل والأبرق: ما فيه لون مختلف، وهو الحمرة والبياض، يقال: تيس أبرق. وهذه المسألة والتي قبلها مما يقوي مذهب سيبويه في اعتبار الأصل في نحو (أحمر) إذا نكر بعد التسمية. ثم ذكر ما استعمل صفة في بعض اللغات، واسمًا في بعضها، فقال: "وأجدل وأخيل وأفعى مصروفة" يعني أن هذه الألفاظ وهي: (الأجدل) وهو الصقر، و (الأخيل) وهو طائر أخضر على جناحه لمعة تخالف لونه، يقال: هو الشقراق، و (أفعى) للحية المعروفة- كلها مصروفة في الأشهر من الكلام، لأنها أسماء غير صفات عند الأكثر وغير مصروفة عند بعض العرب لأنها

عندهم صفات، لأن (الجدل) شدة الخلق، فصار (أجدل) عند هؤلاء في معنى: شديد، وكذلك (أخيل) من الخيلان للونه، ولذلك يقال: رجل أخيل، أي كثير الخيلان. ومما جرى فيه منع الصرف قول حسان بن ثابت- رضي الله عنه-: ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا وكذلك (أفعى) لأنها من معنى (فوعة السم) أي شدته. قاله ابن جني، كأنه على تقدير القلب، أو من باب الاستدلال بالاشتقاق الأكبر. قال سيبويه: كأنه صار عندهم صفة، وإن لم يكن له فعل ولا مصدر. وإنما أتى الناظم بهذا ليبين أن ما كان فيه وجهان أصليان، والاسمية والوصفية- ففيه وجهان في منع الصرف وعدمه، مبنيان على ذينك الوجهين؛ إذ ليس أحدهما أصلا للأخر. ألا ترى أنك لا تقول: لكل شديد: أجدل، ولا لكل من اشتد سمه: أفعى، كما تقول لكل ما فيه السواد أسود، ولكل ما فيه الدهمة أدهم.

فالذي قد استعمل (أجدلا) ونحوه اسمًا لم ينقله من الوصفية إلى الاسمية، ومن اعتقد وصفيته فإنما اعتبر معنى الاشتقاق مجردًا، وذلك موجود في أصل الوضع، فكل واحد من الاستعمالين ممتاز من الآخر، فلم يكن ليرد أحدهما في الصرف أو عدمه إلى الآخر، لاستحقاق كل واحد منهما الأصالة، ولا يضر في هذا كون أحد الوجهين أكثر من الآخر إذا كان أصلًا في نفسه. وقوله: "وقد ينلن المنعا" "النون" عائدة إلى الألفاظ الثلاثة، أي قد يمنع صرفهن قليلًا، ودل على القلة إتيانه بـ "قد" ولم يبين كونهما لغتين؛ إذا الحاصل مع ذلك ما ذكره من قلة الانصراف وقلة منعه. ومنع عدل مع وصف معتبر ... في لفظ مثنى وثلاث وأخر ووزن مثنى وثلاث كهما ... من واحدٍ لأربعٍ فليعلما وهذا هو الموضع الثالث الذي يكون الوصف فيه ممنوعا من الصرف مطلقا، وذلك مع العدل. والعدل: هو أن تريد لفظًا، فتنتقل عنه إلى غير مما يعطي معناه، لضربٍ من التخفيف أو المبالغة. وذلك أن قولك: (مثنى) معدول عن لفظ: اثنين اثنين، أو عن لفظ (اثنين) مرادًا به التفصيل. فإذا قلت: جاء القوم مثنى، فمعناه: جاء القوم اثنين اثنين، أي مرتبين في المجيء هذا الترتيب. فعدل هذا عن ذلك، أو تقول: عدل عن (اثنين) المراد به اثنين اثنين، من قولهم: الزيدان خير اثنين في الناس، أي هما خير الناس إذا قسموا هذا التقسيم.

وكذلك (ثلاث) معدول عن (ثلاثة) المراد به التفصيل على ما ذكر، وهكذا سائرها. فإذا اجتمع الوصف والعدل امتنع صرف الاسم مطلقا، في النكرة والمعرفة، وهو قوله: "ومنع عدلٍ مع وصف معتبر" فأطلق القول في منع الصرف، كان نكرة أو معرفة. وكذلك إذا نكر بعد التسمية، لشبه الأصل مع العدل. وهذا يجيء على رأي سيبويه، ومن لا يراعي الأصل يصرفه هنا. والذي جرى عليه في هذا النظم هو مذهب سيبويه، أي منع هذين الأمرين معتبر مشهور في الاستعمال، مرتكب فيه في مثل هذه الألفاظ الثلاثة. أما (مثنى، وثلاث) فنحو: رأيت رجالًا مثنى، ورأيت رجالًا ثلاث، وكذلك (رباع) ومنه الآية الكريمة: {جاعل الملائكة رسلًا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع}. والمعنى: أولي أجنحة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعةٍ، وهو تفسير الخليل وأبي عمرو. وأنشد سيبويه قول ساعدة بن جؤية:

ولكنما أهلي بوادٍ أنيسه ... سباع تبغى الناس مثنى وموحد أي اثنان اثنان، وواحد واحد، وهو معنى عدلهما. وأما (أخر) فنحو: جاءني الزيدون ورجال أخر، ورأيت رجالًا أخر، ومررت برجالٍ أخر، قال الله تعالى: {فعدة من أيام أخر}. ووجه عدله مختلف فيه، فرأى سيبويه وطائفةٍ أن (أخر) من باب (الكبرى والكبر) و (الصغرى والصغر) حقه أن يكون صفةً بالألف واللام؛ إذ كان (الصغر، والكبر) كذلك، فلا تقول: هؤلاء نسوة صغر، ولا كبر، ولا نحو ذلك. فلما عدل (أخر) عن هذا الأصل منعوا صرفه. وقيل: إن (أخر) معدول عن (آخر) هذا اللفظ، فكان الأصل أن تقول: مررت بنسوةٍ أخر من هؤلاء، كما تقول: أفضل من هؤلاء، فكأنهم عدلوا عن لفظ (آخر) إلى لفظ (أخر) ورجح الأستاذ- رحمه الله- هذا الثاني على الأول. وقد نقل عن الفارسي: أن (مثنى وثلاث) ونحوه إذا سمي به انصرف، لأنه إذا كان معرفةً فليس فيه إلا التعريف خاصة؛ إذ ليس معدولًا في حال التسمية، لأنه لم يعدل إلا عن اسم العدد. وذلك المعنى قد ذهب بالتسمية، ولا يشبه حاله حين كان معدولًا، لأنه الآن

معرفة، وكان في حين عدله نكرة، فإذا نكر أشبه أصله، فامتنع صرفه. وإطلاق الناظم مخالف لهذا. وقد رد الناس هذا المذهب، ولعله رجع عنه. ومذهبه في "الإيضاح" مذهب الجمهور، وهو نصه في "التذكرة" إذ قال حين نقل الكلام أبي العباس في (مثنى، وثلاث، ورباع): إذا سمي بشيء من ذلك. فالقياس الانصراف، وذلك أن الوصف يزول، فيخلفه التعريف الذي للعلم، والعدل قائم في الحالين جميعا، ثم جعل قياس غيرها من العدول قياسها. وأما ابن عصفور فارتضى مذهب الفارسي، ومرتضاه عند غيره غير مرتضي، لأن شبه الأصل من العدل حاصل، والعلمية محققة، فسبب المنع موجود، فالوجه امتناع الصرف. وأيضا، هو مذهب لا نظير له؛ إذ لا يوجد ما ينصرف في المعرفة، ولا ينصرف في النكرة، وإنما المعروف العكس. وقول الناظم: "لفظ مثنى وثلاث وأخر" أي في هذه الألفاظ الثلاثة المذكورة، وإنما عين أنفس الألفاظ، وهي في الحقيقة غير مرادة؛ بل المراد الوزن، لأجل "أخر" وذلك أنه لفظ لا يقاس عليه غيره في عدله المختص به، فهو موقوف على السماع، لكن ذكره لشهرة استعماله وكثرة تداوله، فلذلك احتاج إلى أن يستدرك بعد ذلك حكم الكلية لمثنى وثلاث، فقال: "ووزن مثنى وثلاث كهما" إلى آخره، فبقي (أخر) على ما فسر فيه، من الاقتصار على لفظه، وما عداه أخبر أن وزنه مثله، من واحدٍ لأربعٍ.

ومعنى ذلك أن ما وافق (مثنى، وثلاث) في وزنهما من واحد إلى [أربعة] فهو مثلهما، يريد: في الحكم بالعدل والوصف وترتب منع الصرف مطلقا في النكرة والمعرفة. وهذا المقدار هو المقيس منها، وما عدا ذلك فسماع لا يتعدى به محله، فـ (فعال، ومفعل) من (واحد) ممنوع الصرف، للوصف والعدل، وهما وزن (مثنى، وثلاث) الذي ذكر، فتقول: [جاءني ناس أحاد] وجاءني ناس موحد. وقال الآخر، أنشده الفارسي وغيره: أحمّ الله ذلك من لقاء ... أحاد أحاد في شهر حلال وقال الآخر: * سباع تبغى الناس مثنى وموحد * وقد تقدم. وكذلك (مثنى، وثناء) نحو: جاءني الناس مثنى مثنى، وثناء ثناء، وكذلك (مثلث، وثلاث) و (مربع، ورباع) نحو: مررت بقومٍ مثلث وثلاث، ومررت بقومٍ مربع، ورباع، وإنما قال: "من واحد"

فذكر "لأربعٍ" فأتت ضرورة؛ إذ كان الأولى أن يقول: من واحدٍ لأربعةٍ، وهذا سماع. واقتصاره على العدل من واحد إلى أربعة فيه نظر، فإنه إن أراد القياس فقد قاسه في "التسهيل" إلى خمسة، وزاد: إلى عشرة، فيقال: عنده زائدًا على ما ذكر: مررت بقومٍ مخمس وخماس، ومعشر وعشار. وقد قال الكميت في (عشار) أنشده الجوهري وغيره: ولم يستريثوك حتى رميـ ... ـت فويق الرجال خصاءً عشارا بل قد قاسه الكوفيون فيما فوق ذلك إلى التسعة، فأجازوا: سداس ومسدس، وسباع ومسبع، وثمان ومثمن، وتساع ومتسع. ولا اعتراض في هذا عليه، ولكن الاعتراض إنما هو في تركه قياس ما قاسه في "التسهيل" وإن كان مراده السماع، فالذي سمع من ذلك أحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث. وحكى الجوهري: مثلث، ورباع، وخماس، وعشار، فكان حقه أن يقتصر على المسموع، لكنا نعلم أنه إنما أراد القياس، فهو مقصر فيه. والجواب: أن السماع الذي بلغ مبلغ القياس إنما هو ما ذكره الناظم هنا، ولذلك حكى الجوهري عن أبي عبيد أنه لم يسمع (عشار) إلا في قول الكميت المتقدم، وذكر أنه لم يسمع إلا: أحاد، وثناء، وثلاث، ورباع. فبقي (خماس) ولم يذكر سيبويه أيضا نيفًا على (رباع).

فما فعله حسن، ولذلك [قال]: "فليعلما" أي فليعلم أن ما عدا هذه لا يقاس، ولا يبلغ ما سمع منه مبلغ القياس، فبقي مذهب الكوفيين وغيرهم ممن عدى القياس إلى غير ما ذكر. وذكر هنا من أنواع المعدول ثلاثة، وترك سائر الأنواع لمواضعها، لأن المقصود هنا ذكر ما يمتنع فقط: وكن لجمع مشبه مفاعلا ... أو المفاعيل بمنع كافلا وذا اعتلال منه كالجواري ... رفعًا وجرًا أجره كساري ولسراويل بهذا الجمع ... شبه اقتضى عموم لمنع وإن به سمي أو بما لحق ... به فالانصراف منعه يحق هذا هو الأمر الثالث من الأمور التي تمنع من الصرف مطلقا، وهو الجمع المتناهي، يعني أن ما كان من الجموع يشبه مفاعل) أو (مفاعيل) فإنه ممنوع الصرف. ولا يريد بمشبه (مفاعل) و (مفاعيل) ما كان أوله ميم زائدة، ولا ما كان ثانيه أصليًا ولا غير ذلك، وإنما يريد ما كان على هذا الشكل من الجموع مطلقا،

فيدخل تحته (فواعل، وفعائل وفعالل، وفياعل) وكذلك إذا دخلتها الياء قبل الآخر، وما كان نحوها، وذلك نحو (مساجد) و (قناديل) جمع: قنديل، و (ضوارب، ورسائل، وجعافر، وصيارف) وما أشبه ذلك، الحكم في الجميع سواء. وهذا التمثيل أشار فيه إلى قيود معتبرة في منع الجمع، وضابطه: كل جمع ثالث حروفه ألف ثابتة، وبعدها حرفان، أو ثلاثة أحرف أوسطها ياء، عارٍ من التأنيث أو ياء النسب. وقد اشتمل هذا التعريف على قيود مقصودة: أحدها: أن يكون الجمع ثالث حروفه ألف، تحرزًا من نحو (أفعلة، وفعول، وأفعال) ونحو ذلك، فإنها وإن كانت جموعا لا تشبه الآحاد المشهورة في كلام العرب، لا تعتبر في منع الصرف، فـ (أفعلة) لا يقع مفردا، وكذلك (إفعل) إلا ناردا نحو: إصبع و (فعول) ليس في الأسماء إلى نادرا، مثل ما حكى سيبويه من قولهم: "سدوس" لضرب من الثياب، وكذلك (أفعال) هو بناء لا حظ فيه للمفرد، إلا ما حكى سيبويه من قولهم: هو الأنعام أو ما قل من ذلك. وإذا كانت هذه الأبنية وما أشبهها تختص بالجمع كـ (مفاعل، ومفاعيل) وهي منصرفة مع ذلك- لم تعتبر مانعا، لأنها تشبه المفردات في الوزن وفي الحكم.

أما في الحكم: فإنها تجري في التكسير مجرى الواحد فتقول: أقوال وأقاويل، وأنعام وأناعيم، وأيدٍ وأيادٍ. وأما في الوزن: فإن (فعولا) يشبه (فعولا) و (أفعالا) يشبه (أفعالًا) إلى ما جاء من المفردات فيها، بخلاف (مفاعل) أو مفاعيل) فإنها لا تجمع أصلا جمع تكسير؛ بل هي غاية منتهى الجموع. ولذلك يقول ابن الحاجب: إن سبب منعه الصرف كونه صيغة منتهى الجموع. وهو يظهر من كلام سيبويه، فهذا قيد أفاده التمثيل. والثاني: أن تكون الألف الثالثة ثابتة لا محذوفة، فإنها لو كانت محذوفة لجاز تنوينه، وذلك قولهم في (ذلاذل، وزلازل، وجنادل): ذلذل، وهي أسافل القميص، وزلزل، وجندل. وهذا- على فرض أنها جموع حقيقة- تنصرف، لأن بناء (مفاعل) قد ذهب لفظا، فأتي بالتنوين، وجعل كأنه عوض من المحذوف. والثالث: أن يكون بعد الألف حرفان أو ثلاثة أوسطها ياء، تحرز من جمع التكسير الذي بعد الألف الثالثة فيه حرف واحد، نحو: كباش، وديار، وكذلك جمع السلامة بالتاء، نحو: علامات، فإن كان بعد الألف ثلاثة أحرف، أوسطها ألف، فليس بمقصود الذكر، لأن ذلك كله مصروف. فإن قيل: إن المثال يخرج نحو: دواب، وشواب، مما هو مدغم الحرفين، لأن (مفاعل) غير مشعر به.

فالجواب: أنه ليس كذلك، لأن وزن: دواب (مفاعل) ولابد، لكن عرض فيه الإدغام لاجتماع المثلين، فهو داخل. وإنما كان يكون خارجا لو أتى بمثال (فعالل) مما يمكن إدغامه ولم يدغم، فهنالك يكون للمعترض مقال، من حيث يقصد بـ (فعالل) ما كان ملحقا بالتضعيف نحو: (مهادد) في جمع (مهدد) و (قرادد) في جمع (قردد) وما أشبه ذلك. أما إذا لم يأت إلا بـ (مفاعل) فليس فيه ما يرد نحو (دواب) عن الدخول. والرابع: أن يكون عاريًا من هاء التأنيث، فإنه إن صحب الهاء صار إلى شبه المفردات نحو: حزابية، وعباقية، وشبه ذلك، فتقول: قوم جحاجحة، وصياقلة، وما أشبه ذلك. والخامس: أن يكون عاريًا من ياءي النسب، فإن صحبها أشبه المفرادات فصرف، نحو: مدائني ومساجدي، وما أشبه ذلك، للحاقه بباب (تميمي، وقيسي) كما لحق الأول أيضا بباب (تمرة، ونمرة) ولا يدخل في هذا الشرط نحو: كراسي، وبخاتي، فإن الياءين ليستا للنسب إلا في المفرد، ولم تلحقا الجمع، فلا بد هنا من منع

الصرف، بخلاف (مدائني) فإن الياءين لاحقتان الجمع للنسب، وهذا في الجمع، وهذا الذي قيده في قوله: "وكن لجمع مشبه كذا" فأما (مفاعل) إذا وقع للمفرد، فمقتضى كلامه أنه مصروف إلا (سراويل) وما سمي به من هذه الجموع. وذلك صحيح أن موازن (مفاعل) أو (مفاعيل) على ستة أقسام: أحدها: أن يكون هذا الوزن عارضًا فيه لأجل الإعلال لا أصليا وذلك نحو: الترامي، والتداعي، فإن لفظه لفظ موازن (لمفاعل) بلا شك، ولكنه ليس بأصلي فيه، وأصله (التفاعل) نحو: التقابل، والتضارب، إلا أن الضمة قلبت كسرة لأجل [الياء] فعلى هذا تصرفه ولابد، فتقول: ما كرهت تراميًا، ولا أحببت تداعيًا. والثاني: أن يكون عارضا فيه لأجل] لحاق ياء النسب، كقولك في (صباح، وقذال): صباحي، وقذالي، فإن هذا يوازن (مفاعيل) لفظًا، لكنه في الحكم على غير ذلك، لأن الياءين للنسب، فهما كالكلمة الأخرى، ليست الكلمة مبنية عليهما كهاء التأنيث، فلابد هنا من الصرف أيضًا. والثالث: أن تكون الألف الثالثة فيه عوضًا من إحدى ياءي النسب نحو: يمان، وشآم، فإن وزنه في اللفظ موافق لـ (مفاعل) إلا أنه في الأصل: يمني، وشامي، فخرج عن ذلك الوزن وحكمه، فتقول: هذا يمانٍ، أو رجل شامٍ، ورأيت رجلًا شآميًا أو رجلًا يمانيًا.

والرابع: أن تكون الألف شبيهة بالمعوض من إحدى الياءين، وليست بها، وذلك: ثمان، ورباع، وشناح، ونحوه، فاللفظ لفظ (مفاعل) وهو في التقدير: ثمني، وربعي، وشيخي، فكأن الألف عوض إذا لم تقل بحذف الألف والإتيان بالياءين، فهذا مصروف أيضا. فتقول: رأيت من النعاج ثمانيًا. قال أعشي بكر: ولقد شربت ثمانيًا وثمانيًا ... وثمان عشرة واثنتين وأربعا ورأيت رباعيًا من الإبل، وشناحيًا من الرجال، وهو الطويل. فهذه الأقسام الأربعة مصروفة، لخروجها في الحقيقة عن وزن (مفاعل) و (مفاعيل) وأما (سراويل) و (مساجد) مسمى به، وهما القسمان الباقيان، فممنوعا الصرف لشبههما بالجمع، على ما سيذكره إن شاء الله. وذلك لأنهما على (مفاعيل) حقيقة. فإذًا الحاصل في منع الصرف هو وزن (مفاعل) أو (مفاعيل) فكان من حق الناظم أن يختصر الكلام فيقول: ما كان على (مفاعل) أو (مفاعيل) حقيقة، فممنوع الصرف، ولا يحتاج إلى هذا التطويل، ولا يدخل له شيء مما تقدم.

والجواب: أن المانع من الصرف ليس مجرد البنية، وإنما المانع كونهما على صيغة جمعٍ تنتهي إلى الجموع، ولا نظير لها في الآحاد، فتقيد السبب بكونها للجمع، وهو الذي قصد الناظم الإشارة إليه. ثم نبه على ما يلحق به من المفردات تشبيهًا، لا لوجود السبب حقيقة، فلو اختصر كما قلت لفاته التنبيه على العلة المانعة. وأيضًا لكن يفهم منه أن مجرد الوزن هو المانع، وليس بموافقٍ لما ذكر الناس من السبب، فكان ما فعله من ذلك صحيحًا لا اعتراض فيه. و"الكافل": الضامن، كالكفيل: كفلت بالشيء كفالة، تحملت به. فمعنى قوله: "بمنعٍ كافلا" أي كن متكفلًا بمنع صرفه، وضامنًا له، فإن العرب كذلك تفعل، و"بمنع" يتعلق بـ "كافلًا" أي كن كافلًا له بالمنع. ثم قال: "وذا اعتلال منه كالجواري" .. إلى آخره. لما كان للمعتل اللام عند الناظم حكم ليس للصحيح، شرع في تبيينه. ويعني أن ما كان من موازن (مفاعل) أو (مفاعيل) من الجموع يشبه (الجواري) في اعتلال اللام، فإنه يجري في الرفع والجر مجرى (سارٍ) يريد في التنوين، وحذف الآخر لالتقاء الساكنين وتقدير الإعراب، باقٍ على حد منع الصرف. فلا يريد أن يجريه مجراه في كل شيء حتى في كونه منصرفًا يجر بالكسرة؛ بل إنما يجر بالفتحة، وهي هنا مستثقلة مثل الكسرة، فلا تظهر، فتقول في الرفع: هذه جوارٍ، وغواشٍ، ومرامٍ، جمع (مرمًى) كما تقول: هذا رجل سارٍ، وداعٍ، ورامٍ وغازٍ.

والأصل في الرفع: جواري، وغواشي، ومرامي، فحذفت الحركة استثقال في موضع الجر والرفع، ثم سيق التنوين عوضًا من الحركة المحذوفة، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين. وهذا التفسير جارٍ على طريقة الأكثرين. فإن قيل: إن الناظم زعم أنها عنده تجري مجرى (سارٍ) فتنوينها إذًا للصرف لا للعوض، كما كان (سار) أصله: ساري، ثم حذفت الحركة استثقالا، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وبقي التنوين، كما كان، فإنما يقال على طريقته: كان الأصل جواري، وغواشي، ومرامي، وهو الأصل الأول للأسماء كلها، فحذفت الضمة في الرفع والكسرة في الجر، استثقالًا، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع تنوين الصرف، فصار: هؤلاء جوارٍ، ومررت بجوارٍ، وكذلك باقي الباب. فصار هاهنا (جوارٍ) في اللفظ كـ (سارٍ) و (جارٍ) من: جرى يجري، و (عارٍ) فزال عنه بناء (مفاعل) أو (مفاعيل) فبقي على صرفه. وأما في النصب، فلما كانت حركة الياء، وهي الفتحة، لا تستثقل على الياء، لم يكن لحذفها موجب، فبقي بناء (مفاعل) محفوظًا فيه. فلذلك قالوا: رأيت جواري، وغواشي. ومن الدليل على صحة اعتبار اللفظ في (جوارٍ) إذا صار كـ (سارٍ) ما تقدم من قولهم: ذلذل، وزلزل، وجندل، مصروفًا؛ إذ كنت تقول: نظرت إلى ذلذلٍ، وإلى جندلٍ، فتخفض بالكسرة حين زال مثال (مفاعل) لفظًا. فالجواب: أن هذا ليس بمرادٍ له، وإنما مراده مجرد حذف الآخر والإتيان بالتنوين. ومن الدليل على هذا من كلامه قوله في آخر الباب: وما يكون منه منقوصًا ففي ... إعرابه نهج جوارٍ يقتفي

يعني في كل ما تقدم له من أنواع الممنوع الصرف غير المنصرف المتقدم. وإذا كان قد أحال عليه، فلا يصح أن يحمل على أنه مصروف، لأنه إن ساغ التعليل في (جوارٍ) ونحوه من أنه على وزن (جناح) فزال المانع، فلا يجري له ذلك فيما إذا سميت امرأة بقاضٍ، ورامٍ، وغازٍ وثمانٍ، ونحو ذلك. أفترى أن مانع الصرف زال هنا، كلا بل هو باق؛ إذ ليس التأنيث والعلمية والتنوين لابد منه على مذهب سيبويه، الذي اعتمده الناظم، وهو تنوين العوض لا تنوين الصرف. وعلى هذا لا يمشي على ما مضى من التعليل، إلا على أنه لما حذفت الياء لالتقاء الساكنين وجد تقدير الإعراب في الياء محرزًا لها، فمنع من الصرف لبقاء محرز المثال الأصلي، فلما حذف تنوين الصرف أتي بالتنوين الذي يكون عوضًا من الياء المحذوفة؛ وإذ ذاك يطرد له تعليله الذي علل به السؤال، ويستقيم على مقتضى كلامه فيما بعد، على ما سيأتي إن شاء الله. وإنما كان يمشي له ذلك إذا سميت بنحو (يرمي، ويغزو) حين وجب على مذهب الخليل (يرمٍ، ويغزٍ) إذ له أن يقول: زال بناء الفعل وتغير، فروجع الأصل، ولكن هذا غير مطرد، ولا موفٍّ بالغرض، فالصحيح ما تقدم.

وأما ما استدل به من (ذلذلٍ، وزلزلٍ) فليس مثل (جوارٍ) لأن (ذلذلًا) حصل التنوين العوضي منه في حرف الإعراب، فلم يمكن أن يبقى على فتحه حالة الجر، بخلاف (جوارٍ) فإن التنوين فيه مانع في الظاهر لحركة ما قبل الآخر، وفتحة الإعراب غير ظاهرة، فأمكن تقديرها مع وجود التنوين؛ إذ لا فتح فيه، كما في (جندل) ونحوه فافترقا. وقوله: "وذا اعتلال" منصوب بفعل مضمر من "باب الاشتغال" يفسره "أجره" و"رفعًا وجرًا" مصدران في موضع الحال، والكاف: بمعنى (مثل) وهي في موضع الحال من باب "ضربته شديدًا" أي أجره إجراءً مثل إجراء "سارٍ" ثم قال: "ولسراويل بهذا الجمع" .. إلى آخره. يريد أن هذا اللفظ له بمفاعيل ومفاعل، شبه اقتضى ذلك الشبه منع الصرف مطلقا، في النكرة والمعرفة [لأنه على زنة (مفاعيل) كقراطيس وقناديل، فحكموا فيه الشبه فمنعوه الصرف، كما منعوه في الجمع، لأن ثمرة الشبه أن يجري المشبه على حكم المشبه به. وعند ابن الناظم أنه نبه بهذا الكلام على خلاف من خالف في عموم منع الصرف، يعني في النكرة والمعرفة]. وزعم أن فيه وجهين: الصرف، وعدمه، أي إن ذلك الشبه اقتضى عموم منع الصرف في جميع وجوه الاستعمال، خلافًا لمن زعم غير ذلك. وكأن المخالف رأي أن القاعدة العربية أن المشبه لا يقوى قوة المشبه به، فيكون هذا من ذلك الباب. ألا ترى أن ألف الإلحاق قد أشبهت ألف التأنيث، فمنع صرف ما هي فيه، لكن لما لم يقو قوة ألف التأنيث لم يمنع إلا في المعرفة، فيكون هذا الموضع كذلك.

وهذا قد يجاب عنه بأن الشبه في باب ما لا ينصرف يؤثر إطلاق، ويلحق المشبه بالمشبه [به]. ألا ترى إلى امتناع صرف (أحمر) المنكر بعد التسمية وغير ذلك. ومنه. مسألة الإلحاق، لأن الشبه لم يحصل إلا بعد التسمية؛ إذ كانت قبلها تلحقها الهاء نحو: علقاة، وألف التأنيث من حقيقتها ألا تلحقها التاء. ومن هناك غلط أبو عبيدة في مسألة: * فكر في علقى وفي مكور * كما سيأتي إن شاء الله. فلما امتنعت التاء بالعلمية حصل الشبه، فحصل منع الصرف. ومقتضى كلام الناظم أن (سراويل) عنده مفرد لا جمع، وهو مذهب سيبويه. قال: وأما سراويل فشيء واحد، وهو أعجمي أعرب كما أعرب الآجر، إلا أن سراويل أشبه من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، كما أشبه بقم الفعل، يعني بعد التسمية، ولم يكن له نظير في الأسماء.

فما قاله الناظم في البيت هو عين ما نص عليه سيبويه. وقد قيل: إن (سراويل) جمع (سروالة) وأنشد أبو العباس في واحدها: عليه من اللؤم سروالة ... فليس يرق لمستعطف وقد حكى سيبويه عن يونس أن من العرب من يقول في تحقير (سراويل): سرييلات لأنهم جعلوها جماعة بمنزلة (دخاريص) وعلى هذا قد تضمنه ضابط الجمع، فلا يحتاج إلى التنبيه عليه. وإذ كان ذلك لغةً فليس بخلاف، ولكن الأشهر فيه الإفراد، ولذلك لم يحكه يونس إلا عن بعض العرب، فاعتمد الناظم ما هو الأشهر، والسراويل معروف، وهو أعجمي. وقوله: "وإن به سمي أو بما لحق به" إلى آخره. يعني أن هذا الجمع الموازن (مفاعل) أو (مفاعيل) إذا سمي به فإنه يستحق منع الصرف كأصله، فتقول في (مساجد) مسمًى به: هذا مساجد، ورأيت مساجد، ومررت بمساجد. وكذلك ما لحق بالجمع وإن لم يكن جمعا حقيقة، كهوازن، وشراحيل. ومنه (سراويل) إذا سمي به أيضا على اعتقاد أنه مفرد، فإنه يستحق أن يمنع صرفه، فتقول: هذا سراويل، ورأيت سراويل، ومررت بسراويل.

أما الجمع إذا سمي به فوجه منع صرفه التشبيه بأصله، لكونه، على مثال لا نظير له في الآحاد العربية، وكذلك إذا نكر بعد التسمية، وهو أحرى لقربه من أصله، وكذلك (سراويل) يمتنع للمثال تشبيهًا. وقد زعم الفارسي أن (سراويل) إذا سمي به امتنع صرفه للتعريف والتأنيث، وأخذه من لفظ سيبويه، وذلك، على ما نبه عليه ابن خروف، غير محتاج إليه، للاكتفاء بالمثال عن علة ثانية، ولو كان ذلك معتبرًا لصرف (مساجد) اسم رجل، لأنه لا علة زائدة على المثال، من علمية أو تأنيث أو غير ذلك. ولم ينبه هنا الناظم على وجه المنع، ولعله اكتفى بالتنبيه عليه في (سراويل). ويقال: حق الشيء يحق، إذا وجب. وأحققته: أوجبته، كأنه قال: منعه يجب. وفي قوله: "وإن به سمي" شيء من جهة العربية وهو أن "به" مقام مقام [الفاعل] كأنه قال: وإن سمي به، فواجب فيه التأخير عن الفعل، ولا يجوز التقديم، كما لا يجوز تقديم الفاعل. ولا يقال: إن المفعول المقام مضمر، تقديره: وإن به سمي الإنسان أو الرجل، أو ما أشبه ذلك مما يصح إضماره للعلم به، لأن عادة أهل النحو أن يقولوا في بنية الفاعل: إذا سميت بكذا صرفته، أي منعته، ولا يذكرون المفعول غالبًا طرحًا له، لعدم الحاجة إليه، فالمبني للمفعول من ذلك، فإن سلم ذلك التقدير فهو من الضعف بمكان.

ويمكن أن يكون ارتكب مذهب الكوفيين ضرورةً، لاسيما وهو إثر (إن) الشرطية، فقد قال بعض البصريين ذلك في نحو (إن زيد قام) كما تقدم، فهو أخف، وكذلك أتى في البيت قبلة بضرورةٍ أخرى، وهو تقديم مفعول المصدر الموصول عليه، وذلك قوله: "ولسراويل" بهذا الجمع شبه" فإن "بهذا" متعلق بـ "شبه" وهو مصدر، فيقدر بـ (أن) والفعل، وقد قدم المجرور عليه، ولا يمكن أن يقدر "شبه" هنا بمشبه، كما قدر (عجب) بمعجب في قوله تعالى: {أكان للناس عجبًا} الآية. وإنما هذا ضرورة على حد الضرورة في النظير الموصول من قوله: تقول وصكت صدرها بيمينها ... أزوجي هذا بالرحى المتقاعس على رأي من حمله على ظاهره. وهنا أتم الكلام على ما يمنع من الصرف مطلقا، وذلك في ثلاثة مواضع، تجمع خمسة أنواع. ثم أخذ يتكلم فيما يمتنع في حال التعريف دون حال التنكير، فقال: والعلم امنع صرفه مركبًا ... تركيب مزجٍ نحو معد يكربا

[إلى آخر ما أتى به فيه] وهذا القسم لا يمتنع الصرف فيه إلا مع العلمية، فلذلك إذا زالت روجع الأصل في الاسم فانصرف، وإذا لم يسم به بقي منصرفًا على أصله. وكون العلمية مانعًا ظاهرًا، لأنها ثانية عن التنكير وهو الأصل. وابتدأ بالتركيب مع العلمية، فاعلم أن العلم يمنع صرفه إذا كان مركبًا تركيب مزج، من حيث كان التركيب على ثلاثة أوجه: تركيب إضافة، كعبد الله، وامرئ القيس. وتركيب إسناد، كتأبط شرًا، وبرق نحره، وذرى حبًا، وشبه ذلك. وتركيب مزجٍ، وهو أن تصير الكلمتان كالكلمة الواحدة، وكل واحدة منهما كجزء الاسم، فتجعل الثانية محل الإعراب كهاء التأنيث، وذلك نحو قولك: معد يكرب، وهو مثاله، وهو اسم رجل، وبلا لاباذ، وبعلبك، ورامهرمز، وحضر موت، ومارسرجس، وأنشد سيبويه لجرير: لقيتم بالجزيرة خيل قيس ... فقلتم مارسرجس لا قتالا

و (قالي قلا) مثل (معديكرب) أنشد سيبويه: سيصبح فوقي أقتم الريش واقعًا ... بقالي قلا أو من وراء دبيل وأكثر هذه الألفاظ تختلف فيها العرب، فمنهم من يجعلها مضافًا ومضافًا إليه، وهذا غير داخل في المقصود، ومنهم من يجعلها كالاسم الواحد، وإعرابها في الآخر، وعلى هذا تكلم الناظم والنحويون في هذا الباب. فلما كان المقصود أحد أقسام المركب خصه بالذكر. فإن قلت: فقد زعم ابن الضائع أن المركب في إطلاق النحويين المراد به هذا المركب تركيب مزج، فكان الأولى ترك التفسير، لأنه مستغنى عنه. فالجواب: أن هذا لم يتقرر بعد أنه رأى الناظم، فلا يحمل عليه حتى يثبت لنا أنه عنده كذلك. فإن قلت: فقد كان يكتفى بالتمثيل عن التفسير؛ إذ هو مغنٍ عنه، لأن (معديكرب) كذلك هو.

فالجواب: أن (معديكرب) لا يتعين فيه تركيب المزج، لإمكان تركيب الإضافة، فلم يكن له بد من تعيينه بغير المثال. ثم أتى بالمثال تبيينًا لما ذكر على عادته. ويدخل في معنى التمثيل بمقتضى القاعدة ما سمي به من النكرات، وكان مركبًا مبنيًا للتركيب نحو: خمسة عشر، وصباح مساء، ويوم يوم، و"لقيته كفة كفة" وما أشبه ذلك، فيجري مجرى ما مثل به من معديكرب، ويكون على الوجهين المذكورين من التركيب والإضافة. فإن قيل: إن هذا الكلام يقتضي أن كل ما ركب تركيب مزج، سواء أكان آخر الاسمين صوتًا أم غيره، فحكمه هذا الحكم من الإعراب، غير منصرف، لأنه قال: "امنع صرفه مركبًا تركيب مزجٍ" فعلى هذا ما جاء من نحو (سيبويه، وعمرويه، ونفطويه) معرب عنده، فيكون إعرابه إعراب غير المنصرف، وهذا غير صحيح عنده، لأنه قد تقدم في "باب العلم" نصه على أنه مبني؛ إذ تكلم على المركب فقال: "ذا إن بغير ويه تم أعربا" فتحصل منه أنه مبني لأنه مختوم بويه، وهو قد أطلق هنا في إعراب المركب غير منصرف، وهو من المركب، فاقتضى إعرابه غير منصرف، وهو تناقض. ولا يقال: إن الإعراب فيه محكي، وقد نص هو عليه في "التسهيل" وغيره، فيدخل له من حيث نقل فيه ذلك، ويكون تنبيهًا على ذلك القليل كيف يكون الإعراب فيه.

لأنا نقول: هذا يعود عليه بالنقص، لأن كلامه في هذا النظم، إنما ينبني على كلامه فيه فقط، فإذا بني على غيره كان فاسد الوضع، فيلزم الإشكال. والجواب: أنه لما تكلم هنا على ما كان معربا خاصة، فبين وجه إعرابه، وأنه على ترك الصرف، لأنه قال: "والعلم امنع صرفه مركبًا" ولم يقل: أضعربه غير منصرف، وإنما كان كلامه هنا مختصًا بمنع الصرف، فهذا ينبني على كونه معربًا له موضعٌ آخر غير هذا. وإنما تقدم له قبل أن المركب تركيب مزج معرب إلا ما ختم بويه- تنزل كلامه على ما تقرر من أنه لا مدخل لـ (سيبويه) وبابه هنا على طريقته. وإذا قلنا: إنه لم يذكر فيه إعرابًا، ثم ثبت ذلك فيه لدخل تحت هذا الكلام، ولم يلزم فيه تناقض على هذا القصد. ولو فرضنا أيضا أنه ذكر وجه الإعراب في (سيبويه) مع وجه البناء لكان داخلا من حيث إعرابه تحت هذا الكلام، وكذلك لو لم يذكر فيه إعرابًا ولا بناءً لكان محالًا به على كونه معربا. ولو سلمنا الإشكال من أصله، وأنه ذكر هنا الإعراب في المركب، لم يدخل هنا المختوم بالصوت، لأن المثال يحرز مراده، وهو (معديكرب) إذ ليس بمختوم صوت، فيقيد كلامه بمثاله، ولا يدخل (سيبويه) وبابه، فكلامه هنا صحيح على كل تقدير، ولا إشكال فيه. وإنما منع التركيب مع العلمية، لأن التركيب صير المركب قليلًا في كلامهم، غير جارٍ على أبنيتهم المعتادة، فأشبه الأعجمي، كإبراهيم وإسماعيل.

وأيضاً، صار الاسم الثاني منها بمنزلة هاء التأنيث، فأشبه المؤنث؛ إذ كان الإعراب يقع على غير الأول، كما يقع في (طلحة) على غير الاسم. كذاك حاوي زائدي فعلانا ... كغطفان وكأصبهانا هذا نوع آخر من المانع مع العلمية، وهو زيادة الألف والنون، وقد تقدم له ذكرهما في المنع مع الوصف، وهذا قسم لذلك، و"حاوي" صفة لموصوف محذوف، وهو (العلم) كأنه قال: وكذلك العلم حاوي زائدي فعلان. ويعني أن الاسم العلم إذا كان فيه الألف والنون الزائدتان امتنع صرفه، نحو (غطفان) وهو الذي مثل به الناظم. و (أصبهان) كذلك. وغطفان: اسم لأبي قبيلة من قبائل العرب، وهو غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، قال الشاعر: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إلى لامت ذوو أحسابها عمرا وأصبهان: اسم أرض. وأراد بالمثالين ما كان علمًا لإنسان كغطفان، أو علمًا لأرضٍ أو بلدٍ كأصبهان.

فمن الأول: عمران، وعثمان، وسلمان، وعيلان، وعدنان، وهو كثير من الثاني: حوران وأذربيجان، ونعمان، ونحو ذلك. ويدخل في مضمن هذا المعنى ما سمي به من الأسماء أو الصفات التي في آخرها الألف والنون الزائدتان، كما إذا سميت بغضبان، أو بسرحان، أو سيفان، أو مرجان، أو ما أشبه ذلك. ولا يلزم هنا اشتراط عدم لحاق التاء في المؤنث، لأنه، إذا سمي به مذكر أو مؤنث، لم تلحقه التاء أصلًا، فلم يحتج إلى اشتراط ذلك. وفي قوله: "زائدي فعلان" إشعار بأن لابد من زيادتهما معا، فلو كان أحدهما زائدا، والآخر أصليا، لم يكن ذلك مانعًا، لأن الألف والنون إنما كانت للصرف لشبهها بألفي حمراء وزكرياء. ومن جملة الشبه أنهما زيادتان زيدتا معًا، فعلى هذا ما كان من الأسماء في آخره الألف والنون، واحتملت النون فيه الأصالة والزيادة، فلك وجهان في الصرف وعدمه، اعتبارًا بأصالتها أو زيادتها فيجوز لك- إذا سميت برمان، أو حسان، أو دهقان، أو شيطان- وجهان، فإن اعتقدت أنها من الرم والحس والدهق، ومن "شيط"، لم تصرفها، وإن اعتقدت الحمل على قواك: أرض مر منه، ومن الحسن، والدهقنة، والتشيطن صرفتها.

فإذا تمحصت لهجة الأصالة صرفت، كما إذا سميت لطحان من (الطحن) أو بتبانٍ من (التبن) أو بسمان من (السمن) ونحو ذلك. وقد تقدم نحو هذا في الصفة، والمانع على هذا العلمية والزيادتان، أو تقول: شبه الألف والنون هنا بالألف والنون في (فعلان، فعلى) والأول هو الجاري على كلام الناظم، إذ قال: "كذلك حاوي زائدي فعلان" فأشعر بأن زيادتهما هي السبب في المنع، ويحتمل أن يريد الوجه الآخر، لأنه لم ينص على أن نفس الألف والنون هو المانع. وحوى الشيء: بمعنى ملكه، وصار في حوزه. واسم فاعله (حاوٍ) كذا مؤنث بهاءٍ مطلقا ... وشرط منع العار كونه ارتقى فوق الثلاث أو كجور أو سقر ... أو زيد اسم امرأةٍ لا اسم ذكر وجهان في العادم تذكيرًا سبق ... وعجمةً كهند والمنع أحق قد تقدم من أقسام المؤنث ما آخره ألف ممدودة أو مقصورة، وهو يذكر الآن ما بقي من الأقسام، وإنما أتى بها ههنا لمخالفتها لما تقدم، فأتى هنا للمؤنث بأقسام ستة، لأن المؤنث لا يخلو، إذا كان معرفة إما في الأصل أو بالنقل، من أن يكون فيه هاء التأنيث أولا. فما فيه الهاء قسم ولا تفصيل فيه. وأما العاري من الهاء فلا يخلو من أن يكون زائدا على ثلاثة أحرف، أو يكون على ثلاثة.

فما زادت حروفه على ثلاثة قسم ثانٍ لا تفصل فيه. وأما الثلاثي فإما أن يكون محرك الوسط أولا، فالمحرك الوسط قسم ثالث انتهى التفصيل فيه. وأما الساكن الوسط فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون أعجميًا. والثاني: أن يكون منقولًا للمؤنث مما غلب عليه التذكير. والثالث: أن يخلو من الوجهين، فيكون غير أعجمي ولا منقول مما غلب عليه فهذه ثلاثة مضمومة إلى الثلاثة الأولى، فالجميع ستة أقسام، تضمنها كلامه هنا. فالقسم الأول: ما فيه هاء التأنيث مطلقا، وهو المراد بقوله: "كذا مؤنث بهاء" و"مؤنث" صفة للعلم المقدر، استغني عن ذكره للعلم به، وقال: "يهاء" احترازًا من المؤنث بالألف ولأنه تقدم. وقوله: "مطلقا" أي غير مقيد بشيء مما قيد به ما بعده من الأقسام. يعني أن العلم المؤنث بالهاء يمتنع صرفه على كل حال، سواء أكان ثلاثيًا أم ثنائيًا أم فوق ذلك. فإذا سميت بشفةٍ، أو ظبةٍ، أو عضةٍ، أو رقةٍ، أو شيةٍ، منعته الصرف فتقول: هذه شفة قد جاءت، ومررت بشفة. وكذلك رأيت ظبة ومررت بعضة، ونحو ذلك. وهذا مما لا خلاف فيه.

وكذلك تقول في الثلاثي: هذه عمرة ورأيت مية، ومررت بمية، فتمنعه الصرف. وكذلك الزائد على الثلاثة نحو: فاطمة، وعائشة، وأمامة، وما أشبه ذلك. وسواء في هذا ما كن علمًا لمؤنث أو لمذكر، فيمتنع الصرف، كما لو سميت رجلًا بما تقدم ذكره، وطلحة، وحمزة، ومرة وعتبة، وربيعة، وما أشبه ذلك. ولفظه شامل لهذا كله؛ إذ قال: كذا مؤنث بهاء مطلقًا" فإن المؤنث بالهاء هو اللفظ، كان واقعًا على مذكر أو مؤنث. والوجه في المنع ظاهر. ويرد عليه سؤال، وهو أنه قد جاء مما فيه هاء التأنيث ما إذا سمي [به] انصرف عند الجمهور، وذلك (أخت، وبنت) فإنك إذا جعلته اسمًا لرجل صرفته فقلت: هذا أخت قد جاء، وهذا بنت قد مر، وإذا ثبت هذا فقوله في المؤنث بالهاء: سيمتنع مطلقا" مشكل. والجواب: أن يقال أولًا: إنه قليل نادر، فلم يعتد به. وأيضا، فقد قام قوم بمنع الصرف فيهما. ومنهم من زعم أنها للتأنيث، حكى ذلك ابن السراج، فقد يمكن أن يقال: إنها عند الناظم كذلك، وإنه يمتنع الصرف فيهما وإن كان مخالفا لسيبويه، ويدل على هذا القول ويبينه الجمع بالألف حيث حذفوا التاء منهما، ولم يقولوا: أختات، ولا بنتات.

وأيضاً، فسيبويه يعتبر صورة التاء فيها في النسب، فيقول في (أخت): أخوي، وفي (بنت): بنوي. وإليه ذهب الناظم على ما يأتي في "باب النسب" إن شاء الله، فيظهر قول من قال بهذا، أو يكون داخلا تحت كلام الناظم. ثم إنا نقول ثانيًا: ليست بتاء تأنيث، وإنما هي تاء أخرى للإلحاق، فـ (أخت) ملحق بـ (قفل) و (بنت) ملحق بـ (عدل) ولو كانت للتأنيث لكان ما قبلها مفتوحا، كشفةٍ، ورقةٍ. قال سيبويه: وإن سميت رجلًا ببنتٍ أو أختٍ صرفته، لأنك تقول: بنيت الاسم على هذه التاء، وألحقتها ببناء الثلاثة، كما ألحقوا سنبتة بالأربعة، ولو كانت كالهاء لما أسكنوا الحرف الذي قبلها، فإنما هذه التاء فيها كتاء عفريت. ثم قال: ولو أن هذه الهاء التي في دجاجة كهذه التاء انصرفت في المعرفة. فهذا نص سيبويه على أنها ليست للتأنيث، وإنما تأنيث (بنت) كتأنيث (جمل) بلا هاء تأنيث؛ بل بالبنية. فإذا لا اعتراض على الناظم. وفي قوله: "مؤنث بهاء" إشعار بأن جمع المؤنث بالألف والتاء لا يمنع صرفة لأنه قال: "بهاء" ولم يقل: "بتاء" وإن كانت عادته أن يطلق على هاء التأنيث لفظ التاء اتساعًا، فمحافظته على التعبير بالهاء دليل على ما ذكر، وعادة النحويين. والقسم الثاني: ما ليس فيه هاء من المؤنث الزائدة حروفه على ثلاثة، وهو مراده من قوله: "وشرط منع العار كونه ارتقى فوق الثلاث".

والعاري: هو الذي يجرد عن الهاء، وهو صفة للمؤنث، أي شرط منع المؤنث العاري. ولا ينبغي أن يقدر (العلم) لأن العلم العاري لا يستلزم كونه مؤنثًا، وليس كلامه إلا في المؤنث، فلا بد من أن يكون المنعوت هو لفظ المؤنث، لتقدم ذكره قريبًا في قوله: "كذا مؤنث بهاء". و"ارتقى" بمعنى: علا وارتفع، أي ارتفع عن الثلاثي، وزاد عليه. وقوله: فوق الثلاث" على حذف مضاف، لأن الاسم لا يرتقي فوق ثلاثة أحرف، وإنما يرتقي فوق ما هو على ثلاثة أحرف من الأسماء، فالتقدير: فوق ذي الثلاث. وأنت "الثلاث" ويريد الحروف، لأن الحروف تذكر وتؤنث وقد تقدم في النظم مواضع من هذا. وحذف ياء "العار" للنظم، وهو جائز في الكلام أيضا. ويريد أن العاري من الهاء التأنيث شرطه في امتناع صرفه أن يكون رباعيًا فأعلى، نحو: سعاد. وزينب. وكذلك إذا سميت امرأة بنحو: عقاب، أو عقرب، أو أرنب، أو ذراع. فهذا كله ممتنع الصرف في المعرفة، لأن الرباعي يقوم الحرف الرابع فيه مقام هاء التأنيث. والدليل على ذلك أن الثلاثي إذا صغر ردت إليه التاء، فقلت في (هند): هنيدة، وفي (دعد): دعيدة، وفي (نعم): نعيمة، إلا ما شذ.

وإذا صغر الرباعي لم ترد إليه التاء وإن كان في تقدير التاء، كما ردت إلى الثلاثي، لأن الحرف الرابع قام مقامها، فتقول: (سعيد) في سعاد، و (زينب) في: زينب، إلا ما شذ. وإذا كان كذلك فكأن الهاء فيه ثابتة، فجرى على حكم ما فيه التاء. والقسم الثالث: المؤنث العاري من هاء التأنيث، والثلاثي المحرك الوسط، وهو المشار إليه بالمثال في قوله: "أوسقر". وأراد أن شرط منع العاري من الهاء أن يكون زائدا على الثلاثة، أو كهذا اللفظ الذي هو "سقر" فتحريك الوسط يقوم عنده مقام الزائد على الثلاثة في منع الصرف إذا اجتمع مع العلمية، نحو ما مثل من (سقر) وهو اسم علم من أسماء (جهنم) أعاذنا الله منها. ومثله (لظى) من أسماء (جهنم) أيضا. وإذا سميت امرأة بـ (قدم) أو نحوه من المحرك الوسط، فالحكم كذلك أيضا، فتقول: هذه قدم، ومررت بقدم، كما تقول: هذه سقر. قال الله تعالى: {سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر}، وقال: {ما سلككم في سقر}. وإنما امتنع وإن كان ثلاثيا لأجل حركة الوسط، كأنها قامت مقام الحرف الرابع. وهذا تعليل بعد السماع، وإن لا فلو كانت الحركة قائمة مقام الحرف الرابع لم يؤت بالهاء في التصغير، ولما كانت الهاء لابد منها فيه دلت على أنها ليست عوضًا حقيقة، ولا قائمةً مقامها في التحصيل، ولكنهم قالوا ذلك لأن

الحركة لما كانت زيادة على الحرف، وكان الساكن الوسط ينصرف في أحد الوجهين، ووجد ما حرك وسطه ممنوع الصرف البتة كالرباعي- جعلوا الحركة كأنها تقوم مقامه. وأصل التعليل أن يقال: إن المانع حاصل في الثلاثي وغيره، وهو العلمية والتأنيث، لكنه استثني من ذلك الساكن الوسط كـ (دعد) لأجل ما حصل بالسكون من الخفة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وخالف ابن الأنباري في لزوم المنع في هذا القسم، فأجاز الوجهين اعتبارا بكونه ثلاثيا، والجماعة على خلافه. والقسم الرابع: ما كان من المؤنث العلم ساكن الوسط، لكن عرضت فيه علة العجمة زائدة على علتيه، وذلك الذي أشار إليه بقوله: "أوكجور". أي وشرط العاري من الهاء الزائدة على الثلاثة أو زيادة العجمة كـ "جور" ونحوه. وجور: اسم بلدة، تقول: هذه جور، ونزلت بجور. ومثل ذلك (ماه) وهو اسم موضع. و (حمص) وهو اسم بلدة. وعله المنع مطلقا هنا ما قالوا من أن الساكن الوسط ينصرف لكون ثقل إحدى العلتين قابلتها خفة الاسم، فلم يبق إلا علة واحدة، والعلة الواحدة لا تمنع، و (جور) وأخواتها زاد فيها العجمة مع علتيها، وهما التعريف والتأنيث، فقابلت خفة إحدى العلل، فبقى فيه علتان، فوجب المنع، وهذا مذهب الجمهور. وذهب ابن معط في "ألفيته" إلى إجازة الوجهين، كهند ودعد، حسبما يظهر من كلامه حيث قال:

أما مثال عجمة الأعلام ... فنحو إسحاق وإبراهام إلا ثلاثيًا به قد سكنا ... ثانيه فالصرف كنوحٍ عينا إلا مؤنثا كمصر المعرفة ... فذا كهند بعضهم ما صرفه فاستثنى من الأعجمي الثلاثي الساكن الوسط ما كان مؤنثًا، فجعل فيه وجهين كهند. وهذا غلط، لأن المؤنث من هذا النوع ليس فيه إلا المنع، وهو المحكي عنه العرب، والمقول به عند النحويين، وإنما جواز الوجهين في غير الأعجمي المشار كهند، كما يتبين. والقسم الخامس: ما كان من الأسماء التي غلب [عليه] التذكير، اسمًا علمًا لمؤنث، وهو الذي أشار إليه بقوله: "أوزيد اسم امرأة" يريد أن شرط المؤنث العاري في منع صرفه أن يكون كذا أو كذا، أو مثل (زيد) اسمًا علمًا لامرأة، إذ (زيد) اسم أغلب استعماله في المذكر، فكل ما كان مثله كعمرو، وعدل، وقفل، وحبل، وقلب، ونوم، وما أشبه ذلك، فهو مثله في هذا الحكم إذا سمي به المؤنث. ووجهه أنه لما كان قد غلب استعماله في المذكر، وصار متمنًا فيه، كان الخروج به إلى غير بابه، واستعماله في غير ما شهر فيه، ثقلًا أدى إلى أن

قابل الخفة التي فيه فانتهضت العلتان، وهما التعريف والتأنيث، مانعين من الصرف. قال سيبويه: فإن سميت المؤنث بعمرو أو زيد لم يجز الصرف. هذا قول [ابن] أبي إسحاق وأبي عمرو فيما حدثنا يونس. قال: وهو القياس، لأن المؤنث أشد ملاءمة للمؤنث، والأصل عندهم أن يسمى المؤنث بالمؤنث، كما أن أصل تسمية المذكر بالمذكر. فإذا خالفوا ذلك فسموا المؤنث بالمذكر، ثقل عليهم، فمنعوه الصرف، وهو أيضا رأي الأخفش والمازني. وروي عن عيسى بن عمر، ويونس، والجرمي، أنهم يجيزون في هذا القسم الوجهين: الصرف، وعدمه، كهند ودعد فيقولون: هذه زيدُ مقبلةَ، وزيدُ مقبلةً، كما تقول: هذه دعدُ مقبلةً، ودعدٌ مقبلةً. قال المبرد: وحجتهم أنا إذا سمينا مؤنثًا بمؤنث، وهو ثلاثي ساكن الوسط ففيه اللغتان قولًا واحدا، الصرف وترك الصرف وقد نقلناه من ثقل إلى ثقل، والمنقول من حال خفة إلى حال ثقل أخرى بجواز اللغتين، لأن ما هو في أحد حاليه خفيف أخف مما هو في كلا حاليه ثقيل

قال: كما لو سمينا رجلًا بمؤنث على ثلاثة أحرف: كقدم، وسقر، فليس فيه إلا الصرف لخفة التذكير. وأجاب ابن الضائع: بأن تسمية المؤنث بالمؤنث، أو المذكر بالمذكر، ليس فيه شبه العجمة، لأنك سميت الشيء بما يلائمه، كتسمية العربي بالعربي. وأما إذا سميت المؤنث بالمذكر فقد سميت الشيء بما لا يلائمه، فأشبه الأعجمي. قال: فإن قيل: فامنع صرف (قدم) و (سقر) اسم رجل لأن فيه التعريف وشبه العجمة. قلت: نعم، لو كانت العجمة الثلاثية تمنع الصرف لوجب منعه على مذهب سيبويه. وقد ثبت أن العجمة الثلاثية تقاوم خفة البناء، كما تقدم في (جور) و (ماه) و (حمص).

ثم أخذ يحتج لصحة مذهب سيبويه بما تجده في "شرح الجمل" فانظر فيه والأول هو الذي ذهب إليه الناظم هنا، وفي "التسهيل". وقوله "لا اسم ذكر" توكيد لقوله: "اسم امرأة". والقسم السادس: ما عدا ما تقدم من الثلاثي الساكن الوسط، وهو قوله: "وجهان في العادم تذكيرا سبق وعجمة". يعني أن ما كان من المؤنث الثلاثي الساكن الوسط لم يسبق له تذكير قبل استعماله علمًا، كما سبق لـ (زيد) اسم امرأة، ولا كان فيه عجمة، كما كان في (جور) ونحوه، ففيه وجهان: الصرف وعدمه، وذلك مثل (هند) وهو مثاله، تقول: هذه هند يا فتى، ومررت بهند، وقال أبو حية في منع الصرف: أمن هند الخيال ألم وهنًا ... بأشعث عند ساهمة منين ونحوه (دعد) قال الشاعر، فجمع بين الوجهين، أنشده سيبويه: لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعد ولم تسق دعد في العلب

وكذلك (نعم، وجمل، ومي) كقول ذي الرمة، أنشده سيبويه: ديار مية إذ مي تساعفنا ... ولا يرى مثلها عجم ولا عرب وأنشد أيضًا: * يا هند هند بين خلب وكبد * وأنشد أيضا للأخطل: أيام جمل خليلًا لو يخاف لها ... صرمًا لخولط منه العقل والجسد فجاءت هذه الأسماء مصروفة، وإن شئت منعت الصرف. وإجازته للوجهين موافقة لمذهب الجمهور، خلافًا لما ذهب إليه الزجاج، من الجزم بمنع الصرف، ورد على النحويين في صرفه وقال، لا حجة لهم فيما أنشدوا دليلًا على صرفه، لأن ما لا ينصرف كثير في الشعر. قال: ولا ينبغي أن يعتبر جهة البناء.

ورد الناس على الزجاج مذهبه، قال السيرافي: لا خلاف بين من مضى من البصريين والكوفيين في جواز صرفه. قال: وعندي أنهم لم يجمعوا عليه إلا لشهرته في كلام العرب. ورعاية الخفة في نوح ولوط إجماعًا يرد على الزجاج في قياسه. قال ابن الضائع: كلام السيرافي صحيح وبين في الرد عليه. قال: وأيضا، فقد صرح سيبويه أن صرفه لغة حيث قال: من جعل (ابنًا) مع ما قبله اسمًا واحدا يقول: هذه هند بنت فلان، في لغة من صرف (هندًا). قال: فهذا يدل على استقرارها لغة، ولم يجيء بالبيت هو ولا غيره ليثبتها لغةً. قال: ولما كان الثلاثي أقل الأصول، وسكن وسطه، كان أخف أبنية الأسماء، فلا يبعد أن تقاوم خفته إحدى العلتين، فلا تؤثر واحدة، فينصرف. قال: ثم إذا صح السماع لم يلتفت إلى قياس، فلا معنى للقياس إلا أن يوصل إلى معرفة كلام العرب. فإذا ثبت الكلام فأي معنى للقياس؟ ! وأيضًا، لو فرض أنه لم يأتِ إلا في الشعر، فلا ينبغي أن يدعي فيه الضرورة؛ إذ لم يكن له معارض في غير الشعر، بل يحمل على أنه

كلامهم حتى يثبت المعارض، وهو أصل نص عليه الشلوبين في طرة على كتاب ابن ملكون. واما الترجيح بين الوجهين فقال سيبويه: ترك الصرف أجود. وهو الذي نص عليه الناظم في قوله: "والمنع أحق" وإنما نص على أن المنع أحق لوجهين: تبين مذهبه فيهما، وأنه موافقٌ لصاحب الكتاب. والثاني: التنكيت على الزمخشري حيث عكس القضية، فجعل الصرف هو اللاحق. قال ابن الضائع: وإنما غلطه في ذلك خطاؤه في أن جعل حكمه كنوحٍ ولوطٍ، وهما مصروفان في القرآن، يعني مع وجود العلتين، وهما: العلمية والعجمة. قال: فحكم أن الصرف أفصح. انتهى. وهذا القياس من الزمخشري مصادم للسماع؛ إذ حكى سيبويه نقلًا عن العرب، ولم يحكم بذلك رأيا رآه. فالصحيح ما ذهب إليه الناس، وإنما قال: الأحق المنع، لأن العلتين موجودتان فالأصل القياسي المنع، حتى أنكره الزجاج صرفه، وزعم أنه ضرورة كما تقدم.

ومفهوم كلامه في قوله: "في العادم تذكيرًا سبق" أن الحكم كذلك، سواء سبق للسم قبل ذلك تأنيث أم لم يسبق له شيء؛ بل كان مرتجلا مثلا، فلو سميت امرأة بشمس، أو قدر، أو حرب، أو عين، أو نحو ذلك مما استعمل قبل العلمية مؤنثا، فالوجهان فيه جائزان. وعلى الناظم هنا درك، وهو أن كلامه أعطى أن الوجهين إنما يجريان فيما عدم تذكيرا سابقا قبل تسمية المؤنث به. فأما إذا سبق له التذكير قلب ذلك. فلا يكون حكمه هذا، وهذا في ظاهره جارٍ في نحو: قدر، وشمس، وعنز، مسمًى به. فأما في نحو (هند) الذي مثل به، وكذلك في (دعد، وجمل، ونعم) فلا. قال ابن خروف: قد أحاط العلم بأن هذه الأسماء، يعني (دعدا) وما ذكر معه، منقولة من مذكر، وإذا كان ذلك كما قاله ابن خروف كان الحكم فيها على مقتضى النظم منع الصرف لا غير؛ إذ كانت داخلة في القسم الخامس كـ (زيدٍ) اسم امرأة، وهذا فاسد، لأنهم نصوا على جواز الوجهين من غير خلاف أذكره، والمعتبر عندهم في جواز الوجهين أمران: أحدهما: كونه قبل العلمية لمؤنث، كقدرٍ مسمًى به. والثاني: أن يكون قد غلب بعد التسمية به على المؤنث. ومن هذا القسم جعل سيبويه (هندًا) و (دعدًا) ونحوهما، لأنهما لما غلب استعمالهما في المؤنث تنوسي أصلهما، وهو جواب

الفراء في منع صرف (أسماء بن خارجة) مع أنه عنده (أفعال) فقد كان ينبغي أن ينصرف لأن تأنيث الجمع لا يراعى في (باب ما لا ينصرف) فقال: كثر تسمية المؤنث به، فصار كزينب، اسم رجل، فهو عند سيبويه (فعلاء) فعلى مذهبه لا ينصرف إذا نكر، وينصرف على مذهب الفراء. ويجاب عن الدرك الذي على الناظم بأن قوله: "في العادم تذكيرًا سبق" ما سبق ذكره من التذكير، وهو (زيد) اسم امرأة، فإشارته بالسبقية لسبقية الذكر، لا لسبقية التسمية، كأنه قال: وجهان فيما عدم مثل ذلك التذكير المذكور، وهو كونه اشتهر في الاستعمال، حتى لم يتناس معه استعماله في المؤنث بعد ذلك، فلو سبق التذكير لكنه تنوسي بغلبة استعماله في المؤنث بعد ذلك لم يكن مما تقدم. ويشعر بهذا قوله بعد: "أو عجمة" ولا يريد إلا ما تقدم له ذكره وهذا ممكن، وهو خلاف ما تقدم في تفسير كلامه أولًا، وما تقدم هو الأظهر من كلامه، والسابق للناظر، ولكن يلزمه فيه ما تقدم من الإشكال، وربما يحمل على التفسير الأول. ويجاب عن السؤال بأن (هندًا) وأخواته لما غلب على المؤنث، حتى صار بحيث تنوسي أصله من التذكير، عاد إلى حكم ما لم يسبق له تذكير، فصح إطلاق العبارة عليه بهذا اللحظ. والله أعلم. فإذا يشمل له هذا القسم على كلا التفسيرين ثلاثة أوجه: الوجهان المذكوران في السؤال والثالث: أن لا يسبق له شيء، كما إذا سميت امرأة بـ (ديزٍ) مقلوب (زيد) فيكون فيه الوجهان.

ونقصه من هذا الفصل حكم المذكر إذا سمي بمؤنث كرجل يسمى بـ (قدر) أو (ذراع) أو نحو ذلك. وإنما ترك ذكره لقلته في كلام العرب، ولذلك لا تجدهم أكثر الأمر يذكرون فيه الأعلام إلى مع فرض التسمية، لعدم مجيء ذلك من كلام العرب، أو لندوره، فلذلك لم يضحفل به في هذا النظم المختصر. والعجمي الوضع والتعريف مع ... زيد على الثلاث صرفه امتنع يعني أن الاسم العلم إذا كان عجمي الوضع، أي وضعته العجم، فانتقل إلى كلام العرب منها- يمتنع صرفه لوجود العلتين، وهما التعريف والعجمة، لكن لا يكون ذلك إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون تعريفه أعجميًا، بمعنى أن العجم هي التي عرفته وصيرته علما، ثم بعد ذلك نقلته العرب إلى كلامها، واستعملته كذلك. وذلك مأخوذ من قوله: "والتعريف" لأنه معطوف على "الوضع" كأنه قال: والعجمي الوضع، والعجمي التعريف صرفه امتنع. وهذا الشرط الذي ذكر لابد من تفصيل الكلام فيه، وبذلك يتبين مراده. فالاسم العجمي الوضع ينقسم أربعة أقسام، لأنه لا يخلو أن يكون استعمل علمًا في كلام العجم وفي كلام العرب معًا، أو يكون في كلام العجم نكرة واستعمل كذلك عند العرب، أو يكون نكرة عند العجم علمًا عند العرب، أو يكون علمًا عند العجم نكرة عند العرب. والجميع له حكم مأخوذ من كلام الناظم هنا.

فأما الأول: وهو أن يكون علمًا في كلام العجم والعرب معًا، فلا إشكال في منع ذلك إذا اشتمل على الشرط الثاني الذي يذكره. وعليه يدل نصه، إذ قال: "والعجمي الوضع والتعريف" أي الذي يكون التعريف الموجود فيه كان مما وضعته العجم، لأنه إنما تكلم على العلم، فلو كان نكرة عند العرب لم تصدق عليه هذه العبارة، ومثاله: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وهرمز، وفيروز، وقارون، وفرعون، وهامان، وأشباه ذلك. فلا بد من صرفها لتوفر شرط المنع، وإنما امتنع لأنه يتمكن في كلام العرب، كما تتمكن النكرة، فثقل عليهم من حيث كان خارجا عن أصل كلامهم. وأما الثاني: وهو أن يكون نكرة في كلام العجم والعرب معًا، فلا إشكال في صرفه. وعلى ذلك دل مفهوم كلامه، لأنه إنما قيد منع العجمة بكونه علمًا. وإذا انتفت العلمية لم يبق في الاسم إلا العجمة وحدها، وهي لا تمنع كذلك وأيضًا، الأعجمي إذا دخل في لغة العرب نكرة، واستعمل فيها على تلك الحال صار داخلا فيها، ومن معهود كلامها، فلم يثقل عليهم ثقل المعرف، فلا يمنع صرفه إلا بما يمنع صرف الاسم العربي المحض، ولا يضر كونه جاء على مثال لم يأت مثله في كلام العرب، كالآجر، فإن خروجه عن أمثلتها يشبه خروج النوادر في العربي المحض عن الأمثلة المعهودة، كإبلٍ ونحوه، مما جاء عادمًا للنظير، وهذا معنى تعليل سيبويه. ومثال ذلك: اللجام والديباج، والاستبرق، والسجيل، والقسطاس، والبردي، والنيروز، والفرند، والزنجبيل، واليرندج، والياسمين. ومن ذلك كثير.

فإن سمي بشيء من هذا كان منصرفا، ولا اعتبار بالعجمة، لأنه قد جرى مجرى العربي في استعماله نكرةً، إلا أن يجتمع فيه علتان من علل الاسم العربي، فالوزن مع العلمية في نحو: (بقم) مسمًى به، فيمنع صرفه إذ ذاك، كما يمنع صرف (ضرب) مسمى به. وأما الثالث: وهو أن يكون نكرةً عند العجم، علمًا عند العرب، فالذي يقتضيه كلام الناظم الصرف، لأنه شرط في المنع أن يكون التعريف منسوبًا إلى العجم، لقوله: "والعجمي الوضع والتعريف". وهذه الطريقة تظهر من سيبويه، لأنه قال وأما إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وكذا إلى آخرها، فإنها لم تقع في كلامهم إلا معرفة على حد ما كانت في كلام العجم، ولم تمكن في كلام العرب، كما تمكن الأول، يعني النكرة، ولكنها وقعت معرفة، إلى آخر الكلام. فظاهره أنه اعتبر في المنع كون العجم عرفتها، وهو ظاهر الجزولي أبي موسى في "الكراسة" وبه فسرها الدباج. قال أبو الحسن الأبذي: سألت شيخنا أبا الحسن الدباج- رحمه الله- عن قول أبي موسى: "أو تلقيه من العجم علمًا" فقال لي:

هذا إنما معناه أن يتلقى من العجم علمًا، بمعنى أن يكون في كلام العجم علما، فانتقل إلى كلام العرب علما، وكذا وجد كل ما جاء من ذلك ممنوع الصرف. قال الأبذي: فعرضت عليه ما قدمته، يعني: من أن معناه أن العرب لم تستعمله حين تلقته من العجم إلا علما وقلت له: إن الأستاذ أبا علي- يعني الشلوبين- كان يعتقده، فقال لي: هذا المذهب لم أره لأحد إلا ما قلت لي عن الأستاذ أبي علي، قال: فقلت له: وأي أثر لاشتراط العلمية في كلام العجم؟ فلم يحضر له فيه جواب إلا موافقة السماع. قال: وتمسك رحمه الله بلفظ سيبويه، وذكره، ثم قال: إن هذا الكلام يحتمل التأويل. انتهى. وبنى على ذلك أن يصرف (قالون) و (بندار) لأنهما معرفتان عند العرب، منقولان من الصفة، إذ كان (قالون) عند العجم بمعنى (جيد) وكذلك الآخر أصله عند العرب الصفة. وإنما جلبت هذه بيانًا لكلام الناظم، وشرحًا لمدرك مذهبه. وقد ظهر أن مدركه ما جاء في السماع، وما يظهر من كلام سيبويه. وأما أن يظهر لاشتراط كونه علمًا عند العجم وجه، فبعيد. ومذهب أبي علي الشلوبين مخالف لهذا كما تقدم، فلا يشترط إلا كونه لا تستعمله العرب علمًا، فسواءً استعملته العجم نكرة أو معرفة، لا فرق بينهما بالنسبة إلى ما يرجع إلى كلام العرب، فيمنع إذًا صرف (قالون) و (بندار) ونحوهما على هذا. والأولى في النظر ما ذهب إليه الشلوبين، وهو مذهب المؤلف في "التسهيل"، وكلام سيبويه محتمل.

وأما الرابع: وهو أن يكون علمًا عند العجم، نكرة عند العرب، فعلى كلام الناظم لابد من الصرف، إذ فرض كلامه في منع الصرف، إنما هو فيما كان عند العرب علما وهذا ليس بعلمٍ عندهم، فلا منع، ووجه ذلك ظاهر، لأن [ما]، لأجله صرف القسم الثاني موجود هنا، فلا بد. ومحال أن يعتبر العلمية عند العجم هنا من اعتبرها في القسم الذي قبل هذا في منع الصرف؛ إذ لا ثمرة لذلك، وليس في الاسم غير العجمة، وانتفى حكمها بتصرف العرب. فإذا سمي به بعد ذلك، فليس إلى علة واحدة وهي العلمية. وقد حكى ابن عبيدة أنه سأل شيخه عن مثال من هذا الاسم، قال: فقال لي الأستاذ: إنها فرض مسألة لا أذكر لها مثالا. ويبقى هنا نظر في معنى العجمي الذي ذكره الناظم والنحويون. فالعجمي عندهم [ما] ليس من كلام العرب، من أي لغة كان سوى لغة العرب، واللسان العجمي هو ما خالف كلام العرب، لا يختص ذلك بأمة دون أمة، فكل لسان غير لسان العرب عجمي. فإن قلت: ما بني قياسًا على كلام العرب، هل هو من قبيل العجمي أولًا؟ مثل أن تبنى من (ضرب) مثل: درهم، أو جعفر، أو سفرجل، فتقول: ضِرببٌ وضَرببٌ، وضَربَّب وضَريّب، وضريّب، ونحو ذلك. فالجواب عن هذا رأيته لأبي الحسن الأبذي: أن ذلك ينبني على الخلاف فيما بني من ذلك، هل هو قياس أولًا؟

فمن قال بالقياس فيه مطلقا جعله من كلام العرب، فصرف في المعرفة، ومن لم يقس جعله خارجا من كلامهم كالأعجمي، فيمنع الصرف. و"العجمي" في كلام النظم واقع على الاسم، [منسوب إلى العجم، وهو خلاف العرب. وقد يقال أعجمي]، منسوب إلى الأعجمي، بمعنى العجم، وقد يطلق (الأعجم) ويراد به الذي لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب، ومنه زياد الأعجم. قاله الجوهري. والأعجم أيضا: الذي في لسانه عجمة وإن أفصح بالعجمية. وقد غلط ابن قتيبة الناس في استعمالهما معًا بمعنى واحد، وقال: إن الأعجمي الذي لا يفصح وإن كان نازلًا بالبادية، والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. وما قاله لا يلزم، لأن (الأعجمي) يستعمل كما قال، ويستعمل أيضا مرادفا للعجم كما تقدم وقد رد عليه في هذا ابن السيد، ورده صحيح. فإنما استعمل الناظم "العجمي" لوجهين: كثرة استعمال (العجم) الذي نسب إليه وقلة غيره، وليخلص عن اعتراض المعترض إن اتفق.

وهنا انتهى الكلام على الشرط الأول في (العجمي). والشرط الثاني: لمنع صرفه: أن يكون زائدا على ثلاثة أحرف، وذلك قوله: "مع زيد على الثلاث" أي مع زيادة على ثلاثة أحرف، وذلك كإسماعيل، وإبراهيم، وموسى، وعيس، وهامان، ونحو ذلك. فلا خلاف في منع صرف هذا كله. فإن كان على ثلاثة أحرف. فإنه عند الجمهور مصروف مطلقا، وهو رأي الناظم؛ إذ لم يشترط في المنع مع العلمية إلا الزيادة على الثلاث، إلا ما تقدم له في نحو (جور) مما فيه التأنيث زيادة على العلتين، فقد مر حكمه. وأما غيره: فقسم الثلاثي قسمين: أحدهما: أن يكون ساكن الوسط، مثل (نوحٍ، ولوط) وحكمه الصرف إلا عند الزمخشري، فإنه أجاز الوجهين، كباب (هند، ودعد) لمقاومه خفة وسطه إحدى العلتين. وأظن أن أصل هذا الرأي لابن قتيبة؛ إذ حكى في "أدب الكتاب" أن بعضهم ترك صرفه. وجعل ابن الضائع هذه الحكاية من ابن قتيبة غلطًا. قال إذ لم يحكه غيره، ولا أسنده هو لأحد، وحكى هوأنه لا خلاف في صرف (نوحٍ، ولوطٍ).

وأيضًا، فإن العجمة في منع الصرف أضعف من التأنيث لأن العجمة لا تمنع إلا بشروط حسبما يأتي، والتأنيث يمنع مع التعريف مطلقا ألا ترى أن الاسم الذي غلب عليه التأنيث، وهو على أكثر من ثلاثة أحرف كزينب، إذا سمي به مذكر لم ينصرف، وإن كان قد انتقل عن التأنيث، لأن الحرف الرابع صار كالهاء، فالتأنيث أقوى. وقد كان في (هند) اللغتان، فيجب أن تكون العجمة لا تمنع بإطلاق في (نوح، ولوطٍ) فلا يقال: إنها تمنع قياسا على (هند) فإن القياس لا يكون إلا مع تساوي الفرع والأصل في الحكم من غير فارق، وقد ثبت الفارق، فلا يصح القياس. والثاني: أن يكون متحرك الوسط، فحكى بعض المتأخرين فيه ثلاثة أقوال: الصرف مطلقا، ومنعه مطلقا، وجواز الوجهين. وظاهر سيبويه الأول. ووجه اشتراط الزيادة على الثلاثة وجود الثقل في الاسم، بخلاف الثلاثي لخفته. وقوله: "مع زيد على الثلاث" أراد: مع الزيادة، والزيد، والزيد: الزيادة، ومنه قول ذي الإصبع العدواني: وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا أمركم طرًا فكيدوني حكى الجوهري أنه يروى بفتح الزاي وكسرها.

كذاك ذو وزنٍ يخص الفعلا ... أو غالب كأحمد ويعلى يعني أن العلم إذا كان ذا وزنٍ خاص بالفعل، أو غالبٍ على الفعل، فإنه ممنوع الصرف أيضا. والوزن: معناه مقابلة حروف الاسم حروف الفعل، أصليًا بأصلي، وزائدًا بزائد، مع موافقة الحركات والسكنات، وتعيين الزوائد، مثل ما مثل به من (أحمد، ويعلي). فإن (أحمد) العلم على وزن (أحمد) من قولك: أحمد الله، وكذلك (يعلى) العلم، على وزن (يرضى) و (يخشى) وذلك لأن الأصل في الأسماء أن تنفرد عن غيرها بوزنها وسائر أحوالها. فلما وقعت هذه الأشياء موافقة لما هو فرع كانت بذلك خارجة عن أصلها، وداخلة فيما هو فرع، وهو الأفعال، فامتنع منها ما يمتنع من الأفعال، وهو الجر والتنوين. وإذا ثبت هذا فأبنية الأسماء بحسب موافقتها لأبنية الأفعال وموازنتها لها، وعدم ذلك، أربعة أقسام: أحدها: ألا توافقها أصلا، مثل: أفعول، وفعلال، وفعلل، وإفعيل، وفعل، وفعلل، مثل: أسلوب، وشملال، وسفرجل، وإصليت، وطنب، ودرهم، وكثير من ذلك، فلا إشكال في بقائها على أصلها من الصرف عند التسمية بها؛ إذ ليست أبنيتها من أبنية الأفعال في شيء، فضلًا عن أن تكون غالبة عليها، أو مختصة بها، وهو بين من مفهوم كلام الناظم.

والثاني: أن يوافق البناء البناء، لكن يكون بناؤهما مشتركًا بينهما، ليس بغالب على الاسم دون الفعل، ولا على الفعل دون الاسم، كفعلٍ، وفعلٍ، وفعلٍ، وفاعلٍ، وفاعل، مثل: طلل، وعضد، وكبد، وكاهل وخاتم، ويوافقها من الفعل: ضرب، وكبر وعلم، وقاتل، وقاتل. فهذه الأبنية غير مختصة بواحد من الجنسين دون الآخر، فليست الأفعال فيها بأولى من الأسماء، فلا يمتنع صرف ما سمي به من الأفعال على هذه الأبنية وأشباهها، وهو ظاهر من مفهوم كلام الناظم، وهو مذهب الجمهور. وخالف في ذلك عيسى بن عمر، فكان لا يصرف ذا الوزن المشترك المنقول من فعل، ويقول: كل فعل ماض سمي به فإنه لا ينصرف إذا كان فارغًا من فعله. واحتج على ذلك بما أنشده سيبويه من قول سحيم بن وثيل اليربوعي:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أع العمامة تعرفوني و(جلا) فعل ماض واقع على أبيه. وسيبويه على خلافه، وتأوله على أنه على الحكاية، كأنه قال: أنا ابن الذي جلا واشتهر، كما حكى الآخر في قوله، أنشده سيبويه: كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب وقال: إن قول عيسى خلاف قول العرب، سمعناهم يصرفون الرجل يسمى بكعسبٍ، وهو فعل من الكعسبة، وهو العدو الشديد مع تداني الخطا. والثالث: أن يوافق الاسم وزن الفعل، والفعل أغلب عليه، وهو المراد بقوله: "أوغالب" يعني على الفعل، وقد يكون في الأسماء، وذلك كبناء (أفعل، أو نفعل، أو تفعل، أو يفعل) من الأبنية الموافقة للمضارع. وكذلك بناء: إفعل، وأفعل، وأفعُل، وفُعِل، وما أشبه ذلك، فإنها تقع للأسماء قليلا نحو: أفكل، وأرمل، وأيدع، وأريع، ونرجس، وتنضب وتتفل،

وتدرأ، ويرمع، ويعمل، وإصبع وأصبع وأبلم، وأصبع، ودئل، ورئم. وما كان على نحو هذه الأبنية فقليل في الأسماء. فإذا سميت رجلًا بواحد منها لم تصرفه، لمشابهته بناء الفعل الذي هو فرع عن الاسم. وكذلك إذا سميت بشيء من الأفعال الموازنة لهذه لم تصرفه أيضا، كما لو سميت بأضكرم، أو أكرم، أو أكرِمْ، أو نحو ذلك. وقد سموا: يزيد، ويشكر، وتغلب، ويعمر، فمنعوا الصرف، فكذلك ما كان مثلها. والمثالان اللذان أتى بهما الناظم وهما "أحمد" ويعلى" من هذا النوع، وهما منقولان من الفعل. والرابع: أن يكون الوزن مختصًا بالفعل، ليس للاسم فيه نصيب، وهو قوله: "كذاك ذو وزنٍ يخص الفعل".

يعني أنه ممنوع أيضا، وما يقع هنا من الأعلام لا يكون إلا منقولا من الفعل، بخلاف ما قبله، فإنه قد يكون منقولا من غير فعل، كتنضب، وتتفل، وإصبع، وكذلك (أكلب) ونحوه من الجمع، لأنه على وزن: أقتل، وأما هذا فلا. ومن الأمثلة المختصة بالفعل: فُعِل، وفوعل، وفعلل وفعّل. فإذا سمي بضرب، أو ضورب، أو دحرج، أو ضضرب- لم ينصرف، ولذلك لم تصرف العرب (بذر) اسم ما، أنشد أبو الحسن، وقال: سمعت يونس ينشد هذا البيت لكثير عزة: سقى الله أمواهًا عرفت مكانها ... جرابًا وملكومًا وبذر والغمرا وأما (شلم) فعجمي، وكذلك (بقم) وفي "الصحاح" قلت لأبي علي الفارسي: أعربي هو؟ يعني بقمًا. فقال: عرب، وليس في كلامهم اسم على (فعل) إلا خمسة (خضم) بن عمرو بن تميم، وبالفعل سمي، و (بقم) لهذا الصبغ و (شلم) موضع بالشام، وهما أعجميان. و (بذر) اسم ماء من مياه العرب، و (عثر) موضع. ويحتمل أن يكونا سميا بالفعل، فثبت أنه ليس من أصول أسمائهم، وإنما يختص بالفعل.

فإن قيل: إذا كان هذا الإطلاق يقتضي أن كل اسم كان وزنه مختصا بالأفعال أو غالبا فيها- فصرفه ممتنع، فنحن نجد أفعالا كذلك، لكنها تصرف إذا سمي بها، وذلك مثل المضاعف نحو: مد، وشد، وكذلك إذا كان معتل العين نحو: قيل، وبيع، فإنه يصرف في المعرفة. وكذلك إذا سميت بـ (ضرب) بعد أن خففته فقلت: ضرب. وفي (علم): علم، فإنك تصرفه، وكلها على وزن (فُعْل). وقد تقرر أن (فعل) لا ينصرف علمًا للوزن الغالب والعلمية، فقد انخرمت عليه تلك القاعدة. فالجواب: أن هذه الأفعال المذكورة خارجة عن قصده، لأنها ليست على وزن الأفعال، لأن (مد، وشد) في اللفظ (فعل) فهو كمد، وقفل، وهو كثير في الأسماء، وكذلك (قيل، وبيع) لفظه على وزن قيل، ودين، وهو في الأسماء كثير. وكذلك (ضرب، وعلم) على وزن: قفل، والعرب هنا إنما تراعي صورة اللفظ غير مختصة بالأفعال ولا غالبة فيه. فإن قلت: هذا مشكل، فإنهم إذا سموا بـ (يزيد، ويشكر) أو نحو ذلك. منعوا صرفه مع أنه الآن ليس على وزن الفعل، فإذا كنتم تعتبرون اللفظ، فاصرفوا (يزيد، ويشكر) مسمًى بهمل، لأن (يفعل، ويفعل) قد تغير إلى شكل آخر، وإن أبيتم إلا المنع فلابد أن تمنعوا (مد، وشد) ونحو ذلك. فالجواب: أن (مد، وشد) وسائر ما ذكر قد خرج إلى وزن من أوزان الأسماء، بخلاف (يزيد، ويشكر) فإنه لم يخرج إلى وزن يكون للأسماء، فلما لم يحصل له في التغيير وزن من أوزان الأسماء بقي عليه حكم الوزن الفعلي والله أعلم.

وقوله: "أو غالب، معطوف على قوله: "يخص الفعلا" كأنه قال: خاص بالفعل، أو غالب عليه. ومثله، من عطف الاسم على الفعل، قول الشاعر: * أم صبي قد حبا أو دارج * وقد تقدم جواز ذلك. وما يصير علمًا من ذي ألف ... زيدت لإلحاق فليس ينصرف يعني أن الاسم إذا كان ذا ألفٍ في آخره زائدة، وزيادتها للألحاق، فإنه إذا سمي به لا ينصرف. فإن قلت: لم فرض المسألة في اسم ملحق سمي به، ولم يفرضها على أعم من هذا، فيقول مثلا: والعلمية تمنع من ألف الإلحاق، فيشمل ما سمي به مما فيه تلك الألف، وما وضع من الأعلام كذلك إن فرض مرتجلا مثلا. فالجواب: أن الألف التي للإلحاق لا تكون إلا في الأجناس، ولا تكون في الأعلام، والاستقراء يبين ذلك. فإنما تكون ألف الإلحاق في العلم إذا كان منقولا، فأراد أن ينبه على هذا المعنى، فأتى بتلك العبارة. وقوله: "زيدت لإلحاق" يريد في آخر الاسم، لأن ألف الإلحاق لا تلحق أولًا ولا وسطًا، وإنما تقع للإلحاق آخرًا.

وتحرز بقوله: "زيدت" من الألف المنقلبة عن الأصل نحو (مغزًى) و (مدعًى) و (أرطًى) عند من قال: أيم مرطي، فإن الألف هنا لا أثر لها في منع صرف؛ إذ كانت بمنزلة الرداء من (جعفر) وبمنزلة ما انقلبت عنه، إلا أن يأتي مانع آخر غير الألف. ومثال ما فيه ألف الإلحاق (أرطي) عند من قال: أديم مأروط، و (عقلًى) و (معزًى) و (ذفرًى) و (تترًا) على قراءة التنوين، و (حبنطًى) ونحو ذلك. وهذه كلها إذا سميت بها امتنع صرفها، وسبب ذلك أن الألف صارت شبيهة بألف التأنيث حين كانت ألف التأنيث [لا تلحقها هاء التأنيث] وكذلك (علقًى) وبابه، إذا سمي به لا تلحق الهاء أصلًا، وقد كانت تلحق قبل العلمية، فتقول: علقاةٌ، وأرطاةٌ، ولاجتماعهما أيضا في الزيادة. فلما حصلت المشابهة بينهما صارت ألف الإلحاق تمنع كألف التأنيث. فإذا نكر بعد التسمية لم يبق إلا علة واحدة، وهي لحاق الألف، فلا يمتنع صرفه. وههنا نظر من وجهين: أحدهما: أن ألف الإلحاق على وجهين:

الأول: أن تلحق أخيرًا وحدها، كعلقًى وسائر ما تقدم من الأمثلة. وما قاله النظام فيه صحيح. والآخر: أن تلحق طرفًا بعد ألف زائدة، فتنقلب همزة نحو: علباء، وحرباء، فإنهما ملحقان بقرطاس وسربال، وكذلك: قوباء، وملحقة له ببناء فسطاس، وغوغاء، وضوضاء، عند من نون، ملحق بفضفاض، وصلصال. وإذا ثبت هذا وأن الهمزة أصلها الألف فيقتضي كلام الناظم أن نحو: (علباء) لا ينصرف إذا سمي به؛ إذ للقائل أن يقول: إنها أضبهت همزة التانيث في (صحراء) ونحوه، لأن كل واحدة منهما منقلبة عن ألف يمتنع الصرف بها، شبهت ألف الإلحاق قبل الإبدال همزة بألف التأنيث قبل الإبدال أيضا، وكذلك تشبه بها بعد الإبدال، فيمتنع الصرف. وهذا الحكم هنا غير صحيح؛ بل الصحيح أن (علباء) و (حرباء) ونحوهما من الملحقات التي آخرها همزة إذا سمي بها تنصرف البتة، ولا يجوز المنع، لأن همزة الإلحاق لا تشبه همزة التأنيث، من جهة أن همزة الإلحاق منقلبة عن ياء لا على ألف، وهمزة التأنيث منقلبة عن ألف لا عن ياء، فافترقا في الحكم لأجل افتراقهما في التقدير.

بهذا علل الصرف ابن أبي الربيع، وبينه الأستاذ- رحمه الله- بأن الحرف إذا كان منقلبا عن مانعٍ منع، كالهمزة في (صحراء) وإذا كان منقلبا عن غير مانع لم يمنع كهمزة (علباء). وإذا كان كذلك، فإطلاق الناظم مخل، وكان الواجب عليه أن يقيد الألف بالمقصورة، كما فعل في "التسهيلين" و"الفوائد". والوجه الثاني: أن ألف التكثير في هذا الحكم مساوية لألف الإلحاق، كما إذا سميت بقبعثري، وضبغطري، ونحوهما مما ألفه للتكثير، فإن صرفه ممتنع لشبه الألف بألف التأنيث، ولا فرق بين الألفين في هذا الحكم. فلم اقتصر على إحداهما وترك الأخرى، وتركها موهمٌ بجواز الصرف؟ والجواب عن الأول: أن الألف إذا أطلقت فحقيقة مفهومها أنها غير المنقلبة؛ إذ كان انقلابها يصيرها إلى حقيقة أخرى تسمى همزة، فلا تحمل على غير صورتها الأصلية إلا لموجب. فإن قلت: فلم حملت ألف التأنيث حيث ذكرها أول الباب على وجهيها، (ولم تحمل هذه على وجهيها) كذلك؟ فالجواب: أن ألف التأنيث هنالك أردفها بقول: "مطلقًا منع" وهذا الإطلاق ليس إلا لحالتيها معًا، من بقائها على أصلها وانقلابها

همزة، وإلا فلا معنى لقوله: ثم "مطلقًا" أو لقوله: "كيفما وقع" على ما تقدم من التفسيرين. وأما هذه فلم يطلق الحكم فيها؛ بل ذكرها بالاسم الذي يسبق إلى الفهم من لا صورتها الأولى، اتكالًا على ذكاء الفطنة على عادته في هذا النظم، وهي من محاسنه فيه. وقد سبق من نحو هذا أشياء كثيرة. وبالله التوفيق. والجواب عن الثاني: أن ألف التكثير ليست بالكثير، وإنما وقعت في قليل من الألفاظ، فلم يعتن بذكرها بحسب القصد في هذا المختصر، وعلى أنه لم ينبه على ذلك في "التسهيل" فالله أعلم لم ترك ذلك، ألندوره، أم لعلةٍ أخرى، أم للغفلة عنه؟ أما هنا فلا اعتراض عليه. وقوله: "فليس ينصرف" اسم "ليس" ضمير عائد على مدلول ما في قوله: "وما يصير علمًا" والخبر "ينصرف" ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن، كقولهم: ليس خلق الله مثله، والأول أولى. والعلم امنع صرفه إن عدلا ... كفعل التوكيد أو كثعلا العدل على أربعة أقسام: عدل على (فعال) وعدل على (مفعل) وقد تقدم ذكرهما، وهما مختصان بالصفات وعدل على (فعل) وعلى (فعال) وهما مختصان بالأعلام، ويلحق بهما خامس، وهو العدل عن الألف واللام، وهو مختص بـ (أخر) في الصفات، وقد تقدم، وبـ (سخر) في المعارف، وهو الذي ذكر هنا.

فالذي يتكلم عليه هنا ما كان من العدل في المعارف، لأنه من القسم الذي ينصرف في النكرة، فبين أن العلم يمنع صرفه إذا كان معدولا إلى (فعل) كفعل المختص بباب التوكيد، وكجشم الذي هو علم لرجل. فقوله: "امنع صرفه إن عدل ككذا" يريد إن عدل على هذا الوزن الذي هو على (فُعَل) وأتى فيه بنوعين: أحدهما: (فُعل) التوكيد، يعني ما كان موازنًا لـ (فعل) في ألفاظ التوكيد، وذلك (جُمَع، وكُتَع، وبُصَع، وبُتَع) فإن هذه معدولة عما كان الأصل فيها إلى (فُعَل). واختلف في المعدول عنه ما هو؟ فالذي قاله الفارسي إنه معدول عن (جماعي) لأنه جمع (فعلاء) و (فعلاء) إذا كان غير صفة قياسه (فعالى) كصحراء وصحارى، فعدل إلى (فُعَل) تخفيفا. وقيل: إنه معدول عن (فعل) لا عن فعالى لأنه جمع (فعلاء) و (فعلاء) مؤنث (أفعل). وقياس (فعلاء أفعل) أن يجمع على (فعل) فكان قياس (جُمع) أن يكون (جمعًا) فعدل عنه إلى (فعل) وكذلك سائر الألفاظ. واعترض هذا الفارسي بأن (أفعل فعلاء) لا يجمع على (فعل) إلا إذا امتنع مذكره من الجمع بالواو، والنون، كحمراء وحمر، لأنه لا يقال: أحمرون.

وأما إذا جمع مذكره بالواو والنون فليس قياس مؤنثه (فعل) ولا هو من باب (أفعل فعلاء). وأيضا، العدل: يقصد به ضرب من التخفيف، وهذا نقيض الغرض، لأنه (فعلًا) أخف من (فعل) ولم يبين الناظم وجه العدل. والثاني من النوعين (فعل) الذي في غير التوكيد كـ "ثعل" الذي مثل به، وهو أبو حي من طيئ، وهو ثعل بن عمرو أخو نبهان، وهم الذين عناهم امرؤ القيس بقوله: رب رامٍ من بني ثعل ... مخرجٍ كفيه من ستره وكذلك "جشم" الذي مثل به بعد، وهو أبو حي من الأنصار، وهو جشم بن الخزرج، وكان يقال: إن سرك العز فجحجح بجشم. و"جشم" في ثقيف، وهو جشم بن ثقيف، وجشم بن معاوية بن بكر بن هوازن. ومثله (عمر، وزفر) و (زحل) اسم الكوكب، و (قثم)؟ وهذا البناء معدول عن (فاعل) كأنهم أرادوا أن يقولوا: عامر، وزافر، وزاحل، وقاثم، ثم عدلوا عنه إلى (فعل).

وهذا إنما تلقى من السماع، أعني كونه معدولا عن شيء، ولذلك جعل ابن الحاجب هذا العدل مقدرًا، وجعل العدل في (جُمَعَ، وكُتع، وأُخَر) ونحو ذلك محققًا، لأن (جمع) وما ذكر معه أدى القياس إلى حقيقته في الأصل، بخلاف نحو (عمر، وزفر) فإن القياس لم يهتد إليه حتى سمع غير مصروف. ومن هنا يرد على الناظم اعتراضان: أحدهما: أن ما كان من نحو (عمر، وزفر) منع صرفه عنده مبني على تحقيق العلة المانعة وهو العدل، وهو مما لا يهتدي إليه بقياس، وإنما يتلقى من السماع- أعني كونه معدولا- وليس لنا سبيل إلى ذلك من السماع إلا من جهة صرفه وعدم صرفه. ولذلك يقول بعض النحويين في ضابط وجود المعدول: هو أن ينظر إلى (فعل) كيف جرى في كلامهم؟ فإن رأيته لم يصرف علمت أنه معدول، وغن كان له أصل في النكرة حكمت عليه بالنقل نحو (صرد، ونغر) وما ليس له أصل في النكرة حكمت بالعدل، نحو (زفر) وقال بعضهم: إذا وجدته معربًا غير مصروف، ولم تعلم له أصلا في النكرات، فهو معدول، نحو (قثم) وإلا فغير معدول، نحو (أدد) يقال

معد بن عدنان بن أددٍ، فإن العرب صرفته وإن لم يعلم له أصل في النكرات. فإن وجدت له أصلا، فالأصل فيه الصرف، وأنه غير معدول، نحو (حطمٍ) اسم رجل، إلا أن يأتي السماع بمنعه، فتعلم أنه ليس بمنقول من تلك النكرة، نحو: (عمر) وهذا العقد الثاني أسعد بمذهب سيبويه، وهو الصحيح، ألا ترى أنه حكى الصرف في (أددٍ) مع أنه ليس له أصل في النكرة، وهذا يدل من كلام سيبويه على أن أصل (فعلٍ) الصرف وإن لم يسمع له نكرة. وإذا ثبت هذا فقوله: "امنع صرفه إن عدل" دوري، لأنه وقف الحكم بمنع الصرف على وجود العدل في هذا القانون. وعندهم أن وجود العدل موقوف على سماع منع الصرف، وإلا فهو مصروف، وهذا دور ظاهر، وهو فاسد. والاعتراض الثاني: أن العدل في نحو (عمر) موقوف على السماع، وهو قد أطلق القول في ذلك ولم يقيده؛ بل قال: "كفعل التوكيد أو كثعلا" و"ثعل" على وزن (فُعَلٍ) فيقتضي أن كل ما كان على هذا الوزن، وهو مسمى به، يمنع صرفه وإن كان له أصل في النكرات، إذ (الثُّعل) هي الزوائد [في الأسنان] واختلاف في منبتها، يركب بعضها بعضا، فعلى هذا كل (فعل) كل معرفةً أول الوضع فلا يصرف، وكذلك إذا سمي بواحد من النكرات، سواء أكان اسم

جنس كصردٍ ونغرٍ، أم صفة كبلدٍ وحطمٍ، أو مصدر كهدًى، وتقًى، أو جمعا نحو: غرفٍ وظلمٍ، وهذا كله فاسد بنصوص النحويين وكلام العرب. وقد وافق النحويين في "التسهيل" فقال حين ذكر المعدول عن (فاعل) علما: وطريق العلم به سماعه غير مصروف، عاريًا من سائر الموانع. اللهم إلا أن يكون العدل محققًا من غير ذلك كـ (فعل) في النداء، نحو: خُبث، وفُسق، ولُكَع، إذا سمي بها، وكذلك ما كان من المعدول في الأوصاف، وفي التوكيد، ونحو ذلك، فهذا محقق العدل. ومثاله لا يعطي إلا ما كان علما عندهم، نحو (ثُعَلٍ) فحصل من هذا أن ما كان متأكدًا عليه ذكره تركه، وما كان واجبًا عليه أن يبينه، ويخرجه عن مقتضى القاعدة أهمله، فدخل عليه. والجواب: عن الاعتراضيين معًا أن الناظم إنما تكلم على العلم الذي ثبت كونه معدولا، لأنه قال: "والعلم امنع صرفه إن عدلا" يريد": إن ثبت كونه معدولا قبل النظر القياس فيه. وثبوت عدله يكون بوجوه: أحدها: أن يثبت من موضعٍ آخر كثبوت كون (أُخر) معدولا، وكذلك (فعال) و (مفعل) في العدد، نحو: أحاد، وموحد، وثناء، ومثنى،

وثلاث، ورباع، وما أشبه ذلك، مما قيس أو لم يقس، فإذا سمينا بواحد منها فقد سمينا بما ثبت عدله، فلابد من منع الصرف، لأنل قد ثبت عندنا عدلها سماعا؛ بل كذلك نقول فيمن سمي بسداس ومسدس، ونحوه إلى عشار ومعشر، وإن لم نسمعه، ولا قلنا بالقياس فيه، لأن طريقة (فعال، ومفعل) في العدد من واحد إلى عشرة، ثبت قصد العدل فيه على الجملة. فهذا طريق واضح يثبت به العدل وإن لم يكن المعدول علمًا بعد. والثاني: ما في باب ما لا يقع إلا في "النداء" خاصة، وذلك (فُعل) في المذكر و (فعال) في المؤنث، فإنهما معدولان عن (فاعل، وفاعلة) نحو: يا خبث، ويا خباث، ويا لُكع، ويا لكاع، ويا فُسق، ويا فساق، وهو في (فعال) مقيس عند الناظم، قد نبه عليه في بابه، و (فُعل) شائع عنده غير مقيس، ومقيس عند غيره، وكذلك ما جاء فيه من (مفعلان) معدول أيضا، فكل هذا إذا سمي به مذكر امتنع صرفه، لثبوت عدله في غير باب (ما لا ينصرف). والثالث: ما ثبت العدل فيه في باب (التوكيد) وذلك: جُمع، وكُتَع، وبُصع، وبُتع، ولا يلزم فيه اعتراض، لأن الذي أثبت فيه عدم الصرف للعدل في باب (التوكيد) فإذا سميت بها الأشخاص صارت إلى باب آخر غير بابها، فحكم عليها بامتناع الصرف. والرابع: ما ثبت في باب (فعال) وذلك أنه قد ثبت في [منع الصرف] بالعدل في غير التسمية، فالذي لمعنى الأمر، كـ (نزال، وتراك) معدول عن: انزل، واترك، وكذلك ما أشبهه.

والذي بمعنى الصفة كـ (حلاق) للمنية، و (جعار) للضبع، معدول عن: حالقة، وجاعرة، وكذلك نحوه. والذي بمعنى المصدر كـ (يسار، وفجار) وقد ذكر (فعال) في "النداء". والذي في النداء والأمر مطرد، وما عداهما سماع. وعلى كل تقدير إذا سمي بما قيس وما سمع مذكر فإنه يمتنع للعدل والعلمية، وقد يصرف، وذلك قليل، فإن سمي به مؤنث فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله إثر هذا. وإذا ثبت العدل في هذه الأنواع، وهي قياس أو سماع، فلا دور يلزم في تعريف الناظم، لأنه أحال على ما علم عدله في غير باب (ما لا ينصرف) أو في باب (ما لا ينصرف) لكن في حال أخرى، كالتسمية بـ (فعل) التوكيد، فإنه غير ما ثبت رم الصرف. وإنما الذي يلزم فيه الدور ما ذكره في السؤال، ونحن لا نقول: إنه قاصد لإدخاله في الباب على الوجه المذكور، لما يلزم من المحذور؛ بل يبقى موقوفا على السماع مطلقا، لأن العدل فيه لم يثبت بعد، فليس بداخل تحت قوله: "إن عدل". وإنما يتكلم على ما ثبت عندنا. فإن قلت: هذا خلاف ما ظهر منه بالمثال، فإن جميع ما ذكر هنا مخالف لما مثل به وهو (ثعل) إذ ليس بواحد من تلك الأقسام، ولا يثبت عدله إلا من باب (ما لا ينصرف) فالإشكال باقٍ. فالجواب أن المثال قد أعطى أنه معدول، وأنه لا ينصرف سماعًا من العرب، والذي قصد بالإتيان به أن ما كان مثله في ثبوت العدل فهو مثله

في منع الصرف مجرى ذلك المسموع. وباب (عمر، وزفر، وثعل) الصرف. وإنما كان يلزم الإشكال أن لو أتى به ليقيس عليه مثله، مما لا يثبت عدله إلا بمنع الصرف، وليس كذلك؛ بل أتى به من باب السماع فقط، لتقيس أنت عليه ما يثبت عندك عدله من وجه آخر، وما لم يثبت فلا تجريه في منع العرب صرفه، فلا معنى للأمر بمنع صرفه وقد كان وضعه كذلك. فإذا تقرر هذا حصل أن ما أجرى الناظم من القياس ليس فيما مثل به، وأن ما مثل به ليس بقياس، وأن ما أورد في المسألة جارٍ على قوانين العرب والنحويين على اختصار عبارته بلطف إشارته، وهي من محاسنه. ثم أتي بمسألة (سحر) فقال: والعدل والتعريف مانعا سحر إذا ... به التعيين قصدا يعتبر يريد أن يبين أن (سحر) إذا قصد به أن يكون ليومٍ بعينه، فإن العرب منعته الصرف، فتقول: جئتك يوم الجمعة سحر، ولقيتك يوم الخميس سحر، وأن السبب لمنع صرفه العدل والتعريف. وإنما اعتنى بذكر المانع في (سحر) لإشكال منعه الصرف على حسب ما يتبين بحول الله، وذلك أنه وضع لوقتٍ بعينه، فهو معرفة، لأن ما وضع لشيء بعينه خصوصًا فهو معرفة، والتعريف فيه تعريف العلمية الجنسية، وهي مانعة كالشخصية. ولما كان تعريفه على غير وجه التعريف المعلوم في نظائره، وهو إما بالألف واللام، وإما بالإضافة- صار كأنه عدل عما كان يستحقه إلى وجهٍ آخر

من التعريف، كما عدل (أمس) في لغة من قال: مذ أمس. وكما عدل (أخر) عما كان الأصل في تعريفه من الألف واللام. هذا الذي يمكن في توجيه منع الصرف في (سحر) وهو الذي أراده الناظم. ولما فيه من الإشكال زعم بعضهم أنه مبني على الفتح لتضمنه معنى حرف التعريف، ورده ابن الناظم بأمور: أحدها: أنه لو كان كذلك لكان غير الفتح أولى به، لأنه في موضع نصب، فكان يلتبس البناء بالإعراب، فوجب اجتنابه، كما اجتنب في (قبل، وبعد) والمنادى [المفرد المعرفة]. والثاني: أنه كان يكون جائز الإعراب كـ (حين) في قوله:

* على حين عاتبت المشيب على الصبا * لتساويها في ضعف سبب البناء لكونه عارضا. والثالث: أن دعوى الجمهور أسهل، لأنه أقرب إلى الأصل، بخلاف دعوى البناء، ودعوى الأسهل أرجح. فثبت أنه غير مبني كما قال الجمهور، وأن معنى حرف التعريف فيه ليس على التضمين؛ بل على العدل عما هو فيه كما تقدم. وبعد ذلك، فيرد على الناظم في مذهبه إشكالان: أحدهما: أنهم يقولون في (غدوة، وبكرة) لوقتٍ بعينه: إنه ممنوع الصرف للتعريف والتأنيث، لأنه من يوم بعينه، ولدخول الهاء فيه، ولا يقولون فيه: إنه معدول؛ بل يزعمون أنه غير معدول، مع أنه قد عرف على غير ما كان يستحقه من التعريف، وهو الألف واللام، أو الإضافة، وهو المعلوم في بابه، فيقول القائل: لا بد هنا من أحد أمرين: إما أن يكون التعريف على غير جهته المعهودة عدلا، فيكون نفيهم إياه عن (غدوة، وبكرة) خطأ، وكان إذ ذاك يلزم إتيان الناظم بهما مع (سحر) إذ لا فرق على هذا الترتيب. وإما أن يكون ادعاؤهم العدل في (سحر) باطلا، فلابد من البحث عن علة أخرى، أو صرف (سحر) وصرفه خطأ، لأن العرب منعته، فأشكل هذا كله.

والثاني: أن (ضحى، وضحوة، وعشاء، وعشية) وأخواتها مما هو لوقت بعينه، قد صرفتها العرب، مع أنها معارف، لكونها لوقت بعينه كـ (سحر، وغدوة، وبكرة) ومع أنها موضوعة في التعريف غير وضعها؛ إذ كان حقها أن تعرف بالألف واللام، كما في نظائرها. فالعرب لم تعتبر هنا ما زعموا أنها اعتبرته في (سحر) وهذا تناقض من القول، واعتبار لما أهملته العرب. ولما ثبت أن العلتين المذكورتين في (سحر) غير معتبرتين في ظاهر الأمر- أراد الناظم أن يحقق لك ما قاله النحويون، ويثبته عندك بالتنبيه على بخصوصه، لتعلم أن ما قالوه من ذلك إنما ارتكبوه لمعنى صحيح، لا يغفلون عنه فقال: * والعدل والتعريف مانعا سحر * وأحال الناظر على البحث في وجه ذلك. ووجه ما قالوه من ذلك أنهم وجدوا (سحر) غير منصرف، فعلموا أن لابد من العلتين. فأما التعريف فأوضحه المعنى؛ إذ كان لوقت معين. وأما العدل: فبينه كونهم لم يتصرفوا فيه، ولم يستعملوه على غير جهة الظرفية، فتبينوا أن ذلك إنما هو لأجل وضعه في غير موضعه، واستعماله على غير طريقته. وهذه قاعدة عربية إذا استعمل الشيء في غير موضعه وعلى غير وجهه، لم يتصرف تصرف ما هو باقٍ على أصله. وقد بين ذلك ابن خروف في الظروف، خصوصا في شرح "الكتاب" في باب (ما يحتمل الشعر).

وإذا ثبت هذا فـ (غدوة، وبكرة) لما كانا متصرفين على غير طريقة (سحر) ظهر أن العدل فيهما غير مراد، وأن تعريف العلمية فيهما بحق الأصل، لا بالخروج عن الأصل؛ إذ لو كان كذلك لم يتصرفوا فيها. فقالوا: إن المانع فيهما مع العلمية التأنيث. وأما (ضحى، وضحوة) وبابه، وإن كان ليومٍ بعينه، فإن عدم التصرف فيهما دل على أن التعريف فيهما ليس بحق الأصل؛ بل عدل بهما عن طريقهما من التعريف بالألف واللام، أو الإضافة. ولما كانوا قد صرفوها دل على أنها في أنفسها ليست بمعارف؛ بل جرت مجرى قولهم: ما رأيته أول من أمس، وأنت تريد اليوم الذي قبل يومك، وما رأيته عامًا أول، وأنت تريد العام الذي قبل عامك، فاللفظ لفظ النكرة، والمعنى على خلاف ذلك، فكذلك (ضحى، وضحوة) لفظه نكرة، والمعنى معنى المعرفة. وهذا كله من الاستدلال بالأحكام وهو باب واسع في الأصول، وعليه المعول في كثير من الأحكام العربية. ثم قال: وابنِ على الكسر فعالٍ علما ... مؤنثًا وهو نظير جشما عند تميم واصرفن ما نكرا ... من كل ما التعريف فيه أثرا يعني أن (فعال) على وزن (حذار، وتراك) إذا صار علمًا، سواء أكان أصلها الأمر أم غير ذلك من أقسام (فعال) وكانت تلك العلمية معلقة على مؤنث- فإن فيه وجهين: أحدهما: البناء على الكسر مطلقا، وهو مذهب عرب الحجاز، وذلك قوله: "وابنِ على الكسر".

والثاني: الحكم له بحكم (جشم) وغيره من المعدولات إذا كانت أعلاما، وذلك إعرابه إعراب ما لا ينصرف، وهو مذهب بني تميم، وذلك [قوله] و"هو نظير جشما عند تميمٍ" أي نظيره في الإعراب غير منصرف كما تقدم فيه. و(فعال) المسمى به قد تكون العرب هي التي سمت به، نحو (حذامِ) اسم امرأة. قال الشاعر: إذا قالت حذامِ فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام و(قطام) اسم امرأة. قال النابغة: أتاركةً تدللها قطامِ ... وضنا بالتحية والكلام و(رقاشِ) وكذلك، قال الشاعر، ونسبه الجوهري إلى امرئ القيس:

قامت رقاشِ وأصحابي على عجل ... تبدي لنا النحر واللبات والجيدا و(غلابِ) اسم امرأة كذلك. وفي غير الآدميين (سفارِ) اسم ماء، وقال الجوهري: اسم بئر، وهو واحد. قال الفرزدق: متى ما ترد يومًا سفارِ تجديها ... أديهم يرمي المستجيز المعورا و(حضارِ) اسم كوكب، ويقال: حضار والوزن محلفان، وهما نجمان يطلعان قبل: سهيل، فيخلف إذا طلع أحدهما أنه سهيل لشبهه به. وهذان اللفظان قد يظهر أنهما مذكران، لأن الماء مذكر، والنجم مذكر، وليس في الاعتبار كذلك؛ بل القصد في التسمية بهما لحفظ التأنيث، ذكره سيبويه.

و (وبارِ) اسم أرض كانت لقوم عاد، وهي التي ذكرها الأعشي في قوله، أنشده سيبويه: ومر دهر على وبارِ ... فهلكت جهرة وبار فكل ما كان على (فعال) من هذا القسم فيه وجهان على ما قال الناظم، البناء مطلقا لأهل الحجاز، والإعراب من غير صرف لبني تميم. ودل على إرادة أهل الحجاز، وإن لم يذكرهم، مساق الكلام، لأنه قال في الإعراب: "وهو نظير جشما عند تميم" فبقي الوجه الآخر، وهو البناء لأهل الحجاز، لأنه ليس في الاستعمال من يخالف بني تميم سوى أهل الحجاز. وتميم: هو تميم بن مر بن أد بن طلحة بن إلياس بن مضر. وقد تكون (فعال) لم تسم العرب بها أحدا، وذلك ثلاثة أنواع: أحدها: (فعال) في الأمر، نحو: نزال، وتراك، وحذار، ومناع، وقد تقدم ذكره. والثاني: (فعال) في المصادر، كقولك: فجارِ، تريد الفجرة. أنشد سيبويه للنابغة:

أنّا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجارِ و(يسارِ) اسم لليسرة أو الميسرة. قال الشاعر أنشده سيبويه: فقلت امكثي حتى يسارِ لعلنا ... نحج معًا قالت أعامًا وقابله! و(بدادِ) اسم لـ (بددًا) قال الجعدي، ويقال هو للقيظ بن زرارة، وقيل: لابن كراع، أنشده سيبويه: وذكرت من لبن المحلق شربة ... والخيل تعدو بالصعيد بداد

وقال حسان بن ثابت، رضي الله عنه: كنا ثمانية وكانوا جحفلا ... لجبًا فشلوا بالرماح ومنه قولهم: (لامساس) تقول العرب: أنت لامساسِ" أي [لا] تمسني ولا أمسك. وقرئ في غير السبع "قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس" قرأها أبو حيوة، فهو اسم للمس. وكذلك همامِ، يقال لا همامِ، أي لا أهم بذلك همًا، قال الكميت: عادلًا غيرهم من الناس طرًا ... بهم لا همامِ لي لا همامِ

و (كفافِ) اسم للكف، يقال: دعني كفاف. والثالث (فَعَالِ) في الصفات، وهو قسمان: قسم لا يكون إلا في النداء، نحو: يا فساق، ويا خباث، وما أشبه ذلك، وقد تقدم في بابه. وقسم يقع في النداء وغيره، مثل: جَعَارِ، للضبع، اسم للجاعرة، أنشد سيبويه للنابغة الجعدي: فقلت لها عيثي جعارِ وجرري ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره ويقال لها: قثامِ، لأنها تقثم، أي تقطع. وقال الشاعر في (حلاقِ) اسم للحالقة، وهي المنية، أنشده سيبويه:

لحقت حلاقِ بهم على أكسائهم ... ضرب الرقاب ولا يهم المغنم وأنشد أيضا لمهلهل: ما أرجي بالعيش بعد ندامي ... قد أراهم سقوا بكأس حلاقِ! وتكثير المثل هنا يحصل به الاتساع في التسمية، لأنها أبواب مسموعة، وإنما القياس منها (فعال) في الأمر، وفي النداء، وقد ذكر الزمخشري منها كثيرا. ونقل ذلك ابن خروف، فانقله من ثمة إذا أردته. فإذا كل ما سمي به من هذه الأشياء فإنه يمتنع صرفه عند بني تميم، ويبنى على الكسر عند أهل الحجاز. وبقى على كلام الناظم سؤالان. أحدهما: أنه قد تقرر عند أهل النحو أن (فعال) في جميع أقسامه معدول، ولذلك أتى به الناظم في (باب العدل) وإذا ثبت أنه معدول فهو أيضا معرفة، كان للأمر أو لغير ذلك. وقد بين ذلك سيبويه، ونص عليه بقوله: وإذا كان جميع هذا نكرة، يعني ما سمي به من أقسام (فعال) انصرف كما ينصرف (عمر) في

النكرة، لأن (فعال) لا يجيء معدولا عن نكرة. فقوله: "إن هذا لا يجيء معدولًا عن نكرة" دليل على أن (فعال) في جميع أحوالها معرفة. وثبت أيضا أنه كلها مؤنثة، استدل سيبويه على ذلك بأشياء كثيرة. وبسط المسألة الشلوبين في "كتاب الأسئلة والأجوبة" بما فيه مقنع، فحصل من جميع ذلك أن (فعال) قد اجتمع فيه العلتان، التعريف والعدل، وثالثة وهي التأنيث. وكل علم مؤنث: فالحجازيون يبنونه على الكسر، وبنو تميم يعربونه ممنوع الصرف، كما ذكر الناظم، فيقتضي ذلك كله أن (فعال) إذا كان للأمر، نحو: (نزال) فيه للعرب وجهان من حيث ثبت أنه علم لمؤنث معدول. وكذلك باقي الأقسام، نحو: حلاق، وحماد، ولكاع، وهذا غير صحيح، لأنهم متفقون على لزوم الكسر فيما سوى (رقاشِ) ونحوه من أسماء المؤنث. فإذا سمي بـ (نزالِ، أو حمادِ، أو بدادِ) امرأة كان كـ (رقاشِ) فإن بقي على أصله فلا خلاف في لزوم البناء على الكسر. وقد قال في "التهسيل": واتفقوا على كسر (فعالِ) أمرًا أو مصدرًا أو حالًا أو صفةً جارية مجرى الأعلام، أو ملازمة للنداء. والسؤال الثاني: أنه أطلق القول في اللغتين معًا، وأن تميما تعربه مطلقا عند التسمية به، والحجازيون يبنونه مطلقا. أما بالنسبة إلى الحجازيين فالإطلاق صحيح. وأما بالنسبة إلى بني تميم فغير صحيح، لأنهم يفرقون بين ما آخره راء وغيره، فما آخره راء يوافقون فيه الحجازيين، حرصًا على الإمالة، نحو: حضار، وسفارِ، ووبارِ، ويسارِ.

وما آخره غير راء فهو الذي يعربونه غير منصرف. وأين هذا من كلام الناظم؟ فيقتضي أن نحو (سفارِ) معرب عند بني تميم مطلقا، وليس كذلك. والجواب عن الأول أن قوله: "علمًا" يبين أنه لا يريد إلا ما سمي به مؤنث. وبيان ذلك: أن (فعال) تقرر في السؤال أنه في أصل وضعه معرفة معدول، وإذا كان كذلك فكان اجتزاؤه بأن يقول: "وابنِ على الكسر فعال مطلقًا" كافيًا، لأنه على تقدير: وفي كل نوع كذلك، فصارت فائدة قوله: "علمًا" ساقطة. وكذلك قوله: "مؤنثًا" لأنه قد تقرر تأنيثه، ولما كان قد حافظ على ذكر قيد العلمية والتأنيث، دل ذلك على قصد إليهما، وتعريف بمعنى لا فيهما، وما ذاك إلا ما كان عند التسمية. وأيضا، فلفظ العلم إنما الغالب في استعماله ما كان مسمًى به، وواقعًا على الأناسي، وما يألفون ذلك ثانٍ عن أصل الوضع، فليس معنى كونه علمًا مؤنثًا إلا كونه مسمًى به، وذلك يشمل ما سمت العرب به، نحو: حذامِ، ورقاشِ، وما سمينا نحن به من سائر الأقسام. وهنا يظهر لقيد التأنيث فائدة هي مقصودة للناظم أيضا، وهي حاصلة من مفهوم تلك الصفة، أن هذه الأشياء إذا كانت علما لمذكر فلا يكون حكمها البناء؛ بل غيره. وقد تقدم اشتمال القاعدة الأولى من العدل عليه، فهو إذًا مما يمتنع صرفه مطلقًا في لغة الحجازيين ولغة التميميين معًا، وهذا هو الأشهر فيه.

وقد حكي الصرف وهو ضعيف، فإذًا لا إشكال في كلام الناظم على هذا. والجواب عن الثاني: أن بعضهم حكى عن بعض بني تميم طرد القاعدة في (فعال) مطلقا، فيما آخره راء، وفي غير ذلك. وأجاز ذلك سيبويه، قال: وقد يجوز أن ترفع وتنصف ما كان في آخره الراء، وأنشد قول الأعشي: ومر دهرٌ على وبارِ ... فهلكت جهرة وبارُ لكن الأشهر عندهم فيما آخره راء موافقة الحجازيين، فكأنه لما رآهم مختلفين فيه أطلق فيهم القول بطرد القياس، وهو صحيح في الجملة، إلا أن الأولى بيان ذلك لو اتفق. وبقي الكلام في وجه بناء ما بني من ذلك. أما (فعال) في الأمر فقد تقدم له في "المعرب والمبني" وجه ذلك، وهو شبه الحرف في النيابة عن الفعل، من غير أن يكون معمولا لعامل، فأشبه "إن" وأخواتها، وذلك في قوله: "وكنيابة عن الفعل بلا تأثر". وتقدم مذهب من ذهب إلى أن البناء فيها لتضمن معنى لام الأمر، وحمل اسم الفاعل الخبري على الأمري. وما ذكره أولى وأجرى في القياس. وأما ما عدا ذلك من الأقسام فإنما بني بالحمل على الأمر، لشبهه به في التأنيث والعدل والتعريف، لأن البنية مؤنثة فيها كلها، ومعدولة عن حدها فيها، ومعرفة كذلك. فلما شابهتها هذا الشبه عوملت معاملتها في البناء. والدليل على أن البناء للشبه بـ (فعال) التي للأمر أنه حيث كثر الشبه لم يكن فيه إلا البناء،

لغةً واحدة، وحيث نقص كان فيه اللغتان، وذلك إذا سمي بواحدة منها. وذلك أن غير العلم منها فيه الدلالة على المصدر كالتي للأمر، فـ (فعال) في المصدر شديدة الشبه بـ (نزال) و (فعال) في الصفة شديدة الشبه بـ (فعال) في النداء، وقد وجب البناء لهما. و (فعال) في النداء شديدة المشبه بالأمر، فإذا وقعت التسمية بعد الشبه فأعرب غير منصرف. وإنما وافق التميميون الحجازيين فيما آخره راء حرصًا على الإمالة، لأن إجناح الألف، أي إمالتها، أخف عليهم، ليكون العمل من وجه واحد، فأرادوا الخفة، وعلموا أنهم إن كسروا الراء وصلوا إلى الإمالة لأجل الكسر، فإن رفعوا أو نصبوا لم يصلوا إليها، فألزموه الكسر لذلك، وهو تعليل الخليل. وقد تم كلامه في المعدول. ثم ذكر حكما آخر يعم جميع أنواع هذا القسم، فقال: "واصرفن ما نكرا" إلى آخره، يعني أن كل ما أثر فيه التعريف، فكان فيه منعا معتبرا ومؤثرا، بعد أن كان الاسم مصروفا قبل التعريف، فإنه إذا نكر بعد تعريفه انصرف، وعاد إلى ما كان عليه قبل التعريف. فتقول في المركب: رأيت معديكرب ومعديكربًا آخر.

وفي ذي الألف والنون: مررت بعثمان العاقل وبعثمانٍ آخر، ومررت بطلحة وطلحةٍ آخر، ورأيت زينب وزينبًا أخرى، ومررت بإسماعيل وإسماعيلٍ آخر، وكذا إلى آخر ما ذكر. فإن قلت: إن ما تقدم، مما يمتنع فيه الصرف مطلقا، تؤثر فيه العلمية [مع أنه إذا نكر لا ينصرف، كما إذا سميت بـ (ثلاث ورباع وأخر) ونحو ذلك، فإنه إذا سمي به أثرت العلمية لمنافاة الوصف لها، وكذل كل ما منع من الوصف، كبناء (أفعل) وزيادتي (فعلان)، فلم يبق مع العدل أو مع الوزن أو مع زيادتي (فعلان) إلا العلمية، فأثرت، ولولاهن، لانصرف مع فرض زوال الوصفية، وإذا كان كذلك اقتضى أن ذلك كله ينصرف في النكرة، وذلك غير صحيح لما تقدم ذكره من رجوعه لشبه الأصل الذي هو كونه وصفا. فالجواب أن العلمية لما لم يظهر لها أثر [في الظاهر؛ إذ كان الاسم قبل التسمية ممنوع الصرف، ثم بعد التسمية كذلك عدها فيه كأنها لم تؤثر أصلا، وهو قد قال: "من كل ما التعريف فيه أثرا"] فخرج بهذا الاعتبار ما تقدم من تأثير العلمية. أو يكون المعنى في قوله: "في كل ما التعريف فيه أثر" أي: ما كان التعريف مختصًا بالتأثير فيه، وعلى هذا التقدير لا إشكال فيه. ثم لما كان مذهبه في (جوارٍ) ونحوه أنه في الرفع والخفض منون بين أن هذا مطرد فيما كان مثله مما يزول بإعلاله سبب المنع فقال:

وما يكون منه منقوصا ففي ... إعرابه نهج جوارٍ يقتفي الضمير في "منه" عائد على ما قدم مما أثرت فيه العلمية، يعني أن ما يكون من الأسماء التي أثرت فيها العلمية منقوصا، وهو ما آخره ياء قبلها كسرة، فإنك تحكم فيه بحكم (جوارٍ) المتقدم، وتسلك في ذلك سبيله، فتجعله في حالة الرفع وحالة الخفض منصرفا، والتنوين فيه تنوين عوضٍ لا تنوين صرف، كما تقدم في مسألة (جوارٍ) قبل هذا. فإذا سميت امرأة بقاضٍ، أو شجٍ شبحٍ، أو عمٍ، زو مرامٍ، أو نحو ذلك صرفته الرفع والجر، أي ألحقته التنوين عوضًا من المحذوف، سواء أقلت: إنه عوض من ذهاب الحركة أم عوض من الياء على ما مضى في التعليلين، فهما يجريان في هذا الموضع فتقول: هذا قاضٍ، ومررت بقاضٍ، ورأيت قاضي يا هذا، وكذلك هذه شجٍ، وهذه عمٍ، ورأيت شجي وعمي يا هذا، وكذلك باقي الباب. وتقول في (جوارٍ) اسم رجل أو امرأة: هذا جوارٍ، ومررت بجوارٍ، ورأيت جواري قبل. وتقول إذا سميت بـ (يغزو، ويدعو): هذا يغزٍ، وهذا يدعٍ، ومررت بيغزٍ ويدعٍ، قلبت أولا الواو ياء، لأن الواو المضموم ما قبلها لا تقع في أواخر الأسماء المعربة، وإن اقتضى ذلك قياس رفض، فصار كـ (يقضي، ويرمي) مسمًى به. وأنت تقول فيه: هذا يقضٍ، ومررت بيقضٍ، وهذا يرمٍ، ومررت بيرمٍ، فكذلك ما آخره واو إذا صار إلى الياء.

وعلى الجملة، فكل ما سمي به مما آخره ياء قبلها كسرة، وكان التعريف قد منع صرفه، فإنه في الرفع والجر مثل (جوارٍ) والعلة الموجبة لذلك في (جوارٍ) هي الموجبة في هذا كله. كما ذكر، والتنوين تنوين عوض، وليس بتنوين صرف، لأنه لو كان تنوين صرف لأدى إلى أن يكون التعريف والتأنيث في نحو (قاضٍ) اسم امرأة غير موجب لمنع الصرف، وهذا باطل باتفاق. وقد تقدم بيان هذا، وبيان أن مذهب الناظم إنما هو أن التنوين عوض لا تنوين صرف، لإحالة هذا الفصل على ذلك في الحكم، وأنه منتهج نهجه، وجار على سبيله. وأما النصب: فحكمه حكم الصحيح، لأنه لما كانت الحركة ظاهرة فيه، غير مستثقلة على الياء، صارت الياء في قولك: رأيت جواري قبل، ورأيت يرمي، ويقضي، وقاضي، كدال (مساجدَ ويزيدَ) ونحو ذلك، وهو مفهوم قول الناظم في تقييده الإتيان بالتنوين بالرفع والجر. وما تقرر هنا هو مذهب الخليل. وأما يونس: فوافق في الجمع وخالف في المفرد، وزعم أن نحو (جوارٍ) إذا سمي به، فإنه يجري مجرى الصحيح، يعني في عدم حذف الآخر، فتقول: هذا جواري يا فتى، بإثبات الياء، ورأيت جواري، ومررت بجواري، فتظهر فتحة الخفض، كما تظهرها في الصحيح، وكذلك ما سمي به من نحو: قاضٍ، وغازٍ، ويرمي، وغير ذلك مما تقدم. فتقول: هذا قاضي، ورأيت قاضي، ومررت بقاضي.

وكذلك هذا يرمي، ورأيت يرمي، ومررت بيرمي، إذا كان اسمًا لمؤنث. وهذا مذهب عيسى والكسائي. حكى ذلك السيرافي. ولم يرتضه الناظم، فلم يبن عليه حكما. وقد رد الخليل على يونس قوله بأنه لو كان من شأنهم أن يلزموا الحركة حالة الجو، فيجرونه مجرى الصحيح- لكان من حقهم أن يلزموا الحركة في حالة الرفع أيضا، فكما يلزمهم أن يقولوا: مررت بقاضي، اسم امرأة، فكذلك يلزمهم أن يقولوا: هذا قاضي؛ إذ كانوا يجرون المعتل هنا مجرى الصحيح، وكذلك حكم التسمية بالجمع، لا فرق بينهما، وذلك لأن العرب تفتح الياء في الجر عند الضرورة، وتكسرها أيضا عند الضرورة. فأما الفتح: فنحو قول الهذلي، أنشده سيبويه:

أبيت على معاري واضحات ... بهن ملوب كدم العباط وأنشد أيضا للفرزدق: فلو كان عبد الله مولًى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا وأنشد أيضا، وهو مما استشهد به يونس: قد عجبت مني ومن يعيليا ... لما رأتني خلقًا مقلوليا وأما الكسر: فنحو ما أنشده أيضا لابن قيس الرقيات:

لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطلب وأنشد أيضا لجرير في نحوه: فيومًا يوافين الهوى غير ماضي ... ويومًا ترى منهن غولًا تغول فكما أن العرب لا يفتحون إلا إذا اضطروا، ولا يظهرون الكسر أيضا إلا إذا اضطروا، ويونس يفتح في الكلام، فكذلك حقه أن يكسر في الكلام، ويضم في الرفع أيضا، وهذا لا يقوله عربي بالقياس أصلًا، ويزيد الجمع زيادةً أخرى إذا سمي به، لو حكم له في الجر بحكم الصحيح لكان لازما لهم ذلك فيما قبل التسمية، فيقولون: مررت بجواري قبل، لأن ترك التنوين في النكرة والمعرفة على حد واحد، وهذا لا تقوله العرب في السعة أصلًا. وما أنشده يونس شاهدًا من قوله: * قد عجبن مني ومن يعيليا *

فمن باب ما تقدم. وقوله: "نهج جوارٍ يقتفي". النهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهج والمنهاج. وقفوت أثره قفْوًا وقفُوًا، واقتفيته، وتقفيته، إذا اتبعته، أي تتبع في إعرابه طريق (جوارٍ) المتقدم. ولاضطرارٍ أو تناسب صرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف هذه تكملة تكر على الباب، ويعني أن ما شأنه أن لا ينصرف لكون المانع موجودا قد يوجد منصرفًا مع وجود ذلك المانع، وإنما يكون ذلك لسببٍ أهمل لأجله سبب المنع، والسبب الموجب لذلك أمران على ما ذكره: أحدهما: الاضطرار، وهو أن يكون الوزن لا يستقيم للشاعر إلا بصرف ما لا ينصرف، فهذا سبب موجب، رد به الاسم إلى أصله، لأن أصله الانصراف، وهو في الشعر كثير جدا، وذلك كقول امرئ القيس: ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي وقال النابغة الذبياني:

فلتأتينك قصائد وليركبن ... جيش إليك قوادم الأكوار وقال الآخر: فأتاها أحيمر كأخي السهم ... بعضبٍ فقال كوني عقيرا وأنشد سيبويه للعجاج: * قواطنًا مكة من ورق الحمي * وقال الآخر: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب

وقال الآخر: ما إن رأيت ولا أرى في مدتي ... كجواريٍ يلعبن في الصحراء وقال النابغة الذبياني: علي لعمروٍ نعمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالده ليست بذات عقارب وقال أيضا: وثقت له بالنصر إذ قيل قد غرضت ... كتائب من غسان غير أشائب إطلاق الناظم في صرف ما لا ينصرف يدل على موافقة الجماعة في موضعين: أحدهما: عدم إخراج (أفعل التفضيل) من هذه الكلمة، خلافًا للكسائي وتلميذه الفراء في قولهما: إن (أفعل منك) لا يصرف، واستدلوا بأن (من) هي المانعة له من ذلك.

قال السيرافي: وهذا فاسد، بدلالة قولهم: خير منك، وشر منك، وإذا كان كذلك دل على أن مانعه ليس وجود (من) بل الصفة والوزن، كأحمر وأصفر. والصرف هنا لا يكون بالتنوين وحده إلا في المرفوع والمنصوب. وأما المجرور: فإنما يكون بالجر بالكسرة والتنوين معا، سواء أقلنا: إن المانع منع الجر والتنوين معًا أم قلنا: إنه مع التنوين فقط، وزال الخفض بالكسرة لعلة أخرى على حسب اختلافهم في ذلك. أما على قول من قال: إنما امتنع الجر لئلا يلتبس بالمضاف إلى الياء المحذوفة فظاهر. وأما على القول الآخر: فكذلك، لأن التنوين لا يتبع في الجر إلا الكسرة، فلا يقال مثلا: * ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة * ولا ما أشبه ذلك. والموضع الثاني: موافقتهم في صرف ما آخره ألف مما لا ينصرف كغيره، خلافًا لابن عصفور، حيث زعم أنه لا يجوز صرفه، لأنه لا فائدة فيه، لأنه إذا نون حذفت الألف لالتقاء الساكنين، فسقط منه مثل ما رد إليه، فلم يقع فيه زيادة، ولا يمكن أيضا تحريك الألف فيكون كقوله:

* عصائب طير تهتدي بعصائب * فلا يمكن الزايدة ولا البدل، ولأجلهما صرف ما لا ينصرف في الضرورة. قال ابن الضائع: مثل هذا لا ينبغي أن ينبه عليه لو كان صحيحا، فقد يقول القائل: يمكن أن يكون له فائدة، وذلك أنه قد يكون بعد تلك الألف [ساكن فيجب حذف الألف، فإذا نونا الاسم حركنا التنوين لالتقاء الساكنين، فزدنا حرفا متحركا، وكذلك يمكن أن يكون بعد الألف] همزة، فإذا نونا نقلنا حركة الهمزة إلى التنوين، فسقط حرف، وعلى هذا يكون في صرف ما لا ينصرف زيادة تؤول إلى نقص. انتهى ما نصه ابن الضائع. وهذا التقرير قد يضاده ما تقدم في (باب النداء) في تنوين المنادى ولكن قد يقال: إنه لم يقصد فيه الكلام على ما آخره ألف؛ بل يكون ما تقدم مشعرا بارتضائه مذهب ابن عصفور، لأن كلامه هنالك مقيد، وكلامه هنا مطلق، والمقيد قاضٍ على المطلق عند المحققين. ومعنى ذلك أنه قد تقدم وجه منعه لتنوين المنادى المبني إذا لم يظهر فيه الضم، وأن ذلك لا فائدة فيه. وهذه المسألة بعينها جارية في غير المنصرف إذا أريد تنوينه، وهو عين احتج به ابن عصفور، فكأن الناظم رآه دليلًا واضحا فقال بمقتضاه.

وما ألزمه ابن الضائع لا يلزم، فإن الغالب في معهود الضرورات أن لا زيادة في لحاق التنوين ما آخره ألف ولا نقصان، وما صوره أمور اتفاقية نادرة لا تلتفت العرب إلى مثلها، فلا ينبغي أن يعول عليها. وإذا أمكن هذا لم يكن بين الموضعين في كلام الناظم تعارض. والأمر الثاني الموجب لصرف ما لا ينصرف: التناسب، وهو أن ينونن لموازنته لمنون ليس فيه موجب للمنع، وهذا لا يقع إلا في الكلام المسجع، لأن الكلام المسجع يجري في الحكم مجرى الشعر المقفى. ألا ترى أنه قد جاء حرف الإطلاق في السجع، قال الله تعالى: {وتظنون بالله الظنونا}. فأتى بالألف للإطلاق، كما قال الشاعر: * ظننت بآل فاطمة الظنونا * وكذلك قول الله تعالى: {يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا}. وبعد ذلك {فأضلونا السبيلا}. فإنما هذا لمناسبة ما قبل ذلك وما بعده، من الوقف على الألف المبدلة من التنوين، فكذلك يصرف ما لا ينصرف لمناسبة المنصرف. ومنه قوله تعالى: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلًا وأغلالًا وسعيرًا} وكذلك قوله: {كانت قواريرًا. قواريرًا من فضةٍ قدرها تقديرًا}.

قرأ ذلك كذلك نافع وأبو بكر وهشام والكسائي. ووجه ذلك ظاهر، فـ (سلاسلًا) نون لمناسبة مجاوره، وهو (وأغلالًا وسعيرًا) و (قواريرًا) الأول: لمناسبة الفواصل، والثاني: لمناسبة الأول، وهذا ظاهر. وقول الناظم: "أو تناسبٍ" يشعر أن التناسب هو العلة في صرف ما لا ينصرف. وكذلك: "ولاضطرارٍ" مشعر بأنه العلة في صرفه، ويستوي في ذلك النثر والنظم. وقد حكى ابن جني أن المتنبي أنشده قوله: وقد صارت العينان قرحى من البكا ... وصار بهارًا في العيون الشقائق قال: فقلت له: هلا قلت: "قرحًا من البكا" بصرف "قرحًا" لتناسب قوله في المصراع الثاني: "وصار بهارًا" قال: فاستحسن المتنبي ذلك. وهذا النوع من الصرف جائز، وهو رأي الجمهور. وقد زعم بعض النحويين أن صرف ما لا ينصرف مطلقًا لغة، وحكى الكسائي أن بعضهم يصرف كل ما لا ينصرف إلا (أفعل منك) وقال الأخفش:

سمعنا من العرب من يصرف هذا، ويصرف جميع ما لا ينصرف. وقال: هذا لغة الشعراء، لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك، واحتملوا ذلك في الشعر لأنه يحتمل الزيادة، كما يحتمل النقصان. وهو الذي حكوا، من أنها لغة، لم يثبت، ولا عرف في كلام العرب أن مثل هذا يكون في الكلام إلا للتناسب. وأما الشعر: فمحل الضرورة، فلا تثبت به لغة. ثم قال: "والمصروف قد لا ينصرف" يعني أن الاسم المنصرف الباقي على أصله قد تمنع العرب صرفه، وإن لم توجد فيه علتا المنع، لكن ذلك قليل، دل على ذلك بـ "قد" في قوله: "قد لا ينصرف" وأكثر ما جاء هذا النوع في الأعلام، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي: فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وقال الآخر: وممن ولدوا عامر ذو الطول وذو العرض

ولا يريد القبيلة، لأنه قال: "ذو الطول وذو العرض" فوصفه بـ "ذو" التي للمذكر. وقال الاخر: ومصعب حين جد الأمر أكثرها وأطيبها فمرداس، وعامرٌ، ومصعبٌ: لا مانع فيها من الصرف إلا العلمية، وهي لا تمنع وحدها. وقال دوسر بن دهبل القريعي: وقائه ما بال دوسر بعدنا ... صحا قلبه عن آل ليلى وعند هندِ وقال حسان بن ثابت- رضي الله عنه-: نصروا نبيهم وشدوا أزره ... بحنين يوم تواكل الأبطال وقال الآخر، وهو عند ابن الأنباري منسوب إلى الفرزدق، ونسبه الجوهري إلى ابن أحمر:

إذا قال غاوٍ من تنوخ قصيدة ... بها جرب عدت على بزوبرا وزوبر الشيء: كماله، يقال: أخذت الشيء بزوبره، أي أخذته كله، ولم أدع منه شيئا. وقال الآخر: قالت أمامه ما لثابت شاخصًا ... عاري الأشاجع ناحلًا كالمنصل إلى أبيات غير هذه، ذكرها ابن الأنباري في "الإنصاف" وأكثرها أعلام، وكأنهم راعوا العلمية في منع الصرف وحدها للضرورة، كما أهملوها أيضًا للضرورة. والناظم لم يلتزم في المسألة مذهبا معينًا، وإنما أخبر بما جاء في السماع خاصة؛ إذ ما جاء من ذلك ظاهرٌ فيما قال من منع صرف المنصرف، ويصعب تأويل جميع ما جاء منه. والمسألة مختلف فيها على قولين:

أحدهما: جواز منع صرف المنصرف للضرورة، وهو مذهب الكوفيين، ورأى الأخفش وابن برهان من البصريين، ونقل عن الفارسي، وارتضاه ابن الأنباري. وذهب جمهور البصريين إلى المنع، وهو مذهب الفارسي في "التذكرة". فأما الكوفيون فحجتهم القياس والسماع. فأما القياس: فإنه لما جاز صرف ما لا ينصرف اتفاقًا، وهو خلاف القياس، جاز أيضا العكس؛ إذ لا فرق بينهما في هذا. وأما السماع فما تقدم. وأما البصريون فحجتهم أن صرف ما لا ينصرف إنما جاز في الضرورة، لأنه من أصل الاسم، والاسم غير المنصرف مستحق لأحكام الأسماء، من الإخبار عنه ونحو ذلك من أحكام الأسماء المختصة بها، فإذا اضطروا ردوه إلى أصله، وإن لم ينطقوا به في حال السعة، كما لم ينطقوا بنحو (ضننوا) في حال السعة، بخلاف منع المنصرف لأنه ليس من أصل الاسم ألا ينصرف، فمن أجاز ذلك كان مخطئًا مجيزًا لما لا دلالة عليه.

وأما السماع فلم يبلغ في الكثرة مبلغًا يقاس عليه بسببها، وأكثر ما جاء في الأعلام، حتى إن "السهيلي" ذهب إلى جواز ذلك في الأعلام دون غيرها، وهو مذهب ثالث في المسألة، والكوفيون إنما أجازوا ذلك في كل شيء، فهم محتاجون إلى السماع والكثرة فيه، وذلك غير موجود. وقد أورد الفارسي في "التذكرة" على أصل مذهب البصريين سؤالا لم يجب عنه، وهو أنه قال: أفيجوز في الضرورة ألا أعرب الفعل المضارع، لأن الأصل كان فيه ألا يعرب، كما كان الأصل في الاسم أن يصرف، فإذا لم أعربه رددته إلى الأصل في الضرورة، كما رددت الاسم إلى الصرف في الضرورة. واستشهد على ذلك بما أنشده من قوله: * فاليوم أشرب * وقول جرير:

* ولا تعرفكم العرب * ونحو ذلك. قيل: أما الأبيات فليس بدليل قاطع، لأنه يجوز أن يكون أجراه في الوصل مجراه في الوقف، مثل (سبسبا) وبقي النظر في: هل يجوز ألا يعرب. هذا ما قال، ولم يجب عنه، وكأنه إشكال على مذهب البصريين، لكن الجواب عنه يظهر بأدنى نظر. ولما رأى الناظم المسألة نظرية لم يلتزم فيها مذهبا؛ بل أخبر بالسماع فقط وقبله، وسلمه تنكيتًا على من تهجم من النحويين البصريين على رد روايات رواها الكوفيون، وتكذيب ناقليها فيها؛ إذ ليس هذا شأن العلماء، كقولهم: الرواية في بيت العباس: "يفوقان شيخي أو شنجي" والراد له هو المبرد.

قال المؤلف في "الشرح" وللمبرد إقدام في رد ما لم يرو، كقوله في قول العباس بن مرداس، ثم أنشد البيت: الرواية: * يفوقان شيخي * مع أن البيت بذكر مرداس ثابت بنقل العدل عن العدل في "صحيح البخاري"، وذكر "شيخي" لا يعرف له سند صحيح، ولا سبب يدينه من التسوية، فكيف من الترجيح؟ ذكره المؤلف حيث نقل رد المبرد رواية سيبويه: * وأضحت منك شاسعة أماما * وما قاله هو الحق، ومن علم حجة على من لم يعلم، ورواية لا تقدح في رواية أخرى، لأن الجميع عن العرب؛ إذ لا يسوغ نسبة الناقل، إذا كان عدلًا، إلى الكذب أو الوهم إلا ببرهان واضح، وإلا فالظاهر الصدق. وكذلك قالوا في بيت دوسر: الرواية: * وقائلة ما للقريعي * وهذا رد غير مسموع، اللهم إلا أن يقدح في الشاهد من جهة الدلالة باحتمال غير ما قال الخصم، فهناك يسلم إن كان ظاهرا أو غير مرجوح بالنسبة إلى الدعوى.

إعراب الفعل

إعراب الفعل ارْفَعْ مُضَارِعًا إذَا يُجَرَّدُ ... مَنْ جَازمٍ ونَاصِبٍ كَتَسْعَدُ قد تقدَّم في أول الأُرجوزة أن الفعل المضارع معرب إن عَرِيَ من نون توكيد مُبَاشِر، ومن نون جماعة المؤنَّث، ومَرَّ بيانهُ هنالك. وتقدَّم أيضا أن إعرابه: رفعٌ، ونصبٌ، وجَزْمٌ، كما أن إعراب الاسم رفعٌ ونصبٌ، وجَرٌّ، ومَرَّ إعراب الاسم وما يتعلق به. فأخَذ هنا في الكلام على إعراب الفعل، وابتدأَ بالرَّفْع لأنه الأصل، ويعني أن الفعل المضارع إذا تجَّرَد من الناصب والجازم فأنه يرفع حينئذ، فتقول: أنتَ تَسْعَدُ، وزيدٌ يَسْعَدُ، ويَخرُجُ أبو عبدالله، وما أشبه ذلك. وأتى بالتجَّريد عن الناصب والجازم على مَساق الشَّرْطية، لأنه قال: ارفعْه إذا تجدَّد، فيَحتمل أن يكون قد جَعل التعرِّيَ هو نفسَ الرافع للفعل، فيكون مذهبه هنا مذهبَه في «التسهيل» لأنه جعل التعرِّيَ هو الرافع، فقال: يُرفع المضارع لتعرِّيه من الناصب والجازم، لا لوقوعه موقعَ الاسم خلافًا للبصريين. ويَحتمل أن يكون قد جَعل التعرِّيَ شرطًا في الرفع لا عاملًا، كأنه قال: ارفعْه بشرط التعرِّي، فيكون الرافع مسكوتا عنه في كلامه، وإنما ذكَر الشرطَ في ارفع ولم يَذكر السبب فيه، لأن الشرط أكيدُ الذكِّر، وليس

السبب عنده بأكيد الذِّكر، وأيضا فالشرط مُتَّفَق على اعتباره. وقد قيل: إنه الرافع، والسبب مختلَف فيه، وهو بعد في مَحل الاجتهاد، فسَكَت عن تعينه إبقاءً للناظر فيه. وقد اختُلف في الرافع هنا على ثلاثة أقوال: أحدهما: ما ذهب إليه في «التسهيل» من أنه التعرِّي من الناصب والجازم، وهو مذهب الفَرَّاء وأصحابه. والثاني: أنه ارتفع لوقوعه موقعَ الاسم، وهو مذهب سيبويه والجمهورِ من البصريين. والثالث: أنه ارتفع بالزوائد الأربع التي في أوله، وهو أضعفُها وأشدُّها مخالفةً للقياس والسماع. والذى نَكَّت عليه، إن كان أراد أن التعرِّيَ هو الرافع، هو مذهب البصريين. ووجه التَّنْكيت أن الرافع لو كان الوقوعَ موقعَ الاسم لَمَا ارتفع بعد (لَوْ) ولا بعد حرف التحضيض، لأنها مختصة بالأفعال، فليس المضارع بعدها في موضع اسم، فالرافعُ، على قولهم، في هذا معدوم، ولا يقال: إن المراد بوقوعه موقعَ الاسم وجودُ ذلك فيه على الجملة، وأنت تعلم أن الاسم قد يقع بعد (لَوْ) وحرف التحضيض نحو: «لَوْ ذَاتُ سِوَارٍ لَطَمَتْنِي».

وقوله: *فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُهَا* فالوقوع موضعَ الاسم حاصل - لأنا نقول: لا يخلو مرادُكم بالوقوع موقعَ الاسم من أن يكون / بمعنى أن الموضع للاسم في الأصل أو في الاستعمال، أو ما هو أعمُّ من هذا. فالأول: مُنْتَقِض بالرفع بعد حروف التخصيص لأنه ليس للاسم في الأصل. والثاني منتقض بالرفع بعد (كاد) فإنه ليس للاسم في الاستعمال. والثالث: منتقض بالجزم بعد (إنْ) الشرطية، فإنه موضعٌ صالح للاسم في الجُمْلة، نحو: إنْ زيدٌ قامَ أكرمتُه. وإذا بَطَل على كل تقدير صَحَّ أن الرافع له ما تقدَّم. وهذه الأدلَّةُ من ابن مالك غيرُ واردة على مَقْصدِ سيبويه في الوقوع موقعَ الاسم، فانظره لابن خروف في «شَرْح الكتاب» فليس بنا حاجة إلى الإطالة بذكره. والمسألة على الجملة لا يَنْبني عليها حكم، فالأمر فيها قريب. ثم أخذ في ذكر النواصب فقال: وبَلَنِ انْصِبْهُ وُكَىْ كَذَا بِأَنْ ... لا بَعْدَ عِلْمٍ والَّتِى مِنْ بَعْدِ ظَنْ

فَانْصِبْ بِهَا والرَّفعَ صَحِّحْ واعْتَقِدْ ... تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ فَهْوَ مُطَّرِدْ وبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلًا عَلَى ... مَا أُخِتَها حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلاَ ذكر الناظم نواصبَ أربعة وهي: لَنْ، وكَىْ، وأَنْ، وإذَنْ، وهي التى تَنصب بنفسها. وما عداها غيرُ ناصب نفسه، كحَتَّى، والواو والفاء في الأجوبة الثمانية، وأوْ، بمعنى (إلاَّ) فهذه وما أشبهها مِمَّا نُصب، الفعل بعدها منصوبٌ بإضمار (أنْ) لا بنفس ذلك الحرف على حَسَب ما يَذكره إثْرَ هذا. والضمير المنصوب في «انْصِبْهُ» عائدٌ على الفعل، أي انصبه بهذه الحروف المذكورة. أما «لَنْ» فينتصب الفعل بعدها بها لابغيرها، فتقول: لَنْ يُكْرِمَكَ زيدٌ، ولَنْ يُهِينَكَ عمروُ. وجَعْلُه الناصبِ نفسَ «لَنْ» دليلٌ على اعتقاد مذهب سيبويه أنها ليست بمركَّبة من (لاَ أَنْ) كما يزعمه الخليل، فإن النصب على مذهبه يكون بـ «أنْ» وحدَها لا بـ «لَنْ» بجُملتها. والمختار ما أشار إليه الناظم أنها غيرُ مركَّبة، لأن التركيب على خلاف الأصل، فلا يُدَّعى إلا بدليل، ولا دليل، و (لا أنْ) مع الفعل والفاعل كلامٌ تام، ولو كان أصلها (لا أنْ) لكان الكلام تاما بالمفرد، وهو محال.

ورَدَّه سيبويه بأنه لو كان كذلك لم يتقدَّم معمولُ معمولها عليها، لأن ما في حَيِّز الصلة لا يتقدم على الموصول، و (أَنْ) حرفٌ موصول. وأنت تقول: زيدًا لن أضربَ، وهو جائز، فَدلَّ على عدم تقدير الخليل. وأما «كَىْ» فتنصب أيضا بنفسها، فتقول: جئتُكَ لكَىْ تُكْرِمَنى. ومنه قوله تعالى: } لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}. وقوله: } لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنينَ حَرَجٌ} الآية. ودَلَّ من كلامه على كونها ناصبةً بنفسها عطفُه «كَىْ» على «لَنْ» كأنه قال: وبِكَىِ انْصِبْهُ أيضًا. وهنا إشكال في كلامه/ وهو أنه نَصَّ على نصبها بنفسها مطلقا من غير تَقييد، وذلك غير صحيح، لأن (كَىْ) على وجهين: أحدهما: أن تكون ناصبة بنفسها كما قال، ويتعَّين ذلك إذا دخلت عليها لامُ الجر، نحو الآيتَيْن المتقدِّمتين. والثانى: أن تكون جارَّة لا ناصبة؛ بل يكون نصب الفعل الواقع بعدها بإضمار (أنْ) و (أنْ) والفعل فى موضع اسم هو مجرور «كَىْ» والجرُّ بها ثابت من كلام العرب، فإنها قد وقعت موقعَ اللام مع اسم الاستفهام. قال سيبويه: وبعض العرب يجعل «كَىْ» بمنزلة (حَتَّى) يَعنى حرفَ جَرِّ، وذلك أنهم يقولون: كَيْمَهْ؟ في الاستفهام، فيُعملونها في

الأسماء، كما قالوا: حَتَّامَهْ؟ وحَتَّى متَى؟ ولِمَه؟ ثم أتمَّ الكلام عليها، وأن النصب بعدها بـ (أنْ) مضمرة، لأنه لا وجه في (كَيْمَهْ) إلى حذف الألف غلا أنها مثل اللام في (لِمَهْ) ولا يَدخل هنا اللامُ عليها لأنها حرفُ جَرٍّ مثلُها، وحرفُ الجر لا يدَخل على مِثْله، وإذا كان ذلك ثابتا من كلام العرب كان كلامه هنا بإطلاقه غيرَ مستقيم. والعجَبُ أنه أتَّم الكلامَ عليها في كتبه، وترَك ذكرَ ذلك هنا، إلا أن يقال: إنه ذهب هنا مذهبِ الكسائى في جَعْله «كَىْ» قِسْمًا واحدا، وهى الناصبة بنفسها، وتَأَوَّل (كَيْمَهْ) على أنها منصوبة على مذهب المصدر، كقول القائل: أقومُ كى تقومَ. فسمعه المخاطب ولم يَفهم «تَقُومَ» فقال: كَيْمَهْ؟ يريد: ماذا؟ فالتقدير: كَىْ تفعلَ ماذا؟ فموضع «مَهْ» نصبٌ على جهة المصدر والتشبيه به، وليس لـ «كى» في «مَهْ» عمل، وهو مذهب مَردود لا ينبغى أن يقال به، وحَمْلُ كلام الناظم عليه ضعيفٌ جدا. وقد حَكى الأستاذ - رحمه الله - أن بعض المتأخرين ذهب إلى أن «كَىْ» الداخلةَ على الأفعال هي الناصبةُ على كل حال، سواءٌ تقدمَّها حرفُ جر أم لا، فإن تقدَّمها فلا إشكال في أنها الناصبة، وإذا لم يتقدَّمها كان مقدَّرا قبلها. وأما من جعلها من العرب حرفَ جر فإنه لا يُدخلها على الأفعال أصلا، لأن جَعْل ذلك في (لام كَىْ) و (لام الجحُود) و (حَتَّى) الجارة ينبغى أن يكون موقوفا على السماع، ولو كان ذلك قياسا لجاز أن تقول: عجبتُ مِنْ تُكْرِمَني،

وهذا لك بتَقُومَ، تريد: من أن تُكْرِمَنى، وبأَنْ تقومَ، فإذا لم يكن ذلك قياسا وجب الاقتصار على الموضع الذى قامت الدلالة على أنه من ذلك. قال الأستاذ: وهذا تحقيقٌ في الموضع كان يجب الأخذُ به، لولا أن سيبويه قد أثبت دخول (كَى) الجارَّة على الأفعال. هذا ما حكاه الأستاذ، وما أسْعَده بكلام الناظم حين أَتَى بها في (باب حروف الجر) فدَلَّ ذلك على اختصاصها بالأسماء، وأتى بها هاهنا، فدل على اختصاصها بالأفعال. والدليل على أن هذا رأيه أنه لم يَذكر (كَىْ) فيما يُنصب بعده الفعل/ بإضمار (أنْ) حين أتى بحتى، ولام كى، ولا الجحود، والجوابِ بالفاء، والواو، وأوْ، ولم يأتِ معها بـ (كَىْ) الجارة، كما أتى بها غيرُه مع هذه الأشياء، فهذا يوضِّح أنه ما أراد سواه، ولا قَصد إلا إيَّاه. والقياس يَعْضُده، وذلك أن «كَىْ» ظهر منها أمران: أحدهما: دخولها على الأسماء على حَدِّ دخول حروف الجر، نحو: كَىْ مَهْ؟ كما تقول: حَتَّى مَهْ، ولِمَهْ؟ ولا شك في كونها هنا جارة، ولا تكون جارة حتى تختص بما جَرَّته. والثانى: دخولها على الأفعال المضارعة، فيُنْصب ما بعدها. والأصل أن يُنْسب الفعل إليها حتى يَدل على خلاف ذلك دليل. وأيضا، قد دل الدليلُ الواضح على صحة وقوعها في النواصب، وهو دخول اللام الجارةَّ عليها، نحو: } لِكَيْلاَ تَأْسَوْا}. وهي هنا ناصبة

باتِّفاق. والأصل في العامل ألاَّ يعمل حتى يَختص، فأَنْتج هذا النظرُ غيرَ ما نَقله الأستاذ - رحمه الله - ولا يلزم من ذلك مخالفةُ السماع، ولا إبطالُ القياس، لأن «كى» بهذا الاعتبار لفظٌ مشترَك لموضعين، ولا يُنكر مثل هذا. وقد يُجاب عن السؤال أيضا على مذهب الجماعة ومذهبه في «التَّسْهيل» وغيره أنَّ ما أتى به هنا صحيح، لأنه إنما أتى بـ «كَىْ» الناصبة وحدها، ولم يتعرض للجارة. والدليل على هذا من كلامه أنه ذكر الجارَّة في حروف الجر، وجعلها منها إذ قال: «مُذْ مُنْذُ رُبَّ اللاَّمُ كَىْ وَاوٌ وتَا» فاتى هناك بها حرفَ جر، ومُحال أن يريد أن الجارةَّ هناك هى الناصبة هنا، فلابد من مُبَاينة إحداهما للأخرى، فَتثَبَّت القسمان من كلامه، غلا أنه يبقى نظرٌ آخر. وهو أنه لم يَذكر في الجارةَّ ماهو واجبُ الذكر فيها، من كونها لا تجرُّ غلا تقديرا، فيقع بعدها الفعل مقدَّرا قبله (أنْ) ولا يقع بعدها الاسم الصريح إلا (ما) الاستفهامية. فإطلاقُه أنَّها حرفُ جر، ولم يَذكر لها غير ذلك، يُوهم أن لها حكم سَائرِ الحروف، وليس كذلك، فالإخلال واقعٌ في عدم ذِكْر حكم مجرورها. فلو قال مثلا إذا أخذ في ذكر ما يَنتصب على إضمار (أن): وبَعْدَ كَىْ إضْمَارُ أنْ يَغْلِبُ إنْ جُرٌ بِهَا نحُو ائِتهِ كَيْلاَيَهِنُ أو نحو هذا - لتخلصَّ عن هذا الشَّغْب، فالواجب إذًا حملُه على ما تقدم

قبل هذا. ثم قال: «كَذَا بأنْ لاَبَعْدَ عِلْمٍ» يَعنى أنَّ (أنْ) المفتوحة حكمُها حكمُ (لَنْ) و (كَىْ) في كونها ناصبةً بنفسها، ولا خلاف في هذا، لكنه شَرط ألاَّ تكون (أنْ) بعد العِلْم، وحقيقةُ هذا الاشتراط وما ذكُر معه يُعطى في (أنْ) تقسيمًا، وهو أن (أنْ) على ثلاثة أقسام: أحدها: إلاَّ تقع بعد عِلْم ولا ظَنٍّ، فهذه هى الناصبة للفعل، نحو: جئتُكَ أنْ تُكْرِمَنى، وأعجبنى أن تقومَ} وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ونحو ذلك. ولا تقع غيرَ ناصبة إذا دخلت على المضارع إلا نادرًا، كما سيَذكره، وهو الذى ابتدأ به الناظم. والثانى: أن تقع بعد (العِلْم) فمقتضى اشتراطه ألاَّ تقع الناصبةُ بعدَه دليلٌ على أنها بعدَ العِلْم غيرُ ناصبة للفعل وإن وقعتْ بعده، فتقول: علمتُ أنْ يَقُومُ زيدٌ وعلمتُ أنْ لا يَقُوُم/ زيدٌ، تَرفع الفعل هنا لا غيرُ، إذْ أُخْرِج (أنْ) معه عن النصب جملة، وكونُها بعد العِلْم مخففَّةً من الثقيلة هو السببُ في عدم النصب، على ما يَذكره إثْرَ هذا. ولا يختص هذا الحكم بـ (عَلِمَ) وحدها؛ بل كلُّ ما يُعْطِى معنى العِلْم فُحكْمُه حُكْمُه، نحو: تَيَقَّنْتُ أنْ لاَ يَقُوُم زيدٌ، ورأيتُ أنْ تَخْرُجُ، وتحقَّقْتُ أنْ لا تَقُوُم، ونحو ذلك لقوله: «لاَ بَعْدَ عِلْمٍ» فعَمَّ أفعالَ العِلْم. والثالث: أن تقع بعد (الظنِّ) نحو: ظَنَنْتُ، وحَسِبْتُ، وخْلِتُ،

ورَأَيْتُ، ونحوها مما يُعْطى معنى الظن. فإذا وقعت (أنْ) بعد أحد هذه الأفعال أو نحوها فلك وجهان: أحدهما: أن تَنصب بها ما بعدها، فتقول: حَسِبْتُ أنْ يَقُومَ زيدٌ، وخِلْتُ أنْ تَخْرُجَ. ومنه قوله تعالى: } آلم أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا} الآية. وقوله: } أيَحْسَبُ الإنْسَانُ أن يُتْرَكَ سُدىً} وقوله: } إنْ ظَنَّا أنْ يُقَيمَا حُدُودَ اللهِ} و} تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}. وقَدَّم النصبَ هنا كأنه أرجحُ عنده من الرَّفْع وأكثرُ، ويُشْعر بذلك قولُه: «فَانْصِبْ بِهَا» فأتى بالنصب في مَساق الاعتماد عليه، ثم استدرَك وجهَ الرفع وصَحَّحه، وإلاَّ فكان يقول: «فَانْصِبْ بِهَا وارْفَعْ» وكذلك قال ابن المؤلف في تَكْملة الشرح: «قال: ولذلك اتُّفِق على النصب في: أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا» وكان أكثر القُرَّاء على النصب في قوله تعالى: } وحَسِبُوا أَنْ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وهم غيرُ أبى عمروٍ وحمزةَ والكسائى، والرفع لهؤلاء الثلاثة. والثانى: ألاَّ تنصبَ بها، بل يبقى ما بعدها على رَفْعه، نحو قولك: حَسِبْتُ أنْ لا تَقُولُ ذلك، وظننتُ أنْ لا تفعلُ ذلك. ومنه قوله تعالى: } وَحَسِبُوا أنْ لاَ تَكُونُ فِتْنَةٌ}. على قراءة أبى عمروٍ وحمزةَ

والكسائي. وهما على وجهين مختلفين، أما النصب بعدها فلجريانها على بابها، من عدم التحقيق وثبوت التردد، فصارت كالرجاء ب (عسى) فالوضع ل (أن) الناصبة. وأما الرفع فعلى معنى أنك أثبت ذلك في ظنك، وأدخلته مدخل العلم، وعلى إجرائه مجرى العلم صارت هنا (أن) غير ناصبة، وإلى هذين أشار بقوله: "والتي ومن بعد ظن. فانصب بها والرفع صحح" يعني أن (أن) إذا وقعت بعد الظن فالنصب هو الأكثر، والرفع صحيح جائز. ثم أخذ في بيان وجه الرفع بعدها حيث لم تقع ناصبة فقال: "واعتقد تخفيفها من أن" يعني أن (أن) التي لا تنصب الفعل الواقع بعدها لا ينبغي أن يعتقد أنها هي الناصبة للفعل؛ بل هي غيرها، لأن عامل النصب من شأنه ألا يتخلف عن عمله في موضع من المواضع من غير مانع، وأن يكون مختصا بما يعمل فيه، لا يدخل على غيره كسائر العوامل، فإن شأن العامل أن يكون عاملا على / الإطلاق، ومختصا بما يعمل فيه على اللزوم، إلا ما خرج عن هذا عن أصله، نحو (ما) فإنها تعمل مرة ولا تعمل أخرى، وذلك خلاف القاعدة الأصلية، والقياس المستمر؛ فلا بد أن يعتقد في (أن) هذه التي لم تعمل أنها غير الناصبة، وأنها المخففة من (أن) الناسخة للابتداء، فيقال: إنها لم تعمل] لأنها المختصة بالأسماء فلا تعمل في الأفعال. لكن قد يقول القائل: ما الحامل لكم على هذا التقدير، ولعلها (أن) الناصبة، لم

تعمل هنا [كما لم تعمل في مواضع أخرى كما سيأتي؟ . فأجاب الناظم عن هذا بأن تخفيف (أن) مطرد في كلام العرب، على أن يكون اسمها مقدر لا يبرز إلا في الضرورة، وبيان اطراده قد تقدم في باب (إن) ووقوع الفعل بعد (أن) غير الناصبة للفعل كثير مطرد أيضا، كما تقدم. فالحق أن يحمل المطرد على المطرد، ولا يحمل على أنها (أن) الناصبة للفعل لم تعمل، فإن ذلك ليس بمطرد ولا كثير، بخلاف التخفيف من (أن) وحكمها مبين في موضعه، فلم يحتج إلى ذكره هنا، وعلى أنه كرر حكمها في "التسهيل" في باب (إن) وفي نواصب الأفعال. وإن التكرار ينافي الاختصار. واعلم أن الذي تعرض للكلام عليه من (أن) المخففة من الثقيلة هي التي لم يقع بينها وبين الفعل فاصل سوى (لا) النافية، لأنه إذا وقع بينهما فاصل غير (لا) لم يقع بينها وبين الناصبة للفعل لبس، لأنك إذا قلت: خلت أن سيكون كذا، أو خلت أن لن تقوم- لم يمكن أن تكون هنا ناصبة، لمكان الفاصل الحائل بين (أن) وبين ما كان يمكن أن يكون معمولا لها، فلا يحتاج إلى تفرقة بين المخففة والناصبة في مثل هذا، وإنما يحتاج إلى ذلك حيث يمكن على الجملة أن تعمل (أن) فيما بعدها، وذلك إذا لم يقع بينهما فصل، كقولك: علمت أن تقوم، وخلت أن تخرج، وذلك على الوجه غير الأحسن المنبه عليه في باب (إن) أن يقع من الفواصل ما لا يمنع (أن) من تأثيرها في معمولها، وذلك (لا) نحو: خلت ألا تقوم، وعلمت ألا تخرج، فها هنا يحتاج إلى قانون التفرقة بين (أن) الناصبة للفعل والمخففة من الثقيلة.

ثم قال: "وبعضهم أهمل أن" يعني أن بعض العرب أهمل (أن) فلم يعملها وهي الناصبة للفعل، فيقول: أعجبني أن يقوم زيد، وهو قليل. ومنه ما روى في غير السبع من قوله تعالى: } لمن أراد أن يتم الرضاعة} برفع "يتم" وأنشد السيرافي، ورواه ابن جنى، عن احمد بن يحيى.: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا. وقد يكون منه ما أنشد الفراء من قوله:

أن تهبطين بلاد قوم ... يرتعون من الطلاح ثم أخذ في توجيه هذا الإهمال فقال: "حملا على ما أختها". يعني أنها الناصبة للفعل، أهملت بالحمل على (ما) أختها، وهي المصدرية، لأنها أختان في تأويلهما بالمصدر، فكما أن الفعل إذا وقع بعد (ما) مهمل غير منصوب، فكذلك حملت (أن) عليها فقيل: "أن تقرآنن" ونحو ذلك. وقوله: وحيث استحقت عملا"/. يعني أن هذا الإهمال إنما هو في] موضع استحقت فيه العمل، لا في موضع لا تستحقه فيه، فتحرز من وقوعها بعد علم أو طن، فإنها هناك غير مستحقة على التفسير [المذكور أولا، فليس مخصوصا بهذا البعض الذي حكى عنه. وما قرر من التوجيه هو رأي البصريين، وأحمد بن يحيى من الكوفيين. حكاه عنه ابن جنى في كتاب "التعاقب" له ومذهب الكوفيين في التوجيه: الحمل على أنها المخففة من الثقيلة، أتى بها من غير فصل، وهو مذهب الفارسي، حكاه عنه ابن جنى أيضا في البيت المتقدم: - أن تقرآن على أسماء ويحكما* والأظهر فيه خلافه، لقوله في البيت: - وأن لا تشعرا أحدًا *

فنصب بها، فلو كانت الأولى عنده المخففة لكان من التناسب أن تكون الثانية كذلك. والمذهبان متقاربان. لكن على الناظم هنا درك ما مع ما تقدم له في باب "إن" وذلك أنه قدم في المخففة من الثقيلة أن الأحسن الفصل، ويجوز ترك الفصل قليلا، وذلك في قوله: وإن يكن فعلا ولم يكن دعا. ثم قال: فالأحسن الفصل بقد أو كذا" إلى آخره. ونبه على ما جاء من نحو قوله تعالى: } لمن أراد أن يتم الرضاعة}. ونحو البيتين المنشدين، فظاهره فيما تقدم أنها المخففة، وها هنا نقض ذلك، فحملها على (أن) الناصبة للفعل لا على المخففة والجواب أن الناظم قصده في الموضعين صحيح. فأما قصده في باب (إن) فالإخبار عن المخففة إذا تعين ذلك فيها، وذلك عند وقوعها بعد العلم، أو بعد ما كان نحوه، فلم تتعين الآية ولا البيتان بخصوصها لتمثيل عدم الفصل في المخففة. وإنما نبه على ما يصلح أن يكون مثالا له هنالك، وذلك إذا وقعت بعد العلم أو الظن نحو: علمت أن يقوم زيد، وظننت أن يقوم زيد، ونحو ذلك. وأما القصد هنا فالإخبار عن (أن) التي لا تقع بعد علم ولا ظن، وهو موضع الخلاف. فالكوفيون يحملونه على المخففة، والبصريون على الناصبة للفعل،

فلا تناقض. ووعلى هذا التوهم استظهر بقوله: "حيث استحقت عملا". أي إنما هذا التأويل حيث تستحق العمل، فإن الموضع الآخر حيث لا تستحق العمل متفق عليه، وهذا حسن من التنبيه كما مر تفسيره آنفا. ونصبوا بإذن المستقبلا ... إن صدرت والفعل بعد موصلا. أو قبله اليمين وانصب رافعا ... إذا إذن من بعد عطف وقعا. هذا هو الموضع الرابع من الأدوات الناصبة بأنفسها، وهو (إذن) وهو حرف جواب وجزاء. فقوله: "ونصبوا بإذن" نص في أنها الناصبة بنفسها. وقد حكى المؤلف في "التسهيل" عن الخليل: أن النصب بعدها بإضمار (أن) قال: ابنه: وإنما مستنده فيه قول السيرافي في /أول شرح الكتاب: روى أبو عبيده عن الخليل أنه قال: لا ينصب شيء من الأفعال إلا بأن مظهرة، أو مضمرة في (كي، ولن وإذن) وغير ذلك. قال: وليس في هذا نص، لجواز أن تكون مركبة عنده من (إذ) التي للتعليل و (أن) كما يقول في (لن).

قال: وهذا على ضعفه أقرب من تلك الدعوى. هكذا قال، ولم يدر أن سيبويه حكى ذلك عنه في باب (إذن) ورد عليه، فتأمله. والنصب بعدها بإضمار (أن) مذهب الزجاج أيضا، ورد عليه الفارسي في "الإغفال" بما فيه كفاية، فطالعه ثمة إذ لا حاجة إليه هنا. ثم شرط في عملها النصب شروطا أربعة: أحدها: أن يكون الفعل الذي تنصبه مستقبلا من جهة معناه. فقوله: "والمستقبلا" على حذف الموصوف، أي: ونصبوا بإذن الفعل المستقبل، كقولك لمن قال: آتيك غدا، فتقول: إذن أكرمك. ومن ذلك قول ابن عنمة الضبي: اردد حمارك لا تنزع سويته ... إذن يرد وقيد العير مكروب.

فلو كان الفعل غير مستقبل لم تنصبه (إذن) فتقول إذا حدثت حديثا: إذن أظنه فاعلا، وإذن أظنك صادقا، فرفعت لأنك حالة الإخبار في ظن، فخرجت بذلك عن باب (أن، وكي) لأنهما لا ينصبان إلا المستقبل، وهي مشبهة في العمل بهما، فلا يجوز أن تنصب إلا ما ينصبانه، وهو المستقبل. والثاني من شروط النصب بها: أن تقع صدر الكلام، وذلك قوله: "إن صدرت: والتصدير فيها على إطلاقه، من كونها لا يقع قبلها شيء، لا حرف عطف ولا غيره، لأنه قد ذكر وجهين فيما إذا تقدم حرف العطف. و"إذن" لها ثلاثة أحوال" أن تتقدم، وأن تتأخر، وأن تتوسط. فأما إذا تقدمت: فتنصب، فتقول في جواب ممن قال: آتيك: إذن أحسن إليك، وأما إذا توسطت أو تأخرت: فلا تعمل، فتقول في الجواب: أنا إذن أكرمك، ووالله إذن أكرمك. ومنه قول كثير عزة، أنشده سيبويه: لئن عادلي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها. فقوله: "إذن لا أقيلها" مبني على اليمين، فصار متوسِّطاً.

وكذلك إذا قلت: أكرمك إذن، فأخرت. وقد أنشد بيت حكي فيه النصب بها مع توسطها، وهو قوله: لا تتركني فيهم شظيرا ... إني إذن أهلك أو أطيرا. ومنشده الفراء. وإنما أعملت مبتدأة ولم تعمل على غير ذلك، لأنها أصل وضعها جواب تكفي من بعض كلام المتكلم، كما تكفي (نعم، ولا) فتقول: إن تزرني أزرك، فيقال: إذن أزورك، أي للشرط الذي شرطت، فنابت عن الشرط، وكفت من ذكره. فلما كانت جوابا قويت في الابتداء، لأن الجواب لا يتقدمه كلام. ولما وسطت وأخرت زايلها مذهب الجواب، فبطل عملها. وشببها الخليل ب (أرى) / في أنه إذا تقدم بني الكلام عليه فأعمل. فإذا توسط أو تأخر ألغي لدخوله بعد بناء الكلام على غيره، فصار لغوا، فكذلك (إذن). والثالث من الشروط أن يكون الفعل الذي تعمل فيه بعدها لا قبلها، وذلك قوله: "والفعل بعد" وهي جملة في موضع الحال من ضمير "صدرت"] أي: إن صدرت [(إذن) حالة كون الفعل واقعا بعدها.

وليس هذا الشرط داخلا تحت الأول، لأن (إذن) قد يكون الفعل واقعا بعدها، وهي بعد غير مصدرة نحو: إني إذن أكرمك، وما أشبه ذلك، فإن تقدم الفعل عليها لم يصح نصبه، فلا يجوز أن تقول: يقوم إذن زيد، ويخرج إذن. ووجه ذلك راجع إلى ما تقدم قبل هذا، من أن حقها التصدير، وأيضا، لا يتصرف في معمولها بالتقديم، لأن أختيها وهما (أن، وكي) لا يكون ذلك فيهما، فلا يتقدم معمولها، فكذلك ما حمل عليها، وهو أحرى بذلك، لنقص رتبته عن رتبتهما. والرابع: أن يكون الفعل متصلا ب (إذن) غير مفصول بينهما بفاصل معتد به. وذلك قوله: "موصلا أو قبله اليمين". و"موصلا" حال من "الفعل" والعامل فيه الكون والاستقرار الذي دل عليه الظرف، بل الظرف نفسه لقيامه مقامه. فإذا اتصل الفعل ب (إذن) نصبت فقلت: إذن أقوم. فإن فصل بينهما فاصل فلا يخلو أن يكون مما يعد فاصلا أولا، فإن كان كذلك بطل العمل، فلا يجوز أن تقول: إذن أنا أكرمك، ولا إذن زيد يحسن إليك، بل يجب الرفع، وكذلك إذا فصل بمفعول أو غير ذلك نحو: إذن طعامك آكل، وإذن درهما أعطيك. وإنما امتنع النصب لأجل الفصل بين العامل والمعمول، إذ كنت لا تفصل بين (أن) أو (كي) ومنصوبها، فلا تقول: أعجبني أن زيدا تضرب، ولا جئتك كي درهما تعطيني، فصارت (إذن) كحروف الابتداء، نحو (إنما، وكأنما) لا تعمل شيئا.

وإن كان الفاصل [لا يعد فاصلا] لم يضر، وبقي اعمل منسحبا على الفعل، وذلك اليمين نحو: إذن والله أكرمك، وما أشبه ذلك، لان القسم في حكم الزائد المطرح، ودخوله كخروجه، وغنما دخوله لمجرد التوكيد، ولذلك يقع في مواضع لا يقع فيها غيره. ثم ذكر حكم ما إذا تقدمها حرف العطف فقال: "وانصب وارفعا" إلى آخره. يعني أنه إذا وقعت (إذن) من بعد حرف العطف، ولم يتقدمها غيره، فلك في العمل وجهان: أحدهما: النصب فتقول: فإذن أكرمك، وإذن آتيك". قال سيويه: وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف} وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا}. قال: وسمعنا بعض العرب قرأها: "وإذن لا يلبثو" وهي قراءة هارون/القارئ. والثاني: الرفع فتقول: وإذن أكرمك، وهو الأكثر. ومنه قوله تعالى: } فإذن لا يؤتون الناس نقيرا} وقراءة الجماعة: } وإذن لا يلبثون خلفك إلا قليلا}.

وإنما جاز الوجهان لأن حرف العطف صير (إذن) بتقدمه عليها كمتوسطة، فألغيت تارة اعتبارا بتوسطها، وأعملت تارة اعتبارا بكون العاطف غير معتد به. ويدخل تحت إطلاقه نوع آخر من مسائل العطف، وذلك أن العطف يجوز أن يكون عطف جملة على جملة ليس بينهما علقة، فالنصب هنا هو المحكوم به، لأن (إذن) مبتدا بها، فالحكم فيه الرفع. ويتبين لك هذا في مسألة سيبويه، وهي قولك: إن تأتني آتك، وإذن أكرمك، ] فإن جعلت (وإذن أكرمك [جملة مستأنفة غير متعلقة بالأولى أعملت وألغيت على وجهي العطف، وإن جعلتها متعلقة جزمت، فقلت: وإذن أكرمك، عطفا على (آتك) وإن شئت نصبت لا على (إذن) بل على العطف على الجواب، كقوله تعالى: } فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}، بعد قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه [. الآية. فقد تصور في المسألة وجهان على الجملة، إعمال (إذن) إهمالها، لكن قد يقال: إنمه لا يشمله كلام الناظم لقوله: "وارفعا" فجعل قسيم النصب الرفع، وفي مسألتنا الجزم، فكيف يصح أن يريد مثل هذا؟ والجواب: أن نفس الرفع ها هنا ليس بمقصود في نفسه، وإنما المقصود عدم إعمال (إذن).

وإذا كان المقصود هذا دخل فيه ما كان في معناه مما لا تعمل فيه (إذن) وعلى أنك في هذه المسألة قادر على جعلها من قبيل ما يكون فيه الفعل مرفوعا، بجعلك (إذن) في موضع (إن) أو إتيانك بفعل الشرط ماضيا وبفعل الجواب مضارعا، في أحد الوجهين، على ما سيذكر إن شاء الله تعالى. فعلى كل تقدير يشمل كلام الناظم أمثال هذه المسائل، والله أعلم. وعلى كلام الناظم في مسألة (إذن) أسئلة: أحدها: أنه جزم بالنصب مع وجود الشروط الأربعة؛ إذ قال: "ونصبوا" وأطلق القول في ذلك، وهذا الإطلاق غير صحيح، إذ النحويون يحكون مع اجتماع الشروط الوجهين: النصب والرفع. فقد حكى سيبويه عن عيسى بن عمر: أنا ناسا من العرب يقولون: إذن أفعل في الجواب، يعني مع اجتماع الشروط. قال: فأخبرت يونس بذلك فقال: لا تبعدن ذا.] ولم يكن ليروي إلا ما سمع، جعلوها بمنزلة (هل، وبل) ومنه الحديث "إذن يحلف يا رسول الله" فقد ثبت الوجهان. وكلام الناظم يقتضي الاقتصار على وجه واحد، وهو إخلال في النقل. والجواب عنه أن إلغاءها مطلقا لغة ضعيفة، على خلاف ما عليه جمهور العرب، ولذلك قال في "التسهيل": وينصب غالبا ب (إذن) وحكاية سيبويه تدل على قلته إذا لم يحفظه يونس وقال له: لا تبعدن ذا [. وهذا مما يدل على ضعفها في القياس، وقلتها في السماع، فلم يبن

الناظم عليها على عادته في البناء على الشهير من اللغات. والسؤال الثاني: أنه استثنى من الفصل بين (إذن) والفعل اليمين خاصة، فيعطى بمفهومه في الاقتصار في جواز الفصل عليه ألا يفصل بغير اليمين، لدخوله تحت منع الفصل/، وذلك لا يصح، لأن الفصل يقع أيضا بالنداء نحو: إذن يا زيد أكرمك، لأنه يجري مجرى القسم في كونه الفصل به كلا فصل. وكذلك (لا) النافية إذا فصل بها، لم يمنعها ذلك عملها، لعدم اعتبارها فاصلا؛ إذا كانت تدخل بين الجار والمجرور، والناصب والمنصوب، وغير ذلك. وكذلك يقول ابن عصفور في الظرف والمجرور، قياسا على القسم والنداء] لأنهما قد يتصرف فيهما بالتقديم والتأخير ما لا يتصرف في المفعول، فصارا بذلك في حكم القسم والنداء [. وقد جمع بعضهم شروط إعمال (إذن) واستثنى من الفصل ما ذكرت لك، فقال: أعمل إذن إذا أتتك أولا .... وسقت فعلا بعدها مستقبلا واحذر إذا أعملتها أن تفصلا ... إلا بحلف أو نداء أو بلا. فجعل النداء و (لا) مع اليمين.

وزاد بعضهم على هذا الظرف والمجرور فقال: والظرف والمجرور زدهما على ... قول ابن عصفور نبيل النبلا وزاد ابن خروف أيضا الدعاء إذا فصل به، فلا اعتبار به في ذلك، نحو قولك: إذن غفر الله لك بفعل كذا. هذه ستة أشياء، ذكر الناظم منها واحدا فقط، وأهمل البواقي، وهذا كله فيه ما ترى. والجواب: أنه في ذلك متبع لكلام سيبويه، لأنه إنما تكلم على الفصل بالقسم خاصة، وكأن ما عدا ذلك إنما هو قياس على القسم. وأما (لا) فقد علم من حكمها أنها تدخل في الاختيار بين العامل والمعمول مطلقا، فلم يحتج إلى ذكر ذلك فيها، وزيادة ابن عصفور قد لا يسلم له فيها، لأن الظرف والمجرور إنما يتسع فيهما بالسماع، ولذلك لما استدل الفارسي على جواز تقدم خبر (ليس) عليها بجواز تقدم معموله، وتلا قوله تعالى: } ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم}. اعترض عليه بأن الآية لا دليل فيها، لأن الظرف والمجرور قد يتصرف فيهما بالتقديم حيث لا يتصرف في المفعول. ورد هذا الاعتراض بأن التصرف في الظرف والمجرور، وإن كثر، موقوف على السماع، فلا يقع إلا حيث سمع، والظرف والمجرور لم يقع واحد منهما،

فاصلا أصلا، فلا ينبغي أن يقال به، وإن كانوا قد قالوا في (لن): لن ما رأيت أبا يزيد مقاتلا ... أدع القتال وأشهد الهيجاء. ففصلوا بين (لن) ومعمولها، وهي أشد في طلب الاتصال من (إذن) فذلك موقوف على السماع. وما زاده ابن خروف فيلزمه أن يجيز ذلك في جمل الاعتراض مطلقا، فيقول: إذن فاعلم أكرمك، وإذن لو علمت أكرمك، وما أشبه ذلك. ويطول الأمر في هذا، فالأولى الاقتصار على ما قرب مرماه، وسهل في الحكم تناوله، كالنداء والقسم. والسؤال الثالث: أن قوله: "وانصب وارفعا" ظاهره الإشعار بقوة النصب، وفضيلته على الرفع لتقديمه إياه، وكثيرا ما يجري ذلك في كلامه، وقد عرفت أن الرفع هو الأكثر على تقدم ذكره. والجواب عنه: أن التقديم والتأخير ليس بواجب التحكيم، وأيضا/فالوجهان جائزان على الجملة. وقد مر أنه لا يقتصر على المثال المذكور أولا، بل يدخل فيه غيره، والإعمال والإلغاء مختلف بحسب المسائل، فهو قد أطلق القول في الوجهين، ولم يعتبر جهة التقديم والتأخير. والضمير في "قبله" عائد على الفعل.

وقوله: "من بعد عطف" على حذف مضاف تقديره: من بعد حرف عطف، أو في عطف، ويريد الحرف. وبين لا ولام جر التزم ... إظهار أن ناصبة وإن عدم. لافأن اعمل مظهرا أو مضمرا ... وبعد نفي كان حتما أضمرا هنا أخذ في الكلام على ما ينتصب بإضمار الناصب، والمضمر ها هنا (أن) وحدها من بين سائر أخواتها، لأنه أم الباب ك (يا) في حروف النداء، و (الهمزة) في حروف الاستفهام، و (إن) في حروف الشرط. والمواضع التي تقع فيها (أن) ناصبة على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون مضمرة لا تظهر أصلا، ومواضعها المذكورة في هذا النظم خمسة، وذلك بعد (حتى) ولام الجحود، والجواب بالفاء، والواو، و (أو) بمعنى (حتى) أو (إلا). ولم يذكر (كي) الجارة، وقد تقدم التنبيه على ذلك. والثاني: أن يجوز فيها الأمران، ولها موضعان، وذلك بعد: لام (كي) بغير (لا) وبعد حرف العطف المعطوف به الفعل على الاسم الصريح. والثالث: ألا يجوز الإضمار أصلا، وذلك فيما عدا ما تقدم. وخص بالنص ما إذا وقعت بعد لام (كي) إذا كانت معها لا. وبه ابتدأ الكلام في هذا الفصل فقال: "وبين ل ولام جر التزم إظهار أن". يعني أنه إذا كان موضع (أن) بعد لام جر و (لا) الذي هو حرف نفي فإظهارها لازم فتقول: جئت لئلا تعتبني، وتحصنت لئلا تخذلني.

} لئلا يكون للناس عليكم حجة}.} لئلا يعلم أهل الكتاب} الآية. وإنما لزم إظهارها لما يلزم لو أضمرت من قبح اللفظ باجتماع لامين إذا قلت: للا تعتبني، كما أنهم لا يلحقون لام التوكيد بعد (إن) حيث الخبر مصدرا ب (لا) إلا نادرا نحو: وأعلم أن تسليما وتركا ... للامتشابهان ولا سواء. لأجل قبح اجتماع المثلين. وإنما قال: "ولام جر" ولم يقل: ولام كي، لأن لام الجر لا تقع في مثل هذا الموضع إلا كانت للتعليل، وهي لام (كي). وأيضا، فأطلق في لام الجر لما يحتاج إليه إثر هذا فيما إذا لم يأت معها (لا) فإنها قد تكون للتعليل ولغير التعليل، كما يتبين إن شاء الله. وقوله: "ناصبة" حال من (أن) عاملها (إظهار) ومراده أن يبين أن هذا الحكم ل (أن) الناصبة للفعل، لا للمهلة، ولا للتي أصلها (أن). ثم قل: "وإن عدم لافأن أعمل مظهرا أو مضمرا". يعني أن (لا) إذا لم يؤت بها مع الحر، فلك في (أن) وجهان: أحدهما: أن تظهر (أن) وهو الأصل فيها، لأن الإضمار/على خلاف

الأصل، فتقول: جئتك لأن تكرمني، وضربته لأن يتأدب. والثاني: أن تضمرها، فتثقول: جئتك لتكرمني، وضربته ليتأدب. وهذا الحكم لا يختص بلام (كي) بل يكون معها كما ذكر، ويكون مع لام العاقبة، نحو قوله تعالى: } فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}. وهذه اللام راجعة في الحقيقة إلى الأولى، ولكن المؤلف من عادته أن يعتبر الظاهر في المعاني. والثالث: اللام الزائدة في نحو: أريد لتفعل كذا. ومنه قوله تعالى: } يريد الله ليبين لكم}، وقوله: } ولكن يريد ليطهركم}. ومنه قول الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل. وأنشد المؤلف في "الشرح": ومن يك ذا عود رطيب رجابه ... ليكسر عود الدهر فا كاسره. وهذه المعاني الثلاثة التي يتأتى معها دخول اللام على المصدر، فيؤتى لها

بـ (أن) والفعل. وبقي قسم رابع خالف حكمه هذا الحكم، وذلك لام الجحود، فلذلك استدركها إثر هذا. وإنما خص الإضمار باللام دون غيرها، لأنه لا يجوز ذلك مع غيرها، كالباء و (في) ونحو ذلك: بل يلتزم الإظهار، نحو: رغبت في أن تفعل، وعن أن تخرج، وعجبت من أن تضرب زيدا، وسررت بأن تقول كذا. وكذلك سائرها، لأن استعمال اللام في الكلام أكثر من استعمال غيرها، فاستخف ذلك فيها لكثرة دورها في الاستعمال دون غيرها. ثم استثنى من جواز الوجهين لام الجحود، وهو أول المواضع الخمسة فقال: "وبعد نفي كان حتما أضمرا". يريد بعد اللام التي بعد نفي (كان) ولا يريد مطلق نفيها، بل بقيد تقدم لام الجر، فهو مستثنى من وقوع (أن) بعد لام الجر مضمرة أو مظهرة. ومعنى كلامه أن للام الجر إن إذا وقعت بعد (كان) المنفية. فإن العرب ألزمت إضمار (أن) فلا يجوز إظهارها، فتقول: ما كنت لأفعل، وما كان زيد ليقوم. ولا يجوز أن تقول: ما كان زيد لأن يفعل، ولا لإن يقوم. ومنه قوله تعالى: } وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} وقوله: } ما كان الله ليذر المؤمنين}.} وما كان الله ليطلعكم على الغيب}. وهو كثير. وتسمى لام الجحود، لأنها تقع بعد الجحود، وهو النفي.

ويريد بقوله: "ونفي كان" فعل الكون مطلقا، كأنه يقول: ونفي فعل كون، وليس المثال بمعين للماضي في قصد الناظم؛ بل الحكم جار إذا كان الفعل المنفي مضارعا، نحو يكن ليفعل. ومنه قوله تعالى: } لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا}. نعم الذي يلزم أن يكون فعل الكون ماضيا معنى، ولا /يلزم أن يكون ماضيا لفظا. ووقع لابن خروف ها هنا مخالفة لهذه القاعدة، فزعم أن لام الجحود قد تقع بعد النفي وإن وإن لم يكن ثم (كان) إذا اقتضى المعنى ذلك، وجعل من ذلك قوله تعالى} ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}. قال: لأن المعنى: ما كان الله ليفعل كذا، وهذا خلاف ما عليه الناس. والحق أن اللام في الآية إنما هي اللام التي تدخل في الإيجاب في نحو قوله: } يريد الله ليبين لكم}. بدليل قوله إثر الآية المستشهد بها: } ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم}. وأتى أيضا بحديث وقع لأبي عبيد في "غريبه" من حديث أبي الدرداء أنه قال في الركعتين بعد العصر: "ما أنا لأدعهما، فمن شاء أن ينحضج فلينحضج" أي ينقد من الغيظ. وهذا أيضا نادر. والصيمري أطلق القول بذلك، وأن لام الجحود هي الواقعة بعد النفي مطلقا.

وعلى ما قال الناظم: جلة النحويين، وهم أعرف بكلام العرب، لأن ذلك راجع إلى صحة ظهور (أن) وعدم صحته. فالجمهور على جواز ظهورها في نحو: ما جئتك لتسبني، ولزوم إضمارها في: ما كان زيد ليقوم، وإنما لزم الإضمار هنا دون ما تقدم لأن لام الجحد جواب لفعل ليس تقديره تقدير اسم، ولا لفظه لفظ الاسم، وهو الفعل الداخل عليه السين أو سوف. فقولك: (ما كان زيد ليخرج) الأصل فيه: كان زيد سيخرج، أو سوف يخرج فكرهوا في الجواب إظهار (أن) لأن ظهورها يحقق تقدير الاسم، فيخرج بذلك عن مذهب الجواب. وأيضا، تقدير الكلام من حيث كان جوابا لمستقبل: ما كان زيدا مقدرا لأن يخرج، أو مستعدا، أو هاما أو عازما، أو نحو ذلك من التقديرات التي توجب الاستقبال للفعل، و (أن) توجب الاستقبال فيه، فاستغنى عن ذكر (أن) بما تضمن الكلام من الدلالة على الاستقبال. وقد زعم الكوفيون أن اللام هنا في الناصبة بنفسها، سواء كانت لام جحد أم لا، وليست عندهم بلام جر، وذهبوا في ذلك مذاهب لا فائدة في الاشتغال بها إذا فهم وجه الكلام، وهو ما ذكر الناظم مما تقدم شرحه. ثم قال: كذاك بعد أو إذا يصلح في ... موضعها حتى أو إلا أن خفى. وهذا موضع ثان من المواضع الخمسة التي يلزم فيها إضمار (أن) ويعني أن الحذف لازم في (أن) أيضا إذا وقعت بعد (أو) التي بمعنى (حتى) أو التي بمعنى (إلا) وذلك أن (أو) على وجهين إذا وليها المضارع:

أحدهما: أن يكون ذلك المضارع مساويا للفعل التي قبلها في الشك أو الإبهام أو غيرهما، فحكم هذا أن يتبع الثاني الأول في الإعراب، فتقول: هو يقيم أو يذهب، ويعجبني أن تقيم أو تذهب، وليقم زيد أو يذهب، وهذا مبين في باب العطف. والثاني: أن/ يكون المضارع بعد (أو) مخالفا لما قبلها، بأن يكون ما بعدها على الشك وما قبلها على اليقين، فحكم هذا عدم التبعية للإعراب، لأنه لم يشاركه في الحكم، فلا يشاركه في الإعراب، بل ينصب ب (أن) لازمة الإضمار، كما قال الناظم. و(أو) في المخالفة تارة تكون بمعنى (حتى) وأراد الجارة المرادفة ل (إلى) نحو: لألزمنك أو تقضيني حقي، ولأسيرن أو تغرب الشمس. ومن ذلك ما أنشده الأشنانداني من قول عبد الله بن ثعلبة: فلا وأساف لا تلطون دونه .. ز تيوسا بقوسي أو تعضكم الحرب. وحكى الكسائي في قراءة أبي: } تقاتلونهم أو يسلموا}. تقديره: حتى يسلموا. وتارة تكون بمعنى (إلا) كقولك: لأقتلنك أو تسقيني، ولأقتلن الكافر أو يسلم. وأنشد سيبويه لزياد الأعجم:

وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما. التقدير: إلا أن تستقيم. وأنشد أيضا لامرئ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا. فإن قلت: كان يجزيه أن يقول: إذا يصلح في موضعها (إلا) ولا يحتاج إلى ذكر (حتى) لأن كل ما يقدر بحتى يصح أن يقدر بإلا. فلو قلت: لألزمنك إلا أن تقضيني حقي، وتقاتلونهم إلا أن يسلموا، أو غير ذلك من المثل- لصح المعنى، مع أن سيبويه والنحويين إنما يقدرونها ب (إلا) ويفسرونها بذلك، فيقولون: و (أو) بمعنى (إلا أن) فظهر أن الإتيان بحتى شطط من غير معنى زائد. وقد قال ذلك ابن الناظم في "التكملة" من أن كل ما يصح فيه تقدير (أو) ب (إلى أن) يصح أن يقدر ب (إلا أن). فالجواب: أن المعنى فيما قال ظاهر، لأن قول القائل: لألزمنك أو تقضيني حقي، ولأسيرن أو تغرب الشمس- ليس معناه أن السير أو اللزوم

يقع عند عدم الغروب أو القضاء، وأما إذا وقع ذلك فلا يقع سير ولا لزوم، بل المعنى أن السير واللزوم واقع على كل حال إلى هذه الغاية، بخلاف ما إذا قلت: لأقتلنه أو يسلم، فإن المعنى فيه أن القتل يقع عند فقد الإسلام خاصة، لا أنه واقع إلى غاية الإسلام. فمعنى (حتى) في الأول ظاهر، وفي الثاني محال. نعم، قد يقول القائل: لألزمنك أو تقضيني، على معنى (إلا) كأنه يقول: إلا أن تقضيني، على ما تقدم في الوجه الثاني، وذلك صحيح وداخل تحت قوله: "أو إلا" وعليه فسر سيبويه والنحويون. وسبب ذلك أن معنى - إلا) لازم لمعنى (إلى) فإن قولك: لألزمنك إلى هذه الغاية، كمعنى قولك: لتصلن اللزوم إلا أن تقضي، وهذا ظاهر، فإذا لا بد من ذكره. فإن قلت: على كل حال لا يحتاج إلى ذكرها، إذ لا يوجد معنى (إلا) مفارقا لمعنى (إلى) فكان الاجتزاء بها أولى. فالجواب: أن الاقتصار على (إلا) لا يشعر بمعنى (إلى) فذكره محتاج إليه لأجل ذلك. وقوله " أن خفي" "أن" مبتدأ. و"خفي"/خبره و"بعد" متعلق ب "خفي" كأنه قال: تخفى (أن) أيضا بعد كذا وكذا. فإن قلت: ما الذي أحرز بقوله: "أن خفي" وكان قوله: "كذاك" مجزيا عنه، لأنه يعطي تشبيه حكم هذا المتأخر بحكم المتقدم، وذلك يكفي، فالظاهر لبادئ الرأي أنه حشو؟ فالجواب: أنه احتراز وليس بحشو، وذلك أن قوله: "كذاك" إشارة

إلى متقدم. فإما أن تعتبر دلالة الكاف فتقول: إنه إشارة إلى غير القريب، وذلك لام (كي) إذا لم تكن ب (لا) والوجهان هنالك جائزان، فلو لم ينص على لزوم الإخفاء لأخذ له الوجهان، وهو فاسد. وإما ألا تعتبر دلالتها فتقول: إنه يشير إلى أقرب مذكور، فذلك غير ظاهر، لأن الكاف لا تقع في لإشارة إلى القريب، فلا يفهم أنه راجع في لزوم الإضمار إليه، فلا بد من ذكر ذلك رفعا لهذا الإيهام. وقوله: "خفي" يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويحتمل أن يكون وصفا، لكن خفف الياء للقافية، وأصلها التشديد. وبعد حتى هكذا إضمار أن ... حتم كجد حتى تسد ذا حزن. وتلوحتى حالا أو مؤولا .. به ارفعن وانصب المستقبلا. وهذا موضع ثالث من المواضع التي يلزم فيها إضمار (أن) وذلك بعد (حتى) فلا يجوز أن تظهر معها (أن) أصلا، فلا تقول: سرت حتى أن تطلع الشمس، ولا جد حتى أن تسر ذا حزن. وما ذكر من أن النصب بعدها بإضمار (أن) هو مذهب سيبويه والبصريين. وذهب الكوفيون والجرمي من البصريين إلى أن النصب بحتى نفسها.

زعم الكوفيون أنها ليست بحرف جر، وإنما هي ك () كي، وأن) فإذا دخلت على الأسماء فالجر بعدها بإضمار (إلى) وهو مذهب مردود، أصله الدعوي. وإنما الأقرب أن يدعى فيها أنها لفظ مشترك للنصب في الأفعال، والجر في الأسماء، كما يقول السيرافي في (لا) من حيث كان أصلها النفي، ثم تعمل في الاسم النصب والرفع، وفي الفعل الجزم نحو: لا تفعل، فهذا يمكن أن يقال. ولكن الأصح ما ذهب إليه الناظم، لأن الجر قد ثبت من عملها. ومواقعها المعلومة في الكلام ثلاثة: تقع حرف ابتداء، تأتي بعدها الجملة الاسمية والفعلية، وتقع حرف عطف وقد تقدم ذلك، وتقع حرف جر، كما تقدم أيضا. وها هنا لم يثبت لها نصب بأمر بين، فإذا رجعنا إلى المواضع الثلاثة أمكن فيه منها أن تكون جارة لأجل نصب الفعل بعدها، فلا بد من تقدير ما يصير به الفعل في تقدير الاسم المجرور وهو (أن) وصارت (حتى) في ذلك كلام الجحود و (كي) الجارة ونحو ذلك. وهذا غير خارج عن قياس النحو، بخلاف ما إذا ادعي أنها ناصبة مطلقا، والاسم بعدها مجرور ب (إلى) فإن هذا غير جار على قياس، ولا يساعده سماع. وقوله: "إضمار أن حتم" "إضمار أن" مبتدأ و"حتم" خبر، وهو بمعنى: لازم. و"بعد حتى" متعلق باسم فاعل حال، يعمل فيه قوله: "حتم" أي: إضمار (أن) لازم حالة كونها بعد (حتى) ويجوز تعلقه بـ

"إضمار" وذلك شاذ، كقوله: - كان جزائي بالعصا أن أجلدا* ويريد أن إضمار (أن) لازم، لا يجوز إظهارها مع (حتى) كأنهم جعلوها عوضا من اللفظ ب (أن). وشبه سيبويه (أن) في هذه المواضع بالفعل في (أما) في قولهم: أما أنت منطلقا انطلقت معك. ومثال الناظم وهو: "جد حتى تسر ذا حزن" "حتى" فيه بمعنى (كي) كأنه قال: جدكي تسرذا حزن، و (حتى) إذا نصبت لها معنيان. أحدهما هذا، وهو أن يكون ما قبل (حتى) سببا فيما بعدها، ولم يقع، ومنه قولك أسلمت حتى أدخل الجنة، وكلمته حتى يأمرلي بشيء. والثاني: أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها، وسواء أكان ما قبلها سببا فيما بعدها أم لا، إلا أنه إذا لم يكن سببا فإنه يتعين الغاية نحو: سرت حتى تطلع الشمس، إذ المعنى: سرت إلى أن تطلع، وإذا كان سببا فيما بعدها احتمل الغاية، ومعنى (كي) كقولك: سرت حتى أدخل المدينة، فقد تريد معنى: إلى أن أدخل، وقد تريد معنى: كي أدخل، لكن يتعين، الدخول في الأول دون الثاني. ومثال الناظم محتمل للوجه الأول أيضا، وهو معنى الغاية، إلا أن

الآخر أظهر. ثم ذكر الموضع الذي يرفع فيه ما بعدها، والموضع الذي ينصب فيه، لأنها على ما تقدم ذات استعمالات فقال: "وتلوحتى حالا أو مؤولا. به ارفعن". "تلو" مفعول ب "ارفعن" و"حالا" حال منه. و"به" متعلق ب"مؤولا". ويعني أن "تلو" (حتى) وهو الفعل الذي بعدها يليها، لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون حالا حقيقة، أو مؤولا بالحال، وإما أن يكون مستقبلا. فإن كان حالا أو مؤولا به فهو مرفوع، لا يضمر بعد (حتى) شيء. وإن كان ذلك الفعل مستقبلا فهو منصوب على إضمار (أن) بعد (حتى) فتقول في المستقبل: لأسيرن حتى تطلع الشمس، وسر حتى تدخل المدينة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء ومنه مثاله: جد حتى تسرذا حزن. فما بعد (حتى) هنا مستقبل، و (أن) إنما تدخل على المستقبل. وفي الحال تقول: سرت حتى أدخل المدينة الآن، ومرض حتى لا يرجونه، وضربته أمس حتى لا يستطيع اليوم أن يتحرك. ومنه قول حسان بن ثابت- رضي الله عنه: -

يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل. فالفعل عنا مرفوع ولا بد، لأنه مراد به الحال، و (أن) مخلصة للاستقبال، / فلا يصح أن تدخل إلا على المستقبل. وأما المؤول بالحال فذلك المضارع الماضي معني، إذا كان مسببا عما قبل (حتى) فتقول: سرت حتى أدخلها، على معنى: سرت فأنا الآن أدخل، على معنى أنك تحكي حال الدخول، لا على الحقيقة، فإنه قد مضى. ومنه قوله تعالى: } وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه}. الآية، على قراءة الرفع وهي لنافع. هذا حاصل ما ذكر الناظم، إلا أنن هذا الكلام يحتمل بسطا به يتبين مقصوده، وما احتوى عليه هذا الاختصار. فالمضارع الواقع بعد (حتى) لا يخلو أن يقع بعد المفرد أو بعد الجملة. فإن وقع بعد المفرد فليس إلا النصب بإضمار (أن) لأن غير النصب لا يتصور. وذلك قوله: سيري حتى أدخل المدينة، لأن (حتى) هنا حرف خفض في التقدير، وما بعدها مخفوض بها، والخافض والمخفوض في موضع خبر "سيري" ولا يصح أن يكون حرف ابتداء، لأن الكلام بعدها يكون إذ ذاك مستأنفا، فيبقى المبتدأ بلا خبر، فلا بد أن يكون في موضع خفض، وذلك لا يكون إلا بعد تقدير (أن) فلا بد من النصب هنا. فإن وقع الفعل بعد الجملة: فلا يخلو أن تكون تلك الجملة تقتضي

وقوع الفعل أولا تقتضي وقوعه. فإن كانت لا تقتضي وقوعه فلا بد من نصب ما بعد (حتى) نحو قولك: ما سرت حتى أدخلها، وهل سرت حتى تدخلها؟ لأن ما قبلها لا يقتضي وقوع الفعل، وما بعد (حتى) لا يكون في الرفع إلا مسببا عما قبلها، فلا يصح الرفع، لأن عدم السير غير سبب للدخول، فلا يصح إلا النصب، بمعنى ما سار إلى هذه الغاية. وقد أجاز الأخفش هنا الرفع قياسا منه قولك: ما تأتينا فتحدثنا، فإن ما قبل (الفاء) مثل ما قبل (حتى) في أنهما سبب فيما بعدهما، وأنت تجيز الوجهين مع (الفاء) فكذلك مع (حتى). قال النحويون: وهذا منه قياس في موضع السماع، لأن الرفع وضع فيه المضارع موضع الماضي، و (حتى) موضع (الفاء) فلا يقال منه إلا ما قالته العرب، لأنه خروج عن الأصل. ألا ترى أنهم قدروا: سرت حتى أدخلها بقولك: سرت فدخلت؟ وإن كانت الجملة تقتضي الوقوع فلا يخلو أن يكون سببا فيما بعد (حتى) أو غير سبب، فإن كان غير سبب فلا بد من النصب، نحو: سرت يؤذن المؤذن، وسرت حتى تطلع الشمس، فالسير ليس بسبب في أذان المؤذن، ولا في طلوع الشمس. وإذا لم يكن سببا فلا يرفع، لأن الرفع من شرطه أن يكون ما قبل (حتى) سببا فيما بعدها. وهذا القسم ليس كذلك، فإنما المعنى هنا معنى: إلى أن يؤذن المؤذن، وإلى أن تطلع الشمس، وهو ماض في المعنى، لكنه مؤول بالمستقبل، لأنه

بالنسبة إلى السير مستقبل. وإن كانت الجملة سببا فيما بعدها فلا يخلو أن يكون ما بعدها مستقبلا في المعنى أو ماضيا أو حالا. فرن كان مستقبلا فلا بد من النصب، نحو قولك: أسلمت حتى أدخل الجنة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء، ولأسيرن حتى تطلع الشمس، وحتى أدخل المدينة. وهذا ظاهر الدخول تحت نص الناظم. ومعناها ها هنا معنى (كي) في المثالين الأولين، وفي الآخرين معنى (إلى). ولا يجوز هنا رفع ما بعد (حتى) لأن الرفع لا يحصل ما يراد من الاستقبال، بخلاف ما إذا نصبت بإضمار (أن) التي تخلص للاستقبال. وإن كان ماضيا في المعنى جاز الرفع والنصب، فالرفع على حكاية الحال، كما تقدم، وقد نبه عليه. والنصب على معنى الاستقبال، لأن قولك: سرت حتى أدخل المدينة، والدخول ماض في معنى المستقبل، وذلك بالنسبة إلى حال السير. وإن كان حالا فالرفع خاصة لقوله: "حالا أو مؤولا به ارفعن". فالحاصل من هذا التقسيم: أن الرفع إنما يكون إذا كان ما بعد (حتى) حالا أو مؤولا بالحال، وهو ما نص عليه. وسائر الأقسام داخلة تحت قوله: "وانصب المستقبلا" إذ لا يصح فيها إلا أن تكون مستقبلة: وقد جعل في "التسهيل" علامة كون ما بعدها مستقبلا كونه غاية لما قبلها، أو متسببا عنه، فيصح تقدير (حتى) بمعنى (إلى أن) أو بمعنى

(كي) وعلامة كونه حالا صحة جعل (الفاء) مكان (حتى). ولا بد من التسبيب في الرفع، ولذلك كان علامة ذلك (الفاء) المقتضية للتسبب، وذلك أن (حتى) أصلها أن تكون جارة، وكونها جارة يأتي بمعنيين: بمعنى (إلى) وبمعنى (لام السبب) وما عدا ذلك، من ابتداء الغاية والعطف، إنما هو اتساع فيهما، ولذلك يصحبها معنى الغاية في جميع الأقسام، فإذا اتسع فيها فلا يكون ذلك إلا في موضع لا تصلح أن تكون فيه جارة، ولا يمكن كونها جارة إذا دخلت على غير الاسم الصريح إلا مع تقدير (أن) وذلك لا يصح إلا مع الفعل المستقبل. وأما الحال والجملة الاسمية فلا يصلح معها (أن) فلا تدخل عليها الجارة فهنا تكون حرف ابتداء، فيرتفع الفعل بعدها؛ إذ لا سبيل إلى تقدير (أن) وما فيه الوجهان فعلى اللحظين المذكورين. وعلى الناظم بعد هذا سؤالان: أحدهما: أن كلامه يقتضي أن الفعل المضارع إذا كان حالا، كيفما وقع، لازم فيه، ولم يقيد ذلك بقيد. الفعل الحالي لا يرتفع إلا بشرط أن يكون ما قبله سببا له، وأن يكون موجبا، وأن يكون بعد جملة. فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة صح الرفع، وإلا لم تجز المسألة. أما إن لم يكن ما بعد (حتى) مسببا عما قبلها نحو: سرت حتى تطلع الشمس، على معنى: سرت حتى الشمس الآن طالعة، فلا يجوز الرفع، لأن العرب لا ترفع هنا الفعل إلا إذا كان مسببا، ولا يجوز النصب أيضا لأنه فعل حال. وأما إن لم يكن ما قبلها موجبا فكذلك لا يجوز الرفع، لأن / عدم

السير لا يكون سببا للدخول إذا قلت: ما سرت حتى أدخل المدينة، ولا بد في الر فع من السببية كما ذكر، ولا يجوز النصب لأن الفرض أن الفعل حال. وأما إذا وقع قبلها المفرد نحو: سيري حتى أدخل المدينة، فلا يجوز الرفع، لأن ما بعد (حتى) جملة مبتدأة، فيبقى المبتدأ بلا خبر كما تقدم، ولا النصب لأنه فعل حال، والناس قد شرطوا في الرفع في الحال هنا الشروط الثلاثة، فإن تخلف شرط لم تجز المسألة بحال. فأنت ترى قول الناظم: "وتلو حتى حالا أو مؤولا به ارفعن" يقتضي بإطلاقه أن يقال ذلك كله، وأن يقع فعل الحال في كل موضع، فيقال: سيري حتى أدخلها، وما سرت حتى أدخلها، وسرت حتى تطلع الشمس، وذلك كله غير جائز. ولا يقال: إن هذه المسائل تمتنع رأسا، ولم يتكلم هو إلا على ما يجوز، ] لأنا نقول: الجواز [والمنع من كلامه نستفيده لا من خارج، لأنه موضوع لبيان ما يجوز في الكلام وما يمتنع. والسؤال الثاني: أن المستقبل على وجهين كما ذكر في الحال، مستقبل حقيقة كقولك: كلمته حتى يأمر لي بشيء، ومؤول كقولك: سرت حتى أدخل المدينة، لأن معناه: فدخلت، لكنه يرجع إلى المستقبل بالتأويل كما ذكر، وحقيقته المضي، فيقتضي أن ما أدل بالمستقبل ليس بمنصوب، إذ لم يثبت النصب إلا للمستقبل حقيقة وإلا فإطلاقه القول فيه بعد تقييد الحال يشعر بأن التأويل فيه غير مقصود، وهذا غير صحيح، بل هو كالمستقبل في الحكم، إلا أنه يلحظ فيه لحظان، فينصب ويرفع باعتبارهما. والجواب عن الأول أن يقال أولا: إن الناظم إنما تكلم على الحال

والمستقبل حيث يصلح وقوعه، وإليك النظر في ذلك، ولا نكر في هذا، فقد يترك المختصر مثل هذا اتكالا على ما يقع في تفسيره. وأيضا، أصل (حتى) أن تكون جارة كما تقدم، فلا يصلح مع تقدم المفرد غيرها، كما ذكر قبل، فلم يحتج إلى التنبيه عليه، ولا إلى اشتراط وقوع الجملة قبلها، لأنه مع (حتى) الابتدائية ليس بكلام، ومعلوم أن ما ليس بكلام غير معتبر عند النحويين، ولا جائز. وأما اشتراط كون الكلام موجبا في وقوع الفعل الحالي بعد (حتى) فلم يذكره، لأن الكلام غير الموجب لا يكون سببا فيما بعد (حتى) وإذا لم يكن سببا فالفعل غير واقع لعدم وقوع ما قبلها، ولا معنى لكون الفعل مستقبلا إلا كونه غير واقع، فلم يصلح الموضع لفعل الحال أصلا. وأيضا، فما المانع من أن يكون ذهب في ذلك مذهب أبي الحسن في جواز الرفع، فيكون الحال والمستقبل واردين على الموضع، والقياس على (ما تأتينا فتحدثنا) صحيح في نفسه. وأما اشتراط أن يكون ما قبلها/ سببا لما بعدها فقد يقال: إن ذلك غير لازم عنده، كمذهب الكوفيين القائلين بجواز قولك: سرت حتى تطلع الشمس، بالرفع حكى الفراء عن الكسائي: أن من العرب من يرفع بعدها وإن لم يكن الأول سببا للثاني وحكى: إنا لجلوس فما نشعر حتى يقع حجر بيننا، وأنشد:

وقد خضن الهجير وعمن حتى ... ويفرج ذاك عنه المساء. وعلى هذا انبنى مذهب أبي الحسن في المسألة المتقدمة وإذا كان كذلك لم يكن ما أطلقه الناظم فاسدا. وهذا لجواب في غاية التكلف، والحق أنه لم يبن على بيان مواقع الفعل بعد (حتى) وهو إخلال. والجواب عن الثاني: يقال: أتى بالمستقبل على أعم من أن يكون حقيقة أو مؤولا، وكأنه قال: وانصب المستقبل حقيقة أو تأويلا، لأنه لما بين ذلك في الحال علم أن المستقبل يكون فيه ذلك. وأيضا: المستقبل المؤول راجع إلى الحقيقي، لأن استقبال الفعل إنما هو بالنسبة إلى المتكلم، يتصور وقوعه حالا في الإخبار لا بالنسبة إلى ما قبل (حتى) من الفعل؛ إذ هو بالنسبة إليه مستقبل ليس إلا، فلذلك أطلق لفظ الاستقبال، ولم يقيده كالحال. وبعد فاجواب نفي أو طلب ... محضين أن وستره حتم نصب. هذا موضع رابع من المواضع التي يلزم فيها إضمار (أن) وذلك بعد (الفاء) الموصوفة بما ذكره، وهو أن تشتمل على ثلاثة أوصاف: أحدها: أن تقع جوابا، ومعنى كونها جوابا أن يكون ما قبل (الفاء) من كلام منفي، أو فعل طلب، سببا فيما بعدها من الفعل، وشرطا فيه وذلك لأن الفاء في جميع أماكنها عاطفة. وقد يتناول العامل بالعطف الشيئين بإعراب واحد، وبلفظ واحد، على وجه

واحد، وعلى وجهين مختلفين. فالوجه الواحد كقولك: زيد يقوم فيتكلم، وأنت تأتيني فتحدثني. والوجهان المختلفان كقولك: لو يترك زيد وعمرو لظلم أحدهما الآخر، ولو ترك زيد والأسد لأكله، فالترك وقع عليهما معا في اللفظ، وأحدهما ممنوع، والآخر ممنوع منه. يجري الحكم في (الفاء) فالعطف بها على وجهين: أحدهما ظاهر، وهو أن يكون الثاني جاريا على الأول في إعرابه وظاهر معناه وهذا قد تقدم في "باب العطف". والآخر متأول، وهو أن يكون ما قبل (الفاء) معلقا بما بعدها، شرطا فيه، وهو المتكلم فيه الآن، وذلك على أوجه مختلفة، أحوجت إلى التغيير وإضمار (أن) لتدل على تلك الوجوه. وذلك أنك إذا قلت في النفي: ما تأتيني فتحدثني، فالعرب تنصب (فتحدثني) لتدل به على معنيين لا يدل الكلام عليهما مع الرفع: أحدهما: أن يكون الإتيان منفيا نفيا مطلقا، والحديث ممتنع من أجل عدم/ الإتيان، ولو وجد الإتيان لوجد الحديث. والوجه الآخر: أنت يكون المعنى: ما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك، فالمنفي هو الإتيان الذي يكون معه الحديث، لا الإتيان مطلقا. فهذان الوجهان منعا عطف (تحدثني) على (الإتيان) المنفي، لأنه إذا رفع فليس أحدهما شرطا في الآخر. ومن هنا يظهر معنى كلام الناظم، في كونه حكم على ما بعد

(الفاء) بالنصب حتما إذا كان جوابا لما ذكر، أي مسببا عما قبلها، فذكر أن (أن) تنصب بعد (الفاء) في جواب النفي أو الطلب، ولم يذكر جواز الرفع، وإن كان النحويون قد أجازوه في المسألة، لأن الرفع لا يكون مع بقاء كونه جوابا فإذا قلت: ما تأتيني فتحدثني، ارتفع من وجهين: أحدهما: أن تترك الثاني مع الأول في النفي، كأنك قلت: ما تأتيني وما تحدثني. ولا سببية في هذا. والآخر: أن يكون موجبا، والعطف عطف الجمل، كأنك قلت: ما تأتيني، ثم أنت تحدثني الآن، ولا سببية في هذا أيضا) فلم يحتج إلى ذكر ذلك بحسب قصد ذكر النصب. ولما كان الرفع لا يستقيم فيه المعنى الذي أرادوا صرفوا الكلام عن ظاهر لفظه، لئلا يبطل ما قصدوه من المعنى، وتأولوه على معناه، فجعلوا الكلام الأول في تقدير مصدر، وإن لم يكن لفظه لفظ المصدر، وجعلوا الثاني مقدرا بمصدر غير ظاهر، فلذلك قدرت (أن) فعملت عملها. فالكلام في تقدير: ما يكون منك إتيان فحديث، ولا ينطق به لأنه لا يعطي من المعنى ما يعطيه الكلام الأول. ولم تظهر "أن" لأن ظهورها لفظا كالمصدر الذي ظهر، ولم يظهر المعطوف عليه، إذا الظاهر إنما هو الفعل، فكان من المشاكلة لزوم الإضمار، وعليه نبه بقوله: "وستره حتم" والضمير عائد على "أن" وهي جملة اعتراض بين المبتدأ الذي هو "أن" وخبره الذي هو "نصب" وقوله: "وبعد نفي" متعلق ب "نصب. وقد حصل أن مذهبه كون النصب بإضمار "أن" وهو مذهب سيبويه وجمهور البصريين.

وذهب الجرمي إلى أن الناصب (الفاء)، كذلك (الواو) الشبيهة وكذلك (أو) بمعنى (إلا أن) وذهب الفراء إلى أن النصب بالخلاف، كما قالوا مثل ذلك في خبر المبتدأ إذا كان ظرفا، وفي المفعول معه، وخطب الخلاف هنا يسير، لا ينبني عليه إلا حفظ حكمة هذه لصناعة خاصة، فلا ينبغي أن يتشاغل فيها بالترجيح، إلا أن ما تقدم تقديره أمكن في الحكمة الصناعية. الوصف الثاني: أن تكون جوابا لأحد أمرين: إما النفي، وإما الطلب. وذلك قوله: "جواب نفي أو طلب" ويشملهما أن تكون جوابا لغير الواجب، فإنه إن كان في الوجب لم يجز النصب إلا في الشعر، ويكون وجهه في الضرورة كما في غير الواجب. ومن ذلك قوله، انشده سيبويه: سأترك منزلي لبنى تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا. وأنشد للأعشى، وقال: أنشدنا يونس: ثمت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا

/ وأنشد أيضا لطرفة: لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما. وقال: وهو ضعيف في الكلام، وإنما بابه غير الواجب كما ذكر. فأما (النفي) فنحو قولك: ما تأتينا فتحدثنا، وما تكرمنا فنكرمك. ومنه قوله تعالى: } ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم}. وقوله تعالى: } لا يقضى عليهم فيموتوا}. وأنشد سيبويه للفرزدق: فما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في اللها والغلاصم. وأنشد أيضا لرجل من بني دارم:

كأنك لم تذبح لأهلك نعجة ... فيصبح ملقى بالفناء إهابها. وأنشد للفرزدق أيضا، وما قام منا قائم في ندينا ... فينطبق إلا بالتي هي أعرف. وأنشد أيضا للعين: وما حل سعدي غريب ببلدة ... فينسب إلا الزبرقان له أب. وقال الآخر: لم ألق بعدهم حيا فأخبرهم ... إلا يزيدهم حبا إلى هم. وأما (الطلب) فعلى أنواع ستة:

أحدها (الأمر) نحو: أكرم زيدا فيكرمك، وأحسن إليه فيشكرك. ومنه قول أبي النجم، أنشد سيبويه: يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا. والثاني (النهي) نحو: لا تكذب فتهان، ولا تعجل فتندم، ومنه قوله تعالى: } لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} وقوله: } ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي}. والثالث (الدعاء) نحو: اللهم اغفر لنا فتدخلنا الجنة. وأنشد ابن المولف في "التكملة": رب وفقني فلا أعدل عن ... سنن الساعيين في خير سنن. والرابع (الاستفهام) نحو قولك: هل تأتينا فتحدثنا، وأين بيتك فأزورك. ومنه قوله تعالى: } فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل}.

والخامس (العرض) نحو: ألا تنزل فتصيب خيرا. وأنشد ابن الناظم عليه: يا ابن الكرام أما تدنو فتبصرما ... قد حدثوك فما راء كمن سمعا. والسادس (التحضيض) وهو قريب من (العرض) في المعنى. ومن أمثلته قوله تعالى: } لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}: وتقول: هلا أكرمت زيدا فيكرمك. فهذه الأنواع الستة داخلة تحت (الطلب) لأن فيها كلها معناه. وأما (التمني) و (الترجي) فليسا بداخلين تحته، إذ معناهما مخالف لمعنى (الطلب) ولكن الحكم فيهما واحد، وقد ذكره بعد هذا. والوصف الثالث: أن يكون النفي والطلب اللذان وقعت (الفاء) جوابا لهما محضين، ومعنى المحض: الخالص، أي لا بد أن يكونا خالصين من غيرهما، يريد: إلا يكون النفي بالتأويل، ولا الطلب بالتأويل أيضا، بل يكونان صريحين. والصريح منهما ما تقدم التمثيل به وأما غير الصريح، وهو/ المحرز منه، فالنفي كقولك: أنت غير آت إلينا فتحدثنا، وغير قائم الزيدان فيكرمهما، فها هنا لا ينصب عنده ما بعد (الفاء) لأن النفي هنا بالتأويل، إذ كانت (غير) أصلها مخالف، واستعمالها في النفي بالتأويل، كما

قال تعالى: } غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. وعدم الجواز في هذا مذهب ابن السراج. وقد ذهب إلى النصب بعده قوم من النحويين، واختاره المؤلف في "التسهيل" لأجل دخول (لا) النافية في العطف، كما ذكر في الآية التي في "الفاتحة". ورد ذلك ابن السراج بأن (غيرا) ليس بحرف نفي، وإنما هو اسم مضاف. وتحرز أيضا بكون النفي محضا من أن يكون قد صحب ما يخرجه عن معناه إلى الإيجاب مع بقاء أداته كقولك: ما زلت تأتينا فتحدثنا، ولا تزال تأتينا فتحدثنا، (فلا بد هنا من الرفع في "تحدثنا"). وكذلك أخوات (زال) التي يشترط فيها النفي نحو: ما انفك، وما فتئ، وما برح، فالنفي هنا قائم، والمعنى معنى (أنت تأتينا فتحدثنا) فلا بد من الرفع في "تحدثنا" إلا على قول من يقول: وألحق بالحجاز فأستريحا فلم يكن النفي هنا محضا. وهذه المسألة أدخل في رأس المسألة منها في هذا الموضع، وهو قوله: "وبعد فاجواب نفي" لأن هذا ليس بنفي في الحقيقة، وكذلك قولك: ما أنت إلا تأتينا فتحدثنا، لصيرورته إيجابا.

ومن النفي المؤول التشبيه في قولهم: كأنك وال علينا فتشتمنا، وكأنك أمير فتضربنا. النصب هنا مذكور، لأن المعنى معنى النفي، كأنك قلت: ما أنت وال علينا فتشتمنا، وما أنت أمير فتضربنا. ولكن الناظم أخرجه عن مراده لكون مثل ذلك غير مطرد في باب النفي، ومن ذلك ما جاء في (حسبت) من قولهم: حسبته شتمني فآثب عليه، نصب "فأثب" من حيث الشك الذي في (حسبت) وهو يشبه النفي، لأن المعطوف فيه غير واجب الوقوع، والوثوب لم يقع، لأن الشتم لم يتحقق وجوده، فكأنه في تقدير: ما شتمني فآثب عليه، وهذا ليس بقياس في مثله، فلذلك تحرز منه. ويدخل له في التحرز أيضا نفي (قلما) لأن النفي فيها ليس بحق الأصل، وإنما هو بالتأويل، فلا تقول: قلما يأتيني فأكرمه، وإن جاء فإنما يكون متلقي من السماع. وانظر في ذلك. وأما (الطلب) غير المحض، وهو المتحرز منه، فيقع في الأمر، والدعاء، والاستفهام. فأما (الأمر) فقد يكون بلفظ الخبر، كقولهم: حسبك ينم الناس، واتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه. ومنه قوله تعالى: } تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله}.

ثم قال: } يغفر لكم ذنوبكم}. فجزم الجواب فيها دال على أن المعنى: اكتف نيم الناس، وليتق الله امرؤ. والمعنى في الآية: آمنوا بالله ورسوله/ وجاهدوا في سبيل الله. فمثل هذا لا ينصب فيه الفعل بعد (الفاء) على ما يقتضيه (النظم) فلا تقول: حسبك الكلام فينام الناس، ولا اتقى الله امرؤ فيثاب، ولا نحو ذلك، وهو نص المؤلف في "التسهيل" ونسب الجواز إلى الكسائي. قال: ابنه في "التكملة": والقياس يأبى ذلك، لأن المصحح للنصب بعد (الفاء) بإضمار (أن) إنما هو تأول ما قبلها بالمصدر، ليصح العطف عليه، فإذا كان قبل (الفاء) أمر بلفظ المبتدأ والخبر، أو اسم فعل، تعذر تأوله بالمصدر، لتعذر تقديره صلة ل (فامتنع نصب ما بعد (الفاء). قال: ومن ثم لم يوافق الكسائي فيما ذهب إليه أحد، إلا أن بعض أصحاب كتاب سيبويه، وهو أبو الحسن بن عصفور، أجاز نصب جواب اسم الفعل غير المشتق، ثم رد عليه بتعذر تقدير المصدر من اسم الفعل، وفي الرد نظر، ليس هذا موضعه. وسيأتي الكلام على اسم الفعل إثر هذا إن شاء الله، حيث تعرض له الناظم. وأما (الدعاء) فكالأمر في هذا، والخلاف فيه واحد، إلا أن الفراء

وافق الكسائي في النصب، فيجوز عندهما أن تقول: غفر الله لك فيدخلك الجنة، كما لو كان بلفظ الأمر عند المؤلف. وقد حكى ابن المؤلف في "التكلمة" عن البصريين منع النصب في جواب الدعاء إذا كان بغير لفظ الطلب، وأجازه ابن عصفور، وظاهر كلام النحويين الجواز، لأن عباراتهم في الجواز مطلقة، وابن السراج نص على عدم الجواز، وهو الذي يقتضيه السماع؛ إذ لم ينقل البصريون ذلك سماعا عن العرب، وإنما نقلوه حيث يكون الأمر محضا لا مؤولا، وإذا كان الأمر محضا كان النصب جوابا على القياس. وأما إذا خرج عن ذلك فلا يقاس؛ إذ الأمر ليس على بابه، فلا يترتب عليه من النصب ما يترتب على ما جاء على أصل الباب، فالأظهر ما أشار إليه من عدم النصب. وأما (الاستفهام) فإذا لم يتمحض معناه للكلام بعده ويتبين فلا يجوز النصب بعده عند الناظم، فإن النصب عند المؤلف فيما ولي (الفاء) أو (الواو) بعد الاستفهام لا يجوز إلا إذا لم يتضمن وقوع الفعل، إما لأنه استفهام عن الفعل نفسه نحو: هل تسير فتصيب خيرا؟ وإما لأنه استفهام عن متعلق الفعل، غير محقق الوقوع نحو: متى تسير فأرافقك؟ . وفي الحديث: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر به؟ "فينصب لأنه جواب فعل غير واجب.

فلو كان الاستفهام غير متعلق فعل محقق الوقوع كقولك: لم تأتينا فتحدثنا؟ وأين ذهب زيد فنتبعه؟ فالفعل هنا محقق الوقوع، فليس الاستفهام فيه بمتمحض، فلم يجز النصب لأنه في معنى الواجب. وعلى أن ابن كيسان حكى النصب في جواب الاستفهام في نحو: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكم مالك/فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ . قال ابن المؤلف: ولا أراه يستقيم على مأخذ البصريين إلا بتأويل ما قبل (الفاء) باسم معمول لفعل أمر دل عليه الاستفهام، والتقدير: ليكن منك إعلام] بموضع ذهاب زيد فاتباع منا، وليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا، وليكن منك إعلام [بأبيك فإكرام مناله. ثم على الناظم هنا درك من وجهين: أحدهما: أن نصه على كون النفي محضا يقتضي أنه إذا دخل الاستفهام على النفي، فصيره تقديرا لا ينتصب الفعل معه بعد (الفاء) فلا تقول: ألم يقم زيد فيكرمك؟ لأن النفي هنا غير متمحض؛ بل صيرته الهمزة إي معنى آخر غير النفي، لكن ذلك جائز مطلقا، ولا أعلم أحدا خالف فيه. قال سيبويه: وتقول: ألم تأتينا فتحدثنا؟ إذا لم يكن على الأول، بمعنى: إذا لم تعطفه على المجزوم، ثم أنشد في النصب:

ألم تسأل فتخبرك الرسوم ... على فرتاج، والطلل القديم. ثم قال بعد ذلك: وتقول: ألست قد أتيتنا فتحدثنا؟ إذا جعلته جوابا، ولم تجعل الحديث وقع إلا بالإتيان. فهذا وما كان مثله النصب فيه بعد (الفاء) سائغ، وذلك عند الناظم، بمقتضى اشتراطه، غير سائغ، وهو إخلال. ولو كانت المسألة مختلفا فيها لكان له بعض العذر في الاحتراز منها إن لم يحجج بالدليل. والوجه الثاني أن الاستفهام أيضا قد يتغير معناه ولا يكون محضا، فينتصب جوابه بعد (الفاء) وذلك نحو قولك: هل أتيتنا فتحدثنا؟ إذا جعلت (هل) تعطي معنى النفي. وكذلك: هل أحسنت إلي فأكرمك؟ لأن (هل) قد تأتي للإشعار بالنفي نحو قوله: } هل من خالق غير الله}.} ومن يغفر الذنوب إلا الله}، وهو جائز قياسا بلا إشكال. والتقييد هنا يعطي خلاف ذلك. ولا يقال: إنه دائر بين النفي والاستفهام، فلا بد أن يدخل تحت أحدهما إن لم يدخل تحت الآخر، وكلاهما يشمله كلام الناظم- لأنا نقول: كلا المحملين غير محض في معناه، لأن الاستفهام، الذي هو الأصل، متروك بالمعنى

الطارئ، والنفي غير أصيل في (هل) فلا يدخل له تحت واحد منهما. والجواب عن الأول: أن نصب الفعل بعد التقرير] الأول [ليس جوابا للتقرير، وإنما هو جواب للنفي. وذلك أنك إذا قلت: ألم تأتنا فتحدثنا؟ ] أصله: لم تأتنا فتحدثنا [على معنى: لم تأتينا محدثا، وهكذا كل ما دخل عليه الاستفهام من النفي. والنصب قبل الاستفهام جائز، لأن ما قبل (الفاء) منفي حقيقة، فإذا دخلت الهمزة فإنما دخلت بعد استقرار النفي المحض، فأحدثت التقرير فبقي اللفظ كما كان، لوجود محرزة، وهو أداة النفي، ولا يضر حدوث ما حدث من المعنى، لأنه غير قادح في أصل معنى الكلام. والذي يبين هذا أن التقرير لو كان النصب جوابا له لكان نصبا بعد الواجب، وذلك لا يكون إلا في الشعر، لأن المعنى قد أتيتنا محدثا. ونظير هذا في اعتبار الأصل قولهم: كأنك لم تأتنا فتحدثنا، وقول الدارمي، أنشده سيبويه: كأنك لم تذبح لأهلك نعجة ... فيصبح ملقي بالفناء إهابها. قال الأعلم: شاهده/ النصب وإن كان معنى الكلام الإيجاب، مراعاة لما كان قبل دخول "كأن" يعني أن معنى الكلام أنك ذبحت،

وكذلك المعنى في: كأنك لم تأتنا، أي قد أتيتنا. وعلى ما تقرر نص ابن خروف في التقرير، وقال في هذا البيت: أبقي النصب كما أبقى الباء في قولك: ألست بزيد؟ يعني حين دخل التقرير، فنسخ معنى النفي اعتبارا بالأصل، فإذا قد دخل هذا المعنى تحت النفي المحض، فلا إشكال على الناظم فيه. والجواب عن الثاني جار على الجواب الأول في المعنى، لأن أصل الكلام الاستفهام، فروعي ذلك الأصل، والذي يبين ذلك أن النفي فيه ليس بصريح الدلالة إلا من جهة ما يلزم عن الاستفهام المراد به التقرير. وأصل المعنى أن المتكلم يستفهم المخاطب عن الإحسان الذي علق عليه الإكرام، وجعله سببا فيه، تقريرا له عليه إذا قال: هل أحسنت إلي فأكرمك؟ والمخاطب يعلم أنه لم يحسن إليه، فإذا لا إكرام؛ إذ لم يقع إحسان، فالنفي راجع إلى ما عند المتكلم والمخاطب، لا إلى نفس الاستفهام، لكن حصل من المجموع النفي معنى، والاستفهام حاصل، فلا درك على هذا الوجه. والله أعلم. ولما أتم الكلام على (الفاء) أخذ يذكر حكم (الواو) أختها في هذا الحكم، وهو الموضع الخامس من مواضع لزوم الإضمار، فقال: والواو كألفا إن تفد مفهوم مع ... كلا تكن جلدا وتظهرا الجزع. يعني أن (الواو) التي بمعنى (مع) حكمها حكم (الفاء) في جميع مالها، من كونها تقع جوابا للنفي المحض، والطلب المحض، أو جوابا للتمني أو الترجي، على حسب ما يذكره بعد هذا. فينتصب ما بعدها ب (أن) لازمة الإضمار، وليس مع (الواو) جواباً، لأن

السببية معها لا تكون، وإنما هو على نحو من الجواب في النفي والطلب. ووجه النصب بعدها نحو مما تقدم في (الفاء) من أن المعنى معها قد يكون على غير جهة مجرد الجمع الذي هو الأصل فيها. فإذا قلت: ما تأتينا وتحدثنا، فأصل الجمع فيه يفيد التشريك في عدم الإتيان، ثم إنهم قد يريدون معنى زائدا على الجمع المطلق، وهو المعية، أي: ما تجمع بين الإتيان والحديث معا، فأرادوا أن يدلوا على هذا المعنى بتغيير الكلام عن حده، إذ كان أصل الكلام لا يؤذيه، ففعلوا في (الفاء) ليحصل لهم ما أرادوا، فقدروا (أن) وألزموها الإضمار، وقدروا العطف على مصدر يعطيه معنى الكلام الأول، على حسب ما تقدم في (الفاء) من كل وجه، ولذلك أحال الناظم في حكم (الواو) على (الفاء) ولا يكون هذا إلا بعد غير الواجب، وهو النفي والطلب اللذان ذكر. فأما (النفي المحض) فنحو: ما تأتينا وتحدثنا، ويقال: لا يسعني شيء ويعجز عنك. ومنه قوله تعالى: } ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}. وإذا دخل الاستفهام/ على النفي فالحكم كذلك، لأن الأصل النفي كما تقدم، فلا اعتراض به على الناظم. ومنه قول الخطيئة، أنشده سيبويه رحمه الله تعالى:

ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء. ومن ذلك ما أنشده أيضا، من قول دريد بن الصمة: قتلت بعبد الله خير لداته ... ذؤابا فلم أفخر بذاك وأجزعا. وقال حسان بن ثابت- رضي الله عنه- أنشده ابن خروف: فإن لم أصدق ظنكم بتيقن ... فلا سقت الأوصال مني الرواعد. ويعلم أكفائي من الناس أنني ... أنا الحافظ الحامي الذمار المراود نصب (يعلم) على (لم أصدق) أي: إن لم يجتمع هذان، وهذا في صريح النفي. وأما النفي غير الصريح فلا ينتصب بعده الفعل، كما لو قلت: أنت غير قائم وتسير، لأن النفي غير متمحض، وكذلك: ما زال يأتينا ويحدثنا، وقلما يأتينا ويحدثنا، وما أنت إلا تأتينا وتحدثنا، وما كان مثل ذلك، من الأشياء التي لم يكن النفي فيها صريحا، فلا بد فيها من الرفع، كما تقدم في (الفاء).

وأما (الطلب) فعلى ستة أنواع: فالأمر نحو: زرني وأزورك، أي: ليكن منك لي زيارة، وزيارة مني لك. وأنشد سيبويه للأعشى: فقلت ادعى وأدعو إن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان. والنهي نحو قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وأنشد سيبويه للأخطل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم. وقوله تعالى: } ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق}. الآية، تحتمل النصب والجزم. والدعاء نحو: رب وفقني وأطيعك. وأما نحو: غفر الله لك ويدخلك الجنة، فعلى ما تقدم في (الفاء) وسيأتي إن شاء الله تعالى.

والاستفهام نحو: هل تأتينا وتحدثنا؟ وذلك إذا كان الاستفهام عن الفعل، أو عن متعلق الفعل، وهو غير محقق الوقوع نحو: هل تأتينا وتحدثنا؟ ومن يأتينا ويحدثنا؟ فأما إن كان الاستفهام يتضمن وقوع الفعل لا يكون النصب إلا ما مر في (الفاء). وأصل هذه المسألة للفارسي في "الإغفال" إذ رد على الزجاج في تجويزه النصب في قوله تعالى: } يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق}. وأنه لو قال: وتكتموا الحق على معنى: لم تجمعون بين ذا وذا- لجاز، ولكن الذي في القرآن أجود. فرد عليه الفارسي في هذا بمعنى ما تقدم، من كون الفعل هنا واجبا محقق الوقوع، فلا يصح فيه النصب إلا على من ينصب في الواجب، وهو شاذ، وقد ذكر مثل ذلك في (الفاء). والعرض نحو: ألا تنزل وتصيب خيرا؟ والتحضيض نحو: هلا تنزل وتصيب خيرا. والتمني والترجي سيأتيان إن شاء الله. فالحاصل: أن (الفاء) و (الواو) في هذا الباب على حكم واحد، وهو ما نص عليه الناظم. وأتى بمثال من ذلك نصب فيه ما بعد (الواو) بعد النهي، وهو قوله، "لا تكن

جلدًا وتظهر الجزع" أي لا يجتمع فيه الجلد وإظهار الجزع، والواو فيه تفيد المعية. وإنما قيدها بذلك لأن (الواو) إذا لم تفد ذلك المعنى فهي على أصلها من الجمع المطلق، فلا حاجة إلى تغيير/ الكلام، وإخراجه عن أصله. والجلد من الرجال: الصليب القوي على الشيء، يقال منه: جلد الرجل جلدا، وجلادة، وجلودة، فهو جلد وجليد. والجزع: ضد الصبر، وقد جزع- بالكسر- من الشيء، وأجزعه غيره. وجواب "إن تفد" في البيت محذوف، دل عليه قوله: "والواو كالفاء" وكان الوجه أن يأتي بالماضي، فإن الإتيان بالمضارع مختص بالشعر. وكذلك قوله بعد "إن تسقط الفاء" وقد مر من هذا مواضع. وبعد غير النفي جزما اعتمد ... إن تسقط ألفا والجزاء قد قصد. وشرط جزم بعد نهي أن تضع ... إن قبل لا دون تخالف يقع. يعني أن الفعل إذا وقع بعد غير الواجب في الأشياء المذكورة التي تقدم تفصيلها، وهي ينتصب بعدها مع (الفاء) فإنه ينجزم مع سقوط (الفاء) إلا ما وقع بعد النفي، فإنه لا ينجزم. فقوله: "وبعد غير النفي" متعلق ب "اعتمد" و"جزما" مفعول "اعتمد" وغير النفي هو الطلب إن سقطت (الفاء) التي انتصب بعدها، فتقول في

الأمر: إيتنا تحدثنا، وأسلم تسلم. ومنه قوله تعالى: } وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا}. وفي الحديث: "وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما". وتقول في النهي: لا تدن من الأسد تسلم. وفي الدعاء: اللهم اغفر لنا تدخلنا الجنة، وارزقنا مالا نتصدق به. وفي الاستفهام: هل جاءني أكرمه؟ وأين بيتك أزرك؟ وفي العرض: ألا تنزل تصب خبرا. وفي التحضيض: هلا تقرأ تنتفع؟ وأنشد الفراء: لو كنت إذ جئنا حاولت رؤيتنا ... أو جئتنا ما شيا لا يعرف الفرس. ذهب الخدب إلى (لو) هنا تحضيض لاتمن. وأما النفي: فلا ينجزم الفعل بعده إذا سقطت (الفاء) وإنما يكون مرفوعا فتقول: ما تأتينا تحدثنا، ولا يجوز "تحدثنا" ولذلك استثناه الناظم. وعلة ذلك ستذكر إن شاء الله. ثم ذكر أن الجزم، حيث ذكر، لا يكون إلا إذا قصد الجزاء، وذلك قوله: "والجزاء قد قصد" وهي جملة في موضع الحال، العامل فيها "تسقط" من

قوله: "إن تسقط الفاء" أي إن سقطت الفاء حال كون الجزاء مقصودا بذلك الفعل، أو يكون عاملة "اعتمد" أي اعتمد الجزم في هذا الحال، يعني أن الحكم بالجزم فيما ذكر إنما يكون إذا قصد به كونه جزاء لما تقدم من الكلام، أي مسببا عنه، فهناك يصح الجزم. أما إن لم يقصد به الجزاء فلا ينجزم، نحو قولك: أكرم زيدا يكرمك، ف "يكرمك" جزاء "أكرم" أي أن إكرامه لك مسبب عن إكرامك له، فإن لم تقصد ذلك رفعت فقلت: أكرم زيدا يكرمك، ف "يكرمك" مستأنف، أي هو كذلك، أو في موضع الحال من "زيدا". ومما جاء من ذلك مجزوما لأنه/ قصد به الجزاء جميع ما تقدم من الأمثلة. ومما جاء غير مجزوم لأنه لم يقصد به الجزاء قول الله تعالى: } ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}. وقال تعالى: } فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى}. وأنشد سيبويه للأخطل: وقال قائلهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يقضي لمقدار وأنشد أيضا، ونسبه ثعلب لعمرو لن الإطنابة ونسبه أبو عبيدة

لعمرو بن امرئ القيس: خالفت في الرأي كل ذي فخر ... يا مال والحق عنده فقفوا. تؤتون فيه الوفاء معترفا ... بالحق فيه لكم فلا تكفوا. استشهد سيبويه بعجز الأول وصدر الثاني، وأنشد أيضا: كونوا كمن آسى أخاه بنفسه ... نعيش جميعا أو نموت كلانا. وأنشد أيضا للأخطل: كروا إلى حريتكم تعمرونهما ... كما تكر إلى أوطانها البقر فهذه الشواهد وأمثالها إنما يرفع فيها الفعل على أحد ثلاثة أشياء: إما على القطع وابتداء الكلام، أو على الحال من المعرفة، أو على الصفة من النكرة، وعلى هذه يحمل الفعل بعد النفي.

وعليه في هذا الاشتراط نظر، فإن ما ينجزم بعد هذه الأمور على ضربين: أحدهما: أن يكون الجزاء مقصودا فيه كالأمثلة المتقدمة. والآخر: ألا يقصد ذلك فيه، ومع ذلك فالجزم فيه سائغ كقولك: قل له بفعل كذا، ومره بحفر البئر، ونحو هذا، فالجزم هنا صحيح وإن لم يكن على معنى: إن تقل له يفعل، وإن تأمره يحفر، وهو كثير. وفي القرآن الكريم: } قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة}. ف "يقيموا" مجزوم على جواب "قل" وليس المعنى على: إن تقل لهم يقيموا، ولو كان على ذلك المعنى لم يتخلف عن الإقامة أحد، وليس كذلك، فدل على أنه ليس على معنى قصد الجزاء. وكذلك قوله تعالى: } فذرهم يخوضوا ويلعبوا}.} ذرهم يأكلوا ويتمتعوا}.} قل للذين ءامنوا يغفروا}.} فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث}. على قراءة أبي عمرو، بجزم "يرث" وهو كثير. وإذا ثبت هذا، فمفهوم اشتراط الناظم يقتضي أن مثل هذا لا ينجزم، وهو غير صحيح. والجواب من وجهين:

أحدهما: أن يقال: لعله قائل بمذهب المازني والفرااء القائلين بن (يفعل) مبني لأنه فعل أمر، يعني (افعل) لكن زيد فيه حرف المضارعة حكاية، فإذا قلت: مرة يحفرها، أو فل له يفعل، بمعنى: قل له افعل، وأتى بالياء لأن صاحب الفعل غائب، كما تقول: حلف زيد ليخرجن، ولفظ يمينه "لأخرجن". قال السيرافي: وقواه الزجاج، وإذا ساغ هذا فلا عتب عليه. والثاني: أنه لو سلم نفي الخلاف في المسألة. لكان له وجه من التأويل يرجع به إلى ما اشترط، وذلك بأن يقدر أن المعنى على: إن تقل له يفعل، على قصد الجزاء. إما من جهة تغليب الظن بأن الأول إذا وقع وقع الثاني، وإما ثقة بأن الأمر كذلك يكون. وهذا لا إشكال فيه في كلام العباد، وأما في كلام الله تعالى: فعلى أن يكون ذلك/ راجعا إلى اعتقاد العباد] وظنهم [، كما قال سيبويه في قول الله تعالى: } فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}. وقد تقدم تقرير هذا المعنى، وبهذا التقرير يدخل كل ما اعترض به تحت اشتراط الناظم، فلا يبقى إشكال. وفي قوله: "والجزاء قد قصد" إشعار بالجزم للفعل في الجواب، لأن الجزاء إنما يكون لشرط تقدمه، ولا شك أن المعنى في الكلام مع الجزم على الشرط والجزاء. وقد أشعر بذلك أيضا في البيت بعد هذا، فقولك: أكرمني أكرمك،

في معنى: إن تكرمني أكرمك، ولا تدن من الأسد تسلم، في معنى: إن لا تدن منه تسلم، واللهم اغفر لنا تدخلنا الجنة، في معنى: إن تفعل ذلك يكن هذا. وكذلك الاستفهام وغيره، فقولك: أين بيتك أزرك؟ في معنى: إن أعرف موضع بيتك أزرك، وقولك: ألا تنزل عندنا تكرم، في معنى: إن تنزل تكرم. ولا خلاف في هذا إلا أنهم اختلفوا في الجازم ما هو؟ فمنعهم من جعل الجزم ب (إن) مقدرة، كأنه قال: إن تكرمني أكرمك، ثم وضع الأمر موضع الشرط. ومنهم من جعل الجزم بنفس الأمر، لما تضمن من معنى الشرط. وكلام سيبويه يحتمل الأمرين، وهو أظهر في الثاني، وإليه ذهب المؤلف، واختار ابنه الأول، والخطب في المسألة يسير، وكلاهما محتمل مما يقال به، فلا حاجة إلى الإكثار، وإنما كان هذا في غير الواجب، لأن الشرط غير واجب، فلا يقوم مقامه إلا غير واجب مثله، لأن الواجب بخلاف غير الواجب، فلا يصلح للقيام مقامه. ولما كان النفي في التحقيق واجبا لم يصلح أن يقوم مقام غير الواجب. ألا ترى أنه يحتمل الصدق والكذب إذا قلت: ما تأتينا، والشرط لا يحتمل ذلك. وأيضا إذا قدرت (إن) في موضع (ما تأتينا تحدثنا) فلا يخلو أن تبقى النفي أولا، فغن لم تبقه لزم أن يقوم ما ليس فيه حرف نفي مقام ما هو فيه، وذلك غير صحيح، كما يذكر في النهي إثر هذا إن شاء الله تعالى. فإن قلت: فقد تقدم أن النفي غير واجب، ولذلك نصبت معه بعد (الفاء) وها هنا زعمت أنه واجب.

فالجواب: أن المنفي هناك بغير الواجب أنه غير الخبر المثبت، وها هنا معناه أنه غير الخبر مطلقا. فالحاصل أن الجزم بعد النفي ممتنع، وهو مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى جوازه، ونسب إلى أبي القاسم الزجاجي القول به من ظاهر كلامه في "الجمل" وهو مذهب مردود بما تقدم آنفا، فلذلك لم يعتبره الناظم، واعلم أن كلام الناظم يشمل ما تقدم، مما ينتصب بعد (الفاء) وما سيأتي، فإن الترجي لم يتقدم له ذكر، كما تقدم تفسيره، وإنما ذكره متأخر عن هذا الموضع، وهو مما ينتصب معه الفعل بعد (الفاء) فينجزم الفعل مع إسقاطها بمقتضى هذا/ الإطلاق: فتقول: لعلي أراك أنتفع بك، وكذلك التمني نحو: ليت لي ما لا أنفق منه. ومما جاء من الجزم في التمني قول الشاعر: لعل التفاتا منك نحوي ميسر ... يمل منك بعد العسر لليسر جانبا. والكلام في جزمه على ما تقدم. ثم لما كان النهي محتاجا إلى ضميمة في جزم جوابه أردف بالكلام عليها فقال: "وشرط جزم بعد نهي أن تضع إن قبل لا". يعني أن الجزم إذا وقع بعد النهي فلا بد أن يكون ذلك الجزم بحيث يصح أن يقع (إن) في التقدير قبل (لا) التي للنهي، فإذا استقام الكلام صح الجزم.

فإذا قلت: لا تدن من الأسد- تسلم- صح الجزم هنا، لأنك إذا قدرته ب (إن)] قلت: إن لا تدن من الأسد تسلم، وهذا الكلام صحيح، بخلاف ما لو قلت: لا تدن من الأسد يأكلك، فها هنا لا يصح الجزم، لأنك إذا قدرته ب (إن) [قبل (لا) لم يستقم؛ إذ كنت تقول: إن لا تدن من الأسد يأكلك. وهذا محال لا يصح، ممن جهة أن عدم الدنو لا يكون سببا في الأكل، وهذا معنى التخالف الذي نبه عليه بقوله: "دون تخالف يقع". يعني من غير أن تقع مخالفة بين التقدير بالشرط والكلام الأول، فإذا حصل التخالف لم يصح الجزم، فينتقل إلى غيره، فيلزم الرفع هنا على الاستئناف. وهذا الحكم في الجزم مخالف لحكم النصب إذا قلت: لا تدن من الأسد فيأكلك× إذ المعنى فيه: عن تدن منه يأكلك، فلا يصح فيه الإتيان ب (لا) بعد (إن) إذ يصير المعنى: إن لا تدن منه يأكلك، وهذا محال. وكذلك إن قلت: لا تدن من الأسد تسلم، تقديره على الجزم: إن تدن منه تسلم، وهو غير صحيح، فلا بد من الرفع. ومن هنا قال سيبويه: وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء. ألا ترى أنك تقول: ما تأتينا فتحدثنا، والجزاء هنا محال. وذلك بعد ما قرر أن قولك: لا تدن من الأسد يأكلك- بالجزم- قبيح، يعني غير جائز، وأنك إن رفعت فالكلام حسن، وكذلك إن أدخلت الفاء فحسن.

والفرق بين الموضعين، حيث لزم في الجزم الإتيان ب (لا) دون النصب، أن الجزم إنما يجوز في فعل يصح كونه جوابا لشرط، دل عليه فعل النهي، وفعل النهي منفي في المعنى، فلا بد من تقدير فعل الشرط على موافقته فتقول: لا تدن من الأسد تسلم. وأما النصب: فإنما يجوز في فعل مسبب عن فعل قبل (الفاء) لا عن نفيه، لكنه نهى عنه طلبا لنفي المسبب لانتفاء سببه، كما في قولك: لا تدن من الأسد فيأكلك، فإن "الأكل" هنا أتى به مسببا عن "الدنو" ونهى عنه، خوفا من وقوع مسببه الذي هو "الأكل" بوقوعه. فالجزم بعد النهي لازم لنفي ما قبله، والنصب بعده لازم لثبوت ما قبله. فهذه علة اشتراط صحة الإتيان ب (لا) بعد (إن) في الجزم. وقد ظهر أن الناظم ذهب في المسألة مذهب الإمام والبصريين. وذهب الكسائي إلى جواز/ التخالف بين التقدير والمقدر، فتقول على مذهبه: لا تدن من الأسد يأكلك، وتقديره بإسقاط (لا) كأنه قال: إن تدن منه يأكلك. وقد احتج الكسائي بقول بعض العرب: لا تسألونا نجبكم بما تكرهون. وفي الحديث "أن بعض الصحابة قال في بعض المغازي: يا رسول الله، لا تشرف يصبك سهم من سهامهم". وروي أيضا: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا يؤذنا بريح الثوم" بجزم "يؤذنا".

والأكثر في الرواية على إثبات الياء، وجاء أيضا: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". وهذا الذي استدل له به لا مقنع فيه إذا سلم صحة الاستشهاد بالحديث في أحكام العربية، وهي طريقة المؤلف، لندوره، ولجواز أن يكون المجزوم ثانيا بدلا من المجزوم أولا لا جوابا، فالصحيح ما عليه البصريون، وهو كلام العرب. وقوله: "وشرط" مبتدأ خبره "أن تضع" و"إن" مفعول "تضع" و "دون تخالف" متعلق باسم فاعل حال من (إن) أي حالة كون (إن) بلا مخالفة في ذلك الكلام المقدر. وفي لفظه شيء، وذلك أنه جعل الشرط وضع (إن) قبل (لا) ولم يتعرض ل (لا) والشرط إنما هو أن توجد (لا) في التقدير، وكونها توضع (إن) قبلها أو بعدها أمر آخر. فلو قال مثلا: أن تضع (لا) مع (إن) لكان أصرح في مقصوده، ولكن لما كان وضع (إن) قبل (لا) لازما لوجودها اكتفى بذلك لوضوح المعنى. والله أعلم. نجز الجزء المبارك بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. ويتلوه إن شاء الله تعالى: والأمر إن كان بغير فعل فلا. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وكان الفراغ منه يوم الخميس المبارك تاسع عشر شهر رجب الفرد سنة اثنين وستين وثمانمائة من الهجرة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم.

والأمر إن كان بغير افعل فلا ... تنصب جوابه وجزمه اقبلا لما قدم أن الأمر ينتصب بعده الجواب إذا كان محضا، وكان كل ما يدل على الأمر المحض داخلا فيه، فدخل عليه ثم أسماء الأفعال كلها، إذ هي تدل على الأمر دلالة محضة، لا بالتأويل ولا بغير الوضع الأصيل- أراد أن يخرج ذلك، ويخص مواضع النصب، ويبين أن أسماء الأفعال لا يجري فيها ذلك الحكم، الذي هو النصب بعد الفاء. وأيضا لما كان ما يدل على الأمر، وكانت دلالته غير محضة، خارجا عن أن ينصب معربا بعد الفاء، ـ بما قيد به هناك- أراد أن ينص هنا على أن الجزم جائز فيه، وإن لم يجز النصب، فقال: "والأمر إن كان بغير افعل" إلى آخره. يعني أن الأمر إذا أتى في الكلام بصيغة غير صيغة الفعل المخصوص بالأمر- فلا يجوز النصب معه بعد الفاء، سواء كانت تلك الصيغة- للأمر في الأصل أولا، ويجوز الجزم إذا سقطت الفاء، وقصد معنى الجواب كما تقدم. وقد تقدم أن صيغة (افعل) ينتصب معها الفعل بعد الفاء، فلذلك لم يذكره. وقد ضم هذا الكلام من أنواع الصيغ الدالة على الأمر ثلاثة: أحدهما: اسم الفعل، سواء كان على وزن (فعال) أو على غير ذلك. فأما ما جاء على (فعال) فقولك: نزال أكرمك، ومناع زيدا من الشر تؤجر عليه، وتراك زيدا يخرج، ونحو ذلك، فتجزم بقصد الجواب، والجزم على ما تقدم. ولا يسوغ النصب بعد الفاء، فلا تقول: نزال فأكرمك، ولا مناع زيدا فتؤجر عليه. وأجاز ذلك الكسائي من أهل الكوفة، وابن جنى من أهل البصرة،

ذكر ذلك في "الخصائص" وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كابن عصفور، اعتبارا بالاشتقاق فيه، فإنه يتأتى بسببه أن يبنى منه المصدر كالفعل، فكما تقول في تقدير (أنزل أكرمك): ليكن منك نزول فإكرام مني، كذلك تقول في (نزال) لا فرق بين التقديرين في الفعل واسم الفعل. ورد عليه ابن المؤلف في "التكملة" بأنه ليس في كون (نزال) وشبهه مشتقا من المصدر ما يصحح تأويله بالمصدر، لأن المصحح للنصب في الفعل هو صحة تأويله بالمصدر، من جهة أنه يصح/ أن يقع صلة ل (أن) مؤولا بالمصدر، حتى يصح: أن يعطف عليه بالفاء، وذلك في الفعل سائغ إذا قلت: ليكن منك أن تقوم فتكرم، في تقدير: قم فتكرم، بخلاف اسم الفعل المشتق من المصدر، فإنه لا يقع في صلة (أن) ولا يقدر بالمصدر، وليس بمصدر في نفسه، فبان الفرق بينهما.

وأما ما جاء على غير (فعال) فنحو: صه أكلمك، ومه تكرم، ورويد أحسن إليك، وأنشد ثابت في "دلائله" قول الشاعر: رويد تصاهل بالعراق جيادتا ... كأنك بالضحاك قد قام نادبه. ومنه أيضا: عليك زيدا أكرمك، ودونك عمرا أحسن إليك، ومكانك تحمد رأيك، ومنه قول الشاعر: وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي. وكذلك ما أشبه هذا من أسماء الأفعال. ولا يجوز النصب كما قال، لا يسوغ التأويل بالمصدر، لأنها غير مشتقة، ولا صالحة لأن تقع في صلة (أن) ولا أن يقدر منها ما يصح فيه ذلك، حتى يصح العطف إذا كان النصب راجعا إلى عطف مصدر على مصدر، قال الفارسي: وليس العطف بالفاء في هذا كالجواب، فيجوز لقائل أن يقول: يجوز أن يجاب بالفاء كما جاز أن يجاب بجواب مجزوم، لأن الجواب المجزوم ليس

بمعطوف فيقتضى أن يكون المعطوف عليه مثله، فلهذا أجاز: صه يكن خيرا لك، وحسبك ينم الناس، ألا ترى أنك لو قلت: ايتني آتك، وجاز وإن كان الأول مبنيا والثاني معربا، لأنه ليس بمعطوف، ولو كان أراد العطف لم يجز، زرني أزرك. وقد أجاز ذلك الكسائي، فيجوز عنده أن تقول: عليك زيدا فأكرمك، وصه فأكلمك، وهو مردود بالقياس المتقدم آنفا، وبعدم السماع فيه، فلا يلتفت إليه. والنوع الثاني: من الأنواع الدالة على الأمر بلفظ الخبر، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون دعاء، والآخر: أن لا. والدعاء عند النحويين يطلقون عليه لفظ الأمر، لان صيغته كذلك. فأما الدعاء بلفظ الخبر فكقولك: غفر الله لك يدخلك الجنة، وأكرمك لا يحاسبك، ونحو ذلك. قال ابن الضائع: ويجري هذا المجرى، يعني مجرى (حسبك ينم الناس) ونحوه في الدعاء قولك: غفر الله لي أنج من عذاب الله، أي. إن غفر الله لي نجوت، فهذا معناه معنى (اللهم اغفر لي أنج) لكنه جاء مجئ لفظ الإخبار بالغفران على خلاف / الأصل، فصح الجزم، لأن معنى الشرط فيه صحيح، ولا يصح النصب، فلا تقول: غفر الله لك فيدخلك الجنة، وقد تقدم وجه ذلك. وأجازه الفراء والكسائي، وليس لهما في ذلك سماع يستند إليه، ولا قياس يعول عليه.

وأما غير الدعاء فمنه قولك: حسبك ينم الناس، أي اكتف ينم الناس. وقالوا: اتقي الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه، معناه: ليتق، ومنه قوله تعالى: } يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار}. الآية: بعد قوله: } تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}. قال الزجاج: هو جواب ل (تؤمنون) أي إن تؤمنوا يغفر لكم، وهو خبر معناه الأمر، والدليل عليه قراءة ابن مسعود: } آمنوا وجاهدوا} وفي الآية محمل آخر. ولا يجوز أن تنصب بعد الفاء، فتقول: حسبك فينام الناس، ونحو ذلك، والعلة في المنع عند ابن المؤلف ما تقدم في اسم الفعل، من عدم صحة تقديره بالمصدر، لأن الجملة الاسمية أو الفعلية لا يصح أن تتقدر بالمصدر، ولا تقع صلة ل (أن) فلا يصح أن ينتصب بعدها شيء. والنوع الثالث: التحذير والإغراء ونحوهما، نحو: إياك وزيدا تسلم منه، وأخاك أخاك تقو به. وهذا أولى في الجزم من قولك: حسبك ينم الناس، لأن باب "التحذير والإغراء" قام فيه المفعول مقام الفعل، فهو مقدر كأمه منطوق به، و"حسبك" لفظ خبري يعطي معنى فعل الأمر، ولا دلالة له على لفظه، فكان أبعد

منه، إلا أنهم لازموا هنا تقدير الفعل وعدم اللفظ به، فصار الأمر بغير (فعل) كما في (دونك، وعليك) وعلى ما اقتضاه كلام الناظم هنا لا يقال: إياك والأسد فتسلم ولا أخاك أخاك فتقوى به، لأنه شبيه بأسماء الأفعال في لزوم إقامته مقام الفعل. ومن هذا الباب ما قام من المصادر مقام أفعال الأمر لزوما، كضربا زيدا يتأدب، ولا يقال: فيتأدب. وهذا كله إنما أتيت به على ما يحتمله كلامه، وما يسوغه القياس، ولم أر فيه نصا فانظر فيه. ووجه امتناع النصب ما تقدم من تعذر تقدير الكلام بالمصدر، وعدم تأتي جعله صلة (أل). والفعل بعد لافاء في الرجا نصب ... كنصب ما إلى التمني ينتسب. هذا تمام الكلام في الجواب بالفاء، وهو ما لم يدخل له تحت العقد المتقدم/، لأن (الرجاء) ليس بطلب، كما كان الاستفهام والعرض والتحضيض ونحوها طلبا، وكذلك (التمني) لأن الطلب إنما هو ما أعطى معنى (افعل) فالاستفهام والعرض وغيرهما فيها معنى (افعل) فقولك: هل قام زيد؟ في معنى: أخبرني عن قيان زيد، وكذلك: ألا قمت، وهلا قمت، في معنى (قم) بخلاف الرجاء والتمني. وقد جعل ابن الناظم (التمني) داخلا تحت الطلب، فهو عنده

قسم سابع من أقسامه. وقد يشعر بذلك قول الناظم: "كنصب ما إلى التمني ينتسب" فأتى به في مساق المقرر الحكم، حيث جعله مشبها به. فإن أراد الناظم هذا فهو بعيد، لبعد الطلب في التقدير من معنى التمني. ألا ترى أنه لا يستلزم حضور مخاطب كالترجي، بخلاف الاستفهام وغيره مما تقدم، فالتمني والترجي من باب واحد، والفرق بينهما أن الرجاء إنما يكون في الممكن، كقولك: لعلي أحج، ولعلي أكرمك، والتمني يكون في الممكن وغير الممكن، نحو: ليت لي مالا أنفق منه، و: ليت هذا الليل شهر ... لا ترى فيه عربيا. فأخبر الناظم- رحمه الله- أن الفعل ينتصب بعد الفاء في الرجاء، فتقول في الرجاء: لعل لي مالا فأنفق منه، وقرأ حفص عن عاصم: } لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى} بنصب (أطلع) وقرأ عاصم أيضا: } وما يدريك لعله يزكي. أو يذكر فتنفعه الذكرى} بنصب

(فتنفعه) وذلك كله على جواب (لعل) ومعناها الترجي. وأنشد الفراء: عل صروف الدهر أودولاتها ... يدللننا اللمة من لماتها فيستريح القلب من زفراتها. بنصب "يستريح". والنصب بعدها ليس بكثير، لم يطرد في الكلام أن يقال: لعلك تأتينا فتحدثنا، ولكنه قد جاء في الكلام الفصيح الذي هو القرآن، فلا يقال: إنه ممتنع. وقد حكى ابن المؤلف في "التكلمة" عن البصريين أنهم يمنعون النصب بعد (الرجاء) لأنه في حكم الواجب، وحكى جوازه عن الكوفيين، بناء على كون "لعل" تأتي للاستفهام وللشك فيجاب في الوجهين، ومن أمثلتهم: لعلي سأحج فأزورك. والاستفهام ب (لعل) غير معروف عند البصريين. وقد استدل المؤلف على

ثبوته بقوله عليه السلام: "لعلنا أعجلناك" وبقوله: } وما يدريك لعله يزكى} ولا حجة في شيء من ذلك. /والصحيح أنها محمولة على التمني في نصب الجواب، لأن التمني والترجي متقاربان في المعنى، فكأنهم أشربوا (لعل) معنى (ليت) فنصبوا، وكذلك قال الجزولي: وأشربها معنى (ليت) من قرأ (فأطلع) نصبا. وإلى هذا أشار الناظم بقوله: "كنصب ما إلى التمني ينتسب" أي نصب على حد نصب ما انتسب إلى التمني، لتقارب معنييهما. ولما كان النصب في الترجي عنده ثابتا نبه عليه، وعلى أنه من كلام العرب، بقوله: "والفعل بعد الفاء في الرجا نصب" وأنه مثل التمني، فلا بد من القول بقياسه، كما يقوله الكوفيون، خلافا للبصريين على ما حكى ابنه عنهم، لكن ليس على ما يتأوله الكوفيون، بل على ما يتأوله البصريون. وقوله: "بعد الفاء" قيد للنصب بعد "الرجاء" وظاهره أنه مقتصر به على ما بعد الفاء، فإذن لا يدخل ما بعد الواو في هذا الحكم، فلا يقال: لعلي أحج وأزورك. وذلك غير مستقيم، لأن النحويين المتأخرين من البصريين يجيزون ذلك مطلقاً.

والجواب بالفاء والواو في الأجوبة الثمانية صحيح سائغ عندهم، ولم يستثنوا ترجيا ولا غيره. والجواب عن هذا أن ذكر الفاء ليس بقيد يخرج الواو، بل ذكرها ليلحقها بما تقدم من النفي والطلب. والناظم قد تقدم له أن الواو كالفاء في وقوعها جوابا إذا كانت بمعنى (مع) يعني حيثما وقعت، ومن مواقعها الرجاء والتمني، فلا بد أن تقع الواو فيهما فتقول إذن: لعلي أحج وأزورك، على معنى: لعلي يجتمع لي حج وزيارة لك، وهذا ظاهر. وقوله: "كنصب ما إلى التمني ينتسب" أي أن الفعل بعد الفاء إذا كان منتسبا إلى التمني، أي واقعا جوابا له، لأنه إذا وقع جوابا انتسب له، فقيل: جواب التمني، فإنه ينتصب أيضا، لأن الكلام مع التمني غير واجب، فاستوى في ذلك مع الاستفهام والدعاء ونحوهما، فتقول: ليت لي مالا فأنفق منه، ومنه قوله تعالى: } يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} وتقول في الواو إذا وقعت جوابا: ليت لي مالا وأنفق منه، ومنه قراءة حفص وحمزة: } فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} بنصب "نكذب" و"نكون" على جواب التمني، أي يا ليتنا يجتمع لنا هذا وهذا، وقرأ ابن عامر بنصب "نكون" على الجواب، ورفع "نكذب" عطفا على "نرد"/ولم يذكر ها هنا كون ما بعد الفاء جوابا في القصد، لذكر ذلك فيما تقدم، فلم يحتج إلى إعادته لأنه معلوم.

و"ما" في قوله: "ما إلى التمني" موصولة، وهي واقعة على الفعل الواقع جوابا. بعد الفاء. وإن على اسم خالص فعل عطف. تنصبه أن ثابتا أو منحذف هذا هو الموضع الثاني من الموضعين اللذين يجوز فيهما إظهار (أن) وإضمارها، وذلك إذا عطف الفعل على الاسم الخالص. يعني أن الفعل إذا عطف على اسم خالص، فإن ذلك الفعل ينتصب ب (أن) ثابتة غير محذوفة، أو محذوفة غير ثابتة، لكن قوله: "الخالص" يمكن أن يفسر بأحد وجهين: أحدهما أن يريد به ما أراد النحويون بقولهم: الاسم الصريح، أي غير المؤول، ومثلوا ذلك بنحو قولك: أعجبني قراءتك وتفهم، وإن شئت قلت: وأن تفهم. ومنه قوله تعالى: } وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} على قراءة النصب، وهي قراءة من عدا نافعا من السبعة. وأنشد سيبويه قول الشاعر، وهو لميسون بنت بحدل الكلابية:

للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف. ولا يختص هذا العطف بالواو، بل يجوز في غيرها أيضا، ولذلك لم يقيد ذلك الناظم، فيدخل فيه العطف (أو) كما في الآية المذكورة، والعطف ب (ثم) نحو قوله: إني وقتلي سليما ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر. وبغير ذلك. وقوله: "على اسم خالص" أعم من أن يكون ذلك الاسم مصدرا أو غيره، فالمصدر كما تقدم، وغير المصدر نحو قوله، وهو كعب الغنوي، أنشده سيبويه: وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول جعل "ويغضب" معطوفا على "الشيء" أي ما أنا بقؤول للشيء: غير نافع،

ولأن يغضب، أي للسبب المؤدي إلى الغضب، وقال الآخر: ولولا رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما. ومثال إظهار (أن) في هذا قول الشاعر: أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا. وإنما لزمت (أن) هنا لأجل المشاكلة، من حيث كان الفعل لا يعطف على الاسم إلا إذا كان الاسم مشاكلا للفعل، كاسم الفاعل ونحوه، فإن لم يكن مشاكلا فلا بد من رد الفعل إلى الاسم، وذلك مع تقدير (أن). وإنما/جاز إظهارها لأنها إذا ظظهرت مع الفعل كالاسم الصريح، ولذلك يطلق سيبيويه على (أن) أنها اسم، لما كانت في تقديره، فناسبت لذلك المعطوف عليه، وهو الاسم الصريح المتقدم، فجاز الإظهار لذلك، وفارق بذلك باب (ما تأتينا فتحدثنا) وهو المتحرز منه على هذا التفسير، لأن المعطوف عليه ليس بصريح، فلو أظهر لم يكن في اللفظ ما يعطف عليه، فامتنع. ومن هذا تحرز بقوله: "على اسم خالص) لأن المصدر في (ما تأتينا فتحدثنا) غير خالص، بل هو مقدر تقديرا معنويا، فلا يجوز أن تظهر (أن)

تقدم ذكره عند ذكر الأجوبة. والوجه الثاني: أن يكون معنى "الاسم الخالص" الذي لم يشبه الفعل، فكأنه خالص الاسمية، وعلى هذا حمله ابن الناظم، ومثاله ما تقدم، قال: فلو كان المعطوف عليه وصفا شبيها بالفعل لم يجز نصب الفعل المعطوف على ذلك الوصف، كما قد نبه عليه بقوله: "على اسم خالص" أي غير مقصود به معنى الفعل، قال ابن الناظم: واحترز بذلك من نحو: الطائر فيغضب زيد الذباب، فإن "يغضب": معطوف على اسم الفاعل، ولا يمكن أن ينصب، لأن اسم الفاعل مؤول بالفعل، لأن التقدير: الذي يطير فيغضب زيد الزباب، هذا ما قاله. وهو ممكن في التفسير، إلا أنه يرد على كلا التفسيرين إشكال. أما الأول فلا شك أنه يدخل عليه النصب، بل وجوبه في مسألة (الطائر فيغضب زيد الذباب) ونحوها من مسائل عطف الفعل على الاسم الذي بمعناه، نحو: مررت برجل ضارب ويشتم، والنصب هنا غير سائغ، لأنه في المعنى كعطف فعل على فعل، كما تقدم في "باب العطف". وأما الثاني: فيخرج له عن الحكم بالنصب المصدر المقدر ب (أن) والفعل، لأنه ليس باسم خالص عن قصد معنى الفعل، لان قولك: أعجبتني قراءتك وتفهم، في تقدير: أن تقرأ وتفهم، فلم يتمحض إلى جانب الاسم. فإن قال: إن المصدر غير شبيه بالفعل وإن كان عاملا عمله، وإنما عمل بالنيابة لا بالشبه، إذ لا شبه له بالفعل كشبه اسم الفاعل به. فالجواب أن هذا الاعتذار يدخل له في وجوب المنصب مسألة (الطائر

فيغضب زيد الذباب) لأن اسم الفاعل، بالألف واللام، إنما عمله بالنيابة لا بالشبه، لأنه في تقدير: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، والدليل على ذلك أنه يعمل وإن كان في معنى الماضي كما تقدم، فالإشكال وارد على التفسيرين/ معا. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن المصدر المقدر ب (أن) والفعل حاصل له حكم النصب كيف اعتقدته، فإن اعتبرت فيه تقدير الفعل فهو منصوب، فالمعطوف عليه مثله، وإن اعتبرت لفظ المصدر فهو صريح في الاسمية. وأما اسم الفاعل فله أيضا جهتان: جهة الاسمية الخالصة إذا قدرتها فيها، بحيث يكون نحو (قائم) في حكم: كاهل، وغارب، فلا شك على هذا التقدير في نصب الفعل بعده، نحو: يعجبني فاضل ويتكرم. وعلى هذا التقدير يصح قولك: عجبت من رجل ضارب ويشتم، بالنصب. والأخرى جهة معنى الفعل، والعطف فيها في المعنى من "باب عطف الفعل على الفعل" وقد تقدم أن الفعل يعطف على الاسم الذي يعطي معنى الفعل، إعمالا لمعناه، وإهمالا للفظه، فكأنه ليس باسم صريح بذلك الاعتبار، فخرج له عن الحكم بالنصب. وأما الثاني: من الإشكالين فهو قوي، والاعتذار عنه صعب، فلذلك كان التفسير الأول الذي جرى عليه الناس أولى، والله أعلم. وقوله: "فعل" مرفوع بفعل مضمر، يفسره "عطف" تقديره: وإن عطف على اسم خالص فعل عطف، و"ثابتا" حال من (أن) وذكره لأن

تذكيره جائز، و"منحذف" معطوف عليه، على لغة: رأيت زيد أراد "أو منحذفا" وشذ حذف أن ونصب في سوى ... ما مر فاقبل منه ما عدل روى. يعني أن حذف (أن) مع بقاء نصبها في غير المواضع المذكورة، حذفها فيه لا يجوز في الكلام، وما جاء منه فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، ومما جاء من ذلك ما أنشد سيبويه لعامر بن جوين الطائي: فلم أر مثلها خباسة واجد ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله. أراد: بعد ما كدت أن أفعله، وأنشد الكوفيون قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي.

وحكى الكسائي عن العرب: لا بد من تتبعها. وقيل: خذ اللص قبل يأخذك. وهذا نادر، وكلام العرب على خلاف ذلك، بل إذا حذفت (أن) رفعت الفعل، نحو قولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" وعلى الرفع أنشد سيبويه قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد الذات هل أنت مخلدي. ويقال: تفعل كذا أحسن، وتكرم الضيف خير لك، والمراد: أن تفعل، وأن تكرم كقول الله تعالى: } وأن تصوموا خير لكم} ومن ذلك في /أحد الوجهين قوله تعالى: } تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون} الآية بعد قوله: } هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} ففسر التجارة بالفعل، والمراد مصدره، فلما حذفت أداته وهي (أن) رفع، وهو كثير في كلام العرب. وقوله: (فاقبل منه ما عدل روى) تنكيت على مذهب الكوفيين القائلين بجواز الحذف مع بقاء النصب، قياسا على ما شذ من ذلك، على عادتهم

في القياس على الشذوذات، فكأنه يقول: إن ما جاء من ذلك برواية العدل فإن حكمه أن يقبل قبولا، ويحفظ فقط، لأنه شاذ، لا أن يقاس عليه. وهذا رد من جهة السماع، والقياس أيضا غير قابل له، لأن عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء، فلم تقو أن تحذف ويبقى عملها، كما تحذف عوامل الأسماء، ويبقى عملها: وإنما حذفت (أن) فيما تقدم لوجه من القياس موافق للسماع، ولولا ذلك لما أعمل فيها القياس، وهذا ظاهر. وجر "سوى ب (في) لأنها عنده متصرفة، وقد تقدم نصه على ذلك في باب "الاستثناء".

عوامل الجزم

عوامل الجزم بلا ولام طالبا ضع جزما ... في الفعل هكذا بلم ولما. واجزم بإن ومن وما ومهما ... أي متى أين أين إذ ما. وحيثما أنى وحرف إذ ما ... كإن وباقي الأدوات أسما. ابتدأ أولا بتعداد الجوازم للفعل، فذكر خمس عشرة أداة، وقسمها على قسمين: أحدهما: ما يجزم فعلا واحدا، وهن الأربع المتقدمة: لا واللام، ولم، ولما. ودل على ذلك من كلامه قوله: "ضع جازما في الفعل" وأول ما يثبت بهذه العبارة الفعل الواحد، وأيضا لما ذكر قوله: "واجزم بإن" فاستأنف ذكر الحكم بالجزم، ودل ذلك على أنه قسم آخر أعقبه بأنه يجزم فعلين بقوله: "فعلين يقتضين" فحصل أن ما تقدم في القسم الأول إنما يجزم فعلا واحدا، بسبب تقييده القسم الثاني، وإطلاقه في القسم الأول. فأما (لا) فهي الناهية، لقوله: "طالبا" وهو حال من فاعل "ضع" كأنه قال: ضع جزما في الفعل ب (لا) و (اللام) حالة كونك طالبا بهما، ولا تكون طالباً

بهما إلا وهما أداتان للطلب. وتحرز بكون (لا) للطلب من النافية، نحو: لا يقوم زيد، فإنها غير عاملة، لدخولها على الأسماء والأفعال، وعدم اختصاصها بالفعل. ومثال ذلك قولك: لا تضرب زيدا، ولا يخرج من عندك، ومنه قوله تعالى: } لا تفتروا على الله كذبا}. و} لا تقولوا على الله إلا الحق} و} لا يسخر قوم من قوم} الآية. وإنما قال: "طالبا" فأتى بلفظ الطلب الذي هو أعم من الأمر والنهي ليحصل له معناهما، لأن النهي طلب، وكذلك الأمر طلب. وقد أتى بأداتين، إحداهما للنهي، والأخرى للأمر، فلو لم يأت بلفظ الطلب لاحتاج إلى أن يقول: (لا) للنهي، واللام للأمر، فآثر الاختصار. وأيضا فيشمل لفظ الطلب الدعاء، نحو قوله تعالى: } ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا ... ربنا ولا تحملنا} ونحو ذلك. وكذلك قول جرير يهجو الأخطل: بكى دوبل لا يرقئ الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل.

وأما اللام فهي لام الأمر نحو: ليقم زيد، وليكن كذا. ومنه قوله تعالى: } فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي}. وقوله: } فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه}. وقرأ عثمان وأنس وأبي: "فبذلك فلتفرحوا" بالتاء. ويشمل الطلب لام الدعاء نحو: لتغفر اللهم لنا. ومنه قوله تعالى: } ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك}. وقول أبي طالب: فليكن المغلوب غير الغالب ... وليكن المسلوب غير السالب. ولم ينص الناظم على اشتراط ظهور اللام، ولا بد منه على مذهب البصريين، لكنه بإطلاقه يدل على ذلك، لأن الأصل في كل عامل الظهور، وأيضا فإنه أتى باللام مع: لا، ولم، ولما، وهن لا يضمرن أبدا، فكذلك اللام، وهو المذهب الصحيح، وذلك لأن الجزم في الأفعال نظير الجر في الأسماء، وقد ثبت في حروف الجر أنها إنما تعمل ظاهرة، فكذلك حروف الجزم. وما جاء من ذلك

مخالفا للقاعدة فشاذ، نحو ما أنشده سيبويه لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا وأنشد أيضا لمتمم بن نويرة: على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى. وأنشد الفراء: فلا تستطل مني بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير فيك نصيب. وأنشد أيضا: من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تنهه المقادر

وذهب الكسائي إلى جواز ذلك، وعليه حمل قوله تعالى: } قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون} الآية/أي ليغفروا، وفي بيت متمم شاهد له أيضا على مذهب المؤلف. قال ابنه: لتمكنه من أن يقول: "ولبيك" وكذلك قوله: قلت لبواب لديه دارها ... تأذن فإني حمؤها وجارها. لأنه لو لم يؤثر الجزم باللام المحذوفة لقال: (إيذن) بلفظ الأمر. وهذا كله لا دليل فيه لشذوذه، والآية مجزومة على جواب الأمر، أي قل لهم: اغفروا يغفروا، وكذلك} قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} الآية. ثم قال: } هكذا بلم ولما" يعني أن الفعل يجزم بهذين الحرفين أيضا، وهما لم ولما. أما (لم) فهي أداة معناها النفي، وهي مختصة بنفي الماضي المنقطع، تقول: ندم زيد ولم تنفعه الندامة، أي ما نفعته عقيب ندمه،

بخلاف (لما) فإنها لنفي الماضي غير المنقطع، تقول: ندم ولما تنفعه الندامة إلى الآن، ف (لم) لنفي (فعل) و (لما) لنفي (قد فعل). فمقال الجزم بلم قولك: لم يقم زيد. ومنه قوله تعالى: } هل أتى على الإنسان حسن من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}. فهذا نفي للماضي المنقطع، وكذلك قول عبد الله بن عبد الأعلى القرشي أنشده سيبويه: وكنت إذ كنت إلهي وحدكا ... لم يك شيء يا إلهي قبلكا فيصح أن يقال هنا: لم يكن، ثم كان. وكذلك قول الطرماح: لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم ... رجال يرضون بالإغماض وأما (لما) فمثالها: لم يقم زيد. ومنه قوله تعالى: } أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله} الآية، أي ولم يعلم إلى الآن، فلا يقال في مثل هذا: لم يكن ثم كان. وقال تعالى: } كلا لما يقض ما أمره}. وقال الشاعر: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق

واعلم أن (لما) على ثلاثة أقسام: نافية، وهي الجاذمة المذكورة هنا، واستثنائية بمعنى (إلا) وهي نحو قولك: عزمت عليم لما فعلت. ومنه قوله تعالى: } وإن كل لما جميع لدينا محضرون} و} إن كل نفس لما عليها حافظ} على قراءة التشديد، وهي لابن عامر وعاصم وحمزة. وحرف وجوب لوجوب فيما مضى، نحو: لما قام زيد قام عمرو. والثانية والثالثة: لاحظ للجزم فيهما، وكلام الناظم لا يقتضي اختصاص الجزم بالنافية دون غيرها، ففيه إيهام، إذ لم يبين ذلك، وكان حقه أن يبين. والقسم الثاني من قسمي الجوازم ما يجزم فعلين، وهي إحدى عشرة أداة، وهي: إن، ومن، وما، ومهما، وأي، ومتى، وأيان، وأين، وإذ ما، وحيثما، وأنى. وهي قسمان: حروف، وأسماء، /وسيذكر ذلك. فأما (إن) المكسورة الخفيفة فتقول فيها: إن يقم زيد يقم عمرو. ومنه قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}. وقوله: } إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}. وهي أم الباب، ولذلك يجوز أن يليها الاسم في اللفظ في فصيح

الكلام، وإن كان على إضمار الفعل، فتقول: إن زيد قام أكرمته، ولا يجوز ذلك في غيرها إلا في الشعر، نحو ما أنشده سيبويه: صعدة نابت في حائر .... أينما الريح تميلها تمل. وأيضا فما عداها إنما يعمل عملها لتضمن معناها. وأما (من) فهي اسم لمن يعقلـ ومثال الجزم بها قولك: من يكرمني أكرمه، قال تعالى: } ومن يؤمن بالله يهد قلبه} وقال: } ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله} الآية .. وأنشد سيبويه للأعشى: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرا ومسحبا. وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا

وأنشد أيضا لزهير: ومن لا يقدم رجله مطمئنة ... فيثبتها في مستوى الأرض تزلق. وأما (ما) فهي اسم مبهم يقع على كل شيء، ومثال الجزم بها: ما تفعل أفعل مثله. قال الله تعالى: } ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}. وقال تعالى: } وما تفعلوا ممن خير يعلمه الله}.} وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم}. الآية. وقال حسان: ما يقسم الله أقبل غير مبتئس ... منه وأقعد كريما ناعم البال وقال الكميت: وما يك في الناس من نائل ... جزيل فنائلهم أجزل. وأما (مهما) فهي بمعنى (ما) وكذلك أصلها عند الخليل (ما) ثم أدخلت عليها (ما) فاستقبحوا تكرار اللفظ، فأبدلوا الألف الأولى هاء.

ومن الجزم بها قول الله تعالى: } وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين}. وقال زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم. وأما (أي) فنحو قولك: أي الناس يأتني أكرمه، وهي لتعميم أوصاف الشيء. ومن الجزم بها ما أنشده سيبويه من قول ابن همام السلولي: لما تمكن دنياهم أطاعهم ... في أي نحو يميلوا دينه يمل. وقال لبيد: فأي أوان ما تجئني منيتي ... بقصد من المعروف لا أتعجب. وأما (متى) فمثال الجزم بها قولك: متى تكرمني أكرمك. قال الحطيئة أنشده سيبويه:

/متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد وأنشد أيضا قول الآخر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا. وأنشد أيضا لطرفة: ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد وأما (أيان) فالسماع بها قليل، ولكنه جائز نحو: أيان تأتني آتك، ومنه قوله الشاعر:

أيان نؤمنك تأمن غيرنا ومتى ... لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا وقد جعلها الفارسي في "التذكرة" من قبيل ما لا يجازى به، نحو: كيف، وكم، وما ذاك إلا لندور السماع فيها. وأما (أين) فمثال الجزم بها قولك: أين تجلس أجلس. قال الله تعالى: } أينما تكونوا يدرككم الموت}. وقال ابن همام السلولي أنشده سيبويه: أين تضرب بنا العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتلاقي وأنشد أيضا: صعدة نابتة في حائر ... أينما الريح تميلها تمل. وأما (إذ ما) فهي (إذ) التي هي ظرف لما مضى، زيدت عليها (ما) فصارت بمعنى (إن) للمستقبل، نحو: إذ ما تقم أكرمك. ولا تكون شرطية دون (ما) أصلا، والخلاف في كونها حرفا أو ظرفا سيأتي بعيد هذا إن شاء الله.

ومن الجزم بها في السماع ما أنشده سيبويه من قول ابن همام السلولي: إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... أصعد سيرا في البلاد وأفرع فإني من قوم سواكم وإنما ... رجالي فهم بالحجاز وأشجع. وأما (حيثما) فهي (حيث) لحقتها (ما) ولا تكون شرطية إلا مع (ما) فلذلك أتى بها مع (ما) كما فعل في (إذ ما) بخلاف سائر الأدوات، فإنها يكون منها جوازم بما دونها، فتقول: أين تكن أكن} وأينما تكونوا يدرككم الموت} ومتى ما يأتني آتك، ومتى تأتني آتك، ونحو ذلك، فكل ما قيده الناظم ب (ما) فلا يكون جازما إلا بها. ومن الجزم بها قولك: حيثما تجلس أجلس، وأنشد ابن الناظم: حيثما تستقم يقدر لك الله ... نجاحا في غابر الأزمان. ومما يشعر بالجزاء فيها قوله تعالى: }} وحيثما كنتم فولوا

وجوهكم شطره} فأتى بالفاء في الجواب. وأما (أتى) فهي لتعميم الأحوال، وقد تأتي ظرف زمان أو مكان. ومثال الجزم بها قولك: أنى تفعل كذا أكرمك، ومنه قول لبيد أنشده سيبويه: فأصبحت أتى تأتها تبتئس بها .. كلا مركبيها تحت رجلك شاجر. وهنا انتهى ما أتى به من الأدوات الجازمة لفعلين. ودل ذلك على أن (كيف، وكم) لا يكونان منها، وكذلك (إذا). أما (كيف) فمذهب البصريين عدم الجزاء بها، وخالف في ذلك الكوفيون، فجعلوها في الجزاء بها كمتى وأين، فيجوز عندهم أن تقول/ كيفما تكن أكن، وكيف تفعل أفعل. وأما (كم) فذكر غير قطرب أنه جائز أن تقول: كم تلبس ألبس، ونحوه. ومعتمدهم القياس على ظروف الزمان والمكان لملاقاتها إياها في المعنى، إذ كان معنى (كيفما تكن أكن) في أي حال تكن أكن، كما أن معنى (أين تكن أكن) في أي مكان تكن أكن، ومعنى (متى تقم أقم) في

أي زمان تقم أقم. وأيضا فكل اسم من أسماء الاستفهام قد استعمل في هذا الباب، إلا (كيف، وكم) وهما قابلان، من حيث وقعا مستفهما بهما، لاجتماع أدوات الشرط والاستفهام، في كون ما بهدهما غير موجب، فإذا دخل جميع أسماء الاستفهام في الشرط سماعا دونهما فالقياس سائغ فيهما، فيتدخلان. وهذا قياس يهدمه السماع، إذ لم تفعل العرب ذلك، ولم يوجد لها الجزم بكيف، وإن كان الجزم بها في المعنى صحيحا، إذ جائز أن تقول: كيف تصنع أصنع. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: } ينفق كيف يشاء}. وقوله: } فيبسطه في السماء كيف يشاء} إذ المعنى: كيف يشاء بسطه بسطه، وكيف يشاء أن ينفق أنفق. وإنما امتنع البصريون من الجزاء بهما لعدم السماع، لا لأجل القياس، إذ هو قابل للجزاء بهما. قال الفارسي في "التذكرة" حين ذكر (كيف): ونظير ذلك في أن لم يجاز به (كم، وأيان) قال: ولو جوزي بكيف لكان جائزا، والمعنى عليه، قال: وعلى ذلك يدل كلام سيبويه، وأشار بذلك إلى قول سيبويه: وسألت الخليل- رحمه الله- عن قوله: كيف تصنع أصنع. فقال: هي مستكرهة، وليست من حروف الجزاء، ومخرجها على الجزاء، لأن معناها: على أي حال تكن أكن.

وقد فرق النحويون بين (كيف) وغيرها بأوجه، منها أن جوابها لا يكون إلا نكرة فتقول: كيف زيد؟ فيقال: سقيم، ولا تقول: السقيم، لأنه سؤال عن الحال، والحال نكرة، بخلاف (متى) وغيرها، فإن جوابها يكون معرفة ونكرة، فلما قصرت عن حال أخواتها لم يبلغ من قوتها أن تجري في الجزاء مجراها. ومنها أن (كيف) قصرت عن نظائرها أيضا بأنها لا يخبر عنها، ولا يعود إليها ضمير، كما / يكون ذلك في: من وما، ومهما، وأي وهذا الوجه ضعيف، والمعتمد السماع. وعلل المنع في (كم) بأنهم استغنوا عن الجزاء بها بالجزاء ب (ما) لدخول معناها تحت معنى (ما) إذا قلت: ما تأكل آكل عدده، وما تلبس ألبس عدده، فتقع على المعدودات وغيرها، لما فيها من الإبهام، كما استغنوا عن (وذر، وودع) بترك. وباب "الاستغناء" كثير. وقد علل الفارسي أيضا بهذا النحو في (كيف) وذكر غيره أنهم استغنوا عنها بأني، لأنها تأتي بمعناها. وأما (إذا) فلا يجازى بها أيضا في الكلام، كما أشعر به النظم، فلا يقال: إذا تقم أقم، وإنما الوجه الرفع، إلا أن يضطر شاعر إلى الجزم فيجوز، لأن معنى الجزاء حاصل فيها، وأنها للمستقبل ك (إن) ولأن وقتها غير معلوم، فأشبهت (إن) في جهالة الوقت، لأن الكون مع (إن) لا يدري كونه، فلا يدري وقت كونه.

ومما جاء مجزوما بها ما أنشده سيبويه من قول قيس بن الخطيم: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب. فقوله: "فنضارب" دليل على جزم ما عطف عليه، وهو موضع "كان" وذلك يدل على جزم موضع "قصرت" وأنشد أيضا للفرزدق: ترفع لي خندق والله يرفع لي ... نارا إذا خمدت نيرانهم تقد. وأنشد أيضا لبعض بني سلول: إذا لم تزل في كل دار عرفتها ... لها واكف من دمع عينيك تسجم. قال سيبويه: فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيد قول

كعب بن زهير: وإذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشمس ناشطا مذعورا. وأنشد أيضا في الرفع لدى الرمة: تصغي إذا شدها بالرحل جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب. وإنما كان الوجه الرفع، لأن (إذا) إنما تكون لما كان من المستقبل معلوم الوقوع، بخلاف (إن) فإنها إنما تكون لما يجهل وقوعه، ولذلك يجوز أن تقول: آيتك إذا احمر البسر، أو إذا غربت الشمس، ولا يصلح أن تقول: آتيك إن احمر البسر، أو إن غربت الشمس، ففارقت (إن) بذلك، فلم تجر مجراها، لكنها من حيث الاستقبال والمشاركة لها، فاعتبر ذلك في الضرورة. ثم قال الناظم- رحمه الله- (وحرف إذ ما كان) إلى آخره. يعني أن هذه الأدوات التي تجزم فعلين على قسمين: أسماء، وحروف.

فأما الحروف فإن وغذ ما. أما /كون (إن) حرفا فمعلوم، ولا خلاف في ذلك، وأما كون (إذ ما) حرفا فهو موضع الإشكال، ولذلك اعتمد التعريف بذلك فيها، فقال: (وحرف إذ ما) فقدم الخبر تنبيها على الاعتناء بكونها حرفا لا اسما، أو أتى بها نكرة مبتدأ بها، والخبر ما بعدها، إشعارا بالحصر في المعنى، أي إنما هي حرف لا اسم، وشبهها ب (إن) التي هي شهيرة في الحرفية، ونبه بهذا الحصر على الخلاف الواقع في (إذما). فمذهب سيبويه أنها حرف، كما ذهب إليه الناظم، وكان أصلها (إذ) التي هي ظرف زمان لما مضى، فضمت إليها (ما) وصيرتا حرفا واحدا يدل على الاستقبال، وصار التركيب ناقلا لها. عن حكم أصلها، كما كان التركيب في (إنما) و (قلما) ونحوهما ناقلا لها. عن الحكم الأول. ولو كانت باقية على أصلها لكانت ظرفا لما مضى، ولم يصح إن تقع للجزاء. وأيضا فلا دليل يدل على بقاء الاسمية ومعناها كمعنى (إن) فالحمل على ما ظهر أولى، وهو أصل مبين في الأصول، ولا نكر في أن تكون الكلمة قبل التركيب من قبيل، ثم تنتقل بالتركيب إلى قبيل آخر، كما في (قلما) ونحوه، وعلى ما ذهب إليه الإمام جمهور النحويين.

ونقل عن المبرد وابن السراج والفارسي القول باسميتها كما كانت في الأصل، وأنها بمعنى: أي حين، أو بمعنى: أي مكان. ورد عليهم ابن خروف وغيره بالاستقبال وبقوله: - إذ ما تريني اليوم موجى ظعينتي* والمراد، لا محاله: إما تريني، فدخول "اليوم" يفسد معنى: أي حين، بلا بد، وقد استدل لمذهبه بأن نقل (إذ) مع (ما) للاستقبال لا يخرجها عن وضعها، فإنها قد تأتي للاستقبال، حكى ذلك عن أبي عبيدة، واستدلوا على ذلك بقوله يجزيه رب العالمين إذ جزى ... جنات عدن في العلالي العلى وأيضا فلو كان التركيب مع (ما) مخرجا عن الاسمية إلى الحرفية لكان مخرجا ل (حيثما) عن الاسمية، وذلك غير صحيح بلا اتفاق، فإنها عند الجميع اسم لا حرف، فكذلك ينبغي أن تكون (إذ ما). وأجيب عن الأول بأن استعمال (إذ) في الاستقبال غير معروف، وما احتج به لا حجة فيه، لاحتمال حملها على المضي. وعن الثاني بالفرق بين (إذ ما) و (حيثما) أن (حيثما) لم تزل عما كانت عليه قبل من الدلالة على المكان، بخلاف (إذ ما) فإنها كانت قبل دخول (ما)

عليها اسم زمان ماض، فلما دخلت/ (ما) عليها صيرتها تدل على غير ما كانت تدل عليه، وهو مستقبل، ولم تظهر فيها أمارة اسمية، فلذلك ادعى في (حيثما) البقاء على ما كانت عليه، بخلاف (إذ ما) وهذا واضح. وأما الأسماء فما عدا ما ذكر، وذلك قوله: "وباقي الأدوات أسما" أي باقي الأدوات الجازمة لفعلين أسماء لا حروف، وإن كانت مع ذلك تدل على معنى (إن) لكن أمارات الأسماء موجودة. والباقي المذكور تسع أدوات، كلها قد تضمن معنى (إن) وبذلك عملت عملها، وهي على خمسة أضرب: اسم محض، واسم يشبه الظرف، وظرف زمان، وظرف مكان، وجار على حكم ما صاحبه. فالأول: ثلاث أدوات، وهي: من، وما، ومهما. والثاني: (أنى) إذ هي في معنى (كيف) وقد تستعمل ظرفا كقوله: } أنك لك هذا}. أي من أين لك هذا؟ ويلحق بها (كيف) عند من ألحقها. والثالث: (متى) و (أيان) ويلحق بها (إذا) في الشعر. والرابع: (حيثما) و (أين). والخامس: (أي) فهي بحسب ما تضاف إليه، إن أضيف إلى اسم محض فهي اسم، أو إلى ظرف فهي كذلك، نحو قولك: أيهم تكرمه يكرمك، وأي مكان تجلس أجلس فيه، وأي يوم تسر أسر معك. وفي قوله: "وباقي الأدوات أسما" إشعار بانحتام اسمية (مهما) عنده، وهو كذلك عند النحويين، لثبوت اسميتها بإعادة الضمير عليها في

نحو قوله تعالى: } وقالوا مهما تأتنا به من آية} الآية، إلا أبا زيد السهيلي، فإنه زعم أنها تكون اسما في الموضع الذي يعود عليها فيه ضمير كما في الآية، وتكون حرفا في الموضع الذي لا يعود عليها فيه ضمير، كقول زهير بن أبي سلمى: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم. قال: هي هنا حرف، لأنها لا موضع لها من الإعراب، فهي بمنزلة (إن) قال: وإنما كانت كذلك لأنها مركبة من (ما) الشرطية و (ما) الزائدة، فإذا غلب عليها حكم الحرف الزائد كانت حرفا، وإذا غلب عليها حكم (ما) الشرطية صارت اسما. ثم فرق في الدعوى بينها وبين (حيثما) و (كيفما). ورد عليه الشلوبين بأنه بني في البيت على أنها ليس لها فيه موضع من الإعراب، وإنما ذلك إذا كان "من خليقة" فاعل "كان" إن كانت تامة، أو اسمها إن كانت ناقصة، و "من" زائدة، و"عند امرئ" خبر الناقصة، أو متعلق بها إن كانت تامة، وهذا لا ضرورة تدعو إليه إذا ثبت اسميتها، ويمكن أن يكون/لها في البيت موضع من الإعراب، بتقدير كون مرفوع

(كان) ضميرا عائدا على "مهما" وأنثه حملا على المعنى، و"من خليقة" تفسير معنى "مهما" وهذا صحيح. وما ذكره من التوحيد إنما يصح مع موافقة السماع، وهو لم يوافقه فلا يلتفت إليه. وقوله: "وحرف إذ ما" مبتدأ وخبر، والخبر مقدم، والأصل: وإذ ما حرف، ولكنه قدمه لما ذكر من التنكيت على مذهب المخالف، ويجوز أن تكون "حرف" مبتدأ خبره ما بعده، وابتدأ بالنكرة لما فيها من معنى الحصر المقصود، كقولهم: "شر آهر ذا ناب" أي: ما أهره إلا شر، فكذلك المعنى هنا. فعلين يقتضين شرط قدما ... يتلو الجزاء وجوابا وسما. ذكر في هذين الشطرين أولا أن هذه الأدوات المذكورة تطلب فعلين اثنين فالضمير في قوله: "يقتضين" عائد على لأدوات، والاقتضاء هنا بمعنى الطلب، أي يطلبن فعلين، والفعلان المطلوبان هما: فعل الشرط، ولا بد من كونه مجزوما في اللفظ إن كان مضارعا، أو في الموضع إن كان ماضيا، لأنهن من الأدوات الجوازم، وفعل الجواب، ولا بد أيضا من الجزم فيه، أو في موضعه. وفي قوله: "فعلين يقتضين" إشعار بأن الأدوات المذكورة هي العاملة الجزم في الفعلين معا، لأنه وضعها جوازم، ثم ذكر محل الجزم الذي تطلبه، فذكر فعلين، فدل على أن الجزم فيهما معا بالأداة الداخلة على جملة الشرط، وهذا الذي ذهب إليه الناظم هو أحد المذاهب الأربعة في المسألة.

فمن النحويين من ذهب إلى جزمهما بالأداة وحدها كما تقدم. ومنهم من ذهب إلى أن الفعل الأول مجزوم بها، والثاني: مجزوم بفعل الشرط، فليس على هذا المذهب بجازمة إلا فعلا واحدا. ومنهم من ذه إلى أن الأداة هي الجازمة للأول وحده، وأما الثاني فمجزوم بالأداة وما عملت فيه، وهو فعل الشرط. وعليه حمل قول الخليل: إنما إذا قلت: إن تأتني آتك، / ف (آتك) انجزمت ب (إن تأتني) وقد يظهر من كلام سيبويه في قوله: وينجزم الجواب بما قبله. وذهب الكوفيون إلى أن جزم فعل الجواب على الجوار، لمجاورته المجزوم، وهو فعل الشرط. والأصح من هذه المذاهب مذهب الناظم، وقد أشعر في كلامه بالعلة التي لأجلها ذهب إلى ما ذهب إليه، وذلك أن العمل أصله الطلب، فكل عامل/إنما يثبت له العمل إذا ثبت طلبه له، وإذا كان يطلب أكثر من عامل واحد فلا بد من أن يقتضي جميع ما يطلبه، كالفعل اللازم، والمتعدي إلى واحد، أو إلى اثنين، أو ثلاثة. وبهذا احتجوا في القول بعمل المبتدأ في الخبر، وليس بفعل ولا مشتق من فعل، وهو ظاهر. لكن شرط العمل بعد ثبوت الطلب أمران: أحدهما: الاختصاص وهو في الحقيقة، المحقق للطلب. والثاني: أن لا يصير مع مطلوبه كالشيء الواحد، فالعلة هي الطلب، وهو المناسب للعمل وما عدا ذلك شرط.

وهذه المسألة موضع بيانها الأصول، وقد ذكرها النوحويون، وإليها الإشارة بقول الناظم: "فعلين يقتضين" فآتي بعلة العمل، ليشعر أن الأداة هي الطالبة للفعلين، وإذا كان كذلك، وحصل شرطا العمل، وهما الاختصاص، وألا يصير الطالب كجزء من المطلوب- ثبت له العمل بلا شك، وثبت أن الفعل ليس بعامل في الفعل، لأن الفعل غير طالب للفعل. فإن قيل: إنه طلبه لما كان شرطا- فيقال: فالشرط هو الطالب لا الفعل، وكذلك يقال في قول الخليل: إن الجملة، من الأداة والفعل، هي العاملة، لأن الفعل دخيل في الطلب، والأداة هي الطالبة. وأما مذهب الكوفيون فضعيف جدا، فلا معنى للاشتغال برده. وقد خالف الناظم هنا مذهبه في "التسهيل" إذ جعل الفعل الأول هو الجازم للثاني، ومذهبه هنا أسد. واعترض هذا المذهب بأوجه، منها أن الأدوات لا تقتضي الفعلين معا، وإنما تقتضي الفعل الأول، والفعل الأول هو الذي يقتضي الثاني، فينبغي أن يكون هو العامل، وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب عنه. أيضا، فالجزم في الفعل نظير الجر في الاسم، وليس في الحروف الجارة ما يعمل جرين دون إتباع، فوجب أن يكون عامل الجزم كذلك، تسوية بين النظيرين. وهذا الاعتراض ساقط مع أصل العمل، وهو الطلب. وأيضا، فقالوا: لا يوجد عامل يعمل في معمولين عملا متفقا، قيل: إنما

يعمل عملاً مختلفا. وهذا لا يلزم (لأنه) إذا قام الدليل، فلا يلزم إيجاد النظير. وقد بسط هذا المعنى ابن جنى في "الخصائص". وقد اعترضوا بغير ذلك مما لا يثبت مع تلك القاعدة. والغالب في هذا النظم إنه إذا خالف / فيه "التسهيل" فما ذهب إليه هو الأصح، والأجرى على القواعد. وقد مضى من ذلك أشياء. ثم قال: "شرط قدما يتلو الجزاء" "شرط" هنا مبتدأ، "وقدم" خبره، وهي جملة مستأنفة لا تعلقلها من حيث اللفظ بما تقدم، إلا إن قدر حذف العاطف. وكذا قوله: (يتلو الجزاء). وأراد بهذا الكلام أن جملة الشرط لها صدر الكلام، فلا يجوز إلا أن تأتي بها أولا، ثم تأتي بالجواب، فتقول: إن تكرمني أكرمك، و "إن تكرمني" هي جملة الشرط، و"أكرمك" هو الجزاء. فإن قلت: أكرمك إن تكرمني، كان ذلك ممتنعا عند الناظم، وكذلك إذا قلت: أنا مكرمك إن أكرمتني. ولكون الشرط له صدر الكلام لم يجز تقديم معمول معموله عليه، فلا يقال: متاعك إن أخذت أعطكه، ولا يجوز النصب في الاسم المبتدأ قبله على إضمار الفعل من "باب الاشتغال" نحو: زيد إن تكرمه يكرمك، وقد تقدم ذلك في "باب الاشتغال". فعلى هذا إذا وجد ما هو جواب من جهة المعنى قد تقدم على الشرط فليس به، وإنما هو دليل عليه كقوله تعالى: } قد افترينا على الله

كذبا إن عدنا في ملتكم} وقوله: } أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين}. ونحو ذلك. وخالف في هذا الكوفيون والمبرد وأبو زيد الأنصاري، فجعلوا الجواب جائز التقدم، وزعموا أن ما تقدم على الشرط فهو الجواب حقيقه، وقد احتج أبو زيد على صحة ما ذهب إليه بمجئ الجواب قبل الشرط مقرونا بالفاء في نحو قول الشاعر، وهو قيس بن مسعود: فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت ... فطعنة لاغس ولا بمغمر. وعلى هذا أيضا حمل قول عمران بن حطان: فتمسي صريعا ما تقوم لحاجة ... ولا تسمع الداعي ويسمعك من دعا. قال: أراد: ومن دعا يسمعك. ورد هذا المذهب بأن حرف الشرط دال على معنى في الشرط والجزاء، وهو الملازمة بينهما، فوجب تقديمه عليهما، كما وجب تقديم سائر حروف المعاني على ما فيه معناها.

وأما البيت الأول فلا حجة فيه، لاحتمال كون الفاء لعطف ما بعدها على شيء تقدم قبلها، وإلا فكل ما جاء في كلام العرب، مما ظاهره تقدم الجواب، لم يأت بالفاء إلا أن تكون عاطفة، ولا بد في الجواب من لافاء إذا كان مثل قوله: } قد افترينا على الله كذبا} الآية. وأما البيت/الثاني: فعلى تسكين العين تخفيفا، كما سكنت القاف في قوله: } ويتقه} في قراءة حفص. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. وقوله: } يتلو الجزاء} أي الجزاء يتلو الشرط، وأراد بالشرط على هذا التفسير جملة الشرط، لا أداة الشرط وحدها، ويحتمل هذا الكلام تفسير أثانيا، وهو أن يكون الشرط في كلامه يراد به الأداة، ويعني أن أدوات الشرط لها صدر الكلام، فلا يجوز أن يتقدم عليها معمولها وهو فعل الشرط، ولا معمول معمولها ويكون ذلك مفيدا أمرين: أحدهما: أن يكون تنكيتا على مذهب الكسائي القائل بجواز تقديم: طعامك إن آكل أكرمك، وتنكيتا على الكسائي والفراء في جواز تقديم ما انتصب بالجزاء، نحو: زيدا إن يقم تضرب. ودليلهم على ذلك أن الجزاء حقه التقديم على (إن) كقولك: أضرب إن تضرب، وكان حقه الرفع، لكنه لما تأخر انجزم بالجوار، ودليل ذلك قوله أنشده سيبويه:

يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع فالتقدير: تصرع إن يصرع أخوك، وغير ذلك من الأبيات المرفوع فيها الفعل، وإذا ثبت له الصدربة والشبة بأدوات الاستفهام التي لها الصدر، لكون كل واحد منهما يقتضي إبهام وقوع الفعل، ولذلك كام عندهم كل ما يستفهم به يصح فيه أن يكون شرطا. وأما أن أصل الجواب التقديم فليس كذلك، بل الأمر بالعكس، لأن الشرط سبب في الجزاء، والسبب رتبته التقديم على المسبب، وإذا كان كذلك فمعموله أولى بالتأخير. وأما الأبيات فسيأتي توجيهها إن شاء الله تعالى. والأمر الثاني: أن يكون مبنيا أن اسم الشرط إذا كان معمولا لفعله فإنه لا يجوز أن يتقدم الفعل على الاسم، وإن كان معمولا، وحق المعمول التأخير عن عامله في الرتبة، كما تقرر في الكتب المبسوطة، فلا يجوز أن تقول في نحو (أي رجل تكرم يكرمك): تكرم أي رجل يكرمك، لأن قاعدة تأخير المعمول فيهه غير معتبرة، لمكان تضمن معنى (إن) التي لها صدر الكلام، فلزم تقديم المعمول لأجل ذلك، قال تعالى: أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقال ابن همام: *في أي نحو يميلوا دينه يمل*

وقال الآخر: *متى تأته تعشو إلى ضوء ناره* / ف "متى" معمول ل"تأته" وقد تقدم عليه. ومثل ذلك كثير، فكأن الناظم خاف أن يتوهم جواز التقديم في مثل هذا اعتبارا بالأصل، فنبه على جواز التقديم، فكأنه يقول: أداة الشرط لا يتقدم عليها شيء من المعمولات ولا من العوامل. فإن قيل كيف لك بمنع التقديم وأنت تقول: زيدا رأيته يضرب، وزيدا متى رأيته تكرم، وما أشبه ذلك، فتقدم معمول "تضرب" وهو جواب الشرط، ولا يضر كونه مرفوعا، فإن الرفع هنا سائغ، لمكان مضي فعل الشرط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فيظهر أن هذا عين ما رددت على الكسائي، وهو جائز عند سيبويه والبصريين نص عليه سيبويه في أبواب "الاشتغال": وقبله الجمهور، وإذا كان كذلك انهدم مما بنيته في هذا التفسير الأول. فالجواب أن هذه مغلطة، لأن سيبويه إنما أجاز ذلك حيث جعل قولك: "تضرب" في: زيدا إن رأيته تضرب، دليلا لي الجواب، أصله التقديم، لا أنه الجواب بعينه، ولذلك إنما أجازه حيث يكون فعل الجواب مرفوعا. وإما إذا كان مجزوما فهو عنده ممنوع، نص على هذا أيضا، واعتل للمنع بأنه جواب، فلا يتقدم ما في حيزه على الشرط، فالفعل المرفوع دليل على الجواب، فجاز تقديم معموله، لأن جملة الشرط صارت

إذ ذاك كجملة الاعتراض. وهذا صحيح. فإذا لم يتقدم معمول الجواب على الشرط فيما أجازه سيبويه أصلا. وإذا تقرر أن مراد الناظم بقوله: "شرط قدما" هذا التفسير الثاني بقي التفسير الأول كأنه ساقط الاعتبار، فيعترض به. والجواب أن التفسير الأول على هذا دل على معناه من كلام الناظم قوله: "يتلو الجزاء" أي إن الجزاء يتلو ذلك، أي يتبع ما ذكر من الشرط وفعله، فإنه لا يخلو أن يريد أنه يتلو أداة الشرط وحدها، أو أداة الشرط مع فعله، فالأول لا يصح، لأنه يصير الجواب فاصلا بين أداة الشرط ومعمولها وهو أجنبي منهما، وإذا فسد هذا ثبت يتلو أداة الشرط مع فعلها، فيكون مفيدا لمرتبة الجزاء، وإنه بعد الشرط لا قبله. وما أوهم خلاف ذلك فدليل على الجواب وليس إياه، على ما مضى تفسيره. ولا يبعد أن يقصد الناظم هذا التفسير الأخير، كما تقدم في نظائره من المقاصد الخفية. والله أعلم. وقوله "وجوابا وسما" ضمير "وسم" عائد على "الجزاء" وهو أقرب مذكور، إن الجزاء/ وسم بلفظ الجواب، فيطلق عليه أنه جزاء، وأنه جواب وكذا قال في "التسهيل": وتسمى الجملة الثانية جزاء وجوابا، لأنها قد أدعي فيها أنها لازمة لما جعل شرطا، كما يلزم في عرف الناس، والجواب السؤال.

والجزاء: الإساءة أو الإحسان، فسميت بذلك على الاستعارة والتشبيه، والواسم بهذين الوسمين هم النحويون أهل الاصطلاح. وقوله: "وسم" أي جعل لفز الجواب سمة على تلك الجملة، و"جوابا" مفعول ثان ل "وسم" لأنه بمعنى (سمى). ثم أخذ يذكر كيفية مجئ الفعلين، فعل الشرط، وفعل الجزاء، فقال: وماضيين أو مضارعين .. تلغيهما أو متخالفين ويعد ماض رفعك الجزا حسن ... ورفعه بعد مضارع وهن فقسم الأمر فيهما إلى أقسام ثلاثة، تصير في التحقيق أربعة: أحدهما: أن يكونا معا ماضيين، فتقول: إن قام زيد قام عمرو، وإن أكرمتني أكرمتك. ووقوع الماضي هنا ليس بالأصل، لأن الفعلين معا مستقبلان في المعنى بسبب أداة الشرط، ولكن لما كان الفعلان معا قد علم، باقتران (إن) أو إحدى أخواتها، استقبالهما لم يعتبر بالصيغة، فإن الصيغة عندهم: إنما يحافظ عليها في الدلالة على الزمن المخصوص إذا كان الموضع محتملا، وأما إذا كان ثم ما يعين الزمان فلا مبالاة بالصيغ. هكذا يقول ابن السراج والفارسي في هذا النوع. وقد اعترضه الشلوبين بكى ولام الجحود، واختار أن سبب الإتيان بالماضي أمر معنوي، وهو تحقيق الأمر، وأنه صار في الاعتقاد كالواجب، والعرب تفعل مثل هذا، كقوله تعالى: } أتى أمر الله فلا تستعجلوه}.

ولما كان الجواب مرتبطاا بالشرط، وأنه لا بد من وقوعه عند وقوعه، أتوا بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع. والثاني أن يكون الفعلان مضارعين، فتقول: إن تكرمني أكرمك، وإن تحسن إلي أحسن إليك. وهذا هو الأصل في الباب والحقيقة، إذا الأصل مطابقة اللفظ للمعنى، والمعنىى مع هذه الأدوات على الاستقبال فالمطابقة أولى. والثالث: التخالف، ويعني له أن يكون الفعلان مختلفين في المضي والمضارعة لا متفقين، فيكون أحدهما ماضيا والآخر مضارعا، ولا يريد بالتخالف التخالف المطلق/ فيقع مثلا الماضي مع الأمر، أو المضارع مع الأمر، بل إنما يريد التخالف بين ما ذكر، وذلك الماضي والمضارع. وللتخالف هنا صورتان: إحدهما: أن يكون فعل الشرط ماضيا، وفعل الجزاء مضارعا، وذلك نحو قولك: إن قام زيد يقم عمرو، وإن أكرمتني أكرمك. ويجوز في الجزاء هنا وجهان: الرفع والجزم كما نذكره إثر هذا. وهذا الوجه قليل بالإضافة إلى التوافق، ومنه قوله تعالى: } من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها}. وقوله تعالى: } من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها}.

وأنشد في الكتاب للأسود بن يعفر: ألاهل لهذا الدهر من متعلل ... على الناس مهما شاء بالناس يفعل. وأنشد للفرزدق: دست رسولا بأن القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدورا ذات توغيز. ومنه في (إذا) قول الفرزدق: ترفع لي خندف والله يرفع لي ... نارا إذا خمدت نيرانهم تقد. وقول الآخر السلولي: إذا لم تزل في كل دار عرفتها ... لها واكف من دمع عينيك تسجم. لأن (لم) وما بعدها في تقدير فعل ماض. والصورة الثانية، وهو رابع الأقسام، أن يكون فعل الشرط مضارعا وفعل الجزاء ماضيا، نحو: إن تقم قمت، وإن تكرمني أكرمتك.

واقتضى كلام الناظم، حيث لم يفرق بين هذه الوجوه الأربعة، أن الجميع جائز، ولا فصل لأحدهما على الآخر في القول بالقياس، وقد قال المتأخرون: إنه ضعيف قال الشلوبين: ولا أحفظ منه إلا بيتا واحدا، وهو قوله: من يكدني بشيء كنت منه ... كالشجا بين حلقه والوريد. وضعفه من جهة المعنى، وذلك لأن الإتيان بالماضي في الشرط أو في الجزاء إنما القصد به تحقيق الأمر، وأنه كالواقع، فكيف يجعل مع هذا القصد مرتبا على فعل لم يكن، وإنما هو بعد مستقبل، بدليل الإتيان بالمضارع فيه، فضعف لذلك. وأيضا فتكون أداة الشرط قد هيئت للعمل بجزمها الفعل الأول، ثم قطعت عنه، بخلاف ما إذا كان الأمر بالعكس، فإن فعل الشرط إذا لم يعمل فيه الشرط فليس فيه تهيئة للعمل وقطع عنه، لأنه إذا عمل في الثاني علم أنه قد عمل في الأول من باب أولى، وكذلك إذا كانا معا ماضيين لا يلقى/ فيه محذور، لاستواء العمل في الموضعين، فهذا معنى توجيه الشلوبين. ولم ير الناظم ذلك، فإنه قد جاء عنده في النثر الفصيح، وفي النم الذي قوته قوة النثر، فمن النثر، فمن النثر ما في الحديث من قوله

صلى الله عليه وسلم: "من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "إن أبا بكر رجل أسيف، إن يقم مقامك رق" ومن النظم قول الشاعر: إن يسمعوا سيئا طاروا به فرحا ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا. وقول الآخر: إن تصر مونا وصلناكم وإن تصلوا ... ملأتم أنفس الأعداء إرهابا. وصاحب البيت الأول متمكن من أن يقول بدل "إن يسمعوا": إن سمعوا. وصاحب البيت الثاني متمكن من أن يقول بدل "وصلناكم": نواصلكم، وإن تصلونا تملؤوا" فلما لم يقولوا ذلك مع إمكانه وسهولة تعاطيه علم أنهم غير مضطرين.

قال المؤلف: وقد صرح بجواز ذلك الفراء، وجعل منه قوله تعالى: } إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} لأن "طلب" بلفظ الماضي، وقد عطف على "ننزل" وحق المعطوف أن يصلح لحلوله محل المعطوف عليه. هذا جملة ما احتج على مذهبه، ولعله يقول في قوله: *من يكدني بسيء كنت منه* أنه صالح لأن يقال فيه: من يكدني بسيء أك منه" فيجري على حكم الاختيار، والحق أنه نادر ليس في رتبة ما تقدم كما يقول النحويون. كل ما احتج به المؤلف جار على طريقته، وقد تقدم له نظائر من هذا النوع. وقوله: "وماضيين" مفعول ثان ل (تلفيهما) أي تلفيهما ماضيين أو مضارعين، وألفى: بمعنى وجد. ثم عطف بذكر بعض الأحكام اللاحقة لبعض الأقسام فقال: "وبعد ماض رفعك الجزا حسمن". يعني أن فعل الجزاء يحسن رفعه، ولا يكون حينئذ إلا مضارعا، وذلك إذا كان فعل الشرط فعلا ماضيا. وقوله: "حسن" يقتضي أنه لا يقتصر فيه على الرفع، بل يجوز فيه وجه آخر وهو الجزم، ولم يحتج إلى ذكره لأنه معلوم الدخول في حكم الجزم، لما تقدم من إطلاقه جزم الفعلين، وإنما ذكر ما لم يتقدم له، فتقول في الرفع: إن

أكرمتني أكرمك، وإن قمت أقوم، ومنه ما أنشده سيبويه: وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم. وقال الآخر: فإن كنت لا يرضيك أن لا تردني ... إلى قطري لا إخالك راضيا. / وقال الآخر: *وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه* ولا يلزم هنا أن يكون فعل الشرط ماضيا لفظا ومعنى تقدم في الأمثلة بل يجوز أن يدخل له في عبارته ما كان ماضيا معنى لا لفظا، وذلك المضارع إذا دخلت عليه "لم" كقولك إن لم تكرمني أكرمك. ومنه

قول أعشى باهلة: لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... من كل أوب وإن لم يأت ينتظر. والقوافي مرفوعة. وعلى هذا يكون الماضي في قوله: "وماضيين أو مضارعين" أعم من أن يكون ماضيا لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ، فيشمل ذلك قولك: إن لم تكرمني لم أكرمك، فهما ماضيان، وكذلك إن أكرمتني لم أكرمك، أو بالعكس، فإنهما ماضيان. وإنما جاز رفع الفعل الواقع جابا، والشرط ماض، من جهة أنه مقدر التقديم، وليس عندهم في موضعه، فهو في الحقيقة دليل الجواب، كما قلت: أكرمك إن أكرمتني، ولو قدرت أنه نفس الجواب لوجب الجزم، فقلت: إن أكرمتني أكرمك. والذي سوغ ذلك مجئ فعل الشرط ماضيا، لأنه إذا كان ماضيا لم يظهر فيه عمل الجازم، فحسن الإتيان بعده بما لا ينجزم، على حد ما لو أتى قبل الشرط. ألا ترى انه لا يجوز: آتيك إن تأتني، إلا في الشعر، ويجوز: آتيك إن أتيتني ... فهذا مثله، وذلك لأن العرب مما يكرهون أن تعمل (إن) أو غيرها من

أدوات الجزاء في لفظ الفعل جزما، ثم لا يكون لها جواب (ينجزم)، فعلى هذا الوجه جاز الرفع، فالجزم والرفع على وجهين مختلفين عند سيبويه. وأما المبرد فزعم أنه هو الجواب بنفسه، وأنه على إرادة الفاء، ولم يرتض مذهب سيبويه، من جهة أن الفعل عنا في موضعه وهو الجواب، فادعاء كونه مقدما إخراج له عن موضعه، ودعوى لا دليل عليها. وهذا المذهب ظاهر من كلام الناظم إذ قال: "وبعد ماض رفعك الجزا حسن" فجعله نفس الجزاء، ولو أراد أنه دليل عليه يقال: رفعك الفعل، أو نحوه مما لا يفهم له به أنه جزاء بنفسه. والذي صححه الناس مذهب غير المبرد، لأن حذف الفاء من الجزاء لا يكون إلا في الشعر، وهذا كثير في الكلام، وذلك دليل على أنه ليس من ذلك القبيل، واحتجوا أيضا بغير هذا، ولكن قد يترجح مذهب المؤلف بما ذكر، وبان الجواب هما يغتفر فيه حذف الفاء، لأنه لما لم يظهر في الفعل الشرطي جزم كان الجواب كجواب (إذا) رفعا، تشبيها ل (إن) ب (إذا) لما لم ينجزم بها فعل الشرط لم ينجزم فعل الجواب. وأما إن كان فعل / الشرط مضارعا فإن الجواب إذا كان مضارعا إنما بابه الجزم كما تقدم، ولا يجوز فيه الرفع إلا نادرا، وهو مراد الناظم بقوله: "ورفعه بعد مضارع وهن".

الضمير في "رفعه" عائد على "الجزاء" على حذف المضاف، يعني أن رفع الفعل المضارع الواقع جزاء، إذا كان فعل الشرط مضارعا، ضعيف نادر، لم يقل: إنه شاذ، كما قال غيره: من أنه لا يجوز إلا في الشعر، لأن مثل هذا عنده ثبت في النثر، حكى ابن جنى في "المحتسب" عن طلحة بن سليمان أنه قرأ: } أينما تكونوا يدرككم الموت} برفع "يدرككم". وفي الشعر من هذا جملة صالحة، نحو قول جرير بن عبد الله البجلي أنشده في الكتاب: يا أقرع بن حابس با أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع. وأنشد أيضا للعجير السلولي: وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضر أنفع. والقوافي مرفوعة. وقال الآخر:

فقلت له احمل فوق طوقك إنها ... مطبعة من يأتها لا يضيرها. وهذا النوع قليل. ووجه ما أشار إليه من ضعفه ما تقدم من أن العرب تكره أن يظهر لأداة الشرط عمل في اللفظ، ثم لا يكون له جواب مجزوم، وهكذا اجرى الأمر في كلامهم، على ما أخبر به سيبويه عنهم، وهو معنى ما علل به المسألة على الجملة. وأما تأويل الكلام فعلى أحد وجهين: أحدهما: أن يكون على التقديم والتأخير، فيكون الفعل المرفوع دليل الجواب، لا جوابا حقيقة، كأنه قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك، وكذلك: أنفع متى ما أملك الضر، ولا يضيرها من يأتها، كما تقدم في توجيه المسألة قبل هذا، فيكون مثل ما أنشده سيبويه: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

أي: والمرء ذئب إن يلق الرشا. وما أنشده أيضا لذي الرمة: وأنى متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر. أي: إنني ناظر متى أشرف. والثاني: أن يكون على حذف الفاء من الجواب، فإن الفعل المضارع بعد الفاء يرفع، فكأنه قال: إن يصرع أخوك فتصرع، ولكن متى ما أملك الضر فأنفع، ومن يأتها فلا يضيرها، فيكون على حد قول جابر بن ثابت، أنشده في الكتاب: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان. وأنشد. أيضا للأسدي.

بني ثعل لا تنكعلوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم / التقدير: فالله يشكرها، ومن ينكع العنز وظالم. وكلا التوجيهين لا يجوز إلا في الشعر عند الجمهور، ولكن الذي يعطيه لفظ الناظم أن الرفع على حذف الفاء، لأنه جعله هو الجزاء بنفسه، لقوله: "ورفعه بعد مضارع فأعاد الضمير على الفعل الواقع جزاءا بنفسه، أي: ورفع الجزاء بعد مضارع وهن. وهذا التوجيه مذهب المبرد، والأول لسيبويه، وكلاهما ممكن. ويقال: وهن الإنسان يهن، ووهن بالكسر أيضا، ضعف، ووهنته أنا، وأوهنته، ووهنته. واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل. قدم الناظم- رحمه الله- أن الفعل الماضي والمضارع يقعان جوابا للشرط، وأطلق القول في ذلك إطلاقا، ولم يبين أنه مقتصر به على الفعل خاصة، بل أشار إلى أن الفعل ينجزم إذا كان مضارعا، وغنه إذا كان ماضيا في موضع جزم، ولم يذكر ما يقع من غير ذينك الفعلين جوابا، ولا ما لا يصلح منها أن يكون كذلك، فذكر هنا ذلك. ولما كان الواقع جوابا منه ما لا يحتاج إلى الفاء ولا يفتقر إليها، ومنه ما يفتقر إليها، بقاعدة حسنة مختصرة، حاصلها أن كل ما صلح من جهة المعنى أن يكون جوابا للشرط إن لم يمكن أن يأتي شرطاً لـ

(إن) أو غيرها من أخواتها، أي يقع بعدها- فهو مفتقر إلى الفاء، لا بد له منها. وهذا معنى قوله: "إن جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل" أي: لو فرض أن يجعل يلي أداة الشرط لم يصلح. ويفهم منه أنه إن صلح جعله يلي الشرط فلا يقرن حتما بالفاء، فتقول: إن أكرمتني أكرمتك، بغير فاء، لأنك تقول: إن أكرمتك كان كذا، وكذلك تقول: إن تكرمني أكرمك، بلا فاء، لأنك تقول: إن أكرمتم يكن كذا، وكذلك إذا قلت: متى أكرمتك كان كذا، أو متى أكرمك يكن كذا. وهذا صحيح. (فإن قلت: إن تكرمني فقد أكرمتك، فلا بد من الفاء، لأنه لا يصلح أن تقول: إن قد أكرمتك، وكذلك: إن أكرمتني فزيد يكرمك، لا بد فيه من الفاء، لأنك] لا [إن قد أكرمتك، وكذلك: إن زيد يكرمك، كان كذا) وقد ذكر هذه القاعدة في "التسهيل". والذي يحصل تفسيرها على الكمال أن يذكر ما يصلح أن يقع تاليا ل (إن) لما يخصه من الأوصاف، فإذا انحصر فما خرج/ عن ذلك فلا بد له من الفاء، فتقول: الأصل أن تكون جملة الجواب مصدرة بفعل متصرف، غير طلبي، ماض، مجرد من (قد) لفظا أو تقديرا، أو غيرها من الأدوات مطلقا، كالنفي ونحوه، أو مضارع مجرد، أو منفي ب

(لم) أو (لا). وقد جمع هذا العقد أوصافا لها يصح وقوع الجملة جوابا من غير فاء. أحدهما: أن تكون الجملة مصدرة بفعل، فلو كانت مصدرة باسم لم تصلح أن تقع جوابا للشرط دون فاء، لأنها لا تقع تالية للشرط، فلا تقول: إن تأتني زيد مكرمك، لأنك لا تقول: إن زيد مكرمك يكن كذا. وما جاء مما يخالف هذا فشاذ يحفظ، نحو ما أنشده سيبويه: بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم وأنشد أيضا: *من يفعل الحسنات الله يشكرها* البيت فإن قيل: فأنت تقول: إن زيد قام أكرمه، فلم لا يجوز على ذلك أن يقال: إن أكرمتني زيد قام، فضابط الناظم يقتضي جواز هذا. فالجواب: أن قولك: "إن زيد قام" ليست بجملة اسمية، وإنما هي فعلية، و"زيد" مرفوع بفعل مضمر من باب "الاشتغال". ودليل ذلك أن (إن) من خواص الأفعال لا تدخل إلا عليها، لكنهم أضمروا بعدها لما كانت أم الباب، وأيضا لا يليها الاسم إلا وبعده فعل مفسر، كقوله تعالى: } وإن أحد من المشركين استجارك فأجره}.

فلو قلت: (إن زيد قائم) لم يصح فلا يصح، إذن أن تقول: إن قام زيد عمرو قائم. نعم أسلم الإلزام إن كان ما بعد الاسم فعلا، نحو قولك: إن تأتيني زيد يقل ذاك. فقوله: "زيد يقل ذاك" جملة مصدرة باسم، لكنه على إضمار فعل من باب "الاشتغال" ولذلك جزم "يقل ذلك" فكأنه قال: إن تأتني يقل زيد ذاك. أجاز هذه المسألة سيبويه، وجعلها نظير: زيدا ضربته، لما كان الجواب موضع ابتداء على الجملة. وقد منع المسألة الزجاج في "معانيه" ورد عليه الفارسي في "الإغفال" واستشهد بكلام سيبويه فيها، فإذا قد صار قولك: (زيد يقل ذلك) من وجه يصح أن يجعل شرطا ل (إن) لأنك تقول: إن زيد أتاني أكرمته، وإن زيد يأتي أكرمته، في الشعر. فالحاصل أنك إن اعتبرت الفعل المقدر فهو معتبر في الشرط والجزاء، فتخرج الجملة عن التصدير بالاسم، فليس ما اعترض به من الجمل المصدرة بالاسم، وإن لم تعتبر التقدير، وإنما اعتبرت مجرد الظاهر، فاعتباره جار أيضا في / الشرط والجزاء. وقد تقدم أنه جائز في الشرط على تقدير الفعل، فكذلك يجوز في الجزاء فلا اعتراض به، لأنا نقول: الجملة المصدرة بالاسم لا يمتنع وقوعها جوابا بغير فاء مطلقا، بل يمتنع في وجه، وهو إذا كان الاسم مبتدأ ليس على إضمار فعل، ويجوز في وجع، وهو إذا كان على إضمار الفعل. وهذا ظاهر. الوصف الثاني: أن يكون الفعل متصرفا، وقد تقدمت أمثلة ذلك.

فلو كان غير متصرف لم يصلح أن يقع جوابا دون فاء، لأنه لا يقع تاليا للشرط فلا تقول: إن تكرمني عسى أن أكرمك، ولا إن تكرمني نعم الرجل أنت. كذلك (بئس، وليس) بل لا بد من الفاء، قال الله تعالى: } إن تبدو الصدقات فنعما هي}. وقوله} إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا. فعسى ربي}. الآية. وإنما امتنع ذلك لأنه لا تصلح هذه الأفعال أن تقع شرطا، فلا تقول: إن عسى أن تقوم، ولا إن نعم الرجل أنت، ولا ما أشبه ذلك. الوصف الثالث: أن يكون الفعل غير طلبي، فإن كان طلبيا فلا يقع جوابا إلا الفاء وذلك قولك: إن قام زيد فأكرمه. والأفعال الطلبية هي فعل الأمر كما ذكر، ومنه قوله تعالى: } قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. والنهي، نحو ما في قراءة ابن كثير: } ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخف ظلما ولا هضما}. والدعاء، نحو قوله تعالى: } وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا}. وفي الحديث: (اللهم إن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها). وكذلك (لا تفعل) في الدعاء، وكذا إذا كان الدعاء بالماضي أو المضارع، نحو: إن قام زيد فغفر الله له، وإن قعد فيرحمه الله.

ومنه ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر. ف "قام" (دعاء عليها، وقد يكون الفعل طلبيا بالأداة- لداخلة عليه، كالاستفهام، والعرض، والتحضيض، (ونحو ذلك، فتلزم الفاء، لكن هذا داخل تحت القد الآخر، وهو قيد التجرد، فكل هذه الأفعال لا تصلح أن تكون جوابا إلا بالفاء، لانها لا تصل أن تلي أداة الشرط فلا تقول: إن اضرب زيدا، ولا يجوز ذلك). والوصف الرابع: التجرد من الأدوات الداخلة، فأما في الماضي فأن يتجرد خصوصا/ من (قد) لفظا أو تقديرا، ومن غيرهما "عموما، فإن لم يتجرد عن (قد) في اللفظ فلا (تقع جوابا دون الفاء، لأنه لا يصح أن يلي الصرط، فلا تقول: إن أكرمتني قد أكرمتك، (لأنك لا تقول: إن أكرمتك) وكذلك إن قدرتها، فإنها في حكم المنطوق بها، فلا بد من الفاء، نحو قوله تعالى: } قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}.

وقوله تعالى: } إن كنت قلته فقد علمته} والتقدير كقوله تعالى: } إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكذابين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين}. ودليل كونه على تقدير (قد) أنه ماض في المعنى، لأن الصدق ليس مسببا عن كون القميص قد من قبل، ولا الكذب مسببا عن كونه قد من دبر، فكأنه قال: إن كان قميصه قد من قبل فقد صدقت، أي فقد كان قولها صادقا، وكذلك في الطرف الآخر. وكذلك إن لم يتجرد عن غير (قد) عموما فلا بد في وقوعه جوابا من الفاء، كما إذا دخلت عليه أدوات الاستفهام، أو العرض، أو التحضيض، أو النفي، أو نحو ذلك، كقولك: إن أكرمتني فهلا أكرمت عمرا، وإن قام زيدا غما قام عمرو. وأما التجرد في المضارع فأن لا تدخل عليه أداة من الأدوات ما عدا (لم) و (لا) فلو دخل عليه حرف من حروف الاستفهام أو العرض، أو السين، أو سوف، أو قد، أو غير ذلك لم يستغن في كونه جوابا عن الفاء، فتقول: إن أكرمت زيدا فهل تكرم عمرا؟ أو فهلا تكرم عمرا، أو فسوف تكرم عمرا. قال الله تعالى: } فإن استقر مكانه فسوف تراني} أو فقد أكرمك. ولا تقول: إن أكرمتني سوف تكرم زيدا، ولا قد تكرم زيدا، لأن واحدة من تلك الأدوات لا يصح أن تلي أداة الشرط إلا (لم) و (لا) فإن الفاء لا يفتقر إليها معهما، فتقول: إن قام زيد لم يقم عمرو (وإن قام زيد لا يقم عمرو، لأنك تقول:

إن لم يقم زيد لم يقم عمرو) وإلا تقم أقم. قال الله تعالى: } فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} الآية. وقال: } إلا تنصروه فقد نصره الله}. فإذا تقرر هذا ثبت أن ما اجتمعت فيه من الجوابات هذه الأوصاف الأربعة لم تلزمه الفاء، فتقول: إن تكرمني أكرمك، وإن أكرمتني أكرمتك، ونحو ذا لا تقدم له أمثلة كثيرة، وكلها يصح أن يقع فعل شرط. فإن قيل: قول الناظم "واقرن بفا حتما جوابا/صفته كذا" إلى آخره لا يخلو أن يريد ما عدا ذلك لا تقرن به الفاء أصلا، لصحة وقوعه شرطا، فإذا جاء أحد الفعلين الموصوفين جوابا لم تدخل عليه الفاء أصلا، فيكون "حتما" وصفا لا يفيد مفهوما في المسألة. أو يريد أن ما عدا ذلك لا تلزمه الفاء حتما، بل قد تأتي مع احد الفعلين الفاء، وقد لا تأتي، فأنت في ذلك بالخيار، ويكون وصف "الانحتام" يعطي مفهوما، وكلا القصدين غير مستقيم. فإن كان قصده الأول لزم أن لا تدخل الفاء مع الموصوف بما ذكره أصلا، وذلك باطل، فإن الفاء معه جائزة الدخول، فتقول: من يكرمني فأكرمه، وإن تأتني فأعطيك، قال الله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}. وقال تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه}. وقال تعالى: {قال ومن كفر فأمته قليلا}. وهو كثير.

وإن كان قصده الثاني لزم أن يجوز الوجهان في الفعل الماضي الموصوف بما ذكر، وذلك باطل أيضا، فغن الماضي الذي هو مسبب عن فعل الشرط لا تدخله الفاء فلا تقول: إن قام فقام عمرو، ولا إن أكرمتني فأكرمتك، ولا يثبت الذي كان بقوله: فقام بفأس بين وصليك جازر لأن "قام" دعاء، ولا بقوله تعالى: {فصدقت وهو من الكاذبين} لأنه على تقدير (قد) كما لو ظهرت، وليس "الصدق" مسببا عن الشرط، بل هو قيله، ومثله لا يصح أن يقع شرطا لأنه غير مستقبل ب (إن) فعلى كل تقدير هذا المفهوم الذي أعطاه النظم غير منتظم في سلك الصحة، إلا أن يقال: إن المفهوم هنا معطل، فهو على خلاف عادته، ويقتضي إهمال مسألة من الباب، هي غاية الشهرة، والحاجة إليها ضرورية. فالجواب أن كل واحد من القسمين صحيح، فأما الأول، وهو كون ما عدا ما ذكر لا يقرن بالفاء أصلا، فصحيح، لأن المضارع على قسمين: أحدهما: أن يكون في الجواب على تقدير مبتدأ، فلا بد هنا من الفاء لزوما، لان الجملة صارت اسمية. والاسمية لا بد فيها من الفاء كما تقدم ذكره. وعلى ذلك حمل المضارع بعد الفاء كما تقدم ذكره. وعلى ذلك خمل المضارع بعد الفاء سيبويه والنحويون. فإذا قلت: إن تكرمني فأكرمك، فالمعنى فأنا أكرمك، لأنه واقع عند

سيبويه موقع الابتداء. قال السيرافي: ولولا هذا لم يحتج إلى الفاء، يعني لولا أنه وقاع موقع الابتداء، والمعنى / فأنا أكرمك، لم يحتج إلى الفاء. وقال ابن خروف في قول سيبويه: وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ: هذا نص بأنه لا يرفع بعد الفاء إلا على البناء على المبتدأ ظاهر أو مضمر. قال: ولذلك أدخلها، يعني الفاء، ولو لم يرد الاسم لم يدخلها، ولجزم الفعل. وعلى هذا أيضا حمل ابن خروف كل ما دخلته الفاء من الجوابات، فجعل الأجوبة أخبار مبتدآت، كقوله تعالى: {إن كنت ثلته فقد علمته} وكذلك قوله: {فقد سرق أخ له من قبل}. وإذا كان كذلك فالجملة الجوابية لا رابط لها إلا أن يؤتى بالفاء لتربطها بالجملة الشرطية، إذا كان الجزم الحاصل به الربط مفقودا، ليس على تقدير الظهور، وهي في ذلك نظير جملة الحال، في أنها لا بد فيها من الواو وإن لم يكن فيها ضمير عائد على ذي الحال، إذ لا بد من الربط بينهما. وبهذا المعنى يتوجه دخول الفاء حيث دخلت. ومن تلك الجهات كلها لم يصح أن تقع تالية للشرط، لأن الشرط مختص بالفعل، لا يدخل على سواه، فإذا كان كذلك فقد دخل هذا القسم تحت ضابطه الذي يقتضي

لزوم الفاء. والقسم الثاني: ألا يكون الفعل على تقدير مبتدأ أصلا، فلا بد من الجزم، لأنه لا مانع من دخوله، ولا مسوغ لغيره، وليس هذا بموضع للفطء، لأنه لمعنى الشرط وهو حاصل بالجزم، فلا يصح أن تدخل الفاء هنا أصلا، وهو الذي يعطيه المفهوم (على التقدير الأول، فلا خلل في عبارته هذا في المضارع). وكذلك الماضي أيضا على قسمين: أحدها: أن يكون مستقبل المعنى بالشرط، فلا بد هنا اجن التجرد عن الفاء، إذ ليس الماضي هنا على تقير (قد). وأيضا فعلى ما قاله ابن خروف: إنما تدخل الفاء إذا كان الفعل في تقدير مبتدأ، فإذا لم يكن كذلك فلا مدخل للفاء، وهو ما أعطاه المفهوم، من جهة أن الماضي في موضع جزم، لأنه في موضع المستقبل الذي يحصل فيه الربط بالجزم. والثاني: أن لا يكون مستقبل المعنى بالشرط، بل يكون على تقدير (قد) فقد دخلت (قد) في التقدير فهي كالظاهرة، وأني إذا أتيت بها لا بد لك من الإتيان بالفاء، إذ لا بد من الربط، فقد دخل هذا القسم تحت ضابط لزوم الفاء، فالكلام صحيح. وأما الثاني، وهي ما أعطاه المفهوم من أن ما عدا ما ذكر غير لازمة فيه الفاء/ بل يجوز أن تلحق وأن لا، فصحيح، لأن الحاصل من المضارع إذا وقع جوابا أنه يجوز فيه الأمران، لكن على قصدين مختلفين، فإذا لم تأت بها فهو بننفسه الجواب. وإن أتيت بها فالجواب

جملة اسمية، وذلك لا يقدح في إطلاق جواز الوجهين، فكم من موضع في الكلام يكون الوجهان المختلفان فيه في اللفظ على قصدين مختلفين، بل هذا عند أهل البيان لازم، بخلاف ما إذا كان المضارع غير مجرد، فإنه لا بد من الفاء ولا يجري فيه وجه سوى ذلك، فلحاق الفاء فيه عند ذلك حتم. والحاصل أيضا من الماضي غير المقرون بقد في اللفظ كما ذكر في المضارع، لأنه إذا كان يجوز فيه أن يؤتى بالفاء وأن لا يؤتى بها، لكن على قصدين، فقد جاز الوجهان، فالفاء غير لازمة. ولا يقال: إن الماضي مع الفاء مقرون ب (قد) تقديرا، فهو كاللفظ بها معه، فلم يصح أن يكون في الماضي المجرد وجهان لأنا نقول: هو مجرد لفظا، فالوجهان جائزان، وأيضا فلحاق الفاء مع قطع النظر عن تقدير (قد) إنما يكون على إضمار المبتدأ كما تقدم من كلام ابن خروف، فلا اعتبار بتقديرها. فكأنها لم تقدر إذا كان الحكم في الإتيان بالفاء وغيرها وهو تقدير المبتدأ. فإذا ثبت هذا كان الفعل الماضي والمضارع المذكوران يجوز فيهما الوجهان على الجملة فكلام الناظم صحيح وقوله: "واقرن بفا" أراد: بفاء، بالمد، لكن قصر ضرورة، فصار مثل ما حكى من قولهم: شربت ما يا فتى. وفي هذا النظم منه مواضع كثيرة. وقوله: "لو جعل" جملة شرطية في موضع الصفة ل"جوابا" أي جوابا هذه صفته، و"انجعل: فعل مطاوع ل (جعل) تقول: جعلت الشيء في موضع كذا فانجعل، وذلك قياس في (فعل) المقصود به العلاج، نحو: قسمته فانقسم، وفصلته فانفصل، وصرفته فانصرف، وما أشبه ذلك. ثم قال.

وتخلف الفاء إذا المفاجاة .... كإن تجد إذا لنا مكافأة يعني أن (إذا) التي للمفاجأة، وهي التي في قولك: خرجت فإذا زيد قائم، تقوم مقام الفاء، فتقع في موضعها خلفا منها، كما في المثال المذكور، وهو إن تجد إذا لنا مكافأة ومثله: إن يقم زيدا إذا هو ماثل بين يديك. ومنه قوله تعالى/: {وغن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} ومنه أيضا: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا}. قال الفراء: العرب تجعل (إذا) تكفي من (فعلت، وفعلوا) لو قال مكانها: (مكروا) لكان صوابا. وإنما وقعت (إذا) المفاجأة بدلا من الفاء لشبهها بها، في أن كل واحدة لا تقع مبتدأة ك "غنما" وغيرها من حروف الابتداء، بل لا بد أن تقع مبنية على كلام، وأيضا (إذا) في الآية واقعة موقع الفعل، كأنه قال: قنطوا، كما أن الفاء في الجواب واقعة موقع الفعل، فلما اشتبها في هذا التصرف وقعت (إذا) موقع الفاء لذلك، ليس ذلك لكونها في معناها، لأن الفاء تدخل على (إذا) فتقول: خرجت فإذا زيد قائم. وفي كلامه في (إذا) نظر من وجهين:

أحدهما: أنه يقتضي أن (إذا) تخلف الفاء حيثما وقعت، فكل موضع تقع فيه الفاء يصح أن تقع فيه (إذا) فإذن يقتضي أن تقول في نحو قولك: إن تقم فعسى أن تأتني، إن تقم إذا عسى أن تأتيني، وفي (إن تقم فقد قام عمرو): إن تقم إذا قد قام عمرو، وما أشبه ذلك من المواضع التي تدخل فيها الفاء. وليس كذلك، بل (إذا) إنما تدخل على الجملة الاسمية خاصة، ولا تدخل على كل الجملة الاسمية، بل على غير الطلبية، فلا تقول: إن تأتني إذا هل أنا مكرمك؟ كما تقول: إن تأتني فأنا مكرمك، وإنما تقول: إن تأتني إذا أنا مكرمك، كما في الآية: } إذا هم يقنطون} وكما في مثاله "إذا لنا مكافأة" وأما غير ذلك فلا، لأنها مختصة بالجملة الاسمية، ألا ترى أنه لا يجوز بعدها نصب الاسم على إضمار فعل من باب "الاشتغال" بل يلزم الرفع على الابتداء، نحو: خرجت فإذا زيد يضربه عمرو، وهو مذهب الناظم في (إذا) كما مر تقريره في بابه، فإطلاق هذا الكلام مشكل كما ترى. والثاني: انه نص في "التسهيل" على أن (إذا) لا تقع في موضع الفاء إلا إذا كانت جوابا ل (إن) خاصة، فقال: وقد تنوب بعد (إن) (إذا) المفاجأة عن الفاء في الجملة الاسمية غير الطلبية. فقيد النيابة بأن تكون بعد (إن) وبأن يكون ما بعدها جملة اسمية غير طلبية، وهو ما ذكر قبل هذا. وعلى هذا المعنى شرح ابنه هذا الموضع في "التكملة". وإذا استقرأت كلام العرب فقلما تجده إلا على ما قال، وهذا النظم

يقتضي أن تقع بعد (من) و (ما) و (متى) وغيرها من الأدوات فتقول/: من يكرمني إذا أنا أكرمه، ومتى تأتني إذا أنا أحسن إليك، وما أشبه ذلك، وهذا غير مقول كما ذكر. والجواب: أن تمثيله قيد فيما ذكر، إذ لم يأت (إذا) جوابا إلا بعد (إن) ومع الجملة الاسمية غير الطلبية، ذلك قوله: "كإن تجد إذا لنا مكافأة" فإنه قال: "وتخلف الفاء المفاجأة" فيما كان نحو هذا المثال، ومن عادته إفادة التقييد بالمثل، وقد مر من هذا شيء كثير. و"الفاء" في قوله "وتخلف الفاء" مفعول ب"تخلف" و"إذا المفاجأة" هو الفاعل، يقال: خلف فلان فلانا، إذا جاء بعده، وخلفه إذا كان خليفة بعده، ومنه قوله تعالى: } اخلفني في قومي}. والمكافأة: المجازاة، يقال: كافأته على ما كان منه مكافأة، وكفاء: جازيته على فعله. والفعل من بعد الجزا إن يقترن ... بالفا أو الواو بتثليث قمن. ذكر الناظم- رحمه الله- في آخر هذا الباب مسائل تتعلق بأصل الباب، فذكر منها مسألتين يشترك في النظر فيهما باب النواصب والجوازم، وذلك فيما إذا عطف على الفعل الشرطي، أو على الفعل الجزائي. وابتدأ بذكر العطف على فعل الجزاء فقال: "والفعل من بعد الجزا إن يقترن" إلى آخره.

يريد أن الجزاء إذا عطف عليه فعل بأحد حرفين، وهما الواو والفاء، فإن ذلك الفعل يجوز فيه ثلاثة أوجه، وهو التثليث الذي ذكر] أنه [مستحق لها، وهو معنى قوله: "قمن" أي جدير وخليق بها، وإنما قال ذلك لكونها عنده جارية على القياس، صحيحة التنزيل على حسب ما يذكر بحول الله. وذكر الجزاء مطلقا، وهو أعم من أن يكون بالفعل أو بغيره، ولم يقيده بالفعل الذي يظهر فيه الجزم، أو يكون في تقدير الظهور وهو المضارع والماضي، لأن الحكم واحد فيما إذا كان كذلك، أو كان جملة اسمية أو غير ذلك، فتقول إذا كان فعلا: إن تكرمني أكرمك وأحسن إليك، بالجزم، وأحسن إليك، بالرفع، وأحسن إليك، بالنصب. وكذلك الماضي تقول: إن أتيتني أحسنت إليك وأكرمك، وأكرمك، وأكرمك. وكذلك إذا كان الجزاء غير الفعل المتقدم نحو: إن تزرني فأنا محسن إليك وأكرمك، بالجزم، وأكرمك، بالرفع، وأكرمك بالنصب. وشرط الناظم في هذا الجواز أن يكون العطف بأحد هذين الحرفين، وهما الفاء والواو. فمثال الفاء قوله تعالى: } وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله/فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} قرئت هذه الآية بالثلاث الحركات في "يغفر" و"يعذب" فقراءة الجزم لمن عدا. نافعا

وابن عامر. وقراءة الرفع لهما، وقراءة النصب في غير السبع، حكاها سيبويه، وهي مروية عن ابن عباس وأبي حيوة والأعرج. ومثال الواو قوله تعالى: } وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر "ونكفر" بالرفع مع النون، وكذلك ابن عامر وحفص إلا أنهما قرأ بالياء، وقرأ الباقون بالنون والجزم، وروى عن الأعمش أنه قرأ بالنصب مع النون. وقال تعالى: } من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} قرأ أبو عمرو وعاصم بالرفع مع الياء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء، والباقون برفع الراء مع النون، وأنشد سيبويه في النصب للأعشى:

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرا ومسحبا وتدفن منه الصالحات وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا. وقد حمل على هذا قول عنترة: متى ما تلقنى فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا. فإن كان العطف بغير الواو فمقتضى كلام الناظم أن ثلاثة الأوجه لا تجوز في المعطوف، وكذلك الحكم عند سيبويه والبصريين أن الفعل إذا عطف ب (ثم) أو غيرها، فالتثليث غير جائز، بل إنما يجوز عندهم في ذلك وجهان: أحدهما: التشريك في الجزم، فتقول: إن تأتني آتك ثم أحسن إليك. والآخر الرفع فتقول: وأحسن إليك. ومن الأول قوله تعالى: } وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

ومن الثاني: قوله تعالى: } وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}. وذلك أن الرفع والجزم أمرهما ظاهر، ولذلك جازا في غير الواو والفاء، فالجزم على التشريك إما في اللفظ إن كان الجزم ظاهرا، وإما في الموضع إن لم يكن كذلك، والرفع على الاستئناف. وأما النصب فعلى منزع (ما تأتينا فتحدثنا) كأن قولك: إن تكرمني أكرمك وأحسن إليك، أو فأحسن إليك، أردت به: إن تكرمني يكن مني إكرام لك؛ وإحسان، أو فإحسان، ولا يجوز إظهار (أن) ها هنا كما تقدم. وإنما اختص هذان الحرفان بهذا الحكم للوجه الذي اختصا لأجله بدخولهما في الأجوبة الثمانية، لما/ في الفاء من معنى السببية، ولما في الواو معنى المعية، وكل واحد من هذين المعنيين يقتضي الاتصال بما قبل، بخلاف غيرهما من الحروف فإنها ليست كذلك قال سيبويه: واعلم أن (ثم) لا ينصب بها كما ينصب بالواو والفاء، ولم يجعلوها مما يضمر بعده (أن) وليس يدخلها من المعاني ما يدخل في الفاء، وليس معناها الواو، ولكنها تشرك ويبتدأ بها. وإذا كان الأمر ما قرره لم يكن النصب بعد (ثم) أو غيرها إلا من باب قوله.

*وألحق بالحجاز فأستريحا* وقد جعلوا النصب مع الفاء والواو ضعيفا، لأنه عطف على الجزاء وهو واجب، والنصب إنما بابه غير الواجب، لكنه في الجزاء قوي من حيث كان الجزاء ليس بواجب الوقوع إلا بعد وقوع الأول، فلما كان كذلك ضارع مالا يوجب الفعل كالاستفهام، فنصبوا لذلك. وقد تقرر أن هذا في الفاء والواو ولمعنى فيهما] فلا يلحق بهما [غيرهما، لأنه إما للتشريك، ولا إشكال، وإما للاستئناف، ومعنى النصب خارج عن هذين. وقوله: "إن يقترن" أتى به مضارعا على الوجه الأقل، لأن الجواب محذوف لدليل قوله: "والفعل من بعد الجزاء بتثليث قمن". ونظيره من كل وجه بيت الكتاب: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب. ويقال: هو قمن لكذا، وقمن به، أي حقيق وجدير. ثم أخذ يذكر العطف بالواو والفاء على فعل الشرط فقال: وجزم أو نصب لفعل إثر فا ... أو واو ان بالجملتين اكتنفا يعني أن الفعل إذا وقع بين جملتي الشرط والجزاء فصارتا تكتنفانه، أي تحيطان به، وكان ذلك الفعل إثر واوا أو فاء- فجائز فيه وجهان:

أحدهما: الجزم، وذلك على التشريك في العامل، نحو قولك: إن تأتني فتنزل عندي أكرمك، أو: ونزل عندي. والوجه الآخر: النصب، وذلك على ما تقدم من تقدير المصدر معطوفا عليه هذا الفعل بإضمار (أن) كقولك: إن تأتني فتنزل عندي أكرمك، أو: وتنزل عندي. والتقدير: إن يكن منك إتيان فنزول أكرمك، أو مع نزول. والنصب هنا أمثل شيئا منه في المسألة الأولى، لأن العطف هنا على فعل الشرط، وفعل الشرط غير واجب، فكان قريبا من الاستفهام والأمر والنهي، ونحوهما. ومن مثل الوجه/ الثاني ما أنشده سيبويه من قول ابن زهير: ومن لا يقدم رجله مطمئنة .. فيثبتها في مستوى الأرض يزلق. والنصب في هذه المسألة أيضا ضعيف، لأن النصب في قولك: إن تأتني فتحدثني أكرمك، معناه معنى الجزم، إذ كان قولك: (إن يكن منك إتيان فحديث أكرمك) في معنى قولك: إن تأتني فتحدثني أكرمك، فكرهوا أن يتخطوا به من بابه إلى باب آخر من غير زيادة معنى. وأما البيت فالنصب فيه جيد، لأنه إثر النفي حسن كما تقدم، سواء كان بعد شرط أولا. ومنع الناظم الرفع في هذا الفعل، لأنه أجاز الجزم والنصب بعد ما أجاز في المسألة الأولى الأوجه الثلاثة، فدل على أن الثالث غير جائز،

فلا يجوز على هذا أن تقول: إن تأتني فتحدثني أكرمك، ولا: وتحدثني، بالرفع، لأن "فتحدثني" موضوع موضع (محدثا) كما كان كذلك لم يأت بحرف العطف. ولو قلت: إن تأتني ومحدثا أو فمحدثا- كان الكلام فاسدا لأنه ليس في الكلام منصوب يعطف عليه. وأما ضمير "تأتني" فلا يصح العطف عليه، وإذا كان كذلك لم يكن للرفع وجه. هذا معنى تعليل سيبويه. وقد أجاز ابن خروف الرفع مع الواو خاصة على الحال، كأنه قال: إن تأتني وأنت تسألني، ولا يقدر الفعل مع الواو إلا بالجملة، فلا يقدر "وسائلا" كما يقدر: نجوت وأرهنهم مالكا. بالجملة، أي: وأنا أرهنهم. والناظم لم يرتض هذا، بل وقف مع سيبويه والجماعة، لكن قد مضى له في باب "الحال" جواز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو، على إضمار المبتدأ، ومخالفة من ذهب إلى المنع في المسألة، فما باله منع ذلك هنا؟ فكان الأولى به أن يجيز الرفع مع الواو، لأن ما ألزم سيبويه هنا من وقوع الحال مع الواو قد أجاب عنه بأنه على تقدير الجملة، كما قاله ابن خروف، واستدل عليه بالسماع، فهو لازم له، فاقتصاره مع الواو على الوجهين غير سديد، أما مع الفاء

فلا سبيل إليه، فكان من حقه أن يجمع بين كلاميه. وقيد جواز الوجهين في المسألة بشرطين ذكرهما: وأحد الشرطين: أن يكون العطف بالفاء أو الواو كما مر، فدل أن ذلك عنده مختص بهما، ولا يجوز في غيرهما، وهو رد لما أجازه الكوفيون فيما نقل عنهم في (ثم) من النصب، كما أجازه الجميع في الواو/والفاء، فيقولون: إن تأتني ثم تحدثني أكرمتك، بنصب "تحدثني" ومن حجتهم في هذه قراءة من قرأ: } ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} بنصب "يدركه" وهي قراءة قتادة ونبيح والجراح. وقد قرئ بالرفع، وهي لطلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي. والجزم قراءة الجماعة. وهذه القراءة لم يثبت البصريون بها حكما، لندورها وكونها في القياس كقوله: * وألحق بالحجاز فأستريحا* لكنها امثل قليلا، لأن الشرط ليس بواجب في نفسه، وقد تقدم وجه اختصاص الواو والفاء بهذا الحكم دون غيرهما، فالأولى عدم القياس في غيرهما. والشرط الثاني: أن يكون الفعل مكتنفا بجملتي الشرط والجزاء، وذلك قوله": "إن بالجملتين اكتنفا" يعني أنه لا بد من أن تكون جملة

الشرط وجملة الجزاء قد أحاطتا به، فصار بينهما، وقد تقدم تمثيل ذلك. واكتنفا" في كلامه من قولهم: اكتنف القوم، إذا اتخذوا كنيفا لإبلهم، والكنيف: حظيرة من شجر تجعل للإبل، أي إن اتخذ بالجملتين كنيفا. ولا يكون من: اكتنف القوم زيدا، أي أحاطوا به، لأنه أتى بالفعل مستندا إلى ضمير الفعل، وليس هو المحيط بالجملتين، بل هما المحيطان به، فإنما يريد أنه اتخذ بهما كنيفا، أي ما يجري مجراه. فإن قلت: ما الذي احترز بقوله: "عن بالجملتين اكتنفا" وهو إنما يريد أن يكون ذلك الفعل تابعا لجملة الشرط، سواء أكانت الجملتان تكتنفانه أم لا، فيظهر أن وصف الاكتناف غير محتاج إليه .. فالجواب: أن هذا الكلام أحرز به أمرين: أحدهما: ما تقدم من كونه تابعا لجملة الشرط لا لجملة الجواب، إذ تقدم الحكم في ذلك. والآخر: أنه قصد أن يكون الفعل المعطوف بالواو أو الفاء زائدا على فعل الجواب إن كان فعلا، لأنه إن لم يكن زائدا على ذلك فهو الجواب بعينه، وذلك يتصور في المعطوف بالفاء، وإذا كان هو الجواب بعينه فلا يجوز فيه هذان الوجهان أصلا، بل يلزم فيه بعد الفاء الرفع، كقولك: إن تأتني فأحدثك، وذلك أن الشرط في الأصل جملة مبناها على فعل وفاعل. والجواب جملة أخرى بائنة من الأولى، مبناها على مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، ربط إحداهما بالأخرى جرف (إن) أو غيره من أخواته، ولا حاجة إلى الفاء إذا كان الجواب فعلا، وجئ بها لما احتيج إلى الجواب بالابتداء والخبر، ثم جعل مكان المبتدأ الفعل فارتفع، وليس الجواب الفاء إذا كان مرفوعا مثل ما انتصب/ بين المجزومين،

لأن ما انتصب بين المجزومين مصدر معطوف على مصدر فعل الشرط. ولو قلت: إن يكن إتيان فحديث، وسكت، فليس ذلك بمعطوف على مصدر فعل الشرط، بل هو مرفوع على تقدير مبتدأ بعد الفاء، تقديره: فأمري حديث، أو نحو هذا. هذا تعليل السيرافي، وهو معنى ما في الكتاب من قول سيبويه: وإنما منعه أن يكون مثل ما انتصب بين المجزومين أن هذا منقطع من الأول- يعني قولك: فأحدثك- ألا ترى أنك إذا قلت: إن يكن إتيان فحديث أحدثك، فالحديث متصل بالأول، شريك له، وإذا قلت: إن يكن إتيان فحديث، ثم سكت، وجعلته جوابا لم يشرك الأول، وكان موتفعا بالابتداء. فعلى هذا بنى الناظم. وقد تقرر من هذا أن كلا الوجهين لا يجوز في جملة الجواب، فلا يجوز الجزم، لأنه مقرون بالفاء، وليس بمعطوف، ولا يجوز النصب، لأنك لم تقصده، فلا بد من الرفع، فلهذا شرط الناظم شرط "الاكتناف" وظهر منه أن ما أجازه ابن طاهر (من النص مع الفاء لم يرتضه، وإنما أجازه ابن طاهر) في الشعر حملا على المعنى؛ لأنك إذا قلت: إن تأتني فأحدثك ف"أحدثك" هنا يتقدر بالمصدر كالجواب، وهو أيضا واقع، فوقع الشرط مثله، فجعل كالمنقطع لذلك، ولا يلتفت فيه إلى تقدير الاتصال إذا مثلته بالمصدر، لأنه تمثيل لا ينطق به، ويكون معنى الكلام: إن يكن إتيان يكن حديث، لأنك لو أزلت الفاء لجزمت،

فروعي ذلك. وأجاز ذلك ابن خروف، وعلى هذا التأويل الذي بسطه عن شيخه، وهو ضعيف جدا، ولذلك لم يجزه إلا في الشعر. الشرط يغني عن جواب قد علم ... والعكس قد يأتي إن المعنى فيهم. هذا الفصل يذكر فيه ما يعرض من الحذف للجملة الجوابية، أو للجملة الشرطية، وذلك أنه قد تقرر قبل في مواضع أن الحذف إنما يكون إذا علم المحذوف، وكانت عليه دلالة تعرف به، وأما إذا لم يكن ثم دليل فلا سبيل إلى الحذف. والحذف ها هنا على ثلاثة أوجه: حذف جملة الجواب، وهو الأكثر، وحذف جملة الشرط، وهو دون ذلك، وحذفها معا، وهذا الثالث نادر، ولذلك لم يعرج عليه الناظم، ومنه قول النمر بن تولب: فإن المنية من يخشها ... فسوف/ تصادفه أينما. أي: أينما يذهب تصادفه، وكذلك قول الآخر:

قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيرا معدما قالت وإن أي وإن كان كذلك فأنا أتمناه وأرضاه، تعني البعل وابتدأ الناظم بذكر حذف الجواب فقال: " واشرط يعني عن جواب قد علم". يعني أن جملة الشرط يغني ذكرها عن ذكر جملة الجزاء، فتحذف جملة الجزاء لعلم المخاطب بالمحذوف، ولا يعني بإغناء الشرط عن الجواب كون الشرط هو الدال بنفسه فقط، بل المقصود أنه يذكر دونه فيستقل الكلام، اتكالا على ما عند المخاطب من العلم. والعلم الحاصل عند المخاطب قد يكون لتقدم ذكر معنى الجواب بعينه، ويكون لتقدم ما يدل عليه وليس به، وقد يكون لغير ذلك. فمن الأول قولك: أكرمك إن أكرمتني، وآتيك إن أتيتني. فالجواب المحذوف هنا هو عين ما تقدم، والتقدير: إن أكرمتني أكرمك، وإن أتيتني آتك، ولكن حذف لدلالة الأول عليه، وهذا مذهب البصريين، وقد تقدم ذلك، وتنبيه الناظم عليه، ومنه قوله: *إنك إن يصرع أخوك تصرع* وقوله: *والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب*

وهو كثير. ومن الثاني قوله تعالى: } قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} فليس المعنى: إن كنت تقيا فإني أعوذ بالرحمن منك، وإنما المعنى: إن كنت تقيا فلا تقربني، (وقولك: فلا تقربني) دلت عليه الاستعاذة، لأن الاستعاذة هي طلب العوذ والبعد من كل ضار. ومنه أيضا قوله تعالى: } إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا} الآية هو محذوف الجواب، تقديره: إن كنتم آمنتم فاقبلوا ما أمرتم به، لأن قوله: } واعلموا أنما غنمتم من شيء} حكم ألزمه المكلف، فدل على طلب القبول. وكذلك يجري الحكم في جواب (لو) لأنها شرط، ومنه قوله تعالى: } ولو أن قرأنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} الآية، أي لكان هذا القرآن. ومنه قول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا

أي لكان ذلك أهون، او نحو ذلك، ومنه ما يذكره إثر هذا في اجتماع الشرط والقسم. ويعترض على الناظم هنا بأنه أطلق القول في فعل الشرط مع حذف الجواب والحق إذا كان محذوفا أن يكون فعل الشرط ماضيا، كما مضى في الأمثلة المتقدمة من نحو ذلك: أكرمك إن أكرمتني/ ولا يجوز: أكرمك إن تكرمني إلا في الشعر، وذلك لأن العرب تكره أن يظهر الجزم في الشرط، ثم لا ينجزم الجواب في اللفظ. وقد مر ذلك، ومن هناك قل أن يأتي الجواب مرفوعا والشرط مجزوم، وكثر رفعه إذا كان فعل الشرط ماضيا كما تقدم، فكان من حق الناظم أن يبين هذا، ويقيد كلامه، فإنه يقتضي أن الجواب يحذف إذا علم مطلقا، سواء كان فعل الشرط ماضيا أو مضارعا، وهذا لا يصح، ولا أجد الآن له جوابا، إلا أنه لم يتعرض لذكر ذلك. ثم ذكر حذف جملة الشرط فقال: "والعكس قد يأتي إن المعنى فهم". يعني أن الشرط قد يحذف أيضا، ويبقى الجواب مذكورا، لكن إن كان المعنى مفهوما، أي معنى المحذوف وهو الشرط. وكرر ذكر شرط "العلم" تأكيدا، وتذكيرا بان هذا لا يكون إلا عند المعرفة بالمحذوف كائنا ما كان، ولأمر آخر يذكر إثر هذا بحول الله. وتحقيق "العكس" أن معنى ما تقدم أن الجواب يحذف دون الشرط، فإذا حولت هذه القضية قلت: إن الشرط يحذف دون الجواب، وقلل الحذف هنا بقد في قوله: "قد يأتي" يريد أنه ليس حذفه بكثير، كما كان

كثيًرا في الجواب. ومثاله أن تقول: افعل كذا وإلا ضربتك تقديره: وإلا تفعل ضربتك. ومنه قوله عليه السلام: "إما لا فأعني على نفسك بكثرة السجود". التقدير: إن كنت لا تفعل غير هذا، أو لا تقول غير هذا فأعني، وفي حديث الغامدية قوله عليه السلام: "إما لا فاذهبي حتى تلدي" الحديث. وكذا تقول العرب: إما لا فافعل كذا، أي أن كنت لا تفعل غير هذا فافعل كذا. ومن ذلك قول الشاعر: فطلقها فلست لها بكفء ... وإلا يعل مفرقك الحسام. وقال الآخر:

فإما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثى من سميني. وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني. وقال الآخر: أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا. وعلى الناظم هنا إشكال، وهو أنه أطلق القول بالحذف، ولم يقيده، وحذف جملة الشرط لا يجوز على ما ذكر في "التسهيل" إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون الجازم (إن) دون غيرها من الأدوات، ومنه ما تقدم من الأمثلة، فإن كان غير (إن) فلا يجوز، لا يقال: من يأتني أكرمه ومن لا فلا أكرمه، وكذا لا يقال: متى تمدح زيدا يعطك، ومتى لا فلا يعطك، ونحو ذلك، لأن السماع/ غنما جاء في (إن) وحدها، وهو فيها قليل، كما أشار إليه فلا يتعدى. والثاني: أن يقع بعد (إن) لا النافية كما تقدم تمثيله، فإن لم يقع بعدها (لا) فلا يجوز الحذف، فلا تقول: إن جئتني فانا آتيك وإن فلا آتيك، أو تقول: إن أحسنت إلي أكرمتك وإن فلا أكرمك، تريد: وإن أبغضتني فلا آتيك، وإن أسأت إلي فلا أكرمك، ومثل هذا لا تقوله العرب.

وكلام الناظم ينتظم بإطلاقه هذا كله، ولأجل ذلك قال في "التسهيل" ويحذف الجواب كثيرا لقرينة، وكذا الشرط المتلو ب (لا) تالية (إن). والجواب عن الشرط الأول أنه يمكن أن يكون لم يراع شرط وجود (إن) بل يجوز عنده قياسا أن يقال: من يأتني أكرمه، ومن لا فلا أكرمه، وكذا في سائر الأدوات، ولا مانع من هذا في القياس، وإن كان السماع إنما ورد ب (إن) فليس في ذلك ما ينفي القياس في غيرها، وعلى أن ابن الأنباري قد حكى في كتاب "الإنصاف" له عن العرب: من سلم عليك فسلم عليه، ومن لا فلا تعبأ به. وهذا نص في الجواز. وعن الثاني أن وجود (لا) مع الأداة قد أعطاه قوة كلامه لأنه اشترط فهم المعنى بقوله: "إن المعنى فهم" وذلك أن (لا) إذا جاءت مع (إن) يظهر أنها نفي لما تقدم إثباته، وإذا كانت كذلك فقد لزم العلم بما نفت، وذلك هو الواقع بعدها بلا بد، فقد صارت (لا) هي الدالة على المحذوف من هذه الجهة، وبها يفهم معنى الفعل المحذوف. أما إذا لم يؤت بلا، كما إذا قلت: إن أحسنت إلي أكرمتك، وإن فلا أكرمك، فلا يفهم معنى المحذوف، لاحتمال أن يكون المعنى: وإن لم يحسن إلي، أو يكون: وإن أسأت إلي، أو غير ذلك، وإذا لم يفهم معناه لم يجز حذفه، فلهذا كرر قلوه: "إن المعنى فهم" مع أنه تقدم له ذلك المعنى بقوله: "قد علم" وكثيرا ما تجد في كلامه ما ظاهره الحشو أو التكرار، وهو منظو على فائدة أو فوائد. وأيضا لا يمتنع ذلك دون (لا) إذا فهم المعنى، مثل أن يقال لك: أتكرم

زيدًا وإن أساء إليك؟ فتقول: أكرمه وإن، وقد جاء نحو هذا عن العرب، ولكن في الشعر كقوله: قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن. ولكن مثل هذا قليل، وإنما يكثر مع (لا) ثم قال: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم. وإن تواليا وقبل ذو خبر ... فالشرط رجع مطلقا بلا حذر. / وربما رجح بعد قسم ... شرط بلا ذي خبر مقدم. هذه المسألة جزء مما قبلها، لكنها اجتمعت مع ما يجوز حذف جوابه، وهو القسم، فأخذ يتكلم فيما يحذف جوابه منهما لدلالة جواب الآخر عليه. وأراد بهذا الكلام أن القسم والشرط إذا اجتمعا في كلام واحد فإن جواب المتأخر منهما يحذف مطلقا، استغناء عنه بجواب المتقدم، فإن تقدم الشرط استغنى بجوابه عن جواب القسم، وإن تقدم القسم استغنى بجوابه عن جواب الشرط، في الأمر العام، وربما كان الأمر بالعكس وإن تقدم القسم.

هذا إذا لم يتقدم ذو خبر، فإنه إن تقدم استغنى بجواب الشرط مطلقا، سواء تقدم عل القسم أم تأخر عنه، هذا جملة ما أراد ذكره. والحاصل منها قسمان: قسم يستغني فيه بجواب الشرط مطلقا، وقسم يستغني فيه بجواب ما تقدم، ولا بد من بسطها فتقول: أما قوله: "واحذف" فإن مقتضاه وجوب الحذف، إذ لو أراد الجواز لقال: وجوز الحذف، أو واحذف إن شئت، وقد صرح بهذا المراد بقوله: "فهو ملتزم" وضمير "فهو" عائد على "الحذف" المفهوم من "احذف" كقوله تعالى: } وإن تشكروا يرضه لكم} أي فالحذف ملتزم، ولزوم الحذف صحيح، إذ لا يجوز أن يظهرا معا كما سيأتي، فلا تقول: لئن قام زيد لأكرمنه أكرمه، أو بالعكس. وتضمن هذا الكلام معنى آخر، وهو أنه لا يكون ذلك إلا إذا كان جوابهما معا أمرا واحدا، فإنه كان كذلك استغنى بجواب أحدهما عن الآخر للعلم بما حذف، فلو لم يتحدا في المعنى لم يجز حذف واحد منهما، إذ لا يبقى دليل على ما حذف. وقد تبين هذا في قوله: "والشرط يغني عن جواب قد علم" فشرط العلم. وهذه المسألة داخلة تحت ذلك الشرط، ولأجل هذا صح أن يجتمع الشرط والقسم في كلام واحد، وهو قوله: "لدي اجتماع شرط وقسم" يعني اجتماعهما في كلام واحد، ولا يجتمعان كذلك إلا إذا كان بينهما جامع، وذلك إذا كان الجواب هو المقسم عليه، نحو: والله لئن قام زيد لأكرمته، ونحو ذلك، وعلى هذا ف"التأخير" في كلامه المراد به إذا تصدر الشرط والقسم معا قبل مجئ جواب واحد منهما، لا أنه يريد: إذا تصدر واحد مع جوابه، ثم تأخر الآخر مع

جوابه/ لأنهما إذ ذاك غير مجتمعين، وقد قال: "لدي اجتماع كذا". فإذا تقرر هذا فالذي ذكر في هذه المسألة قسمان": أحدهما: أن يجتمعا من غير أن يتقدم عليهما ذو خبر، فالحكم ها هنا كما قال، أن يحذف جواب الآخر منهما لدلالة جواب الأول عليه، فتقول إذا تقدم الشرط: إن جائني زيد والله أكرمه، ولا تقول: لأكرمنه. وتقول إذا تقدم القسم: والله لئن أتيتني لأكرمنك، ولا يجوز أكرمك، إلا نادرا كما سيأتي. ومن ذلك قوله تعالى: } وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن} الآية. ومنه قول كثير. لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذا لا أقيلها أنشد سيبويه وقال الآخر: لئن نائبات الدهر يوما أدلن لي ... على أم عمرو دولة لا أقيلها

وهو كثير. ووجه هذا أن الشرط إذا تقدم، مثلا، فالاعتماد في الكلام إنما هو عليه، والقسم جئ به بعد ذلك للتوكيد، فصار كالملغي إذ لم يعتن به فيقدم، فصار الجواب إذن لما اعتمد هو الشرط فاستحق الجزم، صار على حكم ما لو لم يكن قسم. وكذلك إذا عكست الأمر فقدمت القسم صار هو المعتنى به المقدم، فاستحق الجواب، فلم يصح الجزم، ودخل الشرط بعد ذلك من حيث كان جواب القسم معلقا عليه، كما دخل الظرف في قولك والله لأضربنك يوم الجمعة، حيث كان الجواب معلقا عليه، ومطلب الوقوع فيه، وهذا ظاهر. والقسم الثاني: أن يجتمع الشرط والقسم مع تقدم ذي خبر، وهو قوله: (وإن تواليا وقبل ذو خبر). أي إن تولي الشرط والقسم وقبلهما ذو خبر، فالحكم كذا، وذو الخبر هنا المبتدأ، يريد أنه تقدم عليها المبتدأ، فإن الراجح إذ ذاك الشرط، فهو الذي يؤتى له بالجواب، ويبقى القسم دون جواب استغناء بجواب الشرط، وأراد بقوله: (مطلقا) أي سواء أكان المتقدم الشرط أم القسم، فالمعتبر معتبر بتقديم القسم، بل الحكم للشرط دون حذر. ويعني بقوله: بلا حذر) أنه لا مانع يلقي في ذلك، كما كان يلقى إذا لم، يتقدم ذو خبر، فتقول هنا: أنا أن تأتني والله أكرمك، وأنا والله إن تأتني آتك، فيستوي الأمران. وعلل المؤلف ترجيح الشرط في إغناء جوابه هنا مطلقا/ بأن تقدير سقوطه مخل بالجملة التي هو منها، وتقدير سقوط القسم غير مخل، لأنه

مسوق لمجرد التوكيد، والاستغناء عن التوكيد سائغ، ففضل الشرط بلزوم الاستغناء بجوابه مطلقا إذا تقدم عليه وعلى القسم ذو خبر. هذا ما قاله في هذه المسألة. ثم قال: (وربما رجح بعد قسم شرط) إلى آخره. يعني أنه قد يجئ نادرا ترجيح الشرط على القسم وإن تقدم القسم، فيأتي الجواب للشرط، ويستغني به عن جواب القسم، وذلك مع عدم تقدم ذي خبر، وهو قولك (بلاذي خبر مقدم) لأنه إذا كان ذو الخبر موجودا مقدما فقد تقدم أنه مطلقا فيقال والله إن قام زيد أكرمه، وبابه الشعر، ولذلك قال: "وربما" قآتي بأداة التقليل. ومنه ما أنشده الفراء من قول الشاعر: حلفت له إن تدلج الليل لا يزل ... أمامك بيت من بيوتي سائر. وأنشد أيضا:

لئن كان ما حدثته اليوم صادقا ... اصم في نهار القيظ للشمس باديا وقال ذو الرمه: لئت كانت الدنيا على كما أرى ... تباريح من مي فللموت أروح ومن أبيات الحماسه: لئن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جانحات النبل كشحي ومنكبي وفيه كثرة ما، ولذلك قال: (وربما) ولم يقل وشذ. وفي هذا الفصل نظر من وجهين: أحدهما: أن ترجيح المتقدم من الشرط والقسم ليس مطلقا، بل ذلك عند المؤلف ما لم يكن الشرط امتناعيا، وهو الشرط بلو أو لولا فإنه إذا كان بأحدهما فالحكم للشرط وحده، تقدم على القسم أو القسم عليه، ولذلك قال في "التسهيل" وإذا توالى قسم وأداة شرط غير امتناعي: وذكر في "الشرح":

أنه تحرز من "لو" "ولولا" فإنك تقول: لو قام زيد والله لقام عمرو، وكذلك في (لولا) وإذا كان كذلك دخل على الناظم في نظمه أن يقال في الشرط الامتناعي: والله لو قام زيد لاكر منه، وذلك لا يقال. والجواب عن هذا أنه إنما تكلم في هذا الباب في الشرط غير الامتناعي، لأنه أفرد للامتناعي فصلا يذكر إثر هذا، فالظاهر أنه لم يتعرض له. والثاني: أنه ذكر فيها إذا سبق ذو الخبر وجها واحدا، وهو ترجيح الشرط خاصة وهذا مما ينازع فيه، لا يخلو أن يستند غي ذلك إلى قياس أو سماع. أما القياس فعلى خلاف ما قال، بل مقتضاه أن يكون الشرط والقسم معا، بعد ذي الخبر، إما على حدهما قبل دخوله، فيقال: أنا إن أتيتني والله آتك، أو يقال أنا والله إن أتيتني لآتينك. وبيان تسويغ هذا قياسيا أن الجملة إذا وقعت خبرا للمبتدأ فهي على حكم الاستقلال، كما لو لم تكن خبرا، إلا ما يلزم من إعاده الضمير، ألا ترى أنها تقع شرطية واستفهامية وغير ذلك، ولا يكون مؤثرا فيها. وإما أن يكون التقدير غير مراعي فيهما على الإطلاق لما نسخ بالنسبة إليهما معا فيجوز الوجهان مطلقا بعد ذي الخبر، كان المتقدم الشرط أو القسم، وعلى هذا يدل كلام سيبويه في "مسألة": أنا والله إن تأتني لا آتك، إذ حسن الجزم في (لا آتك) على أن يكون الشرط

وجوابه خبر "أنا" والقسم ملغي. وأجاز ابن خروف أن يرفع على جواب القسم وجوابه خبر "أنا" والشرط ملغي، وهو كلام صحيح متمكن في القياس وما ذكره المؤلف من الاعتلال لترجيح الشرط فضعيف، فإن سقوط الشرط إذا كان مخلا فكذلك يخل سقوط القسم بحسب القصد، فإن قصد التوكيد بنا في حذف المؤكد، كما أن سقوط الشرط ينافي قصد التقييد به. وأيضا فهو لازم له بعينه إذا لم يتقدم ذو خبر، وإلا فما الفارق بين تقدير سقوطه بعد ذي الخبر وسقوطه دونه، لا فرق بينهما في القياس أصلا. وأيضا فالترجيح بتقدير السقوط ضعيف من جهة أخرى، وهي أن تقدير السقوط جملة إذا سلمنا أنه مخل في الشرط دون القسم لا يؤثر فيما نحن بسبيله، لأن سقوط أحد الجوابين إنما هو للدلالة عليه، فكأنه موجود لفظا، فلا يعود حذف جواب الشرط عليه بنقص ولا أخلال، فالظاهر خلاف ما قال. وأما السماع فليس له ما يدل على لزوم ما التزم ويمكن أن يقال في الجواب: إنه تعلق بكلام الإمام سيبويه في "المسألة" وهو قوله: وتقول: أنا والله إن تأتني لا آتك، لأن هذا الكلام مبني على "أنا" ألا ترى أنه حسن أن تقول: أنا والله إن تأتني آتك، فالقسم هنا لغو، فإذا بدأت بالقسم لم يجز إلا أن يكون عليه. فهذا الكلام بظاهره يعطي أن القسم مع تقدم ذي الخبر لغو، وأن المعتبر هو الشرط وعليه أخذ السيرافي كلام سيبويه، فلا اعتراض عليه بهذا المعنى

(فصل لو)

(فصل لو) لو حرف شرط في مضى ويقل ... إيلاؤها مستقبلا لكن قبل. وهي في الاختصاص بالفعل كإن ... لكن لو أن بها قد تقترن. وإن مضارع تلاها صرفا ... إلى المضي نحو لويفي كفى. ذكر في هذا الفصل وما بعده بعض أدوات تتعلق بباب الشرط، وبعض أدوات لا تتعلق به. أما ما يتعلق بباب الشروط ف (لو) وهي التي ابتدأ بها، و (أما) و (لولا) و (لوما) لأنهما في معنى الشرط مثل (لو) وقد يقعان تحضيضا. وذكرها في هذا الموضع واضح التناسب. وأما ملا تعلق بباب الشرط فحروف التحضيض. لكن ذكرها هنا لوجهين: أحدهما: أنه لما ذكر ما يشترك في البابين، وهو (لولا) و (لوما) فإنهما يقعان في باب الشرط وفي باب التحضيض أدرج ذكر سائر أدوات التحضيض بالانجرار، لمشاركه (لولا) و (لوما) في ذلك. والآخر: أن أدوات التحضيض لم يكن لها باب تختص به، فذكرها في آخر هذا الباب فصلا على حده، إذ لا بد من ذكرها، وشركها مع أدوات مثلها

مطلقا من غير اعتبار معنى. ولنرجع إلى كلامه فنقول تقع (لو) على وجهين في الكلام: أحدهما: ان تكون مصدريه كأن، وأن، وكي، ومنه قوله تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون". وقوله "يود أحدهم لو يعمر ألف سنة". ولم يتعرض الناظم في هذا النظم على ذكر أحكام الموصولات الحرفية أصلا، وذكر أحكامها من حيث هي موصولات، بل إنما ذكرها من حيث تعلقها بأبواب أخر، كالعمل ونحوه، فلذلك سكت عن ذكر هذا الوجه. والثاني: أن تكون شرطيه، وهي التي تعرض لها الآن فقال: (لو حرف شرط) ومعنى كونها حرف شرط أنها تقتضي جملتين: الأولى منهما مستلزم للثانية فالأولى شرط، والثانية جواب ذلك الشرط. فإذا قلت: لو قام زيد لقام عمرو، فأنت قد أتيت ب (لو) لتجعل قيام زيد يلزم من وجوده قيام عمرو. فالجملة الأولى كجملة الشرط في (إن) والثانية كجملة الجواب، من حيث كانت كل واحده من الجملتين الأوليين سببا في كل واحده من الأخريين. لكن الأحكام مختلفة، فمن الاختلاف بينهما أن (لو) إنما تكون حرف شرط في المضي لا في الاستقبال / ولذلك قال الناظم: "حرف شرط في مضي" أي إنها مخالفة لأدوات الشرط في ذلك، فإنك إذا قلت:

لو قام زيد لقام عمرو فالمراد أن قيام زيد لو كان واقعا فيما مضى لكان قيام عمرو، فالمراد أن قيام زيد لو كان واقعا فيما مضى لكان قيام عمر، واقعا أيضا لوقوعه فيما مضى، بخلاف ما إذا قلت: إن قام زيد قام عمرو، فإن معناه إن يكن من زيد قيام فيما يستقبل يكن من عمرو قيام أيضا بسببه. وقد تضمن قوله: "في مضي" أت الفعل الواقع بعدها، جوابا أو شرطا، إنما يكون ماضيا صيغة، كما يكون ماضيا معنى، وقد اشعر بهذا أيضا قوله: "ويقل: إيلاؤها مستقبلا". ومن ذلك قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وقوله: "ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه". وهو كثير. وهذا هو الباب الأغلب في الاستعمال. ثم قال: "ويقل إيلاؤها مستقبلا" يعني أن الباب فيها أن الفعل لا يقع بعدها إلا ماضيا، لكنه قد يقع بعدها المستقبل قليلا، وأراد بالمستقبل هنا المستقبل الزمان، سواء كان ماضيا أو مضارعا، فيجوز عنده أن يقال: لو قام زيد لقام عمرو، بمعنى لو يقوم زيد فينا يستقبل لقام عمرو. ومن ذلك قوله تعالى: } فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به}. ولذلك يقدر بعض الناس (لو) بإن) كأنه قال: وإن افتدى به لم يقبل منه. وقال تعالى: } وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم}.

وقال الشاعر: ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... على ودوني جندل وصفائح. لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح. فالمعنى في الآية: وليخش الذين إن تركوا، وكذلك البيت. وهذا قليل في الكلام، ولكنه مقبول كما قال الناظم: "لكن قبل" وإشارته بقوله: "قبل" إلى أن السماع به ثابت لا يقبل التأويل إلا بتكلف، والحمل على الظاهر هو الواجب حتى يدل دليل على خلافه، فالشواهد المتقدمة لا مدفع فيها. وهو تنكيت على من يجعل (لو) مختصة بالمضي أبدا، وأنها لا يقع بعدها المستقبل، ويتأول ما جاء من ذلك رادا على من ذهب إلى الجواز، وهم طائفة من النحويين، ومنهم الفراء على ما حكاه عنه الزمخشري في "المفصل"، والظاهر ما قاله الناظم، وإليه ذهب في "التسهيل" أيضا. ولما كان ما جاء من الشواهد على ذلك مقبولا دل على كونه قياسا، وإن كان وقوع الماضي بعد (لو) هو الأكثر.

ثم قال: "وهي في الاختصاص/ بالفعل كإن" إلى آخره. يعني أن (لو) حكمها في وقوع الفعل بعدها حكم (إن) يقع الفعل بعدها لزوما، فكذلك (لو) فكما لا يجوز أن تقول: إن زيد قائم أكرمتك، كذلك لا تقول: لو زيد قائم لقام عمرو، بل لا بد من ولاية الفعل، إلا ما شذ نحو قول عدي بن زيد: لو يغير الماء خلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري. لكن لا تلزم ولاية الفعل ل (لو) في اللفظ، كما لا يلزم ذلك في (إن) فكما تقول: إن زيد قام أكرمته، فكذلك تقول: لو زيد قام لأكرمته، قال الله تعالى: } قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} الآية، فهو على تقدير فعل يفسره قوله "تملكون" أي لو تملكون خزائن رحمة ربي، كما كنت فاعلا ذلك، بنحو قولك} إن امرؤ هلك} الآية وقوله: } وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} الآية.

ومن ذلك في (لو) قول بعض العرب: "لو ذات سوار لطمتني" وكذلك تقول: ألا ماء ولو باردا، على تقدير (كان) كما تقول: إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهي في هذه الأحكام مثل (إن) فلذلك أحال في اختصاصها بالفعل على (إن) إلا أن (لو) تختص عنده بحكم زائد على (إن) وذلك صحة وقوع (أن) المفتوحة الهمزة المشددة بعدها، وذلك قوله مستدركا ذلك الحكم: "لكن لو بها قد تقترن". أراد: لكن (لو) قد تقترن بها (أن) ف (أن) مبتدأ خبره ما بعده، والجملة خبر "لكن". يعني: قد تأتي بعدها تليها، بخلاف (إن) فإن ذلك لا يكون فيها، وذلك قولك: لو أن زيدا جاءني لأكرمته، ولو أنه كلمني لأحسنت إليه، ومنه قوله تعالى: } ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به}. الآية. } ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة}، } ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا}، الآية، وهو كثير. ووقعت "قد" هنا في قوله: "قد تقترن" في غير موضعها، لأنها تستعمل للتقليل، وليس وقوع (أن) بعد (لو) بقليل، بل هو كثير، فكان حقه ألا يأتي بها

وفي قوله: "لكن لو أن بها قد تقترن" إشارة إلى أنها في وقوع (أن) بعدها على غير حكمها لو لم تقع بعدها، لأنها قبل وقوع (أن) بعدها مختصة بالفعل كما قال، فلو كانت إذا وقعت (أن) بعدها على ذلك الحكم بحيث يقدر لها فعل يعمل فيها يكون واليا ل (لو) في التقدير، لم يحتج إلى هذا الاستدراك، فلا بد أن يكون الحكم عنده مخالفا، وما ذاك إلا أن (أن) وما بعدها في تقدير اسم مبتدأ محذوف الخبر] وإن كان لا يتكلم به [كأنك إذا قلت: (لو أنك قائم) لو قيامك موجود، فصارت ك (لولا) في وقع المبتدأ/ بعدها محذوف الخبر، وإن كان لا يتكلم به، وب (لولا) شبهها سيبويه. وهذا الذي ذهب إليه الناظم هنا من أن (أن) وما بعدها في تقدير مبتدأ هو مذهب سيبويه والجمهور. وذهب المبرد إلى اطراد وقوع الفعل بعدها، فجعل (أن) وما بعدها في موضع اسم مرفوع على الفاعلية بفعل مضمر، كما كان ذلك حين وقع بعدها الاسم في نحو قوله تعالى: } قل لو أنتم تملكون}. الآية. ورأى أن اطراد الحمل على الفعل بعد (لو) أولى من الاختلاف. وقال ابن خروف: والأولى أن يكون على إضمار (كان) الشأنية، وتكون جملة الابتداء أو الخبر مفسرة، قال: ويجوز أن تكون الجملة

الاسمية وقعت موقع الفعلية. وذهب أبو الحسن في "المسائل الصغير" إلى أن (أن) بعد (لو) زائدة، وكرر الاسم للتوكيد، كما كرر في قولهم: ضربت القوم بعضهم، وأعمل (أن) وإن ككانت زائدة، كما أعملت الحروف الزائدة، واحتج له الفارسي في "التذكرة". وما ذهب إليه الناظم هو الأظهر، لأن الإضمار على خلاف الأصل، وقد يكون الشيء في موضع على حال، فيخالف به في آخر عن تلك الحال إلى حال أخرى، كما نصبوا (غدوة) مع (لدن) فقالوا: لدن غدوة حتى دنت لغروب. ولا ينصبون بعد (لدن) إلا (غدوة) وكما قالوا: اذهب بذي تسلم، فأضافوا إلى الفعل والمراد الاسم، لكنهم لا يستعملون مع (ذي) إلا الفعل، ولهذا نظائر، ف (أن) بعد (لو) من هذا القبيل. وأيضا فإن (أن) مشبهة بالفعل، ولذلك عملت عمله، وهو الرفع والنصب، وحملت في ذلك على (لولا) لأنها أختها من جهة المعنى.

وأيضا فالحمل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره أصل من أصول العربية، وهو معتمد عند الناظم، وسيبويه يقول به مواضع، ألا ترى كيف جعل (سيدا) من ذوات الياء، مع إمكان جعله من ذوات الواو بالاشتقاق من قولهم: ساد يسود، ولكنه آثر الظاهر، وكذلك دعوى الزيادة على خلاف الظاهر. وفي إطلاق الناظم القول في المسألة إشكال ما، وذلك أن غيره يشترط في وقوع (أن) بعد (لو) أن يكون خبرها فعلا، وذلك ليكون عوضا من ظهور الفعل بعد (لو) وعلى هذا كلام العرب كقوله تعالى: } ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} الآية. وقال: } ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية.} ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة} /} ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة} الآية. وهو من الكثرة بحيث لا يحصى، فلا بد من اشتراطه، إذ لا يجوز أن يقال: لو أن زيدا حاضري لأكرمته. وإطلاق النظم يقتضي الجواز، لأنه لم يقيد (أن) بأن يكون خبرها فعلا. والجواب: أن ذلك غير مشترط، وإنما اشترطه السيرافي. قال ابن الضائع: وجرى منه على غلط، يعني من السيرافي، وتبعه عليه الزمخشري في"المفصل" ورده ابن الضائع وابن مالك بأن وقوع خبر (أن) غير فعل شائع في كلام العرب، كقوله تعالى: } ولو أنما في

الأرض من شجرة أقلام} الآية. ومنه قول الشاعر: لو أن حيا مدرك النجاح ... أدركه ملاعب الرماح. وقال الآخر: ولو أن ما أبقيت مني معلق ... بعود ثمام ما تأود عودها. أنشدهما المؤلف على ما حكاه عنه ابنه في "التكملة" وأنشد أيضا غير هذين، وأنشد النحويون للفرزدق:

على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم. والظاهر أن ذلك لا يلزم، بل يقع خبر (أن) فعلا واسما، وإن كان وقوع الفعل أكثر. ثم قال: "وإن مضارع تلاها صرفا إلى المضي" يعني أن المضارع إذا تلاها، أي وقع بعدها، فإنه ينصرف بوقوعه بعدها إلى المضي، فيصير في ذلك مثل (لم) و (لما) و (ربما) فتقول: لو يقوم زيد لأكرمته، ومنه قوله تعالى: } ولو ترى إذ وقفوا على النار} الآية.} ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب}.} ولو ترى إذ وقفوا على ربهم}} لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون}} وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}. فالمضارع في هذه الآيات وأشباهها مصروف إلى الماضي، وكذلك في قول الشاعر.

لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا. ومنه قوله: "لو يفي كفى" أي لو وفي لنا بعهده كفى مؤنة التعب أو الطلب أو نحو ذلك. وفي هذا الإطلاق شيء، وذلك أن الناظم قد ذكر أولا أن الأكثر أن يقع بعدها الماضي، وقد يقع بعدها المستقبل قليلا، وفي كلا الحالتين لا يمتنع أن يقع بعدها المضارع وغيره، وإذا كان كذلك فإذا أريد بما بعدها الاستقبال فقد يكون ما بعدها ماضي الصيغة كقوله: *ولو أن ليلى الأخيلية سلمت* وقد يكون مضارعا نحو ما أنشده المؤلف من قوله الشاعر: لا يلفك الراجيك إلا مظهرا ... خلق الكرام ولو تكون عديما. وإذا كان/ الأمر في (لو) على هذا فلا يصح إطلاق القول بأن المضارع إذا وقع بعدها يصرف إلى الماضي إلا بأن يدعى أن المضارع لا يقع بعدها بمعنى الاستقبال أصلا، وذلك شيء لم يثبت في كلام العرب. ولهذا قال المؤلف في "التسهيل" حين ذكر مخلصات المضارع إلى الماضي: ولو الشرطية غالبا، فقيد بالغلبة تنبيها على أن ذلك غير لازم فيها.

فما فعله الناظم فيه ما ترى، إلا أن يقال: إنه لم يعتبر ما جاء من ذلك، إذ هو قليل في قليل، وهو وقوع الفعل بعدها مستقبلا، فلذلك ترك ذكره. ولم يتعرض هنا في (لو) إلى حكم جوابها، وعلى أي وجه، وليس في مثاله ما يشعر بذلك، لأنه لو قصد ذلك لأتى باللام، لأن الفعل المثبت إذا وقع جوابا لها لحقته اللام غالبا، وإن كان مضارعا فإنما يقع مقرونا ب (لم) الجازمة، أو ماض منفي ب (ما) وما عدا هذا فنادر، وليس للناظم في هذا كلام، وهو إخلال بالمسألة، إذ لا يعرف من كلامه كيف جوابها، فلو قال مثلا. تجاب بالماضي بلام أو بما ... أو بالمضارع بلم قد جزما. لكفى في هذا الحكم، لأن الغالب على جوابها هذا.

(أما ولولا ولوما)

(أما ولولا ولوما) أما كمهما يك من شيء وفا ... لتلو تلوها وجوبا ألفا. وحذف ذي ألفا قل في نثر إذا ... لم يك قول معها قد نبذا. عرف الناظم- رحمه الله (أما) هنا بأنها في معنى قولك: مهما يكن من شيء وهذا صحيح، وذلك أنها تسمى حرف تفصيل وابتداء، لأنها تفصل الجملة التي تليها عن الكلام الذي قبلها وتفصل الكلام تفصيلا، فتقول: أكرمت زيدا، وأما عمرا فلم أكرمه. وتقول: أما زيد فأكرمه، وأما عمرو فأهنه. قال تعالى: } فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر} وهي مضمنة معنى قولك: مهما يكن من شيء، كما ذكر. فإذا قلت: أما زيد فأكرمه، فكأنك قلت: مهما يكن من شيء فأكرم زيدا، فهي قد تضمنت معنى حرف الشرط، والفعل المشروط به، وما تضمن من فاعله، فلذلك أتى لها بجواب كما يؤتى للشرط بجواب، وكان بالفاء لأنه تضمن معنى الشرط الذي يكون جوابه بالفاء. وقوله: "وفالتلو تلوها" إلى آخره "فاء" هنا مبتدأ، وابتدأ بالنكرة لأنها غير مرادة بعينها، والخبر قوله: "ألف" وما قبله متعلق به، أي إن الفاء ألف/ لتلو تلوها وجوبا، وتلوها: ما ولي اللفظ الذي وليها.

فإذا قلت: أما زيد فمنطلق، فالذي ولي (أما) قولك: "زيد" والذي ولي زيدا قولك: "منطلق" وإياه تلزم الفاء. وقد تضمن هذا الكلام مسألتين: إحداهما: أن قوله في الفاء أنها تلزم مشعر بأن ذلك هو جوابها، وأنها لا بد لها من جواب، ويبين ذلك أنه جعلها في معنى أداة الشرط وفعلها، وأداة الشرط لا بد لها من جوبا، فكذلك ما تضمن معناها. والثانية: أن الجواب لا يليها، إذ قال: "وفا لتلو تلوها" والفاء قد تقرر أنها إنما تدخل على الجواب، فإذن الجواب لا يكون إلا تاليا لما يتلوها، فلا يجوز أن تقول: أما فزيد منطلق، وإن كان (أما) نائبا عن الشرط وفعله وفاعله، بل لا بد من الفصل بينهما، فتقول: أما زيد فمنطلق. وعلة ذلك وجهان: أحدهما: أن (أما) كان القياس أن يظهر بعدها فعل الشرط، كما يظهر مع (مهما) وغيرها من الأدوات المضمنة معنى (إن) فلما حذف فعل الشرط لجعل العرب (أما) نائبة عنه قدم بعض الكلام الواقع بعد الفاء ليكون كالعوض من المحذوف، كما كانت (ما) في قولك: (أما أنت منطلقا انطلقت معك) كالعوض من الفعل. والثاني": أن الفاء إنما وضعت في كلام العرب للإتباع، لتجعل ما بعدها تابعا لما قبلها، ولم توضع لتكون مستأنفة. والإتباع فيها على ضربين: إما إتباع مفرد لمفرد، وإما إتباع جملة لجملة. فلو قلت: أما فزيد منطلق، لوقعت الفاء مستأنفة ليس قبلها مفرد ولا جملة يكون ما بعدها تابعا له، غنما قبلها حرف معنى لا يقوم بنفسه، ولا تنعقد به فائدة، فقدموا الاسم لذلك، فقالوا: أما زيد فمنطلق، ليكون ما بعدها تابعا لما

قبلها على أصل موضوعها. وهذا معنى تعليل الفارسي وابن جنى وغيرهما. وهنا نظران: أحدهما: أن الفاصل بين (أما) وجوابها، وهو تاليها، لا يكون جملة، وإنما يكون مفردا. وكلامه لا يعطي هذا المعنى، وذلك أنه قال: لتلوتلوها" والتلو والتالي مفهوم إطلاقه أعم من أن يكون مفردا أو جملة، وذلك لا يستقيم، إذ لا يجوز أن يقال: أما زيد قائم فهو كذا، ولا ما كان نحو ذلك، لأن المقصود بالتالي هنا أن يكون فاصلا بين (أما) وجوابها كما تقدم، والفصل يقع بالمفرد، كما قالوا في اللام بعد (إن) من كونها مؤكدة معنى (إن) فكرهوا اجتماعهما لفظا، فألزموا الفصل بينهما/ بفاصل ما، فكذلك هنا، فيجوز الفصل بالاسم والظرف والمجرور ونحو ذلك، فتقول: أما يوم الجمعة فأنت قائم، وأما في الدار فأنا قاعد، وأما زيد فسائر. فإن قلت: إن الجملة قد يفصل بها في الكلام، كما قال تعالى: } وأما إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين} ونحو ذلك، فما بعد (إن) يكون جملة من فعل وفاعل، وأنت قد قيدت الفصل بالمفرد، والناظم قد أطلق القول في ذلك، فتدخل له جملة الشرط، لا يحتاج إلى التقييد بالمفرد. فالجواب: أن جعله على إطلاقه يؤدي إلى مفهوم لا يجوز باتفاق وهو وقوع الجملة التامة فاصلا، كقولك: أما زيد في الدار فينام، وذلك فاسد كما تقدم، فلا بد من التقييد المذكور. وأما جملة الشرط فشبيهة

بالمفرد، من حيث عدم الاستقلال، فقامت مقام صدر الجملة من عجزها، وصارت مع أداة الشرط كالصلة مع الموصول، وأنت تقول: أما الذي جاءني فأكرمه، كما قال تعالى: } وأما الذين سعدوا ففي الجنة} فالتقييد صحيح، والإخلال به فاسد. والنظر الثاني: أنه يقصد أن يتكلم على حكم الفاصل بين (أما) وجوابها، وما العامل فيه، وكان حقه أن يبين ذلك، إذ ليس مما يهتدى إليه الناظر في هذا النظم، وفيه شغب وخلاف، فكان ضروري البيان، ولو قال مثلا: وتلوها جزء الجواب قدما ... للفصل والأفعال لن تقدما. أو ما كان نحو هذا لكان مجزيا، لأن الذي يفصل بين (أما) وجوابها هو جزء من الجواب، عامل أو معمول، كقوله: } فأما اليتيم فلا تقهر}} وأما ثمود فهديناهم} وأما الدار فزيد، وأما يوم الجمعة فأنت سائر، وأما ضاربك فزيد، ونحو ذلك، ولا يتقدم الفعل، فلا تقول: أما يقوم فزيد، ولا نحو ذلك. ثم قال: "وحذف ذي الفاقل في نثر" إلى آخره. يريد أن الفاء اللاحقة لتلوتلو (أما) بابها أن تكون ثابتة لازمة في موضعها، ثم إنه يجوز حذفها على الجملة، لكن ذلك فيها قليل إن لم يحذف معها القول، وهذا من كلامه يقتضي أن حذفها إذا حذف معها القول كثير، لأنه قال:

وحذف ذي ألفا: قل نثر إذا ... لم يك قول معها قد نبذا فمفهوم الشرط هنا أنه إن كان القول نبذ معها فالحذف ليس بقليل، فهو إذن كثير. فأما حذف الفاء من غير القول فمنه ما جاء في الكلام، وهو الذي أشار إليه/بقوله: قل في نثر" وذلك نحو ما وقع في "البخاري" من قوله عليه السلام: "أما بعد، ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" الحديث. ومنه ما جاء في النظم أيضا، نحو ما أنشده الفارسي وابن جنى وغيرهما: فأما القتال لاقتال لديكم ... ولكن سيرا في عراض المواكب. وأنشدوا أيضا قول الآخر:

فأما الصدور لاصدور لجعفر ... ولكن أعجازا شديدا ضريرها. وأما حذفها مع القول ققولك: أما زيد أجئت تفعل كذا، قال الله تعالى: } فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} الآية، تقديره: فيقال لهم: أكفرتم. وقوله تعالى: } وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم}. ونبذ معناه طرح وألقى من اللفظ، فلم يذكر، يقال: نبذت الشيء، إذا ألقيته من يدك. لولا ولوما يلزمان الابتدا ... إذا امتناعا بوجود عقدا. وبهما التحضيض مز وهلا ... ألا ألا وأولينها الفعلا. وقد يليها اسم بفعل مضمر ... علق أو بظاهر مؤخر. يريد أ (لولا) و (لوما) حرفان من حروف الابتداء، يلزم أن يقع بعدهما المبتدأ والخبر، وذلك إذا كان يدلان على امتناع الشيء لوجود غيره، وذلك أن هذين الحرفين يقعان في الكلام على وجهين:

أحدهما: أن يكون حرفي تحضيض، وسيذكرهما إثر هذا. والآخر: أن يكونا حرفي امتناع لوجود، وهو الذي ابتدأ به، وبهذا المعنى يكونان حرفي شرط ك (لو) فلا بد من جواب، لكنه لم يذكر ذلك، وهو مما يضطر إلى ذكره، فكان حقه أن يذكر ذلك. ومعنى الامتناع للوجود فيهما أنك إذا قلت: لولا زيد لأكرمتك، فالإكرام ممتنع لوجود زيد، أي إن وجود زيد هو السبب في امتناع الإكرام. وقوله: "يلزمان الابتدا" يعني (لولا) و (لوما) يقع بعدهما جملة الابتداء والخبر لزوما، فلا يجوز إلا أن تقول: لولا زيد لقام عمرو. ومنه قوله تعالى: } ولولا فضل الله عليكم ورحمته} الآية. فالمرفوع بعدها مبتدأ، وخبره محذوف لدلالة الكلام عليه، وقد يظهر إذا لم يكن عليه دليل. وقد تقدم الكلام على ذلك في باب "المبتدأ والخبر" وإنما تعرض هنا للزوم الجملة الابتدائية. وقد أحرز هذا المعنى فوائد. /إحداها: إن الجملة الفعلية لا تقع بعد (لولا) ولا (لوما) فلا يقال: لولا قمت لأكرمتك، وإن جاء من ذلك شيء فمحفوظ محله الشعر، نحو ما أنشجه السيرافي من قول الجموح أخي بني ظفر، من سليم بن منصور:

لادر درك إني قد رميتهم ... لولا حددت ولا عذري لمحدود أي لولا الحد والحرمان، وقال الآخر: ألا زعمت أسماء أن لا أحبها ... فقلت بلى لولا ينازعني شغلي. أي لولا منازعة الشغل. والثانية: أن الاسم الذي بعدها مرفوع بالابتداء، خلافا لمن زعم أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره: لولا حضر زيد لأكرمتك، او نحو ذلك، وهو منقول عن الكسائي، واستدل على ذلك بظهور الفعل في البيتين المذكورين، وهو مرجوح، لأن حذف الخبر أولى من حذف الفعل، لأن الخبر هو المخبر عنه في المعنى، فحذف ما ذكر أولى من حذف ما لم يذكر. وأيضا فحذف الفعل دون فاعله قليل جدا في الكلام، لأن الفعل والفاعل كالشيء الواحد، فلا يحذف ما هو كالبعض، ويبقى البعض الآخر، فإذن اعتقاد مذهب سيبويه هو الأولى، وهو ما رآه الناظم.

