شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

مقدمة المؤلف - فضائل الصحابة - حكم من طعن فيهم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مقدمة المؤلف - فضائل الصحابة - حكم من طعن فيهم سنة الله في الخلق أنهم يتفاوتون، فلا يستوي هذا وذاك، فلكل فضله ومنزلته عند ربه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد حظيت هذه الأمة بنبي هو أفضل الأنبياء، واختار له ربه أفضل الناس في زمانه لصحبته، فكان الصديق أبا بكر ثم الفاروق عمر ثم الحيي عثمان ثم ابن عمه علي، ومن صاحبهم ومن سار على نهجهم، ومن الجرم الشنيع أن يسب هؤلاء أو يطعن في دينهم.

فضائل الصحابة

فضائل الصحابة إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فهذا كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو أثري محض، يتكلم عن آثار بالأسانيد الصحيحة عن اعتقاد أفضل الأمة على الإطلاق وهم الصحابة رضوان الله عليهم، واعتقاد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، وقبل أن نبدأ بالكتاب لا بد أن نُعرِّف بالصحابة وعقيدتنا في الصحابة، وما يهمنا من ناحية الصحابة، وهل من يسب الصحابة يكفر أم لا يكفر.

أفضل الأمة بعد نبيها الصحابة

أفضل الأمة بعد نبيها الصحابة الصحابة الكرام هم أفضل الأمة على الإطلاق، بل هم خير البشرية بعد النبيين والمرسلين على الإطلاق، بنص كلام الله جل وعلا وبنص كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أنزل الله عدالتهم في كتابه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم توثيقهم في نص حديثه، فهم الذين نصروا الله فنصرهم، وأعزوا الدين فأعزهم الله جل وعلا، ورفعوا راية لا إله إلا الله فرفعهم الله على الناس أجمعين، وحسبهم أنهم جابوا الأرض شرقاً وغرباً رفعاً لراية لا إله إلا الله. وقد بين الله عِظَمَ قدر الصحابة في كتابه بقوله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]. وقال الله عنهم أيضاً: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9]. فبين الله جل وعلا أن هؤلاء هم أفضل البشر، وأنهم يستحقون كلمة لا إله إلا الله، وهذا تعديل ليس بعده تعديل، ولذلك قال كل المحدثين على الإطلاق: الصحابة عدول، فأي حديث جاء عن صحابي ولم يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث صحيح لأنه مرسل، ومراسيل الصحابة مراسيل صحيحة؛ لأن كل الصحابة عدول بنص كلام الله تعالى حيث قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26]، أي كلمة لا إله إلا الله، ثم قال: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم خيرة البشر على الإطلاق، ولذلك كان محتم علينا أن نحترمهم، وأن نعرف قدرهم وأن نجلهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي! الله الله في أصحابي! من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغض الله فقد آذى الله، ومن آذى الله أوشك أن يأخذه الله) أي: أن علامة حب المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبه لأصحاب رسول الله، وعلامة بغضه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغض الصحابة الكرام ولو ادعى وزعم أنه يحب رسول الله، فليسمع من لعنات الله جل وعلا تنزل عليهم تترى، ممن يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليل نهار. جاء في الصحيحين أن مشاجرة حدثت بين خالد بن الوليد وهو متأخر الإسلام وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وهو من المتقدمين في الإسلام، فسب خالد عبد الرحمن بن عوف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم ويعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وهم خيار الأمة إلا أن درجاتهم في الفضل متفاوتة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم زاجراً لـ خالد بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ومع إن خالداً صحابي ولكنه لا يستوي في الفضل مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه فكان قول النبي صلى الله عليه سلم هذا تعظيماً لقدر أصحابه. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: (النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم ذهبت الدنيا وذهبت السماء، وأنا أمنة لأصحابي فإذا قبضت -يعني: ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم- أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا قبض أصحابي أتى الأمة ما توعد). وهذا مصداق لحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (ما يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه)، وما زلنا نتنزل في الشر، فكان كل زمان يذهب ببعض الخير ويبقى الشر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق بشرى لطائفة من متأخري هذه الأمة فقال: (أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أولها أم في آخرها)، ومما سبق تبين أن أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة الكرام.

أفضل الصحابة أبو بكر

أفضل الصحابة أبو بكر ليعلم أن أفضل الصحابة على الإطلاق بل أفضل البشر على الإطلاق من غير النبيين والمرسلين هو أبو بكر الصديق، فقد نزلت عدالته من فوق سبع سماوات، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خير الأمة على الإطلاق هو أبو بكر. أما في الكتاب فقد مدح أبو بكر الصديق بأعظم ما يكون من مدحه مدح به شخص، فقد نزلت فيه آية عظيمة جليلة تبين قدر أبي بكر عند الله، قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] فعظم الله وهو العظيم أبا بكر فنعته بأنه صاحب فضل، فهنيئاً لـ أبي بكر على هذه الدرجة التي نالها عند ربه جل وعلا. وقد أجمع المفسرون على أن المقصود بالآية هو أبو بكر، فقد نزلت بعد أن أقسم أبو بكر أن لا ينفق على مسطح فقال الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]. وقال الله تعالى أيضاً في حق أبي بكر: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] فنص في الكتاب على أنه أخلص الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الإخلاص خفي لا يعلمه أحد قط لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، ومع ذلك أفصح الله جل وعلا في القرآن الكريم على أن أخلص الأمة بعد نبيها هو أبو بكر حيث نعته بالأتقى.

السنة تثني على أبي بكر

السنة تثني على أبي بكر جاءت الأحاديث الصحيحة تبين شمائله الكريمة ففي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه غضب يوماً فاشتد على عمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم استسمحه فلم يسمح له عمر فقال: والله لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قص القصة على الرسول قال: والله لقد استسمحته، فلم يسمح لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من عمر وأفضل الأمة على الإطلاق: (يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر يغفر الله لك يا أبا بكر) فكرر ذلك تأكيداً، فلما بلغ ذلك عمر ندم على ما فعل وذهب إلى بيت أبي بكر فقال: أثمَّ أبو بكر فقالوا: لا. فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر احمر وجهه، وتمعر واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم، فعلم أبو بكر أنه حبيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، وهو يعلم ما بداخل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشتد على عمر فقال: يا رسول الله! إني كنت والله أظلم, وجثا على ركبتيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع له، فلما دخل عمر اشتد النبي صلى الله عليه وسلم غضباً عليه وقال: (هلا تركتم لي صاحبي، قد جئتكم فقلتم: كذبت، وقال لي: صدقت، وواساني بماله وأهله) فلم يؤذ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بعدها. ومما يبين قدر أبي بكر ما روي أنه رضي الله عنه تخاصم مع رجل آخر من الصحابة واشتد عليه، ثم قال له: اقتص مني، قال: لا والله لا أقتص منك، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اقتص مني وإلا استعديت عليك رسول الله! فاستغرب الصحابة من صنيعه، إذ كيف يخطئ على رجل ويقول: أستعدي عليك رسول الله، فقالوا: والله لنذهبن معك إلى رسول الله، ونشهد عنده أنه المخطئ في حقك، فقال الرجل: اسكتوا حتى لا يسمع أبو بكر ما تقولون فيغضب، ثم يغضب رسول الله لغضب صاحبه، ثم يغضب الله لغضب نبيه، فيهلك صاحبكم، فكان الصحابة على معرفة بقدر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سدوا كل خوخه إلا خوخة أبي بكر) رضي الله عنه وأرضاه.

ثبوت الإمامة لأبي بكر بالنص والإشارة والإجماع

ثبوت الإمامة لأبي بكر بالنص والإشارة والإجماع لقد كان أبو بكر ذلك الرجل البديع الكريم حبيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا لابد أن يعلم أن من طعن في دينه فهو كافر خارج من الملة قد ارتكب ما يجعله خالداً في نار جهنم، ومن أنكر إمامته أوشك على الكفر؛ إذ إن إمامته ثابتة بالنص والإشارة. أما إمامته بالنص فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادع لي أبا بكر لأكتب له كتاباً حتى لا يطمع في هذا الأمر طامع -يعني: في هذه الإمامة والخلافة- فلم يأت أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ويأبى المؤمنون -يعني: في هذا الأمر- إلا أبا بكر). فكان ذلك نصاً على أبي بكر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة، فقاس الناس قياس أولى ويسميه الأصوليون القياس الجلي، فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل أبا بكر يحافظ على الدين، وأمنه على ديننا، فمن باب أولى أن يلي أمور الدنيا التي هي دنيئة تنتهي. وقد أجمع الصحابة على خلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، إذ قام عمر خطيباً في الناس وقال: يـ أبا بكر أنت أفضلنا، وأقربنا، وأحبنا لرسول الله فابسط يدك لنبايعك، فبسط يده وبايعه جل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

أبو بكر أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم

أبو بكر أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المآثر التي تفيد علو مكانة أبي بكر ما حدث في غزوة السلاسل، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص أميراً على سرية غزوة السلاسل، وكان عمرو بن العاص رجلاً داهية لا يحب أن يدخل في حرب إلا وقد احتاط بما يمكنه من الانتصار فيها، فبعث للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب المدد، فبعث له النبي صلى الله عليه وسلم مدداً، وفيهم ثلاثة هم خيار الأمة: أبو عبيدة بن الجراح وهو أميرهم، وفي القوم أبو بكر وعمر، ومنه استنبط العلماء أنه يجوز للمفضول أن يترأس على الفاضل، ثم دخلوا على عمرو بن العاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نصح أبا عبيدة فقال له: (لا تنازعوا) أي: إياك والنزاع حتى لو قال لك عمرو: الإمارة لي فدعها له، وكان ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ تشبث عمرو بن العاص بالإمارة، فقال له أبو عبيدة: هي لك، وفي الغزوة صلى عمرو بالناس جنباً، والحديث محفوظ، والشاهد في الحديث أن عمرو بن العاص قال في نفسه: ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني بـ أبي عبيدة وعمر وأبي بكر وأنا متأخر الإسلام، فأنا أحب إلى رسول الله من هؤلاء، مع أنهم سبقوني في الإسلام، فذهب وهو يشتم رائحة القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة -وهو لا يريد هذه- فقال: ليس عن هذا أسأل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر، قال: ثم من؟ قال عثمان) فقال في نفسه لو عددت لعد رجالاً وكنت أنا في المتأخرين فسكت على ذلك، وفي هذا دليل على أن أبا بكر كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن طعن في إمامة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه على وشك الفسق، ومن طعن في دينه فهو كافر خارج من الملة.

عمر الفاروق أفضل الأمة بعد نبيها وأبي بكر

عمر الفاروق أفضل الأمة بعد نبيها وأبي بكر يلي أبا بكر في الفضل عمر بن الخطاب فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما غربت الشمس ولا طلعت من بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر، وقد رآه هو وعمر فقال لـ علي: (هذان سيدا كهول أهل الجنة). إن لـ عمر فضائل كثيرة يصعب جداً على الباحث أن يحصيها، ويكفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إيه يا عمر! لو سلكت فجاً لسلك الشيطان فجاً غير الفج الذي سلكت)، وكان رجلاً شديداً في نصرة الإسلام، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه وهو يتحدث عن أمير المؤمنين عمر: كنا أذلة حتى أسلم عمر فأعزنا الله بـ عمر. ومما ورد في فضل عمر رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عمر رضي الله عنه وأرضاه يتمثل الإسلام يوم القيامة فيأخذ بيده ويذهب إلى الله فيحتج فيقول: أعززتني بهذا الرجل فيدخل الجنة بدون حساب)، ومع ذلك يقول عمر رضي الله عنه: يا ليتني شعرة في صدر أبي بكر.

النص على خلافة عمر

النص على خلافة عمر وكما نص على خلافة أبي بكر فقد نص أيضاً على خلافة عمر ولا يطعن فيها إلا فاسق فاجر، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في مرض موته جاءه عثمان فقال له: أرأيت من تستخلف؟ فتنفس الصعداء وكاد يتكلم فأغمي عليه فخشي عثمان موت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فكتب الخلافة للناس فأفاق أبو بكر فقال له عثمان: ما تملي علي؟ قال أبو بكر: من كتبت؟ قال عثمان: كتبت عمر، قال: والله لو كتبت نفسك لكنت أهلاً لها، اكتب عمر فأقر كتابته، وقوله ذاك ليس تفضيلاً من أبي بكر لـ عثمان على عمر بل غاية ما يفهم منه أن عثمان أهل لها، ثم جاء الناس إلى أبي بكر فقالوا: كيف تولي علينا هذا الشديد الغليظ؟ كيف تجيب ربك وأنت تعلم شدة عمر؟ فقال: والله لو سألني ربي: لم وليت هذا عليهم؟ لقلت وليت عليهم أفضلهم وخيارهم. ومن شدة عمر أنه كان إذا أراد أن يقرر البشر على حكم نزل عليه، واجتمع عليه الصحابة كان أول شيء يفعله: أن يقفل الباب على أهله، وهم في الدار جميعهم الصغير والكبير، ثم يقول: إني آمر الناس غداً بشيء والله لو وجدت منكم أحداً تجرأ علي لجلدته أمام الناس أجمعين، فكان عمر أشد الناس على أهله أولاً ثم على البشر، وهذا الذي جعل عائشة رضي الله عنها وأرضاها ترفض سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه زوجاً لأختها بعد أن تقدم يريد الزواج من أختها، ولما سُئلت عائشة: لماذا رفضته؟ بينت العلة وقالت: عمر شديد، والبنت صغيرة. وممن أقر أبا بكر على اختياره لـ عمر خليفة بعده ابن مسعود رضي الله عنه فقد أُثر عنه أنه قال: أشد الناس فراسة ثلاثة: بنت الرجل الصالح شعيب لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26] فألمحت أنها تريده، وقالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] فتزوجت نبي الله موسى وهو أفضل البشر على الإطلاق في وقته. وعزيز مصر لما قال: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] يوصي امرأته أن تكرم يوسف عليه السلام. وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما تصرف في خلافة عمر.

من فضائل عمر

من فضائل عمر مما ورد في فضل عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه في الرؤيا التي رآها: (وينزع نزعاً ما رأيت عبقرياً مثل عمر يفري فرياً) على أن عمر هو من خطط تخطيطاً دقيقاً لحركة الفتوحات والغزوات التي أسهمت في نشر الدين، وكانت سبباً في جمع الأموال الطائلة التي جاءت للمسلمين عن طريق خلافته رضي الله عنه وأرضاه. وأختم الكلام على عمر بما قاله علي لما دخل عليه وهو في النزع الأخير حيث قال: أرجو الله أن يحشرك مع صاحبيك، فإني قد سمعت كثيراً رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر، وكنت أنا وأبو بكر وعمر حشرك الله مع صاحبيك)، وكانت هذه فراسة من علي صدقتها عائشة رضي الله عنها وأرضاها وتركت المكان لـ عمر، ودفن عمر بجوار صاحبيه، وما زلنا حتى الآن نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي ثم على أبي بكر وعمر رضي الله عن الشيخين، ولعن الله من يسبهما، وطرد الله من يسبهما من رحمته، وأنزل عليهم العذاب الأليم الشديد، الذين يقولون: العنوا صنمي قريش، فنسأل الله أن يجازيهم بما يستحقون، فهم الذين حرفوا في دين الله جل وعلا، وهم أضر علينا من اليهود والنصارى، لما يحملونه من خبث دفين إذ لو قيل ليهود: من أفضل الناس فيكم؟ لقالوا: أفضل الناس فينا هم صحابة موسى عليه السلام، ولو قيل للنصارى: من أفضل الناس فيكم؟ لقالوا: أفضل الناس فينا هم حواريو عيسى عليه السلام، ثم قيل للشيعة: من أشر الناس عندكم؟ قالوا: صحابة رسول الله والعياذ بالله، ومن منكرات أعمالهم ما يصنعون في الأعياد حيث يجعلون صنماً كبيراً من الحلوى، ويشربونه العسل، ثم يقولون: هذا صنم أبي بكر وهذا لـ عمر، ويزعمون أنهم يشربون من دم أبي بكر ودم عمر أسقاهم الله من الصديد في نار جهنم.

من مناقب ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

من مناقب ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه ويلي الشيخين في الفضل عثمان رضي الله عنه وأرضاه وإن كان فيه خلاف إلا أن الأمة أجمعت عليه بعد ذلك الخلاف، فقد كان رأي أبي حنيفة والثوري ومن المتأخرين الشوكاني تقديم علي على عثمان رضي الله عنه وأرضاه، والخلاف هذا معتبر، لكن الصحيح الراجح أن عثمان يقدم على علي بالنص أيضاً إذ إن عثمان هو الخليفة الثالث، وخلافته جاءت صحيحة بإجماع المهاجرين والأنصار، لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: إن كنت سأستخلف، فقد استخلف من هو خير مني -يريد أبا بكر -، وإن كنت لا أستخلف أي: لا أنص كتابة، فما استخلف من هو خير مني يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب لـ أبي بكر لكنه أشار إليه كما تقدم، ثم قال: هي في هؤلاء الستة الذين مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وعدهم: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين، قال العلماء: أما عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه وإن كان لا يقل فضلاً عن هؤلاء، إلا أن أعباء الخلافة جعلت عمر رضي الله عنه وأرضاه ينحيه عنها حيث قال: له المشورة وليس له من الأمر شيء. فترك الزبير صوته لـ علي وترك طلحة صوته لـ عثمان، وتنحى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وسعد بن أبي وقاص عن الأمر، فحصر الأمر في علي وعثمان، قال عبد الرحمن بن عوف: والله لقد درت على النساء في خدورهن فما عدلوا بـ عثمان أحداً، وهذه دلالة على أن المهاجرين والأنصار بالنظر الثاقب قدموا عثمان. ومما يؤثر عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كنا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان). وقد خطب علي رضي الله عنه في الناس وقال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ومن قدمني على أبي بكر وعمر جلدته ثمانين جلدة حد المفتري، ثم قال: والله أعلم بمن أفضل بعد ذلك، فلم يخير عثمان عليه. وهنا يجدر بمن يقدم علي على الشيخين إن كان يحب علياً أن يستمع لكلامه، ورد في الأثر أن محمد بن الحنفية قال لـ علي: من أفضل الأمة بعد النبي؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: عمر قال: فاستحييت أن أقول له: ثم من؟ فيقدم عثمان عليه، مع أن في قرارة نفسه أن عثمان أفضل من علي رضي الله عنه وأرضاه. وبذلك علم فضل عثمان رضي الله عنه. وأشهر فضائل عثمان أنه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنتيه، وورد في الآثار أنه قال: (لو كانت الثالثة لأنكحتك إياها).

حياء النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان

حياء النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان من أعظم الفضائل لـ عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحيي منه ويقول: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)، وفي الحديث دلالة على أن الفخذ ليس بعورة، والأحوط تغطيته، وإذا رأى أحدكم شخصاً يكشفه فالأولى أن ينكر عليه ويقول له: الفخذ عورة، وإن كان حديث: (الفخذ عورة) حديث ضعيف لكن هذا من باب المروءات، أما الشاهد من الحديث الذي يفيد بأن الفخذ ليس بعورة ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متكئاً وفخذه مكشوف، فدخل أبو بكر فلم يهش ولم يبال، ثم دخل عمر فلم يهش ولم يبال، فلما استأذن عثمان قام واستوى وغطى فخذه، فقالت عائشة منكرة: (يا رسول دخل عليك أبو بكر فلم تهش ولم تبال، ودخل عليك عمر فلم تهش ولم تبال، ولما دخل عليك عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- استويت قال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة). وورد في استحياء عثمان رضي الله عنه وأرضاه -وأيضاً عمر - أنه ما كان يغتسل عارياً قط، بل كان إذا دخل الخلاء يستأذن الملك، وكان يدخل فيظلم كل المكان حتى لا يرى عورته، وهذا من حياء عثمان رضي الله عنه وأرضاه، ربنا يرزقنا الحياء، والحياء رفعة وإيمان.

الخليفة الشهيد علي بن أبي طالب

الخليفة الشهيد علي بن أبي طالب يلي عثمان رضي الله عنه في الفضل والمكانة علي بن أبي طالب، وفضائله غير خفية على من له أدنى اطلاع، وقد نوزع علي في الخلافة مما يجعل البعض يسأل عن خلافته هل كانت صحيحة؟ وهل خلافته ملك عضوض أم خلافة على منهاج النبوة؟ فالصحيح أنها خلافة صحيحة لحديث: (الخلافة بعدي ثلاثون عاماً)، ومعلوم أن خلافة علي كانت في الثلاثين التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك كانت خلافة معاوية التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، فخرجت من الخلافة وأصبحت ملكاً وتحقق كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصبحت تتوارث. وقد كان الحق مع علي في الخلاف الذي دار بينه وبين معاوية وكان علي هو أفضل على الإطلاق، وكان هو المستحق للخلافة، ولذلك لما حدثت المشاحنة بين الزبير وطلحة وبين علي وبين عائشة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن سببها الخلاف بينهم كما يصور البعض، وإنما كان الموتورون داخل الصف هم الذين يحرشون بينهم ويشحنون القلوب بدعوى أنه كان لا بد قبل أن يبايع علي أن يقتص لهذا المظلوم المقتول عثمان، وهذا الكلام غير صحيح، والمهم أن نعلم أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها خرجت وخرج الزبير وخرج طلحة لقتال علي، والله جل وعلا يظهر الحق حتى لو خفي على كل البشر، فـ ابن عمر أفضل الصحابة وأتقنهم علماً خفي عليه أن الحق مع علي؛ ولذلك بكى بكاءً شديداً عند موته وقال: يا ليتني قاتلت مع علي والله إن الحق مع علي، ومما دار بينهم أن علياً جاء إلى الزبير وقال له: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بي وبك فقال: (تحبه؟ قال: ومالي لا أحبه؟! فقال له: تقاتله وأنت ظالم له)، وقد تحقق هذا، وفيه علامة من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه الزبير قال: والله كأني لم أسمع الحديث إلا اليوم، فاستدار بفرسه فنزل فقتلوه، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه لما علم ذلك أيضاً قتل، ثم تلت ذلك المعركة الشديدة التي كان فيها الدماء بسبب عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقد كان من حولها يحرسون الجمل ولذلك سميت معركة الجمل، وقد قتل خلق كثير حول الجمل إلى أن أمر علي بضرب ساقي الجمل فانتهت المعركة، وبعد ما انتهى القتال ذهب علي فقال: يا أمه -وهذا من فقهه فهي أم المؤمنين- تريدين شيئاً؟ قالت: لا، فقال للجيش: صفوا لأمكم ثم ارجعوا بها إلى المدينة، فرجعوا بها إلى المدينة معززة مكرمة. وبعد ذلك حدث نزاع في صفوف علي حتى قال قائلهم: كيف تقول: إننا نقاتلهم ولا نسبي نساءهم؟ فأجابهم: من أراد أن يضرب بسهم لنفسه فليأخذ أم المؤمنين غنيمة عنده! فسكت القوم، وعلموا أن القتال قتال بغي وليس قتال كفر، ولا يصح السبي ولا الغنائم. وبعد أن رجعت عائشة إلى المدينة سمعت بقتال الخوارج وأن علياً قتل ذا الثدية فقالت: والله إن الحق مع علي، وما كان بيني وبينه إلا ما بين الأحناء بعضهم لبعض، وكان في صدرها شيء من علي، وهو أنه لما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك قال علي: النساء غيرها كثير، وكان علي محق ولم يقصد الطعن في عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وإنما أراد أن أعباء النبوة أقوى من أن تفكر في هذا الأمر؛ لأن الأمة بل الدنيا بأسرها تنتظر شمس النبوة، فكان محقاً فيما نظر فيه اجتهاداً، ولا يمكن أن يتصور في علي أن يطعن في الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها. وأما بالنسبة لـ معاوية فالحق كل الحق مع علي بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عمار تقتله الفئة الباغية)، وقتلته فئة معاوية وقال: (عمار أينما كان فالحق معه)، لكن معاوية رد على هذا وقال: إن قلتم: الفئة الباغية التي تقتل عمار فقد قتله من خرج به، وذلك أنه دخل وعند معاوية عمرو بن العاص فقال الرجل: أبشر يا أمير المؤمنين! يريد معاوية فقال: مه؟ قال: أبشر فقد قتلت عماراً، فقام عبد الله بن عمرو بن العاص متهللاً: وقال: أبشر بنار جهنم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر قاتل عمار بالنار)، فلما سمع الناس ذلك انسل الجيش من معاوية وذهب إلى علي فقال معاوية لـ عمرو بن العاص: نح عنا مجنونك هذا، وذلك لكي لا يدب الأمر في الجيش، فقال معاوية رضي الله عنه وأرضاه حينها: إذاً قتله من خرج به! والرد على هذا أنه إذا كان كذلك فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل حمزة؛ لأنه هو الذي أخرجه للقتال! وليس كذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى عليه وقال: (هو أسد الله). ولما قتل علي الخوارج علم الناس أن الحق معه.

خلاف علي ومعاوية خلاف بين طائفتين من المسلمين

خلاف علي ومعاوية خلاف بين طائفتين من المسلمين ينبغي أن ندرك أن خلاف علي ومعاوية لا يبنى عليه كفر وإسلام فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، فسماهم مسلمين، ونسمع أن بعض الناس مع أن الله حباه ببعض علم الحديث يسب معاوية، بل قد وصل به الحد أن يسب عائشة، لكن ليعلم هو ومن على شاكلته أنه لن يسلم من يطعن في الصحابة، ولذلك قال ابن كثير في البداية والنهاية: دماء عصم الله أيدينا منهم، فنسأل الله أن يعصم ألسنتنا منهم، فنحن نكف عن هذا، ونترضى عليهم ونقول: ليسوا بمعصومين وإن أخطئوا فالله يغفر لهم، كفى حاطب بن أبي بلتعه قول النبي فيه: (دعه فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

العشرة المبشرون بالجنة

العشرة المبشرون بالجنة العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة هم الخلفاء الأربعة ثم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، وهؤلاء هم أفضل الصحابة، وهم مع ذلك يتفاوتون فيما بينهم الأعلم فالأعلم، نسأل الله جل وعلا أن نحفظ حقهم ونحفظ قدرهم.

هل يكفر من طعن في الصحابة أم لا؟

هل يكفر من طعن في الصحابة أم لا؟ لا شك أن من طعن في دين الصحابة فقد كفر، فمن طعن في دين أبي بكر فقد كفر، ومن طعن في دين علي أو عثمان أو عمر فقد كفر؛ لأنه كذب القرآن، وقد أنزل الله عدالتهم وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، ومن سبهم أجمعين على أنهم قد كفروا وخرجوا من الملة فهذا يكفر أيضاً، أما ما عداه فهو فسق وفجور. ومن قال عن عائشة: إنها لم تبرأ وفعلت الفاحشة فقد كفر؛ لأنه كذب الله الذي برأها من فوق سبع سماوات. والسب سبان: سب بكلام قبيح، وطعن في الدين، فالسب في عائشة رضي الله عنها وأرضاها إذا كان قدحاً في دينها أو طعناً في شرفها وعفتها فهو كفر، ويقتل من قال به ردة؛ لأنه كذب القرآن وكذب الله الذي برأها من فوق سبع سماوات، ومعلوم أن من كذب الله فقد كفر {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. ومن أكثر من يقع في الصحابة الشيعة وهم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي دخل ليدمر الدين، كما دخل بولس ودمر الإنجيل؛ فقد كان يهودياً ثم دخل النصرانية على أنه قبطي ودمر الإنجيل وحرفه على الناس، وعبد الله بن سبأ ادعى الإسلام وانتهى في النهاية إلى أن علياً هو الإله، ولما حرق من قالوا بذلك افترى عليهم وقال: لا يحرق بالنار إلا خالقها، لحديث ابن عباس، إذاً فهو خالقها. وقد كان عبد الله بن سبأ هو رأس الشيعة، ثم تشعبوا بعد ذلك فمنهم من هم أقرب إلى أهل السنة والجماعة مثل: محمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله عنهم وأرضاهم، وإن كانوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر فهم يقولون: خلافة أبي بكر صحيحة، وخلافة عمر صحيحة بإجماع المسلمين، لكن علي أفضل منهم، وغلاة الشيعة كفار أما العوام الذين لا يعرفون شيئاً فليسوا كفاراً، أما الذين يسبون علناً ويطعنون في دين أبي بكر ويطعنون في دين عمر، ويطعنون في دين عائشة ويئولون القرآن: فقوله تعالى: (اذبحوا بقرة) قالوا: هي عائشة رضي الله عنها وأرضاها؛ فهؤلاء وأشباههم على الكفر لأنهم كذبوا القرآن.

شرح البسملة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - شرح البسملة درج المؤلفون على افتتاح مصنفاتهم بالبسملة، ودرج الشراح على شرحها وإعرابها، وفيها ثلاثة أسماء حسنى لله تعالى (الله، والرحمن، والرحيم)، وفيها استعانة بالله.

تعديل الله ورسوله للصحابة رضوان الله عليهم

تعديل الله ورسوله للصحابة رضوان الله عليهم يبحث هذا الكتاب في اعتقاد السلف الصالح، وأصل السلف هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والذين عدلهم الله جل وعلا في الكتاب، وعدلهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، كما قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) [النساء:115] فمن تنكب هذا الصراط بعد عن الحق، ومن سار على نهجهم وآمن بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى؛ فإن الله قد ربط الهداية بذلك، قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وكلمة التقوى هي كلمة لا إله إلا الله، وعدلهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة فقال: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه). قوله: (شرح). الشرح معناه: تبيين المجمل وتفسيره، ورفع الإشكال، وإظهار الغموض، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، أو إطلاق المقيد في الظاهر، وغير ذلك. وقوله: (أصول). الأصل: ما يبنى عليه غيره، والأصل غير الفرع كالركن والشرط. قوله: (اعتقاد) هو ما اعتقده المرء وربط قلبه عليه، واعتقده اعتقاداً جازماً. قوله: (أهل السنة والجماعة) هم سلف هذه الأمة، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الفرقة الناجية في الحديث الذي رواه أصحاب السنن، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: يا رسول الله! من هي؟! فقال: الذين كانوا على ما أنا عليه وأصحابي).

نبذة مختصرة عن حياة المؤلف

نبذة مختصرة عن حياة المؤلف هذا الكتاب صاحبه ومؤلفه هو العالم الفذ المحدث الفقيه: هبة الله بن الحسن بن منصور الرازي الطبري اللالكائي، ينسب إلى ثلاث مدن، طبرستان، وهي أصل مولده، ثم انتقل إلى الري، ثم بعد ذلك انتقل إلى بغداد، وقيل: الألكائي، وقيل: اللكائي، وكنيته أبو القاسم، واللكائي نسبة لبيع اللوالك، وهي أشبه ما تكون بالخفاف، وكان يلبس في القدم، وهذه النسبة ليست عيباً؛ لأنك قد تنسب لصنعة أو لحرفة أو لبيع أغراض، ومثل هذا: الراوي الثقة الثبت الذي هو من رجال الصحيح خالد الحذاء، وقد سموه خالد الحذاء نسبة للأحذية، وما كان يبيع الأحذية، لكن كان يجلس مع من يصلح الأحذية فنسبوه إلى هذه النسبة، ومثله: الزيات؛ لأنه كان يبيع الزيت، فهذه النسبة جاءت من حرفة بيع هذه السلعة. قدم بغداد واستوطنها. من أبنائه محمد الملقب بـ أبي بكر، سمع الحديث في مدينة الري، ثم قدم إلى بغداد فدرس فيها الفقه وسمع الحديث، وليست له شهرة كبيرة، لكنه كان عالماً فذاً، سمع الحديث وأتقن حفظه، وتعلم الفقه؛ فرزقه الله الحفظ والفهم. ومن تلاميذه: أبو بكر الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد، وهو أشهر تلاميذ هذا العالم الفذ. ومن مؤلفاته: كرامات أولياء الله، وأسماء رجال الصحيحين، وفوائد اختيارات أبي القاسم، والمجالس، والسنن، وشرح أصول الاعتقاد، وشرح كتاب عمر بن الخطاب. كان يتمتع رحمه الله تعالى بالحفظ والإتقان والفهم، وعقيدته عقيدة السلف، والكتاب الذي بين أيدينا يبين ذلك.

شرح (بسم الله الرحمن الرحيم)

شرح (بسم الله الرحمن الرحيم) ابتدأ المؤلف الشرح فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم). قال العلماء: إن من روائع البيان البداءة ببسم الله اقتداءً بكتاب الله جل وعلا، واقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ابتدأ الله كتابه ببسم الله الرحمن الرحيم.

أقوال العلماء في البسملة

أقوال العلماء في البسملة اختلف العلماء في {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] هل هي آية من كل سورة أم هي آية مستقلة؟ والذي عليه الإمام مالك، وهو فصل الخطاب: أنها آية مستقلة تفصل بين سور القرآن، وهي آية من سورة النمل. فالاتفاق على أنها آية من سورة النمل، وهي تفصل بين سور القرآن كما قرر ذلك ابن عباس. واختلف الفقهاء: هل البسملة آية من سورة الفاتحة أم لا؟ فالمالكية على أنها ليست آية من سورة الفاتحة، ولكنها آية مستقلة تفصل بين السور. والشافعية يقولون -وهو الأرجح دليلاً-: البسملة آية من الفاتحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت السبع المثاني) تفسيراً لآية الحجر، فالسبع المثاني هي الفاتحة، ومع العد كانت البسملة آية من الآيات، وإن اعترض على هذا الدليل فقد صرح في بعض الأدلة أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من سورة الفاتحة؛ لذا لا تصح صلاة عبد إلا بالفاتحة، ولا تصح الفاتحة إلا بالبسملة، وهذا هو الراجح دليلاً.

صور من ابتداء الرسول كتبه (ببسم الله الرحمن الرحيم)

صور من ابتداء الرسول كتبه (ببسم الله الرحمن الرحيم) البدء بها يعتبر اقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى كسرى ولا إلى قيصر ولا إلى أهل الفسق والفجور والكفر يدعوهم إلى الإسلام إلا ابتدأ الكتاب: (ببسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى قيصر ملك الروم، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإلا فإن عليك إثم الأريسيين) أي: إثم أتباعك. وأيضاً في صلح الحديبية قال لـ علي بن أبي طالب وهو يكتب الصلح: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)، فاعترض المشركون، وقالوا: لا نعرف الرحمن -كذباً وزوراً وبهتاناً- اكتب باسمك اللهم، ورفضوا بسم الله الرحمن الرحيم. المقصود: أن هذه سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يبتدئ كتاباً إلا ببسم الله الرحمن الرحيم، فهي من روائع البيان. وأيضاً: البركة تحل على أي أمر سواء كان في الدعوة أو التصنيف أو الجهاد أو الخطبة أو النكاح إذا ابتدئ ببسم الله عملاً بالحديث -وإن كان في طرقه ضعف ولكن يقوي بعضها بعضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: (كل أمر ذي بال -أي ذي شأن- لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)، (فهو أقطع)، (فهو أجذم) أي: قليل البركة، وهذه دلالة على أن البسملة تبرك الاستفتاح أو التصنيف أو الجهاد أو الدعوة أو الخطبة.

إعراب البسملة

إعراب البسملة {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] الباء حرف جر، و (اسم) مجرور بالباء. وأهل النحو يقولون: إن الجار والمجرور يعمل عمل المفعول، والمفعول يحتاج لفعل عامل، والعامل محذوف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف متأخر، وتقدير المحذوف: ببسم الله أستعين، ببسم الله أستفتح، والصحيح أن أقول: ببسم الله أستعين. ولو قلنا: إن الجار والمجرور يعمل عمل المعمول -المفعول به- وقدم على الفعل، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أصلها نعبد إياك، وقدم المفعول على الفعل للحصر، أي: أن العبادة كلها مطلقاً لا تكون إلا لله وحده لا شريك له.

الاستعانة وأقسامها

الاستعانة وأقسامها يقصد المؤلف: باسم الله أستعين الاستعانة المطلقة الكلية التي لا تكون إلا بالقوي المتين القادر القدير المقتدر جل وعلا؛ لأن الاستعانة: استعانة مطلقة، واستعانة مقيدة، فالاستعانة المطلقة لا تكون إلا بالله جل وعلا القوي المقتدر، والاستعانة المقيدة يمكن أن تكون بكل من يقدر عليها بشرط أن يكون المستعان به حي حاضر قادر. وهل يصح أن أستعين بالملائكة في التصنيف للإلهام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حسان بن ثابت: (اهجهم وروح القدس معك)؟ لا تصح الاستعانة بالملائكة؛ لأنهم غائبون، ولابد في المستعان به أن يكون حي قادر. تقديم المعمول على العامل لإفادة الحصر، فالاستعانة المطلقة لا تكون إلا من القوي المقتدر وهو الله جل وعلا.

اشتقاق الاسم

اشتقاق الاسم الاسم مشتق من السمو وهو العلو، وهذا على حقيقته لله جل وعلا في ذاته وأسمائه وصفاته، فالله له العلو المطلق، علو الشأن والشرف والمكانة، وعلو القدر والقهر والغلبة، وعلو الذات. فالله جل وعلا له علو الشرف والمكانة. فلا أحد أشرف من الله، فلله الكمال المطلق، ولله الجمال المطلق، ولله الجلال المطلق سبحانه وتعالى. وعلو القهر، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61] إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. أما علو الذات؛ فدليله أن الله جل وعلا قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وورد بسند صحيح عن ابن مسعود: أن العرش فوق السموات، وهذا حكمه حكم المرفوع؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا يمكن للاجتهاد أن يصل إليها، فهو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ابن مسعود لم يصعد إلى السماء ولم ير عرش الرحمن، ولا اجتهد في ذلك، فلابد أن يكون قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلو الذات ثابت لله جل وعلا بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهذا سنفصل فيه القول إن شاء الله. إذاً: الاسم مشتق من السمو وهو العلو، والعلو المطلق لله جل وعلا، علو القدر والشرف والمكانة، وعلو القهر والغلبة، وعلو الذات جل وعلا. ثانياً: مشتق من السمة وهي العلامة في الإنسان، فيمكن أن يكون في الإنسان وشم أو شامة فتقول: أنا أعرفه بهذه العلامة، فالسمة بمعنى: العلامة، وهذه أيضاً حق في حق الله جل وعلا؛ فإن أسماء الله أعلام على ذات الله جل وعلا، فكل اسم من أسماء الله علم على ذات الله، وبعضها لابد فيه من قصد الذات الإلهية، حتى يكون علم على ذات الله جل وعلا.

لفظ الجلالة ((الله)) علم على الذات الإلهية وهو اسم الله الأعظم

لفظ الجلالة ((الله)) علم على الذات الإلهية وهو اسم الله الأعظم (الله). لو تبحرت في علوم هذا الاسم، وتعبدت لله بهذا الاسم ارتقيت ارتقاءً لا يرتقي إليه أحد إلا من أتى بمثل ما أتيت به. الله: أشرف الأسماء على الإطلاق، وهو علم على ذات الله جل وعلا انفرد الله به، ولا يمكن لأحد أن يسمى بهذا الاسم إلا الله، إذا قلت: الله. فلا يذهب ذهنك إلا للعلي المقتدر والذات المقدسة الإلهية. الله: أصله من الإله، وحذفت الهمزة تسهيلاً، كما تقول: الناس أصله الأناس، وحذفت الهمزة تسهيلاً. والإله فعال بمعنى: مفعول ككتاب بمعنى: مكتوب، وغراس بمعنى: مغروس، فالإله بمعنى: مألوه أي: هو الذي تألهه القلوب وتحبه وتخضع له وتتذلل وتتضرع وتتمسكن له جل وعلا. فالله: علم على ذات الله يتضمن صفة الإلهية، وهي العبادة التي هي: غاية الذل مع غاية الحب لله جل وعلا، ولن تصل إلى العبودية التامة حتى تتذلل غاية الذل للملك المقتدر مع غاية المحبة بحيث يمتلئ بها قلبك حتى لا يكون فيه إلا حب الله جل وعلا، وهذا الذي علمه الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية، والحديث في الترمذي ومسند الإمام أحمد بن حنبل قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا. قال: فوضع كفه بين كتفي فكأني شعرت ببرد أنامله على كتفي) ونحن نقول برؤية الله في المنام بنص هذا الحديث، ثم قال: (علمت ما في السموات وما في الأرض). الشاهد من الحديث أنه قال: (قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين)، وفي رواية أخرى: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد). فاستلزام الله المألوه المحبوب أن تفرغ كلية القلب من محبة غير الله جل وعلا، ولذا في قصة إبراهيم الخليل الذي تخللت محبة الله مسالك قلبه وروحه لما جاءه إسماعيل غار الله، وكأن حظاً من حب البنوة قد دخل قلب إبراهيم الخليل الذي كان قلبه نظيفاً من محبة غيره، فابتلاه الله بالذبح، فلما انصاع فداه الله بالذبح العظيم؛ لأن الأمر ابتلاء حتى يخلو القلب من أي أحد دون الله جل وعلا. فالله هو المألوه الذي أشبعت القلوب بمحبته جل وعلا. قال العلماء: الله: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وقد ذكر في القرآن أكثر من ستمائة وخمسة وتسعين مرة. وكذلك ما من حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيه اسم الله الأعظم إلا وكان فيه ذكر الله، (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يرفع يده فيقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور: في البقرة وآل عمران وطه) فإذا قرأت وجدت الأسماء موجود فيها: (الله لا إله إلا هو) (الله لا إله إلا هو) (الله لا إله إلا هو). فالله: على القول الراجح هو اسم الله الأعظم الذي إذا ذكر في قليل كثره وبركه، وهو إغاثة للملهوف، ونصرة للمظلوم، وقهر للغالب على المغلوب، فإن الله جل وعلا الذي تألهه القلوب محال من عرفه ولم يعبده، ومحال من عبده ولم يخلص له، ومحال من أخلص له ولم يشبع قلبه بحبه جل وعلا، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]. وهذا الاسم من مميزاته: أنه لا يضاف إلى الأسماء بل أسماء الله تضاف إليه على أنها أوصاف، فتقول: الله الكريم، الله الرحيم، الله الرحمن، فالكريم والرحيم والرحمن أوصاف لله، لكن لا تقل: الرحمن الله، الكريم الله، ولا يصح أن تقول: الله صفة للكريم أو للرحمن، فلا يضاف للأسماء، بل الأسماء تضاف إلى هذا الاسم الأعظم على أنها أوصاف له، مثل الله الرحمن. والرحمن: على الانفراد اسم من أسماء الله الحسنى يدل دلالة مطابقة على الذات العلية. والدلالات ثلاث: تطابق، وتضمن، والتزام. دلالة التطابق مثل أن أقول: اسم الله دلالته على الذات الإلهية المقدسة دلالة تطابق، أي: لا يحيد شيء عنه. إذاً: اسم الله أو أي اسم من أسماء الله الحسنى يدل دلالة تطابق على ذات الله جل وعلا، فإذا قلت: الرحمن الكريم الجبار تقصد بذلك الذات العلية فإنها تدل عليها دلالة تطابق. فالاسم يدل على الذات بدلالة التطابق ويتضمن صفة، فالاسم يتضمن صفة، فالرحمن يتضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، والإله يتضمن صفة الإلهية، والمتين يتضمن صفة المتانة. وإذا قلنا: إن اسم المحيط من أسماء الله فإنه يتضمن صفة الإحاطة، أي: أن الله يحيط بكل شيء.

أنواع الدلالات

أنواع الدلالات الدلالات ثلاث: تطابق، وتضمن، والتزام. ودلالة التطابق مثل أن أقول: اسم الله دلالته على الذات الإلهية المقدسة دلالة تطابق، أي: لا يحيد شيء عنه. إذاً: اسم الله أو أي اسم من أسماء الله الحسنى يدل دلالة تطابق على ذات الله جل وعلا، فإذا قلت الرحمن الكريم الجبار تقصد بذلك الذات العلية فإنها تدل عليها دلالة تطابق. فالاسم يدل على الذات بدلالة التطابق ويتضمن صفة، فالاسم يتضمن داخله صفة، فالرحمن يتضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، والإله يتضمن صفة، الإلهية، والمتين يتضمن صفة القوة أو المتانة. وإذا قلنا: إن اسم المحيط من أسماء الله فإنه يتضمن صفة الإحاطة، أي: أن الله يحيط بكل شيء.

أقسام الصفات

أقسام الصفات

الصفات الثبوتية وأقسامها

الصفات الثبوتية وأقسامها صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية. الصفات الثبوتية: هي التي أثبتها الله في كتابه، وأثبتها له رسوله في سنته، ولا نفي فيها بحال من الأحوال، ولها ثلاثة أقسام. القسم الأول: صفات ذاتية: أي: لا تنفك عن الله جل وعلا بحال من الأحوال فهي أزلية أبدية، كالعزة، والعزة صفة لله أزلية أبدية أولية آخرية، فالله عزيز أولاً وآخراً، أزلي أبدي، وكذلك الكبرياء، والحياة، والقدرة، صفات أزلية أبدية، ضابطها: أنها لا تنفك عن الله بحال من الأحوال. القسم الثاني: صفات فعلية: وهي الصفات المتجددة بمعنى: أنها تتجدد، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وضابطها: أنها تتعلق بالمشيئة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، كالاستواء إن شاء استوى وإن شاء لم يستو، وكالضحك إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك، وإن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، وإن شاء أعطى وإن شاء لم يعط، وإن شاء منع وإن شاء لم يمنع. فصفات الله جل وعلا على قسمين: صفات ثبوتية أثبتها الله في القرآن، وأثبتها الرسول في السنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً) فأثبت لله السمع والبصر، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] فأثبت الله لنفسه السمع والبصر في الكتاب، وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم له السمع والبصر في السنة، فهذه هي الصفات الثبوتية. والثبوتية ثلاثة أنواع: النوع الأول: ذاتية: بمعنى أنها لا تنفك عن الله، فهي أزلية أبدية ولا يمكن أن تتجدد، ولا تتعلق بالمشيئة، كالحياة، فلا يجوز أن نقول: إن شاء يحيا وإن شاء لم يحيى حاشا لله، ومثلها العزة والكبرياء وغيرها، أما الفعلية فهي متجددة بمعنى: إنه متى ما أراد الله أن يفعلها فعلها سبحانه ومتى ما أراد أن يتركها تركها كصفة الكلام فهو إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، وضابطها: أنها تتعلق بالمشيئة الإلهية. الصفة الثالثة من الصفات الثبوتية: الصفات الخبرية: وهي التي لا مجال فيها للعقل بحال من الأحوال وإنما هي سمعية، أي: إنما أثبتناها لأننا سمعناها من كتاب الله وسنة رسوله، وضابطها: أنها في حقنا أجزاء وأبعاض، مثل اليد فهي من صفات الله، وهي صفة تليق بجلال الله وكماله، لا تشابه أيدي المخلوقين ولا تماثلها. إذاً: الصفات الخبرية: هي التي مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، مثل الساق، فهي صفة تليق بجلال وكمال الله جل وعلا، قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم:42]. والعين أيضاً صفة كمال وجلال لله جل وعلا، قال الله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فهذه هي الصفات الخبرية.

الصفات السلبية

الصفات السلبية القسم الثاني من صفات الله جل وعلا: الصفات السلبية، وهي التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتقدمها: لا أو ما، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: من إعياء، إذاً: الله جل وعلا نفى صفة الإعياء عنه. أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعون أصم ولا غائباً) فهي صفات سلبية، وقال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] هذه صفة سلبية. وقال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لا تأخذه سنة ولا نوم، هذه صفات سلبية منفية عن الله جل وعلا.

الفرق بين الرحمن والرحيم

الفرق بين الرحمن والرحيم الرحمن صفة من صفات الله جل وعلا وهي صفة ثبوتية، إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، ونوعها ذاتية. والرحيم صفة فعلية، فلذلك العلماء لما فسروا الرحمن الرحيم، قالوا: الرحمن وصفه، أي: أنها ذاتية لا تنفك عنه، والرحيم فعله، فالرحمن صفة ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا أزلية أبدية عامة للكافر وللمؤمن، وهل الكافر يرحم؟ نعم، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فالله يرحم الكافر في الدنيا، وأنتم ترون رحمة الله الواسعة التي تنزل تترى على أهل الكفر، فهو يغدق عليهم بالنعم والرزق كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا، يسبونه وينسبون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم) وهذا من رحمة الله جل وعلا. والرحيم فعل الله، فالرحيم صفة فعلية لله إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، وهذه خاصة بالمؤمنين، فلو تتبعت القرآن كله لن تجد فيه قول لله تعالى: (وكان بالمؤمنين رحمانا) أبداً، ولكن ستجد: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، وقال تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] أي بالمؤمنين، فهذه صفة خاصة بالمؤمنين، وهنيئاً لهم هذه الصفة. فالبسملة من روائع البيان ويبتدأ بها اقتداءً بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

الاستعانة بالله

الاستعانة بالله قوله: [رب يسر ولا تعسر]. معناه: النداء يا رب يسر ولا تعسر، فهو يدعو الله جل وعلا، وعلم هذا من السياق، وحين قال: يا رب علم أنه يدعو الرب الجليل، وهذا من فطنة الرجل وفقهه، وفيه دلالة قوية على أن الرجل فذ في العقيدة؛ لأني حين أقول: يا رب فأنا أتوسل إلى الله، والتوسل إلى الله يكون بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أو بالعمل الصالح، أو بدعاء الأخ الحي الصالح، وأفضل وأولى وأحسن ما يتوسل به هو أسماء الله أو صفاته، وهذا الفقيه السلفي الذي أعطانا هذا الكتاب الذي فيه الجم الغفير من ألفاظ السلف في العقيدة توسل باسم من أسماء الله جل وعلا في هذا المقام وهو اسم الرب، وهذه من فطنته لأنه أتى بالاسم الذي يحقق له ما يصبو إليه؛ فإن من آداب الدعاء والتوسل: أن تأتي باسم من أسماء الله جل وعلا يتناسب مع المرغوب والمطلوب، فإذا أردت الرحمة فلا تقل: يا منتقم ارحمني، فإن هذا من سوء الأدب في الدعاء، ومن سوء الأدب مع الله، وعدم الفطنة، وإذا أردت أن يرحمك الله فقل: يا رحمن ارحمني أو يا رحيم ارحمني، وإذا أردت الرزق فلا تقل: يا جبار ارزقني، ولكن قل: يا رزاق ارزقني. والرجل من فطنته أراد الاستعانة بالله في الفهم والرزق والتصنيف، والاستعانة من لوازم ربوبية الله جل وعلا؛ فإن الإعطاء والمنع من صفات الربوبية، والتيسير والتعسير من صفات الربوبية؛ والقدرة والقوة من صفات الربوبية؛ فلذلك قال: يا رب يسر ولا تعسر. وهي الاستعانة بالله في مقام العبودية، وطلب الاستعانة من الله من أفضل العبادات التي يمكن أن يقدمها المرء بين يدي طاعة من الطاعات؛ لأن الاستعانة بالله جل وعلا تظهر عز الرب وذل العبد، وقوة الرب وضعف العبد، وغنى الرب وحاجة العبد، وهذا هو المطلوب أصالة من العبد تجاه الرب. فمقام الاستعانة مقام عظيم جليل بين النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أفضل العبادات كما نصح معاذاً كما في السنن فقال: (يا معاذ! إني أحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تدعو بهذا الدعاء: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وفي الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أنفع الدعاء: اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك).

أقسام الاستعانة

أقسام الاستعانة الاستعانة على ثلاثة أقسام: المقام الأول: مقام النبوة: وقد اختص بها المرسلون ثم الصديقون والشهداء والصالحون، وهي الاستعانة بالله على نصرة الدين والعبادات، وعلى الارتقاء في القرب من الله جل وعلا، وهذه الاستعانة لا تكون إلا من النبيين والمرسلين والصالحين والشهداء، نسأل الله أن نكون جميعاً منهم، وأن نستعين بالله على نصرة الدين، وعبادة الله جل وعلا، وحبه جل وعلا، وترك الدنيا خلفنا ظهرياً. المقام الثاني: مقام أصحاب الهمم الخسيسة: وهم الذين يستعينون بالله على أمور الدنيا، على الدرهم والدينار، تركوا الآخرة خلفهم ظهرياً، واستعانوا بربهم -مع أن هذه الاستعانة مباحة لا أحرمها- على أمور الدنيا، فخسيس الهمة ودنيها هو الذي يهتم بأمر الدنيا ويترك الآخرة، ولو نظر نظرة ممحصة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) وفي المسند عن علي بإسناد صحيح أنه قال: (من جعل الهموم هماً واحداً، أو من اهتم بالله ودينه كفاه الله كل الهموم). أما من استعان بالله على أمر الدنيا فهذا دني الهمة؛ ولذلك قال ابن القيم: ترى خسيس الهمة يستعين بالله على رغيف، ويتوكل عليه على رغيف يأكله، ومقام الأنبياء الاستعانة على القرب منه ونصرة الدين، والتفرغ لعبادته جل وعلا. الثالث: أسوأ المنازل وأسوأ البشر على الإطلاق هم من يستعينون بالله جل وعلا على معاصيه. قوله: [رب يسر ولا تعسر]. هذا مقام الاستعانة، وقد تأدب مع الله فأتى باسم الرب حتى يتحقق له المطلوب المرغوب بالاسم المناسب لما يدعو به.

تعلم التوحيد أوجب الواجبات

تعلم التوحيد أوجب الواجبات قوله: [أوجب ما على المرء]. أي: أوجب الواجبات وأفرض المفروضات وأوكد المؤكدات هو التوحيد، وهو معرفة الله جل وعلا معرفة صحيحة ومعرفة ما ينافيه من شرك، وهذا فرض عين على كل امرئ على وجه البسيطة، فيتعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى إجمالاً. أما التفصيل والرد على أهل البدع فهو فرض كفاية إن قام به طلبة العلم سقطت عن الآخرين، فأوجب ما على المرء معرفة الله جل وعلا بتوحيده وتصديقه وتصديق رسله، والتعرف عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. فإذا قلنا: أوجب الواجبات معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى فما هو الدليل على ذلك؟ أقول: لقد ابتدأ الله به في كتابه فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، ولما علمه القراءة قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] حاثاً له على أن يتعلم ما يخص الله جل وعلا وما ينفعه من أمر التوحيد المنافي للشرك، وتعليم هذا لا يكون إلا على فهم سلف الأمة للكتاب والسنة. والسلف هم الثلاثة القرون المفضلة، فلابد أن نقتفي أثرهم ونطرح قول من قال: (علم السلف أسلم وعلم الخلف أحكم)، قبحه الله من قائل! بل علم السلف أسلم وأحكم، ولن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وحتى يكون دينها صافياً كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فالعلم العلم والفهم الفهم لما يأتيك فإنه (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فالذي لا يتفقه في دينه لم يرد الله به خيراً، وأرفع الناس وأفضلهم وأشرفهم على الإطلاق هم العلماء، وطلبة العلم، فكن عالماً أو متعلماً أو محباً للعلم ولا تكن الرابع فتهلك، لا تكن من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، فالشيخ محمد صالح العثيمين رحمة الله عليه من أفضل الناس فقهاً، وأشدهم فهماً للكتاب والسنة، وهو الذي كان يقول دائماً: الفهم الفهم، الفهم كل العلم، وإن لم يكن الفهم العلم فهو شطر العلم. وفي لحظات موته دخل عليه الشيخ صالح المنجد فسأله: من تخلف من الفقهاء؟ فطأطأ رأسه وسكت، وقال: أين العالم الفقيه؟! فلعل الله أن يخلف منكم من يفقه كما فقه هو؛ فإن الله أعطاه نظراً دقيقاً في الكتاب والسنة، ولذلك قلت: إن العلم كل العلم هو فهم الكتاب والسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) وهذا هو الأهم، وقيل: لما جاء أحمد بن حنبل مع إسحاق بن راهويه قال له إسحاق: نجلس إلى جانب هذا الشاب -أي: الشافعي - ونترك ابن عيينة يقول حدثنا، وحدثنا فقال له الإمام أحمد: لو فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو أخذته بنزول -يعني بزيادة رجل أو رجلين- وإن فاتك فهم هذا الرجل في الكتاب والسنة فلن تجد مثله. لأن هذا هو المقصود الأعلى والأسمى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفهم متنه، وفهم المتن رأس الأمر؛ لأن الأحكام كلها تكمن في المتن، ولذلك لما تكلم الله جل وعلا عن الآيات الكونية المرئية والآيات المتلوة قال: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)) أي: إن المطلوب دقة النظر والفهم، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فالتدبر ودقة النظر في الأدلة وفهمها فهم عميق تصل بالمرء إلى الفقه والرفعة. فأهل العلم وطلبة العلم إذا تعلموا العلم ولم ينظروا في الأدلة ويمحصوا فيها لن تكون لهم تلك المكانة العظيمة، ألا تريدون المعالي؟ ألا تريدون الرفعة عند الله جل وعلا؟ من منا لا يحب أن يحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا أردت أن تحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم كن وريثاً له، فإنك إذا كنت وارثاً لنبيك صلى الله عليه وسلم فستحشر معه في الفردوس الأعلى، ومع أبي بكر وعمر، فعليكم بالعلم والجهاد، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم كتابة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) في الرسائل الأجنبية

حكم كتابة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) في الرسائل الأجنبية Q هل أكتب في الرسائل الأجنبية ((بسم الله الرحمن الرحيم))؟ A في الرسائل الأجنبية، وجد من يكتب ((باسم الرب))، وهذا كلام غير صحيح فحتى في الرسالة الأجنبية اكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن قيصر وكسرى ما كانوا يقرءون العربية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، فالمحظور هو أن تذهب بالمصحف إلى بلاد الكفار إذا خشي عليه الامتهان، هذا هو الضابط. ولقد كان ابن عثيمين يقول: ليس طالب العلم هو الذي يحفظ الفروع، ولكن طالب العلم هو الذي يتقن الضابط فيجعله أصلاً يرد كل الفروع إليه. لقد كانت تأتيه الأسئلة فيجيب عنها كما أجاب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية مع أنه لم يقرأ هذا الجواب لشيخ الإسلام ابن تيمية، فما الذي أوصله لهذا؟ محض فضل الله أولاً، والثاني: إتقان الأصول ورد الفروع إليها، فالتأصيل العلمي يجعل طالب العلم متميزاً على غيره ممن لم يهتم بالأصول.

الطائفة المنصورة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الطائفة المنصورة أوجب الواجبات وأهم المهمات وأفضل المفروضات هو العلم بالله، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو أشرف العلوم؛ لأن العلم علمان: علم بالله، وعلم بأمر الله، والعلم بالله أشرفهما؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم، وهذا العلم مأخوذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم.

ابتداء العلماء بالبسملة في أول مصنفاتهم

ابتداء العلماء بالبسملة في أول مصنفاتهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع هذا الكتاب الكريم: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة). نقول: ما العلة عندما تجد كل كتاب في أول ورقة من ورقاته يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم؟ أولاً: قال علماء البلاغة في البداءة بالبسلمة: الباء حرف جر، والاسم مجرور متعلق بمحذوف، والمحذوف متأخر بمعنى أبدأ وأستعين بباسم الله، فهنا يفيد الحصر. ثانياً: كل مصنف كان يقتدي بالكتاب العزيز أولاً؛ لأن الله جل وعلا افتتح السور ببسم الله الرحمن الرحيم. ثالثاً: اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما أرسل كتاباً إلا قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله أسلم تسلم).

معنى البسملة

معنى البسملة معنى بسم الله الرحمن الرحيم على التفصيل: الاسم مشتق من السمو وهو العلو وهذا في حق الله على حقيقته؛ لأن الله له العلو المطلق، وهو أنواع: علو القدر والشرف، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا؛ لأن له صفات الكمال والجلال. وعلو الذات، والدليل على ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف تجيبون على قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] و (ما) من الأسماء المبهمة التي تفيد العموم، يعني أي مكان كنتم فيه فالله معكم؟ نقول: إن الأصل في المعية أنها لا تستلزم المخالطة، أقول: سرت والقمر معي، والقمر لم يكن بجانبي، وإنما القمر في السماء وأنا في الأرض، وهذه هي المعية المطلقة التي لا تستلزم المخالطة. إذاً: أولاً: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقد أثبت استواؤه على العرش. الدليل الثاني: قال الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فبين أنه في السماء، و (في) معناها (على)، فهذه آية محكمة على أنه فوق السماء جل وعلا، ثم أتتنا هذه الآية المحتملة: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] فهي تحتمل أنه معنا بعلمه وإحاطته وهو فوق العرش، أو معنا بذاته، لكن ما الذي يجعلنا ننفي أمر الذات؟ القرائن المحتفة: أولاً: نقول: الأدلة المحكمة تثبت أنه فوق السماء، وهذا دليل محتمل، فإذا تعارض المحكم والمحتمل قدمنا المحكم على المحتمل. ثانياً: هذه الآية بدأها الله بالعلم وختمها بالعلم، وعلماء الأصول يقولون: السياق من المقيدات، يعني: أن السياق هو الذي يثبت لك معنى هذه المعية، فالسباق واللحاق يثبت لك تفسير هذه المعية، وأنها معية إحاطة وعلم، وهذه هي المعية العامة. ولله معيتان: معية عامة، ومعية خاصة، فالمعية العامة هي التي تشمل المؤمن والكافر وكل الخلائق، وهي الإحاطة بالعلم، التي قال الله فيها: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، أي نفس تتنفسه فالله جل وعلا يعلم به، فهو يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. ومعية خاصة، هذه المعية الخاصة للرسل وللمؤمنين، وهي معية النصرة والتأييد، قال الله جل وعلا لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:43]، فلما خافا منه وخشيا على أنفسهما قال الله تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: معكما بالنصرة والتأييد والحفظ والرعاية. أيضاً: الاسم مشتق من السمة، وهي العلامة، وهذا ينطبق على أسماء الله؛ لأن كل اسم من أسمائه تعالى علم على ذات الله جل وعلا، فأنت عندما تقول: (الله) يرسخ في ذهنك وينصرف إلى جهة الذات الإلهية.

أوجب الواجبات وأشرفها العلم بالله وبأسمائه وصفاته

أوجب الواجبات وأشرفها العلم بالله وبأسمائه وصفاته انتهينا في الشرح إلى أن قول المؤلف: وأول واجب، وأوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل المفروضات هو العلم بالله جل وعلا، وتوحيده جل وعلا، والناس في حاجة إلى توحيد الله جل وعلا، وإلى العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وإفراده بالعبادة أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء؛ لأن التوحيد فيه الحياة الأخروية، وهو أول ما قضاه الله على البشر، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وهو أول واجب فرضه الله على البشرية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وهو أول ما تسأل عنه في القبر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي الملك إلى الميت فيقعده فيقول: من ربك؟) أول ما يسأله عن الله جل وعلا، وهو أول بوابة لقبول أعمالك عند الله جل وعلا، كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، لا يقبل عند الله جل وعلا عمل إلا بالتوحيد، فالتوحيد هو أول الواجبات التي لا بد للإنسان أن يسعى إلى تعلمها، وهو أشرف العلوم؛ لأن العلم علمان: علم بالله، وعلم بأمر الله، وأشرف العلوم على الإطلاق العلم بالله، علم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلم بربوبية الله جل وعلا، وعلم بإلهية الله جل وعلا، وشرف هذا العلم مستنبط من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا.

طرق تحقيق الإيمان بالله جل وعلا وحال الصحابة في ذلك

طرق تحقيق الإيمان بالله جل وعلا وحال الصحابة في ذلك إن كان هذا هو أشرف العلوم وأول الواجبات فكيف نتعلمه؟ وكيف نصل إليه؟ قال الله تعالى مرشداً إيانا: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ} [البقرة:137] أي: الصحابة الكرام {فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]. إذاً: فالإيمان بالله جل وعلا والعلم به وبأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته يكون بالكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة أهل السنة والجماعة، الذين مدحهم الله بقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وقد امتثلوا أمر الله جل وعلا، واتبعوا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانوا وحدة في الصف، والعلم والفكر، والوحدة الحقيقية هي وحدة العلم والذهن والفكر، وكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، فهذه الوحدة تمسكوا بها وكانوا معتصمين بحبل الله كما أمرهم، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وكما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) فامتثلوا أمر الله جل وعلا باتباع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] فامتثلوا ذلك. وقال جل وعلا آمراً الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، ثم امتحنهم عندما زعموا الحب للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، ثم بعدما اتبعوا الاتباع الكامل الخالص لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، كما بين ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -كما في المسند- قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم خط على يمينه خطوطاً، ثم خط على يساره خطوطاً وقال: هذه السبل على كل سبيل شيطان، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]). فأطاعوا الله وأطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، عملاً بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]، وقد فازوا؛ لأنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] جل وعلا، وعملوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). إذاً: للصحابة صفات وسمات ما تكلمنا عنها الآن إلا لنحذو حذوهم، ونقتفي أثرهم، فقد اعتصموا بحبل الله جل وعلا تحت كلمة التوحيد، ثم اتبعوا سبيل الله وتركوا سبيل الغواية والشيطان، ثم أطاعوا الله وأطاعوا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم).

حقيقة أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة

حقيقة أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة إن الاتباع والطاعة والامتثال لأمر الله جل وعلا كان من سمات الصحابة، فعلينا أن نحذو حذوهم. وأهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة، وهم الطائفة الناجية، ومن هم أهل السنة والجماعة؟ لقد فسر معظم أهل الحديث: أن أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة هم أهل الحديث، ولا أقول: أهل الحديث الذين اختصوا بأسانيد متون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لا، بل هم أعم من ذلك، فأهل الحديث هم أهل القرآن، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، فكلام الله حديث تحدث به مع جبريل، وسمعه جبريل فتحدث به مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأهل القرآن هم أفضل، وهم الطائفة المنصورة وهم الطائفة الناجية؛ لأن الله جل وعلا قال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، فمن اهتم بالقرآن دراسة وفقهاً ونظراً واستظهاراً وحفظاً وتعليماً وعلماً كان من الطائفة المنصورة، بل كان أفضلهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ثم بعد ذلك نقول: إن أهل الحديث الذين اختصوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم هم في المرتبة الثانية بعد أهل القرآن، هؤلاء الذين فرغوا أنفسهم ومهجهم وقلوبهم لدراسة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وللذب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

حقيقة الإمام والإمامة

حقيقة الإمام والإمامة بعد ذلك ابتدأ المؤلف في شرح أول باب فقال: باب سياق ذكر من رسم بالإمامة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة: الإمام هو من يقتدى به سواء في الضلالة أو في الهداية، والأغلب عند الإطلاق أن الإمامة تكون في الهداية، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] يعني: أن الظالم لا ينال الإمامة، بمعنى أن العهد هو الفاعل، والظالمين هم مفعول به. إذاً: فالإمامة عند الإطلاق إمامة الدين وإمامة الهدى، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ} [الأنبياء:73]. الإمامة يصل إليها المرء بأمرين اثنين بعد فضل الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، بعد فضل الله هناك سببان يصل بهما المرء إلى الإمامة، ذكرهما الله في كتابه فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فلا يصل المرء إلى الإمامة في الدين إلا أولاً: بالصبر، وثانياً: باليقين، والأئمة هم أولو الأمر الذين ذكرهم الله في كتابه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال ابن القيم: أولوا الأمر هم العلماء وهم الأمراء، أما العلماء فهم أمنة هذه الأمة، وهم ورثة الأنبياء، وهم أفضل الناس يضيئون ليستنير بهم أهل الإسلام. أما الذين في ركابهم فهم أولو الأمر الذين تمسكوا بكتاب الله جل وعلا، وتمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحكموا شريعة الله جل وعلا في الناس، ونصر الله بهم الدين، فهؤلاء الأمراء هم الذين يقال عنهم: إنهم في ركاب العلماء؛ لأنهم يجاهدون في سبيل الله جل وعلا كأمثال الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن تبعهم بإحسان وعمر بن عبد العزيز ومعاوية بن أبي سفيان وهارون الرشيد وأمثال هؤلاء وسيف الدين قطز الذي له المنة الكبرى على أهل الإسلام؛ لأنه أوقف الغزو والزحف التتري الغاشم، وأيضاً محمد الفاتح الذي فتح الله به القسطنطينية، وقد مدح من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها)، فهؤلاء هم أمراء وعلماء الملة لا علماء السلطة، وهناك أئمة لكنهم أئمة الضلالة والغواية والعياذ بالله، وهم علماء سلطة لا علماء ملة، باعوا دينهم بثمن بخس بدراهم معدودة، باعوا دينهم بدنيا غيرهم، فهم سفهاء، وأول من تسعر به النار يوم القيامة: عالم لم يرج الله جل وعلا في علمه، نعوذ بالله من الخذلان، وأيضاً الأمراء الذين يجرون الناس بالسلاسل إلى قعر جهنم والعياذ بالله، قال الله عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود:98] إمام {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، يعني: الذين يعيثون في الأرض فساداً هم أئمة الضلال، ويدعون إلى نار جهنم، كما في حديث حذيفة: (هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم)، نعوذ بالله من ذلك.

تعريف السنة لغة واصطلاحا عند المحدثين والفقهاء وأهل العقيدة

تعريف السنة لغة واصطلاحاً عند المحدثين والفقهاء وأهل العقيدة السنة في اللغة معناها: الطريقة، وفي الشرع لها نحو خمس تعريفات أو أربع: فالسنة عند المحدثين هي كل ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو صفة خلقية. أما تعريف السنة عند الفقهاء فهي: كل شرع غير مفروض أو غير لازم يعني: السنة في عرف الفقهاء هي المندوب الذي هو المستحب، الذي نقول عنه: هو خطاب الشارع المكلفين على وجه الاستعلاء لا على وجه اللزوم، وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. والسنة عند أهل العقيدة هي أصول الدين، هي: اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم، فهي مقابل البدعة، ولذلك ترى كتب العقيدة كلها تتحدث إما عن اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم أو عن البدعة التي تخالف هذا الاعتقاد، كما في السنة لـ ابن أبي عاصم والسنة للإمام أحمد بن حنبل.

حقيقة الدعوة وطرقها وشروطها

حقيقة الدعوة وطرقها وشروطها الدعوة هي أن تدعو إلى الله جل وعلا، والدعوة تكون باللسان وتكون بالسنان، أما السنان فهو الجهاد في سبيل الذي هو ذروة سنام الإسلام، والدعوة باللسان أفراداً وجماعات لها شرط مهم جداً بينه الله جل وعلا بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] بشرط {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: على علم، وكما قلت: يقوم بها أفراد وجماعات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية). والدعوة تكون أيضاً بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

مراتب الهداية

مراتب الهداية الهداية نقيض الغواية، والهداية لها أربع مراتب: الأولى: الهداية عامة، وهذه الهداية العامة تعم كل الخلائق من جن وإنس وحيوانات، فقد هدى الله جل وعلا آدم كيف يأتي زوجته، وأوحى إلى النحل كيف تتخذ من الجبال بيوتاً، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68]، وهدى النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18]، من الذي أوحى إليها بذلك وهداها إلى ذلك؟ إنه الله جل وعلا. المرتبة الثانية من الهداية: هداية عامة للثقلين: الجن والإنس، وهي هداية البيان والإرشاد، وهي التي قال الله فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: تبين وترشد الناس إلى هذا الصراط المستقيم. وقال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: بينّا لهم وأرشدناهم، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]. هذه المرتبة تكون لله على لسان رسله وعلى لسان ورثة الرسل رضوان الله عليهم كالصحابة والعلماء. المرتبة الثالثة وهي خاصة بالله جل وعلا، وهي: هداية القلوب، هداية السداد، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، فهداية القلوب بيد علام الغيوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، ولذلك لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه فقال: (يا عم قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فنزلت هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. أما الجمع بين الآيتين: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] وقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهو في الأولى نفى الهداية عنه، وفي الثانية أثبتها له، فنقول: الهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هداية السداد والتوفيق هداية القلوب، والهداية المثبتة هي هداية الدلالة والبيان والإرشاد. المرتبة الرابعة: هذه ليست في الدنيا ولكنها هداية في الآخرة وهي: هداية أهل الجنة إلى منازلهم في الجنة، كما قيل: إن الرجل من أهل الجنة يعرف قصره الذي في الجنة أشد من معرفته لبيته الذي في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4 - 5] ثم بين هذه الهداية: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، فالمرء يدخل قصره ويعرفه أشد من معرفته لبيته الذي في الدنيا. رزقنا الله وإياكم هذه القصور العالية في الجنة.

تعريف الاستقامة

تعريف الاستقامة قال: (والهداية إلى طريق الاستقامة). الاستقامة: هي التمسك بكتاب الله جل وعلا، والتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالاستمساك بكتاب الله وسنته وشريعته صلى الله عليه وسلم. وكما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم) (قل: آمنت بالله) أي: العقيدة الصحيحة. (ثم استقم) أي: على الشريعة القويمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مجمل عقائد أهل السنة والجماعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مجمل عقائد أهل السنة والجماعة أهل السنة والجماعة هم أهل السنة والاجتماع حول الكتاب والسنة، وهم وسط بين الفرق كأمة الإسلام بين الأمم، وهم يقرون بكل اسم وصفة أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

التعريف بأهل السنة والجماعة

التعريف بأهل السنة والجماعة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: هذا الكتاب يبدأ بالإجمال ثم يفصل، فسيبدأ بإجمال اعتقاد أهل السنة والجماعة، ثم يأتي عليه بتفصيل اعتقادهم بصفات الله جل وعلا وبأسمائه الحسنى في الحوض والصراط والبعث، ثم بعد ذلك يفرد لكل صنف من هذا الكتاب جزئية معينة، ولذلك فمن المهم جداً معرفة البداية؛ لأنها تضع له قاعدة عريضة في مجمل الاعتقاد وبعد ذلك التفصيل في الرد على أهل البدع والكلام. وقبل أن نبدأ في ذكر مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة نطرح سؤالاً فنقول: من هم أهل السنة والجماعة؟ A هم الذين اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أبداً، كتاب الله وسنتي) وأهل السنة والجماعة يقولون: إن أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث، فهل يقصدون بهذا الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو هريرة: (كان إخواننا الأنصار ينشغلون بالزرع، وإخواننا المهاجرين ينشغلون بالتجارة، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني)، هل هؤلاء فقط هم أهل الحديث الذين شرفهم الله جل وعلا بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذين يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الحديث يقصد به القرآن، ويقصد به كلام النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] مثاني هو القرآن الكريم، يعني: الحديث هو ما تحدث الله به لجبريل؛ فنزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: أهل القرآن هم أهل الحديث، وأهل الحديث هم أهل القرآن حفظاً واستظهاراً وفقهاً ودراسة ومنهجية وعلماً وتعليماً، (خيركم من تعلم القرآن) هذا على الإطلاق.

وسطية أهل السنة والجماعة

وسطية أهل السنة والجماعة معنى الوسطية: العدل، قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً بين الناس. أهل السنة والجماعة وسط بين الإفراط والتفريط في باب الأحكام والوعد والوعيد، أي: بين الخوارج والمرجئة الخوارج يكفرون بالمعصية، والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وقال أهل الوسط أهل السنة والجماعة: لن ننفي عنهم مطلق الإيمان، لكن سننفي عنهم كمال الإيمان، فيخرجون من دائرة الإيمان، ولكنهم باقون في دائرة الإسلام، فالفاسق مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. أما وسطية أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات فهم يثبتون الصفات والأسماء التي أثبتها الله لنفسه، فهم وسط بين المعطلة الذين ينفون الاسم والصفة، يقولون: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، ولا كريم ولا كرم، وأخف منهم المعتزلة الذين يقولون: نثبت الاسم ولا نثبت الصفة، نقول: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وبين المشبهة الذين غالوا في الصفات فشبهوا الخالق بالمخلوق، شبهوا الحق بالخلق، قالوا: سمعه كسمع الخلق، وبصره كبصر الخلق، حاشا لله من ذلك، وجاء أهل السنة والجماعة فكانوا وسطاً بين هؤلاء وبين هؤلاء: يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل. ما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟ أولاً: التمثيل هو الأدق في التعبير؛ لأن الله جل وعلا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذه صيغة القرآن وهي الأدق. ثانياً: الفارق بين التمثيل والتشبيه: أن التمثيل معناه المماثلة دون أدنى فرق. والتشبيه واقع في أكثر الصفات لا في كل الصفات، والمشبه يضرب للصفة هيئة معينة كأنه يراها، وهذا بهتان عظيم على الله جل وعلا، فأنت تكيف صفة من رأيته، أو من حدثك الثقة أنه رآه، أو أنك رأيت مثله، والثلاثة منفية عن الله جل وعلا، فأنت ما رأيته، وما حدثك الثقة -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن كيفية الصفة، ولا رأيت مثل الله؛ لأنه لا مثل لله جل وعلا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

القرآن كلام الله

القرآن كلام الله أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رضي الله عنه وأرضاه، هذا من طبقة فحول العلماء، وسفيان الثوري ثقة، بل أمير المؤمنين في الحديث رافع راية السنة، صاعقة في الحفظ، وكان فقيهاً إماماً حجة، وكان له مذهب لكن أصحابه لم يحملوه وهو كوفي الأصل. ومن طرائف طلبه العلم: أن أمه قالت له: اجلس في مجلس التحديث وأنا أغزل عليك. قال المصنف: [أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن العباد قال: حدثنا أبو الفضل شعيب بن محمد بن الراجيان قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت لـ أبي عبد الله سفيان الثوري: حدثني بحديث من السنة ينفعني الله عز وجل به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه فقال لي: من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤخذ أنت. فقال لي: يا شعيب! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. من قال غير هذا فهو كافر].

تعريف القرآن لغة واصطلاحا

تعريف القرآن لغة واصطلاحاً القرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قراءة أو قرآناً، هذا في اللغة، ثم بعد ذلك أنزلها أهل العلم على كلام الله جل وعلا المختص به الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الاصطلاح: هو كلام الله المعجِز -اسم فاعل- المتعبد بتلاوته، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله الذي أعجز به البشر أن يأتوا بمثله أو بآية أو بسورة منه. المتعبد بتلاوته: ليخرج حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي؛ لأنه من الله معنى واللفظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتعبد به. كلام الله: إضافة الصفة إلى الموصوف، فإن الله تكلم بهذا القرآن، وسمع جبريل من الله جل وعلا هذا الكلام، ونزل به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن كلام الله، وأي مبتدع قال بأنه مخلوق فهو على دائرة كفر.

الأدلة من الكتاب على أن القرآن كلام الله

الأدلة من الكتاب على أن القرآن كلام الله الأدلة على أن القرآن كلام الله ثابتة في الكتاب ثم السنة ثم العقل. أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فتكليماً هنا مفعول مطلق مؤكد للعامل -الفعل-، وأهل اللغة يقولون: إن المفعول المطلق إذا أتى مؤكداً للفعل فهو يثبت ما سبق من الفعل، كما تقول: قتلهم تقتيلاً، فإذا قلت: قتلت فلاناً فيحتمل أنك أزهقت روحه، أو أتعبته جداً، أو أبلغت منه الجهد فلكي تقطع الأمر بدون احتمال تقول: قتلته قتلاً، فهذا نص في أن هذا إزهاق للروح، كذلك ((كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) [النساء:164] أي: الكلام الذي يعلم معناه بصوت وحرف. إذاً: الآية الأولى فيها إثبات أن القرآن كلام الله جل وعلا، وأن الله هو المتكلم، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. جاء بعض المعتزلة أهل البدعة والضلالة إلى أحد القراء السبعة فقال: أريدك أن تقرأ هذه الآية: (وكلم اللهَ) بفتح لفظ الجلالة لا بالرفع، ليكون لفظ (الله) مفعول به، فقال: إن فعلت فماذا تفعل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فبهت المعتزلي. إذاً: فـ {كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] دلالة بنص صريح على أن الله يتكلم، وأن القرآن كلام الله. الآية الثانية: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ} [آل عمران:77] إلى أن قال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران:77] جل وعلا. وقال عن الكفار أيضاً: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. إذاً: أهل الكفر لا يكلمهم الله، فمفهوم المخالفة: أن أهل الإيمان لا يستوون مع أهل الكفر فلا يكلمهم الله. فالفارق بين أهل السنة والجماعة: أن الله يشرف أهل السنة والجماعة وأهل الإيمان بالكلام منه جل وعلا. الآية الثالثة: قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] كلام الله إضافة صفة إلى موصوف، الشاهد من هذا: أن القرآن كلام الله، قال الله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] إضافة الصفة إلى الموصوف.

الأدلة من السنة على أن القرآن كلام الله

الأدلة من السنة على أن القرآن كلام الله أمَّا من السنة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يكلم أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يتكلم بالوحي سمعت الملائكة صوته كسلسلة على صفوان -ترتعد قلوب الملائكة- فيخرون سجداً لله جل وعلا، ثم يفيقون ويقولون: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض)، الشاهد: أن الله ناداه، والنداء معناه الكلام، ونثبت بعد ذلك أنه بصوت الحق. والأحاديث كثيرة جداً في أن الله جل وعلا يتكلم، وأن القرآن كلام الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) وجه الدلالة من الحديث: أن القرآن كلام الله، وقد منع من الاستعاذة بغير الله جل وعلا، ومن استعاذ بغير الله أشرك، فهل يقع النبي صلى الله عليه وسلم في الشرك؟ فإذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله فقد استعاذ بصفة من صفات الله جل وعلا، وكلمات المضافة إلى الله صفة مضافة إلى الموصوف. إذاً: الكتاب والسنة يدلان على أن القرآن كلام الله جل وعلا.

الأدلة العقلية على أن القرآن كلام الله

الأدلة العقلية على أن القرآن كلام الله أما العقل: فالأخرس أو الساكت لا يتكلم لا بخير ولا بشر، فليس بأكمل من المتكلم، إذاً المتكلم كامل الصفات فإذا قلت: إن له صفات هل له صفات النقص أم صفات الكمال؟ فإذا قلنا بالعقل: إن الله جل وعلا له الكمال والجلال المطلق وصفات الكمال، فمن صفات الكمال أن يكون متكلماً؛ لأنه إذا لم يقدر على الكلام فإن هذا نقص، ألم تروا أن الله جل وعلا أنكر على بني إسرائيل أنهم عبدوا العجل، والعجل لا يتكلم ولا يرجع إليهم قولاً، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، وقال: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89]، إذاً الله جل وعلا بين لهم أنه إذا لم يتكلم فهو ناقص، والله جل وعلا له الكمال المطلق والقدرة على الكلام. قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20] فجعل القول قول الرسول الكريم وهو جبريل، وفي الآية الأخرى جعله من قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا نسب القول له على أنه مبلغ عن الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي يبلغ عمن أرسله، فهو رسول والصفة هذه هي التي تحل الإشكال: ((لَقَوْلُ رَسُولٍ)) [التكوير:19] ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل بل هو الناقل عن الله جل وعلا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] فإن قال قائل: نزل به بعدما سمع من الله جل وعلا وحفظه فنزل به. ف A ماذا تقول في قول الله جل وعلا {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] والله لا يتوفى ولكنه أمر ملك الموت، كما تقول: بنى عمرو بن العاص الفسطاط في القاهرة في مصر، فهل عمرو بن العاص هو الذي بناه بيديه؟ لا. بل بأمر منه ولذلك نسب إليه.

معنى قول السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود

معنى قول السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق)؛ لأن الكلام غير الخلق فالكلام صفة لا تقوم بذاتها، أما المخلوق فيقوم بذاته، فالمضاف إلى الله نوعان: النوع الأول: إضافة صفة إلى موصوف، وهو ما لا يقوم بذاته، وهذا غير مخلوق كالكلام وكالرحمة وكالنعمة وكالكرم، فهل نعمة الله تقوم بذاتها وتراها تمشي وتسير وتأمر وتنهى؟ لا. النوع الثاني: مضاف إلى الله يقوم بذاته فهذا مخلوق، مثل عيسى روح الله، فعيسى عليه السلام رآه الناس أمامهم يدعوهم إلى الله جل وعلا، وهو قائم بذاته، والأوضح من ذلك: الكعبة بيت الله، فهذا إضافة شيء قائم بذاته منفصل عن الله جل وعلا، من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، أما الشيء المعنوي الذي لا يقوم بذاته فهو غير مخلوق؛ لأنه إضافة صفة إلى موصوف. وقال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وواو العطف -في الأصل- للمغايرة، فيكون الخلق غير الأمر، والأمر هو الكلام، والخلق هو أثر الفعل المترتب عليه، يقول الله جل وعلا: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، المكون هذا هو المخلوق، وأثر كلمة (كن) غير مخلوق. (منه بدأ) أي: الله جل وعلا هو الذي ابتدأ الكلام، وهذه صفة أزلية أبدية قديمة. (وإليه يعود) هذه إشارة إلى علامات الساعة، وأن الله جل وعلا يوم القيامة يقبض القرآن من الصدور ومن السطور يقبضه من الصدور بقبض الحفظة، ومن السطور من المصاحف، فلا يبقى على وجه الأرض مصحف فيه ذكر الله جل وعلا، بل لا يبقى واحد يقول: الله الله، ولن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، وتهدم أيضاً الكعبة، نسأل الله العفو والعافية.

ضوابط التكفير

ضوابط التكفير قال الثوري: (من قال غير ذلك أو من قال غير هذا فهو كافر) هذا الكلام فيه إيهام شديد يرجع إلى الكلام على الإيمان والكفر، لكن عندنا قاعدة وضابط في مسألة التكفير؛ إذ الكفر من أشد ما يكون، ولا بد أن يتحرى طالب العلم في هذه المسألة، ولا ينطلق هذه الانطلاقة الخبيثة التي تخرج الناس من دائرة الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فالمسألة صعبة جداً، وطالب العلم المدقق المحقق هو الذي يتكلم فيها، فهذه المسألة فيها طرق ثلاث: الطريق الأول: أن تثبت أن عين الفعل كفر بالكتاب وبالسنة، وألا يكون في الفعل خلاف بين العلماء في حال من الأحوال. الطريق الثاني: أن القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل أو الفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة. الطريق الثالث: إذا زالت الشبهة، وقامت الحجة؛ نطلق الحكم، فنقول عن هذا الرجل: كافر. Q هل إلقاء المصحف كفر أو لا؟ A إلقاء المصحف ليس بكفر حتى نستدل بالإلقاء على أنه مستهزئ مستهين؛ لأن المسألة مسألة استهزاء وتعظيم، ولأن المخبر ليس كالمعاين، فهذا موسى ألقى الألواح وكسرها وما عاتبه الله جل وعلا، فنقول: عين الفعل كفر، والإلقاء لا بد أن يكون مقروناً بالاستهزاء حتى ننزل على الفاعل الحكم بالكفر. ومسألة خروج المرء من الملة، ليست هينة، بل لا بد من طالب علم متقن مدقق يتحدث عنها، وليس كل من هب ودب يتكلم فيها؛ لأن هذه المسائل دقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فقد باء بها أحدهما)، فلا يتكلم في هذه المسائل إلا طالب العلم المحقق المدقق، وتعرفونه بطرح مسائل العلم عليه والنظر في كيفية استدلاله وفهمه للدليل، فهذا هو الذي تأخذ منه هذا القول بالكفر أو غيره. إذاً: (من قال بغير هذا) أي: إن القرآن مخلوق فهو كافر. نقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل أو الفاعل ليس بكافر حتى نقيم عليه الحجة ونزيل عنه الشبهة، وتنتفي الموانع وتتوافر الشروط. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- الإيمان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- الإيمان الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو معتقد الفرقة الناجية والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة.

الإيمان

الإيمان إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

الإيمان في اللغة

الإيمان في اللغة قال المصنف رحمه الله: (والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص). الإيمان في اللغة: هو التصديق كقول الله تعالى عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، ويتعدى بالباء ويتعدى باللام ويتعدى بنفسه، فيتعدى بنفسه كقولك: أمنته مقابل خوفته، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]. ويتعدى بالباء تقول: آمنت بالله، أي: صدقت بوجود الله، وبربوبية الله وبإلهية الله وبأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]. ويتعدى بالباء كقولك: آمنت برسول الله، أي: صدقت بأن هذا الرسول مرسل من قبل الله جل وعلا، وهو صادق فيما يخبر به. وتقول: آمنت لله، وآمنت لرسول الله متعدياً باللام، قال الله تعالى عن إبراهيم: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130 - 131] أي: استسلمت لرب العالمين، فمعنى آمنت لله: انقدت واستسلمت وسلمت أمري لله، وآمنت لرسول الله: انقدت واستسلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه ولأمره، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] أي: استسلم لإبراهيم لوط وانقاد له.

الإيمان في الشرع

الإيمان في الشرع الإيمان في الشرع: هو التصديق المقرون بالإذعان والقبول والاستسلام، أما المرجئة فيقولون: الإيمان هو التصديق فقط. قال: (الإيمان قول)، أي: قول اللسان، (وعمل) أي: عمل الجوارح، (ونية) إذاً: هو قول القلب وعمل القلب.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه الإيمان يزيد وينقص كما قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق لا يقول: إن إيمانه مثل إيمان جبريل. فالإيمان ينقص حتى يصل إلى النفاق، ويبقى قابلاً للزيادة وللنقصان، وهذا رد على الإمام مالك. قال: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجزئ القول إلا بالعمل)، أي: لا يقبل عند الله جل وعلا إلا بالعمل، وهذا مشكل غريب، كيف أتى سفيان الثوري بهذا الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه وهو على فراش الموت: (قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله) فخالف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذه الرواية متفق عليها. الإجابة على هذا من أوجه: الوجه الأول: أن الشرائع ما نزلت في عم النبي صلى الله عليه وسلم. الوجه الثاني: أنه أولاً يعرض عليه الشرائع، وبعد ذلك إن قبل أسلم وإلا فلا. الوجه الثالث: أن أحكام الدنيا من التوارث والتناكح تكون بهذه الكلمة، فإذا قال: لا إله إلا الله. فله ما لنا وعليه ما علينا. قال: (ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة)، ثم شرح موافقة السنة فقال: (تقدم الشيخين: أبي بكر وعمر على غيرهما يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمان وعلياً على من بعدهما). أجمع السلف على أفضلية الأربعة: وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهم بحسب ترتيبهم في الخلافة، وهناك طائفة قدمت علياً على عثمان منهم أبو حنيفة رحمة الله عليه، وقيل: إنه رجع عن ذلك، لكن من المتأخرين الشوكاني يقدم علي على عثمان والصحيح الراجح أن عثمان مقدم لحديث ابن عمر قال: (كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقدم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان). وقال عبد الرحمن بن عوف لما سأل الناس عن علي وعثمان: دخلت على النساء في خدورهن بيتاً بيتاً لا أحد يقدم على عثمان أحداً، وهذا إجماع من أفاضل الناس على أن عثمان أفضل من علي، لكن إذا قلت: توجد لديهما صفات متوازنة، فنعم علي يفوق عثمان رضي الله عنه في بعض الصفات، لكن إجمالاً عثمان رضي الله عنه وأرضاه يقدم على علي رضوان الله عليهم. قال: (يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار). وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا بنار، ولا يجزمون لأحد بصلاح، تقول نحسبه كذلك والله حسيبه، وأما القطع بالجنة فهذا تأول على الله جل وعلا، وتعالٍ على الله جل وعلا، وتقول على الله بغير علم، والله حذرنا من ذلك فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قص لنا قصة عن رجلين من بني إسرائيل متعبد ومتعدي، فالمتعبد كان يمر على المتعدي ويقول له: ارجع، اتق الله في نفسك يغفر الله لك، ويبقى على المعصية مرة ثانية، وثالثة ثم قال له: والله لا يغفر الله لك، فقال: فجمعهما الله جل وعلا وقال: من ذا الذي يتألى علي؟ قد غفرت له وأحبطت عملك، فالذي جزم لغيره بأن الله لا يغفر له، ويتألى على الله جل وعلا فقد خرق الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا.

الأسئلة

الأسئلة

حكم طلب المسلم من النصراني الدعاء

حكم طلب المسلم من النصراني الدعاء Q ما الحكم لو قال مسلم لنصراني: ادع لي معك على اعتقاد أن النصراني على دين الحق، وأن الله يقبل هذه العبادة؟ وما حكم جلوس السامعين لهذا الكلام منه؟ A إن كان يعرف أن الله كفر النصارى في القرآن كفر، وإن كان لا يعرف تأخذ المصحف وتقرأ عليه قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقل له: انظر كيف كفرهم الله في الكتاب، فلو قال لك: لا هم أهل الكتاب، فقل له: أنت معهم مخلد في نار جهنم، وإن كان يقول ذلك مستهزئاً، فحق له أن يستهزئ بهؤلاء الضلال، ترى الرجل منهم يقف أمام ربه ويتبول ويشرب الخمر، الصلاة عند النصارى هي أن تستحضر المسيح، وتتكلم باسم كذا كذا من الكفر المبين الذي يتكلمون به، والصلاة عندهم أكل وشرب خمر وتبول وهو يصلي، المهم أن يقول: أنا أفعل ذلك لنقاء روحي؛ لأنه تذكر المخلص المسيح! أما حكم القاعدين الذين سمعوا هذا الخبر فلا بد عليهم أن ينكروا على الذي قال بالدعاء بهذا التفصيل، ويدعو هذا الصليبي إلى الإسلام، إلا إن كانوا أجانب ولهم لغة غير هذه اللغة، إلا إذا كان سيأخذ الكتاب ليستهزئ به.

القدر - البدعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القدر - البدعة لقد بين لنا الإسلام عن طريق الوحيين الاعتقاد الصحيح الذي لا يخالطه باطل، وهو ما كان عليه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم من بعده، وما كان عليه سلف الأمة الصالح.

اعتقاد الإمام الثوري

اعتقاد الإمام الثوري إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: نتحدث عن اعتقاد الثوري رحمة الله عليه، قال له شعيب بن حرب أخبرني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن القرآن غير مخلوق. فأجابه الثوري فقال: القرآن كلام الله, غير مخلوق. لم يعطه حديثاً صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن أجابه بعدة أحكام, مستقاة ومستنبطة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا فيه تلميح وإشارة من الجهبذ العالم الجليل أمير المؤمنين في الحديث: أن القصد والغرض المقصود من نصوص الكتاب والسنة هو الفهم, واستنباط الأحكام من دقة النظر في النصوص, ولذلك قال الله تعالى عن كتابه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وقال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. وكان ابن مسعود يقول: يقرءون القرآن يهذونه هذ الشعر, أي: لا يتدبرون ولا يفهمون ولا يفقهون معانيه, وأصرح الأدلة التي توضح الغرض المقصود من النصوص النبوية أو النصوص القرآنية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي: رب حامل فقه ليس بفقيه, وقال: (رب مبلغ أوعى من سامع) ولذلك أنكر المحدثون على يحيى بن معين شدة تحريه في التجريح والتوثيق وحفظ النصوص والأحاديث دون فقه معناها. ويروى في ذلك أن يحيى بن معين كان مع محدث من المحدثين, فمرت امرأة فقالت: أأستفتيكم؟ فقالوا: سلي, فقالت: إن زوجي توفي ووصى أن أغسله, وإني حائض فهل أغسله؟ فقالوا لها: لا نعرف في ذلك شيئاً, فانتظري حتى يأتيك من يفتيك, فمر عليها أبو ثور الكلبي وكان فقيهاً شافعياً, فنظر في المسألة ودقق وقال: غسليه, فقد كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها (ترجل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض) والميت يساوي الحي في الحرمة فغسليه، فلما سمع يحيى بن معين هذه الرواية قال: نعم هذه الرواية جاءتني من طريق فلان عن فلان عن فلان, ووقفت المرأة حتى سمعت جميع الطرق وحتى انتهى منها قالت: أين كنت لما سألتك؟! ولذلك عاب الإمام أحمد وعاب كثير من المحدثين على من يروي الحديث ولا يفقه معناه. فالغرض المقصود تدبر المعنى واستنباط الأحكام من الأدلة, ولذلك نرى سفيان العالم الفقيه المحدث, من فقهاء المحدثين, له مذهب ولكن اندثر ومن فقهه أنه ما أجاب شعيب بن حرب بنص حديث بل أجابه بأحكام مستنبطة مستفادة مستقاة من كثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, فكان أول الكلام أنه قال: القرآن كلام الله, ثم قال: غير مخلوق, ومن قال غير هذا فهو كافر. فالقرآن كلام الله, قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6]. والشاهد قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فأضاف الكلام إلى الله جل وعلا, والمضاف إلى الله نوعان: مضاف معنى, ومضاف ذات, فالمضاف المعنى أن الصفة تضاف إلى الموصوف, ومن ذلك إضافة الكلام إلى الله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] والكلام معنى، فهو ليس بجسم يمشي أمامك! فإذا أضيف إلى الله أو أضيف إلى أي أحد, كأن أقول: كرم محمد, فوصفت محمداً بالكرم؛ لأن هذا معنى. فإذا قلت: كلام الله, أضفت الصفة هذه أو المعنى هذا إلى الله جل وعلا. لكن عندما أقول: الكعبة بيت الله, والكعبة الآن نراها أمامنا قائمة بذاتها, فتضاف إلى الله إضافة تشريف. وقالت النصارى: قال الله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] أي عيسى روح الله وهذه إضافة إلى الله جل وعلا, فاحتجوا بهذه الآية على أنه جزء من الله, حاشا لله! فنقول لهم: ماذا تفسرون قول الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فهل كل ما في السماوات والأرض منفصلة عن الله جل وعلا أو جزء منه؟ لا أحد يقول: إنها جزء منه، بل حتى النصارى لا يقولون بهذا. فنقول: كل ذات قائمة بنفسها إذا أضيفت إلى الله فإضافتها إلى الله إضافة تشريف. قوله: (فهو كافر) يعني: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر.

في عقيدة الثوري ذكر المسح على الخفين

في عقيدة الثوري ذكر المسح على الخفين قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك. في هذا مسألتان: المسألة الأولى: المسح على الخف, وهي مسألة فقهية، والذي جعله يدخلها في باب الاعتقاد أنها سنة متواترة, فتكون مسألة اعتقادية وهي: إنكار المتواتر, أو منكر السنة التي جاءت بالآحاد. ومنكر المتواتر هو الذي: أنكر ما هو قطعي الدلالة مثل القرآن, فالقرآن قطعي الدلالة؛ لأنه وصل إلينا بالتواتر, والسنة قطعية الدلالة؛ لأنها وصلت إلينا بالتواتر, فالذي ينكر المتواتر يكفر وهذه قاعدة؛ لأنه أنكر ما أجمعت عليه الأمة. فمن أنكر المسح على الخفين يكفر؛ لأن المسح على الخفين جاء من طريق التواتر. ثم فرع عليها مسألة فقهية نعرج عليها ونمر مرور الكرام, فإن كنت قد ارتديت الخفين على طهارة وتوضأت ثم وصلت إلى رجلك, هل تخلع الخف وتغسل أم تمسح؟ قال بعض العلماء: الغسل أولى وكان ابن عمر يفعل ذلك, وكان يقول: أنا مولع بغسل رجلي, وبعضهم يقول: تمسح, وفصل شيخ الإسلام ابن تيمية المسألة فقال: إن كان قد خلع الخفين يغسل وإن لم يخلع يمسح وهذا هو الأفضل، وأي مسائل فيها خلاف فالأيسر هو الأفضل.

في عقيدة الثوري ذكر الإسرار بالبسملة

في عقيدة الثوري ذكر الإسرار بالبسملة قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بها. وهذه أيضاً لا تدخل في الاعتقاد, وهي مسألة فقهية, ولكن نعرج عليها أيضاً مرور الكرام، البسملة من الفاتحة بالدليل الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السبع المثاني الفاتحة)، وقال: ({بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] آية منه) فمن لم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] مع الفاتحة في ركعة من صلاته فركعته تبطل, فالصحيح أن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] آية من سورة الفاتحة. أما بالنسبة الإسرار والجهر, فقد قال جمع غفير من الصحابة وعلى رأسهم ابن عمر وابن عباس من فقهاء الصحابة بالجهر, والصحيح الراجح أن المسألة فيها إسرار وفيها جهر. والسنة التي أميتت وأستغرب أنها ماتت أن كل الأئمة لا يصلي جهراً على الدوام, فهذه ليست بسنة, وفي هذا إماتة للسنة, بل إحياء السنة أنه يجهر تارة ويسر تارة, والأغلب الإسرار؛ لأن الذين رووا الجهر رووا أنه أسر, لكن من السنة أن يجهر بها أحياناً.