والثالثة: التنبيه على أن (لولا) ليست بعاملة في المرفوع بعدها، وهو مذهب المحققين. ومن النحويين من ذهب إلى أنها عاملة فيما بعدها الرفع، نقله الفراء عن بعض النحويين، ونقله ابن الأنباري عن الكوفيين مطلقا. وحكى هذا المذهب عن ابن كيسان، والمعنى عند هؤلاء غير الفراء في قولك: (لولا زيد لأكرمتك) لو لم يمنعني زيد لأكرمتك، لكن الفعل حذف، ثم أقيمت (لا) مقام ما حذف، كما أقيمت (ما) مقام الفعل في قولهم: أما أنت منطلقا انطلقت معك. وأما الفراء فيقول: يرتفع الاسم ب (لولا) لاستقلال الكلام به، وانعقاد الفائدة، واللام جوابها. ورد الفراء على الآخرين بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كما قالوا لوقع "أحد" بعدها، فكنت تقول: لولا أحد لأكرمتك، إذ المعنى عندهم، لو لم يمنعني أحد، ولما لم يجز ذلك كان التقدير غير ما م قدروا. والثاني: امتناع: لولا أخوك ولا أبوك، أي لو لم يمنعني أخوك ولا أبوك، فلو كان ذلك لما امتنع ورد مذهبه أيضا بوجهين: أحدهما: أن (لولا) غير مختصة بالاسم، لوقوع الفعل بعدها كما تقدم، ومن شرط العمل الاختصاص كما تقرر في الأصول فلا يصح عمل ما لم يختص، وهو رد السيرافي. وضعفه ابن الضائع بأن وقوع الفعل بعدها ضعيف مختص بالشعر فلا يحتج / به.

والاثني: أن أصل الحرف إذا عمل في اسم واحد أن يعمل الجر لا الرفع ولا النصب. وهذا الثاني لا يلتزمونه، إذ من مذهبهم أن الحرف قد يعمل غير الجر في اسم واحد، كما يحكي عنهم في اسم (إن) وخبر (ما) ونحو ذلك. والرابعة: التنبيه على أن ضمير الجر إذا وقع بعدها فهو ضمير رفع، أي في موضع رفع، فليس بمجرور الموضع، لأنه ذهب إلى أنهما يلزمان الابتداء، فأتى بلفظ اللزوم، فدل على ما ذكر. وهذا رأي الأخفش والفراء خلافا لما ذهب إليه سيبويه والخليل ويونس، من أنه في موضع جر على ظاهره، فهي إذا قلت: (لولاك، ولولاه) من حروف الجر. واستدل على صحة ما ذهب إليه الناظم بأن الضمائر قد يقع بعضها موقع بعض، وقد قالوا: ما أنا كأنت، فأوقعوا ضمير الرفع موقع ضمير الجر، فلذلك يجوز عكسه، وهو وقوع ضمير الجر موقع ضمير الرفع، واحتج الفراء بأنها لو كانت (لولا) مما تخفض لأوشك أن ترى خافضة للظاهر، ولو في الشعر، قال: وإنما قالوا: لولاك، كما اتفق ضمير الرفع والخفض في: فعلنا، وبنا، وكان إعراب المكني بالدلالات لا بالحركات، وأيضا فلا بد لكل حرف جر من متعلق، فأين متعلقه؟ وليس بزائد فيقال: إنه لا متعلق له، بل هو كسائر الحروف التي لا تراد، فإذا لم يكن (لولا) متعلق دل على أنه ليس بحرف جر، كما يزعم المخالف.

وقوله: "عقدا" أي ربطا، أي إذا ربطا امتناعا بوجود، وهو ما تقدم شرحه من معنى الشرطية. ثم قال: "وبهما التحضيض مز" إلى آخره، هذا هو المعنى الثاني للولا ولوما، وهو التحضيض. يعني أن التحضيض يقع في الكلام بهما، وكذلك ب (هلاا) مشددة اللام، و (ألا) مشددة، و (ألا) مخففة. فهذه خمس أداوت ذكرها للتحضيض، وعطف (هلا) على بهما" وهو ضمير مخفوض من غير إعادة الخافض، لأنه جائز عنده في الكلام، وقد تقدم. ثم ذكر في الجملة أنها لا تختص بالفعل وحده لفظا، بل يليها الفعل مطلقا، ويليها الاسم على تقدير الفعل. فالحاصل أنها ك (إن) و (لو) في أنها لا يليها إلا الفعل لفظا أو تقديرا، فقد يتوهم أنها عوامل في الفعل، لكن لما لم يذكر ذلك دل على أنه معدوم فيها، وإلا فلو كان ذلك لذكره، كما ذكر في (لم) و (لما) و (إن) ونحوها، وبذلك يعلم من كلامه أن (لو) غير عاملة، و (أما) كذلك حين لم ينبه على ذلك. ونص هنا على أن الباب فيها أن يليها الفعل ظاهرا/ لقوله: "وأولينها فعلا" يريد: في اللفظ، ولذلك قال بعد ذلك. "وقد يليها اسم بفعل مضمر علق" فجعل الاسم في هذا القسم على تقدير الفعل. ومثال ولايتها الفعل لفظا قولك: هلا أكرمت زيدا، وألا ضربت عمر، ولولا تقوم فتكرم.

ومما جاء منه في (لولا) قوله تعالى: (لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون) وفي (لو ما قوله تعالى: (لو تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين). وهذا هو الأصل فيها، وإنما يقدر بعدها إلحاقا لها بالأصل. ثم قال: "وقد يليها اسم بفعل مضمر" إلى آخره. "بفعل" متعلق ب (علق) والفعل في موضع الصفة ل "اسم" أي: وقد يليها اسم معلق بفعل مضمر، يعني أن الاسم قد يقع بعدها، لكن متعلقا بفعل مضمر، ومعنى كونه معلقا به، أي معمولا له، فتقول إذا قيل: (أكرمت عمرا): فهلا زيدا. أي: هلا أكرمت زيدا. ومنه قول الشاعر، وهو جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطري لولا الكمى المقنعا. أي: لولا تعقرون الكمى المقنع، وهلا تعدون الكمى المقنع. ومنه أيضا

ما أنشده سيبويه من قوله: ألا رجلا جزاه الله خيرا ... يدل على محصلة تبيت. وعلى هذا حمل البصريون ما أنشده الكوفيون من قوله: ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلى فهلا نفس ليلى شفيعها. أي: هلا كان الأمر كذا، على إضمار (كان) الشأنية، وكذلك ما أنشده الفراء من قول الآخر: ألآن بعد لجاجتي يلحينني ... هلا التقدم والقلوب صحاح فهو على (كان) الشأنية، و"التقدم" مبتدأ، والجملة بعده حالية قامت مقام الخبر، كقوله عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو

ساجد" قاله ابن خروف. وكان الكوفيون يجيزون وقوع الاسم بعد هذه الأحرف، ويستدلون بالبيتين، وذلك ممنوع عند البصريين. والذي ارتضاه الناظم مذهب البصريين، وهو الراجح، لأن السماع يساعدهم. وكذلك يلهيا الاسم معلقا بفعل ظاهر مؤخر عن ذلك الاسم، فتقول: هلا زيدا ضربت، وألا عمرا أكرمت. ولا يجوز هنا رفع الاسم لأنها لا يليها إلا الجملة الفعلية، كما ذكر من مذهب الناظم والبصريين. فإن قلت: هلا زيدا ضربته، وألا عمرا أكرمته، ونحو ذلك، فهو من قبيل النوع الأول الذي علق بفعل مضمر، لأن الفعل قد اشتغل بضمير الأول عنه، فلا بد من تقدير فعل ناصب، كما مر في باب "الاستغال".

الإخبار بالذي والألف واللام

/ {الإخبار بالذي والألف واللام} ما قيل أخبر عنه بالذي خبر ... عن الذي مبتدأ قبل استقر. وما سواهما فوسطه صله ... عائدها خلف معطي التكملة. هذا الباب يسمى "باب الإخبار" وضعه النحويون بقصد التدريب والامتحان، ولأنه يعرض فيه مسائل صعبة، قد يغلط فيها الكبراء من أهل هذا الشأن لقلة التدرب فيه، وفيه فائدة، وهي القدرة على التصرف في الكلام، ولذلك يسمى عند القدماء "سبك النحو". وقد كثر فيه النحويون، ووضعوه على أبواب النحو، كباب الفاعل، والمبتدأ والخبر و (كان) وجميع المفعولات، والتوابع، والإعمال، وغير ذلك، ليحصل للطالب بالامتحان فيه ملكة يقوى بها على التصرف. وأول ما تعرض الناظم إليه في هذا الباب التعريف بمعنى "الإخبار" وهو عند النحويين أن تدخل (الذي) على الكلام الذي فيه الاسم المخبر عنه، واقعة على معنى ذلك الاسم، ثم تبدل من ذلك الاسم ضميرا على حسبه في الإعراب، والإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، ويكون ذلك الضمير عائدا على ذلك الموصول أيضا على حسب ذلك الضمير، ومطابقا له فيما تقدم، ثم تصير ذلك الاسم الذي أردت الإخبار عنه خبرا للموصول، وباقي الجملة صلة الموصول.

فإذا قيل لك: أخبر عن "زيد" من قولك: (قام زيد) بالذي- قلت: الذي قام زيد، ففي "قام" ضمير فاعل يعود على "الذي" وهو الواقع في موضع "زيد" إلا أنه استتر لأنه مفرد مذكر، واتصل لأنه لا مانع له من الاتصال. والدليل على ذلك أنه لو كان مثنى لقلت: اللذان قاما الزيدان، أو مجموعا لقلت: الذين قاموا الزيدون، فيبرز الضمير. و"زيد" في آخر الكلام خبر "الذي". وهذا معنى ما أراده الناظم- رحمه الله- بقوله: "ما قيل أخبر عنه بالذي خبر عن الذي" إلى آخره. يعني أن الاسم الذي يقال لك إذا سئلت عنه: أخبر عنه ب (الذي) يقع خبرا عن (الذي) حالة كونه (الذي) قد استقر مبتدأ أول الكلام، فعلى هذا لا بد من تقديم (الذي) مرفوعا على الابتداء، والاسم المخبر عنه مؤخر عنه، لأنه قد قيد (الذي) بأنه قبل الخبر استقر مرفوعا على الابتداء، ف "مبتدأ حال من "الذي" لأن المراد به في النظم مجرد اللفظ المخبر به في / المسألة. ثم قال: وما سواهما فوسطه صلة" يعني أن ما سوى (الذي) والاسم المخبر عنه، فاجعله وسطا ما بين (الذي) وذلك الاسم، صلة ل (الذي) نحو: الذي ضربته زيد، ف (الذي) قد سبق مرفوعا على الابتداء، و "زيد" هو المخبر عنه ب (الذي) وما توسط بينهما وهو قولك: "ضربته" في هذا المثال صلة ل (الذي) ولا بد لكل صلة من عائد يعود عليها، فأخبر أن العائد هو "خلف معطي لتكلمة" ويريد بـ"معطي

التكملة": "زيدا" في المثال المذكور وهو الاسم المخبر عنه، لأن الكلام به تم وكمل، فهو الذي أعطى تكملة الكلام، وخلفه هو الضمير الموضوع في موضعه، وهو هنا الهاء في "ضربته" ونبه بهذا على أنه لا بد للمخبر عنه ممن يخلفه في موضعه، وهو الضمير العائد على الموصول، كما تقدم في التعريف أولا. وقوله: نحو الذي ضربته زيد فذا ... ضربت زيدا كان فادر المأخذا. هذا مثال مبين لمراده، ونبه على أصله، وهو ضربت زيدا، وقد تقدم بسطه. ثم قال: "فادر المأخذا" أي: فاعلم مأخذ الإخبار عن "زيد" من قولك/ ضربت زيدا، حتى تصير إلى قولك: الذي ضربته زيد، على ما تقدم شرحه. ثم نبه على وجوب مراعاة الاسم المخبر عنه في الإتيان بالموصول، من الإتيان بالموافق لا بالمخالف، فقال: وبالذين والذين والتي ... أخبر مراعيا وفاق المثبت. يريد أنك تراعي في الإخبار عن الاسم أن يكون الموصول موافقا له في الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير أو التأنيث، فإذا كان الاسم المخبر عنه مفردا مذكرا قلت: الذي ضربته زيد، كما تقدم، فجئت ب (الذي) لأنها واقعة على المفرد، و "زيد" مفرد، ولا بد أن يخلفه الضمير مفردا أيضا مذكرا مثله. وإن كان مثنى نحو: ضربت الزيدين. قلت: اللذان ضربتهما الزيدان، فأتيت ب (الذي) مثنى، وبالضمير مثنى.

وإن كان مجموعًا نحو: ضربت الزيدين. قلت: الذين ضربتهم الزيدون، وكذلك في التأنيث، فتقول في (ضربت هندا، وضربت الهندين، وضربت الهندات): التي ضربتها هند، واللتان ضربتهما الهندان، واللاتي ضربتهن الهندات، و"المثبت" في كلامه هو الاسم المخبر عنه، فقد انطبق التعريف المتقدم في تفسير الإخبار على ما أرده بهذا الكلام. إلا أنه يرد على الناظم وغيره في هذا الكلام إشكال، لأنه يقتضي أن يكون/ الاسم المفروض هو المخبر عنه، و "الذي" أو "لألف واللام" وهو المخبر به، لأنهم يقولون: "باب الإخبار بالذي وبالألف واللام، وكذا قال الناظم: "ما قيل أخبر عنه بالذي" فجعل "الذي" مخبرا به، والاسم هو المخبر عنه، وما تقدم من التفسير يقتضي أن يقال: أخبر عن "الذي" لأنه المجعول مبتدأ، والاسم هو المخبر به. وقد أجاب النحويون عن هذا بأجوبة، منها لابن عصفور أنهم إنما أرادوا بقولهم: "الإخبار بالذي وبالألف واللام" أن يخبر عن المسمى، ويكون اسم المخبر عنه في وقت الإخبار (الذي) أو الألف واللام، ألا ترى أنك إذا قلت: الذي قام زيد، أو القائم زيد، فالاسم الواقع على المخبر عنه إنما هو "زيد" لأن المخبر عنه هو الفاعل. وقال ابن الضائع: الأقرب أن يكون الكلام محمولا على معنى، وذلك أن "زيدا" هو المخبر عنه في الحقيقة. فإذا قلنا: القائم زيد، فزيد صاحب الصفة، وهو المخبر عنه في الحقيقة، وغن كان في اللفظ خبرا، فعبروا عنه بأنه مخبرا عنه نظرا إلى الحقيقة؟ .

قال: فإن قيل: قلم لم يتمموا الحقيقة فيقدموه، فيجعلوه مخبرا عنه كما هو المخبر عنه في الحقيقة؟ قلت: تأخيره وتقديم (الذي) أقرب مأخذا غفى الصنعة، بأن تجعل الموصول أول الجملة التي فيها الاسم المخبر عنه، وتجعله آخرا، وتجعل في موضعه ضميرا يعود على الموصول معربا بإعرابه، وترفعه فتجعله خبرا عن الموصول في اللفظ. وأيضا فإذا أخرته لم يجز أن يكون (الذي) صفة، فلذلك بنوا على تأخيره. قال: ومما يدل على أن هذا إرادتهم قولهم: أخبر عن زيد، فلا يمكن أن يتنزل إلا على هذا. قال: وإنما يتوجه قول ابن عصفور في قولهم: أخبر بالذي. انتهى. وقد وجه بأنه على القلب، وبأن (عن) بمعنى الباء، وذلك بعيد، والله أعلم. قبول تأخير وتعريف لما ... أخبر عنه ها هنا قد حتما. كذا الغنى عنه بأجنبي أو ... بمضمر شرط فراع ما رعوا. لما عرف بمعنى الإخبار أتى بالشروط المعتبرة في الاسم المخبر عنه، إذ كان الاستقراء يعطي أن ليس كل اسم يجوز الأخبار عنه أو به، فلا بد من مراعاة ذلك، وإذ ذاك يصح القياس في مسائل الإخبار. وأتى هنا بشرط أربعة للاسم المخبر عنه/ لا بد منها:

أحدها: أن يقبل التأخير، وهو قوله: (قبول تأخير) وهو مبتدأ خبره قوله: (قد حتما) أي أن شرط قبول التأخير في المخبر عنه حتم لازم لا بدد منه، فإذا صح جواز التأخير في الاسم جاز الإخبار عنه، فإذا أخبرت عن "زيد" من قولك: زيد قائم- قلت: الذي هو قائم زيد، فجاز ذلب لأن تأخير "زيد" جائز في الجملة، فلو لم يجز التأخير لم يجز الإخبار، وذلك الاسم المتضمنة لمعنى الاستفهام، وسائر ما يرلزم التصدير، نحو: أيهم قام؟ ؟ فلا يجوز الإخبار عن "أي" فلا تقول: الذي هك قام ايهم؟ لأن "أيا" لها صدر الكلهم. وكذلك إذا أخبرت عن "من" من قولك: من جاءك؟ أو (ما) من قولك: ما عندك؟ وكذلك أسماء الشرط لا يخبر عنها، لان لها صدر الكلام، فلا تقول إذا أردت الإخبار عن "أيهم" من قولك: (أيهم يكرمني أكرمه): الذي هو يكرمني أكرمه أيهم. وكذلك سائر أسماء الشرط، كالاستفهام سواء. وأيضا فإذا عوضت الضمير من اسم الشرط، أو من اسم الاستفهام، زال معنى الشرط، وزال معنى الاستفهام، لأن الضمير لا يتضمن معنى حرف، فاختلف معنى الصلة بعد دخولها. ويختص اسم الشرط بأن ما بعده من الفعل مجزوم، فيلزم أن يكون الضمير جازما، وذلك غير موجود في كلام العرب. ومما يلزم التصدير فلا يخبر عنه (كم) الخبرية، فلا يجوز أن تخبر عن (كم) من قولك: كم بطل جدلت، فتقول: الذي هو بطل جدلت كم، لما يلزم فيها من محالات عربية، منها الجر بالضمير، وإبطال معنى (كم) حين جئ بضميرها، والتأخير فيها. ومن ذلك ما أضيف إلى واحد من الأسماء المتقدمة، نحو: غلام من يأتك

فأكرمه، وغلام من أكرمك؟ وغلام كم رجل جاءك؟ فلا تقول: الذي هو من يأتك فأكرمه غلام، ولا الذي هو من أكرمك غلام، ولا نحو ذلك. ومنها الاسم المضاف، نحو: جاءني غلام زيد، فالغلام لا يجوز تأخيره، لأنه عامل في المضاف إليه، وكالجزء منه فلا يتأخر، فلا تقول: الذي جاءني هو زيد غلام، وأيضا فيلزم أن يكون الضمير خافضا، وذلك لا يصح، وأيضا فيكون "الغلام" مقطوعا عن الإضافة، وهو غير جائز، فإنما يخبر عنه مع المضاف إليه، فتقول: الذي جاءني غلام زيد. ومنها ضمير الأمر والشأن نحو: هو زيد قائم، فلا يجوز الإخبار عنه، لأنه لازم التقديم على الجملة الواقعة خبرا له، فلا يجوز أن تقول /: الذي هو زيد قائم هو، لأنك إذا أضمرته كانت الجملة خبرا لذلك الضمير، فيلزم أن يكون فيها عائد عليه، لأنه ليس بضمير للشأن، وإنما يستغني عن إعادة الضمير من الجملة ضمير الشأن وحده، وخلفه ليس كذلك. وأيضا فتكون (الذي) هنا واقعة على الجملة التي هي (زيد قائم) فتصير (الذي) نائبة عن ضمير الأمر، وذلك لا يجوز. قاله ابن الضائع. وعلل ذلك ابن عصفور بأنه يلزم أن يعود ضمير الأمر إذا أخرته على ما قبله، وذلك لا يجوز. فمن هذه الأنواع وأشباهها تحرز بقوله: "قبول تأخير". والشرط الثاني: لجواز الإخبار قبول الاسم التعريف، وذلك قوله: (وتعريف) وهو معطوف على (تأخير) كأنه قال: قبول تأخير وقبول تعريف. فإذا قبل الاسم التعريف صح الإخبار عنه، وذلك لأنه لا بد من

إضماره وجعل ضميره حالا محله ومعربا بإعرابه، والضمير معرفة، فلا بد من اشتراط التعريف، فإذا أخبرت عن "قائم" من قولك: زيد قائم- قلت: الذي زيد هو قائم، وهذا على مذهب غير ابن السراج، وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله. فمثل "قائم" يقبل التعريف، فيجوز الإخبار عنه، فإن لم يصح تعريفه لم يصح الإخبار عنه. وتحت هذا أنواع، منها الحال، فلا يجوز الإخبار عن "قائما" من قولك: ضربت زيدا قائما، لأن الحال من شرطها التنكير، وأنت لو أخبرت عنها لجعلت الضمير خلفا منها، فقلت: الذي ضربت زيدا إياه قائم، فأدى على إن ينتصب الضمير على الحال، وهو معرفة، وذلك غير مستقيم. ومنها التمييز، لما يلزم من تنكيره أيضا، فإنك لو أخبرت عنه لجعلت الضمير خلفا منه، يعرب بإعرابه، وذلك ممتنع، فلا تقول إذا أردت الإخبار عن "زيتا" من قولك: عندي رطل زيتا: الذي عنده رطل إياه زيت، ولا يجوز ذلك. ومنها المجرور ب (رب) نحو: رب رجل يقول ذلك، فلا تقول: الذي ربه يقول ذلك رجل، لما يلزم من تعريف مخفوض "رب" ومن شرط "رب" ألا تخفض إلا النكرة. ومنها مخفوض "كل" نحو: كل رجل يأتني أكرمه، فلا يجوز أن تقول: الذي كله ياتني أكرمه رجل، لما يؤدي إليه من خفض "كل" للمعرفة المفردة ذلك لا يجوز، إذ لا يقال: كل الرجل أكرمه، وإنما يجوز ذلك إذا قلت: كل الرجال أكرمهم. ويجوز أن يخبر عن مخفوضها إذ ذاك، فتقول: الذين كلهم أكرمهم الرجال. ومنها المخفوض باسم (لا) العاملة عمل (إن) نحو: لا غلام رجل عندك،

فلا يجوز أن تقول: الذي لا غلامه عندك رجل/ لما يؤدي إليه من عمل (لا) في المعرفة، وذلك لا يصح. وهذه أمثلة تدل على ما كان من شاكلتها. الشرط الثالث: أن يصح الاستغناء عن المخبر عنه بأجنبي يوضع موضعه في كلام الذي هو فيه، وهو قول الناظظم: (كذا) الغنى عنه بأجنبي) والضمير في (عنه) للاسم المخبر عنه، أي الاستغناء عنه بأجنبي عنه حتم أيضا، فإن كان كذلك صح الإخبار عنه، كما إذا أخبرت عن (الكاف) من قولك: زيد أكرمك، فإنك تقول: زيد أكرمه أنت، لأن الأجنبي يصح أن يوضع في موضع (الكاف) استغناء به عنه، فتقول: زيد أكرم عمرا. فإن كان لا يصح الاستغناء عنه لم يصح الإخبار عنه، وذلك الضمير الرابط قبل الأخبار، كالهاء في (زيد ضربته) لا يجوز الإخبار عنه، لأنه يلزم أن يجعل في موضعه ضمير يعود على الموصول، فيزول ربطه. فإن قيل: يبقى متأخرا يربط الخبر- فالجواب: أنه إذا أخر فلا يبقى في الخبر، ومثاله لوجاز: الذي زيد ضربته هو: فزيد مبتدأ، خبره "ضربته" والجملة صلة (الذي) فإن جعلت ضمير "ضربته" عائدا على "زيد" بقى (الذي) دون ضمير عائد عليه من صلته. وذلك ممتنع. وإن جعلته عائدا على (الذي) بقي المبتدأ وهو (زيد) لا ضمير له في خبره، وذلك ممتنع أيضا. وهذا المنع منسحب على ما لو كان الرابط ظاهرا، كأسماء الإشارة في نحو قوله تعالى: } ولباس التقوى ذلك خير}. فإن أردت الإخبار عن

"ذلك" من قولك: قيام زيد ذلك حسن، ] قلت [الذي قيام زيد هو حسن ذلك، لأن "هو" عائد على (الذي) فيبقى المبتدأ بلا رابط. وكذلك إذا كان الرابط تكرار المبتدأ بلفظه، نحو: زيد ضربت زيدا. فغن كان في الجملة رابط ثان عائد على المبتدأ جاز الإخبار عنه لوجود الشرط، وهو الاستغناء عنه بأجنبي، نحو قولك: زيد ضربته في داره، فالهاء في "ضربته" يصح أن يجعل في موضعه أجنبي، نحو قولك: زيد ضربته في داره، فإذن يصح أن تقول: الذي ضربته في داره هو، فالهاء في "ضربته" تعود إلى (الذي) وبقى ضمير "في داره " رابطا للخبر بالمخبر عنه، وهو "زيد" و "هو" الأخير عائد على "زيد" أيضا. الشرط الرابع: أن يصح الاستغناء عنه بمضمر يحل محله، وذلك قوله: "او بمضمر" تقدير كلامه: كذا الغناء عنه بمضمر شرط، أي معتبر مراعي، وذلك لأن الاسم المخبر عنه لا بد من جعل المضمر يخلفه في أحكامه إذا أخر، فلا بد إذن من صحة إضماره، فإذا قلت: ضربت زيدا، فزيد يصح إضماره فتقول: ضربته، إذن أن تخبر عنه فتقول: الذي ضربته زيد. فإن لم يصح إضماره لم يصح الإخبار عنه، ولهذا أمثلة: منها النعت، إذا أخبرت عنه دون المنعوت لم يجز، نحو: ضربت زيدا العاقل، فلا يجوز أن تقول: الذي ضربت زيدا إياه العاقل، لما يؤدي إليه من وقوع الضمير نعتا، وذلك ممنوع. ومنها الاسم المنعوت، فلا تقول: الذي ضربته العاقل زيد، لما يؤدي إليه من نعب المضمر، وذلك لا يجوز، اللهم إلا أن تريد الإخبار عن المنعوت بنعته، فيجوز ذلك، نحو قولك في المثال المذكور: الذي ضربته زيد العاقل، وإضماره

يصح لأن النعت والمنعوت بمنزلة الاسم المفرد، فزيد الأحمر عند من لا يعرف زيدا وحده بمنزلة زيد عند من يعرفه وحده، وأنت تقول: زيد العاقل جاءني، فتضمره بنعته، فلذلك يسوغ الإخبار عنه. ومنها الأسماء العاملة كلها، لا يجوز الإخبار عنها، لأنها لا يصح أن تضمر، فلو قلت: ضربك زيدا حسن وهو عمرا قبيح- لم يجز، لما يؤدي إليه من إعمال الضمير، وذلك غير جائز عند أهل البصرة، فإذن إن أردت الإخبار عن "ضربك" فقلت: الذي هو زيد أحسن ضربك، لم يجز، لبعد الضمير عن العمل. وأجاز ذلك أهل الكوفة، فيقال: إذن على مذهبهم في قولك: زيد ضارب عمرا، إذا أخبرت عن "ضارب": الذي زيد هو عمرا ضارب. والسماع بمثل ما ذهبوا إليه لا يكون إلا في الشاذ، نحو قول زهير: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم. كأنه قال: وما الحديث عنها بالحديث المرجم، وقد مر بيانه في "إعمال المصدر" ولكن يجوز على كلا المذهبين إذا أخبرت عنه بمفعوله فقلت: الذي زيد هو ضارب عمرا، وكذلك تقول في قولك: / (ضربك زيدا حسن) الذي هو حسن ضربك زيدا، لأن العامل على هذا يجوز إضماره، لأنك تقول: ضربك زيدا حسن تبعتة فيه، فالهاء في "فيه" عائدة إلى الضرب" بمعموله. واختلفوا في الخبر إذا كان مشتقا هل يجوز الإخبار عنه، نحو: زيد قائم، بناء على أن الضمير يخلفه أولا؟

فمن النحويين من منع هذا، لأن المشتق يتحمل ضميرا، والضمير لا يتحمله. قال/ ابن الضائع: وهذا لا يلزم إلا في الموضع الذي يشترط فيه الاشتقاق، وبالجملة في الموضع الذي يخالف الإضمار الإظهار. والناظم لم يلتزم أحد القولين، وغنما التزم ما ينبني عليه الخلاف. ومنها المفعول له، لا يجوز الإخبار عنه عند ابن عصفور، لأنه لا يصح أن يقع في موضعه المضمر معربا كإعرابه. فإذا قلت: قمت إجلالا لزيد، فأخبرت عن "إجلال" فقلت: الذي قمت إياه إجلال لزيد، فهذا غير صحيح، لأنه يصح أن يعرب "إياه" مفعولا له أصلا. وغير ابن عصفور أجاز الإخبار عنه، لكن لا على نصب الضمير، إذ هو ممنوع عند الجميع، كما قال ابن عصفور، بل على أن تدخل عليه اللام، فتقول: الذي قمت له إجلال لزيد. ومنها الاسم الواقع بعد خافض لا يقع بعده مضمر كالكاف، وحتى، والتاء، ومن، والواو، و"ذو" بمعنى: صاحب، فإذا قلت: زيد كعمرو، فأردت الإخبار عن "عمرو" لم يجز، لأنك تقول: الذي زيد كعمرو، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة، نحو قوله:

فلا ترى بعلا ولا حلائلا ... كهو ولا كهن إلا حاظلا. فإن (الكاف) إنما تخفض الظاهر لا المضمر. وكذلك إذا قلت: ألقى رحله حتى الزاد، فأردت أن تخبر عن "الزاد" لم يجز، إذ كنت تقول: الذي ألفى رحله حتاه الزاد، و (حتى) لا تخفض المضمر إلا اضطرارا نحو قوله: فلا والله لا يلقى أناس ... فتى حتاك يا ابن أبي يزيد. وكذلك (ذو) إذا قلت: رأيت ذال المال، لا يجوز أن تخبر عنه، فتقول: الذي رأيت ذاه المال لأن (ذا) لا يجر المضمر إلا نادرا، نحو: - أبان ذوي أرومتها ذووها* وكل ما كان مثل هذه الأنواع يمتنع الإخبار عنها. هذه جملة الشروط التي جاء بها الناظم- رحمه الله- لجواز الإخبار عن الاسم. وقوله: (فراع ما رعوا) يقال: راعي الأمر يراعيه، إذا نظر إلام يصير.

وراعيته أيضاً: لاحظته، وراعيته أيضا: من مراعاة الحقوق، أي المحافظة عليها، وراعيت الشيء: حفظته، ومنه: راعي الإبل والماشية كلها. أي لاحظ ما حفظوا من هذه الشروط، وانظر إلى ماذا يصير الأمر فيها تجدها ضرورية لاشتراط. وعلى الناظم في هذا الفصل نظر من وجهين: أحدهما: أنه أتى بأربعة شروط، كرر منها اثنين على شدة محافظته على الاختصار واجتناب الإكثار. والثاني: أنه اقتصر فترك شروطا معتبرة عند النحويين، لا بد منها، إذ بها يصح الإخبار، / وبدونها لا يستقيم، والتي ترك أكثر من التي ذكر، وهذا غريب. فأما التكرار فإنه شرط قبول التعريف في الاسم المخبر عنه، وشرط الاستغناء عنه بمضمر، وهذان في الحقيقة شرط واحد، إذ شرط فبول التعريف داخل في اشتراط وقوع المضمر موقعه، فلو أسقط اشتراط قبول التعريف لخرج له الحال والتمييز ومخفوض (رب) و (كل) وغير ذلك مما تقدم شرحه، عن أن يخبر عنه، لأن كل واحد منها لا يخلفه المضمر، ولا يستغنى عنه به، وإذا كان كذلك ثبت أن اشتراط قبول التعريف فضل لا يحتاج إليه. ولما ظهر هذا التكرار لابن الضائع، حين أتى النحويون بالشرطين المفترقين، أعتذر عن ذلك بأن من الأسماء ما لا يجوز أن يضمر، لأن إعرابه يناقض التعريف، والمضمر معرفة، يعني كالحال والتمييز، ومنها ما لا يجوز أن يضمر لأن له حكما آخر يناقض الإضمار، كالنعت والمنعوت. قال: فلهذا جاء وابهما شرطين، وإلا فجواز الإضمار يعم الوجهين. قال:

ويمكن أن يكون الحال والتمييز مثالين للثاني، لأن إضمارهما يمتنع من الوجهين: التعريف، وأنهما لمعنى لا يدل الإضمار عليه، فالإضمار يبطل المعنى المراد منهما، كما في النعت والمنعوت. هذا ما قاله ابن الضائع. ولا يجري اعتذاره في هذا النظم، لأن مقصوده الاختصار والجمع للمسائل المتعددة في اللفظ اليسير، بخلاف غيره ممن قصد البسط. ويسوغ الاعتذار عنه بما ذكر. وأيضا فإني أقول: أن اشتراط قبول التأخير غير محتاج إليه مع اشتراطه الاستغناء بأجنبي أو بمضمر، وذلك أن قبول التأخير احتراز من أسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، و (كم) الخبرية، وما أضيف إلى واحد من ذلك، ومن المضاف، وكل واحد من هذه لا يصح الاستغناء عنه بالضمير أصلا، لأن الضمير لا يؤدي معناه، ولا يخفض ما بعده، وقد تقدم التنبيه على ذلك، وهو احتراز أيضا من ضمير الشأن والقصة، وهو مما لا يصح فيه الاستغناء بأجنبي، إذ لا يقع موقعه غيره، ولذلك لم يقع ضميره موقعه كما تقدم، فإذن الشرطان الأولان فضل غير محتاج إليهما. وأما الاقتصار، وترك ما هو محتاج إليه، فإنه أهمل ذكر شروط سبعة سوى ما ذكر: أحدها: أن يكون في الإخبار عن ذلك الاسم فائدة، كجميع/ ما تقدم من الأمثلة الجائزة، فلو عرى الإخبار عن الفائدة لم يسغ فإذا قيل لك: أخبر عن "ضرب" من قولك: ضربت ضربا- لم يجز، لأنك إذا قلت: ] الذي [ضربته ضرب- كان غير مفيد، لأن كل أحد يعلم أن الذي

ضربت ضرب، وقد رد مذهب أهل الكوفة في معاملتهم ضمير المتكلم والمخاطب، إذا أخبر عنه معاملة الظاهر حين أجازوا في الإخبار عن "أنا" من قولك: أنا قائم: الذي أنا قائم أنا، وفي: أنت قائم الذي أنت قائم أنت، وإنما رده أهل البصرة لأوجه، منها كون الخبر غير مفيد فالفائدة، ولا بد، مطلوبة في الإخبار. وكذلك لا يجوز أن يخبر عن "اثنين" من قولك: هذا ثاني اثنين، فلا تقول: الذي هذا ثانيهما اثنان، ولا عن "ثلاثة" من قولك: هذا ثالث ثلاثة، فلا تقول: الذي هذا ثالثهم ثلاثة، ولا ما كان نحو ذلك، لأن كونهما اثنين، أو كونهم ثلاثة قد تقرر قبل المجئ بالخبر، فكان الإخبار غير مفيد، فامتنع ذلك، والأمثلة في هذا كثيرة. والثاني: أن يكون ذلك الاسم متصرفا، يجري بوجوه الإعراب، ويقع فاعلا، ومفعولا، ومبتدأ، وخبرا، ونحو ذلك، وعلى الجملة فالمطلوب أن يصح استعماله مرفوعا خبرا، فأما إذا كان غير متصرف، ولزم طريقة واحدة، فلا يجوز الإخبار عنه، لما يؤدي إليه من إخراج الاسم عا ألزمته العرب، نحو (سحر) ليوم بعينه، لا يجوز الإخبار عنه، لأنه كان يخرج من لزوم نصبه على الظرفية إلى الرفع، وذلك غير جائز، وكذلك: سبحان الله، وعندك، وما أشبه ذلك، فلو أخبرت عن (سحر) من قولك: خرجت سحر، لقلت: الذي خرجت فيه سحر، وذلك لا يجوز. وكذلك لو قلت في (عندك): من (زيد عندك) - الذي زيد فيه عندك- لم يصح.

فإن قيل: لم لا يجوز الإخبار عنه، ويبقى منصوبا فيكون خبرا عن (الذي)؟ فالجواب: أنه لا يجوز ننصبه خبرا إلا أن يكون ظرفا للمخبر عنه، والإخبار إنما هو أن تجعل الاسم الموصول هو المخبر عنه في المعنى، وإذا كان ظرفا له كان غيره، ولم يكن الظرف مخبرا عنه في المعنى. وهذا الشرط معتمد في "باب الإخبار" أيضا. والثالث: أن يكون غير تابع، ما عدا العطف بالحرف، فالنعت لا يجوز الإخبار عنه كما تقدم. وكذلك عطف البيان عند بن أبي الربيع وطائفة، لأن عطف/ البيان إنما يؤتى به بيانا، وأنت إذا أخبرت عنه، فجعلت في موضعه الضمير، فالضمير ليس ببيان، وإنما هو مبهم يحتاج إلى البيان. وكذلك التوكيد لا يجوز الإخبار عنه، لأن التوكيد إنما هو بألفاظ مخصوصة محصورة، والإخبار عنه يؤدي إلى تأكيد الظاهر بالمضمر مطلقا، وهو لا يجوز. وأما البدل فكذلك لا يجوز الإخبار عنه عند طائفة من النحويين، وقبحه المازني، لأنك إذا قلت: مررت برجل أخيك، فأخبرت عن البدل قلت: الذي مررت برجل به أخوك، فأتيت به، لا يستقل الكلام بدونه، ولذلك كان عند بعض النحويين في تقدير جملة أخرى. وقد أجاز فيه ذلك طائفة أخرى، وإليه مال ابن الضائع، وسوى بين البدل في هذا وبين العطف بالحرف. والمعطوف يجوز الإخبار عنه، فكذلك البدل، فكما تقول في (رأيت زيدا وعمرا) إذا أخبرت عن "عمرو": الذي

رأيت زيدًا وإياه عمرو، فكذلك تقول في (رأيت زيدا أبا عبد الله) الذي رأيت زيدا إياه أبو عبد الله. وقد أجازه سيبويه: أزيد ضربت عمرا وأخاه. فكذلك يجوز: أزيد رأيت عمرا أخاه؟ وليس هذا موضع ذكر ذلك. والرابع: ألا يكون عامله اللفظي مقدرا غير منطوق به، فإن كان كذلك لم يجز الإخبار عنه. فإذا قلت: ما أنت إلا سيرا، فأردت الإخبار عن "سير" لم يجز، لأنك تقول: الذي ما أنت إلا إياه سير، والضمير لا يدل على فعل، فيبقى إذ ذاك بغير ناصب، وذلك ممتنع. وكذلك إذا قلت: له صوت صوت حمار. لا تقول فيه: الذي له صوت إياه صوت حمار. ومن ها هنا قالوا في الإخبار عما كان من المصادر نحو: تبسمت وميض البرق: من زعم أنه منصوب بفعل مضمر، أي أومضت وميض البرق، لم يجز الإخبار عنه لما تقدم. ومن نصبه بهذا الظاهر. وهو مذهب المازني، أجاز الإخبار عنه، فتقول على مذهبه: الذي تبسمته وميض البرق، والمذهب الأول مذهب سيبويه. والخامس: جواز وقوعه في الواجب، تحرزا من الأسماء اللازمة للنفي في الاستعمال، كأحد، وعريب، وكتيع، ونافخ، ونحو ذلك، فإن الإخبار عنها غير جائز، لما يؤدي إليه من استعمالها في الواجب على خلاف وضعها. فإذا أردت الإخبار عن "أحد" من قولك: ما رأيت أحدا، فقلت: الذي ما رأيته أحد، فقد

أوجبت للذي ما رأيته أنه أحد، وذلك غير جائز، وكذلك سائر الأسماء/ المختصة بالنفي، بخلاف ما إذا أردت الإخبار عن "زيد" مثلا من قولك: ما رأيت زيدا، فإنك تقول: الذي ما رأيته زيد، فصح الإخبار، لأن "زيدا" يصح وقوعه في الواجب، نحو قولك: رأست زيدا، وجاءني زيد، وهذا ظاهر. وقد وجه ابن عصفور المنع هنا أيضا بأن "أحدا" يراد به العموم، وعلى هذا وضعه، و"الذي" إنما يراد به واحد معين، فلم يطابق الإخبار المخبر عنه. والسادس: أن يكون الاسم المخبر عنه بعض ما يصح الوصف به، من جملة، أو جملتين في حكم الجملة الواحدة مثل ما تقدم، والجملتان اللتان في حكم الجملة الواحدة كجملتي الشرط والجزاء، فتقول في الإخبار عن "زيد" من قولك: (إن قام زيد قام عمرو): الذي إن قام قام عمرو زيد، وفي الإخبار عن "عمرو": الذي إن قام زيد قام عمرو. وجملتي القسم والجواب، فتقول في الإخبار عن "زيد" من قولك: (والله لأكرمن زيدا): الذي والله لأكرمنه زيد. وجملتي التنازع، فتقول في الإخبار عن "الزيدين" من قولك: (أكرماني أكرمت الزيدين): اللذان أكرماني وأكرمتها الزيدان. وعن ضمير المتكلم: الذي أكرماه وأكرمهما الزيدان أنا. والجملتين المرتبطتين بالفاء، فتقول في الإخبار عن "زيد" من قولك: (يطير الذباب فيغضب زيد): الذي يطير الذباب فيغضب زيد، وعن "الذباب" الذي يطير فيغضب زيد الذباب. فساغ الإخبار عن الاسم في هذه لأمثلة لصحة الوصف بها، فلو

لم يصح الوصف لم يخبر عنها، كالاسم في الجملة الطلبية أو الإنشائية نحو: اضرب زيدا، ولعل زيدا قائم، وعسى زيد أن يقوم وما أشبه ذلك، فلا يجوز أن تقول: الذي اضربه زيد، ولا الذي لعله قائم زيد، ولا ما أشبه ذلك. وكذلك الاسم في الجملتين المستقلتين، وليس في الأخرى ضميره، نحو: قام زيد وخرج عمرو، فلا تقول في الإخبار عن "زيد" الذي قام وخرج عمرو زيد، إذ لا عائد على الجملة الثانية. وهذا الشرط استدركه ابن الناظم في "شرجه" وكأنه عنده ضروري في الموضع. والسابع: أن يكون الاسم تاما لابعض اسم في الحقيقة، لأنه إن كان كذلك لم يصح الإخبار عنه، كالاسم الثاني من المركب في لغة الإضافة، نحو: "كرب" من: معد يكرب، والاسم الثاني من أكلني، نحو "بكر/ من: أبي بكر، وكذلك الأسماء المسمى بها من المضاف والمضاف إليه، نحو: "امرئ" من امرئ القيس، وكذلك "قبان" من: حمار قبان، و"قترة" من: ابن قترة، إذ كان (كرب، وبكر، والقيس، وقبان، وقترة) حين استعملت في هذه الأسماء غير مراد بها معنى، ولا مسمى تحتها، وإنما هي بمنزلة الدال من (زيد) لأنها في تعليقها على مسمياتها كزيد في تعليقه على مسماه، فكما لا يخبر عن جزء (زيد) كذلك لا يخبر عنا تنزل منزلته، فلو أردت الإخبار عن "بكر) من قولك: (أكرمت أبا بكر) فقلت: الذي أكرمت أباه بكر، لم يصح، وكذلك في (رأيت امرأ القيس)

لا تقول: الذي رأيت امرأه القيس. وأجاز المازني الإخبار عن جميع ذلك، فسوغ أن يقال: الذي أكرمت أباه بكر والذي رأيت حماره قبان، وسائر ما يتصور منها، مستدلا على الجواز بقول الشاعر: *أو حيث على قوسه قزح* فأخبر عن "قزح" من "قوس قزح" وهي القوس التي في السماء، و"قزح" وحده ليس تحته معنى: قال ابن عصفور: وهذا لا حجة فيه لأن "قزح" اسم شيطان، فلعل قول العرب: قوس قزح، على نسبة القوس إلى الشيطان، فلا يكون بمنزلة قبان، ولا قترة. قال ابن الضائع: وهذا ضعيف جدا وشاذ، لا يقاس عليه. فهذه شروط سبعة أهمل الناظم ذكرها، فاقتضى كلامه جواز كل ما منعت هذه الشروط من المسائل المتقدمة في التمثيل، وما كان من بابها، وذلك فاسد. ولم يظهر لي في الوقت جواب عن النظر الأول. وأما النظر الثاني: فإن ذكر هذه الشروط غير ضروري عليه. أما الشرط الأول، وهو حصول الإفادة، فإن ذلك معلوم من خارج، ومن النظم، لأنهم إنما يأتون بالإخبار على طريق أنه كلام مستقل، وذلك يستلزم

كونه ذا فائدة، إذ يشترطون في الكلام الإفادة، كما قال الناظم: (كلامنا لفظ مفيد كاستقم) فلم يذكر هذا الشرط لأجل هذا. وأما اشتراط التصرف فمعلوم من فرض المسألة، لأن فرض الإخبار إنما هو فيما يصح الإخبار عنه أو به، والأسماء غير المتصرفة لا يجوز أولا الإخبار بها ولا عنها، فلا يتصور فيها الإخبار إذ ذاك. وأما اشترط كون غير تابع، فلا يلزم ذكره أيضا، لأن النعت وعطف البيان داخلان تحت شرط االغناء عن المخبر عنه بمضمر. أما النعت: فقد تقدم بيانه، وأما عطف البيان فمن منع ذلك فيه علل بأن/ خلفه غير مبين كنفس المعطوف، وهذا راجع إلى أن الضمير لا يقع في موضعه، ولا يستغنى به عنه. وأما البدل فالظاهر فيه الجواز كما تقدم ذكره. وأما اشتراط ظهور العامل اللفظي فراجع أيضا إلى أن الضمير لا يستغنى به عنه، لان وقوع المصدر بنفسه في نحو: ما أنت إلا سيرا، فيه دلالة على العامل، بخلاف الضمير فإنه لا يدل عليه، فلم يقع إذن خلفا له. وأما اشتراط وقوعه في الواجب فكذلك أيضا داخل تحت اشتراط الاستغناء عنه بالضمير، لأن الأسماء المستعملة في النفي عامة فيما دلت عليه، والضمير الذي يخلفها خاص لا عام، لأنه عائد على "الذي" و "الذي" واقع في الواجب فلا يعم، فلم يغن عنه إذن. وأما اشتراط صحة الوصف به غير محتاج إليه في هذا الباب، لأنه خاص بباب الموصول لا بباب الإخبار، وقد تقدمت الإشارة

إليه في بابه. وأما اشتراط التمام في الاسم فداخل تحت اشتراط الإفادة، وقد تقدم جوابه. هذا ما ظهر من الجواب عن الشروط، وفي بعضه ضعف. ثم أخذ يذكر حكم الإخبار بالألف واللام فقال: وأخبروا هنا بأل عن بعض ما ... يكون فيه الفعل قد تقدما. إن صح صوغ صلة منه لأل ... كصوغ واق من وقى الله البطل. يعني أن النحويين أخبروا في هذا الباب بالألف واللام، ويريد الموصولة، كما أخبروا ب (الذي) و (التي) وفروعهما عن بعض ما يكون فيه الفعل مقدما. و"ما" هنا موصولة واقعة على الكلام الذي يخبر عن بعضه. والكلام الذي يتقدم فيه الفعل هو الجملة الفعلية، و"البعض" هنا أيضا واقع على الاسم، كأنه قال: أخبروا هنا بأل عن الاسم الذي هو بعض كلام يتقدمه الفعل، أي الاسم الواقع في الجملة الفعلية. فإذا قلت: قام زيد، فزيد بعض هذه الجملة الفعلية، وكذلك ضرب زيد عمرا، فزيد وعمرو بعضان من الجملة، وكذلك ما أشبهه. ومثال ذلك أن تريد الإخبار عن "زيد" من قولك: (قام زيد) بالألف واللام، فإنك تقول: القائم زيد، وذلك بأن تبدل من العامل في الاسم الذي تريد الإخبار عنه بالألف واللام واسم الفاعل إن كان العامل فيه فعل فاعل، أو تسم مفعول إن كان العامل فيه فعل مفعول، ثم تدخل عليه الألف واللام التي بمعنى (الذي)

و (التي) وتبدل/ من الاسم الذي تريد الإخبار عنه في موضعه ضميرا على حسبه في الإعراب، والإفراد والتثنية والجمع، ويكون ذلك الضمير عائدا على الألف واللام، إذ قد تقدم من كلام الناظم أنها اسم في "باب الموصول" والألف واللام في الأحوال كلها على حال واحدة، ثم تصير ذلك الاسم الذي أردت الإخبار عنه خبرا لذي الألف واللام، ف (القائم) في مسألتنا قد استتر فيه ضمير عائد على الألف واللام، وهو خلف: "زيد؟ في الرفع على الفاعلية. وكل ما تقدم من الشروط المشترطة في الإخبار ب (الذي) جارية هنا، إذ لم يخص الناظم ذلك الاشتراط ب "الذي" دون غيرها لقوله: قبول تأخير وتعريف لما ... أخبر عنه ههنا قد حتما. فقوله: (هاهنا) يعني في هذا الباب لا في (الذي) خاصة، ولذلك قال في هذا الموضع: "وأخبروا هنا" أي في المواضع الذي أخبر فيه ب (الذي) والموضع الذي يخبر فيه ب (الذي) لا بد من توفر الشروط فيه، فكذلك فيما وقع موقعها، واستعمل في موضعها. ويزيد هذا الموضع شرطين ذكرهما الناظم زيادة على تلك الشروط المذكورة قبل: أحدهما: أن يكون الكلام المتضمن للاسم المخبر عنه جملة فعلية، وهي التي يتقدمها الفعل، وذلك قوله: "عن بعض ما يكون فيه الفعل قد تقدما". فإذا كان كذلك صح الإخبار بالألف واللام، كما إذا أخبرت عن

"زيد" من قولك: ضرب زيدا عمرا، فإنك تقول: الضارب عمرا زيد، والضمير الذي هو خلف "زيد" مستتر تظهر علامته في التثنية والجمع كقولك الضاربنان عمرا الزيدان، والضاربون عمرا الزيدون فإن أخبرت عن عمرو قلت: الضاربه زيد عمرو، وكان الأصل أن يقال: الضارب زيد إياه عمرو، لأن موضع المفعول بعد "زيد" لكنه لما كان الاتصال ممكنا لم يعدل عنه، لأنه ممكن التقديم، ولا فاصل بينه وبين عامله يمنع من اتصاله، فلا بد من الاتصال، ولا بد من التقديم على الفاعل، إذ ليس في الكلاك: زيد ضرب عمرو وإياه، وعلى هذا النحو تقول في نحو: علم زيد عمرا أخاك، إذا أخبرت عن "زيد" قلت: العالم عمرا أخاك زيد، وإن أخبرت عن "عمرو" قلت: العالمه زيد أخاك عمرو، إذا وصلت الضمير، وإن فصلته تركته في موضعه الأصلي فقلت: العالم زيد عمرا إياه أخاك عمرو، وإن أخبرت عن "الأخ"/قلت: العالم زيد عمرا إياه أخوك، إذا فصلت، وإن وصلت قلت: العالمه زيد عمرا أخوك. فإن كانت الجملة غير فعلية، سواء أكانت عرية عن الفعل جملة، نحو: زيد أخوك، أم فيها فعل مؤخر، نحو: زيد يقوم- فلا يصح الإخبار فيها عن الاسم، لتعذر صوغ اسم الفاعل أو اسم المفعول. فإذا قيل لك: أخبر عن سزيد" من قولك: (زيد قائم) بالألف واللام، فالمسألة لا تتصور، وكذلك: زيد قام وعمرو أكرمته، ونحو ذلك، لأن الفعل في ذلك غير متقدم، وذلك لأن الألف واللام إنما توصل باسم الفاعل واسم المفعول، نحو: الضارب، والمضروب، وذلك لا يبنى إلا من الفعل. وكا جاء من قول الشاعر:

من القوم الرسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد فشاد لا يقاس عليه. وأيضا فلا يبنى من الفعل أينما وقع، وإنما يبنى منه إذا كان صدر الجملة، فلو كانت الجملة الفعلية لكن تقدم مفعولها عليها، نحو: زيدا ضرب عمرو- بل لم يسغ إلا أن يتقدم الفعل. وكذلك إذا كان الفعل متقدما على جميع معمولاته، لكن تقدمت عليه أداة من الأدوات الداخلة للمعاني أو للعمل في ذات الفعل، فلا يصح الإخبار أيضا، ويدل على ذلك قوله: "يكن فيه الفعل قد تقدما" فنص على التقدم بإطلاق. فإذا دخلت عليه أداة لم يصح إطلاق التقدم إلا مجازا، فإذا أردت الإخبار عن "زيد" في (ما يقوم زيد) أو (لا يقوم زيد) لم يسغ مع (ما) أو مع (لا) صوغ اسم الفاعل. وقد قيد في "التسهيل"، الفعل المصوغ منه بأن يكون موجبا، تحرزا من المنفى. وكذلك إذا أردت الإخبار عن "زيد" في قولك: (لم يقم زيد) و (إن قام زيد قام عمرو) وما أشبه ذلك. والإخبار عنا ب (الذي) سائغ، فتقول: الذي ما يقوم زيد، والذي لا يقوم زيد، والذي لم يقم زيد، والذي إن قام قام عمرو زيد. وسبب المنع عنا ما في الألف واللام من عدم تأتي صوغ الصلة ل (أل) مع تلك الأدوات المتقدمة، فكأن الفعل معدوم وجودا. والشرط الثاني: أن يصح صوغ اسم الفاعل من ذلك الفعل، وبناؤه منه، وذلك قوله: "إن صح صوغ صلة منه لأل" والضمير في "منه" يعود إلى الفعل.

والصوغ بمعنى البناء والتحليق، يقال: صغت الشيء أصوغا، كأنه قال: إن صح أن يبنى من ذلك الفعل ما يكون صلة لأل، ولم يعين / هنا اسم فاعل من اسم مفعول، بل عبر بالصلة، لأنها أعم، وقد تقدم في باب "الموصول" أن الألف واللام توصل بالصفة الصريحة، من اسم فاعل، أو اسم مفعول، لكن إنما يصاغ اسم الفاعل من فعل الفاعل، واسم المفعول من فعل المفعول، وهذا معلوم. فمثال الصلة من اسم الفاعل ما تقدم من المثل، ومنه مثال الناظم الذي أشار إليه وهو "واق من وقى الله البطل". فإذا أخبرت عن اسم "الله" بالألف واللام من المسألة قلت: الواقي البطل الله، أو من "البطل" قلت: الواقية الله البطل. ووقى الله الرجل، يقيه وقايه- بالكسر- أي حفظه. والبطل: الشجاع، يقال: بطل- بالضم- يبطل، بطوله، أي شجع. ومثاله من اسم المفعول، كما إذا أخبرت عن "زيد" من قولك: (ضرب زيد) فإنك تقول: المضروب زيد، وخلف "زيد" مستتر في "ضرب الزيدان) عائد على الألف واللام، وتظهر علامته في غير الإفراد إذا قلت في (ضرب الزيدان) أو (الزيدون): المضروبان الزيدان، والمضروبون الزيدون. وكذلك إذا قلت: علم زيد أخاك، فأردت الإخبار عن "زيد" قلت: المعلوم أخاك زيد. وعن الأخ قلت: المعلومه زيد أخوك، أن فصلت قلت: المعلوم زيد إياه أخوك. فإن كل الفعل لا يصح أن يصاغ منه صلة لأل، فلا يتصور الإخبار بالألف واللام.

والفعل الذي لا يتصور ذلك فيه على أوجه: منها أن يكون غير متصرف، بل شبيها بالحرف كليس، فمثل هذا إذا وقع صدر الجملة لا يصح الإخبار فيها بالألف واللام، لأنه لا يصح أن يبني منه اسم فاعل. فإذا قيل لك: أخبر عن "زيد" من قولك: ليس زيد منطلقا فقل لا يصح، بخلاف "كان" وأخواتها، وإن لم تتمحص للفعليه لعدم دلالتها على الحدث، فإنها تتصرف تصرف الأفعال الحقيقية، فتقول إذا أخبرت عن زيد من قولك: (كان زيد أخاك) الكائن أخاك زيد، وفي الإخبار عن "الأخ" تقول: الكائن زيد إياه أخوك، أو الكائنه زيد أخوك. وأما (ليس) فإنها هي في حكم (ما) فلا يبنى منها شيء أصلا. ومنها أن يكون الفعل دالا على الحدث والزمن، قابلا للتصرف، لكنه لم يتصرف فيه اتفاقا لا استغناء، نحو: (تبارك) و (سقط في يده) و (ينبغي) وما كان من بابها. فإنها لم يستعمل منها فعل مغاير، ولا يبنى من مصادرها غيرها إن فرض وجود مصادرها فإذا قيل لك: أخبر عن اسم "الله" من قولك: (تبارك الله) لم يسغ، لأن العرب لم تستعمل منه: (متبارك) / فلا تقول: المتبارك الله، وكذلك "زيد" من قولك: سقط في زيد، لا تقول: المسقوط في يده زيد، وكذلك سائرها. ومنها أن يكون الفعل متصرفا إلا أنه لم يستعمل منه اسم فاعل ولا مفعول، نحو (يذر، ويدع) فلا يجوز فيها الإخبار بالألف واللام، فلا تقول في (يدع زيد): الوادع زيد، ولا في (يذر زيد): الواذر زيد، لرفض العرب

لذلك، استغناء باسم الفاعل من (تبارك الله) وكذلك إن كان متصرفا، لكنه لم يستعمل منه اسم مفعول، فلا يجوز الإخبار هنا إذا كان فعل الجملة مبنيا للمفعول، ومثله اين عصفور بقولهم: غلب زيد، إذا جعل غالبا، قال: ولا يقال في هذا المعنى: مغلب. قال: وإنما المغلب المغلوب. وما فرضه ابن عصفور مثالا لو ثبت كذلك لكان صحيحا، ولكن الجوهري حكى في (المغلب) أنه المغلوب كثيرا. قال: والمغلب أيضا من الشعراء المحكوم بالغلبة على قرنه. فقد حكى الجوهري ما لم يحكه ابن عصفور، ولكن ابن عصفور اتبع في ذلك ما نقل عن يونس، ونقله ابن قتيبية، أنه يقال للشاعر إذا غلب: مغلب، وإذا غلب قيل غلب، وسلمه ابن السيد، ولم يحك خلافه. فعلى هذا يصح الاستشهاد بالمثال المذكور. فإن قلت: هل صوغ اسم الفاعل أو المفعول عند الناظم لازم في باب الإخبار حين اشترط في الفعل أن يصح منه الصوغ، أم ليس عند بلازم، لأنه لم يحتم القول بالصوغ، بل شرط صحته، ولا يلزم من إمكان الصوغ وصحة وجوده حتما؟ . فالجواب: أن هذا الموضع لم يتعرض فيه للزوم الصوغ، وإنما الباب جار على باب "الموصول" وقد مر له فيه ما يقتضي صحة وصل الألف واللام بالفعل المضارع في الاختيار، وإن كان قليلا بالنسبة إل وصلها بالصفة، فلا مانع من

اعتباره هاهنا، لأن الجميع من باب "الموصول" فإذن يصح لك أن تدخل الألف واللام على الفعل نفسه، إذا كان مضارعا، لا إذا كان غير مضارع، فتقول في الإخبار عن "زيد" من قولك: (يضرب زيد عمرا) اليضرب عمرا زيد، كأنك قلت: الضارب عمرا زيد، وفي الإخبار عن "عمرو": اليضربه زيد عمرو، كما في اسم الفاعل مطلقا. وقد تقدم التنبيه على أن هذا المذهب للمؤلف مذهب مخترع/ نحلة مبتدعة، خالف جميع النحويين، وطريقة العرب، وهو مذهب فاسد بعيد عن الصواب. ولما كان الوصف الذي به وصلت الألف واللام تارة يجري على من هو له، كما تقدم، فلا يحتاج إلى زيادة على ما ذكر من الحكم، وتارة يجري على غير من هو له، فلا بد من بروز الضمير الذي رفعته الصفة- أخذ يذكر ذلك فقال: وإن يكن ما رفت صلة أل ... ضمير غيرها أبين فانفصل. يريد أن الصفة الواقعة صلة للألف واللام إذا رفعت الضمير- ولا ترفع الضمير إلا وهو عائد على الألف واللام، إذ لا بد من ضمير من الصلة عائد على الموصول- فإن ذلك الضمير إذا كان لغير الصلة، أي ليس واقعا عليها من جهة المعنى، لا بد من فصله وإبرازه، ليكون فصله وإبرازه دليلا على أن الوصف جرى على غير من هو له، إذ لو بقى موصولا لالتبس، وقد مر هذا في باب "الابتداء" حيث تعرض له الناظم. وهذا الكلام تضمن ثلاث مسائل، واحدة بالتصريح، واثنتان بالمفهوم.

إحداها: أن يكون مرفوع الصلة غير ضمير، بل ظاهرا، فهذا لا ضمير يبرز فيه، وإنما مرفوعه ظاهر، لكن لا بد من ضمير عائد على الألف واللام، ليس بمرفوع، فيكون في نفسه بارزا اتصل بالصفة أو انفصل لموجب غير الإخبار، وذلك إذا أردت أن تخبر "عمرو" من قولك: ضرب زيد عمرا، فإنك تقول: الضاربه زيد عمرو، فالألف واللام هنا لغير "الضارب" وغنما هي لصاحب الضمير المنصوب، وهو "عمرو" فقد جرت الصفة على غير من هي له، وهذا شأنها إذا رفعت الظاهر أبدا، ولا يلزم في ذلك محذور (اللبس). وكذلك إذا أخبرت عن "زيد" من قولك: ضرب أخو زيد عمرا. قلت: الضارب أخوه عمرا زيد، وما أشبه ذلك. ولما كان اللبس مع رفع الظاهر منتفيا صيروا الضمير المرفوع بالصفة عند اللبس كالظاهر بالفصل، لزوال اللبس بظهوره، تشبيها له بالظاهر حقيقة. وهذه المسألة هي التي أحرز بقوله: (وإن يكن ما رفعت صلة أل ضمير غيرها) فأخرج الظاهر من هذا الحكم، إذ لا مدخل له فيه. والثانية: أن يكون مرفوع الصلة ضميرا، لكنه ضمير الألف واللام، فمقتضى كلامه/ انه لا يفصل ولا يبان، وهذا صحيح، لأنه لا يفصل إلا عند اللبس، وذلك عند جريان الصلة على غير من هي له، فالألف واللام معناها معنى الصلة، والضمير المرفوع عائد على الألف واللام، فانتظم الكلام، فلا موجب للفصل، وذلك كقولك: ضرب زيد، فإذا أخبرت عن

"زيد" قلت: الضارب زيدد، فالألف واللام والصلة معا لزيد، فلا يبرز الضمير، وكذلك ما أشبه هذا. والثالثة: هي المنصوص عليها، وهي أن يكون مرفوع الصلة ضميرا ليس لها من جهة المعنى، فلا بد هنا من إبرازه، لانه عائد على الألف واللام، والألف واللام ليست للصلة، فقد جرت الصفة على غير من هي له، فإذا أخبرت عن "زيد" من قولك: ضربت زيدا- قلت: الضاربه أنا زيد، فأبرزت الضمير المستتر في "الضارب" وليس العائد على الألف واللام، لأن الألف واللام لزيد، وهو المفعول، لا للمتكلم و"الضارب" للمتكلم لا لزيد، فوجب إبراز الضمير. وكذلك إذا أخبرت عن الكاف من (ضربتك) قلت: الضاربه أنا أنت، فالألف واللام ل (أنت) والصفة ل (أنا) فلم يستتر الضمير. وكذلك إذا أخبرت عن الياء في (ضربتني) قلت: الضاربه أنت أنا، فالألف واللام هنا ل (أنا) و"الضارب" هو "أنا" وإن شئت قلت في هذه المسألة: الضاربي أنت أنا، فأتيت بالضمير العائد على الألف واللام على المعنى، على حد قول الشاعر: وأنا الذي قتلت بكرا بالقنا ... وتركت تغلب غير ذات سنام وعلى هذا الوجه أتى النحويون بالبيت المشهور، الذي أنشده ابن النحاس

في "كافيه" وقال أنسد أبو بكر بن شقير النحوي: كيف أشكو منك ما حل بنا ... أنا أنت الضاربي أنت أنا وأبنت الشيء، أبنيه، أي أزلته وأذهبته. وأبنته أيضا: قطعته وفصلته. ومن قولهم: ضربه فأبان رأسه من جسده، وهذا الثاني هو مقصود الناظم، أي قطع من الفعل فانفصل.

العدد

العدد ثلاثة بالتاء قل للعشره ... في عد ما آحاده مذكره. في الضد جرد والمميز اجرر ... جمعا بلفظ قلة في الأكثر. شرع الناظم- رحمه الله- في الكلام على الأعداد ومميزتها، وابتدأ ب (ثلاثه/ وثلاث) وترك ذكر (واحد، واثنين) لأنه إنما يتكلم فيما يتعلق بالمقاييس النحوية، واحد، واثنان ونحوهما من باب اللغة، وقد تقدم أن اثنين واثننتين يجريان كابنين وابنتين، وكذلك ثنتان كاثنتين، فالذي لما قبل الثلاثة في العدد من الألفاظ: واحد للمذكر، وواحدة للمؤنث، واثنان، واثنتان، وثنتان للمثنى، ولا يحتاجان إلى التفسير، فلا يقال: اثنا دراهم، ولا ثنتا أذرع، وكذلك (الواحد) لا يقال: واحد دراهم، ولا واحدة أذرع، وما جاء بخلاف ذلك فشاذ نحو، قول الراجز:

كأخ خصييه من التدلدل ... ظرف عجز فيه ثنتا حنظل هذا إذا أرادوا أن ياتوا بألفاظ العدد أنفسها، وإنما لم يحتاجوا فيها إلى التفسير استعناء عنه، إما لإتيانهم في الكلام بما يبينها، كقولك: عندي من الأولاد اثنان، ومن البنات ثنتان، ونحو ذلك. وإما الإتيان بالمعدود نفسه، وهو أحرى بعدم التفسير، للاستغناء بلفظ الإفراد ولفظ التثنية، كقولهم: رجل، ورجلان، وامرأة، وامرأتان، وبنت، وبنتان، ونحو ذلك، فإذا أكدوا بالبيان أتوا بألفاظ العدد تابعة، فقالوا: رجل واحد، وامرأة واحدة، ورجلان اثنان، وامرأتان ثنتان، وشبه ذلك. وهذا كله ليس من هذا الباب، فلذلك لم يتعرض الناظم لذكره، ولإرادة الاختصار، ولا تعرض لذكر ذلك لما كان به بأس، لأنه تكميل كما فعل غيره من النحويين. وقوله: (ثلاثة بالتاء قل للعشرة) إلى آخره. يعني أنك إذا عددت ما كانت آحادة مذكرة لا مؤنثة، من ثلاثة إلى عشرة، فإنك تأتي في ألفاظ العدد فيه بالتاء التي للتأنيث، فتقول: ثلاثة رجال، وأربعة رجال، وخمسة رجال، وستة رجال، وكذلك في: سبعة، وثمانية، وتسعة، حتى تنتهي إلى العشرة، وهذا معنى "للعشرة" أي منتهيا إليها، واللام قد تأتي بمعنى (إلى) كقوله تعالى: } سقناه لبلد ميت}. وقوله: } كل يجري لأجل مسمى}. وخص ذلك بالثلاثة إلى العشرة، لأن ما فوق ذلك له حكم آخر. وأما إذا كان العدد للمؤنث فبخلاف المذكر، لا تلحقه التاء، بل يجرد اسم

العدد منها، وذلك قوله: (في الضد جرد) والضد هو ضد المذكر المذكور، وهو المؤنث/ ومفعول "جرد" محذوف، وهو ثلاثة وما بعده إلى العشرة، أي جرد هذه الأسماء عن التاء المذكورة، فتقول: ثلاث بنات، وأربع أخوات، وما أشبه ذلك. والتأنيث المذكور هنا هو التأنيث المعنوي، كان حقيقا أو مجازيا، لا التأنيث اللفظي الذي هو بالتاء، كطلحة وحمزة، ونحو ذلك، فإنك تقول: ثلاثة طلحات، وأربعة حمزات، ولا تقول: ثلاث أو أربع. وكذلك في التذكير، إنما المعتبر التذكير المعنوي لا اللفظي، فزينب، وهند، ودعد ألفاظ لا تأنيث فيها، ومع ذلك لا تلحق التاء في عدها، لأنها في المعنى مؤنثة، فتقول: ثلاث زيانب، وأربع دعدات، ونحو ذلك. وكذلك التأنيث المعنوي المجازي، كدار ونار، ونحو ذلك، فإن التأنيث فيها معنوي بالمجاز، فتحذف التاء من العدد معها. وشرط في التذكير والتأنيث هنا أن يكون في الآحاد، لأنه قال: "في عد ما آحاده مذكرة" ثم قال: "في الضد جرد" أي في ضد ما ذكر من الآحاد المذكورة، وهي الآحاد المؤنثة، فلذلك يقال: ثلاثة سجلات، وأربعة سرادقات، وخمسة حمامات، وستة دنينيرات، وما أشبه ذلك، لان المفرد مذكر، فيعتبر وإن كان الجمع مؤنثا. وطائفة من النحويين خالفت هذا، فاعتبرت لفظ الجمع لا لفظ المفرد، فيقولون: ثلاث سجلات وأربع حمامات، وخمس سرادقات، ونحو ذلك. والعرب على خلاف ما قال هؤلاء، بل هم يلحقون التاء في هذا، وهو مذهب البصريين، وإياه أختار الناظم على ما دل عليه كلامه.

وعلى هذا التقدير فكل اسم فيه لغتان، التذكير والتأنيث، فإن لحاق التاء وعدم لحاقها معتبر بذلك، فعلى لغة التذكير تأتي بالتاء في العدد، وعلى لغة التأنيث تسقطها، فتقول في (لسان، وعضد، وحال): ثلاثة ألسنة، وثلاث ألسن، وثلاثة أعضاد، وثلاث أعضاد، وثلاثة أحوال، وثلاث أحوال. واختلف بعد تقرير الحكم النحويون في سبب لحاق التاء عند المذكر، وعدم لحاقها في عد المؤنث، وكان الأصل أن يكون عد المذكر بلفظ مذكر، وعد المؤنث بلفظ مؤنث. فقال بعضهم: إن ذلك للمشاكلة والمناسبة بين الأصول والفروع، فكأنهم جعلوا أصلا مع / أصل، وفرعا مع فرع، وذلك أن ألفاظ العدد كلها مؤنثة، فمنها ما هو مؤنث بعلامة، كثلاثة وأربعة، ومنها ما هو مؤنث بغير علامة، كثلاث وأربع، والمؤنث بالعلامة أصل للمؤنث بغير علامة. والمعدود أيضا على قسمين: مذكر ومؤنث، والمذكر أصل للمؤنث، فجعلوا الأصل من اسم العدد مع الأصل من المعدود، فقالوا: ثلاثة رجال، وجعلوا الفرع من ألفاظ العدد مع الفرع من المعدود، فقالوا: ثلاث نسوة. وهذا التعليل ظاهر من أبي القاسم الزجاجي. وعلل السيرافي بأن الثلاث إلى العشر من المؤنث مؤنثات الصيغة، فالثلاث كعناق، وأتن وعقرب، فصارت بمنزلة ما فيه علامة التأنيث، ولا يجوز أن تدخل تاء التأنيث على مؤنث كان تأنيثه بعلامة أو بغير علامة.

وأما الثلاثة إلى العشرة من المذكر فإنما أدخلت الهاء فيها لأنها واقعة على جماعة، والجماعة مؤنثة، والثلاث من ثلاثة مذكر، فأدخلت التاء عليه لتأنيث الجماعة. وعلى هذا إذا سمي ب (ثلاث) الأول رجل لم ينصرف كعناق، إذا سمي به رجل، ولو سمي ب (ثلاث) من (ثلاثة) لا نصرف، لأنه بمنزلة (سحاب) من (سحابة) وقد علل بأشياء كثيرة، يكفي هذا منها. وعلى الناظم هنا سؤلات: أحدهما: انه اعتبر في لحاق التاء وعدم لحاقها مفرد المعدود، فعلى حكمه، من تذكير أو تامميث، أجرى اللحاق وعدمه، ولم يبين أن ذلك بالنسبة إلى الجمع أو غيره. والنحويون يقولون: إن المعدود إذا كان جمعا حقيقة فلا بد من اعتبار المفرد، كان الجمع مذكرا او مؤنثا، إلا ما ذكر من الخلاف، وكلامه على هذا صحيح. وإن كان اسم جمع أو اسم جنس اعتبر عند المؤلف اسم الجمع أو اسم الجنس، ولم يعتبر المفرد، فتقول: ثلاث من الشاء ذكور، وثلاث من النساء، وثلاث ذود، وأربع من الخيل، وتقول: ثلاثة رهط، قال تعالى: } وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض} الآية. وتقول على طريقته أيضا: ثلاث من النخل، وثلاثة من النخل، لأن النخل يذكر ويؤنث، قال تعالى: } كأنهم أعجاز نخل خاوية}. وقال: } كأنهم أعجاز

نخل منقعر} وتقول: ثلاث من البط ذكور، وثلاث من الحمام، ونحو ذلك/ لأن اسم الجنس هنا فاعتبر، ولو فرض أنه مذكر للحقت التاء. هذه طريقة المؤلف. ولبعض المتأخرين في ذلك طريقة أخرى في اسم الجنس خاصة، وهو انه يعتبر واحده ليس إلا، فتقول: ثلاث نخل، لا غير، لأن واحدة (نخلة) وهي مؤنثة وأما اسم الجمع فكما تقدم. وذهب ابن عصفور والأبذي إلى أن اسم الجمع إما أن يكون لعاقل أو غيره، فإن كان لعاقل اعتبر واحده لا غير، لأن الإخبار عنه إخبار المذكر، وإعادة الضمير عليه كذلك، وإن كان لغير عاقل عومل معاملة المؤنث، لأن الإخبار عنه إخبار المؤنث، وإعادة الضمير عليه كذلك. وإن كان اسم جنس فوجهان، واعتبارا بتذكير لفظه وتأنيثه، وربما كان مؤنثا في الاستعمال لا غير، أو مذكرا لا غير، فاعتبر في العدد لفظه لذلك، فهذا طريقة ثالثة. وظاهر كلام الناظم اعتبار الواحد خاصة، إذ لم يقيد ذلك يكون المفسر جمعا أو غيره، فإذا أخذ على إطلاقه خرج عن كلام الناس، وعن كلام نفسه في "التسهيل" وغيره. قال في "شرح التسهيل" لما شرح ما أراد شرحه من لفظ التسهيل: فالحاصل أن نحو (ثلاثة) وأخواتها لتأنيث واحد مفسرها، لا لتأنيثه إن كان جمعا، ولتأنيثه نفسه دون تعرض

لواحده إن كلام اسم جنس أو جمع. والذي يقتضي هذا النظم، ان يقال: ثلاث من النخل، خاصة، وأن يقال في نحو (ذود) إذا أريد به المذكر، ثلاثة ذود ذكور، ثلاثة من الخيل ذكور، كذلك. وهذا لا يقال. وقد كان يمشي له هذا الحكم في اسم الجنس على رأي من يرى ذلك، لكنه لا يمشي له في اسم الجمع أصلا، لان أسماء الجموع معتبرة في نفسها، ولا اعتبار بآحادها اتفاقا من أهل الطرق الثلاثة، فكلامه غير محصل. والسؤال الثاني: أن التذكير والتأنيث إما أن يريد به اللفظي أو المعنوي، وكلاهما مشكل. أما اعتبار اللفظي من غير اعتبار معنى فيلزمه أن يقول: ثلاث طلحات، وأربع حمزات، ونحو ذلك، وهو باطل اتفاقا، وأن يقول: ثلاثة زيانب، وأربعة دعود، في جمع: زينب، ودعد، ونحوه. وإن اعتبر التذكير والتأنيث المعنوي فيلزمه أن يقول: ثلاثة من البط ذكور، وأربعة / من القرود ذكور، وثلاثة عقارب ذكور، وغير ذلك مما له تأنيث معنوي، فكان يفرق بين الذكر والأنثى في هذا، وذلك غير صحيح لا يقول به أحد، فإن الأجناس، التي لها تأنيث معنوي، وتذكير معنوي، منها ما يكون فيه اللفظ تابعا للمعنى، كامرأة، وامرئ، وغلام، وجارية ونحو ذلك، ومنها ما لا يكون فيه اللفظ تابعا للمعنى، بل يكون الأمر بالعكس، فالبقرة، والشاة، والبطة، والحية، والعقرب، والحمامة، ونحو ذلك، مؤنثة اللفظ، كان المدلول ذكرا أو أنثى، فتقول: هذه حمامة ذكر، وحمامة أنثى، وهذه شاة ذكر، وشاة أنثى، وكذلك سائرها، فتعامل اللفظ على التأنيث في الإخبار عنه، والإشارة إليه، وإعادة الضمير عليه، وغير ذلك.

من الأحكام الجارية على المؤنث. وإذا كان اعتبار التأنيث المعنوي أو اللفظي غير مطرج، واعتبار التذكير اللفظي أو المعنوي كذلك غير مطرد- لم يصح إطلاقه هنا، كان غير مستقيم. والجواب عن السؤال الأول أنه لم يتعرض في هذا النظم للكلام على اسم الجمع واسم الجنس، وذلك أن المعدود لا بد أن يتبع العدد تمييزا له، إذ لا يعرف المعدود من غير أن يذكر، وإذا كان كذلك فالناظم إنما ذكر هنا التمييز مقيدا بكونه جمعا بقوله: (والمميز اجرر جممعا) فهو إنما اعتبر الجمع خاصة، ولا شك أن المعتبر في لحاق التاء في العدد وعدم لحاقها ما يميز به، فإذا ميز بجمع اعتبر واحده في التذكير والتأنيث، فعومل اسم العدد على تلك القصد. وأما إذا ميز بغير ذلك فله حكم آخر لم يتعرض إليه بنص، فلا اعتراض عليه إلا من جهة ترك ذكر ذلك مع كثرته في تمييز الأعداد. ويجاب عنه بأن التمييز بالجمع الحقيقي أكثر، فلم يمكنه بالنسبة إلى قصد الاختصار إلا ذكره وحده. والجواب عن السؤال الثاني أن التذكير والتأنيث إنما يعتبر هنا بالمعاملة اللفظية، أعني معاملته في الإخبار عنه، وعود الضمير عليه، والإشارة إليه، وغير ذلك، فإذا كان معاملا في ذلك: معاملة المذكر اعتبر فيه التذكير البتة، ولا ينظر إلى غير ذلك، وإذا كان يعامل معاملة المؤنث اعتبر فيه التأنيث كذلك، وعلى هذا الترتيب تارة يكون اللفظ تابعا للمعنى، كما في: رجل وامرأة، وغلام، وجارية، وتارة يكون الأمر/ بالعكس، كما

في حمامة، وعقرب، وحية، ونحو ذلك، فالاعتماد في التذكير والتأنيث لي استعمال العرب، ولذلك لم يقيدها الناظم بلفظي ولا معنوي، بل قال: "في عد ما آحاده مذكرة" و "في الضد حرد" يريد ما كان من الجمع آحاده مذكرة أو مؤنثة، ولم يقل: لفظيا ولا معنويا، فيرجع في ذلك الأحكام. وذلك واضح إن شاء الله تعالى. ثم قال: "والمميز اجرر جميعا" إلى آخره. يريد أن مميز هذا العدد الذي هو من ثلاثة إلى عشرة، إذا أتى به، فإنه يأتي وقد توفرت فيه ثلاثة أوصاف: أحدها: أن يكون مجرورا، فتحرز بذلك من مميز (احد عشر) وما بعده، إلى (تسعة عشر) وما بعده إلى (تسعة وتسعين) فتقول: خمسة أثواب، وأربعة رجال، وثلاثة أعبد، ونحو ذلك. وهذا لازم فيه. وأما النصب فبابه الشعر أو نادر الكلام الذي لا يقاس عليه، كما قام بعضهم: خمسة أثوابا. والمؤلف يحكي هذا في الثلاثة وما بعدها إلى العشرة، ولكنه لم يرها هنا الاعتماد عليه، وتبع في ذلك سيبويه، إذ لم يجز مثل هذا إلا في الشعر، وأنشد في مثله قول الربيع بن ضبع الفزاري. إذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد ذهب المسرة والفتاء

وقد أجاز ابن خروف النصب في الكلام، وجعل الخفض هو الأكثر، قياسا على (العشرين) وكلام العرب على الإضافة، لان هذا النوع شبيه بإضافة الشيء إلى نوعه الذي هو منه، كثوب خز، وباب ساج، وخاتم حديد، وكذلك أضيف: مائة ثوب، وألف ثوب، ونحو ذلك، لأنه الأصل فيه. ولم يذكر هنا وجه خفض الممير، وكان من حقه أن يبين ذلك، لأن المميز هنا إذا خفض على وجهين: إحدهما: أن يخفض بالإضافة، وهو الأكثر، والآخر: أن يكون مخفوضا ب (من) نحو: ثلاثة من الرجال، وهذا أقل من الأول إذا كان الممير جمعا، فغن كان اسم جمع أو اسم جنس فلا بد من الإتيان ب "من" وما جاء على خلاف ذلك فغير مقيس عند المؤلف، فقد يذهب الوهم في إطلاقه الخفض إلا ما لا يسوغ. والجواب: أنه لما يذكر للجر أداة، ولم يأت بها دل ذلك على أن الخفض إنما هو بالإضافة لا بغيرها، وما جاء من الجر ب (من) فقليل. وأما اسم الجمع واسم الجنس فقد تقدم أنه لم يتكلم فيه، فلا يعترض به. والثاني: أن يكون جمعا، والجمع هنا هو الحقيقي/ وتحرز به من اسم الجنس واسم الجمع. أما اسم الجنس فمفرد، ولذلك تقول: نخل طويل، ونخل طويلة، فتعامله معامله المفرد. وأما اسم الجمع فكذلك أيضا، ألا ترى أنك تقول: هو الأنعام، وتجمع (الرهط) جمع المفرد، فتقول: أرهط وأراهط: جمع الجمع، نحو:

كلب، أكلب، وأكالب، فما أراد إلا الجمع الحقيقي. وإطلاقه يشعر بأن هذا لا يختص بجمع تكسير دون جمع سلامة، بل يكون جمع مؤنث سالم، ونحو: سبع بقرات، وسبع سماوات، ويكون جمع مذكر سالك، نحو: ثلاث سنين، وأربع سنين، ويكون جمع تكسير، نحو: ثلاثة رجال، وأربعة أكلب، وثلاثة قرود. وما جاء مما عومل معاملة الجمع من غيره فقليل لم يعتبره، نحو قوله تعالى: } وكان في المدينة تسعة رهط} وقول صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" وقول العرب: ثلاثة أشياء، و"أشياء" اسم جمع عند سيبويه والجمهور، وقولهم: خمسة رجلة، وكان الأصل في مثل هذا ألا يضاف، بل يجر ب (من) لكنه عومل معاملة الجمع الحقيقي. وقد وجه هذا الاستعمال في (أشياء) و (رجلة) بأنهما كان لهما نصيب من الجمع على (أفعال) فلما عدلا، هذا إلى (فعلاء) وهذا إلى (فعلة) جعلا كالنائبين عن جمعيهما، ولذلك لحقتهما التاء في اسم العدد، فقالوا: ثلاثة أشياء، وثلاثة رجلة، بخلاف (ذود) و (رهط) فإنهما لما لم يكن لهما مفرد من لفظهما يستحق جمعا عدل إليهما، فكان ذلك فيهما على خلاف القياس. والثالث: أن يكون ذلك الجمع جمع قلة، لا جمع كثرة، وهذا الوصف هو المراد بقوله: (بلفظ قلة).

وحاصل المسألة أن المعدود إما أن يكون له جمع قلة فقط، أو جمع كثرة فقط، أو الجمعان معا. فإن كان له جمع قلة فقط فهو الذي يميز به ليس غير. وجموع القلة في التكسير: أفعل وأفعال، وأفعلة، وفعلة. وجمعا السلامة للقلة عند طائفة. ولذلك لما قال حسان بن ثابت: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما. قيل له: لقد قللت جفان قومك وأسيافهم. فعلى هذا القول: سبع سماوات، وسبع بقرات، وتسع آيات، وثلاثة أرسان، لأن هذه الأشياء إنما جمعت جمع قلة، أي على مثال القلة. وإن/ كان له جمع كثرة فقط أتى به على ذلك للضرورة، نحو: خمسة دراهم، وستة دنانير، وأربعة رجال، أو أناسي. وإن كان له الجمعان معا فالأكثر أن يؤتى بجمع القلة، نحو: ثلاثة أكلب، وأربعة أفلس، وخمسة أكبش، ونحو ذلك. وقد يجوز: ثلاثة كلاب، وأربعة فلوس، وخمسة كباش. وقد قالوا: ثلاثة كلاب، مع وجود (أكلب)

ولكنه قليل. ولذلك قال الناظم: (بلفظ قلة في الأكثر) يعني أن الأكثر في كلام العرب أن يضاف إلى العدد جمع القلة لا جمع الكثرة. وقد دخل له في هذه العبارة القسم الثاني، وهو ماله جمع كثرة فقط، فإنه، وإن كان يضاف العدد إلييهه ولا بد، فهو قليل في بابه، فعلى الجملة أضافة العدد إلى جمع الكثرة قليل. ومما جمع فيه التمييز على لفظ الكثرة، وإن كان له مثال قلة (ثلاثة قروء) مع أن له (أقراء) ومنه في الحديث: (دعى الصلاة أيام أقرائك) ولم تقل العرب: ثلاثة اقراء، كأنهم استغنوا بجمع الكثرة عن جمع القلة. قال المؤلف: لأن واحده (قرء) كفلس، وجمع مثله على (أفعال) شاذ، فترك لمخالفته القياس، وكذلك (شسع) قالوا: ثلاثة شسوع، مع أن له (أشساعا) وجمع مثله على (أفعال) مطرد، إلا ان أكثر العرب يستغنون ب (شسوع) عن (أشساع) فعدل عن جمع القلة لذلك، وكذلك (أربعة شهداء) عدل عن (أشهاد) فأوثر عليه، مع أن (أفعالا) يجمع عليه مثل: شاهد وشهيد وشهيد، كشريف وأشراف، وصاحب وأصحاب. فقد تقرر من هذا كله إن الإتيان بجمع القلة هو الأكثر، والإتيان بجمع الكثرة قليل. ووجه التفسير بجمع الكثرة وجهان:

أحدهما: أن يكون من إضافة الشيء إلى جنسه، فهي من الإضافة التي على تقدير (من). والثاني: أن يكون من إضافة الجزء إلى الجملة، فهي بمعنى الإضافة التي بمعنى اللام. وهنا نظر من أوجه: أحدها: أن قوله: في الأكثر) يمكن أن يرجع إلى قوله: (بلفظ قلة) فيكون قد نبه على ما جاء هنا بلفظ الكثرة، كما تقدم تمثيله، ويمكن رجوعه إلى الأوصاف الثلاثة، فإن كل واحد منها أكثري كما تقدم. أما الأول: فعلى طريقة ابن خروف، حيث جعل النصب جائزا، والجر هو الأكثر. وأما الثاني: فلأنه قد جاء ما يخالفه كتسعة رهط، وخمس ذود ونحوه. وهذا أولى من الاحتمال الأول. والثاني: أن النحويين يجعلون من / جموع القلة جمع التصحيح، فاقتضى ذلك أن يكون أولى من جمع الكثرة في التكسير، وليس كذلك. قال المؤلف في "التسهيل": ولا يجمع المفسر جمع تصحيح، ولا بمثال كثرة من غير باب (مفاعل) إن كثر استعمال غيرهما إلا قليلا. فجعل جمع التصحيح في هذا الباب كجمع الكثرة، لا يصار إليه في غير ضرورة إليه إلا قليلا، فلا يجمع بالألف والتاء، ولا بالواو والنون، وإن كان قابلا لهما، مع وجود جمع قلة. وقد أطلق القول هنا في جمع القلة كيف ما كان، فاقتضى أنه أولى.

وقد يقال: إنه لم يرد هنا إلا جمع التكسير، وترك جمع التصحيح فلم يذكره، ولكن كلامه لا يعطي شيئا من هذا أو يقال: إن هذا الجمع عنده جمع للقلة أو الكثرة، فيجري مجرى جمع الكثرة. والثالث: أنه لم يرتض مذهب المبرد في إجازة إضافة العدد إلى جمع الكثرة، قياسا على تأويل: ثلاثة من كذا، وأربعة من كذا، فيقول: ثلاثة كلاب، وثلاثة حمير. وجعل من ذلك قوله تعالى: } ثلاثة قروء}. ورد عليه بأن ذلك لو جاز لم يكن للقصر على القلة معنى، لأن كل جمع للكثرة صالح لأن يقدر ب (من) فكان يقال: ثلاثة فلوس، وثلاثة دور، ونحو ذلك. ولما كانت العرب قد تحررت جمع القلة إلا في القليل دل على أن ذلك القصد عندهم غير معتبر. ومائة والألف للفرد أضف ... ومائة بالجمع نزرا قد ردف. لما كانت مراتب العدد أربعا، مرتبة الآحاد، والعشرات والمئين، والآلاف، وابتدأ بذكر مرتبة الآحاد، وحكم التمييز معها، وأنه جمع مخفوض ذكر ما يشاركه في الخفض لا في الجمع، وهو (مائة) و (ألف). ونصب (المائة والألف) ب"أضف" و"للفرد" معلق به، أي: أضف المائة والألف للفرد، يعني أن هذين العقدين، وهما (مائة، وألف) مميزهما مفرد لا جمع، ومخفوض بالإضافة لا منصوب، فتقول: مادة رجل وألف رجل، ولا يقال: مائة رجال، ولا ألف رجال إلا ما نذر في (المائة) مما يذكر إثر هذا.

ولما يعين هنا للمذكر محلا، ؟ وللمؤنث محلا، ولم يذكر علامة ولا تركها دل على أن (المائة، والألف) كذلك يكونان للمذكر والمؤنث معا، فتقول: مائة امرأة، وألف امرأة، ونو ذلك، وهو صحيح. ونبه بكونه يجربا لإضافة على أن ذلك هو الباب فيها، وما جاء على غير ذلك فنادر، نحو قول الربيع بن ضبع: /* إذا عاش الفتى مائتين عاما* البيت ثم ذكر أن (المائة) قد يأتي تمييزها بجمع لكن قليلا، وذلك قوله: "ومائة بالجمع نزرا قد ردف". يعني أن (مائة) جاءت مردفة بالجمع تمييزا قليلا. ومن ذلك قوله تعالى: } ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين} بإضافة (مائة) إلى (سنين) وهي قراءة حمزة والكسائي. (مائة) مرفوع بالابتداء، خبره (قد ردف) أي قد تبع بالجمع. ولعل قائلا يقول: إن قوله: "ومائة بالجمع نزرا قد ردف" لم يعين فيه جرا ولا نصبا، فمن أين يعلم أنه قصد جمعا مضافا؟ فالجواب: أنه وصف المميز أولا بوصفين، وهما الإفراد والإضافة، ثم استدرك على وصف الإفراد شيئا، فبقي الوصف الآخر على وضعه، وهو الإضافة، فلا يمكن أن يريد غيره. وإنما كان (مائة، وألف) مضافين إلى مفرد، فخالفا (عشرا) وبابه

في الإضافة إلى الجمع، وخالفا (عشرين) وبابه في الإضافة إلى منصوب، لأن (المائة) اجتمع فيها ما افترق في (عشر) و (عشرين) من الإضافة والإفراد، لأنها عقد العشرة، وتلي التسعين، فأخذت منهما حكمين، فالمائة من التسعين كالعشرة من التسعة. وربما لم يقولوا في (الألف): ألف رجال، ولا ألف رجلا، لأن (الألف) عوض من قولك: عشر مائة، وحكمها حكم ثلثمائة، وأربعمائة، فلما كان عوضا مما يميز بمفرد مضاف عومل معاملة ما عوض منه، فقيل: ألف رجل، وألف امرأة. ووجه الإضافة إلى الجمع في قوله تعالى: } ثلاثمائة سنين} أنه وضع الجمع موضع المفرد، لان المفرد هنا في معنى الجمع، فحسن لذلك، جعله الناظم نزرا، لأن هذا لم يكثر في كلام العرب، وإنما كثر الإفراد، والمتبع هو السماع. واعلم أن الناظم أهمل هنا ذكر مسألتين: إحداهما: تمييز (مائة، وألف) إذا ثنيا، فإن الحكم فيهما حكم المفرد، فتقول: مائتا رجل، وألفا رجل، وقد ينصب في الشعر كما تقدم، وترك ذكر هذا قريب، اتكالا على أن المثنى حكمه حكم المفرد في التمييز، ومثل هذا لا يشكل إلحاقه بما ذكر. والثانية: تمييز ثلاث، وأربع، إلى التسع، إذا أضيف إلى (المائة) كيف

تكون (المائة) إذ ذاك من الإفراد أو الجمع، إذ الوهم يذهب إلى الجمع، فيقول مثلا: ثلاث مئين، أو مئات، أو مئى كما قال: - وحاتم الطائي وهاب المئى* / ويكون العذر له في هذا الوهم أن (الثلاثة) وما بعدها إلى (العشرة) يفسر بجمع مخفوض. كثلاثة رجال، ولذلك جعله سيبويه القياس، فقال: وأما تسعمائة وثلاثمائة، فكان ينبغي أن يكون في القياس مئين ومئات، ولكنهم شبهوه بعشرين. وأحد عشر، حيث جعلوا ما يبين به العدد واحدا، لأنه اسم لعدد، كما أن عشرين اسم لعدد. ثم بين أنه لا يستنكر أن يوضع المفرد موضع الجمع، وأنشد على ذلك.

وأيضاً فذلك الحكم ثابت في (الألف) إذا جاء مميزا للثلاثة وأخواتها، نحو: ثلاثة آلاف، وأربعة آلاف، ونحو ذلك، بخلاف (المائة). وأيضا فربما جاء ذلك مصرحا به في الشعر، كما قال كعب بن مالك الأنصاري. ثلاثة آلاف ونحن نصية ... ثلاث مئين إن كثرتا فأربع. فالقياس إنما هو إفراد (المائة) فتقول: ثلاثمائة، وأربعمائة، قال الله تعالى: } ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين} الآية، وهو الوجه، وما عداه سماع لا يقاس عليه، وإن كان أصلا قياسيا، لأن السماع غلبه، والسماع هو المقدم ما لم يكن القياس مستعملا، فيكونا معا معتبرين في القياس. وهذه مسألة بيانها في الأصول، فكان من حقه أن يبين ذلك، لأنه ضروري. ولم يحتج إلى ذكر حكم (ثلاثة) وأخواته مع (مائة، وألف) لأن كلامه أولا يشمله، إذا كان (الألف) لفظا مذكرا فتلحق التاء، فتقول: ثلاثة آلاف، وأربعة آلاف، ولفظ (المائة) مؤنث، فلا تلحق التاء، فتقول: ثلثمائة، وأربعمائة، وكذلك ما بعد إلي (تسعمائة). وأحد اذكر وصلنه بعشر ... مركبا قاصد معدود ذكر. لما أتم الكلام على (الثلاثة) و (العشرة) وما بينهما أخذ يذكر ما فوق

ذلك من (أحد عشر) إلى (تسعة عشر) لأنه نوع من أنواع العدد، له حكم مخالف لأحكام غيره، ويوافق في بعض. وابتدأ بذكر (أحد) و (إحدى) فبين أنك تذكر (أحد) هذا اللفظ موصولا بعشر، مفتوح الشين دون تاء، إذا قصدت أن تعد آحادا مذكرة، فجعل (أحد عشر) مخصوصا بالمعدود المذكر، كقولك: أحد عشر رجلا، وأحد عشر جملا، وأحد عشر كتابا، ونحو ذلك. والتذكير هنا/ على ما فسر في الفصل قبل هذا، وكذلك التأنيث، لكن جعله مركبا، أي صل (احد) ب (عشر) مركبا معه، ولا شك في أن التركيب يوجب البناء وهو تركيب المزج، فكأنه قال: ركبه معه وابنه. وهذا حكمه، وذلك أن (أحد عشر) كان أصله في القياس: أحد وعشرة، بالعطف، لكن العرب ركبتهما، فجعلتهما كالكلمة الواحدة، كما فعلت في (مارسرجس) و (رامهرمز) و (بلالاباذ) ونحو ذلك. وبنت (أحد) على الفتح، على حسب ما فعلت في غيره. فالتركيب سبب بناء (أحد) وكذلك (إحدى) في المؤنث وكان التركيب سببا للبناء، لأن الكلمة الثانية لما عوملت معاملة الجزء من الأولى صارت مفتقرة إليها افتقار الحرف إلى ما بين معناه، فرجع البناء بالتركيب إلى شبه (الافتقار) وقد تقدم مثل هذا التقرير في موضع احتيج إليه فيه. وأما بناء (عشر) من (أحد عشر) فسيذكر حيث تعرض الناظم للتنبيه عليه إن شاء الله تعالى. وقوله: (قاصد معدود) منصوب على الحال من ضمير (اذكر) و"مركبا) أيضا منصوب على الحال من "احد) أي اذكر أحد مركبا مع

عشر حالة كونك قاصدا لمعدود ذكر، وهو على حذف المضاف، أي قاصد عد معدود ذكر، ثم قال: وقل لدى التأنيث إحدى عشره ... والشين فيها عن تميم كسره. يعني أنك إذا عددت المؤنث قلت: إحدى عشرة، فصيرت (أحدا) إلى (إحدى) على وزن (فعلي) وألحقت (عشر) التاء مع إسكان الشين عند أهل الحجاز. ودل عل ذلك إتيانه بلغة بني تميم، وهو كسر الشين، بقوله: (والشين فها عن تميم كسره" أي أن بني تميم يجعلون على الشين كسرة. فإذن أهل الحجاز على السكون المتقدم، فتقول على لغة أهل الحجاز: إحدى عشرة، واثنتا عشرة، وثلاث عشرة، بإسكان الشين، وتكسرها في لغة بني تميم فتقول: إحدى عشرة، واثنتا عشرة، ونحو ذلك، وهذا كله في التأنيث لا في التذكير، لأنه قدم الكلام في التذكير أنه مفتوح الشين بلا تاء، وهكذا مطلقا، ولم يقيده بلغة دون لغة، فدل أنه لا يقال في لغة بني تميم: أحد عشر، أصلا، وإنما يكون ذلك في (عشرة) إذا عددت المؤنث، وذلك أن أهل الحجاز يقرءون: } فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} / بالإسكان. وبنو تميم يكسرون، قرأ طلحة بن مصرف ومجاهد وعيسى بن عمر في جماعة (اثنتا عشرة عينا) وكذلك روى هارون وعبد الوارث والخفاف عن أبي عمرو بن العلاء هنا، وفي

"الأعراف" قال ابن جنى: لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير] عشرة [عشرة، يكسرون الثاني، فيقولون: نبق وفخذ، وبنو تميم يسكنون فيقولون: نبقة، وفخذ. قال: فلما ركب الأسمان، يعني العدد، استحال الوضع، فقال بني تميم: إحدى عشرة، وثنتا عشرة إلى تسع عشرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز: عشرة، بسكونها، ثم بين أن ذلك من جملة الانحرافات التي لحقت العدد، ومن نقض العادة الذي كثر فيه. وأتى بنظائر لذلك. وقوله: "والشين فيها عن تميم كسرة" لا يشعر بالتزام الكسرة ولا بد، بل يدل على أن كسرة الشين من لغتهم. ويبقى بعد ذلك النظر في كونهم يلتزمون ذلك أولا، لم يدل عليه. وحسن ما فعل، فإن لتميم لغة أخرى في هذا يشركهم فيها قيعس فيما نقل، وهي فتح الشين، فيقولون إحدى عشرة واثنتا عشرة، وهي قراءة مروية عن الأعمش، وعن طلحة بن مصرف. والأشهر عن تميم الكسر، فلذلك لم ينقل الناظم غيره. ثم قال: ومع غير أحد وإحدى ... ما معهما فعلت فافعل قصدا.

"مع" الأولى متعلقة ب"افعل" و"ما" موصولة في موضع نصب على المفعولية ب (افعل) و "معها" متعلق ب "فعلت" وهي صلة "ما" والعائد محذوف تقديره: ما معهما فعلته وتقدير الكلام/ افعل مع غير أحد وإحدى، وهو ثلاثة، وأربعة، وما بعدها إلى تسعة، فإنك تفعل به مع (عشر) مثل ما فعلت بهما معه. والذي فعل مع أحد وإحدى أمور: أحدها: انه أتى بأحد مع عشر من غير تاء في (عشر) دالا على عد ما آحاده مذكرة، فكذلك تأتي به مع غير أحد، نحو: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر. وقد مر في الكلام المتقدم حكم ثلاثة وأربعة وما بعدها إلى الستة، من أن التاء تلحقها في عد المذكر، فكذلك تفعل ها هنا/ أيضا كما مثل. وأما (إحدى) فإنه أتى به مع (عشرة) بتاء في (عشرة) دالا على ما آحاده مؤنثة، فكذلك يكون الحكم هنا. وتقدم أن (ثلاثة) وما بعدها تجرد من التاء مع المؤنث، فكذلك تفعل هنا، فتقول: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، على تسع عشرة. وقد تحصل من هذا أن (عشرة) في هذا الفصل خالفت حكمها في الفصل الثاني قبل، إذ كانت قبل تلحقها التاء مع المذكر، وتجرد مع المؤنث، وصار الحكم على العكس. وما عدا (العشرة) باق على حكمه الأول، كما سينبه عليه. وإنما خالفوا الحكم فيها، وكان الأصل أن يقال في المذكر ثلاثة

عشرة، كراهية لاجتماع علامتي تأنيث، لأنهما بلفظ واحد، فإن مدلول تاء (ثلاثة) و (عشرة) تذكير المعدود، فاتحدا لفظا ومعنى، فكره اجتماعهما في شيئين، هما كالشيء الواحد. وهذا بخلاف (إحدى عشرة) فإن علامتيه قد اختلفا معنى، لأن مدلول تاء (عشرة) التذكير، ومدلول ألف (إحدى) التأنيث، واختلفتا لفظا، لأن هذه ألف، وهذه تاء، ولذلك اجتمعت العلامتان بوجه ما في نحو: حمراوات، ولم تجتمع التاء أن في: طلحات ونحوه، فلم يكن اجتماع العلامتين في (إحدى عشرة) كاجتماع (ثلاثة عشرة) لوقيل، فرفضوه لذلك. وخالفوا الحكم في المؤنث أيضا، وكان الأصل أن يقولوا: ثلاث عشر، كما خالفوه في المذكر، ولأن ثلاثا وعشر بناء أن مختصان بالمؤنث، فكرهوا أن يتركوهما كذلك لأنهما كالعلامتين. ولما كان (النيف) مقدما على (العقد) تركوه مع التذكير بالعلامة على أصله، ومع التأنيث بلا علامة على أصله أيضا، تقديما للدلالة على المقصود. الأمر الثاني: التركيب، فلما ركبوا في (أحد عشر)، و (إحدى عشرة) وبنوه على الفتح، فكذلك في (ثلاثة عشر) و (ثلاث عشرة) وأخواتهما، وما ذكر من علة البناء جار هنا، لا فرق بينهما، فتقول: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وكذلك: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى سائر الأخوات. الأمر الثالث: جريان اللغتين في (عشر) عند عد المؤنث، فتقول: ثلاث عشرة امرأة، بالإسكان على مذهب أهل الحجاز، وثلاث عشرة امرأة، بالكسر على مذهب بني تميم، ويجوز الفتح أيضا على مذهبه ومذهب قيس على ما

تقدم. وكذلك في أربع عشرة/، وخمس عشرة، وما بعده إلى تسع عشرة. و(قصدا) في كلامه مصدر في موضع الحال، وهو من القصد الذي هو بين الإسراف والإقتار، وهو العدل، ومنه قوله تعالى: } واقصد في مشيك} أي ليكن عدلا بين السرعة والإبطاء، وأنشد سيبويه: على الحكم المأتي يوما إذا قضى ... قضيته أن لا يجور ويقصد. لما قدم أن لفظ (العشرة) مخالف لما تقدم له فيه قبل ذلك، خاف أن يتوهم أن الحكم في غيره كذلك أيضا، يخالف ما تقدم، فاستدرك هنا التنبيه على ذلك، وأن الحكم الأول باق، من تجريدها مع عد المؤنث، وإلحاقها التاء مع عد المذكر، فتقول: ثلاثة عشر رجلا، وثلاث عشر امرأة، ونحو ذلك إلى التسعة والتسع، وقد تقدم وجه ذلك وعلته. فكأنه يقول: الثلاثة والتسعة وما بينهما من أخواتهما حكمهما في التركيب كما تقدم قبل التركيب، فكما تقول: ثلاثة رجال، وثلاث بنات، كذلك تقول: ثلاثة عشر رجلا، وثلاث عشرة بنتا، وهذا كله إنما هو في ما عدا: اثنى عشر، واثنتي عشرة، لأن لهما حكما آخر، ولذلك قال: "ولثلاثة وتسعة وما بينهما" إلى آخر، ولم يقل: ولاثنين وتسعة وما بينهما. فلما خرجا عن ذلك الحكم أخذ يذكرهما فقال:

وأول عشرة اثنتي وعشرا ... إثنى إذا أنثى تشا أو ذكرا. وأليا لغير الرفع وارفع بالألف ... والفتح في جزأي سواهما ألف. يعني أنك تولي لفظ (عشرة) بالتاء بإسكان الشين أو كسرها، لفظ (اثنتي) هكذا بلا نون، أي تجعل (عشرة) تلي (اثنتي) وهكذا لفظ (عشر) بفتح الشين من غير تاء، تجعله يلي (اثني) فتقول في الأول: اثنتي عشرة، وفي الثاني: اثني عشر، وذلك إذا أردت أن تعد الإناث، أو أردت أن تعد الذكور. وقوله: "إذا أثنى تشا" راجع إلى قوله: "وأول عشرة اثنى". وقوله: "أو ذكرا" راجع إلى قوله: "وعشرا اثنى" فكأنه قال: أول عشرة اثنتي إذا أنثى تشاء، وأول عشر/ اثنى إذا ذكرا تشاء، فرد الأول إلى الأول، والثاني إلى الثاني، من باب "اللف والنشر". ومنه قوله تعالى: } ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله}.

والحاصل أنك تقول في المؤنث: رأيت اثنتي عشرة امرأة، و] تقول في المذكر [اثنتي عشر رجلا. وتعيينه بألف الوصل لا يدفع (اثنتي) بلا ألف، فإنهما مترادفان فإن، فتقول: ثن عشرة، كما تقول: اثنتي عشرة. فإن قلت: إن قوله: "إذا أنثى تشا أو ذكرا" عبارة مشكلة، وإن كان المعنى مفهوما، غذ الأولى أن لو قال: إذا إناثا تشاء أو ذكورا، أي قصدت بالعدد الذكور أو الإناث، وليس المقصود الإفراد في هذا لأنه يعد. وأيضا فقوله: "إذا أنثى تشاء" إنما تحصيل العبارة: إذا عد انثى تشاء، وأما أن يريد نفس الأنثى فلا. فالجواب أن قوله: "إذا أنثى تشاء أو ذكرا" ليس المقصود منه الإناث أو الذكور في قصد الناظم، بل قصده حكاية التمييز، كأنه قال: إذا أردت اثنتي عشرة أنثى، أو اثني عشر ذكرا، فنصب (أنثى) و (ذكرا) على حكاية التمييز، أي إذا أردت التفسير بهذين اللفظين، وصار (أنثى) وذكرا عبارة عن جنس التمييز الذي ينصب بعدهما. وهذا ظاهر، والله أعلم. ثم قال: "واليا لغير الرفع وارفع بالألف) يعني أن هذين اللفظين وهما (أثنى واثنتي) معربان، لا مبنيان، كما بنيت سائر ألفاظ هذا النوع، وهما في إعرابهما كالمثنى، يرفعان بالألف، وينصبان ويخفضان بالياء، فتقول: هؤلاء اثنا عشر رجلا، واثنتا عشرة امرأة، قال تعالى: } فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} وفي النصب: رأيت اثنى عشر، واثنتي عشرة، وكذلك الخفض. وقال: } وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} وقد تقدم التنبيه على إعرابهما في

باب "المعرب والمبني" في قوله: "اثنان واثنتان كابنين وابنتين يجريان". فقد يقول القائل: هذا تكرار لا يحتاج إليه، إذ كان الأولى به أن يقتصر على الموضع الأول، فيترك ذكر ذلك ها هنا. فيقال في الجواب عن هذا: إن ما ذكر هنا لا بد منه، ولو لم يذكره لأخل، وذلك أنه قدم أن هذا النوع مما وقع مركبا/ والمركب مبني، بلا بد، فلولا ذكر التنبيه على إعراب هذين اللفظين لشملهما ظاهر القاعدة، فكان يوهم أنهما مبنيان مع بعدهما، فنبه على الإعراب فيهما، وأنهما باقيان على ما كانا عليه. ومن هنا زلهما في الذكر وحدهما عن سائر الألفاظ، من (أحد عشر) و (ثلاثة عشر) وأخواتهما. فإن قلت: فلم أعرب والموجب لبنائهما قائم، فإن القصد منهما ومن غيرهما من أخواتهما واحد، وأخواتهما مبنيات، فكان الأولى الحاقهما بهما؟ فالجواب: أن أخواتهما إنما بنيت لوقوع ما بعدها منها، موقع تاء التأنيث كسائر ما بنى للتركيب، ولذلك بنى الصدر على الفتح، بخلاف (اثنتي، واثنى) فإن الثاني فيهما إنما وقع منهما موقع نون الاثنين، وما قبل ذلك محل إعراب لا بناء، فصار إلى كمضاف إليه، فلم يبطل الإعراب. والدليل على هذا القصد فيهما أن العرب تصنيف إلى (عشر) في قولك: أحد عشر، وثلاثة عشر، ونحوه، فتقول: هذه أحد عشرك، وثلاثة عشرك، ولا تضيف إلى (عشر) في قولك: اثنى عشر، واثنتي عشرة، فلا تقول: هذه اثنا عشرك، ولا اثنتا عشرك، كما لا يقال: اثنانك،

ولا غلامانك، ولا نحو ذلك، فدل على ما قاله النحويون في هذين اللفظين. ثم قال: "والفتح في جزأي سواهما ألف" يعني أن ما عدا هذين اللفظين المتقدمين ألف في جزأيه فتح آخرهما، فهو المستعمل فيهما. والجزءان هما جزءا المركب، صدره وعجزه فأحد عشر جزءان مبنيان على الفتح، وكذلك ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وأخواتها إلى تسعة عشر، من المذكر، وتسع عشرة من المؤنث. وقد نبه بهذا الكلام على فوائد: إحداها: أن اللفظين معا مبنيان، إذ كلن لفظ الفتح إنما نطلقه غالبا على حركة البناء، كالضم والكسر، أما بناء الصدر فقد تقدم بيانه، وأما بناء العجز فقالوا: غنه بني لتضمنه معنى الحرف العاطف، لأن الأصل فيها: أحد وعشرة، وثلاثة وعشرة، وهكذا إلى آخرها، مثل: أحد وعشرون، وثلاثة وعشرون، ونحوها، لكنهم ضمنوا العجز معنى ذلك الحرف، فبنوه لذلك، وإلا فلو لم يكن مبنيا لجرى بوجوه الإعراب، غير منصرف/ كمعد يكرب، ورامهرمز، وبابه. وقد قالوا في عجز (اثنى عشر) و (اثنتي عشرة): إنه مبني لوقوعه موقع النون، والأولى طرد الحكم في كون البناء لتضمن معنى الواو العاطفة. فإن قلت: تنبيهه على بناء الصدر تكرار، لأنه قد تقدم له ذكر ذاك في قوله: "وأحد اذكر وصلنه بعشر مركبا" فنبه على موجب البناء، وهو التركيب، فما له كرر هذا وليس من عادته ذلك؟ فالجواب: أن ذكر البناء هنا مفهوم من ذكر الفتح، والقصد ذكر بناء العجز، وجاء معه التنبيه على بناء الصدر بالعرض لا بالقصد، وإنما

ذكر بالقصد ما صرح به، وهو البناء على الفتح، وأما البناء فلازم له، فما تقدم ذكره لا يجعل مقصودا له، وما لم يذكره ينبغي أن يجعل مقصودا. والفائدة الثانية: التنبيه على الحركة المبني عليها، وهي الفتحة، وهو نصه، فأما الصدر فإنما بني على الفتحة، لأن العجز منه واقع موقع تاء التأنيث، وما قبل تاء التأنيث مفتوح، فكذلك ما أشبهه، وقد تقدم التنبيه على أوجه الشبه بين المركب والمؤنث بالتاء في باب "ما لا ينصرف". وأما بناء العجز على الفتح فلقصد التخفيف، لخفة الفتحة دون أختها. والفائدة الثالثة: التنبيه على أن المألوف والمعتاد فيها إنما هو الفتح، فما جاء على خلاف ذلك فليس بمعتاد، فهو إذن قليل. والقليل الذي جاء على خلاف المعتاد له موضعان: أحدهما: إذا أضيفت، فإن من العرب من يعربها في آخر العجز فيقول: هؤلاء خمسة عشرك، ورأيت خمسة عشرك، ومررت بخمسة عشرك، يجعلها كبعلبك قال سيبويه: وهي لغة رديئة. والذي عول عليه في ذلك بقاء البناء على الفتح، وهو الذي ألف في كلام العرب كما قال الناظم، فيقال: هؤلاء خمسة عشرك شبهه سيبويه ب (اضرب أيهم أفضل) في عدم تأثيرها بالعامل. والثاني: (ثماني عشرة) في عد المؤنث، فإنه كلامه يعطي أن الفتح هو المألوف فيه وكذلك الحكم، فإن أشهر اللغات فيه: هذه ثماني عشرة. قال السيرافي: وهو الاختيار عند النحويين كأخواتها.

ومنهم من يقول: ثماني عشرة، شبه بمعد يكرب، وأيادي سبا، وقالي قلا، نحو. ومنهم من يحذف الياء ويبقى الكسرة، فيقول/: ثمان عشرة. ومنهم من يقلب الكسرة فتحة، فيقول: ثمان عشرة، ومنه قول الأعشى: ولقد شربت ثمانيا وثمانيا ... وثمان عشرة واثنتين وأربعا. ومما جاء في هذه اللفظة من غير المألوف إضافة الصدر إلى العجز، أنشد الكوفيون عليه قول الشاعر: كلف من عنائه وشقوته ... بنت ثماني عشرة من حجته. عومل معاملة (معد يكرب) فيمن يضيف، ولكنه شاذ جدا، قال السيرافي في البيت: لم يعرفه البصريون. والفائدة الرابعة: أنه لما ذكر أن الفتح هو المألوف والمعتاد عند العرب أشعر ذلك بأنه القياس، وأن غيره مما ليس بمعتاد ولا معروف ليس بقياس، ودل على أن مذهبي الأخفش والفراء ليسا بمرضيين عنده.

أما الأخفش فإنه أجاز أن تعرب هذه المركبات في أواخرها إذا أضيفت، قياسا على ما حكاه سيبويه من اللغة الرديئة، فهو عنده قياس، فيقول: هؤلاء خمسة عشرك، وثلاثة عشرك، ومررت بخمسة عشرك، ونحو ذلك، ونقل سيبويه يعطي أنها لغة غير مرتضاه، فلا ينبغي القياس عليها. وأما الفراء فإنه أجاز إعراب هذه المركبات إعراب: عبد الله، وامرئ القيس، سواء أضيفت أم لم تضف، فيقول: هؤلاء خمسة عشر، وخمس عشرة، قياسا على ما أمشد من قوله: *بنت ثماني عشرة من حجته* قال الفراء: وإذا أضفت الخخمسة عشر إلى نفسك رفعت الخمسة، فتقول: ما فعلت خمسة عشري؟ ورأيت خمسة عشري، فإنما أعربت الخمسة لإضافتك العشر، فلما أضيفت العشر] إلى الياء منك [، لم يستقم للخمسة إن تضاف وبينهما عشر، فأضيفت عشر لتصير اسما، كما صار ما بعدها بالإضافة اسما. قال الفراء: سمعتها من أبي فقعس وأبي الهيثم العقيلي. وهذا من القليل الذي ينقل ولا يعتد بمثله، ولا يبنى عليه. وهاتان الفائدتان الأخيرتان قد نبه الناظم عليهما تصريحا إثر هذا بقوله:

وإن أضيف عدد مركب ... يبقى البنا وعجز قد يعرب. لأنهما مأخوذتان هنا بالمفهوم، والتصريح بهما أحسن. ثم بين تمييز (العشرين) وأخواتها/ و (أحد عشر) وأخواتها فقال وميز العشرين لا تسعينا ... بواحد كأربعين حينا. يعني أن (العشرين) وأخواتها، وهي (الثلاثون) و (الأربعون) و (الخمسون) وما بعدها إلى التسعين) تميز بمفرد منصوب. أما كونه مفردا فهو قوله: "بواحد" فلا يفسر بجمع، فلا يقال: عشرون دراهم، ولا ثلاثون أثوابا، لان المطلوب تمييز جنس المعدود، والمفرد يكفي من ذلك. والجمع هو الأصل، إذا كان الأصل أن يقال: عشرون من الدراهم، لكنهم أرادوا التخفيف، فأتوا بالمفرد عوضا من الجمع، لما يؤدي من معناه. وإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك فمؤول، كقول علقمة بن عبدة: فكان فيه ما أتاك وفي ... تسعين أسرى مقرنين صفد. ف" أسرى" ليس بتمييز، وإنما هو صفة للتسعين، والتمييز محذوف، أي تسعين رجلا أسرى، وكذلك ما أنشد في الحماسة من قول

ابن ماوية: تجودت في مجلس واحد ... قراها وتسعين أمثالها. ف " امثالها" بدل وليس بتمييز. وقد أجاز السيرافي إذا أردت أن تجمع جماعات مختلفة أن تفسر (العشرين) ونحوها بجماعة، فتكون (عشرين) كل واحد منها جماعة، ومثل ذلك: التقى الخيلان، فتقول على هذا: عشرون خيلا، قال: تبقلت من أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل. قال: فتقول على هذا: عشرون رماحا، تريد: عشرين قبيلة، لكل واحدة منها رماح. وقال:

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين. لأصبح الناس أوبادا ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين. وكلام الناظم يدفع هذا الجواز، ودفعه ظاهر، لأن مبني على قولهم: خيلان وجمالان، ونحو ذلك، وهو قليل، فلا ينبغي أن يبني عليه. ومثل هذا القياس يلزمه في المركب أيضا، وفي (مائة) و (ألف). وسينبه على ذلك إثر هذا إن شاء الله. وأما كون المميز منصوبا فيعطيه مثاله، وهو قوله: "كأربعين حينا" ف "حينا" مفرد منصوب، وإلزامه النصب بما أشار إليه المثال ودليل على أنه لا يعتبر الخفض/ بالإضافة قياسا، فلا يقال: ثلاثو درهم، ولا أربعو ثوب، كما مائة درهم، ومائتا ثوب. وقد حكى الكسائي أن من العرب من يضيف (العشرين) وأخواته إلى المفسر منكرا أو معرفا، فيقول: عشرو درهم، وثلاثو ثوب، وأربعو عبد، ولم يعول عليه الناظم في القياس، فلذلك لم يذكره. وإنما نصب (عشرون) وأخواته تشبيها ب (ضاربين زيدا) وذلك أنهم لما أفردوه زادوه تخفيفا أيضا بحذف (من) وأعملوا (العشرين) في

(درهما) فنصبوه تشبيها ب (ضاربين) في ثبات النون والنصب، وحذفها والخفض على الجملة، لأنك تقول: ضاربون زيدا، وضاربوا زيد، وكذلك تقول: عشرون درهما، وتحذف النون وتخفض، وذلك إذا كان ما بعدها مالكا أو نخوة، نحو: عشرو زيد، كما تقول: غلمان زيد، فلما كانت (عشرون) ك (ضاربين) في هذا المعنى، وكانت تقتضي مفسرا كما يقتضي (ضاربون) معمولا- نصب به لذلك. واعلم أن الناظم لم يتعرض هنا لحال (لنيف) مع هذه العقود. والحكم فيها أن العقود تعطف بالواو على (النيف) فتقول: أحد وعشرون، واثنان وثلاثون وثلاثة وأربعون. وكان حقه أن يذكر ذلك، ترك ذلك للعلم به، وعلى أنه قد ذكر لزوم الواو مع اسم الفاعل المشتق من العدد، نحو: الحادي والعشرين، ونحو ذلك. وأما حكم (النيف) مع لحاق التاء مع المذكر، وعدم لحاقها مع المؤنث، فتشمله القاعدة الأولى. وكذلك إطلاقه لإتيان بالعشرين للتسعين، من غير تفريق فيها بين مذكر ومؤنث، يشعر بأن التفريق فيها مهمل، فيجوز أن تعد بها المذكر والمؤنث، فتقول: عشرون رجلا، وعشرون امرأة، ونحو ذلك، كما كان ذلك في (مائة، ولف) وإنما فرق بين المذكر والمؤنث في (العشرة) وحدها من جملة العقود، وأما (النيف) فهو الذي التزم ذلك فيه. ثم قال: وميزوا مركبا بمثل ما ... ميز عشرون فسوينهما. يعني أن العدد المركب، وهو من (أحد عشر) إلى (تسعة عشر) ميزته

العرب بمفرد منصوب، كما ميزت (عشرين) وأخواته بواحد منصوب. وقصده أن هذا التمييز المذكور هو المعتبر في هذا النوع من العدد، لا دخول لغير ذلك فيه، كما كان ذلك في (عشرين) فلا يفسر بمخفوض/ ولا بجمع، فلا يقال: أحد عشر دراهم، ولا أحد عشر درهم. أما النصب فلأن العرب جعلت المركب كالمنون، وعاملته، معاملته، قال سيبويه. قال السيرافي: لا يصح إلا ذلك، لأن لأصل خمسة وعشرة، فليس بعد الخمسة شيء أضيفت إليه، فوجب أن تكون منونة ومحل العشرة محل الخمسة، فكانت منونة مثلها. وأيضا فلم تر شيئين جعلا اسما واحدا، وهما مضافان أو احدهما فوجب النصب لذلك، كذا قال السيرافي في التعليل فانظر فيه. وأما الإفراد فلما تقدم من أنه كاف لعلم المقدار. وقوله: "فسوينهما" يريد: سو بين المركب في هذا الحكم، وهو وجوب الإفراد والنصب، وبين (عشرين) وأخواته. ونكت بذلك على ما ذهب إليه الزمخشري في "الكشاف" في قوله تعالى: } وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} من أن "أسباطا" تمييز. قال الزمخشري: فإن قلت: مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعا؟ فالجواب: أن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكل قبيلة أسباط لا سبط، فوضع "أسباطا" موضع قبيلة، كما قال:

*بين رماحي مالك ونهشل* قال المؤلف: فمقتضى ما ذهب إليه أن يقال: رأيت أحد عشر أنعاما، إذا أريد إحدى عشرة جماعة، كل واحدة منها أنعام. قال ولا بأس برأيه في ذلك لو ساعده استعمال، لكن قوله: (كل قبيلة أسباط لا سبط) مخالف لما يقوله أهل اللغة، من أن السبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب. قال: فعلى هذا معنى} قطعناهم اثنتي عشرة أسباطا} قطعناهم اثنتي عشرة قبائل، ف (أسباط) واقع موقع (قبائل) لا موقع قبيلة، فلا يصح كونه تمييزا، وإنما هو بدل، والتمييز محذوف. وعلى هذا المحمل حمل الآية أيضا غير ابن مالك، كالشلوبين وابن أبي الربيع وغيرهما. وقد جعل هذا بعضهم قياسا، على أن يكون بدلا يقوم مقام التمييز، وهذا غير ممتنع، وإنما الممتنع أن ينصب على التمييز كما قاله الزمخشري. وما رآه السيرافي في (عشرين) وأخواته من جواز التمييز بالجمع على التقدير الممذكور جار له هنا، إذ لا فرق بين أن تقول: / هذه/ عشرون خيلا، وثلاثون رماحا، وبين أن تقول إحدى عشرة خيلا، وثلاث عشرة رماحا، فيكون الناظم أيضا قد تحرز من هذا المذهب: وإن أضيف عدد مركب ... يبقى البنا وعجز قد يعرب

يعني أن العدد المركب إذا أضيف فإن البناء يبقى على ما كان عليه قبل الإضافة. وهذا الكلام مؤذن أولا بجواز الإضافة إلى العدد المركب، فتقول: هذه أحد عشرك، وثلاثة عشر زيد، فيبقى على ما كان عليه من البناء على الفتح، وذلك في الجزءين معا، فالصدر لتركيبه مع الثاني، والجز لتضمنه معنى الحرف، وهذا الاستعمال هو الأكثر في كلام العرب .. وقد يعرب العجز، يعني قد يقع الإعراب في آخر العجز، فتقول: هؤلاء أحد عشرك، ومررت بأحد عشر زيد، كما يعرب المركب في آخره، وقد مر ذكر هذا. ويريد أن العجز هو المعرب، وما عداه مبنى، ولا يؤخذ من هذا أن إعراب العجز يؤدي إلى إعراب الصدر ضرورة، غذ كان إعرابه لا يمكن إلا باستقلاله بنفسه، وإزالة التركيب، وذلك يستلزم أن يكون مضافا إليه، والأول مضاف، فيصيران معا معربين، كامرئ القيس، وعبد الله، ونحوه، لأنا نقول: ذلك غير لازم، ولا يستلزم إعراب العجز إعراب الصدر. ألا ترى أن المركب تركيب مزج مبني الصدر، معرب العجز، فالصدر في مسألته باق على الحكم الذي قدم فيه، وهو البناء، ولا يصح أن يقال: لعله نبه على كلا السماعين، وما حكاه سيبويه، وما حكاه الفراء، وقد ذكر قبل، لأنا نقول: إن الناظم إنما قال: "وعجز قد يعرب" فأفرد العجز وحده بالإعراب، ولو كان مراده ذلك لقال: وقد يعرب المركب، أو ما يعطي هذا المعنى، فإنما نبه على ما حكاه سيبويه من قول بعض العرب: خمسة عشرك. قال: وهي لغة رديئة.

قال ابن خروف: يقول: هي كبعلبك في الرداءة، ولهذا قال الناظم: "وعجز قد يعرب" فنبه على قلتها وضعفها. وصغ من اثنين فما فوق إلى ... عشرة كفاعل من فعلا واختمه في التأنيث بالتا ومتى ... ذكرت فاذكر فاعلا بغير تا هذا الفصل يذكر فيه اسم الفاعل المشتق من أسماء العدد، ويقرر/ الحكم الذي له في قوانين النحو. وله في هذا الباب ثلاثة مواضع: أحدها: الآحاد من اثنين إلى عشرة. والثاني: من أحد عشر إلى تسعة عشر والثالث: من عشرين إلى تسعين. وأحكامه مختلفة باختلاف هذه المواضع، فذكر كل فصل على حدته، وابتدأ بذكره مع الآحاد، لكنه قدم مقدمة نقلية، تشمل جميع المواضع، وهي الإخبار عن جواز صوغ اسم الفاعل من هذه الألفاظ، فقال: "وصغ من اثنين فما فوق" إلى آخره. يعني أنه يجوز أن تصوغهن هذه الألفاظ التي هي: اثنان، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، وما بعدها إلى العشرة اسما يوازن اسم الفاعل المبني من فعل ثلاثي، وهو (فاعل) الجاري على (فعل) فتقول: ثان، وثالث، ورابع، وخامس، وهكذا إلى عاشر، كأنك تجريها على/ ثنيت، وثلثت، وربعت، إلى: عشرت، كما تقول: ضارب من (ضربت) وحامل من (حملت) ونحو ذلك. وإنما قال: "كفاعل من فعلا" فبين أن ذلك إنما يكون كالمبني من الثلاثي، تحرزا من سبق الفهم إلى جواز البناء على موازنة اسم الفاعل

من غير الثلاثي. كمفعل، ومتفعل، ومفتعل، ونحوه، فإن مثل هذا لا يجوز وهو قد قال: "كفاعل" ف (فاعل) قد يكون عبارة عن اسم الفاعل، لا عن نفس البناء. وإنما نبه على جواز الصوغ هنا، لأنه على خلاف الأصل، ألا ترى أنه على حد الوجهين يصاغ من نفس اسم العدد لا من مصدره، وذلك إذا كان بمعنى بعض أصله، فليس فيه رائحة من معنى الاشتقاق الذي في نحو: ضارب من (ضرب) فلما كان كذلك احتاج إلى الإعلام بأن ذلك سائغ ومنقول من كلام العرب، وعليه ينبني الكلام في هذا الفصل. والبناء الذي نبه عليه هنا على وجهين: أحدهما: أن يكون من اسم العدد نفسه، فتقول: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة، فهذا لم يقع بناؤه من مصدر استعمالي أصلا، إذ لا يقال: ثلثت الثلاثة ثلثا، ولا ربعت الأربعة ربعا، ولا خمست الخمسة، ولا ما أشبه ذلك، فلم يكن له مصدر تشتق منه هذه الصيغة، فثالث مشتق من لفظ (الثلاثة) ورابع من (أربعة) وهكذا ما عداها. وهو داخل في الاشتقاق السماعي، وهو الاشتقاق / من أسماء الأجناس، كتربت يداه من (الترب) واستحجر الطين، من (الحجر) واستتيست الشاة، من (التيس) على ما هو مبين في علم "الاشتقاق". والوجه الثاني: أن يكون البناء من المصدر حقيقة، فتقول: ثالث اثنين، ورابع ثلاثة، وخامس أربعة، ونحو ذلك، فهذا النوع لم يقع بناؤه من اسم العدد نفسه، لأنك تقول: ثلثت الاثنين، وربعت الثلاثة، وخمست الأربعة، ونحو ذلك. هذا وإن كان المصدر مشتقا من اسم العدد، فإن

المصدر الاستعمالي هو الأصيل في الاشتقاق، بخلاف أسماء الأجناس، كما ذكر في "كتاب الاشتقاق" وكلا القسمين هو المذكور بعد هذا. ولما كانت ألفاظ العدد مخالفة لسائر الأسماء في لحاق علامة التأنيث، فإنها تلحق إذا أريد بها المذكر، وتسقط إذا أريد بها المؤنث، على عكس الأمر في سائر الأسماء- خاف أن يتوهم أن حكم المخالفة منسحب على اسم الفاعل فيه، فنص على أن حكمه موافق لسائر الأسماء فقال: "واختمه في التأنيث بالتاء" إلى آخره. يعني أنك تلحقه التاء إذا أردت به المؤنث، فتقول: ثالثة ثلاث ورابعة أربع، وخامسة خمس، وكذلك في المخالف نحو: رابعة ثلاث، وخامسة أربع، وما أشبه ذلك. وتسقطها إذا أردت المذكر فتقول: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وكذلك ثالث اثنين، ورابع ثلاثة ونحو ذلك. و"بالتاء" متعلق ب"اختمه" و"في التأنيث" حال من ضمير "اختمه" البارز، أي اختمه بالتاء حال كونه في التأنيث، جعل التأنيث له ظرفا مجازا. ثم بين مواضع القسمين المذكورين، وهما اسم الفاعل المشتق من اسم العدد، والمشتق من المصدر، والحكم فيهما، وتنزيل اللفظ على معناهما، فقال: وإن ترد بعض الذي منه بني ... تضف إليه مثل بعض بين

وإن ترد جعل الأقل مثل ما ... فوق فحكم جاعل له احكما. اعلم أن مدلول اسم الفاعل في باب العدد واحد من آحاده مطلقا، فثالث، أو رابع، مدلوله فرد من أفراد الثلاثة، أو من أفراد الأربعة، لأن (فاعلا) و (فاعلة) في سائر الأبواب معناه واحد وواحدة، فكذلك هنا، فإذن لا يستعمل في هذا الباب/ إلا كذلك لمقصد خاص في الإخبار بذلك الواحد، أو الإخبار عنه. والقصد به في الاستعمال وجهان: أحدهما: أن تقصد به قصد البعض، بمعنى أنك تريد الإخبار عن واحد من آحاد العدد، من حيث هو بعضها خاصة، وهذا معنى قوله: "وإن ترد بعض الذي منه بني" أي إن ترد بعض العدد الذي بني اسم الفاعل من لفظه، فالحكم أن تحكم له بحكم البعض البين، أي الظاهر الموجود في نص الكلام، فتقول: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، فتضيف (الثلاثة) إلى (ثالث) و (الأربعة) إلى (رابع) كما تضيف لفظ البعض لو قلت: بعض ثلاثة، وبعض أربعة، لأن معناه مثل معناه. وقد اشتمل هذا الكلام على حكمين: أحدهما: لزوم الإضافة في هذا القصد، لان معنى اسم الفاعل هذا معنى البعض، فكما أن البعض يلزم الإضافة، فكذلك ما كان في معناه. وسبب ذلك أنه مشتق من اسم العدد نفسه، فلا إشعار له بالاشتقاق الذي يؤدي معنى الفعل، وهو سبب العمل. ومن هنا لم تنطق العرب بالفعل كما تقدم قبل، فلا يجوز إذن أن يقال: هذا ثالث ثلاثة، كما

لا يقال: هذا بعض ثلاثة، إذ لا ناصب له، وهذا مذهب الجمهور. وقد أجاز الأخفش النصب والتنوين في هذا القسم، فتقول: هذا ثالث ثلاثة ورابع أربعة، ونحو ذلك، وكانه قاس ذلك على قول العرب: ثنيت الرجلين، إذا كنت الثاني منهما، فها هنا يصح أن يقال: هذا ثان اثنين، وهو بمعنى: أحد اثنين أو بعض اثنين، فكذلك ينبغي على هذا أن يقال: هذا ثالث ثلاثة، بمعنى واحد من ثلاثة، وكذلك رابع أربعة، وخامس خمسة، ونحو ذلك. ورده المؤلف بأن موازن (فاعل) المشار إليه إذا أريد به معنى (بعض) لا فعل له، فإن العرب لا تقول: ثلثت الثلاثة، ولاربعت الأربعة، وجاز ذلك في (ثاني اثنين) لأن له فعلا يجري مجرى القسم الثاني الجاري مجرى اسم الفاعل. والحكم الثاني: أن يكون الإضافة إلى المتفق لا إلى المختلف، فتقول: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، لأن المعنى أحد ثلاثة، أو بعض ثلاثة. ولا يصح أن تقول في هذا الفصل: ثالث/ اثنين، ولا رابع ثلاثة، ونحو ذلك، لأن قصد البعض هنا يفسد المعنى، إذ كان المعنى: بعض اثنين وهو ثالث، أو بعض ثلاثة وهو رابع، وهذا فاسد وهذا الحكم لم ينص عليه الناظم نصا، ولكن تركه لتضمن الاشتراط المعنوي إياه، وهو كونه بمعنى (بعض). والقصد الثاني من القصدين في (فاعل) من أسماء العدد: أن تريد به معنى جعل الأقل من العدد مثل ما فوقه، فإذا كان (ثلاثة) أردت أن تجعله (أربعة) أو (خمسة) أردت أن تجعله (ستة) فاسم الفاعل هنا

تحكم له بحكم "جاعل" اسم الفاعل من (جعل) وذلك قوله: "وإن ترد جعل الأقل مثل ما فوق" إلى آخره. يريد أنك تحكم له بحكم اسم الفاعل من كل وجه، فتقول: هذا ثالث اثنين، بالإضافة، كما تقول: هذا جاعل الاثنين ثلاثة، وكذلك تقول: هذا ثالث اثنين، كما تقول: هذا جاعل الاثنين ثلاثة. ويتضمن هذا الكلام أيضا حكمين: أحدهما: عدم لزوم الإضافة، بل تجوز الإضافة وحذف التنوين، والنصب مع التنوين، كما في اسم الفاعل، وأيضا فيشترط فيه ما يشترط فيه ما يشترط في اسم الفاعل، ويجري على ما يجري عليه من الأحكام، فإذا كان بمعنى الماضي لم يعمل، وإذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال جاز إعماله، ولا يعمل إلا بشروط تقدم ذكرها في "اسم الفاعل" كالاعتماد على حرف نفي، أو استفهام، أو نداء، أو وقوعه خبرا، أو حالا، أو صفة، أو نحو ذلك مما تقدم ذكره، لأن (ثانيا) و (ثالثا) هنا من: ثنيت، وثلثت، كما كان (جاعلا) من: جعلت. والثاني: أنه لا يضاف إلى ما كان من العدد موافقا، فلا تقول بهذا المعنى هذا ثالث ثلاثة، وغنما تقول: هذا ثالث اثنين، ورابع ثلاثة، لأن معنى (جاعل) لا يتصور إلا مع المخالف، ف (ثالث اثنين) يصح على معنى، جاعل الاثنين ثلاثة، بخلاف (ثالث ثلاثة) فإنه لا يصح فيه ذلك، وقد تقدم التنبيه على هذا المعنى، وكلامه يشعر بهذين الحكمين، لأنه قال: "وإن ترد جعل الأقل مثل ما فوق" فهذا مستلزم للمخالفة. قال" فحكم جاعل له احكما" فهذا معنى إجازة النصب فيه والتنوين. إلا أن هذا الفصل فيه نظر من وجهين:

أحدهما: أنه قال" وضغ من اثنين فما فوق" ثم بين أن الاستعمال/ على وجهين، بمعنى (بعض) وبمعنى (جاعل) فاقتضى هذا الكلام أن يجوز صوغ (فاعل) بمعنى (جاعل) من اثنين، ومن شرطه لا يضاف إلا إلى العدد المخالف، فيقال: هذا ثان واحدا، وهذا ثاني واحد، كما تقول: هذا ثالث اثنين، وهذا ثالث اثنين، لكن هذا لا يقال. وقد ذكر المؤلف في "شرح التسهيل" أن العرب لم تستعمل (ثانيا) بمعنى (جاعل) وإنما جعلته بمعنى (بعض) والتزمت ذلك فيه. وأصل النقل في منع ذلك لسيبويه. وأيضا فمقتضى كلامه لزوم الإضافة في اسم الفاعل الذي بمعنى (بعض) مطلقا، وقد تقدم أنه يستعمل ذا وجهين في (ثان) كالذي بمعنى (جاعل) حكاه أيضا المؤلف كما تقدم. فيجوز على ما نقل أن يقال: هذا ثاني اثنين بالإضافة، وثان اثنين، بالتنوين والنصب، لأنك تقول: ثنيت الاثنين، ولا يصح هنا أن يكون بمعنى (جاعل) إذ لا يمكن أن يقال: جعلت الاثنين اثنين. فإطلاق الناظم الكلام في هذه المسألة يؤدي إلى معنى غير صحيح. والوجه الثاني: أن قوله: "فحكم جاعل له احكما" يقتضي أن جواز الوجهين في هذا الباب يساوي الجواز في اسم الفاعل مطلقا، وقد قالوا في الإضافة في هذا الباب.

إنها أولى، بخلاف باب "اسم الفاعل"، فإن الإضافة فيه ليست بأولى من النصب، وفرق بينهما بعض شيوخنا بأن اسم الفاعل مشتق من أصل، وهو المصدر، واسم الفاعل هنا مشتق من فرع، لأنه مشتق من مصدر اشتق من اسم العدد، فحيث ضعف الاشتقاق قويت الإضافة، وحيث قوي الاشتقاق ضعفت الإضافة. وإذا ثبت هذا ظهر أن إطلاق الناظم القول بأن حكم اسم الفاعل هنا حكم (جاعل) مطلقا فيه ما ترى. والجواب عن الأول لا يحضرني الآن. وأما الثاني فإن سلم الفرق بينهما في ذلك الحكم فلا خلل في ذلك، لجواز الوجهين على الجملة. وقد مضى له من هذا أشياء يترك فيه الترجيح، إذ لا محذور يلقى في ذلك الإطلاق. وقوله: "مثل بعض بين" "بعض" هنا المراد به هذا اللفظ، ولكن نكره كما ينكر العلم إذا قلت: مررت بزيد وزيد آخر، لأن/ الألفاظ أعلام على أنفسها، لأنك تقول: هذا زيد ثلاثيا، ولا تجرى عليه النكرة صفة، فكان حقه أن يقول: مثل بعض البين، أي المذكور في اللفظ، لكن ذهب مذهب تنكيره فصح وقد مر نحو من هذا في "باب المعرف بالأداة". وقوله: "فحكم جاعل له احكما" "حكم" منصوب على المصدر المشبه به، أي احكم حكما مثل حكم (جاعل) ولا يكون اسما، لأن التعدي إلى الاسم بالباء، فإنما يقال: احكم بحكم كذا، ولا يحمل على حذف الباء، لأن باب: *تمروت الديار ولم تعوجوا*

شاذ والكاف في قوله: "كفاعل من فعلا" اسم تعدى إليه "صغ" أي صغ مثل فاعل، فجعل الكاف اسما، كما قال الأعشى: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل. فالكاف في "كالطعن" في موضع رفع على الفاعلية، وقال امرؤ القيس: فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب. وإن أردت مثل ثاني اثنين ... مركبا فجئ بتركيبين. أو فاعلا بحالتيه أضف ... إلى مركب بما تنوي يفي. وشاع الاستغنا بحادي عشرا ... ونحوه وقبل عشرين اذكرا. وبابه الفاعل من لفظ العدد ... بحالتيه قبل واو يعتمد

هذا هو الموضع الثاني من مواضع اسم الفاعل المشتق من اسم العدد] وهو العدد [من أحد عشر إلى تسعة عشر. واعلم أن الاشتقاق هنا إنما يكون بمعنى (بعض) لا بمعنى (بعض) لا بمعنى (جاعل) فلذلك قال: "وإن أردت مثل ثاني اثنين مركبا" فبين بقوله: "ثاني اثنين" أن المستعمل هنا إنما هو اسم الفاعل الذي بمعنى (جاعل) اسم فاعل حقيقة, واسم الفاعل إنما يبنى من الثلاثي المفرد كما تقدم. والمبنى منه هنا مركب لا مفرد, فهو أكثر حروفا من الثلاثي, وأيضا فلا يبنى من المركب اسم في صريح كلام العرب, وما جاء من نحو قولهم: عبقسي وعبشمي لا يبنى عليه، ومن هنا منعه أبو الحسن الأخفش, فإذن لا يتصور هنا هذا الاستعمال. فإن قلت: احذف الجزء الثاني من الأول فأقول: هذا ثالث اثني عشر, ورابع ثلاثة عشر ونحو ذلك. فالجواب: أن ذلك لا ينبغي أيضا/ أن يجوز، لأنه فرع ذلك الممتنع ومحذوف منه، فيمتنع بامتناعه، اللهم إلا أن يثبت من كلامهم: ربعت الثلاثة عشر، أو نحوه، فإنه يصح على هذا أن يقال: هذا رابع ثلاثة عشر. وفي "التذكرة" عن أصحاب سيبويه جواز ذلك، لأن (عشر) في حذف، فهو بمنزلة ما ليس في الكلام، فإنما بني (فاعل) من (ثلاثة) و (أربعة) التي في الكلام.

قال أبو علي: يقوي ذلك أن (حادي) ونحوه معرب، فدل الإعراب على أن ذلك المحذوف ليس معنيا به، وصار مثل الأسماء التي تجري على الفعل. هذا ما قال. وقد حكى بعضهم أنه يقال: ربعت الثلاثة عشر. وقالوا: معي عشرة فأحدهن لي، فهذا بمنزلة رابع ثلاثة عشر، فتقول: هذا حادي عشرة، وحاد عشرة، فصح من هذا أن المركب من العدد يمتنع أن يبنى منه بمعنى (جاعل) إذا كان البدء من مركب، ولا يمتنع إذا كان من غير مركب. فإن قلت: فإذا كان حكى هذا جاز إذن في المركب استعمال الذي بمعنى (جاعل) مطلقا، والناظم قد قيد ذلك بمثل (ثاني اثنيين) فكان ينبغي أن يطلق القانون إطلاقا، إذ قد أجازوا ذلك، نص عليه الشلوبين وغيره، وهو موافق لما حكى، ولا يلزم من امتناع البناء امتناع البناء من غيره. فالجواب: أن السماع بذلك، أعني بقولهم: ربعت الثلاثة عشر، ونحوه نادر، فلم يعتبره، وعلى اطراحه بني في "التسهيل"، فلا اعتراض عليه فيما ذهب إليه، ومع أن شيخنا الأستاذ- رحمه الله- عمم الجواز مطلقا قياسا على ذلك المسموع، وذلك ظاهر من جهة أن التركيب لازم إما لفظا وإما تقديرا، وهو مانع من البناء على الإطلاق. وأما اسم الفاعل بمعنى (بعض) فيسوع استعماله في المركب وغيره، إذ يسوغ لك أن تبنيه من اسم العدد،

وتركبه مع غيره فتقول: ثالث عشر ثلاثة عشر، ونحو ذلك. وذكر الناظم- رحمه الله- من الاستعمال في لمركب ثلاثة أوجه أحدها: أن تأتي بتركيبين اثنين، وذلك قوله: "فجئ بتركيبين" نحو قولك: حادي عشر أحد عشر، وثاني عشر، وكذلك إلى تاسع عشر تسعة عشر هذا في المذكر. وتقول في المؤنث: هذه حادية عشر إحدى عشرة، وثانية/ عشر ثنتي عشرة، وكذلك ما بعده إلى تاسعة عشر تسع عشرة. وتشبيه بثاني اثنين يعطي أن التركيب الأول مضاف إلى الثاني، وذلك صحيح، ولذلك تأتي بالياء في اثنى عشر، إذا قلت: ثاني عشر اثني عشر. وقوله: "فجئ بتركيبين" دليل على أن (الحادي) ونحوه هنا مركب كأحد عشر، وذلك صحيح، لأنه اسم غير مشتق كأحد، فيكون إذن بناؤه على الفتح، وهذا يعطي أن يكون ما آخره ياء قبلها كسرة، كحادي وثاني مفتوحا كغيره، إلا أنهم أجازوا في الوجهين: الفتح لأن هذه الياء تتحرك في المؤنث، نحو: حادية عشرة، والإسكان جريا على ما اطرد في الأسمين المركبين نحو: معد يكرب قاله الشلوبين. والوجه الثاني: أن تحذف العجز من التركيب الأول، ويبقى التركيب الثاني على حاله، وهو الذي أراد بقوله: "أو فاعلا بحالتيه أضف إلى مركب" البيت. يعني أنه يجوز لك أن تأتي ب (فاعل) وحده مضافا إلى المركب الثاني، فتقول: هذا حادي أحد عشر، وثاني اثنى عشر، وثالث ثلاثة

عشر، ونحو ذلك، فإنه موف بالغرض الذي أردت، إذ كان المحذوف في حكم المنطوق به، وهو العجز من المركب الأول. وقوله: "بحالتيه" يريد حالتي التذكير والتأنيث، فمثال التذكير ما ذكر، ومثال التأنيث: حادية إحدى عشرة، وثالثة ثلاث عشرة، ونحوه، وقوله: "أضف" يريد أن حكم الإضافة باق، لكن يبقى حكم اسم الفاعل إذا حذف ما بعده، هل يبقى على تركيبه أو يرجع إلى الإعراب. ولم يتكلم الناظم عليه، والحكم فيه الرجوع إلى الأصل من الإعراب، إذ لا يمكن أن يبنى مع التركيب الثاني، لأن ثلاثة أشياء لا تصير شيئا واحدا. ولا يقال: يبقى على بنائه الأول، لأن المحذوف مقدر- لأنا نقول: البناء للتركيب اللفظي وقد زال، وأيضا فالرجوع إلى الأصل يكون بأدنى سبب، ولا يخرج عن أصله إلا بسبب قوي. وإذا ثبت هذا كان حكمه حكم الأسماء المعربة التي آخرها ياء في استتار الضمة والكسرة وظهور الفتحة فتقول: هذا حادي أحد عشر، ورأيت حادي أحد عشر، ونحوه. وقوله: (بما تنوي يفي"/ المجرور متعلق ب (يفي) الفعل مجزوم على جواب قوله: (أضف) و"فاعلا" مفعول ب "أضف" والتقدير: أضف وفاعلا بحالتيه إلى مركب يف ما تنوي، أي يعط من المعنى ما يعطيه الأصل من غير إخلال إذا هو حذف لدليل. والوجه الثالث: أن تحذف العجز من التركيب الأول، والصدر من التركيب الثاني، استغناء بما ثبت عما حذف من الأول لما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني لما أثبت نظيره في الأول، وهو قوله: (وشاع الاستغنا بحادي عشرا) يعني أن هذه الكيفية من الاستعمال شائعة

مستعملة كثيًرا عندهم في (حادي عشر) وما أشبهه من الألفاظ المركبة إلى (تاسع عشر) وذلك لأنها أقرب إلى غرضهم من الاختصار واجتناب الإكثار. ومثله في الكلام العربي شائع، ومنه قوله تعالى: } ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن} الآية، المعنى حتى يطهرن ويتطهرن، فإذا طهرن، يريد: من الدم، وتطهرن: يعني بالماء، فأتوهن من حيث أمركن الله. وقال تعالى: } قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون}. التقدير: فعلي إجرامي، وأنتم براء منه، وعليكم إجرامكم وأنا برئ منه. وحكم التذكير والتأنيث في هذا الوجه كما تقدم، فتقول: ثالث عشر، وثالثة عشرة، إلا أن الحكم من البناء أو الأعراب في الأول لم يذكره. أما الثاني فبناؤه ظاهر لبقاء سببه، وهو تضمن معنى الحرف كما تقدم. والأول يجوز فيه الوجهان: بقاء الإعراب والإضافة، فتقول: هذا حادي عشر، ورأيت حادي عشر، بفتح الياء على حد سائر المعربات، وكأنه على نية حذف الجزء الثالث الذي هو صدر التركيب الثاني. وبعضهم ينسب هذا الوجه إلى البصريين. وبناء الجزءين أحدهما مع الآخر، فيقول: هذا ثالث عشر، ورابع عشر، ويجوز في (حادي) و (ثاني) مع (عشر) الوجهان المذكوران، وهما الفتح والإسكان، وينسب إلى الكوفيين. وعلى هذا الوجه يصير قولك: هذا ثالث عشر بعد التركيب الذي ذهبوا إليه على صورة: ثالث عشر، الذي هو على حد: هذا ثالث، فيقع اللبس بين

المعنيين، لكن يعتبر المعنى بالقرائن وما يقتضيه/ المساق، ولما لم يذكر الناظم وجه هذا الاستعمال الثالث دل على أن كلا القولين فيه ممكن عنده. وعلى إجازة الوجهين، من الإضافة والتركيب مطلقا، اعتمد الشلوبين، ولم ينسبهما، بل أخذ بهما معا، وكأنهما عنده ثابتان نقلا عن العرب، فلا غشكال إذن في الجواز، وما نسب إلى الكوفيين والبصريين ينبغي أن يستظهر عليه وانظر نقل السيرافي. قوله: "وشاع كذا" يعني أن هذا الوجه هو الشائع الكثير، وكذلك في "شرح التسهيل" جعله غالبا، فهو أكثر استعمالا من الوجهين الأولين، ويليه في كثرة الاستعمال الثاني، وهو ما حذف منه عجز الأول، ويليه الوجه الأول، فهو أقل الاستعمالات. قال سيبويه: وبعضهم يقول: ثالث عشر ثلاثة عشر، فعزاه إلى بعض العرب لا إلى جميعهم. ومثل هنا بحادي عشر، لأنه أول أعداد هذا العقد، وأيضا فقال ابنه: لم يمثل بثاني عشر، ليتضمن التمثيل فائدة التنبيه على ما التزموه حين صاغوا (أحدا) و (إحدى) على (فاعل) و (فاعلة) من القلب، وجعل الفاء بعد اللام، فقالوا: حادي عشر، وحادية عشر، والأصل: واحد وواحدة. ثم ذكر الموضع الثالث من مواضع اسم الفاعل المشتق من اسم العدد، فقال: (وقبل عشرين اذكرا وبابه الفاعل) إلى آخره.

يعني أن فوق العشرين حكمه أن يؤتى فيه باسم الفاعل مشتقا من (النيف) معطوفا عليه العشرون بالواو العاطفة. وقد تضمن قوله: (من لفظ العدد) البناء من (واحد) وما بعده، فتقول: الحادي والعشرون، والحادي والثلاثون، إلى آخره، ولا يستعمل (الحادي) إلا مع (عشرة) و (عشرة) وأخواتهما، تقول: الثاني والعشرون، والثالث والعشرون، إلى التاسع والعشرين. وقوله: (وبابه) يعني به الثلاثين، والأربعين، والخمسين إلى التسعين فتقول: الحادي والثلاثون، والثاني والأربعون، ونحو ذلك. وقوله: "بحالتيه" يعني حالتي التذكير والتأنيث، فالتذكير كما مثل، والتأنيث نحو: الحادية والثلاثون، والثانية والعشرون، والخامسة والخمسون، / ونحو ذلك، واسم الفاعل هنا بمعنى (بعض) لا بمعنى (جاعل) لأنك إذا قلت: الحادي والثلاثون، استوى مع قولك: الواحد والثلاثون. وأيضا فلا فعل له يشتق من مصدره، فلا يكون بمعنى (جاعل) ولم ينبه الناظم على هذا اتكالا على إدراك القارئ له. وقوله: (قبل واو يعتمد) يعني أنه لا بد من العطف، إذ لا يقال: حادي عشرين، كمما يقال: خامس خمسة. فإن قلت: ما مراده بقوله: "يعتمد" فالظاهر أنه فضل غير محتاج إليه، إذ كان قوله: "قبل واو" يجزى عنه، وليست عادته؟ فالجواب: أنه محتاج إليه، والذي قصد به أن الواو هي المعتمد في هذا الموضع من حروف العطف، كما كانت هي المعتمدة في: واحد

وعشرين، وثلاثة وثلاثين، فكما لا يجوز أن يقال: أحد ثم عشرون، ولا أحد فعشرون، إذ بل يصح الترتيب فيه عقلا، لأن الجميع اسم لهذه العده، فكذلك لا تقول: الحادي ثم العشرون، لنفس ذلك المعنى. وأيضا فلفائدة أخرى، وذلك أنه قدم في المركب أنك تقول: ثالث ثلاثة عشر، و (ثلاثة عشر) هنا نظير ما بعد العاطف في الثالث والعشرين، وتقول ثالث عشر ثلاثة عشر، فتأتي بعجز المركب الأول، ونظيره في القياس في العشرين أن تقول: هذا ثالث عشرين ثلاثة وعشرين، فيحصل الإتيان بعشرين غير معطوف أصلا، وكما هو الحكم في خامس خمسة، وثالث ثلاثة، فلما كان ذلك احتاج إلى التنبيه على تأكيد الواو في الموضع، وأنها لا بد منها، وعلى ذلك كلام العرب، وما يعطيه القياس مطرح فيه والله أعلم.

كم، وكأين، وكذا

} كم، وكأين، وكذا} ميز في الاستفهام كم بمثل ما ... ميزت عشرين ككم شخصا سما. وأجزان تجره من مضمرا ... إن وليت كم حرف جر مظهرا. هذا الباب يذكر فيه ألفاظا جرت مجرى أسماء العدد في طلب التمييز، لأنها تؤدي معنى العدد. فإذا قلت: كم رجلا رأيت؟ فمعناه: إذا قلت: كم رجال رأيت. أعشرين أم ثلاثين أم كذا؟ وكذلك إذا كانت خبرية إذا قلت: كم رجل رأيت. أي عددا كثيرا منهم رأيت، فالأولى سؤال عن عدد، والثانية تكثير للعدد/ على جهة الافتخار أو غيره. وهي في أدائها له على الوجهين مبهمة، فأتى بحكم التمييز معها، ولم يذكر فيه غير ذلك من أحكامها، لأنها في سائر الأحكام كغيرها من الأسماء، فتقع فاعلة، ومفعولة، ومبتدأة، ونحو ذلك من المواقع. وأيضا فثبت التصدير ل (كم) من حيث أدت معنى حرف الاستفهام، وهو مذكور في غير هذا الموضع. و(كأين) مثلها في ذلك لأنها بمعناها في التكثير. والذي يخرج من حكم التصدير (كذا) فإنك تقول: رأيت كذا وكذا رجلا، وكذا وكذا رجلا رأيت، لكن هذا يدل على أنها ليست مثل (كم) في معناها من كل وجه.

وسيأتي النظر في هذا آخر الباب إن شاء الله. وتكلم الناظم أولا على (كم) وقسمها قسمين: استفهامية وخبرية. وبدأ بالاستفهامية فقال: "ميز في الاستفهام كم" لأنها الأصل، ولذلك تقول طائفة من النحويين: إن الخبرية محمولة في البناء على الاستفهامية، لأن الخبرية خالية من موجب البناء وقد تقدم الكلام في هذا، والنظر في سبب بنائها في كلا قسميها في "المعرب والمبني" حيث قال: "والساكن كم" فأغني ذلك عن إعادته. ويريد أن (كم) الاستفهامية إذا أردت أن تميزها ميزتها بمثل ما تميز به (عشرين) من العدد. وقد تقدم أن مميز (العشرين) ونحوه واحد منصوب، فكذلك تفعل هنا، فتأتي بواحد منصوب، فتقول: كم درهما أعطيت؟ وكم ثوبا ملكت؟ ومنه مثاله: كم شخصا سما؟ والشخص: سواد الإنسان وغيره، وهو مذكر يقع على المذكر والمؤنث. وسما: أي علا وارتفع، أي كم شخصا ارتفع؟ وفي تقييده تمييز (كم) هنا بكونه كتمييز (عشرين في الإفراد يعطي معنيين: أحدهما: أنه ارتضى مذهب البصريين في لزوم إفراد التمييز في الاستفهامية، فلا يجوز أن تقول: كم أثوابا ملكت؟ ولا كم دراهم أعطيت؟ لأن (كم) أجريت في التمييز مجرى عدد لا يكون مميزه إلا واحدا، فلا ينبغي أن يخالف به ذلك الباب. قال سيبويه: لم يجز يونس والخليل: كم غلمانا لك؟ لأنك لا تقول: عشرون ثيابا لك، إلا على وجه (لك مائة بيضا) و (عليك راقود خلا).

يعني أنه لا يأتي/ مجموعا إلا أن يكون منصوبا على الحال، ويكون إذ ذاك التمييز محذوفا، كأنك قلت: كم صبيا لك غلمانا، أي حالة كونهم علمانا. وعلى هذا التقدير فلا بد أن تقول: كم لك غلمانا؟ ولا يصح تقديم (الغلمان) على المجرور، لأنه عامل غير متصرف، فلا يعمل في الحال متقدمة عليه، إذ لا تقول: عبد الله قائما فيها. وأما إذا أفردت (الغلمان) فالتقديم والتأخير بين المجرور والتمييز، وهو (الغلام) جائز، لأن العامل (كم) من حيث جرى مجرى الاسم التام بالتنوين أو بالنون، نحو: رطل زيتا، وعشرين درهما. والمعنى الثاني: أن المنصوب بعدها لا يكون ذلك مجرورا، كما لا يكون ذلك في تمييز العشرين، فكما لا تقول: عشر ودرهم، وثلاثو ثوب، كذلك لا تقول: كم رجل عندك. وأنت تستفهم. لكن لما كان ميز كم) قد اختص بموضع يجوز فيه جر التمييز دون "باب عشرين" أخذ يذكر ذلك، فقال: "وأجزان تجره من مضمرا" إلى آخره. يعني أن المميز يجوز أن يجر وإن كان مميزا للاستفهامية، ولكن لا يجوز ذلك إلا بشرط أن تكون (كم) مجرورة بحرف جر مظهر، فإذا كانت كذلك جازجر التمييز، فتقول: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ وعلى كم جذع بيتك مبني؟ فلو كانت (كم) عير مجرورة بحرف لم يجز أن يكون

ما بعدها من المميز مخفوضا، نحو: كم درهما أعطيت؟ وكم غلاما ملكت. ومذلك ما أشبه ذلك. وهذا الفصل المجمل قد اشتمل على مسائل: إحداها قوله: "وأجزان تجره من" فجعل الجر إذا حصل الشرط جائزا لا واجبا، وهذا صحيح، فإن لك أن تقول: بكم درهما اشتريت ثوبك؟ وعلى كم ابنا تتفق؟ . قال سيبويه عن الخليل: القياس النصب، وهو قول عامة الناس. فأثبت أنه قول عامة العرب، وأنه القياس، وذلك لأن العرب عاملت (كم) الاستفهامية معاملة اسم منون، كما عوملت (خمسة عشر) تلك المعاملة، وكلاهما مبني لا تنوين فيه. وقد تقدم التنبيه على هذا، فإذا كان كذلك كان الأولى والقياس ألا يختلف الحكم مع الجر وغيره. والثانية قوله: (وأجز إن تجره من مضمرا) فجعل الجر على إضمار (من) بغير ذلك. وهذا مذهب جمهور البصريين. / قال ابن خروف: هو مذهب الخليل وسيبويه والجماعة، فقولك: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ على تقدير: بكم من درهم اشتريت ثوبك؟ وهذا في القياس ضعيف، من حيث كان حرف الجر لا يجوز حذفه إلا في النادر والشاذ، ولكن ألجأهم إلى تقديره ما تقدم من العرب عاملت (كم) هنا معاملة المنون، فصارت من تلك الجهة لا سبيل إلى خفض مميزها، كما لا سبيل إليه في (عشرين) مع بقاء النون، فاضطروا إلى تقدير الحرف.

قال سيبويه: فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى (من) ولكنهم حذفوها تخفيفا على اللسان، وصارت (علي) عوضا منها. قال: ومثل ذلك: الله لا أفعل. فإذا قلت: لاها الله لا أفعل، لم يكن إلا لجر، وذلك أنه يريد: لا والله. ولكنه صار (ها) عوضا من اللفظ بالحرف الذي يجر، وعاقبه. ومثل ذلك: الله لتفعلن؟ إذا استفهمت، أضمروا الحرف الذي يجر وحذوها تخفيفا على اللسان، وصارت ألف الاستفهام بدلا منه في اللفظ معاقبا .. ولهذا نظائر أخر، مثل ما ذكره سيبويه في حذف الحرف الجار والتعويض. وقد حكى النحاس عن الزجاج أنه كان يخفض المميز هنا بكم، ولا يحذف شيئا. وذكر ابن با بشاذ وحده أن مذهب إضمار الجار ليس مذهب المخففين. وقوله فاسد، ومذهب الجمهور المحققين، كما تقدم، إضمار الحرف. قال ابن خروف: ولا يمكن الخفض بها، لأنها بمنزلة عدد ينصب ما بعده قولا واحدا، فيجب لما حمل عليه، ونزل منزلته، أن يكون كذلك. قال المؤلف: فلو خفضا ما بعدها مرة ونصبته مرة لزم تفضيل الفرع على الأصل، وأيضا لو كانت صالحة للجر بها إذا دخل عليها حرف جر لصلحت للجر بها إذا عريت من الحروف الجارة، إذ لا شيء من الميزات الصالحة لنصب مميزها ولجره بإضافتها إليه يشترط في إضافته أن يكون هو مجرورا، فإذن الحق ما ذهب إليه الجمهور. المسألة الثالثة قوله: "ووليت كم حرف جر" فقيد الجر بكونه بحرف،

فاقتضى ذلك أن الجر إن كان باسم، وهو الجر بالإضافة، لم يكن الحكم ذلك، بل الواجب النصب، فتقول: غلام كم رجلا ملكت؟ ودراكم رجلا/ دخلت؟ وما أشبه ذلك، ولا تقول: غلام كم رجل ملكت؟ كما لا تقول: كم علام ملكت؟ وإن كان الجميع على تقدير (من) لأن التمييز على هذا المعنى استقر في هذه الأوجه كلها، فإنما يقال حيث سمع، لأنه على خلاف القياس والمطرد. ولم ينبه الناظم على أن النصب هنا هو الأكثر، كما تقدم عن الخليل، لأنه قد لا يعتبر مثل هذا، بل يطلق الجواز، وإن كان أحد الوجهين أرجح من لآخر، كما مر في مواضع. والمسألة الرابعة لاحقة بقوله: "ككم شخصا سما" وهو أن هذا المثال ليس بقيد في كون التمييز متصلا ب (كم) في هذا الباب، بل إنما أتى ذلك فيه بحكم الاتفاق، إذ كان يجوز لك أن تقول: كم سما شخصا؟ كم عندك غلاما. وكم لك ثوبا؟ وما أشبه ذلك. ومنه قولهم: كم ترى الحرورية رجلا، إلا أن الاتصال ب (كم) أقوى من الانفصال، وإن كان الانفصال عربيا جيدا. قال سيبويه: وزعم الخليل أن: كم درهما لك؟ أقوى من: كم لك درهما؟ وإن كانت عربية جيده. ثم علل ذلك- وإن كانت (كم) بمنزلة (عشرين) وعشرون لا يجوز فيها الفصل إلا في الشعر- بأن (كم) صار ذلك فيها عوضا من التمكن الذي فاتها دون عشرين، لأن (كم) لا تقع إلا مبتدأة في الكلام، ولا يجوز تأخيرها فاعلة ولا مفعولة، فلا تقول: رأيت كم

رجلا؟ وتقول: كم رجل أتاني، ولا تقول: أتاني كم رجل، بخلاف (عشرين) فإم الفصل معها قبيح، لا تقول: أتاك ثلاثون اليوم درهما، لأن العدد هنا لا يقوى قوة اسم الفاعل في جواز الفصل، ثم أنشد من الشاذ قول الشاعر، أنشده سيبويه: على أنني بعد ما قد مضى ... ثلاثون للهجر حولا كميلا. يذكرنيك حنين العجول ... ونوح الحمامة تدعو هديلا. ولأجل ما اعتبر من هذا التصرف المذكور جاز جرها إذا دخل عليها حرف الجر، فخالفت بذلك باب (عشرين) إذ لا يجوز الجر في (عشرين) لما تقدم من ضعفه عن اسم الفاعل. ووجه المؤلف جواز الفصل بأن العدد المميز بمنصوب مستطال بالتركيب إن كان مركبا، وبالعلامتين في الآخر إن كان (العشرين) أو إحدى أخواتها، فوضع التمييز من العدد بعيد وإن كان بلا فصل، فلو فصل/ بشيء لاواداد هذا، فمنع الفصل إلا في الضرورة، و (كم) بخلاف

ذلك، فلم يلزم اتصال مميزها. فإن قلت: كلام الناظم يعطي بسياقه أنه لا بد من ولاية التمييز ل (كم) لأنه لما جعله في التمييز مثل (عشرين) وكان التمييز مع (عشرين) تلزم ولايته له كما تقدم آنفا، فكذلك يكون الحكم مع (كم) ويرشح هذا المعنى التمثيل بما اتصل فيه التمييز، وهو قوله: فإن جاز ذلك في (عشرين) جاز في (كم) لا محالة بنص كلامه، وأما في حالة الإفراد فيعطى قطعا عدم جواز الجر بمن، وهو جائز. والثاني: أن جر] تمييز [(كم) بعد الاستفهامية شرط فيه شرطا واحدا، وهو جر (كم) بالحرف، واقتصر عليه. وقد ذكر الناس لذلك شرطا ثانيا، وهو أن يكون التمييز متصلا ب (كم) نحو: بكم درهم اشتريت ثوبك؟ فلو كان مفصولا بينهما/ فليس إلا النصب، نحو: بكم اشتريته درهما؟ ولا يجوز: بكم اشتريته درهم؟ وعلل الشلوبين هذا الشرط بأنهم لما جعلوا الحرف الخافض ل (كم) كالعوض من الخالف المحذوف، لم يفهم مقامه إلا إذا كان المخفوض متصلا به، أو في حكم المتصل فالمتصل نحو: الله لتفعلن، والذي في حكمه: على كم جذع بيتك مبني؟ لأن "جذعا" وإن لم يتصل ب "على" في اللفظ، فهو في حكم المتصل، لأن (كم) متصل بها، والتمييز متصل ب (كم) فكأن (على) متصلة بالتمييز، فإذا فصل بينهما نحو: بكم اشتريت ثوبك درهما؟ - لم يجز الخفض، لأن التفسير لم يتصل، فالمجوز

للخفض مفقود، فامتنع فلزم النصب، فكلام الناظم يقتضي جواز: بكم اشتريت ثوبك درهم؟ فذلك لا يجوز كما ذكر. والثالث: أن قوله (إن وليت كم حرف جر مظهرا) أتى فيه بلفظ "مظهر" وظاهره حشو، لان قوله: "إن وليت كم" يعطي أنه مظهر، وأيضا فهو. (كم شخصا سما" وإذا كان كذلك لم يعط كلامه ما فسر به أولا، بل ضده، لكن ضده غير صحيح لما تقدم ذكره عن أهل العربية، فصار كلامه هنا مشكلا. فالجواب: أن كلامه هنا لا يعطي المساواة بين (عشرين) و (كم) فيما ذكرت، لانه إنما قال: ميزه بما ميزت به عشرين، فهو إنما عرف بالتمييز نفسه، وأنه ميز بمميز (عشرين) ولم يتعرض لغير لذلك، من التعريف بكونه متصلا أو منفصلا، لأن هذا تعريف بأمر خارج عن حقيقة التمييز في نفسه، ومراده التعريف بحقيقته، فصح التفسير المتقدم، وزال الإبهام المورد. إلا أنن في كلامه نظرا في أمر آخر، وذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يقتضي أن تمييز (كم) لا يجوز جره بمن، لأن قوله: "ميز في الاستفهام كم بمثل ما ميزت عشرين" ظاهر في لزوم النصب، من حيث كان مميز (عشرين) لازم النصب أيضا، إذ لا يجوز لك أن تقول: في (عشرين درهما): عشرون من درهم، فكذلك يكون مميز (كم) لأنه محال عليه في الحكم، كما أحال عليه في الإفراد، ولزوم لإفراد، ومنع الجر بالإضافة، فيقتضي أن لا يقال: ] كم من درهم عندك؟ لا يقال [: إن مميز (عشرين) يجوز جره بمن على وجه، وهو أن يؤتى به جمعا، نح: عشرين من الدراهم، وإذا ثبت جره

بمن على الجملة جاز مثل ذلك في (كم) أن يقال في (كم): كم من الدراهم عندك: الأصل، فمم تحرز به؟ والجواب عن الأول: أن كلامه غنما هو فيما يحتاج إليه (كم) من التمييز، وهل يجوز فيه الجر على الإضافة، وكيف يكن من إفراد أو جمع. على هذا دل كلامه في هذا الباب. وأما النصب وحكمه من كونه لازما، أغير لازم، بل يجز جره، أكونه نكرة أغير ذلك- فباب ذكر ذلك باب "التمييز" لذلك لم يفسر كلامه ألا إلا بما زاد على باب "التمييز" المطلق، إذ لم يذكر حكم كنه منكرا، ولا ممنوع التقديم، ولا غير ذلك من أحكامه، وإنما ذكر هنا ما يختص بباب (كم) كما ذكر في "باب العدد" من أحكام التمييز ما يختص به، وهو قد قال في "باب التمييز": واجرر بمن إن شئت غير ذي العدد ... والفاعل المعني كطب نفسا تفد. ولا شك أن التمييز في باب (كم) ليس بذي العدد، لأن ذا العدد هو ما كان بعد عشرين وثلاثين وخمسة عشر ونحو ذلك، هذا وإن كان هنا محمولا عليه معنى فليس إياه حقيقة، ولا هو أيضا فاعل معنى، فثبت جواز جره بمن ظاهرة، وأنه لا يلزم ذلك في هذا الباب، لأنه لو ذكر، تكرار لا يحتاج إليه. وهذا واضح وأما النظر الثاني: فلم يحضرني الآن جوابه. والظاهر أنه لازم له، إلا أن يقال: إنما تكلم على الأمر الشائع في تمييز (كم) وهو كونه متصلا/ بها، وهو الذي مثل به، ويكون ما عداه من الفصول مسكونا عن حكمه، وأنه إنما اقتصر على الشرط الواحد بناء على هذا المقصد، وهذا ضعيف كما ترى، فلو قال مثلا:

تقدير من معه أجز إن يل كم ... ووليت كم حرف جر ملتزم. أو ما يعطى هذا المعنى لحصل القصد مكملا، ولم نقيه من مقصد بيته إلا أن الجر مصاحب لتقدير (من) وذلك معلوم، كما علم أن (كم) مجرورة بقوله: (إن وليت كم حرف جر مظهرا). والجواب عن الثالث: أن "مظهرا" أتى به على جهة الاحتياط، وحيث قدم إضمار حرف جر، وهو (من) فخاف أن يتوهم استصحاب الإضمار، فذكر قيد الإظهار لذلك، والله أعلم. ولما أتم الكلام على أحد قسمي (كم) ذكر القسم الآخر فقال: واستعملنها مخبرا كعشره ... إو مائة ككم رجال أو مركب. وهو قسم الخبرية، يعني أن ل (كم) استعمالا آخر على أنها خبرية، فإذا جئت بها في الكلام فأنت مخبر بها أو عنها، وقد تجردت من معنى الاستفهام، وهو أصلها، فإذا قلت: كم رجل قصدني، وكم عبد لي- فالمقصود الإخبار بكثرة من جاءني من الرجال قاصدا لي، وكثرة من العبيد، فكأن الكلام في تقدير: كثير من الرجال قصدني، وكثير من العبيد لي، فهذا معنى الإخبار فيها، وفيها معنى الافتخار، ولذلك شبهها سيبويه ب (رب) وجعل معناها كمعناها، إلا أنهما عنده للتكثير. وقصده تقرير حكم التمييز معها إذا كانت خبرية، ولذلك قال: (واستعملنها مخبرا كعشرة) أي كعشرة إذا ميزت، أو كمائة كذلك، ولذلك قيده

بالمثال، وهو قوله: (ككم رجال أو مرة) ويستفاد على هذا من كلام الناظم فوائد: إحداها: أن لها في التمييز وجهين، أحدهما أن يكون جمعا ومفردا، فإنه جعله كعشرة أو مائة، والمتقرر في (عشرة) التمييز بجمع، نحو: عشرة أثواب، وعشرة غلمان، ونحو ذلك، والمتقرر في (مائة) التمييز بواحد، نحو: مائة رجل، ومائة غلام، فكذلك تقول هنا في (كم) إذا أخبرت: كم رجال أعطيت، وكم غلمان ملكت. والفائدة الثانية: خفض ذلك التمييز في كلا حالتيه كما تقدم تمثيل، فكما يلزم الخفض في مفسر (عشرة) و (مائة) فكذلك فيما حمل عليه. ووجه ذلك حملها على ما مفسره من / العدد مخفوض، وهو (عشرة) و (مائة) وبهذا أشعر تشبيه الناظم، وهي الفائدة الثالثة، وذلك لأن الخفض فيها أولا للفرق بينها وبين الاستفهامية، فحصل التفريق في التفسير. ولما كانت (كم) تعطي معنى العدد، وكان العدد في التفسير على وجهين، صرفوا وجهي (كم) في التفسير إلى وجهي تفسير العدد، لكن خصوا الخبرية بالخفض، والاستفهامية بالنصب، لأن (كم) الخبرية تستعمل في المباهاة والافتخار، كما تستعمل (رب) في ذلك فحملت عليها. وأيضا فإن (كم) للتكثير، و (رب) للتقليل، فحملوها على ضدها، إذ كان من كلامهم حمل الشيء على ضده. ألا ترى أن النحويين استدلوا على أن (طال) فعل، بضم العين، لما كان ضده، وهو (قصر) على ذلك البناء، ومن ذلك أشياء كثيرة. وأيضا فلما كانت للتكثير أشبهت من العدد ما هو كثير، وهو

(مائة) ونحوها، فحملت عليها، إذ كانت تفسر بالمفرد والجمع، نحو: مائة رجل، وثلاثمائة سنين، أو يقال: كان حق (مائة) أن تفسر بجمع كما قرر النحاة، لكن عدل إلى المفرد، فظهر في (كم) الوجهان، ولما استحقت الخبرية الخفض تعين النصب للاستفهامية. وأيضا فلما كانت (كم) سؤالا عن العدد قليله وكثيره أعطيت ما للمتوسط منه، لأن الوسط عدل بين الطرفين. والفائدة الرابعة: أن الخفض في مميز (كم) بالإضافة لا ب (من) مقدرة تقديرها مع الاستفهامية، وذلك أنه قرر أن حكم (كم) هنا حكم (عشرة) و (مائة) والتمييز معهما مخفوض بالإضافة اتفاقا، فكذلك يكون الحكم في (كم) على هذا التقدير. وأيضا فلو كان عنده بمن مقدرة لبين ذلك، كما بينه في الاستفهامية، لأنه من الأحكام التي تفتقر إلى البيان، فلما لم يفعل ذلك دل على أن الخفض بما ظهر، وهو الإضافة. قال سيبويه: واعلم أن (كم) في الخبر بمنزلة اسم يتصرف في الكلام غير منون يجر ما بعده إذا أسقط التنوين، فجعلها سيبويه بمنزلة اسم غير منون، نحو: ثلاثة: أثواب، فالجر، ولا بد، بالإضافة. وذهب الفراء إلى أن الجر بعدها بإضمار (من) كما قال أهل البصرة في الاستفهامية إذا انجر ما بعدها لم يرتضه الناظم، وإنما ارتضى مذهب

الجماعة، لأنه لو كان/ الجر ب (من) مقدرة لكان جوازه مع الفصل مساويا لجوازه بلا فصل، لأن معنى (من) مراد، واستعمالها شائع مع الاتصال والانفصال، فلو كان عملها بعد الحذف جائز البقاء مع الاتصال لكان جائز البقاء مع الانفصال نثرا ونظما. وكما كان الأمر بخلاف ذلك دل على أن الخفض بما ظهر لا بمقدر. وقوله: (ككم رجال أو مره) أصل "مرة" مرأة، لكن سهل الهمزة بحذفها والقاء حركتها على الساكن قبلها، وهو القياس في مثلها. وقد حكى: المراة، والكمأة في: المرأة، والكمأة، وعلى هذا التسهيل وقع الحم في الهجاء، بكتبه بألف بعد الراء، على خلاف كتب: المرء، والخبئ. وبقي في هذا الحكم الذي قرره الناظم نظر من أوجه: أحدها: أن كلامه يقتضي أن حكم التمييز مع (كم) كحكمه مع (عشرة) في جميع أحواله، وقد تقرر في باب "العدد" أن تمييز (عشرة) بجم القلة غالبا لا بجمع الكثرة، فإحالته عليه هنا تقرر أن الغالب هنا كذلك، فلا يقال: كم جمال ملكت، إلا قليلا مسموعا. وإنما الشائع: كم أجمال ملكت، لأنك تقول: عشرة أجمال، ولا تقول عشرة جمال، إلا مسموعا، كقولهم: ثلاثة كلاب، وهو مفهوم غير مستقيم، لأن (كم) تقتضي الإضافة إلى جمع الكثرة، من حيث كانت للتكثير. والثاني: إن أحالته في الحكم على (مائة) يعطي أن التمييز يجوز وقوعه نكرة، ومعرفا بالألف واللام، لأن الحكم في تمييز (مائة) كذلك، فتقول: مائة درهم، ومائة الدرهم،

إما وقوعه مع (كم) نكرة فصحيح، وأما وقوعه معرفة فغير صحيح، إذ لا يصح أن يقال: كم الغلام عندك، أصلا، وهذا أيضا لازم في الجمع، لأنك تقول: ثلاثة الأثواب، ولا تقول: كم الأثواب عندك. الثالث: أن تمثيله إما أن يؤخذ على صفته كما أتى به، فيعطى أن مميز الخبرية لا يجوز الفصل بينه وبين (كم) فلا يجوز إلا أن تقول: كم رجل جائني، وهو غير صحيح، لأن الفصل جائز، لكنه لا بد معه من النصب، فتقول: كم عندك غلاما، ولم ملكت عبدا، وأنشد سيبويه لزهير: تؤم سنانا وكم دونه ... من الأرض محدوبا غارها. وأنشد أيضا للقطامي: : كم نالني منهم فضلا على عدم ... إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل. قال سيبويه: قال: /يعني الخليل: إذا فصلت بين (كم) وبين الاسم بشيء واستغنى عليه السكوت أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين

يجعلونها بمنزلة اسم منون، لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور، لأن المجرور داخل في الجار، فصارا كأنهما كلمة واحدة، والاسم المنون يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه، تقول هذا ضارب بك زيدا، ولا تقول: هذا ضارب بك زيد، ثم أنشد البيتين. وإما أن يؤخذ كلامه على جواز الفصل فيقتضي أن الجر ثابت معه قياسا، ولا يجوز الجر مع الفصل إلا شاذا، نحو ما أنشده في الكتاب من قول الشاعر: كم فيهم ملك أغر وسوقة ... حكم بأردية المكارم محتبى. وأنشد أيضا: كم في بني سعد بن بكر سيد .... ضخم الدسيعة ماجد نفاع.

وأنشد أيضاً: كم بجود مقرف نال العلا ... وكريم بخلة قد وضعه. وهذا شاذ محفوظ غير منقاس، ويبعد أن يلتزم مذهب الفراء والكوفيين الذين يضمرون (من) فيجيزون الجر مع الفصل، لأنه مذهب مخالف للقياس والسماع، وقد خالفه في "التسهيل" و"شرحه" وظاهر كلامه هنا، وإذا كان كذلك لم يستقم كلامه على كل تقدير. والرابع: أنه لم يعرج على جواز النصب مع الخبرية، فأعطى أنه ممتنع، كما امتنع في (عشرة) و (مائة) إذ لا يجوز النصب فيهما إلا نادرا، نحو: ثلاثة أثوابا، وقوله: *إذا عاش الفتى مائتين عاما* وهذا غير ما نقله الناس، بل النصب معها جائز حملا على الاستفهامية، لأنها أصلها، فأما مع الفصل فالنصب ظاهر، وقد تقدم، وأنه لازم لا جائز. وأما مع عدم الفصل فقال سيبويه: واعلم أن ناسا من العرب يعملونها فيما بعدها

في الخبر، كما يعملونها في الاستفهام، فينصبون بها كأنها اسم منون. قال: ويجوز لها أن تعمل في هذا الموضع في جميع ما عملت فيه (رب) إلا أنها تنصب لأنها منونة ثم أنشد أبياتا. ثم قال: وبعض العرب ينشد قول الفرزدق: كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت على عشارى فهم كثير، ومنهم الفرزدق. هذا كلام الإمام، ونقل المؤلف في "شرح التسهيل" عن بعضهم أن النصب بعدها لغة تميم. والخامس: أنه لم يبين جواز دخول/ (من) على التمييز، فيقال: كم من غلام ملكت، وهو استعمال شائع في الكلام، ومنه قوله تعالى:

} وكم من ملك في السماوات} الآية. وقال: } وكم أرسلنا من نبي في الأولين}. والجواب عن الأول: أن المقصود إنما هو الإضافة إى المجموع خاصة، وإجازة ذلك رفعًا لتوهم من يتوهم المنع من التمييز بالجمع، كما امتنع في (كم) الاستفهامية، وإنما عين (عشرة) لأن التمييز بالجمع مستعمل فيها هكذا على الجملة. وبقى كونه جمع قلة أو جمع كثرة لم يتكلم عليه، وقد يشير إليه تمثيله برجال، لأنه جمع كثرة، وإذا اعتبرت المعنى في البابين وجدت باب (كم) للتكثير، فلا يضاف إلا إلى جمع الكثرة، إلا أن يعدم أو يأتي على خلاف القياس، وباب (عشرة) للتقليل، فلا يضاف إلا إلى جمع قلة، إلا أن يعدم أو يأتي على خلاف القياس. وباب "العدد" مما يضاف فيه الشيء إلى جنسه، كقولك: ثوب خز، فالثوب خز، وتقول: ثلاثة أكلب، فالثلاثة أكلب، ولا يحسن أن يقال: ثلاثة كلاب، لأن الثلاثة لا يحسن أن يطلق عليها (كلاب) لاختصاص (الفعال) بالكثرة، وكون الثلاثة قليلًة، فكذلك يكون الأمر في الجمع مع (كم) لا يحسن أن يقال: كم أكلب عندك، وإنما الوجه: كم كلاب، لأن مدلول (كم) كثير، فينبغي أن يضاف إلى الجمع الكثير. ومن هنا قال بعضهم: إنما جمع التمييز مع (كم) حملاً على ما كان الأصل في (مائة) و (ألف) لا حملاً على (عشرة) وبابه، لبنائهما في القلة

والكثرة. والجواب عن الثاني: أن كون التمييز نكرة هو الأصل مطلقًا، ولذلك يلزمه التنكير، ومع ذلك فإنما تعرف كما مر في بابه، فتمثيله برجال ومرة يقيد ما أراده من التنكير، ومع ذلك فإنما تعرف مع (المائة) لما احتيج إلى تعريف المضاف وهو (المائة) إذ لا يمكن تعريفها بالألف واللام، من أجل أنه لا يجمع بين الألف واللام والإضافة. وأما (كم) فإنها شبيهة بـ (رب) في أداء معنى الافتخار، وهي أشبه بـ (رب) منها بـ (مائة) من جهة المعنى و (رب) لا تخفض إلا النكرات، فكذلك ما كان في معناها، فلم يصلح في (كم) التعريف، لعدم قبول معناها للتعريف، وإذا كان كذلك لم يحتج إلى التحرز منه، لكونه أمرًا لاحقًا بعد / حصول التمييز، وهو نكرة. والجواب عن الثالث: أنه حكم بالخفض حكمًا مطلقًا، ولاشك أن الخفض بالإضافة. وقد تقدم في باب "الإضافة" منع الفصل بين المضاف والمضاف إليه إلا في الشعر، أو في مواضع ليس هذا منها، وإذا كان الفصل ممتنعًا مع الخفض بقي النظر: هل يجوز مع الرجوع إلى النصب، فتقول: كم لك غلامًا، أو لا يجوز رأسًا؟ وظاهر ما في نظمه عدم جواز الفصل مع الخفض، وهو صحيح وسكت عن جواز النصب، وكأنه إنما تكلم على ما أعطاه مثاله. والجواب عن الرابع، وهو جواز النصب مع عدم الفصل، أنه نص في "التسهيل" أنه نادر، وأن الوجه الخفض. وإذا كان عنده قليلاً

فلا ضير في ترك ذكره. والجواب عن الخامس، ظاهر مما علم من أن التمييز جائز ظهور (من) معه إلا مع الفاعل المعنى، وباب "العدد" وهذا من قسم ما يجوز ذلك فيه، فلم يحتج إلى ذكره. ككم كأين وكذا وينتصب ... تمييز ذين وبه صل من تصب هذان اللفظان، وهما (كأين) و (كذا) مما يلحقان بباب (كم) لأنهما عبارة عن العدد، وكناية عنه. ويعني أنهما مثل (كم) في المعنى، وفي طلب التمييز، لأن معنى (كأين) كمعنى (كم) الخبرية، فقولك: وكأين من غلام ملكت. فهو كقولك: كم من غلام ملكت. وكذلك (كذا) في أحد معنييها، تقول: لي عنده كذا درهمًا، أو كذا وكذا درهمًا، أي دراهمك متعددة. ومعناها الآخر أنها كناية عن الشيء تقول: فعلت كذا، ولم أفعل كذا، فهل النظر من جهة المعنى. وأما كونهما مثل (كم) في طلب التمييز فلأن قولك: (كأين أعطيتك) مبهم محتاج إلى تفسير المعطى ما هو، كما كان قولك: (كم أعطيت) محتاجًا إلى التفسير. وكذلك (له عندي كذا) و (لي عنده) مبهم لا يفهم معناه حتى يفسر. فهذا معنى قوله: "ككم كأين وكذا" ولا يريد أنهما مثل (كم) في جميع الأحكام، لأن من أحكام (كم) في جميع الأحكام، لأن من أحكام (كم) أن لها صدر الكلام، وذلك مفقود في (كذا) وإن وافقتها (كأين) في ذلك.

ثم بين حكم التمييز مع هذين، وأنه منصوب لا مجرور، فقال: "وينتصب تمييز ذين". يعني أن تمييز (كأين) و (كذا) مخالف لتمييز (كم) فينتصب هنا، بخلاف الخبرية، فتقول: كأين رجلاً قد رأيت، وكأين / قد أتاني رجلاً، وهما من أمثلة سيبويه، وتقول: أعطيته كذا درهمًا، وأعطاني كذا ثوبًا، وأنشد المؤلف في النصب بعد (كأين). اطرد اليأس بالرجا فكأين ... أملاً حم يسره بعد عسر و(كائن) مثل (كاعن) لغة فيها ثانية من الخمس. والثالثة (كأين) بوزن (كعين) والرابعة: بتقديم الياء على الهمزة، بوزن (كيعن). والخامسة: (كئن) مثل (كعن). ويقتضي هذا الكلام أنه يمنع الخفض بالإضافة كمفسر الخبرية، فلا يقال: كأين رجل جاءني، ولا جاءني كذا رجل. قال في "شرح التسهيل": وكان حقهما أن يضافا إلى مميزهما، كما تضاف (كم) التي تساويهما في المعنى، لكن منع من إضافة (كأين)

أنها لو أضيفت لزم نزع تنوينها، وهي مستحقة للحكاية، لأنها مركبة من كاف التشبيه وأي، فكانت بمنزلة (يزيد) مسمى به لزم الحكاية كالجملة. وأما (كذا) ففيها ما في (كأين) من التركيب الموجب للحكاية، وفيها زيادة مانعة من الإضافة، وذلك أن عجزها اسم لم يكن له قبل التركيب نصيب في الإضافة، فأبقى على ما كان عليه. هذا ما قاله المؤلف، وهو تعليل ما عين هنا من النصب، ونكت به على مذهبين في هذين اللفظين: أحدهما: مذهب ابن خروف في (كأين) حيث أجاز في تمييزها الجر مطلقًا، وأنه يجوز فيه الجر بـ (من) وبغير (من) بفصل، وبغير فصل، فأطلق القول في جواز جره بالإضافة. ووجه بقاء التنوين بأنه صار عند التركيب نونًا، وكتب بالنون، ووقف بالنون. قال: ويمكن أن تكون الكاف دخلت على كلمة على وزن (فيعل) لم تستعمل مفردًة، فركبت مع الكاف فقيل: (كأين) ولم يحك في ذلك سماعًا من العرب، وإنما قال الخليل: إن جرها أحد من العرب فعسى أن يجرها بإضمار (من) كما جاز ذلك فيما ذكرنا في (كم) ولم يحك الخليل سماعًا في الجر، فالظاهر أن الجر بالإضافة لا يجوز على ما علل به المؤلف المنع دل كلام الخليل هنا فتأمله. والثاني من المذهبين: مذهب المبرد في (كذا) لأنه أجاز الجر في تمييزها بالإضافة، مفردًا ومجموعًا، فيقال على مذهبه: أعطيتك كذا دراهم، وكذا درهم، بناءً على جعله (كذا وكذا) / بالعطف بمنزلة عدد

معطوف، و (كذا كذا) بلا عطف بمنزلة عدد مركب و (كذا) بمنزلة عدد مضاف، والعدد المضاف على وجهين: مضاف إلى مفرد، وهو (مائة) و (ألف) ومضاف إلى مجموع، وهو (ثلاثة) وبابه، فنزل حكم (كذا) على ذلك. قالوا: وما قاله المبرد دعوى وقياس في اللغة، ولا سماع من العرب في ذلك، فلا يعتبر، ولا يؤخذ مثل ذلك إلا بالمشافهة من العرب. ثم قال الناظم: "وبه صل من تصب" الضمير عائد على التمييز، يعني أنه يجوز لك أن تصل بالتمييز هنا لفظ (من) فتجره بها، فإنه صحيح وقياس مطرد، بل هو الأغلب في (كأين) ألا تراه إنما جاء في القرآن مجرورًا بها، كقوله تعالى: } وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير}. وقوله: } فكأين من قرية أهلكناها}. وقال الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق ... تراه لو أصبت هو المصابا وأنشد سيبويه لعمرو بن شأس:

وكائن رددنا عنكم من مدجج ... يجئ أمام القوم يردى مقنعا قال سيبويه: إن أكثر العرب إنما يتكلمون بها مع (من). ووجه ذلك المبرد بأنه إذا قال: كأين رجلاً أهلكت، يجوز أن يكون تمييزًا فيكون في معنى (جميع) ويجوز أن يكون مفعولاً بـ (أهلكت) أي كأين مرة أهلكت رجلاً؛ فيكون الرجل واحدًا، فإذا أدخل (من) بين ذلك المراد، وكذلك تقول على ما اقتضاه هذا الكلام: أعطيته كذا من درهم. ثم إذا تقرر هذا فيقال هذا الكلام معترض من أوجه: أحدها: أنه شبه (كأين) و (كذا) بـ (كم) و (كم) على قسمين: خبرية، واستفهامية. أما الاستفهامية فلاحظ لـ (كأين وكذا) فيها، لأنهما عريان عن معناها، إلا ما حكى المؤلف في (كأين) شاذًا مستقري من حديث أبي مع ابن مسعود حيث قال له: كأين تعد سورة الأحزاب؟ فقال عبد الله: ثلاثًا وتسعين. كأنه قال: كم تعد؟ ولم يأت في غير هذا، فلا معول على قياس مثله، ولا ثبوته من غير ذلك. وأما الخبرية: فهي التي حملا عليها، ولذلك قال في "التسهيل": معنى (كأين) و (كذا) كمعنى (كم) الخبرية. وإذا ثبت هذا فإطلاق القول في (كم) يؤخذ له منه أحد أمرين:

إما أنها مثل أحد قسميها غير معين، وإما مثلها في كلا قسميها، فيكون مستعملين في الخبر والاستفهام مثل (كم) وهذا لا / يقوله أحد. والثاني: أنه ذكر نصب التمييز، ولم يبين كونه مفردًا، أو مجموعًا أو يجوز فيه الأمران، والحكم فيه الإفراد لا غير، بخلاف مميز (كم) فإنه قد يكون مفردًا أو مجموعًا، وترك التقييد بالإفراد يوهم جواز كونه مجموعًا، وذلك إخلال. والثالث: أنه أطلق القول في جواز إلحاق (من) للتمييز اللاحق لهما، إذ قال: "وبه صل من تصب" وضمير "به" عائد على تمييز "هذين" والإشارة لـ (كأين) و (كذا) فالتمييز المراد في كلامه تمييزهما معًا. فأما إلحاق (من) لتمييز (كأين) فقد تقدم بيانه. وأما إلحاقه لتمييز (كذا) فغير مستقيم بنص المؤلف نفسه، لأنه ألزمه النصب مطلقًا. قال في "الشرح": وأما (كذا) فلم يجئ مميزها إلا منصوبًا، وأنشد عليه بيتًا لم أقيده. وقال ابن خروف: ولا يكون مفسر (كذا وكذا) إلا منصوبًا، لأنها حملت على (كم) في الاستفهام في النصب. ولم أر نصًا مخالفًا لهذين، فعبارته مختلة. والجواب عن الأول أن يقال: إنما شبه الناظم (كأين) و (كذا) بـ (كم) التي هي أعم من الاستفهامية والخبرية، لأنها، في كلا قسميها،

كناية عن عدد مبهم محتاج إلى التفسير، وكونهما بعد ذلك في الاستعمال مثل (كم) الخبرية أولاً - أمر آخر، محل بيانه اللغة، ويدل على هذا القصد وصحته أن سيبويه فسرهما على هذا المعنى، فإنه لما ذكر (كذا) قال: وهو مبهم في الأشياء بمنزلة (كم) وهو كناية للعدد بمنزلة (فلان). ثم قال: وكذلك: كأين رجلاً قد رأيت زعم ذلك يونس. وإذا كان هذا القصد صحيحًا أن يصار إليه كان حمل الكلام عليه أولى، وليس بمناقض لتفسير من فسرهما بأنهما مثل (كم) الخبرية لأنهما مع صحة التفسير لا يستعملان إلا في الخبر، فلا إبهام ولا إيهام. والجواب عن الثاني: أن قصده الإفراد، ويؤنس به أنهما محمولان على (كم) ولما كان المنصوب في باب (كم) لازم الإفراد كان ما أشبهه وما حمل عليه كذلك، وكذلك في باب "العدد" لا يكون في النصب إلا مفردًا، فلم يتطرق إليه توهم الجمع، وفي هذا الجواب ما ترى. وأما الاعتراض الثالث فوارد عليه، ولا أجد له الآن مخلصًا منه.

الحكاية

} الحكاية} /إحك بأي ما لمنكور سئل ... عنه بها في الوقف أو حين تصل الحكاية في اصطلاح النحويين: أن تنطق بمثل ما نطق به المتكلم، أو ببعضه، أو بما يؤدي إعرابه، إشعارًا تتعلق ما بين الكلامين. فإذا قلت: قال زيد: عمرو منطلق، فأنت قد أتيت بمثل كلامه لتعلم أن ما نطقت به هو عين ما نطق به. وكذلك إذا نطقت ببعضه. والحكاية على ثلاثة أقسام: حكاية الكلام كله، وهذا هو المحكي بالقول، والمحكي في باب "التسمية بالجمل" وما أشبهها، نحو قلت: عمرو منطلق، ونحو: تأبط شرًا، وبرق نحره المسمي به. وهذا القسم لم يتعرض له الناظم في هذا النظم أصلاً، ولا أشعر بحكم من أحكامه إلا بالانجرار، فحيث تكلم على كسر (إن) وفتحها قال هنالك: "أو حكيت بالقول" وحيث تكلم على (العلم) وأقسامه قال: "وجملة وما بمزج ركبا" وفصل "حكاية القول" وفصل "التسمية" مما أهمله، كما أهمل من باب الضمائر "الفصل" وغير ذلك.

والثاني: حكاية بعض الكلام. والثالث: حكاية مثل الإعراب الحاصل في بعض الكلام وهذان الفصلان هما اللذان تكلم عليهما هنا. وابتدأ بالثالث، وهو حكاية مثل الإعراب فقط، وذلك بـ (أي) وبـ (من) إذا قصد بهما حكاية النكرات، فإن قصد بهما حكاية المعارف الذي يذكر في القسم الآتي بعد هذا إن شاء الله. وكان الأصل في حكاية النكرات بـ (أي) أو (من) أن تذكر معهما المحكيات، كما تذكر المعارف، لأنه هو المقصود بالحكاية، لكن إنما يحكى في الاستعمال بالأداتين خاصة، وذلك قوله في (أي): "احك بأي مالمنكور" وكذلك قال في (من) وسبب ذلك أنه إذا قيل لك: جاءني رجل، فأردت أن تعيد لفظ "الرجل" فإما أن تعيده معرفة أو نكرة على ما كان، فإن أعدته نكرة، وهو القياس في الحكاية، لم يستقم، لأن النكرة إذا أعيدت بلفظها لم يفهم منها أن مدلولها هو الأول. (ألا ترى أنك إذا قلت: أكرمت رجلاً وضربت رجلاً، لم يفهم أن الثاني هو الأول) ولهذا أخذ كثير من الناس "إن لكل عسر يسرين" من قوله تعالى: } فإن مع العسر يسرًا. إن مع العسر يسرًا}. لأنه لو أراد اليسر الأول لقال: إن مع العسر اليسر، كما قال تعالى: } كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً. فعصى فرعون الرسول}.

وإن أعدت الرجل المقصود/ حكايته بالألف واللام، وهو القياس، لم تجز حكايته، لأن لم يعد بلفظه، فانصرفوا عن هذا إلى حكاية إعرابه خاصة، وذلك بـ (أي) و (من). وشرع في الحكاية بـ (أي) فقال: (احك بأي مالنكور سئل عنه بها) "ما" واقعة على الإعراب وغيره، من الإفراد والتثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، ونحو ذلك وهي الأحوال الحاصلة في النكرة المحكية، يعني أنك تحكي بلفظ (أي) ما استقر للاسم النكرة إذا أريد السؤال عنه بها، وذلك أن الحكاية إنما تقع بـ (أي) أو (من) إذا سئل عنه بإحدى الأداتين، فتقول لمن قال: (رأيت رجلاً): أيًا، ولمن قال: (جاءني رجل): أي، ولمن قال: (مررت برجل): أي. فسألت عن تعيينه بـ (أي) وقوله: "في الوقف أو حين تصل" يعني يعني أن الحكاية بـ (أي) لا تختص بالوقف، كما تختص به (من) كما سيأتي إن شاء الله، بل يجوز لك إذا وصلت أن تقول في (جاءني رجال): أي يا هذا؟ وفي (مررت برجل): أي يا فتى؟ وفي (رأيت رجلاً): أيًا يا فتى؟ وكذلك إذا وقفت، فتقول في حكاية المنصوب: أيًّا؟ واقفًا على الألف. وفي حكاية المرفوع والمجرور: أي، بالإسكان أو الإشمام أو غيره. هذه حكاية المفرد المذكر. فإن حكيت المفرد المؤنث قلت في الوصل إذا قلت لك: (رأيت امرأة): أية يا فتى؟ أو قيل لك: (هذه امرأة): أية يا فتى، وفي الجر: أية يا هذا. وتقول في الوقف: أيه، بإبدال التاء هاء. وفي التثنية: (أيان)؟ في الرفع و (أيين)؟ وفي الجمع: (أيون؟ )

و (أيين؟ ) في المذكر، و (أيات)؟ في المؤنث. هذا الذي أعطى كلامه، وهي اللغة الشهرى. وفيها لغة ثانية، وهي إبقاء (أي) في المؤنث والجمع على حالها في الإفراد. قال المبرد: ولو أفردت (أيًا) في الاثنين والجمع، وذكرته في المؤنث لجاز. و (أي) إذا حكي بها باقية على أصلها من الإعراب، فلذلك إذا حكيت بها المفرد عاملتها معاملة اسم منون، فلا تلحق آخرها شيئا زائدا، بخلاف (من) فإنك تلحق المدات علامة على الإعراب. وكذلك تثني (أيا) وتجمعها كالجمع الحقيقي، بخلاف (من) فإنها مبنية، فما لحق آخرها من علامة فهو دليل على حالة المحكى، من تثنية وغيرها، لا أنه يثنى أو يجمع حقيقة، إذ من شرط ذلك الإعراب كما تقدم ذكره. وقوله/: "في الوقف أو حين تصل" يعني أن الحكاية بـ (أي) هنا مطلقة في الوصل والوقف، وإنما كان كذلك لأن (أيا) كزيد وعمرو في دخول التنوين، فكان حكمه في الوصل والوقف كحكم زيد، بخلاف (من) فإنها في الوصل مبنية على السكون، فليس لها ما يلحقها، من إعراب، ولا علامة تثنية ولا جمع، لأنها غير مستحقة لذلك، فألحقوها العلامات في الوقف، إذ لم تقو قوة (أي) في الحكم. ثم أخذ الناظم يذكر حكم (من) مع النكرات فقال:

ووقفًا احك ما لمنكور بمن ... والنون حرك مطلقًا واشبعن وقل منان ومنين بعدلي ... إلفان كابنين وسكن تعدل وقل لمن قال أتت بنت منه ... والنون قبل تا المثنى مسكنه والفتح نزر وثل التا والألف ... بمن بإثرذا بنسوة كلف وقل منون ومنين مسكنا ... إن قيل جا قوم لقوم فطنا وإن تصل فلفظ من لا يختلف ... ونادر منون في نظم عرف لما كانت (أي) معربًة، تصلح لوجوه الإعراب، وصفة تصلح عى الجملة للتثنية، والجمع، والتأنيث، لم يحتج الناظم إلى تفصيل ذلك كله، بل قال: احك بها مالمنكور، واكتفى بذلك، علمًا بأنها تقبل تلك الأحكام كسائر المعربات. وأما (من) فإنها مبنية، لا تصلح للحاق إعراب، ولا تثنية، ولا جمع، ولا تأنيث. والحكاية بها لابد فيها من لحاق علامات تؤدي تلك الأحوال اللاحقة للمحكي ضرورة، فاحتاج إلى ذكرها وتفصيلها، إذ لا تنضم إلى عقد، حتى تعد بأشخاصها. ثم إن (من) لها حالان: حال وصل، وحال وقف، لأنها الحال التي تكون فيها الحكاية، فقال: "ووقفًا احك مالمنكور بمن".

يعني أن النكرة يحكى مالها من حال إعراب، وإفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث، بلفظ (من) في الوقف، أي إذا وقف، أي إذا وقفت على (من). لكن إذا حكيت بها فللمحكي بها ست أحوال: الحالة الأولى: حالة الإفراد والتذكير، وهي التي ابتدأ بها فقال: "والنون حرك مطلقًا وأشبعن". والذي دل على أن مراده الإفراد أنه أتى/ بعد ذلك بالتثنية والجمع. والذي دل على أن مراده التذكير إتيانه بعد ذلك بالتأنيث. وقد تقدم أن المحكى لا يذكر معها، فذكر هنا أن النون من (من) تحرك للقا، يعني بالحركات الثلاث: الضمة، والفتحة، والكسرة، لا يقتصر بها على حركة دون حركة، وتشبع بعد ذلك الحركات، فيتولد منها الأحرف الثلاثة: الألف، والواو، والياء، فمن الفتحة الألف، ومن الضمة الواو، ومن الكسر الياء. وهذا كله حكاية الأحوال الثلاثة التي للمنكر المحكى، وهي الرفع والنصب والجر، فتقول إذا حكيت (جاءني رجل): منو؟ ، أو (رأيت رجلاً): منا؟ أو (مررت برجل) مني؟ : هذا هو الأعرف في كلام العرب، وما حكى سيبويه عن يونس: أنه سمع من بعض العرب: ضرب من منًا؟ فجعل (من) كـ (أي) يحكي بها في الوصل - نادر يحفظ، واستبعده سيبويه، وقال: لا تكلم به العرب، ولا يستعمله ناس كثير. ثم أجرى (منون أنتم؟ ) على هذا.

قال: وينبغي لهذا ألا يقول: منو، في الوقف، ولكن يجعله كأي، يعني معربا. ولما كان هذا شاذًا لم يبن عليه الناظم. وهذا الذي ذكر في إلحاق الحركات ثم الحروف هو مذهب السيرافي، إذ قال: إن الحركات لحقت بيانًا لإعراب المحكى، ثم أشبعوا، فهذه الحروف، كحروف الإطلاق، تبع للحركات، من السكون. وحكي عن المبرد عكس هذه القضية، وأنهم إنما أرادوا أولاً الحروف، ثم أتبعوها زيادة الحركات، فالحروف هي التي أحرزت لفظ الأول. وصوب ابن خروف ما ذهب إليه المبرد، ولم يذكر للتصويب وجهًا. ومذهب السيرافي هو ظاهر كلام المؤلف في "التسهيل" على موافقة النظم، فعلى رأي الناظم تكون الألف والياء من المدات المجهولة، التي تعينها الحركات التي قبلها، وجملة المدات عشرة. ثم ذكر ما قال ابن خروف في "باب الندبة" وما ذكر ابن عبيدة في إعراب المثنى والمجموع، ثم قال: وعلى رأي غير الناظم يكون الأمر في

الأحرف بخلاف ذلك قال ابن الضائع: والأمر في ذلك قريب. الحالة الثانية: حالة التثنية والتذكير، وذلك قوله: "وقل منان ومنين بعدلي إلفان كابنين". يعني أنك إذا حكيت ما للمثنى ألحقت علامتين كعلامتي المثنى، فتقول لمن قال: (لي إلفان) /: منان؟ ولمن قال: (رأيت ابنين) أو (مررت بابنين): منين؟ إلا أن النونين مسكنتان، لأنهما في الوقف، ولا يكون الوقف على حركة. وإنما نبه على هذا بقوله: "وسكن تعدل" لأنه أتى بهما في النظم، أعنى بالنونين في (منان ومنين) محركتين، إذ لم يمكنه أن يسكنهما لئلا بجتمع ساكنان في الشعر في غير قافية، وذلك لا يجوز، ولم يأت من ذلك شيء في الرجز ولا في غيره، إلا ما جاء في عروض من أعاريض "المتقارب" وهو قوله: رمنا قصاصًا وكان التقاص ... فرضًا وحتمًا على المسلمينا وهو فيه مختص بالعروض أيضا، فلذلك احتاج إلى قوله: "وسكن تعدل" أي سكن النون التي حركتها اضطرارًا تصب العدل في كلام العرب، لأن وضعها على السكون، إذ هي مبنية لا معربة، فليس الألف والواو والياء بإعراب فيها، لثبات موجب البناء، ولو كان إعرابًا لكان الدرج أولى أن يثبت فيه، ولكنه من تغيير

الوقف، وغير على هذا النحو لتكون فيه دلالة على المسئول عنه. وقد نبه تمثيله بقوله: "لي الفان" على كيفية الحكاية على الجملة كما تقدم، وإنما أتى بالمثالين، ولم يقصد حكم الاجتماع في الحكاية، فإنه لو قصد ذلك لكان (من) الأول غير لاحق به علامة، لكونها تنافى الوصل، وذلك أنه إذا اجتمع في الكلام الأول اسمان، فأردت أن تسأل عنهما وتحكيهما - فإما أن يختلف إعرابهما أولاً، فإن اختلف أتيت لكل واحد بأداة تحكيه بها، فتقول في (لي إلفان كابنين): من ومنين؟ فتركت العلامة في الأول لأنه غير موقوف عليه، فلا تلحقه العلامة، كما سيأتي في كلامه إن شاء الله. فإن عكست فقلت: لي كابنين إلفان - قلت: من ومنان؟ وكذلك في الإفراد، تقول في (ضرب رجل، وضربت رجلاً) من؟ وفي (ضربت رجلاً، وجاءني رجل): من ومنو؟ . وعلى هذا السبيل في الأحوال كلها، ولا يجوز أن تثنى أو تجمع مع اختلاف الإعراب، لبطلان الحكاية. وإن اتفق إعرابهما نحو: (جاءني رجل وامرأة) قلت: من، ومنو؟ على سبيل ما تقدم، وكذلك في التثنية والجمع، وكذلك إذا قلت: (رأيت امرأةً ورجلاً) قلت: من، ومنا؟ على ما تقدم. / وقال ابن خروف: ينبغي ألا يجوز هنا (منين) لأنهم كانوا يجيزون بـ (من) من حيث كان أحدهما موصولا، وقد ذهبت منه العلامة. ويتركب هنا سائل في الحكاية بـ (من) و (أي)، لا حاجة إلى نقلها من حيث قصد الشرح. الحالة الثالثة: حالة الإفراد والتأنيث، وذلك قوله: "وقل لمن قال

أتت بنت منه". يعني أن حكاية المفرد المؤنث بـ (من) أن تلحق (من) تاءً، وتبدلها هاءً للوقف، ويكون ما قبلها مفتوحا، لأن تاء التأنيث التي شأنها أن تبدل هاء لابد من فتح ما قبلها، فتقول لمن قال لك: (أتت بنت): منه؟ على وزن (سنه) وكذلك إذا قلت: (رأيت بنتًا) تقول: منه؟ أو (مررت ببنت) تقول: منه؟ ولم ينبه هنا على اختلاف في آخر (منه) بحسب اختلاف إعراب المحكى، إعلامًا بأن الحكم لا يختلف في التأنيث مع الإفراد، فإنها إذ ذاك تشبه (أية) في الحكاية بـ (أي). ولم يحتج إلى التنبيه على إسكان الهاء، لأنها كذلك وقعت في النظم، والحال حال وقف، فاستغنى عن ذكر ذلك. ولما كانت (أية) لا تختلف بحسب اختلاف الإعراب في المفرد أجروا (منه) مجراها حين أشبهتها، ولما كانت (منه) على هذا السبيل قاسها يونس على (أية) مطلقا، فأجاز الحكاية بها في الوصل والوقف، فتقول في (جاءتني امرأة): منه يا هذا؟ وفي (رأيت امرأًة): منًة يا فتى؟ وفي (مررت بامرأة): منة يا هذا؟ بتحريك النون قبل التاء، على شاكلة (أية) من كل وجه، فتكون عنده معربة. وهذا لم يرتضه الناظم، فلذلك جعل الحكاية بها في الوقف خاصة، وهو رأى سيبويه، ولم يرتض مذهب شيخه يونس، قال: وإنما يجوز هذا على قول شاعر

قاله مرةً، ثم لم يسمع بعد، وأنشد: أتوانارى فقلت منون أنتم وألزمه سيبويه أنه كذلك ينبغي أن يقول إذا آثر ألا يغيرها في الصلة، قال: وهذا بعيد. الحالة الرابعة: حالة التثنية والتأنيث. ولما كان حال المثنى هنا معلومًا من حال المثنى في التذكير لم يحتج إلى التنبيه على لحاق العلامتين، لكن احتاج إلى التعريف بما زاد على العلامتين، وهو حكم النون التي قبل التاء، فحكي فيها وجهين: أحدهما: / الإسكان، وهو الأكثر والمعروف في الكلام، وذلك قوله: "والنون قبل تا المثنى مسكنة". يعني أن هذا هو الحكم المطلق فيها، والقياس المطرد، فإذا حكيت نحو (جاءتني امرأتان) قلت: منتان، أو نحو (رأيت امرأتين) أو (مررت بامرأتين) قلت: منتين. قال سيبويه: وإن قال: رأيت امرأتين، قلت:

منتين، كما قلت: أيتين، إلا أن النون مجزومة، وإنما سكنت لأن أصلها كذلك، فـ (منه) أصلها منت، ساكنة النون، كبنت، وهنت، لكن لما أرادوا الوقوف عليها حركوا ما قبلها، فإذا صاروا بها إلى الوصل صيرت كما كانت في الأصل. والوجه الثاني: فتح النون، فتقول: منتان، ومنتين. وعلى ذلك نبه بقوله: "والفتح نزر" أي قليل، وقد حكى ذلك في "التسهيل" أيضًا. والحالة الخامسة: حالة جمع المؤنث، وذلك قوله: "وصل التاء والألف بمن بإثرذا بنسوة كلف". يريد أن حكم حكاية جمع المؤنث بـ (من) أن تصل بها ألفًا وتاء، فإذا قال: (هذا بنسوة كلف) قلت: منات، وكذلك إذا قال: هؤلاء نسوة، ورأيت نسوًة، اللفظ واحد لا يختلف بحسب اختلاف الإعراب، إجراء له مجرى (أيات) في جمع المؤنث، والتاء مسكنة لأنه موقوف. والكلف: الولوع بالشيء، كلفت به: كلفًا، والصفة منه كلف. والحالة السادسة: حاله جمع المذكر، وذلك قوله: "وقل منون ومنين مسكنًا" إلى آخره. يعني أنك إذا حكيت المجموع تلحق الأداة التي بها الحكاية، وهي (من) واوًا ونونًا في الرفع، وياءً ونونًا في النصب والجر، وتسكن النون، وذلك قوله: "مسكنًا" لأنه حالة وقف، فتقول لمن قال: (جاء قوم): منون، ولمن قال: (جئت

لقوم): منين، وكذلك لمن قال: (رأيت قومًا) منين. وأتى بمثالين في مثال واحد، وليس قصده بذلك الحكاية المفردة، أعني أن يقع السؤال في لفظ واحد، بل أراد حكاية كل واحد من المرفوع والمخفوض على حدته، ولو أراد ذلك لقال: وقل من ومنين، لأن (من) الأولى وقعت في الوصل، كما تقدم في مثله. و"فطناء" ممدود، جمع فطن، وهو الفهم. وقال الجوهري: الفطنة كالفهم، يقال: فطن للشيء، إذا فهمه وعلمه، وفطن، بالكسر، فطانًة، وفطانيةً، وفطنةً: صار فطنًا. وبعد تقرير هذا الحكم، فهنا مسألتان متعلقتان: إحداهما: أن/ الحكاية بـ (من) إنما تكون لمن يعقل، وهذا وضع (من) أن تكون كذلك، على ما هو مقرر عند النحويين واللغويين، بخلاف (أي) فإنها تكون لمن يعقل ولما لا يعقل. فإذا قال: (رأيت حمارًا) قلت (أي) وإذا قال: (رأيت رجلاً) قلت: (منا) و (أيًا) إن شئت، لأن (أيًا) تصلح لهما، وإذا قال: (رأيت رجلاً وحمارًا) قلت: من وأيًا، أو (حمارًا ورجلاً): أيًا ومنا. والناظم لم يتكلم في هذا النظم على تعيين (ما) ولا (من) ولا (أي) ولا ذكر على ماذا تقع، فقد يقول القائل: هذا نقص، إذ يتوهم منه عدم الاختصاص، وجواز وقوع (من) على كل شيء. والجواب: أن في هذا الكلام ما يشعر بمقصوده، وأن (من) إنما يحكي بها من يعقل، وأن (أيًا) بخلاف هذا الالتزام، وذلك أنه أطلق القول في (أي) ولم يقيدها في الحكاية بشيء دون شيء. وأما (من) فقيدها

بالمثل، إذ لم يأت بمثال إلا لمن يعقل، فدل ذلك على اختصاص (من) بمن يقل. وأيضًا المسألة لغوية، ودخولها في النحو بالعرض، فليس تفسير معناها أو معنى غيرها بضروري عليه. المسألة الثانية: أن ما تقدم في الحكاية هو المشهور في كلام العرب. وحكى سيبويه عن يونس: أن ناسًا من العرب يلتزمون في الحكاية بـ (من) المدات الثلاث التي للمفرد أبدًا، سواء كانت لمثنى أو مجموع أو مفرد، فيقولون في من قال: (جاءني رجل): منو، و (رجلان): منو، و (جاءني رجال) منو، وفي (رأيت رجالاً): منا، وكذلك في (رأيت رجلين): منا، وفي (مررت برجلين): مني، ونحو ذلك، لا يعيرون الحكم الحكم الحاصل مع المفرد في المثنى ولا مجموع. قالوا: وكذلك في المؤنث يقولون في نحو: (جاءتني امرأة) منو، كما في (جاءني رجل) وفي نحو: (جاءتني امرأتان): منو، وكذلك في سائر المثل لا يخالفون الحكم وإن اختلفت الأحوال. والذين يقولون هذا يقولون في (أي): أي وأيًا وأي، عني واحدًا أو اثنين، أو جماعًة، أو مذكرا أو مؤنثا. وإنما فعلوا ذلك حملاً على معنى (من) لأنه يعني بها الواحد، والاثنان، والجماعة، والحكم اللفظي باق على إفراده، فتقول: من قال ذلك؟ وأنت تعني أكثر من واحد، أو مؤنثًا. وكذلك (أي) تقول: أي قال ذلك؟ فأقروا (من) و (أيا) على حكم

اللفظ، وهو الواحد/. ولما كانت هذه اللغة أقليًة لم يذكرها، وذكر اللغة المشهورة. وهنا تم كلامه على حكم (من) في الوقف. وأما حكمها في الوصل فأخذ يذكره فقال: "وإن تصل فلفظ من لا يختلف". يعني أن (من) إذا حكيت بها النكرة، فوصلت كلامك، ولم تقف على (من) فإن لفظها لا يختلف باختلاف الأحوال التي للمحكي، كما اختلف لفظها حالة الوقوف عليها، فتقول لمن قال: (جاءني رجل): من يا هذا؟ أو (جاءني رجلان) من يا هذا؟ أو (جاءني رجال): من يا هذا؟ وكذلك في التأنيث، ولا تقول منا يا هذا؟ ولا منه، ولا منان، ولا منون، ولا منات، إذا وصلت. وقد تقدم وجه ذلك، وأن (من) لا تستحق تثنيًة ولا جمعًا، ولا تأنيثًا، بخلاف (أي) فإنها صفة مستحقة لذلك، فلم تقو (من) أن تكون مثلها في الوصل، وليس هاهنا أن توصل (من) بالمحكي، فإن المحكي إذا كان نكرًة مرفوض الذكر، كما تقدم. ثم نبه على ما جاء مخالفا لهذا الحكم شاذًا في الشعر، فألحقوا العلامة وصلاً، وذلك قوله: "ونادر منون في نظم عرف". يعني أن لحاق العلامة في الوصل قد جاء، لكن إنما عرف في النظم، ومختصا بلحاق الواو والنون، فعين اللفظ المسموع خروجًا عن عهدة السماع، ولأجل ما قال سيبويه من أنه قول شاعر، قاله مرًة، ثم لم يسمع بعد. والبيت المشار إليه هو قول شمر بن الحارث، وينسب أيضًا إلى

تأبط شرًا: أتو ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما وينشد أيضًا: "عموا صباحا" وهو صحيح، وقع كذلك في قصيدة حائيًة منسوبة إلى جذع بن سنان الغساني، فهما شاهدان، لا كما قال أبو القاسم الزجاجي. فأتى في البيت بالعلامتين، وذلك في الوصل، وحمله سيبويه على لغة من قال: ضرب من منا. قال: فإنما يجوز (منون) على هذا، فهو عنده معرب كـ (أي) فجمعه الشاعر على هذا. وقال الكسائي: وربما احتاج الشاعر فزاد هذه الزوائد في الوصل. قال ابن خروف: وتوجيه سيبويه أجود، وهو أن يكون معربًا، وجمعه كـ (أي) قال ابن الضائع: ويظهر ذلك من كلام سيبويه لأنه قال: / ينبغي أن لا يقول: (منو) في الوقف، ولكن يجعله كـ (أي) يعني

معربا، ً ووجه الزجاج البيت بأنه وقف عن (من) وسكت، ثم ابتدا. وهو بعيد. وقد حكى الكوفيون أن منهم من يجعل الزيادة في مستأنف الاستفهام، فتقول: منو أنت؟ ومنان أنتما؟ ومنون أنتم؟ فيكون البيت على هذا. وعلى الجملة فالبيت نادر لا يقاس عليه. وكأن قول الناظم: "في نظم عرف" أنه يبكت على ما حكى الكوفيون من ذلك، ويكون هذا من فوائد تعيينه لـ (منون) والله أعلم. ولما أتم الكلام على حكاية النكرة أخذ يتكلم في حكاية المعرفة، فقال: والعلم احكينه من بعد من ... إن عريت من عاف بها اقترن اعلم أن الاسم المعرفة يصح أن يؤتى به إثر (من) في النكرة، ولم يكتفوا بهما في المعرفة حتى يذكروا الاسم بعدهما، لأن السؤال عنهما من وجهين مختلفين، فالسؤال عن ذات النكرة، لا عن صفتها، فيقول المجيب: زيد أو عمرو. وإذا قيل: رأيت عبد الله، فإنما يحتاج إلى تخصيصه بالنعت، فلابد من ذكر المنعوت حتى يقال: العاقل، أو الكريم، أو نحو ذلك. هذا تعليل السيرافي. وأفاد أنه لا يكتفي عن المعرفة بـ (أي) ولا بـ (من) وهو الذي نبه عليه الناظم بقوله: "والعلم احكينه من بعد من" فلم يكتف كما أكتفى في النكرة. وتضمن كلام الناظم ما يحكى من المعارف وما لا يحكى، وما شرط الحكاية

فيما يحكى. وجملة ذلك أن كل معرفة اجتمع فيها ثلاثة أوصاف فهو الذي يحكى في المسألة: أحدها: أن يكون تعريفه بالعلمية، وذلك قوله: "والعلم احكينه" فتقول إذا قيل: (جاء زيد): من زيد؟ وإذا قال: (رأيت زيدًا): من زيدًا؟ وإذا قال: (مررت بزيد): من زيد؟ فتأتي به على إعراب الكلام الأول في اللفظ، وإن كان إعرابه في التحصيل مبتدأً أو خبر مبتدأ، وكذلك (أي) و (من) في حكاية النكرة. فلو كان الاسم غير علم لم تجز حكايته. فإذا قيل: (رأيت أخاك) قلت: من أخوك؟ أو (مررت بالرجل) قلت: من الرجل؟ فترفعه لا غير، ولا يحكى ألا على قول من قال/: دعنا من تمرتان، وقد قيل له: ما عنده تمرتان، وليس بقرشيًا، لمن قال: أليس قرشيًا؟ وهو قليل ضعيف لا يبني على مثله قياس. والفرق أن الأصل والقياس ألا يجوز، ولذلك قال سيبويه: وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال، وهو أقيس الوجهين. غير أنهم أرادوا أن يحكوا كلام المسئول لئلا يتوهم أن السؤال عن غير من قدم، وأيضًا الحكاية تغيير، والأعلام كثرت في كلامهم، فأجازوا فيها لذلك ما لم يجيزوا في غيرها، كالترخيم، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، فلذلك اشترط هنا العلمية. ويجرى مجرى (زيد) و (عبد الله) في جواز الحكاية الكنية واللقب،

لأنهما من أقسام العلم، وقد قال في باب العلم: "واسما أتى وكنيًة ولقبًا" فتقول إذا قيل لك: (رأيت أبا عبد الله): من أبا عبد الله؟ وإذا قيل لك: (مررت بقفة) من قفة؟ وهذا ظاهر. وهذا الوصف يقتضى أن الناظم لم يرتض ما روي عن يونس أن الحكاية جائزة في جميع أقسام المعارف، فتقول في من قال: (رأيت أخاك) من أخاك؟ وفي من قال: (رأيت الرجل): من الرجل؟ ونحو ذلك. وهذا المذهب غير مرضي عند سيبويه والمحققين، وإنما ذلك عندهم كقوله: دعنا من تمرتان، وأيضًا فهو غير مسموع، وإنما لم يرتضه الناظم إما لضعف النقل عن يونس، إذ حكاه المبرد عن يونس في "مقتضبه" ولم يحكه عنه سيبويه، فغمزه السيرافي بأن قال: لا أدري من أين له هذه الحكاية؟ وإما لضعف الجواز في القياس، فإن للأعلام من التغيير ما ليس لغيرها كما تقدم. قال سيبويه: ولا يجوز في غير الاسم الغالب، لأنه الأكثر في كلامهم، وهو الأول الذي به يتعارفون. والثاني: أن يكون السؤال عنه بـ (من) فإذا كان كذلك جارة الحكاية، كالمثل المتقدمة، فإن سئل عنه بـ (أي) لم تجز الحكاية، فإذا قيل: (رأيت زيدًا) قلت: أي زيد؟ أو (مررت بزيد) قلت: أي زيد؟ لذلك قال سيبويه: فإذا قيل:

(رأيت زيدًا) قلت: أي زيد؟ فليس إلا الرفع، تجريه على القياس. ووجهوا اختصاص الحكاية بـ (من) بوجهين: أحدهما: كثرة استعمال (من) قال سيبويه: وإنما جازت/ الحكاية في (من) لأنهم لـ (من) أكثر استعمالاً، وهم يغيرون الأكثر في كلامهم عن حال نظائره. والثاني: أن (من) مبنية لا يظهر فيها قبح الحكاية لسكونها في كل حال، بخلاف (أي) فإنه لو حُكي بها فقيل: أي زيدًا؟ وأي زيد؟ لظهر القبح في اختلاف إعرابي المبتدأ والخبر. قال ابن الضائع: والأول أولى، وعليه اعتمد سيبويه، وعلل ابن خروف بالوجهين، وزاد ثالثا وهو كون (من) على حرفين. وفي ضمن هذا الشرط حصل حكم (أي) في باب "الحكاية" من كلام الناظم، فلم يغفل ذكر ذلك. والثالث: خلو (من) من أن يقترن بها عاطف داخل عليها، فإنه إذا كان كذلك لم تجز الحكاية، ورجع إلى القياس، فإذا قيل لك: رأيت زيدًا، فقلت: ومن زيد؟ فليس إلا الرفع، وكذلك في: مررت بزيد، ونحوه. وكذلك الفاء إذا قلت: فمن زيد؟ وسبب ذلك أن الغرض بالحكاية بيان أن المسئول عنه هو المتقدم الذكر لا غير، فإذا عطفت جملة السؤال على كلام المسئول صار في ذلك بيان أن المسئول عنه هو الأول، لأنك لا تبتدئ سؤالاً عما لم يذكر مصدرًا

بحرف العطف، إذ كان حرف العطف لازمًا للتوسط بين معطوف ومعطوف عليه. ثم النظر في هذا الكلام من وجهين: أحدهما: أن ما ذكره من الحكاية عند اجتماع الشروط هي لغة أهل الحجاز وأما بنو تميم فيرفعون على كل حال ولا يحكون، بل يقولون لمن قال: (جاء زيد، أو رأيت زيدًا، أو مررت بزيد): من زيد؟ بالرفع. قال سيبويه: وهو أقيس الوجهين. وإذا كان كذلك فاقتصاره على إحدى اللغتين، مع أن الأخرى فصيحة ومشهورة وغير قاصره في الكثرة والقياس عن غيرها، غير لائق بهذا المختصر، بل كان حقه أن يذكرهما، كما ذكر اللغتين في باب (فعال) فيما لا ينصرف، وغير ذلك. والثاني: أنه أخل ببعض الشروط في لغة أهل الحجاز، ولابد منها، وتركها إخلال، وذلك أن الناس ذكروا لها خمسة شروط، الثلاثة المذكورة. والرابع: ألا يكون الاسم المراد حكايته متبوعا بتابع ببان، ألا ما جعل مع تابعه كالكلمة الواحدة، وذلك نحو ما تقدم، فإن كان متبوعا بنعت، نحو مررت/ بزيد الطويل، أو بعطف بيان، نحو: مررت بزيد أبي عبد الله، أو بتوكيد، نحو: مررت بزيد نفسه، أو ببدل، نحو: مررت بزيد أخيك - فلا سبيل إلى الحكاية، فلا تقول فيها كلها إلا (من زيد

الطويل؟ ) بالرفع، و (من زيد أبو عبد الله؟ ) و (من زيد نفسه؟ ) و (من زيد أخوك؟ ) وإنما فعل ذلك استغناء بإطالته عن الحكاية، وذلك أن الغرض بالحكاية بيان أن المسئول عنه هو المتقدم الذكر لا غير، وإذا ذكر الاسم الأول منعوتا، أو معطوفا عليه، أو مؤكدًا، أو مبدلا منه، ثم أعيد كذلك في السؤال علم أن السؤال وارد على ذلك المذكور، فلم يحتج إلى الحكاية، كما لم يحتج إليها مع عطف جملة السؤال بالواو. فإن كان التابع مع ما تبعه كالشيء الواحد جازت الحكاية، نحو: رأيت زيد بن عمرو، فيمن جعلهما بمنزلة اسم واحد، فإن تقول: من زيد بن عمرو؟ والخامس: ألا يكون معطوفا عليه بالحرف، لكن هذا الشرط ليس على الإطلاق، بل فيه تفصيل، وذلك أنك إذا عطفت في الجملة المسئول عنها، فسئل عنها، فإن سيبوبه نقل عن يونس أنه يرده إلى الأصل والقياس، فإذا قيل: رأيت زيدًا وعمرًا، قلت: من زيد وعمرو؟ هكذا مطلقا، وذلك لأنه يظهر منه السؤال عن المذكور، لأنه بعيد أن يسأل عن غيره، واتفق في ذلك الغير أن شرك معه مثل ما شرك مع الأول، وإذا كان قد تعين المسئول عنه فلا فائدة للحكاية. وهذا ما قال يونس. وحكى سيبويه عن قوم أنهم قاسوا وأتبعوا الثاني الأول، يعني أنهم حكوا، لكنهم اعتبروا الأول، فإن كان مما يحكى حكوه، وحكوا معه الثاني، سواء كان مما يُحكى أولاً، فيقولون في من قال: (رأيت زيدًا وأخاك): من زيدًا وأخاك؟ فأبعوا أخاك في لحكاية، وإن كان لا يُحكى وحده. وإن كان الأول مما لا يُحكى تركوا الحكاية، وأتبعوا الثاني الأول في ترك

الحكاية، وإن كان مما يُحكى وحده فيقولون في من قال: (رأيت أخاك زيدًا): من أخوك وزيد. قال سيبويه: وهذا حسن. فإذا ذكروا (من) مع المعطوف كان لكل واحد حكمه، فإذا قال: رأيت زيدًا وأخاك، قلت: من زيدًا؟ ومن أخوك؟ أو قال: رأيت أخاك/ وزيدًا، قلت: من أخوك؟ ومن زيدًا، وشبهه سيبويه بقولهم: تبًا له وويحًا، فتتبع إذا لم تذكر "له" فإذا ذكرت "له" كان لكل حكمه، فقلت: تبًا له، وويح له. فالحاصل أن المعطوف والمعطوف عليه بالحرف إنا ألا يحكى أصلا، وإما أن يعتبر المتقدم، وذلك إذا لم تكرر (من) وكلام الناظم يقتضي خلاف ذلك كله. ويمكن الجواب عن الأول بأن ليس من شرطه في هذا المختصر أن يأتي بنقل اللغتين جميعًا، بل قد يجتزئ بنقل لغة الحجاز يين لكونها أشهر، وبها نزل القرآن. ألا تراه في باب (ما) إنما ذكر الإعمال فيها خاصة، وهي لغة أهل الحجاز وترك لغة بني تميم وإن كانت هي الجارية على القياس، كما قال سيبويه: فذلك غير ضائر. وأما الثاني: فالظاهر وروده، فلو قال مثلا: والعلم احك بعد من إن يخل من ... تابع أو من عاطف بمن قرن أو ما يُعطى هذا المعنى - لحصل المقصود، ولم يبق عليه اعتراض، ويكون شرط نفي التبعية مطلقا بناء على قول يونس في المعطوف والمعطوف عليه.

التأنيث

} التأنيث} علامة التأنيث تاء أو ألف ... وفي أسام قد روا التا كالكتف اعلم أن من المعاني المدلول عليها بالألفاظ أشخاص الجواهر، وهي على قسمين: حيوان وجماد. والحيوان ضربان: ذكر وأنثى، فاللفظ الموضوع ليدل على الذكر فقط فرقت العرب بينه وبين اللفظ الذي وضع ليدل على الأنثى فقط في أحكام كثيرة، كالإخبار، والوصف، والإشارة، وغيرها. ولما كان هذان المعنيان لا يكونان إلا للأسماء كانت تلك الأحكام التي قصدت التفرقة بها مختصة بالأسماء. ثم إن العرب قسمت الأسماء الدالة على الأشخاص بالنظر إلى تلك الأحكام على ثلاثة أقسام: قسم التزمت فيه أحكام اللفظ الدال على الذكر، وقسم التزمت فيه الأحكام الدالة على الأنثى، وقسم جوزت فيه الأمرين. فإذن التذكير والتأنيث، عند النحويين، هو أن يخبر عن اللفظ على صفة ما، أو يشار إليه كذلك، إلى غير ذلك من الأحكام الخاصة بكل واحد. فظهر أن التذكير والتأنيث خاص بالأسماء/ ولم ينص الناظم على هذه الاختصاص، ولكن لما كانت العلامات الفارقة بين المذكر والمؤنث

التي يذكرها إثر هذا من خصائص الأسماء - أشعر ذلك بكونه للأسماء خاصة، وإلا فالأفعال والحروف لا يصح الإخبار عنها، ولا الإشارة إليها، ولا تصغيرها. فإن قيل: فهم يقولون: الأفعال مذكرة، والحروف تذكر وتؤنث. فالجواب أن المحققين إنما يقولون في الأفعال: إنها لا تأنيث فيها، لا أنهم يثبتون لها التذكير، وإن أطلقوا عليها لفظ التذكير فعلى هذا المعنى. وأما الحروف فإنما استقر التذكير والتأنيث فيها، حيث سموا بلفظ الحرف، كقوله: وليت يقولها المحزون وهي إذ ذاك أسماء، فيصح فيها التذكير والتأنيث. ولبسط الكلام على هذا المعنى موضع غير هذا، فليس هذا من ضرورة هذا الشرح. وقول الناظم: (علامة التأنيث كذا" تعيين للعلامة، وذلك لا يكون إلا بعد ثبوت استحقاق لها. والقاعدة أن العلامة إنما تلحق ما لا يدرك فيه ذلك المعنى المعلم عليه، وأصل الأسماء التذكير، لأنه الأغلب عليها، ألا ترى أعم الألفاظ الدالة على المعاني الموجودة "شيء" و"الشيء" مذكر. قال سيبويه: لأن الأشياء كلها أصلها التذكير، ثم يختص بعد. يعني

أن التأنيث إنما يكون في الخاص لا في العام، فالأعم "شيء" وهو مذكر، فإذا خرج عن أصله من التذكير المدرك بغير علامة، فلابد من العلامة الدالة على ما خرج إليه، فقالوا: (قائم) إذ أرادوا المذكر، و (قائمة) إذ أرادوا المؤنث، وكذلك: امرؤ، وامرأة، وابن وابنه. ونحو ذلك. وإذا ثبت استحقاق المؤنث العلامة انصرف النظر إلى تعيينها، فعين الناظم للتأنيث علامتين، فقال: (علامة التأنيث تاء أو ألف). يعني أنها منحصرة في هذين القسمين، فلا يوجد في تحقيق الاستقراء علامة ثالثة. وقد عدها الزجاجي ثلاثا، وجعل الثالثة الهمزة في نحو (حمراء) وجعلها بعضهم خمسًا، وعدمنها الياء في (هذي) و (تفعلين) والكسرة في نحو. ضربت) وجعلها ابن الأنباري خمس عشرة علامة، المختص منها بالأسماء ثمانية: الألف المقصورة، والممدودة، والتاء في نحو: (بنت، وأخت) والتاء في نحو (قائمة، وطلحة) / والألف والتاء في نحو (الهندات) والنون نحو (هن، وأنتن) والكسرة نحو (أنت) والياء نحو (هذي). والباقي في الأفعال والحروف. والثابت من هذه كلها ما ذكره الناظم، أما الهمزة فهي الألف في الحقيقة، لأنها لو كانت الهمزة هي العلامة حقيقًة لثبتت في الجمع إذا قلت في (صحراء): صحارى، فكنت تقول: صحارئُ، وهذا لا تقوله العرب، وإنما قالوه بالياء، فصارت في الجمع ياء، فدل على أنها غير أصلية. وأما الياء في (هذي) فليست بعلامة، وإنما جاء التأنيث من

الصيغة، وكذلك القول في كسرة (ضربت) ونون (هن) و [تاء] (بنت، وأخت) ليست بتاء التأنيث، لسكون ما قبلها، وهو غير الألف، وتاء (هندات) هي المذكورة أولا، والألف قبلها سبقت للجمع. وأما الياء في (تفعلين) فضمير عند سيبويه، فهي كالنون في (تفعلن) ولم يقولوا إنها علامة للتأنيث، بل صيغة تدل على المؤنث. وأما مذهب الأخفش فيها فلم يرتضه الناظم، وإنما اختار مذهب سيبويه، على ما تقدمت الإشارة إليه في باب (الضمائر). وقوله: "تاء أو ألف" ارتضاء لمذهب أهل البصرة في كون العلامة هي التاء لا الهاء، فإن الكوفيين يزعمون أن أصل التاء هاء، ويعكس البصريون. والدليل على صحة مذهب البصريين أن الوقف موضع تغيير، فالأولى أن يدعى التغيير فيه لا في الوصل. وأيضًا فقد تأتي التاء علامة حيث لا تقلب هاء في الوقف، وذلك في الجمع بالألف والتاء. وأيضًا فمن العرب من لا يبدلها هاء في الوقف. وهذه مرجحات لما ذهب إليه الناظم، والخطب في المسألة يسير، إذا ليس باختلاف في حكم يبنى عليه في الكلام شيء. وقوله: (تاء أو ألف) فأتى بـ (أو) التي هي لأحد الشيئين، إشارًة إلى أن العلامتين لا تتواردان على محل واحد، فلا تجتمعان في كلمة واحدة. فلا يقال في (ذكرى) مثلا: ذكراة، ولا في - حبلى): حبلاة، لصحة الأجتزاء بإحداهما

عن الأخرى، وما أوهم خلاف ذلك، فعلى خلاف ظاهره. ومن ها هنا روي عن أبي عبيدة أنه قال: ما رأيت أظرف من أمر النحويين، يقولون: إن علامة التأنيث لا تدخل على علامة التأنيث، وهم يقولون: علقاة. / وقد قال العجاج: فكر في علقى وفي مكور يريد أبو عبيدة أنه قال: "علقى" فلم يصرف للتأنيث، ثم قالوا مع هذا: "علقاة" أي فألحقوا تاء التأنيث ألفه. قال أبو عثمان: كان أبو عبيدة أجفى من أن يعرف هذا، وذلك أن من قال: (علقاة) فالألف عنده للإلحاق بباب (جعفر) كألف (أرطى) فإذا نزع الهاء أحال اعتقاده الأول عما كان عليه، وجعل الألف للتأنيث، فهي مع التاء للإلحاق، ومع عدمها للتأنيث، ولهذا نظائر كـ (بهمي، وبهماة) و (شكاعى، وشكاعاة) و (سماني، وسماناة) و (باقلا، وباقلاة) ومن المددود (طرفاء، وطرفاءة) و (قضباء، وقضباءة) و (حلفاء، وحلفاءة) فمن لم يلحق التاء فالهمزة للتأنيث، ومن ألحقها فلغير التأنيث. ثم قال: (وفي أسام قدروا التا كالكتف) الأسامي على (أفاعل):

جمع أسماء، الذي هو جمع اسم، فأسام جمع الجمع، على حذف الزيادة. ولما كانت علامة التأنيث منحصرة في علامتين، ولكل واحدة حكم يتعلق بها في الكلام على كل واحد من القسمين، وابتدأ بذكر التاء. ثم ما فيه التاء على وجهين: أحدهما: ما ظهرت فيه التاء، فهذا لا تفصيل فيه، ولا حكم يتعلق به، لأنه الأصل، إلا ما نذكره في التاء الفارقة إثر هذا. والثاني: ما لم تظهر فيه العلامة، وهي حقيقة بأن تظهر. فأخذ في التنبيه على ذلك فيها، ويعني أن الأسماء المؤنثة بالتاء على وجهين: أحدهما: ما ظهرت فيه، نحو: شجرة، وثمرة، وبطة، وحمامة، وتمرة، وقائمة، وقاعدة. والثاني: ما لم تلحقه علامة تأنيث، بل لفظه لفظ المذكر، وأجرت العرب عليه أحكام المؤنث، فلابد من تقدير التاء في ذلك الاسم المؤنث، لأن دخولها فيه هو الأصل، فإذا لم تدخل كان على تقديرها، نحو ما ذكر من (الكتف) فإن التاء مقدرة فيها. وتقدير التاء يحتمل معنيين في كلامه: أحدهما: أن يكون مراده أنها مقدرة في آخر الكلمة، لا يمنع من ظهورها مانع إلا الاستعمال، وقد ترجع إذا استعملت استعمالاً آخر، وهذا هو الثاني، ومنه مثاله، ومنه (عين) و (شمس) و (فخذ) و (قدم) و (ساق) و (عضد) و (كبد) و (كرش) و (أذن) ونحو ذلك، وهو كثير، فهو على تقدير التاء في آخره، حتى كأنك قلت: عينة، وشمسة، وفخذة. والدليل على ظهورها في التصغير، نحو: كتيفة، وعيينة، وشميسة،

وفخيذة، وقديمة، وسويقة، وكذلك سائرها، إلا ألفاظًا/ جاءت عن العرب مصغرة بغير تاء شذوذا، وسيأتي ذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى. فيكون هذا التقدير لا مانع له إلا الاستعمال خاصة، من غير أن يكون معوضا عنه، وعلى هذا ينطبق مثاله إن كان المثال أتى به مقصودًا له. والثاني: أن يقصد ما هو أعم من هذا، وهو أن يكون المؤنث على تقدير الهاء، سواء أظهرت في التصغير أم لم تظهر، فهي في حكم المقدر. أما الثلاثي فكما تقدم، وأما الرباعي فالحرف الرابع فيه قام مقام الهاء نحو: عناق، وذراع، وعقاب، و (لسان) فيمن أنث و (أتان) ولذلك إذا صغروا هذا الصنف لم يلحقوه الهاء إلا ما شذ، ومنعوا صرفه، كما يمنعون صرف ما فيه الهاء، فهذا القسم كأن الهاء موجودة فيه لفظا، فهي إذن مقدرة الظهور كالثلاثي، وهذا أولى أن يحمل عليه كلامه. والدليل على أنه على تقدير التاء أنه إذا صغر المزيد منه تصغير الترخيم ظهرت، نحو: عنيقة في (عناق) وذريعة في (ذراع) وشبه ذلك، لكن يشكل هذا الكلام مع كلامهم في مسألة أخرى، وذلك أنهم يقسمون المؤنث على ثلاثة أقسام، باعتبار ما يحتاج إلى العلامة وما لا يحتاج إليها: أحدها: ما الاسم فيه مستحق للتفرقة بين المذكر والمؤنث، لكون اللفظ أطلق عليهما معًا، وهذا أكثر ما يوجد في الصفات، كقائم وقائمة، وقاعد وقاعدة، وكريم وكريمة. ومنه في غير التاء أحمر وحمراء، وأصفر وصفراء، وأفضل وفضلى، وسكران وسكرى، ونحو ذلك. وقد يكون في الأسماء، كامرئ وامرأة، وابن وابنة، ونحو ذلك،

وسيأتي ذكره إن شاء الله. فهذا القسم هو الذي إذا لم تلحق العلامة في المؤنث، وهو محتاج إليها، فهو حقيق أن تقدر فيه الهاء. والثاني: أن يكون المؤنث مخالفًا لفظه لفظ المذكر، لأنه صيغ دلالًة على المؤنث خاصة، فلا حاجة هنا إلى العلامة، لصيرورته معروفًا بالصيغة نفسها، فإن دخلت فيه فلتأكيد التأنيث، وذلك نحو: (عناق) فإنه في مقابلة (جدي) و (رخل) في مقابلة (حمل) وكذلك: حمار وأتان، وشيخ وعجوز، ورجل وامرأة، وغلام وجارية، وفرس ذكر وحجر، وضبعان وضبع، بكر وقلوص، وأسد ولبؤة/، ومن هذا كثير، فكان ينبغي على هذا ألا يجعلوا ما لم تلحق الهاء على تقديرها أصلا، وإلا فما الفائدة في هذا؟ والثالث: أن يكون المؤنث لا مشاركة للمذكر فيه، كحائض، وطاهر، وطامث، وقاعد - يعنى عن الحيض - وطالق، ومذكر، ومحمق، ومطفل، وذئبة مجر، ومخشف، معزل، ومقرب - أي قرب ولادها - نحو ذلك، فهذا أيضًا مما لا يحتاج إلى علامة، فتقديرها مشكل على هذا. والناظم قد أطلق القول في التقدير بقوله: (وفي أسام قدروا التا كالكتف). والجواب: أن يقال: الأصل في التاء أن تدخل للتفرقة بين المذكر والمؤنث، كما سيأتي بعد إن شاء الله، لكنها قد تدخل قياسًا، كما في

الصفات التي تقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، وقد تدخل سماعًا كما في امرئ وامرأة، وابن وابنة، ورجل ورجلة. وهذا الثاني لا ضابط له إلا السماع. وأما الأول فهو الذي ينظر فيه، من حيث هو داخل تحت النظر القياسي، ولكن الجميع غير متخلف عن التفرقة، حسبما يأتي أن شاء الله وهكذا هي في جميع أصنافها، فإذا ظهرت العلامة فذاك، وإذا لم تظهر فالأحكام تبين أنها على تقدير التاء، ويستدل على ذلك بالأحكام، كالتصغير وغيره. وأما ما ذكر من نحو: حمار وأتان، ورجل وامرأة، وشيخ وعجوز، فسماع لا يعتد به في القياس، ومع ذلك فهو في تقدير التاء، بدلالة الأحكام. وأما باب (حائض، وطالق، ومطفل) فالأصل أن تلحقه العلامة، إلا أنه منع من ذلك مانع، سيذكر إن شاء الله. ولم يتكلم في هذا الباب إلا على التاء الفارقة وما لحق بها، لأن الباب وضعه للتفرقة بين المذكر والمؤنث على الجملة، وهو الأصل كما تقدم، وما عداه من أقسام التاء فطواري عليها بعد ثبوت أصلها، فلا اعتراض على الناظم في تقدير التاء في ما لا تاء فيه من المؤنث، فإنه صحيح. ثم أشار إلى ما يعرف به كون اللفظ على تقدير التاء فقال: ويعرف التقدير بالضمير ... ونحوه كالرد في التصغير

يعني أن تقدير التاء في الأسماء المؤنثة التي ليس فيها تاء يعرف بأشياء يظهر بها، ويتبين أنها مؤنثات لا مذكرات على ظاهر لفظها. وعين من/ تلك الأشياء شييئن، وأشار إلى الباقي، فقوله: (بالضمير) تعيين لأحدهما، وقوله: (ونحوه) إشارة إلى ما بقى من الأشياء المعرفة. ثم جاء بواحد من المشار إليه، وهو الرد في التصغير، والمراد يكون هذه الأشياء معرفة أن تأتي في كلام العرب على ذلك السبيل، فتكون العرب هي التي اعادت على الاسم المفروض ضمير المؤنث، أو صغرته، فأعادت التاء في التصغير وكذلك غيرهما من الأحكام، لا أنه يريد أنك تعيد عليه ضمير المؤنث، فتعرف بذلك أنه مؤنث، لأن إعادة المتكلم ضمير المؤنث على الاسم ثان عن معرفته بكونه مؤنثا، فلو توقفت معرفة كونه كؤنثا على إعادة ضمير المؤنث عليه لزوم الدور، وألا يعرف أبدًا، فإنما يريد أن العرب وجدناها أعادت ضمير المؤنث على الاسم، فعرفنا بذلك إعتقادها فيه، وأنه التأنيث، وكذلك التصغير وغيره مما سيذكر بحول الله. وإذا حصل ذلك في الأسماء من الاستقراء عاملناها بعد - إذا احتجنا إلى الإخبار عنها، أو إعادة الضمير عليها، أو غير ذلك - معاملة المؤنث، وهذه فائدة ذكر ذلك في كتب النحو، وإلا فالتعريف بتذكير المذكر وتأنيث المؤنث من وظيفة اللغوي، حتى يأخذها منه النحوي مسلمة. فأما ما ذكر من الضمير فهو أن يعود على الاسم ضمير المؤنث،

كما تقول: الدار تهدمت، والشمس طلعت، وأعجبني طلوعها قال تعالى: } والشمس تجري لمستقر لها}. وقال تعالى: } وإن الدار الأخرة لهي الحيوان}. وقال تعالى: } جهنم يصلونها}. هذا الأمر العام ما جاء على خلاف ذلك: فإما شاذ وإما على التأويل فقوله: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها فأعاد على "الأرض" ضمير المذكر - شاذ، وكذلك ما جاء من نحو قوله تعالى: } السماء منفطر به}، هو على أن "منفطرًا" على معنى النسب، كحائض، ومرضع، ومطفل، وكذلك قوله: بعض أصابعه قطعتها، فأعاد ضمير المؤنث على "البعض" وهو مذكر، وإنما ذلك على التأويل كما تقدم في باب "الإضافة". وأما ما ذكر من الرد في التصغير فمعناه أن ترجع التاء المقدرة في تصغير ذلك الاسم/ الذي تلحقه العلامة، وذلك قولهم في (عين): عيينة،

وفي (يد): يدية، وفي (أذن): أذينة، وما أشبه ذلك، وهذا هو الأكثر، والأكثر كاف، فلا ينقض هذا التعريف ما جاء من نحو: فريس، وقويس، وعريب. والفرس والقس والعرب مؤنثات، فإن هذا قليل نادر فلا يعتد به. والتعريف بالتصغير مختص بالثلاثي من الأسماء، لأن التاء لا ترجع في التصغير قياسًا إلا في الثلاثي. وأما الرباعي وما فوقه فلا تلحق التاء إلا سماعًا، كما سيأتي ذكره في "التصغير". وأما ما أشار إليه بـ"نحو" فمن ذلك إسناد الفعل بالتاء نحو: طلعت الشمس، وتهدمت الدار، وانفطرت السماء، ورجعت الإصبع، وهذا إنما تدل على التأنيث إذا لحقت التاء، فإن لم تلحق لم يدل، إلا أن يكون الفاعل ضميرا، فيرجع إلى عود ضمير المؤنث كما تقدم. ومن ذلك عدم لحاق التاء في أسماء العدد، فإنه إنما تسقط العلامة مع المؤنث، نحو: ثلاث أفراس، وأربع أذرع، وست أعين، وثلاث أتن، وخمس أعقب، جمع: أتان، وعقاب. وكذلك في العدد المعطوف وفي المركب كما تقدم. وما جاء على خلاف ذلك فقليل خارج عن القياس المطرد، نحو قولهم: ثلاث شخوص، و"الشخص" مذكر، وإنما اعتبر فيه المعنى إذا أراد النساء، قال ابن أبي ربيعة، أنشده سيبويه:

فكا نصيري دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر وكذلك قولهم: ثلاثة أنفس، مع أن "النفس" مؤنثة، إنما أرادوا أن "النفس" عندهم إنسان، فحملوه على المعنى، والباب، على قولهم: ثلاثة أنفس. ومما خالف المشهور قول الحطيئة، أنشده سيبويه: ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي ومن ذلك لحاق التاء الوصف، نحو قوله تعالى: } وتعيها أذن واعية} قوله تعالى: } وللدار الآخرة خير}. ومن ذلك الإشارة إشارة المؤنث، نحو: هذه عين، وهذه قدر، قال تعالى: } هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون}، وقال تعالى: } هذه النار التي كنتم بها تكذبون}.

فإن جاء ما ظاهره خلاف هذا فمؤول، كقوله تعالى: } هذا رحمة من ربي} فالإشارة هنا إلى الأمر المتقدم الذكر في قوله: } فما اسطاعوا أن يظهروه} يعني (السد) فهو راجع إلى ذلك المذكور الذي هو (السد). ومن ذلك الجمع على (أفعل) / فيما كان من الثلاثي الأصول قبل آخره مدة كفعال، وفعال، وفعال، وفعيل، نحو: عناق وأعنق، وأتان وأتن، وذراع وأذرع، ولسان وألسن، وعقاب وأعقب، وكراع وأكرع - فيمن أنث - ويمين وأيمن، ونحو ذلك، فإن هذا البناء من الجمع مختص بما كان من هذه الأبنية للمؤنث، كما اختص بها في المذكر (أفعله) نحو: حمار وأحمرة، وقذال وأقذلة، وإهاب وآهبة، ونحو ذلك. وقد يأتي على خلاف ذلك، فيجمع المذكر على (أفعل) كطحال وأطحل، وجبين وأجبن، وهو قليل لا يعتد بمثله في الاعتراض على القاعدة المستمرة. ومن ذلك الإخبار نحو: أذنك واعية، وعين زيد ناظرة، ويقرب هذا من الصفة. ومن ذلك الحال، نحو: رأيت الشمس طالعة، والدار منهدمة. هذه جملة ما ذكر الناس في معرفة تقدير التاء في المؤنث غير الحقيقي، وهي تسعة تضاف إلى العلامتين المتقدمتين، وهما التاء والألف، فيصير الجميع إحدى عشرة علامة.

وزاد بعضهم كسر الكاف والتاء في نحو: ضربك، وضربت، وذلك فيما إذا خاطبت الاسم غير العاقل على جهة المجاز، كقوله تعالى: } وقيل يا أرض ابلعي ماءك} وينضاف على هذا الاعتبار ياء الواحد المخاطبة، كقولك: افعلي، ولم نعده فيما تقدم، لأنه داخل في التفسير بالضمير، فإن الكاف المكسورة، والتاء المكسورة ضمير مؤنث بجملته، كالياء في (افعلي) وكالهاء في (ضربتها) ولذلك تصح أن ترجع الأخبار والوصف والحال إلى شيء واحد، لأنها في تحصيل الإخبار واحدة. ولا تلي فارقة فعولاً ... أصلاً المفعال والمفعيلا كذاك مفعل وما يليه ... تا الفرق من ذي فشذوذ فيه ومن فعيل كقتيل إن تبع ... موصوفة غالبًا التا تمتنع اعلم أن التاء الفارقة هي اللاحقة للاسم الذي ينطلق على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، فلا يفهم التذكير ولا التأنيث حقيقة من إطلاق اللفظ بمجرده، بل إنما يسبق التذكير، فجعلت العرب التاء مبينة للمؤنث، ومفرقة، بينه وبين المذكر. وهذه التاء الفارقة غالب أمرها، وأكثر استعمالها في الصفات، لأنها التي جاءت في اللفظ/ واقعًا على المذكر والمؤنث بعينه لكونها مشتقة ومبينة من مادة واحدة، وعلى بناء واحد.

وأما الأسماء الجوامد فالتاء الفارقة لا تلحقها إلا قليلا، نحو: امرئ وامرأة وابن وابنة، وشيخ وشيخة، على ما يذكر. وإنما كثر في الجوامد عندهم التفرقة بالألفاظ، نحو: جدي وعناق، ورجل وامرأة، وشيخ وعجوز، وجمل وناقة، وما أشبه ذلك. وقد يعتدون بالتفرقة بالوصف بـ"الذكر" و"الأنثى" نحو: حية ذكر، وحية أنثى، وبطة ذكر، وبطة أنثى، وفرس ذكر، وفرس أنثى، ونحو ذلك، وهذا بخلاف الصفات، فلذلك احتاجوا فيها إلى التاء الفارقة. فأراد الناظم أن هذه التاء لا تلحق من الأوصاف ما كان على بناء من هذه الأبنية المذكورة، وهي خمسة: فعول ومفعال، ومفعيل، ومفعل، وفعيل، وهذه الأبنية من أبنية الصفات، وإياها قصد، فلم يرد أنها لا تلحق هذه الأبنية مطلقا، سواء كانت أسماء أو صفات، وإنما قصد ما كان ذلك مشتقًا جاريًا على موصوف، لفظًا أو تقديرًا، فنحو: خروف، وعتود، وعمود، وعجوز، وشبه ذلك، مما هو على وزن (فعول) من الأسماء. وكذلك: منقار، ومصباح، ومفتاح، ومحراب، ومسمار، ونحو ذلك، مما جاء على (مفعال). وكذلك: منبر، ومرفق، ومحجن، ومدرى، ونحوه، مما جاء على (مفعل)، وكذلك (مفعيل) نحو: منديل، ومشريق، وهو مدخل الشمس من الباب. وكذلك: بعير وقضيب، وكثيب، وجريب، ونحوه مما هو على (فعيل) لا تدخل له في مراده، لأن التاء الفارقة قلما يحتاج إليها فيها، فلم يعتبرها كذلك الناظم. فأما (فعول) الذي قصده من الصفات فمثاله قولهم: امرأة صبور وظلوم،

وغضوب، وقتول، وعدو، وغشوم. وكذلك: امرأة كنود، وكفور، وطروح، أي تطرح ثيابها، ثقة بحسن خلقها، وناقة كتوم، أي لا تكاد ترغو، وناقة ضروس سيئة الخلق عند الحلب، وناقة ضجور، أي ترغو عند الحلب، لأنه يشق عليها، وناقة زحوف، أي تجر رجليها تمسح بهما الأرض، وشاة عزوز، ضيقة الإحليل، وكذلك: الحصور، وناقة جروز، شديدة/ الأكل، وكذلك المرأة قال: إن العجوز خبة جروزا ... تأكل كل ليلة قفيزا وامرأة نزور، قليلة اللبن. قال العباس بن مرداس: بغاث الطير أكثرها فراخًا ... وأم الصقر مقلاة نزور وأنشد ابن مالك في "شرح التسهيل":

كرب القلب من جواه يذوب ... حين قال الوشاة هند غضوب فأتى بغضوب بغير هاء. وإنما لم تدخل التاء الفارقة هنا، لأن دخولها - كما تقدم - بالحمل على الفعل، فإنما يصح دخولها في الصفة ما بقيت على أصلها، من الجريان على الفعل، فإذا خرجت عن ذلك لم يحسن الجريان على الفعل، وذلك أن (فعولاً) مصروف عن (فاعل) هنا، و (فاعل) هو الجاري في القياس صفة على (فعل، يفعل) وأما (فعول) فغير جار على (فعل) أصلا، كما جرى (مفعل) على (أفعل) فلحقته التاء؟ وكذلك (فعل) جرى على (فعل) و (فعيل) بمعنى (فاعل) جرى على (فعل) فمكرم جار على: إكرم يكرم، وحذر جار على حذر يحذر، وظريف جار على ظرف. ومعنى الجريان هنا أنه الموضوع اسم الفاعل له بحكم الأصل، فصار (فعول) ليس بجار على هذا التقرير، فلم تلحقه العلامة. هذا تعليل ابن الأنباري ومثله لابن خروف. وأطلق القول هنا في منع الإلحاق لفعول، وهو غير صحيح لأن (فعولا) على وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى (فاعل) فهو الذي لا تلحقه التاء كما ذكر. والثاني: أن يكون بمعنى (مفعول) فحكمه أن تدخله التاء مطلقا، ليفرقوا بين القصدين، وذلك قولهم: ناقة حلوبة، أي محلوبة، وهذه أكولة الراعي، للشاة التي يسمنها لنفسه. وقال الله تعالى: } فمنها ركوبهم ومنها يأكلون}. لم

يؤنث لأن القصد: فمنها ما يركبون، فلم يقصد التأنيث، وفي مصحف عبد الله "فمنها ركوبتهم" وهي قراءة عائشة وأبي بن كعب، أي: مركوبتهم. وقال الأصمعي: الركوبة: ما يركبون، والعلوفة: ما يعلفون، والحلوبة: ما يحلبون، والحمولة: ما احتمل عليه الحي من بعير أو حمار أو غيره. وقال الله تعالى: } ومن الأنعام حمولة وفرشًا} والقتوبة من الإبل التي تقتبها بالقتب، وهو رحل صغير قدر السنام. وقالوا: جارية قصورة، إذا كانت محبوسة/ ليست بخارجة، وهذه: رضوعة الفصيل، أي مرضوعته، والنسولة: التي يتخذ نسلها، والجزوزة: التي تجز أصوافها، وطروقة الفحل: ما بلغ أن يحمل عليه الفحل. ومن هذا كثير. فهذا القسم لا تمتنع منه التاء أصلا، كما لا تمتنع من اسم المفعول، وقد احترز من هذا القسم في "التسهيل"، فقال: أو (فعول) بمعنى (فاعل) فكان إطلاقه هنا مخلاً. والجواب: أن قوله: "أصلاً" بين المراد منه، لأنه حال من (فعول) تقديره: لاتلى فارقة (فعولاً) حالة كونه أصلاً، ومعنى كونه أصلاً أن يكون بمعنى (فاعل) لأنه أكثر من (فعول) بمعنى (مفعول) فهو أصل له بهذا الاعتبار وبهذا فسره ابن الناظم في "شرحه". وأما (مفعال) فمثاله: امرأة مذكار، ومئناث، ومحماق، ومعطار،

إذا كانت تلد الذكور، والإناث، والحمقى، ومعطاء، من العطية، وسحابة مدرار، وناقة ملواح، يعني سريعة العطش، وأيضًا لوحها السفر، وشاة ممغار ومنغار، إذا كان من عادتها أن تحلب لبنًا يخالطه دم، وناقة معجال، إذا ألقت ولدها لغير تمام، وملحاح، للتي لا تكاد تبرح الحوض، وامرأة ميسان، من الوسن، ومنعاس، من النعاس، ومكسال، من الكسل، ونخلة ميقار، من الوقر، وميئخار، من التأخير. وإنما لم تدخل التاء هنا لنحو مما امتنع له دخولها في (فعول) إذ هي صفة لا تجري على فعل. قال ابن الأنباري: وانعدالها عن الصفات الجارية أشد من انعدال (صبور، وشكور) وما أشبهه من المصروف عن جهته، لأنه شبه بالمصادر لزيادة هذه الميم فيه، ولأنه مبني على غير فعل، ويجمع على (مفاعيل) ولا يجمع المذكر بالواو والنون، ولا المؤنث بالألف والتاء إلا قليلا. وأما (مفعيل) فمثاله قولهم: امرأة معطير، من العطر، ومئشير، من الأشر، وهو البطر، وفرس محضير، أي كثير العدو، وامرأة منطيق. وهو أقل في الوجود من (مفعال) والعلة التي لأجلها امتنعت التاء منه هي ما تقدم ذكره في (مفعال). وأما (مفعل) بفتح العين وكسر الميم فمثاله: امرأة مرجم، ومنه: مطعن، ومدعس، ومقول، يقال/ ذلك للذكر والأنثى بلا تاء، وعلة عدم اللحاق مثل ما تقدم.

وأما (فعيل) فسيأتي ذكره أثر هذا إن شاء الله. وقول الناظم: "وما تليه تا الفرق من ذي شذوذ فيه" ذي إشارة إلى هذه الأبنية المذكورة، يعني أن ما لحقته من هذه الأبنية التاء التي للفرق بين المذكر والمؤنث، فإنما لحقته شذوذًا لا على الاطراد، ونادرًا يحفظ ولا يقاس عليه. ونبه بهذا الكلام على ما جاء في السماع مخالفًا لما تقدم أنه مطرد. فمما شذ في (فعول) قولهم: هي عدوة الله. ووجه بأنه أجرى مجرى (صديقة) وقال الكسائي: جعلوها اسما كالذبيحة، فقد دخلت تاء الفرق في (فعول) ولكنه شاذ، وإنما قال: "تا الفرق" احتزازًا من التاء اللاحقة لفعول، وليست للفرق أصلا، كقولهم: امرأة صرورة، ومنونة، أي كثيرة الامتنان، وعروفة بالأمور، ولجوجة، من اللجاج، وفروقة، من الفرق، وملولة، من الملل، وألوفة، إذا كانت تألف، ومن هذا كثير، فالهاء في مثل هذا ليست للفرق. والدليل على ذلك قولهم: رجل صرورة، ومنونة، وعروفة، ولجوجة. وكذلك سائر المثل، يستوى فيها المذكر والمؤنث مع وجود التاء، فأين معنى الفرق فيها؟ وإنما لاحقه للمبالغة، كما سيأتي التنبيه عليه آخر الفصل إن شاء الله. فلما كانت التاء هنا لاحقة في (فعول) كثيرًا جدًا بين مقصوده أولاً بقوله: "ولا تلي فارقة"، وثانيًا بقوله: "تا الفرق". وأما (مفعال) فلا أعلم مجئ التاء فيه للفرق، ولكن جاءت تاء المبالغة فيه كثيرًا، وهي التي تحرز الناظم منها، نحو رجل مجذامة، أي قاطع للأمر،

قال الهذلي: يجيب بعد الكرى لبيك داعيه ... مجذامة لهواة قلقل عجل و(مجذام) أيضًا. ورجل معزابة، ورجل مطرابة، وما أشبه ذلك، مما تدخله التاء في المذكر، فلا يصح فيه ادعاء الفرق. ومما شذ في (مفعيل) قولهم: رجل مسكين، وامرأة مسكينة، شبهوها بفقيرة، فالتاء فيها للفرق، فإن جاء في هذا البناء (مفعيلة) فإما للفرق شذوذًا، وإما لغيره، ولا يبالي بالكثرة فيه. ومما شذ في (مفعل) / ناقة مصكة، وجمل مصك، أي قوي شديد. قال سيبويه: و (مفعل) قد جاءت الهاء فيه كثيرًا، نحو: مطعن ومدعس. قال: ويقال: مصك، ومصكة، ونحو ذلك. فقد جعل سيبويه لحاق الهاء هنا للفرق كثيرًا، ولكنه عند الناظم لم يبلغ الأطراد، بل هو عنده قليل بالنسبة إلى عدم لحاق التاء، ومدعس ويطعن ليس مما تلحقه التاء في المؤنث، نص على ذلك السيرافي.

ثم قال الناظم: "ومن فعيل كفتيل" "من فعيل" متعلق بقوله: "تمتنع" أي تمتنع التاء أيضًا من (فعيل) وقد مضى ما في هذا التعلق من الخلاف، لأن معمول خبر المبتدأ هنا قد تقدم، حيث لا يجوز للعامل أن يتقدم. يعني (فعيلاً) الذي هو مثل (قتيل) إذا جرى صفة على موصوف مذكور لفظًا أو معنى، فإن التاء تمتنع منه غالبا، يعني تاء الفرق فالألف في قوله: "التا تمتنع" لتعريف العهد في الذكر وقد تضمن هذا الكلام، لامتناع دخول تاء الفرق، شرطين: أحدهما الذي أعطاه المثال في قوله: "كقتيل" وهو (فعيل) بمعنى (مفعول) وذلك (فعيلاً) يأتي على وجهين في الاستعمال المشهور، فأحد الوجهين أن يكون بمعنى (فاعل) فهذا لابد من لحاق علامة الفرق فيه، نحو: كريمة، وشريفة، وظريفة، وعليمة، ورحيمة، ونبيلة، وعتيقة في الجمال، وما أشبه ذلك، فجرى مجرى (فاعل) لأن (فعيلاً) يجري على الفعل نحو: ظرفت، فهي ظريفة، ففعيل جار اسم فاعل على (فعل) اطرادًا، فصار كفاعل مع (فعل). ومن هذا القسم تحرز الناظم حين نبه بالمثال، من حيث كان دخول التاء هنا قياسًا، وعلى هذا ما جاء من المعتل ظاهر أمره أنه (فعيل) وكان بمعنى (فاعل) فدخلته التاء في المؤنث، فهو (فعيل) حقيقة، نحو: امرأة حيية، وبهية وعيية، فإن لم تدخله التاء حمل على أنه ليس على وزن (فعيل) حقيقة، وإنما هو (فعول) كبغي في قوله تعالى: } وما كانت أمك بغيًا} فلم تدخل التاء، والأصل (بغوى) ثم صيره الإعلال إلى (بغي).

وهذا الموضع مزلة قدم، وقد سأل المازني جماعة من نحويي الكوفة/ بحضرة الواثق، فلم يأتوا بوجه الصواب فيها، فسأله الواثق عنها فقال: لو كان (بغى) على تقدير (فعيل) بمعنى (فاعله) لحقتها الهاء، مثل: كريمة وظريفة، وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى (مفعولة) نحو: امرأة قتيل، وكف خضيب، و (بغى) هذا ليس بفعيل ماهو (فعول) ثم ذهب في المسألة إلى تمامها، نقل القصة الزبيدي. والوجه الثاني: هو الذي أراده الناظم، وهو أن يكون (فعيل) بمعنى (مفعول) نحو: امرأة قتيل، وشاة ذبيح ونطيح، وعين كحيل، وكف خضيب، ولحية دهين، وناقة نهيس ولسيع، إذا لسعتها الحية، وكذلك: لديغ وذميم، أي مذمومة، وامرأة لعين، وشتيم، وستير، بمعنى: مستورة، وناقة كسير، وعقير، وبقير، أي بقر بطنها ومن ذلك كثير. فهذه كلها بمعنى (مفعول) فلم تلحقها التاء فرقا بين اسم الفاعل والمفعول، ولحقت اسم الفاعل دون المفعول، لأنه مبني على الفعل، أي جار عليه كما تقدم، بخلاف اسم المفعول. وهذه العلة جارية في (فعول) بمعنى (فاعل) أو (مفعول) فإنها إذا كانت بمعنى (فاعل) لم تجر على الفعل، فلم تلحقها التاء، ولحقت في المفعول فرقا بينهما بهذا علل ابن الأنباري.

والشرط الثاني: لامتناع دخول تاء الفرق: أن يكون (فعيل) الذي بمعنى (مفعول) قد تبع موصوفة، وذكر معه، وذلك قوله: "إن تبع موصوفه" وضمير "تبع" هو "فعيل". ومثال ذلك ما تقدم من قولك: كف خضيب، ولحية دهين. وقال تعالى: } وقالت عجوز عقيم} ويدخل تحت هذه التبعية ما لو كانت الصفة خبرًا عن موصوفها، نحو: شاتك ذبيح، وكفك خضيب، فإنها جارية عليه من جهة المعنى. وكذلك الحال، نحو: مررت بناقتك طليحًا، ورأيت كفك خضيبًا. ويدخل أيضًا تحت معنى التبعية التبعية تقديرًا لا لفظًا، كقولك: مررت بامرأتين صريع وجريح، ورأيت نساءك ما بين لديغ وجريح، ونحو ذلك. فأما إن تتبع الصفة التى على (فعيل) موصوفها، فمفهوم هذا الشرط أن التاء لا تمنع، بل تدخل على المؤنث مطلقا، وذلك صحيح. وقد أعطى هذا الكلام، على ما وقع من التفسير المتقدم، أن (فعيلاً) غير الجاري على الموصوف هو الذي استعمل استعمال الأسماء، لأنه إذا لم يكن كذلك كان على تقدير الموصوف. وقد ثبت أن مثل هذا داخل في لفظ التابع لموصوفه، ومثال هذا قولهم: أكيلة السبع، وقال الله تعالى: } والمتردية والنطيحة}، وقرأ الشعبي: "وأكيلة السبع" وكذلك:

الذبيحة، وفريسة الأسد، والضحية، وفي الحديث: "كما يمرق السهم من الرمية". وقولهم: (هذه قتيلة بني فلان) من هذا، كقولهم: هذه فريسة الأسد. فالوجه الذي لأجله لحقت التاء في غير التابع لموصوفه هو استعماله استعمال الجوامد، فصار مستقلاً في الحكم بنفسه، لا يفتقر إلى ما يجري عليه. وقوله: "غالبًا" نبه به على أن ما اجتمع فيه الشرطان من (فعيل) فعدم لحاق التاء فيه غالب أكثري. وقد يأتي في كلام العرب بالتاء على غير الغالب، فيوقف على محله، ولا يقاس عليه، قالوا: ناقة بكيء، إذا قل لبنها، كأنها منعته. ويقال: بكيئة أيضًا. ويقال: نعجة ذبيحة، ونعجة نطيحة، والأكثر ذبيح، ونطيح. وقالوا: امرأة ستير، وستيرة، وأمة رقيق، ورقيقة، وأمة عتيق، وعتيقة، أي معتقة، وامرأة جليدة، أي مجلودة، وملحفة جديد. قال الفراء: وبعض قيس يقولون: جديدة، هذا إن قيل إنهما بمعنى مجدودة، أي مقطوعة. وقد غلط الفارسي في "التذكرة" من قال هذا، لأنه مأخوذ من الجدة ضد الخلوقة. قال: ولا معنى للقطع في هذا، ولو كان كذلك لم تدخله الهاء. وقد حكى سيبويه إدخالها، قال: وهذا من الشاذ عن الاستعمال، وإن

لم يكن شاذًا عن القياس، لأن القياس كان أن تدخل التاء كما تدخل في ظريفة، وشريفة، ونحوهما، إلا أنه شذ في أحرف، نحو: ريح خريق، وكتيبة خصيف، وأحرف أخر. وقد تدخل التاء الفارقة هنا قليلا، نحو: رجل رهين بعمله، وامرأة رهينة، قال الله تعالى: } كل امرئ بما كسب رهين} وقال تعالى: } كل نفس بما كسبت رهينة} ويقال للرجل: أخيذ، أي أسير، وللمرأة: أخيذة، حكاه ابن الأنباري عن يعقوب. وحصر الناظم عدم اللحاق في هذه الأبنية الخمسة يشعر بأن ما جاء من غيرها، ولم تلحقه التاء، ليس في الحقيقة، فمن ذلك (فاعل) و (مفعل) و (مفاعل) فإن التاء لا تلحقها في الأكثر كغيرها مما ذكر. تقول في الأول: امرأة حائض، وطالق، وطاهر، وطامث، وعاقر، ونحو ذلك، فلا تلحق التاء وتقول في الثانية: امرأة محمق، ومذكر، ومؤنث، وذئبة مجر، وظبية مخشف، ومغزل، ومطفل ونحوه. وتقول في الثالث: قطاة مطرق، إذا دنا خروج بيضها، وناقة مملح، إذا كان فيها شيء من شحم، ومعضل، إذا اشتد النتاج عليها. وتقول في الرابع: ناقة مجالح، إذا درت في القد والجوع، وناقة مقامح، إذا أبت أن تشرب الماء، ومعالق، في معنى: علوق، وهي التي

لا ترأم بأنفها ولا تدر، ومغار، إذا نفرت فرفعت الدرة، وممارن، إذا ضربت فلم تلقح، فكثر ذلك من الفحل ومنها. ومن ذلك أشياء. فهذه أبنية ليست مما تقدم، وإن لم تلحقها التاء في المؤنث، لأنها جارية في المعنى على مذكر، كأنه قال: شيء حائض، أو مطفل، أو مطرق، أو نحو ذلك، أو تكون على معنى النسب، لا على معنى الفعل، كأنه قال: ذات كذا، إذ لو كانت على معنى الفعل لكانت بالتاء مطلقا، كقولك: حائضة غدًا، نحو ذلك. وهكذا تقول العرب إذا أرادت معنى الفعل. وقد جعل ابن الأنباري هذه الأبنية، ما عدا فاعلاً، مما لا تلحقه التاء في المؤنث، وجعل (فاعلاً) على وجهين، فما كان للمذكر والمؤنث لحقته التاء للتفرقة، وما اختص بالمؤنث لم تلحقه التاء، وهو مذهب الفراء فيه، فجعل الاختصاص بالمؤنث مجردًا مما لا يحتاج معه إلى التاء. وارتضاه ابن الأنباري، ورد هذا المذهب جماعة البصريين، والناظم منهم، ولتفصيل الكلام في ذلك مجال واسع لا يسع ذكره في هذا المختصر، ويكفيك منه أن العرب لا تقول: امرأة حائض غدًا، إذا أرادت معنى الفعل، وإنما تقول: حائضة غدًا (فلو كان عدم لحاق التاء لأجل الاختصاص فلا يتوهم تذكير - لكانوا خلقاء أن يقولوا: امرأة حائض غدًا) وعلى هذا ألزم من ألزمه ألا تلحق التاء في الفعل إذا كان ذلك الفعل لا حظ للذكر فيه، نحو: طمث هند، وحاض فاطمة، إذ

التفرقة حاصلة، من جهة المعنى بين هذا وبين قولك: قام زيد وخرج عمرو. وقد رام ابن الأنباري الانتصار للفراء في هذا بما لا حاجة إلى ذكره، فإن اردت الاطلاع عليه فانظره في "المذكر والمؤنث" له. وعلى الجملة فالبصريون أقرب إلى الصواب في المسألة والله أعلم. وهنا مسألتان: إحداهما: أن الناظم لما كان قد قيد التاء بالفرق في هذا الفصل، إذ قال: "ولا تلي فارقة فعولاً" ولم يقل: ولا تلي فعولاً - أشعر ذلك من كلامه بأن التاء تأتي غير فارقة، فلابد من ذكر أنواع التاء المشهورة وهي خمسة: أحدهما: التي ذكر، وهي تأتي في الأسماء والصفات، أما في الصفات فظاهر، لأنها محمولة في ذلك على الفعل، كطالع وطالعة. وأما في الأسماء فهي على وجهين: الأول: أن تكون فارقة بين المذكر والمؤنث وإن اختلف اللفظان، بمعنى أنهم لما أرادوا أن يؤنثوا أتوا بالعلامة، وتركوا المذكر على أصله، نحو: غرفة، وقرية، ومدينة، وعمامة، وشقة، وبلدة، فهذا ما أرادوا تأنيثه. وقالوا: حجر، وتراب، وثوب، ودرهم، ومنزل، وقمر، فهذا ما أرادوا تذكيره، فقد حصل الفرق بالتاء هنا على الجملة، لأن التأنيث غير معروف في مثل هذا إلا من جهة اللفظ، وهو بأحد العلامتين. وحين أعوزت العلامة رجعوا إلى أحكامٍ أخر لفظيةٍ، عرفوا بها كون اللفظ في تقديرها، كدار وشمس، وقد تقدم. والثاني: أن تكون فارقة بين المذكر والمؤنث مع اتفاق اللفظ، وهو على وجهين:

أحدهما: أن تكون التفرقة بين المذكر والمؤنث. والآخر: أن تكون التفرقة بين الواحد والجمع. فالأول هو ظاهر قصد الناظم، وله في السماع كثرة، لكن في المؤنث والمذكر المعنوي، كقولهم: امرؤ وامرأة، والمرء والمرأة، وهر وهرة، وعقرب وعقربة، ووعل ووعلة، وأتان وأتانة، وطائر وطائرة، وجؤذر وجؤذرة، وثور وثورة، وشيخ وشيخة. وفيما نسخ من القرآن: } الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة} وغلام وغلامة، أنشد الفارسي وغيره: ومركضة صريحي أبوها ... يهان لها الغلامة والغلام ورجل ورجلة، أنشد الفارسي أيضًا وغيره: خرقوا جيب فتاتهم ... لم يراعوا حرمة الرجله وبرذون وبرذونة؛ أنشد ابن الأنباري للنابغة الجعدي:

وبرذونة بل البراذين ثغرها ... وقد شربت من آخر الصيف أيلا وحمار وحمارة، وبكر، للفتى من الإبل، وبكرة للأنثى، قال عروة: أكلف من عفراء ستين بكرة ... ومالي يا عفراء غير ثمان وأسد وأسدة. وثم أشياء غيرها هذا. والثاني: هو التفرقة بين الواحد والجمع، نحو تمرو تمرة، وشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وبر وبرة، وجراد وجرادة، وذلك في أسماء الأجناس، ألحقوا التاء هنا دلالة على المفرد، فإذا لم تلحق دلت على الجنس، ويتبع ذلك التأنيث، فالتمرة مؤنثة، وكذلك الشجرة، وسائر مفردات الجنس. وأما الجنس فللعرب فيه التذكير والتأنيث، نحو قوله تعالى: } كأنهم أعجاز نخل منقعر} وفي آية أخرى: } نخل خاوية}. وقد جاء هنا التأنيث بالعكس، فأنثوا الجنس، وذكروا المفرد، قالوا: رجل

بغال وجمال، فإذا أرادوا الجمع قالوا: بغالة وجمالة، أنشد الفارسي قال: أنشد أبو عبيدة: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا وحمار للواحد، وحمارة للجمع، ومنه الكمء للواحد، والكمأة للجميع. قال أبو عمرو: سمعت يونس يقول: هذا كمء كما ترى، لواحد الكمأة، فيذكرونه، فإذا أرادوا جمعه قالوا: هذه كمأة. وقال أبو زيد: قال منتجع: كمء واحد، وكمأة للجميع وقال أبو خيرة: كمأة للواحد، وكمء للجميع، فمر رؤبة بن العجاج فسألوه فقال: كمء وكمأة، كما قال منتجع. وهذا النوع قليل، والشاعر هو الأول. والنوع الثاني: من أنواع التاء: أن تأتي للمبالغة في المدح أو الذم، وذلك قولك: رجل علامة، ونشابة وسألة، من السؤال، وروية. وقال أبو الحسن في قولهم: (رجل فروقة، وملولة، وحمولة): ألحقوها التاء للتكثير، كنيابة وراوية. وقالوا: رجل فقاقة، وهلباجة، أي أحمق، ورجل زميلة، أي جبان

ضعيف، ورجل تلقامة وتلعابة. وقد يسقطون التاء من هذه الأسماء. ووجه المبالغة أنه ذهب به إلى الداهية في المدح، وإلى معنى البهيمة في الذم، قاله الفراء. والنوع الثالث: أن تلحق على معنى النسب، نحو: المهالبة، جمع مهلبي، والمناذرة، جمع منذري، والأشاعثة، جمع أشعثى، والأشاعرة جمع أشعري، فجاء الجمع المكسر في هذه الأشياء على حد جمع التصحيح، في كون ياء النسب حذفت فيهما، فصارت التاء اللاحقة في التكسير دالة على النسب، كما صار الجمع بالواو والنون دالاً على ذلك. والنوع الرابع: أن تأتي للعجمة، وجعلها المؤلف في "التسهيل" للتعريف لا للعجمة، نحو: موازجة، جمع موزج، وهو الخف، وجوارية، جمع: جورب، وسبابجة، جمع سبيجي، وهو قوم من السند، كانوا بالبصرة يستأجرون، قالوا: والهاء فيه للعجمة والنسب. والنوع الخامس: أن تأتي عوضًا من محذوف، وذلك نوعان: أحدهما: أن تكون عوضًا من محذوف غير لازم الحذف، وهي اللاحقة لمثال (مفاعيل) في الجمع، نحو: جحجاح، للسيد، وجحاجحة، وزنديق وزنادقة، وفرزان وفرازنة، ونحو ذلك. ويجوز أن تأتي بالياء ولا تأتي بالهاء، وهما متعاقبان، قالوا: والتاء في هذا النوع لحاقها عوضًا قياس مطرد، فتقول في (قنديل): قنادلة،

وفي (منديل): منادلة، وما أشبه ذلك. والثاني: أن تعوض من لازم الحذف، نحو: رئة، وشية، وفئة، ومائة، وبابه، فالتاء هنا لازمة، إذ لا يرجع ما عوضت منه. وجعلوا أيضًا من أنواع التاء أن تكون لتأنيث الجمع نحو: صياقلة، وصيارفة، وقشاعمة. وكذلك التاء في (أفعلة) و (فعلة) ونحو ذلك كم أبنية الجموع. وجعلوا من ذلك إتيانها لتأكيد التأنيث، استيثاقًا منه وتوكيدًا، وهو نحو: غرفة، وكدية، وعقبة. وقد تقدم تسويغ هذا النوع في نوع ما جاء للفرق بين المذكر والمؤنث. وإنما نبهت على أقسام التاء لتنبيه الناظم كما تقدم، وإلا لكان هذا الشرح غنيًا عن ذلك، ولكن القصد استجلاب الفائدة مع اتباع النظم، لا النقل المطلق، فإن الكتب المبسوطة أغنت عن هذا. والله ينفع بالقصد بفضله. المسألة الثانية: أنه لما قال: "ولا تلي فارقة" أي حال كونها فارقة - دل على أن التاء التي ذكر، وهي تاء التأنيث، هي المنقسمة، لأنه أعاد الضمير على التاء المتقدمة الذكر في قوله: "علامة التأنيث تاء أو ألف" ثم قسمها هنا إلى فارقة وغير فارقة، فدل على أنها تاء ألف التأنيث في جميع الأقسام، وهذا صحيح، نص عليه الفارسي في "التذكرة" فقال حين ذكر التاء، وأن التي للعوض يجتزأ بها عن المرة الواحدة، قال: لأن هذه التاء، وإن اختلفت معانيها، فكان منها ما يدل على الواحد من الجنس،

نحو: جرادة وجراد، ومنها ما يدل على العجمة نحو الموازجة، والسبابجة، ومنها ما يدل على النسبة نحو: المهالبة. ومنها ما يكون بدلاً من حرف كان يلحق الكلمة، نحو: زنادقة - فكلها تجتمع في أنها علامة تأنيث، ألا ترى إنك إذا سميت بشيء من هذه الضروب، التي تلحقه الهاء مع اختلافها، اتفقت في أنها لا تنصرف في المعرفة، فهذا يدل على أنه كالشيء الواحد، والقبيل المفرد، ومن ثم لم يجز أن تدخل في أوصاف القديم سبحانه، نحو: علامة، لأن لحاقها للتكثير لم يخرجها عن أن تكون للتأنيث. وما قاله صحيح، فكأن الناظم نبه على هذا المعنى، وهو حسن من التنبيه إذا كان قصده. ولما أتم الكلام على ما يتعلق بالتاء من الأحكام شرع في الكلام على حكم (الألف) ومواضعها، فقال: وألف التأنيث ذات قصر ... وذات مد نحو أنثى الغر والاشتهار في مباني الأولى ... يبديه وزن أربى والطولى ومرطى ووزن فعلى جمعا ... أو مصدرًا أو وصفة كشعبى وكحبارى سمهى سبطرى ... ذكرى وحثيثى مع الكفرى كذاك خليطى مع الشقارى ... واعز لغير هذه استندارا

قسم الألف التي للتأنيث قسمين: ألفًا مقصورة، وهي ذات القصر، وهي الباقية على أصالتها، ولكونها قصرت عن الحركة سميت مقصورة، أو لكونها لم يقع قبلها مدة. وألفًا ممدودة، وهي ذات المد، ولما كان حرف المد موجودا قبلها، وهي آتية بعده نسب المد إليها. ومثل الممدودة بأنثى الغر، والغر: جمع الأغر، وهو ذو الغرة، والغرة: بياض في جبهة الفرس، يقال: فرس أغر، والأغر: الأبيض. وعلى الوجهين فالأنثى: غراء على (فعلاء) فالألف هنا ممدودة، وهي التي صارت همزة لضرورة الإعلال، لأنها اجتمعت مع ألف المد، وهما ألفان فلا يجتمعان، فقلبوها همزة. وترك المقصورة لبيانها في نفسها، من حيث هي باقية على أصلها. ثم أخذ يذكر مواضع الألف المقصورة، ومواضع الممدودة لأنهما قد تلتبسان على الطالب، إذ كانت الهمزة تأتي آخر الكلمة فلا يعرف كونها للتأنيث، وقد تأتي للإلحاق، وقد تأتي للتكثير، فتلتبس إحداها بالأخرى، وأيضًا قد تأتي الكلمة وآخرها يحتمل أن يكون ممدودًا أو مقصورًا أو فيه الوجهان. وهذا الاحتمال إما بحسب المتعلم، وإما بحسب الأمر في نفسه. فمثال التباس همزة التأنيث بهمزة الإلحاق (فعلاء) ومثال التباس الألفين (فعلى) وسيأتي بيان ذلك بحول الله. والتفرقة بين هذه الألفات أكيد في الصناعة، لما ينبني عليه من

الأحكام في (ما لا ينصرف) وفي (التصغير) وغيرهما. وأيضًا فإن المقصورة قد تلتبس بالمدود، بحيث لا يعلم في الكلمة هل آخرها مقصور أم ممدود، وذلك كله لا ينضبط في أعيان الأسماء، وإنما ذلك حظ اللغوي، فأمكنهم، ومنها ما ليس كذلك بل يكون مشتركًا مثل (فِعْلَى) بكسر الفاء، نحو: ضبطها بالأبنية فإن من الأبنية التي آخرها ألف ما يكون مختصًا بألف التأنيث. ذفرى، وذفرى، هو ذو وجهين. وقالوا: معزى ودفلى، فالأولى للإلحاق، والثانية للتأنيث، وكذلك بناء (فعللى) مشترك للألف والهمزة، و (أفعلا) و (فعللا) ومن ذلك كثير، فأرادوا أن يحصروا الأبنية التي تختص بالنوع الواحد دون الآخر، على عادتهم في ضبط ما يرجع من اللغة إلى القياس. فذكر الناظم ذلك، وابتدأ بالأبنية المختصة بالألف المقصورة، فقال "والاشتهار في مباني الأولى" إلى آخره. "الاشتهار" مبتدأ، خبره "يبديه" و"في مباني" متعلق بـ"الاشتهار" والمباني: جمع مبنى، أراد به الأبنية أنفسها و"يبديه" أي يظهره وزن كذا وكذا. يعني أن الألف الأولى في الذكر، وهي المقصورة، اشتهر في مبانيها هذه العدة في الأمثلة المذكورة، فلا توجد فيها الألف إلا التأنيث. وقيد ذلك بالاشتهار، لأن ما ذكر هي التي كثر عنده فيها استعمالاً، بخلاف غيرها من الأبنية، وإن اختصت بالتأنيث فإنها لم تشتهر، ولم يكثر فيها الاستعمال، كما كثر في هذه. وسينبه آخرًا على هذا. وعد من الأبنية المشهورة اثنى عشر بناء.

البناء الأول: بناء (أربى) وهو (فعلى) بضم الفاء وفتح العين، من أبنية التأنيث بالألف، فلا توجد ألفة للإلحاق، إذ ليس في الكلام وزن (فعلل) ولا يكون أيضًا ممدودًا على ما قال: والأربى: الداهية، قال الشاعر: فلما غسى ليلى وأيقنت أيها ... هي الأربى جاءت بأم حبوكرى ومثله (الأرنى) وهو حب بقل يطرح في اللبن، فيثخنه ويحببه، و (أدمى) لموضع. وقيل: الأدمى: حجارة حمر في أرض بني قشير، و (جنفى) اسم موضع، و (الجعبى) عظام النمل التي يعضضن، ولهن أفواه واسعة. و (شعبى) موضع. البناء الثاني: بناء (الطولى) وهو (فعلى) بضم الفاء وإسكان العين. يختص بالتأنيث بالألف، إذ ليس في الكلام (فعلل) بناء أصيلا على مذهب سيبويه والجمهور، فجخدب وجندب ونحوهما، مفرعان عند الضم، وهو عند الأخفش بناء أصيل، فالإلحاق به سائغ، وقد حكى في الإلحاق به (سؤدد) وسيأتي الكلام عليه في التصريف إن شاء الله تعالى. وأيضًا فـ (فعلاء) ممدودًا أتت همزته للألحاق، نحو: قوباء، هو ملحق بقسطاس، فلذلك عد (فعلى) من الختص بألف التأنيث.

و (الطولى) تأنيث الأطول، وهو قياس في "أفعل التفضيل" إذا دخلت عليه الألف واللام، ومثله: الكبرى، والصغرى، والطريقة المثلى، والأخرى، والأولى، وذلك كثير. ومثله في غير التفضيل (الأنثى) و (العذرى) من العذر، واليسرى، والعسرى، والعمرى، من الإعمار، و (العقبى) العاقبة، و (العتبى) الرجوع عما عوتبت عليه والحمى، والحبلى، و (حزوى) موضع, وذلك كثير. البناء الثالث: بناء (مرطى) وهو (فعلى) بفتح الفاء والعين. يختص بالتأنيث بالألف أيضًا، إذا ليس في الكلام وزن (فعلل) وأيضًا فإن (فعلاء) بالمد منتف على ما يقتضيه كلامه. و(المرطى) السريعة من الإبل، يقال: فرس يعدو المرطى، وهو فوق التقريب، ودون الإهذاب، قال طفيل. تقريبها المرطى والجوز معتدل ... كأنها سبد بالماء مغسول وقال الأفوه: وركوب الخيل تعد والمرطى ... قد علاها نجد فيه احمرار وأكثر استعمال هذا البناء في الحركة والسرعة يقال: ناقة وثبى:

شديدة الوثب، وناقة وكرى: شديدة العدو، وناقة وكفى، أي سريعة، وناقة بشكى: سريعة، وناقة ملسى، أي تمر مرًا سريعًا، وكذلك الجمزى: عدو "فيه نزو، وناقة شمجى، أي سريعة. وتكون في غير ذلك، يقال: لقيته الندرى، أي في الندرة، وذفرى: اسم لروضة بعينها، وصورى: موضع، وبردى: نهر بدمشق. البناء الرابع: بناء (فعلى) بفتح الفاء وإسكان العين. وهذا المثال على وجهين في الاستعمال: فأحدهما: أن يختص بالتأنيث بالألف. والآخر: ألا يختص بذلك، فذكر الناظم هنا ما يحتاج إليه، وترك ما عدا ذلك، فللاختصاص بالتأنيث بالألف ثلاثة مواضع وهي التي عدها: أحدها: أن يكون جمعًا لا مفردت، فإنه إذا كان جمعًا لم يكن فيه إلحاق في المفردات، وأيضًا فلم يأت الجمع هنا ممدودًا، وما أوهم خلاف ذلك فهو اسم جمع لا جمع حقيقة، نحو حلفاء، وقصباء. ومثاله: مريض ومرضى، وجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وهالك وهلكى، وصريع وصرعى، , وهو كثير. والثاني: أن يكون مصدرًا، فإن الإلحاق بالألف فيها معدوم، ولم يأت مصدر على (فعلاء) ممدودًا، ومثاله: الدعوى، والنجوى، والعدوى، والرعوى، من الرعاية أو الارعواء، والفتوى، والشكوى. والثالث: أن يكون صفة، ومثه بشبعى، وهو تأنيث (شبعان) و (فعلى فعلان) قياس، نحو: سكران وسكرى، وغضبان وغضبى، وملآن وملأى، وريان وريا، وحران وحرى، وصديان وصديا، وشهوان وشهوى، وظمآن وظمأى، ونحو ذلك.

وتحرز بالصفة من الاسم، فإن الاسم، على (فعلى) مشترك الألف بين التأنيث والإلحاق، فالتأنيث نحو: علقى، ورضوى، وسلمى، وعوى، والإلحاق نحو: علقى، بالتنوين ويقال: جاء القوم تترى، ينون ولا ينون، وقرئ بالوجهين قوله تعالى: } ثم أرسلنا رسلنا تترا} ومعناه: واحد خلف آخر، ومنه أيضًا: أرطى، منونا لا غير. و(فعلى) أيضًا مشترك بين المد والقصر إذا كان اسمًا، فمن المقصور ما ذكر آنفًا. والممدود نحو: النعماء، والقصباء، والحلفاء، والشعراء. وإنما قيد الصفة بالمثال ليبين لك أي صفة أراد، إذ ليس كل صفة على (فعلى) تختص بالألف دون الهمزة، بل تأتي الصفة على قسمين: أحدهما: أن تختص بالألف دون الهمزة، وذلك ما كان فيه تأنيث (فعلان) نحو: سكرى، وغضبى، وريا، وتأنيث: سكران، وغضبان، وريان. ومنه مثاله، لأنه تأنيث (شبعان). والآخر: أن تختص بالهمزة دون الألف، وذلك ما كان منها تأنيث (الأفعل) نحو: حمراء، وصفراء، وصهباء، وسوداء، على ما سيذكره في فصل الممدودة، فلإخراج هذا القسم قيد (فعلى) بالمثال. والله أعلم. وأما ما عدا هذه الثلاثة فلا تختص بالتأنيث، بل قد تكون للتأنيث وللإلحاق، وقد يأتي ممدودًا أيضًا مختصًا بهمزة التأنيث كما ذكر. البناء الخامس: بناء (حبارى) وهو (فعالى) بضم الفاء. يختص بالتأنيث بالألف، إذ ليس في الأسماء بناء (فعالل) فيلحق

به، وأيضًا فلم يأت هذا البناء ممدودًا، والحبارى: طائر، قال الشاعر: توقى بأطراف القران وعينها ... كعين الحبارى أخطأتها الأجادل ويروى "توقى" ومثله (الخزامى) لخيري البر. ويقال: قصاراك أن تفعل، أي غايتك، و (جمادى) للشهر، و (النعامى) ريح الجنوب، و (الشكاعى) شجرة ذات شوك كثير، وزنابى العقرب: قرنها، والذنابى: الذنب، ويقال: هو منبت الذنب. والسمانى: طائر، ونحو ذلك. البناء السادس: بناء سمهى وهو (فعلى) بضم الفاء وتشديد العين مفتوحة. يختص بالتأنيث بالألف، لأن مثال (فعلل) و (فعلاء) غير موجود، والسمهى: الباطل، يقال: ذهب في السمهى، إذا ذهب في الباطل، وأيضًا فيقال: للهواء الذي بين السماء والأرض السمهى. ويقال السمهى: الذي يقال له مخاط الشيطان. ومثله الحلكى، وهي شحمة الأرض، وبدرى، من البدار.

البناء السابع: بناء (سبطرى) وهو (فعلى) بكسر الفاء وفتح العين وتشديد اللام. يختص أيضًا بالتأنيث بالألف لعدم مثال (فعلل) و (فعلاء). والسبطرى: مشية فيها تبختر، نقله القالي عن ابن دريد. ومثله (الضبعطى) كلمة يفزع بها الصبيان، و (الزبعرى): الضخم. البناء الثامن: بناء (ذكرى) وهو (فعلى) بكسر الفاء وإسكان العين. والذكرى: مصدر، نحو وله تعالى: } تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}. ونبه بهذا المثال على أن اختصاص هذا البناء بألف التأنيث إنما يكون في المصادر، وذلك أن هذا البناء على وجهين: أحدهما: أن يأتي مصدرًا وهو المقصود، فلا تكون ألفة للإلحاق، لأن الإلحاق فيه تابع للإلحاق في الفعل، والفعل عرى عن ذلك، ولا يكون ممدودًا أيضًا، لعدمه في المصادر، ومثله: السيمى. والآخر: أم يأتي اسمًا، فليس بمختص بألف التأنيث، بل قد يكون كذلك، نحو: الدفلى، والشعرى، و (الحجلى) للحجل. وقد تكون ألفة للإلحاق، فإن وزن الواحد، نحو: الذفرى، فإن للعرب فيه وجهين، منهم من يقول: ذفرى أسيلة، ممنوع الصرف، ومنهم من يقول: ذفرى أسيلة مصروفًا. وقد تأتي أيضًا ممدودة للإلحاق، نحو: علباء وحرباء، فلأجل هذا أتى بالمثال من المصدر ليحرز مراده.

البناء التاسع: بناء (حثيثى) وهو (فعيلي) بكسر الفاء والعين وتشديدها. ويختص بالتأنيث بالألف، وإذ ليس في الكلام مثال (فعيلل) ويقتضى أيضًا عدم (فعيلاء) وهو اسم مصدر من: حثثته على الشيء، أي: خضضته عليه. وهذا البناء مختص بأسماء المصادر، فمن ذلك: الهجيري، بمعنى العادة، وأيضًا بمعنى الهجر من الكلام، والهزيمي، من الهزيمة، والخصيصى من: خصصت، والخليفى: الخلافة، والرميا: من رميت، والرديدى: من رددت، والمكيثى: من المكث، والدليلى من الدلالة. البناء العاشر: بناء (الكفرى) وهو (فعلى) بضم الفاء وفتح العين وتشديد اللام. يختص بالتأنيث بالألف، إذ ليس في الكلام مثال فعلل، ولا فعلاء. والكفرى، والكافور: وعاء طلع النخل، سمى بذلك لأنه يكفره، أي يغطيه. والشيبانى يجعله الطلع نفسه، والفراء يجعله الطلع حين يشق. قال القالى: والأول هو الصحيح، لأن الاشتقاق يدل على صحته ومثله: (عرضى) من الاعتراض. البناء الحادي عشر: بناء (خليطى) وهو (فعيلى) بضم الفاء وتشديد العين المفتوحة. يختصف بالتأنيث بالألف لفقد بناء (فعيلل) و (فعيلاء) والخليطى: من الاختلاط، يقال: وقعوا في الخليطى، أي اختلط

عليهم أمرهم، ومثله النهيبى، من الانتهاب، وذهبت أبله في العميهى والكميهى، إذا تفرقت في كل وجه، فلم يدر أين ذهبت، واللغيرى: الحفيرة الملتوية التي يحفرها اليربوع، والشريطي: من الاشتراط. البناء الثاني عشر: بناء (الشقارى) وهو (فعالى) بضم الفاء وفتح العين المشددة. يختص بألف التأنيث لأن مثال (فعالل) و (فعالاء) غير موجود. والشقارى: نبت، ومثله: الحوارى، للدقيق المعروف، والعوارى، والخبازى الخضارى، والزبادى، أسماء نباتات. هذه جملة الأبنية التي أشار إليها الناظم، وقيدها بالشهرة، وكثرة الاستعمال بقوله: (والاشتهار في مباني الأولى) إلى آخره. ثم نص على أن ما عدا هذه الأبنية نادر في الأبنية المختصة بالتأنيث، فقال: "واعز لغير هذه استندارًا". أي أنسب لغير هذه الأبنية المذكورة الاستندار والقلة، ولم يذهب إلى ذكرها على التفصيل، لقلة استعمالها، ولكونها في عدم الفائدة الكلية كنقل اللغة الذي لا يذهب إليه النحوى من حيث هو نحوى. وقد حصر في "التسهيل" ما اشتهر وما لم يشتهر، ولابد من ذكر بعض تلك النوادر المشار إليها في كلامه. فمن ذلك (أفعلاوى) ثلاثيًا مضاعف اللام، نحو (الدفقى) لمشية فيها تدفق وإسراع، و (الجيضى) لمشية فيها اختيال، و (الهمقى) مشية فيها تمايل، وهو نادر.

ومنها (فاعلى) نحو: الباقلى، بتشديد اللام. قال القالى: ولا أعلم له نظيرًا في الكلام. ومنه (فعليًّا) نحو: مرحيا، من المرح، وقلهيًّا، ودربيًّا، وبرديًّا، وهو من النادر أيضًا. ومنها (فعلوتا) والذي حكى منه: الرهبوتا والرحموتا. ومنها (فعلنا) نحو: العرضنى، ولم ينقل القالى غيره. ومنها (إفعلى) نحو: إيجلى، قال القالي: ولم يأت على هذا غيره. ومنها (إفعيلى) نحو: إهجيرى، وإجريَّا، وهو نادر، ونحو هذا من الأبنية النادرة. وعزا الشيء عزوًا وعزيًا: نسبه. وأتى بـ"الاستندار" في معنى الندور، وهو السقوط والشذوذ. ثم على الناظم في هذا الفصل بحسب قصده اعتراضات: أحدهما: أنه نص على أنه يأتي بالأشهر من أبنية الألف المقصورة، وقد وجدنا من هذه الأبنية ما ليس بمشهور ولا كثير. فمنها (أربى) فهو قليل نادر، قال أبو بكر خطاب: وقد شذ من (فعلى) ثلاثة أحرف، أتت مقصورة، وهي (الأربى) للداهية، و (شعبى) اسم بلد، و (أدمى) اسم موضع، ولم يحك غير هذه الثلاثة الأحرف. ونحو هذا قال غيره حين جعلوا (فعلى) من الأبنية المختصة بالمد.

فهذا ضد ما ذهب إليه الناظم فيه، وجملة ما حكى القالي فيه، وهو المتتبع للسماع، والحافظ للنوادر، ما تقدم التمثيل به ولم يزد، وقال: إنه قليل جدًا. وقال سيبويه في "الأبنية" ويكون على (فعلى) وهو قليل في الكلام، ثم حكى ثلاثة ألفاظ. ومنها (شمهى) فهو نادر. قال سيبويه: وجاء على (فعلى) وهو قليل، قالوا: السمهى، وهو اسم، والبدرى، وهو اسم. ولم يحك منه القالى إلا ثلاثة الألفاظ المتقدمة، فهو أندر من (فعلى) وقد جعله الناظم من الأبنية الشهيرة. ومنها (سبطرى) فهو نادر أيضًا، ولم يذكر منه القالى إلا ثلاثة الألفاظ المذكورة قبل، نعم حكى من (فعلى) الثلاثي: الحمقى، والدفقى، والجيضى خاصة، والجميع إذا اجتمع من قبيل النادر غير المشهور، فهو، على كل تقدير، على غير ما زعم الناظم. وقال سيبويه في الأبنية: ويكون على مثال (فعلى) وهو قليل، قالوا: السبطرى، وهو اسم والضبغطى، وهو اسم. ومنها (الكفرى) فهو من قبيل النادر أيضًا، إنما حكى منه القالي: عرضى، وكفرى، وسلحفى، ثم قال: ولا نعلم أتى من هذا المثال، غير ما ذكرنا، هذا مع أنه أدخل فيه (سلحفى) وهو رباعي، ليس مثل (الكفرى) فالذي صح من نقله فيه لفظان خاصة.

وقال في تقرير الأبنية: إن هذا البناء قليل جدًا. وقال سيبويه: ويكون على (فعلى) قالوا: العرضى، وهو اسم. ومنها (الشقارى) فهو من النادر، إذ لم يحك منه القالى غير ما تقدم، إلا أنه لم ينص على أنه نادر، وكذلك سيبويه لما ذكر بناء (فعالى) لم ينبه على ندوره، فلعله استند إلى هذا القدر. هذا ما على الناظم في شهرة هذه الأبنية. وعليه في بناء (الطولى) نظر من جهة أخرى، لأنه جعله مختصًا، إذ ليس له ما يلحق به، لعدم (فعلل) أصل بناء. وقد أثبت الناظم في "التصريف" فعللاً، جريًا على مذهب الأخفش والكوفيين، وهو مذهب يترجح عند القائل به بقولهم: سؤدد، فألحقوه ببرقع وجخدب، والإلحاق إنما يكون بما هو أصل بناء، فعلى هذا يكون ما جاء من نحو (بهماة) ملحقًا، لأن الألف يمتنع مع التاء أن تكون للتأنيث كما تقدم، وعند ذلك لا يكون (فعلى) مختصًا بالتأنيث. وقد يجاب عن هذا بوجهين: أحدهما: أن مثاله يفيد مراده، وهو أنه مثل بفعلى الأفعل، فقد يقال: لم يرد إلا هذا بخصوصه، وعلى هذا لا يدخل له ما لم يكن من باب التفضيل الذي يكون فيه الإلحاق. والثاني: أن (بهماة) حكى نادرًا جدًا، ليس له في هذا البناء نظير، ولم يكثر فيه استعمال التاء، فلا يعتد به في نقض أصل شائع الاستعمال، وهو الاختصاص بالتأنيث.

الاعتراض الثاني على كلامه: أنه ذكر في هذه الأبنية ما ليس مختص بالألف المقصورة، بل يشاركها فيها الممدودة، وقد جعلها في كتاب "التسهيل" من قبيل المشترك وذلك بناء (أربى) وبناء (مرطى) وبناء (حثيثي) وبناء (خليطى). فأما بناء (أربى) وهو (فعلى) فهو أشهر في الممدود منه في المقصور، ولذلك جعلوا بناء (فعلى) مثلما يعرف به الممدود من المقصور، لاطراده في الممدود، واعتذروا عن نحو (أربى) وأشباهه بالقلة والندور. ومثاله في المجموع: علماء، وحكماء، وفقهاء، وهو كثير. وفي المفردات ناقة عشراء، والعدواء للشغل، والعرواة: الرعدة، والغلواء، والرحضاء: العرق. والقوباء، والخيلاء، والنفساء، والبرحاء، وهو يتنفس الصعداد، ونحو ذلك. وأما بناء (مرطى) وهو (فعلى) فقد جاء منه: قرماء، لموضع، وجنفاء، لموضع أيضًا، والسحناء: الهيئة، كالسحناء، ودأتاء وتأداء، للأمة، وتسكن الهمزة أكثر فيها. وقالوا: نفساء، في: نفساء، وهي قليلة، والأشهر نفساء، لكن المد في (فعلى) قليل، نبه عليه سيبويه، فكأنه لا يتمكن الاعتراض لهذا. وأما بناء (حثيثى) وهو (فعيلى) فقد جاء منه: الفحيراء، والخصرياء والزليلاء، والمكيثاء، ذكرهما اللحياني.

وأما بناء (خليطى) وهو (فعيلى) فقد تشركه الألف الممدودة، نحو قولهم: دخيلاء، حكى الزبيدي: أنا أعلم بدخيلائك. وهذه الثلاثة نادرة في المد، والذي يتمكن الاعتراض به هو الأول، على أن المؤلف قد أثبت في "التسهيل" أربعة الأبنية من المشترك ولم يفرق بين قلة وكثرة. ثم ذكر الألف الممدودة فقال: لمدها فعلاء أفعلاء ... مثلت العين وفعللاء ثم فعالاً فعللاً فاعولا ... وفاعلاء فعليا مفعولا ومطلق العين فعالا وكذا ... مطلق فاء فعلاء أخذا يعني أن لمد ألف التأنيث مختصة، لا تشركها فيها الألف المقصورة، ولا أيضًا يشركها فيها ألف الإلحاق أو التطويل، بل تكون هذه الأبنية كالعلم الممدودة، فتدخل بذلك فيما ينضم وينحصر بالقياس من اللغة. وجملة الأبنية التي ذكر سبعة عشر بناء: أحدها: (فعلاء) بفتح الفاء وإسكان العين.

يختص بالتأنيث بالهمزة، لأن (فعلالاً) في غير المضاعف معدوم، إلا ما حكى شاذًا من قولهم: ناقة بها خزعال، أي ظلع. والقسطال: الغبار، وذلك غير معتد به. أما (فعلاء) بكسر الفاء، أو (فعلاء) بضمها، فلا يختص بالتأنيث، لوجود (فعلال) و (فعلال) في نحو: قسطاس، وقرطاس، بل هذان البناءان يختصان بالإلحاق، كما اختص (فعلاء) بالتأنيث هذا مذهب البصريين. ومن مثل (فعلاء) قولهم: السراء والضراء، والنعماء، تأنيث (الأفعل) في قولهم: بيضاء، وصفراء، وسوداء، وصهباء، وذلك كثير. وليس مشتركا للممدودة والمقصورة وإن كان الناظم قد ذكر (فعلى) قبل هذا، لأنه إنما ذكرها في مواضع لاحظ فيها للممدودة، وهي كونها جمعًا، أو مصدرًا، أو صفة لمؤنث (فعلان) ولذلك قيدها فقال: "أوصفه كشبعى" وهي في هذه المواضع الثلاثة لاحظ فيها للمد، وإنما تمد في غيرها، وهي عند ذلك مختصة بالمد، لاحظ فيها للقصر. البناء الثاني: (أفعلاء) بفتح الهمزة وكسر العين، وهو أحد ما قيد بقوله: "مثلث العين" أي مضبوط العين بثلاث الحركات، الضمة والفتحة، والكسرة. يختص بالتأنيث بالهمزة لعدم بناء (أفعلال). ومن مثله في المفردات: الأربعاء، لليوم المعروف، والأرمداء، للرماد. وهو في الجمع كثير، نحو: أولياء، وأصفياء، وأنبياء، وأوصياء، وما أشبه ذلك. وليس مشتركا لها وللمقصورة.

البناء الثالث: (أفعلاء) بفتح الهمزة والعين، وهو الذي يعطيه التقييد أيضًا. يختص بالتأنيث لعدم مثله في الأصول. ومن مثله: الأربعاء، لليوم المعروف. قال الأصمعي: اليوم: الأربعاء، بفتح الباء، والأعرف الأربعاء بكسر الباء، إلا في جمع ربيع. وقد حكى أبو زيد عن بني عقيل أنهم يقولون: الأربعاء، بكسر الباء، فهما ثابتان. وهذا البناء قليل في الكلام. البناء الرابع: (أفعلاء) بفتح الهمزة وضم العين، وهو الثالث مما أعطاه تقييد الناظم. بالتأنيث بالهمزة، كما ذكر في أخويه. ومن مثله: الأربعاء، لعمود من أعمدة الخباء. قال القالي: ولم يأت منه غير هذا الحرف، ولم يذكر سيبويه هذا المثال في الأبنية، وإنما جاء من قبل أهل الكوفة، و (أربعاء) أيضًا: موضع. البناء الخامس: (فعللاء) بفتح الفاء واللام. يختص بتأنيث الهمزة، لفقد مثال (فعللال). ومن مثله: عقرباء، وحرملاء، وكربلاء، وثرمداء، وهي أسماء مواضع. وقالوا: لا أدري أي البرنساء هو أي: أي الناس هو. وهذا

المثال جعله سيبويه (فعللاء) فالنون عنده أصلية. البناء السادس: (فعالاء) بكسر الفاء. يختص بالتأنيث بالهمزة، لعدم بناء (فعالال). ومن مثله: القصاصاء، للقصاص. زعموا أن أعرابيًا وقف على بعض أمراء العراق فقال: القصاصاء أصلحك الله، أي: خذلى القصاص. ولم يذكر سيبويه (فعالاء) وهو من مستدرك الزبيدي، وليس من الأبنية المشتركة، إذ ليس في أبنية المقصورة ما هو على (فعالى) وقد نفاه سيبويه عن الكلام. البناء السابع: (فعللاء) بضم الفاء واللام. يختص بالتأنيث بالهمزة، لعدم بناء (فعللال). ومن مثله: القرفصاء، يقال: قعد القرفصاء، إذا قعد على قدميه، وأمس الأرض إليتيه وهو قليل. ولم يذكر (فعللاء) بكسر الفاء واللام، نحو قولهم: ليلة طرمساء، وطلمساء، أي مظلمة، وأرض جلحظاء، أي لا شجر بها. ولعله تركه لكونه من المشترك لأن (فعللى) موجود، نحو: هندبا. وحكى الفراء: قعد القرفصا، إذا ضممت القاف مددت، وإذا كسرتها قصرت. وقد جعله المؤلف في "التسهيل" من المشترك. البناء الثامن: (فاعولاء) بضم العين. يختص بالتأنيث، لعدم بناء (فاعولل) ومن مثله: عاشوراء اليوم المعروف، وقالوا: أصابتهم ضارواء منكرة وهي من الضر، وهو قليل في الكلام.

البناء التاسع: (فاعلاء) يختص بالتأنيث أيضًا، لعدم مثله في الأصول. ومن مثله: الغابياء، والقاصعاء، والنافقاء، أسماء لحجرة اليربوع، والراهطاء: تراب يخرجه اليربوع من حجره ويجمعه، وكذلك الدائماء، ومنه أيضًا: الباقلاء، وعادياء، اسم أبي السموءل الغساني، وليس بمشترك لها وللمقصورة. البناء العاشر: (فعلياء) بكسر الفاء واللام. يختص بالتأنيث، لعدم مثل (فعليال) ومن مثله: الكبرياء، والجربياء، لريح الشمال، ويختص بالممدودة، فلا تشاركها المقصورة فيه. البناء الحادي عشر: (مفعولاء) يختص بالتأنيث كغيره. ومن مثله: المشيوخاء، للشيوخ، المبغولاء، للبغال، والمحموراء، للحمير، والمتيوساء، للتيوس، والمعبوداء، للعبيد، والمصغوراء: الصغار، والمكبوراء: الكبار. ويكثر في أسماء الجموع كما ذكر، ويقال أرض مسلو ماء، كثيرة السلم، ومحضوراء، اسم ماء، وليس بمشترك لها وللمقصورة. البناء الثاني عشر: (فعالاء) بفتح العين والفاء، وهو أحد ما أعطاه قوله: "ومطلق العين فعالا" يعني عدم اختصاص العين بحركة من الحركات الثلاثة، بل يكون البناء معتبرا بأي حركة تحركت عينه، من الضم أو الفتح أو الكسر. وأما الفاء فمفتوحة البتة. ولما أتى بمدة بعد العين لزم من كل حركة ما يناسبها من المدات، فالفتحة تناسبها الألف، فتقول: (فعالاء) والضمة تناسبها الواو، فتقول:

(فعولاء) والكسرة تناسبها الياء، فتقول: (فعيلاء). ولم يحتج إلى التنبيه على هذا اكتفاء بعلم السامع بذلك، ولزوم ذلك للتحريك. و(فعالاء) يختص بالتأنيث بالهمزة، لعدم بناء (فعالال) ولم يجعله مشتركا وإن كان في الكلام (فعالى) لأن (فعالى) مختص بالجمع، وأيضًا ليست هي ألف التأنيث على الحقيقة، وكلامه في ألف التأنيث في المفردات، وإن أرادها في الجمع فحيث هي باقية على أصلها ووضعها الأول، لا بعد التغيير. ومن مثله: العجاساء، للعظيمة من الإبل، والثلاثاء، لليوم، والبراكاء: أن يبركوا إبلهم، وينزلوا عن خيلهم، ويقاتلوا رجالة. وبراكاء كل شيء: معظمه، والطباقاء: الذي ينطبق أمره، والدباساء: الجرادة الأنثى، والخصاصاء: الفقر. البناء الثالث عشر: (فعولاء) وهو أحد الثلاثة المقيدة. يختص بالتأنيث، لفقد مثاله في الأصول، وليس بمشترك لها وللمقصورة. ومن مثله: حرواء، وجلولاء، لبلدين، والحروقاء: الحراق، والكشوثاء، وهو نبات، والدبوقاء: العذرة. البناء الرابع عشر: (فعيلاء) وهو ما أعطاه التقييد أيضًا في كلامه. يختص بالتأنيث، لعدم ما يلحق به من الأصول، وهو أيضًا غير مشترك. ومن مثله: القربثاء، والكريثاء، لضرب من البسر، والكثيراء: الذي يلصق به الشعر، وسميراء: بلد.

البناء الخامس عشر: (فعلاء) بفتح الفاء والعين، وهو أحد ما يعطيه قوله: "وكذا مطلق فاء فعلاء أخذا" أي: بأي حركة تحركت الفاء، من الضم أو الفتح أو الكسر، مع فتح العين لا غير. الجميع مختص بالتأنيث، إذ ليس في الكلام مثال (فعلال) ولا (فعلال) ولا (فعلال) فأما (فعلاء) فمثاله: قرماء، لموضع، وكذا جنفاء، ودأثاء وثأداء الأمة، والسحناء للسخاء، والغالب إسكان العين في الثلاثة، ونفساء: لغة في نفساء. البناء السادس عشر: (فعلاء) بضم الفاء، وهو مما أعطاه إطلاق الفاء. ومثاله: القرباء، والرحضاء، للعرق، والنفساء، والرهطاء، لحجر من جحرة اليربوع، وكذلك القصعاء، والخيلاء. ويقال: فعل ذلك في غلواء شبابه، أي أوله. البناء السابع عشر: باقي الثلاثة، وهو (فعلاء) بكسر الفاء ومثاله: العنباء، للعنب، والحولاء، للماء الخارج مع الولد، والخيلاء، لغة في الخيلاء، والسيراء، للثوب المسير، أي: الذي فيه خطوط، وأيضًا نبت، وأيضًا الذهب. هذه جملة ما ذكر من الأبنية المعرفة بالألف الممدودة، ولم يلتزم الإتيان بما عدا هذا، فورد عليه في هذا المساق سؤالان: أحدهما: أنه لا يخلو أن يكون قصده بالإتيان بهذه الأبنية وحدها، لأجل أن ما عداها نادر بالنسبة إليها، كما قال في المقصورة: "واعز لغير هذه استندارا" أو يكون قصد الإتيان بمثل منها فقط، وكلا الأمرين غير سديد.

أما إن كان قصده أن ما ذكر هو الأكثرى، وما عداه أقلى، فليس الأمر كذلك، لأنه ذكر أمثلة نادرة الاستعمال جدًا، وترك أمثلة لا تقصر عما ذكر في الاستعمال. فمما ذكر من الأبنية الشاذة (أفعلاء). قال القالي حين مثله بأربعاء: ولم يأت [من هذا المثال غيره. و (أفعلاء) كذلك لم يأت منه غير: أربعاء. ولم يذكره سيبويه. و (فعالاء) لم يأت] منه إلا القصاصاء قالوا: وهو نادر شاذ، ولم يثبته سيبويه. قال القالي: والكلمة إذا حكاها أعرابي واحد لم يجب أن تجعل أصلاً، لأنه يجوز أن تكون كذبًا، ويجوز أن تكون غلطًا أيضًا فلم يسمع من ذلك الأعرابي إلا على باب الملك، ولم يسمع منه بعد. قالوا: فلعله بالعجلة واللهف زل لسانه، فلا يقبل منه لهذا الاحتمال و (فعلللاء) لم يذكر القالي إلا القرفصاء. ونص سيبويه على قلته، ولم يذكر منه إلى هذا الحرف. و(فاعولاء) قليل، لم يحك منه القالي إلا عاشوراء، وضاروراء. وكذلك (فعلياء) لم يحك منه إلا لفظين تقدما، وهما: كبرياء، وجربياء. وكذلك (فعولاء) قليل، نص عليه سيبويه قال: ويكون على فعولاء في الاسم، وهو قليل.

وكذلك (فعيلاء) قليل، نص عليه سيبويه أيضًا، ولم يحك منه القالي إلا أربعة الألفاظ المتقدمة. وكذلك (فعلاء) قليل جدًا، وكذلك (فعلاء) أيضًا، فإذن أكثر ما ذكر من الأبنية قليلة الاستعمال. وقد ترك أبنية أخر، منها (فيعلاء) نحو: ديسكاء، و (فعولاء) نحو: عشوراء، و (يفاعلاء) نحو: ينابعاء، و (تفعلاء) نحو: تركضاء، و (تفعلاء) نحو: تفرجاء، و (فعنلاء) نحو: برنساء، عند غير سيبويه. و (فعللاء) نحو: قرفصاء، و (فنغلاء) و (فنعلاء) نحو: عنصلاء، وعنصلاء، و (مفيعلاء) نحو: مشيخاء، ومرعزاء و (فعيعلاء) نحو: مزيقياء، و (فعلاء) نحو: سلحفاء. هذه أبنية مختصة بالتأنيث، وغير مشتركة لها وللمقصورة فكان حقه أن يذكرها، كما ذكر أمثالها. وأما إن كان قصد الإتيان ببعض المثل لينبه على ما بقي، فذلك غير مفيد في صناعة النحو، لأن المثل لا تعطى في مثل هذا النقل قاعدة يستند إليها، لكون الألف الممدودة لا تنضبط إلا بحصر الأبنية، كما انحصرت المقصورة بذلك، وذلك هو الذي قصد فيها، فكان الواجب أن يقصد هنا مثل ذلك القصد. وأيضًا فكا أتى به من الأبنية كثير، والمثل يكفي منها القليل، لا سيما لمن قصد الاختصار. والسؤال الثاني: أن ما ذكر من الأبنية لا يعين كثير منها الألف الممدودة، لوقوع اشتراك المقصورة معها فيها، وإذا كان كذلك لم يوثق بالجميع في إثبات ألف ممدودة، إذ ما من بناء إلا ويمكن للناظر فيه أن يكون مشتركًا، كما كان

غيره كذلك، فمن المشترك (أفعلاء) فإنهم قالوا: الأجفلي، والأوتكى. ومنه (فعللاء) فقد قالوا: جحجبى، وقرقرى، وقهقرى. ومنه (فعللاء) فقد قالوا: القرفصا، مقصورًا. حكاه أبو حاتم. و(فاعولاء) فقد قالوا: بادولاء، اسم موضع. و(فعلاء) فقد قالوا: المرطى، والبشكى، ونقرى، وهو كثير، وقد أثبته الناظم بناء للمقصورة (كما تقدم، و (فعلاء) / كذلك أيضًا، فقد قالوا: أربى، وأدمى، وشعبى، وقد أثبته الناظم للمقصورة) أيضًا. فهذه ستة أبنية للمشترك في قسم المشترك، أثبتها في "التسهيل"، وإذا كانت مشتركة فكيف تتميز فيها الألف المقصورة من الممدودة، فالحاصل أن هذا الحصر من الناظم في هذا الباب من القسمين معًا غير مرضي على مقاصد النحو التي قصدها. والله أعلم.

المقصور والممدود

المقصور والممدود إذا اسم استوجب من قبل الطرف ... فتحًا وكان ذا نظير كالأسف فلنظيره المعل الآخر ... ثبوت قصر بقياس ظاهر كفعل وفعل في جمع ما ... كفعلة وفعلة نحو الدمى قد تقدم قبل هذا معنى المقصور والممدود، وأن المقصور عند النحويين هو الاسم المعرب الذي قصره عن ظهور الإعراب فيه كون آخره ألفًا، أو قصر عن لحاقه بالممدود. وأن الممدود هو الاسم المعرب الذي آخره همزة قبلها ألف زائدة، لأنه إذا كان كذلك زيد في مد الألف بسبب الهمزة. ثم كل واحد منها يدرك من كلام العرب بوجهين: أحدهما: جهة السماع والنقل، وهذا غير لائق ذكره بالنحوى من حيث هو نحوي، وإنما هو وظيفة اللغوي، فمن ذكر منه من النحويين شيئًا فليس من جهة كونه نحويًا. والثاني: جهة القياس، وهذا هو اللائق بكتب النحويين، لأنهم إنما يتكلمون فيما كان مقيسًا من اللغة، فالناظم أخذ يذكر هذا القسم في كتابه، ويرشد إلى وجه القياس فيه.

وابتدأ بالكلام على قياس المقصور فقال: "إذا اسم استوجب من قبل الطرف فتحًا" إلى آخره. يعني أن الاسم إذا استوجب أن يكون قبل آخره فتحة لابد منها، ولا مبالاة بما قبل ذلك وما بعده، فهذا الاسم إذا كان له نظير في نوعه، كما كان لـ (الأسف) نظير، كقولهم: الحزن، والفرح، والطرب، والأشر، والبطر، ونحو ذلك من المصادر التي تجري على (فعل يفعل) فإن نظيره من المعتل الآخر يكون مقصورًا قياسًا. وقد اشتمل هذا العقد على أشياء: أحدها: كون هذا الاسم/ مفتوح ما قبل الآخر، نحو: البطر، والأشر، والأسف، الممثل به، وكذلك المدخل، والمخرج، والمدخل، والمخرج. وهذا لابد منه، لأنه إن لم يكن كذلك لم يتأت نظيره من المعتل أن يكون آخره ألفًا إذ لا موجب لقلب الواو والياء ألفًا إذ لم يكن ما قبلهما مفتوحًا، نحو القاضي، والداعي، والشجي، والعمى، فلا يكون مقصورًا، بل منقوصًا. وأيضًا يلزم من فتح ما قبل الآخر، ألا يحول بين الفتحة وبينه الألف الزائدة، فإنه إن حالت الألف بينهما لم يكن المعتل الآخر مقصورًا، بل ممدودًا كـ (فعال) مصدر (فاعل) فإنه يأتي في المعتل ممدودًا، نحو: عادي عداء، ونادي نداء، ونظيره من الصحيح: قاتل قتالاً، وضارب ضرابًا، وصارم صرامًا. والثاني: كون ذلك الاسم ذا نظير، ومعنى ذلك أن يكون القياس جاريًا في مثله أن يبنى منه ما يراد، وهذا لا يتأتى إلا فيما كان من الأسماء دائرًا مع الأفعال في الجريان عليها، والاطراد باطرادها، وذلك

المصادر، وأسماء المفعولين، وأسماء المصادر، والزمان والمكان، ونحو ذلك مما يطرد بناؤه. هذا المراد بالنظير ومنه مثاله: الذي هو (الأسف) فإنه مصدر لـ (فعل يفعل) تقول: أسف أسفًا، كما تقول: حزن حزنًا، وفرح فرحًا، وطرب طربًا، وما أشبه ذلك، فإن مثل هذا جار على وتيرة في القياس، ولا يعتد بما خرج عن ذلك لندوره. فأما إن لم يكن كذلك، بل هو مما قبل آخر مفتوح ذا نظير في القياس، فلا يعتبر في هذا التعريف، لعدم حصول التفرقة بينه وبين الممدود، إلا أن يسمع، فهو القسم السماعي المذكور قبل، كقولك: عنب، وجمل، وجعفر، فإنه وإن كان له موازن، نحو: حمى، وفتى، وعلقى، غير نظيرٍ له، إذ لم يجريا على القياس واحد، فهو موقوف على النقل. وهذا معنى قول سيبويه: ومن الكلام ما لا يدرى أنه منقوص حتى تعلم أن العرب تكلم به، فإذا تكلموا به منقوصًا علمت أنها ياء وقعت بعد فتحة أو واو، ولا يستطيع أن تقول: ذا لكذا، كما لا تستطيع أن تقول: قالوا: (قدم لكذا، ولا قالوا: (جمل) لكذا، وكذلك نحوهما/ قال: فمن ذلك: قفا، ورحى، وأشباه ذلك، لا يفرق بينهما وبين (سماء) كما لا يفرق بين (قدم) وبين (قذال) إلا أنك إذا سمعت قلت: هذا فعل، وهذا فعال. والثالث: ما ينبني على ذلك، ويطرد باطراده، وهو كون ما آخره

معتل بالياء أو بالواو، ويكون مقصورًا، ويعرف ذلك منه قياسًا، وذلك لأنه إذا كان مجيئة مفتوح ما قبل الآخر قياسًا، وكان الأصل التصريفي أن الواو والياء إذا تحركا وانفتح ما قبلهما انقلبا ألفا - حصل من ذلك معرفة المقصور منه قياسًا، فتقول: عمى عمى، وشجى شجًا، وهوى هوى، لأن نظيره: فرح فرحًا، وبطر بطرًا، ونحوه. وهذا العقد قد اشتمل، من معرفة المقصور قياسًا، على أنواع شتى، ذكر منها نوعين تأنيسًا بالباقي: أحدهما: جمع ما كان من الأسماء على (فِعلة) بكسر الفاء، فإن القياس أن يكون على (فعل) فيقع ما قبل الآخر فيه مفتوحًا، فتنقلب الياء والواو في المعتل ألفًا، فالصحيح نحو كسرة وكسر، وإبرة وإبر. ونظيره من المعتل نحو: حلية وحلى، بالكسر، وجذوة وجذى، وجزية وجزى، وجرية الماء وجرى، ولحية ولحى، ودنية ودنى، وفدية وفدى، وفرية وفرى، وبنية وبنى، ومشية ومشى، ونحو ذلك. والثاني: جمع ما كان من الأسماء على (فعلة) بضم الفاء، فإن القياس منه (فعل) فيقع ما قبل الآخر فيه مفتوحًا، فيكون المعتل مقصورًا، فالصحيح نحو: قربة وقرب، وغرفة وغرف. ونظيره من المعتل: عروة وعرى، وعدوة الواداي وعدى، وحبوة وحبى، وخطوة وخطى، وخصية وخصى، وكنية وكنى، وقوة وقوى، وكدية وكدى، وربوة وربى، ورؤية ورؤى، ورشوة ورشى، ودمية ودمى، وهو مثاله في النظم، وهذان النوعان هما اللذان مثل بهما الناظم. والثالث: ما كان من المصادر لـ (فعل يفعل) واسم الفاعل منه إما على

(فعل) أو (أفعل) أو (فعلان) فإن المعتل الآخر منها يقع مقصورًا، لأن نظيره من الصحيح مفتوح ما الآخر. فالأول نحو: هوى يهوى هوى، فهو هو، وذوى يذوى ذوى، فهو ذو، وصدى/ يصدى صدى، فهو صد، وتوى يتوى توى، وهو تو، أي هالك، ودوى يدوى دوى، وهو دوٍ، أي أصابه داء. ونظيره من الصحيح: بطر يبطر بطرًا فهو بطر، وفرح يفرح فرحًا، وهو فرح. والثاني نحو: عمى يعمى عمى، فهو أعمى، وعشى يعشى عشى، وهو أعشى، وقنى الأنف يقنى قنى، أي طال، وهو أقنى، وقعى الرجل قعى، وهو أقعى، والقعا: رجوع طرف الأنف إلى أعلاه. ونظيره من الصحيح: يعور الموت عورًا، فهو أعور، وحول حولاً، فهو أحول. والثالث نحو: صدى صدى، وهو صديان، وطوى يطوى طوى، وهو طيان. ونظيره من الصحيح: عطش يعطش عطشًا، وهو عطشان، وغرث غرثًا، فهو غرثان. والرابع: ما كان من اسم المفعول من الفعل الزائد على ثلاثة أحرف، فالمعتل الآخر من هذا يقع مقصورًا، لأن نظيره من الصحيح مفتوح ما قبل الآخر، فتقول من (أعطى) ونحوه: هو معطى، ومدنى، ومقصى ومحمى، ومرضى. ونظيره: مكرم، ومدخل، ومخرج.

وتقول من (اشترى) ونحوه: مشترى، ومفترى، ومعتدى عليه، ومقتدى به، ومعتنى به، ونظيره: مكتسب، وملتمس، ومكتتب. وتقول: من (استدعى) ونحوه: مستدعى ومستقضى، ومستقصى، ومستدنى. ونظيره: مسترجع، ومستبعد. وعلى هذا السبيل يجرى سائر ما كان من أسماء المفعولين مبنيًا من فعل زائد على الثلاثة. والخامس: ما كان من أسماء المصادر وأسماء الزمان والمكان مبنيًا من فعل زائد على الثلاثة، نحو: معطى، ومستدعى. وبالجملة لفظه كلفظ اسم المفعول سواء، أو نظيره من الصحيح مفتوح ما قبل الآخر، هذا فيما كان فعله زائدًا على الثلاثة. فأما الثلاثي فاسم المصدر والزمان والمكان منه أيضًا مقصور قياسًا، لكنه ليس مما يعتبر بالنظير، لأن نظيره يختلف، فتارة يكون الزمان والمكان فيها ما قبل آخره مكسورًا، وتارة يكون مفتوحًا، على ما هو مبين في غير هذا الكتاب. نعم يدخل له تحت هذا العقد المصدر منه، فإنه مفتوح قياسًا، فيكون/ المعتل من أسماء المصادر مقيسًا بنظره من الصحيح. السادس: ما كان من أسماء الفاعلين قياسه (أفعل) فإنه يكون مقصورًا إن اعتل آخره، نحو: عشى فهو أعشى، وعمى فهو أعمى، وجلى فهو أجلى، إذا انحسر الشعر عن مقدم رأسه، وما كان نحو ذلك. ونظيره من الصحيح: شتر فهو أشتر، وصلع فهو أصلع، وعور فهو أعور.

وقد قدم الناظم أنه قياس فيما كان من الأفعال على (فعل) غير متعد، وكذلك سائر ما كان من (أفعل فعلاء) جاريا على القياس فمعتله مقصور، لأن ما قبل آخره نظيره من الصحيح مفتوح. والسابع: ما كان من أسماء الأجناس بين واحده وجمعه إسقاط التاء، وكان ما قبل آخره نظيره من الصحيح مفتوح، فهو مقصور قياسًا، لأن جمع أسماء الأجناس المخلوقة بإسقاط التاء قياس، حسب ما ذكر أرباب الكتب المبسوطة وغيرهم، فتقول: قطاة وقطا، وقناة وقنى، ونواة ونوى، وحصاة وحصى، وسداة وسدى، وهو البلح. ونظيره من الصحيح: شجرة وشجر، وتمرة وتمر. وكذلك إذا كان مكسور الأول أو مضمومه، نحو: العدى، جمع العداة، والعدى: الصفائح من الصخور، والحكى: جمع الحكاة، وهي العظاءة، وما كان من نحو ذلك. والثامن: ذكره في "التسهيل" وهو ما كان من الأسماء على وزن (مفعل) مرادًا به آلة الفعل، نحو: المهدى، للطبق الذي يهدى فيه والمقرى، للجفنة أو العس أو الصحفة التي يؤتى فيها بقرى الضيف، والمقلى الذي يقلى عليه. ونظيره من الصحيح: مقرض، ومفتح، ومسن، ومقص، ومطرقة، ومبضع، وهو كثير من ذلك. إلا أن هذا، على طريقة التعريف، غير مسلم، وإن كان صحيحًا في نفسه،

لأن (مفعلاً) في الآلات يشاركه (مفعال) كمقراض، ومفتاح، ومسمار، ومنساج، وما أشبه ذلك، فيقول القائل: لعل نظير: مهدى، ونحوه، مفتاح، ومسمار، لا مبضع ومنجل، فلا يهتدي الطالب إلى طريق المقصور، ولا يفرق بينه وبين الممدود. وهذا هو العمدة في هذا الباب. وقد احتاط الشلوبين على هذا المعنى، حتى رد على من جعل (فعلى) جمعًا من الأبنية التي يطرد فيها القصر، ونقض عليه بمثل (قصباء، وطرفاء) في الجمع. قال: فإن قلت: ذلك اسم جمع / وهذا جمع. فالجواب: أنه لا يتبين الفرق بين اسم الجمع والجمع في هذه الإلسن إلا لمن قتل هذه الصناعة علمًا، فالإحالة للناشئين أو المتوسطين على ذلك خطأ. هذا ما قاله، وما نحن فيه أحرى وأحق أن يحتاط فيه، وألا يجعل في هذا الباب معرفًا للمقصور وإن كان قياسًا. والتاسع: ما كان من الجموع على (فعل) جمعا لـ (الفعلى) أنثى (الأفعل) فإن المعتل الآخر فيه مقصور، لأن نظيره من الصحيح مفتوح ما قبل الآخر، نحو: العليا والعلى، والدنيا والدنى، ونظيره الفضلى والفضل، والكبرى والكبر، ونحو ذلك. هذه المثل ونحوها مما قصد الناظم بعقده في قياس المقصور. وقد نقصه عقد ثانٍ لا يقصر على مقاومة ما ذكره، وذلك لأن النحويين يثبتون القياس في المقصور بطريقتين: أحدهما: طريق الاعتبار بالنظير، وهو ما تقدم ذكره. والآخر: طريق الاطراد وإن لم يكن نظير من الصحيح، وله أمثلة:

أحدها: ما كان من الأسماء في آخره ألف، وهو في معنى (المشي) نحو: البشكى، والمرطى، والخوزلى، والهيدبى. فهذا النوع قد اطرد فيه في كلامهم القصر، فمتى جاءت لفظة وفي آخرها ألف، وهي من أسماء (المشي) ولم يدر قصرها من مدها، حكم عليها بالقصر، لاطراد نظائرها على القصر. والثاني: ما جاء من المصادر على بناء (الفعيلى) نحو: الخطيبى، والرميا، والخليفى. فهذا أيضًا قد اطرد فيه القصر، إلا ما شذ من قولهم: الخصيصاء، والفخيراء، فهو من الشاذ المسموع غير المقيس، على أن المؤلف في "التسهيل" جعل هذا البناء من قبيل المشترك بين المقصورة والممدودة، فلا يكون من هذا على مذهبه. والثالث: ما كان على (فعلى) تأنيث (الأفعل) نحو: الكبرى، والصغرى، والفضلى، ونحو ذلك، فهو مطرد في القصر لا ينكسر أبدًا. والرابع: ما كان على (فعلى) من المؤنث، ومذكره على (فعلان) نحو: غضبان وغضبى، وسكران وسكرى، فإن القصر في ذلك مطرد لا ينكسر. والخامس: ما كان المجموع على مثال (فعالى) نحو: سكارى أو (فعالى) نحو: صحارى. والسادس: كل ما كان / من المعتل الآخر مجموعًا على (أفعال) فإن مفرده مقصور إذا كان آخره ألفًا، نحو: عصى وأعصاء، ورحى وأرحاء، وقفًا وأقفاء، ونحو ذلك.

والسابع: كل ما كان جمعًا على (فعلى) فإنه مقصور قياسًا، نحو: مريض ومرضى، وجريح وجرحى، وأحمق وحمقى، وزمن وزمنى وهذا الذي اعترض أبو علي الشلوبين كما تقدم، إذ وجد طرفاء، وحلفاء، ونحوه ولكن يزيل الاعتراض عنه أن يقال: كل (فعلى) كان جمعًا لفعيل أو فعل أو أفعل: بمعنى: مصاب، أو موجع، ولا إشكال بعد هذا. والثامن: كل ما كان اسمًا لزمان أو مكان من فعل ثلاثي، نحو: المرى، والمرعى، والمجلى، ونحو ذلك. وقد تقدم التنبيه عليه. فهذه أنواع ثمانية، ذكرها النحويون لاطرادها في أنفسها، وإن لم يكن لها نظير من الصحيح. والناظم لم يلتفت إليها كما ترى، ولم يعقدها بعقد كما عقد الأنواع الآخر، وعلى أنه كذلك فعل في "التسهيل" فاقتصر على العقد بالنظير، وترك عقد الاطراد على شهرته، وكثرة فائدته. والاعتراض عليه في "التسهيل" أقوى منه في هذا النظم المختصر. ومثل هذا الاعتراض يلزمه في الممدود أيضًا، على حسب ما يذكر إن شاء الله تعالى. و"الدمى" في تمثيله: جمع دمية، والدمية: الصورة من العاج ونحوه، تشبه بهن النساء، قال الشاعر: ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا وقال الآخر في واحد "الدمى":

أو دمية صور محرابها ... أو درة شيفت إلى تاجر وما استحق قبل آخر ألف .... فالمد في نظيره حتما عرف كمصدر الفعل الذي قد بدئ ... بهمز وصل؛ ارعوى وكارتأى هذا عقد الممدود الذي يبين المقيس منه، وهو التعريف بالنظير، يريد أن ما كان من الأسماء قد استحق أن يكون قبل آخره ألف، فإن نظيره من المعتل ممدود وجوبًا، ولم يقيد النظير بالمعتل وإن كان الحق فيه ذلك، كما أنه لم يقيد الأول بالصحيح، وكان الوجه ذلك أيضًا، اتكالا على فهم ذلك من التقييد في المقصور، لأنه قال: ثمة "فلنظيره المعل الآخر" إلى آخره. وقال / في الصحيح: "وكان ذا نظير كالأسف" فقيده بالمثال، وذلك يدل على أن الممدود نظر المقصور في ذلك التقييد، فكأنه قال: وما استحق قبل آخره ألفًا من الصحيح الآخر فلنظيره المعل الآخر المد حتمًا عرف. وقد تقدم أن الممدود هو ما آخره همزة قبلها ألف زائدة، لذا الكلام يعطى أشياء: أحدها: كون هذا الاسم قبل آخره ألف، وبهذا يتأتى في المعتل أن

يكون ممدودًا، ما آخره معتل وقبله ألف، فالحكم فيه أن تنقلب الواو أو الياء همزة، لأن القاعدة مستمرة أن الواو والياء إذا وقعتا طرفًا بعد ألف زائدة قلبتا همزة، نحو: الاستدعاء، والابتداء، في نظير: الاسترسال، والاقتدار، ونحوه. والثاني: كون الاسم ذا نظير، وقد تقدم أن معناه أن يكون القياس جاريًا في مثله أن ينبني منه ما يراد، وهو إنما يتأتى فيما كان من الأسماء دائرا مع الأفعال، ومتصرفها، وذلك المصادر وما إليها. والثالث: ما ينبني على ذلك، وهو كون النظير المعل ممدودًا لزومًا كما تقدم، فلا يكون مقصورًا إلا إن اضطر شاعر، كما سيأتي ذكره إن شاء الله آخر الباب. ثم ذكر نوعًا مما يكون ممدودًا قياسًا بقوله: (كمصدر الفعل الذي قد بدئا بهمز وصل). يعني أن مصدر الفعل، أي المعتل الآخر، والذي بدئ ماضيه بهمزة الوصل، يكون ممدودًا مطلقًا، لوقوع نظيره من الصحيح ذا ألف زائدة قبل الآخر، فينقلب الحرف المعتل، فيما آخره معتل همزة. ومثل الناظم ما كان مصدر الفعل بهمزة الوصل بمثالين أحدهما: (ارعوى) وهو (أفعل). والثاني: (ارتأى) وهو (افتعل) من الرأى، ومصدر (ارعوى) الارعواء و (ارتأى) الارتاء. ومثل ذلك: اقتدى اقتداء، واستوى استواء، وارتوى ارتواء، واكتسى اكتساء. ونظيره من الصحيح: اقتدر اقتدارًا، واحتمل احتمالا، واكتسب

اكتسابًا، وهكذا كل ما كان بهمزة الوصل في أوله، كما قال، نحو: انحنى انحناء، وانقضى انقضاء، ونظيره: انطلق أنطلاقًا. وكذلك: اسلنقى اسلنقاء، واحرنبى احرنباء، ونظيره من الصحيح: اسحنكك اسنحكاكًا، واحرنجم احرنجامًا. وكذلك: استسقى استسقاء، واستعدى استعداء./ ونظيره: استعظم استعظامًا، واستعلم استعلامًا، وكذلك سائرها. إلا أن تقييده الهمز المبدوء به بالوصل تقييد عائد بنقص في القانون، لأن كل فعل مبدوء بهمزة زائدة، سواء كانت همزة وصل أو همزة قطع، فمصدره ممدود قياسا، نحو: أعطى اعطاء، وأمضى إمضاءً، وأغنى إغناءً، وآتى إيتاءً. ونظيره من الصحيح: أكرم إكرامًا، وأسلم إسلامًا، وألم إعلم إعلامًا، فلو قال: كمصدر الفعل الذي قد بدئا ... بزائد الهمز كأعطى وارتأى لعم وكان أكثر فائدة. وما أتى به الناظم مثال لقاعدته، وهي تشمل أنواعًا: أحدها: ما ذكره. والثاني: ما كان مصدرًا لفعل على (فاعلت) نحو: رامي رماءً، وزاني زناءً، وعادى عداءً، وهادى هداءً، ووالي ولاءً. ونظيره من الصحيح: قاتل قتالاً، وضارب ضرابًا. وهذا وإن كان المطرد في مصدره (المفاعلة) فإن المقصود (الفعال) وأنه ليس بمقصور، إذ لا يتوهم في (المفاعلة) قصر، فلا يخطر ببال الناظر. والنظر هنا إنما

هو في تمييز الممدود من المقصور، إذ يشكل فيهما بحسب المد والقصر. والثالث: ما كان من المصادر صوتًا مضموم الأول نحو: الدعاء، والمكاء، والحداء، والرغاء، والثغاء والنداء بالضم، حكاه ابن جنى، وحكى أن الفراء سمعه كذلك، وسمع: الصياح، والصياح، ومنه البكاء، فأما البكا فهو الحزن نفسه عند الخليل. فكل هذا ممدود، لأن نظيره من الصحيح قبل آخره ألف زائده، نحو: النباح، والبغام، والصراخ، والخوار، والجؤار. والرابع: ما كان من ذلك مجموعًا على (أفعلة) قياسًا، نحو: أفنية، وأرشية، وأقبية هو جمع: رشاء، وفناء، وقباء، وكذلك: أبنية، وأحذية، وأردية. فلا يجوز أن يكون الواحد مقصورًا، فيكون (أفعلة) جمعًا للثلاثي، لأنه و (فعلة) في الأكثر جمعان لما زاد على الثلاثة، وما جاء على خلاف ذلك فشاذ، نحو جمعهم (ندى) على: أندية. ونظيره من الصحيح: قذال وأقذلة، وحمار وأحمرة، وخوان وأخونة، ونحو ذلك. والخامس: كل اسم جمع جمع قلة، فإنه لا يكون ذلك الجمع فيه مقصورًا وإنما يكون ممدودًا، كرحى وأرحاءٍ، وقفا وأقفاءٍ، وشلو وأشلاءٍ، وقنو وأقناءٍ، وظبى وأظباءٍ، ونحو ذلك من أصناف الثلاثي، فكل ذلك/ لا يجمع جمع قلة على (أفعل) لأن (أفعل) لا يكون جمعًا. ونظير ذلك من الصحيح: طلل أطلال، وعدل وأعدال، وقفل وأقفال.

والسادس: ما كان من المعتل اللازم على (فعل) أو (فعلة) فإن جمعه على (فعال) ممدود - نحو: ظبى وظباء، ودلو ودلاء، وقشوة وقشاء، وجدى وجداء، ونهى ونهاء، ونجو ونجاء، وعجوة وعجاء، وحظوة وحظاء، وخطوة وخطاء، ولعوة ولعاء. فمثل هذا لا يكون الجمع فيه مقصورًا إلا ما شذ، نحو: قرية وقرى. ونظيره من الصحيح: جبل وجبال، وكلب وكلاب، وهضبة وهضاب، وقصعة وقصاع، ونحو ذلك. والسابع: كل ما كان معتل الآخر، قبل حرف العلة فيه ألف زائدة، وفيه تاء التأنيث، وهو من الأجناس المخلوق التي تجمع قياسًا بحذف الهاء، فإن الجمع منها ممدود، نحو: عظية وعظاء، وعباية وعباء، ودرحاية ودرحاء. وهو نظير: قطاة وقطا، في المقصور. ونظيره من الصحيح: جرادة وجراد. هذه الأنواع ونحوها داخل تحت عقد الناظم، ونقصه العقد الثاني، كما نقصه في المقصور، وهو عقد الاطراد وإن لم يكن له نظير من الصحيح، وتحته أنواع. أحدها: كل جمع على (فعلاء) بل نقول: كل اسم جمعًا كان أو غير جمع، كان على (فعلاء) فإنه ممدود اطرادا. أما الجمع فلا ينكسر، نحو: علماء، وحلماء، وفقهاء، وظرفاء، وشرفاء، ونحو ذلك.

وأما المفرد فنحو: العشراء، والعرواء، والعداء، والنفساء، والقوباء، والخيلاء، والرحضاء، والصعداء. ولم يأت مثل هذا على (فعلى) مقصورًا إلا نادرًا نحو شعبى، وإربى، وهي ستة ألفاظ معدودة. وقد تقدمت. والثاني: ما كان من الجمع على (أفعلاء) فإنه ممدود، نحو: أولياء، وأصدقاء، وأشقياء، وأصفياء، وأبرياء. والثالث: ما كان من الصفات على (فعلاء) مؤنث (لأفعل) الذي ليس للتفضيل، نحو: حمقاء، وحمراء، وصفراء، وبيضاء، ودرداء، وعوراء، وشعلاء، وبلقاء، ونحو ذلك. وقد قال ابن خروف. بدل هذه الأنواع: كل ما كان في آخره همزة التأنيث، يريد: من (فعلاء) و (فاعلاء) و (فاعولاء) / و (أفعلاء) و (فعالاء) ونحو ذلك. قال ابن الضائع: وهذا لا ينبغي أن يذكر في القياس كذا، إلا أن يكون قد اطرد في بعض أبنية ألا يكون مقصورًا. فهذه جملة نقصت الناظم، وهي أكيدة كالجملة التي ذكر، ولم يعتمد في "التسهيل" من القياس إلا على ما ذكر هنا، وهو الاعتبار بالنظير المطرد، فلعله رأى لذلك وجهًا أداة إلى الاقتصار، عليه وهو متبع في هذا لسيبويه، إذ لم يذكر إلا ما اعتبر بالنظير. ويقال: أرعوى عن القبيح، إذا كف عنه، وارتأى الشيء: افتعل من الرأي، بمعنى التدبير.

والعادم النظير ذا قصرو ذا ... مد بنقل كالحجى وكالحذا يعني أن ما كان من المقصور أو الممدود عادمًا للنظير، لم يطرد في بابه، ولا كثر كثرة تقضى له بالقياس، فهو مستند إلى النقل، ومتلقى من السماع، موضعه كتب أهل اللغة، لا مدخل فيه للنحو. وقوله: "ذا قصر" حال من ضمير "العادم" أي الذي عدم النظير في هذه الحال، و"بنقل" متعلق باسم فاعل محذوف للعلم به، وهو خبر المبتدأ الذي هو "العادم" أي ثابت بالنقل. ثم مثل المسموع من المقصور بمثال، وهو (الحجى) ومثل الممدود بمثال آخر وهو "الحذاء" وإنما قصره لضرورة الوزن، فزما "الحجى" فهو العقل، قال الشاعر: فإن لج في هجري صفحت تكرمًا ... لعل الحجى بعد الغروب يثوب. والحجى: الستر أيضًا، وبه سمى العقل حجى لأنه ستر لصاحبه من أن يظهر منه الفعل القبيح، وقال ثعلب: الحجى: الملجأ، وهو بمعنى الستر، وأنشد: ذكرني سعدًا دعاء بالقرى ... ونسم الريح إلى غير حجى. ونظيره في كونه مسموعًا: العصا، والرحى، والفتى، والغنى، والتوى،

والربا، والرضا، وكثير من ذلك. وأما (الحذاء) فهو ما ينتعل به، وهو أيضًا: القد، يقال: فلان جيد الحذاء، أي جيد القد، وحذاء. كل شيء إزاؤه، ويقال لظلف الشاه، وحافر الدابة وخف البعير حذاء. ونظيره في السماع: الغذاء، والغطاء، والغناء المسموع، والكساء، والسماء، والسناء، والذماء، والزكاء، ونحو ذلك. وفي كلامه هنا نظر، وذلك أنه ذكر أولاً أن ما كان له نظير/ من الصحيح فهو في القصر أو المد قياس، ثم ذكر هنا أن ما عدم النظير فليس بقياس، فاقتضى أن ما ليس له نظير من الصحيح في بابه فمسموع، وذلك على إطلاقه باطل، فإن من المقصور والممدود ما ليس له نظير من الصحيح، وهو مع ذلك مطرد في بابه، ويؤخذ بالقياس، كما ذكر في العقد الذي فاته، فمثل (فعلاء) تأنيث (الأفعل) و (فعلى) أنيث (فعلان) يقتضي أنه غير مأخوذ قياسًا، وإنما هو موقوف على النقل، وذلك غير صحيح، بل على قسمين: مقيس، وغير مقيس. وقصر ذي المد اضطرارًا مجمع ... عليه والعكس بخلف يقع. هذه المسألة من لواحق باب المقصور والممدود، وهي: هل يجوز قصر الممدود، ومد المقصور أم لا؟ أما في الكلام المنثور فهذا لا يكون، لأن ما يقاس في الكلام لا يكون مأخوذ القياس إلا من الكلام، ومثل هذا لم يأت إلا في الشعر، فلا ينقل إلى الكلام، وهذا ما لا خلاف فيه، فلذلك قال: "وقصر ذي المد اضطرارًا مجمع" فقيده بحال الضرورة، وذلك إنما يكون في الشعر لا في الكلام،

ويعني أن هاهنا مسألتين: إحدهما: مجمع عليها، يريد أنها مجمع على جوازها. والأخرى: مختلف في جوازها ومنعها. أما الجائزة بإجماع، على ما ذكر، فقصر الممدود، وذلك قوله: "وقصر ذي المد اضطرارًا مجمع عليه" وذلك أن يضطر شاعر إلى قصد ما هو بحق الأصل ممدود، وهو كما إذا إراد أن ينطق في شعره بـ"كساء" ولا يستقيم له الوزن مع بقاء المد فيه، فيقصره فيقول: "الكسا" هكذا على وزن الحمى والحجى. وقد جاء مثل هذا كثيرًا في الشعر، فمنه قول الراجز: لابد من صنعا وإن طال السفر وقال الآخر: والقارح العدا وكل طمرة ... ما إن تنال يد الطويل قذالها. أراد "صنعاء" و"العداء" وهو (فعال) من العدو، وقال شميت بن زنباع:

ولكنما أهدى لقيس هدية ... يفي من اهداها له الدهر إثلب. وأنشد الفراء: فلو أن الأطبا كان حولي ... وكان مع الأطباء الأساة. ومن ذلك كثير. ولم يذكر الناظم كيفية القصر، ولا ما الذي يحذف؟ الزائد أم الأصلي؟ والقياس حذف الزاائد، وهو الألف التي قبل الآخر. وأما المسألة المختلف/ فيها فمد المقصور، فأجازه الكوفيون والأخفش من البصريين، ومنعه سائر البصريين، وذلك لوجهين: أحدهما: القياس، وهو أن مد المقصور على خلاف الأصل، بخلاف قصر الممدود فإنه على الأصل، إذ القصر هو الأصل، بدليل أن الممدود لا تكون ألفه ألا زائدة، وألف المقصور قد تكون أصلية وزائدة، وإن كانت ألف الممدود زائدة أبدًا - فالزيادة على خلاف الأصل، فإن لا ينبغي أن يخرج عن الأصل إلى غير أصل. والثاني: أن السماع به إما معدوم، إن تؤول ما أتوا به من ذلك، وإما شاذ لا يبلغ القياس. وحجة الكوفيين وجهان أيضًا: القياس، من جهة الإجماع على

جواز إشباع الحركات في الضرورة، فتصير حروفًا، كقوله: كأن في أنيابها القرنفول وقوله: أعوذ بالله من العقراب وقوله، أنشده سيبويه: نفى الدنانير تنقاد الصياريف وذلك كثير، فمد المقصور إنما هو من هذا القبيل، فليجز كما جاز ذلك. والسماع، فقد جاء عن العرب، نشده لأخفش وغيره: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء. والغنى: مقصور، وأنشد الكوفيون:

قد علمت أخت بني السعلاء ... وعلمت ذاك مع الجزاء. أن نعم مأكولاً على الخواء ... يالك من تمرو من شيشاء. ينشب في المسعل واللهاء قالوا: قمد (السعلى) و (الخوى) وكذلك (اللها) لأنها مقصورة، وأنشد ابن الأنباري: إنما الفقر والغناء من الله فهذا يعطى وهذا يحد. وأنشد أيضًا: لم نرحب بأن شخصت ولكن ... مرحبًا بالرضاء منك وأهلا. ولم يشر الناظم إلى مذهب له في المذهبين، بل قال: "والعكس بخلف يقع" يعني عكس قصر الممدود، وهو مد المقصور. وقد أول البصريون هذه الأبيات، ورموها بجهالة القائلين، والإنصاف أن ما نقلوه فهم ذوو عهدته، وهم محمولون على الصدق، والتأويل بعيد، إلا أن ذلك نادر شاذ، لا يبلغ مبلغ أن يكون جائزًا كقصر الممدود. ثم يعاد النظر مع الناظم في هذه المسألة من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها من مسائل الضرائر المختصة بالشعر، فهي، من هذا الوجه،

غير/ محتاج إليها في تكثير سواد المختصرات، ونظمه من المختصرات التي يكون ما هو أقل منها إجحافًا، فلم أتى بهذه المسألة، مع أنه محتاج إلى أن يأتي عوضها بقاعدة أو قانون يتعلق بالكلام، وهو أحوج إلى ذلك، إذ ينقصه من العربية المحتاج إليها كثير. والثاني: أنه أتى بها على مساق الجواز القياسي، إذ قال: "وقصر ذي المد اضطرارًا مجمع عليه" يعني على جوازه، وهذا الكلام يعطى أنه جائز قياسًا، وما محله الضرورة كيف يجوز قياسًا؟ بل هذا الكلام شبه المتناقص، لأن الضرورة تؤذن بوقفه على محله، والجواز القياسي يؤذن بتسويغ النطق به للمولد والعربي ابتداء، فهذا مشكل. والثالث: أن الناظم حكى الإجماع في جواز قصر ذي المد هكذا مطلقا، وليس النقل كذلك إلا عمن عدا الفراء، وأما الفراء فلا يجيزه إلا باشتراط، فهو لا يجيز قصر ما لا يجوز أن يأتي في بابه مقصورًا، نحو: (فعلاء) تأنيث (الأفعل) في نحو: حمراء وبيضاء، فمثل هذا لا يجوز عنده أن يقصر، لأن مذكره: أبيض وأحمر، فـ (ففعلاء) تأنيث (أفعل) لا يكون إلا ممدودًا، وكذلك حكم كل ما يقتضى القياس أن يكون ممدودًا لا غير، وهكذا يقول في مد المقصور: لا يجوز عنده إلا في ما لا يجئ في بابه ممدودًا، نحو: (فعلى) تأنيث (فعلان) في مثل: سكرى وغضبى، فلا يجوز مده لأن (فعلى) تأنيث (فعلان) لا يأتي ممدودًا أبدًا، وكذلك كل ما يقتضي القياس أن يكون مقصورًا. والحاصل: أن ما كان مده أو قصره داخلا تحت القياس المتقدم لا يجيز الفراء المخالفة فيه في ضرورة ولا غيرها، وأما ما عدا ذلك فهو

الذي يجوز فيه ذلك عنده، فتقول على مذهبه في (رحى، وهدى، وحجى): رحاء، وحجاء، وهداء، لأنها إذا مدت صارت إلى مثل: سماء، ودعاء، ورداء. وتقول في (سماء، ودعاء ورداء): سمًا، ودعًا، وردًا، لأنها إذا قصرت صارت إلى مثال: رحى، وهدى، وحمى هكذا النقل عنه، فإطلاق الإجماع في المسألة غير صحيح، وكذلك إطلاق الخلاف في مد المقصور، وفيه التفصيل المذكور عن الفراء، مشكل أيضًا. والجواب/ عن الأول: أن المسألة شهيرة الموقع عند النحويين، وهي عندهم من المسائل الطبولية. وقد جعلها ابن الأنباري من مسائل "كتاب الإنصاف". فالتنبيه عليها حسن في هذا المختصر، كما فعل ذلك في مسألة "صرف ما لا ينصرف في الشعر وعكسها" فهما في الشهرة سواء، فلذلك ذكرها. والجواب عن الثاني: إن باب "ضرائر الشعر" على قسمين منها ما يكون الشاعر مضطرًا إليها كثيرًا، فتعم بها البلوى، حتى يكثر وجودها في الشعر للضرورة، وتبلغ أن يقاس عليها فيه، كما يكثر الحكم في الكلام، حتى يبلغ مبلغ القياس فيه. وقصر الممدود من هذا القبيل، فقد كثر في النظم كثرة لا يعد مرتكبها في الشعر اختيارًا لاحنًا ولا خارجًا عن كلام العرب. وفي "الضرائر" من هذا جملة، كصرف ما لا ينصرف، وتخفيف

المشدد في الوقف، والترخيم في غير النداء، ونحو ذلك. ومنها ما يكون موقوفًا على محله من السماع، لا يجوز لشاعر مولد استعماله لندوره في الضرائر، كقوله أنشده سيبويه: قواطنًا مكة من ورق الحمى وقولهم في (الجلد): الجلد، قال: إذا تجرد نوح قامتا معه ... ضربًا أليمًا بسبت يلعج الجلدا. وما كان نحو ذلك، ومثل هذا لا يقال فيه: إنه جائز، فعلى الجملة، والأمر فيما يختص بالشعر بالنسبة إلى الشعر، كالأمر فيما يكون في الكلام حرفًا

بحرف وقد بينت هذا المعنى، في ما أظن في "الأصول". وعلى هذا القانون يعن هنا اعتذار عن الناظم في مثل هذا الموضع، وهو أن يأتي بجملة من مسائل الضرائر، وما يقاس منها وما لا، ليبنى عليها الشاعر، كما يبنى غير الشاعر على ما يذكر من القوانين المطلقة. وقد تقدم التنبيه على مثل هذا. والجواب عن الثالث: أن الإجماع المحكى في قصر الممدود صحيح على الجملة، إذا الفراء يجيزه على الجملة، لكن يشترط في الجواز، فهو باعتبار ذلك يطلق عليه أنه مجيز، وأيضًا فلما كان خلافه شاذًا لم يعتد به خلافًا.

(كيفية تثنية المقصور والممدود وجمعهما تصحيحا)

(كيفية تثنية المقصور والممدود وجمعهما تصحيحا ( قدم أولاً إعراب التثنية وجمع التصحيح، وحصل في ذلك البيان/ الكيفية العامة لهما، وذلك لحاق الألف في الرفع، والياء في النصب والجر، تليهما نون مكسورة في المثنى، ولحاق الواو في الرفع، والياء في النصب والجر تليهما نون مفتوحة في المجموع المذكر، ولحاق ألف وتاء في المجموع المؤنث. وهذا في المثنى والمجموع المذكر الصحيحي الآخر، لا زائد فيه يحتاج إلى ذكره، وكذلك في المجموع المؤنث الرباعي فما فوقه، لا زيادة فيه على تلك الزيادة المذكورة للإعراب، فلم يحتج إلى التنبيه على شيء من ذلك. لكن المعتل الآخر بالنسبة إلى التثنية وجمع المذكر له أحكام زائدة على ما تقدم له، والثلاثي بالنسبة إلى جمع المؤنث له حكم زائد أيضًا، فوجب تبيين ذلك. وأتى بذلك هاهنا كالمقدمة لدخول باب جمع التكسير، وليكون شمل الجموع مجتمعًا، وابتدأ بذكر أحكام التثنية، فقال: آخر مقصور تثنى اجعله يا ... إن كان عن ثلاثة مرتقيا. كذا الذي اليا أصله نحو الفتى ... والجامد الذي أميل كمتى

في غير ذا تقلب واوا الألف ... وأولها ما كان قبل قد ألف. المعتل الآخر من الأسماء التي يراد تثنيتها على ثلاثة أقسام: منقوص، ومقصور، وممدود، فذكر حكم المقصور والممدود، ولم يذكر حكم المنقوص، وهو حر بالذكر لما سيأتي. وابتدأ بالمقصور، فذكر أنه على أربعة أقسام: أحدها: ما كان رباعيًا فأكثر، فتقع فيه الألف رابعة نحو: حبلى، أو خامسة نحو: مصطفى، أو سادسة نحو: قبعثرى. والثاني: ما كان ثلاثيًا أصل الألف فيه الياء نحو: الفتى، وهو مثاله، ومثله: الرحى، عند من قال: رحيت، والهدى، والعمى، والقرى. والثالث: ما لم يكن لألفه أصل من ياء ولا واو، وهو الجامد الذي ذكر، إذا كان مما أمالته العرب، نحو: متى، فإنه اسم مبنى، والمبنيات إذا كانت الألف في أواخرها لا يحكم عليها بأن أصلها الياء أو الواو، لأن ذلك تصرف، والتصريف لا يدخل الأسماء المتوغلة في شبه الحرف، كما لا يدخل الحرف، نحو: إلى، وعلى، كما سيأتي ذكره في التصريف إن شاء الله. وهذا في الأسماء، ومنه في الحروف (بلى) ولم يقتصر في قوله: "الجامد" على الأسماء فقط، فإن المقصود منها في هذا الباب إنما هو بعد التسمية، لأنها لا تثنى إذا كانت باقية على أصولها، والأسماء والحروف/ في هذا على سواء. والرابع: ما عدا تلك الأقسام الثلاثة، ويدخل فيه نوعان:

أحدها: ما كان ثلاثيا أصله الواو نحو: رضىً، وضحىً، ورحًا - فيمن قال: رحوت - وعصًا، وقفًا. والآخر: ما كان جامدًا لم يمل، سواء كان أسمًا أو حرفًا، نحو: (لدى) و (أما) بمعنى: حقًا، و (على) في وجهيها، و (إلى) وما كان من نحو ذلك. ونوع ثالث: وهو ما كانت ألفه مجهولة ولم تمل، وإن كان معربًا قابلاً للتصريف نحو: (خسا) بمعنى فرد، و (لقًا)، بمعنى ملقى لا يعبأ به. فهذه الألف فيهما، وما كان مثلها، لا يعرف له أصل، إذ لم يتصرف فيها بتثنية ولا جمع ولا فعل، ولا أمليت، فلم يكن ثم دليل على أصلها. وذكر الناظم أن الأقسام الثلاثة المذكورة أولاً حكمها أن تنقلب الألف فيها إلى الياء، وأن القسم الرابع ينقلب فيه الألف إلى الواو: وأما القسم الأول: وهو ما كانت فيه ألف رابعة فصاعدا، فقال فيه: "آخر مقصور تثنى اجعله يا" إلى آخره. يعني أن الاسم إذا كان مرتقيًا عن الثلاثة، بأن يكون رباعيًا أو خماسيًا أو سداسيًا، وبذلك تقع الألف فيه غير ثالثة، فإنها تقلب فيه مطلقًا، سواء كانت الألف زائدة، كحبلى وقبعثرى، وأرطى، فإنك تقول: حبليان، وقبعثريان،

أرطيان، أو كانت منقلبة عن أصل واو نحو: مصطفى، ومعطى، فإنك تقول: مصطفيان، ومعطيان، وإن كانا من صفو الشيء وصفوته، ومن: عطا يعطو، أو ياء، نحو: مشترى، ومجتبى، فإنك تقول: مشتريان، ومجتبيان. فأما وجه القلب فلأجل أن علامة التثنية لابد من فتح ما قبلها، وهو آخر المثنى، وما آخره ألف لا يمكن تحريكه، لأن الألف لا تقبل الحركة، ولم يمكن حذف الألف لالتباس المثنى بالمفرد عند الإضافة. وبهذا يبطل قول أهل الكوفة في إجازة حذف الألف في التثنية، مما كثرت حروفه، نحو: قبعثرى، وجمادى، ونحوهما، فيقولون: قبعثران، وجمادان، وكأنهم يحكون ذلك عن العرب، ولم يذكروا منه شاهدًا على تلك الحكاية. قال السيرافي: لم أر الكوفيين استشهدوا على شيء من ذلك، يعني مما ادعوا عن العرب، والذي يحفظه البصريون في السماع/ موافقة القاعدة من عدم الحذف، وعلى هذا اعتمد الناظم فلم يفرق في وجوب قلب الألف بين ما كثرت حروفه وما قلت، بل قال: "اجعله يا إن كان عن ثلاثة مرتقيًا"، فإذا لابد من قلب الألف ليتحرك ما قبل علامة التثنية بالفتح. وأما وجه قلبها ياء على الخصوص فحملاً على الفعل، لأن التصريف في الاسم محمول عليه في الفعل، وأنت لو بنيت فعلاً مما فوق

الثلاثة لقلبت الألف إلى الياء، سواء كانت أصلها الواو أو غيرها، فتقول: سلقيت، وأعطيت، واصطفيت، ونحو ذلك. ولم يأت في الأسماء قلب الألف واوا في التثنية إلا في (مذروين) فوقف على محله. وأما القسم الثاني، وهو الثلاثي الذي الألف فيه منقلبة عن الياء، فذكر أن حكمه حكم ما قبله فقال: "كذا الذي اليا أصله نحو الفتى". يعني أن ما كان أصله الياء من الثلاثي تقلب الألف فيه إلى الياء. وبين أن مراده "الثلاثي" التقسيم والتمثيل بالفتى، فالياء إذا قلت: الفتيان، هي الأصلية، وكذلك تقول: رحيان، وهديان، وعميان، وما أشبه ذلك. وإنما قلبت إلى الياء لأن القلب إذا كان لابد منه، فلابد من واو أو ياء، فالذي هو الأصل أولى أن يؤتى به. وأما القسم الثالث، وهو الجامد الذي لا أصل لألفه، لكن أميل، فذكر أن حكمه الحكم المتقدم بقوله: "والجامد الذي أميل كمتى". يعني أن الألف تقلب فيه ياء فتقول في (متى) مسمى به متيان، أو في (بلى) بليان، ونحو ذلك. وإنما قلبت إلى الياء دون الواو لأجل الإمالة التي هي مقربة إليها. فإن قيل: فإن الإمالة تكون في بنات الياء والواو، فمن أين ألزمت الياء معه حتى لا يجوز قلبها واوا؟ فالجواب: أن الياء على اللامات أغلب من الواو، ألا ترى أن ما كان فوق الثلاثة يقلب إلى الياء مطلقا، وإن كان من ذوات الواو، فلما كثرت الياء هنالك

حكموا مع الإمالة على الألف بالياء دون الواو مع الاستبهام، حتى يتبين لك أمرها بتصريف أو غيره، فتعمل عليه، كما قالوا: الكبا، فأمالوا، ثم قالوا: كبوا وهذا معنى تعليل سيبويه. وأما القسم الرابع: وهو ما عدا/ ما تقدم، فذكر أن الألف تقلب فيه واوا مطلقا بقوله: " (في غير ذا تقلب واوا الألف). يعني أن الألف تقلب إلى الواو في غير الأقسام المتقدمة، فما كان ثلاثيا أصله الواو قلبت الألف فيها إلى أصلها، فقلت: في (رضا): رضوان، وفي (ضحى) ضحوان، وفي (ربا) ربوان، وفي (عصا) عصوان، هكذا مطلقا من غير استثناء لنوع من أنواع الثلاثي. وهذا الإطلاق يدل على أنه لم يرتض مذهب الكوفيين، إذ فرقوا بين المفتوح الأول وبين المضمومه والمكسوره، فوافقوا البصريين في المفتوح الأول، وقلبوا ألف المكسورة والمضمومة ياء، فقالوا: رضيان، وضحيان، وكتبوهما بالياء. وحكى الكسائي في (رضا) رضيان، وهو نادر، قال السيرافي: ويرد على الكوفيين حكاية أبي الخطاب في (الكبا) كبوان، وحكاية الكسائي: حموان، ورضوان، ورضوان، في: رضا، وحما. قال الجوهري: "وسمع الكسائي: رضوان، في تثنية الرضا، والحمى" قال: والوجه حميان ورضيان" قال: "ومن العرب من يقولها بالياء على

الأصل، والواو أكثر". وكأنه يعني بالأصل القياس عنده، فإن الأصل في الألف الواو ولابد. والحق ما ذهب إليه البصريون، وهو مرتضى الناظم على ظاهر كلامه، وإنما ردت الألف إلى الواو لأنها إذا كان لابد من قلبها فإلى الأصل أولى، كما تقدم في الثلاثي اليائي. وما كان جامدًا ولم يمل قلبت ألفه واوًا، كالذي أصله الواو، فتقول في (لدى) مسمى به: لدوان، وفي (على): علوان، وفي (إلى): إلوان، وفي (أما) أموان، ونحو ذلك، ولا تقلب إلى الياء، وإن كانت الياء أغلب على اللامات كما قال سيبويه. وغيره، لأنه ليس شيء من بنات الياء تلزم ألفه عدم الإمالة، بل القاعدة العربية أن كل ما أصله الياء فالإمالة فيه جائزة، فإلزامهم عدم الإمالة، بل القاعدة العربية أن كل ما أصله الياء فالإمالة فيه جائزة، فإلزامهم عدم الإمالة في هذه الأشياء يدل على عدم اعتبار الياء فيها. فإن قلت: إنما ألزمت العرب ألف (على) و (إلى) ونحوهما الفتح قبل الحكم بالواو، فلم قلت: إن عدم الإمالة دليل على الواو، وهي لم توجد بعد. فالجواب أن يقال: إنا لا ندعي ما قلت، وإنما نقول: إن هذه الأشياء بعد التسمية داخلة في حكم ما ألزمته العرب الفتح لأجل أن أصله الواو، لا أنا جعلنا إلزامهم عدم الإمالة فيها لأجل أن أصلها الواو، فلا إشكال على هذا.

وقد اقتضى هذا التعليل ترجيح ما ذهب إليه الناظم والجمهور من قلب هذه الألف واوًا. وذهب بعضهم إلى قلبها ياء، ورجحه المؤلف في "الشرح" بقاعدة سيبويه أن الباء على الألف إذا كانت لامًا اعلب لكن، عارض هذه القاعدة كلام سيبويه في إن إلزامهم عدم الإمالة دليل على الواو؛ إذ ما من ألف أصلها الياء إلا والإمالة جائزة فيها، فإنما يريد أن الياء أغلب فيها فيما عدا ما ألزموا فيه عدم إلا الإمالة والله أعلم. وما كانت ألفه مجهولة، ولم تمل، قلبت أيضًا واوا بمقتضى كلامه فتقول في (خسًا): خسوان، وفي (لقى): لقوان، وما كان مثلهما، ولا تقلب إلى الياء للعلة المذكورة في النوع قبل هذا، من أن اعتزامهم على ترك الإمالة دليل على الواو. وبهذا أيضًا يضعف قول من ارتضى في هذه الألف قلبها ياء، اعتمادًا على غلبة الياء على الألف التي هي لام. وقد تقدم ما فيه آنفًا، فالأصح ما ذهب إليه الناظم والجماعة. ثم قال: "وأولها ما كان قبل قد ألف". الهاء في "أولها" عائدة إلى الألف، أي: أول التي تقلبها ياءً أو واوًا ما كان قد ألف في المثنى قبل هذا، واعتيد فيه من العلامتين، وهما الألف والنون، أو الياء والنون، مفتوحًا ما قبلهما. وعلى كلام هنا سؤالات: أحدها: أنه قصر الكلام في التثنية على المقصور والممدود، وترك الصحيح، والجاري مجراه من المعتل، نحو: ظبى، وغزو، وهذا حسن (كما) تقدم. وترك أيضًا ذكر المنقوص، فلم يتعرض له. وتركه مع الصحيح والجاري

مجراه يعطى أنهما على حكم واحد، وهو إلحاق العلامتين دون تغيير، وذلك بإطلاق، غير صحيح، لأن المنقوص على قسمين: منقوص بقياس، ومنقوص بغير قياس. أما المنقوص بغير قياس فعلى قسمين: أحدهما: ما يرد فيه المحذوف في حالة الإضافة، وهذا حكمه في التثنية أن يرد إليه. المحذوف في التثنية، لأنها أجريت في اللحاق وعدمه مجرى الإضافة، فنحو: أخ وأب، وحم، وهن - في اللغة القليلة - يرد إليه/ المحذوف في التثنية، كما يرد إليه في الإضافة، فتقول: أخوان، كما تقول: أخو زيد، وأبوان، كما تقول: أبو زيد. وكلامه يشعر في هذا القسم بأنك (لا (، ترد إليه المحذوف فتقول وجوبًا: أخان، وأبان، وحمان. وهذا فاسد لا يقال إلا في الشذوذ. والثاني: من قسمي المنقوص غير القياسي ما لم يرد إليه المحذوف في الإضافة، نحو: يد ودم وهن، في اللغة الشهيرة. وحكمه ما يقتضيه كلام الناظم من جريانه مجرى الصحيح، فتلحق العلامتان دون تغيير، فهذا يمشي له. وأما المنقوص بقياس، وهو ما آخره ياء قبلها كسرة، فحكمه أن يرد إليه ما حذف منه وجوبًا، نحو: قاضٍ، وغازٍ، وشجٍ، وعمٍ، فتقول: قاضيان وغازيان، وشجيان، وعميان، ونحو ذلك.

وكلام الناظم يعطى بمقتضاه إلحاق العلامتين من غير تغيير، مكان يجئ منه: قاضان، وغازان، مثل: يدان، وهذا فاسد لا يقال. والسؤال الثاني: أنه ذكر من أقسام المقصور الجامد، وأراد به ما لا أصل له من ياء ولا واو، ومثله بـ (متى) ودخل بمقتضى ذلك الحروف وما كان نحوها من الأسماء. وهذا القسم لا يخلو أن يكون جامدًا بالمعنى الذي أراد قبل التسمية به أو بعدها، فإن كان قبل التسمية فكونه جامدًا صحيح، لكنه في تلك الحال لا يثنى ولا يجمع باتفاق، لأنه لا يثنى من الكلم (إلا (الأسماء القابلة لذلك، والحروف وما أشبهها من الأسماء لا يصح فيها التثنية. والناظم إنما أتى بالجامد هنا بناء على صحة التثنية فيه، وفيها كلامه. وإن كان بعد التسمية فالتثنية سائغة، لصيرورته كسائر الأسماء المقصورة نحو: عصا ورحى، لكنه في تلك الحال غير جامد عند النحويين أجمعين سواه، حسب ما أظهر كلامه؛ إذ كان النحويون يقولون: إن الجامد إذا سمى به انتقل عن حالة الجمود إلى حالة سائر الأسماء الشبيهة به، فإن كان الحرف أو الاسم المبنى على حرفين كـ (من) و (قد) صار بعد التسمية بمنزلة: يد ودم، ثلاثيًا في الأصل، ويقدر أنه حذف منه الآخر، ولذلك يردونه في التصغير والتكسير ونحوهما. وكذلك/ يفعلون في (متى) و (بلى) ونحوهما، فيعتقدون في الألف أنها منقلبة عن أصل، هو واو أو ياء، حسب ما أعطاهم الدليل. والأصل هنا الياء فيما أميل. اعتبارًا بالإمالة كما تقدم بيانه، فليس (متى) و (بلى) بعد التسمية بجامدين أصلاً، بل هما وبابهما عند أهل العربية أجمعين

كعصا: رحى، في جميع الأحكام، إلا في العملية خاصة، والتثنية إنما تبنى على ثبوت التسمية. فهذا الذي قاله هنا غير صحيح، ومخالف للإجماع، وعلى هذا المعنى جرى في "التسهيل" و"شرحه" من إثبات الألف الأصلية، وأسقطها في "الفوائد" وجرى على طريقة الناس. السؤال الثالث: أنه قال بعد ما ذكر الأقسام الثلاثة الأول. في الألف: في "غير ذا تقلب واوًا الألف" فاقتضى أن الألف المجهولة تقلب واوا مطلقا؛ إذ لم يعينها بحكم سوى ما أعطاه هذا الكلام من الشمول والعموم في القلب واوًا. وهذا الحكم في الألف المجهولة على إطلاقه غير صحيح، بل تنقسم الألف المجهولة إلى ممالة عند العرب أو بعضهم، وغير ممالة، فأما غير الممالة فهي التي تقلب واوا، وأما الممالة فلا تقلب إلا ياء كالألف الجامدة عنده، فلو سمعنا في (خسا) الإمالة لقلنا في التثنية: (خسيان) كما تقول في (متى): متيان، كذلك قال في "التسهيل" قال: وإذا ثنى المقصور قلبت ألفه واوًا إن كانت بدلا منها، أو أصلا، أو مجهولة ولم تمل، وياء إن كانت بخلاف ذلك، وعلى المعنى فسره في "الشرح" فهذا فيه ما ترى. والجواب عن الأول: أن المنقوص عند المؤلف ينقسم إلى قياسي وغيره، لكن العرف النحوي عنده أن المنقوص إنما يراد به القياسي، وكذلك قال في "التسهيل": "فإن كان - يعني حرف الإعراب - ياء لازمه تلى كسرة

فمنقوص عرفي" وهو الذي يشكل على كلامه، وغير القياسي قد جعل فيه ما قبل الآخر كالآخر، فحكمه حكم الصحيح إلا في: أخ، وأب، وأخواتها، فيشكل أيضا. أما المنقوص العرفي فقد علم أن حذف آخره لعلة هي ثبوت التنوين، إذ كان أصل (قاص) قاضي، فحذفت الحركة من الياء استثقالا، فالتقى ساكنان/ الياء والتنوين، فحذفت الياء فقيل: قاض، وإذا كان كذلك ففي التثنية يزول التنوين للحاق العلامتين، فلابد من رجوع الياء لزوال ما أوجب حذفها، فتقول: قاضيان، وكذلك ما أشبهه. فلما كان رجوع الياء معلومًا من جهة القياس لم يحتج إلى التنبيه عليه، وعلى أنه لو صرح بحكمه لكان أليق به من تكلف مثل هذا الجواب. وأما (أخ) وأخواته فإشكاله وارد، ولعله لما خرج عن باب المنقوص غير القياسي بهذا الحكم لم ينبه عليه لقلته، إذ هي أحرف معدودة، وهذا أيضًا فيه ما فيه. والجواب عن الثاني أن مذهب المؤلف في مثل (متى) و (ألا) و (بلى) ونحوه، أن الألف فيه بعد التسمية أصله غير منقلبة، اعتبارًا بأصلها المنقول منه، وهو مذهب يظهر من "باب التثنية" من "التسهيل" و"شرحه" وربما وقع له في "التسهيل" ما يشير إلى ذلك في موضع آخر في ظني. وعند قراءته نبهنا شيخنا القاضي - رحمة الله عليه - وأنه مذهب المؤلف، استظهر على ذلك الموضع بكلامه في "باب التثنية" ولكن سقط عن ذكرى الآن موضعه، ولا شك أن هذا مذهب مردود، وموضع الرد عليه غير هذا التقييد.

والجواب عن الثالث أن يقال: يمكن أن يكون ترك ذكر الألف المجهولة رأسًا لقلتها؛ إذ لا يوجد منها إلا النادر القليل، فلم يحفل بها لأجل ذلك، والله أعلم. وقوله: "آخر مقصور" هو منصوب بفعل مضمر يفسره. قوله: "اجعله يا" من باب "الاشتغال". و"يا" في قوله: "اجعله يا" وقوله: "كذا الذي اليا أصله" محذوف الآخر ضرورة. وقد جاء منه قولهم: "شربت ما يا فتى". و"عن ثلاثة" متعلق بقوله: "مرتقيًا". و"الجامد" معطوف على "الذي" والإشارة بـ"ذا" في قوله: "في غير ذا تقلب واوًا الألف" ليس راجعًا إلى أقرب مذكور؛ بل هو راجع إلى جميع ما ذكر من الأقسام التي تقلب الألف فيها ياء، وعادته أنه لا يشير بـ (ذا) و (ذي) إلا إلى أقرب مذكور، ولكن لم يحترز هنا من هذا الإبهام، لأنه لا يتصور إلا أن يكون راجعًا إلى الجميع. ثم ذكر الناظم حكم الممدود من الأسماء في التثنية فقال: / وما كصحراء بواو ثنيا ... ونحو علباء كساء وحيا بواو أو همز وغير ما ذكر ... صحح وما شذ على نقل قصر فقسم الممدود ثلاثة أقسام: ما كانت الهمزة فيه للتأنيث، وما كانت للإلحاق أو بدلاً من أصل، وما عداهما، وهو ما كانت الهمزة فيه أصلية.

وابتدأ بالقسم الأول فقال: "وما كصحراء بواوٍ ثنيا". يعني أن ما كان من الأسماء الممدودة همزته كهمزة صحراء، أي في كونها للتأنيث، فإن حكمه في التثنية أن تقلب الهمزة فيه واوًا مطلقا، فتقول في صحراء: صحروان. مثله: حمراء، وغراء، وبيضاء، وزكرياء، وعمياء، تقول: حمراوان، وغراوان، وبيضاوان، وزكرياوان، وعمياوان، وفي الحديث "أفعمياوان أنتما" وقال الشاعر: يديان بيضاوان عند محلم ... قد تمنعانك أن تضام وتضهدًا. ولم يحتج الناظم إلى تعيين محل الواو، فلم يقل: (آخر الممدود) المثنى اجعله واوا، كما قال في التثنية: "آخر مقصور تثنى اجعله يا" اتكالا على فهم المراد، وأن التغيير اللاحق إنما يكون في آخر الاسم المثنى. وذكر القلب واوًا، ولم يذكر غيره، لأن ما عداه شاذ لا يقاس عليه، وذلك مذهب البصريين. وقد بنى على بعض الشذوذات في هذا الباب الكسائي والكوفيون في أشياء ننبه عليها عند تنبيه الناظم على شذوذ الباب إثر هذا إن شاء الله.

وإنما قلبت الهمزة هنا، وكان الأولى تركها على حالها؛ إذ لا موجب لقلبها في الظاهر، كما كان لقلب الألف في المقصور موجب، وهو كراهة التقاء الساكنين - لأن هذه الهمزة لما كانت بدلاً من ألف التأنيث كره بقاؤها، لأن وقوعها بين ألفين كتوالي ثلاث ألفات، فتوقى ذلك ببدل مناسب، وهو إما واو وإما ياء، فكانت الواو أولى، لأنها أبعد شبهًا من الألف وإنما أزيلت الهمزة لقربها من الألف، والياء مثلها في مقاربة الألف، فتركت وتعينت الواو. وقال المبرد: قلبت واوًا لزيادة ثقل الهمزة بين ألفين بالتأنيث، ولأن الهمزة ليست من علامات التأنيث كالواو، بخلاف الياء، ألا ترى قولهم: (أنت تذهبين) كيف جعلت علامة للتأنيث؟ فكان قلب الهمزة لما ليس علامة مثلها أولى. وقيل: إنما اختاروا الواو لأنها أبين في الصوت من الياء قال شيخنا الأستاذ - رحمة الله عليه - فيما حكاه عنه شيخنا الأستاذ أبو عبد الله/ البلنسي: والأوجه عندي في التعليل أن يقال: لما وجب واوا في النسب، بسبب أنها لو قلبت ياء لاجتمعت ثلاث ياءات، كذلك قلبت في التثنية واوًا، لأن التثنية وجمعي التصحيح والنسب تجرى مجرى واحدا. قال: وكيف يليق أن يقال: فروا من الياء لقربها من الألف، مع أنهم قد فروا إليها في مسألة (مطايا) لأنها (لما (صارت إلى (مطاءا) كرهوا اجتماع ألفين بينهما همزة تشبه الألف، فصارت كثلاث ألفات، فقلبوها ياء لقربها من أصلها، إذ لم يريدوا إبعادها عن أصلها جملة، فقالوا: مطايا.

قال: فأنت تراهم رجعوا إلى الياء، فكيف يفرون منها في التثنية؟ ! وإنما نحو ذلك فلك فيه وجهان: أحدهما: أن تقلب الهمزة واوا. والثاني: أن تتركها على حالها من غير تغيير، وذلك قوله: "بواو أو همز". أي أنت مخير في هذين الأمرين، إن شئت قلبتها واوا، فقلت في (علباء): علباوان، وفي كساء (كساوان)، وفي (حياء): حياوان، وإن شئت تركتها على حالها، فقلت: علباءان، وحياءان، وكساءان. وتمثيله بعلباء وكساء هو الذي بين حقيقة الهمزة الجائز فيها الوجهان: وحوى هذا القسم نوعين: أحدهما: ما كانت همزنه مبدلة من حرف الإلحاق، وذلك (علباء) إذ ليست للتأنيث، لأجل انصراف الاسم، ولا مبدلة من أصل، لقولهم: سيف معلوب ومعلب: إذا كان مشدود المقبض بالعلباء. والعلباء: عصبة في العنق صفراء، قال أبو النجم: يمر في الحلق على علبائه ... تعمج الحية في غشائه وكذلك (الحرباء) ألفه للإلحاق، وهي دويبة تستقبل الشمس حيثما دارت. ومثله (الخرشاء) لسلخ الحية، و (الحزباء) و (الجلذاء) و (الصلداء) ونحو ذلك.

وإنما قلبت واوا في أحد الوجهين تشبيهًا لها بهمزة (حمراء) حيث (كانت) كل واحدة بدلا من حرف زائد غير أصلي، وبقاؤها على حالها تشبيه لها بهمزة (كساء) و (رداء). والنوع الثاني/: ما كانت همزته مبدلة من أصل، وذلك (كساء) و (حياء) فالمثالان معًا معناهما واحد، وكلا الهمزتين مبدلة من ياء هي لام الكلمة، لأنها من: كسى، وحيى، والكساء والحياء معروفان لغة، وإنما قلبت تشبيهًا لها بهمزة (علباء) حيث كانت كل واحدة منهما ليست بأصل نفسها؛ بل منقلبة عن غيرها، وكون كل واحدة في مقابلة حرف أصلي، أم همزة (كساء) ففي مقابلة ما انقلبت عنه، وأما همزة (علباء) ففي مقابلة ما ألحقت به، وهو لام (سربال) ونحوه. ولم يذكر الناظم هنا تفاوتًا بين النوعين في قلب الهمزة واوًا، وقد نصوا: على التفاوت، وأن الإثبات أجود من القلب مطلقًا. قال سيبويه: "اعلم أن كل ممدود كان منصرفًا فهو، في التثنية والجمع، بالواو والنون في الرفع، بالياء والنون في الجر والنصب، بمنزلة ما كان آخره غير معتل من سوى ذلك. وذلك قولك: رداءان، وكساءان، وعلباءان، فهذا الأجود الأكثر". فهذا نص على أن الإثبات هو الأولى على الإطلاق. ثم ذكر بعد ذلك أن (علباوان) أكثر من (كساوان) في كلام العرب، لشبهها بحمراء.

وعلى هذا درج الناس إلا ابن عصفور, فإنه زعم أن همزة (علباء) أولى بالقلب من همزة (كساء) والتصحيح في (كساء) أولى من القلب واوًا, لقرب همزة (علباء) من همزة التأنيث, وقرب همزة (كساء) من الهمزة الأصلية كقراء, وعلى هذا تبعه المؤلف, وهو رأي خالفا فيه الناس, وقد نقل ابن هاني في "شرح التسهيل" عن ابن عصفور وعن النحويين غير ما قالوه جميعًا, فإياك أن تعتمد عليه في هذه المسألة أصلاً. وقال السيرافي: الباب في تثنية الأنواع الثلاثة, يعني ما عدا همزة التأنيث, الهمز, لأنه الظاهر, قال: ويجوز فيهن الواو لاستثقال الهمزة بين ألفين, فعلى كل تقدير فات الناظم التنبيه على الأولوية, ولكنه قد لا يحفل بذكر ذلك .. , إذ كان الجميع جائزًا, وقد مر في "نظمه" من هذا القبيل مواضع. ثم ذكر القسم الثالث فقال: (وغير ما ذكر صحح) "غير" منصوب بـ"صحح" أي: صحح غير ما ذكر, يريد أن ما عدا تقدم من القسمين حكمه في التثنيه/ التصحيح وعدم الإعلال, وهو أن تترك الهمزة على حالها بدون تغيير. ولم يبق لهذا القسم من أقسام المدود إلا ما همزته أصلية, نحو: قراء ووضاء, لأنهما من: قرأ, ووضؤ وجهه, أي حسن, فتقول:

قراءان, ووضاءان, وإنما لم تقلب هذه (الهمزة) لقوتها بالأصالة, وعدم انقلابها عن غيرها, لأن التغيير يأنس بالتغيير, فلما كانت أصلاً لم يلحقها تغيير تحصنت بذلك عن القلب, وهذا هو الأشهر فيها, والذى عليه كلام العرب. ثم قال: "وما شذ على نقل قصر" يعني أن ما شذ وخرج عما تقدم ذكره في كيفية التثنية مقصور على النقل, وموقوف على محله لا يقاس عليه, لقلته وندوره. وتنبيهه على الشذوذ ليس بمقصور على تثنية الممدود فقط, بل هو عام في جميع الأقسام, ما ذكره نصًا, وما ترك ذكره للعلم به, فلابد إذاً من ذكر بعض ما نقل في الأقسام الأربعة التى للمثنى, ليحصل به شرح ما أجمله الناظم في هذا الكلام. فأما الصحيح الآخر: والجاري مجراه فمما شذ منه قولهم في (ألية) أليان, وفي (خصية): خصيان, إذ كان الحق على مقتضى القاعدة لحاق العلامتين من غير حذف شيء, لكنهم شذوا فحذفوا هاء التأنيث, وكان الأصل: أليتان, وخصيتان, قال الراجز: ترتج ألياه إرتجاج الوطب وقال الآخر: كأن خصييه من التدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنيا حنظل

وأما المنقوص فمما شذ منه ردهم لام الكلمة المعتزم حذفها, فقالوا في (يد): يديان, قال: يديان بيضاوان عند محكم ... قد تمنعانك أن تضام وتضهدا وفي (دم) دميان, ودموان, قال الشاعر: فلو أنا على جحر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين وهذا إذا لم يحملا على أنهما تثنية للغة القصر, إذ قالوا: الدما, واليدا, كالفتى, والرحى, وقالوا في (الأخ) و (الأب): أخان, وأبان, وهما أيضًا محتملان لأن يكونا تثنية على لغة النقص مطلقًا. وأما المقصور: فشذ منه أشياء, منها أنهم قالوا: مذروان, فقلبوا الألف إلى الواو وهي رابعة, قال عنترة: أحولي تنفض استك/ مذرويها ... لتقتلني فها أنا ذا عمارا

وكان القياس: مذريان, كحبليان, ولكن لما لم يكن له مفرد مستعمل جعلوا علامتي التثنية فيه كتاء التأنيث في: شقاوة, وعظاية, قد بنيت الكلمة عليها. ومنها أن الكوفيون قالوا: إن العرب تسقط الألف المقصورة مما كثرت حروفه, كخوزلى, وقهقرى, فيقول: خوزلان وقهقران. ولم يحك البصريون من ذلك شيئًا عن العرب, فإن صح ما نقله الكوفيون فيكون, ولابد, من الشذوذ المقصور على النقل, إذ لو كثر لقضت العادة باشتهاره حتى يحفظ منه غيرهم شيئًا, فإذ لم يكن كذلك, ولابد من تصديق الرواة, فيكون من الشاذ, وقد تقدم نقل مذهبهم. وأما الممدود: فشذ منه أشياء أيضًا, منها في همزة التأنيث إثباتها على حالها, حكى أن من العرب من يقول: حمراءان, وصحراءان, وذلك نادر, فمن ثم لم يبن عليه الناظم, بل حتم القلب إلى الواو. وقد ذهب الكسائي إلى جواز الهمز قياسًا، وهذا إنما بناه على ما حُكى عن العرب، ولم يحك من ذلك عنهم شيء يعتد به في القياس، فلا يبنى عليه. وقد استحسن الكوفيون في الممدود, إذا كان قبل الألف واو أن يثنوا بالهمزة وبالواو, نحو: لأواء, وجأواء, وأجازوا الوجهين في نحو: سواء, فيقولون: سواءان, وسواوان, وكذلك اللاواوان, والجأواوان.

قالوا: والهمز أكثر في كلام العرب. ومنها أنهم حذفوها رأسًا في التثنية من أربعة ألفاظ, وهي خنفساء, وباقلاء, وعاشوراء, وقرفصاء, فقالوا: خنفسان, وباقلان, وعاشوران, وقرفصان. وأجاز ذلك الكوفيون قياسًا في كل ما طال من الممدود كالألفاظ المتقدمة, فيقولون: قاصعان, حاثيان, في: قاصعاء, وحاثياء, وكذلك ما أشبه. ومنها أنهم حكوا أن من العرب من يبدل من الهمزة الياء, فيقولون: حمرايان, وبيضايان, ونحو ذلك, وأجازوه قياسًا, أعنى الكوفيين, وكل هذا, إن وجد في كلام العرب, من قبيل المقصور على النقل لندوره, فالصواب ألا يبني عليه. ومنها في المبدلة من أصل أن الكسائي حكى قلبها ياء عن بعض العرب, فيقولون: كسايان, وردايان, وقضايان, ونحوها, وكأن قولهم: "عقلته بثنايين" من هذا, ولكن وجه هذا بناؤه على علامة التثنية, كما بنوا (سقاية) على التاء, وذلك لأنهم لم ينطقوا له بمفرد, وهذا أيضًا من الشذوذات. ومنها في الأصلية: قلبها واوا, فيقال: قراوان, ووضاوان أجاز ذلك الفارسي قياسًا على قول بعضهم في النسب: قواوي.

قال ابن الضائع: وكان الأستاذ أبو علي يأخذ عليه في ذلك, يعني في كونه قاس على ما هو شاذ, وكان الشلوبين يجعل ذلك من شواذ النسب, ثم وجهه الشلوبين بأن الهمزة في التثنية لها ثقل خاص بها, وهو وقوعها بين ألفين, ومما يدل على ثقلها عندهم أن ممن لغته تحقيق الهمزة من يسهلها إذا وقعت بين ألفين, كالوقف على: رأيت كساء, حكاه سيبويه, كما أن المحققين يسهلون الهمزة المجتمعة مع مثلها. ولما أتم (الناظم) الكلام على التثنية, وما تعلق بها من الأحكام, أخذ يذكر الحكم في جمعي التصحيح, وهما الجمع على حد التثنية, والجمع بالألف والتاء, فقال: واحذف من المقصور في جمع علي ... حد المثنى ما به تكملا والفتح أبق مشعرًا بما حذف ... وإن جمعته بتاء وألف فالألف اقلب قلبها في التثنية ... وتاء ذي التا ألزمن تنحيه وابتدأ بذكر ما عداه. والمجموع كما تقدم أربعة أقسام:

فأما الصحيح الآخر: فلا زيادة فيه, على ما تقدم في "باب المعرب والمبنى" فلم يحتج إلى ذكره. وأما المنقصوص: فحكمه في الجمع مخالف لحكم التثنية, فإن التثنية ترد منه فيها ما ترده الإضافة, كما ذكر في الاعتراض عليه. وهنا لا يعتبر شيء من ذلك, بل يبقى المنقوص في الجمع على حاله قبله مطلقًا سواء كان منقوصًا بقياس أم بغير قياس, ويعد آخره كأنه لم يحذف منه شيء, فتقول في (قاض): قاضون, وفي (عاد): عادون, وفي (شج): شجون. قال الله تعالى: } بل أنتم قوم عادون} , وقال: } بل هم منها عمون}. وكذلك/ إذا سميت بيد, ودم فإنك تقول: يدون, ودمون, ولا ترد شيئًا. هذا هو الحكم الظاهر في الجميع, وإن كان باب (قاض) ونحوه جاريًا على قياس تصريفي؛ إذ كان الأصل أن يقال: قاضيون, ثم أعل, لكن الحاصل في الظاهر عدم التغيير. والناظم في ترك التنصيص على حكم المنقوص هنا أعذر منه في تركه التنصيص عليه في التثنية, إذ لا يلزمه هنا به اعتراض, وقد لزمه هنالك, فلما كان المنقوص على هذا السبيل لم يحتج إلى ذكره هنا. وأما الممدود فقد ذكر حكمه في التثنية, وانه الهمزة فيه يختلف الحكم فيها, وكذلك الأمر هنا, فإن كانت أصلية فالإثبات, فتقول: قراءون ووضاءون.

وإن كانت مبدلة من ألف التأنيث فالقلب, فتقول في (زكرياء): وزكرياوون وزكرياوين, وفي (صحراء) اسم رجل: صحراوون, وصحراوين. وكذلك ما أشبهه. وإن كانت مبدلة من أصل أو من حرف الإلحاق فالوجهان, فتقول في (عطاء) و (رجاء) علمين: علباءون, وعلباؤون, وحرباءون, وحرباوون, وما أشبه ذلك, وإذا كان حكمه قد تقدم لم يحتج إلى إعادته, بل أحال على المعلوم فيه. وبهذا يعلم أنه لم يرتض جواز الهمز في نحو: صحراوون, بل جعله على حكم التثنية على الإطلاق. وقد أجاز الهمز على مذهب الإبدال المازني فيما ذكر عنه, اعتمادًا منه على أنها واو مضمومة, وكل ما كان كذلك فيجوز في التصريف قبلها همزة, كوجوه وأجوه, ووقتت وأقتت, ونحو ذلك. قالوا: وما قاله سهو, لأن الضم هنا كضم الإعراب في نحو: دلوك, وكالضم في التقاء الساكنين إذا قلت: هؤلاء مصطفو الناس, وما كان مثل هذا فلا يهز باتفاق, لعدم ثبوته, وكونه عارضًا. وأيضًا فلما كانت منقلبة عن الهمز لم يصح أن ترد إليه, لما يلزم من وقوع اللبس أو نقص الغرض, وهما مجتنبان, فالصحيح مذهب الناظم والجمهور. ونقل عن المبرد موافقة المازني والرد على سيبويه, ثم ذكر أن المبرد نزع عنه, ورد على المازني.

وأما المقصور/ فهو الذي احتاج إلى ذكره, لأنه في الجمع لا يبقى على أصله بلا تغيير فيلحق بالمسكوت عنه كالصحيح, ولا يثبت له حكم التثنية من قلب الألف فيستغنى بذكره هناك كالممدود, فلم يكن له بد من ذكره, فقال: "واحذف من المقصور في جمع" إلى آخره. يعني أن الاسم المقصور إذا جمع على حد التثنية, وهو أن يجمع بالواو والنون, أو الياء والنون, فإن الحرف الذي تكمل به ذلك الاسم, وهو الحرف الأخير, يحذف رأسًا, ثم تلحق العلامتان, فسواء أكانت الألف منقلبة عن أصل واو أو ياء, أم كانت رابعة فصاعدًا, لتأنيث أو غيره فتقول في موسى موسون وموسين, وفي مصطفى مصطفون ومصطفين وفي (زكريا) مقصورًا: زكريون, وزكريين, قال الله تعالى: } وأنتم الأعلون}. وهو جمع (الأعلى)، وقال تعالى: } وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} وهو كثير, فحذفت الألف مطلقًا, لكن لما حذفوها تركوا دليلاً عليها يشعر بموضعها, وهو فتح ما قبلها, إذ كان قبل حذفها مفتوحًا, فترك على حاله. ولما كان هذا محتاجًا إلى استدراكه نبه عليه بقوله: "والفتح أبق مشعرًا بما حذف" "الفتح" مفعول بـ"أبق" و"مشعرًا" إما حال من فاعل "أبق" أي: حالة كونك مشعرًا بإبقائه, أو من مفعوله, أي: حالة كون الفتح مشعرًا, يريد أن الفتح الذي كان موجودًا قبل الألف يبقى على حاله إشعارًا بأنه قد كان ثم ما فتح له من ذلك الحرف, وليس إلا الألف, ولو لم تبق الفتحة لم يكن ثم دليل على الألف, إذ كانت واو الجمع تطلب بضم

ما قبلها, وياؤه تطلب بكسره, فكان اللبس يقع بين المقصور وغيره, فحافظوا على ما قصدوا من التمييز بالفتحة. ونبه أيضًا بذكر إبقاء الفتحة على مسألة أخرى, وهي ارتضاؤه لمذهب أهل البصرة؛ إذ كان إبقاء الفتح هو الباب, وعليه كلام العرب, وبه جاء القرآن, فلم يحيزوا خلافه. وذهب الكوفيون, فيما نقل بعض الناس عنهم, إلى جواز ضم ما قبل الواو, وكسر ما قبل الياء, بعد حذف/ الألف, فيقولون في (موسى): موسون, وموسين وفي (حبلى) , وموسين, وحبلين, كأنه جمع: موس وحبل, وكذلك ما أشبه. والذي نقل المؤلف عنهم أنهم يلحقون المقصور, الذي ألفه زائدة بالمنقوص, فإن كان المقصور أعجميًا أجازوا فيه الوجهين, لإمكان زيادة الألف وعدمها, والذي يشير إليه كلام سيبويه موافقة النقل الأول, والذي يدل على صحة مذهب الناظم أوجه: منها أنه القياس المعلوم, وذلك لأن الألف إذا جاء من بعدها علامة الجمع التقى ساكنان, فالقياس والضرورة يعطيان حذف الألف لالتقائهما, وإبقاء الحركة على حالها هو القياس أيضًا ولو قلنا: موسون وموسين, لكنا نقدر حذف الألف من قبل دخول علامة الجمع, فلا يظهر لحذف الألف موجب. وإن قيل: التخفيف هو الموجب لزم جواز الحذف تخفيفًا في الجمع بالألف والتاء, فكنت تقول في (حبلى) و (سكرى)

وشكاعى و (حبارى): حبلات, وسكرات, وشكاعات, وحبارات, وهذا باطل. وإلى هذا المعنى أشار سيبيويه في الرد عليهم قال: "واعلم إنك لا تقول في (حبلى) و (موسى) و (عيسى) إلا: حبلون, وعيسون, وموسون, وعيسون, وموسون خطأ". قال: "ولو كنت لا تحذف ذا - يعني الألف - لئلا يلتقى ساكنان, وكنت إنما تحذفها وأنت كأنك تجمع: حبل, وموس, لحذفتها في التاء فقلت: حبارات, وشكاعات". وأيضًا فكلام العرب على ما ذهب إليه البصريون, فلا يعدل عنه إلى ما لم يوجد في كلامهم. ثم ذكر حكم المقصور في الجمع بالألف والتاء فقال: "وإن جمعته بتاء وألف, فالألف اقلب قلبها في التثنية". الهاء من "جمعته" ضمير "المقصور" المذكور في جمع المذكور, يقول إذا جمعت ما أخره ألف بالألف والتاء, فإنك تقلب الألف فيه, كما قلبتها في التثنية سواء, لا فرق بينهما. وقد مر أن المقصور في التثنية إن كانت ألفه رابعة وصاعدًا قلبتها ياء مطلقًا, وإن كانت ثالثة منقلبة عن ياء فكذلك, وكذلك إن كانت في اسم جامد وقد سمعت فيه الإمالة, وما عدا ذلك تقلب فيه الألف واوا,

وكذلك الحكم فيه إذا جمع هذا الجمع, فتقول في (حبلى): حبليات, وفي (فتاة): فتيات, وفي (متى) اسم امرأة: متيات, وفي (قناة): قنوات, وفي (غزاة): غزوات, وفي (على) اسم امرأة: علوات. ولم يفرق في هذا بين ما كثرت حروفه وما لم تكثر, فدل على التزامه مذهب البصريين. وأهل الكوفة يسقطون الألف إذا كانت خامسة فصاعدًا, كما يسقطونها في التثنية, فيقولون في (قبعثرى) اسم أنثى: قبعثرات, وفي (باقلى): باقلات, وكذلك ما أشبهه. وأثبته المؤلف سماعًا فقال في "التسهيل": "وربما حذفت خامسة في التثنية, والجمع بالألف والتاء". ولم يحك من السماع في الجمع إلا (هراوات) في بيت شعر لم أقيده. وقال: وقال إنه جمع (هراوى) الذي جمع (هراوة). وكذلك سمع مفتوح الهاء, والمحذوفة ألف (هراوى) التى منقلبة عن واو (هراوة). وهذا من الشذوذ والتكلف بحيث لا يبنى عليه السماع فضلاً عن أن يكون مقيسًا, وقد تقدم مثل هذا في التثنية. وفي كلام الناظم هنا نظر, وذلك أن الجمع بالألف والتاء جار في حكمه على التثنية في جميع أقسامها, إلا ما يستثنيه من حذف هاء التأنيث, وتحريك العين الساكنة هنا, فالصحيح الآخر لا يغير في الجمع هنا, والمنقوص

إن كان بقياس رد ما حذف, فيقال في (رام) و (قاض) و (شج) اسم امرأة: قاضيات, وراميات, وشجيات, كما تقول في (حائض) و (قائم) و (قاعد) أعلامًا للمؤنث: حائضات, وقائمات, وقاعدات, وإن كان بغير قياس فكذلك, تقول في (يد) و (دم) اسم امرأة: يدات, ودمات, ولا ترد ما حذف والمقصور كذلك كما ذكر. والممدود أيضًا كذلك, فإن كان الهمزة أصلية (قلت): امرأة وضاءة, ونساء وضاءات, وكذلك قراءات في قراءة. وإن كانت للتأنيث قلت/: صحراوات, وفي (حمراء) علمًا لمؤنث: (حمراوات). وإن كانت منقلبة عن أصل, أو حرف عن إلحاق فالوجهان, فتقول في (علباء) وحرباء, وكساء, ورداء) أسماء مؤنث: علباوات وعلباءات, وحرباءات, وحرباوات, وكساوات وكساءات, ورداوات ورداءات, فلا يختلف الحكم في هذا الجمع مع التثنية أصلاً. وإذا تقرر هذا فالناظم قد بنى على ما علم حكمه من "نظمه" فلا يذكره, ولذلك لم يذكر كيفية تثنية الصحيح الآخر, ولا المنقوص الآخر لما كان معلومًا, ولم يذكر كيفية جمع الممدود بالواو والنون لما قد ذكر ذلك في التثنية وإنما ذكر المقصور فيه لمخالفته لها كما تقدم. فإذا كان من حقه ألا يذكر من أقسام المجموع بالألف والتاء واحدًا, ولا من أحكامه حكمًا إلا حكم حذف التاء, إذ كان يكون بتركه محيلاً على ما تقدم, لذكره ذلك كله في التثنية, وإن سلم أن لا مشاحة في

ذكره أحد الأقسام تكرارًا, فكان من الأولى أن يكر على ذكر الجمع بكلمة عامة بأن يذكر أن حكم الجمع بالألف والتاء حكم التثنية, فكان يقول مثلاً: وما جمعته بتاء وألف ... فالحكم فيه مثل حكم التثنيه أو نحو هذا, ولا يحصل فيه تطويل إلا مثل ما حصل في ذكر أحد الأقسام, بل في ذكره أحد الأقسام خصوصًا إيهام, وهو أنه لما ذكر المقصور, وأنه في الحكم كالثنية, ربما يتوهم أن ما عداه من الأقسام ليس حكمه ذلك الحكم, فيرجع فيه إما إلى الأصل من عدم التغيير مطلقًا, فيلحق الممدود عند ذلك بالصحيح, في عدم التغيير, وذلك فاسد, وإما إلى أمر لا يعرف, وهذا كله شنيع. والجواب عن هذا أن ما فعله الناظم هو الواجب في الموضع, وهو أنه لا يخلو أن يسكت عن ذكر جميع الأقسام, أو يذكرها كلها, وعلى كل تقدير يلزم محذور. أما سكوته عن الجميع فموهم في المقصور لحكم غير صحيح, وذلك أن آخر حكم ذكر فيه حكم الجمع بالواو والنون, وهو حذف الألف, وهو أقرب إلى هذا الموضع من التثنية, فلابد أن يستصحب له هذا الحكم لقربه, ويبقى سائر الأقسام على حكم التثنية, لأنه لم يذكر لها في الجمع بالواو والنون حكمًا زائدًا على ما ذكر في التثنية.