مراتب القدر

مراتب القدر ثم قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره, وحلوه ومره, كل من عند الله عز وجل. القدر هو قدرة الله, وسر من أسرار الربوبية, استأثر الله بعلمه، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن به؛ لأنه ركن من أركان الإيمان. وحتى يستقيم إيمان العبد بالقدر لا بد أن يؤمن بالقدر، وهو على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل, والإيمان بأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون. المرتبة الثانية: الإيمان بالكتابة, وأن الله كتب كل شيء, والكتابة على مراحل: كتابة في اللوح المحفوظ, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما خلق القلم قال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة). المرحلة الثانية: الكتابة العمرية, وهي عندما يأتي الملك يقول: يا رب! ذكر أم أنثى؟ يا رب ما العمل؟ يا رب! ما العمر؟ ويكتب ما يؤمر به. الكتابة الثالثة: الكتابة العامية أو الكتابة الحولية كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، قال ابن عباس: يكتب أهل الحج والأموات والأحياء في هذا العام. المرحلة الرابع: الكتابة اليومية: كتابة الملك الذي معك, فكل عبد معه رقيب وعتيد. المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: المشيئة, ومشيئة الله عامة, إن شاء الله شيئاً كان وإن لم يشأ لم يكن. المرتبة الرابعة: الخلق. إذاً: علم, فكتابة, فمشيئة, فخلق, هذا إجمال الكلام على القدر. ثم فصل سفيان أيضاً فقال: يا شعيب بن حرب! تالله! ما قالت القدرية ما قال الله. (ما) الثانية ليست نافية, بل هي اسم موصول, والمعنى: والله! ما قالت القدرية الذي قاله الله, فقد خالفت قول الله وخالفت قول الملائكة وخالفت قول المؤمنين. ثم ارتقى وقال: حتى خالفت صاحبهم إبليس. القدرية هم الذين يقولون: إن القدر علم فقط، فينكرون مراتب القدر الأخرى، وعندهم أن الله جل وعلا لا يعلم فعل العبد إلا بعدما يفعله العبد، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] الشاهد قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] أي: أن الله بيده الإضلال والهداية, وهم ينكرون ذلك, ويقولون: الذي ضل ضل بفعله, والذي اهتدى اهتدى بفعله, والله يكذبهم ويقول: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] وأنا أوضح نقطة مهمة جداً وهي: ليس الفرار من الكلام على الجبرية أن نقول: إن الله ما أجبر العبد على فعل, هذا ليس بصحيح. فالصحيح الراجح: أن الله جل وعلا أجبر الفاسق أن يكون فاسقاً, لكن بعد أن أحب الفسوق وفضل الفسوق على الهدى, فالله جل وعلا ختم على قلبه، وفتح عليه باب الفسوق, لكن القول بأن الله علم أن هذا الفاسق فاسق فكتبه في اللوح المحفوظ فاسق بعلم الله فقط, فهذا ليس إجباراً, وإنما هو علم أنه فاسق؛ لأنه يعلم ما يكون, فعلمه أنه فاسق فكتبه في اللوح المحفوظ. والقدرية على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الذين ينفون علم الله جل وعلا, وأن الله لا يتحكم بفعل العبد, ولا يتحكم في إرادة العبد, فالعبد هو الذي يتحكم في إرادته، وله إرادة مستقلة، وعندهم أن العبد خلق أفعاله بنفسه. فنقول: إن الله عز وجل يتحكم في أفعالنا، لكنه يتحكم في أفعال العباد لحكمة، والله حكيم ويضع الشيء في موضعه, والله جل وعلا له المشيئة العامة، فكل شيء تحت حكمته, والله جل وعلا يقول: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:31]. لمعترض أن يقف ويعترض ويقول: لماذا أنا لم يشأ الله جل وعلا أن يدخلني في رحمته, وأدخل فلاناً وفلاناً في رحمته؟ فنقول له: انظر إلى ختم الآية أو انظر إلى سابقتها قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]، فهو يعلم أنك لست أهلاً للهداية. فالله حكيم يضعك في موضعك, قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. ولذلك قال الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وهذا إثبات أن الله تحكم فيه وأجبره على الفسق لكن بعدما زاغ هو, وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] فأغلق الله قلوبهم. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] لم؟ لم لا يؤمنون؟ أيضاً قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، كذلك قال الله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، والتصريح هنا (فتنتك) أولاً ثم التصريح في الآية {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، فالإضلال والهداية بيد الله جل وعلا, وكما قال الله على لسان نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] فالله سيغويهم ولا يصح القول بأن الله تحكم في إراداتهم فالله ظالم, حاشا لله, فالله حرم على نفسه الظلم, والله عادل وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين, ومن حكمته وعدله أنه يضع الضلال فيمن يستحق الضلال. وقال تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89]. ووجه الشاهد قوله: (يشاء ربنا) وفيه إثبات مشيئة الله جل وعلا. وقال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف:43] أي: أن الهداية والإضلال بيد الله جل وعلا, وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] فالشقاء قد كتب في اللوح المحفوظ عليهم, وهذا هو وجه الشاهد. وخالفوا قول أخيهم إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] فأثبت أن الغواية بيد الله.

أقسام البدعة

أقسام البدعة قال: يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر, والجهاد ماض إلى يوم القيامة. من أصول أهل السنة والجماعة: الصلاة خلف الفاسق والفاجر والمبتدع. لكن البدعة على قسمين: بدعة مكفرة, وبدعة مفسقة, والصلاة تجوز خلف إمام البدعة المفسقة لا البدعة المكفرة, وأصل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا أنتم الصلاة لوقتها ثم صلوا معهم) كما كان يفعل ذلك أنس رضي الله عنه, فقد كان يصلي بالبيت في أول وقت الصلاة وعندما يصلي أمراء بني أمية -وهم كانوا يؤخرون الصلاة- كان يصلي معهم, والعلماء ضربوا لذلك أروع الأمثلة، مثل ابن عمر وأنس مع أظلم أهل الأرض في ذلك العصر وهو الحجاج، وكان الصحابة يذلون في عصر هذا الرجل الطاغية الأرعن, فكانوا يصلون خلفه, والوليد بن عقبة كان أميراً على الكوفة وكان يصلي خلفه ابن مسعود , فصلى خلفه فصلى بهم الوليد الفجر أربعاً, فبعدما انتهى من السلام استدار عليهم وقال: أزيدكم, فقال له ابن مسعود: مازلنا معك في زيادة, وقد صلى بهم مخموراً! ووجه الشاهد أن المخمور لا يكون إماماً, وهذا فسق ومخالفة لشرع الله جل وعلا.

الجهاد ماض إلى يوم القيامة

الجهاد ماض إلى يوم القيامة قال: (والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة). النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيام) فالأمة لن تعز إلا بالجهاد؛ لأنه فاصل بين أهل الكفر وأهل الإسلام, وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله).

إثبات صفة اليد

إثبات صفة اليد قال: يا شعيب بن حرب! إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن هذا الحديث فقل: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان بن سعيد الثوري , ثم خل بيني وبين ربي عز وجل. قوله: وقفت بين يدي الله, إثبات لصفة من صفات الله جل وعلا ألا وهي صفة اليد, وهي صفة ذاتية, ومعنى الصفة الذاتية أنها أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا, وهذه الصفة تسمى صفة خبرية, وضابطها أن مسماها عندنا أجزاء وأبعاض. فالعين جزء مني، فإذاً تكون صفة لله جل وعلا خبرية؛ لأن مسماها عندي بعض وكذلك الرجل واليد, وهذه الصفات خبرية لأن مسماها عندنا أبعاض وأجزاء. صفة اليد صفة ذاتية خبرية, ومعنى خبرية أي لا يمكن إعمال العقل فيها, ولو لم يرد النص بها لا يمكن أن نثبتها لله جل وعلا. والصفات الفعلية يقرها العقل؛ لأنك تقول: إذا فعلها العبد وكانت صفة كمال له فمن باب أولى أن يتصف الله بها, أما الصفات الخبرية فلا تثبت بالعقل, بل تحتاج إلى دليل لإثباتها. مثلاً: صفة اليد ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع, قال الله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقال الله جل وعلا: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]. وقال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقال تعالى: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] وأما السنة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة, سحاء الليل والنهار، يخفض ويرفع) سبحانه وتعالى. وفي حديث رؤية أهل الجنة لربهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرفع الحجاب فيرون الله جل وعل) فينظرون إلى وجه الله, ولا يتنعمون نعيماً مثل هذا النعيم, نسأل الله أن يرزقنا وإياكم هذا النعيم. وأجمع سلف الأمة على أن الله جل وعلا له يد, وكيفيتها مفوضة إلى الله جل وعلا, لا نعلمها، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ولابد من الإجابة عن بعض إشكالات. الإشكال الأول: أن الله جل وعلا قال: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فأثبت أن له يداً واحدة, ثم قال الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فأثبت اثنتين, ثم قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فهل لله يد واحدة أم يدان أم ثلاث أم أربع أم خمس أم أكثر من ذلك؟ A قوله: (يد الله فوق أيديهم) (يد) مفرد مضاف: يد الله, والمفرد المضاف يعم -كما يقول أهل الأصول- المفرد هنا أو الواحدة لا تخالف الجمع في قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]. وكيف نجمع بين الاثنين والجمع؟ كما قال الله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]. و A أن قول الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ليس للجمع ولكنه للتعظيم, ثم قال سفيان: إذا سألك الله جل وعلا فخل بيني وبين ربي. وهذا فيه إثبات أيضاً للبعث قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) [التغابن:7] فأثبت الوقوف بين يدي الله جل وعلا, وهذا مصرح به في الأحاديث الكثيرة كما سنبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقف الله جل وعلا يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان) يقف العبد بين يدي ربه يذكره, يقول: عبدي! أما تذكر ذنب كذا؟ ويقرره بذنوبه, فيقول العبد: أي رب! أي رب! فينظر العبد أيمن منه وأشأم منه لا يجد إلا النار، فلا يجد إلا ما قدم، فيظن أنه قد هلك, فيأتي الرحيم ويلقي عليه ستره, ويقول: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها لك اليوم في الآخرة، نسأل الله أن نكون منهم, آمين يا رب العالمين. أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم.

الصبر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الصبر الصبر صفة عظيمة وخصلة جليلة يتصف بها العبد المؤمن، فمن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله، فهو خير في الدنيا بأن يحمل العبد على الصبر على أوامر الله والصبر عن حدوده ومناهيه، وهو خير في الآخرة؛ لأن الله عز وجل يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

تعريف الصبر وأقسامه

تعريف الصبر وأقسامه إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم, وقل بما قالوا, وكف عما كفوا]. الصبر في اللغة: حبس النفس، وفي الاصطلاح: حبس النفس على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله جل وعلا. والصبر قسمان: صبر اضطراري, وصبر اختياري. الصبر الاضطراري هو: صبر على أقدار الله جل وعلا, لا يبتلي الله عبداً بمصيبة فيصبر عليها إلا وله الأجر في الدنيا وله الرضا في الآخرة, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الترمذي: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضا, ومن سخط فعليه السخط). وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] هذا في الدنيا، وفي الآخرة له الجنة كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). والصبر الاختياري: صبر عن معصية الله جل وعلا, أن تصبر عن الزنا وعن المقامرة, أن تصبر عن أي فاحشة عن محارم الله جل وعلا, وقال بعض مشايخنا: الصالح حقاً من صبر عن المعاصي, لا من صبر على الطاعة, مع أن الراجح لدي أن الذي يقيم الطاعات ويقع في الزلات أفضل من الذي يمنع نفسه من الزلات ولا يقيم الطاعات، وبالإجمال فإن الصبر عن المعصية أن تصبر وتمنع نفسك عن أن تتعدى حدود الله جل وعلا. والصبر على الطاعة كأن تصبر على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة، وعلى طلب العلم، وعلى الجهاد في سبيل الله جل وعلا. والصبر الاختياري أفضل من الصبر الاضطراري, فصبر يوسف على المرأة أفضل من صبره على السجن, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وصبره عن إتيان المرأة أفضل بكثير من صبره على السجن؛ لأن الصبر على السجن صبر اضطراري على أقدار الله جل وعلا, والصبر على إتيان الشهوات صبر اختياري. قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة, وقد فصلنا القول في السنة, وقد تعهده وأرشده إلى الصبر على السنة؛ لأن أهل السنة غرباء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) والغرباء هم الذين يتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, ويحيون ما مات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, والذين يصلحون حين يفسد الناس. ثم قال: واسلك سبيل السلف الصالح, وقد شرحنا معنى السلف. ثم قال: وكان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة, يقصد بها بدعة خلق القرآن.

تعريف الصبر وأقسامه

تعريف الصبر وأقسامه اصبر نفسك: الصبر: حث النفس في اللغة، وفي الاصطلاح: حث النفس على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله جل وعلا. والصبر قسمان: صبر اضطراري, وصبر اختياري. الصبر الاضطراري هو: صبر على أقدار الله جل وعلا, لا يبتل الله عبداً بمصيبة فيصبر عليها إلا وله الأجر في الدنيا وله الرضى في الآخرة, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الترمذي: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضا, ومن سخط فعليه السخ) وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] هذا في الدنيا، وفي الآخرة له الجنة كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر وذلك له خير, وإن أصابته ضراء صبر وذلك له خي). والصبر الاختياري: صبر عن معصية الله جل وعلا, أن تصبر عن الزنا وعن المقامرة, أن تصبر عن أي فعل أي فاحشة عن محارم الله جل وعلا, وقال بعض مشايخنا: الصالح حقاً من صبر عن المعاصي, لا من صبر على الطاعة, مع أن الراجح لدي أن الذي يقيم الطاعات ويقع في المزلات أفضل من الذي يمنع نفسه من المزلات ولا يقيم الطاعات وبالإجمال فإن الصبر عن المعصية أن تصبر وتمنع نفسك عن أن تتخطى حدود الله جل وعلا. والصبر على الطاعة: كأن تصبر على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة وعلى طلب العلم وعلى الجهاد في سبيل الله جل وعلا.

بيان أفضلية الصبر الاختياري على الاضطراري

بيان أفضلية الصبر الاختياري على الاضطراري والصبر الاختياري أفضل من الصبر الاضطراري, فصبر يوسف على المرأة أفضل من صبره على السجن, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وصبره عن إتيان المرأة أفضل بكثير من صبره على السجن, لأن الصبر على السجن صبر اضطراري على أقدار الله جل وعلا, والصبر على إتيان الشهوات صبر اختياري. قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة, وقد فصلنا القول في السنة, وقد تعهده وأرشده إلى الصبر على السنة؛ لأن أهل السنة غرباء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغربا) والغرباء هم الذين يتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, ويحيون ما مات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, والذين يصلحون حين يفسد الناس. ثم قال: واسلك سبيل السلف الصالح, كما شرحنا في الكلام على السلف. ثم قال: وكان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة, يقصد بها بدعة خلق القرءان.

ذم اليأس

ذم اليأس اليأس من رحمة الله كفر, ومن يئس من رحمة الله فقد خرج من الملة؛ لأن اليائس من رحمة الله قد ظن ظن الجاهلية بالله, وقد ظن ظن السوء بالله, والله جل وعلا يقول: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] وقال الله تعالى حاكياً عن يعقوب أنه قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال حاكياً عن إبراهيم: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر:54 - 55] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضحك ربكم من عباده ييئسون ويقنطون والفرج قريب).

أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم

أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم قال الله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فإضافة الرسالة إلى الله تبين أن الذي أرسله هو الله جل وعلا, والرسول: هو كل من أوحي إليه فأمر بالتبيلغ. ومن صفاتهم أشداء على الكفار, أشداء وهذا من مظاهر ربوبية الله جل وعلا: أن تجد ملكة الغضب وملكة الرحمة والشفقة في العبد, قال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] يكون المؤمن أسداً ثائراً على أعداء الله جل وعلا, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله رفيق يحب الرفق) فضاعت الرحمة بيننا إما ظاهراً وإما باطناً نسأل الله أن يغفر لنا ويؤلف بين قلوبنا. أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم, وجزاكم الله عنا خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

أنواع حب الدنيا

أنواع حب الدنيا Q ما هو حكم التجسس؟ A حب الدنيا على نوعين: حب الدنيا يخرج من الملة, وحب الدنيا لا يخرج من الملة, فيمكن للمتجسس أن يتجسس للكفار لا لنصرة الكفار على المؤمنين, لا لأنه يحب أن يعلو الكفر على الإسلام, ولكن لأنه يحب الدنيا ولا يريد الآخرة، ويقدم الدنيا على الآخرة, ولذلك قال الله تعالى في سورة النحل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل:107]، والآية ظاهرة جداً؛ لأن من اتخذ إلهه هواه أو قدم الدنيا على الآخرة يكفر, والمسألة لا تكون بالإطلاق ولكن بالتقييد, فقال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]. ويُذكر أنه ارتقى مؤذن صومعة ليؤذن، فرأى امرأة جميلة فتن بجمالها, فنزل وأرادها فقالت: والله! ما أريدك إلا أن تتنصر, فتنصر وقدم دين النصرانية على الإسلام, ولم يرد علو النصرانية, لكنه أحب الشهوة فترك دينه خلفه ظهرياً من أجل هذه الشهوة. فالمسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن الإمام مالكاً قال: الجاسوس كافر يقتل كفراً, لكن نحن نقول: التجسس أنواع: التجسس من أجل نصرة دين الكفر على دين الإسلام وصاحبه يكفر. التجسس من أجل إعلاء الكفار على المؤمنين؛ حباً لكفرهم وبغضاً لإيمان المؤمنين وصاحبه يكفر. التجسس من أجل الدنيا وكراهية الآخرة وعدم إرادة الآخرة بالمرة وصاحبه يكفر. التجسس من أجل مال ومتعة زائلة مع أنه يعلم أن هذه معصية وشهوة زائلة وأنه سيرجع إلى ربه فهذه معصية، ولا يكفر صاحبها. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل حاطباً، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم له بالعذر وقال: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وقصة حاطب لا يستدل بها على هذه المسألة؛ لأن حاطب بن أبي بلتعة ما فعل ذلك شهوة, بل فعل ذلك حفاظاً على عرضه ونسائه.

البدعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - البدعة من أصول أهل السنة والجماعة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدعة، وقد بينها العلماء وذكروا أقسامها.

البدعة، تعريفها وأنواعها

البدعة، تعريفها وأنواعها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال الإمام أحمد بن حنبل: ومن أصول أهل السنة والجماعة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدعة, وكل بدعة ضلالة. أقول: البدعة في اللغة معناها: الشيء الجديد المخترع على غير مثال سابق, قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] أي: على غير مثال سابق. وأما البدعة في الشرع: فهي التعبد لله جل وعلا بما لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم, ولها تعاريف أخرى، وأجمع هذه التعاريف ما اقتبسه الإمام الشاطبي من قول الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] فقال: البدعة: هي طريقة مخترعة تضاهى بها الشريعة، والمقصود ممن تمسك بها: المبالغة في طاعة الله وعبادته جل وعلا, فهي طريقة مخترعة لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يشرعها الله جل وعلا. فقوله: طريقة في الدين مخترعة تضاهى بها الشريعة, يعني: من جنس أعمال الشرع, صوم أو صلاة أو صدقة أو جهاد تنزلاً، والمقصود من التمسك بها: هو المبالغة في طاعة الله وعبادته جل وعلا, ولذلك أنكر الله على النصارى هذه الفعلة فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، مع أنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله جل وعلا، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] والبدعة مذمومة لا يحبها الله جل وعلا, ولا يحبها رسوله صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى في سياق الذم للنصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث العرباض بن سارية: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل محدثة بدعة) وفي رواية النسائي قال: (وكل بدعة ضلالة). وفي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى, قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). والمبتدع أشد الناس إباء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو متقدم على الله ومتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، فكأن المبتدع يقول: إن هذا الدين لم يكمل, فهو يأتي بشرع جديد وعبادة جديدة حتى يكمل هذا الدين. قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وقال أبو إدريس الخولاني: لأن يخبروني بأن في المسجد ناراً أحرقت المسجد ولا أستطيع فعل شيء, خير لي من أن يخبروني بأن في المسجد بدعة. وقال الثوري: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن صاحب البدعة يجادل عنها، وأما صاحب المعصية فيمكن أن يتوب منها. وقال أيوب السختياني: ما ازداد عبد اجتهاداً ببدعة إلا ازداد من الله جل وعلا بعداً ـ نعوذ بالله من البدعة ـ. والبدعة نوعان: بدعة مكفرة, وبدعة مفسقة. أما البدعة المكفرة: فهي التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام, كبدعة الجهمية: الذين ينفون عن الله جل وعلا أسمائه الحسنى وصفاته العلى, فيقولون: لا سميع ولا سمع, ولا بصير ولا بصر, ولا رحيم ولا رحمة, ولا قدير ولا قدرة ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ فهذه بدعة مكفرة تخرج صاحبها من الملة. وكذلك بدعة الشيعة المميتة المخيفة: وهي قولهم: إن القرءان لم يكتمل, فالقرآن عندكم هو ستة آلاف آية فقط، والصحيح أنه ستة عشر ألف آية, فالمصحف الصحيح هو الذي كان عند فاطمة، ويزعمون تحريف القرآن, وبذلك يكذبون قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وكذلك بدعتهم المميتة في قذف عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذا يخرج من الملة؛ لأن الله قد برأها من فوق سبع سماوات, فكفروا بتكذيبهم كلام الله جل وعلا. ومن هذه البدع أيضاً: بدعة الصوفية التي تخرج صاحبها من الملة: وهي اعتقادهم بأن للكون أقطاباً وأبدالاً يتحكمون في الكون من دون الله جل وعلا. وأيضاً بدعتهم في عبادة القبور, والطواف بها, والاعتقاد بأن المقبور يملك النفع والضر, فهذه أيضاً بدعة من البدع المكفرة التي تخرج صاحبها من الملة.

أقسام البدعة المفسقة

أقسام البدعة المفسقة البدعة المفسقة: هي البدعة التي يدخل بها صاحبها إلى الفسق وهو أكبر الكبائر, وهذه البدعة: هي التعبد لله جل وعلا بما لم يشرع الله, ولم يشرعه نبيه صلى الله عليه وسلم, وأنواعها تحصر في بدع زمانية, وبدع مكانية, وبدع في الهيئة والكيفية. أما البدع الزمانية: فهي أن يتخير زماناً فينشئ فيه عبادة خاصة بهذا الزمان لم يخصصه الله جل وعلا, مثال ذلك: أن يأتي إلى ليلة النصف من شعبان فيجتهد في التعبد لله جل وعلا فيها, فيقوم الليل, ويصوم النهار, فهذه بدعة مميتة, فهو يتحين وقتاً لم يشرعه الله جل وعلا ولم يخصصه بعبادة, فيخصصه هو بالعبادة. ومنها: صيام خميس رجب, والنساء في مصر يزعمن وجوب صيام خميس رجب، ولابد من الزيارة للقبور في خميس رجب, فقد تحين وقتاً وخصصنه بالعبادة ولم يشرعه الله جل وعلا. ومن البدع الزمانية أيضاً: اتخاذ أعياد في أوقات لم يشرع الله جل وعلا الأعياد فيها؛ لأن الأعياد عبادات, والأصل في العبادات التوقيف. فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار فوجدهم يلعبون في يومين, فسألهم عن اليومين, فقالوا: يومان نلعب فيهما, وأصل العيد: مأخوذ من العود، عبادة يظهر فيها الشكر والفرح، فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم ذلك فقال: (قد أبدلكم الله خيراً منهما, أبدلكم بالأضحى والفطر). واليوم خرج علينا الخارجون فقالوا: عيد الأم, وعيد الأب, وعيد الفلاح, وعيد النصر, وعيد الحب للزهور, وقد استأت كثيراً يوم أن سمعت أن بعض الأخوات في عيد الحب نزلن يشترين الزهور -نسأل الله العفو والعافية- ولم يعرفن أن هذه بدعة مميتة, وأنهن سيحاسبن أمام الله جل وعلا, فهذه الأوقات أوقات توقيفية لابد ألا يتعبد فيها الله جل وعلا إلا بما شرع الله جل وعلا. كذلك أيضاً: المولد النبوي, فقد خرجوا علينا بيوم وقالوا: إن هذا هو المولد النبوي، وإن الدين لا يكون إلا في يوم المولد النبوي, مع أن العبد إذا تعبد لله جل وعلا يفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم, ويشكر الله على بعثه إلينا بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور, لتكرر الفرح بمولده وإرساله كل يوم وكل أسبوع, وقد غاب هذا عن كثير من الناس! وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم يوم الإثنين, فلما سئل عن ذلك -كما في صحيح مسلم - قال: (ذلك يوم ولدت فيه, فأحب أن يرفع عملي فيه وأنا صائم) أي: وأنا صائم فيه. فالذي يريد أن يحتفل بالمولد النبوي فعليه أن يصوم كل يوم إثنين بنيتين: نية رفع الأعمال إلى الله جل وعلا, والنية الثانية: للاحتفال بالمولد النبوي. أما البدعة الثانية المفسقة: فهي بدعة مكانية: وهي أن يتخير مكاناً مباركاً عنده فيخصص فيه عبادة، ولم يجعل الله جل وعلا هذا المكان للعبادة, كأن يذهب إلى القبر فيدعو الله جل وعلا عنده. كذلك أيضاً: أن يذهب مثلاً ليذبح إبلاً في مكان قد عبد غير الله فيه, فينذر أن يذبح مثلاً عند البدوي، والبدوي يعبد من دون الله جل وعلا, فينذر أن يذبح ذبيحة لله جل وعلا في هذا المكان الذي يعبد فيه غير الله جل وعلا, فهذه أيضاً من البدع المكانية. ومن البدع المكانية أيضاً: أن يشد رحله إلى غير المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وأما النوع الثالث: فهي البدع في الهيئة والكيفية: كأن يصلي لله جل وعلا مسدلاً يديه دائماً وفي اعتقاده أن هذا الفعل من السنة، مع أن السنة قد جاءت بخلاف ذلك، فقد جاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض اليمنى على اليسرى في الصلاة). ومن بدع الهيئات والكيفيات أيضاً: أن يبسط يده كبسط الكلب في السجود، فهذا من المنهي عنه, أو يصلي خاصراً: بأن يضع يده اليمنى على اليسرى على الخاصرة, وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم. ومن بدع الهيئات والكيفيات: أن ينذر لله جل وعلا أن يقوم ولا يقعد, وأن يقف في الشمس ولا يستظل, وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يفعل ذلك فنهاه عن هذا, فهذا من البدع في الهيئات والكيفيات. ومن البدع المميتة في الهيئات والكيفيات: بدع الصوفية في ذكر الله جل وعلا, فتراه يقوم ويترنح ويأتي بأذكار أيضاً لم يشرعها الله جل وعلا, كأن يقول: هو هو, ويفعل ما يفعل حتى يسقط صريعاً على الأرض, فهذه أيضاً من البدع في الهيئة والكيفية -نعوذ بالله من البدع-. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

رؤية المؤمنين ربهم - خلق أفعال العباد

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - رؤية المؤمنين ربهم - خلق أفعال العباد ن أعظم البدع وأخطرها ما كان متعلقاً بالعقائد؛ كبدعة المعتزلة الذين ينكرون رؤية المؤمنين لربهم، وخلق أفعال العباد، وبدعة الجهمية وغيرهم الذين ينكرون استواء الله على عرشه.

رؤية الله عز وجل في الجنة والأدلة على ذلك

رؤية الله عز وجل في الجنة والأدلة على ذلك إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: هذا آخر الكلام عن اعتقاد إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ثم يبقى له أيضاً كلام جيد في الرؤية عليه رضوان الله ورحمته، ولنا أن نقول: عليه رضوان الله، قال عنه الأئمة: حفظ الله هذا الدين بـ أبي بكر في الردة, وبـ أحمد بن حنبل في الفتنة, وهذه الفتنة: هي فتنة خلق القرآن, رحمة الله عليه. ورؤية المؤمنين ربهم على نوعين: رؤية منفية, ورؤية مثبتة, أما الرؤية المنفية: فهي التي في الدنيا, -فلن يرو ربهم في الدنيا- أما الرؤية المثبتة: فهي الرؤية في الآخرة. وأما الدليل على أن المؤمنين لا يرون ربهم في الدنيا: فهي أن أحب الخلق إلى الله في زمانه وهو من أولي العزم طلب ذلك من الله ولم ينله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، فقال الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، فلم ير الله جل وعلا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن ترو ربكم حتى تلقوه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم, فنفى الرؤية في الدنيا. بقي إشكال واحد وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه في الدنيا, وهذه المسألة خلافية بين العلماء، والصحيح الراجح فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه؛ لأنه قال عندما سألوه: رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه)، أي: كيف أراه؟ أو ما رأيت إلا النور, وقال في رواية أخرى: (رأيت نوراً)، فلم ير الله جل وعلا, ولكنه رأى الحجاب وهو النور, وهذا هو الراجح. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل وعلا بفؤاده مرتين, ورآه أيضاً في المنام, وللمؤمنين أن يروا ربهم في المنام, نسأل الله أن يجعلنا كذلك ممن يرونه في المنام, آمين يا رب العالمين! أما الرؤية المثبتة: فهي التي تكون في الآخرة، وقد بين الله جل وعلا أننا سنرى ربنا في الآخرة, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في عدة أحاديث. أما الآيات: فقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] أي: النظر إلى وجه الله الكريم -رزقنا الله وإياكم هذا الفضل العظيم-. قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقد فسرها خير من يفسر كلام الله جل وعلا: وهو صلى الله عليه وسلم فقال: (الزيادة: رؤية الله في الجنة) صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى أيضاً: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذه الآية تثبت قطعياً رؤية المؤمنين لربهم؛ لأنها من المتضادات, قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فلما حجبهم الله في حال الغضب، جعل المؤمنين يرونه في حال الرضا. والأوضح من ذلك قول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون, ولا تستوي الظلمات والنور, فإذا قلت: إن المؤمنين لا يرون ربهم, وأنهم قد حجبوا عنه, فقد سويت بين المؤمنين والكافرين، والشريعة جاءت بالتفريق بين المختلفين, فالمؤمن غير الكافر، فإن كان عقاب الكافر ألا يرى الله جل وعلا, فجزاء المؤمن يكون برؤية الله جل وعلا. وفي الصحيحين: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته) وفي رواية (لا تضامون في رؤيته)، وهذا من باب تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي؛ لأن الله لا يشبه القمر، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء, لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنكم سترون ربكم كما ترون القمر في ليلة البدر لا تتضررون بالنظر إليه، وفي الرواية الأخرى: (لا تضامون) يعني: لا يحدث لك ضيم، أي: ظلم, فلا يحدث الانضمام لبعضكم إلى بعض فتتزاحمون, فلا يرى البعض ربهم جل وعلا, فهذا لا يحدث, بل سترونه كما ترون القمر في هذه الدنيا البسيطة بالنسبة إلى الآخرة وما فيها وفي عرصات القيامة والله أعلم، -نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يرى وجهه الكريم- فلا فرح ولا نعيم في الجنة إلا برؤيته، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعدما يستقر أهل الجنة في الجنة, فيكشف الحجاب فيرون ربهم، فما تنعموا بنعيم مثل هذا النعيم). رزقنا الله وإياكم هذا النعيم, آمين يا رب العالمين!

خلق أفعال العباد

خلق أفعال العباد أختم الكلام بمجمل اعتقاد أبي جعفر محمد بن جرير الطبري , وهو نفس الاعتقاد، لكنه أتى بزيادات مهمة، فيجب أن ألمح إليها, ومن هذه الزيادات قوله: وقد خلق الله أفعال العباد. وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة: فهم يعتقدون أن أفعال العباد مخلوقة لله جل وعلا, رداً بذلك على القدرية؛ لأن القدرية ينفون القدر ويقولون: إن الإنسان قد خلق فعل نفسه، وهذا باطل فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، لكن القدرية هجمت علينا بهذه المعتقدات الفاسدة، واستدلوا بأدلة على قولهم هذا فقالوا: أولاً: قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فأثبت بذلك أرباباً معه ـ حاشا لله من ذلك. وقالوا: إن الله جل وعلا ربط الجنة بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24]، فالعمل هو الذي يدخل الجنة دون غيره. ونرد عليهم بالآيات السابقة، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، ووجه الاستدلال: أن (كل) من ألفاظ العموم، وأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم. فإن قيل: فكيف تردون على قولهم: إن العبد خلق فعل نفسه, والله جل وعلا ربط الجنة بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]؟. ف A أن يقال: إن الله قد أثبت في كتابه أنه خلق أفعال العباد, قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] , وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] , فكيف تتجرءون على نفي ما أثبته الله جل وعلا في كتابه؟ فإنه يلزم من كلامكم تبديل كتاب الله جل وعلا، فهذا هو الدليل الأول. الدليل الثاني: أن الله جل وعلا بين أنه خلق كل شيء, وأنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ, ومما كتبه أفعال العباد, كما قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى يوم القيامة)، وتدخل أفعال العباد في قوله: (كل شيء). إذاً: الدليل الأول: أن الله أثبت لنفسه خلق أفعال العباد، فإن نفيتم ذلك فقد كذبتم القرآن. الدليل الثاني: أن الله خلق كل شيء وكتب كل شيء, ويدخل في هذا أفعال العباد. أما الرد على استدلالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فنقول: للخالق أو الخلق ثلاثة معانٍ: المعنى الأول: إيجاد من عدم, والإيجاد من العدم خاص بالله جل وعلا. المعنى الثاني للخلق: التحويل من صورة إلى صورة, كتحويل الخشب والشجر إلى أبواب، والحديد إلى سيارة, فهذا يكون للعباد, والله جل وعلا أثبت أنهم خلقوا ذلك إنصافاً وعدلاً منه سبحانه وتعالى. المعنى الثالث: التقدير, فيكون معنى قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] أي: تبارك الله أحسن المقدرين, فإذا قدر شيئاً أنفذه لكمال قدرته, أما إذا قدر العبد شيئاً فلا يستطيع إنفاذه لكمال عجزه وضعفه, ولذلك قال القائل: لأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري يعني: أنك تخلق ما قدرت وتوجده في الحيز على وجه البسيطة, وغيرك يقدر أنه سيفعل ويبني، ثم لا يفعل شيئاً منها لعجزه وضعفه, والله جل وعلا يفعل لكمال قدرته، وهذا هو المعنى في هذه الآية فلا صحة لهم فيها والله أعلم، فهذا هو الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه فشابهوا بذلك المجوس؛ لأنهم يقولون: إن للكون خالقين.

الكلام على صفة الاستواء للعلي العظيم

الكلام على صفة الاستواء للعلي العظيم ثم ختم الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري قوله بقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالعقل. أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] والآيات كثيرة في ذلك. وأما السنة فقد ثبت عن ابن مسعود موقوفاً عليه قوله: (بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام, وما بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام)، إلى أن قال: (والعرش فوق ذلك, والله فوق العرش)، وهذا الحديث موقوف على ابن مسعود وله حكم الرفع, فهو من السنة. وأما العقل فقد قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، فعلمنا بذلك أن الاستواء معناه: العلو والاستقرار. قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [المؤمنون:28]، والعبد الذي يستطيع أن يستوي ويستقر ويعلو على الدابة قادر على ذلك، أما الذي لا يستطيع أن يستوي ويستقر ويعلو على الدابة فهذا عاجز والعجز نقص, فإذا أثبتنا أن العلو والاستقرار للعبد صفة كمال, فمن باب أولى أن تكون صفة كمال لله جل وعلا، والقياس المستعمل بين الله وعباده: هو قياس الأولى، فإن قلنا: إن هذه صفة كمال للعبد, فمن باب أولى أن يتصف الله جل وعلا بها. وبهذا نكون قد انتهينا من جمل اعتقادات أهل السنة والجماعة، ثم نبدأ بعد ذلك في مسألة توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه.

توحيد الله وأنواعه

توحيد الله وأنواعه فقوله: (توحيد الله). التوحيد نوعان: التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات, وتوحيد القصد والطلب، والتوحيد العلمي الخبري, أو توحيد المعرفة والإثبات هو: توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية. فتوحيد الربوبية: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله جل وعلا هو الرب الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع. وتوحيد الأسماء والصفات: أن تعتقد أن لله جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا. والتوحيد الثاني: هو توحيد القصد والطلب: وهو توحيد الإلهية: وهو إفراد الله جل وعلا باستحقاق العبادة, فلا تصرف أي عبادة إلا لله جل وعلا.

الكلام على صفات الله تعالى وأقسامها

الكلام على صفات الله تعالى وأقسامها قال: (وصفات الله جل وعلا الحي السميع) أما صفات الله جل وعلا فعلى قسمين: صفات ثبوتية, وصفات سلبية. فالصفات الثبوتية هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه, وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم, كأن يقول الله جل وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فأثبت السمع والبصر، وكأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، فأثبتها لله تعالى. وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام: صفات ذاتية, أي: أنها لا تنفك عن ذات الله جل وعلا, فهي أزلية أبدية, كالحياة والقدرة والعزة والكبرياء، فكلها صفات ذاتية لا تنفك عن ذات الله جل وعلا. القسم الثاني: صفات فعلية: وهي ما تعلقت بمشيئة الله, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل, كالاستواء والحب والرحمة والغضب. القسم الثالث: صفات خبرية: وهي الأجزاء والأبعاض في تسميتنا، كالرجل والساق واليد والعين، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فالعين جزء مني، لكنها صفة تليق بجلال الله وكماله جل وعلا، وكاليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فتسمى هذه الصفات: صفات ثبوتية خبرية. أما القسم الثاني من أقسام صفات الله جل وعلا فهي الصفات السلبية، أي: الصفات المنفية عن الله جل وعلا, بأن نفاها الله عن نفسه في كتابه, أو نفاها عنه النبي صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فنفى عن نفسه صفة السنة وصفة النوم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، فنفى عنه هاتين الصفتين, لكن لا بد في الصفات السلبية من قيد مهم ألا وهو: النفي مع إثبات كمال الضد، ويستطيع الواحد منا أن يفسر ذلك على ضوء الإنسان, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فالصفة المنفية هنا: هي صفة اللغوب ومعناه: التعب والإعياء. قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: وما مسنا من تعب، لكمال القدرة لله جل وعلا, قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فهو نفي متضمن لإثبات كمال الضد، فكمال الضد للنوم والسنة: هي الحياة والقيومية, فهذه صفات الله جل وعلا, صفات ثبوتية, وصفات سلبية, والصفات السلبية لا تنفى بالكلية؛ لأن النفي المحض ليس فيه كمال, فلا بد أن تنفيها وتثبت كمال ضدها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة قال: (وصفات الله جل وعلا الحي السميع) أما صفات الله جل وعلا فعلى قسمين: صفات ثبوتية, وصفات سلبية. فالصفات الثبوتية هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه, وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم, كأن يقول الله جل وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فأثبت السمع والبصر، وكأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، فأثبتها لله تعالى. وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام: صفات ذاتية, أي: أنها لا تنفك عن ذات الله جل وعلا, فهي أزلية أبدية, كالحياة والقدرة والعزة والكبرياء، فكلها صفات ذاتية لا تنفك عن ذات الله جل وعلا. القسم الثاني: صفات فعلية: وهي ما تعلقت بمشيئة الله, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل, كالاستواء والحب والرحمة والغضب. القسم الثالث: صفات خبرية: وهي الأجزاء والأبعاض في تسميتنا، كالرجل والساق واليد والعين، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فالعين جزء مني، لكنها صفة تليق بجلال الله وكماله جل وعلا، وكاليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فتسمى هذه الصفات: صفات ثبوتية خبرية. أما القسم الثاني من أقسام صفات الله جل وعلا فهي الصفات السلبية، أي: الصفات المنفية عن الله جل وعلا, بأن نفاها الله عن نفسه في كتابه, أو نفاها عنه النبي صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فنفى عن نفسه صفة السنة وصفة النوم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، فنفى عنه هاتين الصفتين, لكن لا بد في الصفات السلبية من قيد مهم ألا وهو: النفي مع إثبات كمال الضد، ويستطيع الواحد منا أن يفسر ذلك على ضوء الإنسان, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فالصفة المنفية هنا: هي صفة اللغوب ومعناه: التعب والإعياء. قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: وما مسنا من تعب، لكمال القدرة لله جل وعلا, قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فهو نفي متضمن لإثبات كمال الضد، فكمال الضد للنوم والسنة: هي الحياة والقيومية, فهذه صفات الله جل وعلا, صفات ثبوتية, وصفات سلبية, والصفات السلبية لا تنفى بالكلية؛ لأن النفي المحض ليس فيه كمال, فلا بد أن تنفيها وتثبت كمال ضدها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حكم المشاركة في أعياد الكفار

حكم المشاركة في أعياد الكفار السؤال الأول: ما حكم المشاركة في أعياد الكفار؟ A إذا شارك أهل الكفر أعيادهم معتقداً صحة دينهم فقد كفر نوعاً، فإن أصر كفر عيناً لا نوعاً.

الملك الظالم المسلم أحق بالولاية من الكافر المحسن

الملك الظالم المسلم أحق بالولاية من الكافر المحسن السؤال الثاني: أيهما أولى بالولاية على المسلمين: الملك الكافر المحسن أم الحاكم المسلم الظالم؟ A الحاكم المسلم الذي يسرق المسلمين أحق بالكرسي من الكافر الذي يعطي المسلمين، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه, فلا يمكن للكافر أن يتربع على عرش المسلمين بحال من الأحوال.

وجوب الخروج على الحاكم المتمذهب بالمذاهب البدعية إذا وجدت القوة

وجوب الخروج على الحاكم المتمذهب بالمذاهب البدعية إذا وجدت القوة السؤال الثالث: ما هو العمل إذا كان الحاكم مبتدعاً أو متمذهباً بمذهب غير أهل السنة, مثل الشيعة أو العلويين ونحوهم؟ A في المسألة تفصيل: إن كانت بدعته هينة مثل الشيعة الذين يجهلون أمر الدين في الأصل، أو كان من الذين يرون تفضيل علي على أبي بكر وعمر, فهذا لابد له من السمع والطاعة. أما إذا كان علوياً أو نصيرياً كافراً يقول: إن علياً هو الإله رضي الله عنه وأرضاه، فإن حكمه حكم الكافر الذي سبق تبيينه. وإن كان أيضاً من الجعفرية الذين يقولون: إن هذا القرآن محرف، ويسبون عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذا أيضاً كافر لابد من الخروج عليه إن وجدت القوة.

جواز الصلاة بأكثر من نية

جواز الصلاة بأكثر من نية السؤال الرابع: هل يجوز الجمع بالنية بين أكثر من صلاة؟ A نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من دون الفريضة)، أي ركعتين, سواء كانت سنة الظهر أم سنة الوضوء أم سنة الضحى أم سنة العشاء وغيرها، فله أن يصليها بأكثر من نية.

جواز تبديل النية في الصلاة

جواز تبديل النية في الصلاة السؤال الخامس: هل يجوز تبديل النية في الصلاة؟ A نعم، يجوز تبديل النية في الصلاة، ولنا صور كثيرة في ذلك منها: أن تدخل بنية مأموم ثم تبدل نيتك إلى منفرد عن إمامك، كما في قصة معاذ رضي الله عنه وأرضاه, أو أن تدخل مثلاً بنية صلاة ركعتين فتبدل النية إلى نافلة مطلقة، فيجوز ذلك, أو تدخل بنية الظهر منفرداً فتجد جماعة قد انعقدت فتبدل نية الظهر وتجعلها نافلة ثم تنوي الصلاة مع الجماعة، وضابط هذه المسألة: أن الأعلى ينزل إلى الأدنى, والأدنى لا يصعد إلى الأعلى, فالفرض أعلى من النفل، فلك أن تنزل من الأعلى إلى الأدنى، وليس لك أن تصعد من الأدنى إلى الأعلى، فهذا لا يصح، فالفرض لا يبدل إلى سنة بخلاف العكس.

حكم الخروج على الحاكم المرتد

حكم الخروج على الحاكم المرتد السؤال السادس: نود أن توجه كلمة للشباب بشأن ضابط الخروج على الحاكم؟ A نسأل الله أن يفرج عنا الكرب, فقد سئل علي بن أبي طالب فقالوا له: لماذا حدثت الفتن في عصرك وعصر عثمان ولم تحدث في عصر عمر ولا أبي بكر؟ فقال: لأن أبا بكر وعمر ولوا على أمثالنا, وولينا على أمثالكم. وهناك حديث يحتج به شيخ الإسلام ابن تيمية، لكنه حديث ضعيف يستأنس بمتنه: وهو أن الله جل وعلا يقول: (قلوب الولاة بيدي فإن أطعتموني لينت قلوبهم عليكم, وإن عصيتموني جعلتهم عليكم نقمة). فلا ينفع مع الحاكم المجرم الفاسق الفاجر الآن غير الصبر والدعاء, أما المرتد فإنه لابد من إعداد العدة للخروج عليه؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

حكم الصلاة وراء إمام لا يحسن قراءة الفاتحة

حكم الصلاة وراء إمام لا يحسن قراءة الفاتحة السؤال السابع: ما حكم الصلاة وراء إمام لا يجيد قراءة الفاتحة؟ A إذا كان الإمام لا يجيد قراءة الفاتحة فالصلاة باطلة عند من يعلم ركنية قراءتها، ولا بد للإمام أصلاً أن يكون متقناً للفاتحة.

وجوب مفارقة الإمام إذا علم المأموم بطلان صلاته

وجوب مفارقة الإمام إذا علم المأموم بطلان صلاته السؤال الثامن: هل تجوز مفارقة الجماعة بنية المفارقة إذا علم بطلان صلاة إمامه؟ A إذا أراد أن يفارق الجماعة ابتعد عنهم وصلى منفرداً، فإن كان في الصف الأول واستطاع أن يرجع إلى الخلف دون أن يحدث بلبلة في الصف الأول فله أن يفعل ذلك وإلا فلا؛ تغليباً لجانب المصلحة, إلا إذا كان يعلم يقيناً بطلان صلاة إمامه فإن عليه حينئذ أن يصلي منفرداً حتى وإن أحدث بلبلة في الصفوف. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.

الميزان - القبر - الحوض - الشفاعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الميزان - القبر - الحوض - الشفاعة من معتقد أهل السنة والجماعة الإيمان بحقيقة الميزان ونصبه يوم القيامة، وإثبات أن أعمال العباد توزن، ومن العباد من يرجح وزنه كالجبال، ومنهم من لا يزن جناح بعوضة على الحقيقة، كما يعتقدون بقبول الشفاعة العامة من الملائكة والنبيين والمؤمنين، واختصاص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى لفصل القضاء وفتح أبواب الجنان لأهل الإيمان.

مجمل القول في الفرق بين صفات الله الذاتية والفعلية

مجمل القول في الفرق بين صفات الله الذاتية والفعلية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا التنسيق الجميل من الإمام الجليل اللالكائي في كتابه العظيم: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ومن هذا التنسيق اقتداء بكتاب الله عز وجل، فطريقة تنسيقه للكتاب أنه ابتدأ بالمجمل ثم أتى بالتفصيل للتشويق، وهذا نجده في كثير من الأحكام في كتاب الله وعلا حيث يأتي بالإجمال ليشوق ثم بعد ذلك يفصل. وقبل أن نشرع في درس اليوم نذكر إجمالاً الفرق بين الصفات الذاتية، والصفات الفعلية. فنقول: الصفات الذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، بمعنى أنها غير متجددة. وأما الصفات الفعلية فهي صفات متجددة، أصلها ثابت لكنها متجددة. وضابط الصفات الفعلية أنه يصح لك قبل الصفة أن تقول: (إن شاء) بمعنى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وإن شاء استوى، وإن شاء لم يستو إن شاء جاء وإن شاء لم يجئ إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، فكل هذه الصفات من الرحمة والمجيء والاستواء هي صفات فعلية؛ لأنه يصح أن نقول: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، فكل الصفات الفعلية أزلية الأصل متجددة الآحاد، فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، يعني: أصلها ذاتي لكن أفرادها متجددة؛ لأن الله جل وعلا متكلم من الأزل لكن ما تكلم إلا وقتما شاء أن يتكلم، وهذا معنى أنها قديمة النوع حادثة الأفراد. وقال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] هذه صفة ذاتية خبرية، وضابط الصفة الخبرية: هي ما لا يمكن للعقل أن يحيط بها ويكون مسماها عندنا أجزاء وأبعاض. قال الله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] الصفة هنا: العين، ونوعها: ذاتية خبرية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربكم من عباده يقنطون والفرج يأتيهم)،الصفة هنا: الضحك، ونوعها: فعلية، فهو إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك.

تعريف السنة عند أهل العقيدة والمحدثين والفقهاء

تعريف السنة عند أهل العقيدة والمحدثين والفقهاء ذكر المصنف اعتقاد علي بن المديني قال رحمه الله: فقلت: أعزك الله السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها، ثم قال: الإيمان بالقدر خيره وشره. السنة في اللغة: الطريقة. وفي الشرع لها تعاريف عند أهل الحديث، وعند أهل الأصول، وعند أهل الفقه، وعند أهل الاعتقاد. فالسنة عند أهل الحديث هي: كل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقية، أو صفة خُلُقية، ومثال القول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ومثال الفعل: ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو منكبيه) وأيضاً بعض الرواة وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا سجد يجنح في سجوده) يعني: يوسع بين يديه في السجود، أما ما يقع من ضم بعض الناس اليوم فهو خلاف السنة، والصحيح الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوسع حتى جاء في بعض الروايات أنه لو مرت عنزة صغيرة لمرت، وهذه هي السنة في السجود. ومثال التقرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى حكماً أو يسمع حكماً فيقرره، كما ثبت أن جابراً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر الصحابة على العزل. أما الصفة الخَلْقية أو الخُلُقية فيندرج تحتها كل ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة. أما أهل الأصول فهم ينظرون إلى كيفية استنباط الحكم من الدليل فلذلك كان تعريف السنة عندهم: ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقريره، فقط. دون الصفة الخَلْقية والخُلُقية. أما أهل الفقه: فالسنة عندهم ما يكون مقابل الواجب، يعني: هي النافلة، والنافلة: هي خطاب الشارع للمكلفين لا على وجه اللزوم، وإنما على وجه الاستحباب. وحكمها أنه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فسنة الظهر -مثلاً- يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. والسنة عند أهل العقيدة: ما كان مقابل البدعة. فالسنة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها ثم قال: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، لا يقال: لم ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها. كما قال الإمام الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله، وهذا محض التسليم. ففي هذه المسائل لا يقال: لم ولا وكيف؟ صفات الله جل وعلا لا يقال: كيف؟ لأن الكيف عندنا فنفوض أمره إلى الله جل وعلا، والمعنى لا يفوض؛ لأن المعنى معلوم، والذين يفوضون المعنى هم المفوضة، فهم يقولون في السميع: لا نعلم عنه غير الألف واللام والسين والميم والياء والعين فقط. وهذا خلاف اعتقاد أهل السنة، فأهل السنة يعلمون المعنى، ولذلك من الكلام المشهور عن مالك أنه سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم -أي: في اللغة-، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، لذا المعنى لا يفوض وإنما الكيفية هي التي تفوض، أما في الأحكام فلا نقول: لم؟ في الأحكام التي غابت عنا.

الإيمان بالميزان يوم القيامة

الإيمان بالميزان يوم القيامة قال: والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن العبد ولا يزن جناح بعوضة، وتوزن أعمال العباد كما جاءت به الآثار، قال: الإيمان به والتصديق، والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته. الإيمان بالميزان على حقيقته قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]. {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8]، واختلف العلماء ما الذي يوزن يوم القيامة عمل العبد أم العبد أم الصحائف والسجلات؟ والصحيح الراجح: أن الأعمال والعباد والصحائف كلها توزن يوم القيامة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالنسبة للأعمال: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ومن استشكل عليه أن يجسم الأمر المعنوي ويوضع في الميزان، فنقول له: ألم يأتكم نبأ الموت كيف أن الله جل وعلا يكيفه كبشاً على عرصات القيامة ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وينادي أهل النار فيشرئبون وينظرون فيذبح الموت أمامهم فيقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- ويقال: يا أهل النار خلود بلا موت) نعوذ بالله من ذلك. أيضاً هذه الكلمات وهذه الأعمال تسجل يوم القيامة وتوزن في الميزان، وكذلك العباد يوزنون يوم القيامة، ودليل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الفاجر الكافر الفاسق: (يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) نعوذ بالله من ذلك. وأيضاً: ورد في السنة أن الصحابة نظروا إلى دقة ساقي ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فضحكوا من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يعني: (أتضحكون من دقة ساقيه؟ لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، فهذه دلالة على أن العبد سيوزن يوم القيامة، وأيضاً السجلات والصحائف ستوزن لما رواه أحمد في مسنده في حديث البطاقة، وفيه أن السجلات والمعاصي توزن، فإذا رأى المرء في نفسه أنه قد هلك يؤتى بالبطاقة فيها لا إله إلا الله فتطيش هذه البطاقة بكل السجلات.

الإيمان بتكليم الله للعباد يوم القيامة

الإيمان بتكليم الله للعباد يوم القيامة قال: وإن الله عز وجل يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم ليس بينهم وبينه ترجمان الإيمان بذلك والتصديق. فالله عز وجل. يتكلم، وكلام الله بصوت وحرف يسمع، ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فيقول: أنا الملك الديان) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم وشرب المؤمنين منه يوم القيامة

إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم وشرب المؤمنين منه يوم القيامة قال: والإيمان بالحوض، وإن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترد عليه أمته. الحوض: لغة: من حاض يحوض وهو تجميع الماء في مكان. وشرعاً: هو الماء الذي ينزل من نهر الكوثر في الجنة الذي أعطاه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فينزل هذا الماء إلى الحوض، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وهذا الحوض ميزة خاصة برسول الله، فالأنبياء لكل منهم حوض كما ورد في الأحاديث، لكن الحوض الذي ينزل ماؤه من الكوثر هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوض وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (طوله شهر، وعرضه شهر، وزواياه متساوية، وكيزانه كالنجوم، يشرب العبد منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً) وهذا يكون في عرصات القيامة. نسأل الله أن يسقينا من هذا الحوض من يد النبي صلى الله عليه وسلم، ونكون ممن قال الله فيهم: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]. فمن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم يعتقدون بهذا الحوض، وهذا الحوض يختلج أناس منه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رب أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) نعوذ بالله من البدع.

الإيمان بعذاب القبر وفتنته

الإيمان بعذاب القبر وفتنته قال: والإيمان بعذاب القبر، وإن هذه الأمة تفتن في قبورها. من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بعذاب القبر، وإثبات عذاب القبر ثابت من الكتاب ومن السنة وإجماع الأمة. أما من الكتاب فقال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] اتفق المفسرون على أن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وقال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. أما من السنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتنون في قبوركم) وكذلك الحديث المشهور الذي فيه أن الإنسان يسأل عن ربه ويسأل عن دينه ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بالشفاعة

الإيمان بالشفاعة قال: والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. الشفاعة في اللغة: ضم الوتر للوتر فيكون شفعاً، أو ضم الواحد إلى الواحد فيكون شفعاً. أما الشفاعة في الشرع فهي: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة، وهذه الشفاعة جاء القرآن فأثبتها ونفاها، فالشفاعة التي نفاها الله جل وعلا هي عن أهل الكفر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فهذه شفاعة منفية. وقال عن الكافرين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] فهذه الشفاعة المنفية عن الكفار. أما الشفاعة المثبتة فقد قيدها الله جل وعلا بقيدين وشرطين مهمين: الشرط الأول: الرضا عن المشفوع والإذن للشافع، قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. وقال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. والشفاعة على ستة أنواع: ثلاثة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والباقية يشترك فيها الملائكة والأنبياء والمؤمنون. أما الثلاثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي: الأولى: الشفاعة العظمى في عرصات القيامة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، يأتي كل البشر -مما يجدونه من الكرب والرعب والشدة والرهبة- فيذهبون إلى كل نبي، فآدم يبعثهم إلى نوح، وكل نبي يرسلهم إلى من بعده، حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد عند العرش فيلهمه الله بمحامد تعلمها عند سجوده عند العرش، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في أن يحكم الله بين العباد). والشفاعة الثانية الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم هي شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة، إذ لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والملك الذي يقف ببابها يقول: (ما أمرت أن أفتح إلا لك). والشفاعة الثالثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم شفاعته في أهل الكفر، مع أنها شفاعة منفية، لكن هذه خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع في عمه أن يكون في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ويظن أنه أشد الناس عذاباً يوم القيامة وهو أخفهم عذاباً. والشفاعة الرابعة: الشفاعة في أهل الكبائر ألا يدخلوا النار، وهذه الشفاعة وما بعدها يشترك فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون. والشفاعة الخامسة: الشفاعة فيمن دخلوا النار وأصبحوا حمماً أن يخرجوا منها. والشفاعة السادسة: رفع درجات المؤمنين من درجة إلى درجة. جعلنا الله منهم.

الإيمان بخروج الدجال وقتل عيسى بن مريم له في آخر الزمان

الإيمان بخروج الدجال وقتل عيسى بن مريم له في آخر الزمان قال: والإيمان بأن المسيح الدجال مكتوب بين عينيه كافر. أيضاً من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بـ المسيح الدجال وأنه موجود محبوس، خلافاً لبعض المعاصرين، ومنهم الفقيه الذي قل في الناس من وصل لفقهه، وهو الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، فهو يرد حديث مسلم الذي فيه أن المسيح الدجال موجود الآن، فيقول: نعتقد أن المسيح الدجال سيخرج وهو أشد فتنة وأشر فتنة، لكن لا يؤمن أنه موجود الآن، لكن نقول فيه كما قيل من قبل: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه. فالحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث تميم الداري الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (حدثني تميم الداري بحديث أعجبني) وفيه بيان أنه موجود الآن ومحبوس بسلاسل وسيخرج، والمسيح الدجال أشد وأشر فتنة وأشر غائب ينتظر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أمره وهو على المنبر، واحمر وجهه وانتفخت أوداجه حتى إن الصحابة من خوفهم ظنوا أنه خلف الشجرة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رعبهم قال: (إن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، فإن لم أكن فيكم فالله خليفتي على كل مسلم)، ثم وصفه وصفاً دقيقاً فقال صلى الله عليه وسلم: (هو أعور وربكم ليس بأعور، كأن عينه عنبة طافية) وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوب الأرض شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً. فيقول للسماء: أمطري فتمطر، ويذهب إلى الخربة فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج، ويأتيه الرجل فيقول له: أؤمن بك إذا أخرجت أبي وأمي، فينادي أباه وأمه من القبر فيخرجان، وهما لا يخرجان حقيقة وإنما يتمثل بعض الجن في صورتهما لفتنة الناس، ولن يستشرفه أحد إلا فتنه، إلا رجل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الشباب في ذلك الوقت بعلمه وبصيرته يقول: أنت الدجال الذي وصفك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذرنا منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً ما كان يقرأ ولا يكتب ولكن وصفه وصفاً دقيقاً فقال: (مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرؤها الأمي والقارئ). فحين يقول هذا الرجل الصالح هذا الكلام يقوم الدجال فيشقه ويمشي بين نصفيه، فيقول: أرأيتم لو أحييته تؤمنون بي؟ فيقولون: نعم. فينادي عليه فيقوم؛ فتنة لهؤلاء، والله يعلم من يصلح للفتنة فيوقعه فيها، والله عليم حكيم، ثم يقوم الرجل بعلمه ودقة نظره فيقول: أنت الدجال، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فلا يسلط عليه بعد ذلك؛ لأن الله جل وعلا حباه القدرة على أن يفعل ذلك الفعل مرة واحدة ولا يكرره فإذا ضربه بالسيف وضعت حلقة على رقبته فلا يقوى عليه. وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منه، ونسأل الله جل وعلا ألا نعيش حتى ندركه؛ لأنه شر غائب ينتظر. ويبين النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن عيسى ينزل فيقتله. والعجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، وأهل الإسلام كل منهم ينتظر المسيح، أما أهل الإسلام فينتظرون مسيح الهدى عيسى عليه الصلاة والسلام، الذي ينزل فيكسر الصليب ولا يقبل من النصارى الجزية بل الإسلام أو القتل، ويقتل الخنزير. وأما اليهود فينتظرون المسيح الذي بشر به موسى، فهم اتهموا مريم وأرادوا قتل عيسى، فهم ينتظرون المسيح الذي بشر به موسى عليه الصلاة والسلام، أما النصارى فهم ينتظرون عيسى الذي هو ربهم، والعياذ بالله. المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل على جناحي ملكين، وإذا بالناس قد اصطفوا للصلاة خلف المهدي، فإذا رأى المهدي عيسى عليه السلام تراجع إلى الخلف حتى يصلي عيسى بالناس -فهو نبي من أولي العزم من الرسل- فيقول: عيسى، إمامكم منكم، وهذا من تكريم الله لهذه الأمة، اللهم لك الحمد والشكر. اللهم اجعلنا من خيار هذه الأمة يا رب العالمين. فيطارد عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال حتى يدركه عند باب لد فيقتله، وتبقى معه الفئة المؤمنة كما سنفصل بعد ذلك في أشراط الساعة.

عقيدة أهل السنة في السمع والطاعة لولي الأمر برا كان أو فاجرا

عقيدة أهل السنة في السمع والطاعة لولي الأمر براً كان أو فاجراً قال: وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يختلفوا في ذلك. ذكر أصحاب الشورى ثم أهل بدر، وكل ذلك شرحناه من قبل. ثم قال: ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم. فإن المسلمين يلي أمرهم حاكمان: الحاكم الأول: من قد يلي أمر المسلمين بالمشورة أو بالاختيار. وهذا هو الذي قيل فيه: (خيار أئمتكم الذي تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم) ويحكمون بشرع الله والقسط. والحاكم الثاني: من غلب على أمر المسلمين بالسيف، وكل واحد منهما له السمع والطاعة بالقيد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) فالحاكم له السمع الطاعة، ولو كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو تأمر عليكم عبد حبشي أسود) أخرجه أحمد بن حنبل. ثم بين أنه لا يحل الخروج على إمام المسلمين براً كان أو فاجراً. ومسألة الخروج على الحاكم مسألة عظيمة ضل فيها كثير وزلت أقدام. والكلام فيها إجمالاً يتركز في نقاط: أولاً: هل يصح الخروج على الحاكم؟ الحاكم إما أن يكون حاكماً عادلاً مؤمناً تقياً ورعاً يحكم بين الناس بما أراه الله جل وعلا -أي: بشرع الله جل وعلا- فهو يقسط بينهم ويعدل بينهم، فهذا من خرج عليه يقتل؛ لأنه قد شق عصا الطاعة، فمن خرج على إمام عادل حكمه أنه يقتل لأنه شق عصا الطاعة. وإما أن يكون الحاكم ظالماً فاسقاً فهذا الحاكم أيضاً له السمع والطاعة، ومن خرج عليه فقد أتى ببدعة؛ لأن هذا ليس من اعتقاد أهل السنة والجماعة بل وزره أشد ما يكون؛ لأنه سيعيث في الأرض فساداً، لأن التأليب على الحاكم وعلى ولاة الأمور يجعل الفساد يستشري بين الناس، فالحاكم الظالم الفاسق لا يخرج عليه، لكن هذا الحاكم له أحوال ثلاثة: الحال الأول: أن يكون هذا الحاكم الظالم الفاسق ليس له شوكة وليس له منعة، وعندنا أهل الحل والعقد عندهم شوكة ومنعه فهؤلاء وجب عليهم أن يعزلوه وينصبوا مكانه الإمام العادل. الحال الثاني: أن يكون هذا الظالم الفاسق الإمام له شوكة ومنعة، لكن أهل الحل والعقد والمسلمون لهم شوكة ومنعة أقوى، ففئتهم أقوى من فئته. الحالة الثالثة: أن يكون الإمام الظالم معه شوكة ومنعة أقوى من شوكة المسلمين. فالصحيح أن الحاكم الظالم الفاسق أهل الحل والعقد هم الذين لهم حق التصرف معه فإن كان بإمكانهم عزله، والإتيان بالعادل مكانه فعلوا، وإلا لا يخرج عليه بحال من الأحوال، حتى وإن كان مع آحاد المسلمين شوكة ومنعة أكثر منه فلا يصح الخروج عليه، وهذا منهج أهل السنة والجماعة. أما الحاكم الثالث فهو الكافر، والكافر لا يولى على المسلمين، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]. لكن لو كان الحاكم مسلماً ثم فسق وظلم، بل وكفر وخرج من الملة فهذا له أحوال: الحال الأول: أن يكون ليس له شوكة ومنعة، فهذا أهل الحل والعقد يعزلونه ثم يستتيبونه فإن تاب وإلا قتل ردة. الحال الثاني: أن يكون له شوكة ومنعة، لكن المؤمنين والمسلمين عندهم شوكة ومنعة أقوى منه، فهذا وجب عليهم أن يخرجوا عليه ويقاتلوه حتى ينحوه ثم يستتيبونه فإن تاب وإلا قتل ردة. الحال الثالث: أن يكون له شوكة ومنعة وفي المسلمين ضعف فهذا لا يجوز الخروج عليه مع أنه كافر، والكافر لا يعلو على المسلم، لكن تغليباً لدفع المفسدة عن جلب المصلحة، وهذا الكلام دقيق جداً، فهذا الحاكم ارتد وردته ظاهرة عندنا من الله فيها برهان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنابذوهم إلا أن تروا كفراً بواحاً) فأنت رأيت الكفر البواح ورأيت الردة، كقول القائل من بعض الحكام: إن قطع يد السارق تخلف ورجعية. فهذا كفر وارتد أمامك، لكن مع ذلك لا تخرج عليه تغليباً لدرء المفسدة العظمى، وهي استئصال شأفة المسلمين. وجاء عن الشافعي أنه قال: لو كان في المسلمين ضعف لهم أن يدفعوا الجزية للنصارى وللكفار دفعاً للمفسدة العظمى التي تأتي على المسلمين باستئصال شأفتهم، فالصحيح الراجح: أنه إن لم يكن في المسلمين قوة، وارتد الحاكم بكفر بواح لنا فيه من الله برهان فلا يجوز الخروج عليه تغليباً لدرء المفسدة.

وجوب إقامة الحدود

وجوب إقامة الحدود ثم ذكر إقامة الحدود وأنه فرض فرضه الله جل وعلا على عباده لا بد من إقامتها، والكلام في هذه المسألة من أجل بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة سيكون في مسألتين: المسألة الأولى: هل إقامة الحد يكون لآحاد الأمة؟ فنقول: إقامة الحدود لولي الأمر، وهناك أدلة عامة على إقامة الحدود منها: قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2]. وقوله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]. فهذه أدلة عامة، ولكن جاءت أدلة خصصت هذه الأدلة العامة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد). وأوضح من ذلك قصة صفوان بن أمية لما سرق رجل شملته، فأخذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال: يا رسول الله، إني قد سامحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟!). فهذه دلالة على أن إقامة الحدود ليست لأي أحد؛ لأنه كان يمكن للصحابي أن يقيم الحد على السارق؛ لكنه ذهب به إلى إمام المسلمين وولي الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده قال: سامحته يا رسول الله، فقال: (هلا كان ذلك قبل)، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ألم بذنب فليستتر بستر الله جل وعلا، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد). فهذه دلالة على أن ولي الأمر هو الذي يقيم الحد، ويمكن له أن يوكل غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) يعني: إن اعترفت بالزنا فارجمها. المسألة الثانية: إذا أسقط الولي الحدود فلم يقم أي حد، فهل لآحاد الأمة أن يقيموا هذه الحدود؟ هذه المسألة فيها تفصيل: فأقول: الأصل أنه لو أسقط الولي الحدود فإن لآحاد الأمة أن يقيموها؛ لأن الله جل وعلا ما فرض هذه الحدود إلا لتطبق على أرض البسيطة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) إلى آخر الأدلة، لكن هذا الأمر يقيد بقيود أشد ما تكون غلظة، فإن آحاد الأمة إذا أقاموا هذه الحدود فربما حصل بذلك تأليب للناس على ولي الأمر، فيترتب على ذلك مفسدة أعظم كأن يقوم الوالي بأخذ من أقام الحد وأخذ غيره معه بغية إثبات قوة يده وسلطانه، فالمسألة مقيدة بالمصلحة والمفسدة، فإن كان الرجل يعلم أنه لو وصل الوالي أنه أقام الحد فإن الوالي لن يعاقبه أو يعاقب بعده من معه، ولن ينزل على الأمة بأسرها هدماً وقتلاً وسجناً، فهذا مأمور بأن يقيم الحد. فضابط المصلحة والمفسدة هو الذي يضبط لنا إمكانية إقامة آحاد الأمة للحدود. لكن في واقعنا المعاصر هل يمكن للإنسان أن يقيس مصلحة ومفسدة، الصحيح: أن المفسدة أعظم ما تكون، فالراجح أنه ليس لآحاد الأمة في هذا الواقع المعاصر أن يقيم الحدود، فنحن قررنا مسألة نظرية علمية، لكن الآن ليس لآحاد الأمة أن يقيم الحدود التي عطلها الوالي. لكن لو جيء برجل زنى وأقيم أمام الوالي، وجاء رجل وأخذ السوط وجلده، فلما ضربه السوط الأول سكت الوالي، ثم الثاني وإلى الثمانين وفي كل هذا يسكت الوالي، فهذا يدل على رضاه وإقراره.

بيان النفاق المخرج من الملة

بيان النفاق المخرج من الملة نختم هنا بقول الإمام: والنفاق هو الكفر: أن يكفر بالله، ويعبد غيره. النفاق نفاقان: نفاق أكبر ونفاق أصغر، والنفاق معناه في اللغة: الطريق في الأرض، والنفاق الأكبر هو النفاق الاعتقادي؛ أن يظهر الإسلام ويضمر الكفر، والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9]. أما النفاق الأصغر فهو النفاق العملي؛ وجاءت صفاته في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر) وفي الرواية الأخرى: (وإذا خاصم فجر). وهنا مسألة في النفاق العملي: هل النفاق العملي يخرج من الملة أم لا يخرج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً)؟ فأقول إجابة على هذا الإشكال: المسألة فيها تفصيل فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان منافقاً خالصاً) أشكل على العلماء؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54] فالتصريح هنا أنهم كفار، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصرح، لكن قال: كان منافقاً خالصاً فهل يلحق بالكفار أم يكون من أهل الكبائر؟ للعلماء تأويلات كثيرة جداً: الأول: كان منافقاً خالصاً، يعني: كافراً، لكن باستحلال هذه الأمور، أي: باستحلال الكذب، والغدر وغيرها من هذه الصفات، فنقول لهم: هو يكفر إن كانت فيه هذه الصفات، أو لم تكن فيه هذه الصفات؛ لأن الاستحلال كفر، كما أن من جحد وجوب الصلاة فهو كافر وإن صلى. التأويل الثاني: كان منافقاً خالصاً، يعني: شبيهاً بالمنافقين وليس بمنافق، يعني: شابه صفاتهم كما قالوا: إن هذا يفعل فعلة الكفار، فصفته كصفة الكفار. التأويل الثالث: قالوا: إنه بريد الكفر، وهذا هو أعدل الأقوال، فالإنسان لو تشبع وتضلع بهذه الصفات واستمر عليها فهي بوابة إلى النفاق الأكبر؛ فهو حين يكذب يكون قد نزعت منه صفة الإيمان، لكن يبقى في دائرة الإسلام، فإذا اعتاد الكذب يخرج من دائرة الإسلام، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم. فقيل: أيكون كذاباً؟ قال: لا) فالكذب والغدر والخيانة ليست من صفات المؤمنين، فمن اعتاد عليها، وثبت عليها، فهذا منذر بخروجه من الملة والعياذ بالله.

إطلاق الكفر العملي على المعاصي

إطلاق الكفر العملي على المعاصي ثم قال: نرويها كما جاءت ولا نفسرها مثل: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). ومثل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار). ومثل: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). ومثل: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما). ومثل: (كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق). قال الإمام أحمد: هذه الأحاديث مما قد صح وحفظ فإنا نسلم به، وإن لم يعلم تفسيره، ولا يتكلم فيه، ولا يجادل فيه. فهل نمرر هذه الأحاديث أم ننظر فيها وندقق النظر؟ وكيف يكون التدقيق؟ أولاً هذه الأحاديث من المتشابه فتحتاج إلى أن ترد إلى المحكم. فلو جاءك من يقول: قاتل المؤمن كافر، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، والخلود لا يكون إلا لكافر. فنقول رداً عليه: الأصل في لفظ الكفر أنه كفر أكبر إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، والقرينة هنا قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فمع أنهم اقتتلوا إلا أنه سماهم المؤمنين، فلم ينزع منهم صفة الإيمان، وقال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، والأخوة هنا هي أخوة الإيمان والدين. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين) وحدث أن الحسن صالح معاوية فكانا مع من معهما الطائفتين المؤمنتين. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق). والطائفتان هما طائفة علي، وطائفة معاوية، فسماهم مسلمين. إذاً: فقتال المؤمن ليس بكفر، ولكنه كبيرة.

بيان الضابط في إطلاق مسمى الصحابي على من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم

بيان الضابط في إطلاق مسمى الصحابي على من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت هنا نقطة مهمة ننبه عليها، وهي مسألة الصحبة وتعريفها، فنقول: الصحبة تطلق على كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات على الإسلام. وفي تعريف آخر: كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ومات على الإسلام. والتعريف الأول أصح؛ لأننا لو قلنا بالتعريف الثاني لخرج من الصحابة عبد الله بن أم مكتوم فهو لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أعمى، ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن كل صحابي بأمه ممن جاء بعهدهم، وهذا هو الصحيح الراجح، ولذلك لما سئل بعضهم عن معاوية وعمر بن عبد العزيز قال: ليوم من أيام معاوية صحب فيه النبي صلى الله عليه وسلم ورآه فيه خير من عمل عمر بن عبد العزيز. نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

القدرة - العلم - السمع والبصر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القدرة - العلم - السمع والبصر من الإيمان بالله الإيمان بأسمائه وصفاته، وإثباتها له كما أثبتها لنفسه في كتابه وسنة رسوله، ويجب إثبات الأسماء والصفات بالشرع لا بالعقل، والإيمان بها كما آمن بها السلف الصالح من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.

توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته

توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باقي. التوحيد هو أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا. وقد ضلت فرق كثيرة في باب توحيد الله جل وعلا، فمن الفرق الضالة الذين قالوا: إن التوحيد هو الإقرار بوجود الله فقط، فمعنى توحيد الله جل وعلا عندهم: هو أن تقر أن الله جل وعلا موجود، أو أن الله هو رب الكون وخالق الكون ورازق الكون، وهذا تفريط في باب التوحيد. ومن هذه الفرق الذين قالوا: إن التوحيد هو وحدة الوجود، وهؤلاء هم غلاة الصوفية الحلولية كـ ابن سبعين وابن عربي، حيث قالوا: ما في الجبة إلا الله، ولا فرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق!!

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد جاء في الواسطية أن أهل السنة والجماعة قالوا: إن توحيد الله جل وعلا هو إفراد الله بالعبادة وإفراده بالاعتقاد أنه الخالق الرازق المدبر الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده التوحيد إلى قسمين: القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات أو التوحيد العلمي الخبري عن طريق السمع والتوقيف، وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله أو فعل الرب تجاه العبد وهو أن تعتقد أن لربك جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا كلها جلال وكمال، وأن تعتقد أن خالق الكون ورازقه ومدبره هو الله جل وعلا، وهو السيد المطاع الآمر الناهي الذي له حق التشريع وحق الأخذ والإعطاء، وأنه يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. القسم الثاني من أقسام التوحيد: توحيد القصد أو توحيد الله بأفعال العباد، وهو توحيد الإلهية، وهو أن تفرد الله جل وعلا بالذبح والنذر والقسم والتذلل والخضوع والدعاء والتضرع، فهذا لا يكون إلا لله جل وعلا.

صفات الله وأقسامها

صفات الله وأقسامها الصفة هي! ما يدل هي علم يدل على معنى قائم بذات الله جل وعلا، أي: أن الصفة هي علم، وهذا العلم يدل على معنى قائم بذات الله جل وعلا، أما الاسم فهو: علم يدل على ذات الله. إذاً الفرق بين الصفة والاسم: أن الصفة علم يدل على معنى قائم بذات الله، سواء كانت هذه الصفة متعلقة بالمشيئة أو كانت أزلية أبدية، أما الاسم فهو علم يدل على ذات الله جل وعلا. والصفات نوعان: صفات ثبوتية وصفات سلبية، فالصفات الثبوتية هي ما أثبتها الله لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فأسماء الله وصفاته لا يمكن أن تكون إلا من الكتاب أو من السنة ولا مدخل لاجتهاد الصحابة أو غيرهم فيها، فهي توقيفية من الوحي سواء كان الكتاب أو السنة. وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام: الأول: صفات فعلية، وضابطها أنها تتعلق بالمشيئة، كالضحك والرضا والغضب والمجيء والاستواء، فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. الثاني: صفات ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله فهي منذ الأزل وإلى الأبد، مثل الحياة والقدرة والعزة والكبرياء. القسم الثالث من الصفات الثبوتية: صفات خبرية، وهي بالنسبة لنا أجزاء وأبعاض، كالعين فهي جزء، ولكنها بالنسبة إلى الله صفة من صفات الكمال والجلال يتصف بها الله جل وعلا، واليد كذلك، قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]. وأما الصفات السلبية فهي: الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه في كتابه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذه الصفات ننفيها مع إثبات كمال الضد؛ لأن صفات الله كلها كمال وجلال ومدح، والنفي المحض لا يليق بالله، وليس من الأدب معه سبحانه، فلو دخل رجل من عامة الناس إلى الملك أو إلى الحاكم فقال له: أنت لست بسارق ولست بزان ولست بكافر ولست بكذا لكان هذا تنقيصاً وليس بمدح له؛ لأن المدح: هو أن تنفي الصفة مع ثبوت كمال الضد، كقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] واللغوب: التعب، وما مسه من لغوب لكمال قوته وقدرته وعزته، ولا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته جل وعلا.

أسماء الله عز وجل والفرق بينها وبين الخبر

أسماء الله عز وجل والفرق بينها وبين الخبر اسم الله عز وجل علم على ذات الله يدلك على الله جل وعلا، فإذا قلت: الله، فإن الذهن يذهب إلى ذات الله العلية المقدسة، وأسماء الله جل وعلا كلها حسنى، ومعنى حسنى: أنها تتضمن صفات كمال. وحتى نفرق بين الاسم والصفة والخبر نقول: ما معنى حسنى؟ يعني أن هذا الاسم يتضمن صفات كمال أخرى، قال الله تعالى مثلاً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فالحي اسم من أسماء الله جل وعلا، وهو علم يدل على ذات الله جل وعلا، ويتضمن صفة كمال وهي صفة الحياة، والحي يستلزم أن يكون قادراً مريداً متكلماً قوياً قاهراً، فهذه صفة تستلزم صفات أخرى. وإذا قلنا بأن أسماء الله حسنى فلا بد أن نفرق بينها وبين الخبر عن الله جل وعلا بما ليس فيه حسن أو كمال كالوجود مثلاً، قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19] فـ (الله) هنا بدل عن شيء، ولذلك قال البيهقي: الله اسمه شيء، وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك من باب الخبر كمن يقول عن الله جل وعلا: موجود، وليس صحيحاً أن يسمي الإنسان نفسه عبد الموجود أو عبد الشيء، وليس معنى موجود أن هناك من أوجده، بل هو خبر وليس اسماً من أسمائه. والفرق بين الاسم والخبر: أن الخبر لا يدعى به الله عز وجل والاسم يدعى به، تقول: يا حي، يا رازق ارزقني، يا كريم اكرمني، لكن لا تقل: يا موجود أوجدني أو أعطني أو يا شيء ارحمني، فالأخبار لا يدعى بها، وبابها أوسع بكثير من باب الأسماء. والفرق الثاني بين الاسم والخبر: أن الأسماء كلها حسنى، أما الأخبار فلا تصل إلى الحسن الذي بلغته الأسماء، ولكنها لا تنزل إلى السوء، وهذا الضابط ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وفرق به بين الخبر وبين الاسم. وهناك من الجهلة من يقول في قول الله تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]: الروح جزء من الله جل وعلا، ولو قلتم رحمة فهذا تأويل، وهذا جهل مركب، ومنهم من يقول: إن من أسماء الله الصاحب والخليفة، واستدل على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل)، وهذا ليس صحيحاً فالخليفة يمكن أن يكون خليفة سيئاً ويمكن أن يكون خليفة حسناً، ولا يوجد في الدنيا من يسمي ابنه عبد الصاحب، فالأخبار عن الله بابه أوسع، أما الأسماء فكلها أسماء حسنى. ومن الفوارق بين الأسماء والأخبار أن الأسماء توقيفية من الكتاب أو من السنة فقط، أما الأخبار فمن الممكن ألا تكون توقيفية فتخبر عن الله بما في نفسك.

أسماء الله غير محصورة

أسماء الله غير محصورة أسماء الله كلها حسنى، ولا تنحصر في عدد، بل له أسماء علمناها وأسماء لم نعلمها، ولا يشكل علينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة) فإن معنى (من أحصاها) أي: من حفظها، من عدها، من عمل بها، والجمع بين هذه المعاني هو الصحيح كما سنفصل القول فيما بعد، ولا يدل ذلك على حصر أسماء الله في هذا الحديث، بل هذا الحديث فيه مزية وهي أن من حصر التسعة والتسعين اسماً دخل الجنة، كما تقول: معي خمسة دراهم للصدقة، فهذا لا ينفي أن هناك دراهم أخرى للنفقة على البيت، فمزيه الخمسة دراهم أنها للصدقة فقط، والذي يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الصريح: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فقد استأثر الله نفسه ببعض أسمائه عنده في الغيب لا نعلمها، وفي حديث الشفاعة قال صلى الله عليه وسلم: (فأذهب عند العرش فأسجد فأحمد الله بمحامد يفتح عليّ بها لا أعلمها الآن) هذه المحامد تسبيح لله بالأسماء والصفات، وهي وقف للسجود عند العرش بعد عرصات يوم القيامة، وهي أسماء لا نعلمها، إذاً أسماء الله غير محصورة.

الحي القادر

الحي القادر قال المصنف رحمه الله: ومن صفاته وأسمائه أنه حي، هذه صفة من صفات الله جل وعلا، وهي صفة ثبوتية ذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، ولا يمكن أن نقول: إن شاء حيي وإن شاء لم يحي، فالحياة الأزلية الأبدية من صفات ذات الله، وبها تحيي الدنيا والجنة والملائكة. قال المصنف رحمه الله: حي قادر، القدرة صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله، وقدرة الله أحاطت بكل شيء، فما يشاؤه الله فهو قادر عليه، وما لم يشأه فهو أيضًا قادر عليه، وهذا يبين لنا خطأ من يقول: إن الله على ما يشاء قدير، فهذه كلمة خاطئة ترد على صاحبها، بل الله جل وعلا قادر على ما شاء وما لم يشأ، فكلمة: إن الله على ما يشاء قدير كلمة خاطئة لا بد أن يجتنبها طالب العلم، فالله أحاطت قدرته بكل شيء: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. فالقول بأن الله على ما يشاء قدير مفهوم المخالفة أن ما لم يشأه لا يقدر عليه، وأما قول الله: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] فهي مرتبطة بالسياق، كقوله: ((أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).

العليم

العليم قال المصنف رحمه الله: قادر عالم، عالم صفة من صفات الله، واسمه عليم، وهي صفة من صفات الذات الثبوتية، الذاتية التي لا تنفك عن الله جل وعلا الله، فهو عالم بكل شيء، وأحاط بكل شيء علماً، وقسمة علم الله جل وعلا: أن الله علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وأول ما خلق الله الخلق خلق القلم فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى يوم القيامة، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ كائناً ما كان، ويعلم ما يكون من علامات الساعة كما أخبرنا في كتابه، أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق)، إلى آخر تلك الروايات التي أخبرت بما يسأتي من أمارات الساعة، وقال الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:187]. كذلك علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون بالمستحيل وبالممكن، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27 - 28] ثم بين الله جل وعلا أنه من المستحيل أن يرجعوا إلى الدنيا، وإن رجعوا إلى الدنيا وهذا مستحيل فقد علم الله أنهم سيعودون إلى ما نهوا عنه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] وهذا في المستحيل، وفي الممكن أيضًا علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ) [التوبة:47] فليس من المستحيل أن يخرجوا، والله جل وعلا يقول: ولو خرجوا فيكم لأوهنوكم ضعفاً، وقال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23] فعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.

السميع البصير

السميع البصير سمع الله جل وعلا أحاط بكل شيء، لا تختلف عليه اللغات ولا الأصوات مع تفنن الحاجات سبحانه وتعالى، وسع سمعه كل الأصوات، سمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حتى إنه يرى مخ ساقها جل وعلا، ولو قام الكون كله في صعيد واحد فسألوه في وقت واحد باختلاف هذه اللغات لاستمع لهم ولأعطاهم في نفس الوقت جل وعلا. جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سبحان الذي وسع سمعه كل الأصوات! والله إن خولة بنت ثعلبة جاءت تشتكي إلى الله وإلى رسوله من زوجها وأنا في ناحية البيت بجانبها يخفى عني بعض حديثها، والله جل وعلا أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] وهو فوق عرشه فوق السماوات السبع سبحانه وتعالى. فسمع الله أحاط بكل شيء. وهو بصير، وبصره نفذ في كل شيء كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (حجابه من نور لو كشفه لأحرقت سبحات -يعني أنوار- وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصر الله ينتهي إلى كل خلقه؛ لأن الله تبارك وتعالى أحاط بكل شيء رؤية جل وعلا. وهو متكلم، وهذه صفة فعلية، والصحيح الراجح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: هي ذاتية النوع، أي: الأصل، لكنها فعلية الآحاد، أي: أن الله جل وعلا في الأصل متكلم، لكن يتكلم إذا شاء بما شاء وكيفما شاء.

إرادة الله

إرادة الله الله مريد، فالله يريد، وكل حي يريد، وكل قادر يريد، وإرادة الله إرادتان: إرادة كونية وإرادة شرعية، والإرادة الكونية: ضابطها أنها فيما يحب الله وما لا يحب، وتقع حتماً ولا بد أن تنزل وتقضى، أما الإرادة الشرعية: فهي خاصة فيما يحبه الله، وكل شيء أراده الله بإرادة شرعية فهو يبيحه شرعاً، وهذه الإرادة قد تقع وقد لا تقع، مثال ذلك: قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] هذه إرادة شرعية، فالله يريد اليسر وبعض الناس يعسر على نفسه ولا يأخذ بالرخص، فبدل أن يتوضأ واحدة يتوضأ ثلاثاً، وبدل أن يتيمم يغتسل ويموت! ولا يأخذ بالرخص، فمنهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعل، فهذه إرادة شرعية قد يقع وقد لا تقع، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] هذه إرادة كونية، فالقتل قد وقع في الزمان الماضي والله عز وجل لا يحب القتل بين العباد، لكنه قدره لحكمة أعلى من هذا القصد. قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] هذه إرادة كونية فقوله: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)) فيه شيء يحبه الله، وهذه إرادة كونية، والله جل وعلا إذا شرح صدر عبد لا مرد له، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وإذا أضل الله عبداً لن تجد له هادياً.

صفة البقاء لله

صفة البقاء لله الله باقي، البقاء خبر عن وجود الله جل وعلا، وليست صفة من صفات الله جل وعلا، بل اسم الله هو الآخر فليس بعده شيء، وهو الأول فليس قبله شيء، فالباقي هنا يوازيه اسم من أسماء الله الحسنى وهو الآخر، فالبقاء هنا ليست صفة ولكنها خبر عن الله جل وعلا، كقولك: الله موجود، فموجود خبر عن الله جل وعلا، والله شيء يدل على الوجود، والفرق بين الخبر وبين الاسم أن الخبر ممكن أن يبلغ إلى الحسن وممكن ألا يبلغ إلى الحسن، ولكنه لا ينزل إلى السوء. والقاعدة: كل اسم صفة ولا عكس، فهناك صفات لا يمكن أن تشتق من الأسماء كقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فصفة الاستواء لا يشتق منها اسم المستوي.

معرفة الله وأسمائه وصفاته بالشرع لا بالعقل

معرفة الله وأسمائه وصفاته بالشرع لا بالعقل قال المصنف رحمه الله: سياق ما يدل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، وهذه قاعدة مهمة، وما ينشر من أن الله يعرف بالعقل فليس بصحيح، فالله نعرفه بالوحي لا بالعقل، ودلالة ذلك من الكتاب ومن السنة، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أمره بالعلم بالشرع، وقال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وقال جل وعلا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [يونس:109] أي: وليس العقل، إنما الذي يوحى إليك، وقال الله جل وعلا آمراً نبيه أن يقول لنا: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] أي: من العلم، كذلك الرسل لا يعرفون بالعقل؛ لأن الرسالة ليست اكتساباً ولكن هبة من الله جل وعلا، فلا يعرف الرسول إلا بالتوقيف كما قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] أي: أن الله جل وعلا هو الذي أرسلني، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وفي الصحيح: (عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: جاء رجل من بني بكر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أين ابن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا، فقال: إني سائلك ومشدد عليك، من خلق الأرض؟ قال: الله، قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال وجعل فيها ما فيها؟ قال: الله، فقال له الرجل: إني سائلك ومناشدك ومشدد عليك فلا تجدن علي في نفسك شيئاً، قال: نعم، فقال له: فبالذي خلق الأرض وخلق السماء ونصب هذه الجبال وجعل ما فيها آلله أرسلك؟ قال: نعم، فأسلم الرجل)، فما علم ذلك إلا بالوحي، فالمسألة تدور على الشرع لا على العقل، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة لا بد أن نعض عليه بالنواجذ، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإن معرفة الله ومعرفة الرسل لا تكون إلا بالوحي، وليس معنى ذلك أن نهمل العقل، بل له مكانته وله احترامه ولكن له حدود ولا يعرف الله استقلالاً، فالعقل يعلم صدق الرسول لكن ليس استقلالاً بل لا بد معه من الوحي، وقد كرم الله بني آدم على العجماوات بالعقل فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:70] وقال الله تعالى يبين مكانة العقل {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال جل وعلا: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. وأمرهم أن يتدبروا بالعقل في الملكوت العلوي والسفلي فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:6 - 8]، وقال: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19]، فالعقل محترم يتدبر في آلاء الله جل وعلا وآياته، ولا بد أن يكون موافقاً لشرع الله جل وعلا. وقد بين الله جل وعلا قيمة العقل والتدبر وذلك بالحجج العقلية التي رماها للمشركين حتى يتدبروا فيها، قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] أي: انظروا وتدبروا هل خلقتم من غير شيء؟ وهل العدم يخلق شيئاً؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فلا يمكن أن يقول عاقل: إنه خلق نفسه أو خلق غيره، ثم ارتقى إلى أعلى من ذلك فقال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:36]، وقال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. ومن الأدلة على احترام العقل والحجج العقلية: دليل التمانع، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لو تدبروا فإما أن يكون للكون إله واحد أو آلهة كثر، ولو كان آلهة كثر فكل إله سوف يخاصم الإله الآخر ويأخذ خلقه ويذهب، أو يصارع، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، فصاحب الشمس أو القمر سوف يتخاصم مع صاحب السماء حتى يتملك الكل، كما يتنازع ملوك الأرض، فإن غلب أحدهما على الآخر فالمغلوب لا يكون رباً، لأن الرب لا يكون ضعيفاً، فإن لم يظهر أحد يبتغي إلى ذي العرش سبيلاً فلابد أن يكون واحد هو المدبر وهو الخالق لهذا الكون، وهذا دليل عقلي، وهو دليل على احترام العقل؛ لكن العقل لا يمكن أن يقدم على النقل ولا على الشرع، فمرتبته الثانية بعد الشرع، وإذا قلنا: إن الله يعرف بالعقل، أو إن العقل يقدم على النقل، فسيلزم من ذلك لوازم باطلة، وأول شيء منها إهمال مهمة الرسل، والله جل وعلا ما أرسل الرسل إلا ليدللوا عليه، فإذا قلنا: عرفنا الله بالعقل فلا نحتاج إلى رسول، وهذا مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165] فأرسلهم الله ليدلوا الناس عليه، وكما أن القول بأن الله يعرف بالعقل يفضي إلى إلغاء مهمة الرسل، فإنه يفضي إلى القول بأنه لا معنى لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. ومن لوازم تقديم العقل على الشرع وأن الله يعرف بالعقل: تقديم العقل على الشرع في أحكام الفروع الفقهية وتكذيب بعض الأحاديث كحديث المسح على أعلى الخفين، فإن الأسفل هو الأولى بالمسح. وقد رد البعض حديث الذبابة الذي فيه أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر دواء، وكل ذلك من لوازم تقديم العقل على النقل، حيث قالوا: قد عرفنا الله بالعقل، وبقية الأحكام كذلك نعرفها من باب أولى بالعقل. واللازم الثالث من تقديم العقل على الشرع: التجاوز فيما يجوز لله وما لا يجوز كقولهم: إن الله لا يصح أن يكون له يد لأن اليد جارحة، وإذا قلنا: إن الله له جارحة فقد ضاهيناه بالمخلوق وشبهنا الخالق بالمخلوق، وكقولهم كذلك: لا يصلح أن يكون لله عين لأنها جارحة، وإذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، وقالوا بأن هذه تجاوزات عقلية وإبطال لهذا العقل، وليس ذلك صحيحاً بل إن العقل له رتبته بعد الشرع. فهذا الباب من أهم الأبواب في هذا الكتاب، وهو باب سياق ما يدل على وجوب معرفة الله وصفاته وأسمائه بالشرع لا بالعقل، والعقل يوافق الشرع، كما قال شيخ الإسلام: العقل الصحيح لا يخالف نصاً صريحاً صحيحاً مفهوماً.

هل الاسم هو المسمى أم هو غيره؟

هل الاسم هو المسمى أم هو غيره؟ الباب الثاني ما نخالف فيه الإمام اللالكائي وهو قوله: باب ما فسر من كتاب الله جل وعلا وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: وورد من لغة العرب- على أن الاسم هو المسمى، أي: أن الاسم والمسمى واحد، وهذا الكلام خطأ ليس بصحيح، فإجماع أهل السنة والجماعة يرد هذا الخطأ، وللعلماء في مسألة هل الاسم المسمى واحد أم لا ثلاثة أقوال، وهي مزلة أقدام، وقع فيها الكثير من أهل العلم، والمعصوم من عصمه الله، وممن زلت أقدامهم في هذا الباب الحافظ ابن حجر وابن حزم. القول الأول في هذه المسألة قول اللالكائي وتبعه على ذلك البغوي والقرطبي فقالوا: إن الاسم هو المسمى وعندهم أدلة قوية، منها قول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فإذا قلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فأنت تسبح الذات المقدسة ذات الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: اعبد ذات الله المقدسة. القول الثاني: قول ابن حزم وابن حجر وقول المعتزلة وهو أن أسماء الله غير الله، وهي أسماء مخلوقة، واستدلوا على ذلك بلغة العرب وهو أنك إذا قلت: يا محمد (م ح م د) فهذه الحروف عربية، وكذلك قولك: الله (ألف لام هاء) أو الرحمن (ألف لام راء حاء ميم نون) فهذا لفظ عربي، فاللفظ غير المسمى، وهذا كلام المعتزلة، والحافظ ابن حجر وابن حزم. أما أهل الوسطية المدققون المحققون من أهل السنة والجماعة فقالوا: كلمة الاسم هو المسمى تحتمل حق أو تحتمل باطل، فالاسم هو علم على ذات الله جل وعلا، تارة يراد به الذات الإلهية المقدسة، وتارة يراد به الحروف واللفظ العربي، فيراد به الذات المقدسة إذا أمرنا كقول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] أي: سبح باسم ذات الله جل وعلا، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: اسجد واركع واستغفر وتضرع وتذلل للذات الإلهية المقدسة لا للفظ والاسم، أما إذا قلت: الرحمن اسم عربي فهذا يراد به الحروف واللفظ، وإذا قلت: الكريم اسم من الأسماء العربية، فيقصد به الحروف واللفظ كذلك. فالمحققون من أهل السنة والجماعة قالوا: يراد بالاسم الذات العلية وتارة يراد به اللفظ، وكل شيء يوضع في موقعه، فإذا أريد به الذات العلية يكون بالذات العلية المقدسة، وإذا أريد به الألفاظ والحروف يكون باللفظ. فاللفظ العربي (الرحمن) هو بالحروف العربية: (الألف واللام والراء والحاء والميم والنون)، لا يقصد بها الذات العلية، فقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] أي: الذات الإلهية، ولو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فالمقصود بذلك الذات الإلهية، وإذا أطلق الاسم فإنه يدل على الذات العلية المقدسة. وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2] أي: أن الذات الإلهية علمت القرآن. إذاً: قول اللالكائي بأن الاسم هو المسمى فيه شيء من الحق ولكنه ليس صحيحاً؛ لأنه قد يراد بالاسم غير المسمى، وإذا قلنا بقول الحافظ ابن حجر وهو أن أسماء الله غير الله أو أنها أسماء مخلوقة على الإطلاق فيلزم من ذلك لوازم باطلة، وهي أن الله أمرنا أن لا نشرك به شيئاً فقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، فيكون قد أمرنا أن نعبد غيره وهو الاسم المخلوق، وقد أمرنا الله إذا ذبحنا ذبيحة ألا نأكل منها إلا بعد أن نسمي الله فقال سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَِ} [الأنعام:121] فإذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم كأنك سميت غير الله، وهو اللفظ المخلوق، وأكلت ذبيحة مسمى عليها غير الله جل وعلا. ومن اللوازم الباطلة: أن الله جل وعلا أمرنا أن لا نقسم بغيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القسم بغير الله شرك، فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فإذا قلنا: إن أسماء الله غير الله يلزم منه أن من يقسم بالكريم أو العليم أو الرحمن فقد أشرك؛ لأنه أقسم بغير الله جل وعلا! وقولنا: إن الحافظ أخطأ ليس فيه ضير، فمن الذي له الحسنات ولا يخطئ قط، والمعصوم هو من عصمه الله، والحافظ من أساطين العلم ومن أهل السنة والجماعة ولكن أبى الله أن يعصم أحداً إلا رسوله، وما من أحد إلا ويصيب ويخطئ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا هو صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ مالك والشافعي وأبو حنيفة وهم جبال بالنسبة للحافظ ابن حجر، فأخطئوا ورد عليهم خطؤهم، ونحن لا ننتقص من قدر الرجل لكن نقول: لا معصوم إلا من عصمه الله جل وعلا وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

أدلة أن القرآن كلام الله

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أدلة أن القرآن كلام الله صفة الكلام لله عز وجل ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهي صفة ذاتية، والنقل مقدم على العقل في الاستدلال، والله سبحانه وتعالى يتكلم بحرف مفهوم، وصوت مسموع، وكلماته لا تحصى ولا تفنى، ومنها: كلمات كونية، وكلمات شرعية، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين.

أهمية معرفة الأصل الصحيح في الاعتقاد

أهمية معرفة الأصل الصحيح في الاعتقاد إذا كان عندك الأصل الصحيح تستطيع أن ترد على الشبهات، ولا تدخل عليك الشبهة، حتى وإن لم تعرف كيف ترد عليها فالشبهة لا تشوش عليك، وأعبد الناس لله جل وعلا أعلمهم به، فيحب الله جل وعلا، ويتقرب إليه، ويجب أن يعرف صفاته، وتجد أنه إذا أحب الرجل أحداً في الله أتى بكل محاسنه، فكيف بكم وأنتم تحبون الله الكبير الكريم؟! نسأل الله أن يميتنا على الإسلام ويجعلنا جميعاً ننظر إلى وجهه الكريم في الآخرة، فلا بد من معرفة صفات الله جل وعلا، فإنَّ أحب عباد الله إلى الله أذلهم له، وأذلهم له جل وعلا أعبدهم، وأعبدهم: أعرفهم به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أعلمكم بالله جل وعلا وأتقاكم)، وكلما كان المرء أعلم بربه كان أتقى له، و (إنما العلم الخشية)، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلم علمان: علم بالله وعلم بأمر الله جل وعلا.

صفات الله سبحانه وتعالى

صفات الله سبحانه وتعالى صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية. والصفات الثبوتية تنقسم إلى أقسام أيضاً: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية. والفرق بين الذاتية وبين الفعلية: أنَّ الصفات الذاتية لا تنفك عن الله جعل وعلا، يعني: هي أزلية أبدية، لا تنفك عن الله وليست متجددة، بل هي معه لم تزل ولا تزال، مثل الحياة، فحياة الله أزلية أبدية لا تنفك عن الله لحظة من اللحظات، وكذلك قدرة الله، وعزة الله وكبرياؤه، لا تنفك عن الله جل وعلا. أما الصفات الفعلية فهي التي ترتبط بالمشيئة، وهي متجددة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]. وأما الصفات الخبرية فنسميها عندنا أبعاض وأجزاء، لكن هي من صفات الله مثل القدم والساق واليد، وحاشا لله أن يكون له ذلك مثلنا.