ولأجل إحالته على الأقرب, واعتماده على ذلك لم يذكر حكم الممدود في الجمع بالواو والنون, لذكره في التثنية, وهى أقرب مما أحال عليه في تثنية الصحيح, فلا يمكنه. وأما ذكره للجميع فجار مجرى الحشو والتكرار من غير فائدة, وأما ذكره ما ذكر وحده فلأنه لما اقتصر في الجمع بالواو والنون على ذكر المقصور وحده, فلو سكت عنه في هذا الجمع لم يسبق إلى الذهن فيه إلا ما قرب ذكره وهو الحذف, وهو فاسد. وأما الممدود فيذكر حكمه في التثنية، فوجبت الإحالة عليه. وأما غيرهما من الأقسام فهو من المسكوت عنه للعلم به, فلذلك اقتصر على قسم المقصور وحده, وهو التفات حسن, وقد تقدم له شيء من هذا النوع من الالتفات في مواضع, كباب المصادر وغيره. ثم قال: "وتاء ذي التا ألزمن تنحية". "تاء" مفعول أول لـ"ألزمن" و"تنحية" مفعول ثان له, و"ذو التاء" هو ما فيه تاء التأنيث من الأسماء المجموعة. يعني أن ما كان فيه تاء التأنيث فإزالة تلك التاء منه, إذا جمع بالألف والتاء, لازمة, فلا يجمع بينهما, فتقول في (طلحة) طلحات, وفي (فاطمة): فاطمات, ولا تقول: طلحتات, ولا فاطمتات, ووجه ذلك كراهة اجتماع علامتي تأنيث متماثلتين, إذ كانت تاء الجمع تاء تأنيث, فاجتنبوا ذلك بحذف تاء الاسم المفرد, وبقيت تاء الجمع كالنائبة عنها. والتنحية: مصدر: نحيت كذا, أي: جعلته في ناحية, وذلك عبارة عن إزالة التاء عن موضعها.

واعلم أن الناظم نقصه هنا أمر ضروري في المجموع بالتاء, وهو ذكر ما يجمع كذلك مما لا يجمع, والذي يجمع من ذلك بإطراد خمسة أنواع: أحدها: ما فيه تاء التأنيث مطلقًا, ما عدا أربعة أسماء, وهي: امرأة, وأمة, وشفة, وشاة، استغنت/ العرب عن التصحيح فيها بالتكسير. والثاني: المؤنث بالألف الممدودة أو المقصورة, ما عدا (فعلاء أفعل) و (فعلى فعلان) , لما لم يجمعوا مؤنثاتها بالألف والتاء. والثالث: علم المؤنث للعاقل الذي لا علامة فيه, لأن ما فيه علامة داخل في النوع الأول. والرابع: صفة المذكر غير العاقل, نحو: (أيام معدودات). والخامس: مصغر ما لا يعقل, نحو: دريهمات. وما عدا ذلك موقوف على السماع, خلافًا لابن عصفور القائل

بأن مذكر ما لا يعقل إن لم تكسره العرب جمع بالتاء قياسًا, نحو: حمامات, وسرادقات, وإن كسر استغنى بتكسيره. ورد عليه الأستاذ - رحمه الله - بأن التصحيح فيها قليل, فالواجب الرجوع إلى أوسع البابين, وهو التكسير. فإذن كان حق الناظم أن يبين هذا, إما هنا وإما في "المعرب والمبنى" حيث بين شروط الجمع بالواو والنون, فلو قال: وقسه في ذي التا ونحو ذكرى ... ودرهم مصغر وصحرا وزينب ووصف غير العاقل ... وغير ذا مسلم للناقل لحصل به المقصود في المسألة, وبالله تعالى التوفيق. والسالم العين مؤنثًا بدا ... مختتمًا بالتاء أو مجردا هذا فصل يذكر فيه حكمًا آخر للمجموع بالألف والتاء, زائدًا على ما تقدم ذكره من حذف التاء, مما خالف فيه التثنية, وهو تحريك العين بحركة متبعة أو غير متبعة كما سيذكر. ويريد أن كل اسمٍ اجتمعت فيه أوصاف خمسة فإن عينه تحرك بحركة فائه إتباعًا عند الجمع بالألف والتاء.

أحد الأوصاف: أن يكون سالم العين, ومعنى كونه سالم العين أن يكون صحيح العين لامعتلها, فلو كانت معتلة لم تحرك, نحو: جوزةٍ, وبيضةٍ, وكذلك ديمة, وسيرة, ودولة, وصوفة, وثومة, فلا تقول: جوزات, ولا بيضات, ولا ديمات, وكذلك لا تقول في العير: عيرات, ولا ما أشبه ذلك. ووجه عدم التحريك: استثقال الحركات على حروف العلة على الجملة, وعلى أن هذيلاً تفتح مثل: جوزةٍ وبيضةٍ/ فتقول: جوزات, وبيضات, كما سيذكر إثر هذا إن شاء الله. الوصف الثاني: أن يكون ثلاثيًا, فإنه إذا كان كذلك جاز فيه التحريك, فإن كان رباعيًا فأكثر لم يجز ذلك, فنحو: مهدد, وجدول, وبرثن, وزبرج, أسماء مؤنثٍ, لا يحرك فيها الساكن ولا يتبع, لأنهم إنما فعلوا ذلك في الثلاثي لخفته, بخلاف الرباعي, ولما يؤدي إليه في الرباعي من توالي الحركات, وهو مستثقل, وليس المراد بالثلاثي هنا الثلاثي الأصول خاصة؛ بل على الإطلاق, فكل اسم زاد على الثلاثة بحرف أصلي أو زائد فلا تعلق لهذا الحكم به, فنحو: جدول, وجرول, وأرطى, وخروع, عثير, وحمير, إذا كانت أسماء إناث, لا يحرك فيه شيء لعلة الاستثقال. الوصف الثالث: أن يكون اسمًا غير صفةٍ, وهو قول الناظم: "اسمًا" أي بشرط ألا يكون صفة, وإلا فالمجموع كله لا يكون إلا اسمًا, ولكن الإسم يطلق عند النحويين بإطلاقات.

فتارة يطلق في مقابلة الفعل والحرف, فيقال: هذا اسم ليس بفعل ولا حرف. وتارة يطلق ويراد به (في) ما مقابله المصدر, كما يقال في: كلامٍ, وسلامٍ: هذا اسم, أي ليس بمصدر لكلمت وسلمت. وتارة يطلق في مقابلة الصفة, وهو المراد هنا. فإذا كان الثلاثي هنا غير صفة أتبعت عينه فاؤه, وإلا فلا تتبع فلا تقول في (ضخمةٍ): ضخامات, ولا في (سمحة) سمحات ولا نحو ذلك. وبسبب هذا الوصف فعلوا ما فعلوا من التحريك, كأنهم أرادوا التفرقة بين الاسم والصفة, فحركوا الاسم لخفته وأبقوا الصفة على حالها من السكون لثقلها, لقربها من الفعل الذي هو أثقل من الاسم. فأما قولهم: شاة لجبة, أي قل لبنها - بالسكون - وشياة لجبات, بالفتح إتباعًا مع أنه وصف, فليس على ظاهره عند المؤلف, وإنما لجبات عنده جمع لجبة - بالفتح - إذ يقال: شاة لجبة ولجبة. وكذلك قولهم: رجل ربعة, للمعتدل, ورجال ربعات, بالسكون في المفرد, والإتباع في الجمع, ليس عنده ما ظهر, وإنما ربعات عنده على/ ربعة؛ إذ يقال في المفرد بفتح الباء وإسكانها, فليس ذلك إذًا من النادر؛ بل من المقيس. وقال في "الشرح": إن النحويين يظنون في (لجبات) أنه جمع (لجبة) الساكن الجيم, فيحكمون عليه بالشذوذ, لأن فعلة صفة لا تجمع على (فعلاتَ) بل على على (فعلاتٍ).

قال: وحملهم على ذلك عدم اطلاعهم على أن فتح الجيم في الإفراد ثابت قال: وكذلك اعتقدوا أن (ربعات) بفتح الباء, جمع (ربْعةٍ) بالسكون, وإنما هو جمع (ربَعةٍ) بمعنى ربْعةٍ, ذكر ذلك ابن سيده. انتهى. وإذا كان على ما قاله المؤلف وحكاه, فيلزم على قول من قال: (لجبة) بالسكون [أن] يجمع على (لجبات) بالسكون أيضًا, وهو القياس, وذلك مذهب المبرد, إذ أجاز إجراء القياس فيه, وأتبعه المؤلف في "التسهيل", فقال: "ويسوغ في (لجبة) القياس وفاقًا لأبي العباس". وهذا المذهب إنما يقال به أنه على الجواز إذا كان كلام العرب على خلافه, بأن تكون العرب القائلون (لجبة) أو (لجبة) يجمعون على (لجبات) فحينئذٍ - يصح أن يقال الحمل على القياس. أما ما يستشعر من كلام المؤلف, من أن من يسكن في المفرد يسكن في الجمع, ومن يفتح يفتح, فلا يصح أن يقال بجواز إجراء القياس؛ بل هو اللازم ولابد, والوجه الأول هو ظاهر كلام سيبويه في (لجبة) ونص السيرافي, وللكلام مع المؤلف في المسألة موضع غير هذا. الوصف الرابع: أن يكون ساكن العين, نح هند, ودعد, وجمل, وتمرة, وغرفة, وكسرة, فإنهم إنما فعلوا ذلك فيما كان هكذا, فلو كان محرك العين لم يجز ذلك, لأن العين قد سبقت حركتها الأصلية, فلا ينتقل عنها, نحو: شجرة,

وسمرة, ونمرة, فلا تقول العرب في (سمرة) سمرات, ولا في (نمرة): نمرات, ولا نحو ذلك. الوصف الخامس: أن يكون مؤنثًا لا مذكرًا, فإنه إذا كان مذكرًا لا تفعل العرب ذلك فيه, فإنها لا تجمع مثل هذا بالألف والتاء, وهذا التحريك لا يعرض إلا في هذا الجمع, فلا سبيل إليه أصلاً وفرعًا. والمراد بالتأنيث هنا الإطلاق, يعني سواءً كان تأنيثًا لفظيًا كطلحة, وحمزة, أم معنويًا, نحو قولك: تمرةٍ, وغرفةٍ, فرنك تقول: طلخات, وحمزات/ وتمرات, وعرفات. هذه الأوصاف التي أتى بها الناظم للاسم الذي تحرك عينه في الجمع بالألف والتاء, وسيذكر إثر هذا وصفًا آخر يستدركه, وهو ألا يؤدي الإتباع إلى ياءٍ بعد ضمة, أو واوٍ بعد كسرة. فإذا اجتمعت توجه ذلك الحكم الذي ذكره, وهو أن تتبع العين الفاء بحركة الفاء, فتقول في (دعد) و (تمرة): دعدات, وتمرات, وفي (جمل) و (غرفة): جملات, وغرفات, وفي (هند) , و (كسرة): هندات, كسرات. ثم نرجع إلى تنزيل لفظه, فقوله: "والسالم العين الثلاثي اسمًا أنل" إلخ. "السالم العين" منصوب بـ (أبل) مفعولاً أول, و"الثلاثي" جارٍ على "السالم" نعتًا أو عطف بيان, و"مؤنثًا" حال منه, و"إتباع عين" مفعول (أنل) الثاني, و"فاءه" مفعول لـ"إتباعٍ" ثانٍ, والمفعول الأول هو المضاف إليه, وضمير "فاءه" عائد على الاسم المذكور, والتقدير: أنل الاسم السالم العين الثلاثي الحروف الحكم الذي هو إتباعك عين ذلك الاسم فاءه.

و"بما شكل" متعلق بـ"إتباعٍ" أي بما شكل به, فحذف الضمير العائد على "ما" وهو قليل, ولكن قد تقدم له تسويغ مما أعطاه كلام الناظم في "باب الموصول" وفسر هنالك, و"ساكن العين" و"مؤنثًا" و"مختتمًا" أحوال الفعل فيها "بدا". وقوله: "مختتمًا بالتاء أو مجردًا" تبين لما ذكر من التأنيث, أي لا يقتصر فيه على التأنيث اللفظي دون غيره, بل الجميع سائغ فيه حكم الإتباع. وحصل من هذا التبيين احتراز عن التأنيث بالألف المقصورة أو الممدودة؛ إذ لا يقال في نحو (ذكرى): ذكريات, ولا في (بشريات, ولا في (دعوى): دعويات. وهو أيضًا حاصل من الوصف الثاني, وهو كونه ثلاثيًا؛ إذ الاسم المبني على الألف معتد بها في بنائه, فلا يعد ثلاثيًا, بل رباعيًا في نحو (ذكرى) وخماسيًا في نحو (حبارى) بخلاف التاء فإنها كالجزء الثاني من المركبين, وبيان الدليل على هذا مذكور في غير هذا الوضع. ويقال: أنال زيد عمرًا كذا, وناله إياه, فناله هو, أي: أعطيته إياه, فأخذه وتناوله. وعلى كلام الناظم هنا نظر من وجهين: أحدهما: أنه لم يستوف الشروط؛ بل نقصه منها. والآخر: أنه ذكر فيها ما لا يحتاج إليه في حكم الإتباع. أما عدم استيفاء الشروط فإن الناس اشترطوا شرطًا سادسًا لابد منه, وهو أن يكون الاسم غير مضاعف, فإنه إن كان كذلك لم يجز فيه التحريك،

فتقول في (حجة) و (رجة) و (سلة): حجات, ورجات, وسلات, ولا تقول: حججات, ولا رججات, ولا سللات, وكذلك حجة, وقبة ومره وحجه وردة وهرة, وقد نص هو على اشتراط هذا في "التسهيل" وغيره, وهذا "النظم" يقتضى إطلاق التحريك في مثل هذا, وهو غير مستقيم. وأما ما ذكره في الشروط ما لا يحتاج إليه فهو أنه شرط أن يكون مؤنثًا, وهو غير محتاج إليه قصد, لأنه إنما يشترط هذا في جواز الجمع بالألف والتاء إن كان يشترط, فنحو: زيدٍ, وعمروٍ, وكلبٍ, وجذعٍ, وقفلٍ ونحوها لا يجمع بالألف والتاء, لأنه ليس بمؤنث, فليت شعري من أي شيء تحرز بهذا الشرط؟ وما الذي كان يدخل عليه لو لم يذكره؟ وكلامه في "التسهيل" أسهل من هذا, إذ قال: "والمؤنث بهاء, أو مجردًا ثلاثيًا صحيح العين ساكنة. فصدر بالمؤنث على أنه مشروط فيه, لا على أن التأنيث فيه شرط. وأيضًا فالنحويون لا يشترطون هذا الشرط, بل إنما يأتون به في معرض أنه مما يجمع بالألف والتاء, وأن الثلاثي الساكن العين الكذا, إلى آخر الشروط تتبع عينه فاءه, لا أنهم يأتون بمثل هذا المساق المعترض, ولا أجد الآن جوابًا عنهما, فكان الأولى أن لو عوض من قوله: "مؤنثًا" مضاعفًا, فلا يبقى عليه اعتراض, إلا أن يقال في الأول: إن المضاعف, في المعنى, معتل, إذ لم

يبق على أصله من الفك, والإدغام نوع من أنواع الإعلال, فقد يدخل له تحت شرط الإعلال. وفي الثاني: إنه لما لم يتكلم على شروط الجمع بالألف والتاء, ولا عين ما يجمع بهما, ذكر التأنيث الذي إليه يرجع هذا الجمع, وهذا ضعف. واعلم أن الناظم حكم فيما اجتمعت فيه هذه الشروط بإتباع العين حركة الفاء, ولم يتعرض أولاً لكونه جائزًا أو واجبًا, وظاهر الأمر أنه واجب, إذ أطلق القول فيه, وعلى هذا محمل الأمر فيه, إلا فيما استثنى بقوله: وسكن التالي غير الفتح أو ... خففه بالفنح فكلا قدرووا فحصل أن ما كان تاليًا للفتح لا يجوز فيه الإسكان, وما جاء من ذلك فشاذ على ما سيذكر إن شاء الله, وذلك صحيح, فتقول في (جفنةٍ): جفنات, وفي (قصعةٍ): قصعات, ولا يجوز: جفنات, وقصعات. وأما التالي غير الفتح, وهو ما كان قبله ضمة نحو: غُرفةٍ, وخُطوةٍ, وظُلمةٍ, أو كسرةٌ نحو: كسرةٍ, وهند, فحصل من إطلاق القاعدة الأولى الإتباع كما تقدم, وزاد الآن وجهين آخرين: الإسكان, وهو قوله: "وسكن التالي غير الفتح" أي سكن العين التي تبعت غير الفتح, فكان قبلها ضمة أو كسرة. وقال: "التالي" والمراد عين الكلمة, وكذلك قال: "أو خففه" فأعاد ضمير المذكر, و"العين" مؤنثة, اعتبارًا بأنه حرف من حروف الكلمة, فعلى هذا تقول في (غُرفةٍ): غُرفاتٌ, وفي (خُطوةٍ): خُطواتٌ, وفي (كسرةٍ): كسراتٌ, وفي (هند): هندات.

والآخر, الفتح, وهو قوله: "أو خففه بالفتح" أي خفف عين الكلمة بفتحها, وإنما قال: "خففه" لأن الفتح خفيف, وهو مما يخفف به, وأيضًا فللتخفيف هنا موقع بالنسبة إلى الاتباع الذي قدم, وهنا الضم أو الكسر؛ ولا شك أن الفتح أخف منه, فقولك: (غُرَفاتٌ, وكسراتٌ) أخف من قولك: (غُرْفاتٌ وكسراتٌ) ولأجل ذلك لزم الإتباع بالفتح, ولم يجز فيه الإسكان لما كان الفتح خفيفًا. وأجازوا هنا الإسكان والفتح كأنهما فرار من ثقل الإتباع, فتقول في الفتح في (غُرفةٍ): غرفاتٌ, وفي (هند): هنداتٌ, وفي (كسرةٍ): كسراتٌ, ونحو ذلك. فالمجموع ثلاثة أوجه في العين غير التابعة فتحًا, والتابعة الفتح لها وجه واحد, وهو الإتباع. وقوله: "فكلا قد رووا" يعني أن هذه الأوجه الثلاثة, في المضموم الفاء والمكسورها, مروية عن العرب, مسموعة من كلامها, وحكاها أهل العربية. فمما جاء من ضم عين (فُعلةٍ) في الجمع قوله تعالى: } وهم في الغرفات آمنون}. وقرأ ابن عامر والكسائي وقنبل وحفص: } ولا تتبعوا خطوات الشيطان}. ومما جاء بالإسكان فيه (خطوات) وهي قراءة الباقين, وحكى اللغويون (غرفات).

ومن الفتح ما أنشده/ سيبويه: ولما رأونا باديًا ركباتنا ... على موطن لا نخلط الجد بالهزل وذكر أنه سمعه ممن ينشده بفتح الكاف, وحكى أن من العرب من يفتح العين إذا جمع بالتاء, فيقول: ركبات, وغرفات, وقال دريد: دفعت إلى المفيض وقد تجاثوا ... على الركبات مغرب كل شمس ثم مرجع النظر في كلام الناظم في مسائل: إحداها: في قوله: "وسكن التالي غير الفتح" فإن الظاهر لبادي الرأي أن لو قال: واتركه على سكونه أو خففه بالفتح, إذ الأصل فيه السكون, وهو الظاهر, فلا ينبغي أن يعدل عن دعواه إلى دعوى سكون عارض بعد الإتباع. والجواب: أن الأمر على ما يظهر من كلامه من تجدد السكون بعد الإتباع, وذلك أنه إن كان الأصل السكون, كما ذكر, فقد عرض له أصل ثان طاريء عليه, وهو الإتباع, فرقًا بين الاسم والصفة, بدليل لزومه في المفتوح الفاء؛ إذ لا يسوغ أن يقال هنا: إن الفرق بين الاسم والصفة أتوا به على الجواز, حتى تلجئنا الضرورة إلى ذلك, ولأن من عادة الفرق أن يكون لازمًا,

وإلا لم يكن فرقا, فلابد أن يدعى أنه سكون عرض لموجب, والموجب هنا قائم, وهو ثقل توالي الضمتين في نحو: (غرفات) وتوالي الكسرتين في نحو (كسرات) (ومن عادتهم الفرار عن ذلك ألا ترى أنهم يقولون في (رسل) و (كتب) ونحوهما: رسل, وكتب, وفروا من بناء (فعل) بكسرتين, فلم يأتوا منه على ما قاله سيبويه إلا بإبل, وزاد غيره ألفاظًا يسيرة, فلما كانوا يلقاهم في الإتباع هنا ما عادتهم أن يجتنبوه ولو على الجواز, فعلوا تلك العادة هنا, وما ظهر هنا من كلام الناظم هو الظاهر من كلام سيبويه, إذ قال: "ومن العرب من يدع العين من الضمة في (فعلةٍ) فيقول: غروات, وخطوات, ثم تكلم على (مديةٍ) ونحوه, وأنه لا يجوز فيه الإتباع. ثم قال: "ومن خفف قال: كليات, ومديات". وقال في (فعلةٍ): ومن قال: (غرفات) فخفف قال: كسرات, فظاهر هذا أن التخفيف فيها من الضم أو الكسر. وأظن أن الفارسي نص على ذلك في "الحجة" واحتج له, فاستظهر عليه.

وعلى هذا النوع / جرى الفراء في توجيه قراءة من قرأ: } خطوات الشيطان} بالإسكان, وعلى أن ابن الضائع جرى في عبارته على مقتضى السؤال فقال ومنهم من استثقل الضمة فتركه ساكنًا, فانظر فيه. المسألة الثانية: أنه ذكر الإتباع في الاسم, والبقاء على الإسكان في الصفة, فإذا كانت الصفة قد سمى بها ففي أي قسم تدخل له, مع أنهم قد أجازوا الوجهين, أعنى النحويين, في المسمى بالصفة إذا جمع, اعتبار الأصل فسكنوا, واعتبار الحال فحركوا؟ والجواب: أن هذا القسم يدخل تحت قاعدته, وذلك أن الأصل فيما سمى بالصفة أن تجرد عنه حالة الوضعية, وعلى ذلك جاء قولهم: العبلات, لقوم من قريش, لأن أمهم اسمها (عبلة) وهي منقولة من الصفة, فلو سميت بضخمة لقلت: ضخمات, وكذلك ما أشبهه. فعلى هذا التقدير تدخل الصفات المسمى بها تحت حكم الأسماء, لأنها قد انتقلت إلى الاسمية, غير أنهم أجازوا لحظ الأصل بعد التسمية رعيًا له, كما رعوه في باب "ما لا ينصرف" فمنعوا (أحمر) بعد التسمية, إذا نكر, الصرف اعتبارًا بالأصل من الوصفية, وكما قال الأعشى: أتاني وعيد الحوص من آل جعفر ... فيا عبد قيس لو نهيت الأحاوصا فجمع (الأحوص) على (حوصٍ) و (فعل) لا يجمع عليه إلا الوصف, فراعو أصل (الأحوص) إذ هو وصف, فيقال: رجل أحوص, بمعنى

ضيق مؤخر العين, وامرأة حوصاء, ثم راجع الأصل المرجوع إليه من التسمية, فجمعه على (أحاوص) فكذلك يجوز هنا أن يجمع (ضخمة, وعبلة) مسمى بهما على (ضخمات, وعبلات) على هذا التقدير, وإذا كان على مراعاة الوصيفة لحق بالصفة, وخرج في التقدير عن حكم الأسماء, فلزمه الإسكان الذي يلزم الوصف, فدخل تحت كلام الناظم. المسألة الثالثة: أن الناظم حكى جواز الإتباع حكاية مطلقة, فيظهر منه استواء الجواز في الأوجه الثلاثة بالنسبة إلى (فعل) و (فعل) وفيه نظران: أحدهما: أن الإتباع في (فعلة) بالضم ليس كالإتباع في (فعلة) بالكسر, من جهة أن العرب لا تستعمل الجمع بالتاء في (فعلة) إلا قليلاً, كراهية توالي الكسرتين, فاستغنوا ببناء الأكثر وهو (فعل) كفقرة وفقر, وكسرة وكسر, وقربة وقرب, لأنه في توالي الكسرتين يشبه (فعلاً) , و (فعل) في الأبنية نادر, بخلاف/ (فعل) فإنه يكثر في كلامهم, فمن ها هنا كثر استعمال نحو: غرفات, وخطوات, ولم يكثر سدرات وكسرات. ذكر ذلك سيبويه, (وعلل بمعنى ما ذكرته) , وإذا ثبت هذا فكيف يجعل الإتباع في (فعلة) مساويًا للإتباع في (فعلة) وبينهما ما تراه. والثاني: أن من مثل (فعلة) ما لا يجوز فيه الإتباع, ويجوز فيه غيره, وهو ما إذا كانت لام الكلمة ياء نحو: لحية, فرية, فلا يقال:

لحيات, فريات, لتوالي الكسرات مع الياء, بخلاف (خطوات) ونحوه, فإنه جائز وإن توالت الضمات مع الواو, فقد قال سيبويه: "وتقول: لحية ولحى, وفرية فرى, ورشوة ورشًا". قال: "ولا يجمعون بالتاء كراهية أن تجيء الواو بعد كسرة - يعني في (رشوةٍ) لو قلت: رشوات - واستثقلوا الياء هنا بعد كسرة - يعني في (لحية) لو قلت: لحيات - قال: "فتركوا ذا استثقالاً, واجتزوا ببقاء الأكثر". يعني الجمع على (فعل). ثم ذكر أن من قال: كسرات: قال: لحيات. فهذا كالصريح في المنع, ويرشحه أنه قرنه بما يمتنع اتفاقًا, وهو (رشوات) فظاهر كلام الناظم مشكل. والجواب عن النظر الأول: أن من عادته أن يأتي بمثل هذا مجملاً, فلا يعين الأقل من الأكثر إذا كان الجميع جائزًا في الكلام؛ إذ لا محظور. وعن الثاني: أن السيرافي: زعم أن الإتباع يجوز في (لحية) وبابه, هكذا غير مقيد بقلة, قال: لأنه لا ينقلب فيه حرف إلى غيره, يعني كما ينقلب في (رشوةٍ) لو أتبعت, إذ لابد من الإتباع من قلب الواو ياء, بخلاف (لحية) لأنها ياء من أصلها, فلعل الناظم اعتمد على هذا النقل, والمؤلف نقل في "التسهيل" الخلاف في المسألة, وذكر في "الشرح" أن من البصريين من منع لاستقلال الياء بعد الكسرتين, ومنهم من أجازه, ولم يذكر هناك نصًا على مرتضاه, وظاهر مذهبه ها هنا الجواز, ويكون اعتماده على ما ذكره السيرافي إن كان سماعًا من العرب, أو قياس منه, وعلى ما يشير إليه رده على الفراء في منعه (فعلات) مطلقًا, على ما أذكره على إثر هذا إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة: في حكاية ما خالف ما تقدم من المذاهب, فمن ذلك ما ذهب إليه قطرب من إجازة الإتباع في (فعلة) الصفة/، فيجوز عنده أن يقال في (ضخمة): ضخمات, وفي امرأة (عبلة): عبلات, وما أشبه ذلك, وكأنه قاس الصفة على الاسم. قال المؤلف: ويعضده ما روى أبو حاتم من قول بعض العرب: كهلات, وكهلات - بالفتح (والإسكان) - والإسكان أشهر, وهذا الحرف شاذ نادر, فلا يقاس عليه, وما ذكر من القياس على الاسم فاسد, لأنه مخالف لمقاصد العرب؛ إذ علمنا بالاستقراء أنها قصدت أن تفرق بين الاسم والصفة, وهو أراد أن يجمع بينهما في الحكم, فهو بمثابة من يقيس الفاعل على المفعول فينصب, أو المفعول على الفاعل فيرفع. ومن ذلك ما ظهر من ابن معط في "أرجوزته" من التفرقة في التحريك بين ما فيه الهاء, كغرفة, وسدرة وبدرة, وبين ما لا هاء فيه نحو: دعد, وهند, وجمل, فأجاز في نحو (خطوة, وسدرة) ثلاثة الأوجه, وفي نحو (بدرة) وجهًا واحدًا, وهو صحيح, وأجاز فيما لا هاء فيه وجهين خاصة, وهما الإتباع والتخفيف, فنحو (دعد) فيه عنده وجهان, ونحو (هند) و (جمل) لا تفتح عينه, هذا ظاهر كلامه, وهو مخالف لما تقدم. وأيضًا فإن سيبيويه جعل نحو (دعد) مثل ما فيه الهاء, ذا وجه

واحد كجفنة, وأجرى نحو (جمل, وهند) على اللغات فيما فيه الهاء, إلا أنه لم ينص على لغة الفتح, فقال السيرافي: يجوز في (جمل, وهند) ثلاث لغات, كظلمة, وكسرة, فالظاهر أنه ما قاله ابن معط غير ثابت, والله أعلم. ومن ذلك ما ذهب إليه الفراء من منع الإتباع في (فعلة) المكسورة الفاء, فلا يقول (فعلات) أصلاً, سواء كان لامها ياءً أو غيرها, واحتج بأن (فعلات) يتضمن بناء (فعل) و (فعل) وزن أهمل إلا فيما ندر, كإبل, وبلز, ولم يثبت سيبويه منه إلا إبلاً, وما استثقل في الإفراد, حتى كاد يكون مهملاً, حقيق بأن يهمل ما كان يتضمنه من الجموع, لأن الجمع أثقل من المفرد, والذي رجح المؤلف الجواز, وهو ظاهر هذا "النظم". وأجاب عما احتج به الفراء من أوجه: منها أن المفرد, وإن كان أخف من الجمع, قد يستثقل فيه ما لا يستثقل في الجمع, لأن المفرد معرض لأن يتصرف/ فيه بتثنية وجمع ونسب, وإذا كان على هيئة مستثقلة تضاعف استثقالها بتعرض ما هي فيه إلى استعمالات متعددة, بخلاف الجمع, فإن ذلك فيه مأمون. ومنها أن (فعلاً) كإبل أخف من (فعل) كطنبٍ, فمقتضى الدليل أن يكون أمثلة (فعل) أكثر من أمثلة (فعل) إلا أن الاستعمال اتفق وقوعه بخلاف ذلك فأي تصرف أفضى إلى ما هو أحق بكثرة الاستعمال فلا ينبغي أن يجتنب, بل يحق أن يؤثر جبرًا لما فات من كثرة الاستعمال, ويؤيد هذا أنهم لا يكادون يسكنون عين (إبل) بخلاف (فعل) فإن عينه تسكن كثيرًا.

ومنها أن العرب قد استعملت (فعلات) جمعًا لفعلة, وقد أشار سيبويه إلى أن العرب لم تجتنب استعمله, كما لم تجتنب استعماله (فعلات). وقد رجح بعض العرب (فعلات) على (فعلات) إذ قال في جمع (جروة): جروات, فاستسهل النطق بكسر عين (فعلات) في ما لامه واو, ولم يستسهل النطق بضم عين (فعلات) في (فعلة) أو أولى بالجواز منه, والقاطع في هذا كله السماع, وقد حكى في غير ضرورة, فلا يعدل عنه. ومن ذلك ما تقدمت الإشارة إليه من منع من منع (فعلات) في المعتل اللام بالياء, كلحية, فلا تقول لحيات, وهو ظاهر كلام سيبويه, ووجه المنع الاستثقال, لتوالى كسرتين مع ياء, مع عدم السماع أو ندوره .. وظاهر كلام الناظم في إطلاقه جواز مثل هذا, وهو الذي يعطيه رده على الفراء في منع (فعلات) مطلقًا, لأن (فعلات) المعتل اللام بالياء فرد من أفراد ذلك المطلق, فما احتج به يجري في هذا, والمعتمد في الجميع السماع, لأن التعليل بالاستثقال ثان عن كونه معدومًا أو نادرًا, "قف حيث وقفوا, ثم فسر". وقول الناظم: "فكلا قد رووا" ارتهان منه في النقل في هذه الأنواع كلها. ولما كان إطلاقه جواز الإتباع قد تضمن إجازة ما هو ممنوع اتفاقًا أخذ في استثنائه من ذلك فقال: ومنعوا إتباع نحو ذروه ... وزبية وشذ كسر جروه

فاستثنى نوعين/ أعطاهما مفهوم المثالين, ويعني أن العرب منعت الإتباع فيما كان من المؤنث المذكور على (فعلة) بكسر الفاء ولامه واو وهو الذي أشار إليه بنحو (ذروة) أو كان على (فعلة) بضم الفاء ولامه ياء, وهو الذي أشار إليه بنحو (ذروة) أو كان على (فعلة) بضم الفاء ولامه ياء, وهو الذي أشار إليه بنحو (زبية) فكأنه قال: كل ما كان من المؤنث على (فعلة) ولامه ياء, أو (فعلة) ولامه واو, فإن العرب امتنعت في جمعه بالألف والتاء من الإتباع, وأجازت ما عداه, فلا يجوز أن يقال في (ذروة): ذروات, ولا في (رشوة): رشوات, ولا ما أشبه ذلك, لما في ذلك من الاستثقال والمنافرة بين الكسرة والواو, لاقتضاء الكسرة قلب الواو ياء, فاجتنبوا ذلك. وكذلك لا يجوز أن تقول في (زبية): زبيات, ولا في (كلية): كليات, لما في ذلك من استثقال الخروج من الضم إلى الياء, ولاقتضاء الضمة قلب الياء واوا, فاجتنبوه رأسًا. ثم حكى ما جاء من النوع الأول شاذًا فقال: "وشذ كسر جروة" [يعني أنه جاء هذا اللفظ, وهو (جروة)] مكسورة العين في الجمع بالتاء, ولامه واو, فقالوا: جروات, وأبقوا الواو بعد الكسرة على حالها, وذلك في غاية الشذوذ؛ إذ لم يحك منه سواه, ولذلك خصه الناظم وعينه بقوله: "وشذ كسر جروه" والجروة التي جمعت هكذا: يجوز أن تكون أنثى الجرو, وهو ولد الكلب والسباع, أو الجروة التي هي الصغيرة من القثاء. وذروة الشيء: أعلاه, وكذلك ذروته, وذراه, والزبية: حفرة

يحفرها الصائد لما يصاد من أسد أو صيد ونحوه, والزبية أيضًا: الرابية لا يعلوها الماء, ثم قال: ونادرًا أوذو اضطرارٍ غيرما ... قدمته أولأناس انتمى يعني أن ما عدا ما تقدم في الجمع بالألف والتاء, من الإتباع, والتسكين, والتحريك بالفتح, فهو خارج عن جمهور كلام العرب, إما أنه وقع نادرًا, وإما اضطرارًا, وإما أنه نقل عن قوم من العرب مخصوصين, وأما ما تقدم فإنما انبنى على مشهور كلامهم. وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكر متباينة في المعنى. فالنادر هو الذي جاء في الكلام المنثور قليلاً جدًا, بحيث لا يبنى عليه لقلته. وذو الاضطرار هو/ ما جاء في الشعر لضرورة الوزن, ولولا الوزن لتكلم به على ما يعطيه القياس. والذي انتمى لأناس هو ما كان لغة لبعض العرب, إختصوا بالتكلم بها دون سائر قبائل العرب, بحيث تنسب إليهم خصوصًا دون أن تنسب إلى مطلق كلام العرب, فيقال: هذه لغة بني فلان. وقوله: "أولأناس" يشعر بأقليتهم بالنسبة إلى سائر العرب, وعلى هذا النوع أحال على ما يذكر بحول الله. ولابد من ذكر ما حضر من مثل هذه الأنواع الثلاثة وبها يتبين كلام الناظم. فأما النادر فمنه قولهم: عيرات, (في جمع عير, وهي جماعة الإبل تحمل الميرة, قال في الشرح: "وأما عيرات في جمع (عير)

فجائز عند جميع العرب مع شذوذه عن القياس" وإنما شذ من جهة تحريك عينه, وهي حرف علة؛ إذ كان السكون فيها أخف فالتزموه, وخرجوا بهذه اللفظة عن ذلك الأصل, وأما هذيل فهم فيه على أصولهم, وإنما ندروه من جهة التزام جميع العرب ذلك فيه, قال سيبويه: "حركوا الياء, وأجمعوا فيها على لغة هذيل", قال الكميت أنشده السيرافي: (عيرات الفعال والحسب العود إليهم محطوطة الأعكام) ومنه ما تقدم من قولهم: جروات, وقد تقدم وجه شذوذه. ومنه على مذهب سيبويه ومن تبعه قولهم: لجبات في (لجبة) حيث اعتزم من يسكن في الإفراد أن ينتقل إلى لغة من يحرك وهو وصف, وعلى هذا المعنى يمكن أن يحمل قولهم: ربعات, إن ثبت أن بعض العرب يفتح في الإفراد, وأن من يسكن فيه يفتح في الجميع. ووجه سيبويه (ربعات) بأن أصله اسم مؤنث يقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد, فصار كالوصف بخمسة, إذا قلت: مررت برجال خمسة. قال ابن الضائع: ولزوم التاء في (ربعة) يدل على ذلك. قال ابن الضائع في (لجبات) بعد ما ذكر قول سيبويه: ويمكن أن يقال: لما كانت هذه الصفة مختصة بالمؤنث أشبهت الأسماء, حيث لم تكن التاء فيها

علامة للتأنيث, لأنها كالتاء في (ناقة) ومن الفتح في الوصف قولهم: كهلات في (كهلة) ففتحوا في الجمع, وهو وصف قطرب. وقال يونس: امرأة عدلة, وعدلات, فحرك, وقال: قوم ربعة وربعات, وقال يونس: شاة لجبة, ولجبات, فحرك الجمع, وقال: لا أعرف: لجبة, بالتحريك ومن الإسكان في الاسم قولهم: (أهلات) في (أهل) وأهلات أشهر. قال سيبويه: "وقالوا: أهلات, فخففوا, شبهوها بصعبات, حيث كان (أهل) مذكرًا تدخله الواو والنون", قال: "فلما جاء مؤنثًا كمؤنث (صعب) فعل به كما فعل بمؤنث (صعب) ", يعني أنهم أنثوا (أهلاً) فقالوا: أهلة, وجمعوا فقالوا: أهلون في (أهل) فصار لذلك مثل: صعب, وصعبة, وصعبون, فعومل معاملته. ومما جاء منه مؤنثًا قول الشاعر, أنشده السيرافي, وأنشده الفراء أيضًا, قال أنشدني المفضل: وأهلة ود قد تبريت ودهم ... وأبليتهم في الحمد جهدي ونائلي

وأما الاضطرار فمنه قول الشاعر: وحملت زفرات الضحى فأطقتها ... ومالي بزفرات العشى يدان فأسكن عين (فعلات) وهو اسم, وقال ذو الرمة: أبت ذكر عودن أحشاء قلبه ... خفوقًا ورفضات الهوى في المفاصل أراد "ورفضات" فأسكن ضرورة, وأنشد ابن خروف قال أنشده الباهلي في "معانيه": ولكن نظرات بعين مريضة ... ألاك اللواتي قد مثلن بنا مثلا أراد "نظرات" وقال عدى بن الرقاع: يكابد نفحات الهواجر والضحى ... مكافحة بالمنخرين وبالفم وإنما سهل هذا النوع شيئًا أنها مصادر, والمصادر تشبه الصفات, فهي أسهل في القياس من (تمرات) لو قيل. وأما اللغات الأقلية بالنسبة إلى ما ذكر, فمنها ما حكى أبو الفتح عن

قوم من العرب من تسكين عين (فعلات) إذا كانت اللام معتلة, فيقول في (ظيبة): ظيبات, وفي (شريه): شريات, واللغة المشهورة: ظيبات, شريات. ومنه لغة هذيل, أنهم يفتحون عين (فعلات) المعتلة, فيقولون في (جوزة): جوزات, وفي (بيضة): بيضات, وفي (سيرة): سيرات, وفي (عير): عيرات. قال الفارسي عن قطرب: وزعم يونس أن (توبة) و (توبات) بالتثقيل يقولها ناس كثير, قال: أبو بيضات رايح متأوب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح وقال الشلوبين: قياس لغة هذيل الفتح في نحو: دولة, ودولات, وصوفة, وصوفات, وكأنه إنما قال هذا لأنه لم يسمعه نقلاً عن لغتهم, ولا شك أن القياس سائغ. وقول الناظم: "أولأناس انتمى" أي: انتسب. يقال: انتمى فلان, إذا انتسب, و"غير ما قدمته" مبتدأ خبره "نادر" وما بعده.

بين يدي التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الكريم. وبعد، يخرج هذا الجزء على غير ما خرجت عليه الأجزاء الأخرى من هذا الشرح المبارك؛ إذ اشترك في تحقيقه ثلاثة من أساتذة الصرف في قسم الدراسات العليا من كلية اللغة العربية في جامعة أم القرى، هم: أ. د. محمد بن إبراهيم البنا، وقد أسند إليه تحقيق جمع التكسير. أ. د. السيد تقي عبد السيد، وقد أسند إليه تحقيق التصغير. أ. د. سليمان بن إبراهيم العايد، وقد أسند إليه تحقيق النسب. ولهذا الجزء قصة مجملها أن بعض الزملاء الأعزاء كان التزم بتحقيقه، ولم يمكنه إنجاز العمل لموانع أو صوارف أو شواغل شغلته، لا تخرج عن باب العلم، ونشاطه في التحقيق، ووجد مجلس مركز إحياء التراث الإسلامي وإدارته نفسه في موقف حميد؛ إذ حقِّق الكتاب كله، ولم يتبقَّ منه إلا هذا الجزء، والأمر يحتمُ العجلة والإسراع في أمر طال انتظاره، وإسناد تحقيقه إلى واحد قد يمطل الأجل، ويطيل الزمن. فكان الرأي أن يقسم بحسب أبوابه الثلاثة، وأن يسند تحقيق كل باب إلى أستاذ، فكان العمل على الصورة المثبتة في صدر الحديث، ثم جدت بعد ذلك أمور، فرجع الأستاذان: محمد البنا والسيد تقي إلى عملهما في مصر، وأكملا تحقيق ما أسند إليهما هناك، وتمت إجراءات النشر من المراجعة، والطباعة، والتصحيح في غيبتهما، وكان لي شرف تصحيح تجارب الطباعة، وشاركني تلميذي د. محمد الدغريري، وأرجو أن تنال شيئاً من رضا الجميع، وإن كانت الطباعة لا تأتي على جميع رغبات المحقق، خاصة

الضبط، فإن الكَتَبَةَ عادةً يحاولون التخلص منه أو التخفف، لكن عمل أو بقي منه ما هو بالإمكان، وما تدعو إليه الضرورة، وليغفر لنا القارئ ترك ضبط أشياء واضحة، أو السهو عن ضبط ما يحتاج إلى ضبط، مما كان المحققون قد ضبطوه وأحكموه؛ لأن مثل هذا الكتاب إنما تقرؤه فئةٌ من المختصين، أو نبهاء الطلاب ومتقدميهم، وإليهم يساق الكتاب، وهؤلاء لا يخفي عليهم كثير مما يخفى على غيرهم. وإن محققي هذا الجزء ليشكرون كلَّ من أسهم في هذا الجزء مراجعة أو نشراً، من القائمين على أمور معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، ومركز إحياء التراث، ولا سيما الزميل العزيز د. مطر بن مسفر الزهراني مدير المركز سابقاً، الذي تابع مراحل هذا الكتاب في آخرها، وأولاه كل اهتمامه، مع أعمالٍ أخرى غيره، حتى بعد انتهاء فترة عمله، وهو في سنة تفرغه العلمي، وكان لمتابعته واهتمامه أكبر الأثر في تمام العمل وظهوره، فله منا الشكر والعرفان، وندعو الله أن يجزيه خير الجزاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين. أ. د. سليمان بن إبراهيم العايد أستاذ العلوم العربية (اللغويات) قسم الدراسات العليا - كلية اللغة العربية

جمع التكسير تحقيق الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم البنا

جمع التكسير

جمع التكسير أفْعِلّةٌ أفعُلُ ثم فِعْلَهْ ثُمَّتَ أفعالٌ جموعُ قِلَهْ وبعضُ ذي بكثرةٍ وضعاً يفي كأرجلٍ والعكسُ جاء كالصُّفي لما كانت الجموع على قسمين: جمع سلامةٍ، وجمع تسيرٍ، وجمع السلامة: ما سَلِمَ فيه بناء الواحد. وهو قسمان: جمعٌ بالواو والنون، وجمعٌ بالألف والتاء، وأتمَّ الكلامَ على حكمهما - أخَذَ في ذكر الجمع المكسَّر، وهو الباقي قسمي الجع. وجمع التكسير: ما تغير فيه بناء الإسم تغيُّراً (¬1) يدل على أنك تريد مما يدل عليه ذلك الاسم دلالة واحدة ثلاثة فأكثر، أو ما أصله ذلك، لكن استعمل في أقلَّ من الثلاثة مجازاً. ولما كان بناء الاسم يتغير فيه عن حاله بخلاف جمع السلامة سمي تكسيراً تشبيهاً بتكسير الآنية (¬2)، كما قال الفارسي (¬3). وهذا التغيير على سبعة أقسام: تغييرٌ بزيادةٍ وتبدُّلِ شكلٍ نحو: ¬

_ (¬1) في (أ): تغييراً. (¬2) في الأصل: الأبنية. (¬3) التكملة: 147.

(جمل و) (¬1) جمال، أو بنقص وتبدلِ شكل نحو: رغيف ورُغُفان، أو بزيادة مجردة نحو: صِنو وصِنوان، أو بنقص مجرد نحو: تُخَمَة وتُخَم، أو بتبدل شكلٍ وحده لكن لفظاً نحو: وَرْدٍ وورُدْ (¬2)، أو بتبدلٍ وحده في النية نحو: فُلْكٍ في نحو قوله تعالى: {في الفلك المشحون} (¬3)، وفلك في نحو قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} (¬4). وهذا على جهة التقريب، وإلا فالبِنيةُ هي المحوَّلة (¬5) من أصلها، ولم تجمع مثلاً فُعلاً على فُعْلٍ بأن غيَّرت حركة الفاء فقط، بل أزالت (¬6) البناءَ بجملته وصيرتْهُ إلى بناء آخر مستقلاً / بنفسه. ولما كانت جموع التكسير على نوعين، أحدهما: ما كان جمع يرادُ به العشرة فما دونها، والثاني جمع كثرة يرادُ به ما فوق ذلك_ أراد أن يبيِّنَ (ذلك) (¬7) على عادة النحويين في أمثال هذا فقال: أفعلةٌ أفعُلُ ثم فِعْلَهْ ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، و (أ). (¬2) الوَرْدُ من الخيل بين الكميت والأشقر، ويجمع على وُرْدٍ. (¬3) من الآية: 41 من سورة يس. (¬4) من الآية: 22 من سورة يونس. (¬5) في الأصل و (أ): المحولة. (¬6) كذا في النسخ. وفي العربية ما يحمل عليه مثل هذا، الضمير عائد على العرب. (¬7) عن (أ) و (س).

إلى آخره، يعني أن هذه الأبنية الأربعة من أبنية التكسير جموع اختصت بالقلة، يعني في الأصل، فلا تطلق بحكم الأصل إلا على العشرة فما دونها، فتقول في جمع بُرْد إذا أردت القلة: أبراد. وفي جمع عَبد إذا أردت القلة: أعْبُد. وجمع بناءٍ: أبنية. وفي جمع فتىً: فتية. وكأنَّ العرب أرادت التفرقة بين البابين كما فرقوا بين التثنية وبين ما يراد به أكثر من ذلك؛ وذلك لأن (¬1) التثنية أول الأعداد، لأن الواحد ليس بعدد (¬2)، فخصُّوه ببنية لا تكون لغيره من الجموع، لأن التثنية في المعنى جمع، فكذلك لما كانت العشرة أول العقود خصوها وآحادها بأبنية، وهي هذه الأربعة، خصوا اثنين منها في الأكثر بالثلاثية، وهما أفعُلٌ وأفعال، وخصوا الباقِييم بالمزيد (¬3)، وهما أفعِلة وفِعْلَة، وهذا في الأكثر أيضاً، وإلا فالجميع قد يستعمل للكثرة، كما سيأتي إثر هذا إن شاء الله. فلا يُعنَى بأنها للقلة أن ذلك لازمٌ فيها، ¬

_ (¬1) (س): أنَّ. (¬2) في تاج العروس مادة (عدد): "العدد هو الكمية المتألفة من الوحدات، فيختص بالمتعدد في ذاته، وعلى هذا فالواحد ليس بعدد؛ لأنه غير متعدد؛ إذ التعدد الكثرة. وقال النحاة: الواحد من العدد؛ لأنه الأصل المبني منه، ويبعد أن يكون أصل الشيء ليس منه، ولأن له كمية في نفسه، فإنه إذا قيل: كم عندك؟ صح أن يقال في الجواب: واحدٌ، كما يقال: ثلاثة وغيرها". (¬3) أي: ما كان من المفردات على ثلاثة أحرف. والمراد بالمزيد ما زاد على الثلاثة. وسيأتي تفصيل ذلك في الشرح.

وأن ما عداها لازمٌ للكثير، فإن كلام العرب جاء فيه وضع القليل موضع الكثير وبالعكس. فإن قلت: فما فائدة التنبيه على هذه المسألة إذا كان (¬1) الأمران جائزين في النوعين؟ فالجواب: أن فائدته ألا يخرج عن الوضع الأكثري (¬2) الأول إلا أن تخرجه العرب، فتتبعها (¬3) حتى إذا لم تجد لها فيه عملاً أعملت كلاً في موضعه؛ لأن الغالب في الاستعمال أن تستعمل هذه الأربعة في القلة وما عداها في الكثرة، وأيضاً فللأحكام (¬4) أُخَرَ لفظية، سيأتي ذكرها. واقتصر الناظم على ذكر هذه الأبنية الأربعة في جموع القلة فلم يذكر معها غيرها، فدل على أن مذهبه في فُعَل وفِعَل وفِعَلة نحو: ظُلَم ونِعَم وقِرَرَة [قردة] أنها جموع كثرة كما يقوله الجمهور، لا جموع قلة كما يقوله الفراء. وسكت أيضا عن ذكر الجمعين السالمين، وهما عند ¬

_ (¬1) في (أ): كانت جائزان، ورسم فوقها: كذا. وفي (س): كانت الأمران. (¬2) في (س): الأكثر في الأول. (¬3) في (س): فنتبعها حتى إذا لم نجد ... أعملت. (¬4) في (س): فالأحكام. (5) نقل ذلك عن ابن الدهان كما في شرح الأشموني 4/ 121 وانظر التسهيل 268.

سيبويه والمحققين جمعا قلة في أصل الوضع، فلم ينبه فيهما على شيء، إما لأنه قصد السكوت عنها؛ إذ ليس بضروري ذكر ذلك في باب التكسير، وإما لظهور مذهب غير سيبويه عنده، وذلك أن طائفة تزعم أن جمعي السلامة يستعملان في القلة والكثرة، وهو رأي ابن خروف. ومن استعمالها في الكثرة قوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} إلى آخر الآية، وذلك في القرآن كثير، ومن عادة المؤلف الأخذ بالظاهر في أمثال هذه الأشياء، فلعلهما عنده كذلك، والأظهر عنده مذهب سيبويه في المسألة، قال ابن الضائع: هو أضبط لما ينقل. واعتذر عما جاء منه للكثرة بأن كثيرا من الأسماء لا سيما الصفات يقتصر فيها على جمع السلامة، وحملت الأسماء عليها للأنس بذلك فيها، ولذلك قال: {وهم في الغرفات آمنون}، وفي شعر حسان:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وقد اعترضه التابغة فقال: لقد قللتَ جفانك وأسيافك؟ ! فقال: من كلامنا وضعُ القليل موضع الكثير. وكلا الكلامين دليلٌ على مذهب سيبويه، والتطويلُ في هذا خارج عما نحن بسبيله. وأما فعَل وفِعَل وفِعلة فالصحيح فيها - والله أعلم - مذهب الجماعة؛ لوجود الدليل على ذلك دون الأبنية الأربعة. فإن قيل: ما الدليل على أن هذه الأبنية الأربعة موضوعة للقلة، وأنها المقتصر بها من جموع التكسير على ذلك؟ فالجواب: أنهم استدلوا على ذلك بأمرين: أحدهما: تصغير هذه الأبنية على ألفاظها دون سائر أبنية الجموع فقالوا في أثواب: أثياب، وفي أكلب: أكليب، وفي أرغفة: أريغفة، وفي غلمة: غليمة، فصغروها على ألفاظها، والجموع التي بخلافها لا تصغر كذلك على ألفاظها، وإنما ترد إلى الواحد، وما ذلك إلا أن تصغير الجمع بدل على التقليل، فهذه الأبنية المذكورة لما لم تناقض التصغير دل على مناسبتها له، بخلاف سائر أبنية الجمع التي تدل على الكثرة لما كانت مناقضة للتصغير لم يصغروها. وأيضاً

فإن تكسيرها جائز كالآحاد، فلولا تقاربها منها لما كانت كذلك. وثانيهما: أنه إذا كان للكلمة جمعان، جمع مما ذكر، وجمع من غيره، ثم أردنا أن نفسر بها العدد من ثلاثة إلى عشرة، لم نفسره في أكثر الكلام إلا بجمع من الجموع المذكورة دون سائر الجموع، فدل على أنها عندهم موضوعة للقليل دون الكثير، وأن / غيرها على العكس منها، إذ لو ساوت غيرها لكانت مساوية لها في التفسير للعدد القليل، فإذا لو كانت فِعل وفُعل وفِعلة كما قاله الفراء لصُغرت على ألفاظها، ولَفُسِّرَ بها العدد من ثلاثة إلى عشرة، فأن لم يفعلوا ذلك دليل على صحة ما ذهب إليه الناظم والجماعة، وهذا ظاهر. ثم أخذ يستدرك في هذه الأبنية حكماً لا بد من ذكره، وهو مجيئها للكثرة في بعض المواضع، كما أن جموع الكثرة قد يأتي بعضها مراداً به القلة فقال: وبعض ذي بكثرة وضعاً يفي

يعني أن هذه الأبنية الأربعة لا يقتصر فيها على القلة البتة حتى لا يجوز استعمالها لغيرها، بل يأتي بعضها دالاً على الكثرة وضعاً وإن كان الأصل فيه القلة، وأراد بالوضع الاستغناء به عن وضع جمع الكثرة كأرجل الممثل به، وهو جمع رجل، فإن العرب اقتصرت في جمعه على أفعل في القلة والكثرة، فلم تستعمل فيها غيره. ومثله كفٌّ وأكُفٌّ، ورَسَنٌ وأرسان، وشبه ذلك. وقد يطرد هذا في بعض الأبنية كفعل وفُعُل وفَعِل وفِعَال المعتل اللام أو المضاعف نحو: عنب وأعناب، وطنب وأطناب، وكتف وأكتاف، وبناء وأبنية، وعنان وأعنة. فإن العرب اقتصرت في هذه الأبنية على جمع القلة فلم تضع لها بناء كثرة. وأما مجيء بعض أبنية الكثرة للقلة فنبه عليه بقوله: والعكسُ جاء كالصفي يعني أنه قد جاء من كلام العرب عكس ما تقدم من الحكم، وهو أن بعض أبنية الكثرة قد يفي بالقلة وضعاً، أي: يجيء دالاً على القلة، وحقيقة العكس أن تقول: وبعض جموع الكثرة قد يفي بالقلة، لأن قوله: "وبعض ذي" في تقدير: وبعض ما وضع للقلة قد

يفي بكثرة، فـ "ذي" إشارة إلى جموع القلة، وفي قوله: "وبعض ذي" تنبيه على أنه لا يلتزم نقلاً أن كل بناء قلة يأتي للكثرة، وإنما التزم أن بعضها يأتي كذلك من حيث السماع، ولم يعين موضع السماع فبقي موقوفاً على النقل، ولا شك في وجود النقل في البعض كما تقدم تمثيله، ولو قال: وهذه بكثرة وضعاً تفي لكان ملتزماً أن العرب / فعلت ذلك في كل بناء من الأبنية الأربعة، وذلك يحتاج إلى تتبع النقل في ذلك، ولعله يتعذر الوفاء بهذه الكلية فلم يرتهن فيها. مثل ما جاء في جمع الكثرة مراداً به القلة وضعاً: رجل ورجال، إذ لم يقولوا: أرجال. ودرهم ودراهم، وجميع الرباعي والخماسي. ومثل الناظم هذا الضرب بالصُّفِيّ، والصفي جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء، ومنها ما أنشده الفارسي وغيره:

كأن متنّيه من النفي مواقع الطير على الصفي وفي هذا التمثيل نظر من وجهين، أحدهما: أنه قيد الوفاء بالوضع فقال: وبعض ذي بكثرة وضعاً يفي وعطف عليه العكس، ولا شك في بقاء التقييد والحكم بمقتضاه، والصفي إذا اعتبرته إنما هو مما يفي استعمالاً لا وضعاً، من حيث إن حقيقة الوضع أن تكون العرب لم تضع أحد البنائين استغناء بالآخر، والاستعمال أن تكون وضعتهما معاً لكنها استغنت في بعض المواضع عن أحدهما بالآخر، فمثال ذلك في الأول قول حسان رضي الله عنه: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فإنهم قد قالوا: جفنة وجفان، وسيف وسيوف. ومثاله في الثاني قوله تعالى: "ثلاثة قروء" مع أنهم قالوا: أقراء، وفي الحديث: "دعي الصلاة أيام أقرائِك"، ففسر ثلاثة بجمع الكثرة مع

وجود جمع القلة، فهذا من الوفاء الاستعمالي لا الوضعي؛ إذ قد جعلهما في التسهيل متاينين فقال لما ذكر جموع القلة، وأن ما عداها للكثرة: "وربما استغني بما لإحداهما عمَّا للأخرى وضعاً أو استعمالاً اتكالاً على قرينة" فالصفي من الضرب الاستعمالي لأن الفارسي وغيره حكوا في جمع الصفاة: أصفاء وصُفِيّ، فكان تمثيل الناظم على هذا غير مطابق لما قصد. والنظر الثاني أن التقييد بالوضع قد أخرج أحد الضربين، وهو الاستعمالي، وكلاهما محتاج إلى التنبيه عليه كما فعل في التسهيل، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان الأولى به أن يذكر الضربين معاً، وذلك يحصل له إما بالنص عليهما معاً، وإما بترك التقييد بالوضع، لأنه إذا تركه أُخِذَ الحكم على / إطلاقه في الوضع والاستعمال، فصار هذا القيد زيادة عادت بنقص، وذلك مماا لا ينبغي! والجواب عن الأول أن الاستغناء الاستعمالي إما أن يكون مع كثرة ما استغني عنه كأسياف في بيت حسان، وكلاب في قولهم: ثلاثة كلاب، لكثرة استعمال سيوف وأكلب، وإما أن يكون مع

قلته كثلاثة قروء، فإن أقراء قليل، فأما الأول فلا شك في قلة وجوده في كلام العرب، ولذلك اعترض النابغة حسان لأنه لو كان معتاداً عندهم الاستغناء في مثل أسياف لم يصح الاعتراض، ولما كان قليلاً أهمل الناظم اعتباره فبقي الثاني، وهو أن يكون المستغنى عنه قليل الاستعمال، وإذا كان قليلاً فيما شأنه أن يشتهر استعماله فيه، ويكثر دوره، فهو جدير أن يكون مستغنى عنه بما يكثر استعماله في ذلك الباب، وقلة المستغنى عنه مع كثرة المستغنى به دليل على صحة الاستغناء. وقد قال النحويون في "ترك" إنه مستغنى به عن "ودع"رمع أنه قد سُمع، وقرئ: {ما ودعك ربك} لكنه نادر، فلم يخرجه ذلك الندور عن أن يكون مستغنى عنه بترك، فكذلك مسألتنا، وهذا من باب الاستدلال بالأحكام، فأصفاء في صفاة قليل، والشهير في جمعها مطلقاً صفي، وعلى هذا الترتيب يلحق هذا الضرب الاستعمالي بالضرب الوضعي إلحاقاً لما استعمل نادراً بحكم ما لم يستعمل. وإذا ثبت هذا كان تمثيل الناظم بالصفي حسناً من حيث كان

داخلاً تحت التقييد بالوضع، فالوضعي إذا عنده على وجهين، وضعي حقيقة نبه عليه بأرجل، ووضعي حكما، وهو الاستعمالي، نبه عليه بالصفي، والله أعلم. وقول الناظم: "أفعلُ ثم فِعْلَه" منع فيه صرف أفعُلَ إذ قد توفر فيه موجب المنع، وذلك الوزن والعلمية، لأن الأمثلة الموزون بها أعلام. وقوله: "أفعلُ" هو على حذف العاطف، أي: وأفعُلُ. وقوله: "أفعلةُ" وما بعده مبتدآت خبرها "جموع قله". و "بعض ذي" مبتدأ خبره "يفيء"، و "بكثرة" يتعلق به، و "وضعاً" مصدر في موضع الحال، أي: ذا وضع. *** لفعلٍ اسماً صح عينا أفعُلُ وللرباعي اسما أيضاً يُجعَل إن كان كالعناق والذراع في مد وتأنيث وعدّ الأحرف هذا ابتداء ذكر أبنية جموع التكسير وما يختص بها من أبنية المفردات. وللناس في وجه ترتيب الكلام على جموع التكسير طريقان: أحدهما: المتداول عند الجمهور، وهو أن تُجعل أبنية المفردات موضوعات للحكم عليها فيقولون: فَعلٌ يجمع على كذا

وكذا من أبنية الجمع، وفُعالٌ يجمع على كذا، وهي الطريقة الأولى في وضع النحو. والثاني: طريقٌ أولُ من مشى عليه - فيما علمت - ابن السراج، وهو أن يجعل أبنية الجموع موضوعات للحكم عليها، فيقال: أفعُلُ يجمعُ عليه من أبنية المفردات كذا، وأفعالٌ يجمع عليه كذا، وهو الذي جرى عليه الناظم في هذا النظم وفي سائر كتبه، وكأن هذه الطريقة أقرب على الضبط؛ إذ كانت أبنية الجموع أقل من أبنية المفردات بكثير، فجعلها أصولاً للفروع المنتشرة أولى من العكس. وجملة ما ذكر من أبنية جموع التكسير ستة وعشرون بناء، أربعة منها للقلة، كما ذكر، وسائرها للكثرة. وابتدأ بذكر أبنية القلة وبأفعُلَ منها فقال: لفعل اسما صح عينا أفعُلُ إلى آخره، يعني أن أفعُلَ من أبنية جموع القلة يجمع عليه من الأسماء صنفان: أحدهما: ما كان من الأسماء الثلاثية على وزن فَعْلٍ، بفتح الفاء

وإسكان العين، وكان اسماً لا صفةً، وكان صحيح العين لا معتلها، فهذه ثلاثة أوصاف، أحدها: كونه على فَعْل، فإنه إذا كان فَعْل صح له ذلك الجم'، يريد في القياس، إنما تكلم هنا في القياس المجرد وما قاربه، وأما المسموع فلم يرتهن فيه ولا جعله من قصده في هذا النظم، وإن كان ربما يأتي به بالانجرار لا بالقصد، وقد تقدم المعنى المراد بالقياس في مثل هذا في باب أبنية المصادر. فأما إن لم يكن الاسم على فَعْل فإن له جمعاً آخر يذكره كأفعال في فَعَل، وفِعلان في فُعَل ونحو ذلك. وقد جمعوا غير الثلاثي على أفعُلَ، قالوا في أنبوب: أَنُبٌّ، وقال الشاعر: أصهبُ هدَّار لكلِّ أركبِ بغيلةٍ تنسّلُّ بين الأنببِ يريد: الأنبَّ، ففكَّ ضرورة، وجمعوا الثلاثي غير فَعل على أفعُل لكن قليلاً، قالوا: رُكْنٌ وأركن، وزمنٌ وأزمنٌ. وأنشد سيبويه لذي الرمة: أمنزِلتي مي سلام / عليكما هل الأزمنُ اللائي مضينَ رواجعُ قال سيبويه: "وبلغنا أن بعضهم يقول: جبَلٌ وأجبُلٌ، وقالوا:

ضِلَعٌ وأضلُعٌ، وذئبٌ وأذؤبٌ، وضَبُعٌ وأضْبُعٌ، وقُرْطٌ وأقرُطٌ، ورِجْلٌ وأرجلٌ، وكل هذا محفوظ، إلا فيما ذكر الناظم. والثاني: كونه اسماً لا صفة، فإنه إذا كان صفة لم يجمع على أفعُل، بل زعم سيبويه أنه لا يجمع جمع قلة رأساً، وعلل ذلك السيرافي بأن الأصل في الصفة أن تجمع جمع السلامة، لأن الأصل فيها جريانها على الفعل فتلحقها علامة التذكير والتأنيث كالفعل، فيجب أن تجمع جمع السلامة ليتبين في الجمع أيضاً علامة التذكير والتأنيث، ويكون الجمع منها نظير الضمائر أو العلامات، فلما كان الأصل فيها جمع السلامة وهو يقع للعدد القليل، استغنوا به عن أبنية القلة، قال ابن الضائع: ويظهر من سيبويه تعليل آخر، وهو أن الصفة الأصل فيها جريانها على موصوفها، فالعدد القليل لا يضاف إليها لقبح إقامة الصفة مقام الموصوف، وكأن العدد القليل لما كان نصاً في القلة، ولم يكن يضاف إليها، استغني فيها عن جموع القلة، قال: غير أن سيبويه أضاف إلى ذلك أنها لما كانت يوصف بهن فاستعملت على غير الأصل في الأسماء، خولف بهن الأسماء. وقال ابن خروف: قد تنفرد الصفة ببناء جمع كما قد ينفرد الاسم أيضاً.

والثالث: كون الاسم صحيح العين لا معتلها، فإنه إن كان معتل العين بالياء نحو: بيت أو بالواو نحو: ثوب، فليس القياس فيه أفعُلَ، وإنما قياسه أفعالٌ كما سيذكره. فإن جاء فيه أفعل فمحفوظ نحو: سيف أو أسيُف، قال الشاعر: كأنهم أسيف بيض يمانية عضُبٌ مضاربها باقٍ بها الأثُرُ وقالوا: ثوب وأثواب، قال الراجز: لكل دهر قد لبستُ أثوبا حتى اكتسى الرأسُ قناعاً أشهَبَا وقالوا: عينٌ وأعين، وأيْرٌ وآيُرٌ. فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الثلاثة كان أفعُلُ في فَعْلٍ قياساً

جارياً، سواءٌ أكان مذكراً أم مؤنثاً، وسواءٌ أكان مضاعفاً أم غير مضاعف، معتل اللام أم غير معتلها نحو: كلب وأكلُب، وكعب وأكعُب، وفَلس وأفلُس/، ونسر وأنسُر، وفرخ وأفرُخ، وبطن وأبطُن، وشبه ذلك. وكذلك ضبٌ وأضبٌّ، وصكٌ وأصُكٌّ، وبَتٌّ وأبُتٌّ. وكذلك ظبيٌ وأظْبٍ، وثديٌ وأثْدٍ، ودَلْوٌ وأدْلٍ، هذا كله قياسٌ، وقد يأتي على أفعال، وهو قليل كما سيذكر إن شاء الله. ولم يذكر الناظم لأفعُلَ من الثلاثي إلا فَعَلاً المذكور، فدل على أن مذهبه مذهب سيبويه والجمهور أن فَعَلاً المؤنث إذا كان معتل العين فقياسه أفعالٌ كغير المؤنث والمعتل، وليس أفعُلُ فيه بقياس خلافاً ليونس القائل بأنه قياس فيه، وذلك نحو نارٍ وأنوُر، ودارٍ وأدوُرٍ، وساقٍ وأسْوُقٍ، ونحو ذلك. قال سيبويه: "ونظنه إنما جاء على نظائره في الكلام نحو: جَبَل وأجبُل، وزمن وأزمُن، وعصا وأعصٍ. يعني: أنه جاء على الندور، ثم ألزمه على مذهبه أنه لو كان هذا الحكم إنما هو للتأنيث لما قال: رحًى وأرحاء، وفي قفا: أقفاء، في قول من أنث القفا، وفي قدَم: أقدام، ولما قالوا: غنم وأغنام.

وفرق ابن طاهر: بأن يونس إنما زعمه في المعتل العين، قال: وليس أرجاء بمنزلته لأنه معتل اللام، فقد صار إلى فَعَلٍ وقياسه أفعال. ورجحه ابن خروف أيضاً بكثرة الاستعمال، وسيبويه جعل ذلك قليلاً فلم يقبل القياس فيه. فـ "عيناً" من قوله: "صح عيناً" تمييز منقول من الفاعل، وأصله: صحت عينه. و"أفعُلُ" مبتدأ، خبره "لفعل". والصنف الثاني من صنفي ما يجمع على أفعُلَ قياساً ما كان الرباعي الذي نص عليه بقوله: وللرباعي اسماً أيضاً يُجعل إلى آخره. يعني أن بناء أفعُلَ يجعل أيضاً جمعاً قياساً لكل رباعي كان اسماً لا صفة، ويشبه العناق والذراع ونحوهما في كونه مؤنثاً لا مذكراً بمدة قبل الآخر، موافقاً في عدة الحروف، فإنه إذا كان على هذا الوصف يجمع في القلة على أفعُلَ، بل الغالب فيه ألا يجمع جمع قلة إلا بالواو والنون، كقولك: ظريفون وشريفون. هذا إذا كان واقعاً على من يعقل، وإلا بالألف/ والتاء لمؤنثه إن قبلهما، والاستغناء بجمع الكثرة في الباقي.

والثاني: كونه يشبه العَناق والذِّراع في المد قبل الآخر. وهذا الوصف فيه أمران: أحدهما: حصول المد في تحرزاً من نحو: جعفر وردهم وضفدع، فإنه رباعي مع أنه لا يُجمع على أفعُلَ أصلاً، لأن أفعُلَ بناء ثلاثي الأصول، وجعفر ونحوه رباعي أو ملحق به، فلا يمكن أن يجمع عليه ولا على غيره من أبنية القلة إلا أن يجمع بالواو والنون، أو بالألف والتاء. والآخر: كون المد فيه قبل الآخر كما في الذراع والعناق، تحرزاً من نحو: حائطٍ وحاجزٍ وجانٍ، وما أشبه ذلك مما هو على فاعلٍ. وكذلك فاعَلٌ نحو: تابَلٍ وطابَقٍ، فإن مثل هذا لا يجمع على أفعُلَ أيضاً من نحو فِعلًى أو فَعْلًى اسماً نحو: ذِفرى وأرطًى ونحوهما، فإن حرف المد فيه وهو الألف جاء آخراً، فمثل هذا لا يجمع على أفعُلَ. والوصف الثالث: كونه مؤنثاً لا مذكراً، فإنه إذا كان مذكراً يجمع في القلة على أفعِلَة لا على أفعُلَ، فإن جاء فيه أفعُلُ فعلى غير قياس نحو: طِحالٍ وأطحُل، وقالوا: مكان وأمكُنٌ، وجنينٌ، وأجُنٌّ، وفكَّه الشاعر؛ إذ قال:

إذا رمى مجهولَهُ بالأجنُنِ وحكى الفارسي في قليبٍ وأقلِبَة، وهو يذكر ويؤنث، وجعله محتملاً أن يكون على القياس، كما قالوا في سماء: أسمية، وأرادوا التأنيث بدليل قولهم: ثلاث أسمية، وقولهم: أصابتنا السماء. والوصف الرابع: كون الاسم موافقاً للذراع ونحوه في عدة الأحرف، تحرزاً من أن يكون على أكثر من أربعة أحرف، فإنه إذا كان كذلك لم يُجمع على أفعُلَ. فإذا اجتمعت هذه الأوصاف قياساً على أفعُلَ، فتقول: ذراع وأذرُعٌ، وشمال وأشمُلٌ، ولسان وألسُنٌ - فيمن أنَّث - وعناقٌ وأعنُقٌ، وأتانٌ وآتُنٌ، وعقابٌ وأعقُبٌ، وكُراعٌ وأكرُعٌ، ويمينٌ وأيمُنٌ. وقال أبو النجم أنشده سيبويه:

يأتي لها من أيمُنٍ وأشمُلِ والعَناق: الأنثى من ولد المعز. وعلى كلام الناظم هنا سؤالان من وجهين؛ أحدهما: أن تشبيه المد بمد العناق والذراع يوهم أن ذلك مخصوص بكونه ألفاً؛ لأنه قال: / إن كان كالعناق في المد، ومدُّ العَناق بالألف، وكذلك الذراع، فقد يتوهم أنه مخصوص بذلك. ويرشِّحُ الإبهام تكراره في المثال الثاني وهو الذراع، إذ يقول القائل: لو أراد غير الألف لأتى بالمثال الثاني مؤذناً بذلك، كما لو قال: إن كان كالعناق واليمين في كذا وكذا. فاقتصاره على الألف يؤذن بقصر الحكم عليه، وذلك غير صحيح. والثاني: أن قوله: "وعدِّ الأحرف" تكرار وحشوٌ لا فائدة فيه؛ إذ كان قد قدم التعريف بأنه رباعي، بقوله: وللرباعي اسماً ايضاً يُجعل ولا شك أن الموافقة لذراع في عد الأحرف هي كونه رباعياً مثله، فصار قوله: وعدِّ الأحرف" ضائعاً من الفائدة. والجواب عن الأول: أن المثالين إنما أتى بهما تنويعاً لما فيه المد من الأبنية، فإنه جاء بفَعَالٍ وفِعَالٍ، ولم يأت بالمثالين على وزنٍ واحدٍ، ولو أتى بهما على وزنٍ واحدٍ لكن ذلك موهماً ولا بدَّ، فلم يدل المثالان معاً على التزام الألف. وأيضاً فلو كان القصد ذلك لقال عوض المد "الألف" فكان يقول مثلاً: إن كان كالعناق والذراع في

الألف قبل الآخر، ونحو ذلك. فلما قال: "في مدٍّ" دل على أن المراد مجرد المد، ولا شك أن المد غير مقتصَر به على الألف، فيدخل له يمينٌ وأيمُنٌ، ونحو ذلك. والجواب عن الثاني: أن قوله: "وعدِّ الأحرف" ليس بحشو، بل هو محرزٌ لفائدة حسنة، وذلك أن الاسم قد يطلق عليه رباعي مع أن عدة حروفه أكثر من أربعة، وذلك أن الرباعي الأصول، وإن كان مزيداً فيه نحو: صَلصالٍ، وقرطاسٍ، وقَرَبوسٍ. كما أنه يطلق ويراد به ما مثَّل به، فكان قوله: "وللرباعي" مجملاً، فبينه بقوله: إن كان كالعَناق والذراع في كذا وكذا. وإذا كان كذلك فلو اقتصر على قوله: إن كان كالعَناق والذراع في مدٍّ وتأنيثٍ ... ... ... ... لم يخرج عن كلامه ما كان من المؤنث على نحو قَرَبوس أو قِرطاس مثلاً، فاضطر إلى قوله: "وعدِّ الأحرف" ليخرج له الرباعي الأصول مزيداً فيه. وليس قول الناظم: "والذراعفي" مع قوله: "الأحرف" بسنادٍ، وإن كان قبل روي الأول الألف في موضع التأسيس، وليس / في الثاني ألفٌ، لأن من شرط عدِّ الألف تأسيساً أن يكون مع الرويِّ

في كلمة واحدة، أو يكون الرويُّ بعض ضمير على ما هو مذكور في علم القوافي. *** وغيرها ما أفعُلُ فيه مطّردْ من الثلاثي اسماً بأفعال يَرِدْ وغالباً أغناهم فِعلانُ في فُعَلٍ كقولهم: صِرْدانُ هذا هو البناء الثاني وهو من أبنية القلة، وذلك أفعالٌ، وجعله قياساً في كل ما كان من الأسماء الثلاثية التي لم يطرد فيها الجمع على أفعُلَ إلا في فُعَل الذي يستثنيه فقال: وغيرُ ما أفعُلُ فيه مطّردْ إلى آخره، يعني أن ما عدا ما ذَكر أن أفعَلَ فيه مطردٌ من الثلاثي يطرد في أفعالٌ في جمع القلة، هذا بشرط أن يكون الثلاثي اسماً، وذلك أن الأبنية الشهيرة من الثلاثي اسماً، وذلك أن الأبنية الشهيرة من الثلاثي عشرة كما سيذكره في النصريف: (فعل) مثلث الفاء، و (فعل) مثلث أيضاً، و (فعل) مثلث الفاء ما عدا فِعُلاً، و (فعل) مثلثاً أيضاً ما عدا فُعِلاً، تقدم له ذكر في فَعْلٍ الصحيح العين، وأنه الذي يقاس فيه أفعُلُ، فبقي له فَعْلٌ المعتل العين وسائر الأبنية، فإذا كانت أسماءً قلت في فَعْلٍ المعتل العين: بيتٌ وأبياتٌ، وسيفٌ وأسيافٌ، وخيطٌ وأخياطٌ، وقيدٌ وأقيادٌ، وفي

ذي الواو: فرجٌ وأفواجٌ، وزوجٌ وأزواجٌ، وقوسٌ وأقواسٌ، وحوضٌ وأحواضٌ، وسوطٌ وأسواطٌ، ونوعٌ وأنواعٌ. هذا القياس فيه، بخلاف الصحيح العين فإن أفعالاً فيه قليل نحو: زندٌ وأزنادٌ، أنشد سيبويه للأعشى: وجدتَ إذا اصطلحوا خيرهم وزندكَ أثقبُ أزنادِها وقالوا: فرخٌ وأفراخٌ، قال: ماذا تقول لافراخ بذي مرخٍ حمر الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ وقالوا: أنف وآنافٌ، أنشد سيبويه للأعشى: إذا روَّح الراعي اللقاحُ معزِّباً وأمست على آنافها عّبّراتُها

وقالوا: فردٌ وأفرادٌ، وجدٌ وأجدادٌ، ورأدٌ وآرادٌ، وعمٌ وأعمامٌ، وذلك قليل محفوظ لا مقيسٌ مطلقاً بمقتضي كلام الناظم، سواء كانت فاؤه همزة أو واواً أم لا تكون كذلك. ونقل عن الفراء أنه يجعله قياساً فيما فاؤه همزة نحو: أنفٍ وآنافٍ، وأهلٍ وآهالٍ، وألف وآلافٍ، وأثْر وآثار، وهو الفرند، وأرضٍ وآراضٍ. وفيما / فاؤه واوٌ نحو: وهمٍ وآوهام، ووقتٍ وأوقاتٍ. والذي يحتج به الفراء أكثره ما جاء من هذا النوع فيقاس على ما جاء عملاً بالكثرة. مذهب الجمهور أن ما جاء من ذلك لم يبلغ القياس، ولم يكثر كثرةً تعتبر فيه. وتقول في الصحيح من فِعْلٍ/ حِملٌ وأحمالٌ، وعِدلٌ وأعدالٌ، وجِذعٌ وأجذاعٌ، وعرقٌ وأعراقٌ، وبِئرٌ وآبارٌ، وفي المضاعف: زقٌ وأزقاق، وفي المعتل: نِحيٌ وأنحاءٌ، وفيلٌ وأفيالٌ، وميلٌ وأميالٌ، وجيدٌ وأجيادٌ، وريحٌ وأرياحٌ. وتقول في الصحيح من فُعْل: جندٌ وأجناد، وقُرط وأقراط، وبُرد وأبراد، وبرج وأبراج. وفي المضاعف: خُصٌّ وأخصاص،

وعشٌّ وأعشاش، وخفٌّ وأخفاف، وقفٌّ وأقفاف. وفي المعتل: عُودٌ وأعواد، وغُول وأغوال، وحوت وأحوات، وكوزٌ وأكواز. وتقول في الصحيح من فَعَلٍ: جبل وأجبال، وجمل وأجمال، وأسدٌ وآسادٌ، ورَسَن وأرسان، وورلٌ وأورال، وقَتَبٌ وأقتاب، وسَلَقٌ وأسلاق,\. وفي المعتل: قفاً وأقفاء، وصفاً وأصفاء، ورحىً وأرحاء، ورجاً وأرجاء، وتاجٌ وأتواجٌ، وقاع أقواعٌ، وجارٌ وأجوار. وفي المضاعف: لَبَبٌ وألباب، وطللٌ وأطلالٌ، وفَنَنٌ وأفنان. وتقول في الصحيح من فِعَلٍ: قَمِعٌ وأقماع، وضِلَعٌ وأضلاع، وعنب وأعناب، وإِرَمٌ وآرامٌ، ونِطَع وأنطاع. وفي المعتل: مِعىٌ وأمعاء، وكباُ وأكباءٌ، وإِنًى وآناء، وإِلًى وآلاء. وتقول في الصحيح من فُعُلٍ: طُنُبٌ وأطناب، وعنق وأعناق، وأذن وآذان، وعُمُرٌ وأعمار. وتقول في الصحيح من فَعُلٍ: عَضُدٌ وأعضادٌ، وعَجُزٌ وأعجاز. وهذان المثالان قليلا الاستعمال. وتقول ي فِعِلٍ: إِبِلٍ وآبال.

وفي الصحيح من فَعِل: كَبِدٌ أكباد، وكتف أكتاف، وفخذ أفخاذ، ونمر أنمار، ووَعِل أوعال. وهذا البناء مع ما قبله أيضاً قليل الاستعمال. وأما فُعَلٌ فهو في قياس الجمع مخالف لهذه الأبنية. وأما فُعِلٌ وفِعُلٌ فلا كلام عليهما هنا. وقد تم تمثيل الاسم، فلو كان صفةٌ فمقتضى كلام الناظم ألا يجمع قياساً على أفعال، وذلك صحيح، وقد تقدم وجه امتناع تكسير الثلاثي من الصفات على بناء أدنى العدد، إذ لا يضاف إلى أدنى العدد، ولكنهم قد قالوا: حَدَثٌ وأحداثٌ، وخَلَقٌ وأخلاق، وسمل وأسمال، وبطل / وأبطال، وعزب وأعزاب، وبرم وأبرام. وقالوا: جُنُبٌ وأجنابٌ، فيمن جمع جنباً، وحرٌ وأحرار، ويَقُظٌ وأيقاظ، ونّكِدٌ وأنكادٌ، وجلف وأجلاف. وهذا كله قليل يحفظ. ثم ذكر ما هو مستثنى من هذه الأبنية عن الحكم المذكور، وهو فُعَلٌ - بضم الفاء وفتح العين - فقال: وغالباً أغناهم فعلان في فُعَلٍ ... ... ... ... يعني أن العرب غلب في كلامها الاستغناء بـ (فِعلانَ) عن أفعال

وغيره من جمع قلة أو كثيرة في فُعَل، فلم يقولوا في الغالب: أفعال، في القلة، بل قالوا في صُرَد: صِردان، وفي نُغَرٍ: نِغران، وفي جُرَذ: جِرذان، وفي جُعَل: جِعلان، وكذلك في المضاعف قالوا: خُزَزٌ وخِزَّان. وقد جاء في أفعال على غير الغالب فقالوا: رُطَب وأرطاب، ورُبَع وأرباع، كأنهم أجروا "فُعَل" مُجرى فَعَلٍ فجمعوه جمعه. وصِردان في كلام الناظم جمع صُرَد، والصُّرَدُ: طائر. وقال الشاعر، أنشد الفارسي: كأن وَحَى الصِّردان في جوف ضالةٍ تَلَهْجُمُ لَحييْهِ إذا ما تَلَهْجَمَا وبقي هنا نظر من جهة أن المؤلف زعم في التسهيل أن أفعالاً في

فَعَلٍ المعتل العين قليل، فنحو مالٍ وأموالٍ، وحالٍ وأحوال، ونابٍ وأنياب، ليس بالكثير، فليس إذاً بقياس عنده، لأن الشأن في هذا الباب أن القليل يوقف على محله. وإطلاقه في هذا النظم يقتضي أنه قياس في كل ما لم يطرد فيه أفعُلُ، ومن جملته فَعَلٌ المعتل العين، فلا بد من أحد أمرين، إما فساد زعمه في التسهيل، وإما فساد إطلاقه هنا. والجواب أن ما قاله في التسهيل خلاف ما يقتضيه كلام سيبويه، إذ كان ظاهره أنه مطرد في المذكر إذا أريد (به) القلة، هكذا قال شيخنا القاضي - رحمه الله - في عَرْضِ الجموع له، وهكذا غيره من النحويين يطلقون القول فيه من غير تقييد بقلة فإطلاقه هنا أوفق بكلام النحويين، وكثيراً ما يقف في هذا النظم مع مذهب سيبويه والجمهور في مسائل يخالفها في التسهيل، والظاهر مذهبه هنا فإنه في السماع كثير، ومن مُثُله: مالٌ وأموالٌ، وخالٌ وأخوالٌ، وناب /

وأنياب، وتاج وأتواج، وباب وأبواب، وحال وأحوال، وباع وأبواع، وقاع وأقواع. وإذا كان كذلك فالقول بقياسه أوفق بالسماع. *** في اسم مذكر رباعي بمد ثالث أفعلة عنهم اطّرَدْ والزمهُ في فَعال او فِعال مصاحبي تضعيف أو إعلال هذا هو البناء الثالث، وهو أفعِلة، وهو من أبنية القلة، وجعله قياساً في كل اسم مذكر رباعي فيه مدة ثالثة، فهذه أربعة أوصاف معتبرة في هذا الجمع لا يكون قياساً إلا عند وجودها، فأما كونه اسماً فمعتبر، إذ لو كان صفة لم يجمع قياساً إلا عند وجودها، فأما كونه اسماً فمعتبر، إذا لو كان صفة لم يجمع قياساً على أفعِلة، فإن جاء عليه فمحفوظ لا يقاس عليه، قالوا في فَعيل: شحيح وأشحَّة، وظنين وأظنة، قال تعالى: {أشحَّةً عليكم}. وقال أبو طالب: وقد حالفوا قوماً علينا أظنة يعضون غيضاً خلفنا بالأنامل وحبيب وأحبَّة، وعزيز وأعزة، وذليل وأذلة، وعيِيٌّ وأعْيِيَةٌ

وأعِيَّةٌ، ونجيٌّ وأنجِيَةٌ. ويكثر هذا كثرةً ما في المضاعف، قال سيبويه: "وقد يكسرون المضاعف - يعني في الصفة - على أفعِلَةَ كما كسَّروه على أفعلاء، وإنما هذان البناءان للأسماء - يعني أفعِلة وأفعلاء - فلما جاز أفعلاء جاز أفعلة، وهي بعد بمنزلتها في البناء، وفي أن آخره حرف تأنيث، كما أن آخر هذا حرف تأنيث نحو أشحة" انتهى. ومع هذا فلم يبلغ في المضاعف مبلغ القياس عليه، فلذلك أخرجه الناظم بقيد الاسمية. وأما كونه مذكراً فلأنه إذا كان مؤنثاً فجمعه في القلة على أفعل نحو: عقاب وأعقُب، ويمين وأيمُن، وشمال وأشمُل، وقد تقدم ذكر ذلك، وكأنهم أرادوا بذلك التفرقة بين المذكر والمؤنث. وإنما خصُّوا أفعُلَ بالمؤنث؛ لأنه لما تنزلت زيادته منزلة تاء التأنيث في التحقير فعاقبتها، كسروها تكسير ما فيه الهاء نحو نعمة وأنعُم، وأَمَة وآمٍ. وقد جاء شيء من المؤنث على أفعِلة، قالوا: عقاب وأعقبة، وسماء وأسمِية، للسماء بمعنى المطر، وهي مؤنثة. وقد نقل عن البغداديين أنه مذكر، ورد عليهم بقول العرب: أصابتنا سماء، وقولهم: ثلاث أسمية. وأما كونه رباعياً فتحرز من الخماسي والثلاثي، أما الخماسي فله

طريقة مفاعِل ومفاعيل أو غيرهما كما سيأتي. وأما الثلاثي فغير مجموع على أفعِلة قياساً، بل / إن جاء فيه ذلك فمحفوظ لا يقاس، كما قالوا في وَهْيٍ: أوهِيَة، قال الشاعر: حمال ألويةٍ شهَّاد أنجية سدَّاد أوهية فرَّاج أسدادِ وقالوا: سَدٌّ، والجمع أسِدَّة، وهي العيوب مثل العمى والصمم والبكم، ومنه قولهم: لا تجعلنَّ لجنبك الأسِدَّة "، أي: لا تضيق صدرك فتسكت عن الجواب. وقال الكميت: وما بجنبيَ من صفحٍ وعائدةٍ عند الأسِدة إن العي كالعضب وقالوا: خالٌ وأخْوِلَة، وقفا وأقفية، وجرة وأجِرَّة، وأنشد

الفارسي في "التذكرة": وقطعنا مشافرها وخفنا أجِرَّتَها فما اجتزَّت بعودِ وقد جاء أيضاً في الخماسي أفعِلَةُ نادراً، قالوا: أخدود وأخِدَّة، ورَمَضَان وأرمِضَة، وخوَّان - وهو ربيع الأول - والجمع أخْوِنَة. وأما كونه ذا مَدَّةٍ فتحرز مما ليست فيه، فإنه لا يجمع قياساً على أفعِلَة نحو: جعفر، ونحو: جَوْهَر وسُلَّم، ونحو ذلك. وأما كون المدة فيه ثالثة فتحرز مما كانت فيه ثانية نحو: طابَق، وتابَل، وكاهِل، وغارِب، وحائِط، وخاتَم، فإنه لا يجمع على أفعِلة قياساً، فإن جاء ذلك وقف على محله لقلته، فمن ذلك قولهم: جائز للخشبة المعترضة بين الحائطين، وجمعوه على أجوِزَة، والمد هنا لم يقيده بصورة، فيؤخذ له فيه ما كان من الحروف فيه المد، وذلك الألف، والواو إذا انضم ما قبلها، والياء إذا انكسر ما قبلها، لأنها مداتٌ ناشئة عن الحركات قبلها. فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الخمسة استتب القياس في الجمع على أفعِلة في الصحيح والمضاعف والمعتل، فتقول في الصحيح:

حمارٌ وأحْمِرَةٌ، وخمار وأخمرة، وإزار وآزِرَة، ومثال وأمثلة، وفراش وأفرِشة. وفي المضاعف: جلال وأجِلَّة، وعِنان وأعنة، وكنان وأكنة. وفي المعتل: بناء وأبنية، وسقاء وأسقية، ورشاء وأرشية، وخوان وأخْوِنَةٌ، ورواقٌ وأروقة، وبوان وأبْوِنَةٌ. فتقول في الصحيح من فَعَالٍ: قَذَالٌ وأقذِلة، وزمان وأزمنة، ومكان وأمكنة، وفدان وأفدنة. وفي المعتل: عطاءٌ وأعطية، وقضاء وأقضية، وعراء وأعرية، وقباء وأقبية. وتقول في الصحيح من فُعَال: غُرَاب وأغربة، وخُرَاج وأخرجة، وبغاث وأبغثة /، قال الهذلي: من فوقه أنسرٌ سود وأغربةٌ وتحته أعنُزٌ كُلْفٌ وأتياسُ وفي المضاعف: ذباب وأذبة، وزقاق وأزقة. وفي المعتل: حُوَار وأحوِرَة.

وتقول في الصحيح من فَعِيل: رغيف وأرغفَة، وقليب وأقلبة، وكثيب وأكثبة، وجريب وأجربة. وفي المعتل: قَرِيٌّ وأقرية، وسري وأسرية. وفي المضاعف: حزيز وأحِزَّةٌ، وسرير وأسِرَّة. وتقول في الصحيح من فَعُول: قَعُود وأقعدة، وعمود وأعمدة، وخروف وأخرِفة. وقوله: " عنهم اطَّرَدَ" يعني عن العرب، أي: اطرد أفعلة في كلامهم جمعاً لكل اسم اتصف بتلك الأوصاف. ثم ذكر لبعض ما يحتوي عليه هذا العقد حكماً خاصاً فقال: والزمه في فَعالٍ أو فِعالِ إلى آخره. يعني أن هذا الجمع لازم في بناءين من الأبنية التي تضمنها العِقْدُ، وهما فَعال - بفتح الفاء - وفِعالٍ - بكسرها - وهذا بشرط أن يكون فيهما تضعيف أو إعلال. فإذا كان واحدٌ منهما مضاعفاً أو معتلاً فهذا الجمع فيه لازم، لا يعدل عنه إلى غيره، بخلاف غيرهما من الأبنية المعلومة فإن أفعلة فيها ليس بلازم، بل يدخل معه

غيره، فتقول في بناء: أبنية، وفي سقاء: أسقية، وفي رشاء: أرشية، وفي إناء: آنية، وحِواء: أحوية، وغطاء: أغطية، وتقول في عطاء: أعطية، وفي قضاء: أقضية، وعراء وأعرية، وقباء وأقبية. وتقول في المضاعف: عِنان وأعنة، وسِنان وأسنة، وكنان وأكنة، وجلال وأجلة. وما أشبه ذلك. فإن قيل: ما المراد باللزوم هناك؟ فالجواب: أن مراده أن العرب ألزمت هذين البناءين هذا الجمع في إرادة القلة والكثرة، فلا يجمع واحد منها قياساً جمع كثرة إلا على ما يجمع عليه جمع القلة، لا يجاوزون بهما بناء أفعلة إلى بناء كثرة، بل تقول: أسْقِية، وفي القليل والكثير، وكذلك: أبنية وأجِلة، ونحو ذلك مما تقدم، بخلاف غيرهما من الأبنية فإن جمعها للكثرة له بناء كثرة، كما تقول في فعال في الكثرة: فُعُل، نحو حمار وحُمُر، وإزار وأُزُر. وكذا في فَعَال، تقول: فَدَان وفُدُن، وقذال وقذل، وكما تقول فُعال /: فِعلان، نحو غُراب وغِربان، وبُغَاث وبغثان. وكما تقول في فعيل: فعلان وفعل، نحو: كثيب وكُثبان وكُثُب،

وكذلك سائرها. أما فَعال وفِعال المذكوران فليس لهما جمع كثرة، فمن ههنا التزمناه في القياس اتباعاً لالتزام العرب له، كما التزموا جمع الكثرة في فُعَل حين قالوا فيه: فِعْلان نحو صُرَد وصِرْدان، ولم يقولوا في القلة: أصراداً استغناءً، فكذلك هنا. قال سيبويه في فِعَالٍ: "وأما ما كان منه مضاعفاً فإنهم لم يجاوزوا به أدنى العدد وإن عنوا الكثير، تركوا ذلك كراهية التضعيف، إذ كان من كلامهم ألا يجاوزوا بناء أدنى العدد فيما هو غير معتل". يعني أنهم اقتصروا على بناء القلة. لأجل أنهم لو جمعوا على فعل لقالوا في كِنَان: كُنُن، فكان يجتمع المثلان، وذلك مستثقل. وأيضاً فإن من كلامهم الاقتصار على بناء أدنى العدد في نحو: إِبِل وآبال، وفَخِذ وأفخاذ، وقمع وأقماع، ونحو ذلك من غير سبب داعٍ إلى ذلك من تضعيف أو غيره. قال: "وأما ما كان منه من بنات الياء والواو فإنه لا يجاوز به أدنى العدد، كراهية هذه الياء مع الكسرة والضمة لو ثقَّلوا، والياء مع

الضمة لو خففوا". قال: " فلما كان كذلك لم يجاوزوا به بناء أدنى العدد؛ إذ كانوا لا يجاوزون في غير المعتل بناء أدنى العدد" يعني أنهم لو جمعوا الرشاء على فُعُل لكان اللفظ به "رُشُوٌ" فيلزم أن يرجع إلى "رشٍ". وكذلك في رداء رُدُءٌ، فتنقلب الضمة كسرة فيقال: رديءٌ ورُدْيٌ، فكرهوا الضمة مع الياء وليس بينهما حاجز حصين، فرفضوا ذلك، بهذه فسره ابن خروف. وقال السيرافيُّ: إن فُعُلاً لو بقي على أصله لوجب أن يكون آخره واواً لانضمام ما قبله، فيكون كُسُوٌ وسُقُوٌ فيهما، ثم تقلب الواو قبلها في أَدْلُوٍ، فلما أداهم إلى هذا التغيير تجنبوا، ولم يخففوا إلا والتخفيف فرع عن التثقيل وفيه ما فيه. قال أبو الحسن: والدليل على أن الأصل التثقيل أن لغة من يقول: ظَرْفَ وعَلْمَ، وهؤلاء إذا ردُّوا / الفعل إلى المتكلم ضموا وكسروا، فدل ذلك على أنه الأصل. هذا ما علل به هذا الموضع، وهو راجع إلى باب الاستغناء،

وإليه رده سيبويه بعد التعليل بما ذكر. وقد بقي على الناظم في هذا الحكم الذي ذكره اعتراضان واردان على لفظه: أحدهما: أنه حكم باللزوم على ذي الإعلال مطلقاً، وذو الإعلال على وجهين، معتل اللام، ولا شك أن الحكم فيه ما ذكر، ومعتل العين، وليس حكمه كذلك، بل هو جارٍ مَجرى الصحيح مطلقاً، قال سيبويه: "وأما ما كان فيه - يعني من فِعَال - من بنات الواو التي الواوات فيهن عينات، فإنك إذا أردتَ بناء أدنى العدد كسَّرته على أفْعِلَة، وذلك: خِوان وأخْوِنة، وروَاق وأَرْوِقة، وبِوَان وأَبْوِنة"، قال: "فإذا أردتَ بناء أكثر العدد لم تثقِّل، وجاء على فُعْلٍ كلغة بني تميم في الحُمُر، وذلك قولك: خُوْنٌ، ورُوْقٌ، وبُوْنٌ"، ثم ذكر التعليل، ثم قال: "وإذا كان في موضع الواو من خِوان ياءٌ ثُقِّل في لغة من يثقل، وذلك قولك: عِيانٌ وعُيُنٌ".

فأنت تراه قد طرد حكم الصحيح في بنات الياء والواو، ثم ذكر فَعالاً وأجرى فيه حكم فِعالٍ من كل وجهٍ، فكلام الناظم فيه ما ترى من عدم تحرير العبارة. والاعتراض الثاني: أنه قال: "والزمه في فَعالٍ" فذكر لفظ اللزوم، فإما أن يريد به: الزمه مطلقاً قياساً وسماعاً، فلا يجوز الانتقال عندنا عنه، ولم تنتقل العرب عنه أيضاً. وهذا باطلٌ، فإن العرب قد انتقلت عنه كما تقدم ذكره في أسْوَاءٍ في سواء، وأحياءٍ، وأحياءٍ في حياء، وأجْنَانٍ في جَنانٍ، وعُنُنٍ في عِنان. والقاعدة أنه لا بد من اتباع العرب في المسموع كله، وترك القياس معه، فإذن لم تلتزم العرب ذلك في هذه الألفاظ، ولا نلتزمه نحن أيضاً، وإن قلنا بالقياس في غيرها. وإما أن يريد القياس فقط، فما الفرق بين هذا الموضع والموضع المتقدم في فُعَلٍ حيث قال هنالك: وغالباً أغناهم فِعُلانُ فنبَّه على السماع غير الغالب، ولم ينبِّه عليه هنا، بل جعل حكم القياس لازماً، فكان الوجه أحد أمرينك / إما أن يقول في

الموضعين غالباً، وإما أن يترك ذلك في الموضعين. وثمَّ اعتراض ثالثٌ، وهو أن هذا الموضع نبَّه في على استغناء العرب بأحد بناءَي الجمع عن الآخر، وكذلك في فُعَل. وهذا التنبيه في غاية التأكيد، لأن إطلاق القياس فيه خطأ؛ إذ كان واجباً علينا أن نستغني عما استغنت عنه العرب، وإن كان القياس يعطيه، كما قالوا في: وذَرَ ووَدَعَ ونحو ذلك، فلا يجوز لنا نحن أن نتكلم بما تركته العرب مما علِمْنَا قصدها لتركِهِ، وإذا كان كذلك كان من حق الناظم أن يلتزم التنبيه على هذا في مواضع الاستغناء في هذا الباب، إذ كان فيه كثيراً جداً، ولم يفعل هذا، ألا ترى أن من أبنية الثلاثي التي تقدم له ذكرها ما يقتصر فيه على أفعال في القلة والكثرة، وذلك خمسة أبنية. أحدها: فَعِلٌ نحو: كَبِدٍ وأكباد، قالوا: قلَّما يجاوَزُ به أدنى العدد، والذي خرج منه قولُ: وَعِلٌ ووعُولٌ، ونمرٌ ونمور، قال سيبويه: "شبهوها بالأسود". وعلى أن الناظم يظهر منه بعدُ أن فُعولاً قياس فيه، وسيأتي ذكره، إن شاء الله. والثاني: فِعَل نحو: قَمِع وأقماع. والذي خرج عن قولهم:

ضِلَعٌ وضُلُوع، وإرَم وأُرُوم، قال سيبويه: "كما قالوا النمور". والثالث: فَعُلٌ نحو: عَجُزُ وأعجازٌ. والذي خرج منه قولهم: رجُلٌ ورجالٌ، وسَبُعٌ وسِبَاعٌ، قال سيبويه: "جاءوا به على فِعال كما جاءوا بالضِّلَع على فُعُول". والرابع: فِعِلٌ، قالوا: إِبِلٌ وآبالٌ. ولم يجاوزوه. والخامس: فُعُل نحو: طُنُبٌ وأطنابٌ. ولم يجاوزوه على ظاهر نقلهم. وإذا ثبت هذا كان تركه التنبيه على هذا إخلالاً، مع أنه ربما كان له في هذا الباب من هذا النوع لم ينبه عليها. والجواب عن الأول لا أتحقُّقُهُ الآن، وعن الثاني أنه أراد بقوله: "الزمه" أي: قياساً، لا تتعدَّه إلى غيره. ولا تناقض بين هذا الكلام وبين ما تقدم له، لأنه آمرٌ هنا بالتزام ما يجب التزامه، وكونه وُجِدَ في السماع شيءٌ ويخالفه نادراً لا يضرُّ عدم التعرض له. وأما قوله: وغالباً أغناهم فِعْلان فهو لم يخبر بالقياس، وإنما أخبر / بمحصول السِّماع فيه، ولا شك أن المحصول فيه ما قال من غلبة فِعْلان على فُعَلٍ، ووجود أفعال

فيه قليلاً. ثم في هذا الإخبار ما يعطي أن القياس هو الاستغناء بفعلان مطلقاً، وأنه الملتزَمُ لا غيره، لأن القياس إنما يكون على الشائع دون النادر، فاتفق الموضعان في الحكم بالتزام القياس، وإن اختلف الإيرادان. وهذا ظاهر. وأما الثالث فإن الاستغناء فيما ذكره وفيما لم يذكره أكيدٌ كما ذكر، فإنه يحتاج إلى ذكره لعدم حصول المقصود عند عدم التعرض له، ولا سيما فيما إذا كان الاسم مما يُجمع جمعَ سلامة لا بالألف والتاء ولا بالواو والنون، فإنه إن كان مما يجمع جمع سلامة فبناء التكثير فيه لا يقوم مقام بناء القليل، وإنما للقليل فيه التسليم لا التكثير. هذا ظاهر كلام النحويين، وهو الذي يعطيه القياس أيضاً، إذ لا يُعدل في إرادة القليل عما يدل عليه من الصيغ بخصوصه إلى ما لا يدل عليه بخصوصه إلا لموجب، ولا موجب فيما يسوغ فيه جمع السلامة، وهو دال على التقليل، أن يؤتى فيه ببناء التكثير إذا أريد

القليل إلا عند فهم الاستغناء، فهاهنا يصير كلام الناظم مشكلاً جداً! والذي أوجب ورود هذا الإشكال أمران: أحدهما: تركه ذكر موضع استعمال جمع السلامة، وأن يستعمل للقليل إما في الأصل والغالب من الاستعمال على مذهب سيبويه والأكثر، وإما على الاشتراك على مذهب غيرهم. والثاني: عدم ذكر التنبيه على جميع مواضع الاستغناء فيما ذكر من الجموع. والضمير في قوله: "والزَمْهُ" عائدٌ إلى "أفْعِلَة". و"في فَعَال أو فِعالِ" على حذف مضاف، و"مصاحبي" حال من المثالين، أي: الزم هذا البناء في جمع فَعال أو فِعالٍ حالة كونهما مصاحبين للتضعيف أو للإعلال. *** فُعْلٌ لنحو أحمرٍ وحَمْرا وفِعْلةٌ جمعاً بنقلٍ يُدْرَى أتى في هذين المزدوجين ببناءي جمع، أحدهما للقلة وهو فِعْلة،

وهو رابع الأبنية التي للقلة، والآخر "فُعْلٌ"، وهو خامس / أبنية الجموع وأول أبنية الكثرة. وكان اللائق بحسن الترتيب أن يذكر "فِعْلة" أولاً ليضمه إلى أشكاله من جوع القلة، ثم يذكر "فُعْلاً". ولم يفعل ذلك، ولعله أخَّرَ ذكره تنبيهاً على كونه لا يقاس عليه، بل يوقف فيه على السماع، فلم يحفِل به أن يكون مرتباً في الذكر على أشكاله، ولم يترك ذكره لشهرته على السنة المعربين المختصرين وغيرهم، والله أعلم. فأما فِعْلَة فذكر أنه يُدرى بالنقل، فقوله: وفِعْلَةٌ جمعاً بنقل يُدرى يعني أن هذا البناء على فِعْلَة - بكسر الفاء وسكون العين - إذا كان جمعاً فإنه إنما يدرى، أي يعلم، ما هو جمع له من المفردات، بالنقل من كلام العرب، ولا يعلم بالقياس كما يعلم سائر ما ذكر بالقياس، بل لم يطرد فيه حال يبنى عليه، فوقف على محله. والذي استقرئ في السماع منه أن يكون جمعاً لفَعيلٍ، قالوا: صَبيٌّ وصِبْيَةٌ، وعليٌ وعِلْيَة، وجليل وجِلَّةٌ، قال النمر:

أزمان لم تأخذ إليّ سلاحها (إبلي) بِجِلّتها ولا أبكارها ولفَعَل، (قالوا): فتىً وفِتْيَة، وأخٌ وإِخوَة، وولد ووِلدة. على هذا حمل الفارسي في التذكرة وِلْدَة وشبهه بأخٍ وإخوة. قال: وإذا كان كذلك فليس للإعلال عليه طريق، لأنه ليس بمصدر. فإنا لِدَةٌ فمصدر. ولِفَعْلٍ، قالوا: شيخ وشيخة. ولِفُعَال - بضم الفاء - قالوا: غلام وغِلْمَة، وشجاع وشجعة، ولفَعَال - بفتح الواو - قالوا: غزال وغِزْلَةٌ، وشجاعٌ وشجعة. ولفِعَل - بكسر الفاء وفتح العين - قالوا: ثِنًى وثِنْيَةٌ، والثنى: الذي يكون دون السيد، يثنى به الأمور، أنشد الفارسي في التذكرة: طويل اليدين رهطُهُ غيرُ ثِنْيَةٍ أشَمُّ كريمٌ جارُهُ لا يُرهَّبُ

كذا قيدته من كتاب شيخنا القاضي. وفي الصحاح: "جارُهُ لا يُرَهَّقُ"، ونسبه الجوهري للأعشى، وجعل ثِنْيَة جمع ثُنْيَان، قال: "والثُّنيان بالضم: الذي يكون السيد في المرتبة، والجمع ثِنْيَة". وأنشد البيت. فلم يجعله الجوهري جمع ثِنى كما حكاه شيخنا القاضي عن بعض الشيوخ، لكنه حكى أثر ذلك أنه يقال أيضاً: ثِنًى وثُنًى، بالكسر والصم، ولم يذكر أن يجمع ذلك الجمع. فقد حصل من الجوهري أن فِعْلَةَ جمعٌ لفُعلان. ويكون أيضاً / جمعاً لفَعُل بفتح الفاء وضم العين، قالوا: رِجْلَة في جمع رجل، بمعنى راجل، وهو الذي لا ظهر له يركبه في سفره. فهذه ثمانية أبنية جاء فيها الجمع على فِعْلَة، وكل ذلك سماع لم يبلغ القياس عليه. فإن قيل: لم قال: "وفِعْلَةٌ جمعاً" فقيده بكونه جمعاً؟ فإن الظاهر أنه فضلٌ لا حاجة إليه، إذا قد تقدم له أن هذا البناء جمع من جموع القلة، ثم ذكره مع أمثاله، ولا يقال: إنه تحرز من كونه بناء مفرد فخاف أن يلتبس به، لأنا نقول: هذا فاسد، لأن أكثر أبنية الجموع مشتركة بينها وبيم المفردات كفِعالٍ وفُعُولٍ وفُعُلٍ وفُعَلٍ،

وما أشبهها، فهذا العقد عنده مطَّرَحٌ، فبقي الموضع وارد السؤال. والجواب عن ذلك: أنه نبه بقوله جمعاً على مذهب من زعم أن فعلة من أسماء الجموع مثل: صَحْب ورهط ونَفَر وجامل وباقر، ونقل المؤلف هذا المذهب عن ابن السراج. ومذهب الجمهور أنه جمع حقيقة، والحاكم بين الفريقين في هذا جريان ضابط أسماء الجموع في هذا البناء أو عدم جريانه، وذلك أن اسم الجمع تحكم له العرب بحكم المفرد في أحكام كثيرة، فتخبر عنه إخبار المفرد المذكر فتقول: الصحب جاء، والرهط أقبل، ومن ذلك جريان نعت المفرد نحو قول الشاعر: أخشى رُكيباً أو رُجَيلاً عاديا وكذلك النسب إليه على لفظه، وغير ذلك من الأحكام الخاصة باسم الجمع، دون حقيقي الجمع، فإن كانت العرب قد عاملت فِعْلَةَ

هذه المعاملة في غير اضطرار شعري أو ندور فلا شك أنه اسم جمع، وإلا فهو جمع بلا شك أيضاً، فلأجل هذا المعنى نبه الناظم على كونه جمعاً. وأيضاً فإنه حكم على هذا البناء بالحكم الموجود لأسماء الجموع القليل في الجموع الحقيقية، لأن أسماء الجموع موقوفة على السماع لم تطرد في مستعملاتها، ولا حصل فيها كثرة توجب القياس. وبهذا الحكم حكم على فِعْلَةَ إذ قال: "بنقلٍ يُدرى" ولم يذكر أنه قياس في شيء. وهذا قليل في الجموع، كما حكوا فِعْلَى في الجموع، ولم يأت في كلام العرب جمعاً إلا لِحَجَلٍ وظَرِبَانٍ، قالوا: / حِجْلَى وظِرْبَى، قال عبد الله بن حجاج الثعلبي: فارجم أُصِيْبِيَتي الذين كأنهم حَجْلَى تدرّج بالشربة وُقَع وقال الفرزدق: وما جعل الظربى القصار أنوفها إلى الطم من موج البحار الخضارم فلما كان الموضع موهماً باسم الجمع احترز من ذلك بقوله: "جمعاً" وهو حال من ضمير "يدرى" أي: يُدرَى بالنقل حالة كونه

جمعاً. ودَرَيتُ الشيء، ودريتُ به، أي: علمتُ به. وأما فُعْل، ٌ فقال فيه: فُعْلٌ لنحو أحمرٍ وحَمْرَا يعني أن هذا البناء من أبنية جمع الكثرة يكون لنحو أحمرَ حمراء، وما كان (على وزنهما و) على حالهما. وكونه خَصَّ هذين المثالين يدل على أن جمع غيرهما من الأمثلة المعلومة للمفردات على فُعْلٍ إما معدومٌ أو محفوظٌ، فممَّا هو فيه محفوظ قولهم في فُلُوٍّ: فُلْوٌ، قال الشاعر: فُلْوٌ ترى فيهن سر العِتْقِ بين كماتيّ وَحْوٍّ بُلْقِ وفي مَنِيٍّ: مُنْيٌ، قال الشاعر: أسلمتموها فباتت غير طاهرة مُنْيُ الرجال على الفخذين كالمومِ

وقالوا: سَقف وسُقف، وفَرس وَردٌ، وخَيلٌ وَردٌ، وعائذ وعُوذٌ، وحاجٌّ وحُجٌّ، قال الشاعر: وكأن عافية النُّسور عليهم حُجٌّ بأسفل ذي المجاز نُزُولُ وأسَدٌ وأُسْدٌ، وبَدَنةٌ وبُدْنٌ. وذلك ونحوه لم يكثر فيقاس. وهذان المثالان من باب أفْعَل وفَعْلاء، ولهما في مثاله أوصاف لأجلها مثل بهما، وباجتماعهما يحصل القياس في جمعهما على فُعلٍ، وذلك وصفان: أحدهما: أن يكونا وصفين. والثاني: أن يكونا متقابلين بالتذكير والتأنيث، فيكون أفعَلٌ للمذكَّر، وفَعْلاء للمؤنث. فأما كونهما وصفين فلا بد منه، فإن أفعل إذا كان اسماً لم يجمع

قياساً على فُعْل، وإنما قياسه على أفاعِلَ نحو: أفْكَلٍ وأفاكِلَ، وأيْدَعٍ وأيادِعَ. وكذلك فَعْلاءُ اسماً نحو: العَزْلاء، لفمِ المزَادة، والعَوْصَاء للشدة، والحَوجَاء للحاجة، لا تُجمع على فُعْلٍ. وأما كونهما متقابلين بالتذكير والتأنيث فهو أن يكون أفعَلُ المذكَّرُ يقابله فَعْلاء، وفَعْلاء المؤنث يقابله أفْعَلُ، وهو تحرز من الأفعل الذي يقابله الفُعْلَى، فإنه إذا كان يقابله الفُعْلَى لم يُجمع على فُعْل، وإنما قياسه الأفاعل / في المذكر والفُعَل في المؤنث نحو الأفضل والأفاضل، والفُضْلَى والفُضَل. وسيأتي ذلك في كلامه إن شاء الله. وأيضاً فتحرز من أفعل وفعلاء اللذين لا يتقابلان أصلاً في كلام العرب، بل كل واحدٍ منهما في الاستعمال غير مقابل بصاحبه، فمثل هذا لا يجمع على فُعْلٍ قياساً، وإنما لكل واحدٍ جمع يختص به غير هذا لا يُجمع على فُعْل قياساً، وإنما لكل واحدٍ جمع يختص به غير هذا إن كان نحو حُلَّةٍ شوكاء، ودِيمةٍ هَطْلاء، وامرأةٍ عَجْزاء، ورجلٍ آلَى، وما أشبه ذلك مما لم تستعمل العرب له مقابلاً بذلك اللفظ، فإن سمع في مثل هذا فُعْلٍ فموقوف على السماع، كقولهم: حدائقُ غُلْبٌ، ولم يقولوا: أغلب، ونوقٌ كُومٌ، ولم يقولوا: جَمَلٌ

أكْوَم، قال تعالى: {وحدائق غلبا}. وقال الفرزدق أنشده سيبويه: وكُومٍ تُنعِمُ الأضيافُ عَيْناً وتُصبِحُ في مَبَارِكِهَا ثِقالا فإذا اجتمع الوصفان جمع أفعل وفعلاء على فعل نحو: أحمر وحمراء، وأصفر وصفراء، وأبيض وبيضاء، تقول: حُمْرٌ وصُفْرٌ وبيضٌ. وكذلك أصمُّ وصمَّاء، وأبكَمُ وبكماء، وأعمى وعمياء، تقول: صمٌّ وبُممٌ وعُمْيٌ. وكذلك سائر ما كان مثل ذلك. هذا هو القياس، وقد يجمع على فعلان نحو: سودان، وحمران، وبيضان. وعلى فُعْلى أيضاً نحو: أجرب وجرْبى، وأحمقَ وحمقى. وهو قليلٌ أيضاً. إلا أن الناظم هنا دَرَكاً من أوجه: أحدهما: أن قوله: "لنحو أحْمَر وحمرا" يوهم عدم اشتراط التقابل؛ لأنه إنما يؤذِنُ أنه أتى جمعاً لهذين المثالين خاصة لعطفه أحدهما على الآخر، فصار كقولك: أفعال لنحو بَيتٍ وطَلَلٍ. فهذا ليس فيه ما يوهم تقابلاً البتَّةَ، فكذلك أحمرُ وحمراءُ فسواءٌ ما مثَّل به،

وقولك: أحمرُ وأدماءُ. والذي يعطي التقابل المراد قولك: لنحو أحمر حمراء، وحمراء أحمر. وإذا كان لا يعطي معنى التقابل مع أنه قد تقدم اشتراطه، وما تقدم من تفسير كلامه باعتبار الوصفين فغير متعين، فأشكل إذاً وأوهم. والوجه الثاني: أن ما مثَّلَ به لا يخلو إما أن يراعى فيه وصف التقابل على ما مضى أو لا يراعى، فإن كان مراعًى اقتضى أن كل ما ليس له مقابل من أفعل وفعلاء وصفين فلا يجمع على فُعْل قياساً. وقد مضى / هذى، لكنه غير صحيح في إطلاقه، لأن أفعلَ وفعلاءَ إذا لم يتقابلا فإنهما على قسمين، أحدهما: أن يكون ذلك لمجرد السماع لا لمانع سواه، وهذا لا يجمع على فُعْلٍ إلا سماعاً كما تقدم، نحو: حلَّةٍ شوكاء ولم يقولوا: ثَوْبٌ أشوَك. وديمةٍ هطلاء كما تقدم، ولم يقولوا: سحاب أهطل. وامرأةٍ عجزاء ولم يقولوا: أعجز. وكذلك رجلٌ آلي ولم يقولوا: أَلْيَاءُ. فكلام الناظم في هذا القسم غير صحيح. والثاني: أن يكون عدم التقابل لمانع في الخلقة، أي لعدم المعنى الذي اشتق له الوصف من أحدهما ووجوده في الآخر، كقولهم: عَذْراء، ولم يقولوا: أعْذَر، لعدم العُذرة في المذكر، وعَفْلاء، ولم

يقولوا أعْفَل. ورجلٌ آدَرُ، ولم يقولوا: أدراءُ. فهذا ونحوه يجمع على فُعْل قياساً، ألا ترى قال في التسهيل حين ذكر فُعْلاً: "وهو لأفعلَ وفَعْلاء وصفَين متقابلين أو منفردين لمانعٍ في الخِلقة، فإن كان المانع الاستعمال ففُعْلٌ فيه محفوظ". فأنت ترى أن ما أعطاه المثال من التقييد بالتقابل غير صحيح في هذا القسم، فإن كان وصف التقابل غير مراعًى اقتضى أن كل ما كان على أفعل أو على فَعْلاء من الأوصاف يجمع على فُعْلٍ في القياس، وهذا باطلٌ لما تقدم في نحو: آلَى وشَوْكاء وهطلاء وشبهه. والوجه الثالث: أنَّ من أفْعَلَ وفَعْلاء المتقابلين بالتذكير والتأنيث ما لا يُجمع على فُعْلٍ قياساً، وذلك ما كان من نحو الأبرق والبرقاء، والأجرع والجرعاء، والأبطح والبطحاء، ونحو ذلك، فإنه إنما يُجمع المذكر فيه على أفاعل فتقول: أباطِحُ وأبارقُ وأجارعُ، قال:

وكائِن بالأباطحِ من صديق يراني - لو أصبت - هو المصابا ويجمع المؤنث على فِعَالٍ نحو: بطاح وبراق. أما فُعْلٌ فلا يجمع عليه، وإذا كان كذلك فإطلاقه المقتضى لجمع هذا النوع على فُعْلٍ مفتقر إلى التقييد. والجواب عن الأول: أن اشتراط التقابل مقصودٌ لهن وكلامه يعطيه بالتمثيل، لأن قوله: "لنحو أحمرٍ" يتضمن أنه مذكر حمراء، لأن من وصفِ أحمرَ أن يكون مؤنثه على حمراء، وكذلك قوله: "وحمرا" يتضمن أنه مؤنث أحمر، لأن ذلك من وصف حمراء. وإذا كان / على هذا الترتيب لم يبق إشكالٌ في كلامه. والجواب عن الثاني: أن كلامه في أحمر وحمراء موافقٌ لكلام سيبويه والفارسي وغيرهما، إذ يطلقون القول بذلك، وأن أفعلَ وفَعْلاء يُجمعان على فُعْلٍ مطلقاً، ويمثلون بنحو ما مثَّل به الناظم، ولا يستثنون من ذلك شيئاً، قال سيبويه: "وأما أفعلُ إذا كان صفة فإنه يُكسَّرُ على فُعْلٍ [كما كسَّروا فَعُولا على فُعُلٍ]، لأن أفعل من الثلاثة، وفيه زائدةٌ، كما أنَّ فَعُولاً فيه زائدةٌ، وعدة حروفه كعدَّة حروف فَعُول". ثم قال: "وذلك أحمر وحُمْر، وأخضر

وخُضُر" .. إلى آخر التمثيل، ثم حكى جمعه على فُعْلان، ثم قال: "والمؤنث من هذا يُجمع على فُعْلٍ، وذلك حمراء وحُمْرٌ، وصفراء وصُفْرٌ" انتهى. فلم يتعرض لغير ذلك مما ذكره المؤلف في التسهيل، وذلك - والله أعلم - لقلة ما كان له مانع من الخِلقة، فالقول بالقياس لا ينبغي أن يُقدم عليه، والأحوطُ وقفه على السَّماع. وأما ما كان المانع فيه الاستعمال فقد ثبت أنه محفوظٌ، فكلام الناظم إذ ذاك لا اعتراضَ فيه. والجواب عن الثالث: أن الأبطح ونحوه من النظائر أصلها الصفة، إلا أن العرب استعملتها استعمال الأسماء، قال سيبويه في مسألة أفعل فُعْلَى، وأنه استعمل استعمال أَفْكَلٍ وأجْدَلٍ، كما قالوا: الأساود والأباطح حيث استعمل استعمال الأسماء، فلما كان كذلك الحق بالأسماء حكماً، فليس إذاً من الصفات، فلا يدخل على كلام الناظم، والله أعلم. ***

وفُعُلٌ لاسم رباعيَ بِمَد قد زيد قبل لامٍ اعلالاً فَقَدْ ما لم يضاعف في الأعمِّ ذو الألف وفُعَلٍ جمعاً لفعْلة عُرِفْ ونحوِ كبرى، ولفَعْلةٍ فِعَلْ وقد يجيء جمعُهُ على فُعَلْ في نحو رامٍ ذو اطراد فُعَلَهْ وشاع نحو كاملٍ وكَمَلَهْ هذا الفصلُ يحتوي على ذكر جموع من جموع الكثرة، وهي: فُعُلٌ، وفُعَلٌ، وفِعَلٌ، وفُعَلَةُ، وفَعَلَةُ. فأما فُعُلٌ - بضم الفاء والعين - و (وهو) السادس من أبنية الجموع فذكَرَ أنه يُجمع عليه قياساً ما كان اسماً غير صفة رباعياً بمدة زائدة قبل اللام، ولم تعتل لامه، ولا ضوعف منه ذو المد بالألف. وهذا العقد من كلامه قد اشتمل على أوصاف بحصولها يقاس هذا الجمع. / أحدهما: أن يكون اسماً غير صفة، وذلك قوله: "وفَعَلٌ لاسم"، فإنه إن كان اسماً جرى فيه فُعُلٌ قياساً، فلو كان صفةً لم يجمع على فُعُلٍ، فلا تقول في كريم: كُرُم، ولا في قتيل: قُتُل، ولا في رَكُوب: رُكُب، ولا في جبان: جُبُن، ولا في ضَنَاكِ - وهي المرأة المكتنزة:

ضُنُك، ولا ما أشبه ذلك. وما جاء منه على فُعُلٍ فمسموعٌ، كما قالوا: نذير ونُذُر، قال تعالى: {هذا نذير من النذر الأولى}. وقالوا: جديد وجُدُد، وسَدِيس وسُدُس، وثَنِيٌّ وثُنٍ، وفصيح وفُصُح. شُبِّهَ ذلك بالأسماء حيث استعملوه كما تستعمل الأسماء. والثاني: أن يكون رباعياً، وذلك قوله: "لاسمٍ رباعي" فههنا يُجمع على فُعُل، فإن كان ثلاثياً لم يُجمع على فُعُل إلا سماعاً، نحو قولهم: رَهْنٌ ورُهُنٌ، وقُرئ: {فرُهُنٌ مَقبوضة} - وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو - وسَقْفٌ وسُقُف، قال تعالى: {سُقُفاً من فضة}. وقالوا: نَمِرٌ ونُمُرٌ (قال الشاعر: فيها عيايِيْلُ أسُودٌ ونُمُرْ) وقالوا: ثمرة وثُمُر، قال تعالى: {وكان له ثُمُر}.

وحِدْجٌ وحُدُج، وسِتر وسُتُر، قال: والمسجدان وبيتٌ نحن عامِرُهُ لنا وزَمْزَمُ والأحواضُ والسُّتُرُ والثالث: أن يكون بمدة زائدة، فإنه إن لم يكن كذلك فليس له فُعُل، وإنما له فعائل، كجعفر وجعافر، وجوهر وجواهر. والرابع: أن تكون مزيدة قبل اللام فتقع ثالثة، وذلك قوله: "بمدّ قد زيدَ قبل لام"، أي: زيد ذلك المد قبل لام الكلمة، تحرزاً من زيادته قبل ذلك كفاعلٍ، فإنه لا يُجمع على فُعُلٍ، وإنما بابه فواعل كحائِطٍ وحوائِطَ، وكاهلٍ وكواهل. والخامس: أن تكون اللام غير معتلة. وذلك قوله: "إعلالاً فقدْ". فقوله: "فقدْ" فعلٌ ماضٍ، فاعله ضمير اللام، وإعلالاً مفعول

به، والجملة في موضع الصفة أي: قد زيد قبل لامٍ فاقدة الإعلال. فإذا كان كذلك جمع على فُعُل، تحرُّزاً من أن تكون اللامُ معتلَّةً، فإنَّ الاسم إذ ذاك لا يجمع على هذا البناء، نحو: عَدُوٍّ وحِباءٍ وسَماءٍ وسريٍّ للنهر، فلا تقول: عُدٍ، ولا: حبٍ، ولا: سمٍ، ولا: سرٍ، ولا ما أشبه ذلك، وإنما لم يجمعوه على فُعُل كراهية اعتلال الياء والواو في هذه الأشياء. / والسادس: ألا يضاعف منه ما كانت المدة فيه ألفاً، وذلك قوله: ما لم يضاعف في الأعمِّ ذو الألف أي: هذا الحكم جارٍ ومستتبٌّ إذ لم يكن ذو الألف الزائدة قبل الآخر مضاعفاً، فإنه إذا كان كذلك لم يجمع على فُعُل في الأغلب الأعم، فلا تقول في نحو مداد: مُدُد، ولا في جَنان: جُنُن، ولا في رَباب: رُبُب، ولا ما أشبه ذلك كراهية التضعيف. وقوله: "في الأعم" تنبيه على أن امتناع فُعُل في هذا النوع أكثريٌّ ليس بممنوع البتة، بل قد جاء في كلام العرب منه شيء،

قالوا في عِنان: عُنُن، وقالوا: ذُباب وذُبٌّ. فأما إذا اجتمعت هذه الأوصاف فيقتضى كلام الناظم إطلاق القياس في الجمع على فُعُل، سواء أكان مضاعفاً أم غير مضاعف، ألا ترى أنه استثنى نحو جَنان وعِنان من هذا، فدل على قصده لدخول ما عداه. وكذلك أيضاً يقتضي إطلاقه القياس سواء أكان الاسم معتل العين أم صحيحهما، لتقييده فقْدَ الإعلال باللام. وكذلك يقتضى القياس سواءٌ أكان مذكراً أم مؤنثاً، فتقول في الصحيح: قضيبٌ وقُضُبٌ، وكثيب وكُثُبٌ، ورغيفٌ ورُغُفٌ، وعمود وعمد، وزبُور وزبر، وجدار وجدر، وكتاب وكتب، وقُراد وقُرُد، وفَدَانٌ وفُدُنٌ، وقَذَالٌ وقُذُلٌ. وتقول: في المضاعف: سريرٌ وسُرُر. وفي المعتل العين: خِوَان وخُوْنٌ، ورواقٌ ورُوْثٌ، وعِيانٌ وعُيُنٌ، وسوارٌ وسُورٌ. ونحو ذلك. وتقول في المؤنث: شمالٌ وشُمُل، قال الأزرق العنبري، أنشده سيبويه:

طِرْنَ انقطاعَة أوتارٍ محظرَبةٍ في أقْوُسٍ نازعتها أيمُنٌ شُمُلا وأتانٌ وأُتُنٌ، وقَلُوصٌ وقُلُصٌ. فهذا كله مما يتناوله لفظ الناظم كما ذكر. ثم قال: "وفُعَلٌ جمعاً لفُعلةٍ عُرف ونحو كبرى". هذا هو الجمع الثاني من الجموع التي يحتوي عليها هذا الفصل، وهو فُعَلٌ - بضم الفاء (وفتح العين - وذكر أنه يكون جمعاً لنوعين: أحدهما: ما كان من الأسماء على فُعْلَة - بضم الفاء) وذلك قوله: "جمعاً لفُعْلَةٍ عرف" أي: عُرف هذا الجمع لهذا النوع من الأسماء. ويقتضي هذا الإطلاق / شُمولَ ما كان منه صحيحاً، أو معتلاً، أو مضاعفاً، أو غير ذلك، ومثال ذلك: غُرفةٌ وغُرَف، وخَصلةٌ وخُصَلٌ، وحفرة وحفر، ونقرة ونُقَرٌ، وسورة وسورٌ، ودولة ودُوَل، وتومةٌ وتُوَمٌ، ودرة ودرر، وصرة وصرر، وسُرَّةٌ وسُرَرٌ، (وجُدَّةٌ وجُدَدٌ)، وقوة الحبل والجمع قُوًى، وكوَّةٌ وكوًى، ومديَةٌ

ومُدًى، وخطوة وخطًى. وتقييده بفُعْلَةَ دليل على أن غيره مما لا يكون ثلاثيا مضموم الفاء مؤنثاً بالهاء لا يجمع على فُعَل قياساً، وما جاء كذلك فشاذ، فمما جُمع على فُعَل وهو فَعْلَة قولهم: دولة ودول، ونَوبة ونُوَب، وقرية وقرْى. أو على فِعْلةَ قولهم: حِليةٌ وحُلًى، وسيذكره أو مؤنثاً بالألف المقصورة نحو الرؤيا والرُّؤَى، والسقيا والسُّقَى، وسيذكر ذلك أيضاً. وقالوا في غير الثلاثي: عُجَايةٌ وعُجًى، وهي عصبة تتصل بالحافر - وعَدُوٌّ وعُدًى. وفي هذا الكلام ما دل على مخالفة الناظم للفرَّاء والمبرد. أمَّا مخالفته للفراء فلأنَّ الفراء يجمع ما كان فَعَلة - بفتح العين - على فُعَل قياساً إذا كان واويَّ العين نحو ما ذكر من دَولة ودُوَل، ونوبة ونُوَب. فيقول قياساً على ذلك في جَوبة - للفرجة بين السحابة: جُوَب، وفي حُوَب، وفي روثة الأنف: رُوَث - وما أشبه ذلك. والسَّماع هذا الشاهد في هذه المسائل، وقد علمت أن مثل هذا قليل لا يعتد بمثله في القياس.

وأما مخالفته المبرد فلأن المبرد يقيس على فُعْلة بالتاء ما كان مؤنثاً دون تاء نحو: جُمْل، فيقول في جمعه: جُمَل، قال في المقتضب: فإن سَميتَها جُمْلاً أو حُسْناً قلت: حُسُنات وجُمُلات، كما تقول: ظُلَماتٌ وغُرَفاتٌ. قال: فإن قلتَ في هِنْد: هِنَد كما تقول: كِسَر وجُمَل وحُسَن، كما تقول: ظُلَم وغُرَف - فجيد بالغ" انتهى. وكأنه اعتبر في فُعلَةَ التأنيث فقاس عليه المؤنث وإن لم يكن بالتاء. ولم يرتضِ غيره هذا، بل اتبع السَّماعَ / كسيبويه وغيره. وظاهر كلام المبرد أن هذا الجمع في نحو: هِنْدٍ وجُمْلٍ مختص بالأعلام، إذ لم يذكره إلا فيها، وحيث ذكر نحو: بِئْرٍ ورِجْلٍ وأُذْنٍ وغُوْلٍ، أعني مما ليس بعلَم لم ينبِّه فيه على هذا الجميع، بل على طريقة الجمهور،

فانظر في ذلك، فإن المؤلف في التسهيل إنما حكى الخلاف عنه على الإطلاق. وعلى الناظم في هذا النوع درك من وجهين: أحدهما: أنه لم يقيِّدْه بكونه اسماً لا صفةً، بل أطلق القول بأن ما كان على فِعْلة فجمعُهُ قياساً فُعَلٌ. وهو في الأسماء صحيحٌ كما تقدم تمثيلُهُ، وأما الصفات فقد نصَّ في التسهيل على كون هذا الجمع فيها نادراً محفوظاً فقال: "ويُحفظ أيضاً - يعني فُعَلاً - في نحو فُعْلةٍ وصفاً بعد ما قيَّد أولاً أنه جمعٌ لفُعْلَة اسماً. فيقتضي إطلاقه هنا أن يكون في الصفة أيضاً قياساً. وإنما هو محفوظٌ، قالوا: بُهمة وبُهَم، وسُوقةٌ وسُوَقٌ، والبُهمة: الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى من شدة بأسه. والثاني: (وأنه) لم يقيده بكونه غير مضاعف، فإنه إن كان مضاعفاً فالقياس فيه فِعَالٌ نحو: قَبةٍ وقبابٍ، وجُبَّةٍ وجِبَابٍ، (وقُلَّةٍ) وقِلال. كذا يقول ابن أبي الربيع وغيره. وقد يظهر من كلام سيبويه

إذ قال: "والمضاعف بمنزلة رُكْبَةٍ، قال: والفِعَالُ كثيرٌ في المضاعف نحو: جِلالٍ وقِبابٍ وجِبابٍ". وكذا قال الفارسي. والجواب أن يقال: أما الأول فالظاهر لزومه، وأما الثاني فالذي يظهر من كلام سيبويه أن القياس فيه فُعَلٌ لا فِعَالٌ، لأنه قال: "والمضاعف بنزلة رُكْبَةٍ" يعني في اقتباسه، ثم ذكر أنه يجمه أيضاً على فِعال كثيراً، ولا يلزم من ذلك كون فُعَل غير كثير، بل نقول: لو كان فِعالٌ عنده قياساً لقال: إنه يُجمع أيضاً قياساً على فِعالٍ. فليس في حكاية الكثرة دليل على قياسه، وعبارة الفارسي كعبارة سيبويه. والنوع الثاني مما يُجمع على فُعَلٍ ما كان نحو الكبرى، وذلك قوله: "ونحو كبرى" وهذا المثال ينبئ عما كان من الصفات على الفُعْلى أنثى الأفعل / فهو يُجمع وصفين:

أحدهما: أن يكون وصفاً لا اسماً، فإن كان اسماً لم يُجمع هذا الجمع نحو: أُبُلَى - اسم وادٍ - والحمّى، وحُزْوى، والقصوى، وسُعدى، وبُهمى. وما جاء على فُعَل من هذا فشاذ نحو الرؤيا والرؤَى والسقيا والسقى، وقال عبدالله بن حجاج أبو الأقرع أنشده ابن الأعرابي: وإن أراد النومَ لم يَقضِ الكرى من هم ما لاقَى وأهوالِ الرؤى والثاني: أن يكون مؤنث الأفعل، أي: إن المذكر إذا كان على الأفعل والمؤنث على الفُعْلى فإن فُعَلاً قياسٌ في هذا المؤنث، فلو كان

الفُعْلى غير تأنيث الأفعل لم يُجمع على فُعَل نحو: حُبْلَى وأنثى وأخرى - أنثى آخر بكسر الخاء - ومنه ما أنشده القالي رحمه الله: وغادرنا يزيدُ لدى خُوَيّ فليس بآيبٍ آخرى الليالي أراد: آخر الدهر. وشاةٌ رُبَّى، فمثل هذا لا يجمع على فُعَل. فإذا اجتمع الوصفان جَمَعْتَ على فعل فقلت في الكبرى: الكُبَر، وفي الصغرى: الصُّغَر، وفي الأولى: الأُوَل، وفي الأخرى - تأنيث الآخر - الأخر، وفي الفضلى: الفُضَل، وفي العليا: العُلَى، وفي الدنيا - تأنيث الأدنى -: الدُّنَى، ونحو ذلك. وقد تحصَّل من كلام الناظم هنا مخالفة الفراء في كونه يجيز جمع الفُعلى وإن لم يكن تأنيث الأفعل على الفُعَل قياساً كالرؤيا والرؤى، والسقيا والسُّقى، فيجوز عنده على ما نقل عنه في التسهيل أن يقال في أُبْلَى: أُبَل، وفي حُمَّى: حُمَم، وفي رُبَّى: رُبَب، وفي حُبْلَى: حُبَل. وخالفه في التسهيل فقال بعد ما ذكر: إنه "يحفظ في نحو الرؤيا ونوبة، ولا يقاس عليهما خلافاً للفراء" وفي لقلة السماع في

المسألة؛ إذ لا يقاس إلا ما اشتهر واطَّرد في كلام العرب لاسيما في أبواب التكسير والمصادر ونحوها مما هو أدخل في نقل اللغة منه في القياس. وفي كلامه شيء من جهة اللفظ والمعنى، أما جهة اللفظ فإنه قال: "ونحو كبرى" فأتى دون ألف ولام، وفُعْلى الأفعل لا تُفارق الألف واللام، فلا يقال: امرأة كبرى ولا صغرى، وإنما يقال بالألف واللام أو الإضافة، ولذلك تأوَّلوا قراءة مَن قرأ: {وقولوا للناس حسنى} حكاها الأخفش أنها مصدر كالبشرى والرجعى / وقد لُحِّنَ ابن الرومي في قوله: كأن صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب وأما ما فيه من جهة المعنى فإن فعلى على ثلاثة أقسام: صفة محضة، وهي الكبرى على مذهبه وسائر ما كان من فُعْلى الأفعل.

وهذا هو الذي مثل به. والثاني اسم محض كأُبلى ونحوه، ومنه تحرز. والثالث: صفة جرى مجرى الأسماء كالدنيا لهذه الدار. فمثاله يعطى أن الحكم المذكور مختصٌ بالصفة المحضة، فتخرج المستعملة استعمال الأسماء عن ذلك. فأما الأول فالجواب عنه أنه جعل كبرى اسماً؛ إذ لم يقصد بها معنى الصفة، والصفة إذا استعملت استعمال الأسماء استعملت نكرة. وهذا معروف من مذهب ابن مالك، وسيأتي التنبيه عليه في التصريف، إن شاء الله. وأما الثاني فلعل الصفة الجارية مجرى الأسماء عنده لا تُجمع على فُعَل قياساً، ولذلك قال في التسهيل: "والفُعلى أنثى الأفعل" فأخرج ما ليس كذلك. ويحتمل أنه عاملها معاملة أصلها فجعل لها فُعَلاً قياساً، كما جعل لها إبدال الواو من يائها التي هي لام قياساً. وأنا الآن لا أذكر في هذا نصاً لأحد، فانظر فيه. ثم ذكر الجمع الثالث في هذا الفصل وهو فِعَل فقال: "ولفِعْلَةٍ فِعَلْ" يعني أن فِعَلاً - بكسر الفاء وفتح العين - جمعٌ لما كان من المفردات على فِعْلةَ - بكسر الفاء وإسكان العين - ويجمع هذا المثال في اعتبار القياس شرطين:

أحدهما: كسر الفاء وإسكان العين نحو: قِرْبَة وقِرَب، وعصمة وعِصَم، وإبرة وإبر، وعبرة وعبر. وكذلك المعتل نحو: قِيْمة وقِيَم، وديمة وديم، وحيلة وحيل، وسيرة وسير. وكذلك رِشْوَة ورشًى، وفرية وفرًى، وبنية وبنًى، وفدية وفدى. وكذلك المضاعف نحو: عِدَّة وعِدَد، وقِدَّة وقدد، ورِبَّة وربب. فإن كان غير مكسور الفاء أو محرك العين فلا يُجمع قياساً هذا الجمع إلا بالسماع، نحو: مَعِدةٍ ومِعَدٍ، ونقمة ونقم، وضيعة وضيع، وقد قاس الفراء على هذا فأجاز أن يقال مثلاً في ضَرْبَة: ضِرَب، وفي صَحْفَةٍ: صِحَف. ومنه في كلامهم أيضاً: طال طِيَل فلان، والجمع الطِّيَلُ. وقالوا: هَضْبةٌ وهِضَبٌ، للمطرة الدائمة /

العظيمة القَطْر، قال ذو الرمة: فَبَاتَ يُشْئِزُهُ ثأْدٌ ويُسْهِرُهُ تذاؤُبُ الرِّيحِ والوسواس والهِضَبُ وهذا كله نادر. ومن المسموع أيضاً (قامةٌ) وقِيَم للبكرة بأداتها، ولقامة الإنسان أيضاً، وصورةٌ وصِوَر، وحِدَأَةٌ وحِدَأ للفأس ذ 1 ات الرأسين. والشرط الثاني: أن يكون مؤنثاً بالتاء كما تقدم في التمثيل، فإن كان غير مؤنث، أو مؤنثاً بغير التاء، لم يجمع كذلك إلا سماعاً، فمن الأول: قِشْع وقِشَع، وذِئْب وذِئَب، وهِدْم وهِدَم - للثوب الخلق - ومن الثاني: ذِكْرى وذِكَر. وقد قاس عليه الفراء كما قاس على هَضْبة ونحوه، فيجوز عنده أن يقال في السِّيْمَى: سِيَمٌ، وفي السِّعْلَى: سِعَلٌ، وفي الشِّعْرَى شِعَرٌ. ولم يرتضِ الناظ هذا كلَّه.

ثم قال: وقد يجيءُ جَمْعُهُ على فُعَلْ يعني أن فِعْلَةَ - بكسر الفاء - قد يأتي جمعه في السماع في فُعَل - بضم الفاء - كجمع فُعْلةَ، لكنه قليل، ولذلك أدخل قد في الكلام، ومثاله: إسْوَةٌ وأُسًى. وأنشد الأصمعي: ولقد علمت وإن ضربتَ لي الأسَى أنَّ الرزيَّةَ كان يوم ذؤاب وقال متمم بن نويرة: لعمري وما دهري بتأبين هالك ولا جزع والدهر يعثر بالفتى لئن مالكٌ خلَّى عليَّ مكانه لفي أسوةٍ إن كان ينفعني الأُسَى يقال: أُسْوَةٌ وإسْوَةٌ. والعُدى: جمع عُدوة وعِدوة، وقد قرئ: {إذ أنتم بالعُدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} بالكسر والضم. والرُّشى: جمع رِشوة. قال أبو عبيدة: رِشْوةٌ ورِشى - بكسر الراء - ورُشْوة ورُشًى - بضم الراء - قال وقوم يَكسِرون أولها، يقولون:

رِشْوة، فإذا جمَعُوا ضَمُّوا أولها فقالوا: رُشًى، فيجعلونها باللغتين، وقومٌ يضمون أولها فإذا جمعوا قالوا: رِشًى بكسر الراء. والصفى: جمع صِفوة وصَفوة، والذُّرى جع ذِروة. وأكثر ما يجيء هذا النوع في المعتل اللام. وعلى الناظم هنا نظر من أوجهٍ: أحدها: أن هذا الجمع مختص بالأسماء، ولا تجمع الصفات عليه في القياس، وإنما للصفة الجمع بالألف والتاء، ولذلك قال في التسهيل: "ومنها فَعِل، وهو لفِعْلة اسماً" فأخرج الصفة عن ذلك نحو: نِقضَة ونِضْوة، وفلانٌ من كِبْرة / ولَدِ فلان ومن صِغْرته، فلا يقال: نضًى ولا نِقَض، ولا كِبَر ولا صِغَر، ولا نحو ذلك. وقد شذ من ذلك قولهم: ذِرْبَةٌ للمرأة الصخَّابة، قال الراجز:

يا سيد الناس وديَّان العربْ أشكو إليكَ ذِرْبةً من الذّرَبْ وظاهر الناظم أن ذلك قياس، إذ لم يقيد فعلة بكونه اسماً غير صفة. والثاني: أن ما كان من الأسماء فاء الكلمة فيه ياء لم يجع على فِعَلٍ ولا على فِعَالٍ على حالٍ، لأن الكسرة في الياء أول الكلمة مستثقلة، ولذلك لم يجيء منه إلا لفظان في فِعَال وهما: يِعَارٌ - جمع يَعْر، وهو الجَدْيُ يُربَطُ في زبية الأسد -، ويِقَاظٌ جمعُ يَقُظٍ ويَقْظَان - ولم يستثن الناظم هذا، وقد نبه على ذلك في التسهيل فقال: " ولا يكون فِعَلٌ ولا فِعالٌ لما فاؤه ياءٌ إلا ما ندر كيِعارٍ". والثالث: أن الاسم الناقص لا يُجمع وإن كان على فِعْلةَ إلا قليلاً غير مقيسٍ. وكذلك قيَّد الاسم المجموع هذا الجمع في التسهيل بكونه تاماً تحرزاً من نو: عِضَةٍ وعِدَةٍ ورِقَةٍ وفئةٍ ونحو ذلك، فلا يقال فيه: عِدًى، ولا رِقًى ولا: فِئًى، وسواءٌ أكان محذوف

الفاء أم اللام. وقالوا: قِضَةٌ - لضربٍ من الحمض - والجمع: قِضًى، ولِثَةٌ ولِثًى. والجواب عن ذلك، أما الأول فالظاهر وروده. وأما الثاني فغير وارد، لأن ما فاؤه ياء من الأسماء غير داخل عليه، إذ كان إنما كان من المفردات على فِعْلة، وما كان هكذا فلا يوجد فاء الكلمة فيه ياء أصلاً للصلة التي لأجلها امتنع الجمع على فِعَل وفِعال، وهو استثقال الكسرة في الياء أول الكلمة، وإنما توجد الياء فاء الكلمة إذا كانت مفتوحة أو مضمومة، وليس كلام الناظم فيه، فلا اعتراضَ. وأما الثالث فلم يحضرني الآن عليه جوابٌ، فلو كان مثلاً عِوَضَ "وفُعَل جمعاً" إلى آخره: ... ... ... ... ... وفعلة اسماً فُعَلٌ له عُرِفْ ونحو كبرى، ولفعلةٍ فِعَلْ اسماً متمًّا وأتى فيه فُعَل لكان أسلم مما اعتُرض به عليه. ثم ذكر الجمع الرابع في هذا الفصل، وهو فُعَلَةُ فقال: في نحو رامٍ ذو اطرادٍ فُعَلَة إلى آخره. يعني أن ما كان من المفردات نحو رام، وهو اسم الفاعل من رمى يرمي، فإن جمعه المطرد فيه فُعَلَة - بضم الفاء وفتح العين - وإنما قال: "ذو اطرادٍ" فقيد / يهذا المعنى لأجل أنه قياسٌ لا ينكسر، فكل ما أتى على هذا النوع فإن فُعَلَة فيه سائغٌ. وقد يدخل

على هذا الجمع غيره، لكنه نادر وغير قادحٍ في الاطراد، فإذا قلتَ مثلاً: غازٍ وغُزًى، وعافٍ وعُفًى، وداعٍ ودواعٍ، قال الشاعر، أنشده الفارسي عن أبي زيدٍ: ألا إن جيراني العشية رائحٌ دعتْهُم دواعٍ من هوًى ومَنادحُ وما كان نحو هذا فإن ذلك لا يصرفنا عن جمعه على فُعَلة نحو غزاة وعُفاة ودُعاة، وقلَّما يطلق الناظم في هذا الباب لفظ الاطراد إلا تنبيهاً على هذا المعنى، كما قال: في اسمٍ مذكّرٍ رباعي بمدَ ثالثٍ افْعِلَةُ عنهم اطَّرَدْ فإن "أفعِلَةَ" هناك لا تكاد تجد غيره إلا مشاركاً له. فإذا تقرر هذا فقد نبه الناظم بمثاله على أن الذي يجمع على "فُعَلَةَ" باطرادٍ كل ما كان على فاعل (صفة لمذكر عاقل) معتل اللام. أما كونه صفة فتحرز من الاسم نحو كاهل وغارب، فإن لهذا الصنف جمعاً سيذكره.

وأما كون الصفة لمذكر فلأنها إن كانت لمؤنث لم يجمع على "فُعَلَةَ" كحائضٍ وطاهرٍ وطامثٍ، وإنما يجمع على فُعَّلٍ أو فواعلَ كما سيذكره. وكذلك إذا كان التأنيث بالتاء نحو: راميةٍ وقاضيةٍ وداعيةٍ لا يُجمع على "فُعَلَة"، وإنما بابه فواعِلُ كما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وأما كونها لعاقل فمعتبر أيضاً، فإن فاعلاً إذا كان لما لا يعقل لم يُجمع على فُعَلَة إلا نادراً نحو: بازٍ وبُزاة، وشذوذه من جهة عدم العقل ومن جهة الاسمية. وأما كون الصفة على فاعل فلأن غير فاعل لا يُجمع على "فُعَلَة" إلا نادراً نحو: غُوِيٍّ وغُوَاة، وقال أبو الأسود الدؤلي: دع الخمر تشربها الغُواةُ فإنني رأيتُ أخاها مُغنياً لمكانها وقالوا: عَدُوٌّ وعُدَاةٌ، أنشد سيبويه: سَقَوني الخمرَ ثم تكنفوني عُدَاة الله من كذبٍ وزورِ ونصَّ سيبويه على أن عُرَاة جمع عُريان. وهذا كله قليل.

وأما كونه معتل اللام فتحرزاً من الصحيحها نحو: قائمٍ ونائمٍ وصائمٍ وشاربٍ ونحو ذلك، فإن لها جموعاً أُخَرَ على ما سيذكره من فُعَّل وفُعَّال وغيرهما، فمثال ما اجتمعت فيه الشروط الخمسة: رامٍ ورُماةٍ /، وغازٍ وغُزَاةٌ، وقاضٍ وقضاة، وداعٍ ودعاةٌ، وبانٍ وبناةٌ، ورجلٌ سارٍ، وقومٌ سُرَاةٌ، وهادٍ وهُدَاةٌ. ومن ذلك كثير. ثم ذكر الجمع الخامس فقال: وشاع نحوُ كاملٍ وكَمَلَهْ يعني أن ما كان من المفردات صفة تشبه كاملاً فإن الشائع في جمعه فَعَلة - بفتح الفاء - ولم يقل: إنه مطرد، كما قال ذلك في نحو رامٍ؛ لأنه لم يطرد اطراده. وإتيانه بكامل يخرج وصف اعتلال اللام من الأوصاف المذكورة في رام فيعوض منه وصف صحتها، فنقول: أشعر المثال بأن كل صفة لمذكر عاقل على فاعلٍ صحيح اللام فإنه يجمع على "فَعَلَة"، فأما كونها صفة فلأن الاسم لا يجمع على "فَعَلَة"، وإنما بابه فواعل نحو كواهل وغوارب. وأما كونها على فاعل فتحرز مما كان على غير هذا الوزن فإنه لا يُجمع هذا الجمع إلا ما شذ من نحو: خبيثٍ وخَبَثَةٍ، وسيدٍ

وسادةٍ، وخيِّرٍ وخِيَرَةٍ، حكى الفراء: قومٌ خِيَرةٌ بَرَرَةٌ. وهذا نادر. وأما كونها لمذكر فإنها إن كانت لمؤنث فجمعه على فواعل وفُعَّل نحو: حائضٍ وطاهرٍ. وكذلك إن كان بالتاء نحو: ضاربةٍ وخارجةٍ، فإن جمعه على فواعِلَ لا على "فّعّلّة". وأما كونها عاقل فلأن غير العاقل يندر فيه هذا الجمع كما قالوا: طائِطٌ للفحل الهائج، وجمعوه على طاطة. وكذا قال في التسهيل: "ويقل فيما لا يعقل". وأما كونه صحيح اللام فلأن المعتل اللام قد تقدم كيف يجمع. فإذا توافرت هذه الشروط جاز أن تجمعه على "فَعَلَة" نحو: كافر وكَفَرَة، وفاجر وفجرة، وظالم ظلمة، وبائع وباعة، وحائك وحاكَة وحَوَكة، وخائن وخَوَنة، وكاتب وكَتَبة، وسافر وسَفَرَة، وبارٌ وبررة، وطالب وطلبة، وعائل وعالة، وما أشبه ذلك. واعلم أن هذا المثال الذي هو كامل مع المثال الآخر الذي هو رام قد نبَّهَا أيضاً على شرط ربما يخفى على الناظر، وهو ضروري الاعتبار وذلك أنه دل على شرط الوصفية، ويدل أيضاً في الوصفية

على معنى، لأن الصفة في هذا الفصل على ضربين، أحدهما: ما لم يستعمل استعمال الأسماء، وهو جميع ما تقدم ذِكرُهُ في "فُعَلَة" و"فَعَلَة". والآخر: ما / استعمل استعمال الأسماء نحو: صاحبٍ وشاهد الحكم - في هذا النوع - وارعٍ وناوٍ للسمين من الإبل - في النوع المتقدم - فهذا لا يدخل في الحكم تحت القسم الآخر المذكور، لأن هذا لا يجمع على "فَعَلَة" إن كان معتل اللام، ولا على "فُعَلَة" إن كان صحيحها، فلا يقال: صاحبٌ وصَحَبة، ولا: شاهدٌ وشَهَدة، ولا يقال أيضاً: ناوٍ ونُواة، ولا راعٍ - لراعي الشاء - ورعاة، إلا مسموعاً. وقد قالوا هنا: رُعاة، لكن لا يقاس عليه، وإنما باب هذا "فُعلان" و "فِعال" كما سيأتي، إن شاء الله. فلا بد من اعتبار هذى المعنى، وهو ألا تحري الصفة مَجرى الاسم، وقد أشار المثال إليه؛ لأن "رام" و "كامل" مما لم يستعمل استعمال الأسماء. وهذا حسن. وإنما فرقوا بين جمع "رام" وجمع "كامل" فضموا فاء المعتل ليخصوه بالتمييز من الصحيح، وهو عند البصريين - أعني فُعَلَة - من المثل التي اختصت بالمعتل كما اختص به فيعل كسيِّد وميِّت.

والكوفيون يزعمون أنه مخفف من فُعَّل؛ لأنه أصل في فاعل نحو صائم وصوَّم، وقائم وقوَّم، وضارب وضرَّب، لكن عوضوا من إحدى العينين التاء لما حذفوها تخفيفاً فقالوا: قضاة ورماة. قال البصريون: وهذا دعوى لا دليل عليها. *** فَعْلَى لوصفٍ كقتيل وزَمِنْ وهالكٍ، وميتٌ به قَمِنْ فَعْلَى - بفتح الفاء - من أبنية الجموع، مختص بالآفات والمكاره التي يصاب بها الحمى وهو لها كاره، ولذلك أتى بهذه الأمثلة لتشعر بهذا المعنى، وهو معنى قوله: "لوصف قتيل". وكذا يعني أن فَعْلَى جمعٌ لكل ما كان من الأوصاف يعطي المعنى ما تعطيه هذه الأوصاف الأربعة، وليس إلا ذلك المعنى المتقدم، لكنه على نوعين: ما يعطي معنى آفة الموت، وما يعطي معنى آفة الوجع، وهو المرض ونحوه، فأتى من النوع الأول بثلاثة أمثلة: أحدهما: قَتيلٌ، وجمعه قّتْلَى، ومثله: عَقيرٌ وعَقْرى، وصَريعٌ وصَرْعى، وشاة ذبيحٌ وشياهٌ ذَبْحَى، حكاه السيرافيّ. والثاني: هالكٌ، وجمعه هَلْكَى.

والثالث: ميِّتٌ، وجمعه موتى. وأتى من النوع الثاني بمثال واحد، وهو زَمِنٌ، وجمعه زَمْنَى. والزَّمِنُ: المبتلى، زَمِنَ زَمَانَةً، / وهي الآفة في الحيوانات. ومقله: هِرَم وهَرْمَى، وضمِنٌ وضَمْنَى، ووَجٍ ووَجْيَا، ووجِعٌ ووَجْعَى. ومن هذا النوع في المثل الأول: جريح وجَرْحى، ولديغ ولَدْغَى، ومريض ومرضى، وكسير وكَسرى، ، ورهيص ورَهْصَى، وحسير وحَسْرَى - من الكلال - وكذلك مائق ومَوْقى - وهو الأحمق في غباوة - ورائب ورَوْبَى - وهو الذي أثخنه السفر والوجع - وساقط وسَقْطَى، وفاسد وفَسْدَى. وعلة هذا كله في الجمع على فَعْلَى أن هذه الأشياء أمور يبتلون بها، وهم لها كارهون. وقوله: "وميتٌ به قَمِنْ"، أي: هذا اللفظ أيضاً حقيق بهذا الجمع لها فيه من معنى الآفة الداخلة على غير إرادة. ورجل قمن بكذا، (وقَمَنٌ بكذا)، وقمين به، أي: حقيق. ورجال قمنون، فإذا

فتحت الميم قلت: رجال قَمَنٌ، فتفرد لا غير، وكذا في التثنية والتأنيث. هذا تفسير كلام الناظم على الإجمال، إلا أن فيه نظراً على التفصيل، وذلك أنه لا يخلوا أن يريد بقوله: إن فَعْلى لكل وصف يشبه كذا أن يشبهه في البناء وحده دون اعتبار معنى الآفة الداخلة كرهاً، أو في ذلك المعنى وحده، أو فيهما معاً. وعلى كل تقدير يشكل كلامه، أما إن قلت: إنه يريد ما أشبه قتيلاً وكذا في البناء المخصوص ففاسد، إذ كان يعطي أن ما كان مثل قتيل في كونه على فعيل بمعنى مفعول مطلقاً يجمع على فعلى، فكان يقال في لحية دَهِين: دَهْنَى، وخَضِيب: خَضْبَى، ولَسِيع: لَسْعَى، ولَدِيغ: لَدْغَى، وسَتِير - بمعنى مستور -: سَتْرَى، وبَقِير - بمعنى مبقورة -: بَقْرَى. وكذلك كنت تقول في قلق: قَلْقَى، وفي خَصِم: خَصْمَى، وفي حَذِر: حَذْرَى، وأيضاً كنت تقول بالقياس في نحو: كيِّسٍ وكَيْسَى كما قال:

وكنْ أكيَسَ الكَيْسَى إذا ما لقيتهم وإن كنتَ في الحمقَى فكنْ أنتَ أحمَقَا وكل هذا فاسدٌ، وكذلك سائر المثل. وأما إن قلتَ: إنه يريد ما أشبه قتيلا وإخوته في معنى الآفة الداخلة كرهاً دون اعتبار الأمثلة اللفظية - ففاسدٌ أيضاً، إذ كان يجب على هذا أن يقال في دامِرٍ: دَمْرى، وفي سقيم: سَقْمى، وفي ضامرٍ: ضَمْرى، وفي هزيل: هَزْلى، وفي أهوج: هَوْجى، وفي عَمٍ: / عَمْيا، وفي شَجٍ: شَجْوى. وما أشبه هذا المعنى. وهذا كله لا يقال سماعاً فضلاً عن أن يكون قياساً. وأما إن قلتَ: إنه يريد ما أشبه الأمثلة في اللفظ والمعنى معاً. فهو أيضاً غير صحيح من وجهين: أحدهما: أن يوهم أن قتيلاً يعتبر فيه مجموع معناه - من كونه آفة داخلة عليه وكونه مثلاً قوياً على الخصوص، فلا يدخل لنا تحته ما كان مثل جريح وجَرْحَى، ومريض ومرضى، ورهيص ورَهْصَى، ونحو ذلك. وكذلك يقال في هالك: إنه لا يدخل فيه إلا ما كان من

الإماتة فقط، فلا يدخل تحته: رائب ورَوْبَى، ومائق ومَوْقَى، ولا نحو ذلك. وكذلك سائر الأمثلة. وكل هذا فاسد؛ إذ ليس قصده إلا ما هو أعم من الإماتة والإيجاع. وعلى هذا يدل كلامه في التسهيل وكلام غيره، وليس في هذا النظم ما يمنعنا من اعتبار المعنى المخصوص في كل مثال من المثل الأربعة، بل عادته أن يحيلك بالمثال على جميع ما يتصور فيه من الاعتبارات. والثاني: أن هذا الجمع على ما سلك في التسهيل لا يختص قياساً بهذه الأمثلة فقط، بل ذكر معها أفعل نحو: أحمق وحمقى، كقوله: وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا وأنْوَكُ ونَوْكَى. وفَعْلان، قالوا: كسلان وكَسْلَى، وسكران وسكرى، ورَوْبان وروبى بمعنى المستغرق نوماً قاله الجوهري. فعلي كل تقدير فكلام الناظم مشكِلٌ في المسألة جداً، وكلامه في التسهيل أقرب إذ قال: "ومنها فَعْلَى لفَعِيل بمعنى مصاب أو

موجَع. ويُحمل عليه ما دل على ذلك من "فَعِل"، و "فَعِلة"، و "فَعْلان"، و "فّيعل"، و "فاعل". ومع هذا فالكلامان معاً يُشكلان من جهة أخرى، وذلك أن حقيقة فَعْلَى في القياس أن يكون جمعاً لفَعِيلٍ بمعنى مفعول، وهو الذي يأتي فعله في التصريف على فُعَلَ - مبنياً للمفعول - لكن إذا اختص بالآفات الداخلة على الحيِّ كَرْهاً فهذا هو الذي أطلق القياس فيه سيبويه وغيره من النحويين، قال سيبويه: "وإذا كسَّرته - يعني فَعِيلاً بمعنى مفعول - كسَّرته على فَعْلَى". ثم أتى بالمُثُل، ووجه ما أتى قليلاً على خلاف ذلك، ثم أخذ يذكر ما جاء من "فَعِيل" لا بمعنى "مفعول" أو بغيره من الأبنية التي يأتي فعلُها على "فَعَل" المبني للفاعل في جُمع / على "فَعْلَى"، وأن ذلك بالحمل على المعني، إذ كان معناه معنى المفعول، وإن لم يكن في الاستعمال كذلك، وأنه مع ذلك قليلٌ، وعلى غير القياس والأكثر، فقال: "وقال الخليل - رحمه الله -: إنما قالوا: مرضى، وهلكى، وموتى، وجربى، وأشباه ذلك، لأن هذا أمر

يُبْتلون به، وأُدخلوا فيه وهم له كارهون وأصيبوا به، فلما كان المعنى معنى المفعول كسَّروه على هذا المعنى. يعني أنهم اعتبروا في جمعه على فَعْلَى كونَ المرض والهلاك والموت مما يدخل الإنسان فيه غيرَ مختارٍ ولا مريد له، فصار كمَن فُعِلَ به ذلك، أي صار كالجاري على فُعِل كقتيل، وإن كان إنما جرى على فَعَل وهو مَرِضَ، وهلك، ومات، ولم يأت على مُرِضَ، ولا هُلِكَ، ولا مِيْتَ. هذا معنى كلامه. ثم قال: "وقد قالوا: هُلاَّك وهالكون، فجاءوا به على قياس هذا البناء وعلى الأصل، فلم يكسِّروا على المعنى، إذ كان بمنزلة جالس في البناء وفي الفعل"، يعني أنهم جمعوه على الأصل والقياس، وهو التسليم أو التكسير على ما يُكسَّرُ عليه اسم الفاعل، فقالوا: هالكون، كما قالوا: جالسون وقائمون. وقالوا: هُلاَّك، كما قالوا: قُوَّامٌ، لأنه اسمُ فاعلٍ جارٍ على فَعَلَ، لا اسم مفعول جارٍ على فُعِلَ. فلم يعتبروا فيه إلا أصل معناه وبابه، لا الشَّبه بالمفعول. ولا شك أن

هذا هو الأصل والقياس. ثم قال: وهو على هذا أكثر في الكلام". يعني اعتبار الأصل من تكسيره على فُعَّال، أو جمعه بالواو والنون على اطراد باب اسم الفاعل؛ "ألا ترى أنهم قالوا: دامِرٌ ودُمَّارٌ ودامرون، وضامرٌ وضُمَّرٌ، ولا يقولون: ضَمْرَى. فهذا يجري مجرى هذا". يعني أن "دامر" و "ضامر" عليه يجري هالكٌ في الحكم لا على المعنى. ثم قال: "إلا أنهم قد قالوا ما سمعت على هذا المعنى". قال: ومثل الهُلاَّك قولهم: مِرَاض وسِقَام، ولم يقولوا: سَقْمَى". قال: "فالمجرى الغالب في هذا النحو غير فَعْلَى". يعني أن الغالب في هذا النحو كله أن يجري على حكم نفسه لا على حكم فَعِيل بمعنى مفعول الذي باب جمعه فَعْلَى. وهذا الكلام ظاهرُ الدلالة في أنَّ غيرَ فَعيل بمعنى مفعول لا يجمع على فَعْلَى قياساً أصلاً. ثم أتى سيبويه في بقية الباب بنظائر تخدم هذا المعنى. وهكذا يقول غير سيبويه من النحويين. / ويقفون ما عدا فعيلاً بمعنى مفعول على السَّماع. وقد اتضحت المسألة ولله الحمد، وظهر منها إشكال كلام ابن مالك هنا وفي التسهيل، وله في الفوائد أيضاً نحو مما في التسهيل، والذي يظهر من قوة كلامه في كتبه أن ذلك قياس في فعيل بمعنى

مفعول وفيما حُمل عليه للشبه المعنوي، وليس بمقتصر به على السماع إلا فيما ليس يُتصور فيه معنى الإماتة والإيجاع وشبه ذلك. وعلى هذا المقصد نحاول في الجواب عن التخليط الذي وقع في المسألة في هذا النظم فنقول: إن هذه المُثُل الأربعة المذكورة من حيث أتى بها مكررة المعنى وغير مكررة، يتحصل من معنى مجموعها معنى الإماتة والإيجاع في أربعة أمثلة، وهي: فَعِيلٌ بمعنى مفعول، وأتى به مقدماً دلالةً على أنه معتنًى به، وأنه أصل الباب. ثم فَعِلٌ، ثم فاعلٌ، ثم فَيعِلٌ. وتركَ ذكرَ أفْعَلَ وفَعْلان لقلة السماع فيهما بالنسبة إلى الأربعة التي ذكر، وهكذا الأمر في نفسه، فإذا استقام كلامه على هذا التنزيل اتحد مع كلامه في التسهيل وغيره، ولم يبق عليه إلا مخالفته في القياس في غير فَعِيلٍ بمعنى مفعولٍ. *** لفِعْلٍ اسماً صح لاماً فِعَلَه والوضعُ في فَعْلٍ وفِعْلٍ قلَّلَهْ بيَّنَ في هذين المزدوجين أن "فِعَلَة" - بكسر الفاء وفتح العين - بناءٌ يُجمع عليه من المفردات ثلاثةُ أبنية: فُعْلٌ - بضم الفاء - وفَعْلٌ - بفتحها - وفِعْلٌ - بكسرها، إلا أنَّ فُعْلاً يطردُ هذا الجمع فيه بخلاف

الباقيين، فإن جمعهما عليه قليل في الاستعمال. فقوله: "فِعَلَة" مبتدأٌ خبره المجرور أولَ البيت وهو "لفُعْل"، أي: إن هذا البناء من الجموع مستقر لهذا البناء من المفردات، وهو فُعْل، لكن شرط فيه شرطين: أحدهما: أن يكون اسماً لا صفة بقوله: "لفُعْلٍ اسماً" أي: حالة كونه اسماً، فلو كان صفة لم يجمع على فِعَلَةَ قياساً، وإنما جمعه على أفعال كما تقدم، وإن جاء فيه فِعَلَةُ فشاذ. والثاني: أن يكون صحيح اللام لا معتلها، فإن كان معتل اللام فلا يُجمع على فِعَلَةَ قياساً أيضاً، وإنما بابه أفعالٌ نحو: مُدْيٍ وأمْدَاء. وهذا قليل أيضاً. فإذا اجتمع الشرطان جاز القياس، فتقول: جُحْرٌ وجِحَرَة، وقُرطٌ وقِرَطة، وخُرْجٌ وخِرَجة، وقُلْبٌ وقِلَبَة، وصُلْبٌ / وصِلَبَة، وكُرْزٌ وكِرَزَة. وفي المضاعف: عشٌ وعِشَشَه، حكاه الجَرمي، وحُبٌ وحِبَبَة.

فإن قيل: جمع فُعْل على فِعَلَة قليلٌ، وذلك قال سيبويه: "وقد يجيء إذا جاوز بناء أدنى العدد على فِعَلَة". فأتى بعد المشعر بالتقليل، وكذلك فعَلَ غيره، جعلها من المسموع ولم يُدخلها في القياس كابن أبي الربيع، وكذلك ابن عصفور لم يعدُّهُ في قياس جمع فُعْل. وعلى نحو من طريقة سيبويه جرى الفارسي في الإيضاح، فكان حق الناظم أن يُلحِق فُعْلا في هذا الجمع بأخويه ولا يجعله قياساً. فالجواب: أن الناظم اعتمد على القياس فيه ثقة بشهادة سيبويه حيث أتى بِمُثُلِ فِعَلَةَ في فُعْل، ثم قال آخراً: وذلك كثير. فاعتمد الناظم على الكثرة فقاس ولم يحفل بدلالة "قد" في أول كلامه، لأن هذا الكلام الأخير أصرح دلالة في المقصود عنده، وأيضاً فعلى القياس فيه بَنَى الجوزلي في كراسته، فعلى هذا بَنَى والله أعلم. ثم قال: والوضع في فَعْلٍ وفِعْلٍ قَلَّلَه الوضع، يريد به وضع العرب، والضمير البارز في "قلله" عائدٌ

على بناء فِعَلَة، يعني أن جمع فَعْل - بفتح العين - وفِعْل بكسرها جاء وضعه كلام العرب قليلاً، وإذا كان قليلاً فالنتيجة المقصودة أنه لا يُقاسُ على ما جاء منه. فإن قيل: هل يكونُ هذان المثالان مقيَّدَين بالاشتراط المتقدم، وحينئذ يكون هذا الجمع فيهما قليلاً، أم يكون السَّماهُ فيهما مطلَقاً سواءٌ أكانا اسمين أم صفتين، وسواءٌ أصحَّ لامُهُما أم لا؟ فالجواب: أنه لا بد من اشتراط الشرطين في صحة نقل السماع القليل فيهما، وعلى ذلك اعتمد في التسهيل حيث قال: "ومنها فِعَلَة لاسم صحيح اللام على فُعْل كثيراً، وعلى فَعْل وفِعْل قليلاً". فإن قيل: ما الدليل على هذه الدعوى؟ فالجواب: أن السماع دون الشرطين إما معدومٌ وإما شاذٌ، وهو إنما قال: إن ذلك قليل لا شاذ ولا معدوم، وفرقٌ عند الناظم بين القليل والشاذ، وقد مرَّ من ذلك في هذا التقييد مواضعُ تدل على هذا القصد، وأيضاً فالصفة من فَعْلٍ المفتوح الفاء لم يذكر سيبويه فيه فِعَلَة بوجه، ولا رأيتُ من حكى ذلك فيه /.

وأما "فِعْلٌ" المكسورِ الفاء فلم يحك سيبويه منه ولا غيره - فيما رأيت - إلا لفظةً واحدة، وهل عِلْجٌ وعِلَجَةُ، مع أن العلجَ جارٍ مجرى الأسماء. وكذلك القول في صحة اللام، إذ المعتل اللام يقلُّ في نفسه فضلاً عن أن يكون فيه هذا البناء قليلاً. نعم إذا اجتمع الشرطان وُجِدَ من ذلك ألفاظ فقالوا: في فَعْل: جبْء وجِبَأَة - وهي الكمأة - وفَقْع وفِقَعَةن وقَعْب وقِعَبَة. وقالوا في المعتل العين: ثَورٌ وثِوَرةٌ وثِيَرةٌ، وعَودٌ وعِوَدَةٌ، وزَوجٌ وزِوَجَةٌ. وقالوا في فِعْل: حِسْل وحِسَلةٌ، وقردٌ وقردة، وفي المعتل العين: ديكٌ وديكةٌ، وفيلٌ وفيلةٌ، وكيسٌ وكيسةٌ. فهذا الذي أراد الناظم، وهو كما قال قليل، لكنه لا يُعَدُّ في حيز النادر الشاذ، ولذلك أطلق الجزولي القول فيهما، فلم يقيد جمعهما على فِعَلَة بقلةٍ ولا

بوقوفٍ على سماع، لكن في الأسماء لا في الصفات. *** وفُعلٌ لفاعلٍ وفاعله وَصْفَين نحو عاذلٍ وعاذله ومثله الفُعَّال فيما ذكّرا وذان في المعَلِّ لاماً نَدَراً فُعَّلٌ وفُعَّالٌ بناءان من أبنية الجمع، يشتركان في الغالب في أحكام الجمع، ولذلك قال حين ذكر "فُعَّل": "ومثله الفُعَّال" لكنهما يفترقان في بعضها فلذلك فرَّقهما على ما ستراه إن شاء الله. فقوله: وفُعلٌ لفاعلٍ وفاعله إلى آخره، يعني أن هذا البناء من أبنية الجمع يُجمع عليه ما كان من المفردات على بناء فاعِلٍ أو فاعِلَة، وحقيقة فاعِلٍ وفاعِلَةَ أنه فاعلٌ ومؤنَّثُهُ بالهاء. وإنما بين هذا المعنى؛ لأنه ليس كل ما له مؤنث من الصِّفات بالهاء أو غيرها يُجمع على ما يُجمع عليه المذكر، ألا ترى إلى ما تقدم قبل هذا في "فُعَلة" و "فَعَلة" جمع فاعل كيف قيده بالتذكير على ما سبق التنبيه عليه؟ فلأجل هذا نبه على التأنيث بالهاء هنا. وإلا فقد يقول من نَظَر ببادئ الرأي: ما باله أتى بالمؤنث وكان ذكر المذكر في الحكم يُجزئ عن المؤنث؟ والجواب ما ذُكِر. ثم قيد كون فاعلٍ وفاعلة يجمعان هذا الجمع قياساً بثلاثة أوصاف:

أحدها: كونهما وصفين، فإن فاعلاً كما تقدم على قسمين: اسم نحو: كاهل وغارب، والعافية والعاقبة، وليسا مما يُجمع على فُعَّل، وصفة / نحو ما مثَّل به من عاذل وعاذلة - والعاذل: اللائم، يقال: عذله يعذِله عذلاً - بالإسكان - أي: لامه، والاسم العَذْلُ - بالفتح - فإذا كان فاعل وفاعلة وصفين فحينئذٍ يصلحان للجمع على فُعَّلٍ. والثاني: كون الصفة لم تستعمل استعمال الأسماء، وإنما بقيت على أصلها من الوصفية، فإن كان قد استعملت استعمال الأسماء لم تُجمع قياساً على فُعَّلٍ كصاحبٍ وصاحبةٍ، وفارسٍ وامرأةٍ فارسة. والذي دل من كلام الناظم على هذا تمثيله بعاذلٍ وعاذلةٍ، فإن عاذلاً صفةٌ محضةٌ لم تجرِ مَجرى الأسماء. والثالث: ألا تكون الصفة معتلة اللام، وسواءٌ أكانت صحيحةَ العين أم معتلتها لا مبالاة بالعين، وإنما المبالاة باللام، فإنها إن كانت كذلك لم تُجمع على فُعَّل إلا نادراً، وذلك قوله: وذاك في المعتلِّ لاماً نَدَرا أي: الجمعُ على فُعَّل أو فُعَّال، وإذا اجتمعت هذه الأوصاف الثلاثة جاز على مقتضى كلام الناظم أن يجمع قياساً، وذلك نحو قولك: شاهد المصر وشُهَّدٌ، وبازلٌ وبُزَّلٌ، وشاردٌ وشُرَّدٌ، وسابقٌ

وسُبَّقٌ، وقارحٌ وقُرَّحٌ، وضاربٌ وضُرَّبٌ. ومثال المعتل العين: غائب ٌ وغُيَّبٌ، وصائمٌ وصُوَّمٌ، ونائمٌ ونُوَّمٌ، وعائدٌ وعُوَّدٌ، ونائحٌ ونُوَّحٌ ونحو ذلك، وكذلك فاعلةُ في ذلك كله، قال سيبويه بعد ما ذَكَر حكم فاعِل في فُعَّلٍ: " وإذا لحقت الهاء فاعلاً للتأنيث كُسِّر على فواعِلَ، قال: وكذلك إن كان صفةً للمؤنث ولم تكن فيه هاءُ التأنيث وذلك حواسِرُ وحوائِضُ. قال: ويكسِّرونه على فُعَّلٍ نحو: حُيَّضٍ، وحُسَّرٍ، ومُخَّضٍ، ونائمةٍ ونُوَّمٍ، وزائرةٍ وزُوَّرٍ. ثم أخذ يُلحق فُعَّالا بفُعَّل في هذا الحكم، فقال: ومثله الفُعَّال فيما ذُكِّرا يعني أن الفُعَّال من أبنية الجموع مثل الفُعَّل في أنه يكون جمعاً لفاعل لكن للمذكر خاصة، فيخرج عن ذلك الحكم فاعلة - بالهاء - فلا يكون فُعَّالٌ جمعاً له قياساً. ولم سيبويه ذلك في المؤنث بالهاء، وإنما ذكر فُعَّلاً وفواعِلَ خاصة بعدما ذَكَرَ للمذكر زيادة

عليهما فُعَّالا فقال: ويكسِّرونه أيضاً على فُعَّال - يعني فاعلاً - وذلك قولك: سُهَّادٌ، وجُهَّالٌ، وركَّابٌ، وعُرَّاضٌ، وزُوَّارٌ، وغُيَّابٌ. قال: "وهذا النحو كثيرٌ" انتهى. فإن جاء في المؤنث فُعَّالٌ فقليل نحو: امرأةٍ صادَّةٍ من نِسوةٍ صُدَّادٍ. / قال القُطامي: أبصارُهُن إلى الشبان مائلة وقدْ أراُهنَّ عني غير صُدَّادِ وإلى هذا أشار بقوله في التسهيل: "وشاركه فُعَّالٌ قياساً في المذكر وسماعاً في المؤنث. هذا بيان كلامه على الجملة إلا أنَّ فيه شيئاً، وذلك أنَّ فاعلاً الصَّفةَ المحضة على قسمين: صفةٌ لمذكر نحو: عاذلٍ وضاربٍ، وصفةٌ (للمؤنث. وصفةُ) المؤنث على قسمين: ما كانت فيها الهاء، وما لم تكن فيها الهاء، فأما ما كانت فيها الهاء فكلامُهُ عليها صحيحٌ، وإياها عنى بمفهوم قوله:

ومثله الفُعَّال فيما ذُكّرا أي فيما كان صفة بغير هاء، و (الذي) دلَّ على هذا القصد من كلامه قولُهُ أولاً: وفُعَّلٌ لفاعلٍ وفاعِلَهْ فأتى بقسمي المذكر والمؤنث، فلا بد أن يكون قوله هنا: "وفيما ذُكّرا" أي: فيما لم تكن فيها الهاء، ويدخل إذاً ما كان صفة للمؤنث بغير هاء تحت فاعل المذكر؛ لأنه مذكَّرُ اللفظ، فيقتضي أن نحو: حائضٍ، وطامثٍ، وحاسرٍ، وماخضٍ مما جاء للمؤنث بغير هاء يُجمع على فُعَّلٍ وفُعَّالٍ قياساً. وذلك غير صحيح؛ لأنَّ هذا لا يُجمع على فُعَّالٍ أصلاً، وإنما حكمه حكم المؤنث بالهاء، وإن فُرِضَ هذا القسم غير داخلٍ تحت المذكر، بقي حكم الصفة ناقصاً لسقوطِ قسمٍ من أقسامها، وذلك إخلالٌ مع إيهامه الدخول في حكم ما ذكر. ولا يمكن أن يقال: إنه داخل تحت قسم المؤنث "اعتباراً بمعنى التأنيث فيه، وعلى ذلك يصحُّ؛ لأن المؤنث إنما يُجمع على فُعَّل خاصةً، لأنا نقول: هذا مخلٌّ بتقسيمه الأول الذي دلَّ عليه التمثيل، لأن قوله: وفُعَّلٌ لفاعل وفاعِلَهْ

في قوة أن لو قال: وفُعَّلٌ لاسم الفاعل المذكر والمؤنث بالهاء، فلا يصح أن يرجع قوله: "فيما ذُكِّرا" إلا إلى أحد القسمين المذكورين، وإلا تناقضَ نظم الكلام. وأيضاً فإن فاعلاً المراد به المؤنث مذكر عند سيبويه، ألا تراه حين مثل قسم المذكر أتى بحائضٍ وحُيَّضٍ، (فقال: "ومثله من بنات الياء والواو التي هي عيناتٌ: صائمٌ وصُوَّمٌ، ونائمٌ ونُوَّمٌ، وغائب وغُيَّبٌ، وحائض وحُيَّضٌ")، وذلك لأنه عنده جارٍ في التقدير على مذكر، لأنه قدره بقوله: شيءٌ حائضٌ، لكنه قاصر عن المذكر المحض بكونه لا يُجمَعُ على فُعَّال. فصار كلام الناظم هنا غيرَ محرَّر! وقد يجاب عن هذا بأنه داخلٌ تحت حكم المؤنث إما على أن يكون قوله: / وفُعَّلٌ لفاعلٍ وفاعِلَهْ لا يريد به خصوصية التأنيث بالهاء، بل يُقدَّر كأنه قال: للمذكر والمؤنث مطلقاً، وإما على أن يريد خصوصية التأنيث بالهاء، لكن يكون قوله: "فيما ذُكِّرا" لا يرجعُ إلى ما تقدم من التقسيم على الخصوص، بل يكون معناه: فيما كان مما تقدم لمذكر، فيبقى ما

كان للمؤنث مما فيه الهاء أو لا هاء فيه منفرداً بفعلٍ. وأيضاً فإن حملنا قوله: "لفاعلٍ وفاعِلَهْ" على وجهٍ آخرَ من التفسير، وهو أن يكون الأول يشمل ما جرى على المذكر وما جرى على المؤنث بغير هاء، وفاعلة الذي فيه الهاء - لم يبق إشكالٌ، لبقاء قوله: "فاعله" على أصله من التقييد بالهاء، وهذا أولى ما يُحمل عليه كلامه. وأما كون فاعلٍ المراد به المؤنث مذكراً عند سيبويه فذلك أمرٌ لفظيٌّ والمراد به المؤنث بلا شكٍّ، فهو ذو وجهين، ولذلك عومل معاملة المذكر في الجمع على فُعَّلٍ، لأنه (جمع المذكر دون فواعل، ومعاملة المؤنث في الجمع على فواعل لأنه) (باب) فاعلة، دون فُعَّلٍ، وإنما فُعَّلٌ دخيلٌ فيه، وذلك يجعله بعضهم في حيز القليل، وإلى هذا المعنى أشار ابنُ الضَّائع في "شرح الجمل" وإذا ثبت هذا كان كلام الناظم صحيحاً مستتباً، جارياً على ما ينبغي. وبهذا التفسير الأخير فسَّر حيث قال ابن مالك: "وشاركه فُعَّال قياساً في المذكر

وسماعاً في المؤنث"، بعد أن قال: "من أمثلة الكثرة فُعَّل، وهو لفاعلٍ وفاعلةَ وصْفَين". قال شيخنا: وقال: "قياساً في المذكر وسماعاً في المؤنث، لأنه لو قال: "في الأول والثاني" فكان راجعاً إلى فاعلٍ وفاعلةَ، لأوهَمَ أن فُعَّالاً قياسٌ في فاعِلٍ سواءٌ كان للمذكر أو للمؤنث. وليس كذلك، فلذلك قيده بالتذكير والتأنيث". هذا نصُّ كلامه في عرض الجموع، وهو حسن. ثم قال الناظم: وذان في المعلِّ لاماً نَدَرا ذان: إشارةٌ إلى صيغ الجمعين، وهما فُعَّلٌ وفُعَّالٌ. يعني أن هذين الجمعين قياسٌ في فاعلٍ وفاعلة مطلقاً، سواءٌ أكان معتلّ العين أم صحيحهما أم مضاعفاً إلا المعتل اللام، فإنهما فيه / نادران، فلا يُجمع عليهما ولا على أحدهما قياساً، وإنما القياس فيه ما تقدم من فُعَلَة نحو: غزاة ورُماة. وأشار بالنادر إلى ما جاء منه في السماع على فُعَّلٍ أو فُعَّالٍ، أما فُعَّلٌ فقالوا: غازٍ وغُزًّى، وعافٍ وعُفًّى، قال تعالى: {أو كانوا غزًّى}. وقال ابن مقبلٍ:

ولا أشتم العفًّى ولا يَجْدِبونني إذا هرَّ دون اللحم الفرثِ جازِرُهْ والعافي هنا: الذي يُلِمُّ بك، والعافي أيضاً: الدارس جُمَعَ (على) عفًّى. وحكى الشلوبين عن المفضل بن سلمة: أنه لم يأت من فاعِلٍ المعتل اللام على فُعَّلٍ إلا ثلاثة ألفاظ: هابٍ وهبًّى، وغازٍ وغُزًّى، وعافٍ وعفًّى. وزاد أبو علي القالي: الجلَّى جمع جالٍ. وأما فُعَّالٌ فقالوا: جانٍ، للذي يَجُرُّ الذَّنبَ، والجمعُ جُنَّاءٌ. وغازٍ وغُزَّاءٌ بالمد. قال تأبط شراً، أنشده الجوهري:

فيوماً بغزاءٍ ويوماً بسُربة ويوماً بخشخاشٍ من الرجل هيْضَل *** فَعْلٌ وفَعْلَة، فِعَال لهما وقلَّ فيما عينُهُ اليا منهما وفّعّلٌ أيضاً له فِعَال ما لم يكن في لامه اعتلال أو يك مُضْعَفاً ومثلُ فّعّل ذو التا وفُعْلٌ مع فِعْلٍ فاقبل وفي فعيلٍ وصفَ فاعلٍ وَرَدْ كذاك في أنثاه أيضاً اطَّرَد وشاع في وصفٍ علا فَعْلانا أو أنثَيَيْهِ أو على فُعْلانا ومثله فُعْلانةُ والزَمْهُ في نحوِ طويلٍ وطويلةٍ تَفِي بناء فِعَالٍ - بكسر الفاء - من الجموع التي كثر استعمالها وجمع عليها كثير من الأبنية كبناء مفاعِل ومفاعيل في بابه. وقد ذكر الناظم هنا من أبنية المفردات التي تجمع على فِعَالٍ ثلاثة عشر بناء، وذلك مما يجمع قياساً أو قريباً من أن يكون قياساً لشهرته في السماع وكثرته: البناء الأول: فَعْل، بفتح الفاء وإسكان العين. والثاني: فَعْلة، وهو الأول بزيادة هاء، وذلك قوله: فَعْلٌ وفَعْلَةُ فِعالٌ لهما أي: إن فِعَالاً من أبنية الجموع يجمع عليه هذان البناءان، يعني قياساً، لأنه إنما يطلق، جواز الجمع إذا كان قياساً، لكن شَرَطَ (في)

كونه قياساً شرطاً واحداً، وهو ألا يكون واحد منهما معتل العين بالياء، فإنه إن كان كذلك يم يجمع قياساً على فِعَال، ودل على هذا الشرط إخبارُهُ بقلة السماع في جمعهما على فِعَالٍ بقوله: وقلَّ فيما عينه اليا منهما أي: قلَّ السماع / فيما كان من فَعْلٍ أو فَعْلَةَ معتل العين بالياء، فلا يجوز أن يقال في بَيْت: بِيَات، ولا في غَيْب: غِيَاب، ولا في غَيث: غِياث إلا ما ندر، فممَّا ندر في فَعْلٍ قولهم في ضَيْفٍ: ضِيَاف. أنشد الفارسي في التذكرة: أنارُ أبينا غير أن ضيافَهُ قليلٌ وقد يُؤوى إليها فيكثُرُ هكذا أنشده بالياء، ثم قال: أضمر ما دلَّ عليه الضياف لا الجمع الذي هو الضياف.

ومما قلَّ في "فَعْلَةَ" قولهم: ضَيْعَةٌ وضِيَاعٌ، وعيبة وعياب. وهذا على ما قاله الناظم قليل، وإنما م يستتب فِعَالٌ في فَعْلٍ اليائيِّ العين لأنه لما كان فِعَالٌ وفَعُول شريكين في فَعْل الصحيح العين، كما سيذكره الناظم، وانفرد فَعُلٌ من ذوات الواو بفِعالٍ؛ لثقل فُعُول فيه لو قلنا في ثوب: ثُوُوب، مثلاً - أفردوا - فَعْلاً أخاه من ذوات الياء بفُعُول أخي فِعَال؛ لأنهم لو أجازوا في بناء الياء البناءَين معاً لَغَلَب أحد الأخوين على الآخر يتعادلا، فكأنهم عوَّضوا فِعَالاً في ذوات الواو من فُعُول لمكان الثقل، وعوضوا فُعُول في ذوات الياء من فِعال لضربٍ من الموازنة بينهما، وهذا معنى تعليل سيبويه، وما عدا ما ذكره الناظم مما كان على فَعْل أو فَعْلَة فإنه يجمع على فِعَال قياساً، كان مضاعفاً أو معتل اللام، أو غير ذلك، سواء أكان اسماً أم صفة، إذ لم يقيد بناء منهما باسمية ولا وصفية، فتقول في فَعْل في الاسم: كَعْبٌ وكِعَابٌ، وكلب وكلاب، وكبش وكباش، وفرخ وفراخ. والمضاعف: صكٌّ وصِكَاك، وضب وضِباب، وبتٌّ وبِتَاتٌ. والمعتل العين بالواو: حَوضٌ وحِياضٌ، وسَوط وسِياطٌ، وثَوب

وثِيابٌ. والمعتل اللام: ظَبي وظِباءٌ، ودلوٌ ودِلاءٌ، وحَقْو وحِقاءٌ. وأما الصفة فنحو: فَسْلٌ وفِسَالٌ، وصَعبٌ وصِعاب، وعبلٌ وعِبالٌ، وجَذلٌ وجِذالٌ. وتقول في "فَعْلَةَ": صَحْفة وصِحَافٌ، وجَفْنةٌ وجِفَانٌ. والمضاعف: نحو: سَلَّةٌ وسِلال، ودَبَّةٌ ودِباب. والمعتل اللام: غَلْوة وغِلاء، وظَبية وظِباء، وحَظْوَةٌ وحِظاء، قال أبو صعصعة العامري: إلى ضُمَّرٍ زرق العيون كأنها حِظاءُ غلامٍ ليس يخطينَ / مُهْرَأَ وعَجْوة وعِجَاء، وخَطْوة وخِطَاء، قال امرؤ القيس: لها وثباتٌ كوثب الضباء فَوَادٍ خِطاءٌ ووَاد مَطَرْ

وأما الصفة فخَدْلَةٌ وخِدَال، وفَسْلَة وفِسال، وعَبْلَ ة وعِبال، وكمشة وكِماش، وجعدة وجِعاد. البناء الثالث مما يجمع على فِعَال: فَعَل - بفتح الفاء والعين - وذلك قوله: وَفَعَلٌ أيضاً له فِعَالُ أي: إنه جَمْعٌ له في القياس، ولم يقيد باسمية ولا وصفية، فدل أن عنده على إطلاقه في الأسماء والصفات، لكن شَرَط فيه شرطين: أحدهما: ألا يكون معتل اللام، وذلك قوله: ما لم يكن في لامه اعتلالُ فإنه إذا كان معتل اللام لم يجمع على فِعَال قياساً، فلا تقول في فَتًى: فِتَاء، ولا في رحًى: رِحَاء، ولا في قفًا: قِفاء، وإنما قياسه في الكثير فُعُول، على ما سيذكر. والثاني: ألا يكون فَعَلٌ مضاعفاً، وذلك قوله: "أو يَكُ مُضْعَفاً". و "يك" معطوف على "يكن" الأول، أي: ما لم يكن مضاعفاً. وإذا أطلق المضاعف في الثلاثي فإنما يطلق على ما تماثل عينه

ولامه، فإذا كان كذلك لم يجمع قياساً على فِعَال، فلا تقول في طلل: طِلال، ولا في لَبَب: لِبَاب، ولا نحو ذلك، إذ لم يجاوزوا به الأفعال نحو: طلَلَ وأطلالٍ، كما لم يجاوزوا الأقدام والأرسانَ بقدم ورَسَنٍ. فإذا اجتمع الوصفان قيس فِعَال على مقتضى كلامه، فتقول في الاسم: جَمَل وجِمَال، وجَبَل وجِبال، وحَجَر وحِجار، ودار ودِيار. وفي الصفة: حَسَن وحِسَان، وسَبَط وسِباط. البناء الرابع: فَعَلةُ - بالهاء - وذلك قوله: "ومثلُ فَعَل ذو التاء"، يعني أنه مثله في الجمع على فِعَال قياساً، كان اسماً أيضاً أو صفة، فالاسم نحو: رَحَبَة ورِحَاب، ورَقَبَة ورِقَاب، وأَكَمَة وإكَام، وناقة ونِيَاق. قال: أبْعَدكُنَّ الله من نياقِ إن لم تُنجِّيْنِ من الوثاقِ والصفة نحو: حَسَنة وحِسَان، هو جار عند سيبويه مَجرى ما لا هاء فيه.

البناء الخامس: فُعْلٌ - بضم الفاء - وهو معطوفٌ على قوله: "ذو التاء"، أي: ومثل فَعَلٍ في الجمع على فِعَال قياساً فُعْل، وذلك: قُرْطٌ وقِرَاط، وجُمْد وجِماد، وفي المضاعف: عُشٌّ وعِشَاش، وخُصٌ وخِصاص، وقُفٌّ وقِفاف، وخفٌّ وخِفاف. البناء السادس: فِعْلٌ - بكسر الفاء - وذلك قوله: "مع فعل"، / أي: هو مثل فَعَل أيضاً في الجمع على فِعَال أيضاً نحو: ذئب وذئاب، وبئر وبئار، وزِق وزقاق، وريح ورياح، وجِرْو وجِراء، ونِهْي ونِهاء. وقوله: "فاقبل"، أي: فاقبل هذا كله في القياس، لا توقفه على السماع.

البناء السابع: فَعِيل بمعنى فاعل، وذلك قوله: وفي فَعيلٍ وصفِ (فاعلٍ) وَرَدْ ضمير "ورد" عائد على فِعَال، يعن أن فِعَالاً ورد من كلام العرب في فعيل وصف فاعل، أي: في جمعه. وقوله: "وصفِ فاعل" يريد الوصف الجاري على الفاعل في المعنى لا على المفعول كالطويل والقصير لا كالقتيل والجريح، فإن ذلك لا يجمع على هذا قياساً، فإن جاء كذلك فشاذ نحو: فَصيل وفِصَال، وجذيذ وجِذاذ، وقرأ علي بن حمزة الكسائي: {فجعلهم جِذَاذاً} بكسر الجيم جمع جَذيذ بمعنى مجذوذ. وهذا قليلٌ. فإذا كان بمعنى فاعل قلتَ في كريم: كِرام، وفي طويل: طِوال، وفي قصير: قِصار، وفي كبير: كِبار، وفي صغير: صِغار، وفي مريض: مِراض، وفي شديد: شِداد، وفي جديد: جِداد، وفي بطيء: بِطاء، قال بشر: وقد أضحت حبالكم رثاثاً بِطَاءَ الوصل قد خَلُقَت قُواها وبَرِيءٌ وبِرَاء، قال الحطيئة:

فإن أباهم الأدنى أبوكم وإن صدورهم لكم بِرَاءُ وقوله: "ورد" لا يُعطى زيادة على أن ذلك وارد من كلام العرب، مسموع منها، فهو مسكوت عن جريان القياس فيه، وقد أجرى فيه القياس في التسهيل، وعلى ذلك جرى غيره من النحويين. ولعله يريد بقوله: "ورد" أنه ورد القياس فيه عن النحويين، كأنه قال: ورد هذا الجمع قياساً في فعيل بمعنى فاعل عن النحويين. وهو بعيد ولكنه أولى من أن يكون أحال فيه على السماع، (إذ عادته في الغالب أنه لا يحيل على السماع)، إلا فيما يكون عدم قياسه ممكناً أو متنازعاً فيه، وقد مضى من ذلك مواضع، كما أنه إذا أطلق لفظ الشهرة فإنه توقف فيه عن القطع بالقياس. وهذا الموضع ليس من ذلك لكثرته في السماع، ولتصريح النحويين بالقياس فيه، قال سيبويه: "وأما ما كان فَعِيلاً فإنه يكسر على فُعَلاء وعلى فِعَال". ثم مثل ذلك، ثم قال: "فأما ما كان من هذا مضاعفاً / فإنه يكسَّرُ على فِعَال كما كُسِّرَ غير المضاعف". ثم مثله، ثم قال:

"وأما ما كان من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن عينات فإنه لم يكسَّر على فُعَلاء ولا أفعلاء، استغنوا عنهما بفِعَال، لأنه أقل مما ذكرنا". ثم مثله، وعلى هذا النحو جرى غيره. البناء الثامن: فَعيلة بمعنى فاعلة، وهو أنثى فَعيِيل الذي أشار غليه بقوله: كذاك في أنثاه أيضاً اطّرَدْ فالضمير في "أنثاه" عائد على فَعِيل المذكور، وضمير "اطرد" عائد لفِعَال، أي: اطرد فِعَالٌ جمعاً لأنثى فَعِيل، وذلك نحو كريمة وكِرام، وظريفة وظِراف، وطويلة وطِوال، وقصيرة وقِصار، وصغيرة وصِغار، ونحو ذلك. وكذلك المضاعف والمعتل العين، قال سيبويه: "وإذا لحقت الهاء فَعِيلاً للتأنيث فإن المؤنث يوافق المذكر على فِعَال، وذلك صبيحة وصِباح، وظريفة وظِراف". البناء التاسع: فَعْلان - بفتح الفاء - وذلك قوله: وشاع في وصفٍ على فَعْلانا يعني أن بناء فِعَال شاع فيه وكَثُرَ أن يجمع عليه بناء فَعْلان إذا

كان من الصفات، ولذلك قال: "في وصف" فإنه إن كان من الأسماء نحو السَّعدان والضَّمران لم يكن هذا الجمع قياساً. وإنما قال: "وشاع" مع أنه عنده في التسهيل وعند غيره قياس، وعادته في مثل هذا الإطلاق ألا يرتهن في النقل فيه إذا كانت كثرته لا تبلغ أن يُقْطَع معها بالقياس، لأنه - والله أعلم - رأى كثيراً من الصفات على فَعْلان لا تجمعه العرب على فِعَال، كسكران لا يقال فيه: سِكار، وغَيران وحَيران وخَزيانن لا يقال فيه: غِيار ولا حِيار ولا خِزاء. فهذه وأمثالها ألفاظ مشهورة مع أنه لم يسمع فيها فعال. فقد يقصد التنبيه على هذا، ولكن النحويين جعلوه قياساً كغيره، ولا يبعد أن يطلق لفظ الشياع ويريد ما يستلزمه من إطلاق القياس، لأن القياس أصله شياع السماع، والله أعلم. وفَعْلان الذي ذكره مشترك لما كان له فُعْلَى، ولما كان له فَعْلانة، فمثال الأول: عَجلان وعِجَال، وعطشان وعِطَاش، وغَرثان وغِراث. ومثال الثاني: نَدمان ونِدَام، وخَمصان - بالفتح - وخِمَاص، والأشهر خُمصان بالضم.

البناء العاشر والحادي عشر: فَعْلانة / وفَعْلَى، وهما مؤنثاً فَعْلان، وذلك قوله: "أو أنثَيَيْه" يعني أنثيَي فَعلان، لأن فَعْلان يستعمل على وجهين، مصروفاً وغير مصروف، فالمصروف هو الذي مؤنثه بالهاء، (جرى مجرى ضارب وضاربة، وغير المصروف هو الذي مؤنثه فَعْلَى) جرت الألف والنون فيه مجرى ألِفَي حمراء. وكلا المؤنثين يجمع قياساً على فِعَال، قال سيبويه: "وأما فَعْلان إذا كان صفة، وكانت له فَعْلى، فإنه يكسَّرُ على فِعَال، تحذف الزيادة التي في أواخره، كما حذفت ألف إناث وألف رُباب، وذلك قولك: عَجلان وعِجَال، وعَطشان وعِطاش، وغرثَان وغِراث". قال: "وكذلك مؤنَّثُهُ" - يعني يجمع على فِعَال أيضاً - "كما وافق فَعيلٌ فَعِيلة في فِعَال". انتهى. فتقول في عَطْشَى: عِطَاشٌ، وفي عَجْلَى: عِجَال. وكذلك سائر الأمثلة. وأنا فَعْلانة فكذلك نحو: نَدْمانة ونِدَام،

وخَمْصَانة وخِمَاص، حكمه أيضاً حكم المذكر، قال سيبويه: "وقد قالوا في الذي مؤنثه تلحقه الهاء كما قالوا في هذا فجعلوه مثله" - يعني في فِعَال- "وذلك قولهم: نَدْمَانة ونَدْمَان ونِدَام ونَدَامى". ووجه هذا ما تقدم في فَعْلان فَعْلَى من الموافقة، كما وافق فعيلٌ فَعِيلة في فِعال أيضاً. البناء الثاني عشر: فُعْلان - بضم الفاء - وذلك قوله: "أو على فُعْلانا" يعني أن فِعَالاً شاع أيضاً في فُعْلان إذا كان صفة، فإن كان اسماً لم يجمع عليه نحو: دُكَّان وذُبْيان، فتقول في الصفة: خُمْصان وخِمَاص، وكذلك في أنثاه، ولا يكون إلا على فُعْلانة نحو: خُمصانة وخِماص، وكذلك في أنثاه، ولا يكون إلا على فُعْلانة نحو: خُمصانة وخِماص، فلذلك قال: "ومثله فُعْلانة" (وهو) البناء الثالث عشر. واعلمْ أن فُعْلان هنا وجدته مضبوطاً بضم الفاء، وهو محتَمِلٌ أن يكون كذلك أو بكسرها، والحكم في الجميع واحد، لأن فِعلان - بالكسر - يجمع على فِعَال قياساً نحو: سِرْحان وسِرَاح، وضِبْعان وضِبَاع، إلا أنه لم يقصده لأنه اسم غير صفة، ولا مؤنث له على فِعْلانة. وإنما ذكر هنا فُعْلان الصفة فيتعين الضم في الفاء بلا بُدٍّ.

فإن قلت: إن الناظم منع صَرْفَ فُعْلان أيضاً مع أنه (فَعلان) هنا له اعتباران بحسب معناه، اعتبار يصرف فيه موزونه كنَدْمان، واعتبار لا يصرف فيه كسَكْران. وفُعْلان باعتبار موزونه / على وجه واحد، وهو أن يصرف موزونه، فلِمَ منع الصرفَ فيهما معاً؟ فالجواب: أن ما فَعَل من منع الصرف هو الواجب، وذلك أن الأمثلة الموزون بها إذا لم تنزل منزلة الموزون فهي أعلام مطلقاً، ولذلك توصف بالمعرفة، وتنصب بعدها النكرة حالاً، وإذا كانت كذلك اعتُبرت في أنفسها، فإن كان فيها مانع من الصرف منعت، وإلا فلا، فلا تقول: فُعَلُ المعدول لا ينصرف. فتصرف فُعَلاً وإن كان عبارةً عن عُمَرَ مثلاً، لأنه في نفسه لا مانع له إلا العلمية وحدها، فكذلك فَعْلان في كلام الناظم وفُعْلان، هما علمان مزيدٌ آخرهما ألف ونون، فصار حكمهما حكم سلمان وعثمان، ولا اعتبار بفَعْلانة وفُعْلانة؛ لأنهما ليسا بمؤنثيهما؛ لأن ذلك إنما يكون في الصفات، وقد صارت هذه أعلاماً.

وإنما تنزل الأمثلة منزلة الممثّل بها إذا جعلت في موضعها، كقولك: هذا رجلٌ فَعْلان - إذا قصدت مذكر فَعْلى - وهذا رجل فَعْلان - إذا قصدت مذكر فَعْلانة - وهذا مبيِّنٌ في أبواب ما لا ينصرف. ثم قال: ... ... والزَمْهُ في نحو طويل وطويلة تفي الضمير في "الزمه" عائدٌ على فِعَال، يعني أن فِعالاً لازمٌ فيما كان من الصفات على نحوٍ طويلٍ وطويلةٍ، مما هو صفةٌ معتل العين بالواو على فَعِيل أو فَعِيلة بمعنى فاعل وفاعلة. وقد تقدم له الكلام على الصحيح العين وغيره. وإنما قصد ها هنا أن يتكلم على أن فِعالاً لازم في هذا النوع. ومعنى اللزوم فيه يحتمل أن يكون معناه أنه لا يأتي لهما جمع تكسير على غير هذه البنية، بخلاف ما تقدم من الأمثلة، فإنها قد يشارك فِعَالاً فيها غيره، كما تقول فَعْل وفِعْل: إنهما يجمعان أيضاً قياساً على فُعُول فتقول: كعب وكُعُوب، وفُلْس وفُلُوس، وجِذع وجُذُوع، وعِرق وعُرُوق. وكما تقول في فعيل الصفة ما عدا طويلاً وطويلة: إنه يجمع على فُعَلاء أيضاً نحو: حليم وحُلَماء، وفقيه وفُقهاء، ونبيه ونُبَهَاء، وكريم وكُرَمَاء، وما كان

نحو هذا فيشاركك فِعَالاً فيها غيره، فلهذا نبَّه على هذا المعنى في طويل وطويلة، ويعني أنه لا يتجاوز فِعَالٌ في كل فَعِيل وفَعِيلة بمعنى فاعل وفاعلة إذا كانت / عينه وواً إلى جمع تكسير سواه. نعم يجوز أن يجمع جمع تصحيح إذا اجتمعت شروط التصحيح، ولا كلام فيه هنا، بخلاف غيره مما هو من الصفات على فعيل فإنه يأتي أيضاً على فعلاء أو أفعلاء، كما يأتي في موضعه، فلذلك نبه على اللزوم لفعال. ونظير طويل وطويلة قويم وقويمة تقول فيهما: قوام، لا غير. وعلى هذا المعنى نبه أيضاً في التسهيل بقوله: "ولم يجاوز في نحو طويل وطويلة إلا إلى التصحيح". وقال سيبويه: "وأما من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن عينات فإنه لم يكسر على فُعَلاء ولا أفعلاء، استغنوا عنهما بفعال، لأنه أقل مما ذكرنا، وذلك قولك: طويل وطوال، وقويم وقوام". ويحتمل أن يكون مراد الناظم التنبيه على أن مثل طويل وطويلة لم تأت له العرب بجمع قلة إلا جمع التصحيح، فيكون قصده مقصوراً

على التنبيه على جمع التكسير الموضوع للقلة، وأنه لم يسمع في هذا النوع، فلا ينبغي أن يجمع على غير فعال في القلة والكثرة إلا إن ذهبت مذهب جمع التصحيح بالواو والنون، أو بالألف والتاء. ويستشعر هذا من التسهيل، وفي هذا النظم ما يدل عليه بقوله: "تفي"، أي: تفِ بالمقصود حتى لا ينقصك منه مطلب، لأن العرب وضعته للقليل والكثير، فدلالته وافية بالغرض المقصود من القلة أو الكثرة، ويكون هذا البناء من جملة ما نبَّه عليه أول الباب بقوله: وبعض ذي بكثرة وضعاً كُفِي كأرجلٍ والعكسُ جاء كالصُّفِي فهذا من العكس الذي جاء. وقد تم الكلام على تفسير هذا الفصل على ظاهر كلامه فيه، وبقي النظر فيه من جهة صحة ما قاله فيه: فاعلم أن فيه - فيما يظهر - إخلالاً كثيراً بأحكام هذا الجمع الذي هو فِعَال، ومخالفة لكلامه في التسهيل وكلام غيره من النحويين: فأما البناء الأول، وهو فَعْلٌ، فلم يستثنِ من القياس فيه إلا يائي العين، وأما في التسهيل فاستثنى شيئين: اليائيَّ العين، واليائيَّ الفاء

نحو يَعْرٍ، قالوا: يِعَار، وهو نادر، فلا يقال على قياسه في يَتْنٍ: يِتَان. بل نقول: لا يقال في كل ما كانت فاؤه ياء: على أي الأبنية كان، فيِقَاظٌ في / جمع يَقُظ أو يقظان نادر سماعاً، وإنما ذلك لثقل الكسرة على الياء، ولذلك يقول بعضهم: لم يأتِ في الكلام كلمة أولها ياء مكسورة إلا يِعَار ويِقَاظ خاصة. فالحاصل أن اليائيَّ الفاء لا يجمع على فِعَال بوجه، وكذلك لا يجمع أيضاً على فِعَل للعلَّة المذكورة. وظاهر إطلاق الناظم الجواز فيهما. وقد يجاب عنه بأن هذا لما كان نادراً وشاذاً في المفرد والجمع معاً لم يحتج إلى التنبيه عليه في الجمع لامتناعه لغة لا لامتناعه في الجمع خاصة. وأما البناء الثاني، وهو فَعْلَة، فعليه فيه من الاعتراض أنه أخرج من القياس ما كان منه معتل العين بالياء، لقوله بعد ما قدم فَعْلاً

وفَعْلَةَ: وقلَّ فيما عينه الياء منهما وإخراجه عن القياس غير مستقيم، وقد أدخله في القياس في التسهيل، ونبه عليه بقوله: "ولفَعْلَةَ مطلقاً" يعني سواءٌ أكان معتل العين بالياء أم لا، وكذلك يقول النحويون، قال سيبويه: "وإذا كسَّرْتَ فَعْلَةَ من بناء الياء والواو على بناء أكثر العدد كسَّرتها على البناء الذي كسَّرتَ عليه غير المعتل، وذلك قولك: عَيبة وعَيبات وعِياب، وضَيعة وضَيعات وضِياع، وروضة وروضات ورياض، وقوله: "على البناء الذي كسَّرتَ عليه غير المعتل" يعني نحو صَحفة وصِحاف، وقَصْعة وقِصَاع. هذا (ما) قال في الاسم، وكذلك ذكر في الصفة أن جميع ما لحقه الهاء من فَعْل يجمع على فِعَال نحو عَبْلَة وعِبَال، وغيره. ولم يستثن من ذلك يائي العين من غيره، فالظاهر أن هذا التقييد من الناظم جرى على وهمٍ لا على تحقيق، والله أعلم.

وأما البناء الثالث، وهو فَعَلٌ، فالاعتراض عليه من وجهين: أحدهما: أن ظاهر إطلاقه أن يكون قياس فِعَال فيه في الاسم والصفة معاً، إذ لم يقيد باسمية، ولأن ما قبله مطلقٌ في الاسم والصفة. ولم ير ذلك في التسهيل، بل قيد هذا الحكم بالاسمية فقال: "ولِفَعَلٍ اسماً غير مضاعف ولا معتل اللام". فأخرج الصفة عن هذا الحكم، وهنا أطلق القول، فكلامه منتقضٌ. والجواب عن هذا: أن كلامه في هذا النظم أجرى على كلام النحويين، فإنهم (في ذلك) يطلقون القول بالقياس في الاسم والصفة على الجملة، نص على ذلك سيبويه وغيره، وليس عندهم في ذلك / خلاف فيما أذكر الآن، وإنما الذي جاء مخالفاً لهم كلامه في التسهيل، ألا ترى كيف قال سيبويه في الصفة: "وأما ما كان فَعَلاً فإنهم يكسِّرونه على فِعَال كما كسَّروا الفعل، واتفقا عليه كما أنهما متفقان عليه في الأسماء" ثم مثَّل ذلك بِحسان وسِباط وقِطاط. وكذا قال غيره، فلا اعتراض على الناظم هنا.

والوجه الثاني من الاعتراض: إطلاقه القول في استثناء المضاعف في الاسم والصفة معاً، وأن فِعالاً فيه قليلٌ فيهما أو معدوم، وذلك ليس على إطلاقه، وإننما يصح ذلك في الاسم خاصة، حيث اقتصروا في تكسيره على أفعال نحو: فَنَن وأفنان، وطَلَل وأطلال، ولَبَب وألباب. فلم يجاوزوه كما لم يجاوزوه في الأقدام والأرسان سماعاً من العرب. وأما الصفة فظاهر كلام سيبويه أن فِعَالاً قياسٌ فيه، حيث أطلق في أن فَعَلاً يجمع على فِعَال، ولم يُقَيِّدْهُ بعدم تضعيف، بل أتى بمثال منه في قاعدة الجواز، وهو قَطَطٌ وقِطَاطٌ. فدل بظاهره القريب من النص أن المضاعف مع غيره في فِعَال سواءٌ في أنه قياسٌ، وهو أيضاً لم يستثن معتلاً من غيره. فظاهره أن فِعَالاً جارٍ في الجميع، وعليه يدل إطلاقه. وهو خلاف ما ذكره الناظم، ومثل كلام سيبويه يأتي كلام النحويين، وهو اعتراض ثالث على كلام الناظم. ووجه رابع من الاعتراض، وهو أنه استثنى اعتلال اللام بقوله: ما لم يكن في لامه اعتلال ولم يستثن اعتلال العين، فدل أنه عنده مما يجمع على فِعَال قياساً. وليس كذلك. وفَعَلٌ المعتل العين عند سيبويه وغيره على قسمين -

أعني الاسم دون الصفة -: أحدهما: أن يكون مذكراً نحو: تاجٍ وقاعٍ. وهذا إنما يجمع في الكثير على فِعْلان نحو: قِيعان وتِيجان. والثاني: أن يكون مؤنثاً كنارٍ وساقٍ. وهذا أيضاً إنما يجمع في الكثير على فُعْل نحو: نُورٍ وسُوقٍ. ولم يذكر أحد منهم - فيما رأيت - أنه يجمع على فِعَال. وعلى هذا السبيل جرى في التسهيل. وهو مخالف لغيره كما ترى. وأما البناء الرابع وهو فَعَلة، فإنه جعله في الحكم مثل فَعَل العديم الهاء، وقد تقدم له في فَعَلٍ حكمان، أحدهما: عموم فِعَال له اسماً كان أو صفة، والثاني: استثناء المعتل اللام والمضاعف. فأما الحكم الأول فصحيح؛ لأن "فَعَلة" في الصفة جمعها على فِعَال كحَسَنة وحِسَان. وأما الحكم الثاني فغير صحيح؛ لأنه لم / يستثن في كتاب التسهيل المضاعف ولا المعتل اللام، بل جعل فِعَالاً جمعاً له على الإطلاق، وسواءٌ أكان مضاعفاً أم لا، وسواءٌ أكان معتل اللام أم لا. وكذلك يقول غيره. وأما البناء الخامس، وهو فُعْلٌ، فعليه فيه اعتراضان: أحدهما: أن ظاهره جريان القياس فيه في الاسم والصفة معاً؛

إذ لم يقيد ذلك بالاسمية (ولا بالوصفية، فيجري في ظاهره على حكم ما تقدم. وذلك غير صحيحن وإنما يجمع قياساً الاسم لا الصفة، وقد قيده في التسهيل بالاسمية)، ولا بد من ذلك، لأن الصفة لا تجمع قياساً إلا بالواو والنون إن وجدت الشروط، أو بالألف والتاء. وأما التكسير فلم يكسر إلا قليلاً، حكى سيبويه: مُرٌّ وأمرار. فلا يصح هذا الإطلاق على حال. والثاني: أن الاسم أيضاً لا يقاس فيه فِعَالٌ هكذا مطلقاً، بل لا بد من اشتراط ألا يكون معتل العين، وألا يكون معتل اللام، فإنه إن كان معتل العين مثل: حوت وكوب وكوز لم يجمع على فِعَال أصلاً، وإنما يجمع على فِعْلان في الكثرة نحو: حيتان وكِيزان. وإن كان معتل اللام لم يجاوز أفعالاً نحو: مُدْيٍ وأمْداء، نصَّ عليه سيبويه وغيره، بل المؤلف في التسهيل في قوله: "ولاسمٍ على فِعْلٍ أو فُعْلٍ ما لم يكن كمُدْيٍ أو حوتٍ" فهذا إخلال كما ترى. وأما البناء السادس، وهو فِعْلٌ، فيرِدُ عليه مثل ما ورد على ما

قبله من الاعتراضين: أحدهما: أن ظاهره جريان القياس في الاسم والصفة. وليس كذلك، لأن سيبويه أخبر أنهم يقتصرون في الصفة على أفعال في القلة والكثرة، نحو جِلْف وأجلاف، ونِضْو وأنضاء. هذا هو الغالب في إلا ما شذَّ مما جاء على غير فِعَال، وأما فِعَال فمعدوم فيه رأساً فيما نقل. وقد تحرز منه في التسهيل فقيده بكونه اسماً كما تقدم نقله فوق هذا. والثاني: أن الاسم لا يجتمع على "فِعال" هكذا مطلقاً إلا الصحيح والمضاعف والمعتل اللام، وأما المعتل العين فعلي وجهين: معتل بالواو، ومعتل بالياء. فالمعتل بالياء بابه فُعُول لا فِعال كفُيُول ودُيُوك وجُيُود. ولا يقال: فِيَال ولا دِيَاك، إلا أن يُسمع. وقالوا في المعتل بالواو: ريح ورياح. ولم يقولوا: رُوُوح. / والعلة في ذلك أن العرب حكموا لهما بحكم فَعْلٍ، حيث خصُّوا بنات الياء بفُعُول، وبنات الواو بفِعَال كبُيُوت وحِيَاض. ولا أرتهنُ في المعتل بالواو أن فِعَالاً فيه فاشٍ في السماع، ولكنه قياسه. ولم يذكره سيبويه إلا في

مساق السماع فيما قد يظهر منه، لأنه قال: "وقالوا في فِعْلٍ من بنات الواو: رِيح وأرْواح ورِياح، ونظيره: أبْآر وبِئَار" ثم علل ذلك بمعنى ما تقدم آنفاً. وكلامه يحتمل، يمكن أن يُحمل محمل القياس، فلا يبقى على الناظم إلا المعتل العين بالياء، فكلامه فيه على غير وجهه. فهذه الأبنية فيها ما ترى من النظر، والله أعلم. *** وبفُعُولٍ فَعِلٌ نحو كَبِد يُخصُّ غالباً كذاك يَطَّرِدْ في فَعْلٍ اسماً مطلق الفا وفَعَلْ له وللفُعَالِ فِعْلان حصلْ وشاع في حوتٍ وقاعٍ مَعَ ما ضاهاهُمَا وقُلَّ في غيرهما فُعُولٌ: بناءٌ من أبنية الجمع، جعله في هذا النظم جمعاً لأبنية، قدم منه الكلام على فَعِل، فقوله: "وبفُعُول" متعلق بـ "يُخَص"، و "فَعِلٌ" مبتداٌ خبره "يُخَصُّ" وقدم معمول الخبر على المبتدأ على ما تقدم من عادته. ويعني أن فُعُولاً يُخصُّ به من المفردات فَعِلٌ - بفتح الفاء وكسر العين - فيكون فيه قياساً. ومعنى الاختصاص أنه لم يأت له في الكثرة إلا فُعُول، فلم يكسَّر على غيره كما كُسِّرَ غيره من

الأبنية. وإنما له في القلة أفعالٌ خاصة، وفي الكثرة فُعُول، وذلك لقلته في الأبنية - أعني فَعِلاً - فلم يجاوزوا ذلك فيه. وقوله: "نحو كَبِدْ" تمثيلٌ أحرز به شرطاً في جمع فَعِلٍ على فُعُولٍ، وهو أن يكون اسماً لا صفة، فإنه إن كان صفة لم يجمع على فُعُولٍ أصلاً. وإنما اقتصر به على أفعال نحو: نَكِدٍ وأنكاد، هذا إن كُسِّرَ، وهو قليلٌ، وإلا فالقياس فيه التصحيح لا التكسير. هكذا يقول سيبويه؛ لأن باب الصفات التصحيح، وباب الأسماء التكسير. فأما إذا كان فَعِلٌ اسماً فحينئذٍ يجمع على الفُعُول قياساً عند الناظم، وذلك قولهم: كَبِد وكُبُود، ونمر ونُمُور، ووَعِل ووُعُول، ونحو ذلك. واعلم أن الناظم في قياس هذا الجمع في فَعِلٍ مخالف في ظاهر أمره للنحويين من وجهين: / أحدهما: جعله إياه قياساً فيه، وليس كذلك عند غيره، بل هو موقوفٌ على السماع لقلته، وقلما يجاوزون به بناء أدنى العدد، وذلك أفعالٌ، فيقولون: أكبادٌ، وأنمارٌ، وأوعالٌ، وأكتافٌ. وهذا نقل سيبويه، والناظم صرَّح هنا وفي التسهيل بالقياس كما ترى.

والثاني: أن كلامه يعطى أن فعلاً في الكثرة يُخصُّ بفُعُول ولا يجمع على غيره عند إرادتها. وهذا ليس كذلك، لما نقله سيبويه من أن العرب يجمعونه على أفعال إذا أرادوا الكثرة، ألا تراه كيف قال: "وأما ما كان على ثلاثة أحرف وكان فَعِلاً فإنك تكسِّره من أبنية أدنى العدد على أفعالٍ". ولم يقل: تُكسِّره إذا أردتَ أدنى العدد، أو في أدنى العدد. قال: "وقلما يجاوزون هذا البناء". ثم ذكر ما نقل من تكسيره على فُعُول، وأن ذلك قليلٌ. فأنت ترى بناء الأقل قد أغنى عن بناء الأكثر، فلم يُخصَّ فُعُولٌ إذا بالدلالة على الكثرة في فَعِل لمشاركة أفعالٍ له في ذلك. وذلك خلاف ما يظهر من هذا النظم. والجواب عن الأول أن يقال: لعل ابن مالك استقرأ فيه من كلام العرب كثرة أدَّتْهُ على القول بالقياس، وله من هذا النحو في كتبه كثير.

وعن الثاني: أن الخصوصية المقصودة هنا إنما هي بالنسبة إلى جمعٍ آخرَ من جموع الكثرة، لا بالنسبة إلى ما يدل على الكثرة عند العرب، ولا شك أن فَعِلاً لم يأت له في الغالب مثلاُ كثرة إلا فُعُول، فكلامه صحيح. وقوله: "يُخَصُّ غالباً" نكَّتَ بالغلبيَّة على ما جاء من جموع الكثرة مشاركاً لفُعُول، وهو غير غالب، وذلك فِعَالٌ، فإنه قد جاء في فَعِلٍ قليلاً، قالوا: ظَرِبٌ وظِرابٌ. (والظَّربُ: ما نتأ من الحجارة وحُدَّ طَرَفُهُ، ونظيره من الصفات: طَرِبٌ وطِرَابٌ) أنشد سيبويه: حتى شآها كليلٌ مَوهِناً عَمِلٌ باتت طِرَاباً وبات الليل لم يَنَمِ وشاركه أيضاً قليلاً: فُعُلٌ، قالوا: نَمِرٌ ونُمُر، أنشد سيبويه: فيها عَيائيلُ أُسُودٌ ونُمُر وحرَّكَ الميم وأصلها السكون كأُسْدٍ. وتنبيهه بالغلبة على هذا أحسنُ في التحرز من إطلاقه في

التسهيل، إذ قال: "وانفرد - يعني فُعُولٌ - مقيساً بنحو كَبِدٍ". ولم يذكر المشاركة. فاعترض عليه شيخنا القاضي في عرض الجموع بأنه كان ينبغي له أن يذكر فَعِلاً فيما وقعت (فيه) المشاركة، فإنه قد ذكر في فصل فِعَال - يعني في التسهيل - أن فَعِلاً يجمع عليه، / قال: فوجه الصواب أن يكون من جنس ما شارك فيه فُعُولٌ فِعَالاً، وهو قياسٌ في فُعُولٍ، وسماعٌ في فِعَالٍ". فعبارته ها هنا أحسنُ. ثم قال: ... ... ... ... ... ... ... كذاك يطردْ في فَعْلٍ اسماً مطلق الفا ... ... ... ... ... ... " ضمير "يطَّرد" عائد على فُعُول، يعني أنه يطَّردُ أيضاً الجمع على فُعُول في فَعْلٍ ساكن العين، سواءٌ أكان مفتوحَ الفاء أم مضمومها أن مكسورها، وهو المراد بقوله: "مطلقَ الفا" أي: مطلقَ الفاء بالنسبة إلى الحركات. وقد انتظم هذا الإطلاق ثلاثة أبنية: فَعْلٌ، فِعْلٌ،

وفُعْلٌ، ولكن قيَّدها بالاسميَّة في قوله: اسماً"، فخرج بذلك فَعْلٌ وفِعْلٌ وفُعْلٌ إذا كانت صفات. أما فَعْلٌ - بفتح الفاء - إذا كانت اسماً فمثاله: نَسْرٌ ونُسُورٌ، وفهد وفهود، وكعب وكعوب، وفحل وفحول. وفي المضاعف: صَكٌّ وصُكُوكٌ، وبتٌّ وبُتُوتٌ. وفي المعتل: عينٌ وعُيُونٌ، وبيتٌ وبيوت، ودلو ودُليٌّ، وثَدْيٌ وثُدُيٌّ، ونحو ذلك. لكن المعتل تارةً يكون معتلَّ اللام، - وما قال فيه صحيحٌ - وتارةً يكون معتل العين، واعتلالها إما بالياء، وكلامه فيه صحيحٌ أيضاً، وإما بالواو، وكلامه في غير صحيح؛ لأن الواويَّ العين لا يجمع على فُعُول قياساً، لثقل الضم مع الواوات فعوَّضوا عنه فِعَالاً كثوب وثياب، وما جاء منه على فُعُول شاذٌّ، حكى سيبويه: "فَوْجٌ وفُئُوجٌ"، قال: "كما قالوا: نَحُوٌّ ونُحُوٌّ كثيرةٌ". قال: "وهذا لا يكاد يكون في الأسماء ولكن في المصادر". ثم بين علة ذلك بما تقدم معناه. فالناظم لم يستثن في فُعُولٍ ما عينه واو من فَعْلٍ، فلزمه الاعتراض لذلك. وأما إذا كان فَعْلٍ صفة ففُعُولٌ فيه غير قياس، وذلك نحو: كَهْل

وكهُول، وفسْل وفُسُول، وإنما بابه فِعَالٌ خاصة. وأما فِعْلٌ - بكسر الفاء - فمثاله عِدْل وعُدُول، وحِمْل وحُمُولن وجذع وجُذُوع، وعِذْق وعُذُوق، وعِرق وعُرُوق، وفي المضاعف: لِصٌّ ولُصُوصٌ. وفي المعتل نِحْيٌ ونُحِيٌّ. وما أشبه ذلك. وأما إذا كان صفة فلا يجمع على فُعُول ولا على غيره قياساً، وإنما يقتصر به على أفعال في القليل والكثير، قال سيبويه: "وجعلوه بدلاً من فُعُولٍ وفِعَالٍ". وأما فُعْلٌ - بضم الفاء - فمثاله: بُرْدٌ وبُرُودٌ، وجُنْدٌ / وجُنُودٌ، وبرج وبروج، وجرح وجروح. وظاهر هذا الكلام جريانه في المضاعف والمعتل العين والمعتل اللام، أما المضاعف فليس قياسه إلا فِعَالاً في الكثير، وقد جاء: خُصَّ وخُصُوص، وحُصٌّ وحُصُوصٌ،

ولكنه نادر، فكيف يجعله الناظم قياساً على ما اقتضاه إطلاقه. وقد استثنى في التسهيل المضاعف من فُعْلٍ فأخرجه عن كونه قياساً، ثم جعله من قبيل الشذوذات، وهو موافق هناك لغيره. وأما المعتل العين نحو حُوْتٌ ففُعُولٌ فيه معدوم أو شاذ إن كان، وإنما جمعه في الكثير على فِعْلان كما سيأتي على فُعُولٍ ولا فِعَال ... " إلى آخره. وقد تقدم نقل هذا قبل. وأما المعتل فانفرد به أفعالٌ كمُدْيٍ وأمداء. وقد تقدم أيضاً. فإطلاق الناظم في هذه المسألة وقع على غير احتراز كالفصل قبله. وأما إن كان صفةً فقد تقدم أنه قليل، وأنهم إنما جمعوه على أفعال، فلذلك قيده الناظم بقوله: "اسماً" ليخرج الصفة. ثم قال: "وفَعَلْ له". هذا البناء يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون راجعاً إلى حكم فِعْلان، كأن الكلام على فعول قد تم ثم ابتدأ الكلام على فِعْلان، ويعني أن بناء فِعْلان - بكسر الفاء - من جموع التكسير يكون قياساً لأبنيةٍ أحدها فَعَلٌ - بفتح الفاء والعين - هكذا رأيته مضبوطاً هنا، وفي التسهيل تكلم عليه أيضاً

وقاسه. وفيه من النظر ما أذكره إثر هذا إن شاء الله. ولم يقيد هذا النوع بقيد، ومثاله: خَرَبٌ وخِرْبانٌ، وبَرَقٌ وبِرْقانٌ، وشَبَثٌ وشِبْثَانٌ، وورَل ووِرْلان. وفي المعتل: فتًى وفِتيان، وقاع وقيعان، وساجٌ وسيجان، ونارٌ ونيران، ونحو ذلك. وسيذكر المعتل العين، لكن إطلاقه في هذا النوع غير معترض، وذلك أنه لم يقيده بكونه اسماً، فيفهم له أن هذا الحكم عام في الاسم والصفة، وليس كذلك، وإنما هو مختص بالاسم، وبذلك قيده في التسهيل، ولم يذكر غيره قياسه في الصفة أصلاً، بل هو فيه إما معدوم، وإما شاذ إن وجد. ووجه ثانٍ في هذا الإطلاقن وهو اقتضاؤه جمع جميع أصنافه من صحيح ومعتل ومضاعف. وليس / كذلك، بل هو في الصحيح وحده، أما المضاعف فبابه أفعال خاصة، وأما المعتل اللام فباباه فُعُولٌ لا فِعْلان، وإنما فِعْلانُ فيه قليل، وأما المعتل العين فقد ذكره إثر هذا، فهو الذي نبه على ما فيه وحده. ثم إن الناظم على مقتضى هذا التفسير ينازع في كونه جعل فِعْلان قياساً في فَعَلٍ، مع أن النحويين سيبويه وغيره إنما ظاهر

كلامهم أنه سماع لا قياس، لأنهم إنما يسوقونه مساق المنقول خاصة، قال سيبويه: "وما كان على ثلاثة أحرف وكان فَعَلاً فإنك إذا كسَّرتها لأدنى العدد فإنه يجيء على فِعَالٍ وفُعُولٍ". ثم قال: "وقد يجيء إذا جاوزوا أدنى العدد على فُعْلانَ وفِعْلانَ". فظاهر هذا المساق يقتضي أنه مسموع، وبذلك صرح غيره. لكن يجاب عن هذا الأخير بأنه مذهب له، ذكره في التسهيل، ولم يقيد أنه سماع بل أطلق القياس فيه، والخلاف ففي المسألة خلاف في شهادةٍ بشهرة السماع فيه حتى يصح القياس أو عدم شهرته فلا يقاس. ولا شك أن قول الجمهور أولى. والله أعلم. الاحتمال الثاني في تفسير كلام الناظم أن يكون فَعَلٌ في قوله: "وفَعَلْ له" راجعاً إلى فُعُول أولاً، كأنه قال: وفَعَلٌ ثابتٌ لفُعُول، يُجمع عليه قياساً، فيقال: أَسَدٌ وأُسُودٌ، وذكر وذكور، والقياس في هذا ذكره النحويون، إلا أن الاعتراض على إطلاقه بالصفة وارد على هذا التفسير أيضاً؛ إذ ليس فُعُولٌ في الصفة جمعاً لفَعَل، وإنما بابه فِعَالٌ كما تقدم بيانه.

وأما الاعتراض بالمعتل فيرد أيضاً على نوع آخر، وذلك لأن المعتل العين بابه فِعْلان كما سيذكره إثر هذا عند تمثيله بقاع، ففُعُولٌ غير داخل فيه. وكذلك المضاعف يرد عليه؛ إذ لا يجمع عل فُعُولٍ كما لا يجمع على فِعْلان، وإنما يصح كلامه في المعتل اللام. وأما الاعتراض عليه بمخالفة النحويين في التفسير الأول فلا يرد عليه في هذا التفسير، ولهذا لما كانت هذه الاعتراضات الثلاثة واردة عليه في كلا التفسيرين حملتهما كلامه، ولم أقتصر في شرح كلامه على أحدهما. ثم التحقيق في الموضع أنه إنما قصد هذا التفسير الثاني / لأنه قد عد بعد ذلك فَعَلاً على وجهين، معتل العين وغير معتلها، فالمعتل شائع مقيس، وهو الذي مثل بقاع، والصحيح قليل، وهو الذي أشار إليه بقوله: "وقل في غيرهما"، على ما يذكر إن شاء الله، وإذا كان كذلك تعيَّن هذا الثاني، وإنما ذكر الأول على حسب الفهم السابق لبادِي الرأين وعلى الثاني حمله ابن الناظم، إلا أنه استشعر من قوله: "وفَعَلْ له" أيضاً حيث أطلق القول فيه ولم يقيده باطرادٍ أنه محفوظٌ فيه. وما قاله خلاف الظاهر من كلام أبيه، فقد مر

له مواضعُ كثيرة، وتأتي أُخَرُ، لا يقيدها باطراد مع أنها مطَّردة، فما فسَّرَ به ضعيفٌ، والله أعلم. ثم قال: "وللفعال فِعْلان حَصَلْ" ... إلى آخره، من ها هنا ابتدأ حكمُ فِعْلانَ، فذكر له ثلاثة أبنية: البناء الأول: فُعَالٌ - بضم الفاء - يعني أنه يُجمع على فِعْلان قياساً ومثاله: غُرابٌ وغِرْبانٌ، وعقاب وعقبان، وغلام وغِلمان، وبُغاث وبِغثان، وخُراج وخِرجان. ولم يقيده بصحيح من غيره فيجري القياس، فتقول في المضاعف: ذُبابٌ وذِبَّانٌ، وفي المعتل: حُوارٌ وحِيرانٌ. وكذلك أيضاً لم يقيده بالاسم فيعطي أن الصفة كذلك أيضاً. وهو غير صحيح، وإنما ذلك في الاسم لا في الصفة كما تقدم تمثيله، وبذلك قيده في التسهيل، وإنما جمع فُعَال الصفة على فُعَلاء أو أفْعِلاء على تفصيل يذكره الناظم بعد في فَعِيلٍ، وإن كان لم يذكره في فُعَالٍ ولم ينبه عليه، لأن فَعِيلاً وفُعالاً أخَوان يجريان في الصفة مجرًى واحداً. البناء الثاني: فُعْلٌ إذا كان معتل العين، وهو الذي نبه عليه بالمثال في قوله: "وشاع في حُوتٍ"، أي: فيما أشبه هذا المثال،

وجمع ما جمع من الأوصاف، ولذلك قال بعد ذكر "قاعٍ": وما ضاهاهما، أي: وما أشبههما في أوصافهما. والذي جَمَعَ حوتٌ من الأوصاف ثلاثةُ أوصاف: أن يكون معتل العين، وأن يكون اعتلاله بالواو، وأن يكون اسماً لا صفة. وأما كونه اسماً فلأنه إن كان صفة فهو قليلٌ، ولم يتوسعوا في جمعه بغير الواو والنون، وإنما جمعوه على أفعالٍ، وقد تقدم ذلك /. وأما كونه معتل العين فلأنه إن كان صحيحها لم يجمع على "فِعْلان" قياساً، وإنما جاء بالسَّماع كما سيذكر إذا نبه عليه إن شاء الله. وأمَّا كونه معتل العين بالواو فلأنه إن كان معتلاً بالياء لم يجمع قياساً على ذلك. فإن قيل: وأن يُتصور أن يكون فُعْلٌ عينه ياءٌ؟ فالجواب: أن سيبويه لما تكلَّم على فِعْلٍ - بكسر الفاء - وذكر فيه المعتل العين من ذوات الياء نحو مِيْلٍ وأميال، وفيل وأفيال، وجيد وأجياد، وذكر أحكامه في الجمع على أنه فِعْلٌ، جوز أن يكون فُعْلاً بالضم، لكن العرب قلبت ضمة الفاء كسرة لتصبح الياء التي هي ياء، كما فعلوا ذلك في بِيْضٍ جمع أبيض؛ لأن أصله بُيْضٌ على فُعْلٍ كحُمْرٍ وصُفْرٍ، فصُيِّرَ إلى بِيْضٍ. قال سيبويه: "فيكون فُيُول

ودُيُوك بمنزلة - خُرْج وخُرُوج، بُرْج وبُرُوج، ويكون فِيَلة بمنزلة - خِرَجَة وجِحَرَة، يعني في أن الجمع لفُعْلٍ لا لِفِعْلٍ. وأبو الحسن يخالف في هذا، ويأبى أن يكون دِيكٌ وفِيلٌ ونحوه إلا فِعْلاً - بكسر الفاء - إذ لا يجوز عنده ذلك الاعتلال الذي ذكره سيبويه إلا في الجمع خاصة كبِيْضٍ، فلو بنيتَ فُعْلاً من البيع قلت على مذهب سيبويه: بِيْعٌ، وعلى مذهب الأخفش: بُوْعٌ، وموضع بسط هذا التصريف. والتفريع هنا على مذهب سيبويه، وإن بنيتَ على مذهب الأخفش وهو الذي يظهر من الناظم في التصريف فيكون هذا القيد معيناً لمحل السماع لا مخرجاً لشيء. وهذا أيضاً صحيحٌ من التقييد. والحاصلُ أن الناظم تحرز بالمثال من اليائي العين وُجِدَ أو لا، لأن حكمه على ما فرع عليه سيبويه حكم فِعْلٍ، وفِعْلٌ لا يجمع قياساً على فِعْلان. فإذا اجتمعت الأوصاف الثلاثة قيس جمعه على فِعْلان نحو: حُوْتٍ وحِيتان، وهو مثاله، وعُودٍ وعِيدان، وكُوزٍ وكِيزان، وغُولٍ وغِيلان، ونُونٍ ونِينانٍ. فرقوا بينه وبين فُعْلٍ من اليائيِّ أن جمع الذي من الياء على فُعُولٍ، وجمع هذا على فِعْلان، كما فرقوا بين فِعْلٍ من الياء وفِعْلٍ من الواو، فجمعوا ذا الواو على فِعَال، وذا الياء على فُعُولٍ. هذا تعليل سيبويه، وهو حسَنٌ.

البناء الثالث: فَعَلٌ إذا كان معتل العينن وهو الذي أشار إليه / تمثيله بقاعٍ - والقاعُ: المستوي من الأرض، وعينه واو لقولهم في الجمع: أقواعٌ - ومعنى كلامه أن شاع أيضاً بناء فِعْلان جمعاً لما كان نحو قاعٍ، والشياع هنا يريد به الشياع الذي يقاس عليه، لا أنه يريد به التنبيه على الكثرة مع التوقف عن بلوغه مبلغ القياس، لأنه كثير جداً بحيث لا يتوقف في القياس عليه. ونبَّه بالمثال على أوصاف إذا اجتمعت في فَعَلٍ كان الجمع قياساً، وهي: أن يكون اسماً لا صفة، وأن يكون معتل العين، وأن يكون اعتلاله بالواو لا بالياء، وأن يكون مذكراً لا مؤنثاً. أما كونه اسماً لا صفة فلأن الصفة لا تجمع على ذلك، وقد تقدم التنبيه على هذا. وأما كونه معتل العين فلأنه إن كان صحيحها لم يجمع كذلك قياساً، وسواء أكان معتل العين اللام أم مضاعفاً أم لا، وما جاء بخلاف هذا فقليل، كما نبه عليه إثر هذا. وأما كونه معتلاً بالواو فلأنه إن كان معتلاً بالياء لم يجمع على "فِعْلان" وإنما يجمع على فُعُولٍ، أي ثبت له قياس نحو: نابٍ ونُيُوبٍ، وكأنهم جعلوا "فِعْلانَ" في ذوات الواو عوضاً من فُعُول لثقله، كما فرَّقوا في فُعْلٍ المتقدم. وأما كونه مذكراً فلأنه إن كان

مؤنثاً لم يكن ليجمع قياساً على فِعْلان، وإنما كثر فيه فُعْلٌ نحو: دارٍ ودورٍ، وساقٍ وسُوقٍ، ونحو ذلك. فإذا اجتمعت هذه الأوصاف شاع القياس فتقول في قاع: قيعان، وفي تاج: تيجان، وفي غار: غِيران، وفي جار: جيران، وفي ساج: سِيجانٌ، وما أشبه ذلك. والمضاهاة معناها لغة: المشاكلة، يقال: ضاهيت - بغير همز - وعليه كلام الناظم. ويقال: ضاهأت - مهموزاً أيضاً - وعليه القراءتان: {يضاهُونُ قولَ الذينَ كفروا} وهي قراءة من عدا عاصماً، وقرأ عاصم: {يضاهِئونَ}. والمعنى واحد فيهما. وقوله: "وقلَّ في غيرهما". الضمير راجع إلى حُوتٍ وقاعٍ وشبههما. يعني أن "فِعْلان" قَلَّ في غير هذين المثالين المقيدين وما كان مثلهما كالصحيح على فُعْلٍ أو فَعَلٍ أو معتل اللام، أما في / فُعْلٍ فقالوا: حُشٌّ وحِشَّانٌ. وأما في فَعَلٍ ففيه كثرة، قالوا: شَبَثٌ

وشِبْثانٌ، وخَرَبٌ وخِربان، وبَرَقٌ وبِرْقان، ووَرَلٌ ووِرْلانٌ، وفتى وفتيان. وفي المؤنث: نارٌ ونيرانٌ، ودارٌ ودِيران وقالوا: حائطٌ وحِيطان، وظَليم وظِلمان، وخروف وخرفان، وصِنْوٌ وصِنوان، وقِنْوٌ وقِنْوانٌ. وقد تحصَّل من كلامه أنه وافق الجماعة في أن فِعْلان لا يقاس في فَعَلٍ مطلقاً، وإنما يختص قياسه بما خصَّه به، خلافاً لما ذكر في التسهيل من القياس مطلقاً؛ إذ قال: "ومنها فِعْلانُ لاسمٍ على فُعَلٍ أو فُعَالٍ أو فَعَلٍ مطلقاً، أو فُعْلٍ واويَّ العين" فلم يقيد فَعَلاً بما قيده به هنا وجعلها شائعاً، ولا شك أن فيه كثرة ولكن لا تبلغ عندهم غيرها، فما ذهب إليه هنا أسَدُّ مما ذهب إليه هنالك. *** وفَعْلاً اسماً وفَعِيلاً وفَعَلْ غيرَ مُعَلِّ العين فُعْلانُ شَمَا فَعْلاً: منصوب على المفعولية بقوله آخراً: "شَمَل"، أي: شمل فَعْلاً وكذا وكذا. ومعنى شَمَلَ: عَمَّ، تقول: شَمَلَهم بالعطاء أو بالدعاء: إذا عمَّهم به. فلا يكون إلا في متعدِّد. واللغة الشُّهرَى فيه

شَمِلَ - بالكسر - يَشْمَلُ. وفيه لغة ثانية: شَمَلَهُم - بالفتح - يَشمَلُهُم - بالضم - ولم يعرفها الأصمعي فيما قالوا. ويحتمل أن يكون الناظم أتى بشَمَلَ على هذه اللغة، لأن الأخرى يلز فيها السِّنادُ على مذهب الخليل، وذلك باختلاف بالتوجيه، وهي حركة ما قبل الرَّويِّ المقيد، والمنع هنا أشد؛ لأنه فتح مع كسر، وقد أجاز ذلك بعض أهل القوافي، فعليه يمشي كلام الناظم إن كان أتى بشَمِلَ من أبنية المفردات أن يجمع عليه قياساً ثلاثة أبنية: فَعْلٌ - بفتح الفاء وفَعِيلٌ، وفَعَلٌ - بفتح الفاء والعين -، فأما فَعْلٌ فقيَّده بالاسمية فلا يكون عنده قياساً في الصفة، فلا تقول في كَهْلٍ: كُهْلان، ولا في صَعْبٍ: صُعْبَان، إلا ما ندر كقولهم: وَغْدٌ ووُغْدانٌ. وإنما يجمع على فُعْلان الاسم فتقول في ظَهْرٍ: ظُهْران، وفي بَطْنٍ: بُطْنَانٌ. وفي تَمْرٍ: تُمْرانٌ، وفي عَبْدٍ: عُبْدان. وهو أيضاً لم يقيد بصحة واعتلال، فيجري حكمه في الصحيح / (كما مثَّل، وهو صحيح) وفي المعتل

والمضاعف أيضاً، وهو غير صحيح؛ فإن المعتل العين بالواو بابه في الكثير فِعَال، وهو قليل في ذي الياء والكثير فيه فُعُولٌ. وقد تقدم ذلك. وكذلك في المضاعف، ولم أر من ذكر في المعتل هنا فُعلان لا قياساً ولا سماعاً، وإنما حُكي في ذي الواو فِعْلان - بكسر الفاء - نحو: ثَورٍ وثِيرانٍ، وقَوْزٍ وقِيزَانٍ. فهذا الإطلاق فيه ما ترى! . وأما "فَعيِلٌ" فداخل تحت قيد الاسمية، لأنه عطفه على فَعْلٍ، وهو مقيد. وكذلك فعَلَ في التسهيل - أعني أنه قيَّده بالاسمية - وهو صحيحٌ، فإنه إذا كان صفة لم يجمع على فُعْلان قياساً، فإن جاء منه شيءٌ فمسموعٌ، وذلك نحو: ثِنِيٍّ وثِنْيانٍ، وشَجيعٍ وشِجعانٍ، وبعيدٍ وبُعدانٍ، وقريبٍ قِربانٍ، (يقال: فلانٌ من بُعدانِ الملك أو من قربانه). فإذا كان اسماً جاز القياس، سواءٌ أكان معتلاً أم مضاعفاً أم لا، فتقول: رُغيفٌ ورُغفانٌ، وقضيبٌ وقُضبانٌ، وكثيب وكُثبانٌ، وصليبٌ وصُلبان، وعسيبٌ وعُسبان، وجريبٌ وجُربانٌ. وفي المعتل:

سَرِيٌّ وسُريانٌ، وقَرِيٌّ وقُرْيانٌ. وفي المضاعف: حَزِيزٌ وحُزَّانٌ. وأما فَعَلٌ فداخل أيضاً تحت قيد الاسمية لعطفه على ما هو مقيد بها، ونص على ذلك في التسهيل أيضاً، فلو كان صفة لم يجز جمعه على فُعْلان، فإن جاء من ذلك شيء فهو موقوفٌ على محله، قالوا: ثوبٌ خَلَقٌ وجمعوه على خُلْقان. وقالوا: جَذَعٌ وجُذْعانٌ. وأما الاسم فهو الذي له هذا الجمع لكن شَرَطَ فيه زيادة على الاسمية صحة العين، وذلك بقوله: "غيرَ معتلِّ العين". وهو حالٌ من "فَعَل" وحده، أي: شِمَل هذا الجمع فَعَلاً حال كونه غيرَ معلِّ العين، فلو اعتلَّت عينه فلا يجمع هذا الجمع، لأنه إن كان مذكَّراً فقد ثبت له فِعْلان كما تقدَّم، وإن كان مؤنثاً فإنما له فُعْلٌ. وقد مر أيضاً هذا،

فإذا صحت العين فحينئذ يسوغ القياس، فتقول: حَمَلٌ وحُمْلانٌ، وسَلَقٌ وسُلْقانٌ، وذَكَرٌ وذُكْرانٌ، ونحو ذلك. وما قاله في فَعَلٍ من القياس هو قوله في التسهيل، وغيره يجعله سماعاً، وقد جعله / سيبويه في طبقة فِعْلان في الصحيح، إذ قال منبهاً على قلتهما: "وقد يجيء إذا جاوز أدنى العدد على فُعْلانَ وفِعْلانَن فأما فِعْلانُ فنحو: خِربانٍ وبِرقانٍ ووِرلانٍ، وأما فُعْلانَ فنحو: حُمْلانٍ وسُلْقانٍ". فمن الغريب كونُ الناظم فرَّقَ بينهما فجعل فِعْلانَ سماعاً حين قال قبل هذا: "وقلَّ في غيرهما" وجعل فُعْلانَ قياساً، فكان الأولى أن يعتمد على رأيٍ واحد فيهما، إما إجراءُ القياس كما فعل في التسهيل، وإما بالوقوف عندما سُمِعَ كالجماعة. فهذا اضطرابٌ، إلا أن يكون استقرأ في فُعْلانَ كثرةً لم يجدها في فِعْلانَ. وهذا بعيدٌ، والله أعلم. ***

ولِكَريمٍ وبخيلٍ فُعَلا كَذَا لِمَا ضاهاهُمَا قد جُعِلا وناب عنه أفعلاءُ في المعَل لاماً ومُضْعَفٍ وغيرُ ذاك قَل يعني أن فُعَلاء الممدود بناءُ جمعٍ جُعِلَ لما كان من الصفات على شاكلة كريمٍ وبخيلٍ ونحوهما، فهو جمعٌ لذلك في القياس، وذلك أن هذين المثالين يعطيان بقوتهما التنبيه على ما كان من المفردات صفة لمذكر عاقل على فَعيلٍ بمعنى فاعِلٍ. فهذه خمسةُ أوصاف، وينضاف إليها كون تلك الصفة صحيحة اللام غير مضاعفة، وذلك من قوله إثر هذا: وناب عنه أفعلاءُ في المعل لاماً ومضعف ... ... ... فالجميع سبعةُ أوصاف: أحدها: أن يكون صفة، فإنه إن كان اسماً فقد تقدَّم حكمه قبل هذا الفصل، وأنه فُعْلانُ. والثاني: أن تكون تلك الصفة لمذكر، فإن كانت لمؤنث نحو: كريمةٍ وبخيلةٍ، فقياسها الجمع على فَعَالٍ وفعائِلَ، كما تقدم، وكما سيُذكر إن شاء الله. والثالث: أن يكون المذكر عاقلاً، فإنه إن كان غير عاقل لم يجمع هذا الجمع، فلا يقال في نحو كبشٍ سمينٍ: سُمَناءُ، ولا في

هزيل: هُزَلاءُ، ولا نحو ذلك. والرابع: أن تكون الصفةُ على فَعِيلٍ، فإنها إن كانت على غير فَعِيلٍ لم يكن فيها فُعَلاءُ قياساً، كفاعلٍ مثلاً في قولهم: شاعِرٌ وشُعَراءُ، وعالمٌ وعُلَماءُ، هكذا يجمعَ من يقول: عالِم، على ما نبه عليه سيبويه، وأمثلة غير هذه ينبه عليها إثر هذا إن شاء الله عند قوله: "وغير ذاك قَلّ". والخامس أن يكون فَعِيلٌ بمعنى / فاعِل، وهو الذي يدل عليه المثالان، فإنهما بمعنى فاعِلٍ، فلو كان بمعنى مفعولٍ لم يجمع هذا الجمع، بل قد تقدم حكمه التي تُذكر إثر هذا. والسابع: كونها غير مضاعفة، فإن ضوعِفت لم تجمع على فُعَلاء قياساً. ولا بد مع هذا من وص ثامنٍ معتبر له ينبِّه عليه هاهنا، وإنما نبه عليه قبل هذا، وهو كون الصفة صحيحة العين، فإن المعتلة العين مختصة بفِعَال نحو: طَوِيلٍ وطِوَالٍ، وقويمٍ وقِوَامٍ. وذكر ذلك في

فصل فِعَال فلم يحتج إلى التنبيه عليه. فإن قلتَ: هو وإن ذكره هناك فلا يبعُدُ أن يفهم له حصول الجمعين لمعتل العين: فِعَالٌ وفُعَلاءُ، كما كان ذلك في أمثلة كثيرة كفَعْلٍ وفِعْلٍ وفَعَلٍ ونحو ذلك. وإذا كان هذا موهِماً كان مشكِلاً، لأن المعتل العين مقتصر على فِعَالٍ خاصَّةً، نص على ذلك سيبويه وغيره. فالجواب: أن الناظم قد بيَّن اختصاصه بفِعَالٍ إذ قال: ... ... ... والزمْهُ في نحوُ طويلٍ وطويلةٍ تَفِي فلا اعتراض عليه، فأما إذا استُوفيت الأوصاف فيجوز الجمعُ فتقول: كريمٌ وكُرَماءُ، وظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، وفقيهٌ وفقهاء، ونبيهٌ ونُبَهَاء، وفقير وفقراء، وبخيل وبخلاء، وحليم وحُلَمَاء، ونحو ذلك. وقوله: كذا لما ضاهاهُمَا قد جُعِلا يعني أن فُعَلاءَ قد جُعِل أيضاً لما شابه كريماً وبخيلاً في أوصافه المتقدمة، وفسَّرهُ ابنُ الناظم بمعنى آخر، وهو أن قال: "وكثُرَ - يعني فُعَلاء - فيما دلَّ على مَدح أو ذَمِّ كعاقلٍ وعُقَلاءَ، وصالحٍ وصُلَحَاءَ،

وشاعرٍ وشعراء". قال: "وإلى هذا الإشارة بقوله: كذا لما ضاهاهُمَا قد جُعَلا" يعني أن نحو صالحٍ وعاقلٍ وشاعرٍ مشابهٌ لنحو كريمٍ وبخيلٍ في الدلالة على معنًى هو كالغزيرة". قال: "فهو كالنائب عن فَعِيلٍ فلهذا جرى مجراه". (هذا ما قاله ابن الناظم)، فالمضاهاة عنده ليست في الأوصاف اللفظية، وإنما هي من جهة المعنى. وجرى بهذا التفسير على طريقة أبيه في التسهيل حيث قال: "وحمل عليه - يعني على فَعِيلٍ المذكور - خَلِيفةٌ، وما دل على سجيَّةِ حَمْدٍ أو ذمٍ من فَعَالٍ / أو فُعَالٍ أو فاعل" ومثال ذلك: جَبَانٌ وجُبَنَاءُ، وشجاعٌ وشُجَعَاءُ، وصالحٌ وصُلَحَاءُ. وهو تفسيرٌ صالح إلا أنه يبقى فيه صحة القياس في هذا المحمول. فإن أراد الناظم بقوله: "قد جُعِلا" يعني قياساً، فليس كذلك إلا في فُعَالٍ المضمومِ الفاء من

حيث هو مرادفُ فَعِيلٍ، تقول: طويلٌ وطُوالٌ، وخفيفٌ وخُفَافٌ، وبعيدٌ وبُعَادٌ، وشجيعٌ وشجاعٌ، وكبيرٌ وكُبَارٌ، وعجيبٌ وعُجَابٌ. قال سيبويه: "وفُعَالٌ بمنزلة فَعِيلٍ لأنهما أختان". وأما فاعلٌ ففُعَلاءُ فيه قليلٌ عند سيبويه وغيره. وأما فَعَالٌ فهو عندهم مما ندر فيه فُعَلاءُ، فكيف يجعل مثل هذا قياساً؟ ! فالظاهر إن كان أراد ما قاله ابنُهُ أنه يريد ما جاء مسموعاً، وإلا فيقع البحث فيما قال، فلا يتخلص كلامه عن الاعتراض، فتأمل ذلك. ثم في هذا التمثيل نظرٌ من وجهين: أحدهما: أنه أتى بمثالين مماثلين يفيدان مقصوداً واحداً، وهو متحر للاختصار كما مر في أثناء الشرح، فكان الأولى به أن يقتصر على أحدهما لإفادته المقصود وحده. والثاني: أنه ترك من فَعِيلٍ المجموع قياساً على فُعَلاء ما كان بمعنى مُفعَلٍ وبمعنى مفاعِلٍ، وكل واحد منهما عنده يقاس فيه، نص

على ذلك في التسهيل، فمثال مُفْعِلٍ: نَبِيءٌ - على لغة مَن هَمَزَ - وجمعُهُ: نُبَآء، قال الشاعر: يا خاتم النُبَآءِ إنكَ مرسلٌ بالحقِّ كل هدى السَّبيلِ هُدَاكا ومثال مُفاعِلٍ: نديمٌ ونُدَماءُ، وجليسٌ وجُلَساءُ، وخليطٌ وخُلَطاءُ. وهذان لا يدخلان تحت تمثيله بكريم وبخيل، إذ ليس واحد منهما بمعنى مُفْعِلٍ ولا بمعنى مُفاعِلٍ، وإذا كان كذلك كان تطويلُهُ بالمثال الثاني تقصيراً. وهذا الاعتراض الثاني إنما هو مبني على الأول في القصد، فإن كثيراً من الجموع يجمع عليها ما لم ينبَّه عليه، ويكون ذلك قياساً إما عنده على ما نص عليه في التسهيل اختياراً له، وإمَّا عند غيره. وإذا تتبَّعْتَ ذلك في كلامه وجدتَه، ولم أكن لأُورِدَ عليه الاعتراض بما نقصه من ذلك لكون هذا المختصر لا يحتمله، إذ لا يتأتى فيه الاستيفاء، ولا قصد الناظم ذلك، وإنما جيء بالاعتراض هنا / بالنقص من جهة أنَّه كان قادراً على أن يأتي بمثالٍ وكان المثال الثاني يشير به إلى معنى مُفْعِلْ أو إلى معنى مُفاعِلٍ، فيقول: "ولِكَرِيمٍ

ونَبِيءٍ"، أو يقول: "ولِكَريمٍ وجَلِيسٍ" فيعطى زيادةَ معنًى وتمامَ فائدةٍ. ثم قال: وناب عنه أفْعِلاءُ في المعل لاماً ومُضْعَفٍ ... ... ... ... يعني أن أفعِلاءَ من أبنية الجمع نابَ عن فُعَلاء في موضعين: أحدهما: حيث كان لامُ فَعِيلٍ الصفةِ معتلاً، وذلك قوله: "في المعلِّ لاماً" ولاماً: منصوبٌ على التمييز المنقول من الفاعل، وأصله: المعلِّ لامُهُ. فتقول في وليٍّ: أولياء، وفي نبيٍّ: - عند من لا يهمز -: أنبياء، وفي سَرِيٍّ: أسرياء، وفي صفيٍّ: أصفياء، وفي غنيٍّ: أغنياء. وفي غويٍّ: أغوياء. وما أشبه ذلك. وإنما نابَ أفعلاءُ هنا عن فُعَلاءَ لأنهم مما يكرهون تحرك حروف العلة وقبلها فتحةٌ، ولذلك كان حكمها ألا تبقى على حالها، وأن تقلب ألفاً على ما يتبيَّن في التصريف إن شاء الله، مع أن لهم مندوحةً عن ذلك، وهو الجمع على أفْعِلاءَ، فاقتصروا عليه. هذا معنى تعليل سيبويه، ولأجل التنبيه على هذه العلة أتى الناظم بلفظ النيابة؛ إذ كانت النيابة تؤذن بعلةٍ لأجلها تُرِكَ الأصل، وهو ما ذُكِرَ. الموضع الثاني من موضعي النيابة: المضاعف، وهو الذي أراد

بقوله: "ومُضْعُفٍ". فأتى به من "أضْعَفَ". وعادةُ النحويين الإتيان به من "ضاعَفَ" وإنما خلافهم للضرورة، مع أن المعنى فيهما واحدٌ، يقال: ضَعَفْتُ الشيء وأضعفتُهُ، وضاعفتُهُ، بمعنى. فإذا كان فَعِيلٌ مضاعفاً - أي: متماثل العين واللام - فإنه ينوب فيه أفْعِلاءُ عن فُعَلاءَ، فتقول: شديدٌ وأشِدَّاءُ، وشحيحٌ وأشحَّاءُ، وعزيزٌ وأعزَّاءُ، ولبيبٌ وألبَّاءُ، وحبيبٌ وأحِبَّاءُ، وطبيبٌ وأطبَّاءُ" ونحو ذلك. ووجه الهروب عن فُعَلاءَ أنهم كرهوا فُعَلاءَ لاجتماع المِثلين لو قالوا: شُدَداءُ وشُحَماءُ، وعُزَزاءُ، ولا يمكن إدغامه ليخفَّ اللفظ به، لأنه فُعَلٌ، وفُعَلٌ ليس على وزن الفعل كدُرَرٍ وطُرَرٍ وقُلُلٍ. فإن قيل: لعل هذا حكمٌ مختص بالثلاثي غير المزيد - أعني امتناع الإدغام - بخلاف المزيد فإنه يمككن فيه الإدغام، وإنما المانع المحقق أنهم لو قالوا في المضاعف /: فُعَلاءٌ لكان يصير إلى مثال ما ينصرف، لأنه ليس في الكلام فُعَلاءُ إلا مصروفاً، فعدلوا عنه، لأنهم لو

جمعوه على فُعَلاءَ للزم الإدغام وسكون الحرف الأول من الحرفين فتقول: شُدَّاءٌ، فيأتي على مثال ما ينصرف، فيلزمُ صرفه. فالجواب: أنَّ هذا التعليل علَّلَ به ابن خروف، وليس بتعليل سيبويه، وإنما تعليلُ سيبويه ما تقدم من كراهية التضعيف. وكذلك قال السيرافي: أنهم رهوا فُعَلاءَ لتكرير حرف غير مدغم، وبه يلزم لو جمع على شُدَدَاءَ، وهو مستثقلٌ. وردَّ ابنُ الضائع تعليلَ ابن خروف وزعمه أن الإدغام يجب بأنه فُعَلٌ، وفُعَلٌ لا يُدغم. وأجاب عن الاختصاص بالثلاثي بأن سيبويه قد نص على أنك لو بنيت فُعَلانَ من رددتُ لقلتَ: رُدَدَان ولم تدغم، قال: لأنه فُعَلٌ زيدت عليه الألف والنون. قال: والدليل على ذلك قولهم: خُشَشَاءُ. قال ابن الضائع: وهذا نصٌّ في محل النزاع. قال: فهذه سقطةٌ من ابن خروف؛ لأنه خالف العرب والإمام. قال: وكأنه أراد أن يغرب بذلك التعليل فوقع كما ترى. ثم قال الناظم: "وغيرُ ذاك قَلَّ" ذاك: إشارة إلى جميع ما تقدم في أفْعلاء وفُعَلاءَ، فنرجع عليه بالتنقير فنقول: أما ما خالف قيد الوصفية فقولهم: نَصِيبٌ وأنصِبَاءُ. وقلَّته من

وجهين، من هذا، ومن كونه غير معتل اللام ولا مضاعف، جُمِعَ على أفعِلاء. وأما ما خالف قيد الوزن فقولهم: هَيِّنٌ وأهْوِنَاءُ، وكذلك: سَمْحٌ وسُمَحاء، وخِلْم - بالخاء المعجمة - وخُلَماء، ورسولٌ ورُسَلاء، ووَدُودٌ، وُدَدَاءُ، وحَدَثٌ وحُدَثَاء. وقد تقدم في ما نحو شاعر وشعراء، وعالم وعلماء، وجبان وجبناء، وشُجَاعٍ وشُجَعَاء، وبُعادٍ وبُعَدَاءَ. وأما ما خالف قيد كونه بمعنى فاعلٍ فقولهم: أسيرٌ وأُسَراءُ، وظَنينٌ - بالظاء المشالة - وأظِنَّاء. وفي هذا أيضاً ما يقتضي أن فَعِيلاً بمعنى مُفْعَلٍ أو مفاعل سماعٌ. وهو خلاف ما ذكر في التسهيل، والظاهر أنه قياس كما قال هنالك. وقد يقال: إن الاعتراض بالذي في معنى مفاعل لا يلزم؛ لأنه راجع إلى معنى فاعل. / وأما إذا كان بمعنى مُفْعَلٍ فهو قليل فلم يعتبره، ويكون تكراره للمثال أولاً في قوله: "ولِكَريمٍ وبخيلٍ" تنبيهاً على أن الاقتصار على ذلك المعنى وحده مقصود لرجوع ما كثر إلى معنى فاعلٍ، ولإخراج معنى مُفْعَلٍ

عن القياس، ويكون هذا حسناً من التوجيه لكلامه؛ إذ قد تقدم في بعض مواضعَ من هذا الشرح التنبيهُ على أن الناظم يقصد الإتيان بما ظاهره التكرارُ أو الحشو لفائدة كما تقدم في باب الإضافة في قوله في الإضافة غير المحضة: كَرُبٌ راجينا عظيم الأملِ مُرَوَّعٌ القلبِ قليلُ الحِيَلِ وأما ما خالف قيد التذكير فقولهم: : خليفةٌ وخُلَفاءُ، قال سيبويه: "من أجل أن لا يقع إلا على مذكَّر، فحملوه على المعنى، وصاروا كأنهم جمعوا "خَلِيفٌ" حيث علموا أن الهاء لا تثبت في تكسير". وقد جمع الشاعر بين خليفة وخليف، أنشد الفارسي لأوسٍ: إن من القوم موجوداً خليفتُهُ وما خليفُ أبي ليلى بموجودِ لكن هذا في غير الخليفة المشهور. وقالوا: فقيرةٌ وفُقَراء، وسَفيهةٌ وسُفَهاء. وأما ما خالف قيد العقل فلا أعرف الآن له مثالاً. وأما ما خالف قيد صحة اللام فقولهم: تقيٌّ وتُقَواءُ، حكاه

السيرافي، وهو نادر، قال: "ولشذوذه غيَّره"، والأصل: تُقَياءُ. قال ابن الضائع: لأنه من وقيت. وحكى الفراء: سَرِيٌّ وسُرَوَاءُ، وقال: سَخِيٌّ وسُخَوَاءُ. وأما ما خالف قيد عدم التضعيف فلا أعلم الآن له مثالاً. وكذلك ما خالف قيد صة العين. وأما ما خالف قيد اعتلال اللام في أفْعِلاءَ فقولهم: نِصِيبٌ وأنصِبَاءُ، - وقد تقدم - وصديقٌ وأصدقاءُ، وهما أيضاً مثالان لما خالف قيد التضعيف في أفعلاء، فإن المثالين غيرُ مضاعفين ولا معتلَّي اللام،

فحصلت النيابةُ لأفعِلاءَ عن فُعَلاءَ لغير علة كما أنهم بَقَّوا على الأصل من غير نيابة في المعتل اللام في نحو: تُقَوَاءَ. وقد أنابوا أيضاً أفعِلاءَ في الصحيح في قولهم نبيءٌ - بالهمز - (وأنبياء) وهي قراءة نافع، وذلك مطردٌ في جميع القرآن، ولكنه لفظ واحد، فلا يخرجه ذلك عن كون الجميع / على أفعلاء في الصحيح قليلاً. *** فَوَاعِلٌ لِفَوعَلٍ وفاعَلٍ وفاعلاءَ مَعَ نحو كَاهِلِ وحائضٍ وصاهلٍ وفاعِلَهْ وشذَّ في الفارسِ معْ ما مثَلَهْ ذكر هنا فواعِلَ وما يجمع عليه من المفردات، وذلك فَوعَلٌ، وفاعلٌ المفتوحُ العين، وفاعلاءُ، وفاعلٌ اسماً وصفةً على تفصيل، يعني: أنَّ هذه الأبنية تجمع قياساً على فواعِلَ. أما فَوعَلٌ فهو عبارة عما كانت الواو فيه ثانية زائدةً للإلحاق، وإطلاقه إياه يدل على أن ذلك فيه ثابت، سواء أكان اسماً نحو كوكب وتولَب، أم صفة نحو توأم وحَومَل، فإن فواعِلَ فيه قياسٌ،

فتقول في كوكَب: كواكب، وفي تَولَب: توالِب، وفي عوسج: عواسِج، وفي جَوهَر: جَوَاهِر، وفي حَومَل: حَوَامِل، وفي توأم: توائِم، وفي هَوزَب: هَوازِب. وما أشبه ذلك. لكن نبَّه بالتمثيل على أن ذلك إنما يكون فيما كانت الواو تلحق بنات الثلاثة ببنات الأربعة، فإن "فَوْعلاً" هكذا حقيقته، فلو كانت الواو تلحقها ببنات الخمسة مثلا لم يصح جمعها على فواعِلَ مثل: خَوَرْنَق وكَوَأْلَلٍ، فإن الواو هنا لا بد من حذفها للجمع فيصير الجميع إلى فعالِلَ لا إلى فواعِلَ. فإن قيل: إن كلام الناظم في فَوْعَلٍ غير مطرد، وذلك أن فَوعلاً على قسمين، أحدهما ما يُجمع كما قال، والآخرُ ما تلحق الجمع فيه هاء التأنيث ولا يجيء في الكلام دونها إلا قليلاً، فالأول ما كان على فَوْعَل من العربي الأصيل كما ذكر من الأمثلة. والآخر ما كان أصله أعجمياً فعُرِّبَ نحو: مَوْزَجٍ وجَوْرَبٍ

وصَوْلَجٍ، فإنك تقول: مَوازِجَةٌ وجَوَارِبَةٌ وصَوَالِجَةٌ. وقد قالوا: جَوَارِبُ، كما قالوا في العربي المحض: صَيَاقِلة فألحقوا الهاء، وكذلك صَيَارفة، وهو نظير فَوَاعِلَة لو سُمِع، فقد صار كلام الناظم يوهم أنك لا تقول إلا جَوَارِبَ ومَوَازِجَ وصَوَالِجَ خاصةً، وذلك غير مستقيم من الفهم. فالجواب من وجهين، أحدهما: أن المعرَّب في جنب العربي نادر قليل كالأشياء النادرة في العربي المحض، ولا معتبر بها، فلم يحتج إلى التنبيه عليها لذلك. والثاني: أن فواعِلَ حتمٌ فيه وإن كان أعجمياً، وإنما تلحق التاءُ بعد حصول الجمع بياناً لأن المعرب عرَّبته (وصيرته) من كلامها بعد أنْ لم يكن. وأيضاً فإن التاء لا يخرج الجمع عن كونه / على فواعِل، بل هو فواعِلُ لحقته الهاء، فلم يخرج ذلك عما قرره الناظم من جمعه على فواعِلَ. وأما فاعَلٌ فهو بفتح العين، وقد اجتمع في القافية مع كاهِلٍ

المكسور العين، وقد أجازه الخليل، وهو اختلاف الإشباع في حرف الدخيل، وغيره يرى أن مثل هذا ممنوع، إلا أنه قد جاء منه في كلام العرب شواهدُ تدل على تسويغه لِمُثُل ابن مالك في هذا النظم وإن كان قليلاً، وإنما أجازه الخليل حملاً على المجرد من الرِّدْف والتأسيس، ومن ذلك في الشعر قول الشاعر: يا نخلَ ذاتُ السِّدر والجراوِلِ تَطَاوَلِي ما شئتِ أن تَطَاوَلِي وهو في الفتح أقبح من غيره، ومثل هذا العيب موجود في الشطرين اللذين بعد هذين، وذلك قوله: "وفاعِلَهْ" و "مَعْ ما ماثَلَهْ". ودلَّ كلام الناظم على أنه يجمع على فواعِلَ كان اسماً أو صفة، إلا أن الصفة فيه غير محفوظة عن العرب، ذكر سيبويه أنه لا يعلم أن فاعَلَ جاء صفة، فبقي الاسم، ومثاله: طابَقٌ وطوابِقٌ، وخاتَمٌ وخواتِمٌ، ودانَقٌ ودوانِقٌ، وتابَلٌ وتوابِلُ.

وأما فاعِلاء فإنه يجمع أيضاً على فَواعِلَ، وظاهر كلام الناظم إطلاقه كان اسماً أو صفة، ولم يأتي صفة فلذلك لم يحتج إلى تقييده بكوه اسماً كالمثال الذي قبله، ومثاله: قاصِعَاءُ وقَوَاصِعُ، ونافقاء ونَوَافِقُ، وسَابياء وسَوَاب، وحانِيَاءُ وحَوَانٍ، ودامَّاءُ ودَوَامٍ، وراهِطَاءُ ورَوَاهِطُ، ونحو ذلك. ووجه هذا الجمع الذي حذف فيه ألف التأنيث أنهم شبهوها بالهاء وحكموا لها بحكمها، ألا ترى أنها لا تحذف في التصغير كما لا تحذف الهاء، فإذا كان ذلك كذلك فكأنهم إنما كسروا فاعلاً المؤنث بالهاء، وبابه فواعل كما سيذكر إثر هذا بحول الله ومشيئته. ثم قال: "مع نحو كاهلٍ وحائضٍ وصاهلٍ" ... إلى آخره، يعني أن هذه المثل وما أشبهها مما جمع أوصافها تجمع أيضاً على فواعِلَ، وأصلها كلها فاعِلٌ. ولا بد من تقديم مقدمة تكون كالشرح لمقصوده في افتراق مُثَلِهِ، وذلك أنَّ بناءَ فاعل على قسمين اسم وصفة، فالاسم نحو كاهل، وهذا الذي أشار غليه بالمثال، والصفة على

قسمين أيضاً، مؤنثة بالهاء ومجردة من الهاء، فالمؤنثة بالهاء نحو ضاربة وصاحبة، وهي التي أشار إليها بـ"فاعِلَهْ". والمجردةُ من الهاء على قسمين: واقعٌ على / مذكر، وواقع على مؤنث، فالواقع على المؤنث نحو: طامِثٍ وطاهِرٍ، وهو المشار إليه بحائِضٍ. والواقعُ على المذكر على قسمين، واقعٌ على مذكر غير عاقل، وواقعٌ على مذكر عاقل، فالواقع على المذكر العاقل هو المشار إليه بمثال الفارس، ومثاله أيضاً: قائمٌ وقاعِدٌ، والواقع على المذكر غير العاقل نحو: ضامِرٍ وبازِلٍ، وهو المشار إليه بصاهلٍ. فهذه خمسة أقسام أشار إليها بخمسة أمثلة، حكمها جميعاً جواز الجمع على فواعِلَ فيه شاذ. فقوله: "مع نحو كاهِلِ" يعني أن ما كان من أمثلة فاعل اسماً غير صفة فيجمع قياساً على فواعِلَ، فتقول: كاهِلٌ وكواهِلٌ. والكاهلُ: الحاركُ، وهو ما بين الكتفين، وفي الحديث: "تميمٌ كاهِلُ مُضَرَ". وكاهلٌ أيضاً أبو قبيلة من العربي، وليس هو

المراد هنا. ومثله: غاربٌ وغواربُ، وحائطٌ وحوائِطُ، وحاجزٌ وحواجِزُ، وطابِقٌ - بالكسر - وطوابِقُ، ودانِقٌ ودوانِقُ، وخاتِمٌ وخواتِمُ، وما أشبه ذلك. وقوله: "وحائضٍ" يعني أنه يجمع أيضاً على فواعِلَ كل ما كان صفة لمؤنث لم تلحقه التاء نحو: حائض، فتقولُ: حوائضُ. وفي القاعد عن الحيض: قواعِدُ. وفي طامثٍ طوامِثُ. وفي حاسِرٍ: حواسِرُ. ووجهه أنه عُومل معاملة ما فيه التاء لما كان مؤنثاً مثله. ولذلك كان حائض وبابه له جهتان، فجهة اللفظ إذا اعتبرت، وهو مذكر جُمِعَ على فُعَّل. وجهة المعنى إذا اعتبرت، وهو مؤنث جُمِعَ على فواعِلَ. وأصل فواعِلَ في فاعِلٍ إنما هو للمؤنث، وما عداه محمول عليه كما سيتبين آخر الفصل إن شاء الله. فإن كان كذلك ظهر وجه حوائِضَ، إلا أن هذا المثال قاصِرٌ، فإنه يشير إلى قصر هذا الحكم على ما كان لمؤنث عاقل، وليس كذلك، بل هو جارٍ قياساً في غير العاقل، فتقول: ناقةٌ فارِقٌ، ونوقٌ فوارِقُ، وراجعٌ ورواجِعُ، وفاسِجٌ وفواسِجُ، أنشد ابنُ

الأنباري لهِمْيَان بن قحافة: يظلُّ يدعو نيبَهَا الضَّماعِجَا والبَكَرَاتِ اللقَحَ الفواسِجَا وناقةٌ ماخِضٌ، ونوقٌ مواخِضٌ، وعائذٌ وعوائِذُ، وريح عاصفٌ ورياحٌ عواصِفُ، ومن ذلك كثير، فليس بمختص بصفة المؤنث العاقل، وقد شرح / ابنُهُ هذا الموضع فأشار إلى ما يظهر منه من الاختصاص، والذي ذكر سيبويه وغيره أن ذلك عام، قال: "وإذا لحقت الهاء فاعلاً للتأنيث كُسِّرَ على فَوَاعِلَ". ثم قال: "وكذلك إن كان صفة للمؤنث ولم تكن فيه هاء التأنيث، وذلك حواسِرُ وحوائِضُ". فأطلق كما ترى، ومثل بالعاقل وغيره، لأن الحاسر فسَّروه بأنه من حَسِرَت العينُ والناقة: إذا اَعْيَتَا، ولكتاهما حاسِرٌ. وكان الأولى بالناظم أن يأتيَ بمثال يشمل العاقل وغيره، أو

بمثال يشمل العاقل وغيره، أو بمثال لكل واحد منهما. وقوله: "وصاهِلِ" يريد: أن ما كان مثل صاهِلٍ أيضاً في كونه صفة لمذكر غير عاقل فإن فواعِلَ قياسٌ فيه أيضاً فتقول: صاهِلٌ وصواهِلُ، والصاهل: اسم فاعل من صَهَلَ الفرس: إذا صوَّتَ، ومثله: بازِلٌ وبوازِلُ، وضامِرٌ وضوامِرُ، وبعيرٌ حاسِرٌ وحواسِرُ. وإنما جُمِعَ جمع المؤنث وإن كان مذكَّراً لأنه لا يجوز فيه ما جاز فيما هو للمذكر العاقل من الواو والنون، فإشبه لذلك المؤنث، ولم يقْوَ قوَّةَ ما كان للعاقل. هذا تعليل سيبويه، وأيضاً فإنهم يعاملون غير العاقل معاملة المؤنث في التصغير وغير غيره، كقولهم: دُرَيهماتٌ ودُنَينيراتٌ، وقولهم: حمَّاماتٌ وسِجِلاتٌ وسُرَادِقاتٌ، ونحو ذلك، فلذلك جُمِعَ جمع المؤنث. وقوله: "وفاعِلَهْ". وهذا أيضاً يريد به أن ما كان من الصفات قد لحقته تاء التأنيث فجمعه على فواعِلَ، نحو: ضاربةٍ وضوارِبَ، وسائبةٍ وسوائِبَ، وقاطعةٍ وقواطِعَ، ورابيةٍ وروابٍ، وباكيةٍ وبَوَاكٍ، وعاملةٍ وعوامِلَ، ونحو ذلك. قال سيبويه: "وإذا لحقت الهاء فاعلاً

للتأنيث كُسِّرَ على فواعِلَ". ثم مثَّلَه، قالوا: وهو الأصل، لأن الجمع هنا على فواعل للفرق بين جمع المذكر وجمع المؤنث، فخصوا المؤنث بفواعِلَ، ولم يجمعوا المذكَّرَ عليه، وخصُّوا المذكَّرَ بفُعَّلٍ وفُعَّالٍ كما تقدم في كلام الناظم ولم يجمعوا المؤنث عليه إلا قليلاً، كقولهم: نائمةٌ ونُوَّمٌ، وزائرةٌ وزُوَّرٌ. وأما حُيَّضٌ في حائض ونحوه فلأن له وجهين، وقد تقدم بيان هذا، ولذلك أتى به سيبويه - أعني إتيانه بحائض - في فصل المذكر وفصل المؤنث. ونظيرُ حائضٍ في اعتبار الوجهين فيه الصفة المستعملة استعمال الأسماء من هذا الفصل، نحو صاحبٍ وشابٍّ وفارسٍ وراكبٍ، فمن حيث له مؤنثٌ على فاعلة يُجمع ذلك المؤنث على فواعِلَ، لذلك لم يُجمع مذكَّرهُ على فواعل لأجلس اللَّبس، اعتباراً بأصله من الوصفية، ولم يجمعوه / (أيضاً) على فُعَّلٍ ولكن على فُعْلانَ اعتباراً بحاله من عدم الوصفية، بل أخرجوه عن فُعَّلٍ الذي هو للوصف إلى فُعْلان الذي هو للاسم المبني على فَعِيلٍ إذ هو قريبٌ من فاعل، وفَعِيلٌ يجمع على فُعْلانَ نحو: جَريبٌ وجُرْبان. هذا أصل الاختصاص، وهو التفرقة بين المذكر والمؤنث وخوف اللبس في الجمع، فلو جُمع المذكر على فواعِلَ

لأوهَمَ أنه فاعلة، لكن اختص هذا بالمذكر العاقل خاصة، لأن غير العاقل في حكم المؤنث كما تقدم من كلام سيبويه وغيره. وكذلك ما ليس فيه الهاء من المؤنث محمولٌ على ما فيه الهاء، وهذا في الصفات، وأما الأسماء فإنما جاز جمعها على فواعِلَ على أصل هذا التعليل لعدم احتياجهم إلى التفرقة؛ إذ لا فاعلةَ له، فلم يكونوا ليفرَّوا من فواعِلَ؛ إذ لا لبس، بخلاف ماله فاعلة، وهو الصفة. ثم قال: وشَذْ في الفارس مَعْ ما ماثَلَهْ قال ابن السكيت: إذا كان الرجلُ على حافِرٍ برْذَوناً كان أو فرساً أو بغلاً أو حماراً قلتَ: مرَّ بنا فارسٌ على بغل، أو مرَّ بنا فارسٌ على حمار، قال الشاعر: وإني امرؤ للخيل عندي مزيَّةٌ على فارسِ البِرذَونِ أو فارسِ البغلِ وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: لا أقول لصاحب البغل: فارسٌ، ولكني أقول: بغَّالٌ، ولا أقولُ لصاحب الحمار: فارسٌ، ولكني أقولُ: حَمَّارٌ. نقل هذا الجوهري. ويعني الناظم أنَّ فواعل شذَّ وجودُهُ فيما كان من الصفات لمذكر

عاقل كالفارس وما أشبه ذلك مما اتصف بصفته، وإنما شذ لمخالفته ما تقدم من قصد التفرقة وارتفاع اللبس الواقع بين المذكر والمؤنث، على أنهم قد وجهوا ما جاء من ذلك؛ إذ "ليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً، هذا في الاضطرار فما ظنك به في حالة الاختيار؟ فمما جاء من ذلك جمعهم الفارس على فوارِسَ، قال: لولا فوارسُ من نُعْمٍ وأسرَتِهم يومَ الصُّلَيفاء لو يُوفُون بالجارِ وهو في الكلام كثيرٌ، ووجه هذا الجمع بعد أن يقال: إنه من الصفات التي استعملت استعمال الأسماء، فقرُبَ بذلك منها أنَّ اللبس فيه لا يكون لِمَا ذكَرَ سيبويه من أن الفارس لا يقع في كلامهم إلا للرجال، قال: "وليس في أصل كلامهم (أن يكون) إلا لهم، / فلمَّا لم يخافوا الالتباس قالوا فواعِلَ، كما قالوا: فُعلاء" - يعني لكونه استعمل استعمال الأسماء - "وكما قالوا: حوارِثُ، حيث كان

اسماً خاصاً كزيد"، يعني بسبب اختصاصه وإن كان صفة بالمذكور كزيد، وكحارث إذا سميت به، وقوله: "في أصل كلامهم"، تنبيه حسن؛ لأنه قد كان في غير العرب نساءٌ يركبون الخيل ويحاربون، على أن ذلك قليلٌ في الكل فلم يعتد به. ومن ذلك قولهم: "هالكٌ في الهوالك" جمعوا هالكاً وإن كان لمذكر على هوالك، ووجهه أنه جرى عندهم مجرى المثل، ومن عادة الأمثال أن تُغيَّرَ عن أصلها وعمَّا تستحقه في الكلام، أنشد السيرافي: تجاوزْتُ هنداً رغبةً عن قتاله إلى مالكٍ أعشو إلى ذكر مالكِ وأيقنتُ أني عند ذلك ثائرٌ غداتئذٍ أو هالكٌ في الهوالكِ وأنشد سيبويه للفرزدق:

وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتهم خُضُعَ الرِّقاب نواكِسَ الأبصارِ فجمع ناسكاً على نواكِسَ، والمراد الرجال، وحملَه سيبويه على اعتبار التأنيث في الرجال، قال: لأنك تقول: هي الرجال، كما تقول: هي الجمال، فشُبِّهَ". وطريقة المبرد في هذا النوع أن فواعِلَ هو الأصل في الجميع، وإنما منع منه هنا هو خوف اللبس، فإذا اضطروا راجعوا الأصل كما يراجعون في سائر الضرورات، وكذلك حيث أمنوا الالتباس. وقد وجه "نواكس" ابنُ الضائع على وجه آخرَ، وهو أن يكون صفةً للأبصار من جهة المعنى، لأن الأصل قبل النقل: نواكسٌ أبصارُهُم، والجمع في هذا قبل النقل على فواعل سائغ لأنه غير عاقل، فلما نقل تركوا الأمر على ما كان عليه، لأن المعنى لم ينتقل، قال: ونطير هذا توجيه الفارسي قوله: يا ليلةً خُرْسَ الدجاج سهرتها ببغداذَ ما ما كادت عن الصبح تنجلي على ما هو مذكور في الإيضاح. وذكر السيرافي أنه وَجَدَ غير

ذلك، قال عُتَيبة بن الحارث لجَزْءِ بن سعد: أُحامي عن ذمار بني أبيكمْ ومثلي في غوائِبُكُمْ قليل فقال جَزْءٌ: نعم، وفي شواهدنا. قال: وهذا جمع غائبٍ وشاهد من الناس. وقد نزع الشلوبين في / هوال ونواكس منزَعاً يجري في جميع ما جاء من هذا مما تقدم ذكره، وهو أن قال: قد عُرِف بقوله أولاً: هالك أنه إنما يريد المذكر، وكذا بقوله: "وإذا الرجال رأوا يزيد"، قال: فصار ذلك مما تقدم ذكره من قولهم: فارس، في الفوارس، وإن لم يكن مثله بالجملة، لأن المعنى الذي يتضمنه نواكِسُ يصلح للمذكر والمؤنث، والمعنى الذي يتضمنه الفوارس لا يصلح إلا للمذكر. هذا ما قال، وهو جارٍ في قوله: ومثلي في غوائبكم قليل لأنه إنما يريد فيمن غاب من رجالكم، ولم يرد أن مثله في نسائهم قليلٌ، أو فيمن إليهم من رجال ونساء. فتعين أنه يريد المذكر من جهة قصده، فصار كالفوارس بهذا اللحظ. ***

وبفَعَائلَ اجْمَعَنْ فَعَالَهْ وَشِبْهُهُ ذا تاءٍ أو مُزَالَهْ يعني أن فعائلَ من أبنية الجمع، يجمع عليه من كان من المفردات على وزن فَعَالَة، وعلى وزن يشبه ذلك، وذلك قياس على ما يقتضي إطلاقه، والذي يشبه فَعَالَة هو كل ما كان من الأبنية ثالثُهُ رف مد ولينٍ زائد، فيدخل له فيه خمسة أبنية: فَعَالة - مثلث الفاء بالضم والفتح والكسر - فهذه ثلاثة، وفعِيلة، وفَعُولة، هذا الذي يشبه فَعَالَة، (ولا يقال: إنما عنى بفَعَالَة ما كان ثالثه ألفاً، فلا يدخل له إلا ثلاثة أبنية: فَعَالَة و) فُعَالَة وفِعَالَةُ؛ لأنه فَعُولَةَ وفَعِيلةَ لا يشبه فَعَالَةَ لاختلاف ما بين الألف وبين الواو والياء، ولاختلاف حركة ما قبلها. لأنا نقول كذلك أيضاً: فُعَالَة المضموم الفاء أو المكسورها لا يشبه المفتوحها، فقد حصل الاختلاف، فيلزم ألا يقصد إليها، قيبقى فَعَالَةُ المفتوح الفاء وحده، فلا يكون لقوله: "وشبهَهُ" فائدة أصلاً. فإن قلت ما الفرق بين هذا وبين ما تقدم له في التشبيه كقوله: وشاعَ في حوتٍ وقاعٍ مع ما ضاهاهما ... ... ... ... ... فحملتَ المضاهاة على أنها مع بقاء واو حوتٍ وألفِ قاعٍ، ولم

تحمِل عليه ما أشبهه من نحو: فِيلٍ ومِيلٍ، وكذلك قوله: ولكريم وبخيلٍ فُعَلا كذا لما ضاهاهما قد جُعلا فل تجعل فَعُولاً ولا فَعَالاً نحو: ضَروبٍ وجبانٍ مما ضاهى كريماً وبخيلاً، وغير هذا من المواضع. فالجواب أن الفرق ظاهر، وذلك أن مثال فَعَالة مثلاً أتى به مطلقاً غير مقيد، وليس له فيه ما يعتبر من الأوصاف المقصودة إلا ما يكون فيه من حرف لين أو تحريك فاء أو / نحو ذلك مما اعتبر في تفسير كلام الناظم، ولو لم يعتبر فيه ذلك لم يكن له شبه، إذ لا يدخل تحته إلا أمثلةٌ ليست في الحقيقة غيرَه. والممثَّل الذي هو مثلاً كحمامةٍ ودجاجةٍ داخلٌ تحته سواءٌ فرضْتَهُ اسماً أم صفة، صحيحاً أم معتلاً، فإذا قال القائل: حكم فَعَالَة كذا. فقد دخل تحته كل ما يمثِّلُ على كل اعتبار كان فيه، فلم يبق لقوله: "وشبهه" معنى بالنسبة إلى ما يدخل تحت المثال إلا أن يعتبر وصفه في نفسه من حيث هو مثال من كونه ثلاثياً أو رباعياً أو مفتوح الفاء أو مكسورها، أو ما أشبه ذلك. وعلى ذلك يصح قول من قال: وشبه ذلك. وأما قاعٌ وحوتٌ وكريمٌ ونحوها في قوة الأمثلة المقيدة، فكأنه قال في قاع: في

اسم على فَعَل معتل العين مذكراً. وكذا إلى آخر الأوصاف. وكذلك حوتٌ في قوة أن لو قال: في اسمٍ على فَعْلٍ عتل العين بالواو إلى آخر الأوصاف. فإذن لا يدخل له إلا ما كان مطابقاً لتلك الأوصاف، فامتنع أن يدخل تحتها نحو فيل وديك، إذ لم يستوفِ الأوصاف المذكورة، فحصل الفرق بين إتيانه بالأمثلة الموزون بها، وإتيانه بنفس الموزون، وهو فرق ظاهر، والله أعلم، فإذن لا بد من التفسير بما تقدم من دخول فَعيلةَ وفَعُولَةَ مع فَعَالَةَ وفُعَالَةَ (وفِعَالة). وإذا تقرر هذا فنرجع إلى تمثيلها فنقول: أما فَعَالَةُ - بالفتح - فنحو: حمامةٍ ودجاجةٍ، وبهما مثَّل سيبويه، فنقول: حمائِمٌ ودجائجٌ، ومنه: سحابةٌ وسحائبٌ. وأما فُعَالَةُ - بالضم - فمثلُ ذؤَابةٍ وذَوَائِبَ، وذبابة وذبائب. وأما فِعَالَةُ - بالكسر - فنحو: كِنَانَةٍ وكَنَائِنَ، وعمامة وعمائم، وجنازة وجنائز، ورسالة ورسائل، وربابة وربائب، (ودلالة ودلائل. وأما فَعُولَةُ فنحو: حَلُوبةٍ وحلائب، وركوبة وركائب)،

وحمولة وحمائل. وأما فَعِيلة فنحو: كتيبة وكتائب، وسفينة وسفائن، وصحيفة وصحائف، وقبيلة وقبائل، وحديدةٍ وحدائد، وهو كثير. وقوله: "ذا تاءٍ أو مُزَالَهْ" ذا: منصوبٌ على الحال من فَعَالَة، أي: حالة كون فَعَالَة ذا تاء، أي: مؤنثاً بالتاء. وقوله: "أو مُزَالَهْ" الهاء الموقوف عليها (هاء) ضمير عائدٌ على تاء، كأنه قال: ذا تاء أو مُزالَ التاء. والحروف تُذكَّرُ، وتؤنث ومن التذكير قوله: كافاً وميمَين وسيناً طاسما وقد تقدم لذلك نظائر في هذا النظم مما استعمله الناظم فيه، وذلك عبارة عن كونه فعالة بلا تاء تأنيث، فكأنه يقول: هذا البناء يجمع على فعائِلَ سواءٌ كان بالتاء كما وقع في المثال أم لم تكن فيه تاء، إلا أنه يبقى النظر في هذين الشطرين من وجهين:

أحدهما: أن ظاهر إطلاق هذا الحكم أنه جار في الاسم والصفة معاً لا في الاسم وحده، ولا في الصفة وحدها. والثاني: النص منه على أن الحكم جاء مع عدم التاء في تلك الأمثلة الخمسة التي أشار إليها بفَعَالَة بقوله: "ذا تاء أو مُزَالَهْ". أما النظر الأول فإن ذلك الحكم إنما هو في الأسماء لا في الصفات في فَعِيلٍ كان أو في غيره على مذاهب الجمهور أو فيما دون فَعِيل على ظاهر التسهيل، إذ أطلق في فَعيل الذي ليس بمعنى مفعول، وقيد الأربعة الباقية بالاسمية، وهو ظاهر كلام ابن أبي الربيع. فعلي كل تقدير لم يوافق كلامه هنا واحداً من المذهبين، فصار في محصوله غير مستقيم، قال سيبويه في فَعيلٍ الصفة إذا لحقته التاء لمَّا ذكر له فِعالاً في التكسير: "وقد يُكسَّرُ على فَعائِلَ كما كسِّرت عليه الأسماء". قال: وذلك صبائح وصحائحُ وطبائب"، يعني في جمع صبيحةٍ وصحيحةٍ وطبيبةٍ، قال: "وقالوا: خليفة وخلائف، فجاءوا بها على الأصل". فهذا يدل على أنه عنده سماع. وقال ابن أبي الربيع في القوانين في فصل فَعيل: وإذا لحقته التاء كُسِّرَ على فعائِلَ، قالوا: ظرائِفُ. ثم ذكر أنه يجري مجرى المذكر في الجمع على فِعَال.

وأما النظر الثاني، وهو الحكم لما ليس فيه تاء بحكم ما هي فيه، فإن النحويين ينصون على خلاف ذلك، وأنه موقوف على السماع إلا في فَعُول الذي هو صفة لمؤنث فإنه عند طائفة من العلماء قياس لكثرة ما جاء منه نحو: عجوز وعجائز، وجَدُودٍ وجدائد، وصعود وصعائد، وسلوب وسلائب، وفرس عَقوقٍ وعقائقَ. وإطلاق القياس مذهب ابن أبي الربيع. وكذلك الاسم عنده إذا كان مؤنثاً بغير تاء فهو على حكمه مع التاء، يجري القياس فيه، نحو: قَلوصٍ وقلائِصَ، وذَنوب وذنائِبَ، وقَدومٍ وقدائِم. وقال / سيبويه في الصفة: "وأما ما كان وصفاً للمؤنث فإنهم قد يجمعونه على فعائل كما جمعوا عليه فَعِيلة؛ لأنه مؤنث مثله: قال: "وذلك

عَجوزٌ وعجائِزُ"، ثم أتى بالمُثُل. أما غير فعول فلا أعلم أحداً يقول بكون فعائِلَ قياساً فيها، إلا ما في هذا النظم، لكن ينقل في بعضها سماع، قالوا في سماء "سمائي" قال: سماءُ الإله فوق سبعِ سمائِيَا وقالوا: أفِيلٌ وأفائِلُ، وجَزورٌ وجزائِرُ. ونقل شيخنا القاضي - رحمه الله - عن شيخه أبي عبد الله بن هانئ، أنه سمع سبائِرَ في السبار الذي يراد به المسبار. قال: ولا أحققه الآن عنه، وذكر أثير الدين أبو حيان بن حيان أنهم يقولون في رهين المذكر: رهائِن. فهذا في فَعِيل بمعنى مفعول. وقالوا: شِمالٌ للريح المعروفة وشَمائل، وشِمالٌ لليد وشمائل، وعُقابٌ وعقائِبُ. قال شيخنا القاضي: ولا أذكر الآن عقائِبَ إلا عن بعض الشيوخ. هذه جملة من المسموع، وأشبه المواضع بوجود هذا المسموع في هذه الأمثلة المؤنَّثُ منها، وإن

كان بغير تاء، في التسهيل بعد ما ذكر الأمثلة المذكورة سوى فَعيلة: "وإن خلون من التاء مع انتفاء التذكير حفظ فيهن، وأحقُّهن به فَعُولُ، وقد يثبت له ولفَعيِل وفَعَال مذكرات". فجعل ثبوت فعائل للمذكر أقلياً بالنسبة إلى المؤنث، وفي أمثلة مخصوصة دون الجميع، وقد مرَّت أمثلتها آنفاً في الجملة، ووجه ذلك ما ذكره سيبويه في فَعُولَ من أن ما ليس فيه تاء مؤنث مثل ما هي فيه، وهو تعليل المسموع خاصةً. فأنت ترى ما في كلام الناظم من الشَّغْب الذي يضعُفُ الاعتذار عنه، وبالله التوفيق. وحكم ما لامه من هذه الأمثلة حرفُ علَّة حكمُ الصحيح، إلا أنه يلزمه الاعتلال كمطيَّةٍ ومطايا، ورَوِيَّةٍ ورَوَايا، وأصله: مطائِيُ ورَوائِيُ إلا أنه دخله الإعلال على ما يذكره في التصريف، فلم يحتج (إلى) ذكره هنا، لأنه ليس من الباب ***

وبالفَعَالِي والفَعَالى جُمِعَا صحراءُ والعَذْرَاءُ والقيْسَ اتْبَعَا يعني أن هذين البناءين من أبنية الجمع، وهما الفَعَالِي - بياء خفيفة - والفَعَالَى - بالألف- جُمع عليهما ما كان من المفردات / مثل صحراءَ والعذراءِ قياساً، وهذان المثالان لا يدلان على ما كان نحوهما من حيث التمثيل، لأنه إنما ذَكَر أن ذلك الجمع ثابت لهذين المثالين، فلا يعطي أنه يجري في سواهما إلا بقوله: "والقيسَ اتْبَعَا" والقيس هو القياس، فإذ ذاك نعتبر أوصاف المثالين فنقول: كل ما كان على مثال فعلاءَ سواءٌ أكان اسماً أم صفة مما آخره ألف التأنيث فإنه يجمع على مثال فَعَالٍ وفَعَالَى، فالاسم يُشعر به مثال صحراء، تقول فيه: صحارٍ وصحارَى، وفي العوصاء: عَوَاصٍ وعواصَى، وفي الحرْشَاء: حَرَاشٍ وحرَاشَى، وفي الحَوجَاء: حَوَاجٍ وحوَاجَي، وفي الحُوباء: حوابٍ وحَوَابَى، وما أشبه ذلك. والصفة يشعر بها مثالُ عذراء، تقول فيه: عذارٍ وعَذارَى، وفي الأرض المرداء:

مَرَادٍ ومَرَادَى، قال: فليتك حالَ البحر دونكَ كلُّهُ ومَن بالمرادِي من فصيحٍ وأعْجمِ ووَحْفاء ووَحَافَى ووَحَافٍ، ووَجْناء ووَجَانَى ووَجَانٍ، ونحو ذلك. لكن في الصفة التي تُجمع هذا الجمعَ قيدٌ أشار إليه الناظم بالمثال، وهو العذراء، وذلك فَعلاءُ تارة يكون تأنيث أفعل، وتارة لا يكون كذلك. وهذا الثاني هو المجموع على فَعَالَى، ومنه عَذراءُ الممثَّلُ به، إذ ليس له أفعَلُ، فإن كان له أفعَلُ كحمراءَ وصفراءَ وعسراءَ وخرساءَ وعمياءَ وما أشبه ذلك، فجمعه على فُعْلٍ. وقد تقدم، وفي هذا الإطلاق ما يدل على مخالفته لما ذهب إليه في التسهيل من أن الصفة لا يقاس فيها هذا الجمع، بل هو موقوف على السماع، ألا ترى أنه قال: "منها فَعَالَى لاسمٍ على فَعلاءَ". فقيد بالاسمية، ثم قال: "ويُحفظ في نحو حَبِط ... " وكذا وكذا "وعذراءَ". فجعله في نحو عذراء محفوظاً، كما جعله محفوظاً في أَيِّمٍ ويتيمٍ ونحو ذلك. وظاهر كلام سيبويه وغيره من النحويين أنه قياسٌ لا مسموع ومذهب الجمهور أولى. وكان الأصل في هذا الجمع أن يكون على فَعَاليَّ - بالتشديد -

وقد سُمع كذلك، لكنه قليل، ولذلك لم يعتبره الناظم، ومنه قول الشاعر: لقد أغدو على أشقر يغتال الصَّحاريا وإنما كان الأصل لأن ألف الجمع تقع في صحراء / بين الحاء والراء، ثم تكسَرُ بعد ألف الجمع في كل موضعٍ نحو مساج، فلا بدَّ إذ ذاك من قلب ألف المد ياءً للكسرة قبلها، وتقلب ألف التأنيث التي صارت همزة ياءً أيضاً، فتدغم في الأخرى، فتقول: صَحَاريُّ. لكنهم حذفوا ألفَ المد، وقلبوا الياء المنقلبة عن ألف التأنيث ألفاً، كما فعلوا في المقصورة في نحو: حُبْلى وحَبَالَى. وإنما حذفت ألف المد ولم تترك على ما يوجبه التصريف ليكون آخره آخر ما فيه ألف التأنيث المقصورة، لأنهم لو قالوا: صحاريُّ - بالتشديد - لم يمكنهم القلب، لأن الألف إنما تقلب من الياء الخفيفة، وأيضاً فليكون آخرُ صحراءَ مخالفاً لآخر عَلباءٍ وحِرباءٍ. لأن هذه للتأنيث وهذه للإلحاق، فإذا خففوا حصل الفرق بينهما، فقالوا: عَلابيُّ وحَرابيَُ - بالتشديد - على الأصل، وخففوا في الآخر. قال ابن الضائع: وأيضاً فإذا كانوا يستثقلون الياء المشددة في آخر هذا

الجمع فيخففونها كأثافٍ في أُثفيَّة، فهذه أحرى بالتخفيف، لزيادة ثقل التأنيث. قال: ويكون هذا تعليلاً لمن قال: صحارٍ وعَذارٍ، ولم يقلِبْ. قال السيرافي: وقد يكملون على الأصل، قالوا: صحاريُّ، لكنه قليل. وأما عِلباءٌ وحِرباءٌ فلا ينبغي أن يخفف لأنه ملحق بسِرْداحٍ، والملحق به لا يخفَّفُ، فكذلك ما ألحق به، قال السيرافي: فكما لا يقال في الجمع: سَرَادِح، دون ياءٍ، وإنما يقال بالياء، فكذلك ما ألحق (به) وهذا حسنٌ من التعليل: والقيسُ: التقديرُ، قِستُ الشيء قَوساً وقَيساً وقِياساً: إذا قدَّرتَهُ. *** واجعلْ فَعَالِيَّ لغيرِ ذي نسبْ جُدِّدَ كالكرسي تَتْبَعِ العربْ جُدِّدَ: جملةٌ في موضع الصفة لنَسَبْ، أي: لغير ذي نسب مجدَّدٍ، وغير ذي النسب هو الاسمُ الذي تلحقه ياءُ النسب، ومعنى كونه جُدِّد أي: أُدخل في الكلمة بعد أن لم يكن فصار فيها جديداً، فبَصْرِيٌّ وقيسيٌّ مثلاً كان أصله "بصرة" و "قيس"، ثم ألحق بهما

أداةُ النسب تجديداً لمعناه، فصار موجوداً فيهما بعد أن لم يكن، ويريد أن بناء فَعَاليَّ المشدد الياء من أبنية الجموع يُجعل في الحكم جمعاً لما كان من المفردات قد / لحقته ياءُ النسب غير المجدد، فإنه إنما نَفَى ذا النسب بقيد كونه مجدَّداً، فلا تقول في قيسيٍّ: قَيَاسيٌّ، ولا في بصريٍّ: بَصَاريُّ. وعلى هذا فقولهم: أناسيُّ ليس بجمع لإنسيٍّ، وإلا لقيل في قيسيٍّ: قَيَاسيٌّ. وإنما هو جمع إنسان، وأصله أناسين، فأُبدلت النون ياءً كما أبدلت في ظرابيَّ جمع ظَرِبان. ويُفهم منه إذا لم يكن النسب مجدَّداً لكنَّ ياءَيه لحقتا من أول الاستعمال أمراً لفظياً، فهو الذي يُجمع هذا الجمع قياساً، ومثل ذلك بالكرسيِّ، فإن الياءين فيه لم تُفيدا معنى زائداً على الوضع الأول، إذ لم يستعمل كُرسٌ ثم لحقتاه، ومثال ذلك: كرسيٌّ وكراسيُّ، وبُختيٌّ وبَخاتِيُّ، وقُمْرِيٌّ وقماريُّ، وبُردِيٌّ وبرادِيُّ، وأُثفِيَّةٌ وأثافيُّ - على قول من جعلها فُعْليَّةً - على أنهم قالوا في هذا: أثافٍ، بالتخفيف أيضاً. فإن قيل: ما فائدةُ تمثيله بالكرسي وقد حصل المقصود بقوله: "لغير ذي نسب جُدِّد"؟

(فالجواب: أن له فائدةً في الموضع ضرورية، وذلك أن قوله: "لغير ذي نسبٍ جُدِّدَ") يشمل بنفيِهِ قسمين، أحدهما: ما كان ذا نسب مجدَّد، وقد انتفى بلا شك. والآخر: ما لم يكن ذا نسب أصلاً، لأن زيداً وجعفراً مثلاً يصدُقُ عليهما أنهما غيرُ ذي نسب مجدَّد؛ إذ ليس لهما نسبٌ مجدَّد ولا غيرُ مجدَّد. فلما كان المفهوم هذين الاحتمالين صرَّح بمقتضى التمثيل بأحد الاحتمالين. وأيضاً فقد قيَّد في التسهيل ما كان ذا نسب غير مجدَّد بقيدين آخرين، وهما كونه ثلاثياً، وكونه ساكنَ العين، فقال: "ومنها فَعَالِيُّ لثلاثيٍّ ساكن العين زائدٍ آخره ياءٌ مشددة لا لتجديد نسبٍ". ولا أحقِّقُ الآن ما أراد بهذين القيدين، ولعله أراد بكونه ثلاثياً التحرُّز من الرباعي الذي لحقته ياءُ النسب، كما إذا سميت رجلاً بِجَعْفريٍّ فإنه يصير بالعلمية مثل كرسيٍّ، فإذا جمعت هذا قلتَ: جعافِرٌ. فتعامِلُ الياءين معاملةَ هاء التأنيث في نحو فَعِيلةٍ وفَعَالَةَ، إذ كنت تقول: فعائِلُ فتحذفها. أو كما تحذف ألِفَي التأنيث فيما زاد على الثلاثي نحو: قاصعاءَ، إذا قلتَ: قواصِعُ. وكثيراً ما يشبِّهُ سيبويه / ياءي النسب بهاء التأنيث. وكما إذا سميتَ بجعْفَرُون قلتَ: جعافِرُ أيضاً.

وأما كونه ساكن العين فلا يظهر لي وجهه، إذ لو سَمَّيْتَ بنحو شَرَفيٍّ وقَدَريٍّ ونَدُسيٍّ لقلتَ في الجمع: شرافيُّ وقَداريُّ ونداسيُّ. وكذلك ما أشبهه. فتأمل ذلك. وإذا تقرر هذا ظهر لما مثَّلَ به فائدةٌ لا بد منها ومن التنبيه عليها. وقوله: "تَتْبَعِ العَرَبْ"، أي: تكن بذلك العمل مُتَّبعاً للعرب، جارياً على قياس كلامها، غير خارج عن ذلك. *** وبِفَعالِلَ وشبهِهِ انْطِقَا في جمع ما فوق الثلاثةِ ارْتَقَى من غير ما مضى ومن خماسِي جُرِّدَ الآخِرَ انْفِ بالقياسِ والرَّابعُ الشَّبيهُ بالمزيدِ قَدْ يُحْذَفُ دون ما به تَمَّ العَدَدْ لما كانت أمثلة مفاعِلَ ومفاعِيلَ وما أشبهها تختلفُ باختلاف المجموعات، والأسماء المجموعة كثيرة تختلف باختلاف الأصول والزوائد، وباختلاف الزيادات في أنفسها كمفاعيلَ وفعالِلَ وفياعِلَ وفواعِلَ وتفاعِلَ وفعاوِلَ وأفاعِلَ وفعاعِلَ، وغير ذلك من الأبنية التي هي راجعةٌ إلى مفرداتها، وكانت لا تنضبط إلا بالمفردات، أعطى فيها حكماً كلياً يشمل جميعها بعد ما ذكر منها بعضاً مما تنتظم ضابطاً كلياً كفواعِلَ وفعائِلَ فإنه يدخل تحتهما أشياءٌ، أو كان فيها

حكمٌ مخالف لصورة مَفاعِلَ ونحوه كالفَعَالِي والفَعَالَى، ثم كرَّ على ما بقي بقوله: وبفعالِلَ وشبهِهِ انْطِقَا إلى آخره، يعني أن هذا المثال الذي هو على فعالل وما أشبهه مما هو على زِنَتِهِ خاصة كمفاعِلَ وتفاعِلَ وسائر ما ذكر من الأمثلة جمعٌ لكلِّ ما ارتقى فوق الثلاثة أي: زادت حروفه على ثلاثة أحرف، فكان رباعياً أو خماسياً أو سداسياً أو سباعياً. أما كونه أراد بما أشبه فعالِلَ ما هو على زِنَتِهِ فلا بد منه، إذ لو أراد ما أشبه فعالِلَ في تعيين الحروف لم يكن ثَمَّ غيره، إذ لا شبيه له في تعيين الفاء والعين واللامين، إلا أن يقال: إنه أراد بالشَّبَهَ الملحَقَ بالتضعيف فإنه يقال فيه: فعالِلُ، كما إذا بَنَيتَ من ضَرَبَ مثلَ جعفرٍ أو دِرهمٍ أو فَرَزْدَقٍ ثم جمعتَه فإنك تقول: ضَرابِبُ، ووزنُهُ فعالِلُ. / ولو أراد هذا لكان قاصراً جداً، إذ يبقى له من هذه الأمثلة أشياءُ كثيرةٌ جداً، كما تقدم تمثيل بعضه. فلا بد أن يريد بما أشبهه ما كان على زِنَتِهِ، فيدخل تحته كل ما زاد على الثلاثة، وهو المقصود. وأما كونه جمعاً لما زاد على الثلاثة فلا بد منه، لأنَّ الثلاثي لا

يُجمع على فعالِلَ وشبهه، فإن جاء يوماً ما فإنه نادرٌ غير مقيس، كقولهم في أهل: "أهالِي"، وقد حكى المؤلف عن جعفر بن محمد أنه قرأ: {مِنْ أوسَطِ ما تُطعمونَ أهالِيْكُمْ}. وقالوا: ليلة وليالي، وكيْكَةٍ - وهي البيضة - وكَيَاكِي. وهذه عند النحويين جمعٌ لمفرد لم يُنطق به، كأنهم جمعوه على أَهْلاةٍ ولَيْلاةٍ وكَيْكاةٍ. وعلى أنه قد سُمع ليلاةٌ شاذاً، وقد صُغِّرَ على لُيَيْلِيَةٍ على اعتبار ليلاة. وقالوا: أرضٌ وأراض، وحِقَّةٌ وحقائقُ، وصَرَّةٌ وصرائِرُ. أنشد في التذكرة:

وانصاعتِ الحُقْبُ لم تَقْصَعْ صَرائرَهَا وكَنَّةٌ وكنائِنُ، وضَرَّةٌ وضرائِرُ، وحُرَّةٌ وحرائِرُ. وهذا كله نادرٌ، فإنما المعتبر ما زاد على الثلاثة. قالوا: والأصل فيما زاد على ثلاثة أحرف في العدد أن يجمع هذا الجمع: يُفتح الحرفان الأولان منه، وتُزاد ألف الجمع ثالثة، ويُكسَرُ ما بعدها. وما جاء على غير ذلك فمستثنى من هذا الأصل، وهو الذي يستثنيه بقوله: "من غير ما مضى". وقوله: "انطقا" يعني أن النُّطقَ على هذا النوع يكونُ من كسر ما بعد ألف الجمع وغير ذلك، فيخرج له ما يُكسَّرُ على فَعَالَى وما أشبهه مما لا يكون النطق به كالنطق بفعالِلَ. فأما ما كان من نحو: مطيَّةٍ ومطايا، وخطيَّةٍ وخطايا، ورَويَّةٍ ورَوايا، فإنه في الأصل فعائِلُ. وقد تقدم له الكلام عليه، ولم يقل هنالك: انطِقْ بفعائِلَ، وبينهما فرقٌ، وقد قال هنا: "من غير ما مضى"، فإن ما مضى قد يكون فيه ما النطق به على نحو فَعَالِلَ، وعلى غيره، إلا أنه الأصلُ

فيه. وأما ما ذكر في هذا الفصل فلا. ثم قوله: "من غير ما مضى" إخراجٌ مما تقدم، لكنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يرجع إلى شبه من قوله: "وشبهه"، فيكون المخرج ما تقدم ذكره من مشبه فعالِلَ، إذ قد مضى بحكمه مفصلاً فلا يعاد، كأنه قال: / انطق بفعالِلَ وما كان مثله من غير ما مضى ذكره. الثاني: أن يرجع إلى "ما" من قوله: في جمع ما فوق الثلاثة ارتقى يعني من المفردات، فيكون المخرج كل رباعي تقدم الكلام على جمعه كأفعل مؤنث فعلى وفَعَالِ، وما كان مثله من المثل الخمسة، وهي فُعالٌ وفِعالٌ وفَعُولٌ وفَعِيلٌ، بالتاء كانت أو بغير تاء. وفُعْلَى مؤنث أفعل، وفاعلٌ الصفة، وفاعِلَةُ وفَعْلانُ، ومؤنثاه: فَعْلَى وفَعْلانَة، وفُعْلانُ ومؤنثه فُعْلانَةُ، وفَوعَلٌ وفاعَلٌ، وفاعلاءُ، وفَعُلاءُ، وفُعْليٌّ. هذه هي التي تقدمت مما فوق الثلاثي من الرباعي والخماسي وغيره، وقد تقدمت أحكامها، فكأنه يقول: اجمع على فعالِلَ ما

عدا هذه الأبنية فإن جموعها القياسية قد تقدمت، فإن جاء منها ما جمع على فعالِلَ وشبهه ولم يُذكر في خمسة الأبنية التي هي فواعِلُ وفعالِلُ وفعالَى وفعالىُّ فليس ذلك فيه بقياس، كان ثلاثياً أو زائداً على الثلاثي، نحو قولهم في دخان: دواخِنُ، وفي حاجٍ: حوائِجُ، قال الشاعر أنشده صاحب الصحاح: نهارُ المرء أمثل حين يقضي حوائجَهُ من الليل الطّويلِ وأظنُّ المبردَ يخطئ الناسَ في حوائِجَ ويقول: إنه لحنٌ. واتبع في ذلك الأصمعي، وإنما جمعُه الحاجُ، وغيره يُثبته من كلام العرب، وثُؤاجُ وثوائِجُ، أنشد الفارسي في التذكرة:

إذا الشَّوِيُّ كَثُرَتْ ثَوَائِجُهْ وقد تقدم من ذلك أشياءُ نبَّه عليها في أثناء الكلام على خمسة الأبنية المشبهة لفعالِلَ. فإذا ثبت هذا فنرجع إلى ما قصده الناظم من الجمع، فالذي ارتقى فوق الثلاثة إما غيرُ مزيد وإما مزيدٌ، فأما غير المزيد فرباعي مجردٌ وخماسي مجردٌ كذلك. فأما الرباعي فمثاله جَعْفَرٌ وجعافِرُ، وجَندَلٌ وجنادِلُ. هذا في الاسم، والصفة أيضاً كذلك، إذ لم يقيد الناظم ذلك باسم ولا غيره نحو: سَلْهَبٍ وسلاهِبَ، وشَجْعَمٍ وشَجاعِمَ. ومثل ذلك: زِبْرَج وزبارِجُ، ودِرهَمٌ ودراهِمُ، وفِطَحْلٌ وفحطاحِلُ، وجُندُبٌ وجنادِبُ، وفي الصفة عِنفِصٌ وعنافِصُ، وهِجرَعٌ وهجارِعُ، وهِزْبَرٌ وهزابِرُ، وما أشبه ذلك. وأما الخماسيُّ فنحو: سَفَرْجَلٍ وفرزْدَقٍ / وقِرْطَعْبٍ وحِنْبَتْرٍ، تقول: سفارِجُ وفرازِدُ وقراطِعُ وحنابِتُ. وكذلك الصفات أيضاً

كجَحْمَرِشٍ وقَهْبَلِسٍ وخُزَعْبلٍ، تقول فيه: جَحَامِرُ وقَهابِلُ وخزاعِبُ أيضاً. وهذا لا يتأتى إلا بحذف الحرف الأخير كما ترى، على ما يتبين إذا تكلم عليه الناظم إثر هذا إن شاء الله. وأما المزيد فعلى ثلاثة أقسام: ثلاثي مزيد، ورباعي كذلك، وخماسي كذلك أيضاً، والحكم واحد، فأما الثلاثي المزيد فمنه ما لحقته زيادة واحدة للإلحاق بالرباعي، ومنه ما ليس كذلك. فالأول نحو: عَنْسَلٍ وعناسِلَ، وبِلَغْنٍ وبلاغِنَ، وخَيْعَلٍ وخياعِلَ، وصَيرَفٍ وصيارِفَ، وشَأمَلٍ وشآمِلَ، وشمألٍ وشمائِلَ، وجدْوَلٍ وجداوِلَ، وحَشْوَرٍ وحشاوِرَ. والثاني نحو: سُلَّم وسلالم، وأفْكل وأفاكِلَ، وأيْدَعٍ وأيادِعَ، وتُرتُبٍ وتراتبَ، وتَنْضُبٍ وتناضِبَ، وتَتْفُلٍ وتتافِلَ، ويَرْمَعٍ ويرامِعَ،

ويّلْمَقٍ ويلامِقَ. وما أشبه ذلك. ومنه ما ألحق بالخماسي وما فوقه نحو: حِنْطَأْوٍ، تقول: حناطِيٌّ، وفي عقَنْقَل: عقاقِلُ، وفي ضَفَنْدَد: ضفادِدٌ، وفي خُنْفَساء: خنافِسُ، وفي عُنْصَلاء: عناصِلُ. ونحو ذلك. وسيذكر حكم حذف بعض الحروف عند إقامة بنية التكسير بعد هذا. وكذلك الرباعي المزيد حكمه هذا الحكم، وكذلك الخماسي المزيد فيه أيضاً، نحو: عُذَافِرُ، وفي فَدَوْكَسٍ: فَداكِسُ، وفي جَحَنْفَل: جحافل، وفي كَنَهْوَرٍ: كَنَاهِرُ، وفي فِرْدَوسٍِ: فرادِسُ، وفي قَلَنْسُوَة: قلانِس أو قَلاسٍ. وفي قَبَعْثَرًى: قباعِثُ، وفي ضَبَغْطَرًى: ضباغِطُ، وما أشبه ذلك. ثم في هذه الجملة نظر، ذلك أنها قد صرَّحتْ بأن فعالِلَ وشبهَه مما سوى الخمسة المتقدمة لِمَا زاد على الثلاثة مطلقاً ما عدا ما تقدم حكمه،

فيقضي أن فُوعالاً نحو طًومَارٍ، وفَاعُولاً نحو ساقُورٍ، وفاعالاً نحو خاتامٍ، وفَوْعالاً نحو ساباطٍ تُجمع على فعالِلَ وشبهه مما عدا ما تقدم، وكذلك يقتضي أن فُعْلَى نحو حُبْلَى، وفِعْلَى نحو ذِفْرَى يجمع على فعالِلَ وشبهه أيضاً أنها تخرج عن حكم الفعالي والفعالى. وأن فُعْلاء وفِعْلا نحو قُوباءٍ / وعِلْباء وفَعْلايا نحو حَوْلايا لا تُجمع على فَعَالِيَّ - بتشديد الياء - وليس كذلك، بل الأمر على خلاف ما اقتضاه النظم، فإنك إنما تجمع "طومار" على فواعيل، و"ساقور" على سواقير و"خاتام" على خواتيم و"ساباط" على سوابيط. وقد نص على ذلك في التسهيل في فصل فواعل لا في غيره، وهو الأولى. وليس بين ما ذكره هنا من نحو كوكب وجورب وبين هذه الأشياء

فرق إلا في المد قبل الآخر، وسيذكره إثر هذا، فلا يلتبس له بشيء، ولا يفوته فيه حكم. وكذلك أيضاً يقال في حُبْلَى: حَبَالَى وحبالِي، لكن حبالي نادر. وجماعة من النحويين ينكرونه. وذِفرًى وذفارَى وذفارِي، لكن ذفاري قليلٌ فيمن لم ينون. وكذلك فُعْلاء نحو قُوباء، وفِعْلاء نحو عِلباءٍ وحِرباءٍ لا يجمع إلا على فعالِيَّ ككرسيٍّ، فتقول: قَوَابيُّ وعَلاَ بِيُّن وفي حَوْلايا: حواليٌّ وكذلك ما أشبهه. هذا وجه من الاعتراض. ووجه ثانٍ، وهو أن كثيراً من الصفات الزائدة على الثلاثة دون ما تقدم لا يجمع على فعالِلَ وشبهه، وإن وجد فموقوفٌ على السماع، وذلك الصفات مما عدا ما ذكر. وقد ضبطوا ذلك بأن كل ما كان من الصفات جارياً على المذكر والمؤنث بلفظ واحد، أو يكون مختصاً بالمؤنث فإن جمعه في الأمر العام يكون على فعالِلَ وشبهه، كما ظهر من إطلاق الناظم، وكل ما كان منها يؤنث بالتاء إذا أريد المؤنث، ولا يؤنث إذا أريد المذكر، فهذا بابه التسليم بالواو والنون في المذكر، والألف والتاء في المؤنث، ولا يُجمع على مفاعِلَ أو غيره إلا نادراً. ويتبين ذلك بالتفصيل، فمن ذلك مُفْعِلٌ ومُفْعَلٌ

نحو: مُكرِم ومُكرَم بابه الجمع المسلَّم، وشذ من ذلك: مُنكَرٌ ومناكيرُ، ومُفطرٌ ومفاطيرُ، وموسِرٌ ومياسيرُ، فإن كان مُفْعِلٌ للمؤنث بلفظ التذكير، وأكثره مما يقع للمؤنث فما قال الناظم فيه صحيح، ومنه مفعولٌ نحو: مضروبٍ ومقتولٍ، لا يكسَّرُ على بناء من أبنية التكسير قياساً فضلاً عن أن يكسَّرَ على فعالِلَ وشبهه، وإنما بابه التسليم، / لكنهم قالوا: مكسورٌ ومكاسيرُ، وملعونٌ وملاعينُ، ومشئومٌ ومشائيمُ، قال الأخوص الرياحي أنشده سيبويه: مشائيمُ ليسوا مُصلِحينَ عشيرةٌ ولا ناعباً إلا ببينٍ غُرابُهَا وقالوا: مسلوخةٌ ومساليخُ. وهو نادرٌ، وشبهوه بالأسماء التي تقرُبُ من هذا الوزن كمُغرُودٍ ومغاريدُ، ومنه كل صفة على

مُنْفَعِلٍ أو مُفتَعِلٍ، أو مستَفعِلٍ، أو متفاعِلٍ، أو مُتفَعِّلٍ. وبالجملة: كل صفة جارية على فعلها فبابها أن تجمع جمع السلامة لأجل الجريان على الفعل. ومنه فَيعِل نحو: سيِّدٍ وميِّسٍ وفَيْلٍ ونحوه، وهو مما لا يجمع على فعالِلَ وشبهه أيضاً، وإنما له التسليم أو الجمع على أفعالٍ نحو: أمواتٍ وأفيالٍ وأكياسٍ، إلا شاذاً نحو: (عَيِّلٍ وعيائِلَ. ومنه فَعَّالٌ فإن بابه التسليم ولا يجمع على ما قال الناظم، وكذلك فُعَّالٌ نحو: ) حُسَّانٍ وكُرَّامٍ وقُرَّاءٍ، إلا أنهم قالوا: عُوَّارٌ وعَوَاويرُ، شبهوه بالأسماء، لأنه قلَّما يصفون به (المؤنث)، لأن العُوَّار هو الجبان، قال الأعشى: غيرُ مِيلٍ ولا عواويرَ في الهيْـ ــجَا ولا عُزَّلٍ ولا أكفالِ وقال الكميت:

لا عواويرُ في الحروب تنابيـ ـــلُ ولا رائمونَ بُرَّ اهتضامِ وكذلك فُعَّلٌ نحو جُبَّأٌ، وفُعَّيْلٌ نحو زُمَّيْلٍ. هذه كلها مما بابه التسليم لا التكسير، وكلام الناظم - كما ذكر - يقتضي الجمع على فعالِلَ وشبهه، وهو غير صحيح. وأما مِفْعَلٌ ومِفعَالٌ ومِفْعيلٌ فإن فعالِلَ وشبهه قياس فيه، إذ لا تدخله التاء، فتقول: مِطْعَنٌ ومَطاعينُ، ومِهْذارٌ ومَهاذِيرُ. وقال: يظلُّ مقاليتُ النساء يطَأْنَهُ يقلْنُ ألا يُلْقَى على المرءِ مِئْزَرُ فجمع مِقْلاتاً على مقاليتَ، لأن التاء لا تلحقه. فهذا كله فيه ما ترى. ووجه ثالث: وذلك من حيث شمل كلامه الخماسيَّ الأصول، يقتضي أنه يُكَسَّرُ قياساً لا مقال فيه، ومطلقاً لا تقييد فيه. وليس كذلك، بل نص النحويون على أن الأولى فيه التصحيح إن أمكن وألاَّ يُكسَّرَ، (بل يقل تكسيره)، لما يلزم من حذف حرفٍ أصلي

من الكلمة، وهو مستكرَهٌ عندهم، ولذلك يقول النحويون: لا يُكسَّرُ إلا على استكراه، وفسَّر لنا شيخنا القاضي / - رحمه الله - كيف وجه استكراههم، وذلك أن يقال لهم: كيف تجمع سَفَرْجَلاً على حدِّ ما تجمع جَعْفَراً فتقول: جعافِرُ؟ فحينئذ يقول: سفارِجُ. فكأنَّ العرب لا يُكسِّرونه إلا كارهين لذلك؛ لأنه لهم عن تكسيره واقتطاع جزء من الكلمة مندوحةً، فيسلم إن كان فيه شرط جمع السلامة، وإن كان اسمَ جنسٍ لم يحتج إلى جمعه كفرزدق وسفرجل، قالوا: وعلى ذلك أكثر ما جاء من الخماسيِّ، فإذا حملوا عليه وأُكرِهوا جمعوه وحذفوا. وإذا كان كذلك، وكان في جمعه هذا الشَّغْبُ، ولم يكن في كلام العرب إلا قليلاً، فكلام الناظم في إطلاقه جوازَ الجمع غير سديد. فأما الاعتراض الأول فقد يجاب عن بعض ما فيه، فأما فُوعالٌ وفاعُولٌ وما ذكر معهما فحكمهما مأخوذ من كلامه، وذلك أنه تكلم هنا على ما ليس قبل آخره حرف لين، ثم استدرك الحكم بعد ذلك على أن ما آخره حرف لين فحكم ذلك الحرف أن يبقى مبدلاً منه الياء، فإذا جمعت بين الموضعين جاء منه أنَّ فاعَال هو فاعلٌ، وقد

ذكره، وأن فَوعال هو فَوعل وفي حكمه، وقد ذكره أيضاً، وكذلك فاعول في حكم فاعل، إذ هو يشبهه، وفوعال هو فوعل بزيادة اللين، فقد حصل له حكمه من الجمع على فواعل، ولكن بزيادةٍ قبل آخره، فما ذكره من الأمثلة في فواعل يشمل ما كان في حيِّزها. وأما قُوباءٌ وحِرباءٌ ونحوهما فليس فَعالِيُّ فيه بأصل، وإنما هي أصل في مثل كراسيٍّ، وبيان هذا أن الياءين في كراسيَّ ونحوه زيادتان زيدتا معاً في كرسيّ كياءي بَصْريٍّ، ففَعاليُّ فيه على أصله، بخلاف الياءين في قَوابيَّ فإنَّ المفرد على قُوباء، وهو مما ثبت قبل آخره حرف لين، فيثبت لذلك على ما يذكر بعد، فإذا ثبت كان على شبه مفاعيل كطومار وطوامير، لكن إذا قلت: قوابيي، اجتمع ياءان فوجب إدغام إحداهما بالأخرى، فصار فعاليَّ، فالإدغام هنا غير أصيل، بخلاف الإدغام في كراسيَّ فإنه أصيل، فليس قوابيُّ وعِلابيُّ بفعاليَّ في الحقيقة، وإنما هو مثل مفاعيلَ، فلذلك أخرج قُوباءً ونحوه عن فصل فعاليَّ، وما فعله في التسهيل من الجمع بينهما في فعاليَّ فاعتباراً / بالظاهر، وما فعله هنا فهو التحقيق. وعلى هذا يجري القول في حَولايا؛ إذ لا بدَّ في هذا الجمع من حذف الألف الأخيرة،

فيبقى حولايَ، فيجري مجرى عِلباءٍ. وأما الاعتراض الثاني فلا جواب عنه، إلا أن يكون قائلاً بالقياس في جمع تلك الصفات على فعالِلَ وشبهه. وهذا بعيدٌ ومردودٌ على من قال به، لأن العرب قد استغنت بالتصحيح، وكونه في الأصل للجمع القليل، ثم اقتصرت العرب عليه، دليل قصد الاستغناء، وحيث قصد الاستغناء فلا يجوز إجراء القياس، لأنه نقض الغرض، ونقض الغرض ممنوع على ما ثبت في الأصول. أو يقال: إن الصفات التي زادت على الثلاثة قد تقدم جواز التصحيح فيها من باب المعرب والمبني، فنحمل قوله هنا: "من غير ما مضى" يريد به ما مضى في هذا الباب وغيره من هذا النظم. وعلى هذا يكون مُفْتَعِلٌ ومستفعِلٌ ونحوهما مما تقدم، مقتصراً به على ما قدم فيه من تصحيح فقط، أو مع التكسير الذي قدم في فَعيلٍ ونحوه. وهذا ممكن في الاعتذار عنه على ضعفه، والله أعلم. وأما الاعتراض الثالث فلا جواب عندي فيه أيضاً، إلا أن يقول بالقياس فيه كما تقدم قبل هذا، ولو عين ما يجمع بالواو والنون،

أو بالألف والتاء، لسَلِم من هذا كله. ولما أتمَّ الكلام على هذا النحو، وكان فيه ما لا بد من حذف بعض حروفه لتقوم بنية التكسير على فعالِلَ وشبهه، وهي رباعية، فلا بد في الخماسي وما فوقه من الحذف، وسواءٌ أكانت الحروف أصولاً كلها أم فيها زوائد - أخذ يذكر ذلك، وابتدأ بحذف الحرف الأصلي فقال: "انف" والنفي ضد الإثبات، أي: أزل الآخر واحذفه من الاسم الخماسيِّ الذي جُرِّدَ. ومعنى كونه جُرِّدَ: أنه جُرِّدَ من لحاق الزوائد، تحرزاً من الخماسي الذي أصله الرباعي نحو: عُذافِرٍ وفَدَوكَسٍ، أو الثلاثي نحو: صَمَحْمَحٍ وعَقَنْقَلٍ، فإن هذه لا يُنفى منها الآخر، بل يبقى آخرها على حاله ثابتاً ويحذف غيره من الزوائد، على ما يتبين إثر هذا إن شاء الله، / فتقول: عَذَافِرُ وفَدَاكِسُ وصَمَامِحُ وعَقَاقِلُ، ونحو ذلك، ولا تقول: عَذَائِفُ ولا فَدَائِكُ ولا صَمَاصِمُ ولا عَقَانِقُ، لما يؤدي إليه من حذف حرفٍ أصلي من غير حاجة. فإن قلتَ: فيقتضي بمفهومه أن الخماسيَّ غير المجرد على الإطلاق

لا يحذف الآخر، وليس كذلك، فإن الخماسي الأصول إذا لحقته الزيادة حذف أيضاً آخره كعَضْرَفُوطٍ وعَرْطَبيلٍ وقَبَعْثَرًى. تقول: عَضارِفُ، وعَرَاطِبُ، وقَبَاعِثُ، ولا تُبقي الآخر أصلاً، لأن بِنيةَ التكسير لا تقوم به. فالجواب: أنه إنما يريد بالتجريد تجريد الأحرف الخمسة خاصة من الزوائد، فلا يكون فيها زائدٌ معدود منها، فالخماسي المجرد عنده هو الذي جُردت حروفه الخمسة التي سمى بها خماسياً من زائد فيها، فعلى هذا فالخماسي غير المجرد ما كان على خمسة أحرف لم يتجرد عن زائد، ولو كان يريد بالخماسي غير المجرد ما هو كعَضْرَفُوطٍ وعَرْطَبيلٍ لم يكن خماسياً، ولم يطلق عليه لفظ الخماسي، إذ ليست حروفه خمسة، وإذا أطلق لفظ الخماسي أو الرباعي في كلامهم فالمراد به ذو الحروف الأصول وحدها أو مع غيرها، فهو إطلاق عام، فإذا

قُيَّدَ فهو على ما قُيِّدَ من انفراد بالأصول أو اشتراط مع الزوائد، فالحاصل أن نحو عَضْرَفُوطٍ من قبيل الخماسي المجرد. وقوله: "الآخرَ انفِ بالقياس"، أي: احذف آخره قياساً إذا جمعته فتقول في فرزدق: فرازِدُ. وفي سفرجل: سفارِجُ، وفي قُذْعْمِل: قَذَاعِمُ، وفي جِرْدَحْلٍ: جرادِحُ، وفي صَهْصَلِقٍ: صهاصِلُ، وتقول أيضاً في عَضْرَفُوطٍ: عضارِفُ، وفي قَبَعْثرًى: قباعِثُ، فتحذف الآخر من الأصول. فأما حذف الزائد معه فيؤخذ له مما يأتي إثر هذا. وإنما قال: "بالقياس" لأنه هو القياس كما قال، لأن الحذف والتغيير موضعه الأواخر لا الأوائل، لأن أول الكلمة أقوى من آخرها، ولذلك (لا) تسهل فيه الهمزات، بخلاف الآخر إذ هو محل الوقف والتغيير والحذف بالترخيم وغيره، فإن بنية التكسير قد كلمت قبل الآخر، فلا حاجة إلى ما بعد ذلك. والناظم هنا على مذهب البصريين في الحذف حتماً، وقد أجاز الكوفيون بقاءَ الآخر في التصغير، ولا يبعد أن يقولوا به في التكسير؛ لأنه جار مجراه،

وكلاهما ليس من كلام العرب كما قال الخليل في التصغير، قال: لو كنتُ محقِّراً الخماسي / لا أحذف منه شيئاً لقلت: سُفَيرِجْلٌ، ليكون بزِنَةِ دُنَينِيرٌ. قال: هذا أقرب وإن لم يكن من كلام العرب. يعني أن هذا هو القياس لو قيل. ووجه ما فعلوا من حذف الحرف الخامس، وكانوا قادرين على أن يأتوا ببنية تشمل الخمسة: أن التكسير والتصغير ضربٌ من التصرف، والتصرف أصله للأفعال وحدها، وما دخل من التصرف للأسماء فبالحمل على الأفعال، والأفعال إنما تنتهي في أحرفها الأصول إلى أربعة خاصة كقَرْطَسَ وسَرْهَفَ، فإذا أرادوا أن يبنوا من خماسيٍّ فِعْلاً ردوه إلى الرباعي، ألا ترى إلى قوله: وَدَرْدَبَتْ والشيخُ دَرْدَبيسُ فدَرْدَبَتْ مبني من دَرْدَبِيسٍ، وليس على حد الاشتقاق مع ذلك، لأن الاشتقاق لا يدخل الخماسي، فلما كان عامة التصرف إنما هو

للفعل، ولا ينتهي إلا إلى أربعة، قصروا التصرف على ذلك، فأتوا ببنية التكسير والتصغير رباعيةٌ رجوعاً إلى بنية ما أصله التصرف. ثم ذكر الناظم أن ما قبل الآخر قد (يحذف دون الآخر إن كان شبيهاً بالحرف الزائد، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة، فقال: والرابعُ الشَّبيه بالمزيدِ قدْ يُحذَفُ) ... ... ... ... ... يعني أن الحرف الرابع من الاسم الخماسي قد يحذف في التكسير لتقوم بنيتُهُ فيه، لكن بشرط شَبَهِ ذلك الرابع بحرف من حروف الزيادة التي يجمعها سألتمونيها، فإذا كان كذلك جاز حذفه، فتقول في خَدَرْنَق: خُدَيرن - على حذف الآخر - وخُدَيرِق - على حذف ما قبل الآخر وهو النون، لأنه شبيه بالمزيد؛ إذ النون من حروف الزيادة. وكذلك تقول في قُذَعْمِل: قُذَيعِم -، إن حذفتَ الآخر، وإن حذفت ما قبل الآخر قلت: قُذَيعِل، وما أشبه ذلك. والشبه بالمزيد على وجهين، شبهٌ في نفس الصورة كما ذكر في خَدَرنق، ومثله لو جمعتَ صَهْصَلِق لقلتَ: صهاصِقُ، وفي قَهْبَلس: قهابِسُ، ونحو ذلك. وشبَهٌ في الصفة، كالدال الشبية بالتاء لأنها

من مخرجها، وهي مثلها في الصفة التي هي الشدة، فقالوا في فرزدق: فرازِقُ، فحذفوا الدال، قال ابن عصفور: إلا أن يكون الآخر حرفاً من حروف الزيادة، فإنك لا تحذف غيره، كقولك: شَمَرْدَل، فإن اللام من حروف الزيادة. فكأنه يقول: إذا كانوا مما يحذفون / ما قبل الآخر لشبهه حرفَ الزيادة في الصفة كالدال في فرزدق، فأولى أن يحذفوا ما أشبهه في الصورة والحقيقة، وذلك اللام، فلا تحذف الدال من شَمَرْدَلٍ وجَعَنْدَلٍ. وما قاله ابن عصفور ظاهره مخالفةُ سيبويه إذا أجاز في قُذَعْمِلٍ قُذَيعِل بحذف ما قبل الآخر، مع أن الآخر من حروف الزيادة، لكن له وجه من القياس إن ساعده عليه السماع. ولم يأخذ الناظم بقول ابن عصفور هذا، بل أجرى القاعدة على مذهب الجمهور. وعلى كل حالٍ فحذف ما قبل الآخر قليل، وهو أقل من حذف الآخر على كل حال، وحذف ما قبل الآخر إذا كان من حروف الزيادة أولى منه إذا كان يشبهها. ولم ينبه الناظم على هذا الترتيب، بل أجاز الوجهين على قلةٍ، نبَّهَ عليها بقَدْ،

مع أنهما غير متساويين في الجواز، وذلك على عادته في بعض المواضع حيث يطلق الجواز في حكمين وإن كان أحدهما أولى من الآخر، وهذا قريب. واعتبار حقيقة التشبيه الذي نبه عليه يبيّنُ أن ما قبل الآخر لا يحذف مطلقاً، فلا يقال: في سفرجل: سفارِلُ. ولا في هَمَرْجَل: همارل. وقد أجاز الكوفيون في التصغير حذف ما قبل الآخر كيف كان، فيقولون: سُفيرِلَة في سَفَرْجَلَة. وكأنه قياس على فُرَيزِق في فرزدق. وقد بان الفرق بينهما، فالصحيح أنه لا يجوز في تصغير ولا تكسير. وأجاز الكوفيون أيضاً والأخفش حذفَ ما قبل الحرف الرابع إن كان يشبه حروف الزيادة في الحقيقة أو في الصفة، فيقولون في جَحْمَرِش، جَحَارِشُ. وكذلك ما كان مثله، وهو غير صحيح أيضاً، إذ لا سماع معهم، والقياس يأبى ذلك؛ لأن ميم جَحْمَرِش ليست بطرف ولا تلي الطرف، والتغيير إنما يلحق الطرف أو ما يليه، قال سيبويه: "ولا يجوز في جَحَمْرِش حذف الميم وإن كانت تزاد، لأنه لا يُستنكر أن يكون بعد الميم حرف يُنتهى إليه في

التصغير كما كان ذلك في جُعَيْفِر، وإنما يستنكر أن يجاوَزَ إلى الخامس". قال: "فهو لا يزال في سهولة حتى يبلغ الخامس ثم يرتَدِع، فإنما حَذَفت الذي ارتُدِع عنده حيث أشبه حروف الزوائد، لأنه منتهى التحقير، وهو يمنع المجاوَزَة". وقوله: "دون ما به تمَّ العدد" احترازٌ حسنٌ، لأنه لما ذكر أولاً حذف الآخر، / ثم عطف عليه حذْفَ ما قبله، خاف أن يُتوهم حذفه مع حذف الآخر أيضاً، فرفع هذا الإيهام بقوله: (دون) ما به تم العَدَدْ"، أي: إنهما في الحذف متعاقبان لا متلازمان. والعدد: أراد به الخماسي المذكور. وإنما حذفوا ما قبل الآخر لأن حكمه في التصريف حكمُ الآخر، إذ من عادتهم إيقاع الإعلال به كما يقع بالآخر، بخلاف ما إذا بَعُدَ من الآخر، كما قالوا في صائم وقائم: صُيَّمٌ وقُيَّمٌ. والأصل: صُوَّمٌ وقُوَّمٌ، لكنهم قلبوا الواو ياءً لقربها من الآخر، ولما قالوا: صُوَّامٌ وقُوَّامٌ بَعُدَ من الآخر، فلم يقلبوا الواو أصلاً، فكذلك هنا. وقال

السيرافي: مَن حذف الدال من فرزدق لم يحذف ميم جَحْمَرِش لبُعْدِها من الطرف، قال: والحرف الثالث يؤتَى به في التصغير ضرورةً، وقد يكون التصغير ولا حرف رابع، قال: فلما جاز أن يوجد وألاَّ يُوجد شُبِّهَ بالزوائد إذا كان من جنسها أو من مخرجها. *** ولما أتم الكلام على حذف الحرف الأصلي أخذ في ذكر حذف الحرف الزائد فقال: وزائدَ العادي الرباعي احْذِفْهُ ما لم يكن لِيناً اثرَهُ اللذ خَتَما العادي: اسم فاعل من عدا الشي يعدوه: إذا جاوزه، وهو صفةٌ لموصوف محذوفٍ تقديره: وزائدَ الاسم العادي الرباعي. و"زائدَ": منصوب بفعل مضمر من باب الاشتغال مفسره قوله: احذفْهُ. و"الرباعي": منصوب بالعادي، أي: العادي الرباعي، لكنه حذف إحدى ياءَيِ النسب للضرورة، ثم لم يُظهِر الفتحة فيه أيضاً، فارتكب ما هو في الشعر كثيرٌ، نحو قول النابغة:

ردَّت عليه أقاصيه ولبَّدَهُ ضرْبُ الوليدة بالمسحاةِ في الثأدِ وفي الكلام نادرٌ، ومنه القراءة وهي: {من أوسط ما تطعمون أهاليكم} هكذا بإسكان الياء. وضمير "يك" عائدٌ على الزائد. و"اللذ" لغةٌ في الذي كقوله: فكان والأمر الذي قد كِيدا كاللذ تَزَبَّى زُبْيَةً فاصطيدا ومعنى الكلام: أن ما كان من الأسماء زائداً على الأربعة، وذلك الخماسي وما فوقه، فإن الزائد فيه من الحروف يُحذف مطلقاً، سواءٌ كان (زائداً واحداً أم أكثر من ذلك، وسواءٌ أكان في أول الكلمة أو في وسطها أم في آخرها، وسواء أكان) الزائد حرف لين أم غيره، إلا إذا كان حرف اللين قبل الآخر فإنك لا تحذفه / أصلاً، بل تبقيه وإن كان الاسم به فوق الرباعي. أما الرباعي فقد أخرجه عن أن يحذف منه شيء بوجه فتقول في أفْكَلٍ: أفاكِلُ، وفي صيرَفٍ: صيارِفُ، وفي كوكبٍ: كواكبُ،

وفي تنضُبٍ: تناضِبُ، وفي عَنْسَلٍ: عناسِلُ، وفي أرْطًى: أراطٍ، وفي جَدْولٍ: جداوِلُ. فقد قامت بنية التكسير مع وجود الزائد، فلا ضرورة تدعو إلى حذف شيء. فإذا زاد على الأربعة فلا بد من الحذف، لأن بنية التكسير لا تقوم به، لأنها رباعية كما تقدم، لكن إنما يحذف الزائد إذا كان ثم زائد لا الأصلي، إذ كان حذف الأصلي هدماً لأصل الكلمة. والمحذوف الزائد تارة يكون حرفاً واحداً، وتارة يكون أكثر، وذلك داخل تحت إطلاقه وعموم قوله: "وزائد" لأنه اسم جنس مضاف. فإذا كان الاسم خماسياً حذف منه حرف واحد خاصة، فتقول في منطلقٍ: مَطَالقُ، وفي مقتدرٍ: مقادِرُ، وفي مُسَلَّمٍ: مَسالِم، وفي جَحْجَبَى: جحاجِبُ، وفي جَحَنْفَل: جحافِلُ، وفي فَدَوكَسُ: فداكِسُ. فإن كان ما قبل الآخر حرف لين أُبقي كما قال، فتقول في قنديل: قناديل، وفي شِملال: شماليل، وفي كُرسوع: كراسيع، ولكن إن كان حرف اللين ألفاً قلبت ياءً، وكذلك إن كان واواً قلبت أيضاً ياءً. وإنما لم تحذف لأن بقاءها لا يُخِلُّ ببنية التصغير بخلاف الحرف الأصلي والزائد غير اللين.

وإذا كان سداسياً حذف منه حرفان حتى يصير رباعياً، فتقول في مستكبر: مكابر، وفي مستخرج: مخارج، وفي مُسْحَنْكِك: مسَاحِك، وفي مُغْدَودِنٍ: مغادِنُ، وفي مُقشَعرٍّ: قشاعِرُ. وما أشبه ذلك. فتحذف حرفين إلا أن يكون الثاني من الزائدين قبل الآخر فإنك لا تحذف إلا واحداً لقيام بناء التكسير مع وجوده، فتقول في منجنيق: مجانيقٌ، وفي عيطموس: عطاميس، وفي عنتريس: عتاريس، وفي عيضموز: عضاميز. وإذا كان الاسم سباعياً حذفتَ إلا أن يكون الرابع من الحروف حرف لين فإنه يبقى لحصوله في بنية التكسير قبل الآخر، فمثال ما عَدِمَ اللين رابعاً: بَرْدَرَايا، فإنك تقول فيه: برادِرُ. ومثال ما رابعه اللين: اشْهِيبابٌ، تقول فيه: شهابيبُ، وفي احرنجامٍ: حراجيمُ، وفي اقشعرارٍ: قشاعيرُ. وما أشبه ذلك. وقد ثبت في بعض النسخ هنا عوض قوله: / وزائدَ العادي الرباعي احذِفْهُ ما قوله: وزائدَ الرباعي احْذِفَنْهُ ما

وهو يريد ذلك المعنى إلا أن الأولى أحسن، لأن هذه الأخيرة موهمة أن يكون أراد بزائد الرباعي ما كان نحو صيرفٍ وكوكبٍ وقذالٍ. وهذا المفهوم غير صحيح، مع ما فيه من تحريك ياء" الرباعي" بعد تخفيفها، وذلك من الضرورة نحو قول ابن قيس الرقيات: لا بارك الله في الغوانيِ هلْ يُصبحْنَ إلا لهنَّ مُطّلَبُ فما تقدم هو الأصح. ثم في قوله: ... ... ... ... ما لم يكُنْ ليناً إثْرَهُ اللذ خُتِمَا إحداها: أن هذا الحكم منسحب على كل ما كان على فعالل وشبهه مما تقدم أو تأخر، فيدخل تحته: فواعلُ، وفعائِلُ، وفَعَال، وغير ذلك، فيكون جمعُ خاتامٍ وطومارٍ وجاسوسٍ وتَوْرابٍ ونحو ذلك داخلاً تحت حكم فواعِلَ المتقدم، فتقول: خواتيمُ وطواميرُ وجواسيسُ وتواريبُ، بمقتضى كلامه في فواعل، لكن لا من أمثله ثَمَّةَ، ولكن من هذا الموضه ومن هناك معاً كما تقدم التنبيه عليه. فإن قلتَ: ويظهرُ أن الحكم جارٍ في "فَعَاليّ"، وهو جمع

صحراء المتقدم، لأنه خماسي، ما قبل آخره حرف لين، فيقتضي ألا يُحذف حرف اللين منه، فيقال: صحاريُّ. ولم يحكه الناظم، فهو نقض عليه به. فالجواب أن نقول: نعم، كان الأصل ذلك، وعليه جاء صحاريُّ بالتشديد، لكنه لما خصه الناظم بحكم غير ما تقتضي هذه القاعدة، كان موضعاً مستثنًى منها، من غير أن يحمل على تناقض، والدليل على أنه استثناء نصه على الحكم فيه، إذ لو كان داخلاً لم يحتج إلى ذكره، وقد مرَّ في التوجيه أن المحذوفة هي الألف الزائدة لا ألف التأنيث. وكذلك تبين من هذا أن عِلباءً وحِرباءً وقُوباءً تُجمع على فعاليَّ، لأنه وإن كان خماسياً فقد وقع حرف اللين فيه قبل الآخر، فلا يحذف، فإذا جمع قيل: عَلابييُّ، فتجتمع ياءان، فتدغم إحداهما في الأخرى فيقال: عَلابيُّ. ففَعاليُّ في بالعرض كما تقول في حَوْلايَا: حَوَاليُّ، كذلك أيضاً. المسألة الثانية: أن حرف اللين المبقَى لا بد أن يكون زائداً، ويدل على ذلك من كلامه قوله: "ما لم يكُ ليناً" أي: ما لم يكن ذلك الزائد. فإذاً لا بد من كونه زائداً، فلو كان أصلياً - ويتأتى ذلك في الألف بكونها منقلبة عن أصل، وهو سهل في الياء والواو لكونهما

يكونان أصليين بأنفسهما - فلا يجوز إثباته مدة (كمختار / فلا تقول: مخاتير، ولا في منقادٍ: مناقيدُ. بل تحذف تاء مُفتَعِلٍ ونون مُنفَعِلٍ، وتقول: مخايِرُ ومقايِدُ). هذا إن لم تعوِّض. وكذلك تقول مفي مستزاد: مزايد، ولا تُبقَّى الألف؛ لأنها أصلية لا زائدة، وذلك لأن بنية التكسير التي هي مفاعيل الياءُ فيه زائدة، فلا يجوز أن يُحكم للأصلي بحكم الزائد. المسألة الثالثة: أن قوله"ليناً" يريد به حروف اللين الثلاثة، ولكن لم يقل: "ما لم يكن مداً" ليدخل له ما كان من الواو والياء قبلهما مفتوح نحو قولك: كَنَهْوَرٍ وقِلَّوْبٍ وسِنَّوْرٍ وعُلَّيْقٍ وسُكَّيْتٍ وسُرَّيْطٍ، وشبه ذلك، فإنك كما تقول في قنديلٍ وبُهلولٍ وشملال: قناديلُ وبهاليلُ وشماليلُ، كذلك تقول في كَنَهْوَرٍ: كناهِرُ، وفي قِلَّوْبٍ: قلاليبُ، وفي سِنَّوْرٍ: سنانير، وفي عُلَّيْقٍ: علاليقُ، وفي

سُكَّيْتٍ: سكاكيت، وفي سُرَّيْطٍ: سراريط. فلا تحذف حرف اللين لأنه زائد وإن كان غير حرف مد، لأنه إذا حذف منه الحركة إذا كان متحركاً وكسر ما قبله؛ على ما يقتضيه بناء التكسير، صار كحرف مد، فصح إبقاؤه؛ إذ لم تخرج البنية عن حقيقتها وأصلها من فعاليلَ وشبهه. وعلى هذا تقول إذا كسَّرت مثل مغدودِنٍ قلتَ: مغادينُ - بالياء - إن قدَّرْتَ أنك حذفت الدال الثانية، قال سيبويه: "كأنك في التصغير حقَّرت مُغْدَوْن"، قال: "لأنها تبقى خمسة أحرف رابعتها الواو، فتصير بمنزلة بُهلولٍ وأشباه ذلك". وأما إذا قدَّرتَ حذف الدال الأولى فتقول: مغادِنُ، بمنزلة عُذافِرٍ، إذ لم تقع الألف رابعة قبل الآخر. لكن إطلاق الناظم يقتضي أن حرف اللين هذا حكمه، سواءً أكان مدغماً إدغاماً أصلياً أو غير أصلي أم كان غير مدغم، أما غير المدغم فقد مر، وأما المدغم إدغاماً أصلياً فكعَطَوَّد، وهَبَيَّخ - والإدغام الأصلي هو الذي ليس أصله الفك - فواو عَطَوَّدٍ زيادتان زيدتا معاً كياءَي النسب، وكذلك ياءا هَبَيَّخٍ،

بخلاف واوَي مُقَوَّل إذا بنيت من القول مثل مُسَرْوَلٍ، فإن الواوين ليستا بزائدتين، بل الأولى أصلية، وهي في مقابلة الراء في مُسَرْوَلٍ، والثانية هي الزائدة للإلحاق بِمُدَحْرَجٍ، فإحدى الواوين مفصولة إحداهما من الأخرى، فليس الإدغام فيها / إدغاماً أصلياً، فكلا المدغمين داخل تحت كلام الناظم، أما إذا كانت الواو والياء مدغمة إدغاماً غير أصلي فاتفقوا على أن اللين لا يُحذف لأنه كواو كَنَهْوَر، فتقول في مُقَوَّل المذكور: مقاويلُ، بالياء من غير حذف، وفي مُبَيَّع - إذا بنيت من البيع مثل مُرَهْيَأٍ، على من قال: إنَّ رَهْيَأَ فَعْيَلُ - تقول: مباييع، فلا تحذف وإن كانت مدغمة، إذ ليست الياءان بمزيدتين معاً، بل الياء الأولى أصلية في مقابلة الهاء من مُرَهْيَأ، والثانية هي الزائدة وحدها كمُقوَّلٍ من كل وجه. وأما المدغمة إدغاماً أصلياً كعَطَوَّدٍ وهَبَيَّخٍ فتقول على مقتضي النظم: عطاويدٌ وهباييخُ ليس إلا، وهو مذهب المبرد، قال: لأنه رابعه واوٌ زائدة، يعني في عَطَوَّدٍ كواو كَنَهْوَر/ فكما لا يجوز في كَنَهْوَر إلا أن يقال: كناهيرُ، كذلك لا يجوز في عَطَوَّدٍ إلا عطاويدُ. وكذلك الياء على مذهبه، والمنقول من

هذا عنه إنما رأيته في التصغير، ولا شك في جريانه في التكسير، لأن أحدهما عند الجميع محمولٌ على الآخر. ومذهب سيبويه أن الواو لا تبقى، وإنما تقول: عُطَيِّيد، في التصغير بحكم التعويض، ويجوز عُطَيِّدٌ. والفرق بين المدغمة إدغاماً أصلياً على مذهبه والمدغمة إدغاماً غير أصليٍّ أن الواوين في عَطَوَّد، والياءين في هَبَيَّخٍ ونحوهما، زيدا معاً فلا يقع مع الواو الثانية والياء الثانية غيرهما، وليست واو مُقَوَّلٍ ومُبَيَّعٍ كذلك، بدليل وقوع الراء قبل الواو في مُسَرْوَل، والهاء قبل الياء في مُرَهْيَأ، فلهذا كان قول سيبويه أولى. ومع هذا فإن الشلوبين يرى أن سيبويه مستندٌ في ذلك إلى السماع لأنه قال في التصغير: "وإذا حقَّرتَ عَطَوَّداً قلتَ: عُطّيِّدٌ وعُطَيَّيْد، لأنك لو كسَّرته للجمع قلتَ: عَطاوِد. قال الشلوبين: قوله: "لأنك لو كسَّرتَ للجمع قلتَ: عطاوِد" توقيفٌ، وجعل قول سيبويه أخيراً: "وكذلك قول العرب والخليل" راجعاً إلى المسائل المتقدمة. والذي رجح قول سيبويه، وهو الذي ذهب إليه في التسهيل، وهو راجٌح؛ لأن الأصل في

حرف اللين الذي يثبت هو أن يكون زائداً ساكناً، فإذا تحرك فينبغي أن يبقى بحركته، وإذ ذاك يخرج به البناء عن أبنية التكسير/، فإذا كان متحركاً ومنفرداً سهل عليهم حذف حركته فيثبت؛ لأنه ساكنٌ زائدٌ، فإذا كان ملحقاً بالأصل وزيد مع ذلك أن ضوعف كما تضاعَفُ الأصول زيادةً إلى كونه متحركاً، بَعُدَ كثيراً عن حرف اللين الزائد، فوجب لذلك حذف الحرف المدغم فيه. وما قاله الشلوبين محتمل، فإن كان كما قال فلا مَعدَلَ عنه، وإلا فما ذهب إليه الناظم يظهَرُ وجهه، لأن حرف اللين لا ينبغي أن يحذف بإطلاق إذا أمكن إبقاؤه، وقد أمكن هاهنا، وأصالة الإدغام لا تمنع. المسألة الرابعة: أن قوله: "ما لم يكُ ليناً" يقتضي أن الحذف فيه لا يجوز. وذلك صحيح، إذ لا يقال في سِربال: سَرابِلُ، ولا في قنديل: قنادِلُ، ولا في سُرْحوبٍ: سَراحِبُ، إلا أن يُضطرَّ شاعرٌ، نحو ما أنشده سيبويه من قوله: وكَحَّلَ العينين بالعَوَاوِرِ أراد: العواويرَ، فحذف ضرورةً. وسيأتي التنبيه عليه إن شاء

الله في الباب بعد هذا، وهو باب التصغير. المسألة الخامسة: أن قوله: "إثرَهُ اللّذْ خُتِمَا" فيه إشكال لفظي وإشكال معنوي، فأما الإشكال اللفظي ففَقْدُ الضمير العائد على الذي، لأن الضمير في "ختم" إما أن يكون هو العائد على الذي، وكأنه يريد: إثره الحرف المختوم، وهذا غير مستقيم، لأن الحرف ليس هو المختوم، وإما أن يكون عائداً على غير الحرف، فإذ ذاك يبقى الذي دون ضمير، وكأن حقيقة المعنى إنما هو: إثره الذي ختم به، أي: الذي ختم اللفظ (به)، ولا يقال أعجبني الذي مررت! والجواب: أنه حذف الضمير المجرور بالباء وإن لم تتوفر شروطه ضرورة، والمعنى على: ختم به. ومثل ذلك قد ورد في الشعر، مثل ما أنشده الفارسي في الشيرازيات: فقلت له لا والذي حجَّ حاتمٌ أخونُُكَ عهداً إنني غير خَوَّانِ أي: حج حاتمٌ له، فحذف ضرورة. ومثل ذلك في النظم

مغتَفَرٌ، هذا كله إن كان "خُتِم" مبنياً للمفعول، وأما إن كان مبيناً للفاعل، ومرفوعه ضمير الحرف الذي خَتَمَ الكلمة فلا إشكال. ولم يأت إلى بلادنا من الرجز نسخةٌ مرويَّةٌ، فالعذر في نحو (هذا) مقبولٌ. وأما الإشكال المعنوي فإن ظاهره أنه يريد بضمير "خُتِم" العودَ على ما عدا الرباعي من الأسماء، وهو مرادُه بالعادي، فكأنه يقول: / إثره الحرف الذي ختم اللفظ الخماسي به. وإذا كان كذلك فحرف اللين الذي يثبت لا يلزم أن يكون إثره الحرف الآخر، بل قد يكون بعده أكثر من حرف واحد، وذلك نحو حولايا، فإن اللين الذي يثبت فيه ليس قبل الآخر، وإنما هو قبل ما قبل الآخر، وكذلك: هِجِّيْرَى، وحِثِّيْثَى، وإِهْجِيْرَى، ومُغدَوْدِن، ولُغَّيزَى، وبُقَّيْرَى، وخُضَّارى، وشُعَّارى، ومعلوجاءُ، ومشيوخاءُ، فإنك تقول: حواليُّ، وهجاجيرُ، وأهاجيرُ، ومغادينُ، - إن حذفت الدال الثانية -

ولغاغيز، وبقاقيرُ، وخضاضيرُ، وشقاقيرُ، ومعاليجُ، ومشاييخُ. وكثير من ذلك، فليس اللين الثابت فيه ما قبل الآخر، فقول الناظم: "إثْرَهُ الذي خُتِما" فيه ما ترى. والجواب: أن جميع ما ذكر في السؤال من الأسماء أقَلِّيٌّ بالنسبة إلى ما اللين فيه قبل الحرف الآخر. وأيضاً فإنه قبل الآخر بالنسبة إلى صيغة جمع التكسير، لأنك إنما تكسير الاسم الخماسي فما فوقه بعد أن تحذف ما يحتاج إلى حذفه تقديراً وتصيره اسماً تقوم به بنية التكسير، وهكذا يقرِّرُ الأمر فيه سيبويه، فهِجِّيْرَى وحِثَّيْثَى وما ذكر معه يقدر أولاً محذوفاً منه ما يفتقرُ فيه إلى الحذف، وهو الألف فيما آخره ألف، وحذف الدال الثانية من مُغْدَودِن حتى تصير في التقدير "مُغْدَون"، وسيتبين شيءٌ من هذا إثر هذا بحول الله، وقاعدةُ بيانه الأصولُ، فإذاً لا اعتراض بذلك والله أعلم. *** ثم ذكر ما يحذف من الزوائد إذا اجتمع منها اثنين فأكثر، وكانت الحاجة في حذف البعض فقال:

والسين والتاء من كَمُسْتَدْعٍ أزِلْ إذ ببنا الجمع بَقَاهُما مخِلّ والميم أولى من سواه بالبَقَا والهمزُ والياء مثلُهُ إن سَبَقَا والياء لا الواو احذفِ ان جَمَعْتَ ما كحيزبُونٍ فَهْوَ حُكْمٌ حُتِمَا هذا الفصل يستدعي تمهيدَ أصلٍ، وذلك أن الخماسي إن كان فيه زائدٌ واحدٌ ليس قبل الآخر فلا بد من حذفه، فإن كان فيه زيادتان فلا بدَّ من حذف إحداهما، وكذل السداسي إن كان فيه زيادة أو زيادتين فلا بد من حذفهما معاً، فإن كان فيه ثلاثُ زوائدَ فإنك تحذف زيادتين وتُبقِي الثالث. وإذا ثبت أن بعض الزوائد يُحذف دون بعض فلا بدَّ لبقاء المبقَّى وحذف / المحذوف من علةٍ توجبُ ذلك وترجح أحدهما على الآخر في الإثبات إن كان ثمَّ مرجَّحٌ، أو يقع التخيير إن امتنع الترجيح أو تقابلت المرجحات. والأوجه المذكورة في الترجيح سبعة: التقدم، والتحرك، والدلالة على المعنى، ومقابلة الأصول - وهو كونه للإلحاق - والخروج عن حروف سألتمونيها، وأن يكون لا يؤدِّي إلى مقال غير موجود، وألا يؤدي حذفه إلى حذف الآخر الذي ساواه في جواز الحذف. فأما التقدُّمُ فنحو أَلَنْدَدٍ وأَلَنْجَجٍ، وكذلك يَلَنْدَدٌ ويَلَنْجَجٌ،

فالهمزة والياء هنا المثبتتان لأل تقدُّمها، فتقول: ألاجُّ وألادُّ، وكذلك: يَلاجُّ ويَلادُّ، ولا تقول: لنَادِدُ، ولا: لَنَاجِجُ، لتقدُّمِ الهمزة والياء. ومثل ذلك: أَرَنْدَجٌ، تقول فيه: أرادِجُ، فتثبتُ الهمزة لتقدمها. وأما التحركُ فمثل ما ذُكر من المُثُل، ومن ذلك: كَوَأْلَلٌ، الظاهر على ما يأتي أن تُحذفَ الواو وتبقى اللامان، فتقول: كآلِلُ على مثال: كعاِلُ، لأن الواو من حروف سألتمونيها، بخلاف اللام، فلو حذفت إحدى اللامين فقلت: كوائِلُ، كنت قد آثرتَ ما هو من سألتمونيها على ما هو بخلاف ذلك، وهو مخالفٌ لما سيذكره في عَفَنْجَجٍ ونحوه، لكن لما كانت الواو في كَوَأْلَلٍ قد قويت بالتحرك جعلها سيبويه مكافئة للام فخيَّرَ فيهما. وأما الدلالة على المعنى فنحو منطلقٌ، فالميم دالَّةٌ على اسم الفاعل بخلاف النون، فكانت أولى، مع الترجيح أيضاً بالتقدم والتحرك،

فتقول: مَطَالِقُ. وكذلك مصطبر تقول: مصابِرُ. وفي مقتدر: مقادر. وكذلك تقول على مذهب سيبويه في مُجَلْبِبٍ: مَجَالِبُ؛ لأن الميم زائدةٌ لمعنًى، وإحدى الباءين زائدةٌ لغير معنى. والمبرد يفضل الحرف الملحق بالأصل على حرف المعنى فيقول: جلابيبُ، قال: لأن مجلبباً ملحق بمدحرج، ولا يجوز في مدحرج إلا حذف الميم، فكذلك ما ألحق به. فعنده أن ما كان في مقابلة أصلٍ فهو كالحرف الأصلي. قالوا: ومذهب سيبويه أولى؛ لأن إحدى الباءين زائدة، وقصاراها في الفضل أن تفضل ما ليس بملحق إذا لم تكن فيه صفة أخرى تقابل الإلحاق. وأيضاً الإلحاق ليس بمعنى بالحقيقة، وإنما هو أمر لفظي، فالميم أقوى، قالوا: وأيضاً فتزيد الميم بالتقدم، وغاية الإلحاق أمر لفظي فيرجح به / إذا لم يكن غيره. ولهذا الوجه التزَمَ المبرِّدُ في حُبارى أن يقال في التصغير: حُبَيرَى. فأثبت ألف التأنيث لأنها لمعنى، وكذلك يقول في التكسير: حَبَارٍ أو: حَبارَى، فيحذف الألف الأولى دون ما جاء لمعنًى كميم منطلق، هذا إن أجاز القياس

في التكسير، إذ لم يكسِّرُوا فُعَالى. وأما سيبويه فيخيِّرُ في التصغير، والتخيير على مذهبه جارٍ في التكسير لو قيل بقياسه. ووجهوا قول سيبويه في حذف ألف التأنيث أنَّ كونها للتأنيث أمر لفظي، قال ابن الضائع: لأن التأنيث لا يحتاج إلى علامة، بل جاء منه بغير علامة في أسماء الأجناس أكثرُ مما جاء بعلامة، والحذف إلى الأواخر أسرع، فلذلك تساوت هنا الزيادتان، لا سيما على التعويض من الألف تاء، وهو مذهب أبي عمرو، قال سيبويه: لما كان هاتان الزيادتان ليستا للإلحاق فاستوتا في ذلك كما استوتا في حَبَنْطًى في كونهما للإلحاق سُوِّيَ بينهما في خيار الحذف كا سوَّوا بين الملحقتين. قال ابنُ الضائع وهو تشبيهٌ جيَّدٌ. وأما الترجيح بكون الحرف للإلحاق فمثاله قولك في قُمارصٍ: قَمَارصُ، وفي دُلامِصٍ: دَلامِصُ، تحذف الألف وتبقى الميم؛ لأنها ملحقةٌ بعُذافِرٍن بخلاف الألف. وأما الترجيح بالخروج عن سألتمونيها فمثاله: خَفَيْدَدٌ وعَفَنْجَجٌ، تحذف الياء والنون في الجمع فتقول: خَفادِدُ وعفاجِجُ؛

لأنهما من حروفُ سألتمونيها، ولا تحذف الدال ولا الجيم؛ لأنهما خارجان عن حروف سألتمونيها، فكان ما هو من جنس ما يُحذف أولى بالحذف من غيره. ومن ذلك على رأيٍ قولهم: عِثْوَل، يجمعه سيبويه على عثاوِلَ، فيحذف إحدى اللامين، قال ابن خروف: لأنها ليست للإلحاق، والواو إلحاق. وأما المبرد فيحذف الواو دون اللام فيقول: عثالِلُ، لأنهما معاً - الواو واللام - للإلحاق، فيرجح إثبات اللام بأن زيادتها ليست زيادة سألتمونيها، وإنما هي تضعيفُ أصلٍ، وهو المرجح الآتي إثر هذا. قال ابن الضائع مرجّحاً لما قاله ابن خروف: ويظهر من سيبويه أن إلحاق الثلاثي لا يكون بالخماسي دفعةً، بل ينبغي أن يُلحق بما يليه، فجَعَل عِثْوَلاً ملحقاً بقِرْشَبٍّ، وجعل الواو إزاء الشين، وضوعفت اللام كما ضوعفت في قِرْشَبٍّ، فليست للإلحاق بقِرْشَبٍّ، والواو للإلحاق بقِرْشَبٍّ قال: فيكون / ملحقاً بما يليه أولى من أن يكون ملحقاً بالخماسي وهو جِرْدَحْلٍ، فحذفت اللام من عِثْوَل كما حذفت الباء من قِرْشَبٍّ.

فعلى هذا مذهب سيبويه يكون هذا من باب الترجيح بكون الحرف للإلحاق. ومن أيضاً ما رجح به سيبويه حذف الياء والنون من خَفَيْدَدٍ وعَفَنْجَجٍ، إذ قال: خفادِدُ وعفاجِجُ، بأن الجيم والدال ليسا من حروف سألتمونيها، بخلاف الياء والنون. وكذلك غَدَوْدَنٌ وعَثَوْثَلٌ، تقول: غدادِن وعثاثِل، وما أشبه ذلك. وأما الترجيح بكونه لا يؤدي إلى مثال غير موجود فمثالُ استضراب واستخراج، تقول: تضاريبُ وتخاريجُ، فتحذف همزة الوصل، لأن ما بعدها لا بدَّ أن يتحرك، وتُحذف السين أيضاً وتبقي التاء، لأنك لو أبقيت السين وحذفت التاء فقالت: سخاريجُ، وسضاريبُ، لكن على مثال سفاعيل، وسفاعيل مثال غير موجود. وأما إذا أتبث التاء دون السين فإنه يكون على مثال تفاعيلَ، وتفاعيلُ مثال موجود نحو: تمثيلُ وتجافيفُ. وإلى نوع من هذا النحو ذهب المازني في تصغير انطلاق، فيحذف الهمزة والنون فيقول: طلائِقُ، وفي التصغير: طُلَيِّقٌ، لأن تطاليق نفاعيل، ونفاعيل غير موجود، بخلاف طلائِقَ فإن مثاله موجود. ومذهب سيبويه أن يقال: نطاليقُ،

والتزمه وإن كان غير موجود. وفرَّق ابن الضائع بين الموضعين بأن استضراب استوت فيه السين والتاء في جواز الحذف في كل واحدة منهما، فكان حذف السين أولى. قال: فغاية هذا المعنى أن يكون مرجِّحاً. قال: وأما أن تحذف ما لا تضُم الضرورة إلى حذفه فلا، لأن بناء التصغير ليس أصلاً بل هو فرع لا يُلتفت إليه، كما أن الترخيم يجوز في جميع الأسماء على شروطه على اللغتين وإن أدَّى في اللفظ إلى مثال غير موجود، كترخيم طَيْلَسَان بالكسر. ثم احتج عليه بما في كتاب التصغير من شرحه للجمل، وليس هذا موضع بسط ذلك على وجهه. والحاصل أن تحاميَ المثال غير موجود مرجِّحٌ على الجملة، لكن مع اعتبار جواز الحذف في كل واحد من الزائدين. وذكر الفارسي في التذكرة مما علَّقه إسماعيل بن نصر، عن أبي العباس قال: حدثني أبو العباس قال: سألت أبا عثمان عن تصغير انطلاق فقال: طُلَيِّقٌ،

لأنه ليس في الكلام نِفْعَالٌ، وكذلك في افتقار: فُقَيِّرٌ، لأنه ليس في الكلام فِتْعَال /، فحكيت ذلك للرياشي فعجبَ من ذلك، وجاء بأعظم من خطأ المازني فقال: قولُكَ: اقتِتَالٌ إذا أدغمتَ قلتَ: قِتَّالٌ فِتْعَالٌ. وقول المازني غلطٌ كبير، وقول الرياشي كذلك، ألا ترى أنك إذا قلت نُطَيليقٌ فلسنا نريد نِفْعَال، وإنما أردنا "انفعال" فحذفنا منه لما تحرك الساكن ونحن نقدر ما حذفنا، ألا ترى أنك إذا صغَّرتَ سفرجلا قلت: سُفَيرجُ، لم أقل: إني صغرت "سَفْرَج"، فكذلك فُتَيْقِير، ليس تصغير فِتْعَال، وإنما هو تصغير الاسم الذي حَذَفْتَ. وقول الرياشي: قِتَّالٌ فِتعَالٌ، ليس كما ذكر، لأن المدغم أيضاً يقدر فيه الأصل وإظهاره، ألا ترى أنك لو قيل لك: ما وزن ود قلت: فَعَل. ولكن الإدغام صيره كذا. وكذلك أصمُّ أفْعَلُ، ولو كان كما قاله الرياشي لكان أصمُّ أفَعْلُ، وردَّ: فَعْلٌ. وهذا لا يقوله أحد، لأن الأشياء ترد إلى أصولها. انتهت الحكاية. قال الفارسي: كل هذا يقوله أبو الحسن على اللفظ الذي هو

عليه ولا يفسِّرُ الأصل. انتهى. وهذا الكلام من أبي العباس ردٌّ في وجه سيبويه حيث يمنع سفاعِيلَ ونحوه. وأما الترجيح بألا يؤدي حذف المحذوف إلى حذف المثبت أيضاً فمثاله: عَيْطَمُوسٌ وعَيْضَمُوزٌ، فالمحذوف الياء دون الواو، لأن لو حذفتَ الواو لم يكن بد من حذف الياء، إذ لا تقوم بنية التكسير دون حذفها؛ إذ كان يبقى الاسم معها على خمسة أحرف ليس ما قبل الآخر حرف لين، وبنية التكسير رباعية، فلا بد من الحذف، ولو حذف الياء لم يحتج إلى حذف غيرها؛ إذ كانت الواو واقعة قبل الآخر، فتستقيم بنية التكسير معها. وكذلك خَنْشَليل، فإنك تحذف النون فتقول: خشاليلُ، فيُغني حذفها عن حذف الياء لقيام بنية التكسير، ولو حذفت الياء لم يكن بد بعد من حذف النون، فلذلك أوثرت الياء بالإثبات دون النون، ومن هذا كثير. ولسيبويه ترجيحات أُخَرُ ذكرها في كتابه، وهذه هي المشهورة عند المتأخرين، والذي ذكر في التسهيل ثلاثة؛ المزية من جهة المعنى، أو من جهة

اللفظ، أو من كونه لا يغني حذفه عن حذف غيره. وأما في هذا النظم فذكر أربعة: أحدها: الترجيح بكونه لا يؤدي إلى الإخلال بالبِنية ومثالٍ غير موجود، وذلك قوله: والسينَ والتا من كمُسْتَدْعٍ أَزِلْ إلى آخره، يعني أن إذا كسَّرت ما هو على مثال مسْتَفْعِلٍ مثل مسْتَدْعٍ فإنك تحذف حرفين لا بد من ذلك؛ لأنه سداسي، وقد أخبر أن ما عدا الرباعي يحذف زائده حتى يصير إلى مثال الرباعي، وذانك الحرفان هما السين والتاء على التعيين دون الميم، لأنك إذا حذفتهما صار إلى مثال مدعى فتقول: مَدَاعٍ، فصحَّت معه بنية التكسير، لأنه مفاعِلَ موجودٌ في الكلام كمغَارٍ ومَرَامٍ، فلو تركتهما لقلتَ: مساتِدْع. وهذا بناء فاسدٌ لا يوجد مثله، وهذا معنى قوله: إذ بِبِنَا الجمعِ بَقَاهُمَا مُخِلّ وعلى هذا يجري ما لو حذفت الميم مع التاء فقلت: سَدَاعٍ، لكان وزنه على سَفاعِلَ، وذلك بناءٌ غير موجود. ولو قلتَ: تَدَاعٍ،

فحذفتَ الميم والسين، لكان على مثالٍ موجودٍ وهو تفاعِلُ نحو تناضِبَ، لكن الميم ذهبت وهي دالة على بنية الفاعل أو المفعول، فإذا حُذفت اختلت بنيته من حيث هي لاسم فاعل أو مفعول، وأيضاً فإنها حرف معنى، وقد قال: والميمُ أولى من سواه بالبقا وهو المرجح الثاني، لكون الميم دالة على معنى اسم الفاعل أو المفعول، وما دل على معنى أولى بالإثبات مما ليس كذلك. فإن قلتَ: لِمَ قال: "والميمُ أولى من سواه"، وقد فُهِمَ له ذلك من تعيينه ما يحذف من مسْتَدْعٍ؛ إذ قال: والسينَ والتا من كمُسْتَدْعٍ أزِلْ أن الميم تثبتُ ولا بدَّ، فالظاهر أن هذا الكلام فضلٌ لا يُحتاج إليه؟ فالجواب: أن ذلك ليس بحشوٍ، بل هو مفيدٌ لفوائدَ: إحداها: التنصيص على بقاء الميم بخصوصها، إذ لو لم يذكر ذلك لفهم من العلة جواز حذف الميم مع السين وإبقاء التاء، لأن ذلك أيضاً لا يخل ببناء الجمع لبقائه على تَفاعِلَ، وذلك موجودٌ، فكان يكون قوله: "والسينَ والتا أَزِلْ" غير مقصودٍ في نفسه. وهذا

خطأٌ في نفسه، إذ زوالهما يتعين لِمَا قال من الإخلال بالبِنية، ولوجهٍ آخرَ وهو حذف المعنى من غير فائدة ولا ضرورة، فلذلك نص على إثبات الميم. والثانية: التنبيه على الترجيح بالدلالة على معنى، لأنا لو فرضنا أنه يُفهم مما تقدم بقاء الميم لم يُعَين لابقائها معنًى زائد على ما ذكر من الإخلال، بخلاف ما إذا نص عليها فإن الفهم ينصرف إلى وجه خلاف ما تقدم، وهذا هو / الدلالة على المعنى، وقد تقدمت أمثلة ذلك. والفائدة الثالثة: أنه نص على ذلك ليدخل له بالمعنى كل ميم موجودة أول الكلمة دالة على معنى، فتقول في مُقتَدِرٍ: مقادِرُ، وفي منطَلِقٍ: مطالِقُ، وفي متكاسِلٍ: مكاسِلُ، ونحو ذلك، ولا تعكس الأمر. والفائدة الرابعة: الإشارة إلى قَصْرِ حرف المعنى على الميم رداً لاختيار المبرد في ألف التأنيث في حُبَارى، إذ زعم أنها لمعنًى فتثبت دون الألف الأولى، فكأنه يَرُدُّ على المبرد إما بكون ألف التأنيث ليست بحرف معنى، وإما بكون معناها لا يعتبر أخذاً بقياس

سيبويه للألفين على حرفي الإلحاق في حَبَنْطًى ونحوه. المرجح الثالث: السبقيَّةُ، وذلك قوله: والهمزُ والياء مثلُهُ إن سَبَقَا يعني أن الهمزة والياء مثلُ الميم في كونهما أحقَّ وأولى بالبقاء من غيرهما، كما كانت الميم أولى بالبقاء من غيرها، إن كانت الهمزة والياء قد سبقتا غيرهما من الزوائد، ومثال ذلك ما تقدم من أَلَنْدَدٍ ويَلَنْدَدٍ، وأَلَنْجَجٍ ويَلَنْجَجٍ، فالهمزة والياء أولى بالإثبات لمرجِّحِ السبقية. فإن قلتَ: لِمَ عيَّنَ هذين الحرفين والترجيحُ بالسبقية عام في كلام النحويين، إذ لا يُعينون ذلك في همزة أو ياء ولا غيرهما، بل يطلقون القول إطلاقاً، فكلام الناظم مخالف لكلامهم. فالجواب: أن ما قاله الناظم صحيح، وذلك لأن الترجيح بالتقدم لا تكاد تجده إلا في هذين المثالين، لاتفاق حرفي الزيادة في كونهما في الكلمة للإلحاق، وليس في أحد الموضعين مرجِّحٌ إلا بالتحرك، وهو مرجِّحٌ ضعيف، وأما غير هذين فقد يقع السبق ولا يحصل الترجيح به، كما قالوا في خَفَيدَدٍ، فعينوا إبقاء الدال مع إمكان ترجيح الياء

بالتقدم، ولا أقل من أن يكون التقدم مكافئاً لكون الدال ليس من حروف سألتمونيها، فكان يكون محل تخيير كما خيروا بين نون حنبطًى وألفه، إذ تكافآ بسبقية النون وتحرك الألف، فكون النحويين لم يقولوا ذلك في خَفَيدَدٍ دليل على عدم اعتبار السبقية وحدها اعتباراً مطلقاً كغيرها، أو لا ترى إلى تخييرهم في عَفَرْنًى بين حذف النون والألف، وكلاهما ملحَقٌ ومتحرك، وانفردت النون بمزية السبق، ثم لم يجعلوا ذلك مؤثراً، بل قالوا: العَفَارَى / والعفارِنُ على الجواز. وإذا استقرأتَ أكثر مسائل الباب وجدتَ الترجيح بالتقدم تابعاً لغيره، وأما هذان الحرفان فيظهر للتقدم فيهما مزية، فلذلك عينها. ووجه ذلك - والله أعلم - أن مجرد سبقية أحد الحرفين للآخر ليست هي المعتبرة وحدها، بل السبقية أو الكلمة ما لم يعارض معارضٌ أقوى، لأن أول الكلمة محلٌ لوقوع حروف المعاني كهمزة التعدية، وحروف المضارعة، وكالميم الدال على الفاعل والمفعول، ولذلك قالوا في إستبرق: أبارِقُ وأُبَيرقٌ، وهو داخل تحت نظم الناظم، لموافقته أفاكِلَ مع وقوعه موضع الميم من اسم الفاعل؛ لأن أصله الفعل. وهذه السبقية هي التي أراد الناظم، إذ لم يرد مجرد

السبقية على الزائد الآخر، وإنما أراد التقدم أول الكلمة، فهذا ممكن في توجيه هذا الموضع. المرجّحُ الرابع: كون أحد الزائدين لا يًغني حذفه عن حذف غيره، وهو قوله: والياءَ لا الواوَ احذفِ انْ جَمَعْتَ ما كحيزبونٍ ... ... ... ... ... ... "الياء": مفعولٌ بـ "احذف"، و "ما": موصولة صلتها بالمجرور بالكاف. يريد أن ما كان من الأسماء مثل حيزبون في كونه سداسياً ذا زائدين، أحدهما لين قبل الآخر، فإنك إذا أردت جمعه فحذفت الياء الأولى، ولا تحذف الواو أصلاً، فتقول: حزابين. ومثله عيطموس تقول فيه: عطاميسُ، فتحذف الياء، وفي عيضموزٍ: عضاميزُ، وفي عيسجورٍ: عساجيرُ، وفي خَيْسفوجٍ: خسافيجُ، وفي خيْتَعُورٍ: ختاعير. وكذلك تقول في خَنْقَقِيقٍ: خفاقيقُ فتحذف النون، وفي خنشليلٍ: خشاليلُ، وفي منجنيق: مجانيقُ، وفي عنتريس: عتاريسُ. وكذلك تقول في الجِحْنِبَار: جحابيرُ. فتحذف النون أيضاً،

وفي جِعْنِبَار: جعابير، وفي فِرِنْدَادٍ: فراديدُ. ولا يجوز: حذف الحرف الذي قبل الآخر ويترك الأول لقوله: "فهو حكمٌ حُتِمَا"، أي حذف الأول، ووجه هذا الانحتام ما تقدم من أنه لو حذف الثاني لم يُغنِ حذفه عن حذف الأول، إذ كانت بنية التكسير لا تقوم بحذف الثاني وحده، وتقوم بحذف الأول وحده. والحيزبون في كلامه معناه: العجوز. هذه جملة ما ذكر من المرجحات، وعليه فيها نظر، وهو أنه وقع له فيما ذكر تكرار لا يحتاج إليه، وترك ذكر ما يحتاج إليه. أما وقوع التكرار فلأن هذا المرجح الأخير إنما / اعتبر لعدم قيام بنية التكسير كما ذكر آنفاً، وهذا المعنى راجع إلى ما ذكر أولاً، ألا ترى أنك لو حذفت واو "حيزبون" وحدها لقلت: حيازِبْنُ، فوقع بعد الألف ثلاثة أحرف ليس ثانيها مدة، كما أنك لو تركت السين والتاء من مُسْتَدْعٍ أو حذفت واحداً لم تقُم بنية التكسير، فلا فرق بين هذا وذاك في محصول الأمر. وأما تركه ما يحتاج إليه فإنه ترَكَ من مشهور ما ذكر الناس ثلاثة أشياء: التحرك، ومقابلة الأصول، والخروج عن حروف سألتمونيها،

وترك ذلك يوهم القول بأشياء لا يقول بها من عدم اعتبار هذه الأمور في التكسير، وقد اعتبروها على ما تقدم في بيانها. والجواب عن الأول: أن النوعين، وإن كانا يرجعان إلى شيء واحد، قد ذكرهما النحويون على انفراد كل واحد منهما، فاتبعهم في ذلك. وعن الثاني: أن هذا النظم ليس قصده الاستيفاء، وإنما قصده الإتيان بالجليل من الأحكام، والمشهور منها، والتنبيه على جملة من المسائل. وأيضاً فالتي ذكَرَ هي الضروريات في الموضع أو ما يقرب منها، وأما ما ترك فليس مثل ذلك، والله أعلم. وقوله: "والسينَ والتا من كمُسْتَدْعٍ"، أدخل حرف الجر على الكاف، وذلك لا يكون إلا في الضرورة، إذ لا يقال: مررت بكالأسد، ولا: ركبت على كالطير، ولكن لما كانت الكاف تعطي معنى مثل عوملت معاملته، كأنه قال: من مثل مُسْتَدْعٍ، ومثله في الشعر قول ابن عادية السلمي:

ورَعْتُ بكالهراوةِ أعْوَجِي إذا وَنَتِ الركابُ جرى وتابا وقال امرؤ القيس، ويروى لعمرو بن عمار الطائي: ورُحْنا بكابِن الماء يُجنَبُ وسطُنا تَصَوَّبُ فيه العين طوراً وترتقي وقال خطام المجاشعي أنشده سيبويه: وصالياتٍ كَكما يؤثفينْ وفيه كثرةٌ في الشعر. وقوله: "إذ بِبِنَا الجمع"، أراد "ببناء" فقَصَر. وهذه عادته في أكثر هذا النظم، ومنه في هذين الشطرين ثلاثة مواضع، وهو قياس في الشعر. والحرف الجار متعلق بـ "مخلّ". وقد مرَّ له من هذا النوع من

تقديم معمول الخبر على المبتدأ مواضع كثيرة. وقوله: "من سواه" بإدخال الجار على سوى / على رأيه في تصرُّف سوى. وهاء "سواه" عائد على "الميم"، وهو يذكَّر ويؤنث. وكذلك الضمير في "مثله" للميم أيضاً. والألف في "سَبَقَا" ضمير التثنية عائد على الهمز والياء. *** ثم ذكر موضع التكافؤ بين الزيادتين فقال: وخيَّروا في زائدي سَرَنْدَى وكل ما ضاهاه كالعَلَنْدَى يعني أن النحويين جعلوا الحرفين الزائدين في هذا الاسم الذي هو سرندى مخيراً فيهما، فيجوز لك حذف النون دون الألف، ويجوز حذف الألف دون النون، فتقول على الأول: سرانِدُ، وتقول على الثاني: سرادٍ، وكذلك ما ضاهاهما وأشبهه مثل العلندى، فلك أن تقول فيه: علانِدُ وعلادٍ، ومثل حبنْطًى، تقول: حبانِطُ إن شئت وحباطٍ. وكذلك العَكَنْبَى، والقرْنَبى، والدلَنْظَى، والسَّبَنْدَى،

والسَّبنْتَى، وما أشبه ذلك. وهذه الأسماء كلها مما وقعت النون والألف فيهما ملحقتين معاً فاستوتا في هذا الوصف، قالوا: لكن رَجَحت النون بالتقدم، ورَجَحت الألف بتقدير الحركة فتكافأتا، فصارتا في الحذف والإثبات سواء، فصار الحاذف مخيراً. فالوصف الخاص بهذين المثالين اللذين مثل بهما الناظم أن الحرفين معاً فيهما لقصد واحد وهو الإلحاق، وليس أحدهما خارجاً عن حروف "سألتمونيها"، فاستويا في ذلك، ولم يرجح أحدهما على الآخر بوجه من الترجيح إلا والآخر قد ترجح بوجه آخر، فيلحق بهما ما كان في معناهما، فمن ذلك قلنسوة، أنت مخير في أن تقول: قلانِسُ فتحذف الواو، أو قلاسٍ فتثبتها، ومع أن النون ترجُح بالتقدم والواو بالتحرك. ومن ذلك عند سيبويه حُبَارَى كما تقدم، ووجه التخيير في الألفين بأنهما زيادتان متساويتان في أنهما ليسا للإلحاق، كما استوت الزيادتان في حَبَنْطَى في أنهما للإلحاق تساويا في حكم التخيير. ويلحق بهذه المسائل غيرها، والحكم فيها موكولٌ إلى نظر الناظر في الترجيح، ولكن أكثر ما يكون التخيير فيما أشار إليه الناظم.

والسَّرندى من الرجال: الشديد، ويقال: الجريء، والأنثى سَرَنْداةٌ. وأنشد يعقوب عن أبي عمرو لأبي مساوِرٍ الفَقْعسي: سرينا وفينا صارم متغطرس سرندى خشوفٌ في الدجى مؤلِفُ / القَفْرِ وقال رؤبة: كل سَرَنْداةِ السُّرى نَعُوفِ بَوَّاعةٍ أو بَشَكَى زَيُوفِ والعلندى: الجمل الضخم، والأنثى علنداةٌ. وقال الأصمعي: العلندى الغليظ من كل شيء، وقال ذو الرمة: فعاجا علندى ناجياً ذا بُرايةٍ وعوَّجْتُ مِذْعَاناً لَمُوعاً زِمَامُهَا والعلندى أيضاً: نبتٌ. قال عنترة:

ستأتيكمُ مني وإن كُنْتُ نائياً دخانُ العلندى دون بيتي مِذْوَدُ وقد انتهى كلامه في الجموع، وسقط له منه معنى ضروري التنبيه عليه، وهو بيان التعويض قبل الآخر مما حذف من الاسم لإقامة بنية التكسير، لكن سيأتي التنبيه على ذلك بعد هذا في باب التصغير، فثمَّ ذكر هذا الحكم، وبالله التوفيق.

التصغير

التصغير تحقيق أ. د. السيد تقي عبد السيد

التصغير فَعَيلاً اجعلِ الثلاثي إذا صغرته نحو قُذَيّ في قَذَى فُعَيعِِلٌ معَ فُعَيعِيلٍ لا فاقَ كجَعْلِ درهمٍ دُرَيْهِمَا التصغير عند النحويين عبارة عن تغيير ما يلحق الاسم، بدل به على أحد ثلاثة معان: تحقير ذات ما يتوهم عظيماً، أو تقليل ما يتوهم كثيراً، أو تقريب ما يتوهم بعيداً، وهو فيه بمنزلة وصفه بمعنى من تلك المعاني، فإذا قلت رُجيل فهو بمنزلة قولك: رجلٌ صغيرٌ، وإذا قلت: دُريهمات، فهو بمنزلة قولك: دراهمُ قليلةٌ، وإذا قلت: دُوَينَ السماءِ، فهو بمنزلة قولك: بمكانٍ قريب من السماء، إلا أنه لما كان هذا التغيير أخصرَ عدلوا إليه. وابتدأ الناظم - رحمه الله تعالى - بالإشارة إلى مسائلَ: إحداها: أن أبنية التصغير ثلاثة، لا مزيد عليها، وذلك ظاهر

من كلامه، وهي: فُعَيلٌ، وفُعَيعِلٌ، وفُعَيعِيلٌ، وإنما أراد بهذه الأبنية الصور والأشكال، كأنه يريد مقابلة المتحرك بالمتحرك، والساكن بالساكن، لا أنه مقابلة الزائد بالزائد، والأصلي بالأصلي كما فعلوا في التصريف، ألا ترى أن (أُحَيْمِرَ) في التصغير وزنه ومثاله (فُعَيعِلٌ) ومثاله في التصريف (أُفَيْعِلٌ)؛ لأنهم إنما يريدون في التصريف بيان الزائد من الأصلي، فتركوا الزائد في البناء - إذا لم يكن بالتضعيف - على لفظه، وعبَّروا عن الأصلي بالفاء والعين واللام، وأما ههنا فلم يريدوا ذلك، وإنما أرادوا ما ذُكِر. ومثل التصغير في هذا المعنى ما تقدَّم لنا فيما / لا ينصرف مما هو على زنة (مفاعِل) أو (مفاعيل)؛ إذ لم يُرِدْ هنالك هو ولا غيره إلا مقابلة الساكن بالساكن والمتحرك بالمتحرك خاصة. الثانية: بيان كيفية التصغير، وذلك - على مقتضى ما مثل به - أن يضمَّ أول الاسم ويُفتح ثانيه، ويُزاد ياءٌ ساكنةٌ تقع ثالثة؛ ويُكسَرَ ما قبل الآخر إن كان المصغَّرُ فوق الثلاثي. هذا الذي يُعطيه كلامُهُ إذ قال: فُعَيلاً اجعلِ الثلاثي ... ... ثم قال: فُعَيعِلٌ مع فُعَيعِيل لما فاقَ ... ... ... ... ... يعني لما فاق الثلاثة فكان رباعياً، أو خماسياً، أو أكثر، فما عدا

(فُعَيْلاً) يُكسر ما قبل آخره على هذا، فتقول في (رجل): رجيل، وفي (زيد): زُيَيد، وفي (قُفل): قُفَيل، وفي (جعفر): جُعَيفر، وفي (هِجْرَع): هُجيرع، وفي (سفرجل): سفيرج، وفي (قنديل): قنيديل، وفي (تمثال): تميثيل، وفي (بهلول): بهيليل. ومثَّل الناظم الثلاثي بـ (قَذًى)، وأنك تقول فيه: (قُذَيٌّ) كما يقتضي الحكم؛ فإنك لما ضممتَ القاف، وفتحت الذال، وزدتَ ياء التصغير ثالثة زالت الألف، ورجعت إلى أصلها من الياء؛ لزوال ما أوجب قلبها ألفاً وهو تحرك ما قبلها، فالتقت مع ياء التصغير الساكنة، فوجب الإدغام، فقيل: قُذَيٌّ. والقذى في العين وفي الشراب: ما يسقط فيه، يقال: قذِيت العين تَقذى: إذا سقط فيها ذلك، وقذت العين تَقذى: إذا رمت بالرَّمَصِ وما فيها من القذى. ومثَّل ما فوق الثلاثي بـ (درهم)، تقول فيه: دُرَيهم. وهذا كله حكم جُمْليٌّ حتى يتبين في تفصيل الأحكام، إذ ليس كل ما فوق الثلاثي يُكسَرُ ما بعد ياء التصغير فيه كحُبْلى، وصحراء، وسكران، وأطلال مسمًّى به، وما كان نحو ذلك مما سيبين الناظم.

الثالثة: أن مراده - هنا - بالثلاثي المجرد من الزوائد كما مثل به، لا أنه يريد الثلاثي الأصول وإن كانت فيه زيادة كأحمر وأرطًى؛ لأن مثل هذا رباعي، لا ثلاثيٌّ، وقد تقدم مثل هذا في التكسير، وأيضاً فإنما يريد - ههنا - ما كان ثلاثياً باعتبار اللفظ والأصل، وهو الذي يعطيه المثال. وأما غير ذلك مما خرج عن أصله بالحذف فله حكم يستدركه بعد. وكذلك القول في الرباعي هو مقصور على ما كان نحو مثاله، وما فوق الرباعي على ذلك السبيل إلا ما يستثنى فيه من الأحكام العارضة. الرابعة: أن مثاله قد يعطي الاقتصار / بالتصغير (على ما كان) متمكناً مثله؛ فـ (قذًى) و (دِرهم) متمكنان، أصلهما الإعراب، فما كان كذلك في الذي يصح تصغيره، فلو كان الاسم غير متمكن فلا يصح تصغيره نحو: (حيث، وكيف، وأين، وأيان، ولَدُن) وما أشبه ذلك وإن كان ثلاثياً، ومن باب أولى خروج ما كان من غير المتمكن ثنائياً نحو: (مَن، وما، وكم) ونحو ذلك، فلا يجوز أن تقول:

حُيَيْث، ولا كُيَيْف، ولا نحو ذلك؛ لتوغلها في شبه الحرف، والتصغير نوع من التصرف، وهو قد قال في باب التصريف: حرفٌ وشبهُهُ من الصَّرفِ بَرِي فتحرز هنا بالمثال مما عسى أن يُعترض به على إطلاقه. وما جاء من التصغير في أسماء الإشارة، و (الذي) و (التي) من الموصولات فعلى خلاف الأصل، وسيأتي وجه ذلك فيه إن شاء الله تعالى حيث يذكره الناظم. الخامسة: أن التصغير إنما يكون فيما يقبل معناه، ودل على هذا قوله: فُعَيلاً اجعلِ الثلاثيَّ إذا صغَّرتَهُ ... ... ... ... ويريد إذا أردتَ تصغيره، وإرادة التصغير إنما تكون حيث يكون ذلك المعنى جائزاً فيه، وحيث يكون الاسم قابلاً لمعنى التصغير؛ لأنه المطلوب تصغيره، وما لا يقبل التصغير لا يمكن أن يراد تصغيره. وما لا يقبل التصغير على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك من جهة معقولية معناه كالمضمن معنى الحرف من الأسماء مثل: (مَن، وكم، وما) ونحو ذلك؛ لأن

وضع هذه الأشياء لقصد الإبهام والعموم، والتصغير يناقض ذلك؛ لأنه تخصيص بوصف من الأوصاف التي يمكن أن تكون عليها، فمعنى التخصيص مناقض لوضعها من جهة المعنى، وكذلك هو مناقض من جهة اللفظ؛ لأنه وضعها وضع الحروف، والحروف لا تقبل التصغير. ومثل هذا الظروف المضمنة معاني الحروف كمتى وأين، يمتنع تصغيرها من جهة مناقضة اللفظ والمعنى كما ذكر؛ لأنها تشبه الحروف، ووضعت على الإبهام. ومثل ذلك (عند). قال سيبويه: "لأنك إذا قلت: (عند) فقد قلَّلتَ ما بينهما، وليس يراد بالتحقير إلا مثل ذلك". يعني أن التحقير في الظروف إنما يراد به التقريب، وإذا قلت: (زيد عندك) فقد قربته منه، فلا معنى للتصغير فيه. وكذلك (بين) و (وسْط) مما يقتضي التقريب. ومنه (غير) لا يقبل معناه التحقير؛ بخلاف (مثل) فإن المماثلة تقل وتكثر بخلاف / (غير)، فإنه ليس في كون شيء ما غير شيء آخر معنى يكون أنقص من معنى آخر، تقول: هذا أكثر مماثلة لهذا من

غيره وأقل، ولا تقول: هذا أكثر مغايرة لذا، قال السيرافي: "ويعني بالمغايرة كونه ليس به"، وأيضاً فإنه كـ (سوى) في المعنى، و (سوى) غير متمكن فلا يُحقَّرُ. وكذلك (حسبُكَ) لا يُحقَّر؛ لأنه في معنى (كفاك)، و (كفاك) فِعلٌ لا يصح تحقيره، فكذا ما في معناه، ومن هذا النحو اسم الفاعل الذي بمعنى الحال أو الاستقبال النائب مناب الفعل، فإنه لا يُحّقَّرُ؛ لأنه بمنزلة الفعل، فلا يجوز: (ضُوَيْرِبٌ زيداً)، فإن كان بمعنى الماضي جاز؛ لأنه اسم من الأسماء ليس في معنى الفعل. ومن ذلك الأسماء المختصة بالنفي كأحد وعَريب، وكَتيع ودُبيّ وطوريّ ونحوها؛ لأن معناها التعميم في النفي، والتصغير بناقض التعميم. ومن ذلك أيضاً جموع الكثرة. قال ابن عصفور: "لأنه لا فائدةَ في تصغيرها، ألا ترى أن دراهم تقع على ما فوق العشرة إلى ما لا يتناهى كثرة، فإن صغرتها فإنك تقصد تقليلها، وليس ذلك مما يعطي ذلك؛ لأن كل عدد يقل ويكثر بالإضافة إلى غيره، بخلاف

جموع القلة؛ لأنها تقع على العشرة فما دونها، فإذا قللت علم أن العدد أقل من العشرة، ولا يتصور ذلك في جموع الكثرة". والثاني: أن يكون ذلك من جهة أمر خارج عن معقولية المعنى، وهو على ثلاثة أنواع: أحدها: ما امتنع تحقيره شرعاً كأسماء الله وأسماء الأنبياء وكتب الله تعالى، وغير ذلك مما هو معظم شرعاً، ولذلك لما أراد سيبويه تصغير (النبيء) قصد عند ذل ما يقبل التصغير فقال: "كان مسيلمة نُبَيِّئ سَوءٍ"، و ("كان مسيلمة نُبوَّتُهُ نُبَيِّئَةُ سَوءٍ") وذلك ظاهر. والثاني: ما فُه منه استغناء العرب عن تصغيره بتصغير غيره كالأسماء الأعلام وما أشبهها في أسماء الأوقات، وذلك كالسبت والأحد والمحرم، وما أشبه ذلك، والمشبه للأعلام (أمس) و (أول من أمس) و (غد) و (بعد غد) و (البارحة) ونحو ذلك، استغنوا عن تصغيرها بتصغير الأيام والشهور. قال ابن الضائع ظاهر كلام سيبويه فيما زعم أنه لا يحقر السماع؛ لأنه قال: "فعلاماتُ ما ذكرنا من الدهر لا يُحقر، إنما يُحقر الاسم غير العلم".

قال ابن الضائع: يعني / أنهم استغنوا عن تحقير العلم بتحقير الاسم الذي يقع عليه وعلى غيره وذلك يوم الجمعة، وشهر المحرم، قال: وكأن هذه الأسماء لما كانت أعمالاً لأيام تتكرر صارت شبيهة بالمضمرات وأسماء الإشارة؛ لأنها تقع على كل من هو بتلك الصفة، فقل تمكنها لذلك، فاستغنوا عن تصغيرها بتصغير الاسم النكرة المضاف إليها. وأما (أمس) و (غد) فأقوى في ذلك؛ لأن تعريفها بالإشارة. وهذا التعليل الذي علل به امتناع تصغيرها والانصراف إلى الاستغناء بتصغير غيرها من اليوم والشهر ونحوه يعطي أن المانع في هذا النوع هو المانع في النوع الأول من عدم قبول هذه الأسماء للتصغير، لكن لما كان ذلك فيها ليس في قوته في (مَنْ) و (متى) ونحو ذلك عدل سيبويه وغيره إلى الوقوف مع السماع، وادعاء الاستغناء، فهو قسم قائم برأسه. والثالث: أن يكون الاسم المراد تصغيره لا يتأتى ذلك في لفظه كما كان متأتياً في أمثلة الناظم ونحوها كالمركب تركيب إسناد، واللازم للحكاية، فإنه ليست له صيغة ثلاثي ولا غيره، فلا يصح أن

يُصغر، وكذلك الاسم المصغر لا يصح تصغيره ثانية، وإن قلت: إنه يُصغر بعدما تُزال بنية التصغير الأول، فهو تصغير ما ليس بمصغر تقديراً، فقد حصل هذا القيد الذي أعطاه تمثيل الناظم من كون الاسم قابلاً للتصغير فوائد كثيرة جداً. وقوله: فُعيلاً اجعلِ الثلاثي ... ... (اجعل) ههنا يتعدى إلى اثنين بمعنى التصيير: أولهما (الثلاثي)، والثاني هو (فُعيل) المقدم، أي: صير الاسم الثلاثي فُعيلاً. وقوله: ( ... إذا صغرته .. ) أي إذا أردت تصغيره، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة}، وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله}. وقوله: (فُعيعِل مع فُعَيعِيلٍ ... ) أي هاتان الصيغتان ثابتتان لما فاق، يريد لما فاق الثلاثي، فحذف المفعول وهو الضمير العائد على الثلاثي. وقوله: ... كجَعْلِ درهمٍ دُرَيهماً

الجعل أيضاً هنا بمعنى التصيير، وهو مصدر مقدر بأن والفعل أضيف إلى أحد مفعوليه وهو الأول، و (دريهماً) هو الثاني. ثم على الناظم هنا سؤالان: أحدهما: أن أبنية التصغير بحسب الاستقراء غير منحصرة في هذه الأبنية الثلاثة وما كان على شاكلتها، بل هي أكثر من هذا بحيث لا يتأتَّى فيها دعوى / الرد إلى هذه الثلاثة؛ وذلك أنك تصغر على (فُعَيْلَى) نحو: حُبَيْلَى، وعلى (فُعيلاء) نحو: حميراء، وعلى (فُعيلان) (وفُعَيلين) نحو: سكيران وسُريحين، وعلى (أُفيعال) نحو: أُجَيمال، وعلى (فُعَيعِلان) نحو: زعيفران، وعلى (فُعَيعِلاء) نحو: خُنَيفساء، وعلى (فُعَيلون) و (فُعيلان) و (فُعيعلات) نحو: زُيَيدون وجُعَيفرون وهنيدات وزُيَيْنِبات، وكثير من ذلك جداً، فكيف يتأتى ههنا الرد إلى أحد الثلاثة؟ وإن سلِّم في الجمع لم يسلَّم في (أُفَعيال)، ولذلك قال السيرافي: "لو ضَمَّ سيبويه إلى ثلاثة أمثلة التصغير رابعاً وهو (أُفَيعال) لعمَّ التصغير". يعني أنه قد كان يمكن الاعتذار فيما عداه، وأما فيه فبعيد الاعتذار عنه. والثاني: أنه أطلق القول في جعله البناءين الأخيرين لما فاق

الثلاثي، فيقتضي أنهما معاً يصحان لكل رباعي، ولكل خماسي، ولكل ما فرض مما عدا الثلاثي، فيصح مثلاً في جعفر جُعَيفر وجُعَيفير ليحصل فُعَيعِل وفُعَيعِيل، وكذلك في (بهلول) يصح أن يقال: بُهَيلل على فُعَيعل، وبُهَيلِيل على فعيعيل، وذلك كله غير مستقيم، فكلامه فيه إجمال كما ترى. والجواب عن الأول: أن هذه الأبنية الثلاثة هي أصول التصغير كما ذكر، وما خرج عن ذلك في اللفظ فإنما خرج لسبب طارئ أوجب خروجه، مع أن الأصل فيه أحد هذه الثلاثة، فمن ذلك أن ما فيه تاء التأنيث المصغر ما قبلها، وذلك لأنها عندهم ليست زيادة في الاسم قد بُني عليها، والدليل على ذلك أنها تجيء ثامنة نحو: اشْهِيبابة، واحْرِنْجَامة، وليس في الكلام اسم على أكثر من سبعة أحرف، وأيضاً فإنه لا يحذف في التصغير لإقامة بنائه حرف أصلي وفي الكلمة حرف زائد، وهم يقولون: (سُفَيرِجَة) فيحذفون اللام والتاء باقية؛ لأنها عندهم ليست من الكلمة، فـ (تُمَيرَةُ) ونحوه لا يخرج عن فُعَيل؛ لأن مثال التصغير ما قبل التاء، وكذلك ألفُ التأنيث الممدودة حكموا لها بهذا الحكم فصغروا ما قبلها، فقالوا:

(خُنَيْفِساء) فهذا راجع إلى فُعَيعِل فُعَيعِلَة بالتاء، وكذلك ما أجري مجرى هذه الألف مما في آخره الألف والنون الزائدتان نحو: سكران وعثمان على ما يتبين في موضعه حيث يتعرض / له الناظم. وأما (فُعَيْلَى) فراجع أيضاً إلى (فُعَيعِل)، لكن لم يكسِروا ما بعد ياء التصغير لعلةٍ تذكر بعد إن شاء الله تعالى. (وكذلك (أُفَيعال) هو راجع إلى (فُعَيعِيل) لكنه لم يُكسر لعلةٍ تذكر بعد إن شاء الله) فليس قول السيرافي فيها بموافق لمذاهب النحويين. وأما ما لحقته علامتا الجمع المذكر أو المؤنث فمن ذلك القبيل أيضاً؛ إذ الكلمة لم تبنَ عليهما وإنما المصغر هو الصدر، والصدر لا يكون إلا على [أحد] الثلاثة على ما يذكره الناظم في ذلك كله، وهذا كله ظاهر. والجواب عن الثاني: أن البيت الذي يلي هذا فيه يتبين أن موضع (فُعَيعِل) ليس هو موضع (فُعَيعِيل)، وإنما ذكر هنا حكماً جملياً لا يتبين منه حمٌ مستوفًى، لأنه كالمقدمة لما يأتي تفصيله في الباب، فلا اعتراض عليه. ***

وما به لمنتَهَى الجمعِ وُصِلْ بِهِ إلى أمثلة التَّصغير صِلْ هذه قاعدة شاملة مختصرة تتها تفصيل كثير لم يبينه لذكره له في باب التكسير. وبناؤه حكم التصغير على حكم التكسير موافق لما فعل سيبويه؛ إذ كانت عادته أن يبني أحكامه على أحكام التكسير فيقول: يُصغر هذا على كذا؛ لأنه كُسِّرَ على كذا، ولا يعكس الحكم فيجعلُ التصغير أصلاً للتكسير، وكأن الناظم لما رأى هذا قدَّم باب التكسير أولاً ثم عطف عليه باب التصغير، وأحال في أحكامه على باب التكسير تنبيهاً على أن التكسير هو الأصل. وقد قال ابن جني: سألتُ مرةً أبا عليٍّ (رحمه الله تعالى) عن رد سيبويه كثيراً من أحكام التحقير إلى أحكام التكسير وحملِه إياها عليها، ألا تراه قال: تقول: سُرَيحي؛ لقولك: سراحين، ولا تقول: عُثَيمين؛ لأنك لا تقول: عَثامين، ونحو ذلك قال. فقال: إنما حمل التحقير في هذا على التكسير من حيث كان التكسير بعيداً عن رتبة الآحاد، فاعتدَّ بما يعرض فيه لاعتداده بمعناه، والمحقَّر هو المكبر، والتحقير فيه جارٍ مَجرى الصفة، فكأنه لم يحدُث

بالتحقير أمر يحمل عليه غيره، كما حدث بالتكسير حكم ٌ يُحمل عليه الأفراد. هذا ما نقله، وإنما يشير إلى أن ما عرض في الجمع أصلٌ فيه، والجمع مستقلٌ بنفسه؛ لتكسير بناء الأفراد، فكل حكم لحقه من حيث هو جمع معتدٌّ به ومستند إليه، والمفرد كأنه متناسًى فيه، بخلاف / التحقير، فإن العرب حافظت فيه على أحكام المفرد؛ ألا تراهم يحقرون ما حذف منه حرف على حاله إذا قامت بما بقي منه بنيَّة التصغير، ويقولون في قائم: قُويئم بالهمز اعتداداً بحكم المفرد، فكأن التحقير لم يكن، وأنت لو كسَّرت لردَدْتَ ما حذفتَ ولا بد، ولرددتَ همزة (قائم) إلى أصلها فقلتَ: قُوَّمٌ وقُوَّام اعتداداً ببنية التكسير، فلما كان الأمر على هذا جعلوا التكسير أصلاً، وجعلوا التحقير فرعاً. وهذا التفات حسن. ومعنى كلام الناظم: أنَّ ما يتوصل به إلى إقامة بنية الجمع المتناهي من حذفِ أصلي وزائدٍ واحد، أو اثنين، أو أكثر من ذلك، فإنك

بذلك تصل إلى إقامة أبنية التصغير باتفاق أو باختلاف؛ فإن الكلام في الموضعين واحد؛ ولذلك ذكرتُ في الباب قبل هذا من مسائل التصغير أشياءَ لكون أحدهما على حكم الآخر، لا يختلف عنه، فكل ما مر هنالك فانقله إلى هنا حسبما ينبه عليه. وإنما قال: (لمنتهى الجمع) ليخص بذلك الجمع المتناهي، وصيغة (فعالِلَ) وشبهه تسمى صيغة منتهى الجموع، وهو معنى كلامه، فكأنه يقول: ما يوصل به إلى الجمع على (فعالِلَ) وشبهه فبمثل ذلك يتوصل إلى بنية التصغير؛ وذلك لأن بنية التصغير على (فُعَيعِل) أو (فُعيعيل) رباعية، فلا بد أن يُردَّ ما زاد على الأربعة إلى الأربعة، فتقول في الخماسي الأصول: (سُفَيرج) في سفرجل، و (قُذَيْعم) في قُذَعْمِل. وما ذكر في التكسير من حذف ما قبل الآخر إذا كان مضاهياً للزائد في حقيقة أو صيغة فهو ههنا كذلك، فتقولُ - إن شئت -: قُذَيعِل، وفُرَيزِق.

وخلاف الكوفيين في جواز إبقاء الحرف الخامس جارٍ هنا، وكذلك خلاف من خالف فإجاز حذفَ ما كان ثالثاً، وغير ذلك مما تقدم الخلاف فيه. وكذلك تقول فيما فيه من الخماسي زوائد: إن كانت زيادة واحدة حذفتها نحو: (عُذَيْفر) في عذافر، و (فُدَيكس) في فَدَوْكَس، وإن كانت زيادتان نظرت إلى الترجيح، فتقول في عَقَنْقَل: (عُقَيْقِل)، وفي عَفَنْجَج: (عُفَيجِج)، وعلى هذه السبيل في السداسي والسباعي. وعلى هذا إذا احتيج إلى حذف أحد الزائدين نظرتَ في أوجه

الترجيح المتقدمة في التكسير؟ فرجَّحْتَ، ثم حذفت المرجوح وأثبت الراجح: / فترجح بالتقدم، فتقول في (ألَنْدَد) و (يَلَنْدَد): أُلَيْد ويُلَيْد؛ لأنك تقول: ألاد ويَلاد. وبالدلالة على المعنى فتقول: مُطَيلق في (منطَلِق)؛ لأنك تقول: مَطالِق. وبكون الإثبات يؤدي إلى مثال غير موجود، أو إلى كسر بنيَّة التصغير كـ (مُدَيعٍ) في (مستدع)، وامتناع (سُدَيع) و (مُسَيدِع)؛ لأنك تقول: مَدَاعٍ، ولا تقول: مَدَاعٍ، ولا تقول: سَداعٍ، ولا مَسَاتِدْع. وبكونه لا يغني حذفه عن حذف غيره، فتقول في (حيزبون): حزيبين، كما تقول: حزابين. وهذه الأربعة هي التي ذكر الناظم هنالك من المرجحات، وهو الذي أشار إليه، وفيه أيضاً الإحالة على القيد المعتبر في هذا الحذف، وهو ألا يكون الزائد حرف لين زائداً قبل الآخر، فإن كان كذلك لم تحذفه، بل تثبته؛ لأنه يوصل به إلى أبنية التصغير كما يوصل به إلى

بِنية التكسير، فكما تقول: (فعاليل) كذلك تقول: (فُعَيعِيل) وهذا هو الموضع الذي يتعين فيه (فُعَيعِيل) بالياء، وما عدا ذلك فلفُعَيعل، فإذاً قد زال الإجمال في قوله أولاً: فُعَيعلٌ مع فُعَيعيل لما فاقَ ... ... ... ... فإن قلتَ: إن هذا الحكم لا يؤخذ من هنا؛ (لأنه) إنما قال: وما به لمنتهى الجمعِ وُصِلْ ... ... ... ... ... الخ يعني أن البنية إن كانت لا تقوم بالمراد تصغيره لكثرة حروفه فاحذف منه، وهذا الذي قلتُ ليس من أحكام الحذف، بل من أحكام الإثبات، فلم يدخل تحت مراده. فالجواب: أن مراده أعمُّ من هذا؛ لأنه قد بين في الباب قبل هذا ما يحذف منه ومالا؛ إذ بين أن زائد ما عدا الرباعي يحذف، لكن إذا لم يكن لينا بعده الحرف الآخر (فإنك لا تحذفه، بل) تتركه بحاله، لكن تكسر ما قبله فينقلب ياء، فإنه على هذا الوصف يُتوصل إلى إقامة بنية التكسير، فكذلك تقول هنا، وعليه أحال "أنَّ" زائدَ ما

عدا الرباعي يحذف إن لم يكن ليناً بعده الحرف الآخر فإنه يترك على حد ما تُرك في التكسير"، وقد بين في هذا الباب أن (فُعَيعِل) يُكسَرُ فيه ما بعد ياء التصغير، فلا بد أن ينقلب حرف اللين ياءً إن لم يكن كذلك. وفيه أيضاً أن حرف اللين قبل الآخر يعتبر فيه من الأوصاف ما اعتبر في التكسير من كونه زائداً، لا أصلاً، ولا منقلباً عنه، وكونه حرف لين، لا حرف مد، فتقول: / في (كَنَهْوَر) و (قِلَّوْب) و (عُلَّيْق): كُنَيْهِير، وقُلَيليب، وعُلَيليق، وأنه لا يعتبر اللين المدغم إدغاماً أصلياً، بل يثبته، فتقول: (عُطَيِّيد) و (هُبَيِّيخ) على مذهبه وهو رأي المبرد كما تقدم. هذا كله محالٌ عليه بهذا القول من الناظم: إلا أن في عبارته

بعضَ إشكال من جهة قوله: به إلى أمثلةِ التصغير صِلْ فجمَعَ الأمثلة، فيظهر أنه أراد جميع الأمثلة: فُعَيلاً وفُعَيعلاً وفُعَيعِيلاً، فإذا كان كذلك فُهم منه أن الحذف قد يجوز ليوصل به إلى بناء (فُعَيل)، وهذا غير صحيح؛ لأن كل ما يتأتى فيه فُعَيعِل أو فُعَيعِيل لا يجوز أن يحذف منه شيءٌ حتى يصير إلى مثال فُعَيل؛ لأنه حذف من غير فائدة، كما أنهم لم يحذفوا من نو (قِنْدِيلٍ) الياءَ ليتوصلوا به إلى فُعَيعِل، بل تركوها، وأتَوا بها على فُعَيعِيل، فهذا الجمع للأمثلة من الناظم غير سديد. والجواب: أن هذا كله إحالةٌ على ما تقدم، وهو قد قال هنالك: وزائدَ العادي الرباعي احذِفْه ... فاقتضى أن زائد الرباعي لا يحذف أصلاً، وذلك ثابتٌ هنا، ورجوع الرباعي إلى فعيل لا يكون إلا يحذف زائده حتى يصير ثلاثياً، فقد حصل أن (فُعيلاً) لا حظَّ له فيما عدا الرباعي فما فوقه، وإنما يبقى في كلامه أنه أطلق لفظ الأمثلة - وهو جمع - على اثنين منها وهما ما عدا (فُعَيلاً)، وقد جاء منه في القرآن: {فإنْ كانَ له إخوة}، المراد عند العلماء أخَوَان، فسامح الناظم نفسه في مثل هذا؛ لأن المراد حاصلٌ.

و (به) في الشطر الأول، و (لمنتهى) متعلقان بـ (وُصِلْ). و(به) في الثاني، و (إلى) متعلقان بـ (صِلْ) أي: صِلْ إلى أمثلة التصغير بما وُصِلَ به إلى منتهى الجمع، و (ما) بمعنى (الذي) واقعةٌ على الحذف المقيَّد في باب التكسير. *** ثم أخذ يذكر حكم التعويض مما حُذف فقال: وجائزٌ تعويضُ يا قبلَ الطرفْ إنْ كان بعض الاسم فيهما انحَذَفْ هذه تتمة لحكم ما ذكر في التصغير والتكسير، فالضمير في (فيهما) عائدٌ إلى التصغير والتكسير المذكورين في قوله: وما به لمنتهى الجمعِ وصلْ إلى آخره. و (يا) مقصورٌ من ياء، وهو حذف في الحقيقة نادر في الكلام، وإنما حُكي منه: (شربت ما يا هذا)، وعادة الناظم ارتكاب هذا الشذوذ بعينه في مواضع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يأتي. ويعني أن الاسم المصغّر أو المكسر إن كان قد حذف منه شيء حرف واحد فأكثر، زائداً كان المحذوف / أو أصلياً - وهو مقتضى إطلاقه - فإنه يجوز أن تعوِّض من ذلك المحذوف ياءً قبل الطرف،

أي: قبل آخر الاسم، ويجوز ألا تعوَّض، فأنت مخير في ذلك، ولذلك قال: (وجائز ... ولم يقل: ولازمٌ؛ لأن العرب أتت به على الجواز لا على اللزوم، فتقول في (فرزدق): فُرَيزد و (فُريزيد)، وفي (جَحَنْفَل): جُحَيفِل وجُحَيفِيل، وفي (سَرَنْدَى): سُرَينِد وسُرينيد، وفي (خَفَيْدَد): خُفيدِد وخُفَيدِيد، وفي (عَضْرَفُوطَ): عُضَيرف وعُضَيريف، وما أشبه ذلك، ومن قول يزيد الغواني: وما زال تاجُ الملك فينا وتاجُهُم قلاسِيُّ فوقَ الهام من سَعَفِ النخل وإنما أتى بالياء جَبْراً لما حذف، كأنه عوض منه لكن على وجه لا يخل ببنية واحدٍ من التصغير والتكسير، بل بحيث يمكن بقاء البنية مع وجود العوض، ولا يمكن مع بقاء المعوض منه، وليس ذلك إلا

في المدة قبل الآخر، ولذلك أبقَوا الحرف الزائد إذا كان في ذلك الموضع، إذا كان حرف لين ولم يحذفوه وإن كان خامساً، ولا تقوم بنية تصغير أو تكسير بخمسة أحرف، لأن (فعالِلَ) و (فُعَيعِل) وشبههما لا يخل بها بقاء ذلك الحرف. وفي قوله: (فيهما) فائدة حسنة، وذلك أنه متعلق بـ (انحذَفْ)، أي: إن كان حذف بعض الاسم بسبب التصغير أو التكسير بعد استقرار الحذف، فإن العرب لا تعوِّض في هذا الموضع، وذلك أنك لو سميت بسفرَج المحذوف من (سَفَرْجَل) لقلتَ في التكسير: سفارِجُ، وفي التصغير: سُفَيرج لا غير، ولا يجوز أن تقول: سَفَاريج، ولا سُفَيريج إلا على من قال ضرورة: نَفْيَ الدَّراهيم تنقاد الصياريفِ

وعلى هذا تقول في تحقير (سنين) لا غير، ولا تقول: (سُنَيِّين) إلا على قولَ من يرد المحذوف في التصغير، لا أن الياء عوض مما حذف. وقد زعم ابنُ خروف أنه يجوز أن تقول: (سُنَيِّين) بالياء على أنها عوضٌ، لا على رد المحذوف كما يقال: سُفَيريج. قال ابن الضائع: وهذا عندي خطأ؛ لأن هذه الياء إنما تعوَّضُ من المحذوف بسبب التصغير، أما إذا كان الاسم محذوفاً قبل التصغير فلا ينبغي أن تكون عوضاً مما حذف في غير التصغير، قال: ثم إن / هذه الزيادة للعوض إنما ينبغي أن تقاس حيث تثبت، وما قال هذا القائل وهو أن يعوض في التصغير مما حذف قبل التصغير لم يثبت، فلا ينبغي أن يقال به أصلاً. وعلى هذا يجري القول في تكسير (سِنين) هذا. فما تحرز به الناظم من قوله: (فيهما انحذَفْ) حسنٌ من التحرز جداً، إلا أن فيه نظراً من جهة أخرى، وذلك أنه أطلق القول بجواز

إلحاق الياء عوضاً قبل الآخر، وليس على إطلاقه؛ لأن ما حذف منه لأجل إقامة بنية التصغير على وجهين: أحدهما: ما يصح فيه ذلك وهو جميع ما تقدم من الأمثلة. والثاني: ما لا يصح ذلك فيه كالذي آخره ألف التأنيث مثل (حُبَارى) إذا حذفت ألفه فإنك تقول: حُبَيرَى كما ذكره بعد، ولا سبيل إلى تعويض الياء قبل الألف؛ لأن الألف تَطلُبُ أن يُفتَحَ ما قبلها، والياء ساكنة أبداً، فلا يصح أن تقع قبلها، فالتزموا ترك التعويض لعدم تأتِّيه. وكذلك ما كان نحو: (جَلُولاء) على مذهب سيبويه حيث [لا] تحذف الألف، فتقول: جليلاء، فلا يصح أن تعوض الياء قبل همزة التأنيث؛ لأن همزة التأنيث كألف التأنيث. ومن الحذف الذي لا تعوض منه حذف الزوائد في تصغير الترخيم؛ لأن الغرض بتصغير الترخيم الاقتصار على الأصول وحذف الزوائد كلها، والتعويض ينافي ذلك. فهذه أشياء تقتضي قاعدته فيها خلاف حكمها. والجواب: أن التعويض لما كان فيما آخره ألف التأنيث أو همزته

لا يتأتى نطقاً اتَّكل على ذلك فيه فلم يحتج إلى النص عليه؛ لأن ألف التأنيث في عدم قبلها حكماً تحتص به سيأتي ذكره، وهمزة التأنيث معدودة في المنفصل، وأيضاً فليس مذهبه في (جَلُولاء) ونحوه إلا مذهب المبرد على ما يظهر من كلامه بعد، فلا اعتراض به. وأما تصغيرُ الترخيم فليس الحذف فيه لأجل إقامة بنية التصغير فيعوض منه، وإنما هذا الحكم فيما حذف لإقامتها، لا فيما حذف مطلقاً، ألا ترى أن (عطاءً) و (سماءً) على مذهب سيبويه لم يعوَّض فيها من المحذوف حين قلتَ: عُطَيٌّ وسُمَيَّة؛ إذ لم يكن الحذف فيه إلا من أجل اجتماع الياءات. فكلامه صحيح. ومفهوم كلام الناظم أنه إذا لم يحذف من الاسم شيء في البابين فلا يلحق حرف اللين، وهذا ظاهر؛ لأنه / إنما يؤتى [به] جبراً وعوضاً، وليس ثم ما يجبر ولا ما يعوض منه. وهذا الذي قرر هنا هو مذهب أهل البصرة. وقد ذكر في التسهيل في التكسير منه أنه يجوز أن يماثل مفاعيلَ

وشبهه لمفاعل وشبهه مطلقاً فتحذف الياء مما يستحق أن تثبت فيه، وأن يماثل مفاعل لمفاعيل فتزاد فيه الياء لغير عوض إلا في فواعِلَ، فإنه لا يجوز فيه فواعيلُ إلا أن يشذَّ ذلك، فيجوز عنده أن تقول في قنديلٍ: قنادِلُ، وفي بُهلول: بهالِلُ، وفي انطلاقٍ: نَطالِقُ ونحو ذلك، وسواءٌ كان على فواعل أو غير ذلك. ويجوز أيضاً أن تقول في جعفر: جعافير، وفي درهم: دراهيم إلا في فواعل فإنك لا تقول في هالكة: هواليك، ولا في سابغة: سوابيغ إلا أن يشذَّ. نحو ما أنشده الفراء: عليها أسودٌ ضاريات لبُوسُهم سوابيغُ بيضٌ لا تُخرِّقها النبلُ وقال الأخطل: ... ... ... ... ... ... وإن تركبوا إحدى الدواهي تركب

وأما ما كان من نحو ما أنشده سيبويه: وكحَّل العينين بالعواور بحذف الياء، وواحده (عُوَّار)، وكذلك ما أنشده من قوله: والبَكَرَاتِ الفُسَّجَ العَطامسا يريد (العطاميس)، ومنه أيضاً: وغيرُ سُفْع مُثَّلٍ يَحَامِمِ جمع (يحموم)، وقول أبي طالب: ترى الودْعَ فيها والرُّخام وزينةً بأعناقها معقودة كالعثاكل

يريد (العثاكيل)، وقول عبيد الله بن الحر: وبُدَّلتُ بعد الزعفران وطِيبِهِ صَدا الدرع من مُسْتَحكِمَات المسامرِ يريد (المسامير) فجائز عنده في الكلام، وكذلك ما أنشده سيبويه من قول الفرزدق: تنفِي يداها الحصى في كل هاجرة نفيَ الدنانير تنقادُ الصِّياريفِ فمد الصياريف جمع صيرف، ويروى أيضاً: (نفي الدراهيم) كذلك بزيادة الياء. وقال أبو النجم: منها المطافيل وغير المطْفِلِ وهذا كله غير مذهب البصريين في التكسير. ولم ينص ابن مالك في التسهيل على هذا الحكم في التصغير، فلا أدري هل هو قال بالجواز فيه أم لا؟ وإن ذهب النظر فيه إلى السماع فلا شك أن أكثر ما سمع فيه هذا التكسير. وقد قالوا - مما هو عنده في التسهيل شاذ -: طابق وطوابيق،

وخاتم وخواتيم، ودانق ودوانق. وأما التصغير فقلما سمع ذلك فيه، وحكى سيبويه: خُوَيتيم وخواتيم، لكن حكى عن أبي الخطاب: خاتام، فيكون (خُوَيتيم) مصغراً عليه، وقالوا: درهم / ودريهيم، وصغير وصُغَيِّير، وفي عكسه قال الراجز: قد شربتْ إلا دُهَيدِهِينا قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيكِرِيْنا وهو تصغير (دَهْدَاه) فقياسه (دُهَيْدِيه). والمعتمد من هذا كله ما ذهب إليه هنا من أن ذلك كله

مسموعٌ لا يقاس عليه، وهو مذهب سيبويه ومن انتمى إليه، لضعفه من جهة القياس، وقلته من جهة السماع. وإلى هذا المعنى أشار الناظم بقوله: وحائدٌ عن القياس كل ما خالف في البابين حكماً وُسِمَا يعني أن كل ما جاء عن العرب مخالفاً لما ذكر في البابين معاً: باب التكسير وباب التصغير من الحكم فهو حائد عن القياس، موقوف على محله، والحائد عن الشيء هو الذي مال عنه، وعدل عنه، يقال: حاد عنه يحيد حَيْده وحُيوداً وحَيْدُودة. وإنما قصد بهذا الكلام التنبيه على ما خالف ما تقدم من الحذف لإقامة بنية التصغير، والتعويض عن المحذوف خاصة، وهو الفصل الذي ختم به باب التكسير، والفصل الذي افتتح به باب التصغير، لا أنه يعني كل ما خالف جميع ما ذكر في البابين من أولهما إلى آخرهما؛ لأنه لو عنى ذلك لكان فاسداً؛ لأنا نعلم قطعاً أنه إنما ذكر من أحكام التكسير وقياساته ما هو الأشهر والمحتاج إليه، وكذلك في باب التصغير لم يورد فيه من الأحكام إلا جملاً ضرورية على مقدار ما نصب إليه نفسه في هذا المختصر؛ إذ لم يقصد فيه استيفاء أحكام النحو فكان يكون هذا الكلام منه يردّ جميع ما ترك ذكره من

أحكامها إلى السماع ونفى القياس، وذلك باطل قطعاً بحسب الأمر في نفسه، وبحسب قصده هو، والله أعلم. ويمكن أن يكون قصده بهذا الكلام التنبيه على ما جاء من التصغير والتكسير على غير بناء واحده، فيحفظ ولا يقاس عليه. فمن ذلك في التصغير قولهم في المغرب: مُغَيربان، وفي العشية: عُشَيشية، وفي إنسان: أُنيسيان، وفي ليلة: لُيَيلية، وفي رجل: روجيل، وفي صبية: أُصيبية، وقد بوب على ذلك سيبويه وغيره. ومن ذلك في التكسير قولهم: رهط وأراهط، وكُراع وأكارع، وحديث أحاديث، وعَروض وأعاريض، ومكان وأمكُن، وناقة وأينُق ونُوق / وموانيق، وبهذا المعنى فسَّر كلام الناظم ابنُهُ، وهو صحيح إذا انضم إلى المعنى المذكور أولاً. فعلى هذا يدخل تحت هذا النوع من السَّماع وقوع (مفاعل) موقع (مفاعيل) وبالعكس كما ذكره، ويدخل أيضاً تحته مثل ذلك في التصغير كما تقدم ذكره. ويدخل تحته ما نقل من تكميل ما يحتاج إلى الحذف في البابين

معا. نحو قولهم: عناكبيت في عنكبوت. ومن هذا يفهم أنه لم يرتض مذهب الكوفيين في التصغير والتكسير حيث أجازوا التكميل في نحو: سفرجل وكُمَّثرى وباقلَّى وجَرْجرايا، وأشياء ذكرت عنهم لا يقول بها أصلاً، إذ أجازوا في (سفرجلة): سُفَيرجَلَة وسفيرجْلَة وسفيرلة، وفي (كمثرى): كُمَيثرية، كُمَيثرى، وفي (باقلَّى): بُوَيقلة وبويقيلية، وفي (جرجرايا): جُرَيجرْيا وجُرَايجرَايا، وهذا كله كما ترى. ***

لتلوِ يا التصغير من قبل عَلَمْ تأنيثٍ أو مدتهِ الفتحُ انحَتَمْ كذاكَ ما مدَّةَ أفعالٍ سَبَقْ أو مدَّ سكرانَ وما به التحق لما كان الناظم (رحمه الله تعالى) قد قدم أول الباب أن الرباعي وما فوقه له فُعَيعِيل وفُعَيعِل، وأن ما بعد ياء التصغير يُكسر كما أعطاه مثاله، وكان ذلك حكماً جًملياً لا بد من تفصيله، أراد أن يبين أن ذلك ليس في كل ما زاد على الثلاثي، بل قد يكون ثمَّ أمر آخر وهو عدم الكسر، وإن كان الكسر هو الأصل مثلاً، وكذلك ما كان من الثلاثي قد لحقته تاء التأنيث فصار بسببها على أربعة على الجملة. و(التلو) هو التالي أي: التابع، و (علم التأنيث) هو علامته. و (انحتم) معناه وجب، وهو مطاوع حتمته فانحتم. ومعنى كلامه أن الفتح يجب للحرف الذي يلي ياء التصغير، وهو العين الثانية في (فُعَيعيل) واللام في (فُعَيل) في مثال التصغير إذا وقع ذلك الحرف قبل أحد خمسة أشياء وهي: تاء التأنيث، وألف التأنيث، والمدة المزيدة قبل ألف التأنيث التي صارت بسببها همزة، وألف أفعال الذي هو جمع، وألف فَعلان. فأما تاء التأنيث فداخل تحت قوله قبلُ: (علم التأنيث) فإن علم التأنيث في كلامه جنسٌ يدخل تحته جميع علاماته ومنها التاء، ومثال

الفتح لأجلها قولك في طلحة: طُليحة، وفي ضربة: ضريبة، وفي علبة: عليبة، وفي سدرة: سديرة. / ووجه لزوم الفتح ظاهر؛ لأن التاء ليست من أصل الكلمة، ولا بنيت الكلمة عليها، فهي إنما دخلت لمعناها من التأنيث، والمصغر هو صدر الاسم، لا التاء، وهي لا بد من فتح ما قبلها؛ إذ لا يكون ما قبل تاء التأنيث ساكناً ما عدا الألف، ولذلك جعلوا تاء (أخت وبنت) للإلحاق بقُفْل وعِدْل، لا للتأنيث على ما ذكر سيبويه وغيره، فعاملوا التاء معاملة الثاني من المركبين فصغروا الصدر وألحقوها. وأما ألف التأنيث فداخلة أيضاً تحت قوله: (علم التأنيث) والفتح لأجلها أيضاً لازم، فتقول في حُبلَى: حُبَيلى، وفي بُشرى: بُشَيرى، وفي ذكرى: ذُكيرى، وفي دِفلى: دفيلى، وفي سلمى: سُليمى، وفي عَلقى: عُلَيقى، وفي غرثى: غُرَيثى، وما أشبه ذلك. وإنما فتح ما قبلها، وكان الأصل أن تقلب ياءً كما هو قياس التكسير حملاً

لألف التأنيث على تائه؛ إذ كانت الألف علامة له كتاء فعاملوها معاملتها، وأيضاً فليفرقوا بين ألف الإلحاق وألف التأنيث؛ إذ كانوا يقولون في أرطًى: أُريط، وفي ذفرى - منونا-: ذُفير، وفي علقى - منونا-: عُليق، وما أشبه ذلك، فلو قلبوها إذا كانت للتأنيث لالتبست بهذه الألف فتركوا ما قبلها مفتوحاً. وعلى هذه القاعدة يجري الحكم في (حُبارى) على مذهب سيبويه إذا حذفنا الألف الأولى فإنه يصير من قبيل: ذِكرى وبُشرى، فتقع الألف التي للتأنيث تلي الحرف التالي لياء التصغير، فنقول: حبيرى فليزم فتح الراء. وأما مدة التأنيث فيعني أن الناظم بها الألف الزائدة قبل همزة التأنيث، وذلك أن الأصل في ألف التأنيث القصر والسكون، فزيد قبلها هذه المدة المذكورة، فوجب لها المد والهمز على ما تقرر في التصريف، وصار الحرفان كالحرف الواحد، وهذه المدة تطلب فتح ما قبلها، وهو ما بعد ياء التصغير؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، فيقول في (حمراء): حُميراء، وفي (صفراء): صفيراء، وفي

(سوداء): سويداء، وفي (صحراء): صحيراء، وفي (عذراء): عذيراء. وكان الأصل أن تنقلب هذه المدة ياء مع الهمزة كما فعلوا في التكسير، فقالوا: صحارٍ، لكنهم لم يفعلوا ذلك لأن همزة التأنيث شبيهة التاء من جهة التأنيث / وكون الكلمة غير مبنية عليها، وأيضاً فأرادوا أن يفرقوا بين الألف الممدودة المنقلبة عن ألف التأنيث وبين الألف الممدودة المنقلبة عن غير ألف التأنيث، كما فرقوا بين الألف المقصورة التي للتأنيث والتي ليست للتأنيث؛ لأنك تقول في (علباء): عُليبى، وفي (قوباء): قُوَيبى، وفي (حرباء): حُريبى، فلو قلت: حُميرى لالتبس الأمر في الألفين، فرأوا الفرق أولى. وأما مدَّة أفعال فهو قوله: كذاك ما مدَّةَ أفعالٍ سَبَقْ ... ... ... ... ... (مدة) مفعول بسبق، و (سبق) صلة ما، و (أفعال) هنا هو الجمع كأجمال وأعدال وأطمار يعني أن الحرف الذي قبل ألف (أفعال)

وهو عين الكلمة حكمه أيضاً لزوم فتحه، فتقول في (أجمال): أُجيمال، وفي (أُعيدال): أُعيدل، وكذلك إذا سميت به تقول: أُفيعال أيضاً، لا أُفيعيل، وإن كنت تقول في تكسيره: أفاعيل، فتقلب الألف ياء. ولأجل أن (أفعالاً) جمعاً ومفرداً لمسمًّى به حكمهما واحد أطلق الناظم القول فيه، فلم يقيده بكونه جمعاً، فقد نصوا على أن الحكم كذلك: كان جمعاً على أصله، أو مسمى به. وإنما لم يكسروا ويقلبوا الألف ياء ليفرقوا بينه وبين (إفعال) المفرد المكسور الهمزة؛ إذ كنت إنما تقول في (إسكاف): أُسَيكيف، على قياس أساكيف، بخلاف الجمع؛ إذ كانت صيغة (أفعال) لا تكون إلا جمعاً، ولا تغير بعد التسمية به عن حاله قبل أن يكون اسماً علماً، كما لا يغير (سِرحان) عن تحقيره إذا سميت به. فإن قلت: إنهم قد قالوا: (أفاعيل) في (أفعال) فليزم على قياسه أن يقال: (أُفيعيل) كما قيل في (سِرحان): سُريحين؛ لأنهم قالوا: سَراحين. فالجواب أن هذا لو كان كما قلت لقلت في (جمَّال): جُميمال؛ لأنهم لم يقولو: جماميل، وفي (حمَّال): حُميمال، وفي (نجَّار): نُجيجار، ونحو ذلك؛ لأنهم لم يجمعوها على (فعاعيل). فإنما وجه

(أُفيعال) هنا الفرق كما تقدم بين المفرد والجمع، وهذا معنى تعليل سيبويه وغيره. وأما مد سكران فهو قوله: "أو مد سكران وما به التحق" يعني أنه يلزم أيضاً فتح الحرف التالي لياء التصغير إذا كان قد سبق ألف سكران وما لحق به في وصفه المعتبر، فتقول في سكران: سُكيران، وفي غضبان: غضيبان، وفي عطشان: عطيشان، وما أشبه ذلك، ومثل بسكران الذي هو من باب / "فَعلان فَعلى" تنبيهاً على أصل العلة في الباب، وذلك أنه لما وجب لفُعلاء ما تقدم من لزوم فتح ما قبل الألف فيه بناء على تحقير صدره وجب أيضاً ذلك لفعلان فَعْلى، الذي مثل الناظم بمثال منه لما تقدم في باب ما لا ينصرف من أن حكمهما واحد للشبه الحاصل بينهما حتى قيل: إن النون بدل من الهمزة، ففتحوا ما قبل الألف والنون بناء على تحقير الصدر كما فعلوا ذلك في فعلاء، قالوا: سُكيران، ولم يقولوا: سُكيرين، كما لم يقولوا في حمراء: حُميرى، ثم أرادوا أن يلحقوا بنحو سكران غيره

مما لم تُكسِّره العرب تكسيراً يخالف به فعلان فَعلى، فحكموا له بحكمه في التصغير؛ لأنه شبيه به، كما حكم له أيضاً بحكمه حيث امتنع دخول تاء التأنيث عليه، وذلك في حال العلمية والتكسير الذي يخالف به فعلان فعلى هو فعالين. هذا هو الوصف المعتبر في فعلان فَعْلى الذي أشار إليه الناظم بقوله: (وما به التحق) [أي التحق به] في كونه لا يجمع على فَعَالين، فكل ما كان على (فَعْلان) فانظر: فإن جمعْتهُ العرب على فعالين فاذهب به مذهب القياس في كسر ما (بعد) ياء التصغير على ما أعطاه كلامه أولاً، فتقول في (حَومان): حُويمين، ولا تقول: حويمان؛ لأن العرب لم تلحق (فيه) الألف والنون بالألف والنون في سكران.

وإن لم تجمعه العرب على فعالين فاذهب به مذهب سكران فتقول: دُحيمان في (دَحمان) كما قلت: سُكيران في سَكران. ولا يقتصر بهذا الإلحاق على (فَعلان) المفتوح الفاء، بل يكون في المكسور الفاء والمضمومها، وأيضاً يكون في كل ما كان ثلاثي الأصول آخره ألف ونون زائدتان فإن حكمه أيضاً حكم سكران إذا كان مثله، فتقول في (عثمان): عُثيمان؛ لأنهم لم يقولوا: عثامين، وتقول في سلطان: سُليطين؛ لأنهم قالوا: سلاطين، وتقول في (عِمران): عُميران؛ لأن العرب لم تجمعه على فعالين، وتقول في (سِرحان): سُريحين؛ لأنهم قالوا: سَراحين، وفي (ضَبُعان): ضُبيعين؛ لأنهم قالوا: ضباعين، وكذلك لو سميت بـ (نَزَوان) لقلت: نُزَيَّيان؛ لأنهم لم يكسِّروه على (فعالين)، فإن صغرتَ (وَرَشان) قلتَ: وُرِيشين؛ لأنهم قالوا: وَرَاشين. قال سيبويه: "واعلم أن كل شيء كان / آخره كآخر "فَعْلان" الذي له "فَعْلَى" وكان عدة حروفه كعدة حروف "فعلان" الذي له

"فعلى": توالت في ثلاث حركات أو لم يتوالين، اختلفت حركاته، أو لم يختلفن، ولم تكسره للجمع حتى يصير على [مثالٍ] مفاعيل فإن تحقيره كتحقير فعلان الذي له فعلى". ثم ذكر وجه الشبه بينه وبين ألفَي التأنيث، ثم ذكر نحو ذلك آخر الباب، ثم نص على أن أحد هذه الأشياء إذا سميت به فحكمه حكم ما سُمِّيَ به، لا تخرجه عن أصله إلى غيره (فإذا) سميتَ بسِرحان قلت: سُريحين، وكذلك أيضاً إذا سميتَ بسكران قلت: سُكيران، فالحكم واحد قبل التسمية وبعدها، وذلك كله هو معنى قول الناظم: (وما به التحق). وقد ظهر منه أن (كل) ما [لم] يجمع على فَعالين سواء أكان علماً أو غير علم فحكمه هذا الحكم كما ظهر [من سيبويه] ومما نص عليه الفارسي في الإيضاح من أن (سَعدان ومُرجان) يصغران ببقاء الألف، فتقول: سُعَيدان ومُريجان، قال: سميت بذلك شيئاً،

أو لم تنقله من اسم الجنس إلى مسمى به، إلا أنك إذا سميت به شيئاً لم تصرفه. وقال السيرافي بعد ما ذكر معنى كلام سيبويه: وإن جاء شيء فجهلت جمعه لم تقلب الألف في التصغير كـ (مُرَيَّان) و (رُغَيَّان) في مَروان ورَغوان، وعلى هذا جمهور النحويين. والجامع الذي به التحق هذا كله بسكران هو شبه الألف والنون لألفَي التأنيث، والشاهد على ذلك الشبه كون العرب لم تجمعه على (فعالين) استدلالاً بالأثر على المؤثر. وقد زعم الشلوبيين - على ما حكى عنه ابن الضائع - أن هذه الألف والنون لا تثبتان في التصغير إلا (في) فَعلان (فَعلى) أو ما يشبهها مما يمتنع صرفه وهو العلم، فاعتبر في الأثر الحاصل من الشبه منع الصرف، ولم يعتبر امتناع جمعه على فعالين، وهو الذي اعتبره سيبويه وغيره. قال ابن الضائع: ونصصت على الأستاذ أبي علي ما تقدم - يعني ما ذكره سيبويه من اعتبار التكسير - فلم يقبله، ولَجَّ فيه، وزعم ما تقدم. قال: وهو خلاف نص سيبويه وغيره، ألا ترى أنك تقول في تصغير (ظَرِبان): ظُريبان. قال: فإن قال: قد تمحض الشَّبه في هذا

أكثر من منع الصرف بقولهم في الجمع: ظَرَابيّ، فقد حكم لها بحكم (صحارى) قيل: فقد قال / سيبويه: "إن جاء شيء كسِرحان ولم تعلم العربَ كسَّرتهُ فتحقيره كتحقير فعلان الذي له فعلى"، ثم حكى ما ذكر الفارسي في الإيضاح في (سَعدان) و (مُرْجان)، وأن سيبويه قد نص على أنك تقول في (زعفران): زُعَيفِران. قال: فلو كان ثبوتها في (فَعْلان) حيث يترك صرفه فقط لما ثبتت في مثل (زعفران). قال: وهذا ظاهر جداً. واعلم أن كلام الناظم فيه احتمال في دخول العلم تحته، وذلك أن العلم يمتنع صرفه للحاق الألف والنون مع العلمية، وقد مر أن سبب ذلك شبه الألف والنون بألفي التأنيث، وإذا كان كذلك وكان (فَعْلان) إذا سُمي به يمتنع صرفه لشبه (فَعلان) بألفي فعلاء فينبغي ألا يعتبر بأصله في جمعه على (فعالين) أو عدم جمعه، بل يقال في (سِرحان) إذا سمي به: (سُريحان) كما يقال في (عثمان): عُثيمان. وهذا رأيُ ابن الطراوة في المسألة، ولم يرتض مذهب سيبويه وغيره، فقد يفهم هذا من كلام الناظم؛ لقوله: (وما به التحق)، يعني ما كان من نحو (عثمان) وما سُمي به من فَعلان ونحوه، ووجه اللحاق اجتماعهما في شبه الألف والنون فيهما بألِفَي فَعلاء، ألا ترى

أن التاء لا تلحق في حال العلمية، وأيضاً امتناع صرف العلم دليل على تحقيق الشبه، بخلاف ما قبل التسمية فإن الشبه لا يتحقق إلا إذا امتنعت العرب عن جمعه على (فعالين)، فحينئذٍ يظهر للشبه وجه فيكون على (فُعيلان)، ونحن لم نجد العرب جمعت العلم على (فعالين)، فلم تقل في (عمران): عمارين، ولا في (سلمان): سلامين، ولا في (عثمان): عثامين. قال ابن جني: "سألت الشجري يوماً فقلت له: كيف تجمع دكاناً؟ قال: دكاكين. قلت: فسِرحانا؟ قلت: سراحين. قلت: فقُرطاناً؟ قال: قراطين. قلت: فعُثمانا؟ قال: عثمانون. قلت: فهلا قلت أيضاً: عثامين، فقال: أيش عَثَامين؟ أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبداً". فأنت تراهم لم يجمعوا العلم على فعالين، فندعي نحن ذلك في سرحان بعد التسمية، وأنه لا يجمع على سراحين، فكذلك لا يصغر على سُريحين ما لم يكن سماع عن العرب، وهو معدوم. وكما أن سكران حين أشبه "فعلاء" لم يصغر على سُكيرين، فكذلك / أيضاً سرحان حين أشبه فعلاء بالتسمية لا يصغَّر على

سُريحين وإلا وجب أن ينصرف سِرحان مسمًّى به وهو باطل اتفاقاً. ويبعد أن يريد الناظم بقوله: (وما به التحق) وما التحق به في كونه لا يجمع على فعالين من غير أن يعتبر منع الصرف أيضاً، وكلاهما ناشئ عن ثبوت الشبه بفعلاء، ولو كان المراد هذا لم يفهم له، بل السابق إلى الذهن في وجه ذلك ما تقدم من الشبه، وعنهما ينشأ عدم الجمع على فعالين، وامتناع الصرف. وإذا ثبت هذا كان هذا النظم موافقاً للشلوبين في اقتصاره على امتناع الصرف فيما فيه الألف والنون، ومخالفاً لسيبويه ومن وافقه في الاقتصار على عدم الجمع على فعالين. لكن هذه الطريقة قد اعترضها سيبويه وغيره: أما سيبويه فقال: "ولو قلتَ: سُريحان - يعني بعد ما سُمي به - لقلت: في رجل يُسمى علقى: عُليقى، وفي مِعزى: مُعيزى، وفي امرأة اسمها سِربال: سُريبال؛ لأنها لا تنصرف، قال: فالتحقير على أصله وإن لم ينصرف الاسم". ورده الشلوبين بوجه آخر، وهو أنه لو كان كذلك للزمه إذا

نكر سِرحان اسمَ رجل أن يصغره بالقلب، قال: وليس في (الكلام اسم يفترق تصغيره ويختلف بحسب تعريفه وتنكيره. وقد يعتذر ابن الطراوة عن هذين: أما عُلَيقى ومُعيزى فبينه وبين سِرحان فرقٌ هو أن باب عَلقًى ومِعزًى أصله قبل التسمية التحقير على (فُعِيعل) تقول: عُلَيق ومُعَيز، فإذا سَميت بهما حملتَهما على الأكثر في الباب، بخلاف سِرحان فإن الأكثر فيه قبل التسمية أن يحقر على (فُعيلان) إلا أن يكسِّره العرب، فتحقِّرَه على (فُعيلين) وأما مع عدم العلم بالتكسير فـ (فُعيلان) هو الأصل، فإذا سمى به أو بغيره فالأصل فيه فعيلان، ولا يعتبر فيه تكسيره قبل التسمية؛ لأن باب الأعلام منع التكسير. قال سيبويه في باب جمع الرجال والنساء: "وأما عثمان ونحوه فلا يجوز فيه أن تكسره؛ لأنك توجب في تحقيره عثيمان، فلا تقول: عثامين [فيما يجب له عثيمان] ولكن عثمانون كما يجب له عُثيمان؛

لأن أصل هذا أن يكون الغالب عليه باب غضبان، إلا أن تكسِّر العرب منه شيئاً على مثال (فعاعيل) / فيجيء التحقير عليه". فحاصل الأمر أن كل واحد من باب (عَلقًى) وباب (سِرحان) رُدَّ بعد التسمية إلى الأكثر والأصل فيه، مع أن الباب في نحو (عثمان) ألا يُكسَّر. وأما إلزامه (سُريبال) فلا يلزم؛ إذ لم يعتبر مجرَّد منع الصرف، وإنما اعتبر الشبه المؤثر لمنع الصرف، وهو الشبه بألفَي التأنيث، فلا اعتراض به. وأما ما قاله الشلوبين فلا يلزم؛ لأن تحقيره بعد (التسمية) والتنكير إنما يكون على اعتبار وجود التعريف، فاعتبر أصله من العلمية، وليس بوصف في الأصل فيعتبر أصله قبل التسمية، كما لا يعتبر الأصل إذا سميت بمصدر من المصادر، فيمتنع من الجمع فيه، بل يعتبر الانتقال إلى الاسمية وإن نُكِّر بعد التسمية. هذا أقصى ما وجدته في الاحتجاج عن ظاهر مفهوم كلام الناظم. والذي رآه في التسهيل موافقة الجماعة، فهو الذي يغلب على

الظن في مثل ابن مالك، وإن كان اللفظ أظهر فيما تقدم، والله أعلم. وفي قوله: (أو مدَّ سكران) تنبيهٌ على كون النون بعد الألف لا بد من زيادتها: أما في (سكران) فظاهر. وأما في غيره فكذلك أيضاً؛ لأنه الشبه إنما يحصل بين الألف والنون وألفي التأنيث إذا كانت [النون] زائدة، لا أصلية، فلو صغرت (حسَّان) أو (تبَّان) أو نحو ذلك على اعتقاد أصالة النون لقلت: حُسَيسِين، وتُبَيبِيْن لا غير؛ لأنه إذ ذاك بمنزلة سِربال وقِرطاس، فلا يمكن فيه بقاء الألف، وسبب ذلك فقد الشبه بين الألف والنون وألفَي التأنيث. وقد بقي عليه مما يلزم فتحه بعد ياء التصغير أن يكون قبل الاسم الثاني من المركبين، فإن حكمه حكم تاء التأنيث في لزوم الفتح، فتقول: حُضَيرموت، وبُعَيلبك، ونحو ذلك فتفتح ولا يجوز غير ذلك، فَترْكُ الناظم له مشعر بأنه ليس كذلك، وذلك غير صحيح. وقد ذكر الناس فيما لا يكسَّر بعد ياء التصغير على الجملة عشرةَ مواضع وهي: أن يكون حرف إعراب، أو يكون بعده الف تأنيث، أو همزته، أو تاؤه، أو علامة تثنية، أو واو جمع على حدِّها، أو ألف جمع

المؤنث السالم، أو ألف أفعال مطلقاً، أو ألف ونون إلا فيما كسر على (فعالين)، أو الثاني من المركبين. هكذا ضبط الناس هذا، وهو أحسن مما / ذكره الناظم، وما عدا هذه العشرة المواضع فلا بد فيما بعد ياء التصغير فيه من الكسر. *** وألفُ التأنيث حيث مُدَّا وتاؤه منفصلين عُدَّا كذا المزيد آخراً للنسبِ وعجزُ المضاف والمركبِ وهكذا زيادتا فَعلانَا من بعد أربعٍ كزعفرانا وقدِّرِ انفصال ما دلَّ على تثنيةٍ أو جمعِ تصحيحٍ جَلا لما قدَّم أول الباب أن (فُعيلاً) للثلاثي، وأن (فُعَيعِلا) و (فُعَيعيلا) لما فوق ذلك من رباعي أو خماسي أو غيرهما، وكانت ألف التأنيث الممدودة، وتاء التأنيث، وياء النسب، والألف والنون وسائر ما ذكره هنا مما يلحق بالكلمة فيعد من حروفها، أو يتوهم [أنه] معدود في حروفها، وكان من مقتضى ما قدَّم أن أبنية التصغير تقام من حروف الاسم، خاف أن يتوهم أن هذه الحروف المذكورة من جملة ما يدخل في بِنية التصغير، فأهذ في نفي ما يحتاج إلى نفيه من ذلك، وعد من ذلك ثمانية أشياء:

أحدها: ألف التأنيث الممدودة، وذلك قوله: وألفُ التأنيث حيث مُدَّا وقوله: (حيث مدا) إخراج لألف التأنيث المقصورة، فإنه يذكر حكمها، وأنها ليست مما يُعد منفصلاً عن الكلمة، ويعني أن هذه الألف الممدودة لا يُعتدُّ بها في التصغير، بل يقع التصغير فيما قبلها كأنها لم تكن ثمَّ بعد، كأنها لحقت بعد استقرار التصغير، وهذا معنى انفصالها، أي أنها لم تبن عليها الكلمة، وذلك قولك في حمراء: حُميراء، وفي صحراء: صُحيراء، وفي طَرْفاء: طُرَيفاء، وكذلك تقول في (خنفساء): خُنَيفساء، وفي (عُنْصلاء): عُنَيصلاء، وفي (قَرْملاء): قُرَيملاء، وما أشبه ذلك. وإنما كان ذلك لأن ألف التأنيث الممدودة لما قويت بالحركة فصارت متحرِّكة بعد أن كانت ساكنة، وعضَدها الحرف الذي قبلها في ذلك كرهوا حذفها؛ إذ أشبهت بذلك التاء، والتاء لا تُحذف لما يذكر. والفرق بينها وبين الألف المقصورة حرفٌ ميت لا حظ لها في الحركة، فلم يقْوَ أن يثبت إذا وقع بعد أربعة أحرف. وسيأتي لذلك ذكر إذا تكلم على الألف المقصورة إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: قد تقدم أن التصغير أصله أن يكون على قياس التكسير، وهم يحذفون هذه الألف في التكسير فيقولون في (خُنفساء): خُنافس. فالجواب /: أن تاء التأنيث ليس حكمها أن يكسر ما قبلها ثم تلحق، فيحمل عليها الجمع في ذلك، بل متى صح كسر ما فيه تاء التأنيث حُذفت، فلم يكن وجهٌ لثبوت ألف التأنيث في التكسير؛ إذ حكم التاء كذلك بخلاف التصغير. وقد ظهر من كلام الناظم ظُهوراً بيناً - حيث أطلق القول في عدِّهِ الألف الممدودة منفصلة على الإطلاق - أن مثل (جُلَولاء) و (بَرَاكاء) و (قَريثَاء) يُصغر منه الصدر، كأن الألف لم تكن، وأنت لو حقرتَ مثل: جَلُول، وبَرَاك، وقَريث فإنك تقول: جُلَيِّل وبُرَيِّك وقُرَيِّث، قم تلحق الألف، فيجيء منه: جُلَيِّلاء، وبُرَيِّكاء، وقُرَيِّثاء، وهذا هو مذهب المبرد، واحتج لما ذهب إليه بأن ألف التأنيث إما أن يعتد بها فيلزم على ذلك أن يقال: جُلَيْليّ، وبُرَيكيَ، وقُرَيثيّ، كما يقال في التكسير: جلاليّ وبراكي وقراثي. وإما ألا يعتدَّ بها، فيصغر ما

قبلها، فيقال: جُلَيِّلاء وبُرَيِّكاء وقُرَيِّثاء، ثم صحح هذا الثاني؛ لأنه قد ثبت أن حكم هذه الألف أن يصغر ما قبلها، وحينئذٍ يلحق، وبهذا المعنى ردَّ على سيبويه مذهبه في أنه يقول: جُلَيلاء وبُرَيكاء وقُرَيثاء فيحذف المدة الثالثة. وقد حكى ابن الضائع عن الشلوبين أنه ذهب في بعض الأوقات إلى أن قياس المبرد صحيح، وأنه لا يمكن أن يكون سيبويه خالف ذلك القياس الظاهر إلا بسماع من العرب. قال ابن الضائع: ولو كان سيبويه سمع شيئاً من ذلك وهو مخالف القياس للسماع لنصَّ على السماع، وإنما أتى به سيبويه بصورة القياس، وقد رجح الناس مذهب سيبويه، وهو الذي ارتضى في التسهيل. ووجهه عند السيرافي وغيره أن ألف التأنيث الممدودة لها شبهٌ بالتاء من جهة التأنيث، وقوتها بالحركة بعد ما كانت حرفاً ميتاً، ولذلك لا تثبت المقصورة في التصغير إذا زادت على مثال التصغير كما تقدم، ولها أيضاً شبه بما هو من نفس الحرف، بدليل قولهم:

صحاريَّ وعذاريَّ، فأجريت مجرى ما هو ملحق بالأصل كحِرباء وحَرَابِيَّ، فلما كانت هذه الألف ذات وجهين، وكثُرَت الزوائد استعمل في تحقيرها ضربٌ من تحقير الترخيم، فلما لم يجز حذف ألف التأنيث صارت المدة الأخرى كألف مبارك، فحذفوا هذه الزوائد كألِفِ / مبارك. والذي ارتضى ابن الضائع في التوجيه أن باب التصغير محمول على باب التكسير، وهم قد قالوا: (بَرَاكِيُّ) فحذفوا الألف الثالثة في التكسير، فكذلك يكون الأمير في التصغير. وإنما وقع الفرق في ألف التأنيث فإنها قلبت في التكسير لضرورة كسر ما بعد الفه، ولم تقلب في التصغير لما استقر فيه من الضرورة لذلك، ولشبه تاء التأنيث، فما قاله سيبويه جارٍ على القياس دون قول المبرد، وإليه أشار ابن خروف بقوله: "حُذفت في التصغير كما حُذفت في التكسير". وهذا التوجيه مقتضب من كلام ابن الضائع لطوله، فإن أردتَه مستوفىً فعليك به في "شرح الجمل" ففيه شفاء. الثاني: من الأمور التي عُدَّت في التصغير منفصلة تاء التأنيث، وذلك قوله:

وتاؤه منفصلين عُدَّا أي عُدت التاء مع ألف التأنيث الممدودة منفصلين من الكلمة تقديراً، وإن كانا موجودين حسا، ولذلك قال: (عُدَّا)، ولم يقل حُذِفا، ولا فُصِلا؛ ليدل على أن ذلك الانفصال إنما هو في التقدير، كأنهما لحقا بعد كمال بنية التصغير، كذلك ما بعدُ: من ياء النسب وعجز المضاف والمركب، وسائر ما ذكر. وذكَّرهما، ولم يقل: مُدت، ولا منفصلتين، وذلك جائز. فتقول في طلحة: طُليحة، وفي دجاجة: دُجيِّجة، وفي حلوبة: حُلَيِّبة، وفي سقيفة: سُقيِّفة، وفي قَمَحْدُوَة: قُمَيْحِدة، وفي سلحفاة: سُلَيحفة، فلا تحذف التاء كما تحذفها في التكسير حين قلت: سقائف، وقماحد، ودجائج، وإنما كان ذلك يخالف التصغير في لحاقها التكسير؛ لأن التكسير لم يجيزوا فيه زيادة على أمثلته؛ لأن لهم مندوحة عن ذلك، وذلك أنهم إذا أرادوا جمع ما فيه التاء كان لهم مثال آخر من الجمع تظهر فيه التاء إذا أرادوا ظهورها، وهو الجمع بالألف والتاء، فكان الاستغناء به إذا قصدوا ذلك أولى من التكسير وحذف التاء، فتفوت فائدتها، أو يكسروا الصدر ويزيدوا التاء،

وكذلك اختلف في أمثلة التكسير. وضمتهم الضرورة في التصغير لذلك؛ إذ لم يريدوا حذف التاء وهي دالة على معنى، وليس للتصغير بناء آخر يستغنى به كما كان ذلك الجمع، فلما جاز في التصغير أن يصغر الصدر ويزاد بعده حرف المعنى، ولم يجز في التكسير فرقوا بينهما في تاء التأنيث، وكذلك في ألف الممدودة، وفي / ياءي النسب مع أن الياء كعجز المركب من صدره، قال سيبويه: "والهاء بمنزلة اسم ضمَّ إلى مثله فجعلا اسماً واحداً"، فالآخر لا يحذف أبداً؛ لأنه بمنزلة اسم مضاف إليه، والتاء لا خلاف في معاملتها معالة عجز المركب من صدره، لا يخالف في ذلك سيبويه ولا غيره، كما لا يخالفون في الثاني من المركبين، بل يقولون في حلوبة: حُلَيِّبة، وفي سقيفة: سُقَيِّفة، بخلاف ألف التأنيث فإن لها شبهاً بما هو من نفس الحرف كما تقدم. الثالث: ياء النسب وذلك قوله: كذا المزيد آخراً للنسب يعني أن ما زيد في الكلمة من الأدوات لمعنى النسب فهو معدود

أيضاً فيما هو منفصل عن الكلمة، فيصَغَّرُ الصدر، وتلحق الياءان، فتقول: في جعفريّ: جُعَيفريّ، وفي فاطميّ: فُوَيطميَ، وفي زَيْدي: زُيَيديّ، وفي فرزدقي: فُرَيزِديّ، وما أشبه ذلك. وعلة ذلك ما تقد في تاء التأنيث حرفاً بحرف من أن بناء التكسير لم يجيزوا فيه زيادة على أمثلته؛ لأن لهم مندوحة عن ذلك؛ إذ يمكنهم الانصراف عن التكسير إلى التصحيح كجعفريون وجعفريات بخلاف التصغير، وأيضاً ما تقدم من شبه ياءي النسب بتاء التأنيث. وقوله: (آخراً) يظهر أنه لا فائدة فيه؛ لأن ياءَ النسب لا تزاد إلا آخراً، فما الذي احترز [منه] بهذا اللفظ؟ فلعله أراد التحرز من نحو (تَهامٍ ويَمان وشآمٍ)؛ لأن الذي يعد كالمنفصل حقيقة الياء المشددة اللاحقة آخراً، فأما إذا عوض من إحدى الياءين ألف فقدم إلى وسط الاسم فإنه لا يحكم له بحكم ما لحقه ياء النسب، بل يصير بمنزلة بناء على (فعالٍ) كصَحَارٍ ومَلاهٍ، فإنك تقول: صُحَير ومُلَيهٍ، فكذلك تقول هنا، لأنه إن كانت الألف تدل على النسب فقد صارت البنية كأنها هي الدالة على

النسب، لا الياء، فتقول على هذا في (يمان): يُمَينٍ، وفي (شآم): شُؤَيمٍ، وفي (تَهَامٍ): تُهَيم، فتحذف الألف وإن كانت عوضاً من إحدى الياءين، لما صارت في غير موضعها، وأيضاً ليست بياء النسب، (بل) هي شيء آخر عوض منها، والعوض لا يكون هو المعوض منه. وانظر في هذا مع النقل فإني لم أجده منقولاً، ولا منصوصاً لأحد ممن رأيت كلامه من النحويين. الرابع: عجز المضاف، وهو المضاف إليه، وذلك قوله: وعجز المضافِ والمركَّبِ يعني أن المضاف إليه حكمه مع المضاف / حكم تاء التأنيث وياء النسب وغير ذلك في أنه لا يصغر إلا الصدر، ويلحق المضاف إليه بعد تمام بنية التصغير في الصدر، فتقول في (غلامُ زيد): غُلَيِّم زيد، وفي (صاحب عمرو): صُوَيْحِبُ عمرو، وفي (فرس بكر): فُرَيْسُ بكر، وفي (عبدالله): عُبَيد الله، وما أشبه ذلك. وسمي المضاف إليه عَجُزاً؛ لأنه آخر الاسم، وعجز ل شيء مؤخره، وفي مقابلة الصدر، وصدر كل شيء أوله، فغلام زيد، أو

امرؤ القيس قد تركب الاسم فيه من كلمتين: أُولى وأخرى، فسميت الأولى صدراً، والثانية عجزاً؛ لحصول معنى التسمية فيهما. وإنما صُغِّر الصدر؛ لأنه المقصود بالتصغير، وهو الاسم المراد تصغيره، وأمَّا المضاف إليه فإنما هو معرِّف أو مخصِّص، فقولك: غلام زيد (غلام) هو المقصود بالمعنى، و (زَيد) مزيدٌ لتعريف الغلام، وكذلك (عبدالله) و (امرؤ القيس). وإن كان علماً فإن الأصل فيه ما ذكر، وأيضاً فإن أبنية التصغير مفردات، والعرب لا تبني المفردات من الجمل إلا شذوذاً، نحو ما جاء في النسب من قولهم: عَبْشَميّ، وعَبْقَسيّ، ونحو ذلك فهو من القلة بحيث لا يُلتفت إليه، ولا يُبنَى عليه. هذا الذي ذهب إليه هو مذهب البصريين. وقد ذهب الفراء - على ما نقله ابن الأنباري عنه - أنه أجاز أن يقال في (بعلبك) على لغة من أضاف: بَعْلٌ بُكَيْكَةَ إن لم يصرف (بَكّ)، فإن صرفه قال: بَعْلُ بُكَيْكٍ، وقال في (حضرموت) على لغة الإضافة: أحبُّ إليَّ أن تقول: حَضْرَ مُوَيتَةَ، قال: لأن العرب إذا أضافت مؤنثاً إلى مذكَّر ليس بالمعلوم جعلوا الآخر كأنه هو الاسم، ألا ترى الشاعر قال:

وإلى ابنِ أمِّ أناسَ تعمِدُ ناقتي عمرٍو لتُنْجِحَ حاجتي أو تتلفُ قال: فلم يُجرِ (أناسَ) والاسم هو الأول، ثم ذكر نحواً مما تقدم في (بعلبك)، فأجاز كما ترى تصغير العجز دون الصدر، والعربُ لا تقول هكذا، وإن قالته فعلى غايةٍ من الشذوذ لا يُعتمد عليه. الخامس: عجز المركب وهو الاسم الثاني من المركبين، وذلك قوله: وعجزُ المضافِ والمركَّبِ أي: وعجزُ المركب، يعني أن الثاني من المركبين حكمه في التصغير الانفصال، فيصغَّرُ الصدر، ثم يلحق العجز، فتقول في (حضرموت): حُضَيرموتٍ، و (بعلبك): بُعَيلبك، وفي (رَامَهُرْمُزَ): رُوَيْمَهُرْمُز، وفي (بلال أباد): بُلَيِّلُ أباد، وما أشبه ذلك، وكذلك / تقول في (خمسة عشر): خُميسة عشر، وكذلك أخواته. ووجَّه الخليل ذلك بأن الصدر عندهم بمنزلة المضاف، والآخر بمنزلة المضاف إليه؛ إذا كانا شيئين، ثم قال: كأنك حقَّرْتَ

(عبد عمرو) و (طلحة زيد). وأيضاً فما تقدم في المضاف من أن العرب لا تبني اسماً من اسمين حتى تصيره بِنية مستقلة، إلا ما شذ. وما ذهب إليه هو المذهب المختار، والرأي الموافق لكلام العرب. ومن الكوفيين من يجيز حذف العجز رأساً، فيقول: (هذه بُعَيلة) وهو مذهب الفراء، قال: وبعضهم يقول في التصغير: (بُكَيْكَة) يحذف (بعلاً) يعني مع اعتقاد التركيب، وأجازوا أيضاً أن تقول: (هذه بُعَيْلِب) فيبنى من الاسمين، وكذلك قالوا في تصغير (حضرموت): حُضَيرم، وحُضَيرَة، ومُوَيْتَة، فأجازوا ثلاثة أوجه: تركيب البنية من الاسمين، وتصغير الصدر مع حذف العجز، وتصغير العجز مع حذف الصدر ولحاق تاء التأنيث أيضاً كما وقع تمثيله. وهذا كله لا تقوله العرب، ولذلك أعرض عنه الناظم هنا وفي التسهيل، فلم يحك خلافهم فيه خلافاً. وعلى كلامه اعتراض، وهو أن المركَّب على وجهين: مركَّبٌ

تركيب مزجٍ وخلطٍ كبعلبك، ومركَّبٌ تركيب إسناد نحو: (تأبط شراً) و (برق نحره) فكلاهما مركَّبٌ، إلا أن أحدهما هو الذي يجري فيه ما قال، وهو المركب تركيب مزج، وقد تقدم مثاله. وأما الآخر وهو المركب تركيب إسناد فلا يجري ذلك فيه أصلاً، بل يمتنع تصغيره مطلقاً، فلا يصغر في صدر ولا عجز، وأولى ألا يبنى من الجميع مثال تصغير. وكلام الناظم يُوهم تصغير الصدر مثل هذا، وليس كذلك؛ لأنه حكاية، والمحكي باق على أصله، و (تأبط) هنا فعل، وكذلك [(برَقَ) مِن] (برق نحره)، و (ذَرَّى) من (ذَرَّى حَبّاً) وما أشبه ذلك، والأفعال لا تصغر. وأيضاً فالاسم الأول ليس بالذي تريد أن تصغَّره؛ لأن الجميع هو الدال على المراد تصغيره فلا يصح تصغير بعض ذلك دون بعض على كل تقدير. والجواب: أن المركب عنده إنما أراد به المركب تركيب مزجٍ وخلطٍ؛ لأن ذلك ليس في الاصطلاح إلا محكياً، لا مركباً، وإنما

يسمَّى مركباً ما كان مثل: بعلبك، ورامهرمز ونحوه/ هكذا قال النحويون. فإن قيل: ما الذي يدل / على ذلك من كلام الناظم؟ ولعل ذلك ليس باصطلاح له. فالجواب أن في نظمه ما يدل على ذاك مما تقدم له، ألا ترى إلى قوله في باب العلم حين تكلم على أقسام الأعلام: ومنه منقولٌ كفضلٍ وأسَدْ وذو ارتجالٍ كسُعادَ وأُدَدْ ثم قال: وجملةٌ وما بمزجٍ رُكباً فلم يطلق على المحكي لفظ التركيب، وأبين من هذا قوله في باب الترخيم: والعجزَ احذِفْ من مركبٍ وقلْ ترخيم جملة وذا عمرٌو نَقَلْ وقد تقدم التنبيه على هذا هناك. وإذا كان كذلك فإطلاقه التركيب غير مخل بمقصود؛ لأنه مختص بما أراده، فيخرج المحكي إذن من كلامه. فإن قيل: يبقى عليه أنه لم يذكره، ولا تعرّض لحكمه هنا، والواجب ذكره. فالجواب: أنه قد تقدمت الإشارة إلى إخراجه عن حكم التصغير؛ لكونه غير قابل لصيغته.

السادس: الألف والنون الزائدتان في آخر الاسم إذا كان قبلهما أربعة أحرف، وذلك قوله: وهكذا زيادتا فَعْلانا من بعدِ أربعٍ ... ... ... يعني: أن الألف والنون الزائدتين في (فَعْلان) حكمهما حكم ما تقدم من تقدير الانفصال، فيصَغَّر الصدر، ثم تلحقان بعد ذلك تقديراً، لكن إذا كانتا بعد أربعةِ أحرف كزعفران الممثَّل به، فتقول على هذا: زُعيفران، كأنك صغَّرت (زُعيفر) كجُعيفر، ثم لحقت الألف والنون، وإلا فلو لم تعدا منفصلتين لحذفتا لإقامة بنية التصغير، كما يحذفان في التكسير، فكنت تقول: زُعَيفر، كما تقول: زعافر، لكنهم تركوهما، وعدوهما منفصلتين. ومثل ذلك (عُقْرُبان) تقول في تصغيره: عُقَيربان، وفي (عُنْظُوان): عُنَيظِيَان، وفي (أُقْحُوان): أُقَيحِيان، وما أشبه ذلك. واشتراطه أن تكون الزيادة بعد أربعٍ؛ لأنها إن كانت بعد ثلاث

فقد تقدم حكمها قبل هذا، وإن كانت بعد خمس فلا بد من حذفها، لو وجد نحو: (سَفَرْجَلان)، فإنك كنت تقول: سُفَيرج، فتحذف الحرف الآخر، وتحذف بحذفه ما بعده لا بد، كما كنت تقول لو كانت ألف تأنيث ممدودة، ألا ترى أنك تحذف الحرف الخامس وما بعده في مثل: (عَرْطَبيل)، فتقول: عُرَيطِب، و (عَضْرَفوط) فتقول: عُضَيرف، فكذلك هذا، مع أن هذا الفرض غير موجود في الكلام، فتحرز عن هذا كله. ولا يريد بالمثال أن تكون الأربع أصولاً، بل يدخل تحته ما تقدم من نحو: (عُنْظُوان) / وكذلك فِعْلِيان كـ (عِنْظِيان)، وفَيْعَلان كـ (قَيْقَبَان)، وما كان من ذلك النحو، ووجه عدِّ الألف والنون هنا منفصلتين تشبيه الألف والنون بالألف الممدودة. قال سيبويه: "وإنما وافق (عَقْرَبان) خُنْفُساء كما وافق تحقير (عثمان) تحقير حمراء، جعلوا ما فيه الألف والنون من بنات الأربعة بمنزلة ما فيه ألف التأنيث من بنات الأربعة، كما جعلوا ما هو مثله من بنات الثلاثة مثل ما فيه

ألف التأنيث من بنات الثلاثة، ؛ لأن النون من بنات الأربعة لما تحركت أشبهت الهمزة في (خنفساء) وأخواتها، ولم تسكن فتشبه بسكونها الألف التي في (قَرْقَرى) و (قَهْقَرى) و [قَبَعْثَرى] وتكون حرفاً [واحداً] بمنزلة قهقرى". يعني: أن النون لم تشبه ألف قرقرى في السكون والضعف المؤدي إلى الضعف الذي يطرق إليها الحذف، بل أشبهت الهمزة القوية بالحركة المؤدي إلى إثباتها كما ثبتت الهمزة. وقوله: (من بعد أربع) فأنث الأربع والمراد الحروف؛ لأنها تذكر تارة؛ لأن الحرف مذكر، وتؤنث تارة؛ لأن اللفظة مؤنثة، فبهذين الاعتبارين حصل التذكير والتأنيث. السابع: الألف والنون أو الياء والنون الدالان على التثنية، وذلك قوله: وقدِّر انفصال ما دلَّ على تثنية ... ... ... ... ...

أي قدر هاتين العلامتين كأنهما منفصلتان من الكلمة، فتحقر الكلمة كأنهما لو يكونا فيها، ثم تلحقهما، فتقول في (زيدان): زُيَيدان، وفي (جعفران): جُعَيفران، وفي (قنديلان): قُنَيديلان، وفي (حَبَنْطَيان): حُبَيطَيَان، أو حُبَينِطان، وفي (سَفَرْجَلَتان): سُفَيرِجَتَان، وبالجملة تفعل ما كنت فاعله قبل التثنية، ثم تلحق العلامتين بلا إشكال. وكذلك إن كان مما يردّ إليه في التصغير شيء، فإنك ترده كذلك، فتقول في: (ابنان): بُنَيَّان، وفي (بنتان)، وفي (أختان): أُخيَّتان، وفي (دَمَان): دُمَيَّان، وكذلك مع الياء والنون في النصب والجر. هذا كله يدل عليه قوله: وقدِّر انفصال ما دلَّ على تثنية ... ... ... ... ... واشتراطه الدلالة على التثنية، ولم يقل: وقدِّر انفصال علامتي التثنية يقتضي أنك إذا صغَّرتَ المثنى قبل أن تسمي به فإن حكمه ما قال، يُعَدُّ كأن العلامتين إنما لحقتا بعد تصغيره، فلذلك تقول في تصغير (جِدَارَين): جُدَيِّران بتشديد الياء، فلا تحذف شيئاً؛ لأنك لو صغَّرتَ (جِداراً) لقلت: جُدَيِّرٌ، فعلى هذا دل كلامه /؛ لأن الدلالة على التثنية باقية.

فإن سميت بالمثنى حكمتَ له بحكم آخر على مقتضى المفهوم؛ لأن الألف والنون إذ ذاك [لا] تدل على التثنية، فلم تعتبر إلا على حدِّ اعتبار الألف والنون في (زعفران) فتقول في تصغيره: جُدَيْران بتخفيف الياء؛ لأن الألف والنون كالألف الممدودة، فصار كتصغير (بَرَاكاء) على مذهب سيبويه، فلا تقول إلا بُرَيكاء. قال سيبويه: "ولو سميت رجلاً (جِدَارين) ثم حقرته لقلتَ: جُدَيْران، ولم تثقل؛ لأنك لست تريد معنى التثنية، وإنما هو اسم وحد". وعلى هذا الحد لو سميت بحصيرين أو قَبُولَين لقلت: حُصَيْران، وقُبَيْلان، إلا في التثنية ما فيه التاء، فإن سيبويه والمبرد يتفقان على التشديد، فيقولان في (دَجَاجتان): دُجَيِّجَتَان، سميتَ أو لم تُسَمِّ، كأن الاسم إذ ذاك مما آخره التاء، وقد تقدم أن التاء لا يعتد بها كياءي النسب، فهذا داخل في ذلك الموضع، لا ههنا. فإن كان الناظم أراد هذا المعنى لم يتفق مع ما ظهر من كلامه فيما تقدم؛ إذ ظاهر كلامه التزام مذهب المبرد في قوله:

وألف التأنيث حيث مُدَّا وتاؤه منفصلين عُدَّا وقد نقل أن المبرد يخالف سيبويه في هذه المسائل كلها، فإنما يصغر هنا - وإن سمي به - على حدِّه قبل التسمية به؛ لاعتقاده الانفصال في الجميع؛ لأنه يخالف في الألف الممدودة وفي الألف والنون الشبيهتين بها، وقد نص على ذلك في المقتضب. فتثبت بهذا التفسير التعارض بين المنطوق هنالك، والمفهوم (هنا)؛ إذ المفهود هنا ليس إلا على مذهب سيبويه، فلا بدَّ من التأويل لأحد الموضعين، وذلك بأن يقال: إن الموضع الأول لم يقصد فيه إلى بيان حكم جَلُولاء ونحوه، بل ذَكَر كون الهمزة الممدودة تُعَدُّ كالمنفصلة ذِكراً مجملاً. ولا شك أن نحو: جَلُولاء، وبَرَاكاء، وقَرِيثاء أقَلِّيٌّ بالنسبة إلى ما فيه همزةُ التأنيث، فأهمل اعتباره رأساً. وأيضاً فالألف الممدودة في جَلُولاء لا يصدقُ عليها على مذهب سيبويه أنها في تقدير الانفصال، فإنها ذات وجهين كما تقدم تقديره من كلام السيرافي.

فإذا كان كذلك، وأمكن أن يكون مقصوده هنالك الحكم الإجمالي [صح] هنا احترازه، إلا أن احترازه هنا لا يعطي دلالة مفهوم/ بل يعطي أن ما آخره علامتا تثنية دالتان على معناهما حكمهما حكم ما لو كانتا معدومتين، فإن كانتا غير دالتين على معناهما فليس الحكم معهما كذلك، ويبقى ذلك مسكوتاً عنه؛ لأنه (ليس) من الأحكام المهمة بحسب قصده. هذا أقصى ما وجدتُهُ في الحال في الجمع بين كلاميه، والله أعلم بمراده. وقد يمكن أيضاً التأويل في هذا الموضع على بقاء الموضع الأول على ما فسر به، وهو أن يكون قوله: (ما دلَّ على تثنية) لا يريد به الدلالة في الحال، بل يريد ما شأنه الدلالة على التثنية، فيصير الكلام مرادفاً لقولك: (علامتا التثنية)، فيدخل إذن تحت لفظه المثنَّى المسمى به وغيره بناءً على ظاهر كلامه هنالك من ارتكابه مذهب المبرد، ولعل هذا يكون أقربَ متناولاً من التأويل (الأول)، والله أعلم. الثامن: الواو والنون أو الياء والنون الدالان على الجمع، وذلك قوله: (أو جمع تصحيح) أي: وقدِّر انفصال ما دل على جمع

التصحيح، فلا تحذف الزيادتين، بل يُصغر ما قبلهما على أنه دونهما، ثم تلحقهما، فتقول في: زيدون: زُيَيْدون، وفي عامرون: عُوَيمرون، وفي مسلمون: مُسَيْلمون، وفي جعفرون: جُعَيْفِرون، وفي فرزْدَقُون: فُرَيْزِدُون، وفي حَبَنْطًى: حُبَينِطون أو حُبَيطُون، وذلك تقول في: ظَريفون: ظُرَيِّفون، وما أشبه ذلك، ويجري هنا ما جرى في التثنية فيما إذا سميت بجمع المذكر السالم، هل تحمله محمَلَ (قَرَيْثَاء وجَلُولاء) على مذهب سيبويه، فتقول: ظُرَيْفُون بالتخفيف، أو ظُرَيِّفُون بالتشديد على مذهب المبرد على ما تقدم من النظر؟ ولا فرق بين الموضعين في هذا المعنى، ويدخل تحت كلامه على التأويل الثاني ما إذا صغرتَ (ثلاثين) وإن لم تسمِّ به فإنك لا تقول: ثُلَيثون على مذهب سيبويه، كما قيل في جَلُولا؛ لأن (ثلاثين) وإن كان ليس جمعاً لثلاث وإنما [هو] اسم واحد جرى مجرى الجمع في الإعراب، وإنما تقول: ثُلَيِّثون كما يقوله المبرد جرياً على مفهوم كلام الناظم، إلا أنه مخالف لكلام العرب؛ إذ زعم الفارسي أن (ثُلَيْثِين) في ثلاثين - بالحذف - قولُ جميع العرب. فيبقى في دخول هذا تحت كلام الناظم نظر. والتاسع: الألف والتاء الدالتان على الجمع، وهو داخل تحت /

قوله: (أو جمع تصحيحٍ)، فتقدير الانفصال فيهما كما تقدَّم في جمع التصحيح بالواو والنون، فتقول في طلحة: طُلَيْحات، وفي فاطمة: فُوَيطمات، وفي اشْهيبابات: شُهَيْبِيْبَات، وفي دجاجة: دُجَيِّجَات بالتشديد إن لم تُسمِّ به، فإن سميت به جرى على ما تقدم في الواو والنون، لا فرق بينهما. قال سيبويه: "وإذا حقَّرت ظريفين غير اسم رجل، أو ظريفات أو دجاجات غير اسم رجل قلتَ: ظُرَيِّفون، وظُرَيِّفَات، ودُجَيِّجَات". ثم علل بأن تلك الزوائد لم تبن الكلمة عليها، ولا صُغرت عليها، كما صُغرت علىى ألِفَي جَلُولاء، ولكن هذه الزوائد إنما تلحق إذا أريد الجمع بعد كمل تحقير الاسم وتغييره عن شكله، وتزيلها إذا لم ترد الجمع كياءَي الإضافة، حيث تلحقهما إذا أردت النسب، وتخرجهما إذا لم ترد ذلك، فلما كانت الزوائد للجمع كذلك، شبهوها بتاء التأنيث. هذا معنى كلامه. ثم إنك إذا سميت بها تخفف كما ذَكَر.

وقول الناظم: (جلا) جملة في موضع الصفة لـ (جمع)، أي لجمع تصحيحٍ جلي بمعنى ظاهر. فإن قيل: فما فائدة هذا الوصف؟ فالجواب: أن له فائدة حسنة؛ وذلك أن جمع التصحيح علي قسمين: جمع تصحيح قياسي على أصل بابه، كزيدون وعَمْرون، وهذا هو جمع التصحيح الجليُّ الظاهر، وهو الذي قصد ذكره. وجمع تصحيح هو في الحقيقة جمع تكسير جارٍ مجرى جمع التصحيح، وهو كل ما حُذف منه حرفٌ فعُوض منه الواو والنون كسِنين وعِضين وعِزين ومِئين، ونحو ذلك فإنه جارٍ مجرى جمع التصحيح، وليس كذلك في الحقيقة، والحكمُ فيه أن الواو والنون لا تُعدان كالمنفصلة من الكلمة، فتكون ثابتة بعد تصغير الصدر؛ لأنهما عِوضٌ من المحذوف، فإذا صُغِّر الاسم فلا بد من رد المحذوف، فإذا رُدَّ زال العوض وهو الواو والنون؛ إذ لا يجتمع العوض والمعوض منه، ترجع من جمعه إلى ما كان القياس فيه، وهو الجمع بالألف والتاء، فتقول في: سنين: سُنَيَّات، وفي عِضين: عُضَيَّات، وفي مِئين: مُؤَيَّات.

فإن لم تُبقِ الواو والنون، بل حذفتهما بسبب التصغير، فصار حكمهما كحكم ما ليس كالمنفصل من الكلمة ففارقت / حكم الواو والنون في جمع التصحيح الجلي، فلأجل هذا احترز بقوله: (جلا) أن يدخل عليه (سنون) وبابه، لكم لم يبين الحكم فيه؛ لأنه ليس من المهمات الأكيدة في باب التصغير بالنسبة إلى هذا المختصر، ولأنه إذا تحرز من مثل ذلك فهو قد نبَّه عليه، فكأنه يقول للناظر في نظمه: انظر أنت ما حكمه فقد نبهتُكَ على خروجه مما ذكرته، فلم يخلُ من التنبيه عليه، وهذا من المقاصد الحسان اللائقة بابن مالك رحمه الله تعالى، ولم يذكر هذه المسألة في التسهيل فيما أظن، وذكرها ههنا. *** وألفُ التأنيث ذو القصر متى زادَ على أربعةٍ لن يَثبُتا وعند تصغير حُبارى خَيِّرِ بين الحُبَيرى فادْرِ والحُبَيِّرِ لما ذكر أولاً أن ألف التأنيث إذا وقعت بعد ثلاثة أحرف فإنها تثبت كما ثبتت تاء التأنيث، وألفه الممدودة، والألف والنون، ثم ذكر بعد ذلك أن الألف الممدودة والألف والنون أيضاً تثبت بعد

أربعة أحرف كما تقدم، خاف أن يتوهم أن الألف أيضاً تثبت كذلك تلافى الحكم فيها، وأنها مخالفة للألف الممدودة والألف والنون فقال: وألفُ التأنيث ذو القصر ... إلى آخره، يعني أن هذه الألف المقصورة إذا وقعت زيادة على أربعة أحرف فكانت خامسة أو سادسة فالحكم ألا تثبت أصلاً، بل تُحذف، فتقول في قَرْقَرى: قُرَيْقِر، وفي جَحْجَبَى: جُحَيْجِب، وفي عَرْقَلى: عُرَيقِل، وفي قَهْمَزَى: قُهَيْمِز، وفي عِبِدَّى: عُبَيْدّ. وقوله: (متى زاد على أربعة) على إطلاقه فيما كانت فيه خامسة أو سادسة، فتقول في حَبَرْكًى: حُبَيْكِر، وفي شَفْتَرى: شُفْيتر، وفي مِرْعِزَّى: مُرَيْعِز، وفي شُقَّارى: شُقَّيْقِر، ولفي لُغَّيْزَى: لُغَيْغِز، وما

أشبه ذلك. وإنما حذفت الألف هنا؛ لأن بناء التصغير قد انتهى قبلها، وفارقت هذه الألف تاء التأنيث والألف الممدودة لمزيتهما عليها بالحركة، فجعلا كاسم ضُم إلى اسم آخر، وأما المقصورة فحرفٌ ميت، فحذفت؛ لأنها لم تشبه الاسم الذي يضم إلى الاسم. هذا تعليل السيرافي، وهو راجع إلى تعليل سيبويه حيث قال: "وإنما صارت هذه الألف إذا كانت خامسة عندهم بمنزلة ألف مبارك وجوالق؛ لأنها ميتة مثلها"، قال: "ولأنها لو كسَّرت الأسماء للجمع لم تثبت"، قال: "فلما اجتمع فيها / ذلك صارت عند العرب بتلك المنزلة". وقول الناظم: (ذو القصر) و (زاد) و (لن يثبتا) على اعتبار تذكير الألف، ثم قال: وعند تصغير حبارى خَيِّرِ إلى آخره. يعني أنك إذا صغَّرتَ هذا اللفظ فأنت مخيَّرٌ بين أمرين: أحدهما: أن تحذف الألف أولى لتقيم بنية التصغير، وتبقى ألف التأنيث، فتقول: حُبيرى.

والثاني: أن تترك الألف الأولى على حالها، فتصير ألف التأنيث بعد أربعة أحرف، فتحذف على ما تقرر آنفاً، فتقول: حُبَيِّر، كما قلتَ في (قرقرى): قُرَيْقِر. فإن قلت: لأي شيء وقع التخيير هنا بخلافه فيما تقدم، فإنه أطلق القول في حذف الألف حتماً؟ فالجواب: أن ذلك لأجل أنه لا بد هنا من حذف إحدى الزائدين لإقامة بنية التصغير: إما الألف الأولى، وإما الثانية، فهما زائدان قد تكافآ: هذا بالتقدم، وهذا بالتحرك، وذلك يقتضي التخيير، فلأجل ذلك اختلف الحكم فيها مع ما تقدم. فإن قلتَ: فإن [هذا] الكلام منه إذن فضلٌ لا فائدة فيه؛ إذ كان قدم هذه القاعدة في أخريات التكسير، وبينها بياناً شافياً، وشرح وجوه الترخيم، ووجوه التخيير، وهذا داخل تحتها، ثم ذكر في هذا الباب أن ما وصل به إلى (فعالِلَ) وشبهه من الحذف فإن تصل به إلى أبنية التصغير، فشمل هذه المسألة أيضاً، فحصل من ذلك أن هذه المسألة قد تقدم حكمها، فكانت إعادتها على نقيص ما قصده من الاختصار المناقض للتكرار، وهذا كما ترى.

فالجواب: أنَّ ابن مالك قد عُلِمَت عادته في هذا النحو أنه لا يأتي بما يوهم تكراراً أو حشواً إلا لمزيد فائدة. والذي حصل بهذا الكلام أربع فوائد: إحداها: أنه لما قدم آنفاً في ألف التأنيث حكماً لازماً وهو الحذف خاف أن يتوهم أن هذه المسألة مستثناة مما تقدم من التخيير، فأخذ يبين أن لزوم الحذف في ألف التأنيث إنما هو حيث لا يعارضه حكم التخيير، بل يبقى المخير فيه على بابه، واللازم الحذف على بابه. فلو لم ينبه على هذا المعنى لعد هذا الحكم المذكور ناسخاً لما تقدم من التخيير. والثانية: أن ألف التأنيث هنا وإن كان حكم التخيير قد ثبت لها، فقد تقدم له ما يعطي الحكم بإثباتها لزوماً، وذلك أن ألف التأنيث / حرف معنى، وقد تقدمت إشارته إلى أن حرف المعنى مرجح على ما ليس بحرف معنى على ما شرحته هنالك، وثبت أيضاً لألف حبارى التخيير على ما نص عليه سيبويه وغيره، فصارت القاعدة الثانية في ترجيح حرف المعنى منخرمة في حبارى، إذ أجمعوا على إثبات ميم مستفعل؛ لأنه حرف معنى، ونحوه مما هو مثله، وهنا خيروا حتى افترق الناس في حبارى ثلاث فرق:

فزعم ابن عصفور وغيره أن مذهب سيبويه أن إحدى الزيادتين إذا كانت لمعنى، والأخرى ليست لمعنى فإنك تحذف أيتهما شئت، فأطلق على سيبويه القول بالتخيير بين ما هو ليس بمعنى، وما ليس كذلك. وخالف قوم سيبويه في التخيير فألزموا حذف الألف الأولى وإبقاء ألف التأنيث اعتباراً بمزية الدلالة على المعنى، منهم المبرد. وقال ابن السراج: حذف الأولى أجود، واختاره ابن عصفور، وهو ظاهر على قاعدته، إلا أن من انتصر لسيبويه ردَّ على المبرد بأنه لو كان كما يقول: للزم أن يقول في (جُلَنْدَى): جُلَيْدَى، فيحذف النون، وفي (عِبِدَّى): عُبَيْدَى. لكن العرب لم تقل إلا: عُبَيْد، وجُلَيْنِد، فحذفت الألف رأساً، فدل على أن كون الألف لمعنى التأنيث غير معتبر: إما لأن ذلك أمر لفظي، وإما لغير ذلك من التأويلات. ولم يخالف المبرد إلا فيما ثالثه مدةٌ كحُبارى، فما ألزموه لازم له.

وجَنحت فرقة ثالثة إلى التأويل، فقال بعضهم: إنما حذفت الألف وإن كانت لمعنى؛ لأن التأنيث يفهم من البناء، وأيضاً فهي عند سيبويه بمنزلة ألف مبارك، يعني أن العرب تتلاعب بها في الحذف كما تتلاعب بألف مبارك التي هي زائدة لغير معنى. وقال بعضهم: إنها - وإن كانت لمعنى - لما تطرَّفت وكان موضعها الآخر ضعفت رتبتها، فتجرَّءوا عليها بالحذف لأجل ذلك. وقال السيرافي: إنما جاز حذف ألف التأنيث؛ لأنها بمنزلة ما هو من نفس الحرف فيما كان على خمسة أحرف. وقال ابن الضائع: كون الألف للتأنيث أمرٌ لفظي؛ لأن التأنيث لا يحتاج إلى علامةٍ، بل جاء منه بغير علامة في أسماء الأجناس أكثر مما جاء بعلامة، والحذف إلى الأواخر أسرع، فلذلك تساوت هنا، لا سيما على التعويض من الألف تاء، وهو مذهب أبي عمرو، ثم ذكر على سيبويه، وقد تقدم ذلك. فأنت ترى ما في (حبارى) من النزاع والإشكال، فأراد أن يبين أن هذه الألف / مما يخير في حذفها بناءً على دخولها تحت قاعدة التخيير بناء على أحد هذه التأويلات، وأيضاً ليهبين أن مذهبه مذهب سيبويه لا مذهب المبرد ومن وافقه؛ إذ لو سكت عن هذا لدخل في حكم لزوم الحذف المذكور قبل هذا، وهذه فائدة ثالثة.

والرابعة: بيان كونه غيرَ مرتضٍ لمذهب أبي عمرو في حذف الألف وتعويض التاء منها؛ وذلك لأنه خَيَّر في وجهين، وترك الثالث وهو أن تقول: حُبيِّرة، فتحذف ألف التأنيث (على شرط العوض قال سيبويه: "فأما أبو عمرو فكان يقول: حُبيِّرة، ويجعل الهاء بدلاً من الألف التي كانت للتأنيث) إذ لم تصل إلى أن تثبت). ولم يرد عليه سيبويه، لكن الفارسي قال: (حُبَيرة ليست تصغير حُبارى، وإنما هي كلمة أخرى). قال ابن خروف: هذه دعوى، ويلزم ذلك في نظائرها، يعني أن تكون التاء حيث عوضت من حرف كزنادقة أن تكون كلمة أخرى غير الأولى، وهذا غير صحيح. والذي عليه الجمهور مذهب سيبويه في التخيير، فأراد الناظم أن يحقق مذهبه فيها. وقول الناظم: (وعند تصغير حبارى) لا يريد هذا اللفظ فقط، بل هو مثال كليٌّ يعطي دخول ما كان نحوه من نحو:

أَرَاطَى وأُرَانَى وحَلاوى وخُزَامى ونُعامَى وما أشبه ذلك، فيتخير في تصغيره بين الوجهين. وكذلك ألحقوا بالباب أيضاً ما إذا كان المد غير ألف نحو: عَشُورى، تقول: عُشَيرَى - إن شئت - وعُشيِّر - إن شئت - وإنما نقل خلاف المبرد وأبي عمرو فيما كان ثالثه مدَّةٌ، لا في غير ذلك. وقوله: (فادْرِ) تنبيهٌ منه ليُعْلِمك بموقع المسألة عنده، وأنها مما لا ينبغي أن يترَكَ التنبيه عليها؛ لما فيها من الفوائد المحصنة لكلامه، والمكمِّلة لمقصده. و(الحُبارى): طائرٌ معروف. أنشد القاليُّ، ونسبه إلى أبي ذؤيب: تَرَقَّى بأطراف القِرَانِ وعَينُها كَعَيْنِ الحُبارى أخطأتْهَا الأجادِلُ

*** واردُدْ لأصلٍ ثانياً لَيْناً قُلِبْ فَقِيْمَةً صَيَّرْ قُوَيْمَةً تُصِبْ وشَذَّ في عِيْدٍ عُيَيْدٌ وحُتِمْ للجمعِ من ذا ما لِتَصغيرٍ عُلِمٍ هذا الفصل يذكر فيه الناظم بعض ما يعرض في الاسم المصغر من الإعلال بالقلب وغيره، وما حكم ذلك في التصغير، وما يردّ من المحذوف في المكبر، وما لا يردّ. وجملة ما ذكر فيه من المسائل ثلاث: إحداها: حكم الحرف الثاني إذا كان حرف لين قد قلب في المكبر / لموجبٍ فزال في التصغير. الثانية: حكم الألف إذا وقعت ثانية غير منقلبة: زائدة كانت، أو مجهولة. الثالثة: حكم الاسم المنقوص إذا اضطر في التصغير إلى ردِّ ما حذف منه، أو لم يضطر. هذه هي المسائل التي اعتنى بذكرها، واقتصر من سائر وجوه الإعلال على هذه الأوجه، فنذكرها على حسب ما قصد فيها بحول الله تعالى. المسألة الأولى: قال فيها: واردُدْ لأصلٍ ثانياً لَيْناً قُلِبْ يعني أن الاسم المصغر إذا وقع ثانيه حرف لين، وكان قد قلب في المكبر، ويريد ما عدا الألف المذكورة بعد فإن الحكم في التصغير

أن ترد ذلك اللين إلى أصله الذي دل عليه الاشتقاق والتصريف في ذلك المكبر. هذا معنى كلامه على الجملة. وقوله: (قُلِبْ) شرطٌ في اللين، وهو في موضع الصفة، أي لينا قلب في المكبر عن أصله إلى نحو آخر. وإنما قال: (ثانياً) ولم يقل: عيناً، وإن كان الحرف الثاني في مكان عين الكلمة على الجملة؛ لأنه قد يكون الأول زائداً، فيكون الثاني فاءً كميزان وميعاد، ولا من رده إلى أصله على ما يتبين إن شاء الله تعالى، فلأجل ذلك لم يقيده بعين دون غيره، بل عين رتبته في العدد؛ لأن ذلك هو المعتبر في بنية التصغير. وأما التفصيل فحرف اللين الذي قلب وكان ثانياً في الكلمة على أنواع: أحدها: أن يكون اللين في الأصل واواً فيُقلب ياءً لكسرةٍ قبله، وعلى هذا جاء مثاله وهو (قِيمة)؛ إذ أصله الواو؛ لأنه من التقويم، فمادته [ق وم] بلا شك، فتقول: قُوَيْمَة؛ ولذلك قال: فَقِيْمَةً صَيَّرْ قُوَيْمَةً تُصِبْ أي رد الياء إلى أصلها - وأصلها الواو - تُصِبْ؛ لأن العلة التي

لأجلها صارت الواو ياء، وهي الكسرة قبل الواو قد زالت في التصغير، فترجع إلى أصلها لزوال ما أوجب قبلها. وكذلك تقول في (دِيمة): دُوَيمة، وفي (قِيل): قُوَيل، وفي (رِيح): رُوَيحة؛ لأنه من الواو؛ لقولهم: أَرْوَاح. قال: قف بالديار التي لم يُعفِها القِدَم بَلى وغيَّرها الأرواحُ والدِّيَمُ ومثل هذا: مِيزان، وميعاد، وميثاق، هو من الوزن والوعد والوثوق، فتقول فيه: مُوَيزِين ومُوَيْعِيد ومُوَيْثِيق، وكذلك ما أشبهه. الثاني: أن يكون اللين واواً، فبقلب ياءً لإدغامه في ياء بعده، فتقول في (طيَ): طُوَى، وفي (شيّ): شُوَيّ، وفي (لَيّ) /: لُوَيّ، ومثله طُوَيَّان في (طَيَّان) ورُوَيَّان في (ريَّان)، وما كان نحو ذلك، تردُّ ذلك كله إلى أصله، وأصله الواو؛ لأنه من طَوَيتُ وشَوَيتُ ولَوَيتُ؛ لأن الواو إنما قلبت لاجتماعها مع الياء، وسبقها بالسكون، فلمَّا صغَّرت وقعت ياء التصغير بينهما فوجب رجوع الواو إلى أصلها؛ لزوال موجب الإعلال. الثالث: أن يكون اللين ياء في الأصل لكنه قلب واواً لسكونه مع الضمة قبله، فإذا صغَّرته فلا بد من الرجوع إلى الأصل، فتقول

إذا صغَّرتَ (موقِن): مُيَيْقِن، وفي (موسِر): مُيَيْسر، وفي (مودِع) من أيْدَع الحجَّ على نفسه: مُيَيْدع، وفي (مُوْنِعٍ) من أينَعَ: مُيَيْنِع، وكذلك ما كان نحوه. قالوا: ولا يجوز غير ذلك؛ لأن الياء لم تقلب واواً إلا لضعفها بالسكون، والسكون بالتصغير قد زال، فيزول بلا بدٍّ القلب، فترجع إلى الأصل. قال سيبويه: "وإنما أبدلوا الياء كراهية الياء الساكنة بعد الضمة، كما كرهوا الواو الساكنة بعد الكسرة، قال: فإذا تركت ذهب ما استثقلوا"، وقال: "وليس البدل هنا لازماً، كما لم يكن ذلك في (ميزان)، ألا ترى أنك تقول: مياسير". الرابع: أن يكون اللين ياء أو واواً في الأصل لكنه قلب ألفاً لتحركه وانفتاح ما قبله، وذلك نحو: باب ودار ومال وحال، فتقول: بُوَيب، ودُوَيْرة، وكذلك: مُوَيْل وحُوَيْل، وشبه ذلك؛ لأنها من الواو؛ لقولهم: أبواب، وأدْوُر، وأموال، وأحوال. وتقول في (ناب): نُيَيْب؛ لقولهم: أنياب، وفي (خال) الخئولة، و (خال) المخيلة: خُيَيْل؛ لأنه من قولهم: رجلٌ أخْيَلٌ، أي: كثير

الخيلان، ولقولهم: الخيلاء. وإنما رددت ذلك كله إلى الأصل، لأن موجب القلب ألفاً هو تحركها وانفتاح ما قبلها، والتصغير يزيل الفتح الذي قبلها، فلا بد يزول معلوله وهو القلب، فترجع تلك الألفات إلى أصولها. واعلم أن قول الناظم: واردُدْ لأصلٍ ثانياً لِيناً قُلِبْ يحتمل وجهين من التفسير: أحدهما: أن يكون قوله (ليناً) حالاً من الضمير في (قُلِبْ) كأنه قال: واردُدْ لأصلٍ حرفاً قُلِب حالة كونه ليناً، ويكون حالا مقدرة، كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً}، والمعنى أن الحرف الثاني من الكلمة كائناً ما كان من لين أو غير ذلك إذا كان قد قلب ليناً، أي: صُيِّرَ حرفاً ليناً فإنك إذا صغرت الاسم ترده إلى أصله. هذا وجه صحيح. الثاني: أن يكون قوله (لِيناً) / بدلاً ثانياً، كأن المعنى: وارْدُدْ لأصلٍ حرف اللين الثاني إذا كان قد قلب إلى غيره، وصُيِّرَ حرفاً آخر، سواء كان ما صُيِّرَ إلينا لينا أو غير لين، وهذا أيضاً وجه صحيح. وكلا الوجهين يشمل جميع ما تقدم من أنواع القلب، فإن

(قِيمة) حين كان أصله الواو ثانيه حرف قُلِبَ حرف لين وهو الياء، فالواجب كما قال أن تقول: قُوَيمة. هذا على التفسير الأول. وتقول أيضاً: (قِيْمة) أصله حرف لين وهو الواو دخله القلب، فوجب أن ترده إلى أصله أيضاً، وكذلك سائر الأنواع. لكن يختلف الحكم فيهما في حال أخرى، وذلك حيث يكون الثاني غير لين، فيقلب إلى اللين، أو يكون ليناً فيقلب إلى غير اللين. فعلى التفسير الأول يشمل كلامه نوعين زائداً على ما تقدم: أحدهما: ما كان أصل الحرف الثاني فيه مضاعفاً لكنه قلب حرف لين استثقالاً للتضعيف نحو: (دينار) و (قِيراط)، فإن أصلهما دِنَّارٌ وقِرَّاطٌ، لكنهم قلبوا النون الأولى والراء الأولى ياء لثقل التضعيف، والدليل على ذلك قولهم في الجمع: قراريط ودنانير، فهذا إذا صغر اقتضى كلامه أنك ترده إلى أصله فتقول: قُرَيْريط ودُنَيْنِير؛ لأن التضعيف الموجب للإبدال قد زال بفصل ياء التصغير بين المضاعفين، فزال الثقل، وكذلك تقول في (ديماس): دُمَيْمِيس على لغة من قال في الجمع: دَمَاميس، وفي (ديباج): دُبَيْبِيْج على لغة من قال: دَبَابيج، وأما من قال: دَيَاميس، ودَيَابيج فالياء عنده غير منقلبة عن غيرها، بل هي كياء جِرْيَال، وواو جِلْوَاخ. كذلك قال

سيبويه والخليل ويونس. والثاني: ما كان أصل الحرف الثاني فيه همزة، فقلبت ياء أو غير ياء تخفيفاً نحو: (ذئب) و (بئر) إذا خففت فقلت: ذِيب وبِير. قال الأستاذ (رحمه الله تعالى): تقول فيه - فيمن خفَّف -: ذُؤَيب وبُؤَيرة، يعني بغير تخفيف، قال: لأن قلب الهمزة ياء إنما كان لسكونها بعد الكسرة. قال: فلما زال ذلك بالتصغير رجعت إلى الأصل. ومثل ذلك لو سميت رجلاً (ذوائب) لقلتَ: ذُؤَيئِب بالهمز، فترد الهخزة إلى أصلها؛ لأن أصل الواو الهمز، لكن قلبت واواً في الجمع استثقالاً لاجتماع همزتين بينهما ألف، وهي شبيهة بالهمزة، وكان هذا من شذوذ الجمع الذي لا يطرد، فإذا صغر رد إلى القياس، فجعل مكان الواو الهمزة على ما كانت في الأصل /. وعلى التفسير الثاني يشكل كلامه نوعاً من البدل فيما كان أصله اللين، ثم قلب إلى غير لين، وذلك نحو: مُتَّعِد، ومُتَّسِر، أصله مفتعل من الوعد واليسر: موتعد وموتسر، فأدغمت الواو من موتعد، والياء في موتسر، فأدغمت الواو من موتعد، والياء في موتسر _ إذا أصله مُيْتَسِر - في التاء الذي في بنية مفتعل بعد قلبهما تاء، فقيل: مُتَّعد ومُتَّسر، وهذا في لغة غير الحجازيين،

فسبب هذا القلب في الواو والياء طلب الإدغام للمجاورة، فإذا حالت ياء التصغير بينهما لم يبقَ لقلب الواو والياء تاءً موجِبٌ، فروجع الأصل، فتقول فيهما: مُوَيْعِد ومُيَيْسِر. وإلى هذا ذهب الزجَّاج، وعليه عوَّل الفارسي في الإيضاح، ووجه ذلك ما ذكر من زوال موجب القلب تاء. وذهب سيبويه إلى إبقاء الأمر في المصغر على ما كان عليه في المكبر من ترك التاء غير مردودة إلى أصلها، فتقول: متيعد ومتيسر، وكذلك (مُتَّلِج) و (مُتَّخِم) و (مُتَّهِم) ونحو ذلك. واحتجَّ لسيبويه بأمرين: أحدهما: الفرق بين اللغتين؛ لأن لغة أهل الحجاز عدم القلب، إذ يقولون: مُوتَعِد، ومُوتَسِر، ولا شك أن التصغير على هذه اللغة مُوَيْعِد ومُيَيْسِر، فلو قالوا في اللغة الأخرى كذلك، وردت الواو والياء لالتبست اللغتان. والثاني: وهو الأقوى عندهم في الاحتجاج أن الواو والياء ليستا من الحروف التي تدغم في التاء، فقلبهما هنا تاءين كالقلب

في (تُكَأَة) ونحوه؛ لأن هذه الواو لما كانت في هذا يجب لها تغيير كثير وهو الثابت في لغة أهل الحجاز، فتقول: ايتَعَد ياتَعِدُ ايتعَاداً، وهو مُوتَّعِد، واوتَعَد فلان، فصارت أحوالها تختلف فتكون ألفاً تارة، وواواً أخرى وياء أرادوا أن يقلبوها حرفاً يثبت في جميع الأحوال، وهي مما نقل إليه كثيراً، وذلك التاء، ورأوا ذلك أولى، قالوا: فليست التاء التي بعدها هي الموجبة للقلب فليزم أن ترجع إلى أصلها عند زوال تلك التاء، وإنما الموجب ما ذكر. هذا ما احتجوا به لسيبويه ومن تبعه، وللزجاج ومن تبعه. وقد ألزم ابن خروف سيبويه أن يقول في الجمع: مَتَاعد ومَتَاسِر ومَتَالِج، والإلزام [صحيح]. وعلى الجملة فإن كانت العرب قد قالت: مَوَاعد ومَوَازن لزم إبطال مُتَيْعد ومُتَيْزن، والرجوع إلى مُوَيْعد ومُوَيْزن، وإن كانت قد قالت: / مَتَاعِد ومَتَازِن أن يقال هنا: مُتَيْعِد ومُتَيْزِن، وبطل مذهبُ الزَّجَّاج. وإن كانت لم تقل هذا، ولا هذا فهي في موضع الاجتهاد. والظاهر أن التصغير فيها غير مسموع، فالنظران متقاربان. والله أعلم. ثم إن كلام الناظم يرشد إلى معنيين:

أحدهما: بيان أن ما كان من اللين منقلب عن شيء، ولا منقلب إليه شيء يبقى على ما كان عليه، وذلك أن ما تقدم من الأنواع إنما يأتي فيما كان ليناً قلب إلى غيره، أو قلب إليه غيره على التفسيرين، وبذلك قيد في قوله: (ليناً قلب) فيفهم أن ما لم يقلب حكمه ما تقدم من ظهور البقاء على أصله، فما كان ثانيه واواً أو ياء لم ينقلب إلى حرف آخر، ولم ينقلب إليها حرف آخر بقي على حاله، فتقول في (حَوْل): حُوَيْل، وفي (عُود): عُوَيد وفي (قَول): قُوَيل، وفي (سَوط): سويط، وفي (دَيْر): دُيَير، وفي (زَيد): زُيَيد، وفي (بيت): بُيَيْت، وفي (شَيْخ): شُيَيْخ. هذا ما يقتضيه نظمُه، وهو صحيحٌ على مذهب البصريين، خلافاً لما ذهب إليه الكوفيون من تجويزهم أن تقلب الياء واواً؛ للضمة، فيقولون في (بَيْت): بُوَيْت، وفي (شَيخ): شُوَيخ، وفي (عين): عُوَينة، وفي (سَير): سُوَير، ونحو ذلك. وإنما قالوا ذلك لأنهم سمعوا في (ناب) وأصله الياء: نُوَيْب، وقالوا: شُوَيخ وبُوَيت، وهي عند البصريين ألفاظٌ شاذةٌ وعلى غير القياس؛ لأن الثاني في بنية التصغير وهو الياء يجب لها التحرك بالفتح، والضمة لا تقوى على قلبها إلا إذا كانت ساكنة كمُوقن ونحوه،

بخلاف المتحركة فإنها قوية بالحركة، فلمتقْوَ الحركة عليها، بل قويت الياء على الضمة حتى قلبتها كسرة، لكن على الجواز، فقالوا: شِيَيْخ وبِيَيْت ونِيَيْب. ولم يحك الناظم هنا هذا الكسر، وقال سيبويه: "ومن العرب من يقول في ناب: نُوَيْب، فيجيء بالواو؛ لأن هذه الألف [مبدلة] من الواوات أكثر" يعني أن الواو على العين أغلب، قال: "وهو غلظ منهم". وقد حكى السيرافي أنها لغة بعض العرب. قال ابن الضائع: وهاتان اللغتان نظيرتا (قِيل) و (بِيع)، و (قول) و (بُوع) فيما بني للمفعول، قال: وعلى هذا يجوز في (الناب) نُيَيْب بالضم والكسر، قال: ولو حفظ سيبويه هذه اللغة في (نُوَيْب) لحمل عليها هذا. قال: ويقوِّي توجيه سيبويه ضمُّ الأول، ألا ترى أن الضم هو الموجب للواو في تصغير (بَيت) فقط؟ انتهى. وعلى كل تقدير فهو نادر، والنادر لا يعتد به، فلذلك لم يبن عليه الناظم. والمعنى الثاني في كلام الناظم أن هذا / الرد الذي يحكم به في

التصغير إنما هو حيث يزول موجب الخروج عن الأصل، وهذا مأخوذ من تمثيله؛ لأن (قِيمة) أصله: قِوْمَة، والواو الساكنة لا تثبت بعد الكسرة، فقلبوها ياء، فلما زالت الكسرة حين ضمت القاف للتصغير لم يبق لبقاء الياء موجب، فرجعت إلى أصلها، فقيل: قُوَيْمة، فكذلك جميع ما يرد في التصغير إلى أصله، وقد تقدم تمثيله. قال السيرافي: ما كان من بدل الحروف لحركة أوجبت قلب ما بعده، أو لحرف على حال يوجب قلب حرف بعده، ثم صغرت ذلك الاسم أو جمعته، فزالت العلة الموجبة للقلب في التصغير أو في الجمع رددته إلى أصله، ثم مثل ذلك بما تقدم. فأما إذا كان موجب القلب باقياً في التصغير فإن المصغر لا يرد إلى أصله، بل يبقى على حاله، وهو مقتضى ما يعطيه حاصل المثال من المفهوم؛ لأنه في قوة أن لو قال: واردد لأصل كذا إن زالت علة القلب في التصغير، فلا شك أن مفهومه أن العلة إذا لم تَزُل فالحال يبقى كما كان قبل التصغير. ومثال ذلك مسألة سيبويه إذْ سأل الخليل عن (فُعْلٍ) مبني من (وَأَيْتُ) فقال: وُؤْيّ، قال فسألته عنها فيمن خفف فقال: أُوْيٌ،

ولا بد من الهمزة؛ لاجتماع الواوين. فعلى هذا إذا صغرت هذا بناء على التخفيف فلا بد أن تقول: اُوَيٌّ، قتبقى الواو الأولى على إبدالها همزة، وتبقى الهمزة بعدها على تسهيلها كما كانت، ولم يفعل التصغير شيئاً؛ لأن ما لأجله وقع الإعلال بالقلب باقٍ بعد التصغير، وذلك أن الهمزة الساكنة لما أبدلت واواً اجتمع واوان في أول الكلمة، فلزم همزُ الأولى على مقتضى القاعدة التصريفية. وكذلك إذا سميت بـ (فُعُلٍ) من الوَأْدِ جمع (وَءُود) كصَبُور، ثم خفَّفت فإنك تقول: أُوُد، فإذا صغرت قلتَ: (أُوَيد) ولا بدَّ. وكذلك إذا سميت بـ (أَوَادِم) جمع آدم على أنه (أَفْعَلُ) من الأدمة فإنك تقول في تصغيره: أُوَيْدِم، لبقاء موجب قلب الهمزة الثانية واواً، وهو اجتماعها مع الهمزة الأولى. وكذلك إذا بنيتَ (أفعل) من الأمن فقلت: (آمَن) ثم جمعته على (أفاعل) فقلت: (أَوَامِن) ثم سميت به فإنك تقول في تصغيره: أُوَيمن. ومن هذا كثيرٌ. ومثله لو بنيتَ من الأمنِ، أو من الأُدْمَة مثل (شامِل) لقلت: آمِن، وآدِم، ثم تجمع / على (أَوَامن) و (أَوَادِم)، ثم تصغر كما تقدم. وهذا كله ظاهر.

وكذلك تعتبر كل ما كان ثانيه ليناً مبدلاً، أو مبدلاً منه، ولم تَزُلْ علة الإبدال في التصغير فتبقي الأمر كما كان عليه. ومعنى ثالث: مستفادٌ أيضاً من المثال وهو ألا يبقى بعد تصغيره علَّةٌ أخرى تخلُفُ الأولى في الإخراج عن الأصل، وذلك أنه إذا زالت العلة التي أخرجت الحرف في المكبر عن أصله، ثم خلفتها علَّةٌ أخرى من جنسها، أو من غير جنسها فالحرف لا يرجع إلى أصله؛ لمعارضته هذه العلة الحادثة فلا بد أن تعطى حكمها، وذلك أنك تقول: إيمان وإيلاف وإيتاء، وسائر ما كان على (إفْعال) مما فاؤه همزةٌ، فلا بد من إبدال تلك الهمزة (للهمزة) المتقدمة، وتكون ياءً للكسرة، فقد خرجت عن أصلها إلى الياء، فإذا صغَّرْتَ ذلك قلت: أُوَيمين وأُوَيلِيف وأُوَيْتِيء، فيزول كون الهمزة ياء؛ لزوال الكسرة، ولا يزول إبدالها لثبوت الهمزة الأولى، وإنما تصير واواً للضمة الحادثة في التصغير، فقد اختلف البدلان ولم ترجع إلى أصلها؛ إذ لا سبيل إلى ذلك مع وجود علة الإبدال. وفي هذا المثال نوعٌ مما قبله. ثم ذكر ما شذَّ من هذا فقال: وشذَّ في عِيدٍ عُيَيْد

يعني أن هذا الاسم الذي هو (عِيد) قالوا فيه: عُيَيْدٌ على لفظه لا على أصل أصله؛ لأن أصله الواو من العَودة؛ لأنه يعود في كل سنة فكأنهم التزموا فيه البدل، ألا تراهم قالوا: أعياد، فإذا كانوا التزموا الياء فلا بدَّ من التزامه في التصغير كما كان في التكسير. قال سيبويه: "وأما عيد فإن تحقيره عييد؛ لأنهم ألزموا البدل، قالوا: أعياد، ولم يقولوا: أَعْوَاد، كما قالوا: أقوال، قال: فصار بمنزلة همزة قائل". يعني في أنها تثبت في التصغير حين تقول: قُوَيئِل. ونحو من هذا الذي ذكر الناظم ما أجاز ابن جني في الخصائص من تصغير (مِيثاق) على مُيَيْثِيق على قول من قال: مَياثيق، وأنشد أبو زيد: حِمًى لا يحلُّ الدَّهْرَ إلا بإذْنِنَا ولا نسألُ الأقوامَ عَقْدَ المياثِقِ ووجَّهَ ترك الرد إلى الأصل بكثرة استعمالهم لميثاق حتى كأنهم تناسوا أصله، وأنه الواون فتوهموا أنه في الأصل على ظاهر لفظه غير

مسبب عن علة، كبنائك (مِفعالاً) من اليُسْر، ثم تكسيرك إيَّاه على على (مفاعيل) فتقول: مِيْسَار ومياسير، فانِسُوا بميثاق أنسَهُم بمثل / مِيْسَارن فقالوا: مَيَاثِيق، قال ابن جني: "وكذلك عندي قياسُ تحقيره على هذه اللغة أن تقول: مُيَيْثِيق". وما قاله ابن جني ليس بمصادم لما ادعى ابن مالك هنا من الشذوذ؛ لأن المياثيق نادرةٌ في اللغات أن تثبت لغة، وما قاله ابن جني من القياس بناءٌ عليها، وابن مالك إنما تكلم على اللغة المشهورة، ولا شك أن عُيَيْداً شاذٌّ فيها وعند أهلها، لا أنها اختصَّ بها قومٌ دون قوم، فمن هذا الوجه شذّت. ثم قال: ... ... ... ... وحُتِمْ للجمع من ذا ما لتصغيرٍ عُلِمٍ [حُتم] معناه: أُوجِب وأُلزِم، و (ذا) إشارة إلى الحكم المقرر للتصغير، وهو رد الثاني الذي هو لين إلى أصله، فيريد أن ثبت من هذا للتصغير فإنه ثابت للجمع، ويريد به الجمع المكسَّر، فإذا كانت علَّةُ القلب في المفرد قد زالت في الجمع فلا بدَّ من ردِّ الثاني

اللين إلى أصله، فتقول في (رِيح): أَرْوَاح. قال: قِفْ بالدِّيارِ التي لم يَعْفُها القِدَمُ بِلًى وغيَّرَها الأرْوَاحُ والدِّيمُ وفي (ريَّا) و (ريَّان): رِوَاء، وفي (ميزان): موازين، وفي (ميعاد): مواعيد، وفي (ميقات): مواقيت، وكذلك تقول في (مُوسِر) و (مُوقِن) لو كسَّرته: مَيَاسِر، ومياقِن، وتقول في (مال): أموال، وفي (حال): أحوال، وفي (باب): أبواب، وفي (ناب): أنياب، وما أشبه ذلك؛ لأن موجب الإعلال في هذه الأشياء قد زال حالة الجمع، فيراجع الأصل بلا بدٍّ. وكذلك تقول في (قِيراط): قَرَاريط، وفي (دينار) دنانير، وفي (دِيباج): دَبَابيج، وفي (ديماس): دَمَاميس في أحد الوجهين، وهذا على التفسير الأول. وعلى التفسير الثاني تقول: مَوَاعد ومَيَاسر في (مُتَّعِد) و (مُتَّسِر)، ومَوَالِج في (مُتَّلِج)، ونحو ذلك، وقد تقدم بسط هذا قُبَيل. وأما إذا كانت على الإعلال باقيةً فلا بد من بقاء الثاني على ما كان عليه قبل ذلك، فتقول في (قِيمة): قِيَم، وفي (ديمة): دِيَم، وفي (حِيلة): حِيَل؛ لأن موجب قلب الواو ياء وهو الكسرة قبلها باقٍ في الجمع (فيبقى موجبُهُ.

وكذلك إذا بَنيت من الهمزة مثل (سَفَرْجَل) فقلت: أَوَأْيَا، ثم جمعته فإنك تقول: أَوَاءٍ) فتبقى الواو على حالها بسبب بقاء موجب إبدالها على حاله، وهو اجتماع الهمزتين، وكذلك إن خلفت في الجمع علة أخرى فإنك لا تردُّ حرفَ اللين إلى أصله لما عرض في الجمع من المانع، ومثاله: (إيمان) و (إيلاف) / تقول في جمعه: أَوَامين وأَوَاليف، وكذلك كل (أفعال) مما الفاء فيه همزة، فالأصل: إِأْلاف وإِأْمَان، أُبدلت ياءً لأجل الهمزة، فلما جمعوها لم تُردَّ إلى أصلها؛ لبقاء موجب الإبدال وهو اجتماع الهمزتين. وبالجملة فكل ما تقدم في التصغير جارٍ مثله في التكسير، فلذلك قال: ... ... ... ... ... وحُتِمْ للجمع من ذا ما لتصغيرٍ عُلِم أي هذا الحكم لازم في الجمع، لا انفكاك له عنه. ويشمل كلام الناظم ما كان من ذلك مقيساً، وما كان سماعاً، ألا ترى أنهم قالوا: أعياد في جمع (عِيد)، وأصله الواو، وكذلك قالوا: مياثيق في جمع (ميثاق)، وأصل هذا أن التصغير جارٍ على التكسير، ولا سيما فيما كان على مثال (مَفَاعِل) و (مَفَاعِيل)؛ إذ هو مساوقٌ في بنائه لبناء التصغير، ولذلك حَمَلَ سيبويه (عُيَيْد) على

أعياد، وحمل ابن جني (مُيَيْثِيق) على مياثيق. إلا أن في ظاهر كلام الناظم شيئاً يُشاحُّ فيه، وهو أنه أحال في إعطاء حكم التكسير على التصغير؛ إذ ذكر أن كل ما ثبت من هذا الحكم للتصغير فهو ثابت للتكسير، والذي بنى عليه النحويون العكس من حمل التصغير على التكسير، كما تقدم عن سيبويه وابن جني وابن خروف، وثبت ذلك عن غيرهما، وقد تقدم أيضاً سؤال ابن جني للفارسي في هذا، فصارت عبارة الناظم مخالفةً لهذه القاعدة، وإن كان المعنى والمحصول صحيحاً. فالجواب: أن مراد الناظم ليس الحمل القياسي وهو الذي ذكره النحويون، بل التعريف بالحكم مجرداً، فكأنه يقول: الحكم في التكسير في هذه المسألة كالحكمِ في التصغير، ولا يلزم من هذا الحملِ القياسي، فلا مشاحَّةَ عليه في عبارته. وقوله: (من ذا) يريد من هذا الحكم المذكور قريباً، فحرر عبارته وقيَّدها؛ لئلا يتوهم أن جميع الأحكام الثابتة للتصغير ثابتة كلها للتكسير، وهذا فاسد. وقوله: (ما لتصغير عُلِم) يعني عُلِمَ من كلامه فيها وتقريره. ***

والمسألة الثانية من المسائل الثلاث التي ذكر الناظم في هذا الفصل في حكم الألف إذا كانت زائدة أو مجهولة الأصل، وذلك قوله: والألفُ الثاني المزيدُ يُجعَلُ واواً كذا ما الأصلُ فيه يُجهَلُ يعني أن الحرف [الثاني] إذا كان ألفاً مزيدة غير منقلبة عن أصل فإنك تقلبها عند التصغير واواً فتقول في (ضارب): ضُوَيرب، وفي / دابَّة: دُوَيَّبة، وفي (آدم) على أنه فاعل: أُوَيْدم، وكذلك ما كان نحوه. ووجه ذلك أن أول الكلمة لا بد من ضمَّة، فلا بد من القلب فيها، وقلبها إما إلى الواو، أو إلى الياء، والقلب إلى الواو أولى لمناسبتها للضمة، ولذلك إذا سُهِّلَت الهمزة المفتوحة بعد الضمة صُيِّرَت واواً، وأما الياء فهي أبعد من الواو في هذا الموضع، ولذلك إذا حقَّروا مثل (شيخ) فرُّوا في أحد الوجهين إلى كسر الأول، فقالوا في (شيخ): شِيَيْخ، وقال بعض العرب في (ناب): نُوَيْب، فلم يعتبروا الأصل، وهو واجبُ الاعتبار، بل اعتبروا الضمة فأَتَوا لها بالواو، وهو مذهب الكوفيين. فلما كان الأمر على هذا ذهبوا مذهب الاستخفاف، فقلبوا الألف واواً، فقالوا: ضُوَيرب، وقُوَيئم، ونُوَيمس في ناموس.

وإنما قيد الألف بكونه مزيداً؛ ليخرج الألف الأصلي عن هذا الحكم، أي المنقلب عن أصل كألف (مال) و (ناب)، فإن هذا الألف قد دخل في حكم الثاني اللين في المسألة الأولى. وأما الألف الثالث فهو الذي نبَّه عليه بقوله: كذا ما الأصل فيه يُجهلُ (ما) واقعة على الألف الثاني؛ لأنه جعل الألف إذا كانت ثانية على وجهين: زائدةً، ومنقلبة عن أصل مجهول، وأما المنقلبة عن أصل معلومٍ فقد تقدَّم ذكرها، فيريد أن الألف الثانية إذا جُهل أصلها، فلم يُدْرَ أأصلها الواو أم الياء، فحكمها أن تُقلبَ واواً. وقد يشعر قوله: (ما الأصل فيه يجهل) بأن المسألة عنده مفروضة فيما كان له أصل ثابت، لكن لم يدل دليل على كونه واواً أو ياء، فيخرج عنه ما ليس له من الألف أصل انقلبت عنه، بل هي أصول بأنفسها، كما إذا سميت بـ (ما) و (لا) و (ها) على مذهبه في التسهيل، وقد تقدم التنبيه عليه. وعلى هذا المحمل يشمل كلامه ضربين: أحدهما: ما كان من الأسماء المعربة المتصرف فيها مجهول الأصل نحو: (صاب) و (عاج)، وأظن أن ابن سِيده جعل من هذا (البان) الشجر المعلوم؛ إذ لم يدل عنه دليل على أصل الألف فيه.

ويجري مجراه على مذهب الجماعة ما إذا سميتَ بـ (ما) أو (لا) أو (ها) التنبيه، فأنت تقول: هذا ماءٌ ولاءٌ وهاءٌ، فتحكم على الألف بالانقلاب، لكن تكون مجهولة الاصل يمكن انقلابها عن الواو أو عن الياء، فمثل هذا تقول في تصغيره: بُوَين / ومُوَيّ ولُوَيّ وهُوَيّ، وكذلك إذا سميت بـ (غاق) أو غيره من أسماء الأفعال والأصوات. والثاني: أسماء الحروف الموقوفة الجارية مَجرى الأصوات نحوه: كافْ، لامْ، زايْ، صادْ، ضادْ، قافْ، ونحو ذلك، فهذه الألفات من المجهول الأصل إذا جعلتها أسماءً للحروف فقلتَ: كافٌ ولامٌ وزايٌ ونحو ذلك كانت مجهولة الأصل فتقول فيها عند التصغير: كُوَيفٌ، ولُوَيْمٌ، وزُوَيٌّ، وصُوَيْدٌ، وضُوَيْدٌ، وقُوَيْفٌ، وإن شئت أنتث بالهاء اعتباراً بتأنيث الحروف. وإنما كان القلب فيها إلى الواو دون الياء لوجهين: أحدهما: أن الواو أقرب تناسباً للضمة المتقدمة من الياء وأخفُّ نطقاً، فكان القلب إليها أولى كما تقدم فوق هذا. والثاني: أن القاعدة المعتمدة عن المحققين أن الواو أغلبُ على العين من الياء. ذكر ذلك سيبويه واعتمده غيره.

قال ابن جني: لأنك إذا استقرأتَ اللغة وجدتها في أكثر الأمر كذا، ألا ترى إلى بابٍ ودارٍ وساقٍ وغارٍ وتاجٍ وصاعٍ فهذا كله من الواو، والياء في هذا الموضع قليلة. وإذا ثبت هذا فالألف المجهولة الواقعة ثانية هي في موضع العين، فهي داخلة تحت حكم ذلك الغالب، وهو كونها واواً في الأصل، فترجع إلى أصلها. وعلى هذا التقرير يردُ على الناظم هنا سؤالان: أحدهما: أن نصه على ما الأصل فيه مجهولٌ حشوٌ لا فائدة فيه، وذلك أن النحويين حكموا على ما كان هكذا لم يعرف له أصل بأنه من الواو، لا من الياء، فإذن أصله عندهم معلومٌ، وإن لم يكن معلوماً باشتقاق ولا تصريف فهو معلوم بالكثرة، أو بالحمل على النظير، أو بغير ذلك من الأدلة المذكورة في علم التصريف الدالة على الأصالة والزيادة، وغير ذلك من الأمور التي هذا منها، وإذا كان كذلك فقد دخل له تحت قوله أولاً: واردُدْ لأصلٍ ثانياً ليناً قُلِب فإنه لم يُحل الناظن على الأصل إلا وهو معلوم بطريق من الطرق

المعرِّفَةِ بذلك، وهذا النمط معلومُ الأصل أيضاً بطريقٍ من تلك الطرق فشمله الكلام ولا بدَّ، فصار هذا النوع غير مفيد. والثاني: على تسليم عدم دخوله تحت ما قدَّمَ فليس الحكم فيه مطلقاً كما يقتضيه نظمُهُ، بل الألف المجهولة تنقسم قسمين: مُمالةً، وغيرَ مُمالةٍ. فغير الممالة هي التي يستتبُّ فيها ما ذكر من الحكم. وأما الممالة فليس الحكم / فيها ما قال، بل تُعد كأن أصلها الياء، فتقلب ياءً كما قال ابن جني في (ما) إذا سمَّيتَ به، فإنك تقضي على الألف بأنها ياء، قال: لأجل الإمالة فيه، فجعل الألف كالمنقلبة عن الياء كما ترى، فتقول إذن في تحقيره: مُيَيّ، كما تقول في ناب: نُيَيْبٌ، وكذلك كل ما كان من الألفات الثواني مُمالاً، والإمالة سبب في قلب الألف ياءً والحكم عليها بذلك، ولذلك تقول في تثنية (متى) مسمًّى به: مَتَيَان لأجل الإمالة، وقد تقدم ذكرُ ذلك في باب التثنية. وقد أمالوا الباء والتاء والثاء ونحوه بعدما أعربوها، وعاملوها

معاملة ما ثانيه ياء بحق الأصل لما كانوا قد أمالوها قبل الإعراب حين قالوا: با، تا، ثا، ثم بنوا ذلك على أن قالوا: يَيَّيْتُ باءً حسنةً، وتَيَّيْتُ، وحَيَّيْتُ، ونحو ذلك؛ لأجل ما تقدم لهم فيها من الإمالة ولم يحكموا للألف بحكم ما أصله الواو، فيقولون: بَوَّيْتُ، وتَوَّيْتُ، وحَوَّيْتُ، وإذا كان كذلك كان الواجب على مقتضى القاعدة أن يقولوا في التصغير: بُيَيّ، وتُيَيّ، وحُيَيّ ولا يقولوا: بُوَيّ، وتُوَيّ، وحُوَيّ. وظهر أن إطلاق كلام الناظم مشكلٌ ومعترضٌ. والجواب عن السؤال الأول أن الألف المجهولة عند أهل العربية هي ما لم يقم دليلٌ عليه من اشتقاق أو تصريف؛ لأن الاشتقاق والتصريف هما أصلا جميعِ الأدلة، وإليهما يُرجَعُ، على ما بينتُهُ في كتاب الاشتقاق. فإذن كل ما لم يقم دليل على تعيين أصله من الألفات يسمى مجهول الأصل اصطلاحاً منهم، ثم بعد ثبوت هذا الأصل نظروا إلى الأكثر في تلك الصفات، فعاملوا المجهولة تلك المعاملة، فقضوا عليها بأنها [من الواو مع أنها] لم تخرج عن حقيقة كونها مجهولة؛ إذ

دليل الكثرة شبهيٌّ، وعلى هذا السبيل جرى الناظم فسماها مجهولة الأصل اعتباراً بفقد أحد الدليلين الأصليين، وحكم بمقتضى ما أصَّلُوهُ فيها، فبنى على حكم الواو فيها، فقلبها في التصغير واواً؛ لأن هذا حكم ما أصله الواو من الألفات الثواني، فلم يخرج عن طريقهم. والجواب عن السؤال الثاني أن اعتبار الإمالة غير متفق عليه في الحكم بكون الألف ياء، بل أطلقوا القول في القاعدة، ولم يستثن سيبويه منها ممالاً من غيره، وكذلك فعل الفارسي، فلذلك لما ذكر ابن جني / فيما تقدم قال: قياس قول أبي علي أن يكون من الواو، يعني لأجل أن الواو على العين أغلب؛ لأن باب (طَوَيْتُ) كثيرٌ جداً، وباب (عَيِيتُ) قليلٌ، والحمل على الأكثر واجب، لكن لما كانوا قد أمالوا هذه الحروف تصرفوا فيها على ذلك الحكم فقالوا: بيَّيْتُ وحّيَّيْتُ، فلما كانت الإمالة ليست إلا للإعلام بأن تلك الألفات كانت قبل النقل ممالة، لا لأن أصلها الياء لم يبق فيها دلالة على الياء، كما لم يكن فيها دلالة عليها في (بَلى) و (لا) في قولهم: (إمَّا لا) ونحو ذلك، فتصح إذن دعوى الانقلاب عن الواو بهذا النظر. على هذا المعنى اعتمد ابن جني في ترجيح قياس أبي علي، وهو

مبسوطٌ في سر الصناعة، فقضى الناظم بذلك أيضاً، وترك اعتبار ذلك التصرف، وهو جواب مقدوح فيه؛ لمصادمته السماعَ وكلام النحويين في اعتبار الإمالة في التثنية ونحوها. وعلى الجملة فالسؤال هنا قوي الإيراد، والله أعلم. *** المسألة الثالثة: في حكم الاسم المنقوص في التصغير، وما يردُّ لأجله من المحذوف وما لا يردُّ، وذلك قوله: وكمِّلِ المنقوصَ في التصغير ما لمْ يُحْوِ غير التاء ثالثاً كَمَا إنما تكلم المنقوص وترك غير المنقوص؛ لأنه لا إشكال فيه. قوله: (في التصغير) متعلقٌ بـ (كَمِّلِ) أي: كمِّل في التصغير المنقوص إلى آخره، ويعني بهذا الكلام أن الاسم المصغر على ضربين: أحدهما: ما كان منقوصاً منه حرف، ولم يحر حرفاً ثالثاً، أي هو بعد النقص على حرفين فقط، لم يبق بعد النقص على أكثر من حرفين. والثاني: أن يحوي ثالثاً، وإن كان منقوصاً. فأما الضرب الأول وهو الباقي على حرفين فلا بد من تكميله وتصييره على ثلاثة أحرف كما كان قبل النقص؛ لأن بنية التصغير لا تقوم بأقل من ذلك؛ إذ كانت ياؤه لا تقع إلا ثالثة، وبعدها حرف

يقع عليه الإعراب، ولا يمكن ذلك في أقل من ثلاثة أحرف دونها؛ إذ لو وقع الإعراب في الياء لاعتلَّت واختلَّت دلالتها، فلا بد من الرد لذلك. وأما الضرب الثاني وهو الذي بقي بعد النقص على أكثر من حرفين فلا يرد إليه شيءٌ؛ لأن الرد إنما هو للضرورة المتقدمة، ولا ضرورة مع وجود حرف ثالث يقع عليه الإعراب، وتسلم به ياء التصغير، فلذلك قال الناظم: (ما لم يحوِ ثالثاً) أي: فإن حوى ثالثاً فلا تُكمِلْهُ. هذا ما أراده على الجملة، وإذا رجعنا / إلى تفصيل ما أراد بهذا الكلام فنقول: النقص المراد عنده يحتمل في بادي الرأي أحد وجهين: أحدهما: أن يريد النقصَ العرفي المشهور عند النحاة، وهو حذف الحرف الآخر خاصَّةً كيَدٍ ودَمٍ وهَنٍ، ونحو ذلك، وقد يُرشد إلى هذا تمثيله بما في آخر الشطر الثاني، وعلى هذا الوجه لا إشكال في صحة ما قال، فتقول على هذا في الثنائي الذي لا بدَّ من الرد فيه: في (يدٍ): يُدَيَّة، وفي (دمٍ): دُمَيٌّ، وفي (سنة): سُنَيَّةٌ على من قال: سَانَيْتُ، وسُنَيْهَةٌ على من قال: سَانَهْتُ، وكذلك عُضَيَّة، أو عُضَيْهَة، وكذلك ما أشبهه.

والثاني: أن يريد ما هو أعمُّ من ذلك وهو النقص اللغوي مطلقاً: كان النقص [من] الآخر أو من غيره. وكلامه أيضاً على هذا المنزع صحيحٌ؛ لأن الحكم واحد في المحذوف الفاء أو العين أو اللام؛ لأن الضرورة داعيةٌ إلى الرد كما تقدم. ولا يقدح في هذا الوجه تمثيله بـ"ما"؛ لأنها مثال من أحد أقسامه، لكن حملُ كلامه على هذا الثاني أولى؛ لاشتماله على ما هو ضروري الذكر، بخلاف الأول فإنه قاصر عن ذلك، إلا أنه على غير إطلاق العرفي، وهذا قريبٌ. وعلى هذا الإطلاق الثاني جرى في التسهيل؛ إذ قال: "ويُتوصَّلُ إلى مثال (فُعَيل) في الثنائي بردِّ ما حذف منه إن كان منقوصاً"، ثم قال: "وإن تَأَتَّى (فُعَيلٌ) بما بقي من منقوص لم يُردُّ إلى أصله"، وأشار إلى نحو (ناسٍ) و (هارٍ) إذ أصله: (أناسٌ) و (هائرٌ) فحذف منه غير الأخير. وأما ما نقص من أوله حرفٌ فنحو: (عِدَةً) و (زِنَةٍ) و (رَقَةٍ) وبابه تقول فيه: وُعَيْدَةٌ، ووُيْنَةٌ، ووُرَيْقَةٌ، وفي (شِيَةٍ): وُشَيَّةٌ،

وفي (خُذْ) و (كُلْ) مسمًّى بهما: أُخَيْذٌ، وأُكَيْلٌ، وما أشبه ذلك. وأما ما نقص من أوسطه حرفٌ فنحو (سَهٍ) تقول فيها: سُتَيْهَةٌ، وفي (مذ) مسمًّى به: مُنَيذٌ؛ لأنه عند سيبويه محذوفٌ من (منذ)، وكذلك إن سمَّيتَ بـ (سَلْ) ثم صغَّرته قلتَ: سُؤَيْلٌ، على أن (سل) أصله من الهمز، لا من الواو. وهذا التكميل الذي ذكره الناظم يحتمل وجهين أيضاً: أحدهما: ما فسَّرتُهُ به من تكميله بالحرف المحذوف الذي من أصل الكلمة، وهو صحيح جار على كلامه في التسهيل وكلام غيره. الثاني: أن يريدَ به أنه يُؤتَى بحرفٍ مكمل على الجملة من غير اعتبار بكونه من أصل الكلمة أو لا، وإنما القصد أن تصير به الكلمة ثلاثية، فإن كانت الكلمة محذوفاً منها فذاك، وإلا أتيَ بحرف مكمِّلٍ لا ينسب / إليها كالأسماء المبنية والحروف التي على حرفين، ولا شكَّ أن مثل هذا مرادٌ له، ولذلك مثل بـ (ما) في قوله: ... ... ... ... ما لم يحْوِ غير التاء ثالثاً كما حسبما يأتي التمثيل فيه إن شاء الله تعالى. وإذا كان كذلك ففي إطلاقه التكميل نظر؛ فإنه لم يقيد ذلك، فيقتضي أنك تكمِّلُ الاسم بمكمِّل، أيِّ مكمل كان، لا يعتبر فيه كونه من أصل الكلمة أو من غيرها، فيجيء من ذلك نحو ما حكى

الأخفش عن حماد بن الزبرقان النحوي أنه قال في النسب إلى (شِيَة): شِيَوِيٌّ، فقياسه في التصغير شُوَيَّةٌ، فيؤتى إذن بحرف أجنبي من الكلمة تكمَّلُ به، ويطَّرِدُ هذا في جميع ما تقدم، وهو غير صحيح، فإن ما حكى في النسب لا يقاس عليه. قال ابن الضائع: لاختصاص النسب بتغييرٍ كثير لا يجوز في غيره، فالوجه أن يقال: وُشَيَّةٌ، وكذلك تقول في النسب: وِشَوِيٌّ، أو وِشْيِيٌّ، وقد أشار إلى هذا الرأي سيبويه في النسب، واحتجَّ على فساده بأشياءَ منها التحقير. فهذا المذهب واردٌ على عبارة الناظم أن يؤخذ منها؛ إذ يقال: لو قصد ما عليه الناس لقيد الحرف المكمِّلَ بكونه هو المحذوفَ في الأصل، ولم يفعل ذلك، فكان فيه إشكالٌ. والعذر عن هذا أنه قصد إدخال الضربين معاً، وهما المكمَّلُ بما هو من أصل الكمة، والمكمَّلُ بحرف خارجي إذا لم يكن لها أصل سوى ما ظهر، فلم يقيد ذلك ليدخلا معاً، وكأنه أحال في التكميل من أصل الكلمة على ما هو المعروف المتداول عند النحاة، أو ترك ذلك اتكالاً على بحث الباحث وإفادة المعلِّم.

وأما الثلاثي المنقوص منه حرف كـ (ناسٍ) و (هارٍ) أصله: أُنَاس، وهائِرٌ، فقد أعطى كلامه بمفهومه حكمه؛ إذ قال: (ما لم يحو غير التاء ثالثاً) مفهومه أنه إن حوى ثالثاً فلا تكمله بما حذف منه، وعلى هذا تقول في (ناسٍ): نُوَيس، وقد رواه الفراء هكذا عن الكسائي، لكنهم استدلوا به على أنه ليس بمحذوف من (أناس)، خلاف ما ذهب إليه سيبويه منه محذوف منه. وتقول في (هارٍ): هُوَير، وفي (مَيْت): مُيَيْتٌ، وفي (هَيْنٍ): هُوَيْن، وفي (يَضَع) (ويَعِدُ) مسمى بهما: يُضَيْعٌ ويُعَيْدٌ، وفي (خيرٍ منك) و (شرٍّ منك): خُيَيْرٌ منك، وشُرَيْرٌ منك، وكذلك في (كَيْنُونة) و (قَيْدُودة): كُيَيْنِينَة، وقُيَيْدِيْدَة، ولا ترد المحذوف فتقول: كُوَيْنِيْنَة، وقُوَيْدِيْدَة، وكذلك كل ما / كان منقوصاً وبقي منه ثلاثةٌ فأكثر. وما ذهب إليه هو مذهب سيبويه والجماعة، وذهب أبو عمرو بن العلاء إلى أنه لا بدَّ من الرد، فتقول في (ناس):

أُنَيِّسٌ، وفي (هار): هُوَيْئِرٌ، وكذلك تقول في (يرى) - مسمى به -: يُرَيْءٌ ٍ، وله من الحجة أمران: أحدهما: أن من شأن التصغير أن يرد الأشياء إلى أصولها كما تقرر باتفاق في الثنائي كـ (يدْ) و (دمٍ)، فكذلك ينبغي فيما كان منقوصاً مثله. ورُدَّ هذا الاحتجاج بأن رد الشيء إلى أصله في التصغير ليس لأجل التصغير من حيث هو كذلك، بل لأجل الضرورة الداعية إلى الرد، وذلك في الثنائي لكمال بنية التصغير كما تقدم، وأيضاً فإن العرب لم تردَّ حين قالت: نُوَيْسٌ في ناس حسبما حكاه الفراء عن الكسائي. والثاني: ما حكاه سيبويه عن يونس عن العرب أنهم يقولون في (هارٍ): هُوَيْئِرٌ على مثال (هُوَيْعِرٍ). وهذا نص في موضع الخلاف، فيقاس عليه ما عداه. ورُدَّ هذا الاحتجاج بثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا السماع غير متفق عليه عند العرب، وإنما هو شيء منقول عن ناس منهم، قال سيبويه: وزعم يونس أن ناساً

يقولون هُوَيئر على مثال (هُوَيعر). فلم ينقله إلا عن بعض العرب، وذلك لا يكون حجة على جميع العرب. والثاني: أن ما سُمِع من ذلك نادر شاذ لا يبلغ مبلغ القياس عليه، فلا يبنى عليه قاعدة، وأيضاً فهو مؤوَّل. قال سيبويه - بعد الحكاية -: "فهؤلاء لم يحقروا هاراً، وإنما حقروا هائراً، كما قالوا: رويجل كأنهم حقروا راجلاًن وكما قالوا: أُبَيْنون وأُنَيْسان، قال: إلا أن تسمع شيئاً من العرب فتؤديه، وتجيء بنظائره مما ليس على القياس". وأبينون وأنيسان تصغير لابن وإنسان على غير قياس، لكن على تقدير واحد غي مستعمل، كأنهم صغروا (أبنَى) و (إِنْسِيَان)، فكذلك القول في (هُوَيئر). وإذا احتمل هذا التأويل لم يكن فيه دليل. والثالث: المعارضة بقول العرب في (ناس): نُوَيس، فهو إما أن يقول فيه: أُنَيِّسٌ، فيخالف العرب، وإما أن يقول: نُوَيْسٌ، فيخالف قاعدته، ومن هنا رد عليه سيبويه حين حكى عنه هذا المذهب قال: فهو ينبغي له أن يقول: مُيَيْتٌ يعني في (ميت) مخففاً، وينبغي له أن يقول في (ناس): أُنَيِّسٌ؛ لأنهم إنما حذفوا ألف (أُنَاس). فقد ظهر وجهُ ما ذهب إليه الناظم /.

ثم استثنى من القسم الثاني الذي لا يرد فيه المحذوف إلا أن يكون الحرف الثالث الذي يكمل به الاسم المصغر تاء، وذلك قوله: (ما لم يحو غير التاء ثالثاً) وهو استثناء من ثالث مقدم عليه، فكأنه يقول: إن حَوَى ثالثاً فلا تكمِّلْهُ، إلا أن يكون الحرف الثالث تاء، ويعني تاء التأنيث فإنه لا بد من التكميل بردِّ المحذوف. والتاء المستثناة تاءان: إحداهما: التي تسمى الهاء نحو: ضاربة، وقائمة، فهذه التاء لا يعتد بها، فتقول في (شية) و (عدَة): وُشيَّةٌ، ووُعَيْدَةٌ، فترد المحذوف؛ لأنها في تقدير المنفصل عن الكلمة، ولذلك تشبه بالاسم الثاني من المركبين، وتعامَل بتلك المعاملة، وقد قرر الناظم هذا المعنى أول الباب إذ قال: وألف التأنيث حيث مُدَّا وتاؤه منفصلين عُدَّا والثانية: التاء اللاحقة لأخت وبنت وهُنْت فإنها وإن كانت قد بنيت الكلمة عليها، وصارت ملحقة لبنات الاثنين ببنات الثلاثة أصلها أن تكون للتأنيث، ولذلك يطلق عليها سيبويه في بعض المواضع أنها للتأنيث، وإن كان ذلك تجوَزاً منه اعتباراً بأصلها، وقد

بين حقيقتها في غير موضعٍ من كتابه، وأنها كتاء (سَنْبَتَة) وتاء (عفريت). لكن الناظم اعتبر أصلها، وأنها كانت قبل الحذف للتأنيث، وإطلاقُ لفظ الإمام عليها أنها للتأنيث فشملها لفظه هنا، وكذلك في قوله: وتاؤه منفصلين عُدَّا فتقول هنا في التصغير: أُخَيَّة، وبُنَيَّة، وهُنَيَّة، فتردُّ المحذوف، ولا تجتزَئ بها اعتباراً ببناء الكلمة عليها؛ لأن ذلك غير معتبر عندهم، وكذلك سكون ما قبلها غير معتبر في هذا المعنى، نظراً إلى أصلها، وإلى أنها لا تثبت في نسبٍ ولا جمعٍ بالتاء، فلها عندهم حالان مختلفان، واعتبر الناظم أحدهما وهو الحال القَبْليَ. ولو قال كما قال في التسهيل: "ولا اعتداد بما فيه من هاء تأنيث أو تائه" ففصل إحداهما من الأخرى لكان أبين. لكن حين جعل التاء للتأنيث في التسهيل اجتزأ بهذا الاشتراك كما تقدم. وعليه في إيراد هذا الحكم سؤال وهو أنه يقتضي أن ما كان من

الأسماء منقوصاً، وكان له في اللفظ ثالث هو ألف الوصل فإنه [لا] يرد إليه ما حذف منه، بل يجتزأ بذلك الثالث في إقامة بنية التصغير، فكنتَ تقول في (ابن): أُبَيْنٌ، وفي (اسم): أُسَيْم، وفي (استٍ): أُسَيْت، وفي (ابنة): أُبَينة، وكذلك ما أشبهه، وهذا حكم فاسد؛ لأن ألف الوصل / لا حكم لها في الكلمة من حيث كان الإتيان بها لأجل الابتداء بالساكن، فلما كان أول المصغر وثانيه يتحركان كان من الضرورة سقوط ألف الوصل، فيبقى على حرفين، فلا بدَّ من رد اللام، فكان من الواجب كما استثنى التاء أن يستثنيَ ألف الوصل أيضاً. والجواب أن سقوط ألف الوصل مأخوذ من بابه، لا من ههنا؛ إذ هو حكم من أحكامها، فذكره مختص بباب ألف الوصل فلا اعتراض عليه بذلك. وأما تمثيل بـ (ما) في قوله: ما لم يحوِ غير التاء ثالثاً [كما] فإنه راجع إلى المنقوص الذي لم يحوِ ثالثاً وهي كلمةٌ ثنائية: حرفٌ، أو اسمٌ، وقصد التمثيل به أن ما يكمل من الأسماء الثنائية على قسمين:

أحدهما: ما كان محذوفاً منه في الأصل الاستعمالي، وأصله الأول القياس التام، ثم حُذف كيَدٍ، ودمٍ وثُبَةٍ، وشِيَةٍ، ونحو ذلك مما تقدم، فإن الأصل القياسي فيها أنها ثلاثية، ثم استُعملت محذوفة، وهذا الذي تقدَّم التمثيل به. والثاني: ما لم يكن محذوفاً منه في أصله القياسي، ولا الاستعمالي، بل كان في الأصل ثنائياً نحو مثاله المذكور، لأنَّ (ما) موضوعة في الأصل وضع الحرف، فليس لها أصل، فإذا سُمّيَ بها ثم أريد التصغير فلا بد من تصييرها إلى القسم الأول تقديراً؛ لأنها قد صارت في حزب الأسماء المعربة، وليس في الأسماء المعربة ثنائي إلا وهو محذوف منه في الأصل، فيقدَّرُ هذا كذلك منقوصاً، فيرد إلهي ما قدر حذفه منه، وهو ياءٌ في الآخر، أو واوٌ، والياء أولى؛ لأنها أكثر فيما حذفت لامه من الأسماء. فإلى هذا أشار بمثاله؛ وذلك لأن التصغير لا يصح في (ما) وهي على حالها، فلا بد أن يحمل على حالةٍ يصح فيها التصغير، وذلك لا يكون إلا بعد التسمية بها، فأطلق عليها لفظ المنقوص اعتباراً بصيرورتها عند التسمية إلى حكمه، وأتى في التمثيل بها اتكالاً على

فهم هذا المعنى، وهو من المواضع المشكلة على المشتغلين بهذه الأرجوزة، وقد نبه في التسهيل على هذا المعنى إذ قال: "يتوصل إلى مثال فُعَيل في الثنائي برد ما حذف منه إن كان منقوصاً" يعني في أصله الاستعمالي عن كماله في الأصل القياسي، قال: "وإلا فإلحاقه بدم أولى من إلحاقه بأبٍ" اهـ أي: وإن لم يكن منقوصاً في أصله الاستعمالي عن أصله القياسي، فلم يُعلم له أصل حذف منه فإلحاقه بما حذف لامه وهو ياء مما حذف لامه /، وهو واوٌ؛ لأن الياء على ما حذف لامه أغلب. فأطلق الناظم على مثل هذا المثال لفظ المنقوص؛ لأنه صار بعد التمسية كالمنقوص، وذلك ظاهر. فتقول - إذن - في (ما): مُوَيٌّ، وفي (مَن): مُنَيٌّ، وكذلك في (مِن)، وفي (عَن): عُنَيٌّ، وفي (كم): كُمَيٌ، وما أشبه ذلك. بخلاف (إنْ) المخففة من إنَّ، أو (أنْ) المخففة من أنَّ، أو (قطْ) أو (رُبْ) أو نحو ذلك، فإنها من القسم الأول الذي له أصل يرد إليه بعد التسمية إذا صُغِّر، فتقول: : وقُطَيط ورُبَيب؛ إذ أصلها التضعيف وإن كان في حال الحرفية، فترد إليه، وهذا ظاهر. إلا أن على كلام الناظم بهذا التفسير اعتراضاً وهو أن (ما) الممثل

بها لا يصلح التمثيل بها فيما قصد، وذلك لأنها كلمة على حرفين آخرهما حرفُ لين، والقاعدة: أنَّ كل ما كان مثل هذا لا يبقى في التسمية على حالته الأولى، بل يزاد على ألف مثلها، فتقلب همزة بسبب اجتماعها مع الألف الأولى، والتقائهما ساكنين، على ما هو مقرر في موضعه، وإذا ثبت ذلك فإذا اعتقد في (ما) أنها اسمٌ لشيء ما لزم مدُّها، فتقول: (هذا ماءٌ يا فتى) وحينئذ يقع عليه التصغير؛ إذ لا يكون مبنياً على التكبير، والاسم حالة التكبير غير نقوص، لأنه على ثلاثة أحرف؛ لقولهم: ماءٌ لاسمِ الماء المعلوم، وكقولك: ثاءٌ وباءٌ وتاءٌ أسماء الحروف، فإذا صُغِّر لم يحتج إلى التكميل؛ لأنه في المكبر كامل، فصار التمثيل غير صحيح على هذا التقدير، وإنما كان يطابق المسألة أن يمثلها بهَلْ وبَلْ وأَمْ ومِنْ وعَنْ، ونحو ذلك مما إذا سمي به بقي على لفظه ثنائياً، كما كان قبل التسمية، فثبت أن هذا التمثيل في غاية الإشكال، ولا يسوغ أن يعتذر عنه بأنه لم يقصد إلا مجرد الثنائي من غير نظرٍ إلى خصوص (ما)، بل يكون كأنه قال: كالأدوات التي جاءت على حرفين، فيشمل هل وبل ومِنْ وعن وغير ذلك من المُثُل التي يصحُّ الكلام على فرضها؛ لأنا نقول: هذا بعيدٌ عن طريقته في التمثيل، إذ قد تقرر غير ما مرة أنه يأتي بالمثل عوضاً من التقييدات، ويذكرها في معرض الاشتراط؛ لاشتمال المُثُل على

تلك الشروط، وتأمل ما تقدم له في المعرب والمبني من قوله: كالشبه الوضعيِّ) / في اسمَي جِئْتنا وقصده الإتيان بـ (نا) التي هي على حرفين أحدهما لين. وإذا كان من طريقته ما ذُكر لم يَسُغ حمل كلامه على خلافه. ثم إن سلمنا ذلك فيقال له: هل يدخل لك في جملة المثُل ما مثَّلتَ به أو لا يدخل؟ فإن قال: لا يدخل كان ذلك فاسداً أن يأتي بمثال غير مطابق لمسألته، وإن قال: نعم كان تسليماً، للإشكال. فعلى كل تقدير لا يصحُّ هذا التمثيل. فلو قال - مثلاً -: وكمِّل المنقوص في التصغير إنْ لم يَحوِ غيرَ التاء ثالثاً كَمِنْ لاستقام ولم يكن فيه إشكال ولا مقال. *** ومنْ بترخيمٍ يُصغّرِ اكتَفَى بالأصل كالعُطَيْفِ يعني المِعْطَفَا هذا هو الكلام في تصغير الترخيم، وذلك أن التصغير على وجهين: تصغيرٌ على اعتبار حروف الكلمة: أصولاً كانت أو زوائد، وهو عامٌّ التصغير، وهو الذي تكلم عليه من أول الباب إلى هنا.

وتصغيرٌ على اعتبار أصول الكلمة، وعدمِ اعتبار زوائدها، وهو تصغير الترخيم الذي شرع في الكلام عليه. وإنما سُمِّي تصغير الترخيم لما فيه من الترخيم اللغوي وهو التسهيل؛ لأن حذف الزوائد تسهيلٌ للكلمة على النطق بها، ومن الترخيم الاصطلاحي وهو جعل الاسم المزيد فيه مجرداً من الزيادة، كأنه لم يستعمل إلا دون زيادة. وقوله: ومَن بترخيم يصغِّرِ اكتفَى (مَن) فيه شرطية، و (يصغِّرِ) مجزومٌ، والجواب (اكتفى)، وهو جوابٌ بالفعل الماضي بعد كون فعلِ الشَّرط مضارعاً، وهو جائز عند الناظم نحو: مَن يَكِدْني بسيئٍ كنتُ منهُ كالشَّجا بين حَلْقِهِ والوَريدِ ويحتمل أن تكون (من) موصولة، و (اكتفى) خبرها؛ لأنها في موضع رفع على الابتداء، وهي واقعة: إما على العرب الذي يفعلون ذلك، فكأنه يقول: والذي لغته من العرب أن يصغَّر تصغير الترخيم

فإنه يكتفي بالأصل، وهذا لأن بعضهم يحكي أن ذلك لغة لبعض العرب، وأن منهم مَن يحذفُ الزوائدَ كلها، ويردُّ الاسم إلى أصله. وإمَّا على مريد التصغير، وهو الأظهر، فكأنه يقول: مَن أراد أن يصغِّرَ تصغير الترخيم، فإنه يفعل كذا وكذا، وكأنه جعل ذلك إلى خيرة المصغر: فإن أراد تصغيره على الوجه الأعمِّ فَعَل، وإن / أراد على هذا الوجه الأخص فذلك أيضاً جائز. وعلى طريقة التخيير أتى به سيبويه إذ قال: "اعلم أن كل شيء [زِيدَ] في بنات الثلاثة فهو يجوز لك أن تحذفه في الترخيم حتى تصير الكلمة على ثلاثة أحرف؛ لأنها زائدة فيها، وتكون على مثال (فُعَيل) "، ثم مثل ذلك، ثم ذكر أن بنات الأربعة بمنزلة بنات الثلاثة في ذلك. وأما الوجه الأول وهو أن تكون (مَنْ) واقعة على العرب فهو سائغ، ويكون قوله: (اكتفى) بياناً لكيفية ترخيمهم للاسم المزيد فيه. ثم إن قوله: (بالأصل) يشتمل على مسائل ثلاث: إحداها: ما أعطى صريحه ومفهومه وهو أنك تحذف في هذا

التصغير الزوائد، وتبقي الحروف الأول وحدها، فتقول في تصغير (حارث): حُرَيْث، كأنك تصغر (حَرْثاً)، وفي (أسود): سُوَيْد، وفي (خارج): خُريج، وفي (استضراب): ضُرِيْب، وفي (تكرم): كُرَيْم، وكذلك ما أشبهه، وسواء في هذا الحكم أكان الاسم ثلاثي الأصول أم رباعيها. الحكم في الجميع واحد، فتقول في (دِحراج): دُحَيرِج، وفي (قربوس): قُرَيْبس، وفي عصفور: عُصَيْفِر، وفي (قنديل): قُنَيْدِل، ونحو ذلك. والثانية: إطلاق القول في كل زائد حُكِمَ بزيادته على الإطلاق، وهذا يشمل نوعين من الاعتبار: أحدهما: شموله ما كان: مما يدل على معنى، أو لا يدل عليه، فالحكم سواءٌ في مقتضى كلامه، فتقول على [هذا] في (حبلى): حُبَيل، وفي (زكرياء): زُكَيْرٌ، ونحو ذلك، فتحذف الألف وإن كانت دالة على التأنيث؛ لأنها زائدة على أصول الكلمة.

والمسألة مختلف فيها على ما أشار إليه ابن هانئ في "شرح التسهيل": فمن النحويين من ذهب إلى ما ذهب إليه الناظم هنا من جواز حذف الزوائد مطلقاً. ومنهم من منه ذلك. والذي يقوله ابن أبي الربيع: أنه يستثنى من حذف الزوائد تاء التأنيث، وهذه متفق عليها، وألف التأنيث وهمزته، وعلامتا التثنية والجمع المسلم، وألف (أفعال) في جمع التكسير. فإن كان الخلاف على ما أشار إليه ابن هانئ فلِمَن يحتج لمذهب الناظم أن يقول: إن القصد المفهوم من العرب في تصغير الترخيم لا يتم إلا بشمول حذف الزوائد من غير استثناء؛ إذ لم يقصدوا إلى حذف بعضها دون بعض، وإنما قصدوا إلى خلوص الأصول عما عداها، وهذا القصد إنما يحصل بحذفِ كل زائد في الكلمة من غير استثناء شيء، وانظر إلى محافظتهم على هذا الغرض حيث حذفوا في / هذا التصغير بعض الأصول الشبيهة بالزوائد، وذلك قولهم: بُرَيْهٌ وسُمَيْعٌ في إبراهيم وإسماعيل فاعتبروا مجرد الاشتراك اللفظي، فحذفوا ميم إبراهيم، ولام إسماعيل لما اشتركتا لفظاً مع حروف الزيادة، وإن لم تكونا هنا زائدتين.

فإن قال صاحب المذهب الآخر: إن حذف حرف المعنى إخلال بالكلمة كما أن حذف الحرف الأصلي إخلال بالكلمة، بخلاف الزائد الذي لا يدل على معنى فإنه غير مخل. فالجواب: أن هذا غير لازم؛ إذ لو اعتبر هذا لم يصح تصغير ترخيم، من حيث كانت الأبنية قد تدل على معنى مع الزيادةـ ولا تدل عليه دونه، فتحذف الزائد فيكون ذلك (إخلالاً) بمعنى البنية، ولم يمنع ذلك من جواز هذا التصغير كضارب وقائم ومستخرج، ونحو أسماء المصادر والزمان والمكان نحو: مَضْرِب، ومَخْرَج، وما أشبه ذلك. وإذا ثبت هذا وأنه غير معتبر باتفاقٍ مع ثبوت الإخلال بمعنى ما متعلقٍ بالزوائد فكذلك ما ذكرتم. والنوع الثاني: شموله ما كان من الزوائد من سألتمونيها، أو من الزائد بالتضعيف. والحكم واحدٌ أيضاً، فتقول في (ضَفَنْدَد): ضُفَيْدٌ، فتحذف النون وإحدى الدالين، وكذلك في (خَفَيْدَد):

خُفَيْدٌ، وفي (مُقْعَنْسِسٍ): قُعَيْسٌ، وفي (مُسْحَنْكِك): سُحَيْكٌ، وما أشبه ذلك. حكى إجازة هذا الوجه سيبويه عن الخليل. والمسألة الثالثة: منه حذف الحرف الأصلي؛ لقوله: (اكتُفي بالأصل) أي فهو الباقي الذي تقوم به بنية التصغير، وهذا إنما يتصور في الرباعي فتقول في (فَقْعَس): فُقَيْعِس، وفي (جَعْفَر): جُعَيْفِر، ولا تحذف منه شيئاً؛ لأن العرب لا تتجرأ على حذف الأصلي فراراً من الإخلال بالبنية من غير ضرورة، اللهم إلا أن يكون الاسمُ خماسياً لا تقوم مع كماله بنية التصغير فإنه يحذف، وليس بمخصوص بالترخيم، بل يجري في التصغير كله، وقد تقدم ذلك. فإن جاء ما حذف منه الأصلي فشاذٌ محفوظٌ، نحو ما حكى سيبويه عن الخليل أنه سمع في إبراهيم وإسماعيل بُرَيهٌ وسُمَيْعٌ، والقياس على مذهب سيبويه في هذا التصغير: بُرَيْهِيْمٌ وسُمَيْعِيْلٌ، حكماً منه على الهمزة بالزيادة، وعلى مذهب المبرد: أُبَيْرِيْهٌ، وأُسَيْمِيْعٌ بناء على أنها أصلية.

ووجه الترخيم في ذلك تشبيه الحرف الأصلي بالحرف الزائد؛ إذ كان على لفظه، فكأنه توهم زيادته فحذفه. وتمثيله بالمِعْطَف / وتصغيره عُطَيْفاً تنبيهٌ على مسألة رابعة، وذلك أنه مثَّل باسم نكرة، وهو المعْطَف فدل على أن هذا الترخيم عنده جائز فيها، لا يختص بالأعلام، فتقول في (أسْوَد): سُوَيْدٌ، وفي (قائم): قُوَيْمٌ، وفي (آكل): أُكَيْلٌ، كما تقول في (حارث): حُرَيْثٌ، وفي (فاطمة): فُطَيْمَةٌ، وفي (عامر): عُمَيْرٌ. هذا مذهب البصريين. ونقل عن الفراء أن العرب إنما تفعل ذلك في الأسماء الأعلام خاصة، وأما غيرها فلا يُصغَّرُ إلا على غير الترخيم. وهذا الذي قاله البصريون يفتقر إلى سماع. وقيل: إن قول الفراء هو المشبه والقياس، قال ابن الضائع: بل لا ينبغي أن يُعدَلَ عنه إلا بسماع بيِّنٍ، ألا ترى أن الترخيم في النداء لا يكون إلا في الأعلام، ثم ذكر ما نقل من قولهم: (عَرَفَ حُمَيْقٌ جَمَلَه) وهو تصغير (أْحْمَق)، وليس بعَلَم، وحُكَيَ أيضاً في مثل: (يجري بُلَيْقٌ ويُذَمَ) وهو كالأول.

ومن حجة الفراء أن يقول: هذا مثل فلا يقاس عليه. ولكن زعم سيبويه عن الخليل أنه جائز في كل اسمٍ مَزيد، فإن كان قياساً منه على ما ورد في الأعلام فضعيف، ويبعد أن يكون ذلك قياسا منهم مع كثرة محافظتهم على الوقوف مع السماع، بل لا بد لهم في هذا من أصل سماع يرجعون إليه مما لم يحفظه الفراء. والله أعلم. والضمير في (يعني) عائد على (مَن) في قوله: (ومن بترخيم يُصغَّر). والمعطف في اللغة العطف، وهو الجانب من كل شيء، وعِطْفَا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركيه. *** واختمْ بتا التأنيث ما صغَّرتَ من مؤنثٍ عارٍ ثلاثي كَسِنْ ما لم يكن بالتا يرى ذا لبسِ كشجرٍ وبقرٍ وخمسِ وشَذَّ تركٌ دون لبسٍ ونَدَرْ إلحاقُ تا فيما ثلاثيا كَثُرْ قد تقدم أن المؤنث بالتاء لا تحذف منه في التصغير، بل يبقى على حاله قبل التصغير، وإنما ذكر الآن حكم ما كان من المؤنث عارياً من التاء، هل تلحقه التاء في التصغير أم لا؟ و(ما) في قوله: ما (صغَّرتَ) واقعة على المصغر، وهي تفيد

العموم، فكل ما صُغِّرَ من ثلاثي يدخل له في العبارة، فالمصغر تصغير الترخيم كزينب وسعاد وغلاب حكمه ما قال، وذلك لأنه في الحكم الثلاثي؛ إذ التصغير إنما ورد على ثلاثي في التقدير، كأنك صغرتَ زنب وسعد غلب. ويعني الناظم أن كل ما (صغر مما) اجتمعت فيه ثلاثة أوصاف وهي: كونه مؤنثاً، وكونه عارياً من العلامة / وكونه ثلاثياً، فالتاء تلحقه علامة على تأنيثه. فأما وصف التأنيث فلقوله: (من المؤنث)؛ لأن المذكر لا حاجة له بعلامة، وإنما يحتاج إليها المؤنث. واعلم أن التأنيث المراد في كلام الناظم هو التأنيث للكلمة بأصل وضعها، أو بالنقل المحض، وذلك أن الاسم المؤنث على وجهين: تارة يكون مؤنثاً بأصل وضعه كزينب وسعاد وشمس ويد ورجل ونحو ذلك، فهذا تأنيث لا إشكال فيه، ويري فيه الحكم المذكور، فتلحق التاء عند التصغير. وكذلك إذا نقل إلى المؤنث نقلاً محضاً، كالمرأة تسميها بزيد، أو أَمْلٍ أو غير ذلك من الألفاظ، فهذا نقل محض أيضاً، فتلحقه التاء في التصغير بلا بد؛ لأنه اسم مؤنث حقيقة، ولا يراعي أصله؛ لأنه مهمل مطرح، وهذا مذهب الجمهور.

ونقل ابن الأنباري عن الكسائي أن ما كان من أسماء النساء على ثلاثة أحرف منقولاً من المصدر فإن فيه وجهين: لحاق التاء اعتباراً بالحال، وعدم اللحاق اعتباراً بالأصل، وهو مذكر. وما كان غير منقول فإنه بالتاء في الأكثر، فتقول في: بَرْق، ولهْو، وخَوْد، وجُمْل، وريم أسماء نساء: خُوَيْدٌ وخُوَيْدة، وبُرَيْق وبُرَيْقة، ولَهْيٌ ولُهَيَّة، وجُمَيل وجُمَيْلة، ورُوَيْمٌ ورُوَيْمَةٌ. وتقول في شمس: شُمَيْسة، وفي عين: عُيَيْنَة ونحو ذلك. فاعتبر الكسائي الأصل في النقل المحض، كما اعتبره الجميع البتة في الوجه الثاني، وهو أن يكون مؤنثاً لا بأصل الوضع، ولا بالنقل الحقيقي، ولكن بالجريان على المؤنث وإطلاقه عليه مع أن أصله المذكر، واعتباره باقٍ لم ينتسخ حكمه، فهذا حكمه خلاف حكم الأول، وذلك كالصفات الجارية على المؤنث بغير تاء كامرأة حائض وطاهر ونصف، وكذلك الوصف بالمصادر نحو: امرأة عَدْلٌ ورضاً وزُوْرٌ وفِطْرٌ، فالأصل في هذه الأشياء التذكير، والصفات عند سيبويه جارية على المذكر تقديراً، والمصادر باقية على أصلها؛ لأن الوصف بها وصف بالجنس وهو مذكر، فلم تخرج إذن عن أصلها

من التذكير، فليست بمؤنثة في الحقيقة وإن كانت جارية على المؤنث في اللفظ، فلم تدخل تحت كلام الناظم؛ إذ لم يثبت كونها مؤنثة بعد، فيقتضي ألا تلحقها التاء في التصغير وإن جرت على المؤنث، فتقول في عدل /: عُدَيْل، وفي رضا: رُضَيٌّ وفي زَوْرك زُوَيْر، وفي صَوم: صُوَيْم، وذلك تقول في حائض وطاهر وطامث ونحوها إذا صغرتها تصغير الترخيم: حُوَيْض وطُهَيْر وطُمَيْث، وفي نَصَف: نُصَيْف، فلا تلحق تاء أصلا. وهذا التقرير في الوجهين أصَّله سيبويه قال: (وسألته - يعني الخليل رحمه الله (تعالى) - عن تحقير (نَصَف) نعتِ امرأة، فقال: تحقيرها نُصَيْف، وذلك لأنه مذكر وُصِفَ به مؤنث، ألا ترى أنك تقول: هذا رجلٌ نَصَف، قال: ومثل ذلك أنك تقول: هذه امرأة رِضاً، فإذا حقرتها لم تدخل الهاء؛ لأنها وصفت بمذكر، شاركت المذكر في صفته، فلم تغلب عليه، ألا ترى أنك لو رخمتَ (الضامر) لم تقل: ضُمَيْرة. قال: وتصديق ذلك فيما زعم الخليل رحمه الله (تعالى) في الخلق: خُلَيْقٌ، وإن عنَوا المؤنث؛ لأنه مذكر يوصف [به] المذكَّر فشاركه فيه المؤنث).

وما ذهب إليه الناظم من تقسيم الاسم المؤنث إلى القسمين هو المذهب الذي عليه كلام العرب، ولم يتحرر كلام الكسائي في ذلك، فلا ينبغي أن يؤخذ به في المسألة. وما تقرر في المؤنث هو بعينه جارٍ في المذكر، فتارةً يكون مذكراً بأصل وضعه كرجُل وزيدٍ وعمروٍ ونابٍ، ونحو ذلك، فهذا لا إشكالَ فيه في عدم لحاقه التاء، وذلك بمقتضى تقييده، ومثله ما نقل نقلاً حقيقياً إلى المذكر وإن كان أصله المؤنث كرجلٍ يُسمى بعين أو أذنٍ أو (يدٍ) أو نحو ذلك (فلا تلحقه التاء) عند الناظم؛ لأنه ليس بمؤنث، وأصله من التأنيث منسوخ بالتذكير، غير معتبر ولا ملحوظ. وتارة يكون مذكراً لا بأصل الوضع، ولا بالنقل الحقيقي، وإنما يكون مذكراً باعتبار مَّا مع أن أصل اللفظ من التذكير معتبر، وذلك كالعين المراد به الرَّبِيئة فإنك تقول في تصغيره: عُيَيْنَة، لأنه إذا سمي عينا استعارة من العين المبصرة؛ لأن المقصود منه عينه، لأنه إنما سمي عيناً استعارة من العين المبصرة؛ لأن المقصود منه عينه، فصار كالناب في نوعه، فلم يطَّرَحْ أصله، فلا بد أن يقال: عُيَيْنَةُ بالتاء؛ لأن العين للربيئة ليس بخالص النقل، فلم يكن ليترك أصله. وهذا كله داخل تحت كلام الناظم.

وبهذا التقدير يظهر أنه مخالف ليونس في اعتبار الأصل بعد النقل الحقيقي، فيقول في (قَدَم) و (يَدٍ) اسمَي رجل: قُدَيْمَة ويُدَيَّة اعتباراً بأصله، وهو أيضاً مذهب الفراء. وحجته في ذلك ما جاء من قولهم: أُذَيْنَة في اسم الرجل / مع أنه منقول نقلاً محضاً، ولكنهم اعتبروا أصله. وأجاب سيبويه عن هذا أنه إنما سُمِّيَ الرجل بالأذن محقَّرةً، لا بها مكبَّرةً ثم صغروه فقالوا: أذينة. قال ابن الضائع: والدليل على ذلك أن الرجل الذي اسمه (أُذَيْنَة) لا يقال فيه: أُذُن. ونظير مذهب يونس ههنا مذهب الكسائي فيما تقدم. وأما وصف العُرُوِّ، وهو التجرد عن العلامة فلقوله: (عارٍ) أي: متجرد عن علامة التأنيث، فإنه إذا لم يكن عارياً عنها فذلك هو المقصود، فلا يحتاج إلى علامة أخرى. والعلامة التي هو عارٍ منها هي كل علامة تأنيث: سواءٌ كانت تاءً أو ألفاً أو همزةً، فإنه إن كان في الاسم واحدٌ منها استُغْنِيَ عن الإتيان بعلامةٍ أخرى نحو: عَمْرَة وحُبْلَى وحمراء. فإذن إذا عَرِيَ عن كل علامةٍ فهو الذي يفتقر إلى التاء إحرازاً

لمعنى التأنيث ودلالة عليه. وأما وصفه بكونه ثلاثياً فذلك قوله: (ثلاثي) وهو احتراز من الرباعي، فإن الرباعي لا تلحقه إذا صُغر، إلا ما نبه عليه من الشذوذ بعد، فإذا صغِّر (زينب) و (سعاد) و (غلاب) و (رَقاش) ونحو ذلك قلتَك زُيَيْنِبُ وسُعَيِّدُ ورُقَيِّشُ، ولا تأتي بتاءٍ؛ لأنه ليس بثلاثي، ولا فرق في هذا الحكم بين كون الرباعي ذا وجهين كذراع وكُراع، أو ذا وجه واحدٍ، وهو مقتضى كلامه، وهو مذهب الجمهور. وذهب ابن الأنباري إلى أن ما كان ذا وجهين فإنه يُصَغَّرُ بالتاء عند قصد التأنيث، فإذا صغَّرتَ كُراعاً على من أنَّث قلتَ: كُرَيِّعَة، وكذلك في ذراع: ذُرَيِّعَة، ولا تقول: كُرَيِّعٌ، ولا ذُرَيِّعٌ وإن كان رباعياً؛ لئلا يلتبس بتصغيره على ما ذَكَّر. وماقالاه يفتقر إلى سماع مخصص. فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة لزم لحاق التاء في التصغير إلا ما استثنى، فتقول في: (يدٍ): يُدَيَّة، وفي (رِجلٍ): رُجَيْلَة، وفي (أُذُن): أُذَيْنَة، وفي (هِند): هُنَيْدة، وفي (دَعْدٍ): دُعَيْدَة. وكذلك تقول في تصغير الترخيم إذا حذفت الزوائد من الثلاثي، فتقول في (سعاد): سُعَيْدَة، وفي (غَلابِ): غُلَيْبَة، وفي (زينب):

زُنَيْبَة، وما أشبه ذلك؛ لأنه ثلاثي بعد دخول التصغير. وحقيقة الأمر فيه أنهم إذا أرادوا التصغير / عرَّوْهُ عن الزوائد تقديراً، وصيَّروه كأنه ثلاثي في الأصل، فكأن (سعاد) صار إلى سَعْد، و (غَلابِ) صار إلى غَلَب، و (زينب) إلى زَنَب، هكذا القياس فيه، وإذا كان كذلك فلم يرد التصغير إلا على اسم على ثلاثة أحرف، وهو مؤنث، عارٍ، فتلحقه العلامة. وكذلك تقول على هذا القياس في (سماء): سُمَيَّة، وفي (قضاء) و (عطاء) و (بقاء). ونحو ذلك - اسم مؤنث-: قُضَيَّة وعُطَيَّة وبُقَيَّة، فتأتي بالهاء، وذلك أن أصله: عُطَيِّيٌ، وقَضَيِّيٌ، وسُمَيِّيٌ على بناء فُعَيْعِل؛ لأنه رباعي، لكن استثقلوا الياء لكثرتها، فحذفوا الآخر، فصار في التحصيل ثلاثياً، فلزم لحاق التاء. قال سيبويه: "قلتُ: فما بال (سماء) قالوا: سُمَيَّة؟ يعني: أنهم ألحقوا التاء مع أنه رباعي، قال: من قِبَلِ أنها تحذف في التحقير، فيصير تحقيرها كتحقير ما كان على ثلاثة أحرف. قال: فلمَّا خفَّت صارت بمنزلة دَلْو، كأنك حقَّرتَ شيئاً على ثلاثة أحرف". فإن قيل: هذا الذي تقرر صحيح، فكيف يتنزل عليه كلام

الناظم؟ فالجواب أن تنزيله على هذا المعنى ظاهر؛ لأنه قال: واختمْ بتا التأنيث ما صغَّرتَ من مؤنثٍ عارٍ ثلاثي (كَسِنْ) وما ذكر من سماءٍ وعطاءٍ وزينت يصدق عليه أنه ثلاثي صُغِّر؛ لأنه ما وقعت عليه بنية التصغير إلا وهو كذلك. فالثلاثي المراد على قسمين: ثلاثي في التحقيق وهو المستعمل، وثلاثي في التقدير وهو هذا. والجميع في القياس ثلاثي، ويشمل كلام الناظم القسمين. ومثل ما أراد بقوله: (كَسِنْ) تقول فيه: سُنَيْنَة، والسن واحدة الأسنان، وهي معلومة، والسنُّ من الكِبَر أيضاً، يقال: كَبِرَتْ سِنِّي. ووجه لحاق هذه التاء في التصغير أن الأصل في كل مؤنث أن يكون بعلامة التأنيث، فكان ما جاء منه دون علامة كأنه محذوف منه العلامة، ولما كان الحرف الثالث إذا حُذف يُرَدُّ في التحقير، حكموا لهذه العلامة بحكمه، فردُّوها في تحقير الثلاثي كما ردوا اللام، ألا ترى أنهم قد حكموا في بعض المواضع للتاء المحذوفة بحكم اللام، قالوا: (أَرَضُون) فجعلوا هذا الموضع الذي هو على طريق جمع

السلامة عوضاً من التاء المحذوفة، كما جعلوه عوضاً من اللام في (سنين) و (ثُبين) ونحو ذلك، هذا مع [أن] التصغير عندهم كأنه يرد الشيء إلى أصله. وأما الرباعي فقد كان الأصل فيه أيضاً أن تلحقه الهاء تنبيهاً على أنه مؤنث، كما لحقت الثلاثي، قال الخليل: لكنهم لما زاد العدد / استثقلوا الهاء، فكأنهم صيَّروا الحرف الرابع عوضاً منها. وقد علل سيبويه اللحاق في الثلاثي بالفرق بين المذكر والمؤنث. ثم استثنى الناظم من هذا الحكم المذكور ما كان من الثلاثي مؤدياً لحاقُ التاء فيه إلى اللبس، فقال: مالم يكن بالتا يُرَى ذا لَبْسِ الضمير في (يكن) عائدٌ على المؤنث الثلاثي المتقدم، يعني أن حكم اللحاق إنما يكون إذا لم يؤدِّ إلى لبس في الكلام، فإن كان مؤدياً للبْسِ كان اللحاق مجتنباً، وصُغَّرَ بغير تاء كما يُصَغَّرُ الرباعي المؤنث والثلاثي المذكر. وظاهر هذا الاستثناء أنه قياس لا سماع؛ إذ لم يقيد ذلك بشيء، بل عين للسماع شيئاً آخر بقوله: "وشذّ تركٌ دون لبسٍ" فأعطى كلامه أن مثل هذا قياس.

وما قاله ظاهر، لكنه جعله في التسهيل شاذاً في الجملة حيث قال: (تلحق تاء التأنيث في تصغير ما لم يشذ من مؤنث، بلا علامة، ثلاثي) إلى آخره، ولم يُجْرِ للتفرقة ذكراً. وكذلك عده غيره من الأشياء الخارجة عن مقتضى القياس على ما سيأتي إثر هذا إن شاء الله تعالى. وأتى بأمثلة ثلاثة مما يقع اللبس فيها إن أتى بالتاء في التصغير، وذلك قوله: (كشجرٍ وبَقَرٍ وخمْسٍ). أما (شجرٌ وبقرٌ) فلأنك لو قلت في شجر: شُجَيْرَةٌ، وفي بقر: بُقَيْرَة، وذلك إنما يكون على لغة مَن أنَّثَ فقال: هي الشجر، وهي البقر، لالتبس بتصغير الواحد من الجنس وهو شجرة وبقرة، فلا يُعلم أهو تصغير شجرة أم شَجَر. فتركوا التاء في الجنس وألحقوه في الواحد، وكذلك ما أشبهها من أسماء الأجناس. وأما (خَمس) فلأنك لو قلت: خُمَيْسة لالتبس بتصغير خمسة بالتاء، فتركت التاء في تصغيره وإن كان مؤنثاً لذلك، وكذلك سائر أسماء العدد الثلاثية كستٍّ وسبعٍ وتسعٍ وعشرٍ، تقول: سُدَيْسٌ وسُبَيْعٌ وتُسَيْعٌ وعُشَيرٌ، دون تاء كذلك.

فإن قيل: إنه أتى بثلاثة أمثلة لنوعين مما يقع في اللبس، فأتى لاسم الجنس مع واحده بمثالين وهما: شَجَرٌ وبقرٌ، وكان الواحد كافياً فيما أراد، فما فائدة التكرار؟ فالجواب أن التكرار في مثل هذا قريب، لكن يمكن أن يقصد بذلك التنبيه على معنى زائد على ظاهر المفهوم، وذلك أن اسم الجنس يستعمل على وجهين: أحدهما: على أصل وضعه من الدلالة على حقيقة ذلك الجنس، يصدق على الواحد منه فأكثر. والثاني: أن يستعمل نائباً عن جمع الكثرة، كأنك أردتَ / أن تجمع الواحد من الجنس فاستغنيت عن جمع الكثرة باسم الجنس باعتبار إطلاقه مراداً به كثرة آحاده، وفي القلة تستغني بجمع التصحيح، وهو في كلا الاستعمالين اسم مفرد يذكر ويؤنث، والتأنيث للحجازيين، والتذكير للتميميين والنجديين، والتفرقة فيهما بين ذي التاء وغيره محتاج إليها، فلعله أراد التنبيه على كلا القسمين، وأن كل واحد منهما يجري فيه ذلك الحكم المذكور، والله أعلم. ثم إنه نبَّه على ما شذ عن القاعدة دون ما ذكر من خوف اللبس بقوله: (وشذ ترك دون لبس) يعني: أنه جاء من كلام العرب ترك التاء في تصغير المؤنث الثلاثي العاري مع عدم اللبس، لكنه شاذ

يُحفظُ ولا يقاس عليه، ولا يُخلُّ بما تقدم من القاعدة. والذي خرج عن القاعدة على الجملة على ما جمعه المتأخرون عشرون لفظاً، منها ما تقدم من اسم الجنس كشجرٍ ونخلٍ وعنَبٍ وبرٍّ وتمرٍ وبقرٍ ونحو ذلك، وأسماء العدد الثلاثية بلا تاء وهي: خمسٌ وستٌّ وسبعٌ وتسعٌ وعشرٌ، فهذه ستة ألفاظ. والسابع: (الناب) للناقة المسنو، قالوا في تصغيره: نُيَيْبٌ، لما سموها بنابها الذي بَزَلَ، وهو مذكر راعوه في التصغير. والثامن: (الحرب) قالوا في تصغيره: حُرَيْب، وهي مؤنثة، لما كان مصدراً وهو السَّلْب سُمِّيت به لكثرة السلب فيها، فراعَوا أصلها، فلم يأتوا بالتاء، كما فعلوا في (الناب). والتاسع: (الفرس) قالوا: فُرَيْسٌ، وذكر سيبويه في وجع ذلك شيء مذكر في الأصل أوقعوه على المؤنث، وشبهه بقولك للمرأة: ما أنتِ إلا رُجَيل، وللرجل: ما أنتَ إلا مُرَيَّةٌ، قال: وإنما حقَّرتَ الرجل والمرأة، فكذلك عنده الفرس. وقال ابن أبي الربيع: يمكن أن يراعَى فيها الصفة، كأنها من الفرس وهو الدَّقُّ، ثم ذكر معنى كلام سيبويه، وهذا هو المشهور المعروف.

ونقل ابن هانئ في شرح التسهيل عن بعض من قيَّدَ على المفصل للزمخشري قال: إن أردتَ بالفرس المذكر قلتَ: فُرَيْسٌ، وإن أردتَ المؤنث قلتَ: فُرَيْسة، قاله الشيخ يعيش والتبريزي، قال ابن هانئ: ولم أرَ هذه التفرقة لغيره. هذا ما قاله. والجوهري يحكي عن ابن السَّرَّاج أن تصغير الفرس فُرَيْسٌ، فإذا أردتَ المؤنث على الخصوص قلتَ: فُرَيْسة، وهو نقلٌ أثبتُ مما ذكره ابن هانئ عن أولئك /. والعاشر: (الدرع) ذكر الجرمي أنهم صغَّروه بغير هاء مع أنه مؤنث، وهي درع الحديد فقالوا: دُرَيْعٌ. قال الأستاذ (رحمة الله (تعالى) عليه): راعوا فيها معنى الملبوس أو الثوب. والحادي عشر: (العرب) قالوا في تصغييرها: عُرَيْبٌ، وهي مؤنثة، قال [أبو الهندي] عبدالمؤمن بن عبدالقدوس: ومَكْنُ الضباب طعامُ العُرَيْبِ ولا تشتهيهِ نفوس العَجَمْ

وكأنهم لحظوا فيه معنى (قوم ورَهْط)؛ إذ كانت من أسماء الجموع. والثاني عشر: (القوس) قالوا في تصغيره: قُوَيْسٌ، قال الشاعر: تَرَكْتُهُمْ خَيْرَ قُوَيسٍ سَهْما وكأنهم لحظوا أنها في الأصل مصدر: قاسَ يَقُوسُ قَوساً، وانظر في الصحاح فإن الجوهري زعم أن (القوس) يذكر ويؤنث، فمن أنث قال: قُوَيْسَة، ومن ذكَّر قال: قُوَيْسٌ على القياس، والذي ينقله النحويون ما تقدم. والثالث عشر: (العُرْس) قالوا: عُرَيْسٌ وعُرَيْسَة بالوجهين مع التأنيث. ذكر ذلك الفراء ويعقوب وقد حكي أنها تذكر وتؤنث، وإنما صغروها بغير هاء؛ لأنهم لحظوا فيها معنى الغِنَاء واللهو، وعلى القول بأن (العرس) يراد بها الطعام رُوعِيَ مدلولها وهو مذكر. والرابع عشر: (العُرْس) وهي الزوجة، قالوا: عُريْسٌ، كأنهم لحظوا فيها معنى العَشِير والصاحب، أو الطعام.

والخامس عشر: (الذَّوْدُ) قالوا: ذُوَيْدٌ، وهي مؤنثة، قال: ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ كأنهم (رأوا) أن أصلها المصدر من ذَادَ يذُودُ ذَوداً. والسادس عشر: (الضحى) قالوا: ضُحَيَ، مع أنها مؤنثة. قال الفراء: كرهوا أن يصغِّروها بالهاء؛ لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضَحْوَة، وعلى هذا التأويل تدخل في القسم المطرد إن كان الناظم راعى ذلك هنا. والسابع عشر: (الطَّسْت) زاده بعضهم، وحكى أنهم (قالوا): طُسَيْتٌ، وكذلك (الطَسُّ) قالوا: طُسَيْسٌ فرقاً بينه وبين تصغير (طَسَّة)؛ لأن فيها لغتين؛ إذ يقال: طَسَّة، وتصغير هذه طُسَيْسَة

على الأصل، فعلى هذا تنضم إلى الضابط الأول. والثامن عشر: (الشَّوْلُ) يقال فيه: شُوَيْلٌ. كذا ذكر ابن الأنباري عن الكسائي. والتاسع عشر: (الغنم) نقل ابن الأنباري أنها تصغر بالهاء وبغير هاء، فتقول: غُنَيْمٌ وغُنَيْمَةٌ، مع أن الغنم مؤنثة لا غير، كأنهم لحظوا فيها وفيما قبلها معنى الجمع. والعشرون: (القِدْرُ)، قالوا في تصغيرها: قُدَيْرٌ. حدثنا شيخنا الأستاذ الشهير أبو عبدالله بن / الفخار (رحمة الله (تعالى) عليه) قال: لقيتُ بعض أصحابنا في سوق من أسواق سبتة زمان قراءتي بها، فسألني: كيف تصغَّر (قِدْراً)؟ فقلتُ: قُدَيْرَة، فقال: كذا كنت أقول، ولكن هَلُمَّ معي، فمضيت معه، فإذا شيخنا الأستاذ أبو عبدالله بن عبدالمنعم (رحمة الله تعالى عليه) يقول لفخَّارٍ كان يساومه: بكم هذا القُدَيْرُ؟ فقلتُ له في ذلك، فقال: كذا هو النص عن الخليل في العين. قال الأستاذ: ثم رأيت ذلك في الصحاح للجوهريِّ. انتهت الحكاية. وعلى أن الزمخشري قال: تقول في (قِدْرٍ): قُدَيْرَة، وهو الذي

ذكر ابن الأنباري في كتاب المذكر والمؤنث، فجاء بها على القياس، ووجه إسقاطها أنهم لحظوا فيها معنى الإناء، قاله الأستاذ (رحمه الله تعالى). هذا أقصى ما رأيته في جمع هذه الألفاظ الشاذة عن القياس، وقد عد منها الأُبَّذِيُّ (النَّعْلَ) وأنه يقال فيها: نُعَيْلٌ، ورأيت ذلك بخطه، والذي ذكر الجوهري وغيره في (النعل): نُعَيْلَةٌ بالتاء على القياس والأصل، فانظر من أين نقل الأُبَّذِيُّ ما نقل. وعدَّ أيضاً من هذه الألفاظ (النادرة) بعض ما تقدم التنبيه عليه من نحو: امرأةٌ عَدْلٌ وحائضٌ، وهذا ليس منها على ما تقدم للناظم. وكذا ينبغي أن يكون الأمر في اسم الجنس، (وألاَّ) بعد منها، لكونه قياساً على ما ظهر من كلام الناظم. وأما أسماء العدد المذكورة فسائغٌ أن تُعَدَّ في الألفاظ الشاذة؛ لانحصارها بالعدد. والله أعلم. ثم قال: ... ... ... وندَرْ لحاقُ تا فيما ثلاثياً كَثَرْ

(تا) ههنا قد قصر حتى صار مثل قولهم: (شربتُ ماً يا هذا)، و (كثَر) فعلٌ مفتوح العين، لا مضمومها؛ لأنه من أفعال المغالبة، كقولك: ضاربتُهُ فضربتُهُ أضرِبُهُ، أي فغلبته في الضرب، وشاتمته فشتمته، أي غلبته في الشتم، فكذلك تقول: كاثرتُهُ فكَثَرْتُهُ أكثُرُهُ، أي غلبته في الكثرة. و(ثلاثيا) مفعوله، كأنه قال: وندر لحاقها فيما كَثَرَ الثلاثي، يعني أن ما زاد على الثلاثي قد جاء فيه لحاق التاء في التصغير نادراً، وأشار بذلك إلى ما جاء من قولهم: (قُدَيْدِيْمَة) في قُدَّام، و (وُرَيِّئَة) في وراء. قال الشاعر وهو علقمة: وقد عَلَوْتُ قُتُودَ الرَّحْلِ يَسْفَعُنِي يومٌ قُدَيْدِيْمَةَ / الجوزاءِ مسمومُ وقال القطامي: قُدَيْدِيْمَةُ التجريبِ والحلم إنني أرى غَفَلات العيش قبل التجارب

وقالوا: (وُرَيِّئَة) أيضاً في لغة من جعل همزة (وراء) أصلية، فقال: وَرَأْتُ بكذا. وعلى ظني أو البتة: أن ابن جني حكى في (أمام) أُمَيْمَة، ، وقد حكى ذلك ابن الأنباري عن الفراء قال: يقولون في تحقير (أمام): أُمَيِّمَة، وكذلك حكى الوجهين أيضاً في (قدام). ووجه هذا الإلحاق في الرباعي أن هذه الظروف المصغرة التي يراد بها التقريب قليلة الاستعمال استعمال الأسماء في أن يكون مخبراً عنها، أو تقع فاعلة أو مبتدأة، فلما لم تتصرف تصرف الأسماء وصغروها قوَّوا فيها التذكير، فلم يدخلوا في تصغيرها التاء حملاً على تغليب التذكير وهو الأكثر، ونوَوا في (قدَّام) و (وراء) التأنيث، لكن لما لم يخبر عنهما، ولم يتصرفا تصرف الأسماء التي يتبين فيها الفرق بين المذكر والمؤنث كالوصف والإشارة وغيرهما، أدخلوا التاء في تصغيرهما وإن كانا على أكثر من ثلاثة أحرف حرصاً على التنبيه على التأنيث؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك لم يتبين قصدهم لتأنيثهما. وهذا توجيه ظاهر. فإن قيل: إن الناظم قال هنا: (ندر) فأتى بلفظ يُشعر بسهولةٍ ما،

وعدم الشذوذ لا يشعر بها أن لو قال: (وشذ)، وقال فيما قبل هذا: (وشذ) فأتى بلفظٍ يُشعر بضيق في الباب لا يُشعر به (ندر)، مع أن الاستقراء قد ظهر منه أن ما تركت فيه الهاء من الثلاثي أكثر وأوسع في السماع مما لحقته من الرباعي، وأن ما لحقته من الرباعي حكوا في الأول ألفاظاً صالحة، ومنها ألفاظ لها وجهٌ من القياس، ولم يحكوا في الثنائي إلا لفظتين أو ثلاثة، ولم يذكروا غير ذلك، ولو وجدوا لذَكَروا، فكان الأحق أن لو عكس العبارة، فأتى بلفظ الندور في الأول، فكان يقول فيه: (وندر تَرْكٌ دون لبس)؛ وأتى بلفظ الشذوذ في الثاني، فكان يول فيه: (وشذ لحاق التاء فيما زاد على الثلاثي) فما وجه ما قال؟ فالجواب أن لفظ الندور لا يقتضي سهولةً، وإنما يقتضي غاية القلة على الجملة، وأما (شذَّ) فهو مقتضٍ للانفراد عن الجمهور؛ لقولهم: شذت الشاة / عن الغنم إذا خرجت عن جملتهم، وإذا كان كذلك فمحصول الحال توفقهما في المعنى، إلا أن لفظ الشذوذ مُشعر بخروجٍ عن جنسه مخصوصٍ، وذلك موجود فيما قال فيه شذوذ، وذلك أن الأصل القياسي أن تلحق التاء في المصغر مطلقاً، كما مرَّ بيانه أول الفصل، فكل ما لحقته من المصغر فهو على القياس،

وما لم تلحقه خارج عن مقتضى ذلك القياس. والشذوذ هو الخروج والانفراد عن الجملة، فكأنه أشهر بأن ما تلحقه التاء شاذ عن القياس خارج عنه. وأما الندور فراجع إلى معنى القلة من غير إشعارٍ بخروجٍ عن القياس؛ وكذلك (قُدَيْدِيْمَة) وأخواته غير خارجة عن مقتضى القياس من لحاق التاء، فكان لفظ الندور الذي لا يُشعر بخروج عن القياس أنسبَ فيه، ولفظ الشذوذ المشعِر بذلك أنسب في (نابٍ) وبابه. والله أعلم. *** وصغَّروا شُذُوذاً الذي التي وذا مع الفروع منها تَا وتِي نبَّه في هذين المزدوجين على ما جاء في كلام العرب من التصغير في غير المتمكن، وذلك أنه قدم الإشارة إلى أن المبني بحق الأصل لا يُصغَّر، ومر التنبيه عليه أول الباب، فألحق هنا ما خروج عن ذلك الحكم، ونسب ذلك إلى العرب فقال: (وصغَّروا) فالضمير للعرب، ثم نبَّه على أن ذلك شاذٌّ خارج عن القياس. ولما قال: (وصغَّروا شذوذاً) دلَّ ذلك من كلامه على أنه لا يقال منه إلا ما سمع؛ إذا ليس على أصل القياس، ولا واقعاً في متمكن،

لكن عَيَّنَ للتصغير من غير المتمكن بابين: أحدهما: باب الموصول والآخرُ: باب اسم الإشارة، وعيَّنَ من باب الموصول لفظين وهما الذي والتي، وعيَّنَ من باب الإشارة ثلاثة ألفاظ وهي: ذا وتا وتي ثم بين أن فروع هذه الألفاظ لاحقة بها. فقوله: (وصغَّروا شذوذاً الذي التي) أي الذي والتي، فحذف العاطف، فهذا من باب الموصول، فخرج عنها (ما) و (من) و (أي) و (ذا) مع ما أو مَن الاستفهامية، ونحو ذلك من الموصولات. وقوله: (وذا) هذه من باب الإشارة. وقوله: (مع الفروع منها) يعني الفروع من (الذي والتي وذا) كالتثنية والجمع على ما سيذكر بحول الله. ثم قال: (تا وتي) وهو على حذف / العاطف، أي (وتا وتي) كأنه قال: (وذا وتا وتي مع الفروع منها) لكن لما تأخرت (تا وتي) وجب أن يقدر لهما مثل ما تقدم لـ (ذا)، والتقدير: وذا مع الفروع منها، وتا وتي مع الفروع منها أيضاً. هذا وجه الكلام في هذا النظم. ولا يقال: إن قوله: (منها) راجعٌ إلى الفروع، كأنه قال: والفروع المذكورة (تا وتي)، لأن (تا وتي) ليست من فروع (ذا)،

بل كل لفظ مستقل بنفسه، وإنما الفروع التثنية والجمع فـ (تا) مع (ذا) كالتي مع الذي، ليس أحدهما فرعاً عن صاحبه، وأيضاً فإنه كان يوهم أن غير ذلك أيضاً من الفروع الداخلة في الحكم كذي وذه ونحو ذلك، وهو فاسدٌ؛ إذ لا يصغَّرُ منها إلا ما ذكره، كما ستراه إن شاء الله (تعالى)، فإنما يستقيم المعنى المقصود على ما ذكرتُهُ من التنزيل، والذي ذكر في التسهيل من التصغير في هذه الأشياء وما لحق فيها من فروعها هو ما أذكره. أما الذي فقالوا فيه: اللذيا، وفي تثنيته: اللذيان، وفي الذين: اللَّذيُّون في الأكثر. وأما (التي) فقالوا: اللَّتَيَّا. أنشد سيبويه للعجاج: بعد اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا والتي وفي اللتان: اللَّتَيَّان، واللَّوَيْتا في اللآتي، واللَّوَيَّا في اللائي، هذا

على مذهب الأخفش، فيحذف الآخر خوفاً من بقاء الكلمة بعد التصغير على خمسة أحرفٍ لو قال: اللَّوَيْتِيَا واللَّوَيْئِيَا، وغير ذلك موجود. ومذهب المازني أن تحذف الألف الثانية؛ لأنها زائدة، وحذف الزائد أولى، فيقول في (اللاتي): اللَّتَيَّا. وأما سيبويه فعنده أن هذا لا يقال، وإنما اقتصروا على اللتيَّات جمع التي، ولم يصغِّروا غير ذلك. وأما (ذا) فقالوا فيه: ذَيَّا وفي تثنيته: ذَيَّان، وفي (أُولَى): أُلَيَّا، وفي (أولاء): أُلَيَّاء. قال: يا ما أُمَيْلِحَ غِزْلاناً شَدَنَّ لنا مِن هَؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّال والسُّمُرِ وأما (تا) و (تي) فقالوا: (تَيَّا) فيهما. قال الأعشى:

ألا قُلْ لِتَيَّا قَبْلَ مِرَّتِهَا اسلَمِي تحيةَ مشتاقٍ إليها متيَّمِ وقال أعشى أيضاً: ألا قل لِتَيَّاكِ ما بَالُها أَلِلْبَيْنِ تُحْدَجُ أجمالُهَا؟ وقال أيضاً: تذكَّر تَيَّا وَأَنَّى بها وقدْ أخْلفَتْ بعض ميعادِهَا وفي (تان): تيَّان. هذا ما نُقل في التسهيل من ذلك، إلا أنه معترض عليه هنا من أوجه:

أحدها: أنه لم يبين كيفية التصغير / مع أنه مخالف لما تقدم له من التصغير في المعربات؛ فإن تصغير هذه الأسماء المبهمة حكمه ألا يضم أوائلها، بل تترك على حالها من الفتح فرقاً بينها وبين المتمكن، غير أنهم خصُّوها بزيادة ألف في أواخرها فقالوا في (الذي): اللَّذَيَّا، وفتحوا ثانيه؛ لأن ياء التصغير لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، وزادوا ياء التصغير ثالثة على ما ينبغي، وأدغموها في الياء، وزادوا ألفاً لتدل على التحقير، وكأنها عوضٌ من الضمة في أول الكلمة، وفتحوا ما قبل الألف كما يجب، فقالوا: اللَّذَيَّا واللَّتَيَّا. وأما (أولاء) فتركوا الهمزة على ضمها، وألحقوا الألف لما ذَكَر، وقلبوا الألف ياء، وأدغموها في ياء التصغير فقالوا: أُولَيَّاء على القياس المذكور. وأما (ذا) فكان الأصل فيه: ذَيَيا عند التصغير؛ لأن الاسم الثنائي إذا صُغِّرَ رُدَّ له ثالث لإقامة بناء التصغير على الجملة، فكان ينبغي أن تقلب ألفُهُ ياءً وتفتح، وتزادُ ياء التصغير بعدها، وترد إليه ياء أخرى لتمام حروف المصغَّرت تدغم فيها [ياء] التصغير، ثم

تلحق الألف التي تزاد في آخر المبهم المصغر، ويفتح ما قبلها فكان يقال: ذَيَيَّا، لكنهم حذفوا الياء المنقلبة عن الألف كراهية لاجتماع ثلاث ياءات، مع قلَّةِ تمكُّنِ هذه الأسماء، ولأنهم قد يفعلون ذلك في المتمكن كراهية الاجتماع، فهذا أولى. وأما (تَيَّا) فحكمها حكم (ذا) فيما تقدم. وأما (ذيَّان) و (تَيَّان) فكالمفرد منهما، وكذلك (اللَّذَيَّان) و (اللتيَّان) حذفوا الألف منهما، ثم ألحقوا العلامتين، وهذا الحذف عند سيبويه كالحذف في المفرد حين حذفت الياء من (الذي) و (التي) والألف من (ذا) و (تا). وعند الأخفش إنما حُذفت قبل لحاقها. ولا يظهر لاختلافهما في التثنية ثمرة، وإنما تظهر في الجمع: فسيبويه يقول: اللذَيُّون، واللذَيِّين بضم ما قبل الواو، وكسر ما قبل الياء. والأخفش يقول: اللذيَّون واللذيَّين بفتح ما قبلهما كالمقصور في المعربات. هذا كله مما ذكره أهل النحو في كيفية التثنية وما يتعلق بها، ولم يشر الناظم إلى شيءٍ من ذلك، ولا عرَّجَ عليه، ولو بالمثال، فكان ذلك موهماً لتصغيرها على تصغير المعربات، أو مبهماً

لحكم محتاج إلى ذكره حين / ذكر أن المبهمات تصغَّر. والثاني: أنه خصَّ ذلك بالنقل، وردَّه إلى السماع، ونفى عنه القياس، وظاهر كلامهم أنه قياس فيما ذُكِّر هو وفروعه على حسب ما نصوا عليه؛ إذ لم يقفوا ذلك على ما سُمع، وقد رأيت خلاف الناس في تثنية اللاتي واللائي وغيرهما، فأين وقوفهم على السماع؟ والثالث: على تسليم أنه سماع، لم يعين مواضعه، بل ظاهره أن هذه الأشياء التي ذكر وجميع فروعها يدخلها التصغير سماعاً، وليس كذلك؛ إذ من الفروع التي لم تصغَّر (اللاتي) و (اللائي) عند سيبويه، واستغنوا عن تحقيرهما بقولهم اللَّتَيَّات، وما ذكر من قولهم: (اللَّوَيَّا) و (اللَّوَيْتَا) فالظاهر أنه قياس، ولا شك أن القياس في مثل هذا الباب ممنوع، لأنه خارج عن أقيسة كلام العرب؛ إذ المبنى بحق الأصل لا يصغر، فما خرج عن هذا فموقوف على محله، وكذلك (اللَّوَيُّون) في (اللائِي) لم يذكره سيبويه، وإنما يظهر من غيره القياس كما ذكر. وأيضاً أسماء الإشارة لم يصغر منها إلا (ذا) و (تا) - وأعني من المفرد - استغنوا بذلك عن تصغير (ذي) و (تي)، كما استغنوا في التثنية بتثنيتهما عن تثنية ما سواهما، والناظم قد أدخل (تي) فيما

صغّرَ سماعاً، وذلك لا يتعين فيه سماعٌ أصلاً؛ لأنهم قالوا: تَيَّان، وهذا أولى أن يُدَّعى فيه أنه تثنية (تا)، لا تثنية (تي)، بل قد يقال: لو كانوا ثنَّوا (تي) لقالوا: (تِيَان) بكسر أوله، لكن يجاب عن هذا بأنهم لما حذفوا الحرف الثاني الذي قبل ياء التصغير، وجب فتح التاء؛ لأن ياء التصغير لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، فهذا كله فيه من النظر ما ترى. والرابع: أنه قال: (وصغروا شذوذاً كذا .. ) وظاهر هذا أنه لا يقال به إلا في محله الذي سُمِعَ فيه، فكنت مثلاً تقتصرُ في (اللَّتَيَّا) على موضعه المنقول وهو قوله: بعد اللَّتيا واللتيا والتي ولا تقول أنت: (رأيتُ فلانة اللَّتيَّا فَعَلَتْ)، وكذلك تقتصر في (أُولَيَّاء) على قوله: من هَؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ والسُّمُرِ ولا تقول: (رأيتُ أوليَّائِكَ النساء) أو (السُّمُر) أو نحو ذلك؛ لأن هذا مقتضى الشذوذ أنه يوقف فيه على موضع السماع، كما أنك لا تقول: (أطوَلَ زيدٌ المدَّةَ) من حيث قالوا:

صَدَدْتِ فأطْوَلْتِ الصُّدودَ .... ولا تقول: (مررتُ بعُنَيزة) مثلاً قياساً على قوله: ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خدر عُنَيْزةٍ ومن ذلك ما لا يحصى، بل تقتصر / في ذلك على نفس المنقول، فإذا أتيتَ باللفظة الشاذة في غير ذلك الموضع المسموع أتيت بها على القياس، فتقول: (أطالَ زيدٌ المدَّة)، و (مررتُ بعُنَيزة) وما أشبه ذلك، فكلام الناظم يشعر بالاقتصار في هذا على موضع السماع، وليس كذلك، بل هو في نفسه قياسٌ تقوله أنت في كل موضع تحتاج إليه فيه، وعلى ذلك أتى به سيبويه والنحويون.

وأيضاً فليس في طبقة الشذوذ الذي ذكر، بل هو في السماع كثيرٌ، ألا ترى أن كبار النحويين كأبي الحسن والمازني وغيرهما، قد قاسوا على ما سمع منه غيره، كما تقدم ذكره، وما كان في رتبة ما يقال بالقياس فيه لا يوصف بالشذوذ. والجواب عن الأول أنه إنما لم يبين الكيفية من جهة أنه أحال على السَّماع، فلم يحتج إلى تبيينه لأن السماع بعين الكيفية إذا بحث عن موضعه فلا يقع فيه إشكالٌ من هذا الوجه، وإنما كان يقع الإشكال أن لو قال به قياساً؛ وهو لم يفعل ذلك. والجواب عن الثاني أن سيبويه لم يقل بالقياس فيه، وإنما اقتصر على المنقول، وإياه ذكر، وإنما قاس الأخفش ومن تقدم ذكره، فالناظن اتبع سيبويه، ونعمَ ما فعل؛ فإن القياس كما تقدم في مثل هذا غير سائغ، فلا اعتراض عليه في اتباعه أحد المذهبين إذا كان راجحاً عنده. والجواب عن الثالث: أن المؤلف يَظهر منه أنه حمل ما ذكره الأخفش وغيره على أنه سماعٌ، لا قياس، وذلك أنه قال في التسهيل: (لا يصغر) من غير المتمكن إلا (ذا) و (الذي) وفروعهما الآتي (ذِكرها)، ثَمَّ ذكر ما تقدم ذكره أول الفصل، فدل ذلك من كلامه

على أنه مسموع من حيث قال: (الآتي ذكرها) فقيدها بما ذكر، ولم يطلق القول فيما ذكر وما لم يُذكر، ثم قال في هذا النظم: (مع الفروع) ويريد ما ذكر في التسهيل، ولم يقيد كما قيد في التسهيل؛ لأنه أحال على كلام العرب، وإذا حصر المسموع وُجِدَ على ما ذكر في التسهيل، وليس فيما نقل عن الأخفش وغيره ما يقطع بعُرُوِّهِ عن السماع. ولذلك قال ابن الضائع: (إن كان قول أبي الحسن في اللَّوَيْتَا واللَّوَيَّا مسموعاً قيل: ولا مجال للقياس في هذه الأسماء). فلم يقطع بنفي السماع فيهما، وإن كان الأظهر / نفيه، فلذلك قال: وإلا فالصحيح ما نقل سيبويه من الاستغناء. وأما قول الناظم: (تا وتي) فإن كون (تيَّا) تصغير (تا) ليس لنا ما يعينه دون (تي) كالتثنية أيضاً إذا قلت: (تان) و (تيَّان) غير أن (تا) أولى به من (تي)؛ لأنها الأكثر. وفي قوله: (تا وتي) ما ينفي عن (ذي) أن يكون مصغراً، وهذا صحيح؛ لأنهم لو صغروه لالتبس بتصغير (ذا)، فهذا الاعتراض ليس ببيِّنِ الورود عليه. والجواب عن الرابع: أن الشاذَّ في كلام العرب على وجهين:

شاذٌّ عما ثبت من القياس في نوعه، وشاذٌّ عما ثبت من القياس فيه نفسه. فأمالشاذ عما ثبت في نوعه فنحو قولهم: استحوذ، واسْتَنْوقَ، فإنه قد شذ بالتصحيح عما ثبت في نوعه من الإعلال، وهو ما كان على (استفعل) معتل العين نحو: استقام واستطال، ونحو ذلك، ولم يثبت له في نفسه قياسٌ، فهذا شاذ في نوعه، يتبع السماع فيه مطلقاً حيث استعمل وحيث لم يستعمل، فلا تقول: استحاذ ولا استناق؛ لأن العرب لم تقله، بل اقتصرت فيه على التصحيح فلا بد من اتباعها في التصحيح مطلقاً، وإن كان شاذاً؛ لأنها اعتزمت فيه ذلك الحكم. ونظير هذا في باب التصغير قولهم: قُدَيْرٌ في (قِدْر)، وضُحَيٌّ في (ضُحَا)، وعُرَيْسٌ في (عُرْس) فإن العرب قد اعتزمت فيها طرحَ التاء وإن كان ذلك خارجاً عن قياس الثلاثي المؤنث، فلا يقتصر من ذلك على موضع السماع؛ لأن العرب لم تستعمل فيها غير ذلك. ومسألتنا من هذا القبيل؛ إذ لم يصغَّر الموصول والمبهم إلا على ذلك، فلا بدَّ من العمل بهو الاتباع له، ولم يخرج في ذلك عن اتباع السماع؛ لأنها لم تعتمد في المبهم والموصول غير ذلك.

وأما الشاذُّ عما ثبت في الكلمة نفسها فهو الذي اعترض به السائل، وحكمه ما تقدم، وذلك أن (أطْوَلْتِ الصُّدُودَ) ثبت فيه نفسه أطلتِ الصدودَ، وأطلتِ السفر هكذا مُعَلاًّ، وهو قياسه، فلو قلنا: أطوَلْتِ السفر قياساً على (أطوَلْتِ الصدود) لكنا قد خرجنا عن كلام العرب في هذه الكلمة؛ إذ لا تقول العرب فيها: (أطوَلْتِ) إلا ضرورة، بخلاف الوجه الأول، فإن العرب اعتمدت فيه ذلك الشذوذ، فلم تُعْمِلْ فيه قياس نوعه، وكذلك (عُنيزَةٍ) في بيت الكندي، / إنما استعملَتْهُ العرب غير منصرفٍ إلا في هذا الموضع مثلاً، فلا بدَّ أن نستعمله على ما استعملته من القياس في غير هذا الموضع، فليس شذوذ التصغير (في هذا الموضع) بالذي يُخرجه عن استعماله كذلك في غير محل السماع؛ لأنه سماعٌ متَّبَعٌ، فكل ما كان من الشاذِّ خارجاً عن قياس نوعه، فلا يلزم الاقتصار به على محل السماع، وكل ما كان خارجاً عن قياسه في نفسه فهو الذي يلزم الاقتصار فيه (على محله). وهذه قاعدة محل ذكرها في الأصول. وكلام الناظم صحيح، وبالله التوفيق.

النسب

النَّسب تحقيق أ. د. سليمان بن إبراهيم العايد

النَّسب ياءً كَيَا الكُرْسيِّ زادوا للنسب وكلُّ ما تليه كسرُهُ وَجَبْ الإضافة والنِّسبة: لفظان اصطلح النحويون على إطلاقهما على نسبة الشيء إلى الشيء بنوعٍ من أنواع النسبة، لكن على ترتيب مخصوصٍ، وقد أتى الناظم بكلامٍ يُشعر بتعريفه عند النحويين، وذلك قوله: "ياءً كَيَا الكُرْسيِّ زادوا للنسب" فـ"ياء" منصوبٌ على المفعولية بـ"زادوا" يعني: أنهم زادوا في آخر الاسم ياء مشددة لتدلَّ على نسبة معنى ما لذلك الاسم، هذا معنى قوله: "للنسب" أي: لتنسب إلى ذلك الاسم، فالنسب في كلامه على معناه الأصلي؛ لأنه تعريفٌ للنسب الاصطلاحي، فلا يمكن أن يكون النسب في لفظه إلا على أصل اللغة، وإلا كان تعريفاً للشيء بنفسه، ويلزم منه الدَّورُ المجتنب في الحدود والتعريفات، فكأنه يقول: النسب الاصطلاحي هو: أن تزيد في آخر الاسم ياءً مشددة علامة على أنك تنسب لذلك الاسم معنى ما لتعلقه به ضرباً من التعليق، وهذا تعريف بعض المتأخرين. فقوله: "أن تزيد في آخر الاسم ياءً مشددة" قيدان دل عليهما

قول الناظم: "كيا الكرسي"؛ لأن ياء الكرسي في آخر الاسم في ياءٌ مشددة. وقوله: "علامةً على أنك تنسِبُ لذلك الاسم إلى آخره"ردلَّ عليه قوله: "للنسب"؛ أي: لتنسب إليه معنىً من المعاني، فقولك: تميميٌّ أصله: تميمٌ، فألحقته الياء لتنسب إليه الرجل لتعلقه به من حيث هو منهم، وكذلك بصريٌّ وزيديٌّ، ونحو ذلك، وقوله: "ياءً كيا الكرسي زادوا" فقدَّم المفعول إشعاراً بالحصر؛ أي: أن هذه الياء هي الدالة في كلامهم / على النسب، والمشهورة عندهم لا غيرها. وهذا تنكيت على أن ما دل على النسب من غير الياء فهو قليل بالنسبة إلى دلالة الياء، وذلك كدلالة (فاعل) نحو: حائض، وطامث، أي: ذا حيضٍ وطمثٍ عند القائل به، وكذلك لابنٌ وتامرٌ، و (فعَّال) نحو: فكَّاه ونجَّار، ونحو ذلك، و (فَعِل) نحو: نَهِر، وسيذكر ذلك كله، فالياء هي المعتدة في الباب لا غيرها، ثم قال: "وكلُّ ما تليه كسرُهُ وَجَبْ" هذا ذكر بعض التغايير اللاحقة للاسم المنسوب، وذلك أن هذه الياء المشددة يلزمها أيضاً في الكلام أربعة تغاييرَ مطَّردةٌ لا بدَّ منها: تغييران لفظيان وهما: كسر ما قبل هذه الياء، وهو الذي ذكره الناظم، ولا بدَّ من ذلك، فالكسر هنا نظير الفتح قبل تاء التأنيث فتقول: زيديٌّ،

وعمريٌّ، وغرناطيٌّ، فتكسر ما قبل الياء. ونقل الإعراب إلى الياء؛ لأنها صارت في الكلمة كهاء التأنيث. وتغييران معنويان وهما: صيرورة الاسم صفة، يرفع الفاعل كما ترفعه الصفة المشبهة باسم الفاعل تقول: مررتُ برجل تميميٍ أبوه، وتميميِّ الأبَ، وتميميِّ الأبِ، وجميع ما ذكر في باب الصفة (الصفة المشبهة) من الأحكام جارٍ هنا في المنسوب. وصيرورته واقعاً على غيره؛ إذ كان قبل لحاق الياء واقعاً على المنسوب إليه، فلمَّا لحقت صار واقعاً على المنسوب، فغرناطة اسمٌ واقعٌ على المدينة المعروفة، وغرناطيٌّ واقعٌ على الرجل المنسوب إليها. ولما كانت هذه التغايير الأربعة لا يتعلق منها بباب (النسب) إلا الأول، اقتصر الناظم عليه، فلم يذكر غيره، ويعني أن ما يليه الياء المشددة، وهو آخر الكلمة كسرُهُ معها واجب، كان الاسم صحيحاً أو معتلاً، أو على أيِّ وجهٍ كان، لا بد من ذلك، وإنما أطلق الناظم عليها ياء واحدة، وهما ياءان في الحقيقة أدغمت إحداهما في الأخرى؛ توسعاً في العبارة لارتفاع اللسان بهما ارتفاعة واحدة، وذلك في باب التغيير قريب، والضمير المرفوع بـ"يليه" عائدٌ على الياء، والهاء في "يليه" عائدة على "ما" ومدلولها آخر الاسم المنسوب. ***

ومثله مما حواه احذِفْ وَتَا تأنيثٍ او مدَّتَهُ لا تُثْبِتَا وإن تَكُنْ تربَعُ ذا ثانٍ سَكَنْ فقَلْبُها واواً وحَذْفُها حَسَنْ / لما ذكر أوّلاً التغييرَ اللازم للاسم المنسوب في كل حال، أردف ذلك بما يلحقه من التغايير التي لا تلزم إلا لموجِبٍ، وذلك أن الأصل فيه ألا يتغير عما كان عليه إلا ما تقدم من التغيير، فكل تغيير زاد على ذلك فإنما هو لعلة، فيُسأل عن سببه، لكن هذا التغيير على ضربين: أحدهما: تغيير علم من استقراء كلام العرب اطِّرادُهُ وقياسُهُ. والآخر: تغيير لم يُعلم له اطِّرادٌ، بل عُلِمَ قصره على السماع، وأن غيره هو المطرد. فأما الأول: فهو الجزء الذي يجب على النحوي التعرض له من حيث هو نحوي، وهو الذي أخذ الناظم في الكلام عليه، وأما الثاني فليس للنحوي من حيث هو نحوي، وإنما هو للُّغويِّ؛ إذ كان شأن النحوي أن يتكلم فيما اطَّرد لا فيما خرج عن باب الاطراد، فإذا تكلم على المطرد علم أن ما خرج عنه مقصور على السماع، فلذلك لم يتعرض له الناظن لا سيما في هذا المختصر، وإنما أشار إليه آخر الباب إشارة على عادته في الإشارة إلى الشذوذات، وقد تعرض النحويون لذكر بعض هذا الذي لم يطرد، وأولهم في ذلك سيبويه،

واتبعه أرباب المطولات، واقتدى بهم بعض أرباب المختصرات كأبي القاسم الزجاجي وغيره، وهم في ذكر ذلك لغويون لا نحويون، فالناظم بقي على طريقته لم يتعدها، وغير أنس بذكر بعض المسموع على جهة التمثيل والتوجيه لما سُمِع، وكل في طريقته على صواب. وبدأ الناظم بذكر التغيير بالحذف فقال: "ومثله"، الضمير في "مثله" عائدٌ على الياء المشددة، وذكِّرَ اعتباراً بالحرف، و"ما" الموصولة واقعة على الاسم الذي فيه الياء المشددة، والضمير العائد على "ما" هو الفاعل بـ"حوى"، وهاء "حواه" عائدٌ على الياء أيضاً، ونصب "مثله" بـ"احذف"، يعني: أن الاسم إذا كان في آخره ياءٌ مشددة على وجهين: أحدهما: أن تكون الياء المشددة في أصلها زائدة أي: أن أصلها ياءان زيدتا معاً كما زيدت ياءا النسب معاً، وهو الذي أراد هنا، وإليه أشار بمثاله، فهو قد أعطى قيداً وهو الثاني من القيود؛ إذ قال: "ومثله مما حواه" فقيَّد بالمماثلة، فيقتضي أنهما زائدتان زِيدتا / معاً، وذلك نحو: كرسيّ، وبُختيّ، وقُمريّ، فالحكم الذي أعطاه فيه

أنك تحذف الياء المشددة، ثم تلحق ياء النسب، فتقول في النسب: كرسيٌّ، وبُختيٌّ، وقُمريٌّ، وكذلك إذا لحقته ياء النسب لا بد أن تحذفها؛ إذ صارت بالتسمية مستهلكة المعنى، فأشبهت كرسياً فتحذفها وتلحق ياءَ النسب، إلا أن اللفظ في ذلك كله قبل النسب وبعده واحد، لكن يقع الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الاسم بعد النسب من قبيل الصفات المشبهة باسم الفاعل، وجارٍ على أحكامها بخلاف ما قبل النسب، فإنه اسم جامد لا عملَ له. والثاني: أن الاسم بعد النسب مصروف على كل حال، وإن كان قبل النسب غير مصروفٍ، فكراسيُّ، وبخاتيُّ إذا سميتَ بهما، ثم نسبت إليهما قلتَ: بخاتيٌّ، وكراسيٌّ، فصرفت كما تصرف: مدائنيّاً ومَعَافِرِيّاً؛ لأن الياءين الآن غير الياءين اللتين كانتا قبل التسمية، بهذا المعنى استدل سيبويه على أن الياءين بعد النسب غير الياءين قبله، وهو من الأدلة الحِسَان. وأما الوجه الثاني: وهو ألا تكون الياء المشدد بمنزلة ياء النسب

فلم يُرِدْهُ هنا، وسيذكره بعد، وإنما حُذِفَ الياءان معاً لزوماً، ولم يُفعل بهما ما فُعل بمرميٍّ وبابه؛ لأنهما زيادتان معاً، فيجب أن يحذفا معاً، بمنزلة كل زيادتين زيدتا معاً، ولا يجوز أن يقال: كُرْسَويٌّ، بُخْتَويٌّ، على من قال في "مرمي"/ مَرْمَوِيٌّ؛ لما ذكر، وقد وقع لابن خروف في هذا الموضع من شرح الكتاب أن قياس مَرْمَوِيّ: بُخْتَويّ، وقال في موقع آخر: ومن قال: مَرْمَويّ قال: بُختويٌّ وكُرْسَويٌّ؛ لأنهما ليسا بنسب. وما قاله غير صحيح، وياءا مرميٍّ منفصلتان في الحقيقة؛ لأن إحداهما أصلية، والأخرى زائدة، فالقياس يقتضي ألا تُحذفا معاً، وإنما حذفتا معاً تشبيهاً بكرسيٍّ: معاملة للأصلي معاملة الزائد، فكيف يُعْكس الأمر في المسألة، ويلزم عليه أن يفعلَ مثل هذا في كل زيادتين زيدتا معاً كعلامي التثنية والجمع ونحو ذلك، فالصحيح ما حَتَمَ بع الناظم من لزوم الحذف، وهو مذهب النحويين، ثم قال الناظم: ... ... ... ... وتَا تأنيثٍ أو / مدَّتَهُ لا تُثْبَتا "تا" مقصور على حد قولهم: شربت ما يا هذا، وهو منصوب بـ"لا تثبت"، وقوله: "أو مدته" معطوف عليه، يريد: أن تاء التأنيث ومدَّته لا يجوز إثباتها في النسب، بل تحذفهما فيه بلا بدٍّ.

فأما التاء: فإنها تحذف كما قال، فتقول في النسب إلى طلحة: طَلحيٌّ، وإلى بصرة: بصريٌّ، وإلى غرناطة: غَرناطيٌّ، ولا تقول: طلحَتيٌّ، ولا بصرتيٌّ، ولا غَرناطتيٌّ، وذكر النحويون في توجيه حذف التاء هنا وجوهاً منها: أن تاء التأنيث مع ما لحقته بمنزلة الثاني من المركبين؛ لأنه زيادة على ما قبله ما عدد حروفه، فكما أن ياء النسب لا تلحق بعد الثاني من المركبين، فكذلك لا تلحق بعد تاء التأنيث، وإذا كانوا مما يحذفون في النسب الحرف الأصلي إذا كان خامساً على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - فهذا أولى بالحذف. ومنها: أن ياء النسب تجتمع مع تاء التأنيث في أن كل واحد منهما يُفرَّقُ به بين الجنس والواحد، فتقول: يهوديٌّ ويهود، وزنجيٌّ وزنجٌ، كما تقول: تمرةٌ وتمرٌ، وشجرةٌ وشجرٌ، وأيضاً فتجتمعان في الدلالة على معنى النسب كمهلَّبٍّ ومهالبةن وبربريٍّ وبرابرة، لما زالت ياء النسب بالجمع صارت التاء عوضاً منها على معناها، وأيضاً - فكل واحدة منهما علامة تلحق آخر الاسم، تنقله عن معناه إلى معنى آخر، وينتقل الإعراب إليها، فلمَّا اشتبهتا من هذه الأوجه حُكِمَ للتاء بحكم الياء، فلم يجمعوا بينهما؛ لأن الجمع بينهما كان يكون كالجمع بين حرفين لمعنى واحدٍ. قال ابن الضائع بعد ما ذكر بعض هذه الأوجه المشابهة: وهذا كما ترى (يعني في الضعف)، قال: وإذ لا بدَّ من تعليل فالأولى ما قال بعضهم: إنَّ الاسم المنسوب

يصير بياء النسب صفة، فتدخله تاء التأنيث إذا جرى على مؤنثٍ، تقول: امرأة تميميَّةٌ، وقَيسيَّةٌ، قال: فلو لم تحذِف من الاسم المنسوب إليه علامة التأنيث، فقيل في النسب إلى فاطمة: فاطمتيٌّ لوجب إذا جرى على مؤنثٍ [أن يقال]: فاطتيَّةٌ، فيجمع بين علامتي تأنيث في كلمةٍ واحدةٍ، فتجنَّبوه، مع أن تاء التأنيث إن كانت للتأنيث في الاسم المنسوب إليه فيصير وزنُهُ يقعُ على المنسوب زال ذلك التأينث له، فيصير حكم الاسم حكم المنسوب لا حكم المنسوب إليه، قال: وحذف تاء التأنيث / من الاسم مطرد لم ينكسر، ولم يشذَّ منه شيء، ولذلك وجب في أختٍ وبنتٍ حذف التاء لشبههما بها، وتركهم الجمع بينهما البتَّة. وقول الناظم: "وتا تأنيث" يدخل له من حيث العبارة تاء التأنيث في: أخت وبنت كما تقدم له ذلك في باب (التصغير)، إلا أنه قد خصَّهما بالذكر بعد هذا، وحكى خلاف يونس فيهما، فيصير هذا الموضع مقيداً بذلك، فيريد هنا التاء التي هي على أصلها. وأما مدة التأنيث: فهي الألف التي للتأنيث؛ لأن حقيقة الألف مدَّةُ صوتٍ ناشئةٌ عن الفتحة، فيريد: أنها لا تثبت في النسب أيضاً، بل يجب حذفها على الإطلاق إلا ما يُستثنى من ذلك إثر هذا، وألف

التأنيث لا تكون إلا رابعةً فصاعداً، ولا تقع ثالثة أبداً، وإذا كانت كذلك فهي في الأسماء إما رابعةٌ وإما خامسةٌ وإما سادسةٌ وإما سابعةٌ، وهي الغاية. فالخامسة لا بدَّ من حذفها، كما ذكر، فتقول في النسب إلى جَحْجَبًى: جَحْجَبِيٌّ، وفي سُمَّهى: سُمَّهِيٌّ، وفي حُبارى: حُباريٌّ، وفي سِبَطرى: سِبَطْرِيٌّ، وما أشبه ذلك. وكذلك السادسة لا بد من حذفها، فتقول في شُقَّارَى: شُقَّاريٌّ، وفي فَيْضُوْضَى: فَيْضُوضِيٌّ، وفي يَهْيَرَّى: يَهْيَرِّيٌّ، وفي حَوْلايا: حَوْلائِيٌّ.

وكذلك السابعة، فتقول في أربعاوى: أربعاويٌّ، وفي حَنْدَقُوقي: حَنْدَقُوقِيٌّ، وفي بَرْدَرَايا: بَرْدَرَائِيٌّ، وما أشبه ذلك، ولا تثبت الألف، وإنما لم يثبتوا ألف هنا استثقالاً لثبوتها، لو قالوا مثلاً: شُقَّارَوِيٌّ، وفَيْضُوضَوِيٌّ، ونحو ذلك، وأيضاً فإذا كان الحذف في نحو: حُبْلى أحسنَ على ما نص عليه سيبويه، فمن باب أولى أن يكون فيما فوق ذلك أوجب، قال سيبويه: وإنما ألزموا ما كان على خمسة فصاعداً الحذف؛ لأنه حين كان رابعاً في الاسم بمنزلة ما ألفه منه، كان الحذف فيه جيداً، وجاز الحذف فيما كانت ألفه من نفسه، فلما كثر العدد كان الحذف لازماً؛ إذ كان من كلامهم أن يحذفوه في المنزلة الأولى، فإذا ازداد الاسم ثِقلاً كان الحذف ألزمَ. فأما إذا كانت الالف رابعةً، فقد أعطى كلامه فيها تقسيماً، وهو أن الاسم الذي هي فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون محرك الثاني. والآخر: أن يكون ساكن الثاني، فقوله:

وإنْ تكُنْ تربَعُ / ذا ثانٍ سَكَنْ دالٌّ على أن الحكم المذكور إنما هو ثابت فيما لم يكن كذلك، فإذا ما كان منه محرك الثاني، فحكمه حكم ما كانت ألفه فيه خامسةٌ فصاعداً، وهو وجوب الحذف، فتقول في بَشَكَى: بَشَكِيٌّ، وفي مَرَطَى: مَرَطِيٌّ، وفي جَمَزَى: جَمَزِيٌّ، ولا يجوز أن تقول: جَمَزَوٍيٌّ؛ وذلك لاستثقال توالي أربع متحركات، وإذا كان الحذف في نحو: حُبْلَى جيداً كما سيأتي، فالواجب أن يُلتَزم الحذف في نحو: جَمَزَى، وهذا مما جعل النحويون الحركةَ فيه تنزل منزلة الحرف؛ إذ عاملوا نحو: جَمَزَى معاملة نحو: حُبَارى في لزوم حذف الألف. والوجه الثاني: أن يكون الحرف الثاني ساكناً، وذلك قوله"وإنْ تكُنْ تربَعُ اثانٍ سَكَنْ" إلى آخره، تربُع: معناه تصيِّره ذا أربعة أحرف، ولا يكون الاسم إذ ذاك إلا ثلاثياً، تقول: رَبَعتُ الثلاثة: إذا صيَّرتَهُم أربعة، فيريد: أن الألف التي للتأنيث إذا كانت رابعةً في اسمٍ ساكنِ الثاني فإن لك فيه وجهين حسنين عنده: أحدهما: قلب الألف واواً في حُبْلَى: حُبْلَوِيٌّ، وفي بُشْرى: بُشْرَويٌّ، وفي ذكرى: ذِكْرَويٌّ، ونحو ذلك، ووجه هذا العمل

إلحاقُ الألف الزائدة بالمنقبلة عن أصل؛ إذ حكمها القلب في الوجه المختار لا الحذف، كما سيذكره إثر هذا، فكما قالوا في مَلْهًى: مَلْهَوِيٌّ، كذلك قالوا في حُبْلَى: حُبْلَويٌّ، وفي حقيقة التدريج إنما قُلِبت حملاً على ألف الإلحاق المحمولةِ على الالف المنقلبة عن الأصل، ولكنَّ سيبويه إنما ذكر ما تقدم، إذ كانت ألف التأنيث قد بنيت عليها الكلمة، والكلمة شبيهةٌ بملهًى ونحوه، في الحركة والسكون وعدة الحروف، فحملوها عليه لذلك. والثاني: حذف الألف رأساً كالخامسة والسادسة، فتقول: حُبْلِيٌّ، وبُشْرِيٌّ، وذِكْرِيٌّ في: حُبلى، وبُشرى، وذِكرى، ومن السماع في ذلك قولهم في سِلَّى: سِلِّيٌّ، وأنشد سيبويه لساعدةَ بن جؤيَّةَ: كأنما يقع البصري بينهمُ من الطوائفِ والأعناقِ بالوَذَمِ وأنشد أو عبيد لأوس بن حجر:

يعْلُونَ بالقَلَعِ البصري هامَهُمُ ويَخرجُ الفَسْوُ من تحت الدَّقاريرِ فنسب إلى بُصْرَى بالحذف، ووجه الحذف أن الألف زائدة غير أصلة، ولا ملحقة بأصل، فأرادوا أن يفرقوا بينهما، ويجعلوا الحذف حظ الزائد على الإطلاق؛ لأنه أولى به من / الأصلي؛ إذ كان في حذف الأصل خرمُ البنية. هذا تعليل سيبويه بالمعنى، وأيضاً فحُمِلت ألف التأنيث في الحذف على التاء، وقد تقدم وجوب حذفها لاختصاصها بعلةٍ تناسب الوجوبَ بخلاف هذه، فكان الحذفُ فيها جائزاً لا واجباً، وقوله: فقَلبُهَا واواً وحَذْفُها حَسَنْ تسويةٌ منه بين الوجهين، وليس في تقديم ما قُدِّمَ ما يُشعر برجحانه، بل الظاهر فيه التسوية بينهما في الاستحسان، إلا أنه معتَرَضٌ عليه من أوجه: أنه ذكر وجهين من ثلاثة، وكان من حقِّه إذا أراد الاقتصار على بعضها أن يقتصر على ما هو أشهر من غيره، ويتركَ الأقلَّ في الاستعمال، وهو لم يفعل ذلك، بل ذكر الأقلَّ، وتركَ ما هو أكثر وأشهر منها، وذلك أن النسب إلى نحو: حُبْلَى

ثلاثة أوجه: أحدها: الحذفُ، كما تقدم ذكره. والثاني: إثباتها وزيادةُ ألفٍ قبلها، فتقول: حُبْلاويٌّ، ودِفْلاوِيٌّ، وقالت العرب في النسب إلى دهنا: دَهْناوِيٌّ، وإلى دنيا: دُنْياويٌّ، فرَّقوا بزيادة هذه الألف بين هذه الألف والألف المنقلبة عن أصلٍ، كذا قال سيبويه، وأيضاً فعاملوه معاملة الممدود كما سوَّوا بينهما في الجمع، إذ قالوا في صحراء: صَحَارَى، كما قالوا في حُبْلى: حَبَالَى. والثالث: قلبها واواً من غير زادة ألفٍ، كما تقدم. وهذه الأوجه الثلاثة في الجودة والكثرة على هذا الترتيب، فالأول أجودها، ثم يليه الثاني، ثم الثالث، وبهذا الترتيب رتبها سيبويه في الذكر، وأشار المؤلف إلى هذا الترتيب في التسهيل فذَكَرَ الحذف في ألف التأنيث مطلقاً في الرابعة فما زاد، ثم قال: "وربَّما حذفت الألف الرابعة كائنةً لغير التأنيث، وقلبت كائنة له فيما يسكنُ ثانيه، وقد تُزاد ألفٌ قبل بدلها وبدل الرابعة التي للإلحاق"، فجعل

القلب [في] نحو: حُبْلَى نادراً؛ إذ أتى فيه بـ"ربَّما"، وجهل زيادة الألف مع القلب أكثر قليلاً من القلب وحده؛ إذ قال: "وقد"، والتعبير بـ"ربَّما" يعطي من الندور والقلة ما لا يعطيه التعبير بـ"قد"، فهو موافق لما ذكره غيره، فالدَّرَكُ عليه في هذا الموضع من وجهين: أحدهما: أنه جعل الأقل مساوياً في الحسن للأكثر. والثاني: أنه ترك ذكر ما هو أكثر من ذلك الأقلِّ /، على أن كلام السيرافي يشعر بأن القلبَ مع إلحاق ألفٍ وعدمِ إلحاقها متساويان؛ إذ قال: إنَّ الأجودَ حُبلِيٌّ ثم حُبلاويٌّ، وقد يعتذرُ عنه بعذرٍ بعيدٍ، وإن كان ممكناً، وهو أن ما ذكر من الوجهين مسموهٌ مقيسٌ، وإن كان أحدهما أكثرَ وأشهرَ من الآخر، لكن ذلك لا يُخرج الآخرَ عن كونه مقيساً، فأطلق عليهما لفظ الحسن بهذا الاعتبار، وأيضاً فهما في النظر القياسي كما قال؛ لأن كل واحد من الحذف والقلب على نظر مستقيمٍ اعتباراً بالشبه بالأصلية، فلا تحذف بل تقلب، أو إلحاقاً للرابعة بما فوقها بخلاف زيادة الالف من غير موجب، فإنه على غير قياس، بل هو شبيه بتغييرات النسب السَّماعية، كقولهم في زبينة: زَبَانيٌّ، وما أشبه ذلك، ومن هنا يخرج الجواب عن الاعتراض الثاني، فإنه لما خرج عن الحكم القياسي لم يعتبره،

وجعله داخلاً تحت قوله: وغيرُ ما أسْلفتُهُ مقرراً على الذي يُنقَلُ فيه اقتُصرا ثم أخذ يذكر باقي أقسام الألف؛ لأن الألف في آخر الاسم على ثلاثة أقسام: زائدة للتأنيث، وهي التي فرغ من ذكرها، وزائدة للإلحاق، ومنقلبة عن أصل، وضمهما في كلامه فقال: لشِبْهِهَا المُلحِقِ والأصلي ما لها وللأصلي قَلْبٌ يُعْتَمَى والألفَ الحائزَ أربعاً أَزِلْ كذاكَ يا المنقوصِ خامساً عُزِلْ والحذفُ في اليا رابعاً أحقُّ مِنْ قلبٍ وحَتْمٌ قلبٌ ثالثٍ يَعِنّ الضمير في "شبهها" عائدٌ على الألف التي تربع الكلمة، وهي التي قال فيها: وإنْ تكُنْ ترْبَعُ ذا ثانٍ سَكَنْ فيعني أن ما كان من الألفات الزائدة للإلحاق، أو التي هي أصلية غير زائدة شبيهاً بالالف المتقدمة الذكر قريباً، فإن حكمها في الحذف أو القلب في النسب حكم تلك الألف، إذا وُجد الشبه المشارُ إليه؛ وهو كون الألف رابعة، وقد تقدم هنالك أن فيها وجهين: حذفَ الألف، وقلبها واواً، فكذلك يكون الأمر هنا، فأما الأصلية فنحو: ملهًى، ومغزًى، ومدعًى، ومرمًى، فتعاملها معاملة الزائدة للتأنيث، تشبيها لها بها؛ لأنها رابعة مثلها، قبلها ثلاثة أحرف، وهي أيضاً غير أصل

بنفسها؛ لأن حقيقتها أنها منقلبة عن أصلٍ؛ إذ لا تكون / الألف أصلاً بنفسها، في معربٍ أصلاً، ولذلك يكون قول الناظم: "والأصلي" مجازاً؛ إذ ليس بأصليٍّ، بل هو منقلبٌ عنه، لكن مثل هذا التوسُّع قريبٌ /، وتقول في القلب: مَلْهَوِيٌّ، ومَغْزَويٌّ، ومَدْعَوِيٌّ، ومَرَمَوِيٌّ، فتقلب الألف واواً مطلقاً، وسواءٌ في هذا القلب ما كان أصله الواو أو الياء، كما تقدم تمثيله لاستثقال توالي الياءات، لو قلت في مرمًى: مَرْمَيِيٌّ، وكذلك إذا عاملت في مَدْعًى ومَغْزًى أصلها القريب، وهو الياء؛ لأن حقيقة الألف فيها الانقلاب عن الياء المنقلبة عن الواو لوقوعها رابعةٌ بعد فتحةٍ في اسمٍ على مثال الفعل/ كما سيأتي في التصريف، إن شاء الله تعالى. فالواو في: مَلْهوِيٌّ بدل من ألفٍ بدلٍ من ياءٍ بدلٍ من واوٍ، وفي مرْمَوِيٌّ بدل من ألف بدلٍ من ياء، وترك الحذف هنا هو الأصل؛ لأن الألف من أصل الكلمة، فالحذف فيها على غير الأصل، قال سيبويه: "فهذا يجري مَجْرى ما كان على ثلاثة أحرف، وكأن آخرُهُ ألفاً مبدَلةً من حرفٍ من نفس الكلمة، نحو: حصًى، ورحًى"، وحكى من هذا في أعيا: أعْيَوِيٌّ، وفي أحوَى: أَحْوَوِيٌّ.

وأما الألف التي للإلحاق فنحو: مِعْزًى، وأرْطًى على من قال: أديمٌ مأروطٌ، وتقول في الحذف: مِعْزِيٌّ، وأَرْطِيٌّ، وإنما حذفت لشبهها بألف التأنيث من الوجه الذي أشبهتها الألف الأصلية، وتزيد عليها ألف الإلحاق بالاجتماع في الزيادة، فتمكن وجه الحذف، وتقول في الإثبات والقلب مَعْزَوِيٌّ، وأرْطَوِيٌّ، وهو الأجود عندهم، ووجهُهُ معاملتها معاملة ما هو منقلب عن أصل؛ لأن الألف هنا في مقابلة الأصل، كما أن الهمزة المنقلبة عن الملحق بالأصل كعِلْبَاءٍ، بمنزلة الألف المنقلبة عن الأصل ككساءٍ، على ما سيأتي ذكره، إن شاء الله. وهذا معنى تعليل سيبويه على ما نقل عن يونس قال: "ولا يكون أسوأ حالاً في ذا من حُبْلَى" يعني أن حُبْلَى قد أُثبتت فيها الألفُ وهي زائدة زيادة محضة لا في مقابلة أصلٍ في أحد الوجهين، فلو لم تثْبت ألف الإلحاق مع أنها في مقابلة أصل لكانت أسوأ حالاً منها، وهو تعليل ظاهر، ولما ذكر حكم هذين الألفين، وأحال بذلك على ألف التأنيث، وكان قد قدم في ألف التأنيث / وجهين على تساوٍ كما تقرر قبل، خاف أن يُتوهمَ مثل ذلك هنا، فبيَّنَ ما أراد من تفضلي أحد الوجهين على الآخر، فقال: "وللأصليِّ قلبٌ يُعْتَمَى" أي: يختار، يعني: أن الألف الأصلي أي: المنقلبَ عن

الأصل، يختار فيه من الوجهين القلب. وأما الحذف فليس بمختار، وما اختاره هو المختار عند غيره؛ وذلك أن سيبويه قرر أولاً في مثل هذا القلب، ثم قال بعد ذلك: "فإن قلت في مَلْهًى: مَلْهِيٌّ لم أر بذلك بأساً"، فجعل الحذفَ تابعاً لما تقدم أولاً أنه الباب وهو القلبُ، وكذلك نصَّ غيره على أنه الأجود، ووجهُهُ ظاهر من جهة كونه أصلاً، بخلاف الزائد؛ فإن الحذف فيه أجودُ من جهة كونه زائداً، وقد تقدم هذا المعنى، وهذا في الأصلي. وأما الملحق فلم يختر فيه هنا شيئاً، فالظاهر أنه الوجهين فيه عنده متساويان أو مسكوتٌ عنهما كما تقدم تفسيره عند قوله: فقَلبُهَا واواً وحَذْفُها حَسَنْ ولا شك أن الحذف في ألف الإلحاق أمثلُ منه في الأصلية، والإثباتُ فيها أجودُ منه في ألف التأنيث، وإحالته في الألفين معاً على ما تقدم من الوجهيم في ألف التأنيث، يؤذِنُ بأن الوجه الثالث فيهما غير معتبرٍ عنده، أما في ألف الإلحاق فلأنه لم يحكِ فيه سيبويه أرْطاويٌّ، وإنما حكاه أبو علي عن أبي زيد الأنصاري، فهو على

الجملة قليلٌ، وأما في الألف الأصلية فلم يُسْمَع، وإنما قاسه السيرافي على مسألة حُبْلاوي، فأجاز: مَلْهَاوي، قالوا: وهو قياس ضعيف، فلم يتعرض الناظم لهذا الوجه لما فيه من مخالفة القياس، ولقلته أو عدمه سماعاً، ويقال: اعتَمَيتُ الشَّيءَ بمعنى: اخترتُهُ، قال الجوهري: وهو قلب الاعتيام، فيقال: اعتام الرجل: إذا أخذ العِيمَةَ بالكسر، وهو خيال المال، ورجلٌ عَيْمَانُ أيْمَانُ أي: ذهبت إبِلُهُ، وماتت امرأتُهُ. ثم يتصدى النظر إلى كلام الناظم هنا من جهة أن ما تقدم من الحكم في هذه الألف الأصلية والملحقة هو غيرُ مقيَّدٍ عند النحويين بشيء، غير بكون الألف رابعةً خاصةً، وقد نص عليه، والناظم قد أحال به على ما يعطي بنصه قيداً ثانياً زائداً إلى الأول، وذلك أنه أحال على قوله أولاً: وإن تَكُنْ تربَعُ ذا ثانٍ سَكَنْ وهذا له قيدان: / كون الألف رابعةً، وكون الاسم الذي هي فيه

ساكنَ الثاني، وإذا كان كذلك فهو قد قال بعد: لشِبْهِهَا المُلحِقِ والأصلي ما لها ... ... ... ... ... ... والشبهُ إنما يكون مع استيفاء كلا القيدين، لكن قيد سكون الثاني غير معتبرٍ في المشبَّه أصلاً، بل الحكم كذلك، ولو فرَضْتَهُ مُحرَّكَ الثاني، فظهر الخلل في هذه الإحالة التي أحالها. والجواب: أن يقال: إنما نلتزمُ أولاً القيدين معاً، ونقول: لا بدَّ منهما وإن لم يذكر النحويون الثاني منهما، وذلك أن ما فيه الألف رابعةً إذا كانت للتأنيث فإن سكون الثاني وتحريكه موجودٌ فيه، كما تقدم، نحو: مرطًى، وحُبْلًى؛ إذ لا يلزم على ذلك محذورٌ بخلاف ما إذا كانت أصليَّةٌ أو ملحَقَةً، فإن تحريك الثاني غير موجودٍ في كلام العرب لما يلزمُ عليه من توالي أربع حركات في كلمة واحدة، وقد حصر الناظم أبنية الرباعي في أول التصريف، فلم يذكر فيها نحو: جَعَفَرٍ، وإنما يأتي ذلك لعارض حذفٍ كعُلَبْطٍ وذَلَذِلٍ، أو زيادة في تقدير الانفصال كشجرةٍ، وأما أن يأتي في أصل بناءٍ فلا، فنحو:

ملْهًى، الألف فيها منقلبةٌ عن حرفٍ متحركٍ، وألف أرطًى في مقابلة متحرك، فلو قدَّرنا تحريك الثاني منهما، لكان تقديراً لوجود أربع حركات متوالية في بناءٍ أصليٍّ. فإن قلتَ: قد توالت أربعُ حركاتٍ في نحو: مَرَطًى؛ لأن ألف التأنيث لا بدَّ من تقدير الإعراب فيها فتساويا، فلِمَ نفيتَ ذلك عن الوجود؟ فهذا ليس من المعاني المرادة في هذا الباب، وإنما موضعها التصريف، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فإذا ثبت ذلك لم يضرنا التقييد بسكون الثاني، إذ ليس ثمَّ متحركٌ يُتَوَهَّمُ مخالفةُ حكمه لهذا الحكم، وعلى هذا نقول ثانياً: إنَّ ذلك القيدَ في كلامه غيرُ معتَبَرٍ؛ إذ ليس ثَمَّ ما يتحرزُ به منه بنصِّ كلامه في حصر الأبنية في التصريف، فكلامه مفسَّرٌ بكلامه، فرجع الأمر إلى ما ذكره النحويون من إهمال قيدِ سكون الثاني، والاقتصار على اعتبار القيد الآخر، وكل ما تقدم إنما هو فيما إذا كانت الألف رابعةً، فإن زادت الأحرفُ قبلها بأن تكون خامسةً، فذلك قوله: والألِفَ الحائِزَ أربعاً أَزِلْ الألف منصوبٌ بأزِلْ، أي: / أزِلِ الألفَ الحائزَ أربعاً، والأربع أتى به مؤنثاً، والمراد الأحرف؛ لأن ذلك جائز، وقد تقدم مثلُهُ، والاستشهاد عليه، والحائز للشيء هو الذي يضمُّه إلى نفسه، وكل من ضمَّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه حوزاً وحِيازةً واحتازه أيضاً، وأصلُهُ

الجمع، فالألف الحائز في كلامه هو الذي جمع إليه أربعة أحرفٍ، فيكون هو الخامس، يريد: أن الألف إذا كانت خامسة في الكلمة، فإن حذفها في النسب واجبٌ مطلقاً؛ لقوله: "أزِل"، ولم يقيد ذلك بقيدٍ، ولا ذكر وجهاً آخر من الإثبات، والألف في كلامه هي: ما عدا ألف التأنيث، فإن ألف التأنيث قد تقدم ذكرها، فلا وجه لإعادة ذكرها، فبقي ما كان من الألفات دون ذلك، فالأصلية نحو: مُرَامًى، ومُشْتَرًى، ومُقْتَنًى، تقول في النسب إليه: مُرَامِيٌّ، وفي مُشْتَرًى: مُشْتَريٌّ، وفي مُقْتَنًى: مُقْتَنِيٌّ، ونحو ذلك، والملحقة نحو: حَبَرْكًى، وجَلَعْبًى، وحَبَنْطًى، تقول فيه: حَبَرْكِيٌّ، وجَلَعْبِيٌّ، وحَبَنْطِيٌّ، فتحذف ولا تثبتها أصلاً، وإنماحذفت، وقد كان لإثباتها وجهٌ لمكان الأصلية، أو مقابلة الأصلي، استثقالاً للكلمة مع ثبوتها؛ إذ كانوا قد حذفوا الرابعة جوازاً في مَلْهًى وحُبْلَى، فليجب هنا؛ لأنها خاسمة، فالثقل مع إثباتها أكثر، وأيضاً فشبهوا هذه الألفات بألف التأنيث فحذفوها، كما حذفوها، وعلَّةُ الحذف في ألف التأنيث متمكنة وحملوا هذه عليها؛ إذا كان من شأنهم تشبيه الشيء بالشيء، وإن لم يكن مثله في جميع الأشياء، وأيضاً فقال يونس

وسأله سيبويه عن المسألة: لو قلتَ: مُرَامَوِيٌّ لقلتَ في حبارى: حُبارَوِيٌّ، يعني: أنه كان يجب أن تحمل ألف التأنيث على الأصلية في الإثبات كما أجازوا في حُبْلَى: حُبْلَوِيٌّ، حملاً على قولهم في مَلْهًى: مَلْهَوِيٌّ، ثم قال: ولو قلتَ ذا لقلتَ في مُقْلَوْلًى: مُقْلَولَوِيٌّ، وهذا لا يقوله أحدٌ؛ إنما يقولون: مُقْلَوْلِيٌّ كما تقول: في يَهْيَرَّى: يَهْيَرِّيٌّ، يعني: لو لم تستثقل الخامسة، فأثبتها لم تستثقل السادسة، ولا يقول هذا أحدٌ من العرب قال: فإذا سُوِّيَ بين هذا رابعاً وبين ما الألف فيه زائدةٌ، نحو: حُبْلَى، لم يجز إلا أن تجعلَ ما كان من نفس الحرف إذا كان خامساً بمنزلة حُبَارَى، ثم يتعلق النظر هنا في مسألتين: إحداهما: / أن ما ذكر من الحكم في الألف الخامسة حكم مطلق لم يقيد بشيء، وهذا مذهب الجمهور، وذهب يونس إلى التفرقة بين أن يكون ما قبل الألف مشدداً أو لا، فإن لم يكن كذلك فالحكم ما تقدَّم، وإن كان ما قبلها مشدداً نحو: مُثَنًّى ومُعَلًّى

ومُعَدًّى، وما أشبهه مما الألف فيه أصلية، فحكمه عنده حكم ما الألف فيه رابعة، نحو: مِعْزًى، ومُعْطًى، فيجوز فيه الوجهان على ما تقدَّم، ولا يلزم الحذف، أما إن كانت الألف فيه زائدةً نحو: زِمِكَّى، وعِبِدَّى، فإن السيرافي قد أشار إلى أن مذهب يونس فيها كمذهب غيره، ولذلك ألزمه سيبويه أن يقول في عِبِدَّى: عِبِدَّوِي، كما جاز في حُبْلَى: حُبْلَويٌّ، وذلك أن يونس اعتبر الصورة في الدال وهي صورة لحرف واحد، وأن اللسان يرتفع بالمدغم ارتفاعةً واحدةً فأُجريَ مُجْرَى الحرف الواحد، قال سيبويه: "ينبغي له أن يجيز في عِبِدَّى: عِبِدَّوِيٌّ، كما جاز في حُبْلَى: حُبْلَوِيٌّ، ثم ألزمه أيضاً أنه إن سمَّى رجلاً باسمٍ مؤنث على وزن معَدٍّ مدغم أن يصرفه كما يصرف قَدَماً اسم رجل، فيجعل المدغم كحرف واحد، وهو

إلزامٌ من سيبويه صحيح، ثم بين سيبويه أن الحرف المدغم حرفان لا حرف واحد، وكذلك هو في بناء الشعر مسحوب بحرفين. وقد انتصر الفارسي ليونس، وأجاب عمَّا ألزمه سيبويه، فانظر فيه ثَمَّة. فالناظم لمَّا لم يفرق في هذه الألف اقتضى أن مذهبه مذهب الجماعة، وكذلك مذهبه في "التسهيل". والمسألة الثانية: فيما يقتضيه هذا النظم في الألف السادسة والسابعة، والذي يظهر أولاً أنه سكت عن حكم ذلك اتكالاً على فهم حكمه مما تقدم؛ لأنه إذا كان حكم الخامسة وجوبَ الحذف، فمن باب أولى أن يكون الحذف ثابتاً للسادسة والسابعة، وهذا المنزَع ظاهر، وقد يقال إن حكم السادسة والسابعة نصوصٌ عليه بحسب مقتضى اللفظ، وذلك أن الألف الحائزة للخمسة فصاعداً حائزة للأربعة، وهو قد قال: والألِفَ الحائزَ أربعاً أَزِلْ فاقتضى محصول هذا اللفظ الحذف في الحائز للخمسة لأنه ما كان حائزاً لها إلا وهو حائز لما تحتها، فهذا أيضاً قد يقال، وهو منزَعٌ لفظيٌّ، / والأول منزَعٌ معنويٌّ.

والمسألة الثالثة: وهي أن لفظه يدخل له تحته ألف التكثير، فيكون حكمها الحذف، وذلك أنه قال: "والألف الحائز أربعاً"، فدخل تحته كل ألف إلا ما قدم من ألف التأنيث. والألفات أربعُ أنواع: ألف التأنيث، وألف الإلحاق، والألف الأصلية، وألف التكسير، نحو: قَبَعْثَرًى، وضَبَغْطَرًى، فتقول فيه: قَبَعْثَرِيٌّ، وضَبَغْطَرِيٌّ بمقتضى لفظه، وهو صحيح، ووجه الحذف ما تقدم من الاستثقال مع أنها زائدة، فهي أولى بالحذف من الأصلية كألف التأنيث، ثمَّ لما أتمَّ الكلا على الألف انتقل منها إلى حكم الياء فقال: كَذَاكَ يا المنقوصِ خامساً عُزِلْ إلى آخره. المنقوص في كلامه المراد به ما كان آخره ياء قبلها كسرةٌ، وهو عند المتأخرين المنقوص بقياس، وذلك لنقصان يائه إذا التقت ساكنةً مع التنوين، نحو: قاضٍ، وغازٍ، وإذا ثبت هذا عَلِمَ أن النحويين يقسمون الاسم ههنا إلى أربعة أقسام: أحدها: ما كانت الياء فيه ثانيةً، نحو: في زيدٍ، وذي مالٍ، وشِيَة، وما أشبه ذلك. والثاني: ما كانت الياء فيه ثالثة، نحو: عَمٍ، وشَجٍ.

والثالث: ما كانت فيه رابعةً نحو: قاضٍ وغازٍ وداعٍ. والرابع: ما كانت فيه خامسةً فصاعداً، نحو: مُشَترٍ، ومُهْتَدٍ، ومُسْتَدْعٍ، ومتقاضٍ، وما أشبه ذلك، ولكلِّ واحد من هذه الأقسام حكمٌ مختصٌّ به ذكروه، والناظم إنما ذكر هنا ثلاثة أقسام، وهي: ما كانت الياء ثالثة وما بعده، ولم يذكر الأول هنا، بل ذكره قريباً من آخر الباب في قوله: وَضَاعِفِ الثاني مِن ثُنَائِيّ ثانِيهِ ذُو لينٍ كَلاَ ولاَئِيّ إلى آخر المسألة. وكان من حقه أن يذكره هنا، كما فعل غيره من هؤلاء المتأخرين، لكن اتبع الناظم في ذلك لفظ المنقوص، وذلك أن ما الياء فيه ثانيةٌ ما حُذف منه حرفٌ فصار لذل ثنائياً كشِيَةٍ، أصله: وِشْيَةٌ، وفي زَيدٍ، أصله: فو زَيدٍ، وفا زَيدٍ، وذو مال، وذا مال، فكأن الناظم لم يأت هنا إلا بما دخل تحت لفظ المنقوص، ثم ذكر الثنائي على حده، وأما من أتى / من النحويين بأربعة الأقسام، فإنا أتى بها من حيث قَسَمَ ما آخره ياء، لا المنقوص المصطلح عليه، فكلٌّ اتبع طريقاً صحيحاً. وبدأ الناظم بالخماسي، وهو الذي الياء فيه خامسةٌ فقال: كَذَاكَ يا المنقوصِ خامساً عُزِلْ وقد دخل له بالمعنى ما فوق الخماسي؛ لأنه إذا كان الحذف

يتوجّه على الياء خامسةً للاستثقال، فأولى أن يتوجّه إذا كانت سادسةً، ويعني: أن الياء التي قبلها كسرة إذا كان قبلها أربعة أحرف فوقعت خامسة، فإنها تُعزل في النسب؛ أي: تحذف وجوباً، فتقول في مشترٍ: مُشْتَرِيٌّ، وفي مُعْتَدٍ: مُعْتَدِيٌّ، وفي منقض: منقضيٌّ، ونحو ذلك، ولا تقول: مشتَرَوِيٌّ، ولا مُعتَدَوِيٌّ، ولا مُنقَضَوِيٌّ، وفي صحارٍ: صحاريٌّ، وفي ثمانٍ: ثمانيٌّ، وفي يمانٍ: يمانيٌّ، إذا سميتَ بذلك كله، إلا أن الحذف في ثمانٍ ويمان على غير جهة الحذف في صحارٍ ومشترٍ، كما سيذكر، وكذلك تقول في مستدعٍ: مستدعيٌّ، وفي متقاضٍ: متقاضيٌّ، وما أشبه ذلك، ولا تبقي الياء؛ لِمَا في بقائها من الثقل، ولِمَا في الياء من السكون مع سكون ياء النسب الأولى فيلتقي ساكنان، والقلب لا يكن؛ لأنه لا يكون إلا مع فتح ما قبلها، وهو غير جائزٍ؛ إذ لا موجب له، وأما الفتح في تغلَبيٌّ فله وجهٌ، على أنه مسموعٌ على ظاهر كلام الخليل، كما سيذكر بحول الله تعالى، ولا يمكن أيضاً تحريك الياء بالكسر؛ لما في ذلك من الثقل، كذلك لم يجيزوا في رحًى: رحَيِيٌّ، فلم يبق إلا الحذف فحذفوها، وأما ياء يمانٍ فهي ياء نسب، فوب أن تحذف لدخول ياء النسب الطارئة، كما تقدم ذكره، وياء ثمان لاحقةٌ في الحكم

بيمان، وكلامه شامل لهما من جهة أنهما كالاسم المنقوص فدخلا في حكمه، و"عُزل" معناه: نُحِّي وأزيل، يقال: عزلتُهُ عن العمل والولاية أي: أزلته ونحَّيتُهُ، ثم قال: والحذفُ في اليا رابعاً أحقُّ مِنْ قلبٍ ... ... ... ... ... ... وهذا هو القسم الثاني من أقسام المنقوص، وهو ما كانت الياء في رابعة، فيعني: أن المنقوص إذا كان رباعياً وقعت الياء فيه رابعةً، فإن لك فيه وجهين: أحدهما: حذف الياء وجعله أحق وأولى، فتقول في قاضٍ: قاضيٌّ، وغازٍ: غازيٌّ، وفي داعٍ: داعيٌّ، وحكى سيبويه أنهم قالوا في رجل من بني ناجية: ناجيٌّ، ومثل ذلك لو / سميتَ بيَرْمِي ويقضي لقلتَ: يرمِيٌّ ويقضِيٌّ، وأنشد سيبويه لعلقمة بن عَبْدَة: كأسُ عزيزٍ من الأعنابِ عتَّقها لبعضِ أربابها حانيَّةٌ حُومُ

وذكر أنه أضاف إلى مثل: ناجية وقاض، قال السيرافي: ذكر بعض أصحابنا أنه يقال: حانيَّة للموضع الذي تباع فيه الخمر كناحية، قال السيرافي: والمعروف حانة، كما قال الأخطل: وخمرةٍ من جبال الروم جاء بها ذو حانةٍ ماجدٌ أكْرِمْ بها حَانَا ووجه هذا الحذف ما تقدم من سكونها فتلتقي ساكنة مع ياء النسب، وذلك لا يجوز، وأيضاً تحريكها بالكسر لا يجوز لثقله، فحذفوا لأجل ذلك. والوجه الثاني: وهو الوجه المرجوح قلب الياء واواً، ولا يدفع ذلك من تحويل كسرة ما قبل الياء فتحةً فتقول: قاضَوِيٌّ، وداعَوِيٌّ، وأُمَوِيٌّ، وما أشبه ذلك، وكذلك تقول في يرمي: يرمَويٌّ، ونظيره ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: فكيف لنا بالشُّربِ إنْ لمْ تكنْ لنا دوانِقُ عند الحانَوِيِّ ولا نَقْدُ وهذا الوجه محمول على من قال في تغلب: تغلَبِيٌّ، وفي يثرب:

يَثْرَبِيٌّ، فكأن قاضياً وغازياً مثل: يثرب وتغلب، وهم قد فتحوا ما قبل الآخر لتوالي الكسرات مع عدم الاعتداد بالساكن، فصار كنَمَرِيّ وشَقَرِيَ في نَمِر وشَقِر، فكذلك قاض ونحوه، تُقلب كسرته فتحة، فتنقلب ياؤه واواً، وقولهم: تغلَبِيٌّ ليس بكثير ولا بلغ عند سيبويه مبلغ القياس، ولذلك قال فيه: إلا أن ذا ليس بالقياس اللازم، وإنما هو تغيير، يعني بالتغيير: التغيير الشاذُّ كسُهْلِيٍّ ونحوه، وهو عند المبرد قياسٌ، لأنه لا يعتدُّ بالساكن، ولمَّا كان قاضويٌّ مفرعاً على ذلك كله، كان وزانه في القلة وعدم الاطراد، فلذلك صار مرجوحاً عند الناظم. وبعد فهاهنا نظران: الأول: أن الناظم جعل الحذف في المنقوص المذكور هو الأجود على الإطلاق؛ إذ لم يستثن من ذلك شيئاً، وليس كذلك عند غيره؛ لأنهم يقولون: إذا تحولت كسرة ما قبل الياء فتحةً قياساً على تغلَبِي، انقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيصير في التقدير: قاضَيّ وغازَيّ، فمن قال في ملهًى وبابه: ملهَوِيٌّ، قال في هذا: قاضَويّ وغازَويّ، وهو أحسن الوجهين، ومن قال في ملهٍى: ملهِيٌّ /

فحذف حملاً على باب (حُبلى)، قال في هذا: قاضِيٌّ وغازيٌّ، وهو أضعف الوجهين، قالوا: فقد صار قاضِيٌّ على وجهين - أحدهما أحسن الأوجه الثلاثة وهو الأصل -: الأول والثاني، والوجه الثالث وهو أضعفها، وهو فرع الفرع، والوجه الثاني فرعٌ بين أصل وفرعٍ، هذا ما قالوه، فإذن ليس قولهم: قاضيٌّ بأحقَّ على الإطلاق من قاضَوِيٍّ، والناظم قد أطلق القول بأنه أحق، فهو مشكل، والجواب: أن هذه الطريقة جرى عليها ابن أبي الربيع وبعض المتأخرين، وإنما قالوا ذلك بالقياس، وأما غيرهم فعلى ما قاله الناظم من إطلاق القول براجحية الحذف، وقد يقال: لا يلزم من كون قاضٍ إذا صار بعد التحويل على قاضًى تقديراً أن يجريَ مجرى ملهًى في جميع وجوهه، وإنما ذكر سيبويه جريانه مجرى تَغْلَبِيٍّ في القلب لا في الحذف، فلنقتصر عليه حتى يقوم دليل على غير ذلك. والنظر الثاني: أن المنقوص في باب النسب على وجهين: أحدهما: أن يكون مستعملاً قبله، وهذا هو الباب والأعمُّ كقاضٍ وغازٍ ومستدعٍ، ونحو ذلك، وحكمه ما تقدم. والثاني: أن يكون مقدراً في باب النسب خاصة لم يستعمل في

غيره، وذلك يتصور في كل اسم كان آخره واواً قبلها ضمة، إلا أنه لم يرفض لبناء الكلمة على تاء التأنيث كقَلَنسُوَةٍ، وقَمَحدُوَةٍ، وقَرْنُوَةٍ لنبْتٍ يُدبغ به، وعَرْقُوَةٍ، ونحو ذلك، فهذا إذا أرادوا النسب إليه فلا بدَّ من حذف التاء كما تقدم، فيصير اسماً آخره واوٌ قبلها ضمة فلا بد أن يرجع إلى القياس من قلب الضمة كسرة والواو ياء فيصير في التقدير قَلَنْسٍ، وقَمَحْدٍ، وقَرْنٍ، وعَرْقٍ، كما قالوا: أدْلٍ، وأجْرٍ، وإذا صار كذلك كان حكمه حكمَ المنقوص في الاستعمال، إن كانت الياء خامسةً، فلا بد من حذفها، فتقول: قَلَنْسِيٌّ، وقَمَحْدِيٌّ، وإن كانت رابعة فالوجهان، فتقول في الأجود: عَرْقِيٌّ، وقَرْنِسٌّ، وفي غيره: عَرْقَوِيٌّ، وقَرْنَوِيٌّ، وقد نص السيرافي على جواز ذلك في: عَرْقَوِيٍّ، وحكاه سماعاً في قَرْنَوِيٍّ، وإذا ثبتَ هذا وأن المنقوص / تقديراً كالمنقوص تحقيقاً، فقد يقال: إن الناظم لم يتعرَّض له، وإنما تكلم في المنقوص المستعمل، وترك غيره لبعد فهمِه من كلامه، إذ لا يسبق الذهب في المنقوص إلا إلى المستعمل،

وقد يقال: إنه قصد ما هو أعمُّ من المستعمل؛ إذ كان المقدَّرُ النقص منقوصاً، وعليه يجري حكمه، والقياس مؤدٍّ إليه، ويطلق عليه لفظ المنقوص؛ لأنه مما آخره ياءٌ قبلها كسرةٌ، أعني: عند النسب إليه، وإذا حملناه على هذا، كان أكثرَ فائدةً وأقربَ إلى مقاصد الناظم في الحصر والاستيفاء للقوانين مع الاختصار، والله أعلم. ثم قال: وحَتْمٌ قلبُ ثالثٍ يعِنّ هذا هو القسم / الثالث من أقسام المنقوص وهو ما كانت الياء فيه ثالثة، فيريد أن الياء إذا وقعت في المنقوص ثالثة، فإن القلب فيها واواً حتمٌ لازمٌ لا يجوز غيره، فلا تحذف فيه الياء كما حذفت فيما تقدم، فتقول في شجٍ وعمٍ ورَدٍ: شَجَوِيٌّ، وعَمَوِيٌّ، ورَدَوِيٌّ، وكذلك ما أشبهه، ووجهه أنه لما كان هذا القسم من باب نَمِرٍ وشَقِرٍ يجب أن تحوَّلَ كسرتُهُ في النسب فتحةً وياؤُهُ الفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، ما سيأتي، صار من باب المقصور الذي الألف فيه ثالثة، فقد تقدم منه الحذف فيه ووجوب القلب، فكذلك هذا، وتقول عنَّ الشيءُ لي يعنُّ بالكسر، ويَعُنُّ بالضم عنّاً، أي: اعترضَ لي، يقال: لا أفعله ما عنَّ في السماء نجمٌ، أي: ما عرَضَ، ورجلٌ مِعَنٌّ، وامرأةٌ مِعَنَّةٌ من ذلك. واعلم أن الثلاثي المقصور، نحو: عصًى ورحًى لا يدخل له هنا،

ولا يشمله لفظ ثالث، وإن كانت الألف ثالثة؛ لأن "ثالثاً" في كلامه على حذف الموصوف، فإما أن يقدر الياء حتى كأنه قال: وحتمٌ قلب ياء ثالثٍ، وإما أن يقدر الحرف المعتلُّ كأنه قال: قلبُ معتلّ ثالث، أما الأول فصحيح، ومما يدل عليه ما قبله؛ إذ قال: والحذفُ في اليا رابعاً أحقُّ مِنْ قلبٍ ... ... ... ... ... ... فهذا حكم الياء الرابع، وقد تقدم حكم الخامس، فلم يبق إلا الثالث فذكره، وأما الثاني فلا دليل عليه، فوجب اطَّراحه، وعلى هذا يبقى له حكم المقصور الذي ألفه ثالث، فانظر من أين يؤخذ له الحكم فيه، وإلا فمسألته ناقصة، / والله أعلم. ولما حكم على الياء الثالثة بوجوب القلب واواً ثم ما يلزم عن ذلك من فتح ما قبل ذلك المنقلب؛ إذ لا يمكن بقاءُ الواو مع كسر ما قبلها، فقال: وأولِ ذا القلبِ انفِتَاحاً وفَعِلْ وَفِعِلٌ عينُهما افْتَحْ وَفُعِلْ ذو القلب هو الياء الذي حكم عليه بالقلب أي: اجعل الفتح والياء للياء المنقلب واواً، وقد تقدم تمثيله، إلا أن في كلامه ما يظهر منه عكس القياس الصناعي، وذلك أنه حكم أولاً بقلب الياء واواً، ثم ذكر أن الحرف المنقلب إلى الواو لا بدَّ من إيلائه الفتح، فحصل من كلامه أن القلب كأنه سابقٌ على الفتح لاحقٌ بالحرف المقلوب، هذا ظاهر ما يفهم من كلامه، وهو مفهوم على غير وضع الصناعة

وغير ممكن فيها، ؛ لأن القلب إذا فرض حصوله قبل الفتح لم يمكن استقراره لمكان الكسر قبل الواو، والواو لا تثبت معه، فلا بد من رجوعها إلى أصلها من الياء؛ لأنها المناسبة للكسرة. فحصل نقض الغرض من القلب واواً، بل وضع الصناعة فيه ما قالوه من أنَّ "شجٍّ وقاضٍ" ونحوهما لما عُلِمَ أن الياء تلحقه أعني: ياء النسب، فتصير ياؤه مكسورة في التقدير، فتتوالى كسرتان، فيلحق بباب نَمِر ونحوه، عمِلوا على إزالة هذا العارض من النقل، فحوَّلوا كسرته الأولى فتحة، فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار في التقدير شجًى كفتًى ورحًى وما أشبه ذلك، ومن شأن النسب إلى مثل هذا أن تقلب الألف فيه واواً لا ياءً، لما يلزم من الثقل باجتماع الياءات والكسر، فكذلك العمل في شجٍ، هذا وجه الصناعة عندهم، وهو سبق تحويل الكسرة فتحة لقلب الياء واواً، وهو الجاري على الأمر المعقول والمتعارف لا ما ظهر من كلامه - وأيضاً - فليس القلب في هذه الياء كما قال، بل انقلبت الياء ألفاً لوجود موجب القلب، ثم انقلبت الألف واواً؛ لأنهم إنما يغيرون ما يغيرون في الاسم قبل لحاق ياء النسب في التقدير، فكل ما أمكن لحاقُهُ من الإعلال قبل لحاقها فلو استعمل كذلك دون ياء، فهو الذي يلحقونه في الاسم المنسوب، ألا ترى إلى ما تقدم من كلامهم في عَرْقُوَة، وقَمَحْدُوَة، ونحوهما، وقد نصوا على أن النسب إلى عَبَايَة، وهِرَاوَة، ونحوهما، / مما يبنى

على التاء: عَبَائيٌّ وهَرَائيٌّ بالهمز لما كانوا يقدرون حذف التاء قبل لحاق ياء النسب، واستعماله على ذلك وتقدير الاستعمال كذلك موجب لقلب الواو والياء همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة، هذه قاعدة معلومة لسيبويه وغيره في باب النسب، وفي باب جمع التكسير، وغير ذلك، ولا أحد يمنعها فيما أذكره، فكيف يجعل الواو هنا منقلبة عن الياء من غير ذلك التدريج المذكور، فهذا أيضاً عدم اعتبارٍ لقوانين الصناعة ووجوه التعليم. والجواب عن الأول: أنه لا يتعيَّنُ من كلامه سَبْقِيَّةُ قلب الياء واواً لتحويل الكسرة فتحةً؛ لأنه معطوف عليه بالواو التي لا تقتضي ترتيباً، كما نص هو عليه في باب العطف، وأما قوله: "وأَوْلِ ذا القلب" فلا يقتضي أيضاً حصول القلب إلى الفتحة، إذ لم يمكن أن يسمَّى ذا القلب مع عدم حصوله في الوقت؛ لأنه سيحصل بعد

ذلك، كما لو قلت: وأوْلِ الياء التي ستقلب واواً فتحت؛ ليكون هو المسوِّغَ لقلبها، وإذا أمكنَ حملُهُ على هذا لم ينبغِ حملُهُ على غير تحصيل. والجواب عن الثاني: إن انقلاب الواو عن الألف المنقلبة عن الياء مسوِّغٌ لأن يقال: انقلبت عن الياء، وإلغاء الواسطة في اللفظ وإن كان الأصلُ النطقَ بذلك، اختصار تلك لا يضر، وأيضاً فذلك تقديري، والظاهر عدم الواسطة، ومن عادة الناظم اعتبار الظاهر في كتبه، والبناء على ذلك، ولا شك أن الظاهر قلب الواو عن الياء وأن لا واسطة، ثم قال: ... ... ... ... وَفَعِلْ وَفِعِل عينَهُما افْتَحْ وَفُعِلْ يعني أن هذه الأبنية الثلاثة وهي (فَعِل) على كَتِف، و (فِعِل) على وزن إِبِل، و (فُعِل) على وزن دُئِل، إذا نسبتَ إلى ما كان من الأسماء على وزنها فلا د من فتح عينها، فيصير (فَعِل) إلى (فَعَل) كطَلَل، و (فِعِل) إلى (فِعَل) كعِنَب، و (فَعِل) إلى (فُعَل) نحو صُرَر، فتقول في نَمِر: نَمَري، وفي كَتِف: كَتَفي، وفي شَقِر: شَقَريّ، كأنك نسيتَ إلى نَمَر وكَتَف، وتقول في إبل: إِبَلي، كأنك نسبتَ إلى إِبَل،

وتقول في دُئِل: دُؤَلي، ومن ذلك: أبو الأسود الدؤلي، وفي رُئِم: رُؤَمي كأنك نسبتَ إلى دُؤَل ورُؤَم، وكذلك إذا سميتَ بضُرِبَ أو قُتِلَ، تقول فيه: ضُرَبي وقُتَلي، ووجه ذلك أنها لو تركت كسرتها غير محوَّلة / لكان الثِّقلٌ أغلبَ على الكلمة من حيث توالت فيها الحركاتُ، واجتمع فيها كسرتان متواليتان، وياءان، ولم يبق من الكلمة غير مكسور إلا حرف واحد، فكان ذلك أثقلَ عليهم، ولذلك حولوا الكسرة فتحة، وأما (فَعُل) و (فُعُل) فلم يذكر الناظم فيهما، ولا فيما كان نحوهما تغييراً، فدل بذلك على بقائها على أصلها، فتقول في سَمُر: سَمُري، وفي طُنُب: طُنُبي، قال سيبويه: "وإن أضفتَ إلى (فَعُل) لم تغيره؛ لأنها إنما هي كسرة واحدة، كلهم يقولون: سَمُري"، يعني: يبقونه على حاله، وهنا مسألتان: إحداهما: أنه إنما ذكر في هذا التحويل والقلب ما كان على ثلاثة أحرف، وترك ما كان على أكثر من ذلك، ولم ينصَّ على حكمه مع تأكُّدِ النظر فيه، فدل ذلك من قصده على أنه يبقى على أصله دون تغيير، وإن توالت فيه كسرتان مع الياءين وذلك إذا كان

الاسم رباعياً نحو: تَغلِب، فإنه يقتضي أنه تبقيه على أصله، وإن توالت الكسرتان فتقول فيه: تَغلِبي، وكذلك إذا سميتَ بتَضْرِبُ تقول فيه: تضرِبي، وهذا أحد الوجهين فيه، وهو أجودهما، بل هو القياس والأصل عند سيبويه والخليل والجمهور، ووجه ذلك: أن الثقل بتوالي الكسرات لم يغلب على الكلمة لمكان الساكن الموجود، والساكن معتد به فلم يكن كنَمِر وشَقِر، في غلبة الكسرات، فلم يلحق به. والوجه الثاني: - وتركه الناظم - فتح اللام وهو مسموع من كلامهم في تغلِب، فإنهم قالوا: تَغلَبيّ، وجعله سيبويه والخليل موقوفاً على السماع كالتغيير اللاحق في نحو: سُهْليّ وأُمَويّ في: أمية، وما أشبهها، مما هو معدود غير مقيس، فلذلك لم يذكره الناظم، ولا نبَّه عليه، ولا ارتضى مذهب المبرد فيه أن يجعله مقيساً، فالفتح والكسر عنده وجهان جائزان، ووجه ذلك عنده عدم الاعتداد بالساكن لضعفه، فصار كالعدم، فأشبه ذلك نَمِر وشَقِر، كما لم يعتدوا به في

قولهم: صبيَة وقِنية، فقلبوا الواو ياءً لأجل الكسرة مع وجود الحاجز، فلولا أنه كالعدم لم يفعلوا ذلك. قال الشلوبين: ألا يعتدَّ بالساكن ليس بالأصل، بل هو توجيه شذوذ، فكيف يجعل قياساً، وإنما هو كقول العرب في البصرة: بَصْرِيّ، كما قال الخليل. ووقع للجزولي / في تغلِب مذهبٌ ثالث لم يرتضِهِ أيضاً الناظم، وهو أن يجعل البناء على الكسر هو المختار مع جواز الآخر قياساً. قال أبو علي الشلوبين: هذا مذهب ثالث غير مذهب المبرد وسيبويه؛ لأن المبرد يجيز الوجهين، ولا يختار الكسر ما اختاره أبو موسى، وسيبويه لا يجيز الفتح إلا فيما سُمع كتَغْلَبيّ، قال: وهذا المذهب مذهب مَن توسط بين القولين، ولا أحفظه لغير أبي موسى. وتقول على هذا في مكتسب ومتماسك وما أشبه ذلك: مكتسِبي ومتماسِكيّ، ولا تغير شيئاً عن حاله، وهو أولى بعدم التغيير لعدم الثقل؛ إذ فيه ثلاثة أحرف غير مكسور، فخفَّ الأمر فيه في توالي الكسرتين، فل يكن ثقله مثله في نَمِر ونحوه، ولا خلاف في هذا،

وإنما الخلاف في الرباعي ما تقدم. والمسألة الثانية: أن كلامه يقتضي في النسب إلى صَعِق بفتح الصاد أن تقول: صَعَقِيّ بفتحهما معاً، كما تقول في نَمِر: نَمَريّ، وعلى من كسر الصاد إتباعاً فقال: صِعِق أن تقول: صِعَقيّ بكسر الصاد وفتح العين كما تقول في إِبِل: إِبَليّ؛ لأن الناظم أطلق القول في تلك الأبنية، وهذا فيه نظران: أحدهما: أن يقال: أما النسب إلى صعِق المفتوح الصاد فظاهر لا إشكال فيه، وأما النسب إلى المكسور الصاد فإنه إتباع لكسرة العين، فالقياس إذ زالت كسرة العين في النسب أن تزول كسرة الصاد لا أن تبقى، فتقول إذن فيه: صَعَقيّ بفتحهما إلا أن تقول: صِعِقيّ كإِبِليّ، ويدلك على ذلك قول سيبويه لما حكى الإتباع في النسب سماعاً. قال بعد ذلك: "والوجه الجيد: : صَعَقيّ" يعني: بفتحهما لما تقدم من ارتفاع علة الإتباع، هذا نظر. والنظر الثاني في كلامه: اقتضاؤه للقياس في ذلك كغيره مما هو عل مثاله، وذلك غير سديد؛ لأنه عنده على السماع، ولذلك لما قال

سيبويه: "وصَعِقِي جيدٌ" اعتذروا عن هذا الكلام فقالوا: ليس في قوله: "إنه جيد" نص على أنه مقيس، بل يمكن أن نقول ذلك بالنظر إلى السماع، قاله ابن الضائع. والجواب عن الأول أنا لا نسلم أن الناظم تعرض لما كانت صورة البناء فيه / إتباعاً؛ لأن ذلك عارض في الكلمة، وإنما تكلم على ما هو أصل بناء كإِبِل، وعلى هذا يزول الإشكالان معاً، نعم لو سميت بذلك المتبع لقلت في النسب إليه: صِعَقِي، ودخل تحت كلامه؛ لأنه الآن أصل بناء زال فيه حكم الإتباع بالتسمية، ثم إنه يجاب عن الثاني بأن كون ذلك سماعاً غير مسلَّم، بل هو قياس، وإن ذهب ذاهب إلى القول بكونه سماعاً، فقد ذهب ابن خروف إلى جواز القياس؛ لأن الفتح في العين عارض، فلا يعتدُّ به كالكسر في قولهم: اُدْعِي، في خطاب المؤنث، ألا ترى أن ضمَّ الهمزة باقٍ، وإن كان موجبه قد زال، وهو ضم العين، ثم ذكر أن من فتح الصاد فعلى مراعاة العارض، والاعتداد به، وكذلك جعل العلة صاحب الترشيح أبو بكر الماردي صِعَقي بكسر الصاد وفتح العين هو

الأقيس تفريعاً على لغة من قال: صِعِقي بالإتباع، وهو ظاهر؛ لأنها لغةٌ ثانية، فلا يبعد فيها مراعاة العارض، إن سلم أنه عند أهلها عارضٌ. ويرشد إلى قول ابن خروف قول سيبويه: "وصِعِقي جيدٌ"، ولم يقل: إنه نادر، ولا شاذ، ولا موقوف على السماع، كما قال أولاً في: صِعِقي المكسور الصاد والعين؛ إذ قال: وقد سمعنا بعضهم يقول: في الصَّعِق: صِعِقي، يدعه على حاله وكسر الصاد؛ لأنه يقول: صِعِق، فأحال فيه على السماع، بخلاف الوجهين الأخيرين، وهذا كله على رواية مَن روى صِعَقي، وهو الذي اعتمد السيرافي في شرحه لكلام سيبويه. وفي المسألة كلام متعلق بلفظ الكتاب لا حاجة بنا إليه، وإنما يتكلم في لفظ سيبويه في هذا الشرح إن اتفق ذلك لتعلقه بكلام ابن مالك في هذه الخلاصة؛ إذ الشرط أن لا يتعرض إلى غير الشرح لها،

والكلام مع الناظم في ألفاظها، والله المستعان. *** وقيلَ في المرمِيِّ: مَرْمَوِي واخْتِيرَ في استعمالهمِ مَرْمِيُّ ونحوُ: حيَّ فتحُ ثانيهِ يجبْ وارْدُدْهُ واواً إنْ يَكُنْ عَنهُ قُلِبْ هذا الفصل من تمام مسألةِ ما آخره ياءٌ مشددة، وقد تقدم أنه على قسمين، وتقدم الكلام القسم الأول فيهما، وهو ما كانت الياء المشدَّدة فيه زائدة وهي: ياء النسب، وما أشبهها، وآخُذُ الآن في الكلام على القسم الثاني؛ وهو ما لم تكن الياء المشددة فيه كذلك، وهذا على نوعين: أحدهما: ما كانت إحدى الياءين/ فيه زائدة والأخرى أصلية. والآخر: ما كانتا في أصليتين. والأول على نوعين أيضاً: أحدهما: ما كان على (فَعِيل) أو (فُعَيل)، وهذا سيذكر إثر هذا. والآخر: ما ليس كذلك، وهو الذي شرع فيه فقال: وقيلَ في المرمِيِّ: مَرْمَوِي إلى آخره. يريد: أن العرب تنسب إلى مرميّ، وما كان نحوه مما آخره ياءٌ مشددة إلا أن إحدى الياءين فيه أصلية على وجهين: أحدهما: أن تقول: مرميٌّ فتحذف الياءين معاً كما تحذفها من كرسيّ، فصورة اللفظ بعد النسب كصورته قبله، إلا أنه يفرق

بينهما بما تقدم، وهذا هو المختار عند الناظم؛ إذ قال: واخْتِيرَ في استعمالهمِ مَرْمِيُّ أي: في استعمال العرب، وحذف الياءين هنا ليس على قياس حذف ياء كرسي، وإن وقع الحذف فيهما معاً على صورةٍ واحدةٍ، بل حذفتَ هنا الياء الساكنة كما حذفتها في عديّ، وعليّ، وهذا أولى بالحذف منه من عديّ وعليّ؛ إذ كان هذا خماسياً، وذلك رباعيٌّ، فإذا حذفتها بقي اللفظ على وزن (مَرْمٍ) بمنزلة قاضٍ. والثاني: أن تحوّلَ الكسرة فتحة كما حولتها في تغِلبَ، فتقول: قاضَوِيٌّ، كما تقول في مرمِيّ: مَرمِيٌّ، كما ترى، وعلى الثاني تقول: مَرْمَوِيٌّ، وهذا الذي قال فيه الناظم: وقيلَ في المرمِيِّ: مَرْمَوِي وليس بالمختار، كما لم يكن في قاض: قاضَوِيٌّ هو المختار، بل هذا أولى ألا يكون مختاراً لزيادة حروفه على حروف قاضٍ، قال سيبويه: "ومَن قال: حانَوِيٌّ قال: مَرْمَوِيٌّ"، ومن ذلك: مَقْضيٌّ، ومعْنِيٌّ، ومَدْحِيٌّ، تقول فيه: مَقْضيٌّ ومقضَوِيٌّ، ومَعْنِيٌّ ومعْنَويٌّ، ومَدْحِيٌّ ومَدْحَوِيٌّ، وكذلك ما أشبهه، ثم ذكر النوع الثاني فقال: ونحوُ: حيَّ فتحُ ثانيهِ يجبْ يعني: أن ما كان آخره ياء مشددة أصلية، حكمُهُ إذا نسيتَ إليه أن يفتَحَ ثانيه مطلقاً وهي الياء المدغمة، فإذا فعلت ذلك رددتَهَا إلى

أصلها، فإن كان أصلُهَا الياءَ تركتَها على حالها، وإن كان أصلها الواوَ رددتَهَا واواً، ولا تتركها ياء كما كانت حالة الإدغام، وذلك معنى قوله: وارْدُدْهُ واواً إنْ يَكُنْ عَنهُ قُلِبْ وضمير "اردده" المنصوب عائدٌ على الثاني في قوله: "فتْحُ ثانيهِ يجبْ"، وكذلك ضمير "يكن" و"قُلِب"، وأما ضمير "عنه" / فعائدٌ على الواو، والتقدير: وارْدُد ثانيَ نحو: حيٍّ واواً إن يكن ذلك الثاني منقلباً عن الواو، ومفهوم هذا الشرط أن الثاني إن لم يكن منقلباً عن الواو لم يُردَّ واواً، بل يبقى على حاله، وأما ردُّ الياء الثالثة واواً فقد تقدم ذكره، فلم يحتج إلى إعادته، وإنما رُدت الياء إلى أصلها من الواو في النسب؛ لأن الموجب قلبها ياءً، وهي: واوٌ في الأصل، إنما كان اجتماعها مع الياء الثانية، وسبق إحداهما بالسكون، فما زال الموجِب زال الموجَب، وهو القلب فرجعت إلى أصلها، وأما الياء الثانية فلا بدَّ من قلبها واواً لأجل ياء النسب في حيٍّ: حَيوِيٌّ؛ لأنه من حَيِيَ، وحكى سيبويه عن العرب في حيَّةَ بن بهدَلَةَ: حَيَوِيٌّ، وتقول في طيّ: طَوَوِيٌّ؛ لأنه من طويتُ، وقالوا في ليَّة: لَوَوِيٌّ، وكذلك تقول: في شيّ: شَوَوِيٌّ، وفي كيّ: كَوَوِيٌّ، ونحو ذلك، وإنما فتحوا وأصله السكون؛ إذ كانوا في الصحيح في يفتحون

من غير ضرورة، وذلك قولهم في الحمْض: حَمَضي، وفي الرمْل: رَمَليٌّ، فلما لم يمكنهم أن يجمعوا بين أربع ياءات لثقل جمعها، ولا أن يردوا إلى أصلها مع بقاء السكون في لوَّيّ مثلاً ونحوه، فتحوا ليتوصّلوا إلى التخفيف بذلك التحريك، ثم على الناظم هنا سؤالٌ: وهو أنه حَتَمَ هنا بوجهٍ واحدٍ، وهو ما ذكره، والناس قد ذكروا فيه وجهين: أحدهما: هذا، والثاني: إبقاؤه على حاله، والجمع بين أربع ياءات، فتقول على هذا: حيِّيٌّ، وليِّيٌّ، وطيِّيٌّ، وما أشبه ذلك، وعليه طائفة من العرب، وهو قول أبي عمرو بن العلاء، قال سيبويه: "ومن قال: أُمَيِّيٌّ قال: حيِّيٌّ، وكان أبو عمرو يقول: حيِّيٌّ ولَيِّيٌّ، فأنت ترى كيف ذكر الناس الوجهين على الجواز، فحَتَمَ الناظم بأحدهما، ولم يجز غيره، وهذا خلاف ما عليه العرب والنحويون، ولا يقال: إن ما ذكره هو القياس؛ لأن عادة العرب الفرار من اجتماع الياءات في هذا الباب؛ لأنا نقول: التعليل إنما يكون من وراء السماع، ولا سيما على عادته في التمسك بالسماع كيفما كان. والجواب عن ذلك: أن نحو: حيِّيٌّ وليِّيٌّ - وإن أجازه غيرُهُ - شاذٌّ عنده، لم يبلغ في السماع مبلغ القياس، ولا ما يقرب من ذلك، ألا

تراه قال في التسهيل: "وشذ نحو: حيِّيٌّ وأُمَيِّيٌّ، وفي كلام سيبويه / ما يشعر بقلته في الموضعين، فقال في: أُميَّة لمَّا ذكر حكمه وأنه أُمويٌّ: "وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: أُميِّيٌّ فلا يغيرون لمَّا صار إعرابها كإعراب ما لا يعتلّ شبهوه به". فهذا الكلام مشعرٌ بالقلة بلا بدّ، وقد جعل بعد ذلك حيِّيّ قياساً على أُمَيِّيَ، فالمسألتان من باب واحد، ولذلك لما ذكر الناظم هنا حكم (فُعَيلة) لم يذكر فيها إلا (فُعَليٌّ) خاصة، وألزم ذلك، فقال: "وفُعَليٌّ في فُعَيلَةَ حُتِمَ"، فلا اعتراضَ إذن عليه، إذْ كانت طريقته هذه، وقوله: وارْدُدْهُ واواً إنْ يَكُنْ عَنهُ قُلِبْ فيه من الضرورة إتيانه بفعل الشرط مضارعاً مع تقدم ما يدل على الجواب، نحو: فلم أرْقِهِ إنْ ينْجُ منها وإنْ يمُتْ فطَعْنَةُ لا غسٍّ ولا بِمُغْمَّرِ وقد تقدم له شيء من هذا، وتقدم التنبيه عليه. ***

وَعَلَمَ التَّثنيةِ احْذِفْ للنَّسَبْ ومِثلُ ذا في جمعِ تصحيحٍ وَجَبْ كلامه هنا فيما يُحذف من المثنى والمجموع على حدِّه أو بالألف والتاء؛ لأنه جمع التصحيح شامل الجمعين معاً، وأما جمع التكسير فسيذكر بعد هذا، فقوله: وَعَلَمَ التَّثنيةِ احْذِفْ للنَّسَبْ "علم" منصوب بـ"احذف"، يعني: أنك تحذف العلامتين اللاحقتين للاسم المثنى، فتقول في النسب إلى رجُلان أو رَجُلين: رَجُلِيٌّ، فتحذف الألف والنون والياء والنون أيضاً، وكذلك إذا نسبتَ إلى أي مثنَّى كان، ويجري مجراه في هذا الحكم كلُّ ما جرى مجراه في الإعراب كاثنين واثنتين، وكما إذا سميتَ بالمثنى، فإن العلامتين إذ ذاك علمٌ للمثنى في الأصل كالمسمَّى به، أو في الحكم كاثنين، فكأنهما هما، فصحَّ دخول ذلك تحت إطلاق الناظم، وأفرد الناظم العلامة وإن كانتا علامتين؛ لأنهما زيادتان زيدتا معاً فكانتا كالزيادة الواحدة، وأيضاً فهما كالعلم على التثنية في الحقيقة الواحدة لا إحداهما، كما أن ياءي النسب هما العلم على النسب لا إحداهما، ثم قال: ومِثلُ ذا في جمعِ تصحيحٍ وَجَبْ يعني: أن مثل هذا الحكم الذي هو حذف العلامتين معاً للنسب واجبٌ في جمع التصحيح، يريد في قسميه معاً، فأما جمع المذكر

فتقول في مسلمين: مسلِمِيّ، وفي زيدون: زَيدِيّ، وما أشبه ذلك، ويجري هذا المجرى ما كنا نحوه من الأسماء الجارية مجرى الجمع، وليست / بجمع في الحقيقة، كأسماء العدد، تقول في عشرين: عِشرِيّ، وفي ثلاثين: ثَلاثِيٌّ، وكذا إلى آخرها ويدخل تحت كلام الناظم كل ما لحقته هاتان العلامتان بحكم الأصل، وكل ما جرى مجراهما من واوٍ ونونٍ، أو ياء ونونٍ، كما إذا سميتَ بالمجموع فتقول في مسلمين مُسَمًّى به: مُسْلِمِيٌّ، كما تقول: لو لم تُسَمِّ، وكذلك تقول في قِنَّسْرون ويَبْرون فيمن أجراه مُجرى الجمع: قِنَّسْرِيّ، ويَبْرِيّ، قال: أَطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ وأما مَن جعل الإعراب في النون فلا إشكال في جريانه مجرى

غِسْلين وحين وبابه، وكذلك ما كانت الواو والنون فيه عوضاً نحو: سنين، ومئين، وقِلين، وما أشبه ذلك، هذه كلُّها حكمها هنا واحدٌ، تحذف العلامتان منهما في النسب وإنما حُذفت العلامة؛ لأنها لو لم تُحذف لاجتمع على الاسم الواحد إعرابان: إعرابٌ بالواو أو الألف أو الياء، وإعراب في ياء النسب، لأن تلك الحروف في الجمع حروفُ إعرابٍ، وإن سُمِّيَ به، فكرهوا ذلك. هذا في الألف والواو والياء، وأما النون فإنما حذفت؛ لأنها لا يمكن أن تثبتَ إذا ذهب ما قبلها، لأنهما زيادتان زيدتا معاً، مثل: ألِفَي التأنيث، وياءي النسب، وما أشبه ذلك. وهذا معنى تعليل سيبويه، قال السيرافي: لو ثبتت علامتا التثنية والجمع مع ياء النسب لجاز أن تثنِّيَ المنسوب وتجمعه، وذلك باطل؛ لأن في التثنية إعراباً في التقدير بلفظ الألف، وكذلك الجمع، فكان يجتمع في التقدير إعرابان. انتهى. وكأنه فسَّر بهذا تعليل سيبويه. وأما الجمع المؤنث فتقول في مسلماتٍ: مسلِميٌّ، وفي هندات: هِنديٌّ، وإنما حذفت هاتان العلامتان عند سيبويه لأمرين: أحدهما: أن هذه العلامة قد صارت كالتاء في المفرد، والتاء لا تجتمع مع ياء النسب، فكذلك ما كان مثلها.

والثاني: تشبيه هاتين العلامتين بعلامتي جمع المذكر، فحذفوهما هنا كما حذفوهما هناك، ألا ترى الشبه بينهما في الإعراب من حيث جُعل النصب والجر فيهما سواء، كأن الألف والتاء حُملت في الإعراب على الواو والنون. وقال السيرافي: "لو قيل: أذرعاتيٌّ لجاز أن تنسب إليهما مؤنثاً، فتقول: أذرعاتِيَّة، وذلك ممتنع، ألا / ترى امتناع تمرتات". ثم في عبارة الناظم نظر، وهو أنه ذكر أن عَلَمَ التثنية هو المحذوف في النسب، وكذلك علَمُ جمع التصحيح، ولا يخلو أن يريد ظاهر الكلام من أنه يحذف العلامتين من التثنية والجمع، وهما على أصلهما لا مسمًّى بهما، وإما أن يريد أن ذلك بعد ما سُمِّيَ بهما، فإن كان المرادُ الأولَ فغير صحيحٍ، إذ ليس هذا حكمَ المثنى والمجموع، وإنما حكمهما الردُّ إلى الواحد، كما سيذكره بعد، فليس العمل فيه إزالةَ العلامتين، وإنما ذلك في المسمَّى به، وما جرى مجراه فقط، وهو إنما قال: إنك تحذف العلامتين من التثنية والجمع، والتثنية والجمع مردودان إلى الواحد، ففي هذا الحمل ما ترى، وإن كان المراد الثانيَ فهو صحيحُ المعنى لكنه غير مفهومِ الدخول تحت لفظه؛ لأنه إنما أضاف العلامتين للتثنية والجمع، ولفظ التثنية إنما يطلق على ما كانت

حقيقتهما فيه، لا على ما خرج عن ذلك، فلفظه يأبى هذا التفسير. فإن قيل: إنَّ علَمَ التثنية والجمع قد يضاف إليهما وإن كان في غيرهما من مسمًّى بهما أو محمولٍ عليهما في الإعراب، فتقول في "رجلان" مسمًّى به: إنه قد تضمن علم التثنية، وفي "مسلمون" مسمًّى به كذلك، إنه قد تضمن علم الجمع المسلَّم، وكذلك في قِنَّسْرين وما أشبهه من الأسماء الجارية مجرى الجمع السالم، وإنما صحت إضافة العلَم لغير التثنية والجمع اعتباراً بأصل التسمية؛ إذ كان قبلها علماً على التثنية والجمع، ولغلبته عليهما واختصاصه بهما في أكثر الأمر ومحصول الكلام، وأيضاً فالمسمى بهما يجري عند العرب مجرى الأصل، وأما قنَّسرين فعلى تقدير النقل، أو اعتباراً بالشبه، فإذا ثبت هذا لم يكن في قوله: "وعلَم التثنية" ما ينفي دخولَ المسمَّى بالتثنية مع التثنية الحقيقية، ولا المسمى بالمجموع مع المجموع الحقيقي، وكذلك ما جرى مجراهما، فيؤخذ له الحكم على أعم من ذلك حتى كأنه يقول: احذف العلامتين من المثنى والمجموع كانا على حقيقتهما، أو مسمًّى بهما، أو جارياً مجرى ذلك، وأما قوله في السؤال: إنما حكم التثنية والجمع الردُّ إلى الواحد لا حذف العلامتين، فلا يلزم؛ لأن الصورة في ردهما إلى واحدهما في النسب أو حذف علمهما / واحدٌ؛ إذ لا فرق في ذلك بين المفرد وغيره إلا بالعلامتين، فإذا أزلتهما رجع إلى صورة المفرد، فيستوي عند ذلك قولنا: إنهما رُدَّا إلى

الواحد، وقولنا: حذف منها العلامتان فقط، كل ذلك صحيحٌ، ألا ترى أنك إذا نسبتَ إلى "رجلان" وهو على أصله قلتَ: رَجُليٌّ، فإن نسبتَ إليه مسمًّى به قلتَ: رَجُليٌّ، فالصورة واحدة، وإن كان العمل في الحكم مختلفاً، فالأول على أنك رددْتَهُ إلى المفرد، والثاني على أنك حذفتَ علامتَيه، واختلاف العمل لا يوجب اختلاف الصورة، وهذا في التثنية والجمع إذا كانا على أصلهما، أو بعد التسمية اعتباراً بالأصل، أو حملاً عليهما، كما حُمل عليهما في الإعراب حُمل عليهما في توابعه، وهذا من توابعه؛ لأنه متعلق بالعلامتين، فإذا كان كذلك حصل منه حكم النسب إلى التثنية والجمع على أصلهما أو مسمًّى بهما، وكان ما ذُكر في آخر الفصل مختصاً بجموع التكسير، وما جرى مجراهما من جمع التصحيح، وذلك ذو الألف والتاء، وإلا لزم من ذلك التكرار، وحمل كلامه على كلامه، وتفسير بعضه ببعض هو الواجب. فالجواب: أن في هذا المحمل ارتكابَ سوء التعليم، والجريَ على غير طريق مستقيم؛ لأن ذلك موهمٌ أن يكون النسب إلى الجمع أو إلى التثنية مع اعتقاد بقاء معناهما، وإن زالت العلامة لأن هذا شأن النسبِ في المختلفين في الأصل إذا اتفقت صورتهما في النسب، ألا تراهم إذا نسبوا إلى (خمسة عشر) قالوا: خَمْسِيٌّ، وإلى (خمسةٍ) قالوا: خَمْسِيٌّ، وكذلك إذا نسبوا إلى (عبدٍ) قالوا: عَبْدِيٌّ، وإذا

نسبوا إلى (عبد قيس) قالوا: عَبْدِيٌّ، وهم مع ذلك معتقدون للأصل، فيقولون: هذا منسوبٌ إلى خمسة عشر، وهذا منسوب إلى خمسةٍ، وكذلك النسب إلى عبدٍ، أو عبد القيس، ولا يعتقدون ما هو ظاهر الحال في النَّسَبَين من أنهما معاً منسوبان إلى خمسةٍ فقط، أو إلى عبدٍ فقط، هذا لا يعتقدونه ولا يقولون به، وكذلك مسألتنا إذا قيل لك: إذا نسبتَ على التثنية حذفتَ علَمَهَا، لم يحصل لك من ذلك إلا أنك تعتقد بناءها على أصلها من التثنية في المعنى، وكذلك في النسب إلى الجمع/، وهو خلاف ما يقول الناس، فليس ما اعتذر به عن الناظم باعتذارٍ يُسَلَّمُ. والجواب عن ذلك: من وجهين: أحدهما: أن ما ذكر من الإيهام غيرُ مخلص، فقد يمكن أن يكون القصد بالنسب إلى المفرد على حقيقته كما قال، وقد يمكن أن يكون على خلاف ذلك، وهو موظع نظر يبحثُ فيه عما يُفهم من كلام الأئمة المتقدمين. والثاني: إذا سلمنا ذلك فهذا الموضع لا يؤخذ منه للناظم حقيقة النسب إلى المثنى والمجموع، وإنما يؤخذ منه ما نصَّ عليه من حذف العلامتين فقط، ويبقى اعتماد البناء على الأصل من معنى التثنية أو الجمع، أو عدم البقاء، لم يتعرض إليه هنا فاستدركه بقوله: والواحد اذكر ناسباً للجمعِ إلى آخره، حسبما يأتي، إن شاء الله تعالى.

*** وثالثٌ من نحوِ طيِّبٍ حُذِفْ وشَذَّ طائِيٌّ مَقُولاً بالألفْ يعني: أن ما كان من الأسماء مثل: طيِّب وعلى صفته، فالنسب إليه أن تحذفَ ثالث حروفه وهو الياء المتحركة بالكسر المدغم فيها، فتقول: طَيْبِيٌّ، واعتبر هنا في هذا الحذف أن يَقَع قبل الحرف المكسور لياءَي النسب، وهو آخر الاسم، ياء مدغم فيها، وأن تكونَ مكسورةً، وأن تكون غير مفصولٍ بينها وبين آخر الاسم، فهذه ثلاثة أوصافٍ. فأما الأول: فلا بدَّ منه؛ لأن الحذفَ موجبُهُ كثرُ الأمثال، ولا يكون ذلك مع كون الياء غير مدغمٍ فيها، فإذا نسبتَ إلى بيتٍ وحُمَيْدٍ قلتَ: بيتِيٌّ وحُمَيدِيٌّ، وكذلك إذا نسبتَ إلى إلى (أَفْعِلْ) من البيع قلتَ: أبْيعي، ولا تحذف شيئاً، ومثله ما إذا لم يكن ما قبلَ الآخرِ ياءً نحو: عَطَوَّد، ومُهَوَّم، فإنك تقول: عَطَوَّدِيٌّ، ومُهَوَّمِيٌّ، من غير حذفٍ؛ إذ لا موجب له، وإنما الموجب في الياء المدغمة كانت واواً في الأصل كهيِّن وميِّت وسيِّد، فانقلبت ياءً للعلة التصريفية، أو لم تكن كذلك كبيِّن من بانَ يبينُ، وطيِّب من طاب يطيبُ. وأما الثاني: فمعتبرٌ أيضاً في علة الحذف؛ لأن الكسرة مع الياءات كياءٍ أخرى، فكثرت الأمثال فلو كانت الياء المدغم فيها

مفتوحةً، لم ينهض اجتماع المثال علةً في الحذف، فتقول في هَبَيَّخ: هَبَيَّخيٌّ، ولا تحذفُ شيئاً. وأما الوصف الثالث: وهو أن تكون الياء غير مفصول بينها وبين / الطرف فمعتبر أيضاً، فإن لم يكن كذلك لم يجب الحذف، ومن ثمَّ قالوا في النسب إلى مُهَيِّيهم تصغير مُهَيِّم أو مُهَوِّم: مُهَيِّيمِيٌّ، ولم يحذفوا شيئاً لوجهين: أحدهما: أن سبب الحذف في طيِّبٍ ونحوه: ما فيه من الثقل باجتماع أربع ياءات وكسرتين، ففروا من ذلك الحذفِ، فحذفوا إحدى الياءات وكسرتَهَا فخفَّ، ولم يحذفوا الياء الساكنةَ؛ لأنهم لا يصلون بحذفها إلى ما يريدون من التخفيف، كما لم يخفِّفوا قبل النسب إلا بحذف المتحرِّك حينَ قالوا: هَيْنٌ، ولَيْنٌ، ومَيْتٌ، فإذا كان كذلك فذاك الثِّقَل لا يكون في مُهَيِّيمٍ؛ لأن الفصل بين الياءات بالمدِّ يزيل الثقل؛ إذ المدُّ في الحرف بمنزلة الحركة، أو هو أكثرُ من الحركة، كما سيذكُرُ في الإدغام، إن شاء الله تعالى. فسَهُلَ الأمرُ بسببه كما سَهُلَ بسببه اجتماع الساكنين كدابَّة، وتُمُودَّ الثَّوبُ، ونحوه، وهذا هو المقصودُ هنا في اشتراط وقوع المحذوف قبلَ آخرِ الكلمة الذي يلي ياءَ النسب.

والثاني: خارجٌ عن هذا، وهو أنهم لو حذفوا، فإما أن يحذفوا الياء الأخيرة التي للمدِّ، وهذا لا ينجيهم من حذفٍ آخرَ؛ إذ تصير الكلمة على مثال: أسيِّد، والحذف فيه واجبٌ، كما تقدم، فلو قلتَ: مُهَيْمِيٌّ لكان إخلالاً لكثرة الحذف، وإما أن يحذفوا المتحركة المحذوفة من أُسَيِّدٍ، وهذا لا يصحُّ؛ لما يلزم من التقاء الياءين ساكنين، وذلك مرفوضٌ، وإما أن يحذفوا الأولى الساكنة، وهو أيضاً غير سائغ؛ لوجوبِ قلبِ ما بعدها ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وذلك إعلالٌ وتغييرٌ غير محتاج إليه، فرأوا أن بقاء الكلمة على حالها أيسر من هذا كلِّه، فصاروا إليه واجتنبوا ما عداه، فإذا اجتمعت هذه الأوصافُ الثلاثةُ لزم حذف تلك الياءات، فقلت في طيِّب: وهو مثاله: طَيْبِيٌّ، وفي ميِّت: مَيْتِّيٌّ، وفي هيِّن: هَيْنِيٌّ، وفي سيِّد: سَيْدِيٌّ، وما أشبه ذلك، ويدخل له في هذا العقد ما إذا نسبتَ إلى أُسَيِّد، وأُبَيِّض، ولُبَيِّد، وحُمَيِّر مصغَّراتٍ، فتقول على مقتضى كلامه: أُسَيديٌّ، وأُبَيْضِيٌّ، ولُبَيْدِيٌّ، وحُمَيْرِيٌّ، ونحو ذلك، وقد تقدمت الإشارة إلى تعليل الحذف. ثم قال: وشَذَّ طائِيٌّ مَقُولاً بالألفْ يعني: أن قولهم في النسب إلى طيِّئ/: طائيٌّ شاذٌّ عما تقدم من القاعدة، يُحفظُ ولا يقاسُ عليه، ووجه شذوذه مجيئُهُ بالألف، ولذلك قال: "مقولاً بالألف" أي: شذَّ في هذه الحال، فشذوذه من

أجل إتيانه بالألف؛ لأن طيِّئاً مثل: طيِّبن فكان قياسُهُ أن تقول: طَيْئِيٌّ كطَيْبِيٍّ، لكن العرب قلبت الياء ألفاً على حد ما قلبتها ألفاً في (يَيْجَل)؛ إذ قالوا: ياجَلُ، وهذا باب محفوظٌ ليس بقياس، وكذلك طائيٌّ، وطَيِّئٌّ أبو قبيلة من اليمن وهو طيِّئ بن أُدد بن زيد ابن كهلان بن سبأ بن حمير. *** وفَعَلِيٌّ في فَعِيْلَةَ التُزِمْ وفُعَلِيٌّ في فُعَيْلَةَ حُتِمْ وألحَقُوا مُعَلَّ لامٍ عَرِيا مِنَ المثالَيْنِ بما التَّا أُولِيَا وتمَّمُوا مَا كانَ كالطَّوِيلَهْ وهَكَذَا مَا كَانَ كالجلِيْلَهْ اعلمْ أنَّ النحويون المتأخرين يذكرون في هذا الفصل أبنيةً اربعة: البناءان المذكوران وهما: (فَعِيلَة) على وزنِ قبيلة، و (فُعَيْلَة) على وزن جُهينة، ويزيدون بناءين آخرين: (فَعُولَة) على وزن حلُوبَة، و (فُعُولَة) على وزن خُئُولَة، ولا يقتصرون على ما ذكره الناظم؛ إذ كان الحكم فيها واحداً عندهم، فما ثبت في (فَعِيلة) و (فُعَيلة) فهو ثابت في (فَعُولة) و (فُعُولة)، وقد ذكر (فَعُولة) في "التسهيل" ولم يذكر (فُعُولة) فكان من حقه أن يتمِّمَ الفصلَ، ويأتي على أمثلته، أو يذكر (فَعُولة) فقط، كما فعل في "التسهيل"، وهو الذي ذكر سيبويه

وغيره من المتقدمين. والجوابُ: أن ما ذكر الناظم هو أصل الباب المتفقُ عليه، وهو الذي ذكر غيره، حتى قال بعض من عقد في المسألة عقداً كلياً من حذاق المتأخرين: "إذا كان اسمٌ على أربعة أحرفٍ ثالثه ياءٌ زائدةٌ ساكنةٌ، وفي آخره تاء التأنيث، وليس قبل الياء حرفُ علة، ولا ما قبل الياء من جنس ما بعدها؛ فإن الياء تُحذف قياساً مطرداً، ويفتح الحرف الذي قبلها إن لم يكن مفتوحاً"، فتأمل كيف لم يأت فيه إلا بالياء، وترك الواو التي في (فَعُولَة) و (فُعُولة) بناءً على الإلحاق؛ إذ ليس الحكم فيهما على القياس الأصلي كما سيتبين عند ذكر التعليل، إن شاء الله تعالى، مع أن غير ذَينِكَ المثالين مختلفٌ فيهما، فالمبرد يجعل (شنوءة) في (فَعُولة) شاذاً؛ إذ لم يُسمع غيره، وأيضاً فهو ضعيف في القياس بدليل أن / (فَعُولاً) لم يجز فيه ما جاز في (فَعِيل)، كما لم يجز أيضاً في (فَعُل) كسَمُر ما جاز في (فَعِل) كنَمِر؛ لأن

المستثقل مع ياءَي النسب الياءاتُ والكسراتُ فقط، فهذا شاذٌّ سماعاً وقياساً. وأما (فُعُولة) فلم يذكره المتقدمون، وإنما يظهر من الفارسي في "الإيضاح" ظهوراً ما لا نصاً؛ إذ قال في باب ما يطرد فيه الحذف في النسب: وكلُّ اسمٍ ثالثه ياءٌ أو واوٌ ساكنةٌ وآخرهُ هاءُ التأنيث، ثمَّمثَّل ولم يأت بمثال لـ (فُعُولة)، وإنما مثَّل لـ (فَعُولة) كما فعل سيبويه، وأما ابن أبي الربيع ومَن تبعه فإنهم اعتمدوا على إلحاق البناء الرابع، فانظر كيف أهمل ذكره المتقدمون، فلم يعتنوا به، فلذلك ترك ذكره هنا، وفي "التسهيل"، ونِعْمَ ما فعَلَ هنا، فإنه على فرض إثباته محمولٌ على (فَعُولة)، وهو أحرى به، فقد يحتَمِلُ أن يكون الناظمُ تركَ (فَعُولة)؛ لأنه قائل بمذهب أبي العباس المبرد، وإن لم يكن رأيه في "التسهيل"، وقد تقدم لذلك نظائر، ويكون وجه ما ذهَبَ إليه ما تقدم ذكرُهُ للمبرد، وهو ظاهرٌ من التعليل في نفسه، حتى وإن السيرافي لم يصحِّحْ هنا مذهبَ سيبويه، ومن عادته تصحيحُهُ، وترك النظر في قياس المبرد بعد إيراده له، وما ذاك إلا لظهوره عنده، وإن

كان قياسُ سيبويه أولى عندهم، ونظرُهُ أدقُّ، ويحتَمِلُ أن يكون تَرْكُ ذكرِ (فَعُولة) محلاً للنظر؛ إذ كانت المسألة اجتهادية، وللنظر فيها مجال؛ فلم ير في الوقت فيها مذهباً بعينه، فأضرب عنها لتكون للناظر في كتابه في محل الاجتهاد؛ إذ هي محمولةٌ على ما نصَّ عليه، وليس لها قياسٌ بخصوصها - والله أعلم -. فإذا ثبتَ هذا فنرجعُ إلى بيان لفظه فنقول: قوله: وفَعَلِيٌّ في فَعِيلَةَ التُزِمْ يعني: أن كلَّ ما كان من الأسماء على وزن (فَعِيلَةَ) بفتح الفاء وكسر العين، فإن النسب إليه بحذف الياء التي بعد العين، وفتح العين المكسورة، فتقول: (فَعَلِيٌّ)، وذلك قولهم في ربيعة: رَبَعِيٌّ، وفي جَذِيمَةَ: جَذَمِيٌّ، وفي حنيفة: حَنَفِيٌّ، وفي قبيلة: قَبَلِيٌّ، وما أشبه ذلك، ومن هنا يكون قولُ العامة في النسب إلى المَرِيَّة: مَرِينيٌّ أو مَرَنِيٌّ، وفي النسب إلى الجزيرة: جَزِيريٌّ خطأً إلا أن يسمع من ذلك شيء فيكون / محفوظاً، وكذلك قول الحكماء في النسب إلى الطبيعة: طبيعيٌّ، وإنما القياس في ذلك: مَرَوِيٌّ، وجَزَريٌّ، وطَبَعيٌّ، إلا أنهم

قالوا في معنى طبيعي: سَلِيقيٌّ، وفي النسب إلى السليقة وهي: الطِّبيعة، فهذا مؤنس بعض تأنيس، وهو مع ذلك لا يقاس. وقوله: "التزم" خبرا المبتدأ الذي هو "فَعَلِيٌّ" أي: أنَّ هذا البناءَ وهو (فَعَليٌّ)، التُزِمَ في بناء (فَعِيلة)، فلا يتعدَّى إلى غيره، ويعني بذلك في القياس، وهو التزامٌ متفقٌ عليه فيما أعلم. وأما [في] السماع فقد جاء ما يخالف هذا الحكم، لكنه نادرٌ لا يعتد به، وذلك بالبقاء على الأصل من غير تغييرٍ، قال سيبويه: وقد تركوا التغيير في مثل حنيفة، ولكنه شاذٌّ قليلٌ، قالوا في سَلِيمة: سَليميٌّ، وفي عَمِيرة كلب يعني بخصوصها: عَمِيريٌّ، وقال يونس: هذا قليلٌ خبيثٌ، قال: وقالوا: سَلِيقيٌّ للرجل يكون من أهل السَّليقة، يعني من أهل الطبيعة، وهو الذي يتكلم بطبعه، فهذه ألفاظ نادرةٌ يوقف على محلها. ثم قال: وفُعَلِيٌّ في فُعَيلة حُتِمْ يعني: أن كل ما كان أيضاً من الأسماء على وزن (فُعَيلَة) بضم الفاء وفتح العين على بِنية التصغير، فإن النسب إلي بحذف الياء، فتقول: (فُعَليٌّ) نحو: جُهَينة: جُهَني، وفي قُتيبة: قُتَبيٌّ، وفي أمية:

أُمَويٌّ، وما أشبه ذلك. وقوله: "حُتِم" كقوله: "التزم"، أي: أن هذا هو الواجب في القياس، فلا قياس إلا عليه، فإن جاء ما يخالف ذلك فموقوفٌ على السماع، نحو ما حكى سيبويه من قولهم: خُرَيبة: خُرَيْبيٌّ بالإتمام، وقالوا أيضاً: رماحٌ رُدَينيَّةٌ منسوبة إلى رُدَينة، ـ وقالوا في أمية: أُمَيِّيٌّ، وهذا كله شاذٌّ، ووجه ما فعلوا في ذلك أن هذه الياء قد تحذف، وإن لم تكن في الكلمة تاء التأنيث، كما حذفوها في قرشيٍّ، وثقفي، فلما لزم الحذف إذا كان في آخره التاء لزم حذف التاء أيضاً؛ لأن الحذف لما يتغيَّر في كلامهم ألزمُ منه لما لا يتغيَّرُ، ألا ترى لزوم الترخيم لما فيه الياء؛ لأنها حرف تغيير؛ إذ تبدل في الوقف هاءً، ألا ترى لزوم الترخيم لما فيه الياء؛ لأنها حرف تغيير؛ إذ تبدل في الوقف هاءً، ثم إنهم اسثقلوا حَنيفيٌّ؛ لأن الكلمة كلها كسر إلا حرفاً واحداً، وفي جُهَنيٌّ إلا حرفين، فحذفوا الياء؛ لأجل ذلك، هذا معنى تعليل سيبويه، وفتحوا عين (فَعِيلَة)؛ لأنه صار إلى (فَعِلَة) وليشاكل / (فُعَيلَة)، ولما قرر حكم هذين البناءين على الجملة عقَّب بالكلام على شروط تقرر ذلك الحكم المذكور، وهي ثلاثة تضمنها قولُهُ:

وأَلْحَقُوا مُعَلَّ لامٍ عَرِيَا إلى آخر الفصل. الشرط الأول: كون البناءين يلزمهما التاء. الشرط الثاني: ألا يكونا مضاعفين. الشرط الثالث: ألا يكونا معتَلِّي اللام. فأما الشرط الأول فدل عليه من كلامه أمران: أحدهما: نفس التمثيل بـ (فَعِيلة) و (فُعَيلة)؛ إذ لم يأت بهما دون تاء. والثاني: مفهوم قوله: وأَلْحَقُوا مُعَلَّ لامٍ عَرِيَا إذ مفهومه: أن ما ليس بمعلِّ اللام مما هو معرًّى من التاء فغير لاحق بما تقدم في الحكم؛ لأن شرطه لحاق التاء، وهو الذي أردنا، وهو ظاهر، وإذا كان كذلك فقوله: "وألحقوا" الضمير عائد إما على العرب، أي: أن هذه معدود في كلامهم الشهير، وإما على النحويين، يريد: أنهم قاسوا ذلك ولم يقفوه على السماع، والمعلُّ اللام ما كانت لامه حرف علة، وقوله: "عريا" جملة في موضع الصفة لمعلّ، ولم يذكر المعرَّى منه اختصاراً لفهم المعنى، وأن المعرَّى منه التاء المذكورة في المثالين، وقوله: "بما التا أُوليا" بدل على ذلك أيضاً، والتعرية بمعنى: التجريد، أي: جرِّد منها، وقوله: "ومن

المثالين" متعلق بـ"مُعلّ" لا بـ"عريا"؛ لفساد المعنى، أي: ما يُعل من المثالين المتقدمَي الذكر. وقوله: "بما التا أوليا" المجرور متعلق بـ"ألحقوا"، والتاء منصوب على المفعول الثاني بـ"أولي"، أي: ألحقوا هذا بما أولي التاءَ، ومعنى هذا الكلام: أن العرب أو النحويين القائسين ألحقوا بما لحقته التاءُ من المثالين ما لم تلحقه التاءُ إذا كان ذلك المعرَّى عن التاء معتلَّ اللام، أي: آخره حرف علة، ولا يكون إلا الياء، فأجازوا فيه ما أجازوا في المثالين من الحذف والتغيير، فأما (فَعِيل) فنحو: عليّ، وقَصيّ، ونَبِيّ، ووَلِيّ، تقول فيه: عَلَويّ، وقَصَوي، ونَبَويّ، ووَلَوِيّ، وما أشبه ذلك. وأما (فُعَيل) فنحو: قُصَيّ، ورُحَيّ، تقول فيه: قُصَوِيّ، ورُحَويّ، ونحو ذلك، هذا القياس على ما قال، وهو حكمٌ عنده منحَتِمٌ؛ لأنه منحتم بما تقدم، فعلى هذا إن جاء شيءٌ على خلافه فمحفوظٌ غير مقيس، وإن قال بقياسه أحد فالناظم مخالفٌ له في ذلك القياس، فمما جاء أن بعض العرب وإن اجتمعت الياءات، ولا يعتبر الثقل، وكذلك منهم من يقول: / قُصَيِّيٌّ، ولكن قلَّ من يقولهما من

العرب، فأخذ الناظم بعدم قياسه، ومن النحويين من يقيس ذلك على قلة، ومنهم من يجيزه هكذا مطلقاً، وهو مستشعرٌ من كلام الفارسي في الإيضاح، لذا قالوا: ولا يخلو كلامه إشعارٍ بالقلة؛ لأنه ذكر أولاً الوجه الشهير، كما ذكره سيبويه مقدَّماً على غيره، ثم قال: ويجوز كذا، فدل على أنه دون ما تقدم، ووجه هذا العمل أنَّه لما ثقل عليهم اجتماع الياءات مع الكسر عدلوا إلى الياء الساكنة وهي الزائدة، لضعفها بالسكون والزيادة فحذفوها، فلما حذفوها بقي (علٍ) على مثال: عمٍ، فوجب فتح عينه فصار إلى: علا نحو: عصاً، وبقي قُصَيٌّ على مثال: قُصًى نحو: هُدًى، ففعلوا بهما في النسب مثل ما فعلوا بعصاً وهدىً، فقالوا: عَلَوِيٌّ، وقُصَوِيٌّ، كما قالوا: عَصَوِيٌّ، وهُدَوِيٌّ، فأما إن كان الاسم على أحد هذين المثالين فمهومُ قوله أنه غير لاحق بما تقدم في ذلك الحكم، وهذا معنى اشتراط التاء. فالحاصل أن ما كان على (فَعيل) أو (فُعَيل) إما أن يكون صحيحَ اللام أو معتلها، فإن كان معتل اللام كان (فَعَلِيٌّ) و (فُعَليٌّ) فيه قياساً، وإن كان صحيح اللام لم يكن قياساً فيه، فإن جاء منه شيءٌ فموقوف على السماع، وإن قاسه أحدٌ فالناظم مخالفٌ فيه، فمما جاء من ذلك في (فَعِيل) قولهم: ثَقَفِيٌّ في ثقيف، وفي (فُعَيل) قولهم: قُرَشيٌّ في

قُرَيش، وكذلك سُلَمي في: سُلَيم، وقُرَمي في: قُرَيم، وهُذَليٌّ في: هُذَيل، وخُثَميٌّ في: خُثَيم، وخُرَبيٌّ في: خُرَيب، وفُقَميٌّ في: فُقَيم، ومُلَحيٌّ في: مُلَيح خُزاعة، وهذه أُلَيفاظٌ لا تجعل الباب قياساً لورود القياس في أكثرها وهو الإتمام، وفي نظائرها مما قصدوا فيه الفرق بينهما، على ما فسره السيرافي وغيره، وقد جعل المبرد ذلك قياساً، فأجراه في كل ما كان على أحد البناءين للقياس والسماع، أما القياس فلا استثقال باجتماع الياءات ولم يعتبر ما اعتبره سيبويه في تاء التأنيث، وأما السماع فما تقدم، وهو عنده مما يبلغ مبلغ القياس عليه، وهو في ذلك ذاهبٌ مذهب الكوفيين؛ إذا قالوا بالقياس أيضاً فيهما، قال ابن خروف: "وتكوَّف المبرد في حذف (فَعيل) و (فُعيل) وجعله قياساً كما فعل الكوفيون، قال: وهو قول فاسدٌ؛ لعدم اطراده / ولقلته". ومذهب الناظم هو مذهب سيبويه والجمهور، وللسيرافي مذهب ثالث، وهو جعل ذلك قياساً في (فُعَيل) وحده؛ إذ قال حين ذكر

نقل سيبويه في هذيل: هذليّ جاءت على أسماء كثيرة، ثم عدد أشياء على (فُعيل) مما تقدم، ثم قال: وهذا يكثر حتى يخرج عن الشذوذ عندي، والناظم لم يرتض من ذلك كله إلا مذهب سيبويه والجمهور. وكذلك فعل في "التسهيل". وأما الشرط الثاني: وهو ألا تكون العين معتلة، فهو الذي أراده بقوله: وتمَّمُوا ما كان كالطويلهْ يعني: أن العرب لم تحذف الياء من (فَعيلة) إذا كانت العين معتلة، كما كانت في طويلة، بل تمَّمته، أي: أتت به على تمامه، فتقول فيه: طَويليٌّ، وقالت العرب في بني حَوِيزَة: حَوِيزَة: حَوِيزيٌّ، فلم يُغيَّر، وإنما أتت به على ذلك؛ لأنهم يكرهون تحرك هذه الواو لو قالوا: طَوَليٌّ، كما يكرهون ذلك في (فَعَلَ)، ولذلك لا يبقونها متحركةً بل يعملونها بقلبها ألفاً، فتركوا طويلياً على أصله لذلك. هذا معنى ما علَّل به الخليل. وأما الشرط الثالث: ألا يكون مضاعَف العين واللام، فهو المراد

بقوله: وهكذا ما كان كالجليلهْ يعني: أنهم تمَّموا أيضاً كل اسم على (فَعِيلة) كان مضاعفاً كهذا المثال فتقول فيه: جَليليٌّ، وفي شديدة: شَديديٌّ، وإنما ذلك كراهية لاجتماع مِثْلَين لو قلتَ: جَلَليٌّ وشَدَديٌّ، قال سيبويه: وسألتُهُ -يعني: الخليل - (رحمه الله) عن شديدة فقال: "أحذِفُ؛ لاستثقالهم التضعيفَ، وكأنهم تنكبوا التقاء الدالين وسائر هذا من الحروف"، ثم سأله عن مسألة (طويلة) وأجاب بمعنى ما تقدم. هذا تمام ما ذكر من الشروط، وهي وافيةٌ بالمقصود، إلا أنه يبقى في كلامه نظرٌ في اقتصاره في الشرطين الآخرين على ما كان على (فَعيلة) دون ما كان على (فُعيلة)، وكان الأولى أنْ لو ذكر الشرطين مضافين إلى المثالين معاً، وقد جعل ابن أبي الربيع وغيره ذلك كذلك، فعندهم أنه يقال في نحو: لُوَيزة: لُوَيْزيٌّ، وتقول في هريرة: هُرَيريٌّ، كما تقول في طَويلة: طَوِيليٌّ، وفي شديدة: شَدِيديٌّ؛ لأن الحكم فيهما واحدٌ، مع صحة العين وعدم التضعيف، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم فيهما مع إعلال العين ووجود

التضعيف، وإلا ما الفرقُ؟ والجواب: أن مسألة (فُعِيلة) في المضاعف والمعتل العين لم يذكرها المتقدمون من النحويين، ولا تعرَّضوا للنظر فيها، وإنما / تكلم سيبويه وغيره في (فَعِيلة) خاصَّةً، فأما المعتل العين فقد حكى شيخنا الأستاذ - رحمه الله تعالى - عن شيخه أبي إسحاق الغافقي أنه قال: لا أذكر في هذا نصاً، يعني للمتقدمين، والمتأخرون قد اختلفوا فيها، وذلك أن السبب الموجب لإبقاء نحو: طويلة على أصله، ما يلزم عليه من الثقل وموجب القلب لو قيل: طَوَليٌّ كما تقدم، وذلك مفقود في (فُعَيلة)؛ إذ لا موجب لقلب الواو ألفاً لو قلتَ في لُوَيزة: لُوَزيٌّ، فلما كان الأمر على هذا اختلفوا؛ فمنهم من أجرى (فُعَيلة) مجرى (فَعيلة) كأنه حمل ما ليس فيه موجب على ما فيه موجب" ليجريَ الجميع على أسلوب واحد، وإلى هذا ذهب ابن أبي الربيع وشيخ شيخنا أبو إسحاق الغافقي، حكى عنه الأستاذ أنه قال: "الوجه عندي أن تجريا مجرى أختيهما، يعني: مجرى فَعِيلة وفَعُولة ليجريَ الكلُّ على أسلوب واحدٍ كما فعلوا في باب "يعِدُ" وفي باب

"أكرم"؛ إذ حذفوا واو "يوعد" لوقوعها بين ياء وكسرة، ثم حملوا عليه أعد، ونعد، وتعد، ليجري الباب مجرًى واحداً، وكذا حذفوا همزة أأكرم لاجتماع الهمزتين، ثم حملوا عليه يكرم ونكرم وتكرم، فلذلك حملوا (فُعُولة) و (فُعَيلة) على (فُعَولة) و (فَعِيلة) ليجري الجميع مجرًى واحداً، ومنهم من ذهب إلى أن لـ (فُعَيلة) حكمَ نفسها لما نفدت العلة التي لأجلها لم يقع في الكلمة تغيير رجع بها إلى الأصل القياسي من حصول التغيير، فيقال عنده في لُوَيزة: لُوَزي، وفي خُئُولة: خُئَليٌّ، كما تقول في قُتَيبة: قُتَبيٌّ، وفي سَبُوطة: سَبَطيٌّ، وهذا مذهب ابن عبيدة، قال (رحمه الله تعالى): وهي من المسائل التي خالف فيها شيخه أبا الحسين يعني: ابن أبي الربيع. وأما المضاعف فلم يقع فيه بين هؤلاء المتأخرين اختلافٌ لوجود العلة، لو قيل في هريرة: هُرَرِيٌّ، فيحتمل أن يكون الناظم لم يتكلم على ذلك اتباعاً لمن تقدم ووقفاً لها في محل النظر، وعلى أن ظاهر كلامه في التسهيل أنه على طريقة ابن عَبيدة إذ قال: "يقال في

(فُعَيلة): فُعَلي، وفي (فَعِيلة) و (فُعَولة): فَعَليٌّ، ما لم يضاعفن أو تعدم الشهرة أو تعتلَّ عين (فَعيلة) أو (فَعُولة) صحيحة اللام، فيترك (فَعِيلة) المعتلة العين على الحكم الأول ولم يستثنها، وهذا هو القياس. وهو / الذي جرأ ابن عبيدة على مخالفة شيخه، والله أعلم. ويحتمل أن يكون المثالان وهما: الطويلة والجليلة منبِّهاً بهما على علة التصحيح، فأما الطويلة فقد مر قبيل هذا أن العلة في تصحيحه خوف الإعلال بقلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فكأن الناظم يقول: صححوا ما كان مثل: الطويلة مما يلقى فيه مع الحذف الإعلال، فعلى هذا لا يدخل فيه نحو: لُوَيزة لفقد سبب الإعلال، وهو: انفتاح ما قبل الواو، وأما الجليلة فقد مر أيضاً أن العلة في تصحيحه ثقل اجتماع المضاعفين، ولا شك أن هذا موجود في نحو: هريرة لو حذفت، فقلت: هُرَري، فكأنه يقول: ما كان كالجليلة مما يلقى فيه مع الحذف، التقاء المثلين فواجب تصحيحه، فإذن ليس الحكم بمتقصرٍ به على (فَعيلة) فقط، وهذا أولى ما يُجاب به، والله أعلم. *** وهمزُ ذي مد ينالُ في النَّسبْ ما كان في تثنيةٍ له انتسَبْ ذو المد هو الاسم الممدود، والاسم الممدود يطلق اصطلاحاً على

ما كان آخره همزةً قبلها ألف زائدة، وهو في كلامه على حذف الموصوف، كأنه قال: "وهمز اسم ذي مد" والنيل: الإصابة، يقال: نال فلانٌ خيراً يناله: إذا أصابه، وينال في موضع خبر المبتدأ الذي هو "همز"، و"ما" مفعول "ينال"، وهي واقعة على الحكم، أي: ينالُ في النسب حكم التثنية، أو على التغيير اللاحق للكلمة، أي: ينال في النسب التغيير اللاحق للتثنية، وضمير "كان" عائدٌ على "ما"، وفي "له" عائد على الاسم "ذي مد" ينال في النسب الحكم أو التغيير الذي كان انتسب لذلك الاسم في التثنية، وجملة المعنى أن الممدود حكمه في النسب حكم التثنية، فحيث لزم التغيير في التثنية لزم في النسب، وحيث امتنع امتنع، وحيث جاز جاز، هذا محصوله وهو (ظاهر إلا أنه ينظر) في التفصيل على ما تقدم له في التثنية، فإنه أحال عليه، وبكلامه يفسر كلامه، وقد تقدم له في باب (كيفية التثنية) أن الممدود على ثلاثة أقسام: ما همزته أصلية، وما همزته للتأنيث، وما عداهما، فأما القسم الأول: فالإثبات حتماً، وأم القسم الثاني: فالإبدال واواً وجوباً، وأما القسم الثالث: فالوجهان، ويشتمل على

قسمين: أحدهما: ما الهمزة / فيه بدل من الأصل. والثاني: ما هي فيه بدل من حرف زائد للإلحاق، وفي كلا القسمين الوجهان، إلا أنه يترجح القلب في المبدلة من زائد الإلحاق، ويترجح الإثبات في المبدلة من أصل على رأي المؤلف، كما تقدَّم، فكذلك يكون الحكم هنا، وقد تقرر في التثنية أن الهمزة لا تحذف أصلاً، فكذلك لا تحذف هنا، فهي هنا بخلاف ألف التأنيث من حيث كان حكمها الحذفَ كما تقدم، فالفرق بينهما نظير ما تقدم من الفرق بينهما في التصغير، وذلك أن آخر الاسم في حمراء لما تحرك على خلاف ما عليه الألف، وكان حياً يظهر في الرفع والنصب والجر صار بمنزلة ما آخره ألف ونون نحو: سلامان، وزعفران، وغير ذلك من الأواخر التي هي من أصل الكلمة كاشهيباب، فصارت الهمزة كالأصلية كما صارت ألف مِعزى كألف مرمى بخلاف الألف، فإنها ميِّتةٌ لا يظهر فيها وجهٌ من وجوه الإعراب، حذفوها كما حذفوا ياء ربيعة وحنيفة، هذا تعليل سيبويه. ولنرجع إلى التمثيل فأما الهمزة الأصلية فنحو: قُرَّاء ووُضَّاء،

تقول فيه: قُرَّائيّ ووُضَّائِيٌّ، وأما التي للتأنيث فنحو: حمراء، وصحراء، وزكريا، تقول فيه: حمراوي وصحراوي وزَكَرياوي، وكذلك ما أشبهه، وأما المبدلة من أصل فنحو: كِسَاء ورِدَاء وحَياء، تقول فيه: كِسائي وردائي وحَيَائي إذا أثبتَّ، وكِساوي ورِداوي وحَيَاوي إذا قلبت، وأما المبدلة من زائد الإلحاق فنحو عِلباءٍ وحِرباءٍ، تقول إذا قلبت: عِلباويٌّ وحِرباويٌّ، وإذا أثبتَّ: عِلبائي وحِربائي. هذا جملة ما ذكر هنالك، وما يترتب عليه هنا، ووجه القلب أن أصله في همزة التأنيث، وذلك أن الهمزة مستثقلة، وهي بعد ألف قريبة من همزة، ولذلك كانت بين ألفين كهمزتين وبعدها ياءٌ مشددة وهي مستثقلة أصلاً، والتأنيث مستثقل في المعنى والأحكام، هذا مع أنهم أرادوا أن يفرقوا بين الهمزة المنقلبة عن ألف التأنيث وغيرها، كما فرقوا بين ألف التأنيث المقصورة وغيرها فيما تقدم، فألزموا هذه الهمزة القلب واواً؛ لأنه لا يمكن أن تقلب ياء، ألا تراهم يفرون من الياء إذا كانت أصلية، فيقولون: رَحَوي، لثقلها مع ياءي النسب، فهذا الوضع بذلك أحرى، وعلَّل ابني جني القلب بأن الهمزة لو أقرَّت على حالها لوقعت علامة التأنيث حشواً إذا قلت: حَمْرائي، فكرهوا ذلك: أن موضع / علامة التأنيث الأطراف لا الأوساط، ثم إن القلب في عِلباء بالحمل على الهمزة التي للتأنيث،

لشبهها بها في الصورة والزيادة، وفي كِساء بالحمل على عِلباء لشبهها بها في الصورة ومقابلة الأصل، وقد حكى قُرَّاويي شاذاً، حملوه على كسِساء لاجتماعهما في الأصالة على الجملة. وهذا التدريج وجه الصناعة في هذه الأقسام، وهو الذي اعتمده ابن جني وبوَّب عليه وعلى أمثاله في الخصائص، وكما لم يراع الناظم في حكاية الوجهين في القسم الثالث الترجيح لأحد الوجهين على الآخر في التثنية، كذلك ههنا، وقد تقدم وجه الترجيح، والخلاف فيه، وهو جارٍ هنا، بلا بدٍّ. فإن قلتَ: فإن النحويين حكوا هنالك أشياء - أعني في التثنية - من قلب همزة التأنيث ياء، ومن قلب همزة نحو: كساء ياءً، ومن إثبات همزة التأنيث على حالها، ومن حذفها رأساً كأنها لم تكن، ومن غير ذلك، ولم يحكوا في التثنية: قُرَّاوان، وإنما قاسه الفارسيُّ على قُرَّاويّ، وقد تقدم التنبيه عليه في باب التثنية، على أن ابن جني يظهر من كلامه أن قُرَّاوان سماعٌ ولي بنصه منه فيه، والفارسيّ لم يعرفه، فالأظهر أنه لم يُسمع، وأيضاً فمن الأشياء التي

وقع التنبيه عليها ما في كونه قياساً خلافٌ؛ كمذهب الكسائي في جواز حمراءان بإثبات الهمزة، وكذلك مذهب الكوفيين في جواز حذفها رأساً إذا طال الممدود، وأجازوا أيضاً قياس إبدالها ياءً، وهكذا عادتهم في الشذوذ أن يقيسوا عليها، ولم يُحك عنهم في النسب شيءٌ من ذلك فيما علمت، وإذا كان كذلك فكان من حق الناظم ألاَّ يطلق قوله في مضاهاة النسب للتثنية؛ إذ يوهم الجريان والمضاهاة في القياس، والشذوذ، والمختلف فيه، وليس كذلك كما ظهر لك. فالجواب: أن مقصد الناظم إنما هو مضاهاة المقيس عليه خاصة، وهو الذي بنى عليه في المختصر، بل هو الذي بنى عليه جميع النحويين، وإنما حكوا الشذوذات احترازاً منها وتنبيهاً على عدم القياس فيها، وذكرها عندهم تكميلٌ وزيادةٌ على الحاجة، لم يقصد الناظم الشذوذ في هذا التقرير، وأما المختلف فيه فهو راجع إلى الشذوذ أيضاً؛ لأن كل ما قاس عليه الكوفيون أصله الشذوذ، فلم يحفل به، فلم يبق إلا أنه / عنى المقيس خاصة، والمضاهاة فيه ظاهرة لا إشكال فيها. ***

وانسِبْ لصدرِ جملةٍ وصدرِ ما رُكّبَ مزجاً ولِثَانٍ تَمَّمَا إضافةً مبدوءةً بابنٍ أوَ ابْ أو ماله التعريفُ بالثاني وجبْ فيما سِوَى هذا انسُبِبَنْ للأولِ ما لم يُخَفْ لَبسٌ كعبد الأشهَلِ هذا فصل يذكر فيه النسب إلى المركب، وقد مر أن المركب من الأسماء على ثلاثة أقسام: مركب تركيب إسناد كتأبَّط شراً، ومركب تركيب مزجٍ كبعلبكَّ، ومركب تركيب إضافة كامرئ القيس، وهذه الأقسام الثلاثة هي التي تكلم عليها. فأمَّا القسم الأول: وهو المركب تركيب الإسناد، فهو الذي قال فيه: "وانسب لصدر جملة" يعني أنك إذا أردتَ النسب إلى الاسم مركب من جملة فإنك لا تنسب إلى جميعها، ولا إلى الآخر منها، وإنما تنسب إلى صدرها، وهي الكلمة الأولى من تلك الجملة، فتقول في: برَقَ نحرُهُ: بَرَقيٌّ، كأنك إنما نسبتَ إلى بَرَقَ خاصةً من أول الأمر، وفي تأبَّط شراً: تأبَّطِيٌّ، وكذلك إذا نسبتَ إلى نحوه: "ضربتُ" و"ضَرَبَكَ"، فإنك تقول فيهما: ضَرَبيٌّ، أو نسبت إلى "قلتُ" فإنك تقول: قُوليٌّ، ترد الفعل إلى أصله؛ لأنك صيَّرتَ الاسم: قُلْ، وأنتَ إذا سمَّيتَ بـ"قُل" رددتَه إلى أصله، فقلتَ: هذا قولٌ يا فتى، وكذلك ما أشبهه، وحكى سيبويه في النسب إلى "كنتُ": كُونيٌّ، وهو موافقٌ لـ"قُوليّ"، هذا وجه القياس كما قال الناظم، فما خالفه

فمسموعٌ، فقد قالت العرب في النسب إلى "كنتُ": كنتيٌّ، حكى ابن خروف عن أبي زيد أنه قال: يقال رجلٌ كنتيٌّ؛ أي: كبيرٌ، قال رجل حرمازيٌّ مذ مائة سنة فيما حدَّثني ابنه: إذا ما كنتَ ملتمساً لغوثٍ فلا تصرخْ بكُنتيٍّ كبيرِ فليسَ بمدركٍ شيئاً بسعيٍ ولا سَمْعٍ ولا نطَرٍ بصيرِ وكُنْتُنيٌّ يحكى بزيادة نون بعد التاء، قال السيرافي: زادوا النون ليسلمَ لفظ "كنت"، وأنشد عن ثعلب: ولستُ بكنتيًّ ولستُ بعاجزٍ وشرُّ الرجال الكنتِنيُّ وعاجزُ هكذا وقع بالزاي، والشلوبين ينشده عاجنٌ بالنون، وهذا كله نسبٌ إلى "كنتُ"؛ لأن الشيخ كان كثيراً ما يقول: كنت وكنت، فنسب إلى لفظه وهو نسب على غير قياس، ولذلك قال ابن ولاَّد على ما وقع له في كتاب سيبويه: ليس يقول: كنتنيٌّ إلا غالطٌ؛

لأنه فعلٌ واسم، ويلزم من قاله أن يقول: تأبَّط شرِّيٌّ، والغلط الذي أراد هو أن يتكلم العربي بالشيء على قياسٍ ما /، ثمَّ يعرض له في توهُّمِ أمرٍ آخر فيعتبره، ويترك الأول لضرب من التوسع؛ لأنهم ليست لهم أصول يرجعون إليها، وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فأخرجوه عن القصد، هذا معناه، ووجه الغلط هنا جعلهم فاعل الفعل كالجزء منه، وبه استدل ابن جني على شدة اتصال الفاعل بفعله، وقد خالف في المسألة الجرمي على ما نقل عنه المؤلف؛ إذ أجاز النسب إلى العجز في تركيب الإسناد قياساً على تركيب المزج حيث جاء فيه النسب إلى العجز، فأجاز أن تقول: تأبَّطيٌّ، وأن تقول: شَرِّيٌّ، وما أشبه ذلك، وهو مذهبٌ مرفوضٌ عند غيره؛ لأن النسب إلى عجز مثل بعلبك نادرٌ غير شائعٌ، فكيف يقاس عليه، وهو بعدُ لم يبلغ مبلغ أن يقاس عليه، ووجه النسب إلى الجملة وإن امتنعت التثنية فيها والجمع ونحو ذلك، أن النسب يزيل الاسم عن مسماه، فيصير المنسوب غير المنسوب إليه، ألا ترى أن البصريَّ مدلوله غير مدلول البصرة، فسَهُلَ عليهم

تغييره، وإن كان جملة، ولأن المنسوب قد ينسب إلى بعض حروف المنسوب إليه، فلذلك نسبواً إلى بعض الجملة، ووجه النسب إلى الصدر شبهه بالمضاف؛ لأنه عامل فيما بعده، كما أن المضاف عاملٌ فيما بعده، قال سيبويه: "ويدلُّك على ذلك أن من العرب من يفرد فيقول: يا تأبط أقبل، فيجعل الأول مفرداً، [قال]: فكذلك تفرده في الإضافة، يعني في النسب؛ لأن الياءين معاً بابا تغيير، والتغيير بالنسب أحق؛ لأن النسب يخرج الاسم عن مسماه، وذلك لا يكون في النداء، فهو أولى بالتغيير من النداء. وأما القسم الثاني: من المركَّب وهو المركب تركيب مزجٍ، فهو الذي قال فيه: ... ... وصدرِ ما رُكب مزجاً ... ... ... وهو معطوف على "صدر" في قوله: "وانسب لصدر جملة"، فكأنه في التقدير وانسِب لصدر ما رُكِّب مزجاً، و"مزجاً" منصوب على المصدر بفعل مضمر على حد قولهم: تبسَّمْتُ وميضَ البرقِ، كأنه على تقدير: مزَجَ مزجاً، ومعنى الكلام ظاهر، وهو أن الاسم المركب تركيب مزجٍ إذا نسبت إليه حذفتَ العجز ونسبتَ إلى الصدر، لا يجوز غير ذلك، فتقول في معدي كرب: معديٌّ ومعدويٌّ،

وفي رامَهُرْمُزْ: راميٌّ، وفي بِلال أباد: بلاليٌّ، وفي بلال أباد: بلاليٌّ، وفي مارَسَرْجِسَ: ماريٌّ، وكذلك ما أشبهه، وكذلك تقول في خمسة عشر مسمًّى به: خمسيٌّ، وفي إحدى عشرة: إحْدِيٌّ وإحْدَويٌّ، وكذا القياس فيما / أشبه ذلك من المركبات، وهو مذهب الجمهور، وما جاء على خلاف ذلك فمسموع، نحو قول الشاعر: تزوجتُها رامِيَّةً هُرمُزيَّةً بفضل الذي أعطى الأمير من الزرقِ فنسب إلى الاسمين معاً، ولم يقتصر على الصدر فيقول: راميَّة، وهو القياس؛ إذ نسبها إلى رامهرمز، وقد بنوا من الاسمين اسماً واحداً، ونسبوا إليه فقالوا: حضرميٌّ في النسب إلى حضرموت، ومثل هذا في هذا القسم نادر، وإنما يكثر في المضاف نحو: عبشميٍّ في عبد شمس، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. ووجه ما ذهب إليه الناظم والجمهور أن الاسم الثاني من المركبين مشبَّهٌ بتاء التأنيث، وهذا تشبيه الخليل، ووجه التشبيه أن كل واحد منهما - أعني من العجز والتاء - ليست الكلمة مبنية عليه، ألا ترى أنه

لا يتوالى في اسم واحد أربع متحركات، وتتوالى مع التاء كشجرة، ومع العجز كـ"شَغَرَ بَغَر"، وأيضاً فلا يكون اسمٌ على أكثر من سبعة أحرف ويكون ثمانية بتاء التأنيث كاشهيبابة، وكذلك بالعجز نحو: "أيادي سبا"، فلما كانا على هذا النحو حذف العجز كما حذفت التاء، وأيضاً فهذا المركب شبهه سيبويه بالمضاف والمضاف إليه، حيث كان من شيئين ضُمَّ أحدهما إلى الآخر، وليس بزيادة في الأول، كما أن المضاف إليه ليس بزيادة في الأول المضاف، ولما تقدم آنفاً قال ابن الضائع: "وهو جيد؛ إذ لا يجوز فيه الإضافة، وهو أوقع في التشبيه"، وحكم المضاف أنه لا يمكن فيه النسب إلا إلى الأول كما سيأتي إن شاء الله، فلذلك يكون الحكم هنا أيضاً، قال سيبويه بعد ما قرر أوجه التثنية: "فمن كلام العرب أن يجعلوا الشيء كالشيء إذا أشبهه في بعض المواضع"، وقد خالف الناظم بارتكابه هذا المذهب مذهبين آخرين: أحدهما مذهب الجرمي، حكاه عنه السيرافي: أنه يجيز النسب إلى العجز منهما إو إلى الصدر: إلى أي ذلك أحببت فتقول في حضرموت: حَضَريٌّ إن شئتَ، وموتيٌّ إن شئت، وكذا في بعلبك: بعليٌّ أو بكيٌّ، وفي بلال أباذ: بلالي أو أباذيٌّ، وكأنه اعتبر

في هذا الحكم الإضافة من حيث كان كل مركب مجوز الإضافة، والمضاف قد يجوز حذف الصدر منه والنسبة إلى العجز، فحمل المركب تركيب مزجٍ على / ذلك، قال ابن الضائع: "وهو ضعيفٌ؛ لأنه إذا أُضيف لا يجوز فيه إلا حذف الثاني" كما سيأتي، فقوله ومذهبه مرجوحٌ. والمذهب الثاني من المذهبين مذهبُ أبي حاتم السجستاني في النسبة إلى خمسة عشر ونحوه وهو: أنه أجاز النسب إلى الاسمين مفردين لأجل اللبس، فتقول: هذا ثوب أحديّ عشريّ، وإحدويّ عشريّ، وإحديّ أو إحدويّ عشريّ، كل ذلك في النسب إلى إحدى عشرة، يريد: أنَّ هذا ثوبٌ طوله إحدى عشرة، وفتح الشين في عشري على لغة من قال: عشِر فكسر الشين، وكذلك سائر المثل إلى تسع عشرة أو تسعة عشر، فتقول: هذا الثوب ثلاثيٌّ عشريٌّ، أو عشريٌّ في ثلاثة عشر، أو ثلاثة عشر وتسعيٌّ عشريٌّ، أو عشريٌّ، وكأنه قاس هذا على مَن قال: تزوجتُها رامِيَّةً هُرمُزيَّةً مع أنه لا يمكن حذف الثاني لوقوع اللبس بالنسب إلى ثلاثٍ أو ثلاثةٍ، ونحوهما غير مركَّب، فإذا كانوا قد ينسبون إليهما معاً حيث

لا يراعى اللبس، وذلك في الأسماء الأعلام ففي العدد حيث يقع اللبس أولى أن ينسب إليهما معاً، وهذا المذهب مخالفٌ للجمهور في مسألتين: أحداهما: في النسب إلى الاسمين معاً. والآخرى: في أصل النسب إلى العدد المركب، وهو عدد غير مسمى به، ولأجل المسألة أولى أتيتُ به عند ذكر المسألة الأخرى إثر هذا بحول الله. وأما القسم الثالث: وهو المركب تركيب إضافة فإنها عنده على أربعة أقسام: ثلاثة منها يكون النسب فيها إلى الثاني المضافِ إليه، ويحذف الأول، وواحد يكون فيه النسب إلى الأول. فالنوع الأول: يكون النسب فيه إلى الثاني، وهو كل مضاف كانت فيه إضافة الابن أو الأب وذلك قوله: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولِثَانٍ تَمَّمَا إضافةً مبدوءةً بابنٍ أوَ ابْ ... ... ... ... ... ... ... ... يعني: أنك تنسب للاسم الثاني الذي تمَّمَ الإضافة، أي: كان فيها مضافاً إليه، وكانت تلك الإضافة مبدوءة بابن أو أبٍ، أي: كان المضاف لفظَ الابن أو لفظ الأب، كابن فلانٍ وأبي فلان، فالنسب بمثل هذا إنما هو للثاني، ويحذف الأول، فتقول في ابن زيد: زيديٌّ،

وفي ابن كراع: كُراعي، وفي ابن الزبير وابن عباس وابن عمر: زبيريٌّ وعبَّاسيٌّ وعُمَريٌّ، وما أشبه ذلك، وتقول أيضاً في أبي زيد: زيديٌّ، وفي أبي بكر وأبي مسلم: بكريٌّ ومسلميٌّ /، وكذلك قالت العرب في ابن دعلج: دعلجي، وفي أبي بكر بن كلاب: بكري، وهذا كله لا يقع فيه النسب إلا على الثاني، ويحذف الأول؛ لأنهما إضافة قد بدأت بابن وبأب، فحيث كان أبو فلان أو ابن فلان فعلى هذا الحكم يجري، ويدخل في معناه بنت فلان وأم فلان، فتقول في النسب إلى بنت غيلان: غيلانيٌّ، وفي بنت قيس: قيسيٌّ، وكذلك في أم السعد: سعديٌّ، وفي أم الوليد: وليدي، وما أشبه ذلك، فهو داخل تحت كلام الناظم بمعناه لا بلفظه، ووجه حذف الأول هنا أن الثاني هو المقصود، ولم يؤتَ بالأول إلا ليتعرف به، فلو حذف الثاني هنا مع أنه المقصود وبه الشهرة والمعرفة لكان ذلك نقضاً للغرض في الإتيان به، فلم يكونوا ليحذفوا ما كان مقصوداً في التعريف به، فل يبق إلا أن يحذف الأول. فإن قيل: هذا ظاهر في ابن فلان؛ لأن ابن كراع لم يوضع لمن ليس بابن كراع، بل هو ابن له تعرف أولاً بالإضافة إليه حتى صار غالباً عليه؛ فلم يجز حذف الثاني؛ لأن العلمية من حيث جاءت بالغلبة، وأما أبو فلان وسائر الكنى فليس فيها تعريف بالثاني أصلاً؛ إذ ليس بموجود فضلاً عن أن يتعرف به الأول.

فالجواب: أن العرب قصدت بالكنى التفاؤل فصيَّرتهُ كأنه يتعرف بالثاني تفاؤلاً له أن يكون له ابنٌ يتعرف به فهو داخل بالحكم في ذلك بالقصد، وقد علل أيضاً باللبس؛ لأنك لو نسبت إلى الأول وهو ابن أو أب، فقلت: أبوي أو ابني، لم يتميز أبو بكر من أبي عمرو، ولا ابن كراع من ابن عمر، وما أشبه ذلك، فنسبوا إلى الثاني ليرتفع اللبس ويبين المراد. والنوع الثاني: يكون النسب فيه للثاني المضاف إليه، وذلك قوله: أو ماله التعريف بالثاني وجبْ "ما" معطوفٌ على "ابن" في قوله: "بابن أو أب"، والضمير في "له" عائد على "ما" وصلة ما الفعل الذي هو "وجب" إن جعلتها موصولة، وإن جعلتها نكرة فصفتها وجب، و"له" متعلق به وبـ"الثاني" متعلق بالتعريف، والتقدير: ولثانٍ تمَّمَ إضافةً مبدوءةً بما وجب له التعريف بالثاني، والثاني هو المضاف إليه، يعني: أن النسب يجب أيضاً للثاني إذا كان التعريف للأول، إنما جاء من إضافته إليه، ومثال/ ذلك ما إذا نسبت إلى دار زيد وصاحب عمرو وغلام بكر وما أشبه ذلك، وهي باقية على ما وضعت له لم تنتقل بالتسمية إلى غير ما دلَّت عليه بالوضع فإنك تقول: زيديٌّ، وعمريٌّ، وبكريٌّ،

فتحذف الأول وتنسب إلى الثاني، ويتأتى النسب إلى مثل هذا بأن يكون الأول قد كثر تعريفه بالثاني، حتى صار غالباً عليه، وصار في حيِّز الأعلام بالغلبة كابن عمر وابن عباس في النوع الأول، وقد تقدم بيان كون هذا المعرَّف بالغلبة مما حصل له التعريف بالثاني في أصله، وأنَّ أصله ملحوظ، فإن غلب فلا يعترض به عليه، وأما إذا كان على أصله لم يغلب عليه الاسم حتى صار علماً له، فقد ينسب أيضاً لكن ليس في تمكن النسب إليه هناك. ولكن الشلوبين قد فرض النسب إلى كل منهما، وهو ظاهر كلام الناظم، ولا مشاحَّة في مثل هذا، ولكن ابن عصفور فصل بين القسمين في الحم، فقال في شرح الجمل فيما إذا كان نحو غلام زيد باقياً على أصله لم ينتقل إلى علَميَّة بغلبة أو بتعليق: فإنك مخير في النسب إلى ما شئتَ، فإن شئتَ قلتَ: غلاميٌّ، وإن شئتَ قلتَ: زيديٌّ، وإن كان قد انتقل إلى التعريف الغلبة، فحكمه ما تقدم، ولم أرَ هذه التفرقة لغيره، ولكن

الأبَّديّ وجَّه ذاك، وذهب إليه، وذلك أنه حين شرع في الكلام على المضاف قال: "والكلام في هذا الباب في النسب إلى المضاف، وهو علمٌ أو غالبٌ لا في العلم على الإطلاق نحو: غلام زيد الذي ليس علماً ولا غالباً، فإنه لا يقصد بالنسب إليه ولا النسب إلى مفرداته، وليس لمجموع الاسمين معنًى مفردٌ فينسب إليه كابن الزبير، وامرئ القيس، قال: فإن قال قائل: كيف تنسب إلى غلامِ زيدٍ إذا لم يكن علماً ولا غالباً؟ فيقال له: هذا سؤال فاسد؛ لأنك إن كنت قاصداً السؤال عن النسب إلى مفرداته فما الفائدة في قولك: كيف تنسب إلى غلام زيد، وهلاَّ قلت: إلى زيد أو إلى غلام؟ ، وإن كان قصدك السؤال عن مجموع الاسمين فقد تقدم - يعني في المركب تركيب مزجٍ، هذا والأمر أيسر ممَّا قال؛ لأن النسب إلى غلام زيد، وهو غير علم ولا غالب متأتٍّ من حيث كان هذا اللفظ واقعاً على الغلام، وهو المراد بالكلام حين أخبرت عنه / مثلاً بالقيام في قولك: قام غلام زيد؛ لأنك أردتَ مدلولي الاسمين معاً في إخبارك؛ إذ ليس إتيانك بـ"زيد" لأجل أنك تخبر عنه بشيء، وإنما أتيت به تخصيصاً للغلام من بين

سائر الغلمان، فصار كالألف واللام جزءاً من الكلمة، وإذا كان كذلك، وكان بينك وبين مخاطبك عهدٌ فيه، فما الذي يمنع من أن تنسب إليه، لا فرق بين النسب إليه في هذا الحال والنسب إليه إذا صار الاسم غالباً عليه، وهم يقولون: إنما نسب إلى الثاني في الذي غلبت عليه الإضافة؛ لأنه المقصود، وبه الشهرة، أي: المقصود في جهة التعريف الغالب؛ لأنه ما غلب إلا تعريفه بالثاني، فكذلك أيضاً يكون الحكم فيما إذا لم يغلب؛ لأن الثاني أيضاً مقصود، وبه الشهرة والتعريف، اللهم إلا أن يقال: إن النسب إلى مثل هذا يقلّ لبعده عن شهرة الأعلام؛ إذ هو مفتقر إلى عهد، وتقدم معرفة به بينك وبين مخاطبك، فهذا الذي يقال، لكن ذلك غير مانع من صحة النسب إليه، فما قاله الأُبَّذي فيه ما ترى، وعلى هذا التقرير نقول: إنه يدخل تحت كلام الناظم في النوع الأول أبو فلان وابن فلان وإن لم يغلبا، وكذلك بنت فلان وأم فلان، وهو ظاهر، ووجه النسب إلى الثاني في النوع ما تقدم في النوع الأول من أن الثاني مقصود، وبه الشهرة والتعريف، فلم يمكن حذفه لفقد ذلك المقصود بحذفه. والنوع الثالث: يكون النسب فيه إلى الأول لا إلى الثاني، ويحذف الثاني، وهو ما عدا ما تقدَّم إذا لم يوقع لبساً، وذلك قوله: فيما سوى هذا انسبَنْ للأول هذا إشارة إلى النوعين الأولين، و"فيما" متعلق بـ"انسبن"، يعني: أن ما سوى ما تقدم ذكره من النوعين المذكورين يكون النسب فيه إلى الاسم الأول من المضافين، وتحذف الثاني، ويجري على ما تقدم

في أقسام المركب من حذف عجزه، والنسب إلى صدره، ولم يبين هذا النوع بياناً يخصه في نفسه كما فعل في الأولين، وإنما عرفه بنفي ما عداه، وهو تعريف جملي ولكنه موفٍ بالمقصود؛ إذ معناه: كل مضاف لم يتعرَّفْ فيه الأول بالثاني ولا كان مبدوءاً بابن أو أب، وحقيقته أن كل مضاف وقع علماً لشيء بالتعليق والوضع الأول، ولم يُرَد له معنًى غير ذلك، هذا هو التعريف الخاص به كامرئ القيس، وعبد / القيس، وما أشبه ذلك، فمثلُ هذا تقول فيه: امرئيّ ومرئيّ في امرئ القيس، وعبديّ في عبد القيس، قال سويد بن أبي كاهل: همُ صلبوا العبديَّ في جِذع نخلةٍ فلا عَطَسَتْ شَيبانُ إلا بأجدَعَا وقال ذو الرمة في النسبة إلى امرئ القيس: تُبيِّنُ نسبةُ المرئيِّ لؤماً كما بيَّنْتَ في الأدم العُوَارا إذا المرئيُّ شبَّ له بناتٌ عَصَبْنَ برأسه إبةً وعارا إذا المرئيُّ سيقَ ليوم فخرٍ أُهينَ ومدَّ أنواعاً قصارا إذا مرئيَّةٌ وَلَدت غلاماً فألأمُ ناشئٍ نُشِغَ المحَارا وفي هذه القصيدة في رواية بعضهم:

ويهلِكُ وسْطَهَا المرئيُّ لغواً كما ألغيتَ في الدِّيَةِ الحُوَارا ويروى هذا البيت لجرير رَفَدَ به ذا الرمة في قصيدته هذه مع بيتين قبله فانتحلها ذو الرمة، نقل ذلك البكري في صلة الموصول، وكذلك إذا سميت رجلاً بـ"غلامِ زيدٍ" تعليقاً أولياً، تقول فيه: "غلامي"، وفي صاحب عمرو علَماً، كذلك صاحبي، وأمثال ذلك، والنسب إلى الأول الذي هو الصدر وحذف الثاني هو القياس والوجه، لأن الثاني بمنزلة تمام الأول، وواقع موقع التنوين منه، حيث لم يكن له تأثير في تعريف الأول فصار الاسم الأول بمنزلة "زيد"، والثاني: بمنزلة التكملة له كـ"تنوين"، فهذا أولى بالحذف، ولكن عوض فيما تقدم شيء أوجب ألا يحذف الثاني، فإذا زال ذك العارض فلا بُدَّ من الرجوع إلى الأصلِ، ما لم يقع لبس كما سيأتي،

فإنه يرجع إلى النسب إلى الثاني؛ لأن اللبس عارضٌ يجب اعتباره عند الناظم. والنوع الرابع: يكون النسب فيه إلى الثاني على غير الأصل، ويحذف الأول لطروء لًبْسٍ فيما قبله، وذلك قوله "ما لم يُخَفْ لًبْسٌ"، يعني: أن الحكم المذكور في ذلك النوع المتقدم، إنما هو إذا لم يقع بحذف الثاني لبسٌ، فإن وقع لبسٌ فالمفهوم أن النسب لا يكون للأول، وإنما يكون للثاني، ثمَّ مثَّل ما يقع فيه اللبس فينسب إلى الثاني بـ"عبد الأشهل"، وذلك أنك لو نسبت إليه على القياس فقلتَ: عبدي لالتبس بعبد القيس أو عبد الدار، أو غير ذلك من العبادة المضافة، فيطرح الأصل لذلك، فيقال فيه: أشهلوا؛ إذ يفهم منه النسب إلى عبد الأشهل، وعلى هذا قالوا في "عبد مناف": منافيٌّ، قال سيبويه: وسألت الخليل (رحمه الله) عن قولهم في "عبد مناف": منافيّ، فقال: أما / القياس فكما ذكرتُ لك إلا أنَّهم قالوا: منافي مخافة الالتباس، يعني: الالتباس بعبد الدار، إلا أن النحويين في مراعاة هذا اللبس على فرقتين، فمنهم من يقف ذلك على السماع كابن أبي الربيع، ويجعل منافياً وما جاء نحوه شاذّاً، ومنهم من يقيسه وهو مذهب الناظم، كما رأيت، وهو ظاهر كلام سيبويه؛ لأنه لما ذكر

كلام الخليل في منافيّ قال هو أو الخليل: ولو فعل ذلك بما جعل اسماً من شيئين جاز كراهية الالتباس. هذا نصُّهُ، وإليه ذهب السيرافي والشلوبين وابن عصفور وغيرهم. واعلم أنه قد تقرر من هذه الأنواع أنه لا ينسب إلى الاسمين معاً المضاف والمضاف إليه، بل إلى أحدهما، وإنما كان ذلك؛ لأن الأول من الاسمين إعرابه بحسب العامل، والثاني مخفوض بلا بد بالإضافة إليه، وإذا كان كذلك لم يكن أن تزاد ياء النسب في آخر الاسم بالحقيقة، وهو آخر الثاني مع بقاء الأول؛ إذ لو قلت في غلام زيد: غلام زيدي، وياء النسب لا بد أن ينتقل إليها الإعراب. فإن نقلت إليها الإعراب الأول مع أنه مضاف إلى الثاني لم يمكن الجمع بين إعرابين، وإن أزلته عن الإضافة إلى ما بعده تغير عما كان عليه قبل، ولا يمكن أيضاً أن ينتقل إلى الياء إعراب الاسم الثاني، فيلتبس بمضاف إلى منسوب، قال سيبويه: كما لا تقول في تثنية أبي عمرو: أبو عمرين، فالأول هو الذي ينبغي أن تجري الأحكام عليه؛ لأن الثاني من تمامه، ولا يجوز أيضاً أن تلحق ياء النسب الأول، ثم تضيفه

إلى الثاني، فيلتبس بمنسوب مضاف إلى ما بعده. هذا مع أن النسب قد يحذف بسببه من الاسم الواحد إذا طال، فهذا أولى بالحذف؛ لأنه أطول مع أن الضرورة تضم إلى ذلك، كما تقدم تقريره. فثبت أنه لا بد من حذف أحدهما: إما الأول، وإما الثاني. وما جاء على خلاف ذلك فشاذ ومسموع، يحفظ ولا يقاس عليه، والذي نقل في مخالفة أنهم بنوا من الاسمين اسماً واحداً على زنة الأسماء، فقالوا في عبد شمس: عبشميّ، قال عبد يغوث بن وقَّاص الحارثي: وتضْحَكُ مني شيخةٌ عبْشَمِيَّةٌ كأنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يمانياً وفي عبس القيس: عبقسيّ، وإلى عبد الدار: عبدريّ، وهو كثير، وكذلك جعله الجوهري قياساً على ما يظهر منه في الصحاح. وقال ابن خروف: إنه كثير غير مقيس، والجمهور على أنه لم

يبلغ مبلغ القياس، وقد نصَّ سيبويه على عدم القياس فيه، وهو الأصح، وإليه ذهب الناظم، حيث قصر النسب على أحد ذينك الوجهين: إمَّا النسب إلى الصدر وحده، أو إلى العجز وحده، ثم يبقى النظر مع الناظم في هذا الفصل في مواضع: أحدها: قوله: "وانسِب لصدر جملة" فإنه يقتضي جواز النسب إلى نفس الجملة من حيث هي جملة، وهذا لا يعقل، وإنما ينسب إلى الجملة إذا صارت في حكم المفرد وذلك عند التسمية بها، فعند ذلك يصح النسب إليها؛ لأنه كالنسب إلى زيد وعمرو، وأما غير ذلك فممتنعٌ لا يصح؛ إذ لا يعقل أن يسأل أحدٌ: كيف تنسب إلى قولك: قام زيدٌ، فإن هذا لا ينسب إليه، كما لا يصح أن ينسب إلى الفعل أو الحرف، وهو فعلٌ أو حرفٌ؛ إذ كان النسب مختصاً بالأسماء، والناظم لم يبيِّن كونه مختصاً بالأسماء، فصار كلامه في ظاهره غيرَ محصَّل. والثاني: على تسليم أنه أراد الجملة المسمَّى بها لم يبين إلام ينسب؟ وذلك أن النسب إنما هو إلى الجملة نفسها، لكن لا ينسب إليها إلا بالنسب إلى صدرها، وهو قد قال: "وانسب لصدر جملة"، وهذا الكلام إنما يفيد جواز النسب إلى صدر الجملة لا إلى الجملة، وهذا غير مطلوب؛ لأنَّ صدر الجملة إذا كان اسماً كزيد قائم، فوجه

السؤال: كيف تنسب إلى زيد؟ إذ لا فائدة في إضافته إلى الجملة إذا أردت النسب إليه، وإن كان صدرها فعلاً لم يصح من أصله؛ إذ لا ينسب إلى هذا الصدر، وإنما مطلوبنا هنا هو كيفية النسب إلى الجملة لا جواز النسب إلى صدرها، فهو أراد أن يبين معنًى فخرج إلى معنًى آخَرَ غير محتاج إليه. هذا وإن كان قصده معلوماً عند العارف بالمسألة، فإنما الكلام معه في لفظه بالنسبة إلى تعلم العربية منه، فوجه الكلام هنا أن لو قال: وانْسُبْ لجملة، بأن تنسب إلى صدرها، أو تحذف عجزها، أو ما يعطي هذا المعنى. والثالث: إذا سلمنا ما ذكر، فهو لم يبين كيفية هذا النسب؛ لأنه إنما قال: "وانسب لصدر جملة"، وهذا الكلام غاية ما يعطي: أن تُلحِقَ الصدرَ ياءَ النسب، فيبقى حذف العجز مسكوتاً عنه، فقد يتوه بقاؤه، وكذلك قوله: ... ... وصدرِ ما رُكَِبَ مزجا ... ... ... / وقوله: فيما سوى هذا انسبن للأوَّلِ وقد تقدم أنه لا بدَّ من حذف غير المنسوب إليه من الجزئين، فكان حقاً على الناظم على أن ينبَّه على حذف ما لم ينسب إليه، فتركُهُ لذلك إخلالٌ كبيرٌ. والرابع: إتيانه بعبارة قاصرةٍ غير موفية بأطراف المسألة؛ لأنه

قال: "وانسب لصدر جملة" فقصر ذلك على الجملة، وهذا الحكم ليس بمقصورٍ عليها، بل هو عام في كل ما يحكى في الكلام، ولذلك لما بوَّب سيبويه على المسألة قال: "هذا باب الإضافة إلى الحكاية" فدخل تحته الجملة المسمَّى بها، وكل ما يحكى مما يُسمَّى به، وكذلك بـ"حيثما" و"لولا" و"إنما"، وما أشبه ذلك مما إذا سُمِّيَ به بقي على حاله، وذكر أنَّ حكمه حكم الجملة، فكما تقول: تأبَّطيٌّ وبَرَقيٌّ في: تأبط شرَاً وبرق نحره، كذلك تقول في الإضافة إلى "حيثما" مسمًّى بها: حيثيٌّ، وفي الإضافة إلى "لولا": لوِّيٌّ، وإلى "إنما": إنِّيٌّ، فتحذف العجز وتنسب إلى الصدر، وهذا عام في كل مركَّب يُحكى. فكان من حق الناظم أن يَعُمَّ ولا يخُصَّ؛ إذ كان يوهم تخصيصه أنه لا يفعل ذلك إلا بالجملة وحدها، وهو مفهوٌ مُخِلٌّ، وكلامه في التسهيل شاملٌ؛ إذ قال: "ويحذف لها (يعني لياء النسب) عجز المركب غير المضاف"، فإن المركب يشمل اتقدم، فلو قال: "وانسب لصدر ما حُكِي" أو ما يعطي هذا المعنى، لكان أعم وأولى.

والخامس: أن قوله ... ... وصدرِ ما رُكّبَ مزجاً ... ... ... عام في كل مركب تركيب مزج، سواء أكان علماً أو غير علم، وذلك غير صحيح؛ لأنَّ النحويين إنما أجرَوه على عمومه في الأعلام خاصة، فكل ما سميت به من مركَّب تركيبَ مزجٍ، فالنسب إلى صدره قياساً، فإن سميت بـ"شَغَرَبَغَرَ" قلتَ: شَغَرِيٌّ، وإن سميتَ بـ"خمسة عَشَر" قلت: خَمْسِيٌّ، وكذلك سائرها، أما ما كان مركباً غيرَ مسمًّى به، فإنهم قالوا: لا يجوز النسب إلى "خمسة عشر" وهو عدد على أصله، ولا إلى أحد عشر وأخواتهما من المركَّب؛ لأنه يلتبس بمثل صدره من المفرد؛ إذْ لا يعرف إذا قلتَ: خمْسِيٌّ أو أحَدِيٌّ، هل نسبتَ إلى خمسة عشر أو إلى خمسة، أو إلى أحد عشر أو إلى أحد، فلما كان ذلك يوقع اللبس تحامَوه ولم يتكلموا به، وقد أجاز أبو حاتم النسب إلى العدد المركب وهو عدد، ولكن ألحق الياء الاسمين معاً مفردين فتقول: هذا ثوب أحديّ عشريّ، وخمسيّ عشريّ، وقد تقدم تمثيل ذلك، وإنما فعل ذلك خوف اللبس؛ إذ كانوا إنما تركوه للبس، فهذا العمل لا يقع به لبسٌ، فلا يجتمع، وقد / تقدم وجه قياسه على قوله: تزوجتها راميَّةً هُرْمُزِيَّةً

وأنه لا يمكن حذف الثاني لأجل اللبس، وإذ كانوا قد ينسبون، وإن وقع اللبس، كالأعلام، ففي العدد حيث لا يقع لبس أولى بالجواز، قال ابن الضائع: "وهو وجه، غير أنه لا يوجب إلا طرح النسب إلى الأول، وحذف الثاني، فيستغنى عن النسب إليهما بما يعطي معناه، كما استغنوا عن إضافة اثني عشر اسم عدد، وقد بنت العرب من الاسمين اسماً واحداً، فقالوا: [في حضرموت]: حضرمي، ولم يطردوه كما لم يطردوا النسب إليهما"، وقال: "ولا شك أنه لا يجوز أن يبنى من خمسة عشر اسمٌ واحد، فكذلك لا ينسب إلى الاسمين". فإن قيل: كيف هذا مع أنكم أجزتم النسب إلى خمسة عشر: خمسي، وهو يلتبس بالنسب إلى المسمى بخمسةٍ أو خمسٍ، ولم تراعوا اللبس، فلِمَ راعيتموه في العدد قبل التسمية ولم تراعوه بعد التسمية؟ فالجواب: ما قاله السيرافي من أن اللبس لا يراعى عند التسمية؛ لأن الأسماء الأعلام ليست تقع لمعانٍ في المسمَّين، فيكون التباسهما يوقع فصلاً بين معنيين، يعني بخلاف ما قبل التسمية، فإن الأسماء واقعةٌ لمعانٍ في مدلولاتها يوجب اللبس فيها الفصل بين المعنيين، وقد يقع في المنسوب إليه لبسٌ لا يحفل به لعلم المخاطب بما نسب إليه كقولنا: حنفي وربعي في النسب إلى: حنيفة وربيعة، وإن كنا نجيز أن

يكون في الأسماء: حَنَفٌ وربَعٌ، وذلك لعلم المخاطب بما ينسب إليه؛ إذ هو اسمٌ علمٌ بخلاف العدد؛ فإنه لا يعرف بما ينسب إليه إلا بما يدل عليه، فامتنع الوقوع في اللبس؛ لأجل ذلك" انتهى. وأيضاً فإن اللبس في الأعلام قليل النسبة إلى كثرته في غيرها، فاغتفر فيها لقلته، ولم يغتفر في غيرها لكثرته، وإذا ثبت هذا فإطلاق الناظم القول بالنسب إلى الصدر، ولم يقيده بالعلمية، فيه ما ترى، ولا يقال: لعله ارتكب في ذلك مذهب أبي حاتم من الشذوذ بمكانٍ مكين، وقليلاً ما ينقله أرباب المطولات فضلاً عن أهل المختصرات، وهو خارج عن القياسات، فبعيد أن يرتكبه غير مَن نقل عنه، وعلى هذا فلا يستقيم الحمل على مذهب أبي حاتم؛ لأنه إنما أجاز النسب إلى الاسمين مفردين، والناظم لا يقول بهذا، ولا / يقتضيه كلامه، وإنما يعطي كلامُهُ النسب إلى الصدر خاصة وحذف العجز، فكان هذا مذهباً ثالثاً لم يقل به أحد من النحويين. والسادس: أنه أطلق القول في الإضافة بابن أو أب، فالنسب هنالك يكون للثاني لا للأول، والإطلاق غير صحيح؛ لأن ما كان مبدوءاً بابن أو أب على قسمين:

أحدهما: أن لا يكون مسمًّى به، فلا شك أن حكمه ما قال، وكذلك ما كانت كنية تجري ذلك المجرى؛ لأن الكنية معتبرة الأصل؛ إذ هي غير معلقة وضعاً على شخص بعينه، بل مرادهم بـ"أبي فلان" أن يكون أباً لفلان فصار كقولك: هذا ابنُ فلان تريد: ولده، وهذا أبو فلان تريد: والده. والثاني: أن يكون مسمًّى به معلقاً على رجل بعينه بالوضع الأول لا يراد به معنى غير التعليق على المسمَّى، كما كان امرؤ القيس معلقاً على رجل بعينه، لا يراد به معنًى سوى التعليق على المسمّى، فهذا حكمه حكم امرئ القيس، فلا ينسب إليه إلا بحذف العجز، فتقول في "ابن زيد" علماً: ابنيٌّ أو بنويٌّ، وفي أبي زيد علماً كذلك: أبويٌّ لا بد من هذا؛ إذ العلة التي لأجلها نسب إلى العجز هناك هي: قصد الثاني للتعريف به، وليس ذلك هنا بل حاصله حاصل امرئ القيس، فدخل تحت حكم امرئ القيس في أن العلميَّة وقعت بهما معاً، ولم يتعرف الأول بالثاني، كما أنه لو كان رجل غلاماً لزيد، فكثر تعريفه به حتى غلب وصار في حيِّز الأعلام، وأردت أن تنسب إليه لوجب أن تقول: زيديٌّ؛ لأن التعريف هنا بالغلبة لا بالتعليق، هذا ما في هذه المسألة، وهي مما قرَّر ابن الضائع، وذكر أنه القياس عنده، وهو قياس لا مدفَع فيه، قال: ولم

أرَ أحداً تتبعهما كذا، بل اقتصروا على ابن فلان وأبي فلان. فالناظم لم يلتفت إلى هذه التفرقة هنا، وهي ضرورية، وكلامه في "التسهيل" صال لهذه التفرقة الحسنة التي ترْكُهَا إخلالٌ. والسابع: أنه أتى بنوعين أحدهما داخل في الآخر، فكان من حقه أن يأتي بهما نوعاً واحداً؛ لأن الإتيان بهما نوعين تطويلٌ بلا فائدة، وذلك أن نوع الإضافة المبدوءة بالابن أو الأب داخلٌ في الإضافة التي يعرَّف بها الأول بالثاني؛ لأن ابن فلان أو أبا فلان إنما وجب فيه النسب إلى الثاني؛ لأن الثاني مقصود، وبه التعريف والشهرة، فلو حذف لكان نقضاً للغرض، كما تقدم بسطه، وهذا بعينه هو الذي عُرف به النوع الثاني، فصار النوع الأول حشواً؛ لأنه لو سكت عنه لم يسقط له مما / أراد شيءٌ، وحيث اكتفى في التسهيل بهذا الثاني فقال: ويحذف لها عجز المركب غير المضاف وصدر المضاف إن تعرَّف بالثاني تحقيقاً، وإلا فعجزه، وقد يحذف صدره خوف اللبس. والجواب عن هذه الاعتراضات أن يقال: أما الأول: فمن المعلوم أن الجملة من حيث هي جملة لا ينسب إليها؛ إذ لا يتأتَّى فيها ذلك من جهة المعنى؛ لأن النسب إلى الشيء

إضافة إليه في المعنى، والإضافة مختصة بالأسماء، فإنما قصد الناظ ما يصح قصده، وذلك الجملة المسمى بها. وأما الثاني: فإن القصد يفهم من كلامه، وإن كان كلامه إنما وقع جواباً لسؤال كيف تنسب إلى الجملة، وذلك أن قصده بيان ايعرض في الاس المنسوب من التغيير، فهاهنا لا بدَّ أن يحمل كلامه على هذا القصد، فإذا حمَّلناه ذلك لاح لنا أنه يريد: أن الجملة ينسب إلى صدرها؛ أي: تلحق ياء النسب صدرها، وإما أن يريد ما صدر في الاعتراض فذلك لا يسأل عنه مَن عنده أدنى مُسْكَةٍ من العربية، فأطلق العبارة اتكالاً على ما يفهم العاقل المتدبر فيها، وقد تضيق على الناظم العبارة حتى يأتي بها في غاية من التثبيج فيسمح له لمكان ضرورة النظم، ولذلك سومح الشعراء في الضرورات، وأجيز ارتكابها قياساً على ما هو مبسوط في مظانه، وهذا الجواب جارٍ في قوله: ... ... وصدرِ ما رُكّبَ مزجاً ولثانٍ تُمِّمَا إلى آخره. وأما الثالث: فإن الكيفية مفهومة من كلامه، وذلك أنه قد تقدم له الإشارة إلى أن ياء النسب موضعها الآخر، أي: آخر

الكلمة فلا تلحق وسطاً، ولما قال هنا: "وانسب لصدر جملة" كان معناه ألحق ياء النسب آخر الصدر، وآخر الصدر إن كان آخر الاسم على ما اقتضاه كلامه أول الباب فهو المراد، ويفهم منه أنه لا يكون بعد الياء شيءٌ، وهو معنى الحذف، وإن لم يكن آخرَ الاسم لم يصحّ كلامه الأول، لكنه صحيح، فلا بد من انحتام الحذف للعجز حتى يكون آخر الصدر هو آخر الاسم، والاسم هو الجملة كلها لا بعضها، فلا يقال: إن الياء قد وقعت آخر الصدر، فهي واقعة آخراً؛ إذ ليس آخر الصدر آخراً، وكذلك القول في قوله: ... ... وصدرِ ما رُكّبَ مزجاً ... ... ... وغيره، فأما قوله: "ولثانٍ تُمِّمَا إضافة" فإن معناه: ألحق الياء آخر الاسم الثاني من المركبين، وحقيقة الاسم / المركب مركبة من شيئين: فكان من حقه لو لم يُرِدْ حذفَ الأول أن يقول: وانسب للمركَّب بلحاق الياء آخره؛ لأن آخر الكلمة الثانية آخرٌ للأولى بسبب المزج، لكن لما قال: "ولثان" أي: وانسب لثانٍ دلَّ على أن مراده النسب إلى الكلمة الأخيرة فقط مع اطراح الأولى وزوال المزج؛ إذ لا يظهر للكلمة الثانية آخرٌ إلا بذلك، فإذن الحذف قد تضمنه كلام الناظم بإشارة خفية. وأما الرابع: فإنا لا نقول: قد يدخل له ما سوى الجملة من الحكاية في تركيب المزج؛ لأنَّ "حيثما" و"لولا" ونحوهما من قبيل ما ضُمَّ صدره إلى عجزه وصيِّرا شيئاً واحداً، ولا يقتصر بتركيب

المزج على الأعلام، وأما الإبهام بالمفهوم فلا يتجه؛ لأن ذلك مفهومُ اللقلب، هو مردودٌ. وأما الخامس: فإن النسب إلى الإعلام المركبة كثير وشهير فتكلم عليه، وأما النسب إلى غير الأعلام فنادرٌ بالنسبة إلى باب (المركب) فلم يحفل بالتنبيه على المنع فيه، وأيضاً فإن النسب إلى ما رُكِّبَ ممَّا ليس بعلم موقعٌ في اللبس كما تقدَّم في السؤال، بخلاف العلم فإنه لا يوقع في الغالب لبساً، وقد عرف من حال الناظم اجتنابه اللبس في مسائلَ كثيرةٍ وأبواب عدة، ومن جملتها هذا الفصل؛ إذ قال فيه: ما لم يُخَفْ لبسٌ كعبد الأشهلِ فاقتضت هذه القاعدة عنده ألا ينسب إلى نحو: خمسة عشر غيرَ علمٍ لالتباسه بما ينسب إلى غير المركبَّب، فلذلك - والله أعلم - أطلق العبارة إطلاقاً. وأما السادس: فإن الناظم إنما أراد القسم الأول، وهو ما لم يكن مسمَّى به، والحكم المذكور فيه صحيح، وأما المسمَّى به فهو نادرٌ ومرفوض قلما يأتي من كلام العرب ابن فلان وأبو فلان علماً بالتعليق، وإنما يأتي علماً بالغلبة، والعلم بالغلبة حكمه حكم غير العلم كما تقدم، ويكفيك عذراً عنه أن النحويين لم يذكروا فيه إلا قسم التعريف بالغلبة، وأهملوا التعريف بالتعليق حتى عدَّ ابن الضائع أنه لم ينبه عليه أحد إلا هو. وما ذاك إلا لفقده في كلام العرب، فالناظم

في تركه غير ملومٍ من جهتين: إحداهما: أن المتقدمين لم يذكروه نصاً ولا تحرزوا منه، فاتبعهم هو في ذلك. والثانية: فقده أو قلته في السماع. وأما السابع: فتقول: إن ما بدئ بابن أو أب على قسمين: أحدهما: ما ظهر منه وجه التعريف بالثاني، كما إذا قلتَ: هذا ابنُ زيدٍ، هذا ولد زيدٍ، وما / أشبهه مما لم يلغب عليه الاسم. والثاني: ما لم يظهر فيه وجه التعريف وإن كان أصله ذلك، وذلك الكنى بالنسبة إلى الأب كأبي فلان، والتعريف بالغلبة بالنسبة إلى ابن فلان، وهذا هو الغالب في الأب والابن المنسوب إليهما، وعلى أرادته هذا الثاني، لا يكون عليه اعتراض؛ لأنه وجه تعريف الأول بالثاني فيه غير ظاهر، وإنما ظاهر الأمر فيه تعريف العلميَّة، وكذلك يعدون من أقسام العلم المعرف بالغلبة والكنية، وقد تقدم له ذلك في باب (العلم) إذ قال: واسماً أتى وكنيةً وَلَقَبًا وقال في آخر الباب: وقد يصير علماً بالغلبة مضافٌ او مصحوبُ أل كالعقبهْ لكن الفرق بين هذين وبين العلم بالتعليق أن هذين يظهر فيهما القصد الأصلي من التعريف بالثاني؛ إذ كان هو أصلَ العلميَّة فيهما كما تقدم، فالثاني هو المحرز لعلمية الغلبة فيهما، فلو فرضنا زواله

والنسب إلى الأول، لذهب التعريف المكتسب بالغلبة، فأما هنا فإن التعريف بالثاني غير ظاهر ولا بيِّنٍ. ولذلك حرر العبارة في التسهيل في هذا المقصد؛ إذ قال: وصدر المضاف إن تعرف بالثاني تحقيقاً أو تقديراً"، وأشار بالتقدير إلى الكنى والمعرف بالغلبة، فلمَّا كان التعريف بالثاني أمراً تقديرياً لم ير أنْ يكتفي بالنوع الثاني دون الأول، وهذ يمشي في القس الثاني، وأما الأول وهو ما ظهر فيه وجه التعريف فهو قليل في النسب إليه، وأيضاً فإنما يريد بالنوع الثاني ما عدا ما تقدم، فكأنه يقول: انسب لثانٍ تُمِّمَ إضافة مبدوءة بابن أو أب أو ما وجب له التعريف بالثاني من غير الابن والأب، ولو لم يرد هذا لداخل التقسيمَ، والحمل على عدم التداخل أولى. *** واجبُر بِرَدِّ اللامِ ما منه حُذِف جوازاً إن لم يكُ ردُّهُ أُلِفْ في جمعَي التصحيح أو في التثنيهْ وحقُّ مجبورٍ بهذي تُوْفِيَهْ هذا الفصل يذكر فيه حكم الاسم المحذوف منه إذا نُسب إليه، وما يرد إليه المحذوف وجوباً أو جوازاً، وما لا يردّ إليه، وما يلحق مع ذلك من التغيير الحادثِ في النسب. واعلم أن ما حذف منه حرف على ثلاثة أقسام:

أحدهما: ما كان المحذوف منه الفاء كشِيَة وعِدَة، ونحو ذلك. والثاني: ما كان المحذوف منه العين كَسَه ومُذْ إذا سُمِّيَ / به، فإنه عند سيبويه محذوفٌ من (منذ)، فلذلك تقول في تصغيره: مٌنيذ. والثالث: ما كان المحذوفُ منه اللامَ كيدٍ ودَمٍ وابنٍ واسمٍ ونحو ذلك، وهو كثير، والناظم أخذ يتكلم على حكم كل واحد من هذه الأقسام إلا القسم الثاني، وهو ما حذفت منه عينه، فإنه لم يتعرض لحكمه ولا أشعر به، فربما ينقدح للسائل سؤال عن هذا فيقول: كان من حقه إذا تكلم عن القسمين أن يذكر القسم الثالث، ما فعل غيره من النحويين، والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن ما حُذفت عينه قليل جداً في كلام العرب، حتى إنه لم ينقل إلا اللفظة أو اللفظتان، وما لا يعتد به فاختصر الناظم ذكره لذلك. والثاني: على تسليم أنه كثير ومحتاج إلى ذكر، لم يذكره؛ إذ لا زيادة فيه على ما ثبت له، وذلك أنه لما ذكر القسمين وما يغير منهما دل على أن ما سكت عنه لا يغير عن حاله، ويدل على هذا المقصد من كلامه: أنه لما ذكر منه ما حذف منه الفاء، لم يذكر منه إلا ما يجب فيه الرد وهو "شِيَة" ونحوه، وسكت عما الحكم فيه أن يترك

على حاله كزِنَة، ورِقَة، وعِدَة، وما أشبه ذلك، فليس قصده إلا ذكر ما فيه تغييرٌ ينبه عليه، وأما ما ليس فيه من التغيير إلا كسر آخره لياء النسب، فقد تقدم ذلك أول الباب في قوله: وكلُّ ما تليه كسرُهُ وجَبْ فهذا المعنى معتمد عليه في تفسير كلامه، وهو ظاهر جليٌّ، فإذا ثبت هذا فكأنَّ الناظم قد استوفى الكلامَ على ثلاثة أقسام. ووجه عدم الرد فيما حذفت عينه أن الرد من باب تغيير الاسم، ولا يرد في النسب من بنات الحرفين إلى أصله إلا ما يقع عليه تغيير النسب وهو اللام، وأما العين والفاء فلا يقع عليهما تغييرٌ لبعدهما من ياء النسب الموجب للتغيير؛ لأنهما لو ظهرا لم يلزمهما ما يلزم اللامَ لو ظهرت من التغيير، ثم نرجع إلى تفسير المتن. والنظم قد بدأ بما حُذفت منه اللام فقال: واجبر بردِّ اللام"، أصل هذا الجبر الإصلاح وإزالة الآفة اللاحقة، يقال: جبَرتُ العظمَ أجبُرُهُ: إذا أصلحْتَهُ، وجبرتُ الفقيرَ: إذا رقَّيته من فقره وأزلته عنه، وهذا المعنى في مسألتنا ظاهر؛ لأنَّ المحذوفَ منه قد دخله نقص من حروفه، وفاته بعضها فأتى بلفظ الجبر عبارة عن رد محذوفه، و"ما" واقعة على الاسم / المحذوف منه، وضمير "منه" عائد على "ما"، و"منه حذف" عائد على اللام، و"جوازاً" مصدر على حذف

المضاف أي: ذا جواز، ومعنى كلامه أن ما حذفت لامه فحكمه عند النسب إليه أنه ينقسم قسمين: أحدهما: أنَّ ترجع إليه اللام في التثنية أو أحد جمعي التصحيح، وهذا الجمع بالواو والنون أو بالألف والتاء، وسُمِّيا جمعي تصحيح لصحة المفرد فيهما وسلامته من التغيير. والثاني: أن لا ترجع إليه اللام في واحدٍ منهما، فأما إن لم ترجع اللام في واحد منهما فإن في النسب إليه وجهين: إن شئتَ تركته على حاله فلم تجبره بردِّ لامه، وإن شئتَ رددت إليه اللام ونسبتَ إليه مجبوراً وذلك قوله: واجبُر بِرَدِّ اللامِ ما منه حُذِف جوازاً إن لم يكُ ردُّهُ أُلِفْ في كذا: يعني أن الحكم الرد على الجواز بهذا الشرط، وهو ترك التثنية أو الجعين، ومثال ذلك: يد، ودم، وغد، لك في هذه ونحوها وجهان: إن شئتَ رددتَ المحذوفَ فقلتَ: يَدَوِيٌّ، وإن شئتَ لم تردَّها فقلتَ: يَدِيٌّ، وكذلك تقول: دَمِيٌّ ودَمَوِيٌّ، وكذلك: غَدِيٌّ وغَدَوِيٌّ، وهذا الأخير مسموعٌ للعرب حكاه سيبويه، وذكر أن التمثيل كله عربي، وكذلك تقول في شَفَة: شَفِيٌّ إن شئتَ وشَفَهيٌّ، فترد اللام وهي هاء لقولهم: شفاهٌ، وكذلك ثُبة فتقول

فيه: ثُبيٌّ وثُبَويٌّ، وما أشبه ذلك، وكان هذا كله ذا وجهين؛ لأنه لم يرد منه في التثنية ولا في جمعي التصحيح محذوفٌ، بل ترك فيها على حاله، فتقول في التثنية: يدان ودمان وشفتان وما أشبه ذلك، وكذلك تقول في حِرٍ: حِريٌّ وحِرَحِيٌّ فترد اللام وهي حاءٌ بدليل أحراح وحُريح، وجاز الوجهان؛ لأنك تقول في التثنية: حِران لا غير، وقول الناظم: "إن لم ردُّهُ أُلف" يعني: إن لك يكن رد المحذوف في التثنية والجمعين مألوفاً، وفي قوله: "أُلِف" تنبيهٌ حسنٌ، وذلك أنه أثبت الحكم المتقدم من جواز الوجهين لما يُؤلف ردّ لامه في التثنية وجمعي التصحيح، ومعنى المألوف أن يكون معتاداً مشتهراً، فكأنه يقول: إن لم يشتهر رده جاز الوجهان، فعلى هذا يدخل تحت ما لم يرد فيه اللام أصلاً، ويطلق على مثل هذا أنه لم يشتهر رده، أي: ليس له رد فيشتهر على حد قولهم: على لاحِبٍ لا يُهتَدَى بمَنَارِهِ ويدخل له أيضاً ما رُدَّ، لكن الرد لم يشتهر فيه، ولم يعتد

بكل ما وقع في التثنية والجمع من الرد / النادر الشاذ فليس بمعتدٍّ به، بل الحكم في النسب جواز الوجهين، فتقول في يدٍ: يدِيٌّ ويدَوِيٌّ، وإن كانت العرب قد قالت: يدَيَان؛ لأن "يديان" شاذٌّ نادرٌ، ونحو قوله: يديَان بيضاوَان عندَ مُحَلَّمٍ قد تمنَعانِكَ أنْ تُضَام وتُقْهَرَا وفي دمٍ: دميٌّ ودَمَويٌّ، وإن قالوا: دَمَيَان نحو قال الشاعر: ولو أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنَا جَرَى الدَّمَيَان بالخبر اليقينِ وكذلك ما جاء من هذا النحو، فقوله: إن لم يكُ ردُّهُ أُلِفْ" حسنٌ من التثنية، لم ينبَّه عليه في "التسهيل"، وكان من حقه أن ينبه عليه فهذا من المواضع التي أربى فيها هذا النظم على "التسهيل"، وأما إن اشتهر ردَّ اللام في التثنية وجمعَي التصحيح واعتيد وأُلِفَ، فإن الرَّدَّ في النسب أيضاً لازم، فلا بد، وذلك قوله: وحقُّ جبورٍ بهذي توفيهْ وهذي إشارة إلى التثنية والجمعين، يعني: أن الواجب فيما جبر

في هذه المواضع برد ما حذف منه أن يوفَّى حقه في النسب أيضاً، فيجبر كذلك، مثاله: أخ، وأب، وحم، وسنة إذا قلنا: إنَّها من الواو، وضَعَة، وعِضَة، تقول: أخويٌّ وأبويٌّ وحَمَويٌّ وسَنَويٌّ، وضَعَويٌّ، وعِضَويٌّ؛ لأنك تقول فيها: أخوان وأبوان وحموان، وقالوا: سنواتٌ وضَعواتٌ، وقالوا: عِضَواتٌ، أنشد سيبويه: هذا طريقٌ يأزِمُ المآزِمَا وعِضَوَاتٌ تقطعُ اللهازِما وهذه الأُلفَةُ المنبَّه عليها تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون أُلفَةَ السماع، فيريد: أنَّ ردَّ اللام في التثنية إذا كان مألوفاً من كلام العرب مستعملاً كثيراً، وكذلك في الجمع بالتاء فإن الحكم في النسب الرد، وإن لم يكن مألوفاً فالحكم الخيار في الرد، وهذا ظاهر، والثاني أن تكون الإحالة في الأُلفةِ على القياس، فيريد أن رد اللام إذا كان مألوفاً قياساً في التثنية والجمع بالتاء، فإن الحكم في النسب الردُّ، وإلا فالخيار. فإن قلتَ: لِمَ حمل الناظم النسب في هذه المسألة على التثنية وجمعَي التصحيح. فالجواب: أنه في ذلك مقتدٍ بالأئمة المتقدمين؛ إذ فعلوا ذلك الفعل، قال سيبويه: اعلم أن كلَّ اسم على حرفين ذهبت لامه ولم

يردّ في تثنيته إلى الأصل ولا الجمع بالتاء كان أصله (فَعْل) أو (فَعَل) أو (فَعُل) فإنك فيه بالخيار"، ثم مضى في التقرير، وقال في القسم الآخر حين مثل بأبويّ وأخويّ: "لا يجوز إلا ذا، من قبل أنك ترد من بنات الحرفين التي ذهبت لاماتهن / إلى الأصل ما لا يخرج أصلُهُ في التثنية ولا في الجمع بالتاء، فلما أخرجت التثنية الأصلَ لزمَ الإضافةَ أن تُخْرِجَ الأصل" إلى آخره، وكذلك فعل غيره، وإنما فعلوا ذل ليضبطوا ما يُردُّ من المحذوف وجوباً وما لا يُردُّ، ولبيان وجه الرد أيضاً وذلك أن التثنية وجمعي التصحيح بابهما ألا يغير الاسم معهما عن حاله التي كان عليها قبل ذلك لا بزيادة ولا بنقصان، بخلاف باب النسب فإنه على الضد من ذلك مبني على التغيير، فإذا كانوا يردون المحذوف في التثنية والجمعين مع أن الأصل معه السلامة، فإنه بردِّهِ في النسب الذي الأصل معه عدم السلامة أولى، وأما إذا لم يردّوا في التثنية والجمعَين، فإنهم قد يردون في النسب؛ لأن النسب أقوى على الردّ منهما؛ إذ هو باب تغيير، وكان التغيير بالرّدّ لقلّة الحروف، كما كان التغيير بالحذف حين كثرت نحو: حُبلى وحنيفة، واعلم أن قوله: واجبر بردِّ اللامِ ما منه حُذِفْ

أتى في بـ"ما" المفيدةِ للعموم، فاقتضى بظاهره أن كلَّ ما حذفت منه اللام سواء أكان ثلاثياً أم رباعياً أم على أكثر من ذلك تُردُّ إليه على ذل التفصيل، فسأل السائل عن المنقوص هل يدخل له هنا أم لا؟ فإن دخل له هنا كان فاسداً؛ إذ ليس حكمه ما قُدِّم في الثلاثيِّ، بل هو على حكمٍ آخر، وإن لم يدخل له كان الكلام صحيحاً، لكن يبقى الدليل على عدم دخوله. والجواب: أن المنقوص قد تقدم له حكمه، وتفصيل القول فيه، وإذا كان قد تقدم ولم يمكن أن يقال: إنه يريده هنا وإن كان ظاهر هذا الكلام العموم، فكلامه يخصص كلامَه فلم يُرِدْ هنا إلا ما عداه، وما عداه هو الثلاثيّ المحذوف اللام استقراء؛ إذ ليس ثمَّ غيره في مستعمل كلام العرب، فتعين هذا الموضع له. وإذا ثبت هذا بقي النظر في كلام الناظم من أوجه خمسة: أحدها: أنه ذكر ما يُرَدُّ غليه المحذوف في التثنية وأخويها مطلقاً، وما لا يرد مطلقاً، وبين حكمها، وترك حكم ما فيه في الرد وجهان شهيران، أو لغتان مستعملتان تساوتا أو لم تتساويا، والناس قد تكلموا في هذا، وهو من ضرورات المسألة، والخطب في هذا قريب؛ إذ حكمه خارج من القسمين؛ لأن ما فيه لغتان ينظر في كل منها، فتلحق بأحد القسمين، فمَن لغته أن يردَّ / في التثنية أو جمعَي التصحيح، فلا بد أن يَرُدَّ في النسب حتماً، ومَن لغته عدم الرد، فحكمه في النسب جواز الوجهين، ومثال ذلك: هنوك، فيه للعرب

لغتان قد تقدمتا في باب المعرب والمبني، وأن منهم من يقول: هنوك كأخوك، وهؤلاء يقولون في التثنية: هنوان، وفي الجمع بالألف والتاء: هنوات، أنشد سيبويه: أرى ابنَ نِزارٍ قد جفاني وملني على هَنَواتٍ كلُّها متتابِعُ فهؤلاء يقولون في النسب: هَنَويٌّ لا غير، ومن العرب مَن يقول: هَنكَ كيدَكَ، وهؤلاء يقولون في التثنية: هنان، وفي الجمع أيضاً: هنات، كقوله عليه السلام: "أسمعنا من هَناتك"، فهؤلاء بالخيار، فتارة يقولون: هنيٌّ، وتارة يقولون: هنويٌّ، وهكذا سائر ما جاء مما فيه لغتان في الرد في التثنية والجمع وعدم الرد، فاحمل كل لغة على قسمها كأنها منفردة بنفسها، وعلى هذا الترتيب لا يحتاج الناظم إلى التنبيه على قسمٍ ثالث؛ لاكتفائه بما تقدَّم له عنها. والوجه الثاني من أوجه النظر: أنه أحال في المسألة على التثنية وجمعَي التصحيح، أما إحالته على التثنية والجمع بالألف والتاء فصحيح مقيَّد، وأما إحالته على الجمع بالواو والنون فلا فائدة له فيما يظهر؛ لأن ما حذفت لامه لم يستعمل في كلام العرب علماً، وإنما وجد في النكرات كيدٍ ودمٍ، وما كان نحو ذلك، وأيضاً فإنما

وُجد في الجوامد لا في الصفات، فإذاً لا سبيل إلى جمعه بالواو والنون لفقد شروطه، وأيضاً فإذا فرضنا وجود الشروط أو استعمال بعضها استعمال الصفات كأخٍ وحمٍ وهنٍ ونحوها مما اعتبر فيه الأصل من الصفة، فجمع بالواو والنون لم يكن فيه دلالة؛ إذ لا يظهر فيه ما يرد مما لا يرد. ألا ترى أن المنقوص المتقدم الذكر يظهر المحذوف منه في التثنية والجمع بالتاء إذا رُدَّ، فيقول: شَجِيان وشَجِيات، وقاضيان وقاضيات، ولا يظهر في الجمع إذا قلتَ: شجون وقاضون وشجين وقاضين بسبب الإعلال، فلا يعلم فيه هل رجعت اللام أم لا، وإنما يستدل على رجوعها ثم حذفها للإعلال برجوعها في غيره، فكذلك أيضاً في مثل هذا، حتَّى إنَّا لو سمينا بيدٍ أو دمٍ أو غدٍ قلتَ: يَدون ويَدِين، ودَمُون ودَمِين /، وغَدُون وغَدِين، هذا فيما لم يُردَّ فيه في التثنية، وكذلك ما رُدَّ فيه التثنية نحو: أخ وأب ونحوهما، إذا استعملتها العرب، فإنك تقول: أبون وأبين، كما قال الكميت: فلمَّا تعرَّفْنَ أصواتَنَا بَكَيْنَ وفدَّيْنَنَا بالأبينَا فلا يظهر فيه رد المحذوف مع أنك تقول في التثنية: أبوان بلا بد،

وكذلك الأخ نحو ما أنشده الفراء من قول الشاعر: فقلنا: أسْلِموا إنَّا أخوكم وقد برئتْ من الإحَنِ الصُّدُورُ وما كان نحو ذلك فلا فرقَ في الظاهر بين ما يُردُّ فيه المحذوف وما لا يُردُّ فيه. فالحاصل أن الجمع بالواو والنون لم يظهر له فائدة، وغير الناظم من النحويين لم يحكِ في هذا الردَّ إلا على التثنية والجمع بالتاء وترك الجمع بالواو والنون غير ملتفت إليه في هذا الغرض. وقد تقدم نص سيبويه في هذا، وقوله اعلم أن كل اسم على حرفين ذهبت لامه، ولم تردَّ في التثنية إلى الأصل ولا الجمع بالتاء وأن أصله "فَعْل أو فَعِل أوفَعُل" فإنك في الخيار، فلم يعرِّج على الجمع بالواو والنون، ونِعِمَّا فعَلَ، وكذلك فَعَل المؤلف في "التسهيل" اتباعاً لغيره، وإنما وقع له هذا النوع في هذا الكتاب فكان الواجب أن يحقق عبارته، ويسقط عنها هذا الجمع، فيقول مثلاً: "في الجمع بالتاء ولا في التثنيهْ" فيكون قد أتى من ذلك على المحتاج إليه، كما فَعَل غيره، ولا أجد الآن جواباً عن هذا السؤال.

والوجه الثالث: أن كلامه يشمل - كما تقدم - كلَّ محذوفٍ فيشمل ما حذف منه، وعوض من المحذوف ألف الوصل، نحو ابن وابنم واسم واست، ونحو ذلك، ولما كانت هذه الأسماء لا يرد إليها المحذوف في التثنية كان لها فيها وجهان، إذ كنتَ تقول: ابنان وابنمان واسمان واستان، وأنت إذا قلتَ في النسب: ابْنِيٌّ أو اسْمِيٌّ فليس لك إلا ذلك ما دامت ألف الوصل ثابتة، فلا تقول: ابْنَوِيٌّ أو اسْمويٌّ، ولا نحو ذلك، لكم إذا أزيلت ألف الوصل ردت اللام، فقلت: سَمَوِيّ وبَنَوِيّ وهذه حالة أخرى غير تلك، والتثنية إنما تقع عليها ألفات الوصل ثابتة فيها، فالتخيير إذاً لا يقع عليها إلا وألفات الوصل ثابتة فيها على مقتضى كلامه. وهذا مخالف لِمَا تقرَّرَ من أنها مع ألفات الوصل على وجه واحد، وهو عدم الرد، فهذا من كلامه مشكلٌ. والجواب عن هذا: أن ألف الوصل / قد ثبت بالدليل أنها عوض من اللام، فلا تجمع معها، لما يلزم من اجتماع العوض والمعوض منه، وهما جاريان مجرى الضدين على المحل الواحد، وإذا كان كذلك فما دامت ألف الوصل، فإنما تنسب إليها دون رد اللام، فإذا أردت ردَّ اللام اضطررت إلى حذف ألف الوصل لأجل المعاقبة، فقلت: بَنَوِيّ وسَمَوِيّ وما أشبه ذلك، وليس لك إلا ذلك، فالوجهان معاً جاريان على مقتضى كلام الناظم لكن عرض في هذه الأسماء التعويض، فلا بد من اعتباره من خارج، وإن لم ينبه عليه.