بطلان المقولة المشهورة (الله نعرفه بالعقل)

بطلان المقولة المشهورة (الله نعرفه بالعقل) هناك مقولة مشهورة جداً تقال: (الله نعرفه بالعقل)، وهي مقولة ليست صحيحة، وإنما نعرفه بالوحي، والدليل على ذلك: قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. واللوازم الباطلة التي تستلزم مقولة (الله نعرفه بالعقل) ما يلي: أولاً: إنكار الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإذا قلت: الله نعرفه بالعقل، فلست محتاجاً إلى رسول يبعث إليك ليعرفك بربك جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. ثانياً: تقديم العقل على النقل، فعندما تقول: عرفت ربي بعقلي، وهذا في الأصول، فأي حكم من الفروع يأتيك ستقول: هذا عقلي لا يستسيغه! فإذا كان الله جل وعلا أعرفه بعقلي، فبقية الأحكام كلها لا أعرفها، وتقول لي: الأصل في العبادات التوقيف، وهذا الكلام ليس بصحيح، لأنّ ما قبله العقل أخذنا منه، وما لم يقبله العقل يرد؛ لأن الله قد عرفته بعقلي، وهذا لازم باطل جداً. ثالثاً: يقول: أنا عرفت بعقلي أن ربي له عيناً، وهذه العين صفتها كذا، واليد كذا، والآخر يأتي ويقول: عرفت بعقلي أنه ليس له عين بحال من الأحوال، ولا يسمع أيضاً، وكلهم يصف الله بعقله! رابعاً: أن الله جل وعلا لا يعذب يوم القيامة على العقل، وعلى التحسين والتقبيح، وعلى ميثاق الفطرة، فلا يقال: أنت عندك عقل عرفت به أن الله واحد، وعبادة الله جل وعلا لابد أن تكون لواحد، ولو صرفتها لغير الواحد تكون مشركاً، فلابد أن تعذب، هذا باطل لصريح قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وبهذه الشبهة فتحوا الباب على مصراعيه للمعتزلة وغيرهم، من الذين يقدمون عقولهم على شرع الله ودين الله جل وعلا.

ثبوت صفة الكلام لله عز وجل في الكتاب والسنة والإجماع

ثبوت صفة الكلام لله عز وجل في الكتاب والسنة والإجماع صفة الكلام صفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وصفة الكلام لله جل وعلا صفة كمال، والعقل يدل على أن القرآن كلام الله. والصفات الخبرية لا يدخل فيها العقل، فكلام الله صفة ثابتة لله جل وعلا أزلية لا يزال الله جل وعلا ولم يزل متصفاً بها، فالأصل فيها: أنها ذاتية، قديمة النوع حادثة الأفراد، لا تنفك عن الله جل وعلا، وهي صفة كمال وجلال، فالأخرس ناقص، والمتكلم كامل، فإن كان في البشر المتكلم كامل، فالله جل وعلا أحق بهذا الكمال، وثبوت كلام الله جل وعلا ثابت من الكتاب ومن السنة والإجماع والعقل. الكتاب: قال الله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]. وقد دلت الأدلة الكثيرة على أن الله قد تكلم مع كثير من خلقه، منهم: أولاً: الملائكة. ثانياً: الرسل. ثالثاً: الجمادات من خلقه تكلم الله معها. رابعاً: إبليس اللعين. خامساً: تكلم الله مع من لم يفهم ولا ينطق، لكن الله جل وعلا أفهمه وجعله ينطق، وهاك الأدلة من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29]، وقال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، يبقى إذاً الملائكة سمعت كلام الله جل وعلا، وأيضاً قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً -جعلنا الله وإياكم ممن يحبهم الله جل وعلا- نادى من السماء -بصوت مسموع- أي جبريل! إني أحب فلاناً، فيحبه جبريل)، إلى آخر الحديث. وأيضاً في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوم القيامة يتكلم بصوته، فيسمعه من بعد كما يسمعه من قرب). وأيضاً تكلم الله جل وعلا مع البشر، وهذا شرف عظيم للبشر، فقد تكلم الله مع آدم وحواء، تكلم مع آدم كما قال: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، فتكلم معه انفراداً، وتكلم معه ومع زوجه، قال الله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22]. فتكلم الله مع آدم وتكلم مع حواء، فسمعت حواء صوت الحق جل وعلا، وسوف يمتعنا الله بصوته يوم القيامة. وتكلم الله جل وعلا مع بعض الرسل كلاماً غير الوحي، وهو موسى عليه السلام، قال الله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقال جل وعلا {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فقد تكلم الله جل وعلا مع موسى. وتكلم الله مع أحب الخلق له وإليه وأكرم الخلق عليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإسراء: (لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وراجع ربه فقال له موسى: ارجع؛ فإن قومك لا يستطيعون، فراجع الله جل وعلا حتى جعلها خمس صلوات وبالأجر خمسين صلاة) فكلمه الله جل وعلا، وسمع محمد صلى الله عليه وسلم صوت الحق جل وعلا. أيضاً: كلم الله جل وعلا الجمادات، والجمادات خلقها الله لما خلق السماء في يومين، وأوحى فيها أمرها، وخلق الأرض وسواها في أربعة أيام سواء للسائلين، قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وتكلم الله جل وعلا مع القلم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فسمع القلم من الله، وخط وكتب كل شيء إلى يوم القيامة. أيضاً: تكلم الله جل وعلا مع الجنة ومع النار، قال الله تعالى في سورة (ق) للنار: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، وفي الصحيحين: (اختصمت الجنة والنار إلى الله جل وعلا، فقال الله للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (واختصمت الجنة والنار أيضاً أمام الله جل وعلا، فأذن الله للنار بنفسين: نفس في الصيف وهو أشد ما تجدونه من الحر، ونفس في الشتاء وهو أشد ما تجدون من زمهرير). وتكلم الله مع الجنة مع أنه بانيها، قال لها: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء). وتكلم الله مع اللعين إبليس، قال الله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:14 - 15]، وأيضاً قال الله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:13]، فهذا إثبات واضح جلي بنص قطعي متواتر على أن الله تكلم مع مخلوقاته، وأن الله جل وعلا يسمع من يشاء بصوته جل وعلا. ومن الطرائف، قيل: إنّ موسى عليه السلام لما سمع قول الحق جل وعلا عاف صفات البشر، ولم يُردْ أن يسمع أحداً لما سمع صوت الحق جل وعلا، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] فسمع كلام الله جل وعلا، فعاف كلام البشر، أسمعنا الله وإياكم صوته في الجنة بإذن الله. وتكلم الله جل وعلا مع أهل النار {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وتكلم مع أهل الجنة كما في الصحيح عندما اطلع على أهل الجنة وقالوا له: (لبيك ربنا وسعديك والخير بيديك، قال: هل رضيتم؟ قالوا: وما لنا لا نرضى، لقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين)، والشاهد: فقال الله لهم: (أحل عليكم رضاي فلا أسخط عليكم أبداً)، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم. فهذا إثبات من الكتاب والسنة على أن الله جل وعلا متكلم، يتكلم وقت ما شاء كيفما شاء.

معنى قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله)

معنى قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله) إن أهل البدع يقولون: أنتم تزعمون أن الله يتكلم مع أهل النار، والله جل وعلا ينفي ذلك، قال الله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]. والردَّ عليهم أنه لا تعارض بين كلام الله؛ لأن الكلام: عام وخاص، فالكلام العام قول الله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فكلمهم، أما الكلام الخاص فهو: كلام الرحمة والتلطف والرأفة، وهذا لا يكون إلا للمؤمنين كما قال الله في الحديث القدسي: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً). إذاً: الله متكلم، وصفة الكلام ثابتة لله جل وعلا من الكتاب والسنة، فقد أجمع الصحابة والتابعون وتابعو التابعين على أن الله جل وعلا متكلم وقت ما شاء كيفما شاء، كما سنبين في أمر القرآن، فالإجماع منعقد على أن الله جل وعلا يتكلم وقت ما شاء بما شاء كيفما شاء. والعقل يثبت هذه الصفة أيضاً لله جل وعلا، حيث إن الخرس نقص عند العقلاء، ويقولون: الذي لا يعرف كيف يعبر عما في نفسه ناقص، والشاهد على ذلك: قول الله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والذي يستطيع أن يتكلم ويعبر هذه صفة كمال، فإن كان المتكلم كاملاً، وصفناه بصفة كمال، فالله يتصف بصفة الكمال هذه من باب أولى؛ لأن الكلام كمال وعدم الكلام نقص، والله يتنزه عن كل نقص، ويتصف بكل كمال، وقد بيّن الله جل وعلا أن الكلام صفة كمال، وأن عدم الكلام صفة نقص، ولنا شواهد قرآنية على ذلك: قال الله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89]، وفي سورة الأعراف قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، فبين أن هذا نقص، فلا يمكن أن تعبد آلهة لا تسمع ولا تنظر ولا تتكلم؛ لأن عدم الكلام نقص، فالله جل وعلا أولى أن يتصف بالكمال. وقال تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]. والغرض المقصود: أننا نثبت بالعقل لله صفة الكلام؛ لأنها من باب الكمال، والله يتصف بكل كمال.

كلام الله بحرف وصوت

كلام الله بحرف وصوت الله جل وعلا يتكلم بحرف، ويتكلم بصوت مسموع، وكلامه كلام كوني وكلام شرعي كما سنبين، دليل كلام الله جل وعلا بحرف قول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، وقوله: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وقال الله تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، وقال جل وعلا: {طه} [طه:1] الطاء والهاء (طه) من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المشهور عند العامة. ويتكلم الله بصوت يسمع، ودليل ذلك: قال الله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، والنداء بالهمز دون سماع الصوت، والنداء لابد أن يكون بصوت مسموع، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104]، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:52] نادى موسى عليه السلام، فالنداء لابد أن يكون بصوت. إذاً: يتكلم الله بحرف مفهوم وبصوت مسموع، وكلام الله جل وعلا لا يحصى ولا يفنى، وهذه من أدلة أنها صفة من صفات الكمال كما سنبين، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، فالله جل وعلا كلماته لا تفنى ولا تنفد؛ لأنها صفة من صفات الله، باقية ببقاء الله جل وعلا. ومن صفات كلام الله جل وعلا أن كلمات الله تنقسم إلى قسمين: كلمات كونية، وكلمات شرعية. الكلمات الكونية: التي منها الخلق والإعطاء والمنع والتعذيب والرحمة، والكلمات الشرعية: التي فيها الأوامر والنواهي، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، فقوله: ((أَنْ نَقُولَ لَهُ))، الكلمة كلمة كونية منها الخلق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، فالحفظ والكلأ كلمتان كونيتان، يعني: أعوذ بكلمات الله من كل شيطان رجيم، وأن يحفظني من كل سوء، ويحفظني من كل هم، فالحفظ صفة من صفات الربوبية فهو كلمة كونية. أما الكلمات الشرعية كقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، فكل ما تجد من أمر ونهي كلمات شرعية، وكل ما تجد من إعطاء، ومنع، وإحياء، وإماتة، وحفظ، وكلأ، كلمات كونية تتصل بربوبية الله جل وعلا. ولو جاءنا بعض المبتدعة وقال: أنتم الآن شبهتم الله بخلقه وقلتم هو متكلم، فهو يشبه المخلوقين. فإن الرد عليهم أن نقول: هذا لازم باطل، ولا يمكن أن نقبله، ولو قلنا: الله غير متكلم ووافقنا أهل البدع، وقلنا: الله لا يمكن أن يتصف بالكلام، فإنه لا يوجد خلق؛ لأن الله خلق بالكلمة فقال: ((كُنْ فَيَكُونُ)) أي إذا قلتم: أن الله غير متكلم فلا خلق موجود، لكن الخلق موجود، ولو قلنا بهذه الشبهة فلا يوجد رسل؛ لأن الرسل ما أرسلوا إلا بوحي من الله، يعني: بكلام من الله جل وعلا، فيلزم المعتزلة والجهمية أن الله جل وعلا لم يخلق الخلق؛ لكنه خلق الخلق بكلمة (كن)، ويلزم من قولهم أن الله جل وعلا لم يرسل الرسل؛ لكن الله أرسلهم بوحي وبكلام منه جل وعلا.

صفة الكلام ذاتية

صفة الكلام ذاتية صفة الكلام ثابتة لله عز وجل وهي ذاتية، أي: أن الأصل فيها: أنها ذاتية أزلية حادثة الأفراد، يعني: متجددة، فهي ثابتة من الأزل قبل أن يخلق الخلق.

القرآن كلام الله

القرآن كلام الله القرآن كلام الله جل وعلا، والقرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قرآناً، أو قرأ يقرأ قراءةً. وفي اللغة: قرآن مصدر للقارئ، يعني: قرأ يقرأ قرآناً، لكن الزمخشري قال: ثم بعد ذلك خصت بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. واصطلاحاً: هو كلام الله المتعبد بتلاوته المعجز، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. (كلام الله) يعني: تكلم به. (المتعبد بتلاوته) يتميز بهذه الصفة السنة والحديث القدسي؛ لأن القرآن هو المتعبد بتلاوته، ولا بد في الصلاة أن تقرأ القرآن. (المعجِز) أي: معجزة، أعجز الله كل من سمع هذا القرآن أن يأتي بعشر سور، أو بسورة واحدة، أو بآية، وما استطاع أحد أن يأتي بآية. (المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]. فالقرآن كلام الله تكلم به وسمعه جبريل، فلما سمعه من الله جل وعلا نزل به على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلم الله بهذا القرآن، وعندنا أدلة من الكتاب والسنة أيضاً والإجماع.

الأدلة على أن القرآن كلام الله

الأدلة على أن القرآن كلام الله أولاً: الاستدلال الصريح، قال الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] أي: القرآن، وقال جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وقال جل وعلا: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75] وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]. ووجه الشاهد من الآيات إضافة الكلام إلى الله جل وعلا والمضاف إلى الله صفة من صفات الله، حيث إن المضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بالله بذاتها، ومعانٍ ليست أعياناً، وإضافة الأعيان القائمة بذاتها إلى الله إضافة تشريف، مثل عيسى، عينه قائمة بذاته، وإذا أضيفت إلى الله جل وعلا أضيفت للتشريف، فتقول: عيسى روح الله، والكعبة بيت الله وإضافته لله إضافة تشريف، وناقة الله إضافة تشريف، أما المعاني التي ليست أعياناً قائمة بذاتها فإضافتها إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، تقول: كلام الله، يعني: صفة من صفات الله، أي: أن الله تكلم، (رحمة الله، عزة الله، قدرة الله، كرم الله)، هذا معنى من المعاني، فالمعنى الذي يضاف إلى الله إضافته إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، وهذا أول دليل بالتصريح. ثانياً: الاستنباط: الآية الأولى: قال الله تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28]، قال ابن عباس: غير مخلوق، بنص تفسير ابن عباس؛ لأن تفسير القرآن إما بالقرآن أو بالسنة أو بقول الصحابي، وكفاكم ترجمان القرآن. الآية الثانية: قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، عطف الخلق على الأمر، والأصل في العطف: المغايرة، والخلق غير الأمر، بل الأمر منه الخلق؛ لأن الله جل وعلا إذا أراد شيئاً قال له: ((كُنْ فَيَكُونُ))، قال غير واحد من السلف: أما الأمر فهو كلامه، وأما الخلق فخلقه جل وعلا ناتج عن الأمر، مثل مفعولاته. الآية الثالثة: قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، قالوا: هذا دليل على أن القرآن صفة من صفات الله، والشاهد: قوله تعالى: ((مَا نَفِدَتْ)) فكل المخلوقات ستفنى، إلا صفات الله جل وعلا، فصفات الله لا تفنى، ولا تزول الصفة ببقاء الله جل وعلا. الآية الأخيرة في الاستنباط: قال الله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] لو كان الكلام مخلوقاً، وكل المخلوقات قد ماتت وانتهت، فالقائل: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)) حيُّ لا يموت فلا يكون الكلام إلا صفة من صفات الله جل وعلا. ولذلك بُهت المعتزلي أبو الهذيل العلاف لمّا جاءه رجل وسأله: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق، قال: هو مخلوق؟ قال: نعم، قال: إذاً: يموت أم يخلد؟ قال: يموت، قال: وكيف موته؟ قال: يموت بموت من يتلوه، يعني: الذي يتلوه إذا مات مات القرآن، قال: نعم، أرأيت كل الدنيا قد زالت ومات كل من يتلو هذا القرآن ولم يبق إلا الواحد القهار فقال: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ))؟ فبهت المعتزلي، وما استطاع أن يتكلم، إذا قلتم: أنه سيموت بموت تاليه، فكل الذين يتلون القرآن ماتوا، فمن يردد: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؟ فهذه الآيات تثبت أن القرآن كلام الله جل وعلا، والله تكلم بهذا القرآن. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومنه القرآن، فالقرآن مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر المصنف هنا أربعة أحاديث أسانيدها ضعيفة، قال: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة، وأما القديم فهو خبر عن الله جل وعلا، ونحن فرقنا بين الخبر والصفة، قلنا: الصفة من صفات الله جل وعلا كلها كمال، ويدعى بها، وتستطيع أن تتوسل إلى الله بصفة من صفات الله، فتقول: اللهم إني أسألك برحمتك أن ترحمني، لكن الخبر عن الله لا يسأل به، فلا تقول: يا شيء أعطني، يا قديم ارزقني، فالقديم خبر عن الله جل وعلا وليس صفة للرب. فالمعتزلة هم الذين وصفوا الله بالقدم، وعندنا ما يغنينا، فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، ثم أورد حديث آدم وموسى في الاحتجاج، بعدما احتج موسى على آدم قال: (أنت الذي أخرجتنا من الجنة! فقال: أنت الذي خط الله لك التوراة بيده، ثم قال: أنا أقدم أم الذكر؟ قال: الذكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحاجَّ آدم موسى)، قال له: أنا الذي خلقت أولاً أم كلام الله جل وعلا هو الأول؟ قال: كلام الله جل وعلا هو الأول، قال: إذاً: لا تحاسبني على شيء قد تكلم الله به قبل أن يخلقني. فالشاهد من ذلك: أن الله تكلم من القدم بما يحدث في آدم عليه السلام. وذكر المصنف حديثاً ضعيفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قرأ الله جل وعلا سورة يس طه قبل أن يخلق آدم بألفي عام)، وهذا الحديث أسانيده كلها ضعيفة، لكن نستند به على أن الله جل وعلا قد تكلم في القدم.

إجماع الصحابة على أن القرآن غير مخلوق

إجماع الصحابة على أن القرآن غير مخلوق قال المصنف: (ما روي من إجماع الصحابة على أن القرآن غير مخلوق) ورد عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعائشة أن القرآن كلام الله تكلم به وليس بمخلوق. عن أبي بكر أنه راهن قريشاً على أن الروم ستغلب، فلما غلبت الروم قالوا: من أين أتيت بهذا؟ أمنك أم من صاحبك؟ قال: لا مني ولا من صاحبي، بل هو من كلام الله جل وعلا، ثم تلا عليهم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]. أيضاً: عمر بن الخطاب سألوه عن القرآن فقال: هو كلام الله. أما عثمان فقال: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله، يعني: عثمان يعتقد أن القرآن كلام الله، ووجه الشاهد من كلامه قوله: من كلام الله، حيث أضاف الكلام إلى الله جل وعلا، وإذا أضيف الكلام إلى الله فهو إضافة صفة إلى موصوف. وابن مسعود قال: من أراد أن يختبر حبه لله جل وعلا فلينظر حبه لكلام الله جل وعلا. وعلي بن أبي طالب لما حاجوه في أمر التكفير قال: كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق، بل هو كلام الله جل وعلا. ولما كان ابن عباس يصلي على رجل في جنازة سمع رجلاً يقول: اللهم رب القرآن ارحم هذا الميت، فأخذه بعد الجنازة، وقال: القرآن ليس بمربوب، القرآن من الله جل وعلا منه بدأ وإليه يعود وهو منه؛ لأنه صفة من صفاته جل وعلا. وعائشة قالت: برأني الله من فوق سبع سماوات تكلم الله فيّ، هكذا قالت، فأثبتت كلام الله جل وعلا. وأيضاً التابعون وتابعو التابعين يقولون: القرآن كلام الله، وليس بمخلوق.

الأسئلة

الأسئلة القرآن كلام الله جل وعلا، والقرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قرآناً، أو قرأ يقرأ قراءةً. وفي اللغة: قرآن مصدر للقارئ، يعني: قرأ يقرأ قرآناً، لكن الزمخشري قال: ثم بعد ذلك خصت بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. واصطلاحاً: هو كلام الله المتعبد بتلاوته المعجز، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. (كلام الله) يعني: تكلم به. (المتعبد بتلاوته) يتميز بهذه الصفة السنة والحديث القدسي؛ لأن القرآن هو المتعبد بتلاوته، ولا بد في الصلاة أن تقرأ القرآن. (المعجِز) أي: معجزة، أعجز الله كل من سمع هذا القرآن أن يأتي بعشر سور، أو بسورة واحدة، أو بآية، وما استطاع أحد أن يأتي بآية. (المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]. فالقرآن كلام الله تكلم به وسمعه جبريل، فلما سمعه من الله جل وعلا نزل به على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلم الله بهذا القرآن، وعندنا أدلة من الكتاب والسنة أيضاً والإجماع.

أي صفة فعلية هي ذاتية فعلية

أي صفة فعلية هي ذاتية فعلية Q ما الفرق بين الصفة الفعلية والذاتية؟ A القاعدة تقول: (أي صفة فعلية من صفات الفعل هي ذاتية فعلية)، مثل الضحك؛ لأن الله جل وعلا يضحك وقت ما شاء، والاستواء كذلك نفس الأمر، لكن صفة الاستواء فعلية ذاتية، والنزول ذاتية فعلية، والمحبة ذاتية فعلية. وضابط المسألة: أن كل صفات الأفعال قديمة النوع حادثة الأفراد، وليس هناك شيءٌ حادث فقط؛ لأنك لو قلت: حادثة فقط، فإنَّ أهل البدع سيحتجون بأن أول الشيء نقص، لأن الذي لا يتكلم، أي: كان أخرساً ثم بعد ذلك يتكلم يكون كالناقص وبعد ذلك كمل، حاشا لله من ذلك. ولو قلنا بالتجدد وليس هناك أصل لها، فإنه يصير حادثاً، ولم يكن الله جل وعلا ثم كان، وحاشا لله من كلام المبتدعة.

تفسير قول الله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا)

تفسير قول الله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) Q ما معنى قوله تعالى: {تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف:143]؟ A يعني: كشف الحجاب فاندك الجبل حتى يرى موسى ربه، وما استطاع الجبل الصمود أمام نور الله، فصار دكاً وأصبح كثيباً مهيلاً، وصعق موسى عليه السلام؛ ولذلك العلماء قالوا: إن الله جل وعلا سيعطي الإنسان يوم القيامة بصراً حديداً، قال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: يكون معه يوم القيامة غير البصر الذي كان في الدنيا حتى يستطيع أن يرى الله جل وعلا. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.

نصيحة في إصلاح القلوب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - نصيحة في إصلاح القلوب صلاح القلب واستقامته هو الأساس في صلاح الفرد أولاً ثم المجتمع ثانياً، فلا يستقيم الإنسان ولا تصلح أمور حياته وتصرفاته إلا إذا صلح قلبه، ومقاييس الناس عند الله تعالى هي القلوب، وليست الأعمال والأشكال الظاهرة، فمتى ما صلحت القلوب أصلح الله الفرد والمجتمع.

أهمية صلاح القلوب

أهمية صلاح القلوب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الأمة لا يمكن أن ترتفع عن هذه الكبوة العظيمة الشديدة التي هي فيها إلا بقلوب صادقة وأعمال صالحة يتقبلها الله جل وعلا. لحمة صغيرة ومضغة ضئيلة تدور عليها سعادة الأمة، بل سعادة البشر أجمعين، هذه المضغة إذا صلحت صلح كل شيء، وإذا فسدت فسد كل شيء، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فالقلب محل السعادة أو محل الدمار والشقاء على العبد، فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف القلب بأنه إذا صلح صلح الجسد كله؛ لأن القلب ملك والأعضاء جنود، وإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا زهد الملك وكان أميناً زهدت الرعية وكانت أمينة. دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه على عمر بن الخطاب وفي حجره أموال كسرى وهو يبكي بكاء شديداً، فقال علي: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: قوم أدوا هذه الكنوز والله إنهم لأمناء، فقال: يا أمير المؤمنين زهدت فزهدوا، وكنت أميناً فصاروا أمناء. فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا سرق الملك سرقت الرعية، وإذا زنى الملك زنت الرعية، ومن قبل قالوا: إن كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص القلب له مكانة عظيمة جداً جليلة يبينها قول الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25].

القلوب مقاييس الناس عند الله عز وجل

القلوب مقاييس الناس عند الله عز وجل مقاييس الناس عند رب الناس القلوب، ومقاييس الناس عند أراذل الناس وأغرارهم وسفهائهم الوجاهة والسلطان والمال. (جلس النبي صلى الله عليه وسلم وسط أصحابه فمر عليهم رجل مليء غني وسيم قسيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترون هذا فيكم؟ -هذا المليء الغني ذو السلطان والوجاهة- فقالوا رضوان الله عليهم: هذا حري به إذا تكلم أن يسمع) وأربأ بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيسوا الناس بهذا المقياس، لكن تقدير الكلام: أن الصحابة الكرام يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عند الناس حري به إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح، وإذا شفع أن يشفع. ثم مر بعد ذلك رجل رث الثياب، بشع الهيئة، ضعيف، نحيف، حقير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا ترون هذا فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! هذا حري به إذا تكلم أن لا يسمع، وإذا نكح أن لا ينكح، وإذا شفع أن لا يشفع)، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً لهم ليصححوا للأمة أن مقياس الناس وموازين الناس ومعايير الناس عند رب الناس غير مقاييس الناس عند الناس، قال عن هذا الرجل الذي هو رث الثياب، بشع الهيئة النحيف الضعيف الفقير: (هذا عند الله بملئ الأرض من هذا). فمقياس الناس عند الناس المال، ويقولون: معك درهم تساوي درهماً، إن كان معك مال تكلم فيسمع لك، إن نكحت ينكح لك، يعني تقبل إن نكحت، وإن تقدمت تقبل، وإن شفعت تشفع، ويؤخذ بكلامك؛ لأنك من ذوي الوجاهات، ومن ذوي الرياسات، ومن ذوي الأموال. أما مقياس الناس عند رب الناس: فهو طهارة القلوب، نقاء القلوب، فهذه التي عزت بحق في هذه الأمة، وفي هذه الآونة خصوصاً، فقلب واحد مخلص لنصرة الدين أقسم بالله غير حانث وأقسم على قسمي قسماً آخر لقلب واحد صادق مخلص لنصرة الدين، مخلص لوجه الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو يجعل الله النصر على يديه، قال الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] بما في قلوبكم. {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمحص الناس بالقلوب، وأمره أن يتكلم مع الأسرى الذين في أيديهم فقال: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70]. فليست المقاييس بالأعمال ولا بالمظاهر.

صلاح القلوب سبب لاستجابة الدعاء

صلاح القلوب سبب لاستجابة الدعاء جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر) أي ضعيف نحيف حقير رث الثياب، لكنه تقي نقي، قلبه طاهر، معمر بحب الله جل وعلا (مدفوع بالأبواب) أي: دفعه أغرار الناس وسفهاؤهم وأراذلهم، الذين يقيسون الناس بالأموال والوجاهات (لو أقسم على الله لأبره) أي: لاستحى الله جل وعلا أن يرده خائباً إذا رفع يديه، وإذا قال: يا رب، قال الله: لبيك لبيك، كما ورد ذلك عن البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه كان رثاً ضعيفاً فقيراً وهو من الصحابة الكرام، ولما كانت المعركة قالوا له: يا براء قد دولت علينا فادع الله جل وعلا أن يولينا ظهورهم، فقام إلى الله جل وعلا ورفع يديه وقال: (اللهم بحق لا إله إلا الله -أو قال كلمة نحوها- اللهم ولنا ظهورهم، اللهم واجعلني أول شهيد فيهم، فدخل المعركة فكان رضي الله عنه وأرضاه أول الشهداء)، فنصر الله جل وعلا الأمة بدعائه، وولاهم ظهور الكافرين بدعائه؛ لأن الله علم طهارة ونقاء قلبه وصدقه وإخلاصه لنصرة الدين.

صلاح القلوب سبب للسبق في الآخرة ودخول الجنة

صلاح القلوب سبب للسبق في الآخرة ودخول الجنة قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] أي بما في قلوبكم. هناك أمور تبين أن أعمال القلوب تسفر للناس عن أعمال تسبق أعمال الجوارح بمراحل، يبيت الرجل نائماً على سريره هادئاً، ساكناً، لا يقوم الليل، ولا يستغفر بالأسحار، ولا يصوم النهار، لكنه متقدم عند الله جل وعلا بنقاء قلبه وطهارة قلبه، ففي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فاشرأبت أعناق الصحابة على من يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو بين أظهرهم يمشي على رجليه أمامهم، فخرج الرجل، فجاء في اليوم الثاني والثالث، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة فخرج نفس الرجل) فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص يريد أن يكشف عن أعماله، فقال: بيني وبين أبي ملاحاة، وأردت المبيت عندك، قال: أهلاً، فأكرمه وبات عنده، فلما أرخى الليل سدوله قام عبد الله بن عمرو يترقب هذا الرجل، هل يطيل ليله بالقيام تعبداً لله؟ فما وجده قائماً، قال: لعله في ظمأ الهواجر يصوم النهار، وصوم النهار لا عدل له، فلم يجد الرجل صائماً! فتعجب عبد الله بن عمرو وقال: والله ما كان بيني وبين أبي ملاحاة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرجت أنت، فأردت أن أرى عبادتك فما رأيت شيئاً يتطلع إليه، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، ولكني لا أبيت ليلة وأنا أحمل لأحد في قلبي شيئاً، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هذه التي لا نقدر عليها)، انظروا إلى نقاء القلب وطهارته مع قلة النافلة من الصيام والصلاة، ومع قلة الصدقة، ومع قلة سائر العبادات غير المفروضة، فجعله الله بذلك مقدماً على أقرانه من الصحابة، بل يشهد له وهو حي يرزق بين أظهرهم بالجنة؛ لطهارة قلبه. ما أعظم طهارة القلب! وما أحوجنا إلى طهارة القلب! وما أعظم الصدق والإخلاص واليقين مع الله جل وعلا!

صلاح القلوب سبب لقبول التوبة وتكفير الذنوب

صلاح القلوب سبب لقبول التوبة وتكفير الذنوب أعجب من ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس، وهو بقتل نفس واحدة كفيل بأن يقتص منه فيقتل، أو يعذب في نار جهنم كما قال ابن عباس: (لا توبة لقاتل)، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، مفهوم المخالفة: أن من أصاب دماً حراماً لم يجد فسحة في دينه، يعني: هو في الآخرة من الخسران بمكان، وهذا قتل مائة نفس، ومع ذلك كشف الله عن قلبه فوجده صادقاً تائباً راجياً رحمة ربه جل وعلا، نقياً طاهر القلب، فمسح الله له كل هذه الأدران والجبال من المعاصي بعمل صغير يسير، هذا العمل هو أنه سأل عالماً: (هل لي من توبة؟ قال: نعم لك توبة، اذهب إلى أرض كذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، فذهب الرجل فمات قبل أن يصل إلى هذه الأرض، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قالت ملائكة العذاب: استحق النار لقتله مائة نفس ولم يعمل خيراً قط، فقالت ملائكة الرحمة: تاب إلى ربه وأناب) فالله تعالى ينظر إلى القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، فالأصل أعمال القلوب وأعمال الجوارح تكون تبعاً، فالله تعالى نظر إلى قلب هذا الرجل فوجده تائباً صادقاً خالصاً نقياً لله جل وعلا. (فأوصى إلى أرض التوبة أن تقترب، وإلى أرض المعصية أن تبتعد، ثم أمر ملكاً يأتيهم على صورة رجل ليحكم بينهم ويحل الإشكال، فقال لهم: قيسوا بينه وبين الأرض التي سار إليها، فإن كان أقرب إلى أرض التوبة فهو من أهل التوبة، وإن كان أقرب إلى أرض المعصية فهو من أهل المعصية). هذه القصص لا أذكرها لنتسلى بها، بل لأبين لكم ما نحن فيه من عطب، وأن الأمة لا يمكن أن ترتفع من كبوتها إلا بنقاء هذه القلوب وبالصدق والإخلاص مع الله جل وعلا؛ لأن محل الكرامة والنصرة القلوب، والله جل وعلا ينظر إلى القلوب، فإن وجد قلباً صادقاً طاهراً قبل هذا العبد الذي هو من أصحاب القلوب الطاهرة. وأعجب من هذه القصة بمراحل ما في الصحيحين من قصة امرأة من بني إسرائيل كانت تزني، فرأت كلباً يلهث من شدة العطش، فسقته بموقها، فغفر الله لها؛ لأن الله علم نقاء قلبها، يقول الله جل وعلا: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70]، وقال عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] أي: بما في قلوبكم. فالصالح التقي طاهر القلب، وإن بذل كل نفسه في المعاصي فإن الله سيختم له بالصالحات؛ لعلمه بأن هذا القلب طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). فعلم الله طيب قلب هذه المرأة ونقائه وطهارته، لما وجدت الكلب بلغ منه العطش ما بلغ بها، وهي قد ارتوت، سقت هذا الكلب فشكر الله لها هذا العمل، وتقاطرت ماء السقيا على جبال ذنوب الزنا فهدمتها وجعلتها كثيباً مهيلاً! إذاً: الله تعالى يزن الناس بنقاء القلب وطهارة القلب، أما سمعتم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير) أي: في الرقة والتوكل والنقاء لله جل وعلا.

صلاح القلوب سبب للنجاة يوم القيامة

صلاح القلوب سبب للنجاة يوم القيامة أعجب من هذا وذاك: رجل مؤمن أو مسلم عاث في الأرض فساداً، فقام إلى ربه يحاسبه، فقام إلى الميزان والكفتين فوجد كفة السيئات فيها سجلات بلغت عنان السماء، وما وجد في كفة الحسنات شيئاً، فنظر أيمن منه فلم يجد إلا ما قدم من سجلات المعاصي، ونظر أشأم منه فلم يجد إلا النار، فقال: قد هلكت، واستيقن بالهلاك، فقيل له: لك عندنا شيء، فقال: وما عسى هذا الشيء أن يفعل مع هذه السجلات؟ قيل: لا ظلم اليوم، لك عندنا بطاقة، فأخذ البطاقة فوجد فيها: لا إله إلا الله، فوضعت هذه البطاقة في كفة، وتلك السجلات في كفة؛ فرجحت هذه البطاقة على كفة السجلات التي فيها أمثال الجبال العظام من المعاصي؛ لطهارة القلب ونقائه، قال عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70]. إن أتتنا المصائب والبلايا تترى فاعلم أن الطامة من قلوبنا؛ لأننا لسنا صادقين مع الله جل وعلا، ولسنا مخلصين لنصرة الدين، ولسنا نعمل لله، فالذي ينبغي على كل واحد منا أن يصدق مع نفسه، وأسألكم سؤالاً: من منا قام ليلاً فقال: أنا وقف لله، وقتي لله، مالي لله، عملي لله، ما أريد إلا الله، فأنا بالله ولله ومع الله؟ والله لو منا صادق فعل ذلك ليلة واحدة ثم رفع يديه في ذلك الوقت الذي هو وقت إجابة ووقت صدق مع الله جل وعلا، فإن الله سيأتي بالنصر والتمكين لهذه الأمة. كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، لكن هناك فرق بين من يقولها بصدق قلبٍ وإخلاصٍ مع الله جل وعلا وبين من يقولها بغير إخلاص. ولذلك عقب ابن القيم على حديث البطاقة فقال: كل يصلي ويصطف خلف الإمام والإمام يقرأ، وكل مستمع وكل يقرأ الفاتحة وكل يسبح وكل يسجد لله جل وعلا، والفرق بين مصل وآخر كما بين السماء والأرض، ما الذي فرق بينهما؟ طهارة القلب وصدق القلب وإخلاص القلب مع الله جل وعلا.

صلاح القلوب سبب للاصطفاء والتكريم

صلاح القلوب سبب للاصطفاء والتكريم إن كان مقياس الناس عند أراذل الناس وسفهاء الناس وأغرار الناس: المكانات والوجاهات والأموال، فإن محل الكرامة عند الله هي القلوب، فالله جل وعلا لا يكرم إلا صاحب القلب النقي التقي الطاهر، الله جل وعلا لما نظر إلى الناس عربهم وعجمهم مقتهم واختار واصطفى منهم العرب؛ لأنهم أطهر قلوباً من العجم، ثم بعد ذلك اصطفى منهم كنانة، ثم اصطفى من كنانة بني هاشم؛ لأنهم أطهر قلوباً، ثم نظر في قلوب بني هاشم فلم يجد أطهر من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله محل كرامته ورسالته، فقد جعله خاتم النبيين، بل أفضل الرسل وأكرم الرسل عنده جل وعلا؛ لطهارة قلبه ونقائه. وأيضاً لما أراد الله جل وعلا أن يصطفي صحابة رسول الله الصفوة، التي تنصر هذا الدين وتحمله على أعناقها، ليصل إلينا غضاً طرياً كما نزل، نظر الله إلى القلوب فلم يجد أطهر من قلوب الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأنبياء فاختارهم لهذا الأمر. وقد ورد في سنن الدارمي عن ابن مسعود بسند صحيح قال: (من أراد أن يتأسى فليتأس بمن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أطهر قلوباً) أي: هذه أهم العلل التي جعلت الله جل وعلا يختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أطهر قلوباً، وأخلص قلوباً، وأنقى قلوباً، وأصدق قلوباً مع الله جل وعلا؛ ولأنهم أحسن أخلاقاً، وأعمق علماً. قال ابن عباس: (والله يؤتي المرء الفهم بإخلاصه وصدق نيته) يعني: بما في قلبه من طهارة ونقاء، قال الله عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، وقال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70]. وأبو بكر أفضل البشرية على الإطلاق سوى الأنبياء، وأفضل الصحابة، أفضل ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، كفى فخراً بـ أبي بكر أن يذكره الله جل وعلا بصيغة الجمع في الكتاب العزيز، قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] قوله: (أولوا الفضل) المقصود به أبو بكر، فالله جل وعلا يخاطب أبا بكر بصيغة التعظيم، ما الذي جعل لـ أبي بكر هذه المكانة! ما أرفعها من مكانة! ما أعظمها من مكانة، ما السبل التي اتخذها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ليرتقي إلى هذه المنزلة؟ والله لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كفة لرجحت كفة أبي بكر) هل لأنه كان وسيماً قسيماً ذا مال ومن أغنى الصحابة وله السلطان والوجاهة عند الناس؟ لا والله ما كان كذلك، وإنما العلة أنه كان أطهر قلباً وأعمق علماً وأحسن خلقاً، والذي يدلك على ذلك الحديث الموقوف عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: (والله ما سبق أبو بكر هذه الأمة بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه). إذاً: محل الكرامة القلوب، ومحل النجاة يوم القيامة القلوب، قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] لم يقل: إلا من أتى الله بمال وفير أو بذرية عظيمة أو بجمال أو بسلطان أو بجاه، وإنما قال: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. والقلوب هي الميزان وهي المعيار عند الله جل وعلا، نسأل الله جل وعلا أن يطهر قلوبنا، وأن يصفي قلوبنا ويجعلها صادقة مخلصة معه؛ لتتنزل الرحمات، وترتفع البلايا التي على هذه الأمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

القرآن كلام الله

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القرآن كلام الله القرآن كلام الله والناس يقرءونه بأصواتهم ويكتبونه بأقلامهم وما بين اللوحين هو كلام الله غير مخلوق، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في القرآن، وقد فتن في قضية خلق القرآن أقوام من المعتزلة وجاء بعدهم الكرامية وطوائف من الفلاسفة يخوضون في هذه المسألة بعقولهم العقيمة وأفهامهم السقيمة، ومن يضلل الله فما له من هاد.

القرآن كلام الله تعالى

القرآن كلام الله تعالى إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: القرآن كلام الله غير مخلوق، يجب اعتقاد هذا، وسوف أدلل على هذه المسألة وأبين الشاهد ووجه الاستدلال ومحل الاستدلال من الأدلة. قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] محل الشاهد: (وكلم الله) الفعل مضاف إلى الله، والله هو الفاعل، ثم أكد بالمصدر وهو المفعول المطلق المؤكد للفعل، ولم يقل: تخييلاً ولا خلقاً، وإنما قال: (تكليماً)، فهذا مفعول مطلق مؤكد للنوع، والنوع هنا المبين هو الكلام، فالله جل وعلا هو المتكلم والسامع هو موسى عليه السلام. وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، هذا دليل على أن القرآن كلام الله، وأن الله متكلم، وأن الكلام صفة من صفات الله. وجه الشاهد وكيفية الاستدلال هو: ((حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) الكلام مضاف إلى الله جل وعلا، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان ومعان، إضافة الأعيان مثل: بيت الله الكعبة، فهي عين قائمة بذاتها، والإضافة هنا إضافة مخلوق لخالقه، وهي إضافة تشريف. مثال آخر: عيسى روح الله، فهل الروح معنى أم عين؟ الروح عين قائمة بذاتها، فإنها تؤخذ على حنوط والملك يسحبها، وتعلق في الشجرة، فهي عين قائمة بذاتها، لذلك: عيسى روح الله مضاف إلى الله إضافة تشريف. النوع الثاني: إضافة المعاني، مثل قولك: كلام الله، فهل الكلام عين قائمة بذاتها؟ وهل جدتم كلاماً يمشي أمامكم ترونه وتسلمون عليه؟ الكلام معنى، كذلك قولك: وعزة الله لأفعلن كذا وكذا، هذه صفة لموصوف، كذلك قولك: قدرة الله ورحمة الله، وكرم الله، وعطاء الله، كل هذا من إضافة المعاني، فإضافة الكلام إلى الله جل وعلا إضافة صفة إلى موصوف.

عقيدة المعتزلة في القرآن الكريم

عقيدة المعتزلة في القرآن الكريم قالت المعتزلة عن القرآن: إن قلتم: إن الله يتكلم فقد شبهتم الخالق بالمخلوق؛ لأن كل متكلم له مخرج، إذاً شبهتم الخالق بالمخلوق وقلتم: إن لله مخرجاً وفماً يتكلم به. نقول لهم: لا يلزم من ذلك التشابه؛ لأن الألفاظ قد تطلق ولا يراد بها المعنى المتبادر إلى الذهن من اللفظ، وذلك لقرينة تصرفها عن ذلك، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وفي سورة الأحقاف قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] إلى آخر الآية ثم قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] لم تدمر المساكن مع أن الله جل وعلا قال: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) وهذا الشيء يدخل فيه المساكن وغيرها، فيكون المعنى: كل شيء صالح للتدمير. وعلى نفس السياق نقول في قوله تعالى: ((الله خالق كل شيء)) أي: كل شيء قابل للخلق فهو مخلوق. والرد عليهم نظراً: نقول: السماوات تتكلم: {قَالَتَا أَتَيْنَا} [فصلت:11] فكيف تكلمت؟! أين لسان السماء؟! أين المخرج من السماء؟! وجاء في السنة أن النار قالت: (أكل بعضي بعضي)، وقالت: (جعلتني للمتكبري)، وغير ذلك مما ورد أنه يتكلم، ولا نرى للنار مخارج، فإذا لم نعرف للمخلوقات مخارج في كلامهم، ولم نعرف كيفية الكلام، فمن باب أولى الخالق الذي لا يعلم كنه ذاته جل وعلا، فلا تعلم حقيقة صفاته وكيفيتها، وهذا يسمى قياس الأولى، فإن كانت المخلوقات لا نعلم كيفية تكلمها فكيف بالخالق الذي لا يمكن أن نعلم كيفيته جل وعلا؟!

حكم من يقول لفظي بالقرآن مخلوق

حكم من يقول لفظي بالقرآن مخلوق قال بعضهم: لا يجوز أن تقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأن عين كلام الله هو عين كلام المخلوق، والذي قال هذا هم الاتحادية والحلولية، فهم يقولون: كل كلام في الأرض كلامه، فالسب والشتم وقبيح الكلام ينسب إليه جل وعلا تعالى عما يقولون علواً كبيراً! قال قائلهم: وكل كلام في الأرض كلامه سواء علينا نثره أو نظامه والذي قال هذا هو ابن عربي، وهذا الرجل من أكفر أهل الأرض، ومع ذلك يعظمونه، وهو الذي يقول بالاتحاد والحلول. واختلف السلف في قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، فالإمام أحمد وعلي بن المديني وغيرهما يقولون: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، أما البخاري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة والبيهقي ومسلم فإنهم يقولون بجواز القول بأن لفظي بالقرآن مخلوق، ونقول: هذه كلمة مجملة. ونحن أصلنا في اعتقادنا أن الكلام المجمل الذي ينسب إلى الله لا ننفيه ولا نثبته، لكن نقول للقائل: ما تقصد؟ فإن كان القصد صحيحاً فالكلام صحيح، وإن كان القصد باطلاً فهو باطل. إذاً: هذه لفظة مجملة فنسأله، فإن قال: قصدي القرآن فهو كافر؛ لأنه يقصد أن القرآن مخلوق، وإن قال: قصدي صوتي ونبراتي وفعلي وكسبي وتلاوتي فهذا حق على حقيقته، وعندنا أدلة على ذلك تثبت أن كل هذه الأفعال مخلوقة. فالقرآن كتب وسطر في اللوح المحفوظ، وهذا التسطير كان مخلوقاً، قال تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ} [الطور:2 - 3] والرق مخلوق. وفي الصحيحين: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) فالقلم نفسه الذي كتب القرآن مخلوق، كذلك التلاوة تكون باللسان واللسان مخلوق، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] والتلاوة هذه اكتساب وأفعال مخلوقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه) بفعله وكسبه وإرادته، فهذه أفعال مخلوقة، فالأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة، فإذا قال: أقول: لفظي بالقرآن مخلوق وأقصد فعلي وكسبي باختياري فهذا صحيح، أما الكلام نفسه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهذا ليس مخلوقاً، وإنما هو كلام الله جل وعلا. أيضاً القلوب تعي القرآن والصدور تحفظه، وهذه الصدور مخلوقة، وكذلك القلوب، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:192 - 194] فهذا القلب مخلوق. إذاً: الجملة المجملة لا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نسأل ماذا تقصد؟ فإن كان حقاً أثبتنا بلفظه الشرعي، وإن كان باطلاً رددناه. ومن الأمثلة على الكلام المجمل كذلك: السؤال عن الجهة، نقول: كلمة الجهة مجملة، فلا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نقول: إن قصدت بالجهة العلو فهذا حق، وإن قصدت بالجهة كل مكان فهذا باطل، وهكذا في كل شيء آخر من صفات الله تعالى نقول: هذا مجمل لا نثبت ولا ننفي حتى لا نتقول على الله بغير علم، فمثلاً: هل يمكن للإنسان أن يصف الله بالإذن أو ينفيها؟ لا؛ لأنه لم يرد دليل على ذلك، فلعل لله أذناً لا نعلمها، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

ضوابط التكفير

ضوابط التكفير يقول الإمام أحمد: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، ولا يعني هذا أنه يكفر بعينه إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع. فهناك قاعدة رصينة لابد للمجتهد أن يعتقدها ويعمل بها عند التكفير، وهي النظر في القول أو الفعل ثم في القائل أو الفاعل، ولهذه القاعدة ترتيب معين: أولاً: يثبت أن الفعل أو القول بالكتاب أو السنة كفر، هذه أول خطوة لابد أن يعملها المجتهد لكي يكفر. الثاني: ينظر في حال القائل أو الفاعل هل توافرت فيه الشروط؟ وهل عنده الأهلية الكاملة؟ وهل هو فاهم للكلام؟ وهل ينطق بكلام رصين ليس مخموراً وليس مغمى عليه؟ وهل انتفت عنه الموانع من الجهل والشبهة في مثل هذا؟ فإذا توافرت الشروط وانتفت الموانع فإنه يكفر بذلك. إذاً: أصل قول الإمام أحمد من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، الفعل كفر، والقول كفر، ولا يكفر القائل بعينه حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، أي: تتوافر الشروط وتنتفي الموانع.

عقيدة الكرامية في القرآن الكريم

عقيدة الكرامية في القرآن الكريم اتفقت الكرامية مع أهل السنة والجماعة في أمر وافترقت معهم في أمر في مسألة القرآن، فالكرامية اتفقت مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن صفة من صفات الله جل وعلا وأنه كلام الله جل وعلا تكلم به ويتعلق بمشيئته، واختلفت مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن أو الكلام مكتسب ويقصدون بذلك أن هذه الصفة حادثة لم تكن لله جل وعلا. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رد على الكرامية وقال: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، يعني: صفة الكلام موجودة أصلاً، فمثلاً: لو دخل رجل فوجد رجلاً ساكتاً ومرة ثانية وجده ساكتاً وثالثة ساكتاً فإنه سيقول: هذا أصم أبكم، لكن لو وجده في الرابعة يتكلم، وسمع كلامه، فإنه لا يمكن أن يقول عنه: إنه أصم أبكم، فهو عندما كان ساكتاً فهو متكلم بالقوة، فلما تكلم أصبح متكلماً بالفعل، وهكذا القول عن كلام الله، فهو يتكلم متى شاء كيف شاء.

عقيدة الفلاسفة في القرآن الكريم

عقيدة الفلاسفة في القرآن الكريم الفلاسفة قالوا بالعقل الفياض، وسموا الله جل وعلا العلة الفاعلة، وقالوا عن القرآن: إنه فيض فاض على محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاءه تخييل، أي: تخيل أن هناك صورة بيضاء جاءته تسمى جبريل. وهذا كلام ابن سينا والفارابي وهو منسوب لـ أرسطو أيضاً.

مراجعة كلام الله - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مراجعة كلام الله - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم صفة الكلام لله عز وجل من الصفات التي قد تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنة والعقل، وهي صفة فعلية تليق به عز وجل، فنثبتها لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وإثباتها لله عز وجل، لا يستلزم منه إثبات آلة الكلام من فم ولسان وغيرهما، والقرآن فرع عن هذه الصفة، فهو كلام الله عز وجل، وهذا اعتقاد السلف، ثم خلف من بعدهم خلوف قالوا بخلق القرآن، فتصدى للرد عليهم أئمة السلف.

لا يستلزم من إثبات صفة الكلام لله إثبات آلة الكلام

لا يستلزم من إثبات صفة الكلام لله إثبات آلة الكلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب العظيم الجليل كتاب: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للإمام اللالكائي، وقلنا: إن من إبداع هذا العلامة الجهبذ في تصنيفه لهذا الكتاب وترتيبه إياه: أنه اكتفى بالإجمال ثم بعد ذلك أخذ في التفصيل اقتداء بكتاب الله جل وعلا واقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإجمال مشوق ثم التفصيل يؤسس ويقعد. وقد تكلمنا فيما سبق عن جماع صفات الله جل وعلا، ووصلنا إلى صفة الكلام، وأن القرآن هو كلام الله جل وعلا سمعه جبريل عليه السلام من الله جل وعلا، ثم نزل به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا قاعدة مهمة جداً وهي: أن الله متكلم، ولا يستلزم من إثبات الكلام إثبات آلة الكلام، فلا نقول: لله عز وجل فم ولسان، وهناك مخلوقات تكلمت وليس لها فم أو لسان، فكذلك ولله المثل الأعلى لا يلزم من كلام الله وجود فم أو لسان لله عز وجل، فمثلاً: النار تكلمت، فأين لسانها؟! والسماء تكلمت فقالت: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فأين فمها ولسانها؟! والعبد القريب من ربه جل وعلا، والذي يعلم صفات الله وأسماء الله جل وعلا، ويتعبد بها، أحب عباد الله إلى الله وأعلمهم به، وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم العلم إلى علمين: علم بالله، وعلم بأمر الله. وأشرف العلوم: العلم بالله، وأنت تعبد ربك جل وعلا فحري بك أن تعرف من ربك؟ وما هي صفاته؟ وما أسماؤه؟ فكلما تعرفت على أسماء الله وصفاته أحببته، وكلما أحببت الله جل وعلا تعبدت له وأخلصت له، وكلما أخلصت له قربت من المنزلة عند الله جل وعلا حتى يرفعك إلى قبل درجة النبوة، فلا يفرق بينك وبين النبي إلا درجة النبوة، والعلماء في درجة النبوة، فلا يفرق بين العالم والنبي إلا درجة النبوة، ولذا حظي العلماء بهذه المنزلة العظيمة، وأعظم العلماء وأشرفهم وأعلمهم: أعلمهم بالله وأخشاهم له، وكلما ازددت علماً بربك ازددت له خشية وإنابة وإخلاصاً وتعبداً.

إدلة صفة الكلام لله تعالى

إدلة صفة الكلام لله تعالى الأدلة على أن الله متكلم: أن الله عز وجل قد تكلم مع مخلوقات عدة، منها: الملائكة، والأنبياء ومنهم: موسى، وآدم، وسمعت حواء صوت الله عز وجل: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} [الأعراف:22]، وكلم الله القلم، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) فتكلم الله مع القلم وسمع القلم صوت الله عز وجل، يا له من قلم! ويا له من شرف عظيم، نسأل الله أن يسمعنا صوته في الآخرة، وأن يتحدث معنا برضاه، آمين اللهم آمين. وتكلم الله مع الجمادات، منها: السماء والأرض، فقال لهما: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وتكلم مع الجنة والنار، وتكلم مع الجبال، والجبل يسمع ويحب ويريد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا أحد يحبنا ونحبه). وتكلم الله مع إبليس فقال: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقوله: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:13]، وآيات كثيرة فيها تكلم الله مع إبليس اللعين. فكل هذه أدلة من الكتاب تدل على أن الله متكلم. وأما الأدلة من السنة على أن الله متكلم فحديث القلم السابق، وأصرح وأوضح منه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (إذا أحب الله عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبوه). وحديث المعراج الذي خص الله فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكلام، كما اصطفى موسى بالكلام؛ ولذلك قال بعض العلماء: جماع كل صفات الخير للأنبياء جمعها الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما إثبات صفة الكلام لله عز وجل بالعقل فجائز، مع أن بعض العلماء يقول: أنت لم تر الله، ولم يحدثك الثقة عن الله جل وعلا، ولم تر مثل الله جل وعلا، فكيف تقول: بالعقل نثبت صفة الكلام لله عز وجل؟ وشيخ الإسلام ابن تيمية ينكر أمر القياس بين الخالق والمخلوق، فلا يصح أن نقيس بقياس بين الخالق والمخلوق بأي من الأحوال؛ لأن القياس لا بد فيه من وجود علة مشتركة بين الأصل والفرع حتى نقيس الفرع على الأصل، فأيهما تجعله أصلاً وأيهما تجعله فرعاً؟! فأقول: هناك قاعدة عظيمة تقول: كل صفة كمال فالله يتصف بها. وبالعقل أي صفة نقص فإن الله تعالى لا يتصف بها؛ لأن الله له الكمال المطلق. وأما قولهم: كيف تقيسون الخالق بالمخلوق؟ ف A القياس أنواع: قياس شبه، وقياس علة، وقياس أولى، والذي يستعمل في حق الله هو: قياس الأولى، لا قياس علة ولا قياس شبه. فإذا كان الإنسان يتكلم، والكلام صفة كمال له، والأخرس عندنا ناقص، بل المتكلم الذي لا يستطيع أن يعبر عما بداخله ويفسر ما يريد ناقص، ولذلك فرعون أنكر على موسى عليه السلام عدم إفصاحه في الكلام، فقال الله على لسانه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]. فبين أن هذه صفة نقص، والله جل وعلا قد شفاه من ذلك، والله له حكمة في ذلك، وقد طلب الله أن يكون هارون عوناً له؛ لأنه أفصح منه لساناً، فالكلام صفة كمال. فإن كان هذا كمالاً فمن باب أولى نقول: إن الله متكلم، وإن كان عدم الكلام أو عدم استطاعة الكلام نقص فمن باب أولى ننزه الله عنه، أما ترى أن الله قد أنكر على قوم عبدوا أصناماً لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر، فقال عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، وقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] إذاً: صفة الكلام هي صفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والعقل.

الكلام صفة فعلية لله عز وجل

الكلام صفة فعلية لله عز وجل هنا Q هل هذه الصفة خبرية أم فعلية أم ذاتية؟ و A فعلية، فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، أي: هي من الأصل موجودة عند الله جل وعلا، ما استحدثت بعدما خلق الله موسى وقال له: يا موسى! إني أنا الله، وإلا كان الله جل وعلا غير متكلم وأضيفت له هذه الصفة، وكان غير متكلم، ثم كملت له هذه الصفة وحاشا لله، ولذلك نحن نقول ونرد على أهل الكلام: لو دخلت على رجل ومكث مدة طويلة لا يتكلم، ثم بعد ذلك تكلم، فهل تستطيع أن تقول: إنه كان أخرساً، وما تكلم إلا في هذا الوقت؟ لا، وإنما تقول: عنده صفة الكلام وهو متكلم، لكن يتكلم وقت ما شاء. إذاً: إذا أثبتنا لله صفة الكلام، فقد تكلم الله وسمعت المخلوقات صوت الله جل وعلا، وأسمع الله من شاء كيفما شاء كما شاء، والقرآن فرع عن هذه الصفة، فالقرآن كلام الله جل وعلا. فالقرآن هو: كلام الله المتعبد بتلاوته -وبهذا يخرج: الأحاديث القدسية والنبوية- المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، ابتدأ بالفاتحة وانتهى بسورة الناس.

القرآن كلام الله غير مخلوق

القرآن كلام الله غير مخلوق أجمع الصحابة على أن القرآن هو كلام الله جل وعلا، فقد روى البيهقي أن أبا بكر راهن قريشاً على غلبة الروم، فلما سألوه عن ذلك قرأ هذه الآيات: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1 - 3]، فلما حدثت الغلبة للروم، قالوا له: من أين أتيت بهذا؟ هل هو من عندك أو من عند صاحبك؟ فقال: ليس من عندي ولا من عند صاحبي، ولكن هو كلام الله جل وعلا. أيضاً: الخلفاء الراشدون قالوا: القرآن كلام الله، وغيرهم كـ ابن عمر وابن عباس وكثير من الصحابة، كما قال عمرو بن دينار: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن القرآن كلام الله جل وعلا. ورأى ابن عباس رجلاً يدعو فيقول: اللهم رب القرآن اغفر لنا، فقال ابن عباس: القرآن ليس بمربوب، القرآن كلام الله جل وعلا. وورد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: وكان شأني أحقر عند نفسي من أن يتكلم الله في شأني من فوق سبع سماوات. أيضاً: من التابعين: ابن المسيب والزهري وأبو حنيفة -كبار التابعين وصغار التابعين- وبعدهم الشافعي وأحمد ومالك وابن عيينة والثوري وأبو جعفر المنصور، كلهم اتفقوا على أن القرآن كلام الله جل وعلا غير مخلوق.

قاعدة في التكفير

قاعدة في التكفير قال المصنف رحمه الله تعالى: [جماع ما روي بكفر من قال: إن القرآن مخلوق] قبل أن أبدأ في شرح أي مسألة يتكلم فيها المصنف، لا بد أن أقعد قاعدة مهمة جداً، حتى نضبط الفروع بإرجاعها إلى الأصل، وهذه القاعدة هي: أن الكفر حق من حقوق الله جل وعلا، فلا أحد يقوى عليه إلا بدليل ناصع، أسطع وأوضح من شمس النهار، فلا أحد يلقي بالكفر على أحد إلا بدليل قاطع، أيضاً: لا بد أن نثبت أن هذا الفعل أو القول كفر، سواء من الكتاب أو من السنة، أو إجماع الصحابة أو إجماع أهل العلم، فمثلاً: لو قلنا: إن إلقاء المصحف في الزبالات كفر، أو سب الذات الإلهية كفر، فلا بد من دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإذا قال قائل: إن القرآن مخلوق، وقلت: إن هذا كفر، فلا بد عليك أن تأتي بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع على ذلك، حتى تبرأ ساحتك عند الله؛ لأن هذا حق لله جل وعلا. فنقول: عندنا أدلة تثبت أن من قال: إن القرآن مخلوق، فإنه يكفر، أو أن هذه المقولة كفر، منها: أولاً: قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقوله: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80] فأثبت أن هذا الكلام كلام الله جل وعلا، فهو قد أضاف الكلام إلى الله جل وعلا، فإن قال قائل: الكلام مخلوق، فقد كذب بصريح القرآن، وإذا كذب بصريح القرآن فهذا كفر بواح؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] فإن قال: لا أصدق هذا؛ فقد كذب الله جل وعلا، ومن وقع في التكذيب فقد كفر. ثانياً: أن الذي يعتقد هذه المقولة شبه الخالق بالمخلوق، وتشبيه الخالق بالمخلوق كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، وتنقيص من حق الله جل وعلا، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهو ينزل الله من منزلته جل وعلا إلى منزلة المخلوق. ثم إذا أثبتنا أن هذه المقولة كفر بصريح القرآن أو السنة أو الإجماع فلا بد من توافر الشروط وانتفاء الموانع؛ حتى نحكم بالكفر على فلان أو علان، وتقام عليهم الحجة، وتزال أي شبهة عنهم، فلعله يكون لهم تأويل، ويثبت لنا هذا ما نقل عن الإمام أحمد أنه قال: من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر. وقال الشافعي: من قال: إن القرآن مخلوق فهو زنديق. وسئل ابن المبارك عن رجل يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: امرأته بائنة منه، فقالوا: لم؟ قال: هي مسلمة وهو كافر، وقال ابن عيينة: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر ويقتل ولا يصلى عليه. وقيل للإمام أحمد: هل نخرج بالسيف على المأمون؟ فقال: لا، هم عندي جهال، ولم يكفر المأمون مع أنه ضربه بالسياط، وامتحنه على خلق القرآن. وناظر شيخ الإسلام ابن تيمية الجهمية الذين ينفون الاسم والصفة -ليس فقط ينفون صفة الكلام، بل حتى كل اسم لله- فقال لهم: لو قلت بقولكم كفرت، ولكنكم عندي جهلة. فلجهلهم عذرهم الإمام ابن تيمية.

حكم قول: لفظي بالقرآن مخلوق

حكم قول: لفظي بالقرآن مخلوق مسألة من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، هل هو مثل من قال: إن القرآن مخلوق أم لا؟ هذه مسألة عويصة ومعرفتها مهمة جداً، والناس فيها على ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الواقفة، وهذه فرقة من فرق الجهمية، فمثلهم مثل من يقول: إن القرآن مخلوق؛ ولذلك توقفوا في أمر اللفظي، فالواقفة جهمية أصلاً. الطائفة الثانية: قالوا: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وهم غلاة الصوفية، كـ ابن عربي وابن سبعين، فهم يقولون: كل كلام في الأرض كلام الله؛ لأن عندهم الحلول والاتحاد، فلا فرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق، ولذلك قال ابن عربي: كل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه يعني: أي كلام فيه سب، وأي كلام تزدري الأذن أن تسمعه، يقول: هذا كلام الله، حاشا لله! لأن عنده أن المخلوق خالق، والخالق مخلوق، ولا يدري ما الفرق بينهما، حاشا لله! وهذه الطائفة أكفر أهل الأرض، عليهم من الله ما يستحقون. الطائفة الثالثة: طائفة أهل السنة والجماعة القائلون: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد حصل كلام ونزاع بينهم في المراد بهذه المقولة، فالإمام أحمد والشافعي وابن عيينة وغيرهم من الأئمة قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو زنديق، وقالوا: لا تصح هذه المقولة؛ لأن قولي: لفظي بالقرآن مخلوق، هي كقولي: القرآن مخلوق. وخالف في ذلك البخاري وابن خزيمة وابن جرير الطبري فقالوا: هذه المقولة لا شيء فيها، وهي كلام صحيح. ونحن نقول بالتفصيل، فهل تكلم الصحابة والتابعون بهذا الكلام؟ لا، وإنما هذه المقولة بدعة ظهرت في القرون المتأخرة، وهناك قاعدة تقول: كل كلام في حق الله فهو مجمل لا يقبل بالإطلاق، ولا يرد على الإطلاق، كالجهة والمكان، ولكن نقول للقائل: ما تقصد؟ فإن كان يقصد حقاً قبلنا الكلام، وإن لم يقصد حقاً رددنا الكلام. فلو أنه قصد أن لفظه بالقرآن الذي يتلوه مخلوق يعني بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فهو قد قال بقول المبتدعة الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، ونرد عليه القول، ونزيل عنه الشبهة؛ فإن أصر على ذلك فقد كفر؛ لأن هذا القول قول كفر. وإن قصد فعله وكتابته ولسانه وصوته الذي يطلع منه، فهذا حق، فإن فعله مخلوق، وتلاوته مخلوقة، ولسانه مخلوق، وقلبه مخلوق، وصدره مخلوق، والله جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم قد سميا التلاوة فعلاً، والله سيجازي الإنسان على فعله، وفعل الإنسان مخلوق، ولذلك في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار) والفعل من كسب العبد، وهو مخلوق. وعندنا أدلة تثبت أن التسطير للقرآن مخلوق، والقلم مخلوق، والآلات التي أقرأ بها مخلوقة، قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3] فكل هذه مخلوقات غير الكتاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب؛ فكتب) فكان من ضمن ما كتب: القرآن، فالقلم مخلوق، والقرآن مسطر، وهذا التسطير مخلوق، والورق مخلوق. أيضاً: كلام الله جل وعلا في الصدور وفي القلوب، والصدور مخلوقة، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وقال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:192 - 194]، فالقرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقلب النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق. كذلك: تلاوة العبد من فعل العبد، وهي مخلوقة، قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45]، وقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، وقوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] فهذه التلاوة مخلوقة؛ لأنها من كسب وفعل العبد. أيضاً: هذا القرآن يسمع بالآذان، والآذان لا شك أنها مخلوقة، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فيسمع كلام الله بالآذان المخلوقة، وهذه الآلات كلها مخلوقة، فإذا قلت: اللسان الذي تكلم بكلام الله مخلوق. فلا شيء عليك، وإذا قلت: القلب الذي حفظ كلام الله مخلوق. فلا شيء عليك، وإذا قلت: الصدر الذي وعى كلام الله جل وعلا مخلوق. فلا شيء عليك، وإذا قلت: القلم الذي كتب بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] مخلوق. فلا شيء عليك. وبعد معرفتنا فصل الخطاب في حكم قولنا: لفظي بالقرآن مخلوق، نعلم أن الإنكار الشديد على الإمام البخاري ليس تحته طائل؛ لأن الإمام البخاري قال: إن التلاوة من فعل العبد، وفعل العبد مخلوق. لكنه لم يقل: إن القرآن مخلوق. وأما الجواب عن أئمة الهدى: الإمام الشافعي وابن عيينة والإمام أحمد واسحاق بن راهويه الذين قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو زنديق. أنهم أرادوا بذلك سد الذريعة وحسم المادة؛ لأن غليان الفتنة كانت في تلك العصور كثيرة جداً، فما من بيت إلا ودخلته الفتنة، فأرادوا حسم المادة وسد الذريعة؛ لأن هذه المقولة مجملة، فقالوا: نحسم المادة ونسد الذريعة، ولا نقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ حتى لا يتوهم أحد أنك تقول: إن القرآن مخلوق.

رؤيا النبي حق وضوابطها

رؤيا النبي حق وضوابطها ذكر المؤلف بعد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من رآه في المنام فقد رأى الحق، وأن بعضهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، وهذه المسألة مهمة جداً، فأقول: إن رؤيا النبي حق، لكن حتى لا يأتي لنا المتهوكون الذين يرفعون عن أنفسهم التكليف برؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي لنا من يتبجح علينا ويقول: إن الذي يرى النبي في المنام سيراه في الآخرة، والنبي حي بيننا، وممكن يراه الإنسان في اليقظة، واللوازم عند ذلك لا تنتهي، فنقول لهم: إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، لكن بشروط منها: الشرط الأول: أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بنفس الصفة التي وصفها أهل العلم في الكتب المسطرة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) فكثير جداً يقول: رأيت رأساً، رأيت بدناً دون رأس، رأيت أبيضاً أملحاً، رأيت غترة سوداء، وكلام معيب جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضابط هذه المسألة ما ضبطها به العلماء، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: رأيت النبي، فقال له: صفه لي؟ فوصفه له، قال: ما رأيت النبي. وابن سيرين كان من دأبه أن من قال له: رأيت النبي، يقول له: صفه لي؟ فإن كان الوصف يوافق الوصف المسطر المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قد رأيته، وإن لم يكن قال: لم تره. الشرط الثاني: أن لا يأتينا ببدع من القول، وذلك كأن يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: لا تصل الخمس! صل الأربع فقط! أو أناس ينتظرون رؤية الهلال، فيأتي فيقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال: صم غداً فإن رمضان غداً! فكل هذا الكلام لا يصح؛ لأن الشرع قد تم، والوحي قد انتهى. وأما بالنسبة لما ذكره المصنف أن رجلاً قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: من قال: إن القرآن مخلوق جعلت يمينه يمين قر، فعاش بعد ذلك يوماً أو يومين، ثم يصير إلى النار؛ فإن هذه الرؤى ليست بحجة شرعية، ولذلك أنكر بعض العلماء على المحقق المدقق الإمام ابن القيم في كتابه: الروح؛ لأنه ملأ كتابه بالرؤى، مع أن كل كتب ابن القيم تمتلئ بقال الله، قال رسوله، قال الصحابة الفضلاء، لكن فيه يقول: ورأى صديق في المنام كذا، ورأى صاحبنا في المنام كذا، ورأى فلان كذا وكذا، فالحجة الشرعية ليست في المنام، لكن لا بأس أن نستأنس بهذا الكلام. ثم روى المصنف بعض الروايات عن أكثر من واحد من السلف أنه قال: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر.

الأسئلة

الأسئلة

فعل الله صفة من صفاته

فعل الله صفة من صفاته Q إن قيل: إن الله كتب التوراة بيده، فهل فعل الله مخلوق؟ A لا، ففعل الله ليس بمخلوق، وإنما فعل الله صفة من صفاته. والألواح التي كتبها الله لموسى بيده مخلوقة، ولذلك عندما ألقى موسى الألواح من يده فتكسرت لم يعاتبه الله عز وجل.

الإضافة إلى الله نوعان

الإضافة إلى الله نوعان Q المضاف إلى الله نوعان، فما هما؟ A المضاف إلى الله نوعان: إلى عين قائمة بذاتها، وإلى معنى ليس بعين. والعين القائمة بذاتها إضافتها إلى الله إضافة تشريف، وذلك مثل قولنا: الكعبة بيت الله، ناقة الله، عيسى روح الله، موسى كليم الله، كتاب الله. وأما الإضافة إلى معنى، فهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وذلك مثل قولنا: عزة الله، كرم الله، رحمة الله، قدرة الله، فكل هذه إضافة صفة إلى موصوف؛ لأنها معنى، وليست بعين قائمة بذاتها.

حكم الحلف بالمصحف

حكم الحلف بالمصحف Q ما حكم الحلف بالمصحف؟ A إن قصد كلام الله الذي هو صفة من صفات الله، فقد أقسم بالله، أما بالورق المخلوق فهذا لا يجوز القسم به.

حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف

حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف Q ما حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف؟ A بدعة، ولا يجوز ذلك.

صفة الكلام

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الكلام الله عز وجل يتكلم حقيقة متى شاء، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم فيها كثير من طوائف أهل البدع، وهم مختلفون على مذاهب متعددة وآراء متباينة في صفة الكلام.

طوائف أهل البدع في صفة الكلام

طوائف أهل البدع في صفة الكلام

الحلولية

الحلولية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: طوائف أهل البدع في صفة الكلام كثيرة منها: الطائفة الأولى: الاتحادية، أو الحلولية، ومذهبهم في صفة الكلام يتفرع عن قولهم بأن عين الخالق في عين المخلوق لا فرق بينهما، وهذا مذهب ابن عربي حيث قال: وكل كلام في الكون كلامه فرض علينا نثره ونظامه أي أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله، وهذا القول من أقبح الأقوال، وهذه الطائفة من أشر الطوائف المبتدعة التي تصل بغلوها إلى الكفر والخروج من الملة، ويرد عليهم بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، والوجود كله فيه خالق ومخلوق، فما سوى الله من بشر وجماد وغير ذلك مخلوق، ولقبح هذه المقالة فلن نطيل في الرد عليها.

الفلاسفة

الفلاسفة الطائفة الثانية: الفلاسفة مثل: أرسطو والفارابي وابن سيناء، هؤلاء يقولون: إن القرآن لم يتكلم الله به حقيقة، ولكنه فيض فاض من العلة الفعالة، فسموا الله جل وعلا بالعلة الفعالة، وهذه من الأسماء التي لم يسم الله جل وعلا نفسه، قالوا: فقابل نفساً زكية، يقصدون محمداً صلى الله عليه وسلم، فأوجب لها تخيلات وتصورات، فتصور ملكاً يدعى جبريل، يقرأ عليه كلاماً سماه قرآناً، فأملاه على الناس على أنه من جبريل. والرد عليهم من وجهين: الوجه الأول: الأدلة التي تثبت أن القرآن كلام الله، كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فلم يقل الله عز وجل: وكلم الله موسى تخييلاً، أو تصويراً، بل قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فتكليماً: مفعول مطلق يؤكد أن الذي صدر منه الكلام هو الله، وهو كلام حقيقي وليس تخيلاً ولا إفاضة على النفس الزكية. الوجه الثاني: لازم قولهم يضاهي قول مشركي العرب، فقد قالوا: إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا عنه: شعر من شعره صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل كلام الفلاسفة، لكنهم قالوا: هو نفس زكية تتخيل وتتصور بعض الأنوار الملائكية، أو تتصور ملكاً يسمى جبريل يأتيه بهذا الكلام، وهذا الكلام منتقض بقول الله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42].

المعتزلة

المعتزلة الطائفة الثالثة: المعتزلة، القائلون بأن القرآن كلام الله ولكنه مخلوق، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، هذا استدلالهم بالنقل، أما استدلالهم بالعقل فقالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم لزم من كلام الله أن يكون له مخرجاً، لأن كل متكلم لا بد له من مخرج، وهو أن يكون له فم ولسان، وهذا تشبيه بالمخلوق. والرد عليهم من وجهين كما هي القاعدة في الرد على أهل البدع، أولاً بالأدلة الثابتة من الكتاب والسنة، ثم بإبطال الشبه والرد عليها. أما الشبهة الأولى فهي استدلالهم بقول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، قالوا: فشيء: نكرة في سياق الإثبات، وهي صيغة من صيغ العموم، والقرآن شيء فيدخل تحت خالق كل شيء، فهو مخلوق. والجواب عليهم هو أنه إذا كانت هذه اللفظة عامة، فقد أتت أدلة وقرائن أخرى خصصت هذا العموم، كقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وأضاف الكلام إليه بإضافة الصفة إلى الموصوف، وقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقول الله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، فهذه الأدلة تخصص هذا العموم، إذاً الكلام صفة من صفات الله، وصفات الله ليست مخلوقة. ويخصص العموم أيضاً بالعقل، فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] كقول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] والمساكن لم تدمر، فالعقل يخصص هذا العموم، وهو أن الريح تدمر كل شيء قابل للتدمير، فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] أي: كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق بل هو صفة من صفات الله ومعنى من المعاني وليست عينه قائمة بذاتها. أيضاً قولهم: إن المتكلم يلزم له مخرج أي: فم ولسان، فيجاب عليهم بأن القياس باطل بين الخالق والمخلوق، وليس هناك قياس شبه أو علة بين الخالق والمخلوق وإنما هو قياس أولى، أي أننا لو وصفنا خلقاً من خلق الله بالكمال، فمن باب أولى أن نصف به الله جل وعلا، وإن نزهنا مخلوقاً عن النقص فأولى أن ننزه الخالق جل وعلا منه، وبعض المخلوقات تكلمت وليس بلازم من تكلمها الحنجرة والفم واللسان، فقد تكلمت النار، قال الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فتكلمت بلا فم ولا لسان. وأيضاً: الجنة تكلمت، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: جعلتني للضعفاء من خلقك وقالت النار: جعلتني للمتكبرين من خلقك). أيضاً: الطعام تكلم، فقد كان الصحابة من نقاء قلوبهم وقوة إيمانهم يسمعون تسبيح الطعام بين يدي رسول الله، فالطعام يسبح لله جل وعلا بلا مخرج. أيضاً: السماء تكلمت، والأرض تكلمت قال الله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] وقال تعالى عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5]، فتكلمت السماء والأرض بلا مخرج. بل الأعجب من ذلك الجلود والأيدي والأرجل وهي جزء من الإنسان تتكلم بلا مخرج، قال الله تعالى {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] ختم الله على الأفواه فتكلمت الأيدي والأرجل، ولا نعرف كيفية التكلم، فمن باب أولى ألا نعرف كيف يتكلم الخالق جل وعلا.

الكلابية والأشعرية

الكلابية والأشعرية الطائفة الرابعة من طوائف المبتدعة الذين يخوضون في صفة الكلام: الكلابية: أتباع ابن كلاب، الذي يقول: إن القرآن كلام الله حقيقة، وهو صفة من صفات الله الذاتية، يعني: اللازمة لله كلزوم الحياة، ولزوم القدرة، ولزوم العزة، فهي صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله جل وعلا، ولا تتعلق بالمشيئة، والحروف والأصوات التي نسمعها ونطويها هذه مخلوقة، والرد عليهم أيضاً من الوجه الأول بما جاء في الكتاب والسنة من أن صفة الكلام صفة لله جل وعلا، ويقال لهم: إذا قلتم: إنها صفة ذاتية أي: لا تنفك عن الله؛ خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة، فقد أثبت الله أن هذه الصفة صفة متجددة تتعلق بالمشيئة، وأنه يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فالكلام هنا بسبب مجيء موسى فهو بمشيئة الله، شاء الله أن يتكلم عند مجيء موسى. أيضاً: قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] وهذا نص من القرآن يثبت أن هذه الصفة تتعلق بالمشيئة، فهي صفة فعلية لا صفة ذاتية. أما قولهم: إن الحروف والأصوات مخلوقة، فقد وافقوا بذلك قول المعتزلة وخالفوا الكتاب والسنة؛ فإن الله جل وعلا يتكلم بحرف وبصوت، ولم يخلق الحرف والصوت، قال الله تعالى: {ن} [القلم:1] نون: هذا حرف من كلامه تعالى، وقال: {طه} طه 1]، {كهيعص} [مريم:1]، {طسم} [الشعراء:1]، {الم} [البقرة:1] فتكلم الله بحروف، وكلام الله من صفاته، فالحروف ليست مخلوقة. أيضاً: تكلم الله بصوت وبكيفية أعلمنا الله إياها، فتكلم بصوت عال وتكلم بصوت منخفض إن صح التعبير، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم:51 - 52] والنداء: يكون للبعيد، ويكون بصوت مرتفع، وتكلم معه بصوت منخفض كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] والمناجاة معناها: الصوت المنخفض، وكذلك يأتي الله بالعبد يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويذكره بما فعل، ويقول: (سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك في الآخرة). وهنا تكلم الله كيفما شاء بالكيفية التي شاءها، وهذا فيه رد قاطع على الكلابية، وعلى أفراخ الكلابية وهم الأشاعرة؛ لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ لـ ابن كلاب، فالأشاعرة أتوا بغرائب الأقوال، فلا هم معتزلة، ولا هم أهل سنة وجماعة، ولا هم كلابية، أتوا ببدع من القول، فقالوا: القرآن كلام الله لكنه صفة من صفات الله الذاتية لا تنفك عن الله، فاتفقوا مع الكلابية في ذلك، ثم قالوا: وهو معنى في نفس الله، والمعنى في نفس الله بمعنى العلم وليس الكلام، فالذي نقرؤه ليس بكلام الله بل عبارة عن كلام الله، إن قرأت بالعبرية كان توراةً، وإن قرأت بالسريانية كان إنجيلاً، وإن قرأت بالعربية كان قرآناً. فقالوا: أولاً: إن صفة الكلام ذاتية أزلية لا تنفك عن الله. ثانياً: هو معنى في نفس الله. ثالثاً: القرآن الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، إن قرئ بالعربية فهو قرآن، وإن قرئ بالعبرانية فهو توراة، وإن قرئ بالسريانية فهو إنجيل. والجواب عليهم يكون بما جاء في الكتاب والسنة بأن صفة الكلام صفة فعلية لله جل وعلا، ثم نأتي إلى أدلتهم وشبههم: الأولى: قولهم: هي صفة ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا، يجاب عليه بأن الله جل وعلا يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، وقال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5]. ولازم قولهم هذا أن الله لم يزل ولا يزال يقول: (يا موسى إني أنا ربك)، ولم يزل ولا يزال يقول: (هي خمسون في الأجر وخمس قد فرضتها عليك) لما قالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس صحيحاً، فإن الله لم يتكلم مع الرسول إلا في المعراج عندما أعرج به إلى السماء. إذاً: صفة الكلام صفة فعلية لا ذاتية كما سبق بذلك الرد على الكلابية. أما الرد على قولهم: إنها معنى في نفس الله، هو أن المعنى في النفس ليس بكلام، ولكنه علم، بل ولازم قولهم اتصاف الله بالنقص، وهو أن الله لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه، فكأنهم يقولون: إن جبريل علم ما في نفس الله ثم ذهب إلى محمد فعبر له عن الذي في نفس الله جل وعلا، وهذه صفة نقص، فالذي لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه من المخلوقات نقول عنه: إنه لا يستطيع أن يعرض ما في نفسه فمن باب أولى أن ننزه الله عن ذلك. أما قولهم: إذا كان بالعبرية فهو توراة، وبالعربية فهو قرآن، وبالسريانية فهو إنجيل، فهو بدع من القول، ويلزم منه القول بوحدة الأديان، وأنه لا فرق بين أحكام التوراة وأحكام الإنجيل وأحكام القرآن، والله جل وعلا فرق بينهم، فقال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44] إلى آخر الآيات ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} [المائدة:46]، ثم بعد ذلك قال القرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهو مصدق للتوراة ومصدق للإنجيل، ومهيمن عليه أي: ناسخ لهذه الأحكام التي أتت في التوراة، وأتت في الإنجيل. فبين الله المغايرة بين العبرية والسريانية وبين القرآن، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].

الكرامية

الكرامية الطائفة الخامسة: طائفة الكرامية الذين اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن هو كلام الله حقيقة، تكلم الله به، وسمعه جبريل، ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هي صفة فعلية يتكلم وقت ما شاء كيفما شاء بما شاء، لكنهم خالفوا أهل السنة والجماعة وقالوا: إن هذه الصفة اتصف الله بها بعدما كان غير متصف بها، أي: أنه اكتسب هذه الصفة اكتساباً. والرد عليهم من وجهين: الوجه الأول: ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الكلام صفة من صفات الله الفعلية الأزلية، قديمة النوع حادثة الأفراد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قال العلماء: إن الله كان رحيماً قبل أن يخلق الخلق ويرحمهم، كريماً قبل أن يخلق الخلق ويكرمهم، متكلماً قبل أن يخلق الخلق ويتكلم معهم، ولازم قولهم أن نصف الله بالنقص؛ لأننا لو قلنا: إن هذه الصفة قد اكتسبها الله جل وعلا وكان قبل ذلك لا يستطيع الكلام، فهذا نقص ينزه عنها المخلوق فضلاً عن الخالق، ولو أن رجلاً دخل على أحد أقربائه أو أقرانه فلم يتكلم يوماً ثم يومين ثم ثلاثة ثم في اليوم الرابع تكلم، فليس لأحد أن يقول: إنه كان أبكم لا يتكلم، ثم تكلم بعد ذلك، بل إن هذا الرجل كان متكلماً بالقوة، ثم بعدما شاء أن يتكلم أصبح متكلماً بالفعل.

السالمية

السالمية الطائفة الأخيرة: السالمية، قالوا: الكلام صفة ذاتية لا تنفك عن الله، وقد قال بذلك بعض الفقهاء وبعض أهل الحديث، وهذا مثل قول الكلابية، وقول الأشاعرة، والرد عليهم كما رددنا عليهم. ولهم قول آخر وهو أن هذا الكلام حروفه ليست مرتبة ولا يسبق بعضها بعضاً. والرد عليهم هو أننا عندنا نقرأ هذا الكلام الذي قرأه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءنا بالتواتر، فعندما نقرأ: بسم الله نبدأ بالباء، ثم بالسين، ثم بالميم؛ لترتيب الأحرف، فالوصل والقطع بين الأحرف لابد منه حتى تُنطق الكلمة عربية مفهومة بلسان عربي مبين.

صفة العلو

صفة العلو قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5]، دلت هذه الآية على صفة من أهم الصفات وهي صفة العلو لله جل وعلا، والعلو علوان: علو مطلق، وعلو مقيد. العلو المطلق: هو علو الشأن وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر والمكانة، وهو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله. والعلو المقيد: هو علو الاستواء على العرش، فهذا علو مقيد بالعرش، وهو صفة فعلية وليست صفة ذاتية، لأنها تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو. أما العلو المطلق فإن الله جل وعلا اتصف بعلو الذات، وعلو الشأن وعلو القهر، علو الشأن أي: علو المكانة، والقدر والتعظيم، هذا لم يختلف فيه أحد، قال الله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] سبحانه وتعالى، له الكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة المطلقة، وقد أنكر على أهل الكفر والإلحاد أنهم ما عظموه حق عظمته، ولا قدروه حق قدره، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، أي: تعظيماً وإجلالاً، وقال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]. أما العلو الثاني من أنواع العلو المطلق فهو علو القهر وعلو الربوبية، وهذا أيضاً لم يختلف فيه أحد، فالله جل وعلا قهر عباده، وكل العباد تحت أمره، لا راد لأمره ولا لقضائه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وقال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] تحت قهر الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] فهذا علو القهر أيضاً لم يختلف فيه أحد. أما علو الذات فحدث فيه الخلاف، ومعناه: أن الله عال بذاته على خلقه، وقد دل على ذلك أكثر من دليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، كما دل على ذلك العقل والفطرة. أما الدليل من الكتاب فقول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وقال: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، والقاعدة أن كل اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة من صفات الكمال، فاسم الله العلي اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة العلو، فهذه أول دلالة من دلالات أسماء الله في القرآن تثبت علو الله جل وعلا. الدلالة الثانية التي تدل على العلو: الدلالة المقيدة العلو على العرش، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5]. وقال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]. وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] والاستواء يأتي في اللغة بمعاني فيتعدى بنفسه ويتعدى بإلى ويتعدى بعلى، ولكل معنى سنبينه عند شرح الآية. أيضاً: من الدلالات على علو الله عز وجل: دلالة الفوقية، وتكون من لفظ العلو، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] فهذه دالة على علو الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] فالملائكة فوقهم العرش، وفوق العرش الله جل وعلا، فدلالة الفوقية تدل على علو الله جل وعلا. ومن الدلالات أيضاً: التصريح بالعندية، قال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] العندية هنا: فوق؛ لأن الملائكة في السموات، فعندية الله جل وعلا فوق السموات. أيضاً: من الدلالات على علو الله على خلقه: الصعود، فالصعود يكون من أسفل إلى أعلى، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} [فاطر:10] من أسفل إلى أعلى، {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فالصعود والرفعة والعروج كل ذلك يدل على علو الله جل وعلا. وقال الله تعالى عن عيسى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقال جل وعلا في سورة آل عمران: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:54 - 55] يعني: من السفول إلى العلو ورافعك من الأرض إلى السماء. وقال جل وعلا: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:1 - 3] ثم فصل المعارج، فقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد. أيضاً: من الدلالة على علو الله: عكس الصعود، وهو النزول، لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل، قال الله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14] أنزل أي: من أعلا إلى أسفل وقال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:192 - 194]، فالتنزيل يكون من أعلى إلى أسفل. أيضاً: من الدلالات على علو الله: (في) قال الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] ففي هنا تعني: الله جل وعلا في السماء، والسماء لا تظله ولا تقله، بل كل السموات والعرش تحته جل وعلا فلا بد من تأويل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] على ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الآية على معنيين: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: أأمنتم من في العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:60] فالمطر ينزل من السحاب، وسماه الله سماءً من السمو وهو العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:60] أي: من المزن وهو في العلو، إذاً: فهنا قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] معناه: أأمنتم من في العلو. المعنى الثاني: أن في بمعنى على ولها مسوغ في اللغة، فهناك قرائن تدل على أن في تأتي في اللغة بمعنى على، قال الله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] أي: على الأرض، وليس معنى ذلك أن يشقوا الأرض ويسيروا في داخلها، وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] أي: على مناكبها، وقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} طه 71] أي: على جذوع النخل، هذه الأدلة من الكتاب. أما الأدلة من السنة فقد قال ابن القيم: إنها وصلت إلى خمسين حديثاً كلها تدل على علو الله جل وعلا.

صفة الاستواء

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الاستواء من عقيدة أهل السنة أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، وقد دل على هذه الصفة القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والعقل والفطرة، والأدلة متكاثرة جداً على إثبات هذه الصفة، وقد أوصلها بعضهم إلى أكثر من ألف دليل.

أدلة إثبات صفة الاستواء للرب جل وعلا

أدلة إثبات صفة الاستواء للرب جل وعلا

دلالة السنة القولية على علو الله عز وجل

دلالة السنة القولية على علو الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنستكمل سياق ما روي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وقد ذكرنا أن علو الله جل وعلا علوان: علو مطلق وعلو مقيد. ونأخذ الدلالات على علو الله تعالى، ثم نشرح معنى العلو المقيد، فالدلالات على علو الله جل وعلا تؤخذ من الكتاب ومن السنة، وتثبت بالعقل والفطرة وبالإجماع. فدلالات علو الله جل وعلا من السنة وردت بالقول وبالفعل وبالتقرير، سواء بالصعود الذي يدل على الارتقاء إلى أعلى، أو بالنزول الذي يدل على الهبوط من أعلى إلى أسفل، أو بالإشارة، أو بالإقرار على أن الله فوق السماء، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج الطويل المشهور أنه عرج به إلى السماء السابعة حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ففرض الله عليه خمسين صلاة، فرجع فنزل فكلمه موسى وقال: أمتك لا تقدر على ذلك. ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم من عند موسى عليه السلام إلى الله عز وجل. وهذا الارتقاء فيه دلالة على العلو، فإنه كان يرتقي إلى أعلى، إلى سدرة المنتهى، فيراجع ربه جل وعلا، حتى استحيا من ربه، ثم نزل وبلغ أمته أن الخمسين صلاة خففت إلى خمس صلوات بأجر الخمسين صلاة. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يلتمسون حلق الذكر، فيحفون الذين يطلبون العلم والذكر ثم يعرجون إلى الله جل وعلا). يعني: يصعدون إلى أعلى، وهذا فيه دليل على علو الله جل وعلا، (فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك) إلى آخر الحديث. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار، فيجتمعون في الفجر والعصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم)، فالعروج من أسفل إلى أعلى، فهذه دلالة على أنهم يعرجون إلى الله جل وعلا، فالله في العلو فوق السماء. وهناك نوع آخر من أنواع الدلالة وهو: النزول، والنزول لا يكون إلا من علو. قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ينزل ربنا -نزولاً يليق بجلاله جل وعلا- إلى السماء الدنيا ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له). ومن الأدلة في السنة على العلو: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عندما جاءه الخارجي وقال: اعدل يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) أي: من على السماء. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب).

دلالة السنة الفعلية على علو الله عز وجل

دلالة السنة الفعلية على علو الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلو مما يدل على أن الله في العلو، ففي خطبة حجة الوداع وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالأمة يرشدهم ويعلمهم أن ربا الجاهلية موضوع والدماء موضوعة إلى آخر الحديث، ثم قال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم هل بلغت؟ قالوا: نعم، فأشار بأصبعه إلى السماء ونكت بها إليهم، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد)، فهذه دلالة بالفعل على علو الله جل وعلا؛ لأنه كان يشير بأصبعه إلى السماء ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) وهذا فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: لا يجوز لأحد أن يشير بأصبعه إلى السماء!

دلالة السنة التقريرية على علو الله عز وجل

دلالة السنة التقريرية على علو الله عز وجل في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه كانت له جارية ترعى غنمه، فأخذ الذئب شاة منها، فتغيظ عليها فصكها في وجهها، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم آسفاً على ما فعل نادماً عليه، يريد أن يكفر عما فعل، فقال: يا رسول الله أعتقها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها) وهذه الجارية عمرها من ست إلى تسع، يعني: أن الفطر السليمة لا تنحرف بنفسها، إنما يؤثر عليها غيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالهتهم عن دينهم) أي: غيرت فطرهم السليمة، قال عليه الصلاة والسلام: (ائتني بها، فأتى بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة)، فوسمها بالإيمان لعلتين: العلة الأولى: اعتقادها علو الله، وإقرارها بأن الله على العرش عال فوق السماء. والعلة الثانية: أنها أقرت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فوسمها بالإيمان لما اعتقدت فوقية الله جل وعلا، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي هذا الحديث إقرار فوقية الله، وإثبات علو الله جل وعلا، وفيه فائدتان: الفائدة الأولى: السؤال عن الله بأين؛ لأن الأشاعرة يحرمون ذلك، وهكذا الجهمية أهل التعطيل يحرمون السؤال عن الله جل وعلا بأين، فهذا أكمل الخلق وأعبد الخلق وأعلم الخلق بالله جل وعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الله بأين، فيقول للجارية: (أين الله؟) فلما قالت: (في السماء) أقرها على ذلك، و (في السماء) هنا بمعنى على السماء، وآمنت برسالته، فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة). فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على العلو، وقد بلغت التواتر، فإنها تصل إلى نحو خمسين حديثاً تثبت علو الله جل وعلا.

دلالة الإجماع على علو الله عز وجل

دلالة الإجماع على علو الله عز وجل الدلالة الثالثة من دلالات علو الله جل وعلا الإجماع: فقد أجمعت الأمة على علو الله جل وعلا، وعلى رأس هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الخلق برسول الله وبكلام رسول الله، وبمراد الله وبمراد رسول الله؛ فقد نزل القرآن عليهم بلسانهم العربي المبين، ولا خلاف بين العلماء أن الإجماع الذي يعمل به هو إجماع الصحابة، فأجمعت الصحابة على إثبات علو الله جل وعلا، فهذا أبو بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت فقبل بين عينيه وقال: (يا رسول الله طبت حياً وميتاً) ثم خرج في الناس وهم يتخبطون فهدأهم وقال: (عباد الله! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت). فهذا إجماع سكوتي من الصحابة؛ فإنه قال: (فإن الله في السماء) يعتقد ذلك، والصحابة يسمعون أنه يقول: (إن الله في السماء) ويقرون كلامه. أيضاً ورد عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما ذهب إلى بيت المقدس وكان على بعيره قالوا: لو ارتقيت برذوناً يعني لأجل أن الناس يهابونك ويعلمون أن لك مكانة وأنك أمير المؤمنين، فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه منكراً عليهم مشيراً إلى السماء: (الأمر من هاهنا لا من هاهنا) يعني: ليست المظاهر ولا المهابة ولا المكانات تحرك الناس أو تأتي بالنصر أو تأتي بالهزيمة، بل النصر من عند الله والتمكين من عند الله الذي هو في السماء، والتوفيق من الله جل وعلا الذي هو في السماء. فهذا أيضاً رد على الأشاعرة الذين يحرمون الإشارة إلى السماء؛ فإنه أشار إلى السماء وقال: (الأمر من هاهنا وليس من هاهنا). وفي رواية أخرى أنه مر في طرقات المدينة، فقابلته خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها فقالت: (إيه يا عمر! كنت في مكة تسمى عميراً، يعني: تلعب مع الأطفال فتضربهم، ثم أصبحت عمر والآن يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإن من خشي الموت أمن الفوت، ومن آمن بالوعد أمن من الوعيد، اتق الله يا عمر، فقال رجل: يا امرأة! أما تعرفين من تكلمين؟! تجرأت على أمير المؤمنين. قال: دعها فإنها خولة بنت حكيم التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات) وقع هذا بمحضر من الصحابة وهم يسمعون قول عمر: (من فوق سبع سماوات) ولا منكر له منهم. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! إن المرأة كانت تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت يخفى علي بعض حديثها، والله يقول من فوق سبع سماوات: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]). فقالت: (من فوق سبع سماوات). وكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. فهذا دليل على أن الصحابية الجليلة أم المؤمنين تعتقد أن الله فوق السماوات، وإقرار من أمهات المؤمنين على أن الله فوق السماوات. وفي التحكيم: لما جاء سعد بن معاذ وحكمه رسول الله في بني قريظة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احكم فيهم، قال: نعم، فقال: تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حكمت بما حكم به الله جل وعلا من فوق سبع سماوات)، فهذا اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الله جل وعلا فوق السماوات السبع. وعن ابن مسعود بسند فيه كلام والراجح التصحيح قال: (ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة عام إلى السابعة، وما بين السابعة والكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والله فوق العرش، ولا يخفى عليه منكم شيء سبحانه وتعالى). فهذه جملة من أقوال الصحابة رضوان الله عليهم تثبت الإجماع على فوقية الله جل وعلا، والكلام ما زال محصوراً في العلو المطلق. ودخل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على عائشة وهي في النفس الأخير وهي تموت رضي الله عنها وأرضاها، فكان يفعل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله) فقال: أبشري يا أم المؤمنين! إنك حبيبة رسول الله، وزوجته في الجنة، وبرأك الله من فوق سبع سماوات، فهذا دليل على أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يعتقد هذه العقيدة والصحابة يقرون بها.

دلالة العقل على علو الله عز وجل

دلالة العقل على علو الله عز وجل الدلالة الرابعة على علو الله جل وعلا: دلالة العقل، وأقصد بالعقل: القياس، أو محض النظر، فأقول: دلالة العقل تدل على فوقية الله، وعلى علو الله جل وعلا بمقدمات ونتائج، من المقدمات: أن السفول صفة نقص والعلو صفة كمال، والقاعدة العريضة عند كل الناس بالاتفاق: أن صفات الكمال يتصف بها الله جل وعلا، فيكون العلو صفة من صفات الله جل وعلا دل عليها العقل؛ لأن السفول صفة نقص، والله سبحانه وتعالى منزه عن النقص. ومن المقدمات والنتائج أن تقول: إن الله تعالى إما في العلو، وإما في السفول، فلو قلنا: إنه في السفول كان الكون فوقه، ولا يمكن السيطرة على ما يكون فوقه، فلزم أن يكون في العلو؛ لأنه هو الذي يدبر الكون، كما قال عز وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، فهذا التدبير يكون من علو.