والوجه الرابع: أن هذه المسألة لم يبين فيها إذا رُدَّتِ اللام ما حكم العين، ولا شك أن العين في المحذوف اللام تارة تكون ساكنة قام الدليل على ذلك فيها كيَدٍ، أصله: يَدْيٌ بالسكون استدلَّ على ذلك سيبويه بقولهم أَيْدٍ في الجمع، وأيدٍ يكون في القياس جمعاً لـ (فَعْل) أو (فُعْل)، وغدٌ أيضاً غَدْوٌ بدليل قول بعض العرب آتيك غَدواً، وأنشد سيبويه للبيد: وما الناس إلا كالديار وأهلُها بها يوم حلُّوها وغَدْواً بلاقعُ ودمٌ أصله دَمْيٌ؛ لأن الأصل في الدعوى السكون، ولا يُدَّعى التحريك إلا بدليل، ولا دليلَ، وقولهم: "يَدَيَان بَيْضَاوَان ... ... " و: "جرى الدَّمَيَان بالخبر اليقين" ضرورة. وتارة تكون متحركة، قام الدليل أيضاً على ذلك كأخ أصله: أخَوٌ بدليل الجمع على آخاء؛ إذ (أفعال) لا يكون في القياس لـ (فَعْل) صحيح العين، وإنما يكون جمعاً لـ (فَعَل)، وكذلك أبٌ وحمٌ لقولهم: آباءٌ وأحماءٌ، وابن لقولهم: أبناء، وما كان نحو ذلك، فأمَّا ما كان متحرك العين فلا إشكال فيه، وأما ما كان

ساكن العين فهو في موضع الإشكال، إذ مذهب سيبويه أن يحرك النسب فيقول: دَمَويٌّ ويَدَويٌّ وغَدَويٌّ، وإن كان أصلها السكون، ودليله القياسُ والسماعُ. أما القياسُ فإن العين لما تحرَّكت بحركة الإعراب وأَنِسَت بذلك التحريك بَقَّوا عليه حكمَ التحريك، فحركوها؛ لأنهم أرادوا تقويتها، فلو حذفوا الحركة لكان كالمناقض لقصدهم، وهذا أولى من أن يجعل غَدَويّ ويَدَويّ شاذاً مع أنه لم يأت من كلامهم ما يناقضه. وأما السماع فإن العرب قالت: غَدَويٌّ في غَدٍ، وزعم سيبويه أن يَدَويٌّ ودَمَويٌّ عربيٌّ كله، يعني: أن العرب تقوله، ومذهب / الأخفش أن الرد إلى الإسكان، فيقول: يَدْيِيٌّ وغَدْوِيٌّ، وهو عنده القياس، وكذلك يقول في دم: دمْيِيٌّ، وكذلك ما أشبهه، ومذهب المبرد كمذهب الأخفش إلا أن دماً عنده (فَعَلٌ)، فيوافق سيبويه فيه، والذي رجح الناسُ مذهبُ سيبويه، قال السيرافي: وقول سيبويه أولى؛ لأن الشين في "شِيَة" متحركة، ولم يُحتج إلى تغيير البناء [كما لك يُحتج في عِدَة]، إنما احتجنا إلى زيادة حرف، فيترك الباقي على حاله، يعني أن البناء قبل النسب اقتضى تحريكَ العين، ولم

يحتج فيه من التغيير إلا إلى رد حرف لا إلى تغيير البنية عما كانت عليه، وذلك يقتضي بقاء العين على تحريكها، وترك ردها إلى أصلها كما يقول الأخفش؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، فإذا كان الأمر في العين على ما ذكر، فكان الواجب عليه أن يُبَيَّنَ الحكم فيها على مذهبه إن كان له فيها مذهب، وهو الظاهر إذ بين بعد هذا في شِيَة أنك تحرك الشين بالفتح، وهذا مذهب سيبويه، والخلاف في الموضعين واحد، وهذا السؤال متجه، إلا أنا نقول في الجواب عنه: إن مذهبه فيها ندَّعي أنه مذهب سيبويه، مثل المسألة الثانية في شِيَة، وذلك أنَّ تَرْكَ التنبيه على التحريك أو خلافه مشعر بهذا القصد؛ إذ العين قبل رد اللام متحركة بحركة الإعراب، فقد ثبت لها في الاستعمال التحرك، وحين حرف برد اللام، ولم ينبه على الرجوع إلى الأصل دل على تركه على ما هو عليه، وإلحاق اللام ثم الياء، وهذه عادته، كما تقدم ذكره: أنه إذا لم ينبه على شيءٍ في الاسم المنسوب دل ذلك على أنه عنده على ما كان عليه قبل النسب، فكذلك ههنا، ولا يبقى في الموضع إلا تعيين الحركة، وذلك قريبٌ؛ لأن الكسرة لا تتوهم، والضمة بعيدة في الموضع، فلم يبق إلا الفتح. فإن قيل: لو كان هذا مقصوداً للناظم لفعل مثله في شِيَة، فكان يسكت عن حكم تحريك الشين بالفتح لكنه لم يفعل ذلك، بل قال:

فَجَبرُهُ، وفتحُ عينه التُزِمْ فدل هذا على إغفاله التحريك بالفتح في مسألتنا. فالجواب: أن كلامه في شِيَة بخلاف مسألتنا، ومسألتنا قد تبين فيها استقرار التحريك من / كلامه. وأما شِيَة فلو سكت عن التنبيه عليه لكان يُستَقْرَأُ له منه مذهب الأخفش، وهو لم يذهب مذهبه، وبيان ذلك أن شِيَة أصلها وِشْيَة، لكان لما حُذفت الفاء نقلت حركتها إلى العين، فإذا أرادوا الرد فلا بد من رد الحركة إلى موضعها، هو الفاء إذ لا تحرك بغير حركتها، وإذا رُدَّتْ حركتها بقيت العين على سكونها الأول، هذا الذي كان يُفهم له لو لم ينبه على تحريكها بخلاف المسألة الأولى. فإن اللام إذا أُتيَ بها ثبت لها تحريكها بحركة الإعراب بعد ما ثبت لما قبلها التحريك أيضاً إذ حلَّ محلَّ اللام، فيبقى على حاله، فلما تفاوت الموضعان في فهم المراد نبَّه على ما يحتاج إلى التنبيه فيه، وترك التنبيه إلى ما استغني فيه عن التنبيه، فتأمله. والوجه الخامس من أوجه النظر بناء على صحة ارتضائه مذهب سيبويه أنهم استغنوا من ذلك المضاعف فلم يحركوه، كما إذا سمَّيت بـ"رُبَ" المخففة، ثم نسبت، فإن شئت لم ترد المحذوف، وإن شئت رددت الباء، وإذ ذاك لا بد من الإدغام، فتقول: رُبِّيٌّ، وعلّل سيبويه ذلك بكراهية التضعيف، ونظره بمسألة شديدي حيث لم يحذف الياء كراهية التضعيف، واستدلّ على صحة دعواه بقول

العرب في قُرَة، وهم قومٌ من عبد القيس: قُرِّيٌّ، ولم يقولوا: قُرَرِيٌّ، وأصله قُرَّة، فخفف، فالناظم لم يستثن هذا، فأوهم جريان حكم التحريك فيه، وهو غير صواب. والجواب أن التحريك ثابت قياساً لكن عرض فيه فكُّ المضاعف، وهو ثقيلٌ، فخفف بالإدغام، فالإدغام ثانٍ عن التحريك بلا بُدٍّ، ألا ترى إلى قول سيبويه في التعليل، وإنما أسكنت كراهية التضعيف، فجعل الإسكان ثانياً عن ثبوت التضعيف، فإذا كان التحريك فيه ثابتاً قياساً لم يلزم الناظم أن يأتي بحكم الإدغام هنا؛ لأنه يذكره في بابه، ولما كان أختٌ وبنتٌ من المحذوف اللام قد عرض فيها أمر آخر خلاف ما ثبت في بابهما، وخرج حكمهما عن الحصول تحت القاعدة [المذكورة] خصَّهما بالذكر، فقال: وبأخٍ أختاً وبِابْنٍ بِنتاً أَلْحِقْ ويُونُسُ أَبَى حَذْفَ التَّا يعني: إذا نسبتَ إلى / أختٍ وبنتٍ جعلتَ أُخْتاً كأخ، وبنتاً كبنت، ونسبتَ إليهما كما تنسب إلى أخ وابن، فتقول في أخت: أَخَويٌّ؛ لأن ذلك حكم أخ، وفي بنت: بنَويٌّ؛ لأن ذلك حكم ابن، وهذا مذهب سيبويه والخليل، وذلك أن التاء في أخت وبنت عوض من لام الكلمة، وأصلها أن تكون للتأنيث، لكنهم بنوا الكلمة عليها

وألحقوا أختاً بقُفْل وبنتاً بعِدْل، فإذا نسبتَ إليهما فلا بدّ من حذف التاء لشبهها بتاء التأنيث، ووجه الشبه اختصاصها بالمؤنث وحذفها في الجمع بالألف والتاء اعتباراً بأصلها؛ إذ قالوا: أخوات وبنات، ولم يقولوا: أختات ولا بنتات، فلو لم يعتبروا أصلها لتركوا التاء على حالها في الجمع، فإذا حذفوا التاء ردوا اللام من حيث كانت عوضاً، ولأنهم قالوا في أخت: أخوات، فردّوا في الجمع بالتاء، ولم يقولوا في بنت إلا بنات، وفي التثنية: بنتان فلم يردوا شيئاً، كما أنهم لم يردوا في ابن في التثنية، بل قالوا: ابنان، فوجه الرد أنهم لما حذفوا العوض وهو التاء في بنت، لزم رجوع المعوض عنه، كما أنهم لما حذفوا همزة الوصل في ابن لزم رجوع المحذوف كما تقدم. هذا وجه ما قال، وأيضاً فإن النسب قد ثبت له جواز رد اللام المحذوفة فلا بد من جواز أَخَوِيّ وبَنَوِيّ كما جوزوا في النسب إلى ابْنُم بنويٌّ، لكن يبقى النظر في جواز أُخْتِيّ وبِنْتِيّ، ولا شك أن هذه التاء شبيهة بتاء التأنيث؛ إذ لم تزد قط إلا في مؤنث كأُخت وبِنت وهِنت وهنتان وكلتا وكيتَ وذيتَ في كيَّة وذيَّة، ولا بد إذن من حذف التاء كذلك، ولِمَا ثبت من حمل النسب على التثنية والجمع. وذهب يونس إلى تركهما على حالهما، والنسب إليهما كذلك فتقول: أُخْتِيٌّ وبِنْتِيٌّ، وهو قول الناظم: "ويونسُ أبَى حذفَ التا"

أي: أن التاء عنده ثابتة بلا بدّ، وقد احتجَّ له بأشياء، منها: أن هذه التاء ليست للتأنيث بدليل سكون ما قبلها، وتاء التأنيث لا يسكن ما قبلها، وأيضاً قد جعلها سيبويه كتاء سنبتة وتاء عِفريت، وذلك يدل على بناء الكلمة عليها، وتاء التأنيث لا تُبنى عليها الكلمة، وأيضاً قد اتفقوا على صرف أخت وبنت إذا سَمَّوا بهما رجلاً، ولو كانت للتأنيث لم يصرف كما لو سمَّى / رجلاً بطلحة. وبهذين الأخيرين استدل الفارسي في "التذكرة" لصحة قول يونس، وأيضاً فإن ابن الضائع ذكر أن ليونس أن يقول في أخوات وبنات الذي احتج به سيبويه: ليسا بجمع أخت وبنت. ألا ترى أنه ليس قياسُ المؤنَّثِ الذي ليس فيه علامة التأنيث أن يجمع بالألف والتاء، فلا يقال في قِدْر: قِدرات، ولا في قدَم: قَدَمَات إلا شذوذاً، قال: فالأولى أن يقال في أخوات وبنات: إنه جمع لمؤنث لم ينطق به، ويتعين ذلك في أخوات، كأنه جمع أخةٍ مؤنث أخ، وأما بنات فلا ضرورة تدعو لذلك؛ لأنه جمع ابنة، كما هو جمع ابن. قال: وهذا ظاهر في توجيه قول يونس، وقد أجيب عن هذه الحجاج انتصاراً لمذهب سيبويه الذي اختاره الناظم.

أما كون التاء سكن ما قبله وما بعده، فلا شك أن التاء هنا لها شبهان: شبهٌ بتاء التأنيث، وهو ما تقدَّم. وشبه بما هو من نفس الكلمة. قال ابن خروفٍ: هذه التاء عوملت معاملةَ تاءِ التأنيث من حيث كانت زيادة في الاسم لا تدخل عليها علامة أخرى في الإفراد، ولا تصحب هذه في الجمع [شبهت بها]، قال: ومن حيث سكن ما قبلها، ولم تبدل منها الهاء في الوقف فارقتها، فجعلت عوضاً كهمزة الوصل وغيرها، وحذفوها في الجمع لما صارت عوضاً، فلزم ردُّ الأصل فقالوا: أخواتٌ على القياس، قال: والتغيير في بنات قياسٌ، وترك الرد غير قياسٍ. وأما اتفاقهم على صرفها اسمَ رجل فلأنَّ شبه هذه التاء لتاء التأنيث شبهٌ معنويٌّ لا لفظيٌّ، ولأنها لما لزمت المؤنَّث صارت كأنها دالة على التأنيث، وعلى هذا لا بدَّ من الصرف؛ لأن المراعى في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي، ولأنه لما سُمِّيَ بها رجلٌ صار ذلك التأنيث لا حكم له. وأما كون أخوات وبنات ليسا بجمع لأخت وبنت فلا ينبغي أن نقول بذلك، فإن العرب تقول في تثنية أخت: أختان، وفي الجمع: أخوات، فليس لنا أن نقول إلا أنَّه جمعه، كما أنه ليس لنا أن نقول في عُرُسات إلا أنه جمع عُرس حقيقة، فلا نقول: إنه جمع لمقدر هو

عرسةً مثلاً، ويزيله عن الشذوذ أن هذه التاء شبيهة بتاء التأنيث، فعوملت معاملتها، وهو أولى من دعوى شذوذين: أحدهما: أن أختاً لم يجمع؛ / فإنه شذوذ، والآخر: أن أخوات جمع لشيء لم ينطق به، وهو شذوذ أيضاً، وكذلك نقول في بنات: إنه جمع ابنة، واستغني به عن جمع بنت، أو هو جمع لهما، وهو الأولى. هذا معنى ما أجاب به ابن الضائع، والكلام في المسألة أوسع من هذا، وإنما ذكرت منه جملة يتبين منه رجحان ما اختاره الناظم. ويونس الذي ذكر هو يونس ابن حَبيبَ الضَّبِّيُّ مولىً لهم، يكنى أبا عبد الرحمن، وكان من أهل جبا، أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء البصري، وعن حمَّاد بن سلمة، وحكى ابن عائشة أن يونس قال: أول مَن تعلمت منه النحو حمَّاد بن سلمة، وكان النحو أغلبَ عليه، وكان كثير البذل له، قال أبو زيد النحوي: ما رأيت أبذلَ للعلم من يونس، وقيل: لم يكن عند يونس علم إلا ما رآه بعينه كأنه يعني به الميل للتحقيق في المسائل، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة، أو ثلاث وثمانين ومائة، الشكُّ مني، وكان حين مات ابن ثمانٍ وثمانين سنة، ويقال: إنه جاوز المائة، ويقال: قاربها ولم يتجاوزها، وهو من ثقات العلماء المعتمد عليهم في اللسان العربي.

وقد دل أيضاً كلام الناظم على عدم ارتضاء مذهب أبي الحسن في النسب إلى أخت، وذلك أنه يجيز بقاء الهمزة على ضمها، فيقول: أُخَويٌّ ليدل على أنه منسوب إلى أخت، لا إلى أخ رفعاً للالتباس، ورده الفارسي بأن "أخت" عرض له الضم لأجل التاء، فإذا زالت التاء رجع إلى أصله في الجمع والنسب، وألزمه ابن خروف أن يقول في الجمع: أخواتٌ؛ لأنه بناءٌ يسلم فيه الواحد. ولما غيروا في الجمع غيروا في النسب، قال: وهذا الذي ذكر من اختراع اللغة لا سبيل إليه، ثم قال: وضاعِفِ الثانيَ من ثُنائِي ثانيه ذو لَيْنٍ كَلاَ ولائِي اعلم أن الثنائي من الأسماء المتمكنة على قسمين: أحدهما: ما كان الحرف الثاني منه وهو (العين) حرفاً صحيحاً نحو: يدٍ ودمٍ وأخٍ وأبٍ، وهو الذي تقدم ذكره؛ إذ لا بد أن يكون محذوف الثالث إذا كان متمكناً، كسائر الثنائيَّات من الأسماء المتمكنة. والثاني: ما كان الحرف الثاني منه حرف علة، وهذا على قسمين: أحدهما: ما كانت لامه معلومة الأصل نحو: (ذي) بمعنى صاحب، و (في) بمعنى الفم، وشاة، وما أشبه ذلك، وهذا لا يوجد

في كلام العرب مستقلاً / إلا بتاء التأنيث نحو: شاة، أو لازماً للإضافة كفي زيدٍ، وذي مال، ولا يوجد على غير ذلك. والثاني: ما ليس له أصل معلومٌ ولا لام معيَّنة، وهذا إنما يوجد في الأسماء غير المتمكنة والحروف إذا سُمِّيَ بها، وأما في المعربات فلا، على أن سيبويه جعل من المجهول الأصل (لات) من قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعُزَّى} فحكم لها بحكم غير المتمكن، قال السيرافي: لما لم يُدْرَ ما الذاهب منه فُعِلَ به ما يُفعل بما لا يُدْرَى أصله، وإذا ثبت هذا فظاهر الناظم أنه إنما تكلَّم على هذا القسم الآخر، فهو الذي يثبت فيه ما ذكر، وأما ما قبله وهو المعلوم الأصل، فليس حكمه إلا أن يرد إلى أصله، كان حرف لين أو غيره، فليس بداخل تحت قوله: "وضاعف الثانيَ من ثنائي"؛ لأنَّ "شاة" مثلاً إنما تقول فيه: شاهيٌّ على رأي سيبويه، وشَوَهيٌّ على رأي الأخفش، فكذلك سائر الأمثلة، فأين التضعيف في مثل هذا؟ فهو غير داخل له هنا أصلاً، وليس بداخل في قوله: "واجبُرْ بردِّ اللام" إلى آخره؛

لأن النظر فيه مع التثنية والجمع بالتاء غير ملتزم كما كان ملتزماً في الصحيح العين، بل الحكم فيه أن يكمَّل مطلقاً رجعت اللام في التثنية والجمع بالتاء أو لم ترجع، لا بدَّ من ردِّ اللام ضرورةً بسببب أن الاسم لا ينسب إليه حتى يقدر مستقلاً بنفسه مختزَل التاء إن كان ذا تاء، ومقتطعاً من الإضافة إن كانت فيه، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يبقى ما ثانيه حرف علة على حاله؛ إذ لا نظير له في كلام العرب كما تقدم، فلا بد إذن من الرد، ومن هنا تقول في "ذي مال": ذَوَوِيٌّ، وفي "شاه": شاهيٌّ أو شَوَهيٌّ، وأمَّا فو زيدٍ: فقد عوضت العربُ الميمَ في العلَمين، واللام في الإفراد فكفتنا العربُ مئونته، فالحاصل أنه لم يتكلم على هذا القسم رأساً، وهو مما نقضه من الضروريات، ومما يوهم كلامُهُ دخولَه تحته، وهو فاسدٌ، كما تقدم، ثم نرجع إلى كلامه، فقوله: "وضاعف الثاني من ثنائي" يعني: أنَّ الاسم الذي حرفين وثانيهما حرفُ لين، وهو الألف أو الياء أو الواو، إذا نسبتَ إليه فإنك تضاعفه أبداً، وحينئذ تلحقه ياء النسب، وإنما عبر اللين ولم يقل: ذو مدّ؛ لأنه أعم؛ إذ يدخل تحته ما كان من تلك الأحرف الثلاثة حركة ما قبله من جنسه نحو: "كي، ولو، وأو"، / وكذلك يدخل تحت عمومه ما إذا كان متحركاً نحو: (هو، وهي) فكل هذا إذا سُمِّيَ به ثم نسبتَ إليه تضاعف الثاني منه حتى يصير على ثلاثة أحرف، ومثل الناظم من ذلك مثالاً وهو قوله: "كلا ولائي"،

فـ"لا" إذا نسبتَ إليه ولا يكون ذلك إلا في التسمية تقول: لائيٌّ لأنك إذا سميتَ بـ (لا) قلتَ: (لاء) على وزن: شاء وماء، وشاكلته، فـ (لائيٌّ) في كلامه مثال للنسب إلى (لا) مسمًّى به، لكنه خفف ياء النسب كما يخفف ياء النسب كما يخفف المشدد في الوقف على الرَّويّ المشدد، نحو: أَصَحَوْتَ اليومَ أم شاقَتْكَ هِرّ وكذلك تقول في (ما، ويا، وها): (مائيٌّ ويائيٌّ وهائيٌّ)، وكذلك ما أشبهه وكذلك تقول في "لو": لوِّيٌّ، وفي "أو": أوِّيٌّ، وكذلك ما أشبهه، وإنما وجب التضعيف فرارً من بقاء اسم متمكنٍ على حرفين ثانيهما حرف لين، وذلك معدومٌ في كلامهم، وتعيَّن التضعيف دون ادِّعاء حرفٍ آخر؛ لأنَّ حرفاً غير مناسب للعين محتاجٌ إلى دليل، فلم يكونوا ليجعلوا الذَّاهب من "لو" غير الواو إلا بدليل، وأيضاً فقد فعلته العرب في كلامها، قال أبو زُبيد: ليتَ شعري وأينَ منِّيَ ليتُ إنَّ ليتاً وإنَّ لوّاً عناءُ فضاعف العين، فكذلك تقول فيما أشبهه.

ثم ننظر في هذا الكلام في ثلاث مسائل: إحداها: في الاسم إذا نُسب إليه، وكان ثانيه ياء فضوعفت، فإن الناظم إنما ذكر في مثله أنَّك تضاعف الثاني خاصة، ولم يبين هنا غير ذلك، وهذا يظهر فيما كان التضعيف فيه واوياً نحو: "لو وأو"، فإنك تقول: لَوِّيٌّ وأَوِّيٌّ، كما تقدم، كما إذا نسبتَ إلى "جوٍّ"، فإنك تقول: جَوِّيٌّ، وإلى "دَوٍّ" فإنك تقول: دَوِّيٌّ ودَويَّة منسوبة إلى الدَّوِّ، لحقت ياء النسب كقولهم: دوَّار ودوَّاريٌّ، قال الشاعر وهو من أبيات سيبويه: ودَوِّيَّةٍ قَفْرٍ تُمَشِّي نَعَامُهَا كمشْيِ النّصارى في خِفاف الأَرَنْدَجِ فمثل هذا في النسب ظاهر، وأما ما الثاني منه ياء فكان تضعيفه يائياً، فإن ظاهره هنا أنك تقول: كَيِّيٌّ وأَيِّيٌّ، وليس كذلك إذ لم يبيِّن هنا أكثر من مضاعفة الثاني، لكن ترك ذلك إحالة على ما تقدم له قبل هذا في حيّ ونحوه؛ إذ قال: "ونحو حيٍّ فتحُ ثانيه يجب ... إلى آخره"، فالحكم في مثل هذا مأخوذ له من الموضعين، فتقول على هذا في النسب إلى (كي): كَيَوِيٌّ، وفي النسب إلى (أَيْ): أَيَوِيٌّ، وإلى (إي) بمعنى نعم: إِيَوِيٌّ، وما أشبه ذلك، وهذا ظاهر. والمسألة الثانية: في فائدة / تمثيله بـ (لا) وإن كان جائزاً له أن

يمثل بما شاء، لكن لا بد من فائدة قصدها بذلك المثال، وذلك أنَّ التضعيف في هذا الفصل على ثلاثة أوجه: تضعيف واويٍّ، ولا إشكال في أخذ حكمه من هذا الموضع، كما تقدم. وتضعيف يائيٍّ، وهو مأخوذ الحكم من موضعين، كما تقدم أيضاً. وتضعيف الألف وهو الذي مثَّل به، ولا شك أنك إذا ضاعفتَ الألفَ فلا تبقى الثانية على حالها؛ لما يلزم من التقاء الساكنين، والحكم فيها أن تنقلب همزةً على ما هو مقرر في التصريف، فلو ترك التمثيل فيه لم يفهم له وجه التضعيف؛ إذ لا يشعر بقلب الألف الثانية همزة، ولذلك قال في "التَّسهيل": وإن كان حرفَ لين آخر الثنائي الذي لم يُعلم له ثالث ضعِّف، وإن كان ألفاً جُعل ضعفها همزةً، فكان تمثيله بقوله: "كَلاَ ولائي" مبيناً لذلك على اختصار. والمسألة الثالثة: أن تمثيله بقوله: "لائي" بالهمزة، واقتصاره عليه يدل على أنه إنما ارتضى هذا الوجه خاصة، وهو بقاء الهمزة على حالها، ولا شك أن ما كان من باب "شاءٍ وماءٍ" مُسَمًّى به، ففيه وجهان جائزان: ما ذكر، وقلبها واواً، فيجوز هنا: لاويٌّ على قولهم في شاءٍ: شاويٌّ، أنشد سيبويه: فلستُ بشاويٍّ عليه دَمامة إذا ما غدا يغدو بقوسٍ وأسهُمِ وأنشد السيرافي وغيره لمبشِّر بن هُذيل الشمخي:

لا ينفعُ الشَّاويَّ فيها شاتُهُ ولا حِمارَاهُ ولا عَلاتُهُ وذكر سيبويه أنك إذا سميتَ بشاءٍ ففيه الوجهان: هذا، وإن كان ما ذكر هو الأولى، فاقتصار الناظم على أحد الوجهين اقتصارٌ على أحد الجائزين، وهو موهمٌ للوجوب، لكن هذا أيضاً ينضاف إلى موضع آخر، فيؤخذ منه كلا الوجهين، وهو أنه ذكر في الممدود في الهمزة المنقلبة عن أصل الوجهين، ولا شك أن هذا من ذلك، وإنما فرع سيبويه "شاويّ" على قول من قال: عطاويّ في عطاء، فلا إشكال في كلامه. ثم أخذ في القسم الثالث من الأقسام الثلاثة، وهو ما كان المحذوف منه الفاء فقال: وإن يكنْ كشِيَةٍ ما الفا عَدِمْ فجّبْرُهُ وفتحُ عينِهِ التُزِمْ اعلم أن المحذوف الفاء على قسمين: أحدهما: أن تكون اللام حرفاً صحيحاً كعِدَة وزنَة ورقَة، وهذا لم يذكر الناظم حكمه على الخصوص؛ لأنه ليس فيه تغييرٌ خاصٌّ به، بل حكمه حكم زيدٍ وعمروٍ في النسب / إليه، فلم يحتج إلى ذكره

لذلك، فتقول في رِقة: رِقِيٌّ، وفي عِدَة: عِدِيٌّ، وفي زِنَة: زِنِيٌّ، وما أشبه ذلك، ووجه عدم الرد قد تقدَّم. والثاني: أن تكون اللام حرف علة كمثاله الذي مثل به، وهو: شِيَة فهو الذي نصَّ عليه، فإنما أراد بقوله: "كشِيَة" هذا القيد، وهو اعتلال اللام، ويعني: أن حكم مثل هذا أن يُجبَرَ، وجبرُهُ الذي ذكره يكون بأحد وجهين: إما بإتمامه بحرف ثالث آخراً، فتقول: شِيَويٌّ، وهذا هو الذي حكى أبو الحسن عن حمَّاد بن الزبرقان، وإما بردِّ ما حُذف منه وهو الفاء، وهذا الثاني هو الصحيح، والأول لم يرتضه النحويون، وقد رده سيبويه بالتصغير؛ لأنهم لما احتاجوا إلى حرف ثالث لإقامة بنية التصغير ردّوا الفاء، فقالوا في عِدَة: وُعَيدة، فكذلك إذا احتاجوا إلى الردِّ، فإنما يردُّون ما هو الأصل، وأيضاً إذا احتيج إلى ثالث فلا يكون الحرف الذي ليس من الكلمة أولى ممَّا هو منها؛ لأن ما ليس منها أجنبي، فهو أولى بالاجتناب منه،

بأن يختارَ، وحكايةَ من حكى شِيَويّ شاذة، ووجهها كثرة ما جاء في النسب من التغيير، فهو من جملة تغييرات النسب، فإن كان أراد الوجه الأول فليس رأيه بسديد، وإن كان أراد الثاني فهو الذي يقتضيه، والذي عليه جمهور النحويين ويظهر من كلامه؛ إذ قال: "فجَبرُهُ وفتحُ عينِهِ التُزِم"؛ لأن لفظ الجبر أظهر في ردِّ ما حذف منه، وإذا جبر بردِّ ما حذف منه، فلا بد أن تُفتَحَ عينه كما قال، والعين في "شية" هي الشين، فتقول فيه: وِشَويٌّ، وهذا ظاهر في اختيار مذهب الخليل وسيبويه من تحريك العين، وإن كان أصلها السكون اعتباراً بأنها الحركة قبل الرد، ولأن ردَّ المحذوف تقوية للكلمة، وسلبها ما أَنِسَتْ به من تحريك العين تضعيفٌ لها، وهما متدافعان، فوجب البقاء على التحريك، وما ذهب إليه الأخفش من قوله في شِيَة: وِشْيِيٌّ، كظبْيِيٍّ في ظبية، وحِمْيِيٌّ في حِمية، لم يرتضه الناظم، وقد تقدم الاحتجاج به على ذلك، ثم يبقى في مذهب الناظم نظرٌ في وجه تحريك العين بالفت لم يتعرض له؛ إذ هو وجه صناعةٍ لا ثبوت حكم تركه للناظر في المسألة، وقد ذكر شيخنا الأستاذ (رحمة الله عليه) في ذلك وجهين:

أحدهما: أن تكون حركة العين نقلت إلى الفاء؛ لأنها هي التي كانت حركة الفاء قبل النقل، فردت إلى موضعها. / والثاني: أن تكون العين حُرِّكت بالكسر على الوجه المستعمل، لكن لما صارت "وِشْيَة" على صفة إبل فعلوا بها ما فعلوا بإِبِل من فتح العين، هذا ما ذكره الأستاذ محكياً عن شيخه أبي إسحاق الغافقي، وأنهما وجهان مقولان له، قال الأستاذ: والأوَّل أولى على طريقة قولهم: رأى الأمرَ يُفضي إلى آخِرٍ فصيَّرَ أخِرَهُ أوَّلا والوجهان معاً منقولان عن غير الشيخ أبي إسحاق بذكر السيرافيّ الوجه الثاني، وأن العين بقيت على كسرها، وحركت الفاء لما ردت بمثل حركتها، وهو الذي خرج ابن خروف على قول سيبويه. وقياس سيبويه أن يلحق الوا متحركة بمثل حركتها في الأصل؛ إذ حركتها في العين. قال: ولا يمتنع أن تُردَّ إليها حركتُها، وتحرك العين بمثل حركة الميم من دَمَوي، فليس الوجهان بمختصين بنظر الشيخ، كما يظهر

من كلام الأستاذ (رحمه الله). وقوله: "التزم" خبر قوله: "فجبروه"، وفتح عينه أي: التزم هذان الحكمان، وإنما لم يقل: التزما وهما شيئان؛ لأنهما في حقيقة النسب وكيفيته شيء واحد، أي: التزم هذا الحكم المركَّب من شيئين، ووجه التزا فتح العين قد تقدم، وأما وجه الجبر فقد ذكر أن الاسم المنسوب يقدَّر قبل لحاق ياء النسب كالمستقل، وعليه ينبني النسب، وإذا كان كذلك وحُذفت التاء من شِيَة، بقي الاسم على حرفين، ثانيهما حرف لين، وذلك لا يكون في معربات الأسماء، فافتقروا إلى جبره لذلك، كما افتقروا إلى الجبر في التصغير؛ إذ لا يمكن في الموضعين إلا ذلك، وإلى هذا المعنى أشار الجرميُّ في طرة الكتاب بقوله: "الرد في شِيَة لا بد منه؛ لأنه يُبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين. والشِّيَةُ: ل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره، وقوله: {لا شِيَةَ فيها} أي: ليس فيها لونٌ يخالف سائر لونها، ويقال وشيتُ الثوبَ وَشْياً وشِيَةً: إذا زيَّنتَه بألوان تخالف لونه، والفاء في قوله: "ما الفا عَدِم" مفعولٌ به بـ"عَدِم" والجملة صلة "ما"، و"ما" اسم كان، وخبرها المجرور قبلها، وضمير "فجبره وفتح عينه" عائد على مدلول "ما"، وهو الاسم المحذوف الفاء.

*** والواحدَ اذكرْ ناسباً للجمع ما لم يشابِهْ واحداً بالوضْعِ الواحد مفعول بـ"اذكر" /، و"ناسبا" حال من فاعل "اذكر" أي: اذكر الواحد في حال كونك ناسباً للجمع، ويريد: أنك إذا أردتَ النسب إلى الجمع فإنك لا تأتي بالجمع نفسه فتنسب إليه، بل تأتي بالواحد منه فتنسب إليه، ولم يببيِّن هذا المعنى كلَّ البيان، وإنما محصول كلامه أنك إذا نسبتَ للجمع فاذكر الوحد، وهذا لا يتحصَّل منه المراد صريحاً، وإنما يُعْطِي المعنى المرادَ من قوة الكلام، فكأنه يقول: اذكر الواحدَ ناسباً له حالة كونك مريداً النسب إلى الجمع، والجمع في كلامه محمول على عموم أنواعه، فجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم وجمع التكسير في هذا الحكم على حدٍّ سواء، وما تقدَّم له في المثنى والمجموع جمع سلامة إنما كان حكمَ العلامتين، وسكت عمَّا عدا ذلك إلى أن ذكره هنا، وحكى سيبويه عن العرب "في رجل من القبائي: قَبَليٌّ وقَبَليَّةٌ للمرأة، وفي أبناء فارس: بنَويٌّ، كأنهُم نسبوا إلى قبيلة وإلى ابن، وقالوا في الرِّباب جمع رُبَّة وهي القبيلة من الناس: رُبَِيٌّ"، ومن ذلك قولهم في الفرائض: فَرَضيٌّ، وكذلك لو نسبتَ إلى المساجد قلتَ: مسْجِديٌّ، أو إلى الجمع قلتَ: جمْعِيٌّ، أو إلى العُرَفاء لقلتَ: عَرِيفيٌّ، قال سيبويه بعد

ما ذكره هذه المثل: "وهذا قول الخليل رحمه الله، وهو القياس على كلام العرب"، فهذا كله مما ظهر فيه الرد إلى الواحد كما قال. فإنما تنسب إلى الواحد منها، وهو مسلمٌ وزيدٌ وضاربٌ، وكذلك تقول في مسلمات: مسلِميٌّ، وفي هندات: هِندِيٌّ، وفي زينبات: زَينبيٌّ فتنسب إلى الواحد أيضاً، لكن لا يظهر الفرق بين النسب إلى الواحد والنسب إلى الجمع فيما تقدم من المُثُل، وإنما يظهر الفرق في بعض المواضع كما إذا نسبتَ إلى تَمَرات، أو إلى دَعَدَات، أو إلى هِنَدَات، إذا حركتَ العين فإنك لا تبقي العين على تحريكها، بل تردها إلى السكون كما تكون في المفرد فتقول: تَمْريٌّ ودَعْدِيٌّ وهِنْدِيٌّ، ولا تقول: تَمَريٌّ، ولا دَعَدِيٌّ، ولا هِنَدِيٌّ إلا إذا سميتَ بها، وإذا نسبتَ إلى قاضين أو داعين جمع قاضٍ وداعٍ فإنك تقول: قاضيٌّ وقاضَوِيٌّ، وداعيٌّ ودَاعَوِيٌّ، ولو نسبتَ إلى ذلك مسمًّى به لم تقل إلا قاضيٌّ خاصَّةً، ولو نسبتَ إلى سنين لقلتَ: سَنَويٌّ ففتحتَ السين، / ولو سميتَ به لقلتَ: سِنِيٌّ فتركتَ السين على كسرها، ففي مثل هذه المواضع يظهر الفرق، كما أنه قد يخفى في جمع التكسير في بعض المواضع، وذلك حيث يكون تغيير التكسير مقدراً كفُلْك وهِجان، ونحو ذلك، وإنما نسبوا إلى المفرد ولم ينسبوا إلى الجمع

على حاله ليحصل لهم الفرقُ بين النسب إليه على حاله وبين النسب إليه مسمًّى به. هذا تعليل سيبويه وغيره، ورشح هذه التفرقة مما قاله الأستاذ (رحمه الله) من "أن المطلوب من النسب إلى الجمع الدلالة على أنه بينه وبين ذلك الجنس ملابسة، وهذا المعنى يحصل بالمفرد مع حصول الفرق بين النسب إليه جمعاً وبينه مسمًّى به". ثم استثنى من هذا الحكم ما كان من المجموع يشبه الواحد فقال: ما لم يشابِهْ واحداً بالوضْعِ يعني: أن الرد إلى الواحد في النسب إلى الجمع إنما يكون بشرط ألا يشبه الجمعُ الواحدَ بوجهٍ من وجوه الشبه، وقوله: "بالوضع" راجع إلى "الواحد"، أي: ما لم يشابه الاسمَ الموضوعَ على الإفراد فإنه إذا كان مشبهاً له لم ينسب إلى مفرده ولم يردَّ إلى واحده بل ينسب إليه على حاله، والجمع الذي يشبه الواحد على خمسة أنواع: وذلك أن الاسم الواحد بالوضع الذي أراد الناظم هو أن يكون مفرد اللفظ أي: محكوماً له بحكم المفرد في تصرفات الكلام، مفردَ المعنى، أي: ليس مدلوله متعدداً، والاسم المجموع بالوضع الحقيقي أن يكون على ضد المفرد، فإذا خرج المجموع عن حقيقته إلى أن يعلق به حكم من أحكام المفرد اللفظية أو المعنوية، نُسِب إليه على حاله.

فالنوع الأول: اس الجمع سواء أكان من لفظ مفرده أم لا، كصحبٍ وركبٍ ورهطٍ ونفرٍ، فإن مثل هذا لا تنسب إليه إلا: صحبيٌّ ورَكبيٌّ ورَهْطيٌّ ونَفَريٌّ ولا تردُّهُ إلى المفرد فتقول: صاحبيٌّ ولا راكبيٌّ ولا رَجُليٌّ؛ لأن اسم الجمع بمنزلة المفرد يُخبَرُ عنه إخبار المفرد، كقول الشاعرة: أخشَي رُجيلاً أو رُكَيباً عاديا وصغروه على لفظه، فهو في اللفظ على حكم المفردات، وإن كان المعنى معنى الجمع، قال سيبويه: "ولو قلتَ رُجَليٌّ في الإضافة إلى نَفَرٍ لقلتَ في الإضافة إلى الجمع: واحديٌّ، وليس يقال هذا". النوع الثاني: اسم الجنس فإنه يصغر / على لفظه وإن كان جمعاً في المعنى، لمعاملته في اللفظ معاملة المفرد، قال الله: {كأنهم أعجازُ نخلٍ منقعر} فتقول هنا في تمر: تَمْريٌّ، وفي نخل: نَخْليٌّ، وفي شعير: شعيريٌّ، وكذلك سائره. فإن قيل: لا يتعين في هذا النسب إلى اسم الجنس؛ لاحتماله أن

يكون النسب إلى المفرد، فتمريٌّ منسوب إلى تمرة، ونخليٌّ منسوب إلى نخلة، وكذلك البواقي، فلعله من المنسوب إلى المفرد. فالجواب: أن الأمر ليس كذلك بل هو منسوب إلى الجماعة، والدليل على ذلك قولهم في الشعير: شعيري، فلو كان مردوداً إلى الواحد لقالوا: شَعَريٌّ؛ لأن شعيرة (فَعِيلة)، وقياس (فَعِيلة) (فَعَلي) كفَرَضيّ في فريضة، وقبليّ في قبيلة، ونحو ذلك، وهو استدلال صحيح، ذكره المارديّ في "الترشيح". والنوع الثالث: الجمع المسمى به، فإنك تنسب إليه على حاله فتقول إذا سميتَ برجال: رجاليّ، أو بهنود: هنوديٌّ، أو بمساجد: مساجديٌّ، وكذلك تقول في تمرات: تَمَريٌّ، فتتركه على حاله، وفي دَعَدات: دَعَديٌّ، وفي قاضون: قاضيٌّ لا غير، وقد قالوا في أنمار: أنماريٌّ، لأنَّ أنمار اسم رجل، وقالوا في كلاب: كلابيٌّ، قال سيبويه: ولو سمَّيتَ رجلاً ضَرَبات لقلتَ: ضَرَبيٌّ لا تغيِّرُ المتحركَ؛ لأنك لا تريد أن توقع الإضافة على الواحد"، وإنما كان النسب هنا على لفظ الجمع؛ لأنه صار دالاً على اواحد، كما ان زيد ومنصور ونحوهما دالاً على الواحد، وقصد معنى الجمعية منتفٍ فلا معنى لردِّه للواحد.

والنوع الرابع: الجمع الذي لا واحد له من لفظه في الاستعمال، سواء أكان له مفرد في الاستعمال غير جارٍ عليه أم لم يكن له مفرد أصلاً، نحو: عباديد، ومشابه، ومحاسن، ومذاكير، فإنها جموع جاريةٌ عليها أحكام الجموع الحقيقية التي استعملت مفرداتها، لكنها لما لم يكن لها مفرد مستعمل فأشبهت من أجل ذلك المفرد فتقول: عباديدي، ومشابهي ومحاسني ومذاكيري، وفي ملامح: ملامحي، وكذلك ما أشبهه، والعباديد: الفِرَقُ من الناس الذاهبون في كل وجه، لا واحدَ له أصلاً، وما عداه استعمل له شِبْهٌ، وحُسْنٌ، وذِكْرٌ، ولَمْحَةٌ، ولم يتغيَّر في النسب شيءٌ من ذلك فينسب إلى الجمع. قال سيبويه: "فإذا لم يكن له واحد لم تجاوزه حتى تعلم، فهذا أقوى من أنْ أُحدِثَ شيئاً لم تكلَّم به العرب"، ومن هذا / قولهم في الأعراب: أعرابيٌّ ليس له مفرد مستعملٌ إلا عربٌ، وعرب أعمُّ من الأعراب، فليس في الحقيقة بمفرد له. فإن قيل: ولِمَ رددتَ هذه الجموع في التحقير إلى واحدها المستعمل أو المشهور ولم يرد إليه في النسب، فتقول في التحقير: عُبيدِيدون في عباديد، فتصغر عبداً أو عِبيديداً أو عُبدوداً، ولا تفعل ذلك في النسب، وكذلك سائر المُثُل، فيقول سيبويه هنا: هذا أقوى

من أن أحدث شيئاً لم تكلم به العرب، ويقول في التصغير، وإذا جاء الجمع ليس له واحد مستعملٌ في الكلام من لفظه يكون تكسيره عليه قياساً، ولا غير ذلك، فتحقيره على واحد هو بناؤه إذا جُمع في القياس، ثم مثَّل بعباديد. فما الفرق بين النسب والتصغير؟ فالجواب: أنه لما كان التحقير يناقض جمع الكثرة من جهة المعنى عدلوا عنه حتماً. هذا مع أن التصغير يغير لفظ الجمع ولا بد، فبقَّوا فيه على القياس. وأما النسب فليس فيه شيءٌ، بل قصدهم التفرقة، فلم يحتملوا لذل التكلم بما لم ينطق به، وأما محاسن ومشابه، فلو قالوا: حُسنيٌّ وشِبهيٌّ لم يُعلم مرادهم من النسب إلى محاسن ومشابه، ولذلك قال سيبويه: "فهذا أقوى من أن أحد شيئاً لم تكلَّم به العرب" يعني: عباديد. هذا جواب ابن الضائع في المسألة. والنوع الخامس: الجمع الذي صار علماً بالغلبة، وإن كان غير مسمًّى به، فإن حكمه حكم ما لو كان علماً بالتعليق، ومثاله: الأنصار، قالوا فيه: أنصاريٌّ؛ لأنه اسم وقع لجماعتهم، ولم يستعمل منه واحداً يكون هذا تكسيره، وكان واحده لو استعمل ناصر، وفاعل قد يُكسر على أفعال، وإن كان قليلاً قالوا: صاحبٌ

وأصحابٌ وشاهدٌ وأشهادٌ، وبانٍ وأبناء، وجانٍ وأجناءٍ، ومثل الأنصار قولهم في المدائن اسم بلد: مدائنيٌّ، كأن المدائن صار اسماً لبلد غلب عليه، قال سيبويه: "وسألتُه - يعني الخليل (رحمه الله) - عن قولهم: مدائنيّ فقال: صار هذا البناء عندهم اسماً لبلد، ومن ثمّ قالت بنو سعد في أبناء: أبناويّ، كأنهم جعلوه اسمَ الحيِّ والحيُّ كالبلد، وهو واحدٌ يقع على الجميع، والأبناء هم: ولد سعد بن زيد مناة بن تميم إلا كعباً وعمراً، فإنهم لا يقال لهم: الأبناء، قاله أبو عبيد. هذا أصله، ثم غلب / عليهم الاسم حتى صار كالعلم، فنسبوا إليه على لفظه، ومن هنا يكون قولهم في النسب إلى الأصول: أصوليّ صحيحاً في قياس العربية؛ لأن لفظ الجمع قد غلب على اسم ذلك العلم حتى صار كالعلم له، فلا ينبغي تخطئه من نسب إلى الجمع فقال: أصوليّ، هذا جملة ما أشار إليه الناظم بقوله: ما لم يشابِهْ واحداً بالوضْعِ وهو من اختصاره الحسن، إذ أتى فيه بأمرين: أحدهما: جمع هذه الأنواع في هذا اللفظ اليسير وهو أخصر بكثير من لفظه في التسهيل؛ إذ قال: "وينسب إلى الجمع بلفظ واحده إن استعمل وإن

لا فبلفظه" ثم قال: وحكم اسم الجمع والجمع الغالب والمسمَّى به حكم الواحد". والثاني: إتيانه بلفظ مشعر بالعلة التي لأجلها نسب إلى الجمع بلفظه، وهي مشابهته للواحد بالوضع؛ إذ هي العلّة لذلك الحكم، ولم يأت في التسهيل بشيء من ذلك. فهذا الكلام من محاسن اختصاره في هذا النظم إلا أنه نقصه من هذا الفصل حكم التثنية وكيفية النسب إليها، ولا مرية في أن حكمها حكم الجمع بالواو والنون فتقول في الزَّيدَين: زيديٌّ، بالرَّدّ إلى الواحد، وفي رِجْلَيْن: رِجْلِيٌّ كذلك، فكان من حقِّه أن يذكر حكمُها هنا، كما ذكر حكمَها مسمًّى بها قبل، والاعتذار عنه بأنه أطلق لفظ الجمع شاملاً للتثنية وغيرها على مقتضى اللغة اعتذارٌ ضعيفٌ. *** ومَعَ فاعلٍ وفعَّالٍ فَعِلْ في نسبٍ أغنى عن اليا فَقُبِلْ الغالب على النسب أن يكون بالياء المشددة اللاحقة آخر الكلمة، وقد يأتي على غير ذلك، وهو الذي أخذ في ذكره، "مع" ظرف متعلق بـ"أغنى" و"فَعِلْ" مبتدأ خبرُهُ "أغني"، والتقدير: فَعِلٌ أغنى

عن الياء في النسب مع فاعلٍ وفعَّال، وقد يكون "مع" في موضع الحال أي: حال كونِ فَعِلٍ مع فاعل وفعَّال، ويعني: أن هذه الأبنية الثلاثة وهي (فاعل) و (فعَّال) و (فَعِل) تأتي في كلام العرب مغنية عن إلحاق ياء النسب، ومؤدية معناها، فقوله: "أغنى عن اليا" يريد: في النقل والسماع، وقوله: "فَقُبِل" يريد: أنَّ النحويين قبلوه، كما جاء وبنوا عليه من حيث هو، فنقول: فأمَّا نيابة (فاعل) فنحو: لابِنٍ، وتامرٍ، ودارعٍ، لصاحب التمر والدِّرع، ولصاحب النَّبْل: نابل، ولصاحب النُّشَّاب: ناشب، ولذي الفرس: فارسٌ، ولذي الطعام: طاعم، ولذي / النَّعل: ناعل، ومن ذلك كثير، ومما جاء في الكلام المنقول ما أنشده سيبويه للحطئية: فَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أنَّكَ لابِنٌ في الصَّيف تامِرْ وأنشد أيضاً للنابغة: كليني لهمٍّ يا أميمةُ ناصِبِ وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكِبِ وأنشد أيضاً لذي الرمة: إلى عَطَنٍ رَحْبِ المباءة آهِلِ

وعلى ذلك حملوا قولهم: عيشةٌ راضيةٌ، وقال الشاعر الحطيئة: دعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي وقال امرؤ القيس: نطعنُهُم سُلكَى ومخلوجةً لفْتَكَ لأمَيْنِ على نابِلِ وأما نيابة (فعَّال) فنحو قولك لصاحب الثياب: ثوَّاب، ولصاحب العاج: عوَّاج، ولصاحب الجمل: جمَّال، ولصاحب البُتوت: بتَّات، وكذلك: لبَّان وتمَّار ونبَّال وما أشبه ذلك، قال امرؤ القيس، أنشده سيبويه: فليس بذي رمحٍ فيطعُنَني به وليس بذي سيفٍ وليس بنبَّال وهو كثيرٌ أيضاً، وأما (فَعِل) فمثال نيابته عن (فَعِيل) قولك: رجُلٌ عَمِل، ورجل طَعِن، ولَبِسٌ، وقالوا: رجل نَهِرٌ، نقله

سيبويه، وأنشد عليه: لستُ بليليٍّ ولكمي نَهِرْ لا أُدْلِجُ الليلَ ولكنْ أبتَكِرْ وأنشد الجوهري: إنْ كنتَ ليليّاً فإني نَهِرْ حتى أرى الصبحَ فلا أنتظِرْ وقالوا: رجلٌ حَرِحٌ، وسَتِهٌ، طَعِنٌ، فهذه الأمثلة نائبة كما قال عن ياءي النَّسب، فقولك: لابنٌ وتامرٌ نائب عن قولك: لَبَنيٌّ وتَمْريٌّ، وكذلك سائر المثُل؛ إذ ليس على معنى الفعل، ولا فعلَ له هنا يجري عليه، وكذلك قولهم: نبَّال وثوَّاب نائب عن: نبليٌّ وثوبيٌّ إذ ليس بجارٍ على فِعْلٍ أيضاً، قال السيرافي: واستدل سيبويه على أن فعَّالاً بمنزلة المنسوب بقولهم البتّي في الذي يبيع البتوت، واحدها: بتٌّ، وهي الأكسية، قال: وإليه ينسب عثمان البَتِّيّ من كبار الفقهاء، وكذلك قولهم عَمِل ونَهِر في معن عَمَليّ ونَهْريّ، والدليل عليه ما تقدَّم من قوله:

لستُ بليليٍّ ولكنّي نَهِرْ قال سيبويه: وقالوا: نَهِرٌ، وإنما يريدون نهاريّ فيجعلونه بمنزلة عَمِل، ثم أنشد البيت، ثم قال: فقولهم نَهِر في نهاري يدلُّكَ على أن عَمِلاً كقولك: عَمَليٌّ؛ لأن في عَمِل من المعنى ما في نَهِر، قال: وقالوا رجل حَرِحٌ، ورجلٌ سَتِهٌ، كأنه قال: حِرِيٌّ واستِيٌّ، وإنما كان ذلك لعدم جريانه على الفعل، وإن كان منها ما له فعل فهو على عدم الجريان. هذا شرح كلام الناظم / على الجملة، ثم يقع النظر في مسائل: إحداها: أنه يحتمل التعاقب، وأنك إن شئتَ أتيتَ بياء النسب، وإن شئتَ أتيت بأحد هذه الأبنية؛ لأنه قال: إنها أغنت عن الياء، فتأتي بالياء إن شئتَ أو بالبناء إن شئتَ، ويحتمل أن يكون على غير هذا، بل على أن لهذه الأبنية موضعاً يغني [فيه] عن الياء ويقوم مقامها على غير معاقبة، وإلى هذا الاحتمال الثاني يشير لفظ "أغنى" كما قال في موضع آخر: وأولٌّ مبتدأٌ والثاني فاعلٌ أغنَى في أسارٍ ذانِ

إذْ ليس معناه إلا أن الفاعل انفرد بذلك الموضع مغنياً عن خبر المبتدأ، وكذلك هاهنا أي: يغني عنه بحيث لا يقع في ذلك الموضع إلا أحد الأبنية، وهذا معنى كلامه في التسهيل؛ إذ قال: "ويستغنى عنها (يعني عن ياء النسب) غالباً بـ (فعَّال) من لفظ المنسوب إليه إن قصد الاحتراف، وبصوغ (فاعلٍ) إن قصد صاحبُ الشيء"، وهو ظاهر من كلام سيبويه، فهو أولى ما يُحمَلُ عليه هذا النظم. وأمَّا الاحتمال الأول فهو مذهبٌ أيضاً، وإليه ذهب ابن عصفور؛ إذْ خيَّر في صوغ أحد الأبنية أو إلحاق ياء النسب، نص على ذلك في "المقرب" و"شرح الجمل"، ويظهر من كلام المارديّ؛ إذ قال: تقول لبائع اللؤلؤ: لؤلؤيٌّ، ولآّلٌ، ولصاحب العاج: عاجيّ وعوَّاجٌ، ولصاحب الزُّجاج: زجَّاجي وزجَّاج. هذا ما قال. وهو مذهبٌ مرجوحٌ، وظاهر كلام العرب الاستغناء، كما أشار إليه كلام الناظم، وكلام سيبويه على ذلك يدلّ؛ لأنه لما أتى بمثال من فعَّال، وبين أنه أكثر من أن يحصى، قال: وربَّما ألحقوا ياءي الإضافة كما قالوا: البتِّيّ، فأتى بـ"ربَّما" المقتضية للتقليل، وإنما هو ناقلٌ، فياء النسب في هذ الموضع نادرة، والنادر لا يقاس عليه.

والمسألة الثانية: أن في كلامه ما يدل على أنه قياس، وذلك أنه أغنى عن الياء، فقيل: ولا شك أن قوله: "أغنى" يريد به أن ذلك قد جاء في السماع على ذلك الوصف، وقوله: "فقُبِل" إمَّا أن يعني: أنَّ النحويين قبلوه من حيث هو سماعٌ ولا يقاس عليه، وإمَّا أن يعنيَ أنهم قبلوه وأخذوا بمقتضاه، وقاسوا عليه، فلو أراد الأول لم يكن فيه فائدةٌ؛ إذ الأخبار عن الشذوذات بأنها قبلت نقلاً، كما جاءت لا محصول تحته بالنسبة إلى صنعة النحويين أهل القياس كما / لو قال قائلٌ: إن العرب قد قالت: صددْتِ فأطْوَلْتِ الصُّدُودَ فقبله النحويون، فإن هذا الكلام لا يحصِّل معنًى يُعتد به بخلاف ما إذا أراد أنهم قبلوه في القياس وأخذوا به، فإن في هذا أجل فائدة لهم للإخبار بأن مثل هذا ليس عندهم من السماع المهمل الذي لا يعتمدون عليه، بل هو معتمد عليه مبني على محصوله، وأصرح من هذا في كلامه قوله بعد: وغيرُ ما أسلفتُهُ مقررا ... إلى آخره.

فهذا نص بأنَّ جميع ما ذكر في الباب مقيسٌ ليس فيه ما يوقف على السماع، وإذا كان كذلك كان الناظم قد ارتضى رأي من قال بالقياس، وكذلك فعل في "التسهيل"، وهو ظاهر كلام سيبويه؛ إذ قال بعد ما أتى بأمثلة منه: "وذا أكثر من أن يحصى"، ولا شك أن ما كان هكذا فهو أحرى بالقياس عليه. وهذا الكلام هو الذي اعتمد الشلوبين في القول بالقياس، وذهب جماعةٌ إلى وقفه على السماع، وإليه ذهب ابن خروف، واعتمده ابن عصفور، واعتمد ابن خروف في ذلك على كلام سيبويه، حيث قال: وتقول لمن كان شيءٌ من هذه الأشياء صنعته: لبَّانٌ، وتمَّارٌ، ونبَّالٌ، قال: وليس في كل شيء من هذا قيل هذا، ألا ترى أنك لا تقول لصاحب البزّ: بزّاز، ولا لصاحب الفاكهة: فكَّاه، ولا لصاحب الشعير: شعَّار، ولا لصاحب الدقيق: دقَّاق، هذا كلامه، وظاهره عنده عدم القياس، وقد تأول غيره هذا الكلام على الاستغناء في بعض المواضع، فذكر الشلوبين أنه لا ينبغي أن يؤخذ من هذا الكلام عدم القياس، بل هو مقيسٌ عنده، ألا ترى إلى قوله: "وهو أكثر من أن يحصى"، لكن

بيَّن أنَّ العرب قد تترك القياس في بعض المواضع، وتستغني بغيره عنه فتحفظ تلك المواضع، ويبقى مقيساً فيما عداها. وبعد، فأصل الخلاف في المسألة لفظ سيبويه، فمن ترجَّح عنده أحد الموضعين قال به. المسألة الثالثة: فيما على الناظم من الدرَكِ وذلك من وجهين: أحدهما: أنه ذكر الاستغناء ولم يبيِّن أنه في موضع مختصٍّ ومحلٍّ معيَّن، وإنما ذكر أن هذا آتٍ في الكلام على الجملة، ومثل هذا لا يحصِّل معنًى في النحو، كما لو قال: إن الضمير يأتي متصلاً، ويأتي منفصلاً من غير أن يذكر موضع الاتصال ولا الانفصال، فإن مثل هذا لا يبيِّنُ في المسألةة حقيقة؛ إذ الضمير لا يأتي متصلاً مطلقاً، ولا منفصلاً مطلقاً، فكذلك كلامه هنا، وهذه الأبنية / الثلاثة إنَّما يستغنى بها في مواضع مخصوصة، فأمَّا (فاعل) فيوتى به لمن كان صاحب شيء وليس فيه علاج، ولا محاولة كـ"لابِنٍ" لمن كان له لبنٌ، و"تامرٌ" لمن كان له تمرٌ، وكذلك سائر المُثُل. وأما (فعَّال) فلمن كان صاحب شيء له فيه علاج ومحاولة كـ"جمَّال" و"حمَّار" لصاحبي الجمال والحمير اللذين يعملان عليها، وكذلك سائر الأمثلة، هذا هو الغالب في المثالين، وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر كقولهم: سيَّافٌ لذي السيف الذي لا يحاول فيه شيئاً، ويقال لذي البغل: بغَّالٌ، ونابلٌ للذي يعالج النبل، وقد أطلق امرؤ القيس النبَّال

في موضع النابل، والنابل في موضع النبَّال، فقال في الأول: وليس بذي رمحٍ فيطعُنَني به وليس بذي سيفٍ وليس بنبَّالِ فإنما يعني صاحب النبل خاصة، وقال في الثاني: نطعنُهُم سُلكَى ومخلوجةً لَفْتَكَ لأْمَينَ على نابِلِ فإنما يعني المعالج للنبل على ما حكي أنه قال: مررتُ بنابلٍ وصاحبه يناوله الريش لؤاماً وظُهاراً، فما رأيتُ شيئاً أحسن منه، فشبهت به، وأما (فَعِل) فللملازم للشيء، كذا قال ابن عصفور، نحو: عَمِلٍ للملازم العمل، ونَهِرٍ للملازم للشغل بالنهار، وسائر المثل كذلك، وغيره يجعل (فعَّالاً) و (فَعِلاً) من باب واحد، وذلك ملازمة العمل والعلاج ومداومَتُه؛ لأنها معاً من أمثلة المبالغة، فهذا مما فات الناظمَ تفسيرُهُ، وهو ضروري؛ إذ لا تَرِدُ هذه الأمثلة علىى محلٍّ واحد كما رأيت، ولا بدَّ من الاختصاص، وهو لم يذكره فيوهم كلامه حكماً لم يقل به أحداً، ولا جواب لي عن هذا الدَّرَكِ الآن. الوجه الثاني: من وجهَي الدَّرَكِ أنَّ النحويين إنما عادتهم أن يذكروا من هذه الأبنية (فاعلاً) و (فعَّالاً)، وأما (فَعِل) فلا يجعلونه من ذلك، وعلى المثالين اعتمد في "التسهيل" و"الفوائد"، وهو

الذي ينبغي. فإن قلتَ: إن (فَعِلاً) قد ذكره سيبويه وكثيرٌ من النحويين كما ذكروا (فاعلاً) و (فعَّالاً). فالجوابُ: أنهم إنما ذكروه على جهة الشذوذ والقلة؛ إذ لك يَلْحق (فاعلاً) و (فعَّالاً) ولا قاربهما، وقد أشار إليه إشارة القلة في الجملة في كتاب "التسهيل" إذ قال: "وقد يقام أحدهما مقام الآخر وغيرهما مقامهما"، فالغير يريد به (فَعِلاً) وما كان نحوه، وأيضاً فحين بنى على ما ذكروه فلنذكر (فعولاً) و (مفعالاً) و (مِفْعَلاً)، وقد ذكر هذا سيبويه: وزاد غيره (مِفعِيلاً) و (فعَّالاً) و (فَعِيلاً) بمعنى مفعول، بل كل صفة جرت على المذكر والمؤنث بلفظ واحدٍ فهي من هذا الباب؛ / لأنها غير جاريةٍ على فِعْلٍ أصلاً، فهي عند البصريين على معنى النسب، فكان من حقه حين أراد أن يستدرك على غيره أن يذكر ما ذكره الناس من هذه الأشياء، ويقولَ حين لم يُرِدِ الاستيفاء، فلا حاجة به إلى ذكر (فَعِل)، بل كان يسكت عنه كما سكت غيره عنه. وقد يجاب عن هذا الثاني بأن يقال: يمكن أن يكون ارتضى القياسَ على (فَعِل) إذ قد جاء منه أشياءٌ لها كثرةٌ وإن كانت أقليَّةً بالنسبة إلى كثرة (فاعل) و (فعَّال)، فذلك لا يمنع القياس، وخصه

بذلك دون سائر الأمثلة المتقدِّمة؛ لأنه الذي ظهرت فيه المشاركة في معنى النسب حقيقة، وذلك أن المثالين المتقدمين استعمِلا على غير النسب أصلاً؛ إذ لم يقولوا من التمر: تَمْرٌ، ولا من النبل: نَبلٌ، ولا من اللبن: لَبِنٌ، ولا من الحمار: حَمِرٌ، ولا غير ذلك، فظهر فيه معنى النسب ظهوراً بيِّناً، حين قالوا: لاَبِنٌ وتَامِرٌ، وشبه ذلك، وهذا هو الأصل في الباب، وهو الذي جعله سيبويه أكثر من أن يحصى، ثم ذكر ما وجد فيه معنى النسب مما استعمل له فعلٌ، فألحقه بما ليس له فعلٌ مستعملُ الفاء لاستعماله كقولهم: "عشيةٌ راضيةٌ"، وطاعم، وكاسٍ، وما أشبه ذلك، فإنهم استعملوا رَضِيَ وطَعِمَ وكَسِيَ على الجملة، لكنهم ألغوا فيه ذلك المعنى، فألحقوا بلابنٍ وتامرٍ، ولأجل أنَّ الباب مبنيٌّ على إهمال الفعل استشكال بعض المتأخرين جعل سيبويه تامراً من صلب الباب، مع أن ابن القطاع حكى: تَمِرَ القوم: إذا كان عندهم تمرٌ، واعتذر بأن قال: لعل هذا لم يحفظه سيبويه، ثم استشكل إدخاله آهلاً مع قولهم: أَهَلَ المكان أُهولاً؛ إذا كثُرَ أهله، ذكره ابن القوطية، قال: وإذا ثبت ففي هذا إشكال عظيم. هذا ما

قاله: ، ولا إشكالَ فيه، على ما تقرر في طاعمٍ وكاسٍ ونحوهما، وإنما جلبتُ هذا الكلام استشهاداً على اعتمادهم في تقرُّرِ معنى النسب على إهمال الفعل، وأن فاعلاً وفعَّالاً غير جاريَين على فَعِل. فإذا تقرّر هذا فـ (فَعِل) قد وُجد، وليس له فعلٌ أصلاً، وذلك قولهم: نَهِرٌ؛ إذ لم يستعملوا نَهَر، فصار بهذا النقل في نمط فاعل وفعَّال هذا، وإن كان نادراً فإنهم قد استعملوا عليه ماله فعلٌ على تقدير الغاية، وذلك قولهم: طَعِمٌ وسَتِهٌ وحَرِحٌ ونحو ذلك، بخلاف جميع ما ذكر في السؤال من فَعول ومِفعال وغيرهما، فإنها إنما استعملت / على معنى النسب إلحاقاً لها بغيرها لا بحق الأصل؛ إذ ليس فيها ما استعمل، وليس له فعل البتة، بل كل واحد منهما فعل مستعمل، فلم يلحقها الناظم بما ذكر، ويا حُسْنَ ما ذهب إليه لولا قلته في السماع، وذلك لا يضر إذا كان عنده إذا كان يبلغ مبلغ القياس، وإنما ذكر سيبويه فَعِلاً مع فَعُول ومِفعالٍ ونحوها؛ لأن الجميع عنده غير قياس. ثم أشار الناظم أن ما عدا ما ذُكِر موقوفٌ على السماع، وهو القسم الثاني من قسمي المنسوب، فقال: وغيرُ ما أسلفتُهُ مقرراً على الذي يُنقلُ فيه اقتُصرا أسلفتُهُ معناه: قدمته، ومنه: سلَفُ الرجل، وهم أباؤه المتقدِّمون، يعني: أنَّما عدا ما قدَّمَ من الأحكام المقررة في هذا الباب يُقتصر منه على المنقول المسموع، ولا يقاس عليه ما سواه، وحين نبَّه

على قسم الشَّاذ، فلا بد من التنبيه على أمثله منه، يتبيَّنُ بها مقصوده، ويستريح إليها النار في نظمه. فاعلم أن ما خرج عن القياس في باب النسب ثلاثةُ أقسام: أحدهما: ما كان قياسه أن لا يغيَّر بغير زيادةٍ على ما اقتضى القياسُ فيه من التغيير، فغيَّرتْهُ العرب شذوذاً. والثاني: ما كان قياسه أن يغير فلم يغيَّر شذوذاً على عكس الأول. والثالث: ما كان قياسه أن يغيَّر تغييراً ما، فغيِّر تغييراً آخر شذوذاً كذلك، وكل واحد من هذه الأقسام لا بدَّ لما فعلته العرب فيه من علة. وجملة علل الباب ثلاثة أنواع: إحداها: التفرقة بين نسبتين إلى لفظٍ واحدٍ قصداً إلى إزالة اللبس. والثانية: المعدول عن الثقل إلى الخفة. والثالثة: تشبيه الشيء بالشيء. وثمَّ نوعٌ رابعٌ استقرائيّ وهو: الاستغناء عن النسب إلى الشيء بالنسب إلى ما في معناه أو ما يلابسه. القسم الأول: مثاله قولهم في قريشٍ: قُرَشيٌّ، وفي هذيل: هُذَلي، وفي ثقيف: ثَقَفيٌّ، ووجهه إما تشبيه ما ليس فيه التاء بما هي فيه؛ لأن الوزن واحد، ولا بد للتاء أن تزولَ في النسب، وإما لثقلِ

اجتماع الياءات في الكلمة إذا قالوا: قُرَيشي. ومن ذلك قولهم: سُهليٌّ بالضم في النسب إلى السَّهل خلاف الجبل، فرقوا بينه وبين النسب إلى سَهْلٍ اسم رجل؛ إذ قالوا فيه: سَهْليٌّ، وكذلك دُهريٌّ للرجل المسنِّ منسوب إلى الدهر، فرقوا بينه وبين الدَّهري، وهو القائل بالدهر من الملحدة، وكذلك أَمويٌّ بفتح الهمزة في أُمية، والقياس: أُمويٌّ، لكنهم كأنهم نسبوا / إلى المكبَّر وهو: أمةٌ استغناءٌ، ومثله في الاستغناء قولهم في البصرة: بِصريٌّ، ووجَّهه بعضهم بأنه نسب إلى البِصر وهي حجارةٌ بيضٌ توجد في الموضع المسمَّى بَصرة، فنسب إليها، والمراد الموضع شذوذاً، وقالوا: عُبَدِيٌّ بضم العين في بني عَبيدة، حيٌّ من بني عَديّ، فرّقوا بينهم وبين عَبيدة من غيرهم، ومثله قول بعضهم في بني جَذيمة: جُذَمِيّ، قال السيرافيّ: لأنَّ في قريش جَذيمَة ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وفي خزاعة جذيمة، وهو المصطلق، وفي الأزد جذيمة بن زهير، والأمثلة أكثر من هذا. والقسم الثاني: مثاله قولهم في عليّ: عليِّيّ، وفي قصيّ: قُصيِّيّ، وهذا مذهب الناظم حيث جعل ذلك شذوذاً، وإلا فهو عند طائفة قياس، كما تقدم، ووجه التشبيه بظبْيِيّ حيث لم يحفِلوا فيه بالياءات،

فلذلك لم يحفِلوا بها في ذلك، ومن ذلك قولهم في البحرين اسم موضع: بحراني بإثبات الالف والنون اللتين هما علم للتثنية في الأصل، فرقوا بذلك بينه وبين البحرين الذي هو تثنية حقيقية لم يسمّ به بعد، فبنوا اسم الموضع علا (فَعلان) ثم نسبوا إليه كذلك. والقسم الثالث: مثاله قولهم في زَبينة: زَبانيٌّ، كأنهم أرادوا إبقاء الحروف على حالها، فاستثقلوا الياء في زَبينيٌّ فردوها إلى الألف؛ لأن الألف أخفّ من الياء هنا لما في بقائها من اجتماع الياءات في كلمة. ومن ذلك قولهم: طائيٌّ؛ إذ لو قالوا على القياس: طيئيٌّ لثقُلَ باجتماع الياءات وبينهما همزة هي من مخرج الألف، وهي أيضاً تناسب الياء، فقلبوا الياء ألفاً. ومن سليقيٌّ في السَّليقة، قياسه: سَلَقيٌّ، لكنهم شبهوه بـ (فعيل)، فتركوا الياء على حالها. وقالوا في صنعاء: صنعانيّ، وفي بهراء: بهرانيّ، وفي دَسْتَوَاء: دَسْتَوانيّ، أبدلوا الهمزة نوناً لشبهها بها، ألا تراهم قالوا: ظرابيّ في ظَرِبان، وأناسيّ في إنسان، شبهوا النون بالهمزة، فكذلك شبهوا هنا الهمزة بالنون على العكس من ذاك. وقالوا في جَلولاء وحَروراء: جَلُوليٌّ وحَروريٌّ فحذفوا الهمزة تشبيهاً للممدود من الألفات بالمقصور.

وكذلك قالوا في خراسان: خُراسيٌّ، كأنهم شهوا الألف والنون بعلم التثنية، فحذفوا لذلك. والمُثُل في الباب كثيرةٌ، فلنقتصر منها على هذا القدر فهو كافٍ. / ويلحق بهذا الفصل مسألةٌ تتعلق بكلام الناظم، وذلك أن هذه الأشياء التي شذت في النسب إليها إذا سُمِّيَ بها فإنما ينسب إليها على القياس المطرد، ويترك ذلك الشذوذ المسموع فيها، فلو نسبْتَ إلى رجل سمَّيتَه زَبينة لم تقل: زَبانيٌّ، وإنما تقول: زَبَنيٌّ على القياس، وكذلك إذا سميتَ رجلاً بدهر فنسبت إليه لم تقل إلا: دَهريٌّ بالفتح، أو جذيمة لم تقل إلا: جَذَميٌّ بفتح، وكذلك سائر ما تقدم، وكذلك الحكم في التصغير، وإذا ثبت هذا فكلام الناظم قد يشعر بأن ما جاء شاذاً يقتصر فيه على النقل سواء أكان ذلك قبل التسمية أم بعدها؛ إذْ لم يقيَّد ذلك بما قبل التسمية فصار الإطلاق مشعراً بالتسويغ في الجميع، وذلك غير صحيح، بل الحكم الفرق بين الحالين كما ذكر. والجواب: أن كلام الناظم يشعر بذلك؛ لأنه إنما قال: "على الذي ينقل فيه اقتصرا" والذي نقل شاذاً إنما نقل غير مسمًّى به، فإذا سمي به فقد خرج بالتسمية عن المسموع؛ إذْ كنتَ تصرفتَ فيه بالتسمية، ألا ترى إلى قولهم: سُهليٌّ إنما قالوه في النسب إلى السَّهل خلاف الجبل، ليفرقوا بينه وبين النسب إلى سَهْل الرجل، فإذا سميتَ بالسهل خلاف الجبل فقد صار غير محلّ التفرقة، فيلزم فيه اتّباع القياس، وعلى هذا النحو

يجري سائر ما في الباب، قال الشلوبين: "إنما رجع سيبويه في النسب إلى القياس؛ لأنه وجد العرب كثيراً ما تغيِّر الاسمَ المنسوب إليه فرقاً بين معنيين كقولهم في النسب إلى السَّهل: سُهليٌّ، وفي النسب إلى اسم رجل: سَهليٌّ بالفتح، فلما كان أكثر تغييرهم للفرق صار ذلك الشذوذ مختصاً بذلك المعنى المغيَّر، فوجب عند زوال ذلك المعنى زوالُ ذلك التغيير، فكان الوجه الرجوع إلى القياس، وكذلك التصغير وجدوا أكثر الشذوذ فيه مختصاً بالظروف، وهي في كلامهم قد اختصَّت بأشياء لا تكون في غيرها من الأسماء، هذا مع أن التصغير في الظروف لمعنًى ليس في غيرها، فوجب الرجوع إلى القياس هذا وجه ما قالوا، بخلاف الجمع فإن الحكم فيه بعد التسمية كحكمه بعدها، فتقول في ابن: بَنُونَ على غير القياس، فإذا سمَّيتَ به قلتَ: بنون أيضاً، وكذلك (أمٌّ) تقول فيه: أمَّهاتٌ وأُمَّاتٌ / قبل التسمية وبعدها، وإنْ كان أمَّاتٌ شاذاً، ووجه الفرق أن الجمع على بنون أو أمهات لم يكن لأجل معنًى يزول ذلك المعنى بالتسمية، فيزول موجبُه لذلك، بل أمره بعد التسمية وقبلها أمرٌ واحداٌ، وأما النسب فالشذوذ لمعنًى يزول بالتسمية كما تقدم فيزول موجبه، ونظيره قولهم في جمع أحمر الصفة: حُمْر، فإذا نقلْتَه بالتسمية زال موجب ذلك الحكم؛ لأن الوصفية هي الموجبة للجمع على (فُعْل)،

فإذا زالت زالَ موجبها، فالحاصل أن الاسم قبل التسمية بالنسبة إلى النسب الشاذّ مخالف له بعد التسمية، فليس هو المنقولَ نفسَه بعد التسمية، فلم يشمله كلامُ الناظم هنا، فلا بد من رجوعه إلى القياس المقرَّر قبلُ، وهو ما أردنا أن نبين، وينظر هنا هل فاته ذكر مسألة من تغيير النسب مطَّردة لم تدخل له تحت ما ذكر، وقلَّما يخلوا من ذلك، فيُردّ عليه الاعتراضُ؛ لأنه قال: "وغير ما أسلفتُهُ مقرراً" إلى آخره، فأعطى أن ما لم يذكر له تغييراً مطرداً في هذا النظم فهو شاذٌ محفوظٌ. كمل النسب، يتلوه الوقف إن شاء الله تعالى تمَّ السِّفْرُ الرابع بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه والحمد لله رب العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل ***

فهرس موضوعات الجزء السابع الموضوع ... الصفحة جمع التكسير ... 9 التصغير ... 261 النسب ... 429

المملكة العربية السعودية وزارة التعليم العالي جامعة أم القرى معهد البحوث العلمية مركز إحياء التراث الإسلامي المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (790 هـ) الجزء الثامن تحقيق الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم البنا [1]

[ ... [ حقوق الطبع محفوظة لمعهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي جامعة أم القرى مكة المكرمة الطبعة الأولى 1428 هـ - 2007 م [2]

المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية 8 [3]

بسم الله الرحمن الرحيم [4]

الوقف

الوقف اعلَمْ أن الوقف نظير الابتداء أي مقابله والابتداء عملٌ فالوقف استراحة عن ذلك العمل فإذًا أصلُه أن يكون على السكون كما أن الابتداء أصله أن يكون بالحركة. ثم إنه يتفرع عن قصد الاستراحة في الوقف ثلاثة مقاصدَ فيكون لتمام الغرض من الكلام ولتمام النظم في الشعر ولتمام السجع في النثر ثم إن الوقف إنما يكون على الآخر والأواخرُ محل التغيير فغيَّروا الأواخر عند الوقف على حسب المقاصد اللفظية أو المعنوية. وجملةُ أنواع التغيير الحادثة في الوقف المشهورة في كلام العرب ثمانية أنواع وهي السكون والرَّومُ والإشمام والتضعيف والنقل والإبدال والحذف وإلحاق هاءِ السكت وهذه الأنواع كلُّها قد ذكرها الناظم وذكر مواضعها وابتدأ بما يتعلق بالنون منها فقال تَنْوِينًا اثْرَ فَتْحٍ اِجْعَلْ أَلِفَا ... وَقْفًا، وَتِلْوَ غَيْرِ فَتْحٍ اِحْذِفَا تَنْوِينًا: مفعولٌ أول لاجْعَلْ التي بمعنى صيَّر إذ هي تتعدى إلى [5]

مفعولين كما تقدم في بابه. واثْرَ فَتْحٍ: ظرف متعلق به وتِلْوَ بمعنى تالٍ أي تابع وهو مفعول باحْذِفْ على حذف الموصوف أي احذف تنوينا تالي غير فتح ويعني أن التنوين اللاحق لآخر الاسم إما أن يكون بعد فتح أو بعد غيره وهو الضم والكسر، والفتح في كلامه ليس مقتصَرا به على فتح البناء فقط وإن كانوا إنما يطلقون الفتح والضم والكسر على حركات البناء كما يطلقون الرفع والنصب** والجر على حركات الإعراب لكنهم قد يُعبّرون عن حركة الإعراب بالفتحة والضمة والكسرة فأطلقها الناظم على ما تنطلق عليه من حركة بناء أو حركة إعراب فإن كان التنوينُ بعد فتح فإنك تُبْدِلُه ألفا فتقول في رأيت زيدَنْ*: رأيت زيدا وفي أكرمت عمْرَنْ: أكرمت عمْرا وكذلك فتحةُ البناء إذا تبعها التنوين وذلك في أسماء الأفعال نحو حيَّهَلَنْ وإيهَن ووَيْهَن تقول في الوقف حيّعلا وإيها وويها وكذلك ما أشبهه وإن كان التنوين بعد غير فتح فإنه يُحذف رأسا وذلك إذا وقع بعد الضم نحو هذا زيدُنْ فإنك تقفُ عليه: هذا زَيْدْ فتحذف التنوين وفي الجر مررت بزيْدْ فتحذف أيضا وكذلك تقول في صَهٍ ومَهٍ إذا نونته ثم [6]

وقفت صَهْ ومَهْ وفي إيهٍ إيهْ وفي هيهاتِ* هيهاتْ وكذلك في يومئذٍ وحينئذٍ وما أشبه ذلك وشذَّ من ذلك حرف واحد فوُقف عليه على التنوين وذلك كأيِّن وَقف عليها بالنون من القراء مَنْ عدا أبا عمرو اتباعا للمصحف إذ وقع كتْبُها بالنون وجه عدم إثبات التنوين على حاله أنه حرف زائد أُتي به للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف في المعرب وفي المبني أتي به بمعنى آخر وهو كالحركة لأنه يتبعها فلا يوقف عليه عليه* بحاله وأيضا أرادوا الفرق بينه وبين النون الأصلية نحو حَسَنٍ وما أشبه الأصلية نحو رَعْشَنٍ هذا وجهُ عدم بقائها على حالها في الوقف وأما إبدالها مع الفتح وحذفها مع غيره فوجهه أن النون تشبه الألف من حيث كان اللِّينُ في الألف يقاربه الغنة في النون فأبدلوها ألفا لما بينهما من المقاربة وكذلك كان الأصلُ في الرفع أن يُبدل واوا وفي الجر أن يُبدل ياءً وهي لغةٌ لبعض العرب أن يقولوا في الوقف قام زيدو ومررت بزيدي كما يقول الجميع رأيت زيدا ولم يُنبه عليها الناظم لِقلَّتها لكنَّ اللغةَ [7]

الفصحى حذفها في هاتين الحالتين لمكان ثقل الواو والياء في أنفُسهما بخلاف الألف فإنها خفيفة فإذا اجتمعت الضمة أيضا مع الواو والكسرة مع الياء كان ذلك أثقل ولم يكن في الفتحة مع الألف ثقل فتركوها على حالها على أن بعض العرب يعامل الألف معاملة الواو والياء في الحذف فيقول رأيتُ زيدْ كما يقول هذا زيدْ ومررت بزيدْ ولم ينبِّه على ذلك الناظمُ لقلَّته، ثبت نقلُ هذه اللغة في كتاب سيبويه في النسخة الشرقية منه عن أبي الحسن وحكاها الفارسي عن قطرب عن أبي عُبَيدة وأنشد بيت الأعشى إلى المرءِ قيسٍ أُطِيلُ السُّرى ... وآخُذُ من كلِّ حَيّ عُصُمْ وأبياتا آُخَر ومنه أيضا ما أنشده قطربٌ من قول عدي بن زيد ونسبَه البكري لطرفةَ شَئِزٌ جَنْبِي كأنيْ مُهْدَأٌ ... جَعَل القينُ على الدَّفِّ إبَرْ [8]

وقال أبو عمرو الفَقْعَسِيُّ أعددت للوِرْدِ إذا الوِردُ حَفَزْ ... غَرْبًا جرورًا وجُلالا خُزَخِزْ ثم قال كأنَّ جَوْفَ جِلْدِه إذا احتفَزْ ... في كل عَضْوٍ جُرْذَيْنِ وخُزَزْ أراد كأن في جوف جلده في كل عضو منه جُرْذَين وخُزَزَا ثم إن ظاهر هذا الكلام يشمل زائدا إلى ما تقدم التمثيل به نوعين أحدهما المنقوص إلا أنّ الناظم أخرجه وذكر حكمه لما فيه من الأحكام المخالفة لما ذكر هنا والثاني المقصور وهو لم يخُصَّه في هذا الباب بذكر فالعبارة شاملة له وهي تقتضي فيه ما تقتضي في الصحيح الآخر من أنك تحذف التنوين في الرفع والجر وتقف عليه في النصب بعد إبداله ألفا فإذا قلت هذا فتى ووقفت عليه أو مررت بفتى فتلك الألف هي الأصلية نظيرُ الدال في زيد وإذا قلت رأيتُ فتى فالألف هي المبدلة من التنوين نظيرُ الألف في رأيت زيدا وحُذفت الألفُ الأصلية لاجتماع الساكنين فالناظم لما رأى الحكم المقرَّر غير ظاهر في المقصور حمله على ما ظهر فيه وهو الصحيح الآخر وهو [9]

قياسٌ واضح إن ساعده الدليل. وما ذهب إليه هنا هو الذي اختار في التسهيل وهو مذهب الفارسي في الإيضاح والمسألة ذاتُ أقوال ثلاثة هذا أحدها والثاني مذهبُ المازني أنَّ الوقف على ألِف التنوين في الأحوال الثلاثة والثالث مذهب الكسائي أن الوقف على ألف الأصل مطلقا في الأحوال الثلاثة ولا نصَّ لسيبويه في المسألة يُؤخَذُ له منه مذهبٌ فزعم ابنُ عصفور وهو يظهر** من ابن جني أنَّ رأيه رأيُ الفارسي وزعم السيرافي أن رأيه رأيُ الكسائي ولسنا لتحقيق ذلك هنا وحجةُ ما ذهب إليه الناظم ما تقدم من حمل المعتل على الصحيح والخفي على الجلي وأيضا فإن ما رُوي عن العرب من إبدال ألف (مُثَنًّى) ياءً في الوقف فيقولون مُثنَّى** وقوم يبدلونها واوا ولم يرِدْ ذلك في ألف التنوين في [10]

نحو رأيت زيدا فلم يقولوا رأيتُ زيدَى** ولا زيدو فلو كانت ألف الأصل مطلقا لم يمتنعوا من إبدالها حيث كانت. وأيضا فإن العرب تُميلُ: هذا فتى ولو كانت ألف التنوين لم تُمل كما لا تمال الألف في (رأيت دما) واستدل ابن عصفور أيضا بأن هذا الألف تُمال في حالة الرفع ولا تمال في حالة النصب وبأنها تقعُ قافية في الرفع والجر ولا تقع قافية في حالة النصب وهذا لو صح دليلٌ لكنهم قد نقلوا عن القُرَّاء إمالة هذه الألف حالة النصب كقوله تعالى {أو كانوا غُزًّى} و {سمِعنا فتًى} وما أشبه ذلك مع أنهم لم يميلوا {وقد آتيناك من لدنا ذكرا} ولا ما كان نحوه أصلا فهذا يردُّ ما ذكره ابن عصفور وهو دليلٌ للكسائي على الناظم وقد اعتذر بعضهم عن هذا بأن المنصوب الممال قليل في القرآن مع أن العرب تشبّه الأصلي بالزائد والزائد بالأصلي فيجرى* حكم أحدهما على الآخر فلا دليل في الإمالة على هذا إلّا أنّ ابن الأنباري حكى أنّ العرب تقول (رأيت فتى) فتُميلُ الألفَ إلى الياءِ مع أن ألف التنوين لا [11]

تُمالُ فلا يُقال (رأيت عَمْرَي*) في (رأيت عَمْرَن) يعني بالإمالة وأما كونها لم تقع قافية فقد نقل غيرُ ابن عصفور أنها وقعت كذلك وأنهم وجدوا في كلمة مقصورة فلا تُرَى أمرًا سُدى وبعد ذلك لكل حمد يُشْتَرى وأنشد الزجاجي ورُبَّ ضيفٍ طرَقَ الحيَّ سُرى ... صادَفَ زادًا وحدِيثًا ما اشْتَهى وقد يُعتذر عن هذا أيضا بأنه نادر وبنحو ما اعتذر ابن الباذِش في الإمالة واستدل للمازني على مذهبه بأن ما آخره ألفٌ قبل التنوين فيه فتحةٌ في الأحوال كلها فصار في جميع أحواله كزيدًا في حالة النصب فلما ساوى الصحيح المنصوبَ جميع أحواله أبدل من التنوين الألف كما أبدَلوا في المنصوب الصحيح وأيضا اتفق البصريون على أنه في النصب بدلٌ من التنوين على ما نقل ابن جني وصورة المرفوع والمجرور كصورة المنصوب فليكن الحكم كذلك في الجميع وهو استدلالٌ فيه ضعف [12]

واستُدلَّ للكسائي أن حذف الزائد أولى من حذف الأصلي فلذلك كانت ألفُ التنوين هي المحذوفة في كل حال * * * وَاحْذِفْ لِوَقْفٍ فِي سِوَى اضْطِرَارِ ... صِلَةَ غَيْرِ الْفَتْحِ فِي الْإِضْمَارِ الإضمار يريد به الضمير أي: في الاسم ذي الإضمار يعني أن الضمائر إذا وقفْتَ عليها فإن صلتها وهي ما يتبع حركاتها من حروف المد على وجهين: أحدهما أن تكون تابعة لغير الفتح وذلك إذا تبعت الضم ولا تكون هناك إلا واوا أو الكسر ولا تكون إذ ذاك إلا ياءً فهذه لا بد من حذفها عند الوقف لا عند الوصل ولا في الضرورة وذلك قوله «وَاحْذِفْ لِوَقْفٍ فِي سِوَى اضْطِرَارِ» إلى آخره فتقول في رأيتُهُو: رأيتُهْ وفي لهُو لهْ وضربَهُو ضربهْ وكذلك تقول في عليهُو ولديهُو على من وصل الهاء عليه ولديهِ وكذلك منهُو وعنهُو وتقول منْهْ وعنْهْ وكذلك تقول في بهِي وضربْتِهِي وعليهي وإليهي: به وضربْتِهْ وعليْهْ وإليْهْ وفي هُمُو هُمْ وفي أكرمكُمُو أكرمكُمْ وفي خرجتُمُو خرجتُمْ وفي أنتُمُو أنتُمْ وكذلك ما أشبهه [13]

والثاني أن تكون الصلة تابعة للفتح ولا يكون إلا ألفا فمفهومُ كلامه أنها لا تُحذفُ أصلا بل تتركُها على حالها فتقول ضربتُها ولها ومنها وعنها وفيها وهما وأنتما وضربتما وأكرمكما هكذا وصلا ووقفا ووجه ذلك أنّ من شأن العرب أن يحذفوا الآخر في الوقف وإنْ كان من أصل الكلمة كالقاضي والرامي فيقولون القاضْ والرامْ وكذلك ما كان إذهابُه في الوصل إخلالا نحو ضربني وغلامي فأنْ يحذفوا ما ليس من أصل الكلمة بل هو زائدة عليها أحق وأولى أما الألف فلخفتها لم يحذفوها بل تركوها على حالها بخلاف الواو والياء فإن لها ثقلا في الكلام وقد تقرر هذا قبل وأيضا فإن الألف عندهم من أصل الاسم بخلاف الواو والياء فإن فيهما خلافا على ما ترى إن شاء الله تعالى ثم يتعلق بكلام الناظم مسائلُ: إحداها أنّ لقائل أن يقولَ في قوله «لِوَقْفٍ» إنه فضلٌ لا زيادة فائدةٍ فيه لأن كلامه إنما هو في أحكام الوقف وقد تقدم قبل هذا قوله «تَنْوِينًا اثْرَ فَتْحٍ اِجْعَلْ أَلِفَا ... وَقْفًا» [14]

فكان يستغني بذلك عن تكرار ذكر الوقف لكنه لم يفعل ذلك فما وجهه؟ والجواب أنه أتى به لفائدةٍ حسنة وذلك أنه لو قال واحذف في سوى الاضطرار كذا لاقتضى حكما لم يقصده وهو أن الحذف إنما يكون في غير الاضطرار وأما حالة الاضطرار فلا تحذف تلك الصلة وهذا كلام لا معنى له لأن ترك الحذف لا يختص بالضرورة بل الحذف هو المختص بها لكن حالة الوصل لا حالة الوقف فقوله «لِوَقْفٍ» هو علة للحذف لا بيان لموضعه كأنه قال: احذف هذه الصلةَ في غير الاضطرار لأجل الوقف أي: إن الوقف هو العلة في الحذف حالة الاختيار وأما في حالة الاضطرار فليست العلةُ الوقف فيُؤخذُ من هذا الكلام الحكم المتقدم في الوقف ويؤخذ منه أنّ الحذف قد يقع اضطرارا لا لعلة الوقف وما ذاك إلا الحذف في الوصل وهذا صحيح فإن الضرورة قد قادت إلى حذف صلة الضمير في الوصل في مواضع منقولة فمنها ما حُذفت الياء أو الواو منه مع بقاء الحركة ومنها ما حذفتا منه مع الإسكان فمن الأول ما أنشد سيبويه من قول مالك بن خريم بالخاء المعجمة وفي الشرقية ابن حريم بالحاء المهملة فإن يك غثا أو سمينا فإنَّني ... سأجعل عينيه لنفسِهِ مَقْنَعا [15]

وأنشد أيضا لحنظلةَ بن فاتك وأيقن أنَّ الخيل إن تلتبِسْ به ... يكن لغسيل النخل بعده آبر وأنشد أيضا للشماخ له زجلٌ كأنهُ صوتُ حادٍ ... إذا طلب الوسيقة أو زَميرُ وأنشد أيضا لرجل من باهلة أو مُعْبَر الظهر يُنْبِي عن وليّتهِ* ... ما حَجَّ ربَّهُ في الدنيا ولا اعتمرا وأنشد أيضا للأعشى وماله** من مجدٍ تليدٍ ومالَهُ** ... من الريح حظّ لا الجنوبُ ولا الصَّبا ومن الثاني ما أنشده ابن جني وغيره [16]

فَظِلْتُ لدى البيت العتيق أُخِيلُه ... ومِطْوَاي مشتاقان لَهْ أرِقانِ وأنشد أيضا وأشْرَبُ الماء ما بي* نحوه عطشٌ ... إلا لأن عيونَهْ سيلُ واديها قالوا وهذا الثاني أحسنُ من الأول لأنه من إجراء الوصل مُجرَى الوقف على الكمال بخلاف الأول والناظم إنما تكلم هنا على الضرورة بالنسبة إلى اللغة المشهورة إذْ حذْفُ الواو والياء مع بقاء الحركة أو حذفها لا يكون فيها إلا ضرورة فلا يُعتَرَضُ عليه بأنّ من العرب من يحذفها في الوصل إذا تحرك ما قبلها على الوجهين وهم بنو عُقَيل وبنو كلاب نقل ذلك المؤلف في الشرح عن الكسائي ونقل ابن جني عن أبي الحسن التسكين بعد الحذف في الوصل لغة لأزد السراة فإن الناظم إنما تكلم على اللغة المشهورة إلا أنه يُعترض عليه من وجه آخر وهو أن الضمير قد تحذف صلته في الوصل في حالة السعة لا في الاضطرار وذلك إذا كان قبل الضمير ساكن ثابت أو محذوفٌ للجزم أو للوقف فتقول عليهْ* وعليهي ومنه** ومنهُو وكذلك ارمِهْ وارمهي وادعُهْ وادعهو ونحو ذلك فيقال [17]

مثلا إن الناظم قد حصر حذف صلة الضمير في شيئين وهما الوقف والاضطرار في الوصل وهذا غير صحيح بل تُحذف أيضا اختيارا في الوصل بعد الساكن وإنما يصح ما زعم من الحصر في الضمير الذي قبله متحرك بالأصل خاصة فهناك لا تُحذفُ صلته في المشهور إلا في الوقف أو في الاضطرار فاقتضى كلامه أن الضمير إذا سكن ما قبله لفظا أو أصلا فإنما يُحذف لأحد هذين الأمرين وليس كذلك ولا أجد الآن عن هذا جوابا! والضرورة هنا إنما تعلقت منه نصا بالواو والياء لأنه قال «وَاحْذِفْ لِوَقْفٍ فِي سِوَى اضْطِرَارِ ... صِلَةَ غَيْرِ الْفَتْحِ» فخرجت صلة الفتح عن دعوى الضرورة فيها وهكذا ينبغي أن يكون فإنه لم يأت حذفُ صلة الفتح في ضرورة ولا غيرها وإنما جاء في لغة طيّئ* حذفها ونقل حركة الضمير إلى ما قبله قال خطيب وفد طيئ «بالفضل ذو فضلكم الله بِهْ والكرامة ذاتِ أكرمكم الله بَهْ**» أراد بها وهذا ليس بضرورة ولا اعتراض بها أيضا على الناظم لِقلَّتها والمسألة الثانية إطلاقُه لفظ الصلة قد يُفهم أنها زائدة على الضمير لا جزءٌ منه لأن حقيقة الصلة ما وُصِل بالشيء ولا يكون ذلك إلا من انفصال والمسألة مختلف فيها على الجملة على ما أذكره لك [18]

فقال السيرافي اختلف أصحابنا في هذه الواو والياء فزعم الزجاج أن مذهب سيبويه أنهما كالألف في المؤنث هما من نفس الاسم قال الزجاج والصحيح أنهما ليسا من نفس الضمير بدليل حذفهما في الوقف ولا يحذف الألف قال السيرافي ولا حجة له في ذلك فقد يُحذف ما هو من نفس الاسم كقاض وقال الفارسي في التذكرة مثل ذلك وأنه غير قاطع قال لأنهم قد حذفوا في الوقف الواو في ضربكُمْ وهذا لكم والياء في عليهم مع أنها من نفس الكلمة وليست بزيادة بدليل أن المؤنث الذي بحذائه ليست النون الثانية فيه بزيادة ولكن إنما حُذِفتا في الوقف لأنهما حرفا علة قد حُذفا في الوصل في عليه ومنه ونحوه والوقف موضع يُحذف فيه ما يحذف في الوصل نحو المتعالِ ويَسْر فإذًا يكون ما حُذِف في الوصل أولى أن يلزم الحذْفَ في الوقف لأنه موضعُ تغيير قال السيرافي ومن أصحابنا من ينسب لسيبويه أنهما ليستا من نفس الاسم ولعله يشير إلى الفارسي [19]

قال ابن الضائع كذا قال الأستاذ أبو علي رحمه الله تعالى وزعم أن تشبيه سيبويه هذه الواو بالألف مع ضمير المؤنث تشبيه لفظي يعني به أن الواو ثابتة في الوصل كالألف ثم رجح ابن الضائع أنها من نفس الاسم بأن ضمير المذكر ينبغي أن يكون كضمير المؤنث وذلك أنا لم نجدهما يختلفان في موضع بحيث يكون أحدهما على حرف فالآخر يكون كذلك وكذلك فيما زاد ولذلك حكمنا في ميم جمع المذكر أن الأصل فيها الميم والواو معا وإن كانت الواو تحذف في الوقف لأن ضمير المؤنث على ثلاثة أحرف فكذلك ينبغي أن يكون ضمير المذكر مثله فأنت ترى أن الخلاف في كون الصلة زائدة أو غير زائدةٍ إنما هو في الواو والياء وأما الألف فقد سلم جميعهم أنها من نفس الاسم كما أن الواو في ميم جمع المذكر من نفس الاسم وإشارةُ الناظم تقتضي القول بالزيادة في الألف مطلقا ولذلك وجه فإنه من حيث قيل بزيادة غيرها فجائز أن يقال بزيادتها أيضا ليستوي الجميع في حكم واحد وثبوت الألف في الوقف وحذف الواو والياء لا يدُلّ على فرق واضح بينهما وقد نبه على ذلك [20]

أيضا السيرافي فإن كان الناظم يذهب في مسألة الألف إلى مذهب ثالث فليس ببجع من وجهين: أحدهما أن إحداثَ قولٍ ثالث في مسألة ليس بخرق إجماع عند طائفة من أهل الأصول هذا إن كان في هذه المسألة إجماع على ذينك القولين ولا أتحقق ذلك الآن والثاني على تسليم أنه خرْقُ إجماع ليس إلا من قبيل إحداث تأويل آخر إذ الحكم بزيادة الألف أو أصالتها ليس بخلاف في أصل حكم وإنما هو خلاف في تأويل ومجمل وأكثر الأصوليين على جواز هذا وقد تقدم لهذا نظير في باب أسماء الأفعال على أني قد وجدت ذلك منصوصا للفارسي أن سيبويه نص على أن الياء بعدها ليست من نفس الكلمة ولا بمنزلته فقال في التذكرة قد نص يعني سيبويه على أن الزيادة التي تلحق الياء ليست من نفس الكلمة كما ترى ثم استدل على ذلك بأشياء منها أنها نظيرة التاء للمتكلم والكاف للمخاطب فكما أنّ كلّ واحدٍ من ذلك على حرفٍ واحدٍ فكذلك ينبغي أن يكون الأمرُ في الهاء وأنّ الواو والياء لاحقتان [21]

لخفاء الهاء ثم قال فإن قلت فلم لا تستدل بلحاق الألف للمؤنث أنّ الواو والياء بحذاء الألف؟ قيل تكونُ الألفُ لاحقةً لتبين المؤنث من المذكر كما لحقت في أعطيتكها لذلك وكما أن الشين في قول من قال أكرمتكش كذلك فكما أن الكاف حرف مفرد وإنما لحقه ما لحقه ليتبين المؤنث من المذكر كذلك يكون لحاق الألف الهاء للمؤنث إلا أن الهاء لزمها الألف في سائر اللغات واقتضى أيضا كلامه زيادة الواو بعد ميم الجميع وظاهر كلامهم الأصالة ولم أر من نص على زيادتها فلعل الناظم رأى في ذلك خلافا ولذلك وجه أيضا نحو مما تقدم ولا يعدّ خارقا للإجماع على تقدير عدم الخلاف لأنه خلاف في تأويل كما مر المسألة الثالثة أن الصلة إنما تُطلق على ما كان من حروف اللين تابعا لمناسبة من الحركة وناشئا عنه وذلك الواو مع الضمة والألف مع الفتحة والياء مع الكسرة وأيضا فلا بد من السكون فيها لأنها ناشئة عن الحركات فمثل ضرَبهُو وضربها ومررت بِهي هو الذي شمل كلامه فيخرج له عن ذلك بمقتضى لفظه هُوَ وهي فالواو والياء فيهما ليستا بصلة للهاء بل هما من نفس الاسم ولا يخالف في هذا وليستا بناشئتين عن الحركات لتحركه فالوقف على هُوَ أو هِيَ لا يذهب بالواو والياء بل تقول في الوقف هُوْ وهِيْ بالسكون وهذا مفهومٌ من كلامه إذ قال واحذِفْ صلة كذا كأنه [22]

قال احذِفْ ما كان صلة فمفهوم الصلة فيه أن ما ليس صلة لا يحذف فإذًا إن جاء الحذفُ* فيهما يوما ففي الشهر ضرورة ومنه ما أنشده سيبويه في حذف واو هُوَ بيناهُ** في دار صدق قد أقام بها ... حينا يُعلِّلُنا وما نُعَلِّلهُ وأنشد أيضا أبو الحسن في الكتاب للعجير السلولي فَبَيْناهُ** يَشْرِي* رَحْلَه قال قائلٌ ... لِمَنْ جَمَلٌ رِخو الملاط نجيب؟ ومن حذف ياء هي ما أنشده سيبويه دارٌ لسُعدى إذْهِ من هَواكا [23]

وقوله «فِي سِوَى اضْطِرَارِ» أدخل فيه حرف الجر على «فِي» وقد تقدم أن ذلك مذهبه وأنه ليس بضرورة خلافًا لما يقوله سيبويه من اختصاصه بالضرورة * * * وَأَشْبَهَتْ إِذًا مُنَوَّنًا نُصِبْ ... فَأَلِفًا فِي الْوَقْفِ نُونُهَا قُلِبْ ذكر هنا حكم الوقف على إذًا وكان غير لازم له ذكرُ الأحرف المفردة التي لا نظير لها في الحكم المذكور ولا يشمل الحكم جملةً منها كما جرى من عادته إذا** لا يذكر المختصرُ إلا القواعد الكلية والمسائل الشهيرة لا الشواذ والحروف المنفردة إلا بالتبَعِ وهذا ليس كذلك بل ذكَرَ إذًا ذكرًا مقصودا لكن وجه ذلك والله أعلم أنّ إذًا من الأدوات الشهيرة الكثيرة الاستعمال جدا إذ هي حرف جواب وجزاء فقلما يخلو كلام بين متخاطبين فيه طول منها وأيضا هي مع ذلك تستلزم كثيرا الوقف عليها كما إذا أردت جواب مخاطبك فقلت له (فلا إذا) أو (فنعم إذا) كما قال النبي عليه السلام (أينقص الرُّطبُ* إذا جَفَّ؟ ) قالو نعم قال (فلا إذَا) حين سألوه عن بيع الرُّطَب بالتمر. وفي كلام العرب من ذلك كثيرٌ تقع فيه إذًا موقوفًا عليها [24]

فلما كانت بهذه الحال كان ذكرها في باب الوقف أكيدا فلذلك نصَّ على حكمها وقد حصَّل كلامُه فيها مسألتين إحداهما حكمُ الوقف عليها وذلك قوله «فَأَلِفًا فِي الْوَقْفِ نُونُهَا قُلِبْ» يعني أنك إذا وقفت على إذًا فلا تقف على النون وإن كانت أصلا ليست بزائدة كنون التوكيد الخفيفة ولا كالتنوين وإنما تقف عليها بإبدال نونها ألفا فتقول إذا كما تقول في اضربن اضربا وفي زيدن زيدا وعلى حكم الوقف كتبت بالألف في الرسم السلفي وعلى القول الصحيح في رسمها والثانية السببُ الذي لأجله لم تكتب إذا على القياس الأصلي إذ كان الأصل فيها أن يوقف عليها بالنون إذ النون أصلية كنون حسن ورَسَنٍ وفِرْسِنٍ ونحو ذلك بل كنون مِنْ وعَن وما أشبهها من حروف المعاني التي النون فيها أصل فأخبرَ الناظم بالعلة التي لأجلها خرجوا عن قياسها الأصلي فوقفوا عليها بالألف وهو شبهها بالمنصوب المنون من الأسماء وذلك قوله (وَأَشْبَهَتْ إِذًا مُنَوَّنًا نُصِبْ) [25]

يعني أنّ هذا الشبه حصل في إذًا فحكم لإذًا بحكم ما شبهت به كما تقول في رأيت زيدن رأيت زيدا فكذلك تقول في أكرمك إذَنْ أكرمك إذا ووجهُ الشبه بينهما من جهة اللفظ ومن جهة الاستعمال فأما من جهة اللفظ فإن كل واحد منهما آخره نون ساكنةٌ لحقت الكلمة فاصلة لها عن غيرها لأنها آخر في كل منهما وأما من جهة الاستعمال فلأن كلا منهما يصح الوقوفُ عليه مع تمام الكلام فتقول أكرمك إذا كما تقول أكرم زيدا وبهذا المعنى خالفت سائر الحروف إذْ كانت لا يوقف عليها استقلالا إلا ما ليس آخره النون كبلى ونعم ولا فلما كانت كذلك عُوملت في الوقف معاملة ما أشبهته وهذا هو الذي اعتبر الناظمُ وقد اعتبر ابن جني أيضا شبهها بما آخره نون التوكيد الخفيفة كقوله {لنسفعا بالناصية} وهو صحيح أيضا ولابن جني في «سر الصناعة» في هذا المعنى كلامٌ طويل من أحبه طالعه هنالك * * * وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا ... لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ، وَفِي ... نَحْوِ مُرٍ لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِيْ [26]

الاسمُ المنقوص في أحكام الوقف على أربعة أقسام ذكرها الناظم كلَّها إذْ لا يخلو الاسم المنقوصُ أن يكون بعد النقص لا يبقى من حروفه الأصول إلا حرفٌ واحد أو يبقى أكثرُ من ذلك وإن بقِي أكثرُ من ذلك فلا يخلو أن يكون منصوبا أو لا وإن لم يكن منصوبا فلا يخلو أن يكون منوّنًا أو لا فهذه أربعة أقسام يترتبُ الكلامُ عليها على حسب ما رتبه بعد أن نقول: المنقوص الذي أراده إنما هو ما كان آخره ياءً قبلها كسرة* نحو قاضٍ وغاز ومستدع ونحو ذلك فأحد الأقسام المنقوصُ المنوَّن غير المنصوب وغير الباقي على حرفٍ واحدٍ نحو قاضٍ وغاز فهذا القسم في الوقف عليه وجهان: أحدهما أن تحذف الياء وتقف على ما قبلها فتقول هذا قاضْ وهذا رامْ ومررت بقاضْ ومررت برامْ وكذلك هذا داعْ وهذا مستدعْ وهذا عَمْ تريد العَمِي* وهذا شّجْ ونحو ذلك وهو أرجح الوجهين واللغةُ الفصيحةُ قال سيبويه «فهذا الكلام الجيِّد الأكثر» ووجهه أن الياء المكسورة ما قبلها لما كانت تُستثقلُ وكانت محذوفة في الوصل والوقف عارض والعارض لا يعتد به في الأمر الكثير تركوها محذوفة في الوقف [27]

أيضاً وعلى هذا الوجه قراءة الجماعة إلا ابن كثير {ولكل قوم هاد} {وما عند الله باق} {وما لهم من الله من واق} والوجه الثاني ثبوتُ الياء وهو وجهٌ جيِّدٌ أيضا فنقول هذا قاضي وهذا غازي ومررت بمستدعِي ومررت بشجي وما أشبه ذلك وعليه قراءة ابن كثير {ولكل قوم هادِيْ} {وما عند الله باقِيْ} {وما لهم من الله من واقِيْ} قال سيبويه «وحدثنا أبو الخطاب أنّ بعض من يُوثَق بعربيته من العرب يقول هذا رامي وغازي وعمي، أظهروا في الوقف حيثُ صارت في موضع غير تنوين لأنهم لم يُضطروا هنا إلى مثل ما اضطُروا) إليه في الوصل من الاستثقال) يعني أنّ الموجبَ لحذف الياء إنما كان ملاقاة التنوين لها إذ كان الأصل قاضِيٌ وغازِيٌ فاستثقلت الحركة على الياء فحذفت من اللفظ فالتقى ساكنان الياء والتنوين فوجب حذفُ الياء لذلك وأما في الوقف فقد زال ما أوجب حذفها فوجب رجوعُها إلى حالها من الإثبات اعتدادا بعارض الوقف وهذان الوجهان في هذا القسم هما المرادُ في قول الناظم «وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ» إلى آخره وقد حكى ابن الأنباري عن الكسائي والفراء إبطال الوجه الثاني وزعما أن لا يوقف إلا بحذف الياء واحتجا بأن الكلام [28]

بنى * وقفُه على وصله فلا يحدث في الوقف ما لا يكون في الوصل وما قالاه ردٌّ على كلام العرب فهو رد مردود على أنه قد حكى الكسائي الوقف على قوله تعالى {حتى إذا أتوا على وادِي النمل} بالياء ويقول اسمه وادي فلا يتم إلا بالياء وظاهر هذا النقل أنه تناقض في مذهبه لأن هذه العلة موجودة في قاضٍ وغازٍ لأن الاسم قاضي وغازي فيجب على هذا أن يقف بالياء والصحيح مذهبُ أهل البصرة ومعنى كلام الناظم أن المنقوص الذي نُوِّن وذلك إذا لم يكن فيه ألِف ولام ولا إضافة إذا وُقِف عليه في غير النصب فحذفُ تلك الياء أولى من إثباتها فاستثناؤه المنصوبَ يدلُّ على أن مراده المرفوعُ والمجرور ويدلُ على أن مراده ما زاد على حرفٍ واحد أصلي قوله بعد ذلك «وَفِي ... نَحْوِ مُرٍ لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِيْ» فذكر هذا أخيرا صريح في عدم إرادته إياه في سائر الأقسام [29]

ويشمل هذا القسمُ بإطلاقه وعمومه كل منون سواء أكان تنوينه تنوين صرف أم لا فجوارٍ وغواشٍ ويرمٍ - مسمًى به على مذهب الخليل - وأعيم وقاضٍ اسم امرأة كله داخل تحت هذا الحكم فتقول في الأجود هذه جوارْ وغواشْ ويَرْمْ وعلى الوجه الآخر جواري وغواشي ويرمي والعلة في هذا هي العلة في المنصرف والقسم الثاني المنقوص المنصوب مطلقا كان منونًا أو غير منونٍ ولا يكون على حرف واحد أصلا فحكم هذا ظاهر من كلامه فإن المنصوب المنون تظهر فيه الحركة كما تظهر في الصحيح فإن كان مُنوّنا فقد حصل تحت قوله أول الباب «تَنْوِينًا اثْرَ فَتْحٍ اِجْعَلْ أَلِفَا» وإن كان غير منون فقد دخل له فيما دخل بعد لأن الياء لتحركها قد أشبهت غير المعتل فصار كقولك (رأيت الرجل) فلم يحتج الناظم هنا إلى ذكر الإثبات فيه فتقول رأيت القاضي والغازي والمستدعي* ورأيت الجواري وكذلك الشجي* والعَمِي* والمُرِي - اسم الفاعل من أرَى يُرِي - فإذًا المنصوب هنا مستثنى من جميع الأقسام لكنه لم يذكره بعدُ نصا لدلالة القسم الأول على ذلك ولأن علة الاستثناء في القسم الأول موجودة في كل قسم وذلك الجريان مجرى الصحيح والقسم الثالث المنقوصُ غير المنون ولا الباقي على حرف واحد فهذا القسم فيه وجهان: [30]

أحدهما إثبات الياء في الوقف كما تثبُت في الوصل لأن حذف الياء إنما كان لعلة التقاء الساكنين أحدهما التنوين ولا تنوين هنا فلا موجب للحذف فتقول هذا القاضي ومررت بالقاضي وهذا الشجي ومررت بالشجي والثاني حذفها فتقول هذا القاضْ ومررت بالقاضْ وهذا الشجْ ومررت بالشج وما أشبه ذلك قال سيبويه «ومِن العرب مَن يحذفُ هذا في الوقف شبَّهوه بما ليس فيه ألف ولام؛ إذ كانت تذهب الياء في الوصل في التنوين لو لم تكن فيه الألف واللام» يعني لمعاقبة الألف واللام للتنوين والعرب تحكم للمعاقِب بحكم ما عاقبه قال «وفعلوا هذا لأن الياء مع الكسرة تُستثقل كما تستثقل الياءات» قال «فقد اجتمع الأمران» يعني التشبيه بما ليس فيه ألف ولام والاستثقال ومن الحذف في هذا الوجه ما روي عن نافع وأبي عمرو في بني إسرائيل والكهف {من يهد الله فهو المهتد} من إثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف وهذان الوجهان هما المرادان بقوله «وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ» يعني أنّ ما ليس فيه تنوينٌ من المنقوص حكمُه في حذف الياء وإثباتها على العكس مما فيه التنوين وحقيقة العكس أنه قال أولا: إن الحذف أولى من الإثبات فإذا حولت هذا الكلام على وجه يصدُق قلت: إن الإثبات أولى من الحذف فالوجهان على هذا جائزان وقوله «وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ» يشمل ما فيه الألف واللام كما تقدم تمثيله وما كان مضافا يُوقَفُ عليه دون المضاف إليه نحو (هذا قاضي) في [31]

(قاضي بلدتنا) ووجهُ اختيار الإثبات نحو مما تقدم في ذي الألف واللام لأن الإضافة تعاقب التنوين فصارت كالألف واللام إلا أن الإضافة تزول إذا وقفت* على المضاف ولكن هذا عارضٌ فلا يعتدُّ به ويبقى آخر الاسم في الوقف على حدّه في الوصل وجه الحذف بقاؤه في الوقف على هيئة ما كان منونًا في الأصل فقف** عليه ويشمل أيضا ما زال تنوينه بالنداء نحو يا قاضي ويا غازي، فالوجهُ الجيد الإثباتُ وقفا ويجوز على غير الأجود يا قاضْ ويا غازْ وهذا الذي ظهر من الناظم هو مذهب الخليل فإثبات الياء عنده هو المختار وقال السيرافي واختار بعض أصحابنا مذهب الخليل رأيت ذلك في كلام نسب أوله إلى المبرد حكاه محمد بن علي مَبْرَمانُ واختاره أيضا ابن طاهر وتلميذه ابن خروف وخالف في ذلك يونس؛ إذ الحذفُ عنده هو الأقوى فقولك يا قاضْ أحسنُ عند يونس من يا قاضي وهو الراجح عند سيبويه ورُجِّح ما اختاره الناظم من مذهب الخليل بوجهين: أحدهما ما ذكره السيرافي من أن المنادى المعرفة لا يدخله تنوين في وقف ولا وصل والذي يُسقط الياء إنما هو التنوين ولا تنوين فوجبَ إثباتُ الياء كما تثبُت في «القاضي» بالألف واللام [32]

والثاني ما قال ابن طاهر من أن ياءَ قاضي لو حُذفت في النداء في الوصل لكان قولُ يونس هو الصحيح ولكنهم لا يقولون إلا يا قاضي بإثبات الياء فصار بمنزلة «القاضي» فالجيدُ ثبوتها وكلٌّ قد حُذف منه التنوين فقوِي قول الخليل عنده قال ابن خروف وهو ظاهر ورجَّح سيبويه مذهبَ يونس بأن النداء موضع حذف فيحذف فيه ما لا يحذف في غيره كالترخيم والتنوين وياء المتكلم فأن يُحذَف فيه ما يجوز أن يحذف في غيره أولى وبسَط هذا ابن الضائع فقال: الصحيح قولُ يونس لما تقدم من قوة الحذف والتغيير في النداء فقد اجتمع في هذا الموضع بابا حذفٍ وهما النداء والوقف فقَوِيَ فيه الحذفُ؛ ألا ترى* أن ياء المتكلم في غير النداء يجوز حذفها في الوقف وإن لم يجز حذفها في الوصل فكذلك الوقف مع الوصل هنا في النداء وقد أجاب ابن خروف عما رجَّح به سيبويه بأنّ حذف الترخيم وياء الإضافة على قياس وليس حذفُ الياء من قاضِي في النداء بقياس وأما «يا صاحِ» فشاذ لأنه محذوف يا الإضافة على لغة يا حارِ ثم رُخم بعد ذلك ومثل هذا لا يرخّم فلا ينبغي القياس عليه [33]

والقسم الرابع المنقوص الباقي على حرف واحد أصلي فهذا لا يجوز الوقف عليه إلا بإثبات الياء وذلك قولك مُرٍ تقول في الوقف مُرِيْ ولا تقول مرْ قال سيبويه «كرهوا أن يُخلّوا بالحرف فيجتمع عليه ذهابُ الهمزة والياء فصار عوضا» يعني مما حذف وذلك أن الهمزة قد حُذفت بالتسهيل فلو لم ترد الياء في الوقف لأدى إلى أن يبقى من أصول الكلمة حرف واحد ساكن قال ابن الضائع: وإذا كانوا في مثل هذا يجيئون بحرف لئلا يبقى من أصول الكلمة حرف واحد ساكن نحو لِتَقِهْ فإنهم يقفون عليه بالهاء فأنْ يردوا إلى الكلمة ما قد حُذف منها مع أنّ مُوجِبَ الحذف قد زال أحرى وهذا القسم هو الذي أراد بقوله «وَفِي ... نَحْوِ مُرٍ لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِيْ» يعني أن هذا اللفظ وما كان نحوه مما لم يبق من أصوله إلا حرف واحد لا بد فيه من رد ما نقص منه في الوقف كان في نداء نحو يا مريْ أو في غيره نحو هذا مُرِيْ ومررت بِمُرِي والذي هو نحو مُرٍ قولك مُشٍ من أشأيت زيدا القوم إذا جعلتَه يسبقهم منقول من شأوتُهم إذا سبقتهم [34]

ومُنٍ من أنأيته أي أبعدته ومُثٍ من أثأيتُ القوم إذا جرحتَ فيهم ومُبٍ من أبأيته أي أفخرته وكذلك ما أشبهه إذا بنيت فيه على تسهيل الهمزة بحذفها ونَقْل حركتها إلى ما قبلها؛ إذَا أصل اسم الفاعل فيها مُشْء مُنْءٍ ومُثْءٍ ومُبْءٍ فإذا سهَّلت صارت إلى مُشٍ ومُنٍ ومُثٍ ومُبٍ فإذا وقفت فلا بد من رد الياء فتقول مُشِيْ ومُنِيْ ومُبِيْ ومُثِي كما قلت مُرِيْ ومُرٍ أصله اسم فاعل من أريته الشيء و«اقْتُفِيْ» معناه اتُّبع؛ قفوتُ أثره واقتفيتُه أي اتبعته يريد أن لزوم الرد أمرٌ متبع معمولٌ به غير مُخالَف * * * وَغَيْرُ هَا التَّأْنِيثِ مِنْ مُحَرَّكِ ... سَكِّنْهُ، أَوْ قِفْ رَائِمَ التَّحَرُّكِ أَوْ أَشْمِمِ الضَّمَّةَ**، أَوْ قِفْ مُضْعِفَا ... مَا لَيْسَ هَمْزًا أَوْ عَلِيلًا إِنْ قَفَا مُحَرَّكًا، وَحَرَكَاتٍ اِنْقُلَا ... لِسَاكِنٍ تَحْرِيكُهُ لَنْ يُحْظَلَا هذا الفصل يذكر فيه أنواعا خمسة من تغييرات الوقف وما تلحق فيه [35]

من الكلم. وأخذ يُبيّن أولا أن ذلك التغير إنما يلحق المحرك الذي ليس بهاء تأنيث وذلك في قوله «وَغَيْرُ هَا التَّأْنِيثِ مِنْ مُحَرَّكِ» يريد أن هذه الأشياء إنما تلحق الآخر المحرك الذي ليس بهاء تأنيث وأراد بالمحرك الآخر الموقوف عليه ودل على ذلك سياق كلامه من أول الباب إلى هنا فلذلك لم يحتج إلى التنصيص عليه فيقول مثلا: وغير هاء التأنيث من آخر محرك بإظهار الموصوف أما اختصاص هذه الأنواع بالمحرك فلأن الآخر إذا كان ساكنا في الوصل فهو إما صحيح الآخر وإما معتله فالصحيح الآخر لا إشكال في بقائه على سكونه ولا يدخله غير ذلك؛ إذا لا يقبل روما ولا إشماما ولا تضعيفا ولا نقلا؛ لأن هذه الأشياء مختصة بالمحرك كما سيتبين إن شاء الله والمعتل إما بالألف وإما بالواو وإما بالياء أما الألف فاللغة الشهيرة فيها بقاؤها على أصلها في الوقف من غير تغيير وما جاء من إبدالها ياءً أو واوًا أو همزةً في نحو أفعى وأفعَوْ وحُبْلا نادر أو لغة قليلة لم يعتمد على ذكرها في هذا المختصر هذا إذا كان اسما معربا وكذلك إذا كان فعلا نحو يخشى أو اسما مبنيا أو حرفا فالوقف عليه على [36]

حاله وما جاء على خلاف ذلك فنادر وقيل نحو قولهم في يا مثنى: يا مثناه وهذاه في هذا وهناه في ههنا وأما الياءُ فالإثبات فيها هو الشهير الفصيح وما جاء من قولهم غلام في غلامي وضربن في ضربني فقليل أو مختص بالقافية أو الفاصلة وكذلك قولهم (لا أدر) في (لا أدري) وقفا وهو نادر أيضا وكذلك حيث يبدل منها الجيم في نحو قول الشاعر أنشده أبو زيد يا رب، إن كنت قبلت حِجَّتِجْ ... فلا يَزالُ شاحجٌ يأتيك بِجْ أقمرُ نهاتُ يُنَزِّي وَفْرَتِجْ يريد حجتي وبي ووفرتي وعلى هذا الحكم يجري ما آخره واوٌ في المبني نحو ذو أو في الفعل المعرب نحو يغزو وكذلك يرمي وقد يجوز حذفها لكن في القوافي والفواصل أو في نادر الكلام وهو قوله في التسهيل «ولا حذف في نحو يقضي افعلي ويدعو وافعلوا غالبا إلا في قافية أو فاصلة» انتهى فذلك كله لا يقدح فيما أصَّل الناظم وقد [37]

أشرتُ إلى بعض ما ورد منه إشارة مختصرة والكلامُ فيها يطول ولو كان في لفظ الناظم ما يشير إلى شيء من ذلك لاستوفيت النظر فيه على حسب ما يحتمله الشرح ولكنه سكت عنه اتكالا على فهم بقائه على أصله فمن هذه الجهة أشرتُ إلى ما أشرتُ إليه والله الموفق وأما استثناء هاء التأنيث فلاختصاصها بحكم يأتي وهو إبدالها في الوقف هاء والهاءُ لا يصح فيه روم ولا إشمام ولا غيرهما؛ إذ كان ذلك بيانا لحركة الحرف الآخر والمحرك تاءٌ لا هاء فلا تصح إشارة إلى حركة فيما لم يبق فيه على تحريك؛ لأن الهاء إنما أُبدِلتْ في الوقف والسكون لازم للوقف فلا يمكن فيها التحريك وإنما عبّر عنها بالهاء ولم يقل تاء التأنيث لحكمة ظاهرة وفائدة حسنة وذلك أنه إذا عبر عنها بالهاء خرج له عن حكم الاستثناء ما لا يسمى من التاءات هاء إذ تاء التأنيث لا تسمى هاء إلا اعتبارا بمآلها في الوقف فما كان منها لا يُبدَل هاء فلا يقال فيه هاء التأنيث فتاء بنت وأخت قد يعبر عنها بتاء التأنيث ولا يعبر عنها بالهاء لأنها لا تبدل هاء وكذلك تاء جمع المؤنث السالم نحو هندات يعبر عنها بتاء التأنيث لا بها التأنيث فخرجت إذًا هاتان التاءان عن حكم الاستثناء ودخلت في المحرَّك الذي ليس بهاء تأنيث فيجوز إذًا في أخت وبنت وهندات الروم والإشمام وغيرُ ذلك مما توفرت فيه شروطه ولا يقتصر بها على السكون فقط كما يكون ذلك في هاء [38]

التأنيث نحو طلحة وحمزة. ثم عبر عنها بعد هذا بالتاء لا بالهاء في قوله «فِي الْوَقْفِ تَا تَأْنِيثِ الِاسْمِ هَا جُعِلْ» لأن قصده هناك الإتيان بجنس التاء وما يبدل منها الهاء في الوقف وما لا، فتمكن هنالك ذكر التاء؛ إذ لم يقصد إلا ما هو أعمّ من الهاء. وأيضا فإنه لو قال هناك «فِي الْوَقْفِ ها تَأْنِيثِ الِاسْمِ هَا جُعِلْ» لم يكن فيه بيان؛ إذ لا تسمى هاء إلا بعد ثبوت إبدالها هاء وذلك بعد لم يتم بل هو آخذ في التعريف به فلا يمكن إلا أن يذكر أصلها من التاء حتى يذكر إبدال ما يبدل منها وههنا مسألة هي مقدمة لما يذكره من الأوجه وذلك أنه قال «وَغَيْرَ هَا التَّأْنِيثِ مِنْ مُحَرَّكِ» وهذه العبارة تؤذن بعموم الحكم في كل محرك؛ إذ قوته قوة أن لو قال: وكل محرك سوى الهاء فحكمه كذا. وإذا كان كذلك دخل له فيها كل ما تحرك آخره سواء أكان اسما أم فعلا أم حرفا وسواء أكان معربا أم مبنيا كل ذلك يدخله التغير بما دون السكون من هذه الأنواع التي من الروم والإشمام والتضعيف والنقل أو ما توفرت فيه شروطه منها فكل مبني على الضم نحو (يا زيد) و (يا حكمُ) وقبلُ وبعدُ ومنذ وحيث أو على الفتح نحو أين وكيف وقام وقعد وخمسةَ عشرَ وليتَ وسوفَ وإنَّ وأنَّ [39]

ولات، أو على الكسر نحو أمس وجبر** ويومئذ وكذلك ضربتُ وضربتَ وضربتِ وضربكَ وضربكِ وأنتَ وأنتِ وضربه ويضربه وضربتم وضربتنّ وضربكم وضربهم وأنتم وأنتنّ وكذلك منه وعنه وإليه ولديه وما أشبه هذه كله فداخل تحت ما ذكر وهذا مما يجب أن يحقق النظر فيه فقل من يتكلم من النحويين على هذه التفاصيل كلها وإنما لهم في إجازة هذه الأشياء إطلاقات لا تُوفِي بالمقصود فأما القراءُ فأجازوا ما لهم أن يجيزوا من الروم والإشمام في كل متحرك ما عدا أربعة أشياء أو خمسةً أحدها هاء التأنيث وهي التي استثنى الناظم والثاني ميم الجميع في المضمرات نحو لهمُ ولكمُ وعليهمُ وعليكمُ وذلك عند من يصلها في الوصل بالواو أو بالياء فلا يجوز هنا روم ولا إشمام ولا غيره لأن الميم إنما تستعمل عند حذفِ الصلة ساكنة فصارت في الحكم كالهاء التي للتأنيث لا يصح فيها إشارة لمحركة؛ إذ ليست من الحركات في شيء إلا مع الصلة وهي قد زالت هذا على الاستعمال المشهور وأما من لغته من العرب التحريك في الوصل مع حذف الصلة وقد قُرئ بذلك - حكاها ابن مجاهد - فإنّ الرومَ والإشمام وغيرَ ذلك يجوزُ [40]

فيها إذ صارت كهاء الإضمار نحو منه وعنه وعليه يجوز ذلك فيها من حيث جاز فيها التحريك مع حذف الصلة أما في اللغة المشهورة فلا بد من السكون هذا هو المشهور المعمولُ به عنده وأصله لسيبويه إذ نص على أن ميم الجميع إذا حذفت بعدها الواو والياء سكنت وبين أن وجه الحذف الاستثقال باجتماع الضمتين مع الواو في نحو عليكمو مال أو الكسرتين مع الياء في نحو بهمي داء وقرر هذا المعنى ثم قال «وأسكنوا الميم لأنهم لما حذفوا الياء والواو كرهوا أن يدعوا بعدها شيئا منهما إذ كانتا تحذفان استثقالا فصارت الضمة بعدها نحو الواو ولو فعلوا ذلك لاجتمع في كلامهم أربع متحركات ليس معهن ساكن نحو رسلكم وهو يكرهون هذا؛ ألا ترى أنهم ليس من كلامهم اسمٌ على أربعة أحرف متحرك كله» قال «فأما الهاء فحركت في الباب الأول لأنه لا يلتقي ساكنان» يعني أن الهاء لا تسكن كما تسكن الميم في رسلهم ونحوه لأن الميم لا يكون ما قبلها إلا متحركا فإذا سكناها لم يلتق ساكنان بخلاف الهاء فإن ما قبلها قد يكون ساكنا فيلتقي الساكنان [41]

وخالف في هذه المسألة مكيٌّ فأجاز الروم والإشمام في ميم الجميع وزعم أن ذلك مما أغفل القراء الكلام عليها وأن الذي يجب فيها على قياس شرطهم جواز الإشارة قال «لأنهم يقولون لا فرق بين حركة الإعراب وحركة البناء في جواز الروك والإشمام» ثم قال «فالذي يروم ويشم حركم الميم على النص غير مفارق له والذي لا يروم حركة الميم خارج عن النص بغير رواية اللهم إلا أن يوجد الاستثناء فيها منصوصا فيجب الرجوع إليه إذا صح» قال «وليس ذلك بموجود» ثم قال «ويقوي جواز ذلك فيها نصُّهم على هاء الكتاب فيما ذكرنا بالروم والإشمام فهي مثل الهاء لأنها تُوصَل بحرفٍ بعد حركتها كما تُوصَل الهاء ويحذف ذلك الحرف في الوقف كما يحذف مع الهاء فهي مثلها في هذا» ثم بسط ذلك بسطًا كافيا في كتابه التبصرة ثم قال «فأما من حركها لالتقاء الساكنين فالوقف بالسكون لا غير» قال أبو جعفر بن الباذش: قال لي أبي رضي الله عنه بل مجيز الروم والإشمام في ميم الجميع هو المفارق للنص لأنّ سيبويه نصّ على أن ميم الجميع إذا حذفت بعدها الواو والياء سكنت ثم أتى بنص الكتاب المتقدم ثم قال: فجمع سيبويه بهذا الكلام حكم الميم وهاء الكناية [42]

وانبنى على ذلك جواز الروم والإشمام في الهاء وامتناعُه في الميم؛ ألا ترى أن من حذف الياء والواو في الوصل سكن الميم أبدًا فإنما يكون الوقف لجميعهم على الحد الذي استعمله بعضهم في الوصل هذا ما قيل المسألة وظاهر إطلاق الناظم أنه في هذه المسألة على مذهب مكي؛ إذ لم يستثن ميم الجميع كما استثنى هاء التأنيث وبعيدٌ غاية البعد أن يترك مذهب الكتاب وظاهر كلام سيبويه ويتبع مكيا في رأيه فهذا فيه ما ترى والثالث من المستثنيات: الآخر المتحرك بحركة عارضة* كالمتحرك لالتقاء الساكنين نحو {قُلِ الحقُّ} و {ابتغَوا الفتنة} وقالت العرب عَلَتِ الأصواتُ وما أشبه ذلك وكذلك إذ نُقلت حركة الهمزة إلى الساكن قبلها من كلمة أخرى نحو لوَ** انك** فعلت فمثل هذا لا يجوز فيه الإسكان كما كان قبل عروض الحركة لأن أواخرها ساكنة، وإنما حركت لعارض في الوصل زائلٍ في الوقف فلا يصح فيها روم* ولا إشمام ولا غيرهما اللهم إلا أن تكون الحركة العارضة كاللازمة بالحكم فإنّ* حكمها حكم اللازمة يجوز فيها ما يجوز فيها وذلك نحو: ملْءٍ ودِفْءٍ والخبْءِ والوَطْءِ [43]

إذا وقفت على مذهب من يسهل الهمزة من العرب فإنك تشم هنا أو تروم أو تضعف إن شئت من حيث صار ما قبل الهمزة بعد حذفها هو حرفَ الإعراب وحرفُ الإعراب على الجملة لازم للحركة فلا بد أن يحكم له هنا بحكم حرف الإعراب الأصلي وأيضا فإن سكون لام مِلْءٍ وفاء دِفْءٍ بعد التسهيل إنما هو وارد على الحركة المنقولة فالسكون للوقف هو العارض بالنسبة إلى الحركة المنقولة في الوصل أو في تقدير الوصل وهذا بخلاف قولك مثلا (قيد إبلك) لأن الهمزة هنا لازمةٌ لكونها في كلمة فالحركة إذًا لازمة وهي في (قيد إبلك) غير لازمة فالحركة فيه غير لازمة وعلى هذا الأصل يتوجه الخلاف في (يومئذ) و (حينئذ) فذهب مكي إلى أنه لا يتجاوز بها السكون قال «لأنّ التنوين الذي من أجله تحرك الذال يسقط في الوقف فترجع الذالُ إلى أصلها وهو السكون فهو بمنزلة {لم يكن الذين} وشبهه» وقال «وليس هذا مثل غواشٍ وجوارٍ وإن كان التنوين في جميعه دخل عوضا من محذوف لأن التنوين دخل في هذا على متحرك فالحركة أصلية والوقف عليه بالروم حسن والتنوين في (يومئذ) و (حينئذ) دخل على ساكن فكُسِرَ لالتقاء الساكنين وصار التنوين في الوصل تابعا للكسرة فتقف على الأصل» [44]

وذهب أبو الحسن ابن الباذش إلى جواز ذلك في (يومئذ) و (حينئذ) قال «لأن الحركة قد لزمته في الوصل في الاستعمال فيكون الوقف عليها كالوقف على كل متحرك وإن كان أصلها - إذا لم يدخلها التنوين عوضا - السكون وكأنها مع التنوين في حكم ما بني* على الكسر وحركاتُ البناء تشم وترام كحركات الإعراب» فعلى الجملة لا بد من هذا الاستثناء إذ هو ضروري ولا يقول أحد باعتبار حركة {قل الحق} * في الوقف فكان من حق الناظم أن ينبه على ذلك وإلا كان إطلاقه خطأ والرابع من المستثنيات: هاء الضمير إذا كانت مكسورة وقبلها كسرة أو ياء ساكنة نحو بِه أو فيه وإليه وعليه أو كانت مضمومة وقبلها ضمة أو واو نحو يضربُه ويكرمُه وضربُوه وأكرمُوه فاختلفوا في جواز الروم والإشمام في هذا النحو فحكى مكيٌّ عن القراء** أنه لا يجوز فيه إلا السكون وذلك لخفائها وبعد مخرجها واحتياج الواقف لأجل الروم إلى تكلف إظهارها هذا مع ما في الكلام من ثِقَل خُروجٍ من ضم إلى ضم ومن كسرٍ إلى كسرٍ فكان ذلك كله مستثقلا ومتكلفا في النطق وحكى** عن النحاس جواز الروم والإشمام في هذا قال: وليس هو مذهب القراء قال وذكر [45]

الداني الخلاف عن أهل الأداء وأن منهم من يأخذ بالإشارة قال وهو أقيس قال أبو جعفر ابن الباذش «وهو كما قال» يعني كونه أقيس قال «وإنما نزّل سيبويه الهاء منزلة الساكن في كونها وصلا للرويّ في قوله عفتِ الديار محلّها فمقامها لا في امتناع الروم والإشمام» قال «فالواجب الأخذ فيها بالإشارة وفي ميم الجميع بغير إشارة على ما ذكرنا من نص سيبويه» هذا ما قالوا وليس على الناظم في عدم استثنائه هذا درْكٌ لإمكان حمل كلامه على ما قال النحاس وهو أقيس الوجهين على ما قال ابن الباذش على أن ما قاله القراء من إلزام الإسكان له وجه وذلك أنّ العلة التي لأجلها منع سيبويه الإشارة في ميم الجميع من استثقال توالي الكسرات أو الضمات وتوالي المتحركات موجودٌ هنا ولأجل ذلك كان من منع هنا مجيزا فيما إذا لم يكن قبل هاء الضمير إلا فتحة كقولك (أكْرَمَه) لفقد الاستثقال الموجود في مسألتنا. فما قاله سيبويه في وجه المنع يصح أن يكون مستندا في المنع هنا [46]

وهذا التوجيه تلقيته من بعض أصحابنا المحققين نفه الله وعليه يجري أيضا منع الإشارة فيما إذا تحرك ما قبل الهاء بالكسر نحو قوله تعالى {وما أنسانيهُ إلا الشيطان} ونحوه عند من ضمّ الهاء بعد الكسرة وهو خلاف ما رواه مكي، فافهمه. والخامس من المستثنيات: الهمزةُ المسهَّلة بينَ بين إذا وُقف عليها نحو ذَرَأ وتبرَّأ ومن الخطأ وامرؤٌ ولؤلؤ ويُبْدِئ وتبرئ فالهمزة هنا تسهيلها بين بين فإذا وقفت عليها فالقياسُ أن لا روم فيها ولا إشمام لأنها قد سكنت في الوقف وصار التسهيل فيها إذ ذاك بالإبدال فألف قرا كألف الرحى ويا بيدي كياء يرمي وواو لُوْلو كواو يغزو فلا يصح فيها غير التسكين كحروف المد واللين. وقد ذكر الداني ومكيّ عند قوم الإشارة والتسهيل بينَ بين وتعقب ذلك أبو الحسن ابن الباذش بأن الحرف الموقوف عليه ساكن وطروءَ الرَّوم عليه لا يُوجِب له حركة وإذا كان كذلك سكنت الهمزة في الوقف كما يجب في كل حرف موقوف عليه ثم تبدل ألفا أو واوا أو ياء على حسب حركة ما قبلها ولا يتأتى في هذه الحروف روم وسبيله في ذلك سبيلُ تاء التأنيث المبدلة في الوقف هاءً فلا يكون فيها روم ولا إشمام لأن الحرف الساكن في الوقف غير الحرف المتحرك في الوصل. [47]

هذا ما قال وقد نص على هذا المعنى من أنه لا روم فيها ولا إشمام الفارسي في الإيضاح حين تكلم على الوقف على الهمزة المتحرك ما قبلها كالخطأ والرشأ فقال «وأما الذين يخففون الهمزة - يريد بين بين - من أهل الحجاز فيقولون (رعيت الكلا وهذا الكلا وبالكلا) فيقلبونها ألفا لأنها قد سكنت في الوقف وقبلها فتحة فصارت بمنزلة الألف في راس وفاس إذا خُفّفت» قال «ولا تشم ولا تروم كما لا تفعل ذلك بألف الرحى والعصا» قال «ولو كان ما قبل الهمزة مضموما لانقلبت على قولهم في التحفيف واوا نحو قولهم (هذه أكمو) إذا وقفت على (هذه أكمؤٌ يا فتى) وإن كانت كسرة انقلبت ياء نحو (أنا أهنِي») قال «ولا إشمام في هذه الواو ولا هذه الياء ولا رَدْمَ كما لا إشمام ولا روم في واو يغزو ولا ياء يرمي». وعلى هذا المعنى الذي قرره الفارسي نص سيبويه في باب الوقف في الهمز غير أنه نفى الإشمام ولم يتعرض للروم بنفي ولا إثبات فهو محتمل إلا أنه قد فسر بكلام الفارسي والظاهر من قول الفارسي ما قاله ابن الباذش من أن الروم وارد على السكون وإلا فكانوا يذكرون جواز الوقف بالروم ابتداء ثم ينصون على المنع فيما إذا وقفوا أولا بالسكون [48]

وأيضاً لو لم يكن الأمر كذلك لم يمنع إبدال الهمز عند وجود الروم لأنه نطق ببعض الحركة والسكون بعدُ لم يكن فكيف تُبدَلُ مع بقاء التحريك؟ هذا مشكل وعند هذا قد يصح ما قاله مكي وغيره وهو ظاهر من حال الروم فإنه إبقاء لبعض الحركة في الحس فيظهر أن تقدير تقدم السكون دعوى اللهم إلا أن يُنقل عن العرب المخففين الامتناع من الروم إذا وقفوا فحينئذ يصح هذا التقدير والله أعلم وأما الإشمام فظاهر المنع على كل تقدير لما تقدم. وإذا تقرر هذا حصل أن همزة بين بين لا يصح فيها روم عند الفارسي وابن الباذش ولا إشمامٌ مطلقا مع أنها متحركة إذ هي بزنة المتحرك في الشعر وهذا مذكور في موضعه فصار نقضا على إطلاق الناظم المتقدم حيث قال وَغَيْرُ هَا التَّأْنِيثِ مِنْ مُحَرَّكِ ... سَكِّنْهُ، أَوْ قِفْ رَائِمَ التَّحَرُّكِ ولم يستثن من ذلك الهمزة المسهلة بينَ بين فاقتضى ذلك جواز الروم فيها وهو ممنوع إلا أن يكون رأى في ذلك رأي من حكى عنهم الداني ومكي وهو بعيد أو يقول: إنّ الوقف بالروم ليس ثانيا عن السكون بل هو إبقاء لبعض الحركة في الوصل على ما هو الظاهر، فإذا عُزم على الروم أمكن إبقاء* الهمزة على حالها في الوصل إذ لم تذهب الحركة جملة. [49]

فالحاصل** أنّ** القيود المحتاج إلى ذكرها في جواز تلك التغيّرات لم يذكر منها إلا أن لا يكون الآخر هاء التأنيث وأغفل ذكر البواقي كما رأيت وكذلك فعل في التسهيل فلم يستثن فيه إلا ما استثنى هنا وعذره في ذلك مقبول؛ إذ أكثر النحويين لا ينبهون** على هذه الأشياء ولا يشيرون إلى شيء منها، وذكرُها ضروري. ولنرجع إلى ما كنا بسبيله، فقوله « ... سَكِّنْهُ» هو أحد الأوجه الخمسة في الوقف على المحرك أي قِفْ عليه بالسكون فتقول في (جاءني زيدٌ): (جاءني زيدْ) وفي (قام الرجلُ): (قام الرجلْ) وما أشبه ذلك وإنما قدَّم السكون لأنه الأصل في الوقف وذلك لأن الوقف موضع استراحة والابتداءُ شروع في عمل وقد تقرر أن الابتداء إنما يكونُ بالحركة فضِدُّه الذي هو استراحة وفراغ من العمل إنما يكون بضد الحركة وهو السكون. وأكثر العرب على الوقف بالسكون على ما نقله السيرافي قالوا: ومن استعمل الروم والإشمام والتضعيف والنقل فإنه على مذهب غيره في السكون إلا أنه زاد الفرق بين ما يعرض سكونُه في الوقف وبين ما يلزمه السكونُ في الوصل والوقف على مذهب العرب في التنبيه على الأصول. وعلامة السكون في الخط خاءٌ فوق الحرف المسكن نحو (هذا زيد (خـ) **» وهي مقتطعة من قولك (خفيف) لأن الروم والإشمام فيهما إشارة إلى الحركة فليس الوقف بهما إسكانا خالصا. [50]

ثم قال «أَوْ قِفْ رَائِمَ التَّحَرُّكِ» هذا هو الوجه الثاني وهو الروم أتى باسم فاعله أي: قف حالة كونك دائما الحركة، أي: مشيرا لها إشارة الروم، وأقام التحرك مقام الحركة لقرب معناهما والروم هو النطق ببعض الحركة فلا بد من الصوت معها؛ لأن الحركة صوتٌ فلذلك كان الروم مما يدركه الأعمى بخلاف الإشمام وإنما أتوا بالروم حرصا على بيان الحركة وهو آكد من الإشمام في بيانها لأنه نطق ببعضها بخلاف الإشمام وعلامته خط أما الحرف فتقول (هذا زيد ـ) و (مررت بخالد ـ) و (رأيت الحارث ـ) وإطلاق الناظم في هذا يدل على أن الروم يكون في الأحوال كلها من الرفع والنصب والجر كما مر تمثيله لأنه صويت ضعيف بالحركات الثلاث يتبع ذك الصويت الحرفَ الذي تقفُ عليه وفي المسألة ثلاثةُ أقوال هذا أحدها وعليه سيبويه والجمهور والثاني استثناءُ المنصوب وهو مذهب القراء أجمعين وذهب إليه [51]

أبو حاتم من المتقدمين وأطلق العبارة به ابن عبيدة من القريبي العهد المتأخرين أخذًا منه لذلك عن شيخه ابن أبي الربيع حيث جعل الروم في المنصوب قليلا ولذلك لم يقرأ به أح من القراء واحتجوا بخفة الفتحة وبأنها ضعيفة فإذا نطقت ببعضها نطقت بجميعها وهذا لم يرتضه الناظم وقد رد بأن الروم لا يرفع حكم السكون بما فيه من جري بعض الحركة في الوقف فلا يمتنع أن يكون الفتح كغيره. وإنما فرق سيبويه بين النصب وبين الرفع والجر في الوصل فذكر أنهم يشبعون الضمة والكسرة ويمططون فيقولون (هو يضربها) و (من مأمنك) قال: وعلامتها واو وياء ويختلسها بعضهم اختلاسا فيقولون (يضربها) و (من مأمنك) يسرعون اللفظ. قال «ولا يكون هذا في النصب لأن الفتحة أخف عليهم» يعني أن خِفَّتها مشبعة تغني عن تخفيفها بالاختلاس. وروم حركة النصب ليس للتخفيف إنما هو للدلالة على تحرك الحرف في الوصل فالحركات كلها يمكنُ النطقُ بجميعها وببعضها غير أن الفتحة لما كانت خفيفة مع الإشباع لم تختلس في الوصل في (لن يضربها) إذ لا حاجة إلى ذلك واختُلست (رِيمَت) ** بسبب الحاجة إلى ذلك في حالة الوقف وهذا ظاهر. [52]

والقولُ الثالث: الاقتصار بالروم على المرفوع والمضموم خاصة وهو قولٌ ينسبُ إلى ابن كيسان وهو ظاهر كلام الزجاجي في الجمل حيث قال: والإشمامُ ورومُ الحركة إنما يكونان في المرفوع، ثم قال حين بيَّن الروم: وهو أن تلفظ بآخر الكلمة وأنت مشير إلى الحركة ليُعلَم أنه مضموم فخصّه بالضم وهو كالنص على أن الشلوبين تأوّله على أن مراده بقوله إنما يكونان في المرفوع أي إنما يجتمعان معا في المرفوع ويكون قوله لتعلم أنه مضموم تمثيلا فقط لا لأنه مختص به. وأيّا ما** أراد فهذا مذهبٌ مردود مخالِف لما يحكيه سيبويه وغيرُه عن العرب وهم الحجة على الجميع ولم يحفل به الناظم مع أن عمل الروم ممكن في الحركات كلها لأنه عمل اللسان فيلفظ بها لفظا خفيفا مسموعا ثم قال «أَوْ أَشْمِمِ الضَّمَّةَ» هذا هو الوجهُ الثالث وهو الإشمامُ أتى بفعله أي: أشِرْ إلى الضمة إشارة الإشمام، وحقيقة الإشمام ضمُّ الشفتين بعد الإسكان بحيث لا يُحسّه الأعمى وإنما هو لرأي العين على هذا جمهور النحويين ولبعضهم هنا مخالفة في أربعة مواضع: [53]

فالأخفش حُكي عنه أن الإشمام يفهم بالسمع دون النظر قال ابن خروف وهي حكاية فاسدة وقطربٌ يقول الإشمام وضع النحويين وليس بمسموع من العرب وهذا فاسدٌ لأنه وإن لم يُسمَع مأخوذٌ بالأبصار من أفواه العرب وقد قال سيبويه بعد كلامه في الإشمام «وهذا قولُ العرب ويونس والخليل» فعزاه إلى العرب وهو الثقة فيما ينقل فلا يسمع كلامُ غيره في ذلك. وابن خروف يقول إن الإشمام على وجهين: إشمامٌ في الوقف وهذا هو الذي لا يُحسُّ به الأعمى وإشمامٌ في وسط الكلمة وهذا لا يمكن إلا أن يكون له صوتٌ فهو مما يسمع كالروم. وينقل القراء عن ثعلب وابن كيسان أنّ الإشمام أتمُّ في البيان من الروم وكأنه نطقٌ ببعض الحركة بخلاف الروم فإنه تناولٌ إلى الحركة من غير وصولٍ إليها، وحجة هذا الرأي ما ذكروا مِن أنّ القائل إذا قال (رُمت الشيء) فهو عبارةٌ عن محاولة أخذِه من غير وُصولٍ إليه بعدُ وإذا قال (أشممتُ الفضّة الذهب) فالمعنى أنه خلطها بشيء منه فالروم والإشمام منقولان من هذا. وما قالاه اعتراضٌ على الاصطلاح؛ إذ غايته أنْ سمَّوا الروم إشماما والإشمام روما، وإذا فُهِمت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ وعلامة الإشمام نقطةٌ أمام الحرف كقولك (هذا زيد.) و (مررت بخالد.) [54]

وتخصيصه الإشمام بالضمة في قوله «أَوْ أَشْمِمِ الضَّمَّةَ» ولم يطلق ظاهر في أنه لا يقع عنده في المفتوح والمكسور. وهذا مذهب غيره وإنما اختص بالرفع والضم دون غيرهما لأنه إذا وضعت لسانك أو حلقك موضع الحروف استطعت أن تضم شفتيك حتى تُعْلِمَ الذي يبصرك أنك تنوي الرفعَ في الحرف وإذا تكلمت بالحرف فأردتَ أنْ تُعلِم أنك تنوي فيه الفتح أو الكسر كما فعلت في المرفوع لم تقدِر أنْ تُريَ مَن ينظُرُ إليك ما في فيك وحلْقِكَ كما أريْتَهُ ما في شفتَيْك؛ لأن ما في الشفتين يظهر للناظر وما في الفم لا يظهر. إلى هذا المعنى أشار سيبويه في تعليل الاختصاص بالمرفوع والمضموم. وعلّل الصيمريّ منع الإشمام في المكسور بأنه تشويه للفم. قال ابن ملكون: هذا لا معنى له، ولو امتنع الإشمام في المكسور لأنه تشويه للفم لوجب أن يمتنع في المرفوع والمضموم مخافة التشويه. قال: وأيُّ تشويهٍ في الإشارة بالشفتين قليلا إلى الضم للدلالة على الحركة المفقودة في الموقف؟ ! ثم علل ذلك بأن ضمَّ الشفتين لا يكون دلالة على الجر والكسر كما كان دليلا على الرفع والضم وقول الناظم «أَوْ أَشْمِمِ الضَّمَّةَ» أطلق الضمة على حركة الإعراب وحركة البناء معا لأن حركة الإعراب يقال لها الضمة كما يقال ذلك لحركة البناء فإطلاقه صحيح على الاصطلاح بخلاف ما لو قال (الضم) من غير تخصيص بهاء التأنيث فحينئذٍ كان يُحتاج إلى الاعتذار عنه في ذلك الإطلاق. ويريد بالضمة ضمةَ آخر الكلمة، وهو بيِّن. [55]

ثم قال «أَوْ قِفْ مُضْعِفَا» هذا هو الوجه الرابع وهو التضعيف، أطلق عليه لفظ الإضعاف فبنى منه مُضْعِفا اسم فاعل من أضعَفَ والاصطلاحُ على ضعَّفَ تضعيفا فهو مضعِّفٌ لا على أضعفَ إضعافا فهو مُضْعِف. لكن لما كان المعنى واحدا تساهل في العبارة عنه ومعنى كلامه أنك مخيَّر أيضا في أن تقف على الحرف الآخر مضعفا له ومشددا فتقول في خالد: خالدْ (ش) ** وفي فرج: فرج (ش) ** وفي يجعل: يَجْعَلْ (ش) ** فتشدّ الآخر ومنه ما روي عن عاصم أنه كان يقف على قوله تعالى {وكل صغيرٍ وكبيرٍ مستطر** (ش)} بتشديد الراء قال الأهوازي «ولم يذكُر من جميع القرآن إلا هذا الحرفَ فقط ويلزمه أن يقف كذلك على جميع ما أشبه ذلك إذا تحركَ ما قبل آخرِ حرفٍ مِن الكلمة إلا أنّ القراءة سنة* ليست بالقياس» وعلامة التشديد: ش، وهي مقتطعة من شديد كما أن الخاء مقتطعة من خفيف قال سيبويه «هم أشدُّ توكيدا» يعني أنّ من وقف بالتضعيف زاد في التوكيد في الدلالة على أن الموقوف عليه متحرك لا ساكن «فأرادوا أن يجيئوا بحرف لا يكون الحرف الذي بعده إلا متحركا» لأنك لو قلت: خالِدْ فخففت لتوهِّم أنه كان ساكنا في الوصل فلما ثقلت [56]

ذهب ذلك التوهم لأنه لا يكون المدغم فيها ساكنا أبدا لما في ذلك من اجتماع ساكنين على غير شرطه ثم أخذ يذكر شروط الوقفِ بالتضعيف فأتى بشروطٍ ثلاثة: أحدها ألّا يكون الحرفُ الموقوفُ عليه همزةً وذلك قوله « ... مَا لَيْسَ هَمْزًا» ما: منصوبة على المفعول باسم الفاعل الذي هو مُضعِفٌ يعني أنه لا يجوزُ التضعيفُ في الهمزة لأنها لثقلها لا تضاعف على ما هو مذكورٌ في بابِ الإدغام فلا تقول في الخطأ والرشأ: الخطأْ (ش) الرشأْ (ش) الثاني أن لا يكون الحرف عليلا وذلك قوله «أَوْ عَلِيلًا» وهو معطوف على «هَمْزًا» والتقدير: أو قف مُضعفا ما ليس عليلا أي معتلا فإنه إن كان معتلا لم يصح تضعيفه. وحرفُ العلة الألف والواو والياء فأما الواو والياء فتضعيفهما يؤدي إلى الثقل المهروب عنه** فلا تقول في يغزو: يغزوْ (ش) ولا في يرمي: يرميْ (ش) وأما الألف فأولى أن لا يصحّ فيها التضعيف فيستثقل أو يستخف [57]

والثالث أن يقفُوَ مُحرَّكا وذلك قولُه «إِنْ قَفَا ... مُحَرَّكًا» والضمير في «قَفَا» عائد على مدلول «مَا» وهو الحرف الموقوف عليه وأُتِي به في مساق الشرط المدلول عليه بإنْ بعد ما جمع الوصفين المتقدمين كأنه يقول: ما جمع الوصفين المذكورين يجوز فيه التضعيف إن كان قد قفا مُحرَّكا ومعنى قفا: تبع، قفوت أثره واقتفيتُه إذا اتّبعتَه وأتيت في قفاه أي إن تبع الآخر محركا وذلك نحو ما تقدم من قولك: فرج وخالد وجعفر ففي مثل هذا تقول فرحْ (ش) وخالدْ (ش) وجعفرْ (ش) فإن قفا ساكنا فمفهوم الشرط أن لا يقف بالتضعيف لأنه لا يمكن الجمع بين ثلاثة سواكن فإن قيل فهل يجوزُ التضعيفُ إن كان ما قبل الآخر ساكنا بمنزلة المتحرك وذلك حروف المدّ واللين لأنّ مدّها يقوم مقام الحركة فكما تقول: * دوابّ وثوبك ثُمُودّ** وهذا أُصَيْمُّ فتقف عليها بالتضعيف الأصلي فكذلك كان ينبغي أن تقول في حمار إذا وقفت حمار وفي بعير بعيرّ وفي كفور: كفورْ (ش) فالجوابُ أن ذلك لا ينبغي أن يجوز في الوقف على الألف لأن الجمع بين ساكنين على الإطلاق مستثقلٌ فلا يجوز أن يُؤتى به في الوقف الذي هو موضع استراحة فإذا استثقل الساكنان في الوقف كما ذكر فاستثقال [58]

ثلاثة سواكن أولى مع أن هذا لم ينقل عن العرب فالقولُ بجوازه قولٌ باختراع اللغة وإذا امتنع في الألف فهو في الياء والواو أولى بالامتناع قاله ابن الضائع ثم قال «وَحَرَكَاتٍ اِنْقُلَا» هذا هو الوجهُ الخامس وهو النقل. و (حَرَكَاتٍ) مفعول بانْقُلْ. والنقلُ: عبارةٌ عن نقل حركة الحرف الموقوف عليه إلى الحرف الذي قبله حتى يوقف عليه بخالص السكون فتقول في قولك (هذا النقْرُ): (هذا النقُرْ) وفي قولك (انتفعتُ بالنقر): (انتفعتُ بالنقِرْ) وفي (منْهُ) و (عنْهُ) و (اضربْهُ): (مِنُهْ) و (عَنُهْ) و (اضربُهْ) وكذلك ما أشبهه. فمن نَقْلِ الضمة ما ذكره خلف عن الكسائي من أنه كان يستحب الوقف على منهُ وعنهُ يُشم النون الضمة حكاه ابن مجاهد. وحكى ابن الأنباري عن خلف قال: سمعتُ الكسائي يقول: الوقف على {فلا تكُ في مِريةٍ مِنْه} مِنْهُ بالتخفيف وجزمِ النون في الوقف كما يصل. قال «ويجوز مِنُهْ برفع النون في الوقف وكذلك عَنُه برفع النون في الوقف. قال خلف: والتخفيف فيهما أحب إلى الكسائي» ومن ذلك أيضا ما أنشده سيبويه من قول عُبَيدِ بن [59]

ماوية الطائي أنا ابنُ ماوِيَّة إذْ جَدَّ النَّقُرْ يريد جدّ النقْرُ** وأنشد أيضا لزياد الأعجم عجِبتُ والدهر كثيرٌ عجَبُه ... مِنْ عَنَزِي سَبَّني لم أضْرِبُه يريد لم أضربْه وأنشد أيضا لأبي النجم فقرِّبَنْ** هذا وهذا أزْحِلُهْ** يريد أزحله وقال طرفة حابسي رِسْمٌ وقفْتُ به ... لو أُطِيعُ النَّفسَ لم أرِمُهْ وعلى ذلك حمل ابن جني ما أنشده ابن الأعرابي فإنّما أنتَ أخٌ لا نَعْدَمُهْ قال أراد لا نعدمْهُ على وجه** الدعاء له ومن نقْلِ الكسرة قولُ امرئ القيس أنشده ابن الأنباري شاهدا لعمري لقوم قد نَرَى أمْسِ فيهم ... مَرابِطَ للأمْهارِ والعَكَر الدَّثِرْ [60]

أراد الدثْر وهو الكثير وأنشد أيضا لجرير بن عبد الله البَجَليِّ رضي الله عنه أنا جرير كنيتي أبو عَمِرْ ... أضرب بالسيف وسَعْدٌ في القَصِرْ أراد (أبو عَمْرو) و (في القَصْرِ) ومنه أيضا على التأويل قول طرفة بن العبد بجفان تعتري نادِيَنا ... من سَديف حين هاج الصَّنَّبِرْ أصلُه (الصَّنَّبْرِ) وكان حقه في النقل أن يقول (الصَّنَّبُرْ) بضم الباء لكن حمله ابن جني على أنه من باب الحمل على المرادف كأنه قال: حين هَيْج الصِّنَّبرِ من باب قولهم مشائيمُ ليسُوا مُصْلِحين عَشِيرةً ... ولا ناعبٍ إلَّا ببين غرابُها أنشده سيبويه ووجهُ النقل عند من يقفُ به أمران: أحدهما كراهيةُ التقاء الساكنين إذا قلت: النقْرْ ومنْهْ وعنْهْ فحركوا الحرف الأول بحركة الثاني ليزول التقاءُ الساكنين ولهذا جاء الفارسي [61]

في الإيضاح بهذا الوجه في باب التقاء الساكنين في كلمة والثاني أنهم أرادوا بيان حركة الحرف الموقوف عليه كما أرادوا ذلك في الروم والإشمام والتضعيف وإنما قال «وَحَرَكَاتٍ اِنْقُلَا» فجمع الحركات بيانا أنّ النقل يكون على الجملة في الحركات كلها فالضمة والكسرةُ مثالهما ما تقدم والفتحة في الهمز لا في غيره على ما يُذكر من مذهب البصريين مثالها قولهم (رأيت الدِّفَأْ) في (رأيت الدِّفْءَ) فالحركات الثلاثُ تنقل على الجملة فلذلك جمَعها وقوله «اِنْقُلَا» أراد (اِنْقُلَنْ) بنون التوكيد ثم أتى بالشروط المعتبرة في هذا الوجه وهي أربعة: أحدها أن يكون ما قبل الآخر - وهو الحرف المنقولُ إليه الحركةُ - ساكنا لا متحركا وذلك قوله « ... لِسَاكِنٍ» وهو مجرور متعلق بانقل أي انقل الحركات لساكنٍ فلو كان الحرفُ المنقول إليه متحركا لم يجُزِ النقلُ فلا تقولُ في (هذا خالدٌ): (هذا خالُدْ) ولا في (مررتُ بجعفَرٍ): (مررتُ بجعفِرْ) لوجهين أحدهما ما تقدم من أنّ سبب النقل عند الناقلين هو التقاءُ الساكنين فإذا تحرك ما قبل الآخر زال السببُ الموجب فيزول موجبه والثاني أن الساكن [62]

هو الذي يقبل حركة غيره لعروِّه من الحركة فإذا كان متحركا فالمحلُّ مشغول بحركته فلا ينبغي أن تُترَكَ حركتُه ويُحرَّك بحركة غيره وهذا الثاني فيه نظر وقد نقل إلى المتحرك في الضرورة أنشد الفارسي في التذكرة لأبي النجم ويلٌ له ويلٌ لهُ ويلٌ لُهْ ... إذا غَدَا قائده يتلُّهْ فنقل ضمة الهاء من «لَهُ» إلى اللام وهي متحركة على هذا حمله الفارسي والشرط الثاني أن يكون ذلك الساكن يصح أن يتحرك وذلك قوله « ... لِسَاكِنٍ تَحْرِيكُهُ لَنْ يُحْظَلَا» أي النقلُ إنما يكون لساكن لا يُحظلُ تحريكُه أي لا يُمنَعُ تحريكه بل يجوز ومعنى الحَظْلِ لغةً المنعُ من التصرُّفِ والحركة وقد حظَل عليه يحظُل بالضم قال الشاعر أنشده الجوهري فما يُعدِمك لا يُعدِمْك منه ... طبانيه فيحظُلُ أو يَغارُ وقد تضمن هذا الشرطُ شرطين اثنين: أحدهما أن لا يكون حرفا من حروف العلة لأنه إن كان كذلك حصل فيه بتحركه مع تحرك ما قبله الاستثقال لو قلت في (هذا زيدٌ): (هذا زيُدْ) أو في (بِزَيدٍ): (بِزَيدْ) ** وكذلك في (زَوْر): (زَوُرْ) أو (زَوِرْ) هذا إن لم يكن حركة ما قبلها من جنسها فإنها إن كانت كذلك زاد [63]

الثقل أو تعذَّر النطقُ كما يتعذَّرُ في الألف نحو (عماد) فكذلك يتعذر في ثمودٍ وسعيدٍ لأن الياء والواو هنا مدّاتٌ مطلقة كالألف. ووجه ثانٍ وهو أن الألف والواو والياء حروفُ مد وحروفُ المد تحتمل التقاء الساكنين ولا يحتمله غيرها فساغ الوقف على الساكن مع سكون ما قبله - وهو حرف اللين - لاحتماله ذلك بما فيه من المدّ المُشبه للحركة ولذلك جمعوا بين الساكنين في الوصل إذا كن الثاني مدغما إلى نحو هذين الوجهين أشار سيبويه في تعليل هذا الموضع والشرط الثاني أن لا يكون مُدغما فإنه إن كان كذلك لم يجز النقل لما يلزم به من تحريك الحرف المدغم وذلك قولك رَدٌّ وجَدٌّ لو قلن رَدُدْ أو (انتفعتُ بِجَدِدْ) لكان فيه من الكراهة ما في قولك رَدَدَ يَرْدُدُ فهو رادِدٌ وذلك ممنوع عندهم والشرط الثالث أن لا تكون الحركةُ المنقولة فتحةً في غير المهموز وهذا الشرط يختصّ باشتراطه البصريون وذلك قوله وَنَقْلُ فَتْحٍ مِنْ سِوَى الْمَهْمُوزِ لَا ... يَرَاهُ بَصْرِيٌّ، وَكُوفٍ نَقَلَا [64]

يعني أنّ النقل الجائز إنما هو نقلُ الضم أو الكسر كما تقدم تمثيلُه في نحو (هذا النقُرْ) و (مررت بالنّقِرْ*) وأما نقلُ الفتح فمذهبُ البصريين أن النقل على وجهين جائز وممنوع فالممنوع النقل من غير المهموز الآخر فلا يجوز أن تقول في (سمعت النَّقْرَ): (سمعت النَّقَرْ) ولا في (رَفَعْتُ الِعدْلَ): (رَفَعْتُ الِعدَلْ) ولا في (كسرت القُفْل): (كسرت القفل) ولا ما كان نحو ذلك وإنما لم ير هذا البصريون لأنه لما كان المنصوبُ أكثر ما يوقف عليه بالألف المبدلة من التنوين صار مجيئه غير مُنوّنٍ كأنه عارض مع أن الألف واللام معاقبة للتنوين والعرب قد تحكم للمعاقب بحكم المعاقَب فلم يجيزوا النقل لذلك مع أن السماع معدوم في نقل الفتحة؛ إذ لم ينقلوا ذلك في الكلام وما جاء منه فشاذ لا يقاس عليه ومنه قول العجاج الحمد لله الذي أعطى الشّبَرْ أراد الشّبْرَ وهو النكاح وقد تُؤُوِّل على أنه جاءَ على لغة من قال (رأيت زيد) وقد قالوا: إن النقل في المفتوح على تلك اللغة جائز لفقد علة [65]

المنع؛ إذ صار المفتوح** حين عُدِمَ التنوين كالمضموم والمجرور فليس فيه شاهد على وجود النقل في المفتوح فوجب المصير إلى المنع منه وأما النقل الجائز فالنقل من المهموز وعليه دلّ مفهومُ قوله «مِنْ سِوَى الْمَهْمُوزِ» أي أنّ البصري يرى النقل من المهموز ويجوز ذلك عنده فتقول في (رأيت الخَبْءَ): (رأيت الخَبَأْ) وفي (أحببتُ الدِّفْءَ): (أحببتُ الدِّفَأْ) وفي (كَرِهتُ البُطْءَ): (كَرِهتُ البُطَأْ) كما تقول باتفاق في (هذا الوَثْءُ): (هذا الوَثُؤْ) وفي (نظرت إلى الوَثْءِ): (نظرت إلى الوَثِئْ) وإنما احتملوا نقل الفتحة من الهمزة دون غيرها لأن الهمزة لما كانت أبعد الحروف وأخفاها في الوقف حرَّكوا ما قبلها ليكون أبين لها بخلاف سائر الحروف فلذلك كان التحريك مع الهمز أقوى هذا مع أن السماع في ذلك موجود قال سيبويه «واعلم أنّ ناسا من العرب كثيرا يلقون على الساكن الذي قبل الهمزة حركة الهمزة سمعنا ذلك من تميم وأسد يريدون بذلك بيان الهمزة قال: وهو أبين لها إذا وَلِيت صوتا والساكن لا ترفع لسانك عنه بصوتٍ لو رفعت بصوتِ حرَّكْتَه» قال «فلما كانت الهمزةُ أبعد الحروف وأخفاها في الوقف حرَّكوا ما قبلها ليكون أبْين لها» قال «وذلك قولهم هذا الوَثُؤْ ومن الوَثئْ* ورأيت الوَثَأْ» فانظر إلى تعليل سيبويه ما سمع فذكر فيه النصب فالسماع فيه محقق [66]

ومذهب الكوفيين وابن الأنباري جواز النقل في غير المهموز فيقولون (رأيت النَّقَرْ) و (حملتُ العِدَلْ) و (كسرتُ القُفَلْ) كما يقولون ذلك في المهموز ويوافقون البصريين على ذلك وتؤخذ موافقتهم في المهموز من كلام الناظم من قوله أولا «وَحَرَكَاتٍ اِنْقُلَا» ولم يخص مهموزا من غيره ولا خصّ بصريا من كوفي فيؤخذ له من إطلاقه هناك أن الكوفيين داخلون في الحكم فإن قلت فهذا لازم في كل مسألة يذكرها وأن يكون الكوفيين** فيها موافقين للبصريين إذا لم يُعيِّن لها قائلا وليس ذلك بصحيح لأن أكثر ما نقله هنا إنما هو على مذهب البصريين ومن راجع النظر في هذا النظم وجده كذلك فلا بد أن يكون المسكوت عن ذكره من الكوفيون** في المسألة مسكوتا عنه في حقيقتها وإذ ذاك لا يلزم في كلام الناظم أن يكون مذهبُهم الجوازَ في المهموز فيبقى النقل عنهم في المسألة منقولا بعضه دون بعض فالجواب أن تفصيله ثانيا مذهب أهل البصرة وأهل الكوفة يُشعِرُ بأن إجماله أولا هو على كلا المذهبين لأن عادة المؤلفين إذا أجملوا الحكم في مسألة ثم فرَّقوا في بعض تفاصيلها بين المذاهب فذلك دال دَلالة قوية على أن ما لم يفصلوا فيه قد اجتمعت فيه تلك المذاهب وكذلك مسألتنا أجمل أولا [67]

جواز النقل ثم بين الخلاف في بعض وجوهه فدل على أن ما لم يفصل فيه تفصيلا قد اتفق عليه هؤلاء المختلفون وفي مثل هذا نلتزم أن الحكم المجمل مطلق في كل مذهب بخلاف ما إذا لم يُفعَل ذلك فإنا لا نلتزمه وعلى هذه الطريقة جرى كلام الناظم وربما مضى من ذلك مسائل وقع التنبيه عليها في مواضعها فإذا ثبت هذا فالكوفيون متفقون مع البصريين في المهموز وأما قولهم في غير المهموز فحجته عندهم أن الجميع اتفقوا أن النقل إنما جاز في المرفوع والمجرور ليزول اجتماع الساكنين حالة الوقف ولا شك أن هذه العلة موجودةٌ حالة النصب؛ فإنك لو قلت (رأيت النكر) فوقفت ولم تنقل لاجتمع الساكنان كما اجتمعا في المجرور والمرفوع فقَصْرُ النقل على بعض أنواع الإعراب دون بعض تحكم وترجيحٌ من غير مرجِّح وإعمالٌ للعلة في موضع وإهمال لها في موضع آخر وذلك كلُّه فاسد فالقول بما يؤدي إليه فاسد أيضا والجواب عن هذا أن المتبع في ذلك السماع والتعليل إنما يأتي من وراء ذلك فنحن رأينا العرب فرَّقت بين المرفوع والمجرور وبين المنصوب في غير المهموز فلا بد من القول به على أن البصريين فرقوا بين الحالتين كما تقدم فلا يلزم الجمع مع وجود الفارق والناظم لم يُشر إلى ترجيح أحد القولين على الآخر بل قال «لَا ... يَرَاهُ بَصْرِيٌّ، وَكُوفٍ نَقَلَا» وقد اختار في التسهيل مذهب البصريين [68]

وقوله «وَكُوفٍ نَقَلَا» لا يريد به نقل المسموع عن العرب وإنما يريد له النقل الاصطلاحي المتكلَّم فيه أي إنّ الكوفي نقل الفتحة وقوله «لَا ... يَرَاهُ بَصْرِيٌّ» أتى بالمفرد والمراد الجمع ويسهلُ هنا أن يريد به عموم البصريين لأنه في سياق النفي كأنه قال: لا يراه أحد من البصريين لكن هذا العموم ينكسر عليه بابن الأنباري فإنه قد رآه مذهبا وهو بصري والجواب أنّ كونه بصريا غيرُ ثابت فقد كان مجتهدا لنفسه في المذهبين فليس ببصري محقق وأيضا فإن الزُّبيدي إنما عدّه في الكوفيين في الطبقة السادسة منهم عَدّه فيها مع هارون بن الحائك وابن كيسان ونفطويه وغيرهم وقوله «وَكُوفٍ نَقَلَا» أراد (وكوفيٌّ) لكن حذف إحدى الياءين للوزن كما يحذفونها في القوافي للضرورة وهو واقع على مفرد لقوله «نَقَلَ» ولم يقل (نقلوا) وهو على حذف الموصوف كأنه قال: وجنسٌ كوفي أو جمع كوفي نقل وذلك بمعنى الجمع ولم يُرِدْ واحدا منهم لأنهم كلُّهم مخالفون في المسألة وقوله «إِنْ قَفَا ... مُحَرَّكًا» ارتكب فيه التضمين القبيح في القوافي وهو تعلّق قافية البيت بما بعده ومثله من كلام العرب قول النابغة [69]

وهم وَرَدُوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إنّي شهدت لهم مواطن صادقات ... شهدن لهم بصدق الودِّ مني وأحسن التضمين تعلُّق أول البيت بالبيت الثاني وكثيرا ما يستعمل الناظم هذا التضمين القبيح للضرورة ثم قال وَالنَّقْلُ إِنْ يُعْدَمْ نَظِيرٌ مُمْتَنِعْ ... وَذَاكَ فِي الْمَهْمُوزِ لَيْسَ يَمْتَنِعْ هو الشرط الرابع من شروط النقل وهو أن لا يؤدي إلى عدم النظير يعني أن النقل إذا كان يؤدي في الكلمة إلى صورة معدمةِ النظير امتنع النقلُ رأسا وعدمُ النظيرِ يكونُ على ضربين: أحدهما أن يُعدم جملة فلا يوجد في الأسماء ولا في الأفعال وذلك إذا وقع قبل الضمة المنقولة حرف مكسور كقولك في (هذا العِدْلُ): (هذا العِدُلْ) وفي (هذا الحِملُ): (هذا الحِمُلْ) فجاء في النقل على صورة فِعُل وفِعُلٌ غير موجودة في أبنية الأسماء ولا في أبنية الأفعال والثاني أن يُعدَم في الأسماء خاصة ويكون في الأفعال كثيرا وذلك إذا وقع قبل الكسرة المنقولة مضموم كقولك في (مِنَ البُسْرِ): (مِنَ البُسِرْ) وفي القُفْلِ: القُفِلْ فجاء في النقل على صورة فُعِلٍ وهو غير موجودٍ في أبنية الأسماء وإنما يوجد في أبنية الأفعال نحو ضُرِبَ وأُكِلَ وعُلِمَ [70]

فهذان البناءان لما عُدِم نظيرهما في الأسماء كرهوا أن يأتوا في النقل بصورة غير موجودة وأيضا فعلة امتناع البناءين موجودة في هذا النقل وهو استثقال الخروج من ضم إلى كسر أو من كسر إلى ضم من غير فاصل بينهما كان هو الجارَّ هو في النقل من غير الهمزة وما النقل من الهمزة فقد نصَّ على أنَّ وجود عدم النظير فيه لا يمتنع وذلك قوله « ... وَذَاكَ فِي الْمَهْمُوزِ لَيْسَ يَمْتَنِعْ» والإشارة بذاك إلى عدم النظير واسم «لَيْسَ» ضمير عائد عليه أيضا أو ضمير الشأن وضمير «يَمْتَنِعْ» عائد على عدم النظير أيضا كأنه قال: وعدم النظير في النقل من الحرف المهموز لا يمتنع فتقول على هذا في (هذا الرِّدْءُ): (هذا الرِّدُؤْ) وفي قولك (من البُطْءِ): (من البُطِئْ) وإن أدى ذلك إلى فِعُل وفُعِل المعدومين في الأسماء ووجهُ ذلك ما تقدم ذكره لسيبويه من أن الهمزة لما كانت أبعد الحروف وأخفاها في الوقف حركوا ما قبلها ليكون أبْيَنَ لها ثم مثل بقولك (من البُطِئ) و (هو الرِدُؤْ) وقال: سمعنا ذلك من تميم وأسد ثم يقع النظر في كلام الناظم في النقل من أوجه: أحدها أنه قال «إِنْ يُعْدَمْ نَظِيرٌ» وهو يريد - بلا شك - ما كان على فُعِلٍ أو فِعُلٍ أما فِعُلٌ فكونه معدوم النظير صحيح وما جاء من قراءة [71]

{والسماء ذات الحِبُكِ} فمؤوّلة على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وأما فُعِل فليس بمعدوم لقولهم دُئِلٌ ورُئِمٌ وما جاء فيه في السماع شيءٌ ثابت وإن كان قليلا فلا يقال فيه إن معدوم ولا فيما أشبه في الصورة إنه معدوم النظير فإن قيل إن الإمام سيبويه لم يثبت عنده فُعِلٌ البتة فبنى الناظم .................................................... ** فالجواب أن هذا باطل لأنه قد أثبت فُعِلًا في الأسماء قليلا ألا ترى إلى قوله في التصريف وَفِعُلٌ** أُهْمِلَ، وَالْعَكْسُ يَقِلّْ ... لِقَصْدِهِمْ تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِ‍‍فُعِلْ فذكر أنه موجود قليلا فأحد الأمرين لازم إما بطلان كلامه هنا وإما بطلانُه هنالك أو يقال: إنه لم يرد بقوله هنا «إِنْ يُعْدَمْ نَظِيرٌ» إلا فِعُلًا خاصة فيلزم أن يكون النقل جائزا في غير المهموز وإن أدى إلى مثل فُعِلٍ وذلك فاسد والثاني أنه لم يوف بالشروط على الكمال فقد شرط الناسُ زائدًا على ما ذكر شرطين: [72]

أحدهما ألا يكون الحرف الموقوف عليه حرفَ علة فلا يجوز النقل في نحو غَزْوٍ وظَبْيٍ لأنه يؤدي إلى استثقال وأيضا فإنه يؤدي إلى تغيير لأنك لو قلت (هذا ظَبُيْ) لوجب بالحكم التصريفي أن تنقلب الضمة كسرة لتصح الياء إذ لا تثبت الياء مع الضمة قبلها وإذا فُعل ذلك بها وجب حذفُ الياء للوقف وكذلك لو قلت (هذا غَزُوْ) لوجب قلبُ الضمة كسرة والواو ياءً إذ لا يُوجد مثل ذلك في الكلام ثم يفعل ما فُعل في ظبي وذلك تغيير كثير هذا إن اعتُدَّ بعارض الوقفِ وإنْ لم يُعتدَّ به كان قولك (هذا ظَبُيْ) و(مررت بِظَبِي) و (هذا غَزُو) و (مررت بِغَزِيْ) مستثقلا أيضا فمنع ما يؤدي إلى ذلك وهو النقل والثاني ألا يكون ما قبل الساكن المنقول إليه ضمة ولا كسرة وإنما ينقل إليه إذا كان ما قبله مفتوحا فإذا قلت (مررت بعِدِلْ) أو (بحِمِلْ) في عِدْلْ وحِمْلْ فهو عند سيبويه إتباعٌ لا نقل. وكذلك إذ** قلت (هذا البُسُرْ) و (هذا القُفُلْ) في البُسْر والقُفْل قال سيبويه «ولا أراهم إذْ قالوا (مِنَ الرِّدِيْ) وهو البُطُؤ إلا يتبعونه الأول وأرادوا أن يسووا بينهن إذ أجرين مجرى واحدا وأتبعوه الأول كما قالوا (رُدُّ وفِرِّ») يعني أنهم لما لَزِمهم في هذا [73]

الرِّدِيْ ومن البُطُؤ الإتباعُ فرارا من عدم النظير لو نقلوا أرادوا أن يجروا ما لا يلزم المحذور فيه مع ما يلزم فيه مجرى واحدا حتى يكون الإتباع في الأحوال كلها مستتبا فمن الإتباع في الضم قول امرئ القيس لعمرُك ما إنْ** ضرّني وسْطَ حِمْيَرٍ ... وأقوالِها إلا المِخيلَةُ والسُّكُر وقال طرفة ابن العبد حين نادى الحيُّ لما فزِعوا ... ودعا الداعي وقد لَجَّ الذُّعُرْ أيُّها الفِتْيان في مجلِسنا ... جرِّدُوا منها وَرادًا وشُقُرْ ثم قال جافلات فوق عُوجٍ عُجُلٍ ... رَكِبْت فيها مَلاطِيسُ سُمُرْ ومن الإتباع في الكسر قول الشاعر عَلَّمنا أخْوالُنا بنو عِجِلْ ... شُرْبَ النبيذ واصطفاقًا بالرِّجلْ [74]

وقال الآخر أرتني حِجْلًا على ساقها ... فَهَشَّ الفؤاد لذاك الحِجِلْ فقلت ولم أخف عن صاحبي ... ألا بأبي أصْلُ تلك الرِّجِلْ فهذا كله مما نقصَ الناظم ونقصه مخل بما أصّل والثالث أنه حين منع ما يؤدي إلى عدم النظير لم يبين ماذا يفعل من لغته النقل وإنما ذكر أن النقل هنالك ممتنع فيبقى محتملا لأن يرجع فيه إلى الأصل من الوقف بالسكون وإن أدى إلى التقاء الساكنين وذلك لا يصح أو إلى حكم آخر ولم يذكره فبقي الموضعُ ناقصا ونقصُ مثل هذا لا يليق بمثل ابن مالك ولا شك أن الحكم عندهم الانتقال إلى الإتباع فيقولون (هذا عِدِلْ) و (من البُسُرْ) قال سيبويه «وقالوا هذا عِدِلْ وفِسِلْ فأتبعوها الكسرة الأولى ولم يفعلوا ما فعلوا بالأول - يعني من النقل 0 لأنه ليس من كلامهم فِعُل فشبّهوها بِمُنْتُن أتبعوها الأول» قال «وقالوا (في البُسُرْ) ولم يكسروا في الجر لأنه ليس في الأسماء فُعِل فأتبعوها الأول وهم الذين يخفّفون في الصلة البُسْر» قال ابن الضائع في الإتباع: هذا يدل على رَعْي التقاء الساكنين لأنهم لما كرهوا ذلك عدلوا إلى ما يزيل التقاءهما وإن لم يكن فيه بيان حركة الموقوف عليه [75]

ونقص الناظمُ أيضا بيان كيفية الوقف لمن منع النقل في المنصوب فلم يعرّج عليه وقد يتوهّم فيه الرجوع إلى الأصل وإن التقى الساكنان وليس كذلك والحكم فيه مثل ما تقدم آنفا من لزوم الإتباع فتقول (رأيت العِدِلْ) و(رأيت البُسُرْ) قال سيبويه «لما جعلوا ما قبل الساكن في الرفع والجر مثله بعده صار في النصب كأنه بعد الساكن» وهذه عبارةٌ فيها إشكال ما وقد بينها ابن الضائع والرابع أنه لم يذكر في المهموز في نحو (هذا الرِّدُؤْ) و (من البطِئْ**) إلا وجها واحدا من أوجهٍ للعرب فيه متعددة؛ إذ ليس كل العرب يحتمل ارتكاب المعدوم النظير في الهمزة بل لهم في المهموز وجهان زيادة على ما ذكر من النقل: أحدهما أنّ من بني تميم من يُتبع حيث أدى النقل إلى فِعُلْ أو فُعِلْ كما تقدم في غير الهمز فيقولون (هذا الرِّدِئْ) و (من البُطُؤْ) وكذلك في حالة النصب أيضا فيقولون (هذا الرِّدِئْ) و (من البُطُؤْ) فهؤلاء وجدوا مندوحة عن ذلك النقل بأن أتبعوا [76]

والثاني أن من العرب من يُبدل من الهمزة حرف لين من جنس حركتها ويبقى ما قبلها ساكنا على حاله هكذا حكى سيبويه هذا الوجه فيقول في الرفع (هذا الجرّ**) و (في الوَثْوْ) من الوثْيْ وفي النصب (رأيت الوثَا) قال «الثاءُ ساكنة في الرفع والجر وهو في النصب بمنزلة القفا» يعني أنه لا ضرورة تدعو لتحريك الثاء في حال الرفع والجر لأن الواو والياء يصح أن يكون ما قبلهما ساكنا بخلاف الألف فإنه لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا قال: فهؤلاء قلبوها حرف لين حرصا على البيان فعلى هذا تقول في البطء في الرفع: البُطْوْ وفي الجر: البُطْيْ وفي النصب: البُطا وكذلك في الردء في الرفع: الرِّدْوْ وفي الجر: الرِّدْيْ وفي النصب: الرِّدَا فإذا ثبت هذا فكلامُ الناظمِ في غاية التقصير لكن قد يُجابُ عن الأول بأن نحو دُئِل ورُئِم لا يعتدّ به في إثبات بناءٍ جديد في الأسماء والدليل على ذلك أن من لم ينقُلْ من العرب فرارًا من فُعِل قد ظهر منه أنه لم يعتبر ما جاء من ذلك ومن هنا قال ابن الضائع: وامتناعهم من النقل هنا دليلٌ على صحة مذهب سيبويه يعني في [77]

كونه لم يثبت فُعِلًا فإذًا لما كان ما جاء في فُعِل غير معتبر عدَّه كأنه معدومٌ فجعل نظيره معدوم النظير. وأما في التصريف فتكلم على حقيقة الأمر في البناء وما جاء فيه سماعا وعن الثاني بأن الاعتراض بالشرط الأول من الشرطين لازم له وأم الشرط الثاني فيمكن أن يكون الناظم جعل ذلك من قبيل النقل لا من قبيل الإتباع إذ ليس ثم إذ ليس ثم ما يعين أحدهما دون الآخر إلا ما رجح به سيبويه من التسوية بين الأحوال كلها وذلك غير قاطع؛ إذ لقائل أن يقول: إن الأصل إنما هو النقل فيتعذر في** في بعض الصور لمانع ويبقى سائر الصور على الأصل الأول فليس ترجيح سيبويه بأولى من هذا الترجيح بل هذا أولى لأنه وقوفٌ مع حقيقة أصل لغة النقل وهذا ظاهر الفارسي في الإيضاح لأنه لما ذكر النقل أنشد على الجر فيه قول الشاعر شُربَ النبيذِ واصطفاقًا بالرِّجِلْ وأما السيرافي فأجاز الوجهين وهذا كله فيما عدا المنصوب نحو (رأيت العِدِلْ) و (رأيت الحُجُرْ) فإنّ مثل هذا لا يكون إلا إتباعًا؛ إذ حركة المنصوب لا تنقل ومنه قول طرفة جردوا منها ورادًا وشُقُرْ وأما الثالث فيظهر لزومه وعن الرابع أن ما ذكر هو أشهر الوجوه المستعملة عند العرب فاقتصر عليه ولم يذكر سواه [78]

* * * فِي الْوَقْفِ تَا تَأْنِيثِ الِاسْمِ هَا جُعِلْ ... إِنْ لَمْ يَكُنْ بِسَاكِنٍ صَحَّ وُصِلْ وَقَلَّ ذَا فِي جَمْعِ تَصْحِيحٍ وَمَا ... ضَاهَى، وَغَيْرُ ذَيْنِ بِالْعَكْسِ انْتَمَى هذا نوع من أنواع الإبدال في الوقف وهو إبدال تاء التأنيث هاءً ويريد أن تاء التأنيث تبدل في الوقف هاءً في أشهر الوجهين وإنما قلت في أشهر الوجهين لقوله بعد ذلك «وَغَيْرُ ذَيْنِ بِالْعَكْسِ انْتَمَى» وقوله «تَا تَأْنِيثِ الِاسْمِ» يريد التاء اللاحقة للاسم فهي التي يلحقها هذا الحكم أما التاء اللاحقة للفعل الدالةُ على تأنيث الفاعل فلا تُبدَل هاءً أصلا نحو (ضربتْ) و (قامت) و (نِعْمتْ) من قولك (نعمت المرأة هندٌ) و (بئستْ) و(ليستْ) و (عستْ) ونحو ذلك فلا تقول (ضَرَبَهْ) ولا (قامَهْ) وإنما تقول ذلك إذا سميت به خاليا من ضمير إذ يصير ضربةً كشجرة فلا يكون إذ ذاك إلا اسما فتبدل تاؤه هاء وكذلك تاء التأنيث اللاحقة للحرف نحو (ربَّتْ) و (ثُمَّتْ) {ولاتَ حينَ مناص} فإن من القراء من يقف عليها بالهاء مع أنها حرف لحقته التاء فيقول القائل: هذا يكسر عليه قاعدة الحرف، ويُجاب بأن هذا الحرف إنما وقف عليه بالهاء الكسائي وحده والناظم لا يلتزم مذهب الكسائي دون مذهب الجماعة الذين لم ينقل عنهم في لات إلا الوقفُ [79]

بالتاء على الأصل وهو الشائع وما عداه نادر فالسماع والقياس معا عاضدان لمذهب الناظم ومن هاهنا أيضا ينبغي الوقف بالتاء على اللات من قوله تعالى {اللات والعُزَّى} على مذهب سيبويه لا على اعتبار المرسوم بل على مقتضى القياس لأنّ اللات جعله سيبويه من المجهول الأصل كالحرف، الاسم المبني بحق الأصل ذكره في النسب وجعل حكمه كحكم ما ولا إذا نسبت إليه فعلى هذا القياس يترجح الوقف بالتاء ولأجل ذلك لم يقف عليه بالهاء إلا الكسائي من جملة القراء السبعة وسيأتي شيءٌ من الكلام على هذا المعنى إثر هذا بحول الله تعالى وقوله «هَا جُعِلْ» وأطلق ولم يفرّق بين حالٍ وحال فدلّ على أن التنوين لا اعتبار له عنده في حالة النصب فلا يُقال في النصب: (رأيت شجرتا) وقفا على التنوين كما قلت (رأيت زيدا) وإنما تقول (رأيت شجرَهْ) كما تقول (هذه شجره) و (مررت بشجره) فأما ما أنشده ابن جني مما قرأه على محمد بن الحسن: إذا اغتَزَلَتْ مِنْ بُقام الفَرِيرِ ... فيا حُسْنَ شَمْلَتِها شَمْلَتا [80]

فإنه شَبه التاء بتاء الأصل وما أشبه الأصل نحو (رأيت فتى) و (رأيت عفريتا) فعامل تاء التأنيث معاملتها وهو بعد شاذ يحفظ ولا يقاس عليه وإنما أُبدلت التاء هنا فرقا بينها وبين التاء التي هي من نفس الحرف وما لحق بها وهذا تعليلُ سيبويه وقيل: أُبدلت فرقا بينها وبين تاءِ التأنيث اللاحقة الفعل نحو (ضرَبتْ) و (قامَتْ) وما ذكره هنا من الإبدال لا بد له من شرطين ذكرهما الناظم: أحدهما أن لا يكون ما قبلها ساكنا صحيحا وذلك قوله « ... إِنْ لَمْ يَكُنْ بِسَاكِنٍ صَحَّ وُصِلْ» يعني أن هذا الحكم من الإبدال إنما يكون إذا لم يقع قبل التاء ساكن صحيح فقوله «صَحَّ» في موضع الصفة لـ «سَاكِنٍ» و «وُصِلْ» هو خبر «لَمْ يَكُنْ» و «بِسَاكِنٍ» متعلق بـ «وُصِلْ» وذلك أن يكون ما قبل التاء متحركا ولا يكون إلا مفتوحا أو ساكنا معتلا ولا يكون إلا ألفا فالمحرك نحو (شجره) و (ثمره) و (طلحه) و (حمزه) و (يا أبه) و (يا أمَّه) في (يا أبتِ) و (يا أُمَّتِ) وما أشبه ذلك والساكن نحو (شاة) و (علقاة) و (معاناة) و (ناقة حَلْباة) و(ناقة رَكْباة) و (ناقة مُلْقاة) و (رحمة مُهْداة) وما أشبه ذلك [81]

فإن وقع قبل تاء التأنيث ساكن صحيح فمفهوم كلامه أنها لا تُبْدَل بل تبقى حالها فتقول (بِنْتْ) و (أُخْتْ) ولا تبدل أصلا لأن هذه التاء لما سكن ما قبلها صارت كأنها ليست للتأنيث وإنما جيء بها لتُلحق بناتُ الاثنين ببنات الثلاثة نحو (عِدْلٍ) و (جُمْلٍ) فهي كتاء (سَنْبَتَةٍ) حيث كانت ملحقة ببناء (جعفر) فعوملت في ترك الإبدال معاملة (سنبتة) فإن قلت: فإذا كان سكون ما قبلها يَمنعُ الإبدال فهلا منع فيما إذا كان الساكن ألفا؟ فالجواب أنّ ذلك الساكن في تقدير المتحرك لأنه في موضعه ومنقلب عنه وأيضا فإن الألف من الفتحة وهي بمنزلة الحرف المتحرك ولذلك يلتقي معها الساكنان نحو (دوابَّ) بخلاف ما إذا كان الساكن صحيحا ثم يبقى النظر في هذا الشرط في شيئين أحدهما ما كان من تاء التأنيث قبلها ألفٌ وما هي فيه لم يتمكن في الأسماء تمكن غيره وذلك قولهم (اللات) و (ذات) مؤنث (ذو) بمعنى صاحب فأصل الناظم يقضي فيهما بترجيح الإبدال كغيرهما فتقول (اللاه) و (ذاه) وهذا هو القياس الأصلي فيهما إلا أنّ لقائل أن يقول في (اللات) ما تقدم [82]

وكذلك في (ذات) لأنه اسم لازم للإضافة لم يتمكن تمكن الأسماء ولذلك جاء على حرفين أحدهما لين وذلك لا يوجد في معربات الأسماء فكان ينبغي أن يكون الأجودُ فيه الوقفَ بالتاء على الأصل تشبيها له بغير المتمكن كما تقدم في اللات فهذا لا يبعدُ وهو قياس صحيح ولذلك لم يقف عليه من القراء بالهاء إلا الكسائي وإذا ثبت هذا فيحتمل أن يكون الناظم قصد إدخال (اللات) و (ذات) تحت قانونه اعتبارا بالاسمية والإعراب فيكون ذلك النظر الذي ذكرته مطرحا فيهما ويحتمل أن لا يكون قصد ذكرهما نظرًا إلى ما ذكرته بل أبقاهما في محلّ النظر بأي القسمين يلحقان أبالأسماء المتمكنة أو بما أشبهها من الحروف فترك لك النظر في ذلك والاحتمال الأول أقوى وأولى أن يُحمَل عليه كلامُه والنظر الثاني فيما كان من الأسماء المؤنثة بالتاء وقبلها ساكن صحيح لكنه يوقف عليه بالهاء نحو (هَنْت) و (مَنْت) فإن تقول في الوقف (هَنَهْ) و (مَنَهْ) ولا تترك التاء على حالها سماعا من العرب ونصا من النحويين فيمكن أن يكون هذا لم يعتبره المؤلف لقلته ولخروجه عن القياس لأن التاء [83]

الساكن ما قبلها إنما تسمى تاء تأنيث مجازا بل التأنيث بنفس البنية كما قالوا في (أخت) و (بنت) لا بالتاء إذ لو كانت التاء للتأنيث حقيقة للزم انفتاحُ ما قبلها فصارت كألف الأصل وألف الإلحاق فالقياس إثباتها تاءً فقولهم (هَنَهْ) و (مَنَهْ) ليس بوقفٍ على (هَنْت) و (مَنْت) نفسه بل هو وقفٌ على مردود إلى الأصل ولذلك صار ما قبلها مفتوحا ونظرٌ ثالث وهو أن يُقال هل يدخلُ له في قوله « ... إِنْ لَمْ يَكُنْ بِسَاكِنٍ صَحَّ وُصِلْ» (كَيْتَ) و (ذَيْتَ) فيكون الوقف عليهما بالهاء على مقتضى كلامهم أو لا يدخل له؟ والذي يظهر أنّ كلامه قابل لدخوله لكن لم يُرده أصلا لأن وإن وُقف عليهما بالهاء فليس إلا بعد ردّ ما حُذف فتقول في الوقف (كيَّهْ) و (ذَيَّهْ) وكلامه لا يشعر بهذا الردّ مع أن سائر ما يُوقف عليه بالهاء - وقبله ساكن معتل - لا يحتاج إلى زيادة تغيير غير الإبدال. وأيضا فالوقف عليهما على غير القياس فالظاهر أنه لم يُنبِّه عليهما ولا أرادهما وإن صلح كلامه لهما والشرط الثاني من الشرطين المتقدمين أن لا تكون التاءُ في جمع تصحيح ولا ما أشبه جمع التصحيح بل تكون في المفرد نحو ما تقدّم من الأمثلة فإن كانت في جمع تصحيح - وهو الجمع بالألف والتاء - فاللغة الفصحى ألَّا تُبدلَ فيه وإنما تبدل فيه في لغة قليلة وذلك قوله «وَقَلَّ ذَا فِي جَمْعِ تَصْحِيحٍ» فـ (ذا) إشارة إلى الإبدال أي: قلّ الإبدال في هذا الجمع** وما ضاهاه وكثر إثباتها على حالها فأما الكثير في جمع التصحيح فتقول (هذه هنداتْ) و (زينباتْ) و (طلحاتْ) ولم يحك سيبويه إلا هذه اللغة [84]

ووجهُ ترك إبدالها أن الألف والتاء علامة الجمع والتأنيث فكأنَّ التاءَ إنما دخلتْ على الألف لا على الاسم المجموع فصارت متصلة بالاسم ليست في تقدير الانفصال فأشبهت تاء الإلحاق نحو (سنبتة**) فعاملوها معاملتها بتركها على حالها وصلا ووقفا بخلاف التاء في المفرد فإنها إنما لحقت الاسم وحدها فهي منفصلة مما قبلها انفصال الثاني من المركبين وبذلك شبهوها فبعُدَتْ من مشابهة تاء الإلحاق فأبدلوها في الوقف. بهذا المعنى علَّلَ السيرافي وهو معنى تعليل سيبويه وأما القليل - وهو الإبدال - فلم يذكره سيبويه وذكره غيرُه فحكى ابن جني عن قطرب أن طيئا تقول (كيف البنُونَ والبناهْ؟ ) و (كيف الإخوة والأخواهْ؟ ) قال «وذلك شاذ» ووجه ذلك تشبيه (مسلمات) بـ (علقاة) من حيث كانت التاءُ للتأنيث على الجملة وأما قوله «وَمَا ... ضَاهَى» يريد: ما ضاهى جمع التصحيح أي أشبهه وحقيقةُ المضاهاة المشاكلة يقال (ضاهأتُ) و (ضاهيت) بالهمز وبغير همز والظاهر أن هذا من غير المهموز والذي يضاهي جمع التصحيح ما سُمِّي به منه نحو (عرفاتٍ) و (أذرعاتٍ) تقول (عرفاتْ) و (أذرعاتْ) بالتاء في اللغة الفصيحة وكذا ما سُمِّي به من هذا الجمع لأنه جارٍ مجرى الجمع الحقيقي [85]

في الإعراب فيجري مجراه في كل شيء ومن ذلك (هيهاتِ) في لغة من كسر التاء فقال (هيهات) فتقول في الوقف (هيهاتْ) بالتاء كجمع التصحيح لأن من بناها على الكسر يقدّرها تاء الجمع كبيضات ولذلك بناها على الكسر لأنّ تاء الجمع لا تفتح أصلا وأما القليل - وهو الإبدال - فعلى ما مضى في الجمع الحقيقي تقول (عرفاهْ) و (أذرعاهْ) كما قلت (الأخواهْ) و (البناهْ) وأما (هيهاتَ) فنقول فيه (هيهاهْ) لكن على لغة من بناها على الفتح فقال (هيهاتَ) أجراها مجرى (علقاه) كان الأصل فيها (هَيْهَيَة) وقد سأل سيبويه الخليلَ عنها اسمَ رجل فقال: أما من فتح فهي عنده كـ (علقاة) لأنه يقف بالهاء ومن كسر فكـ (بيضات) لأنه يقف بالتاء ويجيء من هذا أنّ من فتح فهي عنده كالمفرد ومن كسر فهي عنده كالمجموع فالوجهان في كلِّ واحدة جاريان في القياس على ما يقتضيه إطلاقه فإن ساعَدَ النقل فصحيح ثم قال «وَغَيْرُ ذَيْنِ بِالْعَكْسِ انْتَمَى» (ذانِ) إشارة إلى جمع التصحيح وما ضاهاه وهما أقرب مذكور وغيرهما هو الاسم المفرد المتقدم يعني أن الإبدال في المفرد على العكس من هذين وقد ذكر في هذين أن القليل هو [86]

الإبدال والكثير هو البقاء على الأصل فعكسُ هذه القضيّة أن الكثير هو الإبدال وأنّ القليل هو البقاء على الأصل أما الإبدال فقد تقدّم تمثيلهُ وأما البقاءُ على الأصلِ من التاء فحكاه سيبويه عن أبي الخطاب - وهو الأخفش الأكبر - أنّ ناسًا من العربِ يقفون بالتاء قال ابن خروف: هي لغة يمنيةٌ فيقولون (طلْحَتْ) و (حَمْزَتْ) و (شجرَتْ) وأنشد الفارسي لأبي النجم بل جَوْزِ تيهاءَ كظَهْرِ الجَحَفَتْ وأنشد قطرب الله نجاكَ بكفَّيْ مَسْلَمتْ ... من بعدِما وبعدِما وبعدِمَتْ صارتْ نفوس القوم عند الغَلْصَمَتْ ... وكادت الحرَّةُ أنْ تُدعى أمَتْ والقراء يحكون هذا لغةً لطيِّءٍ وأنهم تنادَوا يوم اليمامة: (يا أهلَ سورة البقرَتْ) فقال طائي منهم: (ما معي منها آيت) وكلّ ما حُكي ههنا وحكاه [87]

النحويون إنما حكوه على حسب ما سمعوا من العرب، وللقراء طريقةٌ أخرى أصلها أنهم يقفون بالهاء البتّة إلا ما رُسم بالتاء فإنهم اختلفوا فيه على حسب ما استحسنوا و(انْتَمَى) معناه انتسب وهو مطاوع (نميتُ الحديثَ إلى فلان): رفعتُه إليه و(نميتُ الرجل إلى أبيه): نسبته إليه، من ذلك، فكأنه يقول: وغير هذين بالعكس انتمى إلى العرب ونُقل عنهم وَقِفْ بِـ «‍‍هَا» السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلّْ ... بِحَذْفِ آخِرٍ كَأَعْطِ مَنْ سَأَلْ وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَ‍‍عِ أَوْ ... كَ‍‍يَعِ مَجْزُومًا، فَرَاعِ مَا رَعَوْا هذا أيضا نوعٌ من أنواع التغيير اللاحق للكلمة في الوقف وذلك إلحاق هاء السكت وإنما سُمِّيت هاءَ السكت لأنها يُسكَتُ عليها أي يوقف عليها دون آخر الكلمة وفائدتها الأولى بيانُ حركة الآخر؛ إذ لم يريدوا أن يُسكَّن بل أرادوا أن يبقى على حاله في الوصل ويكون الوقفُ والاستراحةُ على الهاء فيحصل المقصدان لكن بيان الحركة يتبعها فوائد بحسب المحالّ ففائدته في هذا الفصل تركُ الإجحاف بالكلمة الحاصل بسبب الوقف لأن الكلمة هنا قد حُذف لامها فصار الإسكان بعد ذلك كالإخلال بها قال [88]

سيبويه «كرهوا ذهاب اللامات الإسكان** جميعا» قال «فلما كان ذلك إخلالا بالحرف كرهوا أن يسكّنوا المتحرك» ويريد الناظم أن الفعل الذي دخله الإعلال بحذفِ آخرِه يوقف عليه بهاء السكت ومثل ذلك بقوله «أَعْطِ مَنْ سَأَلْ» فـ (أَعْطِ) فعلٌ قد حُذف آخره وهو الياء فتقف عليه (أعطِهْ) وكذلك تقول في (ارمِ): (ارمِهْ) وفي (اغزُ): (اغزُهْ) وفي (اقضِ): (اقضِهْ) وما أشبه ذلك والألف واللام في الفعل لتعريف الجنس المقتضي للعموم فكلُّ فعل أُعلّ ذلك الإعلالَ فحكمُه ذلك الحكم كان المحذوفُ الياءَ كـ (أعطِ) أو الواو كـ (اغزُ) و(ادعُ) أو الألف كـ (اخشَ) و (ارضَ) فتقول (اغزُهْ) و (ادعُهْ) و (اخشَهْ) و (ارضَهْ) وسواءٌ أيضًا أكان الحذفُ للجزمِ أم للوقف، والحذف للوقف كما تقدم ذكرُه ومنه قوله تعالى {أولئك الذين هدى اللهُ فبهداهم اقتَدِهْ} والحذف للجزم كقولك (لم يخشَهْ) و (لم يقضِهْ) و (لم يغزُهْ) الحكم سواءٌ في الجميع وقوله « ... بِحَذْفِ آخِرٍ» بيان للإعلال، ما هو؟ ثم قال «وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا كَ‍‍عِ أَوْ ... كَ‍‍يَعِ مَجْزُومًا» يعني أن الوقف على الفعل بهاء السكت كما ذكر ليس بحتم أي لازم حتى لا يجوزَ تركُه بل هو غير لازم فيجوزُ لك أن تقول (ارْمْ) و (اخْشْ) و (اغْزْ) و (لم يخْشْ) و (لم يغْزْ) و (لم يرْمْ) وهي لغة [89]

لبعض العرب قال سيبويه «وقد يقول بعض العرب (ارْمْ) وفي** الوقف و(اغْزْ) و (اخْشْ) حدثنا بذلك عيسى بن عمر ويونس» واعلم أن الوجه الأول - وهو الوقف بالهاء - هو الأجود والأكثر في الكلام وأم الوجه الثاني فهو أضعف الوجهين وأقل اللغتين قال سيبويه «جعلوا آخر الكلمة حيث وصلوا إلى التكلم بها بمنزلة الأواخر التي تحرّك مما لم يحذَفْ منه شيء* لأن مِن كلامهم أن يشبّهوا الشيءَ بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع الأشياء التي هي فيه» والناظم لم ينص على الترجيح بين الوجهين ويمكن أن يكون في تقديمه إياه واعتماده أولا عليه في المسألة مشعرا بالترجيح ولا يضر بعد ذلك قوله «وَلَيْسَ حَتْمًا» إذ لا ينتفي بذلك الترجيح وإنما ينتفي به اللزومُ خاصةً ثم قوله (وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى) كذا إلى آخره يعني به أنه إلحاق هاء السكت لا ينحتم إلا الفعل الذي يشبه (عِهْ) أو (يعِهْ) إذا كان (يعه) مجزوما. ووجه الشبه في الفعلين أن يبقى الفعل بعد الحذف على حرف أصلي لا حرفين فأكثر وكأنه يقول: الفعل المحذوف الآخر على قسمين: أحدهما أن يبقى بعد الحذف على أكثر من حرف واحد فهذا الذي فيه الوجهان المتقدمان وعليه دلّ مثالُه والثاني ألَّا يبقى منه إلا حرف واحد أصليّ كـ (عهْ) الذي مثّل به وهو فعل أمر من (وَعَى يَعِي) أصله الثلاثة فحذف الأولُ لأنه واوٌ وقعت في المضارع بين [90]

ياء وكسرة ثم حُمل فعلُ الأمر عليه وحُذف الآخر بالحمل على المضارع المجزوم فلم يبق من الفعل إلا حرفٌ واحد و (يَعِهْ) الممثّل به أيضا أصله الثلاثة فحذف الأول لما ذكر وحذف الآخر للجزم فبقي على حرف واحد وياءِ المضارعة وهي زائدة ليست من أصل البناء فلما كان كذلك أرادوا ألّا تبقى الكلمة على أصلٍ واحد ساكن فإنك لو وقفت بغير هاءٍ لقلت في الأمر (يا زيدُ عِ) وفي المضارع (إن تَشِ أَشِ) من وشَيْتُ، و (إن تَقِ أَقِ) من وقيتُ فكرهوا هذا الإجحاف لأنه إخلال بالكلمة فألزم الهاء من يقف في (ارمِ) بلا هاء وصار هذا الفعل في الوقف نظير (يا مُرِي) ** في الأسماء حيث ألزموه الياءَ خوفًا أن يبقى على أصلٍ واحد ساكن وعلى هذا تقول في «ق» (يا زيد أق أنا: قِهْ وأقِهْ) ** وفي «شِ» (يا عمرو أش أنا شِهْ وأشهْ) ** وكذلك ما أشبهه فإن قلت ما فائدة قول الناظم «أَوْ ... كَ‍‍يَعِ مَجْزُومًا» فقيَّده بكونه مجزوما وكان يكفيه أن يقول (أو كيعه) لأن اللفظ لفظ المجزوم؟ فالجواب أن اللفظ لا يكفيه هنا؛ إذ لو لم يقيّده بالجزم لتوهم أنه أراد غير المجزوم لكنه حذف ياءه لضرورة الوزن إذ يمكن هذا في النظم [91]

فإن قلت إنّ هذا التوهُّم لا يصح لأن الهاء قد حصل من قوة المسألة أنها تثبتُ في الوقف جَبْرا للكلمة الموقوف عليها لتثبت فيها الحركة لئلا تنحذف إذ لو قُدِّر (يَعه) غير مجزومٍ لم يكن ثمَّ ما يؤتى بالهاء لأجله وهو الحذف الحاصل في الكلمة وإذا لم يصح هذا التوهم كان قوله «مَجْزُومًا» فضْلا! فالجواب أنّ الكلمة وإن فرضْتَ أنّ آخرها غير محذوف فأولها محذوف إذ أصلها (يَوْعِ) فقد يذهب الوهم إلى لزوم الهاء هنا لما ثبت فيها من حذف أولها؛ لأن حذف الأول قد يُجبَر كحذف الآخر، ألا ترى قولهم في (شِيَةٍ) و (عِدَةٍ) و (زِنَةٍ) إن الهاء لزمت آخرا عوضا من الحرف المحذوف أولا وهو فاءُ الكلمة فأزال الناظم هذا الشغْب كله بقوله «مَجْزُومًا» وهو حال من «يَعِهْ» أي وليس حتما في غير الفعل الذي يشبه (عِهْ) مطلقا أو يشبه (يَعِهْ) حالة كونه مجزوما إذ هو فعل مضارع بخلاف (عِهْ) فإنه أمر والأمرُ لا يدخله الجزمُ على مذهب الناظم وجماعة أهل البصرة وقوله «فَرَاعِ مَا رَعَوْا» المراعاة الملاحظة للشيء تقول: (راعيت كذا) أي لاحظته واعتبرتُ أمره. والمراعاة أيضا: المحافظة على [92]

الحقوق وكلاهما سائغ في هذا الموضع أي: لاحِظ ما لَحظوا - يعني العرب - أو حافظ على ما حافظوا عليه. والظاهر أن هذا الكلام تتمة لبقية الشعر لا فائدة فيه، والله أعلم. وكان الأولى أن لو قال: (فارْعَ) أو (فراعِ ما راعوا) لأن «فراعِ» من (راعى) و «ما رَعَوا» من (رَعَى) فلو وفَّق بين الفعلين لكان أولى مع أنه لا يمتنع ما قال وعكسه * * * وَ «مَا» فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ... أَلِفُهَا، وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا ... بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ: اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى؟ هذه المسألة من تمام الفصل الأول مما أثبت فيه هاءُ السكتِ خوفا من الإجحاف بالكلمة وهي مسألةُ ما الاستفهامية إذا حُذفت ألفها فالعربُ ألحقتها مع الحرف هاء السكت في الوقف؛ إذ لو لم تفعل ذلك ووقفتْ على «ما» لوجب إسكان الميم مع حذف الألف وذلك إخلال فجبروها بأن ألحقوا الهاء لتبقى الميم محركةً. والناظم ابتدأ بالكلام على حذفِ ألف «ما» قبل الكلام على حكم الوقف عليها. وليس الكلام في حذفها من أحكام باب الوقف لكن لا ينبني حكمُ الوقفِ إلا بعد تقرر الحذف فلذلك ابتدأ بذلك فقال [93]

«وَمَا فِي الِاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ... أَلِفُهَا» يعني أن ما الاستفهامية يحذف ألفها إذا وقعت في الكلام مجرورةً وذلك أنها تقع تارة في موضع رفعٍ وتارة في موضع نصب وتارة في موضع جر فمثال وقوعها في موضع** رفع قولك (ما يُعجِبك؟ ) و (ما صُنعُك؟ ) فهي ههنا في موضع رفع على الابتداء وخبرها ما بعدها. ومثال وقوعها في موضع نصب قولك (ما صَنَعتَ؟ ) و (ما أخذت؟ ) فـ (ما) في موضع نصبٍ على المفعولية بالفعل الذي بعدها. ومثال وقوعها في موضع جر قولك (لِمَ قمت؟ ) و (عمَّ تسأل؟ ) و (علام تبحث؟ ) وما أشبه ذلك ومنه قوله تعالى {عمَّ يتساءلون}؟ {فلينظر الإنسان ممَّ خلق}؟ {لِمَ تقولون ما لا تفعلون}؟ {فيمَ أنت من ذكراها}؟ ومنه قولُ ربيعة ابن مقروم الضبي فدعَوا: نَزَالِ فكنتُ أولَ نازلٍ ... وعلامَ أركبُه إذا لم أنزلِ؟ وهذه المواضع كلها لا تُحذف ألف «ما» فيها إلا في موضع الجر وهو قوله «إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ... أَلِفُهَا» ولم يقيّد الجر هنا فهو مطلق في الجر بالحرف نحو ما تقدم وفي الجر بالاسم نحو (مجيءَ مَ جئتَ؟ ) ومثل (مَ** أنت؟ ) ونحو ذلك [94]

ويُسألُ هنا فيقالُ: لِمَ حُذفت ألفُها؟ ولِمَ اختصَّ حذفُها بحالة الجر؟ وبهذا يتبين ما قال الناظم فأما حذفُها على الجملة فللفرق بينها وبين الخبرية وهي التي بمعنى الذي، واختص الحذفُ بالاستفهامية دون الخبرية لأن ألف الاستفهامية طرَفٌ فكان أولى بالتغيير بخلاف الخبرية فإن ألفها يقع وسطا للزومها الجملة صلة لها وهي كالجزء منها فلم يسغ حذفها وأيضا فاختصت الاستفهامية بالحذف لأن لها صدر الكلام فلما تقدمها هذا العامل الذي هو الخافض دون سائر العوامل حذفوا ألفها تنبيها على أنها كالكلمة الواحدة كأن لم يتقدمها شيء بخلاف ما عدا الخافض من العوالم فإنه ليس كذلك وقد حصل جواب السؤال الثاني وهو سؤال اختصاص الحذف بحالة الجر فإن قيل: فإنّ ما الجزائية هي مثلُ الاستفهامية فيما ذكرتُ فكان ينبغي أن تحذف ألفها أيضا؟ فالجواب أن يقال: الفرق بينهما أن ما الجزائية قريبة من التي بمعنى الذي، وهي الخبرية؛ ألا ترى أنك تقول (بمن تمرُرْ أمْرُرْ) و (بالذي تمرُّ أمرُّ*) والمعنى واحد ولهذا دخلت الفاء في خبر الذي كما تقدمت الإشارة إليه في أنواع المبتدأ الذي يلزم تقديمه على الخبر حيث قال قال الناظم «أو لازم الصدر كمن لي منجدا» فلما كانت بينهما هذه المشاكلة جعلوها مثلها في عدم الحذف [95]

وقوله «حُذِفْ ... أَلِفُهَا» ظاهره أن الألف حذفت البتّة ولم تجئ ثابتةً وهذا صحيح في المجرورة بحرف وإن جاء إثباتها ففي الضرورة نحو قول حسان بن ثابت على ما قام يَشْتُمنِي** لَئِيمٌ ... كخنْزِيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ فإن قيل لا ضرورة في هذا لأن حذفها لا يكسر الشعر وإذا كان كذلك ثبت أنه اختيار على مذهب الناظم فالجواب أن إثباته أكملُ في الوزن من حذفها وأيضا ليس معنى الضرورة أنه يُضطر الشاعر حتى لا يمكنه أن يُعوَّضَ منه غيره مما لا ضرورة فيه وإلا فما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوّض منها لفظ آخر لا ضرورة فيه لكن كان يكون فيه تضييق كثير وقد اعتمد الناظم في عربيّته على ذلك التوهم وبيّنتُ بطلانه في «الأصول» ومرّ من ذلك طرف في هذا الشرح وأما المجرورة باسمٍ فليس ذلك بلامزٍ فيها بل يجوزُ أن تقول: (مجيءَ ما جئت؟ ) ومثلُ (ما أنت؟ ) نص على ذلك سيبويه إلا أنّ الأجود الحذفُ وهذا هو العذرُ له في أن لم ينبه على ترك الحذف وإنما كان الحذفُ هنا غير لازم ولازما في المجرور بحرف لأن الحرف لا يستقلّ بنفسه دون أن يتصل بغيره [96]

فصار مع ما كالشيء الواحد فصار اعتمادُ ما على ما اتصلت به من ذلك الحرف ثابتا فلزم فيها الحذف للفرق المذكور وأما الاسم إذا كان هو الجار فليس بمفتقر إلى ما بعده افتقار الحرف بل هو مستقل بنفسه فلم يكن لما معه ذلك الاتصال لكن شبهوه بالحرف فحذفوا معه كما حذفوا مع الحرف والمشبه لا يقوى قوة المشبّه به فلم يكن هذا الحذفُ لازما مع الاسم كما لزم مع الحرفِ لئلا يتساوى المشبه والمشبه به وعلى هذا التعليل ينبني لزوم الهاء في الوقف أو عدم لزومها ثم أخذ يبين حكم لحاق الهاء في الوقف فقال «وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ» معنى «أَوْلِهَا» أتبعها الهاء إن وقفتَ، يعني على ما المحذوفة وكان حقه أن يقول (إن وقفتَ) فيأتي بالماضي لأن الجواب محذوف دلّ عليه قولُه «أَوْلِهَا الْهَا» لكن ارتكب الوجه النادر الذي لا يوجد إلا في الشعر نحو فلم أَرْقِهِ إن ينجُ منها وقد تقدم التنبيهُ على نظائرَ من ذلك وتركتُ التنبيه على أُخر لكثرة تكرارها كقوله قبل هذا «وَالنَّقْلُ إِنْ يُعْدَمْ نَظِيرٌ مُمْتَنِعْ» وكثيرا ما أخْطُر في هذا النظم على ضرائر شعرية فلا أُنبِّه عليها لكوني قد قدّمتُ التنبيه عليها مرارًا والعذرُ في مثل هذا مقبول [97]

ويعني أنك إذا وقفت على «ما» بعدما حُذفتْ ألفها فإنك تقف عليها بالهاء فتقول (علامَهْ؟ ) و (إلامَهْ؟ ) و (مجيءَ مَهْ؟ ) و (مثل مَهْ؟ ) وهذا حُكمٌ جُمْلِي؛ إذ لم يبيّن هنا هل هو على الجواز أو على اللزوم لكن ذكر ذلك بعدُ وإنما أوليتها الهاء لأنها لما حُذف آخرها أشبهت ما حُذف آخره من الأفعال نحو (اخشَ) و (ارم) فتأكّدَ الإتيان بالهاء لأجل ذلك ثم قال «وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا ... بِاسْمٍ» اسم ليس هو ضمير عائدٌ على الإيلاء المفهوم من قوله «وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ» على حدّ قوله تعالى {وإن تشكروا يرضَهُ لكم} فالهاء في (يرضه) عائد على الشكر المفهوم من (تشكروا) ويعني أن إلحاق الهاء لما يكونُ غير لازم ويكون لازما فأما لزومُه ففيما إذا انخفضت باسم كأنه قال: وليس الإلحاقُ حتما إلّا في ما التي انخفضت باسم، فتقول إذا وقفت: (مجيءَ مَهْ؟ ) و(مِثْلُ مَهْ؟ ) و (اقتضاءَ مَهْ؟ ) في قوله «اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى؟ » ولا يجوزُ أن تقول (مجيءَ مْ؟ ) ولا (مثل مْ؟ ) ولا (اقتضاءَ مْ؟ ) وهذا إنما هو مع الحذف أما مَن أثبت الألف فلا إشكال أنه يقف على الألف. وأما عدمُ إلحاق** الهاء فيما خُفضَ بغير اسمٍ نحو (لِمْ؟ ) و (فيمْ؟ ) و (عمّ؟ ) فإنك تقول (عمَّهْ) و (فيمَهْ؟ ) و (لِمَهْ؟ ) و(بِمَهْ؟ ) و (علامَهْ؟ ) و (إلامَهْ؟ ) وإن شئت قلت (عَمْ؟ ) و (فيمْ؟ ) و (لِمْ؟ ) و (بِمْ؟ ) و (علامْ؟ ) و (إلامْ؟ ) والوجهُ الأول أجودُ لأنّ «ما» لما حُذف آخرها أشبهت ما حُذف آخره من [98]

الأفعال فكما اختير هنالك إلحاقُ الهاء اختير هنا أيضا والوجهُ الثاني دونَ الأول قال سيبويه «وقد قال قوم: فيمْ؟ وعلامْ؟ كما قالوا: اخْشْ» وقد يظهر من كلام الناظم جودة الوجه الأول كما ظهر في (اخش) لأنّ عبارته هنا مثلُ عبارته هنالك ووجه لزوم الهاء مع الاسم مبنيٌّ على ما تقدمَ من أن الاسم مستقل بنفسه قد ينفصل مما بعده لأنك قد تقول (جِئتَ مجيئا حسنا) و (كنت لزيد مِثْلًا) و (اقتضيت منك اقتضاءً* جميلا) فليست هذه الأسماء بلازمةٍ للإضافة كما كانت حروفُ الجرّ لازمةً لمجروراتها* بل هي وإن كانت مضافاتٍ - في حكم الاستقلال، فلم تكن «ما» معها كالجزء منها فلما وقفوا أتوا بهاءِ السكت لأن «ما» من أجل انفصالها حُكما مما قبلها تبقى على حرفٍ واحد فكان الوقف عليها بالسكون غاية الإخلال فلزمت الهاء عنده بخلاف الحرف إذا كان هو الجارَّ فإنه لا يستقلّ بنفسه فكان اتصاله بمجروره* اتصالا تاما حتى صار كالكلمة الواحدة التي على أكثر من حرف واحد فلم يلزمها إلحاقُ الهاء. وهذا نظيرُ المنقوص الذي بقي** بعد الحذف على حرف واحد أو على أكثر نحو (مُرٍ) و (عَمٍ) وقد تقدم فإثباتُ الياء هنالك نظيرُ إلحاق الهاء هنا [99]

ثم إن كلام الناظم يقتضي أن الجارّ إذا كان اسما كيفما كان فإن الحكم لزومُ الهاء والأسماء الداخلة على (ما) على قسمين قسم متمكن - ومنه مثالُه وسائرُ الأمثلة المذكورة - وقسم غير متمكن وشبيه بالحرف نحو (عن) و (على) و (الكاف) على قول الأخفش وغيره ممن قال باسميتها* أو حيث تثبت. أم القسمُ الأولُ فلا إشكالَ فيه وأما الثاني ففيه إشكالٌ ما من حيث دخولُه على الناظم فإنك إذا أخذت عبارته على إطلاقها لزم في هذا الهاء في الوقف فلا يجوزُ لك أن تقول إلا (كَمَهْ؟ ) و (علامَهْ؟ ) و (عمَّهْ؟ ) وهذا قد ينازَعُ فيه لأن هذه الأسماء موضوعةٌ وضعَ الحروفِ مفتقرةٌ إلى غيرها غيرُ مستقلة بأنفسها ولا يُمكنُ انفصالُها كالحروف فقد يقال: حكمها حكمُ الحروف وهو الظاهر على ما مضى من التعليل فإما أن يكون الناظم إنما تكلم على الغالب في الأسماء لأن مثل (عن) و (على) في الأسماء قليل ويُؤنس بهذا تمثيله بما هو متمكّن وهو الغالب في الباب فيخرج عن كلامه ما ليس بمتمكّن وإما أن يكون ارتكب مذهب الشلوبين في تغليب حكم الأسماء عليه قال ابن الضائع: سألتُ الأستاذ أبا علي وقت قراءتي عليه هذا الموضع من الكتاب عن كاف التشبيه إذا دخلت على ما الاستفهامية [100]

على مذهب أبي الحسن الأخفش في تجويز كونها اسما في الكلام فقال: ينبغي أن يكون حكمُها حكمَ الأسماء قال ابن الضائع: وكذا يلزمه في «على» اسما أيضا قال: والأولى عندي جوازُ الوقف دون هاء لأن اسميّة هذه لا تجعلها مستقلة بل الأغلب عليه الحرفية وعدمُ الاستقلال والاقتضاءُ: طلبُ القضاء. يقال: (اقتضيتُ ديني وتقاضيتُه) وقد يكون بمعنى الأخذ في القضاء لأنه اكتسابٌ واعتمالٌ فقوله «اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى؟ » تقديره: اقتضاءَ أيِّ شيءٍ اقتضى؟ وجوابه: اقتضاءَ يُسْرٍ أو عُسْرٍ أو تعجيلٍ أو مَطْلٍ أو نحو ذلك مما تقع عليه ما. وقد يكون جوابه (اقتضاء زيدٍ أو عمرٍو) فقد وقع في حاشية نسخة أبي نصر من كتاب سيبويه حين مثّل بمثل (مَ أنت؟ ) ما نصُّه: جواب قولهم (مِثْل مَ أنت؟ ابنُ كذا وكذا سنةً) قال ابن خروف: وقال غيره: يجوز في جوابه مِثلُ زيدٍ وعمرٍو لأنَّ «ما» تقع على من يعقل * * * وَوَصْلُهَا بِغَيْرِ تَحْرِيكِ بِنَا ... أُدِيمَ شَذَّ، فِي الْمُدَامِ اسْتُحْسِنَا [101]

يعني أنّ وصْلَ الهاء بحركة بناءِ مُدَامٍ - أي مستدام - مستحسنٌ عند العرب والنحويين ووصلها بحركة بناءٍ غيرِ مُستدامٍ شادٌّ يُحفظ ولا يُقاس عليه. هذا ما قال على الجملة وهذا الكلام منه يشتملُ على أربع مسائل: ثنتان منصوص عليهما وثنتان مأخوذتان من قوة الكلام فأما المسألة الأولى فهي مسألة البناء غير المستدام ومعنى المستدامِ البناءُ الذي لا تنتقل عنه الكلمة إلى الإعراب في حال من الأحوال، وغير المستدام هو الذي تنتقل عنه الكلمة في بعض الأحوال فيكون معربا مرة ومبنيا مرة و« ... أُدِيمَ» في كلامه جملة في موضع الصفة لـ (بِنَاءٍ ... )، و «شَذَّ» جملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو «وَصْلُهَا**» كأنه قال: ووصل الهاء بغير تحريك بناءٍ مُستدامٍ شاذ. وكان حقه أن يقول: ووصلُها بتحريكِ بناءٍ غير مدامٍ شذَّ، فيُدخِلَ النفي على الدوام لأن هذا المعنى هو المراد وهو أن دخولها على البناء العراضِ شاذ، وظاهرُ عبارته يُعطي ما هو أعمُّ من هذا لأنّ غير تحريك البناء المدام أعمُّ من أن يكون تحريكا غير مدام أو تحريك غير بناء بل تحريك إعراب لأن حركة الإعراب يصدُق عليها أنها غير تحريك بناءٍ مدام مع أنّ القصد إنما هو في الكلام على حركة البناءِ المدام وغير المدام خاصة لا في حركة البناء والإعراب؛ إذ حركة الإعراب لا تلحقها الهاءُ في [102]

الوقف ولا يُحتاج إلى التنبيه عليها؛ لأنّ تخصيصه حركة البناء بالذكر يُعطي** خروجَ حركة الإعراب عن هذا الحكم، فإذًا وجهُ العبارة أن لو قال: ووصلُها بتحريك بناءٍ غير مدام. لكن يُعتذرُ عن بعذرين: أحدهما أنّا نزعُم أنه قصد بغير تحريك البناء المستدام الحركتين حركة الإعراب وحركة البناء غير المدام فيريد أن وصلها بحركة الإعراب وحركة البناء غير المدام شاذ ويكون ذلك نصا على أن الهاء لا تلحق حركة الإعراب وهي من المقاصد في هذا الفصل فالنص عليها أولى من أخذها من قوة الكلام فإن قيل فأين الشذوذ الحاصل بلحاق الهاء حركة الإعراب؟ فالجواب أن ذلك موجود حكى سيبويه «أعطني أبيضَّهْ**» قال «أراد أبيضَ فألحق الهاءَ - يعني هاء السكت - كما ألحقها في هُنَّه وهو يريد هُنَّ» فأنت ترى حركة الإعراب قد ألحقوها هاءَ السكت مع التشديد الخاص بالوقف أيضا. قال السيرافي: هو من أقبح الشذوذ. قال: «وبعض أصحابنا يقول هو غَلَطٌ من قائله» ووجَّه القُبْحَ فيه من وجهين أحدهما أنّ هاء السكت لا تلحق حركة الإعراب وإنما تلحقُ حركة البناء والثاني أن التشديد إنما يلحقُ الحرف الموقوف عليه والوقف هنا إنما هو على الهاء لا على الضاد [103]

قال ابن الضائع ووجهه عندي أنه لما وقف على أبيض بالتشديد وهو خاص بالوقف والوقف يذهب معه الإعراب أشبه التشديد الذي ليس بمحل إعراب كهُنَّهُ*. قال ولذلك أشار سيبويه يعني بقوله كما ألحقها في هُنَّه وهو يريد هُنَّ فقد ثبت لحاق الهاء شذوذا لحركة الإعراب فيُدعى أنه من جملة ما نَبَّه عليه الناظم بقوله «وَوَصْلُهَا بِغَيْرِ تَحْرِيكِ بِنَا ... أُدِيمَ شَذَّ» والعذر الثاني - على تسليم أنه إنما قصد تحريك البناء غير المستدام وأنه معنى كلامه - فقد تُدخِل العرب النفي على أول الكلام قصدا لنفي ما بعده ولا تقصد نفي ما دخلت عليه ومن ذلك ما أنشده الفراء من قول الراجز من كان لا يَزْعُمُ أنّي شاعرٌ ... فَيَدْنُ مني تَنْهَهُ المزاجِرُ فلم يرد أن يقول من انتفى عنه الزعم بأني شاعر فيدنُ مني وإنما أراد من كان يزعم نفي الشعر عني أي من كان يزعم أني غير شاعر فيدنُ مني تنهه المزاجر. وقال الآخر ولا أراها تَزَالُ ظالمةً ... تُحدِثُ لي قرحةً وتَنْكَؤُها [104]

أراد وأراها لا تزال ظالمة ولم يرد نفي الرؤية إذ لا يصح ذلك فكذلك أدخلَ هنا «غير» على التحريك وهو يريد المدام وإذا كان مثل هذا مستعملا فلا إشكال في كلامه والله أعلم ثم نقول بعدُ إنّ لحاق الهاء لتحريك البناء غير المدامِ شاذ كما قال وكلامُ العرب على عدم اللحاق لأن حركة البناء غير المدام شبيهةٌ بحركة الإعراب لانتقالها وعدم بقائها على حالة واحدة فصار حكمها كحركة الإعراب وحركةُ الإعراب لا تلحقها الهاء أصلا فكذلك ما كان مثلها. وبعدُ فحركة البناء التي على هذا الوصف تُوجَد في أنواع من الكلم وقد عدَّ منها في التسهيل أربعة أنواع: أحدها الاسم المبني مع لا في قولك (لا رجلَ في الدار) فحركة اللام بنائية ولا بدّ على مذهبه إلا أنها لا تلحقها الهاءُ فلا تقول (لا رَجُلَهْ) ولا (لا علامَهْ) في (لا غلامَ) لشبهها بحركة الإعراب؛ ألا ترى أن العرب تُتبِع فيها على اللفظ كما تُتبِع في حركة الإعراب فتقول (لا رجلَ عاقلًا) كما تقول (رأيت رجلًا عاقلًا) ولأجل هذا زعم قوم أنها حركة إعراب وقد تقدم الكلام على ذلك في باب لا والثاني المنادى المضموم نحو (يا زيدُ) و (يا حكمُ) و (يا رجلُ) فالوقف ههنا بالإسكان خاصة ولا يجوز أن تلحق الهاء فتقول (يا زيدُه) و (يا حكمُهْ) و(يا رجلُهْ) لما تقدم في اسم لا من أنّ الحركة هنا شبيهة بحركة الإعراب ولذلك جاز الإتباع فيها على اللفظ فتقول (يا زيدُ الظريفُ) و (يا عمرُو الفاضلُ) [105]

وإنما يختص هذا بالمضموم لا بما ليس بمضموم لأن الضمة هي التي أشبهت حركة الإعراب فأما إن كانت الحركة التي في آخر المنادى غير ضمة - أعني مما ليس بإعراب - فيجوز لحاقُ الهاء لها وقفا فإذا وقفت على المنادى المرخَّم فإنه يجوز أن تقف على الهاء فتقول في (يا جعفَ): (يا جعفَهْ) وفي (يا عامِ): (يا عامِهْ) وفي (يا منصُ): (يا منصُهْ) وإنما قلت ذلك وإن لم أجده منصوصا عليه بخصوصه لأنهم قالوا في (طَلْح) إذا وُقف عليه (يا طلحَهْ) بالهاء نصَّ على ذلك سيبويه وغيره وهو الأكثر في كلامهم ولا يقال (يا طَلْحْ) إلا قليلا لأنه قد صار في درجة (ارمِهْ) والأكثر في (ارمِ) الوقفُ بالهاء كما تقدم وذلك لأنهم لما ألزموه الترخيم في الأكثر ألزموه الهاء في الوقف ونص سيبويه على أنّ هذه الهاء هي هاء السكت لا غيرها وإن كان محتملا أن تكون كذلك أو تكون هاءَ الأصل ردّت للوقف كما ردّي ياء (يا مري) فقال «وإنما ألحقوا هذه الهاء ليبينوا حركة الميم والحاء» يريد في (يا سلمهْ) و (يا طلحهْ) قال «فصارت هذه الهاءُ لازمةً في الوقف كما لزمت الهاء في وقف ارمِهْ» وعلل ذلك بنحو ما عَلَّلَ به (ارمه) وبابه. وإذا ثبت هذا فكلُّ مُرخَّم قد لزمت فيه تلك العلة وصارت الحركة التي في آخر المرخم ليست بضمة نداء بل هي حركة بناء كحركة (لم يرمه) فلا بدَّ من القول بجواز [106]

الترخيم فيه وكذلك تقول في نحو (يا مسلمان) و (يا مسلمون) يجوز أن تلحق الهاء لأن حركة النون ليست بإعراب ولا شبيهة بحركة إعراب كما يقال ذلك فيه غير منادى كما سيأتي إن شاء الله فالحاصلُ في ذلك أنّ المنادى المضموم هو المختص بمنع اللحاق دون غيره من المنادى الذي ليست حركة آخره حركة إعراب ولا شبيهةً بها، اتباعا لعقد الناظم والثالث المبنيُّ لقطعه عن الإضافة كـ (قبلُ) و (بعدُ) و (قدامُ) و (خلفُ) و (أمامُ) و(علُ) و (أوَّلُ) و (غيرُ) وما أشبه ذلك فإنه أيضا لا تلحقه الهاء لشبه هذه الحركة بحركة الإعراب من حيث كانت في آخر اسم يدخله الرفع والنصب والجر فصار كالمعرب حقيقةً إذ هو اسمٌ متمكن فلا تقول (قبلُهْ) ولا (بعدُهْ) وإنما تقف عليه على حد الوقف على المعربات والرابع الفعل الماضي فلا تقول في (قامَ): (قامَهْ) ولا في (خرجَ): (خرجَهْ) ولا نحو ذلك لأن حركته شبيهة بحركة الإعراب من جهة أنها أشبهت حركات الأسماء المبنية على الحركات لتمكنها نحو (قبلُ) و (بعدُ) و (يا حكمُ) وعلل سيبويه كون الفعل الماضي لا تدخله الهاء بأن آخره هو الذي يُعرَبُ في المضارع لأن الماضي يتصرف حتى يصير مضارعا فيعربُ آخره فال ابن خروف: وكذلك كل حركة بناء للمزيّة لا تدخلها الهاء، لأن علتها علّة حركة الماضي [107]

وبقي بعد هذا بيان الشذوذ الذي أشار إليه في المحرك بحركة بناء غير مُدامٍ وقد ألحقوا الهاء في الوقف «عَلُ» فقالوا (مِنْ عَلُهْ) حكاه في التسهيل ولم أستظهر عليه بشاهد فعليك البحث عنه وقد وجدتُ له شاهدا في شرح ابنه لهذا النظم ولكني لم أقيِّده كما أحبُّ فتركتُه وأما المسألة الثانية فهي مسألة البناء المستدام وذلك قوله «فِي الْمُدَامِ اسْتُحْسِنَا» وهو على حذف العاطف والمدام على حذف الموصوف وضمير «اسْتُحْسِنَ» عائد على «وَصْل» ** والتقدير: وفي تحريك البناء المدام استحسن وصلُ هاء السكت، والمستَحسِن لذلك إما العربُ أو النحويون واعلم أنّ ما فيه حركة البناء المدام على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون آخره محذوفا فلحقت الهاء جبرا لما حُذِف وصونا عن تسكين ما قبله والثاني ألا يكون محذوفا منه إلا أن ما قبل آخره ساكن والآخر خفيٌّ في نفسه وهو النون أو ما أشبهها وهو الأكثر فيما قبله ساكن فألحقوا الهاء تبيينا للنون ولحركتها وكراهة لالتقاء الساكنين [108]

والثالث ألا يكون محذوفا منه أيضا إلا أنّ الآخر حرف خفيٌّ أو ما ألحق به فأرادوا أن يُبيِّنوا بلحاق الهاء، ويُقَوُّوا ما كان منها اسما على حرفٍ واحد وهذه الأقسامُ في القوة والضعف على هذا الترتيب فلحاقُ الهاء للأول أقوى ثم يليه لحاقُها للثاني ثم لحاقُها للثالث والقسمان الأخيران هما المشار إليهما في كلام الناظم وأما الأول فقد تقدَّمَ فمن أحد القسمين قوله (هما ضاربانه) و (هم مسلمونه) و (هم قاتلونه) ومنه أيضا: (هُنَّهْ) و (ضربتُنَّهْ) و (اعلمُنَّهْ) و (أينَهْ) و (إنَّهْ) في (إنَّ) بمعنى (نَعَمْ) قال ابن قيس الرقيات بَكَرَتْ عَلَيَّ عَواذِلي ... يَلْحَيْنَنِي وأَلُومُهُنَّهْ* ويَقُلْن شيبٌ عَلا ... كَ وَقَد كَبِرْتَ فَقُلْتُ: إنَّهْ أنشد البيت الثاني سيبويه وأنشد قطرب لامرأة فَقْعَسِيَّةٍ في الهاء اللاحقة للمثنى فَعَلتُهُ لا تَنْقَضي شَهْرَيَنهْ ... شَهْرَيْ ربيع وجُمادَ يَينهْ** [109]

وأنشد ابن جني أهكذا يا طَيْبَ تَفْعَلُونَهْ ... أَعَلَلًا وَنَحْنُ مُنْهُلُونَهْ؟ وأنشد أيضا اكسُ بُنيَّاتِي وأُمَّهنَّهْ ... أُقسِمُ بالله لَتَفْعَلَنَّهْ هذه كلها لحقتها الهاء لخفاءِ النون لضعفها ولالتقاء الساكنين والميمُ في ذلك كالنون لأنها مثلها في الخفاء فقد قالوا (ثُمَّهْ) و (هَلُمَّهْ*) وأنشد سيبويه قول الراجز يا أيها الناسُ ألا هَلُمَّهْ وقالوا (كيفَهْ؟ ) و (ليتَهْ) و (لعلَّهْ) وأجاز ذلك سيبويه وقال «لمّا لم يكن حرفا يتصرفُ للإعراب وكان ما قبلها ساكنا جعلوه بمنزلة ما ذكرنا» قال «وزعم الخليل أنهم يقولون (انطلقْتُهْ) يريد: انطلقت» وهكذا ينبغي في (انطلقت) و (انطلقت) فتقول (انطلَقْتَهْ) و (انطلقته) وأبَى ذلك المبرد وردّ على من أجاز هذا من وجهين أحدهما أن التاء فاعلة فهي في موضع الفاعل [110]

المعرب. والثاني أنه يلتبس بالمضمر إن كان الفعل لا يتعدى فبضمير المصدر وإن كان يتعدى فبضمير المفعول به قال: ويقوّي ذلك جوازُ (ضاربانِهْ) و (مسلمونَهْ) وامتناع (يضربانِهْ) و (يسلمونَهْ) لأن هذه تلتبس وتلك لا تلتبس. قال السيرافي: والقول عندي ما قال الخليل وسيبويه لأن سيبويه قد حكى (ضَرَبْتُنَّهْ) .. وكذلك (اعلمُنَّهْ) ولو امتنع هذا لامتنع (ليتَهْ) و (لعلَّهْ) لأن يلتبس باسمها، وقد حكاه سيبويه عن العرب وأما امتناع (يضربانِهْ) و(يضربونَهْ) فسيذكر إثر هذا إن شاء الله تعالى ومن ذلك أيضا قولك (غلامايَهْ) و (عصايَهْ) و (بُشرايهْ) و (قاضيَّهْ) * وقع هذا في نسخة ابن السراج وقال: هذا كلُّه فاسد. قال ابن خروف: أراد للّبس بالضمير. قال: وليس فيه لبس بضمير لأن ضمير الغائب لا يقع هنا مع ضمير المتكلم ومن القسم الثاني قولهم (غلامِيَهْ) و (جاء من بعدِيَهْ) و (ضرَبَنِيَهْ) وهذا على من حرَّكَ الياء في الوصل أما من سكَّنها فإنما يقفُ بالسكون لأن الهاء لا تلحق إلا المتحرك قال سيبويه «كرهوا أن يسكنوها إذْ لم تكن حرف الإعراب وكانت خفيَّةً فبيَّنُوها» وحسَّن أيضا لحاق الهاء هنا أنّ الياء اسم [111]

فكرهوا أن تكون على حرف واحد ثم يضعفوها بالإسكان ومما أُجرِي مجرى الياء قولهم (هِيَهْ) و (هُوَهْ) شبهوا ياء (هي) بياء (بعدي) وكرهوا في واو (هو) أن يلزموها الإسكان في الوقف فجعلوها بمنزلة الياء كما جعلوا (كَيْفَهْ) كـ (مسلمونَهْ) أيضا وقالوا (خُذْه بحُكْمِكَهْ) ومن المسموع في ذلك قول الله تعالى {هاؤم اقرأوا كتابيَهْ إني ظننتُ أني مُلاقٍ حِسابيَهْ} و {يا ليتني لم أوتَ كتابيَهْ ولم أدْرِ ما حِسابيَهْ} وقال {ما أغنى عني ماليَهْ هلك عني سلطانيَهْ} وقال {وما أدراك ما هيَهْ} وأنشد السيرافي إذا ما تَرَعْرَعَ فينا الغلامُ ... فليس يُقالُ لهُ: مَنْ هُوَه؟ وقال ابن قيس الرقيات تبكيهمُ دَهْمَاءُ مُعْوِلةٌ ... وتقول سلمى: وَارَزيَّتِيَهْ إلى هذا النحو أشار الناظم بقوله «فِي الْمُدَامِ اسْتُحْسِنَا» أما المسألة الثالثة فإن هذه الهاء لا تلحقُ ساكنا وإنما تلحق المتحرِّك وذلك مستفاد من هذا الكلام؛ إذ قال (وَوَصْلُهَا بِغَيْرِ تَحْرِيكِ بِنَا ... ) أي: [112]

بتحريك بناءٍ غير مدامٍ، كما تقدم تقريره في المسألة الأولى ووجه ذلك ظاهر مما تقدم؛ إذْ كانت الهاءُ إنما لحقت لبيان الحركات والساكنُ لا حركة فيه. وأيضا فلحِقتْ لئلا يلتقي ساكنان وهذا يقتضي أن لا تلحق إلا المتحرّك فإذا ما جاء من لحاقها لما آخره ساكن فقليل ولا يكون الساكنُ مع قلته إلا الألف وذلك قولهم (هؤلاهْ) و (هَهُناهْ) قال سيبويه «واعلم أنهم لا يُتبعون الهاء ساكنا سوى هذا الحرف الممدود - يعني الألف - لأنه خفِيٌّ فأرادوا البيان كما أرادوا أن يُحرّكوا ولا يجوزُ أن تلحق ما في آخره ياءٌ أو واواٌ وغيرها من السواكن إلا ما تقدم ذكره في الندبة من لحاقها الألف والواو والياء لِما أرادوا هنالك مِنْ مَدِّ الصوت» ** فإن قيل إن لحاق الهاء مَدَّة الندبةِ قياس مُطَّرد وهو مُختصٌّ بالوقف كهذا الموضع فلِمَ أشعر هنا بأنها لا تلحقُ إلا المتحرك فظهر أن باب الندبة يدخلُ الاعتراض عليه فالجواب أنه إنما تكلم هنا على غير الندبة إذ قد تقدّم الكلام عليها فهو لا يريدُها هنا أصلا وإلا كان تكرارا المسألة الرابعة أن هذه الهاء لا تلحق حركة الإعراب وإنما هي مختصّةٌ بحركة البناء المستدام كما أخبر أولا وأشعر بهذا من كلامِه [113]

تخصيصُه حركة البناءِ باللحاق المذكور فدلّ على أن غير حركة البناء عنده على خلاف ذلك وإلا لم يكن لتخصيصه حركة البناء دون غيرها فائدة وأيضا إذا كان ينفي* لحاقها عن حركة البناء غير المستدام فأنْ ينفيه عن حركة الإعراب أحرى وأولى وأيضا قد يُقال إن حركة الإعراب قد دخلت له تحت قوله: غير تحريك بناء أُديم. وقد تقدم تقريره وإذا كان كذلك بقي علّة* عدم لحاقها لحركة الإعراب ووجهُ ذلك أن المعرب يتصرف بوجوه الإعراب ويوقف على التنوين منه حالة النصب فجعلوا هذا كالعوض من الهاء مع أنهم أرادوا أن يفرقوا بين الحركتين واعلم أنّ معنى قولِ من يقول: إنّ هاء السكت لا تلحق معربا أنها لا تلحق حركة إعراب فقد يكون الاسم معربا والهاء تلحقه مع ذلك لأن الحركة التي في آخره ليست حركة إعراب كـ (مسلمان) و (مسلمون) ونحوهما مما تقدم فإنه معرب مع أن الهاء تلحقه فتقول (مسلمانِهْ) و (مسلمونَهْ) وقد توهم ابن خروف خلافَ هذا وذلك أن المبرد أجاز في بَيْتَيْ سيبويه وهما هُمُ القائلون الخير والآمرونَهُ ... إذا ما خشُوا** من محدث الأمر معظما وقوله [114]

ولم يرتفق والناسُ محتضرونَهُ ... جميعا، وأيدي المعتفين رواهقه أن تكون الهاءُ هاءَ السكت ثم شبهت بهاء الضمير فوصلت وحُرِّكت لأنه لا يُجمَع بين هذه النون وهاء الضمير فردّ عليه ابن خروف بأن هاء السكت لا تلحقُ معربا بوجه وإنما تلحق الأسماء المبنية فنسي* قول سيبويه أن هذا** الهاء تلحقُ هذه النون وإن كان الاسم الذي قبلها معربا قال ابن الضائع: وغلَّطه في ذلك إطلاقُ* النحويين أن هذه الهاء لا تلحق معربا قال وإنما يريدون لا تلحق حركة إعراب وليست حركة هذه النون حركة إعراب فإن قيل: فلِم امتنع في «يضربان» لحاق الهاء وفي (يضربون) وجاز في (ضاربان) وفي (ضاربون) مع أن النون فيهما لم تتحرك بحركة إعراب؟ فالجواب ما قاله ابن الضائع من أنّ النون في (يضربان) و (يضربون) علامةُ الرفع كالضمة في (يضربُ) وهذه الهاء لا تلحقُ علامة إعراب قال: ولذلك قال سيبويه: إن الهاء إنما تلحق هذه النون التي ليست بحرف إعراب، ليس يعني بحرف الإعراب أنّ فيها حركة إعراب بل يعني أنها نفسها الإعراب وقد تم النظرُ في المسائل الأربع بتمام النظرِ في كلام الناظم، والله المستعان * * * [115]

وَرُبَّمَا أُعْطِيَ لَفْظُ الْوَصْلِ مَا ... لِلْوَقْفِ نَثْرًا، وَفَشَا مُنْتَظِمَا يعني أن العرب قد تُجرِي الوصل مجرى الوقف فتعامل الكلمة في الوصل بما تعاملها به لو وقفت عليه من إسكان آخر الكلمة أو تضعيفها أو غير ذلك من الأحكام المختصة بالوقف لكن هذا قد يأتي في النثر كما قال وقد يأتي في النظم وإتيانه في النثر قليل لأنه على خلاف الأصل وأكثره ضرورة والضرورة إنما تختص بالشعر ولذلك أتى الناظم فيه بـ (ربما) المفيدة للتقليل والندور وأما إتيانه في النظم فكثير لأن النظم محل الخروج عن القياس ومحل ارتكاب الضرورات وأما إجراء الوصل مجرى الوقف في النثر فمنه قراءة البزِّي {وجئتك من سبأْ بنبأ يقين} بإسكان همزة {سبأ} إجراءً للوصل مجرى الوقف هذا هو الظاهر في هذه القراءة وقد قيل مثل ذلك في قراءة من قرأ {يؤدِّهْ إليك} و {نُولِّهْ ما تولى ونُصلِهْ جهنَّم} و {نؤتِهْ منها} [116]

وهي قراءة حمزة وأبي عمرو وأبي بكر في هذه الألفاظ المذكورة وكذلك قراءة من قرأ {فألقِهْ إليهم} {يتَّقهْ} {ومَنْ يأتِهْ مُؤْمِنا} وسائر هذا الباب حمَله بعضُ الناس على أنه من إجراء الوصل مجرى الوقف والأشهر في هذه الأشياء غير هذا التعليل ومن ذلك قراءةُ من قرأ {ما أغنى عنِّي ماليَهْ هلك عنِّي سلطانيهْ} وقوله {وما أدراك ما هيَهْ} بإثبات الهاء وصلا ووقفا وهم من عدا حمزة وما ذاك إلا إجراءُ الوصل مجرى الوقف وحكى سيبويه من كلامهم (ثلاثة** أربعة**) ** بإبقاء هاء (ثلاثة) هاءً على حالها في الوقف ونقل حركة همزة (أربعة) إليها ومنه أيضا في الأظهر قراءة حمزة {ومكر السيِّئْ ولا يحيق} بإسكان الهمزة في الوصل وذلك إنما يكون في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف وبعض العرب يُبدل ألف المقصور في الوقف واوا ومنهم من يبدلها فيه ياءً حكى ذلك سيبويه ثم حكى أن طيئا يدعون الألف في الوصل كما كانت في الوقف فيقولون (أفعَىْ) في الوقف فإذا وصلوا فعلوا ذلك أيضا فقالوا (هذه أفعَىْ يا هذا) وبعضهم يقولون (هذه أفعَوْ يا فتى) بالواو في الوصل أيضا فزعم المؤلف أنه من إجراء الوصل مجرى الوقف قال في [117]

كتاب التسهيل «ومنه إبدالُ بعض الطائيين في الوصلِ ألف المقصور واوا وعلى هذه اللغة يمشي ما روي عن الحسن أنه قرأ {يومَ يُدْعَوْ كلُّ أناس بإمامهم} ببناء {يُدْعَوْ} للمفعول والواو ساكنة» ** قال ابن جني «هذا على لغة من أبدل الألف في الوصل واوا نحو: أفْعَوْ وحُبْلَوْ» قال «وأكثر هذا القلب إنما هو ف الوقف؛ لأن الوقف من مواضع التغيير» قال «وهو أيضا في الوصل محكي على حاله في الوقف» وعلى هذا أيضا حمله ابن خروف ومن ذلك قراءة نافع وابن عامر وعاصم {وتظنُّون بالله الظنونا} و{الرسولا} و {السبيلا} بالألف في الوصل إجراء له مجرى الوقف وكذلك قراءةُ ابن عامر {لكنا هو الله ربي} بإثبات الألف وصلا وهي عند البصريين ألف «أنا» لأن الأصل (لكنْ أنا) وكذلك قراءة نافع {أنا أُحيي} {فأنا أوّلُ} بإثبات الألف في الوصل [118]

وقد يكون من هذا القبيل قراءة نافع {ومحيايْ ومماتي لله} بإسكان الياء من {محياي} وصلا وقراءة أبي عمرو والبزِّي {اللايْ} بالياء ساكنة في الوصل أيضا وقراءة الحسن {حاشْ لله} بإسكان الشين وصلا وقد جاء من هذا النحو شيء صالح يكفي هذا منه إلا أن مع الناظم فيه متكلما وذلك أنه أتى في كلامه بـ (ربّما) المقتضية للتقليل الندور* وأنت قد رأيت أن الذي جاء من ذلك ليس بنادر إذ أكثره قد قُرئَ به ومنه ما هو لغة لبعض العرب وقد مرَّ من عادته أنَّ ما قُرئ به لا بد أن يستنبط له قياسا جاريا في أمثاله وإن كان قليلا أجرى القياس فيه على قلته ولم يجعله مسموعا نادرا وقد جعل في التسهيل تحقيق الهمزتين مع الاتصال لغى ولم ينقلها أحد لغةً وإنما نُقل من ذلك ألفاظ شاذة، نعم جاء في القرآن {أئمة} بتحقيق الهمزتين قراءةً عن الكوفيين وابن ذكوان [119]

قال شيخنا القاضي رحمه الله: جعل ذلك لغة للقرآن أدبا مع القرآن أن يجعل ما نُقل فيه قراءة شاذة أو مخالفة لكلام العرب فكيف يجعل هذا الذي تقدم ذكره - مع كثرته وأن أكثره من القرآن ومن المنقول عن الأئمة - نادرا؟ ! هذا خارج عن مقتضى طريقته كما تقدم وأيضا إن أجرينا طريقته هنا في جعله لغة الطائيين جارية في الوصل على طريقة وقف غيرهم انفسح لنا في ذلك مجال من السماع رَحْب وذلك أن قراءة من قرأ {نوله} و{نُصلِهْ} و {يرضَهْ} وما أشبه ذلك ما قبلَ الهاء فيه سكان في الأصل حُذف للجزم أو للوقف جارية على طريقة بعض العرب في ذلك إذ هذه** الهاء فيها للعرب ثلاثة أوجه: التحريك باختلاس وبإشباع والتسكين ولا شك أن التسكين أقلها فنحملها على إجراء الوصل مجرى الوقف ولا يصادمنا في هذا التأويل تعليلهم بأن الهاء وقعت موقع ساكن محذوف فأسكنت كإسكانه كما لم يصادمه هو في لغة الطائيين ما علل به سيبويه من أنهم أبدلوا الألف واوا وياءً لخفاء الألف فأرادوا بيانها إذ كانت الألف خفية؛ فإن هذه التعليلات يصح أن يعلل بها إجراء الوصل مجرى الوقف إذ هو على خلاف القياس فيقال: لم أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف في مسألة كذا؟ فيجاب بعلة يقتضيها الموضع على هذه الطريقة يجري* أيضا ما حكاه [120]

السيرافي أن من العرب من يقول (اشترْ ثوبا) و (اتقْ زيدًا) وأنشد على ذلك ومن يتَّقْ فإنَّ الله مَعْهُ ... ورزقُ الله مؤتابٌ وغادِ وأنشد أيضا قالت سُليمى: اشترْ لنا دقيقا ومن ذلك هاء الضمير بعد متحرك نحو (بِهْ) و (لَهْ) يسكنها قوم من العرب حكاها الأخفش لغة عن أزْدِ السراة وحكاها المؤلف في «التسهيل» عن بني عُقَيل وبني كلاب وعلى ما حكى الأخفش حكى ابن جني وأشرب الماءَ ما بِي نَحْوَهْ عَطَشٌ ... إلا لأنَّ عُيونَهْ سَيْلُ وادِيها وقولَ الآخر وهو رجلٌ من أزْدِ السراةِ فَظِلْتُ لدى البيت العتيق أخيله ... وَمِطْوَاي مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقانِ [121]

هذه اللغة لا ما نع من ادعاء إجراء الوصل فيها مجرى الوقف بل الظاهر على ما قال أنها كذلك وكذلك تسكين واو (هُوَ) وياء (هيَ) في الوصل حكاها المؤلف عن قيس وأسد وحمل على ذلك قول الهذلي إنَّ سَلْمَى هِيَ المُنَى لو تُواتِي ... حَبَّذا هِيْ من خُلَّةٍ لو تُخالِي وأنشد المؤلف وركضُك لولا هو لقيتَ الذي لَقُوا** ... فأصبحتَ قد جاوزتُ قومًا أَعَادِيا وقال متمم بن نويرة أَدَعَوْتَه بالله ثُمَّ غَرَرْتَهُ ... لَوْ هُوْ دَعَاكَ بذمَّةٍ لم يَغْدُرِ وقرأ أبو جعفر والزهري {ثُمَّ اجعلْ على كلِّ جبل منهنَّ جُزّا} بتشديد الزاي من غير همز قال ابن جني: خفف الهمزة على قولك (الخبُ) في (الخبْء) وإذا خُفِّفَ فلك الوقف بالتشديد فتقول (الجُزُّ) ثم إنه وصَل على وقفه فقال (جُزًّا) فهذا من إجراء الوصلِ مجرى الوقفِ على قولهم: [122]

ببازلٍ وجناءَ أَوْ عَيْهَلِّ كما سيُذكر إلى أشياء من هذا النحو لا أقدر على حصرها وقد جرى في التسهيل على هذا السبيل فأتى بـ (ربّما) في هذه المسألة فقال «ويجري** الوصلُ مجرى الوقفِ اضطرارا وربما أجري** مجراه اختيارا» والجميع مشكل لما ثبت في المسألة من السماع الفاشي الذي لا يقال في مثله ولا فيما قاربه إن نادر، ولا يقلَّلُ بـ (ربّما)، وللنظر في المسألة مجال واسعٌ مضاف إلى كلام الناظم هنا وفي التسهيل وغيرهما من كتبه لا أقدر على استيفائه الآن وأما إجراء الوصل مجرى الوقف في النظم وهو الذي ذكر فيه أنه فاش كثير، فمنه جميع ما تقدم من الأبيات فإنها محمولة في النظم على إجراء الوصل مجرى الوقف منصوص عليها أو على أكثرها في ذلك الحكم ومن ذلك أيضا قولُ امرئ القيس فاليوم أشْرَبْ غير مستحقبٍ ... إثما من الله ولا واغِلِ أنشده سيبويه وأنشد ابن جني: فاحذَرْ ولا تَكْثَرْ كريًّا أعوجا وأنشد سيبويه: [123]

إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ: صاحبْ قَوّمِ ... بالدوّ أمثالَ السَّفين العُوَّمِ وقال وضاح اليمن إنما شعري شُهد ... قد خُلِطْ بِجُلْجُلانِ ومنه إثبات ألف «أنا» في الوصل قال الأعشى فكَيْفَ أنا وانتحالَ القَوافيَ بَعْدَ المَشيبِ كَفَ ذاكَ عارا وقال آخر أنا سيفُ العشيرةِ فاعرفُوني ... حُميدًا قد تدرّيتُ السَّنَاما وقال أبو النجم أنا أبو النجم وشعرِي شعرِي ومن ذلك ما أنشده سيبويه من قول رؤبة لقد خشيتُ أن أرى جَدَبَّا ... في عامنا ذا بعدما أَخْصَبَّا [124]

يريد (جَدْبًا) و (أحصَبت) وأنشد غيره بعده إن الدَّبا فوق المِتان دبَّا ... وَهَبَّت الريح بِمُورِ هَبَّا تترك ما أبقى الدَّبا سَبْسَبَّا ... كأنه السيلُ إذا اجْلَعَبَّا أو الحريقُ وافقَ القَصَبَّا يريد (سَبْسَبًا) و (القَصَب) وأنشد سيبويه أيضا لرؤبة ضَخْمٌ يُحِبُّ الخُلُقَ الأَضْخَمَّا يريد (الأضخَمَ) وأنشد الفارسي ومنه ما أنشده سيبويه لرجل من بني أسد فَسَلِّ وَجْدَ الهائم المعتلِّ ... ببازلٍ وجناء أو عَيْهَلِّ كأنَّ مهواها على الكَلْكلِّ ... مَوْقِعَ كَفَّي** راهب يُصَلِّي يريد (العَيْهلِ) و (الكَلكَلِ) أنشد أحمد بن يحيى: [125]

مَنْ لي من هِجران ليلى مَنْ لِي ... والحبلِ من حِبالها المُنْحَلِّ تَعَرَّضَتْ لي بمكانٍ خِلِّي ... تعرض المُهْرة في الطِّوَلِّ يريد (الطِّوَل) وانشد ابن جني مما أنشده أبو علي وغيره والحبل من حبالها المنحلِّ يريد (المنحل) ترى مَرَاد نِسْعِها المُدْخلِّ ... بين رَحَ الحيزومِ والمَرْحَلِّ مثْل الزّحالِيف بنَعْفِ التَّلِّ يريد (المُدْخَلَ) و (المَرْحَلَ) وفيها ومُقْلَتان جَوْنَتَا المِكْحَلِّ أثبت الشاعرُ التشديد مع دخول ألف الإطلاق وكان حقه أن يخفف لأن التشديد من شأن الوقف ليعلم أن الحرف في الوصلِ متحرك فإذا [126]

اتصل الحرف بحرفٍ بعده فظهرتِ الحركةُ وجبَ زوال التشديد لكنهم أبقوه إجراءً للوصلِ مجرى الوقف وعلى هذا المعنى يجري القول في بيتي سيبويه وهما قوله هُمُ القائلون الخير والأمرونَهُ وقوله ولم يرتفق والناس محتضورنَهُ على أن الهاء للسكت وهو مختص بالوقف لكن ألحق الهاء حرف اللين كما ألحق المشدد حرف الإطلاق فيما تقدم وكذلك قول الآخر يا مرحباهُ بِحمارِ ناجيَهْ ... إذا دنا قَرَّبتُه للسانِيَهْ وقول امرئ القيس وَقَدْ رابني قولُها يا هَنَا ... هُ وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شرًّا بِشَرّ هو من هذا عند طائفة والذي يُرجَع إليه في هذه المسألة أنّ جميع ما تقدَّم من المنثور لا يتعيّن فيه ما تقدّم من إجراء الوصل مجرى الوقف وإنما يثبت ذلك في [127]

بعضها مما يعدُّ نادرًا كما قال ولئن سلّمنا جميع ما تقدم فإنه يبعدُ القياس على مثله لانتشار قياسه وعد ضبطه ولم يزل النحويون يذكرون ذلك ويعدونه نادرا فليس ببِدْعٍ ما قاله الناظم هنا وقول الناظم «وَرُبَّمَا أُعْطِيَ لَفْظُ الْوَصْلِ» إلى آخره، لفظُ (الوصلِ) أي: اللفظ الذي هو مختصٌّ بالوصل فأضافه إليه لاختصاصه به، و «ما» مدلولها الحكم، و (للوقف): صلة «ما»، كأنه قال: وربما أعطي اللفظُ الذي يختصُّ بالوصل الحكم الذي استقرَّ للوقف. و «نثرًا» مصدرٌ في موضع الحال، وخو حال من «لفظ» أي: حالة كونه ذن نَثْر، أي: واقعا في النثر. وقله «وَفَشا» الضمير فيه عائد على الإعطاء المفهوم من «أُعطِي» على حدِّ {وإنْ تشكروا يرضَهُ لكم} و «منتظما» حال منه، أي: فشا إعطاءُ لفظ الوصلِ حكم الوقف حالة كونه منتظما. ولا يعود على «لفظ» ولا على «الوصل» ولا على «الوقف» إذْ لا يصحُّ له معنًى يستقيمُ. والعبارةُ الجارية في النظمِ أن يُقالَ: منظومًا لا مُنْتَظِمًا، لكن المعنى حاصلٌ منه. * * * [128]

الإمالة

الْإِمَالَةُ اَلْأَلِفَ الْمُبْدَلَ مِنْ يَا فِي طَرَفْ ... أَمِلْ، كَذَا الْوَاقِعُ مِنْهُ الْيَا خَلَفْ دُونَ مَزِيدٍ أَوْ شُذُوذٍ، وَلِمَا ... تَلِيهِ هَا التَّأْنِيثِ مَا الْهَا عَدِمَا الإمالة اصطلاحا أن تنحو بالألف نحو الياء وبالفتحة نحو الكسرة طلبا لتناسب الصوت بينهما أو إشعارا بما هو طالبٌ بالتناسب، وذلك أنه قد يكون بين بعض الحروف تناسب وقد يكون بينهما تباعد فيزيلون من ذلك التباعد بعضه ليتناسب الصوت؛ فالألف والياء متباعدتان في الصوت لانفتاح الألف وانسفال الياء، فالألف تطلب أعلى الفم والياء تطلب أسفله، فنَحَوْا بالألف نحو الياء ليكون ذلك أقرب لما بينهما وأنسب وكذلك الفتحة والكسرة هما كالألف والياء فأمالوا الألف نحو الياء ليجري الصوت على تناسب. ونظير هذا الصادُ والدال، هما من حروف طرف اللسان فهما متقاربتان في المخرج إلا أنهما متباعدتان في الصفات فالصاد حرفٌ مستعلٍ مُطبق مهموس رخْو والدال بخلاف ذلك فكرهوا التباعد في جميع هذه الصفات مع تقاربهما في المخرج فأشربوا الصادَ صوت الزاي ليكون وسطا بينهما في التناسب لأن الزاي توافق الدال في الانسفال والانفتاح والجهر وتوافق الصاد في المخرج. فالألف والياء متقاربتان أيضا في اللين وفي المخرج لأن [129]

الياء من الفم والألف تشارك حروف الفم من حيث كانت هوائية ولذلك قال بعضهم: إن الألف ليس له مخرج معيَّنٌ، فأرادوا أن يناسبوا بينهما في الصوت وكذلك قصدوا أن يشعروا بالأصل في الألف في نحو (رمى) و (بنى) و(الفتى) وبأن فاء (فَعِلتَ) * المعل العين يكسر في بعض الأحوال ولما كان الممالُ قسمين أحدهما الحرفُ الذي هو الألف وهو الأكثر في الكلام نحو (رمى) و (بنى) والثاني الحركة التي هي الفتحة نحو (من الكِبَر) و(من الصِّغَرِ) و (من البَعَر) ابتدأ بالقسم الأول لكثرته وإن كانت إمالة الفتحة فيه غير مفارقةٍ لأن الألف ناشئة عنها ولا يمكن إمالة الألف إلا بإمالتها إلا أن المقصود بالإمالة الألف فقال «اَلْأَلِفَ الْمُبْدَلَ مِنْ يَا فِي طَرَفْ ... أَمِلْ» الألف: منصوب بـ (أَمِلْ) وقوله «مِنْ يَا» أراد (من ياءٍ) فقصَرَ ضرورةً وقد تقدم له من هذا كثير. و «فِي طَرَفْ» متعلق باسم فاعل محذوف حالٍ من الألف، والتقدير: أمِلِ الألفَ المبدل من ياء حالة كونه مستقرًّا في طرف، أي طرف الكلمة ويعني أنك تُميلُ الألف إذا اجتمع فيها وصفان: أن تكون من الياء لا من الواو، وأن تقع في طرف الكلمة لا في وسطها [130]

أما الوصفُ الأول وهو كونُها مبدلة من الياء فلا بد منه فإنه الموجبُ للإمالة في الموضع وسواءً أكان ذلك في اسمٍ أم في فعل؛ إذْ لم يُفضِّل* فالاسم نحو (الفَتى) و (الهَوى) و (العَمى)، و (الهُدى) و (النُهى)، و (الغِنى) و (الزِّنى) ونحو ذلك. والفعلُ نحو (رمى) و (سعى) و (هدى) و (حمى) و (جنى) و (همى المطرُ) و (سبى) وما أشبه ذلك فهذه الأمثلة كلُّها الألفُ فيها مبدلةٌ من الياء لأنك تقولُ من (الفَتى): فتيان، ومن (الهَوى): هويتُ، ومن (العَمى): عمِيتُ، ومن (الهُدى): هديْتُه، ومن (النُهى): نُهْيَةٌ، ومن (الغِنى): غُنْيَة*، ومن (الزِّنى): زَنَى يَزْنِي. وكذلك الأفعال لأنها من (رميت) و (سعيتُ) و (هديتُ) و (حميتُ) و (جَنَيْتُ) و (هَمى المطر يَهْمِي) و (سبيتُ أسْبِي). فتُمال هذه الألفات إشعارًا بأنّ الأصل الياءُ وذلك أن الإمالة يُراد بها أمران أحدُهما التناسبُ اللفظيُّ وهي التي تقدَّم شرحُها والثاني أن يُراد بها أمرٌ تقديريٌّ وهو الدلالة على ياءٍ أو كسرة. وهذه المسألةُ من هذا الثاني. وينتظم في هذا السلك ما كانت ألفه ثالثة وهو المتقدِّمُ الذِّكرِ وما كانت الألف فيه رابعةً فأكثر نحو (المرمَى) و (المسعَى) و (الأعمى) و(المهتدى) و (المستبَى) وكذلك (رامَى) و (اهتدى) و (استهدى) و (اجتنَى) و (احتمى) و(ترامى) وما أشبه ذلك؛ لأنّ هذه الألفاتِ أصلُها كلها الياءُ فتُمالُ لذلك. وكذلك ما كانت الألفُ فيه أصلها الواو إلا أنها وقعت رابعةً فصاعدا نحو (استدعى) و (أضحى) و (أعطى) و (تدانى) و (رَضَّى) وما أشبه ذلك فإن [131]

الألف هنا إنما انقلبت عن الياء لا عن الواو فشمِلَه قولُه «اَلْأَلِفَ الْمُبْدَلَ مِنْ يَا فِي طَرَفْ ... أَمِلْ». وكذلك الألف في آخر الاسم أيضا مثلُها كـ (مستدعى) و(مَدْعى) * و (مُرَضّى) * ونحو ذلك لأنها من (الدعوة) و (الضّحوة) و (عطا يعطو) و(الدنُوّ) و (الرضوان) إلا أنهم قلبوها ياءاتٍ لمّا صارت رابعة فقالوا (استدعيتُ) و (أضحيتُ) و (تدانيتُ) و (أعطيتُ) و (رضيت) وعن ذلك انقلبت الألفُ فإن كانت الألفُ منقلبةً عن الواو فمقتضى كلام الناظم أنها لا تُمالُ وذلك نحو (العصا) و (الفتا) و (الضُّحى) و (القفا) و (القطا) و (الصفا) وكذلك يقتضى* في الأفعال نحو (دنا) و (دعا) و (قفا) إلا أنّ هذا الثاني قد دخل له في حكم الإمالة بمقتضى قوله «كَذَا الْوَاقِعُ مِنْهُ الْيَا خَلَفْ» كما سيذكر إن شاء الله تعالى. فبقي* ما كان كذلك من الأسماء مستثنًى من حكم الإمالة فلا يجوز أن تُميل ألف (العصا) و (الصفا) ونحوه وما جاءَ من ذلك ممالا فموقوف على محله نحو قولهم (الكِبا) و (العَشا) و (المكا) فإنهم [132]

أمالوا هذه الأشياء وأصلها الواو لقولهم (الكِبَوان) و (عَشَوان) و (المكْوُ). وهذه طريقة النحويين أن يفرّقوا بين الأسماء والأفعال في الإمالة فيطردون لإمالة في الفعل ويجعلونها في الاسم شاذة. وظاهر كلام سيبويه خلافُ هذا لأنه لم يفرّق بين الاسم والفعل بل أطلق القول بأنهم يميلون كل شيء من بنات الياء والواو وكانت عينُه مفتوحة غير أنه قال «وقد يتركون الإمالة فيما كان على ثلاثة أحرفٍ من بنات الواو نحو: قفا وعصا والقنا والقطا وأشباههنّ» قال «وذلك أنهم أرادوا أن يثبتوها مكان الواو ويفصلوا بينها وبين بنات الياء وهذا قليل يُحفظ، وقد قالوا: الكِبا والعَشا والمَكا - وهو جحر الضب - يعني بالإمالة - كما فعلوا ذلك في الفعل» قال «والإمالة في الفعل لا تنكسر إذا قلت: غزا وصغا ودعا» فيظهر من كلامه أن الأصلَ الإمالةُ في الألف التي هي لامٌ في اسم كانت أو في فعل وإن كانت من الواو وقد تأوَّلوا كلامَ سيبويه وردُّوا كلامه إلى طريقتهم فردُّوا الخلافَ وفاقا فلذلك اتَّبع الناظم مذهبهم دون ظاهر كلام سيبويه وأما الوصفُ الثاني وهو كونُ الألفِ طرفا فإنّ الموجِبَ الذي هو الإشعارُ بأنَّ الألفَ منقلبةٌ عن الياء إنما أعملوه فيما إذا كانت الألف طرفا كما مُثِّل فإن كانت وسطا فمفهوم كلامه أن ذلك المُوجِبَ غير مُعتبر وإنما [133]

يُعتبر إذا كان طرفا فلا تمال الألف إذا كانت عينا كانت منقلبةً عن الواو أو عن الياء في اسم كانت أو في فعل إلا ما كان من الأفعال مكسور الأول في (فَعَلْتُ) فإنه سيذكره. وليست الإمالة في يائِيِّه لأجل الياءِ نحو (طاب) و (هاب) وإنما هي فيه لأجل الكسرة في (فلْتُ) فذوات الواو والياء فيه سواء. وأما ما لم يُقَل* فيه (فلْتُ) نحو (زال) و (ثاب) و (حام) فلا يمال، والأسماء أولى بعدم الإمالة من الأفعال فلا تُميل نحو (مال) و (باب) (من الوادي) ولا نحو (ناب) من اليائي إلا أن يكون مجرورا فإنّ من العرب من يُميله نحو (مررتُ بمالٍ) و (نظرت إلى بابٍ) وسببُ الإمالة هنا كسرةُ الإعرابِ وإن كانت عارضة لا غيرُ ذلك. وأما في غير الجرّ فلا إمالة وإن كانت الألف منقلبةً عن الياءِ إلا شاذًا عن بعض العرب نحو (هذا مالٌ) و (هذا نابٌ) نصَّ على ذلك سيبويه وقلّله ثم وجَّه ذلك فيما أصله الياءُ بالحمل على الفعل اليائي وفيما أصله الواو بالحمل على الفعل الواويّ قال «فتبعت الواوُ الياءَ في العين كما تبعتها في اللام لأن الياء فقد تغْلِب على الواو هنا - يعني في اللام - وفي مواضع» ثم قال «والذين لا يُميلُون في الرفع والنصب أكثر العرب وهو أعمُّ في كلامهم» فلأجل هذا تحرّو الناظم بقوله «فِي طَرَفْ» ووجهُ اللغةِ العامَّةِ أنَّ الإمالة نوع من التغيير والعين أقوى وأبعد عن التغيير من اللام ولذلك ثبتت الواوُ عينًا فلا تنقلب إلى الياء فتقولُ في نحو (فَعَّلْتُ): قَوَّلت، وفي [134]

(فاعَلْت): قاولت، وفي (أفعلْتُ): ما أَقْوله. وكذلك في البناء للمفعول فلا تنقلب الواو إلى الياء بخلاف ما لو كانت لاما. فلما كانت كذلك لم يميلوها إذا كانت عينا إلا ما كان منه يؤول إلى (فِلْتُ) اعتبارًا بالكسرة مع أن الإمالة فيما آلَتْ إلى (فِلْت) ضعيفة إنما يُميلُها بعض أهل الحجاز وأما عامة العرب فلا يميلون ما كانت الواو فيه عينا مطلقا نص عليه سيبويه فأنت ترى ما في إمالة العين من الضعف واعلم أن الناظم لم يأت في كلامه نصٌّ صريح على العلّة الموجبة للإمالة وكذا في سائر ما ذكر إلا أن فيه بعض إشعار بل الذي صرح به بيانُ الألفات الممالة ومواضعها وذِكْر الشروط المحتاج إليها في تلك المواضع وقد ذكر ابن السراج أسباب الإمالة وعدّ منه ستةَ أسباب: أحدها الياء المنقلبة عنها الألف وهي التي تقدّم ذكرها آنفا إذ الياء هي السبب في الإمالة والثاني الكسرة تتقدم على الألف كـ (عماد) وتتأخر عنها كـ (عابد) والثالث تقدم الياء على الألف كـ (شيْبانَ) والرابع التشبيهُ بالألف المنقلبة عن الياء كـ (حبلَى) و (أرطى) و (أدنى) والخامس الكسرة تعرِضُ في بعض الأحول كـ (خاف) و (طاب) والسادس مناسبة الممال كـ (رأيت عمادا) وما عدا ذلك من الأسباب شاذ [135]

وقد يقال إن الإبدال من الياء وصفٌ من أوصافِ الألف، فذِكرُه في معرض الحكم عليه مُشعِرٌ بأن ذلك الوصف هو العلّة لذلك الحكم فكأنه قال: أمِل الألف المبدلة من ياء لكونها مبدلة من ياء كما إذا قال الشارع {اقتلوا المشركين} فإن ذلك الإشراك مشعرٌ بأنه عِلَّة الأمر بالقتل. ثم ذكر من بعد ذلك شرطَ إعمال ذلك السبب وهو كو الإلفِ طرفا وذلك واضح فنبَّه هنا على سببٍ من الأسباب الستة وإذا اعتبرت هذا المعنى وجدتَه مُتأتيًا في كلامه فقوله «كَذَا الْوَاقِعُ مِنْهُ الْيَا خَلَفْ» يمكن فيه هذا الاستنباط إذْ معناه أن الألف التي تخلفها الياءُ في بعض المواضع تمال أيضا فهذا يؤخذ منه أن وقوع الياء خلفًا هو الموجب لأنه وصف اقترن بالحكم بالإمالة وقوله «كَذَا» على تقدير العاطف و (الْوَاقِعُ مِنْهُ الْيَا خَلَفْ) هو الألف وهو مدلول الألف واللام والصفة واقعة على الياء و «مِنْهُ» متعلق بـ (خَلَف) و «خَلَف» منصوب على الحال من (الياء) * واستعمله على لغة وآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصُمْ وفصَل بين «مِنْهُ» وبين ما تعلّق به بأجنبي وهو غير جائز لكنه هنا أسهل لكون المعمول حرف جر والتقدير: وكذا الألف الذي وقعت الياء خلفًا منه [136]

والخَلَفُ: ما استخلفتَه من شيء وهو أيضا ما جاء من بعد غيره، يقال (هو خَلَفُ سَوْءٍ من أبيه) أو (خَلَفُ صِدْقٍ من أبيه) يعني أنه يمال أيضا ومعنى وقوعها خلفا منه أن تكون الياء تستعمل في بعض تصاريف الكلمة لا أنها أصلُ ذلك الألف؛ إذ قد تقدَّم ذلك فإذا ظهرت الياء في بعض وجوه تصرف الكلمة - وإن كانت في الأصل غير منقلبة أو كانت منقلبة عن الواو - فالإمالة أيضا ثابتة. وهذا العقد يشمل ثلاثة أنواع من الألفات أحدها ألف الأفعال التي لاماتُها واوٌ نحو (غزا) و (دعا) و (قفا أثَره) و(دنا) وما أشبه ذلك فمثل هذا تُمالُ ألفُه وإن انقلبتْ عن الواو لأن الياء تقع خلفا منها في بعض تصاريفها وذلك إذا بُنيت للمفعول إذْ كنت تقول (غُزِي) و(دُعِي) و (قُفِي) و (دُنِي منه) وما أشبه ذلك فاعتبرتِ العربُ هذا المقدارَ فأمالت لأجلِ تلك الياء الظاهرة في بعض المواضع وكذلك تقول (هو يغزو) ثم تبنيه للمفعول فتقول (يُغْزَى به) فتصير ياءً بدليل (لَيُغْزَينَّ به) بهذا النحو علَّل سيبويه وإياه أراد الناظم. وهذا هو الفرق بين الأفعال التي لاماتُها واو وبين الأسماء إذْ كانت الأسماء لا تصيرُ إلى الياءِ في بعض تصاريفها [137]

والنوع الثاني ما كانت ألِفُه للتأنيث نحو (حُبْلى) و (ذِكْرى) و (ذِفْرَى) - فيمن منع الصرف - و (الدنيا) و (العُليا) و (البُشرى) و (حبارى) ونحو ذلك فهذه الألف لا أصل لها من واوٍ ولا ياءٍ وإنما هي أصل بنفسها لكنهم أمالوها لما أشار إليه الناظم من أنَّ الياء تخلُفها في بعض المواضع فتقولُ في التثنية: (حُبليان) و (ذِكْرَيان) و (حُبْلَيات) و (حباريات) وكذلك ما أشبهه إجراءً لها مُجرى ما كان أصلُها الياء فحكموا لها أيضا في الإمالة بحكمها والنوع الثالث ما كانت ألفه للإلحاق أو للتطويل نحو (مِعْزى) و (أرْطى) و(ذِفْرى) - عند من صرف - و (عَلْقى) وكذلك نحو (قبعثرى) و(ضَبَغْطرى) هذه أيضا تقع الياء خلفا منها في بعض التصاريف كقولك (ذفريان) و (قَبَعْثَريان) فحكم لها بحكم ما كان مثلها مما الألفُ فيه منقلبة عن الياء وإن لم تكن كذلك على مذهب سيبويه قال سيبويه «ومما يميلون ألفه كلّ اسم كانت في آخره ألفٌ زائدة للتأنيث أو لغير ذلك لأنها بمنزلة ما هو من بنات الياء ألا ترى أنك لو قلت في مِعْزى** وفي حُبْلى: فَعَلْت على عِدَّة الحروف لم تُجْرِ واحدةً من الحرفين إلا مجرى بنات الياء فكذلك كل ما كان مثلهما مما يصير في تثنية أو فعلٍ ياءً» قال «فلما كانت في حروف [138]

لا تكون من بنات الواو أبدا صارت عندهم بمنزلة رمى ونحوها» وقد ذهب طائفة إلى أنّ ألف الإلحاق منقلبة عن الياءِ وهو مذهب المؤلف في التسهيل فعلى هذا المذهب لا تدخل في هذا النوع بل تدخل تحت قوله «اَلْأَلِفَ الْمُبْدَلَ مِنْ يَا فِي طَرَفْ» ولما كان هذا العقد من الناظم يُتَوهَّمُ فيه أمران يقتضيان حكمين غير صحيحين أراد أن يخرجهما عنه فقال «دُونَ مَزِيدٍ أَوْ شُذُوذٍ» وذلك أن الياء تقع في الثلاثي خلفا من الألف التي أصلها الواو في موضعين: أحدهما مع زيادةٍ على الثلاثة وذلك أنك تقول من (العصا): (عَصَوتُه بالعصا)، أي: ضربتُه بها. وتقول منه أيضا: (اعتصيتُ على عصًا) إذا توكأتَ عليها و (اعتصيتُ بالسيف) أي جعلتُه عصا، أي يقوم مقامها. و(فلان أعصى من فلان) إذا كان أضربَ بالعصا منه. فـ (أعصى) ههنا يثنى على (أعصيان) لأن الألف رابعة فقد وقعت الياءُ خلفا من ألف (العصا) في بعض تصاريفها وتقول من (الرحا): (رحوتُ الرحا) إذا أدَرْتَها. ثم تقول (ترحَّتِ الحيَّةُ) إذا استدارَتْ كالرحا، و (فلان أرحى من فلان) كقولك في (العصا): (أعصى منه) فهذه الياءُ أيضا قد خَلَفَتِ الألف في بعض التصاريف وأيضا فـ (القَنَا): احديداب في الأنْف، وهو من الواو لقولهم في المرآة (قنواءُ) والرجل (أقْنى) ولا شك أن تثنية (أقنى): (أقنيان) فقد خَلَفتِ الياءُ ألفَ (القنا) في بعض [139]

تصاريفها وكذلك أيضا تنقلب الواو ياءً في التصغير نحو (عُصَيَّةٍ) في (عصًا) و (قُنَيَّة) في (قناة) وفي التكسير أيضا نحو (القُنِيّ) و (العُصِيِّ) لما صارت الكلمة مزيدا فيها. وكذلك غير هذه الألفاظ مما له تصاريف بالزيادة. فإذا ثبت هذا فلو سكت الناظم بعد ذلك العقد لاقتضى دخولَ مثل هذا وأنك تُميل (عصًا) و (رحًا) - إذا قدرت أن أصله الواو - و (قنًا) ونحو ذلك. وهذا غير صحيح*؛ إذ قد تقدم أن مثل هذا لا يمال**؛ إذ لا يعتبر من التصاريف في مثل هذا إلا ما ظهرت فيه الياءُ مع عدم الزيادة لكنه لما قال «دُونَ مَزِيدٍ» زال ذلك الاقتضاءُ. و «دُونَ مَزِيدٍ» متعلق بالواقع أي: التي وقعت الياءُ خلفا منه دون زيادة لحقت الكلمة ولا شك أن (عصا) لا تقعُ منه الياء خلفا دون زيادة بل تقول (عصوتُه) و (عصوان) وكذلك (رحوتُ الرحا) و (رحوان) وإنما وقعت الياء بدل الألف بعد ما** صارت رابعةً فصاعدا ومثل هذا من التصرّفات غير مُعتبر ولذلك لا ينبغي أن يقال في (غزا) و (دعا) وبابه: إنه أُميل لأن الياء ظهرت في الرباعي في (أغزيتُه) و (ادَّعَيْتُه) ونحو ذلك وإنما اعتبر سيبويه من التصرُّفات ما كان دون زيادةٍ وذلك الفعلُ المبنيُّ للمفعول كما تقدم تقريره. قال «وإنما كان - يعني حُكم الإمالة - في الفعل مُتْلَئِبّا* لأنّ الفعل لا [140]

يثبت على هذه الحال ألا ترى أنك تقول: غزا، ثم تقول: غُزِي* فتدخلُه الياءُ وتغلب عليه عدّة الحروف على حالها» ثم مَثَّل بأمثلة تظهر فيها الياء ويقول إثرها «وعدّة الحروف على حالها» فهذا يدلك على اعتبار عدم الزيادة وهو الذي أراد الناظم بقوله «دُونَ مَزِيدٍ». الموضع الثاني مما تقعُ فيه الياء خلَفا من الألف التي أصلها الواو: أن تقع خلَفا على غير القياس المطَّرِد بل على جهة الشذوذ وإن كان ذلك بغير مزيد كما حكوا في تثنية (رِضًا): رِضيان بالياء وهو من الواو لقولهم (الرُّضْوان) فهذه التثنية قد وقعت فيها الياء خلَفا من ألف الرِّضا فلو سكت الناظم عن التنبيه على أن الإمالة إنما تتبع ما اطَّرد فيه خَلَفُ الياء لا ما شذّ فيه لاقتضى أنك تُميل (الرضا) لقولهم (رِضَيان) وذلك فاسد؛ لأن الشذوذ غير مُؤثر حكما وإنما المؤثر قولهم «الرِّضوان» في تثنية (الرضا) وهو المطَّرِدُ فنبَّه بقوله «دون مزيد أو شذوذ» على (رِضَيان) ونحوه من الشاذِّ وأنه غير مُعتبر وقد فسَّر بعضُ الشيوخ الشذوذَ هنا بأنه تنبيهٌ على ما أُميل من الأسماء شذوذا نحو (الكِبَا) و (العَشا) و (المَكَا) وكأنَّ هذا التفسير راجع إلى [141]

مفهوم العبارة لا إلى صريحها كما كان قوله «دون مزيد» راجعا إلى صريح العبارة لأن صريحها يقول: أمل كذا إذا اجتمعت هذه القيود دون شذوذ فلو رجعت إلى صريحها لكان قوله «دون شذوذ» يعطي أنه غير ممال لكن الكِبا والعَشا والمَكا ممالة فلا بد أن يكون المعنى على ذلك التفسير وما لم تجتمع فيه هذه القيود فلا يمال دون شذوذ فههنا يصح أن يؤتى بالكبا والعشا والمكا لأن الشذوذ مستثنى من الحكم بعدم الإمالة فهو إذا ممال ولا خفاء بضعف هذا التفسير فالصحيح هو التفسير المتقدم وهو الذي يفهم من التسهيل إذا تدبر والله أعلم ووقع هنا تفسيران آخران لهذا الشذوذ فقال ابن الناظم: احترز بعدم الشذوذ من مصير الألف إلى الياء في الإضافة إلى ياء المتكلم نحو قفي هدي وفيما قال نظر لأن قلب الألف ياء هنا ليس بشاذ بل هو شهير في لغة شهيرة يصح لنا القياس عليها وقد نبه الناظم على ذلك في باب الإضافة وإنما يستعمل لفظ الشذوذ حيث لا يوجد في السماع منه إلا لفظ أو لفظان أو شيء نادر لما تقدم في التفسير الأول فكيف يصح أن يطلق لفظ الشاذ على لغة شهيرة في الاستعمال مقروء بها في القرآن وأولى من ذلك ما كتب به إلي بعض الشيوخ من أنه أشار إلى نحو وقوف بعض طيئ* على نحو عصا بإبدال الألف ياء قال فيصدق على الألف أنها آلت إلى [142]

الياء ولكن هذا شذوذ فلا يعتد به فهذا أقرب لأنها لغة قليلة نادرة ذكرها سيبويه وغيره وأنشد عليها ابن جني في حرف الألف من سر الصناعة وقول* الراجز إن لطي** نسوة تحت الغضى ... يمنعهن الله ممن قد طغى بالمشرفيات وطعن بالقنى ثم قال «وَلِمَا ... يلِيهِ** هَا التَّأْنِيثِ مَا الْهَا عَدِمَا» هذه الكلام قد يظن به أنه ليس على ظاهره وإنما هو على حذف المضاف كأنه قال ولما يليه هاء التأنيث حكم ما الهاء عدما وعلى هذا يفهم له معنى ويكون مراده أن ما كان من الألفات المذكورة في الطرف إذا إذا لحقتها هاء التأنيث تليها فحكمها في الإمالة حكم ما لو لم يكن ثم هاء فإن كانت الألف ممالة بقيت مع الهاء ممالة وإن كانت غير ممالة فهي مع الهاء كذلك فقولك فتاة ممال لأن فتى ممال وقولك قناة غير ممال لأن القنا غير ممال وقولك مدعاة ممال لأن مدعى ممال وكذلك يمال مرضاة ومزجاة وهداة جمع هاد ورماة وما أشبه ذلك على ذلك السبيل فكأنه يقول كل ألف وقعت طرفا ووليها هاء التأنيث فإنها في الإمالة وعدمها على حد ما لو لم تلحق هاء وهذا معنى صحيح وهو معنى لم ينبه عليه في التسهيل والتنبيه عليه حسن [143]

ويبقى بعد في كلام الناظم شيء وهو أنه أطلق الحكم بالإمالة في هذه الأشياء التي ذكرها فقال أمل كذا وكذا إلى آخره وظاهره يقتضي لزوم حكم الإمالة على عادته في إطلاق مثل هذه العبارة لكن هذا اللزوم غير صحيح بل الإمالة على الجواز لا على اللزوم لأن من العرب من يميل ومنهم من لا يميل غر أن الإمالة في بعض المواضع قد تترجح على الفتح وقد يكون الأمر بالعكس وقد يتساويان أو يتقاربان وذلك على حسب قوة الموجب وضعفه فأما أن تتفق العرب على الوجه الواحد وهو الإمالة فلا ويكفيك من هذا اختلاف القراء في الإمالة والفتح وأن منهم من يميل بإطلاق ومنهم من لا يميل بإطلاق* أعني فيما لم يشذ ومنهم من يجمع بنهما بحسب الاختيار في محل الإمالة والفتح وقد حرر عبارته في التسهيل والفوائد فأتى بلفظ الجواز إذ قال في الإمالة وهي «أن ينحى جوازا» إلى آخره فقيده بلفظ الجواز احترازا عن فهم اللزوم * * * وَهَكَذَا بَدَلُ عَيْنِ الْفِعْلِ إِنْ ... يَؤُلْ إِلَى (فِلْتُ) كَمَاضِي: (خَفْ) وَ (دِنْ) هذا أيضا سبب ثالث أشار إليه كما تقدم وهو الكسرة العارضة في بعض الأحوال كأنه يقول حكم الإمالة أيضا ثابت إن عرضت كسرة في [144]

فعلت ويعني أن الألف الواقع بدل عين الفعل إذا كان بحيث إن أسند إلى التاء في فعلت صار إلى وزن فلت فظهرت الكسرة فيه فإن الألف إذ ذاك يمال لأجل تلك الكسرة التي ظهرت فيفلت ومثال ذلك خاف ودان وبهذين المثالين مثل إذ قال «كَمَاضِي خَفْ وَدِنْ» فههنا تميل خاف ودان لأنك تقول فيهما خفت ودنت فيجيء فعلت فيهما على فلت كما ذكر فلو كان فعلت منهما لا يجيء على فلت ولكن على فلت - بضم الفاء - فمفهوم كلامه أنه لا يمال فنحو قال وطال وجاز وحاز وحار - لا يمال لأن فعلت منهما لا يجيء على فلت وإنما تقول قلت وطلت وجزت وحزت وحرت من قوله تعالى {إنه ظن أن لن يحور} فيأتي على فلت بضم الفاء وإنما كان هذا لأن السبب الذي لأجله جازت الإمالة مفقود في فلت وموجود في فلت وهو الكسرة الموجودة في فلت قال سيبويه «ومما يميلون ألفه كل شيء كان من بنات الياء والواو مما هما فيه عين إذا كان أول فعلت مكسورا نحو نحو* الكسرة كما نحوا نحو الياء فيما كانت ألفه في وضع الياء» قال «وهي لغة لبعض أهل الحجاز» ثم مثل بخاف وطاب وهاب ثم حكى من ذلك عن العرب قول كثير عزة «صار مكان كذا وكذا» [145]

بالإمالة قال وقرأها بعضهم خاف والبعض هو حمزة الزيات ومن وافقه وتمثيل الناظم المثال بفلت ولم يقل مثلا إذا كان الماضي على فعل كما قال ي الفوائد تحقيقا لوزن الكلمة بعد اتصال الضمير بها لأن وزنها الآن فلت وهي في الأصل خوفت وهيبت تحركت الواو والياء وانفتح ما قبلهما فانقلبتا ألفا ثم حذفا لالتقاء الساكنين وهي العين ثم نقلت حركة العين إلى الفاء فصار خفت وهبت فلم يبق من الكلمة إلا الفاء واللام فوزنهما الآن فلت وأيضا فللاختصار لأن هذا المثال يغني عن كلام كثير إذ لو قال وهكذا بدل عين الفعل إذا كان أول فعلت مكسورا فيها - لكان أطول [146]

وأيضا فإن من جملة الأمثلة بعت وطبت نفسا وهذا ليس في الأصل على فَعِلَ وإنما هو على فَعَلَ مفتوح العين لقولهم يبيع ويطيب لكنهم قبل إعلال العين يردونه إلى فعل على ما هو مقرر في التصريف وسيأتي إن شاء الله فإذا نقلوه إلى فعل انقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذف للساكنين ونقلت حركتها إلى الفاء فقيل بعت فالذي قال في الفوائد من كون الماضي على فعل صحيح لكن منه ما هو بحق الأصل ومنه ما هو بمقتضى الإعلال وفي ذلك شغب ونظر فأزال الناظم هذا بأن قال إذا آل إلى فلت وعلى هذا النحو جرى سيبويه إذ قال «إذا كان أول فعلت مكسورا» وهو أحسن من جهة التعليم من قوله في الفوائد أو عين فعل فعلا فإنه يشبه اللغز ولا شك أنه صحيح من جهة الصناعة ثم اعلم أن إشارته إلى أن علة الإمالة إنما هي ظهور الكسرة في فعلت تعطي أنه العلة فيما عينه الواو أو الياء كما مثل أما ما عينه واو فلا شك في أن علة الإمالة هي الكسرة المذكورة وأما ما عينه الياء فقد [147]

يقال إن العلة هي الياء التي انقلبت الألف عنها كما كانت هي العلة المتفق عليه في رمى ورحى لكن الناظم إنما يظهر من إشارته أن العلة فيها الكسرة لا الياء وهذا المذهب قد يظهر من سيبويه إذ قال في التعليل «نحوا نحو الكسرة» يريد في المسألة على إطلاقها «كما نحوا نحو الياء» يعني في نحو رمى وسعى أو ما كان نحو أغزى واستدعى وهو في نفسه مذهب صحيح وذلك أن إمالة هذه الألف يتجاذبها سببان قويان أحدهما الياء التي انقلبت الألف عنها والآخر الكسرة الموجودة أول فعلت وكلاهما ثابت الحكم أما الياء فثبت اعتبارها في ألف رمى واستدعى ونحوه وأما الكسرة فثبت اعتبارها أيضا في خاف وما أشبهه واجتمعا في باع ونحوه فاحتمل أن تكون الإمالة فيه للياء أو للكسرة لكن الكسرة عند سيبويه وغيره هي المعتبرة لما تقدم من أن الألف إذا كانت عينا ليست بمحل للإمالة إلا لأجل الكسرة كما تقدم لا لأجل انقلابها عن الياء فإن انقلابها عن الياء غير معتبر لقوة العين بخلاف اللام فإنها ضعيفة قابلة للتغيير والانقلاب إلى الياء كما تقدم فلما كان الأمر كذلك تعين أن الكسرة هي الموجبة للإمالة وأيضا فإن الكسرة لا تقوى الياء قوتها بل الكسرة عند سيبويه أقوى لأنه بدأ بالكسرة قبل الياء فلما أن ذكر الياء قال «لأنها [148]

بمنزلة الكسرة» وأيضا فذكر في إمالة الألف للكسرة أن أهل الحجاز هم الذين لا يميلون وذكر في الياء أن كثيرا من العرب وأهل الحجاز لا يميلون قالوا فهذا السماع يدل على أن الكسرة أقوى وأيضا فالاستثقال في النطق بالكسرة أظهر منه في النطق بالياء التي ليست بمدة فإن كانت مدة فالكسرة معها أثقل فلا شك أن إمالة ديماس أقوى من إمالة سربال وإنما الكلام في الياء التي ليست معها كسرة فلهذه الوجوه اختار الناظم والله أعلم نسبة الإمالة في باع وهاب إلى الكسرة لا إلى الياء وذهب ابن السراج إلى أن الياء أقوى من الكسرة لأنها حرف والكسرة ليست بحرف وقد تقدم أن السماع يدل على خلاف ذلك وقد كان من حق الناظم أن يقول إنْ آلَ إلى فِلْت فيأتي بالفعل الماضي بعد إن لأن الجواب متقدم وليس عليه فيه ضرورة ولكنه لما اعتاد ذلك المنزع في هذا النظم جرى على ذلك النهج الذي ركبه وهذا قريب * * * كَذَاكَ تَالِي الْيَاءِ، وَالْفَصْلَ اغْتَفِرْ ... بِحَرْفٍ اَوْ مَعْ هَا كَـ (جَيْبَهَا أَدِرْ) كَذَاكَ مَا يَلِيهِ كَسْرٌ، أَوْ يَلِي ... تَالِيَ كَسْرٍ أَوْ سُكُونٍ قَدْ وَلِيْ كَسْرًا، وَفَصْلُ الْهَا كَلَا فَصْلٍ يُعَدّْ ... فَ‍ (دِرْهَمَاكَ) مَنْ يُمِلْهُ لَمْ يُصَدّْ [149]

قوله «كَذَاكَ تَالِي الْيَاءِ» هو سبب رابع من الأسباب المذكورة وهو تقدم الياء على الألف فكأنه يقول: إن الياء المتقدمة سبب في وجود الإمالة في الألف ويعني أن الألف الوالي أي التابع للياء يمال أيضا وحقيقة التالي أنه التابع مطلقا وليس فيه دلالة قطعية أنه الملاصق وإن كان ذلك ظاهرا في استعماله واستعمال غيره فإن كان أراد الملاصق فيكون قوله «وَالْفَصْلَ اغْتَفِرْ» استدراكَ قسم ثان وإن كان أراد ما هو أعم من ذلك كان قوله «وَالْفَصْلَ اغْتَفِرْ» تفصيلا للجملة المتقدمة وتبيينا لقدر الفصل فمثال الياء السابقة التي تتبعها الألف قولك الكيّال والبَيَّاع الميّال وكذلك «شَوْكُ السَّيَالِ» والضَّيَاحُ وما أشبه ذلك يمال هذا كله لأجل الياء ولا تكون الياء هنا إلا مفتوحة لاتصالها بالألف ثم قال «وَالْفَصْلَ اغْتَفِرْ» اغتفرتُ الشيء إذا لم تعتدَّ به وهو من الغَفْر وهو الستر والمحو يقال غفرْتُ الذنب واغتفرتُه فكذلك قوله اغْتَفِرِ الفصلَ أي اطّرِحه ولا تعتدّ به يعني أنَّ الفصل بين الياء الموجبة للإمالة وبين الألف الممالة إذا وُجد في الكلام مغتفر لكن إذا كان على أحد وجهين: [150]

إما أن يقع الفصل بحرف واحد كائنا ما كان أعني سواءٌ أكان هاءً أم غيرها فتميل ألف شيبان وغيلان وقيس عيلان وهيمان ونحو ذلك وهو قوله «وَالْفَصْلَ اغْتَفِرْ ... بِحَرْفٍ» وإما أن يقع بحرفين لكن بشرط أن يكون أحدهما هاءً نحو قولك جيبُها وهو مثالُه فقد وقع بين الياء وبين الألف حرفان أحدهما هاء ولكن الياء موجبة فتميل ألف جيبها وكذلك عيثُها وغيبها وسيبها وسيلها وهذا بيني وبينها ويريد أن يكيلها وأن يُعينها وما أشبه ذلك وهذا ** أراد بقوله «اَوْ* مَعْ هَا» وهو معطوف على «حَرْفٍ» لكن على تقدير: أو حرفٍ مع هاء كأنه قال بحرف واحدٍ أو حرف مع هاء وهنا مسألتان: إحداهما أن ظاهر إطلاق الناظم في الياء يقتضي أن الإمالة ثابتة بها سواءٌ أكانت ساكنة أم متحركة فالساكنة ما تقدم والمتحركة نحو الحيوان والهيمان وقطع الله يدها وما أشبه ذلك وهو إطلاق صحيح على الجملة غير أن الياء الساكنة أقوى في الإمالة لأن الانخفاض [151]

فيها أقوى لقربها من حروف المد فإذا كانت حرف مدّ فأولى بالإمالة نحو يكيلَها وأما المتحركة فأشبهُ بالحروف الصحاح المنتفحة** فلذلك كانت الإمالة معها أضعف ومع ذلك فكل جائز والثانية أنه يظهر منه جواز إمالة الألف سواء أكانت لازمة أم عراضة فاللازمة كما ذكر والعارضة ألف التنوين نحو رأيت زيدا نص سيبويه على جواز الإمالة فيه لكن إمالة الألف العارضة ضعيفة لعروضها وهي مع ضعفها جائزة فلذلك أطلق الناظم القول في إمالة الألف وإنما اغتفر الفاصل أما إذا كان واحدا فلأنه فاصل ضعيف من حيث كان واحدا فلم يقو أن يمنع الياء من الإمالة لأجلها وأما إذا كان الفصل بحرفين أحهما هاء فإنه في حكم الفصل بحرف واحد لأن الهاء خفية فحين قلت جيبها كأنك قلت جيبا فرجع إلى حكم الفصل بالواحد وأنس سيبويه خفاء الهاء بأن المتبعين في رد وعض إذا اتصل بها هاء الضمير قالوا ردها للمؤنث ففتحوا الدال إذ الدال كأنها واقعة قبل الألف من غير فصل كأنك قلت ردا وقالوا عضه فضموا الضاد لأنه في حكم عضوا لخفاء الهاء فكذلك فعلوا في الإمالة [152]

هذا تفسير مراده إلا أن عليه دركا من وجهين: أحدهما أن الناس لم يقتصروا في جواز الفصل على حرفين أحدهما هاء بل أجازوا الإمالة إذا فصل حرفان أحجهما ساكن نحو أغيلْنا وعيَّنا وبَيَّنا وما أشبه ذلك ووجه ذلك ضعف الساكن إذ ليس بحاجز حصين فقرب الفاصل أن يكون حرفا واحدا والناظم لم يذكر هذا بل اقتصر على نحو بينها ولم يدخل نحو أَغْيَلْنا وهو موهم عدم الإمالة فيه كما لا تمال ألف غيبنا وبيننا ويدنا للفصل بحرفين ليس أحدهما هاء لكن الناس فرقوا بأن المتحركين قويان في الفصل بخلاف ما إذا كان أحدهما ساكنا لأن الساكن حاجز غير حصين فساغت الإمالة مع كون أحدهما ساكنا ولم يسغ مع كونهما معا متحركين والثاني أنه أطلق القول في الحاجز ولم يقيد حركته وقد شرط الناس في ذلك أن لا يقع بين الألف الممالة وبين الياء ضمة وهذا إنما يشترط في الفاصل المتعدد بل تكون حركة الفاصل إما فتحة كقولك بينها أو غيرها أو يكون ساكنا نحو لم يتبينها فإن كانت ضمة منعت الإمالة رأسا لأنك إذا أملت جيبها فلا بد من إمالة الحركتين معا قبل الألف أما فتحة الهاء فلا بد منها لأن إمالتها بها تحصل إمالة الألف وأما الفتحة الأخرى فكذلك أيضا لأن الهاء خفية في حكم الذاهبة وذهابها بحركتها فصارت الحركة كأنها [153]

والية للألف فلا بد من الإمالة فلو قلت هذا جيبها لم تمل لأن الضمة قد حالت بين الممال والسبب قال سيبويه «وقالوا بيني وبينها فأمالوا في الياء كما أمالوا في الكسرة وقالوا يريد أن يكيلها ولم يكلها» ثم قال «وليس شيء من هذا تمال ألفه في الرفع إذا قال هو يكيلها وذلك لأنه وقع بين الألف وبين الكسرة الضمة فصارت حاجزا فمنعت الإمالة لأن الباء في قولك يضربها فيها إمالة فلا تكون في المضموم إمالة إذا ارتفعت الياء كما لا يكون في الواو الساكنة إمالة» يعني لأن الضمة فيها ارتفاع فهي تضاد الياء وتضاد ما ينحى به نحو الياء قال «وإنما كان في الفتح لشبه الياء بالألف» هذا ما قال وليس كلامه مختصا بإمالة الكسرة وحدها بل هو عام فيها وفي** إمالة الياء كما وقع تمثيله أولا وإنما قال «لأنه وقع بين الألف وبين الكسرة الضمة» على جهة المثال لا أن ذلك مختص بالكسرة دون الياء واعتراض ثالث وهو أن الناظم لم يفرق في الحكم بالإمالة بين وصل ووقف فظاهره أن الإمالة في الحالين معا على الإطلاق وليس كذلك بل المميلون من العرب على فرقتين منهم من يميل في الوصل والوقف معا ومنهم من يميل في الوقف دون الوصل فإذا قال بيني وبينها فوقف أمال وإذا قال بيني وبينها مال لم يمل ووجه هذه اللغة أن [154]

الطرف أولى بالإعلال والتغيير وبقلب الألف واوا أو ياء كأفعى وأَفْعَوْ عند من وقف كذلك وأيضا الألف خفية إذا وقف عليها لا تتبين كل التبين» والياء أبين منها والإمالة إنما هي تقريب إلى الياء فإذا وصلت الألف بشيء صار ذلك الشيء مبينا لها واستغنى عن الإمالة وبعد عن التغيير كما بعد أفعى منه حين قلت أفعى زيد إلى هذا المعنى نحا سيبويه في تعليلها ونص على التفرقة مع الكسرة ومع الياء فهذه التفرقة مع أنها مشهورة ليس في كلام الناظم إشارة إليها بل فيه ما يقتضي خلافها وهذا الاعتراض واللذان قبله واردة عليه في التسهيل والفوائد إذ لم يتحرز من ذلك فيهما ومثل الاعتراضين الأخيرين يرد عليه في المسألة بعد هذا على ما أذكره إن شاء الله تعالى والجيب جيب القميص ومعنى «أَدِرْ جَيْبَهَا» اقطعه وقوره ويقال في هذا المعنى جبت القميص أجوبه وجبته أجيبه إذا قورت جيبه وجيبته إذا جعلت له جيبا وقال الراجز باتت تجيب أدعج الظلام ... جيب البيطر مدرع الهمام ثم أخذ في ذكر السبب الخامس وهو أن تتقدم الكسرة على الألف أو تتأخر عنه وابتدأ بذكر تأخر الكسرة عن الألف فقال (كَذَاكَ مَا يَلِيهِ كَسْرٌ) [155]

إلى آخره كأنه يقول كل ما تقدم عليه كسر أو تأخر عنه فإنه ممال أيضا فأشعر بأن الكسر هو السبب الموجب وقدم ذكر الكسر المتأخر عن الألف يعني أن الألف إذا وليه أي تبعه بعده كسر فإن ذلك الألف يمال لأجله وقوله «ما يليه كسر» يقتضي ملاصقة الكسر له وهذا هو المشهور في الكسرة البعدية ومثال ذلك مررت بمالك وعابد ومساجد وعالم وعذافر ومفاتيح وهابيل وما أشبه ذلك ووجه الإمالة أنهم أرادوا تقريب الألف من الكسرة التي بعدها كما قربوا الصاد من الدال حين قالوا صدر لما بعدت الصاد من الدال فأرادوا أن يقربوها منها فجعلوها بين الصاد والزاي التي هي أقرب إلى الدال والصاد متقدمة على الدال فكذلك فعلوا ههنا فإن كانت الكسرة لا تلي الألف فيقتضي* منع الإمالة فقولك مررت بتابل فإن كانت الكسرة لا تلي الألف فيقتضي* منع الإمالة فقولك** مررت بتابلٍ وآجر وآدم وعالم وما أشبه ذلك يفتح لبعد الكسرة عن الألف وكذلك نحو جاد وعاد وساد يقتضي أنه لا يمال على حال إن لم نعتبر كسرة الدال المدغمة وهذا فيه نظر فإن من العرب من يقول مررت بجاد فيميل فإذا كان في موضع الرفع والنصب لم يمل فهؤلاء اعتدوا كسرة الدال الثانية مع وقوع الفصل بالأولى لكن يعتذر عن الناظم بأن [156]

هذه اللغة قليلة الاستعمال فلم يحفل بها وأيضا لما كان الحرف المدغم والمدغم فيه يرتفع اللسان بهما ارتفاعةً واحدة ويعمل فيهما عملا واحدا شبها بالحرف الواحد نحو مررت بمالك إذا جعلت الكاف ضمير المخاطب وبهذا وجهه سيبويه فقد ينهض هذا عذرا عن الناظم ثم إطلاقه القول بالإمالة هنا ولم يقيد بشيء يقتضي معنيين أحدهما أنه يريد أن حكم الإمالة منسحب كان الكسر ظاهرا ملفوظا به أو مقدرا فالظاهر ما تقدم التمثيل به والمقدر على وجهين مقدر لأجل الإدغام ومقدر لأجل الوقف فالمقدر لأجل الإدغام نحو قولك هذا ماد وهذا جاد وجواد ومواد وعاد وكال ومررت بكاف وما أشبه ذلك فأصل هذه ماددٌ وجاددٌ وجوادِدُ وكذلك سائرها فالكسرة في الأصل موجبة فلما أدغمت أميلت أيضا اعتبارا بأصلها هذا ما يعطي كلامه وأما النقل في مثل هذا فالمشهور من كلام العرب الفتح لأن الكسرة قد زالت والإمالة إنما سيقت لأجل تقريب صوت الألف من صوت الكسرة فإذا قد ارتفع الموجب قال سيبويه «ومما لا تمال ألفه فاعل من المضاعف ومفاعل وأشباههما لأن الحرف قبل الألف مفتوح والحرف الذي بعد الألف ساكن لا كسرة فيه فليس هنا ما يميله» ثم أتى بالمثل ثم قال «فلا يميل يكره أن [157]

ينحو نحو الكسرة فلا يميل لأنه فر مما يحقق فيه الكسرة» يعني أنه فر من قوله جادد ومادد لأجل التضعيف فلما فر من ذلك وجب أن تمتنع الإمالة إذ لا موجب لها ثم حكى عن قوم الإمالة على الإطلاق حالة الجر وغيره كأنهم أرادوا أن يبينوا بالإمالة الكسرة في الأصل فأنت ترى أن الإمالة ضعيفة هنا والناظم قد أطلق القول في إعمالها وقد جعلها في التسهيل نادرة فقال «وربما أثرت الكسرة منوية في مدغم أو موقوف عليه» لكن لما حكاها سيبويه عن طائفة من العرب كانت جائزة على الجملة فصرح بالجواز فيها مع غيرها على الجملة وقد أطلق ناس من المتأخرين القول بالجواز كما فعل هنا فلا ينبغي أن يعتر عليه وأما المقدر لأجل الوقف فقول هذا ماش وهذا داع وهذا ساب ومررت بماش وما أشبه ذلك إذا وقفت على هذه الأسماء المنقوصة زالت الكسرة ولكن الأصل معتبر على إطلاق الناظم فتميل ذلك كله في حال الجر وغيره لأن الكسرة إنما هي مقدرة فيما يلي الألف وهذا ما يظهر منه وأما النقل فعلى نحو من النقل في المضاعف أو قريب منه وقد ذكر سيبويه الإمالة في مررت يمال وبالمال كما أمالوا في ماش وداع ثم حكى أن من المميلين من يبقي* على حكم الإمالة في الوقف رعيا للأصل ومنهم من يفتح لذهاب الكسرة فعلى هذا التقدير تضعف الإمالة في الوقف إذ كان بعض من يميل في الوصل لا يميل هنا والقراء في هذا النحو على ما يظهر من الناظم [158]

من الإمالة كوقوفهم على الناس فالذي يميله في الوصل يميله في الوقف وهو أبو عمرو والعلة في الإمالة وتركها واحدة والكلام مع الناظم فيهما واحد وقد شبه سيبويه أحهما بالآخر فقال جاد وبابه «وقد أمال قوم على كل حال كما قالوا هذا ماش ليبينوا الكسرة في الأصل» إلا أن الناس قد أجازوا الإمالة هنا وإن جعل المؤلف ذلك نادرا في التسهيل ويمكن أن يكون أراد الكسر الظاهر فيوافق التسهيل لأن الإمالة مع تقديره قليلة ويكون من أطلق الجواز من النحويين في غير الكسر الظاهر يريد به مع اعتقاد قلته والثاني أن يريد الناظم أن الإمالة معملةٌ كانت الكسرة لازمة أو عارضة فاللازمة نحو ما تقدم من عالم وعالم* ومساجد وأما العارضة فكسرة الإعراب كقولك من مالك وإلى بابك ومن مال زيد ومن ماله أمالوا هذا كله تشبيها لحركة الإعراب بحركة البناء قال سيبويه «ومما يميلون ألفه قولهم مررت ببابه وأخذت من ماله هذا في موضع الجر» ثم علل بما تقدم من أنهم شبهوا «مال» في الجر بفاعل نحو كاتب وساجد قال «فأما في موضع النصب والرفع فلا تكون كما لا تكون في آجر وتابل» يعني لزوال [159]

موجب الإمالة وهي حركة الإعراب وفي إطلاقه على هذا نحو مما تقدم فإن الإمالة مع حركة البناء أقوى منها مع حركة الإعراب لأن حركة الإعراب عارضة ولأجل ذلك ضعفت أيضا في رأيت زيدا لأن الألف عارضة كما تقدم لكن حاصل الأمر الجواز في كلتا الحالتين وقد يمكن أن يكون أراد الكسر البنائي خاصة على مقتضى العرف الصناعي فيخرج له كسر الإعراب ثم ذكر ما إذا كانت الكسرة هي المتقدمة على الألف فقال «أَوْ يَلِي ... تَالِيَ كَسْرٍ أَوْ سُكُونٍ قَدْ وَلِيْ ... كَسْرًا» يلي معطوف على الصلة المتقدمة وهي قوله يليه كأنه قال كذلك ما يليه كسر أو ما يلي تالي كسر والضمير في «يلي» عائد على ما وما واقعة على الألف وتالي الكسر هو الحرف الواقع بعد الحرف المكسور وقوله «أَوْ سُكُونٍ» معطوف على «كَسْرٍ» كأنه قال أو تالي سكون قد ولي يعني ذلك السكون كسرا والمعنى أن الألف إذا وقعت ثالثة حرف مكسور أو رابعته لكن الثالث منها ساكن فالإمالة سائغة لأجل ذلك الكسر فهاتان صورتان وترك الصورة الثالثة وهي أن يلي الألف كسرا لعدم تأتيه إذ لا يكون ما قبل الألف مكسورا أبدا لأنها تطلب بفتح ما قبلها ثم هاتان الصورتان قد تدخل الهاء فيهما زيادة على ما حد فهذه أربع صور جائزة كلها قد انتظمها كلام الناظم رحمه الله تعالى [160]

فالصورة الأولى أن يلي الألف تالي كسر وهو أن يقع ثالثا من الحرف المكسور نحو قولك عماد وعباد وكلاب وأريد أن تحكما أمر كذا وأن تضربا زيدا وأن لا تَشْتِما* عَمْرًا وكذلك قولك اسوِداد وادِهمامٌ واستِماع وما أشبه ذلك مما تقع فيه الألف ثالثة فالإمالة سائغة للكسرة المتقدمة قال سيبويه «إذ لا يتفاوت ما بينهما بحرف ألا تراهم قالوا صَبَقْتُ فجعلوها يعني السين صادا لمكان القاف كما قالوا صُقْتُ» والصورة الثانية أن يلي الألف تالي سكون وذلك السكون يلي الكسر وهو أن يقع الألف رابعا من الحرف المكسور وثالثا من السكون وذلك قولك سِرْبالٌ وشِمْلالٌ وجِلْبابٌ ومِنَّا وعِلْماكما وسِرْنا وبِنَّا ولم يَضْرِبْنا ولم يُكْرِمنا وما أشبه ذلك فالإمالة في هذا جائزة أيضا للكسرة وذلك أن الكسر في الصورة الأولى كأنه وال للألف إذ الفتحة بينهما من ضرورة الألف وفي الصورة الثانية كأنما بينها وبين الألف حرف واحد قال سيبويه «لأن الساكن ليس بحاجز قوي وإنما يرفع لسانه عن الحرف المتحرك رفعة واحدة كما رفعه في [161]

الأول» يعني في نحو عماد قال «فلم يتفاوت لهذا كما يتفاوت الحرفان حيث قلت صَوِيق» يعني في إبدال السين صادا لأجل القاف مع أن بينهما حرفين لأن أحدهما ساكن وهو ضعيف فكان كالعدم فكذلك ههنا فلو كان الحرفان معا محركين لم تصح الإمالة على مقتضى كلام الناظم حيث قيد الحرف الزائد على المفتوح بكونه ساكنا وذلك كقولك لن يضربنا ولن يكرمنا وهذان عنبا زيد وما أشبه ذلك وهذا صحيح لأن الكسرة قد حجز بينها وبين الألف حرفان فبعدت عن الألف فلم تقو على إمالته إذ ليس أحدهما ساكنا فيضعف عن الحجز بينهما ثم قال «وَفَصْلُ الْهَا كَلَا فَصْلٍ يُعَدّْ» يعني أن الفصل بين الألف والكسرة المتقدمة إذا كان بالهاء سواء أكانت أصلية أم هاء ضمير فهو معدود في حكم العدم فكأن الهاء ليست بموجودة فعلى هذا إذا زادت الهاء على ما تقدم من صورتي الفصل فالحكم باق على حاله لخفاء الهاء في نفسها وقد تقدم بيان ذلك وبهذا الكلام وقع التنبيه على ما بقي من الصور الأربع فبقيت صورتان الأولى أن تقع الهاء في الصورة الأولى زائدة على الحرف الواحد فتصير الألف رابعة من الحرف الساكن نحو يريد أن يضربها ويريد أن ينزعها ويغلبها وما أشبه ذلك قال سيبويه «لأن الهاء خفية والحرف [162]

الذي قبل الحرف الذي يليه مكسور فكأنه قال يريد أن يضربا كما أنهم إذا قالوا ردها كأنهم قالوا ردا» يعني في لغة الإتباع وقد تقدم هذا المعنى والثانية أن تقع الهاء مع الحرفين بين الألف والكسرة وإليها أشار الناظم بقوله « ... فَ‍ (دِرْهَمَاكَ) مَنْ يُمِلْهُ لَمْ يُصَدّْ» يعني أن هذا المثال وما كان نحو مما فصل فيه ثلاثة أحرف أحدها الهاء من أمال الألف فيه لم يصد عن سبيل الصواب في المسألة ولم يمنع عن استعمال ذلك في اللغة العربية وكذلك تميل عندها ودرعها وحملها وعبئها ونحو ذلك لأن درهماك بمنزلة درماك وكذلك عندها بمنزلة عندا وكذلك سائرها قال سيبويه «وقال هؤلاء عندها لأنه لو قال عندا أمال فلما جاءت الهاء صارت بمنزلتها لو لم تجئ بها» واعلم أن الناظم أطلق حكم الإمالة في هذا الفصل فيقتضي جوازها كانت الألف لازمة أو لا فاللازمة نحو ما تقدم والعارضة نحو رأيت علما ورأيت ثِزْحَا** فالألف هنا عارضة في الوقف ولكنهم أمالوا تشبيها بألف منا وسرنا وما أشبه ذلك فالإمالة جائزة إلا أنها في مثل هذا قليلة كما كانت قليلة في «رأيت زيدا» على ما تقدم وبذلك شبه سيبويه هذه [163]

ثم في كلام الناظم نظر من وجهين: أحدهما أنه لم يقيد الفاصل بين الكسرة والألف بكونه متحركا بغير الضمة بل أطلق القول فيه إطلاقا وذلك يقتضي أن نحو هو يضربها وينزعها تجوز فيه الإمالة وهذا غير صحيح إذ الإمالة مع حجز الضمة لا تصح كما تقدم لنا في نحو جيبها ويدها وقد مر نص سيبويه على هذا وليس في كلام الناظم هنا ما يحترز به من ذلك والوجه الثاني أن الإمالة في مثل هذا ليست عند العرب على إطلاقها كما اقتضى كلامه بل من العرب من يميل حالة الوقف خاصة فإذا وصل فتح فيقول بنا ومنا ومنها ولن يضربها بالإمالة فإذا قال منا زيد ولن يضربها زيد لم يمل وقد تقدم وجه ذلك وتعليل سيبويه فيه فالموضع معترض من هذا الوجه ويقال صده عن الأمر يصده إذا منعه منه وصرفه عنه وأصده يصده رباعي ومنه قول ذي الرمة أناس أصَدُّوا الناسَ بالضرب عنهمُ ... صدودَ السواقي عن رءوس المخارم * * * وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَا يَكُفُّ مُظْهَرَا ... مِنْ كَسْرٍ اَوْ يَا، وَكَذَا تَكُفُّ رَا إِنْ كَانَ مَا يَكُفُّ بَعْدُ مُتَّصِلْ ... أَوْ بَعْدَ حَرْفٍ أَوْ بِحَرْفَيْنِ فُصِلْ كَذَا إِذَا قُدِّمَ مَا لَمْ يَنْكَسِرْ ... أَوْ يَسْكُنِ اثْرَ الْكَسْرِ كَـ (الْمِطْوَاعَ مِرْ) [164]

لما ذكر الناظم رحمه الله تعالى أسباب الإمالة واستوفى المشهور منها وذكر شروط ما يحتاج إلى الاشتراط منها أخذ الآن في ذكر الموانع من الإمالة وإن وجدت أسبابها لأن علة الحكم لا تؤثر في معلولها إلا مع اجتماع الشروط وفقد الموانع والمانع هنا على ما ذكر مانعان أحدهما حروف الاستعلاء وما يجري مجراها وهو الراء والثاني انفصال سبب الإمالة عن الألف الممال بمعنى أنه منه في كلمة أخرى فأما حروف الاستعلاء فإن حرف الاستعلاء مضاد في الصوت للإمالة وذلك أنه كما يطلب التناسب في الأصوات بالإمالة كذلك يطلب التناسب بالتفخيم وحروف الاستعلاء إنما تخرج من مخارجها مستعلية إلى الحنك الأعلى على الضد من الياء والكسرة لطلبها أسفل الفم فلما تناقضا اطرح موجب الإمالة فإن قيل هما سببان موجبان لحكمين متضادين فلم أهمل سبب الإمالة ولم يهمل سبب الاستعلاء؟ فالجواب أن الانفتاح الذي هو وصف الألف في الأصل أنسب إلى الاستعلاء منه إلى الانسفال لأنه أقرب إليه والأصل أولى أن يرجع إليه وقول الناظم «وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَا» أتى به مفردا في اللفظ ومراده عموم حروف الاستعلاء لأنه اسم جنس مضاف فهو من صيغ العموم وحروف [165]

الاستعلاء سبعة وهي الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والقاف والخاء ويجمعها هجاء «ضُغِط خُصُّ قَظٍّ» و(يَكُفُّ) معناه يمنع كففتُ الرجل عن الشيء أن يفعله أي منعته عنه و (مُظْهَرَا) مفعول بـ (يَكُفُّ) و « ... مِنْ كَسْرٍ اَوْ يَا» بيان للمظهر فـ (مِنْ) لبيان الجنس كالتي في قوله تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} والمظهر عبارة عن السبب الموجب للإمالة يعني أن حروف الاستعلاء تكف ما كان من أسباب الإمالة ظاهرا ملفوظا به عن أن يؤثر في الألف إمالة وإنما قال «مُظْهَرَا» فقيد المظهر من الأسباب لأن الإمالة المراد بها أمران أحدهما أمر لفظي وهو تناسب الصوت في اللفظ وهذا لا يكون إلا مع الكسرة أو الياء الموجودتين في اللفظ فالكسر نحو عالم وعابد والياء نحو السيال والبياع فهذا هو المراد بقوله «مُظْهَرَا ... مِنْ كَسْرٍ اَوْ يَا» فإذا جاء حرف من حروف الاستعلاء واردا على الألف من قبل أو من بعد كف ذلك الكسر أو تلك الياء عن تأثيرها في الألف فتقول صاعد وقاعد وطامع وظالم وخامل وغالب وضامن فلا تمل أصلا وإن وجدت الكسرة بعد الألف وكذلك إذا قلت نافخ ونابغ ونافق وشاحط وناهض وواعظ وما [166]

أشبه ذلك لا إمالة في هذا كله قال سيبويه «ولا نعلم أحدا يميل هذه الألف إلا من لا يؤخذ بلغته» ووجه ذلك قد تقدم والثاني أمر تقديري وهو الإمالة على شيء مقدر هو كالياء أو الكسرة أو شبه الياء وما أشبه ذلك مما ليس فيه تناسب لفظي فهذا هو الذي أخرج الناظم عن حكم الكف بقوله «مُظْهَرَا ... مِنْ كَسْرٍ اَوْ يَا» وفهم منه أنه باق على حكم الإمالة فتقول في الدلالة على الكسرة صاد وضاع وطاب وخاف وغاب وقال من القائلة وخاف فتميل وكذلك تقول في الدلالة على الياء عصى ومضى وشظى وبغى وسقى وما أشبه ذلك بالإمالة وعلى هذا كلام العرب نقله سيبويه وأن من يميل يلزم هذه الإمالة على كل حال يعني كان حرف الاستعلاء أو لم يكن قال ألا ترى أنهم يقولون طاب وخاف ومعطى وسقى فلا تمنعهم هذه الحروف من [167]

الإمالة وبين ذلك بأن المميل في هذا النوع إنما قصده أن ينحو نحو الياء في الأصل أو نحو الكسرة في قولك خفت فالمستعلي* لا يمنع من ذلك إذ لو ظهرت الياء أو الكسرة لم يكن في ذلك محذور فكذلك إذا نحي نحوها فالفرق بين الموضعين ظاهر وقد ذهب ابن بابشاذ إلى أن حرف الاستعلاء يكف الإمالة للياء المقدرة نحو قلى وطغى ونحو ذلك وما جاء من الإمالة في نحو {ما ودعك ربك وما قلى} فلمناسبة رءوس الآي لا لأجل الياء وهذا كله خلاف ما عليه كلام العرب ومذاهب النحويين فلا يلتفت إليه ثم أدخل الراء في حكم حروف الاستعلاء فقال «وَكَذَا تَكُفُّ رَا» يعني أن الراء تكف سبب الإمالة عن مقتضاه فيفتح لأجلها ما شأنه الإمالة لكن على حكم المستعلي* من كف السبب الظاهر وهو المقتضي لإمالة المناسبة لأنه قال «وَكَذَا تَكُفُّ رَا» يعني أنها تجري مجرى المستعلي فيما تقدم والذي تقدم هو تأثيره في السبب الظاهر فكذلك الراء فتقول راشد وراجل وراحل فلا تميل وكذلك تقول حمار، بدار*، وجهار* وما أشبه ذلك فتفتح ولا تميل كما لا تميل قاعد وظاعن ولا غِلاظ وسِباق [168]

وسبب منعها للإمالة أنها حرف مكرر كأن حرفان للتكرير الذي فيه فإذا قلت راشد أو راجل فكأنك تكلمت براءين مفتوحتين وكذلك إذا قلت حمار أو بدار فكأنك قد تكلمت براءين مضمومتين فلما كانت كذلك قويت على نصب الألفات ومنعت الإمالة وتنزلت منزلة الحرف المستعلي إذا كانت مفتوحة أو مضمومة كما أنها لتكريرها إذا كانت مكسورة كفت المستعلي عن منع الإمالة فأميلت الألف نحو قارب وضارب وغارم وطارد وصارف وما أشبه ذلك لأن المكسورة في تقدير كسرتين فقوي بها موجب الإمالة فقلبت المستعلي وسيأتي ذلك وتنبيه الناظم عليه وأما إذا كان سبب الإمالة غير ظاهر فمقتضى كلامه أن حكم الراء حكم المستعلي أيضا فلا تمنع الإمالة فتقول راش وارب* وسار وكذلك سرى وجرى وذكرى وحسرى وما أشبه ذلك فتجري* في الإمالة مجراها فلو لم تكن راء ولا حرف استعلاء وذلك صحيح أيضا لما تقدم* ذكره وحذف مفعول «تَكُفُّ» الثاني للعلم به وهو المظهر من الكسر أو الياء وهذا الحكم المذكور جملي* وأما التفصيل فهو قوله «إِنْ كَانَ مَا يَكُفُّ بَعْدُ مُتَّصِلْ» يعني أن حكم الكف ثابت لهذه الحروف إذا تأخرت عن الألف أو إذا تقدمت فالحكم فيها واحد لكن ليس كل مستعل متأخر عن الألف يكف إمالتها ولا كل متقدم عليها بل لا بد من تحديد ذلك وتقييده فأما المتأخر من حروف الاستعلاء فإنه يكف إذا وقع في ثلاثة مواضع: [169]

أحدهما أن يلي الألف متصلا بها وذلك قوله «إِنْ كَانَ مَا يَكُفُّ بَعْدُ مُتَّصِلْ» أي إن كان الكاف بعد الألف متصلا بها فقوله «بَعْدُ» يعم المتصل بها والمنفصل عنها وقوله (مُتَّصِلا) ** بيان لتلك البعدية مثال المتصل عاصم وعاضد وعاطس وعاظل وداغِل وناقد وناخل وما أشبه ذلك والثاني أن لا يلي الألف ولكن يفصل بينهما حرف واحد وذلك قوله « ... أَوْ بَعْدَ حَرْفٍ» والتقدير أو كائنا بعد حرف وهو عطف على «مُتَّصِلْ» لأنه منصوب وإنما وقف عليه على لغة جعل القين على الدف إبر ويعني أن الكف ثابت أيضا إذا وقع الحرف الكافُّ بعد حرف متصل بالألف ومثاله ناكص وناهض وشاحط وواعظ ونابغ ونافق ونافخ ونحو ذلك قال سيبويه «لم يمنعه الحرف الذي بينهما من هذا كما لم يمنع السين من الصاد في سبقت ونحوه» والثالث أن يفصل بينهما حرفان وذلك قوله «أَوْ بِحَرْفَيْنِ فُصِلْ» و(فُصِلْ) جملة في تقدير المفرد معطوفة على «مُتَّصِلْ» والتقدير إن كان متصلا أو كائنا بعد حرف أو مفصولا بحرفين ومثال المفصول بحرفين [170]

نحو دعاميص ومناهيض ومناشيط ومواعيظ ومباليغ ومعاليق ومنافيخ ونحو ذلك وإنما لم يمنع الحرفان الكف كما لم يمنها السين من أن تقلب صادا في صويق لأجل القاف وبينهما حرفان إلا أنهم حكموا لهما بحكم الحرف الواحد في قولهم صبقت كما جعلوا ما فصل بحرف كما لم يفصل بشيء في قولهم صقت والإمالة شبيهة بهذا فهذه المواضع لا يميل فيها إلا من لا يؤخذ بلغته إلا في الأخير فإنه قد أمال فيه قوم وإن كانوا قليلين فقد حكى سيبويه عن قوم أنهم قالوا المناشيط فأمالوا قال «وهي قليلة» وعلل بتراخي حرف الاستعلاء عن الألف وبعدها عنها ولكن اللغة الشهيرة الفتح كما ذكر الناظم هذا غاية ما ذكر في الفصل وهو يقتضي نظرين: أحدهما أن الفصل إذا وقع بما هو أكثر من ذلك لم يكف وليس كذلك بل قد جاء الكف شهيرا من كلام العرب مع الفصل بثلاثة أحرف وذلك أنهم حكوا ذلك في حرف الاستعلاء المنفصل نحو مررت بمال ملق ومررت بمال يَبْقَلُ وأراد أن يضربها سَمْلَقٌ وأن يضربها بسوط فإذا كان كذلك [171]

فالفصل بثلاثة أحرف لو وجد بكلمة واحدة أولى وأحرى وعلى أن التسهيل لم يتعد هذا المذهب فلم يزد فيه في الفصل على حرفين خاصة وعلى هذا النظر يكون قوله بعد « ... وَالْكَفُّ قَدْ يُوجِبُهُ مَا يَنْفَصِلْ» مقيدا بعدم الزيادة في الفصل على حرفين فلا يدخل له مررت بمال ملق وبابه فيكون مقتضيا أنه لا يكف أصلا وهو غير صحيح ولم يمنعه النحويون بل أجازوه لكن المستعلي إذا كان مع الألف في كلمة واحدة أقوى منه إذا كان في كلمة أخرى على الجملة سواء أكان بينهما فاصل أم لم يكن فهذا مقدار ما بين المتصل والمنفصل من التفاوت وهو لا يوجب منع الكف فهذا من الناظم فيه ما ترى اللهم إلا أن يكون الفصل بثلاثة أحرف نادرا عنده لم يبلغ الكثرة مبلغ الاعتبار مطلقا فالله أعلم النظر الثاني اقتضاؤه أن الراء داخلة في هذا التقييد إذ قال «وَكَذَا تَكُفُّ رَا» ثم عطف على الجميع* بقوله «إِنْ كَانَ مَا يَكُفُّ بَعْدُ مُتَّصِلْ» إلى آخره فعم بصيغة «مَا» جميع ما تقدم أنه يكف ومنها الراء فكما كانت حروف الاستعلاء تكف في ثلاثة المواضع فكذلك يعطي* في الراء أنها تكف كذلك وكذلك في تقدم المستعلي* على الألف أيضا حيث قال «كَذَا إِذَا قُدِّمَ» لا بد أن تدخل الراء في الجملة وهذا غير صحيح ولا مستقيم [172]

لأن الاشتراط الذي في المستعلي* ليس في الراء ولا الذي في الراء يكون في المستعلي* فالحرف المستعلي* يكف إذا تأخر مطلقا انكسر انفتح أو انضم والراء لا تكف إلا مضمومة أو مفتوحة وأيضا المستعلي* يكف متصلا بالألف ومنفصلا بحرف أو حرفين على طريقة الناظم والراء لا تكف في اللغة الفصيحة إلا متصلة فالكافر في موضع الرفع والكافرون وهذه المنابر ممالة عند الأفصح من أهل الإمالة قالوا لبعد الراء من الألف وكذلك إذا تقدم المستعلي* فإنه يكف متصلا بالألف ومنفصلا عنها كما سيذكر والراء لا تكف إلا متصلة بالألف فنحو رواعد * روافد لا تكف فيه الراء أصلا إذ ليست قوة الراء قوة المستعلي* لأنه غير مستعل وأيضا فإن قال «وَكَذَا تَكُفُّ رَا» فأطلق القول بأن كفها على نحو كف المستعلي* فيقتضي أنهما في الكف سواء وليس كذلك بل قد تتقدم الراء على الألف فلا تؤثر عند طائفة من العرب ولو وضع المستعلي* في موضعها لأثر وذلك أن من العرب من يميل نحو قولك رأيت عِفْرا وأراد أن يعقرها وأن يعقرا ورأيت عسرا وإن كانت الراء مفتوحة فلم يعتبروها للكسرة التي قبلها كما أنهم يميلون للياء أيضا فيقولون رأيت عيرا وديرا وسرت سيرا وما أشبه [173]

ذلك وكذلك قالوا النغران وعمران وقالوا هذا فراش وجراب وخيل عراب فأمالوا هذا النوع للكسرة ولم يعتبروا الراء مع أن المستعلي لو وقع ذلك الموقع لم يميلوا نحو برقان وحمقان وعلقا وضيقا فلا يميلون إلا ما ندر من نحو علقا تشبيها بحبلى وأما مع الراء فعللوا الإمالة بضعف الراء وأنها ليست كحروف الاستعلاء فلم يكن لها قوة أن تساويها في حكم الكف وهذا وإن كان الفتح في الجميع هو الأشهر فالقصد بيان أن الراء ليست في رتبة المستعلي كما يظهر من هذا النظم ثم إن الناظم أطلق القول في كف المستعلي للإمالة فلم يقيده بفتح ولا ضم بل جعله كافا على الإطلاق إذا كان بعد ياء كان مضموما أو مفتوحا أو مكسورا أو ساكنا ما عدا الراء فإنه قيدها بعد بأنها لا تمنع مكسورة بخلاف القبلي فإنه قيده بأن لا يكون مكسورا ولا ساكنا بعد مكسور والإطلاق صحيح فإن حرف الاستعلاء البعدي أقوى منه إذا كان قبليا كما أن الموجب للإمالة القبلي أقوى منه إذا كان بعديا وسبب ذلك أن التصعُّد بعد التسفل أصعب عندهم ن التسفل بعد التصعد كما أن التسفل بعد التصعد [174]

أسهل من العكس فلو أمالوا مع حرف الاستعلاء البعدي لكانوا قد وضعوا ألسنتهم موضع التسفل ثم أصعدوها وذلك صعب بخلاف ما إذا أصعدوها ثم مالوا إلى الانسفال فإن هذا خفيف ألا تراهم قالوا صبقت وصقت وصويق لما كان يثقل عليهم أن يكونوا في حال تسفل عند النطق بالسين ثم يصعدون ألسنتهم أبدلوا** من ذلك السين الصاد ليكون اللسان يعمل عملا واحدا ويقع موقعا واحدا وقالوا قسوت وقست وما أشبه ذلك فلم يحولوا السين عن حالها لأنهم لما علت ألسنتهم بالقاف انحدروا فكان أخف فتركوا السين على ما كانت عليه ومسألتنا كذلك فحرف الاستعلاء إذا كان بعد الألف فموجب الكف قوي فلم تكن الكسرة لتمنعه عن ذلك بخلاف ما إذا كان قبل الألف فإنه هنالك ضعيف فتمنعه الكسرة عن الكف وأما المتقدم من حروف الاستعلاء على الألف فقال الناظم في ذلك «كَذَا إِذَا قُدِّمَ» والضمير في «قُدِّمَ» عائد على المستعلي يعني أنه إذا قدم على الألف فالحكم أنه يكف سبب الإمالة عن التأثير في الألف وذلك نحو قولك صاعد وضامن وطامع وظالم وغائب وقاعد وخامد وما أشبه ذلك فلا تميل هذا كله لأجل الموانع المتقدمة على الألف لأنها حروف مستعلية إلى الحنك الأعلى والألف إذا خرجت من موضعها استعلت أيضا فغلب عليها المستعلي كما غلبت الكسرة على الألف فأخرجتها عن أصلها من الانفتاح إلى انسفال الإمالة قال سيبويه «ولا نعلم أحدا يميل هذه الألف إلا من لا يؤخذ بلغته» وظاهر هذا الكلام من الناظم أن كف حرف الاستعلاء المتقدم على [175]

حد منعه متأخرا فيكف إذا كان متصلا بالألف لم يفصل بينهما بحرف ويكف إذا فصل بينهما بحرف واحد أو بحرفين كما ذكر في المتأخر هذا الذي يعطي قوله «كَذَا إِذَا قُدِّمَ» وهو مما ينظر في صحته فأما إذا اتصل المستعلي بالألف فكفه ظاهر كما تقدم تمثيله وأما إذا فصل بينهما حرف فالكف أيضا لكن قالوا إنه ليس في قوة الأول كذا قال بعض المتأخرين ولكنه صحيح نحو صوامع وضوامن وطوالع وظوالم وغوال وقوائم وخوالف وما أشبه ذلك ومن باب أولى* أن يمنع إذا كان الفاصل هاء نحو يريد أن يضبطها وأن يغلقها وأن يعرضها وأن يغلظها وأن يخلصها ونحو ذلك وأما إذا فصل بينهما حرفان فلا أثر للمستعلي على ظاهر كلامهم إذ لم يزيدوا على الفصل بحرف واحد مع أن الفصل به ليس بتلك القوة في الكف فإذا قلت قتلا أملت لبعد المستعلي عن الألف ومن باب أولى أن لا يمنع في نحو قتلنا وطمعنا وما أشبه ذلك فالحاصل أن إطلاق الناظم في تشبيه حرف الاستعلاء المتقدم بالمتأخر في الحكم مشكل إذ ليس مثله كما رأيت إلا في بعض الصور دون بعض وسبب ذلك ما تقدم من أن موجب الكف إذا كان متأخرا أقوى منه إذا كان [176]

متقدما ولذلك يكف مع التأخير وإن كان مكسورا بخلافه متقدما فإنه لا يكف إلا مفتوحا كما ذكر فإذًا كلام الناظم معتَرض ثم أخذ في القيد المعتبر في كف المستعلي إذا كان متقدما على الألف فقال «مَا لَمْ يَنْكَسِرْ ... أَوْ يَسْكُنِ اثْرَ الْكَسْرِ» يعني أن حرف الاستعلاء إنما يكف متقدما إذا لم يكن مكسورا ولا كان أيضا ساكنا بعد مكسور فإن كان مكسورا أو ساكنا بعد مكسور فلا يمنع الإمالة فأما المكسور فنحو قِفافٍ وطِنابٍ وخِباثٍ وغِلابٍ وصِعابٍ وضِعافٍ وظِلالٍ وما أشبه ذلك فمثل هذا لا يكف الإمالة بل يجوز أن تميل الألف هنا عند جميع من يميل خلافا لما وقع للجزولي هنا من أن حكمه حكم الساكن بعد الكسرة يكف الإمالة عند بعض العرب قال الشلوبين لا أعلم هذا عن أحد من العرب ولا من النحويين فالصواب إسقاطه من هذا الموضع وأما الساكن بعد الكسر فنحو مصباح ومِطعان ومِقْلات ومِظْعان ومِخْلاف وما أشبه ذلك فلا تمتنع الإمالة في هذا أيضا ولا يتصور هذان الوجهان إلا مع الفصل لأن المستعلي المتصل بالألف لازم له الفتح وإنما لم تمتنع الإمالة هنا لأن الحرف المستعلي إذا تقدم على الألف ضعيف من حيث كانت الإمالة معه انحدارا بعد إصعاد وذلك سهل وقد لزم ذلك أيضا في الكسرة حين قلت قفاف وصعاب لأنه في التقدير بعد الحرف فمناسبة صوت الألف للكسرة أولى بخلاف ما إذا كان مفتوحا فإن الفتح يقوي المستعلي من حيث كان [177]

الفتح وحده يمنع الإمالة ألا ترى تركهم الإمالة نحو هذا عذاب وتابل ونحو ذلك فإذا كانت الفتحة وحدها تمنع الإمالة فأولى إذا اجتمعا معا أن يمنعاها هذا في الوجه الأول وأما الثاني فلأن الكسرة المتقدمة على حرف الاستعلاء لما كانت بعد الحرف المكسور في التقدير عدت كأنها على حرف الاستعلاء فكأنه صباح وطعان وقلات وظِعان وخلاف فصار في حكم قِفاف وضعاف واعلم أن هذا الفصل كله لا حظ فيه للراء وإن كان الناظم قد ضمها في كلامه مع الحروف المستعلية وإنما هو مختص بحروف الاستعلاء وحدها وقد تقدم الاعتراض عليه في مساقه للراء إلا أنه يبقى هنا على الناظم سؤلان** وهما أن يقال ما الذي أحرز بقوله «اثْرَ الْكَسْرِ»؟ ولو قال ما لم ينكسر أو يسكن لكان يظهر أنه يكفيه ولم اقتصر في نحو مصباح على ذكر عدم الكف وللعرب فيه وجهان أحدهما ما قال والآخر كف الإمالة لأن حرف الاستعلاء وإن كان ساكنا قد فتح ما بعده فصار بمنزلة ما لو كان متحركا بعده الألف الممالة ولو كان كذلك لكف فكذلك هذا قال سيبويه «وبعض من يقول قفاف ويميل ألف مِفْعالٍ وليس فيها شيء من هذه الحروف ينصب الألف في مصباح ونحوه» قال «لأن حرف الاستعلاء جاء ساكنا غير مكسور وبعده الفتح فلما جاء مسكنا تليه الفتحة صار [178]

بمنزلة - لو كان متحركا بعده الألف وصار بمنزلة القاف في قوائم» قال «وكلاهما عربي له مذهب» يعني من أمال في مصباح ومن لم يمل فكان حقه أن ينسب عدم الكف في الساكن بعد المكسور إلى بعض العرب ولا يطلق العبارة إطلاقا والجواب عن الأول أنه قد تقدم وجه ذلك لأن الكسرة إذا تقدمت المستعلي فكأنها عليه لأن الحركة بعد الحرف فكأنك قلت صباح قفاف وذلك لا يمنع الإمالة لضعف المستعلي بالكسر بخلاف ما إذا فرض ما قبله مفتوحا فإنه على ذلك التقدير في حكم أن لو قلت صباح وقذال وذلك مانع من الإمالة كما تقدم ذكره والجواب عن الثاني أن الكف فيه إنما هو عند الأقل من العرب والأكثر منهم على عدم الكف قال ابن الضائع والإمالة أرجح لأن الحركة في التقدير بعد الحرف ولذلك بدأ سيبويه بالإمالة بل يظهر أن السماع في ذلك وافق القياس وهو الظاهر من كلامه وقوله «كَالْمِطْوَاعَ مِرْ» مثال المستعلي الساكن بعد المكسور والمطواع المطيع ومِفعال مبالغة فيه وهو المنقاد ويقال طاع لك فلان يطوع إذا انقاد ومِرْ من قولهم مار أهله يميرُهم مَيْرا والمِيْرَةُ الطعام [179]

يمتاره الإنسان فالمعنى امتَرِ المِطواعَ وأْتِهِ بمَئُونَةٍ وقد يكون «مِرْ» من قولك مار غيره إذا أعطاه مطلقا كأنه يقول أعط المطواع وهذا المعنى أظهر وأنسب * * * وَكَفُّ مُسْتَعْلٍ وَرًا يَنْكَفُّ ... بِكَسْرِ رًا كَـ (غَارِمًا لَا أَجْفُو) قوله «وَرًا» محله الجر عطفا على «مُسْتَعْلٍ» وضمير «يَنْكَفُّ» عائد على كف و «بِكَسْرِ» متعلق بيَنْكَفُّ وأراد وراءٍ ممدودا لكنه قصر ضرورة كما قال بعضهم شربت مًا يا هذا وكل ما جاء من هذا النحو في كلام الناظم بغير إضافة ولا ألف ولام فإنه منون لا بد من هذا كما قال العربي شربت مًا وكثير من الناس ينطق به في الوصل بغير تنوين وهو خطأ وقد تقدم أن حرف الاستعلاء والراء يكفان سبب الإمالة عن إعماله فيريد ههنا أن كف حرف الاستعلاء لإمالة الممال وكف الراء أيضا ينكف عن منع الإمالة بوقوع الكسر في الراء وإذا انكف ذلك الكف لزم الرجوع إلى الأصل من إعمال سبب الإمالة فتقول غارم فتميل ألفه وهو الذي [180]

مثل به وإنما أملت وقد اكتنف الألف مانعان من الإمالة وهما الغين والراء لأن الراء انكسرت فصارت بذلك على عكس ما كانت عليه مضمومة أو مفتوحة فالكسرة في الراء هي المانع من الكف على الحقيقة وذلك لأن الراء كما تقدم من وصفها التكرار فكأن الحرف منها في تقدير حرفين وكأن الكسرة في تقدير كسرتين فإذا كان كذلك فتكون إحدى الكسرتين في مقابلة المستعلي والأخرى موجبة للإمالة ثم قوله «بِكَسْرِ» يعطي بمفهومه أن الراء غير المكسورة هي التي تكف الإمالة وهي التي تقدم ذكرها في قوله «وَكَذَا تَكُفُّ رَا» وهي المفتوحة أو المضمومة نحو بدار وجهار وحمار وبدارا وجهارا وحمارا ونحو ذلك فكذلك راجل وراحل وراشد لأن الراء هنا تجري مجرى المستعلي لتفخيمها وقد تقدم ذكر ذلك واعلم أن الراء المذكورة في قوله « ... بِكَسْرِ رًا» أتى بها منكرة فيحتمل المساق فيها وجهين أحدهما أن تكون هي الأولى كما لو قال ورًا ينكف بكسرها أي بكسر تلك الراء والوجه على هذا أن يأتي بها معرفة لا نكرة إذ التنكير يوهم المباينة كما قالوا في قوله تعالى {إنّ مع العسر يسرا} بعد قوله [181]

{فإنّ مع العسر يسرا} وأما التعريف فهو المفهم للاتحاد كقوله تعالى {فعصى فرعونُ الرسولَ} ولكن الناظم أتى به منكرا لضرورة الوزن إذ لو قال بكسر الرَّا* لم يتسن الوزن ولو عوض منها الضمير فقال بكسرها - أي بكسر الراء - لأوهم أن يعود الضمير على المستعلي والراء معا وليس الحكم كذلك لأن المستعلي يكف وإن كان مكسورا إذا تأخر عن الألف كما تقدم والوجه الثاني أن يريد راءً أيَّ راءٍ كانت على ظاهر لفظه ويشتمل كلامه إذ ذاك على ثلاث مسائل إحداها ما كان من نحو البدار والجهار والحمار وراشد وراحل ورافد وما أشبه ذلك مما إذا انفتحت راؤه أو انضمت منعت الإمالة وإن وحضر سببها وهو الكسر فكأنه يقول هذه الراء الكافة هنا إذا انكسرت انكف منها ذلك الكف فصارت الإمالة إلى حالها فتميل نحو عجبت من البدار والجهار والحمار وإن لم تكسر بقيت على حالها من الكف كراشد وراحل ونحوه والثانية ما كان من نحو غارم وقارب وضارب وصارف وخارج طارد* وهذا النوع الذي أشار إليه بالمثال مما كانت الراء فيه تكف غيرها من حروف [182]

الاستعلاء فهذا مستعل كفته كسرة الراء عن كف الإمالة فأميل ما كان يمال والثالثة ما كان من نحو قرارك ومرارك نحوهما* مما تكف الراء فيه مثلها فالإمالة هنا جائزة وإن تقدمت الراء مفتوحة لأن الراء المكسورة قويت عليها فمنعتها أن تكف الإمالة كما منعت المستعلي أيضا أن يكف فهذه أوجه ثلاثة داخلة تحت عبارته على تقديره تنكير «راءٍ» في القصد وهي كلها صحيحة فالوجه الثاني في كلامه أولى من الوجه الأول ثم في تمثيله التنبيه على شرطين معتبرين في كف الراء للمستعلي: أحدهما أن لا يقع بعد الراء الحرف المستعلي أعني بعد الراء المكسورة فإنه إن وقع بعدها لم يكن للراء تأثير سواء أكانت الراء متقدمة على الألف أم متأخرة عنه فإذا قلت مِن رقابٍ ورغاب ونحو ذلك لم تمل كما لا تميل حِمْقان لأن المستعلي هو الغالب على الألف وكذلك إذا قلت مفاريق رأسِه وفارق وفارغ وفارض ومعاريض وفارط وما أشبه ذلك لم تمل الألف وإن وجدت الراء مكسورة بل حكم الراء هنا حكم غيرها من [183]

الحروف الواقعة بين الألف والمستعلي نحو ناعق ومناشيط وعلل ذلك السيرافي بأن حرف الاستعلاء بعد الألف أشد منعا منه قبلها فمن أجل ذلك أجازوا الإمالة فيما كان قبل الألف فيه حرف مستعل وبعده راء مكسورة نحو قارب وغارب ولم يجيزوا ذلك في فارق وناعق لأن التصعد بعد التسفل أصعب على اللسان من العكس والشرط الثاني أن تكون الراء متصلة بالألف كغارم وضارب فلو كانت منفصلة عن الألف بحرفين لم تكف أصلا نحو مطامير ومقادير لبعد الراء عن الألف وأولى ألا تكف إذا فصل بينهما أكثر من حرفين وأما الفصل بالحرف الواحد فمفهوم المثال وما أعطاه من التقييد أنه لا يكف نحو مررت بمقابر فلان فيفتح الألف في هذا النحو وهذا المقتضى* منقول عن العرب ومقول به عند النحويين قال سيبويه «اعلم أن الذين يقولون هذا قارب - يعني فيميلون - يقولون - مررت بقادر ينصبون الألف» وعلل ذلك بالبعد من الألف فكف المستعلي الإمالة لأجل ذلك لكن هذا الوجه هو أحد الوجهين عند العرب إذ حكى سيبويه عن قوم ترتضى عربيتهم مررتُ بقادر بالإمالة على اعتبار كسرة الراء وعدم اعتبار المستعلي إذ كفته الراء وإن كانت بعد الألف بحرف ووجه ذلك بأن هؤلاء يقولون قارب بالإمالة كما يميلون جارم فيسوون بين المستعلي وغيره في عدم الاعتبار فأرادوا أيضا أن يسووا بين قادر وكافر فيميلون فيهما معا ولا يفصلون بين مستعل وغيره [184]

كما لم يفصلوا بينهما في قارب وجارم وذكر سيبويه أنه سمع من يثق بعربيته ينشد بيت هدبة بن خشرم بالإمالة: عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ... بمنهمر جون الرباب سكوبِ وإذا كان في المسألة وجهان فاقتصار الناظم على أحدهما معترض والجواب أن الأكثر في كلامهم عدم اعتبار الراء لبعدها ونص عليه في التسهيل فقال «وربما أثّرت - يعني الراء - منفصلة تأثيرها متصلة» فقللها بربما وهو الذي أشار إليه كلامه وقوله «ولَا** أَجْفُو» من تمام المثال أي لا أجفو غارما بمعنى لا أطالب مطالبة الجفاء بل مطالبة الرفق والتيسير * * * وَلَا تُمِلْ لِسَبَبٍ لَمْ يَتَّصِلْ ... وَالْكَفُّ قَدْ يُوجِبُهُ مَا يَنْفَصِلْ هذا الكلام ذكر فيه الناظم المانع الثاني من موانع الإمالة وهو انفصال السبب عن الألف بمعنى أنه منه في كلمة أخرى مستقلة بنفسها فيقول لا تجوز الإمالة وإن وجد سببها إذا كان السبب لم يتصل بالألف ولا يريد الاتصال في اللفظ بحيث يكون السبب ملاصقا للألف لأن سبب الإمالة يوجبها وإن فصل بينهما حرف وحرفان وأكثر على ما تقدم إذا كانا في كلمة [185]

واحدة فإنما المانع كونهما في كلمتين مستقلتين فإذا قلت لعمرو بابْ وللرجل حالْ وما أشبه ذلك لم تمل هذه الألف وإن تقدمت الكسرة لأنه من كلمة أخرى وإن جاء من هذا شيء فهو قليل محفوظ ومن ذلك قولهم لزيد مال أمالوا هذا إجراءً للمنفصل مجرى المتصل فكأن «دٍ مال» ** من لزيد مال بمنزلة سربال وقال مِن عبد الله فأمالوا الألف من اسم الله تعالى صار «د الله» ** بمنزلة سربال أيضا فأمالوا لكن هذا قليل فينبغي أن يوقف على محله على أن بعض النحويين يطلق فيه عبارة الجواز والظاهر ما ذهب إليه الناظم هذا إذا كان السبب متقدما وقد يكون متأخرا منفصلا كما قالوا ثلثا درهم فأمالوا الألف ولكنه أيضا قليل كالأول فإن قيل إذا كان مراده بالاتصال ألا يكونا في كلمتين فقد خرج له عن حكم الإمالة شيء لا ينحصر وكان قد خالف النحويين أجمعين وذلك أن الكلمتين تارة تكون كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى غير محتاجة إليها من حيث الوضع كقولك لزيد مالْ فهذا هو الذي تكون فيه الإمالة نادرة كما تقدم ذكره وتارة تكون إحداهما محتاجة إلى الأخرى من حيث الوضع كالضمائر المتصلة وحروف الجر كقولك بها وبنا ومنا وهو يريد أن يضربها ويدها ومنها وإليها وغير ذلك مما لا ينحصر وأكثر [186]

مُثُل النحويين في الإمالة من هذا القبيل ولم يقل أحد بأنه ممنوع أو موقوف على السماع بل هو عندهم مطرد مقيس وكلام والناظم** على ما مضى من التفسير يجعله من السماع القليل الذي لا يبنى عليه وهذا فاسد فالجواب أنه إنما قال «وَلَا تُمِلْ لِسَبَبٍ لَمْ يَتَّصِلْ» ويريد لم يتصل بالكلمة الاتصال المعروف والاتصال الذي يعرفه النحويون على وجهين اتصال في كلمة واحدة كسربال وعماد واتصال في كلمتين إحداهما مفتقرة إلى الأخرى لعدم استقلالها بنفسها وههنا تدخل الضمائر المتصلة وحروف الجر لأنها شديدة الاتصال بما اتصلت به حتى إنه لا يجوز أن يوقف على إحداهما دون الأخرى لا** أن يبتدأ بها دونها فالاتصال ولا بد شامل لهذا ومن أجل ذلك جرى في التفسير الأول للانفصال أن يكونا في كلمتين مستقلتين فقيدتهما بالاستقلال لأحرز هذا المعنى نعم الاعتراض لازم لعبارته في التسهيل حيث قال «ولا يؤثر سبب الإمالة إلا وهو بعض ما الألف بعضه» فإن هذه العبارة لا تصدق على نحو بها ومنها وعندها ويريد أن يضربها ومنا ونحوه إذ ليس الضمير بعض تلك الكلم وإنما تصدق على نحو عماد وسربال فعبارته هنا أحسن منها هنالك ثم قال « ... وَالْكَفُّ قَدْ يُوجِبُهُ مَا يَنْفَصِلْ» يعني أن كف الإمالة قد يوجبه من الحروف المستعلية ما يكون منفصلا عن كلمة الألف وفي كلمة أخرى مستقلة فيكون ذلك مانعنا من إعمال سبب الإمالة وهذا المنفصل تارة يكون متصلا بالألف أعني ملاصقا لها لفظا نحو منا قاسم وعندها [187]

ظالم وأراد أن يضربها خالد ومنها طلحة وما أشبه ذلك فلا يميل لاتصال المستعلي في اللفظ إذا أدرجت فهذا مثل قولك مررت بعاقد وبفاضل وبباطل إجراءً للمنفصل مجرى المتصل وتارة يفصل بينهما حرف واحد نحو منا فضل وأن يضربها بطل ومنا نقل وعندها بخس ونحو ذلك وكذلك مررت بمال خالد وبمال قاسم وبمال طامع فهذا جار مجري قولك مررت بناعق ومررت بسابق ونحو ذلك وتارة يفصل بينهما حرفان نحو يريد أن يضربها مَلِقٌ وبيدها سوط ومنا يَنْقَل ونحو ذلك فهذا جار مجرى مناشيط ونحوه وقد زادوا على ذلك حتى فصلوا بثلاثة أحرف قالوا: يريد أن يضربها سَمْلَقُ ويريد أن يضربها بسوط ومررت بمال مَلَقٍ وبمال يَنْقَلُ ففتحوا هذا كله لكف المستعلي وإن كان منفصلا قال سيبويه «نصبوا لهذه المستعلية وغلبت كما غلبت في مناشيط ونحوها وضارعت الألف في فاعل ومفاعيل وصارت الهاء والألف - يريد في يضربها - كالفاء والألف في فاعل ومفاعيل» قال «ولم يمنع النصب ما بين الألف وهذه الحروف كما لم يمنع في السماليق قلبَ السين صادا» فإن قيل لم قال « ... وَالْكَفُّ قَدْ يُوجِبُهُ مَا يَنْفَصِلْ» فأتى بقد ولم يجزم الحكم بذلك فيقتضي* أنه قد لا يوجبه أيضا فكأن الأمر فيه على التخيير أو فيه وجهان عند العرب فهل يوجد هذا أو لا؟ [188]

فالجواب أن الوجهين موجودان في لغة أهل الإمالة وذلك أن المنفصل لا يقوى قوة المتصل ولا يطرد إجراؤه مجراه وإنما هو تشبيه يقع في الدرْج كما قال سيبويه وأيضا فإن من كلام العرب ألا يميلوا في الدَّرْج ويميلوا إذا وقفوا فيقول أراد أن يضربها فيميل ثم يقول أراد أن يضربها زيد فيفتح فلما كان هذا من كلامهم قابل اعتبار الاتصال فضعف أيضا ضعفا آخر فمن هنا حكى سيبويه أن بعض العرب يقول بمال قاسم بالإمالة قال «ففرق بين المنفصل والمتصل ولم يقو على النصب إذ كان منفصلا» يعني حرف الاستعلاء فحصّلت عبارة الناظم الوجهين بأحسن عبارة وهو هنا أكثر تحريرا من التسهيل وذلك أنه حين ذكر أن سبب الإمالة لا يؤثر إلا وهو بعض ما الألف بعضه قال «ويؤثر مانعها مطلقا» فيظهر من هذه العبارة أن «بمال قاسم» ونحوه مساوٍ لناعق وناشط ونحوهما وليس كذلك وكم من مسألة تجدها في هذا النظم أحسن وأشد تحريرا منها في التسهيل * * * وَقَدْ أَمَالُوا لِتَنَاسُبٍ بِلَا ... دَاعٍ سِوَاهُ كَ‍ (‍عِمَادًا) وَ (تَلَا) [189]

هذا هو السبب السادس من أسباب الإمالة المتقدمة الذكر وهو المناسبة للممال وإنما ذكره منفصلا عن الأسباب الأخر وقد كان وجه الترتيب أن يقدم ذكر جميع الأسباب ثم يذكر بعد ذلك الموانع لأن الموانع لا حظ لها في كف هذا السبب لأنه لازم للإمالة من حيث كان مجرد تناسب للمال فإذا لا يتصور لهذه الإمالة مانع إذ لو كان ثم مانع لكان مانعا للأصل فيرتفع التناسب كقولك رأيت عمادا فإمالة ألف التنوين هي المتكلَّم فيها وسببها مناسبتُها للألف المتقدمة لأنه ممالة فلو كان ثم مانع من حرف استعلاء نحو رأيت سباقا مثلا لكان مانعا للألف الأولى من الإمالة فلا يبقى وجهٌ** لإمالة الألف الثانية لزوال سببها وهو إمالة الأولى فلما كان الأمر على هذا أخّر الناظم ذكر هذا السبب الذي لا ينكف أصلا بعد ذكر الموانع تنبيها على هذا المعنى وهو لطيف من التنبيه وفيه أيضا وجه آخر وهو أن إمالة التناسب المذكور ليست في قوة غيرها من سائر ما ذكر قبل وإن كانت عند سيبويه وغيره قياسا لأن التناسب لا يقوى قوة غيره من الأسباب فلأجل هذا أيضا أخر ذكره وليس في كلامه ما يعيّن كونها قياسا لقوله «وَقَدْ أَمَالُوا» فأتى بضمير [190]

يحتمل أن يعود على النحويين فيكون المعنى أن النحويين قاسوا فجعلوا المناسبة سببا من أسباب الإمالة فيكون على هذا قائلا بالقياس ويحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى العرب ويعني أن العرب قد أمالت الألف لمجرد طلب التناسب بين الألفات في الكلام لا لسبب غير ذلك وعلى هذا أيضا لا يدل على وجه من قياس أو غيره إذ لم يقل: وتجوز الإمالة للمناسبة ولا ما يشعر بالقياس ولا عدمه وكأنه أراد ترك ذلك للناظر في المسألة لأنه في محل الاجتهاد إذ لم يكثر السماع فيها كثرة يقطع بالقياس فيها فنقل ما وجد وخرج عن عهدته وعلى أنه قد أشعر بالقياس في التسهيل على ضعفه فقال «وقد يمال عارٍ من سبب الإمالة» إلى آخره فلم يسند ذلك إلى السماع وقد قال سيبويه «وقالوا مِعْزانا في قول من قال عمادا فأمالهما جميعا» قال «وذا قياس» وقوله «بِلَا ... دَاعٍ سِوَاهُ» حصرٌ لهذه الإمالة في مجرد المناسبة كأنه يقول لا سبب للإمالة إلا المناسبة خوفا من توهم وجود داع سواها ثم مثّل ذلك بقوله «كَعِمَادًا وَتَلَا» وللناس في مراده بهذين المثالين تفسيران أحدهما أن يريد أن ألف «عِمَادًا» الأخيرة في الوقف تمال لتناسب الألف قبلها وذلك ألف «تَلَا» بعد «عِمَادًا» تمال مع اتصالها بعمادا على حد اتصالها في كلامه للتناسب بالكلمة قبلها فيكون كلامه يعطي أن التناسب [191]

مرعي في الكلمة والكلمتين فإذا أفردتَ الكلمة الأولى فقلت أقام زيد عمادا أملت الألفين وإذا قلت أقام زيد عمادا وتلا أملت الألفات الثلاث وهذا التفسير نقلتُ معناه من طرة كُتبت بإزاء هذا الموضع وفيه نظر أما «عِمَادًا» ونحوه إذا وُقف عليه فإمالة الألفين فيه لا إشكال فيها فالأولى لموجبها والثانية للتناسب ومثله معزانا ونهانا وتلاها وشمالا وقتالا وما أشبه ذلك ومن ذلك في الكتاب العزيز قراءةٌ رُويت عن أبي عمرو في رءوس الآي التي فيها هاء بين ألفين كآخر سورة «والنازعات» وسورة «والشمس» بإمالة الألف التي بعد الهاء بين الفتح والكسر وكذلك رُوي عنه أيضا إمالة الألفين من قوله تعالى {مَجراها ومُرساها} هذا إذا كان التناسب للألف المتقدمة وكذلك إذا تأخرت نحو كُسالى أمالوا الألف الأولى لتناسب الألف الثانية وكذلك تقول جمادى وحمادى وذُنابى ويتامى ونحو ذلك فتميل الألفين معا ومن المسموع في ذلك ما رُوي عن الكسائي من إمالة الصاد والتاء والسين والكاف من النصارى واليتامى وأسارى وكسالى وسكارى في جميع القرآن في هذه الأحرف الخمسة إلا أن تلقى ساكنا ورُوي عنه أنه قال أنا أقرأ لنفسي بإمالة ما قبل الألف فإذا أخذَتْ عليَّ الناسُ فتحتها وقالوا مهارى فأمالوا الألفين وما قبلهما من [192]

الهاء والميم فهذا كله صحيح وأما أن «تَلَا» أتى به الناظم تنبيها على أنه تمال ألفه أيضا إذا اتصلت بعمادا طلبا للتناسب بين الكلمتين فإنما حمله على هذا التفسير قوله في التسهيل «وقد يُمال عار من سبب الإمالة لمجاورة الممال أو لكونه آخر مجاوِرِ ما أُميل آخرُه طلبا للتناسب» فنزّله على أنه أراد ذلك هنا كأنّ ألف «تَلَا» منقلبة عن واو فلا موجب فيه للإمالة فتمال إتباعا لألف «عِمَاد» ** الأخيرة التي أميلت إتباعا للألف الأولى فإن عنى هذا فهو غير صحيح من جهتين: إحداهما أن ألف «تَلَا» تميلها العرب بإطلاق أعنى المميلين منهم لأن ما لامه واو عندهم يساوي ما لامُه ياء في اطراد الإمالة وقد تقدم كلامُ الناظم في الإشارة إلى هذا ونصُّ سيبويه وغيره على هذا المعنى وإنما تفرِّق العرب بين بنات الواو وبنات الياء في الأسماء لا في الأفعال وأما القراء فهم الذين يفرقون بين ذوات الواو فلا يميلونها وإن كانت في الفعل وبين ذوات الياء فيميلُها المميلُ منهم فإذا كان كذلك لم يكن إتيانه بتلا مطابقا لما قصد كيف وألفه ممالة لداعٍ فيه وهو انقلاب الألف ياءً في تُلِي وهو قد قال «وَقَدْ أَمَالُوا لِتَنَاسُبٍ بِلَا ... دَاعٍ» فكان يكون تمثيله على هذا التفسير مناقضا لما أصّل [193]

والثانية على تسليم ما قال لا يستقيم له** هذا التمثيل لأنك إذا قلت عِمَادًا وَتَلَا ووصلتَ إحداهما بالأخرى سقطت الألف الثانية في الدرْج لأنها ألف التنوين فلم يبق للألف الثالثة ما تناسب بإمالتها لأن المؤلف إن كان جعل في التسهيل إمالة الألف الثالثة مناسبة للثانية الممالة مناسبةً للأولى لقوله «أو لكونه آخر مجاورٍ** ما أميل آخره طلبا للتناسب» فلا ينزّل هذا المثال على قوله وأما كلامه في التسهيل فالظاهر أنه قصد تناسب رءوس الآي بعضها لبعض نحو {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودّعك ربُّك وما قلى} إلى آخره لا ما ذكر في هذا التفسير فإذًا تفسير كلام الناظم بهذا فيه ما ترى والتفسير الثاني كَتَب به إليَّ بعضُ الشيوخ ورأيتُه مذكورا في بعض شروح هذه الأرجوزة وهو أن مراده بتلا قول الله تعالى {والقمرِ إذا تلاها} قال نبَّه بذلك - رحمه الله - على أن إمالة المناسبة لها صورتان الأولى أن يكون الموجِب قبليا وهو المراد بقوله كعمادا والثاني أن يكون بعديا وهو المراد بقوله تلا قال والأولُ الموجب فيه متصل والثاني عكسه ويعني بالعكس الضد ومقصود هذا الشيخ حفظه الله أنّ قولَ** الله تعالى {والشمس وضحاها} ليس في ضحاها موجِب للإمالة من الموجبات المتقدمة فإنما أميل لما وقع في الفواصل مع قوله [194]

{والقمرِ إذا تلاها} وما بعدها وموجِب الإمالة فيها قائم فأرادوا أن يميلوا {ضحاها} لتناسب رءوس الآي والموجب هنا بعديّ منفصل وهو (تلا) المشار إليه وفي «عِمَادًا» قَبْلِيّ متصل فأشار إلى أن الممال للمناسبة قد تكون إمالتُه لمناسبة ما قبله ولمناسبة ما بعده وأيضا قد يكون متصلا بالممال الأصلي وقد يكون منفصلا عنه وما قاله - أجلّه الله - ممكن إلا أن عليه سؤالين طالبَينِ بالجواب عنهما: أحجهما أن إتيان الناظم بتلا مشيرا إلى الآية بعيد جدا وقائم مقام اللغز الذي لا يشعر به وليس وضعُ التعليم على هذا والثاني أنّ وجه الإتيان بالمثال أن يكون مما فيه ذلك الحكم المقرر وهو هنا إمالة المناسبة وليس في تلا إمالة مناسبة فكان الأحق أن يأتي بالضحى من قوله تعالى {والشمس وضحاها} لأنه الممال للمناسبة وإلا فيكون قد أتى بنوع من الإمالة وترك مثالها وأتى بمثال سببها وهذا في غاية البعد ويغلب على الظن أن الناظم لم يقصده فالأظهر أنّ هذا التفسير غير مُخَلَّص والذي يصح - والله أعلم - في تفسير هذا الموضع وجهٌ آخر وهو أن يكون قوله «وَتَلَا» إشارةٌ إلى نوع آخر من التناسب وذلك أنه يُمال للتناسب الألفُ وهو المشارُ إليه بعمادا ويُمال للتناسب الفتحة التي** قبل الفتحة الممالة وهي فتحة التاء من تلا فهو الذي أراد بالمثال وبيان ذلك أن [195]

الحركات تمال كما تمال الألف ومن الحركات ما يُمال لسبب موجب كما سيأتي إثر هذا بحول الله تعالى ومنها ما يمال لغير سبب سوى المناسبة لكن مناسبته للممال تارة تكون واجبة لأنها من حقيقة إمالة ذلك الممال كما إذا وقعت الفتحة قبل الألف كفتحة اللام في تلا إذ لا تتصور إمالة الألف إلا بإمالة الفتحة قبلها بل هي جزء منها ولم ينص الناظم على هذه المناسبة لأنها معلومة ضرورة وتارة تكون غير واجبة ولكن على الجواز كإمالة فتحة التاء في تلا وهو موجود في كلام العرب ومن ذلك في القرآن الكريم {رأى} حيث وقع نحو {رأى أيديهم} و {رأى كوكبا} قرأها* بإمالة فتحتي الراء والهمزة معا حمزة والكسائي وأبو بكر وابن ذكوان وكذلك ورش لكنها عنده بين بين وكذلك {نأى بجانبه} قرأ بإمالة النون والهمزة معا الكسائي وخلف ولا شك أن إمالة هذه الفتحة الأولى لا موجب لها إلا المناسبة لإمالة الفتحة الثانية وبهذا المعنى وجهوا هذه القراءات وهي دليل على وجودها هكذا في كلام العرب وأما نحو يريد أن يضربها وعَيْنها من إمالة فتحة ما قبل الهاء فليس من إمالة المناسبة الجائزة في اعتبار قياسهم [196]

بل هي لاحقة بإمالة الفتحة قبل الألف لخفاء الهاء ولذلك لم يعدوا الهاء فاصلا كما تقدم فعلى هذا التفسير يدخل له بالمثالين نوعَا الإمالة التناسبية على الجملة وذلك من الفرائد الحسان التي قل من ينبه عليها من النحويين وهي ظاهرة الورود عليهم ثم إن إمالة المناسبة لا يُقتصر بها على هذين الموضعين فقط وإنما أتى بهما تمثيلا مفيدا لما أراد في القاعدة المطلقة فحيث أميل للمناسبة على الحد الذي حدَّه فيها فكلامه يشمل ذلك والحدُّ الذي حده هو ما أشار إليه التمثيل من أن الألف تمال لمناسبة الألف فعمادا من إمالة الألف للألف والفتحة تمال لمناسبة الفتحة وتلا من إمالة الفتحة للفتحة وكان التقسيم العقلي يقتضي وجهين آخرين أحدهما إمالة الفتحة للألف وذلك لا يكون إلا في الفتحة التي قبل الألف تليها أو بينهما الهاء وقد نُبه على معنى ذلك والثاني عكس هذا وهي إمالة الألف للفتحة وهذان الوجهان لم يذكرهما الناظم أما الأول فلما تقدم وأما الثاني فعلى جعل التمثيل يقوم في هذا النظم مقام التقييد يخرج من مفهومه عدمُ اعتباره وأنه لا يجوز وهذا هو المنصوص لسيبويه حيث ذكر أن قولك من المُحاذَرِ تمال فيه فتحة الذال لكسرة الراء ثم قال «ولا تقوي - يعني الكسرة - على إمالة الألف لأن بعد الألف فتحا وقبلها فصارت الإمالة لا تعمل بالألف شيئا كما أنك تقول حاضر فلا تميل لأنها من الحروف المستعلية» قال: [197]

«فكما لم تمل الألف للكسرة كذلك لم تملها لإمالة الذال» هذا نص سيبويه وتعليله وقد خالف ابن خروف في هذا فزعم أن من أمال ألف «عِمَادًا» للمناسبة أمال ألف «المحاذَرِ» لإمالة الذال قال وهو قياسه وهذا خلاف قول سيبويه وكان سيبويه جعل الفتحة في ذلك فاصلة وإن كانت ممالة كما كانت الضاد في «حاضر» فاصلة وإن كانت مكسورة* وكأن الراء المكسورة ليست تقوى في جلب الإمالة إلا على ما يليها قال ابن الضائع لا ينبغي أن يقاس إمالة الفتحة للألف بإمالة الألف للألف لأن إمالة الألف أقوى من إمالة الفتحة ثم حكم أن إمالة الألف للألف إنما هي إمالة لإمالتي الألف والفتحة التي قبلها بخلاف إمالة الفتحة فإنها إمالة لفتحة وحدها وإمالةٌ لإمالتين أقوى من إمالةٍ لإمالةٍ واحدةٍ. وبذلك ظهر ضعف قياس ابن خروف فالصحيح إذًا ما ذهب إليه سيبويه وهو الذي أشار إليه الناظم فإذا ثبت هذا كان كلام الناظم إنما قُصد به تبين النوعين المذكورين وهما إمالة الألف للألف أو الفتحة للفتحة فيخرج عنه إمالة الألف للفتحة كما ذكر * * * وَلَا تُمِلْ مَا لَمْ يَنَلْ تَمَكُّنَا ... دُونَ سَمَاعٍ غَيْرَ (هَا)، وَغَيْرَ (نَا) هنا أخذ في بيان ما يمال من الكلم مما لا يمال ويعني أن الإمالة إنما تكون في الكلم المتمكنة وأما غير المتمكنة فلا تدخلها الإمالة ولا يجوز لك أن تميل شيئا منها بالقياس دون أن تسمع ذلك فيها إلا في اسمين غير متمكنين [198]

فإن الإمالة تدخلهما قياسا وهما «ها» الذي هو ضمير الغائبة و «نا» الذي هو ضمير المتكلم ومعه غيره هذا ما قال على الجملة وأما على التفصيل فيشتمل على مسائل: إحداها في مراده بالتمكن وهو عند النحويين وصفٌ من أوصاف الأسماء والمراد به الإعراب فإذا قالوا الأسماء المتمكنة فإنما يريدون المعربةَ التي لم تُشْبِه الحرف كزيدٍ وعمرٍو وقد تقدم ذلك وإذا ثبت هذا فما في قوله «مَا لَمْ يَنَلْ تَمَكُّنَا» واقعة على الاسم دون الفعل والحرف عيّن ذلك لفظ التمكن وإذا كان كذلك وردَ على الناظم سؤال* وهي المسألة الثانية: وذلك أنْ يقال إذا كان قد اقتصر على الاستثناء من الأسماء فقد نقصه أن يُبيّن حكم الحروف والأفعال في الإمالة فإن السامع إذا سمع استثناء ما لم يتمكن من الأسماء عن حكم الإمالة جرى الوهمُ إلى الحروفِ وإلى ما تصرَّفَ من الأفعال أو لم يتصرف فإن عدم التصرف في الأفعال نظير عدم التمكن في الأسماء والحروف أيضا قد تتوهم فيها الإمالة وقد لا تُتَوهم وإذا كان كذلك صار كلامُه غير مُوفٍ بالمقصود والجواب أنه إنما تعرّض هنا للأسماء خاصة وللاستثناء منها وأما الأفعال والحروف فقد ظهر من أمثلته المتقدمة وكلامه في الباب مقصدُه فيهما من إدخاله أمثلة الأفعال في القواعد القياسية وعدم ذكر الحروف رأسا فلما لم يستثن من الأفعال شيئا على دخول الجميع في حكم الإمالة مطلقا إذا وُجدت أسبابها كعسى فإنه فعل ممال وإن لم يتصرف فعدم الاستثناء منه [199]

صحيح ولما لم يذكر من الحروف شيئا دلّ على خروجها رأسا وأيضا فإنما امتنع الاسم غير المتمكن من الإمالة لشبهه بالحرف فأحرى أن لا يكون في الحرف إمالة ولأنّ الإمالة نوع من أنواع التصرف في الكلمة ألا ترى أن الألف تصير كالمقلوبة إلى الياء والقلبُ تصرفٌ والتصرُّف غير داخل في الحروف على ما سيذكره بعد في قوله حَرْفٌ وَشِبْهُهُ مِنَ الصَّرْفِ بَرِيْ فإذا ما أُميل من الحروف إنما أميل شذوذا كإمالتهم* «يا» التي للنداء وبلى ولا في قولهم إمّا لا فافْعَل كذا وإنما احتاج إلى ذكر الأسماء فقط فبين أنها على قسمين وهي: المسألة الثالثة: مُتمكِّنٍ وغير متمكن فالمتمكن هو الذي تدخله الإمالة مطلقا وغير المتمكن أصلُه لا يمال مطلقا من حيث كانت الإمالة نوعا من التصرف والحروف وما أشبهها لا يدخلها تصرف لكن وقعت الإمالة فيها على وجهين مطردةٍ وغير مطردة فأما المطردة ففي الاسمين المذكورين وهما: ها ونا فاحتاج إلى ذكرهما وأنّ الإمالة فيهما مطردة وهذا مما تأكد عليه ذكرُه من جهة أنها فيهما كثيرة وذكر مع ذلك بالقصد الثاني ما جاءت فيه الإمالة غير المطردة فقال: وَلَا تُمِلْ كذا ... إلى آخره ويعني أن غير المتمكن سوى الاسمين مُتلقى إمالته من السماع وليس لأحد أن يقيسها فيه ومثال ما جاء [200]

من ذلك ذا التي للإشارة أمالوها لأنا أشبهت بتثنيتها وجمعها وتصغيرها المتمكن فكأن ألفها منقلبة وأمالوا أيضا أنَّى نحو قوله تعالى {أنَّى لكِ هذا} وقوله {أنّى شئتُم} قال سيبويه «لأنّ أنّى تكون مثل أين وأين كخَلْفَك» قال وإنما هو اسم صار ظرفا فقرب من عطشى» وأمالوا أيضا متى نحو قولك متى قيامُ زيد؟ وذلك لأنها ظرف فجرت مجرى الظروف المعربة فعُومِلت مُعاملة فتى وأمّا با تا ثا فهي وإن كانت تشبه الحروف فإنها إلى المتمكن أقربُ لأنها إنما تكون كذلك على حرفين في حالة الوقف وحين جرت مجرى الأصوات لإفرادها واستعمالها كذلك دون تركيب فعوملت من هذه الجهة معاملة الحروف فإذا وقعت في الكلام مركبة جرت مجرى سائر الأسماء فقلت ياءٌ وتاء وثاء وراء ونحو ذلك فهي في حالة الوقف أقرب إلى نحو واحدْ اثنانْ ثلاثةْ* وشبه ذلك مما هو مقوفٌ** قابل للتصرف بوضعه حالة التركيب ألا ترى إلى قولهم في الثلاثي منها دالٌ ذال لام كاف ولا شك أن هذه مثل واحد اثنان فتكون في قبول الإمالة مثل المتمكنة وقال ابن جني «إنما [201]

دخلتْ فيها الإمالة من حيث دخلتْ بلى وذلك أنها شابهتْ بتمام الكلام واستقلاله بها وغناها عما بعدها الأسماءَ المستقلة بنفسها فمن حيث جازت إمالة الأسماء كذلك أيضا جازت إمالة بلى ألا ترى أنك تقول في جواب من قال لك ألم تفعل كذا؟ بلى. فلا تحتاج بلى لكونها جوابا مستقلا إلى شيء بعدها فلما قامت بنفسها وقويت لحِقت في القوة بالأسماء في جواز إمالتها كما أميل نحو أنّى ومتى وكذلك أيضا إذا قلت ألف با تا قامت هذه الحروف بأنفسها ولم تحتج إلى شيء يُعرِّبها ولا إلى شيء تتصل في اللفظ به فتضعف وتلطف لذلك الاتصال عن الإمالة المؤذنة بقوة الكلمة وتصرفها» قال «ومما يقوِّي ذلك ما روينا عن قطرب أن بعضهم قال لا أفعل فأمال لا وإنما أمالها لما كانت جوابا قائمة بنفسها فقويت بذلك فلحقتْ بالقوة باب الأسماء والأفعال فأُميلت كما أميلا هذا وجه إمالتها وهي حروف هجاء» انتهى ما قاله ابن جني فإن قلت فمن أيِّ قسم تُعدُّ إمالة هذه الألفات وهي قولهم با تا ثا را طا ظا إلى آخرها أمِنْ قسم المتمكن الذي إمالته قياس فيكون داخلا* في إمالة الأسماء المتمكنة أم من قسم غير المتمكن فتكون من الأسماء التي استثناها الناظم؟ [202]

فالجواب أنها تدخل له في قسم غير المتمكن لأنها عنده من حيث استعملت استعمال الأصوات ووضعت وضعَها لا يدخلها اشتقاق ولا تصريف ولا توزن ولا يدخلها من هذه الأحكام ما يدخل المتمكن صارت كغير المتمكن من الأسماء ويُبيِّن ذلك أن إمالتها لغير موجب إذ ليست الألفات فيها على رأيه بمنقلبةٍ عن شيء فضلا عن أن تكون منقلبة عن ياء فتمال لذلك، بلى** هي كلا وما ونحوهما ولذلك جعل الفارسي القياس فيها بعد التركيب أن تكون من باب طويت وشويت لا من باب حييتُ وإن سمعت فيها الإمالة لأنها لا تدل على أصلِ الألف إذْ ليس لها أصل غير ما ظهر من لفظها وسيأتي لهذا ذكرٌ في التصريف إن شاء الله ووجه ما اطَّرد في ها ونا من الإمالة أنهما ضميران متصلان فقاما بما اتصلا به مقام الجزء منه ألا ترى أن سبب إمالتهما إنما يُوجد أبدا بما اتصلا به فصار قولك منها ومنا كسربال وبها وبنا كعماد والإمالة فيما اتصلا به مطردة كذلك ما كان كالجزء منه وهذا ظاهر ولما أتم الكلام على كليات الإمالة في الألف أخذ يذكر الإمالة حيث وقعت منفردة عن الألف وذلك الحركات فقال وَالْفَتْحَ قَبْلَ كَسْرِ رَاءٍ فِي طَرَفْ ... أَمِلْ كَـ (لِلْأَيْسَرِ مِلْ تُكْفَ الْكُلَفْ) كَذَا الَّذِي تَلِيهِ هَا التَّأْنِيثِ فِي ... وَقْفٍ إِذَا مَا كَانَ غَيْرَ أَلِفِ [203]

فاعلم أن الحركات ثلاث وهي الضمة والفتحة والكسرة أما الكسرة فخارجة عن قصد الإمالة لأن الإمالة من حقيقتها وغيرها من الحركات إذا أميل فإنما ينتحى به نحوها فلا يصح دخولها هنا وأما الضمة والفتحة فهما اللتان يمكن ذلك فيهما بأن يُنحى بهما نحو الكسرة كما نُحِيَ بالألف نحو الياء وقد ذكر الإمالة فيهما النحويون لكن الناظم هنا لم يذكر للضمة إمالة بل أفرد الفتحة بالذكر فيُسأل لم تركها هنا وقد ذكرها هو وغيره؟ ويجاب عن ذلك بأن الإمالة فيها نادرة ومستنكرة في القياس قال ابن جني إن ذلك قليل مستنكر ألا ترى إلى كثرة قيل وغيض وقلّه** نحو مذعور وابن بور وقال الفارسي إنها إمالة ما كانت تجب في القياس كما تجب إمالة الفتحة نحو الكسرة في نحو من الضرر لأن الضمة لا تقرب من الكسرة كما تقاربها الفتحة وتقرب الفتحة من الكسرة كما تقرب الياء من الألف ولا تقرب الضمة كما لا تقرب الواو لأن الذي فعل ذلك فعله كما قال مغيرة فأتبع الكسرة الكسرة فكما أن الكسر هنا ليس بقياس كما كان نحو شعير ورغيف قياسا وإنما هو على حد أنبؤك [204]

وأَجُوءُك** كذلك إمالة الضمة في المُنْقُر نحو الكسرة على حد قلب الضمة كسرة في مغيرة ومنتين وكذلك لو كانت إمالة واو ثم نظر هذه المسألة بإمالة الضمة نحو الكسرة في رد وأن ذلك للدلالة بالإشمام على بناء الفعل للمفعول لا للمشاكلة بين الصورتين كشعير ومن الضرر ومن عمرو هذا ما قاله الفارسي في التذكرة من عدم كون هذه الإمالة على القياس فبحق أن يترك الناظم ذكرها ثم نرجع إلى كلام الناظم فاعلم أنه ذكر لإمالة الفتحة سببين أحدهما وقوع راء مكسورة بعدها والثاني وقوع هاء التأنيث الموقوف عليها بعدها ولم يذكر سببا ثالثا هنا لأنه قد ذكر قبل فيها إمالة المناسبة وقد تقدم بيان ذلك وابتدأ بذكر وقوع الراء المكسورة بعدها فقوله «وَالْفَتْحَ قَبْلَ كَسْرِ رَاءٍ فِي طَرَفْ ... أَمِلْ» الْفَتْحَ: منصوب على المفعولية بأَمِلْ وقَبْلَ متعلق باسم فاعل محذوف هو حال من الفتح وفِي طَرَفْ: في موضع الصفة لرَاءٍ والتقدير: أمل الفتح كائنا قبل كسر راء متطرفة ويعني أن الفتحة تمال إذا وقعت قبل راء مكسورة واقعة في طرف كلمة أي في آخرها وقد أشعر هذا الكلام بأن العلة في إمالة الفتحة الكسرة الواقعة على الراء مركبة من [205]

شيئين أحدهما الكسرة وقد تقدم في أحكام الألف كونها علة أيضا والثاني كونها في راء لا في غيرها ويتبين معناها في تفصيل الكلام على القيود المتعلقة بهذا النظم وهو في هذه المسألة قد اشتمل على قيود: أحدها كون الفتحة الممالة قبل كسر وهذا القيد يعطي شيئين أحدهما أن الكسر إنما يكون علة في إمالة الفتحة إذا كان بعد الفتحة والفتحة قبله فلو كان الكسر متقدما والفتحة بعده لم تجز إمالة الفتحة كما لو قلت مررت ببقرِ جعفر فلا تميل فتحة الجيم والثاني كونها متصلة بالكسر ليس بينهما فاصل لأن هذا هو السابق للفهم من قوله «وَالْفَتْحَ قَبْلَ كَسْرِ رَاءٍ» وأيضا لو كان على إطلاق القبلية سواء أكانت مع فصل بينهما أم لا لم يكن لذلك في كلامه حد محدود فيختل وضع المسألة فلا بد من فهم الاتصال من كلامه وعلى هذا فلو كانت الفتحة غير متصلة بالكسر لم تُمَل على مقتضى مفهوم كلامه كما إذا قلت من عمرو ومن صدْر ومن ظهْر وما أشبه ذلك كل هذا لا يمال عنده وكان ذلك لبعد الفتحة من الكسر فلا تقوى الكسرة على إمالتها والقيد الثاني كون الكسر في راء وذلك قوله «قَبْلَ كَسْرِ رَاءٍ» فنسب الكسر إلى الراء فدل على أن غيرها من الحروف المكسورة بخلافها كما إذا قلت من السلف أو من السلم أو من العَمضلِ** أو نحو ذلك فلا تميل مثل ذلك والراء هي التي اختص بها هذا الباب لما فيها من التكرير فكأن الكسرة فيها كسرتان فقويت على إمالة الفتحة قبلها لأجل ذلك [206]

كما أمالوا لأجلها الألف لأن الفتحة من الألف قال السيرافي الراء في باب الإمالة حرف لا نظير له للتكرير الذي فيه ولاختصاصه بأحكام ينفرد بها منها ما انفرد به في هذا الباب من إمالة ما قبله إذا كان مكسورا وقبله فتحة ومن جواز الإمالة من أجله فيما تمنع حروف الاستعلاء من إمالته انتهى معنى كلامه فالراء لها اختصاص بهذا المعنى وهو مما اختُصت به في هذا الباب بخلاف غيرها من الحروف والقيد الثالث كون الراء متطرفة أي في آخر الكلمة وهذا القيد فيه شيئان أحدهما أنها إذا كانت متوسطة فلا تمال لأجلها وإن كانت مكسورة فلو قلت هو مشترك أو مكترث أو محترف أو نحو ذلك لم تمل الفتحة لأجل الراء وكذلك إن كانت أولا لأن المتطرف عندهم هو الذي في آخر الكلمة فإذا قلت «عملت عملَ رباح» * لم تمل فتحة اللام على مقتضى كلامه والثاني كون الراء متصلة مع ما قبلها في كلمة واحدة إذ لا تكون الراء في آخر كلمة إلا ما قبلها من نفس تلك الكلمة فلو كانت منفصلة نحو عمل رباح أو خبط رياش أو نحو ذلك فمقتضاه ألا تميل هذا ما يحتمله الشرح ومثال ذلك قولك من البقر ومن الكبر ومن الصغر ومن العبر ومن المُحاذَرِ ومن الأكبر والأصغر مثّل الناظم بقوله «لِلْأَيْسَرِ» إلا أنه معترض من أربعة مواضع: أحدها أن شرط الاتصال خطأ أعني اتصال الفتحة بالراء المكسورة فإن النحويين قد أجازوا الفصل بينهما بحرف ساكن أو [207]

متحرك لكن بشرط أن يكون صحيحا فالساكن نحو من عمرو ومن بكر ومن بدر وما أشبه ذلك قال سيبويه «وتقول من عمرو فتميل العين لأن الميم ساكنة» ثم قال بعد هذا «وقالوا خَبَط الريف كما قالوا من المطر» يعني فلم يعتبروا الفاصل الساكن والمتحرك نحو من حذِرِ ومن أشِرِ ومن نهِر وما أشبه ذلك وحكى سيبويه عن العرب رأيت خَبَطَ فِرِنْدٍ ممالا كما قالوا من الكافرين فأمالوا فإذا كان جائزا في المنفصل فهو في المتصل أجوز وقد أجاز المؤلف في التسهيل الإمالة مع الفصل بالساكن الصحيح فأما لو كان الساكن ياءً فلا تجوز الإمالة فلو قلت مررت بعيْرٍ أو بخير أو بِدَيْر لم يُمِل لأن تقريب الفتحة من الكسرة يخفيها مع الياء كما أن الكسر نفسه في الياء أخفى هذا تعليل الكتاب وهو ظاهر فما أشار إليه الناظم من اشتراط الاتصال لا ينهض إذًا والموضع الثاني اشتراطه أن تكون الراء متطرفة في آخر الكلمة فإنه غير مشترط عند النحويين وقد أجازوا أن تميل نحو عمل عمل رياح ورأيتهم أحسن رجال ورأيت خبط رياح وكذا قولهم رأيت خبط فرند نص سيبويه وغيره على صحة الإمالة في هذا وأيضا فما المانع من إمالة نحو مشترك ومعترف وقد وُجد سببُ الإمالة فيه ويدل على صحة الإمالة فيه أن سيبويه جعل قولهم من الشرِق مما مَنَعتِ القافُ فيه إمالة الشين وما [208]

ذاك إلا لمنعها ما كان جائزا ولو لم تجز إمالة مثل هذا مع فقد المستعلي لم يكن لتمثيله بهذا المثال معنى بل كان يمثل من سفر قاسم ونحوه من المنفصل والموضع الثالث اشتراط ما ليس بمشترط في صحة الإمالة وهو وجود الراء وقد وقع في التذكرة للفارسي ما نصه: سألته فقلت كيف مثّل سيبويه في باب ما يمال من الحروف لوقوع الراء بعدها مكسورة فاعتزم على الراء في التمثيل دون غيرها وكرر المسائل وأطالها على ذلك؟ فقال لأن في الراء من تكريرها الصوت ما ليس في غيرها فلذلك وضع يده عليها قلت له ولم احتيج في باب الحروف الممالة الحركات إلى قوة ذلك المعنى حتى جاء بالراء لقوتها بالتكرير وأنت وهو جميعا تنزلان الفتحة هنا منزلة الألف وأنت قد تميل الألف للكسرة من غير راء نحو سالم ونابل فإذا جاز أن تميل الكسرة في غير الراء الألف فهلا جاز أيضا أن تميل الفتحة؟ بل هلا كان ذلك في الفتحة أحسن لقلتها عن الألف فإذا أثّرت في الأقوى كان تأثيرها في الأضعف أحرى؟ فهلا قيل من سَلْمٍ ومن كعب كعمرو؟ فقال القياس يجيزه ولكنه قدم الراء لقوتها قلت فيؤكد ما قلته اعتذاره من ترك إمالة فتحة تاء تحسب ونحوها ولا راء هناك قال نعم انتهى ما ذكره وهو نص على صحة الإمالة فيما ليس فيه راء وقد نسبه لسيبويه وله في موضع آخر من التذكرة ما له إشعار بهذا فكيف يجعل الناظم الراء شرطا في هذه الإمالة؟ [209]

والموضع الرابع أنه لم يذكر حكم حرف الاستعلاء هنا وقد كان من حقه ذلك لأن للراء المكسورة في هذا الموضع مع حرف الاستعلاء حالين حال يكفها فيه عن تسبيب الإمالة وذلك إذا وقع حرف الاستعلاء بعدها نحو من الشرِق ومن الفَرِق إذا قيل فلا تميل هنا فتحة الشين والفاء إذ يلزم فيه التصعد بعد التسفل وقد تقدم استكراهم** لها وحالٌ لا يكفّها فيه عن التسبيب وذلك إذا وقع** قبلها نحو من البقر ومن النظر ومن البطر ومن البخر ومن الصِّغر ومن البصر ومن الحضر وما أشبه ذلك فالإمالة هنا جائزة ولا أثر هنا لحرف الاستعلاء والجواب عن الاعتراض الأول أن يقال لعل مذهبه وقف المنفصل بحرف على السماع لأنه سبب بعدي فهو أضعف كما كانت الكسرة البعدية لا تقتضي الإمالة عنده إلا مع الاتصال هذا في الكلمة الواحدة وأما إذا كانت الراء في كلمة أخرى فمذهبه فيه عدم الإمالة وذلك حيث قال «وَلَا تُمِلْ لِسَبَبٍ لَمْ يَتَّصِلْ» ولا شك أن مثل هذه المسألة داخل تحت ما ذكر إذ لم يقيد ألفا من فتحة فيحمل على كل ما ذكر في الباب من الأسباب والمسببات وقد تقدم بيان هذا المذهب في موضعه ونحو** هذا يجاب عن الرابع فإنه قد ذكر ما يكف من حروف الاستعلاء وما لا يكف وتقدم** أن المستعلي إذا تقدم على الراء المكسورة لا يمنع كقارب وخارج وقد نزّل سيبويه هذه الحروف هنا [210]

منزلتها إذا كانت قبل الألف وبعد الألف راء وأما إذا تأخر فإنه** يكف السبب كما قال فارق وناعق فكذلك ههنا فلم يترك ذكر ذلك إهمالا له وإنما تركه اختصارا لتقدم** ذكره وعلى هذا لا إشعار للمثال بمخالفة مع النص على الحكم الصحيح ومن ههنا نقول أيضا إذا كانت الفتحة على راء والكسرة على راء فلا بد من الإمالة وإنما ذلك لأن الراء المكسورة تمنع الراء وإن انفتحت عن كف الإمالة فتميل نحو بِشَرَرٍ ومن الضرر ومن السِّرَرِ ونحو ذلك وهو منصوص عليه في صحة الإمالة عند النحويين وأما الثاني فإن غالب الإمالة هنا مع تطرف الراء فلعله رأى أن ما كانت الراء فيه متوسطة مما لا يبلغ مبلغ القياس عليه فأخرج عن المقيس باشتراط التطرف وأما الثالث فالذي ذكر السيرافي أن ذلك مختص بما فيه الراء ولذلك فسر هو وابن خروف مسألة «تحسبُ» على أنها ليست من الباب وإنما هي من باب كسر حرف المضارعة وإنما نُقل أنها من باب الإمالة عن الفارسي فالناظم جرى على معهود كلام الناس وظاهر مساق سيبويه وتبويبه وكلامه [211]

وقوله «مِلْ تُكْفَ الْكُلَفْ» من تمام التمثيل فللأيسر متعلق بمِلْ فعل الأمر من مال يميل ميلا وهو على حذف الموصوف أي مل للأمر الأيسر وهو بمعنى الأخف وتُكْفَ جواب مِلْ وهو من كفيته مَئُونة كذا أي رفعتها عنه والْكُلَفْ جمع كلفة وهي المشقة في الشيء والتكليف منه فكأن الناظم أتى ضمن تمثيله بحكمة يريد: مل للأمر الأيسر الذي لا تكبر مئونتُه ترتفع عنك المشقة والتعب فيه وهي حكمة جارية في كل أمر من أمور الدنيا والدين ثم قال «كَذَا الَّذِي تَلِيهِ هَا التَّأْنِيثِ فِي ... وَقْفٍ» هذا هو السبب الثاني من أسباب إمالة الفتحة وهو وقوع هاء التأنيث بعدها و «الَّذِي» يحتمل أن يكون صفة حذف موصوفها لتقدم ذكره وهو الفتح ويعني أن الفتح الذي يقع قبل هاء التأنيث في الوقف يمال أيضا كما يمال إذا وقع قبل راء مكسورة ويحتمل أن يكون الموصوف هو الحرف على الجملة كأنه قال كذا الذي يقع قبل هاء التأنيث ويدل على هذا قوله بعد «إِذَا مَا كَانَ غَيْرَ أَلِفِ» فإنما الظاهر أن يكون الاستثناء من الحرف الموصوف بالذي وهذا المحمل هو الظاهر لأن ضمير «كَانَ» لا بد أن يعود على مذكور [212]

وهو ما وقع عليه الذي ووصف بها لكن يلقى فيه أنه أطلق الإمالة على الحرف والمراد حركته لأن إمالة الحركة إمالة للحرف المحرك بها قال سيبويه «وسمعت العرب يقولون ضربت ضَرْبهْ وأخذت أخْذه» ثم علل ذلك بأنهم شبهوا الهاء بألف فأمال ما قبلها كما يمال ما قبل الألف ولم يعيِّن أيَّ ألفٍ أشبهت لكن الأقرب أنها شبهت بألف التأنيث وذلك للشبه اللفي والمعنوي أما المعنوي فمعنى التأنيث الذي دل عليه كل واحد منهما وأما اللفظي فلأن كل واحد منهما آخر ولأن ما قبلهما لا يكون إلا مفتوحا لاجتماعها في المخرج وهو أقصى الحلق وفي الصفة وهي الخفاء ولأن كل واحد منهما في الوقف ساكن لا يقبل الحركة فهذه خمسة أوجه من الشبه بين هاء التأنيث وألف التأنيث وللثلاثة الأخيرة منها وجب أن يكون ذلك في الوقف لأنها في الوصل تاء ومخرجُ التاء* ما بين طرف اللسان وأصول الثنايا فقد اختلف المخرجان واختلفت الصفة أيضا والتاءُ متحركة بخلاف الألف فإذًا هي في الوصل بعيدة من الألف بخلاف الوقف والإمالة هنا لغة ثابتة للعرب كما ذكر سيبويه وقال السيرافي: إمالة ما قبل الهاء في ضرْبه ونحوه لغة فاشية في البصرة والكوفة والموصل وما قرب منهن [213]

وقيد الهاء هنا في جلبها الإمالة بقيدين: أحدهما كونها للتأنيث نحو ضرْبة* ونعمة* ورحْمة* وأخْذِة* ليلة* وميتة* وكذلك ما أشبه فإذا كانت للتأنيث حصل لها تمكنُ الشبه بألف التأنيث فرن** لم تكن للتأنيث فيظهر أن الإمالة لا تدخلها بمقتضى قيده وهذا هو المنقول الشهير وقد حكى بعض أهل القراءة إدخالَ هاءِ السكت للكسائي في الإمالة نحو مالِيَهْ وما هِيَهْ* وحسابِيَهْ ونحوه قالوا وإليه ذهب ثعلب وابن الأنباري وعُلل بالشبه اللفظي الذي بين هذه الهاء وهاء التأنيث في الوقف قال بعضهم وهذا عندي مثل إمالة «طَلَبْنا» في الشذوذ فالناظم لم يثبت الإمالة لهاء السكت لشذوذها والثاني كونها في الوقف وقد تقدم آنفا وجه اختصاص الإمالة بالوقف وقوله «إِذَا مَا كَانَ غَيْرَ أَلِفِ*» قيدٌ للمُمال قبل الهاء يعني أن ما قبل الهاء إنما يمال إذا لم يكن ألفا كما تقدم تمثيله فإن كان ألف فمقتضى مفهوم شرطه أن الهاء لا تقتضي إمالة في ذلك الألف وهذا مفهوم صحيح فإن الهاء لما عوملت معاملة ألف التأنيث لم يُمَل لها إلا ما يمال للألف وهو الفتحة قبلها خاصة فأما الألف فإن كان معها ما يقتضي* إمالتها أميلت [214]

نحو مرضاة ومُزجاة ونحوهما وإلا بقيت على فتحها نحو مناة واللات إذا وقفت عليها اللاه والزكاة والصلاة وما أشبه ذلك وقد تقدم الكلام على ذلك وهذا التفسير على أن مدلول «الذي» هو الحرف وضمير «كان» عائد عليه فإن كان الفتح كأنه قال كذاك الفتح الذي يليه هاء لتأنيث فضمير كان لا يعود على الفتح لفساد المعنى بل على الحرف المفهوم من سياق الكلام وهو بعيد والأول أظهر ثم يبقى النظر في مقتضى إطلاقه في هذه الإمالة وذلك أنه أطلق فيها القول ولم يستثن شيئا فيمكن فيه في بادئ الرأي محملان: أحدهما المحمل الثابت في تفسير كلامه والذي يقتضيه القياس في هذا الموضع وهو أن يُجرى حكم الإمالة فيما قبله حرف من حروف الاستعلاء أو الراء أو غيرها من غير استثناء نحو جنّةْ* وبدْرَةْ* وقبضَةْ* وبسطةْ* وعِظَةْ* ونشأة* وفرقةْ* ومنحَةْ* وحفصةْ* وما أشبه ذلك وإنما كان القياس مقتضيا لهذا لأن الإمالة للهاء هنا محمولة على الإمالة لألف التأنيث وقد تقدم أن ألف التأنيث كالألف المنقلبة لا يكفها المستعلي الذي قبلها [215]

فكذلك يكون ما حُمل عليها ألا ترى أنهم حين حملوا ألف التنوين على ألف التأنيث أمالوها وإن وقع قبلها المستعلي نحو رأيت عِلْقا حكاه سيبويه* مع إمالة عِنَبا وعِلْما ونحو ذلك مما سمع ممالًا وبهذا استدلوا على أن الإمالة فيها بالحمل على ألف التأنيث فكذلك هاء التأنيث وكلام الناظم قابل لهذا المحمل وجار على مقصده فإن قيل قد تقدم في إمالة الفتحة لكسرة الراء أن المستعلي فيها كافٌّ إذا وقع بعد الراء وغير كافّ إذا وقع قبلها على حد ما رسمه قبلُ في إمالة الألف تقيد كلامه بذلك فلا بد من حمل كلامه هنا على ذلك التقييد أيضا وإلا كان كلامه على غير ترتيب صناعي ولا مساق مفهوم حيث يقصد في بعض المسائل التقييد وفي بعضها الإطلاق فإذا كان هذا غير مستقيم أمكن أن يحمل على استثناء حروف الاستعلاء وهو المحمل الثاني فيكون نحو خاصَّةْ وفضةْ وبسطةْ وغِلظةْ وصِبغةْ وصرخةْ وفرقةْ غير ممال لكفِّ المستعلي وكذلك الراء نحو بررةْ وكفرةْ وغبرةْ وهي طريقة تنحو إلى طريقة القراء في مذهب الكسائي وإن لم تكن إياها من كل وجه لكنها أسعد بنظم كلامه أجيب عن هذا بأن في كلامه ما يعيّن المحمل الأول وهو قوله «إِذَا مَا كَانَ غَيْرَ أَلِفِ» وبيان ذلك أنه أتى أولا بقوله «كَذَا الَّذِي تَلِيهِ هَا التَّأْنِيثِ» والذي صيغة عموم فكان يحتمل التخصيص بما تقدم كما قيل في السؤال لولا أنه عم ما عدا الألف بقوله «إِذَا مَا كَانَ غَيْرَ أَلِفِ» أي ليس في جميع الحروف الواقعة قبل هاء التأنيث ما يخرج عن حكم الإمالة غير الألف فخرج بالتنصيص على هذا المعنى عن حكم التقييد بما تقدم فبقي* على أصله من [216]

التعميم في المستعلي وغيره ما عدا الألفَ وأيضا فلو حملناه على ما قيل في السؤال من استثناء حروف الاستعلاء والراء خاصة لكان خراجا عن مذهب النحويين وخارجا أيضا عن مذهب القراء فأما خروجه عن مذهب النحويين فظاهر وأما خروجه عن مذهب القراء فإن ما قبل هاء التأنيث عند القراء في مذهب الكسائي في الإمالة وعدمها للقراء فيه طريقتان فطريقة أبي مزاحم الخاقاني موافقة القياس وهو فيها آخذ برواية رويت عن الكسائي تقضي بالتعميم في جميع الحروف إلا أنهم استثنوا الألف وطريقة ابن مجاهد وهي الشهيرة عند الذين تأخروا عنهم أنها على ثلاثة أقسام قسم لا يمال بإطلاق وذلك حروف الاستعلاء السبعة ويزاد عليها ثلاثة أحرف وهي الألف والعين والحاء قالوا لأن الألف لا مدخل لها ههنا والعين والحاء عند الكوفيين من حروف الاستعلاء ويجمعها هجاء: (ضُغِط قص خظ) وقسم ثان يمال بإطلاق وذلك خمسة عشر حرفا يجمعها هجاء: (فجثت زينبُ لذَوْدٍ شمسٍ) وقسم ثالث يمال في حال دون حال وهو أربعة أحرف يجمعها هجاء: (أكْرَه) فتمال إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة أو ساكن قبله كسرة وتفتح فيما عدا ذلك هذا مذهب القراء وليست واحدة من الطريقتين بموافقة لما ذكر في السؤال فلزم أن لا يقال به [217]

التصريف

التصريف هذا الباب هو الشطر الثاني من شطري علم النحو، وهو أغمضهما وأشرفهما عند أهل هذا الشأن، لما فيه من الفائدة العائدة عليهم في تصرفات كلام العرب، ولأجل ذلك خصه كثير من النحويين بالتأليف على الاستقلال كالمازني والمبرد وابن جني وغيرهم ممن لهج به، وأغرق في النظر فيه، وقد أطنبوا في مدحه بما هو مذكور في مواضعه. ولم يَحُدَّ الناظمُ التصريفَ، وكان من حقِّه هذا، وقد حدَّه في التسهيل بأنه: «علم يتعلق ببنية الكلمة وما لحروفها من أصالة وزيادة، وصحة وإعلال، وشبه ذلك». فقولُه: علم، هو الجنس الأقرب، إذ التصريف المراد حده من جنس العلوم. وقوله: يتعلق ببنية الكلمة، هو معرفة أبنية الأسماء والأفعال.* وأعداد حروف تلك الأبنية من ثلاثي ورباعي وما فوق ذلك، وما هو منها مجرد من الزيادة أو مزيد فيه، وكيف يوزن بالتفعيل؟ وكيف بناءُ ما يُبنى منها إن أُطلق القياسُ فيها، أو سُوِّغ للتدرُّب والامتحان، ونحو ذلك. [218]

وقوله: وما لحروفها من أصالة وزيادة، أي: وما لحروف تلك الأبنية من أصالة، يعني حيث تكون أصولا لا زوائد، وزيادة، يعني حيث تكون الزوائدُ في تلك الأبنية، وأين تزاد؟ وما الذي يُزاد؟ وما الذي لا يُزاد؟ وقوله: وصحة وإعلال. يعني بالصحة إقرارَ الحرف على وضعه الأصلي كالياء في بياض وأبيضَ، والواو في سواد وأسود وبالإعلال: تغييرَ الحرف عن وضعه الأصلي كالواو في قام وأقام، وعاذ عياذا، والياء في أبان وموقن وبائع ونحو ذلك. وقوله: وشبه ذلك يعني كالقلب والحذف، نحو: لاثٍ في لائث، أينُق في جمع ناقة. وحذف واو يَعِدُ، وتَعِدُ، ونَعِدُ، وعِدَةٍ وزِنَةٍ. وما أشبه ذلك. فهذه هي أجزاء التصريف قد نبه عليها، ومعرفة ذلك كله هو علم التصريف. وللكلام في هذا التعريف مجال رحب، وليس هو المقصود ههنا، لأنه لا يتعلق بلفظ الناظم، وإنما تعلق بكلامه منه تفسيرُ لفظ التصريف على الجملة، فلأجل ذلك أتيتُ به. ثم إنّ في لفظه لفظين، وهما الصَّرفُ في قوله: «مِنَ الصَّرْفِ بَرِي»، والتصريف في قوله: «بِتَصْرِيفٍ حَرِيّْ»، والظاهر أنه أراد بهما واحدا، بل لا شك في هذا. واللفظ المصطلح عليه إنما هو التصريفُ لا الصرفُ، فاستعماله لفظَ الصرف تسامحٌ اعتبارا بأصل المعنى لأن «صَرَّف» الذي مصدره التصريف مبالغة في «صَرَفَ» الذي مصدره الصرف، وإنما سُمِّي [219]

هذا العلم تصريفا من التصريف الذي هو التقليبُ، وتقول: صرفت الرجلَ في أمري: إذا جعلتَه يتقلّبُ فيه بالذهاب والمجيء. وصروفُ الدهر: تقلباتُه وتحوّلاتُه من حال إلى حال فهذا العلم فيه هذا المعنى من جهتين: إحداهما: من جهة مُتَعَلَّقه؛ إذ هو مُتَعلِّق بالتصرفات الموجودة في الألفاظ العربية، فقول العربي: ضرب، ويضرِب، وضار، ومضروب، واضطرب، وما كان نحو ذلك تصريفٌ للمصدر الذي هو الضرب، وهو مُتَعلَّق نظر صاحب هذا العلم، فينظر في هذه التصرفات، في الزيادة والنقصان، والصحة والإعلال، وشبه ذلك، فقيل للعلم المتعلِّق بهذا التصريف: تصريفٌ، تسميةً له باسمِ متعلَّقِه. والجهةُ الثانيةُ جهةُ فائدتِه، وهو: انتحاءُ سمتِ كلامِ العرب بالبناء مثل أبنيتها والتصرف في الكلام بنحوٍ من تصرف العرب. وإلى هذا المعنى ردّ ابن جني وغيرُه حقيقة التصريف المبوَّب عليه؛ إذ قال: «إن التصريف هو أن تجيء إلى الكلمة الواحدة فتُصرِّفَها على وجوهٍ شتَّى، مثالُ ذلك أن تأتي إلى ضَرَب، فتبني منه مثْلَ جعفر، فتقول: ضَرْبَبٌ، ومثل قِمَطْر: ضِرَبٌّ، ومثل دِرْهم: ضِرْبَبٌ، ومثل عَلِم: ضَرِبَ، ومثل ظَرُف: ضَرُب». قال: أفلا ترى إلى تصريفك الكلمة على وُجوهٍ كثيرةٍ». فحدَّه كما ترى بفائدته**، وعلى ذلك نصَّ في كتاب الخصائص، فذكر أن الغرض من مسائل التصريف على ضربين: [220]

أحدهما: الإدخال لما تبنيه في كلام العرب والإلحاق له به. ومثّله بما ذكر في الحدّ. والآخر: التماسُكَ الرياضة به والتدرُّب بالصنعَةِ فيه. ومَثَّله بأن تَبْنِيَ من شَوَيتُ مثل فَيْعَلولٍ، فتقول: شَيْوَوِيٌّ، ونحو ذلك. فكلاهما راجع إلى معنى واحد، إلا أن أحدهما في الصحيح والآخر في المعتل وإذا كان كذلك فالصرفُ الذي ذكره الناظمُ من معنى التصريفِ المصطَلح عليه، لكن على لحظ الأصل. ولذلك صح أن يُطلِق عليه صرفا، وإلا فكان يكون إطلاقُه الصرف عليه اصطلاحا ثانيا، ولا يُحمَل على هذا ما أمكن. ثم نرجعُ إلى تفسير كلامه، فأولُ ما قال: حَرْفٌ وَشِبْهُهُ مِنِ الصَّرْفِ بَرِي ... وَمَا سِوَاهُمَا بِتَصْرِيفٍ حَرِيّْ فبيَّن أولا موضوعَ علم التصريف، وموضوعُ كلِّ علمٍ ما يُبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية، كما تقول: موضوعُ علم العروضِ الشعرُ، وموضوعُ علمِ اللغة مفردات كلام العرب؛ فكذلك تقول: موضوع علم التصريف الأسماءُ المتمكنة والأفعال المتصرفة. وما ليس باسمٍ متمكِّن ولا فِعْلٍ متصرفٍ فليس بموضوعٍ له. فالأسماء المتمكنة والأفعال المتصرفة يُبحث في هذا العلم عن عوارضها التي تلحقها في التقلبات من الزيادة والنقصان، والصحة والإعلال، بالقلب والإبدال ومحالِّها وشروطها وموانعها وأسبابها وشبه ذلك. فيعني أنّ التصريفَ لا يدخل في الحروف البتّة، ولا يدخل أيضا فيما أشبه الحروف، وحَصَر هذا في قسمين أما الحروفُ فعدمُ دخولِ التصريف [221]

فيها ظاهر لأنها مجهولةُ الأصول، موضوعةٌ وَضْعَ الأصوات، لا تُمَثّل بالفاء والعين واللام؛ إذ لا يعرف لها اشتقاق ولا تصريف فلو قال (لك) قائل: ما مثالُ هَلْ أو قَدْ أو حَتَّى أو هَلَّا، أو نحو ذلك من الفعل لكانت مسألته محال؛ إذ لا يُمثّلُ مثلُ هذا إلا تنقله بالتسمية إلى الاسمية، فحينئذ يجري مجرى سائر الأسماء المتمكنة من التمثيل بالفعل، فأما وهي على أصلها من الحرفية فلا تُصرّف. ولهذا المعنى المقرر كانت الألفات في أواخر الحروف أصولا غير زوائد ولا منقلبة من واو ولا ياء، نحو: ما ولا وحتى ويا ونحوها، (لا تقول: إن الألف فيها منقلبة كالألف في عصى ومضي* ونحوهما)، لأنها لو كان أصلها الواو أو الياءَ لظهرتا لسكونهما كما ظهرتا في مثل: كَيْ وأَيْ ولَوْ وأَوْ، فلو كان أصلُ ألفِ ما الواو لقلت مَوْ، كما قلت: لَوْ. أو كان الياء لقلت: مَيْ، كما قلت: كيْ لأنها إنما تُقلَبُ إذا كانت متحركةً وقبلها فتحةٌ على ما يأتي في موضعه إن شاء الله، وهي في الحروف ساكنةٌ كلام هَلْ وبلْ، ودال قَدْ. فقد بطل أن تكون منقلبة. وأيضا لو قال قائل: إنّ الألفات في أواخرها زوائد، لم يصحَّ؛ لأنّ الزيادة والأصالة إنما تُعرف بالتصريف والاشتقاق، والحروفُ لا يكون ذلك فيها فقد ثبت في الحروف وصحَّ أنّ التصريفَ وأحكامَه لا تدخلها. وأما ما أشبه الحروف فهو متضمِّنٌ نوعين من الكَلِم: [222]

أحدهما: الأسماء غير المتمكنة، وهي التي أشبهت الحروفَ من جهةٍ من تلك الجهات التي تقدَّم ذكرها في باب المعرب والمبني، وهي أربع: شبهٌ معنوي، وهو ما تضمن معنى الحرف كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام، نحوُ: مَنْ ومتى وأين. وشبهٌ وضعي، وهو ما وُضع وَضْع الحرف في كونه على حرفٍ واحد أو على حرفين ثانيهما حرفُ لين، مثالُ ما هو على حرفٍ واحد التاءُ في: جئتُ وجِئْتَ، والكاف في: ضربك ومنك ولك ومثال ما هو على حرفين ثانيهما حرف لين: نا في ضرْبنا* وضربَنا وبِنا وها في ضرَبها وكذلك ما الاسمية على أيّ وجهٍ كانت وشبهٌ افتقاري وهو ما كان مفتقرا لغيره في بيان معناه كأسماء الإشارة الموصولات والمضمرات أيضا فإنها في أصل وضعها مفتقرة إلى ما يبين معناها وشبه من جهة عدم قبولها التأثر بالعوامل مثاله مه وصه ونزال وإيه وهيهات وسائر أسماء الأفعال فجميع هذا مما أشبه الحرف لا يدخلها تصريف كما قال لأنها منزلة منزلة الحروف ألا ترى أن كم ومن وإذا ومذ سواكن الأواخر كهل وبل وقد وعن ومن ومن هنالك لا تصح أن تكون الألف في متى وإذا وأتى وإيا في إياك وألى وجميع ما آخره ألف منها إلا غير منقلبة من ياء [223]

ولا واو كما أن الألف في حتى وكلا غير منقلبة أيضا فهذه الأسماء بمنزلة الحروف كما قال من كل وجه والنوع الثاني الأفعال غير المتصرفة وهي التي لم تختلف أبنيتها لاختلاف الأزمنة نحو ليس وعسى ونعم وبئس فهذه الأربعة إنما ادعي كونها أفعالا لجريان بعض أحكام الأفعال عليها وإلا* فكان الظاهر عندهم أنها حروف فعسى ولعل أخوان من جهة المعنى وكذلك ليس ما وقد ادعي في ليس أنها حرف اعتماد على مرادفتها لما وكذلك سائرها فهي في الحقيقة تدل على معنى في غيرها فكانت مثلها في امتناع دخول التصريف فيها وقوله بري أصله بريء فحذف الهمزة منه ومثل هذا في الكلام نادر فحكي جاء يجي* ونحو من ذلك قليل وهي لغة ويحتمل أن يكون بري في كلامه فعلا ماضيا سهل همزته ثم وقف عليها بالإبدال* وهو من قولهم برئت لك من كذا وبريت من الدين براءة ولما نفى التصريف عن هذين النوعين بقى* ما عداهما يدخله التصريف فذكره ونص على ذلك فيه بقوله وما سواهما بتصريف حري وحر معناه خليق يقال هو حر بكذا وحري بكذا وحرى* به أي خليق وحقيق وجدير به وقمن وقمن وقمين هذه كلها بمعنى واحد ويعني أن ما عدا الحرف وشبهه من الكلم يدخله التصريف والذي هو سوى ما ذكر نوعان [224]

أحدهما الأسماء المتمكنة وهي المعربة نحو رجل وفرس وكساء وأحمر والثاني الأفعال المتصرفة وهي المختلفة الأبنية لاختلاف الأزمنة نحو ضرب وخرج ومات ورمى لأنك تقول ضرب ويضرب واضرب وخرج ويخرج واخرج ومات ويموت ومت ورمى ويرمي* وارم وما أشبه ذلك فهذان النوعان هما اللذان يدخلهما الحكم بالأصالة والزيادة والصحة والإعلال وتوزن بالفاء واللام والعين فتقول ضرب وزنة فعل وحروفه كلها أصول ومات وزنه فعل وأصله موت تحركت الواو فيه وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا وقولك يموت الياء فيه زائدة لتدل على المذكر الغائب وكذلك سائر الأفعال ومثل ذلك في الأسماء أيضا فتقول زيد وزنه فعل وهو ثلاثي وكله أصول ودار وزنه فعل وأصله دور فانقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وسماء وزنه فعال والألف زائدة والهمزة أصلها الواو لأنها مشتقة من سما يسمو فانقلبت همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة وكذلك سائر الأسماء المتمكنة ولك أن تبني على أمثلتها وتبني منها على ما سيذكر بعضه بعد هذا إن شاء الله تعالى فقد ظهر دخول التصريف في هذين النوعين وامتناعه من النوعين الأولين إلا أن على الناظم هنا دركا من أوجه ستة أحدهما أنه أغفل إخراج الأسماء الأعجمية عن حكم التصريف والناس قد عدوها من الأمور التي لا يدخلها التصريف كما لا يدخلها [225]

اشتقاق قال ابن جني فأما الأسماء الأعجمية ففي حكم الحروف لامتناعها من التصريف والاشتقاق ولأنها ليست من اللغة العربية قال وإذا كان ضرب من كلام العرب لا يمكن فيه الاشتقاق ولا يسوغ فيه التصريف يعني التصريف العربي مع أنه عربي فالامتناع من هذا أولى وهو به أحرى لبعد ما بين العجمية والعربية ألا ترى أنك لا تجد لإبراهيم ولا لإسماعيل ونحوهما اشتقاقا ولا تصريفا كما لا تجد لهل وقد وبل فالأمر فيهما واحد ثم ذكر أن قول من يقول إن إبليس من قوله تعالى يبلس المجرمون وإن إدريس من درس القرآن أو درس المنزل وإن يعقوب من العقبى أو العقاب خطأ إذ لو كان كذلك لكان عربيا مشتقا ولوجب الصرف فيهما لكنها لا تصرف فليس ذلك إلا اتفاقي* ألا ترى إلى قولا النابغة نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد فلو كان من قبست النار لانصرف لأنه بمنزلة جارود من الجرد وعاقول من العقل فإذا ليس لأحد أن يقول إن إبراهيم وإسماعيل لهما مثالان من الفعل كما لا يمكنه ذلك في إن وسوف وثم وما أشبه ذلك قال ولكن يقال لو كانت هذه الأسماء من كلام العرب لكان حكمها كيت وكيت كما أن سوف وحتى ولو سمي بهما لكان من أمرهما كيت وكيت [226]

وإذا ثبت هذا فادعاء الأصالة والزيادة في حروفها والصحة والإعلال والقلب والإبدال غير صحيح كما لا يسوغ ذلك في الحروف فهذا وجه من الدرك على الناظم لأنها لم تدخل له في الحروف إذ ليست بحروف ولا فيما أشبه الحروف إذ ليس فيها وجه من وجوه شبه الحروف وإنما شبهها ابن جني بها امتناع التصريف لا في غير ذلك وإلا كانت مبنية كما بني ما أشبه الحروف من الأسماء العربية والثاني أن الأسماء الموقوفة التي لم تستعمل مركبة لا يدخلها تصريف ولا تمثل بالفاء والعين واللام ما دامت على ذلك ولا يحكم على شيء من حروفها بأصالة ولا زيادة ولا انقلاب عن شيء مع أنها في أنفسها مستقلة لم تشبه الحروف وإنما هي كالتكلم بالمفردات المعربة إذا وقف عليها نحو واحد اثنان* ثلاثة* أربعة* خمسة* وسائر أخواتها فهي كقولك زيد عمرو بكر خالد فأين شبه الحرف من هذا وكذلك أسماء حروف المعجم الثلاثية نحو ألف جيم دال زاي كاف لام ميم وما أشبه ذلك وكذلك الثنائية أيضا ولا يصح أن يقال فيها إنها مبنية لأن البناء والإعراب حكمان من أحكام المركبات لا من أحكام المفردات من حيث إفرادها فإذا ليست من الحروف ولا مما أشبه الحروف فيقتضي كلام الناظم دخول التصريف فيها لقوله وما سواهما بتصريف حري وذلك غير صحيح بل [227]

التصريف منها ممتنع لأنها كالأصوات المتقطعة وشبهها بالحروف مفقود وما تقد قبل هذا الباب من أنها تشبهها فذلك تشبيه غير موجب للبناء كما لم يوجب البناء في الأعجمية شبهها بالحروف كما تقدم آنفا والثالث أن الحروف قد دخلها أحكام التصريف من الزيادة والحذف والإبدال وغيرها وإن لم يكن لها تمثيل بالفاء والعين واللام فمن ذلك إبدالهم العين من حاء حتى نحو عتى حين ومن همزة أن نحو قول ذي الرمة أعن ترسمت من خرقاء منزلة البيت وإبدال الهاء من همزة إن نحو لهنك من برق علي كريم ومن همزة أيا نحو [228]

ويقول من طرب هيا ربا وقد قالوا في لام لعل الأولى إنها زائدة لقولهم فيها عل وأما الحذف فكثير نحو حذف الألف من ها في هلم وحذف ألف ما في لم وقالوا أم والله وتخفيف رب نحو رب هيضل لجب لففت بهيضل وكذلك إن وأن ولكن وكأن وكذلك قالوا مذ في منذ الحرفية وسو وسف وسي* في سوف وكثير من هذا وكله من باب التصريف هذا إلى ما دخله من الاشتقاق منه على مذهب ابن جني إذ جعل مادة ن ع م جارية كلها في الاشتقاق على نعم حرف الإيجاب والتصديق وجعل النعمة والنعيم والإنعام وغير ذلك راجعا إليه وكذلك بجل جعل التبجيل والبجيل وغير ذلك من المستعمل من مادة بجل مشتقة من بجل بمعنى نعم وكذلك حكى* من قولهم سألتك كذا فلو ليت لي أي قلت لي لولا وأشياء من هذا النحو والتصريف النحوي تابع لهذا بلا بد فكيف يجعل الناظم الحرف بريئا من التصريف وقد ظهر عدم براءته منه [229]

والرابع أن ما أشبه الحرف من الأسماء قد دخله التصريف وأحكامه ألا ترى أن ذا وتا والذي والتي قد دخلها التثنية والجمع والتصغير وتبع ذلك من أحكام الزيادة والحذف ما هو معلوم في أبوابه وقد قالوا في ذا إنه فعل من مضاعف الياء وإنه محذوف اللام وهو مع ذلك مبني لشبه الحرف وإنه أميل إشعارا بأن ألفه من الياء أبدلت لا من الواو وكذلك قال أبو إسحق في إياك نعبد إن إيا مشتقة من الآية وهي العلامة والمعنى حقيقتك نعبد مع أنه مضمر مبني ويقولون في الذ والذ إنه محذوف من الذي وفي اللاء إنه محذوف من الائي وإن اللاي مسهل من اللاء والتسهيل نوع من أنواع الإبدال ومذ محذوفة من منذ إذا كانت اسما نص عليه الإمام ولذلك تقول إذا صغرت مسمى بمذ منيذ ومذلك جعلوا قط مشتقا من قططت أي قطعت لأن قولك ما فعلته قط أي فيما مضى وانقطع من عمري وقد أدخل ابن جني الاشتقاق في الأصوات فجعل قولهم حلحلت بالإبل أي قلت لها حل وكذلك سأسأت وجأجأت [230]

وكثير من ذلك والاشتقاق والتصريف متواخيان فحيث دخل أحدهما دخل الآخر وزيدت الألف في أنا وهو ضمير فإذا وصلت قلت أن زيد فإن وقفت قلت أنا وعلى أن نافعا يثبتها في القرآن إذا وقع بعدها همزة نحو أنا أحيي وأميت وإذا تتبعت أمثال هذا لم تكد تحيط به وهو يقول حرف وشبهه من الصرف بري فأين البراءة هنا وفيه أشياء قياسية لا يقتصر بها على السماع في هذا وفي التصريف الداخل في الحروف والخامس أن الأفعال غير المتصرفة قد اقتضى كلامه خروجها من أحكام التصريف لأنها أشبهت الحروف كما ذكر وهذا لا يجتمع مع قولهم إن ليس أصلها ليس الذي كصيد كما قالوا علم في علم ثم ألزموها الإسكان وأيضا فحذفوا العين في لست لكونها حرف علة كما حذوها في بعت وقلت وقالوا إن ألف عسى ياء وإن أصلها عسي بدليل عسيت وقالوا فانقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وتجوز إمالتها كسائر ما لامه ياء من الأفعال ثم يجوز أن يحول إلى فعل نحو عسيتم وعسيت وقالوا في نعم وبئس أصلهما نعم وبئس على وزن فعل مثل شهد ونعم ينعم لكنهم فعلوا يهما ما يفعل بما كان نحوهما من المتصرفات التي على فعل وعينها حرف من حروف الحلق كشهد ونعم [231]

ونحوهما من الأفعال والأسماء أيضا كما قرروا ذلك في باب نعم وبئس وكذلك فعل التعجب من الأفعال غير المتصرفة وهو مع ذلك يدخله القلب إذا كانت لامه معتلة نحو ما أغزاه وما أبهاه وما أنحاه ويبنى من الأفعال ويوزن ويدخله أنواع من أحكام التصريف مع أن الناظم قد أخرج هذه الأشياء عن أحكام التصريف وهبها فقد فيها التصرف الذي للأفعال بحسب الأزمنة فذلك بعض التصريف لا جميعه وقد جرت فيها وجوه أخر من التصريف ولا يشترط في كون الكلمة متصرفة ألا تخلو من وجه من وجوه التصريف وهذا يتعذر وجوده في كلمة واحدة بحيث لا يبقى وجه إلا وقد دخلها فهذا كله فيه ما ترى والسادس أن شبه الحرف على وجهين أحدهما أن يكون في أصل الواضع كما تقول إن الضمائر والمبهمات وأدوات الشرط موضوعة في الأصل على الشبه بالحرف ويقال فيها متوغلة في شبه الحرف أي لا تعرب أبدا إلا باستئناف* التسمية بها والثاني أن يشبه الحرف في حال من الأحوال دون سائر أحواله فيعرب مرة إذا كان باقيا على أصله من الإعراب ويبنى مرة إذا تعلق به شبه الحرف كالمنادى والمبني مع لا والمبني لقطعه عن الإضافة أو لإضافته إلى مبني وما أشبه ذلك من الأسماء التي لها حالان فأما الأول من القسمين فهو الذي يمتنع من التصريف أن يدخله على ما قال وأما الثاني فحكمه حكم المتمكن من كل وجه يدخله التصريف وأحكامه [232]

ويوزن ويحكم على حروفه بالأصالة حيث تجب وبالزيادة كذلك وبالقلب والإبدال وسائر الوجوه لا فرق بينه وبين ما لم يبن قط وإن كان ذلك في حال بنائه وكلام الناظم يقتضي أنه حالة البناء لا يدخله تصريف إذ قال حرف وشبهه من الصرف بري ولا شك أن يا زيد ولا رجل ونحوهما مبنيا ولا بناء عنده إلا لشبه الحرف وقد تقدم وجه شبه هذه الأنواع بالحرف في مواضعها فاقتضى أن التصريف ممتنع أن يدخلها وأنها بريئة منه وهذا فاسد ولا يقال إنما أراد الشبه بأصل الوضع لأنا نقول ليس في لفظه ما يعين هذا البتة وعبارته في التسهيل أحسن إذ قال ومتعلقه نت الكلم الأسماء المتمكنة ولا شك أن المنادى المبني واسم لا المبني معها أسماء متمكنة ولا يقال إنها غير متمكنة البتة فالاعتراض عليه لازم والجواب عن الأول أن العجمي ينبغي تحقيق النظر بالنسبة فيه إلى هذا المعنى فإن القول بعدم دخول التصريف فيه مشكل وذلك أن العجمي دخيل في كلام العرب والعرب إذا تكلمت فإنما تتكلم به على حروفها وكثيرا ما تخلط فيه تبدل حروف كثير من الأسماء الأعجمية إلى حرف كلامها وما نقل إليها نكرة عاملته معاملة الأجناس العربية والنحويون واللغويون يسمون الدخيل في كلام العرب معربا وقد نقلت كثيرا منها إلى أبنيتها حتى صيرتها كالعربي الأصول ومنها ما لم تقدم على ذلك [233]

فيه فتركته وجعل السيرافي ما أعرب من الأعجمية على ثلاثة أقسام أحدها ما غيرت حروفه أو حركاته وألحق بأبنية العرب والثاني ما عيرت حروفه ولم يلحق بأبنية كلامهم والثالث ما ترك في العربية على حاله في العجمية فلم يغير لفظه فالأول نحو درهم وبهرج صارا كهجرع وجعفر والثاني كإبريسم وإسماعيل وسراويل والأصل فيها السين وأصل إسماعيل إشماويل وأصل سراويل شروال وكذلك فيروز فاؤه بين الفاء والباء وليس فيه ياء وأصل قهرمان بالفارسية كهرمان والثالث نحو خراسان وخرم لموضع وكركم ومعناه الزعفران والكركمان معناه الرزق قال الراجز كل امرئ ميسر لشانه ... لرزقه الغادي وكركمانه وقت بين هذا المعنى سيبويه غاية البيان بما كلام السيرافي تلخيص له وقال إنما دعاهم إلى ذلك يعني إلى هذا التغيير أن الأعجمية يغيرها دخولها في العربية بإبدال حروفها فحملهم هذا التغيير على أن أبدلوا وغيروا الحركة كما يغيرون في الإضافة إذا قالو هني ونحو زباني وثقفي قال وربما حذفوا كما يحذفون في الإضافة ويزيدون كما يزيدون فيما [234]

يبلغون به البناء وما لا يبلغون به بناءهم ثم مثل ذلك ثم قال فقد فعلوا ذلك بما أحلق ببنائهم وما لم يلحق من التغيير والإبدال والزيادة والحذف لما يلزمه من التغيير قال وربما تركوا الاسم على حاله إذا كانت حروفه من حروفهم كان على بنائهم أو لم يكن قال وربما غيروا الحرف الذي ليس من حروفهم ولم يغيروه عن بنائهم ومثل جميع ذلك بما مضى بعضه وإذا كان كذلك فقد دخل في كلامهم واستعمل في لسانهم وتصرفوا فيه ضرورة بما يحتاج إليه من جمع تكسير وتصغير ونسب (وغير ذلك) بل ربما استقوا منه كما يشتقون من أسماء الأجناس التي من أصل كلامهم كقولهم درهمت الخبازى إذا صارت كالدرهم ورجل مدرهم وقالوا مزرج من الزرجون قال ابن جني وقياسه أن يقول المزرجن قال أبو علي ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه قال والصحيح من هذا الاشتقاق قول رؤبة في خدر قياس الدمى معرجن [235]

فقد أثبت لها التصرف فيه إجراء له مجرى كلامهما وإن كان قليلا فكذلك عندهم أن الاشتقاق من أسماء الأجناس قليل وإذا كان كذلك فلا بد من القول بدخول التصريف فيه وإجراء أحكامه عليه كما عمل سيبويه في إبراهيم وإسماعيل حيث حكم على الهمزة بحكم الزائد وحكم المبرد عليها بحكم الأصلي وقد تقدم ذلك ووجهه وأنهم يجرون الأعجمي على حكم كلامهم فإن كان موافقا لأبنيتهم كان له حكمها وإن كان مخالفا أجروا عليه أحكام ما قارب بناءه من أبنيتهم ولذلك ادعوا أن قول المبرد في إبراهيم وإسماعيل في التصغير هو القياس لأن الهمزة في نحو هذا أصلية لا زائدة كإصطبل ما لم يدل دليل على الزيادة وهو في الأعجمي مفقود ولابن جني في كتابه المبهج على هذه المسألة كلام هو أسد نظرا من كلامه المتقدم وذلك حين تكلم على مريم ومدين من الأسماء الأعلام وأنه كان قياسهما مرام ومدان فقال فإن قلت إن هذين اسمان أعجميان وليسا عربيين فمن أين أوجبت فيهما ما هو للعربي قيل هذا موضع يتساوى فيه القبيلان جميعا ألا ترى أنهم حملوا موسى على أنه مفعل حملا على العربي كمال حملوا الموسى من الحديد على ذلك فلم يخالفوا بينهما وحكموا أيضا في نحو إبراهيم وإسماعيل بأن همزتهما أصلان حملا على أحكام العربي من حيث كان الزيادة لا تلحق أوائل بنات الأربعة إلا في الأسماء الجارية [236]

على أفعالها نحو مدحرج ومسرهف ولم يفصلوا بين القبيلين بل تلاقيا فيه عندهم وكذلك حكموا أيضا بزيادة الألف والياء في إبراهيم وإسماعيل حملا على أحكام العربي من حيث كان هذا عملا في الأصول على العربي لكنهم إنما يفرقون بينهما في تجويز الاشتقاق في العربي ومنعهم إياه في الأعجمي المعرفة ويفصلون أيضا بين العربي والأعجمي في الصرف وتركه نعم ويعتدون أيضا بالعجمة مع العلمية خاصة فأما الأصول من الحروف والصحة والاعتلال فإنهم لا يفرقون بينهما ألا تراهم إذا خالف لفظ الحرف الأعجمي الحروف العربية جذبوه إلى أقرب الحروف من حروفهم التي تليه وتقرب من مخرجه ثم ذكر من مثل ذلك ما ذكر سيبويه من الأمثلة وختم الكالم على المسألة والذي قال هو الذي ينبغي أن يعتقد في المسألة لا ما قاله في كتابه المنصف بأنها قد دخلت في كلامهم وجرت أحكامها على أحكام الكلم العربية فلا مخالفة بين الفريقين إلا فيما قال وفي شيء آخر لعمري وهو عدم الاعتداد بالأبنية إلا ما جرى على أبنية كلام العرب وأما غيره فلا يعتد به فنحو إبراهيم وسقرقع وطبرزد وآجر* ونحو ذلك من الأبنية [237]

الخارجة عن أوزان العرب لا يبنى عليها ولا يعتبر في إثبات الأبنية أصلا وعلا تسليم ذلك كله فالعجمي بالنسبة إلى العربي قليل ولا يعتبر مثله أن يكون نقضا لقاعدة عامة وبالله التوفيق والجواب عن الثاني أن الأسماء الموقوفة عند ابن جني مبنية شبيهة بالحروف ونسوق كلامه هنا مع حذف بعض ما لا يحتاج إليه هنا فقال في سر الصناعة إذ تلكم على تصريف أسماء حروف المعجم اعلم أن هذه الحروف ما دامت حروف هجاء غير معطوفة ولا موقعة موقع الأسماء فإنها سواكن الأواخر في الإدراج والوقف وذلك قولك ألف با تا* جيم حا خا دال ذال إلى آخرها وذلك أنها إنما هي أسماء الحروف الملفوظ بها في صيغ الكلم بمنزلة أسماء الأعداد نحو ثلاثة أربعة خمسة تسعة ولا تجد لها رافعا ولا ناصبا ولا جارا وإذا جرت كما ذكرنا مجرى الحروف لم يجز تصريفها ولا اشتقاقها ولا تثنيتها ولا جمعها كما أن الحروف كذلك ويدلل على كونها بمنزلة هل وبل وقد وحتى وسوف ونحو ذلك أنك تجد فيها ما هو على حرفين الثاني منهما ألف وذلك نحو يا* تا ثا* طا ظا حا ولا تجد في الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني منهما حرف لين إنما ذلك في الحروف نحو ما ولا ويا ولو أو وأي وكي فلا تزال هذه الحروف هكذا مبنية غير معربة لأنها أصوات بمنزلة صه ومه وإيه وغاق وحاء وعاء حتى توقعها مواقع الأسماء فترفعها حينئذ وتنصبها وتجرها [238]

كما تفعل وذلك بالأسماء وذلك قولك أول الجيم جيم وأخر الصاد دال وأوسط الكاف ألف وثاني الشين ياء وكتبت ياء حسنة وكذلك العطف لأنه نظير التثنية فتقول ما هجاء بكر؟ فيقول المجيب باء وكاف وراء فيعرب لأنه عطف فإن لم يعطف بنى وكذلك أسماء العدد مبنية أيضا تقول واحد اثنان* ثلاثة أربعة خمسة ويؤكد ذلك عندي ما حكاه سيبويه من قول بعضهم ثلاثة أربعة فترك الهاء من ثلاثة قالها غير مردوده إلى التاء وإن كانت قد تحركت بفتحة همزة أربعة* دلالة على أن وضعها وبنيتها أن تكون في العدد ساكنة حتى إنه ألقى عليها حركة الهمزة التي بعدها أقرها في اللفظ بحالها على ما كانت عليه قبل إلقاء الحركة عليها ولو كانت كالأسماء المعربة لوجب أن تردها متى تحركت تاء* فتقول ثلاثة أربعة كما تقول رأيت طلحة يا فتى فإن أوقعتها موقع الأسماء أعربتها وذلك قولك ثمانية ضعف أربعة وسبعة أكثر من أربعة بثلاثة فأعربت هذه الأسماء ولم تصرفها لاجتماع التعريف والتأنيث فيها. قال "فإذا أثبت بما قدمنا أن حروف المعجم أصوات غير معربة وأنها نظيرة الحروف نحو: هل ولو من وفي لم يجز أن يكون شيء منها مشتقا ولا متصرفا كما أن الحروف ليس في شيء منها اشتقاق ولا تصريف فلو قال قائل ما وزن جيم أو طا أوكاف أو واو من الفعل؟ لم يجز أن تمثل ذلك له كما لا يجوز أن تمثل قد [239]

وسوف ولولا وكيلا فأما إذا انقلبت هذه الحروف إلى حكم هذه الأسماء بإيقاعها مواقعها من عطف أو غيره فقد نقلت إلى مذاهب الاسمية وجاز فيها تصريفها وتمثيلها وتثنيتها وجمعها والقضاء على ألفاتها وياءاتها إذ صارت إلى حكم ما ذلك جائز فيه غير ممتنع منه" هذا ما ذكره ابن جني من أن هذه الأسماء الموقوفة مبنية لشبهها بالأصوات والحروف وعمدة ما احتج به في الشبه مجيء بعضها على حرفين ثانيهما لين ولعمري إن هذا المنزع جار على طريقة الناظم لأنه جعل هذا من وجوه شبه الحرف الموجبة للبناء وكأن ما جاء من هذه الأسماء الموقوفة على أكثر من حرفين محمول في البناء عليها كما تقول ذلك في بعض أنواع الأسماء المبنية وقد حكم عليها بالبناء السيرافي وابن خروف كما فعل ابن جني والمسألة تستحق فضل نظر ولكن ليس هذا موضع ذكره إذ لا تعلق* بكلام الناظم لأنه قد عرف أن مذهبه فيها مذهب غيره من النحويين وإنما تعلق النظر فيها بكلام سيبويه. فإن قيل فشبه هذه الموقوفات للحروف من أي نوع هو من أنواع الشبه المذكورة في أو الكتاب؟ فالجواب أنه يمكن أن تكون من قبيل النوع الثالث وهو النيابة عن الفعل بلا تأثر فأسماء الأفعال مبنية لكونها وضعت وضع إن وأخواتها كما [240]

تقرر قبل وكذلك هذه الأسماء وضعا وضع نعم ولا وبلى وأخواتها في كونها قامت بأنفسها فلم تحتج إلى الاتصال بغيرها واستغنت عن لحاق ما يوجب إعرابها فلم تتأثر لمعنى عامل لأن ذلك إنما يكون حالة التركيب وهي بعد لم تخرج عن قصد الإفراد فلم تفتقر إلى رافع ولا ناصب ولا جار كما كان ذلك في بلى ونعم ولا ونحوها. والجواب عن الثالث أن ما دخل الحروف من التصريف غير معتد به لقلته وندوره فلم يعتبره وأيضا فكثير من ذلك معدود أنه من قبيل اللغات المختلفة لا أنه بتصريف فلا يرد على الناظم. وما زعم ابن جني من دخول الاشتقاق فيها فغير صحيح وقد بينت ذلك في الكتاب المسمى بعنوان (الاتفاق في علم الاشتقاق) بما لا يحتاج معه إلى غيره بحول الله. والجواب عن الرابع أن ما دخل الأسماء المبنية من التصريف قليل ومحفوظ لا يبنى عليه ولا يستند في القياس إليه مع أنها يمكن أن تخرج عما ظهر فيها إلى غير ذلك. فأما أسماء الإشارة والموصول فإنها أشبهت المتمكن من الأسماء لأنها توصف ويوصف بها ويدخلها كثير من أحكام الأسماء المتمكنة فلما كانت كذلك جاز في بعضها أن يمثل بالفعل وأن يدخله الحذف والزيادة وغير ذلك. فقط أخرجتها الأحكام إلى ما ليس بمبني مع أن ذلك فيها لا يقاس عليه غيره. وأيضا قد قالوا في الذ والذ إنها لغات [241]

في الذي لا محذوفة منها. وما قاله أبو إسحق في إياك فبناء على أنه عنده اسم ظاهر لا مضمر وقد مر الكلام على ذلك في باب المضمر. وأما اللاء واللاي فهي لغات في اللائي قال الفارسي * «لأن هذه الأسماء في حكم الحروف غير مشتقة فاللاء مثل الشاء واللائي بمنزلة الجائي وليس اللاء من اللائي كالقاض من القاضي ولذلك مثله بشاء وهو بمنزلة باب وعند سيبويه لو سميت باللاء في قول من حذف الياء قلت لاء مثل باب أو في قول من أثبتها قلت لاء كقاض فلولا أنهما لغتان لما كان الحكم كذلك وقد نص على أنهما لغتان متباينتان*. وما زعمه ابن جني من الاشتقاق في الأصوات فغير صحيح أيضا. وقد بينت ذلك في الاشتقاق. وأما الألف في أنا فليست مزيدة في نفس الضمير وإنما لحقت في الوقف لبيان الحركة كما لحقت هاء السكت لبيان الحركة ألا ترى أنها تسقط في الوصل حين تقول أنا أفعل؟ وأما قراءة نافع فمن باب إجراء الوصل مجرى الوقف وقد مر بيان ذلك ف باب الوقف وليس ما يلحق في الوقف لبيان الحركة بمخصوص بمتصرف دون غيره بل تلحقه كل ما آخره حركة بناء غير شبيهة بحركة إعراب كما تقدم ذكره وقد حكى سيبويه أن [242]

من العرب من يقف: قالا بالألف يريد: قال. فبين الحركة بالألف كما قالوا أيضا في أنا أنه بالهاء فلا حجة في هذا على دخول الزيادة في المبني فكل ما ورد في المبني من هذا القبيل فمقتصر به على ما ورد فيه وإن كان قياس ففي خصوصه كما في ذا وتا والذي والتي في حالة التصغير والجمع ونحو ذلك وقد مر بيانه. والجواب عن الخامس أن الأفعال غير المتصرفة لما كانت قد فاتها التصرف الذي هو عمدة تصريف الفعل ورأسه وهو له بالوضع الأول صار ما وجد له من سائر الأحكام التصريفية ملغى ومطرحا في جنب ما فاتها من ذلك بمنزلة ما ألغي من ضروب التصريف المتقدمة التي لبعض الأسماء غير المتمكنة ولبعض الحروف لقلة ذلك البعض ونزارة ما وجد في جنب ما فقد فهدا يمكن أن يكون جوابا على طريقته في التسهيل من استثناء الأفعال غير المتصرفة عن دخول التصريف فيها وفعل التعجب ليس منها بالنسبة إلى هذا الباب لدخول التصريف فيه من حيث مبني من أفعال متصرفة وموزون ومعل حيث يجب الإعلال ومصحح حيث يجب التصحيح ومزيد فيه وما أشبه ذلك. وأما إذا بنينا على طريقة النحويين في إطلاقهم القول في الأفعال من غير استثناء منها فالاعتراض لازم وبهذا النحو اعترض بعض شيوخ الأندلس على كلامه في التسهيل حيث أطلق الكثير من علماء التصريف القول في دخول التصريف في الأفعال ولم يقصروا ذلك على المتصرف منها حين جرت عادتهم بذكر أمثلتها من الفعل ورأوا الإعلال قد [243]

دخل بعضها على ما مضى وكذلك يرد الاعتراض عليه ههنا إلا أن يجاب عنه بأن قوله «حرف وشبهه» لا يدخل فيه الأفعال غير المتصرفة لأن شبه الحرف إنما يطلق على غير المتمكن من الأسماء لا على ما لم يتصرف من الأفعال فقد يعتذر بهذا على ضعفه. والجواب عن السادس أن شبه الحرف على قسمين أيضا: حقيقي وهو الذي أراد وكلامه فيه صحيح. واعتباري وهو غير مراد له؛ لأنه أمر تقديري لا ظاهر له فالمنادى المضموم متمكن في نفسه لحقه من شبه الحرف اعتبار ما فعرض له البناء لأن العرب تعتبر المقدرات كما تعتبر المحققات لكن لا يقوى عندها الاعتبار التقديري قوة المحقق فلما كانت مشابهة الحرف للمنادى والمبني مع لا وما أشبه ذلك تقديرا لا محصول له في ظاهر الحال ولا بقاء له لعروضه على صفة التمكن في الاسم لم يعتد به الناظم ولا اعتبره. وهذا قد يكون له عذرا. وَلَيْسَ أَدْنَى مِنْ ثُلَاثِيٍّ يُرَى ... قَابِلَ تَصْرِيفٍ سِوَى مَا غُيِّرَا ابتدأ الكلام في أبنية الأسماء وأبنية الأفعال لما كانت محتاجا إليها في علم التصريف من حيث كانت مرجوعا إليها فلا يدخل في الأبنية ما ليس منها ولا يزاد عليها ولا ينقص منها فإن زادت علمت أن تلك البنية ليست من كلام العرب وإن نقصت علمت أنها محذوفة وإن خرجت عن تلك الأشكال علمت أن الإعلال أخرجها وإذا أردت أن تبني من كلمة على وزن أخرى لم [244]

يجز لك أن تبني إلا مثل ما بنت العرب وعلى عدد حروفه من غير زيادة ولا نقص فلا تتعدى تلك الأوزان فلهذا تكلموا في الأبنية المجردة والمزيد فيها إلا أن المجردة هي الأصول والمزيد فيها فروع فلذلك اقتصر الناظم على المجردة وأيضا فالأبنية المزيد فيها كثيرة جدا بحيث لا يتعرض لها إلا أرباب المطولات ولا يليق بالمختصرات الإتيان بها بخلاف الأبنية المجردة فإنها قليلة فأخذ في حصرها وجملة أبنية الأسماء المجردة على ما حصره أحد وعشرون بناء منها للثلاثي أحد عشر وللرباعي ستة وللخماسي أربعة وجملة أبنية الأفعال المجردة ستة أبنية للثلاثي منها أربعة وللرباعي بناءان وكلها مذكور في إثر هذا ولكنه أتى ههنا بمقدمة تحصر الأبنية حصرا جمليا قبل أن يحصرها على التفصيل فذكر أن الكلمة القابلة للتصريف سواء أكانت اسما أم فعلا لا توجد على أقل من ثلاثة أحرف فإن وجد كذلك في ظاهر الحال فليس في الحقيقة كذلك وإنما هو مغير من الثلاثي أو ما فوقه وقوله «قابل تصريف» مطلق في الاسم والفعل كما تقدم وهو مفعول لم يسم فاعله رافعه يرى وقوله «سوى ما غيرا» استثناء من قوله «قابل تصريف» يعني أن ما غير من الأسماء أو الأفعال والتغيير هنا لا يكون إلا بالحذف فإنه هو الذي يوجد على أقل من ثلاثة أحرف فيوجد على حرف واحد وعلى حرفين وذلك أيضا يكون [245]

وذلك أيضا يكون في الاسم والفعل فأما بقاء الاسم على حرف واحد فنحو أيش؟ أصله أي شيء؟ لكنه اختصر إلى أن لم يبق من «شيء» إلا الشين ومنه قولهم مُ الله لأفعلن أصله أيمن الله لكنه اختصر بالحذف وهو في الاسم الظاهر نادر جدا ولكن قد يصير على حرف واحد بتخفيف همزته كما تقول من أب لك؟ إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الساكن قبلها فقلت من بٌ لك؟ وقد نص سيبويه على أنك إذا سميت بإب أو إد وإج وهي الحروف المتقطعة من اضرب واقعد واخرج قلت إب وإد وإج فإذا وصلت ذهبت ألف الوصل فقلت ذهب بٌ وجاء دٌ ومر جٌ وما أشبه ذلك هذا حكمه وهو مردود إلى الثلاثة في التقدير يبين ذلك التصغير والتكسير وأما بقاؤه على حرفين فهو أكثر نحو يد ودم وسه وغد ودد وكذلك أخ وأب وحم وهن وشج وعم وما أشبه ذلك وأصل ذلك كله الثلاثة لقولهم أيد ودماء وأستاه وقالوا في غد غدو وفي دد ددى مقصورا وددن وأما بناء الفعل على حرف واحد فنحو قه وشه وله وعه وفه ونحو ذلك وهو من وقى يقي ووشى يشي وولي يلي ووعى يعي ووفى يفي وأما بقاؤه على حرفين فنحو عد وزن ولن وبن وقل وبع وخذ وكل ومر فهي كلها من وعد ووزن ولان وبان وقال وباع وأخذ [246]

وأكل وأمر ون ذلك كثير فأصلها كلها الثلاثة وليس فيها ما أصله أقل منها وذلك أنه لا يكون اسم مظهر على حرف واحد لأن المظهر يبتدأ به ويوقف عليه ولا يكون قبله ولا بعده شيء لاستقلاله ولا يوصل إلى الابتداء والوقف في الكلمة الواحدة بحرف واحد لأن الابتداء يطلب بالحركة والوقف يطلب بالسكون والحرف الواحد لا يكون ساكنا متحركا في حالة واحدة فلا بد إذا من حرف يبتدأ به وآخر يوقف عليه لكنهم كرهوا أن يقتصروا على الاثنين في الأسماء الظاهرة فيجعلوه بمنزلة الحروف وما أشبهها على حرفين لا غير نحو من وعن ولا ومن وما والاسم أبدا له من القوة ما ليس لغيره ولذلك لو سميت ينحو لو أو كي لم تتركه على حاله حتى تضعف الياء والواو فيه هذا بخلاف ما أشبه الحرف من الأسماء المضمرات فإن المضمرات وضعت على أن تكون متصلة بما قبلها وغير مستقلة بأنفسها فاغتفروا فيه الحرف والحرفين وأما المظهر فهو المقدم على الفعل والحرف وهو الأصل فيهما فرفعوه إلى الثلاثة وهو أعدل الأبنية وأما الفعل فلا يكون على حرف واجد في أصله ولا على اثنين لأن منه ما يضارع الاسم وهو المضارع وأيضا الفعل يتصرف مثل الاسم ويبنى أبنية كما يبنى الاسم وهو يلي الاسم في الترتيب فألحقوه به ولم يجحفوا به بالاقتصار على ما دون الثلاثة إلا أن يحذفوا لعلَّة تجب ذلك بهذا المعنى وجه سيبويه مسألة الناظم [247]

وقوله «وليس أدنى من ثلاث يرى» أدني يحتمل أن يكون مرفوعا اسم ليس وخبرها «يرى» ويحتمل أن يكون اسم ليس* ضمير الشأن وأدنى مفعول يرى الثاني لأنه بمعنى يعلم وتقدير الاستثناء إلا ما غير فإنه يرى أدنى من ثلاثي وفي هذا الاستثناء نظر وهو أن «ما» صيغة من صيغ العموم وهو قد قال سوى ما غيرا فيظهر أن المعنى إلا المتصرفات المتغيرة فإنها توجد أدنى من الثلاثة وهذا لتعميم غير صحيح فإنه ليس كل متغير يكون أدنى من ثلاثة أحرف بل المتغير يكون رباعيا فيصير إلى الثلاثة وقد يكون نعلى أكثر من لك فيصير على أقل كما تقول في قاض وغاز ومفتر ومستدع ومتدان وعلبط وذلذل وعرتن وما أشبه ذلك والأحسن في التعبير عن ذلك أن لو قال «وليس أدنى من ثلاثي يرى قابل تصريف فإن وجد فهو قد غير وحذف منه» والجواب عن هذا أن كلامه يعطي هذا المعنى الصحيح إذا جعلت ما بمعنى شيء نكرة موصوفة لا موصولة كأنه قال لا يرى قابل تصريف أدنى من الثلاثي إلا شيء غير والنكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم وذا لم تفد فيصدق على متغير ما أنه يرى أدنى من ثلاثي وهو صحيح. [248]

واعلم أنه قد تحصل من مفهم هذا الكلام أن ما لا يقبل التصريف وهو الحرف وما أشبهه من الأسماء وحدها أو من الأسماء والأفعال قد يوجد على أقل من ثلاثة أحرف وذلك ظاهر فإن الحروف قد تأتي بأصل وضعها على حرف واحد وعلى حرفين وعلى أكثر وكذلك ما أشبه الحرف إلا أن ما تنتهي إليه لم يذكره لعدم احتياجه إلى ذلك بخلاف القابل للتصريف فإنه لا بد من ذكر ما تنتهي إليه حروفه وأقصى ما تنتهي إليه الحروف خمسة. فأما كونه على حرف واحد فمثل الباء الجارة والتاء في القسم واللام الجارة والابتدائية وكاف التشبيه وكاف الخطاب المجردة عن الاسمية في نحو أرأيتَك والواو القسمية والعاطفة والفاء العاطفة والجوابية وهمزة الاستفهام ونحو ذلك. وأما كونه على حرفين فمثل من وعن وأو ولو وكي وأي ويا وها التي للتنبيه وقد ولم وإن الشرطية والنافية وأن الناصبة للفعل التفسيرية ولن وفي وأل وما ولا النافية والطلبية وهل وبل. وأما كونه على ثلاثة أحرف فمثل إلى وعلى وخلا وعدا إذا انجر ما بعدهما في الاستثناء وألا الاستفتاحية والتحضيضية وبلى ونعم وعل ورب ولما الجازمة وسوف. [249]

وأما كونه على أربعة أحرف فمثل كلا وحتى وحاشا وكأن ولعل وأما وإما وهلا ولولا وإلا وهو أقل مما تقدم. وأما كونه خمسة فمثاله لكن وهو أقلها والأسماء المشبهة للحرف أيضا تكون على حرف واحد نحو التاء في ضربتُ وضربتَ وضربتْ والألف في ضربا والواو في ضربوا والنون في ضربن والكاف في ضربك ولكَ ولكِ وضرْبَك والهاء في به وله على رأي من رأي ذلك من النحويين وتكون على حرفين نحو هو وهي وذا التي للإشارة والموصولة وأل الموصولة ومن وما الشرطيتين والاستفهاميتين ونا في ضربنا وضربَنا ولنا وها في ضربها وتا وتي في الإشارة وذو الموصولة وعن الاسمية وصه ومه وقط وقد بمعنى حسب وتكون على ثلاثة أحرف نحو هما وهن وكيف وأين ولدن وقط وحيث وإذا وهنا ومتى وأف وإيه وأمس ومنذ وعلى الاسميتين وتكون على أربعة أحرف نحو ألاء اسم إشارة أو مصولا وإيا في إياك ونزال ودراك ومناع وبابه وأفى في أف وأوه [250]

وتكون على خمسة أحرف نحو أيان وشكان* وسرعان وعرعار وقرقار وهيهات وهذا أقصى ما توجد عليه الأسماء المبنية في الغالب المستعمل وأما بالتركيب فتنتهي إلى أكثر من ذلك نحو خازباز* وحاث باث وخاق باق وما كان نحو ذلك*. ولما حد للاسم والفعل أقل ما يكون عليه من الحروف أخذ في ذكر أبنية الأسماء وما تنتهي إليه مجردة وغير مجردة وذر أبنية الأفعال كذلك لكنه ابتدأ بالأسماء فقال وَمُنْتَهَى اسْمٍ خَمْسٌ اِنْ تَجَرَّدَا ... وَإِنْ يُزَدْ فِيهِ فَمَا سَبْعًا عَدَا معنى التجرد التعري من الزيادة فما ليس بعضه زائدا يسمى مجردا ويريد أن الاسم على قسمين مجرد من الزيادة ومزيد فيه فأما المجرد من الزيادة فمنتهى ما يبلغه من الحروف خمسة أحرف أنّث الخمس لأن الحروف تذكر وتؤنث فيكون ثلاثيا نحو رجل وفرس وضلع [251]

ونمر وصرد وإبل وقفل وعدل وفلس وما أشبه ذلك ويكون رباعيا نحو جعفر وقمطر ودرهم وبرقع وجخدب ونحو ذلك ويكون خماسيا نحو سفرجل وجحمرش وجردحل وقذعمل وما أشبه ذلك وهذا هو الغاية كما قال. وما ذكره هو مذهب البصريين وأما الكوفيون فذهبوا إلى أن كل اسم زادت حروفه على ثلاثة ففيه زيادة فإن جاءت على أربعة نحو أحرف جعفر ففيه زيادة حرف واحد واختلفوا في الزائد فذهب الكسائي إلى أن الزائد هو الحرف الذي قبل الآخر وذهب يحيى بن زياد الفراء إلى أ، الزائد هو الآخر هذا إن كان رباعيا فإن كان خماسيا ففيه زيادة حرفين. ومذهب البصريين هو الصحيح لأن الزيادة لا يقدم على القول بها إلا بدليل وإلا فالأصل أن يقال في أحمر ونحوه إن الهمزة أصلية لكن لما كان المعنى شيءٌ له حمرة وعلمنا بالضرورة أن الأحمر لم يلتق مع الحمرة في حروفه اتفاقا من غير قصد كاتفاق أحمر مع أحمد في ثلاثة الحروف الأول ثبت لنا ضرورة من استقراء كلام العرب أن العرب لحظت في الأحمر لفظ الحمرة ولا بد فظهر لنا بذلك أن الهمزة زائدة فحكمنا [252]

بذلك وكذلك ما أشبه هذا مما يدل على الزيادة فبأي وجه يحكم في راء جعفر أنها زائدة ولم نجد فيها دليلا على أنها كالهمزة في أحمر ومن ههنا ألزم سيبويه من زعم أن الراء في جعفر زائدة أو الفاء أن يقول في وزنه فَعْلَر أو فَعْفَل وأن يقول في غلفق* فعلق وإن جعل الأول زائدا أن يقول في جعفر جعفل وفي غفلق غفعل لأنه يجعلها كسائر حروف الزوائد فلا بد من وزنها لفظها كما تقول أفعل في أحمر وفعول في جهور وفعلن في خلبن وكذلك ينبغي له إن جعل الحرفين الأخيرين في فرزدق أن يقول فعلدق قال سيبويه «فإذا قال هذا النحو جعل الحروف غير الزوائد زوائد وقال ما لا يقوله أحد». وقد التزم بعض الكوفيين هذا على ما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى ولكن الجمهور منهم لا يفعلون ذلك وإن اغتفروا الزيادة وحجتهم في الزيادة أنهم قالوا أجمعنا على أن وزن جعفر فعلل ووزن سفرجل فعلل وقد علمنا أن أصل هذين المثالين فاء وعين ولام واحدة فثبت أن الثانية والثالثة زائدة فدل على أن في جعفر حرفا زائدا وفي سفرجل حرفين. [253]

قال المجيب عن البصريين إن الوزن أولا إنما هو وضع من النحويين واتفاق اصطلاحي بينهم حيث أرادوا أن يضعوا الأوزان أمثلة ويتبين فيها الحرف الأصلي من الزائد فكيف يجعل الوضع الاصطلاحي حجة على كلام العرب؟ ! هذا ما لا يسوغ لأحد أصلا وأيضا سيتبين لم اختاروا الثلاثي في التمثيل دون غيره حيث تعرض له الناظم إن شاء الله تعالى فالحق الذي لا يصح سواه ما ارتضاه الناظم من مذهب البصريين مع أنه أمر راجع إلى معنى اصطلاحي* لا ينبني عليه في أحطام العربية كبير فائدة وأما المزيد فيه فغايته سبعة أحرف لا يتعداها كما قال فيكون رباعيا نحو أفكل وجوهر وعثير وقذال وعنسل وتنضب ويكون خماسيا عقنقل وخفيدد وفدوكس ودلامص وعذافر ويكون سداسيا نحو عضرفوط وعرطليل ودرداقس وسباعيا نحو اشهيباب واحرنجام ومشيوخاء عقربان وقرعبلان وما أشبه ذلك [254]

قال سيبويه «وأما ما جاء على ثلاثة أحرف فهو أكثر الكلام في كل شيء من الأسماء والأفعال وغيرهما مزيدا فيه وغير مزيد فيه وذلك لأنه كأنه هو الأول فمن ثم تمكن في الكلام ثم ما كان على أربعة أحرف بعده ثم بنات الخمسة وهي أقل لا تكون في الفعل البتة ولا يكسر بتمامه الجمع لأنها الغاية في الكثرة» قال «فالكلام على ثلاثة أحرف وأربعة أحرف وخمسة لا زيادة فيها ولا نقصان» قال والخمسة أقل الثلاثة في الكلام فالثلاثة أكثر ما تبلغ بالزيادة سبعة أحرف وهي أقصى الغاية والمجهود وذلك نحو اشهيباب فهو يجري على ما بين الثلاثة والسبعة والأربعة تبلغ هذا نحو احرنجام ولا تبلغ السبعة إلا في هذين المصدرين وأما بنات الخمسة فتبلغ بالزيادة ستة نحو عضرفوط ولا تبلغ سبعة كما بلغتها الثلاثة والأربعة لأنهما لا تكون في الفعل فيكون لها مصدر نحو هذا. قال «فعلى هذا عده حروف الكلم فما قصر عن الثلاثة فمحذوف وما جاوز الخمسة فمزيد فيه» هذا ما قال سيبويه وقد احتوى على أمرين أحدهما تعليل الاقتصار في الأصول على الخمسة وفي الزيادة على السبعة وهو ظاهر والثاني ما الذي يزاد حتى يبلغ سبعة وما الذي يقصر ي الزيادة فيه عنها [255]

وكلاهما مما يتعلق بكلام الناظم أما الأول فظاهر وأما الثاني فإن الناظم يظهر من عبارته أن الثلاثي والرباعي والخماسي جميعا يزاد فيها حتى تبلغ السبعة لأنه قال «وإن يزد فيه» والضمير راجع إلى جنس الاسم الذي جعل منتهاه الخمس في قوله «ومنتهى اسم خمس إن* تجردا» فيظهر أن الخماسي أيضا داخل في هذه الزيادة ويجاب عن هذا بأن الضمير عائد على جنس الاسم من حيث الجملة والاسم على الجملة يحصل فيه الزيادة إلى سبعة ويبقى تعيين مقدار الزيادة لم يذكره فالأظهر أنه أجمل القول في الزيادة ولم يعين مقدار ما يزاد في بنات الثلاثة وفي بنات الأربعة وفي بنات الخمسة وقد بين ذلك في التسهيل في الاسم والفعل فقال «ومنتهى الزيادة في الثلاثي من الأفعال ثلاثة ومن الاسماء أربعة وفي الرباعي من الأفعال اثنان ومن الأسماء ثلاثة» ثم قال «ولم يُزد في الخماسي غير حرف مد قبل الآخر أو بعده مجردا أو مشفوعا بهاء التأنيث وندر قرعبلانة وإصطفليبنة* وإصفعند*» فالذي حصل أن الثلاثي يزاد فيه إذا كان اسما حتى يبلغ سبعة وذلك أربعة أحرف نحو اشهيباب ونحوه من المصادر ولم يذكر سيبويه غيرها من حيث كانت الزيادة في الاسم فرعا عن الزيادة في الفعل لأن الأصالة في التصريف للفعل والفعل يزاد فيه إلى ستة كما سيذكر إن شاء الله تعالى. [256]

فالاسم لا بد أن يرتفع عنه درجة لكن فيما جرى على الفعل وكان أقرب إليه وهو المصدر إذ ليس في غير المصدر عنده زيادة تبلغ هذا المقدار وذكر غيره أربعاوى* ومشيوخاء ومعلوجاء ونحوه من أسماء الجموع التي على هذا الوزن وذلك كله قليل والرباعي يزاد أيضا كذلك إلى السبعة وذلك ثلاثة أحرف لكن في المصادر نحو إحرنجام* لأجل ما تقدم في الثلاثي وذكر غيره الزيادة في غير المصادر نحو عريقصان وعبيثران وهو قليل كالحال في الثلاثي وأما الخماسي فلم يبلغ من قوته أن يزاد فيه إلى السبعة لأن ذلك إنما كان في الثلاثي والرباعي لقوته بمقاربة الفعل بخلاف الخماسي فإنه غير جار على فعل ولا مقارب له فلم يبلغ ذلك وإنما زيد فيه عند سيبويه زيادة واحدة نحو عضرفوط وعرطليل وعندليب وقبعثرى وضبغطرى [257]

وما أشبه ذلك وقد حكى السيرافي قرعبلانة وهزنبران وزاد غيره اصطفلينة وقوله «فما سبعا عدا» سبعا مفعول بعدا أي فما عدا سبعا ومعنى عدا تجاوز يقال عدا عليه عدوا وعدوا أي تجاوز الحد في ظلمه فكأنه يقول فما تجاوز بزيادته سبعة أحرف فعلى هذا ما جاء من زيادة هاء التأنيث نحو اشهيبابة وقرعبلانة أو زيادتي تثنية أو جمع تصحيح نحو اشهيبابتان وقرعبلانتان واشهيبابات وقرعبلانات أو زيادتي النسب نحو اشهيبابي وقرعبلاني وما أشبه ذلك فغير معدود في مجاوزة السبعة بل الاسم باق على سبعة أحرف لأن هذه الزيادات ليست من نفس البناء وإنما تعد كالشيء المنفصل المقدر الزوال ولذلك إذا كان اسم على خمسة أحرف خامسه هاء التأنيث أو على ستة الخامس والسادس منها علامتا التثنية أو الجمع المصحح لم يحذف منه شيء في التصغير وليس كذلك غيرها كما تقدم ذكره وأيضا فكل ما هو على ستة أحرف أو سبعة لا يحذف منه الأصلي ويبقى الزائد وهم قد قالوا في سفرجلة سفيرجة وفي فرزقان فريزدان* وفي سفجلات سفيرجات فيحذفون الأصلي وليس ذلك من أجل أنها علامات للمعاني فإن ألف التأنيث علامة أيضا وهم قد قالوا في قرقرى قريقر فحذفوا مع أنه كزلزلة فلهذا وغيره زعم النحويون [258]

ومنهم الناظم أنه لا يكون على* ثمانية أحرف ولا أكثر من ذلك ولم يعتدوا بهذه الأحرف لأنها عندهم كالمنفصلة ثم أخذ في بيان أبنية الأسماء ثلاثيها ورباعيها وخماسيها أعني المجردة من الزوائد وابتدأ بالثلاثية فقال وَغَيْرَ آخِرِ الثُّلَاثِي افْتَحْ وَضُمّْ ... وَاكْسِرْ، وَزِدْ تَسْكِينَ ثَانِيَهِ تَعُمّْ وَفِعُلٌ أُهْمِلَ، وَالْعَكْسُ يَقِلّْ ... لِقَصْدِهِمْ تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِ‍‍فُعِلْ غير مفعول يطلبه ثلاثة الأفعال التي هي افتح وضم واكسر والعامل فيه اكسر وهو الأخير فهو على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل غير الأخير لقال افتحْ وضُمَّه واكسره هذا إن قلنا إنه من باب الإعمال وإلا فيمكن أن يكون مفعولا لافتح وغيره حذف معموله اختصارا والأصل وضمه واكسره والذي ينطلق عليه غير هو أول الثلاثي وثانيه ويعني أنك إذا أردت حصر أبنية الثلاثي فاعمل هذا العمل وهو أن تحرك الأول وهو فاء الكلمة بالحركات الثلاث الضمة والفتحة والكسرة وكذلك الثاني وهو عين الكلمة تحركه بالحركات الثلاث وتزيد تسكين الثاني على التحريك بها فتكون للعين أربعة أوجه وكل واحد منها مع حركات الفاء الثلاث وثلاثة في أربعة باثني عشر وهي جميع ما يتصور من الأبنية في الثلاثي من مستعمل ومهمل وهو معنى قوله «تعم» أي تعم جميع الأبنية الممكنة في الثلاثي لأنك إذا حركت الأول فلا يمكن فيه إلا أحدى ثلاث الحركات ومنتفي السكون إذ لا [259]

يبتدأ بساكن وكل حركة منها يتأتى معها في العين الحركات الثلاث والسكون وأما الحرف الثالث وهو اللام فلا كلام فيه لأن الإعراب استحقه فلا يضبط إلا للعامل لا للبنية ولذلك أخرجه بقوله «وغير آخر الثلاثي» فإذا حركت الفاء بالضم فيتصور معها في العين أربعة أحوال قائمة بأربعة أبنية أحدهما* فتحها ومثاله فعل وهو يكون للاسم والصفة معا فالاسم نحو صرد ونغر وربع وخزز والصفة نحو لبد وختع وسكع وحطم والثاني ضمها ومثاله فعل وهو للاسم والصفة فالاسم نحو طنب وأذن وعنق وجمد والصفة نحو جنب أجد* ونضد ونكر والثالث كسرها ومثاله فعل وسيأتي الكلام عليه إثر هذا بحول الله تعالى [260]

والرابع إسكانها ومثاله فعل ويكون الاسم والصفة فالاسم نحو قفل وبرد وقرط وحرض والصفة نحو مر وحلو وجد وعبر وإذا حركت بالفتح فيتصور معها في العين أربعة أحوال أيضا أحدها فتحها ومثاله فعل ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو جبل وجمل وحمل وطلل والصفة نحو بطل وحدث وعزب وحسن والثاني ضمها ومثاله فعل ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو عضد ورجل وسبع وضبع والصفة نحو حذر وندس وحدث وخلط والثالث كسرها ومثاله فعل ويكون أيضا في الاسم والصفة فالاسم نحو كتف وكبد وفخذ وعقب والصفة نحو حذر ووجع وحصر وأشر والرابع إسكانها ومثاله فعل ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو صقر وفهد وكلب ومهد والصفة نحو ضخم وصعب وسهل وخدل [261]

وإذا حركت الفاء بالكسر فيتصور معها في العين أربعة أحوال أيضا أحدها فتحها ومثاله فِعَل ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو ضلع وقمع ونطع وعنب والصفة نحو عدى قال سيبويه «ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف من المعتل يوصف به الجماع - يعني الجمع - وذلك قولهم قوم عدى قال ولم يكسر على عدى واحد ولكنه بمنزلة السفر والركب» يعني اسم جمع لا جمع تكسير واسم الجمع بمنزلة الواحد واستدرك عليه قيم في قوله تعالى {دينا قيما} على قراءة من عدا الحرميين وأبي عمرو وزِيَم أي متفرق ومنه قول زهير قد عوليت فهي مرفوع جواشنها ... على قوائم عوج لحمها زيم وقال النابغة الذبياني باتت ثلاث ليال ثم واحدة ... بذي المجاز تراعي* منزلا زيما وسِوى في نحو قوله تعالى {مكانا سوى} في ذلك أنشد صاحب الحماسة [262]

وجدنا أبانا كان حل ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر وذكر الفارسي ثِنًى وأنشد لعدي بن زيد أعاذل إن اللوم في غير وقته ... على ثنى من غيك المتردد وطِوًى في قراءة من قرأ {بالواد المقدس طوى} قال فطوى من طويت وثنى من ثنيت لأن الطي ثني شيء على شيء كأن المعنى قدس مرة بعد مرة وزيد أيضا ماء رِوًى وماء صِرًى وطِيبة في نحو قولهم سَبْيٌ طِيَبة وفي الحديث «وإنه طِيَبة لمن أخذه» فجميع ما استدرك عليه ثمانية ألفاظ أكثرها لا يثبت ليس هذا موضع ذكر ذلك والثاني ضم العين ومثاله فِعُل وسيأتي الكلام عليه إثر هذا إن شاء الله تعالى والثالث كسرها ومثاله في الأسماء فِعِل نحو إبل ولم يحك سيبويه غيره قال «ولا نعلم في الأسماء والصفات غيره» وزاد أبو الحسن في الأسماء حبرَة وهي الصفرة على الأسنان قالوا والأشهر فيه حَبْرة قال الفرزدق [263]

ولست بسعدي* على فيه حَبْرة ... ولستُ بعبديٍّ حقيبته التمر وزاد السيرافي والمبرد إطِل للأيطَل وروي قول امرئ القيس له إطِلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تنفل وزيد أيضا الحِبِك وهي قراءة مروية عن الحسن {والسماء ذات الحبك} وهي الطرائق الغيمية فجميع ما استدرك على سيبويه في الاسم ثلاثة ألفاظ يضاف إليها ما ذكره ابن السيد من قولهم لا أحسن اللعب إلا جِلِخ جِلِبْ فهي خمسة منها ما يثبت ومنها ما لا يثبت وذكر الأخفش في الصفات امرأة بِلِز وحكى ابن خروف عن ابن قتيبة أتان إبِد فهذان لفظان مستدركان في الصفة والرابع إسكانها ومقاله فِعْل ويكون في الأسماء والصفات فالاسم نحو جذع وعذل وجمل ورجل والصفة نحو نقض ونضو وصنع [264]

وقد انتهى تمثيل هذه الأمثلة التي أشار إليها الناظم وإنما ذكرها في هذين الشطرين غير ملتزم لكونها مستعملة أو غير مستعملة وإنما بين ذلك في قوله بعد «وَفِعُلٌ أُهْمِلَ وَالْعَكْسُ يَقِلّْ» فاستثنى من الجملة بناءين هما عنده غير ثابتين في محصول الاستعمال فدل على أن ما عداهما عنده مستعملة ثابتة من كلام العرب فأما أحد المستثنَيين وهو فِعُل بكسر الفاء وضم العين فذكر أن العرب أهملته لأن فاعل «أهمل» الذي لم يذكره هم العرب قال سيبويه « وليس في الكلام فِعُل» قالوا وإنما لم يستعمل لكراهيتهم الخروج من كسر إلى ضم في بناء لازم ولذلك قالوا اُقتُل* فضموا الهمزة ولم يكسروها وأصلها الكسر كراهية للضم بعد الكسر وإن وُجد حاجز بينهما فأولى أن يمتنعوا من ذلك مع عدم الحاجز وكذلك امتنعوا من النقل في الوقف على قولك هذا عِدْلٌ فقالوا هذا عِدِل ولم يقولوا هذا عِدُلْ غير أنهم قد قالوا ذلك مع الهمزة وارتكبوا فيه الثقل لكن لثقل هو أشد من هذا فاستسهلوا هذا في جنبه وقد تقدم بيانه وقوله «أُهْمِلَ» ولم يُعرج على شيء دليل على أن ما حكي عنهم من فِعُل ليس بأصل بناء وذلك لفظان أحدهما الحِبُك رُوي عن الحسن أنه قرأ {والسماء ذات الحبك} على وزن فِعُل ورُوي ذلك أيضا عن أبي [265]

مالك الغفاري وذكره عنه ابن الفرس في استدراكه على الزُّبَيدي والذي حكى ابن جني عن أبي مالك إسكان الباء مع كسر الحاء وهذا مثالٌ لم يثبته النحويون قال ابن جني «أحسبه سهوا وذلك أنه ليس في كلامهم فِعُل أصلا بكسر الفاء وضم العين وهو المثال الثاني عشر من تركيب الثلاثي فإنه ليس في اسم ولا فعل أصلا البتة» قال «ولعل الذي قرأ به تداخلت عليه القراءتان بالكسر والضم فكأنه كسر الحاء يريد الحِبِك وأدرك ضم الباء على تصوره الحُبُك» قال وقد يعرض هذا التداخل في اللفظة الواحدة قال بلال بن جرير إذا جئتَهم أو سآيلتهم* ... وجدت بهم علة حاضرةْ* أراد سألتهم أو ساءلتهم ولغة من قال سايلتهم فأُبدل فتداخلت الثلاث عليه فخلط فقال سآيلتهم فوزنُه فَعاعلتهم لأن الياء في سآيلتهم بدل من الهمزة في ساءلتهم فجمع بين اللغتين على تلفته إلى [266]

اللغتين كذلك أيضا نظر في الحِبِك والحُبُك فجمع بين أول اللفظة على هذه القراءة وبين آخرها على القراءة الأخرى واللفظ الثاني الرِّبُو قرأ أبو السّمّال {اتقوا الله وذروا ما بقي من الرِّبُو} مضمومة الباء ساكنة الواو وهكذا ذكرها ابن مجاهد وإنما ذكرها الداني في كتابه* في القراءات التي شذت عن السبع بفتح الراء وضم الباء فإذا ثبت ما ذكره ابن مجاهد وهو الذي نقل ابن جني وتكلم عليه فقد قال «إنّ فيه ضربين من الشذوذ أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما والآخر وقوع الواو بعد الضمة في الاسم وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل نحو يغزو ويدعو ويخلو» ثم ذكر أن الذي ينبغي أن يُتعلل به في الربو بالواو هو أنه فخّم الألف فانتحى* بها نحو الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم الصلوة والزكوة وكمشكوة وكأنه بيّن التفخيم فقوّى الصوت فتوهم السامع أنه واو فنُقل على ذلك وهو بعيد أن يتطرق (إلى ظن الراوي) ** - وهو أبو زيد مع علمه وفهمه - أنه جرى عليه الوهم فيما سمعه قال فإن قيل فلعله شبّه ذوات العلة بذوات الهمز فوقف على الواو كما قالوا هو الرِّدُؤ* والبُطُؤ* قيل هذه الواو [267]

إنما تكون مع الهمزة في نحو «الكَلَوْ*» في موضع الرفع و «الرِّبُو» في موضع الحر وأيضا فإن «الكلو*» مفتوح ما قبل الواو والباء من «الربو» مضمومة وعلى كل تقدير فهو شاذ هذا ما ذكر ابن جني في توجيهه هذه القراءة وحاصله أن الرِّبُو - على حقيقة نقله - غير ثابت وإنما هو تفخيم والتفخيم يُنْحى به نحو الواو لا أنه ضمٌّ حقيقة فإذا صار هذان اللفظان كالرِّدْو* في الوقف لا معتبر بهما في إثبات بناء لازم وقد أشار بعض الناس إلى إثبات البناء بهما وفيه من الضعف ما فيه وأما المستثنى الثاني وهو فُعِل - بضم الفاء وكسر العين - وهو عكس فِعُل الذي قال فيه «وَالْعَكْسُ يَقِلّْ» لأن قوله وفِعُل في تقدير أنْ لو قال والمكسور الأول المضموم الثاني أُهمِلَ فعكس هذا هو المضموم الأول المكسور الثاني وهو فُعِل فذكر أن وقوعه في الأسماء قليل لم يكثر كثرة غيره من الأبنية المتقدمة ولم يأت مهملا وإن كان فيه الخروج من ضم إلى كسر لأن هذا أخف على الجملة من الأول وإن اجتمعا في الثقل ولذلك* جاء في أبنية الأفعال كثيرا نحو ضُرِب وعُلِم وقتل وعقر وما أشبه ذلك بل نقول إنه ليس بثقيل وإلا كان يُعدم أو يَندُر في الأفعال أيضا وإنما علة قلته ما ذكره الناظم على ما سيذكر بعد بحول الله وقلّته أنه لم يأت [268]

منه في المشهور من النقل إلا لفظان في الأسماء لاقى الصفات أحدهما دُئِل لدُوَيْبَّة صغيرة تشبه ابن عِرْس قال الشاعر جاءوا بجيش لو قيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدُّئِلِ ومنه نُقل اسم الدُّئِل القبيلة التي يُنسب إليها أبو الأسود الدؤلي والثاني رُئِم في اسم السَّهِ وزاد أبو حيان - فيما نقل في ارتشاف الضَّرَب وذكره ابن الناظم - لفظا ثالثا وهو وُعِلٌ لغة في الوَعل فبهذه الألفاظ أثبت الناظم فُعِل في الأسماء وهو مذهب الأخفش وابن جني وجماعة وأما سيبويه فلم يثبته في الاسم وإنما هو عنده مختص بالفعل وذلك إما لأن هذين اللفظين يمكن أن يكونا منقولين من الأفعال وإن كان ذلك في الأجناس بناءً على جواز النقل فيه وثبوته وفي المسألة خلاف وبه اعتذر السيرافي عن سيبويه فذكر أنه قد يصح ويجيء في أسماء الأجناس ما جاء في الأعلام قال ومنه «تُنُوِّط» - في اسم طائر - لأنه يُعَلِّق عشه ويلصقه ضربا من الإلصاق بديعا فسُمي بالفعل وقالوا أيضا تُبُشِّرٌ في اسم طائر قال ابن الضائع قد قال سيبويه في هذا الطائر تَنَوُّط وأثبن به «تَفَعُّل» في الأسماء وإن لم يأت في المصادر وإما لأن هذين اللفظين لم يحفظهما سيبويه وهذا هو الجاري على كلام الناظم إذ لو [269]

كانا عنده منقولين لم يصح له أن يُثبت بهما بناء كما لا يصح أن يُثبته بالأعلام لم ثبت فيهما من النقل فإنما هما عنده غير منقولين فهو استدراك على سيبويه منه ومن غيره ممن قال بهذا وهو الذي اختار ابن الضائع وكثير من الناس ولما كان هذان اللفظان بمحل من الندور في هذا البناء نبه الناظم على ذلك فقال «وَالْعَكْسُ يَقِلّْ» ثم بين وجه القلة فقال «لِقَصْدِهِمْ تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِ‍‍فُعِلْ» يعني أن ترك استعمال فُعِل في الأسماء إنما هو لقصدهم أن يكون بناء مختصا بالأفعال فلما قصدوا ذلك تحاموا من وضع الأسماء عليه وما ندر من ذلك فغير معتد* به عندهم ولذلك لم ينقلوا في الوقف في البسر حالة الجر فلم يقولوا من البسر وإن كان قد جاء الدُّئِل والرُّئِم لعدم الاعتداد بذلك وقد تحصل من هذا أن للثلاثي المجرد من الأسماء أحد عشر بناء وأهمل واحد من الاثني عشر ثم على الناظم في هذا المساق نظر وهو أن يقال لا يخلو إتيانه بهذه الأبنية من أن يكون بيانا لها على الجملة من غير تعرض إلى قلة السماع في بعضها أو كثرته أو يكون بيانا لها على التفصل* مع التنبيه على القلة والكثرة وعلى كل تقدير فكلامه معترض فإن كان الأول فكان من حقه أن لا [270]

ينبه على قلة فُعِل كما لم ينبه على قلة فِعِل إذ لم يأت منه إلا القليل النادر كما مره* حتى إن سيبويه لم يحفظ منه إلا «إبِل» وإن كان الثاني فكان من حقه أن ينبه أيضا على قلة فِعِل لأنه قليل ولم يثبت منه باتفاق إلا ما أثبت سيبويه وما عدا ذلك فمتنازع فيه بين النحويين فمنهم من يثبته ومنه من لا يثبته والذي ذر غيره من ذلك حِبِر وإطِل والحِبِك وجِلِخ وجِلِب وفي الصفات بِلز وإبِد أم حِبِرة فقالوا هو غير معروف وأما إطل فإتباع مختص بالضرورة والصواب فيه إطْل بالإسكان وأما الحبك فإنما ثبت في قراءة غريبة عن الحسن وحده وأما جلخ جلب فهو اسم للُعبةٍ يلعبها الصبيان وكأنها جارية مجرى الأصوات ليست من أصل الكلام وأما بِلِز فإنما ذكره سيبويه بالتشديد بلزّ* هكذا فأنت ترى أكثرها مقولا فيه مغموزا وإذا سُلِّم فالجميع نادر ولا يقوى على أن يكون فاشيا بمثل هذا السماع وكذلك فُعِل وإذا كان كذلك فتفرقتُه بينهما في أن نبه على قلة فُعِل ولم ينبه على قلة فِعِل لا وجه لها فالجواب أن العلة في باب فِعِل معلومة كما هي أيضا معلومة في باب فُعِل لكن الناظم أشار في أحدهما إلى القلة دون الآخر لمعنى حَسَن [271]

وبيان ذلك أن فِعِلا وإن كان قليلا ففيه أمران يُلحقانه بالكثير حتى يُنظمَ في سلكه أحدهما اتفاق النحويين على إثباته إذ لم يخالف في ذلك أحد على سيبويه وإثباته له بإبِل وزاد الناس عليه أشياء ربما كان فيها الثابت وغيره لكن الحاصل ثبوته على الجملة وكل ما ثبت باتفاق فهو ثابت في الكلام قلّتُه لا توهن ذلك فيه والثاني أن ذلك القليل الذي ثبت به فِعِل من قبيل القليل الذي لا معارض له في قياس ولا سماع وما كان كذلك فمثاله الواحد يقوم مقام السماع الفاشي كمسألة شَنَئِيّ في النسب إلى شَنُوءةَ* حيث أثبت سيبويه به القياس في فَعُولة على الإطلاق مع أنه لم يأتِ منه إلا شَنَئِيّ خاصة قال أبو الحسن فإن قلت إنما جاء هذا في حرف واحد يعني شنوءة* قال «فإنه جميع ما جاء» قال ابن جني «وما ألطف هذا القول من أبي الحسن! » ثم فسره بأن الذي جاء هذا الحرفُ وحده والقياس قابلُه ولم يأت فيه شيءٌ ينقضُه فإذا قاس الإنسانُ على هذا جميع ما جاء من فعولة وكان صحيحا في القياس فلا غروَ ولا ملام بخلاف ما جاء مما يضعف فيه القياس وإن كثر كفَعلِيّ* في فَعِيل وفُعلِيّ* في فُعَيل فإنه لا يقاس عليه للمعارض الذي عارض فيه فإبل في مسألتنا من قبيل شَنَئِيّ لم يأت ما يعارضه من كثرة استعماله في الألسنة وعدم تغيره عن هذا المثال الذي هو فِعِل فثبت فيه فِعِل وقامت أيضا كثرة استعماله مقام كثرة [272]

أمثاله فاستقام سكوت الناظم عن التنبيه على كثرته وأما فُعِل فليس فيه شيء مما تقدم أما أولا فلأن النحويين قد فهموا من العرب تخصيصهم هذا البناء بالفعل دون الاسم على ما أخبر به الناظم ونص عليه ابن جني وهذا ظاهر فهذا معارض في السماع فيه إذا ثبت وأما ثانيا فلأن ما ثبت به فُعِل عند القائل به لم يتفق النحويون عليه بل أنكرته منهم طائفة كثيرة على أحد الوجهين المذكورين قبلُ إما للنقل في أسماء الأجناس أو لغير ذلك فضعُف الإثبات به بسبب هذا الخلاف وأيضا ليس من قبيل ما السماع القليل فيه غير معارض بل هو معارض بما ثبت من قصد العرب في فُعِل وإذا كان كذلك كان فُعِل** أولى بأن يُنبِّه من أثبته على قلة السماع فيه كما فعل الناظم في فِعِل فإنه لا حاجة إلى التنبيه فيه على قلةٍ ثم أخذ يذكر أبنية الثلاثي من الأفعال أيضا فقال وَافْتَحْ وَضُمَّ وَاكْسِرِ الثَّانِيَ مِنْ ... فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ، وَنَحْوُهُ ضُمِنْ اعلم أن الأفعال أقل تصرفا من الأسماء في الكلام وهذا معنى قولهم الأسماء أمكن من الأفعال أي أكثر في الكلام ولذلك كانت أبنيةُ الأفعال أقل من أبنية الأسماء ألا ترى أن أبنية الثلاثي من الأسماء أحدَ عشر بناء ولم يثبت من أبنية الثلاثي من الأفعال باتفاق إلا ثلاثة والرابع مختلف فيه كما سيأتي إثر هذا بحول الله [273]

فقوله «الثَّانِيَ» معمولٌ يطلبه ثلاثة الأفعال المتقدمة من باب الإعمال والذي عمل فيه قوله «اكْسِرِ» فهو من إعمال الأخير ووقع في بعض النسخ هكذا «وَنَحْوُهُ ضُمِنْ» أي ونحو ما ذكر من الأمثلة مثال ضُمن وفي بعضها عوضه «وَزِدْ نَحْوَ ضُمِنْ» وهو أيضا بمعنى الأول يعني أنك إذا أردت أيضا أن تحصر أبنية الفعل الثلاثي المجرد من الزوائد فحرك الحرف الثاني منه وهو عين الكلمة بالحركات الثلاث الضمةِ والفتحِ* والكسرةِ فتقول فَعُل وفَعَل وفَعِل وزد على ذلك بناءً رابعا وهو موازن ضُمِن بضم الأول وكسر الثاني وذلك فُعِل وهي صيغة المفعول فهذه أربعة أبنية للفعل فأما فَعَل بفتح العين فنحو ضَرَب وأكل وشتم وعدل وكمل وأما فَعُل بضم العين فنحو ظَرُف وشَرُف وحسن وقبح وشجع وجبن وأما فَعِل بكسر العين فنحو مَهِل وعَلِم وسلم وسئم ولبس وهذه الثلاثة لا خلاف فيها وهي المبنية للفاعل ولم يزد الناظم على هذه الثلاثة تسكين الثاني مع فتح الأول أو ضمه لأنه لا يأتي فِعلٌ على فَعْل ولا فُعْل إلا وأصله فَعِل أو فَعُل أو فُعِل لأن العرب تسكن العين في هذا النحو تخفيفا فتقول في ظَرُف ظَرْفَ وفي عَلِم عَلْمَ كما تقول في عَضُد عَضْدٌ وفي كَتف* كَتِف فمما جاء مسكّنا من فَعِل ما أنشده ابن جني من قوله [274]

وإن أهجه يضجر كما ضجْر بازل ... من الأدم دبْرت صفحتاه وعاتقه أراد ضجِر ودبِرت ومثله في فُعِل قول العجاج لو عُصْر منها البان والمسك انعصر أراد لو عصِر ومما جاء في فَعُل قولهم لقَضْوَ الرجلُ يريدون لقَضُو وقالوا في حَسُن حَسْنَ وذلك في العجب نحو حَسْنَ الوجهُ وَجْهُكَ وحَسْنَ وجهًا وَجْهُك قال سهمُ بن حنظلة الغَنَوي لم يمنع الناس مني ما أردت ولا ... أعطيهمُ ما أرادوا حُسْنَ ذا أدبا أراد حَسُن ذا أدبا ولم يتكلم الناظم على شيء مما يتعلق بهذه الأبنية من الأحكام غير ما ذكره في باب أبنية المصادر وأبنية أسماء الفاعلين فتركتُ ذكر ما لم يذكره على الشرط الملتزم في هذا الكتاب فإن قيل إن الناظم إنما بين في مأخذ هذه الأبنية الثلاثة تحريك الثاني وهو العين لا غير ولم يبيّن تحريك الفاء فإذا أخذ المبتدئ في تعرف هذه الأبنية لم يعرف كيف يأخذ الفاء؟ ولا بأي حركة يحركها؟ ولا شك أن حكمها التحريك بالفتح في الأحوال كلها فكان حقه أن يبين ذلك [275]

فالجواب أن حركة الأول لما لم يذكر فيها اختلافا دل ذلك على أنها على حالة واحدة ثم إن فتح الأول قد تقرر في مواضع من هذا النظم أن الفاء مفتوحة في فَعَل وفَعُل وفَعِل في أبنية المصادر وفي غيرها مع أن الأمر في تحصيل ذلك قريب فترك ذكره لذلك فإن قلت فكذلك أيضا ذَكَرَ هذه الأبنية الأربعة بالانجرار في متقدم كلامه فكان ينبغي ألا يذكرها ههنا رأسا على هذا التقدير فالجواب أن نقول إن الناظم قد ذكر ذلك أيضا ولكنه لم يذكر حصرها في أربعة أبنية ولا غيرها فبقيت جملة الأبنية مجهولة فذكرها هنا لحصر أبنيتها وهذا مقصده في هذا الباب فكأنه قال "يحصرها أن تفتح الأول على ما هو المعهود وتحرك الثاني بالحركات الثلاث وتزيد على ذلك فُعِل فتنحصر أبنية الأفعال كلها" وهذا بيّن وأما البناء الرابع وهو المشار إليه بضمن وهو المبني للمفعول فظاهر الناظم إثباته بناء أصيلا رابعا لتلك الثلاثة إذ لو كان عنده فرعا أصيل لم يعدّه كما لم يَعُدَّ فَعْل المخفف من فَعُل أو فَعِل لكونه فرعا لا أصلا فكونه قد عده مع الأبنية الأصلية باتفاق دل على أنه عنده أصلي أيضا وهذا المذهب قد استقرأه بعض الشراح من كلام سيبويه في أول الكتاب إذ قال «وأما بناء ما مضى فذَهَب وسَمِع وحُمِد ومكُث» فذكر أربعة أمثلة لأربعة الأبنية فلو كان عنده فُعِل مُغيَّرا لم يذكره كما لم يذكر سائر ما غُيِّر وكلام سيبويه [276]

حجةٌ يعتمد عليها ويُستند إليها ويستدل أيضا على صحة هذه الدعوى بأنّ فُعِل لو كان مغيَّرا من غيره لكان مستلزما وجودُه وجودَ ذلك الغير ضرورة كون الفرع يستلزم وجودُه وجودَ أصله إذ لا يكون الفرعُ دون أصل لكنا وجدنا أفعالا مبنية للمفعول غير مغيرة من شيء كقولهم وُكِسَ ووُضِعَ وعُنِي بكذا ونُفِسَت ونُتِجَت وذُهيت* علينا وغُمَّ الهلال وأُغمِي على الرجل وسُقِط في يده وغُشِي عليه ومن ذلك كثير وهي لم يوجد لها في كلام العرب ما هي مغيرةٌ منه فدلَّ ذلك على أنها أصول بأنفسها ومذهب الجمهور أنّ بناء المفعول فرعٌ عن بناء الفاعل ففُعِل مُغيّر من فَعَل أو فَعِل وجعلوه مذهب سيبويه لأنه لما تعرّض لحصر أبنية الأفعال لم يذكر المبني للمفعول وأما هذا الموضع فلم يتعرّض فيه لذكر أصل ولا فرع وإنما أتى بمجرّد تمثيل فقط قال ابن خروف ونصّ في مواضع - يعني سيبويه - أنه مُغيّر منه واستدلوا على أنه فرع بقول العرب «سُويرَ* وبُويع ودُرِيَ ولم تُدغم الواو من سوير وبويع ولا همزت الواو الأولى من ووري* مع أن القاعدة أنه إنه إذا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قُلِبت الواو ياء وأُدغمت الياء في الياء وكذلك متى اجتمع واوان في أول كلمة همزت الأولى على اللزوم فدلّ ذلك على أنهما مغيّران من فعلِ الفاعل وكأنهما ساير ووارى فكما لا تُدغَم الألفُ من ساير ولا تُهمز الواو من وارى فكذلك ما غُيّر منه» [277]

قال ابن خروف ولا دليل في هذا بدليل تصحيحهم اجتوروا حملا على تجاوروا وليس تجاوروا أصلا له ولإعلالهم المضارع حملا على الماضي دليل على السابق منهما لصاحبه. وما قاله ابن خروف ظاهر الورود وقد رَدَّ أيضا ما استُدل به لمذهب الناظم من وجود بِنْيةِ المفعول لم يُنطق لها ببنية فاعل بأنّ ذلك قليل ثم قال وكلا القولين ممكن. فإن قيل ما ذهب إليه هنا مناقض لما تقرر له قبل وذلك أنه ذَكَرَ في باب النائب عن الفاعل أنّ فعل الفاعلي يُغير بضم أوله وكسر ما قبل آخره في الماضي وفتحه في المضارع وبيّن هذا المعنى هنالك على عادة النحويين وذلك ظاهر في كونه مغيرا عنه من حيث يجعل المفعول أو غيره نائبا عن الفاعل فتُغيرُ لذلك بنية الفاعل إلى بنية المفعول. وهو قد أشار هنا إلى أنّ بنية المفعول أصلية غير مغيَّرةٍ من غيرها ولا شك أن ظاهر هذا التناقض. فالجواب أنه ليس بتناقض، أما تقريره هو وغيرُه أنّ المفعول ينوبُ عن الفاعل في الإخبار بالفعل فلا دليل في هذا على الفرعية لأنّ لنا أن نقول معناه أنّ المعنى الواقع من الفاعل الأصلُ* أن يُخبَرَ به عن فاعله مذكورا فاعلُه فيُؤتى له ببنيةِ الفاعل فإن أرادوا ألّا يذكروا الفاعل أتَوا ببنية المفعول. ومعنى قوله «وَأَوَّلَ الْفِعْلٍ اضْمُمَنْ» وكذا إلى آخره معناه أنك إذا أردت أن تشتق له فعلا من مصدره فاجعله على هذه الشاكلة لا أنه يريد أنك [278]

تأخذُ بنية الفاعل فتغيرها هذا التغيير ليس في كلامه ما يُعيّن هذا المعنى وإنما فيه أنك تأتي ببنيةٍ مضمومةِ الأول مكسورة ما قبل الآخر في الماضي ومفتوحتِه في المضارع فلا تناقض في كلامه. ثم نقول إن مذهب الناظم في كون بناء فُعِل أصلا هو الأحسن؛ إذ هو بناء مستقل بأحكامه جار في نفسه مجرى الفعل المبني للفاعل والحمل على ظاهر الأمر واجب إلا أن يعارض فيه معارض ولا معارض هنا والقولُ بأنه فرع عن فِعْلِ الفاعل دعوى لا دليل عليها. فالأصح ما قال الناظم والله أعلم. * * * وَمُنْتَهَاهُ أَرْبَعٌ إِنْ جُرِّدَا ... وَإِنْ يُزَدْ فِيهِ فَمَا سِتًّا عَدَا وَمُنْتَهَاهُ يعني منتهى الفعل أربع يريد أربع أحرف إِنْ جُرِّدَ يعني من الزوائد أي إنّ غاية الفعل المجرد أن ينتهي إلى أربعة أحرف ولم يُبين له صيغة ولا عدّد له أبنية فهو معترَض من وجهين أحدهما هذا؛ إذ كان حقُّه أن يقول «ومنتهاه أربع ووزنه» كذا أو ما أشبه ذلك. [279]

والثاني أنه ترك التنبيه على فعل المفعول وكان حقه أن ينبه عليه كما فعل ذلك في الثلاثي وإلا فلا فرق بينهما في هذا المعنى فكما تقول فَعْلَل في فعل الفاعل كذلك تقول فُعلِل* في فعل المفعول. وقد يجاب عن الأول بأن بناء فَعْلَل قد ذكره قبل هذا في أبنية المصادر فلم يحتج إلى ذكره هنا إذ ليس له أبنية متعددة. وإنما يختص ببناء واحد. والذي كان واجبا عليه أن يذكر منتهى ما يصل إليه بحروفه الأصول وهو الذي نبه عليه وهذا مما يدل على ما تقدم لنا قبلُ من أنه إنما قصد ههنا حصر الأبنية لا ذكرها وتحديدها فلذلك لم يذكر في الثلاثي حركة أول الفعل. وعن الثاني أنه لما نبه على فعل المفعول في الثلاثي كان الرباعي أيضا داخلا في ذلك الحكم فلا بد له من بنية المفعول فترك ذكرها اختصارا ولم يحتج إلى تعيينها إذ قد ذكر* ذلك في باب النائب عن الفاعل وأن الرباعي يُبنى على فُعلِل* وهذا من اختصاراته. وقد حصّل أن الرباعي المجرد له بناءان أحدهما فَعْلل نحو دحرج وقرطس وسرهف وهملج والثاني فُعلِل نحو دُحْرِج وسُرهِف وقُلقِل وزُلزِل [280]

وإنما كانت غايةُ الأفعال الأربعةَ لأن الأسماء أقوى منها فجعلوا لها على الأفعال فضيلة لقوتها واستغناء الأسماء عن الأفعال وحاجة الأفعال إلى الإسناد إليها وحطُّوا الأفعال درجة عنها. هذا تعليلُ المازني وذكر ابن جني في ذلك وجها آخر وقال إنه قولُ سيبويه وهو أنّ «الأفعال لم تكن على خمسة أحرف كلُّها أصول لأن الزوائد تلزمها للمعاني نحو حروف المضارعة وتاء المطاوعة في تدحرج وألف الوصل والنون في احرنجم فكرهوا أن يلزمها ذلك على طولها». قال ابن جني «فإن قلت إنهم قد قالوا عندليب وعَضْرَفُوط وقبعثرى ونحوها فألحقوها الزوائد وهي خماسية فإنّ الأفعال أقعدُ في الزوائد من الأسماء لأنها تنقلها من حال إلى حال». ثم قال «وَإِنْ يُزَدْ فِيهِ فَمَا سِتًّا عَدَا» يعني أن المزيد فيه من الأفعال غاية ما يبلغ بالزيادة ستة أحرف لا يتعداها إلى السبعة فأكثر وذلك لأن الأسماء لما كانت أقوى وأخف كما تقدم ساغ أن تلحق الزيادة ويبلغ بها السبعة وأما الأفعال فأضعف فلم يبلغ من قوتها أن تساويها في الزيادة. وأيضا فإن زيادة الأسماء قد تحذف كثيرا في التحقير والتكسير وغيرهما ولا سيما في تحقير الترخيم فصارت في الأسماء كالمنفصلة منها فاحتملوا كثرة الزيادة فيها بخلاف الأفعال فإنها ليست كذلك فكرهوا تطويلها بالزيادة اللازمة. [281]

وقوله «وَإِنْ يُزَدْ فِيهِ» إلى أخره يعني أن الزيادة فيه تبلغ إلى الستة وذلك صحيح كان ثلاثيا أو رباعيا فأما الثلاثي فيصير إلى أربعة بزيادة واحدة للإلحاق أو لغير الإلحاق ويكون على أَفْعَلَ نحو أكرم وعلى فَيْعَل نحو بيطر وعلى فَوْعَل نحو حوقل وعلى فَعْول نحو جهور وبالتضعيف على فَعْلَل نحو جَلبب وعلى يَفْعَلَ نحو يَرْنَأَ لِحْيَتَه وعلى فَعْلَى نحو سلقى وعلى فَعْنَل نحو قلنس وعلى فاعَلَ نحو ضارب وعلى فَعَّلَ نحو ضرّب وكذلك ما أشبهه ويصير إلى خمسة بزيادتين ويكون على تفاعل نحو تضارَب وعلى تَفَعْلى نحو تقلسى وعلى تفيعل نحو تشيطن وعلى تفعول نحو تَرَهْوَك وعلى تَفَوْعل نحو تجورب وعلى افْتَعَلَ نحو اقتدر وعلى انْفَعَل نحو انطلق وعلى افْعَلَّ نحو احمرّ وعلى تَفَعَّل نحو تكرَّم وعلى تَمَفْعَل نحو تمسكن وشبه ذلك. ويصير إلى ستة بزوائد ثلاث ويكون على افْعَنْلَل نحو اقعنسس وعلى [282]

افْعَنْلَى نحو اسلنقى وعلى استَفْعَلَ نحو استكبر وعلى افعالَّ نحو احمارَّ وعلى افْعَوَّلَ نحو اعْلَوَّطَ وعلى افْعَوْعَل نحو اغدودن ونحو ذلك. وأما الرباعيُّ فيصير خماسيا بزيادة واحدة على تَفَعْلَل نحو تدحرج وشبهه ويصيرُ سداسيا بزيادتين ويكون على افْعَنْلَل نحو احرنجم وما أشبه ذلك. وقوله «فَمَا سِتًّا عَدَا» كقوله «فَمَا سَبْعًا عَدَا» والكلامُ فيهما واحد. ثم أخذ يذكر ما فوق الثلاثي من الاسم المجرد وما له من الأبنية وابتدأ بالرباعي ثم عطف بالخماسي فقال لِاسْمٍ مُجَرَّدٍ رُبَاعٍ: فَعْلَلُ ... وَفِعْلِلٌ وَفِعْلَلٌ وَفُعْلُلُ وَمَعْ فِعَلٍّ: فُعْلَلٌ، وَإِنْ عَلَا ... فَمَعْ فَعَلَّلٍ حَوَى فَعْلَلِلَا كَذَا فُعَلِّلٌ وَفِعْلَلٌّ، وَمَا ... غَايَرَ لِلزَّيْدِ أَوِ النَّقْصِ انْتَمَى يعني أن الاسم الرباعي المجرد له من الأبنية ستة على رأيه أحدها فَعْلَل بفتح الأول والثالث وإسكان الثاني ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو جعفر وعنبر وجندل وسخبر والصفة نحو سلهب وخلجم وصقعب وشجعم. [283]

والثاني فِعْلِل بكسر الأول والثالث ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو زبرج وزئبر وقرطم وعظلم والصفة نحو صمرد دلقم* وزهلق وضمرز وخرمل وهدمل وخضرم ولطلط ودردح. قال ابن جني «وإنما أكثرتُ من هذا لأن أبا العباس ذكر أن فِعْلِلا في الصفة قليل». والثالث فِعْلَل بكسر الأول وفتح الثالث ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو قلعم ودرهم وقلفع وقرطع والصفة نحو هجرع هبلع وقيل إن الهاء في هذين المثالين زائدة لأنهما من الجرع والبلع فوزنهما على هذا هِفْعَل وقد حكى الخليل أنه [284]

كان يقول الهاء في هرْكولة زائدة لأنها من قولهم تَرْكلُ في مِشيتها فوزنها إذا هِفْعَولَة وإنما قادهم إلى هذا الاشتقاق كما رأيت ومذهب سيبويه أن الهاء أصلية في ذلك كله وبهجرع وهبلع مثّل الصفة في هذا البناء ومنه بعير عِلْكَد أي غليظ شديد العنق والظهر. والرابع فُعْلُل بضم الأول والثالث ويكون في الاسم والصفة أيضا فالاسم نحو ثرتم وبرثن وحبرج وفلفل والصفة جرشع وكندر وصنتع وكلكل. والخامس فِعَلٌّ بكسر الأول وفتح الثاني ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو قِمَطْر* وهو ما تان به الكتب وفِطَحْل وصِقَعْل وهِدَمْلَة والصفة نحو هزبر وسبطر ودِرَفْس وقمطر وهو الشديد من الجمال الصُّلب. [285]

والسادس فُعْلَل بضم الأول وفتح الثالث وهو ما استدركه الأخفش ومثاله في الاسم جُخْدَب وضُفْدَع وجُندَب وطُحلَب وبُرقَع وجُؤذَر إلا أنّ جُؤذَرا زعم الفارسي أنه أعجمي. ومثاله في الصفة جُرْشَع نقله أبو حيان في الارتشاف فمثال هذا فُعْلَل بلا شك إلا أنّ النحويين فيه على فرقتين فمنهم من أخذ به وصحح الاستدراك والناظم منهم وهو رأيه في الفوائد أيضا وزعم ابن جني أن جميع البصريين مخالفون لأبي الحسن في هذا إلا من أخذ بقوله وعزوا نقل الفتح وإثباته للكوفيين وأن البصريين لا يثبتونه وهو الذي رجح في التسهيل فقال «وتفريعُ فُعْلَل على فعْلُل أظهرُ من أصالته» والذين نفوا وجود هذا البناء قالوا إن الفتح تخفيف من الضم والدليل على ذلك أنه ليس منها مثال إلا والضم قد جاء فيه فقد قالوا فيها جُخْدُب وجُنْدُب وطُحْلُب* بُرْقُع جُؤْذُر بل زعم الزُّبيدي أن الضم هو الأفصح فيها ومثله ذكر ابن جني أنه هو المعروف. [286]

وهذا كله لا يلزم والفتح منقول فلا بد من قبوله ومن قال إنه مفتوح من المضموم فدعوى لا دليل عليها ولم يثبت من كلام العرب تخفيف الضم بالفتح فيُحملَ هذا عليه مع أنه ليس فيه ذلك الثقل وأما قولهم في غُرُفات غُرَفات فليس تخفيفا من المضموم بل هو تحريك الساكن بالفتح وحملٌ لفُعْلَة على فَعْلَة وأيضا فقد ألحقوا بفُعْلَل فقالوا سُودَد* قالوا عُوطط وعُنْدَد وحُولَل وقُعدَد والإلحاقُ لا يكون بأصل بناء ففُعْلَل بلا إشكال أصلُ بناء ولم يُثبته سيبويه إذ لعله لم يحفظه أو لم يتحقق نقلُه عنده ولا يلزم من هذا عدمُ قولِه به إن ثبت على أن سيبويه تأول قُعدَدا ونحوه على أنه لم يلحق بجُخْدَب فقال «وقالوا قُعدَد فألحقوه بجُندَب وعُنصَل بالتضعيف» وهذا معترض فإنه إلحاق مزيدٍ بمزيد. فأجاب السيرافي بأن هذه النون لما لم تسقط شُبّهت** بالأصل فألحقوا بها قال وقُعدد يذل الاشتقاق على سقوط الدال منه يقال هذا أقْعَدُ من هذا [287]

لأن القُعدَد أقعدُ القرابة في النسب وهذا وإن كان تأويلا يمكن أن يقال مثله فإنه لا يقوى قوة ما احتج به الناظم فالظاهر إثباته كما ذهب إليه هنا. هذه جملةُ ما ذكر الناظم من الأبنية للرباعي وذكر غيرُه أربعة أبنية زائدة على ما ذكره. أحدها فَعْلِل بفتح الأول وكسر الثالث ذكروه في الأسماء قالوا ما عليه طحرية أي قطعة ثوب حكاه أبو عبيدة عن أبي الجراح لغة في طِحْرِية استدركه الزبيدي وابن خروف وتبعهما ابن عصفور أيضا. والثاني فَعَلٌّ بضم الأول وفتح الثاني حكى أبو زيد في الصفات امرأة هُرَكْلَة في هُرْكُولة وذكر الزبيدي في استدراك هذا المثال من الأسماء أنه يُقال لقيت منه الفُتَكْرِين لغةٌ في الفِتكْرين فأثبت به فُعَلا وغلَّطه الناس في هذا المثال لأنه إنما يصح على أنه يقال الفُتَكرون في الرفع الفُتَكرين في النصب والجر فإذا ثبت هذا نقلا فحينئذ يصح ما قال وإلا فلعله فُتَكْرِين كقُذَعْمِيل فالذي يصح من تمثيل هذا قولهم هِرَكْلَة وذكر أبو حيان في الارتشاف هذا البناء وأثبته بقولهم خُبَعْثٌ ودُلَمْز [288]

وقال: خلافا لمن نفاه. وأنشد الجوهري شاهدا على الدُّلَمْزِ قول الراجز أبناءَ كلِّ سلب ووهز ... دُلامِز يُربي على الدُّلَمْزِ لكنه حمله على أنه مخفف من دلامز والثالث فُعْلِل بضم الأول وكسر الثالث في الأسماء أيضا حكى ابن خروف الضم في طَحْرِبَة وأنه يقال طُحْرِبة* واستدركهما معا. والرابع فِعْلُلٌ بكسر الأول وضم الثالث حكى ابن جني في الأسماء عن بعضهم زِئْبُر وضِئبل خرفع. وكأن الناظم لم يُثبت هذه الأبنية بمثل هذا السماع لشذوذه وقلة استعماله أو لغير ذلك مما يشير إليه بعدُ. وقد حكى ابن سيده في العَرَنْتُنِ العَرْتَنَ والعَرْتُنَ وذلك يُثبت مثال فَعْلُل وهو بناء خامس. ثم قال «وَإِنْ عَلَا ... فَمَعْ فَعَلَّلٍ حَوَى فَعْلَلِلَا» إلى آخره. الضمير في «علا» راجعٌ إلى الاسم يعني أنّ الاسم إن علا على ألأربعة فصار خماسيا فإنه يحوي هذه الأمثلة الأربعة أحدها فَعَلَّلُ بفتح الأول والثاني والرابع ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو سَفَرْجَل وفرزدق وزبرجد وخدرنق والصفة نحو شمردل وهمرجل وجنعدل. [289]

والثاني فَعْلَلِلٌ بفتح الأول والثالث وكسر الرابع ويكون في الصفة نحو قهْبَلِس وجحمرش وصهصلق وقنفرش قال سيبويه «ولا نعلمه جاء اسما» ويظهر من المازني أنه قد جاء اسما لأنه لما مثّل بنات الخمسة قال «وتكون هذه الخمسة أسماءً وصفات» ويدلّ على ما قال المازني أنهم قالوا قَهْبلس للمرأة العظيمة لحشَفَةِ الذكر أيضا وقد قال الجوهري إنه الذكر نفسه وبهذا قد يثبت مجيئُه اسما. والثالث فُعَلِّلٌ بضم الأول وفتح الثاني وكسر الرابع ويكون في الاسم والصفة فالاسم نحو خُزَعْبِلَةٍ ويقال ما في السماء قُذَعْمِلَة أي شيء من السحاب والصفة نحو قُذَعمل للضخم من الإبل والخُبَعْثين*. والرابع فعْلَلٌّ بكسر الأول وفتح الثالث ويكون اسما وصفة فالاسم نحو قِرْطعْبٍ وحنبتر وقرزحلة والصفة نحو جِرْدَحْل وخنزقر وقرطعن. [290]

هذا ما ذكره الناظم من الأمثلة للخماسي وقد زاد غيره على هذه الأبنية ستة أبنية. أحدها فُعْلَلِلٌ بضم الأول وفتح الثالث وكسر الرابع وهو المشهور في استدراك الزبيدي وابن السراج وغيرهما ومثاله الهُنْدَلِعُ لبقلة. والثاني فَعِلِّلٌ بكسر الأول والثاني والرابع ومثاله عِقَرْطِلٌ اسم لأنثى الفِيَلة حكاه ابن سيده. وهذان المثالان ذكرهما الناس واشتهرا والأول أشهرهما. والثالث فِعَلَّل بكسر الأول وفتح الثاني والرابع والرابع فُعُلَّل بضم الأول وفتح الثالث والخامس فَعْلَل بفتح الأول والثالث والسادس فُعُلُّل بضم الأول والثاني والرابع وهذه الأربعة الأخيرة ذكرها أبو حيان وأثبتها مع ما تقدم وأتى لها بمثل لم أقيِّدها كما أحب فتركتها فانظرها في الارتشاف له. ولم يعول الناظم على شيء من هذا وإنما أثبت ما أثبته سيبويه والجمهور وما عداها فمحتمل أو نادر. [291]

ثم أخذ الناظم ينفي غير ما ذكر بقوله «وَمَا ... غَايَرَ لِلزَّيْدِ أَوِ النَّقْصِ انْتَمَى» ما: واقعة على الأمثلة التي تُمثَّل بها الأبنية أو على الأبنية أنفسها. وحذف مفعول «غاير» للعلم به وهو ما تقدم من الأبنية في الرباعي والخماسي والزيدُ: مصدر زاد يَزِيد زيدا وزيادة فيعني أنّ ما غاير ستة الأبنية المذكورة في الرباعي والأربعة المذكورة في الخماسي من الأمثلة التي يُلحِقُ بها المستدركون أبنية أخر ويظهر ببادئ الرأي الإلحاق بها فإنها ليست بتلك المنزلة ولا ثابتة عنده فيها وإنما مخرجها عنده أحد أمرين: أحدهما أن يكون المثال منتميا أي منتسبا** للزيادة ومعنى كونه منتسبا لها أن يكون ذا زيادة لا يكون مجردا فما كان من الأبنية مغايرا ومخالفا لما مضى فيمكن أن يكون منها ما هو مزيد فيه وذلك نحو هُرَكْلَة فإن الهاء يمكن أن تكون زائدة كما قال الخليل في هُرْكُولَة لأنها بمعناها إذ هي بمعنى تَرْكُل في مشيتها فإذا أمكن في الهاء الزيادة لم يكن في هُرَكْلَة دليل على فُعَلٍّ ومثلُ الهُنْدَلِع لا يثبت به فُعْلَلِلٌ لإمكان زيادة النون قال ابن جني «ومن ادعى ذلك - يعني إثبات فَعْلِلَلٍ** - بهُنْدَلع احتاج إلى أن يدل على أن النون من الأصل» قال ابن الضائع وإنما ينبغي أن يجعل هذا في مزيد الرباعي والنون زائدة لأن مزيد الرباعي أوسعُ [292]

من أصول الخماسي ولذلك حمل سيبويه كَنَهْبُل* على زيادة النون وإن كان ليس موضع زيادتها لكن حمله على ذلك لسَعَة باب الزيادة وضيق باب الأصالة وكذلك مسألتنا. وقيل مثل ذلك في زِئْبر وضِئْبل قال ابن كيسان هذا إذا جاء على هذا المثال يشهد للهمزة أنها زائدة قال وإذا وقعت حروف الزيادة في الكلمة جاز أن تخرج عن بناء الأصول فلهذا ما جاءت هكذا وهذا الذي قال يُعضّده كلام سيبويه في كنهبُل وليس بخارج عن النظر وهو أولى وإنما ادعى الزيادة لأن البناء إذا كان فيه حرف يمكن أن يكون زائدا إلا أنه لم يقم دليل على زيادته فنحن فيه بين أمرين إما أن ندعي أصالته فنُثبت فيه* في المجردات بناء غير موجود أو ندعي زيادته فنُثبت به أيضا بناء غير موجود فقد تعارض مكروهان فيحتمل أسهلهما ولا شك أن باب الزيادة أقرب لأنه أوسع البابين فلذلك جعله الناظم من باب المزيد ولم يجعله من باب المجرد. والثاني أن يكون المثال منتميا للنقص أي يكون المثال قد حُذف منه حتى خرج عن أصل بنائه إلى بناء غير موجود مثاله مما تقدم خُبَعْثٌ يمكن - إن ثبت - أن يكون محذوفا من خُبَعْثَن في ضرورة شعرٍ تشبيها للنون الأصلية بالزائدة كما حذفوا نون «لم يك» في الجزم وهي أصلية تشبيها بما شأنه الحذف وهذا أولى من ادعاء ثبوت ما لم يثبت حتى يتضح دليل الثبوت [293]

وكذلك الدُّلَمْز إنما أصله الدُّلَمِز الذي أصله الدُّلامِز ثم سكّن الميم في الضرورة بعد حذف ألف الدلامز وهو رأي صاحب الصحاح فيه وهو رأي صَحاح. ومثاله من غير ما تقدم ما جاء على مثال فَعَلُل وفَعَلِل وفَعَلَل وفُعَلل فالأول نحو عَرَتُن وعرقص وعَبَقُر أما عرتُن فأصله عَرَنْتُن قال سيبويه وإنما حذفوا نون عرنتن كما حذفوا ألف عُلابط وكلتاهما يتكلم بهما يعني أنه يجوز أن يقال عرنتن وعرتن فعرتن قد حذفت منه النون وأصله أنه مزيد فيه رباعي الأصول كقَرَنْفُل فإذًا فَعَلُلٌ لا يثبت به أصلُ بناء وأما عَرَقُصٌ فمحذوف أيضا أصله عريْقُصٌ قال ابن سيده العَرَقُص والعُرَقِص والعُرْقُصاء والعُرَيْقصاء والعُرَيْقصان والعرَقُصان والعَرَيْقص كله نبت فإذًا ليس بفَعَلُلٍ على الحقيقة وإنما هو عَرَيْقُصٌ فَعَيْلُلٌ من الرباعي المزيد فيه. وأما عَبَقُرٌ فمُغيَّر أيضا وهو في المثل أبردُ من عَبَقُرٍّ ويقال حَبَقُرٍّ بالحاء فقيل إنه محذوف من [294]

عَبَيْقر وقيل أصله عَبَقُور فحذفت الواو وهذا هو الجاري على طريقة الناظم وقد ذكر الجوهري في توجيه عبقُرّ أنهما كأنهما كلمتان جُعلتا كلمة واحدة قال لأن أبا عمرو بن العلاء يرويه أبردُ من عَبِّ قُرّ قال العبُّ اسم البَرَج الطي ينزل من المزن وهو حب الغمام فالعين مُبدَلة من الحاء والقُرُّ البَرْدُ وأنشد كأن فاها عب قر بارد ... أو ريح روض مسه تنضاح وأما قول المرار بن منقذ أعرفت الدار أم أنكرتها ... بين تبراكٍ فشَسَّى عبقر فذكر عن المازني أنه أراد عبقر فغير الصيغة وقال الجوهري «ولما احتاج إلى تحريك الباء لإقامة الوزن وتوهم تشديد الراء ضم القاف لئلا يخرج إلى بناء لم يجئ مثله فألحقه ببناء جاء في المثل وهو أبرد من عبقر». والبناء الثاني نحو ذَلَذِل وزَلَزِل وجَنَدِل لا يثبت به فَعَلِلٌ لأنها محذوف منها إلا أنهم اختلفوا في المحذوف هنا فذهب سيبويه والجمهور [295]

إلى أنّ المحذوف الألف وأصلها ذلاذِل وزلازل وجَنادل والذي قادهم إلى أن المحذوف هو الألفُ أنهم نطقوا بها فقالوا ذلاذِل قال الزَّفَيان مشمّرا قد رفع الذلاذلا أنشده الجوهري وإنما دخله التنوين لنقص البناء ونُقل عن الفراء ونسبه ابن مالك للفارسي أيضا أنّ المحذوف ياءٌ وأن الأصل ذَلَذِيل وزَلَزِيل وجَنَديل وإياه ارتضى في التسهيل والذي رأيتُ في التذكرة للفارسي لا يتعين منه أنه مذهبه قال فيها: قولهم ذَلَذِل حمله سيبويه على أنه جمع حذفت منه الألف وغيره يحمله على أنه ذلذيل وينكر ما ذهب إليه سيبويه من حذف الألف ومن حجته في ذلك إنه يقول إن لمعنى وحرف المعنى لا يحذف هذا ما ذكره فيها فيما رأيتُ وقد رأيت له فيها المشيَ على طريقة سيبويه والجمهور في مواضع فهذا «الغير» يحتمل أن يكون الفراءَ وهو الأظهر فلا يكون الفارسي مخالفا للجمهور وقد وجّه هذا المذهب بعضُهم بأن تلك الألفاظَ تقع على مفرد لا على جمع وفَعَلِيل معروف في الآحاد بخلاف فَعالِلَ فإنه مقصور الاستعمال على الجمع قال شيخنا القاضي رحمه الله ومذهب الفارسي ظاهر إلا أنه يلقاه فيه أنه ليس في أشبه الرباعي فَعَلِيل وإنما هو في الثلاثي المزيد فيه كصَمَكِيكٍ حَمَصِيصٍ وما [296]

أشبه ذلك إلا أنه رحمه الله قال لنا وقت قراءة هذا الموضع من التسهيل عليه: يغلب على ظني أن الفارسي ذكر من الرباعي مثالا على فَعليل قال: ولا أُحقِّق أذكر ذلك في التذكرة أم لا؟ فإن ثبت ما قاله فيسهل الجواب عن هذا الاعتراض ورجح بعض الشيوخ مذهب الجماعة أيضا بوجهين: أحدهما أن سيبويه صرّح بالترادف بينه وبين ذي الألف قال ويقول بعضهم جَنَدِل وذلذِل يحذفون ألف جنادلَ وذلاذِلَ وينوّنون ويجعلونه عوضا من هذا المحذوف. والثاني أن التخفيف من لفظ مستعمل أولى من التخفيف من لفظ لم يُستعمل قطّ. قال وما ذُكر من حذف حروف المعاني إذا كان على الجواز ووُجد المُحرِزُ وفهم المعنى فقريب. هذا ما قال وهو بناء على تسليم أن الألف فيها حرف معن وإنما يُتصور ذلك على تسليم أنها جموع لا مفردات فإنِ ادُّعيَ أنها مفردات - وهو ظاهر من تفسير معناها - فمثلُ تلك الألف في المفرد ليست لمعنى كألف عُلابِط وعُكامِس وإذا تقرر هذا فالحذف متقرر باتفاق الجميع وليس للناظم هنا في المحذوف مذهب معين من المذهبين. والبناء الثالث نحو عَرَتَن هذا أيضا محذوف على مُقتضى الناظم وأصله عرنْتَن ذكره الزبيدي أنه يقال عرتُن وعرنْتُن وعرتَن [297]

وعرنْتَن وهو دليل على أنه محذوف منه فهو من قبيل الرباعي المزيد فيه. والبناء الرابع نحو فُعَلِل نحو قولهم عُكَمِس وعُجَلِط ودُوَدِم ودلمز وعكمص وعكلد وعلكد وخزخز قال أنشده ابن جني أعددت للورد إذا الورد حفزْ ... غربا جرورا وجلالا خزخزْ وكذلك عُلَبِط أنشده ابن جني وزعموا - وكذبوا - بأنهمْ ... لقيهم علبطٌ فشربوا وهو كثير جدا لكنه محذوف والمحذوف منه الألف فالأصل عُلابط بالألف. قال لو أنها لاقت غلاما طائطا ... ألقى عليه كُلكلا عُلابِطا [298]

وأنشد الفراء ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قوطَه العلابطا وكذلك عُكَمِسٌ أصله عكامس وعجلط عجالط وكذلك سائرها قال سيبويه «والدليل على ذلك أنه ليس شيء من هذا المثال إلا ومثال فُعالِلٍ جائزٌ فيه تقول عُجالِط وعُجَلِط وعكالط وعكلط ودوادم ودُوَدِم» وقد تقدم إنشاد الجوهري دلامز يُربي على الدلمز فهذا وأشباهه الذي أراد الناظم أن ينفيه بقوله «وَمَا ... غَايَرَ لِلزَّيْدِ أَوِ النَّقْصِ انْتَمَى» وإذا تقرر هذا بقي الدليل على الحذف وإلا فلقائل أن يقول إن تلك لغاتٌ أصلية ولا حذف فالدليل على أنها محذوفة أنها قد اجتمع فيها أربع متحركات في الكلمة الواحدة وأربع متحركات في كلمة واحدة لا يوجد إلا أن يعرض عارض كزيادة في تقدير الانفصال نحو شجرة وجَمَزَيان في تثنية جَمَزَى* أو تكون الكلمة من كلمتين نحو شَغَرَ بَغَرَ وخمسةَ عَشَر أو نحو ذلك فأما أن يوجد أربع متحركات في أصل بناء فلا ولأجل ذلك رد ابن الطراوة على الفارسي في تثنية جمزى* جمزيان قال لأن فيه توالي أربع حركات ولذلك التزموا الحذف في النسب إلى جمزى** قال وهذا غلط [299]

لأن العلة في الحذف في جمزيٌّ ليس امتناع توالي أربع حركات لأن ذلك يجوز كشجرة ونحوه؛ إذ كان في تقدير ما لا يجتمع فيه تلك الحركات وكذلك التثنية لأن الأصل رعيُ الواحد بل العلة في امتناع جمَزوي استثقاله مع أن الباب والأكثر في حبلى حذف الحرف فحيث لا يجوز الحذف أصلا وإن زاد العدد لا يراعى توالي الحركات وإنما سقت هذا بيانا لمحافظتهم على قاعدة امتناع أن يجتمع أربع حركات في كلمة فلما كان الأمر في الكلم العربية على هذا ثم أتى في كلامهم مثل فعلل وفعلل وفعلل وفعلل علموا بلا بذ أنها محذوف منها وإلا لألزم مخالفة القاعدة والخروج عن كلام العرب وعين لهم المحذوف نطقهم بالأصل ورأوا أن فعلل من فعالل وأن فعلل من فعالل وأن فعلل وفعلل من فعنلل وفعنلل لا شك فيه فهذا هو الدليل على صحة ما دعاه الناظم وغيره فإن قيل هذا لا دليل فيه فإن توالي أربع متحركات قد يأتي من غير عارض يعرض وذلك في نحو جمزى وبشكى ومرطى وغير ذلك مما اجتمع* فيه قبل ألف التأنيث ثلاث حركات فإن ألف التأنيث في تقدير التحرك ألا ترى أنها محل الإعراب والإعراب مقدر في الألف وإذا كان مقدرا فيها والمقدر كالمنطوق به فقد صار مما يجتمع فيه أربع حركات وليست الألف في تقدير الانفصال كالتاء لأن الكلمة مبنية عليها فمرطى ونحوه مثل [300]

أن لو قلت في مرمى مرمىُ وفي مغزى مغزىُ بل كقولك في جعفر جعَفِر وهو عين ما نفيت فالجواب أن تقدير الإعراب في ألف التأنيث لا يكون بمنزلة الحرف المتحرك وإنما الألف باقية على سكونها ومعنى تقدير الإعراب فيها أنه لو كان في موضعها حرف صحيح لكان متحركا هذا هو المراد ولا يلزم من ذلك أن تكون متحركة وهذا خصوص في ألف التأنيث وحها لأنها غير منقلبة عن شيء وأما غير ألف التأنيث كألف عصا ورحا فإنها ما كانت ألفا إلا وقد انت واوا أو ياء متحركة مفتوحا ما قبلها وحينئذ انقلبت وإذ ذاك تقول إذا كانت الألف منقلبة فلا يوجد قبلها ثلاث حركات أصلا ألا ترى أنه لم يأت نحو مدعى ومغزى ولا ما أشبه ذلك لأنه في تقدير مدعى* ومغزي* فيلقى فيه اجتماع أربع حركات وكذلك الأمر في ألف الإلحاق إن قلنا إن أصلها الياء على ما ذهب إليه المازني إذ هي منقلبة عن حرف متحرك وإن قلنا إنها غير منقلبة وإنما سيقت على صورتها كألف التأنيث فإن حكمها حكم المنقلبة لأنها إنما أتي بها في مقابلة المتحرك فكأنها متحركة حقيقية فمثل هذه الألف لا يوجد قبلها ثلاث حركات أصلا كما لا يوجد أربع حركات فيما آخره صحيح كسهلب وجعفر وهذا بين فيما ارتكبه الناظم [301]

وغيره في هذه المسألة في قوله «وَمَا ... غَايَرَ لِلزَّيْدِ أَوِ النَّقْصِ انْتَمَى» وبالله التوفيق إلا أنه يرد عليه فيه اعتراض وهو أن ما اعتذر به عن استدراك من استدرك غير ما ذكر أو عن توهم الاستدراك قاصر إذ لا يمشي له إلا في بعض ما تقدم الاستدراك فيه فأما ادعاء الزيادة فإن تأتى له في هركلة وهندلع وما تقدم ذكره لم يتأت له في طحربة وحرفع ولا في عفرطل وغيره مما استدركه الناس إذ ليس فيها ما يدعى زيادته وأما ادعاء النقص فكذلك أيضا يقال فيه حرفا بحرف وأين هذان الأمران فينفي الاستدراك من ستة الأشياء التي ذكر في التسهيل منها هذان وذلك حيث قال «وما خرج عن هذه المثل فشاذ أو مزيد فيه أو محذوف منه أو شبه الحرف أو مركب أو أعجمي» فأما الشذوذ فقد يقال إنه كان يخرج به نحو خرفع وطحربة وطحربة وعفرطل ونحو ذلك مما استدركه أبو حيان وغيره وأما المزيد فيه والمحذوف منه فقد تقد ذكرهما وأما التركيب فكان يخرج به نحو أحد عشر وحضرموت وكذلك عبقر وحبقر على ما تقدم ذكره عن أبي عمرو بن العلاء وأما العجمة فكان يخرج بها ما كان نحو السقرقع لشراب لأهل الحجاز لغة حبشية ويقول الفرس للسكر طبرزد وطبرزل وطبرزن وكالفرند وما أشبه ذلك وما أحوج الناظم إلى إخراج [302]

الأعجمي لكثرة ما فيه من الأوزان الخارجة عهما قال وهو لم يشعر بإخراجه في مقدمة التصريف وأما شبه الحرف فهو الذي لا يحتاج إليه هنا لأنه قد قدم إخراجه أولا بقوله «حَرْفٌ وَشِبْهُهُ مِنِ الصَّرْفِ بَرِي» فلا اعتراض بع وإنما يعترض عليه بترك الثلاثة الباقية وهي الشذوذ والتركيب والعجمة فإن اقتصاره على ما ذكر يقتضي يقتضي أن نحو طحربة وعفرطل وخزفع وحضرموت وسقرقع وطبرزد داخل في الزيادة والنقصان وليس كذلك وقد يجاب عن بعض هذا بأن الناظم إنما بنى في الاعتذار بالزيادة والنقص عما اشتهر الاعتذار عنه من المستدركات وما يوهم الاستدراك ولم يقصد لبيان الشذوذات الشاردة والأمور النادرة جدا ولا شك أن خرفعا وطحربة ونحوهما مما تقد ليس له تلك الشهرة في المنقولات النادرة ولا يليق الاحتراز من مثلها في مثل هذا المختصر بخلاف نحو الهندلع فإنه في الاستدراك مشهور قد أثبت به البناء جماعة كابن السراج والزبيدي وغيرهما فمن مثل هذا ينبغي أن يحترز المؤلف وعلى هذا نقول ما كان من نحو تلك الأمثلة التي ذكرها أبو حيان فلا ينبغي أن يلتفت إليها وأكثرها غير محقق في النقل وأكثر الكتب المشهورة في اللغة لا تجدها فيها ويكفي من وهنها وضعف الثقة بها هذا المقدار فكيف يعتذر في هذا الجزء المختصر اللطيف الحجم عن مثل ذلك ليس هذا من شأنه هنا بل لم يلتفت إلى تلك [303]

الأشياء إلا في التسهيل على الإجمال لا على التفصيل فإذا لا يحتاج في هذا النظم إلى الاعتذار بالشذوذ وهذا هو عمدة الاعتراض وأما التركيب فلم يحتج إلى ذكره لأن الثاني من المركبين زائد على الكلمة الأولى قائم مقام الزائد وهو تاء التأنيث فظاهر إخراجه من كلامه ولو لم يكن في كلامه ما يخرجه لم يحتج إليه أيضا لأن المركب كلمتان فكل كلمة لها وزنها الذي تختص به وهذا ظاهر وأما العجمة فلعمري إن الاعتراض بها وارد إلا أن يقال إن الأعجمي داخل فيما أشبه الحرف على الطريقة التي تقدمت لابن جني فيه قبل هذا لكن يلزم على عطا أن يكون الأعجمي لا يدخله التصريف على مذهبه وهذا قريب إذ قد استثناه جماعة عن دخول التصريف فيجري على رأي من رأى ذلك وإن كان الأرجح في النظر خلافه والله أعلم وَالْحَرْفُ إِنْ يَلْزَمْ فَأَصْلٌ، وَالَّذِي ... لَا يَلْزَمُ الزَّائِدُ مِثْلُ «تَا» احْتُذِي لما تكلم الناظم رحمه الله على الأبنية المجردة من الزوائد وظهر بحصرها أن ما عداها مزيد فيه أو منقوص منه والمنقوص منه راجع إلى أنه مزيد ما عدا ما تقدم في قوله وَلَيْسَ أَدْنَى مِنْ ثُلَاثِيٍّ يُرَى ... قَابِلَ تَصْرِيفٍ سِوَى مَا غُيِّرَا [304]

فإن ذلك خارج عما ذكر هنا عرض له هنا الاضطرار إلى بيان الحرف الزائد من الحرف الأصلي فذكر أن الحرف الذي تضمنته الكلمة على قسمين أحدهما أن يلزم الكلمة بحيث لا ينفك عنها في جميع تصاريفها بل يكون في الكلمة كيف وجدت وعلى أي وجه تصرفت لا يفارقها فهذا الحرف هو الأصل أي الذي انبنت الكلمة في الأصل منه وهو ظاهر من حيث لم يكن عارضا في الكلمة والثاني ألا يلزم الكلمة بل يكون في بعض تصاريفها تارة ويفارقها تارة في بعض التصاريف فليست الكلمة مبنية عليه في الأصل فهذا هو الزائد أي الذي أتي به زيادة على الكلمة بعد أن استقلت بدلالتها على معناها وذلك أن النحويين استقرءوا كلام العرب فوجدوا ألفاظا كثيرة يجمعها معنى واحد ولفظ واحد لكن يختص كل لفظ من تلك الألفاظ بأمور لا تكون في غيره ويفرقون بين تلك الألفاظ لأجل تلك الاختصاصات تارة بالحركات فقط نحو فرح وفرح وفرح فالأول يدل على معنى الفرح منسوبا إلى فاعل في الزمان الماضي والثاني يدل على ذلك المعنى منسوبا إلى محله الذي طهر فيه ومثل هذه النسب كثيرة جدا في اللغة والثالث يدل على معنى الفرح مجردا من تلك النسب وتلك الاختصاصات وتارة يفرقون بين تلك الاختصاصات بزيادة حروف كقولك ضرب وضارب [305]

ومضروب مضرب فضرب يدل على معنى الضرب مجردا من النسب وضارب يدل على الضرب متصفا به فاعله ومضروب يدل عليه واقعا بالمفعول به ومضرب يدل على الضرب أيضا منسوبا إلى محله من زمان أو مكان ونحو هذا كثير فجعلوا الحروف الدالة على طلك المعنى المشترك أصولا من حيث كانت دائرة في تلك التصاريف لا تنفك عنها وجعلوا الحروف الدالة على تلك الاختصاصات وهي الزائدة على حروف ذلك المعنى المشترك زائدة لأنها وإنم** كانت تدل على معنى ما لا يختل أصل المعنى بزوالها فلو أزلت ألف «ضارب» لم يختل معنى الضرب بخلاف ما إذا أزلت حرفا من الحروف الدالة على المعنى الأصيل المشترك كالضاد أو الراء أو الباء فإن الدلالة على معنى الضرب إذ ذلك تختل وعلى هذا يتنزل مثاله وهو احتذي فالتاء كما قال زائدة لأنها لا تلزم إذ المعنى المشترك هو الحذو وحروفه الدالة عليه هو مادة ح ذ وفإذا قلت حذا يحذو حذوا وهو بحذاء ذا وحاذاه يحاذيه حذاء فمعنى الحذو موجود والتاء غير موجودة فهي ولا بد زائدة كما قال وكذلك الألف في احتذي لأنك تقول هو يحتذي ويحتذى فتزول الألف وأصل المعنى باق واعلم أن اللزوم وعدمه على وجهين أحهما موجود في الاستعمال كالأمثلة المذكورة آنفا والثاني موجود قياسا وإن لم يقع في الاستعمال فقرنفل مثلا النون فيه في الاستعمال لازمة إذ لم نجدها ساقطة في موضع مع أنا ندعي [306]

زيادتها وكذلك كنهبل النون فيه عندنا زائدة غير لازمة حكما مع أنها لازمة في الاستعمال ولم نسو بينها وبين همزة إصطبل* بل حكمنا على الهمزة هنا بالأصالة على مقتضى الاستعمال وخالفنا في النون لكن لم يكن ذلك إلا لدليل دل على الفرق سوى الاستعمال فهمزة إصطبل محكوم لها بمقتضى قوله «وَالْحَرْفُ إِنْ يَلْزَمْ فَأَصْلٌ» ونون قرنفل ونحوه محكوم لها بمقتضى قوله «وَالَّذِي ... لَا يَلْزَمُ الزَّائِدُ» فيريد أن الحرف إن لزم قياسا أو استعمالا أو لم يلزم قياسا أو استعمالا وبهذا التحرير يتبين كلامه حق البيان على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ثم إن هذا القانون كما يجري له في الزوائد التي من «سألتمونيها» كذلك يجري له في الزوائد التي بالتضعيف فإنك إذا قلت سلم وكلم وضرب فهذه أفعال على أربعة أحرف والعين فيها مضاعفة وأحد المضاعفين يسقط في السلام والكلام والضرب مع بقاء المعنى المشترك فإحدى العينين ولا بد زائدة وكذلك قولك مرمريس وقد عرف أنه من معنى المراسة ومن لفظها وقد سقط في المراسة إحدى الميمين وإحدى الراءين فلا بد على قاعدته من دعوى زيادتهما كما ندعي زيادة الياء أيضا لسقوطها وكذلك قولك اعشوشب المكان قد علمت الملاقاة بينه وبين قولك أعشب [307]

وأن إحدى الشينين ساقطة فلا بد أن تكون زائدة كما ادعي في الواو الزيادة لسقوطها أيضا وعدم لزومها وكذلك ما أشبه هذا وقد تبين هذا المعنى الذي أراده الناظم إلا أنه بقي فيه شرح موضع موضع اللزوم أو عدمه فإنه لم يبينه فإن قوله «وَالْحَرْفُ إِنْ يَلْزَمْ فَأَصْلٌ» لا إشارة فيه إلى موضع لزوم ولا شك أن اللزوم وعدمه إنما يبحث عنه في تصاريف المادة التي ثبتت للمعنى المشترك لكن البحث فيها على وجهين أحدهما طريق الاشتقاق وهو الاستدلال على الفرع بأصله والثاني طريق التصريف وهو الاستدلال على الأصل بفرعه وكلاهما دليل لا غبار عليه وهما الأصل في الدلالة على الأصالة والزيادة وما عداهما راجع إليهما وقد بينت هذا المعنى في كتاب «الاشتقاق» فدلالة الاشتقاق مثل ما تقدم في تاء «احتذي» إ هو مشتق من الحذو هذا إن لم تراع المراتب الصناعية وإن راعيتها قلت: من الاحتذاء الذي اشتق من الحذو ودلالة التصريف مثل قولك إن الواو في «قعود» زائدة لقولهم في فعلة قعد ولقولهم في المرة منه قعدة وللهيئة قعدة وللفاعل قاعد وما أشبه ذلك مما يقوم الدليل عليه بفرعه فقوله «إِنْ يَلْزَمْ» «وَالَّذِي ... لَا يَلْزَمُ» معناه في تصاريف المادة بطريق الاشتقاق أو بطريق التصريف ثم إنه يرد عليه في هذه القاعدة أمران أحدهما أن هذه القاعدة غير مطردة في كل شيء فإن الحرف قد يكون غير لازم في جميع التصاريف مع أنه أصل وقد يكون لازما أيضا في [308]

التصاريف كلها وهو مع ذلك زائد يقوم الدليل على زيادته بوجه آخر ولا أقول إن هذين القسمين من القليل الذي لا يعتبر مثله بل هو كثير جدا أما كونه غير لازم مع أنه أصل ففي مواضع منها آخر المنقوص نحو شج وعم وقاض وغاز وجوار وغواش وأجر وأظب وما أشبه ذلك مما هو راجع إلى أصل ذلك الحرف المحذوف فيه أصل فإن الشجو والعمى والقضاء الغزو* ونحو ذلك حروف العلة فيها أصلية بلا بد مع أنها غير لازمة في التصاريف فيقتضي** كلامه أنها زوائد ومنها الأسماء الخماسية الأصول المجردة أو المزيد فيها إذا صغرت أو كسرت حذف منها الحرف الآخر أو ما قبل الآخر على ما تقدم في أبوابه والتصغير والتكسير من جملة التصاريف للكلمة باتفاق وبهما يستدل على الأصالة والزيادة في جملة ما يستدل به ألا ترى أنك تدل على زيادة همزة «أحمر» بالاشتقاق من الحمرة وبجمعه على حمر فإطلاق القاعدة يدخل مثل هذا في حكمها فيكون الحرف الأخير من الخماسي زائدا وقد فرض أنه أصل هذا خلف وهو أيضا يؤدي إلى أن لا يكون في الوجود خماسي أصلا وهو نحو ما ذهب إليه الكوفيون على ما يأتي إن شاء الله في فصل التفعيل وقد تقدم أيضا وهذا كله فاسد ومنها فيعل إذا كانت عينه* حرف علة فإنه [309]

يحذف قياسا نحو ميت وهين ولين وكذلك فيعلولة نحو كينونة وقيدودة وبالجملة لكل ما حذف منه حرف أصلي لعلة تصريفية فإنه على مقتضى هذه القاعدة زائد لأنه غير لازم وهذا كله لا يصح فالإطلاق في كلامه لا يصح وأما كونه لازما مع أنه زائد ففي مواضع أيا منها الزيادة للإلحاق نحو بيطر وحوقل فإن الياء والواو فيهما ملحقتان لهما ببناء جعفر فهما زائدان بلا بد ثم إنهما ثابتان في تصاريف البيطرة** والحوقلة كلها فإنك تقول بيطر يبطر** يبيطر وهو مبيطر ومبيطر لاسم المفعول واسم المصدر والزمان والمكان التي اشتقت كلها من المصدر الذي هو البيطرة فصارت الياء في البناء في مقابلة الحاء من دحرج وصار التصريف فيه على مثل التصريف في دحرج من غير زوال للحرف الزائد وكذلك الحوقلة وما كان في معناهما من الحروف الملحقة في الأسماء والأفعال فإذًا قد صار الحرف الملحق لازما في التصاريف فيقتضي أنه أصل لكنه زائد اتفاقا هذا خلف ومنها السين والتاء في الاستفعال مثلا لازمة في جميع تصرفاته فكل ما يشتق منه من فعل أو اسم فالسين والتاء لازمتان له تقول استكبر يستكبر استكبارا وهو مستكبر ومستكبر عليه ومستكبر اسم مصدر أو زمان أو مكان كذلك فيدعي الناظر في هذه القاعدة أهما أصليتان لثبوتها في [310]

التصرفات وكذلك نون الانفعال وتاء الافتعال وما أشبه ذلك فإنها كلها راجعة إلى المصدر والمصدر مزيد فيه فكذلك فروعه مع أن الزيادة لازمة ومن ذلك مثاله لأن «احتذي» تثبت تاؤه في تصرفات الاحتذاء فأشكلت القاعدة إذًا. والأمر الثاني أنها تقتضي أن ما كان من الأصول الثلاثية المداخلة للرباعية والرباعية المداخلة للخماسية فالحرف الرابع فيه زائد لفقده في الثلاثي وكذلك الخامس لفقده في الرباعي مثال ذلك قولهم رخو ورخود لأن الرخود هو اللين العظام الكثير اللحم فهو في معنى الرخو فيقتضي أن الدال زائدة وكذلك ضياط وضيطار يوهم كلامه أن الراء زائدة وكذلك طيس طيسضل والفيش والفيشل ولوقة وألوقة وكذلك سبط وسبضطر ودمث دمثر وحيج وحبجر وكذلك رزم وازرام وضفد واضفأد وزغب الطائر ازلغب وحلقوم ودلاص [311]

ودلامص وقارص وقمارص وقرق وقرقوس وقرقر وسلس وسلسل وكذلك ما كان من نحو صر وصرصر وكب وكبكب وزلز وزلزل ومن ذلك ما لا يحصى وقد حكم أحمد بن يحيى هذه القاعدة حتى قال في قوله يرد فلخا وهديرا زغدبا** إن الباء في زغدب* زائدة ردا له إلى زغد البعير يزغد زغدا في هديره وقد شنع هذا من قوله عليه حتى حمله ابن جني أنه أراد أنهما أصلان متقاربان كسبط وسبطر وكذلك قولهم ضبغطى مع ضبغطرى وكم خذا كثير جدا هو مما تقاربت فيه الأبنية الثلاثية والرباعية لا أنها محذوف بعضها من بعض وهو قد ضم بعبارته أمثال هذا فكانت القاعدة مختلة [312]

والجواب عن الأول أن نقول أما ما حذف من الحروف الأصول فليس حذفه إلا لعلة أوجبت ذلك فيه كما يبدل لعلة يقلب لعلة خاصة فباب الإعلال خارج عن مسألتنا لأنه إذا كان الحذف فيه لعلة فالأقرب أن تنسبه إلى علته من أن تنسبه إلى كونه زائدا على الكلمة وإنما نعد الحذف دليلا على الزيادة إذا كان لغير علة سوى مجرد تقلب المادة في التصرفات كما نقول في أحمر وحمر ونحوه وأما إذا كان الحذف لموجب فلا نحتسب به في الزوائد فضلا عن أن نحتسب به في الأصول ألا ترى أن الحذف في صحار لا نعتد به في كون الياء زائدة لأن مثل هذا الحذف لا يدل على زيادة بل الحرف الأصلي فيه والزائد في رتبة واحدة فحيث وجدت العلة وجد معلولها فإذا عدمت عدم وروجع الأصل من الإثبات ولم يبق من هذا النوع إلا حذف الخماسي وقد علمت فيما تقدم أن العرب لا يكسرون الخماسي إلا على استكره لمكان الحذف وهذا منهم دليل على أن الحرف المحذوف غير زائد لأنه لو كان زائدا لم يستكرهوا ما يؤدي إلى حذفه كما أنهم لا يستكرهون حذفها** من غير الخماسي في كسير ولا غيره والتصغير في ذلك محمول على التكسير كسائر الأحكام التي جرى فيها التصغير على حكم التكسير وأما ما ثبت من الحروف الزوائد في التصاريف فإنما ذلك اعتبار بإجرائه مجرى الحرف الأصلي أما حرف الإلحاق فظاهر أنه في مقابلة الأصلي فلا بد أن يجري في التصرفات مجرى ما لحق به وإلا لم يكن ملحقا [313]

به ثم سقوطه بعد ذلك في موضع آخر دليل زيادته وأما السين والتاء في الاستفعال والتاء في الافتعال ونحو ذلك فإنهم لما جعلوها في المصدر وبنوا صيغته عليها للدلالة على معنى الطلب للفعل في الاستفعال واكتسابه في الافتعال وما أشبه ذلك جعلوا هذا المعنى هو المشترك في سائر التصرفات القياسية مضار خصوص الفعل في استفعل دالا على الاستفعال منسوبا إلى الزمان الماضي وخصوص اسم الفاعل في مستفعل دالا على الاستفعال أيضا منسوبا إلى المتصف به وكذلك سائر المثل فطابق في ذلك المادة الأصلية فاعتبرت بلا بد إذ معناها مقصود في تلك الخصوصيات والتصرفات فهذا هو الداعي لبقاء الزوائد في هذه التصرفات وقد ثبت في الاشتقاق أن الحروف الثواني وهي الزوائد قد تعتبر حتى تصير مادة مع الحروف الأول وهي الأصول لكن بالقصد الثاني وإذا ثبت أنها قد تعتبر كالحروف الأصلية فبعد ذلك دليل الزيادة فيها قائم والاشتقاق يخلص ذلك أو ما يقوم مقامه فكوثر مثلا وإن كان جاريا في أحكامه على جعفر قد دل الاشتقاق من الكثرة أن الواو زائدة وكذلك بيطر قد دل الاشتقاق من البطر وهو الشق على أن الباء زائدة وكذلك سائرها لأن المادة الأولى الدالة على المعنى المشترك أوسع من استعمال المزيد وكذلك الاستفعال ونحوه كالاستعلام إذا رجعت إليه متصرفاته بالاشتقاق فلا بد أن يرجع هو إلى الأصل أول وهو العلم فقد ذهب الزوائد إذًا برجوع هذه الأشياء إلى المادة الأولى وإنما كان** يلزم الإشكال على فرض أن تلك [314]

التصرفات لا اشتراك لها مع مادة مجردة وليس الأمر كذلك فسقط الاعتراض وارتفع الإشكال* والحمد لله والجواب عن الثاني ينبني على قاعدة معلومة وهي أن الزوائد من الحروف إما أن تكون زوائد بالتضعيف وهذا يكون في الحروف كلها إلا الألف فإنها لا يصح تضعيفها وإما أن تكون زوائد زوائد لغير التضعيف وقد استقرأ العلماء الزيادة على هذا النحو فوجدوها لا تخرج عن حروف «سألتمونيها» فإذا كان الحرف الموهم للزيادة منها فيمكن أن يكون زائدا في نفسه ويمكن أن يكون أصليا وإن لم يكن منها فلا سبيل إلى زيادته إلا أن يكون بالتضعيف فإذا فقد التضعيف أو لم يفقد إلا أنه فقد شرط دعوى الزيادة فلا سبيل إلى القول بزيادته فهذه قاعدة تصريفية وعليها نعتمد في الجواب فالذي اعترض به هنا من الحروف الساقطة على ثلاثة أقسام أحدها ألا يكون من حروف «سألتمونيها» ولا من المضاعف نحو سبط وسبطر ودمث ودمثر ورخو ورخود وما أشبه ذلك فهذا لا سبيل إلى دعوى الزيادة فيه وإنما يدعى فيه أنه لفظ مرادف من مادة أخرى إذ لا يمكن فيه غير ذلك والثاني أن يكون من المضاعف نحو صل وصلصل وعج وععجج** وزلز وزلزل فيمكن أن يقال فيه بمذهب من رأى أن الساقط من [315]

المضاعفين زائد ويدل عليه قانون الناظم في الزيادة وهو سقوط الحرف في بعض تصاريف الكلمة ولا شك أن هذا كذلك ولم ينف الناظم هذا المذهب وإن كان مذهبا للكوفيين لكن أشار إليه فقط ويمكن أن يقال فيه بمذهب من رأى أن لا زيادة أصلا وأن الكلمتين من مادتين مختلفتين كسبط وسبطر ويكون مذهبه مذهب البصريين وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان المذهبين والثالث أن يكون من حروف «سألتمونيها» فنحن فيه على أحد أمرين إما أن ندعي أنه زائد لا نكر في ذلك لأن مثل هذا دليل على الزيادة وقد جعل ابن جني هذه الحروف زائدة على قياس مذهب الخليل في دلامص أن الميم زائدة وإن كانت مواضع الحروف الساقطة ليست بمواضع تلك الزيادة لكن يقول إن الحرف مما يزاد ومرادف الكلمة قد سقط فيه ذلك الحرف فندعي زيادته بهذا الدليل التصريفي وهو من الأدلة وإن أدى ذلك إلى عدم النظير في أوزان الكلم فالقاعدة أن الدليل إذا قام فلا يلزم إيجاد النظير ويكون هذا جاريا على طريقة الناظم لكن على أن تعد الزيادة في هذا الأشياء خارجة عن القياس الذي يذكره في زيادة الحروف كأنه يقول هذه القاعدة دالة على الزيادة والأصالة مطلقا إلا أن المزيد منه قياسي وهو ما أذكره لك بعد ومنه غير قياسي وهو ما عداه مما تشمله هذه القاعدة وإما أن ندعي أنه أصلي إذ ليس موضعه من مواضع الزيادة الجارية [316]

في القياس ودلالة المرادف ضعيفة لإمكان أن تكون مادته مادة أخرى مخالفة كما في سبط وسبطر ودمث ودمثر ونحوه فلا قاطع بزيادة فيه من حيث لا قاطع باتحاد المادة فيهما وهذا قياس قول المازني عن ابن جني إذ جعل دلامصا من قبيل الرباعي الذي وافق أكثره حروف الثلاثي ويمكن أيضا إجراء هذا المذهب على طريقة الناظم لأن للقائل أن يقول قد ذكر مواضع الزيادة القياسية وعينها فما عداها خارج عن القياس ولا يدعى إلا بدليل ودليل الترادف ضعيف لإمكان تباين المادتين فإذا كانتا متباينتين فلم يسقط قط من دلاس شيء ولا من قارص ولا من ضفد ولا من حلق ولا زغب الطائر ولا ما كان نحو ذلك بل حروفها كلها ثابتة لازمة وحروف دلامس وقمارص واضفأد وحلقوم أعني الهمزة والميم وشبه ذلك أصول كلها لم يحذف منها شيء بل هي لازمة لتصرفات الكلمة فالقاعدة إذًا مستتبة على كلتا الطريقتين وجارية على كلام الناظم في كلا الوجهين وقد ظهرت صحة كلامه وتمام عقده وبالله التوفيق وقوله احْتُذِي معناه اقتدي وأيضا انتعل يقال احتذيت مثاله أي اقتديت به وأصله من المحاذاة وهي بمعنى الموازاة ويقال أيضا احتذيت بمعنى انتعلت قال الراجز [317]

كل الحذاء يحتذي الحافي الوقع والحذا* هو النعل واصله من حذيت يده بالسكين أي قطعتها حذت الشفرة النعل قطعتها * * * بِضِمْنِ فِعْلٍ قَابِلِ الْأَصُولَ فِي ... وَزْنٍ، وَزَائِدٌ بِلَفْظِهِ** اكْتُفِيْ وَضَاعِفِ اللَّامَ إِذَا أَصْلٌ بَقِيْ ... كَرَاءِ جَعْفَرٍ وَقَافِ فُسْتُقِ وَإِنْ يَكُ الزَّائِدُ ضِعْفَ أَصْلِ ... فَاجْعَلْ لَهُ فِي الْوَزْنِ مَا لِلْأَصْلِ لما ذكر القانون الذي يعرف به الزائد من الأصلي وكانت فائدة ذلك الوصول إلى معرفة الأوزان أتى بهذا الفصل يذكر فيه كيفية وزن ما يوزن من الأسماء والأفعال وكيف تقابل حروفها بحروف المثال وذلك أنهم أرادوا أن يفرقوا بين الحروف الأصول والزوائد في أبنية الكلام فوضعوا الأوزان على أقل الأصول وهي الثلاثة فعبروا عنها بلفظ الفعل فجعلوا الفاء لأول حرف والعين للثاني واللام للثالث وإذا زادت الأصول كرروا الحرف الثالث فإن حذف من الكلمة فاء أو عين أو لام وزنوها على حالها بإسقاط ما يقابله فيقولون في عدة علة وفي سه فل وفي يد فع إن وزنوها على الأصل قابلوها على حال ما كانت عليه قبل الحذف وكذلك إن وقع إدغام أو نحوه وزنوها على حالها بتسكين ما هو ساكن في الحال وتحريك ما هو متحرك فيقولون في مكر مفعل وفي رد فعل فإن وزنوها على الأصل قالوا مفعل وفعل وكذلك ما أشبه ذلك وها هو يذكر كيفية هذا في الأصول والزوائد مكمل المعنى على الاختصار [318]

فقوله «بِضِمْنِ فِعْلٍ» الباء متعلقة بقابل أي قابل الأصول بكذا والمراد بفعل نفس لفظه وضمنه مضمنه وهو ما تضمنه من الحروف يقال كان في ضمن كتابك كذا أي في طيه كذلك أنفذته ضمن كتابي فضمن أصله الظرف لكن الناظم استعمله على الاتساع وكان الأصل أن لو قال بما في ضمن فعل قابل الأصول لكنه جعل ما في الضمن هو نفس الضمن مجازا وهو نحو من قوله تعالى {بل مكر الليل والنهار} جعلهما ماكرين وهما ممكور فيهما كما جعل المقابلة هنا بضمن الفعل والمراد ما في ضمنه والذي في ضمن لفظ فعل هو الفاء والعين واللام فيريد أن حروف البناء على قسمين أحدهما أن تكون أصولا والثاني أن تكون زوائد فأما الأصول فقابلها بالفاء والعين واللام إذا أردت وزنها الأول للأول والثاني للثاني والثالث للثالث فإذا أردت وزن رجل قابلت الراء بالفاء والجيم بالعين واللام باللام فقلت فعل فهذا وزن رجل وكذلك إذا وزنت جعل قلت فعل وعلى هذا النحو وزن سائر الأسماء والأفعال فوزن قفل** فعل ووزن صرد فعل ووزن إبل فعل وكذلك وزن حسن فعل ووزن علم فعل وكذلك ما أشبه ذلك والأصل في هذا العمل واختصاص هذه العبارة التي هي لفظ فعل بالوزن أن العرب تعبر به عن كل فعل إذا أرادت الكناية عنه فتستعمل مكان ضرب أو قتل أو قام أو قعد فعل [319]

وكذلك تعبر به أيضا عن الرباعي فما زاد فاستعمله النحويون كذلك لكن على الوجه الذي يحتاجون إليه ثم عدوا هذا الاستعمال للأسماء غير المصادر إذ كان ذلك موجودا في المصادر من كلامهم ألا ترى إلى قولهم فلان حسن الفعل وحسن الفعال وكانت في فلان فعلة قبيحة أو حسنة وأيضا قد قالوا فلان يهتز للفعال أي للكرم لأنه عطاء وسماح وسخاء فكنوا عن هذه الأشياء بوزنها وكذلك قالوا افتعل فلان علي كذبا فهو مفتعل أي اختلقه فهو مختلق وكلام مفتعل أي مختلق فعبروا بالوزن على كماله عند النحاة فعدوه هم إلى سائر ما احتاجوا إلى وزنه من الموزونات وهذا حكم وزن الثلاثي وهو المتفق على وزنه هكذا وأما الرباعي فما فوقه فسنذكره حيث ذكره الناظم بحول الله تعالى والثاني الزوائد من الحروف فالزائد على قسمين أحدهما أن يكون بعض حروف سألتمونيها والثاني أن يكون زائدا بالتضعيف يذكر إثر هذا وأما الزائد من سألتمونيها فهو الذي ذكر حكمه هنا فقال «وَزَائِدٌ بِلَفْظِهِ اكْتُفِيْ» يعني أنهم اكتفوا ببقائه على لفظه حين أتوا بلفظ الفعل ليقابلوا به الكلمة وإنما قلنا إنه أراد هذا القسم وحده لقوله بعد هذا «وَإِنْ يَكُ الزَّائِدُ ضِعْفَ أَصْلِ» إلى آخره فأخرج الزيادة بالتضعيف فلم يبق إلا القسم الآخر ومثال ذلك «اقتدر» تقول في وزنه افتعل فتقابل التاء بلفظها لأنها زائدة بدليل الاشتقاق من القدرة وكذلك همزة الوصل تأتي [320]

بلفظها أيضا لزيادتها ومثل «مستكبر» تقول في وزنه مستفعل لأنه مشتق من الكبر أو من الكبر فالميم والسين والتاء زوائد فتزنها بلفظها وكذلك ما أشبهه وإنما وزن بلفظه فرقا بينه وبين الحرف الأصلي لأن الأصل في وضعهم التمثيل والوزن التفرقة بين القبيلين وذلك إنما يتبين في الوزن فلو وزنوا بالفاء والعين اللام مطلقا لم يخلص لهم هذا القصد فتركوا الزائد على لفظه لذلك وأيضا قد تقدم فعل العرب لذلك في الفعال والافتعال وما أشبه ذلك وهذا أيضا حكم متفق عليه ثم قال «وَضَاعِفِ اللَّامَ إِذَا أَصْلٌ بَقِيْ» يعني أنك إذا قابلت الكلمة في وزنها بحروف لفظ فعل فلا يخلو إما أن يتم لفظ الموزون مع تمام لفظ الفعل أولا فإن تم حصل المقصود بلا إشكال وإن لم يتم لفظ الموزون ولا يكون ذلك إلا إذا كان الموزون رباعي الأصول أو خماسيها فإنك تكرر لام الفعل ما بقي من حروف الموزون شيء* فتقول في جعفر فعلل وفي فستق فعلل وهما مثالاه فتجعل الفاء في مقابلة الأول والعين في مقابلة الثاني واللام في مقابلة الثالث وبقي الحرف الرابع لا مقابل له وهو الراء في جعفر والقاف في فستق فيجعل له تكرر اللام وكذلك تقول في برثن فعلل وفي زبرج فعلل وفي جرهم فعلل وما كان نحو ذلك [321]

وكذلك الخماسي نحو سفرجل وقذعمل إذا قابلت حروفه بحروف الفعل بقي الحرف الرابع والخامس دون مقابل فكررت له اللام فقلت في سفرجل فعلل وفي قذعمل فعلل وفي صهصلق فعللل وفي جردحل فعلل وما أشبه ذلك فإن قيل إذا زعمتم أن وزن جعفر فعلل فهذا البناء الذي وزنتم به إحدى اللامين فيه زائد وكذلك قولكم في فرزدق فعلل يلزم أن تكون اللام الرابعة والخامسة فيه زائدتين بناء على أصلكم في المضاعف الزائد على ثلاثة أحرف وأنتم إنما بنيتم على مقابلة الأصلي بالأصلي والزائد بالزائد كان الزائد من حروف «سألتمونيها» أو بالتضعيف فقد نقضتم ههنا تلك القضية حيث جعلتم الزائد من بناء الفعل في مقابلة الأصلي من بناء الموزون وذلك فساد في الاصطلاح فالجواب أنهم لما أرادوا وضع التمثيل بالفعل لما تقدم كان هو الأولى وإن كان ثلاثيا من قبل أن أقل الأسماء والأفعال حروف بنات الثلاثة فلو وقع التمثيل بشيء على أربعة أحرف أو خمسة لبطل وزن الثلاثي ولم يمكن وزنه إلا أن يحذف من الممثل به وذلك فساد مع أنا وجدنا بنات الثلاثة قد تصل إلى بنات الأربعة والخمسة بالإلحاق ولم نعلم أنه بني شيء من بنات الأربعة والخمسة على بناء الثلاثي فاختاروا الثلاثي لذلك لكن لما ضمتهم الضرورة إلى وزن بنات الأربعة الخمسة* لجأوا إلى تكرير ما هو أصل ليكون علامة على الأصل إذ لم يمكنهم أكثر من ذلك [322]

وقد تبين كلام الناظم إلا أن ما ذكره مختلف فيه فالبصريون أجمعون وجماعة من الكوفيين على ما ذكره الناظم في التمثيل* اللفظي إلى أنهم اختلفوا في الموزون فالبصريون على ما تقدم من اعتقاد أصلية الحرف الرابع والخامس وغيرهم على زيادة ما زاد على الثلاثة وقد تقدم بيان ذلك وبعض الكوفيين يلتزمون ما ألزمهم سيبويه من زنة الزائد على لفظه فيقول في جعفر فعلر وفي سفرجل فعلجل ومنهم من لا يزن مثل هذا فإذا سئل عن وزن فرزدق أو جعفر قال لا أدري هكذا حكى هذا المذهب ابن عصفور وكل ذلك لا يعول عليه ولا يستند في التمثيل إليه وقد أورد على مذهب الجمهور إشكال وهو أنه إذا جعل «فعلل» وزانا لنحو جعفر وهو أيضا عندهم وزان قردد ومهدد ونحوهما من المضاعف اللام حصل اللبس في فعلل إذ كانت وزانا لجعفر وكذلك فعلل إذا كانت وزانا لسفرجل ولضربب من الضرب ونحوه والجواب أن الفرق يتبين بالموزون فإن كل حرف مضاعف زائد على الثلاثة إلا أن يقوم دليل على زيادة غيره فيصير التضعيف ثلاثيا كمرد ومكر حيث تبين أنه من الرد والكر وقد ضمتهم الضرورة إلى الوزن بالثلاثي كما تقدم واللبس إنما وقع في نوع واجد وذلك في تكرير اللام فاستخفوا ذلك وارتكبوه [323]

وجعفر في الأصل اسم للصغير من الأنهار وهو أيضا اسم لأبي قبيلة من عامر وهو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وهم الجعافرة وفستق ثم قال «وَإِنْ يَكُ الزَّائِدُ ضِعْفَ أَصْلِ» إلى آخره هذا هو القسم الثاني من قسمي الزائد وهو الزائد بالتضعيف ويعني أن الزائد إن كان بتضعيف الأصل أي بتصيير الحرف الواحد ضعفين أي اثنين مثلين فإنك تزنه بما وزنت به ذلك الأصل فإن كان المضاعف الفاء وذلك لا يكون إلا مع مساعدة العين كررتها فقلت في وزن مرمريس فعفعيل ودل على زيادة الميم الثانية وهي تضعيف الأولى أنه مشتق من المراسة وإن كان المضاعف العين كسلم كررتها فقلت فيه فعل وإن كانت اللام فكذلك نحو قردد تقول فيه فعلل وفي اسحنكك افعنلل وكذلك إذا اجتمعت العين واللام في التضعيف نحو صمحمح ودمكمك قلت فيه فعلعل وكذلك ما أشبهه وإنما فعلت ذلك ولم تزنه بلفظه لأن زيادة التضعيف لما كانت مخالفة لزيادة «سألتمونيها» أرادوا أن يفرقوا بينهما فجعلوا حكم المضاعف حكم [324]

ما ضوعف منه فضعفوه في الوزن مثله فلو جعلوا قرددا مثلا فعلدا لم يتبين من الوزن كيف زيادة الدال فلما كانت الدال لا تزاد أبدا منفردة لم يجعلوها في الوزن منفردة وهذا الذي فعلوه أولى من ذكرهم له بلفظه وأوفق لكلامهم ولما قصدوه من التفرقة وأيضا فقردد يحتمل أن تكون داله الأولى هي الزائدة أو الثانية فلم يتعين إذا للزيادة إحداهما دون الأخرى فإن الخليل إن زعم أن الأولى هي الزائدة في سلم ونحوه فقد حكم سيبويه أو يونس على اختلاف التفسيرين بأن الثانية هي الزائدة ثم قال سيبويه «وكلا الوجهين صواب ومذهب» فهذا يدل على احتمال الوجهين فلم يتعين ما الذي يذكر بلفظه منهما وهذه المسألة لم أر فيها خلافا إلا ما أشار إليه في التسهيل بقوله «خلافا لمن يقابل بالمثل مطلقا» يعني أن من النحويين من يقابل في الوزن زائد الموزون بلفظه مطلقا في زيادة التضعيف أو غيرها فيقول في مثل قردد فعلد إن اعتقد زيادة المثل الثاني وفعدل إن اعتقد زيادة الأولى ويقول مثلا في عقنقل فعنقل أو فقنعل وهذا المذهب مرجوح والأول أولى بالصناعة وعلى كل تقدير فهو خلاف في أمر اصطلاحي [325]

ثم على الناظم في هذا الكلام شيء وهو أنه ذكر في كيفية الوزن مقابلة الأصول بضمن فعل والزائد بلفظه ولم يبين كيفية الحركة والسكون ولا أنه باق على ما كان عليه ولا ذكر ترتيب اللام على العين والعين على الفاء في الأصول ولا إبقاء الزوائد في موضعها سابقة كانت أو لاحقة بل أتى بالمقابلة على الإجمال فكان كلامه غير بين في هذا المعنى وكلامه في التسهيل أصرح وأبين من هذا إذ قال «وسمي أول الأصول فاء وثانيها عينا وثالثها ورابعها وخامسها لامات لمقابلتها في الوزن بهذه الأحرف مسوى بينها في الحال والمحل ومصاحبة زائد سابق أو لاحق» ويعني بقوله في الحال يريد به الحركة والسكون أي إن الحروف المقابل بها من لفظ الفعل لا بد أن يكون على حال الحروف المقابلة فإن كان الحرف ساكنا كان ساكنا أو متحركا كان متحركا وأيضا فلا بد** من اعتبار عين الحركة من كونها ضمة أو فتحة أو كسرة فيكون في المقابل به كذلك هذا هو الذي أراد بالحال وقوله «والمحل» هو عبارة عن الموقع بحسب ما ذكر من الترتيب الفاء ثم العين ثم اللامات بعدد الأصول بعد العين وقوله «ومصاحبة زائد» يعني بلفظه و «سابق» يعني للأصول كلها كما في انطلق أو «لاحق» يعني مثل سكران فإن وزنها انفعل وفعلان أو لشيء منها نحو جحنفل وزنه فعنلل النون سابقو لبعض الحروف لاحقة لبعضها فهذا الكلام هو الذي بين كيفية الوزن على أتم وجوهها وأما الناظم فترك ذلك على أتم ما يكون من الإجمال وذلك غير لائق بمنصب التعليم [326]

والجواب أن هذا المعنى لما كان قريبا للفهم معلوما لمن عنده أدنى فهم لم يحتج إلى بيانه لبيانه وأيضا فإنه كان يحتاج إلى بعض تطويل مع أن قصده الاختصار فلما اجتمع له الأمران سهولة فهم مقصوده وقصد الاختصار ترك بيان ذلك اتكالا على فهم الطالب والله أعلم وأيضا فالمقابلة تعطي أولا الترتيب لأنك إذا أردت مقابلة الكلمة بالكلمة فلست تفعل ذلك على أي وجه اتفق بل تقابل الحروف بالحروف أولا فأولا حتى تنتهي إلى آخر الكلمة وهذا هو الترتيب المطلوب ثم إذا وازنت بين الكلمتين فالموازنة تقتضي المساواة في تلك الأشياء كلها إذ لا تكون الموازنة بين متحرك وساكن ولا بين متحركين مختلفي الحركة فإذا قد دل لفظ المقابلة ولفظ الموازنة في لامه على ما أريد من ذلك فاكتفى به في شرح ما ذكره في التسهيل إلا أنه يرد عليه من جهة أخرى أنه إذا كان الوزن يقتضي مقابلة المتحرك بالمتحرك والساكن بالساكن فيخرج عن هذا الحكم ما كان من المتحركات في الموزون قد سكن إما بإدغام لتخفيف أو لإعلال فالذي لإدغام نحو رد ومرد ومدق وأصله ردد ومردد ومدقق فتزنه على أصله فتقول وزنه فعل ومفعل ومفعل ولا تقول فعل ولا مفعل ولا مفعل إذ ليس ذلك وزنه الصحيح والدليل على ذلك أنه لا يوجد في غير المضاعف مثل هذه الأوزان فلا بد من رجوعه إلى الأصل والذي للتخفيف كعضد وكتف وعلم وسهل في عضد وكتف وعلم وسهل فإنه إذا قيل ما وزن عضد قلت فعل فتأتي به على الأصل وكذلك في كتف فعل وفي علم [327]

فعل وفي سهل فعل وكذلك وزن منتفخ من قوله فبات منتفخا وما تكردسا مفتعل فتأتي على الأصل ويدل على أن ذلك وزنه أنه لا يوجد في أبنية الأفعال الثلاثية ما هو على فعل ولا في الأسماء المزيدة ما هو على بنية مفتعل فالضرورة تدعوك إلى أن تزنه على الأصل وكلامه على ما تقرر يعطي المقابلة اللفظية والذي سكن للإعلال نحو قام وقفا ومال ومقام واستقام وما أشبهه فإن قام وزنه فعل ولفظه على غير ذلك وقفا على وزن فعل ومال كذلك ومقام وزنه مفعل واستقام وزنه استفعل وألفاظها على خلاف ذلك وأيضا قد صار الساكن في مقام واستقام متحركا والمتحرك ساكنا فأين مقابلة المتحرك بالمتحرك والساكن بالساكن وأيضا فتعيين نوع الحركة في الموازنة قد يتخلف لإعلال أو غيره فإنك إذا قلت للمرأة اغزي يا هند فوزنه افعلي واللفظ على خلاف ذلك وكذلك قيل وبيع واختير وزنها فعل وافتعل ونوع الحركة غير موجود بل تقول في المنقوص كيد ودم وزنه فعل فلا تزنه إلا غير ظاهر لفظه ومن ذلك ما لا يحصى فقد خالفنا مقتضى الموازنة المذكورة وإشارة الناظم تقتضي أن لا بد منها وهذا فيه ما ترى [328]

والجواب أن وزن المعل عندهم يكون على وجهين أحدهما أن يكون على أصله وهذا هو المقصود الأول في الأوزان ألا تراهم يقولون وزن قام فعل وأصله قوم إلا أن الواو انقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فيبينون في الوزن الأصل وما اتفق للموزون حتى خرج في الظاهر عن ذلك الوزن وكذلك ما كان من نحو علم وكتف وعضد وعضد بناء على اعتبار الأصل إذ الأمثلة لا بد أن ترد إلى اصلها ليتبين أن ظاهر لفظ الموزون ليس هو المعتبر في وزنه ولا هو الثابت في مثله فهذا من جملة فوائد الأوزان إذ هي عندهم محصورة يعد الخارج عنها خارجا عن كلام العرب وقد ثبت في نحو كتف وعضد أن أصله التحريك فلا بد من رجوعه في الوزن إلى أصله وكذلك ثبت في قام أنه فعل وفي استقام استفعل إذ لا يوجد في الأفعال ما هو على وزن فعل مسكن العين ولا على وزن استعل بفتح الفاء وإسكان العين إلا مغيرا فردوا ذلك وما كان نحوه في الوزن إلى أصله وإذا رجع إلى أصله وتبين أن تلك الأشياء في الحقيقة على غير ظاهر لفظها صح فيها مقابلة الساكن بالساكن والمتحرك بالمتحرك وصح ما أطلقه الناظم في ذلك وكذلك حكم المساواة في نوع الحركة لأن اغزي أصله اغزوي وقيل اختير أصله قول واختير فقد استويا مع الموزون به في نوع الحركة وهكذا شأن المحذوف منه كيد ودم وقاض ونحوها لا بد ردها إلى أصلها في الوزن [329]

فالحاصل أنه إذا كان المعتبر في هذه الأشياء الأصل صحت المقابلة على كل وجه وصح التساوي في الحال والمحل والثاني أن يكون وزن المعل على لفظه وهذا أيضا يورده أهل العربية قصدا للتمرين ولبيان حالة اللفظ الآن وما الذي حذف منه وما التغيير الحاصل فيه الآن فيقولون وزن عضد الآن بعد التسكين فعل ووزن علم فعل وكذلك قام فعل واستقام استفعل وقد قال هو قبل هذا في باب التعدي كَذَا افْعَلَلَّ وَالْمُضَاهِي اقْعَنْسَسَا ويريد نحو اطمأن فوزنه على لفظه لا على أصله إذ أصله افعلل اطمأنن لكن الإدغام رده إلى افعلل وكذلك ما حذف منه إذا وزن على لفظه قيل وزن يد فع وسه فل وقاض فاع وكذلك ما أشبهه وإذا كان الوزن على اللفظ صحيحا ومستعملا فهو أيضا على مقابلة الساكن بالساكن والمتحرك بالمتحرك مع مساواة نوع الحركة فلم يخرج عن لفظ الناظم شيء مما هو معتبر في الوزن على كلا التقديرين وصح ما اقتضاه نظمه وقوله «وَإِنْ يَكُ الزَّائِدُ» أراد وإن يكن الزائد لكن حذف النون على حد ما حذفه حسيل أو حسين بن عرفطة في قوله [330]

لم يك الحق سوى أن هاجه** ... رسم دار قد تعفى بالسرر وهو عند الناظم جائز في الكلام كقول يونس خلافا لما ذهب إليه سيبويه وقد تقدم ذلك في بابه * * * وَاحْكُمْ بِتَأَصِيلِ حُرُوفِ سِمْسِمِ ... وَنَحْوِهِ، وَالْخُلْفِ فِي كَلَمْلِمِ اعلم أن باب التصريف يشتمل على حكم الزيادة والحذف والقلب والإبدال والنقل والناظم يتكلم على كل واحد من هذه الأنواع الخمسة وابتدأ بالزيادة وهي على وجهين زيادة بالتضعيف وزيادة بغير التضعيف وهي زيادة أحد الحروف العشرة التي يجمعها قولك سألتمونيها وابتدأ الآن في ذكر حكم زيادة التضعيف فاعلم أن الكلمة المضاعفة لا تخلو من أن تحوي ثلاثة أحرف أصول ما عدا المضاعف أو لا تكون ثلاثية إلا بالمضاعف فإن لم تكن ثلاثية إلا بالمضاعف فإما أن يكون المضاعف حرفا واحدا أو حرفين فإن كان المضاعف حرفا واحدا فالحروف كلها أصول لأن القابل للتصريف لا يكون على أقل من ثلاثة فلا يكون أحد المضاعفين زائدا البتة فنحو حظ ودعد ويين* وببر وددن وطلل ومر وخزز وقدد وما أشبه ذلك أصول كله ليس أحد [331]

المضاعفين فيه زائدا لأنه يبقى على حرفين بحكم الأصل وذلك لا يكون وقد نبه على هذا القسم بقوله وَلَيْسَ أَدْنَى مِنْ ثُلَاثِيٍّ يُرَى ... قَابِلَ تَصْرِيفٍ سِوَى مَا غُيِّرَا فلم يحتج إلى ذكر هذا الحكم هنا وإن كان المضاعف حرفين فكانت الكلمة بذلك رباعية كسلسل وسمسم وسبسب وفلفل وسأسأ وجأجأ وهلهل ونحو ذلك فهو الذي تعرض له الناظم بالنص عليه فقال «واحكم بتأصيل حروف سمسم ونحوه» إلى آخره يعني أن ما كان من نحو سمسم مما أصله حرفان مضاعفان فإنه على قسمين أحدهما أن يكون مثل سمسم وهو ما لا يفهم معناه مع سقوط حرف منه فلو قلت في سمسم سمس لم يفهم معناه والثاني أن يكون مثل لملم وهو فعل أمر من لملم الكتيبة إذا جمع بعضها إلى بعض وكتيبة ململمة وحجر ململم وصخرة ململمة أي مستديرة صلبة وهو من الضم والجمع وهذا مما يفهم فيه المعنى مع سقوط حرف منه فإنما تقول كتيبة ملمومة بمعنى ململمة وصخرة ملمومة كذلك فأما القسم الأول وهو ما لا يفهم معناه مع سقوط حوف منه فذكر الناظم فيه الحكم بتأصيل جميع حروفه أي بجعلها أصولا ليس فيها [332]

زائد واحد ولم يحك في ذلك خلافا وإنما حكموا بذلك لأنهم إذا قالوا بالزيادة فإما أن يحكموا بها على المضاعفين معا أو على أحدهما فإن حكموا بذلك عليهما معا فجعلوا في سمسم مثلا السين الثانية والميم الثانية زائدتين أبقوا الكلمة على حرفين بأصل الوضع وذلك لا يكون وقد تقدم نفي الناظم لمثل هذا وإن حكوا بزيادة أحدهما كان فاسدا من وجهين أحدهما أن دعوى ذلك مجرد تحكم لأنهم متى قالوا في السين إنها الزائد قيل لهم ولعل الميم هي الزائدة أو قالوا ذلك في الميم قيل ولعل السين هي الزائدة فلم يثبت لهم بذلك أمر يدعى مثله والثاني أنه إن جعل إحدى السينين هي الزائدة لم يخل أن تكون الأولى أو الثانية فإن كانت الأولى لم يجز لأن الكلمة إذ ذاك من باب سلس وقلق وهو ما فاؤه ولامه من جنس واحد وهو قليل وأيضا يلزم أن يكون وزن الكلمة عفعلا وهو بناء معدوم وأيضا يلزم الفصل بين** المضاعفين بأصل وذلك لا يكون على حال لأن زيادة التضعيف مشروطة بشرطين أحدهما توفر أقل الأصول والثاني عدم الفصل بين المضاعفين بأصل فحيث فقد الشرطان أو أحدهما لزم ادعاء الأصالة في المضاعف مطلقا من أجل ذلك ادعوا الأصالة في نحو حدرد وقسطاس وشعلع لما يلقى فيه من [333]

الفصل بين المضاعفين بأصل وإن كانت الثانية فكذلك لأن الكلمة إذ ذاك على وزن فعفل وذلك بناء غير موجود وإن جعل إحدى الميمين هي الزائدة لم يخل أن تكون الأولى أو الثانية فإن كانت الأولى كان وزن الكلمة فلعلا وهو معدوم وأيضا فإن الكلمة إذ ذاك من باب ددن وهو ما فاؤه وعينه من جنس واحد وذلك نادر وأيضا فيه الفصل بين المضاعفين بأصل وهو ممنوع وإن كانت الثانية هي الزائدة كان وزن الكلمة فعلعا وذلك بناء معدوم وأيضا تكون الكلمة من باب قلق وهو قليل وأيضا فصل بينهما بأصل وهو ممنوع فلما كانت دعوى الزيادة في نحو سمسم يؤدي إلى نحو هذه لمحظورات كلها اطرحوها وثبتوا على الحكم بالأصالة وإن حوت ثلاثة أصول ما عدا المضاعف كقردد وقعدد وسردد وجلبب وشملل وما أشبهها فإن الأصل أن يدعى فيه الزيادة كما إذا [334]

كان مع الحروف الثلاثة حرف من «سألتمونيها» كأفكل ونحوه فالذي يدل من كلامه على زيادة مثل هذا حكمه بتأصيل حروف سمسم ونحوه لأنه إذا ذكر التأصيل في هذا النوع وما أشبهه فقط دل على أن ما عداه زائد والقاعدة صحيحة كما أشار إليه لأن سيبويه ذكر أن كل اسم ضوعف منه حرف عينه أو لامه وكان فيه سوى ذلك ثلاثة حروف أصول فالحكم فيه القضاء بالزيادة إلا أن يتبين لك أنه أصلي لأن الأكثر فيما عرف اشتقاقه من ذلك الزيادة كسردد ورمدد وجبن من السرد والرماد والجبن فيحمل عليه ما لا اشتقاق له كسلم وحمر ونظير هذا قلب وحول لأنه من القلب والحول وكذلك أيضا نص على أن ما تكرر فيه حرفان إما فاؤه وعينه أو عينه ولامه فهما زائدان واستدل على ذلك بدليلين أحدهما الاشتقاق فيما له اشتقاق كذرحرح لأنهم قالوا ذراح ومرمريس لأن معناه الداهية فهو قد مارس الأمور وباشرها ثم حمل عليه ما ليس فيه اشتقاق والثاني أنه رأى صمحمحا وبرهرهة جمعا وليس من شأن العرب جمع الخماسي الأصول بغير الألف والتاء ولا يكادون يقولون سفارج فإن اضطروا حذفوا الحرف الأخير فقط ولم يفعلوا هنا كذلك فدل على [335]

أن المحذوف زائد ومن مثل هذا القسم خدب وسلم وكلم وكذلك ما كان من نحو ردد وشدد وعدد مما فيه زائد على الثلاثة هذا فيما كان فيه تضعيف حرف مفرد وكذلك ما كان فيه تضعيفان كتضعيف العين واللام معا نحو صمحمح ودمكمك وذرحرح وبرهرهة أو تضعيف الفاء والعين نحو مرمريس ومرمريت فما زاد على الثلاثة منها زائد وكما يشمل الحكم ما لم يكن فيه زائد من سألتمونيها كذلك أيضا يشمل ما فيه زائد منها ثبتت زيادته بأحد الوجوه التي يذكرها بعد وذلك كمرمريس ومرمريت وكذلك نحو قيراط ودينار لأن أصله قراط ودنّار وكذلك ديوان أصله دوّان وكعقنقل وعثوثل وعفنجج وخفيدد وجبونن وخفيفد وكالحناء والقثاء وباب سقّاء وبناء وقراء ووضاء ومثل سرطراط وجلباب وفرنداد وجلوز وسنور وشملال وزحليل وبهلول وما أشبه ذلك وهذا الحكم المذكور من كون الزائد على الثلاثة من المضاعف زائدا هو الذي قاد النحاة إلى أن حملوا البقّم وشلم وخضم وبذر وعثر على [336]

أنها موازنة فعّل وإن كان هذا البناء من خواص أبنية الفعل إذ لم يوجد في أبنية الأسماء على ما قال الفارسي إلا في هذه الخمسة فقد كانوا خلقاء أن يحملوا هذه الأسماء على أن وزنها فعلل كجعفر لولا هذا الحكم المذكور فهو الذي دعاهم إلى أن جعلوها من هذا النوع على أن ما سوى البقم منها أعلام يمكن أن تكون منقولة من الأفعال وقد قيل في البقم إنه أعجمي فليس إذًا «فعّل» من أوزان الأسماء ومن الفعل المزيد قولك اقعنسس واسحنكك وتجلبب وتكلم ونحو اطمأن واقشعر واحمر واحمار اغدودن واقطوطى وما كان نحو ذلك وكما ثبت هذا الحكم فيما كان ثلاثي الأصول كذلك يثبت فيما كان رباعينا أو خماسيا وكانت فيه زيادة التضعيف نحو علّكد وهمقع وشمخر وهمرش فهو عند سيبويه من المضاعف وكالعدبّس والزمرد وسبهلل وقرشب وطرطب وما أشبه ذلك وهذا كله مبني على القاعدة [337]

المستمرة في أن أحد المضاعفين زائد إذا تضمنت الكلمة ثلاثة أصول فأكثر وليست مختصة بزائد التضعيف بل الحكم عام في زائد التضعيف وزائد «سألتمونيها» على ما سيأتي ذكره حيث تكلم عليه إن شاء الله فإن قيل قد يتخلف عنها في المضاعف تكرير الفاء وحدها نحو قرقف وفرفخ وقهقرى وجحجبى وديدبون وزيزفون وما أشبه ذلك واشتراط عدم الفصل بين المضاعفين بأصل أما تكرير الفاء فلم يأت في كلامهم إذ ليس في الأبنية فعفل ولا فعفلى ولا ما أشبه ذلك ولا دليل على ذلك من اشتقاق ولا تصريف إلا في النادر إن ثبت فلأجل ذلك ادعوا الأصالة في الحرفين معا وإشارة كلام الناظم مطلقة في زيادة ما عدا نحو سمسم كما تقدم فاقتضى أن الفاء أيضا كذلك وأما اشتراط عدم الفصل بين المضاعفين بأصل فهو شرط لازم عندهم ولذلك كان نحو حدرد وقسطاس ونحوهما قد حكم فيه بأصالة المضاعفين كما تقدم فيقال إن الناظم إن كان أشار إلى قاعدة زيادة التضعيف فقد فاته عمدتها وهو ذكر الشرطين فإما أن يكون لم يتعرض من زيادة التضعيف إلا لما نص عليه فيكون قد ذكر بعض أطراف المسألة وترك جلها وهذا قصور وإما أن يكون أراد ما تقدم تفسيره فيقتضي [338]

الزيادة مطلقاً في الفاء إن ضوعفت وحدها ومع الفصل بأصل وذلك غير صحيح فالجواب أن كلامه صحيح في جميع أطراف المسألة وبيان ذلك أن قوله «وَاحْكُمْ بِتَأَصِيلِ حُرُوفِ سِمْسِمِ ... وَنَحْوِهِ» إنما يريد ما كان نحو سمسم مما اجتمع فيه من الأوصاف ما اجتمع في سمسم وهذا المثال لو ادعيت فيه الزيادة فإما أن تدعى في الحرفين معا أو في أحدهما فإن ادعيت فيهما معا بقي الاسم على أقل من ثلاثة أحرف فقد تخلف فيه أحد الشرطين وهو توفر أقل الأصول وهذا الشرط لم يذكره هنا إذ قد تقدم له في قوله «وَلَيْسَ أَدْنَى مِنْ ثُلَاثِيٍّ يُرَى» إلى آخره وإن ادعيت في أحدهما لزم الفصل بين المضاعفين بأصل فالناظم إنما أشار كلامه إلى ما فقد فيه شرط دعوى الزيادة فكأنه يقول واحكم بتأصيل ما لزم بزيادته فقد الشرط ولا شك أن «سمسم» مما لم يتوفر فيه ذلك الشرك فقد حكم بتأصيله وبتأصيل ما كان نحوه فيدخل له على ذلك ما كان نحو قرقف وفرفخ إذ يلزم من دعوى زيادة أحد القافين أو الفاءين الفصل بينهما بأصل وكذلك ما كان نحو قسطاس وحدرد ومن هنا نقول إن نحو مرمريس ونحو صمحمح المضاعفين مما فيه زائدان إذا جعلت الزائد فيهما هو الثاني من الأول وذلك الميم الثانية منهما والأول من الثاني وذلك الراء الأولى والحاء الأولى وقد فرق في التسهيل بين صمحمح ومرمريس فجعل الزائدين في الأول كما تقدم وفي الآخر الثاني منهما وفيه فقد الشرط لأن الميم الأولى [339]

مع الثانية قد فصل بينهما بالراء الأولى وهي أصل ومن ههنا استشكل شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف رحمه الله كلامه في التسهيل وقال إنه على خلاف القاعدة واعتذر عنه بأنه مقتضى كلام سيبويه في أبواب التحقير وبأن الذي قام مقام هذا الشرط مساعدة العين للفاء في التضعيف إذ لم تضاعف الفاء وحدها قال شيخنا القاضي فكأن الفاء قد امتزجت واختلطت بها من حيث ضوعفت بسببها وأصل الامتزاج يقتضي المناسبة بأن يجعل الأصلي ممازجا للأصلي والزائد ممازجا للزائد أما الميم الأولى فلا يحكم بزيادتها فلا بد من الحكم بزيادة الراء الثانية قال فهنا انعكست تلك القاعدة وقد يقال إن ما ذهب إليه الناظم من إجرائه مجرى صمحمح هو الأولى أما أولا فحمل باب التضعيف على طريقة واحدة أولى وأيضا فإنا نقول إن مساعدة العين إنما اشترطت في تضعيف الفاء لما يلقى في عدم تضعيفها من الفصل بين المضاعفين بأصل كقرقف ونحوه فإذا ساعدتها العين في التضعيف صارت معها كالعين واللام في صمحمح فلم يلق محذور فإذا ادعينا أصالة الميم والراء الأوليين لزم فيه خلاف الشرط فيمتنع وهنا [340]

نقول إن المضاعفين كالشيء الواحد لأن أحدهما كأنه هو نفس الآخر فلا ينبغي أن يفصل بينهما لأنهما في الأصل شيء واحد فإن وقع الفاصل ولا بد فلا يكون إلا زائدا لأن الزائد في حكم المعدوم في الأصل فإذا ثبت هذا فقد انقلبت النكتة التي ذكرها شيخنا القاضي على ابن مالك وصار كلامه في التسهيل بسببها مرجوحا ومقتضى نظمه راجحا وكلام سيبويه مؤول وقوله «وَنَحْوِهِ» يريد ما كان نحو سمسم فيما حوى من الأوصاف ولا يقتصر بهذا المثال على كونه اسما لا فعلا ولا على كونه صحيحا لا معتلا بل الحكم منسحب على كل ما كان من ذلك لا يفهم معناه بسقوط حرف منه فيدخل فيه دوداة وشوشاة وضوضى وقوقى وحاحيت وعاعيت وهاهيت والهاهاة والحاحاة الحيحاء كالزلزلة والزلزال والقلقلة والقلقال ونحو صيصية وسواء أكان [341]

هذا كله قد زيد فيه من «سألتمونيها» أم لا كالزلزال والصلصال والقمقام وعاعيت معاعاة وما أشبه ذلك الحكم بأصالة المضاعفين في الجميع واحد وأما القسم الثاني وهو ما لا يسقط معناه بسقوط حرف منه فذكر الناظم فيه خلافا فقال «وَالْخُلْفِ فِي كَلَمْلِمِ» و «الْخُلْفِ» مخفوض عطفا على «تَأَصِيلِ» والتقدير واحكم بالخلف في كلملم والكاف في كلملم اسمية بمعنى مثل أي في مثل هذا الفعل الذي هو لملم وهو فعل أمر من لململ الكتيبة أي ضمها وجمع بعضها إلى بعض فالكاف هنا مثلها في قول ذي الرمة أبيت على ميّ كئيبا وبعلها ... على كالنقا من عالج يتبطح وقول الآخر وزعت بكالهراوة أعوجيّ ... إذا ونت الركاب جرى وثابا وأراد بالخلف الخلاف الواقع في تأصيل حروف ما هو كلملم وذلك أن محل الخلاف قد أشار إليه المثال وهو ما لا يسقط معناه لسقوط حرف منه لكن هذا النوع على قسمين [342]

أحدهما ما يكون الساقط منه الثالث وهو الذي وقع فيه الخلاف منصوصا ومثاله ما ذكر أولا ومنه أيضا كبكبه كبكبة وكبه كبا وهما معا في القرآن فقال تعالى {فكبكبوا فيها هم والغاوون} وقال تعالى {فكبت وجوههم في النار} وقالوا صرّ وصرصر صريرا وصرصرة وصلّ وصلصل وعج عجعج وعين ثرة وثرثارة وهو باب واسع فأما تقرير الخلاف فيه فإنه من وجهين أحدهما زيادة بالتضعيف من غير دعوى إبدال فذهب الكوفيون الزجاج** من البصريين إلى أن الحرف الثالث زائد لسقوطه في بعض تصاريف الكلمة وأن الكلمة ثلاثية وقد تقدم أن الذي يدل على الزيادة في الحرف سقوطه في بعض تصاريف الكلمة فكذلك يقول هؤلاء ههنا ومذهب سائر البصريين أن الحروف كلها أصول كالقسم الأول وسقوط الثالث لا دليل فيه وذلك أن القائل بزيادته يلزمه أمران أحدهما خروجه عن باب واسع كثير هو باب تقارب الألفاظ مع اختلاف موادها نحو سبط وسبطر ودمث ودمثر وقد تقدم من ذلك أشياء كثيرة مع أن الحروف كلها أصول وسقوك الساقط ليس بسقوط في الحقيقة وإنما تلك مادة أخرى فالقول بزيادة الساقط يخرجه عن باب واسع والثاني دخوله فيما لا نظير له وهو تكرير الفاء [343]

وحدها وذلك يؤدي إلى أن يكون وزن الكلمة «فعفل» و «فعفلة» و «فعفالة» في نحو صلصل وصلصلة وثرثارة وهذا بناء مرفوض فما** يؤدي* إلى القول به مرفوض وإنما تضاعف الفاء الفاء مع مضاعفة العين لا وحدها وفي باب قليل لا كثير وذلك مرمريس ومرمريت لا غيرها ويمكن أن تكون التاء في مرمريت أصلها سين مرمريس من** فأبدلت منها كما أبدلت في قول الشاعر يا قاتَلَ الله بني السعلاةِ ... عمرو بن يربوع شرار النات ... غير أعفاء ولا أكيات يريد شرار الناس وأكياس فلا يكون في المحفوظ من المضاعف الفاء إلا حرف واحد وقد وافقونا في نحو قرفخ وقرقل وزهزق وجرجم ونحو ذلك مما يسقط معناه بسقوط ثالثه على أنه غير مضاعف الفاء فلا دليل لهم في وجوده فإذا مذهبهم غير سديد فإن قالوا إن الزيادة هنا ليست بالتضعيف صاروا إلى زيادة ما ليس من حروف سألتمونيها في مثل كبكب وذلك إنما ثبت مع التضعيف [344]

وللكوفيين والزجاج أن يقولوا إن الأصل اتحاد المواد في مثل هذا حتى يدل دليل على خلاف ذلك وهو الباب الأوسع والمنقول الأكثر ولا يبلغ باب سبط وسبطر مبلغه إذ هو حروف معدودة وإن كثرت يحصر أكثرها أهل اللغة والتصريف بخلاف الباب الآخر فإنه غير منحصر وإذا كان كذلك فقد شملة قانون الزيادة المتقدم الذكر فيكون القول بخلافه خرقا لذلك القانون وما ردوا به من انعدام تكرير الفاء وحدها فليس كذلك فقد حكى أبو الحسن عن الخليل أن هركولة هفعولة لأنها التي تركل في مشيتها قال ابن جني «وسمعت بعض عقيل يقول في هركولة هرّكلة فإن كان هذا ثبتا عندهم فقياس قول الخليل أن تكون هرّكلة هفّعلة فتكون الفاء هنا مضاعفة فيضاف هذا الحرف إلى مرمريس» قال «ويجب على قياس هذا القول أن يكون قول الراجز باتت بليل ساهد وقد سهد ... هلقم يأكل أطراف النجد وزنه هفعل لأنه من اللقم» ثم ذكر أنه لا يرى بأسا بقول الخليل وأبي الحسن من زيادة الهاء فقد ثبت إذًا تضعيف الفاء وحدها من كلام العرب وإن سلم أنها لم تزد وحدها فتكرير العين مع تكريرها مونس بوجوده وإن سلمنا فلا ينكر أن يأتي في المضاعف ما لا يأتي في غير المضاعف وذلك [345]

إذا كان المعتل قد يأتي فيه من الأمثلة ما لا يأتي في الصحيح نحو سيد وميت وقضاة وسعاة وقيد ودة* وصيرورة وليس في الصحيح فيعل ولا فعلة في جمع فاعل ولا فيعلولة مصدرا فكذلك يجيء في المضاعف ما لا يأتي في غيره من تكرير الفاء فقد كرروها في مرمريس ونحوه فأدى إلى فعفعيل وإن كان غير موجود وكذلك قالوا قلقال وصلصال فجاء فيه فعلال وليس في غير المضاعف إلا نادرا فتكريرهم الفاء وحدها وأداؤه إلى فعفل من هذا القبيل فكان ما ذهبوا إليه غير خارج عن قياس كلامهم وغير مفقود الحجة في باب النظر وبنحو من هذا احتج ابن جني للزجاج في هذا المذهب وذكر أنه إن احتج له بهذا فهو قول ولما رأى الناظم القولين يتجاذبان الحجة على تقارب ورأى أن مذهب الكوفيين يطرد عليه قانون الزيادة التي قدم قبت له أن الدليل في الجنبتين فوي فلم يرتهن في صحة أحدهما ولا ترجيحه بل أطلق ذكر الخلاف وترك الترجيح للناظر وإنه لحسن ولكن يؤخذ له مذهبه فيها من قوله «واحكم بتأصيل حروف سمسم ونحوه» وأنه الحكم بالأصالة لما يلقى في الزيادة من الفصل بين المضاعفين بأصل على ما نفسر بعد إن شاء الله تعالى والوجه الثاني من تقرير الخلاف في «لملم» زيادة بالتضعيف مع دعوى الإبدال وذلك على أن يكون لملم أصله لمّم وكبكب أصله كبّب وجلجل أصله جلّل وهكذا باقي المواضع في هذا النحو لكن كرهوا التقاء الأمثال فأبدلوا من المضاعف الثاني حرفا مماثلا للفاء فقالوا لملم وكبكب [346]

وثرثارة في ثرة وكذلك ما أشبهه ذهب إلى هذا البغداديون وتابعهم أبو بكر بن السراج وصححه الزبيدي وقال قولهم عندي أولى بالصواب لاطّراد مقالتهم وصحبة الاشتقاق لمذهبهم ألا ترى أن قولك كفكفت في معنى كففت وجلجلت في معنى جضلّلت وأما السيرافي فزعم أن هذا المضاعف يجيء على ثلاثة أوجه أحدها أنه ثلاثي قال فبنى فعلل منه كجلبب فقيل كبّب فاستثقلوا التضعيف والتباسه بفعّل فقلبوا المتوسط للفظ الفاء كما أزالوا التضعيف من تظننت فقالوا تظنيت وفي دسّس فقالوا دسَّى وهذا النوع كثير ونقل عن الفراء تجويز أن يكون كبكب فعل وفعلل قال وكونه فعل خطأ لا يجوز أن يجيء مصدر فعل إلا تفعيلا أو فعلا ولا يقال في كبكب تكبيب بل قالوا كبكبة وهو دليل على أنه فعلل كجلبب والثاني أن يكون مبنيا من صوت على حرفين فكرر الحرفان علامة على تكرير الصوت نحو قرقر الطائر وقعقع الحلي فإن قيل لم اقتصروا في ذلك على تكريره مرتين؟ فأجاب بأنه ثقل عليهم التكرير مرات فاجتزءوا* باثنين كما اجتزءوا* في قام القوم رجلا رجلا مع أنهم يريدون أكثر من ذلك والثالث ألا يكون أصله ثلاثيا ولا صوتا ومثاله عسعس هذه طريقة السيرافي في هذا النحو فقد أثبت فيه قسما على طريقة البغداديين لكن بنوع آخر من الصناعة أصلها ما قالوه [347]

وقد قال البصريون إن الأولى أن يقال إن جميع ذلك رباعي لأن هذا البدل لم يثبت في كلامهم بل الثابت أن يبدل من المضاعف حرف علة نحو تظنيت وقصّيت أظفاري ولم يثبت في مثل هذا قصقصت ولا تظنظنت ولا قيل أيضا في كبكبت كببت وقد قيل في قصيت قصصت فإن قال لم يقل كببت لئلا يلتبس بفعلت قيل وكذلك قصيت يلتبس بفعلت ثم إن المصدر يبين ذلك وقال ابن جني وأشار إلى هذا المذهب سألت أبا على عن فساده فقال العلة أنه أصل القلب في الحروف إنما هو فيما تقارب منها وذلك نحو الدال والطاء والذال والظاء والثاء والهاء والهمزة والميم والنون ونحو ذلك مما تدانت مخارجه فأما الحاء يعني من حثحث فبعيدة من الثاء وبينهما تفاوت يمنع من قلب إحداهما إلى أختها قالوا فالصحيح أن كبكب رباعي وكبب ثلاثي كسبط وسبطر ولذلك كان مثله قليلا في كلامهم ومذهب الناظم هنا أيضا مذهب البصريين لأن الإبدال على هذا الوجه لم يثبته فهو عنده موقوف على السماع إذا تبين وجه الإبدال لا إذا أثبت بالاحتمال والله أعلم ولم يرجح أحد المذهبين على الآخر إما لتكافؤ الأدلة وقد تقدم ترجيح الزبيدي مذهب البغداديين وإما لأنه أتى بهذا الخلاف مع الخلاف الآخر الذي لم ير فيه الترجيح [348]

والقسم الثاني مما لا يسقط معناه لسقوط حرف منه ما يكون الساقط منه الحرف الرابع ومثال الناظم لم يرشد إليه بخصوصه وإنما أشار إلى القسم الأول لكن إذا أخذ المثال على عموم سقوط حرف ما شمل القسمين وهذا القسم لم يذكر في التسهيل فيه خلافا وكلام ابن جني في الخصائص يظهر منه أن أبا إسحاق مخالف فيه أيضا كالأول فإنه قال «وذهب أبو إسحاق في نحو قلقل وصرصر وجرجر إلى أنه فعفل وأن الكلمة لذلك ثلاثية قال حتى كأن أبا إسحاق لن يسمع في هذه اللغة الفاشية المنتشرة** بزغد وزغدب وسبط وسبطر ودمث ومثر وإلى قول العجاج ركبت أخشاه إذا ما أحبجا هذا مع قولهم وَتَرٌ حِبَجْرٌ للقوية الممتلئ نعم وذهب إلى مذهب شاذ غريب في أصل منقاد عجيب ألا ترى إلى كثرته في نحو زلز وزلزل ومن أمثالهم توضقّري* يا زلزة فهذا من قولهم قد تزلزلت أقدامهم إذا قلقت فلم تثبت قال ومنه وقلق وهوة وهوهاءة وغوغاء وغوغاء لأنه مصروفا رباعي وغير مصروف ثلاثي ومنه رجل أدْرَد وقالوا عض على دردره ودردوره» هذا كله كلام ابن جني ثم عقب بقوله «ومنه صل وصلصل» إلى ما مثل به من القسم الأول فيما عنده فيه خلاف الزجاج [349]

على حد واحد ويلزم ذلك أيضا الكوفيين إن لم يكونوا قالوا به وإذا كان الأمر على هذا كان ما احتج به للفريقين هنالك جاريا هنا على نصه إذ وزن زلزل على هذا الترتيب فعلع وغوغاء** فعلاع وعلى هذا النحو سائرها والقول فيها كما تقدم * * * فَأَلِفٌ أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ ... صَاحَبَ زَائِدٌ بِغَيْرِ مَيْنِ من هنا أخذ في ذكر حروف الزيادة ومواضعها وشروط الحكم عليها بالزيادة وهي عشرة أحرف لم يأت بها الناظم مجموعة أولا اكتفاء بذكرها على الإفراد واحدا واحدا على أنه قد ذكر حروف البدل مجموعة في قاله «هَدَأْتَ* مُوطِيَا» فكان من الكمال أن يفعل كذلك في حروف الزيادة والخطب في هذا يسير وقد جمعها الناس في أنواع من الكلام فحكى ابن خروف أن أبا أسحق الزجاج سئل عن جمعها فقيل له ما الحروف الزوائد؟ فقال سألتمونيها فجمعها هذا الجمع ملغزا كأنه يريد تقدم سؤالكم لي فلم يفهموا حتى فهمهم وكذلك سأل المبرد عنها المازني فأنشد هويت السمان فشيبنني ... وقد كنت قدما هويت السمانا ثم اقتضاه المبرد الجواب فقال قد أجبتك دفعتين لأنه ذكر في البيت «هويت السمان» مرتين وجمعها بعضهم آتيا بها في بيت فقال [350]

سألت الحروف الزائدات عن اسمها ... فقالت ولم تبخل أمان وتسهيل وحكى الزجاجي عن المازني اليوم تنساه وقد جمع ابن خروف من ذلك نحوا من عشرين نوعا سوى ما تقدم وزعم أن أكثرها له وعلى الجملة فهي عشرة أحرف وزاد ابن خروف فيها الشين اللاحقة في الوقف في قولهم أكرمتكش فهي إذًا أحد عشر وإنما سميت حروف الزيادة وإن كانت تقع أصولا لأن الزوائد منها تكون لا من غيرها واعلم أن الناظم هنا عدّ من هذه الحروف تسعة وترك ذكر العاشر إهمالا له فذكر الألف والياء والواو والهمزة والميم والنون والتاء واللام والهاء وترك ذكر السين فلم يتعرض لها بإثبات إلا قوله حين ذكر التاء وَالتَّاءُ فِي التَّأْنِيثِ وَالْمُضَارَعَةْ ... وَنَحْوِ الِاسْتِفْعَالِ وَالْمُطَاوَعَةْ لا يقال إنه ذكرها حين ذكر الاستفعال لأنا نقول لم يذكر الاستفعال إلا بسبب التاء خاصة فأتى بالمثال الذي تقع فيه التاء لكن اتفق أن ذلك المثال من مواقع السين لا أنه قصده بالذكر وهذا ظاهر فالدرك عليه فيه ظاهر ولا عذر له في تركه إلا أن يقال إنه اكتفى بمجرد المثال إذ كانت السين لا تزاد إلا فيه وهذا من الضعف بالمكان المكين فالحق أنه فاته ذكره فلو قال مثلا حين ذكر التاء والتاء في التأنيث المضارعةْ ... ونحو الاستفعال والمطاوعةْ كذالك في التفعيل والتفعال ... كذا مع السين في الاستفعال ومثله تفاعل تفعلُ ... اختص بالمطاوع التفعلُ [351]

لزال هذا الشغب وارتفع عنه في زيادة التاء شغب آخر سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وإنما لم يذكر الشين هنا لأن غير ابن خروف لم يلحقها بحروف الزيادة وعدم إلحاقها هو الوجه لأنه إنما ينبغي أن تثبت زيادة الحرف فيما بنيت عليه الكلمة حتى يكون لح* حظ في الدلالة على تلك الكلمة بحيث لو حذف منها مع أنه زائد لاختل معنى الكلمة وليست السين كذلك وأيضا فهي تابعة للضمير والضمائر كلها كالحروف ليس فيها زيادة لأن الزيادة تصريف والتصريف لا يكون إلا في الأسماء المتمكنة والأفعال لكن يلزم الناظم أن يعدها في الزوائد على طريقته في عده هاء السكت فيها فإن هاء السكت ليست الكلمة مبنية عليها وأيضا فهي تتبع ما لا يدخله تصريف فكان الوجه أحد أمرين إما أن يعد مع الهاء الشين وإما أت يتركهما معا فالتفريق بينهما وذكر أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح ولا يجاب هنا بما أجاب به ابن جني من أن الهاء قد ثبتت زيادتها في غير الوقف نحو قولهم أمهات إذ وزنها فعلهات والهاء زائدة لأنها جمع أم وكذلك الهاء في قولهم هركولة وهبلع وما أشبه ذلك لأن هذه الأشياء لم تثبت زيادتها بعد وأيا فلو ثبتت لكانت عند الناظم نادرة مسموعة إذ لم يذكر في [352]

زيادتها قياساً إلا هاء السكت وقد اعترض المبرد على سيبويه هذه المسألة واعتراضه وارد وأجيب عن سيبويه بأنه أثبت الهاء زائدة لكثرة زيادتها في الوقف فإن قيل فاجعل الياء في يزيد زائدة في الكلمة فالجواب أن هذا حرف معنى كمن وإنما اتصل بالكلمة لضرورة أنه على حرف واحد وأما الهاء فإنها تزاد في الكلمة لبيان حركتها نعم هي من الزيادات التي تختص بالوقف وليس لها معنى فإن قيل فاجعل الشين زائدة قيل تلك لغة قليلة فلذلك لم يعول عليها والعرب متفقون على زيادة الهاء وإنما ذكروا حروف الزيادة بالنظر إلى جميع اللغات هذا وجه زيادتها وهو الذي اعتمد ابن الضائع في الجواب وهو إذا تأملته ليس بجواب إذ لم ينفصل فيه عن كون الهاء غير مبنية عليها الكلمة والجواب عن الناظم هو الجواب عن سيبويه لكن الناظم يمكن أن يجاب عنه بأنه ابتع في هذا سيبويه والجمهور ولم ير تخلفه عما جروا عليه في عد الهاء ولم يعد الشين لما تقدم من كونها مختصة ببعض اللغات أو لأنهم لم يعدوها فاتبعهم في ذلك [353]

ولنرجع إلى كلامه فقوله «فَأَلِفٌ أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ ... صَاحَبَ زَائِدٌ» أَلِفٌ مبتدأ وخبره زَائِدٌ وابتدأ بالنكرة لأنها موصوفة بقوله «صَاحَبَ» إذ هو في موضع الصفة وأَكَثَرَ مفعول بصَاحَبَ يعني أنّ الألف إذا صاحبت في الكلمة ثلاثة أحرف أصول فأكثر فاحكم عليها بالزيادة مطلقا من غير قيد سوى توفر أقل الأصول خاصة وإنما قال أكثر من أصلين ولم يقل ثلاثة أصول ليشمل كلامه الثلاثة فما زاد عليها لأنها قد تزاد مع الرباعي الأصول الخماسيها** كما تزاد مع الثلاثي فالرباعي نحو عريقصان وقرطاس وصلصال والخماسي نحو قبعثرى وضبغطرى فلو قال صاحب ثلاثة أحرف لأوهم الاقتصار على الثلاثي دون الرباعي والخماسي ثم في هذا العقد خمس مسائل إحداها أنه أطلق القول في الألوف إذا صاحبت أكثر من أصلين أنها زائدة وإنما أراد هنا والله أعلم الألف الباقية على أصلها لم تنقلب بدليل ذكره للهمزة الواقعة بعد ألف بعد هذا وحقيقة أمرها أنها منقلبة عن حرف زائد إذ لا تكون في الآخر زائدة بنفسها وإنما هي منقلبة عن ألف التأنيث أو ألف الإلحاق أو التكثير كحمراء وصحراء وعلباء وقوباء وطرفاءة وقصباءة وما أشبه ذلك فالظاهر أنه إنما أراد الألف مع بقائها على لفظها نحو حبلى وسكرى وقائم وقاعد ونحو ذلك [354]

والثانية أن قوله «صَاحَبَ» «أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ» ** قد دل بمفهومه دلالة واضحة على أنه إذا لم يصاحب أكثر من أصلين فليس بزائد فقولك عصا ورحا وفتى وغزا ورمى وما أشبه ذلك ألفاتها أصول أي منقلبة عن حروف أصول لأن الألف لا تكون أصلا بنفسها في الأسماء المعربة ولا في الأفعال إذ لو كانت زوائد لبقي الاسم على حرفين وذلك لا يكون فيها أصلا وقد قال هو وَلَيْسَ أَدْنَى مِنْ ثُلَاثِيٍّ يُرَى ... قَابِلَ تَصْرِيفٍ سِوَى مَا غُيِّرَا* والثالثة أن الناظم لم يعين لزيادتها موضعا في الكلمة كما عين للهمزة والنون وغيرهما فدل على أنها يحكم بزيادتها حيث وقعت من الكلمة فتزاد ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وهكذا إلى زيادتها سابعة وهو منتهى ما تبلغ إليه الأسماء فأما زيادتها ثانية فمثاله ضارب وقاتل وخاتم وطابق وساباط وخاتام وعاقول وحاطوم وقاصعاء ونافقاء وفي الفعل خاصم وشاتم وحافظ [355]

وأما زيادتها ثالثة فمثاله حساب وكتاب وغراب وسراب وجراب وسخاخين وعنافر وفي الفعل تقاتل وتضارب وأما زيادتها رابعة فمثاله حملاق ودهقان وزلزال وبلبال وقرطاس وقرناس وأرطى ومعزى وذكرى وسكرى وفي الفعل نحو سلقى وجعبى على أنهم قالوا إن الألف في الفعل هنا منقلبة عن الياء لقولهم سلقيت وجعبيت فالإلحاق وقع بالياء لا بالألف فلا تعد الأفعال هنا وأما زيادتها خامسة فمثاله حبركى ودلنظى وفرقرى وسمهى وبوكاء وقيقبان وصليان ومكرمان ومرطراط وجلبلاب وفرنداد وأما زيادتها سادسة فنحو قبعثرى وصبغطرى وعبوثران وعريقصان وهزنبران ويهيرى ومرحيا [356]

وأما زيادتها سابعة فنحو بردرايا وأربعاوى وهو قليل وأكثر وجودها على قلته مقلوبة هزة نحو معيوراء وفيضوضاء ومطيطياء وأما زيادتها أولا فممنوعة وإنما لم يستثن ذلك لأنه معلوم أنها لا تزاد هنالك لأنها ساكنة والساكن لا يبتدأ به فإن قلت فهلا زيدت أولا وإن كانت ساكنة وجلبت لها همزة الوصل توصلا إلى النطق بها كما زيدت النون في انطلق والسين في استفعل ونحو ذلك سواكن ثم جلبت لها همزة الوصل؟ فالجواب أن الألف هوائية تابعة للفتحة أبدا فلو زيدت أولا لم يكن بد من فتح همزة الوصل لها وألف الوصل لا يفتح أصلا وإنما تأتي أبدا مكسورة وهو الأصل فيها أو مضمومة لعارض بعرض وهو انضمام ما بعد الساكن على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ولم تأت مفتوح إلا مع لام التعريف على القول بزيادة الهمزة وفي ايمن في بعض اللغات وإذا ثبت هذا ووقعت الهمزة قبلها مكسورة لم تبق الألف على حالها ألف بل يجب فلبها ياء للكسرة قبلها أو وقعت الهمزة قبلها مضمومة فلا بد أيضا من قلبها [357]

واوًا فلا تبقى أبدا ألفا وإنما تكون ياء أو واوا فيقع في زيادته أولا من الإشكال والإلباس ما بعضه مستكره فرفض هذا الحكم جملة قال ابن جني «وهذا كرفضهم أن يبنوا في الأسماء اسما فيما عينه** واو على فَعُل مثل عضد وسبع وذلك أنهم لو بنوه لم يكونوا ليخلو* من قلب الواو ألفا أو تركها غير مقلوبة ألفا فأن لم يقلبوا ثقل عليهم وإن قلبوا صار لفظه كلفظ ما عينه مفتوحة فلم يدر أمفتوحة كانت أو مضمومة فلما كانوا لا يخلون في بناء ذلك من إشكال أو استثقال رفضوه البتة» هذا وجه تركهم زيادتها والمسألة الرابعة أن قوله «صَاحَبَ» «أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ» ** يريد أنه لا بد من مصاحبة ثلاثة أصول فأكثر قد تحقق كونها أصولا كالأمثلة المتقدمة فإنها إما أن* يتحقق أنها أصول فههنا لا محذور في الحكم بزيادة الألف وإما أن يتحقق أن ليست بأصول كلها ولا ثلاثة منها فلا يجوز الحكم بزيادة الألف لأن الكلمة إذ ذاك تبقى على أقل من ثلاثة أصول وذلك غير جائز كقولك اختار وانقاد فالهمزة والتاء والنون مقطوع بزيادتها ولم يبق دون الألف إلا حرفان أصليان فلا يمكن مع ذلك دعوى زيادة الألف فيها لبقاء الكلمة على أقل من ثلاثة أصول وذلك ممنوع فتعين دعوى أصالتها وكونها منقلبة عن حرف أصلي وإما أن تكون محتملة للأصالة كلها ولزيادة بعضها فلا يقطع على الألف بالزيادة حتى يقطع ما عداها بالأصالة مثال ذلك مكان [358]

مثلا فإنه يحتمل أن يكون من مادة م ك ن فتكون الميم أصلية فيتوفر بها ثلاثة أحرف أصول فيصح إذ ذاك دعوى زيادة الألف لصحة دعوى أصالة الميم إذا فرضنا صحة ذلك ويمكن أن تكون الميم زائدة فتكون من مادة ك ون فلا بد من ادعاء أصالة الألف وأنها منقلبة إذ لم تتوفر ثلاثة أحرف أصول دونها فالحاصل أن الكلمة إذا كانت في حيز الإمكان كهذه مثلا فإن الألف في حيز الإمكان أيضا أعني أنها إذا أمكن أن تتوفر فيها الأصول الثلاثة وأمكن أن لا فالألف باقية على إمكان الزيادة والأصالة فإذا تحقق فيها توفر الأصول تحقق زيادة الألف لأنهما متلازمان لا انفكاك لأحد الأمرين عن الآخر فلأجل هذا قيل إنه إنما يريد بقوله «صَاحَبَ» «أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ» ** أي على التحقيق فالمفهوم يعطي في كلامه أن ما لم يتحقق فيه أصالة أكثر من حرفين فلا يحكم عليه بأنه زائد وذلك يعطي نوعين أحدهما ما تحقق فيه عدم استيفاء أكثر من أصلين نحو مال وناب وعصا ورحا وقد تقدم بيانه وكذلك استلقى إذ ثبتت زيادة الثلاثة الأول فلا يبقى دون الألف الأخيرة إلا أصلان فقط وقد تقدم أيضا والثاني ما لم يتحقق فيه شيء من ذلك فمفهوم كلامه يعطي أيضا أنه لا يقدم على الحكم بزيادة الألف فيه كمكان المتقدم وقد ذكر الناس له [359]

مثلا لا بد من ذكر أشياء منها يحصل بها التمرن في فهم مقصوده فمن ذلك قولهم قطوطى وذلولى وخجوجى وشجوجى وقلولى وقنونى ومرورى وظرورى وشرورى وشطوطى وما أشبهها الألف الأخيرة تحتمل أن تكون زائدة على أن يكون المضاعفان معا أصليين ويكون وزن الكلمة فعولى إذا ادعي في الواو الزيادة أو فعلى إذا ادعي فيها الأصالة وأن تكون أصلية على أن تكون الواو والطاء الثانية زائدتين بالتضعيف ويكون وزنها فعلعلا أو تكون الواو زائدة من «سألتمونيها» وإحدى** الطاءين زائدة بالتضعيف ويكون وزن الكلمة فعوعلا أو أصلية ويكون وزنها فعوللا أو تكون أصولا كلها كسفرجل وجنعدل لكن لا يجوز أن تكون أصولا كلها فإن هذا لا يكون لأن الواو والياء لا تكونان أصلا في بنات الأربعة دون تضعيف على ما يذكره الناظم إثر هذا ولأن الألف لا يحكم عليها بالأصالة مع تحقق أصالة أكثر من حرفين وهو الذين نحن في مسألته بعد ولأن المضاعفين لا يحكم عليهما بالأصالة إذا توفر [360]

الشرطان وهما توفر أقل الأصول وعدم الفصل بين المضاعفين بأصل ولا أن يكون فعلى على زيادة الألف مثل الحبركى والقبعثى والصلخدى والجلعبى لأن الواو لا تكون أصلا في بنات الأربعة دون التضعيف وبذلك يمتنع أن تكون فعوللا كسرومط وفدوكس فلم يبق إلا أن تكون الكلمة فعولى مثل عدولى وقهوباة على تقدير زيادة الألف أو على فعوعل نحو عثوثل أو على فعلعل نحو دمكمك وذلك على تقدير أصالة الألف فكل واحد من هذه الأبنية يجتذب هذا النوع فيحتمل أن تكون زائدة بالتضعيف فلا تكون الألف إلا أصلية لأنها منقلبة عن ضعف الواو أو من «سألتمونيها» وأحد المضاعفين زائد ولا تكون الألف زائدة إلا على احتمال ألا يكون ثم زائد غير الواو فالناظم حكم بأن الألف هنا لا يحكم بزيادتها لهذا الاحتمال إلا أن يقوم دليل على أحد الاحتمالات فيثبت به للألف ما يثبت فإن لم يقم دليل يتوقف عن الحكم عليها وقد ذكر الناس الأدلة في هذه الأشياء وجعلوا منها ما هو على فعولى وما هو على فعوعل وما هو على فعلعل ولم أذكر وجه ذلك هنا لأن له موضعا غير [361]

هذا سيأتي إن شاء الله تعالى ومن ذلك دالان وهامان وحادان وداران ونحوه الألف الأولى تحتمل أن تكون زائدة على أن تكون النون أصلية فيكون وزن الكلمة فاعلا كساباط وخاتام ويحتمل أن تكون أصلية منقلبة عن واو أو ياء والنون إذ ذاك زائدة كدوران وهيمان ونفيان وكلاهما محتمل إلا أن يدل دليل على أحد الأمرين فيرجع إليه فإذا ثبت الاحتمال سقط الحكم بالزيادة على الألف وهذه أمثلة يقاس عليها ما سواها وجميعها لا يحكم عليها عند الناظم بالزيادة إذ لم يتحقق فيه بعد أكثر من أصلين فتكون زائدة بغير مين والمسألة الخامسة أنه لما لم يعين للألف موضعا للزيادة ولم يخص ألفا من ألف دل على أن الألفات كلها في هذا الحكم سواء والألفات الزائدة في الكلمة على خمسة أقسام أحدها أن تكون لمعنى وذلك ألف التأنيث نحو حبلى وحبارى وسكارى وجمادى ويلحق بهذا ما يدل في نفس البنية على معنى نحو قائم ومساجد ** وضارب وتقاتل فإن الألف مشاركة في معاني هذه الصيغ [362]

حتى إنه ربما ينسب لها معنى الصيغة مجازا ومن هذا القسم ألف التثنية وجمع المؤنث السالم نحو الزيدان والهندات والثاني أن تكون لإلحاق بناء ببناء فتلحق الثلاثي بالرباعي نحو أرطى ومعزى هما ملحقان بجعفر وجرهم وتلحق الرباعي بالخماسي نحو صلخدى وضبغطى وسرندى هي ملحقة لها بسفرجل ونحوه والثالث أن تزاد للتكثير والتطويل لحروف الكلمة نحو قبعثرى وضبغطرى ومن ذلك قولهم شكاعاة وسماناة وباقلاء على لغة من ألحق الهاء إذ ليست الألف هنا للتأنيث لمكان الهاء ولا للإلحاق إذ ليس في وزنها ما تلحق به والرابع أن تكون للمد وهي اللاحقة قبل الآخر نحو سربال وجلباب وصلصال وكساء ورداء ونحو ذلك ومثلها اللاحقة آخر المندوب نحو وا زيداه** والخامس أن تقع في حشو الكلمة لغير مقصد زائد نحو خاتم وطابق وعاقول وما أشبه ذلك وإنما ادعي في الألف الزيادة مطلقا فيما توفرت فيه ثلاثة أصول لأنها كثرت زيادتها جدا والكثرة دليل على ثبوت ذلك الكثير وكونه عمدة في بابه [363]

قال سيبويه «وأما الألف فلا تلحق رابعة فصاعدا إلا مزيدة لأنها كثيرة مزيدة وهي أجدر أن تكون كذلك من الهمزة لأنها تكثر ككثرتها أولا وأنه ليس في الكلام حرف إلا وبعضها فيه أو بعض الياء والواو» يريد بالبعض هنا الحركات لأنها أبعاض حروف العلة فالفتحة بعض الألف والضمة بعض الواو والكسرة بعض الياء فإذًا لا يدعى أصالتها إلا بدليل وإلا فهي زائدة فإن قيل فإذا كانت الألف أصلها الزيادة فكيف تكون محتملة للأصالة بل يقال إذا توفر أقل الأصول فالأصل زيادتها فإن دل على ذلك دليل فذاك وإلا فالأصل الحكم عليها بالزيادة حتى يقوم دليل قاطع بأصالتها وإذا كان كذلك لم يصح تصور قسم المحتمل وإنما الألف على قسمين مقطوع بأصالتها ومقطوع بزيادتها فالأول ما يدل على أصالتها الدليل والثاني ما دل على زيادتها أو لم يدل على زيادتها ولا أصالتها فهي محمولة على الزيادة فالجواب أن هذا السؤال مغالطة لأن قسم المحتمل لم يجعل محتملا من جهة عدم الدليل عليه بل من جهة تعارض الأدلة فيه خاصة حتى يأتي مرجح ولا شك أن نحو داران يتجاذبه أصلان أحدهما باب الدوران والهيمان فهو يقتضي كونه منه وهو من الاستدلال بالنظير فالألف على هذا أصلية [364]

والثاني باب ساباط وخاتام فهو يقتضي أيضا كونه منه وهو من الاستدلال بالنظير والألف على هذا زائدة فإذا ثبت لنا هذا التعارض حصل الاحتمال حتى يرد الترجيح وقد رجح فيه باب ساباط وإن كان قليلا فحكم على باب الدوران بأنه لو كان كذلك لكان داراق دوران* وهامان وهيمان أو هومان ولم تعتل لأن باب فعلان مما عينه واو أو ياء أن يكون مصححا فلما لم يفعلوا ذلك دل على أنه ليس منه ليسلم بذلك من ترتيب إعلال على غير سبب وهذا الترجيح هو مقتضى عبارة التسهيل في قوله «ويتعين اغتفار قلة النظير إن سلم به من ترتيب حكم على غير سبب» وقد رجح الجمهور فيه باب فعلان وارتكبوا شذوذ الإعلال فيها لأجل الدخول في الباب الواسع لكثرة باب فعلان وقلة باب فاعال والحمل على الأكثر متعين وعلى هذا الأخير حمله سيبويه والمازني وابن جني وغيرهما فأنت ترى تعارض الأصول في هذه المسألة فهو الداعي إلى التوقف والاحتمال وأما ما لم يدل دليل على زيادة ولا أصالة فال مرية في دعوى الزيادة فيه جملا على الأكثر نحو الزامج واللهابة ونحوهما إذ لم يتعارض فيه دليلان كما تقدم من الأمثلة [365]

وقول الناظم «بِغَيْرِ مَيْنِ» معنى المين الكذب والجمع ميون يقال أكثر الظنون ميون وقد مان الرجل يمين مينا فهو مائن وميون وود فلان متماين أي متكاذب فإن قيل هذه العبارة معترضة من وجهين أعني قوله «بِغَيْرِ مَيْنِ» أحدهما أنها حشو لا فائدة فيها وقد عرفت عادته في هذا النظم في شحه بالألفاظ وأنه لا يأتي بها في غالب الأمر إلا لفائدة زائدة وهذا مخالف لذلك والثاني على تسليم أنه أتى به حشوا ففي معناه من الضعف والوهن ما فيه فليت شعري هل كذبه أحد فيما نقل أم هل تطرق إلى ذهن الناظر في هذه المسألة حصول الكذب في طريقها أو توهمه في راو من رواتها حتى يقول إن ذلك كذلك بغير كذب؟ هذا معنى عن التحصيل بعيد زيادة إلى كونه غير مفيد ومن الحشو ما يكون فيه فائدة ما أو تحريض ما كقوله فاعلم أو فافهم أو فكن متبعا ونحو ذلك ولا يقال إن أرباب الأراجيز أبدا هذا شأنهم وخصوصا بهذه العبارة نفسها كقول القَلَلَوْسِيِّ فإنّ ههنا اتفاق المذهبين ... على امتناع ذاك فيه غير مين وقوله في موضع آخر وههنا تم الجميع دون مين وكذلك غيره ممن نظم الأراجيز لأنا نقول غير ابن مالك أعذر في [366]

هذا النوع من ابن مالك لأن ابن مالك نصب نفسه في هذه الصناعة لتحرير العبارات واختصارها ووضعها على الأساليب الحسنة والمنازع المستقربة فيشاح في مثل هذا بخلاف غيره ممن لم يلزم إلا الإتيان بالمعنى كيف كان وعلى أي وجه أمكنت العبارة فيه وعلى غير تحرز من حشو ولا غيره فمثل هؤلاء لا كلام معهم في هذه الأشياء للمعرفة بمقاصدهم كما أنا إذا نظرنا في كتب المتقدمين لا نشاقهم في عباراتهم ولا نتّبّع ألفاظهم هذا التتبع فإنا إن فعلنا ذلك كنا مخطئين في أخذ كلامهم متعسفين في تقصيدهم ما قصدوا** ما لم يقصدوا** وابن مالك ومن تبع مثل ما تبع معلوم منهم القصد إلى إغماض المعاني في العبارات وإدراج الكثير منها في اللفظ اليسير وترك اللفظ لإيهام يكون فيه واختيار ما يعطي أصل المعنى من غير تطويل وما أشبه هذا فنحن معامل ابن مالك بما نصب له نفسه فالجواب أنه لم يرد بقوله «بِغَيْرِ مَيْنِ» ما تقدم وإنما أراد كذب القضية التي أتى بها وذلك أنه أتى بكلية وهي أن الألف إذا كانت مع ثلاثة أصول فأكثر فهي زائدة بلا بد ولم يستثن من ذلك شيئا والكلية من حيث هي كلية في هذه الصناعة قد تكذب في بعض جزئياتها فلا تطرد إذ قد تكون الكلية ذات حكمين لا حكم واحد فتتقيد بقيود يخرج بسببها بعض جزئياتها كما يذكر في سائر الحروف الزوائد فليس قوله «بِغَيْرِ مَيْنِ» براجع إلى الراوي أو إلى القائل بل إلى نفس كلية الحكم كما يقال هذه كلية كاذبة [367]

إذا لم يجر الحكم في جميع جزئياتها ولا شك أن الألف كذلك* لا تجدها أبدا مع توفر الأصول إلا زائدة بخلاف سائر الزوائد ومعنى هذا أن النون مثلا إذا وقعت في الكلمة مع توفر الأصول فلا يحكم عليها بالزيادة أصلا بل تكون في موضع زائدة كوقوعها ساكنة مفكوكة بين حرفين قبلها وحرفين بعدها وقد تكون أصلية فيما إذا لم تقع متوسطة أو كانت متحركة أو نحو ذلك على ما سيأتي إن شاء الله فهذا الحكم مقيد فيها وكذلك سائر الحروف التي تزاد على حسب ما ذكره بعد هذا فلما كان هذا الإطلاق الذي ذكره ي الألف يوهم كذب الكلية إذ لم يقيدها بقيد أزال ذلك الإيهام بقوله «بِغَيْرِ مَيْنِ» أي بغير أن تكذب هذه القضية ولا أن يتخلف عنها قسم من أقسامها فإن قيل فهذه الكلية قد يختلف عنها أشياء وذلك بقيام الدليل على التخلف من اشتقاق أو غيره كما يكون ذلك من غير الألف وإن كانت الأصول متوفرة فالجواب أن مثال هذا لا يكون مع توفر الأصول تحقيقا وإنما يكون ذلك عند تنازع حرفين الأصالةَ فيكون أقل الأصول غير محقق كما تقدم* في قطوطى وهامان وأبان وأبوابها وأما أن تجد ثلاثة أصول محققة لا إشكال فيها ثم يدعى بعد ذلك في الألف رابعة لتلك الثلاثة الأصالة فهذا لا يوجد فيما أظن وأما باب حاحيت فليس من هذا الباب وإنما هو من باب المضاعف [368]

الذي يذكره إثر هذا وهو الذي قال فيه قبل «وَاحْكُمْ بِتَأَصِيلِ حُرُوفِ سِمْسِمِ ... وَنَحْوِهِ» فالكلية صحيحة والحمد لله * * * وَالْيَا كَذَا وَالْوَاوُ إِنْ لَمْ يَقَعَا ... كَمَا هُمَا فِي يُؤْيُؤٍ وَوَعْوَعَا يعني أن الياء والواو حكمهما في الزيادة حكم الألف وقد تقدم أن الألف غذا صاحبت أكثر من أصلين فهي زائدة بلا بد فكذلك أختاها إذا صاحبتا أكثر من أصلين فهما زائدتان أيضا لكن بشرط زائد كما ذكر وقد تقدمت الإشارة إلى علة هذه الدعوى في ثلاثة الأحرف وأن ذلك لكثرة الزيادة فيها دون غيرها من حروف الزيادة وهو معنى ما أشار إليه سيبويه وقال الرماني في شرح «الأصول» حين ذكر حروف الزيادة وإنما كانت هذه الحروف أحق بالزيادة لأنها حروف مد ولين وما يشبهها من وجه يقتضي اللحاق بها على مراتبه في القوة والضعف فحروف المد واللين أحق بالزيادة من جميع الحروف لتمكنها وحسنها في المسموع والتأليف وإمكان الترنم بها فمن أجل اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كانت أحق بالزيادة ثم الهمزة لأنها مواخية لها بالإعلال فحروف العلة الأربعة أحدها الهمزة لأنها كثيرا ما تنقلب إلى حرف المد واللين نحو راس وبير وبوس وكذلك كل همزة ساكنة فهي في التخفيف على حركة ما قبلها وأما النون فللترنم الذي [369]

فيها بالغنة كما هو في حروف المد واللين ولحسن النون في المسموع وأما الميم فتشبه النون بغنة ضعيفة وهي من مخرج الواو أيضا ولقربها في المخرج واتساعه كاتساع مخرج الواو قال فهذه هي السبعة التي تكثر في الزيادة وتدخل في الأبنية على مراتبها في القوة وأما الثلاثة الباقية فضعيفة في الزيادة لأنها مشبهة بالشبيه فالسين لا تزاد إلا في استفعل فقط لأنها تشبه التاء في قرب المخرج والهمس وأما اللام فتشبه النون لأنها وإن كانت من حافة اللسان فهي تستطيل إلى طبقة النون فلم تزد إلى في عبدل وذلك ولام المعرفة وأما الهاء فمشبهة* بالهمزة لأنها من مخرجها وهي ضعيفة لخفائها في فلم تزد إلى في آخر الكلمة من نحو يا زيداه في الندبة والسكت في {ماليه} و {اقتده} فحروف المد واللين جارية على نسق واحد في الزيادة فإذًا يتصور في الواو والياء من المسائل ما يتصور في الألف من المسائل وهي خمس إحداها أنه إنما أراد الياء والواو الباقيتين على لفظهما كما كان ذلك في الألف فإذا انقلبتا إلى غيرهما قضي على ذلك الغير بما كان يقضي به عليهما لو كانتا باقيتين على أصلهما ولا محذور في هذا [370]

والثانية أنهما إذا لم تصاحبا أكثر من أصلين فليستا بزائدتين فالياء نحو ظبي ويسر ودين والواو نحو موت ودلو وشبه ذلك وذلك لئلا تبقى الكلمة على حرفين وذلك لا يكون والثالثة أنه لما لم يعين لزيادتهما موضعا كما عين لغيرهما دل على أنهما زائدتان حيث وقعتا من الكلمة فأما الياء فتزاد أولا وثانية وثالثة ورابعة وخامسة فأما زيادتها أولا فنحو يرمع ويعملة ويسروع ويعضيد وفي الفعل يقوم ويقعد وينطلق وأما زيادتها ثانية فنحو خيفق وصيرف وغيداق وخيتام وقيصوم وعيثوم وعيطموس وعيضموز وقيتال وضيراب وحيفس والفعل نحو بيطر وبيقر [371]

وأما زيادتها ثالثة فنحو عثير وحذيم طريم وسرياح وجريال وكديون وهليون وسعيد وقضيب وللتحقير نحو كليب ورجيل ودريهم وكذلك وهبيخ وعليب قال ابن جني «ولا نظير له» وفي الفعل نحو طشيأ وهيأ وهما مما استدركه الزبيدي على سيبويه في الأبنية وأما زيادتها رابعة فنحو دهليز وقنديل ومنديل وشمليل وزميل وسريط وفي الفعل نحو سلقيت وجعبيت وأما زيادتها خامسة فنحو عنتريس وشفليق وعرطليل وفي الفعل نحو احنبطيت** واحرنبيت واسرنديت وأما الواو فتزاد ثانية وثالثة ورابعة وخامسة فأما زيادتها ثانية فنحو كوثر وجوهر وتوراب وطومار ودواسر وحوقل وصومع وأما زيادتها ثالثة فنحو جدول وقسور وحروع* وقرواش ودرواس وعجوز وعمود وجهور ورهوك [372]

وأما زيادتها رابعة فنحو كنهور وبلهور وجرموق وزرنوق وعطود واخروط واعلوط وأما* زيادتها خامسة فنحو قندأو وسندأو وعنزهو وعضرفوط ومنجنون وحيزبون وما أشبه ذلك ولم تزد أولا كما لم تزد الألف أولا بخلاف الياء وذلك أنها لو زيدت أولا لم تخل من أن تكون مضمومة أو مفتوحة أو مكسورة فلو زيدت مضمومة لاطرد فيها الهمز نحو أقتت وأعد في وقتت ووعد أو مكسورة لكان القلب أيضا جائزا وإن كان قليلا كإشاح وإسادة في وشاح ووسادة أو مفتوحة فإما في اسم لكانت تنضم في التصغير فيطرد الهمز كأجيه في وجيه وإما في فعل لكانت تنضم في بناء المفعول فيطرد الهمز أيضا نحو أعد في وعد فلما كانت زيادتهم إياها أولا تدعو إلى همزها أو زوال لفظها والإشكال هل في همزة أصلية أو همزة مبدلة من واو رفض ذلك فيها فلم تزد أولا فإن قيل فكان يجري** مجرى وعد ووزن [373]

قيل واو وعد ووزن أصل فاحتمل ذلك فيها وليس الزائد كالأصل هذا تعليل ابن جني وأصله للفارسي ولا شك أن هذه العلة لا تجري** في الياء فلذلك زيدت أولا وإطلاق الناظم الزيادة في الحرفين مما يقتضي* ما اقتضاه في الألف من عدم الاختصاص بموضع من الكلمة دون موضع وذلك في الواو غير صحيح كما تقدم فكان من الأمر المتأكد عليه أن يستثني الأول للواو إذ كان إطلاقه موهما صحة الزيادة أ, لا إذا توفرت الأصول وليس كذلك بخلاف الياء فإن زيادتها أولا جائزة فإن قيل فكذلك في الألف أيضا وهو قد أطلق القول فيها فكان معترضا فالجواب أن زيادة الألف أولا ممتنع في نفسه فلم يحتج إلى التنبيه عليه بخلاف الواو فالسؤال وارد والمسألة الرابعة أن الياء والواو لا بد في دعوى زيادتهما من تحقق أكثر من أصلين كالأمثلة المتقدمة فإن الكلمة على ثلاثة أقسام أحدهما أن يتحقق فيها توفر الأصول دون الياء والواو فلا شك في دعوى الزيادة كما قال والثاني أن يتحقق عدم توفرها دون الياء والواو فلا شك أيضا [374]

في الأصالة فمثال هذا في الياء قولهم سيال وبيان ويسار وما أشبه ذلك من بيوض وبيوت ونحوه لا بد من أصالة الياء في هذه الأشياء لتحقق زيادة الألف والواو في هذا ومثاله في الواو قولهم واعد ووازن وواعد ووازن فالألف مقطوع بزيادتها فالواو لا بد من القطع بأصالتها وكذلك استوصل واستوعد واستوقد ومن ذلك كثير والثالث أن يحتمل الأمران فلا يقطع بالزيادة حتى يقطع بأصالة ما هو أكثر من حرفين ومثال ذلك في الياء قولهم مريم ومدين فالياء ههنا تتنازعها الأصالة والزيادة فالذي يدل فيها على الأصالة تقدم الميم وكونها في موضع زيادتها إذ الميم كالهمزة كما سيأتي إن شاء الله وأيضا إذا ادعي زيادتها كانت الميم أصلية فيكون وزن الكلمة فعيل وذلك غير موجود إلا ضهيد وقد زعم السيرافي أنه موضوع والذي يدل فيها على الزيادة أنها لو كانت أصلية لكانت الميم زائدة لكنها ليست كذلك إذ لو كانت زائدة لوجب اعتلال الياء بالقلب ألفا كمنال ومقام لكنها صحت فدل أن مريم نظير طريم وعثير والياء فيه للإلحاق بجعفر وأيضا فإن له نظيرا في الكلام وهو ضهيد فإن نفاه السيرافي فقد أثبته غيره فله [375]

نظير ومثال ذلك في الواو قولهم غوغاء وضوضاء هذه الواو تحتمل أن تكون أصلية وتحتمل أن تكون زائدة فالذي يدل على الأصالة أنا إذا ادعينا زيادتها فيكون وزنها فوعالا وهو قليل كتوراب مع الخروج عن باب القمقام والصلصال إذا ادعينا أصالة الواو على أن تكون مضاعفة وأيضا تكون الكلمة من باب ددن وهو نادر والذي يدل على زيادتها أنها لو كانت أصلية لكان وزن الكلمة إم فعلاء وإما فعلال فأما فعلاء فلا يجوز لأن الهمزة كانت تكون للإلحاق وليس له ما يلحق به لأن المضاعف لا يلحق به لاعتزامهم كون هذه النبية مختصة بالمضاعف وفعلال - غير مضاعف - لا يوجد منه إلا الخزعال والقسطال وكلاهما فيه مقال وأما فعلال فلا ينبغي أن يحمل عليه لأنهم قالوا غوغاء وضوضاء فمنعوا الصرف ولا يمكن أن تكون الهمزة إلا للتأنيث فهو إذًا إذا لم يصرف ثلاثي والأصل اتحاد المواد ما أمكن كما ثبت في الأصول فالأصل أن يدعى أنهما على سواء وأن الهمزة ليست بأصلية بل زائدة كما كانت زائدة في نظيره فإذا ثبت هذا التعارض في أمثال هذه المسائل بقيت الواو والياء فيها على احتمال الأصالة والزيادة فلا يصح الحكم عليها بالزيادة البتة ما لم تتحقق أصالة ما سواهما وقد تقدم هذا المعنى في الألف ولا فرق بينها وبين الواو والياء في هذا ولا يقال إن ما أوردته من المسائل ليس من باب المحتمل لأن سيبويه وغيره [376]

قد حكموا عليها وردوها إلى أن الياء والواو فيها أصول وأجابوا عن احتمال غيرها بما هو منصوص في دواوين العربية المبسوطة وبنى على ذلك المختصرون قبولا لما أصلوه وتعويلا على ما ارتكبوه من ذلك فما كان عندهم مخلصا إلى إحدى الجهتين على غير احتمال لا ينبغي أن يورد مورد الاحتمال بل هذه المسائل من قبيل ما دل الدليل فيه على أن الأصول لم تتوفر تحقيقا وإذا** ذاك نقول قد حكم مفهوم كلام الناظم هنا على أصالة الياء والواو فمن أين تورد مورد الاحتمال لأنا نقول إنما النظر في هذه المسائل من جهة أنفسها لا من جهة ترجيح مرجح وارتضاء مرتض والذي لها من النظر من جهة أنفسها وما يتعلق بها من أدلة الأصالة والزيادة أن لها أدلة دلت على أصالتهما وأدلة دلت على زيادتهما وإذا قام الدليل من الجهتين وكانا معا ظنيين كما في مسألتنا فلا شك أن التعارض حاصل فيبقى الترجيح بين الأدلة فربما ذهب ذاهب إلى ترجيح إحدى الجهتين لقوة الدليل عنده أو لغير ذلك من أوجه الترجيح كما ذهب الناس في مريم ومدين إلى أصالة الميم وأجابوا عن معارضة التصحيح فيهما بأنه قد يأتي في الأعلام كثيرا كغيره من مخالفة الأصول من تصحيح ما يعل وإعلال ما يصحح وفك المدغم وغير ذلك من الشذوذات فدعوى التصحيح في أمثال هذا ليس بمستنكر بخلاف دعوى زيادة الياء فإنه مخالف [377]

للقاعدة في زيادة الميم أولا وما استجل به من وجود فعيل بضهيد فغايته أنه محتمل إذ الناس فيه على فرقتين منهم من يثبته من كلام العرب ومنهم من يدعي فيه الوضع ولا دلالة في محتمل وهذا الترجيح الذي رجح الناس به في هذه المسألة وسواها لا يرفع أصل الاحتمال لقيام التعارض بعدُ وبقاء المسألة في معرض الاجتهاد ألا ترى أنه يجوز لمجتهد آخر أن يخالف الأول لترجيح ظهر له في دليل الجهة الأخرى أو ضعف في دليل هذه الجهة لا يوازي ضعف دليل الأخرى أو غيره من الأمور التي يرجح بها وقد وقع الخلاف في مسائل من هذا القبيل وأصل الخلاف الترجيح لأحد الدليلين على الآخر ولولا الخروج عن المقصود لأوردت في هذا الموضع مسائل من هذا القبيل توضح لك ما ذكرته وسيأتي منها أشياء في موضعها إن شاء الله فأما إذا كانت إحدى الجهتين عارية عن الدليل والأخرى ذات دليل صحيح أو كان دليلها مقطوعا به أو فيحكم المقطوع به والأخرى ذات دليل لا معتبر به لضعفه فههنا لا يقول أحد بأن المسألة في حيز الاحتمال كما تقد في مسألة سيال وبيان ** واعد وازن وما أشبه ذلك فإنه لا يشك أحد في أصالة الواو والياء هناك وإن لم يقم عليه دليلا فضلا عن أن يستدل بالاشتقاق وهذا واضح وبالله التوفيق [378]

والمسألة الخامسة أنه أطلق القول في الواو والياء إطلاقا ولم يخص للزيادة منها ياء من ياء ولا واوا من واو فدل على أنهما يزادان في جميع أقسامهما إذا بنيت الكلمة عليهما فأما الياء فعلى خمسة أقسام أحدها أن تزاد للدلالة على معنى كياء التأنيث في تفعلين على القول بأنها حرف وكياء التصغير وياء الجمع السالم نحو الزيدين والضاربين والثاني أن تزاد للإلحاق نحو بيطر وجيئل وصيرف وجذيم فهذا من إلحاق الثلاثي بالرباعي ومثال إلحاق الرباعي بالخماسي قولهم عيطموس وعيضموز وخيسفوج فهذا ملحق بعضرفوط وفي الفعل بيطر وبيقر فهو ملحق بدحرج وكذلك طشيأ ورهيأ والثالث أن يأتي لتكثير الكلمة نحو عريقصان وعبيثران إذ ليس في الكلام نحو فعلُّلان ونحو فرنيق إذ ليس في الكلام مثل جردحل وكذلك ما أشبهه والرابع أن تكون للمد نحو قنديل ومنديل وسرير وبعير ومنه في الندبة واغلامكيه* ووامن ضربتيه* وما أشبه ذلك [379]

والخامس أن تلحق عوضا من محذوف زائد أو أصلي في التصغير أو التكسير نحو سفاريج وسفيريج ومغتلم ومغيليم ومحمر ومحيمير وكذلك مغاليم ومحامير لو كسر للجمع وفي خفيدد وعفنجج خفاديد وعفاجيج وكذلك في نحو جحاجحة وجحاجيح وما أشبه ذلك وأما الواو فزيادتها تنقسم هذه الأقسام إلا الخامس: فزيادتها لمعنى كواو الجمع المذكر نحو ضاربون وزيدون وعمرون ونحو ذلك وزيادتها للإلحاق نحو جدول وجوهر وحوقل وسردل وزيادتها للتكثير نحو عبوثران وقمحدوة إذ ليس في الأبنية فعلّلان ولا فعلّلة فتلحق هذان بهما وكذلك ما أشبههما وزيادتها للمد نحو بهلول وقبول وكلّوب وقربوس وزرجون ومنجنون ونحو ذلك هذه جملة ما أحال عليه في هذين الحرفين ولما كانت الألف لا تكون أصلا بنفسها في متصرفات الكلم لم يحتج إلى زيادة على ما ذكر فيها بخلاف هذين الحرفين فإنهما يكونان أصلين وزائدين ولهما في الكلمة الرباعية حكم لا يكون لهما مع غيرها فأخذ يستثنى ذلك فقال وَالْيَا كَذَا، وَالْوَاوُ إِنْ لَمْ يَقَعَا ... كَمَا هُمَا فِي يُؤْيُؤٍ وَوَعْوَعَا [380]

يعني أن الحكم التقدم في الواو والياء إنما هو إذا لم يقعا مضاعفين في بنات الأربعة فإنهما إذا وقعا كذلك لا يكونان زائدين أصلا وإن توفرت الأصول بخلاف الثلاثي فإن الحكم فيه كذلك وكذلك الرباعي إذا لم يكن مضاعفا فالثلاثي نحو بيطر وبيقر عثير* وطريم وحوقل وسرول وجدول ونحو ذلك والرباعي غير المضاعف نحو غرنيق وعريقصان والخماسي نحو قذعميل وعلطميس ودردبيس وعضرفوط وقرطبوس وأما الرباعي المضاعف فلا تزاد فيه واو ولا ياء وإنما تكون أبدا أصلا أو مثل ذلك بمثال من الاسم ومثال من الفعل دلالة على أن ذلك يكون في الجنسين لا يختص بواحد منهما فالذي للاسم يؤيؤ وهو طائر من الجوارح يشبه الباشَق وجمعه يآيئ وقد جاء فيه اليآئي* مقلوبا قال الشاعر أنشده الجوهري حفظ المهيمن يؤيؤي ورعاه ... ما في اليآئي يؤيؤ شرواه والذي للفعل وعوع وهو من قولهم وعوع الذئب وعوعة أي صوت والوعوعة صوته وأيضا فإنه أتى بالمثالين الياء والواو فحصل من المجموع أن الواو والياء تكونان في الاسم بالتضعيف وتكونان في الفعل كذلك فمن مثل الاسم في الياء يؤيؤ واليهيهة ومن الأعلام [381]

يليل وهو نادر مع تقدم الياء وأما مع تأخرها فنحو الحيحاء والعيعاء والحيحاء والعيعاء والهيهاء وهو قليل أيضا وفي الواو قولهم الوطواط والوسواس والوعواع والوقواق والوكواك والوصوصة والوسوسة وهو كثير ومع تأخرها ضوضاء وغوغاء والزوزاة والقوقاة والضوضاة وما أشبه ذلك ومن مثل الفعل في الياء يهيهت بالإبل** إذا قلت لها ياهٍ ياه وهو نادر مع تقدم الياء ومع تأخرها نحو حاحيت وعاعيت وهاهيت وزعم الأخفش أنه لم يأت من هذا النحو إلا هذه الأفعال الثلاثة وفي الواو قولهم ضوضيت وقوقيت وزوزيت ووسوست ووعوع وولول ووحوح ونحو ذلك وقد ذكروا في علة الحكم بأصالة الواو والياء في مثل هذا وجهين: أحدهما أن التضعيف في بنات الأربعة في الحرفين كالتضعيف في بنات الثلاثة في أحدهما لأن الحرفين المتباينين وهما الياء والهمزة في يؤيؤ مثلا إذا ضوعف أحدهما صار مع الآخر بمنزلة رد وشد فصار المجموع مع المجموع بهذه المثابة فكما لا يقال في رد وشد إن أحد المضاعفين فيه زائد فكذلك هذا الرباعي لا يقال فيه إلا بأصالة الجميع إذ لا فرق بينهما فإذا الياءان في يؤيؤ أصلان وكذلك الواو في وعوع ويجري الحكم في [382]

الباب كله على هذا السبيل وإلى هذا النحو أشار سيبويه في التعليل إذ قال لما تكلم على ضوضيت وصيصية ونحوهما «فإذا ضوعف الحرفان في الأربعة فهو كالحرفين في الثلاثة» فإن قلت إن هذا الكلام إنما هو في زيادة التضعيف ومسألتنا خارجة عنه لأن دعوى الزيادة هنا عند ادعاها** إنما هي من «سألتمونيها» وبينهما فرق كبير في الأحكام فكيف يستدل بعدم زيادة التضعيف على عدم زيادة سألتمونيها؟ هذا مشكل فالجواب أن الحكم هنا في نوعي الزيادة متفق لأن من شرط دعوى الزيادة توفر أقل الأصول وهذا لا يختص بزيادة «سألتمونيها» دون زيادة التضعيف ولا بالعكس بل الحكم فيهما واحد لتعلقه بأمر واحد وإذا كان كذلك صح أن يستدل بهذه القاعدة الكلية على أمر كلي يدخل تحته هذا الجزئي الذي في أيدينا لأنه إذا كانت دعوى زيادة أحد المضاعفين لا يمكن هنا فكذلك زيادة ما كان من «سألتمونيها» وعلى هذا الترتيب يلزم ألا يزاد أحد المضاعفين أيضا بالتضعيف إذ يؤيؤ ووعوع المضاعفان فيهما من حروف «سألتمونيها» وهذا بالقصد الثاني وإلا فقد تكلم الناظم على منع زيادة أحد المضاعفين في مثل هذا [383]

والوجه الثاني أن هنا ما كان نحو يهية ووحوح وهذا إما أن يكون وزنهما وَفْعَلا ويَفْعَل والأول معدوم في الأبنية والثاني قليل لا يحمل مثل هذا عليه وأيضا تكون الكلمة من باب سلس وهو قليل أو يكون وزنهما فَعْوَلا وفَعْيلا وكلاهما يلزم منه كون الكلمة من باب ببر وددن وهو نادر فلم يبق إلا أن يكون فَعْلَلا فتكون جميع الحروف أصولا وهو المطلوب وما كان نحو ضوضيت وحاحيت إما أن يكون وزنهما فعليت كسلقيت وهذا يلزم منه كون الكلمة من باب سلس وهو قليل وهذا كثير أعني في الأسماء والأفعال على الجملة ولا يحمل الكثير على الباب القليل إلا بدليل وأيضا قد قالوا في بعض ذلك ضوضاء وغوغاء بمنزلة زَلزال وقلقال فينبغي حمل باقي الباب عليه لأن فيه حمل المتماثلات على باب واحد وأيضا فيه الدخول في أوسع البابين أو يكون وزنهما فوعلت كحوقلت وهذا أبعد في الجواز إذ يلزم جعل الفاء والعين من باب واحد كددن وببر وهو نادر وإذا امتنع باب سلس أن يحمل هذا عليه فباب ددن أولى بالامتناع [384]

وفي قوله «وَالْيَا كَذَا وَالْوَاوُ» إلى آخره إخبار بأن الياء والواو لا تكونان أصلا في الأربعة كما تقدم وهذا صحيح لكنه قد يأتي أصلا فيها قليلا وإن لم يكن الاسم مضاعفا وذلك قولهم ورنتل فالنون زائدة لوجود شرط الزيادة وهو وقوعها ساكنة مفكوكة بين حرفين قبلها وحرفين بعدها والواو أصلية لأنها لو كانت زائدة لكانت زيادتها أول الكلمة وذلك غير موجود فلا يصح دعوى زيادتها أول الكلمة فإن قيل وكذلك أيضا لا تكون أصلا في بنات الأربعة بغير تضعيف فقد تعارض فيها أصلان فلم حكمت بأصالة الواو دون زيادتها؟ فالجواب أن جعلها أصلا أقوى لأنا قد رأيناها أصلا في بنات الأربعة على الجملة وذلك مع التضعيف فنحن نجعلها أيضا كذلك مع فقد التضعيف للضرورة وهذا أسرع من أن تزيدها أولا ولم نرهم زادوها أولا بوجه من الوجوه وقد جعلوها أصلا في الأربعة في بعض المواضع وهو التضعيف فجعلها أصلا أولى فتأمله * * * وَهَكَذَا هَمْزٌ وَمِيمٌ سَبَقَا ... ثَلَاثَةً تَأْصِيلُهَا تَحَقَّقَا يعني أن الهمزة والميم يحكم بزيادتهما كما حكم بزيادة الألف والياء والواو لكن لا مطلقا بل بثلاثة شروط [385]

أحدها كون الهمزة والميم سابقين للأحرف الثلاثة والثاني أن يكون بعدهما ثلاثة أحرف أصول والثالث أن يكون أصالتها محققة لا بالاحتمال فالأول يدل عليه قوله «سَبَقَا ... ثَلَاثَةً» والألف في «سَبَقَا» ضمير التثنية عائد على الهمزة والميم والثاني بين من قوله «سَبَقَا ... ثَلَاثَةً تَأْصِيلُهَا تَحَقَّقَا» والثلاثة هي ثلاثة حروف أصول والثالث مأخوذ من قوله «تَأْصِيلُهَا تَحَقَّقَا» أي لا بد من كون الأصالة في تلك الحروف الثلاثة قد تحققت وصحت وثبتت ولا بد من تفصيل أحكام هذه الشروط بالنسبة إلى كل واحد من الحرفين نبدأ بما بدأ به فنقول: أما الهمزة فلا بد فيها من تلك الشروط وحينئذ يحكم بزيادتها فالشرط الأول سبقيّتها فإن لم تكن سابقة فلا يحكم لها بزيادة على مفهوم كلامه فنحو بلأنٍ وبرائل والشأسم واطمأن وازبأر وتكرفأ وما أشبه هذا مما الهمزة فيه غير سابقة لا يحكم عليها بالزيادة أصلا إذ لم تكثر زيادتها هنالك كثرة توجب القضاء بزيادتها مع الجهل بدليل ذلك فيها أو دليل خلافه وذلك أن الهمزة إذا وقعت أولا قد كثرت زيادتها جدا فيما عرف اشتقاقه وتصريفه في الأسماء والأفعال فأفعل في الأفعال والصفات كثير [386]

فذكر سيبويه وغيره أن الهمزة متى ما وقعت أولا وأمكن جعلها زائدة قضي بذلك حتى يدل دليل على الأصالة كأفكل مثلا يقضى على همزته بالزيادة وإن لم نعرف له اشتقاقا ولا تصريفا يدل على زيادتها قال لأن ما عرف اشتقاقه فقضي فيه بزيادة الهمزة لا يحصى كثرة فتحمل همزة أفكل على الأكثر فإذا لم تكن سابقة فالأكثر أصالتها فيما عرف اشتقاقه أو تصريفه فليُقضَ بالحمل على الأكثر فيما لم يعرف له اشتقاق ولا تصريف والشرط الثاني أن يكون بعد الهمزة ثلاثة أحرف أصول فلا بد منه فإنه إن كان بعدها ما هو أكثر من ثلاثة أصول فلا بد من القضاء بأصالة الهمزة وذلك كإصطبل فهو كجردحل لأن القاعدة أن بنات الأربعة لا يزاد فيها من أولها إلا في الأفعال والأسماء الجارية عليها نحو مدحرج وكإردخل واصطفلينة وإصفعندا وأُصطكمة وأَطربون الروم وكذلك إبريسم إبراهيم* وإسماعيل همزاتها كلها أصول لو كانت عربيات ولذلك رد المبرد على سيبويه في تصغيرهما بإسقاط الهمزة بريهيم وسميعيل وقال القياس أُبيرية وأُسيميع وما قاله من القياس صحيح غير أن قول سيبويه أصح في التصغير وقد تقدم بيان ذلك في بابه [387]

والشرط الثالث أن تكون أصالة الأحرف الثلاثة محققة فلو كانت غير محققة لم يقض بزيادة الهمزة لأنها لو قضي بزيادتها لأمكن بقاء الكلمة على أقل من ثلاثة أحرف وبيان ذلك أن ثلاثة الأحرف التي بعدها إما أن تكون مقطوعا بأصالتها وسواء أكان معها زوائد أم لا كأحمر وأصفر وأبيض وأحمد وإجفيل وإخريط وأترجة وأزمولة وإدرون وإصليت وإهجيرَى وإجريا وأكرم وأعلم وأطاع وأسطاع وما أشبه ذلك فلا شك في دعوى زيادة الهمزة وإما أن تكون مقطوعا بزيادة بعضها كأمان من الأمن وإسار من الأسر وإناء واحدِ الآنية فلا إشكال في أصالتها وذلك مأخوذ من مفهوم كلامه لأن تأصيل ثلاثة الأحرف هنا ليس بمتحقق وإما أن تكون محتملة فلا يقطع بأصالة جميعها ولا بخلاف ذلك فمفهوم كلام الناظم في هذا أيضا أنه لا يحكم بزيادة الهمزة ما لم تبيّن** فيها أمر فيحكم على الهمزة بمقتضاه ولهذا القسم أمثلة منها أيدَع يقال هل هو أفعل كأفكل فتكون الهمزة زائدة لأصالة الياء أو فيعل كجيئل فتكون الهمزة أصلية والياء زائدة كلا الوجهين محتمل لأن كلا واحد منهما يجذبه إليه باب متسع وكالأوتكى ألفه للتأنيث بلا بد فيبقى النظر [388]

بين الهمزة المصدرة والواو بعدها هل يحكم بزيادة الهمزة فتكون أفعلى من باب الأجفلى وعلى هذا حمله القالي أو يحكم بزيادة الواو فيكون فوعلى من باب الخوزلى وعلى هذا حمله غيره وكذلك أفعى هل يكون وزنها أفعل فتكون الهمزة زائدة والألف أصلية أو بالعكس فيكون وزنه فضعلى** وكذلك إبّانُ يحتمل أن يكون إفعال فتكون الهمزة زائدة أو فِعّال فتكون أصلية وإحدى الباءين زائدة ومن هذا كثير جدا فمثل هذا عند الناظم لا يحكم على الهمزة فيه بزيادة ما لم تتحقق بعدها أصول ثلاثة فإن قلت كيف تتحقق في هذه الأشياء الزيادة من الأصالة؟ فالجواب أن تحققها يكن فيما لم تتعارض فيه الأدلة بالدليل الاشتقاقي أو التصريفي وقد تقدم في القسم المتحقق كأمان وإسار وإزار وفيما تعارضت فيه الأدلة بالترجيح لأحد الوجهين على الآخر وكذلك في جميع ما تقدم من المحتملات في باب الألف والواو والياء وهذا بالنسبة إلى المجتهد لا بالنسبة إلى المسألة في نفسها فإنها أبدا مع التعارض محتملة وسيأتي ذلك بعدُ بحول الله تعالى وأما الميم فكالهمزة في الحكم والشروط: فأما الشرط الأول وهو السبقية فلازم فلو كانت الميم غير سابقة لم يحكم بزيادتها هكذا مطلقا على ما أفهم كلامه كالبسملة والثرملة [389]

والبرهمة والحرمل والبرطام والخرمل والشمردل والهمرجل والسرمق والحملاق وما أشبه ذلك فالميم في هذه الأشياء أصلية لا زائدة لكونها غير أول وإنما كان ذلك لما تقدم في الهمزة لأن الميم كثرت زيادتها أولا فيما عرف اشتقاقه كأسماء المصادر والأزمنة والأمكنة وأسماء الآلات وأسماء المفعولين وما أشبه ذلك فكذلك يحكم عليها بالزيادة فيما لم يعرف له اشتقاق ولا تصريف حملا على الأكثر وأما إذا كانت غير أول فتقلّ زيادتها جدا فيما عرف له اشتقاق أو تصريف فإذًا لا يحكم بزيادتها إلا بثبت إذا لم يدل عليها دليل وأما الشرط الثاني وهو أن يقع بعد الميم ثلاثة حروف أصول فملتزم أيضا فإن لم يكن بعدها إلا أكثر من ثلاثة فلا بد من الحكم بأصالتها نحو مرزجوش ومردقوش والعلة في هذا هي العلة في الهمزة من كون الزيادة لا تلحق أول الرباعي إلا في الأفعال والأسماء الجارية عليها نحو يدحرج ومدحرج وما أشبه ذلك وأما الشرط الثالث وهو أن تكون تلك الأحرف الثلاثة قد تحققت أصالتها وصحت فإنها إن لم تتحقق بل تحققت زيادة بعضها فلا بد من الحكم بأصالة الميم للضرورة لئلا تبقى الكلمة على حرفين وذلك نحو المنون [390]

ومائس وماحل** ومشقاء ومحاق ومذيق وما أشبه هذا وكذلك إن لم تتحقق زيادة ولا أصالة في ثلاثة الأحرف فإنه لا يحكم على الميم بزيادة ما لم يتبين الأمر فيها ولذلك أمثلة منها مجن يحتمل أن تكون النونان معا أصلين فتكون الميم زائدة ووزن الكلمة مفعل ويدل على ذلك الاشتقاق من الجُنة وجنه* الشيء وأجنه أي ستره لأن المجن ساتر عن الأذاة في الحرب وإلى هذا مال الزبيدي ويحتمل أن تكون إحدى النونين زائدة فتؤصل الميم على هذا ويكون وزن الكلمة فعلا كخدب ويدل على هذا الاشتقاق من مجن أي صلب وإلى أصالة الميم ذهب سيبويه ومنها مأجج ومهدد يحتمل أن يكون أحد المضاعفين زائدا فتكون الميم أصلية ووزن الكلمة فعلل وظهر التضعيف لأجل الإلحاق بجعفر وهذا قول سيبويه ويحتمل* أن يكون المضاعفان معا أصلين فتكون الميم [391]

زائدة ويكون وزن الكلمة مفعلا ويترجح هذا بأن زيادة الميم أولا أولى من زيادة ما بعدها من حرف لين أو تضعيف وظهور التضعيف من باب محبب أجاز هذا السيرافي وإن كان قد قوى قول سيبويه هذا تفسير كلامه إلا أن عليه اعتراضا من خمسة أوجه أحدها أنه ذكر شرط السبقية للهمزة والميم لا مطلقا بل بقيد أن تسبق ثلاثة أصول والتقييد بهذا لا يقتضي السبقية بإطلاق أعني أ، تكون الميم أو الهمزة سابقة لجميع الحروف وإنما يقتضي سبقيتها للثلاثة خاصة فأعطى هذا التقييد أن نحو شمردل وهمرجل الميم فيه زائدة لوجود شرطه من سبقيتها لثلاثة أصول محققة وكذلك في الهمزة إن وجدت ثانية في اسم خماسي وهذا غير صحيح بل المراد عند النحويين أن تكون الميم سابقة لجميع الحروف على الإطلاق بحيث لا يتقدمها حرف البتة فكان كلامه على الظاهر معترضا والثاني أنه يدخل عليه في هذا العقد ما كان بعد الهمزة أو الميم فيه أربعة أحرف أصول كإصطبل أصطكمة ومرزجوش لأنه قال «سَبَقَا ... ثَلَاثَةً» وهذا قد يسبق أربعة وكل ما سبق أربعة فقد سبق ثلاثة من باب أولى فاقتضى هذا الإطلاق زيادة الميم والهمزة في مثل هذه الأشياء وهو على خلاف ما تقدم من التفسير وعلى خلاف ما قاله النحويون [392]

والثالث أن قوله «وَهَكَذَا هَمْزٌ وَمِيمٌ سَبَقَا» يعني مثل ما تقدم في أنه زائد بلا بد إذ تقدم في الألف قوله فَأَلِفٌ أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ ... صَاحَبَ، زَائِدٌ بِغَيْرِ مَيْنِ فقطع بالزيادة ثم عطف على ذلك الياء والواو وأن حكمهما كذلك ثم أتى بهذا أيضا محالا به على ما تقدم فاقتضى أن الزيادة في مثل هذا مقطوع بها وغيره لا يجعل الزيادة مقطوعا بها وإنما يجعلها من باب الحمل على الأكثر مع إمكان أن تكون أصلية وكلام سيبويه على هذا يدل لا على القطع بالزيادة قال في أبواب ما ينصرف «واعلم أن هذه الياء والألف - يعني في نحو أعْصُرَ ويَعْصُرَ - لا تقع واحدة منهما في أول اسم على أربعة أحرف إلا وهما زائدتان؛ ألا ترى أنه ليس من اسم مثل أفكل يصرف وإن لم يكن له فعل يتصرف» قال «ومما يدلك على أنها زائدة كثرة دخولها في بنات الثلاثة» فهذا استدلال منه بما عُرف أنه أفعل بالاشتقاق أو بمنع الصرف على ما لم يعرف ثم قال «فهذه الياء والألف تكثر زيادتهما في بنات الثلاثة فهما زائدتان حتى يجيء أمر بين نحو أولقٍ فإن أولقا إنما الزيادة فيه الواو ويدلك على ذلك قولهم قد أُلِقَ الرجل فهو مألوق» قال «ولو لم يتبين أمر أولق لكان عندنا أفعل لأن أفعل من هذا الضرب أكثر من فوعل» فتأمل قوله «فهما زائدتان حتى يجيء أمر بين» وقوله «ولو لم يتبين» إلى آخره فإنه في غاية الظهور في الحمل على الأكثر لا على [393]

القطع بل على الإسناد إلى أوسع البابين وإن كان الاحتمال باقيا كما يرجح أحد المحتملين بوجه من وجوه الترجيح قال ابن الضائع بعدما قرر شيئا من هذا المعنى «ومما يدل على أن هذه الهمزة كذا أنّ الميم مثلها في الزيادة أولا من غير فرق وقد قضى سيبويه بأصالة الميم في المرجل والمراجل بقولهم ممرجل فقضى بأصالتها وبعدها ثلاثة أحرف أصول» ** واعترض على ابن عصفور في جعله هذا النحو مما يقطع فيه بزيادة الهمزة لأنه قال في الممتع «وإن كان بعدها ثلاثة أحرف مقطوع بأصالتها قطع بأنها زائدة» قال «لأن كل ما عرف اشتقاقه من ذلك فالهمزة فيه زائدة وما» ** وما اعترض به ظاهر؛ إذ القطع في أمثال هذه الأشياء متعذر لاحتمال أن تكون الهمزة أصلا بدليل من اشتقاق أو تصريف لم نطلع عليه فكيف يدعى القطع هنا؟ ! هذا خطأ ممن ادعاه والناظم ممن يدعي ذلك فهو مخطئ والرابع أن قوله «تَأْصِيلُهَا تَحَقَّقَا» يقتضي أن الحكم بالزيادة لا يكون إلا فيما تحقق فيه أصالة الحروف وأما ما لم تتحقق فيه فلا يحكم بزيادة الهمزة ولا الميم وهو ما يعطيه المفهوم وهذا المعنى غير صحيح أيضا لأنهم قد قالوا إن الهمزة والميم إذا كان بعدها ثلاثة أحرف وبعضها محتمل للزيادة فهما محكوم عليهما بالزيادة وعلى ما عداهما بالأصالة كأفعى وإشفى وموسى وغيرها قال ابن الضائع: لأنهم استقرءوا ما [394]

كان من هذا النوع فوجدوا الهمزة مما عرف اشتقاقه زائدة إلا في ألفاظ شذت وكذلك في الميم فلذلك قيل بزيادتهما قال سيبويه في أفعى وموسى «الألف فيهما بمنزلة مرمى» قال «فإذا لم يكن ثبت فهي زائدة وإن لم تشتق من الحرف شيئا تذهب فيه الزيادة» وكذلك قال في التسهيل «وتترجح زيادة ما صدر من ياء أو همزة أو ميم على زيادة ما بعده من حرف لين أو تضعيف» وكلامه هنا يفهِم خلاف هذا المنطوق فكان غير صحيح والخامس أن الحكم إن كان يطرد له في الأسماء فلا يطرد له في الأفعال فإن الأفعال لا تزاد في أولها الميم قياسا ولم يكثر في الكلام كثرة توجب القول بالقياس بل لم يحكه الناس إلا نادرا قال ابن جني «والعم أن الميم من خواص زيادة الأسماء ولا تزاد في الأفعال إلا شاذا نحو تمسكن الرجل وتمدرع من المدرعة وتمندل من المنديل وتمنطق من المنطقة وتمسلم الرجل إذا كان يدعى زيدا أو غيره ثم صار يدعى مسلما وحكى ابن الأعرابي عن أبي زياد فلان يتمولى علينا فهذا كله تمفعل» وهذا يعد من زيادة الميم حشوا لا أولا ومن ذلك عده بعضهم وهو صحيح؛ إذ لم يسمع فيه مفعل مجردا من التاء قال ابن جني «وقالوا مرحبك الله ومسهلك وقالو مخزق الرجل وضعفها ابن كيسان وهذا كله مفعل» قال «ولا يقاس على هذا إلا أن يشذ الحرف فتضمه إليه» هذا ما حكى قالوا [395]

وكلام العرب تسكن وتدرع وتندل كذلك وتنطق لم يحك الجوهري غيره وذكر أن المخرقة مولدة وهي التي قيل منها مخرق ولذلك ضعفها ابن كيسان وإذا صحت لم يُبن عليها لشذوذها فكيف يطلق القول في زيادة هذا الميم أولا مع أنها لا تزاد في الأفعال إلا ببيان؟ أما الهمزة فإطلاقه فيها صحيح لكثرة أفعل في الكلام فقد ظهر أن كلامه في هذه المسألة على غير تحصيل والجواب عن ذلك أن يقال: أما الأول فإن قوة كلامه تعطي السبقية على جميع أصول الكلمة لا على ثلاثة منها فقط وإذا كان ذلك مفهوما من كلامه وجب الحمل عليه ولم يصح حمله على غيره وأما الثاني فإنما أراد نفس الثلاثة التي تخالف الأربعة ولم يرد أن يقول ثلاثة فأكثر وإنما قصد تعيين الثلاثة بخصوصها حتى كأنه قال سبق ثلاثة لا أقل ولا أكثر فيخرج عن هذا ما سبق أربعة فأكثر وهذا مفهوم اللفظ من حيث هو وأما الثالث فالقطع المذكور هنا إذا سلم إنما هو القطع بالحكم لا القطع بالزيادة فيهما فرق وبيانه أن القطع بالزيادة كما إذا قال في أفكل مثلا إنه أفعل على القطع مشكل لإمكان أن يكون له دليل على الأصالة وأن وزنه فعلل لكنا لم نطلع عليه فلا يتأتى ههنا القطع كما تقدم في [396]

السؤال وأما القطع بالحكم بالزيادة فلا إشكال فيه لأنا إذا قلنا همزة أفكل يمكن أن تكون في نفس الأمر زائدة أو أصلية لكن الأكثر في مثلها الزيادة فنحكم نحن عليها بالأكثر ونقطع بهذا الحكم على غير تردد حتى يتبين خلافه ولا شك أن الأمر عند النحويين كذلك إذ لم يحكموا في مثل هذا بالتردد وإنما حكموا بالزيادة ولا يلزم من القطع بالحكم بالزيادة القطع بالزيادة ونظير هذا قولهم في الفقه حين حدّوه هو العلم بالأحكام الشرعية إلى آخره مع أن الفقه من باب المظنون لا من باب المعلوم على ما قالوه ولكن أجابوا بهذا النحو وهو أن العلم راجع إلى نفس الحكم والظن راجع إلى نفس الاستنباط فكون هذه الصورة مثلا مساوية لأخرى منصوص عليها مظنون بلا شك وكونك حكمت على هذه بحكم هذه مقطوع به لأنه حكم الله تعالى في حق المكلف على الجملة وهكذا مسألتنا لمّا غلب على الظن أن همزة أفكل زائدة قطعنا بالحكم بزيادتها فالحكم هو المقطوع به ومناط الحكم مظنون فلا تدافع ولا إشكال على قول الناظم بخلاف كلام ابن عصفور إن لم يُتأول على أنه أراد** القطع بالحكم وهو الظاهر من قصده والله أعلم وأما الرابع فقد يلتزمه الناظم ويقول بموجبه وذلك أن ما كان نحو أفعى وموسى ونحوهما يتجاذبه أصلان وهما دعوى زيادة الهمزة ودعوى زيادة الألف لأن كل واحد منهما تكثر زيادته في موضعه فلما اجتمعا مع [397]

حرفين طلب كل واحد منهما الآخر بالأصالة لتثبت زيادته في نفسه فقد تعارض الأمران فيهما وإذا كان كذلك صارت المسألة كما لو تعارض فيها دليلان وقد تقدم أنه من قسم المحتمل بلا شك فهذا القسم أيضا من أقسام المحتمل ويدل على ذلك من كلامه في التسهيل قوله «وتترجح» لأن الترجيح لا يكون إلا عند التعارض فإن قلت فإذا كان كذلك فالناظم مطالب بتخليص المسألة إلى طرف وذلك بترجيح أحد المحتملين على الآخر وإلا كان مهمل الحكم فالجواب أنه قد التزم تخليصه في آخر هذا النمط بإشارة تعطي المقصود من ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى فإن قلت إن قسم المحتمل إذا خرج عن الحكم بالزيادة فإلى أي حكم ينتسب؟ وما المفهوم من** كلامه فيه؟ فالجواب أن المفهوم فيه عدم الحكم بالزيادة لأنه نقيض الحكم بها فإن قلت هل عدم الحكم بالزيادة حكم بعدمها أعني بعدم الزيادة وأن الحرف ليس بزائد أو لا؟ فالجواب أنه ليس بحكم بالزيادة وإلا كان قد حكم بالزيادة على المحتمل للأصالة فكما لا يحكم بالأصالة عليه كذلك لا يجوز الحكم بالزيادة لأن الحكم بأحدهما لا يكون إلا بعد تعين إحدى الجهتين ورفع الاحتمال أعني [398]

الاحتمال المساوي وإنما هو عدم حكم وعدم الحكم ليس بحكم بل هو سكوت عنه فلا يفهم من كلامه إلا أن المحتمِل لا يقضى عليه بزيادة وهكذا في جميع ما تقدم من المحتملات وأما الخامس فظاهر وروده عليه وأنه يلزمه أن يدعي في نحو مَرْطَلَه بالطين أي لطخه زيادة الميم وكذلك في مَرْجَلَ الذي يجري عليه المُمَرْجَل في قول العجاج أنشده سيبويه بشية كشية الممرجل وسيبويه وغيره قد جعلوا الميم أصلية وكذلك في المراجل الذي اشتق منه الممرجل وهو ثياب الوشي وأن يقول إن ميم امْذَقَرَّ زائدة وكذلك ما أشبه هذا والهمز أراد به الهمزة وكلاهما مستعمل على معنى واحد في العرف وإن كان الأصل أن يقال إن الهمز جنس الهمزة والتأصيل مصدر أصّلتُه تأصيلا وكان الأولى أن يقول تأصُّلُها إذ هو بمعنى الأصالة أي تحققت أصالتها وليس المعنى على أن تأصيل الغير لها تحقق بل المعنى تحققت هي في نفسها فقط [399]

فإن قلت لعله يريد معنى ظاهر اللفظ ويكون التأصيل عبارة عن إقامة الدليل على أصالتها فالجواب أن الناظم لا يريد هذا المعنى ههنا لأن التأصيل إنما يكون بالدليل وذلك إنما يكون في قسم المحتمل للأصالة والزيادة وما احتمل ذلك لم يتكلم فيه هنا والكلام فيه يأتي وإنما تكلم هنا على الحروف الغنية عن إقامة الدليل على الأصالة فالظاهر أن التأصيل هنا استعمله بمعنى التأصل مجازا فإن قلت لا منجى لك مما فررت منه لأن التأصل مطاوع التأصيل فهو ملازم له تقول كلفته فتكلف وعلمته فتعلم وحملته الأمر فتحمله فكذلك يكون التأصل مطاوعا لقولك أصلته فتأصل فالجواب أن تفعّل كما يكون لمطاوعة فعّل كذلك يكون لغير ذلك فقد يوافق المجرد كأصُل وتأصّل وعجِب وتعجّب ولبث وتلبّث ونحوها وأيضا فعّل بعينه قد يكون بمعنى تفعّل كولّى وتولّى وبين الشيء وتبين وفكر في الأمر وتفكر فيه ويمّمتُ الموضع وتيممته وإذا ثبت هذان الاستعمالان أمكن جعل التأصيل عليهما أما الأول فيكون التأصيل بمعنى التأصل الموافق لأصُل وهو موجود في الكلام وأما الثاني فيكونان معا بمعنى واحد [400]

كأنه قاس على ما جاء منه إن لم يكن سُمع أصّل وتأصّل بمعنى واحد والأمر في إطلاق هذا اللفظ قريب * * * كَذَاكَ هَمْزٌ آخِرٌ بَعْدَ أَلِفْ ... أَكْثَرَ مِنْ حَرْفَيْنِ لَفْظُهَا رَدِفْ وجدتُ في نسختي - وهي فيما أظن من أصح ما يوجد من هذا النظم -: «كذاك همزُ آخرٍ» بإضافة الهمز إلى آخر ولو قال كذاك همزٌ آخرٌ فحمل الآخر صفة عليه لصح المعنى أيضا وكذا وجدته في بعض النسخ فإن كان على إجرائه صفة فلا إشكال وإن كان على الإضافة فهمز الآخر الذي ذكر يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد المصدر نفسه كأنه أطلق على الهمزة على معنى مفعول كما يطلق الخلق ويراد به المخلوق نحو قول الله تعالى {هذا خلق الله} أي مخلوقه فكذلك يكون التقدير هنا: كذاك مهموز آخر ويريد الحرف المهموز والثاني - وهو الأظهر - أن يريد نفس الهمزة كأنه قال كذاك همزة الآخر أي الهمزة المنسوبة إلى الآخر إلا أن الوجهين معا فيهما نظر لأن الآخر هو الهمزة بعينها على مقصده فيكون التقدير كذاك حرف الآخر أو همزة الآخر وهو لا يصح لأن المعنى كذاك آخر الآخر أو همزة الهمزة [401]

ويجاب عنه بأن الآخر أعم من الهمزة فآخر الكلمة من حيث معقوليته يصح أن تقع فيه الهمزة وغيرها إذ لم يرد كلمة مخصوصة وإنما أراد الكلمة الكلية الواقعة على كثيرين فالآخر أيضا كلي كذلك وإذا ثبت هذا صح أن تضاف الهمزة إليه فيقال همزة الآخر ويكون على هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة نحو قوله تعالى {ولدار الآخرة} وقوله «بعد ألف» في موضع الصفة لهمز أي همز كائن بعد ألف وقله «أَكْثَرَ» مفعول برَدِف وهو بمعنى تبع و «لَفْظُهَا» مبتدأ خبره ردف ومعمول الخبر هنا متقدم على المبتدأ وهي مسألة مختلف في جوازها وقد تقدم التنبيه على ما جاء في هذا النظم من هذا النوع كقوله: بالجر والتنوين والندا وأل ... ومسند للاسم ميزه حصل وغير هذا من المواضع والجملة من المبتدأ والخبر في موضع الصفة لألف والتقدير بعد ألف رادف لفظها أكثر من حرفين. معنى الكلام أن الهمزة الواقعة آخر الكلمة بعد ألف وقبل تلك الألف أكثر من حرفين يعني ثلاثة أحرف فأكثر محكوم عليها بالزيادة مطلقا [402]

وقد ذكر للهمزة المحكوم عليها بهذا الحكم أوصافا لا بد من وجودها وحينئذ يعمل القياس وهي ثلاثة: أحدها أن تقع آخر الكلمة بحيث لا يكون بعدها حرف آخر وذلك قوله «كَذَاكَ هَمْزٌ آخِرٌ» ومثاله قولك حمراء وصفراء وصحراء وبروكاء وسيراء وقاصعاء وعلباء وحرباء وقوباء وقصباءة وطرفاءة وما أشبه ذلك فلو لم تكن في آخر الكلمة لم يقض عليها بالزيادة على مفهوم كلامه وإنما أصل الدعوى فيها الأصالة كاطمأن وازبأر وما أشبه ذلك والوصف الثاني أن تكون الهمزة بعد ألف كما تقدم من الأمثلة فلو لم يكن قبلها ألف فمفهوم الكلام الحكم بالأصالة ومثاله قولهم اطلنفأ واليرنَّأُ وما أشبه ذلك ومن هنا يحكم على همزة غِرْقئٍ* وكِرْفِئَة وطهلئة بالأصالة وقد ادعى بعضهم فيها الزيادة حكاه الجوهري عن الفراء وقال ابن جني: «**وذهب أبو إسحاق إلى أن غرقئ البيضة [403]

همزتُه زائدة ولم أره علل ذلك باشتقاق ولا غيره» قال** «ولست أرى للقضاء بزيادة هذه الهمزة وجها من طريق القياس وذلك أنها ليست بأول فيقضى بزيادتها ولا تجد فيها معنى غرق اللهم إلا أن تقول إن الغرقئ يشتمل على جميع ما تحته من البيضة ويغترقه وهذا فيه عندي بعد ولو جاز اعتقاد مثله على ضعف لجاز لك أن تعتقد في همز كِرفئة أنها زائدة وتذهب إلى* أنها في معنى كَرَفَ الحمارُ إذا رفع رأسه لشم البول لأن السحاب أبدا كما تراه مرتفع وهذا مذهب ضعيف على أن أبا زيد قد حكى غرقأتِ البيضةُ قال وهذا قاطع» يعني أن غرقأ فَعْلَلَ بلا بد إذ ليس في الكلام فَعْلَأَ فأنت تراه قطع بأصالة الهمزة وضعف مذهب من ذهب إلى الزيادة ولا مرية في أن ذلك الاشتقاق في غاية من الضعف وهو جدير بعدم القبول وقد حكى الجوهري عن الفراء في اشتقاق الغرقئ من غَرِق غير ما قرره ابن جني والصحيح ما ذهب إليه من الأصالة والوصف الثالث أن تكون الألف ردفت أكثر من حرفين ويريد أكثر من أصلين لا بد من ذلك لأن الكلمة تبقى إذ ذاك على حرفين أو حرف واحد نحو قولك قضاء وبقاء وسقاء ولقاء وعواء وماء وشاء وباء وتاء وثاء وما أشبه ذلك وذلك أن الألف لا بد أن تكون زائدة كما سيُذكر [404]

بحول الله وقد حكم على الهمزة بالزيادة فلو لم يشترط ثلاثة أحرف فأكثر لكان قد ادعى* في بعض الأسماء البقاء على حرفين فقط أو حرف واحد فقط وذلك لا يكون فإن قلت لم قال هنا « ... أَكْثَرَ مِنْ حَرْفَيْنِ لَفْظُهَا رَدِفْ» ولم يقل: ثلاثة أحرف لفظها ردف كما قال قبل هذا « ... ثَلَاثَةً تَأْصِيلُهَا تَحَقَّقَا»؟ فالجواب أنه حد هنا بأكثر من حرفين ليدخل له ما كان قبل الألف فيه ثلاثة أحرف أو أربعة فالثلاثة نحو ما مثّل به قبل والأربعة نحو وبِرَنْساء وعَقْرباءَ وقُرْفُصاء وهِنْدَبَاءَ وطِرْمِساءَ وما أشبه ذلك فلو عيّن من الحروف ثلاثة لخرج له هذا وأما تعيينه الثلاثة في الهمزة والميم فلأنه قصد إخراج الأربعة عن حككم الزيادة كما نبه عليه ولذلك لما قصد إدخال ذوات الأربعة والخمسة في فصل الألف أتى بمثل ما أتى به هنا فقال «فَأَلِفٌ أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ ... » ولم يقل: ثلاثة أصول وهذا ظاهر ويدخل له هنا ما قبل الألف فيه ثلاثة أصول فأكثر كان معها زوائد أو لا كمَعْيوراء وقاصعاء وقرِيثاء وبرُوكاء وبَراكاء وأربُعاء وفِعْلِياء وما كان نحو ذلك إلا أنّ عليه درْكا في هذا الفصل من أوجه: [405]

أحدها أنه أطلق القول في الألف ولم يقيدها بالزيادة وكان من حقه ذلك لأن الهمزة لا تزاد في الآخر قياسا إلا إذا كانت الألف التي قبلها زائدة فتركُه التقييد بهذا قصور والثاني أنه لم يقيد ما يقع قبل الألف من الحروف بالأصالة بل قال « ... أَكْثَرَ مِنْ حَرْفَيْنِ لَفْظُهَا رَدِفْ» وهكذا وجدت في النسخ فهذا الإطلاق كما يشمل الأصول كذلك يشمل الزوائد وعلى هذا يقتضي أن الهمزة في نحو حذّاء وشوّاء وقرّاء ووُضّاء وأبناء وأحياء ومِيناء ومعطاء وما أشبه ذلك زائدة لأنه قد تقدم الألف ثلاثة أحرف وهو لم يذكر فيها أصالة من زيادة فدل على إطلاقه القول في ذلك وهو غير مستقيم بل لا بد من كونها أصولا وحينئذ يصح قانونه فلو قال أكثر من أصلين لفظها ردف لم يكن فيه إشكال كما قال «فَأَلِفٌ أَكَثَرَ مِنْ أَصْلَيْنِ ... صَاحَبَ زَائِدٌ» إلى آخره ولم يقل أكثر من حرفين والثالث أنه يخرج عنه كل همزة وقعت بعد ألف التكسير وكانت منقلبة عن حرف زائد كرسائل في جمع رسالة وقبائل في جمع قبيلة فمثل هذه الهمزة لا يصح أن يقال إن زيادتها بالسماع بل ذك قياس فيها كما كان الجمع على فعائل قياسا في فِعالة فعِيلَة ونحوهما وكلامه يعطي بمفهومه أن مثل هذا موقوف على السماع إذ لم يذكره في المقيس وإنما قال إثر هذه المسائل كلها «وَامْنَعْ زِيَادَةً بِلَا قَيْدٍ ثَبَتْ ... » فظهر أن هذه الزيادة ممنوعة إلا [406]

بدليل وهذا لا يصح ولا يقال إنه ترك ذكر الهمزة هنا لأنه قد ذكر الزيادة في أصلها وهو الألف أو الياء أو الواو إذ هي مبدلة عن حرف زائد وقد تقدم قانون ذلك في الإفراد ولا شك أن الجمع جار على المفرد فإذا كان ما انقلبت عنه الهمزة في المفرد زائدا فمحال أن تكون هي أصلية فلما كان كذلك استغنى عن ذكر حكمها بذكر حكم أصلها لأنا نقول فكان إذًا يلزمه ألا يذكر هذه المسألة من زيادة الهمزة رأسا إذ معلوم أنها غير زائدة بنفسها وإنما هي منقلبة عن غيرها وذلك ألف التأنيث أو ألف الإلحاق أو ألف التكثير كما تقدم ذكره فلم يبق على هذا الذكر زيادتها** وجه إذا كان الأمر على ما ذكر في الجواب ولما كان لم يفعل هذا ولا هذا لزمه أحد الأمرين إما أن يذكر الموضعين معا وإما أن يتركهما معا والرابع إذا سلمنا أنه أراد بأكثر من حرفين الأصول فقط فإنه لم يقيد ما يتقدم الألف من الحروف الأصول بكونها محققة الأصالة وكان من حقه ذلك كما فعل في سائر ما تقدم ليخرج له ما كان أصلا مع الاحتمال إلا أنه لم يقيد ذلك فدخل له بمقتضى لفظه ادعاء زيادة الهمزة فيما كان قبل الألف فيه حرف محتمل الأصالة والزيادة إما من «سألتمونيها» وإما [407]

بالتضعيف فأما ما يقبل زيادة التضعيف فنحو المُزّاء والدُّبَّاء والكلّاء* والسُّلّاء* والخُشّاء والحوّاء والعوّاء [408]

والقضّاء من الإبل ما بين الثلاثين إلى الأربعين والقثّاء والطُّلّاء والثُّدّاء ومن هذا كثير وجميعها محتمل أن يكون أحد المضاعفين زائدا فتكون الهمزة أصلية أو منقلبة عن أصل ووزنها على فَعّال أو فُعّال وأن تكون الهمزة زائدة والمضاعفان أصلين ووزنهما فعلاء أو فَعْلاء أو فِعْلاء وأما ما يقبل زيادة «سألتمونيها» فنحو: تيماء وهِيتاء وطور سيناء وطور تيناء وشيصاء [409]

والخوصاء والعَوصاء والزَّوراء والرَّوحاء وقوباء والشَّيساء القيقاء* والصِّيصاء والزِّيزاء وما أشبه ذلك هذا مما يمكن فيه زيادة الهمزة وأصالتها فتختلف أوزانها بحسب ذلك وكلها في مقتضى كلامه زوائد وذلك خطأ بل الحكم فيها راجع إلى ما اقتضاء الدليل لا لمجرد قانونه والخامس أن كلامه يقتضي زيادة الهمزة في الغَوْغاء والضَّوضاء وبابه على من صرف وعلى من لم يصرف أما على لغة من لم يصرف فلا شك في هذا لأن الهمزة للتأنيث وأما لغة من صرف فليس الأمر كذلك بل قد تقدم ما يقتضي أصالة هذه الهمزة أعني كونها منقلبة عن حرف أصلي إذ قال وَاحْكُمْ بِتَأَصِيلِ حُرُوفِ سِمْسِمِ ... وَنَحْوِهِ ......................... وهذا الاعتراض متوجه عليه في زيادة الميم أولا بمَهْمهٍ ومَرْمَرٍ ونحوهما إذ الحروف التي بعد الميم السابقة مقطوع بأصالتها وكذلك لو جاء [410]

في الهمزة مثل أَجْأَجٍ لاعتُرض به أيضا للقطع بأصالة ما بعد الهمزة بقوله المذكور فظهر التناقض في كلاميه والجواب عن الأول أنه لا يُحتاج إلى ذكر الزيادة في الألف هنا إذ لا فائدة له لأن الألف قبل الهمزة إما أن تكون أصلية أو زائدة أما الأصلية فلا يشملها قانونه إذ لا يكون قبلها أكثر من أصلين وإنما يكون قبلها حرف واحد نحو ماء وشاء وباء وتاء أو حرفان نحو قضاء وعطاء وسِقاء ودعاء وما عدا هذين النوعين فالألف فيه زائدة فإذا كان تركُه لشرط الزيادة غير مخل فذكرُه زيادة عارية عن الفائدة والجواب عن الثاني أنه قد تقدم له اشتراط الأصالة فيما هو أكثر من الحرفين فينسحب له هذا الحكم على ما لم ينسخه بغيره فإذا نبّه على تقديم أكثر من حرفين فُهم له بلا بد أنه يريد الأصول التي لا بد من توفرها وهي المشترطة في المسائل المتقدمة والجواب عن الثالث أن يقال إنما لم يذكر زيادة الهمزة في نحو رسائل لكونه من الألف في الأصل وقد تقدم له ذكر زيادة الألف وهذه الهمزة ليست بالأصل إنما هي همزة بالإعلال فترك التنبيه عليها اتكالا على ذكر ما هو أصل لها وما أُورد من الإشكال لا يرِدُ لأن همزة رسائل قد ظهر أصلها في المفرد والحكم على المفرد حكم على الجمع كما يكون الحكم على الأصل حكما على الفرع والجمع فرع عن الواحد بخلاف همزة حمراء فإن أصلها لم يظهر بعدُ إلا في موضع آخر بائن عن هذا فلم تكن الهمزة في حمراء ألفا في حمرى مثلا ثم مدّت في زمان آخر فصارا فرعا وأصلا يُحكم [411]

على أحدهما بالآخر كما كان ذلك في رسائل ورسالة وإنما حُكم على الهمزة هنا بأن أصلها الألف بالقياس خاصة ويمكن أن يخالف فيه مخالف وقد وُجد ذلك فإن من النحويين من يقول إن همزة التأنيث علامة أخرى غير ألف التأنيث وقد نُبّه على ذلك في باب التأنيث ولو كانت مستعملة ألفا ثم انقلبت همزة لم يُدّع فيها ذلك كما لم يُدّع التباين بين همزة رسائل وألف رسالة وأيضا فلو لك يذكر زيادتها لم يفهم له من إطلاق الألف أصلا بخلاف همزة رسائل فإنها تفهم زيادتها بزيادة أصلها ولهذا لم يذكرها النحويون حين ذكروا مواضع زيادة الهمزة والجواب عن الرابع كالجواب عن الثاني وهو أنّ تقدُّم ذِكرِ التحقيق في المسائل قبلها يبين قصده لاشتراط ذلك هنا فلم يحتج إلى الإعادة وعن الخامس أن كلامه يُخَصّ بكلامه فإنما يريد هنا الحكم بالزيادة فيما سوى ما تقدّم * * وَالنُّونُ فِي الْآخِرِ كَالْهَمْزِ، وَفِي ... نَحْوِ غَضَنْفَرٍ أَصَالَةً كُفِي ذكر الناظم رحمه الله تعالى لزيادة النون قياسا موضعين أحدهما الزيادة في الآخر والآخر الزيادة في الوسط فأما الزيادة في الآخر فذلك قوله «وَالنُّونُ فِي الْآخِرِ كَالْهَمْزِ» يعني أن النون إذا وقعت في آخر الكلمة فإن حكمها في الزيادة حكم الهمزة في الآخر أيضا فحيث يُحكم على الهمزة بالزيادة هنالك يُحكم على النون بها وقد تقدم أن الهمزة لا تزاد آخرا قياسا إلا بشروط ثلاثة: [412]

أحدهما أن تقع آخرا وقد عين ذلك ههنا والثاني أن يقع قبلها ألف والثالث أن يقع قبل الألف أكثر من حرفين أصلين فكذلك النون لا بد في زيادتها منها فأما الشرط الأول وهو وقوع النون آخرا فصحيح الاشتراط ومثاله ندمان وخُمصان وقُرآن ورحمان وعدنان ونُعمان وقَيقَبان وسيسبان وترجمان وسلامان وعريقُصان وزعفران وعُقرُبان وما أشبه ذلك فلو لم تقع آخرا لم يحكم بزيادتها إلا في الموضع الثاني فنحو جَنَعْدَل وكنهور النون فيه أصلية وأما الشرط الثاني وهو وقوع الألف قبل النون فكما تقدم فلو لم تقع بعد ألف فلا يحكم بزيادتها إلا بدليل وإن وقعت آخر الكلمة وذلك كالجِعْنِن** والحِرْذَوْن والحلزون والخُبَعثِن والعُرجون والعُجاهِن والعشوزن والكرزين وكذلك في الفعل نحو [413]

ارْجَحَتَّه وارْثَعَنَّ وحلْقن البُسْرُ وبرْهَن عليه وما أشبهه وأما الشرط الثالث وهو وقوع أكثر من أصلين قبل الألف فنحو ما تقدم من الأمثلة فلو لم يقع قبلها أكثر من أصلين لم يحكم بزيادتها سواء أكان الحرف الثالث مقطوعا بزيادته أم محتملا للأصالة والزيادة أم لم يقع قبلها ثالث فمثال المقطوع بزيادته التِّبيانُ والأثمان والأعوان والاجتِنان والاختتان وما أشبه ذلك ومثال ما لم يقع قبلها ثالث: بيان وجَنان وجَبان وحرب عَوان وجُمان وهوان وما أشبهه وأما ما وقع قبل الهمزة فيه ثالث محتمل أن يكون أصلا أو زائدا بالتضعيف أو من «سألتمونيها» فله أمثلة أما احتمال زيادة التضعيف فنحو حسّان وغسّان ورمّان وتبّان ونيّان [414]

ومُرّان وزِمّان وغّيّان وأما احتمال زيادة «سألتمونيها» فنحو حوْران وفيْنان وشيطان وميْسان وكيسان ورُومان سَيْفان ومَيْدان فهذه كلها تحتمل أن تكون النون زائدة لأصالة الثالث فيما قبل الألف وتحتمل أن تكون أصلية لزيادته فعلى الأول يكون وزن المضاعف فَعْلان وفُعلان وفِعلان وعلى الثاني يكون وزنه فَعَّال وفعَّال وفِعَّال وكذلك الآخر يحتمل على الأول أن يكون وزنه فَعْلان وفَعَلان وفُعْلان [415]

وفِعْلان ويحتمل على الثاني أن يكون وزنه فَوْعال وفَيْعال وفاعال وفُوعال وأما ما كان مضاعفا نحو الجنجان وقنْقانِ وما أشبههما فقد خرجت النون هنا عن الزيادة وإن تقدمها ثلاثة أصول لكونها من باب سمسم المحكوم بتأصيل حروفه وإنما حُكم بزيادة النون والهمزة هنا لكثرة زيادتهما في هذا الموضع فيما عُرف اشتقاقه فحُمل ما لم يُعرف فيه اشتقاق على الأكثر والباب الواسع وإنما قال «وَالنُّونُ فِي الْآخِرِ» ولم يقل: والنون كالهمز، لأن الهمزة لها موضعان أولُ الكلمة وآخرُها فلو لم يقيّد بالآخر لدخل عليه أنها تُزاد أولا وآخرا وليس كذلك فعيّن موضع التشبيه بالهمزة وهو الآخر وعلى هذا فلا شك أن معنى الكلام: والنون في الآخر كالهمز في الآخر، لكنه حذف قوله: وفي الآخر، لدلالة الأول ومعنى الكلام عليه وأما زيادة النون في الوسط فذلك قوله «وَفِي ... نَحْوِ غَضَنْفَرٍ أَصَالَةً كُفِيْ» ومعنى كُفِي: صُرف ودُفع - يقال: كفاك الله الشيء بمعنى صرفه عنك - فمعنى أَصَالَةً كُفِيْ أي مُنع الأصالة وصُرفت عنه وأَصَالَةً: مفعول ثان لكُفي ويعني أن النون إذا وقعت في الكلمة وقوعها في غضنفر [416]

ونحوه محكوم لها بالزيادة قياسا ولا يحكم عليها بالأصالة ولا شك أن غضنفرا قد اشتمل على أوصاف معتبرة في الحكم بالزيادة لقوله: فِي ... نَحْوِ كذا فلم يُرد الكلمة بخصوصها فلننظر فيما اشتملت** عليه من الأوصاف فنجعلها شروطا للحكم بالزيادة وذلك أن غضنفرا لحقته نون ساكنة مفكوكةٌ مُخفاةٌ لم تضاعف مع عين الكلمة في كلمة خماسية بين حرفين قبلها وحرفين بعدها فهذه ستة أوصاف للنون اشتمل عليها مثال الناظم: أحدها أن تكون ساكنة لا متحركة فإنها إن كانت متحركة لم يُحكم بزيادتها نحو جنَعْدَل وغُرْنَيق وما أشبههما وذلك أن كثرة زيادة النون هي الداعية للحكم بالزيادة وهي لم تثبت زيادتها كثيرا إلا ساكنة فلما تحركت خرجت عن باب الكثرة فلم يحكم بزيادتها إلا بدليل والثاني أن تكون مفكوكة لا مدغمة فإن كانت مدغمة كعَجنَّس وجهنّم وزَوَنَّك غلب الحكمُ بزيادة التضعيف على زيادة «سألتمونيها» لكثرة زيادة التضعيف بالنسبة إلى زيادة «سألتمونيها» فصار عجنّس وجهنّم [417]

كعدبَّس وقلمّس والهمرَّجِه* والشفلَّح ونحو ذلك والمسألة مختلف فيها فمنهم من زعم أن النون هنا من هذا الباب فلم يشترط الفك ومنهم وهم الأكثر من ذهب إلى أنها ليست منه وإنما هي من زيادة التضعيف وعلى هذا كلام الناظم فيما أشار إليه بالمثال وارتضاه لأن باب التضعيف هو الأكثر والحمل على الأكثر متعين والثالث أن تكون مخفاة لا مظهرة فإنها إن* كانت مظهرة لم تجز زيادتها كما إذا وقع بعدها ما يلزم ظهورُها معه كحروف الحلق فلو بنيت من رَفَع مثل جحنْفل لم يجز لأنك كنت تقول: رفنْعع فتظهر النون والنون هنا لا تظهر البتة وكما لو بنيت من سبح فقلت سبنْحح أو سلخ فقلت سلنْخخ فهذا كله لا يجوز ولو جاء في الكلام مثل فعنْعل أو جلنْحر لم تكن النون في الدعوى إلا أصلية ولهذا منع الخليل ارفْنَعَ** من رفع فيما حكى ابن جني عن الخليل بن أسد قال: قرأت على الأصمعي هذه الأرجوزة للعجاج: يا صاح هل تعرف رسما مكرسا فلما بلعت**: [418]

تقاعس العزّ بنا فاقعنسسا قال الأصمعي قال لي الخليل - يعني ابن أحمد - أنشدنا رجل: ترافع العزّ بنا فارفنععا فقلت هذا لا يكون! فقال - يعني الرجل المنشد -: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العزّ بنا فاقعنسا** إلى هنا انتهت الحكاية وشاهدُها نفيُ الخليل ارفَنْعَعَ أن يكون من كلام العرب لأن ارفنعع رَفَنْعَعٌ شيء واحد والعلةُ واحدة وهذا الشرط لا أعلم أحدا اشترطه** قبل ابن جني إلا ما تشعر به هذه الحكاية لهذا لما ذكره وبين علة اشتراطه قال «ولم أر أحدا من أصحابنا ذكر امتناع بناء فعنلى مما لامه حرف حلقي لما يُعقِبُ ذلك من ظهور النون وزوال شبهها بحروف اللين والقياس يوجبه فليكن عليه» والرابع أن تكون النون لم تضاعف مع العين فإن ضُوعفت خرجت عن انحتام الحكم بالزيادة إلى باب الاحتمال كما إذا جاء مثل عزَنْزَن وفدَنْدَن فإنه محتمل أن يكون من باب غضنفر على الإلحاق به بزيادة** النون وتضعيف الزاي والدال مثل عقنقل ومحتمل أن يكون من باب صمَحْمَح ودمكمك [419]

وهذا الشرط لابن جني قال في المنصف «ولو جاء شيء مثل خَزَنْزَنَ وفَدَنْدَنٍ جاز فيه عندي أمران أحدهما أن تكون نونه الأولى زائدة وتجعل الزاءين والدالين عينين مكررين وتجعله مثل هَجَنْجَل، وعَقَنْقَل، وسَجَنْجَل فيكون فَعَنْعَلًا. والآخر: أن يكون الحرفان الرابعُ والخامسُ مكرّرين بمنزلة تكرير صَمَحْمَح, ودَمَكْمَك، فتكون النون أصلا - يعني تضعيف أصل - لأنها بمنزلة حاء صَمَحْمَح وكاف دَمَكْمَك الأُولَيين، فتكون بمنزلة فعلعل.» قال: «والأمران فيه عندي معتدلان.» قال: «وإنما اعتدلا بإزاء كثرة باب صمحمح ودمكمك وزيادته على باب عقنقل وعَصَنْصَر أن النون ثالثةٌ ساكنةٌ، والكلمة خمسة أحرف، فقام أحد الشيئين بإزاء الآخر» قال: «وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لتغليب أحدهما على الآخر موجب، فإن جاء الاشتقاق بشيء عُمِل عليه وترك القياس». هذا ما قال وهو حسن. ونظيره مسألة الاشتغال في العطف على الجملة ذات الوجهين نحو زيدٌ ضربته وعمرو كلمته فإن اعتبرت صدر الجملة الأولى كان الأولى في [420]

عمرو الرفع وإن اعتبرت عجُزها كان الأولى فيه النصب فلما اجتمعا ترافعا في الأولوية فاستوى الأمران وقد رد ابن عصفور على ابن جني هذا المذهب وزعم أن الذي ينبغي أن يقضى** على النون بالزيادة يعني زيادة «سألتمونيها» قال لأن زيادة النون ثالثة ساكنة لازمة فيما عُرف له اشتقاق فلا ينبغي أن يجعل بإزائه كونُ باب صمحمح أوسع من باب عقنقل لأن دليل اللزوم أولى من دليل الكثرة ورده ابن الضائع وقال: بل الأولى عندي القضاء بالتضعيف لأنه الأكثر هنا فلا ينبغي أن يجعل الاحتمال فيه بالسواء فالحاصل أنّ هذا الشرط معتمد عند ابن جني وابن الضائع غير مشترط عند ابن عصفور والخامس أن تكون النون في كلمة خماسية لا أنقصَ ولا أزيَدَ فإن كانت في كلمة رباعية أو سداسية لم تُزد قياسا نحو عنبر ومَنْدَل وعندليب وجِحِنْبار وإنما تزاد مع الدليل إذ لم تكثر زيادتها إلا كذلك والسادس أن تكون بين حرفين قبلها وحرفين بعدها فتتوسط الكلمة حقيقة فلو لم تكن كذلك لم يُقضَ بزيادتها كقولك هِندِباء وحَنْدَلسٍ وقَنْفَرش ومنه أيضا عندليب وجحنبار إذ فيه مخالفة الشرطين كونها لم تقع في خماسي ولا هي متوسطة. [421]

فإذا اجتمعت هذه الشروط التي أشار إليها في مثاله فالنون زائدة بلا بد نحو جحنْفَل وعبنْقس وفلنقس وعرندس وجرنفش وعرنتُن وقرنفُل وقلنسُوة وغضنفَر وهو مثال الناظم وهو الأسد ويقال رجلٌ غضنفرٌ إذا كان غليظ الجثة فإن قلت إن هذا المثال يعطي أيضا أوصافا أُخر وذلك كونه اسما لا فعلا وكونه رباعيَّ الأصول لم يُزد فيه غير النون وكون آخره صحيحا وما أشبه هذا من الأوصاف وهي غير معتبرة إذ كونه اسما لا فعلا غير معتبر باتفاق لأن الشروط المذكورة المعتبرة عندهم موجودة في الفعل فنحو اخرنطم واحرنجم واقعنسس واسحنكك النون فيه زائدة بلا بد على ما يتبين في تعليل ذلك وكونه رباعي الأصول لا معتبر به أيضا فقد حكموا بذلك على ما كان ثلاثي الأصول نحو عقنقل وعفنجج وعصنصر وهجنجل وسجنْجَل** وكذلك الفعلُ إذا كان ثلاثيها أيضا نحو اسحنكك واقعنسس وكون آخره صحيحا غير** معدود أيضا فقد حكموا بالقانون على ما كان نحو علندًى وقرنبى وحبنطى وسرندى وبلندى وكذلك الفعل [422]

نحو احبنطى وادلنظى واسرندى واحرنبى* وما أشبه ذلك وكذلك مماثلة الحركات والسكون غير معتبرة أيضا فكيف يؤخذ له ما تقدم من الشروط بخصوصها دون هذه الأشياء؟ ! وإذا كان كذلك فمن حق الناظم أن لو عين مراده بالإتيان بما يُفهِم الشروط وحدها كعادته في الأمثلة وقد قال في التسهيل «وثالثة مفكوكة بين حرفين قبلها وحرفين بعدها» وهذا وإن لم يستوف فيه الشروط فما اعتُرض به لا يدخل عليه والجواب أن هذه الأوصاف لا اعتراض بها عليه: أما الأول فإن الأسماء لا مزية لها في هذا المعنى على الأفعال بل الأفعال أحق بالزيادة منها لأنه لها أصل التصريف فإن سلمنا المزية فلا أقل من الاستواء وقد وُجدت الشروط في الأفعال كما وُجدت في الأسماء فلا مانع من دعوى الزيادة وأيضا العلة التي لأجلها حكم بالزيادة في الأسماء موجودة في الأفعال أيضا كما أذكره إثر هذا بحول الله تعالى فلا أثر في المثال لوصف الاسمية وأما الوصف الآخر وهو كونه رباعيا فأن هذا أيضا غير معتبر من حيث إن الجميع ملحق بسفرجل أعني الرباعي وغيره لكن أحدهما ملحق بالنون فقط وهو الرباعي والآخر ملحق بالنون وزيادة أخرى إما من زيادة التضعيف وإما من زيادة «سألتمونيها» فالجميع داخل في حكم الخماسي الرباعي الأصول وعلى هذا لا يرد وصف صحة الآخر [423]

وأما مماثلة الحركات والسكون فعلة الاشتراط تبيين سقوطه وذلك أن موضع النون إنما** أصله** للحروف الثلاثة الزوائد وهي الألف والواو والياء نحو ألف عُذافر وجُرافس وقُراقر وسَلالم وزوارق. واو* فدوكس وسرومط وياء سميدع وعميثل والنون حرف من حروف الزيادة مضارع لحروف اللين لما فيه من الغنة وللقرب الذي بينه وبينها مما هو معلوم فألحقوا النون في ذلك بالحروف اللينية* الزائدة وإذا كان كذلك فيجب أن تكون هذه النون إذا وقعت ثالثة في هذه المواضع قوية الشبه بحروف المد وإنما يقوَى شبهها إذا كانت ساكنة ذات غنة وعلى غيرهما من الأوصاف المذكورة فإذا كانت متحركة زال كونها غنة من الخيشوم فزال شبهها باللين وكذلك إذا أُدغمت قويت وأخرجها الإدغام عن أن تكون مخرجة من الأنف لأنها تصير إلى لفظ المتحركة وهي من الفم وأيضا لا تشبه اللين إلا إذا بقيت غنتها وإنما تبقى غنتها متى كانت من الأنف وذلك مع الحروف الفموية لا الحلقية كما في جحنفل وبابه فإذًا لو وقع بعدها حرف حلقيّ لزالت صفتها التي بها أشبهت حروف اللين فحملت عليها في الزيادة ولهذا أنكر [424]

الخليل ارفنعع في الحكاية المتقدمة حيث رأى نونه في موضع لا تستعملها العرب فيه إلا بغنة لا غير فأنكره وليس كذلك في جحنفل واقعنسس ونحوهما لأنها قبل السين والفاء وذلك موضع تكون فيه غنّاء مشابهة لحروف اللين هذه هي العلة في اشتراط تلك الشروط وأما وجه الشرط الرابع فقد تقدم وما قيل من العلة في الأسماء جارٍ في الأفعال من حيث كان الموضع أيضا فيها لحروف اللين نحو اشهابَبْتُ وادهامَمْت واغدودن واعشوشب واقطوطى واحلولى فزادوا النون في موضعها للشبه المذكور فقالوا احرنجم واسحنكك واحرنبى الديك واسلنقيت وما أشبه ذلك فلم يأتوا بها على غير بقاء الغنة فيها ولهذا المعنى تبيّن أن جميع الأوصاف المفروضة في غضنفر ما عدا ما تقدم ساقط الاعتبار ومن الدليل على زيادة النون في هذا الموضع أنها وقعت موقع ما هو زائد فينبغي أن يكون مثله وأيضا فالخماسي من الأسماء قليل وما كان على خمسة أحرف وفيه النون الساكنة ثالثة كثير ككثرة ما جاء منه وحرف اللين ثالثة كما مُثِّل والأربعة التي مع النون أصول كشَرَنْبَثٍ وجرنفش وفلنقس فلو كان ما فيه النون ثالثة من بنات الخمسة الأصول لم يكثر هذه الكثرة لما [425]

عُلم من قلة الخماسي لكنه كثر كثرة كاد يسبق بها ما فيه حرف اللين فدل على أنها زائدة مثله وهذا الاستدلال بالأحكام حسن في معناه استدل به ابن جني على صحة المسألة واعلم أن كلم الناظم بعد هذا معترض من وجهين: أحدهما أنّ مما ترك ذكره ما يزاد قياسا وذلك مواضع أربعة: أحدها ما كان على انفعال من المصادر وانفعل من الأفعال نحو انطلق انطلاقا وانصرف انصرافا وانبرى انبراءً وانسكب انسكابا وما أشبه ذلك وهو كثير جدا والمثال يحصره كما يحصر الاستفعال زيادة التاء في الاستدراك والاستكبار على ما ذكره الناظم على إثر هذا والموضع الثاني نون المضارعة نحو نقوم ونقعد ونركب إذ هي تزاد أيضا قياسا وإنما عددتها اعتراضا عليه لأنه عدّ تاء المضارعة في مواضع زيادة التاء في قوله وَالتَّاءُ فِي التَّأْنِيثِ وَالْمُضَارَعَةْ ... ولا يعترض عليه - على هذا - بتركه ذكر همزة المضارعة ويائها لأنهما داخلتان في قانون زيادة الهمزة والياء بخلاف هذين فإنهما ليسا بداخلين - أعني النون والتاء - فذكر التاء وترك ذكر النون فكان كلامه ناقصا [426]

والموضع الثالث قال المازني «كلما وُجدت النون في مثال لا يكون للأصول فاجعلها زائدة نحو كنهبُل لأنه ليس في الكلام مثل سفرجُل وكذلك قرنفُل النون فيه زائدة» قال «ومثل ذلك: جُنْدَب وعُنْصَر وقُنْبر** لأنه ليس في الكلام مثل جُعْفُر**» قال «فهذا بمنزلة ما اشتققت منه ما تذهب فيه النون» فقد عقده المازني كما ترى عقدا قياسيا لا ينكسر له وإن انكسرت بعض أمثلته فإن قرنفُل قد يدخل له تحت قانون زيادة النون ثالثة في الخماسي وأما عُنصَر وجُندَب ونحوهما فقد يلتزم الناظم أصالة النون فيها ما لم يدل دليل على الزيادة لأن فُعْلَلا عنده ثابت وقد عده في أبنية الرباعي المجرد لكن أصل القانون صحيح إذ يدخل فيه نحو كُنْتأل وهُندَلِع وإصفَعِند وعُرُند وما أشبه ذلك وسلّمه ابن جني له ولا شك في صحته أيضا عند الجميع وقد نبّه على هذا في التسهيل والرابع أنهم يعدون من مواضع زيادة النون المثنى والمجموع على حده فإن زيادتها فيهما لمعناها مطرد لا ينكسر نحو الزيدان والزيدون وقد عدّها أيضا في التسهيل بل أدخل معها نون التوكيد على وجهها ونون الرفع فيما اتصل به من الأفعال ألف اثنين أو واو جماعة أو ياءُ واحدة [427]

مخاطبة ولم يعدّ ذلك هنا مع أنه قد عدّ ما يشبهها من تاء المضارعة وهاء السكت وما أشبه ذلك فكان من حقه حين ذكر بعضها أن يذكر الجميع أو يسكت عن الجميع فهذه مواضع أربعة فاته ذكرها واقتضى مفهوم كلامه حين تركها الحكم على النون فيها بالأصالة حتى يأتي دليل بخلاف ذلك وهو مفهوم غير مستقيم والاعتراض الثاني أنه يدخل عليه ما كان نحو دِهقان مما تقدم الألف فيه ثلاثة أحرف مقطوع بأصالتها والنون مع ذلك محتملة للأصالة والزيادة وذلك حيث تكون المادة دائرة بين الرباعية والثلاثية نحو دِهقان فإنه يحتمل أن يكون فِعْلانا من الدَّهق وهو المَلْءُ من قوله تعالى {وكأسا دهاقا} فلا يُصرف إذا سُمّي به لأنه فِعلانُ وأن يكون فِعْلالا من الدَّهْقَنَة وهي الرياسة والإصلاح ومنه قالوا تدهقن إذ لا يجوز تفعلن لأنه وزن معدوم فعلى هذا يصرف إذا سُمّي به ومنه العُربان في البيع يحتمل أن يكون على وزن فُعلان من قولك أعرب عن حجته أي أفصح عنها لأن العُربان إفصاح بصحة عقد البيع وأن يكون فُعلالا لقولهم عرْبَنْته إذا أعطيته العُربان وكذلك البرهان وما أشبه هذا وكله محتمل مع وجود ما شرطه فكان نقضا عليه [428]

والذي يقال في الجواب عن الأول أن ما اعترض به من الانفعال وارد عليه إذ ليس له من كلامه ما يشمله بخلاف الافعنلال والافعنلاء فإنه داخل له تحت قاعدته في عضنفر ولا يقال إن النون فيه ليست بمتوسطة لأن قبلها ثلاثة أحرف وبعدها حرفان فألف الوصل ثالثة فصارت النون فيه مثلها في جحنبار ونحوه وقد أخرجتموه عن الحكم بالزيادة لعدم حقيقة التوسط بين حرفين وحرفين فكذلك يقال في هذا لأنا نقول هذه المصادر جارية في الزيادة على أفعالها وقد علمت أن النون فيها واقعة بين حرفين قبلها وحرفين بعدها وإنما زيدت الألف قبل الآخر في المصدر وهو في الزيادة ثان عن الفعل ولم يبق إلا زيادة الهمزة الوصلية وهمزة الوصل ليست عندهم بمعدودة في نفس البنية لأنها إنما سبقت لأمر عارض في الكلمة وهو سكون أولها فإذا اتصل بها متحرك أو ساكن آخر حذفت نحو ضرب ابنُك وقالوا افعل كذا فليست من البنية في شيء إلا باعتبار ما ولذلك لمّا عد الناظم مواضع زيادة الهمزة لم يتعرض للإشارة إلى همزة الوصل وإنما أتى بها بعد تمام الكلام على حروف الزيادة فصلا على حديه ليُعرَف بذلك أنها ليست مما يعد في هذه الحروف الزوائد إذ لا يعتبر هنا إلا ما كان مبنيا عليه الكلمة حقيقة ولذلك كان أيضا عدهم هاء ارْمِهْ ولم تَرَههْ** في حروف الزيادة مشكلا مُعترَضا كما تقدم فإذا تقرر هذا صارت نون الافعنلال وافعنلَل وافعنلى واقعة بين حرفين وحرفين فدخلت تحت مضمون كلامه أما الانفعال وانفعل فليست النون فيه بمتوسطة فكان ورودها عليه متوجها وكذلك ما اعتُرض به من نون المضارعة أيضا ونون التثنية [429]

والجمع والتوكيد والإعراب وارد عليه لأنها مزيدة في الكلمة وليس له من كلامه ما يتضمنُها وأما ضابط المازني فصحيح في نفسه إلا أنه لا يردُ على الناظم وذلك لأن النون في ذلك القسم من قبيل المحتمل ألا ترى أن تلك الأمثلة غي موجودة في أبنية الأصول ولا في أبنية الزوائد فكَنَهبُلٌ مثلا يحتمل أن يكون وزنُه فَنَعْلُلا والنون زائدة لكنه بناء غير موجود ويحتمل أن يكون فَعَلُّلا والنون أصلية لكنه بناء غير موجود إذ ليس في الكلام مثل سفرجُل فعدم الأول يحكم بالأصالة وعدم الثاني بحكم بالزيادة فتعارض الدليلان فانتظمه قسم المحتملات. نعم ما ذكره هو المخرجُ لكن بعد ثبوت الاحتمال وقد قال الناظم بعد هذا وَامْنَعْ زِيَادَةً بِلَا قَيْدٍ ثَبَتْ ... إِنْ لَمْ تَبَيَّنْ حُجَّةٌ كَحَظِلَتْ** فشمل كلامه هذا وأشباهه فلم يكن عليه اعتراض ولم يزت** بهذا المعنى في التسهيل مختصا بالنون دون غيرها بل أتى بها قاعدة تشمل النون وما كان مثلها فقال «والزيادة أولى إن عُدم النظير بتقديرها وتقدير الأصالة» ولما قال المازني في قاعدته المذكورة «فاجعلها زائدة» فسره ابن جني بأنه يقول «احكم بهذا من جهة القياس لا من قبل السماع» يعني حمله عند التعارض على أوسع البابين وهو من باب الحمل على أحسن الأقبحين وقد بوب عليه ابن جني في الخصائص [430]

وأما الاعتراض بدهقان فلعمري إنه لظاهر لكن لعل الناظم لم ير إلا الأصالة فيها وعدم الاحتمال لغير ذلك وما أورد الفارسي أو غيره فيها من الاحتمال فضعيف والقاطع فيها ثبوت النون في الفعل فهو لدالّ على أصالتها وعلى أنّ مِثل دهقان في الكلام مما تحتمل نونه على هذا الحد قليل فلم يعتبره والله أعلم واعلم أن قوله «أَصَالَةً كُفِيْ» يُشعِر بأن الأصالة في هذه النون لا تكون ولا توجد في السماع لقوله كُفِيْ أي صُرفت عنه ولا يقال فيما سمعت فيه الأصالةُ في بعض المواضع ولو على قلة إنه كُفي الأصالة وكذلك هو عند النحويين إذ لم يأت ما ينقض قاعدتهم هنا وكذلك جعل ابنُ عصفور زيادة «سألتمونيها» في نحو فَدَنْدَنٍ أقوى ورد على ابن جني حيث جعلها مقاومة لزيادة التضعيف وحكم بذلك فيها لا على الاحتمال وما ذاك إلا لعدم السماع الدال على أصالتها في بعض المواضع حيث يمنع لزوم الاطراد وإلا فلو كان ثَم سماع ينقض القاعدة وإن كان قليلا لكانت دلالتها من باب دلالة الكثرة والحمل على باب صَمَحْمح من باب دلالة الكثرة أيضا فيتعادلان وإلى هذا المعنى أشار ابن عصفور والله أعلم بقوله «لأن دليل اللزوم أقوى من دليل الكثرة» فجعل النون هنا لازمة الزيادة وقد يُعترض على هذا بقولهم زَوَنْزَكٌ للقصير فإن الفارسي زعم أن الواو فيه زائدة للإلحاق بكَوَأْلل وأن النون لا تكون زائدة قال لأنه [431]

يلزم أن تكون الفاء والعين من موضع واحد وهذا لا يُحكم به ما وُجد عنه مندوحة قال ويلزم منه أيضا توالي زائدتين مختلفتين وهذا لا يكاد يوجد مثل عَفَرْنَى فهذا مما ينقض اللزوم هنا لكن قد أجاب الفارسي عن هذا في أثناء كلامه على المسألة فقال وأما زَوَنَّك فالواو إحدى** النون** زائدتان فهو من الثلاثة ككَوَأْلل قال فإن قلت إن الواو من زَوَنْزَكٍ والنون زائدة كما أنها من زَوَنَّك كذلك والأولى من النونين من زَوَنَّك هي الزائدة دون الثانية لأنها مثل الذي في جَحَنْفَلٍ وعَفَنْججٍ فكما التقت الواو والنون من زونّك زائدتين كذلك في زَوَنْزكٍ قال فهو وجه قال ويقّوي ذلك أن النون كحروف اللين فيشبه واو عطود وياء هَبَيَّخٍ هذا ما أجاب به وهو استدلال بالنظير ذكر ذلك كله في التذكرة * * * وَالتَّاءُ فِي التَّأْنِيثِ وَالْمُضَارَعَةْ ... وَنَحْوِ الِاسْتِفْعَالِ وَالْمُطَاوَعَةْ التاءُ هنا مرفوع على الابتداء خبره محذوف لدلالة الكلام المتقدم وتقديره والتاءُ في كذا وكذا زائدةٌ أو هكذا التاءُ في كذا وقوله فِي التَّأْنِيثِ وكذا على حذف مضاف تقديره في ذي التأنيث وهو الاسم [432]

المؤنث وفي ذي المضارعة وهو الفعل المضارع ويعني أن التاءَ تُزاد قياسا في أربعة مواضع: أحدها أن تلحق علامة للتأنيث أي يُفصل بها بين المذكر والمؤنث فإذا أدخلت* عُلم أنّ ما لحقته لأجله مؤنث ووقوعها للتأنيث في موضعين أحدهما آخرُ الاسم كان جامدا نحو شجرة وامرأة وغرفة وروضة أو مشتقا نحو قائمة وقاعدة ومنطلقة ومستكبرة وكذلك في جمع المؤنث نحو هندات وزينبات وطلحات وثمرات ومتداعيات وما أشبه ذلك والثاني آخرُ الفعل الماضي نحو قامت وقعدت وركبت واستكبرت والموضع الثاني أن تلحق في أول الفعل المضارع وذلك قوله «وَالْمُضَارَعَةْ» أي في صاحب المضارعة وهو الفعل المضارع نحو أنت تقوم وهندٌ تقوم وأنتِ تقومين والهندان تقومان وما أشبه ذلك والثالث الاستفعال ونحو وذلك كل ما كان من المصادر على هذا الوزن نحو الاستكبار والاستعظام والاستطعام والاستقصاء فالتاء في هذه الأشياء زائدة يدل على ذلك الاشتقاق إذ هي من الكِبْرِ والعظمة والطَّعْم القَصَا* وكذلك أفعالها نحو استكبَرَ يستكبِرُ* واستكبِرْ واستعظَمَ يستعظِمُ واستعظِمْ وما أشبهه فهذا الذي يريد بما كان نحو الاستفعال [433]

والرابع المطاوعة يعني أن التاء تلحق أيضا زائدة ذا المطاوعة وهو ما كان من الأفعال فيه تاءٌ طُووِعَ بها فعلٌ آخر نحو كسرته فتكسّر وقطعته فتقطع وأفعال المطوعة التي فيها التاء خمسة أحدها تَفَعَّل وهو يُطاوع فَعَّل نحو علّمته فتعلّم وأدّبته فتأدّب وهذّبته فتهذّب وخلّصته فتخلّص وكسّرته فتكسّر وفرّقته فتفرّق وهو كثير والثاني تفاعل وهو يطاوع فاعَلَ نحو باعدته فتباعَدَ وضاعفتُ الحساب فتضاعف وناولته فتناول والثالث افْتَعَلَ وهو مطاوعٌ لأَفْعَلَ نحو أنصفتُه فانتصَفَ وأشعلت النار فاشتعلت وأنجزته فانتجز وأضرمت النار فاضطرمَتْ وأوقدتها فاتَّقَدَتْ والرابع اسْتَفْعَل وهو مطاوع لأَفْعَلَ أيضا نحو أَشْليته فاسْتَشْلَى وأحكمته فاستحكم وأرحته فاستراح وأكنَّه فاستكنَّ وأبهمته فاستبهم وأَبَنْتُهُ فاستبان وأمرَرْته فاستمَرَّ والخامس تَفَعْلَلَ وما أُلحق به وهو مطاوعٌ لفَعْلَلَ وما ألحق به كل واحدٍ لنظيره فأمّا تَفَعْلَلَ الملحق به غيره فمطاوعٌ لفَعْلَلَ** الملحق به غيره أيضا نحو دحرجته فتدحرج وسَرْهفْتُه فتَسرْهَفَ وسربلته فتسربل ومثال نظائرها قولك سلقيته فتَسلْقَى وقَلْنَسْتُه فتَقَلْنَسَ وجلببته فتجلبب وجوربته فتجورب وكذلك سائرها [434]

هذا جملة ما أراده إلا أن عليه فيه دَرْكًا من ستة أوجه أحدها أنه جعل من أقسام زيادة التاء زيادتها للتأنيث وهو إما أن يريد التي تلحق للتأنيث مطلقا في الاسم والفعل أو التي تلحق الاسم خاصة وعلى كل تقدير فعدُّها مشكل أما في الاسم فإنها زائدة على الكلمة جارية مجرى الثاني من المركبين عند سيبويه وغيره والدليل على أنها كالمنفصلة أنهم لا يعدون ذا التاء من الأبنية مغايرا لما هو على وزنه مما لا تاء فيه نحو فَعَلٍ وفَعَلَةٍ مثلا كطَلَلٍ وشجرة بل الجميع فَعَل وإنما يعدون البناء ذا التاء على شكله إذا لم يأت له مثال دون تاء الرَّحْرَحَة والشمللة ونحو ذلك وذلك بحكم الاتفاق لا لأنه بالتاء بناء على حدة وهذا المعنى أظهر في الصفات نحو قائم وقائمة وأما في الفعل فالتاءُ أبعدُ من الاعتداد بها فيه فكان عده تاء التأنيث في المزيد في الأبنية مشكلا وإنما يعتد بتاء التأنيث لو كان المؤلف قائلا به في تاء كلتا على مذهب الجرمي حيث زعم أن التاء للتأنيث وأن وزنه فَعْتَل فمثل هذه التاء هي التي [435]

تبنى عليها الكلمة لكن الناس رموه في هذا المذهب عن قوس واحد* بالرد لمذهبه فيه فهذا فيه ما ترى والثاني على تسليم ما قرر لم يعم بهذا الحكم أقسام التاء إذ لها أقسام نحوٌ من أح عشر قسما هذا أحدها كما قالو إنها تقع فارقة بين الواحد والجنس كثمرة وثمر وتقع عوضا من محذوف كجحجحة مع جحاجيح وكذلك التاء في عدة وزنة هي عندهم عوض من حرف الفاء وتقع فارقة بين الجمع والواحد نحو دُرّة ودُرّ وسفينة وسَفِين وتقع دالة على النسب نحو المهالبة والمناذرة وتقع لغير ذلك حسب ما هو مبسوط في مواضعه ومن جملة أقسامها وقوعها فارقة بين المذكر والمؤنث والثالث على تسليم أن التاء إنما تكون للتأنيث فقط ليست زيادتها لذلك بقياس إلا في الصفة خاصة على ما قرر هو في باب التأنيث وأما التفرقة بها في الأسماء الجوامد فموقوف على السماع وهو لم يخص تأنيثا من تأنيث فاقتضى القياسَ في قسمي الجامد والصفة وذلك غير صحيح وأيضا فوقوعها لغير التفرقة غير مقيس أيضا وقد تقدم ذلك كله فكان إطلاق القول بزيادتها مشكلا والرابع أن التاء اللاحقة للمضارع ليست مما يعدّه النحوي في هذا الفصل لكون زيادتها من قبيل المسموع وإنما يتكلم النحوي هنا فيما لم يكن فيه دليل من اشتقاق أو تصريف أو غيرهما والتاء هنا لازمةُ السقوط في الماضي فهو الدال على زيادتها وقد جعل ابن الضائع التاء مما لا يزاد إلا [436]

بالسماع في جميع مواضعه ثم نكّت على ابن عصفور في هذا المعنى فقال ومن قسّم التاء فقال إنّ لها قسما يُقضى عليه بالزيادة أبدا ومثل بحرف المضارعة فليس ذلك كقولنا في الهمزة أولا وفي النون ثالثة كجحنفل فإن حرف المضارعة أبدا ساقط في الماضي ونحن نريد بذلك إذا لم يكن دليل من اشتقاق أو تصريف قال فهذا تقسيم لا يحتاج قال وفيه إيهام أنّ** التقسيم في الموضعين واحد وليس كذلك فليس للتاء موضع يحكم عليه فيه بالزيادة وإن لم يقم دليل على ذلك من اشتقاق أو تصريف فالناظم قد أثبت عين ما نفاه ابن الضائع واعترض على من عده من المقيس وهو اعتراض عام على جميع ما أتى به هنا إذ القسم الذي أثبته ابن عصفور ذكر فيه تاء المطاوعة والمضارعة والاستفعال والتأنيث حتى كأنّ الناظم إنما نظم محصول كلامه في القسم الذي جعله مقيسا فالنقدُ لا شك واردٌ عليه في جميع الأقسام على هذا والخامس أنّ تمثيله بالاستفعال هنا لا يُعطي محصولا ولا مقصودا وبيان ذلك أنه مثالٌ من الأمثلة الموزون بها والموزونُ إذا أريد وزنُه لا بدّ في عمل ذلك من مقابلة الأصلي منه بالأصلي من الفعل أعني من الفاء والعين واللام وترك الزائد على لفظه وهذا لا يكون إلا بعد معرفة الأصلي من [437]

الزائد في الموزون فتعلمَ أنّ التاء في الاستكبار زائدة وكذلك السين وحينئذ نضع له وزن الاستفعال وقد فرضنا أن الناظم إنما جعل لمعرفة الزائد مثال الاستفعال فصار هذا دورا لا يتحصل وهذا كما لو قال في زيادة الهمزة** أكل ما كان على وزن أَفْعَل فالهمزة فيه زائدة فهو لا يُحصِّل من معرفة زيادة الهمز شيئا لأنه دور تقدم وأذكر أن شيخنا القاضي أبا القاسم الشريف رحمه الله أورَدَ هذا المعنى عليه في التسهيل وهو وارد عليه صعبُ الجواب والسادس على تسليم صحة القانون في الاستفعال هو داخل تحت عموم المطاوعة إذ قد تقدّم أن استفعل يطاوع أفعل نحو أبهمته فاستبهم وأبَنْتُه فاستبان وما أشبه ذلك وإذا كان داخلا في أحد الأقسام كان التقسيم غير صحيح لتداخل بعض الأقسام في بعض لا يقال إنّ الاستفعال يأتي على أقسام من جهة المعنى منها المطاوعة كما تقدم ومنها الطلب كاستعان واستوهب واستغفر واستطعم واستسقى وللتحول كاستنْسَر البُغاثُ واستنوق الجملُ واسْتَتْيَسَتِ العَنْزُ واستحجر الطينُ وللاتِّخاذِ كاستعبد عبدا واستأجر أجيرا واستفحل فحلا واستعدّ عُدَّة ولإلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه كاستعظمته إذا وجدته عظيما واستصغرته واستكثرته واستقللته واستحسنته واستقبحته ولمعان أُخر غير هذه [438]

فلو اقتصر على ذكر المطاوعة فقط لم يدخل له الحكم بزيادة التاء في هذه الأقسام كلها فكان تجريد المثال وذكره بخصوصه ضروريا لأنا نقول كذلك سائر أقسام المطاوعة ليست بمقتصر بها على هذا المعنى فقط بل تأتي لمعان أخر فأم تَفَعَّل فتأتي لمعنى التكلّف كتحلّم وتشجّع وتسخّى وتصبّر إذا تكلف الحلم والشجاعة والسخاء والصبر وللتجنب كتأثّم وتحرّج وتهجّد إذا تجنب ذلك وللصيرورة كتأيّمت المرأة إذا صارت أيِّما وتكبّد اللبن إذا صار كالكبد وتجبّن صار جُبنا وتحجّر الطين وللتَّلَبُّس بمُسمَّى ما اشتقّ منه كتقمّص وتأزَّر وتدَرَّعَ وتعمّم وللعمل في مهلة كتبصّر وتفهّم وتعرّف وتسمّع وتجرّع ولغير ذلك من المعاني وأما تفاعل فتأتي لمعنى الاشتراك في الفاعلية لفظا وفيها وفي المفعولية معنى كتضارب زيد وعمرو فإنهما شريكان في الفاعلية في اللفظ فلذلك رفعا وهم في الحقيقة مشتركان معها في المفعولية إذ كل واحد منهما فعل بصاحبه مثل ما فعل به الآخر. ولتخييل فاعل الفعل كونه فاعلا نحو تغافل وتجاهل وتمارض وتباله إذا ظهر بصورة ذلك وليس به ولغير ذلك وأما افتعل فتأتي للاتخاذ نحو اذَّبَحَ واطّبخ واشتوى وللتسبب في الشيء والحركة فيه كاعْتَمَل واكتسب وللتخيير نحو اقتنى وانتخب واصطفى ولعمل العامل بنفسه نحو اضطرب وارتعد وارتعش واختتن واستاك وادّهن ويأتي لغير ذلك وأما تَفَعْلَل وما لَحِق به فهو الذي لا يأتي [439]

على ما زعم في التسهيل إلا لمطاوعة فَعْلَلَ تحقيقا أو تقديرا فهو الذي لا يحتاج إلى تخصيصه بذكر بخلاف سائرها فكما ذكر الاستفعال بخصوصه لأجل ما يلحقه من التاء الزائدة في الدلالة على تلك المعاني فكذلك كان يجب أن يذكر البواقي فلو قال مثلا والتاء في التأنيث والمضارَعَةْ ... ونحو الافتِعالِ والمُطاوعَةْ كذاك في التَّفْعِيلِ والتَّفْعالِ ... كذا مَعَ السِّين في الاستفعال ومثلها تَفاعُلٌ تَفَعُّلُ ... واختُصَّ بالمطاوِع التَّفعْلُلُ لم يبق له شيء مما يحتاج إليه فإن قيل لم يُرِد أن يذكر هذه الأشياء كلها وإنما أراد ذِكر المطاوعة فقط وقد دخلت له تحت لفظ المطاوعة فالجواب أن الاستفعال أيضا كذلك فلم جرّده بالذكر؟ فإن قيل إنما خصّ الاستفعال بالذكر لما فيه من خصوصية زيادة السين وهذا هو الظاهر منه فالجواب أنه لا يُفهم له ذلك البتّة من محصول كلامه لأنه إنما تعرّض للتاء وأنها تُزاد في هذا المثال وبقيت السين فيه مسكوتا عنها فإذا جاء طالبٌ يطلب زيادة السين في هذا الفصل لم يجدها أصلا ولم يجد لزيادتها موضعا معيّنا وقد مرّ التنبيه على هذا أول الفصل فإنما الذي كان [440]

يطّرد على طريقته في عقد هذه المسألة ما كان نحو هذه الأبيات التي ذكرتُها آنفا مع أنّ ذكر المطاوعة فيها فضلٌ والاستغناء بالأمثلة كان أولى لكني اتبعتُ لفظه في نظمها فزدتُ آخرا أن التَّفَعْلُلَ هو المختصّ بمعنى المطاوعة بخلاف غيره فإنه لا يختص بها بل يأتي لها ولغيرها كما تقدم وانظر في التسهيل وشرحه وقد اقتصر في التسهيل في هذه المسألة على مجرّد الأمثلة ولم يذكر المطاوعة وهو أضبط لما قصد ضبطه فالحاصلُ أن هذا المسألة لم يُوردها على ما ينبغي والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أن الناس قد عدّوا تاء التأنيث اللاحقة للاسم والفعل في أنواع التاء المزيدة وأولهم في ذلك سيبويه إذ قال «وأما التاء فتؤنث بها الجماعة نحو منطلقات وتؤنّث بها الواحدةُ نحو هذه طلحةٌ ورحمةٌ وبنتٌ وأختٌ» فعدّها كما ترى في باب حروف الزوائد وتبعه على هذا الناس والثاني أن تاء التأنيث وإن عدّت كالمنفصلة من وجه فقد عدّت من وجه آخر كالمتصلة المبني عليها ألا تراهم جعلوها في آخر الاسم محلا للإعراب ولا يقع الأعراب إلا على ما هو جزء لا ما هو منفصل ولذلك لم يعدوها من حروف المعاني وأخرجها وما أشبهها في التسهيل عن كونها كلمة بقوله لفظ مستقل ... إلى آخره على ما هو مبسوط في شرحه فهذا الذي اعتبر الناظمُ في عدها هنا [441]

والجواب عن الثاني أن جميع الأقسام داخل له تحت إطلاق لفظ التأنيث لأن التاء في جميع أقسامها دالة على التأنيث وإن اختُصّت مع ذلك بالدلالة على شيء آخر قال الفارسي في التذكرة «هذه التاءُ وإن اختلفتْ معانيها وكان منها ما يدلّ على الواحد من الجنس نحو جراد وجرادة ومنها ما يدل على العجمة نحو الموازجة والسبابجة ومنها ما يدل على النسبة نحو المهالبة ومنها ما يكون بدلا من حرف كان يلحق الكلمة نحو زنادقة فكلها تجتمع في أنها علامةُ تأنيث ألا ترى أنك إذا سمّيت بشيء من هذه الضروب التي تلحقها الهاء مع اختلافها اتّفقت في أنها لا تصرف في المعرفة فهذا يدل على أنه كالشيء الواحد والقبيل المفرد ومن ثَمَّ لم يجُزْ أن تدخل في أوصاف القديم سبحانه نحو علّامة لأنّ لحاقها للتكثير لم يخرجها عن أن تكون للتأنيث» هذا ما قال وهو حسن فدخل إذًا قسمُ التاء الفارقة بين الجنس ومفرده وغيره من الأقسام في تاء التأنيث والجواب عن الثالث أنّ النظر في القياس أو عدمه ليس بالنسبة إلى المزيد نفسه بل بالنسبة إلى تعَرُّف قانون الزيادة فالتاء إذا أُنِّثّ بها في أي موضع كانت مزيدة بلا بُدّ ولا يُوجد تاء** التأنيث** غيرُ مزيدةٍ البتّة كما تقول إذا وقعتِ الهمزةُ أولا بعدها ثلاثة أحرف أصول فاقض عليها بالزيادة ولا يلزم من هذا كونُ الهمزة تلحقُ الكلمة قياسا بل لا نظر هنا في ذلك أصلا [442]

فكذلك تقول هنا كل تاء للتأنيث وقعت في كلام العرب فاقض عليها بالزيادة كان وقوعها في الكلام قياسا أو سماعا فالقضاء بالزيادة هو المستتبّ ولحاقها يختلف الحال فيه كسائر ما يُزاد وقد نصّوا على أن زيادة النون في الخماسي ثالثة ليس بقياس وإنما يتلقى من أفواه العرب مع أن الحكم بزيادتها قياس مطرد فالحاصل أن الاعتراض من قبيل المغالطة! والجواب عن الرابع أن الناس قد عدّوا التاء في المضارع من قبيل أقسام زيادتها وكونُ هذا القَسمِ مما لازمه السماع لا يخرجه عن دعوى الاطراد فيه ولا عن جعله من قبيل المقيس إذ قولُ القائل إنّ كلّ تاء في المضارع زائدة صحيح وهو الذي أراد بيانه وكذلك سائرُ الأقسام وما ذكر من الإبهام قريب لا محذور فيه والجواب عن الخامس من وجهين أحدهما أنه اتّبع سيبويه وغيره في ذلك إذ عادتهم التجوّز في تعريف القانون بالمثال قال سيبويه «وأما السين فتزاد في استَفْعَلَ» ولم يزد على هذا لكن قد يُسمح لسيبويه ولمن كان مثله في مثل هذا إذ مقصوده حاصل على الجملة وأما الناظم فلم يَبْنِ في عبارته على سذاجة أولئك وإنما بنى على التحذّق في العبارات وضمّ أطراف الألفاظ وإيرادها من تحت النظر والامتحان فهو جدير بألا يُسامح في هذا وأشباهه! [443]

والثاني ما اعتذر به شيخنا القاضي رحمه الله من أنه قصد بالتمثيل عادته من إرادة الهيئة والوضع فكأنه يقولُ التاءُ تزادُ أيضا إذا وقعت ثالثةً لألف الوصل وبينهما السين كما في هذا المثال فيدخلُ له كلُّ ما كان نحوه مما فيه التاء ثالثة لألف الوصل كالاستكبار والاستعلام وكذلك الماضي منها وأما المضارع فيجري على حكم المصدر لأنه فرع عن المصدر ثم قال رحمه الله لكن هذا على مسامحة في العبارة وقد كنتُ فيما أحسب قلتُ له وقتَ قراءتنا عليه هذا الموضع من التسهيل وقد أُورِدَ عليه السؤال لعلّه لم يُرِدْ نفس المثال المعيَّن وإنما أراد معناه كأنه يُريدُ بالاستفعال معناه بالوضع وهو طلبُ الفعل مثلا فالاستعلام طلبُ العلم والاستخبار طلبُ الخبر وكذلك سائر معانيها وكأنه يقول حيث وُجد فيما كان على هذا المثال هذا المعنى فالتاءُ فيه زائدة وهكذا سائر ما مُثّل به من الانْفِعال والافْعنْلال والافْتِعال والتَّفْعيل وما ضارع ذلك فكأنّ القاضي رحمه الله استحسن هذا المنزع واستملحه في الوقت ولكن لا أرتهنُ الآن في صحّته بعد الامتحان والذي قيدتُ عنه ذلك الوقت ما اعتَذَر هو به فهذا جارٍ على كلامه في هذا النظم والمسألة واحدة وأما الاعتراضُ السادسُ فهو متمكّن. * * * وَالْهَاءُ وَقْفًا كَلِمَهْ؟ وَلَمْ تَرَهْ ... وَاللَّامُ فِي الْإِشَارَةِ الْمُشْتَهِرَةْ [444]

يعني أن الهاء تزاد قياسا في الوقف وأعطى ذلك أنها لا تزاد في غير الوقف إلا بالسماع والأمر كذلك ثم مثّل ذلك بقوله كَلِمَهْ ولَمْ تَرَهْ فلِمَهْ من قولك لِمَ تفعلُ كذا؟ ومثل ذلك عَمَّه؟ وفِيمَهْ؟ وبِمَهْ؟ ومِمَّهْ؟ وعلامَهْ؟ وإلامه؟ وحتّامه؟ وما أشبه ذلك ولم تَرَه هو وقفُك على لم تَرَ زيدًا وكذلك لم يَغْزُهْ ولم يرْمِهْ ولم يخشَهْ وذلك كلُّه مذكور في بابه فلا يُطوَّلُ بذكره وقد تقدّم مذهبُ أبي العباس في هذا وأنّ الناظم اتبع في إثبات زيادة الهاء مذهب سيبويه والجمهور ومرّ الاحتجاج للفريقين وبالله التوفيق ثم قال «وَاللَّامُ فِي الْإِشَارَةِ الْمُشْتَهِرَةْ» يعني أنّ اللام أيضا تزاد في أسماء الإشارة فهو على حذف المضاف فتقول في ذاك: ذلك وفي تاك: تالِك وفي هناك: هنالك وفي أولاك أولالِك قال الشاعر أنشده ابن السكيت** أولالك قومي لم يكونوا أُشابةٍ ... وهل يعظُ الضِّلِّيل إلا أُولالكا وإنما جعلوا اللام هنا زائدة لسقوطها في بعض تصاريفها [445]

فإن قيل ولعلها لغات ثابتة ليست إحدى اللغتين من الأخرى ويدلّ على ذلك أنها مبنيات شبيهة بالحروف في أصل الوضع فالأصل أن لا تصرُّف لها إلا بالسماع فمتى احتمل أن تكون على غير جهة التصرّف الثابت للأسماء المتمكنة والأفعال المتصرفة فهو الأولى لأن الأصل فيها عدمُ التصرف وإلا فلْتدَّعوا أن الهمزة في أولاء وأولائك زائدة لقولهم أولى وأولاك والجواب أن الأئمة عدّوا اللام من الزوائد هنا ووجهُ ذلك أن أسماء الإشارة قد ثبت لها من التصرّف ما لا ينكر معه دعوى الزيادة فيها كالتثنية والتصغير ووقوعها صفات وموصوفات وغير ذلك من الأحكام الخاصة بالمتصرف فلذلك صحت دعوى الزيادة فيها والله أعلم وقوله الْمُشْتَهِرَةْ يحتمل أن يكون مرفوعا نعتا للام كأنه قال واللامُ المشتهرةُ في الإشارة وأن يكون من نعتِ الإشارة فيكون مجرورا وهو أظهرُ وهذا اللفظ إنما هو زيادة بيان لو أُسقِط لم يُحتَج إليه * * * وَامْنَعْ زِيَادَةً بِلَا قَيْدٍ ثَبَتْ ... إِنْ لَمْ تَبَيَّنْ حُجَّةٌ كَحَظِلَتْ هذان الشطران يذكر فيهما حُكًا كُليا في جميع ما تقدم في فصل الزوائد فقوله «وَامْنَعْ زِيَادَةً بِلَا قَيْدٍ ثَبَتْ» يعني به أن الكلمة التي يدخلها التصريفُ إما أن تتوفر فيها القيود المذكورة بالنسبة إلى الحرف [446]

الذي اشتملت عليه وإما ألّا تتوفر بل تخلُو عنها أو عن بعضها فإن خَلَتْ من جميع القيود المذكورة في الحرف أو من بعضها فلا بُدَّ من منع الحكم بالزيادة وقوله «بِلَا قَيْدٍ» متعلق باسم فاعلٍ هو صفة لزيادة، و «ثَبَتْ» في موضع الصفة لقيد أي امنع زيادةً كائنة بغير قيد ثابت فيما تقدم وقوله «إِنْ لَمْ تَبَيَّنْ حُجَّةٌ» شرطٌ في منع الزيادة في الحرف الخالي من القيد يريد أن الحرف الخالي من القيد أو من القيود على قسمين أحدهما ألّا تقوم على زيادته حجة من خارج فهذا ممنوع من دعوى الزيادة فيه لأنّ قيود الزيادة وشروطها لم تتوفر فيه ولا جاءت حجة من خارج أدخلته في باب الزيادة فلم يكن لدعوى الزيادة فيه وجه فلا بد من رده إلى باب الأصالة والثاني أن تُبيِّن حجةٌ كون الحرف زائدا وإن خلا من القيود المذكورة أو من بعضها فمفهوم الشرط يقتضي أن يُعملَ على مقتضى لتك الحجة من ادعاء الزيادة إذ لا بد من اتباع الدليل ومثل ذلك بقوله «كَحَظِلَتْ» وذلك أنّ هذا الفعلَ من قولهم حَظِلتِ الإبلُ: إذ أكثرَتْ من أكل الحنْظل فهي حَظِلَةٌ وحظالى أيضا فهو دليل على زيادة نون الحنظل لأن هذه الكلمة قد وقعت فيها النونُ وأصلُ القاعدةِ في زيادة النون يمنع زيادتها هنا لأن لفظ الحنظل رباعيّ لا خماسيّ والنون غيرُ متوسطة بين حرفين قبلها وحرفين [447]

بعدها فقد تخلّف فيها بعض ما تقدم من الشروط فكان ذلك يقضي بمنع الزيادة وأن تقول بأصالتها فتكون الكلمةُ رباعيةَ الأصول على وزن فَعْللٍ** كجعفر لا على وزن فَنْعَلٍ لكن جاء من كلام العرب ما يدل على أن النون عندهم زائدة وهو أنهم قالوا من الحنظل: حَظِلَتْ فأسقطوا النون من بعض مُتصَرِّفات الكلمة فدلّ على زيادتها وأن وزن الكلمة فَنْعل لا فَعْلَل إذ لو كانت أصلية لقالوا حَنْظَلت الإبل فلم يسقطوها لأنهم يحافظون على الأصلي ألّا يسقط في التصريف وهذا دليل تصريفي لا اشتقاقي إذ هو استدلال بالفرع على الأصل لأن الحنظل هو أصل حظلت فالفعل راجع إليه في الاشتقاق وهذا ظاهر وقد أشعر هذا الكلام بقاعدةٍ وهي أنّ ما ادُّعِي فيه الزيادةُ بتلك القيود المتقدمة ليس مما ثبت بالسماع أو دليلٍ من الأدلة بل هو مما لم يثبُتْ فيه دليل فيُحمل* بالاستقراء على ما دلّ عليه الدليل من اشتقاق أو تصريف فقولهم مثلا إن النون إذا وقعت آخرا بعد الألف وقبل الألف ثلاثة أصول فأكثر حُكم بزيادتها معناه فيما لم يثبت فيه شيء فنحن نحملُه على ما صحّ عندنا بالاستقراء وذلك أنّ ما كان من النونات على تلك الحال فإنما هي زائدة فيما عُرِف له اشتقاق أو تصريف فنحكم على ما لم يكن له اشتقاق ولا تصريف بذلك الحكم حملا لما جُهل على ما عُلم ولا نخرج به عن هذا الحكم [448]

لأنه خروج إلى غير أمر معلوم وكذلك سائر ما ذُكر في حروف الزيادة من القوانين والذي دلّ على هذا المعنى من كلامه أنه قال «وَامْنَعْ زِيَادَةً بِلَا قَيْدٍ ثَبَتْ ... إِنْ لَمْ تَبَيَّنْ حُجَّةٌ» فشَرَطَ في الحكم بالزيادة عدم بيان الحجة ولو كانت القيود* المذكورة فيما عُرف اشتقاقه أو عُرف له تصريف يبيّنه لم يصح هذا الكلام إذ لا يتعارض هنا دليلان اشتقاقيّان أو تصريفيّان على الكلمة الواحدة وإن اتُّفق أن يتعارضا فلا يُقال بالركون إلى أحدهما دون الآخر إذا ثبتا معا وإنما يصحّ هذا إذا كانت القوانينُ المتقدمة إنما تنتظم ما لم يقُم فيه دليل سوى الحمل على ما عُرف اشتقاقه أو تصريفه ومن هنا أيضا يكون ما سوى الاشتقاق والتصريف من الأدلة معتبرا هنا ولو كان ما تقدم ثابتا بهما لم يراع غيرهما في حكم ولا ترجيح وإذا تقرر هذا بقي مما يتعلق بكلام الناظم النظر في طرفين: أحدهما ي أصناف الحُجج المعتبرة المحتاج إليها في الخروج عن القاعدتين وهما الحكمُ بالزيادة فيما توفرت** فيه القيود المذكورة ومنعُ الحكم بهما فيما لم تتوفر فيه والثاني في جملةٍ مما خرج عنهما في الحروف المتقدمة وبهما يتمُّ تفسير كلامه وبيان مراده بحول الله تعالى فأما النظر الأول فاعلم أنّ الأدلة التي يَستدِلُّ بها التصريفيون على الأصالة والزيادة تسعة وإن شئتَ فقل عشرة: [449]

أحدها الاشتقاق وهو على قسمين أصغر وأكبر فالأصغر ردُّ الكلمة في دلالتها على معناها إلى مادتها ليُتَحقَّق بها لفظًا ومعنى وذلك أنّ الكلمة لها دلالتان دلالةُ مادةٍ ودلالةُ صيغةٍ إلا أنّ دلالة الصيغة مبنية على دلالة المادة فهي الأصل لدلالة الصيغة فالاشتقاق يردّ الكلمة إلى أصلها وهي المادةُ الدالة التي هي الفاء والعين واللام وقوله «ليُتَحقَّق بها لفظًا ومعنى» بيان للعلة التَّمامِية في الاشتقاق وهي أن تصير الكلمةُ عن الناظر فيها محقَّقة اللفظ من جهة الأصالة والزيادة والصحة والإعلال وشبه ذلك ومحقَّقة المعنى من جهة معرفة دلالة المادة من دلالة الصيغة وكيف ارتبطت الدلالتان حتى حصل تمامُ معنى الكلمة فيصير عالما بها من كل الجهات هذا هو الحد الذي ارتضيتُه في كتابي المسمى بعنوان الاتفاق في علم الاشتقاق وأما الأكبر فهو الحد بنفسه إلا أنك تُعوِّض من قولك «مادتها» قولّك «حروفها الأول» وإنما كان ذلك لأن المادة أخص من الحروف الأول فإذا قلت مثلا إن الأَوْلَقَ مشتق من وَلَقَ إذا أسرعَ والأَوْلَقُ الجنون وهو موصوف بالسرعة فقد رددت الأولق إلى مادته التي بُني منها وهي د ل ق ويصح لك أن تقول إنك رددته إلى حروفه الأول وإذا قلت إنّ اقلولى مشتق من وَلَق لأنّ الاقليلاء الخفّةُ والطيش من الكِبْر وهي سرعةٌ ظاهرة فقد [450]

رددته إلى حروفه الأُوَل وهي الواو والقاف واللام مطلقا من غير مراعاةِ ترتيبها وهذا في الإطلاق صحيح بخلاف ما إذا قلتَ إنك رددتها إلى مادته لأن المادة إنما تُطلق اصطلاحا على الحروف مرتَّبا بعضُها على بعض فمادةُ الاقليلاء: ق ل ووليست في الترتيب كمادة ولق التي هي: ول ق فليست ول ق للاقليلاء وإنما هي حروفها مطلقا وبهذا المعنى بيّن ابن جني كل واحد من الاشتقاقين فقال في حد الأصغر: هو أن تأخذ أصلا من الأصول فتتقرّاه فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صِيَغُهُ ومبانيه وقال في الأكبر: هو أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا تجمع فيه التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُدَّ بلطف الصنعة والتأويل إليه وقد حُدَّا بحدود أُخَر لا حاجة إلى ذكرها والمستعمل في التصريف الجاري على ألسنة أهله هو الأصغر وحده وهو الذي يُعتمد عليه باتفاق منهم والثاني من الأدلة التصريف وهو على قسمين تصريف عربي وتصريف صناعي فالتصريف العربي هو إبراز المادة في صُوَرٍ مختلفة لتدل دلالة إضافية تفصيلية على ما دلت عليه المادة دلالة مطلقة إجمالية وذلك أنّ المادة الأولى إنما تدل على معناها الذي وُضعت له دلالة مجملة لا مُفصَّلة ومطلقة لا مُقيَّدة بشيء ولا مضافة إلى شيء ولا إلى اعتبارٍ ما دون اعتبار بل هي مطلقة بحسب الأزمان والأمكنة والفاعلين والمفعول بهم والأحوال والأنواع وغير ذلك من الاعتبارات فالتصريف يُبرز تلك المادة في أبنية مختلفة دالة على أمور [451]

تضاف إليها دلالة تلك المادة وتُقيَّد بها وتُنوَّع بحسب وضع تلك البنية للمعنى الذي دلت عليه فتصير تلك الأبنية تدل على معنى المادة على التفصيل فمادة ع ل م مثلا دالة على معنى العلم مطلقا فإذا أبرزته في نبية «عالم» دلت على علم اتصف به ذات من الذوات* أو في بنية «معلوم» دلت على علم مُتعلق* بماهيّة من الماهيات أو قلت «عَلِم» دلت على عِلم مُقيَّد بفاعل في الزمان الماضي وكذلك إلى آخر ما يقال في ذلك وأما التصريف الصناعي فهو الذي حده ابن جني وغيره بأنه بناؤك من حروف الكلمة على وزان ما شئت من الأبنية على الحد الذي يقتضيه قياس كلام العرب كبنائك من ضرب مثل جعفر أو قمطر أو سفرجل أو دحرجَ أو ما أشبه ذلك وهذا الثاني ليس من الأدلة وإنما المعتبر في الأدلة هو الأول كما تقول إنّ «أَيْصر» وزنُه فَيْعَلٌ لا أَفْعلٌ بدليل جمعه على إصَارٍ [452]

وكذلك أَيْطَلٌ بدليل إطْلٍ وكذلك أحمرُ همزته زائدة بدليل جمعه على حُمْرٍ ومن هذا كثير وهو والاشتقاق منعكسان في الدلاة فالاشتقاق يُستدل به بالأصل على الفرع والتصريف يُستدل به الفرع على الأصل والثالث الكثرة وهو أن يكون الحرفُ في موضع ما قد كثرت زيادته فيما عُرف له اشتقاق أو تصريف ويقل وجوده أصليا فيه فيجعل ذلك الحرف في ذلك الموضع زائدا إذا لم يُعرف له اشتقاق ولا تصريف حملا على الأكثر وذلك كالهمزة الواقعة أولا بعدها ثلاثة أحرف أصولٍ فإنها كثرت زيادتُها فيما عُرف له اشتقاق أو تصريف نحو أحمرَ وأصفرَ إلا ألفاظا يسيرةً فإن الهمزة فيها أصلية كأرطى دل على ذلك التصريف من قولهم أديم مأروط فإذا جاءت الهمزة فيما لا اشتقاق له ولا تصريف نحو أفْكلٍ وجب حملُها على الزيادة وأن لا يلتفت إلى أرطى وأخواته لقّلتها وكثرة باب أحمر والرابع اللزوم ومعناه أن يكون الحرف في موضع ما قد لزم الزيادة في جميع ما عُرف له اشتقاق أو تصريف فإذا جاء ذلك الحرف في ذلك الموضع فيما لا يُعرف له اشتقاق ولا تصريف حُكم له بالزيادة حملا على ما ثبتت زيادته فيه بالتصريف أو الاشتقاق كالنون الواقعة ثالثة ساكنة بين [453]

حرفين قبلها وحرفين بعدها لما تقدم ذكره فإنها أبدا زائدة فيما عُرف اشتقاقه أو تصريفه كجحَنْفل من الجَحْفَلة وحَبَنْطًى من حَبِك بطنُه وكذلك سائرها فإذا جاءت النون في مثل عَبَنْقسٍ مما لا يُعرَفُ له اشتقاق ولا تصريف حُمل على ما عُرف ذلك فيه فجعلت نونُه زائدة والفرق بين دليل الكثرة ودليل اللزوم أن اللزوم من حقيقته أنه لم يأت له معارض في اطّراد الزيادة بخلاف الكثرة فإنه قد أتي فيه المعارض كأرطًى في باب الهمزة كلنه قليل فلم يُحمل عليه غيرُه والخامس لزوم حرف الزيادة البناءَ وذلك أن يأتي بناءٌ على هيئة ما فيلزمه في كل ما جاءت من الكلم على وزنه حرفٌ من حروف الزيادة في موضع ما بحيث لا تنفك كلمة على ذلك الوزن من ذلك الحرف بعينه فإنه يُقضى عليه بالزيادة إذ لو كان أصليا لوقع في موضع حرف من الحروف غير المحتملة للزيادة أو المحتمل لها وذلك حِنْظَأْوٌ وكِنْتَأوٌ وكنْثأْو وسِنْدأْوٌ فلزوم النون ثانية لما كان على هذا المثال دليل على زيادتها ولمّا لم تلزم الهمزةُ رابعة بل قالوا عِنْزَهْو فأوقعوا في [454]

موضعها حرفاً آخر ادّعوا أصالتها وإنما قالوا هذا لأنه مُستقرًى مما عُلم اشتقاقُه أو تصريفه نحو استفعل في الأبنية إذا قلت استقدر واستعلم واستخرج واستكبر واستدعى وما أشبه ذلك من الأمثلة التي على هذا الحكم حين رأوا تلك الحروف لازمة وإن اختلفت المواد مع القطع بزيادتها بالاشتقاق والتصريف حكموا بذلك فيما لم يعرفوا له اشتقاقا ولا تصريفا وأصَّلوها قاعدة فقالوا لزومُ الحرف الصيغة مع اختلاف المواد يدل على الزيادة كما أنّ لزوم الحرف المادة مع اختلاف الصيغة يدل على الأصالة والسادس كونُ الزيادة لمعنًى يُفقد بفقدها ويوجد بوجودها وذلك كحروف المضارعة وواو مفعول وميمه وألف التكسير على مفاعِل ومفاعيل وعلامات التثنية والجمع ونحو ذلك فمثل هذا يدل على معنًى إذا وُجد ولم يأت حرف أصلي قط على هذه الصفة قال ابن عصفور «على أن هذا الدليل قد يمكن أن يُستغنى عنه بالاشتقاق والتصريف إذ ما مِن كلمة فيها حرفُ معنًى إلا ولها اشتقاقٌ أو تصريف يُعلَم به أصولُها من زوائدها لكن مع ذلك قد يُعلم كون الحرف زائدا بكونه لمعنى من غير نظر إلى اشتقاقه أو تصريفه» قال «فلذلك أوردناه في الأدلة المُوصِلة إلى معرفة الزيادة من غيرهما» [455]

والسابع: النظير ومعناه أن يكون في لفظ ما حرفٌ لا يمكن حملُه إلا على الزيادة بدليل دلّ على ذلك ثم يسمع في ذلك اللفظ لغةٌ أخرى يحتمل ذلك الحرفُ فيها أن يُحمل على الأصالة وعلى الزيادة فيقضى عليه بالزيادة لثبوت زيادته البتة في اللغة الأخرى النظيرة لهذه نحو تَتْفُل فإن فيه لغتين فتحُ التاء الأولى وضمُّها فمن فتح التاء لم يمكن أن تكون التاءُ عنده إلا زائدةً لأنها لو كانت أصلية لكان وزن الكلمة فَعْلُلا وليس في الكلام مثل جَعْفُرٍ وفيه على الجملة تَفْعُل وأما من ضمّ التاء فيمكن في لغته أصالة التاء لأن وزنه حينئذ فُعْلُلٌ وهو موجود كفُلفُل وبُرثُن إلا أنه لا يُقضى عليها بذلك لثبوت زيادتها في لغة من فتحها وإن لم يوجد في الكلام مثل تُفْعُلٍ والثامن الخروجُ عن النظير وهو أن يكون الحرفُ إن قُدِّر زائدا كان له نظير وإن قُدِّر أصليا خرج عن النظير أو يكون الأمر فيه بالعكس إن قُدِّر أصليا كان له نظير وإن قُدّر زائدا لم يكن له نظير فالحكم له هنا بما لا يخرج به عن النظير فالأول كغِزْويت فإن حملنا التاء على [456]

الأصالة كان وزن الكلمة فِعْويل وليس بموجود في الكلام وإن جعلناها على الزيادة كان وزنها فعليت ولن نظير وهو عفريت فحكمنا بزيادة التاء لأجل هذا والثاني كالنون في دَهْقَن إذا جعلناه مشتقا من الدهقنة والنون أصلية ووزنه فَعْلَل وهو بناء موجود وإن جعلناه مشتقا من الدّهق كانت النون زائدة ووزنه فَعْلن وهو بناء غير موجود فوجب العدول عن الخروج عن النظير إلى الدخول في بابه والفرق بين هذا والذي قبله - فإنهما قد اجتمعا في اعتبار النظير - أن الأول مختص بما فيه لغتان يجب حمل إحداهما على الأخرى وإن أدى إلى الخروج عن نظير آخر فلا يتعارض فيه عدم النظير حتى يُطلَب الترجيح بوجهٍ آخر بخلاف هذا فإنه غير مختص بما فيه لغتان ولا بد من مراعاة عدم النظير حتى إذا تعارض عدم النظير في الاحتمالين رُجع إلى دليل آخر وإذا تأملت التمثيل في الدليلين تبيّن لك صحة ما ذكرتُه والتاسع الدخول في أوسع البابين عند لزوم الخروج عن النظير وذلك أن يكون في الكلمة حرف يمكن أن تدّعى فيه الزيادة إلا أنه يلزم من دعوى زيادته الخروج عن النظير ومن دعوى أصالته الخروج عن النظير أيا فينبغي أن يحمل الحرف على الزيادة لا على الأصالة لأن أبنية الزيادة كثيرة جدا وبابها واسع بخلاف الأبنية المجردة من الزوائد فإنها قليلة فكان إدخال الكملة فيما كثر أولى من جعلها من القليل مثل كَنَهْبُل فإنك إن [457]

ادعيت أصالة النون كان وزنه فَعَلُّلا وليس في الكلام وإن ادعيت زيادتها كان وزنه فَنضعْلُلا وليس في الكلام أيضا فكان هذا الثاني أولى لكثرته واتساع بابه والعاشرُ الهروب عن ترتيب الحكم على غير سبب وذلك أن يتعلق بالكلمة حكمٌ من الأحكام مفتقر إلى سبب وُجد ذلك الحكم من أجله ويكون فيها حرف إن جعل زائدا ترتب الحكم على سببه وإن جعل أصليا ترتب الحكم على غير سبب فالأولى دعوى الزيادة ليترتب الحكم على سببه وإن أدى إلى الخروج من الكثرة إلى القلة ومثاله الكُلَّاءُ هو محتمل لأصالة الهمزة ولزيادتها فعلى الأول يكون فَعَّلا من كَلأ وهو أقرب في صناعة الاشتقاق وعلى الثاني يكون فَعَّالا من كَلَّ يَكِلّ وهو أبعد لكن من منعَ صرفه يجب أن يُحمل عنده على الثاني وإن كان أبعد إذ في حمله على الأول ترتيبُ منع الصرف على غير موجب لأنه فَعَّالٌ بالفرض بخلاف ما إذا حُمل على الثاني فإن مَنْع الصرف يترتَّبُ على موجبه لأنه فعلاء فتكون الهمزة للتأنيث هذه جملة ما ذكروا من الأدلة في باب التصريف وأكثرها بل جميعها مستنبط من كلام سيبويه وإليها أشار الناظم بقوله «إِنْ لَمْ تَبَيَّنْ حُجَّةٌ» وأما النظر الثاني في جملةٍ مما خرج عن القاعدتين مما ذُكر احتمالُه للأصالة والزيادة أو لم يُذكر فنأتي بها على توالي الحروف بحول الله: [458]

فأما الألف ففيها من المحتمِل قَطَوْطًى وبابُه والوجهُ فيه أن تكون الألف أصلية لا زائدة لأنها إن جعلتها زائدة كان وزن الكلمة إما فَعَوْلى وإما فَعَلَّى أما فعولى فنادر مع أنه في قطوطى يقضي بتركيب ق ط ط وليس قطوطى من ذلك بل هو من القَطَوان كذا قال سيبويه لأن القطوطى من قطا يقطو قَطْوًا إذا قارب الخطو مع النشاط قال الجوهري «فهو قَطَوانٌ بالتحريك وقَطَوَطًى*» وكذلك يقضي في ذلولى وقلولى من ذ ل ل وق ل ل وليس كذلك بل هو من ذ ل وو ق ل ووقالوا قلا يقلو واذلولى وكذلك ما عداها مما له اشتقاق إلا شطوطى فإنهم قالوا ناقة شطوط وشَطُوطَى أي عظيمة الشطِّ وهو السنام فهو بلا شك فَعَولى وألفه زائدة إذ هو من تركيب ش ط ط وأما فَعَلَّى فيلزم عليه أصالة الواو في بنات الأربعة دون تضعيف وذلك لا يكون إلا نادرا كوَرَنْتل فثبت أنّ الألف ليست فيها بزائدة وإنما هي أصلية لكن يمكن أن يكون وزنها فَعَلْعَلا كدَمَكْمَكٍ ويمكن أن يكون فَعَوْعَلا كعَثَوْثَلٍ والذي رجّح الفارسي** فيها الأول لأنه الأكثر ووقع في كلام سيبويه اضطراب في المسألة وللناس معه كلام عليك به في مظانه إن تشوفت إليه [459]

ومنها دارانُ وهامان ونحوهما وقد تقدم القول فيه على ظاهر التسهيل من أنه من باب ساباط وأنّ الألف الأولى زائدة بدليل أنها لو كانت أصلية لترتب الحكم فيها وهو الإعلال على غير سبب إذ هو إذ ذاك من باب الدوران والهيمان والجمهور على أنه من ذلك لأنه دخول في باب الكثرة لاتساع باب الفَعَلان وقلة باب فاعال وأما الياء ففيها من المحتمل مريم ومدين والراجح عندهم أصالة الياء فيهما وزيادة الميم لأن الميم والهمزة إذا وقعتا أول الكلمة حُكم بزيادتهما وأصالة ما بعدهما من ياء أو واو أو غيرهما وما قيل من لزوم شذو التصحيح فهو يَرِد في الأعلام كثيرا كمكوزَةَ وحيوةَ وغير ذلك وأيضا إن حكمنا على الياء بالأصالة أدخلناهما في الباب الأكثر وهو مَفْعَل وإن حكمنا بزيادتهما أدخلناهما في الباب النادر أو المعدوم وهو فَعْيل إذ لم يُنقل منه إلا ضَهْيد وقدح فيه السيرافي ومن ذلك يَأْجَجُ الياء فيه أصلية لا زائدة عند سيبويه إذ لو كانت زائدة لوجب الإدغام ولكان إظهار التضعيف فيه شذوذا كشذوذه في مَحْبَبٍ وكان إذ ذالك يُلفى فيه ترتيب حكم وهو الفكّ على غير سبب والفكّ لا يكون إلا لسبب فلو جعلتها أصلية لكان إظهار التضعيف لسبب وهو الإلحاق بجعفر كقَرْدَدٍ ومَهْدَدَ. ويرويه أهل الحديث بكسر الجيم [460]

الأولى، قال السيرافي وهو شاذ لأنه ليس في الكلام فَعْليل أصل ولا مزيد ولو كان يَفْعِل لكان مدّغما لكن الأولى أن يكون كسرُه مما شذّ في الأعلام ويحكم على الكسر بالفتح ومن ذلك يَهْيَرُّ لا يجوز أن تكون الياءان معا أصلين إذ لا تكون الياء أصلا في بنات الأربعة إلا مع التضعيف كيُؤيؤ كما قال الناظم وأيضا ليس في الكلام فَعْلَلٌّ كجَرْدَحْلٍ فلا بد من زيادة إحدى الياءين فزعم سيبويه أن الزائدة هي الأولى لأنه ليس في الكلام فَعْيّ** قالوا وهذا مشكل لأنه ليس في الكلام أيضا يَفْعَلّ والجواب أن سيبويه لم يستدل بهذا خاصة بل مع ما بعده من أنّ ما أولُه زيادة قد ثُقِّلَ يعني أن «يَفْعَلّ» وإن لم يكن في الكلام فقد ثُقِّل ما أوله زيادة مما ثبت في الكلام كمكوَرّ فَلِجَعْلِ الأولى زائدة نظيرٌ بوجه ما وهو مُكْورّ ولم يُثَقَّل آخرُ ثلاثيٍّ أوسطُه زيادةٌ كفَوعل أو فيعل ونحوهما وأيضا فالياء أولا كالهمزة فإذا تعارض جعلها أولا زائدة وسطا غُلِّبت زيادة الأول لأن زيادة الياء أولا أكثر من زيادتها وسطا ولا سيّما ثالثة ألا ترى أنها تزاد أولا في الأسماء والأفعال ولا تزاد ثالثة في الأفعال؟ [461]

وأما الواو ففيها من المحتمل قولُهم غِزْويت واوه أصلية والتاء زائدة إذ لو عكست الحكم لكان وزنها فِعْويلا ولم يثبت من كلامهم وثبت فيه فعليتٌ كعفريت وهو ومن الاستدلال بعدم النظير ومنه أيضا ضَيْونٌ وحكم الفارسي عليه في التذكرة أنه فَيْعلٌ لا فَعْوَلٌ فالواو عنده أصلية لأن باب ضَيْغَمٍ أكثر من باب جَهْوَرٍ ولأمر آخر وهو أن الألف إذا كانت ثانية في نحو با** ودارٍ ولم يُعرفْ أصلُها فاحكم بأنها من الواو ففي هذه القاعدة أنّ كون الواو عينا أكثر من كون الياء عينا فكذلك ضَيْوَن تُجعل فيه الواوُ عينا دون الياء وأما الهمزة ففيها من المحتمل أيدعٌ وإشْفًى وأفعى والأوْتَكَى والهمزةُ في الجميع زائدة حملا على الأكثر لأنّ زيادة الهمزة أولا أكثر من زيادة الياء والألف والواو غير أول وأيضا قد قالوا الأُفْعُوان في معنى الأفعى وهو إما أن يكون على وزن أُفْعُلان أو فُعْلُوان فأما فُعلوان فقليل ولا ينبغي الحمل عليه وأما الأُفعلان فأكثر منه فوجب الحمل عليه وأيضا قالوا أرضٌ مُفْعاة أي كثيرة الأفاعي وهذا قاطع بزيادتها في أفعى وأيضا أفعلُ أكثر من فيعل وأفعل أكثر من فَعْلى والأفْعَلى أكثر من الفَوْعَلى فهذا من الحمل على الأكثر وأما إبّان فهمزه أصلٌ ووزنه فِعَّال إذ لو عددت همزته زائدة لأدّى إلى دخوله في باب دَدن وهو كون الفاء والعين من جنسِ واحد [462]

ومن ذلك أرطًى همزته أصلية عند من قال أديم مأروط ولم يحفظ سيبويه مَرْطيّ وهي زائدة على القياس عند من قال أدِيمٌ مَرْطيٌّ وحكاه الجرمي ومن الهمز الأخير المحتمل قولهم المُزَّاء هو فُعَّال فالهمزة أصلية إمّا من المِزيَّةِ أو من المُزَّةِ على أن يكون أصلُه «مُزَّاز» ثم أبدل كدَسَّاها ولا يكون فُعْلاء لقلَّته في باب الإلحاق كقوباءٍ حتى قال المبرد ليس لقُوباءٍ نظير إلا خُشَّاءً وإنما لم يكن فُعّالا لإهمال هذه المادة فيه حيث قالوا خُشَشاءَ كقوباء وهذا بلا شك فُعَلاء لإهمال فُوَعَال وفُعَعَال وحُوَّاء همزته أصلية وهو فَعَّالٌ لكثرته لا فُعْلاء لقته وقلة باب قوّ** والدُّبَّاء السُّلَّاء الثُّدَّاء: فُعَّالٌ والهمزة أصلية أعني غير زائدة لكثرة فُعَّال وقلة فُعْلاء وأما الكَلَّاء فمن منع صرفه قضى فيه بفَعْلاء ومن صرفه فالأولى فيه أصالةُ الهمزة من كَلأ أي حفظ لظهور الاشتقاق ولكثرة فَعَّال بخلاف فعلاء والخَشَّاءُ همزته زائدة لقولهم أنْبَطَ بِئْرَه في خَشَّاءَ أي في أرض فيها طين وحصى فمنع صرفه [463]

وقضَّاءُ الإبل فَعَّال دل على ذلك الاشتقاق لأنها إذا بلغت ذلك المبلغ قضت عن صاحبها والعَوَّاء لغير الكلب يُحمل على فَعَّال ويدَّعى الأصالة في الهمزة إن لم يمنع صرفُه إذ ليس في الكلام فَعْلاءٌ ملحقا والقِثَّاء فِعَّال لا فِعْلاء لكثرة فِعَّال وقلة فِعْلاء وأما تَيْماءُ ففعلاء والهمزة زائدة لفقد مادة ت مء أو ت م ي أو ت م ووكذا شِيْصاءٌ وسِيناءُ وتِيْناء همزاتها زائدة لندور فِيعال وكثرة فِعْلاء للإلحاق بسِرْداح وإن كان في نفسه قليلا فهو أكثر من فِيعالٍ وسيناء كذلك أيضا والخَوْصاء والعَوْصاء والزَّوْراء والرَّوحاء همزاتها زائدة وهي على فَعْلاء لا فَوْعالٍ لقلّته ولا يمنع ذلك عدم الصرف لأنها من أسماء البقاع ومما لم تتوفر فيه الشروط وبيّنتِ الحجّةُ زيادة الهمزة فيه نحو جُرائضٍ هو فُعائل قال سيبويه «لأنك تقول جِرْواض» وهو لا شك فِعْوالٌ فجرائض فعائل وهو من الاستدلال بالنظير وكذلك حُطائِط [464]

لأنه القصير فهو مشتق من الحَط قال سيبويه «لأنّ الصغير محطوط» والظاهر أن الهمزة هي الزائدة بنفسها إذ لم يثبت هنا كونها بدلا من شيء* وكذلك النئدلان* همزته زائدة اعتبارا بالنظير وهو النَّيدُلان وأما الميم ففيها من المُحتمِلِ قولهم مِجَنٌّ والظاهر فيه أن الميم زائدة وأن وزنه مِفْعَلٌ لوجهين أحدهما ظهور اشتقاقه من الجُنَّة بخلاف ما لو اشتق من مَجَن إذا صَلُب فإنه اشتقاق ضعيف والثاني كثرةُ زيادة الميم أولا إذا أمكن أن يكون بعدها ثلاثة أحرف أصول ولذلك جعل سيبويه موسى مُفْعَلا وإلى هذا مال الزبيدي وهو كان أليق بمذهب سيبويه إلا أنه جعل الميم أصلية ووزنه فِعَلٌّ كخِدَبّ وخالفه فيه طائفة ومن ذلك مَأْجِجٌ ومَهْدَد فرأى سيبويه أصالة الميم استدلالا بظهور التضعيف لئلا يكون ظهوره من ترتيب حكم على غير سبب إذ الواجب مع فرض الزيادة الإدغام كمكرّ ومفرّ ومردّ فإذا اعتقد الأصالة في الميم كان ظهور التضعيف للإلحاق بجعفر ومما تخلّف فيه بعض الشروط إلا أنه قام الدليل على زيادته قولهم الدُّلامِص على قول الخليل لأنه من الدِّلاص وهو البَرَّاق والدُّلامِص البراقُ وقالوا دَمالص ودُلِمَصٌ ودُمَلِصٌ [465]

وكذلك لبنٌ قُمارصٌ أي قارص فالنظير هنا دل على الزيادة وجعل ابن جني من ذلك على قول الخليل حُلْقومٌ من الحَل** وبُلْعومٌ لأنه من البَلْع وسَرْطمٌ من الاستراط ورأس صُلادِمٌ من الصَّلْد وأسد ضُبارم من الضَّبْر قال ابن الضائع: وهذه الألفاظ كلُّها ما الاشتقاقُ فيها ظاهر لدُلامص فيجوز أن يقال بزيادة الميم فيه وما هو فيها بعيد فلا ينبغي أن يقال بالزيادة لأن زيادة الميم حشوا قليل قال: ومن ذلك قولهم زُرْقُمٌ للأزرق وسُتْهُمٌ للأسته ودِرْدِمٌ من الدَّرَدِ ودِقْعَمٌ للاصقة بالتراب والدقعاء التراب وخِدْلِمٌ للخَدْلَة وأما النون ففيها من المحتمل نحو حَسّان وتبّان ورُمّان ونحو ذلك من المضاعف وقاعدة سيبويه فيه أنه يُحمل على زيادة النون وأنه [466]

فُعلان أو فعلان أو فِعلان ما لم يدل دليل على سواه قال في رُمّان حكايةً عن الخليل «وأحمله على الأكثر إذ لم يكن له معنى يُعرَف» قال الفارسي: يقول إذا لم أعرف له اشتقاقا حملته على أنه فُعلان لأن فُعلان أكثر من فُعّالٍ ثم حكى عن الأخفش العكس لكن في أسماء النبات خاصّة كرمّان شهادةً منه بأنه في النبات أكثر من فُعلان كتُفّاح وحُمّاض وجُمّار وخُبّاز وشبه ذلك فأما إذا عُرف له اشتقاق أو تصريف أو دل دليل على غير ذلك فالواجب اتباعه فتَبَّان يحتمل الوجهين لكن لو حمل على أصالة النون دخل في باب دَدنٍ وإن حُمل على زيادتها دخل في باب بَبَّه* وواوٍ والأول أمثلُ من الثاني فكان الحمل على أنه فَعَّال أولى وكنَيَّان اسم** موضع يحمل على زيادة النون على أن يكون الأصل نَوْيان فيكون من باب طَوَيتُ وهو كثير ولا يحمل على أصالتها لأنه عند ذلك إما فَعَّال من مادة ن ي ن وهي مهملة وإما فَيْعال من مادة ن ون وهي مادة داخلة في باب قلق وهو قليل وعلى هذا الترتيب حكم سائرها وأما ما كان نحو حَوْران وفَيْنان ونحوهما فالقاعدة الأولى جارية من كثرة باب فعلان إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك كما تقول في [467]

رُومان هو فُعلان لا فوعال لقلته فماوان فاعال لا فَعَلان وهو من مان يمون لعدم مادة م وو ومادة م ي ووكذلك فَيْنَان نونه أصليّةٌ عند الخليل لأنه من الفَنَنِ كما كان مُرَّان في المضاعف عند سيبويه فُعَّال من المَرانة وهو اللين وقد يكون اللفظ من هذا ومن المضاعف ذا اشتقاقين يحتملهما فلا يُرجَّح أحدهما على الآخر كما يقال في زيتون إنه إن اشتُقَّ من الزيت فهو فَعْلُونٌ وإن عُمل على قولهم: أرضٌ زَتِنَة فهو فيعول وكلاهما دليل قوي فالأول من الاشتقاق والثاني من التصريف وكذلك رُمَّان إن أخذ من رمّ كان فُعْلان وإن أخذ من قولهم أرضٌ رَمِنَةٌ فهو فُعَّال وهذا أظهر في الاشتقاق من الأول وعلى هذا السبيل يجري سائرُها فقد عرفت الطريق فيه ومما لم تتوفر فيه شروط الزيادة وقام الدليل على زيادته قولهم نَرْجِس قياسُه زيادةُ النون إذ ليس في الكلام مثل جَعْفِر وأما من قال نِرْجِسٌ بكسر النون فكذلك أيضا وإن وُجِد فِعْلِلٌ لأن الفتح قد قضى بالزيادة في إحدى اللغتين فيُقضى أيضا بذلك عملا بالنظير وحكى ابن جني عن ابن الأعرابي قال «والنون في نفاطِيرٌ** ونباذِيرَ ونخاريبَ [468]

زائدة لأنها من فطره: قطعه وبذره: فرَّقه ومن الخراب» ** وأجاز ابن جني في النبراس أن يكون البِرْس وهو القُطن لأن فتيله من قطن قال ابن الضائع: وهذا الاشتقاق بعيد مع قلة زيادة النون أولا في غير الفعل مع أن هذا البناء غير موجود ومن ذلك قولهم عَنْسَلٌ قال سيبويه «لأنهم يريدون العَسُول وعنبس لأنهم يريدون العَبُوس» وخُنَفْقيق لأنه من الخُفْوق وقِنْفَخْرٌ لأنهم قالوا في معناه قُفاخِريّ وهو التَّارُّ الناعمُ. وكُنْتَأْلٌ للقصير وكَنَهْبُل إذ ليس في الكلام مثل جُرْدَحلٍ ولا سِفَرْجُل وإنما أُدخلا في المزيد وإن كان مثل فَنَعْلُلٍ غير موجود لأن باب الزيادة أوسع وقُنْبَر: فُنْعَل بدليل قولهم قُبَّرةٌ وأما التاء فمما زِيدت فيه التاءُ مما ليس من المواضع المذكورة قولهم تنضُب إذ ليس في الكلام مثلُ جَعْفُر وكذلك تَتْفُل وكذلك تُتْفَل إذ ليس في الكلام مثل جُعْفَر وبهذين يتبين أن تُتْفَل [469]

بضمها تُفْعُل وإن وُجد مثل تُرْتُم وبُرْثُن عملا بالنظير ومن ذلك تِجْفاف لأنه الذي يجعل على الفرس في الحرب فهو من جَفّ وكذلك التمثال من المثال والتِّلقاء من لَقِي والتِّبيان من البيان التَّعْضُوض من العَضّ وأيضا ليس في الكلام فَعْلُول وصَعْفُوقٌ نادر ومن ذلك الرغّبُوت والرهَبُوت والرحمُوت ورَهَبُوتي ورَحموتي ورَغبُوتي من الرغبة والرهبة والرحمة. وعنكبوت التاء فيه زائدة لقولهم عناكب بهذا استدل سيبويه واعتُرض بأنه لو كان الجمع دليلا على زيادة الساقط لكان في عَضرَفُوط حين قلت عَضارِفُ دليلا على زيادة الطاء وفي فرزدق حين قلت فرازد دليلا على زيادة القاف وأجاب ابن الضائع بأن استدلاله ليس بمجرد الجمع بل بكثرته على ألسنتهم من غير استكراه لأنه زعم أنه لا يكسَّر ما يؤدي تكسيره إلى حذف حرف أصلي إلا قليلا وباستكراهٍ لهم على ذلك مثل أن يقال له كيف تجمع سفرجلا على حدّ قولك مساجد وجعافر ونحو ذلك؟ فحينئذ ينطقون به محذوفا كارهين [470]

وهم يجمعون عنكبوتا كذلك على غير كراهية فدل ذلك على أنه رباعي مزيد وأيضا فقد قالوا عَنْكَباءُ وأما السين فمن زيادتها في غير الموضع المعين عند بعضهم قولهم للمؤنث أكْرمتُكِس* ويلزمه على هذا عد السين أيضا من حروف الزوائد كما قال ابن خروف وقد تقدم الكلام عليه وعدّ المؤلف في التسهيل من هذا قولهم قُدْموس وهو القديم وحكم في ذلك بالنظير وليس هذا مُتَّفقا عليه فقد جعله بعض النحويين من باب سَبِط وسِبَطْر وأما أسطاعَ فالسينُ عند سيبويه عِوَضٌ ولذلك لم يذكُرْ في أمثلة الفِعْلِ هذا البناء بالسين كما لم يذكُرْ أهراق وأهراحَ وأما الهاء فمن زيادتها في غير الموضع المذكور قولهم أُمّهات وزنُه فَعْلَهات والهاء زائدة لأنها جمع أم وقد ثبت بقولهم أمٌّ بَيِّنَةُ الأُمُومَةِ أنّ أصلهء م م وقد أجاز ابن السراج فيها الأصالة كتُرَّهَةٍ وذهب أبو الحسن إلى أن الهاء في هِجْرَع وهِبْلَعٍ زائدتان لأنهما عنده من الجَرع [471]

والبلع وذلك لأن الهجرع هو الطويل والجرع هو المكان السهل المنقاد والهبلع الأكول هو من البلع فمثالهما هِفْعلٌ وذهب الخليل فيما حكى عنه أبو الحسن إلى أن هِرْكَولة هِفْعَولةٌ أن الهاء زائدة قال لأنها التي تَرْكُلُ في مشيتها. قال ابن جني «وقياسُ قولِ الخليل أن يكون هِرَّكلة** هِفَّعْلةٌ فتكون الفاء مضاعفَةً» * قال «ويجب على قياس هذا أن يكون قول الراجز هُلَقِمٌ يأكل أطراف النُّجُدْ وزنه هُفَعِلٌ لأنه من اللقم قال ومن قول العجاج بسَلْهَبَينِ قوق أنفٍ أذْلَفا يجوز لقائل أن يقول إن سلْهَبًا فَعْهَلٌ لأنه من معنى السلب وهو الطويل» والذي عليه الأكثر أصالة الهاء في هِبْلَع وهِجْرَع وهِرْكَولة قال ابن جني «ولست أرى بما ذهب إليه الخليل وأبو الحسن بأسا» [472]

وأما اللام فمن زيادتها في غير موضعها المذكور قولهم في عبد عبدلٌ وفي زيدٍ زيدلٌ وفي الأفْحَج فَمْحَلٌ وأجاز ابن جني في هَيْقٍ وهَيْقَلٍ أن تكون اللام زائدةً لسقوطها في النظير وقالوا فَيْشَلةٌ وفَيْشَةٌ فاللام زائدة والأول في هَيْقَلٍ الأصالة لقولهم فيه هِقْلٌ فيكون هَيْقٌ وهَيْقَلٌ كضَيَّاطٍ وضَيْطارٍ وهنا انقضى تمثيل ما خرج عن تلك الضوابط المذكورة وحصل تفسير قوله «وَامْنَعْ زِيَادَةً بِلَا قَيْدٍ ثَبَتْ» إلى آخره على التمام والحمد لله، ولا تظنَّ أنّ هذا تطويل بغير فائدة بل فيه من حيث الشرحُ أعظمُ الفائدة ولو سكتُّ عن هذا التفصيل كلِّه أو عن بعضه لنقص من شرح كلام الناظم ذلك المقدار فلا يطُلْ عليك فإنه بتوفيق الله فائدةٌ كلُّه وبالله التوفيق * * * [473]

فصل في زيادة همزة الوصل

فصلٌ في زيادة همزةِ الوصل هذا الفصل ألحقَه بفصل حروف الزيادة لأن همزة الوصل مزيدة على حروف الكلمة إلا أنها عندهم ليست بزيادةٍ مبنية عليها الكلمة كهمزة أخرَج وأكرَم بل هي مأتيٌّ بها لعارض يعرض للكلمة من سكون أولها ليبتدأ بها متحركةً لأن العرب لا تبتدئ بساكن فإذا استُغني عن تلك الهمزة بوصلِ متحرِّكٍ بذلك الساكن سقطت إذ لا حاجة إليها ولذلك بوّب عليه سيبويه في غير أبواب التصريف وهذه الترجمة تُشعر بعدِّها من الحروف المزيدة ألا تراه قال «فصلٌ في زيادة همزة الوصل» فجعلها مما يُزاد في الكلمة وهذا إنما يطلق في العُرف على ما كان من نحو همزة أفعَل وحمراءَ ونحو ذلك ووجهُ ما فعَل من هذا الإلحاق بالمزيد أنه قد عدَّ في حروف الزيادة ما ليس مبنيا عليها الكلمة كهاء السكت وتاء التأنيث ونحوهما فكان هذا من جملة ما زِيدَ ذلك النوع من الزيادة وأيضا لما كانت الكلمة لا يمكن النطق بها إلا مع تقدم هذه الهمزة أو ما ينوب عنها من الكلام قبلها عُدّت كأنها من نفس الكلمة وأيضا فإن المازني أدخلها في باب الزوائد في تصريفه وتكلم عليها هنالك فكان الناظم متبعا له في ذلك وقد عدُّوا هذه الهمزة في جملة حروف الكلمة ولذلك أتوا بها في الأوزان كانفعل وافتعل ونحوهما [474]

فإن قيل فإذا كان قد اعتبر هذا الاعتبار فهلا تكلم عليها حيث تكلم على زيادة الهمزة قيل إن زيادة همزة الوصل لها حكم خاص بها ومواضع محفوظة وكلام يليق أن تُفرَد به دون غيرها ولذلك بوّب عليها الناس بابا على حدته فهذا وجهُ ما فعله ولا شك أنّ هذا الموضع لائق به وهمزةُ الوصل هي الهمزة الثابتة في أول الكلمة إذا ابتُدِئ بها فإذا وَصلْت الكلمة بما قبلها سقطت تلك الهمزة حتما على كلِّ حال وفي كلِّ لغة وهي نظيرة ألف القطع لأن الهمزات الواقعة في أوائل الكلم وإن تشعِّبت أقسامُها عند المتكلمين عليها يحصرها قسمان: ألفاتُ قطع وألفات وصل فألفُ الوصل ما تقدم وألف القطع هي الهمزة الثابتة في أول الكلمة سواءٌ ابتُدِئ بها أم وُصلت بما قبلها ولا تسقُط إلا أن يكون آخرُ الكلمة التي قبلها ساكن فتنقل حركتها إلى ذلك الساكن نحو: قَدَ افْلَحَ ومَنَ اعْلَمُ؟ وذلك مختص بلغة من يُسهِّل الهمزة من العرب وقد ضمَّن الناظمُ هذا التعريف المذكور في قوله لِلْوَصْلِ هَمْزٌ سَابِقٌ لَا يَثْبُتُ ... إِلَّا إِذَا ابْتُدِيْ بِهِ كَاسْتَثْبِتُوا يريد أن الوصلَ له همز سابق على الكلمة لا يقع إلا أوَّلها وقبل الإتيان بها لا يثبت ذلك الهمز إلا إذا كان هو المبتدأ به في أول النطق فإنه إذا كان كذلك ثبت نطقُه كقولك استثبتوا إذا ابتدأت بالهمز من هذا اللفظ قلت اِستثبتوا** هكذا بهمزة مكسورة فأما إذا لم تبتدئ به وإنما تبتدئُ بما قبله من الكلام فإنه يسقط من النطق ولا يثبتُ كقولك يا رجالُ [475]

استثبِتوا وهو أمرٌ للجماعة من الناس بالاستثبات وهو طلب تحقيق الأمر والثبات فيه ومثله يا زيدُ اضرِبْ واخرُجْ ثمَّ ارجِعْ ونحو ذلك وقوله «سَابِقٌ» سابقٌ تبيينٌ لموضعه ليس بتحرُّزٍ من شيء إذ ليس له ما يدخل عليه مما يخرج بقوله «سَابِقٌ» لو قلت: للوصل همزٌ لا يثبتُ إلا إذا ابتُدئَ به إلا أنّ بيان موضعه هو الوجه الأحقّ وقوله «ابْتُدِيْ بِهِ» أصله: ابْتُدِئَ بِهِ بالهمز ثم سهّل الهمزة بالإبدال فصار ابتُدِيَ ثمَّ سكَّن الياء ضرورة إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف وإما لأنه استثقل الفتحة على الياء كالضمة والكسرة وإن كانت لا تُستثقَلُ في الحقيقة ومثله في حركة الإعراب في النظم قولُ الشاعر أنشده ابن جني وغيرُه كأنَّ أيديْهِنَّ بالقاع القَرِق ... أيدي جَوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق ثم يبقى النظرُ في قوله «لِلْوَصْلِ هَمْزٌ» ما المراد بالوصل هنا؟ والذي يظهرُ أنَّه** مرادُه من جهة معنى كلامه وقُوَّتِه: أنه التوصُّلُ إلى النطق بالساكن وهذه هي فائدةُ الإتيان بهذه الهمزة فكأنه يقول: للتوصل إلى [476]

النطق بالساكن همزٌ من صفته كذا وهذا هو الذي ذكره المؤلف في شرح التسهيل وذكره ابن جني وإنّ هذا هو العلة في إثباتها حيث تثبُت فكأنها على هذا إنما سُمِّيت همزةَ وصلٍ لأنها يُوصَل بها إلى هذا المعنى وقد يظهر هذا من سيبويه إذ قال «وهي زائدة قُدِّمت لإسكان أول الحرف فلم تصل إلى أن تبتدئ بساكن فقدِّمت الزيادةُ متحركة لتصل إلى التكلم» ثم قال «والزيادة ههنا الألف الموصولة» فاعترض الشلوبين هذا الذي قالوا من أنها سُمِّيت بهمزة الوصل لأنها يُوصل بها إلى النطق بالساكن وزعم أن هذا خطأ لأن مصدر وَصَلْتُ بكذا إلى كذا وُصولٌ لا وَصْلٌ ووصلٌ مصدرُ وصلتُ الشيءَ بالشيء وصلا قال وإنما سُميت بذلك لأنها وُصلت بأول الكلمة قال وقولُ سيبويه «يتصل إلى التكلم» ثم قال وهي الألف الموصولة ليس فيه «الموصولة» من قوله: يتصل إلى التكلم كما قلنا قال ابن الضائع فإن قيل فألف القطع أيضا موصولة بأول الكلمة فما قال الأستاذُ ليس بخاص بألف الوصل قلت لما كانت الكلمة مستغنية عنها بالنظر إلى دلالتها على العنى إذ تسقطُ ولا يختل معنى الكلمة بخلاف همزة القطع صارت همزةُ الوصل موصولة بالحقيقة بأول الكلمة لضرورة الابتداء وهمزة القطع ليست [477]

كذلك بل هي أولُ الكلمة فعلى ما قال الشلوبين يكون الوصلُ في كلام الناظم من قولك وثلت كذا بكذا أي إن في الكلام همزة من صفتها كذا توصل بالكلمة وقال ابن الضائع وقد يقال سميت همزة الوصل لسقوطها عند وصلِ الكلمة بما قبلها قال والإضافة قد تكون بأدنى ملابسة وتكون سُميت بما تختص به عن ألف القطع وعلى هذا يكون قوله «لِلْوَصْلِ هَمْزٌ» أي لهذا المعنى همزٌ أضيف إليه ونُسب له على الجملة فقيل همزُ الوصلِ والأمر في هذا قريب لأنه اصطلاح لفظي ولا شك أن ما قال الشلوبين صحيح من جهة حقيقة اللفظ إلا أن المعنى الجاري على الأذهاب في الاستعمال هو المعنى الأول وقوله «سابقٌ» وقوله «لَا يَثْبُتُ ... إِلَّا إِذَا ابْتُدِيْ بِهِ» فجعل له مرتبة السبقية والابتداء به مشعرٌ بأنه في الأصل صالح لذلك ولا يصلح لذلك إلا المتحرك في الأصل إذ لا يُبتدأ بساكن ولا يُجتلب للابتداء به فإن هذا خلاف الحكمة وإن كان من المعلوم أنه إذا التقى ساكنان فلا بد من تحريك أحدهما لكن في هذه الدعوى استجلابُ عملٍ من غير فائدة وإنما هي متحركة أصلا واستعمالا وهو مذهب سيبويه لأنه قال «فقُدمت الزيادةُ متحركة لتصل إلى التكلم» قال ابن خروف: لا يُجتلب ساكنٌ لساكن وقد ذهب ابن جني وتبعه من المتأخرين الشلوبين وبعض طلبته فيما أظن إلى أنها إنما أُتي بها ساكنة فحرِّكت لسكونها وسكون ما بعدها، قال [478]

ابن جني «فإن قلت أنت هَرَبْت من سكون الأول في الفعل فكيف زِدتَ عليه ساكنا آخر وهو الهمزة؟ قيل هذه الهمزة وإن كانت ساكنة فإنها إنما جيء بها قبل السكون لأنه قد عُلم أنها إذا اجتمعت معه فلا بد من حذفِ أحدهما أو حركته والحركة والحذف لم يصلح واحدٌ منهما في الحرف الساكن من الفعل لئلا تزول بِنيَته التي قد أُريدت له من سكون أوله فلم يبق إلا حذفُ الهمز أو حركتُها فلم يَجُز حذفها لأنّ ذلك يُؤدي إلى ما منه هُرِب وهو الابتداء بالساكن فلم يبق إلا حركة الهمزة فحُركت فانكسرت على ما يجب في الساكنين إذا التقيا» واستُدل على كونها ساكنة في الأصل أنهم أتوا بها مكسورة عندما أرادوا التحريك ولو كانت متحركة في الأصل كانت مفتوحة أبدا بمنزلة الحروف التي تكون على حرف واحد كهمزة الاستفهام وواو العطف وكلامُ العرب على كسرها والضمُّ فيها لعلة وكذلك الفتح فال ابن الضائع وهذا لا يحتاج. وحقٌّ ما قال. وقد يُعلل كسرُها وخروجُها عن الأصل من الفتح بقصد التفرقة بين همزة القطع وهمزة الوصل إذ لو فُتحت لكان اللفظ بهما واحدا فاضرِبْ وانْطِح كقولك أَعْلِم وأَكْرِم ففرَّقوا بينهما بأن كسروا همزة الوصل وكانت هي أولى بالكسر لأنها ليست من أصل البنية حقيقة إذ لو كانت كذلك لوجب الفتحُ كما وجب في همزة [479]

القطع، لأن العرب اعتزمت في الأفعال أن تأتي بأوائلها مفتوحة أعني صيغ الماضي كأكل وخرج ودحرج وأعلم وتَفَعَّلَ وتَفَعْلَلَ ونحو ذلك ولا يذهبون إلى غير الفتح إلا لعلة فلما كانت همزة الوصل إذا فُتحت تلتبس بهمزة القطع كسروها وخالفوا بها حكم الأخرى ولا يلزم إذا كان أصل الحرف الفتح أن لا يُنتقل عنه أصلا بل إذا جاءت علةٌ موجبة اتُّبعت كما قيل في باء الجر إن أصلها الفتح وإنما كُسرت ليُناسب لفظُها عملها اللازم لها فالحاصلُ أن الذي يُشير إليه النظمُ مطلق التحريك وأما تعيينُ الحركة من كَسْرٍ أو غيره فليس له إليه إشارة وهو بلا شك نقصٌ والحكم في ذلك في مشهور الكلام أنها تُضم إذا كان ما بعد الساكن مضموما تحقيقا أو تقديرا ضمةً لازمةً لا عارضة وتكسر فيما عدا ذلك فلو قال بعد الشطرين الأولين يُكسَرُ لا إنْ ضُمَّ تِلوُ تِلوِهِ ... ضمًّا مُدامًا كاغْزُ واخشَ وانْوِهِ لكَمُل مرادُه من المسألة وقوله « ... إِلَّا إِذَا ابْتُدِيْ بِهِ» هذا هو الأمر العام وقد شذَّ من هذا قولهم آلرجل** خيرٌ أم المرأة؟ وآيمنُ** الله ما تحلف به؟ فإن الهمزة فيه قد ثبتت وإن لم يبتدأ به ما سيأتي [480]

ثم في كلامه نظر وهو أنه اقتضى أن همزة الوصل تثبت إذا ابتدئ بها مطلقا من غير ذلك وذلك في المواضع التي يذكرها وهذه المواضع تارة تبقى على أصلها من سكونِ ما يلي همزة الوصل وتارة ينزاح عنه ذلك السكون فتتحرك وإذا تحركت فلا بد من سقوط همزة الوصل وإن كانت مما يُبتدأ بها وذلك كافْعَلْ من سأل ورأى لأنك تقول سَلْ ورَهْ وكذلك كل ما حُذف منه الفاء في الأمر نحو خِدْ ورِدْ وقِه وشِهْ وعِهْ وكذلك خُذْ وكُلْ ومُرْ ومنه أيضا ما نُقل إلى ساكنه حركةٌ نحو قُمْ وهَبْ وبعْ وسِرْ أو التقى معه ساكن مدغم فحُرك نحو قُِتَّل* في اقتَتَلَ وحُِجَّب* في احتَجَبَ وما أشبه ذلك من الأمور العارضة حتى يصير ما يلي الهمزة مُحرَّكا فلا تثبُتُ البتة وما جاء من قولهم اِسَلْ واِحِجَّبْ واِخِطَّفْ فهو نادر واعتداد بالعارض وكذلك ما تحرك فيه الساكنُ الأول من جميع ما يذكره فإذًا ليس ثبوتها حيث يُبتدأ بها بإطلاق كما أنه ليس سقوطها حيث لا يُبتدأ بها بإطلاق بل إذا كانت في محل الابتداء بها فهي على وجهين ثابتة وغير ثابتة والضابط لثبوتها في الابتداء هو أنها تثبت حيث يكون ما [481]

بعدها ساكنا لأنها إنما أتي* بها هروبا من وقوع الساكن في الابتداء فإذا وُصلت الكلمة بما قبلها ناب ذلك مناب همزة الوصل فلم يقع الساكن في ابتداء الكلام وإذا لم تُوصل بما قبلها أُتي بهمزة الوصل متحركة للابتداء بها فإذا تحرك ما بعدها لم يُحتج إليها فالحاصل أن همزة الوصل لا تثبت إلا إذا ابتدئَ بها وكان ما بعدها باقيا على سكونه وإن شئت أن تحترز من نحو اِسَلْ والحمر واِخِطِّف فقل لا تثبت إلا إذا ابتدئ بها وكان ما بعدها باقيا على سكونه تحقيقا أو تقديرا ولا يبقى عليك إشكال فقوله «وكان ما بعدها باقيا على سكونه» هو الذي نقص الناظم فلحقه بسبب ذلك الاعتراض والجواب عن هذا أن يقال إن هذا الكلام لم يأت به لتعريف مواضع الثبوت من مواضع السقوط وإنما أُتي به على جهة التعريف بهمزة الوصل وتمييزها عن همزة القطع فكأنه يقول إذا أردتَ أن تعرف همزة الوصل من غيرها فخاصَّتُها التي تختص بها أنها لا تثبت في الوصل أصلا وإنما تثبت حالة الابتداء بها فإذا وَجَدْت همزة تثبت إذا ابتدأت بها وتسقط إذا وصلت ما قبلها بكلمتها فتلك همزة الوصل فإنما ساق هذا الكلام مساق التعريف الرسمي ولا خفاء بأنه إذا تعرفتْ وتبينتْ عن غيرها يتعلق بها من الأحكام ما ذُكر في السؤال فلو كان الناظم لم يأت بهذا الكلام إلا لبيان هذا الحكم منها دون التعريف لكان هذا الاعتراض متوجها لكنه قصد [482]

مقصدًا آخر فيُسلَّمُ له من حيث مقصده إلا أنه يبقى عليه أنه لم يُبيِّن موضع سقوطها بيانا شافيا * * * وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ اِحْتَوَى عَلَى ... أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ نَحْوُ انْجَلَى وَالْأَمْرِ وَالْمَصْدَرِ مِنْهُ، وَكَذَا ... أَمْرُ الثُّلَاثِيْ كَاخْشَ وَامْضِ وَانْفُذَا لما تم الكلام على التعريف بهمزة الوصل أخذ يذكر مواضعها وذلك أنها تدخل في الأسماء والأفعال والحروف وابتدأ بذكر دخولها على الأفعال لأنه الأصل وما عداه ليس بأصل وأيضا فلحاقُها الأفعالَ كالمطَّرِد ولذلك قال سيبويه «وأكثر ما تكون في الأفعال» وهو في غيرها بالسماع وإنما كان كذلك لأن الأفعال موضوعة للتصرف فيها والإعلال تابع للتصرف فكما كثر تصرفها كثر إعلالها وعدم بقائها على حالة واحدة فلما كانت كذلك شجعهم ذلك على أن سكنوا أوائلها حتى احتاجوا إلى همزة الوصل قال ابن جني «وهذا من أغلظ ما جرى على الأفعال» وهذا التعليل جار في الأفعال الماضية وأما الأمر فإنما دخلته وجميعُ ما كانت حروفُ المضارعة منه مفتوحة وبعدها ساكن لأنه لما حُذف حرفُ المضارعة حين أُريد الأمرُ لئلا يلتبس الأمر بالخبر بقي* أولُ الفعل ساكنا فَسِيق له همزةُ الوصلِ فقيل اقتُلْ واستَخْرِجْ ونحو ذلك [483]

فقوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ» الضمير عائدٌ على الهمز أي: والهمزُ كائنٌ لفعلٍ ماضٍ، واللام للاستحقاق كقولك السرج للدابة كأنه يقول وهو يستحقه الفعلُ الذي من صفته كذا وذلك أن الأفعال على ثلاثة أقسام قسمٌ وُضع للماضي من الأزمنة وهو فَعَل وما ضاهاه وقسمٌ وُضع للزمان المستقبل وهو افْعَلْ وما شابهه مما هو أمر للمخاطب وقسمٌ وُضع دلا بالاشتراك على الحال والاستقبال وهو يفعل وما كان مثله مما في أوله إحدى الزوائد الأربع فأما المضارعُ فليس في أول شيء منه همزةُ وصل لأن حروف المضارعة متحركة وهي الواقعةُ في أوله والهمزةُ الداخلة عليه همزة قطع دالة على المتكلم وحده وهي إحدى تلك الزوائد وأما الأفعالُ الماضيةُ فعلى ثلاثة أقسام ثلاثية ورباعية وما فوق ذلك وهي الخماسية والسداسية وهي أقصى ما تبلغه الأفعال فأما الثلاثية والرباعية فليس في شيء منها همزةُ الوصل فمفهوم كلامه أنها إنما تكون فيما كان على أكثر من أربعة فما عدا ذلك فمفهومه أنها لا تكون فيما دون ذلك وذلك صحيح فمتى وجدت فعلا ثلاثيا أو رباعياً في أوله الهمزة فاحكم بأنها همزة قطع البتة نحو أخذ وأكل وكذلك أعلم وأكرم [484]

وأما الخماسية فما فوق ذلك فهي التي تدخلها همزة الوصل لقوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ اِحْتَوَى عَلَى ... أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ» أي هو مختص بكل فعل ماض اشتمل على خمسة أحرف أو ستة فكل همزةٍ وُجدت في أوله مما عِدَّةُ حروفه هذه العدَّةُ فهي همزة وصل والأمثلة التي اختصت بها سبعة عشر منها خماسية وسداسية فالخماسية ثلاثة: انفَعَلَ نحو انطلق وامَّحى وانجلى وهو مثاله من جلوت الشيء إذا أظهرته فانجلى أي ظهر وتبين وافتَعَلَ نحو اقتدر واصطفى واحتمل وافعلَّ نحو احمرَّ واصفرَّ وابيضَّ والسداسية** ستة افْعَالَّ نحو احمارَّ واصفارَّ وافْعنَنْلَلَ نحو اقعنسس واسحنكك واستَفعَل* نحو استخرج واستمكن وافعَوَّلَ نحو اعلوَّط اخروَّط وافْعَنْلَى نحو اسلنقى واحرَنْبَى وافعَوْعَلَ نحو اغدَوْدَن واعشوشب فهذه ستة أبنية مشهورة وقد عُدَّ منها افعولَلَ نحو اعْثَوْجَجَ وافعَيَّل نحو اهبيَّخَ وكذلك افْوَنْعَل نحو احوَنْصَل الطائر وافْعَنْلَى كاحْبَنْطَى ولم يذكر سيبويه هذه الأبنية الأربعة فالجميع عشرة أبنية كلُّها [485]

يختص بالثلاثي الأصول إلا افْعَنْلَل فإنه يشترك معه فيه الرباعي الأصول نحو احرنجم فافعنلل على هذا بناءان في التقدير وثَمَّ يناء آخر مختص بالرباعي الأصول وهو افْعَلَلَّ نحو اطمأنَّ واقشعرَّ وما أشبه ذلك يضافُ إليها تَفاعَلَ وتَفَعَّل لكن في حال وذلك إذا اتفق أن يكون بعد التاء حرفٌ تدغم فيه فإنه يجوز إدغامها فتُسكَّن وتجلب لها همزة الوصل ويصير الفعل بهمزة الوصل سُداسيا فمن ذلك قولك ادَّارك وازَّاور** وادَّيَّن وازَّيَّن وفي القرآن الكريم {ادَّارأْتُم فيها} {بل ادَّارك علمهم في الآخرة} {حتى إذا أخذت الأرضُ زُخرُفها وازَّيَّنت} فجميع أبنية الماضي المختصة بهمزة الوصل سبعة عشر بناءً ما بين شهير ونادر وأصل ومنقول إلا أن هذين الأخيرين يمكن ألا يكون قصدهما بالذكر لأنه قال «وَالْأَمْرِ وَالْمَصْدَرِ مِنْهُ» والمصدر من هذين لا يلحقه ألف الوصل لأنه لا تُدغم تاؤه فلا يقال في التزيّن والتدارُؤِ ازَّيُّنٌ ولا ادارُؤٌ بل تَزَيُّنٌ وتدارُؤٌ على الأصل وكذلك التضارُبُ والتطيُّرُ والمسألة مذكورة في باب الإدغام وإذا كان كذلك وكان سببُ إلحاق الهمزة هنا إنما هو الإدغام ولم يتعرَّض هنا لذلك ولا يعد له [486]

نقصا لأنه إنما تكلم هو وغيره في هذا الباب فيما كان فيه ألف الوصل بحق الأصل فالحاصل من هذا أن جميع ما اختص بهمزة الوصل من أبنية الماضي خمسة عشر بناءً وهي المشار إليها بقوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ اِحْتَوَى عَلَى ... أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ» ويريد من أربعة أحرف ولا يُريد بها الأصول فقط بل الحروف على أي حالة كانت من أصالة وزيادة بل لا يتأتى فيها إلا أن تكون مزيدا فيها لكن منها ما هو ثلاثي الأصول ورباعيها كما ذُكر إلا أنَّ في كلامه نظرا وذلك يقتضي أن هذه الأفعال التي تدخلها الهمزة إنما تكون على أكثر من أربعة أحرف دون الهمزة لقوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ» إلى آخره أي إنما تدخُل على الفعل الذي هذه صفته فإن كان يمشي له في السداسي نحو استَفْعَل* وافْعَنْلل من حيث هي خماسية دون الهمزة فلا يمشي له في انْفَعَل وافْتَعَل وافْعَلَّ لأنها رباعية الحروف دون الهمزة فكان غير شامل لها وكان تمثيله بانجلى مع مقتضى كلامه كالمتناقض والجواب أنه لا يعني بقوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ مَاضٍ» إلى آخره أن الهمز يدخُل عليه وإنما يعطي كلامه مجرد الانتساب إلى أكثر من الأربعة وذلك أن كلام النحويين في المسألة إنما هو على ما أذكره لك وذلك أنهم يعقدون القانون في ألف الوصل على أنَّ كل فعلٍ ماضٍ كان في أوله همزة وكان على أكثر من أربعة أحرف فالهمزة همزة وصل وإلا فهي همزةُ قطع فهم إنما يتكلمون بعد استقرار الهمزة في أوله لا أنهم يريدون أن ما كان على كذا دونها** فإنك تدخلها عليه لأنها معدودةٌ في حروف الكلمة عندهم وهو الذي قَصَد الناظم بقوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ» يعني أن ما أوله همزةٌ من الأفعال [487]

الماضية التي على أكثر من أربعة يحكم عليها بأن تلك الهمزة همزةُ وصل لا همزةُ قطع وعلى هذا لا بد من عدِّ الهمزة في جملة الحروف ويشمل كلامُه انجلى واقتدَر ونحوهما لأنها خماسية الحروف مع عدِّ الهمزة حرفا من حروف الفعل ثم قال «وَالْأَمْرِ وَالْمَصْدَرِ مِنْهُ» ينبغي أن يكون قوله «وَالْأَمْرِ» مخفوضا عطفا على «فِعْلٍ» من قوله «وَهْوَ لِفِعْلٍ» كأنه قال وهو لفعل ماضٍ وللأمر منه وللمصدر منه وقد رأيته مرفوعا في بعض النسخ ووجهُ الرفع فيه متكلَّف وقوله «مِنْهُ» أي من ذلك الفعل الماضي وهو كلُّ فعل أمر في أوله الهمزةُ إذا كان محتويا على أكثر من أربعةٍ وكلُّ مصدر لتلك الأفعال المذكورة فالهمزة في ذلك كله همزة وصل فأما الأمر فنحو انطلق واقتَدِرْ واحمررْ واحْمَارْ* اقْعَنْسِسْ واستخرِج واعلوِّطْ واسلَنْقِ واغْدَوْدِنْ واحرنْجِمْ واطمَئِنَّ واعثَوْجِجْ واهْبَيِّخْ واحوَنْصِلْ واحْبَنْطِئ وما كان نحو ذلك وأما المصدرُ فنحو انطلاق واقتدار واحمرار واحميرار واقعنساس واستخراج واعلوَّاط واسلِنقاء واغْدِيدان واحرِنْجام واطمئنان واعثِيجاج واهبيَّاخ واحوِنْصال واحبِنْطاء ونحو ذلك وإنما لحقت المصادر لأنها من شأنها أن تتبع أفعالها في الصحة والإعلال [488]

والزيادة والحذف فكما زيدت ألف الوصل في الفعل لما لحقه من الإعلال كذلك فعلوا في مصادرها ثم قال «وَكَذَا ... أَمْرُ الثُّلَاثِيْ» يعني أن فعل الأمر من الفعل الثلاثي الحروف حكمه أيضا أن الهمزة التي في أوله همزة وصل لا همزة قطع نحو اخشَ يا زيد وامضِ لحاجتك وانفُذْ لما قصدته وهذه ثلاثة أمثلة لثلاثة الأفعال التي هي من يَفْعَل ويَفْعِل ويَفْعُل قصد بها التنويع وأمر وآخر وهو كون الفاء ساكنة فيها فهو السبب في لحاق الهمزة تحرزا من كونها متحركة نحو خَفْ ودِنْ ودُمْ فإنَّ الفاءَ هنا قد تحركت بحركة العين المنقولة إليها فلم يُحتَج إلى همزة الوصل وكذلك ما كان من الأفعال محذوف الفاء في الأمر نحو دَعْ وقَعْ وصِلْ وعِدْ وقِهْ وشِهْ وما أشبه ذلك ومثل ذلك انهَضْ واصدَعْ واضرِبْ وانْطِحْ واقْرُب وابْعُدْ وهذه الأفعالُ رباعية الحروف للحاق الهمزة لها ولكن ضبطها بالفعل الماضي فيريد أن الأمر من الماضي الثلاثي حكمُه كذا وفي عبارته شيءٌ وذلك أنَّ قوله «وَالْأَمْرِ وَالْمَصْدَرِ مِنْهُ» يريد به الأمر من الفعل الزائد على أربعة الأحرف والمصدر من ذلك الفعل أيضا فيظهر أن الأمر والمصدر مأخوذان** من الفعل الماضي وهذه الجملة لا يقول بها أحد أما المصدرُ وحده فقد زعم الكوفيون أنه مأخوذٌ من الفعل ولم يُعيِّن أحد منهم فيما أعلم ما المأخوذُ منه المصدر ألماضي أم المضارع أم الأمر؟ فالتعيين للماضي دون غيره لم يَقُلْ به أحد وأمَّا فعل الأمر فليس [489]

بمأخوذ من الماضي اتفاقا منا ومن الكوفيين وكذلك قوله «وَكَذَا ... أَمْرُ الثُّلَاثِيْ» يريد الماضي الثلاثي فنسبه إليه وهو موافقٌ لما تقدم والجميع غير صحيح فظاهر كلامه غير مستقيم والجواب أنَّ عبارته هنا قد عُلم مرادُه بها وأنّ معناها أنّ الأمر والمصدر اللذين هما مع الماضي جاريان على مجرًى واحدٍ ملتقيان من كلِّ وجه في الأصول والزوائد وغير ذلك وأنه لم يُرِ بقوله «منه» الاشتقاق لكنه ترك الاحتراز في العبارة اتكالا على فهم المعنى ويسمح له في مثل هذا؛ إذ ليس محلَّ ربط قانونٍ ولا تقييد حكم وقد قدَّم حكم الاشتقاق في بابه فالأمر فيه قريب وقوله «وَانْفُذَا» أراد انفذَنْ فوقف على النون بالألف على ما يجبُ فيها ثم أخذ الناظم في ذكر ما يختص بها من الأسماء فقال وَفِي اسْمٍ، اسْتٍ، ابْنٍ، ابْنِمٍ سُمِعْ ... وَاثْنَيْنِ وَامْرِئٍ وَتَأْنِيثٍ تَبِعْ وَايْمُنُ هَمْزُ أَلْ كَذَا، وَيُبْدَلُ ... مَدًّا فِي الِاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ ودخولها في الأسماء إنما هو لشبه ما بالأفعال وذلك أن الأسماء يلحقها التصرُّف بالتحقير والتكسير والحذف وغيرها من وجوه [490]

التصرفات، لما بينها وبين الأفعال من التقارب فلمّا كان ذلك* وكانوا قد ألحقوا ألف الوصل الأفعالَ اجترءوا على أنْ ألحقوها أيضا بعض الأسماء لِما أدخلوا لها من الإعلال وإسكان الأول وكان ذلك في بعض المحذوفات لتقع فيها كالعِوَض منه ولم يكن ذلك في جميع المحذوفات كيدٍ ودم وهنٍ وغدٍ لأنهم لما قصدوا التعويض لم يسغ أن يجري ذلك في جميع الأسماء لأن العوض يقوم مقام المعوّض منه كأنه هو وإن لم يكن إياه في جميع الأشياء فكأن المحذوفَ لم يحذف وذلك نقض لما قصدوا من غرض الحذف هذا تعليل ابن جني وجملة الأسماء التي لحقتها هذه الهمزة سبعة أسماء على ما ذكره أحدها اسم وهو واحد الأسماء وإذا كان بالهمزة ففيه لغتان اِسْمٌ اُسْمٌ وكلاهما همزُ وصل يذهب في الوصل وقد تقطع همزته في الشعر ضرورة كقول الشاعر أنشده الجوهري وما أنا بالمخسوس في جِذْمِ مالك ... ولا من تَسَمَّة ثم يلتزمُ الإسْما والثاني اسْتٌ وهو العَجُزُ وقد يراد به حلْقَة الدبر من الناس وقد يستعار لغير ذلك من الحيوان قال الأخطل [491]

وأنت مكانُك مِنْ وائلٍ ... مكانَ القُراد مِنَ اسْتِ الجَمَلْ وقولهم باسْتِ فلان شَتْمٌ للعرب قال الحطيئة فباسْتِ بني قيس وأسْتاه طيِّئٍ ... وبِاسْتِ بني دُودان حاشا بني نَصْرِ ويقال ما زال فلان على اسْتِ الدهر مجنونًا أي لم يزل يُعرَف بالجنون قال أبو نُخيلة ما زالَ مُذْ كان على اسْتِ الدَّهْر ... ذا حُمُقٍ يَنْمي وعقلٍ يَحْرِي وكلها همزاتها همزات وصل والثالث ابن وهو واحدُ الأبناء وألفُه ألفُ وصل وقولُهم مَنْ يَكُ لا ساءَ فقد ساءني ... تَرْكُ أُبَيْنيك إلى غير راع كأن واحده إبن مقطوع الألف فصغره على أُبَين كأُعَيْمٍ ثم جمعه على أُبَيْنُون ومثل هذا لا يُتعدَّى به محلُّه ثم أُتبع فيه ما قبل الآخر فقيل ابنُمٌ وابنَمًا وابنِمٍ لأنّ الميم بصدد الزوال والرابع ابنُمٌ وهو بمعنى الابن زيدتْ فيه الميم فاعتبر الأصل فجيء بحركة النون على مقتضى* العامل قال الشاعر: [492]

عِرَارَ الظَّليم اسْتَحْقَب الركبُ بيضَه ... ولم يَحْمِ أنفًا عند عِرْسٍ ولا ابنِمِ وقال حسان وَلَدْنا بني العَنْقاءِ وابْنَيْ مُحرِّقِ ... فَأَكْرمْ بنا خالًا وأَكْرِمْ بنا ابنَما وأنشد ابن جني وهل لي أُمٌّ غيرُها إن تركتها ... أبى الله إلا أن أكون لها ابنما والخامس اثنان من أسماء العدد للمذكر ألفُه ألف وصل لأنك تقول هما خير اثنيا في الناس وقد قطعت همزته في الضرورة قال قيس بن الخطيم إذا جاوز الإثنين سِرٌّ فإنَّه ... بِنَثٍّ وتكثير الحديثِ قمينُ وقال جميل ألا لا تَرَى إثنينِ أحسن شِيمةً ... على حَدَثانِ الدَّهر مِنِّي ومن جُمْل وقال الآخر يا نفسُ صبرًا كلٌّ حيّ لاقِ ... وكلُّ إثنين إلى افْتراقِ وقعت هذه الأبيات في كتاب سيبويه في باب الضرائر في النسخة الشرقية والسادس امرُؤٌ* وهو الرَّجُل وقد يُراد به الذئب كذا نقل الجوهري عن يونس في قول الشاعر: [493]

وأنت امرؤٌ تعدو على كلِّ كل** غِرَّةٍ ... فتُخْطِئُ فيها مرة وتصيب وفيه ثلاث لغات إذا كان بهمزة الوصل امرُؤٌ وامرَأً وامرِئٍ بإتباع ما قبل الآخر الآخر وهي اللغة الفصحى وفتح الراء في الأحوال كلها حكاها الفراء وضم الراء كذلك في الأحوال كلها والسابع ايمن وهو بمعنى يمين فألفه ألف وصل وفيه لغتان ايمن الله واِيمنُ الله بفتح الهمزة وكسرها وكذلك اَيمُ** الله واِيمُ الله إذا حذفت النون وكذلك اِم الله بكسرها مع إبقاء الميم وحدها ويقولون ليْمُنُ الله باللام قال نصيب فقال فريقُ القومِ لما نَشَدْتُهمْ ... نَعَمْ وفريقٌ لَيُمنُ الله ما نَدْرِي هذا مذهبُ جمهور البصريين وهو الذي ارتضاه الناظم ومذهب الفراء وهو منقول عن الكوفيين أيضا في الجملة أن الهمزة همزة قطع وهو جمع يمين كما قال زهير فتُجْمَع أيمُنٌ منت ومِنْكمْ ... بمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بها الدِّماءُ ثم حلفوا به فقالوا أيمُن الله ثم كثر على ألسنتهم حتى أدرجوا الهمزة وحذفوها في الوصل وإلى هذا المذهب ذهب ابن كيسان وابن درستويه ورأيهم في ذلك ضعيفٌ يُدَلُّ على ضعفه بأمور منها: [494]

أن همزة الجمع همزة قطع وهمزة هذا الاسم همزةُ وصل لسقوطها مع اللام في «ليمنك لَئِن ابتَلَيْتَ لقد عافيتَ» وفي قول الشاعر .... وفريقٌ لَيْمُنُ اللهِ ما نَدْرِيْ قال وليس هذا بضرورة لتمكن الشاعر من إقامة الوزن بتحريك التنوين والاستغناء عن اللام بهذا ردّه المؤلف وقد أجابوا** عنه بأن أصلها أنها همزة قطع ثم كثر استعمالها حتى عوملت معاملة ألف الوصل لكثرة الاستعمال مع ما في كلامه في البيت من الرأي الضعيف وإنما يُردُّ عليهم أنّ مثل هذا لا يُوجَد في كلام العرب إلا نادرا شاذا نحو وَيْلُمِّه** ومثل هذا لا يقاس عليه ولا يدعى مثله إلا إذا تعين ولم يتعين ذلك هنا فوجب البقاءُ فيه على الظاهر والثاني أن من العرب من يفتح الميم ومنهم من يضمها فيقولون اَيمَنُ** الله وايمُنُ الله وأفعَلُ لا يوجدُ في الجموع والثالث أن من العرب من يكسر الهمزة ومنهم من يفتحها وألف أفعل المختص بالجمع لا تكسر أبدا فالصحيح ما ذهب إليه الناظم والبصريون وإذا تقرَّر هذا فقوله «وَفِي اسْمٍ، اسْتٍ، ابْنٍ، ابْنِمٍ سُمِعْ» حُذف العاطف في هذه الأشياء وأصله وفي اسمٍ واست وكذا وكذا سُمع وحرفُ [495]

الجر متعلق بسُمع وضمير «سُمِع» عائد على الهمز يريد أن همز الوصل في هذه الأشياء ثابتٌ وجوده لكنْ مسموعا ليس بمقيس كما كان ذلك في الفعل وقد تقدم وجه ذلك وقوله «وَاثْنَيْنِ وَامْرِئٍ» معطوف على المجرورات المتقدمة ثم قال «وَتَأْنِيثٍ تَبِعْ» يعني أن المؤنث من هذه الأشياء المعدودات قد تبع المذكر منها في لحاق همزة الوصل لها فكل هذه المتقدمة مذكرات فإذا أنثت فالحكم فيها كذلك وإنما يؤنث منها ما يصح تأنيثه إذ ليست كلها مما يصح أن يؤنث فاسم لا يصح فيه التأنيث كما أن استا كذلك إذ هي مؤنثة فتقول هي الاست وتصغيرها ستيهة وقال الشاعر شأَتْكَ قُعَينٌ غَثُّها وسمينها ... فأنت السَّهُ السُّفْلَى إذا دُعِيَتْ نَصْرُ والسَّهُ والاستُ واحد فوصفها بصفة المؤنث وهي السفلى والمراد بالتأنيث هنا التأنيث بالتاء خاصة لا مجرد التأنيث بعلامة أو بغير علامة فأما اسم واست فلا مؤنث لهما وأما ابن فمؤنثه ابنة فالهمزة فيه همزة وصل وأما ابنُمٌ فلا يقال فيه ابنمة وإنما اختص بذلك في [496]

المذكر وأما اثنان فمؤنثه اثنتان وحكمهما في الهمزة واحد وأما امرؤ فمؤنثها امرأة وليس في كلام الناظم تعيين لما يؤنث مما لا يؤنث بل قال «وَتَأْنِيثٍ تَبِعْ» يعني تأنيث ما يؤنث منها وذلك على حسب السماع إذ ليس تأنيث ما يؤنث منها بقياس لأنها ليست بأسماء فاعلين ولا ما أشبهها وإنما هي أسماءٌ جوامد والجوامد لا تؤنث* ولا تلحقها التاء قياسا البتة فلأجل ذلك لم يقل ومؤنثاتها ولا تأنيثها ولا ما كان نحو ذلك ثم قال «وَايْمُنُ» معطوفٌ على قوله «وَفِي اسْمٍ، اسْتٍ» إلى آخره فهو في موضع خفض وأتى به على حكاية رفعه اللازم له؛ إذ هو مما لزم الابتداء فلا يدخله جر ولا نصب ثم قال «هَمْزُ أَلْ كَذَا» أي وهمز أل فحذف العاطف وهذا هو قسم الحروف وكان الأصل ألا تدخل همزة الوصل الحرف لعدم تصرفها وندور إعلالها لكنها دخلت في حرف واحد وهو لام التعريف تركوه على أصله من السكون ثم أتوا له بهمزة الوصل وفتحوها فرقا بينها وبين الداخلة على الأفعال والأسماء ويعني أن الهمزة الثابتة في أل التي هي أداة التعريف همزةُ وصل أيضا وهذا نصٌّ في اتّباعه أحد المذهبين المنسوبين إلى الخليل وسيبويه فعندهم أن سيبويه ذهب إلى أن الهمزة زائدة وأن [497]

الخليل ذهب إلى أنها همزة قطع لكن لما كثر استعمالها أسقطوها في الدرج فقالوا جاء الرجل وذهب الغلام والأول هو الذي اتبع الناظم هنا خلاف ما ذهب إليه في التسهيل إذ قال «وليست الهمزة زائدة خلافا لسيبويه*» واستدل على صحة ما ذهب إليه في التسهيل بأمور: «أحدها أنَّ هذا تصدير زيادةٍ فيما لا أهلية فيه للزيادة وهو الحرف والثاني أنه وضع لكلمة مستحقة للتصدير على حرف واحد ساكن ولا نظير لذلك والثالث افتتاح حرف بهمزة وصل ولا نظير لذلك والرابع لزوم فتح همزة الوصل بلا سبب ولا نظير لذلك أيضا قال: احترزت باللزوم ونفي السبب من فتح همزة اَيمن في القسم فإنها تكسر وتفتح وكسرها هو الأصل ففتحت لئلا ينتقل من كسر إلى ضم دون حاجز حصين. قال: ولم تضم لئلا تتوالى الأمثال المستثقلة فإن جعل فتح همزة التعريف تخفيفا لأجل الاستعمال لزم محذور آخر وهو أن التخفيف مصلحة تتعلق باللفظ فلا يترتب الحكم عليها إلا بشرط السلامة من مفسدة [498]

تتعلق بالمعنى كخوف اللبس وهو هنا لازم لأن همزة الوصل إذا فُتحت التبست بهمزة الاستفهام فيحتاج الناطق بها إلى معاملتها بما يليق بها من إبدال أو تسهيل ليمتاز الاستفهام عن الخبر وذلك يستلزم وقوع البدل حيث لا يقع المبدل منه لأن همزة الوصل لا تثبت إذا ابتُدئَ بغيرها فإذا أُبدِلَت أو سُهِّلت بعد همزة الاستفهام وقع بدلها حيث لا تقع هي وذلك ترجيح فرع على أصل أفضى إليه القولُ بأن همزة أل همزة وصل زائدة فوجب اطّراحه. والخامس أن المعهود الاستغناءُ عن همزة الوصل بالحركة المنقولة إلى الساكن نحو رَ زيدًا والأصل ارْءَ فنقلت حركة الهمزة إلى الراء واستُغني عن همزة الوصل ولم يفعل ذلك بلام التعريف المنقول إليه حركة إلا على شذوذ بل يبتدأ بالهمزة على المشهور كقراءة ورش في مثل {الآخرة} وذلك في مثل رَ زيدًا لا يجوز أصلا فلو كانت همزةُ أداة التعريف همزة وصل زائدة لم يبتدأ بها مع النقل كما لا يبتدأ بها مع الفعل المذكور السادس أنه لو كانت همزة وصل لم تُقطَع في يألله ولا في قولهم أفأللهِ لأفعلَنَّ فالقطع عوض من حرف الجر لأن همزة الوصل لا تقطع إلا اضطرارا وهذا قطع اختيار روجع به أصل متروك ولو لم تكن مراجعة أصل [499]

لكن قولهم أفألله لأفعلنّ أقرب إلى الإجحاف* منه إلى التعويض إذ في ذلك جمع بين حذف ما أصله أن يثبت وإثبات ما أصله أن يحذف. قال: فصَحَّ أن الهمزة المذكورة كهمزة أم وأن وأوْ لكن التُزِم حذفها تخفيفا إذا لم يُبْدَأ بها ولم تَلِ همزة الاستفهام كما التزم أكثرهم حذف عين المضارع والأمر من رأى وحذف فاء الأمر من أخذ وأكل وهمزة أُمٍّ في وَيْلُمِّه واحتج بعض النحويين لسيبويه بأن قال قد قيل مررت بالرجل فتخطى العامل حرف التعريف فلو كان الأصلُ أل لكان في تقدير الانفصال وكان يجب أن يقع قبل الجار كما أن الحروف التي لا تمتزج بالكلمة كذلك؛ ألا ترى أنك تقول هل بزيدٍ مررتَ؟ ولا تقول بهل زيدٍ مررتَ؟ فلولا أنَّ حرف التعريف بمنزلة الزاي من زيد ما تخطاه العامل والجواب: أن تقدير الانفصال لا يترتب على كثرة الحروف، بل على إفادة معنى زائد على المعنى المصحوب ولو كان المشعر به حرفا واحدا كهمزة الاستفهام فإنها وإن كانت حرفا واحدا في تقدير الانفصال لأن ما تفيده من المعنى زائدٌ على مصحوبها غير ممازج له وعدم تقدير الانفصال [500]

يترتب على إفادة معنى ممازج لمعنى المصحوب كسوف فإنها وإن كانت على ثلاثة أحرف غير مقدرة الانفصال لكن ما تفيده ممازجا لمعنى الفعل الذي تدخل عليه فإنها تخلصه للاستقبال وذلك تكميل لدلالته وهكذا حرف التعريف غير مقدر الانفصال وإن كان على حرفين لأن ما أفاده تكميل لتعيين الاسم مسماه فتنزل منزلة الجزء من مصحوبها لفظا كما تنزل منزلة الجزء معنى إلا أن امتزاج حرف التعريف بالاسم أشد من امتزاج سوف بالفعل لوجهين: أحدهما: أن معنى حرف التعريف لا يختص به بعض مدلول الاسم بخلاف معنى سوف فإنه مختص بأحد جزأي مدلول الفعل. والثاني: أن حرف التعريف يجعل الاسم المقرون به شبيها بمفرد يحصل به التعيين وضعا كالمضمر واسم الإشارة والعلم المرتجل. فلا يقدح في الامتزاج المعنوي كون أحد المتمازجين بحرفين أو أكثر، وسوف إن مازج معناها معنى مصحوبها، لكن لا تجعله شبيها بمفرد قصد به وضعا ما قصد بها وبمصحوبها، لأن ذلك غير موجود. وقد يترتب على هذا امتناع الفصل بين حرف التعريف والمعرَّف به، ووقوعُه بين سوف والفعل المصاحب لها نحو قول الشاعر: وما أَدْرِي وسوف إخالُ أَدْرِي ... أقومٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ [501]

وفُعل أيضا ذلك بقد كقول الشاعر: لقد أرسلوني في الكواعب راعيا ... فقد - وأبي - راعي* الكواعب أفْرِسُ أراد: فقد أفرسُ راعي الكواعب وحق أبي، فسكن الياء وفصل.» ** هذا ما قاله المؤلف واحتج به على ما ذهب إليه من كون الهمزة همزة قطع من أصل الأداة لا همزة وصل زائدة عليها أردتُ الإتيان بما احتج به على كماله ليقع الكلامُ معه حتى يتبين بحول الله تعالى وينظر أولا في هذا الخلاف المحكي عن الخليل وسيبويه فإنه غير مسلم الوجود وإنما استقرءوه من حكاية سيبويه عنه أن أل كقد قال ابن الضائع ولا يخرج من هذا أنها همزة قطع قال فإن قيل جعْلُها كقافِ قد دليلُ أن الحرفين موضوعان لمعنى التعريف قلت همزةُ الوصل مع ما بعدها لها حالان حالٌ هي فيه كبعض حروف الكلمة وهي من جهة الوزن وأن الكلمة مبنية عليها ألا ترى أنها مأخوذة مع ما بعدها في أوزان الأفعال فتقول في انطلق وزنه انْفَعَلَ كما تقول في أكرَمَ وزنُه أَفْعَلَ [و] على هذا [502]

النحو يصح أن تقول أل كقد والحالُ الأخرى دلالة ما بعدها على مسماه ثبتت أو سقطت فصارت من هذا الوجه كأنَّ الكلمة ليست مبنية عليها وبهذا الوجه نقول لام التعريف وننسب المعنى للام فقط قال فإن قيل فينبغي على هذا الوجه أن يكون لها حظٌ في أوزان الأسماء فتقول في ابن إنه افْعٌ وفي ابنُم إنه افعُم وفي امرئ إنه افْعِل وسيبويه لم يثبت هذا الوزن في الأسماء قلت لما كنت هذه الألف لا تثبت في الأسماء إلا فيما حذفت لم يكن له وزن يخصه ألا ترى أن الوزن إنما يتبين بالحرفين الأولين وأحدهما متحرك بحركة الإعراب ولذلك لم يُذكر يدٌ وحرٌ في أوزان الأسماء فأما امرؤ فلكون الراء فيه تابعة صار حكمه حكم ابن وكذلك ابنم قال وكذلك عندي ايمُنُ فإن حركة الميم اتباع لحركة النون كما هي في قولهم امرؤ في حال الرفع غير أن هذه الكلمة لما كانت لازمة إعراب الرفع لزمت ضمة الميم فكما لا تثبت بقولهم امرُؤٌ وابنُم في حال ارفع حركة في الأوزان فكذلك لا تثبت بقولهم ايمُنُ الله افْعُلًا في الأوزان وهذا ظاهر جدا انتهى ما قاله ابن الضائع إلا أني جمعته من موضعين متفرقين من كلامه ثم قال ومن تتبع كلام سيبويه وفهمه تبين ولا بد أنه لا خلاف بينه وبين الخليل بوجه وتبين أن قوله أل كقد لا يناقض أن ألفها ألف وصل كما تقدم قال سيبويه في باب ألف الوصل «وتكون موصولة في الحرف الذي تعرف به الأسماء» * ثم قال «وإنما هما حرف بمنزلة قد وسوف» يعني أن اللام مع الألف حرف منفصل كانفصال قد مما بعدها وانفصال سوف مما بعدها ولم تكن اللام لاحقة للاسم ثم أُتِي بعد ذلك بالألف وهذا كله معنى قوله «ألا ترى أن الرجل إذا نسي فتذكر ولم يُرد أن يقطع كلامه أَلِي* كما تقول قدِي* ثم تقول: كان [503]

وكان. ولا يكون ذلك في ابن وامرئ، لأن الميم ليست منفصلة ولا الباء قال ذو الرُّمةِ واسمه غيلانُ: دَعْ ذا، وعَجِّلْ ذا، وأَلْحِقْنا بِذَلْ ... بالشَّحْمِ، إنا قد مَلِلْناهُ بَجَلْ كما تقول: إنه قَدِي ثم تقول: قد كان كذا وكذا، فتُثَنِّي قد، ولكنه لم يكسر اللام في قوله بِذَلْ ويجئ بالياء لأن البناء قد تمَّ. وزعم الخليل رحمه الله تعالى أنها مفصولة كقَدْ وسوف، ولكنها جاءت لمعنى كما يجيئان للمعاني» هذا كلام سيبويه مُردَفا بكلام الخليل دليلا على ما قرر وحجةً لما فَسَّر من أنَّ أل موصولةٌ بما بعدها ليست اللام بجزء مما بعدها وذلك بعد ما بين وصل الهمزة ولم يحك فيها عن الخليل خلافا فالصحيح أن لا خلاف بينهما وهو الذي فسَّر عليه السيرافي وابن خروف وغيرهما الكتاب ثم إن نقول لا فرق بين همزة الوصل وهمزة القطع إلا أن همزة الوصل لا تثبت مع وصل الكلمة بكلام قبلها فكل همزة تثبت في الوصل حتى يكون إثباتها لحنا فهي همزةُ وصل بلا شك وقد وجدنا همزة اللام كذلك في شائع الكلام فلنقُلْ إنَّها همزة وصل بهذه القاعدة المجمع عليها ثم نقول من قال إنها همزة قطع وزعم مع ذلك أنها تسقط في الدرج ولا بد فلا خلافَ بينه وبين من يقول إنها همزة وصل إلا في مجرد العبارة خاصة ثم نقول أما قولُ المؤلف أولا إن هذا تصديرٌ للزيادة فيما لا أهلية فيه للزيادة [504]

فتقول: إذا قام الدليلُ على الزيادة في الحرف أو غيره فلا بد من القول به كما دخل التصريف بعض الحروف من الزيادة والنقص والقلب والإبدال وقد قالوا إنّ اللام في لعلّ زائدة لقولهم علّ فليكن ذلك هنا وأما قوله إنه وضْعُ كلمةٍ مستحقَّةٍ للتصدير على حرفٍ واحدٍ ساكنٍ ولا نظير لذلك فنقول إذا دلّ الدليل فلا يجب الإتيانُ بالنظير وهي قاعدةٌ في الأصول ثابتة وأيضا فكان يجب على هذا ألا يسكن أولُ كلمة لأنها معرضة للتصدير وللابتداء بها ومستحقة لذلك ولا فرق بين الوضع أولا والإعلال ثانيا في حكم الابتداء فإذا كانوا هنالك قد أتوا بهمزة الوصل فليأتوا بها في الموضع الآخر على أنَّ ابن جني قد علَّل إسكانهم للام وضعًا فتأمله في حرف اللام من سر الصناعة وأما افتتاح حرف بهمزة وصل فلا يلزم من وجوده وجودُ النظير كما تقدم كما أنه يعارَض بأنا لم نجد نحن همزة قطع تحذف في الدرج لزوما وقولهم ويلُمِّه شاذ يحفظ وأما فتح الهمزة فليس لغير سبب بل لسبب عندهم قوي وقد ذكروا في ذلك أوجها منها ما ذكر سيبويه من التفرقة بينها وبين ما في الأسماء والأفعال وعلل السيرافي بما أشار إليه المؤلف من التخفيف لكثرة الاستعمال لأن كل اسم منكور بتعرف باللام وهو اكثر من أن يحصى [505]

فلزم اللام كثرة الاستعمال ففتحت لذلك وما عارض به الناظمُ هذا التعليل قد يُجاب عنه بأن الهمزة المسهّلةَ في حُكم المحقَّقة وليست غيرها فهي هي فلا يُقال إنها وقعت في غير موضع المبدل منه وإنما يقال ذلك في المبدلة وهي في الحقيقة واقعة موقع الهمزة ألا ترى أنها تثبت إذا سقطت الهمزة فالبدل على الجملة في موضع المبدل منه ويعارض ببدل الهمزة الثانية من أيمّة على عامة اللغة فإن المحققة لا تقع هنالك فإن قال ذلك للاستثقال وليس هنا استثقال قيل خلف الاستثقال هنا قُبْحُ بقاءِ همزة الوصل على صورتها من التحقيق فسهلت إصلاحا* للفظ وأما عدم سقوطها مع تحريك اللام فإنها تسقط في لغة قوم فيقولون لَرْضُ ولَحْمَر وأيضا قد حُكِي اِسَلْ وإن كان شاذا فإن قيل فلم تثبت في الأفصح تسقط من سل ونحو في المشهور؟ فالجواب أن لام التعريف مبنية على السكون لا أصل لها في الحركة بوجه بخلاف سين اسل فإن لهذه الكلمة تصرفاتٍ كثيرة تكون السين فيها متحركة كسؤال وسأل وسائل وغير ذلك فلما تحركت السين في سل صارت الحركة كأنها ليست بعارضة لها فسقطت همزة الوصل ولما تحركت اللام في الأرض كانت الحركة عارضةً البتة ومن كلامهم ترك الاعتداد بالعراض فمن لم يعتدَّ به ترك الهمزة ولم يحذفها ومن اعتدّ به أسقطها وهذا توجيهٌ في غاية [506]

الحسن وفرقٌ واضح بين الموضعين وأما قطعها في يألله وأَفَأَلله فإن هذه الكلمة اختصت بأشياء لم يختص بها غيرها وظهر فيها من الأحكام التي لا يُقاس عليها ما سواها نحوٌ من خمسة عشر حكما فيكون هذا الفرد من تلك الجملة فإن التغيير يأنسُ بالتغيير وإذا كان كذلك فلا نُكر في أن يُجعل ذلك القطع عوضا من حرف القسم كما جعلوا في غير هذا الموضع الواو نائبة عن رُبَّ فقالوا وبَلَدٍ عامِيَةٍ أعماؤُهُ وبَلَدٍ مِلْءِ الفِجاجِ قَتَمُهْ فلو كان ما قاله من الإجحاف لازما للزم أيضا في هذا الآخر لكنه موافق على صحته فكذلك يلزمه أن يوافق على أفألله ويكفي من المناقشة هذا واعلم أن الناظم أشار في باب المعرَّف بالأداة إلى خلافٍ سوى ما ذُكر هنا وقد تقدم بيانه على الجملة هنالك وإن الذي يتخلَّص من كلامه في الموضعين أنه ذهب في هذا الكتاب إلى ما نقل عن سيبويه من زيادة الهمزة مع أن أل بجملتها هي الدالة على التعريف وتعلّق في ذلك بظاهر طلتك سيبويه في باب «عِدَّة ما يكون عليه الكلم» حين ذكر من الحروف ما هو على حرفين [507]

وأدرج في أثنائه أل فأخذ المؤلف من ذلك أن الجملة هي الدالة ثم نقل عنه في باب ألِف الوصل أن الهمزة زائدة فجعل هذا خلافا لمن لم ينصّ على هذا المقدار من النحويين بل نسب التعريف إلى اللام فقط وكل ذلك لا يتحصل منه خلاف محقق في المسألة أما كون الهمزة أصلية أو زائدة فقد ذُكِر أنه لا خلاف بين الخليل وسيبويه وكذلك لا خلاف أيضا بين سيبويه وغيره في الدلالة على التعريف لأن همزة الوصل كما تقدم لها حالان حال تُعد فيه كالجزء من الكلمة فمن ههنا أطلق ههنا أطلق سيبويه الدلالة على الجملة وحال تعد فيه كالمنفصلة ومن هنا أطلق غير سيبويه الدلالة على اللام وحدها ويدلك على أن الخلاف في المسألة مندفعٌ فيما بين الخليل وسيبويه ومَن وراءهما أن الشراح للكتاب لم يتعرضوا له ولا نصوا على استنباطه من لفظ الكتاب إلا ما حكاه السيرافي عن غيره من استنباطه من تشبيه سيبويه أل بقد وسوف أنها ألف قطع ولم يحك ذلك عن الخليل والذي حكاه عن الخليل ابن جني في سر الصناعة فالحاصل أنَّ ما نقله المؤلف لم يذهب إليه فيما أعلم أحد من النحويين ولا تحقق له فيه نقل محرر والله أعلم وقد يمكن أن يكون قولُه في باب المعرَّف بالأداة «أل حرفُ تعريف أو اللامُ فقط» ليس بإشارة إلى خلافٍ كما مرَّ الشرح فيه ولكن يكون معناه [508]

التخيير في الإطلاق أي قُلْ أيَّ ذلك شئتَ فإن شئت أن تقول إن حرف التعريف أل بجملتها أو اللام وحدها فذلك إليك وكلاهما صحيح وبمعنى واحد في محصول الأمر وأن الخلاف خلافٌ في عبارة لا في حقيقة معنى ويكون وجه التنبيه على هذا أمران أحدهما رفْعُ ما يتوهم من الخلاف في المسألة والثاني الجمعُ بين عبارات النحويين وأنّ من أطلق أنّ التعريف بأل اعتبر حال وقوع الهمزة كالجزء ومن أطلق أنّ التعريف باللام اعتبر حال وقوعها كالمنفصل ولا يكون على هذا في المسألة إشكالٌ يتعلق بهذا النظم وكثيرا ما تجده فيه ينزع إلى منازع التحقيق والتحصيل وقد مرَّ من ذلك مواضعُ متعددة يكون فيها إذا قررها في هذا النظم أسَدَّ منه في تقريرها في التسهيل والله الموفق ثم قال «وَيُبْدَلُ ... مَدًّا فِي الِاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ» ضمير «يُبْدَلُ» عائدٌ على همز الوصل المتأخر الذكر في قوله «هَمْزُ أَلْ كَذَا» فيعني أن همزة الوصل المذكورة آنفا إذا وقعت في الاستفهام ووقوعها فيه أن تتقدمها أداته فإنها لا تحذف كما يُحذف ما تقدم في الدرج بل تبقى إلا أنّ لك في بقائها وجهين: أحدهما أنْ تبدلها مدة والمدة هنا من جنس حركة أداة الاستفهام ولا شك أن حركة الهمزة الفتحُ فالمدة المبدلة من الهمزة ألفٌ فتقول آلرجل [509]

خير أم المرأة؟ وآلحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية؟ وقرأ القراء {آلذكرين حَرَّمَ أم الأنثيين} {آلله أذِنَ لكم} {آلله خيرٌ أم ما يُشركون} وهذا أشهر ما نُقل عنهم وهذا منه دليل على أن تلك المَدَّةَ عنده هي الهمزة في الأصل وهو مذهب الجمهور وذهب بعضُهم إلى أنها ألِفٌ أجنبية سِيقتْ للفرق لا أنّها الهمزة أُبدلت لما يُلفى من المحذور واستجاده بعضُ من تأخر من النحويين لولا حكاية التسهيل فيها فهو الذي يقطع على الألف أنَّها مبدلةٌ كما قال الناظم إذ لو تحامَوا الإتيان بالهمزة لم يثبتوها مُسهّلة لكنهم فعلوا ذلك فدلَّ على أنها هي أيضا الألف الظاهرة والثاني التسهيل بَيْنَ بَيْنَ فتقول أالرجلُ** أفضلُ أم المرأة؟ وأالشجاعة** أفضلُ أم البذلُ؟ وقد قُرئ به للقراء في المواضعِ المعلومة وزعم ابن الباذش أنّ هذا الوجه هو الذي يوجبه قولُ سيبويه في باب الهمز أنها تخففُ بينَ بينَ كما يخفف غيرها من الهمزات المتحركة إلا ما استثني من المفتوحة التي قبلها ضمة أو كسرة وإنما يُخفَّف بالبدل الهمزة الساكنة وهذا العمومُ يتناول الوصل والقطع" [510]

والفرق بين هذا والذي قبله أنّ الهمزة في هذا الوجه بزنة المتحركة ولذلك جاء في الشعر وما أدْري إذا يَمَّمْتُ أمرا ... أُريدُ أيُّهما يليني أالخير** الذي أنا أبتغيه ... أمِ الشَّرُّ الذي لا يأْتَلِيني أنشد بيت الشاهد السيرافي وقول عمر بن أبي ربيعة أنشده سيبويه أالحقُّ** أن دار الرباب تباعَدَتْ ... أو انْبَتَّ حبلٌ أن قَلْبكَ طائِرٌ** بخلاف الوجه الأول فإن الهمزة فيه بزنة الساكن لا بزنة المتحرك ولذلك قال الناظم «وَيُبْدَلُ ... مَدًّا» وأراد الاستفهام الهمزة خاصة وقد ظهر من هنا ومما تقدم أن سائر الهمزات في الأفعال والأسماء والمتقدمة لا تثبتُ مع استفهام ولا غيره بل تقول أسْتَعْلَم زيد عمرًا؟ وأبنُك أكرمُ أم ابن زيدٍ؟ وفي التنزيل الكريم {أصْطَفى البنات على البنين} وذلك على الأصل إذ لا حاجة إلى إثباتها لحصول الفرق بين الاستفهام والخبر لأنَّ الهمزة في الخبر مكسورة فتقول [511]

اِبنُك أفضلُ من فلان واِستعْلم زيد عمرًا. وفي الاستفهام مفتوحة كما تقدم فلا لبس بخلاف همزة أل فإنها لما فُتحت لم يظهر فرق بين الاستفهام والخبر فإذا قلت الرجل عند فلان والغلام في الدار لم يتبين للمخاطب معنى كلامِك فتركوا الهمزة وأثبتوها ليحصل الفرق ويزول اللبسُ لكن على غير صورتها الأولى ليزول قُبحُ اللفظ إذ لو بقيت على حالها لكانت همزةُ الوصل في ظاهر الحال مع وصلِ اللام بما قبلها على حالها دون وصلها بما قبلها وذلك قبيحٌ فغيروها عن لفظها الأول ليخفى موضعها وكان ذلك بأحد الوجهين إلا أنّ تقديم الناظم للإبدال مشعرٌ بأولويته عنده وذلك صحيح في النقل والقياس أما في النقل فلأنَّ الأشهر عند القراء الإبدال وبه يقرأ هؤلاء المتأخرون وبه أخذ علينا شيوخُنا للقراء السبعة وأما في القياس فإنَّ الأولى حين أرادوا أن يهربوا من قُبحِ اللفظ بالهمزة أن يبلغوا بها أقصى ما يمكن من التغيير حتى تصير كأنها غيرها ولا يكون ذلك إلا مع الإبدال ولذلك انقلبت إلى السكون بعد التحريك بخلاف التسهيل بينَ بينَ فإن الهمزة معه باقيةٌ على قوتها وعلى زِنَةِ أصلها ومعاملةٌ معاملة المحققة فلم يزُلْ قُبحُ اللفظ بذلك كل الزوال مع أن التسهيل أيضا وجهه ظاهر كما تقدم وههنا مسألة تتعلَّقُ بمحلِّ الإبدال والتسهيل وذلك أنَّ قوله «هَمْزُ أَلْ كَذَا» يحتمل أن يكون مستأنفا مما تقدم كأنه قال وهمزُ أل حكمه ذلك [512]

الحكم ثم ذكر فيه الإبدال والتسهيل مع همزة الاستفهام فيكون الإبدال والتسهيل لم يحكم به إلا على همزة أل وحدها وعلى هذا التقرير جرى تفسيرُ كلامه فيما تقدم وهو الذي ذكره كثير من النحويين إذ لم يتعرضوا لهمزة ايمُن في هذا الحكم بل ظاهر قولهم فيها أن حكمها حكمها حكم همزة ابنٍ واسمٍ وغيرهما من سقوطها مع همزة الاستفهام فتقول أيمُن** الله ما يُحلَف به؟ كما تقول أَبنُك قائمٌ أم ابن فلان؟ ولا شك أن هذا الوجه يُلقى فيه على لغة من فتح الهمزة اللبسُ الذي يُلقى في همزة أل ولكن يكون الناظم تابعا لغيره في هذا المعنى ويحتمل أن يكون قوله «هَمْزُ أَلْ كَذَا» غير مُستأنفٍ وحدَه بل مع ايمُن كأنه قال وهمزُ أيمُن** وهمزُ أل كذلك في الحكم أيضا من كونه همز وصل ولذلك قال قبله «وَتَأْنِيثٍ تَبِعْ» ولم يذكره مع ما تقدم كما ذكر ابنًا واستا وإن كان لا يتبعهما تأنيث فيكون قوله بعد ذلك «وَيُبْدَلُ مَدًّا» إلى آخره راجعا إلى همزهما معا أي ويُبدَل همزُ أيمُن** وهمز أل مدا في الاستفهام أو يُسهَّل وذلك أنّ «أيمن**» الأفصح فيه فتحُ الهمزة وقد تكسر فإذا كُسرت جرى الاسم مجرى ابن واسم وأخواتهما وإذا فتحت جرت مجرى أل في إثبات الهمزة للفرق المذكور فتقول على الإبدال آيمن** الله ما يُحلف به؟ وعلى التسهيل أَايمن** الله ما يُحلف به؟ وجعل الفارسي هذا في الإيضاح قياسا على أل* فقال «حكم التي في أيمُن** في [513]

القسم حكمها في القياس» يعني في إثبات الهمزة مع الاستفهام فجعل ذلك قياسا ولم يلتزم فيه السماع فيظهر أنه لم يأخذ كلام سيبويه على أنه نصٌّ على هذه المسألة وذلك أنَّ سيبويه تكلم على فتح همزة أل وأنَّ ذلك للفرق بينها وبين التي في الأفعال والأسماء ثم قال «وصارت في ألف الاستفهام إذا كانت قبلها لا تحذف» ومضى في تمام التعليل ثم قال «ومثلها من ألفات الوصل الألف التي في أيمُ** وأيمُنُ**» ثم تكلم على فتحها وعلى كونها ألف وصل ولم يتعرض لحكم الإثبات والحذف فيها ونحو هذه العبارة ذكر في آخر أبوبا ما لا ينصرف في باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد فظاهر هذا أنه لم يتكلم على حكمها مع الاستفهام وعلى هذا الظاهر جرى السيرافي وابن خروف من أنهما إنما فسر كلامه بأنها مثل همزة أل في كونها موصولة وكونها مفتوحة ولم يتكلما على إثباتها مع الاستفهام فظهر أن هذا قياسٌ من الفارسي لا نص من سيبويه فيه ودل على ذلك قوله «في القياس» إذ ليس في كلام سيبويه ما يُشعر بأنه لا سماع فيه وقياسُ الفارسي صحيح كما قاسوا فتح همزته على همزة أل لكونه لم يتمكن في بابه تمكن الأسماء ولم يستعمل إلا في موضع واحد وهو القسم فكذلك قاس الفارسي فيه الحكم الآخر وقد حمل ابن الضائع قول سيبويه «ومثلها من ألفات الوصل الألف التي في أيمن**» على أنه يريد ما ذكره الفارسي من قياس الإثبات وعلى كلِّ [514]

تقدير فيكون الناظم على هذا قد نبَّه على ما نبّهوا عليه من ثبوت الهمزة في أيمن** مع ألف الاستفهام وعبارتُه في التسهيل مشعرةٌ بهذا المقصد إذا قال «لا تثبت همزة الوصل غير مبدوءٍ بها إلا في ضرورة ما لم تكن مفتوحة تلي همزة استفهام فتبدل ألِفًا أو تسهل» فهذه العبارة تشمل بعمومها همة أيمن** لكنه لم ينبه في الشرح إلا على همزة أل* خاصة وفي إطلاق الناظم لفظ الاستفهام إيهامٌ ما إذ كان للاستفهام أدوات كثيرة من جملتها الهمزة وهي المرادةَ بلا شك إلا أنه لم يبين ذلك فيوهم أنه يريد الهمزة وسائر الأدوات وذلك فاسدٌ إذ لا موجب لإثبات همزة الوصل مع هل أو غيرها فكان من حقه أن يحرر العبارة فيقول مثلا اَيمُنُ** هَمْزُ أَلْ كَذَا وَيُبْدَلُ ... مَعْ هَمْزِ الاسْتِفْهامِ أَوْ يُسَهَّلُ أو نحو هذا فلا يبقى عليه اعتراضٌ. ولما أتم الكلام على فَصْلِ الزِّيادة أخذ في الكلام على الإبدال فقال: [515]

فهرس موضوعات الجزء الثامن الموضوع الصفحة الوقف ....... 5 الإمالة ....... 129 التصريف ....... 218 فصل في زيادة همزة الوصل ....... 474 [516]

الإبدال

الإبدال أحرف الابدال هدأت موطيا ... فأبدل الهمزة من واو ويا آخرا اثر ألف زيد وفي ... فاعل ما أعل عينا ذا اقتفي ولا بد قبل الكلام على هذه الحروف التي ابتدأ بذكرها أن يذكر معنى الإبدال وحقيقته، وهو في الأصل بمعنى تنحية الشيء وجعل غيره في موضعه بدلا منه، وهذا بخلاف القلب، فإنه تصيير الشيء على خلاف ما كان عليه ونقله من صورة إلى صورة، فالقلب حكم يجري في الشيء نفسه، كقولك: قلبتُ هذه الصحيفة البيضاء إلى جهتها الأخرى التي هي حمراء، فاختلف الحكمان معا على شيء واحد، والإبدال يجري في الشيئين لا في شيء واحد؛ لأنك تقول: أبدلت هذه الصحيفة بصحيفة أخرى، إذا أزلت الأولى وجعلت في موضعها ثانية، هذا أصل المعنى فيهما، ثم نقلوا ذلك إلى الحروف على ما أذكره لك. وذلك أن من الحروف متقاربة ومتباعدة، أعني التقارب والتباعد في المخارج والصفات، فأما الحروف المتباعدة فلا يقع فيها قلبٌ ولا إبدال، أي: لا تقلب الحرف حرفا متباعدا من أصله ولا يبدل أيضا من متباعد منه، وإنما يكون ذلك

في الحروف المتقاربة، ولذلك لم يدَّع البصريون في نحو حثحث أن الحاء الثانية مبدلة من ثاء حثَّث، لتباعد ما بينهما، وقد مر ذلك. والمتقاربة على مراتب، منها حروف يقرب بعضها من بعض من وجوه كثيرة، ومنها (حروف) يقرب بعضها من بعض من وجوه قليلة، فالأول يجري (فيه) الحرفان عندهم لشدة التقارب مجرى الحرف الواحد، بخلاف الثاني فحروف العلة قريب بعضها من بعض جدا، فأطلق على تحول بعضها إلى بعض قلبا، كما تقول في قام: أصله قَوَمَ، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفي قِيلَ: أصله قُوِل، فقلبت الواو فيه إلى الياء لعلة كذا؛ لأنهما كأنهما شيء واحد. فإذا قلت: اتصل أو ادَّكر، فالعمل الحاصل (فيهما) من جعل التاء عوض الواو، والدال عوض الذال أو التاء سمي بدلا؛ لأنهما لما تباعدا شيئا عدا شيئين مختلفين. وأما التعويض فهو أعم من هذا، فقد يكون في الحروف المتباعدة والمتقاربة، ولذلك لا يلزم أن يقع العوض في موضع المعوض منه، كتعويض الياء قبل آخر المكسر والمصغر عوضا من محذوف ونحو ذلك، فقد ظهر الفرق بينهما.