دلالة الفطرة على العلو

دلالة الفطرة على العلو الدلالة الخامسة والأخيرة على علو الله جل وعلا: دلالة الفطرة، فما من أحد إلا وهو مجبول مفطور على علو الله جل وعلا، ولا ترى أحداً ضاق به المقام، أو نزلت به نازلة إلا وقلبه يهفو إلى أعلى، ونظره إلى السماء، وكأن القلب يحوم حول العرش، ودائماً ترى الراقي الذي يتعبد لله جل وعلا يسمو بروحه إلى السماء. فدلالة الفطرة تثبت علو الله جل وعلا في أكثر من نوع: فعندما تمر بالمرء ضائقة أو نازلة وأراد أن يدعو تراه يرفع يديه إلى أعلى، وهذه دلالة على أنه يدعو من في العلو، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما قال: (اللهم وعدك الذي وعدت، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك، وكان يرفع يديه حتى سقط رداؤه من على كتفيه) ولما دخل عليه الرجل، وقال: جاعت العيال وهلك الزرع ادع الله لنا أن يسقينا، رفع يديه إلى السماء، ولم ينزل حتى تحدر المطر من على لحيته. فالشاهد: أنه رفع يديه لله جل وعلا، فهذه فطرة الإنسان تراه يرفع يديه عند الدعاء وقلبه معلق بمن في السماء. وإذا أراد شيئاً ينظر إلى السماء مضطراً إلى ذلك، فسيد الخلق كان يحب أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فكان يديم النظر إلى السماء، قال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] فهو كان ينظر إلى أعلى؛ لأنه يعلم أن الله في العلو، فهذه دلالة الفطرة. وقد ورد بسند مختلف فيه، والراجح -والله أعلم- التصحيح: (أن سليمان ذهب ليستسقي، فلما ذهب ليستسقي ومعه حاشيته رأى نملة رافعة قوائمها، كأنها ترفع يديها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم اسقنا، فقال: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم) فهذه النملة خلق من خلق الله جل وعلا تعلم بفطرتها أن الله في السماء. وهناك قصة طريفة جداً لـ أبي المعالي الجويني لما كان يجلس في مجلس العلم، فجلس معه الهمداني فقال: كان الله وما كان العرش -أي: أن العرش ما كان مخلوقاً، بل كان الله وحده- والآن الله على ما كان قبل وجود العرش، ويؤول العرش بالملك، ويقول: ليس بمستوٍ على عرشه، فهو ينفي العلو، فقال له الهمداني: يا أستاذ! أريد منك إجابة، ما الذي يحدث معنا ضرورة في القلب إذا قال العارف بالله: يا ألله! يتجه قلبه ضرورة إلى السماء؟! فضرب أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني؛ لأنه يجد ذلك في قلبه ولا يستطيع أن يدفعه. فبالفطرة تعلم أن الله عال في السماء بائن من خلقه جل وعلا. هذا هو العلو المطلق، وهو علو الذات وعلو الشأن وعلو القهر، فعلو الشأن وعلو القهر اتفقت عليه جميع الطوائف، أما علو الذات فاختلفت فيه الطوائف كما سنبين. والعلو المقيد هو علو الله على العرش، كما قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، والعلو المطلق صفة ذات، والعلو المقيد صفة فعل، أي: تتعلق بمشيئة الله جل وعلا؛ إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو. س

معاني الاستواء

معاني الاستواء قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الاستواء يأتي في اللغة على ثلاثة أوجه: إما أن يتعدى بنفسه أو يتعدى بإلى أو يتعدى بعلى، فإذا تعدى بنفسه يكون بمعنى اعتدل وقام، أو اعتدل قائماً، يفهم هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (استووا ولا تختلفوا) أي: اعتدلوا حال كونكم قائمين، ويتعدى بإلى فيكون بمعنى القصد، وهذا هو الذي يؤوله المعطلة والمعتزلة والجهمية، وتكون على بمعنى إلى فيكون معنى استوى إلى كذا أي: قصد كذا، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] وليس معنى استوى إلى السماء علا وارتفع، بل المعنى: قصد السماء ليخلقها. ويتعدى بعلى كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وتكون على أربعة معان: علا وارتفع وصعد واستقر. وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة الرحمة وهي صفة ذاتية، يعني: أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، والعرش هو السقف الذي أحاط بالسماء، وهو في اللغة: السرير الخاص بالملك، والله جل وعلا وصف عرش ملكة سبأ بأنه عظيم فقال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] فكيف بعرش الله جل وعلا؟ فالعرش هو السرير الخاص بالملك، وهو سرير عظيم وصفه الله بالعظمة والمجد فقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، وقال جل وعلا: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] فوصفه بالكرم، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وصفه بالعظمة، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فرأيت موسى متعلقاً بقوائم العرش)، فدل هذا الحديث على أن للعرش قوائم، ويحمله ثمانية ملائكة، ويؤول أهل البدع العرش بالملك فيقولون: العرش معناه: الملك، فنقول لهم: هذا لفظ ظاهر قد صرفتموه عن ظاهره، فما القرينة الصارفة له عن ظاهره؟ وهل يصح أن نقول: الرحمن على الملك استوى؟! حاشا لله، فهم يقصدون بذلك أن تقول: الرحمن على الملك استولى كما سنبين تأويلاتهم الباطلة. وأيضاً هذا التأويل تأباه النفس، وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] فهل معنى هذا يحمل ملك ربك؟! وفي الحديث: إن موسى عليه السلام رآه النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بقوائم العرش. فهل معنى ذلك: أن موسى مسك وقبض على قوائم الملك بيده، لا بقوائم العرش؟! فهذا رد عليهم. والحديث الموقوف على ابن مسعود: بين (الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام) وصح أن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، فما بالكم بالعرش؟!

العرش مخلوق قبل السماوات والأرض

العرش مخلوق قبل السماوات والأرض هل خلق الله العرش أولاً أم السماوات والأرض؟ قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، ففي هذه الآية الترتيب الزمني للاستواء لا للخلق؛ لأن هناك آية أخرى أثبتت أن العرش خلق قبل السماوات، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ} [هود:7] أي: وكان عرشه على الماء حين خلق السماوات والأرض، إذاً العرش مخلوق قبل الأرض.

ذكر بعض الأدلة على علو الله عز وجل

ذكر بعض الأدلة على علو الله عز وجل ثم ساق المؤلف الأدلة على علو الله التي تكلم عنها سابقاً ومنها قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وفي هذه الآية التصريح بالفوقية. ثم سرد المؤلف الأحاديث من السنة، ومنها خمسة أحاديث ضعيفة، وسنأخذ بعضها ونعلق عليها تعليقات مهمة، فمن هذه الأحاديث الحديث رقم ستمائة وأربعة وخمسين، وفيه ضعف في سنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)، الشاهد من هذا الحديث (رفع نظره إلى السماء)، والنظر من دلالة الفطرة. والحديث ستمائة وسبعة وخمسون: عن ابن مسعود: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)، وجه الدلالة في قوله: (في السماء) التي بمعنى على السماء. والحديث ستمائة وثمانية وخمسون قال عمر: والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك، ثم قتله لقتلته به. يعني: جعلته في ذمة الله وأعطيته الأمان بإشارتك إلى السماء، كأنه يقول: الله يشهد بيني وبينك أني أعطيتك الأمان فغرر به؛ لأنه أشار إلى السماء فضمنه ذمة الله جل وعلا، فلما نزل قتله، قال عمر: أقتله به؛ لأنه غرر بالرجل، فوجه الشاهد من الأثر أنه قال: (أشار إلى السماء) أي: يعطيه ذمة الله جل وعلا الذي في السماء. وهنا خلاف فقهي هل يقتل المسلم بالمستأمن؟ الراجح أن المسلم لا يقتل بكافر ولو كان مستأمناً أو ذمياً، والأحناف فقط يقولون: يقتل به. وكلامهم ضعيف واستدلالاتهم أضعف، ويحمل هذا الأثر على أن عمر رضي الله عنه وأرضاه رأى أنه يقتله بالتغرير وبالخيانة، فهو قتل تعزير لا قصاص؛ لأن في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، ثم قال: فإن أرادوك على ذمة الله فلا تفعل وأنزلهم على ذمتك، فإنك إن تخفر ذمتك خير لك من أن تخفر ذمة الله جل وعلا)، والأثر موقوف على عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويقدم عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! وقد قال رسول الله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم) ومفهوم المخالفة لقوله: (تتكافأ دماؤهم) أن غير المسلمين لا تتكافأ دماؤهم مع المسلمين، ولا يقتل مسلم بذمي لكنه يعتبر عاصياً. والحديث الأخير، في تفسير هذه الآية: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال ابن عباس: لم يستطع أن يقول: من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم. وسئل مالك عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا الكلام أصله لـ ربيعة الرأي شيخ مالك، وأصله موقوف على أم سلمة، وبعضهم رفعه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أي: أنه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً على أم سلمة، فالاستواء في اللغة معلوم المعنى، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقد سئل الإمام مالك: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقال السائل: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه إنما معناه استولى. قال: اسكت! ما أنت وهذا؟! لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى. وهذه صفة نقص، وكأن الله جل وعلا نازعه أحد فأخذ منه الملك، ثم استولى بعد ذلك على الملك، حاشا لله.

استغناء الله عز وجل عن العرش

استغناء الله عز وجل عن العرش إن قيل: هل الله تعالى محتاج للعرش وحملته؟ قيل: ليس فوقيته كفوقية العباد، فالعرش ومن يحمل العرش يحتاجون إلى الله جل وعلا، والله هو الغني، والله لا يحتاج إلى العرش، بل صفة الاستواء لحكمة من عند الله جل وعلا، وهي صفة كمال تدل على أن الله إن شاء أن يفعل شيئاً فعله. وإن قيل: هل العرش يخلو منه سبحانه وتعالى؟ قيل: لا، بل العلماء قالوا: ينزل من عرشه ولا يخلو منه العرش؛ لأن الله ينزل بكيفية يعلمها الله جل وعلا، فالله ينزل نزولاً يليق بمقامه وجلاله وكماله، ولا نقول: يخلو منه العرش، ولا نعرف كيفية النزول، فالسماء لا تظله ولا تقله بحال من الأحوال.

الرد على أهل البدع في مسألة العلو وما يتعلق بها من مسائل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على أهل البدع في مسألة العلو وما يتعلق بها من مسائل موضوع صفات الله عز وجل مزلة أقدام لمن انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، وقد انقسمت حولها الفرق وتشعبت، ما بين غالٍ وناف ومثبت ومجسم، ومؤول ومحرف ومعطل ومشبه، وكان ذلك كله ناتجاً عن تحكيم العقول في قضايا الغيب، وعدم التسليم للنصوص، وعدم الوقوف على ما وقف عليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان.

صفة العلو، والأدلة عليها

صفة العلو، والأدلة عليها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله [باب: ما روي في سياق قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]]. علو الله جل وعلا علوان: علو مطلق، وعلو مقيد، فأما العلو المطلق فهو صفة ذاتية من صفات الذات، وأما العلو المقيد فصفة فعلية. قال الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى: [كنا عند أبي سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعربي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه إنما معناه استولى -إذاً أول الاستواء بالاستيلاء-، قال: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه إنما معناه استولى، قال: اسكت ما أنت وهذا، لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى، ثم ذكر بيت النابغة]. إن علو الله جل وعلا على عرشه لا ينافي قربه منا، ولا ينافي علمه وإحاطته بنا، فسبحانه جل وعلا يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره ولا جبل ما في وعره، فإن الله جل وعلا يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سبحانه وتعالى! وهو علي في قربه، قريب في علوه فقد أثبت الله جل وعلا أنه عال على العرش، والعرش فوق السماء، وأثبت أيضاً قربه من العباد، فقد قال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فقربه هنا قرب سمع وإجابة وإحاطة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم! إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً). أي: قريب منكم، يسمع دعاءكم فيستجيب لكم سبحانه وتعالى. وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء). الباطن الذي يعلم بواطن الأمور، فالله جل وعلا قريب من العباد، يعلم ما هم عليه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويثبت ذلك جلياً قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه موقوفاً عليه: (ما بين كل سماء وأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء الأخيرة إلى الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام، والله فوق ذلك، -يعني: فوق العرش- ويعلم ما أنتم عليه).

ثمرات الإيمان بصفة العلو

ثمرات الإيمان بصفة العلو الفائدة من تعلم واستيقان علو الله جل وعلا هي: أن العبد إذا علم أن الله علي بذاته، علي شأنه، قدير جليل عظيم فإنه كلما أخطأ في حقه استحيا منه، ولم يأت بما أتى به المشركون، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]. وإذا علم العبد شأن الله الجليل العظيم فإنه سيوقره أحسن التوقير، وسيبجله أعظم التبجيل والتعظيم سبحانه وتعالى. وأيضاً إذا علم العبد واستقر في قلبه ونفسه علو الله جل وعلا فإنه تعلو همته ويحب كل علو، سواء كان علو همة أو علو عبادة أو علو مكانة، فيرتقي بذلك تعبداً لآثار هذه الصفة، وهي صفة العلو لله جل وعلا، وكذلك إذا علم العبد أن الله علي عال على عباده بقهره وقوته فإنه لن يخاف إلا من الله جل وعلا، ولن يرتجف قلبه إلا من الله جل وعلا، ولن يذل إلا لله جل وعلا، ولن يتوكل إلا على الله، ولو اجتمعت جيوش الكفر كلها على أهل الإسلام فلا يعبأ بهم؛ لأنه يعلم أن الله فوقهم قاهر، وأن الله جل وعلا عال بذاته، قاهر لكل عبد من عباده، بربوبيته جل وعلا، وإذا أراد أن يجعل هذه الدنيا عاليها سافلها جعلها كذلك فلا يخاف إلا من الله، حتى لو أرجف المرجفون وقالوا: جمعوا وجيشوا الجيوش عليكم، فتسمو أرواحهم وتحوم قلوبهم حول عرش الرحمن؛ لأنهم يعلمون أنه القاهر القادر الرب الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا نستيقن بعلو الله جل وعلا، ونتعبد له بأثر هذه الصفة، التي إذا تعبدنا له بها استحيينا منه، فلا نبادره بالمعاصي، وإن وقعنا استغفرنا، ورددنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تغفر تغفر جماً)، أي: ذنباً جماً (وأي عبد لك ما ألما) فالله جل وعلا غفور رحيم، وعلو قهره يجعلك تستغفره مستحيياً منه خائفاً منه جل وعلا.

إنكار أهل البدع لصفة العلو

إنكار أهل البدع لصفة العلو أهل البدع أولوا في هذه الصفة، قال اللالكائي: أولوا (استوى) باستولى، وهناك فرقتان من أهل البدع أولوا هذه الصفة. الفرقة الأولى: الجهمية المعطلة، وهؤلاء هم نفاة الصفات. فينفون الاسم والصفة. وقد انتحلوا مذهب الحلولية، فنفوا أن يكون الله جل وعلا على عرشه، وقالوا: هو في كل مكان. أي: معي ومعك ومع الآخر، ومع هذا في بيته، ومع الآخر في متجره، وهنا في هذه البلدة مع الناس، ومعهم في فلسطين، ومعهم في مصر، ومعهم في أي ناحية من هذه الأمصار. وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان. وقالوا: عندنا في ذلك الأدلة القوية التي تثبت هذا. قالوا: وهذه الأدلة: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وأما من السنة فقالوا: جاء في الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم قال في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، قالوا: فهذه دلالة على أن الله جل وعلا معه بسمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فأولوا هذا الحديث على الحلول والعياذ بالله، هؤلاء هم الجهمية المعطلة الذين نفوا علو الله على العرش، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان. وقبل أن نرد عليهم نقعد قواعد مهمة جداً لطلبة العلم، نسير على هذه القواعد لنصد أي بدعة وأي تحريف أو تأويل.

قواعد مهمة في باب الأسماء والصفات

قواعد مهمة في باب الأسماء والصفات أهل البدع أولوا في هذه الصفة، قال اللالكائي: أولوا (استوى) باستولى، وهناك فرقتان من أهل البدع أولوا هذه الصفة. الفرقة الأولى: الجهمية المعطلة، وهؤلاء هم نفاة الصفات. فينفون الاسم والصفة. وقد انتحلوا مذهب الحلولية، فنفوا أن يكون الله جل وعلا على عرشه، وقالوا: هو في كل مكان. أي: معي ومعك ومع الآخر، ومع هذا في بيته، ومع الآخر في متجره، وهنا في هذه البلدة مع الناس، ومعهم في فلسطين، ومعهم في مصر، ومعهم في أي ناحية من هذه الأمصار. وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان. وقالوا: عندنا في ذلك الأدلة القوية التي تثبت هذا. قالوا: وهذه الأدلة: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وأما من السنة فقالوا: جاء في الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم قال في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، قالوا: فهذه دلالة على أن الله جل وعلا معه بسمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فأولوا هذا الحديث على الحلول والعياذ بالله، هؤلاء هم الجهمية المعطلة الذين نفوا علو الله على العرش، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان. وقبل أن نرد عليهم نقعد قواعد مهمة جداً لطلبة العلم، نسير على هذه القواعد لنصد أي بدعة وأي تحريف أو تأويل.

معنى التأويل

معنى التأويل القاعدة الأولى: التأويل قسمان: قسم مقبول، وقسم باطل مردود. والقسم المقبول: له تعريفان، أولاً: تعريفه في اللغة: التأويل: هو حقيقة الشيء. وثانياً: في الاصطلاح: له معان عدة:

من معاني التأويل الحقيقة التي يئول إليها

من معاني التأويل الحقيقة التي يئول إليها المعنى الأول: هو ما يئول إليه الشيء يعني: حقيقة الشيء. فتحقق هذا الأمر بمعنى الحقيقة التي يدل عليها، أو يئول إليها، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف:53] ففي عرصات يوم القيامة يئول لهم حقيقة ما أخبركم به النبي صلى الله عليه وسلم أنكم ستقفون عند الله جل وعلا ليس بينكم وبين الله ترجمان، فيسألكم عما فعلتم، وفي مالكم كيف أنفقتموه، وكل لحظاتكم وسكناتكم وحركاتكم ستسألون عنها، فترون النار عين اليقين، وكذلك الجنة عين اليقين. فهذا هو المعنى الأول للتأويل، وهو: حقيقة الأمر الذي يئول إليه، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهَُ} [الأعراف:53] أي: على حقيقته التي سردها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.

من معاني التأويل التفكير

من معاني التأويل التفكير المعنى الثاني للتأويل بمعنى: التفكير؛ أي: فهم الدلالة من النص والعمل به. كما قال ابن عباس في تفسير هذه الآية الكريمة في سورة آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7]. قال ابن عباس: لك أن تصل ولا تقف. فتقول: لا يعلمه إلا الله والراسخون، يعني الراسخون أيضاً يعلمون هذا التأويل. بمعنى: أن الراسخين يعلمون تفسير ذلك. فالله يعلم المعنى والدلالة، وأيضاً العلماء يعلمون الدلالة، وتفسير هذه الآية كما في الحديث الذي في مسلم عن جابر وفيه (والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله، فيعمل به ونعمل بما عمل به) يعني: يعلم الدلالة من الآيات إن كان أمراً أو نهياً، فنحن نتعلم ذلك منه ونعمل به.

التأويل عند الأصوليين

التأويل عند الأصوليين المعنى الثالث عند أهل السنة والجماعة من معاني التأويل، وهو المعروف عند الأصوليين: صرف اللفظ عن ظاهره بقرينة تثبت هذا الصرف. يعني: صرف اللفظ من الراجح إلى المرجوح بقرينة أو بدليل يثبت أن المراد من هذه الآية أو من هذا الحديث هذا اللفظ المرجوح. كأن نقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً. فظاهر النهي التحريم، وهذا الأصل. فإذا جاءت قرينة فصرفت النهي من التحريم إلى الكراهة سمي هذا تأويلاً. أي: تأويل من ظاهر النص الراجح إلى المرجوح. وهذا التأويل لا بد أن يكون له مسوغ في اللغة، وله قرينة من الشرع. فإذاً التفسير الثالث للتأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى المرجوح بقرينة، يعني: من الحقيقة إلى المجاز مثل قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، فالساق هنا لم تضف إلى الله، فلا تستطيع أن تقول: إن الساق المراد بها هنا: ساق الله جل وعلا. إلا أن تأتي قرينة تثبت أن الساق ساق الله جل وعلا. وقد ورد عن ابن عباس أثر في ذلك وفيه ضعف. والغرض المقصود من ذلك أنه قال: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))، يعني: هل من الموقف على الصراط أو من موقف يوم القيامة؟ وفي اللغة مسوغ لذلك، فإنهم يقولون: اشتدت ساق الحرب، يعني: حمي الوطيس وهول الحرب، فهذا المسوغ قد أصبح ظاهراً. إذاً: فهذا له مسوغ من اللغة. والصحيح: أن الساق المذكورة هنا هي: ساق الله جل وعلا؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والغرض المقصود: أنه من الممكن أن يئول اللفظ الظاهر بالقرينة، يعني: من الحقيقة إلى المجاز. هذا القسم الأول، وهو التأويل الصحيح.

التأويل الباطل

التأويل الباطل التأويل الباطل المردود هو: تأويل اللفظ الظاهر عن ظاهره بدون مسوغ لا بقرينة من اللغة ولا من الشرع ولا من العرف. فهذا التأويل باطل ومردود. مثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الله)، أو (حتى يضع رب العزة رجله في النار فتقول: قط قط!). فقد أول أهل البدعة والضلالة الرجل بالطائفة من الناس، فقالوا: الرجل معناها الطائفة من الناس، يعني: حتى يضع الله طائفة من الناس في النار فتقول: قط قط، فهذا باطل ومردود؛ لأنه لم يرد عن أهل اللغة وأهل العربية الأقحاح أن: الرجل معناها الطائفة من الناس. فهذا تأويل باطل مردود. وكذلك تأويل أهل البدع لاستوى بمعنى: استولى، فإنه لا مسوغ له في اللغة، حتى بيت الشعر الذي احتجوا به فيه مقال، وهو شعر لرجل نصراني وليس بعربي، فهذا التأويل تأويل باطل. إذاً: التأويل منه ما هو مقبول، وهو: التأويل الصحيح، ومنه ما هو باطل مردود، يرد على صاحبه. فلا بد من النظر في تأويلات القوم هل هي تأويلات باطلة مردودة أم هي تأويلات مقبولة لهم فيها مسوغات؟

كلام الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تناقض

كلام الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تناقض القاعدة الثانية: كلام الله جل وعلا لا اختلاف فيه، قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فكلام الله لا اختلاف فيه ولا تناقض، فإذا أثبت الله شيئين فهما ثابتان لإثبات الله لهما، وإذا نفى شيئين فهما منفيان لنفي الله لهما، وإذا كان العقل لا يقبلها فنقول له: قف عندها، واجعل عقلك خلف ظهرك، لأن الله سيعلم ذلك لبعض أناس فيعلمونك الذي لم يقبله عقلك. وهذه القاعدة مهمة جداً في الرد على أهل البدع.

الرد على الجهمية المعطلة أهل الحلول

الرد على الجهمية المعطلة أهل الحلول نرجع إلى أهل البدع وهم الطائفة الأولى الذين أولوا الاستواء وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، وعطلوا العلو وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، معي ومعك، ففي أي مكان كنت فالله معك، واستدلوا بهذه الآية العظيمة وهي قول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)). ونقول في الرد عليهم: أولاً: خالفتم ظاهر القرآن؛ لأن المعية لا تستوجب المخالطة، وخالفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يفسر ذلك كما فسرتموه، وخالفتم إجماع الصحابة؛ لأن الصحابة أجمعوا على أن المعية هي معية العلم والإحاطة، هذا الرد إجمالاً.

معنى المعية

معنى المعية أما الرد بالتفصيل فنقول: إن المعية معيتان، وموجب المعية في اللغة على قسمين: القسم الأول: معية تستلزم المخالطة والمماسة، كأن تقول: الشاي مع الحليب، فهذه تستلزم الحلول والمخالطة. أو تقول: الملح مع الماء، فهذه أيضاً تستلزم المخالطة. القسم الثاني: لا تستلزم المخالطة، بل هي بمعنى: مطلق المصاحبة. كما تقول العرب: سرت والقمر، يعني: سرت مع القمر، ولا قائل بأن القمر نزل من عليائه فوضع يده في يد الرجل الذي كان معه فتسامرا في الليل، وإنما سار معه القمر وهو في عليائه، فهذه معية بمعنى مطلق المصاحبة، أو تقول: سرت والنيل، فالواو هنا واو المعية، يعني: سرت مع النيل، ولم يخرج النيل من مجراه يسير مع الرجل. وإنما هذه المعية بمعنى: مطلق المصاحبة. إذاً: معية الله جل وعلا في هذه الآية: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) تحتمل أن تكون المعية التي تستلزم المخالطة والمماسة؛ لأن لها مسوغاً في اللغة أو أنها تكون بمعنى مطلق المصاحبة، دون استلزام المخالطة، والذي يرجح لنا أحد الاحتمالين هي: القرائن المثبتة، والقرائن هنا: أولاً: القاعدة المعروفة التي تكلمنا عنها آنفاً، وهي: أن القرآن لا اختلاف فيه. وقد أثبت القرآن بأن الله في عليائه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وأثبت أنه في السماء، فقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!). وقال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء). فهذه الأدلة أثبتت فوقية الله جل وعلا، وعلوه على عرشه، ثبوتاً راسخاً ودلالة قطعية متواترة. وقد تواترت الأدلة من القرآن والحديث وأجمع الصحابة على علو الله، وأن الله فوق العرش. إذاً: هذه المعية حق؛ لأن الله أثبتها كما أثبت علوه على عرشه، وأثبت أيضاً معيته لعباده، فقال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)). إذاً: فقد أثبت القرآن أن الله فوق العرش وليس في الأرض. وأنه في السماء جل وعلا، وهم يقولون: في كل مكان، في السماء وفي الأرض، وفي البحر وفي الجبال، وفي كل مكان. فنقول لهم: أخطأتم، فقد أثبت الله في كتابه العزيز أنه في السماء، وتردد الاحتمال بين معية المخالطة ومعية مطلق المصاحبة لا أثر له؛ لأنه ثبت بالأدلة أن الله فوق السماء. إذاً: المعية هنا معية مطلق المصاحبة.

المعية معيتان

المعية معيتان إن معية الله جل وعلا معيتان: معية عامة، وهي معية الإحاطة والعلم والإحصاء، ويدل على ذلك قول الله جل وعلا في هذه الآية في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] أي: بعلمه. {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. فبدأ بالعلم، ولا بد أن تكون النتيجة مرتبطة بالمقدمة. فالمقدمة كانت بالعلم، ولا بد أن تكون النتيجة بالعلم. فمعنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] أي: بعلمه وإحصائه وإحاطته جل وعلا. كما قال في الآية الأخرى: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] أي: أحصى ما هم عليه من العمل. وقال الله تعالى في نفس هذه الآية، وهذه أوضح آية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [المجادلة:7]، فبدأها بالعلم، وختمها بالعلم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، ومطلق المصاحبة تستلزم علم وإحاطة، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، أي: بعلمه؛ لأنه يعلم ما في السماوات والأرض، {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7]، أي: بعلمه، {أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. وختمها بالعلم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]. فابتدأها بالعلم وختمها بالعلم فدلت هذه المقدمة والنتيجة على أن المعية المذكورة في هذه الآية هي معية العلم والإحاطة. وهذه المعية العامة يستوي فيها المؤمن والكافر. المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد، ينصر الله بها عباده المؤمنين، ولا يمكن أن يصل عبد إلى هذه المعية إلا بتقوى الله والإيمان والإسلام، قال الله تعالى حاكياً عن موسى عندما قال فرعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56]. قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:57]. ثم قال عن موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فمعية المصاحبة هنا تستلزم النصرة والتأييد، ((إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)) أي: بنصره وتأييده وإحاطته، والنبي صلى الله عليه وسلم لما حبس في الغار مع أبي بكر رضي الله عنه قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟). قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أي: بنصره وتأييده وكفايته جلا وعلا. نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين بهذه المعية، معية النصرة والتأييد. إذاً: الله جل وعلا معنا، وهو فوق عرشه. هذا الرد الأول على هذا الاستدلال الذي استدلوا به.

اللوازم الباطلة على القول بأن الله في كل مكان

اللوازم الباطلة على القول بأن الله في كل مكان وكما رددنا عليهم بالنص نرد عليهم بالعقل، فنقول: قولكم هذا له لوازم باطلة، ولازم الباطل باطل. ومن هذه اللوازم الباطلة على قولهم: إن الله في كل مكان أنه يكون معنى قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: وأنت في بيتك فهو معك، وفي الحمام معك، وفي البحر معك، وفي الأسواق معك، فهو معك في كل مكان! إذاً: فاللازم الباطل الأول هو قولكم في تفسيركم ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)): في كل مكان، وتجعلون الله في الأماكن التي يتعالى عنها العبد الذي هو معروف نهايته، فمن باب أولى أن يتعالى عنها الرب جل وعلا. إذاً: هذا لازم باطل، وهو أن الله في كل مكان، أي: في مكان القاذورات، وفي الحمامات، وهذا اعتقاد مزري، يعني: ما يقبله عاقل أبداً. اللازم الثاني من اللوازم الباطلة في هذا القول: أنك إذا قلت: إن الله معي هنا ومعك في البيت ومعه في المتجر ومعه في فلسطين ومع الآخر في مصر وآخر في أميريكا وآخر في فرنسا فمعنى هذا أنه جل وعلا يتجزأ، وحاشا لله أن يكون كذلك. اللازم الثالث من اللوازم الباطلة: اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير وعدم البيان، والله جل وعلا ما أنزل عليه القرآن إلا ليبين لهم ما أنزل إليه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. وإذا لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسير هذه الآية ومدلول هذه الآية: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أنه في كل مكان، فقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير كفر؛ لأنه بلغ وقال: (هل بلغت؟! اللهم فاشهد!)، والله عز وجل يقول: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. فإن لم يبلغ واتهم بالتبليغ فهذا كفر والعياذ بالله، وهذا من اللوازم الباطلة. وهذا أول رد عليهم في هذه الآية.

معنى قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض)

معنى قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) فإن قالوا: عندنا دليل آخر أقوى من هذا الدليل لا تستطيعون الرد عليه، وهو قول الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))، والواو للعطف، فيكون المعنى: هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وهذا يدل على أن الله جل وعلا في كل مكان! فنقول لهم أولاً: القرآن لا يتضارب، وقد أثبتنا بالدليل المتواتر أن الله فوق العرش، ويعلم ما نحن عليه، كما أجمع الصحابة والتابعون وتابعو التابعين على ذلك، فإذا قد أثبتنا بالتواتر أن الله فوق العرش فإن ظاهر هذه الآية: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) تتساوى مع أن الله فوق العرش فقط، فنقر بهذه، ولكن ما نقر بالثانية، وهي: أن الله في الأرض. يعني: هذه الآية بالتواتر أثبتت أن الله فوق السماء، يعني: على العرش فوق السماوات، أما في الأرض فلا نقر؛ لأن الآيات الثابتة ثبوت الجبال الرواسخ لا تقر هذا الكلام، وهو أن الله في الأرض، وحاشا لله أن يكون كذلك، هذا الرد إجمالاً. أما التفصيل فنقول: أولاً: الاستدلال بهذه الآية بعيد جداً من ناحية دلالات الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ لأن القاعدة في أسماء الله جل وعلا: أن كل اسم من أسماء الله هو اسم من الأسماء الحسنى، ومن تمام الحسن: أنه يتضمن صفة كمال، فالرد على الاستدلال بهذه الآية من الدلالات: أن قول الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))، أن الله اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة الإلهية. وصفة الإلهية تعني: أنه إله، يعني: تألهه القلوب وتحبه وتعبده الأبدان والقلوب. إذاً: فقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) يعني: أنه المألوه المحبوب في السماوات، المعبود فيها، وهو الله في الأرض، أي: المألوه المحبوب المعبود في الأرض. إذاً: أول رد عليهم من دلالات الأسماء، فإن اسم الله الأعظم الله يتضمن صفة الإلهية، وصفة الإلهية تعني: أنه هو الذي تألهه القلوب، يعني: تعبده القلوب وتحبه، فالله مألوه، يعني: معبود في السماوات وفي الأرض. فإذاً: هذه الآية حق على ظاهرها، وهذا تأويل بالقرائن. الرد الثاني: وهو من القراءات المتواترة، فهناك وقف لازم عند قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، فيوقف وقفاً لازماً؛ لأن الآية بعد ذلك مستأنفة، وليست معطوفة مرتبطة بالتي قبلها. فنقرأ: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، ثم نسكت، وهذا قول ابن جرير، فنقف على (السماوات) ثم نستأنف: (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) فقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) قد دلت الأدلة على أن الله في السماوات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، وفي سؤاله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]. فكل هذا يتواكب مع قول الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)). ثم نستأنف: ((وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ))، وهذا موافق لنص حديث ابن مسعود الموقوف: (الله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه). وقد نقل عن الإمام أحمد وأنس بن مالك والإمام الشافعي في عقيدة أهل الحديث: أن الله في عليائه فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه، علمه لا يخلو منه مكان. إذاً الرد الثاني: أننا نقف وقفاً لازماً عند قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، والأدلة كلها قاطبة تؤكد هذا، ثم نستأنف ((وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ))، يعني: مع أنه فوق السماء فإنه يعلم ما أنتم عليه، ولا تخفى عنه خافية. الرد الثالث على ذلك: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، أننا لو قلنا: إن الله جل وعلا في السماوات وفي الأرض دل ذلك على أن الله في كل مكان، ويلزم منه اللوازم الباطلة التي سبق أن سردناها.

معنى قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)

معنى قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]. قلنا: الجواب عن هذه الآية مثل الرد على التي قبلها، والذي يعضد ما نقول حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية في سنن أبي داود قال: (ربنا أنت في السماء، رحمتك في السماء، فأنزل رحمتك في الأرض)، وفي رواية: (أمرك في السماء) أي: شرعك في السماء، وأمرك في الأرض. فقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: إله في السماء يأمر وينهى، فيسمع ويطاع ويعبد، كما في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما بين أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع)، ومنهم الذي يحوم حول العرش، ويسبح لله جل وعلا، ومنهم الراكع، ومنهم الساجد، فهو الإله في السماء يأمر وينهى ويدبر الشئون، ويسمع له ويطاع، وهو إله في الأرض، أي: يأمر وينهى، ويسمع ويطاع شرعاً لا كوناً؛ لأن الله قدر كوناً أن بعض العباد يكفرون بأمره الشرعي. وهذا هو الرد على هؤلاء الذين نفوا معية الله، ونفوا علوه جل وعلا على عرشه، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، واستدلوا بقول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وبقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)) وبقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].

معنى قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)

معنى قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) وقد استدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فقالوا: القرب هنا يثبت هذه الآية: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) فنقول: إن القرب هنا قرب إحاطة وعلم وإحصاء، وقرب إجابة وسمع، قال الله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ))، ثم فصل بقوله: ((قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) وقد جاء في البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إنها تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها، ويخفى عني بعض حديثها! وكانت في طرف البيت، والله من فوق سماواته يقول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1]. فالقرب هنا: قرب سماع، وقرب إجابة. فهو قرب مخصوص بعناية المؤمنين، ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ))، أي: قرب خاص، وقرب إجابة للداعي الذي آمن بالله جل وعلا واتقاه. الطائفة الثانية هم المحرفة، الذين يدعون زرواً وبهتاناً بالمئولة، وهم الأشاعرة الذين أولوا صفة الاستواء بالاستيلاء، وسنرد عليهم من الكتاب والسنة ومن العقل والفطرة، والاستواء صفة فعل، فبعدما خلق الله العرش استوى عليه ولو قلنا: إنه ينزل فذلك لا يستلزم خلو العرش؛ لأن نزول الله لا نعلم كيفيته، كما أن استواء الله لا نعلم كيفيته، فإن الكون كله في يده كحبة خردل بيد أحدكم. وقد أورد الأشاعرة على أهل السنة بقولهم: هناك لوازم باطلة أيها المجسمة من إثبات صفة الاستواء، وهي: أنه عندما تقولون: إن الله استوى على العرش فمن اللوازم الباطلة أنه يلزم المماسة وإذا استوى على العرش فهو محدود فإذاً: الله محدود. وقالوا: إن الله جل وعلا يحتاج إلى العرش لو استوى عليه، وسنبين الجواب عن هذه الشبه في الدرس القادم إن شاء الله.

الرد على أهل البدع في الاستواء

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على أهل البدع في الاستواء من عقائد السلف إثبات علو الله المطلق والمقيد، وقد خالف هذه العقيدة طوائف من المتبدعة، فبعضهم أنكر العلو المطلق، وبعضهم أنكر العلو المقيد، وقد رد أهل السنة على شبهاتهم، وبينوا بطلانها.

الفرق التي أنكرت علو الله المطلق

الفرق التي أنكرت علو الله المطلق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا عن علو الله جل وعلا، وقلنا: إن العلو علوان: علو مطلق وعلو مقيد، وتكلمنا بالتفصيل على هذه الصفة، وأثبتنا أن العلو المطلق هو صفة ذاتية من صفات الذات الجلية لا تنفك عن الله جل وعلا، والعلو المقيد هو العلو على العرش كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وأثبتنا بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع هذه الصفة العظيمة الجليلة، ثم بعد ذلك تكلمنا عن آثار تعبد العبد بهذه الصفة، فلو علم العبد أن الله جل وعلا فوقه وفوق العباد كلهم، وهو قاهر جل وعلا، وكل العباد في قبضته، وكل الكون كحبة خردل في يد أحدكم، وهو إذا قال للشيء: كن فيكون، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وبينا أنه لا تنافي بين علو الله جل وعلا وقربه من العبد، وأن معية الله جل وعلا معيتان: معية عامة ومعية خاصة، فالمعية الخاصة: هي التي تستجلب النصر، وتستجلب قدرة الله وإحاطته جل وعلا، ونصره وتأييده، قال تعالى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فهذا قول موسى عليه السلام لما جاء فرعون بكل جنوده خلف موسى، وقال أتباع موسى كما قال تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في أحلك اللحظات لما قال له أبو بكر: يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فطمأنه بقلب ثابت ويقين راسخ يعلم أن قوة الله ليس فوقها قوة، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا)، فأنزل الله سكينته على رسوله، وأيده بنصر وجنود من عنده، نسأل الله جل وعلا أن تتنزل علينا معيته الخاصة، ويجعلنا ممن يؤهل لأن يرفع عند ربه جل وعلا محاطاً بقدرة الله جل وعلا ورعايته ونصره. وتكلمنا عن أهل البدع الذين نفوا هذه الصفة، وهم طائفتان: طائفة: نفت العلو المطلق، وطائفة: نفت العلو المقيد، فالطائفتان اللتان نفتا العلو المطلق الصوفية والجهمية وهم الذين قالوا: إن الله في كل مكان، ونفوا علو الله جل وعلا، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، قالوا: هو في السماء وفي الأرض، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وقالوا: القرب هنا دلالة أنه ليس فوق العرش كما تقولون، واستدلوا أيضاً بالحديث القدسي: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ثم قال فيه: (وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).

الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المطلق

الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المطلق قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] القرب هنا لا ينافي العلو، فقد أثبت الله جل وعلا أنه فوق عرشه، بائن من خلقه، يعلم ما هم عليه، وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فالقرب هنا له معنى آخر غير المعنى المفهوم عند الجهمية أو الصوفية، ألا وهو قرب العلم، وانظر إلى أول الآية وانظر إلى وسط الآية، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]، فذكر العلم ليبين أنه محيط بهذا الإنسان، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، ثم فسر القرب هنا: بالملائكة، قرب بالعلم والإحاطة والإحصاء وقرب بالملائكة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، ثم فسر الآية بعدها فقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]، فالذي يتلقى هم الملائكة، وهم الذين ذكرهم الله جل وعلا وعناهم بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، نظير ذلك قول الله في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:83 - 85]، فالقرب هنا ليس قرب ذات الله جل وعلا بل قرب إحاطته وإحصائه وملائكته، والقرينة التي أثبتت ذلك هي قول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُوْنَ} [الواقعة:83 - 85]، والشاهد قوله: {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، فلا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا. والمراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] أي: الملائكة التي جاءت لقبض الروح، فالملائكة في هذه اللحظة هم الذين يقبضون الروح، ملك الموت ومن يعاونه من الملائكة. فإن قلنا: القرب هنا: قرب الملائكة، وقرب علمه وإحاطته جل وعلا، فالإشكال: أن الله نسب ذلك لنفسه، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وفي الآية الأخرى قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، فنقول: لا إشكال في ذلك، لأنك إذا قلت: بنى عمرو بن العاص الفسطاط، صح ذلك، ولكن إذا نظرنا إلى الواقع نجد أنه أمر الناس بالفعل، ونسب له، لأنه الآمر، فعندما تقول: بنى عمرو بن العاص مسجداً فليس هو الباني، ولكنه هو الآمر، فنسب له، لأنه الآمر. وفي القرآن ما يدل على ذلك، قال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، والذي يقرؤه بالاتفاق هو جبريل، ونسب إلى الله حل وعلا؛ لأن جبريل ما قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بأمر من الله جل وعلا، فلا إشكال في أن ينسب الفعل إلى الله، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي: أمرنا الملائكة أن تكون معه، تحصي حسناته وحركاته وضحكاته، وتكتب كلامه كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وكذلك في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، فملك الموت هو الذي يسحب هذه الروح بأمر من الله جل وعلا. تبقى شبهة واحدة أوردوها في الحديث القدسي، قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: من كان ولياً لله جل وعلا فنصرته من عند الله، ومن استطاع أن يحارب الله أو أطاق حرب الله فليحارب الله جل وعلا، فليرينا كيف ينتصر على ربه جل وعلا، فجندي الريح أو الذباب أو الناموس لو يسلطه الله على عباده أجمعين سيبيتون هلكى ولكن لا يفقهون، والمقصود من الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) قالوا: هنا مخالطة، إذاً: الله جل وعلا في كل مكان، وهذا مدعاة للحلول الذي يحتجون به، ويقولون: الله في كل مكان، حاشا لله! والرد عليهم هين وسهل، فتفسير الحديث يكون بالحديث؛ لأن الرسول مبين كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فانظر في هذا الحديث، وفي رواية أخرى أن الله تعالى قال: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ثم قال: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش) أي: بقدرتي وبإحاطتي ونصرتي وتأييدي، وهذه معية خاصة، وهذه المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد، أي: فبنصرتي ينتصر، فبقوتي يبطش، فبرضاي عليه لا يسمع إلا ما يرضي، فبحفظي لا ينظر إلا لما يرضي، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، فهذا هو الرد عليهم؛ لأن الحديث يفسره ما بعده، ومعنى قوله تعالى: (كنت سمعه) أي بقوتي وقدرتي ونصرتي وتأييدي يسمع ويبصر ويبطش. فهذه الطائفة نفت العلو المطلق، والطائفة الأخرى نفت العلو المقيد.

الفرق التي نفت العلو المقيد

الفرق التي نفت العلو المقيد العلو المقيد هو: الاستواء على العرش، والذين نفوا هذا العلو: هم الأشاعرة، الذين يطلق عليهم متكلمي أهل السنة والجماعة، وهم محرفو الكلم عن موضعه فقد قالوا في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، قالوا: وعندنا مسوغ، والأصل في اللفظ أن يكون على ظاهره، حتى تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، وإذا لم يوجد مسوغ أو قرينة فالتأويل باطل مردود. قالوا: عندنا المسوغ، وعندنا القرينة من لغة العرب، والشعر يدل على ذلك، قال الأخطل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فأول ما دخل دب الرعب في أهل العراق، فتركوا له المدينة دون إراقة دماء، فهذا هو المسوغ لهم، وقالوا: وأنتم أيها المجسمة! لو قلنا بقولكم أن استوى على العرش معناه: علا واستقر للزمنا لوازم، واللوازم التي ذكروها لوازم باطلة هي: اللازم الأول الباطل: أن هناك مماسة بين الله وبين العرش، والعرش محدود حتى ولو وسع السماوات والأرض فهو محدود، ولو قلتم بالمماسة فقد جعلتم لله حداً، وهذا تجسيم، فنفر من هذا، وهم يتهمونا باطلاً. واللازم الثاني الباطل قولهم: أيها المجسمة! -يقصدون أهل السنة والجماعة-: إننا لو قلنا: إن الله استوى على العرش بمعنى علا واستقر فالله يحتاج إلى هذا العرش، بمعنى: -ليقرب إلى الأذهان- أنا الآن جالس على هذا السرير فأنا أحتاج إليه، ولو سحب من تحتي لوقعت، فأنا أحتاج إليه لأنه يسندني، ولو قلتم بهذا القول: علا واستقر على العرش فيلزم من قولكم هذا أن الله جل وعلا الغني محتاج إلى العرش!

الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المقيد

الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المقيد نرد على شبهات الأشاعرة في نفيهم الاستواء بما يلي: الرد الأول: أن الله جل وعلا قد أثبت في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع، وبالفطرة، وبالعقل أنه فوق العرش كما أسلفنا في الأدلة الكثيرة السابقة، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فأثبت الفوقية وأثبت الاستواء على العرش، فالاستواء على العرش معناه في اللغة: العلو، فإن كان بمعنى الاستيلاء فسيقوله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول هو المبين عن الله، وإن لم نعرفه من الرسول صلى الله عليه وسلم فنعرفه ممن ينقل عن الرسول وهم الصحابة أو التابعون أو تابعو التابعين في القرون الخيرية الثلاثة، وهل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه بمعنى: استولى؟ لم ينقل بحديث ضعيف ولا موضوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولم يقله الصحابة والتابعون الذين نزل القرآن بلغتهم، وفهمهم لكلام الله وحصافة ذهنهم معلومة، وهم إذا خاطبهم الله فهموا كلامه، قالت أم سلمة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الاستواء في اللغة معلوم، بمعنى: علا واستقر، ولذلك وهم بعض العلماء فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم سلمة لم تأت به من عند نفسها، وهي ليلاً ونهاراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: الاستواء معلوم، يعني: علا واستقر، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهي أصل هذا القول وليس الإمام مالك، فقد فهمت قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه بمعنى: علا واستقر، وأنتم لستم أفهم من رسول الله، ولا من أم سلمة، ولا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من أم التابعين، ولا من تابعي التابعين، ولا من القرون الخيرية بالإجماع، كما قال الشافعي: أنا وأهل الحديث على الله فوق عرشه، وعلمه في كل مكان، وكما قال مالك وشيخه ربيعة: الاستواء معلوم -أي: علا واستقر- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهذا هو الأصل في اللغة، وهذا هو الظاهر من الآية، وليس هناك قرائن تصرف هذا الظاهر، بل توجد قرائن من القرآن تعضد وتثبت هذا الظاهر، وهي آيات يثبت الله فيها أن الاستواء بمعنى العلو والاستقرار، قال الله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، فالاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، وقال الله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، واستوت أي: استقرت على الجبل، وهو الجودي، فهذه قرائن من القرآن تثبت لنا أن الاستواء معناه العلو والاستقرار، أثبت لنا ذلك أولاً: المعنى الظاهر وعضد الظاهر قرائن أخرى من القرآن تثبت هذا المعنى، وكذلك الصحابة الذين هم أفهم الناس عن الله وعن رسول الله، فعندهم أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، فباللغة وبالشرع وبالصحابة الكرام بفهمهم وحصافة ذهنهم علمنا أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، لا بمعنى الاستيلاء، هذا أولاً. ثانياً: نتنزل ونقول: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، فيلزم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمة حائرة، وعصى ربه ولم يبين كما أمره، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فلم يبين للناس أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وترك أمته حائرة لا تفقه عن الله، ولا تعقل عن الله، ولا تتعبد بآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهذا اللازم الأول الباطل: اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بعدم التبيين عن الله جل وعلا؛ لأنه لو كان معنى الاستواء: الاستيلاء لقاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولبينه، وما دام لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم فكفاكم ذلك، فلا تتكلموا فيه؛ لأنكم لستم بأفقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا. أذكر: أن أعرابياً مر فسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، زرتم المقابر ليس معناه: الإقامة، بل يعني: أنك مت وقبرت، وهذه زيارة، فقال: والله إن الزائر ليس بمقيم! أعرابي فهم هذا بفطرته، وقال: والله! إن الزائر ليس بمقيم، ويعني كلامه: أنه ما دام أنه زائر فلا يمكن أن يقيم، وطالما هو زائر في القبر فلا بد أن يرجع، ولا يمكن أن يقيم، إذاً: سيخرج ويبعث، واستدل على البعث بهذا. وأيضاً: أعرابي سمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، إلى أن قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، قال: أعد علي هذه القراءة، فقرأها إلى أن قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، فقال الأعرابي: لو غفر ورحم ما قطع، قال: قل: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]؛ فلأنه عز وحكم فقطع، بعزة وبقوة، فهم بالسليقة، ولو كان الفهم أن الاستواء: القوة والاستيلاء، لأظهروا لنا ذلك، ولم يخفوه علينا وقد أمروا بالتبيين. اللازم الثاني: إذا تنزلنا وقلنا: الاستواء بمعنى: الاستيلاء، فهو باطل، وهو بمعنى: أن الله أخذ منه العرش، وبعد ما سلب منه العرش تقوى ثم غلب الذي غلبه وأخذ منه العرش، فهل هذا رب؟! وهل يستحق أن يكون رباً الذي يضعف في لحظات، ثم يستولي على ملكه، ثم بعد ذلك يهزم الغالب، ويأتي ويأخذ ملكه؟! فمن لازم قولكم الباطل اتهام الله جل وعلا بصفات النقص. اللازم الثالث الباطل: أنهم قالوا: أنتم تقولون: نحن نقول: إن استولى أي: غلب، يلزم منه أنه أخذ الملك ممن غلبه، ونحن لا نقصد ذلك، بل نقصد أن استولى بمعنى: مطلق التمليك، ومطلق الملك لله، نقول لهم: أيضاً هذا لازم باطل؛ لأن الأرض ملك لله، والجبال ملك لله، والبحر ملك لله، والسماء ملك لله، ولم يخص الله جل وعلا هذه الصفة بالعرش، فلم يقل: الرحمن على الجبل استوى؛ لأنه ملكه، وإذا قلتم بمطلق التمليك، فالكون كله ملك لله، فبدل أن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فليقل: الرحمن على الجبل استوى، أو الرحمن على الأرض استوى، أو الرحمن على البحر استوى فخص الاستواء بالعرش؛ لأن هذا خاص به، وصفة من صفاته الفعلية، وليست بمعنى الملك. إذاً: الرد عليهم بأن أصل الشرع، وظاهر اللفظ واللغة، وقول الصحابة والإجماع على أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار لا بمعنى الاستيلاء، وإذا قلنا تنزلاً معكم: الاستواء بمعنى: الاستيلاء يلزمنا لوازم باطلة، ولازم الباطل باطل، وفيه اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في التبيين، واتهام الله جل وعلا بصفات النقص. الثالث: إذا قلتم بمطلق التمليك وأن الاستيلاء هذا استيلاء على ملكه الذي غاب عنه، فنقول: هو مالك للكون كله، ولم يخص صفة فعله هذه بالعرش إلا أن تكون مزية للعرش، وأنها حكمة من عند الله جل وعلا، وصفة من صفات الفعل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، هذه أدلتنا على أهل التحريف، ونرد على بدعهم بهذه الأدلة التي استدلوا بها.

الرد على الأشاعرة في تأويلهم لآيات الاستواء

الرد على الأشاعرة في تأويلهم لآيات الاستواء الأصل في اللفظ أنيحمل على الظاهر حتى تأتي قرينة تؤوله من الظاهر إلى المؤول، قال الأشاعري: عندنا المؤول من اللغة، وهو بيت الشعر. قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فنقول: أولاً: هذا ليس ببيت عربي، وأهل اللغة قاطبة لا يعرفون هذا البيت، ولا يقرون به، بل هذا البيت لرجل نصراني، وليس بعربي أصيل، فأهوينا هذا الدليل. ثانياً: إذا تنزلنا معهم وقلنا: إن هذا البيت عربي أصيل، من عرب أقحاح، وإذا نظرنا فيه وجدنا أن هناك قرينة تجعلنا نقول بأن الاستواء في هذا البيت الاستيلاء، للقرائن المذكورة وهي: من غير سيف أو دم، مهراق. قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق فالسيف لأجل العلو والاستقرار أم لأجل القتال والاستيلاء؟ فلزاماً يأول الاستواء: بالاستيلاء، لقرينة السيف والدم المهراق، لأن هذه من لوازم الاستيلاء والمغالبة. إذاً: هذا ليس بيتاً عربياً أصيلاً فلا يؤخذ به، وإن تنزلنا وقلنا: هو بيت عربي، والأصل والظاهر أن استوى بمعنى العلو والاستقرار، وهناك قرينة من نفس البيت أولت العلو والاستقرار إلى الاستيلاء، هذه القرينة هي: ذكر السيف، وعدم إراقة الدماء، وقوله: استوى بشر على العراق، لا يعني: علا واستقر بغير سيف ودم مهراق؛ لأنه دخل بالغلبة والاستيلاء، وأدوات الحرب جعلتنا نؤول الاستواء بمعنى الاستيلاء، أما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لا يوجد أي قرينة من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب تصرف المعنى إلى استولى، وفي هذا الكتاب أكثر من أثر فيه: لا نعرف في لغة العرب أن الاستواء بمعنى: الاستيلاء بل الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، بمعنى: علا واستقر. يبقى لنا من شبهاتهم اللوازم التي ألزمونا بها، وليست بلازمة، اللازم الأول أنهم قالوا: لو قلنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: علا واستقر، حدثت المماسة، أي: مس الرحمن العرش، والمماسة تدل على الحد؛ لأن العرش محدود، فإذاً: جعلنا لله حداً، فنقول لهم: ننظر في هذا اللازم هل هو باطل أم حق حتى نعمل به، والحد كلمة واصطلاح من المتأخرين لا من المتقدمين، وقد قعدنا قاعدة عقيدية للإخوة الأفاضل في الكلمات المبهمة في العقيدة وكيف نتعامل معها فلا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نسأل عن المقصود منها؛ لأننا لو نفيناها لعلها لله جل وعلا، فنكون نفينا شيئاً في حق الله أثبته الله جل وعلا لنفسه، ولو أثبتناها لربما كانت منفية عن الله جل وعلا لنفسه، وهذه لفظة مجملة لا بد أن نفصل فيها ونعلم مقصودكم من الحد، إن قصدتم بالحد التمييز، يعني الله جل وعلا عال على عرشه بائن من خلقه فهذا حق، فنحن نؤمن به ونقول به، ومعنى الحد هنا: التمييز، تمييز بين الخالق وبين المخلوق لا كما تقول الصوفية وابن سينا وابن عربي، هؤلاء الكفرة الذين قالوا: لا فرق بين الخالق والمخلوق، فإن قصدوا في الحد أنه: التمييز وأن الله بائن من خلقه، فوق عرشه والخلق؛ فهذا صحيح -إن صح التعبير- فالله بائن من خلقه، والحد بمعنى: التمييز فهذا حق ونحن نقول به، وإن كنتم تقصدون أن الحد معناه: التجسيم، أي: أن الله جسم، فهذا لا نقبله، بل نرده عليكم، وما جركم إلى ذلك إلا أنكم شبهتم الخالق بالمخلوق، ونرد عليكم بثلاثة أمور: أولاً: أنتم قلتم: المماسة تكون بالحد، أي أن الله جل وعلا له حد، فكيفتم صفات الله جل وعلا، فنقول لكم: هل رأيتم الله لتكيفوا الصفة، وتبينوها لنا، وتقولوا: إن هذا حد؟ وهل رأيتم مثل الله؟ وهل أخبركم الثقة الصادق المصدوق أن الله جل وعلا إذا استوى على العرش كانت هذه مماسة وحداً؟ ستجيبون: بلا، إذاً: لا رأيتم الله، ولا رأيتم مثيله، ولا أخبركم الصادق المصدوق بهذا، فإذاً قد افتريتم وأتيتم ببهتان وزور، ولا يقبل كلامكم، وكيفتم ونحن لا نكيف، والصحابة أجمع لا يكيفون، وقد قالوا: الاستواء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. إذاً لو قلتم: إن هناك مماسة وحداً، فإن قصدتم بالحد التمييز، والله بائن من خلقه فنحن نقول بذلك، فنكون قد اتفقنا وما افترقنا، وإذا قصدتم بذلك تكييف الصفة، فنحن بقول: بأن الله علا على العرش واستقر وهو غير محتاج إلى العرش حاشا لله! قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:15]، فمن باب أولى أن يكون العرش محتاجاً إلى الله جل وعلا، والسماوات فقيرة إلى الله جل وعلا، والشمس والقمر فقيران إلى الله تعالى، وكل ما في الكون فقير إلى الله، والله هو الغني، فالله أثبت أنه الغني، فهو الغني وله الغنى المطلق، وكل الخلائق محتاجة إلى الله جل وعلا، فقيرة إليه. وإذا قلتم: إن الله علا واستقر فهو محتاج للعرش، فقد كيفتم استواء الله جل وعلا، وهذا التكييف مردود كما قلنا في سابقه، فالأشعرية أولوا الاستواء بالاستيلاء وليس لهم وجه في ذلك، حتى البيت الذي قالوا: هو مسوغ لنا، ليس بعربي أصيل، واللوازم الباطلة التي ألزمونا بها ليست بلازمة.

علم الله غير مخلوق

علم الله غير مخلوق قال المؤلف: (ما دل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق) شرح هذه الجملة يبدأ بالإعراب وهو الذي سيجعلنا نفصل القاعدة التي أريدها، فعلم الله: علم مضاف، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بذاتها، ومعان فالعين القائمة بذاتها عندما تضاف إلى الله تكون إضافة تشريف، مثل: الكعبة، هي عين، فتقول: الكعبة بيت الله، فالكعبة عين قائمة بذاتها، وإضافتها إلى الله تشريف، وليست صفة من صفاته، وكذلك: عيسى روح الله، عيسى عين قائمة بذاتها، وهو مضاف إلى الله إضافة تشريف، فإضافة المعاني إضافة صفة إلى موصوف، وإضافة الأعيان إضافة تشريف، أما قولنا: عيسى روح الله، أي: روح من عند الله، كما قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: من عنده للقرائن الدالة على ذلك، قائمة بذاته.

الأسئلة

الأسئلة قال المؤلف: (ما دل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق) شرح هذه الجملة يبدأ بالإعراب وهو الذي سيجعلنا نفصل القاعدة التي أريدها، فعلم الله: علم مضاف، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بذاتها، ومعان فالعين القائمة بذاتها عندما تضاف إلى الله تكون إضافة تشريف، مثل: الكعبة، هي عين، فتقول: الكعبة بيت الله، فالكعبة عين قائمة بذاتها، وإضافتها إلى الله تشريف، وليست صفة من صفاته، وكذلك: عيسى روح الله، عيسى عين قائمة بذاتها، وهو مضاف إلى الله إضافة تشريف، فإضافة المعاني إضافة صفة إلى موصوف، وإضافة الأعيان إضافة تشريف، أما قولنا: عيسى روح الله، أي: روح من عند الله، كما قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: من عنده للقرائن الدالة على ذلك، قائمة بذاته.

هدف الأشاعرة من إنكار الاستواء

هدف الأشاعرة من إنكار الاستواء Q ما هدف الأشاعرة من إنكار الإستواء؟ A هدف الأشاعرة بقولهم الاستواء بمعنى: الاستيلاء أنه لا يوجد عرش، وكان قائدهم أبو المعالي الجويني يقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، يعني لا يوجد عرش، فهو يومئ إلى ذلك، فهم يريدون أن يصلوا إلى إنكار العرش أصالة، ولذلك قلنا لهم: نجعل الأمر على الظاهر، وقلتم: هو استيلاء للعرش. وصفة العرش نحن لا نعلمها، لكن نقول: هو استولى على العرش واستولى على الأرض والجبال، فلم خص ذكر الاستواء على العرش؟ وقولهم: لو قلنا بالعلو والاستقرار كما تقولون لكان لازم هذا القول: المماسة والحاجة للعرش، وهو لازم باطل، والقاعدة الأصولية تقول: لازم الباطل باطل، فهم قالوا: لو قلتم: علا واستقر، فقد مس، ولو مس فقد حد، ونحن نقول: أنتم هكذا كيفتم الصفة، ونحن لم نكيف الصفة، ولا نعرف كيف استوى، فأنتم شبهتم استواء الخالق باستواء المخلوق فنتج عندكم المماسة، فتكلمتم بها، ففرتم من التشبيه بالإنكار. فإن قيل: هل عندما ينزل الله جل وعلا إلى السماء الدنيا، يخلو منه العرش؟ قلنا: لا يخلو منه العرش.

الجمع بين النزول والاستواء

الجمع بين النزول والاستواء Q كيف نجمع بين النزول وبين الاستواء؟ A الجمع ظاهر جداً، فليس بلازم أنه إذا نزل إلى السماء الدنيا أن يخلو من العرش؛ لأننا لا نعرف كيفية الاستواء، والكيفية تليق بجلال الله وكماله جل وعلا، فهو مستو على عرشه وينزل إلى السماء الدنيا، والكون كله كحبة خردل في يد أحدكم، ونحن نؤمن بأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، وقادر على أن ينزل إلى السماء الدنيا وهو على العرش، ولا يخلو منه العرش.

حكم المنكرين للصفات

حكم المنكرين للصفات Q حكم المنكرين للصفات؟ A الذين ينكرون صفات الله ينقسمون إلى قسمين: قسم غلاة ظهرت لهم الأدلة، وقسم توابع لهم، فالغلاة الذين ظهرت لهم الأدلة وعاندوا على ما هم عليه هم كفار، كفرهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فغلاة الجهمية والشيعة كفروا، أما التابعون الذين لا يفقهون شيئاً فلا يكفرون، وعذرهم الجهل، ونحن قد قعدنا قاعدة في الإيمان هي: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة، وتزال عنه شبه الكفر، أي تتوافر الشروط وتنتفي الموانع، وكفى بالجهل قبحاً أن يفر منه أهله، فـ ابن مسعود قال: كن عالماً، أو متعلماً، أو محباً لأهل العلم، ولا تكن الرابع فتهلك، فالأولى: أن تتشرف بنور العلم، والثانية: إن لم يستطع العلم، والله جل وعلا يقسم بين عباده فضله كيفما شاء، فنقول للعامي: آمن بكل صفة تسمعها، ويقول: الاستواء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والنزول كذلك، يقول فيه: النزول في اللغة معلوم، والكيف مجهول والسؤال بدعة، والإيمان به واجب، وكل صفة فعلية تأتيه يقول فيها هذا الكلام.

النووي وابن حجر ليسا من الأشاعرة

النووي وابن حجر ليسا من الأشاعرة Q هل النووي وابن حجر من الأشاعرة؟ الإمام النووي والإمام ابن حجر لا يصطفان لصف الأشاعرة، فهما متأثران بكلام الأشاعرة، وليسا بأشعريين، بل هما من أهل السنة والجماعة، لكنهما انغمسا في ذلك؛ لأن البلدة التي كانا فيها انتشر فيها منهج الأشاعرة، ولذلك الذي يقرأ صحيح مسلم أو يقرأ فتح الباري يجد أن شارح صحيح مسلم فيه تذبذب، لكنه قليل، فمرة يأتي بكلام أهل السنة والجماعة وكثيراً ما ينقل عن المازري وهو أشعري جلد، وكلامه تابع له، فهو ناقل مقلد دون أن يدري بهذا. أما الحافظ ابن حجر فهو متذبذب يذكر مذهب أهل السنة ثم يذكر الأشاعرة، ويكثر من النقل عن أهل السنة، ويقل من الكلام عن الأشاعرة، فهما حسبا أن هذا هو المنهج الصحيح، وعاشا على أن هذا هو المنهج الصحيح، ولم ينتشر عندهما المنهج الصحيح، والأشاعرة انتشروا بسرعة عجيبة؛ لوجود العقل عندهم، وكانت المعتزلة تضرب في أهل السنة والجماعة، فقالوا هؤلاء: إذا تكلمتم بالعقل نتكلم معكم بالعقل. فغروا الناس بعقولهم، ومن يتكلم بالمنطق يردون عليه به وشيخ الإسلام ابن تيمية ما زالت الأمم إلى الآن تحتج به، والصوفية غلبته وهو يحاجهم، وكادوا أن يقتلوا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنهم قالوا: وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب قالوا: هذا الرجل ـ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ لا يفهم شيئاً، يقول: الأصل والفصل والفرع، والصوفية هؤلاء هم أفضل ناس، الغر يقول بهذا الكلام. فالمنطق جعل سمعتهم عالية وانتصر مذهبهم، فحسب بعض العلماء مثل الإمام النووي والحافظ ابن حجر أن هذا هو المذهب الحق، وما أحد جاء يناظرهم ويبين لهم الحق، ونحن نربأ بهم أن يعاندوا الحق بحال من الأحوال، ولا يمكن لإنسان إلا متجرئ متنطع أن يجعل النووي أو يجعل الحافظ ابن حجر في صف الأشاعرة أبداً، جاهل متنطع من يجعل هؤلاء في صفهم، فأنا إذا جلست مع شيخ، وليس عندي غير هذا الشيخ، وما أسمع في هذه البلدة من شيخ يتكلم بعلم إلا بعلم هذا الرجل، وحتى لما رحلت ما وجدت أحداً يتكلم إلا بكلام هذا الرجل، وليس عندي ما يضاده، وليس عندي علم يخالفه، فلما تعلمت على شيخي تعلمت منه هذا الكلام، فالحافظ ابن حجر كان ينقل كثيراً دون أن يمحص النظر، فيغتفر له، وتجعل في بحر حسناته، وجهوده المباركة الشريفة. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وجزاكم الله خيراً.

صفة العلم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة العلم صفة العلم من الصفات الذاتية الثبوتية التي لا تنفك عن الله عز وجل، وهي صفة أبدية أزلية، فهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون. وقد اختص الله نفسه بعلم الغيب المطلق، ووهب لعباده شيئاً من علم الشهادة، إلا أن هناك بعض الاستثناءات التي خص الله بها بعض أنبيائه فأطلعهم على شيء من علم الغيب تأييداً ونصرة لهم.

ثبوت صفة العلم لله في الكتاب والسنة والعقل

ثبوت صفة العلم لله في الكتاب والسنة والعقل

ثبوت صفة العلم في الكتاب

ثبوت صفة العلم في الكتاب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوتي الكرام! ما زلنا مع سياق ما دل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم، وأن علمه غير مخلوق، فقولنا: الله عالم بعلم نرد بذلك على المعتزلة الذين قالوا: إن الله عالم بذاته، وقولنا: علمه غير مخلوق، نرد على ما قاله بعض المبتدعة. وعلم الله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والعقل. قال الله عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، وقال جل وعلا: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، استدل بالفعل وهو يعلم، وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، وتنوعت الدلالات لسعة علم الله جل وعلا، كقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]، وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، وعلم الله صفة من صفات الله جل وعلا الثابتة بالكتاب والسنة والعقل، وهي صفة أزلية أبدية ثبوتية ذاتية. فصفة العلم ثابتة في الكتاب على تنوع الدلالات. ومن الأدلة كذلك: قول الله جل وعلا: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وقال جل وعلا: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]، والأسماء الحسنى تدل على علم الله جل وعلا، قال الله تعالى في سورة يوسف: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]، فقرن بين العلم والحكمة. ومن مقتضيات الأسماء التي تثبت علم الله جل وعلا: الخبير الذي علم بدقائق الأمور، واللطيف الذي علم بما خفي ودق، وأيضاً الشهيد، فإن الله جل وعلا لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. ومن الدلالات المتنوعة التي تثبت علم الله جلا وعلا واتساع علم الله جل وعلا قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [يونس:61].

ثبوت صفة العلم في السنة

ثبوت صفة العلم في السنة ورد في الصحيح في حديث الاستخارة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) وهذا هو الشاهد على صفة العلم من السنة. والحديث الذي ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في الخمس الذي لا يعلمهن إلا الله جل وعلا وقرأ: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].

ثبوت صفة العلم بالعقل

ثبوت صفة العلم بالعقل دلالة هذه الصفة بالعقل من وجهين: الوجه الأول: النظر إلى الكون الشاسع المتقن المحكم الذي فيه كل هذا الإتقان، فإذا أردت أن تنظر هل فيه خلل رجع إليك البصر خاسئاً وهو حسير، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]، فمن تدبر هذا الكون المحكم المتقن من قبل الله جل وعلا، علم أن هذا الإحكام وهذا الإتقان نابع عن إرادة، يعني: أراد الله أن يخلق هذا الكون بهذا الشكل وهذا الإحكام وهذا الإتقان، وهذه الإرادة تستلزم العلم بالمراد، فلا يمكن لأحد يريد شيئاً إلا وهو يعلم هذا الشيء الذي يريده، فالإرادة تستلزم العلم بالمراد. الوجه الآخر من أوجه الدلالة بالعقل على علم الله: أن الله جل وعلا شرف بعض عباده بهذا العلم، وبين أنه بالنسبة لهم صفة كمال؛ كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فعلم يوسف عليه السلام كيف يكيد ليأخذ أخاه، وهذه من صفات الكمال ليوسف، ووصف الله عز وجل يعقوب بأنه عليم فقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]، فهذه صفة كمال في العبد، والقاعدة بين الرب وبين العبد قياس الأولى، فإن اتصف العبد بالكمال فمن باب أولى أن يتصف الخالق بالكمال؛ لأن الخالق هو الذي أوزع وأودع في المخلوق هذه الصفة، فصفة العلم ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وبالعقل، وأقوال الصحابة كما سنقرؤها من هذا الكتاب.

علم الله محيط بكل شيء

علم الله محيط بكل شيء علم الله جل وعلا واسع شاسع، يحيط بكل شيء علماً، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:29] ما دق وما خفي، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، يعلم جل وعلا كل شيء ولا يخفى عليه أي شيء: دق أو جل، عظم أو صغر؛ لأن الله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، وعلم الله الواسع جل وعلا يتمثل في أنه عَلِمَ ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون. علم ما كان: فالله جل وعلا يعلم ما سبق، وقد قص علينا بعلمه ما كان من قصص، وأيد نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة وهي: أن يقص على أهل الكفر وأهل قريش ومن يدعوهم إلى الإسلام القصص السابقة، وهي وحي من الله جل وعلا يدل على علم الله السابق، فقص الله علينا خلق آدم، وأول الخلق، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، وأنه أمر إبليس ولكنه أبى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فأنزل إبليس من الجنة وأنزل آدم منها أيضاً. وقص علينا من قصة نوح عليه السلام عندما أوحى إليه أن يعمل السفينة {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون:27] {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27]، وأيضاً قص علينا أنه أنجاه ومن معه في الفلك وأغرق الباقين. وقص الله علينا جل وعلا خبر ضيف إبراهيم المكرمين، وأن إبراهيم بشر بغلام حليم، وبشر بعده بغلام آخر عليم، وقص الله علينا قصص كل من سبق، فهذه دلالة على علم الله بما كان، والله جل وعلا قصها على النبي وجعلها عبرة ليعتبر بها، وهدى ليهتدي بها، ومعجزة وآية له حتى يبين أنه ما أتى بهذا الكلام من عنده وأنه ليس أساطير الأولين، بل هو وحي من الله جل وعلا. وعلم ما يكون مستقبلاً، فالله جل وعلا علم ما يكون وقصه وأوحاه إلى نبيه، ومنه ما تحقق بعدما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، ومنه ما تحقق في عصرنا هذا، ومنه ما ننتظر أن يتحقق. أما النوع الأول وهو ما تحقق: قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] وحدث ذلك وتحقق، وكذلك وهم في مكة في أشد ما يكونون، أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، وتحقق وحدث كما قال الله تعالى، أيضاً أوحى الله إليه أنه سيدخل المسجد الحرام، وأنه سيدخل فاتحاً مكة، وتحقق قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27]. وأوحى إليه أشياء لم تحدث في عصره وحدثت بعد ذلك مثل النار التي بين أنها من أمارات الساعة وخرجت كما قال الإمام النووي، قص علينا من الأمارات ما نراها عياناً كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وقد تحقق ذلك، (وجاء أعرابي فأخذ بخطام الناقة فقال: يا رسول الله! متى الساعة فسكت، ثم قال: من السائل عن الساعة؟ قال: أنا، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وقد تحققت أشياء كثيرة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً وهذه متعلقة بحكم ما يكون. والذي لم يتحقق وننتظر تحققه وهو على مشارف التحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً آمنا) الروم أهل الكفر أهل الكتاب النصارى، (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فيغدرون، سيأتونكم تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً)، هذه من الأخبار التي في علم الله فيما يكون مستقبلاً قد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ونحن الآن ننتظر أن تتحقق أو نحن على مشارف أن تتحقق، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. أيضاً: ننتظر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (ينطق الشجر والحجر، فيقول: يا مسلم يا عبد الله! تعال خلفي يهودي فاقتله)، وهذا أيضاً من علم الله بما يكون مستقبلاً وأخبر به، ففيه ما تحقق وفيه الذي لم يتحقق حتى الآن ونحن ننتظر أن يتحقق، وكل ذلك مكتوب وقد فرغ منه، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون من الممكنات أو من المستحيلات، من الممكنات كقول الله تعالى مثلاً في أهل الكفر الذين يستمعون الآيات ويستمعون الذكر ويعرضون: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:22 - 23] هذا لم يحدث، فلو حدث كيف سيكون؟ لا أحد يعلم إلا الله، فقال الله تعالى مبيناً لنا بأنه يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]. ومن ذلك أيضاً: خروج الصف المنافق مع الصف المسلم، فإنه يغري بالصف المسلم ويخذل الصف المسلم، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:46 - 47] فعلم الله ذلك، فهم لم يخرجوا، والله جلا وعلا يبين لنا أنه علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلو خرجوا ماذا سيكون؟ وكيف التصور؟ وماذا يفعلون في الصف المسلم؟ بين ذلك في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، هذه من الممكنات. أيضاً من الممكنات في عرصات يوم القيامة: عندما يقف أهل الكفر على النار، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27 - 28]، فلو أعادهم الله إلى الدنيا لن يفعلوا ما قالوا، الله الذي يعلم هذا قد بين لنا ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. أما المستحيلات التي يعلمها الله جل وعلا لو حدثت مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فمستحيل أن يكون في الكون أكثر من إله، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لفسد الكون، وفساد الكون أيضاً الله جل وعلا صوره لنا، فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه دلالة على سعة علم الله جل وعلا، فمن سعة علم الله أنه أحاط بكل شيء علماً، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.

معنى قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم)

معنى قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) يوجد إشكال لابد من الإجابة عنه: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، (حتى نعلم)، حتى في هذه الآية للغاية، فالله جل وعلا يبتلى الناس ليميز بين المجاهد والصابر وبين المنافق، وقال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166] وقال الله تعالى: ((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، ثم قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] وقد ذكرنا أن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وأحاط بكل شيء علماً، فكيف يقول الله في كتابه الكريم: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، ويقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]؟ الإجابة عن هذا الإشكال هو أن الله جل وعلا علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، لكن لابد أن يخرجه لأرض الواقع، ولابد أن يقطع دابر حجة الظالمين-، وتقدير الكلام: حتى نعلم علماً نحاسبكم عليه؛ لأن الله لو جاء بالعبد فحاسبه على علمه السابق دون أن ينزله إلى أرض البسيطة وقال للعبد: أنا علمت سابقاً أنك ستعمل كذا وكذا وكذا وسأحاسبك عليه اليوم، فهو سيقول: لا يا رب! لو أنزلتني إلى الأرض لسمعت وأطعت الرسل، فكيف تحاسبني على علمك السابق لي؟! إذاً: الإشكال يجاب عنه بجواب هين جداً ألا وهو: أن الله جل وعلا لما علم سابقاً أخرج هذا العلم على أرض الواقع ليحاسب الناس ويقطع حجتهم. أقول: علم الله سابق لأفعال العباد، وقد كتب ذلك، وقد فرغ ربكم من العباد، فأصحاب الجنة في الجنة وأصحاب النار في النار، أما قول الله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31]، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فهذا العلم ليس علماً مستجداً لله جل وعلا، لكن العلم فيه بالنظر إلى العباد، وهذا العلم يسمى علم محاسبة، وعلم إخراج إلى أرض الواقع؛ حتى يقطع دابر الحجة التي يحتج بها العبد على الله جل وعلا، ولذلك الله جل وعلا في سورة طه قال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، فلا حجة للعباد أمام الله جل وعلا؛ ولذلك الله جل وعلا قال في الرسل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].

أقسام العلم

أقسام العلم

علم الشهادة

علم الشهادة العلم علمان: علم شهادة وعلم غيب، أما علم الشهادة فكله بجزئياته وكلياته يعلمه الله جل وعلا، وقد فرق الله بعض العباد بعلم الشهادة ممن اصطفاهم على البشر وعلى الناس، اصطفى ملائكة فعلمهم، واصطفى من البشر هم الأنبياء ثم الأولياء والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فكفى بهم شرفاً أن يعلمهم الله من علم الشهادة، وذلك أن الله قد وسم ووصف بعض عباده بالعلم، قال جل وعلا مادحاً ليوسف عليه السلام: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وقال عن أبيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]، والنبي صلى الله عليه وسلم بين شرف العلم وشرف العلماء فقال: (العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)، فهذا يبين أن علم الشهادة يمكن للعبد أن يتعلمه. والله يصطفي من رسله من يشاء ليعلمهم، كما في الصحيح في قصة موسى والخضر عليهما السلام، لما جاء موسى إلى الخضر، وقال له: أنت على علم علمكه الله لم يعلمنيه، وأنا على علم علمنيه الله جل وعلا لم يعلمك إياه، ثم نظر إلى عصفور نقر في البحر، فقال: ما علمي وعلمك إلى علم الله جل وعلا إلا كما نقر هذا العصفور من البحر. فعلم الشهادة يشترط العباد بما علمهم الله جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أفضل النعم على الإطلاق بعد الإيمان والتقوى هي العلم، بل العلم أفضل من الشهادة، وورد في بعض الآثار وإن احتاجت إلى تحقيق السند: مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، نقول هذا دم، فطلب العلم أفضل الأعمال على الإطلاق، والعالم شهيد وزيادة، فالعلماء هم الذين فضلهم الله بعلم الشهادة.

علم الغيب

علم الغيب القسم الثاني من العلم: علم الغيب، وعلم الغيب أيضاً على قسمين: غيب مطلق، وغيب نسبي. الغيب المطلق: هو صفة من صفات الله الذاتية التي لا ينازع فيها الله جل وعلا إلا كافر، لا ينازع أحد الله جل وعلا في علم الغيب إلا كافر، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا أسلوب حصر، يعني: كل علم الغيب لله جل وعلا، فمن نازع الله جل وعلا في هذه الصفة فقد كفر؛ لأنه كذَّب القرآن، ونازع الله في صفة يختص بها الله جل وعلا دون غيره، فالغيب المطلق يعلمه الله وحده، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (أنت منهم يا أبا بكر)، لما ذكر المصطفى أبواب الجنة: باب الريان باب الصدقة فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل تفتح هذه الأبواب لواحد من عباد الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم وأنت منهم) فهذا علم غيب، وكلما غاب عن الإنسان فهو غيب. الغيب النسبي: يكون غيب بالنسبة لأحد، وشهادة بالنسبة للآخرين، فما يحدث مثلاً في أمريكا الآن هو غيب عنا، لكن عن أهل أمريكا ليس بغيب وإنما هو شهادة، فهذا هو الذي يسمى غيباً نسبياً، فالغيب المطلق: هو ما غاب كلية عن البشر. الغيب المطلق لله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]، إذاً: أو كل علم الغيب لله تعالى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بشر العشرة بالجنة على وجه الخصوص، فهذا من الغيب، ومنه الآخرة، وما بعد عرصات يوم القيامة، وما بعد المحاسبة، هذا غيب مطلق كيف يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم والله جل وعلا يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، فكيف يكون الجمع بين هذه الآية وأن النبي علم علماً أخروياً؟ الجمع يكون بأن الغيب المطلق يعلمه الله جل وعلا واستثنى الله استثناءات محدودة جداً من هذا الغيب أطلع الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم عليها ولحكمة بليغة ألا وهي: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة ربانية ليثبت للناس أنه يوحى إليه من قبل الله جل وعلا؛ ولذلك لما جاء جبريل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن موعد الساعة، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، فالغيب المطلق لله ولا يعلمه إلا الله جل وعلا، ومن نازع الله في هذه الصفة فقد كفر؛ لأنه كذب بالقرآن ونازع صفة لله يختص بها الله جل وعلا، واستثنى الله من علم الغيب المطلق بعض أنبيائه فخصهم باستثناء محدود وعلم محدود عن الغيب المطلق تأييداً لهم.

علم الغيب النسبي

علم الغيب النسبي بعض الناس يذهبون إلى الكهنة ويقولون: قد أخبرونا مستقبلاً بأشياء وقد وقعت وقد حدثت ورأيت كثيراً من الناس ذهبوا إلى الكهنة والعرافين فأخبروهم بأمور مستقبلة وحدثت فوقعت وهذا من الغيب، فكيف عرف الكهنة هذا الغيب والله جل وعلا ينفي علم الغيب عن أي أحد إلا هو؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يركب بعضهم فوق بعض -هكذا- فيسترق مسترق السمع فيأتيه الشهاب فإما يأتيه الشهاب قبل أن يصل بالكلمة وإما يصل بالكلمة ثم يأتيه الشهاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيقرقرها في أذن الكاهن فيكذب معها مائة كذبة)، والذي يدل على ذلك الحديث الصحيح في خبر ابن صياد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فكان يشك في ابن صياد هل هو الدجال أم لا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختبئ له بين الأشجار، وكان نائماً وهو يزمزم يقول: زم زم، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم أمه فقالت: يا صائد! هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء قال: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني كاذب وصادق، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: خُلط عليه الأمر، ثم قال: إني خبأت لك خبيئة)، والنبي صلى الله عليه وسلم يسأله مختبراً، ولذلك قلنا: لا يسأل الجن أبداً مسترشداً، حتى وإن استدل بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجوز الاستعانة بالجني المسلم على قضاء حوائج المسلمين، فهذا الكلام غير صحيح، واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بفعل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه حين غاب عنهم عمر، فذهب إلى امرأة لها رئي -يعني جني- وقال: سلي رئيك أين عمر؟ فسألته، وقالت: هو في المكان الفلاني، فذهبوا فوجدوه. وهذا الأثر يحتاج إلى إثبات السند، وهو واقعة عين، وعندنا الأدلة التي تثبت عدم جواز الاستعانة بهم بحال من الأحوال؛ لأن هذا غائب، ونحن اشترطنا شروطاً عظيمة جداً في الاستعانة وهي: حي حاضر قادر، والجن لا نراه، فهو غائب، فانتقض بذلك شرط من شروط الاستعانة، فالجن غائب عنا فلا يجوز الاستعانة به، لكنه قال: خبأت لك خبيئة ليرى كذب هذا الرجل وما الذي يحدث له، فقال: الدخ، حتى ما قال: الدخان، يعني: الجن سمعوا الدخ، قبل أن يقولوا: الدخان، والشهاب أتاه فقتله، فنزلت على أذنه يقرقرها في أذنه، فقال: الدخ وما أكمل الدخان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه كاذب: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، فالكهنة يعرفون الكلمة من المسترق فيكذبون عليها مائة كذبة، ولا يعلمون الغيب، والصحيح الراجح أن الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ومن نازع في هذه الصفة فقد كفر، فحكم الكهنة الذين يخبرون بالأمور المستقبلة حتى ولو تحققت أنهم كفار، فالفعل فعل كفري. والغيب النسبي يحل لنا إشكالاً كبيراً جداً وهو إشكال المنديل، وهو أن أناساً عندنا في مصر يذهبوا إلى العراف فيضرب الورق، فيقول له: من الذي سرق البضاعة هذه؟ فيقول له: فلان بن فلان سرقها الساعة الفلانية، ويذهبون فيجدونه، فيضربوه ضرباً شديداً، فيعترف اعترافاً صحيحاً: نعم سرقتها في الوقت الفلاني وفي نفس المكان، وهذا ليس إخباراً بالغيب؛ لأن الغيب هنا غيب نسبي، فهو لبعض المخلوقين شهادة، فالقرين مع هذا السارق رآه كيف يسرق ومتى سرق فأخبر الكاهن هذا الذي يضرب الودع أو يكلم الجن، ومثله التنويم المغناطيسي، فهو يكلم قرين النائم، فقرين الكاهن يذهب إلى القرين الثاني فيسأله فيجيب ويقول له: سرقها في الوقت الفلاني، وهو مختبئ الآن في المكان الفلاني، فالإشكال حُلَّ، فالغيب النسبي هو ما غاب عني وهو شهادة بالنسبة للآخرين، فيغيب عن بعض الناس ويكون شهادة لبعض الناس، وهذا يعلمه البعض ويخفى عن البعض.

الطوائف التي أنكرت علم الله جل وعلا

الطوائف التي أنكرت علم الله جل وعلا إن الله علم عالم ويرد بهذا على المعتزلة الذين يقولون: عالم بذاته، وهذا أصل أصلوه، قالوا: عالم بذاته، ونفوا صفة العلم نفسها، وأثبتوا الاسم، ونحن قلنا في قاعدة الأسماء: كل اسم من الأسماء الحسنى يتضمن صفة كمال، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]، عليم اسم من أسماء الله يتضمن صفة العلم، فهم يفرغون الاسم من الصفة؛ ولذلك يقولون: عالم بذاته لا بعلمه. فالطائفة الأولى الذين نفوا علم الله هم اليهود عليهم لعنة الله أولاً وآخراً بحراً وجواً فوقاً وتحتاً، ونسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا بهلاك اليهود في الدنيا قبل عرصات يوم القيامة، فهم نفوا علم الله جل وعلا، بل تجرءوا على الله وقالوا: الله لا يعلم ما يكون، ويستفيد الله جل وعلا من التجارب، ولذلك في التوراة المزعومة قالوا: لما خلق الله الخلق نظر إلى الفساد العارم الذي أحدثه الخلق فندم وبكى فأرمد؛ فعين الله غامضة؛ لأنه لا يعلم ما سيحدث من بني آدم، فاستفاد من التجارب وكأن الله جل وعلا لن يخلق خلقاً ثانياً حاشا لله. وأفراخ اليهود من هذه الأمة هم: القدرية الذين نفوا القدر، فهم ينفون علم الله جل وعلا، وهم لا ينفون العلم السابق، ولكن ينفون اللاحق، ينفون علم الله جل وعلا بما يكون، ويقولون: الله جل وعلا لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلها العباد، والرد عليهم بالآيات التي تثبت علم الله بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون. الطائفة الثالثة من الطوائف المبتدعة الذين نفوا علم الله: الفلاسفة، وهم لا يصرحون بالنفي، كما قالوا في القرآن: هو من وحي محمد، فمحمد هو صاحب النفس الزكية أتاه القلب فتخيل بياضاً اسمه جبريل، ثم سمع منه وحياً يسمى القرآن! وكأن القرآن من عند محمد، لكن لم يقولوها صراحة، فالفلاسفة قالوا: إن الله لا يعلم الجزئيات وإنما يعلم الكليات فقط، أما الأشياء الخفية والدقيقة فلا يعلمها، وهذه تستلزم أنه يخفى عنه الجزئيات ولا يعلم الكليات؛ لأن كل جزء بجانب جزء يعطي الكل، فمن نفى الجزء فقد نفى الكل. والرد عليهم بأن الله جل وعلا أثبت في كتابه أنه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.

علم المخلوق ناقص ومحدود

علم المخلوق ناقص ومحدود أختم هذه الدرس عن علم الله جل وعلا بأن هذه الصفة وإن كانت مطلقة الله جل وعلا فيمكن للعبد أن يتصف بها، فيعقوب عليه السلام عليم، ويوسف عليه السلام عليم، وأقول: الله عليم، لكن يبقى سؤال هنا: إذا قلنا: إن الإنسان قد وصف بالعلم والله جل وعلا موصوف بالعلم فهل التساوي في الاسم يستلزم التساوي في المسمى؟ A صفة الله على كماله وجلاله، وصفة العبد على نقصه وتقصيره. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.

الأسئلة

الأسئلة

بيان الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق

بيان الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق Q ما الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق؟ A مطلق الشيء معناه أصل الشيء، والشيء المطلق يعني: كل شيء، فإذا قلت: مطلق العلم فهو يعني: أصل العلم عند العبد، ولا يمكن أن يبقى، ولو قلت: إن العلم المطلق عند العبد فهذا كلام لا يصح، فالأصح أن تقول: هو على علم علمه الله هذا العلم، ورزقه الله علماً، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، بل الأصل في العبد الجهل والظلم قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]، فهذا إثبات أن الأصل في العبد الجهل، أي: أن هذه الصفة مكتسبة. فالكمال المطلق لله جل وعلا، فلو أتيت إلى أخ طيب كريم وقلت له: يا سيد! أعطني كذا، ووقعت في محظور أو في نهي عن أن تقول للعبد: يا سيد؛ لأن في المسألة نهي، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال للمنافق: يا سيد فقد أغضب الله) والحديث صحيح، وأصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيد قال: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان) وفي رواية أخرى قال: (إنما السيد الله). والفرق بينهما أن الإطلاق بالألف ولام التعريف، كما تقول: رب البيت رب الدار، وهذه تقول: الرب في البيت؛ لأن لفظ الرب مطلقاً يكون لله جل وعلا. ومثال ذلك قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] هذا مطلق لله جل وعلا، فإن الله يعلم ما في الأرحام، يعلم الله جل وعلا أولاً من التقاء الحيوان المنوي مع البويضة والتخصيب، ما أحد يعلم بحال من الأحوال هذا الأمر، هل الحيوان المنوي يخصب البويضة أم لا؟ هذه مطلقة يعلمها الله، والله يعلم ما في الأرحام. الثاني: عند التكوين بعد الالتقاء حين تكون مضغة وعلقة إلى آخر الأطوار، فهذه لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ذكر أم أنثى لا يعلمه إلا الله جل وعلا، حاله في الحياة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، رزقه لا يعلمه إلا الله، أيختم عليه بخير أم بشر لا يعلمه إلا الله، أما بالنسبة لعلم الأطباء فهو مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين، من أين أتيت بهذا؟ أثبت الجواب من مقدمة ونتيجة، فممكن أن النظرية هذه تصيب وممكن أن تخطئ، والنظريات تخطئ، فعلم هؤلاء البشر يكون بمقدمات، فيستنتجون من المقدمات هذه النتائج، فيقولون: لو حدث كذا فسيحصل كذا، فيقولون مثلاً: الأمطار ستنزل غداً إن شاء الله؛ لأن هناك سحابة ينتظر منها المطر، فممكن يخطئ هذا الظن وممكن يصيب، ونفس الأمر: كثير من النساء يذهبن يفحصن نوع الجنين فيقال لإحداهن: أنت ستأتي بذكر، فتأتي ببنتين وليس بذكر! وهذا يحدث حقاً، فهي مسألة مقدمات ومسائل يعلمها من يتقنها وعلمهم لما في الأرحام هو بعد التكوين، لكن قبل التكوين لا يعلم إلا الله.

صفة السمع والبصر والقدرة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة السمع والبصر والقدرة من مذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات الذاتية لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، على ما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعقل يوافق الوحيين في ذلك، ولا يستلزم من السمع آلة سمع ولا من البصر آلة بصر، ولا ننفي ولا نثبت ما لم يرد في إثباته ولا نفيه دليل من كتاب ولا من سنة.

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة لله عز وجل

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة لله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي. سنتكلم إن شاء الله عن صفات ذاتية ثبوتية لله جل وعلا، فالله جل وعلا سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة، وهذا أمر مهم جداً. أورد النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] قال: وسع علمه السماوات والأرض، فـ ابن عباس هنا يؤول الكرسي بالعلم، وهذا التفسير خطأ ليس بصحيح، ويرد على هذا الكلام من وجهين: الوجه الأول: عندنا قاعدة مهمة في مسألة الاعتقاد: أن ثبِّت العرش ثم انقش، يعني: أثبت السند ثم قل: إنَّ هذا هو قول ابن عباس، وبتتبع السند وجدنا أن السند إلى ابن عباس ضعيف، كما أنه قد ورد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (الكرسي موضع القدمين) فهذا يرد على التأويل الأول الضعيف. الوجه الثاني: إن قلنا: إنه قد ثبت عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} أن الكرسي هو العلم، فهذا مخالف لظاهر الآية، وقد قعدنا قاعدة مهمة لأهل الاعتقاد، وهي: أن اللفظ يكون على ظاهره ما لم تأت قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، وتأويل الكرسي الذي هو معلوم عندنا في اللغة بالعلم مفتقر إلى قرينة. قلنا: علم الله جل وعلا صفة ذاتية ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والعقل، ثم قلنا: العلم: علم غيب وعلم شهادة، وعلم الغيب ينفرد به الله جل وعلا، فالغيب ينقسم إلى غيب مطلق وغيب نسبي، وبينا أن علم الشهادة ممكن أن يتعلمه عباد الله سبحانه. قال الشافعي: من أنكر علم الله فهو كافر، كما روى اللالكائي عن الشافعي قال: قال حفص الفرد: علم الله مخلوق، قال الشافعي: كفرت بالله العظيم، وجه كفره بالله العظيم أنه كذب صريح القرآن. أيضاً عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنه لما سأله علي بن الجهم: من قال بالقدر يكون كافراً؟ قال: إذا قال: إن الله لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعلمه فجحد علم الله جل وعلا فهو كافر. إذاً: حكم من أنكر علم الله جل وعلا أنه كافر. اليوم نتكلم عن صفات مهمة من الصفات الثبوتية الذاتية لله جل وعلا: أن الله جل وعلا سميع بسمع بصير ببصر قادر بقدرة، وفي هذا الكلام رد صريح على أهل الاعتزال الذين ينفون علم الله جل وعلا، ورد على الأشاعرة كما سنبين، فالذين يؤولون سمع الله وبصر الله بالعلم، يقولون: سميع بصير أي: بعلمه لا بسمع ولا ببصر، ويستدلون على ذلك بقول الله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]، وقوله تبارك وتعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وقوله جل وعلا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1].

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة لله من الكتاب

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة لله من الكتاب لقد قرن الله بين صفة السمع والبصر كثيراً في كتابه، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم، أما صفة القدرة فقد انفرد القرآن بها وكذلك السنة، فهذه الصفات الثلاث صفات ذاتية ثبوتية لله جل وعلا لا تنفك عن الله، أزلية أبدية ثابتة بالكتاب والسنة والعقل، ثابتة بالكتاب في قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]، وقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] فالسمع وحده صفة كمال، والبصر وحده صفة كمال، فاقتران السمع والبصر زيادة كمال على كمال، وأما بالنسبة للقدرة فقال الله في كتابه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} [الممتحنة:7]، وقال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]، وقال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284].

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة من السنة

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة من السنة لقد ثبت في السنة صفة السمع والبصر والقدرة لله جل وعلا، وذلك عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر خطيباً فقال: (إن ربكم سميع بصير، ثم أشار إلى عينه وأذنه)، والإشارة هنا من النبي صلى الله عليه وسلم ليست إثباتاً للعين الجارحة لله جل وعلا، وليست إثباتاً للأذن، بل إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سمعاً وبصراً؛ لأن الأصم إذا أشرت إليه بالعين علم أنك ترى بهذه العين، وإذا أشرت إليه بالأذن علم أنك تسمع بهذه الأذن، فإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ليست إشارة للجارحة، حاشا النبي صلى الله عليه وسلم أن يشير إلى شيء قد يدخل على الناس مسألة التشبيه، ولكنه أشار إلى صفة السمع وصفة البصر. كذلك لما علت أصوات الصحابة رضوان الله عليهم في الدعاء، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ولكنكم تدعون سميعاً بصيراً) هنا قرن بين صفة السمع وصفة البصر لله عز وجل، وفي الانفراد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أحمد في مسنده: (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فأثبت الرؤية لله جل وعلا. أما بالنسبة للقدرة في السنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك) فقوله: (وأستقدرك بقدرتك) هذا هو الشاهد. وأيضاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي موسى الأشعري مرشداً إياه: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)، فأثبت القوة لله جل وعلا التي هي بمعنى القدرة، هذا بالنسبة للكتاب والسنة. وأيضاً ثبت في السنة السمع وحده، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن التي تشتكي زوجها كانت تتحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم وإني في ناحية البيت ويخفى عليَّ بعض حديثها، والله جل وعلا يقول: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]).

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة بالعقل

إثبات صفة السمع والبصر والقدرة بالعقل أما بالنسبة للعقل فقد تثبت هذه الصفات لله جل وعلا من وجهين: الوجه الأول: أن الله قد وصف بعض عباده بهذه الصفات، وهذه الصفات صفات كمال، فإن كان للمرء صفات كمال فالقاعدة تقول: كل صفة كمال اتصف بها المخلوق فمن باب أولى أن يتصف بها الخالق، قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] فجعل له السمع والبصر، ولذلك قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]، فالله جل وعلا أثبت لهم هذه الصفات وهي صفات كمال، فمن باب أولى أن يتصف الله جل وعلا بالسمع والبصر، وكذلك الله جل وعلا يتصف بالقدرة، ومازالت العرب تتشرف أمام الناس بالقدرة على القتال، وبالقدرة على الجماع، وتحمل المشاق، وهذه صفة كمال لهم، فمن باب أولى أن يتصف الله جل وعلا بالقدرة كما يليق بجلال سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: أن هذه الصفات التي يتصف الله بها جل وعلا لو كانت عارية عن أحد، لكانت صفات نقص، فلو لم يتصف الله جل وعلا بهذه الصفات لكانت صفات نقص، والله له الكمال المطلق؛ ولذلك عاب الله جل وعلا على من يعبد من له صفات النقص، ما لا يسمع ولا يبصر ولا يقدر؛ ولذلك قال الله تعالى على لسان إبراهيم: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يقدر أن يفعل لك خيراً أو يدفع عنك ضراً؟ فهذه من باب العقل صفات نقص، والله له صفات الكمال المطلقة. إذاً هذه الصفات الثلاث ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والعقل. وقولنا: إن الله سبحانه يسمع بسمع فيه رد على المعتزلة الذين قالوا: يسمع بعلم، وقالوا في قول الله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] أي: عليماً بأفعال العباد وأقوالهم، فهم لا يثبتون لله سمعاً، لكن نحن نقول: إن الله يسمع.

أقسام سمع الله سبحانه

أقسام سمع الله سبحانه إن سمع الله جل وعلا أقسام: سمع إدراك وإحاطة، فهو جل وعلا أحاط بكل المسموعات ما دق منها وما خفي، وما جل منها وما عظم، لا يخفى على الله جل وعلا شيء من الأصوات، سواء أكانت أصوات دعاء أم أصوات استغاثة، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى مخ ساقها سبحانه وتعالى، ولا تختلف عليه اللغات، ولذلك قال الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني) معلوم أن الناس تختلف لغاتهم، وهذه من قدرة الله جل وعلا في الخلق، الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والعربي والعجمي كل واحد له لغة مختلفة، ومع ذلك لو قاموا في صعيد واحد وفي وقت واحد فسأل كل واحد منهم مسألته من الله وأعطى كل واحد مسألته لوسع سمعه كل الأصوات، فهذا سمع إحاطة وإدراك، وكل مكتوب ومسموع لا يخفى على الله سبحانه، والله جل وعلا يسمع من يناجيه؛ فيثيبه على المناجاة فيقربه إليه، ويسمع من يدعوه ويرجوه؛ فيتقبل دعاءه ولا يرده خائباً، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فهو قريبٌ يسمع دعوة الداعي فيجيب دعاءه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينزل ثلث الليل الآخر فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟) أي: أسمع دعاءه فأستجيب له. فلا بدَّ أن نستحضر صفة السمع عندما نرفع أيدينا إلى الله جل وعلا وأن يكون دعاؤنا بصدق وإخلاص، فالله يسمع دعاءنا فيستجيب لنا، ولعل رجلاً مخلصاً واحداً قام في ثلث الليل الآخر فرفع يده فدعا الله جل وعلا؛ فسمع الله مناجاته وصوته الخافت، ويتذلّله وانكساره بين يديه جل وعلا استجاب الله له ورفع الغمة عن الأمة، والله جل وعلا وسع سمعه كل الأصوات، فهو يسمع من يخفت صوته مناجاة له؛ كما في حديث أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت بك يا أبا بكر وأنت تخافت بقراءتك، قال: إني أسمع من أناجي) فالله جل وعلا قريب من العبد مع علوه، ولا يخفى عليه شيء، ويثيب من يناجيه جل وعلا. القسم الثاني: سمع تأييد ونصرة وتسديد، وهذا السمع لو استحضره أهل الإيمان وأهل الصدق وأهل الجهاد لفازوا به، وهذا السمع يُقبل عليه كل مسلم مؤمن صادق مصدق بقوة الله وقدرته، فموسى وهارون لما خافا من بطش فرعون، فقالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]، قال الله تعالى مجيباً لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: أسمع ما يقال لكما، واعلما أن نصري لكما بالتأييد والتسديد موجود. فهذا سمع تأييد ونصرة وتسديد، فما أفقر العباد الآن إلى سمع الله جل وعلا سمع التأييد والتسديد والنصرة. القسم الثالث: من أقسام السمع لله جل وعلا: سمع التهديد والوعيد، وما أحرى الكفار والمنافقين أن يستحضروا سمع الله جل وعلا الذي فيه الزجر والردع والتهديد والوعيد، هذا السمع نستنبطه من قول الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، هذا تهديد شديد؛ لأن الله يسمع المنافق الذي يكيد في الليل بالمؤمنين، ويسمع الكافر الذي يريد أن ينكس راية لا إله إلا الله ويرفع راية الكفر، فالله يسمع ذلك ويهدد بأنه يسمع ذلك؛ لأنهم راجعون إليه وسيحاسبهم. أيضاً قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78] أي: إن كان مكراً دبر بليل وعاونهم على ذلك المنافقون فهو يعلمه، كما ذكر في غزوة الأحزاب أن المنافقين الذين تخلوا عن الله جل وعلا وعن رسوله ومشوا في ركاب الكفار، فإن الله يسمع هذا التدبير بالليل وهذا المكر ويهددهم بهذا السمع، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي: أنهم سيرجعون إليه وسيحاسبهم على ذلك؛ لأنه يسمع سرهم ونجواهم. القسم الأخير: سمع إجابة الدعاء وسمع إثابة.