وأصل هذا التقرير في القلب والإبدال للرماني، ولابن جني تفرقة أيضا بين العوض والبدل ذكره في التعاقب وغيره. وقد يوقع النحويون أحد اللفظين مكان الآخر، ولا مشاحة في الإطلاق إذا فهم المراد، فإن الناظم قد يطلق لفظ الإبدال في موضع لفظ القلب، وبالعكس، فلا اعتراض عليه فيه. وإذا تقرر معنى الإبدال فقوله: (أحرف الابدال هدأت موطيا) يريد أن الأحرف التي (يكون) لها هذا الحكم هي المجموعة في هذا الكلام، وهو قولك: هدأت موطيا، وهي تسعة أحرف: الهاء والدال والهمزة والتاء والميم والواو والطاء والياء والألف. وهي حروف الزيادة ما عدا السين واللام والنون، وزاد عليها الطاء والدال. ثم يتعلق بهذا الكلام مسائل: إحداها: أنه لا يريد أن هذه هي حروف الإبدال على الإطلاق، فإن ثم حروفا أخر زيدت في حروف الإبدال، كالجيم والصاد والزاي ونحوها، إلا أنه اقتصر على التسعة منها لأنها المطردة في الإبدال، كما أنه لما تكلم على حروف الزيادة ثم ذكر مواضعها لم يأت منها إلا بمواضع الاطراد، ولأجل ذلك قسمها في التسهيل قسمين وجمعها جمعين فقال: (يجمع حروف البدل الشائع في غير إدغام (قولك): لجد صرف شكس آمنٍ طي ثوب عزيه)) فأتى بحروف البدل الكثير الوقوع في كلام العرب مطردا كان أو غير مطرد، لكنه شرط

الشياع، ثم قال: (والضروري منه في التصريف هجاء: طويت دائما) فأتى بالقسم الضروري المطرد، وهو الجاري في مسائل التصريف، والذي جرى فيه القياس. وإلى هذا القسم الثاني نحو هنا، إذ عليه تكلم، وإياه بسط في هذا النظم. وهدأت معناه: سكنت، وموطيا: اسم فاعل من أوطأت الرجل إذا جعلته وطيئا، إلا أنه خفف همزته بإبدالها ياء لانفتاحها وانكسار ما قبلها. كذا قال ابن الناظم. وقد أتى الناس بحروف البدل أكثر مما أتى به هنا، فأتى بها سيبويه أحد عشر حرفا، يجمعها قولك: أجد طويت منها. وذكر بعد اللام فضمت إلى الأخر، فجمعت هكذا: أجد طويت منهلا. وجمعها بعضهم: طال يوم أنجدته. وزاد إليها الرماني حرفين، وهما الصاد والزاي، ويجمعها: طال يوم صد أنجزته، وهي على ما جمعها في التسهيل اثنان وعشرون حرفا، واقتضى كلامه فيها ما هو أعم من ذلك، وهو حروف البدل على أعم من أن يكون شائعا أو غير شائع، وذلك الحروف كلها، لا يستثنى منها شيء، ومن تتبع ذلك وجده، وقد استوفاها (ابن جني) إلا النادر، فعليك بذلك في سر الصناعة.

المسألة الثانية: أن حروف الإبدال قد يمكن أن يكون أراد بها الحروف التي تبدل من غيرها ويبدل غيرها منها، فيريد الحروف التي يقع فيها الإبدال من كلا طرفيه، فالألف تبدل من غيرها، ويبدل غيرها منها، والهمزة كذلك، والواو والياء، وما سوى ذلك. وقد يمكن أن يريد ما يكون بدلا من غيره مطلقا، كان بعد ذلك مبدلا منه أو لا. وهذا الثاني هو المتعين، إذ ليس مقصوده النظر في المبدل منه؛ لأنه قد يكون هو الأصل، وهو الشائع في البدل أن يكون من أصل كقام وما أشبهه، فإن الألف فيه بدل من واو هي الأصل، فما فائدة التعرض لكون الواو هي المبدل منها. وقد يكون المبدل منه غير أصل، كياء ملهى التي انقلبت منها الألف، لكن ليس المقصود منها كونها مبدلا منها، وإنما المقصود كون الألف بدلا منها، فلا تعرض لغير هذا. فإن قيل: ما الدليل على هذا من اللفظ؟ فالجواب: إنه لا دليل عليه من لفظه، وإنما أطلق العبارة اتكالا على فهم المراد؛ إذ لا كلام في الحرف إذا كان على أصله إلا من حيث يخلفه غيره، فالنظر في ذلك الخَلَف - وهو العارض- هو الذي يُقصد مثله، وإن قصد المبدل منه فبالقصد الثاني، من حيث تعيينُ الذي أبدل هذا منه فقط. المسألة الثالثة: فيما يمكن أن يعترض على عبارته به، والاعتراض عليه من أوجه: أحدها: أن قصده هنا بحصر حروف الإبدال إما أن يكون لحصر الحروف المطردة الإبدال دون المشهورة من غير اطراد، والنادرة، أو يكون

على أعم من ذلك، وهذا الثاني لا يمكن كما تقدم قبل هذا، لكن كلامه لم يتقيد بذلك، بل هو مطلق يصلح للقياسي وغيره، وإذا قلنا إنه يريد الأول فإذ ذاك نقول: ثم حروف أخر يكون الإبدال فيها قياسيا، وذلك الصاد والزاي والنون (والصاد) تبدل من السين إذا وقع بعدها قاف أو غين أو خاء أو طاء في كلمة واحدة، نحو: صُقت في سقت، وصملق في سملق، وصالح في سالح، وصاطع في ساطع، ومن هذا قراءة من قرأ: {الصراط} بالصاد، في قراءة غير قنبل وحمزة. وذلك لأن هذه الحروف مستعلية، والسين مستفلة، فأرادوا أن يكون العمل فيها من وجه واحد، فأبدلوا الصاد من السين لذلك، والزاي أيضا تبدل من السين قياسا إذا سكنت وبعدها الدال في نحو: يُسْدل، تقول: يزدل، وفي يسدر: يزدر، وكأنهم كرهوا اجتماع السين والدال، لما بينهما من المقاربة في المخرج مع التباعد في الصفات، فأبدلوا من السين حرفا يقرب من الدال، وهو الزاي، إذ كلاهما مجهور وغير مطبق، وكذلك الصاد تبدل زايا أيضا، قال سيبويه: (وسمعنا العرب الفصحاء يخلصونها -يعني الصاد- زايا)، يريد في نحو: يصدر، والتصدير، ونحو ذلك. والنون أيضا تبدل الألف منها في الوقف إذا قلت في اضربَنْ: اضربا، فتبدلها ألفا. وقد

تقدم له ذلك، فهي إذًا من حروف الإبدال المطردة، ولم يذكره هنا، وكذلك أبدلت الألف من التنوين، والتنوين نون، وقد ذكر ذلك أيضا. ولعل من يتتبع حروف البدل يجد فيها من هذا النوع القياسي أشياء، فليست إذًا حروف البدل القياسي بمنحصرة في هذا العدد. والثاني: إنه [أنه] حين عزم على جمع حروف البدل المقيس كان يقتصر على ما قاله في التسهيل من هجاء (طويت دائما)، فأتى بثمانية أحرف وترك الهاء، لأن إبدالها غير قياسي في بدلها وفي البدل منها، أما البدل منها فأبدل منها الياء كقولهم في: دهدهت الحجر: دهديت، وقالوا: صهصيت بالرجل، إذا قلت له: صه، صه. وأصله: صهصهت. وأبدل منها الهمزة في آل، وأصله: أهل، فأبدل من الهاء الهمزة (فصار) أأل، ثم أبدل الهمزة ألفا لاجتماع الهمزتين على ما يجب في تسهيل الثانية هكذا قالوا. ومن ذلك ماء، أصله موه، فقلبت الواو ألفا، وأبدلت الهاء همزة، فصار ماء. وقالوا: أمواء، فأبدلوا أيضا، والأصل

أمواه، وأنشد ابن جني، عن أبي علي: وبلدة قالصة أمواؤها ... تستن في رأد الضحى أفياؤها وأما بدلها فمن الهمزة، نحو هياك في إياك، أنشد الأخفش: فهياك والأمر الذي إن توسعت ... موارده أعيت عليك مصادره (وقال ابن جني): وطيء تقول: هِنْ فعَلَ، يريدون: إن فعل، وقال: لهنك قائم، والأصل: لأنك، قال: ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق علي كريمُ وقالوا: هيا زيد، يريدون: أيا زيد، قال ابن جني: قرأت على الفارسي

فانصرفت وهي حصان مغضبة ... ورفعت بصوتها: هيا أبهْ قال ابن السكيت: يريد أيا أبه. قال: وهو قريب؛ لأن أيا أكثر من هيا، وقالوا: هَمَا والله، في: أما والله لقد كان كذا، وقال: هراق، وهنار الثوب، وهراح الدابة، والأصل: أراق، وأنار، وأراح. وقالوا: هزيد منطلق؟ يريدون: أزيد؟ وأنشد الأخفش: وأتى صواحبُها فقلن: هذا الذي ... منح المودة غيرنا وجفانا وحكى اللحياني: هردت الشيء أهريده، يريد: أردته. وأبدلت أيضا من الألف، كقوله: أنشده ابن جني: قد وردت من أمكنه ... من ههنا ومن هنه إن لم أروِّها فمه؟ أراد: ومن هنا. وأما (فمه) فيمكن أيضا أن يكون من هذا، أي: فما أصنع؟ أو نحو هذا.

وأبدلت أيضا من الياء في قولهم: هذي، قالوا في الوقف: هذه، بالهاء. ومنهم من يبدل وصلا ووقفا. وقالوا في تصغير هَنَة: هنيهة، والأصل الواو، لبيت سيبويه: على هنوات شأنها متتايع وأبدلت أيضا من الواو، قال ابن جني: أبدلوها في حرف واحد، وهو قول امرئ القيس: وقد رابني قولها: يا هنا ... هُ ويحك ألحقت شرا بشر فالأصل: هناو، لأن لام الكلمة واو، فأبدلوا الهاء من الواو. كذا قال أصحابنا. قال: ولو قيل: إن الواو قلبت ألفا، ثم أبدلت الهاء منها لكان قولا قويا، فتكون الهاء كالهمزة في كساء، في أنها بدل من الألف المبدل من الواو، وهو أشبه من قلب الواو في أول أحوالها هاء؛ لأن الواو إنما اطرد قلبها ألفا في هذا الموضع، وأيضا فقلن [فقلب] الألف هاء أقرب من قلب الواو لبعدهما. فأنت ترى أن الهاء إنما أبدلت أو أبدل منها في مواضع مسموعة غير مقيسة، أو في لغات ضعيفة لا يعتد بمثلها في هذا النظم، فلم ذكر الهاء هنا؟

فإن قلت: إنما ذكرها لموضع فيها قياسي، وهو إبدالها من تاء التأنيث في الوقف، وقد تقدم فمن أجل ذلك عدها في حروف البدل. فالجواب: أن ذلك مختص بالوقف، فله بابه، ولذلك لم يذكر الهاء في التسهيل في هجاء (طويت دائما) وأيضا فكان يلزمه أن يذكر هنا النون؛ لأنها تبدل في الوقف ألفا، وذلك نون التنوين، ونون التوكيد الخفيفة، وقد تقدم ذكرهما في بابهما، لكنه لم يفعل ذلك، فأحد الأمرين يلزمه، إما ترك ذكر الهاء، وإما ذكر النون. والثالث: أن البدل على قسمين: أحدهما: أن يكون بسبب الإدغام، والثاني: ألا يكون كذلك، فأما الثاني فهو الذي أراد النحويون الكلام عليه ههنا، وأما الأول فلم يقصدوه هنا، وإنما باب ذكره الإدغام، وأيضا فهو يكون في الحروف كلها إلا في الألف. وكلام الناظم لم يتقيد بما قصدوه هنا دون الآخر، فاقتضى أن حروف البدل هذه التسعة كان ذلك في إدغام أو في غير إدغام، وذلك غير صحيح باتفاق، وقد تحرز من هذا في التسهيل حيث قال: يجمع حروف البدل الشائع في غير إدغام كذا. فأخرج البدل للإدغام، وذلك يكون في إدغام المتقاربين، كما تقول في اذبح خروفا: اذبح خروفا [اذبخ خروفا] فتبدل الحاء خاء؛ لأجل إدغامها في

الخاء، إذ لا يمكن الإدغام مع بقاء الأول حاء. وكذلك سائر (الحروف) المتقاربة في الإدغام. فإن قلت: فقد ذكروا الإدغام للإبدال ههنا أيضا، وذلك في نحو قولهم: اتسق، واتعد، واتزن، وكذلك: اطلع، واطرد، إذ أصلها: ايتعد من الوعد، وايتزن من الوزن، وايتسق من مادة: وس ق، وكذلك اطلع أصله: اطتلع، و (اطرد أصله) اطترد)، من طلع وطرد، لكن وقع الإبدال في حرف العلة وفي التاء، ثم وقع الإدغام، وكذلك (ما أشبهه مما ذكروا فيه الإبدال بلا شك، وليس بقليل ولا غير مطرد، بل قاسوه، وذكره الناظم معهم، وإذا كان كذلك لم ينبغ أن يقيده بإخراج الإبدال في الإدغام، إذ يخرج عن حروف الإبدال بهذا التقرير الطاء والتاء، فإن الشائع في إبدالها لما يدغم، لكنهم أدخلوا في الإبدال هذا النوع، فالاحتراز منه على الإطلاق لا يصح. فالجواب: أن) هذا القبيل لم يقع الإبدال فيه للإدغام أصلا، ولربما وقع فيه الإبدال لعلة أخرى، كما يقال في ايتعد ونحوه: لما ثقل عليهم ذلك لأجل تلاعب الحركات به في ايتعد، وياتعد، وموتعد، فتارة

يصير ألفا، وتارة واوا، وتارة ياء، أرادوا أن يبدلوا منه حرفا جلدا يبقى على حالة واحدة مع اختلاف الحركات، فأبدلوه تاء، ثم أدغموا لضرورة اجتماع المثلين، فهو من قبيل اجتماع المثلين لا من قبيل إدغام المتقاربين. على هذا النحو جرى الحكم في اطرد واطلع ونحوه، وذلك أنه من باب اضطلع واصطبر، لما أرادوا تقريب التاء لانسفالها من حروف الاستعلاء، أبدلوها طاء، فحين لم تلق الطاء المبدلة طاء أخرى بقي الأمر على (حاله) كاصبطر [كاصطبر] واضطرب، ولما لقيت طاء ألزم الإدغام بحكم الاتفاق ولم يقصد إلى إبدال التاء طاء لأجل كون ما قبلها طاء، فالقصد التقريب لا الإدغام. وستأتي الإشارة إلى هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. فإذًا القيد المذكور معترض به على الناظم، وهو قوله: (في غير إدغام) إذ لا بد منه، إذ معناه في غير قصد الإدغام، وههنا لم يقصد الإدغام، وإنما أدى إليه الحكم. والجواب عن الاعتراض الأول: أن كلامه إنما هو في الإبدال المطرد؛ لأن النحوي لا كلام له في الأمور السماعية إلا بالعرض، والمقصود بالذات هو ما تعلق به القياس، وإذا كان كذلك فليس إلا ما ذكر. وما اعتُرض به من إبدال السين صادا أو زايا ليس بالكثير، وإنما يكون ذلك في لغة قليلة، ولذلك حين بوَّب سيبويه على ذلك قال: هذا باب ما تقلب فيه السين صادا في بعض اللغات

وكذلك قال هو وغيره في إبدال الزاي منها، فلما كان ذلك قليلا بالنسبة إلى اللغة الشهيرة لم يعتن بذكره. فالحاصل من هذا أن ما خرج عن عقده فإما سماع، وإما لغات قليلة، وأما النون فقد دخلت له تحت ذكره الألف والميم؛ لأن الميم تبدل من النون، فالميم هي التي أخذت هذا الحكم، فلم يحتج إلى ذكر النون. وكذلك الألف مع نون التوكيد والتنوين، فلم يخرج له شيء من ذلك عن كلامه، وأما إبدال الألف منها فقد ذكر ذلك في مواضعه، فلا اعتراض عليه. والجواب عن الثاني: أن الهاء إنما ذكرها لأجل إبدالها القياسي في الوقف، ولم يتعرض هنا في التفصيل لذكرها؛ لأنه كان يكون تكرارا حين تقدم له ذكر ذلك. وكلامه في التسهيل أولى بالاعتراض؛ إذ يقتضي كلامه أن الإبدال في الهاء ليس من قبيل المطرد، إذ أدخلها في حروف البدل الشائع وأخرجها من المطرد. فإن أجيب عن كلامه في التسهيل لزمه الاعتراض هنا، فإن الوجه الذي لأجله ذكرها في المطرد ينقض عليه ذكرها هنا. فالحاصل أنه لا بد من ورود النقد عليه في أحد الكتابين، إلا أن قال: إنه لحظ في أحد الموضعين غير ما لحظ في الآخر، حتى يمكن الجمع بين اللحظين، فحينئذ يرتفع النقد جملة. وبيان ذلك أنه قصد هنا -كما تقدم- بيان حروف البدل المطرد، ولا شك أن الهاء مما يطرد إبداله في موضع تقدم له ذكره فيه، وأما قصده في التسهيل فأمر آخر مضموم إلى

الاطراد، وهو كونه من ضروريات (باب) التصريف وهو معنى قوله: والضروري في التصريف هجاء: طويت دائما) ولم يقل: (والمطرد) من ذلك هجاء كذا، فدل على أن مقصوده: ذكر الحروف التي يجتمع فيها الاطراد والاختصاص بباب التصريف، (ولا شك أن الإبدال المطرد في الهاء ليس من ضروريات باب التصريف) بل من ضروريات باب الوقف. وقد ذكر ذلك في الوقف، ولم يذكره في التصريف كما فعل هنا، فإذا كان كذلك ثبت أن إسقاط الهاء من الضروري لقصد نص عليه ليس الاطراد وحده، بخلاف ما قصد (هنا) فإنه لم يرد إلا مجرد الاطراد خاصة، فاستقام الكلامان، وظهر قصده في الموضعين. وهذا من منازعه المعدودة في المقاصد الحسان، والله أعلم. والجواب عن الثالث: أن اصطلاح أهل التصريف استمر في حروف الإبدال على أحد القسمين، وهو الذي ليس للإدغام، فلا تسمع حروف الإدغام تطلق إلا على ما لا يضطر فيه الإدغام إلى الإبدال، ولا شك أن هذا هو مقصد الناظم، فلم يحتج إلى بيانه لسبق الفهم إليه، وإنما بين ذلك في التسهيل توكيدا لما اصطلحوا عليه، فلا ضير في تركه. ثم أخذ في تفصيل مواضع هذه الحروف في الإبدال، فابتدأ بالهمزة فقال: (فأبدل الهمزة من واو ويا، آخرا اثر ألف زيد) فقرر أن هذا الإبدال في الهمزة الذي يذكره لازم إذ لم يخير فيه، بل حتم الحكم به، وهذا صحيح

كما سيتبين لك [إن] شاء الله تعالى، ويعني أن الهمزة تبدل لزوما من كل واو وكل ياء كانا على هذه الأوصاف المذكورة، وهي كونهما آخرا إثر ألف زيد، وهي ثلاثة: أحدها: كون الواو والياء آخرا، يريد آخر الكلمة، فإنهما إذا كانتا كذلك حصل لها الحكم المذكور، وهو القلب همزة، فإن لم تقعا طرفا بل وقعتا وسطا أو أولا، فذلك الإبدال اللازم غير محكوم به بمقتضى مفهوم كلامه، فالمعاينة والمقاومة ونحوهما تصح فيهما الياء والواو لعدم وقوعهما آخرا؛ لأن العلة التي لأجلها يقع الإعلال مفقودة في غير الآخر، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقوله: (آخرا) يحتمل أن يكون منصوبا على الحال من الواو والياء وإن كانا نكرتين، لكنه قليل. وكان حقه إذ ذاك أن يقول: آخرين؛ لأنه حال منهما. ويحتمل أن يكون آخرا (إنما) انتصب على الظرف، والعامل فيه اسم فاعل، وهو صفة الواو والياء، كأنه قال: من واو وياء كائنتين في الآخر. وهو الأجود، أو حال (منهما)، وهو جيد أيضا. ويكون (قوله): (إثر ألف) بدلا من (آخر) على أنه صفة أو حال كما تقدم. والثاني: أن يكون الواو أو الياء إثر ألف كما قال، فإذا كانت كذلك ثبت حكم القلب همزة، فإن لم يكن كذلك فمفهومه ألا تقلب همزة وإن كانت

آخرًا / نحو: رمى ودعا، إذ أصله رَمَيَ ودَعَوَ، فانقلبتا ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، ولا يجوز أن تقلبا همزة، إذ لا موجب لذلك. وكذلك الأدلي في جمع دلو، والأجري في جمع جرو، وأصله: أدلِوٌ وأجرِوٌ، فقلبوها ياء ولم يلبوها همزة. والثالث: أن تكون تلك الألف الواقعة قبل الواو أو الياء زائدة، وذلك قوله: (إثر ألف زيد)، فزيد في موضع صفة لألف، أي ألف زائد، فلو كانت الألف أصلية أي منقلبة عن أصل، لم تقلب همزة، وإن وقعت آخرا، كقولك: آي، وزاي، وآية، وطاية، وراية، وراي، قال العجاج: رايٌ إذا أورده الطعنُ صَدَرْ وكذلك ما أشبه هذا؛ إذ أصلا لألف فيها الواو، وبهذا يحكم عليها قياسا إلا أن يرد اشتقاق أو غيره كما في آية؛ لأن اللام إذا كانت ياء حكم على العين بأنها واو؛ لأن باب طويت وشويت ورويت واسع جدا، بخلاف باب حييت وعييت فإنه قليل. وكذلك (واو) لم يُعلُّو [يعلوا] آخره لأن الألف منقلبة عن أصل وهو الواو أو الياء، على اختلافهم في ذلك، وكذلك إذا بنيت من الرمي مثل جحمرش فقلت: رميايٌ، لم تقلب الياء همزة؛ لأن الألف منقلبة عن الياء الثانية المقابلة لراء جحمرش، وإنما صحت الواو

والياء لأنهما وقعتا موقع اللام، وهم قد أعلوا العين، فلم يكونوا ليجمعوا على الكلمة إعلالين، وذلك أن هذه الأحرف خارجة عن القياس، لأن سبيلها في القياس أن تصح العين وتعل اللام، فيقال: أيًا، وروًى، وأياة، وطواة، ورواة، كما قالوا: نواة وشواة، لكنهم أعلوا العين فامتنعوا من إعلال اللام لذلك. وما جاء على خلاف هذا فهو شاذ غير مقيس، نحو: باء، وتاء، وثاء، وحاء، وخاء، وسائر حروف الهجاء التي على هذا النوع. وشذ في راية راءة، حكاه سيبويه. ومن هنالك قرر الفارسي في بعض مجالس إقرائه الحكم في باء وتاء وثاء وغيرها مما اعتل فيه العين واللام (من حروف الهجاء، فقال له بعض حاضري المجلس، وكان فتى يعرف بالبوراني: أفيجمع على الكلمة إعلال العين واللام)؟ ! فقال أبو علي قد جاء من (ذلك) أحرف ساكنة فيكون هذا منها، ذكر ابن جني تلك الأحرف المشار إليها في سر الصناعة. فالحاصل أن الكلمة إذا اعتلت لم تعل لامها، إلا أن يجيء شيء فيحفظ، ولذلك حكم على آءة ونحوها أن اللام منها همزة ليس ببدل عن شيء تحاميا من القول بإعلال العين واللام. وهذا كله لم ينشأ إلا من أصالة الألف التي قبل الواو والياء. فلو كانت زائدة كما قال لم يكن في الكلمة إذا قلبت

الياء والواو همزة إلا إعلال واحد فيؤتى به، فتبدل الواو في ذوات الواو، والياء في ذوات الياء همزة لاجتماع ثلاثة الشروط التي ذكر، نحو قضاء من قضيت، وعطاء من عطوت، وسقاء من سقيت، وكساء من كسوت، ورداء من الردية. وكذلك علباء من علبيت السقاء، وغُزَّاء وعداء من غزا يغزو وعدا يعدو، وكذلك ما أشبهه. وما جاء على خلاف ذلك فشاذ محله الضرورة، نحو ما أنشده المازني: ولاعب بالعشي بني أبيه ... كفعل الهر يحرش [يحترش] العظايا فأبعده (الإله) ولا يؤبِّي ... ولا يشفى من المرض الشفايا أراد: العظاء والشفاء فتركه على الأصل، وأول الشعر على ما قاله ابن جني:

إذا ما الشيخ (صم) ولم (يكلم) ... ولم يك سمعه إلا ندايا وأنشد ابن جني قول الراجز: أهبى التراب فوقه إهبايا وقول الآخر: عشية أقبلت من كل أوب ... كنانة عاقدين لهم لوايا وكأنهم شبهوا ألف الإطلاق للزومها القافية بتاء التأنيث، من حيث لزم فتحُ ما قبلهما، وكانتا زائدتين، ولذلك لم (يأت) هذا إلا في موضع (النصب). هذا بيان كلامه إلى غاية ما قصد فيه، لكنه ظاهر بل صريح بأن الهمزة مبدلة من الواو والياء من غير توسط عمل بين ذلك، وهو يظهر من كلام كثير من النحويين، إذ يقولون في مثل هذا: هذه الواو والياء وقعت طرفا بعد ألف زائدة فوجب قلبها همزة. وعليه كلامه في التسهيل. والذي يذهب إليه ابن جني، ونص عليه المازني في تصريفه أن الأصل في قضاء وسقاء ونحوهما: قضاي وسقاي. وفي

نحو كساء وعلاء: كساوٌ وعلاو، فلما وقعت الياء والواو طرفين بعد ألف زائدة ضعفتا لتطرفهما ووقوعهما بعد الألف الزائدة المشبهة للفتحة في زيادتها، فكما قلبت الياء [والواو] ألفين لتحركمها وانفتاح ما قبلهما في نحو: عصا ورحا، كذلك قلبتا أيضا ألفا لترفهما وضعفهما، وكون ألف زائدة قبلهما في نحو كساء ورداء، فصار التقدير: قضاا، وسقاا، وكساا وعلاا، فلما التقى ساكنان لم يكن بد من أحد أمرين، إما أن يحذفوا أحدهما فيعود الممدود مقصورا، وهذا مكروه؛ لأنه نقض لغرض من المد، وإما أن يحركوا الألف الثانية، وإذا حركوا فإما أن يردوها إلى أصلها ليتحرك؛ لأن الألف في نفسها لا تقبل الحركة، وذلك أيضا مكروه؛ لأنه رجوع إلى ما رُفض، وإما أن يقلبوها همزة، وهذه عادتهم إذا أرادوا تحريك الألف أبدلوها همزة، نحو قراءة أيوب السختياني: {ولا الضألين}، وحكى أبو زيد في كتاب الهمز: شأبة ودأبة، وأنشدوا: يا عجبا لقد رأيت عجبا ... حمار قبان يسوق أرنبا خاطمها زأمَّها أن تذهبا إلى أشياء من هذا النحو، وذلك أن الهمزة أقرب الحروف إلى الألف، فقلبوها إليها لتقبل الحركة فصارت: قضاء، وسقاء، وكساء، وعلاء. قال ابن جني: فالهمزة في الحقيقة إنما هي بدل من الألف، والألف التي أبدلت

الهمزة عنها بدل من الياء والواو، لكن النحويين إنما اعتادوا هنا أن يقولوا: إنما الهمزة منقلبة عن ياء واو [وواو] ولم يقولوا: من الألف، لأنهم تجوزوا في ذلك، ولأن تلك الألف التي انقلبت عنه الهمزة هي بدل من الياء أو الواو، فلما كانت بدلا منهما جاز أن يقال: إن الهمزة منقلبة عنهما، وأما (في) الحقيقة فإن الهمزة بدل من الألف المبدلة عن الياء والواو. قال: وهذا مذهب أهل النظر الصحيح في هذه الصناعة، وعليه حذاق أصحابنا فاعرفه. فهذا ما قال، وما اعتذر به عن الفريق الآخر هو العذر للناظم فيما فعل من ذلك، مع أنه لم ينفرد [يتفرد] به، بل هو تابع لغيره، قال سيبويه في باب ما اعتل من الأسماء المعتلة على اعتلال الأفعال: (اعلم أن فاعلا منها مهموز العين، وذلك أنهم يكرهون أن يجيء على الأصل مجيء ما لا يعتل (فعل) منه، ولم يصلوا إلى الإسكان مع الألف، وكرهوا الإسكان والحذف فيه فيلتبس بغيره)، قال: (فهمزوا هذه الواو والياء إذا كانتا معتلتين، وكانتا بعد الألف). فهذا ظاهر منه أن الهمزة مبدلة من الياء والواو لا من الألف، لكنهم حملوا المسألة على ما قرره ابن جني، وبه فسر

السيرافي كلامه في الكتاب، فلا اعتراض على الناظم في مساق المسألة على ما رأيت؛ إذ كتابه في غاية الاختصار، ولا يليق استيفاء وجه الصناعة على الحقيقة إلا بالمطولات، مع أن ما قال ليس بمنافر للصناعة، إذ يمكن أن تكون الهمزة على حقيقة (ما قال من إبدالها من الياء والواو)، كما أبدلوها من الواو في وُقتت ووشاح وأواصل، ونحو ذلك من المواضع التي يمكن فيها دعوى القلب ألفا ثم همزة. وأيضا فما نص عليه هو الظاهر، والحمل عليه أولى حتى يدعو داع إلى غيره. وقد جعل ابن جني في الخصائص الحمل على الظاهر أصلا وإن أمكن أن يكون على غير ذلك، وأخذ ذلك من سيبويه حين تكلم على سِيد، وأنه من ذوات الياء حملا على ما ظهر، مع إمكان أن يكون من ذوات الواو مشتقا من ساد يسود، فكذلك مسألتنا، والله أعلم. إلا أن في قاعدته نظرا، وذلك أنه أطلقها إطلاقا فيقضي جريان حكمها في كل ما دخل تحتها، والأسماء التي آخرها واو أو ياء بعد ألف زائدة على قسمين: أحدهما ما كان منها غير لاحق به تاء التأنيث، كالأمثلة المتقدمة الذكر، وهذا لا إشكال في صحة جريان الحكم فيه.

والثاني: ما لحقته تاء التأنيث، ولا يجري الحكم فيه على الإطلاق، بل الأمر فيه ينقسم قسمين: أحدهما: أن تكون الكلمة مبنية على التاء، فهذا لا تبدل فيه الواو والياء همزة البتة، بل تبقى على ما كانت عليه في الأصل، فتقول فيما أصله الواو: شقاوة وإتاوة ونقاوة وإداوة وهراوة وعلاوة. وفيما أصله الياء: (نهاية وبداية) ونفاية، ورواية، وما أشبه ذلك، فلا تعل فيه الواو والياء، وما جاء من ذلك معلا فنادر، قال سيبويه في تعليل التصحيح: (قويت حيث لم تكن حرف إعراب كما قويت الواو في قمحدوة) يعني أنها إنما أعلت لما وقعت طرفا، والطرف أضعف مما ليس بطرف، ولذلك يلحقه من الإعلال ما لا يلحق غير الطرف، فلما وقع الإعراب على التاء قويت الواو والياء، فلم يدخلها الإعلال حين تحصنت بالتاء، كما تحصن قمحدوة وقلنسوة وعرقوة ونحوها بالتاء فلم تعل (اللام)؛ إذ القاعدة -على ما يأتي- أن الواو المتطرفة في

الاسم لا تثبت بعد الضمة حرف إعراب، بل تقلب الضمة كسرة، والواو ياء، فإذا وقع بعدها التاء صحت ولم تعل. هذا تعليل سيبويه، وهو صحيح، فأما صلاءة وعباءة وإعلالهم للكلمة هنا مع بنائها على التاء، فكأنه مبني على صلاء وعباء وإن لم ينطق به على ذلك المعنى، كما قالوا: مسنية ومرضية، فقلبوا الواوين ياءين وإن لم تقعا طرفا، إذ القاعدة ألا يكون هذا الحكم إلا في المتطرفتين، لكن قدر أن التاء دخلت على الكلمة مقلوبة فتركته على حاله. والثاني: ألا تكون الكلمة مبنية عليها، فلا أثر لها، ويدخلها حكم الإبدال كأن لم توجد التاء، فتقول: امرأة معطاءة للدراهم، وميفاءة بالعهد، وإغفاءة واحدة الإغفاء، ولقاءة واحدة، وإعطاءة (واحدة)، وذلك لوجود المذكر وما أشبه ذلك مما التاء فيه عارضة لا لازمة. فهذا القسم هو الذي يدخل في كلام الناظم، وهو صحيح، إذ لا اعتداد بالتاء. فالحاصل أن قسم ما يبنى على التاء داخل فيه.

ويجاب عن هذا أن تاء التأنيث لما اعتدوا بها وصار ما قبلها بسببها في حكم ما ليس بطرف، اعتبر الناظم فيها هذا المعنى، فلم تدخل له تحت قوله: (آخرا) (إذ ليست الواو والياء آخرا) كما أنها ليست الواو في قمحدوة آخرا، قضي بذلك التصحيح، ولو كانت آخرا) حقيقة لاعتلت، فقوله: آخرا، يريد (به) ما وقع آخرا في الحقيقة، وما وقع (آخرا) بالحكم، فمما [فما] لم يقع آخرا على أحد الوجهين فلا اعتلال فيه، ثم قال: (وفي فاعل ما أعل عينا ذا اقتفي) في فاعل: متعلق باقتفي، والفاعل أراد (به) ما كان من الأسماء على هذا الوزن. وما: واقعة على الفعل الذي انتسب إليه وزن الفاعل، وهي موصولة، أو نكرة موصوفة. وعينا: تمييز، أصله الفاعل، كاشتعل الرأس شيبا، وأصله: ما اعتلت عينه. وهذا موضع ثان من مواضع إبدال الهمزة من الواو والياء، يريد أن الياء والواو تبدلان أيضا همزة في الفاعل المأخوذ من الفعل الذي اعتلت عينه، (ولا يريد بما اعتلت) (عينه) ما كانت عينه حرف علة، وإنما يريد بذلك ما دخل عينه الإعلال بالقلب أو الإبدال. وقوله: في فاعل ما أعل عينا. لم يعين في هذا الوزن موضع الإبدال، ولكنه يتعين بتعيين موضعه من الفعل، إذ قال: ما أعل عينا، فكأنه يقول: في عين الفاعل مما أعل من الأفعال عينا ذا اقتفي. وهذا الكلام المختصر قد أحرز أوصافا بها يتم هذا الحكم:

أحدها: أن يكون الاسم على وزن فاعل، فإنه إذا كان كذلك جرى فيه الإبدال، فإن لم يكن على هذا الوزن لم تُعل العين، نحو: مفاعل، ومتفاعل، ونحو ذلك. فإنك إنما تقول: ملاوذ، ومعاود، ومباين، ومعاين. وكذلك: متساوٍ، ومتجاوز، ومتباين، ومتماين، وما أشبه ذلك، فتبقى العين على تصحيحها، ولا تقول: ملائذ، ولا مبائن، ولا متساءٍ، ولا متمائن، بالهمز؛ لأن اسم الفاعل محمول في الإعلال على فعله، وأفعال هذه الأوزان غير معتلة العين، نحو: لاوذ، وعاود، وباين، وعاين، وتجاوز، وتساوى، وتباين، وتماين، والقاعدة: أن اسم الفاعل إنما يعتل باعتلال فعله، فإذا صح صح، فكذلك هذه الأشياء. والثاني: أن يكون هذا الوزن منسوبا إلى فعل، ومعنى كونه منسوبا إليه أن يكون في الاشتقاق راجعا إليه (خاصة)، لا أنه يريد أن يكون اسم فاعل جاريا عليه؛ لأن هذا الحكم جار فيما إذا كان جاريا على الفعل نحو: قام فهو قائم، وباع فهو بائع، ودام فهو دائم، وبان فهو بائن، وفيما لم يكن جاريا كحائض، وامرأة زائر، من زيارة النساء، وعلى هذا يشمل ما كان من فاعل بالتاء وبدونها كقائمة وقائلة وصائمة، ونحو ذلك؛ لأن النسبة إلى الفعل هنا موجودة، فههنا يجري على الفعل في الإبدال، فإن لم يكن جاريا على فعل فمقتضى هذا الكلام ومفهومه أن الإبدال لا يكون هنا، فنحو: الحائر وهو مجتمع الماء، والصائر لشق الباب، والعائر

للرمد، والحائش لجماعة النخل؛ لا يعل، لما كان غير جار على فعل ولا منسوب إليه، هذا ما يعطيه كلامه. والثالث: أن يكون ذلك الفعل المنسوب إليه قد أعلت عينه كقائم، فإنه منسوب إلى (قام المعتل العين، وبائع منسوب إلى باع، وهائم منسوب إلى هام، وكذلك ما أشبهه مما هو جار على الفعل اسم فاعل له، وكذلك ما ليس بجار نحو حائض، فإنه منسوب إلى حاضت، وزائر منسوب إلى زار وإن لم يكن عليه، فاعتل (لذلك من جهة أن الاسم محمول في اعتلاله على الفعل، فكما اعتل الفعل بقلب عينه ألفا سواء كانت واوا أم ياء، فكذلك اعتل) الاسم بقلب عينه الياء أو الواو همزة. وقد ظهر من مفهوم هذا أن الفعل إذا لم يدخل عينه الإعلال، وإن كان واوا أو ياء، فإن فاعلا (منه) لا يعل، بل يبقى على أصله، فتقول في فاعل من عوِر، وحوِل، وروِي، وهوِي: عاور (غدا) وحاوِل، وراوٍ، وهاوٍ، وكذلك ما عينه الياء من نحو: صيِد، وعيِس البعير، وغيِف، وغيِد، تقول في فاعله: صايد غدا، وعايس، وغايف، وغايد، فلا تهمز، بل تصححه لتصحيح فعله. هذا معنى كلامه، وفيه من النظر الصناعي ما في مسألة كساء، من أنه (اعتد) في ظاهر كلامه على أن الهمزة مبدلة من الواو والياء. والذي ذكر

ابن جني وغيره أن الواو والياء أبدلت منهما الألف، وأن الهمزة مبدلة من الألف. وذلك أن (قائل) و (بائع) أصلهما قاول وبايع، كما أن أصل قال وباع قوَل وبيَع، فسكن حرف العلة من قاول وبايع كما سكن في فعله، ووجب قلبهما ألفا كما انقلبا في قال وباع؛ لأن الألف قبل حرف العلة من حيث كانت زائدة تشبه الفتحة، فانقلب حرف العلة ألفا كما انقلب في قال وباع، للفتحة المحققة، فصار: قاال وبااع، وهكذا بألفين، فلما اجتمع الساكنان لم يكن بد من الحذف لأحدهما أو التحريك، والحذف لا يمكن فيصير اسم الفاعل على لفظ الماضي فيلتبس، وأما التحريك فلا يمكن أن يرجع لأجله إلى الأصل من الياء والواو، فيكون رجوعا عما منه فُر، فلم يبق إلا تحريك الألف نفسها، وذلك لا يمكن فيها، فأبدلوها حرفا يقرب منها غاية القرب ويمكن تحريكه، وهو الهمزة، فأبدلوا الثانية همزة ولم يبدلوا الألف الأولى إلى الهمزة؛ لأن الألف الزائدة في (فاعل) لا أصل لها في الحركة، ولم تتحرك قط؛ فكانت الألف الثانية أولى، وهذا النحو هو الذي مضى في مسألة كساء، فيمكن أن يكون الناظم قائلا بهذا النحو، إلا أنه تجوز في العبارة، واختصر العمل اختصارا وهو يريده، وإما أن يكون بنى على ظاهر كلام كثير من النحويين في هذا، وعلى ظاهر الأمر لم يثبت درجة مقدرة لم تظهر قط. ثم بعد في كلامه معترض، وهو أنه شرط في فاعل أن يكون منسوبا إلى فعل فيقتضي كلامه أمرين:

أحدهما: خروج حائض ونحوه من هذا الحكم؛ لأنه ليس له فعل يجتمع معه في الاشتقاق، إذ لو كان له فعل لكان جاريا عليه اسم فاعل، لكنه معدوم، فإذا امتنع الجريان امتنعت النسبة الاشتقاقية (أيضا)؛ لأن (حائض) هذا الذي لا تدخله التاء ليس بمشتق من حاضت، وإنما يشتق من حاضت اسم الفاعل الجاري، إذا قلت: هي حائضة غدا، وأما غير الجاري فليس له فعل ولا معناه معنى الفعل، وإنما معنى حائض معنى أن لو قلت: حيضى، وإذا لم يكن له فعل فقد خرج باشتراطه أن يكون الاسم فاعل ما أعل عينا، وبذلك خرج (عن) أن تقلب عينه همزة، فكنت تقول على هذا: حايض، على الأصل. وكذلك سائر الباب، وهذا فاسد. والأمر الثاني، وهو أبين من هذا: أن يكون ما كان من الجوامد المعتلة العين نحو: حائر، وحائش، وعائر، وصائر، لا تعتل عينه، فكنت تقول: حاير، وحاوش، وعاور وصاير. وهذا غير صحيح، بل حكمه عندهم في الإعلال حكم الجاري على الفعل؛ لأن الإعلال في الأسماء ليس بمختص بما جرى على فعل، بل الأسماء كلها المشتقة والجامدة جارية على الفعل في حكم الإعلال مطلقا، ولذلك أدخل هذا القسم في التسهيل إذ قال: (وتبدل الهمزة أيضا وجوبا من كل ياء أو واو وقعت عينا لما يوازن فاعلا أو فاعلة، من اسم معتزٍ إلى فعل معتل العين، أو اسم لا فعل له). فقوله: (أو اسم لا فعل له) استدراك ضروري، وهو الذي اعتُرض به ههنا.

وقد يجاب عن الأول بأن حائضا ونحوه في تقدير الجاري على الفعل وإن لم يكن كذلك في الحقيقة الاستعمالية، والفعل أصله، ومنه اشتق، لكن عرض الآن فيه اعتبار معنى النسب، فتنوسي أصله، ولذلك يقول فيه سيبويه: إنه محمول على مقدر يجري عليه، كأنك قلت: شيء حائض. وما هذا إلا تحقيق لأصله الذي هو اسم الفاعل الجاري على الفعل، وإذا كان في الأصل كذا دخل تحت معنى النسبة إلى الفعل، إذ لا شك أنه على هذا النحو منسوب إليه، فصح كلام الناظم بالنسبة إليه. وأما حائر ونحوه فقد يقال: إنه يقدر له فعل في أصل الاشتقاق يجري عليه حتى يرد إلى طريقة اسم الفاعل المشتق، وهو جواب متكلف، وبعيد من لفظه، لكن الحكم بالإعلال يقتضي ذلك، قال الفارسي في التذكرة وتكلم على كون حائض ونحوه جاريا على شيء في الأصل: إن مما يدل على ذلك (إعلال) العين في حائض، بالهمز، قال: فلولا أنه على حاضت لما اعتلت. قال: وليس ينبغي أن يتشكك في همزة حائض، لأنهم قد قالوا: موت مائت، بالهمز البتة، ولولا ذلك لقيل: ماوت، قال: فيجب على هذا الذي ذكرناه من همز مائت وحائض أن يكون قولهم: شعر شاعر، ووتد واتد، ودارع، ونابل وتامر، ولابن، جميعها جار على

فعل مقدر وإن لم يظهر إلى الاستعمال. هذا ما قال، وهو قياس صحيح، فإن كان الناظم يريد بقوله: (فاعل ما أعل عينا) سواء كان ذلك الفعل مستعملا أم لا فكلامه صحيح، وإن أراد به الاستعمال فقط فهو غير صحيح، إلا أن يقال: إن الحائش والحائر ونحوه من الألفاظ النادرة التي لم يبن عليها، فهو الأظهر من كلامه، والجاري على ما يقتضيه القياس، وإن كان ظاهر التسهيل أنه قياس فيه، فتأمله. واقتف: معناه اتبع هذا الحكم في فاعل ما أعل عينا. * * * والمد زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائد هذا موضع ثالث مما تبدل فيه الهمزة من حرف اللين، والمد أراد به حرف المد، فسماه مدا بوصفه اللازم فيه، ويريد أن حرف المد إذا كان زائدا، وكان في الواحد قد وقع ثالثا فإنه يبدل همزة في الجمع على مثال القلائد، وهو ما شاكله مما هو على مفاعل. وهذا العقد قد جمع في هذا الإبدال شروطا لا بد منها في إبدال ذلك الحرف همزة:

أحدها: أن يكون حرف مد، وحرف المد عبارة عن الألف والواو والياء إذا كان ما قبلهما من جنسهما، فانضم ما قبل الواو وانكسر ما قبل الياء ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا، فإذا كان الحرف المبدل منه كذلك ثبت الإبدال، فلو لم يكن كذلك لم يصح الإبدال، كقولك: جهور، فإن الواو هنا ليست بحرف مد، فلا تبدلها في الجمع همزة، وكذلك عثير وحثيل، لا تهمز الياء في الجمع، وإنما تقول: جهاور وعثاير، وحثايل، وكذلك تقول في هبيخ: هبايخ، وفي جدول: جداول، وفي قسور: قساور، وإنما صحت ههنا لأن الواو والياء في هذه الأمثلة جعلت في مقابلة الأصول، إذ الكلمة بها ملحقة، فكان الواجب أن يجري مجرى ما قابلته من الحروف الصحاح فتسلم من الإعلال، وأيضا لما يأتي في علة الإبدال بحول الله تعالى. والثاني: أن يكون حرف المد زائدا، وهو قوله: (والمد زيد) و (زيد) جملة في موضع الحال من المد، والعامل فيه الفعل المتأخر من حيث عمل في ضميره، فإذا كان حرف المد غير أصلي ثبت له الحكم، فإن كان أصليا بنفسه أو منقولا عن أصل فمفهوم كلامه أنه لا يبدل همزة، فمقام ومعاش ومقال لا تعل فيه الألف، وإنما تقول (فيه) في الجمع على مفاعل: مقاوم ومعايش ومبايع، وأنشد

المازني للفرزدق: وإني لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها فقال: مقاوم، ولم يقل: مقائم، وكذلك معيشة ومدينة، على من جعلها من دان يدين: إذا أطاع، وتقول في جمعهما: معايش ومداين، وأما من جعل مدينة من مدن وجمعها على مدن فإنه يهمز على مقتضى الشرط، لأن الياء زائدة فتقول: مدائن وكذلك تقول إذا جمعت معونة على مفاعل لم تهمز وإنما تقول: معاون، وفي ملومة: ملاوم، وفي محوزة محاوز، وكذلك ما أشبهه، وما أتى به من هذا مبدلا همزة فمحفوظ غير مقيس، مثل ما روى (خارجة بن مصعب) عن نافع من همز (معائش) وقالت العرب: مصائب في جمع مصيبة، ومنارة ومنائر، ومزادة ومزائد، ومسيل ومسائل، فيمن جعله من السيل. ووجه هذا

الشاذ تشبيه الأصلي بالزائد فكأن معيشة ومصيبة كصحيفة، وكذلك سائر المثل. ووجه ترك الإعلال أن هذه الحروف أصلها الحركة لأنها عين الكلمة التي على مفعلة أو مفعِل (أو مفعَل) أو مفعلة أو نحو ذلك، فإذا وقعت بعد ألف الجمع تحركت بحركتها فلا موجب لإبدالها. فإن قلت: فإن المفرد منها معل فهلا أعل (الجمع) حملا عليه كما أعل قائم وبائع بالحمل على فعله؟ فالجواب: أن المفرد أعل لشبه الفعل الحاصل فيه على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فلما جمعوه زال (بالجمع البناء الذي كان به) شبه الفعل، لأن الفعل لا يجمع، فبعد عن الإعلال، فلم يبدلوا العين همزة، ولما كان الشبه حاصلا في قائل وبائع لكونه على وزن الفعل وعاملا عمله أعل بقلب الواو والياء همزة، بخلاف الجمع، ولذلك صحح لُوَمة وحُضُض، ومِرَر، ونحوها لما فرجت [خرجت] عن شبه الفعل. هذا محصول جواب الفارسي في الإغفال، وأصله للمازني في تصريفه. والثالث: أن يكون حرف المد ثالثا في المفرد، وذلك قوله: (ثالثا في الواحد)، فإذا كان كذلك أبدل في الجمع، فإن كان غير ثالث لم يبدل، فالمدة

الثانية لا تبدل في الجمع همزة، فلا تقول في طابق: طآبق (ولا في كاهل وغارب كآهل ولا غآرب). وما أنشده أبو الحسن من قول الشاعر: تربعن من وهبين أو بسويقة ... مشق السآبي عن رءوس الجآذر فأبدل الهمزة من ألف السابياء، وهي ثانية تقع قبل ألف الجمع، كما أبدلوها بعد ألف الجمع إذا كانت ثالثة، فشاذ يحفظ. وبتلك المنزلة أن لو كانت المدة رابعة نحو قنديل وبهلول وشملال، فإنما تقول فيه: قناديل، وبهاليل، وشماليل. وإنما تبدل المدة حرفا آخر غير الهمزة على ما سيذكره هو. وإنما قال: (في الواحد) فقيد ذا المدة، لأنه إنما يريد أن المدة التي في الواحد تبدل في الجمع. والرابع: أن يقع حرف المد في الجمع على مثال القلائد، وهو مثال مفاعل، فإنه إن لم يكن في الجمع على هذا المثال لم تقلب همزة، إذ لا موجب

لقلبها. فعجوز إذا جمعتها على عُجُز، ذهبت المدة في الجمع، وكذلك إذا جمعت مدينة على مُدُن، وصحيفة على صحف، وما أشبه ذلك من الجموع التي تذهب فيها المدة أو تكون على حالة أخرى. (فأما) إذا كانت في وزن القلائد وجب سبب الإبدال فقلت في رسالة: رسائل، وفي حمالة: حمائل، وفي [كنانة] كنائن، وفي مدينة -على أشهر اللغات- مدائن، وفي سفينة: سفائن، وفي خريدة: خرائد، وفي عجوز عجائز، وما أشبه ذلك. وقوله: (في مثل كالقلائد) أراد في مثل القلائد، فزاد الكاف ضرورة، نحو: فصُيِّروا (مثل) كعصف مأكول وهذا مثل البيت من كل وجه، حيث أقحم الكاف بين مثل ومجرورها. ووجه الإبدال هنا أنك لما جمعت رسالة مثلا على فعائل، جاءت ألف الجمع ثالثة، ووقعت بعدها ألف رسالة، فالتقت ألفان، فلم يكن بد من حذف إحدى الألفين أو تحريكها، فلو حذفوا الألف الأولى لبطلت دلالة الجمع، ولو حذفوا الثانية لتغير بناء الجمع، لأن هذا الجمع لا بد له أن يكون بعد ألفه الثانية حرف مكسور بينها وبين حرف الإعراب، ليكون

كماعل [كفاعل، كمفاعل]، ولم يجز أيضا حركة الألف الأولى مخافة أن تزول دلالتها على الجمع؛ لأنها إنما تدل عليه ما دامت ساكنة إلى لفظها، ولو حركت أيضا لانقلبت همزة وزالت دلالة الجمع، فلم يبق إلا حركة الألف الثانية بالكسر لتكون كعين مفاعل، فلما حركت انقلبت همزة فصارت رسائل، كما ترى، وهذه العلة جارية فيما حرف المد فيه ألف، ثم شبهت الياء في صحيفة والواو في عجوز بألف رسالة؛ لأن (ما) قبلهما من جنسهما وما هو بعض منهما، وهما ساكنتان، فجرتا مجرى الألف. والأصل في هذا إنما هو الألف، لأنها أقعد في المد من الواو والياء. ذا [هذا] تعليل ابن جني، وتعليل الخليل يشبه هذا، وهو أن قال: إنما همزت في صحائف ورسائل وعجائز لأن حروف اللين فيهن (ليس) أصلهن الحركة، وإنما هي حروف ميتة لا تدخلها الحركات، فلما وقعن بعد الألف همزن ولم يظهرن، إذ كن لا أصل لهن في الحركة، قال: فلو ظهرن في الجمع متحركات كانت الحركة ستدخلهن في غير الجمع في بعض المواضع. يعني في مثل ما إذا خففت خطيئة ومقروءة، فلو جاز أن تحرك حرف المد لخففت الهمزة بإلقاء حركتها على حرف المد وحذفها كما تفعل في الصحيح، وهذا لا يجوز، لبطلان الغرض الذي سيقت له من المد، لأن الحركة تذهب عنها المد، فلما كان تحريك حروف المد لو قيل: عجاوز وصحايف يؤدينا إلى تحريكها في موضع آخر سدوا هذا الباب، فأتوا بالهمزة بدلا منها محافظة على ما فيها من المد.

وكلام الناظم في هذا الإبدال على ظاهر ما قال فيه، إذ ليس في حروف المد غير ما قال، كما كان فيما تقدم من المسائل، إلا أن عليه في هذا التقرير دركا في قوله: (والمد) لأنه لا يخلو أن يريد به المد كيف كان من تمكين أو لين مع مجانسة الحركة أو عدم المجانسة، فيدخل عليه كل واو أو ياء ساكنة كان ما قبلها من الحركة ليس من جنسها؛ لأنها إذا كانت على هذا الوصف ففيها مد، ولذلك لا يقع قول أو سيل في قافية مع وَبْل أو جهل، لما في الواو والياء من المد، ولأجل ذلك أيضا يجمع بين ساكنين في نحو أصيْمّ وقميْدّ في أصمّ وقمدّ، فتقول على هذا في عشوزن: عشائر [عشازن]، وفي عدولى -إن حذفت الألف-: عدائل، وهذا لا يكون، وإنما تقول: عشاوز، وعداول، وكذلك ما أشبهه، لا تهمزه البتة، أو يريد به المد الذي هو التمكين دون ما هو لين، ولا يكون ذلك إلا مع مجانسة الحركة. وهو الذي يظهر منه كما تقدم تفسيره، فيخرج عنه همز الياء في نحو كليبة وجريرة [حريرة] علمين منقولين إلى العلمية بعد حصول التصغير، فإنك إنما تقول: كلائب وحرائر بالهمز، وذلك كله لأجل أن المعتبر في حرف اللين إنما هو السكون والزيادة في الواحد خاصة ولا مبالاة بحركة ما قبله، فيستثنى منه ما جر فيه الحكم إلى تقدير الحركة كعشوزن وعدولى؛ لأنك لما حذفت النون والألف لإقامة بنية التكسير لم يكن بد من تقدير تحريك الواو لتصير عشوز وعدول، كجهور وجدول، لأن مثل عَدَوْل وعَشَوْز غير موجود، فصارت الواو بهذا التقدير متحركة، فيفعل بها ما يفعل بالمتحركة من

تصحيحها، بخلاف كلائب في كليب وحرائر في حرير، فإن الياء لم تتحرك قط لفظا ولا تقديرا، فوجب الهمز، وأصل هذه المسألة فيما رأيت لابن جني في الخصائص، لما تكلم في فك الصيغ، على نقل عشوزن في التكسير من عشوز إلى عشوز، أخذ يستدل على هذا بأنه لو كسره وهو (على) ما كان عليه من سكون واوه دون أن يكون قد حركها لوجب عليه همزها، وأن يقال: عشائز، لسكون الواو في الواحد كسكونها في عجوز ونحوها، قال: فأما انفتاح ما قبلها في عشوز، فلا يمنعها الإعلال، وذلك أن سبب همزها في التكسير (إنما هو) سكونها في الواحد لا غير، فأما اتباعها ما قبلها وغير اتباعها إياه فليس مما يتعلق عليه حال وجوب الهمز أو تركه. ثم استدل على هذا أيضا بقولهم في ألندد: أليدّ، لأنك لما حذفت النون للتصغير بقي ألدد، وهو مثال منكور، فيصير إلى مثال غير منكور وهو أفعل، فلما صار إلى ذلك أدغمه، فصار كألدّ مذكر لداء، فعامله معاملته، قال: فلذلك قالوا في تحقيره أليدّ، فأدغموه ومنعونه الصرف، هذا ما قال، وهو ظاهر كما ترى. والجواب أن يقال: أما القسم الأول فهو غير داخل عليه؛ لأنه عبر بالمد، والمد على حقيقته إنما هو في تلك الحروف إذا كان ما قبلها من جنسها، وأما إذا خالفها فإنما فيها بعض اللين المشبه للحركة، ولذلك لا تقع الياء ولا الواو

المفتوح ما قبلهما في قافية مع التي قبلها من جنسها، فلم يرد إلا ما فيه حقيقة المد. وأما الثاني فالظاهر لزومه، والله أعلم. وقوله: همزا يرى في مثل كذا، ضمير (يُرى) عائد على المد، وإنما يريد بذلك ما كان منه موجودا - في بنية التكسير، فإن المدة التي اجتمعت فيها هذه الشروط على قسمين: أحدهما: أن تقوم بنية التكسير مع وجودها كجهور وجدول (وعثير)، وسائر أشباه ما تقدم، فهذا الذي أراد. والثاني: ألا تقوم بنية التكسير إلا بحذفها، إما وجوبا وإما تخييرا، نحو: أُباتر، إذا جمعته فإنه لا بد لك من حذف الألف لتقوم بنية التكسير، فتقول: أَباتر، فلا يبقى للمدة هنا ذكر، وكذلك جُخادب وعُذافر، وكذلك إذا جمعت حبارى -على من قال في تصغيره: حبيرى، بحذف الألف الأولى- فقلت: حَبارى، لم تدخل مراده، وكذلك ما أشبهه مما تحذف فيه المدة، فلا كلام له إلا فيما تبقى فيه المدة في الجمع، وربما نبه على ذلك بالمثال، وهو القلائد، جمع قلادة. فيريد في مثل هذا الجمع الذي تبقى فيه المدة التي كانت في المفرد، فعلى هذا لا يوجد هذا الحكم إلا فيما

جمع على فعائل من الثلاثي الأصول، وأما ما كان رباعي الأصول أو ملحقا به فلا بد من حذف المدة. * * * كذاك ثاني لينين اكتنفا ... مد مفاعل كجمع نيفا هذا موضع رابع من المواضع التي تبدل فيها الهمزة من حروف اللين، ويريد أن مفاعل وما أشبهه من الجمع إذا اكتنف ألفه حرفا لين فإن ثاني الحرفين يبدل همزة وجوبا، وإنما قال: (لينين) ولم يقل: (مدين) ولا (حرفي مد)؛ لأنه لا يريد ما كان فيه المد فقط، وذلك ما كان (ما) قبله من جنسه، وإنما يريد ما هو أعم من ذلك، ومعنى (اكتنفا) هنا: أحاطا، أي أحاط ذانك اللينان بالمد الذي في مفاعل، وهو الألف، فكانا في كنفيه، أي: في جانبيه من ههنا وههنا، والكنف: الجانب، وكنافا الطائر: جناحاه؛ لأنهما يكتنفانه. وهذا العَقْد يتعلق به مسائل: إحداها: أن حرفي اللين لم يقيدهما بشيء، وذلك يقتضي أنهما قد يكونان معا واوين أو ياءين أو أحدهما واو والآخر ياء، على وجهين، فالحاصل أربعة أقسام، فأما الواوان فنحو أول وأوائل، أصله أواول، وكذلك إذا بنيت مثل فوعل من القول، فقلت: قوَّل أصله قوول، ثم جمعته لقلت: قوائل، أيضا

وأصله قواول، وأما الياءان فنحو: خيِّر وخيائر، وعيل -وهو الفقير، من عال يعيل إذا يعيل [كذا]: إذا افتقر- الجمع: عيائل والأصل (عيايل) وخياير، (ومثل) فيعل من البيع تقول فيه: بيائع، وأما الواو والياء مع تقدم الواو فنحو) صوائد في جمع صائدة، من صادت تصيد ونحو بوائع في جمع فوعل من البيع، وأما مع تقدم الياء فنحو حيز وحيائز، لأنه فيعل من حاز يحوز، وكذلك صيب من صاب يصوب وصيائب، قيائل جمع فيعل من القول. فهذه الأوجه الأربعة مضمنة في إطلاقه اللينين وجميعها عنده محكوم عليه بإبدال ثانيهما همزة، والحكم الشائع ذلك إلا أن يشذ الشيء فيحفظ كقولهم في ضيون: ضياون، وكان القياس أن يقال: ضيائن، وظهر من هذا اتباعه لمذهب الخليل وسيبويه والجمهور. وقد ذهب أبو الحسن إلى أن هذا الإعلال في ثاني اللينين مختص باكتناف الواوين كأوائل، وكان يقول في جميع فيعل من القول قياول، وفي فوعل من البيع: بوايع، وفي خير: خياير، ولا يهمز، وما ذهب إليه الناظم أرجح للقياس والسماع. أما القياس فإن أصل هذا كله قواول وبيايع، فلما وقعت الألف بين حرفي علة وهي شبيهة بهما، والثاني من حرفي العلة يلي الطرف، وذلك

(مما) يضعفه، هربوا من ذلك إلى الهمزة، ولا فصل بين الياءين والواوين، وبين الياء والواو. قال ابن جني: وأصل التغيير إنما هو لما اجتمعت فيه واوان كأوائل، أصله أواول، فالألف بينهما حرف كالنفس ليس بحاجز حصين، ووليت الأخيرة منهما الطرف - همزوها كما يهمزون الأولى من الواوين إذا وقعتا في أول الكلمة نحو أواصل في جمع واصل، ثم شبهوا الياءين والواو والياء، بالواوين؛ لأن فيهما ما فيهما من الاستثقال، فهمزوا لذلك. وأما السماع فقال المازني: سألت الأصمعي عن عيل، كيف تكسره العرب؟ فقال: عيائل يهمزون كما يهمزون في الواوين. فقال ابن جني: فإن قال قائل: إن همزهم عيائل من الشاذ فلا ينبغي أن يقاس عليه. قيل: إنما يكون هذا شاذا لو كنت سمعتهم لم يهمزوا نظيره في كثير من المواضع ثم رأيتهم قد همزوا عيائل فبذا كان يمكن أن يقال إن همزهم شاذ (فأما) ولم نرهم صححوا نظيره تصحيحا، وفي الياء ما في الواو من الاستثقال في كثير من المواضع، فليس لك أن تحكم بشذوذه، فإذا جاء السماع بشيء وعضده القياس فذلك ما لا نهاية وراءه .. وحكى أبو زيد أنهم يقولون: سيقة وسيائق، وأما أبو الحسن فزعم أن الهمز غير مطرد في الياءين، ولا في الياء

والواو، وقال: إنما ينبغي أن يطرد في الواوين فقط؛ لأن اجتماع الواوين ليس كاجتماع الياءين، ولا كاجتماع الواو والياء، ألا ترى أن الواوين إذا اجتمعا أولا قلبت الأولى همزة، ولا يكون ذلك في الياءين كبَيْنٍ: اسم موضع، ولا في الواو والياء كويح. قال ابن الضائع: نظرُ سيبويه أسدُّ؛ لأن الواوين غير أول يجتمعان أيضا، وكما سمع أوائل سمع أيضا عيائل، والسماع واحد، والقياس متقارب. المسألة الثانية: أنه يقيد حرفي اللين بزيادة أو أصالة، فدل ذلك على أن الحكم معهما من إبدال الهمزة من ثانيهما ثابت، اتفق أن يكونا أصلين أو زائدين، أو أحدهما أصل والآخر زائد، وهو إطلاق صحيح، قال سيبويه: وإذا التقت الواوان على هذا المثال فلا تلتفتن إلى الزوائد وغير الزوائد، ألا تراهم قالوا: أول وأوائل، فهمزوا ما جاء من نفس الحرف، فأما كونهما معا أصلين فنحو أول، فإن الواوين معا أصلان، فإن وزنه أفعل، وهو من باب (يين) وأما كونهما معا زائدين فلعله لا يوجد، وأما كون الأول زائدا دون الثاني فنحو صوائد جمع صائدة، وخيائر جمع خير، وأما العكس فنحو قوائل في جمع فعول من القول، فإطلاقه يؤذن بأن الحكم هنا في الإبدال مخالف له في المسألة التي قبل هذه، حيث اشترط هنالك في حرف المد الزيادة ولم يشترط ذلك هنا. المسألة الثالثة: أنه أتى بمفاعل الذي هو من أبنية الجمع ومثله بجمع نيف، فدل ذلك عنده (على) أنه مختص بالجمع لا حظ له في

المفرد، وجميع ما تقدم إنما هو في الجمع، وأما المفرد فمفهومه أن هذا الحكم لا يكون فيه. فإذا بنيت فواعل من القول قلت على مقتضى هذا: قواول، فلا تهمز، أو من البيع فتقول: بوايع، فلا تهمز أيضا، وكأن الحجة في هذا أن الجمع هو الذي جاء فيه السماع، فقيل بالقياس فيه، وأما المفرد فلم يأت فيه شيء فلا يتعدى به الأصل، وهذا ما يظهر من كلامه، وفيه نظر؛ لأن النحويين في هذه المسألة بين قائلين: قائلٍ يقصر هذا الحكم على ما اكتنف فيه ألف الجمع واوان، فلا بد عنده من شرطين، أحدهما أن تكون المدة ألف جمع، والآخر: أن يكون المكتنفان واوين. وقائلٍ لا يشترط شيئا من ذلك، بل الحكم جار عنده في الجمع والمفرد المشابه له، كفواعل من القول أو من البيع، كما تقدم، فتقول فيهما: قوائل وبوائع، فتهمز بلا بد عند أصحاب هذا القول. فإذا كان الخلاف هكذا ثبت أن ما اختاره الناظم مذهب ثالث، وهو الفرق بين الجمع والمفرد، فيهمز في الجمع دون المفرد، وقد تقدم وجهه، ولا يستنكر مثل هذا للناظم، فقد تقدم في هذا الشرح من هذا النحو بعض مواضع، وليس إحداث قول ثالث في المسألة بخرق إجماع عند طائفة من الأصوليين، لا سيما إن كان القول المحدث لا يرفع ما اتفقوا (عليه كهذا الموضع، فإنه مفصل في القولين، فيوافق الأخفش في نفي الحكم) عن المفرد، ويوافق سيبويه في إثباته في الجمع مطلقا، فكل قول لا يرفع ما اتفقوا عليه فقد أجاز إحداثه طائفة ممن منع الإحداث، وهو الذي اختار ابن الحاجب، وقد يمكن أن يكون الناظم لم يتعرض للمفرد ولا قصد إخراجه عن الحكم، بل سكت عنه لأنه معدوم في السماع

بخلاف الجمع فإنه قد سمع، فيكون إنما تعرض للمسموع وسكت عن غيره، فلا يوجد له خلاف، ويكون المفهوم فيه معطلا لكون الغالب أن هذا الحكم لا يكون إلا في الجمع، وهذا قد ينتهض اعتذارا والله أعلم. المسألة الرابعة: أن قوله (كجمع نيفا) تمثيل لمفاعل، فإن جمع نيف نيائف، فهو مما اكتنف فيه الألف حرفا اللين، فوجب همز الثانية. و(نيفا) منصوب على المفعولية بجمع؛ لأن جمعا في كلامه مصدر مقدر بأن والفعل، أي: كأن تجمع هذا المثال الذي هو نيف فتقول: نيائف، فهو كقوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما} وأنشد سيبويه: فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد صاروا لنا كالموارد ومعنى النيف الزيادة، وأصله من الواو، يقال: عشرة ونيف، (ومائة ونيف)، وكل ما زاد على العقد فهو نيف حتى يبلغ العقد الذي يليه. وقد نيف فلان على السبعين، أي: زاد عليها، وكذلك أناف على السبعين، وقال بعضهم: النيف إن زاد على المائة فكأنه عشرة (أو أقل)، فإن كان مع الألف احتمل عشرة وأكثر. ثم هو مع العدد على قدر ذلك، كلما كثر كثر به، وفرق بينه وبين البضع، فإنه لا يقال إلا مع العشر والعشرين

إلى الستين، ولا يقولون: بضع ومائة، ولا بضع وألف، بخلاف النيف، كما ذكر، والبضع: ما بين الثلاثة إلى التسعة. وإذا تقرر هذا فقد تضمن هذا التمثيل وصفين بوجودهما يجب إبدال ثاني اللينين همزة. أحدهما: ألا يكون حرف اللين الثاني بدلا من همزة كما تقدم في الأمثلة، وهو الذي اتصف به نيف الذي مثل به، نَيْوِف كهين وميت، فلو كان ذلك الحرف بدلا من همزة لم يجز إبداله همزة كحوايا في جمع حوية وحيايا في جمع حيية، فإن الياء الثانية فيهما مبدلة من همزة، إذ الأصل أن تقع في موضع هذه الياء همزة فعائل المبدلة من المدة الثانية في المفرد كمدائن في جمع مدينة وسفائن في جمع سفينة، فيقال: حوائي، وحيائي، وكذلك سائرها، ثم أبدلت الهمزة ياء لعلة تأتي إن شاء الله، فلو قلبوا الياء همزة لكانوا قد رجعوا إلى ما منه فروا، وذلك نقض الغرض، وهو ممنوع عندهم. والوصف الثاني أن يكون حرف اللين الثاني يلي الطرف، ولا يكون بينه وبين الطرف فاصل تحقيقا ولا تقديرا، وذلك ظاهر في نيائف، إذ لا فاصل بين واو نياوف وبين الطرف لا تحقيقا، إذ ليس بموجود، ولا تقديرا، إذ ليس الأصل يناويف، وعلى هذا الحد جرى ما تقدم من المثل. فلو كان بينهما فاصل لم يجز الهمز نحو طواويس في جمع طاووس، وعواوير في جمع عُوَّار، ونواويس (في جمع نَوَّاس)، وسوايير في جمع سايور، وكذلك ما أشبه

هذا لا يبدل فيه حرف اللين همزة لبعده من الطرف، فقوي بذلك عن أن يعتل، كما قوي صُوَّام عن أن يعتل لفصل الألف بينه وبين الطرف، بل صح عند من يقول: صُيَّم. فالخلاف الذي بين سيبويه والأخفش يرتفع ههنا. وكذلك إن كان القياس الفصل لكنه ذهب في ضرورة الشعر، فحكم التصحيح باقٍ؛ لأن الفصل حاصل، في التقدير نحو ما أنشده سيبويه من قول الشاعر: وكحل العينين بالعواور أصله: العواوير؛ لأنه جمع عوار، فاعتبر الأصل فترك الهمز؛ لأن المحذوف في حكم الموجود، كما اعتبروا الأصل في رُويا، ونُويٍ، حين خففوا فلم يقلبوا الواو ياء اعتبارا بالأصل، ومثل هذا كثير، وعلى هذا إذا انعكست الضرورة فاضطر الشاعر إلى مد مثل أوائل لقال: أوائيل، فترك الهمزة بحالها، (وإن كانت الياء المزيدة قد حجزت بين العين واللام؛ لأنه لما أراد أوائل فمد مضطرا ترك الهمزة بحالها) لأن الأصل القصر، كما ترك الواو في عواور؛ لأنه عواوير، فلم يعتد بحكم الاضطرار في الموضعين، قاله ابن جني، وهو قياس صحيح، وقد أنشد قول الراجز

الذي أنشده سيبويه: فيها عيائيل أسود ونُمُر بالهمز، وفيه حجة لهذه الطريقة. وقال السيرافي: إن مد في الضرورة جمع عيل فينبغي ألا يهمز وأنشد: فيها عياييل .. على رواية ترك الهمز، والقياس قول ابن جني، ويكون عياييل -على ما قال الأعلم- جمع عيال أو جمع عيل، لكن على عدم اعتبار الأصل، فقد قال ابن خروف في العواور في البيت: لو لم ينو الياء لهمز. فإن قلت: هل يدخل تحت كلام الناظم همزُ نحو أوائيل في الاضطرار كما قاله ابن جني؟ فالجواب: أن تمثيله لا يعطيه بنصه وإنما يعطيه بمعناه، إذ التقدير القياسي كالمنطوق به، لكن قد يقال: إذ كان مفهوم هذا الشرط الذي هو عدم الفصل اقتضى أن الفصل مانع دخل له في المانع للهمز الفصل الاضطراري، فاقتضى أنك إذا قلت: أواييل، لم تهمز؛ لوجود الفاصل حسا، وهذا على خلاف ما قرر ابن جني، ولعله في ذلك على مذهب السيرافي القائل بأن الفصل مطلقا يمنع الهمز ويستشهد بالعياييل، والله أعلم. ثم أخذ يذكر ما يعرض لهذه الهمزة المبدلة من حرف العلة في النوعين

المذكورين إما لكونه مدة في الواحد، وإما لكونه ثاني لينين اكتنفا مد مفاعل، فقال: وافتح ورد الهمز يا فيما أعل ... لاما وفي مثل هرواة جعل واوا، وهمزا أول الواوين رد ... في بدء غير شبه ووفي الأشد يعني أن الهمزة المذكورة تبدل ياء وتبدل واوا، فأما إبدالها ياء ففي كل ما كان معتل اللام بعد ما تفتح تلك الهمزة، والألف واللام في الهمز لتعريف العهد في الذكر، والذي تقدم له ذكره من الهمز ما كان عارضا في الجمع من ياء أو واو أو ألف، وذلك في المسألة المتقدمة آنفا، وفيما قبلها، فإذا وضع المسألة في الهمزة العارضة في الجمع فإنها إن كانت غير عارضة لم تبدل ياء، فجواءٍ في جمع جائية لا يقال فيه: جوايا، ولا في: نواءٍ: نوايا، وهو جمع نائية، لأن الهمزة فيه أصلية، من جاء يجيء، وناء ينوء، وكذلك ما أشبهه، ووجه التصحيح ظاهر، فإن الإعلال أبعد عن الأصلية منه عن العارضة، وأيضا فإنهم أرادوا التفرقة كما سيأتي، وما جاء على خلاف التصحيح فشاذ، نحو قولهم (في) جمع مرآة: مرايا، والقياس فيه مراءٍ، قال الراجز: مثل المرايا زلقات الأقطار وكذلك إن عرضت في المفرد فلا تبدل ياء، فلو بنيت فُواعلا من طويت وشويت لقلت: طُواءٍ وشواء. وكذلك في بناء فُعائل من مطوت [طويت] ورميت تقول:

مطاء ورماء، وكذلك فُعائل من حييت أو غير ذلك من المعتل، لا تقول فيه: طُوايا ولا مُطايا ولا حُيايا، ولا ما أشبه ذلك، وهذا صحيح، وقد علل ذلك سيبويه بوجهين: أحدهما أن هذه الهمزة ليست بعارضة في جمع، وسبب الإبدال عروضها في الجمع كما تقدم، وإنما هي بمنزلة مفاعل من شأوت إذا قتل: مشاءٍ، وبمنزلة فاعل من جئت إذا قلت: جاءٍ؛ لأنها لم تخرج إلى مثل مفاعل من الجمع، فهمزتها بمنزلة همزة فعالٍ من حبيت، أي ليست بعارضة، وإنما هو بمنزلة ما هو من أصل الكلمة، ولذلك تجمعها على مطاء ولا تقول: مطايا. والثاني: أنك لو قلت: رُمايا ومُطايا لالتبس بالمفرد؛ لأن المفرد يكون على فُعالى نحو حبارى وحلاوى ونعامى، بخلاف فَعالى فإنه لا يكون على زنته مفرد، فأمنوا الالتباس في الجمع فأعلوا، ولم يأمنوه في المفرد فلم يعلوا. فلمجموع هاتين العلتين لم يحكموا للمفرد بحكم الجمع، وإلا فكان للقائل أن [القائل قد] يقول: إذا كانوا قد عاملوا المفرد في نحو فواعل من القول معاملة الجمع فهمزوا الواو الثانية، فهلا عاملوا المفرد هنا معاملته في قلب الهمزة، فيقال في الجواب ما تقدم من العلتين.

ثم شرط في هذا الحكم اعتلال اللام بقوله: (فيما أعل لاما) يريد أن محل هذا الإبدال ما كانت لامه معتلة، فإن كانت لامه صحيحة لم يتعد ما تقدم له من ثبوت الهمزة نحو: رسائل، فلا يقال فيه رسايل، ولا في أوائل: أوايل، لأن لاماتها صحيحة، والاعتلال الذي أراد هو أن يكون ياء غير منقلبة عن شيء كهدية وهدايا، ورمية ورمايا وبقية وبقايا، أو منقلبة عن واو نحو: مطية ومطايا، وألية وألايا، قال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية برتِ أو تكون همزة كخطيئة وخطايا ورزيئة ورزايا. وقال المازني: لو بنيت مثل فعيلة من جئت وسؤت كنت قائلا في تكسيره: جيايا وسوايا، وما أشبه ذلك، ولم يخرج من هذا الحكم إلا ما استثناه هو من جمع إداوة ونحوه، مما لامه واو قبلها ألف ظاهرة، فهذا هو الذي قصد، إلا أنه يُنظر في قصده بالإعلال، إذ لا يخلو أن يريد بقوله: (فيما أعل لاما) كون اللام قد دخله الإعلال كما كان ذلك مراده في قوله قبل: (وفي فاعل ما أعل عينا ذا اقتفي) أو يريد ما آخره حرف علة مطلقا، وحروف الاعتلال معروفة، فإن أراد الأول فيصح ويدخل له فيه ما لامه همزة أو واو أو ياء، لأن كل واحد من هذه الحروف يعتل في فعائل، أما الهمزة إذا كانت لاما فلا بد من إعلالها؛ لأنها تجتمع مع الهمزة العارضة في الجمع فيصير خطيئة إلى خطائئ

فلا بد من إبدال الثانية ياء، حذرا من اجتماع الهمزتين، فقد اعتلت الهمزة إذا، ثم إذا تقلبت ياء فإنها تقلب إذا قلت: خطاءَيُ، وكذلك الياء الأصلية والمبدلة من واو، فعلى كل تقدير ما آخره أحد هذه الأحرف إذا جمع على فعائل لزمه إعلال آخره، فكلامه على هذا التقدير صحيح. وإن أراد الثاني، وهو ما آخره حرف علة، فهذا يمشي (له) فيما آخره ياء أو واو، وأما ما آخره همزة فليست الهمزة عندهم من حروف الاعتلال؛ ألا ترى أنها تجري بوجوه الإعراب مطلقا، وتكون الكلمة معها تجري مجرى ما آخره حرف صحيح، فيظهر إذًا -على هذا الوجه- أن يكون ما آخره همزة خارجا عن قاعدته، وهو خطأ محض، إذ الجميع في هذا الحكم على حد واحد، كما تقدم تمثيله، وليس ثم من يفرق بين ما آخره همزة وما ليس كذلك. لكن يجاب عن هذا بأن الهمزة في باب التصريف معدودة في حروف الاعتلال، لأنها لا تكاد تستقر على حال واحدة لدخول التسهيل عليها بالحذف والإبدال والتخفيف بين بين، فصارت كالواو والياء والألف. وإنما تعد الهمزة كالحروف الصحاح في باب الإعراب لظهوره فيها وجريانها بوجوهه، فلذلك عدها في حروف الاعتلال، والله أعلم. هذه شروط هذا الحكم المذكور، فإذا اجتمعت فُعِلَ بالكلمة ما ذكر من ترتيب الإعلال بعضه على بعض، إلا ما شذ من قولهم: غفر الله خطائِئَه، وقول

الشاعر، أنشده سيبويه: له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق سبع سمائيا وشبهه. ثم في ذلك مسائلُ: إحداها: أن الذي ذكر هنا إنما هو فتح الهمزة وإبدالها ياء، وذلك قوله: (وافتح ورد الهمز يا فيما أعل لاما)، فذكر أمرين: فتح الهمزة وقبلها ياء، ولم يبين ما الذي يتقدم على صاحبه منهما، فيحتمل أن يكون الفتح مقدما على قلب الهمزة ياء، فحين قالوا: خطائي كمرائي فتحو الهمزة أولا فصار خطاءا، ثم أبدلوها (ياء) فقالوا: خطايا، وهذا هو الذي يقوله النحويون ويجري على ألسنة المعربين. ويحتمل أن يكون إبدال الهمزة ياء مقدما على الفتح فيكون أولا خطائيُ، ثم خطايا، وهذا ترتيب ما قال الفارسي في الإيضاح، ولا نص في كلام الناظم على وجه الترتيب، إلا أن يعتبر تقديمه لما قدم فيكون على ما رتب الناس سوى الفارسي أو يكون عطف بالواو التي لا تفيد رتبة إشعارا بأنك مخير، أي الأمرين قدمت فهو حسن. المسألة الثانية: النظر في ترتيب العمل في هذا الإعلال وما الذي يقتضيه كلام الناظم من ذلك، فأما ما آخره همزة نحو خطايا فأول أحواله

خطايْئ، (بياء ساكنة لا تقبل الحركة كما تقدم من قول الخليل، فقلبت همزة لما تقدم ذكره من التقاء الساكنين فصار خطائئ)، بهمزتين فقلبت الثانية ياء فرارا من اجتماعهما في كلمة فصار خطائي، ثم حولت كسرة الهمزة فتحة لما كانت عارضة في الجمع، وإنما حولت فتحة هنا لأنهم قد قالوا في مداري [مدارى] وفي معاي: معايا، فأبدلوا الكسرة فتحة مع أنه ليس في الكلمة همزة عارضة في الجمع، فلما عرضت في خطائي (همزة)، كان ذلك تغييرا لحق الكلمة فاجترئ عليها بعد ذلك، فألزمت الفتح تخفيفا، لأن الفتح أيضا تغير [تغيير] كما أنهم لما لزمهم حذف الهاء من حنيفة (في النسب) اجترءوا على حذف الياء أيضا فقالوا: حنفي وأيضا فإنهم أرادوا أن يكون بين الهمزة العارضة في الجمع والهمزة التي كانت في الواحد فصل، فغيروا الهمزة في خطايا وأثبتوها في جَواءٍ جمع جائية. فإن قيل: فقد قالوا: قبائل وسفائن، فأقروا الهمزة وإن كانت عارضة في الجمع. قيل: إنما صحت الهمزة في سفائن لأن اللام صحيحة فلم يمكن تغيير الهمزة، هذا تعليل ابن جني. ثم نرجع إلى ترتيب العمل، فلما حولت الكسرة فتحة صارت خطاءَيُ، هكذا، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا على القاعدة الآتية بحول الله

تعالى، فصار: خطاءا، فاستثقلوا اجتماع همزة بين ألفين لأنها بمنزلة ثلاثة أمثال لاتحاد مخرجها، فأبدلوها ياء اعتبارا بالواحد فصار: خطايا، كما ترى، فهذه ست مراتب (في وجه الصناعة في هذه المسألة. وأما ما آخره حرف علة غير الهمزة فله خمس مراتب)، يسقط من ذلك العمل بالهمزتين، فأول أحوال مطايا: مطائي، بياء ساكنة مجتمعة مع الألف، ثم مطائي، ثم مطاءَيُ، ثم مطاءا، ثم مطايا. فإذا تقرر هذا فيقال: إن الذي ذكر الناظم من هذه المراتب أربع مراتب، الأولى والثانية ذكرهما في المسألة المتقدمة، وذكر هنا التحويل فتحة والإبدال ياء، وترك إبدال الهمزة الثانية ياء في خطائئ وقلبها ألفا بعد الإبدال. وإنما ترك ذكرهما لأن لكل واحدة منهما قاعدة جُملية يذكرها، فإحداهما قاعدة تسهيل الهمزة، والأخرى قاعدة انقلاب الواو والياء ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما. هذا وإن كانت هاتان المرتبتان في أثناء الترتيب فإن كل مرتبة تجذبها قاعدتها فتعمل فيها ما تقتضيه. المسألة الثالثة: النظر في وجه هذا العمل الذي ذكر، وعلى أي مذهب هو؟ فالذي لا يشك فيه من مذهبه أنه على مذهب الجماعة من أن هذه الهمزة المبدلة ياء إنما هي العارضة في الجمع، لأنه قال: (ورد الهمز يا فيما أعل لاما)، فأحال على الهمز المتقدم المعلوم، ولا همز فيما تقدم إلا العارض (في) الجمع، ونقل عن الخليل خلاف هذا، وأن خطايا ورزايا ونحوهما مما لامه

همزة قد قلبت لامه التي هي الهمزة إلى موضع ياء فعيلة، وكأنها في التقدير: خطائي، ثم قلبت الهمزة فصارت في موضع الياء فصار: خطائيُ، فأبدلت الكسرة فتحة، وعمل بها ذلك العمل المتقدم، فحمله على القلب كما ترى، قال ابن جني: (وكأن الخليل إنما ذهب إلى القلب في هذا لأنه قد رآهم قلبوا نظيره مما لامه صحيحة نحو ما أنشد سيبويه: تكاد أواليها تفرَّى جلودها ... ويكتحل التالي بمور وحاصب أراد أوائلها فقلب. وقال الآخر: وكأن أولاها كعاب مقامر ... ضربت على شُزُن فهن شواعي أراد: شوائع، وقال الآخر: لقد زودتني يوم قو حزازةً ... مكان الشجا تجول حول الترائق أراد: التراقي، قال: فله أن يقول: إذا قلبوا فيما اللام فيه صحيحة فهم (أن) يقلبوا فيما اللام فيه معتلة أجدر، قال: ولأن القلب ضرب من الإعلال، والإعلال إلى المعتل أسبق منه إلى الصحيح). وقد رجح مذهب الجمهور بوجهين:

أحدهما: أنه قد حكي عنهم: غفر الله خطائِئَه، بوزن خطاععه، وحكى أبو زيد: دريئة ودرائئ، بوزن دراعع، وخطيئة وخطائئ، فنطقوا كما ترى بالهمزتين، كما ذهب إليه غير الخليل، ولو كان على ما قاله لم يكن ثم همزة ثانية البتة. والثاني: وهو إلزام سيبويه لمن قال بالقلب أن هذا التغيير إنما ثبت في هذا النحو للهمزة العارضة في الجمع (كما تقدم)، بخلاف الهمزة الموجودة في المفرد فإنها لا تغير بل تبقى على حالها، فيقال في جمع جائية جواءٍ لا جوايا، وقد صارت الهمزة على قول الخليل هي الثابتة في المفرد وليست بعارضة في جمع، فكان الواجب أن يقال في خطايا: خطاءٍ وفي رزايا: رزاءٍ، كما يقال: جواء وسواء في جمع جائية وسائية. وقد أجاب الفارسي عن هذا الأخير إذ سأله ابن جني عنه فقال: (إن) اللام لما قدمت فجعلت في موضع الهمزة العارضة أشبهتها، فجرى عليها حكمها، فغيرت كما تغير العارضة في الجمع، كما تقول في جمع قوس: قسي، وأصله قووس، ولكنهم أخروا العين إلى موضع اللام، فكان يجب أن تصحح لأنها عين الفعل، فيقال: قُسُوٌّ، ولكنهم لما أخروها إلى موضع اللام أعلت كما تُقل [تعل] اللام، فجرى قسي مجرى عتي، وكذلك الأمر هنا، وهذا الاعتذار من

الفارسي (قد يصح) أن يكون توجيها لمسموع لا إثبات لقياس، فالظاهر ما ذهب إليه الناظم والجماعة. وأما قلب الهمزة واو [واوا] ففيما آخره واو قبلها ألف، وذلك قوله: (وفي مثل هراوة جعل واوا)، يعني أنه يستثنى مما تقدم ما كان آخره كآخر هراوة فتجعل الهمزة العارضة في جمعه واوا لا ياء، ولا شك أن هراوة فيه وصفان، وهما: كون الواو صحيحة لم تعتل، وكونها بعد ألف، فكذلك يشترط فيما فيه هذا الحكم لأنه اشترط المماثلة لهراوة، فأما كون الواو صحيحة فلا بد منه تحرزا من نحو مطية ومطايا، فإن أصلها مطيوة فعيلة من مطا يمطو، فكان الأولى مثلا (أن يقال) مطاوَى، من أجل القصد الذي قصدوا في هراوَى، لكنهم لما كانوا قد أعلوه في الواحد بقلبه ياءً وإدغامِ الياء في الياء عاملوه معاملة ما أصله الياء، فقالوا: مطايا. فإذا ما جاء على خلاف هذا فمحفوظ نحو: شهية وشهاوى، وكان الأصل شهايا، لأنه كمطية، لكنهم اعتبروا الأصل فيها ولم يعتبروا إعلالها. وقد حكى ابن جني أيضا: مطية ومطاوى. ويحتمل أن يكون شهاوى جمع شهوى، فيكون على القياس. قال المازني: (فإن قال قائل: شهاوى جمع شهوى، فقد قال قولا يجوز)، وقواه ابن جني بقول العجاج:

فهي شهاوَى وهو شهواني وقال: معنى شهواني (شهوان)، وهو مذكر شهوى. وأما وقوعها بعد ألف فتحرز من نحو عدوة، فلا يقال فيه على هذا عداوى، وكذلك ما أشبهه؛ لأن الألف لم تقع قبل الواو الصحيحة. وقد اعتبر هذا الشرط في التسهيل أيضا فقال: (مجعولة واوا إن سلمت في الواحد بعد ألف)، وهذا الشرط لم يشترطه غيره، وإنما اشترطوا صحة الواو في الواحد خاصة، فيقال (على) هذا القول في فعول من شأوت: شآوى، وعداوى في عدوة، وقد حكى سيبويه: فلوة وفلاوى. وكأن إنما اشترط هذا (الشرط) لأنه محل السماع الفاشي، ومحل نصوص الأئمة، فاقتصر عليه. وكلام سيبويه محتمل للقياس فيه ولعدم ذلك، ألا تراه بعد ما قرر القياس في إداوة ونحوه قال: (وقالوا: فلوة وفلاوى، لأن الواحد فيه واو، فأبدلوه في الجمع واوا) فيمكن أن يريد أن هذا لاحق في القياس بذلك، ويحتمل أن يكون توجيهه توجيه سماع، ولعل الناظم نحا هذا النحو؛ لأن العادة لسيبويه إذا قال بعد تقرير القياس: وقالوا: كذا، أنه لا يقيسه. فإذا اجتمع الشرطان صح جريان الحكم المذكور من إبدال الهمزة واوا نحو: هراوة وهراوى، وهو ما مثل به. والهراوة: العصا الضخمة، ومن مثله: إداوة وأداوى، وغباوة وغباوى، وشقاوة وشقاوى، وعلاوة وعلاوى.

وقد ظهر من هذا أنه لم يرتض مذهب الأخفش في إبدال ياء نحو هدية واوا، فإنه يقول في هدية: هداوى، وفي رمية: رماوى، وكذلك ما أشبه ذلك مما لام ياء، والقياس القلب إلى الياء كما تقدم. وما اختاره الأخفش مخالف للسماع، وما جاء من هداوى في جمع هدية وأشاوى في جمع أشياء فشاذ لا يقاس عليه. وإنما أبدلت هنا واوا ولم تجر مجرى ما تقدم؛ لأنه لما ظهرت الواو في الواحد أرادوا أن يظهروا في التكسير ما كان في الواحد، فلم يمكنهم أن يظهروا الواو بنفهسا، لأن الواو التي في أداوى بدل من الهمزة التي هي بدل من ألف إداوة، فأبدلوا من الهمزة التي عرضت في الجمع واوا؛ لأن ذلك موضع تثبت في مثله الواو. قال ابن جني: وإنما فعلوا ذلك لأن اللام إذا كانت واوا رابعة فصاعدا فقد كثر قلبهم إياها إلى الياء نحو أغزيت واستغزيت ومغزيان وملهيان، وغازية ومحنية، فأظهروا الواو هنا من أداوى ونحوها ليعملوا [ليعلموا] أن الواو في إداوة وإن كانت رابعة فإنها كانت صحيحة غير منقلبة وإذا كانوا قد راعوا الزائد في الجمع نحو ياء خطيئة حتى قالوا: خطايا، فهم بمراعاة الأصل أجدر. ثم قال الناظم: (وهمزا أول الواوين رد) .. إلى آخره، هذا موضع خامس من المواضع التي يبدل فيها حرف العلة همزة. رُد -هنا- بمعنى صَيِّر أو

أبدل، ولا أتحقق الآن هذا لغة، فانظر فيه. والرد ههنا يتعدى إلى مفعولين أولهما قوله: أول الواوين، والثاني قوله: همزا. و (في بدء) متعلق باسم فاعل محذوف حال من أول الواوين، أي: رد أول الواوين كائنا في بدء كذا همزا، ويريد أن الواوين المجتمعين في بدء الكلمة يجب أيضا إبدال السابقة منهما همزة إلا ما استثنى. هذا معنى كلامه في الجملة، إلا أن التفصيل يقتضي النظر في مواضع: أحدهما: أنه قال: (أول الواوين) فجعل الحكم متعلقا بالواوين المجتمعتين خاصة، وقصرُ ذلك يؤذن باختصاص الحكم بذلك دون ما يتصور من اجتماع حرفي العلة، وذلك لا يخلو من أوجه ثلاثة: أحدها: أن يكونا معا واوين، كما قال، ولا إشكال في تعلق الحكم بهما كما سيذكر إثر هذا. والثاني: أن يكونا معا ياءين كما لو بنيت مثل صيقل من اليسر فقلت: ييسر، أو من اليقظة فقلت: ييقظ، أو من يئس مثل يعسوب فقلت: ييئوس، (ومن ذلك في كلام العرب يَيْن، فكل ما كان على هذا النحو) لا تبدل منه الياء السابقة همزة. والثالث: أن يكون أحدهما واوا والآخر ياء نحو: ويح، وويس، وويل، ويوم ويُوح، ومثل يعسوب من وعد إذا قلت: يوعود، أو فعيل منه

إذا قلت: ويعد، فمثل هذا لا تبدل فيه أول المعتلين همزة، وإنما يكون ذلك في الواوين نحو ما إذا بنيت مثل كوكب أو كوثر من وعد ووزن فتقول: أوعد وأوزن، وأصله ووعد ووزن، وكذلك إذا جمعت وافد فقلت: أوافد، ومثله قول الشاعر وهو عدي بن ربيعة، أو أخوه مهلهل: ضربت صدرها إلي وقالت ... يا عديا لقد وقتك الأواقي فالأواقي جمع واقية، فكذلك إذا جمعت وافية وواعدة وواعية قلت: أوافٍ، وأواعد، وأواعٍ، وكذلك لو صغرت وأدا أو وأيا فقلت: وؤيد ووؤي، ثم سهلت الهمزة فأبدلتها واوا لوجب أن تقول: أويد وتقول في تصغير واو: أُوَيّ. ووجه هذا الإبدال في الواوين مجموع أمرين: أحدهما: أن التضعيف في أول الكلمة عزيز قليل، وإنما جاء منه أحرف معلومة نحو: ددن، وكوكب، وأكثر ما يجيء بالفصل بين الحرفين نحو: ديدن، وديدبون، ودودرى، فلما قل التضعيف بالحروف الصحاح في أول الكلمة امتنع في الواو لثقلها. والثاني: أنهم لما كانوا يجيزون البدل في وجوه ونحوه، وهي واو مفردة، لأجل أنها بالضمة كالواوين كانوا خلقاء أن يلزموا الإبدال إذا وجد الواوان،

لأن واوين أثقل من واو وضمة. وأصل التعليلين لسيبويه، فالأول يشعر بعدم القلب في الواوين المتوسطيتين، والثاني يشعر بعدم القلب همزة في ييسر نحو بيطر من اليسر، وذلك لأن الياء إذا انضمت لم يجز قلبها همزة لخفتها، ولأن الضمة معها كواو قبلها (ياء)، والياء تشبه الألف، فصارت مثل عاود وطاول. وأيضا الياء أخف من الواو، ولذلك تقلب إلى الياء أكثر من العكس، كما إذا اجتمعتا وسبقت إحداهما بالسكون. وإذا كان الأمر كذلك، فإذا اجتمع ياءان لم نجد لقلب الأولى موجبا إذ كانت الياء مفردة لا موجب لها، وكذلك إذا اجتمعتا، ألا ترى أنهم لم يحذفوا الياء الثانية في نحو ييسر وييبس لما كانت خفيفة وحذفوا الواو في يعد لثقلها في نفسها، وأما إذا اجتمعت الواو والياء فلا نجد للقلب موجبا، إذ كانت الواو مع الياء في يوم ونحوه كالياء مع الضمة، ولا أثر لها، والياء مع الواو في ويح ونحوه كالواو المفتوحة ولا أثر لها أيضا. وما (جاء) من نحو: أناة في وناة، وأجم في وجم، وأحد في وحد، شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وإنما قلبت همزة ولم تقلب ياء ولا ألفا؛ لأن الألف ساكنة لا يبتدأ بها، والياء في اجتماعها مع الواو ثقل، فهربوا إلى حرف جلد يقرب من حروف العلة في المخرج ويجري مجراها في القلب والإبدال، وهو الهمزة.

الموضع الثاني: أنه شرط في هذا الإبدال أن تكون الواوان في بدء الكلمة لا في وسطها ولا في آخرها، فإنهما إن كانتا في غير الأول لم يسُغْ إجراء ذلك الحكم، مثاله: احووى، افعلَّ من الحوة، فلا يجوز أن تقول: احأوى، ولا احوأى، لفقد التصدير؛ لأن الاعتلال للأطراف أقرب منه إلى الوسط، وأيضا فإن تضعيف الأوساط كثير في كلامهم، فلم ينكر وقوعه في حروف العلة، قال سيبويه: وإذا قلت: افعللت -يعني من ذي الواوين- قلت: احوويت، تثبتان حيث صارتا وسطا، كما أن التضعيف وسطا أقوى نحو: اقتتلتا، فيكون على الأصل. وإذا كان طرفا اعتل، قال: فلما اعتل المضاعف من غير المعتل في الطرف كانوا للواوين تاركين، إذ كانت تعتل وحدها. ولما قوي التضعيف من غير المعتل وسطا جعلوا الواوين وسطا بمنزلته، فأجري احوويت على اقتتلت). قال السيرافي: جاز اجتماع واوين في احووى لما ذكر من قوة التضعيف من غير المعتل وسطا نحو: اقتتل، ولا يقال: ردد، فعُلم أن للتضعيف (في) وسط الكلمة مزية وقوة، فلذلك اجتمع الواوان حشوا وإن لم يجوزا في الطرف. الموضع الثالث: أنه لم ينص في الواوين على الاجتماع، ولكن هو مأخوذ من قوة كلامه، ألا تراه قال: (في بدء غير شبه ووفي الأشد)، فمثل بالواوين

المجتمعتين، فدل (ذلك) على (أن) الاجتماع والملاصقة شرط فيما قرر من الحكم، فلو كانتا مفترقتين بفاصل فصل بينهما اقتضى ذلك أنه لا تبدل الأولى همزة، كالوسواس والوطواط، ونحو: واوٍ، وكما لو بنيت من واوٍ على فاعَلَ، على قول من جعله مما اجتمع فيه ثلاثة أمثال، فإنك تقول: واوَى، فلا تبدل الواو الأولى همزة إلا إن سمع على قول من قال في وناة: أناة، وأيضا لم ينص على اجتماعهما على صورتها، وإنما يؤخذ له ذلك من إشارة التمثيل بووفي، فيؤخذ له أيضا اشتراط بقائهما على صورتها، فأما الأولى فقد تبدل تاء فيكون ذلك عوضا من إبدال الهمزة منها نحو قولهم: تولج، أصله على مذهب الخليل وسيبويه: وولج، من الولوج، فأبدلوا التاء مكان الواو، لمكان اجتماعهما. وأما الثانية فقد تدغم فيما بعدها من ياء فلا يلزم إبدال الأولى همزة، قال سيبويه: (ومن (قال): رُيَّة -يعني إذا خفف رؤية- قال في فُعل من وأيت، فيمن ترك الهمز: وُيّ، ويدع الواو على حالها، لأنه لم يلتق واوان إلا في قول من قال: أُعِد). ويريد أن الواو وإن كانت منوية الظهور فإنها غير موجودة في اللفظ، فلم يقع ثقل باجتماع واوين، فصارت الواو الأولى كالواو في وُعد، أنت بالخيار فيها.

فالحاصل الآن من كلامه أنه يجب إبدال الواو الأولى من الواوين بثلاثة شروط، أحدها: أن تكونا في أول الكلمة، والثاني: ألا يفصل بينهما فاصل، والثالث: أن تبقى صورتهما على حالها، فالأول مأخوذ من نصه، والثاني والثالث مأخوذان من تمثيله. الموضع الرابع: استثناء ما استثنى من هذه القاعدة، وذلك أنه لو تركها على إطلاقها لدخل له فيها وجوب الإبدال (في) نحو: ووري، وووفي، وووعد، وما أشبه ذلك مما الواو الثانية فيه مدة مجردة غير أصلية، فأخرج ذلك بقوله: (في بدء غير شبه ووفي الأشد) يعني أن ذلك الحكم إنما هو فيما سوى ووفي وما أشبهه، فما عدا ووفي فهو الذي استقر له ذلك، وأما ووفي فليس كذلك، بل تقول: ووفي، وووري، وووعد، وووفي [وووقي]، وما أشبه ذلك من غير أن يجب إبدال الأولى همزة. وإنما قال: شبه كذا، ولمي قل: في غير ووفي الأشد، لئلا يفهم منه أن هذا اللفظ بعينه هو المستثنى وحده، وأنه شاذ خارج عن القياس، فأدخل شبه ليدل على أن ما كان مثله في الاشتمال على الأوصاف التي اتصف بها فعدم الإبدال قياس فيه أيضا، ولم يدخل (ووفي) في هذا الحكم بنصه بل بالمعنى، لأنه إنما قال: في [غير] شبه ووفي الأشد، فدخل له المشبه ولم يدخل له المشبه به بذلك النص. نعم دخل له بمعنى الكلام، لأنه إذا علق الحكم بالمشبه لأجل الشبه فتعلقه بنفس المشبه به أولى وهذا ظاهر.

والأوصاف التي اجتمعت في ووفي ثلاثة: أحدها: أن تكون الواو الثانية مدة، وذلك أن يكون ما قبلها من جنسها، فإن انفتح ما قبلها لم تخرج عن الحكم الأول، كالأمثلة التي تقدمت. والثاني: أن تكون زائدة كالتي في ووفي، فإن وزنه فُوعِل، فإن كانت أصلية رجعت إلى الحكم الأول، نحو: أُولى، تأنيث أول، إذ وزنها فُعْلى (لأن أول أفعل) وكما إذا بنيت فعلا من الوأي، فإنك تقول: وُؤْي، فإذا خففت الهمزة بالإبدال واوا قلت: أُويٌ، وكذلك تقول: رجل وءود للبنات، ثم تجمعه على وُؤُد كصبر، فإذا أسكنته تخفيفا ثم سهلت قلت: أُود. وقد وقع الخلاف في هذا الشرط، وأصله مسألة سيبويه، قال: (وسألت الخليل -رحمه الله تعالى- عن فُعْل من وأيت، فقال: وُؤْي، كما ترى، فسألته عنها فيمن خفف الهمزة فقال: أُوي، كما ترى، قال: فأبدل من الواو همزة وقال: لا بد من الهمزة لأنه لا يلتقي واوان في أول الحرف)، ومعنى هذا أن الهمزة لما خففت صارت صورتها صورة الواو، وذلك موجب للاستثقال باجتماع الواوين، وإذا كان كذلك وجب قلبُ الأولى همزة اعتبارا بظاهر اللفظ.

وعلى هذا يجري كلام الناظم في إشارته إلى اشتراط وجود الواوين في اللفظ، ولم يشر إلى استثناء ما أصله الهمز، وقد أنكر المازني والمبرد قول الخليل هذا، أما المازني فلأجل (أن) الثانية في نية الهمزة، لأن البدل عارض، فإذًا لا واوين في التحصيل، فليس إبدال الهمزة بواجب، وشبه هذا بووري في أنه يجوز أن تبدل الأولى همزة لا لاجتماع واوين ولكن لانضمام الأولى. وأما المبرد فأنكره من جهة أن الذين يخففون همزة وُؤي لا يجوزون أن يفروا من همزة ساكنة ويجتلبوا متحركة لهم عنها مندوحة، وقالوا أيضا: إنه متناقض؛ لأنك إذا قلت: وُوي، فإن راعيت اللفظ فيجب أن تهمز وتدغم فتقول: أُيّ، وإن راعيت الهمز بعد التخفيف لم يجب الهمز ولا الإدغام، وقد اعتُذر عن ذلك، ولكن الإشكال ظاهر الورود، فكان رأي الناظم أولى. والشرط الثالث: أن تكون المدة عارضة غير لازمة، كما في ووفي، فإنه فعل مبني للمفعول من وافى، فالواو عارضة في هذا الفعل، فلو كانت المدة لازمة لزم الإبدال كما مر. وخالف في ذلك المازني أيضا فقال في مسألة الخليل المتقدمة: لو لم يكن أصلها الهمز -يعني الواو الثانية (في وُوي) - لم يلزم الإبدال، لأن الثانية مدة مثل ووري، إذا أردت فُوعِل من واريت قال الفارسي رادا على المازني: لو لم يكن أصلها الهمز للزم إبدال التي هي فاء همزة وإن

كانت الثانية مدة، ألا ترى أن أولى قلبت الفاء منها همزة وإن كانت الواو التي بعدها مدة، قال: (وإنما لمن [لم] تقلب من ووري ونحوه لأنها غير لازمة ألا ترى أنك تقول: وارى، كما لم تدغم في نحو سُوير وبويع لأنها غير لازمة، ولو كانت لازمة لأدغمت وإن كانت مدة، كما أدغمت في مغزو، وفي عتو، وإن كانت مدة، فكما تدغم إذا كانت مدة لازمة كذلك يلزم أن تبدل أيضا إذا كانت المدة لازمة، فوُويٌ ليس مثل ووري، لما ذكرنا)، هذا ما قال الفارسي وهو ظاهر كما ترى. ومن مثل هذا الأصل ما إذا بنيت من الوعد مثل طومار فإنك تقول: أُوعاد، لا غير، ومن الوزن: أوزان. ثم إنه يبقى في كلام الناظم سؤالات: أحدها: أنه تضمن أن الواوين إذا اجتمعتا من غير فاصل وجب إبدال الأولى، وعدم الفصل إنما أشار إليه إشارة مجملة، فيمكن أن يريد عدم الفصل عن الإطلاق، ويمكن أن يريد الفصل الظاهر لا المقدر فيكون الفصل المقدر معتبرا كالظاهر على الأول وغير معتبر على الثاني، فعلى أي الوجهين (تحمله) فإنه (ينبني (على) مسألة، وهي) ما لو بنيت من وأيت مثل اغدودن فإنك تقول: إيأوأى، فإن خففت الهمزة الثانية ألقيت حركتها على الواو الساكنة قبلها وحذفتها، فقلت: ايأوى، وإن خففت الأولى وتركت الهمزة الثانية على حالها من التحقيق فالأصل أن تقول: وَوْأ، لأنك ألقيت حركة الهمزة الأولى على الواو التي صارت ياء لكسرة

همزة الوصل، وحذفت ألف الوصل لما تحرك ما بعدها فرجعت واوا إلى أصلها، فإذا رجعت واوا التقى واوان، وكذلك إن خففت الهمزتين معا فقلت: ووى، اجتمع واوان، فإن اعتبرت اللفظ وجدت واوين متصلتين يحصل بمثلهما الاستثقال الحاصل بفوعل من الوعد إذا قلت: ووعد، فلا بد من الإبدال، وإن اعتبرت الأصل وجدت الواوين منفصلتين، فالعلة لم تستحكم وإن كانت موجودة في ظاهر الأمر كما لم تستحكم علة قلب الياء والواو ألفا حين قلت في: جيأل: جَيَل، وفي موئل: موِل، فقلت: ووأى، لأجل ذلك، فعلى التقدير ليس في كلام الناظم بيان. والسؤال الثاني: أنه يقتضي أن فُوعل الذي هو وزن ووفي إذا لم يكن أصله فاعل يجب إبدال الواو همزة، لأن من أوصاف ووفي أنه مبني للمفعول من وافى، فإذا بنيت من وعد مثل حوقل وبيطر قلت: أوعد وويعد، فإن بنيتهما للمفعول اقتضى كلامه أنك إنما تقول: أوعد فيهما لا غير، لأنه ليس أصلهما فاعل، بل أصلهما فوعل وفيعل، لكن هذا الحكم خلاف المنصوص من كلامهم، بل نص ابن جني في هذا على جواز ووعد فيهما؛ لأنهما يجريان مجرى فعل من فاعل من وعدت إذا قلت: ووعد، كما جرى حوقل وبوطر مجرى قوول وسوير، لأنهما محمولان على فاعل لانضمام ما قبل الواو وسكونها. قال: (فإذا اجتمعت الواوان هكذا لم يجب قلب الأولى منهما لأن الثانية مدة، فجرت مجرى ألف واعد، فكما لم يجز همزها في واعد كذلك لم يجب همزها في ووعد، لكن

إن شئت همزتها لانضمامها)، وقد نص سيبويه وغيره على أن ياء فيعل وواو فوعل يجريان في بناء المفعول مجرى المدة التي أصلها فاعل، فتقول: قوول وبويع، ولا تدغم، كما لا تدغم قوول من قاول ولا بويع من بايع. وكذلك الأمر في تفوعل من تفاعل (وتفيعل). ولا خلاف في هذه الجملة، فإذا كانوا يعاملون الواو هنا معاملة المنقلبة عن الألف كان (من) مقتضى هذا أن يقال: ووعد من أوعد الذي أصله ووعد، ومن ويعد، فالناظم على (التقدير) مخالف لهذا كله، وكذلك خالف ما يقتضي كلامه في التسهيل، إذ هو على ما ذكره ابن جني. والسؤال الثالث: أن ما استثني من (ووفي الأشد) وأشباهه يعطي كلامه فيه جواز الإبدال، وذلك أن ووفي ونحوه مستثنى مما يجب فيه الإبدال، فهو قد قال: إن هذا الوجوب مطرد إلا في هذا ونحوه، فاقتضى أن الإبدال فيه غير لازم، وهذا معنى كونه جائزا، وإذا كان كذلك خالف ما قاله غيره من أن الإبدال في ووري ووفي ووعد، ونحو ذلك غير جائز. قال ابن خروف: وأما ووري وأشباهه فلا يجوز فيها إلا ترك الهمز بحملها على فاعل، ولذلك لم تدغم في مثل سوير، هذا هو النظر في الطرف الخاص بمسألته الحاضرة. والجواب عن الأول بصحة كل واحد من الاحتمالين، أما الاحتمال الأول فظاهر (في) القياس من حيث لم تستحكم علة وجوب القلب، وهو

اجتماع الواوين، كما لم تستحكم علة وجوب الإدغام في نحو: رُويا وتووي (بالتخفيف) و (هو) ظاهر (و) أيضا هو قول الفارسي، ومذهب المؤلف في التسهيل إذ قال: (فإن عرض اتصالهما -يعني الواوين- بحذف همزة فاصلة فوجهان)، فلم يحتم -كما ترى- الحكم بالإبدال، بل حكم الاعتبارين: اعتبار الأصل، واعتبار اللفظ، ولنا أن نقول أيضا: إنه إنما اعتبر الفصل الظاهر، وأما الفصل المقدر فلم يعتبره، بل يجري عنده مجرى ما لا فصل فيه البتة. ولا يضرنا في ذلك مخالفة (من خالف إذا لم تكن مخالفة) إجماع، أما التسهيل فكثيرا ما يخالفه كما رأيت فيما تقدم شرحه، وأما الفارسي فإنما هو رأي رآه بعد ما ذكر المازني أن الحكم فيه وجوب الإبدال كالذي لا فصل فيه، هذا ظاهر كلامه، ألا تراه قال حين أتى ببناء اغدودن من وأيت: وإن خففت الأولى وتركت الهمزة الثانية قلت: أوأى، قال: وكان الأصل ووأى، لأنك ألقيت حركة الهمزة التي هي العين الأولى على الفاء، وكانت واوا في الأصل، فانقلبت ياء للكسرة همزة الوصل، فحذفت ألف الوصل لما تحرك ما بعدها. قال: (فلما رجعت واوا بعدها الواو الزائدة همزت موضع الفاء لئلا يجتمع واوان في أول الكلمة)، قال: (فإن خففتهما جميعا قلت: أوى). هذا ما قال، فظاهره الوجوب وأن الواوين هنا مثلهما في أواصل. وشرحه ابن جني على ما هو عليه ثم قال: وقد أجاز أبو علي أن يقال: ووى، وأن يقال: ووأى،

ولا تقلب الواو همزة. قال: لأن نية الهمزة فاصلة بين الواوين، لأن الأصل اوأوأى، كما تقدم، فترك الهمزة ههنا نظير تصحيح الواو في تخفيف رؤيا وتؤوي، إذا قلت: رويا وتووي، فلم تقلب الواو وإن كانت ساكنة قبل الياء لأن نية الهمزة تمنع من القلب كما تمنع لو كان حاضرا ملفوظا به. فالحاصل أن المسألة مختلف فيها، ومذهب الفارسي الذي اتبعه في التسهيل له وجه من القياس حسن، ولكن ما قاله المازني أيضا له وجه، ونظيره رأي الخليل في فُعْل من وأيت إذا خففت فقلت: أُوي، ألا ترى أنه اعتبر اللفظ الذي به حصل الاستثقال فأوجب همز الواو الأولى وإن كانت الثانية أصلها الهمز لما كانت الصورة ذات واوين في التحصيل الظاهر، فكذلك يقول الناظم هنا: إن الحاصل في أيدينا وفي نطقنا واوان في أول كلمة، فحصل بهما من الاستثقال ما حصل في أواصل، فكما يجب هنالك الإبدال همزة فكذلك ههنا، غير أنه يقدح له فيه عدم ارتضائه مذهب الخليل، فتأمله. والجواب عن الثاني: أنه يدخل له فُوعِل من فيعل وفوعل بقوله: (شبه ووفي الأشد) لأن الواو هنا شبيهة بواو فوعل من فاعل في الزيادة والعُروض، وبالتشبيه بها عوملت معاملتها على ما مر في التعليل، فلذلك كله يشمله كلام الناظم، فلا إشكال فيه. وعن الثالث: أنا نلتزم ما أفهم كلامه من جواز الإبدال، فإن ظاهر كلام الناس ذلك المقتضى، إذ هم يطلقون القول في الواو المضمومة

ولا يستثنون شيئا مما قال، وإنما يستثنون أمورا أخر ليس هذا منها، فاتبعهم الناظم في هذا الإطلاق، وكذلك فعل في التسهيل، وأيضا فإن ابن جني قد نص على جواز الإبدال فيه بعينه، قال: (وهمز الواو في ووري في غير القرآن جائز)، ثم ذكر أن ذلك لانضمام الواو (لا) لاجتماع الواوين. ومثل هذا أيضا لابن السراج في الأصول. فإذا ما قاله ابن خروف ينظر في صحته. وووفي معناه: بُلِغ، ويقال: وافى فلان أي أتى. وهنا تم ما قصد ذكره مما تبدل منه الهمزة. وقد نقصه من أحكام هذا الفصل حكم الواو المضمومة والمكسورة إذا وقعتا أول الكلمة في إبدالهما همزة، وعذره ظاهر في كونه لم يقصد لذكر جميع أحكام الأبواب، فلا بد أن ينقصه من كل باب أشياء إلا في القليل. وقد يقال: لعله ترك ذلك مع قصد الاختصار، لأن إبدال الواو المضمومة همزة لا يلزم بل هو جائز، فإذا تركت الواو على حالها فلا عليك منها، ولا تُعد بذلك لاحنا، وذلك نحو: وجوه ووقتت ونحوهما. بل من الواو المضمومة ما يلزم فيه عدم الإبدال، وذلك في خمسة مواضع، هي: أن تكون الضمة عارضة، نحو: لتروُنَّ أو مُشَذَّة نحو التسوُّر أو متصفة بموجب الإبدال المتقدم نحو أُولى، أو زائدة للإلحاق كالتجهوُر، أو في نحو: وُوفي، على مذهب ابن خروف المتقدم. هذا في المضمومة، وأما المكسورة فكذلك أيضا هي في حكم الجواز إذا وقعت

بين ألف وياء مشددة، وكذلك إذا وقعت مصدرة فالأول نحو فعاليل من الرمي إذا قلت: رمايي، والثاني نحو وشاح. وعلى أنهم قد اختلفوا في اطراد ذلك أو وقفه على السماع، فظاهر المازني في تصريفه اطراد ذلك، ونقل الفارسي في الإغفال عن أبي عمر عدم اطراده، وهو يظهر من سيبويه، فإذا كان غير مطرد فلا حاجة إلى التنبيه عليه، وقد زعم في التسهيل أنه مطرد على لغة، وكأنهه فهم ذلك من كلام المازني في التصريف لأنه قال فيه: (واعلم أن الواو إذا كانت أولا وكانت مكسورة فمن العرب من يبدل مكانها الهمزة ويكون ذلك مطردا، وفي كلام سيبويه أيضا إشعار ما بهذا، وهو قول: (ولكن ناسا كثيرا يجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة، فيهمزون الواو المكسورة إذا كانت أولا). ولكن التحقيق أن ذلك ليس بلغة ثابتة، وقد سأل ابن جني شيخه عن ذلك، فنفى أن تكون لغة، بدليل إجماعهم على موشح بغير همز، وبالجملة فإن كانتا لغتين لم يحتج إلى التنبيه عليهما، إذ لا إبدال وإن كان إبدالا فالذي عليه الحذاق كالفارسي وغيره وحمّلوه كلام سيبويه عدم الاطراد (وعلى القبول بالاطراد) فهو غير لازم، فالباني على الأصل من عدم الإبدال مصيب، والله أعلم.

ثم أخذ يذكر ما تبدل إليه الهمزة فقال: ومدا ابدل ثاني الهمزين من ... كلمة ان يسكن كآثر وائتمن إن يفتح اثر ضم او فتح قلب ... واوا وياء إثر كسر ينقلب ذو الكسر مطلقا كذا وما يضم ... واوا أصر ما لم يكن لفظا أتم فذاك ياء مطلقا جا وأؤم ... ونحوه وجهين في ثانيه أم فتكلم -على إبدال إحدى الهمزتين المجتمعتين في كلمة، ولم يتكلم في الهمزة المفردة، بل ترك ذكرها البتة، والناس يذكرون (في) باب الهمز الفصلين معا، والعذر للناظم في تركه ذلك أمران: أحدهما ما تقدم مثله من أن إبدال الهمزة المفردة جائز لا لازم، وإذا كان جائزا فالبقاء على الأصل لا لحن فيه، فلم يعتن به من حيث لا ينبني على تركه فساد ولا خطأ، وتكلم على ما كان الإبدال فيه لازما وذلك مع اجتماع الهمزتين، ولذلك قيد الكلام فيهما بكونهما في كلمة؛ لأن ما في كلمتين لا يلقى في تركه على أصله محذور. والثاني: أن الناظم إنما بنى هنا في الكلام على الإبدال المحض الذي تصير فيه الهمزة إلى حقيقة أخرى، وهي الواو أو الياء، كسائر ما أبدل من

الحروف التي تقدم ذكرها، أو يأتي بيانها، وأما الهمزة المفردة فليس فيها إبدال في الغالب، وإنما تسهيلها بين بين كالإمالة في بابها، فلم تخرج الهمزة فيه عن حقيقتها، ولذلك تبقى المتحركة بعد التسهيل على زنتها قبله إذا وقعت في شعر، ولذلك جعل النحويون كسيبويه وغيره لتسهيل الهمزة بابا على حدته خارجا عن التصريف. وإذا تقرر هذا فالهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة لم تخل من ستة عشر وجها، فالأولى لا تخلو من أربعة أوجه، أن تكون مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة أو ساكنة، وكذلك الثانية لا تخلو من أربعة الأوجه، فإذا أخذت وجها من إحداهما مع كل وجه من الأخرى قام من ذلك اثنا عشر، فإذا فتحت الأولى مثلا كانت الثانية معها على الفتح أو الضم أو الكسر أو السكون، وكذلك إذا ضممتها كانت الثانية معها على أربعة الأوجه، وكذلك إذا كسرتها أو سكنتها، والناظم أخذ يتكلم على هذه الأوجه بقول جُمْلي، لكنه قدم قبل التفصيل فوائد عامة لما تكلم فيه: إحداها: أن هذا الإبدال إنما يقع في ثاني الهمزتين لا في المبدوء بها، وذلك قوله: (ومدا ابدل ثاني الهمزين) فعين للإعلال الهمزة الثانية، وهذا صحيح، وإنما التزموا إبدال الثانية ولا بد لأن الاستثقال فيها يقع وليس في النطق بالأولى من حيث هي مع ما قبلها استثقال، فكان الإبدال حيث يقع الاستثقال أولى، وذلك في الثانية، وبهذا يُحتج للخليل في اختيار تخفيف الثانية من الهمزتين من كلمتين إذ يقول: الأصل أن يكون

التغيير في موضع التعذر أو الاستثقال، وليس ذلك إلا في الثانية دون الأولى. والثانية: كونه مختصا بالكلمة الواحدة إذا اجتمعتا فيها، فإنه إذا كان كذلك وجب الإبدال على ما ذكره، فإن كانا من كلمتين نحو: قرأ آية، وجاء أهل فلان، وخيأ أبي، ويحبأ أيوب، واقرأ آية، و (هؤلاء إن كنتم)، وما أشبه ذلك، لم يلزم الإبدال، إذ يجوز التخفيف بين بين على الجملة، والتحقيق وذلك أنهما في الكلمة الواحدة لازما الالتقاء بخلاف ما إذا كانتا من كلمتين، لأنك إذا قلت (جاء) ليس بلازم أن تأتي بعد (جاء) بما أوله همزة، وكذلك إذا استفهمت بالألف ليس بلازم أن يأتي بعدها همزة، ففرقوا بين الالتقاء اللازم وغير اللازم، فكان استثقال المتلازمين أشد من غير المتلازمين إلى هذا النحو من التعليل أشار سيبويه. ومعنى كونهما من كلمة أن يكون معا في أصل بنيتهما أو ما يجري ذلك المجرى، فآدم وآخر أصلهما أأدم وأأخر، ووزنهما أفعل، فهما من أصل البنية، وكذلك: جاءٍ وناءٍ أصلهما جائئ ونائئ، قال الشاعر: فإنك لا تدري متى الموت جائئ ... إليك، ولا ما يحدث الله في غد

وكذلك: أئمة جمع إمام، وما أشبه ذلك، وايت، (و: اوتمر)، و: ايتمن، ونحو ذلك مما أوله همزة الوصل، مما جرى الاجتماع فيه كالكلمة الواحدة، لأن همزة الوصل هي من وجه كالمعدودة من أصل البنية، ومن جهة أخرى معدودة في المنفصلات عنها، ولكنهم عاملوها معاملة المتصل فقالوا: اوتمن، فأبدلوا الثانية واوا، و: ايت، فأبدلوها ياء، وأما ما كان من نحو: (أأنتم)، و (أأشفقتم) ونحوهما، فالهمزة ليست بمعدودة في حروف ما بعدها، وإنما هي كلمة على حدتها على حرف واحد، فليست بداخلة تحت حكم وجوب الإبدال، بل حكمها حكم: جاء أبي، ونحوه. والثالثة: أن هذا الإبدال محض لا تخفيف بين بين، لقوله: (ومدا ابدل)، وقوله: (قلب واوا، وياء إثر كسر ينقلب)، وقوله: (واوا أصر)، وغير ذلك مما يدل من كلامه على عدم إبقاء رسم الهمزة، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الهمزة المخففة عندهم تتنزل منزلة المحققة، فليس التخفيف بمخرج عن استثقال اجتماع الهمزتين ما لم يكن إبدالا وقلبا محضا، على حد إبدالهم الهمزة الواحدة في قول حسان بن ثابت، رحمه الله تعالى: سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

وقول زيد بن عمرو بن نفيل، أنشده هو والذي قبله سيبويه: سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي، قد جئتماني بنكر فهذا إبدال محض لا تسهيل فيه، وإلا انكسر البيت، فكذلك الإبدال في ثاني الهمزتين. وهذا الحكم الذي قرر من لزوم الإبدال هو مذهب النحويين البصريين، فلم يخرج عن طريقتهم. وأما الكوفيون فيذهبون إلى صحة التحقيق فيهما معا، وبه قرأ كثير منهم، وقد جعل ابن مالك في التسهيل ذلك لغة، فقال: (وتحقيق غير الساكنة مع الاتصال لغة)، ولكن الظاهر من السماع ندور هذا بحيث لا يعتد به في القياس المستمر، مثل ما حكى أبو زيد وأبو الحسن من قولهم: غفر الله خطائئه، وحكى أبو زيد وغيره: دريئة ودرائئ، قال ابن جني: ورينا عن قطرب: لفيئة ولفائئ، وأنشدوا: فإنك لا تدري متى الموت جائئ ... إليك ولا ما يحدث الله في غد والصواب في هذا كله أن يقاس على ما اشتهر ويوقف على السماع خلافه.

وقد تحصَّل من هذا صحة ما بنى عليه الناظم هنا، وبالله التوفيق. والرابعة: أن أمثلته وقوة كلامه قد أشعرت أن شرط هذا الحكم في الهمزتين ألا يقع بينهما فاصل كما في آثر، اوتمن، وأوُم. ولا شك أن الأمر كذلك، فإنهما إن فصل بينهما بفاصل زال الاستثقال المهروب منه، وأمكن النطق بهما على حالهما من التحقيق بالتسهيل أيضا، فصارا كأنهما في كلمتين مفترقتين، وذلك نحو: آءة، لشجرة معروفة، قال زهير بن أبي سلمى: أصك، مصلم الأذنين أجنا ... له بالسي تنُّوم وآءُ وكذلك: (أنبئاء) جمع نبيء، وهي قراءة نافع، وكذلك: نُبآء، قال عباس بن مرداس السلمي: يا خاتم النبآء إنك مرسل ... بالخير، كل هدى السبيل هداكا وكذلك: امرأة سوآء، أي قبيحة، وعلى هذا يكون قولهم: ذوائب -في جمع ذؤابة، أصله: ذآئب - شاذا، لكن الفصل قد يكون ظاهرا كالأمثلة المذكورة، وقد يكون مقدرا كما تقول: وأدتها فأنا أئدها وأدا، وقع في (بعض) نسخ الكتاب هذا المثال بتحقيق الهمزة الثانية، في المضارع

فأجاز ابن خروف فيه وجهين: التحقيق اعتبارا بالأصل، إذ أصله: أوئدها، لكن حذفت الواو لما سيذكر إن شاء الله، والحذف عارض فكأن الفصل ثابت، فلم يستثقل اجتماع الهمزتين والتسهيل اعتدادا بعارض الاجتماع في اللفظ. وهذا نظير مسألة بناء اغدودن من وأيت إذا سهلت فقلت: وَوَى، هل يعتد بالعارض فيقال: أوى، لا غير، أو لا يعتد به فيقال: ووى. ثم نرجع إلى كلامه في التفصيل فقوله: (ومدا ابدل ثاني الهمزتين [الهمزين] من كلمة ان يسكن) يعني أن ثاني الهمزتين الذي عليه يرد الإبدال على قسمين: أحدهما أن يكون ساكنا. والثاني: أن يكون متحركا. فإن كان ساكنا أبدلته مدا، والمد أحد حروف العلة الثلاثة إذا كان ما قبلها من جنسها، وإنما يقال لها حروف مد لأنها ناشئة عن صوت الحركة المتقدمة، فالمفتوح ما قبلها تبدل ألفا نحو ما مثل به من قوله: آثر، وهو أمر (من) آثره بكذا يؤثره به: إذا فضله به على غيره. وكذلك: آثرت فلانا على نفسي، من المأثرة بمعنى المكرمة، لأنك جعلت له بذلك مكرمة تؤثر عنه، أي: تنقل عنه، وأصله أأثر، فأبدل الثانية ألفا. ومثله: آدم، لأنه من الأدمة، وآخر وآمن، وآتى كذا، أي أعطاه، والمضموم ما قبلها تبدل واوا نحو ما مثل به من اوتمن، أصله: اؤتمن، أي جعل أمينا، فهو من الأمانة ضد الخيانة، يقال: أمنته على كذا وائتمنته عليه بمعنى، ومثله: أوتي، وأومر (بكذا

وأوثر) (فلان) بكذا والمكسور ما قبلها تبدل ياء، ولم يأت عليها بمثال، ومثاله: ايتمن يازيد فلانا، و: ايتني أكرمك، و: ايب من كذا، من أبى يأبى، و: ايتمر، وما أشبه ذلك. هذا كلفه مبدل مدة من جنس (حركة ما قبلها). والثاني من القسمين أن يكون الهمز متحركا، فقسمه الناظم ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون مفتوحا، والثاني أن يكون مكسورا، والثالث أن يكون مضموما. فأما القسم الأول، وهو أن يكون مفتوحا، فهو الذي بدأ به وجعل إبداله على وجهين، أحدهما الإبدال واوا، وذلك بعد الضم أو الفتح، لأنه قال: (إن يفتح اثر ضم او فتح قلب واوا). ضمير (يفتح) عائد على ثاني الهمزين، يعني أنه يقلب واوا بعد الضمة والفتحة، فأما بعد الضمة فنحو: أويدم -في تصغير آدم- وأويخر -في تصغير آخر- وأويمة- في تصغير أئمة. وكبنائك من أم مثل أصبع - كجخدب- فتقول: أُوَم، أصله أأمم، فنقلت حركة الميم إلى الهمزة الساكنة طلبا للإدغام، ثم أبدلت فقيل: أوم، وأما بعد الفتحة فنحو أوادم -جمع آدم- وأواخر- وكذلك ما أشبهه. وأما كونها واوا بعد الضمة فظاهر، لطلب الضمة ما يجانسها ولثقل الياء إن وقعت بعدها لو قلت: أييدم، ولتعذر الألف هنالك بعد الضمة، ولذلك قالوا في

تصغير فاعل كقائم: قويئم، وفي ضارب: ضويرب. وأما كونها واوا بعد الفتحة فلأنهم جعلوا هذه الألف المبدلة من الهمزة كالألف الزائدة، لأنها لم يبق لها من أصلها أثر (ولا رسم)، فصارت كألف خالدة وضاربة، فكما تقلب الألف واوا إذا قلت: خوالد وضوارب، فكذلك تقلبها هنا إذا قلت: أوادم وأواخر، في آدم وآخر، إذا جعلتهما اسما كأحمد وأفكل. وكذلك يقال في المضموم ما قبلها. وقوله: (قلب) وقال بعد: (إثر كسر ينقلب) إشعار بأن الإبدال محض كما تقدم. (والوجه) الثاني: إبدالها ياء، وذلك إذا وقعت بعد الكسرة لقوله: (وياء إثر كسر ينقلب) يعني أن الهمز ينقلب ياء إذا وقع بعد كسرة، (نحو) بنائك إفعل كإصبع من أم، تقول: إيم، وأصله: إأمم، فوجب نقل الحركة من الميم إلى الهمزة، ثم أدغمت الميم في الميم. وإنما انقلبت ياء لأن الياء مجانسة للكسرة، بخلاف الواو فإنها غير مجانسة، والألف لا تقع هنا البتة فوجب الإبدال ياء. وأما القسم الثاني -وهو أن يكون ثاني الهمزين مكسورا- فإن فيه وجها واحدا ذكره، وهو الإبدال ياء، وذلك قوله: (ذو الكسر مطلقا كذا)، وذا إشارة إلى أقرب مذكور وهو المفتوح المكسور ما قبله، فاقتضى من الإبدال ما اقتضاه، وهو الإبدال ياء.

وقوله (مطلقا) تنبيه على أن الحكم هكذا، كان ما قبله مفتوحا أو مكسورا أو مضموما. وإنما تبين معنى الإطلاق مما تقدم من التقييد، إذ قسَّم المفتوح إلى ما قبله مضموم أو مفتوح، وإلى ما قبله مكسور، ولم يطلق الحكم فيه إطلاقا، فدل ذلك على أن الإطلاق هنا بالنسبة إلى ذلك التقييد، فالمفتوح ما قبله نحو: أيمة، والمكسور ما قبله كما إذا بنيت من أم مثل إثمد فإنك تقول: إيِمّ، والمضموم ما قبله كما إذا بنيت من أم مثل أُصبِع فإنك تقول: أُيِم، ووجه الياء هنا أن الأصل أن يكون تسهيل الهمزة إلى مناسب حركتها، كما في تخفيف الهمزة المفردة، ولا يخرج عن ذلك إلا لسبب داع إليه كالمفتوحة بعد الضمة أو الكسرة، (إذ لا يمكن هنالك إلا الإبدال، لتعذر وقوع الألف بعد الضمة والكسرة)، وكذلك إذا انفتح ما قبلها، عاملوها معاملة الألف الزائدة فقلبوها إلى ما يقلبون إليه الزائد. وأما إذا لم يكن ثم سبب مخرج عن ذلك الأصل فلا معدل عنه. وأما القسم الثالث، وهو أن يكون الهمز مضموما فحكمه الإبدال واوا، وذلك قوله: (وما يضم واوا أصر)، و (ما) موصولة، وهي في موضع نصب بأصِرْ على المفعول الأول (له)، لأن أصر متعد إلى اثنين، وثانيهما (قوله)

(واوًا) وأصر بمعنى صير، أي اجعله واوا، يعني أن الهمز الثاني من الهمزين إذا كان مضموما يبدل واوا من جنس حركته. وقوله: (واوا أصر) وأطلق القول يريد سواء أكان ما قبلها مفتوحا أو مكسورا أو مضموما، فالمفتوح ما قبلها كما إذا بنيت مثل أصبُع من أم فتقول: أوُم، والمكسور ما قبلها كما إذا بنيت (من أم مثل إصبُع فتقول: إِوُمّ، والمضموم ما قبلها كما إذا بنيت منه) مثل أبلُم فتقول: أوُم. وهذا على ما تقدم من اعتبار التسهيل بحركة الهمز المسهل. ثم استثنى من كلية هذه الأقسام ما إذا كان ثاني الهمزين (في موضع اللام فقال: ما لم يكن لفظا أتم، فذاك ياء مطلقا جا)، والضمير في (يكن) عائد على ثاني الهمزين) المذكور. و (لفظا) مفعول بأتم، قدم عليه. و (أتم) فعل ماض فاعله ضمير ثاني الهمزين، يعني أن ما تقدم من اعتبار الهمز بحركته أو بحركة ما قبله في تسهيله إنما هو غير الهمز الواقع متمما للكلمة، أي: في موضع لامها، فإنه إن كان كذلك فإنه يبدل ياء مطلقا، ومعنى الإطلاق أنه كذلك كان مفتوحا أو مكسورا أو مضموما، وكذلك ما قبله بأي حركة تحرك، فالياء هي المحكوم بها في الإبدال مطلقا. ومثال ذلك: جاءٍ وشاءٍ، أصله على مذهب سيبويه: جائئ وشائئ، فأبدلت الثانية ياء، وكما (إذا) بنيت من قرأ مثل جعفر لقلت: قرأى، أصله: قرأأ، فأبدلت الثانية ياء، ثم جرى عليها حكم

التصريف فانقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكذلك مثال برثن (منه) تقول: قرءٍ، أصله: قرءؤ، فأبدلت الثانية ياء فصار قرؤيٌ، ثم كسرت الهمزة لأجل الياء فقيل: قرئيٌ، ثم فعل به ما فعل بقاض وشجٍ فقيل: قرءٍ ومثل ذلك بناؤك من قرأ مثل قمطر تقول فيه: قرأيٌ، وكذلك مثل معد قرأيٌ أيضا، وإنما كان القلب هنا إلى الياء البتة لأن موضعها موضع الياء؛ لأن حروف العلة إذا وقعت رابعة فصاعدا كانت ياء ولا بد، إما بالأصل وإما بالقلب، ألا ترى أنك تقول: غزوت، فإذا قلت: أغزيت كانت ياء، وكذلك مغزيان، وما أشبه ذلك. ولو بنيت من قرأ أو من غزا مثل دحرجت لقلت: قرأيت وغزويت، وهذا ظاهر فيما إذا كانت حروف العلة في موضع تعتل فيه، فأما إن سكن ما قبلها كقرأي لم يجز (ذلك) فيها، إذ حرف العلة إذا سكن ما قبله وكان آخرا جرى مجرى الصحيح نحو: دلوٍ وظبي، وكذلك قندأو وسندأو وعنزهو، ونحو ذلك. لكن قد اختصت اللام إذا كانت بدلا من همزة بهذا الحكم لأنها أخف من الواو، وهي أغلب على اللامات من الواو. والناظم ذكر هذه الجملة ولم يحك في شيء منها خلافا، وما ذهب إليه هو مذهب أكثر النحويين، وقد وقع الخلاف فيها في أربعة مواضع:

أحدها: الهمز المكسور إذا وقع بعد ضمة، مثل أصبِع من أم، خالف فيه الأخف (فيقول على مذهبه أوِم. والثاني: الهمز المضموم إذا وقع بعد كسرة مثل إصبع من أم، خالف فيه الأخفش) أيضا فيقول: إيُم. فأما المسألة الأولى فإن للأخفش أن يحتج على صحة مذهبه فيها بأن الهمزة المضمومة إذا أبدلت بعدها المكسورة ياء فذلك مخالف للقياس، فإن الياء بعد الضمة مستثقل، لأنه جمع بين متنافرين، بخلاف ما إذا أبدلتها واوا فإنك وفقت بينها وبين ما قبلها فهو أخف من حيث التجانس، وإذا كان كذلك كان أتم في القياس. وأيضا فإن ياء مكسورة بعد ضمة لا يوجد له نظير في الكلام فكان غير سائغ أن يبدل إلى ما يؤدي لعدم النظير. وهذا قد يعارض بمثله، فإن القياس أن تبدل الهمزة إلى مجانس حركتها لا إلى مجانس حركة ما قبلها، ما لم يكن ثم مانع من ذلك، وليس ههنا مانع، فوجب أن يتبع فيه القياس. وأما الاستثقال فالقولان مشتركان فيه، وأيضا فإن واوا مكسورة بعد ضمة غير موجود أيضا في كلامهم، فوجب الإبدال إلى ما يؤدي لعدم النظير. فإن أجاب عن هذه المعارضة بأمر لزمه مثله في الطرف الآخر. وأما المسألة الثانية فقد يحتج للأخفش (فيها) أيضا بنحو مما تقدم، وهو محتج له به في الهمز المفرد، وهو أنه إنما لم يجز أن تقلب الثانية واوا إثر كسرة لأن ذلك لا نظير له؛ إذ ليس في الكلام واو مضمومة قبلها كسرة، وإذا

كان كذلك كان الأولى أن تقلب إلى ما له نظير في الكلام نحو بِيوت وشِيوخ، على لغة الكسر. وأيضا قد قلبت المتحركة إلى مجانس حركة ما قبلها في نحو أوم وإيم، إذ جعلوا الأولى واوا للضمة والثانية ياء للكسرة، ولم يعتبروا حركتها في نفسها، فكذلك تقول هنا بإيجاب القلب إلى مجانس حركة ما قبلها، وهذه الحجة أيضا جارية في القسم الأول. وللآخرين أن يجيبوا عن الأول بأن عدم النظير هنا غير معتبر؛ لأن محل الضمة هنا أصله السكون، والضمة منقولة له من الميم الأولى في إوُم، وإذا كان كذلك لم يعتد بذلك العارض، كما لا يعتد أيضا بعارض الضم بعد الكسر في بِيوت، لأن الكسر عارض لأجل الياء، والأصل ضم ياء بيوت وشين شيوخ، وهذا أيضا جار في جواب ما تقدم. وأما الثاني فإن الهمزة المفتوحة هناك أصلها السكون، والساكنة تبدل على حركة ما قبلها، وأيضا فإن مجانس حركتها هنا الألف، والألف لا يمكن أن تقع بعد كسرة ولا ضمة، ولذلك لم يجز تخفيف جُؤن ومئر ونحوهما بين الهمزة والألف، لأن الهمزة بين بين تشبه الألف، فاجتنبوا ذلك إلى إبدالها ياء أو واوا إبدالا محضا، بخلاف نحو إوم فإن مجانس الحركة هنا وهو الواو يمكن وقوعه بعد الكسرة، كما أن مجانس الكسرة فيما تقدم وهو الياء يمكن وقوعه بعد الضمة. ولذلك (أجاز) غيرُ الأخفش

تخفيف (يستهزئون) بين بين، إذ يمكن النطق به كذلك. والموضع الثالث (من) مواضع الخلاف أن المازني يرى (أن) الهمزة التي قلبت ياء للكسرة التي فيها إذا أزال التصغير أو التكسير تلك الكسرة فإن الياء تبقى على حالها ولا ترجع إلى الواو اعتبارا بما صارت إليه أولا. ومذهب (الناس) غيره - وأصله لأبي الحسن - ما تقدم من اعتبار كل حالة بنفسها، فالتكسير والتصغير يقلب فيهما ثاني الهمزين واوا، فتقول في تصغير أيمة: أويمة، كما تقول في آدم: أويدم، وتقول في تكسيره: أوام، كما تقول: أوادم، في آدم. والمازني يقول: أييمة وأيام، لأنها كانت قبل التصغير والتكسير ياء، وحجة المازني أن الياء قد ثبتت ياء بدلا من الهمزة فسبيلها أن تجري مجرى الياء التي لا حظ لها في الهمز، وهو ألف خالد، فوجب أن يقال: أييمة وأيام، لأن الياء في أييمة تجري مجرى التي لم تنقلب، كما جرت ألف آدم مجرى ألف خالد؛ إذ حقيقة البدل هنا تقتضي تناسي الأصل، إلا أن هذه الهمزة إذا لم يلزمها تحريك فبنيت من الأدمة مثل أبلم قلت: أودُم، ومثل إصبع قلت: إيدم، ومثل أفكل قلت: آدم، فاجعلها ألفا إذا انفتح ما قبلها وياء ساكنة إذا انكسر ما قبلها، وواوا ساكنة إذا انضم ما قبلها، فإذا احتجت إلى تحريكها في تكسير أو تصغير جعلت كل واحدة منهن على لفظها الذي قد بنيت عليه، فاترك الياء ياء، والواو واوا، واقلب الألف واوا، كما فعلت ذلك العرب في تصغير آدم

وتكسيره. قال: فهذا هو القياس عندي. قال ابن جني: وهذا القول ليس بمرضي من أبي عثمان؛ لأن الياء في أيمة إنما انقلبت عن الهمزة لانكسارها، فإذا زالت الكسرة زالت الياء التي وجبت عنها، كما أن الياء في ميزان لما وجب انقلابها عن الواو لانكسار ما قبلها زالت عند زوال الكسرة في قولهم: موازين وموزين، فإن قال: إن الياء في ميزان إذا فارقت هذا الموضع رجعت إلى الواو كموازين ومويزين بخلاف ألف آدم فإنها لا ترجع إلى الهمزة وإن زالت عن هذا الموضع، وإنما يقال: أوادم وأويدم، فما تنكر أن يكون البدل في أيمة أقوى منه في ميزان فلا تزول الياء وإن زالت الكسرة، قيل: هذا غير وارد؛ إذ لو جمعت آدم على فُعل أو فعلان لقلت: أدم وأدمان فرجعت الهمزة لزوال الأولى، كما رجعت الواو في موازين لما زالت الكسرة، وإنما لم ترد فاء الفعل في أوادم وأويدم إلى الهمزة لأنه كان يلزم ما منه هربوا وهو اجتماع همزتين لو قالواك أآدم، وأأيدم، فالعلة الموجبة للإبدال في الواحد موجودة في الجمع والتحقير، وميزان ليس كذلك، لأنك إذا جمعت أو حقرت زال موجب انقلاب الواو ياء، وهو انكسار ما قبلها، فقد وضح الفرق بينهما. فإن قيل: إذا كان القياس عند سيبويه في تحقير مثل قائم أن تقول: قويئم، بإقرار الهمزة مع زوال موجب قلبها همزة، وهو الألف في

قائم، ويحتج بأن الهمزة قوية بأنها عين، والعين أقوى من اللام، فما تنكر أن يكون البدل في أيمة لازما أيضا فتقر على حالها وإن زال موجب القلب ياء؛ لأن الفاء مثل العين في القوة، أو هي أقوى منها لبعدها عن اللام. قيل: إن سيبويه شبه ياء التحقير بألف التكسير، فجرت الياء (في) قويئم مجرى الألف في قوائم، كما أجروا أسيود في التصحيح مجرى أساود، لتشبيههم ياء التحقير بألف التكسير، (فلما كان بين ياء التحقير وألف التكسير هذا الاشتباه أقر سيبويه الهمزة في قويئم مع ما انضم إلى ذلك من قوة العين، وأما الياء في أيمة فليست كذلك، لأنها إنما (عن الكسرة وجبت كما وجبت) ياء ميزان عن الكسرة، فلما زالت الكسرة زالت الياء، وأنت إذا حقرت فقلت: أويمة، فقد أزلت الكسرة فلم يكن في موضعها ما يجري مجراها فتقر الياء، كما شبهت ياء التحقير بألف التكسير)، فأقررت الهمزة، وإنما قبلها في أويمة ضمة، والضمة إنما تجب عنها الواو لا الياء، وأيضا لو جاز لقائل أن يقول: لا أزيل الياء في أيمة إذا زالت الكسرة لجاز لآخر أن يقول: لا أرد الواو في ميزان إذا زالت الكسرة بتحقير أو تكسير، وهذا لا يقوله أحد، وقد ألزم المازني أن يقول في جمع آدم: أيادم فيقر الياء ولا يقلبها، لأنها قد ثبتت ياء في الماضي وهو ايدم، لأن آدم اسم فاعل من ايدم كاحمر فهو أحمر، فكما يقول في جمع فعلل من بعت بياعع، كذلك يلزمه أن يقول في جمع آدم: أيادم وفي التصغير: أييدم، وهذا فاسد باتفاق منا ومنه، فكذلك ما أدى إليه.

وقول الناظم: (مطلقا جا) أصله: جاء، ولكنه حذف الآخر، إذ من العرب من يقول: جا يجي، ولكنها قليلة. والموضع الرابع من المواضع المختلف فيها قد أشار إليه الناظم في الجملة في المسألة التي ذكر إثر هذا، وهو قول: (وأوَم ونحوه وجهين في ثانيه أم) هكذا رأيته في النسخ (أوَم) بفتح الهمزة والواو معا على وزن أعم، وعليه استمر الشرح، وإن كان فيه على مذهب الخليل عيب السناد، وهو اختلاف حركة ما قبل الروي المقيد، وليس بعيب عند غيره لشهرة وروده في كلام العرب. ومعنى (أم) اقصد، أم الشيء يؤمه: أي قصده، ووجهين: مفعول به، أي اقصد في ثاني أوم وجهين، وثاني أوم لفظا الواو، وأصله: أأمم، فثانيه على الأصل الهمزة الثانية، وهذا هو الذي قصد، فيعني أن الهمزة الثانية من هذا البناء ونحوه لك في إبدالها وجهان، والوجهان المذكوران متعينان مما تقدم، لأنه ذكر الإبدال واوا (والإبدال ياء، وجعل لكل واحد منهما موضعا معينا. ثم ذكر هنا وجهين، فدل على أنهما ذلك الوجهان، وهما الإبدال واوا) أو ياء، فيجوز لك أن تقول: أوم، كما ذكر بالواو، ويجوز أن تقول: أيم، بالياء وذلك أن هذا المثال المذكور مبني من أم على زنة (أفعل) فكان الأصل: أأمم، فكرهوا إظهار التضعيف، فنقلت فتحة الميم إلى الهمزة ثم أدغمت في الميم

الثانية فصار في التقدير: أأمّ، مثل ععم، فوجب إبدال الهمزة واوا أو ياء وكذلك ما كان نحوه فإذا بنيت من أن أو من أز، أو من أل، أو شبه ذلك من المضاعف العين واللام فحكمه ذلك الحكم. فإن شئت قلت: أونّ وأوزّ وأولّ، وإن شئت قلت: أين وأيز وأيل، فهما عند الناظم جائزان، وهما قولان للأخفش والمازني، فالأخفش يلتزم الإبدال واوا، والمازني يلتزم الإبدال ياء، ويتفقان فيما إذا لم يبن من المضاعف، فإذا بنيت أفعل من الأكل أو الأخذ أو الإباق أو نحوها قلت: هذا آكل من هذا وآخذ منه وآبق منه، وكذلك إن بنيت منه مثل إصبع أو أبلم لقلت: إيكل وأوكل، وكذلك الباقي، فلا خلاف بينهم في هذا النحو، وأما ما اختلفوا فيه فوجههأنه لما صار إلى آمم فلك هنا إعلالان لا بد من اجتماعهما، فإذا قدرت إبدال الهمزة أولا صار آمم، وإذا صار كذلك ساوى آدم وشبهه مما ليس بمضاعف، فإن أردت أن تدغم نقلت الحركة إلى الهمزة المبدلة، إذ لا بد من التحريك فيها لأجل الإدغام، فحركت على نحو ما حركت همزة آدم إذا قلت: أوادم وأويدم، لأجل الشبهة بينهما وبين الألف الزائدة في نحو: خالد وقاسم إذا قلت: خوالد وخويلد، وقواسم وقويسم، وإلى هذا العمل يئول قول الأخفش. وإذا قدرت الإدغام بعد نقل الحركة أولا صار أأم، فأبدلت الثانية ياء لأنها أقرب إلى الألف من الواو، ولا أبدلها واوا لذلك وإلى هذا ينظر المازني فيما ذهب إليه. وأيضا يقول المازني: إذا قدرت

الإبدال أولا فقلت: آمم، لزمك إذا أدغمت ألا تحرك شيئا من حيث صارت الهمزة ألفا، والألف عندكم كالألف الزائدة، فيجب الإدغام من غير تحريك، إذ المد في الألف قائم مقام الحركة فكنت تقول: آمّ، كما تقول: هذه شجة آمة، وهي فاعلة من أممت، فأن لم يقولوا في أفعل: آم، دليل واضح على أنهم لم يقبلوا الألف مع التضعيف (كما قلبوها في غير التضعيف) نحو آدم وآخر، فيقول الأخفش مجيبا عن هذا: إن الألف المبدلة من فاء أفعل ليست ألفا زائدة على الحقيقة، وإنما هي بدل من همزة هي فاءُ أفعل، فلولا أن الهمزة قبلها لظهرت، وليست كذلك ألف خالد، لأنها غير منقلبة عن شيء، وإنما هي زائدة، فلذلك لما بنيت من أممت فاعلة قلت: آمة، ولم تحرك الألف بحركة الميم المدغمة لأنها لا حظ لها في الحركة، ولما كان امتداد الصوت نائبا عن الحركة احتملت أن يقع بعدها الساكن، بخلاف ما إذا بنيت أفعل منك من أممت قلت: هذا آمم من هذا، ثم أدغمت، جاز أن تلقى حركة الميم على الهمزة المبدلة، لأنها بدل من فاء الفعل، ولها أصل في الحركة، فإذا تحركت أبدلت (إبدال) ألف آدم لما قلت: أوادم كما تقدم. فإن قيل: إنك عاملت ألف آدم معاملة ألف خالد وأجريتها في الحكم عليها وعاملتها معاملة ما لا أصل له في الحركة، ثم إنك انتقلت الآن إلى زعم أن ليست كذلك حين عاملتها معاملة أصلها، فهي إذا ليست كألف خالد، لكنك أثبت ذلك، فهذا تناقض ظاهر، وهذه حجة للمازني.

فالجواب: أن للأخفش أن يجيب عن هذا بأن ألف آدم ونحوه وإن أشبهت ألف خالد فجرت مجراها في بعض الأشياء، فلا يمكن أن تجري مجراها في جميع الأشياء، ألا ترى أنه لا يمكننا أن نقضي بزيادة ألف آدم كما نقضي بزيادة ألف خالد، (وكما لا يمكننا أن نقضي بانقلاب) (ألف خالد كما نقضي بانقلابها من آدم) (فقد يشبه الشيء الشيء من وجه ويخالفه) من وجه آخر، فيحكم له بالحكمين على وجه يمكن فيه الجمع بينهما كهذه القضية، فلهذا إذا اضطررنا إلى تحريك هذه الفاء بإلقاء حركة المدغم بعدها (عليها) جاز، لأنها في الجملة قابلة للحركة فقدرنا على تحريكها بخلاف ألف آمة -فاعلة من أم- فإنه لا يجوز لعدم قبولها للحركة فاكتفينا بمدها عن الحركة حيث لم يقدر على غير ذلك. هذه جملة من الاحتجاج للفريقين أكثرها لابن جني، وهي دلائل تتكافأ أو تكاد، فلأجل هذا التكافؤ الذي اعتبره الناظم اطرح نقل الخلاف، وارتضى كل واحد من القياسين واعتبره، إذ لم يترجح (له) واحد منهما على الآخر، وهذه الطريقة جارية على طريقة من يقول (من أهل الأصول): إذا تكافأت

الدلائل الظنية أعملت، فصا مقتضى كل واحد منهما مخيرا فيه، والمسألة مقررة في الأصول. وهذا الذي ذهب إليه الناظم مذهب من المذاهب المقررة فيها. ثم قوله: (ونحوه) يحتمل وجهين أحدهما: أن يريد ما كان على صفته من لاتضعيف في العين واللام ووزنه المخصوص الذي هو أفعل ولا زيادة على ذلك، وهي طريقته في نقل الخلاف في التسهيل، إذ قال لما قرر أوجه التسهيل: (خلافا للأخفش في كذا، وللمازني في استصحاب الياء المبدلة منها لكسرة أزالها التصغير أو التكسير، وفي إبدال الياء منها فاء لأفعل)، فقيد ذلك بأفعل وحده دون أفعُل وإفعُل وأفعُل، ونحو ذلك، وهو نقل ابن عصفور عن مذهب المازني، وإياه اتبع المؤلف. ويحتمل أن يريد ما كان على منهاجه وطريقته من كونه مضاعف العين واللام مبنيا مما أوله همزة على مثال المزيد أوله همزة، فيدخل في ذلك بناؤك من أم مثل أبلم فتقول: أيم، أو مثل أصبع فتقول: أيم، أو مثل إصبع فتقول: إيم، أو مثل أحمر فتقول: أيم، أو مثل أصبع فتقول: أيم، أو مثل إصبع فتقول: إيم، وهذا يتعاقبان فيه، وكذلك فيما إذا انكسرت الهمزة المبدلة، فقد يمكن أن يكون المازني مخالفا في هذا كله، وقد قال ابن الضائع في الهمزة الثانية إذا كانت متحركة: إن مذهب المازني قلبها ياء أبدا، أما المكسورة فمن أجل حركتها، وأما المفتوحة فلما تعذرت الألف قلبت ياء؛ لأنها أقرب إلى الألف، وأما المضمومة فلاستثقال الضمة على الواو

مع غلبة الياء على هذه الهمزة. هذا ما قال، وهو نص فيما ذكرته، ولعل كلام المازني في تصريفه يرشد إلى هذا فتأمله، والمذهب الأول قد يظهر منه أيضا، وعلى كلتا الطريقتين فأفعل الذي أراده يحتمل أن يدخل له فيه ما كان اسما وما كان فعلا، نحو بنائك من أم مثل أكرم، فتقول على طريقة الأخفش: أوم، وعلى طريقة المازني: أيم، وهذا ظاهر وعلى الناظم بعد (ذلك) سؤالان: أحدهما: أن الهمزتين قد تجتمعان ولا يجب فيهما إبدال، وذلك إذا كانت إحداهما حرف مضارعة والهمزة الثانية متحركة، فتقول: أوم وأئن وأؤم وأؤدي وأؤكد، وما كان نحو ذلك، فيجوز هنا التحقيق والتسهيل (بين بين، وليس الإبدال المحض بواجب بنصه في كتابه التسهيل) حيث استثنى هذا الموضع من وجوب الإبدال، فقال: (فإن تحركتا والأولى لغير المضارعة أبدلت الثانية ياء إن انكسرت) إلى آخره، فإذا كان كذلك كان من الواجب أن يستثنى ذلك هنا، لكنه لم يفعل، فلزمه، فلزمه الدرك. والثاني: أنه دخل له في هذا الحكم المجعم الهمزتان إذا كانتا عينين نحو: سأل ورأس ورأم، وما أشبهها مما الحكم فيه عدم الإبدال، وذلك أن العين المضاعفة إذا كانت همزة تترك على حالها ولا يجب إبدال أحدهما، بل يبقيان على ما كانتا عليه، بخلاف ما إذا ضعفت اللام فإن الثانية تبدل ياء، فإذا بنيت من قرأ مثل قمطر قلت: قرأي، وهذا بين

وإذا بنيت منه مثل معد قلت: قرأي، وإن كان الدالان مضاعفين بخلاف ما إذا بنيت فعالا من: سأل أو رأس، فإنك تقول: سآل ورآس، وكذلك إذا بنيت منه مثل قطَّع قلت: سأَّل ورأَّس، وكذلك مضارعه، قال الطرماح: من كل ذاقنة يعوم زمامها ... عوم الخشاش على الصفا يترأَّد وكذلك اسم فاعله ومفعوله والأمر منه ما لم يكن تضعيف لام فإنه لا يقر، كذلك قال المازني حين بين حكم اللام في تضعيف الهمزة فيه: (وسألت أبا الحسن -وهو الذي بدأ بهذه المقالة- يعني أنه أول من ادعى أنه تقول: قرأي في أنه معد من قرأ- فقلت له: ما بال الهمزة الأولى إذا كان أصلها السكون لا تكون مثل همزة سأل ورأس؟ فقال: من قبل أن العين لا تجيء أبدا إلا وبعدها مثلها، واللام قد تجيء بعدها لام ليست من لفظها، ألا ترى أن قمطرا وهدملة وسبطرا قد جاءت اللامان مختلفتين، وكذلك جميع الأربعة والخمسة، والعينان لا تكونان كذلك، فلذلك فرقت بينهما. قال المازني: والقول عندي كما قال. ومعنى كلام الأخفش أنه لما اعتبر اللام فوجدها قد تكرر من غير لفظ اللام ووجد العين لا تكرر إلا من لفظ العين نحو طاء قطَّع ولام سلَّم، ووجد

اللامين قد تختلفان في نحو هِدَمْلة وبابها، وكان اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة مكروها عنده قال في قمطر من قرأت: قرأي، أصله قرأ، فقلبت الثانية ياء، وكان القلب إلى الياء لأنها أغلب على اللام لأنها رابعة، ولولا أنه لا يوجد في كلامهم عينان بلفظين مختلفين لقيل في سأل ونحوه: سأيال ورأياس، أو سأوال ورأواس، بقلب الثانية، ولكن هذا غير موجود في كلامهم، فأقرت العينان بلفظ واحد، وقلبت الثانية من قرأي كما قلبت في جاءٍ ونحوه. هذا ما قالوه وهو صحيح في النظر. وقد نبه على هذا في التسهيل فقال: (فإن سكنت الأولى أبدلت الثانية ياء إن كانت موضع اللام، وإلا صححت) فكلامه هنا يقتضي أن تبدل في سأل ونحوه الثانية ياء أو واوا، وذلك لا يكون. والجواب عن الأول أن نقول: إن الناظم قد التزم الإبدال مطلقا على ما يظهر من كلامه، أما إذا كان ما بعدها همزة المضارعة من الهمز ساكنا فلا خلاف في الإبدال نحو: أومن وأوتي، وما أشبه ذلك. وأما إن كان متحركا فكذلك أيضا لا بد من الإبدال، وقد نص ابن جني على منع إقراره بعد همزة المضارعة، ولم يحك فيه خلافا، قال شيخنا القاضي -رحمه الله تعالى-: وقد يقوي مذهبه التزام الحذف في أكرم وأعلن وما أشبه ذلك، فلولا [؟ فلو] كان اجتماع الهمزتين جائزا لم يحذفوه، فإذًا لا إشكال عليه، ويكون هنا مخالفا لمذهبه في التسهيل، وكم من مسألة فعل فيها هكذا كما مضى بيانه.

والجواب عن الثاني: أن ما ذكر من سأل ونحوه لا يدخل له تحت ما ذكر حكمه، وذلك أنه إنما تكلم في الساكنة بعد المتحركة، أو في المتحركة بعد المتحركة، ألا تراه قال: (إن يفتح اثر ضم او فتح قلب)، وقال: (وياء إثر كسر ينقلب) ثم قال (ذو الكسر مطلقا) وأراد بالإطلاق بأي حركة تحرك ما قبلها كما تقدم. ثم قال (وأوم ونحوه) حكمه كذا، فلم يتكلم إلا في ساكنة بعد متحركة أو متحركتين، فلم يدخل له غير ذلك إلا حين استثنى كون الهمز أتم لفظا، وهو استثناء من جميع ما ذكر ومن غيره، فدخل له مثل معد ونحوه من قرأ، وبقي سأل ونحوه لم يدخل له في واحد من تلك الأقسام، وإذا كان كذلك ثبت له من مفهوم تلك التقييدات وتلك الأوصاف خروجه عن حكم الإبدال رأسا، وذلك ثلاثة أقسام إذا كانت مختصة بالعين، وهي المفتوحة والمضمومة والمكسورة بعد الساكنة. فقد حصر تحت قاعدته جميع الأقسام الستة عشر، وحكم على كل واحد بما يليق به إلا الساكنة بعد الساكنة فإن ذلك لا يجتمع، ولم ينبه عليه لبيانه، وهذا حسن من التقرير وبديع من الاختصار. وهذا التفسير إنما هو على أن قوله: (وأوم) ليس بفعل مضارع كما وقع في نسخ من هذه الأرجوزة، والذي شرح عليه ابن الناظم أنه (أوُم) بضم الواو على وزن (أعُمّ)، فإن ثبت كذلك فيريد أن ما كانت الهمزة الأولى فيه للمضارعة ففي همزته الثانية وجهان، أحدهما الإبدال كما

تقدم، والثاني البقاء على الأصل من التحقيق اعتبارا بتقدير انفصال الأولى، لأنها حرف جاءت لمعنى المضارعة، فليست مع الثانية إلا كالكلمة الأخرى كهمزة الاستفهام ونحوها، فتقول: أؤم وأوُم، ويكون هذا المذهب موافقا لما في التسهيل حيث لم يستثن من وجوب الإبدال ما كانت الهمزة الأولى فيه للمضارعة، وغير موافق للنحويين حيث سووا بين ذلك كما تقدم ذكره. ومعنى قوله (ونحوه) أي ما كان شبه هذا مما الهمزة فيه للمضارعة، نحو أئِنّ وأئطّ، وكذلك المضارع من ألِلَ السقاء إذا قلت (أئلّ) وما أشبه ذلك يجوز لك فيه الإبدال والبقاء على الأصل ما زعم ابنه من أن بعض العرب يحققون الهمزتين هنا. والضبط الأول -إن ثبت- أولى لصواب منحاه، وعموم الفائدة فيه وموافقته لغيره من النحويين. وياءً اقلب ألفا كسرا تلا ... أو ياء تصغير، بواوٍ ذا افعلا في آخر أو قبل تا التأنيث أو ... زيادتي فعلان ذا أيضا رأوا في مصدر المعتل عينا والفعل ... منه صحيح غالبا نحو الحول أخذ الناظم -رحمه الله - في الكلام على ما تبدل منه الياء، وهو الثاني من حروف البدل، وذكر هنا من الحروف التي تبدل منها حرفين: الألف

والواو، وقد ذكر ابن جني أن الياء تبدل من ثمانية عشر حرفا، ولكن القياس من ذلك كله بدلها من الألف ومن الواو ومن الهمزة، فقد ذكر إبدالها من الهمزة فبقي الحرفان، فأما ما عدا ذلك فإن إبدال الياء منه محفوظ، ولا بأس بذكر شيء منه ليتبين به صحة ما قصد الناظم ذكره وما قصد تركه، فتبدل من الهاء في دهديت الحجر، أصله دهدهت، قال أبو النجم: كأن صوت جرعها المستعجل ... جندلة دهديتها بجندل وصهصيت بالرجل قلت له: صه صه، ومن السين قول الشاعر: إذا ما عد أربعة فسالٌ ... فزوجك خامس وأبوك سادي وقال الآخر: عمرو وكعب وعبد الله بينهما ... وابناهما خمسة والحارث السادي

وأبيات أخر، ومن الياء نحو ديباج، أصله دبَّاج، بدليل قولهم: دبابيج، وقال ابن جني: أخبرني أبو علي أن أبا العباس أحمد بن يحيى حكى عنهم: لا وربْيِك لا أفعل، أي لا وربك. وأنشد سيبويه: لها أشارير من لحم تتمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها قال: أراد الثعالب والأرانب فلم يمكنه أن يسكن الباء فأبدل منها حرفا يسكن في موضع الجر. ومن الراء في قولهم: قيراط، أصله قِرَّاط بدليل قولهم: قراريط، وكذلك شيراز، أصله شراز، لقولهم: شراريز. وقالوا: تسريت: اتخذت سرية، والسرية فعلية من السر، لأن صاحبها أبدا يخفيها عن زوجه وصاحبة منزله، أو من السر بمعنى الجماع، لأنها متخذة له دون الخدمة، وباقي ذلك ذكره ابن جني وغيره، هذا ما حكوا من الإبدال غير القياسي. ولنرجع إلى ما ذكره، فأما الألف فذكر أنها تقلب ياء لسببين:

أحدهما: وقوع الألف تالية: أي تابعة للكسر، وذلك قوله: (وياء اقلب ألفا كسرا تلا)، فياء: مفعول ثان لاقلب، وألفا: هو المفعول الأول، وكسرا: مفعول بتلا. وضمير (تلا) للألف، والجملة في موضع الصفة لألف، يعني أن الألف إذا وقع قبلها كسر فإن تلك الألف تقلب ياء لأجل الكسرة التي قبلها، لأن الألف لا تثبت بعد الكسرة لأنها مدة فلا تأتي إلا بعد ما هي مدة له من الحركات، وهي الفتحة، فتقول في مفتاح: مفاتيح، وفي شملال: شماليل، وفي خلخال: خلاخيل، وما أشبه ذلك، وكذلك في التصغير إذا لت: مفيليح، وشميليل، وخليخيل. والثاني: وقوعها بعد ياء التصغير، وذلك قوله: (أو ياء تصغير) وهو منصوب عطفا على (كسرا) كأنه قال: أو تلا الألف ياء تصغير، يعني أن الألف إذا وقعت بعد الياء المسوقة للتصغير فإنها لا تقر على ما هي عليه وإن لم يقع قبلها كسرة، لأن ياء التصغير إذا وقع بعدها حرف غير حرف الإعراب فلا بد من كسرة لتقوم به بنية فعيعل، والألف لا تقبل الكسرة، فلا بد من قلبها ياء لذلك فقالوا في كتاب: كتيب، وفي حساب: حسيب، وفي عناق عنيق، وفي دخان دخين، وما أشبه ذلك. والألف هنا لا بد أن تكون زائدة كما تقدم في المثل، فإن كانت أصلية أو منقلب عن أصل فصارت بعد ذلك ياء أو واوا فأصلها هو الذي ثبت فيه ذلك الحكم، فانقاد واختار إذا بني للمفعول فعيل [؟ فقيل]: اختير وانقيد، ليست ياؤه بدلا من الألف، بل هي الياء الأصلية في اختار، والمنقلبة عن الواو في انقاد.

وأما الواو فقال فيها (بواو ذا افعلا) أراد: وبواو، فحذف العاطف على عادته، وذا: إشارة إلى الحكم المتقدم وهو القلب ياء، وألف (افعلا) مبدلة من نون التأكيد الخفيفة، يعني أن الواو أيضا تبدل ياء في المواضع التي ذكر، لكنه لم يذكر هنا العلة التي لأجلها تنقلب الواو ياء، لأنه أحال على ما تقدم من العلتين، وهما أن تكون تالية للكسر أو لياء التصغير فلا بد أن يجري على هذا الترتيب ما لم ينسخه بغيره. فمن المواضع التي عينها أن تقع الواو آخرا، وذلك قوله (في آخر) أي في آخر الكلمة، ومعنى كونها آخرا أن يقع عليها الإعراب بحيث لا يكون بعدها غيرها، لا أنه يريد أن تقع لاما للكلمة، لأنه يذكر إثر هذا قسيما له ما فيه تاء التأنيث أو زيادتا فعلان، فدل على أنه يريد الآخر المجرد عن الزوائد بحيث يقع عليه الإعراب، فإذا كانت الواو كذلك انقلبت ياء سواء أكانت زائدة أم أصلية، لا فرق هنا بينهما، بخلاف الألف، إذ لا يمكن ذلك في الألف ويمكن ههنا. فأما انقلابها لوقوع الكسرة قبلها فنحو رضي، أصله الواو لأنه من الرضوان، ودعي وغزي لأنه من دعوت وغزوت، وكذلك داع وغاز وتال من تلوت، وما أشبه ذلك. وأما انقلابها لوقوع ياء التصغير قبلها فنحو غَزْو ودلو، فإنك تقول: دُلَيّ، وغُزَيّ، وفي واو: أوي، وشبه ذلك إلا أن هذه الحالة فيها نظر، وهو

أن قلب الواو ياء لوقوع ياء التصغير قبلها في هذا راجع إلى قاعدة أخرى سيذكرها، وهو اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون، لا من جهة كونها ياء تصغير، ألا ترى أنها لو لم تكن بياء تصغير لكان الحكم القلب ياء أيضا كقولك: سيد وميت وهين، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، فإذًا لا أثر لياء التصغير في هذا، وأيضا ليس هذا مخصوصا بالآخر ولا بما يليه تاء التأنيث أو الألف والنون، بل قد يكون فيما كان من الواوات حشوا كالمثل المذكورة، ولا يقال: إن الأمر وإن كان كذلك فهو مما تشمله القاعدتان ما ذكره هنا وما ذكره هنا، ولا يلقى في هذا محذور. لأنا نقول: قد ظهر أن ياء التصغير هنا لا أثر لها لكون ما عداها من الياءات حكمها هذا الحكم، وأيضا فإن خصصنا ياء التصغير بهذا الحكم أوهم مفهوما لا يصح، وهو أن غير ياء التصغير ليس له هذا الحكم، وأيضا فإن مشى هذا الاعتذار في ثلاثة المواضع المذكورة هنا وهي الآخر وما قبل تاء التأنيث والألف والنون لم يجز له فيما يأتي بعد ذلك، فالحاصل أن الناظم كان الواجب عليه أن يعن لهذه الأحكام السبب الواحد، وهو الكسر، وكذلك فعل في التسهيل إذ قال: (تبدل الألف ياء لوعها [؟ لوقوعها] إثر كسرة أو ياء تصغير)، ثم قال: (وكذلك الواو الواقعة إثر كسرة)، فخص ذلك بالكسرة لأن ياء التصغير إنما تكون سببا في قلب الألف فقط.

وفي ذكره وقوع الكسرة قبل الواو ما يشير إلى المباشرة، والحكم كذلك، فإن وقع بين الواو والكسرة فاصل لم يجب ذلك الحكم، ولا تنقلب الواو ياء إلا في الشاذ، وذلك إذا حال بينهما حرف ساكن لضعف الساكن أن يكون فاصلا معتدا به، كقولهم: ناقة بِلْي سفر، وبلو سفر، من بلوت، وأرض عِذْي وطعام عذي، وقالوا في جمع عذاة: عذوات. ومما شذ في الموضع الثاني قولهم: صبية وقنية، وعلية وقدية بمعنى قدوة وحذية من حذوت. ومما شذ في الموضع الثالث قولهم: صبيان، أصله الواو من الصبوة. وهذا كله يحفظ ولا يقاس عليه. ومن المواضع التي عيَّنها أن تقع الواو قبل تاء التأنيث، فهنالك أيضا تؤثر الكسرة فتقول: غازية، وداعية، ومحنية. وكذلك إذا صغرت قرنوة ومعلوة، وقلنسوة -على حذف النون- فإنك تقول: قرينية، ومعيلية، وقليسية، وما أشبه ذلك، وذلك قوله (أو قبل تا التأنيث) وهو

معطوف على قوله (في آخر) أي افعل هذا في آخر أو في هذا المحل الآخر، وهذا الذي ذكر هو الحكم العام، وقد شذ عن هذه القاعدة ألفاظ مسموعة نحو: مقاتوة، وسواوسة، وأقروة. ومنها أن تقع الواو قبل زيادتي فعلان، وزيادتا فعلان هما الألف والنون، فكأنه قال: أو قبل الألف والنون الزائدتين. وقوله: (زيادتي فعلان) مخفوض عطفا على (تا التأنيث)، ويعني أن الواو أيضا تقلب ياء إذا وقعت إثر كسرة قبل الألف والنون المزيدتين، ولا يريد خصوص هذا الوزن بعينه، إذ لا كسرة فيه، ولا الحكم أيضا مختصا بنحوه، فتقول في فَعِلان من الغزو: غزيان، ومن العلو: عليان، ومن القوة أو الحوة: قويان وحويان، وما أشبه ذلك. وفعلوان إذا صغرته فقلت: فعيليان نحو عنيظيان في عنظوان وعنيفيان في عنفوان، وكذلك تقول: العنظيان وأصله الواو، لغة في العنظوان، فليس فعلان في كلام مقصودا، وإنما مراده ما آخره ألف ونون زائدتان، ولذلك قال: زيادتا فعلان، فلم يخص الوزن وإنما خص آخره فقط. لكن الكسر محمول على إطلاقه من كونه ظاهرًا أو

مقدر الظهور، فقد نصوا على أن المسكن من الكسر تخفيفا حكمه حكم مالو (لم) يسكن، فتقول في فلان من الغزو إذا سكن: غزيان، ومن القوة: قويان، ومن الحوة: حويان، وكذلك ما كان نحوه، وعلى هذا يجري حكم ما تقدم من المواضع، فإذا قلت: غزى، فأسكنت الزاي من غزى بقيت الياء كما كانت، وكذلك رضي، إذا قلت فيه: رضي. ومن ذلك قول الراجز، أنشده ابن جني: تهزأ مني أخت آل طيسله ... قالت: أراده آبقا قد دنى له وهو من الدنو، أصله دنى، فأقر الياء على حالها. وعلى هذا تقول في فعلة من القرو أو الدحو: دحية وغزية، فتقلب للكسرة فإذا سكنت تخفيفا قلت: دحية وغزية، الأمر في هذا كله واحد. وفي هذه المواضع نظر من وجهين: أحدهما أنه قيد الواو في بعضها بكونه آخرا، أو قبل تاء التأنيث، أو قبل زيادتي فعلان. وهذا التقييد الذي ذكر مفيد بمفهومه أن الواو إذا وقعت حشوا والكسرة قبلها فليس لها هذا الحكم ولا تبدل فيه الواو، فاستدرك من ذلك الحكم حكم المصدر المعتل عينا، وجمع المعتل العين، وجمع المسكن العين،

وفعلة جمعا، وفعل جمعا، فاقتضى (أن) ما عدا ذلك على الأصل يجري من غير إبدال. وذلك غير صحيح؛ فإن ثم مواضع يجب فيه إبدال الياء من الواو، فمن ذلك كل واو ساكنة قبلها كسرة فاء كانت أو عينا، فالفاء نحو: ميقات، من الوقت، وميعاد من الوعد، وميزان من الوزن، ورجل ميفاء من الوفاء، وميلاد من الولادة. أصل ذلك كله موقات، وموعاد، وموزان، وموفاء، ومولاد، فاستثقلت الواو إثر الكسرة فقلبت إلى حرف مناسب للكسرة، وذلك الياء. والعين/ نحو ديمة من الدوام، وقيمة من القوام، وحيلة من الحول، وثيرة- مسكن الياء- جمع ثور، قال الأعشى: فظل يأكل منها وهي راتعة ... صدر النهار يراعى ثيرة رتعا وكذلك ما أشبهه وهو، كله يجب فيه الإبدال ما لم تكن الواو مضاعفة مدغمة في ضعفها فإن القلب لا يكون إلا شاذا، وذلك نحو اعلواط واجلواذ. وكذلك إن بنيت من القول مثل فعل فإنك تقول: قول وقوال، وذلك لقوتها في المضاعف، فصارت كالمتحركة، والذي شذ من ذلك ديوان، أصله دوان، واجليواذا أصله اجلواذ، فهذا مما فات الناظم الكلام عليه، وهي من المسائل المشهورات الضرورية، مع أن كلامه (وتقييده) يوهم خلاف الحكم فيها.

والجواب أن يقال: هذه المسألة غير مبنية عليها هنا رأسا، ولعله اكتفى عن ذكرها هنا بذكرها في التصغير إشارة لا تقريرا، فإنه كثيرا ما يتكل على الإشارة في هذه النظم وقد قال في التصغير: واردد لأصل ثانيا لينا قلب ... فقيمة صير قويمة تصب وقد تقدم بيانه على الجملة: ففيه أنه أتى بالمثال الذي هو قيمة، وقد حصل فيه القلب لما ذكر هنا من الكسر لكن مع زيادة، وهو سكون ذلك اللين. وإنما تكلم هنا على اللين المحرك، والمحرك أقوى من الساكن فلذلك كان ما عدا الساكن مشروط الإعلام بما يضعف قوته من تطرف، أو إعلال في الأصل، أو غير ذلك، بخلاف الساكن. الذي يؤنس باتكاله على ما تقدم أنه بنى عليه هنا مسألة في هذا الإعلال، وذلك قوله: وجمع ذي عين أعل أو سكن ... فاحكم بذا الإعلام فيه حيث عن فإن من البعيد أن يذكر الإعلال الذي من جملته قلب الساكن للكسرة قبله كديمة وقيمة ولا يذكر أصل ذلك الإعلال البتة، فيكون إحالة على مالا يعلم من كتابه، إذ ليس هذا من شأن التعليم، فإذا الإحالة لا تكون إلا على معلوم عنده في هذا النظم، وليس إلا ما تقدم (له) هنالك. وإلا فعله سقط له (من) هنا بيت كان فيه تقرير ذلك الحكم، كما لو قال مثلا بعد قوله:

وصححوا فعلة وفي فعل إلى آخره: كذلك واو سكنت وأفردت ... تقديرا آو لفظا كنحو ايتعدت لم يبق عليه إشكال، ولا ورد عليه سؤال. والوجه الثاني: أنه خص هذا الحكم بما تجرد آخره أو لابس تاء التأنيث أو زيادتي فلان، وكذلك فعل في التسهيل. وليس مقصورا على ذلك فقط، بل يجري فيما إذا كانت الواو المكسور ما قبلها قبل ألفي التأنيث، إذ هي عندهم في الزيادة في الآخر تجري مجرى الألف والنون في كثير من المواضع، ولذلك يجعل سيبويه منع الصرف في فعلان للشبه بألفي حمراء. وقد مر لذلك بيان في باب مالا ينصرف، وإذا كان كذلك فاقتصار الناظم على ما ذكر دون أن يذكر ما يجري الألف والنون. قصور وإيهام أن الحكم مخالف، وليس كذلك. فلو بنيت من الغزو مثل قرفصاء لقلت: غزوياء، أو من العدو لقلت: عدوياء، أصلها غزوواء، وعدوواء، فقبلت الواو ياء للكسرة قبلها، والمقوي للقلب في هذه المواضع كلها إنما وقوعها في موضع اللام، ولام الكلمة ضعيفة يسبقها الإعلال، فلذلك لم يؤثر تحريكها تصحيحا كما لو وقعت حشوا،

كما سيأتي بحول الله تعالى. وهو هنا أعذر منه في التسهيل لبعد ما بين المقصدين في الاقتصار والاستيفاء، فكان أولى به أن يذكر ألفي التأنيث فيما ذكره. وقد يجاب (عنه) هنا بما هو شأنه من قصد عدم الاستيفاء، والاقتصار على بعض المهمات دون بعض. ثم قال: "ذا أيضا رأوا، في مصدر المعتل عينا". وهذا أيضا من المواضع التي تقلب فيها الواو ياء للكسرة قبلها، وهو رابع المواضع. ذا: إشارة إلى الحكم المذكور من قلب الواو ياء للكسرة قبلها؛ إذ العلة هنا لابد منها وإن لم يذكرها اتكالا على تقدمها ذكرا، فيحمل كلامه على اعتبارها، وبذلك تقديره كما تقدم قبيل هذا. والضمير في "رأوا" راجع إلى العرب، لأن القلب ههنا مسموع ليس من القياس الذي رآه النحويون رأيا قياسا على المسموع كمسألة فعلان المذكورة ونحوها. وقد يمكن رجوعه إلى النحويين اعتبارا بأنهم رأوه قياسا مطردا. وقوله: "في مصدر المعتل"، (متعلق) برأوا. و "عينا": تمييز منقول من الفاعل، و"المعتل عينا" صفة لموصوف محذوف تقديره: في مصدر الفعل المعتل عينه، يعني أن مصدر الفعل المعتل العين حكمه في قلب الواو فيه ياء للكسرة قبلها حكم ما تقدم. هذا إن كان كما قال مصدر فعل معتل العين، واعتلال العين هنا معناه كون الفعل قد دخله في عينه قلب أو إبدال، ولا يريد ما كان له عين هو حرف من حروف العلة مطلقا وإن لم يقع فيه قلب أو إبدال. بل ما دخله

الإعلال، وذلك نحو: قام قياما، أصله: قواما، لأنه من قام يقوم، وكذلك: صام صياما، وعاذ عياذا، ولاذ لياذا، وحالت الناقة حيالا، وكذلك تقول: انقاد انقيادا، واختار اختيارا، واقتاد اقتيادا، وما أشبه ذلك. وإنما قلبوا الواو هنا- وإن كانت متحركة- لضعفها من جهة أخرى وهي كونها قد اعتلت في الفعل، إذ قالوا: قام وصام، أصله: قوم وصوم، فأنقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فحملوا المصدر على الفعل معتلا، فلو كانت العين في الفعل غير معتلة لم تعتل في المصدر، وذلك نحو" قاوم قواما، ولا وذ لواذا، وعاوذ عواذا، واعتونوا اعتوانا، واجتوروا اجتوارا، ونحو ذلك، لأن العين في المصدر قوية بالحركة، فلم تعتل لذلك، فإن جاء المصدر مصححا والفعل معتل كان من الشاذ المحفوظ، نحو: نارت المرأة تنور نوارا، ولم يقولوا: نيارا، قال العجاج: يخلطن بالتأنس النوارا ثم إن هذا المصدر الذي تقع الكسرة قبل واوه وعين الفعل منه معتلة. على وجهين: أحدهما: أن يقع بعد واوه الألف نحو: قياما وصياما وسائر ما تقدم مما هو على فعال، فهذا الذي يجري فيه القياس المقتدم. والثاني: ألا يقع بعد واوه ألف فيكون على فعل، فهذا غير/ داخل في ذلك الحكم عنده وإن كانت عين الفعل منه معتلة وعلة القلب موجودة،

لأن السماع جاء بخلاف ذلك، فلذلك أخرجه بقوله: "والفعل منه صحيح غالبا"، يعني أن العرب لم تعتبر في هذا النوع تلك العلة المذكورة وإن كانت موجودة، ولابد من اتباعها وإجراء الحكم على ما أجرته (العرب)، والغالب في كلامها تصحيح ما كان على فعل نحو: عاض عوضا، وحال حولا، قال الله تعالى: (لا يبغون عنها حولا)، والإعلال قليل، (ومنه قوله تعالى): {التي جعل الله لكم قيما} - وهي قراءة نافع وابن عامر وقوله: {دينا قيما}، هو وصف بالمصدر، وهي قراءة الكوفيين وابن عامر. وقوله: (نحو الحول)، هو مصدر حال الشيء يحول حولا، بمعنى تحول وزال، ومنه الآية: {لا يبغون عنها حولا}. هذا ما قال الناظم، إلا أن فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن كلامه هنا مناقض له في التسهيل في دعوى القياس وفي نقل السماع، أما في دعوى القياس فإن اعتماده هنا على التصحيح قياسا، لأنه جعله الغالب في كلام العرب، وعادته البناء على الغالب والقياس عليه، فهو قد ارتضى هنا فيما كان على فعل من المصادر المعتلة (الفعل) ألا يغير ولا تقلب

واوه: (ياء)، وهو في التسهيل على خلاف ذلك إذ لم يستثن فعلا في القياس، بل أطلق القول فيه بناء على أعمال العله وهو كسر ما قبل الواو في مصدر المعتل العين فقال: "تبدل الياء بعد كسرة من واو هي عين مصدر لفعل معتل العين". ولم يقل: قبل ألف، كما قال ذلك في الجمع وأفرده بذلك دون المصدر، فأحد الموضعين لابد أن يكون دعوى القياس فيه خطأ عنده فضلا (عن) أن يكون خطأ عند غيره؛ إذ لا يصح أن يدعى القياس في فعل وعدم القياس معا إلا أن يكون ذلك في وقتين، وهو رجوع بلا شك. وأما تناقضه في نقل السماع فإنه زعم هنا أن الغالب في كلام العرب تصحيح فعل والنادر هو الإعلال، وهو صريح في كلامه. وقال في التسهيل: "وقد يصحح ما حقه الإعلال من فعل مصدرا أو جمعا". وهذه إشارة منه إلى السماع المخالف لقياسه المذكور، أتى فيها بقد المفيدة للتقليل في استعماله لها؛ إذ هي عادته إذا أراد تقليل المنقول، فإذا قد صرح هنا بقلة التصحيح، وذلك يقضى بلا بد أنه ليس بأكثر من الإعلال، وكيف يكون أكثر عنده فيترك القياس عليه إلى ما هو أقل منه فيقيس عليه؟ ! هذا ما لا يقبله عقل ولا يرتضيه ذو علم. وقد كان يمكن الجواب عن هذا التناقض لو كان في القياس فقط؛ إذ يكون أحد الرأيين في الكتابين مرجوعا عنه، ولا محذور فيه للمجتهد، ولا أيضا

للمقلد إذا نقل رأيين متضادين في موضعين، لأنه إنما نقل رأي غيره، وإنما المحذور نقل السماع في موضعين على تضاد، إذ يلزم الكذب في أحد النقلين قطعا، لأنه إخبار عن أمر خارجي لا رأي فيه، فأحد الأمرين لازم، إما الكذب في نقله في التسهيل، وإما في نقله هذا. والوجه الثاني: أنه وضع العلة على عدم الاطراد ولم يحتط فيها، وذلك أنه جعل العلة كسر ما قبل الواو. واعتلالها في الفعل، فهي عله مركبة من جزئين، ثم بعد ذلك أخبر/ أن ما وجدت فيه تلك العلة فمنه ما هي فيه معملة، ومنه مالا تعمل فيه وإن كانت موجودة، وذلك فعل من المصادر. وهذا في التعليل غير صحيح، لأن حقيقة العلة أن تكون جارية في أفرادها معملة فيما وجدت فيه، وإلا فليست بعلة سواء أزعمت أن علل النحو عقلية أو وضعية، لأنها إما باعثة على الحكم، وهي العقلية، فلا بد أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، وإما معرفة له أو علامة عليه فلا بد أن توضح في جميع مجال الحكم وإلا لم تكن معرفة إذا وجدن ولم يوجد الحكم. وقد بينت هذا في الأصول العربية. وعلى كل تقدير فتعليل الناظم غير صحيح إذ العلة المركبة التي ذكر موجودة في حلو وعوض ونحوهما والحكم مختلف، ولا يقال: إن تخلف الحكم هنا لعله لوجود مانع أو لفوات شرط، وإذا كان كذلك لم تكن العلة فاسدة، إذ العلة هي الباعث على الحكم، وقد توجد ولا يوجد الحكم لوجود مانع كما تقول في

أي: إن سبب البناء فيها موجود وهو تضمنها معنى الحرف، فكان لأصل أن تبنى، لكن منع (من) ذلك مانع، وهو الحمل على النظير والنقيض، على ما أجاب (به) ابن ملكون تلميذه الشلوبين حين سأله عن ذلك، وكما تقول في جيل، تخفيف جيأل: (كان) الأصل أن تقلب الياء ألفا لوجود سبب القلب وهو تحركها وانفتاح ما قبلها، لكن فقد شرط القلب وهو كون الفتحة غير عارضة بل لازمة، فإن اللزوم شرط في إعمال هذه لعلة، ولا يكون هذا كله إفسادا للعلة أصلا، وإنما تكون العلة فاسدة إذا تخلف عنها جزء من أجزائها، فهذه لمسألة التي بصددها يمكن أن تكون العلة فيها صحيحة، ويكون تخلف الحكم عنها لوجود مانع أو فوات شرط فلا تكون فاسدة- لأنا نقول: (إن) هذا ليس من ذلك، وإنما هو مما فات العلة فيه جزء من أجزائها، وذلك أن العلة في قيام وصيام وجود الكسرة قبل الواو، والألف بعدها، وكونها معتلة في الفعل، فهذه هي العلة الكاملة. فإن قيل: لعل وجود الألف بعدها شرطا لا جزء علة. فالجواب: أن قانون التمييز بين الشرط وجزء العلة هو الحكم بيننا، والفرق بينهما أن جزء العلة له مناسبة في التأثير وإثبات الحكم، وأما الشرط فلا مناسبة فيه لوجود حكم ولا لعدمه، ونحن إذا نظرنا وجود الألف بعد الواو

هنا وجدنا فيه مناسبة للتأثير على ما قاله ابن جني، وهو أن الألف أقرب في الشبه بالياء من الواو، والشبه بها اقتضى وجود الياء دون الواو، فقوى الموجب للقلب بهذا الوصف لما فيه من المناسبة المقتضية للتأثير، بخلاف وصف لأصالة لفتحة قوم فإن ذلك ليس بمناسب للقلب ألفا، لأن الاستثقال لفظي، والأصالة والعروض غير راجعين إلى اللفظ، فمسألتنا (من قبيل) ما وجود الألف فيه (لها) تأثير في الحكم، فوجب أن يجعل جزء علة، وقد بين السيرافي معنى ما تقرر من كون الألف لها تأثير ما في الإعلال، وبين وجه ذلك فقال: اعلم أن كون الألف بعد الواو يوجب لها إعلالا ما، فإذا انضم إلى ذلك كسر ما قبل الواو، وأن تكون في مصدر قد اعتل فعله، أو في جمع قد سكنت في واحدة، فيجب/ قبلها ياء، ولذلك لم تعتل في قاوم قواما، قال: ولا تعتل في خوان لأنه واحد، ولا تعتل في كوز وكوزة لأن الألف تشبه الياء، فتصير الواو بعد الكسرة وقبل ما يشبه الياء مع ما ذكر بمنزلة واو معها ياء ساكنة، فقبلت كسيد، قال: وأيضا لما كانت الفتحة قبل الألف ليست خالصة للحرف الذي قبلها، إذ يقل، وهو كما ترى ظاهر في أن الألف جزء علة، وإذ ذاك تكون علته التي ذكر غير صحيحة.

والجواب عن الاعتراض الأول أن مخالفة كلامه في القياس اختلاف رأي في وقتين، فرأى هنا أن ذلك إنما يكون قياسا فيما بعد واوه ألف دون الآخر، ورأى في التسهيل القياس مطلقا في القسمين، ولا نكير في مثل هذا لاسيما وهو مجتهد مصرح في كتبه بالانتصاب في منصب الاجتهاد، فالاعتراض بهذا ساقط وإنما يلزمه الاعتراض في التسهيل حيث ذهب مذهبا مخالفا لمذهب النحويين، لأنهم يجعلون باب قديم شاذا مسموعا ولا يعلمون فيه القياس. وقد نص الفارسي في الحجة على شذوذ ما اعتل من فعل، وهو ظاهر كلام سيبويه، إذ جعل الحول والعوض نظير باب زوجة وعودة حيث قال: "وإذا قلت: فعلة، فجمعت ما في واحده الواو أثبت الواو، كما قلت: فعل، فأثبت ذلك، وذلك قولك: حول وعوض، لأن الواحد قد ثبتت فيه وليس بعدها ألف فيكون كالسياط، وذلك قولك: كوز وكوزة .. " إلى آخره. فإذا كان كذلك فهو في التسهيل مخالف للإجماع فيما يظهر بخلاف ما ذهب إليه ههنا فإنه لم يجعله قياسا، ذهابا إلى ما ذهب إليه الناس، فإن كان ما ههنا هو آخر رأييه فلله دره فيما رأى! وإن كان الأول فرب مرجوع عنه يكون هو الراجح الصحيح. وأما تناقضه في نقل السماع فلا بد أن ينظر في النقلين وأيهما الصادق فنجعله هو المعتمد، وما عداه خطأ في النقل، ولا شك أن ما نقله هنا

من كثرة التصحيح وقلة الإعلال هو الصحيح الموافق لما نقل غيره، وما ذكر في التسهيل من قلة التصحيح مشيرا إلى ذلك بقد الصريحة عنده في التعليل غير صحيح. وقد أجاب شيخنا القاضي- رحمه الله تعالى- عن كلامه في التسهيل من بعد ما أورد عليه الإشكال، وقال: إن النحويين قد نصوا على أن فعلا في المصادر شاذ، وأن حكم القلب فيه شاذ، وكان ما أجاب به أن قال: إن كلام المؤلف صحيح وكلام النحاة صحيح، وذلك أن النحويين يجعلون المصادر على فعل من الشاذ القليل، وهذا صحيح، والمؤلف يدعي أن ما جاء منه معتلا فهو على مقتضى القياس، وهذا أيضا صحيح لا إشكال فيه. هذا معنى ما أدركته من كلامه الذي سمعته منه عند قراءتنا عليه تصريف التسهيل. ويظهر لي الآن أنه لا يرفع الإشكال الذي أوردته عليه، فإن فعلا وإن كان قليلا في نفسه فالذي يدعي فيه النحويون قياسا هو التصحيح، والمؤلف قد نافقهم في هذا، ثم إن النحويين لا/ يقولون في فعل بكثرة سماعه معتلا، بل يجعلون الاعتلال فيه (أيضا) شاذا، والكثير فيه الذي يجري عليه القياس التصحيح، وإلا فلو كان التصحيح في فعل هو الشاذ (في ذلك)، (الشاذ) لم يمكنهم أن يدعوا فيه (نفسه) القياس، وقد جعل هو التصحيح قليلا، فقد خالفهم في القياس والنقل، ولاشك أن يد الله مع الجماعة.

وقد يتخرج كلام التسهيل على وجه لا يليق ذكره بهذا الوضع وقد حصل من مجموع هذا أن ما قاله هنا لا غبار فيه. والجواب عن الثاني: أن كلام الناظم قد يصح على مقتضى ما تقرر في السؤال، وذلك على أن يكون قوله: "والفعل منه صحيح" من تمام التقسيم، لأن قوة كلامه يعطى تقسيم المصدر إلى ما بعد الواو فيه ألف، وإلى ما ليس كذلك، وحكم على ما ليس فيه ألف بالتصحيح، فإذا الألف جزء موجب الإعلال. وقوله: "والفعل منه صحيح"، أي: لأجل المانع، وهو سقوط جزء العلة، فإذا كانت قوة كلامه تعطي اعتبار الألف في هذا الحكم فقد حصل تمام العلة المقررة، والله أعلم. وجمع ذي عين أعل أو سكن ... فاحكم بذا الإعلال فيه حيث عن وصححوا فعلة وفي فعل ... وجهان والإعلال أولى كالحيل هذان موضعان من المواضع التي تقلب فيها الواو ياء لكسرة قبلها، وهما الخامس والسادس، وهما جمع المفرد الذي أعلت عينه، وجمع المفرد الذي سكنه عينه وإن لم تعتل، وكلاهما لا يكون إلا فيما كان عينه واوا؛ إذ معنى الاعتلال في كلامه التغيير والانقلاب، ولا يعني به كون العين من حروف العلة كما

تقدم قبل هذا. فيريد أن ما كان من المجموع جمعا لمفرد اعتلت عينه بقلب أو إبدال أو جمعا لمفرد سكنت عينه وتلك العين في الأصل واو، ووقع قبل تلك الواو كسرة حكمه أن تقلب واوه ياء مطلقا. وإطلاقه القول في الإعلال ليشمل جميع وجوهه من البدل ألفا أو ياء أو همزة، فأما جمع المفرد المعتل المعين فنحو: صائم وصيام، وقائم وقيام، ونائم ونيام، أصله: صاوم، وقاوم، وناوم، فكان الأصل في الجمع أن يقال: صوام وقوام ونوام، لكنهم أعلوها بالقلب، كما أعلوا مفردها. فالعلة هنا مجموع (أمرين): أحدهما: كسر ما قبل الواو في الجمع، فإن للكسرة تأثيرا في الإعلال، لكن الواو إذا كانت متحركة لم تقوا الكسرة (وحدها) عليها، فانضم إليها الأمر الثاني وهو الإعلال في المفرد، إذ الإعلال إضعاف، فقاوم ضعف الإعلال في المفرد قوتها بالحركة فقويت الكسرة معها على الإعلال، ولذلك لا يعل فعال، إذا كان مفردا نحو خوان، لقوة الواو بالحركة، وما اعتل منه فشاذ نحو: لياح وصيار، قال الشاعر: أقط الظهر خفاق الحشايا ... يضيء الليل كالقمر اللياح

وهو من لاح يلوح. والصيار لغة في الصوار، قال ابن جني: "يمكن أن يكون لغتين، ويمكن أنه قلب الواو ياء للتخفيف والشبه بالمصدر والجمع، قال: وهذا الوجه/ كأنه أمثل لقولهم في جمعه: أصورة، ولم نسمعهم قالوا: أصيرة، وقال الأعشى: إذا تقوم يصوغ المسك أصورة ... والنبر الورد من أردانها شمل ومن ذلك أيضا: دار وديار، وريح ورياح، وناقة ونياق، أنشد أبو زيد للقلاخ: أبعدكن الله من نياق ... إن لم تنجين من الوثاق وكذلك: تارة وتير، قال: تقوم تارات وتمشي تيرا فهذه كلها معتلة لعين (في) المفرد، فاعتلت في الجمع لذلك، فلو لم تعتل العين في المفرد لم تقلب الواو في الجمع، نحو قولك: راو ورواء، وناو ونواء.

قال: إلا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء وما أشبه ذلك. وأما جمع المفرد الساكن العين فنحو: روضة ورياض، وحوض وحياض، وثوب وثياب، وسوعط وسياط، وما أشبه ذلك؛ قال المازني: "لما كانت الواو في الواحد ساكنة وجاء الجمع وقبل الواو منه كسرة قلبوها ياء، لأن الجمع أثقل من الواحد، وما يعرض فيه أثقل مما يعرض في الواحد، والواو مع الكسرة تثقل". فعلى هذا (لو كان فعال مفردا غير جمع لصحت الواو كما تقدم، وكذلك) لو كانت الواو في الواحد محركة غير معتلة لم تعتل في الجمع، كما قالوا: راو ورواء، وطويل وطوال. هذا هو القياس والمشهور في هذه اللفظة، وقد جاء (فيه) القلب نادرا، فقالوا: طيال، أنشد المبرد والسيرافي وغيرهما: تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طيالها قال أبن جني: "شبهه بثياب، وليس مثله". وهذا من النادر الذي لا يقاس عليه.

وقوله: "فاحكم بذا الإعلال فيه حيث عن". يريد أن هذا الإعلال المذكور محكوم به مطلقا في هذا الجمع حيث وجد وكيف كان، فالضمير في "فيه"راجع إلى الجمع المذكور الموصوف بذلك الوصف، وضمير "عن" الفاعل عائد إما على الجمع أي: حيث كان ذلك الجمع، لا يستثنى من مواضعه شيء، وهو الذي اعتلت عين واحدة أو سكنت ووجدت الكسرة فيه. وإما أن يعود على السبب المذكور الفاعل للإعلال، وهو الكسر قبل الواو المعتلة أو الساكنة في الواحد. ولما كان كلامه يقتضي إطلاق الحكم بالإعلال في موضعين، أحدهما: مسألة زوج وزوجة، والآخر: مسألة قيمة وقيم، وكان ذلك فيهما (غير) صحيح استثناهما بقله: "وصححوا فعلة". إلى آخره. فأما الموضع الأول فإن النحويين قد نصوا على عدم القلب في زوج وزوجة، وعود وعودة، وثور وثورة، (ونحو ذلك)، نص على لذلك فيه سيبويه والمازني وابن جني وغيرهم، وكذلك المؤلف في التسهيل، لأنه شرط في الجمع وجود الألف بعد الواو كحوض وحياض، قال سيبويه: "وإذا قلت: فعلة، فجمعت ما في واحده، والواو أثبت الواو كما قلت فعل فأثبت ذلك، وذلك قولك: حول وعوض، لأن الواحد قد ثبتت فيه". قال: "وليس بعدها ألف فتكون كالسياط". قال: "وذلك قولك كوز وكوزة" ثم مثل، ثم قال: "فهذا قبيل آخر"، قال: "وقد قالوا: ثورة وثيرة، قلبوها حيث كانت بعد

كسرة، واستثقلوا/ ذلك كما استثقلوا أن تثبت في ديم". قال: "وهذا ليس بمطرد، يعني ثيرة"، وهذا معنى قول الناظم: "وصححوا فعلة"، أي: لم يقلبوا الواو في هذا المثال كما قلبوا في فعال، ويعني في الأمر العام، وأما وثيرة، فقال: (كان) قياسه ثورة، لأن ثورا كزوج، وهو عندهم من الشاذ، أعني في القياس، فأما في الاستعمال فمطرد وكثير كما أن استحوذ وإن كان في القياس شاذا فمطرد في الاستعمال. وقال أبو العباس: "إنما قالوا: ثيرة، ليفرقوا بين الثور من البقر وبين الثور من الأقط". وقال أيضا: "بنوه على فعلة فانقلبت الواو لسكونها وانكسار ما قبلها، ثم حركت الياء وأقرت بحالها لأن الأصل ههنا السكون. قال ابن جني: "وأخبرني ابن مقسم، عن ثعلب قال: جمع ثور ثورة، وثيرة، وأثوار، وثيران، . قال: وإذا كان الأمر هكذا فقد جمعوا ثورا من الحيوان ثيرة. وذهب ابن السراج إلى أنه مقصور من فعالة، كأنه في الأصل ثيارة، فوجب القلب كما وجب في سياط، ثم قصرت الكلمة بحذف الألف، فيبقى القلب بحاله. قال ابن جني: "وهذا آخر قول أبي بكر".

قال: وكأنهم لما قصروا الكلمة بقوا العين مقلوبة ليكون قلبها دلالة على أنها مقصورة، ويكون بينها وبين ما أصله فعلة، غير مقصور فرق نحو زوجه. قال الفارسي: "وقد أومأ سيبويه في باب أسد إلى أنه مقصور من فعول، كأنه قال أسود، ثم حذف الواو، ثم أسكن العين"، ثم تكلم بعد ذلك بأشياء، لا حاجة إلى إيرادها. والحاصل أن شرط وجود الألف بعد الواو لم يفت الناظم ذكره، لأنه لما استثنى ما ليس فيه ألف عن ذلك الحكم دل على أن الألف مشترطة كما تقدم تأويله قبل هذا. وأما الموضع الثاني فإنه حكي في فعل وجهين إذ قال: "وفي فعل وجهان"، ولعله يعني بالوجهين ما ذكر غيره من القولين في المسألة، فإن كون قيم ونحوه قياسا هو مذهب سيبويه وأكثر النحويين على خلاف ما إذا كان فعل (مصدرا) كما تقدم، قال سيبويه: "وأما (ما) كان قد قلب في الواحد فإنه لا يثبت في الجمع إذا كان قبله الكسر، لأنهم قد يكرهون الواو بعد الكسرة حتى يقلبوها فيما قد ثبتت في واحده". قال: "فلما كان ذلك من كلامهم ألزموا البدل ما قلب في الواحد، وذلك قولهم: ديمة وديم، وحيلة وحيل" ... ، إلى آخر

المثل ثم قال: "وهذا أجدر أن يكون إذا كانت بعدها لألف"، قال: "فلما كانت الياء أخف عليهم والعمل من وجه واحد جسروا عليه في الجمع إذ كان في الواحد محولا واستثقلت الواو بعد الكسرة كما تستثقل بعد الياء". وقد خالف بعض الناس في قياس مثل هذا وجعله سماعا، (والأصح ما ذهب إليه غيره، لأن عليه كلام العرب وموافقة الجماعة)، وهو الذي اختاره الناظم إذ قال: "والإعلال (أولى) "، يعني أن القول بالإعلال هو أولى وإن كان قد جاء فيه التصحيح نحو: حاجة وحوج، وحيلة وحول، والأكثر: حيل، حكاهما ابن السكيت. فهذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. ومثل الناظم بحيل جمع حيلة، وأصله الواو، لأنه من الحول. هذا ما حرر الناظم إلا أنه/ يقتضي إطلاقه شيئين: أحدهما: أن نحو ريان ورواء عنده ليس بقياس. والثاني: أن نحو كوة وكواء ليس بقياس أيضا. أما المسألة الأولى فإنه من نحو ريان وطيان بجمع على رياء وطياء، وفي

قي- للقفر الخالي، لغة في (القواء-: قياء). وهذا مشكل، فإنه مخالف لكلام الناس والكلام والعرب، أما مخالفته لكلام الناس فإن ابن جني والزمخشري وغيرهما على استثناء ما اعتلت لامه من هذا الفصل، وأنك إنما تقول: وطراء في طيان، ورواء في ريان، ولم يحكوا في ذلك خلافا. وأما مخالفته لكلام العرب فإن العرب لا تجمع في كلامها بين إعلالين في كلمة، وهذه الألفاظ وما أشبهها لو قلبت فيها الواو ياء لزم ذلك بلا بد، وقد قال المبرد في تصريفه: لا خلاف في أنه لا تجتمع على الحرف علتان. يعني في القياس، وأيضا المسوع من كلام العرب- على ما نقل قوم- رواء من الماء، جمع ربان، وأصله رويان، فاعتلت عينه لأجل الياء، وجعله المبرد ري، وأصله روى كقي، وعلل الصحة بما تقدم. فهذا الإطلاق من الناظم فيه ما ترى. وأما المسألة الثانية فإن الناس اشترطوا أيضا فيما كانت واوه في الواحد ظاهرة ما اشترطوا فيما إذا كانت فيه معتلة من صحة اللام، والناظم لم يفعل ذلك، بل أكد انتفاء هذا الشرط في الوجهين معا بقوله: "بذا الإعلال فيه حيث عن". وهذا كله غير صحيح، وقد اشترط في التسهيل الشرطين معا في الساكن العين في المفرد، وهما وقوع الألف بعد الواو في الجمع، وصحة اللام في المفرد، فاقتضى كلامه هنالك أنك تقول في كوة: كواء، ولا تقول: كياء، لئلا

يجتمع على الكلمة إعلالان، وهو لا يكون إلا شاذا، كما تقدم ذكره. واقتضى كلامه هنا أن يقال: كياء، إذ لم يشترط صحة اللام، ومعنى صحة اللام في هذا الشرط على خلاف معناها فيما تقدم، إذ معناها هنالك ألا تتغير اللام كانت حرف علة أولا، وأما هنا فمعنى الصحة ألا يكون اللام حرف علة سواء اعتل أم (لا)، ككوة وكواء. وكما لو جمعت هوة أو دوى فقلت: هواء: ودواء، فلابد من التصحيح للواو في الجمع هروبا من إعلالين في كلمة. وقد جعل ابن جني العلة في قلب الواو الساكنة في المفرد إذا قلبتها في الجمع مركبة من خمسة أجزاء لابد منها، إذ كان الأصل أن تصح في الجمع كما صحت في المفرد، فكنت تقول: حوض وحواض، وروض ورواض. فإنما قلبت عنده لمجموع خمسة أشياء: أحدها: أن الكلمة جمع، والجمع أثقل من الواحد. والثاني: أن الواو في المفرد ضعيفة بالسكون في حوض وروض وثوب. والثالث: أن قبل الواو في الجمع كسرة، لأن الأصل: حواض، ورواض. والرابع: أن بعد الواو ألفا، والألف قريبة الشبه بالياء. والخامس: أن اللام صحيحة، إنما ي باء أو ضاد أو نحوهما، وإذا صحت اللام أمكن إعلال العين.

فقد صار مجموع/ هذه الأسباب عنده هو العلة، فإذا انفرد بعضها لم يؤثر ولم يكن علة، ألا ترى أن مالا ينصرف إذا كانت فيه سبب واحد من شبه الفعل لم يمنع الصرف، فإذا انضم إليه سبب آخر منع من الصرف. قال: وهذا هو القياس ليكون بين السبب الأقوى وبين السبب الأضعف فرق. فإذا متى لم تذكر هذه الأسباب كلها وأخللت بعضها انكسر القول، ولم تجد هناك علة؛ ألا ترى أن طوالا جمع، وقبل واوه كسرة، وبعد واوه ألف، ولامه صحيحة، ومع ذلك فعينه سالمة لما تحركت في الواحد الذي هو طويل. فلما نقص بعض تلك الأوصاف لم يجب الإعلال. وكذلك: زوج وزوجة، ونحوه، وقد اجتمع فيه سكون واو الواحد، والكسرة التي قبل الواو في الجمع، وأنه جمع، ولامه صحيحة، إلا أنه لما لم يقع بعد واوه ألف صحت الواو. وكذلك: رواء جمع ريان، وطواء جمع طيان، هو مثال جمع، وقد انكسر ما قبل واوه، وبعدها ألف، والواو في واحده ساكنة بل معتلة، لأن الأصل: رويان وطويان، إلا أنه لما كانت لامه معتلة صححت عينه ولم تعلل. إلى هنا انتهى تمثيل ابن جني فقد أحد الشروط، وبقى تمثيل تخلف شرط الجمع، وشرط انكسار ما قبل الواو في الجمع، وذلك (ظاهر)،

أما الأول فلو لم يكن فعال جمعا لم يعل نحو: خوان، وصوار، (وسوار) وإن كان مكسورا قبل الواو وبعدها ألف. وما جاء من قولهم: صيار، فقد تقدم ما فيه. وأما الثاني فظاهر أيضا، إذ لو لم ينكسر ما قبل الواو لم تنقلب نحو: زوج وأزواج، وعود وأعواد، وثور وأثوار وإن كان جمعا، والواو في واحده ساكنة، وبعد واوه في الجمع ألف، واللام منه صحيحة، وما جاء من قولهم: عيد وأعياد، فشاذ، وكأنهم أرادوا التفرقة بين أعواد جمع عود وبينه إذا كان جمع عيد. ثم قال ابن جني "فاعرف ما ذكرته فإن أحدا من أصحابنا لم يحتط في بابه وذكر علته الموجبة لقلبه هذا الاحتياط، (ولا) قيدوه هذا التقييد". وهو كما قال ضابط حسن. ولم يذكر الناظم من أجزاء هذه العلة صحة اللام، كما أنه لم يذكر من أجزاد العلة في المعتل العين في المفرد صحة اللام أيضا، وهي مجموعة من ثلاثة أجزاء هذا أحدها، والثاني كسر ما قبل الواو في الجمع، وكونه جمعا، وقد تقدم تمثيلها وتمثيل فقدها في التفسير والاعتراض. على أن ابن عصفور لم يشترط صحة اللام بل حكاه عن ابن جني ثم شاحه في المثال وقل: "يجوز عندي أن يكون رواء جمع روى لا جمع ريان، فتكون صحة

الواو في الجمع لتحركها في المفرد". وكأن الناظم يشير إلى هذا النظر الذي أشار إليه ابن عصفور من عدم اشتراط هذا الشرط. ولا شك أن كلام ابن جني في صحة الاشتراط أرجح، والله أعلم. وقوله: "وجمع ذي عين" منصوب بإضمار فعل من باب لاشتغال، يفسره قوله: "فاحكم"، لأنه قد اشتغل بضميره المجرور، كأنه قال: أعل جمع/ ذي عين احكم بذا الإعلال فيه. والفاء في قوله: "فاحكم" دالة على معنى الشرط، كأنه في تقدير: مهما يكن من شيء فاحكم بذا لإعلال في جمع ذي عين أعل أو سكن. ومعنى عن: عرض، عن لي الشيء بمعنى عرض لي، يعن ويعن عننا. ويقال: لا أفعل كذا ماعن في السماء نجم، أي: عرض وظهر. والمعن: الخطيب. وعلى هذا (المعنى) يجري تصاريف هذه المادة. فمعنى "عن" في كلامه حيث وجد هذا الجمع، وحيث ظهر من جميع المواضع. والواو لاما بعد فتح انقلب ... كالمعطيان يرضيان ووجب إبدال واو بعد ضم من ألف ... ويا كموقن بذا لها اعترف هنا نسخ المِؤلف- رحمه الله تعالى- حكم انقلاب الواو ياء لأجل الكسرة قبلها إلى سبب آخر ذكره. وهذا موضع سابع من المواضع التي تقلب فيها الواو ياء.

فقوله: "والواو لاما بعد فتح يا انقلب"، والواو: مبتدأ خبره "انقلب"، والضمير عائد، إليه، و"يا" منصوب بانقلب على المفعول به، وأصله: ياء انقلب، لكن قصره. على قول من قال: شربت ما يا هذا. فصار: يا انقلب، فحذف التنوين لالقاء الساكنين على (قول) من قال- وهو أبو الأسود-: ولا ذاكر الله إلا قليلا فصار: يا انقلب. وهذا إجحاف كثير؛ إذ ترك الاسم على حرف واحد من غير تنوين، فهو أكثر حذفا من أيش. وقد كان شيخنا الأستاذ- رحمه الله-يلغز علينا: ما كلمة ثلاثية لحقها الحذف حتى لم يبق منها إلا حركة، فهذا أقل من حرف لكنه في المبنيات لا في المعربات، وفي الأفعال لا في السماء، إلا أن الناظم لا يبالي بهذا الإجحاف حرصا على تحصيل المعاني الكثيرة في العبارة اليسيرة، وما أكثر استعماله لنحو: شربت ما يا هذا، وقد مضى منه الكثير، نبه على بعضه وترك التنبيه على بعض لكثرة ذلك، وسيأتي منه أيضاً أشياء

وقوله: "لاما" منصوب على الحال من الواو، [و] العامل فيها إما الفعل بعدها، وإما مقدر، أي: إذا كان لاما. يعني أن الواو تقلب أيضا ياء لغير كسرة قبلها إذا اجتمع في تلك الواو وصفان، أحدهما: أن تكون الواو لاما. والثاني: أن ينفتح ما قبلها. فأما كون الواو لاما فذلك نص قوله: "والواو لاما"، وهو تحرز من أن تكون عنيا (فإنها إن كانت عينا) لم تنقلب لغير كسرة، كقولك: اجتوروا، واعتونوا، يجتورون ويعتونون، فهم مجتورون ومعتونون. وكذلك: احتوشوا فهم محتوشون، وتعاونوا، وتراودوا. وما أشبه ذلك، لأنه لا موجب لهذا القلب إذا لم تكن متطرفة، فإن للحشو قوة ليس للطرف، فالطرف لضعفه يلحق من الإعلال بأدنى سبب ما (لا) يلحق الحشو. وقوله: "لاما"، ولم يقل: طرفا، مقصود له، ليدخل له فيه ما كان في آخره زيادة غير معتد بها كهاء التأنيث، فإن هاء التأنيث لا اعتداد بها فكأنها لم تزد، فمغزاة، ومدعاة، ومصطفاة، الألف فيها وفيما أشبهها منقلبه عن الياء التي انقلبت عن الواو، بدليل أنك إذا أزلت التاء فثنيت أو جمعت بالتاء قلت:

مغزيان، ومدعيان/، ومصطفيان، والمصطفيات، وأصلها الواو، لأنها من الغزو والدعوة وصفو الشيء وصفوته. وكذلك إذا لحقه علامتا التثنية أو الجمع فالحكم بالانقلاب لا يتخلف، فتقول: المصطفيان والمصطفيات، كما ذكر. فيظهر على هذا أن عبارته هنا أخص من قوله في التسهيل: "وكذلك الواقعة إثر فتحة رابعة فصاعدا طرفا أو قبل هاء التأنيث". إلا أن عبارته غير صحيحة بخلاف كلامه في التسهيل فإنه صحيح، وبيان ذلك أنه ليس كون الواو لاما هو المراد، وإنما المراد أن تقع الواو طرفا لا يكون بعدها إلا هاء التأنيث أو مالا يعد من حروف الكلمة، وعلى هذا التقرير جرى التفسير المتقدم، وإلا فإذا حكمنا عبارته في اللام فيقتضي أن اللام إذا لم تقع طرفا فالحكم كذلك، وليس هذا بصحيح؛ ألا ترى أنك إذا بنيت من الغزو مثل عنكبوت فقلت: غزووت، فإنك تقدر أصله: غزوووت، فاللام الثانية تقدر واوا لكونها حشوا وإن كانت لام الكلمة وليست طرفا، وعن تلك (الواو) انقلبت الألف، ثم حذفت في قول الجمهور، ومن رأى أنها لا تحذف قال: غزوووت، ولا يقول: غزويوت؛ إذ لا معتبر بكونها لاما. فهذا اعتراض وارد على الناظم إلى اعتراض آخر يذكر إثر هذا إن شاء الله تعالى. وأما كون الواو مفتوحا ما قبلها فتحرز من أن يكون مضموما أو مكسورا، فإنه إن كان ما قبلها مكسورا فقد تقدم له قبل هذا أنها تقلب واوا

للكسرة قبلها، فمغز، ومله، ويغزى، ويلهى، ويصطفى، وما أشبه ذلك قد قلبت فيها الواو لأجل الكسرة، لأنك تقول: مغزيان، وملهيان، ويغزيان، ويلهيان، ويصطفيان، فانقلابها إلى الياء على ما ينبغي، فلم يكن لإدخال ذلك هنا وجه، لأنه مجرد تكرار. وأما إن كان ما قبلها مضموما فهي أبعد من أن تقلب ياء، لأن الضمة طالبة بالواو لا بالياء، ولذلك تقلب لها الياء واوا كما سيأتي في كلام الناظم. حيث نبه على هذا المعنى، كما إذا بنيت من الرمي مثل مقدرة فإنك تقول: مرموة، فتقلب الياء واوا، إذ أصلها مرمية، فاستثقلت الياء بعد الضمة فقلبت إليها، وإنما يكون هذا الحكم الذي ذكره إذا انفتح ما قبل الواو كما قال، فإذا ما جاء على خلاف ذلك مما اجتمعت فيه الشروط فمحفوظ نحو: مذروان، القاعدة فيه أن يقال: مذريان، كما تقول: مدريان، لكن لما لم يفرد (له) واحد جرت الألف للزومها مجرى ألف عنفوان في منعها انقلاب الواو ياء، قال عنترة:

أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني؟ فهأنذا عمارا ثم أتى بمثالين، (مثال) من الاسم، وذلك: المعطيان، وهي صفة مبنية للمفعول بالقصد ليكون ما قبل الواو مفتوحا، ومثال من الفعل وهو يرضيان، من رضى، ولم يأت برضيا ولا بيرضيان، للمعنى الذي ذكر من فتح ما قبل الواو، وكلاهما أيضا منبه على ما في حيزه، فمثال الاسم منبه على دخول هذا الحكم في الأسماء، ومثال الفعل منبه على دخوله في الأفعال، وإنما أتى بالمثالين (للمثنى) ليظهر بذلك حقيقة الانقلاب؛ إذ لو أتي بقولك/ المعطى ويرضى لم يتبين بذلك مقصوده، فكان يكون الإتيان بالمثال ضائعا. ثم إذا تقرر هذا فاعلم أن الناظم- رحمه الله- ذكر في هذا القلب شرطين ونقصه عمدة الشروط، وذلك أن قولك: قفا وعصا وقنا، وما كان نحو ذلك، قد اجتمع فيه الشرطان، ومع ذلك فلا يصح أن تقلب واوه التي انقلبت عنها الألف ياء البتة، بل تقول: قفوان وعصوان وقنوان، وإن كانت الواو لاما وانفتح ما قبلها، وسبب ذلك تخلف شرط كون اللام رابعة فصاعدا، هذا هو الضابط الأعظم لتلك الواو، فإن كانت ثالثة لم تنقلب

ياء، وسبب هذا أن انقلاب الواو (ياء) في هذه المسألة إنما هو بالحمل على ما انقلبت فيه للكسرة، قال سيبويه: "سألت الخليل عن ذلك- يعني عن قلب الواو الرابعة ياء دون الثالثة- فقال: إنما قلبت من قبل أنك إذا قلت: يفعل، لم تثبت الواو للكسر قبلها، وذلك يغزي ويغازي، فلم يكن لتكون فعلت على الأصل، وقد خرجت يفعل وجميع المضارعة إلى الياء"، قال: "فقلت: ما بال تغازينا وترجينا وأنت إذا قلت يفعل منهما كان بمنزلة يفعل من غزوت"- يعني لا تقلب الواو لكسرة قبلها، لأنك تقول في المضارع: نتغازى ونترجى، فلا ينكسر ما قبلها كما تقول: يغزو، في غزا، ويدعو في دعا، فلا ينكسر ما قبل الواو؟ - فقال الخليل: الألف هنا- يعني في تغازينا وترجينا- (بدل من الياء التي أبدلت من الواو، وإنما أدخلت التاء على غازينا ورجينا) - يعني أن أصل الفعل دون التاء أن تقول: نغازي ونرجي، ثم لحقت التاء بعد أن لم تكن، فعاملوا الفعل على أصله لوجود سبب القلب، وذلك للكسرة في المضارع. هذا ما قال الخليل، ثم بني غيره على علته فقالوا: إذا كان المضارع من الثلاثي، وكان الماضي منه على فعل فإن الحكم كذلك، فكما حمل الخليل الماضي في قلب الواو ياء على المضارع كذلك نحمل المضارع على الماضي. فقالوا في مضارع

رضي: يرضيان، وفي شقي: يشقيان، لأن الماضي قد انقلبت فيه اللام ياء للكسرة، فكذلك نفعل بالمضارع لئلا يختلف الباب، وهو كلام العرب. فإن كان الكسر لا يدخل في واحد منهما بقيت اللام على أصلها غير منقلبة، فتقول في محا يمحي- على لغة الواو: يمحوان، وفي يضحى على لغة الواو-: يضحوان. وكذلك ما أشبهه مما لم ينكسر فيه ما قبل الواو في أحد الفعلين. فالحاصل أن ما ذكر من الشرطين لا يكفي في تحصيل الحكم دون أن يذكر شرط كونها رابعة فصاعدا. فإن قيل: تمثيله أعطى كونها رابعة فصاعدا، وأعطى كون ذلك الحكم فيما يكون القلب فيه بالحمل، فأما إعطاء كونها رابعة فصاعدا فظاهر، لأن "المعطى" كذلك، ولا شك أن فعله كذلك وهو أعطى، وكذلك "يرضى" الواو فيه رابعة إذا عددت حرف المضارعة. وأما إعطاء كون القلب بالحمل فظاهر أيضا، لأن معطى اسم مفعول وأصله قد انقلبت واوه للكسرة في معطى، وكذلك ما أشبهه من أسماء المفعولين، أو تقول: أو تقول: القلب فيه بالحمل على الفعل الذي جرى عليه، لأن معطى محمول على يعطى المنقلبة ياؤه حملا على أعطى أو على يعطى/. فعلى كل تقدير هو محمول على غيره، وذلك الغير قد وجد فيه موجب القلب. وأما يرضى

فمحمول على رضي كما استدركه الناس قياسا على تعليل الخليل، وإذا كان ذلك فالتمثيل ناب الإتيان به عن النص على ذلك الشرط، وهذه عادته أن يعطى الشروط والأحكام من الأمثلة. فالجواب: أن التمثيل قد تقدم من عادته (فيه) أنه إنما يجعله عوضا عن النص على الشروط إذا قال مثلا: الحكم كذا فيما كان نحو كذا، أو في كذا وشبهه، دون أن ينص على بعض الشروط، ويعطى بالمثال باقيها، كما قال: وارفع بواو، وبيا اجرر وانصب ... سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين ... ... ... ..... إلى غير، ذلك من المواضع المتقدمة والمتأخرة، أما كونه يذكر شروطا بالنص عليها، ثم يشير بعد ذلك بالمثال إلى شروط أخر فهذا يحتاج إلى ثبوت ذلك من كلامه، وكونه يفهم من مقصده. وأيضا فنردد هذا المعنى في تقسيم فنقول: لا يخلو أن يكون أراد بالتمثيل الإشارة إلى أوصاف وشروط محتاج إليها أو لم يشر بها إلى شيء، فإن كان لم يشر بها إلى شيء بل أتى بها لمجرد البيان للقاعدة بالمثال لزمه السؤال الأول حتما، وإن كان أشار به إلى

شروط معتبرة فذلك لا يعطيه المقصود كما أراد، لأن المثالين معا فيهما من الأوصاف ما ليس بمعتبر في هذا القلب اتفاقا، أما معطى ففيه أنه جار على فعل جريانا قياسا، ومشتق من مصدره قياسا، فاقتضى أن هذا الكلام مختص من الأسماء بما هو جار على الفعل ومشتق من مصدره، فلا يدخل له فيه إلا اسم المفعول، واسم المصدر، والزمان والمكان، نحو: ملهى، ومدعى، ومرسى، ومستدعى، ومتراغى، وما أشبه ذلك، وأما غير ذلك فلا. وهذا غير صحيح، فقد قالوا إذا بنيت من الغزو مثل جعفر قلت: غزوى، فألفه منقلبة عن ياء لا عن واو، وكذلك في مثل فوعلل: غوزوي، إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا تحصى، وكل ذلك ليس بجار على فعل ولا مشتق منه لا قياسا ولا سماعا، ومع ذلك فلابد من قلب الآخرة ياء وذلك بالحمل على الغير، على ما سأبينه بحول الله تعالى. فاعلم أنهم قالوا: إذا وقعت الواو آخر الاسم رابعة فصاعدا فلا يخلو أن يمكن أن يصاغ منه فعل أولا يمكن، فإن أمكن فحكم الواو حكمها لو كانت آخر فعل، فتقول في ملهى: ملهيان، وفي مغزى: مغزيان، وفي مستدنى: مستدنيان. ومن ذلك ما تقدم من الأمثلة، إذ يمكن أن تقول في غزوى وغزوى:

غزويت، وفي غزوى: اغزويت، كما (تقول) في ملهى لو بنيت منه فعلا: ملهيت، وفي مغزى: مغزيت، وفي مستدنى: استدنيت، فتكون الواو في الفعل منقلبة في الماضي حملا على المضارع كما تقدم في الفعل، فصارت كأنها جارية على الفعل هذا الاعتبار وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، وإن لم/ يمكن أن تبني منه فعلا لم تقلب الواو ياء نحو مغزو، ألا ترى أن الفعل لا يكون قبل (آخره) حرف مد ولين زائد. فإن قيل: ملهيت وما أشبهه لي من أوزان الفعل، لأن مفعلت غير موجود إلا شاذا نحو: مرحبك الله ومسهلك، ولذلك إذا وقعت الميم أول الفعل لم يقض بزيادتها، وكذلك غزوى وغزوى ونحو ذلك لا يبنى منها (فعل) فكيف اعتبرت الفعل هنا؟ فالجواب: أن المراعي أن يجيء على رنته في الحركات والسكنات فقط دون لفظ الزيادة. ولا تنقلب في شقاوة لأنه لا يمكن مع الألف فيها وزن فعل، وكذلك نص سيبويه وغيره أنك تقول في فوعلة ممن غزوت: غوزوة، وفي أفعلة:

أغزوة. ولا تقول: غوزية، فتقلب الواو الأخيرة ياء لأنها آخر وإن كنت تقلبها في الفعل الذي لفظه إذا قلت: غوزيت، لأن الواو مدغمة في غوزوة فلا يكون منها فعل على لفظها، كما لا تقلب الواو في شقاوة ونحوها. ويدل على ذلك من كلام العرب قولهم: أدعوة، وهو أفعولة، وهي تنقلب في أفعلت من ذلك، وكذلك: مغزو، وهي تتقلب في مغزى، ولكن لا تقلب هنا البتة للعلة المتقدمة. وتقول على هذا في قوعلل منا لغزو: غوزوي، لأنه ملحق بفعلل، وفعلل من الغزو تقول فيه: غزوى، لأنك تقول: غزويت، فتجرى الملحق مجرى أصله، إذ قد كانت الألف منقلبة ياء قبل الإلحاق. وأيضا لو لم يكن ملحقا لكنت تقول في التثنية غوزويان، لأنك تقول منه: اغوزويت. فهذه القاعدة هي التي اعتمدوها في الباب، وتمثيل الناظم لا يشعر بشيء منها، وإنما فيه إشعار باختصاص ذلك بما كان اسم مفعول أو نحوه كما تقدم. وأما "يرضى" ففيه أن الواو رابعة بحرف المضارعة، فاقتضى أن المضارع إذا كان على يفعل مطلقا فألفه منقلبة عن ياء، كان الماضي منه على فعل أو على فعل، إذ لا دليل على الاقتصار على دون فعل. وهذا غير صحيح؛ لأن يفعل الذي ماضيه على فعل لا تقلب واوه ياء إن كان من ذوات الواو، بل ترد إلى أصلها كالثلاثي كما تقدم، وما جاء من نحو يشأيان فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه،

وقد جعله المازني غلطا لأن الألف بدل من الواو، فكان الأصل أن يقال: يشأوان، فقلبها ياء مخالف لقياسهم وكلامهم. فالذي تحصل من هذا- على فرض أنه أتى بالأمثلة مقيدة بشروط وأوصاف- أنه أعطى من الشروط أيضا ما لا يشترط، وترك ما هو الواجب أن يشترط، وإن فرضت حرف المضارعة غير معتد به كان فيه إشارة إلى القضاء لقلب الواو ألفا وإن كانت ثالثة. وهذا كله فاسد. وقد يجاب عن هذا بأن الأمثلة تعطي أيضا أوصافا محتاجا إليها، لأنه قال: "والواو لاما بعد فتح يا انقلب"، كهذا المثال، والكاف في موضع نصب على الحال من ضمير انقلب، أي انقلب ياء حالة كونه بالصفة التي في المعطى ويرضى، وطاهر أن المعطى فيه للواو أوصاف، وهي كونها طرفا/، ورابعة، والفتحة التي قبلها محولة من كسر، لأن المعطى محول للمفعول من بنية الفاعل، ثم إنه اسم فاعل واسم الفاعل قد تقرر فيه في غير هذا الموضع أنه جار مجرى فعله، وأن الفعل مثله في الإعلال وغيره من الأحكام التصريفية، فتبين أن الفعل كذلك، فإذا الواو إذا وقعت في الفعل طرفا ورابعة ومحولة من كسر إلى فتح فحكمها ذلك الحكم، بل الفعل أحرى بذلك من الاسم، ثم إن الاسم الممثل به جار على فعله في الحركات والسكنات وعدد الحروف، كما تقرر في باب اسم الفاعل، فاقتضى أن كل اسم جار على فعله كذلك، فالحكم المذكور متعلق به، وقد تقدم أنك إذا بنيت مثل جعفر من الغزو فقلت: غزوى، فالألف منقلبة عن

الياء، لأنك لو بنيت منه فعلا لقلت: غزويت، فالاسم الجامد إذا (قد) قدر له فعل يجرى عليه، وذلك الجريان (كان سبب الانقلاب، فصار الجريان) على الفعل في المعطى معتبرا، لكن تارة يكون الجريان تحقيقا كالمعطى، وتارة يكون تقديرا كغزوى، فحصل المقصود من التمثيل باسم الفاعل. وأما "يرضى" فإنه فعل مضارع ماضيه على فعل، أصله الواو، فقلبت ياء، فيجري ذلك الحكم في كل مضارع كان ماضيه على فعل وكانت لامه واوا، (و) لا نبالي أكانت الواو رابعة أم لا، وحرف المضارعة معتدا به أم لا، وهذا هو الذي أراد بلابد. وعلى هذا فلو قيد الواو بكونها رابعة لم يحل له مقصود؛ إذ كان ذلك يوهم في "يرضى" الاعتداد بحرف المضارعة، والمحققون على أنه لا اعتداد به، وأن الواو إنما انقلبت لانقلابها في الماضي لا لكونها رابعة. ولهذا لما قيد المؤلف في التسهيل الواو بكونها رابعة استشكله بعض الشيوخ الأندلسيين وقال: إن المؤلف لم يتعرض لبيان ما تصير به الألف رابعة من الزوائد التي تلحق الكلمة، قال: ولا تعتبر حروف المضارعة في الأفعال، ولذلك يقال: يمحوان. قال: (و) ذكر ابن الضائع اعتبارها في مثل يرضيان ويشقيان ويدعيان، وهو ومشكل باستشكال النحويين ليشأيان في مضارع شأى، وبغير ذلك من

كلامهم، ثم ذكر أن الانقلاب إنما هو الأجل الكسر في الماضي كما تقدم، وهذا في مثاله هنا ظاهر جدا، بخلاف التقييد بالرابعة على الإطلاق في كتابه التسهيل فإنه ليس بقيد محرز. فقد حصل مقصود الناظم بالتمثيل بيرضى ظاهرا، وأما التمثيل بالمعطى ففي تحرير مقصده تكلف كما رأيت، ولو بين أكثر من هذا لكان أولى! ثم قال: "ووجب إبدال واو بعد ضم من ألف (ويا) "، لما أتم الكلام على إبدال الواو إلى غيرها أخذ في إبدال غيرها إليها، فذكر أن الواو تبدل وجوبا لا جوازا من كل ألف وياء وقعت بعد ضمة، ويعني إذا وردت الضمة على حرف بعده ألف أو ياء فإن الألف لا تثبت بعد الضمة، وكذلك الياء لا تثبت بعد كذلك بعد الضمة، لاستثقال ذلك في الكلام، لكن على شرط يذكر. أما الألف فلم يشترط في انقلابها شرطا، ولذلك لما يأت لها بمثال، ومثال ذلك/ ضويرب في ضارب، وخويرج في خارج، وكذلك فاعل وتفاعل إذا بنيتهما للمفعول فقلت: فوعل، وتفوعل، نحو: ضورب زيد، وتقوتل في الدار وكذلك (تقول) في ساباط: سويبط، وفي هاجر: هو يجر، فقلبت الألف واوا لطلب الضمة بذلك. وأما الياء فاشترط فيها شروطا، وذلك ما أشار إليه المثال وهو موقن، وذلك أنه مفرد، ذوياء ساكنة، (مفردة) غير لام. فهذه أربعة أوصاف:

أحدها: كونه مفردًا، وذلك أن موقنا اسم فاعل من أيقن، فهو مشتق من اليقين، فواوه ياء في الأصل، قلبت للضمة قبلها، وهو أيضا جار صفة على مفرد فهو مفرد، ومثله موسر من اليسر، وموقظ من اليقظة، ونحو ذلك. (وإذا ذكرت الصفة جرى في حكمها فعل الذي في حكمها، فإذا (قلت): يوقن، قلبت الياء واو، وكذلك يوسر ويوقظ) على هذا كل ما كان من الأسماء مفردا فحكمه هذا الحكم. فإذا بنيت من البيع مثال فعل (قلت): بوع، أصله: بيع، فصار إلى ما صار إليه موقن. وكذلك إذا بنيت مثل ترتب من البيع قلت: تبوع، أو مثل مفعلة من عاش (قلت) معوشة، أصله: معيشة، فنقلت الضمة إلى العين فصارت الياء ساكنة بعد ضمة، فقلبت واوا فقيل: معوشة، ومنه قول الشاعر: وكنت إذا جارى دعا لمضوفة ... أشمر حتى ينصف الساق (مئزري) وأما معيشة فهي على هذا مفعلة- بكسر العين- إذ لو كانت مفعلة لكانت معوشة، كما تقدم.

فلو كان جمعا نحو بيض جمع أبيض فحكمه خلاف هذا على ما سيأتي إثر هذا إن شاء الله تعالى. وقد جرى الناظم في هذا الحكم على مذهب أبي الحسن، وهو الذي اتبع في التسهيل، وأما الخليل وسيبويه والجمهور فمذهبهم أن فعلا من البيع يقال فيه: بيع، وأن مثال ترتب منه يقال فيه: تبيع، وأن مفعلة من عاش يقال فيه: معيشة. فمعيشة المسموع يحتمل على مذهب الجمهور أن يكون مفعلة- بكسر العين- أو مفعلة بضمها، وما جاء من قوله: وكنت إذا جارى دعا لمضوفة شاذ. وكذلك (ديك) وقيل يحتمل عندهم أن يكون فعلا وفعلا، (وعند الناظم لا يكون إلا فعلا بالكسر، وكذلك التيه يجوز أن يكون فعلا وفعلا) عند الجمهور. وأما التوه فلا يجوز عندهم أن يكون إلا من الواو، (و) عند الناظم يجوز أن يكون من الواو أو من الياء على ذلك التقرير. والتفريع على القولين يتسع، ولكن حجة ما ذهب إليه الناظم أن قلب الضمة كسرة إنما استقر في الجمع نحو: بيض في جمع أبيض، ولم يستقر في المفرد، والقياس يقتضي التفرقة بين الجمع والمفرد، لأن الجمع أثقل من الواحد فهو أدعى للتخفيف، فلذلك قلبت الضمة كسرة في الجمع لتصح الياء، ولم تقلب الياء واوا، لأن الياء أخف من الواو. وأما المفرد فإنه أخف من الجمع فاحتمل الواو.

ومن الدليل على الفرق بينهما في ذلك أنا قد وجدنا الجمع يقلب فيه ما لا يقلب في الواحد، ألا ترى أن الواوين المتطرفتين تقلبان ياءين في الجمع كعتي وجثي في جمع عات، وجاث، ولا تقلبان في المفرد إلا شذوذا كمرضى ومسنية، بخلاف المفرد/ فإن عدم القلب هو الباب، ولا يكون الجمع إلا شاذا، نحو ما حكاه سيبويه من قولهم: إنكم لتنظرون في نحو كثيرة، وكذلك (قالوا) صيم في جمع صائم، ولا يجوز في حول المفرد: حيل. وقد احتجوا أيضا بمضوفة المتقدم، وهو من من ضاف يضيف إذا حذر وخاف. والذي رجحوا مذهب سيبويه والخليل، وذلك لأن العلة التي لأجلها انقلبت الواو ياء في الجمع موجودة في المفرد، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. وقد فرق الأخفش بما تقدم، وأيضا فإنه لم يجيء فعل مما عينه ياء على مذهب الأخفش، وكل ما جاء على لفظ فعل بالواو فتصريفه بالواو لا بالياء. فإن قيل: إنما كان ذلك لكراهية قلب الياء واوا. قيل: فلم جاء في الفاء (القلب) ولم يجيء في العين؟ ما ذاك إلا لأن العين حكم لها بحكم اللام، فقلبت الضمة لأجلها، وهو ما نزع سيبويه نحوه. وأما مضوفة فمن الشاذ على مذهب الجمهور. وقد استدل الأخفش بقولهم للريح الحارة: هيف وهوف، والأصل الياء، فهوف- بلا شك- فعل منه، انقلبت ياؤه واوا كما كان ذلك في

مضوفة، وفي ذلك تقوية لما قال وإضعاف للدليل المتقدم من أنه لم يجيء فعل مما عينه ياء. وقد رام ابن عصفور الانفصال عن هذا باحتمال أن يكون هيف وهوف لغتين كالتيه والتوه، واحتمال أن يكون هيف أصله هيوف مثل ميت وهين، ثم أدغمت الياء في الواو، فصار "هيف"، ثم خفف فصار هيف كميت. وهذا عند غيره ضعيف؛ قال ابن الضائع: تركيب هـ وف لم يأت، وهو نادر. وأيضا فالهيف هو الريح ذات السموم المعطشة؛ وقالوا: رجل هيوف ومهياف: إذا كان لا يصبر عن الماء، وهو اشتقاق صحيح وتصريف دال على خلاف ما قال ابن عصفور، وأيضا فإنهم لم يقولوا: هيف كما قالوا: ميت، فلو كان أصله ذلك لنطقوا به كما نطقوا بأصل ما كان عليه فيعل، وقال الفارسي في التذكرة: أظن القاسم حكى في مصنفه عن الفراء: رجل ضورة، للذليل الفقير، فإن يكن ذلك كما أظن ففيه حجة لقول أبي الحسن في قلب الياء واوا في نحو بيض إذا لم يكن جميعا كما كان قوله: وكنت إذا جارى دعا لمضوفة حجة له. يعني- والله أعلم- أنه من الضير، بمعنى الضر، فهو إذا من الياء. على أن الجوهري حكى في كتابه: ضاره (يضوره) يضيره ضورا وضيرا، فلا يكون فيه على هذا حجة لإمكان كونه من الواو، إلا أن يثبت أنه على لغة الياء. وقال فيها أيضا: فعول عزيز في الواحد مطرد في المصدر

والتكسير، فدل على هذا مشابهة المصدر لعمومه وشياعه التكسير لتجاوزه وكثرته. قال: وإذا كان كذلك لم يكن لصاحب الكتاب حجة في العيسة مصدرا لأعيس على أبي الحسن فيما يقوله في ديك وقيل. قال: مثله أعين بين العينة، حكاها الفراء. وعلى هذا فدليل الأخفش قد يظهر وجهه، ولهذا- والله أعلم- ارتضى الناظم مذهبه. فإن قيل: فلم حملت مذهب الناظم على أنه مذهب الأخفش ويمكن أن يكون مذهبه هنا مذهب سيبويه والجماعة/ من جهة أنه إنما مثل بموقن، وهذا المثال وما كان نحوه لا يختلف فيه سيبويه والأخفش، لأن الحرف المبدل قد بعد من الطرف، وإذا كان كذلك فقد قال سيبويه في فعلل من الكيل: كولل. وكذلك فعلل فعلا تقول فيه: كولل، كما تقول في بيطر: بوطر، وقد أنشد سيبويه: مظاهرة نيا عتيقا وعوططا ... فقد أحكما خلقا لها متباينا وعوطط: فعلل من تعيطت الناقة. وإنما لم يخالف في هذا لبعد الياء من الطرف، فقويت الضمة عليها، فإذا لم تكن بعيدة من الطرف كفعل

من البيع اختلف الأخفش وسيبويه كما تقدم، ومثاله (إنما) يشير إلى موضع الوفاق؟ فالجواب: أنه وإن احتمل هذا فالأولى أن يحمل على أنه يشمل المتفق عليه والمختلف فيه؛ إذ لو كان ذلك مراده لم يقل بعد ذلك: "ويكسر المضموم في جمع"، فخصه بالجمع، بل كان يعم به فعلا كان من الجموع أو من المفردات، (وإلا) فكان ينقصه من أجزاء المسألة جزء كبير، فلذلك كان الأولى التفسير المتقدم، مع أنه يمكن أن يكون ذكر الجزأين المتفق عليهما وهما ما بعد حرف العلة فيه عن الطرف، إذ كان من فعل جمعا وترك بينهما واسطة هي في محل الاجتهاد، والله أعلم. والوصف الثاني من أوصاف المثال المتقدم: كون يائه ساكنة، فإنها إذا كانت كذلك قويت الحركة عليها فقلبتها، وذلك أن الياء والواو أختان بمنزلة ما تدانت مخارجه من الحروف كالدال والتاء والذال والثاء ونحو ذلك، وقد رأيناهم يغلبون إحداهما على الأخرى إذا سكنت نحو: سيد وميت، أصله: سيود وميوت، فقلبت الواو ياء ليكون العمل (من جنس واحد، وكذلك طيه ولية، ففعلوا مثل ذلك ليخف العمل) فيهما، ولما وجب هذا في الواو والياء لما فيه من الخفة وجب نحو ذلك في أميهما،

فأجريت الضمة مجرى الواو، والكسرة مجرى الياء، لأنهما بعضهما، فكما قلبت الواو للكسرة قبلها ياء، كذلك قلبت الياء للضمة قبلها واوا. وإنما قويت الحركتان وإن كانتا ضعيفتين على قلب الياء والواو، من قبل أنهما لما سكنتا ضعفتا، فقويت الحركة على إعلالها وقلبهما، فكما تقلب الواو المتحركة في نحو سيد وقيم، كذلك قلبت الكسرة الواو الساكنة، والضمة الياء الساكنة، أما الأول فنحو ميقات، وأما الثاني فنحو موسر، وذلك أن الحرف أقوى من الحركة، فلما قلبت الياء بقوتها الواو المتحركة كذلك قلبت الضمة والكسرة والياء الواو الساكنتين دون المتحركتين لضعفهما. هذا ما قال ابن جني. فأما لو تحركت الياء فلا تنقلب إلا قليلا لقوتها بالحركة، وذلك نحو شييخ وبييت، في تصغير شيخ وبيت، وما أشبه ذلك. والذي جاء من ذلك قليلا ما نقل السيرافي عن بعضهم في شيخ: شويخ وفي بيت: بويت. وقد حكى سيبويه في ناب: نويب، ووجه ذلك بأن الألف في ناب ونحوه لما كان الأكثر فيها أن تكون منقلبة عن واو غلبوا الواو عليها حملا على الأكثر. قال ابن الضائع: وهاتان اللغتان- يعني القلب وعدمه- نظيرتا قيل وبيع، وقول وبوع، فيما بني للمفعول، قال: وعلى هذا يجوز في الناب (نييب، بالضم والكسر، وقد حكي فيه سيبويه/ نويب)، قال: ويقوي توجيه سيبويه ضم الأول، ألا ترى أن الضم هو الموجب للواو في تصغير بيت فقط. فإذا ثبت أن هذا القلب لغة قليلة لم يعتد بها الناظم

ولا عدها، وأيضا (فإن) هذه اللغة لا تكون في جميع الباب، ألا ترى أنك لا تقول في عيبة: عوبة، ولا في هيام: هوام، ولا ما كان نحو ذلك. فإذا القلب ههنا غير قوي ولا مطرد. والوصف الثالث: أن تكون الياء مفردة، وذلك في موقن ظاهر، فإن لم تكن مفردة بل كانت مع ياء أخرى ضاعفتها لم يحكم بالانقلاب واوا وإن كانت الياء ساكنة، فبيع فعل من البيع على وزن سلم، أو من الحيض إذا قلت: حيض لا جمع حائض، لا تبدل فيه الياء واوا، فلا تقول: بويع ولا حويض، وكذلك ما أشبهه. ووجه ذلك أن الياء إذا أدغمت بعدت عن الاعتلال وعن شبه الألف، لأن الألف لا تدغم أبدا، فإذا قويت لم تتسلط الحركة قبلها عليها فتقلبها كما لم تتسلط عليها عين تحركت. ثم اعلم أن هذا الإفراد المشار إليه بالمثال تارة يكون تحقيقا كجميع ما تقدم من المثل، وتارة يكون مقدرا وإن كان ظاهر الأمر أن الياء غير مفردة، فيحكم إذ ذاك بما هي عليه في الحقيقة من الإفراد، فتقلب واوا للضمة، فإذا بنيت نحو بيطر من البيع قلت: بيع فتدغم بالضرورة، فإذا بنيته للمفعول قلت: بويع، فتقلب الياء الساكنة واوا للضمة لأنها غير مضاعفة، والإدغام هنا في بنية الفاعل عارض، وإنما الياء هنا كياء بيطر، وأنت تقول فيه: بوطر، فكذلك بويع، لكون الياء الثانية كالحرف الأجنبي، وكذلك إذا بنيت مثل بيطر من القول فهذا يقال فيه: قيل، أصله: قيول، فإذا بني للمفعول قيل: قوول. وكذلك ما كان نحو هذا. وهو تنبيه حسن في معناه، فتنبه له، وقد مضى منه شيء قبل هذا،

ولم ينبه عليه في التسهيل في هذه المسألة، وإن كان قد نبه عليه في مسألة قلب الواو (الساكنة) ياء للكسرة. والوصف الرابع: كون الياء غير لازم. هذا أيضا ظاهر فيما تقدم من المثل، فإن كانت الياء لاما ولا تكون ساكنة أيضا فإن لها حكما سيأتي إن شاء الله تعالى، حيث ذكره، حاصله أن الياء لا تقلب للضمة. وقول الناظم: "بذا لها اعترف"، الاعتراف: الإقرار، اعترفت بحق فلان قلبي. وكأن الاعتراف يدور على معنى الإقرار بثبوت حق قبل المقر، لثبوت الحجة عليه؛ إذ لا يقال في الغالب إلا فيما كان عليه من الحقوق حجة ظاهره. ولكن يقال: ما فائدة ذكر هذا هنا؟ وإنما يظهر أنه فضل لا مزيد فائدة فيه كبعض أشياء تندر منه لا يكون فيها زيادة. والجواب عن ذلك أنه لم يقصد بهذا الكلام تمام لفظ البيت فقط، وإنما أراد به شد عضده فيما ذهب إليه من مخالفة الجماعة عند ارتكابه مذهب الأخفش وحده، وذلك أنه قد نصب نفسه في منصة الاجتهاد كما تقدم مرارا، وعادة المجتهد أن يتبع الدليل فيصير إلى ما صيره إليه، فكأن قائلا قال له: لم تركت الجماعة/ واتبعت مذهب غيرهم؟ فأجاب بأن الدليل قام عليه حتى أقر أنه الحق والذي ينبغي أن يتبع، وإن كان المذهب الآخر عليه الجمهور فليس ذلك بحجة عليه تلزمه الرجوع إليهم، بل المسألة بعد اجتهادية ما لم ينعقد الإجماع فيكون الراجع عنه مخطئاً،

ويكون الدليل شبهة غير صحيحة. فلم يأت بهذا الكلام إلا لينبهك على هذا المعنى، والله أعلم. وقوله: "ووجب (إبدال واو) ... " إلى آخره، تضمن في الشعر، وهو فيه قبيح، وأقبح قبيحه أن يتصل آخر كلمة من البيت الأول بأول كلمة من البيت الذي يعده، كهذا الذي فعل الناظم، وهو في النظم كثير جدا. وقد مر التنبيه عليه. ثم أخذ في ذكر ما استثنى من الجمع فقال: ويكسر المضموم في جمع كما ... يقال: هيم، عند جمع أهيما يعني أن الياء إذا وقعت قبلها الضمة، وكانت الياء على الأوصاف المذكورة، من كونها ساكنة مفردة غير لام فإنها لا تقلب واوا لأجل الضمة قبلها كما فعل بالمفرد، بل ينعكس الحكم في الجمع فتقلب الضمة لأجل الياء كسرة، فتقول في جمع أهيم: هيم، وهو مثاله، أصله هيم، من الهيام وهو أشد العطش، ورجل أهيم وامرأة هيماء، وكذلك بعير أهيم، أي: أخذه الهيام، وهو داء يأخذ الإبل فتهيم، أي: تذهب في الأرض لا ترعى، وناقة هيماء، قال كثير عزة: وإني قد أبللت من دنف لها ... كما دنفت هيماء ثم استسلت

فاستثقلوا الياء بعد الضمة لتباينهما فأدى ذلك إلى إعلال أحد المتباينين؛ إما الضمة للياء، وإما الياء للضمة، لكن الياء لما كانت تلي الطرف عوملت معاملة الطرف، فكما أن الياء إذا كانت طرفا وقبلها ضمة تقلب الضمة كسرة كأظب، أصله: أظبى كأفلس، فكذلك إذا كانت تلي الطرف؛ ولذلك قالوا: صيم وقيم قفلبوا الواو ياء: لما كانت تلي الطرف، ثم لما تباعدت عنه حين قالوا: صوام وقوام، لما يقلبوا. وهذا ظاهر. ومثل ذلك بيض في جمع أبيض، وعين في جمع عيناء أو أعين، وكذلك صيد في جمع أصيد، ورجل أميل ورجال ميل، قال الأعشي: غير ميل ولا عواوير في الهيجا ولا عزل ولا أكفال (وهو كثير). فإن فقد وصف السكون لم تقلب الضمة وجوبا نحو: غير في جمع غيور، وبيض في جمع بيوض، وكذلك ما أشبهه. فلا تقلب الضمة كسرة لأجل تحرك الياء، نعم لو فرضت تخفيفها بإسكان ضم الياء على حد قولهم في رسل: رسل، لقلت: بيض، فكسرت؛ لأنه قد صار- بالتسكين- إلى وزان فعل؛ فيصار به مصير فعل؛ فنقول: بيض وغير، وما أشبه ذلك.

وإن فقد وصف الإفراد فلا يكون ذلك الحكم أيضا، وذلك نحو بيه جمع بائع، وحيض جمع حائض لا يقال فيه: حيض ولا بيع. وكذلك في عيل جمع عائل، وسيل جمع سائل، قال أبو النجم: كأن ريح المسك والقرنفل ... نباته بين التلاع السيل وأنشد ابن جني" فتركن بهزا عيلا أبناؤها ... وبني فزارة كاللصوت المرد فلا تقلب الضمة في شيء/ من هذا. ووجه هذا (أن الياء المشددة قوية ليس لها ضعف المفردة كما تقدم قبل هذا، فكما) أن الياء إذا كانت مشددة لا تقلب للضمة قبلها (واوا) فلا تقول في مثل سلم من البيع: بويع، فكذلك لا تقلب الضمة لها، كانهم قصدوا بهذا نوعا من الموازنة. وكذلك الواو المشددة لا تقلب ياء للكسرة قبلها، فكذلك الضمة لا تقلب كسرة للياء المشددة، وأما نحو لي جمع ألوى فإن فيه جائز والضم جائز وذلك لأجل أن العين باللام مضاعفة فاعتبر فيها، هذا النحو، لكن لما كان

هذا التضعيف باللام لا بالعين (وحدها) اعتبر فيها ذلك المقدار، فكان الكسر أولى عندهم. فالحكم في مثل هذا مذبذب، إذ كانت اللام ليست بأجنبية من العين، لأنهما أصلان، بخلاف الحرف الزائد فإنه أجنبي، فلذلك لم يعتبر تضعيف العين (به) كما تقدم. وإن فقد وصف كون الياء غير لام فكانت لاما فحكمها أيضا حكم هيم ونحوه، لكنه سيذكرها بعد هذا على تفصيل (غير تفصيل) الحكم في هيم، فلذلك أخر ذكر ذلك عن هذه المسألة، والله أعلم. وواوا آثر الضم رد اليامتي ... ألفى لام فعل أو من قبل يا كتاء بان من رمى كمقدره ... كذا إذا كسبعان صيره وإن يكن عينا لفعلي وصفا ... فذاك بالوجهين عنهم يلفى هذه مواضع أخر من قلب الياء واوا للضمة قبلها، فأولها أن تقع الياء لاما في فعل، وذلك قوله: "وواوا اثر الضم رد اليا متي. ألفى لام فعل". يعني أن الياء إذا وجدت في الكلام لاما لفعل لا لاسم فإن الياء ترد إلى الواو للضم

الذي قبلها؛ وذلك أن الضمة توجد كذلك على وجه واحد، وهو أن يكون الفعل ماضيا، فإنه إن كان مضارعا كان على يفعل لا على يفعل، فلا تقع فيه (الياء بعد الضمة)، ولا يوجد في الماضي غير محول إلا في فعل واحد، وذلك نهو، أصله: نهي، من نهيت. وإنما امتنع ذلك في كلامهم لما يؤدي إليه من الخروج من الأخف إلى الأثقل؛ إذ يلزم فيه قلب الياء واوا كما فعلوا في نهو، لأن حركة العين تقوى على اللام وإن تحركت، من حيث كانت (اللام) ضعيفة، بخلاف ما إذا كانت عينا وهي متحركة فإن الضمة لا تقوى عليها كما تقدم، وإذا كان كذلك لم يكن بد من قلب الياء واوا، والياء أخف من الواو، مع أنهم إذا أتوا بالمضارع كان ولابد على يفعل، لأن باب فعل أن يكون على يفعل، فكنت تقول مثلا: رمو يرمو، فيجتمع في الماضي والمضارع واو، والضمة كالواو، فكان كاجتماع واوين، وذلك ثقيل، فهربوا مما كان مؤديا إلى ذلك. بخلاف الواو إذا وقعت لاما نحو: سرو، فإنه لا يلزم فيه خروج من خفة إلى ثقل، فاستعملوه وأهملوا الآخر. فإذا ثبت هذا لم يبق مما يقع عليه هذا القانون من الماضي إلا المحول إلى فعل من غيره، وذلك فعل اللازم له معنى التعجب، (وذلك) نحو: كرم الرجل زيد، وما/ أشبه ذلك. فإذا بني مثله من فعل لامه ياء

لزم فيه لأجل قصد التعجب فعل، ولا ينقل إلى فعل لئلا يلتبس به، فاعتزموا عليه وقالوا: لقضو الرجل، من قضي يقضي، ورمو من الرمي، ونهو من النهي، وهدو من هدى يهدي، وكذلك ما أشبهه، فقلبوا فيه الياء واوا؛ إذ لم يمكنهم غير ذلك، فالفعل الذي أراد هو الفعل الماضي المبني على فعل، وهو عنده من المطرد في القياس، ولو فرضنا أن ليس بمقيس لكانت عبارته فيه صحيحة، لأنه إنما قال: "متى ألفى لام فعل"، أي: إذا وجد هذا في كلام العرب فحكمه هذا، بل لم يلتزم هو أن يوجد، فلا يعترض عليه بأن ذلك سماع فكيف تثبت له هنا قاعدة مطردة، لأن هذا من القواعد التصريفية الجارية في القياس وجد مقتضاها في السماع أو لم يوجد؛ ألا ترى أنهم يفرضون أشياء فيه أن لو كانت كيف تكون. الثاني من المواضع: أن تكون الياء الواقعة بعد الضمة في آخر اسم لاما له أو غير لام، لكنها قبل تاء التأنيث، وكأن هذا الكلام من الناظم في (قوة) تقسيم، وهو أنه لما ذكر أولا حكم العين وما في حيزها في القلب وعدمه أخذ يذكر الآن اللام وما في حيزها أيضا، فكأنه يقول: إذا وقعت الياء بعد الضمة في آخر كلمة فإنها تبدل واوا في موضعين: أحدهما: أن تقع لاما لفعل. ولم يستثن من ذلك شيئا، لأنها لا تكون آخر الفعل إلا لاما له.

والثاني: أن تقع آخر اسم، لكن بشرط أن يكون في آخره هاء التأنيث أو الألف والنون. وماعدا هذين الموضعين فلا تقلب فيه الياء واوا على ما سيذكر إن شاء الله تعالى. فأما ما آخره الهاء فهو الذي نبه عليه بقوله: "أو من قبل تا". وهو معطوف على معنى "لام فعل"، لأن معناه: في موضع اللام، إذ ليست لام التمثيل بعينها، فجاء قوله: "من قبل تا" معطوفا على هذا المعنى، كأنه قال: ألفى في موضع اللام، أو من قبل تاء. لكن لما كان قوله "من قبل تا" لا وجود له في كلام العرب على هذا المثال الذي يذكره؛ إذ لم يسمع مثال مقدرة من الرمي في الكلام، وإنما هو فرض فرضوه على قولهم عرقوة وقمحدوة ونحوهما- لم يترك كلامه مبهما (فقال): "لتاء بان من رمى كمقدرة"، أي: كالتاء الموجودة في بناء من بنى من رمى مثل مقدرة. فقوله: "كتاء بان" على حذف مضاف، أي: بناء بان، إذ الباني بنفسه ليس له تاء إلا في بنائه الذي بني، وبناؤه المبني على هذا المثال هو قولك: مرموة، لأن شرط البناء مقابلة الأصلي بالأصلي والزائد بالزائد، كما هو مذكور في الكتب المبسوطة، فالأصل أن يقال هنا في البناء من رمى: مرمية. وهذا الذي أشار إليه بأن تقلب ياؤه واوا للضمة، وكذلك ما كان نحوه من بنائك على مثال مقدرة من سرى يسري فتقول: مسروة، أو من بني فتقول: مبنوة أو من عنى يعني فتقول: معنوة. وكذلك ما أشبهه، فتقلب الياء واوا، ولا تقلب الضمة كسرة فتصح الياء، قالوا:

لأن الكلمة لما بنيت على هاء التأنيث فصارت غير مفارقة لها صارت الواو فيها بمنزلة واو قمحدوة/ وقلنسوة وعرقوة وترقوة، فقد جرت الهاء هنا مجرى الألف والنون على ما يأتي في كون الكلمة مبنية كلها لم تكن الكلمة موجودة قبل الألف والنون في نحو: عثمان وعمران، فكنت أولا تستعمل عثم وعمر ثم دخلتا عليهما، فكذلك المسألة الأخرى، لم يكون قمحدو، وعرقو، ونحوهما، هكذا مستعملا ثم دخلت عليه التاء. ويتعلق بكلامه هنا مسألتان: إحداهما: أن من شرط هذا الحكم الذي قرر في مثال مقدرة من الرمي أن يكون مبنيا على تاء التأنيث كما تقدم في التعليل أنفا، فإنها أن لم تكن الكلمة مبينية عليها لم يصح هذا الحكم، بل ينعكس الأمر، فتحكم اللام على الضمة فتنقلب كسرة، فتقول في مرموة: مرمية، كما لو قدرت سقوطها من قمحدوة لقلت: قمحدية. إلا أن العرب عاملته على لزوم التاء، ولأجل هذا الشرط يقول المازني وغيره حين يذكرون هذا: تقول في مفعله من رميت: مرموة، إذا بنيتها على التأنيث، ومرمية، إذا بنيتها على التذكير. ومعنى ذلك أن تقدر الكلمة من أول أحوالها غير منفكة من التاء أو تقدرها منفكة وإن لم ينطق بها إلا بالتاء، فهو عندهم أمر تقديري، ؤإذا كان كذلك فالناظم لم يشترط هذا الشرط، ولا ظهر من كلامه إشارة إليه، فاقتضي أنك تقول: مرموة، وإن قدرت

أنه أتى (به) على التذكير. وذلك غير صحيح، بل الحكم عندهم- كما ذكرت- لك، فكلامه إذا مشكل. والجواب عن هذا: (أن) في كلامه ما يرفع عنه الاعتراض، وذلك أنه قد تقرر من مذهبه في هذا النحو على ما بينه لنا شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف- رحمه الله- أن اللزوم وعدمه عنده ليس إلا من جهة السماع فما سمع في مثاله النطق بالمذكر فهو الذي يصح فيه عنده وعند غيره البناء على التذكير، (و) مالم يسمع فيه المذكر فهو المبني على التأنيث، وهو مذهب سيبويه والحذاق، ولذلك قيد هنا التاء بكونها في مثال لم يسمع له بمذكر (وهو مقدرة)، فقال: "كتاء بان من رمى كمقدرة"، والكاف هنا في موضع الصفة لتاء، كأنه قال: أو من قبل تاء هذه صفتها. فالمثال فيه تقيد ضروري هو هذا، فإذا بنيت من الرمي مثلا مثل فعله قلت: رمية، إن لم تقدر بناءه على التاء، لأنك بنيت على مثال مالا يلزمه التاء، بخلاف ما إذا بنيت منه مثال مقدرة فإنك (لا) تقول إلا مرموة، ولا تقول في هذا: مرمية، كما (لا) تقول في الأول: رموة، لأنه ليس لك الخيرة في ذلك دون العرب. هذا قياس ما قال: ولذلك بنت العرب في عرقوة (و) قمحدوة على التأنيث البته؛ إذ ليس في الكلام وزان

فعلو ولا فعلو، ولم تنطق العرب قط بعرق ولا قمحد على معناه وهو بالتاء. وأما القلنسي والعرقي فجمع لا مفرد. فإذا ثبت هذا مقدرة الذي مثل به مما بنى على التاء في مذهبه البتة، لأنه لم ينطق له بمذكر، ولا في الكلام مثال مفعل، وأما مكرم ومعون فهو إما/ غير ثابت وإما شاذ، فلا يكون ما بني على مثاله إلا كذلك، وهذا واضح فلا اعتراض عليه حيث اختار اصح المذهبين. وقد أثمر اشتراطه لكون التاء مثلها في نحو مرموة أن يجري ذلك الحكم في كل تاء شانها أن تبني عليها الكلمة إما سماعا كما تقدم، وإما اعتقادا لذلك فيها، فإنك إذا بنيت مثال ما فيه التاء فلك أن تعتقد بناء الكلمة عليها مع كونها قد سمع سقوطها في مثاله، وأن تعتقد سقوطها، وتبني الحكم على الاعتقادين؛ فإذا بنيت من الرمي مثل مفعلة قلت على اعتقاد البناء على التاء: مرموة، بمقتضى كلام الناظم، لأنه شرط في قلب الياء واوا للضمة بناء الكلمة على التاء، وتقول على اعتقاد السقوط: مرمية، فلا تترك الضمة بل تقبلها كسرة والواو ياء؛ إذ تخلف شرطه، فيدخل في باب أدل وأجر. وكذلك إذا بنيت من الرمي مثل حذرة قلت: رموة على البناء، ورمية على عدمه. ومنه ما تقدم من بناء فعلة، ومن ذلك كثير، فكل ما اعتقد فيه البناء على التاء فلا حق بمرموة، وكل ما لحظ فيه لحظ السقوط فخارج عن حكمه، وهذا ظاهر.

والمسألة الثانية: أنه فرض ههنا بناء مثال آخر وأجازه، أما فرض البناء فكأنه (غير) متفق على صحته عند الحذاق في الجملة، وقد بوب عليه سيبويه، وهو أن تبنى من المعتل ما له نظير من الصحيح وتبين وجه اعتلاله. وتعدى به الناس إلى البناء (من) الصحيح ما له نظير من الصحيح، وهو من الاختراع الحسن في معناه، وهو في المفردات نظير باب الإخبار في المركبات وكثيرا ما يغلط (الناس) فيه كغلطهم في الأخبار أو أشد، لصعوبة مرامه، وبعد أغراضه، ولطف الصنعة، فيه، وخفاء مبانيه. لكن من تنبه له وتمرن فيه عد نبيل القوم، ورافع راية الإمامة في التصريف. والناظم قد ظهر منه إجازة ذلك كمذهب الجمهور، وذهب الجرمي إلى المنع من ذلك رأسا محتجا بأن النحوي إنما كلامه فيما تكلمت به العرب، وفيه تقع الفائدة المطلوبة من النحو، لأن اختراع اللغة باطل، وإذا كان كذلك فلا معنى لها الفن، وإذ هو تشاغل بما لم تتكلم به العرب، فهو تعطيل للزمان من غير ثمرة. والذين أجازوا اختلفوا على القولين: أحدهما: جواز البناء مطلا كان له نظير في كلام العرب أو لم يكن. وهو مذهب الأخفش، وحجته أنك بنيت مثلا مثل جالينوس أو

مرزنجوش أو آجر، فلا يعني أن ذلك من كلام العرب، وإنما ذلك على جهة التدريب والتعليم، أي: لو بنت العرب مثل هذا من الغزو مثلا أو من الرد لكان على ماثبت من أقيسة كلامهم، فكما يتشاغل بالتعليل والتوجيه فيما أعتل من كلامهم وما لم يعتل على أن القصد من ذلك تثبيت القوانين وتأكيد تعليمها، كذلك في هذا أيضا تثبيت القوانين الثابتة من كلامهم وتأكيد. وكان أبو الحسن لأجل هذا يبني جميع ما يسأل عنه، فيقول: مسألتك/ ليست بخطأ وتمثيلي عليها صواب. قال: فإن أبي صاحبك فقل له: فلو جاء فكيف كان ينبغي أن يكون، فإنه لا يجد بدا من الرجوع إليك. وأيضا فإن ضرنببا إذا بني على مثال جحنفل لا معنى له في كلام العرب، فلم لا نبني على ما لا مثال له أيضا، وكلاهما ليس من كلامهم. قال السيرافي: ويقومه أن القائل: ابن لي مثل جالينوس لم يكلف أن يجعل هذا (البناء) من كلامهم. والقول الثاني: مذهب سيبويه، وهو المتوسط، وهو أن في البناء من المعتل المضاعف مثل ما ورد في الصحيح كفاية في التدريب، من أنا لا نخرج بالجملة، عن نظائر كلامهم، وأما البناء من الصحيح فليس فيه تدريب، فلا ينبني منه (شيء)، لأن لنا شغلا فيما نقل من كلامهم. قال ابن الضائع: وجميع هذه المذاهب صحيح. قال: وعندي أنه لا خلاف بينهم، وإنما هي مذاهب في زيادة التعليم. يريد: لا أنها مذاهب في

الإلحاق بكلام العرب ما لم يوجد فيه. وذكر أن وضع مثل هذا وضع لغة لم تكلم بها العرب. وقد نقل هذا الخلاف على معنى أنه ينطق به في الكلام، ويلحق بكلام العرب، ويجوز استعمال تلك الأبنية في ضرائر الشعر أو غيرها، وهو مذهب ابن جنى نصا. وليس الكلام في ذلك هنا، وإنما الكلام هنا على جواز البناء على الجملة أو عدمه، ولا شك أن الناظم حين فرض البناء قائل بقول الجمهور في الجواز لكن لا يتعين هنا مذهب الأخفش من غيره، لأنه بني على ما وجد مثله في كلام العرب، وأيضا فهو بناء من المعتل إذ هو من رميت على مثال الصحيح، وهو مقدرة، وسبعان، وهو الراجح في النظر عندهم لما فيه من التدريب والاعتياد لقوانين التصريف وغيره حتى يصير هذا العلم ملكة في قريب من الزمان. وإن أردت بسط الخلاف على أتم من هذا فابن جنى في المنصف قد أتى فيه ببسط على وجه آخر وطريقة أخرى، وذكر ذلك السيرافي وغيره. وأما ما آخره ألف ونون فهو الذي أشار إليه بقوله: "كذا إذا كسبعان صيرة" الهاء في "صيره" عائد على البناء المتقدم وهو البناء من رمى، يعني أن هذا الحكم المذكور من قلب الياء واوا للضمة قبلها ثابت فيما إذا بنيت من رمى مثل سبعان، فالأصل أن تقول: رميان، بإظهار الياء، لكن لما كانت الياء ضعيفة لأنها لام، واللام أضعف من العين قويت الضمة عليها ولم تقو على العين، ألا ترى أنك تقول: رجل عيبة، فلم تقلب الياء واوا لكونها عينا، بخلاف اللام لضعفها، ولم تقلب الضمة كسرة للياء لكون الكلمة قد بنيت عليها فصارت

حشوًا بالألف والنون، وهما أشد في بناء الكلمة عليهما من التاء، لأن الهاء قد تعد كالكلمة المنفصلة، بخلاف الألف والنون فإنها حروف الكلمة البتة، وعلى هذا تقول في فعلان من حييت: حيوان فتقلب الياء الثانية واوا للضمة كما فعلت ذلك في رموان وما أشبه ذلك. فإذا تقرر هذا فاعلم أنه يتعلق/ بكلام الناظم أشياء: أحدهما: أن قوله: "واوا آثر الضم رد اليا"، ظاهره أنه يريد الضم على اطلاقه والضم تارة يكون ظاهرا كما تقدم من الأمثلة وتارة يكون خفيا وذلك حيث يسكن تخفيفا، فنص سيبويه وغيره على أن الحكم في ذلك واحد، فإن ذهاب الضمة للتخفيف لا يرفع حكمها، لأن زوالها عارض، فأما في فعل من الفعل فإنك تقول: لقضو الرجل، وهو من قضى يقضي، وهذا مسموع فتركوا الواو على حالها بعد التكسير لأنه في حكم الظهور، وعلى هذا تقول في رمو: رمو، وفي نهو، نهو، ولا ترد الواو إلى أصلها. وأما في فعلان فتقول في: رموان: رموان، وفي حيوان: حيوان، ونترك الواو على حالها لو ظهرت الضمة، لأنها مقدرة الظهور. وكذلك إذا بنيت فعلان من الرمي ثم سكنت العين لقلت: رموان، كما أنك إذا قلت في بناء فعلة أو فعلة منه: رموه ورموة ثم سكنت لقلت: رموة ورموة. والمسائل كثيرة، والتفريع متأت. والثاني: أنه قد ظهر من استقراء كلام الناظم أن تمثيله في هذه المسألة إنما هو بالمعتل اللام وحدها، فظهر بذلك قصده إلى ذكر ذلك وحده دون المعتل

العين واللام معا، فإن ذلك إنما يتأتى فيما مثل به لا في غيره، فإنك لو أردت أن تبني من طويت أو حييت مثل فعل لم يجز، لأنك تقول في المبني من حيى: حيو، وليس ذلك بموجود في الكلام، أعني أن يكون ما عينه ولامه ياءان على فعل، وكذلك لو قلت: طوو، لم يكن لذلك نظير في الكلام لما فيه من ثقل التضعيف. ولذلك أمتنع أن تبني من القوة والحوة على فعل، وأيضا لو فرضناه لوجب الإدغام كما تقول في فعلان من طويت: طيان. وكذلك لو بنيت منهما نحو مقدرة لم يجز، لأنك كنت تقول في طويت: مطووة، وهذا غير جائز لأجتماع الواواين ولذلك قال سيبويه والخليل في ترقوة من الغزو: غزوية، لا غير، ولم يجز غزووة لاجتماع الواواين، وإنما يجوز من ذلك البناء من حيى فتقول: محيوة، وكذلك إذا بنيت منه فعلان قلت: حيوان ذكره المازني على أنه منازع فيه (وفيما قبله) غير متفق عليهما. وكذلك يجوز- على خلاف- أن تقول من طويت: طووان، على إجازة سيبويه قووان من القوة، وغيره يمنع ذلك. وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا كثيرا. والثالث: أنه ذكر حكم الآخر مع التاء، ومع الألف والنون، ولم يذكر حكمه مع ألفي التأنيث مع أنهما كالألف والنون في ذلك، فإنك تقول إذا بنيت مثال الأربعاء من الرمي: أرمواء، أصله أرمياء، وكذلك مثال الأربعاء: أرمواء،

أصله أرمياء، فكان من حقه أن يذكر ذلك، وقد نبه عليه في التسهيل حيث قال: "وتبدل الألف واوا لوقوعها إثر الضمة"، ثم قال: "والواقعة آخر فعل، أو قبل علامة تأنيث بنيت الكلمة عليها. وأطلق في علامة التأنيث ولم يقيدها بهاء دون غيرها، إلا أنه جرى على عادة الجمهور إذ لم يفرضوا ألفي التأنيث في هذه المسألة كسيبويه والمازني وابن جني وغيرهم. والرابع: أن/ هذا الفصل تقرر فيه أن الضمة إذا وقعت بعدها الياء وكانت آخرا تقلب واوا للضمة، وذلك إذا كانت أحد تلك الأشياء، فاقتضى أنها إذا لم تكن على تلك الأوجه فإن الياء لا تقلب (واوا)، وذلك نحو: أظب جمع ظبي، أصله أظبى. وكذلك إذا بنيت من رمى مثل ترتم قلت: رمي أصله: رميى، أو من بنى قلت: بني، (أصله): بنيى وإذا كان كذلك فلابد من الإعلام، لأن حرف العلة إذا كان آخرا فهو أضعف منه إذا كان وسطا، فلابد من أحد الأمرين، امتنع أحدهما بإشارة الناظم إلى ذلك، وهو إبدال واوا (لأنه) قد خصه بفعل

ومفعلة وفعلان ونحوهما، فلو دخل مثل أظب في هذا الحكم لم يكن لتخصيصه ما خصص ذكره وجه، فلم يبق إلا أن يكون خارجا عنه، وإذا خرج عنه لم يعط المفهوم فيه إلا أن الياء لا تقلب واوا، فيبقى إذا الحكم في المسألة مجهولا غير معلوم؛ إذ ليس عدم القلب ياء بمعين لشيء فكيف وهو دائر بين التصحيح وبين قلب الياء واوا للضمة، وإذا كان كذلك ثبت أن مسألة أظب مغفلة في هذا النظم على شهرتها وكثيرة دورها مضمومة إلى مسألة أدل وأجر ونحوهما مما آخره واو قبلها ضمة، ومثل هذا يعترض عليه في إغفاله إياه، وليس كل داء يعالجه الطبيب! ثم قال: "وإن تكن عينا لفعلى وصفا" ... إلى اخره. ضمير "تكن" عائد على الياء التي انضم ما قبلها، والإشارة بذلك إلى البناء على فعلى الذي عينه ياء، وهو وصف، ويريد أن فعلى- بضم الفاء- إذا كان عينها ياء، وكانت وصفا لا اسما فإن فيها وجهين من الإعلال، وهما المتقدمان، ولذلك أتى بالألف واللام التي للعهد في الذكر، وذلك أنه ذكر فيما إذا انضم ما قبل الياء على الجملة وجهين من الإعلال، وهما انقلاب الضمة كسرة لأجل الياء، وانقلاب الياء واوا لأجل الضمة، هذا الذي تقدم له، فلابد أن تكون الألف واللام محالا بها على ذلك، فكأنه يقول أنت بالخيار في أن تقلب الضمة كسرة لأجل الياء فتقول: المراة الكيسي، من الكيس، والمرأة الطيبى من الطيب، وكذلك قسمة ضيزى، وامرأة حيكي، أصله فعلى بالضم (لا فعلى)، والدليل على ذلك

أن فِعْلى- بكسر العين- في الصفات معدوم عند الأكثر ونادر عند المؤلف، إذ حكي منه: عزهى وضئزى، بالهمز. وتأول غيره ضئزى على أنه مصدر وصف به، وإذا كان كذلك ثبت أنه فعلى، فكان الأصل كيسي وطيبي، لكنهم قلبوا الصمة كسرة لتصح الياء، كما فعلوا ذلك في فعل الذي هو جمع كبيض، أو تقلب الياء واوا لأجل الضمة قبلها فتقول: الطوبي والكوسي وحوكي وضوزي، وضوزي أشبه بذلك، كما فعلت (ذلك) في فعل من البيع. حين قلت على مذهبه بوغ. وإنما مثلت بالطوبي والكوسي وإن كانا من فعلي التفضيل بناء على مذهبه فيها في التسهيل. وتقييده فعلي بالوصفية يخرج ما لم يكن منها وصفا. فكل ما كان من الأسماء على فعلى وعينه ياء فليس يدخل تحت الحكم بالوجهين، وإنما فيه وجه واحد/، إلا أن هذا الوجه لم يتعين هنا، فيحتمل أحد هذين الوجهين، والذي يتعين هنا هو قلب الياء لتصح الضمة نحو قولك: طوبي لزيد، قال تعالى ك {طوبي لهم وحسن مآب}. وهذه ليست بصفة ولا هي تأنيث الأطيب وإلا لزمت الألف واللام أو الإضافة، فثبت (أنها) اسم. وكذلك ما كان من الفعلى اسما غير صفة، ولذلك لو بنيت فعلي من البيع لقلت: بوعى، أو من الخير لقلت: خوري، أو من العين لقلت: عوني. وكذلك ما أشبهه.

فإن قيل: ما الذي يدل من كلامه على تعيين هذا الوجه دون الوجه الأول؟ فالجواب: أنه قد قدم أن الياء تقلب واوا إذا سكنت لأجل الضمة قبلها، ففعلي الاسم والصفة في الحقيقة كانا داخلين في ضمن عقده هناك، إلا أنه أخرج الصفة لما جاز (فيها) من الوجهين عنده، فبقى الاسم على ذلك الأصل، وهذا ظاهر جدا، فليس (حكم) فعلي الاسم بمأخوذ من المفهوم هنا، بل من النص هنالك. ثم ههنا على الناظم سؤالات: أحدهما: أنه قال: "فذاك بالوجهين"، يعني المتقدمين، ولم يتقدم له في الياء التي قبلها ضمة وجهان فقط، بل ثلاثة (أوجه)، أحدها: التصحيح فتبقى الضمة على أصلها غير منقلبة والياء كذلك على أصلها، والثاني والثالث هما هذان، وعلى هذا فيحتمل كلامه (من حيث) لم يقتصر على وجهي الإعلال أن يكون الوجهان هنا يريد بهما التصحيح والإعلال على وجهيه كليهما، أو على أحدهما، لكن هذا غير صحيح؛ إذ ليس الوجهان هنا إلا وجها الإعلال خاصة، وأما التصحيح فلا يصح ولا تكلمت به العرب قط، فكان كلامه على هذا مشكلا. والثاني: على "تسليم أنه أراد وجهي الإعلال لم يذكر أن أحدهما أكثر من الأخر، (بل) قال: "فذاك بالوجهين عنهم يلفى"، فأطلق، فاقتضى أنهما

على حد سواء، كيف وسيبويه وغيره يقولون: ليس لهم في هذا إلا وجه واحد، وهو قلب الضمة كسرة كما قلبت في بيض، ولم يجيزوا غيره، وما جاء من ذلك فشاذ محفوظ لا يقاس عليه، ووجه مخالفة الصفة الاسم هنا التفرقة بينهما كما فرقوا بين الأسم والصفة في فعلي و (في) فعلي، كما يأتي بحول الله تعالى، وقد جعل قلب الياء واوا في التسهيل قليلا، فعلى كل تقدير لم يرتكب ما قال النحويون، ولا ما قاله في التسهيل. والثالث: أنه حين ذكر الوجهين في الصفة كان من حقه أن يذكر الوجهين في الاسم؛ لأنه قد حكاهما في التسهيل، فقال: "وتبدل الضمة في الجمع كسرة فيتعين الصحيح"، ثم قال: "ويفعل ذلك بالفعلي صفة كثيرا، وبمفرد غيرها قليلا". فدخل في هذا القليل فعلي الاسم، فإذ ذكر في الصفة الوجهين على اختلافهما فكان من حقه أن يذكر مثل (ذلك). في الاسم وإن كان ذلك ليس مذهب سيبويه فإنه قد جاء أيضا في السماع، فكي ابن جني عن أبي حاتم قال: "قرأ على أعرابي بالحرم (طيبى لهم وحسن مآب) قفلت له: طوبي فقال: طيبى. قلت: طوبى! قال: طيبى. فلما طال على قلت له: طوطو/ فقال: طي طي". فظهر أن طيبي لغة هذا

القارئ، ولا يكون ذلك إلا لأنها لغة لبعض العرب وإن كان الأكثر إبدال الياء واوا. فإذا قوله: "وصفا"، زيادة على طريقته لا يحتاج إليها. والرابع: أن كلامه حصر قسمين، قسم الاسم المحض كطوبي، وقسم الصفة المحضة كحيكى. وبقى له قسم ثالث مذبذب، وهو الفعلى تأنيث الأفعل، وهذا القسم متردد، بين الأسماء والصفات، ولذلك يشكل حكمه في كلام المؤلف، فمن حيث هو صفة في الأصل يتوهم دخوله في قسم الصفات، فيكون إذ ذاك حكمه فيه حكم الصفة في جواز الوجهين، وهذا غير ما ذكره النحويون سيبويه وغيره، لأنهم ألزموا في فعلي تأنيث الأفعل نحو الطيبي والكيسي الإجراء مجرى الأسماء فتقول فيه: الطوبي والكوسي لا غير، وما جاء على خلاف ذلك فنادر لامبالاة به، وأيضا فيوهم على هذا أن يكون من الصفات المحضة، وهو خلاف ما قاله الناس أجمعون؛ إذ ليس الفعلي أنثى الأفعل عندهم إلا في حيز الأسماء [و] من حيث هو جاز مجرى الأسماء يوهم أنه يحكم عليه بحكم الأسماء، وهو خلاف لما نص عليه في التهسيل، إذا جعل الفعلي تأنيث الأفعل من الصفات المحضة فقال: "والصفة المحضة كالعليا والدنيا تأنيث الأدنى، والجارية مجرى الأسماء الدنيا إذا أريد بها هذه الدار". فإذا كان هذا عنده كذلك كان هذا القسم في كلامه مشكلا جدا، ولو لم يكن مترددا بين القسمين لم يقع في كلامه إشكال. والجواب عن السؤال الأول: أن الوجهين المحال عليهما ليسا إلا وجهي الإعلال، والتصحيح لا يمكن إجراؤه، لأن الياء ساكنة، ولم يتقدم له في الياء

الساكنة التي قبلها ضمة تصحيح أصلا، وإنما جاء في المتحركة، وهذه ليست بمتحركة، فلم يبق إلا ما تقدم من وجهي الإعلال. والجواب عن الثاني: أنه قد مضى له مثل هذا مما أحد الوجهين فيه أرجح من الآخر، ولم ينبه على ذلك اتكالا على إطلاق الجواز فيهما (معا، إلا أن إطلاق الجواز) فيه مخالفة لمذاهب الناس؛ إذ لا أعلم في الصفة خلافا في أنها على وجه واحد، وهو قلب الضمة كسرة وتصحيح الياء إلا ما يجري على مذهب الأخفش في نحو فعل من البيع وما أشبهه، ولم أره منصوصا عنه هكذا. ولعل الناظم إذ كان مذهبه هنالك مذهب لأخفش، وكان قد سمع هنا شيء مما يقتضيه وإن كان نادرا أخذ به، مع ما جاء في السماع الفاشي من موافقة مذهب سيبويه، فجعلهما وجهين متساويين عنده، لأن أحدهما عضده جريانه عنده على القياس وإن كان في السماع قليلا، (والآخر) عضده السماع الفاشي وإن كان ليس بموافق للقياس عنده، فاستويا عنده من هذه الجهة، فأطلق الوجهين إطلاقا إعمالا للدليلين وجمعا بين المذهبين. وعلى هذا يجري الجواب عن السؤال الثالث، لأن طيبي، ونحوه مما جاء قليلا في الأسماء لا قياس (له) يعضده حتى يقاوم عنده/ الوجه الآخر أو يدانيه، فلم يجعله وجها جائزا مع لآخر الذي عليه

الجماعة، بل جعله لقتله معتد به. وهذا حسن من الاستنباط لا يبعد عن أغراض الناظم في هذا النظم، وأيضا فقد يكون الجواب عن هذين مبنيا على الجواب عن الرابع، وهو أن مذهبه في التسهيل أن الفعلي تأنيث الأفعل من قبيل الصفات المحضة لا مما جرى مجرى الأسماء، ولذلك عني بتمثيل ذلك والتعريف به حيث قال: "والصفة المحضة كالعليا والدنيا تأنيث الأدنى" .. إلى آخره، وقد مر ذكره فوق هذا، قال شيخنا القاضي- رحمه الله-: هذا تبيين لما اصطلح عليه لنفسه؛ إذ هو مخالف لسائر النحويين، فلذلك أتى به، وإلا فكان يكون من قبيل الفضول، إذ ليس من شأنه التمثيل، فإذا إنما بني هنا على ما بينه هنالك، فيجوز عنده فيه الوجهان. وقد أجاز غير الناظم في فعلي التفضيل الوجهين بناء على الاعتبارين لابناء على مذهب الناظم؛ إذ هو في هذه المسألة مخالف للنحويين، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. فنقول على هذا: الكيسي والكوسي، والطيبي والطوبي، وكذلك الميلي والمولى، والبيني والبوني، في تأنيث الأميل والأبين، وكذلك ما أشبهه، (وإذا كان كذلك) فسيبويه حين كان مذهبه في فعلي الأفعل القلب واوا للضمة، لأنه عنده اسم، وكان مذهبه في الصفة قلبه الضمة لأجل الياء فهذا وجهان قياسان عنده، فأخذ الناظم المذهبين في الصفة على الجملة، لأن فعلي الأفعل عنده صفة، فقد ثبت فيه قلب الياء واوا، وحيكي وضيزي ثبت فيهما وفيما أشبهها قلب الضمة كسرة، مع أن كلا القسمين قد سمعت فيه المخالفة، فقالوا في فعلي الأفصل: الكيسي. وقالوا في تصريف ضيزي: صزته، قال ابن جني في الضم الذي هو دليل على الواو: يحتمل أن

فصل

يكون الضيزى منه ضوزى، فعدلت إلى كسر الياء لتنقلب الواو ياء فتخف الكلمة مع أمن اللبس؛ لأنه ليس في الكلام فعلي صفة. قال: ولا نقول على هذا في فعل من القول ونحوه: قيل، لئلا يلتبس فعل بفعل. فإذا كان كذلك اعتدل الأمران، فادعى الناظم لذلك اعتدال الوجهين، والله اعلم. وقوله: "كذلك بالوجهين عنهم يلفي"، أي: يوجد بالوجهين، ويعني في السماع. فصل من لام فعلي اسما أتى الواو بدل ... ياء كتقوى، غالبا جاذا البدل بالعكس جاء لام فعلي وصفا ... وكون قصوى نادرا الا يخفى إنما جعل هذا فصلا على حدته لأن الإعلال فيه لغير موجب قياسي، بل كان القياس في بعضه خلاف ما جاء به السماع، وذلك فعلي الاسم نحو التقوى، فكونهم قلبوا الياء إلى واو على خلاف القياس؛ إذ عادتهم أن يقلبوا الأثقل إلى الأخف، وهم قد عكسوا الحكم هنا فقلبوا الياء التي هي أخف إلى الواو إلى هي أثقل. وقد رام ابن جني أن يرى في هذا وجها من الاعتلال غير ما قالوا من التفرقة بين الاسم/ والصفة فقال: لما غلبت الياء الواو في أكثر المواضع أرادوا أن يعوضوا الواو من

كثرة دخول الياء عليها فقلبوا الياء، قال: وإنما خصوا اللام دون الفاء والعين لأن اللام أقبل للتغيير لتأخرها وضعفها، وكان ذلك في الاسم دون الصفة لأن الواو أثقل، فأرادوا أن يجعلوا الأثقل في الأضعف؛ إذ الاسم أخف من الصفة، لأن الصفة مقاربة للفعل. قال: "فتأمل هذا فهو أقرب ما يقال في هذا". وما قاله ليس له تلك القوة مع أنه منتزع (من سيبويه). فلما كان هذا (على: هذا) الوصف فصله عما تقدم، وإن كان الجميع إبدالا جاريا في الاطراد جريانا واحدا. وتكلم هنا على فعلي وفعلي- بفتح الفاء وضمها- وترك الكلام على فعلي بكسرها وذلك لأمر عليه انبني الإبدال هنا، وهو أنهم أراداوا التفرقة بين الاسم والصفة فأبدلوا في أحدهما ولم يبدلوا في الآخر ليحصل الفرق بن الضربين، ولما كان فعلي وفعلي يقعان اسما وصفة فالاسم من المفتوح الفاء نحو علقي وسلمى ورضوى، والصفة نحو عطشي وسكري، والاسم من مضمومها نحو البهمي والحمى والعمري، والصفة نحو الأنثى والحبلى والشؤمى- جاء بهما في هذا الموضع لأنهما محل التفرقة. وأما فعلى بالكسر فإنما أتى اسما ولم يأت صفة، وما جاء من عزهى وضئرى فشاذ أو مؤول، فلم يتعلق به إذا حكم التفرقة، إذ ليس ثم ما يفرق.

فأما فعلى- بفتح العين- فإنه على قسمين: أحدهما: أن يكون لامه واوا كالجدوى من جدوته، والجلوى من جلوت، والسلوى من سلوت، والبلوى من بلوت. ومن الصفة شهوى ونشوى. فهذا لم يقع فيه فرق بين الاسم والصفة، ولذلك قال الناظم: "من لام فعلى اسما أتى الواو بدل ياء"، فشرط أن يكون المبدل منه ياء، فخرج إذا ما لامه واو عن ذلك الحكم فلا بدل فيه أصلا وإنما يجئ على أصله كالأمثلة المتقدمة. والثاني: أن يكون لامه ياء، فهذا الذي يجري فيه هذا الحكم إلا أنه أثبت ذلك إذا كان ما هي فيه اسما، فأعطى ذلك التقسيم المذكور، فإذا كان اسما أبدلت الواو من يائه نحو التقوى من وقى يقي، والشروى من شريت، لأن شروى الشيء مثله، والشيء إنما يشرى بمثله، والرعوى من رعيب، وكذلك ما أشبهه. وأما إذا كان صفة فلا تبدل نحو خزيا وصديا، وكذلك يا في نحو قول امرئ القيس: إذا قلت: هاتي نوليني، تما يلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل أصله: رويا، لأنه من رويت من الماء، فانقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، على حكم لي ونحوه. ولو كان اسما غير صفة لوجب أن يكون روى كالعوى من عويت: إذا لويت، أصله: العويا، قلبت اللام واوا لما تقدم، قاله سيبويه.

وقوله: "من لام فعلى اسما" الجار متعلق ببدل، لأنه بمعنى مبدل، وبدل: منصوب على الحال من الواو، وياء: مضاف إليه بدل، أي: أتى في كلام العرب هذا المعنى. ثم قال: "غالبا جاذا البدل/ غالبا: حال من البدل، يعني أن هذا البدل الآتي في فعلي هو الغالب في السماع، ودل هذا على أن ثم سماعا آخر مغلوبا، وهو كذلك فإنهم حكوا: طغيا، للصغير من بقر الوحش، جاء على الأصل، لقولهم: طغت البقرة طغيا: إذا صاحت. وحكي الأصعمي: طغيا، بضم الطاء، ولا شذوذ فيه على هذا. ومن ذلك قولهم: سعيا، اسم موضع، قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب: أبلغ بني كاهل عني مغلغلة ... والقوم من دونهم سعيا ومركوب وهو من السعي، وقد تأوله الفارسي على أن يكون الموضع سمي بوصف كصديا، فبقى على ما استقر له قبل النقل كما بقى "يزيد" على إلاله حين نقل إلى العلمية، ثم اختار الشذوذ لأنه علم والأعلام كثيرا ما تغير. وشذ أيضا غضيا لمائة من الإبل، قال الشاعر، أنشده ابن الأعرابي: ومستخلف من بعد غضيا صريمة ... فأحر به لطول فقر وأحريا

وريا للرائحة الطيبة. فهذا كله من ذلك المقلوب النادر الذي نبه عليه. ثم قال ذاكرا للبناء الثاني: "بالعكس جالام فعلي وصفا"، يعني أن فعلي على قسمين أيضا، اسم وصفه، فأما الصفة فجاءت لامها بالعكس مما جاءت عليه لام فعلي الاسم، وحقيقة العكس هو تحويل مفردي القضية على وجه يصدق، وقد قال في فعلي الاسم: أتى الواو بدل ياء، فإذا عكست هذا قلت: أتى الياء بدل واو، فيريد أن فعلي بضم الفاء إذا كانت صفة فإن لامها على قسمين: أحدهما: أن تكون ياء، فهذا يبقى على أصله كما كان، كما قالوا: طغيا، وهو ما حكاه الأصعمي وقد تقدم آنفا، وكذلك ما أشبهه. والثاني: أن تكون واوا، فهذا هو الذي تقلب واوه ياء فرقا بين الاسم والصفة كما تقدم، وكان هذا عند الناظم كالمعاوضة بين الاسم والصفة، فلما كان القلب في فعلي في الاسم ولم يكن في الصفة كان هنا دون الاسم لضرب من المعاوضة. وأما الاسم فمفهومه أن البدل لا يكون فيه، فإن كان فهو شاذ كالحذيا من حذوته، أي: أعطيته. وقالو: هو ابن عمي دنيا. بضم الدال غير منون، كأنه مصدر كالرجعى، ولا يكون صفة بألف التأنيث لجريانه على المذكر وعلى المجموع، كقول النابغة:

بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب ولقولهم في معناه: هو ابن عمي دنيا ودنية وكلا المثالين من بنات الواو، ويدل على هذا الثاني الاشتقاق من دنا يدنو. وقوله: "غالبا" مما يتعلق بهذا النوع من الإبدال أيضا، يريد أن هذا البدل في الصفات أيضا هو الغالب، استظهارا على النادر الذي حكي ابن جني من قولهم: خذ الحلوى وأعطه المرى، لأنه في الظاهر صفة، وهو من الحلاوة. وعلى ذلك تأول سيبويه القصوى على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. هذا ما أعطاه الحال من تفسير هذا الكلام؛ إذ لابد أولا من إعطاء حق الكلام. وهذا المعنى المفسر قد نص عليه أيضا في التسهيل إذ قال: "تبدل الياء من الواو عند غير تميم لاما لفعلي صفة محضة أو جارية مجرى الأسماء إلا ما شذ كالحلوى". ثم فسر الصفة المحضة-[و] الجارية مجرى الأسماء بما سبق. وأفادنا هذا الكلام/ أن الوصف في قوله "بالعكس جاء لام فعلي وصفا" أنه يريد في كلا وجهيه من الوصف المحض والجاري مجرى الأسماء.

إذا تقرر هذا فاعلم أن الناظم خالف النحويين في هذه المسألة في جميع أطرافها، وبيان ذلك ينحصر في طرفين: أحدهما في محل الإبدال وفاقا وخلافا، وفعلي عندهم فيه على ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون صفة محضة جارية على موصوفها لم تستعمل استعمال الأسماء، كأنثى وحبلى في الصحيح، فهذا القسم لا خلاف بينهم في تركه على أصله لأنه أخلف، وقد تقدم هذا، نقل الإجماع في هذا ابن أبي الربيع. والثاني: أن تكون صفة استعملت استعمال الأسماء فوليت العوامل وتنوسى جريانها على الموصوف استعمالا كالدنيا لهذه الدار. فهذا القسم تقلب فيه الواو ياء، ولا أعلم في هذا خلافا، بل سمعت شيخنا الأستاذ القاضي- رحمه الله- يذكر إجماع النحويين على هذا. والثالث: أن تكون اسما لا أصل له في الصفات، فهذا هو الذي اختلفوا فيه، فمنهم من يجعل حكمه القلب كالصفة التي استعملت استعمال الأسماء، ومنهم من جعل حكمه عدم القلب كالصفة المحضة، قال بعض الأشياخ: وأكثرهم على وجوب قلبه، إذ يطلقون ذلك للاسم، وعلى هذا الخلاف ينبني في حزوى في قول ذي الرمة:

أدارًا بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق أهو شاذ أو على القياس؟ هذا ما قالوا، وما خرج عن هذه الأقسام فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. فأما الأول فخالف الناظم فيه الناس فجعل القياس فيه القلب، وإن جاء على خلافه شيء فشاذ ولذلك قيد هنا بالوصفية إذ قال: "بالعكس جالام فعلي وصفا". والصواب على مذهب الناس غيره أن لو قال: "بالعكس جالام فعلي اسما". وأما الثاني فهو وإن وافق الناس فيه في اللفظ فهو مخالف لهم في المعنى؛ إذ القلب عنده (ليس) لكونه اسما- كما قالوا- بل لكونه صفة كما تقدم من اصطلاحه، فهو داخل تحت تقييده بالوصف، فليس بموافق (لهم) في الحقيقة، فهذه مخالفة للجميع في القسمين. وأما الثالث فظاهر أنه فيه مخالف للأكثر. والطرف الثاني: في الاصطلاح المتفق عليه، وذلك أن الصفة عندهم هي الجارية على الموصوف، فمتى لم تجر على الموصوف فهي عندهم في حكم الاسم لا في حكم الصفة، لأن الاعتبار بالأحكام، ألا ترى أن من الكلم ما الظاهر فيه الدخول تحت الحروف، ومع ذلك حكم لها بأنها أسماء أو أفعال لما

جرت عليها أحكام الأسماء أو الأفعال، كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام، وليس، ونعم وبئس، ونحو ذلك، فكذلك مسألتنا، فأفعل التفضيل حين كان لازما لمن لفظا أو تقديرا كان جاريا على الموصوف، فأطلق عليه لفظ الصفة، فلما خرج عن ذلك فاستعمل بالألف خرج عن لزوم الجريان على الموصوف إلى ولاية العوامل، فلا جرم أنهم أطلقوا (عليه) لفظ الاسم، وإذا كان كذلك/ فالمؤلف قد خرج البتة عن هذا الاصطلاح فجعل الصفة المستعلمة استعمال الأسماء (على قسمين، أحدهما: ما كان كالعليا والدنيا تأنيث الأعلى والأدنى، فهذان عنده وما كان نحوهما من الصفات المحضة، والآخر ما كان نحو الدنيا الذي يطلق على هذه الدار فهذا من الصفات التي استعملت استعمال الأسماء) فهذا ما نص عليه في التسهيل، ولا شك أن مذهبه هنا مبني على ذلك، والناس كلهم على أن (القسمين) قسم واحد، ولا فرق بين القسمين، ولذلك احتاجوا إلى تأويل القصوى والحلوى بأنه اعتبر في القصوى الأصل، قال سيبويه: "استعملوا على الأصل- يعنى صفة- لأنها قد تكون صفة بالألف واللام". وتأول ابن جني الحلوى والمرى على تقدير الجريان كأنها صفة قامت مقام موصوفها، فلذلك لم تغير على القاعدة في ذلك.

وهذه إحدى الغرائب من ابن مالك، حيث خرج في هذه المسألة عن حكم غيره وقال ما لم يقله أحد، وأنت ترى ما في مخالفة الإجماع من لزوم الخطأ للمخالف؛ إذ الناس مجمعون على خطأ من خالف الإجماع، وعلى تخطئة من خطأهم. فإن قيل: إن إجماع النحويين ليس بحجة كما أشار إليه ابن جني إذ قال: "اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص أو المقيس على المنصوص، فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة عليه"، قال: "وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (من قوله): أمتي لا تجتمع على ضلالة، وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة، قال: فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره". هذا قوله، وإذا كان إجماع النحويين ليس بحجة فمن خالفه كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره، إذ لم يخالف في كتاب ولا سنة ولا (في) مقيس عليهما أو مستنبط منهما، فكذلك يكون ابن مالك خالف الناس لما سنح له في ذلك من قياس أو استقراء. فإنا نقول: الذي يقطع به ولا يشك فيه أن الإجماع في كل فن شرعي أصله المنقول حجة، لأن الإجماع معصوم على الجملة، قامت بذلك الدلائل الشرعية على ما تقرر في الأصول. وسبيل ابن جني في المسألة سبيل النظام

وبعض الخوارج والشيعة، وحسبك بهذا انحطاطا عن مراتب العلماء، وبيان هذه المسألة في الأصول، والذي بني جني عليه هذه المسألة شيء رآه في قولهم: (هذا) جحرضب خرب، حاصله أنه إحداث تأويل لم يذكره أحد من النحويين، ومخالفته سائغة على الأصح من قولي الأصوليين، وعليه الأكثر، ومع هذا فإنه اخطأ فيه حين قصد مخالفة الإجماع في أمر توهم أن مثله لا يخالف فيه هكذا كان يذكر لنا شيخنا الأستاذ- رحمه الله- أنه لم يوفق في تأويله للصواب، بل حل به شؤم المخالفة، وأحسب أنه كان يذكر (ذلك) أيضا عن شيوخه- فإذا ثبت هذا فإن كان ابن مالك قد اتبع رأي ابن جني في جواز مخالفة الإجماع وقصد ذلك أو لم يقصده، (فهو) مخطئ بلا بد، إذ ليست مخالفته في إحداث دليل ولا تأويل، وإنما مخالفته في حكم يلزم فيه مخالفة كلام العرب على ما نقله الجميع، نعم يقرب الأمر في مخالفة الاصطلاح لا في غيره. ويمكن أن يجاب عن ابن مالك هنا فيقال: أما الطرف الأول فإنه غير/ مخالف فيه الحقيقة، وبيان ذلك (أن) القسم الأول منه، وهو الصفة المحضة، شيء لا يوجد في السماع ولا حكاه أحد- فيما علمت- من البصريين، أعني من المعتل اللام إلا ما كان من فعلي الأفعل، وكلام سيبويه عليه إنما هو على فرض وجوده، ولم يحك منه شيئا، بل في كلامه ما شعر أنه لم يحفظه، ألا تراه قال: "فإذا قلت فعلي من هذا الباب جاء على الأصل إذا كان صفة، وهو أجدر أن يجيء على

الأصل إذ قالوا: القصورى، فأجروه على الأصل وهو اسم، كما أجريت فعلى من بنات الياء صفة على الأصل". قال السيرافي في الشرح: ذكر سيبويه أن الصفة من باب فعلي من ذوات الواو على الأصل، ولم أجده ذكر صفة على فعلي مما لامه واو إلا ما استعمل بالألف واللام كالدنيا والعليا، وهذه عند سيبويه بمنزلة الأسماء، قال: وإنما ذكر أن فعلي من ذوات الواو إذا كانت صفة على أصلها، وإن كان لا يحفظ في كلامهم شيء من ذلك على فعلي، لأن القياس (أن) يحمل على أصله حتى يتبين أنه خارج عن أصله شاذ عن بابه". هذا ما قال، وأنت تراه قد صرح بعدم السماع فيه على بحثه وبحث أمثاله ممن في طبقته أو قبله أو بعده إلى الآن، فلم يحك من ذلك شيء يعرف في المنقول، وقد عرف من حال المؤلف اتباعه للسماع واتكاله على الاستقراء الذي هو أصل الأصول في هذه الصناعة، فاطرح الكلام على هذا القسم رأسا؛ إذ لم ير له لم فائدة حين لم يتكلم بما يقتضيه. وبدل على هذا من كلامه في التسهيل تفسيره للصفة المحضة إذ قال: "والصفة المحضة كالعليا والدنيا تأنيث الأدنى"، ولو كان هذا القسم معتبرا لأشار إليه فقال: "والصفة المحضة هي الجارية على النكرة والمعرفة، وفعل الأفعل"، أو ما يعطي هذا المعنى. وأما القسم الثاني وهو الصفة الجارية مجرى الأسماء. فهي التي سماها هو محضة، وحكم عليها بعين ما حكم به الناس عليها، فإنما (الخلاف) في التسمية الاصطلاحية لا في الحكم.

وأما الثالث: فقد وقع فيه الخلاف كما تقدم، ومسائل الخلاف يسوغ فيها الاجتهاد والأخذ بما أداه إليه اجتهاد من القولين، أو من ثالث إن رآه على أحد المذهبين. فإن قلت: فقد جرى في هذا المذهب على غير الحكمة، إذ جعل الصفات هي محل التغيير والأسماء باقية على أصلها، وهو خلاف المعتاد، ألا ترى أنهم عللوا اختصاص الاسم بقلب يائه واوا لأنه أخف فاحتمل الثقل، بخلاف الصفة لثقلها؟ فالجواب: أن هذا غير مخالف لهم في طلب الخفة للصفة، إذ الصفة إذا (حولت) واوها ياء خفت بلابد؛ وهو أولى أن يكون فيها لثقل الواو، وأما الأسم فلخفته أحتمل البقاء على الأصل من الواو وإن كانت ثقيلة. وأما فعلي فالأمر فيها بعكس هنا، لأن القلب فيها من الياء التي هي (أخف إلى الواو التي هي) أثقل، فكان من طلب الخفة في الصفة أن تبقى على حالها لا أن تقلب إلى الأثقل. ويدل على هذا/ مذهب سيبويه في فعلي المعتل العين بالياء، حيث قلب في الصفة الضمة كسرة لتصح الياء لأنها أخف والصفة ثقيلة، وكان الأمر عنده في الاسم على خلاف ذلك، فقلب

الياء واوًا لاحتمال الاسم من الثقل ما لا تحتمله الصفة. وهذا في غاية الوضوح. وإن سلمنا أنه مخالف لهم فقد قال ابن السراج: إنما يغير النعت لأنه جار على الفعل، والأسماء غير جارية على الفعل. يعني أن أصله التغيير والتصريف للأفعال، وما جرى على الأفعال فهو محكوم له بحكم الأفعال، بخلاف الأسماء فإنها ليست كذلك، فهي أولى بالتصحيح من الصفات. ثم قال: وإنما قلبوا الواو ياء في فعلي لاستثقال الضمة والواو، قال ابن خروف: ويلزم على قوله أن يكون ذلك في الصفة لا في الاسم. فهذا الكلام من ابن السراج موافق لأصل مذهب ابن مالك مؤيد له في الجملة، وقد ألزمه ابن خروف القول بمقتضاه وسلمه، فظهر أن ابن مالك لم يخالف إجماعا في حكم البتة. وأما الطرف الثاني، وهو الاصطلاح، فإنه لم يخالف فيه الجميع، فإن كون فعلي الأفعل لا يمسى صفة هو اصطلاح البصريين، وظاهر الكوفيين على خلافه، قال ابن السكيت في "المقصور والممدود" له: "ومنه ما كان من النعوت مثل الدنيا والعليا، فإنه يأتي بضم أوله، وبالياء". فجعله- كما ترى- قسما من أقسام النعوت- ولعل للكوفيين ما هو أصرح من هذا، وأيضا مذاهب الكوفيين لا ندريها ولا وقفنا منها على شيء معتبر، ولعل لهم مذاهب تخالف مذاهبنا التي اعتدناها ولم نعرف غيرها، فنتوهم أن القول فيها إجماع، وليس

كذلك، وابن مالك أشد إطلاعا منا (عليها) - أيها المتأخرون- وأيضا فلو لم يكن لغيره فيه اصطلاح لكان جائزا له أن يضعه هو، إذا كان لا يؤدي إلى مخالفة حكم، وإذا نظرنا من جهة القياس فإن فعلي الأفعل أولى أن تكون صفات منها (أن تكون) أسماء؛ أما أولا فإنها تجرى بعد على موصوفاتها جريان الصفة المحضة على موصوفها؛ ألا تراك تقول: هذه قسمة ضيزي، ومشية حيكي، كما تقول: هذه المنزلة الدنيا، والمنزلة العليا، وقال تعالى: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى}، وكذلك سائر المثل في فعلي الأفعل. فإذا قلت: الدنيا والعليا على غير موصوف. فهو على تقدير الموصوف، وإلا فلو لم يكن كذلك لكان قولك: المنزلة العليا، يعرب بدلا لا وصفا، إذ هو عندكم بمنزلة الأسماء، وإنما يكون بمنزلة الأسماء إذا تنرسي الجريان على الموصوفات، وهو هنا غير متناسي، فدل على صحة كونه صفة محضة. وهذا المعنى أودره جني على مذهب البصرين، وأجاب عنه بأن أصل الصفة أن تكون جارية على النكرة لأنها أحوج إليها من المعرفة، لأن وضع المعرفة إنما هو على أن تخص الواحد بعينه فلا يشاركه فيما تريد هنالك غيره، وما كان هذا سبيله فلا حاجة له/ إلى

الوصف، لكن لما كثرت المعارف وازدحمت على اللفظة الواحدة منها معان كثيرة، ودخلها بعد ذلك اللبس، احتاجت إلى الوصف كزيد البصري، وزيد الكوفي، ومحمد الطويل، ومحمد القصير، وليست (كذلك) حال النكرة، لأنها في أول وضعها مشاعة غير موضحة ولا مختصة، فحاجتها إلى الصفة أشد من حاجة المعرفة إليها، فلما حرمت فعلي الأفعل الجريان على النكرة التي هي أولى بالصفة صار جريانها صفة كلا جريان، لأنك (لا) تقول: هذه امرأة صغرى، ولا مررت بدار حسنى، (حتى) تقول: المرأة الصغرى، والدار الحسنى. وليست كذلك فعلي إذا كانت صفة لا أفعل لها، لأن تلك تستعمل صفة معرفة ونكرة، تقول: هذه امرأة حبلى، والمرأة الحبلى، وقسمة ضيزي (والقسمة الضيزي). فلما حرمت فعلي الأفعل جريانها صفة على النكرة التي هي أولى بالصفة من المعرفة لم يعتد جريانها صفة (للمعرفة) جريانها، كحيث لما حررت الإضافة إلى المفرد واقتصرت بها على الإضافة إلى الجملة، صارت إضافتها كلام إضافة، فألحقت بباب قبل وبعد المنقطعتين عن الإضافة في استحقاقهما البناء، فبنيت بناءهما. هذا محصول ما أجاب به في شرح المقصور والممدود لابن السكيت، وليس بجواب على طريقة ابن مالك، وذلك أنها جرت صفة على موصوفها، فهي صفة عند الجميع لفظا ومعنى، أما لفظا فظاهر، وأما معنى فإنها قد صارت في

عداد ما كان من الصفات على غير معنى من، فالأفضل والفضلى في عداد الأحمر والحمراء، وإنما لم تستعمل على ذلك نكرة لأن العرب قد اعتزمت استعمالها في تلك لحالة على معنى من، فلم يكن ليستعمل في النكرة على غير ذلك المعنى، فإن رأيتها قد أجريت نكرة على (غير) معنى من فتلك هي المستعملة استعمال الأسماء، لأنها صارت عند ذلك غير جارية، ولا في معنى الجاري، كالدنيا إذا أريد بها هذه الدار، فإن الصفة أطلقت على هذه الدار (إطلاقا) من غير اعتبار معنى الصفة فيه، حيث صارت اسما لها كسائر الأسماء الجوامد من غير تقدير موصوف، وقد نكروها فقال الراجز: في سعي دنيا طالما قدمدت فنكرها كما ترى، فهذا دليل واضح على عدم اعتبار الوصفية فيها، وهذا- والله أعلم- هو الذي دعا المؤلف إلى دعوى أن الدنيا إذا أريد بها هذه الدار فهي المستعملة استعمال الأسماء، ومثل بها لذلك، وأحال على ما كان مثلها أن يحكم له بحكمها، وقد حكي الأخفش حسني، على فعلي نكرة، وجعل من فعلي الأفعل، استعمل استعمال الأسماء فطرحت منه الألف واللام، حيث صارت بمنزلة الأسماء، فهذا مثل الدنيا التي (ذكر)، ومع هذا فإنها لما كان

أصلها الصفة عوملت الأبطح والأجرع والأدهم ونحوها معاملة أصلا في منع الصرف، مع أن معنى الوصيفة قد تنوسى/ فيها، فإذا قد تبين وجه تفرقة المؤلف بين الدنيا تأنيث الأدنى، والدنيا اسم هذه الدار، فكان الضابط في المستعملة استعمال الأسماء، هو ما كان من فعلى الأفعال قد استعمل نكرة ومعرفة، لكنه قد تنوسى أصله من معنى الوصف، وصار مثل الأسماء المنقولة من الصفات. وأما ثانيا فإن قولهم: إن فعلى الأفعل تجري على العوامل مباشرة لها، فليس ذلك بمانع (لها) من بقائها على الجريان على الموصوف، لأنها لا تباشر العوامل إلا إذا كان موصوفها معلوما، إما بكونها مضافة إليه كما تقول: مررت بفضلى النساء، (وإما بعهد متقدم فيه، كأن يكون بينك وبين مخاطبك عهد في امرأة وأنها أفضل النساء) فتقول له: مررت بالفضلى، ولا تباشر العوامل على غير علم بالموصوف، فلا تقول: مررت بالفضلى، من غير عهد، وإذا كان كذلك فلا فرق بين فضلى القوم وبين فاضلة القوم، ولا بين الفضلى وبين الفاضلة، فكما أن الفاضل والفاضلة ونحوهما من الصفات لا تباشر العوامل إلا على حذف الموصوف، لأنه باقية على أصلها من الوصفية، كذلك لا تباشر الفضلى العوامل إلا على حذف الموصول، فهي إذا باقية على أصلها من الوصفية. أما إذا قلت في مولود مثلا: خرج فلان إلى الدنيا، أو في ميت: خرج عن الدنيا، أو فتنت الدنيا الناس، أو: إن الدنيا حلوة خضرة، فلم تتو ههنا موصوفا،

ولا أحلت عليه، كما أنك لم تحل على شيء إذا قلت: إن المال فتان، وإن الغنى غرار، وما أشبه ذلك إلا معرفة مدلول الاسم خاصة، وأما جمعهم لها جمع الأسماء على الأفاعل كالأفضل والأفاضل فلا يبعد أن تجرى الصفات في هذا مجرى الأسماء، أو تخص بعض الصفات بحكم ليس في بعض آخر. وها منتهى القول في هذه المسألة، وهو أقصى ما وجدته في توجيه ما ذهب إليه هنا وفي التسهيل، وعلى أنه في الفوائد موافق لغيره ولكنه هنا ليس بمخالف كما (رأيت)؛ إذ غايته أنه سلك إلى ما قالوه طريقا غير طريقهم فوصل إليه، وعلى أن ما ادعى عليه من مخالفة الإجماع يحتمل النظر من جهات؛ إذ هو في الحقيقة (غير) لازم له، ولولا التطويل لبسطت ذلك، ولكن الكلام في هذا الفصل قد بلغ في البسط ما يحتاج إليه وفق ذلك، فلنقتصر عليه، وبالله التوفيق. ثم قال: "وكون قصوى نادرا لا يخفى"، يعني أن قولهم "القصوى" وهو تأنيث الأقصى نادر حين جاء على أصله بالواو، وكان القياس أن يقال فيه: "القصيا"، وقد قيل، ولكن الذي جاء في القرآن هو الأصل، وتأوله سيبويه على اعتبار أصله في الصفة، وكذلك ابن جني في الحلوى، كأنه عنده على حذف الموصوف. وهذا الاعتذار ليس على طريقة الناظم، إذ كونها صفة هو الموجب لقلب يائها، وهو الأصل القياسي عنده، نعم والاستعمالي، فإذا كان كذلك، وكان القياس يقضى بالإعلان المذكور، فكونه مخالفا لذلك ونادرا في

فصل

السماع لا يخفى على ما تقدم بسطه (والله أعلم). فصل /إن يسكن السابق من واو ويا ... واتصلا، ومن عروض عريا فيا الواو اقلبن مدغما ... وشذ معطى غير ما قد رسما هذا فصل آخر تضمن نوعا من أنواع القلب والإبدال، ويعني أن الواو والياء إذا سكن السابق منهما، وكانا متصلين، وكانا غير عارضين، فإن الواو تقلب ياء، سواء كانت سابقة أم لا، وتدغم الياء في الياء. هذا محصول كلامه على الجملة، إلا أن هذا الحكم قد تعلق بمحله أوصاف لا بد من ذكرها، وعليها ينبني، ومحل الحكم هنا اجتماع الواو والياء، فذكر شروطا تتعلق به، وهي ثلاثة: أحدهما: أن يكون السابق منهما ساكنا، ولم يعين السابق منهما، ما هو؟ فدل على أن الواو قد تسبق الياء، وبالعكس. فالسابق إذا سكن تمكن جريان الحكم، فإن لم يسكن السابق فكانا معا متحركين، أو كان

الأول هو المتحرك، فلا أثر لهذا الاجتماع، فالمتحركان (نحو) حيوان، فلا تقول فيه: حيان، وكذلك (إذا) بنيت فعلان أو فعلة من طويت أو شويت، فإنك تقول: طويان، وطواة، أصله: طوية، فاعتلت الياء ولم تذغم لأجل تحرك ما قبلها، وكذلك شويان وشواة، ومثله: نواة، ورواة، وغواة، وعواة، لأنها كلها من باب طويت، فهي مما اجتمعت فيه الواو والياء، لكن فقد شرط سكون الأول، وأما سكون الثاني دون الأول فنحو عذيوط، وكديون، وذهيوط، وصيود، وطويل، وحويل، وما أشبه ذلك. فلا يعل هذا أيضا، قال سيبويه: "إنما منعهم أن يقبلوا الواو فيهن ياء- (يعني) فيما ذكر من المثل- أن الحرف الأول متحرك، فلم يكن ليكون إدغام، إلا بسكون الأول؛ ألا ترى أن الحرفين إذا تقارب موضعهما فتحركا أو تحرك الأول وسكن الآخر لم يدغموا نحو قولهم: وتد، ووتد فعل، ولم يجيزوا: وده، على هذا فيجعلوه بمنزلة مد، لأن الحرفين ليسا من موضع تضعيف، فهم في الواو والياء أجدر ألا يفعلوا ذلك، (ولم يجيزوا: يد (بمعنى)، من وتد يتد)، (قال) وإنما أجروا الواو

(والياء) مجرى الحرفين المتقاربين (إنما السكون والتحرك في المتقاربين-)، فإذا لم يكن الأول ساكنا لم يصل إلى الإدغام، لأنه (لا) يسكن حرفان". (قال): "وكانت الواو والياء أجدر ألا يفعل بهما ما ي فعل بمد ومدوا، لبعد ما بين الحرفين. فلما لم يصلوا إلى أن يرفعوا ألسنتهم رفعة واحدة لم يقبلوا، وتركوها على الأصل، كما تركوا المشبه به". والشرط الثاني أن تكون الواو والياء متصلتين، وذلك قوله: "واتصلا"، والاتصال الذي أراد على وجهين: أحدهما: اتصال الحرفين في أنفسهما بحيث لا يقع بعدهما فاصل، بل يتجاوزان ويتلاصقان، فإنهما إن لم يتجاوروا فلا أُر لذلك؛ إذ لا يمكن الإدغام، وإذا كانت الحركة فاصلة مانعة من الإدغام- والإعلال لأجله- ككديون ونحوه، فالحرف إذا كان فاصلا أولى، فإنهم قد عللوا عدم إدغام نحو/ كديون بفصل حركة الياء لأنها في التقدير بعد الحرف ولذلك لا يصح إدغام إلا أن يسكن سابق الحرفين. والثاني: كونهما في كلمة واحدة، فإنهما إذا كانا في كلمتين لم يكن اتصالهما اتصالا يعتد به، فإذا قلت: اخشى واقدا، لم تدغم، إذ الواو في كلمة أخرى، فهي غير لازمة للياء. وكذلك إذا قلت: اخشوا ياسرا، لم تدغم لذلك أيضا. ووجه ذلك أن الثاني من الحرفين عارض

للأول، ومن شرط هذا العمل عدم العروض كما سيأتي، فلم يكن للقلب والإدغام وجه، لكن كون الحرفين في كلمة واحدة على وجهين: أحدهما: أن تكونا لكلمة مبنية عليهما كسيد وميت وهين وقيوم، أصل ذلك: سيود، وميوت، وقيووم، لأنها من ساد يسود، ومات يموت، وقام يقوم، فالواو والياء هنا مبنية عليهما الكلمة. والثاني: أن تكون في حكم المبني عليهما وإن لم تكن كذلك، نحو: أو مخرجي هم؟ أصله: مخرجوي، فالياء الأخيرة ياء المتكلم، وهي في الحقيقة كلمة أخرى، لكنها لما تنزلت منزلة الجزء- ولذلك غيرت الإعراب في الكلمة فلم يظهر لأجلها- عاملوها معاملة ما هو من نفس الكلمة، فقلبوا الواو ياء، وأدغموا الياء في الياء فصار: أو مخرجي هم؟ بضم الجيم، فكسروها لتصح الياء فقالوا: مخرجي، وكذلك: جاء مسلمي، وخرج ضاربي، وشبه ذلك. والشرط الثالث: تعري الحرفين من العروض، وذلك قوله: "ومن عروض عريا"، يريد أن ذلك الحكم يشترط فيه أن يكون ذانك الحرفين متلازمين لا عارضين. ومعنى اللزوم فيهما أن يكونا في الكلمة لازمين لها بحكم الأصل لا يزولان عنها في جميع أحوالهما، فإن كانا معا أو أحدهما عارضا في الكلمة يزول تارة ويثبت أخرى فهذا هو معنى العروض الذي نفي. وعلى هذا يدخل تحت كلامه من هذا ما كان من هذه الحروف في أصل الوضع على ما هو عليه

الآن، وما كان خارجا عن أصله لكن لزم في الاستعمال، فأما الأول فهو سيد وميت، كما تقدم، وأما الثاني فمثاله قولك: (آول) إيالا، فإيالا مصدر أصله: إنوالا، فالهمزة الساكنة التي هي فاء لزمها الإبدال، فصار: إيوالا، فالياء ههنا لازمة في الاستعمال لأجل لزوم الهمزة الأولى، لأنها همزة إفعال، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداها بالسكون، واتصلا، وعريا عن العروض، إذ ليست الياء هنا ثابتة في حال دون حال، فوجب أن تدغم، فتقول: إيالا. وقد حملت هذه القراءة التي هي: {إن إلينا إيابهم} - وهي قراءة أبي جعفر- على أن يكون وزن الكلمة "إفعال". وأصله: إنواب، مصدر: آوب يؤوب، أي: إن إلينا إيابنا إياهم. وقد حملها ابن جني على وجهين آخرين ليسا من هذا النمط، ذكرهما في المحتسب. ومن هذا أيضا أن تبنى من أويت مثل اغدودن، فتقول على مذهب سيبويه: إيووى، فمصدره هو مما نحن فيه، تقول إذا ابتدأت: ايياء، وأصله: إنوواء، فقلبت الهمزة الثانية ياء لأجل/ همزة الوصل قبلها، فصار في التقدير: إيوواء ثم قبلت الواو بعدها ياء، وأدغمت الأولى منهما، لأن الإبدال هنا لازم للزوم همزة الوصل له، فصار: أيواء. فهذا تمثيل ما كان البدل فيه لازما. ثم إنهم

أعلوه أيضًا إعلا آخر من الأًصل الأول، لأنه (حين) صار اللفظ إيواء قلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، مع كونها كالمفردة إذ هي زائدة من سألتمونيها والمدغمة فيها عين، لأن الوزن على الأصل إفعوعال، بخلاف اجلواذ وما أشبه، فصار التقدير: ايبواء، ثم قلبت الواو الأخيرة ياء وأدغمت فيها لسبق الأولى بالسكون فصار: ايياء. ففي هذا المصدر من هذا الفصل موضعان، أحدهما الفاء مع العين الأولى، والثاني الياء المبدلة من الواو الزائدة مع العين الثانية، هذا كله على قول سيبويه؛ إذ يقول في الفعل إيووى: فيجمع بين الواوات، خلافا لأبي الحسن. قالوا وهذا الاسم من الغرائب، إذ ليس فيه أصل واحد إلا قد أعل، أعلت فاؤه ولامه وعينه، فهو أدخل في الشذوذ من باء، وتاء، وياء، وماء، مما تتوالى عليه إعلالان في كلمة. ومن هذا البدل اللازم أيضا احوياء، مصدر احواويت، أصله احويواء، والياء فيه بدل من الألف في الفعل عن اللزوم، لأن المصدر خلاف الفعل كما تقدم، فانقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وهذا مذهب سيبويه. فأما إن كان وجود الواو والياء عارضا- كما قال- فلا يحصل ذلك الحكم، إذ عدم العروض شرط. ويتصور عروض الأول منهما، وعروض الثاني، فعروض الأول كقولهم: سوير، وبويع، أصله: ساير وبايع، فالواو الأولى عارضة لأنها في بنية المفعول وهي عارضة، والأصل بنية الفاعل، قال سيبويه: "وسألت الخليل- رحمه الله- عن سوير وبويع، ما منعهم (من) أن يقلبوا

الواو ياء؟ فقال: لأن هذه الواو ليست بلازمة ولا بأصل، وإنما صارت للضمة حين قلت فوعل، ألا ترى أنك تقول: ساير ويساير، فلا يكون فيها الواو". ومثل هذا تفوعل إذا قلت: تبويع، فلا تدغم، لأن الواو غير لازمة، وإنما هي ألف تبايع. وكذلك رؤية إذا خففت همزته فقلت: روية، أو قلت في رؤيا: رويا، أو في نوي، لا تقول: رية ولا ريا ولا ني، لأن الواو عارضة والهمزة هي الأصل، فكان كواو سوير. وحكى سيبويه: رية وريا. فأما الأخفش فحمل هذا على قلب الهمزة واو محضة، على حذ أخطيت في أخطأت، وعلى هذا لا يعترض به على القاعدة، وأما سيبويه وغيره فجعلوه من التخفيف القياسي، ولكنهم جعلوا الواو بمنزلة الواو التي ليست ببدل من شيء، ولم يراعوا عروضها بل اعتدوا به، وهذا قليل لا يعتد به مثل الناظم في بناء قاعدة، مع أنه لا يطرد، فلا يقال عليه في مثل سوير: سير، فيعتد بالعارض. قال سيبويه: "ولا تكون- يعني هذه اللغة في سوير تبويع- لأن الواو بدل من/ الألف، فأرادوا أن يمدوا كما مدوا الألف. وألا يكون فوعل وتفوعل بمنزلة فعل وتفعل". يريد أنهم راعوا اللبس فلم يعتدوا بالعارض لأجله، فالمانع في الاعتداء بالعارض في سوير ونحوه أمران: قصدهم المد كما مدوا الأصل، والخوف من الالتباس ببناء آخر. والدليل على هذا قولهم: قوول وتقوول، فلم يدغموا

مع أنه التقى مثلان، فالإدغام في المثلين أسهل بكثير من إدغام المتقاربين، لكنهم تركوا ذلك للوجهين المذكورين، وكذلك: ديوان، الياء فيه عارضة لأنها بدل من واو ترجع في التحقير والتكسير، فشبهت بواو روية، ولو كانت الياء أصلها لأدغمت كما تدغم فيعال وفيعول نحو قيام وقيوم. وأما عروض الثاني من الحرفين فيكون في المنفصل نحو: اخشى واقدا، واخشوا ياسرا، وما أشبه ذلك. فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فكلام الناظم نص في ثبوت حكم قلب الواو ياء ثم الإدغام بقوله: فياء الواو اقلبن مدغما. والواو: مفعول أول لاقلبن، وياء هو المفعول الثاني. ويريد: سواء أتقدمت الواو. أم تأخرت فإنما تغلب الأثقل للأخف ومثال ذلك، سيد وميت وهين، أصله: سيود وميوت وهيون، لأنه من ساد يسود، ومات يموت وهان يهون. ولا يصح أن يكون على فوعل ولا فعول ولا فعل لعدم وجود هذه الأبنية، ولأنه كان يجب أن يقال: سود وموت وهون، ومن هذا أيضا: ديار وقيام وقيوم، أصله: ديوار من دار يدور، وقيوام وقيووم، من قام يقوم، ولو بنيت فيعل من القول لقلت: قيل، أو فوعل من البيع لقلت: بيع. كذلك لي وطي وشي، مصدر لوليت وطويت وشويت، أصله: لوى وطوى وشوى. ومن ذلك أيضا قولهم في مفعول من قضيت ورميت وحميت وطويت وشبه ذلك: مقضي، أصله مقضوي، فاتفق فيها ما اتفق في غيرها من انقلاب الواو ياء وإدغامها في الياء، وكذلك: مرمي ومحمي ومطوي ومشوي. وتقول في فعيل من عدوت وغزوت: دعي وغزي. وفي فعول من بغي يبغي: بغي، ومنه قوله تعالى: {وما كانت أمك بغيا}، أصله: بغوي، على فعول،

ولذلك لم تلحقه التاء، وهو مؤنث، والأمثلة كثيرة، إلا أن هذا الكلام معترض من ستة أوجه: أحدها: أنه شرط السكون في أول الحرفين ولم يقيده، فاقتضى أن الحكم معه ثابت على كل حال، وليس كذلك، لأن سكون الأول، على وجهين، أحدهما أن يكون سكونا أصليا ليس بطارئ ولا عارض كالمثل التقدمة، والثاني أن يكون عارضا، فأما الأول فلا إشكال معه، وأما الثاني فالحكم معه لا يثبت كما إذا قلت في قوي وروي: قوى وروى، فإن القلب هنا لا يصح بل يبقى على حاله، لأن ذلك السكون في تقدير الحركة لعروضه فلا تقول إلا قوى وروى، وفي غوي الفصيل: غوى، وفي هوي: هوى، وأشباه/ ذلك، فكان من حقه أن يقيد السكون بالأصالة كما فعل في التسهيل حين قيده بكونه أصليا. والثاني: أنه شرط الاتصال بين الحرفين، وهذا الشرط غير محتاج إليه، لأنه إن أراد الاحتراز من الفصل بينهما بحرف فهذا معلوم؛ إذ لا يمكن أن يدغم حرف في حرف وبينهما ثالث، هذا لا يسع ولا يمكن، فالاحتراز منه عي، وإن أراد الاتصال في كلمة واحدة تحرزا من وقوعهما في كلمتين فهذا داخل تحت شرط العروض، لأن ثاني الحرفين إذا كان في كلمة أخرى فعروضه ظاهر؛ إذ لا يلزم أن يؤتى بذلك الحرف مع هذا في كل موضع، وإذا كان الإمام يعلل تركهم الإدغام في اقتتل بأن التاء

الثانية ليست بلازمة للأولى؛ إذ يجئ في موضعها حرف آخر إذا قلت: اكتسب واحترف مع اختلاف المواد على المثال فأن يكون هذا عارضا وهو في كلمة أخرى أحق وأحرى، وكذلك ما تقدم من الأمثلة في عروض الحروف، فقد ظهر أن هذا الشرط فارغ من الفائدة. والثالث: أن العروض الذي ذكر على وجهين، وذلك أنه يقال في الحرف إنه عارض، بمعنى أنه عارض قياسا، وبمعنى أنه عارض استعمالا، أما هذا الثاني فهو الذي يصح عليه كلام الناظم، لأن الحرف يكون في حال دون حال في استعمال دون آخر، كما تقول ذلك في ياء ديوان: هو مستعمل هنا غير مستعمل في التحقير والتكسير إذا قلت: دويوين ودواوين، وكما تقول في واو سوير: إنها عارضة هنا للضمة وإنما هي ألف في ساير، فهذه الواو والياء تسميان عارضتين استعمالا، وبهما وقع التمثيل، وذلك هو الذي أراد النحويون، وأما العروض القياسي فلا يصح عليه كلامه، فإن إفعالا المصدر من آول يؤول إذا قلت فيه: إيالا، أصله إئوالا ثم قيل: إيوالا، فليست الياء فيه بأصل وإنما هي عارضة، ألا ترى أن أصلها الهمزة التي هي فاء والياء الآن قد يصدق عليها أنها عارضة، لكنها تلزم استعمالا، ولمراعاة الاستعمال فيها قلبت لها الواو وأدغمت فيها، وإذا كان كذلك فمن أين يظهر من كلامه أن هذا من قبيل اللازم لا من قبيل العارض، فإذا لم يتبين ذلك بعد اقتضى أنك (إنما) تقول هنا: إيوالا، ولا تدغم، وذلك خلاف ما قاله النحويون. والرابع: أن ياء التصغير في بنية المصغر إما أن تعدها من قبيل الحروف العارضة أو قبيل اللازمة، فإن عددتها من قبيل الحروف العارضة-

لأن بنية التصغير عارضة على بناء المكبر كما كانت بنية ما لم يسم فاعله عارضة على بنية الفاعل في الفعل- لازمه ألا تدغم ياء التصغير في واو تقع بعدها البتة، فلا تقول في صبور: صبير، ولا في شكور: شُكَيِّر، ولا في خروف، خريف، ولا في عتود عتيد، ولا في سدوس: سديس، ولا ما أشبه ذلك. وإنما يجب على هذا أن تقول: صبيور، وشكيدر، وخريوف، وعتيود، وسديوس، وكذا/ سائر الباب. وهذا غير صحيح باتفاق، وإن عددتها من قبيل اللازمة لزمك أن تدغمها البتة ما كان نحو جمهور في جهور، وأسيود في أسود، وجديول في جدول، لكن هذا فصيح- أعني الإظهار وعدم الإدغام- فإذا على كل تقدير لا يصح له هذا الحكم مع ياء التصغير. والخامس: أن من هذه الحروف ما يكون لازما ومع ذلك فلا يحكم له بحكم اللازم بل بحكم العارض، وذلك مثل حوقل من البيع فإنك تدغم في بنية الفاعل لحصول الشروط، فإذا جئت إلى بناء المفعول لم تدغم بل تقول: بويع. ولا يصح القلب والإدغام، وإن كانت الواو غير مبدلة من شيء، وإنما هي الموجودة في بنيت الفاعل وكذلك افعوعل من البيع تقول فيه: ابييع، فإذا بنية للمفعول: قلت: ابيويع، فلم تقلب الواو ياء، وهي كانت الموجودة في فعل الفاعل، قال ابن جنى: "لأنها لما صارت- يعني الواو- في فوعل: مدة لسكونها وانضمام ما قبلها أشبهت الواو في فوعل المنقلبة

عن الألف في فاعل". قال: "ولئلا يلبس أيضا فوعل بفعل". قال: "وكذلك لو بنيت فعول من البيع قلت: بيع، وأصلها بيوع. فإن قلت فيها فعل قلت: بووع، ولا تدغم، لأن الواو الأولى إنما انقلبت عن الياء التي هي عين الفعل فجرت مجرى واو بوطر المنقلبة عن ياء بيطر الجارية مجرى المدة في قوول من قاول، فلم تدغم". فهذا النوع ظاهر الدخول تحت عقد الناظم؛ إذ اجتمعت فيه شروطه التي ذكر، ثم إنه ليس بداخل في الحكم عند غيره من النحويين سيبويه وغيره، فلم يتحرر عقده وكان منحلا بعد. والسادس: على فرض أنه كمل له منه المقصود بقي له من المسألة جزء لم يذكره وهو كسر ما قبلها بعد حصول الإدغام إذا كان مضموما، فإن ما قبلهما تارة يكون مفتوحا أو مكسورا فلا يحتاج إلى زيادة نحو ايياء في مصدر ايووي، وبيع في فيعل من البيع، وتارة يكون مضموما فيطلبان بكسره كما في مقضي وبغي وما أشبه ذلك. وأيضا ليس كسر ما قبلهما بجار على وتيرة واحدة، فقد يجب الكسر كمضي وبغي، وقد لا يجب نحو لي في جمع ألوى، فالمسألة إذا في كلامه لم تتم بعد فلم يتحصل منها منطوق به. ومثل هذا من الاعتراضات يلزمه كما كان لازما له لو قال مثلا في مبيوع ونحوه: تنقل ضمة الياء إلى الباء. وسكت عن غير هذا من (سائر) الأحكام التي تعتور على الكلمة حتى تصير إلى مبيع، فهذا فيه ما ترى.

فأما الاعتراض الأول فالظاهر لزومه ولا يقال بموجبه فتقلب الواو في قوى فتقول: قئ إلا على مذهب بعض النحويين قياسا على قول من قال في رويا ريا، وفي روية: رية. وهذا لا يمشي على مذهب الناظم هنا، لأن ذلك قليل وخلاف المعتمد في الباب، وإنما قال بالقياس في قي تفريعا على ذلك القليل، والجميع مطرح عنده الناظم. وإنما يبقى أن يقال: إن قوى لما كان سكونه عارضا وهو في تقدير الحركة لم يعتبر ما هو عليه الآن فكأنه متحرك بعد لا ساكن في / الحقيقة. وهذا الجواب ضعيف، والأولى في الجواب أن يقال: إن الضمير في "عريا" عائد كما تقدم على الواو والياء، إلا أنه لم يرد التعري من العروض فيهما أنفسها خاصة، إذ لم يقل: بشرط ألا يكونا عارضين، وإنما اشترط أن يخلو من تعلق العروض بهما؛ إذ هو معنى قوله: "ومن عروض عريا"، والعروض الذي يلحقهما على وجهين، أحدهما: أن يلحقهما في أنفسهما كروية تخفيف رؤية، فإن الواو الأولى عارضة وأصلها الهمز فلا اعتداد بها، وهذا صحيح. والثاني: أن يتعلق بهما في أحوالهما لا في أنفسهما، وقد ذكر لهما حالين، أحدهما، سكون الأول وهو قوله: "إن يسكن السابق من واو ويا"، فتعلق العروض بالسكون مانع من جريان الحكم، فإذا قلت في قوي: قوى، وفي فعلان من طويت: طويان، ثم أسكنت، لم تقلب ولم تدغم، لأن السكون عارض فلا اعتداد به. والحال الثاني: اتصالهما بعضهما ببعض، وتعلق العروض به أيضا مانع، فإن قولك: احشوا ياسرا، لا يجب فيه

الإدغام لعروض اتصال الياء. وكل هذا يشمله لفظ الناظم، لأن العروض في هذه الأشياء متعلق بالواو والياء، وهو قد قال: ومن عروض عريا، فالجميع مراد له، فزال الإشكال، والحمد لله. وأما الإشكال الثاني فإن قوله: "ومن عروض عريا" من تمام شرط الاتصال، والمعنى: إن اتصلا اتصالا أصليا، ولو قال هذا لم يكن عليه اعتراض، وإنما كان يلزم الإشكال على تقدير استقلال العروض بالشرطية، وهذا ظاهر، والله أعلم. وأما الثالث فإنه إنما أراد العروض الاستعمالي، وفيه تكلم، وعليه يبنى، على عادته في التمسك بالظواهر، وأما العروض القياس فهو شيء لم ينطق به ولا ظهر في موضع من المواضع، وإنما ظهر لزوم الياء فهو الذي اعتمد، وإياه أراد، والله أعلم. وأما الرابع (فنقول): إن ياء التصغير من قبيل ما هو لازم لا عارض، لأن بنية المكبر (بنية) أخرى، وأما ما جاء من نحو أسيود وجديول فهو عند سيبويه أضعف الوجهين، والقياس والأولى القلب والإدغام على القاعدة القياسية الاستعمالية، ألا تراه قال: "واعلم أن من العرب من يظهر الواو في جميع ما ذكرناه"، قال: "وهو أبعد الوجهين، يدعها على حالها قبل أن تحقر". فيجعله- كما ترى- أبعد الوجهين عن القياس، وجعله لغة لبعض العرب، فهو

في عداد الأوجه الضعيفة التي لا يعتبرها في هذا النظم. وأيضا فليس هذا الإظهار عاما في جميع المصغرات وإنما هو مختص بما كانت الواو فيه ظاهرة صحيحة في المكبر كجدول وأسود (ومعاوية) ونحو ذلك لافيما اعتل أو كان ساكنا نحو سيد وقيوم ومقام وعتود، وأيضا فهو مختص بما كانت الواو فيه عينا أو في موضع العين لا لاما، فإنها إن كانت لا ما وكانت محركة ومصححة فلا بد من القلب والإدغام كدلو ورضوى وعشواء، فإنما تقول/: دلي، ورضيا، وعشياء، وكذلك ما أشبهه. فالحاصل أن الذي يكون فيه عدم القلب من المصغرات قليل في قليل في لغة قليلين من العرب، فبحق ما تركه الناظم! وهو حسن. وأما الخامس فإن فوعل من البيع وما أشبهه إذا بني للمفعول الواو فيه محكوم لها بحكم العارض، والياء بعدها في الحكم عارضة، أما كون الواو محكوما لها بحكم العارض فإن فوعل في البناء للمفعول محمول على فاعل، ولذلك صارت الواو مدة كما صارت في فاعل حملا للمعتل على الصحيح، إذ كنت تقول: بوطر في بيطر، كأنك قلت: باطر، وتقول: صومعت، فتقول فيه: صومعت، فتجريها مجرى صامع لو تكلمت به، وكذلك فيعلت من باع، فلما كان حال الواو في فوعل وما أشبهه هكذا صارت الواو لما لحقها من المد بالتشبيه بفاعل في حكم المبدل من ألف

فاعل، فعوملت معاملتها، أما بنية الفاعل فلا إشكال في ثبوت حكم القلب والإدغام فيها، وإنما عرض الشبه لبنية المفعول، (وأما كون الياء بعدها عارضة فإن هذه الواو قد تأتي في بنية المفعول) وليس بعدها ياء تدغم فيها، ألا ترى أن فوعل قد يأتي بعد الواو فيه غير الياء إذا قلت بوطر وحوقل وما أِبه ذلك، فلما كانت كذلك اعتبر فيها حال السقوط عن البناء، قال سيبويه: "وتقول في افعوعلت من سرت: اسييرت، تقلب الواو ياء لأنها ساكنة بعدها ياء، فإذا قلت (فعلت قلت): اسيويرت، لأن هذه الواو قد تقع وليس بعدها ياء كقولك اعذودن، فهي بمنزلة واو فوعلت وألف فاعلت". قال: "ولذلك هي من قلت، لأن هذه الواو تقع وليس بعدها واو". قال: "فيجريان في فعل مجرى غير المعتل، كما أجريت الأول مجرى غير المعتل، فأجريت اسيوير على مثال اعذوذن في هذا المكان، واشهوب في هذا المكان، ولم تقلب الواو ياءاً لأن قصتها قصة سوير". هذا كلامه قد ظهر منه الحكم على ما بعد الواو بالعروض. وقد أجاز الفارسي في احوياء مصدر احواويت أن يجاء به على الأصل فيقال: احويواء، علل ذلك ابن أبي الربيع بأن ياء افعيلال لا يلزم أن تقع بعدها واو، لأنك تقول: احميرار، واشهياب، فجرى ذلك مجرى المنفصلين، ونظره باقتتال، وسيأتي ذكر ذلك الإدغام. فإذا ثبت هذا لم يكن على الناظم اعتراض في هذا النظم ولا في التسهيل.

وأما السادس فإن كسر ما قبل الواو إذا انقلبت إلى الياء قد تقدم له فيه كلام لعله يغني ههنا، وذلك أنه قال في باب الإضافة إلى ياء المتكلم: وتدغم اليا فيه والواو وإن ... ما قبل واو ضم فاكسره يهن فنص على كسر ما قبل الواو إذا قلبت ياء وحتم الحكم بذلك هنالك، وهي مسألة من هذا الفصل فلابد أن يجري الحكم في الجميع، فاجتزأ بذكره هناك عن ذكره هنا، فما كان من نحو مرضي وبغي داخل بالمعنى تحت الحكم بالكسر، ولاسيما وقد نص هنالك على العلة بقوله: "فاكسره يهن"، أي: يسهل، فأشار إلى أن سبب الكسر التخفيف، وأن بقاء الضمة يحدث ثقلا/ (فيجرى ذلك هنا)، لكن فيما كان مثل مسلمي، وهو ما كانت الضمة فيه قريبة من الطرف ولم تكن على فاء الكلمة، فإذا ما كانت الضمة فيه على فاء الكلمة خارج عن ذلك اللزوم لأجل قوة الضمة ببعدها عن الطرف، فإن اعتبرت قوتها تركتها على حالها فقلت: لي في جمع ألوى، وإن اعتبرت ثقل اللفظ قلت: لي، فكسرت، وكذلك ما أشبهه، فيمكن أن يكون الناظم قصد هذا، والله أعلم. وقوله: "مدغما" حال من فاعل "اقلبن"، أي: اقلب الواو ياء في حال كونك مدغما. إلا أن هذه الحال لا يصح إذا أخذت على حقيقتها، وذلك

(أنه) يقول: اقلب في حال الإدغام، أي في زمان الإدغام، والحال مقدرة بالظرف، والقلب في زمان الإدغام محال؛ إذ الإدغام إنما هو من إدغام المثلين في الحقيقة، وإن كان كأنه معدود من إدغام المتقاربين لتقاربهما في الصفات من المد واللين وغير ذلك، ولا تكون الواو مثل للياء إلا بعد قلبها ياء، فإذا لا يكون الإدغام إلا بعد قلبها ياء، وإذا كان كذلك أشكل قوله: "اقلبن مدغما"، لأن القلب ليس في حال الإدغام، بل بعده. والجواب: أن الحال هنا مقدرة، أي: اقلبن مقدرا للإدغام، أي: إن القلب لا يكون إلا على هذا التقدير. وكذا هو في حقيقة الأمر، لأن الإعلال هنا لا موجب له إلا ثقل اجتماع الواو والياء، فأرادوا أن يزيلوا ذلك، فلم يتأت لهم إدغام أحدهما في الآخر؛ إذ لا يصح ذلك فيهما من غير قلب أحدهما إلى الآخر، فقلبوا الواو ياء لأجل أن يدغموا أحدهما في الآخر، فالحال هنا هي الحال المقدرة، وعليه جاء معنى الكلام، ومثل هذه الحال قوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيونا}، أي: فجرنا مقدرين هذه الحال لها، وهي كونها عيونا، إذ لم تكن عيونا في حال التفجير، وإنما حصل كونها عيونا بعد حصول التفجير، أو بعد فرضه موجودا، وكذلك مسألتنا. ثم نبه على شذوذ ما شذ عن القاعدة فقال: "وشد معطي غير ما قد سما"؛ غير: منصوب بمعطى على المفعول الثاني، ومعطى على حذف الموصوف للعلم به، أي: شذ لفظ معطى كذا، يعني أن كل كلمة اجتمعت فيها الشروط المذكورة ولم يحصل فيها ذلك الحكم من قلب الواو ياء وإدغام الياء في الياء،

فهي شاذة محفوظة لا يقاس عليها، فمن ذلك حيوة، اسم رجل، وضيون للهر الذكر، وعوى الكلب عوية. قال ابن الناظم: الشاذ من هذا النوع على ثلاثة أضرب، الأول: ما شد فيه الإبدال لأنه لم يستوف شروطه كقراءة من قرأ: {إن كنتم للريا تعبرون}. الثاني: ما شذ فيه التصحيح كقولهم للسنور: ضيون، وعوى الكلب عوية، ويوم أيوم. والثالث: ما شذ فيه إبدال الياء واو وإدغام الواو في الواو، نحو: عوى الكلب عوة، ونهو عن المنكر". انتهى، وهو حسن. ويدخل تحت هذا الإطلاق قولهم في التصغير: أسيود، وجديول/، وجهيور، وما أشبه ذلك مما تقدم؛ إذ هو مما اجتمعت فيه الشروط فلم يحصل فيه قلب ولا إدغام، لكن مثل هذا الايقال فيه شاذ، كيف والنحويون يقيسونه وإن كان قليلا. ووجه ما قالوه من هذا أن الواو جرت مجرى الصحيح بتحركها ووقوعها في موضع الحرف الصحيح، فعاملوها معاملته، وأيضا فتشبيها لياء التحقير بألف التكسير؛ إذ كانوا إنما يفعلون هذا فيما يكسر على مفاعل، فثبتت فيه الواو ظاهرة غير معتلة، والله أعلم. من واو أو ياء بتحريك أصل ... ألف ابدل بعد فتح متصل إن حرك التالي وإن سكن كف ... إعلال غير اللام وهي لا يكف

إعلالها بساكن غير ألف ... أو ياء التشديد فيها قد ألف هذا هو إبدال الألف من غيرها من حروف العلة الياء أو الواو، وحذف العاطف والأصل أن يقول: ومن واو أو ياء. وهذا الجار متعلق بأبدل، وبتحريك: متعلق باسم فاعل محذوف صفة لما قبله، وأصل: جملة في موضع الصفة لتحريك، وألفا: منصوب على المعفولية بأبدل. ويعد: متعلق باسم فاعل حال من الياء والواو وإن كانا نكرتين، أو بأبدل، والتقدير: أبدل ألفا من ياء أو واو كائنتين بتحريك أصل حالة كونهما بعد فتح متصل. ومعنى ذلك على الجملة أن الواو والياء تبدلان ألفا إذا تحركا حركة أصلية وانفتح ما قبلهما متصلا بهما، وكان التالي- أي: الواقع بعدهما مما يليهما- متحركا أيضا وقد اشتمل هذا العقد على خمسة أوصاف بوجودها يحصل الحكم ما لم يأت مانع من خارج: أحدها: أن تتحرك الواو والياء، وذلك قوله: "بتحريك"، وهذه الحركة لم يعينها، فدل على أنها يصح أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، فالضمة نحو: طال، أصله: طول، وهو ضد قصر. والفتحة نحو: قام وهام، أصله: قوم وهيم. والكسرة: هاب وخاف، أصله: هيب وخوف. فإن سكنت الواو والياء فمفهوم الشرط أنها لا تقلب ألفا قياسا، وذلك نحو: سقيت ورميت، ودعوت وغزوت، واستسقيت، وما أشبه ذلك، قال سيبويه: "وأما قولهم: غزوت ورميت، وغزوت ورمين، فإنما جئن على الأصل لأنه موضع لا تحرك فيه اللام، وإنما

أصلها في هذا الموضع السكون، وإنما تقلب ألفا إذا كانت متحركة في الأصل". انتهى. فإن جاء من ذلك شيء فمحفوظ غير مقيس، فمما جاء من ذلك قولهم في ييأس: ياءس، وفي يوجل: ياجل، أرادوا التخفيف وإن كانت ساكنة لأن الألف أخف من الواو والياء لاسيما لما جاءتا مع الياء، فرأوا أن جمع الياء والألف أسهل من جمع الياءين أو الواو والياء، وقد حملهم طلب الخفة أن قالوا في طيئي: طائي. وقد تقدم تنبيه الناظم عليه فأبدل الألف من الياء الساكنة، وكذلك حاري في الحيرة، قال/ الشاعر: فهي أحوى من الربعي خاذله ... والعين بالإثمد الحاري كحول وحكى أبو زيد عن بعضهم في تصغير دابة: دوابة، يريد: دويبة، فأبدل من ياء التصغير ألفا، وقال الراجز، أنشده ابن جني: تبت إليك فتقبل تابتي ... وصمت- ربي- فتقبل صامتي أراد توبتي وصومتي. وقال مالك بن أسماء بن خارجة:

ومن حديث يزيدني مقة ... مالحديث المأموق من ثمن يريد: الموموق. وفي الحديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم- "ارجعن مازورات غير مأجورت". وجهه الكوفيون أن أبدل الألف من الواو لازدواج الكلام. وقال سيبويه في آية وراية وطاية وثاية [آية: إنها فعلة، بإسكان العين، فأبدلت الألف منها وهي ياء، وهو مذهب الفراء. ومذهب الخليل حملها على القياس وأن أصلها التحريك، فانقلبت ألفا لتحريكها وانفتاح ما قبلها على الأصل، لكن فيه شذوذ إعلال العين وتصحيح اللام، وهو خلاف القياس، على ما يأتي بعيد هذا، إن شاء الله تعالى. قال ابن جني: "وأخذ هذا بعض البغداديين من سيبويه فقال في قولهم: أرض داوية (إنه): أراد دوية، فأبدل من الواو الساكنة التي هي عين دو ألفا، قال ذو الرمة: دوية ودجى ليل كأنهما ... يم تراطن في حافاته الروم ثم حكى عن الفارسي رده. ومنه: حاحيت وعاعيت، قال المازني:

"وأخبرني أبو زيد النحوي قال: سألت خليلا عن الذين قالوا: مررت بأخواك، وضربت أخواك، فقال: هؤلاء قوم على قياس الذين قالوا (في) ييأس: ياءس، أبدلو الياء ألفا لانفتاح ما قبلها". وانظر في تفسير هذا الكلام في المنصف لابن جني. قال المازني: "ومثله قول العرب من أهل الحجاز: ياتزنون، وهم ياتعدون، فروا من يوتزنون ويوتعدون". قال الكسائي سألت أبا الجراح فقلت له: من يقول من أحياء العرب: هو ياجل، وياجل، وياءس، ويابس؟ فقال لي: يمه؟ - وهو يستفهمني، أراد: يا، ماذا؟ فأفهمته- فقال: تقوله عامر وقوم من قيس. يريد: يوجل، ويوحل، وييأس، وييبس، من الوجل والوحل والإياس واليبس. فهذا وما أشبهه مما جاء على غير قياس. الوصف الثاني: أن تكون حركة الواو والياء أصلية لا عارضة، وذلك قوله: "بتحريك أصل" يعني أن الواو جاءت متحركة في أصلها، وكذلك الياء، لا أن تكون الحركة عرضت لها، وذلك كما إذا خففت: شيء وفيء وضوء ونوء، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء والواو فقلت: شي وقي وضو ونو، لم

تقلبهما ألفًا وإن تحركا، لأن الحركة حركة الهمزة لا حركة الواو والياء. وكذلك إذا خففت "جيئل" فنقلت الحركة وقلت: جيل، لم تقل: جال، أو بنيت من ضهيأ مثل قمطر فقلت: ضهيئ، ثم خففت بالحذف والنقل فقلت: ضهي، لم تقل: ضها، وإن تحركت، وكذلك لو بينت من قرأ مثل إدرون فقلت: إقروء، ثم خففته ونقلت/ (لقلت): إقرو، ولم تقلب الواو ألفا. وكذلك ما أشبه هذا، فالحركة وإن كانت على الواو والياء محرزة للهمزة فكأنها موجودة وحركتها عليها، وقال ابن جني: "سألت أبا علي فقلت له: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال في تخفيف الأحمر: لحمر أيجوز على هذا أن يقلب الواو والياء في جوب وجيل ألفا فيقول: جاب وجال؟ فقال: لا وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداء بالحركة في نحو لحمر، أي فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته كما ذكر". الوصف الثالث: (أن ينفتح ما قبلهما، وذلك لأن الألف لا تثبت إلا بعد الفتحة، فإن تحرك بالضم نحو: دول وسور، أو بالكسر نحو: حول وسير، أو سكن نحو دأو وظبي، لم تنقلب الواو ولا الياء ألفا. وكذلك ما كان

نحو: عثير، وجهور، وكنهور، وقندأو، وسندأو، وشبه ذلك. أما إذا كان ما قبلها ساكنا فإن العرب تجريها إذ ذاك مجرى الصحيح، إذ لا يجتمع فيه ياء وكسرة، ولا واو وضمة، وقويتا إذ كان ما قبلهما ضعيفا لسكونه، قال سيبويه: "ومن ثم قالوا: مغزو وعتو". يعني ولم يقبلوا، وأما إذا تحرك ما قبلها بالضم أو بالكسر فإن اللام بذلك تعتل في الاسم اعتلالا آخر، وذلك كله إذا كان المعتل لاما أو في موضع اللام. وأما إذا كان المعتل الواو أو الياء في وضع العين فإنهما إذ سكن ما قبلهما كما تقدم في اللام، وإذا تحرك بالضم أو بالكسر لم يصح انقلابها ألف- كما تقدم، فلم يبق إلا أن يكون ما قبلهما مفتوحا وأيضا الاعتلال ههنا إنما هو بالحمل على الفعل، وإذا انفتح ما قبلهما كانت الكلمة بذلك على وزن الفعل، فثبت الإعلال في نحو دار ومال، ورجل مال، وضاف. وكذلك تقول في نحو عضد من القول: قال. وأما إذا لم ينفتح ما قبلهما فإن الكلمة تخرج بذلك عن وزن الفعل فتقول: سور وعوض، ونحو ذلك. ولذلك قالوا إذا بنيت من القول والبيع مثل إبل قلت: قول وبيع، فصححت كما تصحح حولا وطورًا.

فإن قلت: فإن في الفعل مثل فعل نحو: نعم وبئس، فهلا أعللت فقلت: قيل. قيل: هذا لا يلزم، لأن هذه الكسرة لما كانت من أجل الحرف الحلقي لم تلزم فلم يعتد بها وصارت الفاء كأنها على فتحتها، كما لم يعتدوا بالفتحة في نحو يطأ ويسع، بل كانت بمنزلة الكسرة، فحذفوا الواو، كما حذفوها من يزن ونحوه ولم يثبتوها كما أثبتوها في يوجل. فأما وجه القلب في اللام مع الفتح فإن اللام لما اعتلت حين انكسر ما قبلها أو انضم أرادوا أيكون ذلك أيضا إذا انفتح ما قبلها لتجري اللام على حكم واحد في الاعتلال. وإلى هذا النحو من التعليل أشار سيبويه. وأما العين فإنما اعتلت لأن الحركات أبدا في هذه الحروف مستثقلة لاسيما الضمة والكسرة، فثقل عليهم في هذا فعل وفعل إذا قلت مثلا: طول وخوف وهيب، فسكونهما ألفا فقالوا: طال وخاف، ثم أعلوا أيضا فعل كذلك لتوالى الفتح ولتكون كأختيها فقالوا: قام وباع وآب، وحملوا على / ذلك الاسم فقالوا: مال ودار وساق، أصله: مول ودور وسوق، إذ هي من الواو (لقولهم): أموال، ودار يدور، والسوق. وقالوا: رجل خاف ومال، أصله: خوف ومول، وكذلك ما أشبهه. وأما فعل في الأسماء من المعتل فقال ابن جني: "لا أعلمه جاء اسما فيما عينه معتلة لا صحيحا ولا معتلا". ثم ذكر أنك لو بنيت من قام مثل عضد لقلت: قام، وأصله: قوم، فقلبت الواو ألفا إذ تحركت وانفتح ما قبلها، كما قالوا: طال، وأصله طول.

فإن قيل: قد تقدم أن الواو والياء تنقلبان ألفا لتحركهما من غير أن يكون ما قبلهما ساكنا. وذلك قياس مطرد فيما إذا وقع قبلهما الألف الزائدة في اللام والعين معا؛ ألا ترى أن الخليل وغيره يقولون في كساء وارد: أصله كساو ورداي، لكن وقعت الألف قبلهما زائدة وهي تشبه الفتحة فانقلبت ألفا، ثم اجتمع ألفان، فلما أرادوا تحريك (الألف) الثانية انقلبت همزة، وكذلك قالوا في همزة قائم وبائع، حرفا بحرف، فقد وجد الإعلال فيهما ولا حركة قبلهما، وذلك ينقض هذا. فالجواب: أن ما تقدم إنما هو أمر تقديري لا وجود لا في الخارج، فلم يعتبره (وقد تقدم أن الناظم لم يعتبر) ذلك العمل ولا بني عليه، وإنما بني هنالك على أن الواو والياء انقلبتا همزة لوقوعهما طرفا بعد ألف زائدة في كساء ورداء، وأنهما كذلك انقلبتا همزة في فاعل ونحوه، لا أنهما انقلبتا ألفا ثم همزة، وإذا كان العمل عنده كذلك فلا يعترض عليه بما ذكره غيره. هذا مع أن الألف وحدها اختصت بهذا لشبهها بالفتحة، لأن الفتحة بعضها، وبذلك عللوا هنالك القلب ألفا. فعقد الناظم (هنا) صحيح (وهناك صحيح) على ما مضى ذكره، وأيضا فقد أتى فقد أتى بشرط مخرج نحو كساء وقائم أن يكون من هذا الباب، وهو الوصف الرابع:

أن تكون الفتحة متصلة، وذلك قوله: "بعد فتح متصل"، ومعنى اتصالها وجهان: أحدهما: أن يكون تحرز به من الفصل بينهما، أعني بين الواو والياء وبين الفتحة بحرف من الحروف كظبية وغزوة، فلا أثر لحركة الظاء والغين في الياء والواو للفصل بينهما، ولأنه قد مر أن من أسباب القلب هنا توالي الحركات، وإذا سكن ما قبلهما فقد جزء العلة، وقد دخل هنا الفصل بالألف الزائدة، فليست إذا الهمزة في قائم وبائع ولا في كساء ورداء بمنقلبة عن الألف، على اعتبار هذا الشرط كما تقدم له من اطراح هذا العمل. قيل: وله وجه من النظر، وذلك أن هذا العمل لا يتعين ولم يظهر له ثمرة في الكلام، وإنما هو زيادة عمل صناعي فقط، وتقريب العمل ما أمكن هو الأولى. وأيضا فإن من قواعد سيبويه- على ما قرب ابن جني- الحمل على الظاهر وإن أمكن أن يكون المراد غيره، وقد أمكن هنا أن يكون القلب حصل في الواو والياء لا في الألف، فلا يعدل عنه إلا بدليل، وأيضا قلب الألف همزة طلبا لتحريكها أمر قليل في الكلام الشاذ في الاستعمال، قلما يأتي/ إلا في الشعر، ولذلك لم يقبله كبار النحاة في القياس، والقلب في كساء، وقائم ونحوه كثيرا جدا وقياس مطرد، فلو كان من ذلك الأصل لكان قليلا ونادرا أو شاذا، فكونه لم يكن كذلك دليل على أنه ليس على ذلك التقدير، وهذا من باب الاستدلال بالأحكام، وهي من قواعد سيبويه وغيره، فلأجل هذا من الدلالة يقوم الناظم: لابد من اتصال الفتحة. وهذا- والله أعلم- هو الذي أراد هنا وفي التسهيل، لا

أنه قصد الفصل بالحرف الصحيح كغزوة وظبية، وإنما دخل مثل هذا بحكم الانجرار، على أن غيره قد احترز مما احترز هو منه، فقالوا في نحو: قاولت وبايعت، وتقاولنا وتبايعنا، وحولت وتحولت: لا يعل مثل هذا وإن تقدمته الفتحة. قال ابن جني تفسيرا لما قاله المازني من ذلك: "إنما صحت هذه الأفعال كلها لسكون ما قبل الياء والواو والمتحركتين، فلو قلبت الياء والواو في قاولت وبايعت كما قلبتها في قال وباع لوجب حذف إحدى الألفين ولزال البناء، أو قلت الأخيرة من الواو والياء في زنيت وشوقت لتحرك ما قبلهما وزال البناء، فتجنبوا ذلك لكثرة التغيير. وكذلك تفعلت وتفاعلنا، لأن التاء إنما دخلت على فعلت وفاعلنا، ولما صحت هذه الأفعال صحت مصادرها أيضا كالتقاول والقوال، وشبه ذلك. والوجه الثاني: أن يريد بالاتصال اتصال الفتحة بالواو والياء في كلمة واحدة تحرزا من أن تكونا في كلمتين، فإنه لا يؤثر كقولك: ذهب يزيد وقطع وريده، وخرج وليد وانطلق يريد كذا، فإن مثل هذا الاعتبار به كما لم يعتبر في القاعدة الأولى وهي قاعدة سيد وميت، وذلك لأن الكلمة الثانية ذات الواو

والياء ليس بواجب أن تأتي قبلها فتحة، بل قد تكون وقد لا تكون، فكيف تتقلب ألفا لأمر يتخلف وينكسر ولا يلزم؟ وهذا ظاهر. الوصف الخامس: أن يكون ما بعد الواو متحركا، وذلك قوله: "إن حرك التالي". يعني أن هذا الحكم ثابت على الإطلاق بشرط أن يكون التالي لهما متحركا لا ساكنا، وهذا الشرط له ضميمتان مفهومتان من الكلام: إحداهما: أنه إنما يتأتى فيما يكون بعده حرف في كلمته كقام ونام وارم، وكذلك مصطفون وما أشبه ذلك، وإلا فإذا لم يكن بعده حرف في كلمته فلا متحرك ولا ساكن، وإن جاء من كلمة أخرى فغير معتبر أصلا، فإذا قلت: رمى زيد، أو رمى ابنك، أو رمى، ووقفت عليه- فالحكم واحد إلا ما يعرض من التقاء الساكنين قط، فأما الإعلال فحاصل على كل تقدير. والثانية: أنه شرط في إطلاق القول بالإعلال المذكور أنه إذا تحرك ما بعد الواو والياء فانقلابهما ألفا ثابت على الإطلاق، بخلاف ما إذا سكن ما بعدهما فإن في ذلك تفصيلا ذكره، ويدلك على هذا المعنى قوله: "وإن سكن كف إعلال غير اللام" .. إلى آخر المسألة، فإنه ذكر أن سكون ما بعدهما لا يثبت معه الإعلال على الإطلاق، بل يثبت في بعض المواضع ولا يثبت في بعض، فدل هذا/ من كلامه على أن التحريك شرط في إطلاق

القول بالإعلال. والتفصيل الذي ذكر فيما إذا وقع بعدهما ساكن هو أنه لا يخلو أن تكون الواو والياء غير لام أو لاما، فإن كانت غير لام- وذلك العين ما يقع في موقعه مما لا تتم به الكلمة- فكيف ذلك الساكن الإعلال، فتبقى الواو والياء على أصلهما، وذلك نحو: غيابة، وغواية، وعياياء، وجواد، وطويل، وقوول، وبيان، وما أشبه ذلك، فإنك لو أعللت مثل هذا لالتبس البناء المخصوص بغيره، وذلك لأنك إذا قلت في غيابة وغواية: غاابة، وغااية، اجتمع ألفان، فلابد من حذف إحداهما لالتقاء الساكنين، فيصير غيابة غابة، وغواية من: قبل غاية، وكذلك عياياء عاياء، وجواد جاد، وطويل طيل، وقوول قول، وبيان بان، فتلتبس بما وافقهما من الأبنية، فلا يحصل فرق، فكرهوا ذلك، وقد دل على هذا الحكم قوله: "وإن سكن كف إعلال غير اللام". يعني إن سكت ما بعد الواو والياء كف إعلال غير اللام، وغير اللام هي العين وما إليها. وإنما قال: "غير اللام"، ولم يعين العين، لأنه (قد) يقع قبل اللام ما يعل وليس بعين، وذلك الفاء إذا وقعت بالقلب في موضع العين كجاه، فإن أصله وجه، ثم صار بالقلب جوه، (ثم) حركوا الواو بالفتح إذ بنوه على صفة أخرى

فقالوا: جوه، فوجب فيه ما وجب في العين نفسها في نحو: قام وهام، من انقلابها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. لكن قد يعترض على هذا المأخذ بقولهم: أيس، مقلوب يئس، فإنهم لما قلبوه كان حقه على هذا أن يعل فيقال: آس، كما يقال: خاف وهاب. والأولى أن يكون أراد بغير اللام العين فقط، ولا يحتاج إلى هذا الاعتذار، ويكون ما جاء من جاه ونحوه نادرا لا يعتد به. وإن كانت الواو أو الياء لاما فإن الساكن الذي يقع بعدهما قسمان. أحدهما: أن يكون ألفا أو ياء مشددة. والثاني: أن يكون غير ذينك. فإن كان الأول فإنهما يمنعان إعلال اللام مطلقا، وذلك قوله: "وهي لا يكف إعلالها بساكن غير ألف أو ياء" صفتها كذا. وضمير "هي" عائد على الواو أو الياء، وأعاد ضمير المفرد لأن العطف فيهما بأو، ولو قال: وهما لا يكف إعلالهما، لصح، لأن معنى أو التنويع أو التختير، فيعني أن الساكن لا يكف إعلالهما إلا إذا كان أحد هذين الحرفين. فأما الألف فنحو: غزوا ورميا، فإنه لو أعل فقيل: ماا وغزاا لانحذفت الألف للسكانين، فالتبس فعل الاثنين بفعل الواحد، فلم يمكن أن يعتل لأجل ذلك. وكذلك نحو: كروان، وعدوان، ونفيان، وغليان، وما أشبه ذلك.

وعلة ذلك ما تقدم من مراعاة اللبس، إذ لو أعلو فقالوا: كران، وعدان، ونفان، وغلان، لالتبس فعلان بفعال، فاجتنبوا ذلك لاحتمال التصحيح. ويدخل في هذا: فتيان، وعصوان، وفتيات، وما كان مثله. وأما نحو فتتين وعصوين، فلا تدخل له تحت ضابطه، ولعله اتكل على ذلك على ما مر في التثنية، ويكون وجهه ما تقدم آنفا من الالتباس على تقدير الإعلال/ والحذف. وقد يحذف ذلك الساكن فيعامل معاملة الموجود لأنه في تقدير الوجود وفي بنيته، فيترك الإعلال لأجله، كما إذا رخمت"كروان" و"نفيان" مسمى (بهما) على لغة من نوى المحذوف، فإنك تقول: يا كرو، ويانفى، فلا تقلب الياء والواو ألفا، لأن الساكن بعدهما وهو الألف في حكم الموجود فالساكن إذا في كلامه يشمل هذا، فقوله: "بساكن" يعني لفظا أو تقديرا. وأما الياء المشددة فنحو الياء النسبية في رحوي وعصوي وقنوي وحبلوي وتحوي. ولا يختص بالنسب، فإن الحكم كذلك وإن لم تكن للنسب، كما إذا بنيت من رميت مثل حمصيصة فإنك تقول: رموية، أصله: رميية، فاجتمع فيها من الياءات ما كان يجتمع في رحيي لو أتي

به في النسب على الأصل، فغيرت الياء المكسورة بقلبها واو فقلت: رموية، ولا تقلبها ألفا فإن ذلك يؤدي إلى حذفها فيختل البناء. فإن قلت: اتركها ألفا ولا يلزم من ذلك التقاء الساكنين المحذور، لأنهم قد قالوا: شابة ودابة، فجمعوا بين ساكنين، لأن قبل المشدد ألفا فحصل شرط ثبوتهما. فالجواب: أن شرط الألف الواقعة قبل المشدد أن تكون زائدة غير منقلبة عن شيء، ألا ترى أنها في دابة ألف فاعلة، و (في) دواب ألف فواعل، بخلاف مسألتنا، فإن الألف فيها منقلبة عن الياء التي هي أصل بإزاء الصاد الأولى من حمصيصة، فلم يمكن إلا أن تحذف، وإذا حذفت حصل المحظور. وأيضا فيلزم أن تقع ياء النسب بعد مفتوح لو قلت في رحوي: رحي. وهذا ما لا يقال. ومثل هذا لو بنيت مثل حمصيصة من الغزو لقلت: غزوية، فلم تقلب الواو ألفا لما تقدم. وأما إن كان الساكن غير الألف والياء المشددة فالإعلال غير ممتنع، والسكان لا يكف الإعلال ولا يمنع جريانه، وذلك نص قوله: "وهي لا يكف إعلالها بساكن" .. إلى آخره. فأخبر أن ما عدا الألف والياء المشددة من السواكن غير

مانع، فتقول في رمي إذا أسندته إلى مؤنث: رمت، أصله: رميت، فاعتلت اللام بالانقلاب ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها- وإن وقع بعدها ساكن وهو التاء- ثم اجتمع ساكنان: الألف والتاء، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصار رمت. وكذلك: رموا، أصله: رميوا، فانقلبت الياء ألفا، فصار: رماوا، ثم رموا. وكذلك: مصطفون والأعلون، الأصل: مصطفيون والأعليون، ثم صار: مصطفاون والأعلاون، وكذلك: مصطفين والأعلين في النصب والجر، الحكم في ذلك واحد. ولما أطلق القول في هذا الحكم ولم يستثن شيئا دل على أن ذلك يكون في الجمع وفي المفرد إذا أدى إليه التصريف، فإذا بنيت من الهمزة مثل عنكبوت قلت: آأوت، أصله: آأيوت، ثم فعل في الياء ما تقدم من الانقلاب لوجود الشروط فصار: آأوت. وكذلك مثله من الغزو: غزووت، ومن الرمي: رميوت، أصله: غزوووت ورمييوت. وخالف في هذا بعضهم فذهب إلى / أن الإعلال المذكور مختص بالجمع، وأما المفرد فلا، وإنما يبقى على صحته، فتقول على هذا: آأيوت، وغزوووت، ورمييوت. وكذلك على هذا في فعلوت من الغزو: غزووت، ومن الرمي: رميوت، وعلى مذهب الجمهور: رموت وغزوت على الأصل المتقدم. وإنما ادعى ذلك الجمهور ولم يجعلوه مثل النزوان والغليان لوجهين:

أحدهما: أن الحذف مع الألف يوقع في الإلباس كما تقدم، بخلاف هذا فإن اللبس فيه مأمون. والثاني: أن الفتحة خفيفة فسهل التصحيح فيها، بخلاف غزووت ورميوت ونحوهما لانتفاء (الفتحة و) وجود ما هو ثقيل. فإن قيل: فكان يلزم من هذا الإعلال في رموية المتقدم. فقد تقدم وجه التصحيح وأنه يوقع في الاختلال، وأيضا فالنسب قد تقرر فيه ذلك الحكم، وما كان مصيره إلى نحوه من المعتل كرموية عومل معاملته للشبه الذي بينهما. وبعد فإذا اجتمعت هذه الشروط اقتضى كلامه صحة الإبدال مطلقا، كانت الواو والياء أصلين، أو منقلبتين عن أصلي، أو زائد. فمثال كونهما أصلين: سار، وهاب، وطاع، ورمي وسعى، ودنا وطال، وما أشبه ذلك. ومثال كونهما منقلبين عن شيء أصلي قولهم: أعطى، واستقصى، وأغزى، وملهى، ومغزي. أصل هذا كله: أعطو، واستقصو، وأغزو، وملهو، ومغزو، فلما وقعت الواو رابعة فصاعدا قلبت ياء فصارت في التقدير: أعطى، واستقصى، وملهى، ومغزى، فوقعت الياء المتحركة وقبلها فتحة، فانقلبت ألفا. وكذا لو بنيت من قرأ مثل دحرج لقلت: قرأي، أصله قرأأ، ثم قلبت الهمزة ياء لاجتماع الهمزتين، فصار: قرأي، ثم صار قرأي للعلة المذكورة، فالألف في قرأي بدل من الياء لا من الهمزة قال ابن جني: "ويدلك على أنه لا بد من هذا

التقدير فيها لتكون الألف بدلا من الياء المبدلة من الهمزة قول النحويين في مثل فعل من قرأت: قرأي، أفلا ترى كيف أبدلوها ياء. وكذلك قولهم في مثل فرزدق من قرأت: قرأيأ، وأيضا فيدلك على صحة ذلك أنك متى أسكنت (اللام) فزالت اللفظة رجعت اللام إلى أصلها وهو الياء، كقولهم في افعللت من قرأت وهرأت: اقرأيت وهارأيت. ومن مثل الواو المنقلبة قولهم في رحوي إذا رخم على ما لم ينو: يارحا، فالألف بدل من الواو المبدلة من الياء، لأنك لما حذفت الياءين بقي التقدير: يارحو، فصارت الواو في هذه اللغة حرف إعراب، فوجب الانقلاب ألفا، لأنها اجتلبت لها ضمة الراء في ياحار، فحصلت الشروط على ما ينبغي، فالألف إذا ليست بدلا من الياء الظاهرة في رحيان. وكذلك حكم فتوى وهدوى وشورى. ومن غريب هذا أنك إذ اقلت في تلك اللغة في ملهوي: يا ملهي، فالألف هنا بدل من ياء، بدل من واو، بدل من ألف، بدل من ياء، بدل من الواو التي هي لام الفعل، فتأمل ذلك فلا بد منه. ومثال كونهما منقلبتين/ عن زائد قولك: يازما، ترخيم زميل، على لغة من لم ينو. ومثلة ألف سلقى وجعبى، فالألف بدل من ياء الإلحاق

في سلقيت وجعبيت. وكذلك إذا سميت بعنوق جمع عناق ثم رخمته على من لم ينو أبدلت واوه ياء كأجر وأدل، فتقول: يا عني، فإن سميت به ونسيت إليه قلت: عنوي، لأنك صيرته إلى عني كهدى، ثم تقلب ألفه واوا للياء النسبية، فإن رخمت هذا كله حذفت ياء النسب، وأبدلت من الواو وألفا للعلة المذكورة فقلت: ياعنا، فالألف الآن في عنا إنما هي بدل من الواو الزائدة في عنوي، والواو في عنوي بدل من الألف في عني، والألف في عني بدل من الياء في عني، والياء في عني بدل من الواو في عنو الذي هو ترخيم عنوق. ثم بعد هذا اعلم أن هذه (الشروط) الخمسة ترجع في التحصيل إلى أربعة، على أن يكون قوله: "بتحريك أصل" شرطا واحدا، كأنه إنما شرط أن تكون الواو أو الياء متحركة في الأصل خاصة، ويكون هذا الشرط شاملا لما كان فيه حرف العلة متحركا في الحال كما تقدم من المثل، ولما كان في الأصل متحركا وإن لم يكن كذلك في الحال، وذلك نحو: مقام، ويقام، أصله: مقوم ويقوم، فقلبت الواو ألفا لتحركها أصلا وانفتاح ما قبلها لفظا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذا المأخذ مفهوم من كلامه لأنه قال: "من واو أو ياء بتحريك أصل" فقوله "بتحريك" في موضع الصفة للواو والياء، والتقدير: من واو أو ياء ملتبستين بتحريك أصل: والتباسها بالتحريك الأصيل لا يعطى وجود التحريك في الحال، وبيان هذا المأخذ سيأتي بحول الله تعالى.

ثم إن عقد الناظم معترض من أوجه خمسة: أحدها: أن الواو والياء إن كانتا عينا وكانتا بدلا من هزة فإن هذا القلب لا يكون فيها، بخلاف اللام فإنها على خلاف ذلك، فقد تقدم في فعل من قرأت أنك تقول: قرأي، فأبدلت الألف من الياء وإن كانت بدلا من همزة، لأن البدل فيها لازم، فلم يراعوا أصلها، وأما إذا كانت الواو محضة لا رائحة للهمزة فيها، وهذا مما استثناه في التسهيل فقال: "وتعل العين بالإعلال المذكور إن لم يسكن ما بعدها أو يعل، أو تكن هي- يعني العين- بدلا (من) حرف لا يعل". فحرز من أن يكون بدلا من حرف لا يعل هذا الإعلال، والهمزة من ذلك القبيل، وقد قال الأخفش في مثل عضر فوط من الآءة: أوأيوء. فأقر الياء المضمومة وقبلها فتحة ولم يقبلها ألفا ثم يحذفها كما قال في مثل عنكبوت من الرمي: رميوت كمصطفين. فقد حصل أنه لا بد من استثناء الواو والياء المنقلبتين عن الهمزة، ولم يستثنه الناظم، فأوهم جريان حكم القلب فيهما، وليس كذلك.

والثاني: أنه قد اقتضى أن ما بعد الياء والواو إن حرك فلا بد من الإعلال، كان حرف صحة أو حرف علة، وليس كذلك، بل إن كان حرف علة لم يلحقه الإعلال في بعض تصرفاته/، فإن الواو والياء يصحان نحو: قوي وغوي وهوي وحيي وعيي، وكذلك فعلان من القوة إذا قلت: قووان، على رأي سيبويه، وكطويان في فعلان من طويت. أما مثل قووان وطويان فقد أخرجه بقوله بعد: وعين ما آخره قد زيدما ... يخص الاسم واجب أن يسلما فيبقى الاعتراض بمثل هوي وحيي ونحوهما، إذ ليس في كلامه ما يخرجه عن حكم الإعلال، وهو مصحح بلا بد، وقد استثنى في التسهيل هذا، وهو واجب أن يستثنيه، فقال: "إن لم يسكن ما بعدها أو يعتل". على أن قوله: "أو يعتل" فيه نظر. ووجه تصحيح هذا أنهم (لو) قالوا في حيي: حاي، وفي هوي: هاي، وفي قوي: قاي، لوجب أن تصح اللام أيضا في المضارع فكنت تتقول: يحاي ويهاي. (ويقاي) وفي ذلك ظهور ضمة الإعراب في ياء آخر فعل، وذلك ثقل بين ينضم إلى ثقل الفعل، بخلاف الاسم لخفته فإنك

تقول فيه: رمي وغزو، وإذا كان كذلك فكلام الناظم يقتضي أن مثل هذا يعل، وذلك اقتضاء (غير) صحيح. والثالث: أن بعض السواكن سوى الألف والياء المشددة قد تقع بعد اللام فتمنعها الإعلال، وهو قد أطلق القول بأنه لا يكفها من السواكن إلا ذانك دون غيرهما، وقد وجدنا النونين للتأكيد يمنعانهما من القلب إذا قلت: ارضين، واخشين، وهل ترضين؟ وهل تخشين؟ قال جبلة بن الحارث العذري، أنشده سيبويه: استقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ جاءت مياسير ولا يصح أن يقال: إن الحركة عارضة في الياء بدليل رد العين في مثل قولن الحق، وبيعن ثوبك، وخافن زيدا، ولو كانت عارضة لم ترجع كما لم ترجع في قل الحق، وبع الثوب، وخف الله. والرابع: أن إعلال قد وجد مع الياء المشددة وعمل عليه، وذلك مع ياء النسب، فقد تقدم أن ياءي النسب إنما تدخلان على الاسم مع تقديره منطوقا به، ألا ترى أنهم يقولون: إن الواو في روحي بدل من الألف في رحي، بل يقولون في شجوي وعموي: إن الواو منقلبة عن الألف في شجا المقدر، وألف

شجا لم توجد ولا نطق بها، ولكنهم قدروا الاسم حين كان على فعل أن يصير إلى فعل لأجل أن تلحق ياء النسب ولا كسر قبلها إلا ما يليها. وقد شرح هذا هنالك، وانبنى على ذلك مسائل وفروع تقتضي أن لا بد من تقدير الاسم كامل الصيغة لا يبقى له إلا دخول الياءين فقط. وإذا ثبت هذا فنحن في شجوي ونحوه قد أعلمنا القاعدة من قلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم قلبنا الألف واوا، لا أنا قلبنا الياء واوا، إذ لا موجب لذلك (إلا) بهذا التدريج، فهذا ضد ما قرره هنا. ولا يقال: إن الألف هنا لم تظهر قط فلذلك لم يعتبرها لأنا نقول: كذلك الألف في مصطفون لم تظهر قط، فإن ادعيت صحة القلب في مصطفون لزمك أن تدعيه في /شجوى، وإن ادعيت عدم القلب في شجوى لزمك مثله في مصطفون، فلا فرق بينهما في الطب بالإعلال أو بالتصحيح. والخامس: أنه نقصه شرط من الشروط المعتبرة في هذا الحكم وهو أن يكون اتصال الفتحة بالواو أو بالياء اتصالا أصليا لا عارضا، فإنه إن كان عارضا لم يعتبر به، وهذا الاتصال الأصلي المحترز به، فسر شيوخنا به كلامه في التسهيل، وهو أنه تحرز به من مثل نحو وشبهه في نحو، فإن الحركة هنا ليست بأصلية، وإنما هي لأجل حرف الحلق كنهر ونحر. وتحرز أيضا به من عروض الاتصال بسبب حذف يلحق

الكلمة فلا اعتداد به، كما إذا بنيت من (جدول) مثل علبط وهدبد المحذوف الألف، فإنك قائل: جدول، بخلاف يرى، فإن فتحة الراء الآن متصلة بالياء التي هي لام اتصالا أصليا؛ إذ الأصل يرأى، ثم قلت تلك الفتحة نفسها إلى الراء. ومن مثل ذلك ما إذا بنيت مثل عرتن من الغزو أو الرمي فإنك تقول: غزو ورمي، أصله: غزوو ورميي فدخل في باب أجر وأظب، وصحت اللام الأولى، لأن الفتحة مفصولة منها في التقدير بالحرف المحذوف، لأن الأصل في المماثل عرنتن، وكذلك موازن علبط من الغزو أو الرمي تقول فيه: غزو ورمي، رفعا وجرا، وغزويا ورمييا، نصبا. ولا تعل اللام الأولى لفصلها من الفتحة بالألف في الأصل، وهي مقدرة بعد الحذف. هذا تفسير بعض الأشياخ. وفسره لنا شيخنا القاضي الحسني- رحمه الله- بأن مراده بالاتصال الأصلي التحرز من نحو: احواوي، افعل من الحوة، فصحت واوه التي هي اللام الأولى لأن اتصالها بالفتحة (التي) قبلها غير أصلي. قال: فإن افعل أصله افعال، فكان أصل هذا احواوي. قال: وهذا القيد صار مغنيا عن أن يقيده بأن آخره معتل كالنوى والطوى. قال: وهذا مثال حسن. وقد أورد عليه في هذا التفسير إشكال، وهو أنه بنى فيه على رأي من رأى أن افعل مقصور من افعال، وهو وإن كان مذهب صاحب الكتاب إذ قال

في مسألة "لم أبله": "كما حذفوا ألف احمر وألف علبط وواو غد". وليس مذهبا (له) في التسهيل، بل ظاهره خلاف (هذا) المذهب، لأنه قال في باب أبنية الأفعال ومعانيها: "ومنها للألوان افعل". ثم قال: "وقد تلي عينه ألف". قال الراد: فهذا جلي في أن الألف ليست هي الأصل. قال: فالحق أنه فائت له في القيود مع نظائره مثل: رميو، وحيو، وقوو، في موازن جحمرش من الرمي، وحييت، وقوة. وقد صرح بصحتها في مواضعها، وكلامه في هذا الفصل يقتضي إعلالها. قال: وإنما ارعوي واحووي في اللامين نظير هوى وبابه في اللام والعين، فلو أعل الأول فيهما وصحح الآخر لوجب في المضارع مالا نظير له من ظهور الإعراب في آخر الفعل المعتل، إذ كنت تقول: هاي يهاي، وارعاي يرعاي، واحواو يحواو، فعكسوا لذلك، ليجري على الباب المطرد.

هذا ما قالاه، وعلى كل تقدير فهذا كله مما فات/ الناظم التنبيه عليه، ولا يلزم إن فسرنا هنا بما فسر به شيخنا الحسني ما ألزمه في التسهيل، لأن له في هذا لانظم مذاهب تخالف مذاهب التسهيل، فلعله رجع عن ذلك عند نظم هذه الأرجوزة، وإذا احتمل هذا لم يندفع هذا التفسير. والجواب عن الأول أنا نقول بموجبه، ونلتزم أن الواو والياء المبدلتين من الهمزتين سائغ فيهما القلب المذكور، أما اللام فقد تقدم ما قاله ابن جني في فعلل من قرأت، وما استدل به على ذلك، وقد نص عليه المازني، وما نقله عن الأخفش ذكره عنه ابن جني في فصل العويص من المنصف، لكنه ذكر في الفصل نفسه قبل ذلك بنحو ثلاث مسائل أنك لو بنيت من الآءة مثل عنكبوت لقلت: "أوأوت بمنزلة عوعوت، وكان الأصل: أوأءوت، فقلبت الهمزة الأخيرة ياء فصارت: أوأيوت، فأسكنت الياء استثقالا للضمة عليها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، كما تقول في مثله من رميت: رميوت". قال: "فإن قيل: إن الياء في أوأيوت أصلها

الهمز فهلا استخففت الحركة عليها كما تستخف على الهمزة؟ قيل: لا، لأن هذا قلب وليس على جهة التخفيف القياس الذي أنت فيه بالخيار إن شئت خففت وإن شئت حققت"، قال: "ولو كان هذا الذي ذكرته لازما لقالوا في جاء: جائي وجائي، ولم يستثقلوا الضمة ولا الكسرة على الياء لأن أصلها الهمز. وليس الأمر كذلك، بل (جاء) يجري مجرى قاض، فلذلك جرت لام فعللوت الثانية مجرى ما أصله الياء". هذا ما ذكره هنالك، وهو بلا شك مخالف لما ذكره أبو الحسن، لكن هذا في الأخذ به أولى مما ذكره هنالك، لأن ما ذكره هنالك إنما أتى به في معرض التقوية لمسألته ثمة، وقد يقوى الإنسان ما يذهب إليه نظره بالمذاهب المختلفة، وذلك مشهور عند أهل النظر، فلذلك لم يتعرض لمخالفته، كيف وهو يعتضد به! بخلاف ما ذكر هنا فإنه إنما أتى مسألته من بابها. وأيضا فقد صرح بذلك في "سر الصناعة" أيضا، واستدل على صحته، كما أنه بسط هنا شيئا من الاستدلال ولم يستدل هنالك على صحة مذهب الأخفش، فالظاهر أن الواو والياء المبدلتين من الهمزة إبدلا محضا لازما كما في اجتماع الهمزتين حكمها حكم الأصليتين. وأما العين فالظاهر أنها كذلك أيضا، وفيما قيل من بناء فعل من الآءة: إنه أوأ، نظر؛ بل أقول: آء، لأن الهمزة الثانية قد قلبت واو محضة فصارت كماءة، من غير فرق ظاهر، ولا حجة في عدم القلب في أيمة، لأن الياء ليس أصلها التحريك، بخلاف هذه. وقد ظهر منه

في التسهيل أنه إنما تحرز هنالك بقوله: "أو تكن هي بدلا من حرف لا يعل". من ياء شيرة المبدلة من جيم شجرة، فهو وما ارتكب من ذلك، إن صحيحا فصحيح، وإن فاسدا ففاسد، والله أعلم. / والجواب عن الثاني: أنه قد يدخل له نحو غوي تحت احترازه المذكور بعد هذا في قوله: وإن لحرفين ذا الاعلال استحق ... صحح أول ..... فالياء في غوي ونحوه لا بد من إعلالها لما ذكر، وإذا اعتلت وجب تصحيح الواو قبلها، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. والجواب عن الثالث: أن حكم الآخر مع نون التوكيد قد تقدم في باب أنه يصح، والعلة في عدم قلب يائه ألفا أن النون هنا كألف الاثنين، فكما أن ألف الاثنين لا تنقلب معها الياء ألفا نحو: اخشيا وارضيا، فكذلك النون، ولم يجز أن يعلوا إذ لا بد من حذفها لالتقاء الساكنين، وذلك مناقض لما قصدوا من ردها وبناء الكلمة على النون، وكذلك حكم المضارع إذا قلت: هل تخشين؟ وهل ترضين؟ والله أعلم. والجواب عن الرابع: أن الناظم لم يبن في النسب على أن الواو

والياء في شجوي وغيره إلا على إسقاط هذه الواسطة وجعل القلب في مثل هذا من الياء إلى الواو، من غير واسطة على ما ظهر من كلامه هناك. لكن قد يقال له: فكذلك مصطفون، ما تنكر أن يدعي مدع أنه لم يحصل فيه قلب الياء ألفا، بل لما ظهرت الضمة على الواو في مصطفوون استثقلوها (عليها) فحذفوها، ثم اجتمع واوان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، ولا يكون ثم قلب البتة. ويجاب عن هذه بأن الألف في مصطفون قد ظهرت في المفرد، لأن جمع السلامة مبني على مفرده حقيقة بخلاف باب شجوي، وأيضا فإنه لو كان كذلك لوجب حين تسكين الواو أن تنقل حركتها إلى ما قبلها فيقال: مصطفون، وفي النصب والجر: مصطفين، كالعادون والعادين، والقاضون والقاضين، فأن لم يفعلوا ذلك والتزموا الفتح دليل على أن المحذوف هو الألف لا الواو ولا الياء. وهذا بخلاف شجوي في شج، وحيوي في حي، فإنه لا دليل فيه على أن المنقلبة هي الألف دون الياء المتقدمة الرتبة على الألف. فقد ظهر الفر بين الموضعين، وبانت صحة كلامه. والجواب عن الخامس: أن الناظم لم يهمل التنبيه على هذه الأشياء المذكورة، فإنه شرط الاتصال، وقد تقدم أن الاتصال المقدر الانفصال في حكم الانفصال، فإنما أراد الاتصال الحقيقي، ومثل علبط أو عرتن من الغزو ليس كذلك، فكذلك احووي على قول سيبويه. وأما نحو فقد خرج بقوله: "بتحريك

أصل". وأما قوو وحيو ونحوهما فسيأتي وجه خروجهما وتنبيه الناظم على أمثلالهما بعد عند قوله: "إن لحرفين ذا الإعلال استحق". فلا اعتراض عليه. ثم أخذ يذكر بعض ما اجتمعت فيه الشروط لكن منع من الإعلال مانع، وذكر من الموانع أربعة، أحدها: الحمل في الصحة على ما لا بد من صحته، وذلك قوله: وصح عين فعل وفعلا ... ذا أفعل كأغيد وأحولا يعني أن العرب صححت عين فعل وفعل الموصوفين ولم تقلبهما. ولم يجعله نادرا ولا شاذا، فدل أنه/ قياس، (فما عينه) واو أو ياء فباق على أصله من التصحيح من فعل المصدر، وفعل الفعل، اللذين يكون اسم فاعلهما (على) أفعل، وهو معنى قوله: "ذا أفعل"، أي: صاحب هذا البناء. وذلك أن فعل لا يكون مصدره على فعل واسم فاعله على أفعل في الغالب إلا ويكون معناه معنى افعل، وذلك في الخلق والألوان والعيوب وما جرى مجراها، كقولك: حول حولا وهو أحول، وعور عورا وهو أعور، وصيد

صيدا وهو أصيد، وغيد وهو أغيد، وقد تقدم (بيان) ذلك في (باب) المصادر. فكان الأصل هنا أن يقال في حول: حال، وفي غيد: غاد، (وفي حول: حال، وفي غيد: غاد) لأن الواو الياء قد تحركا؛ وانفتح ما قبلهما واجتمعت فيهما شروط القلب، إلا أن حملت هذا الباب محمل ما هو في معناه، وذلك أن معنى حول هو معنى أحول، كذلك صيد واصيد، وعور واعور، وغيد واغيد، لأن فعل لا يعتل، بل تقول فيه: ابيضضت واسوددت، ونحو ذلك، وسيأتي وجهه، فصححوا أيضا ما هو في معناه، من باب الحمل على المرادف، ولم يبين الناظم وجه التصحيح هنا، وإنما ذكر ضابطه فقط، وذلك صحيح، وعادة الناس أن يقولوا: صححوا فعل لأنه في معنى لا بد من صحته. فإذا ما جاء مما ظاهره أنه في معنى افعل وذا أفعل ثم اعتل بالقلب فشاذ أو مؤول، كقول ابن أحمر: تسائل بابن أحمر من وآه ... أعارت عينه أم لم تعارا؟ كان الأولى أن يقول: أعورت عينه أم لم تعور؟ وزعم السيرافي أنه أعله لأنه لم يذهب فيه مذهب آفعل.

ودل مفهوم كلامه (على) أن فعل وفعل إذا لم يكن ذا أفعل- يريد قياسا- فلا تصح فيه العين، وكذلك كل مصدر معتل العين (على فعل) من غير ما ذكر يصحح، إذ ليس اسم فاعله على أفعل، وإذا لم يكن كذلك لم يكن في معنى ما لا بد من صحته، فلم يكن مانع من الإعلال، كقولك: غار على أهله يغار غيرة وغارا، وخال الفرس يخال خيلاء وخلا، فالفعل هنا على فعل، والمصدر على فعل، وقد اعتلا معا؛ إذ ليس في معنى ما لا بد من صحته، قال سيبويه: "وأما قولهم: عور يعور، وحول يحول، وصيد يصيد، فإنما جاءوا بهن على الأصل، لأنه في معنى ما لا بد أن يخرج على الأصل نحو: اعوررت، واحوللت، وابيضضت، واسوددت، فلما كن في معنى ما لا بد له من أن يخرج على الأصل لسكون ما قبله تحركن"، قال: "فلو لم تكن في هذا المعنى اعتلت، ولكنها بنيت على الأصل؛ إذ كان الأمر على هذا". وكان الأولى للناظم أن يقول: ذوي أفعل. لأنهما اثنان: فعل، وفعل، لكنهما لما كانا كالشيء الواحد لأن أحدهما جار على الآخر (و) مأخوذ

منه وملازم غير مفارق له من حيث هما فعل، ومصدره، عاملها معاملة الشيء الوحد، فكانا كقول الله: "فأتيا فرعون فقولا: إنا رسول رب العالمين" لما كانا في حكم واحد جعلهما كالواحد، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه: إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ... ود مالم يعاص كان جنونا أو لقول آخر: وكأن في العينين حب قرنفل ... أو سنبلا كحلت به فانهلت / وإن كان ليس مثله من جميع الوجوه. واعلم أن الناظم ضبط هنا محل التصحيح بكونه ذا أفعل، ولم يضبط (بما ضبطه) به غيره من أنه راجع إلى معنى ما يجب فيه التصحيح، وهو الذي جري عليه سيبويه وغيره، حذرا- والله أعلم- من توهم كون افعل أصلا لفعل في هذا النوع، وليس كذلك. وكثير من النحويين يقول: إن أفعال الأدواء والعاهات أصلها افعل وافعال،

وعليه جرى ابن عصفور، وهو شيء دل كلام سيبويه على خلافه، حيث ذكر اختصاص باب الأدواء بفعل في الأكثر، وباب الألوان بافعل وذكر الفارسي- على ما نقله عنه ابن سيده في المخصص- أن عور ليس تصحيحه لأن أصله أعور وإنما صح لأنه بمعنان، وهو ظاهر، ولذلك لا تقول في سود: إنه صح لأن أصله إسود، بل لأن معناه معناه، فحمل عليه. فلم يضبط الناظم هذا الموضع إلا ببناء اسم الفاعل علي أفعل قياسا، وترك ما فيه إبهام ما. ثم مثل ما أراد بقوله: "كأغيد وأحولا" وحصل بهذا التمثيل فائدتان: إحداهما: أن هذا الحكم من التصحيح غير مختص بما كان عينه واوا دون ما عينه ياء، بل هو جار في النوعين ليس على حكم "تجاوروا" الآتي إثر هذا، فرفع هذا التوهم بأن أتى بمثالين أحدهما مما عينه ياء، وقدمه اعتناء به لهذا المعنى، ومثله: أصيد وأخيف، تقول من ذلك: صيد صيدا، وخيف خيفا. والأغيد: الوسنان المائل العنق. والغيد أيضا: الميلان من النعمة. والغادة: الناعمة، وقد غيدت فهي غيداء، والغادة: الناعمة، وقد غيدت فهي غيداء، قال ابن القوطية: وغيد غيدا: لان من نعمة أو سنة. ... والثاني: مما عينه واو، وهو أحول، ومثله أعور وأحور وأخوص ونحو ذلك، تقول من ذلك: عور عورا، وحور حورا، وخوص خوصا.

والأحول: (هو) الذي أقبل لحظ عينه على مؤخرها. ولهذا المعنى شبه أبو النجم الشمس عند الغروب بعين الأحول، فقال: والشمس في الأفق كعين الأحول والفائدة الثانية: أنه أتى بمثال مما اشترك فيه افعل مع فعل في الاستعمال، وذلك أحول، لأنك تقول: حول زيد واحول، كما تقول: عور واعور، وسود واسود. ومثال آخر مما لم يشترك فيه افعل مع فعل في الاستعمال وإن كان على ذلك المعنى، وذلك أغيد، لأنك لا تقول: اغيد، وإنما استعمل فيه غيد، فكأن الناظم يقول لك: الأمر سواء في هذا، فإن فعل وافعل قد اشتركا في أفعل على الجملة، والمعنى على افعل فيجري مجراه إذ كان باب أغيد راجعا إلى معنى الخلق والعيوب، وهم قد قالوا: ثول واثول، وعور واعور، فكذلك يجري غيد والغيد على افعل لأنهما باب واحد (و) على معنى واحد، إلى هذا المعنى أشار سيبويه في التعليل، ولما كان الجميع فعل وافعل مشتركين في أفعل جعل الناظم ضابط هذه أفعل فقال: "ذا أفعل".

ثم أتى بموضع ثان وهو من الحمل في الصحة على ما لا بد من صحة فقال: وإن يبن تفاعل من افتعل ... والعين واو سلمت ولم تعل تفاعل: فاعل "يبن"، وهو على حذف المضاف، تقديره: (وإن) معنى يبن تفاعل، لأن لفظ التفاعل لا يبين من لفظ/ افتعل، وإنما أراد أن افتعل لا يخلو أن يكون معناه معنى تفاعل أو لا، فإن لم يكن معناه معنى تفاعل جرى على ما تقدم من وجوب الإعلال نحو: اقتادوا، وارتادوا، واعتادوا، لأنه ليس معناه تقاودوا، ولا تراودوا، ولا تعاودوا، كما كان اختاروا، وابتاعوا، واكتالوا ليس على معنى تفاعلوا، فجرى على أصل الباب، ولهذا قال الخليل: لو بنيت افتعلوا من قولك إزداجوا على غير معنى تفاعلوا لأعللت فقلت: ازداجوا، كما قلت: اختاروا وابتاعوا. وإن كان بمعنى تفاعلوا فلا يخلو أن تكون العين ياء أو واو، فإن كانت ياء فيقتضى كلام الناظم أنه لا يصح كما صح تفاعلوا، فقولهم: استافوا بمعنى تسايفوا- أي: تضاربوا بالسيوف- واجب الإعلال، وإن كان في معنى ما لا بد من صحته، ووجه ذلك أن ترك قلب الياء ألفا أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفا لبعد ما بين الألف والواو وقرب ما بينها وبين

الياء، وكلما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى الآخر، وإذا تباعدا كان عدم الانقلاب أولى. وهذا ما علل (به) ابن جني في الخصائص مع وجه آخر سأذكره إثر هذا بحول الله تعالى. ومع هذا فإن اليائي العين في هذا الموضع قليل. والذي كثر هنا الواوي (العين)، (وهو الثاني من التقسيم، وهو الذي حصل فيه شرط الناظم في قوله: "والعين واو" (فهذا) إذا كان في معنى تفاعل لم تعل العين) وإن وجد سبب الإعلال، لأنهم حملوه على ما لا بد من صحته، فقولهم: اجتوروا في معنى تجاوروا، واعتودوا في معنى تعاودوا، واحتوشوا في معنى تحاوشوا، واهتوشوا في معنى تهاوشوا-، لو قيل- جاءت على الأصل كما وجب ذلك فيما هي في معناه، وسواء في هذا ما استعمل منه تفاعل كاجتوروا، إذ جاء فيه تجاوروا، وما لم يستعمل فيه كاحتوشوا واهتوشوا؛ إذ لا يقال فيهما: تهاوشوا ولا تحاوشوا؛ لأن الجميع مشترك في هذا المعنى؛ قال سيبويه: "وأما قولهم: اجتوروا واعتونوا وازدوجوا واعتوروا فزعم الخليل. رحمه الله تعالى- أن الواو إنما تثبت لأن هذه الحروف في معنى تفاعلوا؛ ألا ترى أنك تقول: تعاونوا وتجاوروا وتزاوجوا، فالمعنى في هذا

وتفاعلوا سواء، فلما كان معناها معنى ما تلزمه الواو على الأصل، أثبتوا الواو، كما قالوا: عور؛ إذ كان في معنى فعل يصح على الأصل. قال: وكذلك احتوشوا واهتوشوا- وإن لم يقولوا تفاعلوا- فيستعملوه، لأنه قد يشترك في هذا المعنى ما يصح، كما قالوا: صيد لأنه قد يشركه ما يصح والمعنى واحد". وقد تقدم وجه تصحيح تفاعل ونحوه. فإن قيل: ظاهر هذا لاكلام أن افتعلوا والعين ياء يعتل وإن كان في معنى تفاعلوا، والأولى أن لو جمع بين ما عينه واو وما عينه ياء في هذا المعنى، لأن الموجب الموجود في اجتوروا موجودا في استيفوا بمعنى تسايفوا، وما علل به ابن جني فإنما ينهض تعليلا بعد السماع، لأن الواو والياء في القلب ألفا سواء، وإذا كان كذلك لم يكن مانع من القياس على ذوات الواو، فكنت تقول: ابتيعوا، إذا أردت تبايعوا، واختيروا، إذا أردت معنى تخايروا، وما/ أشبه ذلك، ويكون ما جاء من استافوا ليس (على) معنى تسايفوا. وعلى هذا حمله ابن جني في الخصائص، قال: وإنما معنى استافوا: تناولوا سيوفهم، كقولك: امتشنوا سيوفهم، (وامتخطوا سيوفهم، أي: تناولوها وجردوها ثم يعلم أنهم من بعد تضاربوا، بما دل عليهم قولهم: استافوا)، فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبب، كقوله:

ذر الآكلين الماء ظلما فما أرى ... ينالون خيرا بعد أكلهم الماء يريد قوما كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه. فاكتفى بذكر الماء الذي هو سبب المأكول من ذكر المأكول". قال: "فأما تفسير أهل اللغة أن استاف القوم في معنى تسايفوا فتفسير على المعنى، كعادتهم في أمثال ذلك، ألا تراهم قالوا في قول الله تعالى: {من ماء دافق}، إنه بمعنى مدفوق، فهذا- لعمري- معناه، غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق، كما حكاه الأصمعي عنهم من قولهم: ناقة ضارب، أي: ضربت، وتفسيره: أنها ذات ضرب. ثم ذكر لهذا نظائر نحو: {لا عاصم اليوم}، قبل معناه لا معصوم، ونحو (عيشة راضية)، أي مرضية، وقوله: أناشر، لا زالت يمينك آشره

أي: مأشورة. فعلى هذه الطريقة تستوي الواو والياء في الصحة في افتعل بمعنى تفاعل، وهو قد يظهر من كلام النحويين؛ إذ لم يفرقوا بين القبيلين، بل أطلقوا القول، لكن وقع تمثيلهم بما عينه واو، وذلك لا يدل على الاختصاص، وقد قال المازني: ومما يجئ على أصله لأن معناه ما لا يعتل، كما جاء عور وحول لأنه في معنى اعور واحول: اجتوروا وازدوجوا واهتوشوا، لأن معناه تجاوروا وتهاوشوا وتزاوجوا"، قال: "ولولا ذلك لا عتل؛ (قال): ألا تراهم قالوا: اختاروا واجتازوا وابتاعوا، حين لم يكن في معنى تفاعلوا". فهذه عبارة كالصريحة في أنه لو جاء مما عينه ياء في معنى ما لا بد من صحته لصح. وعلى هذا المعنى (أيضا) جرى ابن جني في التفسير؛ إذ حتم بأن سبب إعلال اختاروا ونحوه أنه يجئ في معنى تفاعلوا، وإذا كان كذلك أشكل هذا التقييد الذي قي به الناظم إذ هو مخالف لما قاله غيره. فالجواب أن يقال: لعمري أن القياس لصحيح، غير أنا نقول: كان الأصل في اجتوروا وبابه الأعلال كسائر الباب، وإنما دعانا إلى أن نخرج به

عن بابه اطراده، فلما اطرد لم يكن (لنا) بد من اتباعهم فيه وإن كان خارجا عن القياس، ويكون وجه القياس فيه ما قال الخليل، ولا يلزم عند ذلك أن يقال في كل شيء، ألا ترى لو لم يطرد اجتوروا واحتوشوا لم نفس على ما جاء منه، لأنه خارج عن القياس الأصلي المطرد في باب اختار وانقاد وأشباههما، كما لم نقس على ما جاء من نحو خونه وحوكة لما كان نادرا. وإذا ثبت هذا فنقول: هذا الاطرد إنما جاء فيما عينه واو فقلنا به، وأما اليائي العين فلم يطرد فيه هذا، بل زعموا أنه لم يجئ منه على معنى تفاعل إلا استافوا، وهو بعد معل، فلو جاء صحيحا لقلنا: إن هذا موقف على محله؛ إذ لم يطرد في بابه، لأنه جاء على أصل القاعدة المطردة في كل ياء تحركت وقبلها فتحة، فلما جاء معتلا كان ذلك برهانا على صحة ما اعتقدنا من عدم اطراده ووقفه على السماع/، ويكون وجه التفرقة بين ذوات الواو وذوات الياء ما تقدم من قرب الياء (من الألف) وبعد الواو منها. هذا أقصى ما وجدته في الاحتجاج عن المؤلف، لا سيما وهو في نحوه متبع للسماع، ظاهري المذهب فيه، كما تقدم في مواضع، إلا أن لمخالفه أن يقول: لما وجدناهم اعتبروا باطراد الحمل على المرادف فيما عينه واو فهمنا أنه عندهم معتبر على الجملة، إذ لو لم يكن معتبرا عندهم على الجملة، لم يطرد في موضع من المواضع، ولا يلزم من عدم

اطراده في الياء أن يكونوا قصدوا ذلك، لأن ما عينه واو أكثر مما عينه ياء، فإنما ندر أو عدم السماع في ذوات الياء لقلتها لا لقلة قصدهم إلى الحمل، والاستقراء، دليل (وهو) من باب الاستدلال بالأحكام. وقوله: "سلمت"، الضمير عائد على العين، أي: سلمت العين ولم تعل. وقوله: "ولم تعل"، تكرار، لكن له موقعا، وهو رفع توهم من يتوهم فيها جواز الإعلال، فأكد الكلام رفعا لهذا الإبهام. ثم استثنى موضعا ثالثا مما يجب تصحيحه وإن اجتمعت الشروط لمانع منع من الإعلال فقال: وإن لحرفين ذا الإعلال استحق ... صحح أول وعكس قد يحق يعني أن الكلمة إذا كانت ذات حرفين من حروف العلة، وكل واحد منهما قد وجب فيه الإعلال قياسا لأنه متحرك وقبله فتحة، فلا يصح أن يعتلا معا ولا أن يصح الآخر ويعتل الأول إلا في القليل، وإنما الوجه أن يصح الأول ويعتل الآخر نحو قولك: الهوى والطوى والنوى، وغوى الرجل وروى، وعوى الكلب، وهوى، وما أشبه ذلك، فالوجه في هذا كله إعلال الآخر كما قال، وذلك (أنه) لا يخلو أن يعتل أولهما فقط، أو ثانيهما فقط، أو يعتلا معا، أو يصحا

معا، أما تصحيحهما معا فلا يصح للقاعدة المتقدمة، وأما إعلالهما معا فلا يصح أيضا للقاعدة المستمرة أنه لا يجمع على الكلمة الواحدة إعلال العين واللام، وما جاء من ذلك فقليل لا يقاس عليه، ولذلك لما قرر الفارسي هذا الحكم في الباء والتاء والثاء والراء، وأنهما مما اجتمع فيه أعلال العين واللام قال له الفتى البورائي إنكارا لما قرر: أفيجتمع على الكلمة إعلال العين واللام؟ فقال له: "قد جاء من ذلك أحرف صالحة فيكون هذا منها". فسلم له الفارسي مقتضى القاعدة وعدل إلى التنظير بما جاء في السماع. وقد نقل المبرد الاتفاق على أنه لا يجتمع على الكلمة إعلالان، وقد تقدم ذكر ذلك. والذي أشار إليه الفارسي هو قولهم: ماء، ألفه منقلبة عن واو، وهمزته منقلبة عن هاء، لقولهم: أمواه وموية، وماهت الركية. وشاة، فيمن قال: شويهة، وتشوهت شاة: إذا صدتها، حكاه ابن جني عن أبي زيد، فهو مما عينه واو فانقلبت، ولامه هاء فحذفت. ومن قال: شوي، فهو من باب طويت، فهي على هذا كباء وتاء، قال النابغة: ولا أعرفني بعد ما قد نهيتكم ... أجادل يوما في شوي وجامل

ومن ذلك: جايجي، وسايسو، وأشياء/ من هذا لاتنقاس. وقد أشار الناظم إلى هذه القاعدة في الجملة/ إذ حتم الإعلال لأحد المعتلين دون الآخر، فدل على أن اجتماعهما عنده محظور، كما دلت قاعدته على (أن)، تصحيحهما معا محظور. وأما إعلال الثاني وتصحيح الأول فهو الذي اعتمد عليه بقوله: وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول. وقد تقدم تمثيله. ووجه ذلك أن اللام أحق بالإعلال من العين؛ لأن اللام أضعف من العين، ولأن إعلال الاسم إنما هو بالحمل على الفعل، وأنت لا يصح لك إعلال العين (دون اللام)، لأنك لو قلت في غوي وهوي وروي ونحوه: غاي وهاي وراي، للزم أن يقال في المضارع: يغي ويهي ويري، فتقلب الواو التي هي عين ياء وتدعمها في الياء، وتدخل اللام الضم لأنها تجري مجرى الصحيح، فكان يلزم هنالك من التغيير والتبديل ما بعضه مكروه، فرفضوا ما أدى إليه. هذا تعليل ابن جني في (مثل) هذه المسألة ومن ههنا تعلم وجه ما فعلوا في قوي وحيي وروي ونحوه حين لم يقولوا: قاي وحاي وراي، فيعلوا العين، لأنهم إذا فعلوا ذلك في الماضي لزم في المضارع إعلال العين أيضا، والمضارع على يفعل،

فلا بد (فيه) من إعلال اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيلزم أحد أمور ثلاثة؛ إما أن يعلوا العين واللام معا، وذلك لا يجوز. وإما أن يعلوا العين دون اللام لموافقة الماضي، فيكون المضارع على يقاي ويحاي ويرآي، فتظهر الضمة في الرفع، وذلك مرفوض عندهم. وإما أن يعلوا اللام دون العين فيخالفوا بين الماضي والمضارع، وهو لا يصح فرفضوا ما أدى إلى هذا بأن أعلوا لام المضارع وتركوا العين في الماضي صحيحة فصار قوي يقوي مثل صدي يصدى، وعني بحاجته يعنى بها. فأنت ترى تركها لإعلال العين في الماضي حفظا على إعلال اللام وحدها، فقد دخلت هذه المسألة تحت إشارة كلام الناظم حين اقتضى أن العين تصحح لإعلال اللام. وأما الأسماء ففعل ذلك بها أيضا بالحمل على الفعل، فقالوا: نوي، وشوي، وهوي، وما أشبه ذلك. ومن هنا يعرف ما جاء من قولهم: احوووى، فأعلوا الأخيرة ولم يعلوا ما قبلها. وكذلك: ارعوى. ولعل وجه قولهم: حيو وقوو، ونحوهما، من هنا يبدو، لأن اللام الأخيرة تعتل بالحذف، وهي معرضة له وإن ثبتت، فلو قبلوا، الواو التي هي مقابلة الراء في جحمرش، لكانوا قد تركوا اللام وأعلوا ما قبلها، فكان على خلاف ما قال الناظم، فثبت أن ذلك الشرط المورد لا يلزمه. وأما عكس هذا- وهو الذي أشار إليه بقوله-: "وعكس قد يحق"، وحقيقة عكس الأول هو تصحيح الثاني

دون الأول، لأن قوله: (صحح) (أول) في تقدير: دون الثاني، فعكس هذا: صحح ثان دون الأول، فهو على خلاف القاعدة، فكان الأصيل ألا يوجد لما تقدم آنفا، لكنه وجد قليلا، ودل على ذلك قوله: "وقد يحق"، وهو من حق الشيء يحق، أي: ثبت، واحققته أنا، أي: أثبته، أي: قد ثبت في / كلام العرب، والمضارع هنا في معنى الماضي، أي: قد ثبت قليلا، إذ لا يريد أنه الآن في حين الثبوت، (أو أنه سيثبت) بعد، ومثل هذا قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزن)، (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، {ولقد نعلم أنهم يقولون} ... الآية. وإنما معناه: قد علمنا وأنشد سيبويه: قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد ومثال على ما جاء من ذلك في الأسماء- فإنه لم يأت في الأفعال، لما يلزم من المحذور المذكور- قولهم: غاية، وثاية، وطاية، وراية،

أصلها: غوية، وثوية، وطوية، وروية، فكان الأصل أن يقال: غواة، وثواة، ورواة، وطواة، فيعلو اللام دون العين، لكنهم أعلوا العين دون اللام، والذي شجعهم على ذلك أن هذه الأشياء جاءت في الاستعمال على ما لا يكون له فعل، فلم يقولوا منه: فعل يفعل، لأنهم قد اعتزموا إعلال العين، فلو قالوا فيها فعلت، لزمهم إعلال اللام أيضا، وقد كانت عينها معتلة فكرهوا أن يشتقوا لها فعلا، لما يلزمهم من الإعلال، فرفضوا ذلك. وهذا التمثيل على رأي الخليل؛ إذ جعل الألف منقلبة عن حرف متحرك، وقد تقدم أن رأي سيبويه خلاف هذا. ولكن الذي يجري على مذهب سيبويه وغيره قولهم: زاي، في حرف الهجاء، وقولهم: واو، كذلك، فإن الألف عندهم منقلبة عن حرف متحرك. فإن قيل: إن على الناظم هنا دركا من جهة أنه قال هنا: "وعكس قد يحق"، فنبه على مجيئه في الكلام قليلا، مع أنه غير مقيس في موضع من المواضع، وترك التنبيه على ما جاء مما اعتل فيه العين واللام، مع أنه مقيس في موضعين، أحدهما: حروف الهجاء والثاني: باب التسمية، فإنك إذا سميت بما أو لا أو يا، أو ها من هؤلاء، أو ما أشبه ذلك فإنك تعل فيه العين واللام ضرورة، فتقول: لاء وياء وهاء، وليس لك ما نع من ذلك اتفاقا، بخلاف الأول فإنك لا تقيس في موضع من المواضع، فكان الأولى به أن ينبه على هذا دون الأول أو ينبه عليها معا. فالجواب: أن كلا الموضعين ليس من الضروري الذكر في هذا

النظم، فكونه أتى ببعض المسائل تبرعا منه لا يلزمه أن يأتي بسائر الأشياء ولا بما هو أمثل إذا تقاربا في القلة؛ إذ باب التسمية إنما هو بمنزلة أبواب الامتحان في التصريف. ثم ذكر موضعا رابعا مما اجتمعت (فيه شروط القلب)، ثم منع من ذلك مانع فقال: وعين ما آخره قد زيد ما ... يخص الاسم واجب أن تسلما آخره: منصوب على الظرف متعلق بزيد. و"ما"- في قوله: "ما يخص الاسم"- مرفوع زيد، و"ما" فيه واقعة على الزيادة اللاحقة للاسم، والجملة صلة ما، وعائدها الضمير في يحص. و"ما" الأولى واقعة على الاسم المتكلم في عينه، دل على أنه اسم قوله: "آخره قد زيد ما يخص الاسم"؛ إذ لا يمكن أن يزاد ما يخص الاسم في الفعل، وإنما يحلق ما هو مختص به. وعائدها الهاء في "آخره"، و"ما" الثانية وما تعلق بها في صلة ما الأولى. و"واجب" خبر "عين" أولا. ويعني أن ما كان من الأسماء الم عتلة العين قد لحقه في آخره زيادة تختص بالاسم ولا تكون في الفعل أصلا يجب أن تسلم عينه ولا تعتل بالقلب المذكور وإن وجد موجبه. وإنما قال: "ما آخره قد زيد" لبيان أن خواص الاسم إذا لحقته من أوله فلا أثر لها في التصحيح، فالألف واللام إذا لحقت من

أول الاسم- وكان مما يعتل- اعتل، أو مما يصح كقولك: مال والمال، ونار والنار، وساق والساق، وأشباه ذلك. وإنما هو مختص بما يلحق الآخر، وذلك أن المقصود في هذا أن يكون الاسم على بناء لا يكون عليه الفعل، فإنه إذا كان على بناء يكون عليه الفعل، أي: يشاكل بناء الفعل، وجب إعلاله، فمال ونار ودار على بناء يشاكل بناء الفعل فيعتل باعتلاله، والألف واللام غير معتبرة لأن الاسم غير مبني عليها، وكذلك ما يلحق الآخر مما ليس في الكلمة جزءا منها، فيخرج عن هذا لحاق الإضافة والتنوين لأنها منفصلان عنه، بخلاف نحو ألف التأنيث والألف والنون فإن الكلمة مبنية عليها، فلحاقها للاسم يخرجه عن مشاكلة الفعل فلا يعتل كاعتلال الفعل. وهذا كله بيان لقول الناظم على الجملة: "وعين ما آخره قد زيد ما يخص الاسم"؛ إذ لم يخص زيادة من زيادة فظاهره يقتضي كل زيادة في آخر الاسم متصلة بالنية أو منفصلة عنها، وذلك غير مستقيم، وإنما يريد ما كان جزءا من الكلمة. والذي يخص الاسم مما هذه سبيله ثلاث علامات، إحداها: الألف والنون. والثانية ألف التأنيث المقصورة. والثالثة: ألف الممدودة. فأما الألف النون فقولك: الجولان والدوران والحيدان والهيمان، فإن الألف والنون هنا قد أخرجنا دورا وجولا وحيدا عن شبه الفعل فلم يعتل، لأن القاعدة أن الاسم هنا إنما يعتل عند

مشاكلته للفعل؛ ألا ترى أن الاسم إذا خالفت بنيته بنية الفعل صح كقولك: الحول والعوض ونحوهما، فكذلك إذا خالفه بزيادة زيدت فيه، ولا يقال: إن رميا وغزوا قد شابهه الهيمان والدوران، فكان حقه أن يعل. لأن ألف الاثنين كلمة أخرى ليست من حقيقة الفعل في شيء؛ ألا ترى أنها فاعل الفعل، والفاعل جزء الجملة لا جزء الفعل، وإنما الفعل رمى وغزا، فافترق من الدوران ونحوه، فقد خرج الدوران والهيمان عن مشابهة الصنفين من الفعل المجرد عن العلامة واللاحق له العلامة، وما جاء على خلاف هذا الحكم فنادر محفوظ نحو: ماهان وحاذان وداران. قال ابن جني: "جعلوا الألف والنون فيها بمنزلة هاء التأنيث في دارة وقارة ولابة، فكما اعتلت هذه الأسماء ونحوها ولم يمنع من القلب هاء التأنيث كذلك قلبت في ماهان وداران ونحوهما". قال: فإن قيل: من أين أشبهت الألف والنون وهاء التأنيث؟ فأجاب بأنها أشبهتها من وجوه، منها المساواة في الترخيم نحو: ياطح، ويامرو، في مروان. ومنها/ أنك تحقر الصدر من الاسم الذي هما فيه نحو زعيفران وطليحة قال: فمن هذا وغيره جرت مجراها. وقد تقدم ما في هذه الأسماء من احتمال فاعال.

وأما ألف التأنيث المقصورة فنحو حيدى وصورى، وكما إذا بنيت فعلى من البيع أو الكيل قلت: بيعي وكيلي، وما أشبه ذلك، ووجه ذلك نحو ما تقدم لأن ألف التأنيث لا تلحق الفعل أبدا، فخرج بها الاسم عن مشاكلة الفعل كالدوران، ولم يعتدوا بما "فيه" من صورة الفعل المسند للاثنين نحو قاما وباعا فيعل كإعلاله، لما تقدم في الألف والنون، وفرق ثان هنا- ويجري في الأول- وهو أن ألف قاما ونحوه طرأت بعد أن لم تكن، فالمشاكلة إن فرضناها عارضة بعروض لحاقها، والأصل المباينة والمخالفة بين صورى وقوم أصل قام، فيستصحب الأصل، والعوارض في القياس غير معتد بها. وهذا هو الذي اعتبر من ذهب إلى ما ذهب إليه الناظم في ظاهر كلامه. وذهب الأخفش- وتبعه المؤلف في التسهيل، وهو الناقل لمذهب أبي الحسن- (إلى) أن هذه الألف غير مخرجة للاسم عن شبه الفعل، لأن صورة صورى صورة قوما الفعل، فكما يعتل الفعل هنا فتقول: قاما، فكذلك يعتل الاسم هنا لحصول المشاكلة، فما جاء من صورى وحيدى فيجعله شاذا، فإذا بنى من البيع (أو) القول أو الكيل أو الصوم مثل حيدى قال: باعى، وقالى، وكالى، وصاما، فأعل كما اعتل قاما، وصاما، وباعا، ونحوه. والأقوى ما اعتمدته الجماعة. وينظر ههنا ما الذي يحمله كلام الناظم من هذين المذهبين، فإنه محتمل أن يريد بالذي يخص الاسم ما يخرج به عن مشاكلة الفعل لفظا فقط، فيكون

(مذهبه) مذهب أبي الحسن؛ فإن ألف التأنيث لا يخرج بها الاسم عن المشاكلة، اللفظية؛ إذ الألف في آخر الاسم كالألف في آخر الفعل، فقد حصل ما يوجب الإعلال دون ما ينفيه. ويحتمل أن يري ما يخص الاسم في نفسه بحيث يكون غير لاحق للفعل، وإن كان في الفعل ما هو على صورته، وهذا أظهر في كلامه لأنه قال: قد زيد آخره ما يخص الاسم فلم يعتبر مجرد المشاكلة فإنها تحصل في الجملة لا في الآخر بخصوصه.، وإنما اعتبر كون اللاحق خاصا بالاسم، ولا مرية أن اللاحق آخر الاسم هو ألف التأنيث، وألف التأنيث لا تلحق الفعل أبدا، فلم تحصل إذا المشاكلة على هذا التقدير. وهذا هو مذهب الجماعة، وقد تقدم ترجيحه. وأما الألف الممدودة فيظهر- وإن لم أعرفه منصوصا- أن حكمها أيضا حكم الألف والنون، لا أقول حكم الألف المقصورة، لأن شبه الألف والنون بألفي التأنيث مقرر معلوم، وكثيرا ما يشبه سيبويه أحدهما بالآخر، حتى إنهم قالوا في صنعاء: صنعاني، وفي بهراء: بهراني، فأبدلوا من الهمزة النون، ومثل هذا لا يحتاج إلى شاهد، وهي من اللواحق المختصة بالاسم التي يبنى عليها من آخره، ومثاله ما إذا/ بنيت قرماء من القول فقلت: قوماء، أو من البيع فقلت: بيعاء، وأشباه ذلك الحكم التصحيح، لأن الاسم قد خرج بذلك من شبه الفعل البتة، ولا

يكون في هذا خلاف، كما لم يكن في الألف والنون إذا لحقت خلاف في التصحيح. فإن قيل: فهل تكون هاء التأنيث من هذا القبيل، فيدخل تحت كلام الناظم؟ فالجواب: أن لان لأن هاء التأنيث كالمنفصلة؛ ألا ترى أنها- وإن وقع الإعراب عليها- معدودة كالجزء الثاني من المركبين، فلذلك قلت: تارة، ودارة، وقارة. (وعادة) وعالة، ونحو ذلك، وأيضا فليست التاء على الجملة مما يختص بالاسم؛ ألا ترى أنها تلحق الفعل أيضا فتقول: قامت وصامت. فإن قيل: هذه غير تلك، لأن هذه في آخر الاسم تبدل هاء، بخلاف التي في الفعل. قيل: هذا لا يضر في الشبه، فإنهما قد اجتمعا في اللفظ والدلالة أيضا على التأنيث، وإلى هذا فإنها تصير هاء إذا سميت بالفعل الماضي الذي اتصلت (به) وكان خاليا من الضمير، فتقول في "ضربت" مسمى به: ضربه، كما تقول: شجره". فهذا كله مما يقوى أن الهاء ليست كغيرها مما تقدم. فإن قيل: فزيادتا التثنية وجمعي التصحيح هل لها في هذا الحكم أم لا؟ فإن الذي يظهر أن العلامتين هنا مختصتان بالاسم؛ إذ لا تلحقان الفعل البتة، لأن الفعل لا يثنى ولا يجمع، وإذا كان كذلك فقد دخلتا له في قوله: "قد زيد

آخره ما يخص الاسم، فاقتضى أن كل اسم ذي عين فيها موجب للإعلال المتقدم تصح عينه إذا لحقته علامتا التثنية أو الجمع. لكن هذا غير صحيح، لأنك إنما تقول في دار: داران ودارين، وفي رجل مال أو خاف: رجلان مالان وخافان، ورجال مالون وخافون. فإذا عبارته غير سليمة عن الاعتراض، هذا إلى ما فيها من الإجمال المتقدم ذكره. فالجواب: أن الإجمال في كلامه قد فرغ منه، وإنما الكلام في هذا الإيراد وهو غير لزم على كلامه من وجهين: أحدهما: أن علامتي التثنية والجمع السالم ليس الاسم بمبني عليهما، وإنما هما (كهاء التأنيث) غير معدودتين في (حروف الكلمة وإن عوملتا معاملة الجزء منه؛ ألا ترى أنهما تلحقان الاسم بعد كمال) بنيته، وبعد أن كان خاليا منهما، فإنك تتكلم بالمفرد وتستعمله على حياله، فإذا أردت تثنية أو جمعه ألحقت العلامتين، فقد صار الاسم قبل اللحاق ثابتا له حكمه الذي يقتضيه التصريف. بخلاف الألف والنون وغيرهما مما تقدم، فإن الاسم قد بني عليهما فلا وجود له إلا بهما، فكان ذلك معتبرا في امتناع الإعلال. والثاني: أن الناظم قد قدم حكم التثنية والجمع وما يتغير لأجلهما وما لا يتغير، تحصل ذلك من منطوق لفظه ومفهومه، على ما تقدم شرحه، فإذا كان قد قرر فيه ما يلحقه من التغيير ولم يذكر من هذا المعنى شيئا، دل على أنه بعد

لحاق العلامتين كما كان قبل لحاقهما، فليستا بداخلتين له ههنا؛ إذ تقدم له حكمها. ووجه ثالث، وهو أن علامتي/ التثنية والجمع قد يدعي فيهما أنهما غير مختصين بالاسم، وذلك أن الاسم كما تلحقه علامة الاثنين والجميع، كذلك الفعل تلحقه علامة الاثنين والجميع، فداران مثل قاما، ومالون مثل قاموا، فكل واحد قد لحقه ألف الاثنين وواو الجماعة، فأين الاختصاص؟ فإن قيل: الفرق بينهما ظاهر؛ فإن ألف قاما وواو قاموا ضميران اسمان وألف مالان وواو مالون علامتان حرفان لا اسمان، وإذا وضح الفرق بينهما كان ما ذهبت إليه من هذا كمذهب أبي الحسن في معاملة ألف صورى معاملة ألف قاما، وأنت قد نفيته عن أن يكون مذهبا للناظم، وأيضا فإن الاسم يزيد على الفعل بالنون، وتنقلب ألفه ياء بخلاف الفعل. فالجواب: أن ما تقرر من الفراق ليس بفرق في الحقيقة، إلا نحوا مما بين تاء قامت وتاء قائمة؛ لأن كل واحدة من الألفين علامة على الاثنين، كما أن كل واحدة من التاءين علامة على التأنيث، ودليل تمكن هذا أنك إذا جردت الألفين عن الاسمية على قول من قال: قاما الزيدان، وقاموا الزيدون، ثم سميت بالفعل، صارت الألف كألف المثنى، والواو

كواو المجموع من كل وجه، وألحقت النون فقلت: قامان وقامون، كما قلت: مالان ومالون. وهذا واضح في كونهما- أعني الألفين- في الاسم والفعل متقاربين ومعناهما واحدا. وهنا تم للناظم مراده من هذا المسألة، وتبينت بجميع أطرافها والحد لله. وقد ظهر أن ما صحح على غير ما تقدم من الوجوه فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: الخونة والحوكة، وروح جمع رائح وغيب، وحول، وهيؤ، وعفوة. قال ابن جني: "لم يأت في مثل بائع: بيعة، ولا في مثل سائر: سيرة كما جاء الخونة والحوكة، وعلته قرب الألف من الياء وبعدها من الواو، فكان تصحيح نحو الخونة أسهل عليهم من تصحيح نحو البيعة، لأن الياء لما قربت من الألف أسرع الانقلاب إليها؛ ألا تراهم يقولون: استافوا، فيعلونه، وإن كان بمعنى تسايفوا، فلم يقولوا: استيفوا، لما فيه من جفاء ترك قلب الياء ألفا في موضع قويت فيه داعية القلب".

وقبل با آقلب ميما النون إذا ... كان مسكنا، كمن بث انبذا هذا هو الميم من حروف البدل المتقدمة، ولم يذكر في بدلها من غيرها إلا وجها واحدا في حرف واحد، وهو النون، وذلك (أن) الميم تبدل من أربعة أحرف، وهو الواو واللام والباء والنون. فأما إبدالها من الواو أو اللام أو الباء فشاذ نادر، فلذلك ترك ذكره، وذلك قولهم: فم. فأصول الكلمة الفاء والواو والهاء، لقولهم: أفواه، وفويه، وفاه بكذا، قال: فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به أبدا مقيم وقال ابن جني: يروى أن النمر بن تولب قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من امبر امصيام في امسفر". يريد: ليس من البر الصيام في السفر، فأبدل لام/ المعرفة ميما، قال: ويقال: إن النمر بن تولب لم يرو عن النبي- صلى الله عليه وسلم- غير هذا

الحديث، إلا أنه شاذ لا يسوغ القياس عليه". وروى الفارسي بإسناده إلى يعقوب: يقال: رأيته من كثب ومن كثم"، أي: من قرب. فوجه البدل أنه يقال: أكث بلك الأمر، أي: قرب. ولم يقولوا: أكثم. ومنه أيضا قول الشاعر، أنشده ابن جني: فبادرت شربها عجلى مثابرة ... حتى استقت، دون محنى جيدها، نغما قال ابن الأعرابي: أراد نغبا. قال ابن جني: وهو عندي كما قال. وأما إبدالها من النون- وهو الذي أخذ الناظم في ذكره- فإن إبدالها (منها) على قسمين: أحدهما: ما كان موقوفا على السماع لقلته، ومنه قول رؤبة: يا هال، ذات المنطق التمتام ... وكف المخضب البنام أراد: البنان، فأبدل النون ميما حرصا على موافقة الروي. وقال ابن جني: قرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب قال: (قال) الأحمر: يقال:

طانه الله على الخير، وطامه: أي جبله، وهو يطينه، وأنشد: ألا تلك نفس طين فيها حياؤها قال ابن جني: "والقول فيه أن الميم في طامه بدل من النون في طانه، لأنا لم نسمع لطام تصرفا في غير هذا الموضع". ومن هذا وشبهه تحرز الناظم بقوله: "إذا كان مسكنا"؛ لأنه إذا كان النون متحركا لم يقس فيه البدل. والقسم الثاني: ما كان من هذا البدل قياسا، وهو الذي أخذ في ذكره فقال: "وقبل بااقلب ميما النون"، يعني أنك تقلب النون ميما قياسا بشرطين: أحدهما: أن تكون قبل باء، وهي أخت الميم في المخرج؛ فإنها إذا كانت كذلك قلبت، فإن وقعت قبل (غير) الباء لم تقلب ميما على مقتضى مفهوم كلامه. ويريد: لم تقلب القلب في غير إدغام، وهو الذي أراد هنا، فإنها تقلب ميما في الإدغام لا من هذا الباب؛ إذ الكلام هنا في الإبدال لغير إدغام، وأما الإبدال لأجل الإدغام فيكون إذا وقع بعدها (الميم) نحو: من ماء، وعن ماجد، وزيد ماجد، " تقول فيها: مماء، وعماجد، وزيد ماجد، وامحى، وهمرش-، في أحد الوجهين- ما لم يقع (بالإدغام).

ليس نحو: زنماء، وقنواء، والدنيا. والميم أحد الأحرف الخمسة التي تدغم فيها النون، وهي هجاء "لم يرو"، والإدغام فيها مع بقاء الغنة ومع ذهابها، غير أن النون مع الميم لا تحتاج إلى غنة، لأن صوت الميم كصوتها فاستغنى بالغنة التي فيها، قال سيبويه: "حتى إنك تسمع النون كالميم والميم كالنون، حتى تتبين". وهذا ليس من بابه، فلذلك خص الإبدال هنا مع الباء. والشرط الثاني: أن تكون النون ساكنة لا متحركة، وذلك قوله: "إذا كان مسكنا"، وضمير "كان" عائد على النون على اعتبار التذكير، تحرزا من أن يكون متحركا، فإنه إذا كان متحركا لم يبدل ميما وإن وقع قبل الباء نحو: عنب/ ونساء شنب، وشنب، وقد نبت الزرع، وما أشبه ذلك،

فإن سكنت وجب القلب ميما نحو: عمبر في عنبر، وشمباء، في شنباء، وممبك في من بك، وأمبت الله الزرع، في أنبت، وممبر، في منبر، وما أشبه ذلك. قالوا: وإنما قلبت هنا حين سكنت قبل الباء لأن الباء أخت الميم، وقد أدغمت النون في الميم في نحو: من معك؟ ومن محمد، فلما كانت النون تدغم مع الميم التي هي اخت الباء أرادوا إعلالها أيضا مع الباء إذ قد أدغموا في آختها الميم، ولما كانت الميم التي هي أقرب إلى الياء من النون لم تدغم في الباء نحو: أقم بكرا، لا تقول أقبكرا، ولا في قم بالله، قبالله، كان النون التي هي من الباء أبعد منها من الميم أجدر بألا يجوز إدغامها في الباء، فلما لم يتواصلوا إلى إدغام النون في الباء أعلوها دون إعلال الإدغام، فقربوها من الباء، وقلبوها إلى لفظ أقرب الحروف من الباء وهو الميم، فقالوا: عمبر، قال السيرافي: "ابتداء صوت النون من الخيشوم، ولها حالان: حال ابتداء وحال انتهاء، وبالانتهاء ينفرد مخرجها، فإذا ابتدأت إخراجها وحركتها كانت من الفم لا غير، وكذلك إذا وقفت عليها ساكنة هي من الفم، وإذا وصلتها بما تخفى معه تفردت بالخيشوم، وصوت الخيشوم مشترك بين النون والميم في المبدأ، وإنما يتغير في المقطع، فاعتماد المتكلم على إخراج الباء يمنع من استمرار الصوت بغنة الخيشوم، واحتاج المتكلم إلى أحد أمرين في المقطع، إما أن يجعله من مخرج النون من الفم، وذلك ممكن وفيه مشقة، وإما أن يجعله من موضع

الميم- وهو مخرج الباء- وهو أسهل، قال: ولا تدغم النون في الباء لبعد مخرجيهما إن كانت من الفم أو من الخيشوم، مع أنها لا توافقها في الغنة- قال: فإن قيل: فهل يجوز أن تجعل الباء ميما وتدغم، كما يجوز في: أقم بالبصرة (أقم البصرة)؟ قيل: لا، لما يقع من اللبس، ألا تراهم قد بينوا في قنية وزنمة وأخرجوا من الفم لئلا يدغموا فتلتبس بالتضعيف". ومثل الناظم بمثالين: من بث، وانبذ. ومعنى الكلام من بث أسرارك فانبذه ولا تصحبه وإياك وإياه. ونبه بالمثالين على أن الحكم مستمر في النون مع الباء، كانت منفصلة عنها كمن بث، أو متصلة بكلمتها نحو: انبذ ويقال: نبذت الشيء أنبذه- بالكسر-: إذا ألقيته من يدك، ونبذته كذلك، شدد للكثرة.

فصل ما اعتلت عينه من الأسماء والأفعال وقبله ساكن

فصل لساكن صح انقل التحريك من ... ذي لين آت عين فعل كأبن ما لم يكن فعل تعجب ولا ... كابيض أو أهوى بلام عللا هذا الفصل يذكر فيه ما اعتلت عينه من الأسماء والأفعال وقبله ساكن؛ إذ قرع فرغ من الكلام على ما قبله متحرك، وابتدأ بذكر الأفعال، ويعني أن الفعل إذا كانت عينه ذات لين، أي: حرف/ لين، وقبل ذلك اللين ساكن، فإنك تنقل حركة حرف اللين إلى ذلك الساكن. وذو اللين هو الحرف الواقع علينا، وقال: "عين فعل"، لأنه إذا وقع عين اسم فسيذكره بعد هذا. وذو اللين الذي أراد هو الياء والواو، وأما الألف فلا تكون (هنا)؛ إذا لا تقع أصلا في كلمة متصرفة ولا تتحرك إن كانت (زائدة). ومثال هذا في الماضي: أجاد، وأبان، وأقال، وأخاف، واستراب، واستعاد. وأصل ذلك: أجود، وأبين، واستريب، واستعود، بدليل رجوعهم إلى ذلك في بعض المواضع في ضرورة أو غيرها، كقوله، أنشده سيبويه:

صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم وقولهم: استنوق الجمل، و (استحوذ عليهم الشيطان)، لكنهم أرادوا إعلال هذه الأمثلة إذ كانت معتلة (في الثلاثي) ليجرى الفعل في تصرفاته كلها على وجه واحد، فنقلوا حركة الواو والياء إلى الساكن الذي قبلهما، فصار أجود، وأبين، واستريب، واستعود، فقلبوهما ألفا لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما في اللفظ، فصار: أجاد، وأبان، واستراب، واستعاد، كما ترى، قالوا: ولولا اعتلاهما في الثلاثي لما وجب إعلالهما (الآن)، لأن الياء والواو إذا سكن ما قبلهما جريا مجرى الصحيح. وأما المضارع فنحو مضارع ما تقدم: يجيد، ويبين، وبستريب، ويستعيد. والعلة واحدة، فنقلوا حركة الواو والياء إلى السكان قبلهما فصار: يجود، ويبين، ويستريبن ويستعود، فقلبوا الواو الساكنة ياء لكسر ما قبلها، فقالوا: يجيد، ويستعيد. وهكذا مضارع الثلاثي نحو: يقوم ويبين، أصلهما: يقوم، ويبين، ففعلوا كما تقدم، فصار هكذا، لكن هذا محمول على ماضيه نفسه، لأنه ثلاثي جار عليه. وأما الأمر فكالمضارع إلا أن لام الفعل إذا كان ساكنا حذف حرف العلة لالتقاء الساكنين، ومن هذا ما مثل به الناظم وهو: أبن، أصله: أبين، من أبان يبين بمعنى بين. غير أن الناظم اشترط في ثبوت هذا الحكم أربعة شروط:

أحدها: أن يكون الساكن الذي قبل حرف العلة صحيحا، فلذلك قال: "لساكن صح"، أي: انقل تحريك ذي اللين لحرف ساكن صحيح، تحرزا من الحرف المعتل فإنه إن كان الحرف معتلا إما واوا أو ياء أو ألفا بقيت الحركة في محلها ولم تنقل، فالألف كقولك في أفعل من آم يئيم: آيم، ومن آل، لأنه لما اعتلت الفاء وهي همزة قلبت ألفا (وصحت العين)، وقد سمع من كلام العرب: آيدته، في أفعلته من الأيد، وأيدته فعلته، قال ابن جني: "وآيدته قليلة مكروهة، لأنك إن صححت فهو ثقيل، وإن أعللت جمعت بين إعلالين، فعدل عن أفعلته إلى فعلته في غالب الأمر". وكذلك تقول: قاول يقاول، وبايع يبايع، فههنا لا يصح النقل أيضا؛ إذ الألف لا تقبل الحركة. والواو والياء كقولك في فعل من آم وآل: أيم وأول، ولا تقول: أيام، ولا: أوال. وكقولك: بويع وسوير. وقول وبيع إذا بنيت منها/ على فعل أو فوعل، أو فيعل فقلت: قيل، وما أشبه ذلك. وكان وجه ما فعلوا من هذا أنه لم يمكنهم غيره، لأن الألف إن كانت مبدلة من همزة فنقلت (إليها) وذلك لا يكون إلا مع إبدالها واوا أو ياء لزمك الجمع بين إعلالين، إعلال العين، كما قال ابن جني في آيدته، وإن كانت الألف زائدة لم يصح تحريكها، وإن قلبت وحركت

لزمك إفساد (البناء). وأما الواو والياء فإن كانتا تضعيف عين لم يصح النقل؛ إذ العين لا تختلف، وقد مر بيان هذا، ولذلك جمعوا بين الهمزتين في سأل ونحوه، فلو قلت في فعل من آل: أوال، لزم اختلاف العين. وإن كانا زائدتين للإلحاق لزم مخالفة الملحق للملحق به، فكان التصحيح أولى. فإن قيل: هل يدخل له في غير الصحيح الهمزة فتكون عنده في حكم المعتل الذي لا ينقل إليه أم لا تدخل فتكون عنده في حكم الصحيح الذي ينقل إليه؟ وعلى كل تقدير يلزم إشكال، أما إن قلنا: إنها داخلة في حكم المعتل فيقتضي أن الهمزة لا ينقل إليها ما لا ينقل إلى الحروف المعتلة، فنقول: يؤود من آودن ويؤول من آول، وما أشبه ذلك، وهذا موافق لما ذكره في التسهيل حيث استثنى الهمزة فقال: "إن لم يكن حرف لين أو همزة"، فإن الهمزة (عنده) لا ينقل إليها، وإنما تقول: (آود) يؤود، (ويؤيد) من الأيد، وكذلك اسم الفاعل منهما، والمصدر، واسم المفعول، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وعلى هذا جرى ابن جني، وأنشد على ذل قول الشاعر:

ينبى تجاليدي وأقتادها ... ناو كرأس الفدن المؤيد وقول طرفة بن العبد: يقول وقد تر الوظيف وساقها ... ألست ترى أن قد أتيت بمؤيذ فقد أتي في الأول بمفعل من الأيد مصححا، وفي الثاني بمفعل منها- وهي الداهية- مصححا كذلك، واسم الفاعل والمفعول في حم الفعل إذا صح أحدهما صح الآخر، وإذا اعتل اعتل، فالشاهد على أحدهما شاهد على الآخر. لكن هذا الحكم على الإطلاق غير صحيح؛ إذ يجب إعلال مضارع الثلاثي المعل وما تصرف منه نحو: آل يئول، وآب يئوب مآلا ومآبا، وآد يئود، وآم يئيم، وآن يئين، وما أشبه ذلك، والأصل: يأود ويأيم، فنقلت حركة الياء والواو إلى الهمزة على قاعدة الساكن الصحيح، فجرى في وجوب الإعلال على الماضي، وعلى هذا يكون قولهم: الحرب مأيمة، شاذا، كمقودة ومثوبة وكذلك أيضا الحكم في حرف اللين الواقع قبل العين من الثلاثي، لو بنيت فعل من الويح (والويل) لقلت: واحد يويح، ووال يويل، لكن العرب قد رفضت في الاستعمال (أفعال) الويح والويس والويل والويب، لأن يويح الذي يوجبه

القياس في المضارع أثقل من "يوعد" لو أخرجوه عن أصله. وهذا الاعتراض لازم أيضا في كتاب التسهيل، ولا محيص له عنه هناك، فكذلك يكون هنا على هذا التقدير. وإن قلنا: إن الساكن إذا كان همزة لا تدخل في الحكم المعتل، بل ي من الحروف/ الصحاح في هذا الحكم فتقول في يؤيد: يئيد، وفي يؤول: يئيل، كما تقول آم يئيم، وآد يئود- كان مخالفا لما قال الناس في غير الثلاثي، ابن جني ومن قال بقوله، ومنهم المؤلف في التسهيل. فعلى كل تقدير يلزم التفصيل وأن يقال بالفرق بين الثلاثي وغيره، فتكون الهمزة في الثلاثي حكمها حكم الحرف الصحيح، وفي غيرها حكمها حكم حرف العلة، وحينئذ يلزم على كلام الناظم الإشكال كما لزمه ذلك في التسهيل. فالجواب أن ظاهر الإطلاق في الحروف الصحاح أنها ما عدا الألف والواو والياء فالهمزة على هذا التقدير من جملة الحروف الصحاح، وإذا كانت كذلك فقد صح النقل إليها، فإنما تقول: آد يئود، وآب يئوب. وكذلك تقول في غير الثلاثي نحو: استآد يستئيد، وقد جاء في السماع، قال الجعدي: ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا ولو صحح لقال: هو المستأوس. وهذا صحيح لا إشكال فيه، وأما

ما قاله ابن جني فأصله للفارسي وهو مختص بما فاؤه تلى همزة كآيدته، روى ابن مجاهد، عن أبي عمرو أنه قرأ: (وآيدناه) على أفعلناه، والذي كثر فيه: أيدت. قال الفارسي. إنما كثر فيه أيدتك: فعلتك، لما يعرض في آيدتك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين. وأنشد: كرأس الفدن المؤيد قال ابن جني: معناه: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت؛ إذ كانت حرف علة كأقمت، لتوالي فيه إعلالان، لأن الأصل: أأيدت، كما أن أصل آمن: أأمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفا لاجتماع همزتين في كلمة واحدة الأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآدم، وكان يجب أيضا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء واوا، لأنها (قد) تحركت وانفتح ما قبلها، ولا بد من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها كما قلت في تكسير آدم: أوادم، فكان يلزم على هذا أن يقال: أودته، كأقمته وأردته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الألف التي هي (في) الأصل همزة واوا، فتعتل الفاء والعين جميعا، وإذا أدى القياس إلى

هذا رفض، وكثر فيه فعلت: أيدت، ليؤمن ذنك الإعلالان. قال: فلما استعمل شيء منه جاء قليلا شاذا- أعني آيدت- قال: وإذا كانوا أخرجوا عين أفعلت وهو حرف علة على الصحة نحو قوله: صددت فأطولت الصدود وقولهم: أغيلت المرأة، وأغيمت السماء، ونحو ذلك، ولو خرج على منهاج إعلال مثله لم يخف فيه توالي إعلالين، كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها- أولى وأجدر. هذا ما قاله في تفسير كلام الفارسي، وهو ظاهر في خروج أفعلت مما فاؤه همزة عن قاعدة النقل إلى التصحيح، ومؤذن بأن ماعدا ذلك (مما) لا يلزم فيه إعلالان باق على تلك القاعدة وإن كانت الفاء همزة، فبحق ما قال بعض الشيوخ/ في قول المؤلف في التسهيل: "ولا همزة": إنه ناقص، وإن تمام العبارة: "لا همزة تلي همزة"، فيكون باب الاستئواد من الخارج عن القاعدة ومن الموقوف على السماع، وإذا كان كذلك لم يبق على الناظم اعتراض إلا فيما فاؤه همزة تلي همزة.

الشرط الثاني: ألا يكون الفعل المعتل العين فعل تعجب، وذلك قوله: "ما لم يكن فعل تعجب"، يريد أن هذا الحكم من الإعلال إنما يستمر في غير فعل التعجب، فأما فعل التعجب فلا يعتل، وإنما حكمه التصحيح عل مقتضى هذا المفهوم، فتقول: أقوم بزيد! وما أقومه! وأبين به! وما أبينه! ولا تقل: أقم بزيد، ولا ما أقامه. ووجه ذلك الحمل على أفعل التي للتفضيل؛ إذ أفعل فيما أفعله موازن له لفظا وموافق له معنى، فاتبع الفعل الاسم فيما هو أصل في الاسم وهو التصحيح. وقد يحمل الأصل على الفرع فيما هو أصل في الفرع فرع في الأصل، كما أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع في العمل، وأجرى المضارع مجرى اسم الفاعل في الإعراب، وكما أجرى الحسن على الضارب الرجل في النصب، وأجرى الضارب الرجل على الحسن الوجه في الجر. ثم جمل أفعل المتعجب به على أخيه فقيل: أبين بالحق! وأنور به! كما قيل: ما أبينه وأنوره! هذا معنى ما علل به ابن جني وغيره، وأصله لسيبويه، قال: "ويتم في قولك: ما أقوله وأبيعه! لأن معناه معنى أفعل منك وأفعل الناس، لأنك تفضل على من لم يجاوز أن لزمه قائل وبائع، كما فضلت الأول على غيره وعلى الناس، وهو بعد نحو الاسم لا يتصرف تصرفه ولا يقوى قوته، فأرادوا أن يفرقوا بين هذا وبين الفعل المتصرف نحو أقام وأقال". قال: "وكذلك أفعل به، لأن معناه معنى ما أفعله (وذلك قوله) أقول به وأبيع به".

الشرط الثالث: ألا يكون مضاعف اللام، وذلك قوله: "ولا كابيض"، فإنه إذا كان كذلك لم تنقل حركة العين إلى ما قبله، فتقول: ابيض واسود، وابيضضت واسوددت، وكذلك: احول واعول وما أشبهه مما يجئ على افعل. ووجه هذا التصحيح أنهم لو أسكنوا الباء والواو ونقلت حركتها قبلهما لوجب أن تنحذف همزة الوصل فيصير: ساد وباض، فيجتمع ساكنان، فينتقل إلى سد وبض. فإن قيل: لا تسقط في راد وحاد. فالجواب (أن). في ساد ثلاثة تغييرات بخلاف راد، لأن أصله الأول: اسودد، فألقينا حركة الواو على السين، فسقطت همزة الوصل، فهذا تغير. وانقلبت أيضا الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها في اللفظ، فهذا تغيير ثان. وسكنت الدال فأدغمت فهذه تغييرات كثيرة مجحفة بالكلمة، فامتنعوا مما يؤدي إليها. وأيضا لو فعلوا ذلك لالتبس بفاعل، وهذا كله مانع، فوجب التصحيح. هذا معنى تعليل السيرافي، وعلل ابن جني بنحو منه. ولما ذكر لنا/ شيخنا القاضي- رحمه الله- التعليل الذي ذكر السيرافي من أنه يؤدي إلى التقاء الساكنين والحذف قال له بعض أصحابنا: إن حذف الألف لا يلزم، لأن شروط التقاء الساكنين متوفرة فيه. فقال له: على كل حال، فالإدغام والتقاء الساكنين على الكلمة كثير، مع أن من شرط التقاء الساكنين أن تكون الألف

زائدة، وههنا ليست كذلك لأن أصلها الياء في ابيض، فلم تتوفر الشروط، وهذا حسن. الشرط (الرابع) ألا تكون اللام معتلة أيضا، وذلك قوله: "أو أهوى بلام عللا"، يريد أن هذا الحكم لا يثبت إذا كانت اللام معتلة أيضا كأهوى، (فإن أهوى) أفعل، فالأصل أن تقول: أهاي، كما تقول: أقام، لكن منع من ذلك إعلال اللام، فإنما تأتي به على الأصل فتقول: أهوى يهوي، ويهوى، (ويهوي): وأوى يأوي، وآوى يؤوي، واستهوى يستهوي، وما أشبه ذلك. ووجه هذا ما تقدم من أنه إذا استحق الإعلال حرفان فإنم الذي يصحح هوة الأول، وأنه لو اعتل الأول لزم منه إما إعلال الثاني، وذلك لا يجوز، وإما تصحيحه فيقتضى ظهور الضمة في الياء على ما تقدم بسطه، وذلك (أيضا) لا يجوز، فامتنعوا مما يؤدي إلى ذلك. فإذا اجتمعت هذه الشروط فحينئذ يستتب الإعلال كما تقدم تمثيله، وما خرج عن هذا الحكم فشاذ نحو قوله: أنشده سيبويه: صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم وقالوا: استحوذ عليه، وأغيلت المرأة، واستروح، واتصوب، واستجود واستفيل، وأجودت، وأديبت، وأغيمت، وفي حكم هذه الأشياء ما جرى

مجراها من مصدر كالإغيال، والإجواد، والاستجواد، وما جرى من الصفات نحو: هي مغيلة، والولد مغيل، قال امرؤ القيس: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا ... فأهليتها عن ذي تمام مغيل وكذلك ما أشبهه. هذا ولا يقاس هذا كله عند الناظم، وقد وقع الخلاف هنا في موضعين: أحدهما: أن أبا زيد قاس على ما سمع من هذا مطلقا في الأفعال والمصادرات والصفات وغيرها، كان الثلاثي المعل مستعملا أولا. والثاني: أنه اختار في التسهيل القياس فيما لم يكن له ثلاثي معل، والسماع فيما كان له ثلاثي، فنحو: استنوق الجمل، واستفيل الجمل، واستنيست الشاة، قياس عنده، فيجوز أن تقول: استطود فلان، صار كالطود، واستحوت الضفدع، صار حوتا، وما أشبه ذلك، بخلاف استحوذ ونحوه فإنه سماع، لأن له ثلاثيا، وهو حاذ يحوذ. ووجه هذا الاختيار أن إعلال الزائد من الأفعال إنما بالحمل على الثلاثي؛ إذ هو الأصل، فوافقته فروعه وجرت المصادر بعد في الإعلال على أفعالها، فإذا أهمل الثلاثي لم يكن للزائد في الإعلال أصل تحمل عليه، فبقي على الأصل

وهو التصحيح/. وغير المؤلف يرى شذوذ التصحيح أيضا في هذا القسم، لكنه أسهل من باب استحوذ، لوجود حاذ يحوذ، وإذا كان التصحيح في مثل مدين ومكوزة ومريم- من الأعلام التي لا مناسبة بينهما وبين الفعل إلا الموافقة في عدد الحروف (والحركات) والسكنات شاذا غير مقيس بموافقة المؤلف على ذلك، فأحرى الفعل نفسه وما تصرف منه. والمؤلف في هذا الاختيار محجوج بموافقته على شذوذ باب مدين. وأما ابن جني فنص على أن هذا من الشاذ، وأنك لو قلت مثل استفعل من الطود أو الحوت أو الخوط لقلت: استطاد، واستحات واستخاط، فيعله على القياس، ونص على أن مثل استيفل في الشذوذ أسهل من مثل استحوذ، ولم يحك في شذوذ البابين خلافا. وأما مذهب أبي زيد فمخالف للجماعة أيضا، وهذا وإن كثر فهو مما اطرد في الاستعمال لا في القياس، والقاعدة أن المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس يؤقف ما استعمل منه على محله، وما سواه يحمل على القياس، ذكر ذلك ابن جني في الخصائص وغيرها، وهي عندي قاعدة أصولية. فالظاهر ما ذهب إليه الناظم هنا. وإنما قال: "بلام عللا"، وكان يجزيه أن يقول: "أو أهوى"؛ إذ المثال مشعر بإعلال اللام، لأنه لا يتعين به مطلوبه؛ ألا ترى أنه مثال على

أفعل، فلعل متوهما يظن أن هذا مختص بما هو على وزنه دون غيره فيفهم منه فهما غير صحيح، فحرر ما أتى بالمثال لأجله فقال: "بلام عللا"، أي: إن إعلال اللام هو المانع من إعلال العين، فيدخل بمقتضى هذا التعليل: استفعل يستفعل، وأفعل يفعل، وما أشبههما، وكذلك: يفعل ويفعل، من ذوات الواو والياء. واعلم أن الناظم- رحمه الله- قد نقصه من هذه المسألة أمران لا بد منهما وبذكرهما تتم وتطرد وتنعكس في حزئياتها: أحدهما: اشتراط شرط خامس، وهو ألا يكون الفعل الذي قبل عينه ساكن من فعل الذي بمعنى افعل ولا مصرفا منه، فإنه إذا كذلك صح ولم يعتل. وكلامه يقتضي أنه يعتل، وذلك غير صحيح، فإنك تقول: عور زيد (يعور)، واعور يا زيد، وحول يحول، وصيد يصيد، ولو بنيت أفعل يفعل من هذا لقلت: أعو الله عينه، وأصيد الله بعيره. وكذلك لو بنيت من هذا استفعل لقلت: استعور، واستحول، واستصيد. أو افتعل لقلت: اصطيدا، واعتور. ويجري المضارع من هذه كلها على الماضي (في) التصحيح، لأن المضارع الثلاثي منها جار على الماضي، والمزيد جار على المجرد في التصحيح والإعلال على القاعدة.

وإذا كان كذلك وجب أن يكون المزيد هنا صحيحا لامعلا. وأما الذي من الافتعال بمعنى التفاعل فليس من هذا الفصل، (وإنما هو من الفصل) قبل هذا. وقد نبه على هذا الشرط في كتاب التسهيل فقال لما قرر المسألة: "إن كانت الواو والياء عين فعل لا لتعجب، ولا موافق فعل الذي بمعنى افعل، ولا مصرف منهما ... " إلى/ آخره، فأخرج عن الفصل ما يجب إخراجه عنه، ولم يفعل ذلك هنا، فكان كلامه فيه معترضا. ولا يقال: إن هذا الحكم قد تقدم له الإشارة إليه قبل إذ قال: وصح عين فعل وفعلا ... ذا أفعل ....... لأنا نقول: إنما تقدم له ذلك في الماضي خاصة، ألا تراه قال: وصح عين كذا وكذا، فقيده بما تحركت فيه العين وانفتح ما قبلها، وإذا كان كذلك لم يكن فيه دلالة على ما سكن ما قبله. والثاني: أنه أتى ببعض أحكام المسألة ولم ينته بها إلى غايتها، بل وقف دون ذلك؛ ألا تراه لم يذكر إلا نقل الحركة فقط، وليس هذا بكاف ولا مخلص، لأنك إذا نقلت حركة العين إلى الفاء فقلت مثلا في أقوم: أقوم، بقيت الواو ساكنة بعد النقل، فلا يدري الناظر بعد ذلك ما يكون الحكم، هل تبقى كذلك فتستعمل على تلك الحال أم لا؟ بل الظاهر والأسبق إلى الوهم أنها تبقى كذلك؛ إذ يقول القائل: لو كان بعد هذا

عمل آخر لم يتركه، وكذلك إذا قال في يقوم: يقوم، فبقيت الواو ساكنة لم يدر ما يفعل بعد ذلك؟ فقد صار الحكم الضروري في هذه المواضع من قلب الواو (ألفا حتى يصير أقام، وقلب الواو) ياء حتى يصير يقيم، وما كان نحو ذلك محالا به على غير معلوم، وهذا قادح في التعليم، ولقد أتم في التسهيل المسألة إذ قال بعد تقرير ما قرر هنا: "وأبدل من العين مجانس الحركة إن لم يجانسها". يعني أن العين إن جانس الحركة المنقولة إلى الفاء بقيت على حالها وإن لم تجانس قلبت العين إلى الحرف المجانس، فأما المجانس فهو أن يكون العين واوا وحركتها ضمة، أو ياء وحركتها كسرة، مثال ذلك: يبيع، أصله يبيع، فقلت الحركة إلى الياء فصار ببيع، فجانست الياء الكسرة فلم تحتج إلى عمل. وكذلك معيشة ومبيعة إذا بنيت مفعلة من العيش والبيع، ومقولة ومعونة إذا بنيت مفعلة من القول والعون؛ إذا كان الأصل مقولة، فنقلت الضمة إلى القاف، فجانستها الواو فاستقرت على حالها. وأما غير المجانس فهو أن تكون حركة العين فتحة مطلقا، أو تكون ضمة وهي ياء، أو كسرة وهي واو، مثال ذلك: يقام ويباع، أصله: يقوم ويبيع، فنقلت الفتحة إلى الساكن قبلها فبقى يقوم ويبيع. وهذا لا يقال، فأبدلت الواو والياء ألفا، وهي المجانسة للفتحة، وكذلك يقيم ويستقيم، وكما إذا بنيت مفعلة من البيع أو من العيش، على ما ذهب هو إليه من مذهب أبي الحسن فقلت: مبوعة ومعوشة، أما

على مذهب سيبويه فهو يحتاج إلى استثناء الياء المجاورة للطرف بعد الضمة، فإن الضمة ترد كسرة، كما تقدم في تقرير المذهبين فالحاصل أن الناظم لم يخلص هذه المسألة ولا حررها. فأما السؤال الأول فلم يحضرني الآن عنه جواب سوى أنه لما كان في معنى افعل، وهو قد نص على أن الحكم لا يدخله اقتضى أيضا أنه لا يدخل ما هو في معناه، لأن حقيقة الأمر في تسليم/ حول توهم أنه على احول، وإذا كان كذلك فلابد من تسليمه تسليم افعل، وقد يمكن أن يجاب عن الثاني بأنه إنما ترك باقي العمل إحالة على ما مضى له قبل هذا. أما الواو مع الكسرة والياء مع الضمة فقد تقدم له أنهما إذا سكنا وقبلهما من غير جنسهما فإنهما يقلبان إلى الحرف المجانس للحركة المعينة. أما نحو مفعلة من العيش إذا صار إلى معيشة فقد دخل له في مسألة موقن من حيث وجدنا ياء ساكنة قبلها ضمة، وأما نحو مفعلة من القول فلأنه لما صار إلى مقولة دخل له تحت كلامه المنبه عليه فيما قبل، فليس تركه لما ترك ترك بإهمال له، وأما الياء والواو مع الفتحة فإن الفتحة إذا نقلت عنهما إلى الساكن صارت صورته صورة ما تقدم حكمه، لأند قد قدم أن كل واو أو ياء بتحريك أصل وقبلهما فتحة وجب قلبها ألفا، وقد وجدنا هذا كذلك، لأن الواو والياء تحركتا في الأصل وانفتح ما قبلهما

لفظاً، فاقتضى الانقلاب ألفا، فوجب أن تقول في مفعلة من القول أو البيع: مقالة ومباعة. فإن قيل: هذا التنزيل غير مستقيم، لأنه إنما قدم أن تكون الواو أو الياء متحركة لا ساكنة؛ ألا تراه قال: "بتحريك"، فاشترط التحريك، وهذا غير متحرك قطعا، ويلزمك على هذا أن تدخل في هذا القانون كل واو أو ياء ما قبلهما مفتوح متحرك أو سكن، فيكون ياجل وياتعد وبابه من جملة المقيس، وهذا كل لا ينهض. فالجواب: أن التنزيل مستقيم والسؤال غير وارد، أما أولا فلأن الناظم إنما قال: "بتحريك أصل"، يريد أنه لابد أن يكون ذلك التحريك بحق الأصل، ولم يشترط أنه موجود بلا بد، بل قال: بتحريك صفته كذا، كأنه قال: يشترط أن يكون متحركا في الأصل، فإذا لا يلزم أن يكون متحركا في الحال، بل قد يكون كذل وقد لا يكون، ولا شك أن عين يقام حين صار إلى يقوم متحركة في الأصل، وأيضا يصدق عليها أن العين هنا متحركة في الأصل؛ وقد تقدم في مسألة "سيد" أن الساكن الذي في حكم المتحرك متحرك لا ساكن، فكذلك قلت: قوى، في تخفيف قوى، ولم تدغم، وتقدم أنه لا يدخل على الناظم إدغامه لأنه متحرك، فكذلك نقول هنا: إن الواو متحركة وإن عرض الآن سكونها. ولهذا يقول النحويون في مثل هذا: تحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها

في اللفظ، فقلبت ألفا. فيردون الحكم إلى المسألة الأولى، فلفظه إذا هنالك يقبل هذا العمل. أما ثانيا فلأن انقلاب الألف عن الياء والواو إذا تحركا وانفتح ما قبلهما لا يكون إلا بعد حذف حركتهما، لأنهما لا ينقلبان إلى حرف ساكن وهما متحركان، فحقيقة الترتيب في هذا العمل أن تقول: أصل قام قوم، تحركت الواو وانفتح ما قبلهما، فحذفت لتوالي الحركات ولثقل الحركات على حروف العلى على الجملة/ فسكنت، وكان الأصل أن تنقل حركتها إلى الفاء ولا تحذف رأسا، كما فعلوا ذلك في المضارع، لكنهم خافوا الالتباس بفعل المفعول لو قالوا: قوم، فتركوا ذلك حيث يلتبس على الجملة وذلك في الثلاثي ونقلوا حيث لا يتلبس وذلك إذا أسند إلى ضمير المتكلم نحو قلت، وفي باع: بعت. وهذا المعنى مبسوط في موضعه، ثم انقلبت الواو (والياء) ألفا لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما في اللفظ. فالحاصل أن لابد من إسكان حرف العلة قبل الانقلاب، للعلة المذكورة، أو لأن الانقلاب فيها لا يصح إلا بعد حذفها؛ لأن ما انقلبت إليه غير قابل للحركة. وهذا الترتيب الذي ذكرته هو الذي يقوله النحويون، سيبويه وغيره، قال السيرافي في نحو قام وباع: "يقلب ثانيه

ألفًا لتحركه وانفتاح ما قبله، لأنهم استثقلوا ذلك مع كثرتها في كلامهم، مع أنها لو سلما في الماضي للزمهما في المستقبل (ما يثقل) من الكسرة أو الضم في يقول أو يبيع، مع أن الفعل ثقيل كثير الدور في الكلام؛ ألا ترى أن الواو المضمومة تقلب همزة، فسكونهما في المستقبل وألقوا حركتهما على ما قبلهما". قال: "وقلبوها في الماضي بعد تسكينها، دلالة على أنها قد كانت متحركة (قال: ) وأيضا لو تركت ساكنة لأشبهت بيع وقول المصدرين". فأنت تراه قد قرر أن التسكين هو السابق، وكأنه بالحمل على المستقبل؛ إذ سكنوا فيه، ثم علل وجه الانقلاب ألفا بعد التسكين، وأن ذل لوجهين، الدلالة على أن الأصل متحرك، وخوف الالتباس، وأن ذلك لوجهين، الدلالة على أن الأصل متحرك، وخوف الالتباس. وهكذا يقول غيره، وإذا كان كذلك فلابد من التسكين. ثم إن "مقام" ونحوه على هذا الترتيب حذوك النعل بالنعل. فالمسألتان إذا من باب واحد، غير أن هؤلاء المتأخرين (لا) يذكرون في ترتيب الإعلال مرتبة التسكين في نحو (قام) ويذكرونها في (يقام) ونحوه، فيشكل على من لم يتمرن فيما قال سيبويه والأئمة بعده من وجه

الإعلال، وجعل البابين- أعني باب قام وباب يقام- في وجه الإعلال على حد سواء. في سواء. فإذا تقرر هذا فقول الناظم هنالك: "بتحريك أصل"، لابد من جملة (على أن مراده التحريك) في الأصل، حملا له على ما قاله غيره من الأئمة المقتدي بهم في هذا الشأن، وإذا ذاك تصير مسألة يقام ويستدام من ذلك الباب، وإذا كان كذلك فنعما فعل في عدم ذكره لباقي الحكم، لأنه كان يكون تكرارا من غير فائدة زائدة، وقد مضى فيما تقدم الإشارة إلى تعليل الإعلال في المسألتين، مسألة قام ومسألة يقام ويقوم ويقيم، ولكن بسط ذلك على أقرب ما يكون أن الأصل الإعلال للماضي نحو قام وباع أصله قوم وبيع، ثم نقل إلى قوم وبيع، بدليل أنهم إذا أسندوهما إلى ضمير الرفع قالوا: قمت وبعت، فنقلوا حركة العين إلى الفاء، ولو كان باقيا على أصله لقالوا: قلت: (و) بعت- بفتح الفاء- لكنهم لم يفعلوا ذلك فدل على أنهم نقلوه/، والأصل فعل، إذ لو كان (الأصل) فعل لم يتعد البتة. فإن قيل: ولعل الضمة والكسرة إنما أتى بهما ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء كما قال ابن الطراوة. قيل: لا يمكن؛ إذ لو كان كذلك لقالوا في خفت: خفت، بالضم، ليفرقوا بينه وبين هبت، فأن لم يفعلوا ذلك دليل على أنهما ليستا للفرق.

فإن قيل: لم لم ينقلوا (أيضا) في المزيد نحو: انقاد؟ \ قيل: لان انفعل أو افتعل لا نظير له، بخلاف فعل، فمن هنا قالوا: انقدت، فتركوا القاف مفتوحة، لأنهم نقلوا إليها حركة العين، وهي غير محولة- فإن قيل: فما فائدة النقل من فعل إلى فعل؟ فإن المازني أجانب بأنهم أرادوا أن يغيروا حركة الفاء، ولو جعلوها محولة من فعلت لكانت الفاء إذا ألقى عليها حركة العين كهيئتها (لو) لم تحول عليها. قال: "قال: "وكانت فعلت أولى لأن الضمة من الواو" قال: "وقصة بعت في التحويل من فعلت إلى فعلت كقصة قلت من فعلت إلى فعلت". قال: "وكانت فعلت أولى لأن الكسرة من الياء". فإن قيل: لم عزموا على تغيير حركة الفاء إذا انقلوا إليها الحركة؟ قيل: ليدل على تصرف الفعل وليفارق ما ليس بمتصرف كليس إذا قلت: لست، قاله ابن جنى. فإذا الحاصل أن قام وباع أصله الثاني قوم وبيع: "وقد استقرأه ابن جنى من كلام المازني، وهو ظاهر فيه، قال: "وسألت أبا على عن هذا فقال:

نعم، ينقلون فعل كما ينقلون فعلت". يعني النقل من فعل إلى فعل، لا نقل الحركة. ثم اعتذروا عن عدم نقل حركة العين إلى الفاء وهو لم يسند إلى الضمير، بأنهم لو نقلوها إليها لانضمت في قام وانكسرت في باع وبعدها العين ساكنة، فكان يلزم أن يقول: قد قوم زيد، وقد بيع زيد الطعام، إذا كان البائع زيد، وكذلك كان يلزمه أن يقول في طال طول، وفي خاف خيف، فكرهوا أن يلتبس فعل الفاعل بفعل المفعول، قال المازني: "وبعد العرب لا يبالي الالتباس فيقول: قد كيد زيد يفعل، وما زيد زيد يفعل .. ، يريدون كاد وزال"، قال: "وأخبرني الأصمعي أنه سمع من ينشد: وكيد ضباع القف يأكلن جثني ... وكيد خراش يوم ذلك ييتم وأما طال فأصله طول، فلم يحتج إلى نقل حركة العين؛ إذا هي مضمومة، فإذا أسند إلى الضمير نقلت فقيل: طلت. وكذلك هاب وخاف أصلهما: هيب وخوف، فإذا أسندا قيل: خفت وهبت. ثم إنهم فعلوا ذلك في المزيد أيضا نحو: انقاد واختار، بانين على حكم النقل المذكور. وكذلك قالوا في أقوم: أقوم، ثم أقام. فالحاصل أن نقل حركة العين إلى الفاء في الماضي متقررة إلا حيث يقع به اللبس فيترك.

فإن قيل: فعلا لم ينقلوا في كلت طعامي، لأجل اللبس بكلت المبني للمفعول؟ فقال المازني: "إنهم مما يلزمون الإشمام فرقا". قال: "ويفعل هذا من العرب من يقول: /بيع الطعام، ولا يشم حين أمن الالتباس، فيوافق غيره ممن يشم مطلقا إذا خافوا الالتباس". وكل ذلك من الانقلاب ألفا ليس إلا لتحرك العين في الأصل وانفتاح ما قبلها في الحال، وعلته ما ذكر السيرافي، ثم حملوا المضارع من ذلك كله على الماضي، فاعلوا المضارع بإسكان عينه ونقل حركتها إلى الفاء، كما فعلوا في الماضي لمجرد الموافقة قال ابن جني: ولولا إعلال الماضي لم يجب إعلال المضارع؛ ألا ترى أن أصل يقول ويبيع يقول ويبيع، وأصل يخاف ويهاب: يخوف ويهيب، وأصل يطول: يطول، وهذه الصيغ لا توجب إعلاله لجريان الواو والياء إذا سكن ما قبلهما مجرى الصحيح ... فإنما أعلوه إتباعا للماضي لئلا يكون أحدهما صحيحاً

والآخر معتلا، فنقلوا الضمة والكسرة إلى ما قبلهما وأسكنوهما فصار يقول ويبيع ويطول". قال: "فأما يخاف ويهاب فأصلهما يخوف ويهيب، فنقلوا الحركات إلى الفاء فصار يخوف ويهيب، ثم قلبوا الواو والياء ألفين لتحركهما (في الأصل) وانفتاح ما قبلهما الآن، ولأنهما اعتلتا ضرورة في هاب وخاف"، قال: "هذا هو الذي عليه حذاق أهل التصريف". قال: "فأما من ذهب إلى أن يقول ويبيع ونحوهما إنما استثقلت الحركة في الواو والياء فيهما فنقلتا إلى ما قبلهما فسكنتا- فغير معبوء بقوله، لأنهما إذا سكن ما قبلهما جرتا مجرى الصحيح". قال: "وحدثني بعض أصحابنا أن أبا عمر الجرمي- رحمه الله- دخل بغداد، وكان بعض كبار الكوفيين يغشاه ويكثر عليه المسائل، وهو يجيبه، فقال له بعض أصحابه: إن هذا الرجل قد ألح عليك بكثرة المسائل، فلم لا تسأله؟ فلما جاءه قال له: يا أبا فلان، ما الأصل في قم؟ فقال له: أقوم. فقال له: فما الذي عملوا به؟ فقال له: استثقلوا الضمة على الواو فأسكنوها. فقال (له): أخطأت؛ لأن القاف قبلها ساكنة. فلم يعد إليه الرجل بعدها". هذه نبذة يجتزأ بها في التعليل، وتبسط جهة الدعوى، وتبين صحة كلام الناظم، وأن ذلك الاعتراض عنه ساقط، وبالله التوفيق.

ثم قال: ومثل فعل في ذا الاعلال اسم ... ضاهي مضارعا وفيه وسم لما أتم الكلام على حكم الفعل في هذا الإعلال- وقدمه لأنه الأصل، والاسم في الإعلال محمول عليه- أخذ في ذكر ما حمل عليه، وأراد أن الاسم يجرى مجرى الفعل في هذا الإعلال المذكور إذا اجتمع فيه وصفان، أحدهما: أن يضاهى الفعل المضارع، أي: يشابهه. والثاني: أن يكون فيه سمة تفرق بينه وبين الفعل. وقد حصلت هذه الجملة للأسماء ثلاثة أقسام، أحدها: ما اجتمع فيه الشرطان. والثاني: ما ضاهى المضارع ولم تكن له سمة فارقة. والثالث: ما لم يضاه مضارعا (البتة). وبتمام بيانها يتبين بحول الله تعالى مراد الناظم. فأما القسم الأول، فهو الذي ذكره بالتصريح/ وأنه يعتل بهذا الاعتلال المذكور، وهو ما اجتمع فيه الشرطان، الأول: المضاهاة (للمضارع) - ومعنى مضاهاته له: موافقته له في الحركات والسكنات وعدد الحروف، وتوافق أعيان الحركات وأعيان الحروف المزيدة، وجملة ذلك الموافقة في الوزن- هذه (هي) المضاهاة. وأما الوسم فهو عبارة عما يتبين به الاسم عن الفعل، وذلك بمخالفة ما تكون في أول الاسم خاصة، وذلك على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تختلف حركة المزيد أولا مع الموافقة في عين المزيد. والثاني: عكس هذا، وهو أن تختلف الزيادة، فتكون في المضارع أحد حروف أنيت، وفي الاسم الميم، مع الموافقة في عين الحركة. والثالث: أن يقع الاختلاف بالأمرين معا. هذا معنى ما شرط من الوجهين، لكنه لم يبينهما، وإنما أشار إليهما إشارة، وأحال بالبيان على الشيخ، وقليلا ما يفعل مثل هذا؛ إذا عادته في اختصاره الشرح والبيان، ولا عتب عليه في مثل هذا. فإذا اجتمع الشرطان تسلط حكم الإعلال، فمثال ما وافق المضارع فيما عدا حركة الحروف المزيد أولا بناؤك من القول مثل تتفل، تقول: تقول. ومن البيع قول: تبيع- في قول سيبويه- وتبوع في قول أبي الحسن، الذي أختاره الناظم، والأصل: تقول وتبيع، فهذا ونحوه كتقوم الفعل في عين الزيادة وفي عدد الحروف والحركات، لكن خالفه في تعيين الحركة؛ إذ ليس في وزن المضارع تفعل، بضم التاء، فحصلت السمة مع الاتفاق في الوزن، فوجب الإعلال لما خالف لفظ الاسم لفظ الفعل في الوزن، لحصول الفرق بينهما باختلاف الحركة، قال سيبويه في إعلال تقول وتبيع: "لأنه على مثال الفعل ولا يكون فعلا). ومن ذلك أن تبنى مثل تحلى من البيع والقول، تقول: تبيع وتقيل، لأنه مخالف لمثل تبيع من الفعل في عين الحركة، إذ ليس في الأفعال تفعل.

ومثال ما وافقه في الوزن دون الزيادة: مقام، ومعيشة، ومعونة، ومثوبة، ومقيم، ومقام، الاصل: مقوم كأخوف، ومعيش كأبيع، ومعون ومثوب كأقوم، ومقوم كأقوم، ومقوم كأقوم. فقد وازنت هذه الأسماء ونحوها هذه الأفعال إلا في الزيادة أولا؛ إذ هي في المضارع أحد حروف أنيت، وفي هذه الأسماء ميم، وهي لا تزاد (في) صدر المضارع (أصلا). ومثال ما خالف بالوجهين معا بتعين الزيادة والحركة معا قولك: مستقيم، ومستبين، ومستعين، (فهذه) ونحوها على وزان أستقوم، لكن خالفت بأن كانت الزيادة في الاسم ميما مضمومة، وفي الفعل همزة مفتوحة. واعلم أنه يتعلق بكلام الناظم في المضارع هنا مسائل: إحداها: أنه أحال على المضارع في المضاهاة المذكورة، ويريد في الوزن الشائع والقياس المستمر فيه، ولم يبين ذلك، (ولكنه) معلوم من مشهور الاستعمال، فعلى هذا لا يعتبر ما كان فيه من وزن غير شائع ولا كثير الاستعمال، فإذا ما جاء من قولهم: أنت تحب/، أصله: تحبب، غير مراعى، فذلك قلنا في مثل تحلئ من البيع والقول: تبيع وتقيل،

فأعللنا، لأن مثل هذا الوزن في الفعل نادر، وإنما كسروا التاء إتباعا كما كسروا ميم منتن ومغيرة، فمثل هذا لا يراعى لندوره وقتله، فتعل إذا ما جاء على وزنه الآن وإن وافق في عين الزيادة؛ إذ هو محول عن بنائه الأصلي. وهذا بخلاف ما إذا بنيت منهما مثل تفعل، بكسر التاء، فإنك تصحح ولابد، فتقول: تبيع وتقول، لأنه لم يخالف المضارع ولا فيه وسم يخرجه عن وزنه عند من يقول: أنت تعلم وتذهب. وهي لغة شهيرة قاله ابن جنى. وكذلك أيضا لا يراعى ما جاء في المضارع من نحو: أنظور، في قول الشاعر: وأنني حيثما يثنى الهوي بصري ... من حيث ماسلكوا أدنو فأنظور فلا يجرى هذا الحكم في نحو مفعول كمقول ومبيع، وليس الإعلال فيه من هذا، وإنما هو من باب آخر وهو الجريان على الفعل لا مضاهاته.

والمسألة الثانية: أن الناظم لم يقيد المضارع التي تحصل مضاهاته بكون مبنيا للفاعل أو مبنيا للمفعول، فيقتضى أن ما كان من الأسماء يضاهى يفعل على شرط وجود السمة فإنه يعل، فإذا وافقه في الوزن دون تعيين الزيادة أو وافقه في الزيادة دون تعيين حركتها جرى على ما تقدم فتقول: مخاف، لأنه يضاهي يخاف، وكذلك: مقال في بيعه، ومحال على كذا، لأنه مثل يقال ويحال، والعلة في هذا واحدة، لأن خوف الالتباس قد أمن منه فيجب الاعتلال، ولا يقال: إن بنية المفعول عارضة فلا يعتبر فيها ما يعتبر في بنية الفاعل، وإنما تعتبر بنية الفاعل خاصة- لأنا نقول: هي وإن كانت عارضة قد عرض بعروضها من الأسماء أبنية جارية عليه تعد بنية الفعل أصلا بالنسبة إليها، فإذا كانت كذلك فلابد من دخولها تحت هذا الضابط، فعلى هذا إذا بنيت مفعلا من القول والبيع قلت: مقال ومباع، ومن الخوف: مخاف، أصلها: مقول على وزن يقول، ومبيع على وزن يبيع، ومخوف على وزن يخوف، فاعتل للفرق بالميم. وكذلك مستبان ومستعان- اسمي مفعول، واسمي مصدر، أو زمان، أو مكان- وما أشبه ذلك، نص عليه المازني وغيره. المسألة الثالثة: أن المضاهاة المذكورة هنا- وإن لم يبينها على ما يجب- ظاهره في أنها ليست بالجريان على الفعل (وإنما هي ما تقدم ذكره، وهو الذي ذهب إليه عامة البصريين ما عدا المبرد، فإنه إنما اعتبر الجريان على الفعل)

في وجوب الإعلال، فما جرى على الفعل أعل كإعلال الفعل، وما لم يجر على الفعل فقياسه التصحيح، فالذي هو جار على الفعل كاسم الفاعل والمفعول، واسم المصدر والزمان والمكان، فإذا لو بنينا مثل تفعل من القول لقلنا على مذهبه: تقول، ولم يعل. قال السيرافي: قال: لأنه ليس بمصدر جار على فعله. وكذلك لو بنينا اسما على مفعل من تركيب "باب" لقلنا على مذهبه: مبوب، ولم ينبغ أن/ يعل. قال السيرافي: وعنده (أن) ما كان من المصادر جاء على الأصل فهو (غير) محمول على الفعل كمزيد ومكوزة، لم يجيئا على الفعل فصحا. وقد احتج الفارسي عليه بإعلال باب ودار ونحوه؛ ألا ترى أن موجبه كونه على وزن الفعل فقط، وكذلك هذا. فإن قيل: ليس مفعل من أوزان الفعل. قيل: هو على وزنه إلا الزيادة، وهي شبيهة بزيادة الفعل، وإذا وافقه في الزيادة لم يعتل، إذ لم يعلوا: أثؤبا وأدرؤوا، كأنهم فرقوا بينهما إذا اتفقا في الزيادة، فإذا اختلفا أعلوا الاسم حملا على الفعل، وصححوا الاسم إذا وافقه في الزيادة فرقا بينهما. فهذا يدل من كلامهم على أن المخالفة في الزيادة مع مجيئه على وزنه موجب للإعلال كما تقدم. فما ذهب إليه الناظم والجمهور هو الظاهر. المسألة الرابعة: أنه خص لهذه المضاهاة الفعل المضارع دون

الماضي والأمر، أما الماضي فإن كان مزيدا فيه فهو مستغنى عن ذكره؛ إذ المضارع يقوم مقامه، وإن كان غير مزيد فيه فعند الفارسي- وأشار إليه السيرافي- أن الثلاثي كباب ودار موافق لقام وباع، وليس الفعل بأحق من الاسم، فهو في الثلاثي أصل فإذا كان البناء مشتركا حصل الإعلال لكل واحد منهما، ولم يحتج إلى الفرق بينهما لأنه لا يتوهم في المعتل أنه فعل فقط، ولأن التنوين والجر يدخله، فيحصل (الفرق) به بين الاسم والفعل، بخلاف ما في أوله زيادة فإنما هو للفعل لا للاسم؛ إذ الاسم داخل عليه، فأعل الفعل كما يجب له، ثم دخل عليه الاسم، فأريد لذلك الفرق بينهما، فصحح الاسم إن لم يكن الميم في أوله؛ إذ ليس فيه جر ولا تنوين يحصل به الفرق. إلى هذا النحو أشارا معا، وكلام الفارسي أتم، وشرحه ابن جنى في المنصف. وأما فعل الأمر فهو الذي كان من حقه أن يحيل عليه، لأنه معتبر أيضا كالمضارع ويتبين لك ذلك بأنا لو اعتبرنا المضارع فقط لدخل علينا في حكم الإعلال ما يجب تصحيحه عند النحويين؛ فإنك إذا بينت مثل أبلم أو إتمد من البيع والقول لوجب الإعلال، فتقول في مثل أبلم: أبوع، على مذهب الأخفش-

وهو رأيه- وأبيع على قول سيبويه، وأن تقول من القول: أقول على كلا المذهبين. وفي مثل إتمد: إبيع وإقيل. وذلك لأن هذه الأوزان قد وافقت المضارع ذي الهمزة في الوزن ما عدا تعيين الحركة كما تقدم، فمثال إتمد قد وافق أضرب فيما عدا حركة الهمزة، فقد ضاهى المضارع وفيه وسم، فاقتضى أن لابد من الإعلال. وذلك غير صحيح، بل التصحيح هو الذي لابد منه لموافقتها لفعل الأمر الذي على أفعل أو افعل الموافقة الكاملة من غير وسم يفرق بينهما، قال سيبويه: "وإن أردت مثال إتمد قلت: إبيع وإقول، لئلا يكون كإفعل منهما فعلا، وإفعل قبل أن يدركهما الحذف للسكون" قال: "وإن أردت منهما مثال أبلم قلت: أبيع وأقول، لئلا يكونا كأفعل منهما في الفعل قبل أن يحذف ساكنا عن الأصل". هذا ما يدخل عليه، وهو ظاهر الدخول، وقد اعترض عليه في التسهيل بهذا المعنى بعض شيوخ الأندلس. نعم، يدخل له على موافقة غيره ما كان مثل مدهن أو منخر- بكسر الميم- من البيع أو القول، ويكون حكمه الإعلال، فتقول: مبوع- على رأيه- ومبيع على رأي سيبويه، ومقول. وفي مثل منخر: نبيع ومقيل، لأنه قد وافق المضارع في الوزن وخالفه في عين الزيادة وعين الحركة، فصار في ذلك كمستقيم ومستبين، فلا اعتراض عليه بهذا، وإنما يعترض

عليه بالأول، إلا أن يقال: إن عامة الاستعمال في الكلام إنما هو على اعتبار المضارع؛ ألا ترى أن، ما كان موازنا للأمر فيصح لأجل صحة الموازنة غالبه مفروض ولا يوجد منه في الكلام إلا ما يندر إن وجد، فقد يمكن أن يكون عذرا عنه هنا، أو يقال: إن مذهبه مخالفة الناس في الاقتصار على اعتبار المضارع وعدم اعتبار فعل الأمر فهذا ممكن أيضا، لكنه بعيد جدا، والله أعلم. ثم إن عليه دركا آخر، وهو أنه لم يبين أن علامة التأنيث ملغاة في هذه المضاهاة، وسواء في ذلك التاء والألف، فالتاء نحو ما تقدم من معونة ومعيشة ومثوبة ومقيمة وما أشبه ذلك، فهذا لابد (فيه) من الإعلال لتوفر الشرطين، فإن لم يوجد فيه الوسم صح بلا بد كأخونة جمع خوان، وأجوبة، وأسورة، وأهوية. والألف الممدود كما إذا بنيت من البيع مثل مرعزاء فقلت: مبيعاء، فتعل كما تعل الفعل لموافقته في الوزن دون الزيادة. وكذلك إذا بنيت مثله من القول تقول: مقيلاء، وكذلك ما أشبهه. وتقول: أبيناء، وأقوياء، وأغوياء، فلا يعل لموافقة الصدر للفعل من غير سمة. فظهر أن هذا مما يجب التنبيه عليه لاسيما ألف التأنيث لبناء الكلمة عليها، فقد يتوهم خروج ما هي فيه عن هذا الحكم جملة، وليس كذلك، بل فيه وفي الخالي منها. ويمكن أن يكون الناظم سلك في هذا مسلكا غير هذا، وذلك أن التاء منفصلة من الكلمة فلم يعتد بها كما تقدم في موضع آخر، فيجرى ما هي فيه

اعتبار فقدها. وأما الألف فيقول: إنها أخرجت الاسم عن موازنة الفعل جملة فصار الاسم بها على غير أوزان الأفعال نحو مفعال كمشوار ومقوال، وعوار، وما أشبه ذلك مما خرج عن مشاكلة الفعل فصح، كما قالوا في جولان وحيدي ونحوهما من أنه إنما صح لخروجه بالزيادة عن أوزان الأفعال، ويشعر بهذا المنزع أن سيبويه لما بوب على ما خرج عن مشاكلة الفعل وانه يصحح فمثل بفعل وفعال ومفعال، وما أشبه ذلك. ثم قال: ومن ذلك أهوناء وأبنياء وأعيياء. فهذا مما يشعر بأن التصحيح فيه ليس على عدم اعتبار العلامة، وأن الصدر على موازنة الفعل، بل على أنها لبناء الاسم عليها خرجت عن شبه الفعل فصحت كما يصح ما لم يكن/ على وزان الفعل. هذا وإن كان السيرافي في الشرح والفارسي في التذكرة إنما حملاه على اعتبار تمام الموازنة في الصدر، فإن الأظهر من سياق سيبويه أنه ليس كذلك؛ ألا ترى أنه لما تكلم على ما يعل من المشاكل للفعل وما لا يعتل ذكر هنالك ما خلص إلى مشاكلة الفعل وأنه يلزم التصحيح، فلو كان أهوناء عنده من ذلك لذكره كما ذكر فيما يعتل منها ما كان فيه التاء نحو معونة ومعيشة، فكونه لم يذكره إلا فيما خرج عن الوزن المختص بالفعل جملة دال على أنه عنده منه. وقد وجه الفارسي (في التذكرة) قولهم أبيناء، المعل- الذي قال فيه سيبويه:

ليس بالمطرد- بان الذين أعلوا كأنهم إنما فعلوا ذلك لأن الهمزة أخرجته عن شبه الفعل، ألا ترى أن الهمزة لا تلحق الفعل، كما أخرجته الميم من مقال ومباع ونحوه، وكما أخرج الألف والنون في جولان الاسم عن شبه باب ودار، وكما أخرجته الألف في صوري وحيدي عن شبه الفعل. قال: ولم تكن الألف والنون، والألف في صوري، والهمزة في أبيناء مثل الهاء من حيث لم تكن الهاء إلا في تقدير الانفصال بمنزلة الاسم الثاني من الاسمين المضموم أحدهما إلى الآخر. هذا ما قال، فإذا كان قد اعتبار الألف (هنا) من أصل البنية كما اعتبروا الألف والنون كذلك، فليقل إنها أخرجته عن زنة الفعل كما أخرجت الألف والنون، والألف في جولان وصوري، وإلا فالفرق بينهما يضعف، وما ذكر من أنها جعلت في التفرقة كالميم في مقال فهذا لم نر العرب اعتبرت في التفرقة إلا اختلاف أول البناء، إما في حركته، أو في حرفه، أو فيهما، ولم نرهم اعتبروا غير ذلك في هذا الصنف من المزيد فقد يمكن أن يكون الناظم ذهب إلى هذا، ويكون أيضا الألف والنون في هذه المسألة كالألف الممدودة، فقد قالوا: أرونان، وهو عند الفارسي في التذكرة أفعلان من الرون، فصححوا كما ترى لأجل أن الألف والنون أخرجته عن أوزان الأفعال، فهذا قد يذهب إليه ذاهب، وإذا تقرر هذا لم يكن في كلام الناظم إشكال.

وأما القسم الثاني وهو ما ضاهى المضارع ولم يكن له سمة فارقة بينه وبين الفعل فمفهوم الصفة في كلامه أنه لا يعل ذلك الإعلال بل يصح لأنه ذو زيادة كزيادة الفعل وعلى وزنه من غير مخالفة فلابد من تصحيحه، وذلك قولك: هو أقول منك، وأبيع منك، وأحوج، وأضيع، وكذلك: أبيض، وأسود، وأعور، وأحول. وكما إذا بنيت من قال يقول اسما على يفعل أو يفعل أو يفعل، أو من باع يبيع، قلت يقول، ويقول، (ويقول) ويبيع، ويبيع، (ويبيع). وكذلك نحو: أخونة، وأعينة وأدور، وأعين، وأنيب. وكذلك مثال توصية من البيع أو القول، تقول: تبيعة (وتقولة). وقد تقدم (عدم) الاعتداد بالتاء. وقالوا: أبين وإبين، في اسم بلد، وأنشد سيبويه لتميم بن مقبل: بتنا بتدورة يضئ وجوهنا ... دسم السليط على فتيل ذبال

/وقالوا: التتوية للتوبة. (و) قال: لكل دهر (قد) لبست أثؤبا ووجه ذلك كله قد تقدم، وما جاء مما هو على هذا الوصف فأعل (فهو) في الحقيقة منقول من الفعل المعل كيزيد، اسم رجل، أصله مضارع زاد، فصار كباع يبيع، ثم نقل بعد أن لزمه الاعتلال، قال ابن جنى: "وكذلك لو نقلت يبيع يعني فسميت به- لتركته معلا كيزيد" قال: فأما لو ارتجلت اسما على يفعل من باع وزاد لقلت: يبيع ويزيد، فصححتهما ولم تعلهما". قال: "وقد سموا تزيد، بالتاء، قال أبو ذؤيب: يعثرن في حد الظبات كأنما .. كسنت برود بني تزيد الأذرع" كما أن ما جاء غير معل من الأول فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه، نحو: هذا شيء مطيبة للنفس، والشراب مبولة. وحكى أبو زيد:

وقع الصيد في مصيدتنا. وقالوا: كثرة الأكل منومة. وقالوا: مزيد، وهو علم. وقرأ قتادة وابن بريدة أبو السمال: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة} على مفعلة مصححا هكذا. وحكى سيبويه: إن الفكاهة لمقودة إلى الأذى. وقالوا: مكوزة. وليس هذا بأشد من قولهم في الفعل: استحوذ، وأغيلت، وأجود، وأطيب، ونحو ذلك، بل هو في الاسم أقرب، لأن أصله التصحيح (على الجملة). وقد شذ من هذا القسم شيء فأعل، وذلك تحية، أصله تحيية، وهو على وزن تضرب من غير سمة فارقة، فكان حقه أن يجرى فيه ما يجرى في نظائره من الاظهار والإدغام فيقولوا: تحية، وتحيية، كما قالوا: أعيية وأعية، وأحيية وأحية، قال سيبويه: "والإدغام أكثر، والأخرى عربية" لكنهم ألزمها الإدغام فدل على أنه من قبيل الإعلال لا من قبيل الإدغام، فنقلت الحركة من العين إلى الفاء عن طريق الإعلال، فلما سكنت العين-وهي الياء الأولى- أدغمت في الياء، ولم يكن نقل الحركة على هذا لأجل الإدغام، بل كأن الإدغام كان بعد سبق النقل على جهة الإعلال، وقد أجاز المازني في تحية الإظهار حملا على القياس، فلا إشكال على مذهبه.

وأما القسم الثالث وهو ما لم يضاه مضارعا أصلا فضلا عن أن يكون بينهما سمة فارقة، فمفهوم كلام الناظم أيضا التصحيح، إذ لم يكن فيه شيء من ذينك الشرطين، وذلك فعل وفعال نحو: حول وعوار، وفعال نحو: صوام وقوام، ومفعال نحو: مقوال ومشوار، وتفعال نحو: التجوال والتقوال، وأفعال نحو: أقوال وأحوال وأميال وأعيان، وإفعال نحو: إسوار وفعول نحو: قوول وبيوع، وفعول نحو: شيوخ، وفعال نحو: نوار وجواب وهيام، وفعيل نحو: طويل، وفعال نحو: طوال وهيام، وفعال نحو: عيان وخوان وخيار، وفاعول نحو: طاووس وناووس وسايور، وأفعلا نحو: أهوناء وأعيلاء وأبيناء على ما تقرر، ونحو ذلك. هذه ونحوها تصح ولا تعتل، وهي تنقسم ثلاثة أقسام، منها ما صح لسكون ما قبله نحو: حول وأهوناء. ومنها ما صح لسكون ما بعده نحو: قوول وشيوخ ونوار وطوال وخوان. ومنها ما صح لسكون ما قبله وما بعده- قال ابن جنى/: "وهو أبلغ في معناه- نحو: صوام وقوام،

وأميال وأقوال، وما أشبه ذلك، فلو أسكنت هذه الحروف لا لتقى ساكنان فوجب الحذف أو الحركة وزال المثال، فترك ذلك لذلك". ولما كان من الأمثلة المنصوص على إعلالها لحصول شرطي الإعلال فيها ما خرج عن حكم الإعلال فصح ولم يستعمل معتلا، وذلك مفعل، أراد أن ينبه عليه بخصوصه فقال: ومفعل صحح كالمفعال ... وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال والتاا لزم عوض ... وحذفها بالنقل ربما عرض وذلك أن مفعلا مقتضى القاعدة فيه الإعلال وأن تقول في مثل مخيط ومحور ومقول: مخاط، ومحار، ومقال، لموافقته المضارع في الوزن على لغة "أنت تفعل" دون الزيادة، أو لموافقته فعل الأمر في الوزن أيضا دون الزيادة، وقد قال سيبويه "ويتم في أفعل وأفعل؛ لأنهما اسمان، فرقوا بينهما وبين افعل وافعل (من الفعل). قال: "ولو أردت مثل إصبع من قلت وبعت لأتممت، لتفرق بين الاسم والفعل". فإذا كان حقه الإعلال لكنهم صححوه باعتبار أمر آخر نبه عليه الناظم فقال: "ومفعل صحح كالمفعال"،

يعني أن هذا المثال على مفعل- بكسر الميم وفتح العين، من غير ألف- صحح، أي: صححته العرب كما صححت المفعال بالألف، أما المفعال فظاهر وجه تصحيحه، وأما مفعل فغير ظاهر لبادى الرأي، لكن لما شبهه به أشعر هذا بعض إشعار بأن له إليه نسبة في هذا التصحيح، وذلك الحمل عليه، كأنه مقصور من مفعال، فعومل معاملته في التصحيح اعتبارا بذلك، لأنه بمعناه ومرادف له. وإلى هذا المعنى نزع الخليل في التعليل، قال سيبويه: "وسألته- رحمه الله- يعني الخليل- عن مفعل، لأي شيء أتم ولم يجر مجرى افعل؟ فقال: لأن مفعلا إنما هو من مفعال؛ ألا ترى أنهما في الصفة سواء، تقول مطعن ومفساد، فتريد في المفساد من المعنى ما أردت في المطعن. وتقول: المخصف والمفتاح، فتريد بالمخصف من المعنى ما أردت في المفتاح. وقد يعتوران الشيء الواحد نحو مفتح ومفتاح، ومنسج ومنساج، ومقول ومقوال". قال سيبويه: "وإنما أتممت- فيما زعم الخليل، رحمه الله- أنها مقصورة من مفعال أبدا، فمن ثم قالوا: مقول ومكيل". فإلى هذا المعنى أشار الناظم بقوله: كالمفعال، وإلا فالمفعال معلوم أنه لم يجر على المضارع ولم يشاكله ولا غيره فكيف يعتل؟ وقال: صحح. فأحال على السماع ولم يحله على القياس فيقل: صحح، أو يصحح، تنبيها على أن القياس كان مؤديا لإعلاله لوجود شرطيه فيه لولا السماع، وأنه حمل على أنه فرع عما لا يقبل الإعلال لفقدان الشرطين، كما قال: وصح عين فعل وفعلا ...

أي: صح في السماع، ولولاه/ لكان القياس قابلا لإعلاله اعتبارا بتوفر شروط الإعلال. ثم قال: "وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال". أخذ الآن يذكر أسماء كان حقها أن تجرى على الحكم المتقدم من الإعلال بنقل الحركة إلى الساكن قبلها كما كان ذلك في أفعالها، فجرت كذلك، إلا أنه عرض فيها حذف زائد على مجرد ذلك الإعلال، لأن الإفعال مصدر أفعل، والاستفعال مصدر استفعل، وكلاهما مما عينه حرف علة يعتل بنقل الحركة وانقلاب حرف العلة، فذكر أن هذا الإعلال المذكور حاصل في هذين المصدرين، لأنهما في ذلك جاريان مجرى فعليهما كسائر المصادر، لكنك تحذف لهذا الإعلال الألف وتأتي بالتاء عوضا من ذلك المحذوف، أما حذف الألف فلأنك إذا نقلت الحركة إلى الفاء من العين سكنت فانقلبت ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها في اللفظ، كما فعلت بأقام واستقام، فكان مصدرهما في هذا إلى: أقاام واستقاام، هكذا بألفي، فاجتمع ساكنان، فلابد من حذف إحداهما، فيمكن أن تحذف الأولى التي هي عين في الأصل وتترك الثانية التي سيقت لمعنى، ويمكن أن تحذف الثانية- وهي الزائدة- لأنها زائدة، والزائد أولى بالحذف من الأصل، إلا أن الناظم حتم هنا بحذف الألف الزائدة لقوله: "وألف الإفعال واستفعال أزل"، بعين الألف ولم يقل: وعين كذا أزل. وما ذهب إليه هنا جار على مذهب الخليل وسيبويه، فعندهما أن الزائد هو المحذوف. وأما أبو الحسن فزعم أن العين هي المحذوفة والألف الزائدة

باقية غير ذاهبة. وهذان المذهبان مع المذهبين في اسم المفعول متساويان في النقل والاحتجاج والترجيح، وعادة النحويين أن يذكروا ذلك في اسم المفعول ويحيلوا النظر هنا على ذلك الموضع، وذكره الناظم إثر هذا، ولكن نقدم إلى هنا ما لا يكون مختصا بمفعول في الظاهر بل يكون مشتركا فيهما أو أقرب إلى هذا الموضع. وقد احتجوا لما ذهب إليه الناظم بأدلة كثيرة أذكر منها ههنا ثلاثة أدلة: أحدها: أن حذف الزائد أولى من حذف الأصلي وإن كان الزائد لمعنى، والدليل على ذلك أنه متى اجتمع في التصغير أصلي وزائد فالزائد هو المحذوف، كان لمعنى أولا، لأن حذفه لا يخل بأصل التركيب، وحذف الأصلي يخل بأصل التركيب، والمحافظة على الأصول أولى. وقد أجيب عن هذا بأن الغرب بذلك في التصغير قيام بنائه، ومسألتنا من باب الحذف لالتقاء الساكنين، وهو لا يختص بزائد دون أصلى؛ ألا ترى أن المحذوف من نحو مصطفون، و (أنتم الأعلون)، ونحوهما، لالتقاء الساكنين، ما هو من أصل الكلمة، وكذلك قاض وغاز، وذلك كثير فإن قيل: إنما حذف الأصلي ههنا لالتقاء الساكنين لأن الزائد حرف صحيح. فأجاب أبن الضائع (بأنه) قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهو حرف صحيح وأيضا فقد حذف الأصلي وترك الزائد وهو حرف علة كقاضون ومصطفون.

/والثاني: أن التاء لم توجد عوضا عن حرف أصلي، وإنما جاءت عن حرف زائد، ألا ترى أنهم يقولون: زنادقة، فيأتون بالتاء عوضا من ياء زناديق وهي زائدة. وكذلك يقولون: حبيرة، في تصغير حبارى، فيعوض بعضهم التاء وهي عوض من ألف التأنيث، ولم توجد قط التاء عوضا من حرف أصلي، لامن عين ولا من لام، وكذلك (هنا) وجدت التاء في إقامة واستقامة عوضا من محذوف، فإذا قلنا إنها عوض من الزائد كنا قد جرينا على قاعدة ثابتة، وإذا قلنا: إنها عوض من العين كان ذلك دعوة لم تثبت، والمصير إلى ما ثبت أولى من المصير إلى ما لم يثبت، وهذا استدلال ابن أبي الربيع. قال شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار- رحمه الله-: وقد يقدح في هذا الاستدلال أن يقال: قد جاء التعويض من الأصلي في نحو: أرضون. قال وكون العوض غير تاء التأنيث والمعوض منه غير عين لا يضر. يريد أن باب أرضين وسنين وعزين ورقين إنما جمع بالواو والنون عوضا مما حذف منه، وكذلك أرض جمع على أرضين توهما للحذف كما عوضوا مما حذف منه، وكذلك أرض جمع على أرضين توهما للحذف كما عوضوا الهمزة في امرئ من اللام وهي موجودة بعد- لأنهم توهموا حذفها بالتسهيل، فعوضوا منها، فكذلك أرضون، وأبين من هذا أنهم قد عوضوا الهاء نفسها من الأصلي فاء ولاما، فالفاء نحو: عدة،

ولدة، ورقة، واللام نحو: شفة، وشاة، وسنة. وهو كثير، فقد (ثبت) إذا التعويض من القبيلين، وإذا ثبت ذلك لم يكن في التعويض دلالة على أن المحذوف الزائد دون الأصلي. والثالث: أن الساكنين إذا التقيا في كلمة حرك الثاني منهما كرد وانطلق ونحوهما فكما تحرك الثاني كذلك يحذف الثاني، لأن جميع ذلك تغيير لحق لأجل الساكنين، قاله ابن جني وضعف ابن الضائع هذا الاستدلال، قال: لأن هذا حذف، فحمله على ما حذف لالتقاء الساكنين في كلمة أشبه، ولم يحذف إلا الأول كما تقدم. وأما مذهب الأخفش فاحتج له بأمور، والذي يليق ذكره بهذا الموضع ثلاثة أدلة: أحدها: أن العين هي التي لحقها الإعلال في الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل، فهي التي ينبغي أن تعل بالحذف، والحرف الزائد لم يعتل (في الفعل) ولا انقلب عن شيء، فكان تركه وحذف المعتل أولى؛ ألا ترى إلى

قولهم: اتَّقى، أصله: اوتقى، فكما اعتلت الواو بقلبها تاء اعتلت بالحذف فيما أنشده أبو زيد: تقوه أيها الفتيان إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا وأنشده أيضا: قصرت له القبيلة إذ تجهنا ... وما ضاقت بشدته ذراعى قال الفارسي: "لما أعل الفاء بالقلب أعلها بالحذف. فكذلك ما نحن فيه. قال شيخنا الأستاذ رحمه الله: وقد يقدح في هذا الاستدلال بأنها يكفيها من الإعلال ما لحقها من نقل حركتها/ إلى ما قبلها وإسكانها، ولا يلزم مضاعفة الإعلال. والثاني: أن الأول من الساكنين هو الذي يحذف إذا التقيا في كلمة واحدة نحو قل وخف وبع وقاض، وما أشبه ذلك، فكذلك أن يكون المحذوف هنا هو الأول، قاله ابن جنى. قال الأستاذ- رحمه الله-: وقد يقدح في هذا بأنه إنما حذف الأول هنا لا عتلاله وصحة الثاني، وكذلك التنوين في نحو قاض حرف صحيح، وليس أصله أن يحذف لالتقاء الساكنين وإن كان فيه شبه ما

بحروف العلة. وأيضا فإنه سيق للدلالة على معنى التمكن وفي حذفه نقض الغرض. قال: وأيضا فقد يحذف الثاني من الساكنين إذا كانا حرفي علة كما قال أبو الحسن بن الباذش في قراءة حمزة والكسائي {يا زكريا، إنا نبشرك}، بالقصر، بدلالة اجتماعهما على إمالة ألف التأنيث واتفاقهما على امتناع إمالة هذه الألف، فدل ذلك على أن المحذوف من الألفين هو الثاني وأن الباقي هو الأول الذي لا أصل فيه الإمالة. قال: فلما جاء حذف الأول منهما في موضع وحذف الثاني في موضع دار الإمكان بين الثاني والأول في مسألتنا فكان مجملا، ولا يصح الاستبدلال بالمجمل لاحتياجه في بيانه إلى غيره. هذا ما قال الشيخ- رحمه الله- وهو مبني على مذهبهما في المحذوف، لا أنه لازم على كل مذهب؛ إذ قد يخالف أبو الحسن في هذا. والثالث: أن العين قد حذفت في أقم واستقم ونحو ذلك، فكما حذفت في غير هذا الموضع كذلك أيضا يدعى أنها حذفت هنا في الإقامة والاستقامة. وهذا لا يلزم، فقد يقال: إنما ذلك لكون الساكن الثاني حرفا صحيحا وههنا ليس كذلك. ويكفي هذا المقدار. والحاصل ههنا أن الأدلة متكافئة، أو تقارب التكافؤ: وإنما ذهب الناظم هنا إلى مذهب غير الأخفش، وقد ارتضى مذهبه في نحو فعل من البيع لما أذكره بعد إن شاء الله تعالى.

حدثنا شيخنا الأستاذ أبو عبد الله (بن) الفخار- رحمه الله-: أن بعض العلماء كان إذا أتى بعقد إجازة ليشهد فيه على المجيز والمجاز، سأل المجاز عن وزن إجازة وعن تصريف اللفظ، فإن أتى بذلك وضع اسمه في عقد الإجازة، فسأل الأصحاب الأستاذ- رحمه الله- أن يقيد لهم ذلك باختصار فقال: وزن إجازة في الأصل إفعالة، وأصلها إجوازة، فنقلت حركة الواو إلى الجيم حملا على الفعل لا استثقالا، فحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها في اللفظ، فصارت إجاازة، بألفين، فحذفت الألف الثانية عن سيبويه لأنها زائدة، والزائدة أولى بالحذف من الأصلي، وحذفت الألف الأولى عند الأخفش لأنها لا تدل على معنى، (والثانية تدل على معنى) وهو المد، وقول سيبويه أولى، لأنه قد ثبت عوض التاء من المحذوف نحو زنادقة، والتاء زائدة، وتعويض الزائد من الزائد أولى من تعويض الزائد من الأصلي للتناسب، ووزنها في اللفظ عند سيبويه إفعلة، وعند الأخفش إفالة، لأن العين/ عنده محذوفة. انتهى، وإنما أتيت بكلامه هنا، وإن كان قد تقدم معناه، تبركا بكلام أستاذي وأستاذ أساتيذي- رحمه الله تعالى عليه- وبسطا لبعض أمثلة المسألة، وبالله التوفيق.

ثم قال الناظم: "والتا الزم عوض" التا: منصوبة بالزم، وعوض: كذلك منصوب على الحال من التاء، لكنه أتى به في النصب من غير إلحاق بدل التنوين على لغة: وآخذ من كل حي عثم ... يعني أن التاء في الإفعال والاسفعال لازمة عوضا، فتقول: أقام إقامة وأبان إبانة، وأماته الله إماته. وكذلك: أستقام استقامة، واستزاد استزادة وما أشبه ذلك. ومالعوض منه لم يذكره لبيانه، وهو الحرف المحذوف، وهو الألف (على) مذهبه، وذلك لانهم مما يعوضون من المحذوف زائدا كان أو أصليا، فالزائد كمسألته التي في اليد، وكمسألة زنادقة؛ إذا التاء فيه عوض من الياء في زناديق، وكذلك جحاجحة وجحاجيح، وفرازنة وفرازين، والأصلي كمسألة عدة وزنة، حيث عوضوا من الفاء، وسنة وشفة، حيث عوضوا من اللام، وما أشبه ذلك. وقد وقع للفارسي في التذكرة ما يظهر منه أن التاء هنا ليست بعوض، وإنما دخلت لأن شأن التاء أن تدخل في المصادر كثيرا؛ ألا ترى أنها تدخل في كل مصدر أرد به المرة الواحدة، ودخلت في المقاتلة والدحرجة، وفي عدة وصلة، وكذلك في كينونة وقيد ودة ونحو ذلك. ويدل على قوله إجازة الحذف

فتقول: أقام إقاما وقال تعالى: (وإقام الصلاة)، فلو كانت عوضا لم يجز الحذف لما لم يجز في فرازنة وجحاجحة. وللناظم أن يعتذر بأن الحذف قليل فلم يعتد به فكأن التاء ثابتة، وإذا ثبتت ولم تحذف دل على أنها للعوض من المحذوف؛ ألا ترى أنها لا تلحق إذا لم يحذف شيء نحو: إكراما (وإدخالا، ونحو ذلك). ثم قال: "وحذفها بالنقل ربما عرض". ضمير "وحذفها" عائد على التاء و "بالنقل" متعلق باسم فاعل (حال) من ضمير "عرض"، وهو الحذف، يعني أن التاء ربما حذفت في هذه المسألة من الإفعال أو الاستفعال، لكن بالنقل بالقياس، فهو من المسموع الذي لا يقاس عليه، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة). وحكى سيبويه من ذلك: أرى إراء. وحكى غيره أجابه إجابا. ولا أحفظ ذلك على الاستفعال. وهذه المسألة قد تقدمت له في باب المصادر، أعني مسألة لزوم العوض ف الغالب، فيقول القائل: هذا من التكرار الذي لا فائدة له، ألا ترى أنه قد تقدم له قبل هذا قوله.

واستعذ استعاذة ثم أقم ... إقامة، وغالبا ذا التا لزم فذكر أن ما كان معتل العين مما هو على ما أفعل أو استفعل من الأفعال فإن المصدر منه بالتاء غالبا، وكذلك فعل هنا ولم يزد إلا أن التاء عوض خاصة ثم كرر المسألة كلها. فهذا مما يقدح في اختصاره. ويجاب عن هذا/ بان المسألة أتى بها في الموضعين على قصدين مختلفين، فأما الأول من الموضعين فإنه ذكر فيه مجرد الأبنية التي للمصادر، فعرف أن أفعل يكون مصدره على الإفعال إن كان صحيحا، وإن كان معتل العين فيجئ على مثالين، أحدهما هو الغالب في الاستعمال، و (هو) نحو: أقام إقامة، بالتاء، والآخر هو النادر أن يأتي دون تاء نحو: أقام إقاما. وعلى هذا الترتيب أتى بقوله: "واستعذ استعاذة"، أي: مصدر "استعذ" على هذا المثال، وقد يأتي دون التاء، فهذا تعريف بمجرد أبنية. وأما الثاني فقصده فيه التعريف لما يلحق الإفعال والاستفعال من الإعمال إذا كان معتل العين حتى يصير إلى إفعلة واستفعلة عند سيبويه، أو إلى إفالة (واستفالة) عند الأخفش، وما يلحقه من التعويض، وحال التعويض في اللزوم وعدمه. ولا شك أن هذا قصد غير

ذلك القصد، فلأجل توافق محصول القصدين ظهر لبادئ الرأي أنه تكرار، وفي الحقيقة ليس كذلك. وما لإفعال من الحذف ... ومن نقل فمفعول به أيضا قمن نحو مبيع ومصون وندر ... تصحيح ذي الواو وفي اليا اشتهر لما كان "مفعول" مما عينه معتلة ليس بمشاكل للمضارع المشاكلة المذكورة، لكنه جار على فعله الثلاثي في مطلق الإعلال، كما كان "فاعل" كذلك لابد من إعلاله، لم يأت في وجه إعلاله على ما أتى عليه اسم الفاعل والمفعول من غير الثلاثي، بل عرض فيه عارض أخذ يفرده بالذكر؛ إذ لم يدخل له تحت العقد المتقدم، كما أنه ذكر اسم الفاعل من الثلاثي أيضا على حياله، وقد تقدم، إذ لم يكن داخلا تحت ما ذكر هنا، فأخبرك أن ما تقدم للإفعال مصدر أفعل من الإعلال بالحذف والنقل فهذا البناء الذي هو "مفعول" قمن أن يجرى في ذلك الحكم على كماله. ويريد إفعالا المعتل العين: لأنه الذي تقدم له. وإنما قال: "من الحذف ومن نقل" ففسر وجه الإعلال، وقد كان يجزئه أن يقول مثلا: وما لإفعال من الإعلال جرى بمفعول على الكمال، أو ما كان نحو هذا؛ تحرزا من وجه له هنالك لا يجرى هنا، وهو التعويض التاء من المحذوف، فلأجل هذا لم يحل على ما تقدم مطلقا من غير تقييد. وقوله: "فمفعول به أيضا قمن"، أي: خليق، يريد بالمفعول ما كانت عينه ياء أو واوا، ولذلك مثل بقوله: "نحو مبيع ومصون"، فمبيع مفعول من باع الشيء ببيعه فهو مبيع، ومصون من صانه يصونه فهو مصون، فإذا نظرنا إلى

ما تقدم من الإعلال قلنا في هذا: أصله مبيوع ومصوون، او مصوون فمعل بالحمل على فعله بنقل حركة الواو إلى الصاد، فيلتقي ساكنان الواو التي هي عين والواو الزائدة. وأما مبيوع فتنقل/ الحركة إلى الباء فيلتقى ساكنان أيضا، لكن الأول منهما ياء قبلها ضمة، فلابد من أحد أمرين قبل حذفه أحدهما، إما أن تقلب الضمة كسرة لتصح الياء، وإما أن تقلب الياء واوا للضمة قبلها، لكن هذا الثاني لا يصح، لأنه يصير ما عيينه ياء مثل ما عينه واو، فيلتبس أحدهما بالآخر، فرأى المؤلف- على ما ذكر في التسهيل- أن الأولى قلب الضمة كسرة لتصح الياء، فلما كان كذلك التقى ساكنان، فلابد من حذف أحدهما لالتقاء الساكنين، فرأى الناظم رأى الخليل وسيبويه، وهو حذف الزائد، لأنه أخذ بذلك في مسألة الإفعال والاستفعال، والأمر فيهما واحد، ولهذا أحال الحكم عليهما ولم ير مذهب الأخفش القائل بحذف العين وإبقاء الواو الزائدة وعلى مذهب الناظم لا عمل بعد حذف الواو الزائدة في مبيع كما لا عمل في مصون، وأما (على) مذهب الأخفش فلا بد في مبيع من زيادة إعلال، وهو قلب الواو الزائدة ياء لأجل الكسرة، إذا صارت الباء مكسورة بعدها واو، وإذا تقرر هذا فالاحتجاج للمذهبين قد تقدم منه طرف كاف ولكنه رأيت للفارسي في التذكرة كلاما في الاحتجاج للفريقين حسناً في

سياقه يكفي الإتيان به ههنا، ولا أتقلد نصه للخلل النسخة، وإنما أتقلد الإتيان بمعناه، قال: فمما يحتج به للخليل أن الساكنين إذا اجتمعا في كلمة حرك الثاني منهما دون الأول، فكما يحرك الثاني منهما كذلك يحذف الثاني منهما، وكما لا يحرك الأول منهما إذا كانا في كلمة كذلك لا يحذف الأول منهما، وليس الساكنان هنا من كلمتين فيحذف الأول كما يحرك الأول منهما. فيقول أبو الحسن: إن الثاني من الساكنين وإن كان يحرك إذا كانا في كلمة واحدة فإن الثاني لم يجز أن يحذف ههنا كما حرك الثاني، لان الثاني لمعنى، فإذا كان لمعنى لم يحذف؛ ألا ترى أن التاء في تذكر ونحوه لما اجتمعت مع التاء حذفت الثانية ولم تحذف الأولى حيث كان لمعنى، فكذلك الواو هنا لما كان لمعنى لم يحذف ألا ترى أنه لما اجتمع مع ألف فاعل لم تحذف ألف فاعل وأعلت العين بالقلب حيث كان الألف لمعنى، فكذلك الواو حيث كانت لمعنى لم تحذف ألف فاعل وأعلت العين بالحذف كما أعلت بالقلب في فاعل. فيقول الخليل: ليس واو مفعول هنا كألف فاعل، ألا ترى أن ألف فاعل على حرف. فلو حذفتها لم يبق شيء يدل على المعنى، وأنت إذا حذفت الواو من مفعول بقيت إحدى الزيادتين تدل على مفعول، فإذا كان كذلك لم تشبه واو مفعول ألف فاعل، ولم يمتنع حذفها، من حيث امتنع حذف ألف فاعل والتاء الأولى في تذكرون، لأن كل واحدة منهما لا زيادة معها غيرها، فلو حذفتها لم

يبق شيء يدل عليها، وليس كذلك واو مفعول، ومما تفارق به واو مفعول/ ألف فاعل أنه أقرب إلى الطرف من ألف فاعل، وإذا كان أقرب إلى الطرف منها كان الإعلال عليها أقوى وأغلب مما (لم) يقرب من الطرف؛ ألا ترى أن هذه الواو بعينها لما قربت من الطرف لم يعتد بها ولم تجعل فاصلة بين الضمة قبل آخر الاسم والواو حتى كأن الضمة صارت واقعة قبل الواو التي هي لام بغير فاصل، فقلبوا مسنية كما قلبوا أدل، ولو اعتدوا بها لصححوا الواو كما صححوا في دلو ونحوه، وليس هذا في جمع فيقال: إنه من قبل الجمع، ألا ترى أنا جميعا نعل أوائل للقرب ولا نعل طواويس؟ . فيقول أبو الحسن: إن الزيادة التي هي لمعنى وإن كان معها زيادة أخرى فإنهما يجريان مجرى الزيادة الواحدة؛ ألا ترى أن الدلالة على المعنى وقعت بمجموعهما جميعا، فإذا وقع بمجموعهما لم يجز أن يحذف أحدهما كما لم يجز أن تحذف الزيادة الواحدة، إذا وقوع الدلالة على المعنى بهما كوقوع الدلالة بالزيادة الواحدة، فلو جاز أن تحذف إحداهما مع وقوع الدلالة بهما لجاء أن تحذف الأخرى، فإذا لم يجز أن يحذفا كذلك لا يجوز أن تحذف إحداهما؛ ألا ترى أن الزيادتين إذا لحقتا (لمعنى) فحذفت إحداهما حذفت الأخرى

معها نحو سكران إذا رخمته، وزعفران- اسم رجل- إذا رخمته، فكذلك الزيادتان في مفعول لو جاز حذف إحداهما لجاز حذف الأخرى، كما أنه إذا حذفت إحداهما في سكران ونحوه تبعته الأخرى: فيقول الخليل: ليست الزيادة الواحدة المزيدة لمعنى كالزيادتين المزيدتين لمعنى، وإذا جعلنا حكم الزيادة كحكم لأصل في باب الحذف لم يلزمنا أكثر من ذلك؛ ألا ترى أن الحروف التي هي أصول قد يحذف بعضها لدلالة ما يبقى منها عليه، فإذا استجيز ذلك في الأصول كان في الزيادة أجوز، فإن لم يكن أجوز كان مساويا للاصل في هذا، فكما جاز حذف بعض الأصول لدلالة الباقي عليه كذلك يجوز حذف بعض الزيادة، لدلالة الباقي منها عليه ألا ترى أنهم قالوا: اسطاع سطيع، فحذفوا إخدى الزيادتين واستجازوا حذفها كانت الباقية تدل على المحذوفة وهما جميعا زيدا لمعنى، كما أن الميم والواو في مفعول زيدا لمعنى وأما ما ذكرته أنه لو جاز حذف إحداهما لجاز حذف الأخرى كما أنه حيث حذف من مروان ونحوه إحدى الزيادتين حذفت الأخرى، فإن ذلك لا يلزمه لما أريناك في اسطاع، ولمعنى آخر ينفصل به جنسا الزيادتين، وهو أن الزيادتين في مفعول لم تقعا معا، بل وقعتا مفترقتين في تضاعيف الكلمة، ومروان ونحوه وقعا معا طرفا، وإذا وقعتا طرفا كان الحذف أغلب عليهما، إذا كان الطرف موضعا تحذف فيه الأصول في الترخيم والتكسير، ويعل فيه ما يصح في غير الطرف، ألا ترى أن من قال أسيود، لم يقل في جروة ونحوه إلا بالقلب للقرب من الطرف، فإذا كان/ كذلك افترق حكماهما، ألا ترى أنَّ

من حذف ياءي الإضافة (لياء ى الإضافة) لم يحذف الألف من يمان إذا أضاف إليه، وإن كان الألف كإحدى الياءين، وقد زيدا جميعا لمعنى، حيث انفصلت عنها كما انفصلت واو مفعول من ميمه، فالزيادتان في مفعول أشبهه باسطاع يسطيع لاجتماعهما في وقوعهما في الدرج. فإن قال أبو الحسن: قد وجدت الزيادة غير ول لما وقع موقع الأصل حذف الأصل وبقيت الزيادة، وذلك في قولهم: تقى يتقى، فإذا حذفت الفاء مع الزيادة لما كانت الزيادة لمعنى وأثبتت الزيادة مع أن الفاء أقوى من العين وأبعد من الإعلال، فأن تحذف العين دون الزيادة التي هي لمعنى أجدر. قيل: لا يلزم أن تحذف العين من مفعول كما حذفت الفاء من قولهم: يتقى لأن تاء يتقى زيادة فلو حذف وأبقيت كما (الفاء) لم يدل عليها شيء، وليس كذلك واو مفعول؛ ألا ترى أنها إذا حذفت بقيت الميم دالة عليها، وليس في يتقى بعد حذف تاء افتعل شيء يدل عليه، إلى هنا انتهى ما قال، وهو كاف في المسألة. واعلم أن الناظم يلزمه ما ألزمه الأخفش من التناقض في مذهبه، وبيان ذلك أن المازني سأل الأخفش في مبيع حين ادعى أن المحذوف هو العين، قال:

فقلت له: ألا ترى الباء في مبيع بعدها ياء، ولو كانت ولو مفعول كانت مبوع، فقال أنهم لا أسكنوا ياء مبيوع وألقوا حركتها على الباء انضمت الباء وصارت بعدها (ياء) ساكنة، فأبدلت مكان الضمة كسرة للياء التي بعدها، ثم بعد أن ألزمت الباء؛ الكسرة للياء حذفتها فوافقت واو مفعول الباء مكسورة، فانقلبت ياء للكسرة التي قبلها". فهذا قول أبي الحسن على ما نقله المازني. ثم لما قال الأخفش في معيشة: معوشة، قال المازني: "وقوله في (معيشة): معوشة، ترك لقوله في مبيع ومكيل، وقياسه على مبيع ومكيل: معيشة، لأنه زعم أنه حين ألقى حركة عين مفعول على الفاء انضمت الفاء، ثم أبدل مكان الضمة كسرة لأن بعدها ياء ساكنة"، قال: "وكذلك يلزمه في معيشة (هذا، وإلا رجع إلى قول الخليل في مبيع". قال ابن جنى: "إنما كان قياسه عند أبي عثمان معيشة لأن أصلها معيشة) فيجب نقل الضمة إلى العين، ثم تبدل كسرة لتسلم الياء بعدها كما قال أبو الحسن في مبيع: إن الضمة فيه أبدلت كسرة لتسلم الياء بعدها، فيقول معيشة على قول الخليل قياسا على مبيع، وكذلك قياسه على مبيع في فعل من البيع أن يقول بيع كقول الخليل، لأن مبيعاً

ومعيشة وبيعا كل واحد منها واحد لا جمع". قال "فإن كان يقول: معوشة وبوع، فيلزمه أن يقول في مبيع: مبوع، فيخالف العرب أجمعين. وإذا قال: مبيع، فقياسه معيشة وبيع ولا فرق بين المسألتين، لأن مفعولا واحد ما أن مفعلة وفعلا واحد". هذا هو التناقض الذي ألزموه أبا الحسن في مذهبه في الموضعين، فكذلك الناظم- رحمه الله- يلزمه هذا التناقض في مذهبه، لأن الخليل وسيبويه إذا كانا قد قلبا ضمة العين نقلها إلى الياء كسرة لتصح الياء فهما/ على أصلهما في نحو بيع ومعيشة، والناظم ليس على أصله ذلك وإنما يقول: بوع ومعوشة، فكيف يقول هنا بقلب الضمة كسرة في مبيع، بل قياسه أن يقول: مبوع؟ وبهذا ردوا على الأخفش والجواب: أن قلب الضمة كسرة لتصح الياء هنا ليس أيضا على قاعدة سيبويه لأنه (لا) يقلب الضمة كسرة لتصح الياء إلا بشرط أن تكون الياء قريبة من الطرف تليه، وسواء عنده أكان مفردا أم جما نحو بيض وبيع- في فعل من البيع- ولا يعتبر مجرد اللفظ إذا كان مخالفا للأصل، والياء في مسألتنا بعيدة من الطرف اعتبارا بالأرض، كما اعتبر في العواور فلم تهمز الواو، وفي أوائيل إذا مد ضرورة فهمز؛ لأن المسألة تصريفية، والتصريف يراعى فيه الأصل دون مجرد اللفظ. هذا تقرير الأستاذ ابن الفخار شيخنا- رحمه الله- للإشكال في مذهب سيبويه. وإذ كان كذلك فقلب الضمة كسرة في مثل هذا ينبغي أن

يكون مشكلاً على المذهبين معا، إذا المسألة صارت كمسألة موقن وموسر، يجب فيها قلب الياء واوا للضمة لا العكس، وإذا لزم ذلك وكان السماع يخالفه لزم رجوع الجميع إلى نحو واحد مما يمكن، والذي يمكن هنا وجهان: أحدهما: ما نص عليه الأخفش وسيبويه معا من قلب الضمة للياء كما فعلوا في بيض، وإن كانت المسألتان على وجهين مختلفين، فقول سيبويه: "وجعلت الفاء تابعة للياء حين أسكنتها كما جعلتها تابعة في بيض، وكان ذلك أخف عليهم من الواو والضمة فلم يجعلوها تابعة للضمة"، ليس التشبيه فيه على وجه واحد من جهة اختلاف المسألتين بالبعد من الطرف، ولكنه تأنيس، وكذلك كلام أبي الحسن المتقدم هو من هذا النوع، فلا يلزم من قال: مبيع، أن يقول معيشة، ولا من قال معوشة أن يقول: مبوع. والثاني: يقتضيه القياس وإن لم ينصوا عليه، وهو أن حركة العين حذفت ابتداء حذفا ليعتل بالحمل على فعله، ولم تنقل الحركة إليها من العين، فالتقت ثلاثة سواكن، فكسر الأول وهو الباء في مبيع، وحذفت الواو على مذهب سيبويه، أو الياء على مذهب الأخفش. قال ابن الضائع: ونظير ذلك قولهم: قتل، في اقتتل. وذلك أن الإدغام أبدا إذا حذفت حركة المثل الأول وقبله ساكن نقلت إليه، فكان ينبغي أن يقال هنا: قتل، بفتح القاف وقد قالوا ذلك،

فلما التبس في اللفظ بفعل، حذف بعضهم هذه الحركة وينقلها وكسر لالتقاء الساكنين، ذلك نقول هنا على كلام المذهبين: حذفت حركة العين، وكسرت الباء لالتقاء الساكنين وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها في مذهب الأخفش؛ إذا القاعدة أنه لا يحذف حرف العلة لالتقاء الساكنين إلا إذا كانت حركة ما قبله منه، ولذلك لم يجز أن تحذف الياء ولا الواو في نحو: اخشو الله، واخشى الله. أو حذفت الواو في مذهب سيبويه فبقيت الياء على ما ينبغي من كسر ما قبلها. وهذه الطريقة ذكرها ابن الضائع، وخرج عليها مذهب/ الأخفش، وقوى مذهبه بها، وهي مما يتخرج عليها المذهبان معا لما يلزم من الأشكال المذكور، وهي طريقة شيخنا الأستاذ- رحمة الله عليه- ويزول الإشكال عن المذهبين، ويتم به ما صار إليه الناظم هنا، والله أعلم. ثم قال: "وندر/ تصحيح ذي الواو". يعني أن ما كان من مفعول عينه واو لا يكون فيه التصحيح وترك الإعلال إلا نادرا، حكى يعقوب في "الاصلاح" عن الفراء أنه لم يأت مفعول من الواو بالتمام إلا حرفان: مسك مدووف، وثوب مصوون. وإنما كان فيه نادرا جدا لأنه إذا صح اجتمع فيه مع إعلال فعله أنه من الواو، وأنه يجب ضم واوه، وبعدها واو مفعول، فيجتمع واوان وضمة، وذلك ثقيل جدا، بخلاف تصحيح ما عينه ياء نحو: معيوب، فإنه إنما اجتمع فيه واو، وياء، وضمة، وذلك أخف. فإذا كان

الإعلال في ذوات الياء هو القياس، مع أن الياء دون الواو في الثقل، فمفعول من الواو لثقله أحرى ألا يجوز فيه التصحيح. ومن مجئ مدووف في الشعر قوله: والمسك في عنبره مدووف ومن ذلك أيضا قولهم: فرس مقوود وقول مقوول، ورجل معوود. وكلام الناظم طاهر في موافقة الجماعة على أنه ليس بقياس، ومخالفة أبي العباس في قياس التصحيح، قال ابن جنى: "وحكى عن أبي العباس إتمام مفعول من الواو خلافا لاصحابنا كلهم وقال: ليس بأثقل من سرت سووارا، وغرت غوورا، لأن في سوور وغوور واوين وضمتين، وليس في مصوون مع الواوين إلا ضمة واحدة". وقد حكى السيرافي هذا المذهب عن الكسائي، قال: زعم الكسائي أنه سمع ذوات الواو على الأصل: نحو: خاتم مصووغ وأجاز فيه كلهه المجيء على الأصل، قال: ولعل الكسائي سمع هذا من قوم لا يحج سيبويه بمثلهم. وأما قياس أبي العباس فقال الفارسي: "هو خطأ، لأنه يجيز شيئا ينفيه القياس، وهو غير مسموع، فأما سرت سوورا فلو لم يسمع لما قيل، وإن فلو أعلوا في سوور لأسكنوا الواو الأولى وبعدها واو ساكنة فيجب حذف إحداهما، فيصير على وأن فعل، فكرهوا التباس مثال فعول بمفعل، واسم المفعول من فعل وزنه مفعول أبدا نحو: ضرب فهو مضروب، وأمن الالتباس في مصون ومقول فجرى على ما يجب فيه الإعلال". فالظاهر ما عليه الناظم والجماعة.

ثم قال: "وفي ذي اليا اشتهر"، ضمير "اشتهر" عائد على التصحيح المتقدم يعني أن التصحيح في مفعول مما عينه ياء قد اشتهر في السماع وكثر، بخلاف ذي الواو، وإنما اشتهر لخفة الياء مع الواو، على ضد الواو مع الواو. وعلله الفارسي بأن اسم مفعول لما لم يكن كالفعل في كونه على حركات الفعل وسكونه أشبه طويلا وأبيض وأسود وما أشبهه مما لم يجر على الفعل فصح كما صح هذا، ذكر ذلك في التذكرة. وهذه الشهرة في تميم، وكذلك حكاها في التسهيل لغة لبنى تميم، وإنما حكى ذلك سيبويه غير معزو فقال: / "وبعض العرب يخرجه على الأصل فيقول: مخيوط ومبيوع، فشبهوها بصيود وغيور حيث كان بعدها حرف ساكن، ولم تكن بعد الألف فتهمز". قال: "ولا نعلمهم أتموا في الواوات، لأن الواوات أثقل عليهم من الياءات ومناه تفرون إلى الياء فكرهوا اجتماعهما مع الضمة". والذي عزاها إلى تميم المازني قال: "وبنو تميم فيما زعم علماؤنا يتمون مفعولا من الياء فيقولون مبيوع ومعيوب ومسيور به". قال: "وسمعت الأصمعي يقول: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: قد سمعت في شعر العرب: وكأنها تفاحة مطيوبة ...

وقال علقمة بن عبدة: حتى تذكر بيضات وهيجه ... يوم رذاد عليه الدجن مغيوم قال: أخبرني أبو زيد أن تميما تقول ذلك". وأنشد السيرافي لعباس بن مرداس: قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وإ خال أنك سيد معيون وقالوا: طعام مزيوت، ورجل مديون. وهو كثير. ولم يلتزم الناظم القول بالقياس في هذا النوع، بل قال "اشتهر" فيحتمل أن يكون يقفه على السماع لألقيته بالنسبة إلى الإعلال في الباب، ويمكن أن يكون يقيسه لأنه لغة ثابته ولكن ترك التعيين للناظر في المسألة، والله أعلم. وصحح المفعول من نحو عدا ... وأعلل أن لم تتحر الأجودا

هذه مواضع مما صحت فيها الأسماء وإن اعتلت أفعالها، وكان الأصل أن تعتل الأسماء الجارية على أفعالها باعتلالها، إلا أنها خرجت عن هذا الحكم فنبه عليها، فمنها ما يصح في الغالب، ومنها بالعكس، ومنها يجوز فيه الوجهان، وهذا الذي ابتدأ به مما يجوز فيه الوجهان، إلا أنه اعتمد على التصحيح أولا لأنه الأشهر والأجود، ثم استدرك بعد ذلك الوجه المرجوح، وإنما أتى بهما على هذا المساق ليقدم الراجح عنده حتى كأنه مستقل وحده، وإنما أتى بهما على هذا المساق ليقدم الراجح عنده حتى كأنه مستقل وحده، ثم أردت بالوجه الآخر، بقوله: "وصحح المفعول من نحو عدا"، يريد أن اسم المفعول- وهو الجاري على الفعل الموصوف- يصحح في الحكم فلا ينقلب حرف العلة فيه إلى غيره غي الأجود، فالمفعول: يريد به اسم المفعول أي: (صحح بناء المفعول الجاري على هذا الفعل وما أشبهه. وقوله: من نحو عدا، متعلق باسم فاعل محذوف حال من المفعول، أي)، صححه حالة كونه من نحو هذا الفعل الذي هو عدا. وإشارته بعدا ونحوه إلى كل فعل جمع الأوصاف التي في عدا، وهي خمسة: أحدها: كونه ثلاثيا، فإنه إذا كان ثلاثيا فحينئذ يصح، وأما إن كان رباعيا فأكثر فإنه يعتل باعتلال فعله ولا يصح نحو: معطى من أعطى، ومتدانى من تدانى، ومستدنى من استدنى، وما أشبه ذلك، إذ هو في الإعلال هنا جار على فعله لا فرق بينهما لوجود موجب الإعلال، وهو تحرك الياء وانفتاح ما قبلها.

والثاني: أن يكون معتل اللام كعدا، أصله: عدو، فاعتل بقلب واوه ألفا. وتحرز به من أن يكون معتل العين، أو صحيح العين واللام، أما الصحيح فلا كلام فيه إلا أن/ يكون أخره همزة فإنه قد جاء فيه الإعلال نادرا نحو ما حكا ابن الأنباري من قولهم: صحيفة مقرية، يريد: مقروءة، من القراءة. وهذا إنما هو في الحقيقة على لغة من قال في قرأت: قريت. وعلى هذا يجرى مفعول عند من يقول: أخطيت وأبطيت، في أخطأت وأبطأت، إن كان الإبدال عندهم لازما في سائر التصاريف، فلا يكون إذا مما لامه همزة في الحكم، ولا يلزم على هذا من سهل قياسا فقال: مفروة، أن يعل، لأن الهمزة مرادة فكأنها موجودة، وإذا كانت موجودة في الحكم لم يكن فيها إلا التصحيح كالحروف الصحاح. وأما المعتل العين فلابد من اعتلاله، وهو الذي فرغ منه الآن نحو: مبيع ومصون، ومقام، ومستدام ونحو ذلك. والثالث: أن تكون اللام واوا لا ياء، وهو الذي في "عدا"، لأنه من عدا يعدو عدوا: إذا جرى، أو من عدا يعدو عدوانا: إذا ظلم، أو من عداني عنك كذا: أي شغلني، وعدوته: أي صرفته، وعدت العين عن كذا عدوا كرهته. فكل هذا من الواو لا من الياء، فلو كان من الياء اقتضي لزوم الإعلال نحو: بنيته فهو مبنى، اصله مبنوي، فأعل بما تقدم من قلب الواو ياء وإدغامها في الياء، لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكذلك قضيت حقه فهو مقضى، ورميته فهو مرمى، وسقيته فهو مسقى، وما أشبه ذلك.

والرابع أن يكون على فعل- بفعل العين- كعدا، لاعلى فعل بكسرها، فإن كان فعله على فعل فمفهومه الإعلال، وهذا هو المختار عنده في التسهيل إذ قال "فإن كان مفعول من فعل ترجح الإعلال". فتقول في مفعول رضي: مرضى، وفي شقى بكذا: مشقى به. ووجه ما ذهب إليه في هذا الجريان على الفعل في القلب؛ إذ الياء لازمة لفعل وفعل منه أصلا ومغيرا كرضى زيد ورضى عنه، فلا ظهور في الفعل بحال ولذلك قالوا: يرضيان ويشقيان، ولم يظهروا الواو وإن زال موجب قلبها، بخلاف باب "دعوت"؛ إذ ليست الياء إلا في الفعل المغير، وهو فرع، إذا قلت دعى وعدى. إلا أن هذا الاختيار مخالف لما ذهب إليه سيبويه إذا قال في هذا النحو: إن الوجه الواو، قال: "والأخرى عربية لكثيرة". وقال بعد ذلك: "قالوا: مرضى، وإنما أصله الواو. وقالوا: مرضوا، فجاءوا به على الأصل والقياس. ولم يفرق سيبويه ولا غيره بين ما كان من فعل وما كان من فعل في اختيارهم الواو في الجميع فهذا الاختيار مخالف لهم كما ترى، وإنما اجتمع معهم في إجازة الوجهين خاصة. والخامس: أن تصح العين من إعلال اللام، بمعنى أن تكون حرفا صحيحا كعدا، فلا تكون ياء ولا واوا، فإنها إن كانت ياء- ولا يكون ذلك إلا مع كون اللام ياء كذلك إذا ليس في الأفعال (مثل) حيوت، نعم ولا في الاسماء، ومثال ذلك حييت وعييت- فهذا قد تخلف عنه شرطان: هذا،

وكون اللام/ واوا، فلابد في المفعول من الإعلال، فتقول: محيى ومعيى، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فوجب القلب والإدغام كما تقدم. وإن كانت واوا فاللام إما أن تكون ياء أو واوا، فإن كانت ياء فلا بد من الإعلال لتخف شرطين: صحة العين، وكون اللام واوا، فتقول من طويت: مطوى، ومن شويت: مشوى ومن، رويت مروى، أصله: مطووى ومشووى ومرووى، فأعل من الأصل المذكور. وإن كانت واوا فلابد من الإعلال أيضا لوجهين أحدهما: أن الفعل منه على فعل- بكسر العين- فتقول: قوى من القوى، وحوى، من الحوة، فيترجح على رأيه قلب لام المفعول ياء كما ترجح عنده في مرضى ومشقى ونحوهما. والثاني أنك إذا قلت من قوى مقوو، ومن حوى: محوو، اجتمعت ثلاث واوات فكرهوا اجتماعها لما فيها من الثقل، فقلبوا الأخيرة ياء لأنها أقرب إلى الإعلال. فصار: مقووى ومحووى، ففعل بها ما فعل بمطوى ونحوه. وأيضا لما صار مقوو لم يعتدوا بالواو الساكنة المتوسطة بين الواوين لسكونها مع زيادتها فهي حاجز ضعيف، فصارت الواو المتطرفه كأنها بعد الضمة، فدخل في باب أجر وأدل، وانقلبت لواو المتوسطة ياء للكسرة قبلها ولدخولها في باب مطوى قال ابن جنى: "من قال: مغزو لم يقل هنا إلا بالقلب كراهة اجتماع ثلاث واوات إذ أجازوا القلب في معدى فهم بالقلب في مقوى أجدر، ولا يجوز غيره". فإذا اجتمعت الشروط كان التصحيح- كما قال- أولى

نحو: دعاه فهو مدعو، وغزاه فهو مغزو، وتلاه فهو متلو، وهو كثير. (و) وجه التصحيح أن حرف العلة إذا سكن ما قبله جرى مجري الصحيح على الجملة كما في دلو وظبي، فإذا اجتمعت الواو منها مع مثلها فأدغمت فيها قويت بالتشديد فتحصنت عن الإعلال. ثم أتى بالوجه الآخر المرجوح فقال: (وأعلل آن لم تتحر الأجودا). يعني أنه يجوز لك الإعلال إن لم تقصد أجود الوجهين، فإن أجودهما هو التصحيح لم قصد البناء عليه، فمن لم يبن عليه فقد قصد أضعف الوجهين، ومثال ذلك أن تقول في مغزو: مغزى، وفي مدعو: مدعى. ومن ذلك في السماع ما حكاه سيبويه من قولهم: أرض مسنية، أي صار المطر لها كالسانية يقال: المطر يسنو الأرض، وأنشد سيبويه لعبد يغوث بن وقاص الحارثي. وقد علمت عرسي مليلة أنني ... أنا الليث معديا عليه وعاديا وقال الآخر: ما أنا بالجافي ولا المجفى ... أصله: معدو ومجفو، لكنهم قلبوا الواو الثانية ياء لما تقدم من التعليل في مقوى من عدم الاعتبار بالساكن حاجزا، وهو تعليل سيبويه، ثم قلبت الأولى ياء كذلك لاجتماعها مع الياء وسبقها بالسكون، وقد ظهر من هذا إجازته

للقياس/ على ما سمع من ذلك، ألا تراه قال: "وأعلل"، فأجاز له الإعلال ولم يقفه على السماع، وكذلك فعل في التسهيل حيث قال: فوجهان، والتصحيح أكثر". وقد اعترضه شيخنا القاضي- رحمه الله- بأن مفوم قوله: "والتصحيح أكثر" أن الإعلال كثير أيضا؛ إذ لابد في الفاضي والمفضول من المشاركة في الوصف أو تقدير المشاركة، قال: وليس كذلك، بل الإعلال نادر، وعلى هذا السبيل يرد على الناظم الاعتراض، إذ قوله: "إن لم تتحر الأجود"، يفهم منه أن الإعلال جيد أيضا، وليس كذلك؛ إذ هو قليل على ما ذكره شيخنا رحمه الله. ولكن الجواب عن ذلك أن ظاهر كلام سيبويه أنه ليس بنادر، كيف وهو يقول "فالوجه في هذا النحو الواو، والأخرى عربية كثيرة". ذكر ذلك في مغزو وعتو (و) على الجواز قياسا ظاهر كلام المازني أيضا، قال: "فإذا كان مثل عتو واحدا فالوجه فيه إثبات الواو". قال: "والقلب جائز نحو: معدى وعتى". على أن ابن الضائع قد جعل هذا غير مطرد، وهو خلاف ظاهر سيبويه وغيره، وإنما النادر الذي لا يطرد هو الواو في الجمع نحو قولهم: "إنكم لتنظرون في نحو كثيرة". وهو في الشذوذ نحو فتو جمع فتى، إذ هو من الياء، قال جذيمة الأبرش:

ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات في فتو، أنا رابئهم ... من كلام غزوة ماتوا وأنشد في الحماسة للشنفري، وهو ابن أخت تأبط شرا: وفتو هجروا ثم أسروا ... ليلهم، حتى إذ انجاب حلوا وقال أبو دؤاد الأيادي: في فتو حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد على أن ابن خروف قد جعل فتوا من الواو لظهور الواو في فعول فقال: "قوله: وفتو دليل على أن فتوا من الواو، وإن كان- يعني سيبويه- قد ذكر في تثنية المنقوص أنه قلب لضم ما قبله كقضو ورده ابن الضائع، فإذا لا اعتراض على المؤلف هنا ولا في التسهيل في هذه المسألة. كذاك ذا وجهين جا الفعول من ... ذي الواو لام جمع أو فرد يعن

ذا وجهين: منصوب على الحال العامل فيها "جاء" و "من ذي الواو" متعلق باسم فاعل حال من الفعول، أي: حالة كونه من هذا الجنس. و "لام جمع": منصوب على الحال من الواو، والتقدير: جاء الفعول كائنا من الاسم ذي الواو حالة كونها لام جمع أو لام مفرد. أو يكون "لام جمع" ظرفا العامل فيه "بعن"، (أي: يعن) في هذا الموضع أو حال كذلك، أي: يعن الواو كائنا لام جمع أو مفرد. وعن الشيء عننا وعنونا: عرض لك ظهر. ومعنى هذا أن الفعول- بضم الفاء- على وزن القعود جاء فيه وجهان، وهما المذكوران من التصحيح والإعلال، لكن بشرط أن تكون لامه واوا، ولم يشترط/ غير هذا فإن اللام إن كانت ياء فقد تقدم حكمها وأنه لابد من الإعلال نحو: مضى مضيا ورقى رقيا، كذلك فتى إذا جمعته على فعول تقول فيه: فتى. وما جاء من قول جذيمه. في فتو، أنا رابئهم ... من كلال غزوة ماتوا ونحوه، فشاذ، ووجهه ما أشار إليه سيبويه في الفتوة من أنهم غلبوا على الياء حكم الضمة قبلها، والواو الزائدة حاجز غير حصين، فقلبوا الياء واوا، كما فعلوا في: لقضو الرجل. فإن كانت اللام واوا فهو الذي يجوز عنده فيه الوجهان في فعول، وفعول على قسمين كما قال: "لام جمع أو فرد" يعني سواء أكان فعول جمعا أو مفردا، وهي في

الحقيقة ثلاثة أقسام: جمع، واسم غير مصدر، ومصدر، لكنه جمع المصدر وغير المصدر في قوله: "أو فرد" فأما الجمع فنحو عصا وعصي، ودلو ودلى، وعات وعتى، وجاث وجثى. وهي من الواو لقولهم: عصوان، ودلو، وعتا يعتو، وجثايجثو، هذا في الإعلال، والتصحيح نحو ما حكى سيبويه من قول بعض العرب: "إنكم لتنظرون في نحو كثيرة"، و "فتو، على طريفة ابن خروف، والنحو جمع نحو. ووجه الإعلال أن الجمع أثقل من الواحد، فإذا كان الواحد ثقلب فيه الواو إلى الياء في نحو مرضى ومسنى كان الجمع أولى بأن تقلب فيه أيضا، وكذلك شبهوا عصيا ودليا حين ألزمت الواو فيه البدل بأدل وأجر حيث لم يكن بين الضمة والكسرة إلا حرف واحد ساكن. ووجه التصحيح أنه مشبه بصد حيث لم يقلبوا فيه وإن كان مواليا للطرف ومظنة للإعلال، كما شبه الذين قالوا: صيم، بالقلب، بباب عصى. وأيضا جاءوا ونحوه منبهة على الأصل، وليعلم أن ذلك المعل أصله نحو هذا المصحح. وأما المصدر فنحو يجثو (جثوا) وجثيا، وعنا عتوا وعتيا، قال تعالى: {وعتوا عتوا كبيرا}، قال: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} أما التصحيح فهو الأصل، وأما الإعلال فقال سيبويه: "شبهوها حيث كان قبلها حرف مضموم ولم يكن بينهما إلا حرف ساكن بأدل". وقد تقدم مثل هذا التعليل في مفعول.

وأما الاسم غير المصدر فكما بنيت من عدا مثل سدود فإنك تقول على هذا التقدير: عدو، وعدى. وكذلك إذا بنيت ذلك من غزا أو من حبا تقول غزو، وحبو، وحبى. وكذلك ما أشبهه وجهه ذلك ما تقدم. هذا ما ظهر من كلامه إلا أنه منفود من أوجه ثلاثة. أحدها: أنه أجاز الوجهين في الجمع، وذلك ما لا يجوز عند غيره من نحاة البصرة فإن جميعهم يقولون في: نحو: إنه شاذ ونادر، قال سيبويه لما أتى بنحو: "وهذا قليل". وكذلك جعله في التسهيل من القليل غير المقيس، وكذلك جعله السيرافي من الشاذ، وكذلك المازني وغيره. ولم أر من قال خلاف هذا منهم. لا يقال: إن الناظم لم يرتهن في القياس، وإنما قال: "ذا وجهين جا الفعول". وهذا الكلام لا يعطى جريان القياس/ بل هو مجرد نقل، أي: جاء الوجهان عن العرب، ومجيئها عنهم لا يقتضى كثرة من قلة؛ إذ الجميع قد جاء عنهم، فكلامه إذا صحيح. لأنا نقول: (بل) إطلاقه في مجئ الوجهين عن العرب هذا البناء الذي هو فعول مقتض للكثرة، إذ لا يعادل الكثير بالشاذ فلا يقال فيما جاء من الشائع على وجه ثم شذ فيه وجه آخر: إنه ذو وجهين، أو جاء على وجهين. فيه شائعين، فإذا كان كذلك فمخالفة الناظم في هذا في ادعاء القياس أو في النقل عن العرب عدول عن الصواب مع أنه شديد الاتباع للسماع، ومتحر في نقله، ولم يسمع هنا

على الأصل إلا نادرا جدا بحيث لا يحكون منه إلا ما حكى سيبويه من ذلك الحرف وحده. والثاني: أن فعولا المصدر على قسمين، أحدهما: ألا تلحقه التاء نحو ما تقدم التمثيل به، وكلام الناظم فيه صحيح. والثاني: أن تلحقه التاء نحو: الأخوة والأبوة والبنوة، فهذا لا يجوز فيه الإ التصحيح، قال المازني "لا يقلبها من يقول: مسنى وعنى، لأنه قد لازم الإعراب غيرها". فسر ذلك ابن جنى بأنه "لما كان حكم مسنى ألا يقلب مع أنه لا هاء: فيه لأنه واحد، فهو إذا جاءت فيها الهاء لا يجوز فيه غير التصحيح، لأنه الإعراب يجرى عليها". قال: "فإن قلت: فقد قالوا: أرض مسنية، وعيشة مرضية، فقلبوا الواو ياء مع أن بعدها هاء، فهلا قيل على هذا في أبوة وأخوة: أبية وأخية، كما قال في مسنوة ومرضوة: مسنية ومرضية؟ قيل: إن الهاد في مسنية ومرضية إنما دخلت على مسنى ومرضى للتأنيث بعد أن لزم المذكر القلب، فبقى بعد مجئ الهاء بحالته، وأبوة وأخوة لم تلحقهما الهاء بعد أن كان يقال بلا هاء: أخي وأبي، فيلزم أن يقال: أبية وأخية، بل هما مصدران جاءا على فعولة بمنزله الحكومة والخصومة". قال: (فالهاء لازمة في أول أحوال بنائهما على هذه الصيغة، والهاء في "مفعولة" داخلة على مفعول، فهي مفارقة". فإن ثبت هذا فالناظم من حيث أطلق الحكم بجواز الوجهين في فعول مقتض لأن يكون ذو الهاء منها ذا وجهين، وليس كذلك، فكلامه على إطلاقه غير مستقيم.

والثالث: أن هذا الحكم إنما يمشى فيما كان صحيح العين كما ذكر في الأمثلة، فأما إذا كانت العين واوا كما إذا بنيت فعولا من القوة فإنك تقول: قوى. ولا يجوز أن تقول: قوو، كما قلت في مفعول منه: مقوى. والعلة في هذا ما تقدم ذكره، وظاهر كلام الناظم دخول مثل هذا في جواز الوجهين، لأنه لم يشترط إلا كون اللام واوا. وهذا مما اعترض به شيخنا القاضي- رحمه الله- على التسهيل، إذ أطلق أيضا ثمة جواز الوجهين، مع أن مثل أفعول وأفعولة، وفعول وفعولة يجب فيها وجه والأعلال. والجواب عن الأول: أنه يمكن أن يكون ذهب في الجمع مذهب الفراء القائل بجواز التصحيح فيقول: عصو/ وعتو وجثو، في جمع عصا وعاث وجاث، قياسا على ما جاء من ذلك أو قياسا علي ما هو في وزنه من المصادر. ولا شك أن السماع موافق لما زعم الجماعة، هذا وإن كان في التسهيل لم يرتض مذهب الفراء، فقد يميل إليه في بعض الأوقات على حسب ما يؤدي إيه اجتهاده. والجواب عن الثاني والثالث لا أذكره الآن، والظاهر اللزوم. وشاع نحو نيم في نوم ... ونحو نيام شذوذه نمى أتى هنا بجمعين مما عينه واو، وهما فعل وفعال، جاء فيهما الإعلال وكان القياس فيهما التصحيح وأن تقول في نائم: نوم، وفي قائم: قوم، وفي حائل، حول، وفي صائم، صوم. وكذلك ما أشبهه؛ إذ

ليس فيهما موجب الإعلال، فصار كرجل حول، ورجل عوار، وقد تقدم أن مثل هذين البناءين لازم للتصحيح إذا ليسا من أبنية الأفعال ولا مما يشبهها، وقد نص الناس على أن التصحيح هو الوجه والأرجح في هذا، وهو أيضا مفهوم من كلام الناظم لأنه قال: "وشاع نحو نيم في نوم"، فذكر أنه جاء فيه الإعلال كثيرا ولم يلتزم فيه القياس، فدل على أن الباب عنده فيه التصحيح، وما عداه جاء به السماع ولكن للنظر فيه مجال، أيقاس أم لا؟ وأما نيام فقد نص على شذوذه، فهو واضح في أن التصحيح هو الواجب. وقوله: "وشاع نحو نيم في نوم"، أراد أن القلب في نحو نوم مما عينه واو حتى صار إلى نيم شائع في كلام العرب، ومن ذلك ما مثل به فإنه مسموع وقالوا صائم وصيم، قال الأعشى: فبات عذوبا للسماء كأنما ... يوائم رهطا للعروبة صيما وجائع وجيع، أنشد ابن جنى: ومعرض تغلى المراجل تحته ... عجلت طبخه لرهط جيع

وقائل وقيل، وأنشد ابن حبيب: وبرذونة بل البراذين ثغرها ... وقد شربت من آخر الصيف أيلا يروى أيلا، بضم الهمزة، وتأوله الفارسي على أنه جمع آيل، (أي: خائر، أراد اللبن) كحائل وحول. ووجه القلب أنه لما اعتل الواحد وهو صائم وقائم وجائع ونحوه، وجمع، والجمع أثقل من الواحد، وقربت العين من الطرف فأشبهت اللام في عتى جمع عات، قلبت ياء والمجاور للطرف يجرى مجرى الطرف، وقد تقدم من ذلك بعض مواضع؛ ألا ترى أن العين لما بعدت عن الطرف في فعال وجب التصحيح، فتقول: صوام، وقوام، ونوام ولا يقال: ينام، ألا في شذوذ؛ ولذلك قال الناظم: "ونحو نيام شذوذه نمى" يعني: أن الإعلال بالقلب شاذ ولا يقاس عليه، قالوا. وإذا كان صوم مع قرب واوه من الطرف الوجه فيه التصحيح، كان التصحيح إذا تباعدت الواو من الطرف لا يجوز غيره. والشذوذ الذي نبه عليه في نيام قول ذي الرمة. /ألا خيلت مي وقد نام صحبتي ... فما أرق النيام إلا سلامها

وقوله: "ونحو" يدل على أن ثم غير نيام، وذلك صحيح، إذا (قد) حكوا: فلان من صيابة قومه، أي: من صميمهم، قال الفراء: هو في صيابة قومه وصوابة قومه، وقال ذو الرمة: ومستشحجات بالفراق كأنها ... مثاكيل من صيابة النوب نوح وأنشد الجوهري: من معشر كحلت باللؤم أعينهم ... قفد الأكف لئام غير صياب وعلى الناظم في فعل درك، وذلك أن ما ذكر إنما يجرى فيه على فرض كون اللام صحيحة، مثل ما مر من المثل، فأما إن اعتلت اللام فلا، كما إذا جمعت شاو على فعل فإنك تقول: شوى. و (كذلك تقول في) حاو: حوى، و (في) طاو: طوى فتصحح ولا تعل، فتقول: شيا، ولا حيا، ولا طيا، وإن كان ذلك في قول. من قال: صيم ونيم. قال ابن جنى: "لأنك قد أعللت اللام بأن

قلبتها ألفا، فلم يجز إعلال العين واللام جميعا، وهذا مرفوض في كلامهم، لم يجئ منه إلا حرف شاذ نحو شاء وماء". نبه على هذا الاستثناء ابن جنى، وهو صحيح على مقتضى القواعد التصريفية. فو مما فات الناظم هنا، وكذلك فاته في التسهيل أيضا. ولا يقال: إنه يؤخذ له استثناء هذا من قوله قبل هذا: وإن لحرفين ذا الإعلال استحق ... صحح أول .. .. .. .. .. لأنا نقول: إنه خص ذلك بما ذكره من قلب الياء أو الواو ألفا لتحركهما وانفتاح ما قبلهما، ألا ترى إلى قوله هنالك: "وإن لحرفين ذا الأعلال استحق" فأشار بذا إلى ما تقدم له قريبا، فكأنه مشعر باختصاصه بذلك الموضع، وليس كذلك، فهذا أيضا مما يعترض عليه، إذ كان قادرا (على) أن يأتى بها قاعدة تجمع له أحكام مسائل جمة، هذه منها. وهنا انتهى كلامه في إبدال حروف العلة الأربعة بعضها من بعض، وهي. حروف اللين والهمزة، وذكر في أثنائها الميم، وقد تقدم ذكر الهاء. ثم أخذ في ذكر ما بقي منها وهي ثلاثة: التاء والطاء، والدال، فابتدأ بالتاء فقال:

فصل يبدل فيه حرف اللين تاء

فصل ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا ... وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا يعني أن حرف اللين أبدل تاء في بنية الافتعال إذا كان حرف اللين فاء الكلمة ويعني في القياس المطرد. وذو اللين: مبتدأ، خبره أبدل. و "تا" مفعول أبدل الثاني، والأول هو المقام المقام الفعل. وفا: اصله فاء، وهو حال من ذي اللين العامل فيها أبدل، والتقدير: ذو اللين أبدل تاء إذا كان فاء كائنة في افتعال. وقد حصل أن التاء تبدل من حرف اللين قياسا بشرطين: أحدهما: أن يكون حرف اللين فاء الكلمة، تحرزا من أن يكون عينا أو لاما. أما كونه عينا فإنه لم يجئ إبداله أصلا. وأما/ كونه لاما فقد أبدلت التاء منه قليلا، وذلك أخت وبنت، أصله: أخوه وبنوة، فنقلوهما إلى فعل وفعل، ثم أبدلوا من واوهما التاء، وليست التاء فيهما بعلامة تأنيث كما هو مقرر في غير هذا من الكتبت المبسوطة. ومن ذلك هنت، أصله: هذوة، بدليل قولهم: على هنوات شأنها متتابع ففعلوا به ما فعلوا بأخت وبنت. وكذلك كلتا، التاء فيها مبدلة من

الواو، أصلها كلوى على مذهب البصريين غير الجرمى، فأبدلت منها التاء، وهذا إبدالها من الواو، وأما إبدالها من الياء ففي قولهم: ذيت وذيت، وكيت وكيت، أصلها: ذية وكية، فحذفوا الهاء وأبدلوا من الياء التي هي لام التاء. وكذلك التاء في ثنتان، لأنه من ثنيت، لأن الاثنين قد ثنى أحدهما إلى صاحبه. والثاني: أن يكون في بناء الافتعال. ويعني: وما تصرفه منه، لأن ما يلزم في المصدر يلزم في سائر متصرفاته، كالماضي والمضارع والأمر، واسم الفاعل والمفعول، واسم المصدر والزمان والمكان. إلا أنه ترك التنبيه على ذلك اتكالا على فهم المراد. وعلى هذا تكون الفاء التي هي حرف لين تلى تاء الافتعال وتحرز بذلك من الفاء التي ليست في الافتعال فإنها لا تبدل تاء إلا أن يسمع سماعا لا يقبل القياس، فمن ذلك تجاه، وهو فعال من الوجه، وتراث فعال من ورث، وتقية فعيلة من وقيت، ومنه التقوى، أصلها: وقوى، وكذلك التقاة- وليس من هذا المسموع: اتقوا الله، فإنه إبدال في افتعل، فهو من القياس- وتوراة فوعلة من ورى الزند، اصله: وورية، أبدلت الأولى تاء هربا من إبدالها همزة لاجتماعها مع الواو الأخرى. ومثلها تولج عند الخليل، أصله: وولج من الولوج، وأنشد النحويون: متخذا من عضوات تولجا

ومنه تخمة فعلة من الوخامة، وتكأة فعلة من توكأت، وتكلان فعلان من توكلت، وتيقور فيعقول من الوقار، أنشد سيبويه للعجاج. فإن يكن أمسى البلى تيقوري ... وقالوا: رجل تكلة من وكل يكل، واتلجه، أي: اولجه، وضربه حتى أتكأه. وقالوا: التليد والتلاد، من ولد. وتترى فعلى من المواترة، أصلها وترى. وقد كثر السماع في هذا لكنه على غير قياس، لقلتها بالنسبة إلى ما لم تقلب واوه تاء، فلا تقول في وجيه: تجيه، ولا في وزير: تزير، ولا في وافد: تافد، ولا ما كان نحو ذلك. هذا إبدالها من الواو، وأما إبدالها من الياء فلا أعلم له مثالا. فأما إذا اجتمع الشرطان معا فإبدالها واجب ما قال، والفاء عند ذلك قد تكون واو وقد تكون ياء، ولذلك أطلق الناظم القول في حرف اللين، ولم يتعين واوا من ياء. فأما الواو فمثالها: اتزن واتعد واتصف، من الوزن والوعد والوصف، وأنشد ابن جنى: فإن تتعدني أتعدك بمثلها ... وسوف أزيد القافيات القوارصا

/وقال طرفه: وإن القوافي يتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر وقال سحيم: وما دمية من دمى ميسنا ... ن معجبة نظرا واتصافا أراد: ميسان. وهذا كثير جدا. وأما الياء فمثالها: اتبس، من اليبس. واتسر، من اليسر، وأشباه ذلك. والعلة في القلب في هذا الموضع أنهم لو لم يقلبوها تاء لوجب أن يقلبوها إذا انكسر ما قبلها ياء فيقولون: ايتزن، ايتعد، ايتلج، وإذا انضم ما قبلها ردت إلى الواو فقالوا: موتزن، وموتعد، وموتلج، وموتسر، وإذا انفتح ما قبلها قلبت ألفا نحو: ياتعد، وياتزن، وياتسر. فلما كانت مع بقائها على أصلها يتلاعب بها إلى غير مستقر، وكذلك الياء، أرادوا أن يقلبوهما إلى حرف جلد لا يتغير وإن تغيرت الأحوال، فأبدلوهما تاء، وكانت أولى لأنها قريبة المخرج من الواو، لأنها من أصول الثنايا والواو من الشفتين، وأدغموا التاء في تاء الافتعال.

ثم قال: "وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا"، يعني أن ما كانت فاؤه همزة وكان في بنية الافتعال فإنه خارج عن هذا الحكم فلا تبدل الهمزة فيه تاء كما تبدل الواو وغيرها من حروف اللين، فلا تقول في افتعل من الأخذ: اتخذ، ولا في افتعل من الأهل: اتعل يتهل، ولا فيه من الأمر: اتمر، ولا نحو ذلك، ولا من الأكل: اتكلم. وانما تقول: (ايتكل)، كما مثل، وفي مضارعه: ياتكل. وكذلك: مؤتكل ومؤتكل، قال الأعشى: أبلغ يزيد شيبان مألكة ... أباثبيت، أما تنفك تأتكل وما جاء مما كان من هذا فشاذ كما (قال) لا يقال عليه نحو قولهم: اتهل من الأهل واتمن واتزر من الأمانة والإزار، وأنشد ابن الأعرابي: في داره تقسم الأرزاق بينهم ... كأنما أهله منها الئى اتهلا ومن ذلك: اتخذ، عند الزجاج، هو افتعل من الأخذ، وجعله من تخذ يتخذ،

كما قال تعالى: {قال: لو شئت لتخذت عليه أجرا}، كما قرأها ابن كثير وأبو عمر. وإنما نبه على هذا الشذوذ وكان في غنى عنه، لأن الكوفيين يقيسون هذا- فيما نقل عنهم- فيبدلون الهمزة تاء، ويدغمونها في تاء الافتعال، قياسا على ما سمع من ذلك. ووجهه عندهم هو الوجه الذي لأجله أبدلت من الياء والواو، لأن الهمزة تصير بالتسهيل حرف لين، فتصير في التصرف على غير حالة واحدة، إذا لو قلت ايتخذ ياتخذ وموتخذ، لكان مثل: ايتعد يا تعد وموتعد، فأبدلوا الهمزة حرفا جلدا لا يتغير، وهو التاء. فيقول في افتعل من الأكل: اتكل أو من الأمر: اتمر، أو من الأسر: اتسر، أو من الأمل: اتمل، وما أشبه ذلك. والأصح ما ذهب إليه الناظم من كون ذلك بالسماع؛ إذ لم يجئ في كلام فصيح، ولا كثر كثرة يعتبر مثلها في القياس. وأما اتخذ فلا يتعين فيه الإبدال من الهمزة لإمكان كونه مبنيا من تخذ يتخذ، وقال الممزق العبدي: وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرق

/وفي كلام الناظم بعد نظر من أوجه ثلاثة: أحدها: أنه أطلق الحكم بالإبدال في الواو والياء إذا اجتمعت الشروط، فاقتضى بظاهره أن ذلك واجب، إذ لم يأت بلفظ يدل على الجواز، وإطلاق الوجوب غير صحيح؛ إذ للعرب في هذا الإبدال وجهان، أحدهما ما ذكر، والآخر البقاء على الأصل فتقول: ايتعد ياتعد وموتعد (وموتعد)، وايتسر يا تسر وموتسر وكذلك سائر الباب، وسمع الكسائي: الطريق ياتسق وياتسع، أي: يتسق ويتسع، فإذا الوجهان جائزان، وهو على خلاف ما ظهر من كلامه. والثاني: أنه جعل التاء في نحو اتكل بدلا من الهمزة، ألا تراه كيف قال: "وشذ في ذي الهمز" أي: وشذ الإبدال في الهمزة في ذي الهمز. وليس الإبدال كذلك ههنا، بل التاء بدل من حرف اللين المبدل عن الهمزة؛ إذ لا نسبة بين الهمزة والتاء لتباعدهما في المخرج ولذلك لم تبدل التاء من الهمزة في غير هذا الموضع البتة فكيف يقال ببدل التاء من الهمزة؟ وغنما بصحيح ما قاله في التسهيل من أنها قد تبدل من الياء والواو وهما مبدلتان من الهمزة. هذا هو الذي يجرى على القياس، فاتهل أصله: {أتهل، فأبدلت الهمزة ياء لاجتماع ع الهمزتين فصار ايتهل، ثم فعل به ما فعل باتسر. وكذلك متهل أصله: مؤتهل، ثم سهلوا فقالوا: موتهل فصار كموتعد، فجرى على قياسه.

والثالث: أنه أطلق الإبدال في ذي اللين، وذو اللين ثلاثة أحرف: الواو، والياء، والألف، فالواو والياء ظاهر فيهما الإبدال كما ذكر، وأما الألف فخارجة عن هذا؛ إذا لا تبدل التاء من الألف أصلا، وإنما وقع الإبدال من الباقيين. فإن قيل: ما تنكر من أن تكون التاء في ياتعد وياتسر بدلا من الألف فيكون إطلاقه القول في ذي اللين مرادا، فتدخل الألف في هذا الحكم. فالجواب: أن الألف إنما أبدلت من الياء والواو على حد ياجل في يوجل تخفيفا، حين عزموا على استعمال الأصل، وأما في حال الإبدال تاء فلم يبدلوا إلا من الواو والياء؛ إذا لا فائدة في توسيط هذه الرتبة في الإبدال ولا دليل عليها، فليست بمرادة لأنها رتبة تخفيف تلزم الاستعمال، والذين يبدلون لم ينطقوا بالأصل فيميلوا إلى التخفيف، وإذا كان كذلك ثبت أن كلام الناظم معترض. ووجه رابع، وهو أنه مثل بائتكل، وتمثيله به ظاهر في أنه مسموع من العرب أن يقال فيه: اتكلم. وقد أشار ابنه في شرح هذه الأرجوزة إلى أنه لم يسمع ذلك فيه فكان الأحق أن يمثل بما سمع، وقد حكوا من ذلك اتهل، كما تقدم، فكان موافقا لما أرداده في القافية من الإتيان باللام رويا. والجواب عن الأول: أن الإبدال هو الأشهر والأكثر استعمالا، وهي لغة أهل الحجاز التي نزل بها القرآن، ولذلك قال في التسهيل: تبدل في اللغة الفصحى التاء من كذا وأما البقاء على الأصل دون إبدال فلغة ليست في

الشهرة هنالك/، ولذلك قال سيبويه: وأما ناس من العرب فإنهم جعلوا (هذا) بمنزلة واو"، قال: "فجعلوها تابعة حيث كانت ساكنة كسكونها وكانت معتلة، فقالوا: ايتعد، كما قالوا: قيل. وقالوا: ياتعد كما قالوا: قال، وقالوا: موتعد كما قالوا: قول". وإذا كانت قليلة فقد علمت من عادته في هذا النظم الاعتماد على نقل الشهير والأشهر، والبناء على الكثير والأكثر، وجعل ما عداه في حيز الإغفال، وفي جانب الإهمال فهذا من تلك المواضع المعلومة، فليس بملوم في هذا. والجواب عن الثاني: أنه لم يجعل التاء بدلا من الهمزة ولا له في ذلك نص ولا ظاهر إطلاق وإنما قال: "وشذ في ذي الهمزة"، يعني أن الإبدال المذكور شاذ فيما فاؤه همزة، ولا شك أن الإبدال المذكور هو إبدال التاء من الواو والياء، فإذا لم يحصل عنده الإبدال من الهمز البتة وإنما كلامه يقتضى ما نص عليه في التسهيل كأنه يقول: ما أصله الهمز شذ فيه إبدال الواو والياء تاء. وهذا بلا شك يعطى أن الواو والياء هي المبدلة تاء، ويشعر أن أصلهما الهمز، فصار معني الكلام معنى قوله: وقد تبدل التاء منهما وأصلهما الهمز. فلم يكن في كلامه إشكال. والجواب عن الثالث: أنه أطلق القول في ذي اللين علما بأن الألف لا تكون ههنا فتبدل تاء، لأن الألف لا تكون أصلا بنفسها ولاسيما في موضع الفاء، وإنما تكون منقلبة عن واو أو ياء، فاتكل على علم الناظر

في نظمه بهذه القاعدة، فلم يحتج إلى تقريرها، وكان قوله: "ذو اللين" أخصر من أن يقول الواو والياء حكمهما كذا. وهذا ظاهر. والجواب عن الرابع أن يقال: لعله لم يحفظ اتهل، فأتى بمثال على أصله من الهمزبين به النوع الذي شذ فيه الإبدال كأنه قال: وشذ الإبدال فيما كان فاؤه همزة نحو كذا. فإنما مثل في الحقيقة نوع ما شذ فيه الإبدال، فالمثال على هذا التقدير مطابق. وقد تقرر له هنا أن التاء تبدل من حرفين في الحقيقة، من الواو والياء، وترك إبدالها من غير ذلك لشذوذه، فقد أبدلت من خمسة أحرف سوى ما أشار إليه من إبدالها من الهمزة، فهي في الحقيقة مبدلة من ستة أحرف: أحدها: السين، فقالوا: ست، وأصله: سدس، بدليل أسداس، وسديس، والتسديس. ولكنهم قلبوا السين الثانية تاء لتقرب من الدال التي قبلها وهي مع ذلك حرف مهموس، كما أن السين مهموسة، فصار التقدير "سدت"، فلما اجتمعت الدال والتاء وتقاربا في المخرج أبدلوا الدال تاء لاجتماعهما في الهمس، ثم أدغمت التاء في التاء، فصار: "ست". ومن ذلك ما أنشده أحمد بن يحيى: يا قاتل الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات غير أعفاء ولا أكيات ...

أراد: الناس، وأكياس، فأبدلوا السين تاء لاتفاقهما في الهمس والزيادة وتقارب المخرج. والثاني: الصاد، قال بعضهم في لص: لصت، وفي جمعه: لصوت أنشد ابن جنى: /فتركن نهدا عيلا أبناؤها ... وبنى كنانة كاللصوت المرد والثالث بالطاء، قالوا في فسطاط، فستاط، قال ابن جنى: "التاء فيه بدل من الطاء لقولهم في جمعه فساطيط، ولم يقولوا: فساتيط". فالتاء إذا بدل من الطاء لا محالة. والرابع: الدال، قالوا: ناقة تربوت، وأصلها: دربوت، وهي فعلوت من الدربة، أي: هي مذللة، فالتاء بدل من الدال. والخامس: الياء، قال رجل من بني عوف بن سعد: صفقة ذي ذعالت شمل ...

وهو يريد الذعالب. وهذه كلها شواذ. ثم أخذ يذكر حكم الحرف وهو الطاء، والثالث وهو الدال فقال: طاتا افتعال رد إثر مطبق ... في ادان وازدد وادكرد الأبقى طا: منصوب على المفعول الثاني لرد، والأول قوله: تا افتعال. وتعدى رد لاثنين لأن معناه معنى صير في هذا الموضع. وإثر مطبق: ظرف ويعني أن التاء تبدل طاء إذا اجتمع لها شرطان: أحدهما: أن تكون التاء هي التاء الزائدة في بناء الافتعال، يريد: وما تصرف منه. وهذا الشرط يشتمل على شرطين، الأول: أن تكون التاء مع الحرف المطبق في كلمة واحدة، وذلك بان يكون المطبق فاء الافتعال لتقع بعده التاء، فلو كانا في كلمتين لبقي كل واحد منهما على أصله، قال المازني: "وإن كانت التاء منفصلة لم يفعل ذلك نحو: قبض تلك، وغلظ تلك" يريد لا تقول قبض طلك، ولا غلظ طلك، كما تقول: اضطرب واظطهر، لأن للمنفصل نحوا ليس للمتصل، إذا المنفصل غير لازم فلم يعتبر؛ إذا لا يلزم أن يجئ بعد الضاد أو الظاء فيه تاء، لأنك تقول: قبض خالدا، وغلظ هذا، وما أشبه ذلك. والثاني: أن تكون التاء تاء الافتعال لا غيرها، فإنها إن كانت غيرها لم تقلب التاء طاء وإن وقعت إثر مطبق، فتقول: فحصت برجلي، وخبطت ونهضت، ولفظت. فلا

تقلب التاء طاء. هذا هو الأعرف، لأن التاء في الحقيقة من كلمة أخرى وإن كانت متصلة بالكلمة وفي عداد الجزء منها، لكنها ليست كالمتصل الأصلي. وإلى معنى الاتصال يرجع هذا أيضا، ولأجل ذلك أتى الناظم بمثال الافتعال؛ إذ لا يتأتى أن تأتى التاء في الغالب إثر مطبق إلا فيه، فلذلك خص به هذا الحكم، وقد قالوا: فحصط، وخبط ونهضط، وهي لغة قليلة لبعض العرب، قال سيبويه: "وقد شبه بعض العرب ممن ترتضى عربيته هذه الحروف الأربعة: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء في فعلت، بهن في افتعل، لأنه يبنى الفعل على التاء ويغير الفعل فتسكن اللام كما تسكن الفاء في افتعل، ولم يترك الفعل على حاله في الإظهار، فضارعت عندهم افتعل، وذلك قولهم: فحصط برجلي، وحصط عنه، وخبطه، وحفظه .. " قال: "وسمعناهم ينشدون هذا البيت، (وهو) لعلقمة بن عبدة: وفي كل حى خبط بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب /ووجه ذلك ما ذكره سيبويه من اتصال الفاعل بالفعل وجعله معه كالجزء حتى غير له آخره بالتسكين لئلا تتوالى أربع متحركات نحو: ضربت وخرجت، ولم يفعلوا ذلك في ضمير المنصوب نحو: ضربنا، إذ ليس الضمير هنالك مع الفعل كالجزء فلم يعتبر معه توالى الحركات فلما كان كذلك شبهوا التاء بما هي فيه من نفس البنية، وذلك افتعل، فأبدلوا

التاء كما أبدلوها في افتعل، لكن هذه لغة قليلة وقياسها ضعيف، من حيث عوما المنفصل معاملة المتصل، فلذلك لم يبن عليها الناظم واشترط الاتصال المحض، قال سيبويه: "وأعرف اللغتين وأجود ألا تقلبها طاء، لأن هذه التاء علامة الإضمار، وإنما تجئ لمعنى، وليست تلزم هذه التاء الفعل، ألا ترى أنك إذا أضمرت غائبا قلت: فعل، فلم تكن فيه تاء، وليست في الإظهار. فإنما تصرف فعل على هذه المعاني، وليست تثبت على حال واحد، وهي في افتعل لم تدخل على أنها تخرج منه لمعنى ثم تعود لآخر، ولكنه بناء دخلته زيادة لا تفارقه، وتاء الإضمار بمنزلة المنفصل". والشرط الثاني: أن تكون التاء إثر مطبق، وهو على حذف الموصوف، أي: إثر حرف مطبق، والمطبق: ذو الإطباق، وهو من الحروف أربعة: الصاد والضاد، والطاء والظاء ومعنى الإطباق: أنك إذا وضعت لسانك في مواضع هذه الحروف انطبق لسانك من مواضعهن إلى ما حاذى الحنك الأعلى من اللسان ترفعه إلى الحنك، فإذا وضعت لسانك فالصوت محصور فيما بين اللسان والحنك إلى موضع الحروف. وما عدا هذه الحروف فإنما يحضر الصوت إذا وضعت لسانك في مواضعهن. قال سيبويه: "فهذه الأربعة لها موضعان من اللسان". (و) يعني أن الطاء لها موضع الدال وموضع آخر

هو المفسر بالإطباق، وهو فضل صوت الطاء على الدال، ولذلك قال سيبويه: "ولولا الإطباق لصارت الطائف دالا: والصاد سينا، والظاء ذالا، ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس من موضعها غيرها وما عدا هذه الأربعة هي المنفتحة. فإذا تقرر هذا فنقول: إذا كانت التاء قد وقعت إثر حرف مطبق لزم ذلك الحكم من الإبدال، فإن لم يكن قبلها حرف مطبق لم تبدل طاء نحو: اقترب، واغترب، واعتزل، واختصهم، ونحوه. ومثال ما اجتمع فيه الشرطان قولك في الصاد: اصطبر واصطرف. وفي الضاد: اضطرب، واضطجر. وفي الطاء: اطلع واطبع. وفي الظاء: اظعن، واظطلم. وينشد بيت زهير، أنشد بعضه سيبويه: هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفوا ويظلم أحيانا فيظطلم هكذا بالإبدال دون إدغام. والمضارع من هذا والأمر، واسم الفاعل و (اسم) المفعول وغيرها، على حكم واحد، فقد أطلق لفظ الافتعال الذي هو الأصل للجميع، وهو المصدر.

ووجه ما فعلوا من/ هذا أن قصدهم بذلك التقريب بين الحروف التي فيها تقارب وتباعد من جهتين، وذلك أن التاء تقارب حروف الإطباق في المخرج، ولذلك أدغمت التاء في جميعها نحو: (هدمت صوامع)، وضربت ضربة، وجاءت طالبة، وضربت ظالمة. وهي تباعدها في أنها الا إطباق فيهان مع أن الصاد والضاد لا يدغمان فيها، فكرهوا ذلك التباعد مع امتناع الإدغام في البعض بإطلاق، وامتناعه هنا في الثاني. وذلك أنهم كرهوا أن يذهبوا بالإطباق هنا لأنهما في كلمة واحدة مع أن التاء زائدة لو قالوا: متلع في مطلع، الذي أصله: مطتلع، فكرهوا أن يغلب الزائد في ذلك الأصلي، ولذلك أجازوا (في) مثترد قلب الثاني للأول، وكرهوا أيضا إبقاء الإطباق فيلزموا الإطباق حرفا ليس أصله ذلك. وليس حكم ما هو من كلمتين كذلك، لأنه عارض قليل، فأرادوا أن يقلبوا التاء حرفا من مخرجها موافقا لها في الشدة موافقا لتلك في الإطباق، وهو الطاء، فقالوا: مصطبر من الصبر، ومضطرب من الضرب، ومظطلم من الظلم ومطلب من الطلب، فلزم الإدغام في هذا الأخير لاجتماع المثلين والأول منهما ساكن. فإن قيل: ولعل القلب هنا للإدغام لا لمقاربة الحرفين. فالجواب: أنه لو كان كذلك لجاز متلب كما جاز مترد في مثترد، هذا مع أنه لذا لزم قلب التاء طاء من أجل هذه الحروف التي ليست من

مخرجها لتقارب ما بينها للمباعدة التي بينهما في الإطباق، فأن تقلب مع الطاء طاء أحرى بذلك وأقرب. فإن قيل: ظاهر كلام الناظم أن الإبدال طاء هنا لازم، على عادته في إطلاق مثل هذه العبارة، يريد بها الوجوب، لأنه قال: "طاتا افتعال رد" فيظهر أنه حكم واحد يمتنع خلافه. وليس كذلك؛ إذ يجوز في التاء مع هذه الحروف الإبدال الذي عين وإبدال آخر: فأما مع الصاد فتبدلها صادا فتقول ي مصطبر: مصبر، قال سيبويه: "وحدثنا هارون أن بعضهم قرأ: {فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا}. أراد أن يصطلحا. وهي قراءة عاصم الجحدري، ولا يجوز هنا أن يبدل الصاد طاء فتقول: مطبر، لان الصاد لا تدعم فيما ليس من مخرجها لما فيها من امتداد الصوت الصفيري. وأما مع الضاد فيجوز أن تبدلها ضادا فتقول في مضطجع: مضجع، كما يجوز هنا أن تبدل الضاد طاء فتقول مطجع. وجاز هنا مطجع وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد من جهة أن الصغير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. وأما مع الظاء فيجوز إبدالها ظاء فتقول في مضطلم: مظلم، كما قالوا: مصبر، وكما جاز أيضا أن تبدل الظاء طاء فتقول: مطلم وينشد بن بيت زهير: ويظلم أحياناً فيطلم ...

بقلب الظاء طاء، وعليه أنشده سيبويه. ويروى فيظلم، بقلب التاء ظاء. وأما مع الطاء فليس إلا وجه واحد. فترك الناظم هذا كله مع جوازه وشهرته، وقد ذكر ذلك في التسهيل فحصل المسألة تحصيلا حسنا. هذا وجه من النظر/ في كلامه. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه الوجوه المذكورة لا تعد في رتبة ما ذكر، وإنما هي قليلة فلم يذكرها لذلك. والثاني- وهو المعتمد في الجواب-: أن هذه الإبدال إنما هو ثان عما ذكره، فالتاء تبدل طاء على ما تقدم ثم تبدل بعد ذلك. وأيضا أذا أبدلت بعد ذلك فللإدغام لا لمجرد البدل خاصة. ولذلك إذا قرر النحويون مثل ما قرر الناظم قالوا: فمن أراد الإدغام للقرب في المخرج والاتفاق في الإطباق لا قبل ذلك؛ إذ التاء- إذا كانت على أصلها- بعيدة من حروف الإطباق فلم تكن لتدغم فيها إدغام المقارب مع التباعد، ولذلك لا تدغم فيهما الصاد والضاد كما تقدم. وإذا كان كذلك لم يكن بد من تقديم إبدال الطاء، ثم بعد ذلك يتقارب الحرفان، فمن شاء الإدغام أدغم، فيقلب الأول للثاني، أو بالعكس، ولأجل هذا قال في التسهيل بعدما قرر الإبدال المذكور: "وتدغم في

بدلها"- يعني في بدل التاء- الظاء والذال والضاد". ويريد أنك تقول: اطلم، واطجع وادكر. على أنه قد قال: "وقد تجعل- يعني التاء- مثل ما قبلها من ظاء أو ذال أو ضاد أو حرف صغير". وليس الكلام هنا في التسهيل، وإنما أتيت بكلامه تأنيسا بما قاله غيره. ثم قال: "في ادان وازدد وادكر دالا بقى". الضمير في "بقى" عائد إلى التاء المتقدم الذكر، وهو التاء في الافتعال، فيعنى أن التاء المذكورة تبدل دالا في نحو هذه الأمثلة التي هي: ادان، وازدد، وادكر. وهذه الأمثلة أشارت إلى أن موجب الإبدال فيها تقدم الدال والزاي أو الذال على تاء الافتعال، لأن ادان افتعل من الدين: أصله: ادتان، وازدد: افتعل من الزيادة، أصله: ازتد. وادكر: افتعل من الذكر، أصله: اذتكر. وقد حصل من هذا الكلام اشتراط شرطين: أحدهما: أن تقع التاء بعد أحد ثلاثة أحرف، وهي: الدال، والزاي، والذال. فإن وقعت بعد غيرها لم تنقلب دالا، فلا تقول في استلم: اسدلم، ولا في اثترد: اتدرد ولا اظطلم: اظدلم، ولا ما أشبه ذلك، وإن كانت السين

مع الزاي من مخرج واحد والثاء والظاء مع الذال كذلك. وقد أبدلت بعد الجيم لكن قليلا فلذلك لم يذكرها مع الثلاثة كقولهم: اجدمعوا في اجتمعوا. واجدز في اجتز، من جززت، أنشد الكسائي، ونسبه الجوهري ليزيد بن الطثرية، ويقال: بل هو لمضرس: فقلت لصاحبي: لا تحبسانا ... بنزع أصوله، واجدز شيحا والثاني: أن تكون التاء تاء الافتعال. ويلزم من ذلك أن تكون التاء متصلة بالزاي أو الدال من كلمة واحدة، فإن كانتا من كلمتين لم يجز ذلك، فلا تقول في أحرز تالدا: أحرز دالدا. ولا في انبذ تالدا: انبذ دالدا. ولا ما أشبه ذلك وعلى ذلك أيضا لا تقول في حززت: حززد، ولا في حددت: حدد، ولا في نبذت: نبد. وإن لم تكن تاء افتعل لم تبدل أيضا إلا أن يشذ من ذلك شيء نحو: دولج في تولج فإذا توفر الشرطان/ قلت: ادان، من الدين، افتعل منه وازداد، كذا، وادكر، كذا: ادعى من الدعوى، وادرى، من الدراية، قال: وماذا يدرى الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين؟ !

وفي القرآن الكريم: {وادكر بعد أمة}، وفيه: {فهل من مدكر}. وفيه: {وازدادوا تسعا}. وهو كثير. ثم في ادكر في هذه المثل فائدة زائدة على ما تقدم من الاشتراط، وهي أنه أتى بالذال مدغمة في الذال، وذلك أن الأصل كان أن يؤتى بها غير مدغمة فيها فيقول واذدكر، لأن الإدغام ليس من شأنه في هذه المسألة كما لم يذكره في اطلم، واصبر، واطجع. وهم قد أجازوا اذدكر، فكيف يأتى به مدغما؟ قال ابن جنى: قال لي أبو علي: وأجاز بعضهم: اذدكر، لأن تاء افتعل لا يلزم أن يجيء قبلها ذال أبدل، فأشبهت اقتتلوا في البيان. يقول: كما أظهروا اقتتلوا مع تحرك التاءين، لأنه لا يلزم أن يكونن بعد تاء افتعل تاء أخرى نحو: احتلم واغتلم كذلك حال اذدكر، فقلبوا التاء دالا للتقريب، ولم يدغموا، لأنه لا يلزم أن يكون قبل التاء ذال نحو: استلم وابتسم". وحكى المازني:

"اذدكر فهو مذدكر"، قال أبو حكاك: والهرم تذريه اذدراء عجبا ... فإذا كان هكذا فكان من حقه أن يقول: واذدكر. لكن قصد الناظم أن يذكر ما هو الأشهر في الكلام والمعتد في اللغات، ولا شك أن (ما) مثل به من الإدغام هو الوجه الأفصح، وهي لغة القرآن، وقد نص النحويون على أنها الأولى، وإذا كان أشهر من غيره مع حصول المقصود من الإبدال دالا كما تقدم كان اقتصاره على ما اقتصر عليه على ما ينبغي، ووجه ما عملوا من هذا أن الزاي لما كانت حرفا مجهورا (و) كانت التاء مهموسة، والدال أخت التاء في المخرج وأخت الزاي في الجهر، قربوا بعض الصوت من بعض، فأبدلوا من التاء أشبه الحروف من موضعها بالزاي، وهي الدال، فقالوا: ازدجر وكذلك الذال في اذتكر مجهروة، والتاء مهموسة، فأبدلوا التاء دالا لأنها أختها وأخت الذال في الجهر، فقالوا: اذدكر، ثم أبدلوا للإدغام فقالوا: ادكر. وأما ادان فقد يقال: إن الإبدال فيه للإدغام فكيف يدخله في هذا الباب ويجاب عنه بما تقدم في مطلب من أنه لو كان الإبدال للإدغام لقالوا: اتان في ادان، وقد حصل أن الدال إنما تبدل من التاء خاصة. وههنا انتهى ما قصد ذكره من الإبدال القياسي، وماتبعه من غير القياسي.

فصل في الإعلال بالحذف

ثم شرع في الكلام على الإعلال بالحذف فقال: فصل فا أمر او مضارع من كوعد ... احذف، وفي كعدة ذاك اطرد فا أمر أصله: فاء أمر، لكنه حذف إحدى الهمزتين كراهية اجتماعهما وإن كانتا من كلمتين، والمحذوفة هي الثانية في القياس عند طائفة، لأنها التي وقع بها الثقل، والأولى عند طائفة، وهو مثل قراءة أبي عمرو: (جا أمرنا)، و (جا أشراطها). وفا: منصوب باحذف. وقوله: "من كوعد"، الكاف فيه اسم لدخول حرف/ الجر عليها وهو من، فصار مثل قوله، أنشد: سيبويه: وصاليات ككما يؤثفين ... واعلم أن الإعلال بالحذف قليل، ولذلك لا تجده مطردا. إلا في مواضع قليلة، وإنما الغالب وقفه على السماع، إذ لم يكثر كثرة يسوغ

فيها القياس، وأكثر ما تجده في اللام نحو: أخ، وأب، ويد، ودم، وشاة، وشفة، وأمة ويقل في الفاء نحو: رقة، وعدة، وزنة، وجهة. وأقل من ذلك الحذف في العين نحو سه، وشاك، ولاث، وهار، أصله: سته، وشائك، ولائث، وهائر، وكذلك: مذ، أصله: منذ. وأكثر الحروف حذفا حروف اللين الثلاثة، والهمزة، والهاء، والحرف المتصل بمثله. فالألف نحو: علام تفعل؟ والياء نحو: أصاب الناس جهد، ولو تر ما الصبيان؟ والواو نحو عدة وزنة، والهمزة نحو: ترى، ويرى، وأكرم، وبراء في براء، والهاء نحو: شفة، وشاة واست، والحرف المتصل بمثله نحو: ظلت في ظللت، وأحست في أحسست. ولما كان (هذا) الحذف على قسمين، حذف قياسي، (وحذف غير قياسي)، وكان غير القياسي موقوفا على النقل، إنما يتلقى من أهل اللغة، وإنما يتكلم عليه النحوى من حيث التوجيه أو بالعرض، والقياسي هو الذي يعنيه الكلام، تعرض الناظم للكلام على القياسي منه وترك غيره، إلا ما كان له كثرة ما وشهرة، وربنا قيل في مثله بالقياس. وجملة المواضع القياسية في الحذف على ما ذكره هو في التسهيل وغيره حذف فاء المضارع والأمر من نحو ود، وحذفها من المصدر الذي على فعله منه أيضا. وحذف همزة أفعل من المضارع والجاري عليه. وهذه ثلاثة مواضع نص هنا عليها، ورابع تكلم عليه في هذا النظم في باب الوقف، وهو حذف ألف ما الاستفهامية. وهذا في الحقيقة سماع، لكنه مضبوط بقانون مختص به. وزاد في التسهيل حذف عين فيعلولة،

وزاد غيره حذف عين فيعلان وفيعل، وجعله في التسهيل محفوظا. فإذا إنما ترك مما ذكره في التسهيل فيعلولة خاصة، وهو قليل الاستعمال ليس من جلائل المهمات في العربية ذكره، فتركه، وكان أولى منه فيعل لكثرته ودورانه على السنة لو كان عنده قياسا. أما ما يجرى مجرى المقيس فظلت وقرن، وسيذكرهما الناظم ولنرجع إلى لفظه، فقوله: "فا أمر أو مضارع" .. إلى آخره، يعني ان الفعل المضارع وفعل الأمر إذا كانا من الأفعال التي ماضيها من نحو: وعد، حذفت فيهما الفاء وجوبا، وذلك نحو: يعد وعد، ويزن وزن، ويرد ورد، لأنها من وعد ووزن وورد. وكذلك: يسم وسم. أصلها: يوعد واوعد، ويوزن واوزن، وكذلك سائرها، لكن حذفت الواو في الأصل مع الياء التي للمضارعة استثقالا لوقوعها في فعل بين ياء مفتوحة وكسرة إذا قلت: يوعد. أما وقوعها في الفعل فهو ثقيل والاسم أخف منه، ووقوعها بين الياء والكسرة لتجانسهما ومنافرة الواو لهما/ والياء مفتوحة، والفتحة من الألف، والألف قريبة من الياء، ولذلك رجعت الواو إلى الياء إذا وقعت بعد الألف في مصدر الفعل المعل نحو: حالت حيالا، وقامت قياما، وصحت في مثل العوض والحول، كما تقدم قبل ذلك، فصارت هذه الأشياء مظنة للاستثقال عند بقاء الواو، فحذفت، وهذه هي العلة. ثم حمل المضارع ذو الهمزة أو النون أو التاء على ذي الياء وإن لم يكن هناك ياء مفتوحة، لأنهم لو قالوا: أنت توعد، وهو يعد، لاختلف المضارع، فكان

يكون تارة بواو، وتارة دونها، فحافظوا على المجانسة في الفعل ليجرى على أسلوب واحد في أنواع مصرفاته. ومثله حذف همزة يكرم وأكرم الآتى إثر هذا. ثم حمل الأمر على المضارع في هذا الحكم لأنه يجرى عليه في غالب أحكامه لكن هذا الحكم لا يكون إلا بوجود الأوصاف التي نبه عليها بالمثال حيث قال: "من كوعد" فإذا كان المضارع والأمر من الماضي الذي على هذا الوصف ثبت الحكم وإلا فلا يثبت، وجملة الأوصاف التي اشتمل عليها هذا الفعل أربعة: أحدها: أن يكون ثلاثيا لا رباعيا ولا ما فوق ذلك، فإنه إن كان رباعيا أو فوق ذلك ثبتت الواو، فإذا كان الماضي على أفعل نحو: أوعد، قلت في المضارع: يوعد، وفي أورث: يورث. وكذلك الأمر تقول: أوعد وأورث، ونحو ذلك، فلا تحذف البتة، ووجه ذلك وجهان: أحدهما: أن يوعد أصله: يؤوعد مثل يؤكرم، فلما حذفوا الهمزة للعلة التي تذكر بعد إن شاء الله- تعالى- أرادوا ألا يجمعوا على الكلمة حذف الفاء وحذف الهمزة الأولى، بخلاف يعد فإنه لم يحذف منه شيء، فجاز الحذف منه. والثاني: أن مضارع ما زاد على الثلاثة على طريق (واحد) لا يتغير، وليس كذلك مضارع فعل، لأن بابه أن يجيء على يفعل وعلى يفعل وعلى يفعل مع حرف الحلق، فلما لم يلتزم فيه يفعل كان هذا تغييرا حاملا على تغيير آخر، وقد كثر في كلامهم (وجود) التغيير حيث تغيير آخر غيره، كحذفهم ياء فعيلة وفعيلة في النسب باطراد للزوم حذف الهاء، فإذا كانت الكلمة بغير هاء لم تحذف إلا شذوذا وليس بينهما في الثقل زيادة. قال ابن الضائع: ولهذا صار

النحويون يقولون: التغيير يأنس بالتغيير قال: وهو صحيح بالنظر إلى هذا المعنى، ولهذا لم يغير عند سيبويه يوضؤ، لأنهم كرهوا حذفه، لأنه يجئ على طريقة واحدة لا تتغير، ولم يغيروه إلى يفعل لأنه لا يكون مضارعا له كما يكون لفعل. وعلى اعتبار هذا الشرط لو بنيت من الوعد مثل دحرج فقلت وعدد، ثم بنيت المضارع منه لقلت: يوعدد، وفي وزنن: يوزنن. ولا تقول: يعدد، ولا: يزنن- وإن وقعت الواو بين ياء وكسرة- لأمرين، أحدهما: ضم الياء وقد تقدم أن الفتحة لها تأثير ما في الحذف. والثاني: أنك لو حذفت لزال الغرض/ المطلوب من الإلحاق؛ إذ صارت الواو في مقابلة الدال من يدحرج، فلم يكونوا ليخلوا بما قصدوا من الإلحاق. وهذا كما قاله ابن جنى في بناء مثل دحرج من الأخذ إذ تقول في المضارع: يؤخذذ، ولا تحذف الهمزة كما تحذفها في يؤكرم فتقول: يكرم. والثاني: أن تكون فاؤه واوا كما تقدم تمثيله، تحرزا من أن تكون همزة أو ياءا. أما إن كانت همزة فلا تحذفها وإن وقعت بين ياء وكسرة أو لم تقع كذلك، فتقول في مضارع أخذ: يأخذ، وفي مضارع أبق: يأبق. ولا تقول: يخذ، ولا: يبق وكذلك الأمر، فتقول في الأمر من أبق: ايبق، ومن الأمن: ايمن، ومن أفل يأفل: اوفل يا بدر. وكذلك ما أشبهه. إلا أنه شذ من هذا ثلاثة من أفعال الأمر، وهي: خذ، وكل،

ومر، (مع أن المضارع لم تحذف منه، وإنما تقول: يأخذ، ويأكل، ويأمر، فكان الأصل فيها: اؤخذ واؤكل واؤمر) فالتزموا حذف الهمزة التي هي فاء، وسقطت ألف الوصل حين وليها المتحرك. إذا بدأت بها أو وصلتها بغير الواو والفاء، فإن وصلتها بهما فل في مر وجهان: الأثبات، فتقول: وأمر، فأمر- وهو أجود- ولك أن تقول: فمر ومر. وأما خذ وكل فإنما تتركها على حالها من الحذف وهذا شاذ لا يقاس عليه غيره، قال في التسهيل: إلا في الشعر لمكان الضرورة. كقوله: فإن نحن لم ننهض لكم فنبيركم ... فتونا فقودونا إذا بالخزائم وأما إن كانت الفاء ياء فكذلك أيضا لا تحذفها وإن وقعت بين ياء وكسرة، نحو: يعر ييعر. (يسر ييسر، وينع يينع. وذلك لأن الياء أخف عليهم من الواو لقربها من الألف، والواو ليست كذلك، لأنها تحتاج في إخراجها إلى تحريك شفتيك قال سيبويه: فجرى ذلك مجرى تحريم بعض جسدك، والياء مخرجها من وسط الفم والعمل فيها أخفى، وقد جاء فيها الحذف شاذا، حكى سيبويه شذوذا: يئس يئس كيعد، وبها شبهها سيبويه.

والثالث: أن يكون (المضارع) على يفعل- بكسر العين- لأنه إذا كان كذلك تمكن العلة المذكورة، من وقوع الواو بين ياء وكسرة. فلو كان المضارع على يفعل أصلا غير محول لم تحذف. فتقول في مضارع وجل: يوجل. وفي مضارع وحل: يوحل، ولا تحذف. وكذلك إن كان (علي) يفعل- بضم العين- نحو: وضئ يوضؤ، ووقح يوقح؛ قال ابن جني: "سألت أبا علي وقت القراءة عليه فقلت: هلا حذفت الواو من يوطؤ ويوضؤ لوقوعها بين ياء وضمة، على أن الضمة أثقل من الكسرة؟ فقال: إنما جاء هذا تاما ولم تحذف واوه لان باب فعل لا يأتى مضارعه إلا على بناء واحد وهو يفعل، نحو: ظرف يظرف، وشرف يشرف. وما كان على فعل فإن مضارعه يختلف نحو: ضرب يضرب، وقتل يقتل، وسأل يسأل، فلما كان مضارعا مضارع فعل يختلف جاز فيه حذف الواو: نحو: يعد، ولما كان مضارع فعل لا يجئ إلا على يفعل لم تحذف واوه لئلا يختلف". قال: "وقد لوح أبو عثمان إلى هذا المعنى بقوله: فهذا يجرى مجرى ظرف/، أي: لا يختلف كما لا يختلف ظرف يظرف (ووطؤ، يوطؤ) وشرف يشرف، ولكنه لم يخلصه تخليص أبي علي"، قال: "ولمثل هذه المواضع يحتاج مع الكتب إلى الأستاذين". انتهى كلام ابن جني.

"ولمثل هذه المواضع يحتاج مع الكتب إلى الأستاذين". انتهى كلام ابن جنى وزعم ابن عصفور أنه (إنما) لم يحذف يوضؤ ويوطؤ لأن الواو بين ياء وضمة أخف. قال ابن الضائع: وليس كذلك، بل يوضؤ أثقل من يوعد، لو قيل. قال وإنما سببه ما تقدم، وبه علل سيبويه. يعني ما ذكرته عن ابن جنى والفارسي. وقد شذ من هذا قولهم: يجد، في مضارع وجد، فحذفوا فاءه مع كونه على بفعل، (وهي) لغة عامرية، وعليها جاء قول لبيد العامري: لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة ... تدع الصوادي لا يجدن غليلا وكأنهم حملوا هذه اللغة على اللغة الفصحى في الحذف. قال الفارسي في التذكرة: لم يجز أن تصح الواو في يجد كما صحت في يوضؤ، لأن الضم لا يلزم لقولهم: يجد، فإذا كانوا لم يصححوا الواو في يطأ ويسع كما صححوها في يوجل، لأن الفتحة مجتلبة من أجل حرف الحلق، وإن كانوا لم يستعملوا الكسر كما استعملوا الكسر من يعد، فألا يصح من يجد مع استعمالهم نجد أجدر وأولى.

ثم أن هذا الكسر في المضارع تارة (يكون) ملفوظا به، وتارة يكون مقدرا، فا لملفوظ به نحو ما تقدم، والمقدر هو الذي يكون في الأصل كذلك، إلا أنه فتح لعارض اقتضى ذلك، كقولك: بطأ ويسع أصله يوطئ ويوسع، فوقع الإعلال بحذف الواو، ثم فتح لأجل حرف الحلق فقيل: بطأ ويسع، ودليل ذلك أنه لو كان على يفعل في الأصل لم تحذف منه الواو، بل كنت تقول: يوطأ ويوسع، كما قلت: يوجل ويوحل. فإن قيل: إن الماضي منه على فعل، وليس قياسه إلا يفعل فكيف يكون الأصل هنا يفعل؟ فالجواب: أن الخليل جعل هذا مما جاء من المعل على فعل يفعل نحو: ومق يمق، ووثق يثق، وورم يرم، وورث يرث، ووله يله، ووفق يفق، ووحر يحر، ووغر يغر ويوغر- ويوحر أيضا- ووغم يغم ويوغم. فهذا مما يؤنس بمجئ فعل على يفعل، لكنه حرف الحلق إذا جاء لاما تفتح له العين، هذا إذا كان الماضي منه فعل، فإن كان فعل فلا إشكال نحو: وضع يضع، ووقع يقع، وودع يدع وأما يذر فمن هذا أيضا لكن حمل على يدع الذي في معناه؛ إذ ليس لفتح عينه علة سوى ذلك، لان لامه ليست بحرف حلقى. وكذلك عينه، كما كان لنحو قرأ يقرأ وذهب يذهب.

والذي يدخل هذا النوع تحت إشارة الناظم أنه أتى بوعد، ولا شك أن مضارعه على يفعل، فكذلك إذا قيل لك: ما وزن يضع/ مضارع وضع؟ فإنك تقول: يفعل لأنك إما أن تجيبه على الأصل أو على اللفظ، واللفظ ليس بمراد لأنه يعل، والأصل يفعل بالكسر، فلابد أن تجيبه على الأصل فقد دخل في معنى مضارع وعد. والرابع: أن يكون مبنيا للفاعل كوعد، تحرزا من المبنى للمفعول فإنه لا تحذف واوه بل تقول: يوعد ويوزن ويوسم، وذلك لفقد العلة التي لأجلها حذفت في موضع الحذف، وهي وقوع الواو بين ياء وكسرة. قال ابن جنى: "وفيه علة أخرى، وهى أن مضارع فعل لا يكون إلا علي يفعل، فجرى ذلك مجرى شرف في لزوم مضارعة وزنا واحدا، فصحت في يوعد كما صحت في يوطؤ لئلا يختلف الباب". قل "هو منتزع من قول أبي على في يوطؤ ويوضؤ". فإن قيل: قد زعم النحاة أن فعل المفعول ثان عن فعل الفاعل ومغير منه، ولذلك جرى على حكمه في مثل سوير وقوول دون إعلال ولا إدغام كما إذا قلت: ساير وبايع، وقد تقدم في نحو يطأ ويسع ويقع ويدع أن الحركة المنتقل إليها عن الأصل لا تراعي، وأن المراعى هو الحركة الأصيلة، فلهذا وجب الحذف، فكان الواجب على قياس هذا كله أن تحذف واو نحو يوعد، لأن الأصل يعد، وهذا التغيير طارئ عارض.

فالجواب: أن كل مضارع من ثلاثي هو فعل مفعول فإنما يكون على يفعل أبدا لا ينكسر، ولما كان منه ما لا يصح أن يجرى فيه هذا الإعلال لخلوه في الأصل عن موجبه، وذلك مضارع فعل وفعل كيوحل ويوجل، ويوضؤ ويوقح، تقول: هذا مكان يوحل فيه ويوقح فيه، وكان البناء واحدا في الجميع، كرهوا اختلافه بالصحة في بعض (و) الإعلال في بعض، فحملوه محملا واحدا، وطردوا فيه حكم الصحة حملا لما فيه موجب الإعلال علي ما فقد فيه، وآثروا مع ذلك التصحيح على الإعلال لأنه الأصل، قاله ابن عصفور، وهو متنزع من تعليل ابن جنى وراجع إلى معناه. وقد شذ من هذا يذر ويدع في يوذر ويودع، قال الفرزدق: وعض زمان- يا ابن مروان- لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف يروى بضم ياء يدع، وكان الأصل أن يقال: يودع، من ودع (بمعنى ترك) ووجهه الحمل على فعل الفاعل، كأنه اعتبر أنه أصله وأن بناء المفعول عارض، فأبقى، الإعلال بعد التغيير على حاله قبله. وثم شرط خامس مأخوذ من تخصيصه هذا الحكم بالفعل؛ إذ مفهوم قوله: "فا أمر أو مضارع" أن فاء غيرهما غير محذوف وإن وقعت الواو فيه كوقوعها في يعد. وهذا صحيح، فإنك لو بنيت مثل يقطين من وعد لقلت: يوعيد،

أو من وزن لقلت: يوزين، أو من ورد لقلت: يوريد. وكذلك ما أشبه ذلك، فالواو فيها واقعة بين ياء وكسرة كما كانت في يعد كذلك، لكنها لما وقعت في الاسم الذي هو أخف من الفعل ثبتت ولم تحذف، وقد تقدم قبل هذا الأشعار بان كونها في الفعل جزء علة، وأيضا فإن التصريف بالحذف وغيره أمكن في الفعل منه في الاسم، فساغ فيه مالا يسوغ في غيره. وإذا ثبتت مع الياء والكسرة كان ثبوتها مع غيرها من الحروف/ الأخر أجدر، وهي الهمزة والنون والتاء، فالهمزة كما إذا بنيت مثل أصبح من الوعد بإنك تقول: أوعد، ومن الوزن: أوزن، أو مثل نرجس فإنك تقول: نوعد ونوزن. وكذلك التوصية والتودية والتوسعة. وهذا ظاهر. ثم يبقى على الناظم توهم شرط سادس ظاهر من تمثيله، مع أنه غير مراده، وذلك كون الماضي على فعل، بفتح العين، فإنه يوهم أنه يتحرز به من مضارع فعل إن كان على يفعل، فيكون نحو: وثق يثق، شاذا وعلى غير قياس. وليس بصحيح، بل كان ما كان على يفعل- كان ماضيه فعل أو فعل- فالحذف له لارم قياسا، ولا خلاف في هذا أعلمه. وأخذ هذا الشرط أظهر من أخذ كون المضارع على يفعل، لأن هذا بالنص لقوله: "كوعد" وذلك باللزوم، إذا كان مضارع وعد يعد، فهذا من التمثيل الموقع في الإشكال. ويجاب عنه بأن قصده إلى الأمر والمضارع يدخل له نحو: وثق يثق، وذلك أن المضارع من وعد على يفعل، فقد دخل له ما كان مضارعه من الأفعال على هذا الوزن. وأما كونه على فعل فيدل على إهماله من

كلامه كون المضارع على يفعل؛ فإن فعل المفتوح العين غير مخصوص بيفعل، بل مضارعه يأتي على يفعل وعلى يفعل، فلو كان كون الماضي (على) فعل مشترطا لكان مناقضا لاشتراط كون مضارعه على يفعل. وأيضا لا معنى لاستراط كون الماضي على فعل إذا كان المقصود المضارع والأمر المحمول عليه، فإذا قد ظهر من كلامه سقوط اعتبار هذا المعنى. ثم قال: "وفي كعدة ذاك اطرد". ذاك: إشارة إلى حذف الفاء، والحذف لم يذكره نصا، وإنما ذكر الفعل المفهوم منه الحذف وهو قوله: احذف". فأشار إلى مدلول عليه كما يعاد الضمير عل مدلول عليه بغيره، كقوله تعالى: {وإن تشكروا يرضه لكم}. ومنه قوله: إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف وكان "كعدة" اسم أيضا كقوله: "من كوعد"، ويريد أن عدة الذي هو مصدر وعد المذكور وما كان مثله وعلى وزانه يجرى فيه من الحذف المذكور ما جري في فعله. وقد اشتمل هذا العقد على التنبيه على أوصاف عدة الذي يلزمه ذلك الحكم، وذلك وصفان: أحدهما: كونه مصدرا، لأن عدة مصدر وعد يعد عدة، فكل ما كان مصدرا مثله فهو مثله في الحذف كقوله: وعد عدة، ووزن زنة، ووسم سمه،

وومق مقة، ووثق ثقة، ووصل صلة، وما أشبه ذلك، كأنهم استثقلوا وعدة ووزنة، فألزموها الحذف. وأيضا إذا كانوا يستثقلون الواو بين ياء وكسرة في الفعل والواو ساكنة، كانوا للواو عند كسرها نفسها أشد استثقالا، فحولوا كسرتها على ما بعدها وألزموها الحذف، لأنهم إن أثبتوها بعد أن سلبوها حركتها احتاجوا إلى ألف الوصل، من حيث كانت ساكنة معرضة للابتداء بها، ولا يبتدأ بساكن. ولو جاءوا بألف الوصل- وهي مكسورة- لزمهم قلب الواء ياء لأحل الكسرة قبلها، فكانوا يقولون ايعدا أو ايعدة، فتجتمع كسرتان بينهما ياء ساكنة، فكان يجتمع ما يستثقلون، فحذفوا لذلك. وأيضا لما كان المصدر قد يعتل لاعتلال/ فعله، كما تقدم في الإقامة والاستقامة، وقيام وصيام، أعل هذا أيضا لاعتلال فعله. فالجواب عندهم: أن مصادر الثلاثي لما (لم) تلزم طريقة واحدة كمصادر ما زاد على ثلاثة لم يلتزم فيه الإعلال (لاعتلال) فعله، لكنه (إذا) اقترن به ثقل ما وأمكن فيه إعلال لا يلبس أعلوه، كما فعلو في

القيام ونحوه. وكذلك فعلوا في عدة لما كسروا الواو، وهي مستثقلة كما تقدم، أعلوا بإلقاء حركتها على الساكن بعدها وحذفوها، كما حذفوها في الفعل، فقالوا: عدة وزنه، وصار بقاء الكسرة دليلا عليها. فإن لم يكن مصدرا لم يحذف هذا الحذف، وذلك نحو: وجهة من نحو قوله تعالى: {ولكل وجهة هو موليها}، وهي بمعنى الجهة. وحمله المازني على أنه اسم المكان المتوجه إليه، وعلى ذلك حمله الفارسي في التذكرة والإيضاح، قال في الإيضاح: "ومن جعلها التوجه كان شاذا كشذوذ القصوى والقود ونحو ذلك". قال: "وهذا في المصدر أبعد لإجرائهم إياه مجرى الفعل، والفعل لم يصح في هذا النحو" يعني فكذلك ينبغي ألا يصح المصدر. ومذهب سيبويه- فيما يظهر منه- أنه من المصادر، وأنه جاء شاذا. وعلى هذا أيضا إن جاء الحذف في غير المصدر فشاذ أو مؤول بأنه مصدر في الأصل، وذلك نحو: "الرقة للورق، واللدة على مذهب المؤلف في التسهيل، وذكر غيره أنه مصدر وصف به" والظاهر عدم ذلك بدليل جمعه على لدون، والمصدر الموصوف به بابه ألا يجمع. والوصف الثاني: كون ذلك المصدر على فعلة- بكسر الفاء ولزوم التاء- كما تقدم من الأمثلة. وقد اشتمل هذا الوزن على ثلاثة أمور: أحدها: كسر الفاء، تحرزا من أن تكون مفتوحة أو مضمومة، فإن كانت مفتوحة لم يحذف شيء كقولك: وعد وعدا، ووزن وزنا، ووجد وجدا، ووفد وفدا،

ونحو ذلك. وكذلك إن كانت مضمومة نحو: وجد وجدا، من قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم}. وقد تقدمت الإشارة إلى اختصاص هذا الحكم بالكسر دون غيره، من استثقالهم الكسر في الواو مع الإعلال في الفعل، وأيضا لما كان للكسر تأثير في الإعلال في الفعل دون الضم أرادوا أن يكون ذلك في المصدر- أيضا- (و) علل سيبويه بأنه إنما فعلوا ذلك بها مكسورة كما يفعل بها في الفعل وبعدها الكسرة، قال: "فبذلك شبهت". فعلى هذا ما جاء من صلة في صلة أصله وصلة، لكنهم أعلوا كما أعلوا في المكسور الفاء، فحمل على اللغة الفاشية. وكذلك ما جاء من نحو: قحة في قحة، وضعة، في ضعة، فإعلالهم الفاء بالحذف ونقل الحركة مع أنه غير مكسور العين شاذ لا يقاس عليه، وهذا على ما ذهب إليه غير المبرد في هذين المصدرين من (أن) الأصل فيهما فعل- بفتح العين- فأعلا، من باب حمل بعض اللغات على بعض، كما قالوا: يجد في يجد، وصلة في/ صلة. وكذلك قولهم: سعة وجعة ونحو ذلك إنما أعل بالحمل على المكسور. والثاني: لحاق التاء عوضا من ذلك الحذف كما في عدة الممثل به على رأي الجمهور، خلافا لما رآه الفارسي من كونها غير عوض، بدليل

أنها لو كانت عوضا لم تثبت مع المعوض منه في وجهة. وجوابه به ظاهر وذلك لازم فيه كما هو لازم في عدة، فلا يجوز أن يقال: وعد عدا، ولا وزن زنا، كما لا يجوز أن تقول في زنادقة زنادق دون ياء- إلا في الضرورة، لأن الهاء عوض من الياء في زناديق، فحيث لزم الحذف لزم التعويض من غير إشكال نعم، لو دعت ضرورة إلى حذف التاء كما قال الشاعر، أنشده الفراء: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا قال سيبويه: "وأما فعلة- إذا كانت مصدرا- فإنهم يحذفون الواو منها كما يحذفونها من فعلها، لأن الكسر يستثقل في الواو". ومضى في التعليل ثم لم تكن الهاء فلا حذف، لأنه ليس عوض". ثم قال بعد ذلك: إن الحذف إنما ثبت في المصدر إذ كان على فعلة، لأنه على عدد يفعل وعلى وزنه، لأن كل واحد منهما أربعة أحرف وثانيهما ساكن، فلما أعلوا ألقوا حركة الواو على ما بعدها، إذ لم يكن قلبها شيء وصارت بمنزلة الهمزة إذا خففت وقبلها ساكن. والثالث: كون المصدر بزنة الفعل، بمعنى مقابلة المتحرك بالمتحرك، والساكن بالساكن. وهو الذي علل به سيبويه، فلذلك أتى الناظم بما هو على فعلة مما ثانية ساكن وهو على أربعة بالتاء تحرزا من أن يكون الثاني متحركا، أو يكون المصدر مزيدا فيه، فإنه إن تحرك ثانيه كما لو أتى على فعلة لم يعل،

فتقول فيه من الوعد: وعدة، وإن زيد فيه فكذلك أيضا نحو: الوراثة والوفادة (والولادة)، وما أشبه ذلك، فهذا كله مما اعتبره الناظم في هذا الوصف، وهو ظاهر كما رأيت. ثم في هذا الكلام نظر من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تمثيله بعدة مشكل، لأن عدة مصدر قد حذفت فاؤه، وهو إنما يتكلم في موضع الحذف والاشتراط فيه، فكأنه يقول: "و" فيما كان من المصادر محذوف الفاء اطرد الحذف. وهذا لا حقيقة له، لأنك إذا قلت له: كل ما هو محذوف منه فاحذف منه كان كلاما غير محصل، وأمرا بتحصيل الحاصل. وأيضا فهذا الكلام يصدق على ما كان حذفه بالسماع لا يقاس، فلو ألقيت مكان عدة مثلا رقة لكان الأطراد صادقا، لأن المعنى: كل ما سمع فيه الحذف فالحذف فيه مطرد، (و) لاشك أنه كذلك ولو لو يوجد منه إلا اللفظان أو الثلاثة. فهذه العبارة (غير محصلة)، وكلامه في التسهيل أحسن من هذا حيث قال: "وحمل على ذي الياء أخواته والأمر، والمصدر الكائن على فعل محرك العين بحركة الفاء معوضا منها هاء التأنيث". والثاني: أن الإشارة بذاك إلى الحذف المتقدم الذكر والحذف المتقدم إنما هو حذف/ فاء المضارع والأمر الموصوفين، فإذا نزلت العبارة على معناها جاء منه أن حذف فاء المضارع والأمر اطرد في المصدر. وهذا خلف، إذ الحذف المخصوص بشيء لا يكون في غيره، ولم

يتقدم له حذف فاء مطلق فتعاد الإشارة إليه، وإنما قال: "فا آمر أو مضارع من كوعد احذف"، فالحذف مضاف إلى فاء الفعلين لا إلى فاء مطلقة. نعم، لو عادت إلى فاء مطلقة لكان الكلام مستقيما، إلا أنه لم يفعل ذلك. والثالث: أن هذا الإطلاق لم يقيد بقيد، فدل على دخول ما كان من هذه المصادر معتل اللام نحو: شية ودية، فاقتضى أنك تقول: وقى قية، ووهى هية، وونى نية، ووعى عية، ووحي حية، وما أشبه ذلك. وهذا مما ينظر فيه؛ إذ السماع في مثل هذا قليل يلحق بالمحفوظ. والجواب عن الأول: أن هذه العبارة مفهومة المعنى وإن تجوز فيها، وإنما أراد أن ما كان على فعل فإنه تحذف فاؤه وتلزمه الهاء عوضا، فتقول في وعدة: عدة، فأتى بالمثال تنبيها على غاية العمل فيه، ولم يرد أن ما كان بهذه الغاية فحكمه كذا. فاتكل على فهم المراد من اللفظ. ومثل هذا الكلام مما يجري على ألسنة النحويين كثيرا وإن كان المعنى غير مطابق لحقيقة تنزيل اللفظ، وقد قال المازني في نحو من هذا في المسألة نفسها: "واعلم أن المصدر إذا كان على فعلة فالهاء لازمه". قال ابن جني: "لو قال مكان هذا: واعلم أن المصدر إذا كان على ثلاثة أحرف وفاؤه مكسورة وعينه ساكنه فالهاء لازمة له، لكان أحسن في العبارة". قال: "ولكنه تسامح في اللفظ، وهو من عادة أهل علم العربية، ولهم أشياء كثيرة تحمل على المسامحة، ولكنهم يفعلون هذا لأن أغراضهم مفهومة". قال: "ونظير هذا الذي قاله أبو عثمان في التجوز (قولهم): وكل اسم على فعلول فهو مضموم الأول. ونحن نعلم أنه لا يكون على فعلول إلا وأوله مضموم، لأنا قد لفظنا بالضمة في أول فعلول، والعبارة

المستقيمة في هذا الموضع أن يقال: كل اسم على خمسة أحرف وعينه ساكنة، ولامه مضمومة، وبعدها واو، وبعد الواو لام، أخرى- ففاؤه مضمومة. وهذا المعنى يريدون، ولكنهم يحتصرون". هذا ما قال، وهو مثل ما ذكره الناظم في المسألة حين قصد الاختصار، وكان وجه العبارة ما ذكره في التسهيل، فإذا هذه الطريقة ليست ببدع في النحويين فدخل بهذا الاختصار في سوادهم. والجواب عن الثاني من وجهين: أحدهما: أن الإشارة لا تقول إنها للحذف المذكور أولا أو ما دل عليه، بل هي إشارة لما في عدة من العمل، كأنه قال: وفي نحو عدة اطرد هذا العمل الذي تراه، وهو حذف الفاء المكسورة ونقل حركتها إلى ما بعدها، وهو العين، وتعويض الهاء آخرا منها: وترك التنبيه على أصل عدة اتكالا على الشيخ، أو على فها لشادي الفطن؛ إذ هو بالنسبة إلى فهمه قريب. والثاني: إذا سلمنا أن الإشارة إلى الحذف المفهوم من "أحذف"، فلا يلزم ما قيل، لأن الكلام محمول على معناه، وتقديره/: احذف الفاء في الفعل المضارع والأمر، وهو في المصدر أيضا مطرد. فإنما أضيفت الفاء إلى المضارع والأمر من حيث كونهما محلا للفاء لا من حيث التخصيص المنحتم عليها. ولذلك أظهر ما قصد في المصدر حيث قال: وفي عدة،

فأتى بفي، أي: احذف في هذا وفي هذا، وهذا ظاهر أيضا، ولكن الوجه الأول أولى، لأن فيه تنبيها على التعويض في الهاء، وهذا الوجه الثاني لا يدل على ذلك، فكان ينقصه التنبيه على معنى متأكد. والجواب عن الثالث: أن عدم استثنائه المعتل اللام موافق لغيره، إذ لم يستثنه غيره، مع أنهم قد قالوا: وداه دية، ووشى الثوب شية. فكذلك نقول في كل مصدر منه أتى على فعل ولا نبالي. وحذف همز أفعل استمر في ... مضارع وبنيتي متصف يعني أن حذف همزة أفعل مطرد إذا بني منه الفعل المضارع والبناءان اللذان للوصف، وهما: مفعل للفاعل، ومفعل للمفعول. وأطلق عليهما لفظ المتصف لأن كل واحد منهما متصف بمعنى ما اشتق منه، مثال ذلك: أكرم، وأخرج، وأعرض، تقول في المضارع منهما: يكرم ويكرم، ويخرج ويخرج، ويعرض ويعرض عنه. فالمضارع شامل لما بني للفاعل أو المفعول. وتقول في وصف الفاعل منهما: مكرم ومخرج (ومعرض. وفي وصف المفعول: مكرم ومخرج) ومعرض عنه. وإنما قال: "وبنيتي متصف"، فثنى ولم يقل: وبنية متصف، وكان للقائل أن يقول: إنه يجزئه ذلك، لأن الفاعل متصف بأنه فعل، والمفعول متصف بأنه فعل به- رفعا للإشكال العارض في ذلك، فإنه لو قال: وبنية متصف، لكان ظاهرا في اسم الفاعل خاصة لأنك إذا أطلقت لفظ

المتصف فهو حقيقة فيمن قام به الوصف، فمكرم يقال فيه: متصف بالإكرام، ولا يقال في مكرم: إنه متصف بالإكرام إلا مجازا، وهو لا يفهم إلا بقرينة، شأن (سائر) المجازات. فلما كان قصده أن يشمل الأمرين معا لم يكن بد من التنبيه على ذلك، فنبه عليه بالتثنية، فلما قال ذلك علم أنه يريد مع اسم الفاعل آمرا أخر، وذلك لا يكون إلا اسم المفعول، إذ يطلق على مكرم: إنه متصف بالإكرام، بمعنى أنه ذو إكرام، أي: محل الإكرام. ومن هذه الجهة ساغ أن تبنى له صيغة المفعول من المصدر، وقد دعاهم تخيل هذا المعنى وهذه الملابسة إلى أن بنوا له بنية الفاعل نحو: عيشة راضية، ونهاره صائم، وليله قائم، أي: مصوم فيه (ومقوم فيه). هذا معناه، لكنهم راعوا فيه مجرد النسبة والإضافة، إذ كان في التقدير ذا كذا. فإذا معنى قوله: "متصف"، أي: ذي وصف، ليشمل الأمرين معا. ولا يخلو مع هذا من مجاز في العبارة، لأن إطلاق المتصف وذي الوصف حقيقة إنما يكون في الفاعل، وهو في المفعول مجاز، فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.

ولم يذكر هنا فعل الأمر، لأنه كالماضي لا تحذف همزته، بل تقول: أكرم وأخرج وأعرض، قال: أرد من الأمور ما ينبغي ... وما تطيقه وما يستقيم وكان الأصل: أكرم يؤكرم فهو مؤكرم ومؤكرم، لكنهم حذفوا الهمزة من المضارع لما (كان) يؤدى إثباتها إلى اجتماع الهمزتين إذا قلت: أأكرم أنا، فحذفوها لذلك، ثم حملوا سائر الزوائد في أوله على الهمزة، وإن لم يكن معها موجب للحذف، فقالوا: يكرم ونكرم وتكرم، قصدا للمماثلة بين أصناف التصرفات في المضارع، لئلا يختلف الباب، كما فعلوا حين حذفوا الواو من نعد وتعد وأعد حملا على يعد الذي فيه الموجب، وقد تقدم، ولهذا نظائر، ثم حملوا الصفتين على المضارع لجريانهما عليه فقالوا مكرم ومكرم، وما أشبه ذلك. وقد شذ من هذا شيء فجاء على الأصل، قال الراجز: فإنه أهل لإن يؤكرما

وقالت ليلى الأخيلية: تدلت على حص ظماء كأنها ... كرات غلام في كساء مؤرنب أي: متخذ من جلود الأرانب. وأنشد سيبويه لخطام المجاشعي: وصاليات ككما يؤثفين وهو محتمل أن يكون من ثفيت القدر، فيكون من هذا الشذوذ. وأن يكون من تأنف، كقول النابغة: وإن تأثفك الأعداء بالرفد وهو إذ ذاك على القياس، لأن الناظم قال: "وحذف همز أفعل"، فعين أن هذا الحكم إنما هو في الهمزة الزائدة لا في الأصلية. وإذا قلنا: إن يؤثفين من تأثف فالهمزة أصلية لا زائدة، والأصلية لا تحذف، فتقول في السعة: يؤثفين، كما تقول: يسلقين، لأن وزنه: يفعلين. وقالوا أيضا: هذا أديم مؤرطى، فهو يحتمل الشذوذ بجعله على لغة من يقول: أديم مرطى، إذ الهمزة عند هؤلاء زائدة، من أرطيت الأديم: إذا دبغته بالأرطى. ويحتمل الجريان على القياس بجعله على لغة من قال: أديم مأروط وهي الشهري، لأن الهمزة أصلية،

فمؤرطى مفعلى كمسلقى، ووزنه على الأولى مؤفعل وعلى هذا لو بنيت مثل وحرج من الأخذ لقلت: أخذذ، فإن رددته إلى المضارع فقياسه على هذا يؤخذذ، بإثبات الهمزة، ولا يجوز: يخذذ- بحذف الهمزة- كما لو كنت قائلا: يكرم، لأن الفعل ملحق بدحرج فالهمزة أصلية في مقابلة الدال من دحرج. فكما تقول: أدحرج، كذلك تقول: أوخذذ، إلا أنك تبدل الهمزة واوا لاجتماع الهمزتين ولا تحذف، فكذلك في سائر التصرفات. إلا أن قول الناظم: "في مضارع وبنيتي متصف"، قاصر عن استيفاء مواضع الحذف، فإن اسم المصدر، واسم الزمان والمكان، حكمها حكم اسم الفاعل والمفعول، ولم يذكر ذلك، فأوهم فيها حكم الإثبات، كما ثبت في الأمر تحقيقا؛ إذ لم يذكره في جملة ما تحذف منه الهمزة فكان من الواجب أن ينبه على ذلك. والجواب: أن ذلك قد دخل له تحت بينتي المتصف، لأن المفعول يطلق ويراد به جميع المفعولات الخمسة: المفعول به، وفيه، وله، والمطلق، فقد تقول: هذا المكان مكرم فيه، وهذا الزمان مخرج فيه، ويقال: ضربك مضروب، . كما يقال: شعرك شاعر. فدخل سائر المفعولات تحت بنية المفعول، لأن كل واحد منها ذو كذا، كما كان المفعول به كذلك. وعبارته هنا تسع هذا التأويل وكذلك عبارته في التسهيل، فإنه لم ينص فيها على المفعول به بخصوصه فيخرج له ما عداه، بل قال: "ومما اطرد حذفه همزة أفعل من مضارعه، واسمى فاعله ومفعوله". فأطلق لفظ المفعول، فدخل له جميع المفعولات على ذلك التفسير.

وقوله: "استمر"، معناه المراد: اطرد، أي: اطرد هذا الحذف في هذه المواضع المذكورة. ومعناه في اللغة: الذهاب، مر الرجل يمر مرا ومرورا، واستمر، أي: ذهب. كأن هذا الحذف يذهب في أفراد الباب فلا يقف دون شيء منها، وهو معنى الاطراد. ويقال: استمر مريره، أي: استحكم عزمه. وهو من ذلك، لأنه يمر فيما عزم عليه لا يقف ولا ينثني. وقالوا: لتجدن فلانا ألوى بعيد المستمر- بفتح الميم الثانية- أي: إنه قوي في الخصومة لا يسأم المراس. وأنشد أبو عبيدة: وجدتني ألوي بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر *** ظلت وظلت في ظللت استعملا ... وقرن في اقررن وقرن نقلا استعملا، ألفه للتثنية، أي: استعمل هذان الوجهان، يريد أن ما كان نحو ظللت وعلى صفته حذفت منه عين الكلمة، وكان فيه بعد ذلك وجهان: أحدهما: أن تحذفها بحركتها ولا تنقلها إلى ما قبلها، فتقول في ظللت: ظلت. ومنه قوله تعالى: {فظلتم تفكهون}.

والثاني: ألا تحذفها، ولكن تنقلها إلى الفاء فتغلب على حركتها، لأن الحكم للطارئ، فتقول: ظلت، بكسر الظاء، ومنه قراءة أبي حيوة: (فظلتم تفكهون) وكذلك قرأ عبد الله إلا أنه قرأ: (فظلتم تفكنون)، النون مكان الهاء. وكذلك تقول في مسست: مست ومست. ووجه هذا أن ظلت ومست ونحوهما أصله: ظلل ومسس، فأعلوه بالإدغام فصار: ظل ومس، فأشبه قام وباع، لسكون العين فيهما، فإذا اتصل بالفعل المعتل ما يوجب تسكين لامه حذفوا حرف العلة لالتقاء الساكنين، فقالوا: قمت وبعت، فشبهوا ظل بقام، فلما اتصل به ما سكن آخره لأجله اجتمع ساكنان، فحذفوا اللام الأولى لالتقاء الساكنين، ولم يحذفوا الأخيرة كما لم يحذفوا الثاني في قام. وأيضا الأولى قد كانت اعتلت بالسكون فضعفت، فمان إعلالها بالحذف أولى. وعلى طريقة السيرافي كان الأصل ظللت، فكرهوا اجتماع المثلين ولم يمكنهم الإدغام فيحركوا ما لا يتحرك وهو ما قبل الضمير، فحذفوا الأول ولم يحذفوا الآخر، لأنهم لو حذفوه لاحتاجوا إلى تسكين الأول فيزيدوه تغييرا، فكان حذف الأول أولى. فأما من ترك الفاء على الفتح ولم ينقل إليها فشبهها بلست، لما جاء على غير الأصل تركه على حاله، كما تركت فتحة ليس على حالها لما كانت مخالفة

للأفعال المعلة في اعتلالها وفي تصرفها. ومن كسر الفاء فنقل حركة العين إليها فشبهها بخفت، فأجراها على قياس الأفعال المتصرفة. واعلم أن تمثيله أحرز شروطا معتبرة، وهي ستة أحدها: كونه فعلا، تحرزا من الاسم، فإنك إن فرضت اسما على فعل لم يقع فيه هذا الإعلال لما سيذكر من العلة. والثاني: كونه مضاعفا، تحرزا من غير المضاعف، فإن هذا الحكم لا يجري فيه لا مطردا ولا شاذا، فلا تقول في خرجت: خجت، ولا في أعرضت: أعضت. ولا نحو ذلك. وأما المعتل العين فحذف عينه عند إسناده إلى الضمير البارز من باب التقاء الساكنين لا من باب الإعلال التصريفي كما سيأتي بحول الله. والثالث: كون المحذوف مكسورا؛ إذ مثل بظللت، وهو كذلك، تحرزا من ضمه أو فتحه، فإن كان مفتوحا قلت: مررت، وفررت، وصببت. ولا تقول: مرت، ولا فرت، ولا: صبت. قال تعالى: {ففررت منكم لما خفتكم}، وقال: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين}، مع أنه قال: (فظلتم تفكهون) وكذلك إذا انضم نحو: لببت وحببت، فلا تقول فيه: لبت ولا لبت، ولا ما كان نحو ذلك. وقد شذ في المفتوح قولهم: ظنت في ظننت.

والرابع: كونه مبنيا للفاعل، فإن كان مبنيا للمفعول لم يجز فيه ذلك الحكم بمقتضى المفهوم، فتقول: مسست، وظننت (كذا)، ولا تقول: مست، ولا: ظنت، ولا: مست، ولا: ظنت. والخامس: أن يكون الفعل متصلا بما يسكن له آخره من ضمائر الرفع البارزة، ودل على ذلك إتيانه بالضمير، فتقول على هذا: ظلت أنا، وظلنا نحن، وظلت أنت، وظلت أنت، و (كذلك): ظلنا، وظلتم، وظلتن، والهندات ظلن فهذه مواضع ثمانية يستتب فيها هذا الحكم. وحيث فسر ما أراد باتصال الضمير بما يسكن له آخر الفعل دخل له كون النون ضميرا كما تقدم، أو علامة نحو: ظلن الهندات، في لغة: "يتعاقبون فيكم ملائكة". ووجه هذا أنهم حين نقلوا الحركة إلى الفاء فسكنت العين لم تكن لتثبت واللام ساكنة في موضع لا تتحرك فيه البتة، كما أنها لم تكن لتثبت في قمت، بخلاف ما إذا لم يلحقه ضمير ولا ما يسكن الآخر لأجله فإن اللام تتحرك فتثبت العين وإن سكنت. والسادس: أن يكون ماضيا لا أمرا ولا مضارعا، فإنه إن كان كذلك لم يستعمل فيه الحذف استعمالا يعتد بمثله، فإن جاء فهو نادر، ولذلك أخرج الأمر

بخصوصه فقال: "وقرن في اقررن نقلا"، أي: هو في حيز الموقوف على النقل، ولذلك لما حكى في التسهيل أن بني سليم يحذفون في الماضي قال في غيره: "وربما فعل ذلك بالأمر والمضارع". فالنوعان عنده ليسا على حد واحد في الحكم. وهذا على خلاف ما يظهر من النحويين، إذ هم يأتون ببعضها دليلا على البعض، فلا فرق عندهم بين الماضي في الحذف والمضارع (والأمر)، وهو ظاهر، إلا فما الفرق بينهما؟ وما يلزم في أحدهما لازم في الآخر، وبعيد أن يكون بنو سليم الذين نقل عنهم الحذف خصوه بالماضي وحده ولم يحذفوا في غيره، مع أن العلة التي لأجلها وقع الحذف موجودة في الجميع: فكما تقول: يقمن، فتحذف للساكنين، كذلك تقول: يقرن في يقررن، كما كنت قائلا في الماضي: قمن، وحملت عليه: ظلن. فأتا الآن لا أعرف للتفرقة التي ارتكبها المؤلف وجها إلا ما زعم من الندور، فانظر فيه. ثم في كلامه مسائل: إحداها: أن الجمهور- سيبويه وغيره- يرون أن قولهم: ظلت ومست من باب الشاذ الموقوف على السماع، ويقل جدل أن ترى واحدا يشير في هذا النحو إلى قياس، بل هم في ذلك بين أن ينصوا على شذوذه لسيبويه، كقوله: "وليس هذا النحو إلا شاذا كقوله في موضع آخر: ومن الشاذ قولهم كذا وبين ألا ينصوا على الشذوذ لكن لا يأتون إلا بهذه الألفاظ الثلاثة وهي: أحست، وظلت، ومست. وظاهر هذا أيضا عدم القياس. ونقل ابن الضائع عن

شيخه الشلوبين أن هذه الألفاظ شاذة لكنها مطردة عنده في أمثالها من الأفعال. قال: وتأخذ ذلك من قول سيبويه فيما شذ من المضاعف: "وذلك قولهم: أحست، يريدون: أحسست، وأحسن، يريدون: أحسسن" قال: "وكذلك تفعل به في كل بناء تبنى اللام من الفعل فيه على السكون ولا تصل إليها الحركة". فزعم أن هذا من كلامه يدل على أنه مطرد. قال ابن الضائع: فقلت له: من كلامه ما يدل عل خلاف ذلك وهو قوله في ذلك الباب: "ولا نعلم شيئا من المضاعف شذ إلا هذه الأحرف". (فقال: إنما يعني إلا هذه الأحرف) وما كان مثلها من المضاعف. قال ابن الضائع: هذا فاسد، لأنه إذا كان كذلك فالمضاعف كله شاذ. قال: وإنما ينبغي أن يحمل كلامه أولا على أحست، أي: كل ما يبنى من هذا على أن اللام لا تصل إليها الحركة يحذف فيقال: أحست، وأحسنا، وأحست، وأحست، (وأحستما)، وكذلك في الأمر، فهذا أظهر. فقوله: "تفعل به" لا يعود الضمير على المضاعف بل على أحست، ولا يتناقض الموضعان. قال: وهو حسن. هذا ما ذكر ابن الضائع من الخلاف في القياس في المسألة، ولا مرية أن مستند الشلوبين فيما ذهب إليه لا يظهر، فإن كلام سيبويه أظهر فيما قاله ابن الضائع، فلا ينبغي أن تجعل هذا مستندا للناظم، وإنما مستنده في الجواز ما نقل في التسهيل من أنها لغة، فهذا أقرب في الاستناد إن ثبت أنها لغة كما زعم، وأنهم يشترطون في الحذف ما اشترطه هنا من كون الفعل ماضا وما أشبه ذلك مما تقدم. والله أعلم. والثانية: أن الناس قد ضموا إلى هذه المسألة ما كان على أفعل، وهو: أحسس، وأحسست. والناظم ليس في كلامه ما يشعر بذلك، وإنما يدل تمثيله

وكلامه عل الفعل الثلاثي الذي على فعل، فيحتمل أن يكون مثل هذا عنده مما لا يدخله القياس لتخلف شرط كونه ثلاثيا، وهذا لا يمشي على ما نقل في التسهيل حيث لم يشترط هذا الشرط، بل قال: "ويجوز في لغة سليم حذف عين الفعل الماضي (المضاعف) المتصل بتاء الضمير أو نونه". والحكم كذلك عند غيره، فيدخل له أحسست، وأحسسن، فتقول فيه: أحست، وأحسن وأحسنا، وأحست وأحست وأحستما، وأحستم، وأحستن. والعلة في الجميع واحدة، وقد تقدمت، قال أبو زبيد الطائي: سوى أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس وعادة الناظم أن يشير إلى القيود والشروط بالأمثلة اكتفاء (بها) عن التنصيص عليها قصدا/ للاختصار، ولاشك أنها قد تحرزها في بعض المواطن وتتخلف في بعضها، إذ لا يخلو كثير من المثل من زيادة أوصاف لا تكون مقصودة كهذا المثال، فقد ينازع الناظر في عدم قصده إلى اشتراط الثلاثية في هذا الموضع لظهوره في تمثيله بظللت، كما أنه لو مثل بأحسست لظهر أنه قصد الرباعي دون الثلاثي، وهذا أمر لازم في طريقته في الاجتزاء بالتمثل. والثالثة: أن هذا الحذف الذي إنما هو للعين لا لغيرها، ودل على ذلك كلامه، لأنه قال: "ظلت وظلت في ظللت استعملا"؛ إذ الظاهر أن

اللام كانت ساكنة قبل الحذف فكذلك بقيت بعده، وأيضا فنقل الكسرة إلى الفاء دليل أن المحذوف من المضاعفين هو المكسور، وهو العين، وهذا ظاهر. والرابعة: أن الناظم لم يبين هنا كون الحذف حصل بعد تغيير، وإنما أشعر بمجرد الحذف فقط، فالأولى حمل كلامه على أن الحذف مسلط على الحرف المضاعف، وهو على أصله لم يبدل إلى غيره، وهو الظاهر من كلام سيبويه وغيره. ومن النحويين من يزعم أن العين أبدلت قبل الحذف حرف علة كما فعل بقيراط ودينار، ثم حذفت بعد ذلك، على حد ما حذفت عين قمت وبعت لالتقاء الساكنين. وهذا الثاني ذهب إليه الفارسي (في الحجة) في قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن}، على أنه من القرار. والأظهر الحذف من غير إبدال كما أشار إليه الناظم. وقد اعترض على الفارسي هذا المذهب بأنهم قد قالوا: ظلت ومست، بفتح فاء الفعل، من غير نقل الحركة إليها، ولو كان قد دخل في باب بعت لم يكن بد من نقل الحركة فيقال: ظلت، ومست، البتة، من غير إجازة لغيره، كما لم يجز في بعت إلا النقل، لكنهم لم يوجبوا ذلك، فدل على أنه لم يدخل في باب بعت، بل حذف المضاعف ابتداء من غير إبدال. وقد أجيب عن هذا بوجهين، (أحدهما): أن للفارسي أن يقول: (هذا) ليس من باب بعت حقيقة، وإنما هو لاحق به بالتشبيه، وقد تقرر أن المشبه لا يقوى قوة المشبه به؛ ألا ترى أن الإعلال طارئ عليه وليس بأصل فيه، فلا يلزم

أن يساوي حروف العلة الأصلية في الحكم، فأجازوا فيه ترك النقل على مخالفة حروف العلة الأصلية، ليكون ذلك إشعارا بأنه ليس منها بحكم الأصل. وهذا الجواب ضعيف، فإن حروف العلة وإن كانت بدلا من غيرها محكوم لها بحكم ما أبدلت إليه كتظنيت وقصيت أظفاري ونحوهما؛ إذ لا يقال فيمن هذه سبيله: يحكم لها بحكم حروف العلة في بعض المواضع دون بعض، بل الحكم مطلق فيها كذلك ما لم يظهر المبدل منه لزوال علة الإبدال. والثاني: أن يكون هذا القول مقتصرا به على محل النقل حيث اطرد حكم حروف العلة وجرى على سننها وطريقها، وأما حيث لا نقل فيكون القول في ذلك أن العين حذفت بحالها من غير قلب، ويرتفع الخلاف فيها. وقد يظهر هذا من الفارسي إذ لم يتكلم في "الحجة" إلا في محل النقل، ولم يعرض لما لا نقل فيه. وهذا الجواب/ أقرب من الأول إلا أنه محتاج إلى تحرير هذا النقل، وأن صاحب هذا القول يفصل هذا التفصيل، ومع هذا فإنه على خلاف الظاهر، ودعوى لا دلالة عليها إلا مجرد التأنيس بمجيء تظنيت وأملاه بمعنى تظننت وأمله. وهذا لا ينهض أن يكون مقاوما لما ظهر؛ إذ القاعدة الحمل على الظاهر والوقوف معه حتى يدل دليل على خلافه وإن أمكن فلا ينبغي أن يصار إليه بمجرد الإمكان من غير دليل. والله أعلم.

والخامسة، وهي مبنية على ما قبلها أن يقال: إذا قلنا بقول الفارسي فالإعلال حاصل- أعني التصريفي- بالإبدال، ثم جاء الحذف بعد ذلك لالتقاء الساكنين، فليس لباب التصريف هنا عمل إلا مجرد الإبدال، وأما الحذف فلا، كما أن حذف العين من قمت لا يعد من هذا الباب ولا يعتد به إعلالا تصريفيا، وإلا فكان يجب أن يذكر في هذا الفصل كل ما كان من الحذف لالتقاء الساكنين، ولم يفعلوا ذلك. وأما إذا قلنا بالقول الآخر، وهو الحذف ابتداء فعلى (هذا) يكون من باب التصريف، ومن أجل ذلك ذكره الناظم هنا، وظهر بذلك اعتماده على مذهب الجمهور. إلا أن لقائل أن يقول: قد تقدم في تعليل هذا الحذف أنه لالتقاء الساكنين، وذلك أن ظل لما صار بالإدغام كقام، إذ كان أصله ظلل، فكرهوا إظهار التضعيف، فسكنوا وأدغموا، فلما لحق الضمير لم يكن بد من تسكين اللام الثانية أيضا، فاجتمع ساكنان، فحذفوا الأول منهما لالتقاء الساكنين. وإذا كان كذلك فليس من هذا الباب، وإنما الحذف من باب آخر، فكيف ذكر هنا، وذلك أن الحذف لالتقاء الساكنين إنما هو عارض لموجب حاضر يزول بزوال موجبه، فهو عندهم كأنه لم يحذف، ولذلك لم يذكروا في باب التصريف الحذف لالتقاء الساكنين، وأفردوه على حدة، فلم يقم- مثلا- أصله: لم يقوم، فحذفت الواو. ولم يذكر ذلك الناظم لأنه ليس من هذا الباب، لأن هذا بصدد أن يزول إذا حركت اللام، فكذلك ظلت بصدد أن تتحرك

اللام فترجع العين (فتقول): ظلوا يفعلون، وظل زيد يفعل، كما تقول: لم تقومن، ولا تقومن، وتقوم، ونحو ذلك. فليس بينهما في هذا الحكم فرق، فكيف يجعل الناظم هذا الحذف من هذا الباب، ولم يجعله من التقاء الساكنين؟ والجواب: أن الحذف لالتقاء الساكنين لا يكون إلا في حروف العلة أصلية كانت أو زائدة، ولا تجد حرفا صحيحا يحذف لالتقاء الساكنين إلا ما هو شاذ لا معول عليه، والتنوين: وإن حذف للساكنين فليس حذفه بالقوي، بل الشهير والمعروف حذف حرف اللين الأصلي والزائد لأجله، ومع ذلك فلشبهه بحروف اللين ومشاركته لها بالغنة التي في النون حذفت. ولذلك حذفت نون "لم يكن" تشبيها بلم يفز، وما عدا ذلك فلم يثبت فيه هذا. والوجه في ظللت تحريك اللام الأولى عند التقاء الساكنين وردها إلى أصلها من الكسر كما في اللغة المشهورة، لكن من قال: ظلت، استثقل ظهور التضعيف، فأراد الحذف/ فجعل الطريق إليه التشبيه بقام كما تقدم، لا أنه في الحقيقة اجتراء (على الحذف) لالتقاء الساكنين مجردا، إذ كان له مندوحة عنه، وهو التحريك. ولهذا جعل السيرافي الحذف في أحست من أحسست لا من أحس. فاستثقال التضعيف هو الموجب، والتشبيه بقام مرجح وسيبويه وإن اعتمد التشبيه فهو على التضعيف أيضا أشد اعتمادا، ألا ترى أنه

في آخر الإدغام إنما علل به فقال: "ومن الشاذ قولهم: أحست، ومست، وظلت لما كثر في كلامهم كرهوا التضعيف، وكرهوا تحريك هذا الحرف الذي لا تصل إليه الحركة في فعلت وفعلن الذي هو غير مضاعف، فحذفوا، (كما حذفوا) التاء من قولهم: يستطيع، فقالوا: يسطيع" ... وأتم التعليل إلى آخره، فاعتمد الثقل في التضعيف هنا واقتصر عليه، وأشار إليه في الباب الآخر، وهو باب ما شذ من المضاعف، وأيضا إذا فرضنا أنه (اعتمد) على التشبيه في التعليل فليس من باب التقاء الساكنين، بل من الحذف التصريفي المشبه به، ولا يلزم من كونه مشبها به أن يكون من بابه بلا بد، بل حذفت العين حذفا لما أشبه المضاعف المعتل في باب التقاء الساكنين .. فظهر إذا أن الحذف هنا على طريقة الناظم تصريفي، وتبين وجهه. والسادسة: أن كلام الناظم هنا يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون إنما قصد الكلام على هذا اللفظ بخصوصه، من حيث جاء سماعا، فلا يكون قائلا بالقياس في بابه، ويريد بقوله: استعمل، استعمال العرب، إذ لم يقل: ظلت ونحوه، ولاما يعطي معنى تعميم الحكم في أمثاله، كما قال قبيل هذا: "من كوعد"، "وفي كعدة"، فأدخل مع المثال ما أشبهه. والثاني: أن يكون أراده وما كان نحوه، فأتى بالمثال على جهة تمثيل الأصل: ويريد بقوله: استعمل، استعمال النحويين قياسا.

فإن أراد الأول فهو مساعد لظاهر لفظه وموافق لجمهور النحويين حسب ما تقدم، إلا أنه يشاح من وجهين: أحدهما: أن السماع لم يأت بهذا اللفظ وحده، بل جاء منه ألفاظ أخر كقولهم: ظنت في ظننت، ومست في مسست، وأحست في أحسست، أو حست (في حسست) بل هي لغة ذكرها في التسهيل منقولة عن سليم، فكيف يقتصر على نقل لفظة واحدة، فيوهم اقتصاره عدم السماع في غيرها، وذلك غير صحيح؟ وقد يجاب عن هذا بأنه لم يقصد إلى نقل مجرد السماع فقط، فإن ذلك ليس من شأن النحوي من حيث هو نحوي، لاسيما في مثل هذا المختصر، وإنما قصده نقل ما كثر استعماله من هذا الباب، فذلك قال: "استعملا"، ولم يقل: شذا ولا ندرا، ولا نحو ذلك. ولفظ الاستعمال يعطي كثرة التداول والشياع على الألسنة، وقد جاء في القرآن الكريم كما مر، وترك ما عدا هذه اللفظة لأنه قليل في الاستعمال (إذا اعتبرته. فإن قيل: فما فائدة ذكره وهو موقوف على السماع؟ قيل: قد جرت له عادة بذكر الألفاظ الشهيرة الاستعمال) كما فعل في إذا في باب الوقف، وحذف ألف ما الاستفهامية ونحو ذلك.

والثاني: أن القائل بالوقف على السماع في هذا وما أشبهه لا يقصره/ على مجرد ما ذكر الناظم من كونه متصلا بضمير الواحد، بل يستعمل عنده متصلا بجميع الضمائر التي يسكن لها آخر الفعل، فيقول: ظلت، وظلت، وظلتما، وظلتم، وظلتن. وكذلك لا يقتصر فيه أيضا على الماضي دون الأمر والمضارع، بل يقول: ظلن- يا هندات- قائمات لوجود العلة الموجبة للإعلال في الجميع: وقد مر هذا في الاشتراط. وإن أراد الوجه الثاني- وهو القياس- فليس ببعيد عن قصده، لأنه قد يمثل فقط ويريد ما كان نحوه، كما قال في باب الضمائر: "في كنته الخلف انتمى. كذاك خلتنيه"، فإنما يعني: في كنته وما أشبهه، كذاك خلتينه وبابه، لكنه على هذا المحمل مخالف لجمهور النحويين كما تقدم، فالأول أظهر من جهة اللفظ، والثاني أظهر من جهة القصد. وعلى هذا الثاني وقع الشرح المتقدم. ثم قال: "وقرن في اقررن وقرن نقلا". (ألف نقلا) ألف تثنية. يعني أن قرن- بكسر القاف- وقرن- بفتحها- نقلا معا، وأراد أنهما معا محذوفان من المضاعف، حذفت العين منهما؛ إذ كان الأصل في قرن: اقررن، كما قال، وذكر أن ذلك نقل لا قياس بخلاف الماضي فإنه فيه قياس كما ذكر. وقد مر ما في هذه التفرقة من النظر.

وأشار بقرن وقرن إلى ما في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن}، قرئ بكسر القاف وفتحها، والفتح لنافع وعاصم، والكسر لمن عداهما. ثم في كلامه هنا إشكال من وجهين: أحدهما: أن ظاهره أن قرن وقرن معا أصلهما اقررن، هذا الذي ذكره، وهو إما أن يكون ضبطه بكسر الراء الأولى- وهكذا ثبت في النسخ- أو بفتحها، أو بالضبطين، أما الضبطان فلا دليل عليها إذ لم ينبه على ذلك، وأما أحدهما فغير صحيح من جهة أن رجوعه لهما معا لا يصح، إذ مقتضاه أنهما معا من فعل واحد، وليس كذلك: أما قرن- بفتح القاف- فن قررت (في) المكان- بالكسر- أقر فيه (بالفتح) فالأصل: اقررن- بفتح الراء الأولى- وهي لغة حكاها البغداديون والكسائي والأخفش وأنكرها المازني إذ لم يحفظها، ثم حذفت العين بعد أن نقلت حركتها إلى القاف وحذفت همزة الوصل لتحرك ما بعدها؛ كما تقول: سل، في تخفيف، اسأل. وقد حمل أيضا على أنه من قررت به عينا أقر، وجرى فيه الإعلال المذكور. لكن ضعف هذا المحمل من جهة المعنى، إذ ليس المراد: لتقر أعينكن في بيوتكن.

وأما قرن- بالكسر- فأجاز فيها الفارسي وجهين، أحدهما. أن يكون أصله اقررن، من قررت في المكان أقر، وهي اللغة الفاشية، ثم حذفت العين بعد نقل حركتها إلى الفاء كما تقدم، وهذا هو الذي يريده الناظم (بقوله): "وقرن في اقررن"، فقيده بكونه من اقررن، أي: على أنه من هذا لا من الوجه الثاني الذي حمله الفارسي قراءة الكسر، وهو أن يكون قرن أمرا من الوقار، من وقر يقر، وأصله: اوقرن، ثم صار بحذف فائه إلى قرن، فهو إذ ذاك من المسألة الأولى من هذا الفصل، كعدن من الوعد، وزن من الوزن. وعلى هذا الوجه لا يدخل له هنا، فلذلك تحرز بقوله: "في اقررن"، ولهذا/ السبب يتعين ضبط اقررن بكسر الراء، ويكون فيه تنبيه حسن واحتراز مليح، كأنه يقول: وقرن إذا قلنا إنه من اقررن لا إذا جعلناه من الوقار. إلا أنه يلزم من حيث عين اقررن بالكسر أن يكون أيضا معينا للوجه الآخر؛ إذ لم يذكر له غير ذلك، وذلك غير صحيح، لأن قرن- بالفتح- ليس أصله اقررن- بالكسر- وإنما أصله: اقررن بالفتح أيضا كما تقرر. فحصل أن هذا الكلام لا يستقيم تنزيله في الوجهين (على لغتين) كما ذكر الناس، وهو الذي لا يمكن غيره، وإنما يتنزل على واحدة، وذلك لا يصح.

والوجه الثاني من الإشكال: أنه أثبت في النقل قرن من القرار ولابد، لقوله: "وقرن في اقررن وقرن نقلا"، أي: (إن) قرن من اقررن منقول من كلام العرب. وهذا ليس كذلك، لأن قرن إنما نقل في القرآن، وهو- كما رأيت- محتمل أن يكون أصله: اقررن- كما قال- أو يكون افعلن من الوقار، وأحد الوجهين لم يتعين بعد، فكيف يجعل قرن من القرار منقولا ثابتا، وليس كذلك، لأنه إنما يثبت إذا لم يحتمل غير ما ادعيت فيه، فلا يصح لك أن تقول في هذا إنه من القرار خاصة لا من الوقار؛ إذ لا دليل على ذلك، وإذا لم يدل عليه دليل لم يكن إذا جعلته من القرار بأولى من أن تجعله من الوقار، ولا تثبت اللغة بمثل هذا، ولا اعتماد على الاحتمال المجرد من غير دليل. والجواب عن الأول: أن اقررن لا يرجع إليهما معا بل إلى ما قبله وحده، وإنما أتى به احترازا- كما تقدم- من أن يكون من وقر يقر خاصة؛ إذا لو لم يكن هنالك ذلك الاحتمال لم يحتج إلى الإتيان به؛ إذ معلوم أنه يتكلم فيما حذفت عينه للتضعيف، فليس قوله: "في اقررن" إلا إخراجا للوجه الآخر. وأما قوله: "وقرن" فأطلقه علما بأنه من اقررن، إذ ليس فيه احتمال غير ذلك. وأيضا فحذفه لدلالة نظيره عليه، وتقدير الكلام: وقرن في اقررن وقرن في اقررن. وهذا ممكن، واتكل على أن ذلك مفهوم بأيسر النظر، فلم يحتج إلى التنصيص عليه. والجواب عن الثاني: أنه يمكن أن يكون سمع من ذلك شيئا لا يحتمل إلا الحمل على اقررن لا على غيره، وإنا يكون الاحتمال قائما في الآية دون غيرها، فلعله اطلع على ما يتعين فيه أحد الوجهين، والجمهور لم ينقلوا قرن

وقرن إلا في الآية. ويحتمل أن يكون حمل الآية على هذا الوجه دون الإمكان الآخر لقيام الدليل عنده على ذلك، (وذلك) أن قراءة الفتح قد ثبت فيها معنى القرار على ما تقرر؛ إذ لا يسوغ حملها على المعنى الآخر الذي هو من قرت عينه، وإذا ثبت ذلك هنالك كان الذي ينبغي في قراءة الكسر الحمل على قراءة الفتح، لأن اتفاق القراءتين وتواردهما على معنى واحد أولى من حملهما على معنيين مختلفين. وهذا دليل يفيد هو وما كان مثله غلبة ظن، وغلبة الظن تكفي في إثبات اللغة، فلهذا حكم بأن قرن من اقررن، وبهذا ينهض جوابا في الموضع، وبالله التوفيق. وهنا انتهى ما قصد ذكره من التصريف، ثم أخذ في ذكر تكملته فقال:

الإدغام

الإدغام /أول مثلين محركين في ... كلمة آدغم لا كمثل صفف وذلل وكلل ولبب ... ولا كجسس ولا كاخصص أبي ولا كهيلل، وشذ في ألل ... ونحوه فك بنقل فقبل معنى الإدغام في اللغة: الإدخال. يقال: أدغمت اللجام في فم الدابة: إذا ادخلته في فيها، ومنه: أدغم الطعام بمعنى ابتلعه، لأنه إدخال في الحلق، ومنه إدغام الحرف في الحرف، لأنه إدخال الأول في الثاني. قال السيرافي: سيبويه يقول: الإدغام افتعال، والكوفيون يقولون: (الإدغام) إفعال. قال: والأول أحب إلى لقوله: إذا [فزعوا] ادغمن في اللجم قال ابن الضائع: (يعني) لاستعماله. قال: "وقد حكى الزبيدي: أدغمت الفرس اللجام". انتهى، وحكى مثله الجوهري.

ومعناه في اصطلاح النحويين: أن يلتقي حرفان من جنس واحد، فتسكن الأول منهما وتدغمه في الثاني، أي: تدخله فيه، فيصيرا احرفا واحدا مشددا. وذلك أن النطق بحرفين من جنس واحد مما يثقل على اللسان، لأنه يرتفع بأحد الحرفين، ثم يرتفع ارتفاعا ثانيا بعد استقرار الأول، فيصير في موضع واحد عملان من غير فصل بينهما، فيثقل ذلك على اللسان، ولذلك شبهه الخليل بمشي المقيد، لأنه كأنه يتحرك في موضع واحد. وهذا محسوس، بخلاف ما إذا عمل عملين في موضعين فليس فيه من الثقل ما في هذا. فأرادوا أن يرتفع اللسان بهما معا ارتفاعة واحدة، فلم يمكنهم ذلك إلا بأن يسكنوا الأول منهما، فأسكنوه، ثم أدغموه في الثاني، فصارا حرفا واحدا مشددا، فقالوا في فرر: فر، وفي ظلل: ظل، وفي سرر: سر، وفي أمدد: أمد، وما أشبه ذلك. واعلم أن الإدغام على قسمين: أحدهما: إدغام مثل في مثله، نحو ما تقدم من المثل. والثاني: إدغام مقارب في مقاربه نحو: بعدت، وعدان في عتدان، ونحو ذلك. وهذه القسمة بالنظر إلى الأصل، وإلا فلا إدغام إلا إدغام مثل في مثل. وهذا نظير قولهم: إن البدل ثلاثة أقسام: بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال. وبالحقيقة ليس إلا بدل شيء من

شيء وهما لعين واحدة، فإذا قلت: أكلت الرغيف نصفه، فلا يخلو أن يراد بالرغيف النصف أو غيره، فإن أريد النصف فنصفه البدل بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة، ولا يجوز أن يريد به أكثر من النصف، ولا أيضا أقل منه، لأنه يكون نصفه نقضا لذلك وتكذيبا، أو يرجع إلى بدل الغلط، وهو منفي عن الكلام الفصيح كما تقدم. وكذلك بدل الاشتمال، فليس تقسيمهم ذلك إلا بالنظر إلى الوضع الأصلي. فالتقسيم في البأبين صحيح بالنظر إلى الأصل، وأما الآن فلا يدغم المقارب في مقاربه إلا بعد إبداله حرفا من جنس المدغم فيه بلابد./ فأما إدغام المتقاربين فلم يتعرض إليه هنا، وذلك لأن الغالب فيه أن يكون جائزا لا لازما، وإذا كان جائزا فالتكلم بالأصل صحيح، فلم يكن المتكلم بالأصل لاحنا، فليس بمهم في قصده. وأما إدغام المثلين فعلى قسمين: أحدهما: أن يكون الأول منهما ساكنا في الاستعمال. وهذا لم يحتج إلى ذكره للعلم بوجوب الإدغام فيه؛ إذ لا يمكن النطق بهما مع الفك إلا بتكلف كثير. فلا تقول في رد: ردد، لعدم الإمكان فيه. والثاني: أن يكون الأول متحركا، فهو على قسمين: أحدهما: أن يكون المثلان من كلمتين. وهذا القسم لا يجب فيه إدغام، نحو: جعل لك، وهرب بكر، وقاسم مالك. فالنطق به على الأصل صحيح، فلم يكن ذكره من المهم.

والثاني: أن يكونا من كلمة واحدة. فهذا القسم هو الذي يختلف الحكم فيه، فلا يمتنع الإظهار فيه بإطلاق، (ولا يجوز فيه بإطلاق)، فلأجل ذلك خص هذا القسم بالذكر وحده، لأنه الضروري من سائر الأقسام. وحاصل ذلك أن المثلين في كلمة على ثلاثة أقسام: قسم يجب فيه الإدغام، وقسم يجب فيه الإظهار، وقسم يجوز فيه الوجهان. والناظم- رحمه الله- حصل ذلك، فأطلق القول بوجوب الإدغام إلا فيما يستثني، فقال: "أول مثلين محركين في كلمة ادغم"، أول: مفعول بأدغم، أي: أدغم أول مثلين .. إلى آخره. يعني أنه يجب إدغام أول الحرفين في ثانيهما إذا اجتمع فيهما ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الحرفان مثلين، وذلك قوله: "أول مثلين"، وهو على حذف الموصوف، أي: أول حرفين مثلين، تحرزا من أن يكونا غير مثلين بل متقاربين، فإنه لا يجب فيهما الإدغام نحو: خذتالدا، واجبه حاتما، ونحو ذلك، فتظهر إن شئت ويجوز الإدغام فتقول: ختالدا، واجبحاتما، وما أشبه ذلك. والثاني: أن يكونا محركين معا، المدغم والمدغم فيه، تحرزا من أن يسكن الأول، أو الثاني، أو يسكنا معا، فأما إن سكن الأول فقد تقدم وجوب الإدغام، وأنه مدرك حسا، فلم يحتج إل ذكره وأخرجه، لأنه كالمذكور حكمه، نحو: رد، وشد، وسر، وكذلك: زر رافدا، وكن نائما. وأما إن سكن الثاني فالفك واجب نحو: رددت، ورددن. وسينه عليه بعد هذا. وأما إن سكنا معا فإن المسألة

تصير من باب التقاء الساكنين، وتخرج عن هذا الباب، فلم يكن ذكره هنا لائقا. والثالث: أن يكون الحرفان في كلمة واحدة، فإن كانا في كلمتين لم يجر فيهما حكم وجوب الإدغام كالمتقاربين بالنسبة إلى الشرط الآخر، فالمفهوم فيهما معا الجواز وهو مفهوم صحيح، لأنك تقول: جعل لك، وجعل لك، وهرب بكر، وهرب بكر، وما أشبه ذلك. والمفهوم في الموضعين جملي، لأنه ليس كل مقارب يدغم في مقاربة، ولا كل متقاربين يجوز إظهارهما، ولا كل مثل يجوز أن يدغم في مثله إذا كانا من كلمتين؛ ألا ترى أن الواو والياء لا يدغمان في مقاربهما، ولا مقاربهما فيهما، (لما فيهما) من المد. وأيضا حروف المد صنف على حدة لا يجوز أن تقلب إلى الحروف الصحاح/، ولا الصحاح إليها، والنون تدغم في حروف "لم يرو" إذا سكنت ولا يجوز الإظهار، وخرجت النون عن الحروف الصحاح فأدغمت في الواو والياء لشبهها بالغنة بحرف اللين. والألف والهمزة لا يجوز في واحدة منهما إدغامها في مثلها، أما الألف فلأن حقيقتها المد، والإدغام رفع اللسان عن الحرفين رفعة واحدة، وذلك لا يتصور مع المد، ألا ترى أنه يزول في نحو مغزو وولى، فلو مددت لم يجز الإدغام. وأما الهمزة فللزوم تخفيف إحداهما عند الاجتماع. فقد ظهر أن الحكم بجواز الإدغام في المسألتين غير مطرد، لكن إذا نظر الباب كله في المسألتين وجد جواز الإدغام هو الأغلب فيهما، فلأجل هذا حملت كلام الناظم القصد إلى حقيقة المفهوم، ولم أحمله على اطراحه، فالأحسن أن يكون حكمهما

مذكورًا - وإن كان على الجملة- من أن يكون لم يعرج عليهما البتة. وقد يمكن أن يكون المفهوم هنا معطلا في الشروط الثلاثة فلا يستفاد الحكم من كلامه إلا فيما نص عليه دون غيره، وهذا أسلم له من الاعتراض، والأول أجرى على عادته من اعتماد دلالة المفهوم. ولما ذكر هذه القاعدة العامة في الإدغام أخذ يذكر ما ينتفي عنه هذا الحكم المذكور فقال: "لا كمثل صفف" وكذا وكذا، فأتى بمثل على أبنية وأحوال مخصوصة منفيا عنها وجوب الإدغام، يعني أن هذه الأشياء، وما كان على بنائها أو حالها لا تدغم وجوبا وجملة ما أتى به منها عشرة أنواع: أحدها: ما كان من الأسماء خارجا عن وزن الفعل أو الجريان عليه، وذلك ثلاثة أبنية، أحدها: صفف وما كان نحوه، ومراده ما كان على هذا الوزن وهو وزن فعل كصرد، فمثل هذا لا يدغم، فتقول: سرر، ودرر، وحلل، وحمم، وقنن، وجدد، وما أشبه ذلك. ولا يجوز أن تقول: سر، ولا در في درر، وأما در فهو فعل لا فعل. والصفف: جمع صفة، والصفة من الرحل والسرج: التي تضم العرقوتين والبدادين من أعلاهما وأسفلهما. هذا تفسير ابن سيده، والجمع صفف، وهو القياس، ويجمع أيضا على صفاف سماعا. وصفة البنيان أيضا: طرته، والصفة: الظلة كالسقيفة. والثاني: ذلل وما كان نحوه مما هو على وزنه، وهو وزن فعل كطنب، فمثل هذا لا يدغم أيضا نحو: سرر، وجدد، والذلل: جمع ذلول، والذلول: هي الدابة اللينة غير الصعبة، يقال:

دابة ذلول بينة الذل- بالكسر- من دواب ذلل، ومنه قوله تعالى: {فاسلكي سبل ربك ذللا}، أي: سهلة غير صعبة. وأما قولهم: نخلة عميمة، ونخل عم .. وأصله عمم، كسفينة وسفن، لكنهم لم يقولوا: عمم- فإنه ليس إدغامه من عمم، وإنما أدغم من تخفيفه، لأن فعلا في جمع فعيلة يجوز تسكين عينه تخفيفا، وإذا خفف وجب الإدغام لسكون أول المثلين. فإن قيل: فكان ينبغي أن يأتي فيه عمم على الأصل؟ فالجواب: أنه لا ينكر أن تقتصر/ العرب في مثل هذا على أحد الوجهين لما فيه من خفة الإدغام. والثالث: كلل وما كان وزنه أيضا مما هو على فعل كعنب، وذلك: عدد، وقدد، وسلل، ومرر، وعلل، وما كان نحو ذلك، فكله غير مدغم أيضا. والكلل: جمع كلة؛ وهي الستر الرقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البق. هذا قال الجوهري. والنوع الثاني: (ما كان على وزن فعل كقوله): لبب، وما كان نحوه مما هو على فعل كجبل لا يدغم أيضا، فتقول: سبب، وطلل، وشرر، ومدد، وعدد، وسنن، وما كان نحو ذلك. واللب واللبة: المنحر، وهو موضع القلادة من الصدر، من كل شيء. واللبب أيضا: ما يشد على صدر الدابة أو الناقة يمنع

الرحل من الاستئخار، ويقال: فلان في لبب رخى: إذا كان في حال واسعة. وقال الأحمر: اللبب: ما استرق من الرمل، لأن معظمه العقنفل، فإذا نقص قيل: كثيب، فإذا نقص قيل: عوكل، فإذا نقص قيل: سقط، فإذا نقص قيل: عداب، فإذا نقص قيل: لبب، قال ذو الرمة: براقة الجيد واللبات واضحة ... كأنها ظبية أفضى بها لبب واعلم أن الأوزان الثلاثية على قسمين، أحدهما: أن تشترك فيها الأسماء والأفعال. والثاني: أن تختص بالأسماء ولا مشاركة للأفعال فيها، وقسم ثالث ليس بمراد هنا، وهو المختص بالأفعال، لأنه مدغم مطلق ما لم يعرض مانع. فاما قسم الاشتراك فقد ظهر- من حيث لم يستثنيها الناظم من الحكم بالإدغام- أنها مدغمة، وهي: فعل، وفعل، وفعل، وفعل. (أما فعل) فقد استثناه، وأما فعل فتقول فيه من اللب: لب، ولا تقول: لبب. وأما فعل فكذلك إذا بنيته من اللب تقول: لب. (و) من هذا قولهم: رجل صب، وهو فعل بدليل قولهم: صببت- يا هذا- تصب صبابة، مثل قنعت قناعة، فكما أن اسم الفاعل من هذا قنع، فكذلك صب فعل. وقالوا: طب وطبيب، فطب فعل، لأن فعلا وفعيلا يكثران بمعنى واحد كفرح وفريح، ومذل ومذيل.

وقد شذوا فقالوا: رجل ضفف الحال، وقوم ضففو الحال. والوجه أن يقال: ضف الحال وضفو الحال، وهو الأشهر في الاستعمال، وهو فعل بدليل الضفف في المصدر. وحكى ابن جني أيضا عن أبي علي أن أبا زيد حكى عنهم: طعام قضض: إذا كان فيه الحصى. وأما فعل فلو بنيت مثل دئل من اللب لقلت: لب، فتدغم. ولم يسمع فعل، ولا فعل من المضاعف جاء على أصله. وإنما فرقوا بين القبيلين فأدغموا ما وافق الفعل دون الآخر، لأنهم جعلوا إعلال التضعيف الذي هو الإدغام كإعلال حرف اللين عينا، فكما أن ما جاء من الأسماء على مثال الفعل أعل كباب وخاف لأنه كقال وخاف، كذلك فعلوا في التضعيف، وكما لم يعل نحو بيض وعوض ولومة ونحوها مما ليس على وزن الفعل كذلك لم يدغموا ذللا ولا كللا ولا صففا، لأنها ليست/ على مثال الفعل، لأن الإعلال في الأسماء بالحمل على الإعلال في الأفعال، والإعلال فيها أصل، لأن التصريف لها بحكم الأصل. وبقى وجه تصحيح فعل كلبب مع أن وزنه من المشترك، فكان الوجه أن يدغم، لأنهم قد أعلوا بابا ودارا ونحوهما. والذي ذكروا في وجه ذلك أن الفتحة لما خفت عليهم لم يكرهوا ظهور التضعيف، كما كرهوه مع غيرها. وأيضا إذا صححوا نحو القود والخونة والحوكة- وإن كان شاذا- فتصحيح نحو طلل وشرر أولى، لأن الإعلال في حروف العلة ألزم منه في حروف الصحة. هذا ما في الثلاثي

من الأسماء، وأما الأفعال ثلاثية كانت أو غير ثلاثية فقد دخلت له في حكم الإدغام، وسيأتي ذلك إن شاء الله. والنوع الثالث: ما كان مثل جسس وما أشبهه مما فيه مانع من الإدغام كمانع جسس وهو الإدغام الموجود، فإن الكلمة ذات ثلاثة أمثال، فسبق إدغام الأول في الثاني لأنه ساكن بحق الأصل فصار جسس هكذا، فلو رمت إدغام السين الثانية في الثالثة لوجب زوال إدغام الأول في الثاني، إذ لا يدغم حرفان في ثالث أبدا، فصار إلى نحو مما كان عليه قبل هذا العمل؛ إذ لابد فيه على أي وجه حملته في الإدغام من بقاء مثلين غير مدغمين فلم يكن للعمل فائدة، فكان تركه على حالته الأولى أولى. ومثله: ردد يردد، وخلل يخلل، وهو مردد ومردد، ,مخلل ومخلل، وكذلك ما أشبهه، ولا يمكن إدغام الحرفين معا في الثالث فيصير ردد إلى رد، وجسس إلى جس، لأنه إخلال بالكلمة ووقوع في اللبس إن حذف أحد المدغمين، وإن أبقى التقى ساكنان على غير شرطهما. وذلك كله ممنوع. وقد حكي عن أبي عمرو الإدغام في (مس سقر) و (تم ميقات)، وما أشبهه من المنفصل، فقد يقال: إذا فعل ذلك في المنفصل فالمتصل أقرب، لأن الإدغام (فيه ألزم، إلا أن يجاب بأن الإدغام في المنفصل) ليس على ظاهره، والإلزام المحذور المذكور، وإنما هو على نية الوقف

على الكلمة الأولى، ويجوز التقاء الساكنين في الوقف لعروضه، ومثل هذا لا يتأتى في المتصل، فلا يصح فيه الإدغام البتة. أو يكون- وهو الأولى- على أن ما حكى من الإدغام إخفاء في الحقيقة لا إدغام، وعلى هذا يجوز في المتصل والمنفصل، ولا يكون داخلا على الناظم على كلا الوجهين. والجسس: جمع جاس أو جاسة، من قولك: جسه بيده، أي: مسه. والنوع الرابع: اخصص أبي، وما كان نحوه، ومراده بهذا المثال أن الثاني من المثلين إذا كان متحركا بحركة عارضة فإنه غير موجب للإدغام، وذلك أنه قدم أن المثلين لابد أن يكونا متحركين، فلابد إذا من تحرك الثاني، لكن إن كانت حركته عارضة لم يعتد بها في حصول الإدغام، بل يعد كأنه باق على أصله من السكون، وإذا كان ساكنا لم يسغ الإدغام، فكذلك إذا كان في تقدير السكون. لكن هذا الذي ذكر من منع الإدغام ليس على إطلاقه، بل لابد من مقدمة تبينه، وذلك أن الفعل/ المضاعف المجزوم وفي معناه الموقوف- وبه مثل الناظم- للعرب فيه لغتان، فلغة بني تميم الإدغام مطلقا، فيحركون الثاني لأنه وإن كان ساكنا فإنه مما يتحرك على الجملة وليس مما تمتنع فيه الحركة. وهذه

اللغة لم يتعرض إليها الناظم؛ إذ ليس المثال إلا مظهرا فيه التضعيف. واللغة الثانية لأهل الحجاز، وهي الإظهار، ومنه قوله تعالى: {واغضض من صوتك}، (وذلك من جهة أن الإدغام يقتضي تسكين الأول من المثلين ونقل حركته إلى ما قبله، وقد كان الثاني منهما ساكنا للجزم أو الوقف، فيؤدي الإدغام إلى التقاء الساكنين على غير شرط اجتماعهما، فلما كان ذلك كذلك امتنعوا من الإدغام) وعلى هذه اللغة جاء تمثيل الناظم، وهذا السكون قد يتحرك بحركة عارضة، وذلك إذا لقيه ساكن بعده من كلمة أخرى فيتحرك نحو اخصص الرجل، واردد (ابن فلان، وقد تنقل إليه حركة همزة تقع بعده فيتحرك نحو: اخصص أبي- وهو مثال الناظم- ولم يردد أبلك، واردد) احمر، وما أشبه ذلك. فيقول القائل هنا: إذا كانوا يمتنعون من الإدغام لأجل سكون الثاني فما هو متحرك فليدغموا. فأخبرك الناظم بأن هذا التحريك غير معتبر لكونه عارضا يزول بزوال الكلمة الثانية فلم يعتدوا به من حيث كان في تقدير الزوال، (و) الأصل السكون، فاعتبروه كما لو كان موجودا. هذا ما أراده الناظم بهذا المثال، لكن لم يبين أن هذا مخصوص بأهل الحجاز، وإنما بين أن هذا التحريك في مثل هذا المثال المقول لا يسوغ الإدغام. وقد ذكر إثر هذا جواز الوجهين في مثل: اخصص ونحوه. ومن الغريب في هذه الحركة العارضة أنها موجبة للإدغام عند بني تميم وإن لم توجد، غير موجبة له عند أهل الحجاز وإن وجدت، وذلك من حيث

اعتبرها بنو تميم فساغ لهم الإدغام، إذ لو اعتبروا حال الكلمة لم يجز لهم لأجل الساكنين، ولم يعتبرها الحجازيون لعروضها فلم يسغ لهم الإدغام، فهذه حركة طارئة يقدر وجودها فتوجب حكما، وإذا وجدت منعته، لكن بلحظين مختلفين. ولأجل ما تقرر جب أن يضبط قوله: "واخصص أبي" مسهل الهمزة مع نقل حركتها إلى الصاد، إذ لا يصح تنزيل المسألة على غير ذلك، فلا تأتي بالهمزة على أصلها أصلا، وهذا ظاهر. والنوع الخامس: هيلل وما كان مثله مما قصد به قصده، وذلك أن تكون الكلمة التي فيها المثلان قد ألحقت بكلمة أخرى فوجب فيها من أجل ذلك مقابلة (المتحرك) بالمتحرك والساكن بالساكن، على ما هو مقرر في فصل الإلحاق من الكتب المبسوطة، فيجب إذا إن كان المثلان في مقابلة متحركين أن يكونا متحركين، كما أنهما إذا كانا في مقابلة ساكن ومتحرك أن يكونا كذلك، فهيلل فعل ماض بمعنى هلل، إذا قال: لا إله إلا الله، وهو ملحق بدحرج، فقابلت اللامان منه الراء والجيم، فوجب الإظهار، ولو لم يكن ملحقا به لأدغمت، كما قلت: أعد، وأجد، وأسر، إذ لم يقصدوا هنا الإلحاق، إذ لا يلحق بالهمزة وحدها، ولا بالميم أيضا وحدها في الأسماء إلا مع مساعد، فلما قصدوا حافظوا على الوزن فأظهروا التضعيف وإن ثقل عليهم، لأن في إدغامهم مع قصد الإلحاق نقض الغرض، فقالوا: جلبب، وهو ملحق بدحرج كهيلل، وكذلك:

اسحنكك/ ملحق باحر نجم، ولذلك لا يجوز أبدا أفعل مفكوكا، لأن الهمزة لا يلحق بها كما تقدم. ولذلك لا يفك فعل ونحوه، لأن المثلين فيه أصلان ولا زيادة فيه، ولذلك أيضا ادغم احمر واصفر واقشعر واحمار، غذ ليس لها أصل تلحق به. ولما كان قصده التنبيه على ما فك لأجل الإلحاق لم يقتصر على مثاله المخصوص، لظهور العلة، فدخل له في مقتضاه الأسماء التي حصل فيها الفك للإلحاق نحو: قردد ومهدد ويأجج لإلحاقها بجعفر، وعفنجج وخفيدد لإلحاقهما بسفرجل، وقعدد لإلحاقه ببرثن، وسؤدد وعندد وسردد لإلحاقها بحخدب وجندب على مذهب الأخفش والناظم، أو بعنصل على مذهب سيبويه، وقد تقدم، وكذلك ما أشبه هذا. ومما يبين أن الإظهار لم يكن إلا لهذا المعنى أنك لا تجده إلا على زنة الأصول، وكل ما ورد من ذلك في الفعل فتصريفه على نحو تصريف الملحق به لا يخالفه في جميع تصاريفه، والاسم في ذلك حكمه حكم الفعل، فتقول في الفعل: جلبب يجلبب جلببة فهو مجلبب، كما تقول: دحرج يدحرج دحرجة وهو مدحرج، فتأتي به في المضارع والمصدر وغيرهما على حد ما تأتي (به) في الآخر. وكذلك تقول في قردد: قرادد وقريدد، كما تقول: جعافر وجعيفر، فتجمعه على فعالل كما تجمع الرباعي. وتظهر التضعيف ليكون كالملحق به، ولا تدغم فتقول: قراد، ولا قريد. فهذا كل مما يدل على ذلك القصد.

فإن قيل: قد زعم سيبويه أن معدا ميمه أصلية، فهو إذا فعلل، فنقلت حركته وأدغم، فلم لم يظهر كقردد؟ فالجواب: أن سيبويه قد زعم أن معدا ليس فعللا في الأصل ثم أدغم، وإنما هو فعل أصل بناء، كما أن خدبا فعل. فإن قيل: ولعل خدبا فعلل في الأصل، ثم أدغم. قيل: قد زعم سيبويه أنه لم يأت في الكام فعلل كقردد. ثم قال: "وشذ في ألل ونحوه فك بنقل"، يعني أن ألل وما كان مثله من الفعل بابه أن يدغم، وما جاء على غير ذلك فشاذ يحفظ ولا يقاس عليه. وهذا المثال من الثلاثي لأنه الذي جاء فيه الإظهار، وألل على فعل، كان أصله أن يقال: (أل): ألل السقاء: إذا تغيرت رائحته، وأللت أسنانه أيضا: فسدت، وأللت الأذن: إذا رقت. ومثل ذلك قولهم: "لححت عينه: إذا التصقت، وصككت الدابة، وضبب البلد: كثرت ضبابه، ومششت الدابة، وقطط شعره". ومن ذلك في الاضطرار قول قعنب بن أم صاحب، أنشده سيبويه:

مهلاً أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا وقد أجاز ابن السراج فك المدغم في الشعر مطلقا نحو: ردد في رد، وما أشبه ذلك. (و) لم أر هذا الشذوذ جاء في فعل ولا فعل، على أن فعل في المضاعف نادر، حكى ابن جني منه لفظين: لببت يا هذا، عن يونس، وشررت في الشر، عن قطرب. ومن الناس من يعد الضرورة قسما مسوغا للفك/، فيعده من أنواع ما خرج عن حكم الإدغام، وهو على طريقة ابن السراج ومن ذهب مذهبه، ويعد ما جاء في الكلام من الشاذ منبهة على الأصل، فيجعلون هذين نوعين، فإذا اعتبرنا ما اعتبروا عددنا ما نبه عليه المؤلف من الشذوذ نوعا سادسا. ولكنه ذكره هنا مختصا بالفعل لأنه به مثل، ولا فرق بين الفعل والاسم في هذا، فقد عدوا الشذوذ في الاسم منه، وأنشدوا عليه لرؤبة، وأنشده سيبويه، ثبت ذلك في الرقية: الحمد لله العلي الأجلل ... أنت مليك الناس ربا فاقبل وأنشد ابن السراج:

قد علمت ذاك بنات ألببه يريد: بنات أعقل هذا الحي، أي: ألبه، وغير ذلك من الأمور التي مضت وسيأتي جملة منها إن شاء الله. ويشمل كلام الناظم في الشطوط القسمين، وما جاء منبهة على الأصل، وهو الآتي في النثر، وما جاء في الشعر ضرورة، لأنه شاذ كله عما ثبت في القياس. وقوله: "بنقل" في موضع الصفة لفك، (أو) في موضع الحال منه أي: ملتبس بنقل، أو حالة كونه ملتبسا بنقل. وأراد بذلك أنه موقوف على النقل لا أنه قياس. فإن قلت: قوله "بنقل" حشو، لأن قوله: "وشذ" مجزئ عنه، إذ عادته أنه حيث يقول: وشذ، فمعناه أنه موقوف على السماع. وأيضا فقوله: "فقبل" حشو أيضا؛ إذ معلوم أن ما كان بابه النقل مقبول على ما هو عليه إلا أنه لا يقاس عليه، وليس من عادته الإتيان من الكلام بما لا فائدة فيه. والجواب: أنه يمكن أن يكون قصد بهذا اللفظ تنكيتا على مسألة وذلك أن الشاذ في الاصطلاح على ثلاثة أقسام: شاذ في القياس دون الاستعمال، وشاذ في الاستعمال دون القياس، وشاذ فيهما معا. فأما الشاذ في القياس دون الاستعمال فمثله ابن جني بقولهم: أخوص الرمث، واستصوبت الأمر، واستحوذ، وأغيلت المرأة، ونحو ذلك؛ إذ هو كثير في السماع مطرد

فيه، وأما في القياس فخارج عنه، إذ القياس الإعلال. وأما الشاذ في الاستعمال دون القياس فمثله بالماضي من يذر ويدع، واسم الفاعل من أبقل المكان، إذ المستعمل باقل، ومبقل شاذ، وكذلك ودع شاذ في الاستعمال. وأما الشاذ فيهما فمثله بتتميم مفعول مما عينه واو نحو: ثوب مصوون، ومسك مدووف، وفرس مقوود، ورجل معوود. فأما الأول فمتبع فيه العرب مطلقا، وكذلك الثالث. وأما الثاني فهي متبعة فيه في المنطوق به خاصة دون ما سكت عنه، فلك أن تقول (أنت): وزن ووعد لو لم تسمعهما. ولا تمتنع منها، ولا من غيرهما قياسا على ما تركته العرب. وإذا كان كذلك فقد يكون الناظم أراد هنا أنه شذ في الاستعمال لا في القياس، لأن المستعمل منه شيء يسير والقياس قابل له. وبيان ذلك أنا نظرنا ما سمع من ذلك فوجدنا ذلك الاستعمال فيه إنما هو فعل- بكسر العين- دون فعل وفعل، ثم إنا وجدنا غالب ما استعمل منه في فعل إنما هو فيما كان من باب الخلق والعيوب/، ألا ترى إلى قولهم: لححت عينه: إذا التصقت بالرمص، وهو عيب فيها، وقالوا: صككت الدابة: إذا قرع أحد عرقوبيها الآخر وضاقا، وذلك عيب أيضا. وضبب البعير: إذا وجعه فرسنه، وألل السقاء: إذا تغيرت ريحه، وأللت الأذن: إذا رقت، وذلك أيضا راجع إلى الخلق والعيوب. وقالوا: مششت الدابة مششا، وهو شيء يشخص في وظيفها حتى يكون له حجم وليس له صلابة العظم الصحيح، وهو عيب ظاهر، وقطط شعره قططا، وهو أشد الجعودة، وهو من الخلق والعيوب أيضا. وهذا غاية ما ٍرأيت من هذا القبيل منقولا، وجميعه- كما

ترى- راجع إلى باب الخلق والعيوب، ولم أجد ما هو بعيد الدخول فيه إلا قولهم: ضبب البلد: إذا كثرت ضبابه، ولا يبعد أن يعد مثل هذا كالعيب للأرض. وإذا كان كذلك فقد تقدم لنا أن ما كان من الخلق والألوان على فعل مما عينه معتلة فإنه يصحح ولا يعل نحو: عور، وحول، وهيف، وعين، وخوص، وخيف، حملا له على مرادفه الذي هو افعل، فكذلك كان القياس في المضاعف لأنهم مما يجرون المضاعف مجرى المعتل، فيصححون حيث يصح المعتل، ويدغمون حيث يعتل. هذا هو الغالب كما هو مقرر عندهم، فحيث وجد شيء من المضاعف على فعل وهو من باب الخلق والألوان فك، لكنهم لم يفعلوا ذلك بل أدغموا ما كان كذلك ولم يظهروه إلا قليلا، فقالوا: غم الرجل يغم غما: إذا كثر شعر وجهه وقفاه. وغم الفرس غمما: كثر شعر ناصيته. وجمت الشاة. جمما: لم يكن لها قرون. وجش الصوت يجش جششا: صارت فيه كالبحة. ولست أسنانه كسسا: تقدمت السفلى العليا. وسكت الأذن تسك سككا: صغر قوفها وضاق صماخها. وشق الفرس شققا: إذا مال في جريه إلى جانب، وشلت يمينه تشل شللا: بطلت، وشج يشج شججا: إذا بقى في جبهته أثر الشجة. وصم يصم صمما: إذا ذهب سمعه. وضز يضز ضززا: إذا لحق حنكه الأعلى بالأسفل. ولص الرجل لصصا: إذا اجتمعت منكباه حتى يكادا يضربان أذنيه. وكذلك إذا تقاربت أضراسه. ورح الحافر والقدم رححا: إذا انبسطا، وهو في الحافر محمود إلا أن ينبسط جدا فمذموم. ودن البعير دننا: إذا قرب صدره من الأرض فهو أدن، وهو من أعظم العيوب. ومن هذا كثير. فأنت ترى

اتساع الإدغام في هذا الباب مع أن القياس فيه أن لو كان مفكوكا كله كما كان الباب في المعتل العين التصحيح. فهذا- والله أعلم- هو الذي قصد الناظم التنكيت عليه، كأنه قال: وشذ في فعل- مما هو من قبيل ألل- الفك استعمالا حالة كونه منقولا، أي: شذ (في) النقل وإن كان في القياس غير شاذ. ولأجل هذا أتى بألل الراجع في المعنى إلى العيوب، وعلى هذا يكون لقوله: "فقبل" فائدة، وهي أن ما شذ في الاستعمال دون القياس قد يظن فيه أنه يعمل فيه القياس، وليس كذلك، لأن كلامها جاء مخالفا له، فالذي كان الأصل هذا الباب أن يأتي المضاعف مفكوكا لا مدغما، وإن أتى مدغما فيكون شاذا، فانعكس هذا الأصل عندها/، فصار الأصل شاذا، وغيره هو المطرد، فلابد لنا من اتباعها حيث سارت، وترك القياس، وتلقى ما جرت عليه بالقبول. فقد ظهر بهذا التقرير أن كلامه لا حشو فيه. وحيى افكك وادغم دون حذر ... كذاك نحو تتجلى واستتر أما قوله: "وحيى افكك وادغم" فهو النوع السابع من الأنواع المستثناة، وأشار بهذا المثال إلى ما كان التضعيف واجتماع المثلين فيه لا يلزم في جميع تصاريف الكلمة، وذلك أنك تقول في المضارع: يحيا، فلا يجتمع المثلان، لانقلاب الثانية ألفا، فلما كان كذلك لم يراعوا الاجتماع تلك المراعاة، فلم يلزموا الإدغام كما لزم في رد وشد وصب وعض وما

أشبه ذلك، لما كان التضعيف فيه لازما في التصاريف كلها، فكان ما يزول في بعض التصاريف أخف عليهم مما هو لازم، لأنه صار كالعارض الذي لا يعتد به، قال سيبويه: "اعلم أن آخر المضاعف من بنات الياء يجري مجرى ما ليس فيه تضعيف من بنات الياء، ولا يجعل بمنزلة المضاعف من غير الياء، لأنها إذا كانت وحدها لاما لم تكن بمنزلة اللام من غير الياء، فكذلك إذا كانت مضاعفة، وذلك نحو: يحيا ويعيا، ويحيى، (ويعيى)، أجريت ذلك مجرى يخشى ويخشى". هذه هي العلة في خروج هذا القبيل عن لزوم الإدغام، وعلى هذا التعليل يدخل له تحت هذه الإشارة كل ما كانت الياءان فيه لا تلزمان في التصاريف، فجرى فيه الحكم المذكور. فقوله: "وحيى افكك وادغم" يريد أن ما كان من هذا النحو يجوز فيه الوجهان، لكنه لم يرجح بين الوجهين، وقال سيبويه: "والإدغام أكثر، والأخرى عربية كثيرة". فوجه الإظهار ما تقدم من معاملة التضعيف حين لم يلزم معاملة العارض، وأما الإدغام فعلى قياس الصحيح. ومن السماع في الوجهين قوله تعالى: {ويحيا من حيى عن بينة}، قرأ بالإظهار نافع والبزى وأبو بكر، والباقون بالإدغام. ومن الإدغام في الشعر ما أنشده سيبويه من قول الشاعر:

عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة وأنشد في الإظهار: وكنا حسبناهم فوارس كهمس ... حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا أصله: حييوا، فأعل حتى صار مثل رضوا. وكلام الناظم في المسألة مجمل يتفسر بتفصيل يبين المقصود فنقول: إن المضاعف الثاني من المضاعفين في حيى ونحوه إما أن يكون ساكنا أو متحركا، فإن كان ساكنا لم يجز إدغامه بوجه مثل: حييت وعييت، لأن من شرط الإدغام تحرك الثاني أو تقدير تحركه، فإن كان سكونه لا يقبل الحركة لم يدغم، وهذا عام في الإدغام كله، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، ومثاله قد نبه على هذا، إذ كان المضاعف الثاني منه متحركا ولم يكن ساكنا. وإن كان الثاني متحركا فلا يخلو أن تكون الحركة حركة إعراب أو حركة بناء، فإن كانت حركة إعراب لم يجز الإدغام أيضا، لأن تلك الحركة غير لازمة، كالمضارع في حال النصب إذا قلت: يحيى، كقوله/ تعالى:

{أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} لأنه في حال الرفع ساكن، وفي حال الجزم محذوف، فجاءت في حال النصب عارضة فلم يعتد بها. وكذلك إذا قلت: رأيت محييا، لأنه في الرفع والخفض ساكن فلا تقول: أن يحى، ولا محيا. وقد نبه على هذا أيضا تمثيله؛ إذ حركة حيى حركة بناء لا حركة إعراب، وقد شذ من هذا قول الشاعر أنشده في التذكرة: وكأنها بين النساء سبيكة ... تمشي بسدة بابها فتعى وفيها: وقال: فلان يريد أن يحى أرضه، يدغم ولا يدغم. ووجه الكلام ألا يدغم، يبقى على سكون الياء في الرفع. قال: ولو بنيت الرفع على النصب فاستجزت فيه الإدغام في الواحد وفي الجمع لجاز ذلك فقلت: هو يحى ويعى، فترفع الياء، قال: وتحتج بأن تقول: كرهت أن يكون حرف في نصبه بياء واحدة مشددة، وفي رفعه بياءين الأخيرة منهما ساكنة. ويقويك على ذلك أنهم قد قالوا في الواحد: مد ورد، بناء على الأثنين والجمع، وأنشد البيت، قال: وتقول على هذا في المجزوم: لم يعى، فتنصب مثل: لم يفر، وإن شئت قلت: لم يعى، مثل: لم يفر. قال: والذي تختاره العرب في الجزم: لم يعى. قال: وسمع

الكسائي العرب تقول: إبل معاي، يا هذا، وهو رفع، بني على تغير معي. قال: فإن قلت: فمن أراد أن يؤلف فعل ويفعل على الإدغام ويكره أن يكون حي مدغمة ويحيى غير مدغمة، هل يجوز (له) أن يقول: هو يحى؟ قلت: ما أبعد ذلك، وما أحفظه مسموعا عن العرب! وإن ثنيت فقلت: يحييان ويعييان كان الإدغام فيها سهلا، والوجه ألا تدغم. انتهى ما وجدته، وهو مشعر بجواز الإدغام وإن كانت الحركة حركة إعراب، وإنما أجازه من أجازه قياسا ولا سماع فيه إلا ما ذكر من الشذوذ، فلا يعتبر. وإن كانت الحركة حركة بناء فلا يخلو أن تكون متطرفة أو غير متطرفة، فإن كانت متطرفة جاز. الإظهار والإدغام كما تقدم نحو: حيى، وأحيى، وحيى. وفي الإدغام: حى، وأحى، وحى. وهذان الوجهان صريحان من عقده وتمثيله. وإن كانت الحركة غير متطرفة فلا تخلو أن يقع بعدها ما لا يعتد (به) في بناء الكلمة أو ما يعتد (به)، فإن وقع بعدها ما لا يعتد له في بناء الكلمة عليه فلا حكم له، وكأنه لم يقع، وحكم الكلمة بعد دخوله كحكمها قبل ذلك، مثاله علامة التثنية والجمع كقولك: محييان وحييان. فهذا وأمثاله لا يجوز الإدغام فيه إذ كان المفرد غير مدغم، وكذلك لو سميت امرأة بحيا فجمعها بالتاء فقلت: حييات، لوجب الإظهار، وكذلك محييات في جمع محيية؛ إذ كانت محيية تأنيث محي لا يدغم أيضا لأن التاء عارضة للبناء، والمذكر لا يدغم لأن المضاعف

الثاني ساكن، وإذا تحرك (تحرك) بحركة إعراب حالة النصب، فصارت الحركة عارضة فيه، (و) قد تقدم آنفا إجازة من أجاز الإدغام في هذا، والأصح خلافه. وهذا كله ظاهر من تمثيل الناظم وجوب إظهاره على ما تقدم من اشتراط تحرك الثاني. وإن وقع/ بعدها ما يعتد به جاز الوجهان، وذلك إذا بنيت الكلمة على تاء التأنيث كأحيية، لأن أفعلة لا يوجد بغير تاء، وتقول- إن شئت-: أحية. وكذلك ألفا التأنيث تقول: عيى وأعيياء، وحيى وأحيياء. وإن شئت أعياء وأحياء. وقال الخليل: أقول في مثل فعلان من حييت، حييان (وتسكن) وتدغم إن شئت. ووجه الفرق بينهما ظاهر، وهو أن حركة المضاعف الثاني إذا صارت وسطا للحاق ما يعتد به صارت الحركة البنائية لازمة في ذلك الموضع، كما كانت الحركة في حيى الذي مثل به الناظم لازمة في ذلك الموضع، بخلاف الحركة في محييان فإنها عارضة بعروض علامة، التثنية والجمع. فالحاصل من هذا أن الإظهار والإدغام هنا جائزان بثلاثة شروط، وهي: أن يكون ثاني المثلين متحركا، وأن تكون حركته بنائية، وأن تكون غير عارضة في الكلمة. ثم قال: "كذاك نحو تتجلى". وهذا هو النوع الثامن من الأنواع المستثناة، وذلك إذا كان المثلان أول فعل نحو: تتجلى. ومثل هذا لا يكون أحد المثلين فيه إلا زائدا، لأن مثل ددن لم يأت في الفعل البتة. وهذا المثال الذي مثل به يشمل من حيث معناه الماضي والمضارع إذا كان

أولهما تاءان، فالماضي يقع ذلك فيه في تفاعل وتفعل إذا كانت الفاء تاء نحو: تتابع وتتارك، وتتبع. والمضارع يقع فيه إذا كان أول الماضي تاء ولحقت المضارع تاء الخطاب أو التأنيث، نحو: تتصارب وتتقارب، وتتكلم وتتجرأ، وما أشبه ذلك. فمثل هذا يجوز الوجهان فيه كما قال، (حيث) أشار إلى ما يجوزان فيه بقوله: "كذاك نحو تتجلى". أما الإظهار فكما تقدم في التمثيل، ويجتمع المثلان، ولا محذور فيه ولا كراهية، لأنه يشبه اجتماعهما من كلمتين، إذ الاجتماع هنا غير لازم، ألا ترى أن تاء المضارعة قد تزول ويؤتى بغيرها من حروف المضارعة، فدخولها عارض على الكلمة التي أولها تاء. وأيضا فإن تاء المضارعة لا يلزم أن (تدخل على ماض في أوله تاء، لأنها قد تدخل على ما فاؤه غير تاء، كقاتل وضارب، وسلم، وما أشبه ذلك، فصارت التاء التي بعدها عارضة لها أيضا من هذا الوجه، وكذلك تاء تفاعل وتفعل داخلة على فاعل وفعل وعارضة لهما لكونها إنما تدخل لمعنى ثم يعدم بانعدامه كحرف المضارعة. وأيضا تاء المطاوعة أو غيرها لا يلزم) أن يأتي بعدها تاء، فصارت كل واحدة منهما عارضة للأخرى، فصار المثلان في الجميع كأنهما من كلمتين، وإذا كانا من كلمتين جاز الإظهار، فكذلك ههنا يجوز الإظهار وأما الإدغام فجائز أيضا، فتقول في الماضي: اتابع، واتارك، واتبع، فتسكن الأول وتأتي لأجله بهمزة الوصل؛ إذ لا يبتدأ بساكن. وتقول في مضارعه: يتابع، ويتارك، ويتبع. وكذلك الأمر واسم الفاعل والمفعول. والإظهار في الجميع جائز. فهذا ما أجاز الناظم، إلا أنه أشار إلى شرط

(بالتمثيل بالفعل)، وهو كون ما المثلان فيه فعلا، تحرزا من أن يكون اسما، فإن الاسم لا يدغم، فتقول: ببر، ويين، وددن، ونحو ذلك. أما ما الثاني فيه ساكن فظاهر من هذه الجهة، ومن جهة ذلك السكون إذ قد شرط تحرك الثاني. وأما ددن ونحوه فلأنه لو أدغم لسكن الأول ولا يبتدأ بساكن، ولا يجوز أن تلحق ألف الوصل لأن مواضع لحاقها معلومة معدودة، وليس هذا منها. ثم إن هذا الكلام فيه نظر من وجهين. أحدهما: أن الفعل المضارع يظهر فيه تعذر الإدغام/ من جهة أن المضارع إذا لحقته تاء المضارعة فاجتمعت مع التاء الأخرى لابد من تسكين التاء الأولى لأجل الإدغام، فإذا فرضنا سكونها فإما أن يبقى المضارع على حالة فيلزم الابتداء بالساكن، وذلك لا يكون، وإما أن تدخل همزة الوصل ليبتدأ بها، وهمزة الوصل لا تلحق المضارع أبدا، إذ لم يأت في كلامهم المضارع أصل بناء، فلذلك لا يدغم البتة، بل يبقى على حاله، فتقول: تتضارب وتتقاتل، ونحو ذلك. نعم، يجوز حذف إحدى التاءين على ما سينبه عليه الناظم إثر هذا. فعلى الجملة لا يصح إذا دخول المضارع في هذا الحكم، لكنه قد مثل به، وأحال به على جواز الإدغام، لقوله: "كذاك نحو تتجلى واستتر". فظهر أن كلامه غير صحيح. والثاني: أن تمثيله بالفعل لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون اتفاقيا ولا يريده بخصوصه، بل يريد أن كل ما اجتمع أوله المثلان جائز

فيه الوجهان. وهذا غير صحيح، إذ يدخل عليه جواز الإدغام (فيما كان كذلك من الأسماء غير الجارية على أفعال كددن ونحوه. وقد تقدم أن مثل ذلك لا يدغم) وإما أن يكون إتيانه به قصدا منه، ويكون ذلك شرطا في جواز الوجهين كما تقدم، لكنه يقتضي أن الاسم كيف كان لا يثبت له ذلك الحكم. وهذا الاقتضاء غير مستقيم، لأن ما جرى على الفعل من الأسماء على قسمين، أحدهما: اسم الفاعل، والمفعول، واسم المصدر، والزمان، والمكان. فهذا جار على الفعل في ذلك الحكم، فتقول: متارك ومتبع، ومتارك ومتبع، كما تقول: يتارك ويتبع، فتدغم. وتقول: متتارك ومتبع، ومتتارك ومتتابع، كما تقول: يتتارك ويتبع. والثاني: المصدر المشتق منه هذه الأشياء نحو التتارك والتتبع، فهذا لا يجوز فيه الإدغام، بل يلزم الإظهار. والمانع من ذلك عندهم أن ألف الوصل أصلها ألا تلحق من الأسماء إلا الأسماء الجارية على أفعالها نحو الاستخراج، والاقتدار، والتفاعل والتفعل ليسا بجاريين على أفعالهما تفاعل وتفعل، ولو أرادوا الجاري لقالوا: تفيعالا وتفعالا، لأن الجاري على فعله هو المكسور أوله المزيد قبل آخره ألف. وأما ابن واسم فإنما لحقتها وأخواتهما ألف الوصل عوضا من المحذوف. وإذا لم تلحق المصدر ألف الوصل لم يكن إلى الإدغام سبيل، لما يلزم من الابتداء بالساكن. فقد تلخص أن كلام الناظم غير مخلص. ونظر ثالث، وهو أن تتجلى لا يخلو أن يعتبر وزنه المخصوص، أو لا يعتبر وإنما يعتبر اجتماع التاءين في أوله، فإن اعتبر وزنه المخصوص خرج عن حكمه تتفاعل ولم يدخل له تحت إشارته إلا ما كان نحو تتفعل. وأيضا لا يدخل له الماضي إذا اجتمع في أوله مثلان وذلك كله غير صحيح. وإن لم يعتبر إلا

التضعيف في أوله لزم أن يدغم نحو: تتابع وتتارك المحذوفي الفاء من تتتارك وتتتابع إذ قد اجتمع مثلان في فعل مضارع، فصار مثل تتجلى، فاقتضى الإدغام، وذلك لا يجوز، إذ لا يبتدأ بساكن، ولا يسوغ الإتيان بهمزة الوصل، لأنه لا نظير له في المضارع. وإذا ثبت هذا فكلام الناظم في غاية الإشكال. والجواب عن الأول: أن عدم لحاق همزة الوصل الفعل المضارع لا يمنع الإدغام إذا كان ثم ما يقوم مقامها، وذلك أن في المضارع وجهين، أحدهما: حذف إحدى التاءين، وسيأتي للناظم. والأخر: الإدغام إذا كان قبل المثلين مدة تقوم/ مقام الحركة من كلمة أخرى أو حركة، وذلك كقراءة البزى: (فلا تناجوا)، (ولا تنازعوا)، (ولا تبرجن)، (ولا تناصرون)، فإنه هنا يدغم ويعتد بالاتصال العارض، فتصير الكلمتان عنده كدابة وشابة. وكذلك: (لتعارفوا) و (تكاد تميز) و (فتفرق بكم عن سبيله)، (فإذا هي تلقف)، قال سيبويه: "وأما قوله تعالى جده: {فلا تناجوا}، فإن شئت أسكنت الأول للمد، وإن شئت أخفيت وكان بزنته متحركا". قال: "وزعموا أن أهل مكة لا يبينون التاءين". وقد أشار الناظم إلى نفي هذا الإشكال

المورد، وعدم الالتفات إليه، بقصده إلى التمثيل بالمضارع، وإلا فكان يمثل بالماضي ويحصل المقصود، لكنه عدل إلى ذلك تنبيها على أن المضارع يدخله الوجهان وإن توهم نفى ذلك، وإذا كان كذلك ووجد ما يقوم مقام همزة، الوصل لم يمتنع الإدغام بامتناعها. والجواب عن الثاني: أن اسم الفاعل والمفعول وغيرهما قد علم جريانها مجرى الفعل المضارع في غالب الأحكام، وتكرر هذا المعنى في أبواب كثيرة، والأمر هنا كذلك، فلم يفتقر إلى بيانه لوضوح الأمر فيه. وأما المصدر فهو عند صاحب تلك الطريقة غير جار على الفعل، وإذا لم يكن جاريا عليه فقد فارق اسم الفاعل وغيره، وصار كددن ونحوه، فلا يجوز عنده فيه الإدغام، لما يلزم من لحاق ألف الوصل في غير موضعها كما ذكر قبل، ذكر هذه الطريقة ابن عبيدة في اختصار البسيط لابن أبي الربيع. وغالب الظن أن ابن أبي الربيع نص على ذلك في البسيط، ولم أره، لكني رأيته ذكر بعينه في الكافي شرح الإيضاح، ووجه المنع بما ذكر ابن عبيدة. والذي نص عليه سيبويه يقتضي أن احكم في التفاعل والتفعل جار بجواز الوجهين كالفعل من غير فرق، ولم يراع ما ذكر من عدم الجريان، ألا تراه قال: ومما يدغم إذا كان الحرفان من مخرج واحد وإذا تقارب المخرجان قولهم: يطوعون في يتطوعون، ويذكرون في يتذكرون". ثم قال: "وتقول في المصدر: ازينا، وادارؤا". ثم بنى على

قاعدة المتقاربين حكم المثلين، على خلاف ما فعله ابن عبيدة حيث منع من ذلك، ونص على ذلك السيرافي أيضا، ولم يحك فيه خلافا عن أحد، فالظاهر أن المسألة خلافية وما قيل من عدم الجريان ليس كذلك، لأنه على الجملة مصدر، والمصادر تجري في هذا الحكم مجرى أفعالها ويطلق عليها أنها جارية عليها، ألا ترى إلى قولهم: هذا المصدر جار على فعله، وهذا غير جار عليه، ونحو ذلك. والجريان أعم من الجريان الذي يطلق لاسم الفاعل في بابه، وإذ ذاك لا يبقى على الناظم اعتراض، لأن عبارته تقتضي دخول المصدر وإذ ذاك نقول: إن كل واحد من القسمين المفروضين في السؤال صحيح، أما على اشتراط/ كون الكلمة فعلا فظاهر، لأن المصدر من الأسماء الجارية على أفعالها في الأحكام كجريان اسم الفاعل والمفعول، أو نحو ذلك، أعني في هذه الأحكام التصريفية، بخلاف نحو ددن. وأما على عدم اشتراط ذلك وأن المثال إنما أتى به اتفاقيا فكذلك، لأن باب ددن في غاية الندور، وعدم الاعتماد به شهير في أحكام التأليفات، ومن عادته (عدم) الالتفات إلى أمثال هذه الأشياء، والغالب في الأسماء التي يقع المثلان في أولها أن تكون جارية على الأفعال فيحكم لها بحكم الأفعال. والجواب عن الثالث: أنه لم يرد الوزن المخصوص بعينه لكن أراد ما هو مثله في أحواله، ومنها ألا يكون التاءان قد حذفت معهما تاء ثالثة، لأن تتجلى كذلك. وظهر أنه شرط ثان تحرزا من نحو تتابع الذي أصله

تتتابع، فإنك لا تقول فيه: اتابع، لأن الأولى تسكن فيلزم الابتداء بالساكن، ولا يجوز الإتيان بهمزة الوصل، لأنها لا تلحق المضارع كما تقدم. فإن قلت: إن هذا ليس بعلة للمنع، فإنك قد تأتي بمد أو تحريك قبلها، فلم لا يجوز الإدغام كما جاز في نحو: (لا تناجوا) ونحو: (تكاد تميز) و (لتعارفوا) و (فتفرق بكم عن سبيله)، فتقول على هذا" أنت تابع، في: أنت تتابع، وهي تابع، في: هي تتابع. وكذلك: لا تابع يا هذا، وما أشبه ذلك. فالجواب: أن الإدغام في مثل هذا على خلاف الأصل والقياس، لأنه بناء على الاعتداد بالعارض، والأصل ألا يعتد به، وإذا كانوا قد تركوا الإدغام في أحد الوجهين اعتبارا بعروض أحد المثلين في مسألتنا ونحوها، مع أن التاء قد صارت جزءا من الكلمة نحو: تتابع وتتالى، فما ظنك بالاعتداد بما هو من كلمة أخرى، لكنه سمع ذلك مع عدم الحذف، ولم يسمع مع الحذف فلا نقول به ولا نجيزه. وأيضا الإدغام يشبه الحذف إذ يصير به الحرفان كحرف واحد، فهو إذا اجتمع مع الحذف إخلال بالكلمة، فاجتنبوه. وأيضا لما امتنع فيه الحذف بعد الحذف فارق تتناجون ونحوه، فلما التزم فيه التاءان في جميع أحواله لم تلتفت تلك الحالة؛ إذ كان غير متعين في كثير من أحوال الفعل. وأيضا الإدغام ليس بأصل بل الأصل الحذف، فإذا امتنع الأصل امتنع الفرع. (و) بهذين استدل ابن الضائع.

والنوع التاسع: ما كان نحو استتر مما هو على افتعل وعينه تاء، وذلك قوله: "كذلك نحو تتجلى واستتر". يريد أن الوجهين جائزان فيه وهما الإظهار والإدغام، فالإظهار نحو: استتر، واقتتل، واختتن، وافتتن، وما أشبه ذلك. ويدخل تحت هذا الإطلاق كل ما جرى ذلك المجرى من المضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول وغيرها من الجاري على الفعل، فتقول: يقتتل، واقتتل اقتتالا، وهو مقتتل، ومقتتل بسيفه، وما أشبه ذلك، لأن علة الإدغام موجودة في الجميع. ووجه ذلك أن تاء افتعل زائدة وليس بلازم لها أن يكون عين الفعل من جنسها، فصار كون العين من جنسها عارضا، فلذلك جاز الإظهار، وبهذا المعنى فارق اقتتل باب احمر واحمار كان التضعيف والتقاء المثلين فيه لازما، بخلاف اقتل فإنه قد تقع بعد تاء افتعل العين والفاء وجميع حروف المعجم نحو: انتعل/ واختفى، وافتقر، واحتلم، واغتفر، واكتال، وما أشبه ذلك. وهذا معنى تعليل سيبويه. وأما الإدغام فجائز لأنه الأصل، إلا أن من أدغم من العرب يختلفون على وجهين: أحدهما: نقل حركة التاء الأولى إلى الساكن وهو السين في مثال الناظم، ثم تدغم فتقول: ستر، فتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها، فيصير على وزن قطع. وعلى هذا تقول في المضارع: يستر، وفي اسم الفاعل: مستر، وفي اسم المفعول: مستر، وفي المصدر: ستارا على وزن كذاباً.

والثاني: ترك نقل حركة التاء بل تحذفها، فإذا التقى ساكنان السين والتاء كسر السين لالتقاء الساكنين، فتقول: ستر، وفي المضارع: يستر، وفي الفاعل: مستر، وفي المفعول: مستر، والمصدر: ستارا، كالأول في اللفظ والتقدير مختلف، فحركة السين في الأول حركة التاء المنقولة، وهي في الثاني حركة التقاء الساكنين. وهذان الوجهان هما الأصل في هذا العمل. وثم وجه ثالث وهو كسر التاء إتباعا لكسرة السين فتقول: ستر، وفي المضارع: يستر، وفي اسم الفاعل: مستر- كالذي قلبه- ولا يتصور هذا في اسم المفعول ولا المصدر. وعلى الوجه الأول قوله تعالى: {وجاء المعذرون من الأعراب}، أصله: المعتذرون، وقوله تعالى: {تأخذهم وهم يخصمون} في قراءة ابن كثير وورش وهشام، وقرئ في غير السبع: {بألف من الملائكة مردفين}. وعلى الوجه الثاني، والثالث جاء في قوله تعالى: {وهم يخصمون} في قراءة عاصم والكسائي وابن ذكوان. وفي غير السبع: (مردفين). وعلى الوجه الثالث جاءت قراءة الحسن: (إلا من خطف الخطفة). وبعد هذه الأوجه العامة جاءت أوجه أخر لا حاجة إلى ذكرها إذ لم يذكر الناظم منها شيئا، بل أهمل الوجه في الإدغام كما ترى، ففسر بما يمكن أن يقصد ذكره في هذا النظم. ولو أشار إلى شيء من هذه الوجوه لكان الاستيفاء لائقا بالشرح، فتركته حين تركة.

وقول الناظم: "وحيى افكك وادغم دون حذر"، جاء بادغم على افتعل، وهو الذي اختار السيرافي اتباعا لقول الشاعر: إذا [فزعوا] ادغمن في اللجم وقوله: "دون حذر"، يقال: حذرت الشيء أحذره حذرا، أي: تحرزت منه، وأيضا خفته. ومن الأول قوله تعالى: {وإنا لجميع حذرون}. ومن الثاني قول الشاعر، أنشده سيبويه: حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار وأراد بهذا أن الوجهين جائزان مطلقا دون تحرز ولا خوف من الوقوع في ممنوع، وذلك أن هذه الأشياء التي ذكر ظاهر فيها موجب الإدغام، وهو اجتماع المثلين الثقيلين على اللسان، فكان الأصل وجوب الإدغام، فالناظر يحذر هنا أن يجوز الإظهار لهذا، فنبهه على أن الإظهار ليس مما يحذر ولا يستبعد، لأن له وجها من القياس وعاضدا من/ السماع، فلا تستنكره. ثم استدرك في اجتماع التاءين في أول الكلمة حكما ثالثا لما تقدم من الوجهين فقال:

وما بتاءين ابتدى قد يقتصر ... فيه على تاكتبين العبر يعني أن ما ابتدئ من الكلم بتاءين اثنتين قد يقتصر فيه على تاء واحدة وتحذف الأخرى فتقول في تتذكر: تذكر، وفي تتكرم: تكرم، ومنه تمثيله: تبين العبر، أي: تتبين العبر. والعبر: جمع عبرة، من الاعتبار والاستبصار، أصله من عبرت: إذا مررت بالطريق. والمعبر: المركب الذي يعبر فيه. والمعبر أيضا: ما يعبر عليه من قنطرة ونحوها. ومن ذلك قولهم: عابر سبيل. وإنما سميت العبرة عبرة لأنها يعبر عليها، أي: يجوزها النظر من ظاهر الأمر فيها إلى الباطن. وإنما حذفوا إحدى التاءين (فرارا من كراهية التضعيف، إذ لم يمكن أن يلحقوا الفعل المضارع ألف الوصل- كما تقدم- ليدغموا إحدى التاءين) في الأخرى، وكانت الحركة أو المدة المنفصلة يبعد الاعتداد بها حتى يوصل إلى الإدغام، ففروا إلى الحذف حين أرادوا التخفيف. وفي القرآن الكريم من هذا كثيرا كقوله تعالى: {ولقد كنتم تمنون الموت}، {فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم}، {ما لكم لا تناصرون}، {ولا تنابزوا بالألقاب}، {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}. إلا أن الناظم لم يبين ما المحذوفة من التاءين، وذلك لأن المسألة مختلف فيها، فتركها في محل الاجتهاد، لم يعين وجها من الوجهين المذكورين. والنحويون اختلفوا في المحذوف على قولين.

أحدهما: أن المحذوفة هي الثانية، وذلك لأن الأولى حرف معنى فهي أولى بالبقاء، والثانية لا تدل على معنى فهي أولى بالحذف. وهذا مذهب البصريين. والثاني: أن المحذوفة هي الأولى، وهو مذهب بعض الكوفيين حكاه السيرافي، وكأنه يختار ذلك لكونها زائدة على الكلمة، والثانية من أصل البناء، وإن لم تكن أصلا فهي أولى بالإثبات. وحكى أيضا عنهم قولا ثالثا بجواز الوجهين، والأولى ما ذهب إليه البصريون. فإن قيل: قد زعمتم أن المحذوف من التاءين هي الثانية، وعللتم ذلك بأن الأولى لمعنى، وكذلك الثانية أيضا لمعنى، لأن تفعل وتفاعل تاؤهما لمعنى. فالجواب: أن سيبويه قد علل ذلك فقال: "وكانت الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في قوله تعالى: {فادارأتم فيها}، {وازينت}.قال: "هي التي يفعل بها ذلك في تذكرون، فكما اعتلت هنا كذلك تحذف هناك". واعلم أن الناظم لم يبين كل البيان شرط الحذف في هذه المسألة إلا أن يفهم له ذلك من التمثيل، وذلك ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون التاءان معا مفتوحتين كما مثل، لأن أصله: تتبين، فإن انضمت الأولى لم يجز، لأن حذف إحداهما إنما جاز لأن لفظها مع لفظ الباقية سواء، فلا تقول في نحو تتحمل: تحمل، ولا في تتبين: تبين، لاختلاف الحركتين، ولما يؤدي إليه الحذف من الإلباس بفعل لا تاءين فيه. وإذا امتنع مع

تحرك الثانية كان مع سكونها أحرى بالمنع نحو: تتبع، وكذلك إذا انكسرت الثانية نحو: تتر، تتد، مضارع: وتر ووتد. وأيضا امتنع لما يلزمه من الحذف بعد الحذف. والثاني: أن يكون ذلك مختصا/ بالمضارع، فلا يقع في أمر ولا ماض ولا غير ذلك، فلا تقول في تتالى: تالى، ولا في تتال يا زيد: تال يا زيد، ولا ما كان نحو ذلك؛ لأنه لو حذفت إحدى التاءين مع الماضي لالتبس بغيره إذا قلت في تتابع تابع، وفي تتالى: تالى. بخلاف المضارع فإن العوامل الداخلة عليه ترفع ذلك الإشكال إذا قلت: أنت تتابع، وأعجبني أن تتابع، ولم تتابع. والماضي ليس له ما يخرجه عن الالتباس. فإن قبل: والأمر أيضا في ارتفاع اللبس كالمضارع، ألا ترى أن ما قبل آخره مفتوح نحو: تتابع يا زيد، وتتال يا عمرو فكان من الواجب على قياس هذا أن يقال: تابع يا زيد، وتال يا عمرو. فالجواب: أن هذا وارد على هذه العلة التي ذكرها بعض المتأخرين، فالأولى ما تقدمت الإشارة إليه في تعليل الحذف، وهو أن الماضي والأمر قد أمكن فيهما الإدغام والإتيان بألف الوصل لسكون التاء الأولى، فهو الذي أزال الاستثقال. وأما المضارع فلم يمكن أن تلحقه ألف الوصل، فامتنع الإدغام لذلك، إلا أن يعتدوا بعارض الحركة أو المد

في كلمة أخرى فعوضوا في امتناع الإدغام الحذف، فهذه العلة الصحيحة، وأما الأولى فمنتقضة. وهذا الشرط أيضا أحرزه تمثيل الناظم بالمضارع. والثالث من الشروط: أن تكون التاءان غير محذوف منهما ثالثة، تحرزا من نحو: أنت تتابع، أصله: تتتابع، فحذفت إحداهما هذا الحذف المذكور، فلا يجوز بعد ذلك حذف آخر، لأن الحذف بعد الحذف إخلال بالكلمة. وأيضا إذا أردت أن تحذف إحداهما فإما أن تحذف الأولى أو الثانية، أما الأولى فهي حرف معنى فلا يجوز أن تحذف للإخلال بذلك المعنى، وأما الثانية فهي من أصل الكلمة فلا تحذف، إذ لم يحذفوا ههنا إلا ما كان زائدا على الحروف الأصول كما تقدم في الأمثلة: وهذا الشرط أيضا مأخوذ من تمثيله بتبين، لأن الأصل فيه أن يكون بتاءين خاصة، وأيضا قد قال: وما بتاء ابتدى قد يقتصر ... فيه على تا ... فذكر ما كان مبتدأ بتاءين، فخرج ما ابتدئ بثلاث تاءات، إلا أنه يقال: هذا الكلام مشكل، لأنه إما أن يريد بقوله: "وما بتاءين ابتدى" إخراج ما كان بثلاث تاءات، وإما أن يريد إدخاله تحت الحكم من حيث كان ما ابتدئ بثلاث مبتدأ باثنين، فيصدق على ذي الثلاث أنه ذو اثنين، فإن أراد الأول اقتضى أنه لا يحذف ذو الثلاث فلا يقال في تتتابع: أنت تتابع، ولا ما كان نحو ذلك مما أوله ثلاث تاءات وذلك غير صحيح، بل الحذف فه أسوغ، لأنهم إذا كانوا يحذفون في التاءين فمن باب أولى أن يحذفوا في الثلاث، لأن ثلاثة الأمثال

أثقل من المثلين، ولا خلاف في جواز الحذف هنا. وإن أراد الثاني- وهو الذي ينبغي أن يقال- اقتضى حذف التاءين معا لقوله: "قد يقتصر فيه على تا"، يريد على تاء واحدة. وهذا أيضا غير صحيح، لأن حذف حرفين إخلال كما تقدم، فكان حق العبارة أن يذكر فيها ما يحذف لا أن يذكر ما يبقى بعد الحذف. وهذا الاعتراض ظاهر اللزوم، ولم أجد عنه جوابا، فلو قال عوض هذين الشرطين: وحذف ثاني ما بتاءين ابتدى ... /أجز كنحو لن تحرى موعدى لسلم من ذلك الاعتراض، ومن اعترض ثان، وهو أنه قال: قد يقتصر فيه على كذا، فأتى بقد المقتضية عنده للتقليل، فاقتضى أن الحذف قليل في الكلام غير كثير في الاستعمال، وليس كذلك، بل (هو) كثير جدا لا يقصر عن كثرة المجيء على الأصل، والناس خيروا في الوجهين، قال سيبويه: "فإن التقت التاءان في تتكلمون وتتترسون فأنت بالخيار، إن شئت أثبتهما، وإن شئت حذفت إحداهما". والوجهان شهيران في القرآن وفي كلام العرب، فكيف يقول: "قد يقتصر. وهذا أيضا يبعد الجواب عنه. وقوله: "وما بتاءين ابتدى" بتاءين: متعلق بابتدى. وابتدى مسهل الهمزة بالإبدال على من قال في قرأت: قريت. أو التسهيل القياسي،

لكن أجرى الوصل مجرى الوقف فأسكن الياء ضرورة. و "ابتدى" وما إليه صلة ما، وهي مبتدأ خبرها قوله: قد يقتصر. والضمير في "فيه" عائد "ما"، ومدلوله الفعل المضارع. وفك حيث مدغم فيه سكن ... لكونه بمضمر الرفع اقترن نحو: حللت ما حللته وفي ... جزم وشبه الجزم تخيير قفى هذا هو النوع العاشر من المواضع المستثناة، وهو ما كان الحرف المدغم فيه ساكنا، فإنه إذا كذلك خرج عن مقتضى اشتراطه الأول، (حيث) قال: "أول مثلين محركين" .. إلى آخره، فخرج إذا عنه ما كان أحدهما فيه ساكنا، وهذا من ذلك، فلا يجب فيه الإدغام، لكن تكلم هنا على الجواز وعدم الجواز، فقسم ما سكن المدغم فيه إلى قسمين: أحدهما: ما كان سكون الثاني فيه لازما لا يقبل الحركة، وذلك قوله: {وفك حيث مدغم فيه سكن لكذا، والمدغم فيه هو الثاني لأن الأول مدغم. والثاني: مدغم فيه، يعني أن الفك وترك الإدغام واجب إذا سكن المثل الثاني لاقترانه بضمير الرفع، يريد البارز، فإذا كان كذلك قلت: حللت وحللت، وحللت، وحللتما، وحللتم، وحللتن، والهندات حللن. وقد نبه على ذلك بالمثالين في قوله:

{نحو حللت ما حلللته"، إذ يدخل في الأول كل ما فيه التاء من ضمائر الرفع، (وأما الثاني فلا يشاركه غيره إلا نافي الرفع) إذا قلت: حللنا، فإنه يشاركه في النون، ولا تدغم هنا فتقول: حلت، ولا حلنا. وقد حكى سيبويه عن بعض العرب الإدغام في هذا فيقولون: ردت، وردن، ومدن. وهذه لغة ضعيفة. وكذلك حكى بعض الكوفيين في هذا: ردن، فيزيد نونا ساكنة يدغمها في النون، لأن هذه النون لا يكون ما قبلها إلا ساكنا. وحكى بعضهم في ردت: ردات. وهذا كله شاذ لا يعول عليه، فترك الناظم هذا كله لقلته وندوره. ووجه ما نص عليه أنه لما كان الآخر من المثلين لابد له (من) أن يتحرك وحينئذ يدغم فيه، وكان تحرك هذا ممتنعا لوقوعه موقعا لاتصل إليه فيه الحركة امتنع الإدغام، فلا يدغم هذا من يدغم رد/ ونحوه، بل الكل متفقون على الفك إلا من شذ منهم. والثاني: ما كان سكون الثاني فيه غير لازم، وذلك الفعل الساكن جزما أو وقفا، نحو: لا تمرر بزيد، ولا تردد كذا. فذكر الناظم فيه التخيير في الإدغام والإظهار فقال: "وفي جزم وشبه الجزم تخيير قفى" (و) شبه الحزم هو الوقف، وإنما قال فيه: شبه الجزم، لأن البناء على الوقف مثل الجزم، إن كان الجزم في المضارع بالسكون فالبناء في الأمر على السكون، أو كان الجزم بالحذف فالبناء في الوقف على الحذف، نحو:

اضرب ولا تضرب، وارم ولا ترم، واخش ولا تخش، واضربا ولا تضربا، واضربوا ولا تضربوا. ولأجل هذا زعم الكوفيون أن فعل الأمر مجزوم وأصله المضارع، لكن حذف حرف المضارعة ولام الأمر، وذلك مبسوط في غير هذا. ولما لم يكن ذلك مذهبه نوع الفعل إلى النوعين، إذ هما عنده متباينان، فقد قال في المعرب والمبني: وفعل أمر ومضى بنيا ... وأعربوا مضارعا إن عريا إلى آخره. وقوله: "وشبه الجزم"، أعاد الظاهر وكان الأصل أن يقول: وشبهه، فيأتي بالضمير، وذلك سائغ. وقفى معناه: اتبع، وذلك أن المجزوم والموقوف من المضاعف العين واللام للعرب فيه لغتان: إحداهما: لغة تميم وهي الإدغام مطلقا، فيحركون الحرف الثاني لأنه يمكن تحريكه وإن كان ساكنا، وذلك إذا نقلت إليه حركة همزة بعده من كلمة أخرى، أو لقى ساكنا بعده، نحو: اخصص أبي واضرب ابنك، أو لحقته علامة تثنية أو النون الخفيفة أو الشديدة نحو: ارددا، وارددن، وما أشبه ذلك. وأيضا التسكين عارض للجزم أو للأمر فلم يعتد به، فالثاني إذا متحرك في الأصل وقابل للحركة في الحال فأدغموا وحركوا الثاني، فقالوا: رد، وفر، وعض، وخص. قالوا: ومن ذلك قوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها).

والثانية: لغة أهل الحجاز، قال سيبويه: "وهي اللغة العربية القديمة الجيدة"، وهي الإظهار. فتقول: اردد، وافرر، واخصص، (واغضض). ومنه قوله: تعالى: {واغضض من صوتك}، و {واضمم إليك جناحك}، وشبه ذلك، وهو كثير. ووجه الإظهار سكون الثاني من المثلين، فلم يمكن أن يدغم فيه الأول وهو ساكن فيلتقي ساكنان على غير شرطهما، فامتنعوا من ذلك كما امتنعوا منه في رددت، ورددن ونحوهما. ولم يذكر الناظم فيما إذا أدغم مثل هذا بأي حركة يتحرك المثل الثاني، وهذا من وظيفة باب التقاء الساكنين. والذي ذكر سيبويه وغيره في ذلك عنهم أربع لغات: إحداها: الإتباع، فيحرك بمثل أقرب الحركات إليه، وهي الحركة التي قبل المدغم، فيقول: رد، وفر، وعض. إلا مع ضمير المذكر والمؤنث الغائبين فإنهم يحركونه بحركة الضمير فيقولون: ردها، وعضه، ومنه قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} في مذهب من جعله نهيا. فإن وقع بعده ساكن من كلمة أخرى كسر نحو قوله:

/فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا فأتبعوا مع الضمير حركته لخفاء الهاء، فكان قولهم: ردها، كقولك: ردا، ورده كقولك: ردوا بهذا شبهه الخليل، وقد تقدم في الإمالة دليل على خفاء الهاء، وكسروا مع السكن على أصل التقاء الساكنين، كما لو قلت على لغة أهل الحجاز: اغضض الطرف. واللغة الثانية: الفتح مطلقا، فتقول: رد، وعض، وفر، وردها، وعضها ورده، وعضه. وما أشبه ذلك، لأن الفتح خفيف، إلا إذا وقع بعده ساكن فكا لأولين، وهم بنو أسد. والثالثة: الفتح مطلقا من غير استثناء شيء، زعم يونس أنهم يقولون: فغض الطرف إنك من نمير والرابعة: الكسر على أصل التقاء الساكنين، فيقولون: رد، وعض، وفر، وكذلك: رده، وعضه، وردها، وعضها، وكذلك: غض الطرف، من باب أولى. هذا ما حكى سيبويه والجمهور. وللفارسي نقل فيها مخالف لهذا، وانظر في التسهيل ففيه أيضا مخالفة فتأمله.

وهاتان اللغتان من الإظهار والإدغام فيما عدا أفعل به في التعجب، وهلم على لغة من قال: هلموا، وهلما، وهلمى، وهي على هذه اللغة فعل، ففي أفعل به التزموا الفك، والتزموا الإدغام في هلم، فذكرهما لخروجها عن مقتضى القاعدة فقال: وفك أفعل في التعجب التزم ... والتزم الإدغام أيضا في هلم يعني أن العرب التزمت الفك وترك الإدغام في هذا المثال الذي هو أفعل المختص بباب التعجب إذا كان مضاعفا، فقالوا: أشدد بزيد، وأمرر به، وأعزز به، وما أشبه ذلك. ووجه ذلك أن أفعل في التعجب قد لزم لامه الإسكان فصار من قبيل ما لا يقبل الحركة، لأنه لا تلحقه ألف الاثنين ولا نون التوكيد إلا شذوذا، ولا يليه إلا فاعله المجرور بالباء، فلا تنقل إليه حركة همزة تقع بعده، ولا يلقاه ساكن. وهذه الأشياء هي التي منعت من الإدغام في رددت، ورددن وبابه. وإذا كان الثاني ساكنا لازم الإسكان لم يمكن الإدغام لم يلقى فيه إن أسكن الأول من التقاء الساكنين. وهذا بخلاف أفعل في نحو: ما أشده، وأبره، وأحده، فإنك تدغم (هنا) لتحرك الثاني كأفعل التفضيل. فلما كان أفعل في التعجب قد خرج عن (حكم) فعل الأمر المذكور آنفا في جواز الوجهين نبه عليه لئلا يتوهم أنه ذو وجهين، وأخبر أنه ذو وجه واحد وهو الإظهار على أصل الباب.

ثم استثنى منه أيضا لفظا آخر التزم فيه أحد الوجهين وهو الإدغام فقال: "والتزم الإدغام أيضا في هلم" يعني أن هذا اللفظ الذي هو هلم التزمت العرب فيه الإدغام فلم تظهر، فلا تقول فيه: هلمم، كما تقول: اردد. وإنما يريد هلم التي هي باقية على حكم الأفعال، وذلك أن هلم على وجهين: فعل، واسم فعل، فأما كونها فعلا ففي قول من قال: هلما، وهلمى، وهلموا، ونحو ذلك؟ ودليل كونها فعلا لحاق ضمائر الرفع/ البارزة لها واتصالها بها، كما تقول: ردا، وردوا، وردى. وأما كونها اسم فعل ففي لغة من قال: هلم يا زيد، ويا زيدان، ويا زيدون، ويا هند، ويا هندان، ويا هندات. فلا يختلف آخرها كما لا يختلف إذا قلت: صه يا زيد، ويا زيدان، ويا زيدون. وكذلك سائرها. وهذه لغة القرآنن قال تعالى: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون} .. الآية، وقال تعالى: {والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا}. ومعناه في الأول: أحضروا. وفي الثاني: أقبلوا. فأما لزوم الإدغام مع كونها اسما فغير غريب وإن قلنا إن أصلها الفعل، كما قال الخليل: إن أصلها: هالم، ثم جعلا شيئا واحدا، فسموا بها الفعل، وحذفوا الألف لكثرة الاستعمال، لأنه لا يستنكر أن يأتي مدغما على لغة بني تميم، وإن كان أهل الحجاز هم الذين جعلوها اسم فعل. وأما لزومه مع كونها فعلا فلأنه صار لها بقلة تصرفهم فيها حالا ليست لسائر الأفعال، قال سيبويه: "لأنها لم تصرف الفعل ولم تقو قوته"، فلذلك أخرجوا ها عن الحكم بالوجهين إلى التزام الإدغام.

وقوله: والتزم الإدغام في كذا، يريد ما لم تخلفها نون الإناث، فإنه إذا كان كذلك صارت إلى الحكم المذكور قبل هذا من التزام الفك عند لحاق ضمائر الرفع البارزة. وهذا ظاهر. فهذه هي المواضع المستثناة من لزوم الإدغام المقرر أول الباب، وهي كما تقدم على قسمين، قسم يجوز فيه الوجهان، وقسم لا يجوز فيه إلا الإظهار، فمواضع جوازا لوجهين ثلاثة، واحد قسمي فعل الأمر، والباقي يلزم فيها الإظهار، وما عدا ذلك لزم فيه الإدغام مطلقا، سواء أكان اسما أم فعلا، كان ثلاثيا أو رباعيا، أو على أكثر من ذلك، لا يستثنى من ذلك غير ما استثناه هنا، وقد استوفى ذلك استيفاء حسنا. وإنما ذكر ابن جني من هذه الأنواع ستة فقط، لكن زاد على ما ذكره الناظم: أن يكون الاسم قد لحقه من الزيادة ما يخرج به عن شبه الأفعال وأمثلتها، وذلك قولك في مثل فعلان أو فعلان من الرد: رددان ورددان، فتظهر التضعيف، لأن الألف والنون ليستا من زوائد الأفعال، وصارت الكلمة في مباينتها بناء الفعل بهما بمنزلة حضض وسرر في مباينتهما بناء الأفعال. وهذا في الحقيقة ليس باستدراك، لأن هذا مذهب الأخفش، وأما سيبويه فيدغم بلابد، فيقول: ردان، فيهما، وذلك أن مذهب سيبويه في الألف والنون اعتبار الأسقاط في الإدغام كأن الكلمة منفردة عن

لحاقهما، فما يلزم فيها دون زيادة فهو لازم بعدها. فرددان إنما هو ردد، ورددان إنما هو ردد، ومثل هذا لابد من إدغامه، لأنه على وزن الفعل، فكذلك إذا لحقته الزيادتان. وأما فعلان فتقول على مذهبه: رددان، وكذلك على مذهب أبي الحسن، إلا أن سيبويه يعتبر إسقاط الزيادة والكلمة بعد الإسقاط على فعل، وفعل لا يدغم نحو: طلل وشرر، كما تقدم، فكذلك رددان. وعلى مذهب أبي الحسن لخروج الكلمة/ بالزيادة عن شبه الفعل، وإذا كان كذلك ظهر أن الناظم ذاهب إلى مذهب سيبويه، قال في الكتاب: "وتقول في فعلن من قويت: قووان، وكذلك حييت. فالواو الأولى كواو عور، وقويت الواو الأخيرة كقوتها في نزوان، وصارت بمنزلة غير المعتل". قال: "ولم يستثقلوهما مفتوحتين كما قالوا: لووى وأحووى". (قال): "ولا تدغم لأن هذا الضرب لا يدغم في رددت". وقال في باب آخر: "وتقول في فعلان: رددان، وفعلان: رددان. يجري الصدر في هذا مجراه لو لم تكن بعده زيادة، ألا تراهم قالوا: خششاء". قال: وفعلان: ردان، وفعلان: ردان، أجريتهما على مجراهما وهما على ثلاثة أحرف وليس بعدهما شيء كما فعلت ذلك بفعلان وفعلان". فهذه

نصوص منه على ما ذكرت لك من عدم الاعتداد بالزيادة واعتبار صدر الاسم في الإعلال والإدغام إلا فيما يصح لأجلها من نحو الجولان والنزوان، فلأجل ذلك صح قووان ونحوه. فإذا الألف والنون عنده كالهاء، وأنت لو بنيت من الرد مثل فعلة وفعلة لقلت: ردة، فأدغمت كما تدغم ما لا هاء فيه. وقد احتج سيبويه لقوله بقولهم: خششاء، فلو كانت الزيادة معتدا بها لم يجروا هذا مجرى حضض، قال ابن الضائع: وهو استدلال صحيح، لأن الألف والنون كألف التأنيث الممدودة، وقد ألزم سيبويه في مذهبه التناقض، وللكلام في ذلك مجال واسع، فإن أردته فعليك بابن الضائع. وهنا نجز ما أراد ذكره في هذه الأرجوزة من مهمات النحو وضرورياته وجملة من توابعها، فأخذ في التنبيه على تمام قصده، والختم بما ينبغي الختم به، فقال: وما بجمعه عنيت قد كمل ... نظما على جل المهمات اشتمل أحصى من الكافية الخلاصة ... كما اقتضى غنى بلا خصاصة فأحمد الله مصليا على ... محمد خير نبي أرسلا

وآله الغر الكرام البررة ... وصحبه المنتخبين الخيرة يقال: عنيت بكذا أعني به عناية، وأنا معني به، هكذا مبنيا للمفعول، فهو أحد ما التزم فيه البناء للمفعول في أفصح اللغات. فإذا أمرت قلت: لتعن بحاجتي. ونظيره: نفست المرأة، وأولعت بالشيء، وسقط في يده. ومن ذلك كثير. وقد حكى عن بعض العرب: عنيت بحاجتك- على فعلت مبنيا للفاعل- فأنا أعنى بها قال ابن درستويه: بمعنى الانفعال والمطاوعة، لأن فعلت من أبنية المطاوعة، فمن كانت هذه لغته جاز له أن يقول في الأمر: لتعن بحاجتي. قال: وهو قليل. فأتى الناظم بما هو الأفصح، والفاعل هو الأمر أو الحاجة، وأصله هنا: وما جمعه عناني، إلا أن مثل هذا إنما يقال مبنيا للمفعول كما ذكر. ومعنى عنيت، أي: جعلت لي به عناية وصار لي حرص عليه, فقوله: وما بجمعه عنيت قد كمل، يعني أن ما اعتنى بجمعه وحرص على تأليفه من علم/ النحو قد كمل وتم على حسب ما قصده. وقوله: "بجمعه" متعلق بعنيت، ودل بهذا اللفظ أنه جامع لا مخترع، فهو يجمع ما قال غيره وما استنبطه من استقراء كلام العرب سواه، وليس له فيه إلا الجمع والترتيب وتهذيب القوانين.

فإن قلت: هذا يقتضي أنه لا استنباط له في هذا العلم ولا اختراع شيء لم يقله غيره، وليس كذلك، بل فيه مسائل مخترعة واستقراءات مبتدعة، كمسألته في جواز دخول الألف واللام الموصولة على الفعل، ولا أعلم أحدا أجاز ذلك غيره. وكذلك مسألة الدنيا والعليا في باب التصريف، ومسألة إجازة الفصل بين المضاف والمضاف إليه في الكلام إذا كان مصدرا عاملا في الفاصل، وغير ذلك من المسائل التي انفرد بها. وقد مضى التنبيه عليها، فكيف يقول: "وما بجمعه عنيت"؟ . فالجواب: أن تلك المسائل ليست من مخترعاته ولا انفرد بالكلام عليها، بل ذكرها النحويون، لكنهم جعلوها من الشذوذات، فاختار الناظم فيها مذهب القياس، واختار غيره عدم القياس، فليس ثم في الحقيقة اختراع. وكذلك مسألة الدنيا والعليا، (لم) يخترع فيها إلا مجرد الاصطلاح، ولا يقال في مثل هذا: إنه ابتداع مسألة أو اختراع قانون. وأيضا فإن هذه المسألة في كتابه نادرة جدا، واختياراته قليلة، فلم يعتبر بها في جنب ما كان منقولا عن غيره. على أن قوله "بجمعه" يمكن أن يكون أراد به جمعه للمسائل التي قصد ذكرها من النحو، كانت على مذهبه أو مذهب غيره، فلا يبقى في كلامه على هذا إشكال. وقوله: "نظما" يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون تمييزا منقولا من الفاعل، كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبا}، أي: شيب الرأس، وتقدير

كلامه: قد كمل (نظمه). والثاني: أن يكون حالا من ضمير "كمل"، أي: كمل حالة كونه نظما، وهو مصدر في موضع الحال- والضمير في الوجهين المستتر في كمل عائد على ما، وهي موصولة واقعة على العلم المودع في رجزه. وقوله: "على جل المهمات اشتمل"، في موضع الصفة لنظم، أي: نظما مشتملا على جل المهمات. والجل معناه: معظم الشيء. والمهمات: هي التي تهم الإنسان، أي: تقلقه. وأصله من أهمني الأمر: إذا أحزنني وغمني، فصارت الأشياء التي يقلق الإنسان حالها ويعنيه أمرها كأنها تحزنه حتى يحصلها أو يخلصها تخليصا يستريح إليه. والمهمات في كلام الناظم على حذف الموصوف، والتقدير: على معظم المسائل المهمات في العربية اشتمل. ومعنى اشتمل: احتوى، ومنه سميت الشملة لكساء يشتمل به، يلتف فيه، لأنها تشتمل عليه وتضمه. فيريد أن هذا النظم قد احتوى على معظم المسائل والأبواب المهمة الضرورية. وإنما قال: على جل: على المهمات اشتمل، لأنه لم يحتو على جميع الضروريات، بل على أكثرها، فقد نقصه الكلام على جملة من فصول (في) الأبواب، ونقصه أيضا بعض الأبواب من الرأس، فأما ما نقصه من الأبواب فكالقسم، والتقاء الساكنين، فإن هذين البابين لم يعرج عليهما، بل أهمل جانبهما جملة.

ومن ذلك باب التسمية، إلا أنه دونهما في الضرورة/. وأما ما أهمل من الفصول والمسائل فكمسألة الفصل من المضمرات، ومسألة الأمثلة الموزون بها من الأعلام. ومسألة الموصولات الحرفية وهي: أن، وأن، (وكي)، ولو المصدريات. ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ، ومسألة التاريخ في باب العدد، ومسألة معاني أبنية الأفعال، ومسألة ما زيدت الميم في أوله من أسماء المصادر والزمان والمكان، والكلام على جملة من الحروف كأي التفسيرية، وحروف التنبيه والجواب، وغيرها، ومدة الإنكار والتذكر، وفصل مخارج الحروف وصفاتها، والإدغام إذا كان في كلمتين، وقسم إدغام المتقاربين، ومسائل من هذا النوع لم يتعرض إليها، فلذلك قال: "على جل المهمات" فحرز الإخبار عما قصد ذكره لئلا يقال له: فأين جميع المهمات وقد نقص منها جملة كبيرة؟ وهو من الاحتراز الحسن. ثم قال: "أحصى من الكافية الخلاصة"، أصل الإحصاء العد والأحاطة، يقال: أحصيت الدراهم: إذا أحطت علما بأفرادها وعددها- وخلاصة الشيء: ما صفات منه وتخلص عن الشوائب. ويقال: خلص الشيء يخلص خلوصا: إذا صفا. والخلاصة والنقاوة يرجعان إلى معنى واحد. ويريد أن هذا النظم- وإليه يعود ضمير أحصى- قد

حصل لباب الكافية وعيون فوائدها، وأحاط بها. والكافية هو أرجوزته الكبرى المسماة بالكافية الشافية، وهي قد احتوت من الأشطار المزدوجة على آلاف، ولم أقف عليها بعد، لكن رأيت عن بعض الشيوخ مقيدا أنها منثورة في الكتاب المسمى بالفوائد المحوية في المقاصد النحوية، وقد رأيت هذا الكتاب، ورأيت اختيار ابن مالك فيه موفقا في الغالب لما اختاره في هذا النظم. وقوله: "كما اقتضى غنى بلا خصاصة"، الخصاصة: ضد الغنى. والاقتضاء: طلب القضاء، ومعناه هنا: طلبه للحكم بالغنى. يعني أنه أحصى من الكافية خلاصتها، كما اقتضى لحافظه الغنى الذي لا ينسب صاحبه إلى الفقر. ومراده أن هذه الجملة المنظومة قد اشتملت على حسنين، أحدهما: تحصيل لباب كتابه الأكبر حتى إنه لم يفته منه إلا ما لا يعد خلاصة ولبابا، إذ ليس في طبقة الضروريات. والثاني: أنه مع اشتماله على هذا الاختصار وعدم الإحاطة بالجميع فيه من العلم ما يستغني به الطالب فيكيفه طلب غيره والافتقار إليه. فالغنى المراد هو: الغنى بما فيه من العلم الكافي. والخصاصة (هي): الافتقار إلى غيره، فنفي أن يكون كتابه- على اختصاره- مفتقرا معه إلى غيره، ولعمري إنه لكذلك، لتحصيله ما يجب تحصيله، وما يرجع إلى ما يجب تحصيله. وهذا الكلام تعريف بنظمه وتنزيل له في رتبته التي يعلمها منه، وهكذا ينبغي أن يفعل المؤلف لكتاب ما أن يعرف مقصده فيه ورتبته في الإفادة، حتى يكون ذلك باعثا للناظر فيه على حفظه والاشتغال به، ولا يعد ذلك تزكية منه لفعله، ولا مدحا لنفسه، لأن هذا القصد مذموم فلا يلتمس للأئمة

الأعلام والعلماء المهتدى بهم والمقتدى بكلامهم إلا أحسن المخارج، ولا يظن بهم إلا أحسن المذاهب، وهو الحق والإنصاف/، والدين والأمانة في الاعتقاد في كبرائنا في أي علم من العلوم الشرعيات. ولما عرف الناظم- رحمه الله- بما تضمن كتابه من هذا العلم، وما أعطاه من الفائدة، كان من الذي ينبغي أن أعرف أنا بما قصدته في هذا الشرح، وأبين مرتكبي فيه، وما أودعته من منازع شيوخي- رضي الله عنهم- ونفعني وإياهم، وذلك أني لم أقصد فيه قصد الاختصار الذي قصده غيري ممن شرح هذا النظم لأمور أكيدة: أحدها: أن واضعه لم يضعه للصائم عن هذا العلم جملة، ولو قصد ذلك لم يضعه هذا الوضع؛ إذ كثير منه (مبني) على أخذ الفوائد والقواعد والشروط من التمثيلات والمفهوم والإشارة الغامضة، والمبتدئ لا يليق به هذا التعليم ولا يسهل عليه قصد الإفادة. وإنما يليق بالمتعلم جمل الزجاجي وما أشبهه مما يسهل تصوره ويقرب متناوله. أما إذا كان الطالب قد شدا في النحو بختم كتاب ينفتح له به اصطلاح العلم، وزاول أبوابه، وتنبه لجملة من مقاصده ومسائله- فهو المستفيد بنظم ابن مالك، لأنه يضم له ما انتشر، ويجمع له ما تشتت عليه، ويصير له في النحو قوانين يعتمد عليها ولا يخاف انطماس فهمه عليه، وإذا كان كذلك لم يكن لائقا بشرحه الاختصار المحض والاقتصار على مجرد التمثيل وما يليه.

والثاني: أن الناظم لم يقتصر في كثير من هذا الكتاب على مجرد النقل الذي لا يشوبه تعليل، ولا أضرب عن ذكر الخلاف والإشارة إلى الترجيح، بل نبه على التعليل، ورمز إلى الأخذ بالدليل، وأرشد إلى أن لبسط العلل فيه موضعا، وللإدلاء بالحجج وفصل القضايا بين المختلفين فيه مجالا متسعا؛ فلذلك بسطت فيه من المآخذ الحكمية العربية ما يسوغ أن يقع تعليلا لمسائلة، وأوردت فيه من التنبيه على الخلاف في المسائل الموردة فيه ما وسعني إيراده، وملت إلى الانتصار للناظم فيما رآه والاعتذار عنه ما وجدت إلى ذلك طريقا. حتى إذا لم أجد لما ارتكبه مساغا في المنقول ولا في المعقول بينتُ الحق في المسألة، ورددت عليه غير مزدر به ولا منتقص له، علما بأن من كلام الناس المأخوذ والمتروك، إلا ما كان من كلام النبوة. والثالث: أن فيه من القواعد الكلية والقوانين العاقدة ما ينبغي بسطه ولا يسع اختصاره، فلو قصد قاصد اختصار الكلام عليها أو اكتفى بالنظر الأول فيها كان إخلالا بمقصد الشرح، وإغفالا لما تأكد طلبه وبسطه منه. والرابع: أن تعويله على الإشارة بالتمثيل، وعقد الضوابط بها، والاتكال على المفهوم، والإتيان بالعبارات الغامضة المعاني ما يدل على أن صاحبه قصد أن يشترك في النظر فيه الشادي والمنتهى، فلذلك حملت العبارة ما تحتمله في باب المفهوم والمنطوق، وخدمتها بالاعتراضات والأجوبة فيما أمكن، وتتبعت قواعده الكلية، وعرضتها على أصول العلم، فما وجدته منها

صحيحا أثبت وجه صحته، وما كان فيه خلل بينته بقدر الإمكان، إلى أن كمل منه بحمد الله ما رأيت، وعسى أن يكون هذا المنزع هو الحكمي/ في التعليم، والرباني في التحصيل، وهو الذي أرجو، فإن وافق ذلك فبفضل الله، وإلا فقد حرصت على ذلك، والله ينفع بالقصد. وقد سلكت فيه مسلك شيوخي- رضي الله عنهم- في البحث وتحقيق المسائل، والتأنيس بالتنظير، والتنقير عن دفائن اللفظ، وبتتبعه بقدر الإمكان، والاعتراض وإيراد الإشكال، والاعتذار عن اللفظ المشروح على حسب ما أعطاه الوقت والحال، وأوجبه تحسين الظن بالمؤلف، وعدم الوقوف وراء اللفظ تقليدا دون أن يتحرر معنى الكلام أو يظهر وجهه، والاحتجاج لمذهب المؤلف وترجيحه لما أمكن له وجه ترجيح، وتنشيط القارئ في بعض المواطن بالحكايات عن أهل العلم في المسائل المتكلم فيها. هذا ما جمعت مما شهدته وعرفته وأخذته عن أشياخي، فقد كان شيخنا الأستاذ الشهير أبو عبد الله بن الفخار- رحمة الله عليه- في هذه الطريقة إماما غير مدافع، حافظا لمسائلها، وكان من طرق تعليمه البسط والتعليل وفصل القضية بين المختلفين من أهل البصرتين وغيرهم، وضرب المسائل بعضها ببعض، والاتساع في التنظير، والإمتاع في المسألة المنظور فيها، إلى غير ذلك من التحصيلات المحكمة، والنكت المجتلبة المنقولة عن شيوخه والمفترعة له. وكان شيخنا القاضي أبو القاسم

الشريف الحسني- رحمة الله عليه- في هذا العلم رفيع الشأن، عالما بدفائن أئمته، وكان من طريق تعليمه تحصيل مضمن الفصول والأبواب، جامعا لما تشتت منها، مقربا للمبتدئ، يقف القارئ على نكت كتابه المقرر واحدة فواحدة، لا يقنع بالفهم البراني فيه، موردا للإشكال، مجيبا عنه، لا يخرج عن طريق كتابه إلا في الندرة، معتذرا عن غفلاته، مرتضيا ما ارتضاه شيوخه في فهمه محمضا بفوائد المعاني ومسائل البيان ومقطعات الشعر الحسان. وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله البلنسي- رضي الله عنه- في هذا العلم عارفا بطرق أئمته المتأخرين، عالما بمقاصدهم فيه، وكان من طرق تعليمه بيان المقاصد بحسب القارئ من الابتداء والانتهاء، مرشحا لفهمه، مدربا له، وموقظا لفكره لاقتناص الجواب وإيراد السؤال، مطرزا مجلسه بنقل نكت شيوخه، متأدبا معهم إذا ذكر أحدا منهم طرب بذكراهم وأمتع بالثناء عليهم كعادة شيخه أبي عبد الله (بن) الفخار. إلى غير هؤلاء ممن لازمت مجالسهم، واستفدت منهم، وانتفعت بسببهم، أعلى الله درجاتهم في عليين. فهذه الطرائق هي التي ذهبت إليها في الشرح، وبنيت عليها، وبالله التوفيق. ثم قال الناظم: "فأحمد الله"، هذه الفاء للتسبيب، لما وصف أن هذه الأرجوزة حوت إحصاء خلاصة الكافية من غير افتقار في الضروريات إلى

غيرها ترتب على ذلك وتسبب عنه أن يحمد الله- تعالى- على هذه النعمة التي أنعم عليه بها، حيث أعانه ووفقه إلى أن تمم كتاب علم ينتفع بع من بعده، فيكون أجر الانتفاع/ به باقيا له بعد موته لا ينقطع وإن انقطع عمله، لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع يه من بعده، وولد صالح يدعو له". فواجب أن يحمد الله- تعالى- على ذلك. وأتى بلفظ "أحمد"، ولم يقل: فالحمد لله، إظهارا للعمل في الحمد، وتحققا بالعبودية في ذكره. وقد تقدم معنى الحمد، والصلاة، والنبي. وقوله: "مصليا" حال من ضمير أحمد. و "محمد": اسم من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشهر أسمائه، وهو الذي سماه به جده عبد المطلب. وقوله: "خير نبي" بدل من "محمد"، ولا يكون عطف بيان، لأنعطف البيان يشترط فيه موافقته للمعطوف عليه في التعريف أو التنكير، و "خير نبي" نكرة. ومعنى "خير نبي": خير الأنبياء، لكن وضع الاسم النكرة المفرد موضع الجمع المعرف اختصارا. وأعطى هذا الكلام أنه أفضل الأنبياء، وبذلك جاء الحديث الصحيح: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".

وأرسل: في موضع الصفة لنبي، كأنه قال: خير نبي مرسل، وجعله كذلك ليتضمن أبلغ التفضيل، لأن الأنبياء المرسلين لهم شرف النبوة والرسالة معا، فكان النبي- عليه السلام- أفضل من حصلت له المزيتان، ولو اقتصر على قوله: "خير نبي" لم يعط تلك المبالغة. وجاء قوله: "خير نبي أرسلا" مؤذنا من حيث خص بصفة الرسالة أن الأنبياء على قسمين: مرسلون وغير مرسلين، وقد خرج الآجري في كتاب الأربعين، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- حديثا فيه طول، من فصوله قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير. قلت: كثير طيب. قال: نعم. قلت: من كان أولهم؟ قال: آدم عليه السلام. قلت: يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسواه قبلا. ثم قال: يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ- وهو إدريس، وهو أول من خط بقلم- ونوح. وأربعة من العرب: هود، وشعيب، وصالح، ونبيك يا أبا ذر؟ وأول أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى، وأول الرسل آدم، وآخرهم محمد. وقوله: "وآله الغر الكرام". آله: قد تقدم في الخطبة تفسيره. والغر: جمع أغر، والأغر أصله ذو الغرة، وهو للفرس بياض في جبهته فوق الدرهم. ويقال: رجل أغر، أي: أبيض، من قوم غران، قال امرؤ القيس:

ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم عند المشاهد غران وهذا مدح. ولكن الذي قصد الناظم الأغر بمعنى الشريف، يقال للشريف في قومه: أغر، لأنه فيهم كالغرة. وفلان غرة قومه، أي: سيدهم. قالوا: وغرة كل شيء: أوله وأكرمه. والكرام: جمع كريم، وهو الشريف الفاضل، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. وقال تعالى: {قال: أرأيتك هذا الذي كرمت علي}. والكريم: /أيضا: الصفوح، قال تعالى: {فإن ربي غني كريم}. والكريم: الحسن، قال تعالى: {من كل زوج كريم}. وإنما سمي البذول كريما لأنه فاعل فعل الأشراف. والبررة: جمع بار، كسافر وسفرة، وكاتب وكتبة، وهو من البر، وهو خلاف العقوق، وفلان يبر خالقه، أي: يطيعه ويتبرره أيضا. ومعاني البرور راجعة إلى معنى الموافقة والطاعة. وهذه الأوصاف حقيق أن يوصف بها آل الرسول- صلى الله عليه وسلم- على التفسيرين، فلو قلنا: إن آله هم عشيرته الأقربون، فصحيح، لأنهم كذلك كانوا من شرف الأنساب والسيادة التي بذوا بها غيرهم، مع

الموافقة والطاعة والانقياد إلى طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن قلنا: إن آله من يرجع إليه في الدين، فكذلك أيضا، لأنهم غر محجلون من أثر الوضوء. وأيضا فهم سادة الناس، وأكرم الناس، لأنهم المتقون، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ولذلك سوى الإسلام بينهم، فليس للفاضل في النسب الصريح على المفضول فيه مزية إلا بزيادة التقوى وشدة الامتثال للأوامر والنواهي، فليس السوداء على ابن البيضاء فضل، فاستوى في هذا الشرف الفاضل والمفضول، وصار الجميع أفضل الناس. ثم قال: "وصحبه المنتخبين الخيرة"، الصحب: اسم جمع لصاحب، وليس بجمع له على القياس على مذهب سيبويه والجمهور، ومثله: راكب وركب. والصاحب في اللغة: ذو الصحبة، وهي الاجتماع والمؤالفة، صحبت فلانا صحبة وصحابة، فهو صاحب، ويجمع أيضا على الأصولين مختلف فيه؛ فذهب جماعة منهم ابن حنبل إلى أنه من رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحبه ولو ساعة، وإن لم تطل الصحبة ولا روى عنه حديثا ولا اختص به اختصاصا زائدا على مجرد اللقاء والمصاحبة. وذهب قوم إلى أنه من رآه- عليه السلام- واختص به اختصاص الصحبة، وطالت مدة صحبته له، وإن لم يرو عنه.

وذهب بعضهم إلى أن هذا الاسم إنما سمي به من طالت صحبته للنبي- عليه السلام- أخذ عنه العلم. قالوا: والخلاف في هذه المسألة راجع إلى إطلاق لفظي في معنى الصحبة، هل تختص بأمر زائد على مجرد الاجتماع والمؤالفة أم لا؟ و"المنتخبين" نعت للصحب، واحدهم منتخب، وهو المختار، ورجل نخبة من قوم نخب- كرطبة ورطب- يقال: جاء في نخب أصحابه، أي: في خيارهم. والانتخاب الاختيار. وكذلك كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد اختيروا له وانتخبوا من سائر الطوائف، مصطفون لمصطفى، رضي الله عنهم، ورضوا عنه. والخيرة بمعنى الاختيار، قال الجوهري: "الخيرة مثل العنبة: الاسم من قولك: اختاره الله تعالى، يقال: محمد- صلى الله عليه وسلم- خيرة الله من خلقه، وخيرة الله أيضا، بالتسكين"، فكأن الناظم أراد المختارين من الخلق، فوضع اسم المصدر موضع ذلك، وعامله في الإتيان/ به مفردا معاملة المصدر فلم يجمعه. ويحتمل أن يضبط هنا بفتح الخاء على أنه جمع خير، فقد حكى الفراء: قوم خيرة بررة. وقد تقدم أول الكتاب في هذا المعنى حديث اصطفاء الله- تعالى- له أصحابه وعترته، فأغنى عن الإعادة. ***

[ختام الكتاب] وقد كمل بحمد الله الغرض المقصود، وحصل بفضل الله إنجاز الموعود، وأنا أرجو أن ينفع الله به المفيد والمستفيد، إنه حميد مجيد، وأن يكون هذا المجموع مستقلا بإبداء معاني الخلاصة غنيا عن المزيد، منهضا إلى أوج الاستبصار عن حضيض التقليد. ولذلك وسمته بالمقاصد الشافية في شرح خلاصة الكافية. ولعمري إن مطالعه ليطلع منه على كثير من أسرار علم اللسان، ودفائن سيبويه وغيره من علماء هذا الشأن، التي من قصر إدراكه دونها لم يحل في هذا العلم بطائل، ومن ضاق فهمه عنها فاسم الإمامة عنه زائل، إلى ما تضمنه من حل كثير من عقد كتابه "التسهيل" ومشكلاته، وفك معمياته، وفتح مقفلاته. على أني بكلامه استدللت على كلامه، وبنوره اهتديت في بيداء استبهامه إلى رفع أعلاه. جعلنا الله ممن عمل بما علم، وأدى حق ما أنعم عليه فغنم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطيبين، وصحبه المنتخبين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. ***

(قال مؤلفه- تغمده الله برحمته): (وكان الفراغ من تقييده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الثاني عام أحد وسبعين وسبعمائة).

§1/1