إثبات السمع لله لا يستلزم إثبات الأذن لله تعالى

إثبات السمع لله لا يستلزم إثبات الأذن لله تعالى إذا أثبتنا لله السمع فإنه لا يستلزم أن نثبت له آلة السمع، فلا نثبت ولا ننفي؛ لعلنا إذا نفينا أن يكون لله أذن ونكون قد نفينا شيئاً ثابتاً لله جل وعلا، وتجرأنا على الله، والله جل وعلا يحرم علينا أن نتكلم عليه بغير علم، ولعلنا إذا أثبتنا أن لله أذناً ولا يكون لله أذن، فنكون قد تقولنا على الله بغير علم، فالصحيح الراجح في مسألة الأذن أننا لا نثبت ولا ننفي؛ لأن هذه من باب الصفات لله جل وعلا، لم يأتِ الشرع بإثباتها ولا بنفيها، ولكن هل يُتصور أن يسمع أحد من غير أذن؟ نعم؛ قد سمعت النار كلام الله جل وعلا، وسمعت الأرض والسماء أوامر الله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]. وفي ذلك رد على المعتزلة الذين يقولون: أثبتم السمع فقد شبهتم الخالق بالمخلوق، وجعلتم أذناً لله، فنقول: لا يستلزم إثبات صفة السمع إثبات الأذن التي هي الآلة حاشا لله، فلا نثبت ولا ننفي. أما بالنسبة للبصر فبصر الله جل وعلا يدرك كل المبصرات، ويرى كل شيء، يرى مخ ساق النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، لا تعطي عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً. وهذه الرؤية تجعل الإنسان يرتدع ويخشى الله الذي يراه، ويرى تحركاته، ويرى ما يدبر بليل، ويرى ما يهدم به الدين، فقد أحاط الله بكل شيء رؤية، كما قال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

أقسام بصر الله تعالى

أقسام بصر الله تعالى بصر الله أقسام: بصر يراد به العلم، أو يلزم منه العلم، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] أي: عليم بما يعملون، وهذا يحتمل الزجر. وبصرٌ يراد به التأييد والنصرة والتسديد، لقول الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. وبصر يراد به الإثابة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). أي: أنه يراك ويرى منك طاعتك ودعاءك وتذللك وانكسارك لله جل وعلا؛ فيثيبك على ذلك. وأيضاً: قول الله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] تحتمل أيضاً هذه الإثابة؛ لأن الله بصيرٌ بالذي يعمل الخير، فيثيبه على ذلك. وأيضاً قول الله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] فيراك حين تقوم الليل فيثيبك على هذا، فهذا أيضاً بصر إثابة وبصر تهديد؛ لأن الله يرى ما يحدث فيهدد من يخالف شرعه، أو يخذل دينه ولا ينصره. قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] أي: يرى ما يفعل فيحاسبه عليه، وقال جل وعلا: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فهذا تهديد للمنافقين الذين ينافقون ويدسون السم لأهل الإسلام، فالله جل وعلا يخذلهم، بل ويهددهم بأنه يرى عملهم، بل وسيرى الناس عملهم في الدنيا فضيحة لهم، ثم يرجعون إليه ويبعثون؛ فيحاسبهم على نفاقهم أشد الحساب، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.

إثبات صفة البصر لله لا يستلزم إثبات آلة البصر

إثبات صفة البصر لله لا يستلزم إثبات آلة البصر لا يستلزم من إثبات البصر إثبات العين الجارحة لله جل وعلا، لكن العين ثبتت لله بأدلة أخرى جاءتنا من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وقال سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور) كما سنبين صفة العين. وهناك دليلٌ من كتاب الله أن بعض الأشياء ترى من دون عين جارحة كالنار قال الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان:12] فالنار رأت الكفار ولم يثبت لها العين الجارحة.

أقسام قدرة الله تعالى

أقسام قدرة الله تعالى الله جل وعلا قادر بقدرة، وقدرة الله أحاطت بكل شيء، والله على كل شيء قدير، وقدرة الله أقسام: القدرة على تغيير الإرادات وعلى تغيير ما في القلوب، وهذه أدق الأشياء، وإذا علمتم ذلك فإن المرء يخشى على نفسه، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، لعل المرء يكون مؤمناً في الصباح، فيغير الله ما في قلبه؛ فيغير إيمانه إلى كفر، فيمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً، والله يمحص البشر، ويبتليهم ويختبرهم بالمصائب؛ ليمحص ما في القلوب، ويميز الخبيث من الطيب، فهذا البلاء والاختبار؛ لتمييز الصف المسلم من الصف المنافق ومن الصف المخذل الكافر، سئل أعرابي: كيف عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بتغيير الإرادات. أي: أن الله جل وعلا يملك القلب فيغير الهمم ويغير الإرادات. والله سبحانه قد يبتلي قلب المرء؛ ليعلم هل هو صادق أم أنه لا يريد نصرة الله ولا نصرة رسوله ودينه؟ فهو سبحانه قادر على تغيير الإرادات، فيغير إرادة من يريد إهلاك المسلمين فيصبح يريد الخير للمسلمين، وقد حدث ذلك قديماً وسيحدث حديثاً.

صور واقعية تثبت قدرة الله على تغيير الإرادات

صور واقعية تثبت قدرة الله على تغيير الإرادات من أشهر الصور التي تثبت قوة الله وقدرته جل وعلا على تغيير الإرادات والهمم، غزوة الأحزاب فقد كان عدد أهل الكفر من غطفان ستة آلاف مقاتل، ومن قريش أربعة آلاف مقاتل، ومن يهود بني قريظة وغيرهم، فكانوا أكثر من عشرة آلاف مقاتل، كل هؤلاء تكالبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن قوة الله وقدرته أظهرت أن النصر لا يكون بالسيف فقط، فهذه دالة على قدرة الله جل وعلا، وتجعل المرء إذا علم أن الله قادر على تغيير القلوب والهمم يدعو الله أن يصرف قلوب الذين يريدون تخذيل الدين إلى نصرة الدين، ويصرف قلوب الكافرين لهدم الدين إلى بناء الدين، والله ينصر دينه بالكافر وبالبر وبالفاجر، فالله جل وعلا جعل الخلل في الأحزاب الذين تحزبوا على دين الله، وأرادوا إهلاك واستئصال شأفة المسلمين، ولا يخفى علينا ما حدث في الصف المسلم من رعب وزلزلة، والقاعدة: أن المحن لابد أن يعقبها منح ولن يمكن المرء حتى يبتلى، فالصف المسلم بعد هذه الزلزلة التي وصفها الله جل وعلا بقوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] من تكالب الأحزاب الكافرة عليهم، وتكالب المنافقين وخذلانهم وإرجافهم بأهل المدينة، وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] وأرادوا الرجوع، وكذلك نقض يهود بني قريظة للعهد؛ فأصبح الصف المسلم في زلزلة عظيمة شديدة جداً، فعلم المؤمنون أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وعلموا أن النصر لا يمكن أن يكون بالحسابات المادية بحال من الأحوال، وهذا رد قوي جداً على أصحاب الكفر التائه الضائع الذين جعلهم الله من الهمج الرعاع؛ كما قال علي بن أبي طالب: الناس عالم رباني أو متعلم أو همج رعاع، والهمج الرعاع مثل الذين يقيسون قدرة الله بقدرة البشر، يقولون: كيف يقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام عشرة آلاف من أهل الكفر بسيوفهم ورماحهم وخيولهم وعتادهم؟ هل للنبي صلى الله عليه وسلم طاقة؟ وأصحابه لا يتجاوزون ثلاثة آلاف، فهل يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يواجههم؟ نقول: إن القوة الخفية التي هي قوة الله جل وعلا فوق ذلك كله، والذي يعلم قدرة المليك المقتدر يعلم أن قوة الله جل وعلا ليست في الموت فقط، أو أن يذيق الكافرين الموت، أو يقلب هذا على ذاك، لا، بل غيَّر الله سبحانه قلب رجل واحد وحوله من الكفر إلى الإسلام، ألا وهو نعيم بن مسعود الغطفاني وكان بغية غطفان هو تمر المدينة وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلخل الصفوف بذكاء منه، فقال: (أبايعكم على ثلث تمر المدينة على أن ترجعوا بجيوشكم، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! إن كان هذا أمر من الله سمعنا وأطعنا، وإن كان هذا أمر تحبه أنت سمعنا وأطعنا، وإن كان من أجلنا فوالله لا نعطيهم تمرة واحدة إلا بالبيع والشراء أو قرى، فألغى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصلح، وقال: شأنكم، وإنما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، قالوا: لنا الله ورسوله) هذا هو الرد القوي، فمن علم بقدرة الله فليقل: لنا الله، ومن جهل قدرة الله فليقل مثل ما قال ذلك الرجل: (لئن قدر الله علي ليعذبني) فهذا الرجل قدح في قدرة المليك المقتدر. (أتى نعيم بن مسعود الغطفاني النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأخفى إسلامه عن الجميع، فقال: يا رسول الله قد أسلمت، ما تأمرني؟ قال: إنما أنت رجل واحد، ولكن خذل عنا ما استطعت) أي: حاول أن تخذل عنا الذين تمالئوا علينا، وهكذا جعل الله نصر المؤمنين على يد رجل واحدٍ، فذهب الرجل بدهاء الحرب والخدعة إلى غطفان وقريش وأخبرهم أن اليهود ستغدر بكم، وسيأتون إليكم ويقولون: ائتونا برهائن يكونون عندنا؛ حتى لا تغدرون، وهم يفعلون ذلك ثم يغدرون، ثم ذهب إلى اليهود وقال: إن قريشاً وغطفان سيغدرون بكم، فعليكم أن تستوثقوا منهم، فخذوا منهم رهائن، فاختلف الفريقان، ونجحت الخطة، ورد الله جل وعلا قريشاً وغطفان بكيدهم، وأبقى اليهود بحسرتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ كل أموالهم غنيمة له ونساءهم سبياً له وللمؤمنين، ثم بعد ذلك قتل مقاتلتهم، انظروا إلى قدرة الله جل وعلا، قدرة الإرادات! قال الله تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) من يستطيع حرب الله جل وعلا؟! من يقوى على أن يقاتل الله جل وعلا؟! من قاتل أولياء الله فالحرب بينه وبين الله، فإنَّ الله يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. قدرة الله المادية ظهرت جلية في أكثر من صورة من صور غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة بدر كان عدد المسلمين أربعة عشر رجلاً وثلاثمائة، وعدد المشركين ما يقارب ألفاً، وجعل الله النصر للمؤمنين: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. وأيضاً في غزوة مؤتة كان الروم ثلاثمائة ألف بعددهم وعتادهم بينما عدد المسلمين ثلاثة آلاف، لا يمكن لعقل أن يتصور النصر للمؤمنين، لكن قدرة الله فوق كل قدرة، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، فالله قادرٌ على أن يرسل الملائكة يقاتلون من أجل نصرة دينه، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ومن استيقن هذه الآية علم أن الله غالب على أمره، وعلم أن الله ناصر دينه، وأن الله جل وعلا قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. ففي غزوة مؤتة أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يخبره ما حصل للمسلمين فيها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس باكياً على مقتل هؤلاء الصحابة، ثم قال: (ثم استلم الراية سيف من سيوف الله جل وعلا استله الله على أعدائه، فجعل النصرة على يديه) أي: جعل الله النصر على يد خالد بن الوليد. لما فقه هرقل هذا الكلام قال لـ خالد: أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تنكل أبداً؟ وعمر بن الخطاب الذي يفقه أن النصر ليس من خالد ولا من أحد، وإنما النصر من عند الله، أول ما صار خليفة عزل خالداً، ولما سئل وعوتب على ذلك قال: حتى لا يظن الناس أن النصر من خالد، ولما تولى الراية أبو عبيدة بن الجراح جعل الله النصر على يديه؛ لأن النصر من عند الله جل وعلا، والقدرة قدرة الله، فمن استيقن بقدرة الله أتاه نصر الله، أما من لم يستيقن بقدرة الله جل وعلا فهو المخذول.

الرد على الأشاعرة والمعتزلة في الصفات

الرد على الأشاعرة والمعتزلة في الصفات الأشاعرة والمعتزلة قالوا بعدم إثبات الصفات، لكن الأشاعرة يثبتون صفة السمع والبصر والقدرة، ولكن قالوا: الله سميع بصير بعلم، وهناك فارق بين السمع والبصر والعلم، لكن هم يقولون: السمع والبصر يستلزمان العلم حسب زعمهم. والرد عليهم بأمور: الأول: الأدلة التي سردناها من الكتاب والسنة في عدم استلزام السمع والبصر للعلم. الثاني: نقول: إنكم خالفتم إجماع الصحابة. الثالث: أنتم خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة بدون قرينة. الرابع: العقل يرد عليكم، فلا يستلزم العلم السمع والبصر، فالأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها، فهل يستلزم علم الأعمى بالسماء أن يراها؟ لا، أيضاً: الأصم الذي لا يسمع يعلم أن الناس يتكلمون ولا يسمع كلامهم، فلا يستلزم العلم صفة السمع والبصر وأيضاً القدرة.

صفة الوجه

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الوجه صفات الله عز وجل قد أخبر عنها عز وجل في كتابه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فأثبتها الصحابة الكرام وتابعوهم بلا تأويل ولا تشبيه، ولكن أهل البدع أبوا إلا تأويلها أو تعطيلها. ومن هذه الصفات صفة الوجه، فقد ذكر عز وجل أن له وجهاً، وكذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثبتها من اتبع طريق الرسول، وأبى أهل البدع إلا أن يؤولوها وينفوها؛ تحريفاً لكلام الله وكلام رسوله.

إثبات صفات الله كما وردت دون تأويل

إثبات صفات الله كما وردت دون تأويل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة، فهو سبحانه يسمع، وسمع الله أحاط بكل شيء، فسبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، فلا يخفى عليه شيء حتى تفنن الحاجات واختلاف اللغات لا يختلف على الله جل وعلا، فلا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في جوفه، والله يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء. وقلنا: سميع بسمع، لنرد على بعض طوائف أهل البدع الذين يقولون: سميع بصير بمعنى: عليم، ولو قلنا: إن الله يسمع الأصوات، يقولون: لا، وإنما يعلم الأصوات، ويعلم ما يقولون. وإذا قلنا: إنه بصير يرى، قالوا: لا، بل هو بصير بمعنى يعلم هذه الأفعال التي تفعل من عباده. فنرد عليهم بالأثر وبالنظر. أما الأثر: فالأدلة ظاهرة. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، وقال: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]. أما الأثر فقوله صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً). وأيضاً في اللغة معلوم أن السميع هو: من يسمع الأصوات. وأن البصير هو: من يرى الأشياء. أما هم فقالوا: لا نثبت السمع ولا البصر، ولكنه يعلم الأفعال التي تفعل، ويعلم الأقوال التي تقال. ونرد عليهم من النظر: بأنهم أولوا السمع والبصر بالعلم، ولا يستلزم العلم السمع والبصر، فلو قلنا بقولهم فلابد أن ننفي صفتي السمع والبصر؛ لأن الأعمى يعلم بوجود سماء، وأرض، وجبال، وبحار، وهو لا يراها، فلا يستلزم العلم بوجود الجبال والسماء والأرض الرؤية. وكذلك لو أولنا السماع بالعلم فإننا سننفي صفة السمع. وهم لا يريدون نفي جميع الصفات مثل الجهمية الذين ينفون كل صفات الله جل وعلا، لكنهم قالوا: السمع بمعنى العلم، ويسمع الأقوال يعني: يعلم الأقوال، فنقول: العلم لا يستلزم السماع، فإذا كان هناك رجل أصم أو أبكم ويرى الناس يتكلمون يعلم بوجود كلام، وأصوات وحروف خارجة من هذه الأفواه، وهو مع ذلك لا يسمع، فلا يستلزم العلم السماع. وهذه الصفات: السمع والبصر ومثلهما القدرة صفات ذاتية ذاتية، أي: لا تنفك عن الله. فهي أزلية أبدية. وإذا اقترن السمع بالبصر أو اقترنت الصفة مع صفة أخرى وصفة ثالثة فإن هذا الاقتران يجعل الصفة الثانية والثالثة على كمال فوق كمال، فيزداد الكمال فيكون أكمل، فقولك: سميع بصير أكمل من أن تقول: سميع فقط، أو بصير فقط، فهذا زيادة في الكمال؛ ولذلك استحسن لمن يتوسل إلى الله جل وعلا أن يكثر من ذكر أسماء الله الحسنى التي يتوسل بها، وصفاته العلى.

صفة الوجه

صفة الوجه دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل: الوجه، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال جل وعلا: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. وهو من الصفات الذاتية الخبرية، وسميت خبرية لأنه غير ممكن للعقل أن يأتي بها أبداً، وإنما ورد بها السمع، فهي صفة ذاتية لا تنفك عن الله، أزلية أبدية، وهي ثبوتية لأنها غير منفية، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويمكن تجوزاً أن يكون لها دليل من العقل. أما ثبوتها بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ولو قال: (ذي) لكانت ترجع إلى قوله: (ربك). وقال جل وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فأضاف الوجه إلى الله جل وعلا، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان ومعان، فإضافة الأعيان هي إضافة تشريف، مثل: الكعبة بيت الله، عيسى روح الله، محمد رسول الله. أما المعاني فهي إضافة صفة إلى موصوف، والوجه صفة من صفات الله أضيفت إلى الله جل وعلا. وأما ثبوتها بالسنة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل قال: (وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى)، فإذا كشفه رأوا الله جل وعلا. وأيضاً في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، ويرفع إليه عمل النهار قبل الليل، حجابه النار) وفي رواية: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). والشاهد فيه قوله: (حجابه النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه) أي: وجه الله، فالهاء عائدة على الله جل وعلا، فالوجه مضاف إلى الله جل وعلا. وقوله: (سبحات وجهه) أي: أنوار الله جل وعلا. وأما ثبوته بالإجماع فقد أجمع سلف الأمة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله، لا يشبه وجه المخلوقين، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. ولا نكيف وجه الله جل وعلا الذي له العظمة والبهاء. وقد وصف لنا الله جل وعلا بعض الصفات التي يتصف بها وجهه ومن هذه الصفات: الصفة الأولى: أنه ذو جلال وإكرام، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. الصفة الثانية: البقاء، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وهذه من صفات الله الأزلية الأبدية. الصفة الثالثة: البهاء والعظمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه) أي: بهاء الله جل وعلا، وعظمة وجه الله. فهذه صفات وجه الله، وهي ثابتة بالكتاب وبالسنة وبإجماع الأمة، وله صفات البهاء والعظمة والجلال الإكرام والبقاء، فهذه صفات أزلية أبدية. وعندما نعتقد أن لله وجهاً نشتاق لرؤية وجه الله جل وعلا، والمسلم إذا نظر إلى وجه الله فإن الجنة لا تعدل عنده شيئاً، فلا يمكن لنعيم أن يوازي نعيم النظر إلى وجه الله جل وعلا. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك)، وإذا لم نعتقد أن لله وجهاً فكيف نسأل الله جل وعلا أن ننظر إلى وجهه الكريم؟!

اعتقاد أهل البدع في الوجه والرد على شبهاتهم

اعتقاد أهل البدع في الوجه والرد على شبهاتهم أهل البدع عكروا علينا هذا الفهم، وهذا الاعتقاد الصحيح. فقالوا: أنتم تقولون: لله وجه، فشبهتم الخالق بالمخلوق. لأننا لو قلنا: لله وجه فهذا جزء وبعض، وإذا قلتم: جزء وبعض فقد جزأتم الله، والله لا يتجزأ. قالوا: وأنتم شبهتم الخالق بالمخلوق؛ لأن المخلوق له وجه وله يد وله ساق، فشبهتم الخالق بالمخلوق، والخالق منزه عن ذلك. وقالوا: إن الوجه المراد به الثواب، وما يراد به الوجه حقيقة. فنقول: الرد عليهم من وجوه: الوجه الأول: أننا نثبت لله وجهاً؛ لأن الله قد أثبته لنفسه، وقد أثبته له نبيه، ونحن لسنا بأعلم من الله جل وعلا، ولا أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله الذي يعلم بنفسه قد أثبت لنفسه وجهاً، والرسول الذي هو أعلم بربه من وحيه قد أثبت له الوجه. فآمنا بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله. أما هذه المقدمة التي قدمتموها وأن فيه تشبيه الخالق بالمخلوق فهي مقدمة باطلة؛ لأننا نثبت لله هذه الصفة دون أن تشابه صفات المخلوقين؛ وذلك تحت قاعدة قعدها الله في كل صفاته، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، والاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى. فعندما أقول: لي يد، وللحيوان يد، وللفيل يد، وللحمار يد، فهل يد الإنسان تشبه يد الفيل؟ لا، وعندما أقول: بأن لي وجهاً، وللمعز وجهاً، فهل وجهي مثل وجه الماعز؟ A لا. إذاً: فلي وجه، ولله وجه. ووجه الله يليق بجلاله وكماله، ووجه الإنسان يليق بنقصه وضعفه. إذاً: نثبت ما أثبته الله لنفسه دون أن يشابه المخلوقين. وأما الرد عليكم بأن المراد بالوجه: الثواب فنقول: أولاً: خالفتم ظاهر القرآن. وظاهر القرآن هو ما قاله الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فخالفتم الظاهر المعروف من الوجه، فإن الظاهر منه في اللغة معلوم، وإذا خالفتم هذا الظاهر وأولتموه فلا بد أن تأتوا بالقرينة؛ لأن الأصل في اللفظ أن يحمل على ظاهره إلا أن تأتي قرينة تصرفه عن الظاهر إلى المؤول، ولا قرينة لكم هنا. ثانياً: خالفتم ظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو أعلم الناس بكلام الله جل وعلا، وأعلم الناس باللغة العربية فإنه قال: (اللهم إني أسألك النظر إلى وجهك الكريم)، وقال في دعاء دخول المسجد: (أعوذ بالله العظيم، ووجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)، فخالفتم ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم من دون قرينة صارفة للحديث عن ظاهره. ثالثاً: لو تنزلنا معكم وقلنا: إن وجه الله هو الثواب، فكيف نعقل هذه الآية التي يقول فيها الله جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]؟ فإن تأويلها عندكم: ويبقى ثواب ربك ذو الجلال والإكرام. فهل الثواب عاقل حتى يوصف بأنه: ذو جلال وإكرام؟ وهل هناك عاقل يصف الثواب بأنه: ذو جلال وإكرام؟ بل الأشد والأنكى من ذلك، وهو الذي بين ضعف عقولكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النار أو النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وهذا تأويله عندكم: لأحرقت سبحات ثوابه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وهذا عجيب جداً! وهو يبين ضعف تأويلكم. فإن الذي يحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه هو وجه الله، وأنوار وجه الله، وبهاء وجه الله جل وعلا. فقالوا: لا نؤول الوجه بالثواب، ونؤوله بأمر آخر، فنقول: الوجه بمعنى: الذات. والدليل على أن الوجه لا يراد به الوجه، وإنما يراد به الذات قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، قالوا: فهل يهلك كل شيء ويبقى وجه الله فقط؟ قالوا: ولو قلنا: بأن الوجه هو الوجه فلا بد أن نقول بأن كل شيء هالك إلى وجهه، أي: أن كل شيء سيفنى، ولا يبقى إلا الوجه، وهذا كلام ليس بصحيح، فلابد أن نقول: إن الوجه هو: الذات، وهذا كلام قوي. فنقول لهم: قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فيها إثبات صفة الوجه، وكل: هنا للعموم، أي: كل شيء. ولكن كل لفظ عام مؤول في القرآن وفي السنة، أما في القرآن فكما قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] يعني: المساكن لم تدمر، مع أنه قال: ((تُدَمِّرُ كُلَّ)) يعني: كل شيء من المساكن والبيوت والناس، لكن بقيت المساكن، فنحن نؤول كل بمعنى: تدمر كل ما كان قابلاً للتدمير. فهو مخصوص بالعرف. وكذلك قوله: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) أي: كل شيء قابل للهلاك فهو هالك. أما ذات الله ويد الله وساق الله وبصر الله وعين الله فهذه صفات أزلية أبدية ليست قابلة للهلاك، فنقول: (كل) هنا ليست على العموم. فقول الله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) يعني: يبقى وجه الله جل وعلا، وباللزوم إذا بقي الوجه يبقى الذات. ونقول لهم: النبي عليه الصلاة والسلام غاير بين الوجه وبين الذات، فكيف تسوون أنتم بين الوجه وبين الذات؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم غاير بينهما، فعطف الوجه على الذات، وهذا العطف يدل على المغايرة؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم) فذكر الذات، ثم عطف عليه صفة الوجه، وهذا العطف يدل على المغايرة، وأن الوجه غير الذات، بل الوجه صفة للذات، لأنها أضيفت إليه، كما قال الله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ))، فأضاف الصفة إلى الذات وهو الموصوف.

معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)

معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) فإن قالوا: عندنا دليل آخر: وهو أن السلف أولوا هذا التأويل، فقالوا: وجه الله: الجهة، وذلك في قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقد قال بعض السلف: أي: فثم جهة الله جل وعلا. بمعنى: أنك أينما توجهت وأنت تصلي إذا كنت لا تعرف جهة القبلة فاجتهدت وصليت فأنت في جهة الله جل وعلا، وصحيح أن بعض السلف قال ذلك. فنقول: نحن لا نخالفكم في هذا التفسير، وهذا التفسير لا ينافي إثبات الوجه لله. وبيان ذلك أن بعض السلف أولوا الوجه في الآية على الجهة. والأصل في أي لفظ أن يكون على ظاهره، إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، وهنا قرينة، وهي سبب النزول فسبب نزول الآية: أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، واجتهدوا رأيهم أين القبلة، فتوجه كل منهم باجتهاده إلى جهة وصلى، ولكن خافوا ألا تقبل الصلاة؛ لأنهم أخطئوا القبلة، فطيب الله قلوبهم، وبين أن ثوابهم لا يضيع، فأنزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: فهناك جهة الله جل وعلا، يعني: أينما تولوا وجوهكم باجتهاد فصلاتكم صحيحة، وثوابكم محفوظ عند الله جل وعلا، وأنتم مأجورون على ذلك. فنقول: إن هذا لا يخالف الحق، فنثبت الجهة ونثبت الوجه لله؛ لأن عندنا الدليل الذي يفسر قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ووجه الله أحاط بكل شيء؛ لأن الله قد أحاط بكل شيء، فوجه الله أحاط بكل شيء، فأينما تولوا فهناك وجه الله، فوجه الله أحاط بكل شيء وهو على عرشه، ودليل ذلك حديث الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم يصلي فلا يبصقن أمام وجهه، فإن الله قبل وجهه)، فإن الله أحاط بكل شيء، ووجه الله أحاط بكل شيء. فنثبت لله الوجه، وأيضاً: نثبت له الجهة، ولا منافاة. فوجه الله ثابت، والجهة أيضاً ثابتة، فأينما تولوا وجوهكم فهناك جهة الله؛ لأن الله قد أحاط بكم. إذاً: هذه الصفة الذاتية الخبرية ثابتة بالكتاب وبالسنة وبإجماع السلف.

معنى حديث (فإن الله خلق آدم على صورته)

معنى حديث (فإن الله خلق آدم على صورته) يوجد إشكال واحد على هذه الصفة، وهذا الإشكال عجيب، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضرب الوجه)، ثم علل ذلك في رواية ابن خزيمة وغيره فقال: (فإن الله خلق آدم على صورته)، فتكريماً لهذا الوجه الذي خلقه الله على صورة الله قال: (لا تضربوا الوجه)، ثم قال: (فإن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية: (فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن). فنقول: إن صفة الوجه ثابتة لله جل وعلا، وثبوت الوجه لله مندرج تحت قاعدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فوجه الله ثابت، لكنه لا يشبه وجه المخلوقين. وهذا الحديث يقول: (إن الله خلق آدم على صورته) وفي رواية أخرى قال: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن). فنقول: أولاً: ثبت العرش ثم انقش. فأكثر المحدثين على أن هذا الحديث ضعيف بزيادة: (الرحمن)، والاحتجاج فرع عن التصحيح، فإذا كان حديثاً ضعيفاً فلا نحتج به. ثانياً: لو تنزلنا مع الخصم وقلنا: إن الحديث صحيح، ففي اللغة أن الضمير يعود على أقرب مذكور. وأقرب مذكور هو آدم، فالهاء: عائدة على آدم. أي: خلق الله آدم على صورته التي هو عليها، وهي: أن طوله ستون ذراعاً، وأن عرضه سبعة أذرع، وأن شعره كالشجرة. فإن اعترض المعترض وقال: إن عندنا قرينة على أنها ترجع إلى الله، وذلك الحديث الذي في النسائي: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن). فنقول: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، أي: له وجه كما أن لله وجهاً، وله ساق كما أن لله ساقاً، وله يد كما أن لله يداً، ولا يستلزم التساوي في اسم الصفة التشابه والتماثل في الصفة نفسها، فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وإذا اعترض علينا المعترض بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، قد صححه بعض العلماء، ومنهم: الشيخ الألباني رحمه الله فنقول: إن تأويله الصحيح عن من صحح إسناد هذا الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: إن له وجهاً كما أن لله وجهاً، وله يد كما أن لله يداً، وله سمع كما أن لله سمعاً، وله بصر كما أن لله بصراً، وله ساق كما أن لله ساقاً. أو أن الإضافة إلى الله هنا إضافة تشريف، ويكون التأويل الصحيح: إن الله خلق آدم على صورته أي له صفات كما أن لله صفات، له يد كما أن لله يداً، وله عين كما أن لله عيناً، وله سمع كما أن لله سمعاً.

صفة اليد

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة اليد لقد أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم أن له أسماءً وصفاتٍ، وكذلك أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أثبتها الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله، ثم جاء المبتدعة فأرادوا نفيها أو تأويلها، فوقف لهم علماء السنة بالمرصاد، وردوا على شبههم، وبينوا بطلانها، ومن هذه الصفات صفة اليد لله عز وجل، فقد أثبتها أهل السنة كما أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله، وردوا على المبتدعة الذين لا يؤمنون بها.

حكم صيام يوم السبت

حكم صيام يوم السبت إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل: الوجه، والعينين، واليدين. وقبل أن أتكلم عن هذه الصفات أريد أن أذكر كلام العلماء في حكم صيام يوم السبت منفرداً، قال الجمهور: إنه يكره إفراده، ولا يحرم، وذهب الشيخ الألباني إلى أن صيام يوم السبت يحرم على الإطلاق، وله سلف في ذلك، وهو الإمام ابن جرير الطبري، واستدلا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم). قالا: فمعنى الحصر أن يوم السبت لا يصام فيه إلا الفرض، ويدخل تحت الفرض صيام رمضان والقضاء وكفارة النذر. ولكن قد وردت أدلة أخرى تتعارض مع هذا الدليل، ولا بد من الجمع، ومن هذه الأحاديث أنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وكانت صائمة يوم الجمعة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (صمت أمس؟ قالت: لا)، وصوم يوم الجمعة معلوم إنه منهي عنه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام، ولا يوم الجمعة بصيام) فقال لها: (صمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين غداً؟ قالت: لا، قال: إذاً: فافطري) يعني: لا تفردي يوم الجمعة بصيام. ووجه الشاهد هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (تصومين غداً؟) وغداً هو السبت، فقد أباح لها أن تصوم يوم السبت مقروناً مع صيام الجمعة، وهذا قرينة قوية تصرف الحكم من التحريم إلى الكراهة على قول الجمهور، أو تجعل دائرة التحريم في الانفراد دون الاجتماع، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو الصحيح؛ لأن الأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرفه من التحريم إلى الكراهة، وقد جاءت هنا القرينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصوم يوم السبت ولا يأمرها بحرام. فصيام يوم السبت لا يجوز منفرداً وإنما يجوز إذا كان مع يوم آخر، ولذلك استشكل بعض العلماء إذا كان يوم عرفة يوافق يوم السبت ولم يصم الإنسان العشر، فهل يصوم يوم عرفة منفرداً؟! وهل يدور ذلك بين التحريم أو الكراهة؟ فنقول: هذا اليوم يسمى يوم السبت، ويسمى يوم عرفة، فالذي صام يقول: صمت عرفة، ولم أصم السبت فتغاير المسمى. وهنا إشكال وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، فإذا وافق يوم الصيام يوم السبت فهل يجوز له صيامه؟ نقول: النبي نهى عن استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين فقال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) ثم استثنى فقال: (إلا أن يكون صوم يوم أحدكم) يعني: عادة له، فمن كان عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فلا بأس أن يصوم يوم السبت.

صفة اليد لله تعالى

صفة اليد لله تعالى

أدلة صفة اليد

أدلة صفة اليد صفة اليدين لله جل وعلا صفة خبرية ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، والقاعدة العقلية تقول: كل كمال يوصف به العبد فالله أولى به، وكل نقص ينزه عنه العبد فالله أولى أن ينزه. فهذه الصفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل، ولإثبات هذه الصفة لوازم كثيرة منها الخلق، قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. ومنها: النفقة، قال تعالى: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله ملأ لا تغيضها النفقة). ومنها: البطش، قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]. لله عز وجل يدان، وأما قول الله جل وعلا: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فهو مفرد مضاف يعم الكثير، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فهو للتعظيم، كما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9]، ويد الله يمين وشمال، فقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات، أو يقبض السماوات بيمينه). وفي رواية: (ويقبض الأرض بشماله)، وكلتا يدي ربي يمين، أي: من اليمن والبركة، كما أن اليمن والبركة تأتي من اليمين ولا تأتي من الشمال، وصفات الله كلها كمال وجمال؛ لأن اليد الشمال في الإنسان تكون دائماً أعجز من اليمين، فلا بد للإنسان أن ينزه الله عنها.

تأويل المبتدعة لصفة اليد وشبههم

تأويل المبتدعة لصفة اليد وشبههم أهل البدعة والضلالة والتأويل قالوا: إن وصفنا الله باليد فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، بل اليد عندنا بمعنى القدرة، ومن الأدلة على ذلك: أن معنى ضرب اليد بالحديد أي: بقوة أو بقدرة، وهذا معروف في لغة العرب، والله جل وعلا لما وصف عباده بقوله: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] أي: أولي القوة. وأيضاً لما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] أي: بقوة، فكل ذلك يثبت أن معنى اليد القدرة والقوة. وجاءت طائفة أخرى وهم المحرفة الأشاعرة فقالوا: إن اليد بمعنى النعمة قالوا: والدليل على ذلك من السنة، وأيضاً لنا مسوغ من لغة العرب. أما الدليل فقالوا: إذا أراد أن يمن أحد على أحد فإنه يقول له: كم أيد عندك لي؟ وذلك من لغة العرب كما جاء في قصة صلح الحديبية أن أبا بكر رضي الله عنه بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وعروة يقول له: ما أرى معك إلا أوباشاً من الناس يفرون عنك، فغضب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه غضباً شديداً وقال له كلمة شديدة قال: امصص بظر اللات، ويعتذر لـ أبي بكر رضي الله عنه عن ذلك بقول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، ولذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عروة: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك يعني: لكلت لك الصاع بالصاعين، فوجه الشاهد قوله: يد لك عندي، يعني: نعمة أكرمتني بها، ولم أجزك عليها، وقبل أن نرد عليكم نفصل فرقكم إلى أكثر من طائفة. الطائفة الأولى: طائفة الغلاة الجهمية الذين ينفون الاسم والصفة، ويثبتون الذات، فيقولون: لا سميع ولا سمع، لا بصير ولا بصر، فهؤلاء غلاة الجهمية، لكن أثبتوا ذاتاً لله جل وعلا، ولم يثبتوا الصفات، فيجاب عليهم بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: القول في الصفات فرعٌ عن القول في الذات، فإن أنتم أثبتم ذاتاً فيلزمكم أن تثبتوا الصفات؛ لأن القول في الصفات كالقول في الذات يحذو حذوه. الطائفة الثانية: أهل التأويل من المعتزلة والأشاعرة، فنقول لهم: التأويل تأويلان: تأويل يكفر، وتأويل يفسق، أما التأويل الذي يكفر: فهو التأويل الذي ليس له مسوغ في اللغة، كمثل أن يقول الله جل وعلا: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فيقولون: العين معناها الزرع، فهل العين في لغة العرب تكون زرعاً أو نباتاً؟ فهذا لا مسوغ له في اللغة فيكون كفراً؛ لأن مآله إلى الإنكار والجحود، فيجحدون بهذه الصفة، ويؤولونها بلا مسوغ من اللغة، هذا التأويل الأول. أما التأويل الثاني: فهو تأويل المعتزلة والأشاعرة الذي له مسوغ من اللغة، وهذا محله التفسيق لا التكفير، فمن تأول الصفة بمسوغ في اللغة ولم يقل به النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الكرام، فهذا يصل به إلى الفسق؛ كما تأول الأشاعرة العين بالرؤية، أي: بلازم الصفة، أو كما تأولوا النزول بنزول الرحمة أو نزول الأمر، فهذا له مسوغ في اللغة فيصل بصاحبه إلى الفسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، والصحابة الكرام لم يقولوا بذلك. فالقول فسق، ولكن القائل ليس بفاسق ولا كافر حتى تقام عليه الحجة، وتزال عنه الشبهة.

الرد على من أول صفة اليد

الرد على من أول صفة اليد الرد على هذه الشبهة التي قالوا فيها: إن اليد بمعنى القدرة وبمعنى النعمة كما يلي: أولاً: نقول لهم: خالفتم ظاهر القرآن؛ لأن الله جل وعلا قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]. وقال جل وعلا: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) , فعداها بالباء، وأضافها لنفسه دلالة بأنه باشر الخلق باليد المعلومة لدينا معنى. وأيضاً: إن أولتموها بمعنى النعمة فإن الله جل وعلا يقول: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))، فيكون المعنى: بنعمتي على قولكم! وهذه لا قرينة عليها، فخالفتم ظاهر القرآن والسنة. ثانياً: أأنتم أعلم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنتم أعلم أم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أفلا يسعكم ما وسعهم؟ فرسول الله لما قرأ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ما قال: قدرة الله فوق قدرته، وما قال: نعمة الله فوق نعمتهم، فما قال ذلك صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن هذا للعلم بالمعنى عندنا أفلا يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم؟! ثالثاً: خالفتم إجماع السلف فقد أجمع السلف أن لله يداً حقيقية تليق بجلاله وكماله. رابعاً: نقول تنزلاً مع الخصم: اليد بمعنى القدرة، فننظر إلى المعنى، قال الله تعالى: ((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) فهذا الدليل لا يسلم من المعارضة، وكل من يستدل على قاعدة أو على حكم لا بد له من دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا بد لهذا الدليل أن يسلم من المعارضة، وهذا التأويل لا يسلم من المعارضة، فقولهم: المعنى: لما خلقت بقدرتي، فيها أكثر من اعتراض: الاعتراض الأول: تجزئة الصفة، فقد جعلوا القدرة قدرتين، وتجزئة الصفة لا بد لها من دليل؛ لأن الصفة لا تتجزأ؛ فالقدرة عامة ولا تتجزأ إلا إذا دل الدليل على تجزئة الصفة، فلا يجوز أن نقول: لما خلقت بقدرتي؛ لأنها تجزئة لصفة الله جل وعلا، ولا يجوز على الله جل وعلا أن نجزئ صفته، هذا أول اعتراض، ولا يمكن أن يسلم منه هذا التأويل. الاعتراض الثاني وهو أوجه وأقوى: قال الله تعالى منكراً على إبليس ممتدحاً آدم: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: للذي ميزته بهذه الميزة، وشرفته بهذا التشريف، بأن باشرت خلقه بيدي، فلو كان المعنى بقدرتي لتنطع إبليس وقال: يا رب! كيف ميزت آدم علي وقد خلقته بقدرتك وأنا خلقتني بقدرتك؟ لأن المحل هنا محل مدح وتمييز لآدم على إبليس بمباشرة الخلق بيده، ولو كان بالقدرة فإن إبليس خلق بالقدرة أيضاً. فلا بد أن يقول إبليس: يا رب أنا خلقت بالقدرة وهو خلق بالقدرة فلماذا تميزه علي؟! فكان إبليس لعنة الله عليه أفقه من هؤلاء البله، فلما علم أن الله جل وعلا يفضل آدم عليه بمباشرة الخلق باليد تحول إلى اعتراض آخر وقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فتحول إلى القياس الفاسد. فإبليس كان أفقه منهم، فعلم أن الله باشر خلق آدم بيده الشريفة المقدسة سبحانه وتعالى، فهو أفقه من الأشاعرة، وهذا الاعتراض لا يمكن أن يسلم منه هذا التأويل، ولا رد لهم عليه، فيسقط هذا التأويل؛ لأنه ليس له قرينة تصرف الآية عن ظاهرها إلى المؤول. أما التأويل الثاني لليد الذي هو: بمعنى النعمة، ويقولون له مسوغ من اللغة، فنقول: أولاً: خالفتم ظاهر القرآن: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فاليد ليست النعمة، بل الظاهر أنها: اليد الحقيقية المعلومة، فاليد معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة. ثانياً: خالفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم لستم بأعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت اليد بمعنى النعمة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]، فمن تمام التبليغ التبيين، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] والقاعدة تقول: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه صفة من صفات الله جل وعلا، فكيف يتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن تبيين ذلك؟! ثالثاً: خالفتم الإجماع؛ لأن السلف أجمعوا بأن اليد حقيقية يوصف بها الله جل وعلا. رابعاً: تنزلاً مع الخصم نقول: إذا أولنا الآية كما أولتم فلا نسلم من المعارضة؛ لأنه يكون معنى قوله تعالى: ((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)): يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي، فحصرنا نعم الله عز وجل بنعمتين فقط، مع أن الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. ويصرح في آية أخرى قائلاً: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} [النحل:53]، و (من): مبهمة تدل على العموم، يعني: ما بكم من أي نعمة فمن الله، فكيف حصرتم نعم الله جل وعلا في نعمتين؟! فلم تسلموا من هذا المعارض. وبهذه الطريقة تبهت شبهتهم، ويسلم لنا الدليل بأن اليد يد حقيقية، وثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وإجماع السلف.

إثبات صفة الكف والأصابع والأنامل لله

إثبات صفة الكف والأصابع والأنامل لله هل يمكن أن يوصف الله جل وعلا بالكف أو بالأصابع أو بالأنامل؟ أما الأصابع فنعم، فإذا أثبتنا لله صفة اليد فنحن نثبت لله جل وعلا الأصابع، وحديث الحبر أشهر دليل في ذلك، فقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يحمل الله جل وعلا الجبال على ذا، والبحار على ذا -إلى آخر الحديث- وقال: يهزهن هزاً؛ فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم)، إقراراً للحبر، فهذه سنة تقريرية، فهو يصف الله جل وعلا، ولو كان هذا الوصف لا يجوز على الله لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله، ولكنه أقر الحبر على هذا الوصف. وأيضاً في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وكان أكثر دعائه يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك). وكذلك الأنامل يوصف الله جل وعلا بها، فقد جاء في الترمذي بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فرأيت ربي في المنام)، وهذه قاعدة عريضة لكل فرد من هذه الأمة أنه يمكن أن يرى ربه في المنام، قال: (رأيت ربي في المنام، فسألني: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: الله أعلم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال: (فوضع يده على صدري) يعني: أن الله جل وعلا وضع يده على صدره، قال: (فوضع يده على صدري حتى شعرت ببرد أنامله)، فأضاف الأنامل لله جل وعلا، فإذاً يوصف الله جل وعلا بالأنامل؛ لأنه قال: (فشعرت ببرد أنامله) إلى آخر الحديث. كذلك يوصف الله جل وعلا بالكف، فقد روى الدارقطني بإسناد صحيح وصححه ابن خزيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، ثم قال: ومع كل ألف يدخل سبعون ألفاً، فكبر عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم يحثو الرحمن بكفه ثلاث حثيات، فكبر تكبيرة شديدة)، فأتى باسم الرحمن، لم يقل: الرب، أو الله، أو الخالق، وإنما قال: الرحمن إيماءً وإشارة برحمة الله جل وعلا، فإذا كانت الحثوات من الرحمن الرحيم فلعل كل المسلمين إن شاء الله يكونون في هذه الحثوة، ولذلك كبر عمر: قال: (ومع هؤلاء ثلاث حثيات يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) فقال: (يحثو الرحمن بكفه)، فوجه الشاهد قوله: بكفه، فلله كف. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

صفة النزول

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة النزول يجب على الإنسان العاقل ألا يعمل ذهنه وفكره إلا في حدود قدرته وطاقته، وصفات ربنا سبحانه وتعالى لا مجال للعقل أن يتخيلها بحال؛ لأن الله لا نظير له ولا ند له، فنثبت صفة النزول وغيرها من الصفات كما جاءت في الكتاب والسنة، ونجريها على ظاهرها كما أجراها السلف؛ إن أردنا الفلاح كما أفلحوا.

أقسام الصفات

أقسام الصفات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فما زلنا مع صفات الله جل وعلا، وقلنا: إن صفات الله جل وعلا على قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية. أما الصفات الثبوتية: فهي التي أثبتها الله جل وعلا في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ذاتية وفعلية وخبرية. أما الصفات الذاتية فهي التي لا تنفك عن الله جل وعلا، فهي أزلية: أي: أبدية، أما الفعلية فهي التي تتعلق بالمشيئة، أي: إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، أما الصفات الخبرية: فضابطها: أن مسماها عندنا أجزاء وأبعاض. وأما الصفات السلبية: فهي الصفات المنفية عن الله جل وعلا وضابطها: أن تجد قبلها: لا أو ما النافيتان كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] فهذه هي الصفات السلبية. فصفات الله صفات ثبوتية وصفات سلبية، وما زلنا مع الصفات الثبوتية مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب تبارك وتعالى، وصفة النزول صفة ثبوتية وفعلية، أي: اختيارية، وضابط الصفات الفعلية: أن تضع قبلها (إن شاء)، مثلاً: إن شاء جاء وإن شاء لم يجئ، إن شاء فعل كذا وإن شاء لم يفعل، إن شاء استوى وإن شاء لم يستو، إن شاء أتى وإن شاء لم يأت.

أدلة صفة النزول

أدلة صفة النزول الصفات الفعلية ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وإجماع السلف، ومنها: صفة النزول، أما ثبوتها بالكتاب فبالاستنباط من قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] وروى ابن منده بسند صحيح عن ابن مسعود قال: (أربعون سنة شاخصة أبصارهم ينتظرون القضاء، فينزل الله جل وعلا من العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام). وهذا الأثر عن ابن مسعود إن كان سنده صحيحاً فهو من باب الموقوف الذي له حكم الرفع؛ لأنه لا يدخل الاجتهاد فيه. أما من السنة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا جل وعلا حين يكون ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟) وفي رواية عن علي رضي الله عنه وأرضاه في مسند أحمد: (هل من سقيم فأشفيه؟ وهل من مستشفٍ فأشفيه)؟ وأيضاً في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل الله حين يكون ثلث الليل الآخر فيقول: أنا الملك)، وأتيت بهذه اللفظة لأنها مهمة جداً في الرد على أهل البدع، (فيقول: أنا الملك هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)

تعدد نزول الله إلى سماء الدنيا

تعدد نزول الله إلى سماء الدنيا نزول الله جل وعلا متعدد، فينزل جل وعلا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يكون ثلث الليل الآخر، نزولاً يليق بجلاله وكماله، وهذه من صفات الكمال والجلال؛ لأنها تدل على أن الله يفعل، والذي يفعل أكمل من الذي لا يفعل، والله جل وعلا فعال لما يريد، فينزل نزولاً يليق بجلاله وكماله إلى السماء الدنيا، فينزل كل ليلة حين يكون ثلث الليل الآخر، وينزل ليلة النصف من شعبان، ورد ذلك بأسانيد ضعيفة يعضد بعضها بعضاً، فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل أحد إلا المشرك والمشاحن) نعوذ بالله من المشاحنة، فيحرص المسلم أن يبيت وليس في قلبه على أحد شيء، فقد يطلع الله جل وعلا على نقاء قلبه فيغفر له، كما في الحديث: (يغفر لكل أحد إلا المشرك والمشاحن). أيضاً: هناك نزول آخر، وهو نزول الله جل وعلا عشية عرفة، ووردت في هذا أحاديث أسانيدها ضعيفة لكن يستأنس بها، وتدل على أن الله ينزل عشية عرفة، فيباهي الملائكة بهؤلاء الشعث الغبر الذين أتوه جل وعلا خاضعين متذللين. ولازم نزول الله جل وعلا قربه من عباده، مع علوه سبحانه، فهذا النزول قرب خاص يستلزم الرحمة، ويستلزم المغفرة والعطاء، فالنزول من الله جل وعلا يستلزم هذه الرحمات، فالنزول في ثلث الليل الآخر ليس عاماً ولكنه خاص لعباد الله المؤمنين، فإذا قلنا: إن هناك بلدة مليئة بالكفار، وليس فيها مسلم واحد فلا نزول في ثلث الليل الآخر لهذه البلدة، فالنزول خاص بالمؤمنين، كما أن المفخرة والمباهاة للملائكة بالحجاج فقط، أي: أن الله جل وعلا يباهي الملائكة بالحجيج، فكذلك النزول في الثلث الآخر لا يكون إلا للمؤمنين المستغفرين بالأسحار.

تعبد الله بمقتضى صفة النزول

تعبد الله بمقتضى صفة النزول يستوجب على العبد أن يتعبد لله جل وعلا بأن يقوم في ثلث الليل الآخر، ولو قلنا: إن اليوم من طلوع الفجر فتكون أربع ساعات ما بين الثلث الآخر إلى طلوع الفجر، فتحسبها بهذا، ويكون ذلك هو ثلث الليل الآخر، فيقوم فيه العبد ذليلاً خاضعاً متذللاً متمسكاً أمام ربه، يرفع يديه ويعلم في قلبه أن الله حيي كريم ستير جواد كريم، يستحي أن يرد العبد خائباً، وهو ستير يستر عليه عيوبه، وكريم جواد يستجيب له ويغفر، ويرفعه إذا تذلل له وخضع بحق لله سبحانه جل وعلا. وقرب العبد من الرب جل وعلا أكثر ما يكون في السجود، وفي ثلث الليل الآخر يخلو القلب من أي شواغل، فينتهي المرء من يومه وعمله ثم ينام، ويستيقظ خالي الذهن، والناس نيام وهو قائم، هذه الأوقات أوقات جلها إخلاص، أوقات كلها ذل ومسكنة لله جل وعلا، فدمعة واحدة تنزل من عين هذا العبد القائم الخائف الذي يقوم لله جل وعلا يستمطر بها رحماته جل في علاه في هذه الأوقات، وهذا الوقت من أوقات الإجابة، كما بينه ابن القيم. فيستلزم أن العبد إذا علم أن الله ينزل ثلث الليل الآخر أن يجتهد في هذا الوقت، ويستغفر الله جل وعلا، ويطلب منه من فضله ويطمع في الطلب، ويستحيي أن يطلع الله جل وعلا عليه فيجده نائماً والآخرون قائمون. اللهم اجعلنا ممن يقوم في الأسحار يا رب العالمين.

إثبات عدم خلو العرش عند النزل إلى سماء الدنيا

إثبات عدم خلو العرش عند النزل إلى سماء الدنيا لو سأل سائل: أين الله؟ A فوق العرش في السماء. وإذا نزل الله جل وعلا من العرش فهل يخلو منه العرش؟ إذا أثبتنا لله النزول فنقول: هو نزول يليق بجلال الله وكماله، فمن قال: إن النزول يستلزم منه خلو من العرش فقد شبه الخالق بالمخلوق، فالعرش في اللغة: السرير الذي يجلس عليه الملك، كهذا الكرسي، فإذا نزل المرء من الكرسي فقد خلا منه، فمن قال: إذا نزل الله جل وعلا إلى السماء الدنيا خلا منه العرش فقد شبه الخالق بالمخلوق. وإن قال: لا ينزل فقد قال بقول المعطلة الجهمية، والصواب الذي عليه إسحاق بن راهويه والإمام أحمد والشافعي والسلف الصالح: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، لأن نزوله يليق بجلال الله وكماله، والسماء لا تقله ولا ظله، فينزل الله جل وعلا من عرشه إلى السماء الدنيا، ولا يخلو منه العرش؛ لأن صفات الله لا يعلمها إلا هو جل وعلا. ويمكن أن يقال: يستحب أن النائم ينام متوضئاً كما ورد الأثر في ذلك، فإذا نام صعدت روحه إلى العرش، فإن كان متوضئاً نائماً طاهراً تطوف حول العرش، وإن كان جنباً أو غير متوضئ تكون بعيداً عن العرش، وهو نائم على سريره، وروحه عند العرش تطوف، فهل أحد يعرف كيف تطوف الروح عند العرش؟ لا أحد يعرف ذلك. فهذه الروح في جسدك ولا تعرف كيف تصعد إلى السماء، ولا تعرف شيئاً عن الملائكة، فنزول الله نزول يليق بجلاله وكماله ولا يخلو منه العرش. ويبقى إشكال واحد فقط نرد عليه؛ لأن من أهل البدع من يقول: إذا قلتم: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فهنا في بلادنا ثلث ليل في وقت معين، ثم في بلاد أخرى يكون ثلث آخر، وهكذا، فهل يستلزم ذلك أن الله يبقى نازلاً كل الليل؟ نقول: هذا من كلام أهل البدع، أما نحن فنؤمن بما جاءنا، ولو كان هناك تفصيل لقاله النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نؤمن أنه عندما يبدأ ثلث الليل فالله نازل في هذا الثلث، فإن كان في مصر ثلث الليل الآخر فالله نازل فيه، وإن كان في أمريكا مسلمون ففي ثلث الليل الآخر ينزل الله جل وعلا هناك وهكذا، فنؤمن بما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا نتبع المبتدعة ونقول: إن الله في كل الليل نازل، وإنما ينزل في ثلث الليل الآخر فقط.

حكم تأويل صفة النزول إلى سماء الدنيا بنزول الأمر ونحوه

حكم تأويل صفة النزول إلى سماء الدنيا بنزول الأمر ونحوه من أقوال أهل البدع -الذين لم يجعلونا نسلم في عبادتنا لله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا-: إن معنى نزول ربنا في ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا: نزول أمره، ونزول ملائكته ورحمته، وإذا قلنا بنزوله فقد شبهنا الخالق بالمخلوق. والرد عليهم من وجوه: الوجه الأول: هذا خلاف ظاهر الكتاب والسنة. الثاني: أأنتم أعلم أم رسول الله؟! أأنتم أعلم أم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كان النزول نزول الأمر أو نزول الملائكة أو نزول الرحمة، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يبينه فإما أنكم تتهمونه بالتقصير في البلاغ، وإما أنكم أعلم منه، ولم يسعكم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم، فيهربون ويقولون: لا نتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير، ونقول: إذا لم تتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير فالنبي قد بلغ ما أمره الله بتبليغه، وقال: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله. الثالث: أنتم خالفتم طريقة السلف، فإجماع الصحابة أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله جل وعلا. الرابع: ليس لكم دليل صريح يؤول هذا الظاهر إلى المؤول الذي ادعيتموه، أين الدليل أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا للسماء الدنيا) فيه حذف، أي: أن الظاهر: أن النزول هنا مضاف للرب جل وعلا، فأين الدليل على حذف إضافة النزول إلى الرب نفسه سبحانه؟ هم يقولون: التقدير ينزل أمر ربنا، فنقول: الأصل عدم التقدير، وإن قلتم بالتقدير فأتونا بالدليل عليه، وعندهم دليل يثبت ذلك. والقاعدة هذه لو حفظتموها فستردون على كل أهل البدع بنفس الطريقة. الخامس: نتنزل مع الخصم ونقول: ينزل أمر ربنا، وتنزل الملائكة، وتنزل الرحمة، فهل يسلم هذا الكلام من معارضة أم لا؟ فلو قلنا: ينزل أمر ربنا تنزلاً مع الخصم فكيف نؤول حديث (فيقول: أنا الملك، هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟). فأول اعتراض: هل أمر ربنا جل وعلا لا ينزل إلا في الثلث الآخر؟ وكيف تفعلون بقول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]؟ يعني: كل وقت هو في شأن، يعز أقواماً ويذل آخرين، ويعطي هذا ويمنع هذا، يميت هذا ويحيي هذا، يرفع أقواماً ويخفض آخرين كما قال سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يعني: كل حين وآن هو في شأن، فكيف خصصتم الأمر الذي ينزل ليل نهار وكل ساعة ودقيقة بثلث الليل الآخر؟ وإن قلتم: ينزل في ثلث الليل الآخر فإلى أين ينزل؟ إلى الأرض أم إلى السماء الدنيا؟ قال في الحديث: (إلى السماء الدنيا) يعني: لا ينزل للأرض، وفيها أن الله ينزل فكيف تؤولونه بالأمر؟! فهذا أول اعتراض عليهم، وهو اعتراض قوي لا يستطيعون رده. الاعتراض الثاني: إن كان المراد نزول الأمر، فهل يقول: أنا الملك؟ والأمر كما هو معلوم صفة، فهل الصفة تقول: أنا الملك؟!! وهل أحد سمع صفة تقول له: تعال أولاً اذهب، أو افعل كذا؟ فهذا الاعتراض الثاني. الاعتراض الثالث: لو قلنا: إن الأمر يقول: أنا الملك، فهل يقول أيضاً: هل من سائل فأتوب عليه؟ فهل الأمر هو الذي يتوب على العباد أم الله الذي يتوب على من يشاء وحده؟! الله الذي يتوب على العباد، وما قيل في الأمر يقال في الرحمة، أي: هل تختص الرحمة بالنزول في ثلث الليل الآخر؟ فالليل والنهار تأتينا فيهما آثار رحمة الله تترى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، هذه النعم من آثار رحمة الله جل وعلا كالمطر ونحوه، فهل ثلث الليل الآخر مختص برحمة الله جل وعلا دون ما سواه؟ حاشا لله. ثم هل الرحمة تقول: أنا الملك؟ وهل الرحمة تقول: هل من سائل فأتوب عليه؟ وإذا قالوا: المراد نزول الملائكة، فيرد عليهم بنفس الردود، ثم نأتي إلى تأويل الدليل على زعمهم، فنقول: هل يسلم من المعارضة أم لا؟ أي: إذا قلنا: تنزل الملائكة في ثلث الليل الآخر، فهل هي تقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ إلى آخر الحديث، ثم إن قلنا: إن الملائكة تنزل إلى السماء الدنيا، فهل نزول الملائكة يعلمه أحد بعقله أم من الوحي؟ لا شك أنا لا نعلم ذلك إلا من الوحي. فهل جاءنا الوحي بنزول الملائكة إلى السماء الدنيا أم إلى الأرض؟ A معلوم أن الملائكة تتعاقب علينا كل يوم، ويتقابلون في الفجر وفي العصر، وينزلون إلى الأرض، فلم خصصتم نزول الملائكة إلى السماء الدنيا فقط؟ ألم يقل الله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وهذا في الأرض فلم خصصتم ذلك بالسماء الدنيا؟ وأيضاً: هل الملك هو الذي يغفر؟ وهو الذي يتوب ويعطي؟ قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] فهل هم يغفرون لمن في الأرض أم يستغفرون؟ يستغفرون، فبطل هذا التأويل. والصحيح أن نرجع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم، ونتعبد لله جل وعلا بهذه الصفة، أي: بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: (أنا الملك هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سقيم فأشفيه؟).

الجمع بين استواء الله على عرشه مع نزوله إلى سماء الدنيا

الجمع بين استواء الله على عرشه مع نزوله إلى سماء الدنيا إن قيل: لماذا لا يخلو العرش من الله وهو مستوٍ عليه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟ فنقول: إذا قلت بذلك فقد جسمت، يعني: شبهته بالخلق؛ لأن السماء في نظرك تظله أو تقله وهذا ليس بصحيح، بل الكون كله في يد الرحمن كحبة خردل في يد أحدكم، فمن قال: إن الست السماوات تظل الله جل وعلا، فقد شبه الخالق بالمخلوق؛ لأن نزول الله ليس كنزول المخلوق، فأنا لو نزلت تحت الطاولة مثلاً فهي تظلني، وإن كنت عليها فهي تقلني؛ لأنني مخلوق، فلو قلت: إن السماوات الست تظل الله جل وعلا فقد شبهت الخالق بالمخلوق حتماً، وإن لم تصرح بذلك، لكن نقول: ينزل نزولاً يليق بجلاله، ولا يخلو منه العرش، والكون كله في يده سبحانه كحبة خردل في يد أحدكم، فنزوله صفة من الصفات التي تدل على كماله. ولو قلنا: إن السماء تظله أو تقله لكان محتاجاً لها وحاشا لله، بل كل المخلوقات تحتاج إلى الله، قال سبحانه: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] فهو قريب في علوه، وعال على عرشه حين ينزل إلى السماء الدنيا سبحانه. وهذه يقبلها العقل؛ لأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، وصفات الله لا يمكن أن تشابه صفات المخلوقين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

رؤية المؤمنين ربهم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - رؤية المؤمنين ربهم اختلف أهل السنة والجماعة مع غيرهم من أهل البدع والضلالات في كثير من المسائل الاعتقادية، وقد صنفت في ذلك المصنفات الكثيرة، ومن هذه المسائل: مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وقد ذكر المصنف في هذه المادة أقوال الفرق فيها مع ذكر حجج كل قول، وبين الحق فيها مؤيداً بالحجة والبرهان.

أنواع نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا

أنواع نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لا زلنا مع كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للعلامة اللالكائي، وقد انتهينا إلى صفة من صفات الله جل وعلا الفعلية وهي صفة نزوله سبحانه وتعالى، وبينا أن الله جل وعلا ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله إلى السماء الدنيا، فينزل نزولاً عاماً ونزولاً خاصاً، فالنزول العام هو في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر على خلاف سنبينه. وينزل نزولاً خاصاً يوم عرفة فيباهي ملائكته بالحجيج، فهذا النزول خاص بالحجيج فقط، وهذه فرحة كبرى لأهل الحج الذين يقفون في عرفات، فإن الله جل وعلا ينزل إلى سماء الدنيا يباهي بهم الملائكة، فقد أتوا شعثاً غبراً خاضعين متذللين لله جل وعلا. وينزل نزولاً خاصاً أيضاً في ليلة النصف من شعبان، وهذا النزول لا يحتاج من العبد أن يكون صائماً ولا مستغفراً ولا متقرباً بطاعة، بل هذه محض رحمة من الرب الكريم الجليل، ينزل في هذه الليلة فيغفر لكل عباده المسلمين إلا المشرك والمشاحن. وأما النزول العام في كل ليلة فيحتاج من العبد إلى القيام، فإن الله ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر فيغفر لمن يستغفر، ويعطي من سأل، ويجيب من دعا، ويشفي من استشفى، وأما الذي لا يستشفي ولا يدعو ولا يسأل فليس له هذا الثواب، فيا حسرتا ثم يا حسرتا على من ضيع ثلث الليل الآخر ولم يقم يدع الله متذللاً خاضعاً ممتثلاً لربه جل وعلا! يستغفره فيغفر له، أو يدعوه فيجيبه، أو يسأله فيعطيه، أو يستشفي الله جل وعلا فيشفيه. فهذا النزول يليق بجلال الله وكماله جل وعلا، وهو يعم المؤمنين والكافرين. بقي هنا إشكال تكلمنا عنه في المرة السابقة وهو: إذا قلنا: إن الله جل وعلا ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، ففي مصر مثلاً ثلث الليل وفي أمريكا في نفس الوقت ليس كذلك، وفي المشرق ثلث الليل في وقت وفي المغرب ثلث الليل في وقت آخر، فيبقى الله جل وعلا طيلة الليل نازلاً، فهذا الإشكال هو الذي أورده أهل البدع في هذه المسألة. والجواب عليه: أن الخطأ الذي وقع فيه أهل البدع أنهم قاسوا نزول الحق على نزول الخلق، وقاسوا نزول الخالق على نزول المخلوق، وهذا هو الذي جعلهم يقعون في هذه الأباطيل، فنقول: إنه حين يكون ثلث الليل الآخر فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فهو ثلث الليل هنا أو هناك، فالنزول مرتبط بثلث الليل الآخر.

الجمع بين الروايات الواردة في وقت النزول

الجمع بين الروايات الواردة في وقت النزول قسم بعض العلماء النزول إلى ثلاثة بمقتضى الأحاديث، فالحديث الأول في الكتاب: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر). وجاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (يمهل الله عز وجل حتى إذا ذهب ثلث الليل نزل إلى السماء الدنيا)، وفي رواية أخرى قال: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل الأول، فإذا مضى ثلث الليل الأول هبط -يعني الله جل وعلا- إلى السماء الدنيا، فلم يزل بها حتى يطلع الفجر يقول: ألا سائل فأعطي)، ففي هذا دلالة على أن الله ينزل بعد ثلث الليل الأول، لكن في حديث أبي هريرة قال: (ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وهذا إشكال. وهناك حديث فيه تحديد النزول في آخر ثلاث ساعات تبقى -وهذا إشكال آخر- وهو حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، ينظر في الساعة الأولى منهن الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره) إلى آخر الحديث، فكيف نجمع بين هذه الروايات. الجمع بين هذه الروايات: أن الحديث الأول أظهر لنا وقت نزول الله جل وعلا وهو حين يبقى الثلث الأخير، ونحن لا نعرف الثلث الأخير هل هو حين تبقى ثلاث ساعات أو أربع ساعات أو ساعتان؟ فجاء حديث أبي الدرداء وجعله ثلاث ساعات، فهذا ضابط لهذا، ويبقى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا) ولم يبين هل ينزل بعد ثلث الليل الأول بدقيقة، أو بعده بساعة، أو ساعتين أو ثلاث، أو حين يبقى الثلث الأخير؟ فهذه مطلقة ومجملة، والروايات الأخرى بينت الوقت وهو: حين يبقى ثلاث ساعات. إذاً فأرجح الأقوال: أن الله جل وعلا ينزل حين يبقى الثلث الآخر، أي: قبل الفجر بثلاث ساعات. وأما الذين قسموه إلى أول وأوسط فهو تقسيم ليس بجيد؛ لأنه يمكن الجمع بين الروايات، ولأن هذه الروايات كلها مطلقة قيدت بحديث: (ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر).

رؤية الله جل وعلا في الآخرة

رؤية الله جل وعلا في الآخرة قبل أن ندخل في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لابد من التفريق بين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (خلق الله آدم على صورته)، والحديث الضعيف الذي رواه النسائي: (خلق الله آدم على صورة الرحمن)، فالأول صحيح، والثاني مختلف فيه: والشيخ ابن باز رحمة الله عليه يصححه، ويقول في معناه: إن الله له وجه كما أن آدم له وجه، وله يد كما أن آدم له يد، وله رجل كما أن آدم له رجل، فلله جل وعلا يد وعين وساق ورجل، لكنها تليق بكمال الله وجلاله، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى. أما بالنسبة لرؤية المؤمنين لربهم فهل منا أحد درب نفسه ليرى الله جل وعلا؟ وهل منا من نقى بصره لينظر إلى المليك المقتدر؟ وهل منا من لم يقع بصره على حرام؛ حتى لا يغار الله جل وعلا إذا انتهكت محارمه؟ نسأل الله أن يحفظ أبصارنا حتى نراه جل وعلا.

الأدلة على رؤية المؤمنين لله

الأدلة على رؤية المؤمنين لله ورؤية المؤمنين لله المليك المقتدر ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل.

الأدلة من القرآن الكريم

الأدلة من القرآن الكريم فأما الكتاب ففيه الآيات الباهرة التي تثبت رؤية المؤمنين لله جل وعلا. أولها: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فـ (ناضرة) من النضارة، وهو نور يشع من وجوههم بالنظر إلى وجه الله الكريم كما فسره ابن عباس، فهذه الآية صريحة ونص قاطع بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وذلك لعدة أمور: أولها: أن النظر: فعله نَظَر، وهذا الفعل إما أن يتعدى بنفسه، أو يتعدى بـ (إلى)، أو يتعدى بـ (في)، فإذا تعدى هذا الفعل بـ (إلى) يكون معناه النظر بالعين والإبصار، أي: يبصرون الله جل وعلا بأعينهم، والذي يؤكد ذلك أنه أتى بمحل النظر وهو الوجه الذي فيه العين التي ينظرون بها إلى الله جل وعلا. وأما إذا تعدى بنفسه فمعناه: الانتظار، فأقول: أنا ناظرك في المكان الفلاني الساعة الفلانية، أي: أنا منتظرك، ودلالة ذلك من كتاب الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون عندما يلتمسون النور من المؤمنين على الصراط: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم؛ لنستهدي ونمر على الصراط. وإذا تعدى بـ (في) يكون بمعنى التدبر والتفكر، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185]. إذاً: إذا تعدى بـ (في) فمعناه التفكر والتدبر، أما إذا تعدى بـ (إلى) فهو نص قاطع على رؤية الله جل وعلا بالعين المجردة. فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فيه أن هذه النظرة كما قال ابن عباس وأنس: من النظر إلى وجه الله الكريم. هذه أول آية تدل على رؤية المؤمنين لله جل وعلا. الآية الثانية: قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وتفسير القرآن بالقرآن أولى التفاسير، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم فصل لنا هذه الآية بأبلغ بيان؛ وقد أمره الله جل وعلا بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فتعالوا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في صحيح مسلم: (الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم) اللهم ارزقنا ذلك يا أرحم الراحمين. الآية الثالثة التي تثبت ذلك: قول الله تعالى عن المؤمنين: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22 - 24]. فاستدل العلماء على الرؤية بقول الله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أي: ينظرون إلى وجه الله تعالى، فـ (ينظرون) هذا الفعل، والفاعل: المؤمنون، والمفعول به محذوف، والقاعدة تقول: نفي المعمول يؤذن بالعموم، أي: أن الأبرار ينظرون، لكن لا ينظرون إلى ثمار الجنة فقط، أو إلى الحور العين، أو إلى أشجار الموز أو التفاح، فالله تعالى لم يقل ذلك، بل ترك الآية عامة، والمنضور إليه غير مصرح به، فيدل على الإطلاق، أي: أنهم ينظرون إلى الحور العين، وإلى ثمار الجنة، وإلى أنهارها، وينظرون إلى ما هو أرقى من ذلك وأعلى وأنعم ألا وهو: وجه الله الكريم. إذاً وجه الدلالة: أن حذف المنظور إليه فيه دلالة على العموم، أي: أنهم ينظرون إلى الله جل وعلا، وينظرون إلى النعم التي أعدها الله لهم في الجنة، وينظرون إلى كل خير وبر، وإلى كل ما يمتعهم، وأشد ما يتمتعون به: النظر إلى وجه الله الكريم. أيضاً من الآيات الدالة على النظر إلى وجه الله الكريم ورؤية المؤمنين الله بأبصارهم يوم القيامة قول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق:35] أي: في الجنة {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، قال أنس وعلي بن أبي طالب: لهم فيها ما يشاءون: من الحور العين، ومن اللبن والخمر، ومن العسل المصفى، ومن كل ما يشتهون، حتى الذي يحب الأموال أو الجمال أو الأغنام -وكل هذا يكون تراباً يوم القيامة- فإنه إذا تمنى ذلك على الله أنشأ الله له الغنم من الذهب، أو الجو ذأوة أو مال من الذهب، وجاء في بعض الآثار: أن المؤمن ينظر إلى أمامه في الجنة فهو لا يريد، وإنما يريد الناحية الأخرى، فيشير إليها بأصبعه فتمشي معه حيثما سار، فللمؤمن في الجنة ما يشتهي، يقول صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وأعلى من ذلك المزيد، وهو: رؤية الله جل وعلا، وهذه لصاحب الحس المرهف، والقلب الواسع، الذي أحسن في عبادة الله جل وعلا فيجازى بالإحسان كما قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فالذي أحسن في عبادته لله جل وعلا يجازى بملء بصره من النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فكان جزاء وفاقاً، فمن عبد الله كأنه يراه كان جزاؤه أن يراه حقاً وحقيقة بعين اليقين في الآخرة. ومن الأدلة أيضاً: قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، هذه الآية استدل بها الشافعي على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا، حيث قال: إذا حجب الله نفسه عن الكفار في السخط أو في الغضب، ففي الرضا لا بد أن يراه المؤمنون، فإن حجب نفسه عن الكافرين فإنه يتجلى للمؤمنين؛ رضاً عنهم. الآية السادسة التي تثبت رؤية الله جل وعلا -وهي ليست بصريحة في ذلك ولكن بدلالة اللزوم- وهي قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] فاللقي لغة يلزم منه المعاينة، فإذا التقيت بشخص فلا بد أن تعاينه إلا إذا منع من ذلك مانع كالعمى، ويوم القيامة ليس فيه عمى، وإنما يكون الأمر كما قال الله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: قوي؛ حتى تنظر إلى الله جل وعلا. فهذه الأدلة من الكتاب.

الأدلة من السنة النبوية

الأدلة من السنة النبوية وأما السنة فقد بلغت الأحاديث الدالة على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، حد التواتر، وسوف نذكر طائفة يسيرة منها تبين المقصود. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال -وهذا فيه تشويق لرؤية الله جل وعلا، فقد كان صلى الله عليه وسلم دائماً يدعو: (اللهم! إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، فهذا النعيم ليس بعده نعيم-: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر هل تضارون برؤيته؟ قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: سترون ربكم كذلك) فالكاف هنا: تشبيه رؤية برؤية، لا تشبيه مرئي بمرئي؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، وفي رواية أخرى عن أبي موسى وصهيب وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما سئل: (هل نرى ربنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أترون القمر ليلة أربع عشرة؟ قالوا: نعم، قال: أترون الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: نعم، قال: سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، لا تضامّون في رؤيته)، وفي رواية: (لا تَضَامَون) بدون التشديد، ومعنى (تضامّون) أي: ينضم بعضكم إلى بعض، أي: لا يتزاحمون عند النظر، كما لا يتزاحمون عندما يرون القمر، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم سترون الله دون مزاحمة ودون أي تضام فيما بينكم. ومعنى: (لا تضامون) بالتخفيف: من الضيم والظلم، أي: لا يحدث لكم أي ضرر، فيكون تفسير الحديث: أنكم ستنظرون إلى الله جل وعلا وترونه كما ترون القمر لا يلحقكم ضرر في ذلك. وفي حديث أبي موسى في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء يكشفه الله جل وعلا، فينظرون إلى الله جل وعلا)، وفي حديث صهيب: (أن الله جل وعلا يخاطب أهل الجنة بعد أن يدخلوا الجنة: هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فقالوا: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ فيكشف الله جل وعلا الحجاب فينظرون إلى ربهم من فوقهم، فما تنعموا بشيء كالنظر إلى وجه الله الكريم)، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا النظر إلى وجهه الكريم.

دليل الإجماع والعقل

دليل الإجماع والعقل وأما الإجماع فقد أجمع السلف والصحابة الكرام أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة. أما العقل: فإننا نستطيع بالعقل أن نثبت أن المؤمن سيرى ربه، وذلك أن العدم لا يرى، والعدم نقص وليس بكمال، ولا يرى إلا الموجود، فالذي يرى أكمل من الذي لا يرى، والله جل وعلا متصف بالكمال، فهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا. إذاً فرؤية المؤمنين لله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل.

مقدار رؤية المؤمنين لربهم

مقدار رؤية المؤمنين لربهم بقيت هنا مسألة وهي: مقدار رؤية المؤمنين لربهم، فقد جاء ذلك بأسانيد فيها مقال يعضد بعضها بعضاً، ففي السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: مقدار رؤية المؤمنين لله جل وعلا كصلاة الجمعة. أي: كمقدار صلاة الجمعة.

مسألة: هل رؤية الله خاصة بالمؤمنين أو عامة للمؤمنين والكفار؟

مسألة: هل رؤية الله خاصة بالمؤمنين أو عامة للمؤمنين والكفار؟ وهنا مسألة في الرؤية وهي: هل رؤية الله تعالى في عرصات يوم القيامة خاصة بالمؤمنين فقط أم يراه الكفار أيضاً؟ اختلف العلماء في هذه على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن الكل يرى الله جل وعلا: المؤمن والكافر على الإطلاق. والقول الثاني: إنه لا يرى الله جل وعلا إلا المؤمن التقي النقي. والقول الثالث: إن الله جل وعلا يراه في عرصات يوم القيامة المؤمنون والمنافقون. ولكل قول دليل، فالذين قالوا بأن الكفار يرون الله جل وعلا يوم القيامة قالوا: إن هذه الرؤية ليست رؤية كرامة ولا رحمة ولا تشريف، ولكنها رؤية محاسبة، واستدلوا على ذلك بأدلة: منها: أولاً: قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قالوا: فقد حجبوا بعدما رأوا، وهذه ذلة ومهانة وتحزين لهم. وأوضح دليل لهم في ذلك هو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فالملاقاة يلزم منها المعاينة. ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أنه بعدما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرون ربهم؟ فقال: (يأتي الله جل وعلا بالعبد ليس بينه وبينه أحد فيقول: عبدي! ألم أكرمك؟ ألم أسودك؟ ألم أعطك كذا وكذا وكذا فيقرره بنعائمه، فيقر بهذه النعم، ثم يقول: ما ظننت أنك ملاقي؟ فيقول: رب لا! ما ظننت ذلك، فيقول الله جل وعلا: أنساك اليوم كما نسيتني)، فهذا فيه دلالة على أنه ستحدث بينه وبين الله جل وعلا محادثة، وأنه يلقى الله جل وعلا، والملاقاة يلزم منها المعاينة. ثالثاً: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، يذكره بكذا وكذا وكذا) أي: أن كل الناس سيحاسبهم الله جل وعلا. واستدل أصحاب القول الثاني على أنه لا يرى الله إلا المؤمنون بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فالمؤمن يرى الله جل وعلا في الرضا والكافر يحجب في السخط. ومن أدلتهم: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أنه بعدما سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرون ربهم؟ قال: هل ترون القمر؟ -إلى آخر الحديث، ثم قال: فينادي مناد: من كان يعبد أحداً فليتبعه) فمن كان يعبد الصليب فيتبع الصليب حتى يتهاوى به إلى نار جهنم، ومن كان يعبد عيسى فإن الشيطان يتمثل له بعيسى عليه السلام ويتهاوى به إلى نار جهنم، ومن كان يعبد الشمس فإنها تصور وتلقى في نار جهنم ويلقى خلفها في نار جهنم، فوجه الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الكافرين بعد أن ذكر أن المؤمنين يرون ربهم: إن كل كافر سيتبع ما كان يعبد، ففيه دلالة على أن المؤمن فقط هو الذي سيرى الله جل وعلا. واستدل أصحاب القول الثالث بدليل واضح جلي وهو: حديث أبي هريرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال: (وكل يتبع معبوده) قال: (ثم يبقى المؤمنون والمنافقون وطائفة من أهل الكتاب)، فيبقى المؤمنون، والمنافقون الذين يسجدون رياء ونفاقاً، وطائفة من اليهود الذين وحدوا الله جل وعلا، (فيأتيهم الله جل وعلا على غير الصورة التي يعرفونها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله أحداً، فيقول الله جل وعلا لهم: هل بينكم وبينه آية؟ فيقولون: نعم، فيكشف الله جل وعلا عن ساق فيخرون جميعاً سجداً لله جل وعلا إلا المنافق) أي: المرائي الذي نافق وسجد نفاقاً ورياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً إياه: (إلا المنافق يرجع ظهره -أي: حلقات فقرات الظهر- طبقاً واحداً -أي: مستقيماً- فلا يستطيع السجود). وجه الشاهد من الحديث: أن المؤمنين والمنافقين وطائفة من أهل الكتاب يرون الله جل وعلا. فإن قيل: إذا كان الكافر لا يرى الله جل وعلا فمن باب أولى ألا يراه المنافق. و A أن رؤية المنافقين من باب التحزين وزيادة الحسرة عليهم، كما أنهم يرون الجنة كأنهم سيدخلونها، فيضرب بينهم بسور له باب، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فهم عندما يرون الله جل وعلا يستشعرون في أنفسهم أن الله حجب نفسه عن الكافرين وهم قد رأوه، فيستيقنون أنهم من أهل الجنة، ثم يخدعون، فلا يرون نوراً يمشون به إلى الجنة فيتساقطون في نار جهنم. ومن شدة حسرة أهل النار أيضاً أن الحجاب مكشوف بينهم وبين أهل الجنة، فأهل الجنة يرون ما يحدث لأهل النار؛ ليحمدوا الله جل وعلا على هذه النهاية، وأهل النار يرون أهل الجنة فيزدادون حسرة وحزناً شديداً أنهم لم يكونوا من أهل الجنة.

القول الراجح في رؤية الكافرين لربهم

القول الراجح في رؤية الكافرين لربهم القول الراجح في هذ المسألة هو أن الكافرين يرون الله جل وعلا رؤية محاسبة، فيقررهم بما كفروا به جل وعلا، ثم يتهاوون في نار جهنم ويتساقطون فيها، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يراه، كما نسأله أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم في غير ضراء مضرة.

إثبات رؤية الله جل وعلا

إثبات رؤية الله جل وعلا في قول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] دليل على أن الذي عبد الله وأحسن في عبادته أنه يرى الله جل وعلا رؤية كاملة. ومن الأدلة على رؤية الله جل وعلا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فهذه الآية من الأدلة على رؤية الله جل وعلا من وجوه: الأول: أن موسى عليه السلام هو من أعلم الخلق بالله جل وعلا فلو كان السؤال معاباً على موسى لما سأل الله جل وعلا، ولو كان سأله جهلاً لا تعدياً لما أقره الله جل وعلا على ذلك، فالله تعالى لم يقر نوحاً عليه السلام عندما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] فقال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] ثم قال: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] فلم يقره على هذا الخطأ، ولو كان موسى عليه السلام مخطئاً في السؤال ما أقره الله جل وعلا، ولكنه هنا أقره فقال: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]. ثانياً: أن الله جل وعلا لم يقل: أنا أرى، وإنما قال: ((لَنْ تَرَانِي)) أي في الدنيا؛ لأن بصرك لا يحتمل ذلك؛ ودليل ذلك أن الجبل الذي هو راسخ اشم شامخ دك عندما تجلى الله له. ثالثاً: أن الله جل وعلا علق الرؤية على أمر ممكن، ولم يعلقها على أمر مستحيل فقال: ((فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ))، وهذا أمر ممكن وليس بمستحيل، فلو استقر الجبل مكانة لرأى موسى ربه جل وعلا، فهذه دلالة على أنه سيرى. رابعاً: أن الله تجلى للجبل الجماد الذي ليس له ثواب ولا عليه عقاب، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، فمن باب أولى أن يتجلى الله تعالى لمن هو أكرم من الجبل وهو الإنسان المؤمن. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

مسائل في الرؤية

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مسائل في الرؤية اختلف الناس في رؤية المؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة ما بين مجيز للأمرين، ومانع لهما، ومتوسط بينهما، وهم أهل السنة حيث قالوا بالرؤية في الآخرة فقط.

مذاهب أهل السنة في رؤية المؤمنين لربهم

مذاهب أهل السنة في رؤية المؤمنين لربهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فإن الناس قد انقسموا في رؤية المؤمنين لربهم على أقوال ثلاثة: القول الأول: إن المؤمنين يرى الله في الدنيا والآخرة، وإلى ذلك ذهب أهل الوجد والتصوف وأهل التخييل والخيالات، كـ ابن عربي وغيره. القول الثاني: إن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإليه ذهب المعطلة الجهمية. والقول الثالث: وهو الوسط بين الطرفين، وهو قول أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، الذين قالوا برؤية الله جل وعلا في الآخرة دون الدنيا. الطائفة الأولى الذين قالوا: إن الله يرى في الدنيا والآخرة يرد عليهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسلم: (إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت) ففي هذا دلالة على أن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا، وقال الله تعالى جواباً لأحب الخلق إليه في ذلك الوقت وهو موسى عليه السلام وذلك عندما سأل الله جل وعلا رؤيته: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]. فإذاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت) وحتى هنا للغاية، أي: أنه بعد البعث يمكن أن يرى ربه جل وعلا.

الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا

الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا تنازع أهل السنة فيما بينهم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا بعيني رأسه على قولين: الأول: وهو قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها وعامة السلف على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه، حتى إنها أغلظت في القول فقالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الدنيا - أي: ليلة المعراج- فقد أعظم على الله الفرية -أي: الكذب أو الخطأ-. والقول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على أن محمداً رأى ربه مرتين: ليلة أعرج به.

الرد على القائلين بأن الله يرى في الدنيا

الرد على القائلين بأن الله يرى في الدنيا وقد وردت روايات عن ابن عباس وأبي هريرة في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه منها: عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل). وعنه في قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] قال: دنى منه ربه فتدلى، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:9 - 10] قال: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم. أي قد رأى ربه. وفي رواية أخرى عنه قال: بلى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] وسئل عكرمة -الذي يأخذ عن ابن عباس -: هل رآه؟ قال: نعم، قد رآه ثم رآه، فسألت عنه الحسن فقال الحسن: رأى جماله وعظمته، ورأى كذا وكذا وكذا. وعن أبي هريرة أنه سئل: هل رأى محمد ربه، قال: رآه، أو نعم قد رآه. فهذه الروايات تثبت أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في ليلة المعراج بعيني رأسه. وسئل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه. وفي رواية أخرى في تفسير قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] قال: رأى ربه بقلبه. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين. فكيف نجمع بين الروايات التي يقول فيها ابن عباس: رأى محمد ربه بقلبه، والروايات الأخر التي أطلق فيها فقال: رأى ربه؟ و A أنه رآه بعينه ثم رآه بقلبه، أو رآه بقلبه أولاً ثم رآه بعينه.

أقسام رؤية الله في الآخرة

أقسام رؤية الله في الآخرة يختم باب الرؤيا بأن أول من ينظر إلى الله جل وعلا يوم القيامة هم العميان {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، وهذه وردت بأسانيد ضعيفة في أن الله جل وعلا قال لجبريل: (سلبت حبيبتيه؟ قال: نعم، قال: جزاؤه الدوام أو الخلود في جنتي، ودوام النظر إلى وجهي)، وهذه ليس فيها إشارة على أنه أول من ينظر إلى الله جل وعلا في الجنة، لكن فيها إشارة على دوام نظره لله عز وجل. وتنقسم رؤية الله جل وعلا إلى ثلاثة أقسام: الرؤية الأولى: في عرصات القيامة. والثانية: يوم الجمعة. والتفاوت في هذه الرؤيا هو من حيث القرب والبعد، فالأقرب يوم الجمعة في الدنيا هو الأقرب عند الله، وهذا يفتح باب التسابق والتنافس في المسارعة إلى الجمعة؛ ولذلك كان ابن مسعود يحرص حرصاً شديداً على أن يكون أول من في المسجد يوم الجمعة، فإذا دخل فوجد ثلاثة أو اثنين قال: ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة لا يبعد هذا، لكن لا يكون خامسهم ولا سادسهم-عافنا الله من الكسل ومما نحن فيه- قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فالذين يبكرون يوم الجمعة هم الذين يقتربون من رؤية الله يوم الجمعة، وهم أكثر نعيماً من غيرهم. وفضل آخر في التبكير ليوم الجمعة وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم في السنن حيث قال: (من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، وذهب إلى الجمعة ماشياً - هذا تقييد مهم جداً يعني: ليس بالسيارة- ثم دنا من الإمام فأنصت ولم يلغ، كتبت له كل خطوة بأجر سنة قيام وصيام)، يعني: لو مشى ربع ساعة فإن كل خطوة بأجر سنة قيام وصيام، فكم من الأجر العميم في هذا، وكم ضيعنا من هذا الخير. ومن فضل التكبير يوم الجمعة أنك ترى الله جل وعلا على قرب منه، فتكون أقرب إلى الله، وتتمتع أكثر بالنظر إليه. الرؤية الثالثة: في العيدين، وهذه للنساء، فهن لا يرينه يوم الجمعة على الراجح من الأقوال، ويرونه غدواً وعشياً. وهنا قال الحسن: يرى الله جل وعلا في الآخرة، وأول من يراه هو الأعمى، وهذا لا يبعد؛ لأن الله جل وعلا كريم حليم إذا أخذ من عبده شيئاً فصبر ورضى بقضاء الله عوضه الله خيراً مما أخذ منه، والقياس في ذلك كثير ففقراء المهاجرين عانوا في الدنيا كثيراً من الفقر، وهاجروا من مكة إلى المدينة، فالله جل وعلا كافأهم وعوضهم أفضل مما أخذ منهم فأدخلهم الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم) ونصف اليوم: خمسمائة عام، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ما في أهل الصفة من بأس فقال لهم: (لو علمتم ما لكم عند الله جل وعلا لدعوتم الله أن يشد عليكم أكثر مما أنتم فيه) أو كمال قال صلى الله عليه وسلم، وهذه علامة الإخلاص، وعلامة محبة لله جل وعلا. والمقصود أن القياس البديع في الشريعة يثبت أن الله جل وعلا إذا أخذ من عبده شيئاً فصبر عوضه خيراً منه، وكما في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط).

النهي عن التفكر في ذات الله

النهي عن التفكر في ذات الله وردت بعض الآثار بأسانيد ضعيفة يعضد بعضها بعضاً في النهي عن التفكر في ذات الله، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتفكروا في الله، ولكن تفكروا في خلق الله، فإن الله لا تصل إليه فكرة) والنهي هنا للتحريم، أما المعاني فلا بد أن نتفكر فيها، ولا يجوز التفكر في كيفية صفات الله جل وعلا، ودليل ذلك ما ورد عن أم سلمة بسند صحيح رضي الله عنها وأرضاها -بسند صحيح- لما سئلت عن الاستواء قالت: الاستواء في اللغة معلوم - أي: تتفكر في معناه- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وقال ذلك ربيعة الرأي ومالك رحمهم الله. فقوله: (لا تتفكروا) أي: لا تتفكروا في كيفية صفات الله جل وعلا، وأنى للعبد أن يتفكر فيمن الكون كله في يده كحبه خردل في يد أحدكم؟ وكيف يتفكر في الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع، والذي بصره ينفذ إلى جميع خلقه؟ فلا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فبصره سبحانه ينفذ إلى جميع خلقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه - أي: أنوار وجه الله جل وعلا - ما انتهى إليه بصره من خلقه) وبصر الله ينتهي إلى جميع خلقه، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فكيف يتفكر العبد في عين الله جل وعلا، أو في بصر الله جل وعلا؟ وكيف يتفكر العبد في ذات الله، أو في كيفية صفات الله جل وعلا، والسماوات كلها بما فيها وبما حوت مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته؟ ووالله ما قدروا الله حق قدره، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، فالتفكر في كيفية صفات الله جل وعلا ليس تعظيماً لله، قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:19 - 20]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:15 - 18]، فلا تتفكروا في هذا الخالق العظيم! بل تفكروا في خلقه، فإن عجزتم عن وصف خلق من مخلوقات الله فأنتم عن وصف الله أعجز وأعجز، ففكروا في ديك مثلاً، كما ورد في أثر صححه بعض العلماء وضعفه آخرون، وهو مما يستأنس به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في بعض مخلوقات الله، خلق الله ديكاً رجله في الأرض ورأسه في السماء، ينظر إلى العرش، فكلما نظر قال: سبحانك ما عُبدت حق عبادتك، وفي رواية: قال: والذين يحلفون بك كذباً لا يعرفون عظمتك) فهل يستطيع أحد أن يتفكر في هذا المخلوق في طوله في عرضه في رأسه؟ وأشد من ذلك عظمة في الخلق ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك - من حملة العرش- ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) فهل يستطيع أحد أن يصف شحمة الأذن، أو يصف المكان الممتد بين شحمة الأذن إلى العاتق؟ فإن كان الإنسان عاجزاً في أن يتفكر في هذا المخلوق، فهو أعجز من أن يتفكر في صفات الخالق العظيم، وقد بين الله تعالى أنه جعل من الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولا يستطيع أحد أن يصف لنا الملائكة الذين هم جسمين من الأجنحة. وهل الأجنحة بدلاً عن اليد، الراجح الصحيح أن للملائكة أيدي، والأجنحة زيادة، ودليل ذلك من كتاب الله جل وعلا حيث قال: {والْمَلاَئكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93]، فالملك له أيدي ولا نعرف عددها، وهذا هو الذي فعله على بن المديني إذ جاء لغلام من السلاطين فقال له: أنت تتكلم في صفات الله جل وعلا، فأسألك سؤالاً واحداً: تصف لي مخلوقاً من مخلوقات الله، فإن عجزت عن وصف هذا المخلوق فأنت عن وصف صفات الله جل وعلا أعجز، فقال: تكلم، قال: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15]، قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته أو على هيئته له ستمائة جناح صف لي جبريل عليه السلام؟ فأسقط في يد الغلام ولم يعرف كيف يتكلم، ثم قال: أنحي عنك هذا وأقول: صف لي ثلاثة من هذه الأجنحة؟ ثم قال: أنحي عنك هذا، صف لي هذا الجناح الثالث، أين يكون؟ وكيف يكون؟ فأسقط في يد الغلام ورجع فقال: والله إني لأعجز عن وصف هذا الجناح الثالث، إذاً: فإني عن وصف ربي جل وعلا أعجز وأعجز. فعلى الإنسان أن لا يتفكر في الله جل وعلا، ولا في كيفية صفاته، الله جل وعلا، ولكن في خلقه سبحانه، فهو لا يستطيع أن يصف مخلوقات الله فضلاً عن أن يصف صفات الله جل وعلا أو يكيفها.

خطر التفكر في ذات الله على عقيدة المسلم

خطر التفكر في ذات الله على عقيدة المسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتفكروا في الله) للتحريم؛ فالتفكر في الذات يؤول بالمرء إلى نتيجتين: النتيجة الأولى: أن ينفر من التكييف لصفات الله جل وعلا؛ لأنه بالتكييف سيصل إلى تخاريف ولا يستطيع أن يصل إلى التكييف الحقيقي، فينفر من هذا فيعطل، فينفي الصفات، ثم يرتقي فينفي الأسماء ويلتحق بأهل الكفر الذين هم من غلاة الجهمية. النتيجة الثانية: أن يصل بنظره إلى صفات الله جل وعلا وتكييفه لها، فيقول: له يد، وهو ينزل ويجيء، ويأتي ويستوي، إذاً: فيده كيد البشر، وعينه كعين البشر، ويستوي كما يستوي البشر، فينزل الخالق منزلة المخلوق، ويصل إلى التثنية، وهو قول لأهل الكفر. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة-ضوابط تكفير أهل البدع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة-ضوابط تكفير أهل البدع شأن التكفير عظيم، وأمره خطير جداً، فمن ثبت إيمانه بيقين فلا يزول إلا بيقين، ولا يحكم على الشخص بالكفر العيني إلا إذا توافرت فيه الشروط وانتفت الموانع.

سياق ما روي في تكفير المشبهة

سياق ما روي في تكفير المشبهة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي في تكفير المشبهة]. ختم المصنف هذا الباب بما روي في تكفير المشبهة، وهذا باب عظيم، وأصل بديع، وكان الحق أن نفصل فيه في كتاب الإيمان والكفر، ولكنا ننوه تنويهات ونقعد قواعداً ترسى لطالب العلم ما روي في تكفير المشبهة، فهم قوم مبتدعة أنزلوا صفات الخالق إلى منزلة صفات المخلوق، وقالوا: نثبت صفات الله، ولا نقول كما قالت الجهمية، بل نقول: لله يد، وساق، ورجل، وأنامل، وعين، لكن عين الله كعين المخلوق، ويد الله كيد المخلوق، وساق الله كساق المخلوق.

خطر التكفير

خطر التكفير التكفير أمر جلل خطير لا يجترئ عليه إلا مجترئ، ولا يتجاسر عليه إلا جريء؛ لأنه حق خالص لله جل وعلا، ولا يستطيعه إلا المسلمون، ولا يمكن لأحد أن يجترئ فيرمي أحداً بالكفر إلا إذا كان عنده برهان أسطع من شمس النهار، وإلا وقع في أمر خطير، وتحت طائلة حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) بمعنى: أنه إذا قال زيد لعمرو: أنت كافر، فإن لم يكن عمرو كافر رجعت هذه الكلمة على زيد فكفر زيد؛ لأنه كفر عمرو بغير بينه، بل رجماً بالغيب، وفي رواية أخرى: (من قال لأخيه: يا كافر أو يافاسق حارت عليه) فإن لم يكن في هذا الذي قيل له نفس الصفة حارت على قائلها، أي: رجعت عليه فكان فاسقاً أو كافراً، فهذا أمر جليل وعظيم. ولا يجترئ عليه إلا الجاهلون.

تكفير الجهمية

تكفير الجهمية وعكس المشبهة هم الجهمية المعطلة، فالمشبهة عبدوا الله جل وعلا على أنه خلق من الخلق، فشبهوه بالمخلوق، أما هؤلاء فقد نفروا من التشبيه فعطلوا صفات الله جل وعلا، وقالوا: لا سميع ولا سمع، لا بصير ولا بصر، لا قدير ولا قدرة، ومنهم من قال: هو سميع بلا سمع، قدير بلا قدرة، بصير بلا بصر، ومنهم من نفى الاسم والصفة، فمنهم من نفى الصفة دون الاسم، وهؤلاء أيضاً على كفر، فالقول قول كفر، لكن القائل ليس بكافر، والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة. والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان وقد أخذ هذه البدعة عن الجعد بن درهم فهو الذي أنشأها، لكن الجهم أخذها وجعلها تعلو إلى السماء، وجر الخلفاء عليها، وامتحن أهل العلم بهذه البدعة الظلماء، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أصل مقالة هؤلاء من أصل يهودي، وهي مقالة لبيد الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نفى صفات الله جل وعلا وأسمائه.

أنواع التكفير

أنواع التكفير الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر، ونحن بصدد بيان الكفر الأكبر والكلام على أهل البدع. والتكفير نوعان: تكفير النوع، وتكفير العين، فتكفير النوع بمعنى أن القول أو الفعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزول عنه الشبه، وهذا التأصيل أتينا به من الآيات التي تكفر الذين يفعلون الكفر، فهي إنما جاءت للأعيان، ولم تأت للأنواع، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وقال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، فكل هذه الآيات والأحاديث جاءت في الأعيان لا في الأنواع. والسؤال هو: هل هناك دليل على التفريق بين كفر النوع وكفر العين مع أن الظاهر أن الأدلة كلها نزلت في تكفير الأعيان؟ الجواب هو أن دليل التفريق بين كفر النوع وكفر العين يستند على الوعيد، سواء الوعيد المطلق، أو الوعيد المقيد، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن في الخمر عشر -والملعون هو: المطرود من رحمة الله جل وعلا- شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاريها، وبائعها) فكل هؤلاء لعنوا في الخمر، وهذا وعيد مطلق، وهو يشابه كفر النوع. وفي الصحيحين أن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه كان كثيراً ما يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يؤتى به ليحد من شرب الخمر، فجيء به مرة وهو مخمور، فلما جلدوه بالنعال أو بالجريد، قال قائل: لعنة الله عليه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، والله إني لا أراه إلا يحب الله ورسوله)، ووجه الدلالة أن النبي لعن في الخمر عشرة: الشارب، والحامل، والبائع، والمشتري، والعاصر، والمعتصر، فكل هؤلاء لعنوا في الخمر لعناً مطلقاً أو لعن نوع، ومع ذلك فالذي شربها وجيء به يجلد لم يوقع عليه النبي صلى الله عليه وسلم عين اللعن، فهذا تفريق بين النوع وبين العين من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فعل السلف يبين التفريق بين النوع والعين، فالإمام أحمد بن حنبل قال: من قال بخلق القرآن فقد كفر، والخليفة امتحنه في ذلك، بل جلده على ذلك، ومع ذلك سألوه: أنخرج عليه؟ قال: لا، والله! إن له عندي دعوة أدعو له كل يوم أو كل ليلة بالتسديد والتوفيق، وما كان يكفره، بل كان يصلي خلفه، مع أنه القائل: بأن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، واستفدنا من ذلك قاعدة مهمة وهي: من ثبت إيمانه بيقين، فلا يزول إلا بيقين، فهذا تفريق بين تكفير النوع وتكفير العين. إذاً: فالكفر نوعان: كفر نوع، وكفر عين، تقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ولا بد أن تقام عليه الحجة بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فإذا وجد رجل يطوف بالقبر فيكفر الفعل، أما هذا الطائف بالقبر فليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون جاهلاً، أو نشأ في بيئة بعيدة لا يعلم شيئاً عن الدين بحال من الأحوال غير لا إله إلا الله محمد رسول الله. رجل آخر وجد ساجداً أمام صنم، فيكون: السجود للصنم كفر، والساجد ليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون يقرأ في القرآن وما رأى الصنم ثم مر على آية سجدة فسجد فصادف سجوده للصنم، فهذا الرجل يعذر أيضاً، ولا بد أن تقام عليه الحجة، والكفر يدرأ بأي عذر؛ ولذلك قال الإمام مالك: لو كان المرء على تسعة وتسعين كفراً وواحدة إيمان لحملته على الواحدة إحساناً للظن بالمسلم.

الأسئلة

الأسئلة

أدلة تكفير المشبهة

أدلة تكفير المشبهة وتكفير المشبهة له أكثر من وجه: الوجه الأول: أنهم كذبوا بصريح القرآن، فالله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهم يقولون: يد الله مثل يد المخلوق، وعين الله الخالق كعين المخلوق، ورجل الخالق كرجل المخلوق، وقال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وهذا من الله جل وعلا منكراً على من يجعل له كفؤاً، فقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: ليس لله سمي ولا كفؤ، وهؤلاء يقولون: صفات الخالق كصفات المخلوق. أيضاً قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، فلا أحد يكافئ لله جل وعلا في ذاته ولا في صفاته، وأيضاً قال الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وفي آية أخرى قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فالذين يشبهون صفات الله جل وعلا بصفات المخلوق نزلوا الخالق منزلة المخلوق، فكفروا من هذا الوجه. الوجه الثاني من أوجه تكفير المشبهة: أنهم اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم البلاغ والبيان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وقال جل وعلا في بيان التبليغ: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يبين أن يد الله كيد البشر، لم يبين الذكر الذي نزل إليه، فهذا اتهام صريح سافر للنبي بأنه قصر في البلاغ. الوجه الثالث في تكفير المشبهة: هو الإلحاد في صفات الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، فمن باب الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وصفاته تشبيه صفاته بصفات المخلوق. الوجه الرابع والأخير: هو نسبة النقص والعيب إلى الله جل وعلا، وعدم توقير الله وعدم تعظيمه؛ لأنهم إذا قالوا عين الله كعين المخلوق، ويد الله كيد المخلوق وصفوا الله جل وعلا بالنقائص، والله جل وعلا يقول: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، يقول جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67].

المفوضة

المفوضة Q من هم المفوضة؟ A المفوضة: هم الذين يفوضون ويمررون الكيفية والمعنى، ويقولون: السميع لا نعلم عنه إلا الألف واللام والسين والميم والياء والعين، ضمت هذه الحروف فنتجت هذه الكلمة: السميع. وأنت لو قيل لك: هذا رجل سميع، فإنك تعلم أنه يسمع، وله أذن يسمع بها، فإذا قيل لك: الله سميع، تعلم أنه يسمع الخلق ويسمع ما تتكلم به، يقول مالك: الاستواء معلوم-أي: في اللغة، فتفسيره معلوم لدينا- والكيف مجهول، أي: لا يفسر، ولذلك أجملت بعض الكلمات في الصفات عن الإمام أحمد فقال: أمروها كما جاءت، وشيخ الإسلام ابن تيمية دافع عن الإمام أحمد، وقال: لا يقصد بها إلا إمرار الكيفية.

حكم من أنكر معلوما من الدين بالضرورة

حكم من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة هناك أمور علمت من الدين بالضرورة، وهذه لا يدخل فيها تقسيم التكفير إلى تكفير النوع أو العين، فمن أنكر معلوماً من الدين بالضرورة كفر على الإطلاق، كأن يقول: رجل بيننا: فرضت أربع صلوات لا خمس صلوات، فلا يوجد هناك صلاة عصر، فهذا نقول عنه: مرتد، ولا بد أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. فالمعلوم من الدين بالضرورة لا حجة لمن أنكره، بل الحجة عليه قائمة، وقد علم بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا قضى الله ورسوله أمراً فلا يكون لهم الخيرة من أمرهم، وقد نزلت هذه الآيات عليهم وعلى مسامعهم، وأشربوها وعملوا بها، وعلم أن الذي يتقاعس عن تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه منافق معلوم النفاق، فالأمر كان معلوماً عندهم.

عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات أخبر الله عز وجل بأسمائه وصفاته في كتابه الكريم، ونبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ولابد أن نثبت كل الصفات الذاتية بأنواعها والسلبية إثباتاً يليق بجلاله وكماله، ولا دخل للعقل فيها، ولا اعتراض على ما أخبر الله عن نفسه.

مسائل مهمة في باب صفات الله تعالى

مسائل مهمة في باب صفات الله تعالى

معنى التكييف والتمثيل والتشبيه والتعطيل

معنى التكييف والتمثيل والتشبيه والتعطيل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن المصنف بعد أن انتهى من الكلام على صفات الله جل وعلا، وبيان نوع هذه الصفات، وتكلم عن الصفات الثبوتية، وانتهى من الكلام عن الصفات، ورد على أهل البدع بأقوال السلف واعتقاد سلف هذه الأمة ابتدأ كتاب القدر، وقبل أن نبدأ في كتاب القدر لا بد أن نجمل المسائل المهمة في باب الصفات. نحن نعتقد في الله جل وعلا ما اعتقده النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقده السلف الصالح، فنثبت له كل صفة أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى في كتابه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته بفهم سلف الأمة، ونثبت هذه الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل. والتكييف: هو تكييف الصفة، كأن تقول: هذه الصفة التي تكلم عنها الله جل وعلا كيفيتها كذا، أو صورتها هكذا، وتقول مثلاً: في قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، نثبت لله يد طولها كذا، ومقدارها كذا، ولها أصابع وأنامل، فهذا معنى التكييف. والسلف الصالح كانوا يثبتون هذه الصفة بلا تكييف، ويؤمنون بها ويعرفون معناها، ولا يكيفونها، فعندما سئل مالك عن الاستواء: قال: الاستواء في اللغة معلوم -يعني: معروف- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فنحن نثبت الصفة من غير تكييف ولا تمثيل. والتمثيل: هو المساواة في كل دقائق الصفة، كاليد اليمنى فإنها تماثل اليد اليسرى، كل هذه اليد بما فيها تساوي وتماثل اليد الأخرى، فهذا معنى المماثلة، ومثالها أن يقال في قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]: نثبت لله عين مثل عين المخلوق تماماً. ونحن إذ نثبت لله العين نثبتها بغير مماثلة، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنثبت الصفة دون تمثيل، ولا تكييف، ولا تشبيه. والتشبيه: أن أكثر الصفات في الشيء تشبه أكثر الصفات في الشيء الآخر. والتعطيل نوعان: تعطيل الاسم والصفة، وتعطيل الصفة. فتعطيل الاسم والصفة أن يعني: يثبت لله ذاتاً موجودة لا تشبه ذوات المخلوقات، ثم ينفي عنه الاسم والصفة، فيقول: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، ولا قدير ولا قدرة، وهذا التعطيل ذهب إليه غلاة الجهمية، وأما الآخر فقد ذهب إليه المعتزلة، وهم أخف من الجهمية؛ لأنهم يثبتون الذات والاسم وينفون الصفة، فيقولون: سميع لكنه بلا سمع، حاشا لله، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، عزيز بلا عزة، فيسلبون الصفة من الاسم. ونحن إذ نثبت الصفة لله جل وعلا لا نعطلها، فنثبت الاسم ونثبت ما يتضمن هذا الاسم من الصفة. فاعتقادنا واعتقاد السلف الصالح في صفات الله جل وعلا أن نثبتها بغير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه، وأن ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه، ونفاه عنه رسوله بلا تعطيل.

الصفات الثبوتية والصفات السلبية

الصفات الثبوتية والصفات السلبية صفات الله على قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية. الصفات الثبوتية: هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله كما بيناه. أما الصفات السلبية: فهي الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

ضابط الصفات السلبية

ضابط الصفات السلبية ضابط الصفات المنفية: أن يتقدم الصفة أداة نفي، كـ (لا) و (ما) و (ليس)، كما قال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] واللغوب: التعب، يعني: ما مسنا من تعب، فهذا نفي أيضاً. وقول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، السنة: الغفلة، والنوم معلوم، فإذاً: هذه صفة منفية عن الله جل وعلا، ضابطها: أن قبلها نفي، فقوله تعالى مثلاً: (وما ربك) قبلها (ما)، وأيضاً قول الله تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] يعني: لا يتعبه حفظ السموات والأرض، أيضاً هذه صفة منفية عن الله جل وعلا. فهذا ضابط لا بد من الالتزام به في أمر النفي. وإذا وصفنا الله بالنفي فلا يجوز أن نصفه بالنفي المحض، والنفي المحض هو: أن تقول مثلاً: لا يتعب، لا ينام، (لا تأخذه سنة) لا يمسه نسيان، فهذا لا يجوز في حق الله جل وعلا؛ لأن النفي المحض لا كمال فيه، وضابط صفات الله جل وعلا: أنها كلها صفات كمال وجلال، فإذا كانت صفات الله جل وعلا كلها صفات كمال وجلال فلا تنفيها نفياً محضاً؛ لأن هذا لا يتضمن كمالاً، بل لا بد أن تنفي عن الله الصفة المنفية مع إثبات كمال الضد، وهذا ضابط في الصفات المنفية، ومثال ذلك: أنك إذا دخلت على وزير أو ملك فقلت له: أنت لست بسارق، ولا زان، ولا زبال، أنت لست بكذا وجلست تعدد المساوئ وتنفيها عنه، فسيكون رد فعله الضرب أو السجن؛ لأن هذا سوء أدب، وليس فيه مدح؛ لأنك عددت المساوئ ونفيتها عنه ولم تبين له كمالاً، أما إذا قلت له: أنت لست بسارق؛ بل أمين، وقد بلغت الذرى في الأمانة، أنت لست بزان، بل عفيف، فقد أثبت له كمال الضد، فإن كان هذا في حق العبد فهو في حق الله جل وعلا أولى. فلا تقل في قوله الله جل وعلا لله جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]: إن الله ليس بظالم وتسكت لا يجوز لك ذلك- بل لا بد أن تقول: الله ليس بظالم؛ لأنه بلغ الكمال في العدل والرحمة. فالله ليس بظالم؛ لكمال عدله، ولا يصيبه التعب؛ لكمال قدرته، و {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]؛ لكمال قيوميته وحياته جل وعلا، ولا يمسه لغوب؛ لكمال عزته وقوته وقدرته. فنفي الصفة السلبية عن الله وإثبات كمال الضد ضابط مهم في الصفات المنفية.

أقسام الصفات الذاتية

أقسام الصفات الذاتية أما الصفات الثبوتية فتنقسم إلى ثلاث: صفات ذاتية، وضابط الصفات الذاتية: أنها لازمة للذات، لا تنفك عنها بحال من الأحوال أبداً وأزلاً؛ ولذا تسمى صفات ذاتية. فهذه الصفات أبدية أزلية، يتصف الله بها ولا تنفك عنه بحال من الأحوال كالحياة والقدرة والعزة والسمع والبصر، فلا يمكن أن نقول: الله يسمع في وقت ولا يسمع في وقت، أو يسمع إن شاء ولا يسمع إن لم يشأ، ولا يجوز أن تقول: الله يقدر على الأمر في وقت ولا يقدر عليه في وقت آخر، فهذه صفات ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا. القسم الثاني من الصفات الثبوتية: صفات فعلية، والصفات الفعلية ضابطها: أن تضع قبلها: إن شاء. وهذه الصفات متجددة، فهي تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، كالاستواء مثلاً، فالله إن شاء استوى على العرش، وإن شاء لم يستو. والمجيء: إن شاء جاء وإن شاء لم يجيء، إن شاء أتى وإن شاء لم يأت. والنزول: إن شاء نزل وإن شاء لم ينزل. والكلام: إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] هذه الصفة متجددة تتعلق بمشيئة الله جل وعلا. الثالث: صفات خبرية، والصفات الخبرية مسماها عند المخلوق أجزاء وأبعاض، كاليد، فإنها جزء أو بعض منك، وكذلك العين والرجل والساق. فالله جل وعلا له ساق، قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، وهذه الصفة بالنسبة لله تسمى صفة خبرية لا مدخل للعقل فيها، فهي خبر محض من الله جل وعلا، ولله عين كما قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، والعين بالنسبة لك هي جزء أو بعض منك، ولكن بالنسبة لله جل وعلا لا يجوز أن نقول عنها أنها جزء أو بعض منه؛ لأنه لا أحد يعرف ذاته سبحانه ليقول ذلك يقال عن صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، إذاً: فالصفات الخبرية مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، كالساق، والعين واليد والرجل والأصابع والأنامل، كل هذه الصفات صفات خبرية، وهي في حق الله ليست أجزاء ولا أبعاض.

الاتفاق في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى

الاتفاق في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى الضابط الثالث لصفات الله جل وعلا: أن الاتفاق في اسم الصفة لا يستلزم التساوي في المسمى، فإذا قلت: للبقرة يد وللجمل يد، فقد اتفقت هذه الصفة في الاسم، ولكن لا يستلزم التساوي في المسمى، فيد البقرة لا تشابه يد الجمل، ولكن الله جل وعلا له يد ولك يد، فاتفاقهما في الاسم لا يلزم منه التشابه في المسمى، فيدك لا يمكن أن تشابه أو تماثل يد الخالق جل وعلا. إذاً: هذا الضابط في غاية الأهمية، فعلينا أن نستحضره دائماً في صفات الله جل وعلا، وهو أن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق أو التساوي في المسمى.

القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات

القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات وهناك قاعدة مهمة في الصفات يرد بها على الأشاعرة الذين يحرفون صفات الله جل وعلا ويدعون أنهم ينزهونه، وهي: القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات. فالأشاعرة يثبتون لله سبع صفات، والجواب عليهم أن القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات، فكما أثبتم الحياة اثبتوا النزول، وكما أثبتم القدرة اثبتوا المحبة والإتيان. فإن قالوا: لو أثبتنا النزول شبهنا الخالق بالخلق، فيكون: نزوله بمعنى رحمته، أو نزول أمره، وتكون المحبة بمعنى إرادة الثواب؛ لأننا لو قلنا: إنه يحب إذاً أثبتنا تغاير القلوب وميل القلب، وهذه كلها للبشر لا يمكن أن تكون للخالق، والجواب عليهم: أنكم تثبتون له القدرة، كما تثبتونها للبشر، فلم لا تقولون بأن قدرة البشر تساوي أو تماثل قدرة الخالق، فإن قالوا: لا، إن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] قلنا: كما قلتم في القدرة قولوا في النزول، والمجيء، والمحبة! فالقول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات.

القول في الصفات كالقول في الذات

القول في الصفات كالقول في الذات هناك ضابط آخر في صفات الله جل وعلا يرد به على الجهمية: الذين يثبتون الذات ولكن لا يثبتون الاسم ولا الصفة، وهذا الضابط هو أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحذو حذوها وينحو نحوها، فإذا تكلمتم في الذات فمثله تكلموا في الصفات. فالجهمية يقولون: نثبت لله جل وعلا ذاتاً، وللمخلوق ذاتاً، وذات الخالق لا تشبه ذات المخلوق، فذات الخالق تليق بكماله وجلاله، وذات المخلوق تليق بنقصه، وهذا نتفق معهم عليه، لكنهم قالوا: نثبت للمخلوق صفات، ولا نثبت للخالق صفات، لأننا لو أثبتنا للخالق صفات وأثبتنا للمخلوق هذه الصفات شبهنا الخالق بالمخلوق، فنقول لهم: كما قلتم: إن هذه الذات لا يشبهها ذوات المخلوقات، أيضاً قولوا في الصفات: إن هذه الصفات لا تشبهها صفات المخلوقات. هذا إجمال لمسألة الصفات. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

هل محمد رأى ربه؟ الرد على أهل البدع في الرؤيا

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - هل محمد رأى ربه؟ الرد على أهل البدع في الرؤيا رؤية الله والتمتع بالنظر إلى وجه الكريم نعمة من نعمه الجليلة التي أنعم بها على أهل كرامته؛ بل هي أفضل نعمة يسبغها الله على أهل جنته، وهي حقيقة ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع علماء سلف الأمة، ولا ينكرها إلا إنسان غلبت عليه شقوته وأضله هواه.

حكم من أنكر رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

حكم من أنكر رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن من جحد رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة، فقد جحد الدليل القطعي الذي ثبت في الكتاب والسنة، ووصل إلى حد التواتر، ولهذا يكون كافراً. وهذا الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن الإمام أحمد لما سئل عمن جحد رؤية الله جل وعلا يوم القيامة فقال: يكفر بذلك؛ لأنه جحد دليلاً قطعياً ثابتاً من طريق قطعي.

الدلالة على رؤية المؤمنين ربهم في قوله تعالى: (رب أرني أنظر إليك)

الدلالة على رؤية المؤمنين ربهم في قوله تعالى: (رب أرني أنظر إليك) ثبتت رؤية الله بالكتاب والسنة والعقل، وزيادة على ثبوت الرؤية بالعقل نقول: قال الله تعالى عندما سأله موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وفي هذه الآية دلالة عقلية ثابتة أثبتها العلماء على أن المؤمنين يرون الله جل وعلا بدليل العقل، من وجوه: الوجه الأول: أن موسى عليه السلام في زمانه هو أعلم عباد الله بالله جل وعلا، فلا يمكن أن يتجرأ أو يتعدى حدوده مع الله جل وعلا فيسأله أمراً فيه تعدٍ أبداً، تأدباً مع الله جل وعلا، وإذا كان الأمر كذلك فسؤال الموتى لله أن يروه جل وعلا ليس فيه تعدٍ بل هو ممكن، ولو لم يكن ممكناً لما سأله موسى عليه السلام من ربه. الوجه الثاني: قد يقول قائل: إنه ليس بمتعدٍ على الله، وليس متعدٍ للأدب مع الله جل وعلا، لكنه لا يعلم أن هذا السؤال لا يسأل، أي: أنه سأله جهلاً منه، كما سأل نوح ربه إنقاذ ابنه فقد سأله جاهلاً، فيمكن لموسى أن يسأل الله جل وعلا رؤيته وهو جاهل بأن هذا تعدٍ وحرام، والرد عليهم سهل ويسير وهو: أن الله جل وعلا لا يقر على خطأ أبداً، فلو كان هذا تعدياً وخطأ وجهل من موسى عليه السلام لما أقره الله جل وعلا، ولأنكر عليه كما أنكر على نوح في قوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]. الوجه الثالث: أن الله جل وعلا علق الرؤيا على ممكن، ولم يعلقها على مستحيل فقال: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولكن موسى لا يمكنهُ الرؤيا في الدنيا لضعف بصره عليه السلام وضعف قوته على تحمل تجلي الله جل وعلا له، وذلك بالنظر والقياس، فموسى عليه السلام نظر إلى الجبل الشامخ الراسخ وعندما تجلى الله له أصبح كثيباً مهيلا، فكيف بموسى الضعيف هل يستطيع أن يصبر على تجلي الله جل وعلا له، ولذلك فإن موسى استغفر وعلم أنه لا يستطيع ذلك. أما بصر الإنسان في الآخرة فيخبر الله عنه ويقول: {فََبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: له قوة يستطيع الإنسان أن ينظر بها إلى الله جل وعلا.

أقوال الناس في رؤية المؤمنين لربهم

أقوال الناس في رؤية المؤمنين لربهم أقوال الناس في رؤية المؤمنين لله جل وعلا ثلاثة: القول الأول: الله جل وعلا يُرى في الدنيا وفي الآخرة، وهذا قول أهل الوجد والارتقاء والفناء من أهل التصوف الذين يجدون في أنفسهم أنهم يرون الله ويرون الرسول، وأن الأولياء خير من الأنبياء، ومنهم من يدعي أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا اعترض عليهم بأن موسى عليه السلام من الأنبياء الأصفياء، ومن أولي العزم من الرسل، بل هو ثاني أو ثالث مرتبة عند الله جل وعلا، سأل الله أن يراه فلم يره، ولم يعطه الله جل وعلا ذلك، ردوا بقولهم: إن الولي هو الذي يرى الله، والولي أعلى مرتبة من النبي، ألا ترى أن الخضر عليه الصلاة والسلام، -وهم يقولون: إنه ولي- جاءه موسى يسعى حثيثاً حتى يتعلم منه وهو ولي وموسى نبي؟ فالأولياء عندهم أفضل من الأنبياء، والولاية درجة أعلى من درجة النبوة، فللولي أن يرى الله جل وعلا دون النبي. وكذلك قالوا: إنه من الممكن للإنسان أن يرى الله، وهؤلاء هم أصحاب ابن عربي الذي يتبنى مذهب الحلول والاتحاد، ولذلك قالوا: لما طلب موسى من ربه أن يراه وتجلى الله جل وعلا رأى موسى نفسه فكأنما رأى الله جل وعلا! يعني: أن الله جل وعلا حل فيه، وهذا القول أشد من قول النصارى في عيسى عليه السلام، فمن الممكن عندهم للإنسان أن يرى الله؛ لأن الله حل في كل إنسان. وهذا قول الفريق الأول من الناس، وكلامهم لا يمر على جاهل فضلاً على طالب العلم، وهذا القول ضعيف ونحن في غنى عن أن نرد عليه. القول الثاني وهو على النقيض وهو قول أهل البدع من الجهمية وغيرهم، الذين قالوا: إن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، فنفوا رؤية عن الله جل وعلا، وهؤلاء لنا معهم كلام آخر في النهاية. القول الوسط هو قول أهل السنة والجماعة، الذين قالوا: إن الله جل وعلا يرى في الآخرة دون الدنيا.

الاختلاف في رؤية محمد لربه في الدنيا

الاختلاف في رؤية محمد لربه في الدنيا اختلف أهل العلم هل رأى محمد ربه جل وعلا في الدنيا أم لا؟ وذلك على قولين: القول الأول: وهو قول جمهرة من السلف ومن الصحابة، وهو قول عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وكثير من السلف، حيث قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير الله جل وعلا في الدنيا بعينه ولكن رآه بقلبه، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى لموسى عندما سأل الله أن يراه {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، واستدلوا أيضاً بحديث في الصحيح وهو أنه لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم فسأله أصحابه: (أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟!)، وفي رواية أخرى: (أرأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً) والأصح في هذا النور أنه الحجاب؛ لأن الله جل وعلا حجابه النور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه)، ثم قال: (حجابه النور إذا كشفه أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، سبحانه وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم: رأى الحجاب عندما وصل إلى سدرة المنتهى. القول الثاني: وهو قول ابن عباس، ورجحه الحافظ ابن حجر وبعض المتأخرين: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الدنيا، ويراه في الآخرة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14]، وفي الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفيه رواية قال: (نور إني أراه)، يعني: أرى الله جل وعلا، فلكل دليل ولكل وجهة هو موليها، والخلاف معتبر.

الراجح أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه

الراجح أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه الراجح والصحيح هو قول عائشة وجمهرة السلف وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا؛ لقول الله: للآية: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وللحديث: (نور أنى أراه)، فحجاب الله جل وعلا النور. والذي يعضد هذا القول هو قول الله تعالى في معرض المنة على رسوله صلى الله عليه وسلم في الإعجاز والمواساة ليلة المعراج قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] ومواساة ومنة قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، ومن آيات الله جل وعلا التي رآها: أنه رأى جبريل، ورأى آكل الربا، والزناة، وكل الآيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم. وأعظم آية أن يرى ربه، وإذا رأى محمد ربه كان أولى بالذكر في الآية من الآيات التي هي أدنى منها في العظمة والمرتبة. وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، المقصود به جبريل عليه السلام كما في الصحيحين.

الرد على القائلين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه

الرد على القائلين بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه الرد على استدلالهم بقوله عليه الصلاة والسلام: (نور إني أراه)، أن هذا الحديث الصحيح فيه أنه انقلب على الراوي، وهو وهم منه، والصحيح في الروايات كلها: قوله: (نور أنى أراه؟)، أي: كيف أراه؟ وأما ابن عباس وما ذهب إليه فقد وصلنا عنه قولان: القول الأول قال: محمد رأى ربه، بالإطلاق، ثم جاءت رواية بسند صحيح قال فيها: رأى محمد ربه مرتين بفؤاده. فقيد الرؤية بالقلب، فيحمل قول ابن عباس المطلق على المقيد، ونحن نوافقهم في ذلك، بل إن عائشة توافق في ذلك حيث قالت: إن محمداً رأى ربه، ولذلك لما قالوا لها: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه قالت: قف شعري مما تقول، من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية)، يعني: أخطأ خطأ فاحشاً أن يقول: إنه رأى ربه، ثم استدلت على ذلك بقول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وهذا الاستدلال فيه نظر، ولكن ما ذهبت إليه هو الصحيح، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا، ويراه في الآخرة.

أدلة القول بأن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة

أدلة القول بأن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة القول الثالث: وهو قول الجهمية والنفاة الذين قالوا: إن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا ولا يرى في الآخرة. واستدلوا بقول الله تعالى عندما سأله موسى {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فـ (لن) أصلها في اللغة للتأديب، والتأديب يتضمن عدم الرؤية في الدنيا وعدم الرؤية في الآخرة. واستدلوا كذلك بقول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، هذا الدليل السمعي، أما الدليل النظري فهو أنه لو أثبتم الرؤية فقد جسمتم؛ لأن المجسم هو الذي يرى، وإذاً زعمتم أن لله جسم، فقد شبهتم الخالق بالمخلوق. وردوا على الاستدلال بقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، بأن المعنى: إلى ثواب ربها ناظرة، فينظرون إلى الأنهار وإلى الجنات وإلى حور العين وإلى الملائكة، ويتمتعون بنعم الله عليهم قد علموا بعذاب أهل النار.

الرد على من قالوا بعدم الرؤية في الآخرة

الرد على من قالوا بعدم الرؤية في الآخرة الرد الأول: أن (لن) ليست للتأبيد فالسياق في الآية يدلنا على المعنى المراد منها، قال الله تعالى: {َلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] فعلق الأمر على محتمل لا على مستحيل، وهذا يدل على أن (لن) ليست نافية، وإذا قلنا بأن (لن) للتأبيد فقول الله جل وعلا لموسى (إنك لن تراني) يكون في الدنيا فقط دون الآخرة، فلا ذكر للآخرة في الآية، فلا يصح أن نقول إنهم لا يرون الله جل وعلا في الآخرة. وإذا رجعنا إلى اللغة فسنجد أن (لن) في أصل اللغة ليست للتأبيد، وهذا الذي قرره ابن مالك فقال: إن (لن) لا تفيد التأييد إلا بقرائن. والدليل على ذلك قول الله تعالى عن أهل الكفر: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، ثم بين لنا أنهم في الآخرة سيتمنون الموت، قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فقال: {لَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة:95] وتمنوه في الآخرة، فهذه دلالة قاطعة على أن (لن) لا تكون للتأبيد بحال من الأحوال، وإنما هي لمطلق النفي فقط. أما قولهم: كيف تقولون: إنكم سترون الله والله جل وعلا يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] فالجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن الإدراك غير الرؤية، فلم يقل الله جل وعلا لا تراه الأبصار وإنما قال:: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] والإدراك معناه الإحاطة، ودلالة ذلك أنه لما فر موسى بقومه من فرعون {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] ففرعون يرى موسى ومن معه وهم يرون فرعون ومن معه، ومع ذلك فموسى عليه السلام نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، فهم يرونهم ولكن ما أحاطوا بهم، وما أدركوهم. كذلك في قول الله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) أي: لا تحيط به جل وعلا، لكنها تراه، والكيفية لا يعلمها إلا الله جل وعلا، والرؤية أعم من الإدراك. أما دليلهم العقلي وهو قولهم: إنكم لو أثبتم رؤية الله فقد جسمتم الله، وأصبح الخالق كالمخلوق، وشبهتم الخالق بالمخلوق، فالرد عليهم بأن الذي أودى بكم إلى هذا هو التشبيه، فقد شبهتم الخالق بالمخلوق، ونحن نقول: نثبت كل صفات الله جل وعلا بدون تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ولا يستلزم من رؤية الله جل وعلا أن يكون جسماً، ولو كان لازم هذه الآية التي تدل على الرؤية أن يكون جسماً فليكن جسماً؛ لأن لازم الحق حق، ولكننا نتوقف في مثل هذا الكلام فلا ننفيه ولا نثبته. وأما قولهم في قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، أن النظرة تكون إلى ثواب ربهم فقد قدروا بكلامهم هذا أمراً محجوباً، والرد عليهم من ثلاثة وجوه: الأول: أن هذا خلاف فهم النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف ما بلغ به أمته؛ لأنكم لو قلتم: معنى هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] (إلى ثواب ربها ناظرة) فقد اتهمتم النبي أنه قصر في البلاغ، فهو يعلم أن الآية معناها: (إلى ثواب ربها ناظرة)، ولكنه قصر في التبليغ، وهذا اتهام صريح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والله جل وعلا أمره بالتبليغ في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]. الثاني: خلاف فهم وإجماع السلف الصالح. الثالث: يلزم من رؤية الله جل وعلا رؤية ثواب الله؛ لأن رؤية الله هو أعلى نعيم ممكن يصل إليه المرء، فمن رأى الأعلى يلزم منه أن يرى الأدنى، والتقسيم دائماً في الدنيا أن النعيم نعيمان، نعيم مادي حسي، وهو نعيم البدن، كالأكل والشرب والنكاح والجماع، ونعيم روحي وهو نعيم القلب، فيستلزم من حصول النعيم الأعلى الروحي وهو النظر إلى الله جل وعلى حصول النعيم الأدنى وهو نعيم البدن، والله جل وعلا أعطى المؤمنين ما يشتهون، وألذ ما يتمنون وأعظم ما يتنعمون به وهو رؤية الله جل وعلا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

إثبات رؤية من قال الله فيه (ونحشره يوم القيامة أعمى)

إثبات رؤية من قال الله فيه (ونحشره يوم القيامة أعمى) وقد يرد إشكال في قول الله تعالى في وصف الكافرين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، وهو كيف يرى هذا الله جل وعلا وقد حشر أعمى البصر؟ ويعضد ذلك قول الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] والجواب على ذلك هو أن الراجح في تفسير هذه الآية ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعطاء حيث قالوا: معنى أعمى أي: عن حجته التي يدلي بها بين يدي الله جل وعلا، وأصم لا يسمع ما ينفعه، وأبكم لا يتكلم بما يكون حجة له، فالآيات التي جاءت في العمى مؤولة؛ لأن هناك أدلة أخرى تثبت أنهم يسمعون زفير النار، ويسمعون الحساب ويسمعون الله جل وعلا عندما يكلمهم، ويرون النار كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53]، ويرون الملائكة كما قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22]. والراجح أنهم يرون الله جل وعلا عند الحساب، وهذه الرؤية ليست رؤية رحمة، والله أعلم.

مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مراتب الإيمان بالقضاء والقدر القدر سر الله في الكون، لا يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، وإن من الأهمية بمكان أن يتعلم الإنسان ما يحصن نفسه من شبه المؤولين، والمحرفين الزائغين حول القدر، كأن يعلم تعريفه وأهميته ومراتبه، وكيف يتعبد الإنسان ربه بالإيمان به.

المداومة على الطاعة

المداومة على الطاعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الله جل وعلا يحب من العبد الديمومة على العمل، وقد حث الله على ذلك، وحث رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. وقال جل وعلا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران:133]. وقد أنكر الله جل وعلا على الذين قاموا بطاعات ثم نقضوا هذه الطاعات وتركوها وعزفوا عنها فقال جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] أي: التي غزلت هذا الغزل وأتقنته ثم بعد ذلك تركته قطعاً، وما دامت عليه. وأنكر الله جل وعلا على بني إسرائيل النصارى خاصة الذين اجتهدوا في عبادة الله جل وعلا بابتداع لا بشرع من عند الله جل وعلا، ثم بعد ذلك ما أداموا الطاعة، قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] حتى هذه تركوها. وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض من أطاع الله جل وعلا ثم ترك هذه الطاعة، فقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقيم من الليل ثم تركه). فعلى العبد الذي يبارك له في عمل طاعة من الطاعات أن ويلزمها، ويلزم نفسه عليها، قال عمر بن الخطاب: من بورك له في عمل فليلزم هذا العمل. يعني: من بارك الله له في الصدقة فليشد على نفسه وليكثر من الصدقة، ومن بارك الله له في الصيام فليكثر من الصيام وليلزمه، ومن بارك الله له في القيام فليداوم على القيام، وعليه باليسر فإن الله ييسر على العبد الذي يداوم على طاعته. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الأعمال إلى الله الدائم وإن قل). إذ أن الديمومة أحب إلى الله جل وعلا، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا ترك من الليل شيئاً من القيام لوجع أو تعب أو ضيق وقت فإنه يستدرك ذلك بالنهار، فيصلي ثنتي عشرة ركعة لله جل وعلا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقام طاعة ثبت عليها ولم يتركها، وقد صح عنه أنه شغل عن السنة البعدية للظهر بأموال الصدقة ينفقها يميناً ويساراً ويوزعها على مستحقيها فلما قرب وقت العصر صلى العصر ثم بعد ذلك أعقب صلاة العصر بركعتي الظهر التي لم يصلها في وقتها، لذلك قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (ما عبد النبي صلى الله عليه وسلم عبادة أو صلى لله صلاة إلا وثبت عليها). فإذا بورك للإنسان في عمل فلا بد أن يثبت عليه، وخاصة أهمها وهو طلب العلم، إذ أن الأمة ضاعت بضياع علمائها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أياماً يرفع فيها العلم ويظهر فيها الجهل ويكثر الهرج)، وما ضاعت الأمة إلا بضياع العلماء. وقد قسم علي بن أبي طالب الناس على ثلاثة أصناف فقال: عالم رباني: وهو العالم الذي يستضيء بنور العلم، فلا يتعبد لله بعبادة إلا بعلم، ولا يسير على نهج إلا وله نور من العلم يسير عليه. والعالم الرباني هو أرفع هذه المنازل على الإطلاق، وكما قال ابن عيينة: أفضل الخلق على الإطلاق الوسائط بين الخالق وبين المخلوق. والثاني: متعلم على سبيل النجاة، فهو يسعى في طلب العلم فلا يترك جلسة علم إلا ويجلس فيها ليتعلم ويتبصر أمور دينه، فيتعلم كيف يتعبد لله جل وعلا، ويتعلم كيف يتعامل مع الناس، ويتعلم الحلال ليعمل به، والحرام ليتجنبه ويبتعد عنه، ويسعى جاهداً لتطبيق ذلك في حياته. فهو كما وصفه الإمام علي رضي الله عنه متعلم على سبيل النجاة، فهو ينجو بتعلمه، (وإن الملائكة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم بما يعمل). وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في الصحيح: (من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة). والثالث: همج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، فإذا قال أحدهم: يميناً اتجهوا يميناً، أو إذا قال: يساراً اتجهوا يساراً؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، فقد شغلتهم الدنيا عن الدين، فالتهوا بلذات فانية وتركوا اللذات الباقية، ولأنهم لم يستضيئوا بنور العلم تراهم يتخبطون دائماً قد فقدوا البصيرة، وحتى إذا دعوا إلى الله جل وعلا لم يدعوا إلى الله على بصيرة، وإن تعبدوا تعبدوا على جهل، والذي يتعبد على جهل أبعد من الله جل وعلا من الذي يعصيه، لأن الذي يعصيه وهو على علم له أن يتوب ويرجع ثم يتعبد على علم، أما الذي يتعبد على جهل فهو أحب إلى الشيطان كما قال سفيان الثوري: البدع أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن الذي يتعبد على جهل لا بد أن يبتدع في دين الله جل وعلا، والمبتدع لا توبة له، كما جاء في بعض الآثار: الذي يبتدع في دين الله جل وعلا لا يوفق إلى توبة أبداً.

المداومة على الطاعة قربة

المداومة على الطاعة قربة

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر إن سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل دلالة تامة لا مراء فيها ولا جدال على إثبات القدر، كما يدل على ذلك ما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة؛ ومما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعتها ومعصيتها. وقبل البدء في سرد الآيات التي تفسر القدر: لا بد أن نذكر جملة من مباحث القدر، كتعريفه لغة، ثم شرعاً ثم أهميته، ثم بعد ذلك الأدلة عليه، ومراتبه، وكيف يتعبد لله جل وعلا بالإيمان بالقدر؟

تعريف القدر

تعريف القدر القدر لغة: مأخوذ من التقدير، قال ابن تيمية: يجوز أن يكون قد أخذ من القضاء والقدر، أو أخذ من المداومة والمساواة، وقيل: أخذ من القدرة. وشرعاً: هو أن تعلم يقيناً أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. أو: هو أن تعلم يقيناً أن الله علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فهو يعلم أحوال العباد، وأرزاق العباد، وأخلاق العباد، وآجالهم، وأهل الجنة منهم وأهل النار وأهل السعادة منهم وأهل الشقاوة، وأن الله قدر ذلك قبل أن يخلق الخلق أجمعين بخمسين ألف عام. فما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ لأنه كتب في علم الله السابق، وما أصابك لم يكن ليخطئك؛ لأنه كتب في علم الله السابق. وعرف القدر أنه قدرة الله، وهو: أوجز ما يطالب فيه، كما قال الإمام أحمد: أجمل ما قيل فيه: القدر هو قدرة الله، واستحسن ذلك ابن عقيل قال: هذا من دقة فهم الإمام، فالقدر من لوازم ربوبية الله جل وعلا، ومن آمن بربوبية الله علم أن القدر هو قدرة الله جل وعلا، إذ هو سر مكتوم، من أسرار الله جل وعلا لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، هذا القدر هو الذي أعجز الناس إذ لا قياس فيه ولا عقل، بل من أدخل عقله في أمر القدر تاه في بحر الحيرة، ودائماً يتساءل الناس: الإنسان مخير أم مسير؟ وهل هو مجبر أم له اختيار؟

أهمية الإيمان بالقدر

أهمية الإيمان بالقدر تكمن أهمية الإيمان بالقدر؛ في الركن السادس من أركان الإيمان، ومن نفاه أو تركه أو لم يعتقد بأن الله جل وعلا كتب كل شيء قبل أن يخلق كل شيء فهو كافر بالله العظيم، خارج من ملة الإسلام. ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه وسأله وكان مما سأله أن قال: أخبرني عن الإيمان؟ -يريد: أركان الإيمان- فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، فهو الركن السادس من أركان الإيمان، والركن كما عرفه علماء الأصول: هو ماهية الشيء، وهو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. ومعنى يلزم من وجوده الوجود: أنه إذا وجد هذا الركن وجد الأمر، وإذا نفي نفي الأمر. مثال ذلك: الركوع فهو ركن من أركان الصلاة، فإن وجد الركوع صحت الصلاة، وإن لم يوجد الركوع فالصلاة باطلة، فلو أن رجلاً كبر تكبيرة الإحرام ثم قرأ الفاتحة ثم سجد دون أن يركع فلا تصح ركعته بالإجماع؛ لأنه لم يأت بركن من أركان الصلاة، وكذلك الأمر بالنسبة للقدر فهو ركن من أركان الإيمان فالذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ثم لا يؤمن بالقدر فإنه لم يأت بالإيمان كله، فهو خارج من ملة الإسلام، ولذلك قال ابن القيم عن عوف بن مالك: قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام. وفي المسند عن عبادة بن الصامت لما دخل عليه ابنه وسأله عن القدر أو قال: أوصني أوصاه، ثم قال: إن لم تؤمن بالقدر دخلت النار. وفي رواية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبرأ إلا من الكافر. وقد بين اللالكائي أن طاوس قال]: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقول: إن الأمر بقضاء وقدر. قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال جل وعلا: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53] أي: مكتوب في اللوح المحفوظ. وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]. اختلف العلماء: في عود الضمير في قوله: نبرأها، فقيل: على النفس، والمعنى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا في كتاب من قبل أن نبرأ النفس، وقيل: على الأرض، والمعنى: من قبل أن نبرأ الأرض، وقيل: إن الهاء عائدة على المصيبة، والتحقيق: أنها عائدة على كل ذلك: قبل أن يخلق الله النفس، وقبل أن يخلق الأرض، وقبل أن يخلق المصيبة التي تنزل على النفس، فقد كتبها الله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نبينها ونظهرها ونوجدها. وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال العلماء: ومن يؤمن بأن هذه المصيبة كتبت عليه قبل أن يخلق هدى الله قلبه للإيمان، وجعله يستسلم لقضاء الله، وكان برداً وسلاماً عليه وأجر على ذلك. فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط. وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كراهة النذر فقال: (إن النذر يستخرج الله به من البخيل)، وقال أيضاً: (النذر لا يأتي بخير) أي أنه لا يرد قدر الله جل وعلا، بل إن الله قدر الأمر ويستخرج من البخيل ما نظر على نفسه. وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها -يعني: تأخذ رزقها- ولتنكح -أي: تنكح من زوجها- فإن لها ما قدر لها) والمعنى: أن الذي كتب لها سيأتيها ولا يستطيع أحد رده، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين خطر عدم الإيمان بالقدر ويقول: (أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة -المضلين- وتكذيباً بالقدر، وإيماناً بالنجوم)، وفي رواية: (أخاف على أمتي تكذيباً بالقدر وإيماناً بالنجوم)، نعوذ بالله من الإيمان بالنجوم أو التكذيب بالقدر. وجاء في القدر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن عباس مرشداً له -والحديث رواه أحمد في مسنده-: (يا غلام! إني أعلمك كلمات إلى أن: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فلو اجتمعت الأمة قاطبة على أن يجروا لك ربحاً أو يوقعوا بك خسارة فلن يأتيك إلا ما قدره الله لك. وجاء أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوا ضعف الباءة لديه، وهو يشتاق للنساء، فقال: (يا رسول الله! أأختصي -فإني لا أستطيع أن أتزوج-؟ فقال: يا أبا هريرة! جف القلم على ما أنت لاق) أي أن الأمر مكتوب سواءً اختصيت أم لا فما كتب ستلقاه. كما أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر العزل: وهو أن يجامع الرجل امرأته ثم إذا قرب الإنزال أنزل خارج الفرج؛ لأنه لا يريد أن تخصب البويضة فأجاب قائلاً: (إذا أرد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)؛ لأن الأمر إذا كتب وقضي فلا راد له، ولذلك طيب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب الذين يلهثون وراء أطماع الدنيا، ويسارعون في كسب أكبر قدر منها -حتى أن جلهم ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (حمار بالليل جيفة بالنهار)، فلا هو ترك لنفسه وقتاً بالنهار ليتعلم، ولا بالليل ليقمه لربه- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها فأجملوا الطلب). فلو أنك آمنت بالقدر وعلمت أن رزقك قد كَتِبَ وأنه لا شك آتيك، فلن تلهث وراء حطام هذه الدنيا الفانية، وقد كان الحسن البصري يَعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويطبقه فكان يأخذ التمر فيبيع تمرات قدر قوت يومه ثم يجمع حاجته ويذهب فيقول له الناس بع يا رجل فقد أتاك المشرتون فهذا رزق ساقه الله إليك فيقول: علمت أن رزقي بيد ربي ولن يصل إلى غيري فاطمأن قلبي؛ لأنه آمن بالله، وآمن أن الرزق قد كتب والأجل قد كتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجملوا الطلب)؛ لأن المكتوب سيأتي. وكما أن الأجل سيأتي فالرزق يسعى إلى المرء أشد من سعي الأجل إليه، ولذلك جاء في بعض الآثار الإلهية: (عبدي انشغل بي أكفك الهموم كلها، وإن انشغلت بالدنيا وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ولن تأخذ إلا ما قسم لك) فلو رقيت إلى السماء أو غصت في أعماق المحيطات فلن تأخذ إلا ما كتب لك، فمن آمن بالقضاء والقدر ولم يوكل عقله وكان مستسلماً لربه فقد أراح واستراح، فتراه إن نزلت عليه البلايا والمصائب ضاحكاً مستبشراً يعلم أن الله حكيم ولم يقدر عليه إلا الخير، ولذلك قال بعض السلف: إذا نزلت المصيبة بالعبد فإنها تحمد على ثلاث: على أنها كانت مكتوبة في الأجل وقد وقع وانتهى الأمر، وعلى أنها لم تكن أكبر مما كانت، وعلى أن الله يرفق بالعبد إذا نزلت به المصيبة، فإنه حكيم عليم لطيف خبير. إذاً القدر: قدرة الله وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذه هي الأدلة على القضاء والقدر، ولن ينتظم إيمان عبد بالقضاء والقدر حتى يؤمن بكل ما تقدم لأن ذلك لازم من لوازم الإيمان بالقدر.

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر إن إيمان العبد لن ينتظم ولن يستقيم حتى يؤمن بأربع مراتب، ومن لم يؤمن بمرتبة منها لم يؤمن بالقدر، وقد كان السلف لا يقسمون الإيمان بالقدر على أربع مراتب، بل كانوا يأتون بها مجملة، وكان شيخ الإسلام قدس الله روحه هو أول من قسم هذه التقسيمات، ولذلك بدعه أهل الجهالة والضلالات فقالوا: هذا مبتدع لا يتبع علم السلف، فالسلف لم يقولوا: الإيمان بالقدر أربع مراتب، وما أتى بها ابن تيمية إلا استنباطاً من أقوال السلف، وقسمها للتوضيح لا أنه أراد أن يبتدع، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

المرتبة الأولى: العلم

المرتبة الأولى: العلم المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر: العلم، وهو أن تؤمن بعلم الله جل وعلا السابق لِكل شيء: ومما يدل على ثبوت علم الله السابق، أو علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون: قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] قال المفسرون: أي: هذا الضال يعلم الله أنه ضال وراض بالضلال، تصديقاً لقول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]. أما ابن عباس فقد قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] أضله الله لعلمه السابق فيه أنه محل للضلال، فلا يصح أن يكون مسلماً، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال جل وعلا: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. كما أن الله جل وعلا لما اختار أنبياءه كان بعلمه السابق يعلم أن هذه القلوب طاهرة نقية، ولذلك قال الله تعالى عن إبراهيم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] والمعنى: نحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام محل للهداية، ومحل للنبوة، ومحل لأن يكون خليلاً لله جل وعلا؛ لأنه شاكر لأنعم الله جل وعلا. ومما يدل على علم الله السابق أن الله لما فتن الكبراء بالعبيد وفضل العبيد عليهم؛ لعلمه السابق بما سيكون منهم قال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ} [الأنعام:53]، أي: الفقراء {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] فأجابهم الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] فكان الله جل وعلا على علم سابق بهؤلاء أنهم سيشكرون نعمته جل وعلا، فأوضع فيهم هذه النعمة وهي نعمة الإسلام. كما أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم واختيار صحابة رسول الله كان بعلم الله السابق، فمن وجد نفسه في خير وعلى خير فليستبشر؛ لأنه في علم الله السابق من أهل الخير، وليزدد من الخير الذي هو فيه، قال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح:26] أي: أنهم كانوا {أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] في علم الله السابق، فإن الله علم أن أبا بكر أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وعلم أن عمر هو الفاروق فأودع في قلوبهم هذا الخير وجعلهم صحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم.

المرتبة الثانية: الكتابة

المرتبة الثانية: الكتابة المرتبة الثانية من مراتب القدر والتي لا بد للمؤمن بالقدر أن يؤمن بها: الكتابة، وهي تلي العلم، إذ لا يكتب أحد شيئاً إلا وقد علم بهذا الشيء الذي يكتبه، فالله علم كل شيء قبل أن يخلق أي شيء، وكتب كل شيء قبل أن يخلق كل شيء. والكتابة لها خمسة مقادير: أولاً: كتابة أزلية، والكتابة الأزلية هي كتابة كل شيء إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، والذكر: اسم جنس لأي كتاب ينزل، كالقرآن أو التوراة أو الإنجيل أو الزبور، وهو الكتاب الذي أنزل على داود، والمعنى: كتبنا في الذكر وهو اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. وقال الله تعالى عن آثار الذين يعملون الصالحات {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] والمعنى: أن كل شيء فعلوه من خير أحصاه في كتاب مبين، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ. ومما كتب في اللوح المحفوظ: القرآن الكريم، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]. وميزة هذه الكتابة أنها لا تبدل ولا تغير، فما كتب في اللوح المحفوظ، من شقاوة العباد، أو سعادتهم، أو تصنيفهم من أهل الجنة، أو من أهل النار لا يتغير بحال من الأحوال، وما كتب فيها من أرزاق العباد، وتغير الأحوال، وأوقات الموت أو الحياة كل ذلك لا يتغير. ثانياً: كتابة أخذ الميثاق، وهي الكتابة التي أخذ الله جل وعلا فيها الميثاق على عباده عندما خلق آدم، فكانت الكتابة الأولى في اللوح المحفوظ قبل الخلق أجمعين، وكانت الكتابة الثانية بعد خلق آدم، فقد ورد في الحديث: (أن الله لما مسح على ظهر آدم وأخرج ذريته قبضة باليمين وقبضة بيده الأخرى فقال باليمين: هذه للجنة ولا أبالي، وقال في اليد الأخرى: هذه للنار ولا أبالي)، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، فإن الله مسح على ظهر آدم فأخرج كل ذريته، وأخذ عليهم الميثاق وكتب عليهم كل شيء. وفي الصحيحين أن: (النبي صلى الله عليه وسلم: لما سئل: يا رسول الله! أفرغ من الأمر وقضي أم نستقبل؟ -يعني: أكل الذي نعمله قد قضي وكتب، أم أننا نستقبله- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قضي أو فرغ منه، فقالوا: ففيم نعمل؟ -أي: إذا كان كل شيء قد كتب، فكتب أصحاب الجنة وأصحاب النار ففيم العمل؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فمن يسر له شرب الخمر فهو من أهل الخمر، ومن يسر له الزنا والفاحشة والقتل والسرقة والكذب والزور فهو من أهل ذلك، ومن يسأل الله الطاعة والجهاد وطلب العلم والذكر والصلاة فهو من أهل ذلك، فكل ميسر لما خلق له. وجاء في المسند أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتابان: كتاب في يده اليمنى وكتاب في يده الأخرى، فقالوا: يا رسول الله! ما هذان الكتابان؟ قال: هذا كتاب بيد ربي اليمنى فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وأجمل عليه -أي: أغلق فلا يزاد ولا ينقص- وفي اليد الأخرى أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم وأجمل على ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، ويكون من أهل النار فيختم عليه بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ويكون في الكتاب من أهل الجنة فيعمل بعمل أهل الجنة ويختم له بعمل أهل الجنة) وهذا مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في السنن: (إن الله إذا أحب عبداً عسلة قالوا: يا رسول الله! وما عسلة؟ قال: إذا أحب الله عبداً وفقه لعمل الخير، فأماته عليه فختم له بعمل الخير، وإذا أبغض الله عبداً يسر له عمل أهل النار فختم عليه به) نعوذ بالله من ذلك. ثالثاً: الكتابة العمرية، وهي القدير العمري للإنسان في بطن أمه، كما قال ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، وكان إبراهيم بن أدهم أو غيره يبكي طيلة الليل والنهار فيطرقون عليه الباب ويقولون: علام تبكي وأنت المتزهد المتعبد؟ فيقول: والله ما أعلم كتبت وأنا في بطن أمي من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة!. وجاء في الصحيح عن ابن مسعود قال: (أخبرني الصادق المصدوق إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه نطفة أربعين ليلة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وعمله وأجله شقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بيه وبينها إلا ذراع -ويكون في الكتاب أنه من أهل النار- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة). وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يجاهد فقال الصحابة: يا رسول الله! هذا من أشجع الصحابة، وهو من أهل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل النار)، وكان الرجل يجاهد شجاعة ويقاتل حمية ويثخن المشركين قتلاً فظن الصحابة أنه من أهل الجنة، ولكن لما كتب في علم الله السابق أنه من أهل النار قال رسول الله: (إنه من أهل النار)، فقال بعض أحد الصحابة: إن رسول الله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فلا بد أن أتتبع الرجل، فتتبع الرجل فوجده يقاتل بشدة وشجاعة ثم جرح، فلما جرح لم يحتمل جرحه فأخذ ذبابة سيفه فوضعها في بطنه فاتكأ عليها حتى قتل نفسه، فقال الرجل: (يا رسول الله! رأيت الرجل الذي قلت فيه: أنه من أهل النار فعل كذا وكذا وكذا، فقال: أشهد أني رسول الله)، فهذا الرجل قاتل وجاهد وليس بينه وبين الجنة إلا ذراع، ولما كتب في علم الله السابق أنه من أهل النار سبق عليه الكتاب وختم عليه بعمل أهل النار فقتل نفسه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة). ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوكل بالرحم ملكاً فيقول: رب نطفة رب علقة رب مضغة، فإذا أذن الله بخلقه أمره بنفخ الروح، فإذا نفخ الروح قال: رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ متى أجله) فيكتب كل ذلك في صحيفة الملك، وهذه الصحيفة غير صحيفة اللوح المحفوظ، والفرق بين صحيفة اللوح المحفوظ وما كتب فيها وبين هذه الصحيفة: أن اللوح المحفوظ لا يغير فيه شيء ولا يبدل، أما صحائف الملائكة فيمكن أن يغير ما كتب فيها، ولذلك قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: يمحو ما يشاء في صحائف الملائكة ويثبت ما فيها وعنده الثابت في اللوح المحفوظ وهو في أم الكتاب، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يطوف بالكعبة ويقول: رب إن كنت قد كتبتني شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، أي: إن كنت قد كتبتني في بطن أمي في صحيفة الملك شقياً فامحها وأثبتها عندك في اللوح المحفوظ سعيداً. رابعاً: -المرتبة الرابعة من مراتب الكتابة- الكتابة العامية، وهذه الكتابة جاءت استنباطاً من بعض الآيات كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] والليلة المباركة هي ليلة القدر، قال ابن عباس: في ليلة القدر يكتب من يموت هذا العام ومن يحيا ومن يولد، ورزقه وأجله، وشقي في هذا العام أم سعيد؟ ويكتب في ليلة القدر حتى الحجاج، قال مجاهد: يمشي الرجل في الأسواق وقد كتب مع الأموات، وقال آخر: يمشي في الأسواق وقد كتب في ليلة القدر أنه مع الحجيج، فهذه الكتابة هي كتابة عامية تكتب كل عام في ليلة القدر. خامساً: الكتابة اليومية، وهي من قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، قال بعض السلف: يرفع أقواماً في نفس اليوم ويخفض آخرين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويحيي ويميت ويعطي ويمنع وينفع ويضر سبحانه وتعالى، وكل ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار)، في الليل: أي: في الفجر، وفي النهار أي: في العصر، وعملهم أنهم يكتبون ما يفعل العباد في اليوم.

المرتبة الثالثة: المشيئة

المرتبة الثالثة: المشيئة والمشيئة تعني أن الله كتب فشاء سبحانه وتعالى، ولا بد أن يؤمن العبد أنه لا يمكن أن يحدث شيئ إلا بمشيئة الله، فهجوم الروس على المسلمين بمشيئة الله، وضرب الأمريكان لأفغانستان بمشيئة الله، واحتلال اليهود لبيت المقدس وإفسادهم فيها بمشيئته، وظهور الحبشي قبل يوم القيامة وهدمه للكعبة واستخراجه لكنزها بمشيئة الله، وموت الرسول بمشيئة الله، وظهور المهدي في آخر الزمان بمشيئة الله جل وعلا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فعلى العبد أن يعلم أن كل شيء بمشيئة الله، وأن ذلك من حكمة حكيم عليم إذا شاء شيئاً كان هذا الشيء خاضع لحكمته، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:30 - 31] فمشيئته خاضعة لحكمته سبحانه وتعالى، وهي نافذة في كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253]، فلو شاء الله ما اقتتل الأفغان بعضهم مع بعض، ولا قاتل صدام ودخل على الكويت، ولا اقتتل اليهود مع المصريين عام سبعة وستين، ولا اقتتل يهود خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: {َلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]. وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] إذ أن مشيئة الله نافذة إذا شاء شيئاً كان وإذا لم يشأ لم يكن. وقال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] فإنهم ما فعلوه إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى، وكل ما سبق عن المشيئة فهو عن المشيئة الكونية، والإرادة الكونية غير الإرادة الشرعية التي هي المحبة.

المرتبة الرابعة: الخلق

المرتبة الرابعة: الخلق علم أن مراتب القدر أربع: الأولى: أن تؤمن بعلم الله السابق وأن كل شيء نشأ عن علمه سبحانه. الثانية: الكتابة فالله كتب ما علمه جل وعلا. الثالثة: المشيئة والإرادة. الرابعة: التنفيذ، وهو ما عبرنا عنه بالخلق. فالله علم ثم كتب ثم شاء وأراد ثم خلق، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ومن الأشياء التي خلقها: السماوات والأرض، والخلق وأفعال الخلائق وأرزاقهم، فـ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وأظهر من ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فإنه دليل على أن الله خلق أفعال العباد. وجاء وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله كل صانع وصنعته)، وفيه دلالة على أن الله خلق كل شيء، حتى أفعال العباد.

هل الإنسان مسير أم مخير؟

هل الإنسان مسير أم مخير؟ الناس في الإجابة على هذا السؤال فرق ثلاث: ففرقة غلت وفرقة جفت وفرقه وتوسطت، فكان في الأولى إفراط، وعند الثانية تفريط، أما الثالثة فوسط بين الإفراط والتفريط. أما الذين غلو فهم القدرية إذ قالوا: الإنسان مخير في كل شيء، حتى أفعال العباد، فالعباد -عندهم- يخلقون أفعال أنفسهم، وجل وعلا -بزعمهم- لا يعلم أفعال العباد حتى يعملها العامل، ومن القدرية من يثبت علم الله لعمل العبد وينفي عن الله خلق أفعال العباد، فلم ينفقوا عن الله صفة العلم. أما غلاة القدرية فقد نفوا العلم فقالوا: الله لا يعلم بعمل العبد حتى يعمله، فالإنسان عندهم مخير على الإطلاق. وبعكس قول القدرية قالت الجبرية إذ الإنسان عندهم مسير على الإطلاق، فلا خيار له ولا اختيار ولا مشيئة ولا إرادة كما قال بعضهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء ولذلك كان متنطعهم قولهم: الشيطان أكبر عابد لله جل وعلا -لأنه مسير- فإن الله أجبره على ما فعل فرضي بما فعل وهو خاضع لله جل وعلا. أما أهل السنة والجماعة فهم وسط بين الفريقين إذ قالوا: الإنسان مسير مخير، فالإنسان مخير في فعله، فهو مخير في اختياره لزوجته، واختياره لعمله، واختياره لدينه، ألا ترى أن من شاء أن يدخل في النصرانية يدخل، ومن أراد الإسلام دخل في الإسلام، ومن أراد الكفر فعل الكفر، ومن أراد الزنا فعل الزنا ولا مجبر لهم، له، فالإنسان مخير في إرادته، ومخير في طلبه، وكفه، في منعه، وعطائه، وهو -أي الإنسان- مسير في موته، في طوله وقصره، في سواده وبياضه فلم يتحكم امرئ بلونه فقال: أريد أن أكون أبيض البشرة، بل ما خلقك الله عليه فأنت مسير به، كما أنه في اختيار في هذه ومسير من ناحية أخرى وهو أن مشيئته تابعة لمشيئة الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] جل وعلا.

خلق أفعال العباد [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلق أفعال العباد [1] لا يستقيم للعبد إيمانه حتى يؤمن بالقدر ومراتبه الأربع، وذلك نجاة له من الحيرة والتخبط، فالله علم فكتب، وإذا شاء خلق ما يريد، وإن العبد تحت قدرة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وليس بمقدور العبد أن يخرج عن أقدار الله تعالى، فهو الذي بيده الهداية والضلال، وكل ذلك حكمة منه وكمال مطلق.

مقدمة في مراتب القدر

مقدمة في مراتب القدر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا في الكلام على أبواب القدر، وفي سياق ما جاء من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، طاعاتها ومعاصيها. وقد قلنا: إن القدر هو قدرة الله جل وعلا، وهو سر لم ينكشف لا لعالم ولا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل. وقلنا: إن الذي يعمل عقله في مسائل القدر يتخبط في بحر الحيرة، فمن تمام الإيمان بالله جل وعلا الإيمان بالقدر. والقدر بالنسبة لله تعالى هو صفة من صفاته، فإن التوحيد أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية، والإيمان بالقدر يعتبر من توحيد الربوبية؛ لأنه يختص بأفعال الله جل وعلا. وقد قال الإمام أحمد: إن القدر هو قدرة الله جل وعلا، فلا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، وبمراتبه الأربع.

مرتبة العلم

مرتبة العلم إن الذي يؤمن بأن الله قد قدر كل شيء لا بد عليه أن يؤمن بأن الله علم كل شيء، وقع أو سيقع، قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، وكل آية تثبت العلم لله تدل على ذلك، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر، وهي مرتبة العلم.

مرتبة الكتابة

مرتبة الكتابة المرتبة الثانية من مراتب القدر: مرتبة الكتابة، فالله قد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق. وإن العبد الذي يتعبد لله جل وعلا مقراً بمراتب القدر، يرتاح ولا يتبرم في الدنيا عند حلول مصائبها؛ لأنه يعلم أن الله قد كتب كل شيء. ولكن القول بأن الله كتب كل شيء كلمة مجملة تحتاج إلى تفصيل، وتفصيلها هو الكلام عن مراحلها. والكلام عن مراحل الكتابة مهم جداً، فإن أرزاق العباد وآجالهم، وتحديد أهل الجنة وأهل النار وغير ذلك كله قد كُتب في اللوح المحفوظ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وأما كيف كتب القلم؟ فالله أعلم بذلك، لكن القلم تكلم مع الله، فأمره الله أن يكتب فقال: سمعت وأطعت، فكتب كل كبيرة وصغيرة، وليس المكتوب في اللوح المحفوظ هو ما يتعلق بالبشر أو المخلوقات فقط، بل هو عام فيها وفي غيرها، وذلك أن الكلام صفات من صفات الله، وهذه الصفة قد كتبت في اللوح المحفوظ. وهناك كتابة تكون في الرحم، وتسمى: الكتابة العمرية، وأما الكتابة التي تكتبها الملائكة كل يوم على الإنسان فهي الكتابة اليومية، وهناك أيضاً الكتابة العامية، وهي التي تكون في ليلة القدر. وهنا سؤال، وهو: هل المكتوب في اللوح المحفوظ له أمد أو ليس له أمد؟ A إن له أمداً؛ لأنه جاء في الحديث: أن القلم قال: (ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، ولا شك أن هناك أحداثاً بعد يوم القيامة، وذلك مثل من سيتزوج الحورية الفلانية من الحور العين، ونحو ذلك. فأفعال الله جل وعلا معنا بعد دخول الجنة وغيرها من هذه الأمور فإنها لم تكتب، ولم يكتب كل شيء يحصل بعد يوم القيامة، لكن كتبت بعض الأحداث كرؤية الله تعالى، والنعيم عند زيارته كل أسبوع وغيرها. وصفات الله جل وعلا مكتوبة في اللوح في المحفوظ من نزول، ومجيء، وكلام وإعطاء، وإحياء، وإماتة. وهناك كتابة أخرى أيضاً فيها صفات الله جل وعلا كصفة الرحمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب ربكم في كتاب عنده - عند العرش - رحمتي سبقت غضبي). والرحمة والغضب صفتان من صفات الله جل وعلا. وكذلك مكتوب في اللوح المحفوظ أن الله جل وعلا سيتكلم مع موسى بقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي} [الأعراف:144] ومكتوب أيضاً أن موسى سيقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] فيجيبه الله جل وعلا بقوله: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ومكتوب أيضاً نزول الله كل ليلة إلى السماء الدنيا.

مرتبة المشيئة

مرتبة المشيئة المراد بالمشيئة أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأما الخلق فسنتكلم عنه في مبحث مستقل.

خلق أفعال العباد

خلق أفعال العباد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إن أفعال العباد كلها مخلوقة، طاعاتها ومعاصيها]. معنى أفعال العباد: هي كل ما يصدر من العبد من كلام، ومن حركات وسكنات، معصية كانت أو طاعة، فكل ذلك من أفعال العباد، وهي مخلوقة لله جل وعلا.

قول القدرية بأن الله لم يخلق الشرور والمعاصي

قول القدرية بأن الله لم يخلق الشرور والمعاصي إن القدرية قالوا: إن الله تعالى لم يخلق المعاصي والشرور، فظنوا أن الشر والمعصية لا يخلقهما الله تعالى، ولكن الآثار قد جاءت عن الصحابة بالسند الصحيح أنهم قالوا بأن الله خلق أفعال العباد، ومن هؤلاء الصحابة الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وأبي بن كعب وغيرهم. وجاء ذلك عن التابعين، منهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر وغيرهم، وكذلك من بعدهم كـ أيوب السختياني وغيره، ومن الفقهاء أيضاً: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، والليث بن سعد، وأشهب بن عبد العزيز، فكل هؤلاء قالوا بذلك.

دلالة الكتاب والسنة على خلق الله لأفعال العباد

دلالة الكتاب والسنة على خلق الله لأفعال العباد إن مما يثبت أن الله خلق أفعال العباد أدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. أي: كل فعل فعلتموه فإن الله هو الذي خلقه بنص هذه الآية. وقد ذكر البخاري في خلق أفعال العباد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)، وفي رواية: (خلق الله كل صانع وصنعته). فالصنعة هذه هي نتيجة لفعل الله، فإنه قد خلق كل صانع وصنعته. وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس). فقوله: (كل شيء) لفظ عام. قال الإمام البخاري: خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا. وعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: خلق الله أفعال العباد، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا. وقد كان علي بن أبي طالب ينكت بعصاه ويقول: هذه النكتة أو هذه الضربة في الأرض خلقها الله جل وعلا. وكذلك ابتساماتك في كل لحظة من اللحظات من الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]. والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي هو أضحكك وهو الذي أبكاك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (الأمر قد قضي، قالوا: على ما نستقبل أم على ما مضى؟ فقال: على ما مضى، فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لما خلق له). ووجه الشاهد هو قوله: (كل ميسر)، يعني: إذا قدر الله لك باب الهداية خلق فيك العزيمة والإرادة للهداية، ثم خلق فيك فعل الهداية ووفقك له. فالله جل وعلا خلق كل فعل فعله العبد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [جاء في الحديث عن حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته)]. وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. فقالت القدرية: هذه الآية ليست دليلاً على أن الله خلق أفعال العباد؛ لأن (ما) هنا موصولة بمعنى الذي، فالمعنى: والله خلقكم والذي تعملون، والذي كان يعمله قوم إبراهيم هو جعل الأخشاب أصناماً فقال لهم إبراهيم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، أي: والذي تعملونه من هذه الأخشاب، فإن الله خلقها وخلقكم، قالوا: وهذا ليس له علاقة بأفعال العباد. والرد عليهم هو أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] معناه: إن هذه الأخشاب التي أصبحت أصناماً تعبدونها خلقها الله، وإذا كان الله قد خلقها وهي نتيجة المقدمة وهي عملكم، فيلزم من هذا أن يكون الله قد خلق المقدمة التي هي: العمل. فيرد عليهم من طريق اللزوم، فالأصنام هي النتيجة التي وصلتم إليها بعملكم، وهذه النتيجة التي وصلتم إليها الله خلقها، فمن باب أولى أن يكون الله هو الذي خلق العمل أو المقدمة التي أوصلكم بها إلى النتيجة. وأيضاً إذا فسرنا (ما) بأنها مصدرية فسيصبح معناها: والله خلقكم وعملكم، وليس في هذا أي نزاع، وقد جاء في الآية الأخرى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. ووجه الشاهد من هذه الآية قوله: إن (كل) لفظ من ألفاظ العموم، ويدخل تحته كل شيء في السموات أو في الأرض، كبني آدم وأفعالهم، وبهذا دخلت أفعال العباد تحت ما خلقه الله تعالى بقدر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]). وعليه فإن الله قد خلق مسبة أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسفه والكذب، وإن كان تعالى لا يرضى لنبيه أن يسب ويسفه ويكذب، وهذا يبين الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:8]]. ووجه الاستدلال: أن الإلهام من الخلق، والشيخ الشعراوي رحمه الله ذكر أن المعنى: أعلمها بالفجور وبالتقوى، وكان يقول: علم الله أهل الجنة فكتبهم، وعلم أهل النار فكتبهم، وكان يضرب مثلاً على ذلك فقال: إذا نظر المدرس لخمسة من تلامذته، ورأى أن التلميذ الجيد جداً سيحصل على تسعين في المائة فكتب ذلك عنده، ورأى أن المهمل سيحصل على ثلاثين في المائة، وكتب ذلك، فإذا جاءت نهاية العام وحصل ما كتبه المدرس وأخبر به، فلا يُلام المدرس على ذلك؛ لأنه عمل على ما يعلمه، وبهذا يتبين معنى القدر، فلا يصح الاحتجاج بالقدر على فعل المخالفات. فلو قلنا تنزلاً: إن معنى: (فَأَلْهَمَهَا) أي: أعلمها، فإن أم موسى عليه السلام أوحي إليها وحي إلهام، وهذا تفسير صحيح، ولكن الشعراوي له تأويلات أخرى. والله جل وعلا أعلم البشر بقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]. فأعلمهم الخير من الشر، والتقى من العصيان. ووجه الدلالة في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] على خلق أفعال العباد: هي أن الله ألهمه فعل الشر، أي: خلق فيه إرادة الزنا مثلاً، ولكنه لم يخلق فيه نفس الفعل، فلو أنه زنا بامرأة، فإن هذا الشر قد علمه، ثم كتبه، وعند Q هل خلق الله هذا الزنا أو لا؟ فلو قلنا: تأدباً مع الله لا ينسب الشر إليه جل وعلا -أي: خلق الزنا- ولكنه خلق أسبابه فقط، فيلزم من هذا أن الزنا مخلوق لله جل وعلا، فخلاصة الأمر أن نقول: إن الزنا إذا نسبنا خلقه إلى الله جل وعلا فذلك منه حكمة وكمال، وإذا نسبناه للعبد نسبناه على أنه من الفجور الذي سيحاسب عليه؛ لأنه فاعل لذلك الفعل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]]. يعني: أن الله جل وعلا هداه الطريقين: طريق الخير وطريق الشر.

أنواع الهداية

أنواع الهداية الهدية أربعة أنواع:

الهداية العامة

الهداية العامة الهداية العامة تعم كل المخلوقات، فقد هدى الله آدم كيف يأتي امرأته، وهدى كل رجل كيف يسعى لرزقه، وهدى الحيوانات معرفة خالقها، وهداها كيف تجلب الرزق، وهو الذي هدى الثعلب أن ينام، وإذا نام أن يغمض واحدة ويترك الأخرى حتى ينقض على فريسته. وهناك قصة طريفة ذكرها بعض العلماء في أن الله تعالى هو الذي هدى الفأرة إلى أن تعرف الفرق بين كثافة الماء وكثافة الزيت، وذلك أن رجلاً كان عنده زيت في إناء، فما استطاع الفأر أن يأخذ الزيت إذ كان بعيداً عنه، فذهب إلى مكان فيه ماء، فكان يأخذ الماء ويجعله في هذه الإناء، فكلما نزل الماء في الزيت ارتفع الزيت حتى ارتفع الزيت إلى آخر الإناء فشرب منه الفأر. فمن الذي هدى هذا الفأر لمعرفة الفرق بين كثافة الماء وكثافة في الزيت؟ وكذلك النمل تكون طابوراً كاملاً حتى تنقض على الفريسة، ثم تذهب بها لتخزنها أعوماً. وأيضاً هدى الله كل هذه المخلوقات لتسبيحه فقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. فهذه النقنقة من الضفدع تسبيحات لله جل وعلا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع؛ لأنها تكثر من تسبيح الله جل وعلا بهذه النقنقة، وقيل: لأنها كانت تأخذ الماء وتلقي به في نار إبراهيم عليه السلام لحمايته منها. والله هو الذي هدى الهدهد ليعرف أن الله جل وعلا يخرج الخبء من السماوات والأرض، وذلك عندما ذهب إلى بلقيس وقومها ووجدهم يسجدون للشمس من دون الله قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:24 - 25]. فمن الذي هدى الهدهد ليعرف ذلك الأمر العظيم؟ إنه الله عز وجل، فهذه هي الهداية العامة.

الهداية الخاصة

الهداية الخاصة والهداية الثانية: هداية خاصة بالبشر، وهي هداية الإرشاد، أو هداية البيان، وهي تصديق لقول الله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وفي بعض التفاسير لقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:8] يعني: بين لها طريق الفجور وطريق التقى. وهذه الهداية قد تكون لله جل وعلا أو لرسوله أو للدعاة إلى الله جل وعلا، ومنها قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: بينا لهم الطرق الصحيحة. {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذه الهداية أيضاً قد تكون للرسول قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. يعني: تبين وترشد الناس.

هداية التوفيق

هداية التوفيق الهداية الثالثة هي: هداية التوفيق والسداد وخلق الإرادة في القلب، أو خلق العزيمة على فعل الخير، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، وفصل الخطاب فيها قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. مع أنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. فكيف يثبت له الهداية هنا وينفيها في الآية الثانية إذ يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]؟ A أن المراد بالآية التي تنفي عن الهداية: نفي هداية السداد والتوفيق لا هداية البيان والإرشاد، وهذه الهدايات الثلاث تكون في الدنيا.

هداية الآخرة إلى الجنة

هداية الآخرة إلى الجنة الهداية الرابعة: هي هداية الآخرة، وهي هداية أهل الجنة إلى منازلهم يعرفونها كما كانوا يعرفون منازلهم في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل امرئ يدخل الجنة فإنه يعرف مكانه في الجنة، ويعرف ملكه، واللؤلؤة المجوفة التي يدخل فيها، كما كان يعرف بيته في الدنيا، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يجعلنا من المهديين هداية البيان والإرشاد، وهداية السداد والتوفيق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

خلق أفعال العباد [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلق أفعال العباد [2] الله عز وجل خالق كل شيء بما في ذلك أفعال العباد من حركات وسكنات ومعاص وسيئات، ولكن ليس معنى ذلك أن العبد مجبور على فعله، بل قد جعل الله له مشيئة واختياراً، وفي سابق علمه سبحانه أن هذا طائع وهذا عاص، وقد ضلت الجبرية لما قالوا: إن الله أجبر العبد على الفعل فنسبوا إليه الظلم، سبحانه أن يظلم أحداً من خلقه.

خلق الله لأفعال العباد

خلق الله لأفعال العباد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا مع القدر خيره وشره، وأنه ركن من أركان الإيمان، بل هو الركن السادس من أركان الإيمان، ولا يقبل إيمان عبد عند الله جل وعلا حتى يقابله وهو يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله جل وعلا إذا قدر على العبد أمراً فلا بد وأن يقع، وأن ما شاء الله في هذا الكون الشاسع وقع، وما لم يشأ لم يكن، بقدرته وعزته جل وعلا. من مراتب القدر: الخلق، ومعناه عموم خلق الله جل وعلا لكل شيء، فالله علم فكتب فأراد فخلق سبحانه وتعالى، والله جل وعلا خلق كل شيء، ومن هذا الشيء أفعال العباد، فما من شيء في الكون إلا وهو بإرادته ومشيئته جل وعلا.

الأدلة على خلق الله لأفعال العباد

الأدلة على خلق الله لأفعال العباد خلق الله لأفعال العباد أمر دل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ولفظ (شيء) نكرة في سياق الإثبات يفيد الإطلاق، وكل من ألفاظ العموم، أي: أن الله جل وعلا خلق كل شيء، ومن هذا الشيء فعل العبد من طاعة أو معصية. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وهذا تصريح بأن الله خلق أفعال العباد. وقال جل وعلا: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]، فالضحك والبكاء من خلق الله جل وعلا. هذا من الكتاب. أما من السنة فما رواه البخاري في خلق أفعال العباد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، وفي حديث آخر قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس)، ولذا قال البخاري: سكنات الإنسان، وحركاته، وأصواته، وحروفه، كلها مخلوقة لله جل وعلا، حتى قال: ووضع المرء يده على خده مخلوقة لله جل وعلا. هذا الدليل الأثري. أما من جهة النظر والعقل؛ فإن العقل الصحيح لا يخالف النص الصريح، فالعقل يدل على أن الله قد خلق فعل العبد، ففعل العبد صفة من صفات العبد، ودائماً نقول: الصفة تتبع الموصوف، فقولنا: محمد كريم، أي: الكرم صفة من صفات محمد، فلا يأتيه أحد إلا ويكرمه ويهش ويبش عند لقائه، إما أن يكرمه بكلمة طيبة أو بما عنده من علم ومال، ومحمد هذا مخلوق لله، فإذا كان الموصوف مخلوقاً لله فمن باب أولى الصفة التابعة للموصوف، فهي مخلوق لله، فالكرم الذي هو صفة تابعة للموصوف الذي هو محمد مخلوقة لله جل وعلا. إذاً: هذا فيه إثبات أن الله خلق كل أفعال العباد، حتى الفاحشة التي يفعلها العبد ويحاسب عليها خلقها الله، ويمدح الله جل وعلا أنه خلقها؛ لأن كل فعل ناتج عن الله كمال وجلال، فالشر والقبح والسوء ليست في فعل الله، حاشا لله، فهو ذو الجلال والكمال والإجلال.

أثر اعتقاد العبد بأن الله خلق أفعال العباد

أثر اعتقاد العبد بأن الله خلق أفعال العباد إذا علم العبد واعتقد في قلبه أن الله قد خلقه وخلق فعله من طاعة أو معصية، أثر ذلك فيه بأمور: أولاً: أن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً أنه أفقر ما يكون إلى الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلقه وخلق فيه الخير والشر، وهيأ له سبب الخير والشر، فالعبد فقير بذاته إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دينه إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دنياه إلى الله جل وعلا، فهو فقير إلى أن يهتدي إلى الله جل وعلا، وأن يهديه إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم، فقير إلى أن يهديه إلى الإسلام ثم إلى الإيمان ثم إلى الإحسان، فقير إلى أن يهديه ثم يثبت الهدى فيه ثم يزيده هدى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فقير إلى الله جل وعلا أن يعصمه من مضلات الفتن، فقير إلى الله جل وعلا في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن أن يثبته على الحق المبين أمام فتن تجعل الحليم حيران، لا يمكن لعبد أن يثبت إلا أن يثبته الله جل وعلا. فإذا علم العبد أن الله هو الذي خلق التثبيت فيه، وخلق فيه الهداية، فإنه يستقم بذاته إلى الله جل وعلا، ويدعو الله متضرعاً متمسكناً خاضعاً ذليلاً له سبحانه حتى يثبته، ويعصمه من مضلات الفتن. إن العبد فقير إلى الله في رزقه وفي كل شئون دنياه، ففي الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهو فقير إلى الله حتى يستجلب الرزق الذي يكون له قوتاً وكفافاً، وإن زيد له فيتصدق به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في السنن: (قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً أو قوتاً، وقنعه الله بما أتاه)، فهو فقير إلى ربه أن يقنعه بما آتاه، فلا ينظر إلى غيره فيحقد عليه أو يحسده، وفقير إلى الله بأن يكون رزقه مالاً حلالاً ليس فيه سحتاً؛ حتى لا يأكل حراماً فيرفع يده إلى الله فيرد خائباً، مأزوراً غير مأجور، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو فقير إلى الله في كل أحواله، فإذا علم العبد أن الله خلق فيه أفعاله فهو فقير إلى ربه أن يجعل كل فعله رضاً لربه جل وعلا، كما قيل: إذا أردت أن تعلم مكانتك عند الله جل وعلا فانظر أين أقامك؟ فهو الذي يقيمك سبحانه. ثانياً: إذا علمت أن الله جل وعلا هو الذي خلق فعلك فلا يمكن أن يدخل العز إلى قلبك بعمل الطاعة، ولا يمكن أن تمن على ربك بطاعتك أبداً، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فإن كنت قائماً بالليل فالله هو الذي أقامك، وأثمر في قلبك أن تقوم خاشعاً متذللاً ذاكراً إياه، وهو الذي خلق ذلك فيك فلا تمن عليه؛ لأنك تعلم أن الطاعة التي تقيمها هو الذي خلقها فيك، وأودع في قلبك أن تهتم برضا ربك جل وعلا، فلا يمكن لك أن تمن على الله بجهاد في سبيله، لأنك -ووالله الذي لا إله إلا هو- ما وضعت نفسك في ساحة الوغى، بل إن الله جل وعلا هو الذي أوضعك، وما دمت قائماً بالليل فإن الله جل وعلا هو الذي أقامك، وما جلست في درس علم تتعلم ما ينفعك وتكون من خيرة الناس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم (خيرة الناس هم العلماء، وطلبة العلم)، فما كنت في هذا المجلس إلا بالله جل وعلا، فهو الذي وضعك، فلا تمن على ربك إن علمت أن الخير كله بيد الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فالله جل وعلا هو الذي خلق فيك هذه الطاعة فاشكر ربك ولا تمن عليه. ثالثاً: إذا علمت بأن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك الخير والشر فإنك ستدعوه ليل نهار وتذكره ليل نهار، متضرعاً بأن يعصمك من مضلات الفتن. إن أهل البدعة لا يريدون أن يتركوا أهل السنة ينعمون بعقيدتهم، ويعتقدون في ربهم أنه هو الذي خلق فيهم هذه الطاعة، ووفقهم إلى هذا الخير حتى لا يمنون على الله بإسلامهم كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]؟

أدلة القائلين بأن الله لم يخلق أفعال العباد والرد عليهم

أدلة القائلين بأن الله لم يخلق أفعال العباد والرد عليهم جاءت المعتزلة أهل التجهم والجبرية فردوا على الله ما أثبته في كتابه، وردوا على أهل السنة والجماعة اعتقادهم بأن الله هو الذي خلق فيهم هذه الأفعال، وقالوا: العبد خلق فعل نفسه، والطائع هو الذي أطاع الله، ولولا أنه أطاع الله ما أطيع الله جل وعلا، والعبد الذي يتصدق إنما يتصدق بنفسه أما الله فلم يوفقه لذلك، ولذلك كانت الجنة لنا أجرة وثمناً على أعمالنا، وعندنا على ذلك أدلة من الكتاب والسنة فمن الكتاب قول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فأثبت أن هناك خالقاً غير الله جل وعلا، وهم العباد الذين خلقوا أفعال أنفسهم، ثم قالوا -تعالى الله جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً-: إن الله جل وعلا جعل الجنة أجرة وثمناً للعمل، كما قال الله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، فإذا صلى وصام كانت أجرته الجنة، وقال جل وعلا: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]. والرد عليهم أن يقال لهم: إن أدلتكم هذه أوهى من بيت العنكبوت، وسوف نثبت لكم بالأدلة على أن الله جل وعلا خلق أفعال العباد، والله إذا قال صدق {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، فقد أثبت في كتابه أنه خلق أفعال العباد، وأثبت في سنة نبيه أنه خلق أفعال العباد، وأنتم قد نسيتم ما أثبته الله جل وعلا فاجترأتم على ربكم فوقعتم في المحظور الذي قاله الله تعالى عنه: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] أما الأدلة على أن الله خلق أفعال العباد فهي: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ومن هذا الشيء فعل العبد، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، فقد أثبت الله الخلق لنفسه، وأثبته له رسوله، وأجمعت الصحابة على ذلك، وأنتم خالفتم ظاهر الكتاب والسنة، وأيضاً إجماع الصحابة.

الرد على استدلالهم بقوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين)

الرد على استدلالهم بقوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين) استدلالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، مردود لأن الخلق يأتي على ثلاثة معاني: المعنى الأول: التقدير، بمعنى أن كل ما خلقه الله قدره، والله جل وعلا إذا قدر خلق، ولذلك قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، ثم إن من الممكن أن يكون التقدير بمعنى الدراسة، والتي يسمونها دراسة جدوى. فأنت تقدر الشيء، وتحسب أن هذه تكون لها كذا، والمقدمة تكون كذا، والنتيجة تكون كذا، تقدر هذا كتابة، فهذه دراسة جدوى. الله جل وعلا يقدر وهو أحسن المقدرين؛ لأن الله إذا قدر شيئاً أخرجه لحيز الوجود لأنه قادر {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، أما العباد فقد يقدرون ويخططون لكنهم لا يستطيعون التنفيذ، ولذلك قال: (لأنت تفري ما خلقت) يعني: تخرجه لحيز الوجود، والبعض يخلق ولا يفري، يعني: يقدر ولا يخرج ما قدره إلى حيز الوجود. هذا المعنى الأول. إذاً: نرد عليهم بأن معنى: أحسن الخالقين أي: أحسن المقدرين. والمعنى الثاني: الإيجاد من العدم، وهذا ينفرد به الله جل وعلا، ولا يشترك فيه مع الله أحد، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، أي: أوجدهم من عدم {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، فالله جل وعلا هو الذي خلقه من عدم. المعنى الثالث: التحويل من صورة إلى صورة، بمعنى: أنه إذا كانت الصورة خشبة فتحول إلى باب، وهذه يشترك فيها البشر، فيسمى المحول خالقاً لهذا الباب، وكذلك الحديد لو حول إلى سيارة، فهل هذا الخشب أو الحديد أنزله البشر من السماء؟ A لا. فالنعمة تنسب إلى مسديها، وعلى هذا نقول: خلق الله العقل الذي فكر بالتحويل ثم هيأ له سبب ذلك، فوفقه إلى تحويل الحديد إلى سيارة. إذاً: الرد على استدلالهم بالآية الأولى: أن المقصود بمعنى الخلق في هذه الآية: التقدير، وأن الله أحسن المقدرين؛ لأنه الذي يخرج ما قدره إلى حيز الوجود، أو التحويل من صورة إلى صورة، ونحن لا ننكر أن البشر يحولون من صورة إلى صورة، وهذا من الإنصاف والعدل، فالله سماهم بالخالقين؛ لأنهم حولوا من صورة إلى صورة.

الرد على قولهم بأن الجنة ثمن للعمل

الرد على قولهم بأن الجنة ثمن للعمل أما الدليل الثاني الذي استدلوا به وأن الجنة تعتبر ثمناً لأعمالهم، وأن الذي يصلي ثمنه وأجرته الجنة، فنقول: لو أن الله عذب أهل السموات والأرض الطائع، والصالح، والفاسق، والفاجر، والكافر لما كان ظالماً، فهو يفعل فيهم ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، والجنة ليست ثمناً للعمل، ودليل ذلك قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) لكن العمل سبب في الوصول إلى رحمة الله ودخول الجنة، وليس ثمناً لها.

الأدلة على إثبات مشيئة العبد

الأدلة على إثبات مشيئة العبد إذا كان الله خلق أفعال العباد، وهو الذي خلق فيهم الطاعة، وخلق فيهم المعصية، فأين العبد، وأين فعل العبد؟ فهل للعبد أن يقول: يا رب أنا عصيت، وأنت الذي خلقت في المعصية، أو يقول: يا رب أنت قدرت عليّ المعصية والسرقة، وخلقت في وازع المعصية؟ فهل للإنسان أن يفعل ذلك ويحتج بالقدر، أو هل ينسب للإنسان فعله حقيقة فيثاب عليه أو يعاقب، أم ينسب إليه مجازاً؟ A ليس للإنسان أن يفعل المعصية، ويحتج بالقدر، ففعله ينسب إليه حقيقة، فيثاب على الطاعة، ويعاقب على المعصية. والأدلة على هذا نقلية وعقلية، أما النقلية فالله جل وعلا بين أن للعبد مشيئة، وإرادة، واختياراً، وعملاً، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فجعل الكسب لهم، وأيضاً قال الله تعالى: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، فنسب العمل لهم، وقال جل علا: {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:277]، فهم الذين فعلوا ذلك، وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة، وأيضاً قال جل وعلا: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:55]، فجعل لهم مشيئة وإرادة، وقال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فأثبت لهم إرادة، وقال جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، وقال جل وعلا أيضاً في المشيئة التي هي مقاربة للإرادة: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال تعالى: {أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] باختيارهم. فهذه أدلة متوافرة متواترة في كتاب الله على أن للعبد عملاً، وكسباً، وإرادة، واختياراً، ومشيئة. أما من السنة فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للعبد إرادة واختياراً وفعلاً، فقال الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فأضاف التزوج للعبد، فهذا فعل من أفعال العبد، وقال أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع فليكثر من ذلك عبد أو يستقل)، فجعل الإكثار من فعل الطاعات أو الإقلال منها من فعل العبد، وأيضاً قال لمولاه الذي قال له: أسألك مرافقتك في الجنة: (أعني على نفسك بكثرة السجود) فكل هذه أدلة من السنة على أن العبد فاعل مريد مختار له مشيئة وإرادة خاصة به. أما الدليل النظري العقلي فإن الله قد كلف عباده بتكاليف، وجعل الثواب لمن فعل هذه التكاليف، والعقاب لمن لم يفعلها، فبالعقل نقول: الثواب والعقاب مقابل عمل، وإرادة، واختيار، وإلا فلو قلنا: إن الله جل وعلا يثيب أو يعاقب على ما لا يفعل العبد فهذا ظلم، والله جل وعلا منزه عن الظلم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً) إذا: الله جل وعلا جعل للعبد اختيار الفعل، وجعل له في النهاية ثواباً وعقاباً على فعله، ولو كان الثواب أو العقاب على غير الفعل كان ذلك ظلماً، والله منزه عن كل نقص أو ظلم.

الجمع بين مشيئة الله ومشيئة العبد

الجمع بين مشيئة الله ومشيئة العبد إذا قلنا: إن الله هو الذي خلق فعل العبد، وإن العبد له فعل خاص به، وله اختيار، فكيف نجمع بينهما؟ يعني: إذا صليت أنت الظهر فإن الله خلق فيك وازعاً وإرادة لصلاة الظهر، ثم إنك أنت الذي صليت الظهر، فالفعل ينسب إليك. والجمع بين هذا وذاك أن الفعل ينسب إلى الله جل وعلا خلقاً وإيجاداً، وينسب إلى العبد فعلاً واكتساباً، بمعنى: أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك إرادة الصلاة، ووفقك لوقت الصلاة، وهيأ لك كل أسباب الصلاة لتصلي، وأنت الذي صليت، فنسبت الصلاة إليك كفعل واكتساب، والله جل وعلا هو الذي خلق ذلك فيك من عدم، وقديماً قالوا: العبد فاعل منفعل. ومعنى: العبد فاعل أنه هو الذي يتدبر، ويجاهد، ويطلب العلم، ويصلي، ويتزوج، ويزني، ويسرق، ويغتاب، وينم. ومعنى: العبد منفعل أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيه إرادة الصلاة، وطلب العلم، والزكاة، والجهاد، وعلم منه سابقاً عدم حب الهدى، فخلق فيه إرادة الزنا، والسرقة، وفعل الفاحشة، والغيبة، والنميمة، وفتح له هذه الأبواب، وأغلق عليه أبواب الخير كلها. إذاً: العبد فاعل حقيقة، ومنفعل، أي: خلق الله فيه إرادة هذا الفعل، فالفعل لا ينسب إلى الله على أنه فعله، وإنما أثر من فعله، فالزنا والسرقة مثلاً بالنسبة لله تسمى مفعولات وآثاراً، لكن بالنسبة للعبد تسمى فعلاً، فالصلاة، والصيام، والصدقة، والزنا، والسرقة، والغيبة، والنميمة، تسمى بالنسبة للعبد فعلاً، وبالنسبة لله جل وعلا مفعولات، وتنسب للعبد لأنه فاعل مكتسب، ولله جل وعلا لأنه الخالق الموجد. فالفعل خلق لله، والعبد فاعل، فهو أثر الله، والمفعول غير الفاعل، فإذا قلت: خلق الله الزنا، فبالنسبة له هو خلق يحمد عليه؛ لأنه كمال وجلال، ولأنه فعله لحكمة عظيمة، أما الزاني والفعل فهو مفعول وأثر لخلق الله جل وعلا وليس فعلاً له، بل فعل للعبد حقيقة، وهذا كقول الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79]، ففي الآية الأولى قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، فلم يفرق بين الحسنة والسيئة، وفي الآية الثانية أعاد التفريق فقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} [النحل:53]، أي: أن أي نعمة أنت تنعم بها من طاعة أو حسنة فمن الله، وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، فهذا من مفعولات الله. ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، قال: كتبها وقدرها عليك وعلمها قبل أن توجد بخمسين ألف عام، فيعلم أنك ستقترف السوء، ثم تأتيك البلية بسبب هذا السوء، ولذلك يقال: ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة. فكيف الجمع بين هذا وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وحديث: (والشر ليس إليك)، فهل قضاء الله شر، وهل ينسب الشر إلى الله جل وعلا مع أنه خلقه أم لا؟ الجواب هو أن الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية أن الكونية فيما يحبه الله وما لا يحبه، وأنه سيقع حتماً لا محالة، والشرعية خاصة فيما يحبه الله، وقد يقع وقد لا يقع، كما في قوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، فالسيئة لا تنسب إلى الله؛ لأنه لا يحبها، وقد تلتقي المحبة مع القضاء الكوني، فإيمان أبي جهل يحبه الله شرعاً، ولا يحبه كوناً.

أثر علم العبد بأنه فاعل الطاعات والمعاصي على إيمانه وعبوديته

أثر علم العبد بأنه فاعل الطاعات والمعاصي على إيمانه وعبوديته إذا علم العبد أنه هو الفاعل حقيقة للطاعات أو المعاصي كان لذلك العلم آثاراً في إيمانه وعبادته وهي كالتالي: أولاً: إذا علم ذلك فإنه لا يمكن له أن يحتج بالقدر على المعائب، فإذا عصى الله لن يقول: قدر الله علي، أو كتبه عليّ قبل أن يخلقني بخمسين ألف عام، فالقدر لا يحتج به على المعائب ولا على المعاصي. ثانياً: إذا علم أنه فاعل ومريد فلا بد أن يحترز من كل معصية وخطأ وزلل، وكلما نزلت عليه فتنة قال: هذه مهلكتي حتى ينقذه الله منها، ويسارع في الخيرات، ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فلعل الله يرضى عنه.

إبطال عقيدة أهل الجبر

إبطال عقيدة أهل الجبر أما أهل البدعة من الجبرية فقد قالوا بالجبر، وقالوا: العبد فاعل مجازاً لا حقيقة، وكل هذه الآيات والأحاديث لا تدل على أن العبد فعل الفعل، بل مجبور، وإبليس لم يسجد طاعة لله، ولم يجبره الله على ذلك، وجبريل سجد طاعة لله؛ لأن الله أجبره على ذلك، فإبليس وجبريل سواء عند هؤلاء البله السفهاء. ثم قالوا: العبد ليس بفاعل حقيقة، وعندنا على ذلك أدلة كثيرة: أولاً: قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فقد نفى الله الرمي عن العبد ونسبه له. ثم استدلوا بحديث (لن يدخل الجنة أحدكم بعمله) على أنه لا اعتبار لفعل العبد؛ لأنه مجبور على فعله. فعندما يشرب أحدهم الخمر، إذا قيل له: اتقي الله، فقد لعن الرسول في الخمر عشرة فيقول: هذا ما قدره الله عليّ، وقد ذكر أن رجلاً قدرياً دخل على امرأته فوجد عليها رجلاً آخر فقال: هكذا تفعلين؟ فقالت: اسكت! قدر الله عليَّ هذا، فقال: نعم قدر الله عليك هذا! فتركها تفعل ما تشاء، وهذا فعل لا يقبله مجنون. ولما جاء سارق إلى عمر بن الخطاب قال: مهلاً يا أمير المؤمنين! والله! ما سرقت إلا بقدر الله. فقال: وأنا أقطع يدك بقدر الله. وهكذا فهم يحتجون بالقدر، والرد عليهم يكون كالتالي: أولاً: أن الله أثبت أن العبد قادر، وله مشيئة وإرادة واختيار، وذلك في الكتاب والسنة والنظر، وقد سبق ذكر ذلك تحت عنوان الأدلة على إثبات مشيئة العبد. أما آية: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فقد نفى الله فيها الرمي ((وَمَا رَمَيْتَ))، ثم أثبته مرة ثانية فقال: ((إِذْ رَمَيْتَ))، يعني: أنت رميت ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))، فالله تعالى أثبت له الرمي ولكن هناك شيء بعد الرمي ومتعلق به، وهو الإصابة والتسديد والتوفيق، فمهما ترمي يجوز أن تقع في عينه لكن لا تفقأ عينه إلا أن يقدر الله. فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ التراب ورماه، وقال: (شاهت الوجوه) وليس يمكن أن تصل إلى الوجوه، فهذه حفنة من التراب رماها في وجوه هؤلاء الكفرة ولا يمكن أن تصل إليهم بهذه الدفعة البسيطة، ولكنها بتوفيق من الله أصابتهم، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. يصدق ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم (بك أصول، وبك أجول، وبك أقاتل)، أي: أنت الذي تسبب وتوفق. فدليلهم باطل، ولازم دليلهم أيضاً باطل، ولو قلنا بقولكم وهو نفي الفعل حقيقة فسوف نقول: وما زنيت إذ زنيت. ولكن حاشا لله، وما تركت إذ تركت. ولكن حاشا لله، وما ضربت إذ ضربت. ولكن حاشا لله، وسوف تتهموا الله جل وعلا وترموه بالعظائم حاشا لله، فلا بد أن نقول: إن المنفي هنا هو التسديد والتوفيق. وأما استدلالهم بحديث (لن يدخل الجنة أحد بعمله)، على أن العمل ليس له أي اعتبار عند الله، فدل هذا على أن هذا الفاعل فاعل مجازاً لا حقيقة؛ لأن العمل ليس عليه ثواب ولا عقاب، فيدخل الله من يشاء الجنة، ومن يشاء النار. فالجواب عليه بأن المنفي هنا هو أن يكون العمل ثمناً لدخول الجنة، فالعمل إنما هو سبب في وصول الرحمة إلى العبد، والعمل إنما هو من أجل التفاوت في الدرجات في الجنة، فهذا شهيد وهذا عالم، ولكل واحد منهم درجة معينة. ولذلك قال: ((أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ))، أي: بسبب أنكم فعلتم الخير وصلت إليكم الرحمة، ودخلتم الجنة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الاحتجاج بالقدر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الاحتجاج بالقدر إن المؤمن حق الإيمان عندما يعرف أن الله خالق لأفعاله يترسخ في عقله وقلبه عظمة الله والخوف منه وعدم الأمن من مكره، ولا يصح للمؤمن بحال من الأحوال أن يحتج بالقدر على أفعاله إلا في حالات ذكرها أهل العلم استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أثر معرفة المؤمن أن الله خالق أفعال العباد

أثر معرفة المؤمن أن الله خالق أفعال العباد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * -ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع أقوال أهل العلم في القدر والرد على أهل البدع من القدرية والجبرية. إن معرفة المؤمن بأن الله جل وعلا قد خلق أفعال العباد له أثر في عقيدة المؤمن، فإذا علم أن الله هو الذي خلق فيه الطاعة وهمة الطاعة وإرادة الطاعة، علم أنه فقير لذات الله جل وعلا، فيتذلل ويتمسكن لله حتى يوفقه إلى الطاعة هذا أولاً. ثانياً: إذا علم العبد أن الله هو الذي وفقه للطاعة فلا يمنن بطاعته على ربه؛ لأن المنة كلها لله، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] فلا يمن العبد على الله جل وعلا بطاعته. ثالثاً: لا يأمن العبد على نفسه من مكر الله. كما قال أبو بكر -وهذه فطنة وفقه عالٍ- منه رضي الله عنه: (والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله. لو أن العبد طائع لله جل وعلا منفق مستغفر مجاهد، والله جل وعلا يرى من قلبه عدم الإخلاص، ختم له بعمل غير عمل أهل الخير، كما حدث مع الرجل الذي جاهد وقاتل حتى حسبه الصحابة أنه من أهل الجنة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل النار)، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فوجه الشاهد على القدر في الحديث (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وفيه رد على الجبرية الذين قالوا: ليس للعبد اختيار. والقدرية تخالف الجبرية، فيقولون: إن العبد هو خالق فعل نفسه.

إبطال الجبرية للشرع بالاحتجاج بالقدر

إبطال الجبرية للشرع بالاحتجاج بالقدر والجبرية هم الذين أبطلوا الشرع بالاحتجاج بالقدر، فأبطلوا الأمر والنهي والحكمة والتعليم بالقدر، فلا يوجد عندهم شيء اسمه أمر، ولا يوجد شيء اسمه نهي، فاحتجوا بقدرالله وقالو: إن الله جل وعلا سير العبد بأفعاله، وقد وصف الله لنا حالهم، فقال عز من قائل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35]. فرد الله عليهم برد قاطع في قوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:35]، أي الكفار أمثالهم {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]. وهنا محل الرد {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: أرسلنا الرسل بإقامة الحجة عليهم، ولقطع حجتهم ودحر شبهتهم؛ لأن الرسل جاءوا ليبينوا للمرء طريق الخير وطريق الشر، بل ويبين كل رسول لأمته بأن كل فرد منها مكلف وله اختيار وله إرادة، ألم تر أن الله جل وعلا قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]؟ آلات للتحرك والاختيار وللإرادة، ليفعلوا الفعل بإرادتهم واختيارهم، فالعبد لا يلومن إلا نفسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وقال الله عز وجل عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]. وفي قولهم هذا فحش وتجبر وتجاسر وتجرؤ على الله لأنهم زعموا أن الله أمرهم بهذا الفعل، وأجبرهم عليه، فقالوا: نحن نسير على وفق ما أمرنا به. فرد الله عليهم: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:29]، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. أي: الله جل وعلا لم يأمركم بأن تفعلوا الفاحشة، بل أمركم أن تفعلوا الخير وتتركوا الفاحشة. ثم قالوا: لم يشأ الله أن يهدينا، فقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. أي: الله جل وعلا له الحجة البالغة، لأنه أخذ عليهم الميثاق وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، وشهدوا بذلك ثم أرسل الرسل ليذكرهم بهذا المقال، وقطع بذلك حجتهم، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، أي: بعد تبليغ هذه الرسالة. وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149]. أي: له الحجة البالغة عليهم بأن قطع حجتهم، وجعلهم مكلفين، وجعلهم مختارين، وجعل لهم إرادة، وجعل لهم السمع والبصر والأفئدة التي تثبت الإرادة. واحتجوا أيضاً بحديث احتجاج آدم وموسى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (التقى موسى عليه السلام بآدم في دار الآخرة، فقال: موسى لآدم أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، أخرجتنا ونفسك من الجنة -وفي رواية أخرى: خيبتنا، يعني: بإخراجك إيانا من الجنة- فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً الترجيح بين الاحتجاجين-: فحاج آدم موسى -وفي رواية أخرى- قال: ألم تقرأ في التوراة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم، قال: وخط الله التوراة قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فأقر موسى بذلك) هذا الحديث التي تعلق به الجبرية، وقالوا: هذا أبو البشر أرفع الناس منزلة في وقته وهو أول نبي من الأنبياء يحتج على المعصية بالقدر، يقول لموسى الله جل وعلا قدر علي أنني سأعصي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة، فاحتج على ذلك بقدر الله جل وعلا. وكانت إجابة آدم احتجاجاً بالقدر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حاج آدم موسى) يعني: الحجة كانت مع آدم على موسى لما احتج بالقدر، وهذا ضلال مبين، وفهم سقيم من الجبرية، حيث فهموا أن آدم احتج بالقدر بأن الله قدر عليه ذلك ولا بد أن يقع فيه، فنقول: حاشا لله أن يكون هذا النبي الكريم -الذي خلقه الله بيده وأكرمه بسجود الملائكة له- يحتج بالقدر، وقد امتلأ القرآن بالآيات الدالة على أن الله جل وعلا تاب على آدم بعد أن تاب من الذنب، وهو لم يحتج بالقدر على الله، بل أقر بالذنب واستغفر، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فأقر هو وحواء بالذنب أمام الله جل وعلا، وقالا: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا))، فلم يحتجا بالقدر على هذه المعصية.

ردود أهل السنة على الجبرية في فهمهم لحديث احتجاج آدم وموسى

ردود أهل السنة على الجبرية في فهمهم لحديث احتجاج آدم وموسى اختلفت أقوال أهل العلم في معنى هذا الحديث على أربعة أقوال أو أكثر: القول الأول: قالوا: (فحاج آدم موسى) الحجة هنا حجة الأبوة؛ لأن آدم هو أب لموسى، والأب مع بنيه تكون الحجة دائماً مع الأب لأنه الأكبر. ورد أهل السنة على هذا القول بأنه باطل مردود، فمنزلة الأبوة والبنوة لا تقلب الحق باطلاً ولا الصواب خطأ أو الخطأ صواباً، بل إن إبراهيم كان في منزلة البنوة وأبوه في منزلة الأبوة وكانت الحجة لإبراهيم في قوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43]. فكانت الحجة مع إبراهيم عليه السلام على أبيه، فمنزلة الأبوة والبنوة لا تقلب الحق باطلاً ولا الخطأ صواباً. والرد الثاني على أقوالهم الباطلة والتي قالوا فيها: إن آدم احتج في هذا الحديث بالقدر على موسى؛ لأن موسى لامه على الذنب الذي وقع فيه، وآدم قد تاب من هذا الذنب، وإذا عير أحد بذنب قد تاب منه تكون الحجة معه؛ لأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت الآيات أن الذي يتوب يتوب الله عليه، فنقول هذا الرأي وإن كان أوجه من الأول لكنه باطل مردود من وجهين: الوجه الأول: لو كانت هذه هي حجة آدم لصرح بها لموسى، يعني لقال لموسى: كيف تلومني على ذنب قد تاب الله علي منه؟ ولم يقل آدم ذلك، فإن لم يقل آدم هذا بان لنا أن هذه ليست بجحة آدم. الوجه الثاني في الرد على هذا التأويل: أن موسى عليه السلام لا يظن به أنه يعير أحداً بالذنب ويخفى عليه أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فهذا قدح في مقدار موسى عليه السلام أن يعير أحداً بذنب قد تاب منه. أما الإجابة الثالثة لأهل السنة والجماعة قالوا: حجة آدم أن موسى عيره في الدار الآخرة، وهي دار غير دار التكليف، لا يلام فيه المرء.

الحالات التي يصح للمرء أن يحتج فيها بالقدر

الحالات التي يصح للمرء أن يحتج فيها بالقدر يصح للمرء أن يحتج بالقدر في أربع حالات: الأولى: عند المصائب، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11]. يعني: يؤمن أنها بقدر الله، فيقول قدر الله علي ذلك، ويهتدي إلى هذا. ومن يؤمن بالله ويؤمن أن هذه المصيبة وقعت عليه وأنها بلاء من الله جل وعلا قال تعالى عنه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. أي: يجعل قلبه مستسلماً لله جل وعلا ويعمره بالإيمان، إذاً احتجاج بالقدر على المصائب. الثانية: يحتج بالقدر على الذنب إن تائب منه، فإن تاب يحتج بالقدر؛ لأن المرء دائر بين عينين: عين القدر وعين الشرع، فإن تاب من الذنب فهذا مأمور به شرعاً، ثم ينظر بعين القدر فيقول: الله جل وعلا قدر علي هذه المعصية ثم تاب علي بفضل منه ونعمة، فالله إن لم يوفقني لترك تلك المعصية فقد ختم لي بهذا العمل، فيشتد عبادة لله جل وعلا، وينظر أيضاً لحكمة الله أنه أنزل به هذا البلاء من فعله للذنب لينكسر أمام الله جل وعلا؛ لأنه إذا لم يفعل هذا الذنب قد يعجب بنفسه، وإذا عجب المرء بنفسه ووصل العجب إلى قلبه لم يدخل الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). الحالة الثالثة: أن تقع الخطيئة منه بغير إرادته، والدليل على أن المرء قد يقع في الخطأ دون إرادته: قتل موسى عليه السلام للقبطي، وقد قال بعد أن قتل {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]. فهو لم يحتج بالقدر لكن له أنه يحتج به. ودليل ذلك من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر في الوادي نام، ونام الصحابة وكلفوا بلالاً أن يوقظهم، فغلبه النوم قدراً من الله جل وعلا لحكمة بليغة؛ وهي أن يبين للناس كيف يقضون الصلاة، فنام بلال ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواحنا بيد الله يقبضها وقت يشاء، ويرسلها ويبعثها وقت يشاء) فاحتج النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالقدر على ترك صلاة الجماعة وهو خطيئة، وإن كان بسبب، فله أن يحتج بالقدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط) لكن ليس أي نوم، فلا يأتي شخص طيلة الليل إما سهران يتكلم مع امرأته في سمر لا فائدة منه، أو يقرأ كتاب قصص أو ملاهي، أو يلهو بالتلفون مع أخيه فيما لا مصلحة فيه، فيسمر بعد العشاء حتى يصل إلى منتصف الليل، ثم ينام حتى يصبح والشمس قد أشرقت، فهذا عاصٍ لله جل وعلا، ويخشى عليه. وهناك قصة وقعت أيضاً بين الصحابة في نفس الأمر، فقد (طرق النبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة بالليل -والطروق هو الإتيان بالليل- ثم قال: ألا تصليان من الليل؟! فقام علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله! أرواحنا بيد الله يبعثها وقت ما شاء ويقبضها وقت ما شاء، وما نصلي إلا الفرائض، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما تكلم معه، مع أنه احتج بالقدر أمامه، فضرب على فخذيه وقال: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]). وهذا موطن من المواطن الذي يحتج فيه بالقدر. ومن المواطن أيضاً التي يحتج بها في القدر: إذا أخذ المرء بالأسباب، واستعان بالله، وحرص كل الحرص على ما ينفعه، ثم لم يصب الهدف، مثال ذلك: إذا كان لديه عمل معين، وهذا العمل يحتاج إلى أن يكون له سمات شخصية معينة ومهارة معينة، فاكتسب هذه المهارات والسمات الشخصية مثل العلم والحلم والصبر فتعلم هذه الصفات واكتسبها، ثم لما تقدم لهذا العمل لم يقبل، فهذا رجل له أن يحتج بالقدر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك -يعني: خذ بالأسباب الصحيحة-واستعن بالله، ولا تعجز فإن أصابك شيء -بعد أن أخذت بالأسباب ولم يوجد منك تفريط- فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان)، فللمرء أن يحتج بالقدر في هذه المواطن، فإذا حرص على ما ينفعه واستعان بالله جل وعلا وأخذ بكل الأسباب، ولم تصب معه فليقل: (قدر الله وما شاء فعل) فإذا قال ذلك: دخل الإيمان إلى قلبه، وكسب في الدنيا قبل أن يكسب في الآخرة.

القضاء الكوني والقضاء الشرعي

القضاء الكوني والقضاء الشرعي القضاء قضاءان: قضاء كوني وقضاء شرعي، وضابط الفرق بين القضاء الكوني والشرعي، أن القضاء الكوني يكون فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه. والضابط الثاني: أن القضاء الكوني لا بد أن يقع، قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]. وضابط القضاء الشرعي: أولاً: أنه في ما يحبه الله خاصة. ثانياً: أنه قد يقع وقد لا يقع، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].

القضاء الشرعي والقضاء الكوني

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القضاء الشرعي والقضاء الكوني إن الله عز وجل لما خلق الكون خلقه بقدر، فقدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل شيء سيكون كما قدره الله سبحانه، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، فلا يكون المرء مؤمناً إذا لم يؤمن بهما، وليس معنى إيمان العبد بالقدر أن يترك العمل، ويقول: قدر الله علي ذلك، فالله لم يجبره بهذا القدر، إنما علم أن هذا العبد من أهل الجنة فيسر له عمل أهل الجنة، وعلم أن ذاك من أهل النار فيسر له عمل أهل النار، وهكذا فكل ميسر لما خلق له.

القضاء الكوني والقضاء الشرعي وضابط كل نوع

القضاء الكوني والقضاء الشرعي وضابط كل نوع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن الناس يدورون في هذه الدنيا على أمرين: قدري كوني، وأمر شرعي. والمرء في كل واقعة وفي كل نازلة له عينان ينظر بهما، عين الشرع وعين القدر. وإن المصائب التي تنزل وتطرأ على الناس وعلى الأخوة المسلمين في كل مكان تحتاج إلى أن ندقق النظر فيها بعين القدر فنعلم أن الله جل وعلا قد قضى وقدر وكتب ذلك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف عام، وننظر إلى ما حدث من بني إسرائيل للأنبياء وللمرسلين، وما حدث ويحدث لهؤلاء الفلسطينيين على عين الله جل وعلا، ونعتقد أن الله هو الذي كتب ذلك وقدره، فنؤمن بالله ونسلم ونقول: قدر الله وما شاء فعل، وهذا هو الإيمان بالقدر الكوني. وأما العين الثانية: وهي عين الشرع، أي: النظر الشرعي، وهو أن تعلم أنك مأمور شرعاً أن تهتم بأمر المسلمين، وتحزن لحزنهم، وتفرح لفرحهم، وتتألم لآلمهم، فالمؤمن الحق عند الله جل وعلا من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله، ووالى في الله وتبرأ في الله جل وعلا. والقضاء قضاءان: قضاء كوني، وقضاء شرعي، وللقضاء الكوني ضابطان: الضابط الأول: أن القضاء الكوني لا بد أن يقع حتماً، والثاني: أن القضاء الكوني يكون فيما يحبه الله وما لا يحبه، فالقتل والتشريد والإبعاد والذبح الذي يحدث في فلسطين هذا يبغضه الله، ولا يمكن أن يكون شرعاً، وإنما هو كوناً. وللقضاء الشرعي: ضابطان: الأول: أنه قد يقع وقد لا يقع، كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] فمنهم من عبد ومنهم من كفر. والثاني: أنه لا يقع إلا في ما يحبه الله جل وعلا وكذلك الإذن والإرادة.

أمثلة تطبيقية على القضاء الكوني والشرعي

أمثلة تطبيقية على القضاء الكوني والشرعي قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ:14]. هذا قضاء كوني، والضابط الأول فيه هو أنه لا بد أن يقع حتماً، وكذلك الضابط الثاني وهو أنه يقع في ما يحب وما لا يحب. وهل الله يحب موت سليمان أو لا يحبه؟ في المسألة نظران نظر الرب، ونظر العبد، ويوضح ذلك حديثان، الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، فقالت عائشة: أينا يحب الموت؟ فقال: ليس بذلك يا ابنة الصديق) ثم بين لها أن العبد عندما يصل إلى الأجل يبشر أو ينذر، فالمؤمن عندما يبشر يحب لقاء الله في هذا الوقت فيحب الله لقاءه. إذاً: فحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، ليس على الإطلاق، والحديث الثاني هو الذي يوضح لنا المسألة جلية، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن يكره الموت، وأكره إساءته) والجمع بين الحديثين: أن المؤمن يكره الموت، وما من أحد إلا ويكره الموت، ولكن عندما يبشر تتحول هذه الكراهية إلى حب؛ لأنه سيحب لقاء الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)، وهنا يحب الله لقائه. وأما كراهية الموت فقبل أن يبشر؛ لصعوبة الموت، فلما يبشر يقول: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى. ولذلك عندما قالت عائشة منكرة: أينا يحب الموت؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق، فبين لها أنه عندما يبشر المرء يحب لقاء الله، وكان من كرامات الشهداء في أفغانستان وفي أماكن أخرى أن الرجل عندما يقذف بالقذيفة ويرونه يقفز فيأولونه على أنه رأى الحور العين، أو رأى الجنة، فقبل أن تنتهي حياته يبشره الله جل وعلا كرامة له. وأما قبل فلا يحب الموت لصعوبته؛ لأنه ما من أحد إلا ويجد صعوبة للموت، وصعوبته تحت القبر، لأن كل أحد سيضم عليه القبر. وأما قول الله جل وعلا: (ما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن)، فهو يكره الموت بسبب الإساءة والصعوبة التي فيه، وقوله: (وأكره أساءته)، وهذه الصعوبة في القدر، ولها أثرها المترتب عليها وهو الجنة، فلا يمكن أن يدخل الجنة حتى يموت، فلابد أن يموت للحاجة التي هي أعظم. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]. هذا قضاء شرعي؛ لوجود الضابط الأول فيه، وهو أنه فيما يحبه الله؛ لأن الله جل وعلا يحب أن يعبده العبد، وأن يوحده في الأرض. والضابط الثاني: وهو أنه قد يقع وقد لا يقع، وأكثر الناس ضلوا وكفروا. وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]. يقول ابن رشد رحمة الله عليه: ليس طالب العلم من يحفظ المسائل، وإنما طالب العلم من يضبط المسائل. فقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] كوني؛ لأن الله إذا حكم فلا يحكم إلا بالحق، وإذا حكم وقع الحكم لا محالة، ولا أحد يمكن أن يرد على الله حكمه. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10]، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] يعني: فاقبلوه واعملوا به، أو لا تعملوا فحكم الله في الذبيحة أن تسموا الله عليها، وألا تأكلوا منها إلا إذا ذكر اسم الله عليها، وحكم الله أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً فلا ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره. ولما طلق الملك امرأته ثلاثاً في عهد يحيى عليه السلام، وأراد أن يتزوجها استفتى يحيى، فقال له يحيى: لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك. فما زالت هذه المرأة اللعينة بالرجل حتى قالت: اقتله، وأرحنا منه، فقال: إنه نبي! فقالت: اقتله. فما زالت خلفه حتى قتل يحيى، فأخذ رأسه على طبق وأهداه لهذه البغي. ولم يقف بنو إسرائيل عند ذلك، بل ذهبوا إلى زكريا وقتلوه، فقد اختبئ منهم في شجرة انشقت له، وقالت: اختبئ فيّ، فدخل فيها واختبئ ولم يسكت بنو إسرائيل عن ذلك، بل ذهبوا خلفه وكان معهم الشيطان، وهو رئيسهم، فقال: هو هنا مختبئ في هذه الشجرة، وقد كان طرف ثوبه ظاهراً في شق الشجرة، فأخذوا المنشار وشقوا الشجرة، فشقوا زكريا عليه السلام نصفين. فإذا كانوا قد فعلوا ذلك مع أنبياء الله، بل ارتقوا واتهموا لوطاً بالزنا، وارتقوا أكثر واتهموا الله جل وعلا بالفقر وبالبخل، وأنه يبكي، وأنه ما كان يعلم ما يحدث في الأرض، فلا يستغرب الإنسان من هؤلاء أن يفعلوا ذلك مع آحاد الناس، والغرض المقصود أن هذا هو حكم الله، فمن شاء عمل به، ومن شاء تركه. وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، بقضاء شرعي؛ فهناك أناس في السجن، وهناك أناس لا يجدون ما يأكلون، فهؤلاء في عسر مع أن الله يحب لهم اليسر. وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27]، وهذا قضاء شرعي؛ لإنه يمكن أن يتوب أناس، ولا يتوب آخرون. وقال الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، وهذا قضاء كوني، وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وهذا كوني كذلك. يعني أنه لابد أن يقع، ولا بد أن يكون النصر للمؤمنين، وإنشاء الله النصر للمؤمنين، ولو علت أصوات الكفار والمنافقين، فالله جل وعلا وعد المؤمنين بأن العاقبة لهم. فهي لهم هنا قضاء كونياً، وهو قول الله جل وعلا: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، فالغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين ساروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، بقضاء كوني. فالأرض سيرثها المؤمنون إنشاء الله، ويكثرون من السبايا من الأمريكان وغيرهم بإذن الله. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، بقضاء شرعي. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، بقضاء كوني. وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وهذا قضاء كوني. وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، بقضاء كوني. وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، وهذا قضاء كوني شرعي. فعندما يكون شرعياً يكون المعنى: أمرنا مترفيها بفعل الخيرات والطاعات، فمنهم من يفسق فيستحق العقاب، فهذا شرعي. ولو قلنا: إنه كوني، فعلى قراءة أخرى ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) بتشديد الميم في (أمرنا). وقال الله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] والإذن هنا قضاء كوني. وقال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، وهذا قضاء شرعي. فالله يريد أن تحرق وتكسر وتقطع إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، أو كان المشركون يستعينون بها على قتل المسلمين، فللمسلمين أن يفعلوا ذلك، ولهم أن يتركوه إذا لم يكن فيه مصلحة لهم، فلا يجوز أن يقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً، ولا يقطعوا شجرة، فالأمر برضاء الله جل وعلا في القطع وفي غير القطع. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، وهذا قضاء شرعي. أي: هل الله أذن لكم بذلك في كتابه؟ وقال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وهذا شرعي. وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:8 - 9] فالجعل الأول والجعل الثاني كوني؛ لأن المقصود بأن المتكلم يمر بهم وهم لا يرونه. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100]، وهذا قضاء كوني؛ لأنه لا يحب أن يجعل الرجس على أحد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولكن قدر ذلك كوناً. وقال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]، وهذا شرعي فمن الناس من يقوم ومنهم من لا يقوم، وقال الله سبحانه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]، وهذا قضاء كوني؛ لأنه وقع فيما لا يحب الله جل وعلا، وقد يقع فيما يحبه الله كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137]. وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ويقول ال

كل ميسر لما خلق له

كل ميسر لما خلق له إن المرء إذا اعتقد بربه أنه قدر وكتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فإنه يكون له في ذلك عينان، عين ينظر بها للقدر، وعين ينظر بها للشرع، وهما متلازمتان، فإن عين القدر إيمان بربوبية الله جل وعلا، وعين الشرع إيمان بإلهية الله جل وعلا، فالمرء دائر بين القدر الكوني وبين الأمر الشرعي. السؤال هنا: هل إذا علمت أن الله قد كتبك أو قدر عليك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، هل هذا يجعل المرء يتقاعس عن عبادة الله جل وعلا، أم يجعل المرء يشتد ويجتهد في عبادته سبحانه؟ والجواب أنه قد دار ذلك في رأس أحد الصحابة، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: هل أمر انتهى وكتب أم أمر مستقبل؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمر قد انتهى فقال: ففيم العمل)، فأوجز النبي صلى الله عليه وسلم له بكلمات من أجمع الكلمات وأوسعها في باب القدر، و (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) قد انتهى الأمر، وكتب الله أهل الجنة وكتب أهل النار، وفي الحديث أنه: (مسح على ظهر آدم، فأخذ بكفيه أو أخذ ذريته فقلبهما في كفيه، وقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي). ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام، وخرج على الناس بكتابين، وقال: (فرغ ربكم من العباد، هذا كتاب بأهل الجنة بأسمائهم وأسماء أبائهم وذرياتهم، ثم أجمل لا يزاد فيه ولا ينقص، وهذا كتاب بأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وذرياتهم، وأجمل عليه، لا يزاد فيه ولا ينقص، فرغ ربكم من العباد. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له). وهذه فيها بشارة ونذارة وإجمال، وفيها النظر بعين القدر وعين الشرع بكلمات وجيزة، منه صلى الله عليه وسلم حيث بين أنه لا يتعارض قدر كوني مع أمر شرعي فالإيمان بالقدر إيمان بربوبية الله؛ لأن القدر هو قدرة الله جل وعلا، وهو صفة من صفات الربوبية، والإيمان بالأمر والنهي والمسارعة في الأمر إيمان بتوحيد الإلهية، ولا يستقيم توحيد المؤمن لله جل وعلا إلا بتوحيد الربوبية والإيمان بالقدر، وتوحيد الإلهية. وفي هذا الحديث بشر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الخير الذين يسارعون في الخيرات بالخير، كالذين وسع الله جل وعلا عليهم في المال فهم ليل نهار يسلطونه على هلكته في الحق فهؤلاء يستبشرون خيراً؛ لأن الله تعالى بالظن الغالب قد يسرهم لما خلقهم له، فخلقهم ليكونوا عباداً متصدقين منفقين لله جل وعلا، ويسر للبعض الجلوس في مجالس العلم، فيتعلمون ويعملون حتى يرتقوا عنده سبحانه (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). فاعلم أن الله جل وعلا اصطفاك له، وكتبك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة ممن يسارع في الخيرات، فاستبشر خيراً، وإذا وجدت نفسك قد فتح لك باب من أبواب الجهاد أو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكنت في كل ساعات حياتك تعيش في ذكر الله أو استغفار أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإنك ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له)، أي أنك خلقت لهذا العمل، وخلقت للدين، كما قيل في شيخ الإسلام ابن تيمية: خلق الله هذا الرجل لدينه، فلا يعرف شيئاً إلا الدين، ولا يعرف شيئاً إلا لله جل وعلا، وكما قال الله لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، أي: اصطفاه الله جل وعلا، واصطنعه لنفسه ولدينه فقط. وفي هذا الحديث أيضًا إنذار لأهل الفساد والغي والضلال، فالعبد الذي تغلق عليه أبواب الخير ولا تفتح له إلا أبواب الغي والضلال والزنا والفاحشة والكذب والغيبة والنميمة والبخل فهذا إنذار من النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (كل ميسر لما خلق له)، فلعله ما خلق إلا للنار والعياذ بالله.

والناس في ذلك أصناف

والناس في ذلك أصناف والناس في ذلك على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: مؤمنون خلص: وهؤلاء هم الذين لهم البشارة، وهم الذين يستبشرون بأعمالهم الخيرة، وبأن الله جل وعلا اصطفاهم له، وهم الذين من نعومة أظفارهم قد نشئوا في عبادة الله جل وعلا، وهؤلاء هم الذين يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يضلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -ومنهم-: شاب نشأ في عبادة الله) فهو عبد أول ما فتحت عيناه فتحت على نور الإسلام، فعمل به، فهو ليل نهار يتعبد الله جل وعلا، فهذا هو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]. وهو الذي انغمس في طلب العلم، أو في الجهاد في سبيل الله، أو في النفقة والصدقة، وهذا الذي يقال فيه: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) هذا الصنف الأول من الذين يسروا لما خلقوا له أي: للجنة. الصنف الثاني مقابل الصنف الأول: وهم الذين خلقهم الله للنار، والذين فتح الله لهم أبواب الغي والضلال على مصراعيه، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فالعبد الذي كلما أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو دعي إلى الإسلام استهزأ ولم يقبل فهو ميسر لما خلق له من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7]، أي: طبع الله على قلوبهم، وأغلق عليهم أبواب الخير، وفتح لهم أبواب الشرور. والصنف الثالث: صنف مخلط بين الصنفين المتقابلين، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهذا لا يقال فيه خلق لما يسر له بالتصريح، وإنما يقال: إن علم الله في قلبه الخير ختم له بالخير، وأن علم الله في قلبه الشر ختم له بالشر. وهذا ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها -فالأعمال بخواتيهما- وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)، ويكون قد سبق في علم الله جل وعلا وعلم من قلبه الطهارة والصدق وإرادة الله جل وعلا، ولكن غلبته شهوته، فما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، أي: يختم له بعمل أهل الجنة.

الإيمان بالقدر باعث على العبادة

الإيمان بالقدر باعث على العبادة إن الإيمان بالقدر لا يستدعي من الإنسان أن يترك العبادة أبداً، بل لا بد أن يجتهد في العبادة. ولذلك كان من فقهاء الصحابة من يقول: والله ما اجتهدت اجتهادي إلا بعدما عرفت القدر، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر يمشيان فقال لـ علي: (هذان سيدا كهول أهل الجنة. فقال علي متهللاً: أفلا أبشرهما يا رسول الله؟ قال: لا) إنهما إذا بشرا بأنهما سيدا كهول أهل الجنة فلن يملا من عبادة الله جل وعلا، بل سيجتهدان حتى تتقطع أوصالهما من أجل شكر الله جل وعلا، فيجتهدان بعدما يعرفان القدر في طاعة الله جل وعلا.

أنواع الأقدار النازلة بالإنسان

أنواع الأقدار النازلة بالإنسان الأقدار التي تنزل على الإنسان على قسمين: أقدار لا اختيار له فيها ولا إرادة، وهذه الأقدار مثل البلايا التي تنزل على الناس كالتقتيل والتشريد، وهجوم الكفرة على المسلمين، وعلو غيرهم عليهم، فكل هذه من الأقدار التي لا اختيار للعبد فيها، ولا يستطيع العبد أن يفعل معها شيئاً، بل إنها تنزل عليه فلا يستطيع ردها، فهذه يتعامل معها بالتسليم قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:156 - 157] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11] فيستسلم ويقول: هذه من عند الله، كتبت قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة {يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] أي: يهد قلبه للإيمان، ويعمق الإيمان في قلبه، فيرضى بقدر الله جل وعلا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط) هذه النوع الأول. النوع الثاني من القدر: قدر شرعي ليس كونياً وهو البلايا والأقدار التي يستطيع المرء أن يدافعها، فإن لم يدافعها فهو آثم، مثاله: أن يدافع أسباب الموت بأسباب الحياة، فإذا جاءك رجل ليقتلك فإنك تدفع قدر الموت وأسبابه بقدر الحياة. والجوع المميت تدفعه بالأكل من الميتة نفسها، وإن كانت محرمة، لإنك تدفع قدر الموت بالحياة. والعطش تدفعه بالشراب، وهذا جاء من فعل النبي وقوله، وهو القدوة لنا. فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، وقوله لمن سأله: من أي القوم أنتم؟ بعدما أخبروه بما يريد فقال: (نحن من ماء). وقد خرج أبو بكر وعمر يدفعان قدر الجوع بمن يطعمهما، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دافع وأخذ بالأسباب عندما سار في الصحراء حتى وصل المدينة؛ لأنه أخذ رجلاً عالماً بالطريق، حتى لا يضيع نفسه، ومن مدافعته قوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام، فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء)، أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ولما سحر النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب، وقد كانت هذه الأسباب شرعية. ومن ذلك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم بالطاعون في أرض فلا يدخل ولا يخرح منها)، وعمر بن الخطاب كان يفعل ذلك، فإنه لما سمع بالطاعون في أرض الشام ما أراد أن يدخلها فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه: يا أمير المؤمنين! أتفر من قدر الله؟ قال: أفر من قدر الله إلى قدر الله. وكذلك لما سرق الرجل، وقال: مهلاً يا أمير المؤمنين ما سرقت إلا بقدر الله. قال: مهلاً وأنا أقطع يدك بقدر الله جل وعلا. فهذه الأقدار لا بد أن يدفعها المرء بالوسائل الشرعية. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يؤمن بالقدر، ويعمل به حق العمل، ويعتقده في قلبه.

تنزيه الله عن نسبة الشر إليه - أهل الفترة وحكمهم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تنزيه الله عن نسبة الشر إليه - أهل الفترة وحكمهم العقول تعجز عن الإحاطة بكمال الله وجلاله، كما تقف حائرة عن معرفة كل الحكم الإلهية وراء خلق المصائب والشرور، فما يتراءى للعقل من شر في بعض خلق الله، فإنه يكمن خلفه خير أراده الله تعالى، فلا ينسب إلى الله خلق الشر المحض؛ لأن كل أسمائه وصفاته وأفعاله حسنى، ومن ذلك حكمه تعالى في أهل الفترة، فقد أرسل الله الرسل وأقام الحجة على الناس، وكل من لم تبلغه دعوة الله بأي وجه فإنه يمتحن يوم القيامة على الراجح عند أهل العلم.

مقدمة بين يدي الدرس

مقدمة بين يدي الدرس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ما زلنا مع أبواب القدر، وهنا نتكلم عن مبحثين هامين وهما: تنزيه الإله جل وعلا عن أن ينسب له الشر، مع أنه خلق كل شيء في الكون. والمبحث الثاني: أهل الفترة هل هم من أهل النيران، أم من أهل الجنان، أم أنهم يمتحنون يوم القيامة؟

تنزيه الله تعالى عن نسبة الشر إليه

تنزيه الله تعالى عن نسبة الشر إليه المسألة الأولى: تنزيه الله جل وعلا عن نسبة الشر، وهذه المسألة من أهم المسائل التي تضبط للمرء مسائل القدر, وحتى ندخل في غمار هذه المسألة الوعرة لابد من تأصيل ثلاث قضايا، وهذه القضايا توضح للمرء مسألة القدر. التأصيل الأول: أن الله جل وعلا له الكمال المطلق, وله الجلال المطلق, كما له الأسماء الحسنى والصفات العلى, فأسماؤه كلها حسنى وكاملة، وصفاته كلها عليا وكاملة، وأفعاله كلها حسنى وكاملة. إذًا: فكل اسم أو صفة أو فعل لله تعالى، ففيه الكمال المطلق، ولا يمكن أن ينسب إلى الله جل وعلا النقص، أو ننفي عنه الكمال المطلق. التأصيل الثاني: أنه إذا كان الله جل وعلا له الكمال المطلق، فما من فعل يفعله إلا وله حكمة نابعة من اسم الله جل وعلا الحكيم، فهذا الاسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة كمال وهي صفة الحكمة، فهو سبحانه لم يفعل فعلاً، ولم يخلق خلقاً إلا وله في ذلك حكمة عظيمة.

أنواع الشر

أنواع الشر التأصيل الثالث: أن الشر الذي نراه، ويستقبحه العقل، ويستنكره الشرع، ويأباه القلب، عندما خلقه الله جل وعلا، فليس شراً محضاً عارِ عن الحكمة، إنما هو شر نسبي إضافي؛ لأن الشر نوعان: شر محض لا خير فيه من أي وجه من الوجوه. وشر نسبي إضافي جزئي, فهو شر ومن وجه، ولكنه خير من وجه آخر. بل قد يكون شراً من وجه واحد، ولكنه خير من وجوه، ومثال ذلك: خلق الله جل وعلا المصائب والبلايا، فإنها في حد ذاتها شر بالنسبة إلى من نزلت عليه وحلت به، لكنها خير من وجوه أخر، منها: أن هذه المصيبة التي نزلت على المرء مكفرة لذنوبه وسيئاته، ومنها: أن الله جل وعلا أصاب المرء بهذه المصبية؛ ليعتبر غيره ويحمد الله على العافية، فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، ثم يدعو له فيؤجر على ذلك، والملك يقول: آمين ولك مثل ذلك، ومنها: أن المصيبة تنزل على المرء؛ ليرتفع درجة عند الله جل وعلا، وتكون تلك المصيبة إشارة على أن الله يحب هذا العبد؛ لأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.

الكمال والجلال المطلقان لله تعالى في تقدير الابتلاء

الكمال والجلال المطلقان لله تعالى في تقدير الابتلاء إن الله جل وعلا له الكمال والجلال المطلق, لم يخلق شراً محضاً، ولكنه شر نسبي إضافي، وما خلق الله جل وعلا شيئاً إلا وله حكمة، كما قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، فالله جل وعلا لما فعل ما فعل كان ذلك الفعل نابعاً عن علم وعن حكمة بالغة كما سنبين. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا} [الذاريات:56] لعلة بليغة وهي: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فالشرور التي خلقها الله جل وعلا إذا نسبناها لله تعالى فهل ننسبها له إطلاقاً أم نقيدها؟ و A أن الشر إما أن يكون شراً محضاً أو شراً نسبياً إضافياً، فينظر في ذلك. ومن الأمثلة على ذلك: فلسطين وما يحدث فيها من قتل وتشريد وهجوم ضار من هؤلاء الخنازير الذين يقتلون الطفل والشيخ والمرأة، ويهدمون كل شيء أمامهم، فإن الله هو الذي خلقهم وخلق فعلهم، وهو الذي قضى كوناً أن يحدث هذا لأهل فلسطين, فهل هذا شر محض أو شر إضافي؟ تفصيل A أن يقال: إن قلنا بأنه شر محض، فقد نسبنا النقص لله جل وعلا، ونحن قد اعتقدنا في قلوبنا أن الله له الكمال المطلق، إذًا: فالشر الذي يقع على هؤلاء الفلسطينيين شر نسبي وفيه وجوه من الخير، وإذا دققنا النظر واعتقدنا اعتقاداً كاملاً أن الله له الكمال المطلق، فيجب أن نعلم أن الله جل وعلا ابتلى هذه الأمة بما يحدث فيها من شر؛ وذلك لتحقيق خير عظيم بعد هذا الشر، أو لخير تابع لهذا الشر, ونحن نذكر هنا الحكم التي ظهرت لنا فقط، وهناك حكم أبلغ من هذه قد أخفاها الله جل وعلا عنا، فمن هذه الحكم: أن الله تعالى يتخذ من هؤلاء من يرفعهم عنده شهداء، قال تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140]، فالله جل وعلا ابتلى هؤلاء بالقتل، ليتخذ منهم شهداء، وليصطفي منهم من يكون ولياً عنده جل وعلا. ومنها: أن الله جل وعلا ابتلى هذه الأمة بما يحدث فيها؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليفصل بين الصفين، فإن الله حكم عدل يفرق بين المفترقين، ويساوي بين المتماثلين، قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153 - 154]. فهو بهذا يظهر المنافق الذي باع نفسه وقومه وشعبه؛ ليرضي أهل الكفر دون أهل الإسلام، ويظهر الله المؤمن الصادق الذي باع نفسه بدنه ومهجته لله جل وعلا، وكل ذلك منه حكمة عظيمة باهرة. فكثيراً من العملاء ظهروا في هذه البلية، وظهر أنهم باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وباعوا أنفسهم ودينهم بثمن بخس دراهم معدودة، وباعوا أنفسهم لا لله جل وعلا بل لأهل الكفر، وقد فضحهم الله بهذا البلايا. ومن الحكم العظيمة مما يحدث في فلسطين: أن الله جل وعلا ابتلى هذه الأمة بهؤلاء الأنجاس؛ ليتحد الصف الإسلامي، فإن وحدة الصف لا تأتي إلا بعد التفرق، وبعد أن يأتي الهجوم الضاري من الأعداء. وانظروا إلى الشعوب الإسلامية وإن اختلفت أجناسهم وألسنتهم، فقلوبهم كلها قد توحدت على شيء واحد، وهو بغض بني إسرائيل، ونصرة هؤلاء المستضعفين من المسلمين, فإن الله جل وعلا هو الذي يؤلف بين القلوب، وله ما يشاء فيما يفعل. وأيضاً من الحكم البليغة في هذا البلاء، أن الله جل وعلا يبتلي الأمم التي عصت، وظهرت رعونتها وخرجت عن إطار شريعة الله جل وعلا، فيبتليها لترجع ولتتذلل ولتستغفر ولتتوب إلى الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] والله جل وعلا لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفعه إلا بتوبة. وأيضاً لقد ابتلى الله بهذه الأمة؛ ليبين لهم أن هؤلاء الأعداء لا عهد لهم ولا ميثاق فإنهم قد عاهدوا الله وخانوا عهده جل وعلا، وعاهدوا الرسل وخانوه، فالذين يتمسكون بهم تمسك الحية بفريستها ويقولون: لابد من سلام شامل عادل، أو نحن دعاة سلام، فإن الله جل وعلا يظهر لهم خطأ فهمهم، وخطأ منهجهم، ويبين أن هؤلاء لا يريدون سلاماً ولا أماناً، بل كلما تهيأت لهم الظروف انقضوا على فريستهم، كما نراهم اليوم مع الفلسطينيين, فيبين الله جل وعلا أن هؤلاء الأنجاس مغضوب عليهم، وأنهم ينقضون العهود، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة؛ ليضع الأمر عياناً أمام الناس جميعاً حتى لا يلبس أحد على أحد، وهاهم اليوم يقولون: نحن نريد سلام ولا نريد خراباً، ولا إزهاقاً للأرواح، فبين الله أن الذين يمدون أيديهم إليهم من أجل السلام، أنهم يرفضونها، بل يبترونها ويقطعونها، فهذه من الحكم البليغة من هذا الابتلاء. إذاً: فالله جل وعلا لم يخلق شراً محضاً، بل خلق شراً نسبياً إضافياً.

الحكمة من خلق إبليس

الحكمة من خلق إبليس إن من الشرور التي تنسب إلى الله جل وعلا خلق إبليس, وإبليس هو من هو في الغواية والوسوسة وإضلال البشر، فإنه شر كله، ولكن إذا نظرت في الحكمة من خلقه، فإنك ستوقن بأن الله جل وعلا ما خلق إبليس إلا لحكمة عالية بليغة تابعة لهذا الشر، فالله حكم عدل لا يساوي بين المفترقين، ولا يجعل صف الكفار مع صف المسلمين، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153 - 154]. ويوضح ذلك أن الله جل وعلا جعل إبليس يوسوس لهذا ويغوي هذا، حتى يميز بين المؤمن المخلص الذي باع نفسه لله جل وعلا، والذي لا يستجيب لهذه الغواية، وبين الذي يتبع نفسه شهواتها، ويتبع إبليس فيما يوسوس له.

الحكمة من خلق الكفر

الحكمة من خلق الكفر إن الله لا يحب الكفر ولا يريده، ولكنه شاءه كوناً لحكمة عالية بليغة، وهي: أن يتحقق علم الله جل وعلا في أن الخلق منهم المؤمن ومنهم الكافر, وهذا الشر الذي خلقه الله جل وعلا لم يكن شراً محضاً، ولكنه شر نسبي إضافي، أي: بالنسبة للشخص الذي نزل عليه هذا البلاء، أو نزل عليه هذا الشر, فهو شر بالنسبة له، أما لغيره فهو خير.

الحكمة من تشريع الحدود

الحكمة من تشريع الحدود إن لله تعالى في تشريع الحدود حكم عظيمة، فالقصاص مثلاً هو: أن يقتل القاتل بالمقتول، وهذا القصاص شر بالنسبة للقاتل الذي سيقتل، وهو شر لأهله. كذلك إذ أنهم سيحزنون على ميتهم، ولكن هذا القصاص بالنسبة لولي الدم، الذي يريد أن يقتص من قاتل أخيه، أو قاتل ابنه هو خير له، كما هو خير لباقي الناس، فإنك إذا قتلت القاتل ارتعد الناس واتعظوا بغيرهم، فيمتنعون عن القتل، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، مع أننا نعلم أن القصاص قتل، فكيف يكون فيه حياة كما في الآية؟ A لأنه يمنع الاقتتال. وكذلك حد السرقة، أو حد الرجم للزاني المحصن، أو حد الجلد للزاني البكر، فهذه الحدود هي شر بالنسبة للمقطوع، أو المرجوم، لكنها خير لباقي البشر, فإذا رأى الرجل أن هذا تقطع يده في دراهم معدودة، خاف على يده وامتنع عن السرقة, وإذا رأى غيره يجلد ويفضح أمام البشر على الزنا، فإنه سيمتنع عن أن يهتك أعراض المسلمين, فظهر من هذا أن الله جل وعلا لم يخلق شراً محضاً، ولكنه خلق شراً نسبياً إضافياً.

نسبة الشر إلى الله تعالى

نسبة الشر إلى الله تعالى إن هذه الشرور هي خلق الله جل وعلا، ولكن هل ننسب هذه الشرور إلى لله جل وعلا؟ A لابد لنا من التفصيل فيه، فقد قلنا بوجود شر لا شك فيه، ولكن هذا الشر ليس موجوداً في فعل الله، وإنما هو أثر عن فعل الله؛ لأن أفعال الله كلها كمال، فلا ينسب إليه نقص في حال من الأحوال، ولذلك: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد كثيراً ما يقول: سبوح قدوس) يعني: أنزه الله جل وعلا عن كل نقص, فالله جل وعلا هو السلام الذي سلم من كل عيب ونقص، والقدوس: هو الذي تقدس عن كل نقص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تعجب من شيء قال: (سبحان الله). فأفعال الله كلها منزهة عن النقص، والشر نقص، فلا ينسب إلى فعل الله جل وعلا، إن كان أثراً عن فعل الله، أي: أن الشرور تنسب إلى مفعولات الله، ففعل الله تعالى كله خير وكمال، ومفعول الله جل وعلا قد يكون فيه شر، فإذا قلنا: إن الشر ينسب لمفعولات الله، ولا ينسب لفعل الله جل وعلا، نكون بذلك قد سلكنا طريق الأدب مع الله جل وعلا.

الأدب مع الله في عدم نسبة الشر إليه

الأدب مع الله في عدم نسبة الشر إليه وطريق الأدب هذه قد استنبطت من فعل الأنبياء، فخليل الرحمن عندما تكلم عن الشر نسبه لنفسه وهذا من الأدب في نسبه الشر للمخلوق لا للخالق، قال تعالى حاكياً قول إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] فنسب المرض لنفسه، مع أن الله جل وعلا هو الخالق للمرض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك) يعني: لا ينسب إليك الشر. وهذا الأدب نجده كذلك عند مؤمني الجني إذ قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:9 - 10]، فنسبوا الرشد لله جل وعلا، والشر بنو الفاعل فيه للمجهول؛ تأدباً مع الله جل وعلا. وكذلك قصة الخضر يظهر فيها التأدب مع الله كما في قوله تعالى حاكياً عن الخضر جوابه على أسئلة موسى عليه السلام: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81]، وقال عن الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82]. فنسب إرادة بلوغ الغلامين أشدهما إلى الله تعالى؛ لأنه خير، ولكنه في خرق السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب إرادة العيب لنفسه؛ تأدباً مع الله تعالى. وقد علمنا الله جل وعلا الأدب معه في مسألة الشرور، وأنه لا ينبغي أن ننسبها له، بل ننسبها للمخلوق نفسه، فإن النقص صفة لازمة للمخلوق، فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] يعني: من شر هذه المخلوقات، فالشر يكون في المفعولات، لا في فعل الله تعالى: وكذلك قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4]، فالشر صفة لازمة للشيطان اللعين. ولقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتأدب أيضاً بهذه الآداب، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكه وشَرَكِه)، فنسب للشيطان الشر والشرك، مع أن الله جل وعلا هو الخالق لكل شيء. ومن الأدب مع الله في نسبة الشر أن ندخله في مطلقات وعمومات الخلق، ولا نفرده، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] والشر شيء، فهو داخل في هذا العموم. فالآداب التي لابد أن يتأدب بها المرء في نسبة الشر إلى الله جل وعلا هي ما يلي: إما أن يبني الفاعل للمجهول: كقوله تعالى: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10]، أو ينسب الشر لنفسه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، أو ينسب الشر لخلقه، كقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وقوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله من شر الشيطان وشِركه وشَركه). وإما أن يدخله في العموم كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]. فإذا سأل سائل وقال: هل خلق الله الشر؟ فإنك إذا أنكرت أثبت خالقاً غير الله جل وعلا، وإذا أثبت أسأت الأدب مع الله، فالجواب السديد أن تثبت، ولكن بقيد، وهو أن الله خلق الشر في مفعولاته، وأما فعل الله فكله كمال وخير.

أهل الفترة وحكمهم

أهل الفترة وحكمهم المسألة الثانية: مسألة أهل الفترة: هل هم من أهل الجنة، أم من أهل النار؟ وهذه المسألة مستفادة من حديث رواه اللالكائي في (شرح أصول أهل السنة)، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (أربعة يحتجون على الله يوم القيامة: المجنون، وفي رواية: الأحمق، والثاني: الرجل الهرم، والثالث: الأصم, الرابع: أهل الفترة).

ضابط أهل الفترة

ضابط أهل الفترة أهل الفترة هم الذين انقطع عنهم الوحي، وهذا ضابط أول لمعرفة أهل الفترة، الضابط الثاني -وهو مهم جداً-: أنهم الذين لم تبلغهم دعوة نبي, فهؤلاء هم أهل الفترة.

القول بنجاة أهل الفترة

القول بنجاة أهل الفترة وقد اختلف العلماء في مصير أهل الفترة يوم القيامة على أقوال نجملها فيما يلي: القول الأول: إنهم معذورون في الدنيا وفي الآخرة، واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب ومن السنة: أما من الكتاب، فقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله جل وعلا: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى} [الملك:8 - 9] ووجه الدلالة: العموم في الآية، وهو أن كل من يدخلون النار يقولون: نعم جاءنا نذير، وما من فوج إلا وجاءهم نذير، وأهل الفترة لم يأتهم نذير، إذاً: فهم ليسوا من أهل النار. كما استدل القائلون بهذا القول بعدة آيات تشبه هذا المعنى. واستدلوا كذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده ما سمع بي من هذه الأمة -أي أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، ووجه الدلالة: مفهوم المخالفة أي: أنه إذا سمع به وآمن دخل الجنة، وإذا سمع ولم يؤمن دخل النار، وإذا لم يسمع فليس له نفس الحكم، بل حكمه يخالف ذلك، فيدخل الجنة.

القول بأن أهل الفترة في النار

القول بأن أهل الفترة في النار القول الثاني وعليه جماعة من أهل العلم، وهو ترجيح النووي: أن أهل الفترة من أهل النار ومخلدون فيها، واستدل أصحاب هذا القول على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة: أما من الكتاب، فقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ووجه الدلالة العموم، أي: أن كل من لم يؤمن فإنه يدخل في هذا العموم، فلا يغفر له، بل يكون مشركاً، وكذلك قول الله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18] فالآية هذه عامة، وما خصت كافراً دون كافر، والآيات الدالة على ذلك كثيرة. وقد يستدل لهم أيضاً بحديث في صحيح مسلم (أنه جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فولى الرجل حزيناً، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن أبي وأباك في النار)، فلما كان أبو النبي وأبو الرجل في النار، وهما ممن لم يأتي لهما نبي، فهما من أهل الفترة، فيكون حكمهما هو حكم أهل الفترة. وقد حاول السيوطي رد هذا القول بحديث موضوع وهو: (إن الله جل وعلا أحيا أم النبي، وأحيا أبا النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهما إلى الإسلام فأسلما)، فهما في الجنة، بل من الناس من قال: إن أبا طالب من أهل الجنة، ويرد هذا حديث: (إن أبي وأباك في النار) وأيضاً ما ومرد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، ثم استأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فلما لم يأذن الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه، دل ذلك على أنها كافرة في النار؛ لأن جل وعلا قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113]. وهذا القول رجحه النووي وجماعة من أهل العلم، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك، وأن أهل الفترة معذبون مخلدون في نار جهم. ولا يوجد الآن أحد من أهل فترة أبداً؛ لأن الإنترنت قد غزى كل مكان، فوصلت أخبار الإسلام والدعوة إلى كل إنسان، وخاصة أنه بعد أحداث سبتمبر لا يوجد أحد لم يسمع بالإسلام، حتى من أدغال أفريقيا الذين لا يعرفون أحداً غير الأسود أو القرود قد وصلهم خبر الإسلام.

القول بالتفصيل ورجحانه

القول بالتفصيل ورجحانه القول الثالث: التفصيل في ذلك -وهو الحق الذي لابد أن يظهر- وهو أن أهل الفترة معذورون في الدنيا ممتحنون أو مكلفون في الآخرة، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره: (أربع يحتجون على الله جل وعلا يوم القيامة: أصم يقول: رب: أتاني رسولك ولم أسمع شيئاً, وأحمق -يعني مجنون- يقول: رب! أتاني رسولك وكنت لا أعقل شيئاً، والأطفال يحذفونني بالعبر, وهرم يأتي يوم القيامة فيقول: رب! أتاني رسولك وما كنت أعقل شيئاً, والرابع: أهل الفترة -وهم فتر عنهم الوحي- وهؤلاء يحتجون أمام الله جل وعلا فيقولون: لم يأتنا رسول، ولم تأتنا دعوة، فيمتحنهم الله جل وعلا فيأمرهم بدخول النار) ومحل الشاهد: فيمتحنهم الله جل وعلا بدخولهم النار، وهنا يأتي القدر، فالذين قد كتب الله في سابق علمه أنهم يسمعون ويطيعون يأمرهم الله جل وعلا أن ينزلوا إلى النار, فإذا نزلوا إلى النار كانت برداً وسلاماً, والذين علم الله أنهم لا يطيعون بل يعصون الله لا ينزلون النار، فيعاقبهم الله بإدخالهم جهنم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين) , فالله يعلم بهم سابقاً هل سيطيعون أم سيعصون؟ والذين في علم الله السابق أنهم يعصون يقولون: نحن نفر من النار أفندخلها؟ فيلقون فيها؛ لأنهم عصوا أمر الله جل وعلا. فهذا الحديث قاطع للنزاع في أن هؤلاء يمتحنون يوم القيامة.

الاعتراضات على القول بالتفصيل

الاعتراضات على القول بالتفصيل اعترض أصحاب القول الأول والثاني على هذا القول بثلاثة اعتراضات: الأول: الأحاديث الدالة على أن أهل الفترة يكلفون يوم القيامة ضعيفة. الثاني: كيف تقولون بالتكليف في دار الجزاء، ودار الجزاء لا عمل فيها ولا تكليف؟ الثالث: أن الله جل وعلا يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وليس في وسع الإنسان أن يدخل نار جهنم، فيكون الله قد كلفهم ما لا يطيقون، وهذا مخالف لأصل التشريع، وهو أن الله جل وعلا لا يكلف عبداً إلا ما يطيق.

الرد على هذه الاعتراضات

الرد على هذه الاعتراضات والرد على هذه الاعتراضات أن يقال: أولاً: قولهم: إن هذه أحاديث ضعيفة، قول ضعيف؛ لأن هذه الأحاديث جاءت من طرق صحيحة لذاتها، وطرق حسنة، وجاءت أيضاً من طرق أخرى تقويها حتى ترتقي إلى الصحيح لغيره، كما جاءت من طرق ضعيفة تتقوى بطرق أخرى، فالقول بأن هذه الأحاديث ضعيفة قول مطروح. ثانياً: وأما الاعتراض الثاني وهو كيف يكلفون في الآخرة، والآخرة دار جزاء لا دار تكليف؟ فيرد عليه بأننا معكم، فالآخرة دار الجزاء، وهي دار الاستقرار إما في الجنة وإما في النار، ولكن لا يمنع ذلك أن يكون على العرصات تكليف، فقد ورد الشرع بذلك، قال الله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمنين والمنافقين معاً يقفون ينتظرون الله، فيأتي الله جل وعلا ويقول: أنا ربكم، بعد أن يأمر الله جل وعلا كل من عبد شيئاً أن يذهب خلفه، فيكورون كلهم في النار، ثم قال -وهذا والشاهد من الحديث-: ويأتيهم الله جل وعلا بالعلامة التي يعرفونها، فيكشف عن ساقه، فينزل كل مؤمن كان يسجد سجوداً مخلصاً فيه لله جل وعلا فيسجد لله, والمنافق يرجع ظهره طبقة ولا يستطيع السجود) فهذا يكون في عرصات القيامة، وهو تكليف. ثالثاً: وأما الاعتراض الثالث وهو: أنهم كلفوا ما لا يطيقون، فالجواب عليه أن تكليف الله لهم بالنزول إلى النار تكليف من حكيم عليم، وقد قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فهذا دليل على أن ما في الحديث ليس تكليفاً بما لا يطاق، ولذلك نظائر في الشرع، منها: فتنة الدجال , فالنبي صلى الله عليه وسلم لما وصفه قال: (معه نار وجنة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المؤمن أن يدخل النار)، فهو هنا يأمره بدخول النار التي مع الدجال، وهذا الأمر والإنسان في الدنيا، فلو قلنا بقولكم لكان هذا أيضاً تكليف بما لا يطاق, إذ قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا جنته، فإن جنته نار)، فيغمض المؤمن عينه ويدخل ناره، فيجدها برداً وسلاماً. وكذلك: فإن الله جل وعلا يأمر الناس يوم القيامة في العرصات أن يمروا على متن الصراط، والصراط قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أحد من السيف، وأدق من الشعرة)، والمرور عليه مما لا يطاق، وهم يمرون عليه كالبرق وهو على متن جهنم. إذاً: فلا حجة للقول بأن امتحان أهل الفترة تكليف بما لا يطاق المرء، فإن له نظائر من الشرع في الدنيا، كأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يدخل نار الدجال؛ لأنها ستكون عليه برداً وسلاماً, وفي الآخرة كأمر الله العباد أن يمروا على الصراط، وهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، وهو أيضاً على متن جهنم. ولهذا فإن الصحيح الراجح أن أهل الفترة غير معذبين في الآخرة، بل هم ممتحنون فيها، معذورون في الدنيا.

استشكال وجوابه

استشكال وجوابه وقد يرد إشكال في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (إن أبي وأباك في النار)، وقوله: (واستأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) وهو أن عبد الله أبا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة -لم يأته نبي- وكذلك أمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما في النار. A أن الضابط في معرفة أهل الفترة أنهم من لم يأتهم رسول، وكذلك: من لم تبلغهم الدعوة، فلو أن رجلاً قال: لن أفعل شيئاً، لأنه لم يأتني رسول، والله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ويقول: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، فيقال له: سنقيم عليك الحجة بأنه قد جاءك رسول، فالله جل وعلا يقول: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] والحجة التي تقام عليك هي رسالات الله جل وعلا, والتي بلغها لك الرسل أو ورثتهم، وهم العلماء، ففي الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم). فأبوا النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغتهما دعوة إبراهيم، وإن لم نقل بأن دعوة إبراهيم قد بلغتهما، فدعوة عيسى عليه السلام، بدلالة أن في ذلك الزمان من تنصر، وهو ورقة بن نوفل، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم سألته عائشة كما في الصحيح قالت: (يا رسول الله! علي بن زيد بن جدعان كان يصل الرحم، ويكرم الضيف أله في هذا الفعل من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنه ما قال يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) وقد عرف رسول الله أن ابن جدعان سيعذب؛ لأنه قد بلغته دعوة موسى أو عيسى أو إبراهيم عليهم السلام. إذاً: فهؤلاء ليسوا بأهل فترة، وإن تخلف عنهم الرسل فقد وصلتهم دعوة الرسل، فهذا رد على استدلال النووي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي وأباك في النار)، وحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فأبى عليه) على أن أهل الفترة في النار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ذكر الوحي - الرسالة - النبوة - الفرق بين الرسول والنبي

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - ذكر الوحي - الرسالة - النبوة - الفرق بين الرسول والنبي إن الرسالة أو النبوة شرف لا يدانيه شرف، وما هي إلا اصطفاء واجتباء من الله لمن شاء من خلقه، لا كما تدعيه المبتدعة من أنه يمكن للإنسان أن يصل إليها بزهده وخلواته بربه، وقد ميز الله رسله وأنبياءه بميزات على سائر الخلق، وأيدهم بمعجزات ظاهرة باهرة؛ لتزداد ثقة الناس بهم، وليصدقهم أعداؤهم أو تقام الحجة عليهم، وقد حبا الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزات لم يعطها نبياً قبله، لكونه خاتمهم، وشريعته إلى الخلق كلهم، عربهم وعجمهم، أسودهم وأبيضهم، وكثير منها نراه اليوم بين أظهرنا واضحة للعيان.

بيان ما يتضمنه باب بدء الوحي

بيان ما يتضمنه باب بدء الوحي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوتي الكرام! ندخل في باب جديد في كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) هذا الباب هو: بدء الوحي، وتوطئة لهذا الباب، نبدأ بالكلام على الرسالة والنبوة، والفرق بين الرسول والنبي، وأقوال أهل العلم في ذلك، ثم بعد ذلك نبين أن الله جل وعلا إذا اختار نبياً اختاره عن حكمة وعلم، واختاره بفضيلة كانت فيه وهبه الله إياها، ونبين عطب كلام الفلاسفة الذين قالوا: إن النبوة مكتسبة، ثم نختم بكيفية الوحي، ومجيء الوحي، أو إرهاصات ومقدمات في تهيئة الناس لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.

معنى النبي والرسول

معنى النبي والرسول النبي: مشتق من النبأ وهو الخبر، والنبي مُخبَر ومخبِر، مخبَر من قبل الله، أخبره الله بشيء سيخبره، قال الله تعالى حاكياً عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3] أي: من أخبرك؟ وهو مخبِر، أي: مخبِر عن الله جل وعلا بما أخبره به، قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] فمعنى: (نبئ) أي: أخبر. إذاً: فالنبي مخبِر عن الله جل وعلا، ومخبَر من قبل الله جل وعلا. وقيل: هو مشتق من النبوة، وهو الشيء المرتفع (العلامة)، وهو حق في حق الأنبياء؛ لأنهم أرفع الناس مقاماً، وهم العلامة على الهدى. أما الرسول: فهو الموجه بأمر ليبلغه، وهو مشتق من قول الله تعالى حاكياً عن ملكة سبأ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، وأيضاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه رسله إلى ملوك فارس والروم، ونحوهم، فمنها: قوله: (باسم الله، من محمد رسول الله! السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم وإلا فعليك إثم الأريسيين) يعني: الفلاحين.

أقوال أهل العلم في الفرق بين الرسول والنبي

أقوال أهل العلم في الفرق بين الرسول والنبي اختلف أهل العلم في مسألة الفرق بين الرسول وبين النبي على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا فرق بين الرسول والنبي، وهذا القول أضعف الأقوال الثلاثة؛ لأن الله جل وعلا قد غاير بين الرسول والنبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قد غاير بين النبي والرسول، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، فوجه الشاهد قوله: ((مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ)) والأصل في العطف المغايرة، فيكون الرسول غير النبي. أيضاً: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء فجعل لهم عدداً خاصاً بهم، وسئل عن عدد الرسل فجعل لهم عدداً خاصاً بهم، كما في الحديث: (سئل عن عدة الأنبياء، فقال: أربعة وعشرون ومائة ألف، وسئل عن عدة الرسل، فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً)، فهذا فيه دلالة على المغايرة بين الرسول والنبي، وهذا رد قاطع على هذا القول فيكون ضعيفاً. القول الثاني: قول جمهرة من أهل العلم، وهو أن الرسول أعم من النبي، وبينهما أمر مخصوص، فكل رسول نبي ولا عكس، وقالوا: الرسول: هو من أوحي إليه بشيء وأمر بتبليغه، والنبي: هو من أوحي إليه بشيء ولم يؤمر بالتبليغ. يعني: الرسول والنبي يتفقان في الوحي، ويختلفان في التبليغ، فالرسول أُمر بالتبليغ، والنبي لم يؤمر بالتبليغ، واستدلوا على قولهم بأن كل آيات القرآن: إذا ذكرت الرسول قرنت معه البلاغ، وأما الأنبياء إذا ذكروا فلم يقرن معهم البلاغ، من ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]. القول الثالث: -وهو من القوة بمكان وقاله قال بعض أهل العلم-: وهو أن هناك فرق بين الرسول والنبي، لكن الرسول هو الذي أوحي إليه بشرع جديد ناسخ للشرع الذي قبله، أو ناسخ لبعض الشرع الذي قبله، وأمر بتبليغ هذا الشرع. أما النبي فهو الذي يأتي بعد رسول ولم يأتِ بشرع جديد، وإنما جاء بنفس الشرع الذي سبقه به الرسول الذي قبله؛ ليجدده للأمة، وأصحاب هذا القول استدلوا على ذلك بعدة أدلة قوية جداً: منها: أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، يأتي النبي ليحكم بشريعة الرسول الذي سبقه. وأيضاً استدلوا بقول الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ))، قالوا: والإرسال لازمه البلاغ. ونستدل لهم بآية أقوى من هذه في الدلالة، وهي قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، ولم يقل: الرسل، والبشارة والنذارة للرسول، وجعلها أيضاً صفة النبي، لكن ليس هذا القول براجح. والذي يتبين لي أن الراجح هو القول الثاني، أي: أن كل رسول نبي ولا عكس؛ لأن التعريف في القول الثالث يعترض عليه بآدم عليه السلام، ففي صحيح ابن حبان سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أآدم نبي؟ قال: نعم)، فخبرونا من الرسول الذي جاء قبل آدم بشرع وجاء آدم ليجدد هذا الشرع؟! إذاً: فهذا التعريف غير مطرد ولا يسلم من معارض. وأما الرد على استدلالهم بالآية الأقوى دلالة وهي قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، فنقول في الرد عليهم: ما من نبي ذكر في القرآن مبلغاً إلا وكان رسولاً، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، يعني: كل من قصصنا عليك في القرآن هم رسل مبلغون، ولا ينكر علينا إن قلنا: إنه نبي ورسول؛ لأن كل رسول نبي ولا عكس، فإذا ذكرتم أن الرسول نبي يصح من باب أولى. إذاً: كل من قصصنا عليك في القرآن فهو رسول حتى ولو ذكرناه بلقب أنه نبي، وبهذا يكون الرسول أعم من النبي، إذاً: فكل رسول نبي ولا عكس، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ، والنبي: هو من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، ولو بلغ لا ينكر عليه، لكنه لم يؤمر لزاماً بالتبليغ.

الأقوال في مسألة النبوة والرسالة

الأقوال في مسألة النبوة والرسالة النبوة غير مكتسبة، لكن الفلاسفة زعمت بأن النبوة مكتسبة، أي: يمكن للإنسان أن يتزهد وأن يصوم النهار ويقوم الليل، ثم يخلو بربه الساعات الطوال ويترك الدنيا وما فيها وما عليها، وبذلك يأتيه جبريل فيوحي إليه بوحي على زعم الفلاسفة في كون النبوة مكتسبة. وهذا كلام باطل، بل هو أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، بل النبوة منة ومحض فضل ورحمة من الله جل وعلا، قال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ولما قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، ردّ الله عليهم: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58]. يعني: النبوة هي محض رحمة ونعمة من الله جل وعلا، قال عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86] أي: هي رحمة من الله جل وعلا، لا مكتسبة. وإذا كانت النبوة محض فضل، فهل يمكن أن يضعها الله في أي أحد؟ حاشا لله، بل هي نابعة عن علم وحكمة، فقد اختار الله إبراهيم ليكون أبا الأنبياء على حكمة وعلم، واختار الله جل وعلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أيضاً بحكمة وبعلم.

ميزات الرسل على سائر الناس

ميزات الرسل على سائر الناس هناك مميزات ميز الله بها الرسول أو النبي على البشر، منها: أن الله جل وعلا وصف الأنبياء والرسل بصفات تفوق صفات البشر، فهم أشرف نسباً، وأعظم الناس خَلقاً وخُلقاً، فقد هيأهم الله جل وعلا لأمر عظيم وهو أمر الرسالة والدعوة.

نسب النبي صلى الله عليه وسلم

نسب النبي صلى الله عليه وسلم نحن بصدد الكلام على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبما حباه الله جل وعلا حتى صار سيد ولد آدم، وهو أعظم الخلق على الإطلاق، وأشرف الناس نسباً على الإطلاق، وهو أجملهم وجهاً وأحسنهم خُلقاً على الإطلاق، انظروا إلى نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اصطفى الله من ولد إسماعيل كنانة، ثم اصطفى قريشاً منهم، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)، هذه السلسلة هي أفضل سلسلة على الإطلاق، فالعرب هم أفضل الناس، وأفضل الناس من ولد إسماعيل كنانة، وأفضل ولد هؤلاء قريش، وأفضل قريش هم بنو هاشم، وأفضل إنسان في بني هاشم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اختارنا الله جل وعلا من خير القرون، من لدن آدم إلى القرن الذي كنت فيه)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في خير القرون. وأيضاً في الترمذي قال: (أنا خير الناس بيتاً، وأشرف الناس نسباً).

صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية

صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية أما خَلقاً فحدث وابتهج، وليبتهج قلبك بأن الله جل وعلا حبا رسوله صلى الله عليه وسلم بالقبول، فقد كان إذا رآه أحد أحبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر، وأجمل من الشمس، قال جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه كما في الترمذي: (نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى القمر ليلة البدر، فو الله لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر ليلة البدر). وفي مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر -يعني: ابتهج- استنار وجهه كأنه قطعة من القمر). وكانوا يعرفون فرح النبي صلى الله عليه وسلم باستنارة وجهه، وفي رواية أخرى قال: (كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالشمس أو كالقمر مستديراً). وفي البخاري أو في غيره: (كان النبي صلى الله عليه وسلم كثّ اللحية تعلوه الحمرة -يعني: بياض مشروب بحمرة- وكان وجهه مستديراً، وكان له جمة إلى شحمة أذنه) يعني: كان شعره ينزل إلى الأذن صلى الله عليه وسلم. ووصفه بعض الواصفين، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عريض المنكبين، ضخم الرأس والأطراف والرجل، أوتي قوة أربعين رجلاً صلى الله عليه وسلم، ما رآه أحد إلا وأحبه، ما مس يده أحد إلا ولان قلبه قبل أن تلين يده، كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (والله ما مست يدي ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان التابعون يشتاقون إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجهه أجمل وأحلى من القمر، بل هو أجمل من يوسف عليه السلام؛ لأننا كما سنبين في المعجزات التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمعت له كل خصال الخير. كان الواحد من التابعين يقف أمام ابن مسعود ويقول: (كنتم تجلسون مع رسول الله، والله لو كان رسول الله بيننا ما جعلناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أكتافنا! فقال له ابن مسعود: رويدك يا بني، لعلك لم تكن مؤمناً لو رأيته، فقد رأت قريشُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورأوا الأعاجيب، انشقاق القمر، ورأوه عياناً ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم. إذاً: فكان التابعون يتمنون رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو باعوا أنفسهم وأموالهم، ولذلك علماء الجرح والتعديل فضلوا الصحابة على غيرهم، وقالوا: ساعة واحدة فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خير من التابعين كلهم، بل بالأمة بعده، ولما قارنوا بين معاوية بن أبي سفيان وبين عمر بن عبد العزيز الذين سطروا له في التاريخ أنه خامس الخلفاء، قالوا: والله! لساعة من معاوية جلس فيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأمل وجهه الكريم، خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته. فرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عبادة، وبركة.

أخلاقه صلى الله عليه وسلم

أخلاقه صلى الله عليه وسلم أما عن الخلُق، فهو الأسوة والقدوة، وقد ضيعنا هذه الأسوة! فنستغفره الله على ذلك. كان النبي صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس وأرفعهم خُلقاً؛ لما وصفه الله جل وعلا ومدحه، مدحه بأعظم الصفات والسمات، فقال عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وفي الحديث: (سئلت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: عن خلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن). وأيضاً في الصحيحين عن أنس قال: (ما مست يدي ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال: (لا والله ما قال لي لشيء أنا فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لمْ تفعله)، وهذا من أدب وخلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يطرح المعاتبة؛ لأن المعاتبة تجعل في القلوب شيئاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعقب ويقول: (لو قدر له لفعل) وهذا من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يحيل الأمر على قدر الله جل وعلا. وكان يحث على حسن الأخلاق فيقول: (أقربكم مني منزلة يوم القيامة وأحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقاً، وأبعدكم مني منزلة يوم القيامة وأبغضكم إليَّ أسوؤكم أخلاقاً). وكان يقول: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي). وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس وأحسنهم خُلُقاً، كان رفيقاً شفيقاً رحيماً بعباد الله جل وعلا، كانوا يقولون: (يا رسول الله! ألا تدعو على المشركين؟ فيقول: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً). وكانت صفته في التوراة: (أنه ليس بصخاب في الأسواق، وليس بفاحش ولا بذيء ولا لعان) حتى إنه أنكر على عائشة عندما دخل بعض اليهود فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (السام عليك!) والسام بمعنى الموت، فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (وعليكم الموت يا أحفاد القردة والخنازير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عائشة يكفيك أن تقولي: وعليكم، إن الله تعالى لا يحب الفاحش البذيء)، فهو يعلم عائشة التأدب ويقول: (كان يكفيك أن تقولي: وعليكم، إن الله لا يحب الفاحش البذيء). وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً بعباد الله، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. وفي الصحيح: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجبذه جبذة شديدة، حتى أثرت في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني من مال الله، ليس مالك ولا مال أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوه من المال، أو أمر له بعطاء) وجاء يهودي كان قد أقرض النبي صلى الله عليه وسلم قرضاً، فأغلظ على النبي صلى الله عليه وسلم في الطلب، فقام عمر يريد أن يضرب عنق هذا الكافر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم معلماً له: (أو غير ذلك، إن لصاحب الحق مقالاً، كان عليك أن تأمره بحسن الطلب، وتأمرني بحسن الأداء). وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب كل رفيق، ويجازي على الرفق ما لا يجازي على غيره)، وأيضاً في المسند عن الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه). وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود من الريح المرسلة، وهذا أيضاً من حسن الخلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فقد جاءه رجل فتألفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن رأى الرجل ينظر إلى وادي من الغنم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هذا لك! قال: هذا لي! أتستهزئ بي؟ قال: هذا لك! فلما علم صدق النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه، فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). وفي الصحيحين: (مر الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي موسى الأشعري عند جبل أحد فقال صلى الله عليه وسلم: تمنيت أن يكون لي مثل هذا ذهباً فأنفقه حتى لا يبقى منه إلا ثلاثة دنانير) وكان النبي صلى الله عليه وسلم -مع جوده وكرمه- أزهد الناس في الدنيا، وكان يزهد أصحابه في الدنيا، فكان يقول: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه، وعالماً أو متعلماً)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما لي ولدنيا، ما أنا إلا كراكب قال تحت شجرة -من القيلولة- ثم تركها وراح). ولما آلى من نسائه كما في الحديث الطويل الذي في البخاري دخل عليه عمر فوجد الحصير، قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم فحزن لهذا، وقال: (يا رسول الله! أنت رسول الله والحصير قد أثر في جنبك، وكسرى وقيصر على الكفر يتنعمون في الحرير، وينامون على الفراش الوفير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى يا عمر أن يكون لهم الدنيا ولنا الآخرة). وكانت عائشة رضي الله عنها تصفه وتقول: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط). فمن منا يفعل ذلك؟ لو أن الواحد منا جاهد نفسه وعمل بمقتضى الآيات التي تحض على العفو والصفح لما عاداه أحد، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، والثانية قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، أي: من كان بينك وبينه عداوة شديدة، فتحسن إليه كأن تأتيه بهدية أو تكلمه بلين الكلام فإنه يصبح أحب الناس إليك، وقبل ذلك كله تنال الأجر من الله سبحانه وتعالى. وكان صلى الله عليه وسلم محبوباً بين كل أصحابه، لدرجة أنه كان إذا تنخم فوقعت النخامة في يد أحدهم يدلك بها وجهه، وكانوا يعظمونه تعظيماً شديداً، ولذلك لما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا الذي يفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، رجع إلى قريش وقال: (والله لقد دخلت على كسرى وقيصر، ودخلت على ملوك الدنيا فما رأيت أحداً يعظم ملكه مثل ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم) لِم؟ لهذه الأخلاقيات. وأيضاً كان صلى الله عليه وسلم كامل الالتزام ملتزماً بالشرع، قالت عائشة رضي الله عنها: (وما مست يده الشريفة امرأة قط).

إرهاصات ومعجزات النبي قبل ولادته وقبل بعثته

إرهاصات ومعجزات النبي قبل ولادته وقبل بعثته لقد اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون نبياً وهيأه لذلك، فهو أشرف الناس نسباً وأعظمهم خَلقاً وخُلُقاً صلى الله عليه وسلم. قبل البعثة وقبل ظهور الأمر العظيم الذي سيشرق على هذه الدنيا، هيأ الله الدنيا لمخرج هذا الرجل العظيم، فهو أعظم رجل في العالم، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب أعظم رسالة، وهو خاتم الأنبياء، فقبل ولادته ظهرت إرهاصات ومقدمات؛ حتى تتهيأ البشرية لمقدم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وفي سنة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم حدثت معجزة من أكبر المعجزات، وكانت توطئة ليعلم الناس أنهم سيستقبلون أمراً عظيماً، ألا وهي أن أبرهة جاء ومعه الفيل ومعه جنوده لهدم الكعبة، وهذه المعجزة قصها الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن، فقال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2]، ثم جاءت المعجزة الكبيرة: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3 - 4]، حتى إن عبد المطلب لما ذهب إلى أبرهة يطلب منه أن يرد عليه إبله، قال أبرهة: كنت عظيماً في عيني قبل اليوم، يعني: بما أنك عظيم قريش، وقريش الكعبة، فالأصل أن تتكلم عن الكعبة لا عن الإبل، فرد عليه عبد المطلب بقوله: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، فتناثر الناس يميناً ويساراً وتركوا الكعبة لأبرهة، فلما دخل أبرهة مكة أنزل الله هذه المعجزة العظيمة: ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ))، ((تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ))، ((فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ))، فكانت إرهاصة وكالمقدمة والتوطئة لمبعث رجل عظيم. أيضاً من المعجزات: أن أمه حين ولدت به رأت نوراً خرج من فرجها قد أضاء له قصور الشام. فهذه كانت إرهاصات وتوطئة لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الرابعة من عمره، جاء ملكان فشقا بطن الرسول صلى الله عليه وسلم فاستخرجا قلبه وشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فقالا: هذا حظ الشيطان من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل الاعتزال والبدع يردون هذا الحديث، ويقولون: كيف يشق الملك بطن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج قلبه، ويخرج حظ الشيطان منه؟! نقول: أنتم في العصور المادية الآن، فلو قام طبيب من الأطباء وعمل في البطن عمليات، فهل تصدقون ذلك؟ ستصدقون، وهذا ملك نزل من السماء إلى الأرض، وعلمه الحكيم العليم سبحانه وتعالى، فشق بطن النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا تصدقون؟! ويقال: إنه حدث هذا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: المرة الأولى: وهو ابن أربع سنوات، والمرة الثانية: وهو ابن عشر سنين، والمرة الثالثة: ليلة المعراج، حين نزل جبريل ففتح صدر النبي صلى الله عليه وسلم وملأه حكمة وعلماً؛ توطئة لأمر المعراج، وهذه كانت من المقدمات لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. أيضاً لما كان صغيراً وكان يحمل الحجر لبناء الكعبة، قال له العباس آمراً إياه: (يا بني! خذ إزارك وضعه على كتفك، فظهرت عورته فغشي عليه، فلم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عرياناً قط). أيضاً: حفظ الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وصانه من اعتقادات أهل الجهل ومن أخلاقياتهم، فكان يبغض الأوثان، ويبغض أخلاقيات أهل الجاهلية من شرب الخمر أو النظر إلى النساء، وكان يخلو بربه في غار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يأتيه الملك.

الوحي تعريفه ومراتبه

الوحي تعريفه ومراتبه الوحي لغةً: هو الإلهام بخفاء، أو الإعلام بسرعة وصدق، والوحي يمكن أن يشترك فيه بعض الأولياء مع الأنبياء والرسل، ويمكن أن يوحى إلى بعض الأولياء وذلك بالإلهام. وسنبين أن الإلهام وحي، وذلك كما في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111]، فقال: (أوحيت) باللفظ الصريح، وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وهذا الوحي يسمى: إلهاماً، ويمكن أن يأتي الوحي بمعنى الإشارة قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]. وأيضاً يشترك الأنبياء في هذا الوصف، ولكن بالنسبة للأنبياء هو نفث في الروح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها). فالوحي مراتب: أولها: الرؤيا الصالحة، فالرؤيا من مقامات ومراتب الوحي، ورؤيا الأنبياء حق لا بد أن تبلغ فهي شرع، قال الله تعالى -مبيناً ذلك عن إبراهيم عليه السلام أنه قال-: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فهذه رؤيا وهي وحي وشرع؛ لأنه أخذ ابنه وتله للجبين يريد أن يذبحه، إذاً: فهذا وحي وهو أمر لا بد أن يعمل به. وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان بدء الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا فتكون كفلق الصبح) يعني: تتحقق كفلق الصبح، وكانت هذه بداية الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيها: أن يكلمه الله بصوت مسموع، وهل الله جل وعلا يتكلم بصوت؟ نعم يتكلم الله بصوت مسموع، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10]. ووجه الدلالة: أن النداء لا بد أن يكون بحرف وصوت، فالله جل وعلا يتكلم مع الرسول البشري من وراء حجاب، والرسول البشري يسمع صوت الله جل وعلا، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]. وأيضاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه الله وحياً من وراء حجاب، وذلك لما عرج به، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يترد بين الله عز وجل وبين موسى عليه السلام، فيقول: (فرض الله عليّ خمسين صلاة، فقال موسى عليه السلام: أمتك لن تستطيع، فارجع إلى ربك فليخفف عنك، فيرجع إلى ربه، فيكلمه، فيسمع من الله جل وعلا، حتى وصل إلى أن الله جل وعلا قال: هي خمس في العمل وخمسون في الأجر، لا يبدل القول لدي). ثالثها: أن يرسل الله الرسول الملكي جبريل عليه السلام إلى الرسول البشري فيوحي إليه، وكانت هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً على مراتب: الأولى: أن يأتيه وهو في غار حراء فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع صوتاً ويرى ضوءاً، وذلك توطئة للرسول صلى الله عليه وسلم لكي يتهيأ للوحي. الثانية: لأت يأتيه على صورة بشر، وهذه أسهل المراتب في الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتي على صورة دحية الكلبي؛ لأنه كان من أجمل الناس وجهاً، وعندنا حديث ظاهر جداً أن الملك يأتي على صورة البشر ألا وهو حديث الإيمان، وهو عن عمر بن الخطاب أنه قال: (دخل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، ثم أسند ركبتيه إلى ركبتيه) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (فهذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم)، إذاً: فأتاه على صورة بشر. الثالثة: أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتاً كصلصلة الجرس، وهذه شديدة عليه، فقد كان يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي، وهو يسمع حتى يعي ما يقال له، ثم يبلغ. الرابعة: أن يرى الملك على صورته، والنبي صلى الله عله وسلم لم ير الملك على صورته إلا مرتين: المرة الأولى: مرة عندما كان في الغار، فرأى ملكاً بين السماء والأرض رجله إلى الأرض، وهو جالس على كرسي في السماء، فلما نظر إليه وقد سد الأفق خاف النبي صلى الله عليه وسلم وذعر، وذهب إلى أهله فقال: (زملوني زملوني)، لأنه رأى منظراً لا يمكن أن يتحمله أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر، وهو المرتفع المرتقي عند ربه وهو الشفيع، لما رأى هذا الملك خاف وذعر، وقال: (زملوني زملوني) فكيف يفعل المرء عندما يرى الملكين في القبر حين يأتيان يسألانه، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وصفهما: أنهما أسودان أزرقان اشتد ذلك على الصحابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم فزع من الملك مع أنه أتاه بالخير وبالرحمة، فما بالك من ملك لا بد أن يفتنك في قبرك، وأنت عندما تراه تذهل، وهو يقول لك: (من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرسول الذي بعث فيكم؟) نسأل الله أن يثبتنا في القبر وفي الآخرة، وأن يرفعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. والمرة الثانية: رآه جبريل على صورته عند سدرة المنتهى. المعجزات التي حبا الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم بها، توطئة لرسالته صلى الله عليه وسلم هي معجزات حسية ومعنوية، وهي أكثر من أن تحصر، وهذه المعجزات فاقت معجزات موسى وعيسى ونوح، بل وإبراهيم عليه السلام، فمعجزة إبراهيم عليه السلام الكبرى التي حدثت له حدثت لأحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من التابعين وليس من الصحابة، فمعجزة إبراهيم عليه السلام الكبرى هي أنه ألقي في النار ونجاه الله، فكانت الحبال تحترق وهو لم يمسه شيء، فلما قال: حسبي الله ونعم الوكيل: قال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69]، وهذا أبو مسلم الخولاني رحمه الله رحمة واسعة، أسره الأسود العنسي فقال المقربون لهذا الكذاب: إن بقي هذا الرجل سيفتن من عندك، لكن ألقه في النار، وكانت الفتنة أعظم وأعظم فألقاه في النار، فقال الله للنار: كوني برداً وسلاماً على هذا الرجل، فلما علم عمر بن الخطاب بهذه الحادثة بكى وقال: ليتني أرى من فعل الله به ما فعل بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. فهذه المعجزة الكبرى كانت مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي قد جمع الله له كل المعجزات التي أوتيها الرسل، كل ذلك سنبينه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - معجزات النبي صلى الله عليه وسلم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد البشر أجمعين، ومما يدل على فضله وكرمه وعلو منزلته عند الله أن الله أيده بالمعجزات الخارقة التي شملت كل ما أعطى الأنبياء قبله، فما من نبي سلف أعطاه الله معجزة إلا وأعطى نبينا ما يشابهها ويماثلها، ثم إنه خص بمعجزات معنوية وحسية فيها بيان زيادة فضله وشرفه عند الله جل وعلا.

معجزات الرسل

معجزات الرسل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد تكلمنا على سياق ما روي في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدرنا الباب على أن الله جل وعلا يختار من عباده أنبياء لهم مميزات وصفات تفضل مميزات وصفات البشر، وبينا الفرق بين النبي والرسول، والعلاقة بينهما، وبينا مقامات ومراتب الوحي.

الحكمة من تأييد الرسل بالمعجزات

الحكمة من تأييد الرسل بالمعجزات أقول: ما من نبي ولا رسول أرسله الله جل وعلا إلى قومه إلا أرسله لحكمة عظيمة، ومهمة جسيمة، وهي: إخراج الناس من عبادة الشيطان أو عبادة الأهواء أو عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، سحب الناس بالسلاسل إلى الجنان، وإنقاذ الناس من النيران، فعندما يأتي الرسول إلى قومه فإن الناس من الأرض، والأرض مختلفة، فمنها ما يقبل الماء فيتشربه فينبت الكلأ، فهذا أنفع وأفضل الناس على الإطلاق. ومن الأرض: ما لا يشرب الماء ولا ينبت الكلأ، وإنما هو قيعان يأخذ الماء فيحفظه، فيأتي الناس وينتفعون من هذا الماء. ومن الأرض الثالثة: الأرض الملساء، التي لا تشرب الماء فتنبت الكلأ فينتفع الناس به، ولا هي تأخذ الماء فتحوطه حتى ينتفع الناس بالماء؛ فلذلك الرسول إذا أتى الناس فلتفاوت عقولهم وتفاوت نقاوة قلوبهم، منهم من يصدق قبل أن يرى أي آية، ومنهم من يجادل حتى يرى برهاناً، ومنهم من يجحد جحوداً بيناً، وعلى مر الدهور والعصور ظهر ذلك الأمر. فمن أجل ذلك أيد الله جل وعلا رسله بآيات بينات باهرات، حتى يتبين لهؤلاء القوم فيقبلون من النبي أو الرسول الذي جاءهم واسطة بين الله وبينهم، فالله جل وعلا حبا الأنبياء بمعجزات وآيات حتى يصدقوا عند قومهم. فخاتم الرسل وأفضل البشر على الإطلاق -كما قلنا: سيد ولد آدم على الإطلاق- هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له كل هذه الخصال سبحانه وتعالى، فما من آية ولا معجزة حبا الله بها رسولاً إلى قومه إلا وترى شبه هذه المعجزة والآية موجودة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنبين.

تعريف المعجزة

تعريف المعجزة المعجزة: هي كل خارقة للعادة يقصد بها التحدي أو مقرون بها التحدي. فالمعجزة: كل خارقة من خوارق العادات، لكنها مقرونة بالتحدي، وهذا القيد مهم جداً؛ حتى نفرق بين المعجزة وبين الكرامة. فالكرامة: خارقة من خوارق العادات لكنها ليست مقرونة بالتحدي، ولا صاحب الكرامة يقوى أن يتنبأ فيقول: أنا نبي، فهو كذاب بهذا، أما النبي فيقول: أنا نبي، ويأتي بالمعجزات ويتحدى بها عباد الله جل وعلا، يتحدى أن يؤتى بمثلها كما سنبين، فهذا هو معنى المعجزة والفرق بينها وبين الكرامة.

معجزات الرسول المشابهة لمعجزات الأنبياء

معجزات الرسول المشابهة لمعجزات الأنبياء

معجزة غزوة الخندق ومشابهتها لمعجزات الأنبياء

معجزة غزوة الخندق ومشابهتها لمعجزات الأنبياء ما من نبي إلا وآتاه الله معجزة، فهذا نوح عليه السلام حباه الله جل وعلا أمام قومه معجزة بليغة جداً في عصره وهي السفينة، فكان يصنع السفينة على الرمال، فكان كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، أي: كأنهم يقولون: ماذا يصنع؟! أيظن أن هذه السفينة تسير على الرمال؟! ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس! فكانوا يستغربون ويقولون: جُن الرجل! وهي معجزة مخفية، والله جل وعلا بين هذه المعجزة عندما أمر السماء أن تهطل مطراً، وأمر الأرض أن تتفجر عيوناً قال تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]. ثم بعد ذلك لما قدر الأمر، وغرقت الدنيا وما فيها ظهرت هذه المعجزة، فنجى الله جل وعلا نوحاً ومن معه على هذه السفينة. فهل هناك شبه في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة نوح؟ نعم، غزوة الأحزاب، فالله جل وعلا ابتلى الكفار فيها بريح عاتية تقلع الجذور من مكانها وتطاير الناس، وما بين المسلمين والمشركين إلا هذا الخندق، والريح لا تأتي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم.

كرامة أبي مسلم الخولاني ومشابهتها لمعجزة إبراهيم عليه السلام

كرامة أبي مسلم الخولاني ومشابهتها لمعجزة إبراهيم عليه السلام كذلك إبراهيم عليه السلام حباه الله آية عظيمة أمام النمرود وأمام أهل الكفر؛ لأنهم قالوا: الذي سفه آلهتنا لابد أن نكيد له كيداً ويحرق، فأضرموا النار وألقوه فيها، فلما ألقوه كانت المعجزة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فأتاه الغيث من الله جل وعلا، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]. حتى أن الوثاق والحبل الذي وثقوا به إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام يحترق ولا تمس النار جسد إبراهيم! آية من آيات الله ومعجزة من المعجزات حتى يؤمنوا، ولكنهم قد طبع على قلوبهم. كذلك محمد صلى الله عليه وسلم حباه الله هذه الآية؛ ليبين عظم وشرف وعلو مكانة نبيه صلى الله عليه وسلم عنده وحباها الله لتابعي من أتباع رسول الله، وليس لرسول الله، وإذا كان الشرف يمس التابع فمن باب أولى أن ينسب إلى المتبوع. كان الشرف لـ أبي مسلم الخولاني عند أن أخذه الأسود العنسي وأراد تعذيبه؛ فقال بعض القوم: لو تركت هذا الرجل فسيفتنهم ولكن اقتله، فأضرم النار وألقى أبا مسلم الخولاني فيها فلم يحترق! وكانت هذه آية عظيمة جداً وتكرمة الله لهذه الأمة. فهذه الأمة مشرفة بشرف ليس بعده ولا قبله شرف مثله كما سنبين ذلك، فأنبياء يصلون خلف آحاد هذه الأمة دلالة على شرف هذه الأمة، وهذه الأمة شرفها وعزها في تمسكها بكتاب ربها وبسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن تخلت عن سبب الشرف ذلت، وسنة الله لا تتبدل أبداً، فالله جل وعلا شرف هذه الأمة بـ أبي مسلم حتى قال عمر بعد أن رآه: الحمد لله الذي أراني من أمة محمد رجلاً حدث له ما حدث لإبراهيم عليه السلام.

مشابهة معجزات رسول الله لمعجزات موسى عليه السلام

مشابهة معجزات رسول الله لمعجزات موسى عليه السلام كذلك موسى عليه السلام حباه الله تسع آيات عظام، وأعظم هذه الآيات انقلاب المادة المحسوسة إلى شيء آخر، فالعصا يلقيها فتصبح ثعباناً حياً، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف:107 - 108]. وقد حبا الله جل وعلا محمداً صلى الله عليه وسلم بما حبا به موسى وأكثر، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم جلس بين أصحابه في غزوة من الغزوات فأخذ عصاً مثل عصى موسى فهزها فانقلبت سيفاً صلتاًَ، وهذه نفس المعجزة! فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا يا رسول الله! فأحجم عنه، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير: وقال: أنا، فأحجم عنه، فقال الثالثة، فقام سماك بن خرشة رضي الله عنه وأرضاه أبو دجانة فقال: أنا يا رسول الله! فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السيف، الذي كان عصا وانقلب بيد النبي صلى الله عليه وسلم سيفاً، فأخذه أبو دجانة. انظروا إلى هذه الهمة العالية! {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فـ الزبير كأنه قال: لم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السيف لهذا الرجل وقدمه علي؟! لابد أن لهذا الرجل مزية على أصحابه، فقال: والله لأتتبعن هذا الرجل، فتتبع الزبير أبا دجانة فأول ما بدأت الغزوة تعصب أبو دجانة بعصابة حمراء، إذا رآها الأنصار قالوا: تعصب أبو دجانة بعصابة الموت. فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بحقه، حتى إنه كان يقتل مقتلة عظيمة من أهل الكفر، ورأى رجلاً ملثماً، -هي امرأة- يتتبع الجرحى يجهز عليهم، فقام سراعاً إليه فلما علاه بالسيف ولول فإذا هي امرأة فقال: أستحي أن أجعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس امرأة وتركها، فعلم الزبير أن هذا الرجل أخذ السيف بحقه. والمقصود: أن هذه الآية التي أوتيها موسى بانقلاب العصا إلى أفعى انقلبت العصا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً صلتاً. كذلك من الآيات التي أوتيها موسى عليه الصلاة والسلام القمّل والضفادع والطوفان، حيث دعا على قوم فرعون فأنزل الله عليهم هذه الأوبئة والأدوية. وكذلك دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على قومه فقال: اللهم عليك بهم، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلوا بنفس هذه الأمراض استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

مشابهة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لمعجزات عيسى عليه السلام

مشابهة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لمعجزات عيسى عليه السلام كذلك عيسى عليه السلام حباه الله أيضاً بعض الآيات العظام، ألا وهي الطب، فكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وكان يعالج مرضى الصرع والجنون فكانت آية عظيمة. كذلك: أكرم الله هذا النبي العظيم بنفس المعجزات؛ ليبين جلالة قدره وعلو مكانته عنده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عالج المرضى بمعجزة من المعجزات التي حباه الله إياها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الغار مع أبي بكر وكان في الغار ثغرات سدها أبو بكر بجميع ما عنده، حتى إنه ما وجد شيئاً إلا رجله في ثغرة من الثغرات فسدها برجله، فلدغته عقرب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً على فخذ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم يخرج صوتاً خوفاً من أن يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي رجل هذا الذي يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه؟! لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا من منا من يقدم نفسه من أجله صلى الله عليه وسلم؟! والله ما أرى ذلك، وعندي الدليل في ذلك، وهو: أن موت النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني موت سنته، ونحن نقدم الأهواء والعقول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقدم آراء أسافل الناس على سنته صلى الله عليه وسلم، فما رأيكم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً؟ والله أعلم هل كنا سنؤمن به أم لا؟ ولكن فضل الله علينا عظيم، الغرض المقصود: بكى أبو بكر ونزلت دموعه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وعلم الخبر فمس بيده الشريفة رجل أبي بكر فكان أبو بكر كأنما نشط من عقال، أي: كأنه لم يصب بشيء! كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر -اللهم أعد علينا خيبر يا رب العالمين! نسأل الله ربنا أن ينصر أهل الإسلام على أهل الكفر، ولكن لا تتوقعوا في هذه الأزمنة النصر إلا أن تعودوا إلى ربكم، والله لن ننتصر بقومية ولا حزبية، ولا بأغاني ولا بتمثيليات ومسرحيات، لن ننتصر بهذا قط، بل سننتصر بقوة الله وقوة الله لا تتنزل إلا على الذين اصطفاهم الله جل علا- أعاده الله علينا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، فباتوا يدوكون ليلتهم أيهم يعطى هذه الراية)، وكان ممن تشرئب عنقه لهذه الراية عمر الفاروق، فكان يتنافس على الخير، قال: وددت هذه الراية أن تكون لي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيدها بقيدين مهمين: (يحب الله ورسوله) فهذا فيه دلالة على الصدق والإخلاص في قلبه، وقوله: (ويحبه الله ورسوله) فيه دلالة على مكانته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، المهم: (إنه لما جاء الصباح سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن علي فقالوا: يشتكي عينه، فجاء علي فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في عينه، قال: فرأيت بها أشد ما أرى بالعين السليمة). وأيضا لما ذهب عبد الله بن عتيق رضي الله عنه وأرضاه فقتل أبا رافع الذي كان يهجي النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما خرج من الباب سقط فكسرت ساقه؛ فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليها، فقام الرجل كأن ليس به بأس.

المعجزات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم

المعجزات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فرسول صلى الله عليه وسلم أوتي هذه المعجزات التي حبا الله بها الأنبياء، ثم خصه الله جل وعلا بمعجزات عظيمة مقسمة على ثلاثة أقسام: علم، ومعناه: الإنباء بالغيوب، وقدرة، ومعناها: ما يحدث حسياً ومادياً أمام الناس، واستغناء، ومعناه: أن يحدث له استغناء عما يفتقر له الناس كما سنبين، وهذا تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

من المعجزات الخاصة برسول الله اطلاعه على عالم الغيب

من المعجزات الخاصة برسول الله اطلاعه على عالم الغيب الأولى: مما خصه الله جل وعلا به: أن ينبئ بعلم الغيب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينبئ بما يحدث في زمنه أو بعده بقليل حتى تكون معجزة، فأنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهزيمة كسرى وعلو الروم، فقال تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، ولذلك راهن أبو بكر على أن الروم ستغلب، وكتب الرهان مع قريش، والعلماء استنبطوا فقهياً أنه في هذه الحالات يجوز الرهان، أي: يجوز أن تراهن على أمر أنت متأكد تأكداً تاماً أنك ستفوز فيه، فـ أبو بكر راهن على غلبة الروم؛ فحدث وغلبت الروم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما تعقبه سراقة، قال: (أين أنت يا سراقة عندما ترتدي سواري كسرى؟)، ففتح الله المدائن، وخربت فارس، وسواري كسرى أخذهما سراقة، وبينها عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال: مصداقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم أنبأ بما يحدث بعد ذلك كما هو ماثل أمامنا في هذه العصور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنوات خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة) وهذا واقع مشاهد، فكثير ممن تصور بصورة العلم وتكلم عنه وليس أهلاً له، وكذا كثير ممن تكلم في أمور العامة ليس أهلاً لها، فالرويبضة والفواسق كثروا في عصرنا، والمستمعون لهم أكثر، كهمج الرعاع، كما قسمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: الناس على ثلاث: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. والناعق: الرويبضة، والذين يتبعونه هم العامة، والعوام هوام وهم الذين لا يميزون بين الحق وبين الباطل. كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويفشو الجهل، وينتشر الزنا). والآن نحن في هذه العصور قد قبض العلم؛ لأن الله جل وعلا لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. وجبال أهل العلم ماتوا ورحلوا عنا، حتى أن شمس العلم كأنها غابت عنا، والساحة الآن أصبحت خالية خاوية من أهل العلم، فكل من ترون أو كل من تستمعون له أو كل من تصدر ما هو إلا داع، والدعاة الفارق بينهم وبين العلماء كما هو الفارق بين السماء والأرض، فالعالم يسيّر أمة، والداعي يؤثر في العامة، فالفارق بعيد، فالعالم هو الذي يرسم لأهل الدين والإسلام كيف يسيرون على نسق يرضي الله جل وعلا؛ فينتصرون بذلك، والداعي ما هو إلا جامع للناس حتى يستمعوا إلى العالم. كذلك: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيختبئ كل يهودي خلف الشجر والحجر، فينطق الشجر والحجر يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله). والراجح في ذلك والله أعلم: أن هذه المقتلة لن تكون إلا مع الدجال، ولن تكون قبله، فهذا الراجح والله أعلم وذلك عندما يفر الدجال من عيسى وينزل عيسى عليه السلام فيقتله، ثم يقتل المسلمون بني إسرائيل هؤلاء، وهذه تكون على مشارف علامات الساعة الكبرى. كذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشراط الساعة الكبرى بالمغيبات.

المعجزات المعنوية

المعجزات المعنوية الثاني من المعجزات: المعجزات المعنوية، ومن المعجزات المعنوية أكبر معجزة أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم معجزة له وهي القرآن، حيث نزل بلسان قومه، وكانت قريش والعرب أفصح الناس بلاغة ترتقي إلى السماء، كان الواحد منهم إذا جلس فقال شعراً حفظ الحاضرون كل هذا الشعر، فإذا سكت قاموا فرددوا عليه شعره الذي قاله، ويذكر أن بعضهم قام خطيباً في الناس وكان ألثغ لا ينطق، حرف الراء إلا بصعوبة، فكان لا يستطيع أن ينطق حرف الراء من مخرجه، فقام فنثر شعراً أمام الناس حوالي ألف بيت لا يوجد به حرف راء، من الفصاحة والبلاغة، فأنزل الله هذه المعجزة الكبرى بلسانهم وتحداهم بها، وهي القرآن بفصاحته وبلاغته؛ لأنه كلام الله جل وعلا تكلم به وسمعه جبريل، فأسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأعجزهم الله بذلك قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] وقال تعالى متحدياً لهم: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، ثم تنزل وقال: (فأتوا بسورة من مثله)، ثم تنزل وأمرهم أن يأتوا بآية، ثم بين عجزهم فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].

المعجزات الحسية

المعجزات الحسية أما المعجزات الحسية التي حبا الله النبي صلى الله عليه وسلم بها فهي كثر منها: أولاً: الإسراء والمعراج: فهذه من المعجزات الحسية التي وهبها الله لهذا النبي حتى يصدق بين قومه، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فهذه المعجزة شوش علينا أهل البدع والضلالة حتى لا نعتقد فيها أن تكون معجزة كبيرة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال المعتزلة ومن وافقهم من أهل البدع: حادثة الإسراء ليس بالجسد والروح، بل بالروح، فلازم قولهم: أن الإسراء ما كان بالجسد وإنما كان بالروح فقط أي: كانت رؤيا منامية فقط. ونحن نرد عليهم بعدة أدلة، أولها: لو قلتم مناماً لضيعتم هذه المعجزة ولأبدتموها، ولكنها بالجسد والروح بالأثر والنظر، أما بالأثر فقد قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] فالباء هنا باء خطاب لا باء تبعيض يعني: جزء منه، وهي الروح؛ لأنه قال: (بعبده) وعبد مفرد مضاف فيعم العبد كلية، بجسده وبروحه، فأسرى الله بنبيه صلى الله عليه وسلم بجسده وبروحه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ثانيها: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] أي: رأى النبي جبريل عليه السلام على صورته مرة أخرى، فإذا رآه على صورته يكون بالروح أو بالجسد والروح وبأم عينه؟ بعينه، إذاً: كان المعراج بالجسد والروح، وكان يصعد إلى الله جل وعلا وينزل إلى موسى، فيكلمه موسى ويراجع ربه على الخمسين صلاة. فقوم قريش اعترضوا اعتراضاً شديداً جداً، وأرادوا أن يكذبوه أمام أبي بكر فقالوا: انظر إلى صاحبك يزعم أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراًَ إياباً حتى نصل إلى بيت المقدس ونرجع إلى مكة، وهو يقطعها في ليلة واحدة؟! فاعترضوا على الجسد والروح لا المنام، فهذه معجزة أيضاً حباها الله هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي معجزة الإسراء. كذلك من المعجزات الحسية: نبع الماء من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا في صلح الحديبية قد قل الماء عندهم، سواء أكان للشراب أم للوضوء، فجاء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه بركوة فيها ماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقوم عطشى ويريدون الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر جابراً أن ينادي على صحابته فجاءوا تباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع يده الشريفة على الماء فنبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ القوم وشربوا، فسئل جابر: كم عددكم؟ فقال: لو كنا عشرة آلاف لشربنا وتوضأنا، من كثرة الماء الذي نبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك من المعجزات الحسية التي حبا الله بها هذا النبي وميزه عن باقي الأنبياء: بركة الطعام في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي يوم الحديبية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربط حجرين على بطنه وكل صحابي من الصحابة يربط حجراً واحداً على بطنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع يربط حجرين على بطنه، وأبو طلحة سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم خافتاً فعلم أن هذا من شدة الجوع؛ فذهب فزعاً إلى أم سليم فأعد طعاماً، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال أنت والنفر الذين معك، وكانوا خمسة أو ثلاثة، فهو قال: خمسة يكفي بما عندنا من طعام، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في القوم: أن هلموا كل من كان موجوداً تعالوا، فكاد قلب أبي طلحة أن يطير، يقول: ما عندنا طعام من أين سيأكلون؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما أخذ صحابته إلى أم سليم قال: ائتني بالطعام، فأخذ الطعام ثم تفل فيه، وفي رواية أخرى: قرأ عليه ما شاء الله أن يقرأ، ثم بعد ذلك أمر أصحابه أن يدخلوا عشرة عشرة تباعاً، فيدخل العشرة فيأكلون حتى يشبعوا وتمتلئ بطونهم، ثم يخرجون ويدخل عشرة غيرهم، فيأكلون حتى تمتلئ بطونهم وهكذا، وهذا من بركة تفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام، أو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. كذلك من المعجزات الحسية التي خص بها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت تنبئ وتعلم الناس بصدقه: أنه كان ما رفع يده إلا استجيب له. مثلاً: فـ أبو هريرة كانت أمه كافرة، وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء مرة أبو هريرة مغضباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن به شيء فسأله، فقال: ادع لأم أبي هريرة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لها، فذهب أبو هريرة يقرع عليها الباب فتلكأت، ثم بعد ذلك أدخلته، فوجد أنها كانت تغتسل، ثم تشهدت لله جل وعلا، وأسلمت بفضل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك الدعاء في الاستسقاء، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة جاء رجل فقال: يا رسول الله! هلك المال أو الأولاد والعيال ادع الله أن يسقينا، نزل القحط على المدينة فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا الله جل وعلا؛ فجاءت سحابة فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هطل المطر، وما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا وقد أغرقت المدينة بالأمطار. فهذه أيضاً من المعجزات التي حبا الله رسوله صلى الله عليه وسلم. من آخر المعجزات التي نتكلم عنها: هي انشقاق القمر، فقد كانت معجزة من المعجزات الباهرة لأهل قريش الذين تعنتوا حتى يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائتنا بآية، وألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله لرسوله بهذه الآية، فانشق القمر قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]، فانشق القمر؛ فنظر القوم إليه فإذا هو نصفين، شق عن يمين، وشق عن يسار! والأصل أنهم مع ذلك لابد أن يؤمنوا، فإن القمر قد انشق أمامهم فهي معجزة وآية من الآيات، فقالوا: لا، سحرنا محمد! ثم قال العاقل فيهم: إن محمداً لن يسحر جميع الناس، انتظروا الوفود التي تأتي من خارج مكة لعلهم رأوا القمر مكتملاً، فانتظروا الوفود فسألوهم، فكل منهم يقول: رأينا القمر انشق نصفين. وهذه آية أيضاً من الآيات التي حباها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تدل على صدقه، ولكن إذا أراد الله أن يغوي قوماً فلن تجد لهم هادياً، من قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وقد جاء العلم الحديث يصدق بذلك فقيل: إنهم صعدوا سطح القمر فوجدوا آثار هذا الانشقاق لكن ما آمنوا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، فهم أغبي من الحيوانات؛ لأن الله أراهم آيات عظام حتى في الجسد، فهم يحللون الأوعية الدموية، ويرون عظم خلق الله جل وعلا في الإنسان، ومع ذلك لا يؤمنون. أختم من الآيات والمعجزات الباهرات التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان صلى الله عليه وسلم يسير في مكان الشمس فيه حارقة إلا وترى النخل يأتي بعده أو الأشجار تأتي بعده لتظلله، وهذه هي المعجزة التي تكلم عنها الراهب بحيرا لما نظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صغير مع عمه أبي طالب قال: هذا سيد العالمين! هذا رسول رب العالمين! هذا رحمة للعالمين! فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: عرفته من آيات، ثم ذكر الآيات، قال: ما مر على العقبة إلا وكل شجر وحجر ساجد، وهذا لا يكون إلا لنبي، ثم ما جاء على شجر إلا وهو يظلله، يعني: كان القوم يجلسون والشجر يظللهم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، تركهم الشجر وظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعرفته بخاتم النبوة الذي هو كبيض الحمامة في ظهره. وأيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يختلي ليقضي حاجته بحث عن مكان يبعد فيه، فبحث مرة عن مكان حتى يقضي حاجته دون أن يراه أحد فلم يجد، فأخذ شجرة بغصنها يجرها وراءه، ثم أخذ الأخرى فمشيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضمهما ليكونا ساترين له صلى الله عليه وسلم، ثم قضى صلى الله عليه وسلم حاجته. فهذه بعض المعجزات التي حبا الله بها رسوله، فهي دلائل واضحات حتى يظهر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ولعلهم يستيقنون في ربهم فيعملون بسنته صلى الله عليه وسلم. يبقى لنا الكلام على الكرامات، وهل حدث لهذه الأمة كرامات أم لا؟ من أيام القرون الأولى إلى يومنا هذا توجد كرامات كثيرة جداً، حدثت حتى لـ سفينة مع الأسد، والعصا التي أضاءت لـ أبي رضي الله عنه وأرضاه، والملائكة التي كانت تسلم على عمران بن الحصين، كل هذه سنتكلم عنها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

خصائص النبي والفرق بين المعجزة والكرامة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خصائص النبي والفرق بين المعجزة والكرامة لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بأن شرع لهم الإسلام وهداهم إليه، واصطفى من خير خلقه من يبين للناس هذا الهدى والنور، وأيده بالمعجزات الدالة على صدق نبوته، لكي يؤمن به العباد، وينقادوا لدين رب الأرباب، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وخصها بخصائص وسمات لم تكن في الأمم السابقة؛ لكرامة هذا النبي عنده، ورحمة منه وفضلاً، فإن آمنت وصدقت علت وارتفعت وسادت، وإن كذبت وعاندت ذلت وهانت، وضربت عليها الذلة والمسكنة كما حصل للأمم من قبلها.

طرف من خصائص المصطفى عليه الصلاة والسلام

طرف من خصائص المصطفى عليه الصلاة والسلام إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: تكلمنا عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الله وهب لرسولنا ما وهب للأنبياء والرسل من معجزات، وقد خص الله النبي الكريم بخصائص غير التي أعطاها للأنبياء غيره صلى الله عليه وسلم، واليوم إن شاء الله نختم هذا الباب في الخصائص التي خصه الله بها. فمن الخصائص التي اختص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: أنه فضله عليهم، وجعله إمامهم، وذلك عندما أحيا الله جل وعلا له الأنبياء ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى، نسأل الله جل وعلا أن يحرره من أيدي الغاصبين. الخاصية الثانية: عموم الرسالة، فما من نبي أرسله الله إلى قوم إلا وكانت دعوته خاصة بهم أي: لم تكن عامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (وكان كل نبي يبعث إلى أمته خاصة وبعثت إلى الناس عامة -أو كافة-). وقد قال الله تعالى آمراً رسوله أن يقول للناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، فهذه خصيصة خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين. أما الخصيصة التي اختصت بها هذه الأمة: فهي أن الله شرف هذه الأمة بأن تكون خير أمة أخرجت للناس، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] فهي خير أمة مع أنها الآن في ذلة ومهانة، وذلك لأن قول الله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) ليس على إطلاقه، وإنما هذه خصيصة لرسول الله وتشريفاً له، ولأمته، والله جل وعلا لم يجعل هذه الخيرية مطلقة، ولكن قيدها بقيود وسمات وصفات إذا وجدت وجدت الخيرية، كالحكم مع العلة، فالحكم يدور مع علته حيث دارت، فإذا وجدت وجد الحكم وإذا انتفت انتفى الحكم. إذاً: هناك سمات لهذه الأمة وصفات إذا وجدت وجدت لها الخيرية وعزت وانتشرت تشريعاتها في ربوع الأرض، وإذا انتفت هذه السمات والصفات انتفت الخيرية كما نعيش في هذا الواقع المر، فالغرض المقصود: هو أن نعرف السمات والصفات التي إذا اتسمت بها هذه الأمة كانت خير أمة أخرجت للناس.

الصفات المعقود عليها خيرية الأمة

الصفات المعقود عليها خيرية الأمة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأول سمة من هذه السمات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)) وتطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان). فخيرية الأمة مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان هذا دأب الصالحين من هذه الأمة. وكان دأب رسول الله وصحابته أنهم لا يرون منكراً فيسكتون عليه، ولا يرون معروفاً إلا ويأمرون به، حتى في المكروهات والمستحبات، فعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان في السوق فشرى زيتاً وقبل أن ينقله من مكانه جاءه تاجر يشتري منه هذا الزيت بربح أكبر، فضرب رضي الله عنه وأرضاه على كتفيه منكراً عليه، وقال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إذا ابتاع أحدكم فلا يبعه حتى يستوفيه) أي: حتى يحوزه. حتى في الاجتهاد، أي: لو اجتهد عالم من علماء الصحابة فأخطأ ما كانوا يصبرون عليه، فهذا ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يقول بحل نكاح المتعة، وما الفرق بين نكاح المتعة والنكاح المؤقت؟ ونكاح المتعة: هو أن يتمتع الرجل بالمرأة مدة محدودة، مشروطة بينهما، ويفسخ العقد بعد انتهاء المدة، وهذا هو القيد، فإذا كانت مدة المتعة أسبوع فاليوم السابع يفسخ العقد، ويكون لها مهر يعطيها من استحل فرجها. هذا هو نكاح المتعة، وقد كان حلالاً ثم حُرِم. وقد حلل في خيبر وحرم فيها أيضاً، وذلك عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً وقال: (حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، وحرم نكاح المتعة، ثم أحل نكاح المتعة مرة ثانية، ثم حرم في الفتح) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمه إلى يوم القيامة بالنص، فحرم ثم حلل ثم حرم بعد ذلك إلى يوم القيامة، وإنما هذا لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانت فيهم فتوة، فما كان يستطيع الواحد منهم أن يسافر شهراً، للقتال مثلاً وليس عنده نساء، فحلل لهم نكاح المتعة، ثم بعد ذلك حرم عليهم نهائياً. أما النكاح المؤقت فهو نوعان: النوع الأول: هو أن يؤقت في العقد مشترطاً فيه، كأن يقول: سأتزوجك شهراً، فهذا النكاح المؤقت بالشهر هو نكاح متعة. النوع الثاني: وهو أن لا يشترط في العقد أي وقت، لكن يضمر في نفسه الطلاق بعد شهر مثلاً فهذا اختلف فيه العلماء على قولين: القول الأول: قول الجمهور: إن العقد صحيح لا يشوبه شيء؛ لأن المهر مسمى والإيجاب والقبول والولي موجود، وإنما أضمر في نفسه الطلاق، فقال جمهور الفقهاء وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية: أن هذا العقد عقد صحيح. القول الثاني: وهو لبعض العلماء، قالوا: إن العقد لا يصح؛ لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا من حيث الأثر. وهذا هو الراجح الصحيح، فالذي يسافر إلى أوروبا من أجل أن يتزوج بامرأة لمدة شهر ثم يطلقها، فهو آثم ولا يصح له هذا العقد على الراجح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). أما من حيث النظر: فهل كل واحد منا يرضى أن أخته أو بنته تتزوج برجل على أن يتمتع بفرجها شهراً ثم يتركها ويذهب، فإن أضمر في نفسه شيء يقدح في العقد فإن العقد بذلك لا يصح، وهو بذلك يقع في الزنا لا محالة، بل إن بعضهم قال: لو يقع في الزنا وليس عنده مال ولا نكاح ولا يستطيع فله أن يبدل أخرى. إذاً فالمقصود: أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يبيح نكاح المتعة، فقال علي بن أبي طالب: ألا يتق الله ابن عباس! أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها يوم كذا ويوم كذا. وأيضاً: زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يقول: إن الجد يشترك مع الإخوة في الميراث أي: أن الجد لا يحجب الإخوة، فهل الحجب هنا حجب حرمان أم حجب نقصان؟ لو قلنا على المذهب الراجح: فهو حجب حرمان، ولو قلنا على التشريك: فهو حجب نقصان. والمهم في ذلك: أن زيد بن ثابت كان يقول: إن الجد مع الإخوة يشتركون في الميراث، وهذا قول الشافعي وقول جمهور العلماء، أما ابن عباس فكان يقول: ألا يتق الله زيد بن ثابت! أما يعلم أن الله جل وعلا سمى الجد أباً في كتاب الله، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف:38] وإبراهيم كان جداً ليوسف عليه السلام. فكان ينكر المنكر رضي الله عنه. فالأمة خيريتها مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالاستطاعة، فمن استطاع بيده ولم يأت بمضرة فلينكر بيده، ومن استطاع بلسانه فلينكر بلسانه، ومن لم يستطع فلينكر بقلبه. كان بعض أهل الفتوى وهو من أهل العلم يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتصر باليد على الحاكم، وباللسان على أهل العلم والعلماء، وبالقلب على الناس العامة. مسألة: حدثت عندنا في مصر مشاحنة بين شاب وبنت فأخذها واغتصبها أمام الناس، فهل لو قلنا بقول هذا الرجل المقلد الذي لا يعلم شيئاً، أن العامي ينكر بالقلب ويمشي، والعالم إذا جاءه لا يضربه ويبعده، وإنما يقول له: هذا حرام اتق الله في نفسك، هذا كلام باطل، فالأمة خيريتها كلها ارتبطت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). ومن سمات الخيرية: تحكيم شرع الله، ولا بد أن نقارن بين الرعيل الأول الذين كانوا ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف، وبين هذه الأمة التي ضاعت منها الخيرية وذلت، وأهينت؛ لأن المعروف انقلب منكراً، والمنكر انقلب معروفاً، ترى المجون من الممثلين والممثلات، وأهل الكرة، وهؤلاء هم الذين يتكلمون في الدين، أما أهل الدين فهم خلف الظهر ويوصفون بأنهم متشددون، وإرهابيون، ويأتي الرجل الجاهل يتكلم في الدين هذا يجوز وهذا لا يجوز. ووجدت ممثلة ساقطة سفيهة كانت تقول: ما هو الفرق بين ابن لادن وشارون؟ هذه جاهلة سفيهة سوت بين رجل رفع راية لا إله إلا الله ولم يعط الدنية في دينه، برجل كافر خنزير من أحفاد القردة والخنازير، وتقول: ما الفرق بينهما؟ هذا إرهابي وهذا إرهابي. وأشد منها سفاهة أخرى تتصل وتقول: هل نأخذ ديننا من الرجل الذي يقول: إن من يقول: إن الكرة الأرضية تدور فهو كافر؟ تقصد بذلك ابن باز الذي عقمت النساء أن تلد مثله، أعلم أهل الأرض على الإطلاق؛ لأنه جمع بين علم الحديث وعلم الفقه رحمة الله عليه، وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء. فهذه السفيهة الجاهلة التي تؤثر على الجاهلات مثلها قالت: هل نأخذ ديننا من رجل يقول: من قال: إن الأرض تدور يكفر؟ والشيخ ما قال هكذا، ولو نظرت إلى ما يقوله الشيخ لوجدت أن الرجل عنده من العلم ما يبين لك قوته العلمية، فالحاصل أن الشيخ يقول: الشمس تدور، وأهل الجغرافيا دائماً في المدارس يقولون: الشمس ثابتة، والأرض تدور، وهذا ظاهره تكذيب الله جل وعلا حيث يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] فالشيخ ابن باز كان يقول: الشمس هي التي تتحرك والأرض ثابتة لا تتحرك، وإذا نظرت إلى قول الشيخ لوجدت أن الرجل بصير العلم، فعنده من الكتاب ما يساعده على قوله، قال الله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15] فعلماء الجيولوجيا وعلماء الصخور والجبال قالوا: الجبل الأشم الشامخ الشاهق الذي طوله خمسة عشر متراً فوق الأرض، تحته ثلاثون متراً. فالله جل وعلا جعل هذه الجبال الشواهق رواسي حتى تثبت الأرض فلا تضطرب بالناس، فلا يستطيعون العيش عليها، وهذا من رحمة الله بالعباد، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15] أي: لئلا تميد بكم، فالأرض ثابتة لا تتحرك، هذا من ناحية الأثر. أما من ناحية النظر: فلو قلنا: إن جبل أحد الذي في المدينة خلف المسجد النبوي -إذا كانت الأرض تدور- انتقل من المدينة إلى مكة أي: تغير من مكانه حين ينتقل من المكان الذي كان فيه بسبب الدوران، مع أننا ما زلنا نرى جبل أحد مكانه. أيضاً: لو أن الكرة الأرضية تدور لانقلب البعيد قريباً والقريب بعيداً. فمثلاً: الإمارات والسعودية بينهما مسافة خمسة وثلاثين كيلو، فلو كان الطيران يصل خلال أربع ساعات فإنه بعد انتهاء الدورة سيصل في ساعتين، وما زلنا طول حياة الطائرات نأخذها في أربع ساعات، لا يتأخر الثانية الواحدة، لكن وإن كنا نخالف هذا الكلام؛ لأن العلم الحديث أثبت أن الأرض تدور ولا مخالفة لقول الله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15] نقول: هو جعل الجبال الرواسي حتى لا تضطرب الأرض بمن عليها، فلا يستطيعون العيش عليها، وإنما تدور دون أن تتمايل وتضطرب بالناس. فالغرض المقصود: أن الرجل عنده من العلم وعنده من الأثر والنظر ما يقوي اجتهاده، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، فتأتي السفيهة تقلب المعروف منكراً، وتقول: نأخذ الدين من هذا الرجل. أنا جلست مع رجل أتكلم معه على معاملة شرعية فقلت له: هذه المعاملة لا تجوز شرعاً؛ لأنك تبيع ما لا تملك، والألباني قال في المسألة بكذا. فرد علي بأن الشيخ الألباني يعلم في الحديث وليس له سعة بالفقه، فجلست قدر إمكاني أذب عن الرجل؛ لأن الشيخ الألباني جبل، كما قال الذهبي في البخاري لما قال ابن حزم: إن البخاري مدلس. فقال الذهبي: أما ا

تحكيم شرع الله تعالى

تحكيم شرع الله تعالى أيضاً: من الصفات التي تتعلق بالخيرية: تحكيم شرع الله، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]. وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. فتنحية الشرع شغب وخراب، والمؤمنون لما مكن الله لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحكموا شرع الله جل وعلا، وأقاموا الحدود، وكانوا مثلاً رائعاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقسم ويقول: والذي نفسي بيده لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها، تحكيماً لشرع الله جل وعلا، ولما سرقت المرأة المخزومية وأراد بعض الناس أن لا يُقام عليها الحد، وقام أسامة شفيعاً لها اشتد النبي على أسامة، ورد عليه بهذا الكلام: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يشتد على الناس تحكيماً لشرع الله جل وعلا، وكان يدخل على التجار؛ لأن هذا من الشرع، أي: المعاملة من الشرع ومن الدين، فيدخل عليهم عمر ويقول للتاجر: تعلمت البيوع؟ فيقول: لا، فيضربه بالدرة، ويقول: والله! ستقع في الربا لا محالة، وكان يذهب إلى أهله ويقول: إني آمر الناس بشيء فأنتم أول من تفعلوه، فإن تقاعستم جلدتكم. وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه مطواعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، محكماً لشرع الله، يرى أن أمر الرسول لا بد له من النفاذ. فالغرض المقصود: أن تنحية الشرع سبب ذلت الأمة، أخذت دستورها من الناس بدلاً من شرع الله جل وعلا، فحكمت القوانين الوضعية، فكانت النتيجة أنهم ذلوا وأهينوا وخسروا، والذي نفسي بيده! أن هذه الأمة لن تقوم لها قائمة إلا إذا رجعت إلى كتاب الله، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم فحكمت شريعة الله، والله لا بالغناء ولا بالتمثيليات ولا بالمسرحيات، ولا بالعاطفة، ولا بالتبرعات، ولا حتى بالعمليات الاستشهادية إن كانت لغير الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو! لن تستمطر هذه الأمة رحمة الله ونصره حتى ترجع إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. ومن سمات هذه الأمة التي علقت الخيرية بها، أنهم كانوا أزهد الناس في الدنيا؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وقوله: (الدنيا ملعونة معلون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه). وكان عود الحصير يؤثر على جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إباحة الغنائم لرسول الله ولم تبح لأحد قبله

إباحة الغنائم لرسول الله ولم تبح لأحد قبله من الخصائص التي اختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه أحلت له الغنائم، ولم تحل لأحد قبله، فكان الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الغنائم، فإذا دخلوا معركة وغنموا فيها شيئاً فإن هذه الغنيمة كان لها موضع يضعونها فيه، وتنزل نار من السماء فتأكلها، وما كانت حلالاً لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فشرف الله النبي صلى الله عليه وسلم بأن أحل له هذه الغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي قبلي) وهذا فضل الله على هذا الرسول.

جعل الأرض مسجدا وطهورا للنبي وأمته

جعل الأرض مسجداً وطهوراً للنبي وأمته ومن الخصائص التي اختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم: أن جعل له الأرض مسجداً وطهوراً، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الأمم قبله ما كانوا يصلون إلا في البيع والصوامع، وليس عندهم مكان آخر يصلون فيه. أما هذه الأمة فقد خصها الله جل وعلا بأن أي امرئ أدركته الصلاة في أي بقعة من بقاع الأرض -إلا المقبرة والحمام- وكان معه ماء يتوضأ ويصلي، وإن لم يكن معه ماء فالصعيد الطيب طهور له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو لم يجد الماء عشر سنين) فيتيمم ثم يصلي ولو عشر سنين، وهذه خصيصة ورحمة لهذه الأمة.

نصر النبي على عدوه بالرعب

نصر النبي على عدوه بالرعب ومن الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب، فكان ما يسمع أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعداء الله، بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجيش الجيوش حتى يغزوهم إلا وأسلموا له قبل أن يغزوهم. قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] فهذه خصيصة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد زالت الآن من المسلمين وانقلب الحال، فنصر الكفار علينا بالرعب، ما أن تسمع في أي بلدة من البلاد الإسلامية بأن أمريكا أو روسيا تجيش الجيوش أو حتى فقط تتحرك في البحار إلا سلموا لهم المفاتيح والرجال والنساء، وسلموا لهم الأموال، فنصروا علينا بالرعب، فأذلنا الله جل وعلا؛ لأننا لم نفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فما منا أحد إلا ويلهث وراء الكراسي أو وراء الدرهم والدينار، عبد الناس الآن الدرهم والدينار، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش). وقال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] فأهل زماننا تمسكوا بهذا الهشيم، وبهذه الدنيا، فوضع في قلوبهم الرعب، والوهن، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.

تسوية الصفوف من خصائص الأمة وتركه من أسباب الفشل

تسوية الصفوف من خصائص الأمة وتركه من أسباب الفشل من الخصائص التي خص الله بها نبيه، وخص بها هذه الأمة: أن هذه الأمة تصطف كما تصطف الملائكة، وهذا أضعف شيء نتكلم فيه، فالأمة مهزومة الآن، أقسم بالله أن سبب هزيمة الأمة: هو عدم تسوية الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استووا لا تختلفوا فتختلف قلوبكم). وقال: (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم، أو قلوبكم). فالأمة لا تستوي الآن كما كان يستوي الصحابة رضوان الله عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذه الخصيصة له، فيقول: (فضلت على الأنبياء أنا وأمتي بأننا نصطف في الصلاة عند مقابلة الله، كما تسوى الملائكة، وقد كانت الملائكة تسد الفرج، وكانت تكمل الصف الأول فالأول، تسوى المنكب بالمنكب والكعب بالكعب). فالأمة الآن لا تمتثل بهذا، حتى الإمام يقول: استووا رحمنا وإياكم، الله أكبر، فيكبر وليس له من الأمر شيء، وكأن الأمر لا يعنيه، أنا كنت أصلي بالناس في هذا المسجد، وأنا لا أستطيع أن أصلي حتى أرى أن الصف كله قد استوى: المنكب بالمنكب والكعب بالكعب، وأنا أسوي الصفوف إذ طلع علي رجل وقال: ما هذا؟ أترانا غنم، أنت تسوي غنم يا غنم، فقلت له: لستم غنماً لكني أفعل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فعدم استواء الصفوف هو سبب هزيمة الأمة، فالأمة الآن لا تهتم حتى بالسواك، ولا بأي شيء من أمور الشرع، فهذه الخصيصة التي أضعناها ضعنا معها وذلت الأمة معها.

الشفاعة العظمى

الشفاعة العظمى آخر الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم: الشفاعة، ما من نبي إلا ويقول يوم القيامة: نفسي نفسي، يشتد الكرب، ويعظم الخطب، وتقرب الشمس قدر ميل من رءوس الخلق، والناس يلجمهم العرق كل بعمله، فمنهم: من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم: من يكون إلى ركبتيه، ومنهم: من يكون إلى حقويه، ومنهم: من يصعد إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وكل الناس يذهبون إلى آدم في هرولة وفزع، فيقولون: أنت أبو البشر، اشفع لنا أن يقضي الله بيننا، فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح، ونوح يقول نفس الكلام، اذهبوا إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيل إلى موسى، وموسى يحيل إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، فيأتي الناس إلى عيسى عليه السلام فيقول: اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا لها، أنا لها). وفي رواية يقول: (أمتي أمتي) لا يقول: نفسي نفسي، فيذهب فيسجد لله جلا وعلا، عند العرش فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهل له، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، وهذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشفع لكل الأمم أن يقضي بينهم حتى يرفع عنهم الكرب، هذه آخر الخصائص التي نذكرها مما خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم.

واجب الأمة نحو نبيها

واجب الأمة نحو نبيها إذا علمنا أن هذا النبي هو سيد الأولين والآخرين، وأنه أكرم على الله من أي أحد من الأنبياء، فيجب علينا نحوه عدة واجبات: أولها وأهمها بل لا يتم الإيمان إلا بها: هو محبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه وهواه). وفي رواية: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. فقال عمر يا رسول الله، أنت أحب إلي من الناس أجمعين، لكن من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر، فقال: الآن يا رسول الله، قال: الآن يا عمر) أي أن عمر قال: أنت أحب إلي من نفسي، فلا يستقيم إيمان المسلم حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، ولما أيقين الصحابة بذلك ضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية دون نبيهم، لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الغار أولاً خشية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسد كل فتحة في الغار، وما بقيت إلا فتحة واحدة فسدها برجله رضي الله عنه وأرضاه؛ خوفاً على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونام النبي صلى الله عليه وسلم على فخذه، حتى جاءت حية فلدغت أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، فخاف أن يوقظ رسول الله، فما خشي على حياته ولكن خشي على قلق رسول صلى الله عليه وسلم فما تحرك، حتى ذرفت عينه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على رجله فبرئ رضي الله عنه وأرضاه. وكان يمشي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخشى من العدو أن يأتي من الخلف فيذهب خلفه، ثم يذهب إلى اليسار وهكذا؛ لأنه يعلم أن شمس الإسلام ستشرق مع هذا الرسول الكريم. وكذلك طلحة رضي الله عنه وأرضاه كان الرسول أحب إليه من نفسه فكان يقدم نفس النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، وكان يقول: يا رسول الله! لا ترفع رأسك يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! أي: نفسي مقدمة على نفسك، ولما اشتد الخوف وتعالت السيوف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى بسيفه، وصد السيوف بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شلت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء أبو بكر وعمر: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعله فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من صحابي إلا ويقول: فداك نفسي، فداك أبي وأمي يا رسول الله! حتى المرأة قيل لها: مات ابنك فتقول: ماذا فعل رسول الله؟ فرسول الله مقدم على أنفسهم. وفي عصرنا هذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقدمه على نفسك بتقديم السنة عليها، والله! لو هددت أن تفصل رقبتك عن جسدك حتى تبتدع في دين الله فلا تفعل، بل فضل سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هواك وعلى البدعة. ثانيها: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). وقال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32] وكل آية فيها طاعة لله جل وعلا يقترن فيها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وواجبنا نحو النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى محاضرات.

أوجه الاتفاق والافتراق بين المعجزة والكرامة

أوجه الاتفاق والافتراق بين المعجزة والكرامة المعجزة والكرامة اتفقا وافترقا فما هي مواضع الاتفاق وما هي مواضع الافتراق؟ اتفقنا: في خرق العادة، وافترقا: في أن المعجزة يتحدى بها النبي أمته؛ تبييناً لصدق رسالته، وأما الكرامة: فلا يستطيع الولي أن يتحدى بها الناس ويقول: أوحي إلي، وإلا أصبح كذاباً. لكن المعجزة لم يطلبها النبي، وإنما أيده الله بها حتى يبين صدقه عند قومه. فالمقصود: اتفقا في خرق العادة، وافترقا في أن المعجزة يتحدى بها، والكرامة لا يتحدى بها.

بعض الكرامات التي حدثت للأولياء

بعض الكرامات التي حدثت للأولياء هناك كرامات حدثت لأولياء الله الصالحين في عصر النبي، لما كانوا أولياء لله جل وعلا بحق. منها: أن أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء، وهذا يبين أن السمر بعد العشاء لا يجوز باللهو، إلا إذا كان الرجل مع امرأته، أو كان يتكلم في مصالح المسلمين وإلا فالسمر مكروه. فـ أسيد بن حضير كان عند النبي صلى الله عليه وسلم واشتدت الظلمة، فخرج في ظلام دامس، فكان معه عصا، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم -أي: أنه كان يتكئ على عصا- وكان كل صحابي يتمسك بهذه السنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد ومعه عصا ينكت بها، فأنارت العصا أمامه -أي: أمام أسيد - حتى وصل إلى بيته، وقيل: في رواية: كان معه صحابي آخر، وكان معه عصا فأنارت عصا هذا وعصا هذا بنور مشرق، حتى افترقا، فلما افترقا انقسم النور نصفين، نور مع أسيد بن حضير ونور مع الآخر. ومن الكرامات أيضاً: كرامة لـ عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، فقد كانت الملائكة تذهب إليه فتسلم عليه، قال: فلما اكتويت انقطعت عني الملائكة؛ لأن الاكتواء ينزل المرء من درجة التوكل العليا إلى درجة أقل، فلا يكون من السبعين الألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب. قال: فلما انقطعت عن الاكتواء رجعت الملائكة فسلمت علي. ومن الكرامات أيضاً: كان عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أضياف، فكان يضع لهم الطعام فلا يأكلون لقمة إلا وتنبت تحتها غيرها، فكلما أكلوا ازداد الطعام. ومن الكرامات: ما حدث لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما كان في الجيش وكاد أن يظل رأى أسداً فقال له: يا أبا الحارث -كنية الأسد- إني سفينة مولى رسول الله، دلني على الجيش. فتحرك ذنب الأسد فأخذه حتى وصل به إلى الجيش، فلما وصل سفينة نظر الأسد إليه، وكأنه يسلم على سفينة، ثم رحل. من الكرامات أيضاً: ما حدث لـ عمر بن الخطاب وهو يخطب في المدينة، فكشف الله له الحجاب فوجد سارية والجيش معه، وقد أحاط الروم بهم فقال: الجبل الجبل يا سارية! فبلغ الصوت إلى سارية، فأخذ سارية الجيش، أي: يتراجع إليه، فجعلوا الجبل خلف ظهورهم، فهزموا الروم. فلما رجعوا بعد شهر قالوا: والله! لقد كدنا أن نهزم شر هزيمة فسمعنا صوتاً يقول: الجبل الجبل يا سارية! فلما احتمينا بالجبل هزمناهم، وكان الانتصار لنا كرامة؛ لأنهم صدقوا الله فصدقهم، ولأنهم اعتزوا بدين الله فعزهم الله، وائتمروا بأمر الله، وتمسكوا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فرفعهم الله جل وعلا. أعجب من هذا في الكرامات: ما حدث لـ سعد بن أبي وقاص عندما هجم على فارس، وكان المخطط: أن عمر بن الخطاب هو الذي يخرج بالجيش إلى فارس من أجل أن يقضي على عرش كسرى، فاستشار الصحابة فأشاروا عليه: أن تخرج واحداً من الصحابة ولا تخرج أنت، من أجل أن يكونوا حماية لك؛ لأنك أمير المؤمنين، فأخذ بهذه المشورة وقال: نؤمر عليهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فأتمر سعد بن أبي وقاص وخرج بالجيش إلى أهل فارس، وكان بينهم وبين الصحابة نهراً، فجلس سعد بن أبي وقاص كثيراً فقال: يا سلمان! أرشدنا -لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين بـ سلمان في مثل هذه الأحداث- قال سلمان: دعني ثلاثة أيام، فمر سلمان على الجيش ينظر فإذا به يجدهم يقيمون الليل ذكراً لله جل وعلا، ويقرءون القرآن كدوي النحل، وبالنهار يتدربون، أو صيام -أي: منهم الصائم ومنهم الذي يتدرب- ومنهم الذي: يذكر الله جل وعلا، ومنهم الذي يجهز خيله، فلما نظر في القوم قال: هؤلاء القوم النصر حليفهم، نظرت إلى قوم موسى فرأيتهم لا يدانون هؤلاء القوم، ورأيت الله جل وعلا قد شق لهم البحر نصفين كالطود العظيم، ومشوا في البحر، وإن هذه الأمة أفضل من أمة موسى، وإني أقول: اعبر البحر بخيولك وتوكل على الله يا سعد! وإن الله سيجعل النصر حليفك. فقام سعد خطيباً في الناس، فقال: أيها الناس! انظروا إلي فإذا نزلت إلى الماء فكبروا وانزلوا ورائي، فأخذ فرسه وقال: باسم الله، الله أكبر، فمشى بخيله على الماء، فكبر الجيش فمشوا بالخيول على الماء، كأنهم يمشون على الأرض، فكان الخيل كلما تعب أنشأ الله له ربوة فاستراح عليها، ثم بعد ذلك يكمل المسير، حتى عبروا النهر، ودخلوا وأخذوا سواري كسرى، وحملوه على جملين من بلاد ما وراء النهر، وذهبوا به إلى الحجاز إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. فكانت لهم مثل هذه الكرامات لأنهم امتثلوا لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فسادوا الأرض. أما الآن فهل يمشي أحد على الماء، أو يذهب إلى شارون دون أن يراه أحد؟ لن تجد. بل هل تجد حتى دون الكرامات، فهل يرفع المرء يده فيستجاب له؟ لا يستجاب له، أقول والله! إن من أسباب هذا: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر) فإن سكتنا يرفع خيارنا أكف الضراعة إلى الله جل وعلا فلا يستجاب لهم، قال الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، ولكنها تصيب الكل. فأمة لا تعرف قدر نجاتها، لن تأتِ الكرامات لها، هؤلاء عرفوا قدر الرجال امتثالاً لقول الله تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] فالله جل وعلا يعطي كل ذي قدر قدره، وكل ذي فضل فضله، ولذلك جعل الجنة درجات ومنازل؛ من أجل أن يفرق بين الناس، فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، والصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم كانوا ينزلون الناس منازلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم بالقول وبالفعل، فقدَّم أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في مرض موته وقال: (مروا أبا بكر) فلما قالت له عائشة: إنه رجل بكاء، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، إنكن صويحبات يوسف) أي: تقلن شيئاً، وتضمرن غير الذي تقلن، فقال: مروا أبا بكر؛ لأنه يعلم أن أبا بكر هو الذي يستحق هذه. وأبو بكر نفسه كان يعلم أصحاب الفضل فيؤت كل ذي فضل فضله، وينزل الناس منازلهم، وهو حتى على مرض الموت. فكتب يستخلف عمر فقام الناس فقالوا: يا أبا بكر، تجعل علينا هذا الشديد! ماذا تقول لربك إذا سألك؟ قال: لو سألني ربي أقول: جعلت عليهم خيرهم، وأتقاهم. فكان يعرف لكل ذي فضل فضله، فلما أنزل الناس منازلهم، أنزله الله جل وعلا منزلته وجعله فوق البشر. ووقف أبو سفيان وسهيل بن عمرو -سادة قريش على الإطلاق- على الباب ينتظرون الإذن من عمر وبلال نائم في بيته، ثم جاء بلال بعدما وقفوا ساعة، فلما علم عمر أن بلالاً على الباب قال: ائذنوا لـ بلال، فدخل بلال، فقال أبو سفيان: العبد الأسود يدخل، ونحن سادة قريش نقف على باب عمر، فقال سهيل بن عمرو وكان حكيماً: سبقك إلى الإسلام فسبق إلى المكان، فقام عمر يبين مكانة بلال فقال: بلال سيدنا، بلال العبد الأسود يقول عنه عمر الفاروق خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر: سيدنا، عرفوا منازل الناس فعرف الله جل وعلا لهم منزلتهم، وآتاهم من فضله فرفعهم على البشر. نسأل الله جل وعلا أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا ممن يتمثل بكتاب الله، وبسنة نبيه، وأن ننزل الناس منازلهم عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل).

سياق ما روي عن النبي في دعائم الإيمان وقواعده

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سياق ما روي عن النبي في دعائم الإيمان وقواعده كل من أتى بكلمة التوحيد، واعتقد معناها، وعمل بمقتضاها، واجتنب نواقضها فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، ثم إن زاد في أعمال البر والإحسان ارتفعت درجته وزاد إيمانه، وإن عصى بأي نوع من أنواع المعاصي مما لا يخرجه من الإسلام كتلك النواقض العظام، فقد نقص إيمانه عند ذوي العرفان، ثم يعذب في النار على قدر معاصيه ومآله إلى الجنان، لا كما تقول المعتزلة والخوارج من كونه بعصيانه مخلداً في النيران، فهذا ادعاء ترده السنة والقرآن.

جماع الكلام في الإيمان

جماع الكلام في الإيمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوتي الكرام، مع باب جديد في كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهناك معترك دامٍ بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الفرقة والضلالة.

تعريف الإسلام لغة وشرعا

تعريف الإسلام لغة وشرعاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [جماع الكلام في الإيمان. سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن دعائم الإيمان وقواعده: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان]. الإسلام لغة: الاستسلام المحض، والإذعان والخضوع التام لله جل وعلا، قال الله مادحاً إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] وذلك لأنه استسلم وانقاد لأوامر ربه سبحانه، ثم قال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: استسلمت الاستسلام المحض لله جل وعلا، ولذلك لما أوحى إليه ربه أن يذبح ابنه قال: سمعت وأطعت، فقال تعالى مخبراً عنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فكان الخضوع التام من إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام. وقد جمع الله تعالى بين الاستسلام والإحسان فقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] فالاستسلام والخضوع التام أصل من أصول الإحسان في عبادة الله جل وعلا. ويبين تعالى أن كل ما في السماوات والأرض قد خضع واستسلم استسلاماً تاماً له جل وعلا، فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] وهذا هو الخضوع التام لربوبية الله جل وعلا.

معنى الإسلام منفردا عن الإيمان ومقترنا به

معنى الإسلام منفرداً عن الإيمان ومقترناً به وأما الإسلام شرعاً فله معانٍ كثيرة؛ لأن الإسلام يذكر في كتاب الله جل وعلا منفرداً ومقترناً. فإذا أطلق الإسلام في الكتاب منفرداً كان معناه الدين كله بمراتبه الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] فالإسلام هنا يقتضي الإسلام والإيمان والإحسان، وأيضاً قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فهاتان الآيتان أثبتتا أن الله تعالى إذا ذكر الإسلام في كتابه منفرداً فإنه يكون بمعنى الإيمان والإحسان جميعاً. ويذكر الإسلام مقترناً كذلك، وكثيراً ما يقترن بالإيمان، فإذا اقترن الإسلام بالإيمان كان للإسلام معنى وللإيمان معنى، فإذا ذكر الإسلام مقترناً بالإيمان قصد به الأعمال الظاهرة أي: أعمال الجوارح من ركوع وسجود وصدقة وزكاة وحج، فكل هذه من أعمال الجوارح، ودليل ذلك أوضح ما يكون في كتاب الله، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، فخص القلب بالإيمان، وقال: ((قُولُوا أَسْلَمْنَا)) فالإسلام هو قول اللسان، واللسان من الجوارح، فإذا اقترن الإسلام بالإيمان كان بمعنى الأعمال الظاهرة. وأشهر من ذلك في الدلالة حديث جبريل المشهور: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أخبرني عن الإسلام، قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة) إلى آخر الأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان ذكر له الأعمال الباطنة.

تعريف الإيمان لغة وشرعا

تعريف الإيمان لغة وشرعاً أما الإيمان فيأتي في اللغة مطلقاً بمعنى التصديق، قال الله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:16 - 17] يعني: ما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين. وله في اللغة معانٍ كثيرة، وأهل البدع يتمسكون بهذا التعريف فقط كما سنبين. والإيمان يتعدى بنفسه، ويتعدى باللام، ويتعدى بالباء، فإذا تعدى بنفسه فمعناه: التأمين، أي: من الأمان، تقول: أمنته، ضد خوفته، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد). والإيمان أيضاً مشتق من اسم الله جل وعلا (المؤمن)، والمؤمن اسم من أسماء الله جل وعلا، يتضمن صفة كمال وهي صفة الأمن، بمعنى: أن الله جل وعلا اسمه (المؤمن)؛ لأنه يؤمن عباده من الخوف والفزع يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، فهذا هو مقتضى اسم الله المؤمن. ويتعدى الإيمان كذلك بالباء، فتقول: آمنت بالله أو آمنت برسول الله، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:136] إلى آخر الآيات. ولما جاء الرجل يستنصح النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، فتعدى الإيمان بالباء، وصار معناه: التصديق، قال تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)) أي: صدقنا بالله، بمعنى: صدقنا بوجود الله جل وعلا، وأنه مستو على عرشه، وآمنا بربوبية الله، وأنه خالق رازق مدبر آمر ناهٍ، وصدقنا بأن لله أسماء حسنى وصفات عُلى، وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق إلا هو سبحانه، ومعنى آمنت برسول الله: أي: صدقت بأنه مرسل من قبل الله جل وعلا، وصدقت برسالته التي أوحيت إليه. ويتعدى باللام الإيمان -وهذا النوع مهم جداً- قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فجاء بمعنى الاتباع، فلو تعدى الإيمان باللام كان معناه الاتباع والانقياد، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} فلم يتبع أحد إبراهيم عليه السلام في دعوته إلا لوط عليه السلام، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، فتقول: آمنت لله أي: أذعنت وخضعت وانقدت لأحكام الله ولأوامره، ولا يمكن أن أعترض على أمر من أوامره سبحانه، وآمنت لرسول الله أي: اتبعت الرسول فلا أتعبد عبادة إلا وأنا متبع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم. وأجمل الشافعي معنى الإيمان بمعانيه الثلاثة في كلمة واحدة، فقال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، وعلى مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، وعلى مراد رسول الله. أما تعريف الإيمان شرعاً: فهو التصديق المقرون بالانقياد والإذعان، فالتصديق المقرون بالانقياد والإذعان، فيه دلالة على أن من وقر في قلبه إيمان فلا بد أن يتضح على ظاهره.

معنى الإيمان عند انفراده عن الإسلام واقترانه به

معنى الإيمان عند انفراده عن الإسلام واقترانه به ويأتي الإيمان أيضاً منفرداً ومقترناً، فإذا جاء الإيمان منفرداً كان معناه كلية الدين مثل الإسلام تماماً، ولو جاء مقترناً كان له معنى آخر غير المعنى الظاهر، وهو المعنى الباطن، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] فهذه أعمال باطنة. ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] فهذه أعمال ظاهرة. إذاً: فهذه الآية أثبتت أن الإيمان إذا انفرد كان بمعنى الدين كله ظاهراً وباطناً. وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم أن تؤمنوا بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، ثم قال: وتؤدوا الخمس من المغنم). فهذه أعمال ظاهرة أيضاً، فإذا أطلق الإيمان دخل معه الإسلام والإحسان؛ لأنه مرتبة من مراتبه، أما إذا اقترن بالإسلام فيدل على الأعمال الباطنة فقط، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وفي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وفي حديث جبريل المشهور: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن -أي: بالقلب- بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره). وفي رواية أخرى (قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله). إذاً: فالإيمان إذا اقترن بالإسلام كان معناه الباطن.

العلاقة بين الإسلام والإيمان

العلاقة بين الإسلام والإيمان إذا عرفنا تعريف الإسلام والإيمان لغة وشرعاً فإنه يستلزم منا أن نبين العلاقة بين الإسلام والإيمان، فالإيمان والإسلام بينهما عموم وخصوص من وجه، بمعنى أن الإيمان أعم من جهة ذاته، والإسلام أعم من جهة ناسه، فالإيمان في نفسه إسلام وزيادة، والإسلام أعم من الإيمان من جهة ناسه؛ لأن المسلمين كثيرون والمؤمنين قلة. والإيمان هو ما وقر في القلب ولكن لابد أن يصدقه العمل بالجوارح، فإذا صلح القلب صلح الجسد وصلحت الجوارح. أما الإسلام في ذاته فهو الأعمال الظاهرة فقط، كقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فالإسلام أعمال ظاهرة فقط، أما الإيمان فباطن، لكن الأعمال الظاهرة ترتبط به، فكل مؤمن مسلم ولا عكس؛ لأنه قد يكون مسلماً لكنه منافق في الباطن، والعياذ بالله. إذاً: فالإسلام والإيمان بينهما عموم وخصوص، فالإيمان أعم من جهة ذاته والإسلام أعم من جهة ناسه، ويرتبطان بارتباط وثيق جداً، فلا انفكاك بين الإسلام والإيمان، فإن المسلم لا يقبل إسلامه عند ربه جل وعلا إلا إذا كان معه أصل الإيمان وأصل التصديق وأصل الانقياد القلبي، وأيضاً المؤمن لا يقبل عند ربه إلا إذا كان معه أصل الإسلام وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وشيء من أعمال الجوارح كما سنبين.

القائلون بأن الإسلام والإيمان شيء واحد وأدلتهم والرد عليها

القائلون بأن الإسلام والإيمان شيء واحد وأدلتهم والرد عليها هذا الذي تقدم من العلاقة بين الإسلام والإيمان هو ما عليه جمهور أهل العلم، بخلاف البخاري وطائفة من أهل العلم فإنهم قالوا: بل الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان ولا فرق بينهما. واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة جداً، وأقوى هذه الأدلة هو قول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] فذكر الإيمان أولاً ثم ذكر في نهاية الآية الإسلام مع أن البيت واحد وهو بيت لوط عليه السلام، فدل على أن الإيمان يساوي الإسلام، والإسلام يساوي الإيمان ولا فرق بينهما، والرد عليهم من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: اختلف الأصوليون فيما إذا اختلف المقطوع به مع المظنون به، فما الذي يقدم؟ و A يقدم المقطوع به طبعاً، وعندنا أدلة قاطعة بنص صريح أن الإيمان يختلف عن الإسلام كما في الحديث الصحيح: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة) إلى آخر الأعمال الظاهرة، قال: (فأخبرني عن الإيمان) وما أحاله على الإسلام، وهذا فرق قاطع بينهما بنص قاطع فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته) وهذه أعمال قلبية. وهذه الآية الكريمة التي استدل بها الإمام البخاري وغيره التأويل فيها محتمل، فيكون دليلهم مظنوناً لا مقطوعاً، وحديث جبريل نص قاطع فيقدم المقطوع على المظنون. الوجه الثاني: نقول: وإذا رددنا عليك بأن المقطوع يقدم على المظنون، وأن عندنا تفسيراً لهذه الآية: فأول تأويل فيه أننا نقول: إن كل مؤمن مسلم ولا عكس، فإن كان مؤمناً متصفاً بالإيمان صح وصفنا له بالإسلام، فيكون في الآية الأولى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] الذين هم بيت لوط عليه السلام، وقوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] هم بيت لوط عليه السلام أيضاً، فلما كان وصفهم في لفظ الآية بالإيمان فمن باب أولى أن يصفهم بالإسلام. والوجه الثالث: نقول: إن المؤمنين في الجزء الأول من الآية هم أناس معينون، والمسلمون في آخر الآية هم أناس آخرون، قال تعالى في الآية الأولى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] أي: لوط وبناته، فهم الذين آمنوا بالله جل وعلا واستسلموا له ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون الخلص، وقال في الثانية: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] فخرجت زوجة لوط عليه السلام من الآية الأولى؛ لأنها لم تكن من المؤمنين الخلص كلوط وبناته، وناسب دخولها في الآية الثانية من حيث الظاهر؛ لأن المقصود بالإسلام فيها الشعائر والأعمال الظاهرة فقط، وبهذا يتضح جلياً أن هناك فرقاً بين الإسلام والإيمان وليس كما قال الإمام البخاري وغيره من أهل العلم رحمهم الله تعالى. إذاً: فالصحيح الراجح أن هناك فرقاً بين الإيمان والإسلام، وأن الإيمان أعم من الإسلام.

أقوال السلف في الإيمان

أقوال السلف في الإيمان قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أن الإيمان قول وعمل واعتقاد. وقال الشافعي: كل من أدركتهم من التابعين وتابعي التابعين يقولون: الإيمان قول وعمل ونية. وقال الثوري: الإيمان قول وعمل وقصد واعتقاد. أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد أجمل وقال: كل هذه التعريفات تساوي تعريف أن الإيمان قول وعمل، أي: قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح، وعمل بالقلب. قوله: (قول باللسان) أي: كأن تقول: لا إله إلا الله، فلا يمكن أن تدخل في دائرة الإسلام حتى تشهد أن لا إله إلا الله، إلا الأخرس، فإن الإشارة تقبل منه، لكن إذا كان يستطيع النطق والكلام فإن الإسلام لا يقبل منه بحال من الأحوال إلا أن يقول: لا إله إلا الله، حتى وإن أقر في قلبه بالإيمان، قال الله تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)) يعني: قولوا باللسان. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا -أي: باللسان-: لا إله إلا الله). ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه وهو على فراش الموت (قال: يا عم! قل: لا إله إلا الله -أي: باللسان- كلمة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فلا إله إلا الله هي قول اللسان. أما القول الثاني فهو قول القلب: وهو التصديق التام والانقياد والإقرار والإذعان لله جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33].

شبهة والرد عليها

شبهة والرد عليها لو قيل: من كان مصدقاً بقلبه لكنه لم ينطق بشهادة الحق بلسانه، فإنه يعتبر في الآخرة مؤمناً، بدليل قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] وقوله صلى الله عليه وسلم عن مضغة القلب: (إذا صلحت صلح الجسد كله) فهل هذا الكلام صحيح؟ A من كان كما ذكر يعتبر كافراً في الدنيا فيقتل مثل الحربي، وهو في الآخرة في جهنم خالد مخلد فيها أبداً، وأوضح مثال هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعتقد أن دين النبي صلى الله عليه وسلم خير الأديان، فقال: لولا الملامة لأقررت بها عينك، فمنعه الكبر الذي في قلبه أن ينطق بكلمة التوحيد، وقال: والله لا يعلو استي بحال من الأحوال، فهو في ضحضاح من النار خالداً مخلداً فيها أبداً. وكان إبليس أيضاً من أشد الناس إيماناً بالوعد والوعيد، ومن أشد الناس إقراراً بربوبية الله جل وعلا، فقد قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، فقد كان مقراً في قلبه، ومع ذلك لم ينفعه هذا الإقرار فهو في جهنم خالداً فيها أبداً. وقال الله تعالى عن فرعون ومن معه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. إذاً: فإقرار القلب وتصديقه إن لم يصاحبه تلفظ باللسان فلا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضاً: لابد مع اعتقاد القلب من عمله وعمل الجوارح، فعمل الجوارح: كالذكر وقراءة القرآن والركوع والسجود والصدقات والزكاة، وعمل القلب: كالاتباع والتوكل والإخلاص والمحبة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أقوال أهل العلم والسلف في الإيمان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أقوال أهل العلم والسلف في الإيمان الإيمان بالله تعالى ليس مجرد كلمة يقولها الشخص، أو اعتقاد يعتقده في قلبه دون أن تصدقه جوارحه، إنما الإيمان قول وعمل واعتقاد، فكل إناء بما فيه ينضح، فإن كان القلب مؤمناً حقاً فإن أثر ذلك سوف يظهر على جوارحه، ولنعلم أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، وإنما ما وقر في القلب وصدقه العمل.

المراد بالإيمان عند السلف

المراد بالإيمان عند السلف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني الكرام، ما زلنا مع الإسلام والإيمان والعلاقة بينهما، وندخل بإذن الله في مسائل مهمة جداً في الإيمان. وقد تكلمنا سابقاً عن معنى الإسلام والإيمان لغة وشرعاً، والعلاقة بينهما، وقلنا: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا!! أي: إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، وإذا افترقا في الذكر اجتمعا في المعنى، بمعنى: أن الإسلام والإيمان إذا جاءا معاً كان للإسلام معنى وللإيمان معنى آخر، فمعنى الإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة، أي: الأعمال القلبية، كما جاء في بعض الأحاديث، وإن كان في إسناد بعضها كلام، فالإسلام يكون علانية والإيمان في القلب، وقلنا: إن بينهما عموم وخصوص، فكل مؤمن مسلم ولا عكس، فالإيمان عام في ذاته وخاص في ناسه، وأما الإسلام فعام في ناسه خاص في ذاته. والآن -إن شاء الله- نتكلم بالتوسعة عن أقوال أهل العلم والسلف في الإيمان: قلنا: إن ابن عبد البر نقل إجماع أهل العلم من السلف الصالح أن الإيمان قول وعمل، ورووا عن الشافعي أنه قال: قول وعمل ونية، وعن الثوري: قول وعمل ونية واعتقاد، وقال ابن عيينة: قول وعمل واعتقاد وسنة، وقلنا: معنى قول أهل العلم: قول وعمل، أي: قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح. فقول اللسان نحو: لا إله إلا الله، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل أمنت بالله ثم استقم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، أي: حتى يقولوا بألسنتهم، ويشهدوا أن لا إله إلا الله، وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (يا عم! قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله)، وهذه الكلمة هي: لا إله إلا الله، فهذا هو قول اللسان. أما قول القلب: فهو الإقرار والتصديق، أي: بأن تستيقن في قلبك أن الله هو الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع، أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مستحق للعبادة على الإطلاق أحد إلا الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]. أي: لا شك دخل في قلوبهم، بل آمنوا بيقين تام وأقروا بربوبية الله وألوهيته، جل وعلا. وأما وعمل القلب: فهو الإخلاص، وهو أصل أعمال القلوب، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقال صلى الله عليه وسلم، كما جاء كل ذلك في الصحيحين: (عن الله جل وعلا أنه قال: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، نعوذ بالله من الشرك ومن أدنى الرياء. ومن أعمال القلوب: التوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]. ومنها: المحبة، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وليس هذا موضع البسط في الأعمال القلبية. وأما عمل الجوارح، فكالصلاة والصيام، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، أو (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، قراءتان صحيحتان.

أصناف الناس بالنسبة لتعريف الإيمان

أصناف الناس بالنسبة لتعريف الإيمان فهذا هو مجمل الكلام بالنسبة لتعريف السلف للإيمان، أي: أنه قول وعمل، والناس بالنسبة لهذا التعريف على أربعة أصناف: الصنف الأول: من توفر عنده قول القلب، فاستقر في قلبه يقيناً وجزماً أن الله هو الخالق الرازق المدبر الآمر السيد المطاع، الناهي المستحق للعبادة وحده، لكنه لم يتلفظ بلسانه، ولم ينقد بجوارحه ولا بقلبه، فهذا الصنف، هو كافر ظاهراً وباطناً، نحاربه حتى يقول: لا إله إلا الله أو يدفع الجزية، وفي الآخرة هو خالد مخلد في نار جهنم؛ لأنه استيقن في قلبه وجحد ولم ينقد بجوارحه. مثال ذلك: عم النبي صلى الله عليه وسلم، هو أول الأمثلة التي تقال في هذا الباب، فإنه استقر في قلبه يقيناً بأن دين النبي صلى الله عليه وسلم هو خير الأديان، وأن النبي صلى الله عليه سلم صادق مصدوق، وأنه يوحى إليه، وأن الله هو المستحق للعبادة، وأن هذا الدين هو أفضل الأديان على الإطلاق، ومع ذلك لم ينقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم لا لشرع الله، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه في ضحضاح من نار جهنم. المثل الثاني الذي يبين لنا أن من استقر في قلبه يقيناً بالربوبية والإلهية وصدق بالرسول ولم ينقد له أنه من أهل النار: هو الوليد بن المغيرة، فقد جلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فلما سمع القرآن قال لـ أبي جهل: والله لقد جلست مع الشعراء وليس هذا بشعر، وجلست مع الكهنة وليس هذا بتكهن، ومدح القرآن بالكلمات المشهورة المعلومة عنه، فكان أبو جهل يعلم أن هذا الرجل يحب المال، انظروا إلى الذي استحب الدنيا على الآخرة، وقدم الدراهم المعدودة الفانية على الآخرة الباقية، فقال أبو جهل: يا عم أو يا خال، قد رجعت من عند الناس، وقد جمعوا لك الأموال حتى تتكلم لنا في محمد، أو تقول فيه قولاً، فقال القول المشهور، كما جاء ذلك في سورة المدثر: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25]، فقال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]، عقاباً له؛ لأنه استيقن بقلبه أن هذا الكلام هو كلام الله، وليس من الشعر ولا من الكهانة في شيء، ومع ذلك طمس الله على قلبه، وطمس بصيرته، نعوذ بالله من ذلك، فإذا ختم الله على قلب أحد فقد انتهى أمره، وكانت نهايته إلى بوار، ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوه أو يهدوا قلبه فلن يفعلوا ذلك؛ لأن الأمر بيد الملك المقتدر. المثل الثالث: أبو جهل نفسه، وإن وردت القصة التي سأذكرها لكم بأسانيد ضعيفة، لكنها تبين ما لـ أبي جهل من حقد دفين، وحسد كبير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: والله إني لأعلم أنه لصادق - أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأعلم أنه نبي، لكن كنا وبنو هاشم-يعني: نحن وبنو هاشم -كفرسي رهان، نتسابق في العلو والمنزلة والشرف، يقولون: منا كذا، ونقول: منا كذا، فقالوا: منا نبي، فأنى يكون لنا نبي، والله لا نصدقه أبداً. فهذا يدل على الحقد الدفين الذي في قلبه، فقد استيقن بصدق الرسول، ومع ذلك جابه الرسول وقاتله قتالاً عنيفاً، وصدق فيهم قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، نعوذ بالله من ذلك، فقد استقر في قلوبهم الحق ولكن لم ينقادوا له. ورئيسهم في ذلك -وهو آخر مثل نضربه-: هو إبليس عليه لعنة الله، فقد استقر في قلبه بأن الله أمره أمراً، وهذا الأمر فيه مصلحه له، لكن الكبر والعناد جعلاه لم ينقد لله جل وعلا، وهو يعلم أن الله جل وعلا أمره بذلك ليختبر انقياده لأوامره جل وعلا، فإن هذا الأمر كان لتشريف آدم، لكن الأصل هو أن الله جل وعلا أراد أن يكشف المعلوم في إبليس، كما قال ابن كثير في تفسير قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قال: يعلم الله من إبليس أنه يجحد أمره وأنه يتكبر، فابتلاه بالسجود، فإبليس كان مستيقن بربوبية الله جل وعلا، وكان مستيقن بأن الرسول الذي بعث في الأمة حق، ومع ذلك يغوي الناس، وجحد بآيات الله جل وعلا. الصنف الثاني بالنسبة للإيمان: صنف أتى بقول اللسان، بل وانقاد بالجوارح، ولكن خلا قلبه من التصديق من الانقياد، نعوذ بالله أن نكون كذلك، وهؤلاء هم المنافقون، وقد وصفهم الله بقوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، شك كبير، كما قال تعالى حاكياً قولهم: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [هود:62]، وقال عنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]. فهؤلاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا، في الدنيا، أي: أن لهم الأمان، وعصمة الدم، وعصمة المال، والغنائم والفيء تقسم عليهم، ولهم المناكحة منا والتوارث، ولنا المناكحة منهم والتوارث، ولكن في الآخرة هم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]. فهؤلاء توفر فيهم قول اللسان، فقد قالوا: لا إله إلا الله، وكثير من الناس ممن تتعايشون معهم، قد طفح النفاق من قلوبهم، ونضح حتى في أعينهم، وعلى ألسنتهم بالكلام، فهؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، بل وانقادوا، فهم يصلون معنا، ويستقبلون قبلتنا، ويذبحون كما نذبح، ويسبحون كما نسبح، وينفقون كما ننفق، وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى الله جل وعلا، وإذا خلوا إلى بمحارم الله انتهكوها، وهم لا يقومون إلى الصلاة إلا كسالى، قال الله عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:8 - 9]، وقال في آية أخرى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]. الصنف الثالث بالنسبة للإيمان -الذي هو قول وعمل-: أناس توفر فيهم قول القلب، وهو التصديق والإقرار، وتوفر فيهم قول اللسان، لكن لم تنقد الجوارح ولم ينقد القلب، فقالوا: لا إله إلا الله باللسان، أقروا وبالقلب بأنه لا معبود بحق إلا الله، فهؤلاء هم الذين حدث فيهم الاختلاف، وهؤلاء هم الذين ندخل مع أهل البدع المعترك الدامي في الخلاف فيهم: هل هم مسلمون أم منافقون أم كفار؟ وسوف نرجئ هذا الخلاف العريض حتى نتكلم عن مرجئة الفقهاء، وكيفية نرد عليهم. الصنف الرابع: هؤلاء الذين حباهم الله ومنحهم: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، منحهم الله قول اللسان، وقول القلب: التصديق والإقرار، وعمل الجوارح، وعمل القلب أيضاً، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، وجاء تقسيمهم هذا في آية واحدة من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]، فأكثر المفسرين قالوا: الظالم لنفسه: هو الذي اقترف الذنوب والآثام، ومع ذلك هو مقر بخطيئته، ويعمل عملاً صالحاً. والمقتصد: هو الذي أدى الفرائض، وترك المحرمات ولم يرتق بالسنن. أما السابقون بالخيرات: فهم الذين أدوا الأوامر والفرائض، وارتقوا بالنوافل المطلقة والنوافل الراتبة، وانتهوا عن المحرمات. هذا تفسير أكثر المفسرين لهذه الآية، لكن عائشة رضي الله عنها وأرضاها فسرت الآية بطريقة أخرى، بأن السابق للخيرات: هو الذي ينفق ويصلي ويصوم، وقلبه وجل أن لا يقبل عمله عند الله جل وعلا، أي: يخشى من مكر الله جلا وعلا. والمقتصد: هو الذي يسارع أيضاً في الخيرات لكن أقل من الأول، ثم قالت لـ عروة: أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، هذا الكلام تقوله عائشة رضي الله عنها وأرضاها لـ عروة، الذي يعتبر أحد الفقهاء السبعة، وهو أكثر من روى عن عائشة، وهو الذي وقف أمام الكعبة وقال: اللهم اجعل الناس تحمل عني الحديث، فحمل الناس عنه الحديث، وكان من الفقهاء المعدودين، ومع ذلك قالت له عائشة: أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، نسأل الله العفو والعافية. نحن الآن في زمن الذي يصلي فيه الفرائض ويجتنب المحرمات دون المكروهات، ويترك النوافل، فهذا من أولياء الله الصالحين، فبحق: نحن أصلاً نحتقر أنفسنا أمام القوم الذين سبقونا، نسأل الله جل وعلا أن لا يفضحنا أمامهم. المقصود: أن الصنف الرابع من أهل الإيمان هم المؤمنون الذين توفر فيهم قول اللسان وقول القلب، وعمل الجوارح وعمل القلب، ولابد أن نعرف العلاقة بين عمل الجوارح وعمل القلب؛ لكي نقوى على فهم الخلاف فيما بعد، فإن هذه العلاقة إما علاقة تباين، أي: لا توجد علاقة بينهما، وإما علاقة تلازم وارتباط وثيق، بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا زال عمل القلب زال عمل الجوارح، وكل إناء بما فيه ينضح، إن كان فيه خير نضح بالخير، وإلا فلا، والعلاقة بحق: هي علاقة تلازم وارتباط، وعلى ذلك أدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف.

أدلة التلازم الوثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح

أدلة التلازم الوثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح الأدلة على أن التلازم وثيق بين عمل الجوارح، وعمل القلب من الكتاب والسنة، ثم من أقوال السلف:

الأدلة القرآنية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح

الأدلة القرآنية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح فأما من الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:82]. فما ذكر الله الإيمان في موضع من كتابه إلا وذكر قرينه العمل الصالح، إشارة إلى أن الإيمان الذي وقر في القلب لا بد أن يصدقه شيء في الظاهر، وهو العمل؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، هذا في الداخل لا نعرفه ولا نراه، ثم قال الله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، والتوكل هذا عمل باطني، ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، فذكر الصلاة والإنفاق، وهذا عمل ظاهري؛ وذلك لأن هناك ترابط وثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح. ومن الأدلة من كتاب الله قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فلأن التوبة عمل قلبي لم يكتف الله بذلك، ولم يرض بها فقط حتى يدخل المرء الإسلام، بل ربط التوبة بما يظهرها وهو العمل الصالح: كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك قال العلماء: إن الفاسق لا تقبل شهادته إلا أن يتوب، وكيف تعرف توبته؟ يقول الجمهور من أهل العلم: إن التوبة تكون بالظاهر، فإذا استقام مع الناس في الصلوات، وكان يخرج الزكاة، وعلم باستقامة حاله وحسن خلقه، فهذه هي التوبة، أي: الأمر الظاهري، مع أن التوبة عمل قلبي، لكن لا بد من الأمر الظاهري؛ ليتبين ما في القلب. ومن الأدلة من كتاب الله قوله تعالى عن جزاء المحاربين وعن توبتهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34]. اختلف العلماء في توبة المحارب الذي تقطع يده ويصلب وينفى من الأرض، أي: كيف تعرف؟ فـ ابن القاسم المالكي قال: لابد أن يذهب إلى الأمير ويشهر توبته، وهذا قول المالكية. وقال جمهور الفقهاء -وهو الراجح- إنه يقطن بيته، ويذهب إلى الصلاة في أوقاتها، ويحسن خلقه مع جيرانه ومع الناس فتعرف بذلك توبته. فهذه التوبة التي هي عمل قلبي، ظهرت على الجوارح في الخارج، كما قال الله تعالى في الآية التي ذكرناها سابقاً {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:11]. وأيضاً قال الله تعالى -مبيناً أن تشابه الظاهر مرتبط بتشابه الباطن- قال عن اليهود لعنة الله عليهم: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118]، فربط الظاهر بالباطن، فلما تشابه الظاهر بالظاهر، تشابه الباطن بالباطن، وهذه دلالة على أن الترابط وثيق بينهما، وسنة الله لا يمكن أن تتبدل. أيضاً قال الله تعالى عن النفاق والمنافقين؛ لأن النفاق عمل قلبي، فمن أجل أن نعرفه قال الله تعالى لنبيه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]. فأنت تعرفه أولاً من خلال وجهه؛ لأن ما في القلب يظهر على الوجه، تراه فتقول: وجهك وجه منافق، أذكر شيخاً من مشايخنا أفنى عمره في الدعوة، جلس مرة فقال: رأيت من الناس مفتي من المفتيين، ورأيت النفاق ينضح على وجهه نضحاً. وثانياً: تعرفهم من خلال كلامهم، فبعضهم تسمعه يقول: هل نأخذ علمنا من رجل يقول: من قال: إن الأرض كروية يكفر؟ نأخذ العلم من هذا!، والله هذا نفاق بين، أو آخر يقوم علناً أمام الناس فيقول: أتريدون تحكيم الشريعة؟ تريدون قطع يد السارق، ما هذا التخلف، مع أن هذا حكم الله من فوق سبع سماوات، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فهذا نفاق ينضح، وآخر يقول: أتريدون جلد الزاني مائة جلدة؟ والله هذه وحشية. فهؤلاء أصبح النفاق ظاهراً على وجوههم وفي كلامهم. أيضاً: قال الله تعالى -منكراً على بني إسرائيل، ومبيناً أن الإيمان، أو الكفر الذي في القلب، لا بد أن ينضح في الخارج- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]، أي: إذا كنتم مؤمنين حقاً فلم عبدتم العجل؟ ولم أطعتم غير الله تعالى؟ بل هذا كفر في قلوبكم. أيضاً: من الأمور التي تبين ارتباط الظاهر بالباطن: أن الله سمى أعمال الظاهر إيماناً، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فبإجماع المفسرين أنها الصلاة، وكما في حديث البخاري عن البراء -الطويل- وفيه أنه قال: (هي الصلاة)، وذلك حين حولت القبلة إلى الكعبة، فقال القوم: ما بال إخواننا الذين ماتوا، وما بال صلاتنا التي صليناها من قبل فقال الله جل وعلا تطميناً لقلوبهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فسمى الصلاة إيماناً. أيضاً: بين الله جل وعلا الارتباط الوثيق في كتابه بين الظاهر والباطن، وأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] فبين الله جل وعلا أن هؤلاء الذين يجلسون في المجالس التي يكفر فيها بالله، أو يستهزأ فيها بآياته، أو بأوليائه الصالحين، دون إنكار، فإن هؤلاء من يجلسون معهم فيهم نفس الكفر؛ لأن القلب نضح وظهر ما فيه، فهو ساكت راض بهذا الكفر، فصاحبه كافر مثلهم. لذلك استنبط العلماء قاعدة مهمة جداً من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قولهم: إن لم تزل المنكر فزل. أي: اخرج فلو جلست فأنت مثلهم؛ لأنك راض بفعلهم، فإن جلست مع شراب الخمر، ولم تنههم وتنكر عليهم، فأنت مثلهم، إن جلست مع الزناة ولم تنكر عليهم، بل ولم يتحرك قلبك غضباً لله جل وعلا فأنت منهم. فهذه أدلة من كتاب الله جل وعلا على أن الظاهر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالباطن.

الأدلة الحديثية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح

الأدلة الحديثية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح أما الأدلة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فأشهر حديث هو ما في الصحيحين: وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله). وحديث آخر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي قال: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، فاختلاف القدم بالقدم والمنكب بالمنكب يؤثر في اختلاف القلب؛ لأن الظاهر يؤثر في الباطن، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكفر؛ لأن التشبه بهم في الظاهر يقود إلى التشبه بالباطن، قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وفي رواية: (لو وجد منهم من ينكح أمه، لوجد في أمتي من يفعل ذلك)، وقد وجد من كان يطأ أمه، والعياذ بالله. فهذه أدلة من السنة أيضاً على أن الظاهر يرتبط بالباطن، وأن القلب إذا وجد فيه إيمان فلابد أن ينضح على الجوارح. ولذلك قال الحسن البصري: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وقال سعيد بن المسيب -وكثير من أهل العلم يرفعون هذا الأثر، والصحيح أنه من قول سعيد بن المسيب - وذلك حين دخل رحمه الله المسجد فوجد رجلاً يصلي، وأثناء الصلاة كان يلعب برأسه ولحيته، وينظر في يده، فقال سعيد بن المسيب: لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان في سفرة من الأسفار، فصلى بالناس الفجر، فبعدما سلم وجد اثنين جالسين ولم يصليا، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: (ألستما بمسلمين؟!)، فهو رآهما ما صليا، فقال هذا ليس بفعل المسلم الصادق؛ لأن المسلم في الباطن لابد أن يظهر هذا الإسلام وهذا الإيمان في الظاهر، ومن ذلك أداء الصلاة: (فقالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم)، هذا يبين أن المرء إذا دخل ووجد الناس يصلون فليصل معهم، (فقال: إذا صليتم في رحالكم فدخلتم المسجد فصلوا مع الإمام فهي فرض له ونافلة لكم). أيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده) ثم فسر الإيمان بالله وحده بالأعمال الظاهرة فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، وكلها أعمال ظاهرة فسماها إيماناً. وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في السنن: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فجعل علامة إيمان الرجل أنه يحافظ على الوضوء، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (الوضوء شطر الإيما). وأيضاً: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة من الأعمال الظاهرة، أي: أن تأمن الشخص على مالك، وعلى نفسك، وعلى عرضك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، وأهم الأمانات هي الأمانة في الدين، الأمانة بينك وبين ربك جل وعلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال:27]، وكم منا قد خان الله، فما منا من أحد إلا وقد خان الله ورسوله، فلو نظر أحدنا في نفسه لوجد أنه وجد بدعة لم ينكرها، فهذه خيانة لله ورسوله، أو وجد انتهاكاً لحرمة من حرمات الله جل وعلا فلم يتكلم ولم يغيره أو لم يدع لأخ له مسلم في ضيق من أمره، أو لم يتعاون معه على البر والتقوى، فهذه خيانة لله ولرسوله، نعوذ بالله من ذلك، فالأمانة أمانة مع الله أولاً، ثم أمانة مع الرسول، ومن الخيانة التي خنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم ما نرى من الموالد والرقص والطبل وهذه المهاترات التي يحسب أصحابها أنها احتفالات برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على سكوت، فلم نذهب لننكر ونغير، والله هذه خيانة لرسول الله، وكم منا من ترك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ويحسب أنه على شيء. ثم هناك أمانة مع نفسك، وذلك أنك إذا كنت وحدك فلا تخن نفسك وتظلمها فتنتهك محارم الله، فالأمانة مع النفس أن تجعلها قدر الإمكان تستقيم على دين الله جل وعلا. ثم هناك أمانة مع الغير، وهذه قد ضاعت عند كثير من الناس في زماننا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتجد الأخ يسرق أخاه، والأخت تسرق أختها، وإذا ذهبت إلى المحاكم وجدت الكثير من أصحاب هذه المشاكل، نسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا، آمين يا رب العالمين. وكان بعض السلف يقول: من لا أمانة له لا إيمان له، وأختم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من شعب الإيما). فهذه كلها دلائل على أن الإيمان الظاهر يرتبط بالإيمان الباطن، أو أن الأعمال الظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالباطن.

خصال الإيمان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خصال الإيمان الإيمان هو من أهم مراتب الدين، ولا يتحقق الإيمان إلا إذا ظهرت صفات على صاحبه تدل على إيمانه، ومن تلك الصفات: تحقيق كلمة لا إله إلا الله قولاً وعملاً، وكذلك الصلاة التي من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين، والحياء من الصفات البارزة لأهل الإيمان كذلك، فهو الداعي لجميع خصال الخير في الإنسان وغيرها من الصفات التي تميز الشخصية المؤمنة عن بقية الشخصيات الأخرى.

ذكر طرق من خصال الإيمان

ذكر طرق من خصال الإيمان الأدلة على أن التلازم وثيق بين عمل الجوارح، وعمل القلب من الكتاب والسنة، ثم من أقوال السلف:

الخصلة الأولى: كلمة التوحيد

الخصلة الأولى: كلمة التوحيد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسول. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام العلامة اللالكائي، واليوم بإذن الله ندخل معركة ضد أهل البدعة والضلالة ومن المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان أي ذنب، وإيمان أي امرئ كإيمان أبي بكر، وإيمان أبي بكر كإيمان جبريل عليه السلام. توطئة لهذا الرد: قدم العلامة المصنف للرد على أهل الضلالة والبدعة ومن المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ثمرة الإيمان، وليست لازمة من لوازمه خلافاً لأهل السنة، بذكر خصال الإيمان أو الصفات المعدودة فيه، التي أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وكأنه يقول بلسان حاله: إن الأعمال الظاهرة من الإيمان، وتدخل تحت مسماه، ورأس الأمر عنده قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (الإيمان بضع وستون). وفي رواية البخاري: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فأعلى هذه الخصال وأعلى شعبة من شعب الإيمان هي: لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله هي قول باللسان، وتدخل في مسمى الإيمان بل هي أصل الإيمان، ولا يشهد لأحد بالإسلام حتى يتلفظ بها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). ولا إله إلا الله هي مفتاح الجنة، لكن هذا المفتاح لا بد له من أسنان، فلا يمكن أن يفتح إلا بهذه الأسنان، فلا إله إلا الله إذا قالها المرء عصم دمه وماله وحسابه عند الله جل وعلا، هذا إذا عمل بمقتضاها واجتنب نواقضها.

شروط لا إله إلا الله

شروط لا إله إلا الله تقيد هذه المقولة بقيود وشروط عدها بعض العلماء سبعة وهي أكثر من ذلك. وهذه القيود هي التي تنفع صاحبها في الآخرة لا في الدنيا، وفي الدنيا لو قالها -أي: كلمة التوحيد- دون أن يأتي بشروطها لدخل في الإسلام وكان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، أما في الآخرة فلا بد أن يأتي بهذه القيود والشروط ألا وهي كما يلي: الشرط الأول: العلم المنافي للجهل، ودليله قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. فطلب العلم بها يجب أولاً قبل العبادة. الشرط الثاني: القبول، المنافي للرد عن استكبار، ودليقه قول الله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فالذي يقول: لا إله إلا الله لا بد أن يكون مذعناً لله جل وعلا. الشرط الثالث: اليقين المنافي للشك، ودليله: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]. الشرط الرابع: الانقياد، والإذعان والاستسلام لله جل وعلا، فقد مدح الله إبراهيم عليه السلام لاستسلامه له إذ قال له: أسلم كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة:131] يعني: استسلمت. دليل هذا الشرط: قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125]. الشرط الخامس: المحبة ودليلها: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} [البقرة:165]. الشرط السادس: الصدق المنافي للكذب، ودليله: قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]. قوله عليه الصلاة والسلام: (تحروا الصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة). الشرط السابع: الإخلاص، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].

الخصلة الثانية: الصلاة

الخصلة الثانية: الصلاة الصلاة خصلة من خصال الإيمان، نبني على ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]. أي: وما كان الله ليضيع صلاتكم، وقد أجمع المفسرين على ذلك، وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (آمركم بأربع: آمركم بالإيمان بالله وحده). ثم فسر ما الإيمان بالله فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله). وهذه أعلى الخصال، ثم قال: (وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم). وهي من الأعمال الظاهرة التي تدخل في مسمى الإيمان، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة، والصلاة من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدهما فقد هدم الدين.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة لا إله إلا الله أعلى شجرة الإيمان -كما مثلها ابن القيم - فكلما قربت الخصال منها أخذت حكمها، وحكمها: أن من تركها كفر، ومن قالها دخل الإسلام. (وأدناها إماطة الأذى). وكلما قربت الخصال من إماطة الأذى أخذت حكمها، يعني: لو ترك بعض الأعمال التي تقترب من إماطة الأذى لا يخرج عن الملة، لكن لا يكون مؤمناً كامل الإيمان. ولذلك اختلف أهل السنة والجماعة في حكم من ترك الصلاة على قولين: القول الأول: قول الجمهور أن تارك الصلاة ليس بكافر، إلا إذا جحدها، فيكفر بالجحود والإنكار. واستدلوا من الكتاب بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وترك الصلاة ليس بشرك، إذ هي داخلة تحت قوله: (دُونَ ذَلِكَ) فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء سبحانه. أما الأحاديث فكثيرة جداً، منها: قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة) ولم يذكر الصلاة وقال (من قال: لا إله إلا الله مستيقناً بها قبله دخل الجنة) ولا ذكر للصلاة في هذه الأحاديث. وحديث بريدة لما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة افترضهن الله على عباده، فمن أحسن وضوءهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة) وإن لم يحسن وضوءهن فليس له عند الله عهد أن يدخل الجنة، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له. فهو في المشيئة إذاً، فليس بكافر، وهذا حديث قوي. ومنها: حديث صلة الذي رواه عن حذيفة لما قال حذيفة: يدرس الإسلام -يعني: يندثر الإسلام- حتى لا يبقى منه شيء، فيبقى الرجل الكبير يقول: لا إله إلا الله، أدركت أبائي يقولون ذلك، لا يعرف من الإسلام إلا هذا القول -أي: لا إله إلا الله- فقال صلة مستغرباً: الرجل لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف شيئاً عن قواعد الإسلام فكيف ينجيه قول: لا إله إلا الله؟ فقال حذيفة: مبيناً له: تنجيهم يا صلة! تنجيهم يا صلة! تنجيهم يا صلة! الشاهد من هذا الحديث: أن الذي ينجيهم: هو لا إله إلا الله؛ فإنه ما ذكر صلاة ولا صياماً ولا زكاة، وإنما قال فقط: لا إله إلا الله، فقال حذيفة: تنجيهم يا صلة! يعني: لا إله إلا الله تنجيهم. ومنها: حديث في الصحيحين وهو أرجح حديث لهم، وهو حديث القبضة، وفيه أن الله جل وعلا يجعل المؤمنين يشفعون في إخوانهم، فيقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون ويزكون ويحجون معنا، فيأمرهم الله جل وعلى أن يخرجوا من النار من عرفوا، وكان في قلبه مثقال ذرة وشعيرة من إيمان إلى آخر الحديث، بعد ما ينتهي المؤمنون يشفع الملائكة، فيخرجون الذي أكلتهم النار وبقي منه أثر السجود، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا: (شفع المؤمنون وشفعت الملائكة وبقي أرحم الراحمين، فيقبض الله قبضة فيخرج كل من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من خير فيدخله الجنة). فهذه جمل من أدلة أهل السنة والجماعة الذين قالوا: إن تارك الصلاة ليس بكافر ولكنه فاسق فاعل لكبيرة مستحق للعذاب. أما القول الثاني: فهو قول بعض الحنابلة، وبعض الشافعية، منهم الإمام ابن خزيمة، وحاصل هذا القول: أن حكم تارك الصلاة كافر، ولهم أدلة كثيرة في الكتاب والسنة. أما من الكتاب فقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. فمفهوم المخالفة: إن لم يتوبوا ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوان لنا أي: مرتدين. وكذلك قول الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42 - 45] والشاهد: أن أهل النار ذكروا أن سبب دخولهم فيها: هو أنهم ليسوا من المصلين، فلذلك سلكهم الله في سقر وأحرقهم بنار تلظى. وأما من السنة: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). وكذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في آخر المسجد لا يصلي فقال له: (ألست بمسلم؟! أما صليت معنا؟!). الراجح من القولين في تارك الصلاة: أنه كافر يخرج من الملة، فهو خالد مخلد في نار جهنم.

الخصلة الثالثة: الأمانة

الخصلة الثالثة: الأمانة ومن خصال الإيمان: الأمانة. والأصل فيها أنها من عمل القلب، وأعماله من الإيمان. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له). ومعنى (لا إيمان) أي: لا إيمان كامل، للذي يخون الأمانة.

أنواع الأمانة

أنواع الأمانة والأمانة أمانتان: أمانة مع الله ورسوله، وأمانة مع الخلق. فأمانته مع الله كما قال تعالى: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال:27]، فخيانة الله جل وعلى كخيانة شرعه، وخيانة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمانة لا تؤدى إلا بعبادة الله، فالذي يسرق من صلاته مثلاً غير مؤتمن أو غير أمين مع الله جل وعلى في عبادته له سبحانه. أما خيانة الرسول فمنها: عدم تسوية الصفوف، فاعوجاجها ليس أمانة مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومن خيانة الأمانة: الابتداع في دين الله جل وعلا، وعدم تبليغ الدعوة. ومن خيانة الأمانة أيضاً: أن تسكت عن بدعة ولا تنكرها. ومن خيانة الأمانة لله جل وعلا: أن ترى من يحرف دينه، وكتابه، ويزعم أموراً لا يرضاها الله ولا رسوله فتسكت عنها ولا تنكرها ولا تبينها. وأما الأمانة مع الخلق فهي من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فعدم الغيبة، وعدم النميمة، يكون من الأمانة، وكذا إذا استودع عندك إنسان وديعة فمن الأمانة أن تؤديها كما هي، وإذا أدى إليك قولاً فمن الأمانة أن تبلغه كما هو بلا زيادة ولا تحريف. فالمؤمن الغير أمين ليس بمؤمن كامل الإيمان.

الخصلة الرابعة: الحياء

الخصلة الرابعة: الحياء الحياء خصلة من خصال الإيمان، وهو من الأعمال القلبية أيضاً. والحياء: هو خلق يمنع المرء من أن يقترف الآثام.

أنواع الحياء

أنواع الحياء الحياء حياءان: حياء من الله جل وعلا ورسوله، وحياء من خلق الله. فأما الحياء من الله: فهو بأن لا نقترف الآثام والمعاصي وهو يرانا جل وعلا. وأما الحياء من الرسول صلى الله عليه وسلم: فهو بأن لا نبلغ دعوته كما هي، والحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا نصدق خبره، فرسول الله يقول: (بين يدي الساعة سنين خداعة، يكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: وما الروبيضة يا رسول الله؟ قال: الفاسق أو الفويسق). ثم ذكر المؤلف خصالاً كثيرة عد منها أكثر من ستين خصلة، فينبغي مراجعتها، وأما هذه الأعمال الظاهرة فهي من الإيمان، لا كما يقول المرجئة، فهم يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان.

نبذة تعريفية عن فرقة المرجئة

نبذة تعريفية عن فرقة المرجئة اسم المرجئة مشتق من الإرجاء، معناه: التأخير، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106]. وقد ظهرت هذه الطائفة في آخر القرن الأول، ففي عصر الفتن ظهرت المرجئة بعد ما خرجت الخوارج على علي، وعثمان رضي الله عنهما. وأول من تكلم بالإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الإرجاء عنده غير الإرجاء الذي ينكره أهل السنة والجماعة. فقد كان الإرجاء عند الحسن بن محمد بن الحنفية أنه قال: نحن نقر بخلافة الشيخين: أبي بكر وعمر، ونرجئ أمر عثمان، وأمر علي لله جل وعلا. ومن رموز المرجئة حماد بن أبي سليمان، بل يقال: إنه أول من أنشأ مذهب الإرجاء في مسمى الإيمان، وهو من أهل الكوفة، وتلميذ إبراهيم النخعي، وهو شيخ لـ أبي حنيفة، وكان يقول حماد: الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم اختلفوا بعد حماد بن سليمان وبعد ما أخذ أبو حنيفة عنه هذا المذهب إلى فرق كثيرة. فمنهم من قال: الإيمان هو المعرفة، أي: إن عرفت أنه يوجد رب خالق للكون فقط فأنت مؤمن، وعندهم من هو أشر من إبليس يستوي إيمانه مع إيمان جبريل؛ ولذلك كفرهم كثير من أهل السنة والجماعة. وفرقة أخرى قالت: الإقرار هو الإيمان، وفرقة ثالثة قالت: التصديق هو الإيمان، وبعضهم قال: الإقرار والتصديق وقول اللسان هو الإيمان، وبعضهم ومنهم الكرامية قالوا: العمل فقط عمل الجوارح. أما مرجئة الفقهاء الذين بينهم وبين أهل السنة والجماعة بعض الخلاف وبعض الاتفاق فقد قالوا: الإيمان إقرار بالقلب، وأقروا بأعمال القلوب، لكن قالوا: أعمال الجوارح ليست من الإيمان، بل هي ثمرة بالإيمان، فهذا قول مرجئة الفقهاء في أمر الإيمان. أما قولهم في الكفر فهم يقولون: إن الأقوال أو الأفعال الكفرية ليست كفرية، أي: سب الرسول أو سب الشريعة ليس بكفر وإنما علامة على الكفر الداخلي. وهم يقولون هذا؛ لأن منهج المرجئة في الإيمان: أن الإيمان إقرار وتصديق، فيقرون بأعمال القلوب، أما أعمال الجوارح فليست عندهم من الإيمان، والكفر عندهم علامة على ما في داخل القلب، ولهم أدلة في ذلك. منها: قول الله جل وعلا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] قالوا: فالإيمان في اللغة: التصديق، والتوحيد: هو التصديق، فالأعمال ليست تصديقاً فلا تدخل في مسمى الإيمان. ومنها: أنهم قالوا: إن الله جل وعلا عطف الأعمال على الإيمان، والأصل في العطف المغايرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، فجعل العمل الصالح غير الإيمان. وقالوا كذلك: إذا قلنا: بأن الإيمان هو التصديق، فلا يكون الكفر إلا التكذيب، فحصروا الكفر بالتكذيب.

الإيمان يزيد وينقص

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الإيمان يزيد وينقص من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الناس يتفاوتون في التصديق والإيمان، والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. أما مسألة الاستثناء في الإيمان فأهل السنة مختلفون فيها على أقوال عدة.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي في باب: جماع الكلام في الإيمان، وقد سبق الكلام على الإسلام والإيمان والعلاقة بينهما، وبيّنا فصل الخطاب في تعريف الإيمان لغةً وشرعاً، وبينا أيضاً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ظاهر الإيمان وباطنه. وسنتكلم هنا عن الاستثناء في الإيمان، وعن زيادة الإيمان ونقصانه فأقول: باب جماع ما قيل في الإيمان والكلام على أن الإيمان يزيد وينقص. إن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فيزيد بكل طاعة يطيع المرء بها ربه جل وعلا حتى يصير كالجبال، فيعيش المرء بجسده مع الناس وروحه في السماء مع الملائكة. وأيضاً ينزل الإيمان بسبب المعاصي حتى يتسفل المرء، فيعيش بجسده مع الناس وهو بروحه مع الجن والشياطين في سابع أرض. قال بعض السلف: يزيد الإيمان حتى يصير كالجبال، وينقص حتى يصير كالهباء. أجمع أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة على أن الإيمان يزيد وينقص، ثم اختلفوا فيما بينهم في محل الإيمان هل هو القلب أم العقل. والصحيح: أن محل الإيمان هو القلب، والإيمان الذي في القلب قول وعمل، فقول القلب هو التصديق، وعمله هو الانقياد والاتباع واليقين إلى آخر هذه التسلسلات. ثم اختلفوا فيما بينهم: هل زيادة الإيمان تكون في التصديق أم في الأعمال فقط؟ وقد اتسعت دائرة الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وهو خلاف لفظي، والراجح: أن الإيمان يزيد في التصديق وينقص، ويزيد في الأعمال الظاهرة وفي أعمال القلوب وينقص.

الأدلة على تفاوت التصديق

الأدلة على تفاوت التصديق إن تصديق الملائكة لا يساويه تصديق أحد من الخلق، فتصديق الصحابة الكرام لا يداني تصديق الملائكة الذين رأوا كمال الله جل وعلا، وجماله وعظمته وآثار قوته وجبروته. وأيضاً فتصديق الصحابة الكرام لا يداني تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أُوحي إليه، وكذلك تصديق التابعين لا يساوي تصديق الصحابة، بل إن الصحابة الكرام يتفاوتون فيما بينهم في التصديق، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سبق الجميع؛ لتصديق قلبه بالله جل وعلا، وبما أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه أمثلة تبين لك زيادة التصديق وعلوه إلى السماء: فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلو التصديق، وذلك لما غاضب أبو بكر عمر رضوان الله عليهما، فجاء أبو بكر وحسر عن ركبته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (أما صاحبكم فقد غامر)، وعلم أن هناك مشاحاة بينه وبين أحد الصحابة، فلما جاء عمر بعده نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه مغضباً وتمعر وجهه، وعُرف الغضب في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (هلا تركتم لي صاحبي؟! صدقني وكذبتموني)، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعلوه في التصديق. وأيضاً: ظهر علو تصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه على الصحابة بما فيهم عمر وعثمان وعلي في مواقف كثيرة جداً. منها: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر من قال: (إن نبي الله قد مات علوته بسيفي هذا، إن رسول الله ذهب إلى ربه وسيرجع كما ذهب موسى إلى ربه ورجع، ثم دخل الصديق بعلو صدقه في قلبه على النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قبل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وقال: طبت يا رسول الله حياً وميتاً، ثم خرج على الناس فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]. فخر عمر رضي الله عنه وأرضاه مغشياً عليه؛ لأنه لم يحتمل الموقف، لكن تصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان أقوى فثبت في هذا الموقف؛ لذلك فالعلماء حينما يفاضلون بين الملُهم وبين الصديق فإنهم يقولون: الصديق أعلى مقاماً من الملهم، فـ عمر كان ملهماً بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في هذه الأمة ملهم فهو عمر بن الخطاب)، لكن الصديق لم يحتج إلى إلهام؛ لأن قلبه ناصع، فيجري الحق على قلبه دون إلهام. ودليل ذلك أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه وافق كلامه كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وأما عمر فلم يتحمل هذا الموقف فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: نعم، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: نعم، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله ولن يخذلني الله جل وعلا، ثم رجع عمر وقال: أذهبُ إلى أبي بكر لعله يؤثر في رسول الله، فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال أبو بكر بتصديقه التام المجرد في قلبه الناصع، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هو رسول الله ولن يخذله الله، والزم غرز رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذا يدل على التفاوت في التصديق القلبي بين الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم. وأيضاً: مما يدل على التفاوت في الإخلاص والمحبة، قول عمر رضي الله عنه وأرضاه لما استعلى يقينه بربه: والله إني لا أحمل هم الإجابة -أي: إجابة الدعاء- ولكني أحمل هم الدعاء، فإذا رفعت يدي لله جل وعلا فإن الله سيقبل دعائي يقيناً؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. فاستيقن بقول الله تعالى، فقال: والله إني لا أحمل هم الإجابة؛ لأني على يقين منها؛ لأن القائل هو الله، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. واستعلى يقين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لما شرب السم أمام ملك الروم أو الفرس، واستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره شيء). فاستيقن في هذا وعلم النتيجة يقيناً ثم وقف أمام الرجل وأخذ السم وقال: أشرب هذا أمامك ولا أموت، فأخذ السم وقال: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) وشرب السم ولم يحدث له شيء. وكذلك همم الصحابة علت لما علا اليقين والتصديق في قلوبهم، فجاء رجل في غزوة أحد أو في غيرها للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله ما يضحك الرب؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تتقدم مقبلاً غير مدبر، وتخلع درعك وتقدم نحرك أمام الأعداء، فتقاتل حتى تقتل في سبيل الله، قال: أيضحك الرب من ذلك؟ قال: يضحك الرب من ذلك، قال: يا رسول الله، إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك، ثم أخذ الدرع فألقاه، وأخذ السيف ودخل حين حمى الوطيس يقاتل في سبيل الله، وقدم نحره حتى قتل في سبيل الله)، ونحن على يقين أن الله سيضحك له يوم القيامة، ثم ينال رحمات الله في الفردوس الأعلى إن شاء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحسبه كذلك بإذن ربنا الجليل، وقبح الله المبتدعة الذين ينفون صفة الضحك.

حال الصديقين وحال المنافقين في غزوة الخندق

حال الصديقين وحال المنافقين في غزوة الخندق لقد فصل الله بين صف الصديقين وصف المنافقين في غزوة الخندق، لما تألب الناس من مشارق الأرض ومغاربها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إنه لم يستطع أحد من الصحابة أن يقضي حاجته، وعندما ظهرت كدية كبيرة وهم يحفرون الخندق ولم يستطيعوا أن يفعلوا لها شيئاً، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فضربها حتى فلقها نصفين، ثم قال: (الله أكبر، أعطيت الكنزين: الأحمر والأصفر)، يعني: بلاد فارس والروم. فلتصديق ويقين وإيمان الصحابة صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]. أما المنافقون الذين في قلوبهم ريب فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]؛ لأن الريب يملأ قلوبهم. فالإيمان يزيد وينقص، ومحله القلب، فيزيد بالتصديق، بأعمال القلب من إخلاص ومحبة ويقين وتوكل على الله جل وعلا، وهناك أمثلة كثيرة جداً في التوكل، فمنها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). وكما فعل كثير من الصحابة كان يكتفي بقوت يومه؛ لأنه يعلم أن الرزق بيد الله، وكان الحسن البصري تاجراً فكان يعرض بضاعته فإذا اكتفى بقوت يومه انتهى، وقال: الحمد لله، وأخذ تجارته، قالوا: يا رجل يأتي الناس إليك لتربح في التجارة، قال: علمت أن رزقي بيد ربي ولن يصل إلى غيري فاطمأن قلبي.

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة وآثار الصحابة

أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة وآثار الصحابة الإيمان إذا علت بشاشته في القلب أصبح أصحابه يعيشون بين الناس بأجسادهم وأرواحهم هناك مع الملائكة في عليين، والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب أدلة متوافر متضافرة، وأيضاً هناك أدلة من السنة متوافرة متضافرة على ذلك. أما أدلة الكتاب: فيقول الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. وقوله جل وعلا: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] وكل هذا من كتاب الله جل وعلا. وأيضاً: قصة إبراهيم تبين لنا أن علو مقام الإيمان يصل بعد ذلك إلى الطمأنينة، قال إبراهيم عليه السلام كما قال الله عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] يعني: أعلى ما يكون من مقامات الإيمان أن تصل إلى الطمأنينة. والآيات بنفس النسق كثيرة جداً. أما السنة النبوية: فهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن). الشاهد قوله: (ناقصات عقل ودين)، ووجه الدلالة أن ما كان قابلاً للنقصان فهو يقبل الزيادة. وفي حديث الشفاعة الطويل: (ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال كذا ومثقال كذا)، حتى وصل بها في التناقص إلى مثقال ذرة، فهذه دلالة على أن الإيمان يقل ويقل إلى أن يصل إلى مثقال ذرة من الإيمان. ومنها أيضاً: في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وفي رواية أخرى قال: (ما أبقى من مثقال حبة خردل من إيمان بعد هذا) يعني: الإنكار بالقلب. وأيضاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فتتفاوت هذه الدرجات، فهي سبعون درجة من الأولى إلى الأخيرة التي هي أعلاها، فكلما قرب المرء منها علا إيمانه، وكلما قرب من الإماطة قل إيمانه أو قلّت درجات الإيمان عنده. ومنها أيضاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يتراءى أهل الجنة كما تتراءون النجوم) يعني: يتراءى أهل الدرجة الأقل مع الدرجة الأكبر كما تتراءون النجوم. فهذه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك، وهناك أحاديث كثيرة على هذا النسق. أما الآثار: فمنها: قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في دعائه (اللهم زدني فقهاً ويقيناً وإيماناً) يعني: أنه كان يدعو الله جل وعلا أن يزيده إيماناً. وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يقول: (الفقيه حق الفقيه هو الذي يتعاهد إيمانه نقص أم زاد) فالفطن الذي يجعل لنفسه ساعة ينظر في إيمانياته علت أم انتقصت، وما هي الأسباب التي يعلو بها الإيمان فيأخذ بها، وما هي الأسباب التي ينقص فيها الإيمان فيبعد عنها. ولذلك كان وهب بن منبه كما في مسند الإمام أحمد يقول: على المرء أربع ساعات، منها ساعة يخلو بنفسه يتدبر أمره ينظر علا إيمانه أم قل. وكما في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فزاد الإيمان على إيماننا) يعني: ازداد إيماناً على إيمان بالقرآن. وكان عمر بن الخطاب يجتمع في حلقات العلم والذكر ويقول للصحابة: (هلموا نذكر الله ساعة) أي: تعالوا وأقبلوا. وأيضاً في حديث حنظلة رضي الله عنه وأرضاه لما قال: (نافق حنظلة فخرج أبو بكر وخرج عمر فقالا: ما بالك؟ فقال: أجلس عند رسول الله فكأني أرى الجنة والنار، فإذا رجعت إلى بيتي عافست النساء والأطفال نقص الإيمان، فقالا: والله نحن كذلك، فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) إلى آخر الحديث. الشاهد أنه لما قال: (نافق حنظلة) يعني: الإيمان نزل من علوه إلى النفاق. وأيضاً قال ابن أبي مليكة من التابعين: (أدركت ثلاثين صحابياً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم لا يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل، ويخشى على نفسه النفاق) ووجه الدلالة: أن الواحد منهم لم يكن يقول: إن إيمانه وصل إلى إيمان جبريل؛ لأن التصديق متفاوت، فجبريل يكلم الله جل وعلا والله يكلمه، وينظر إلى جبروت الله جل وعلا، فالإيمان عنده أعلى ما يكون. إذاً: فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فعلى كل امرئ منا إذا زل أو إذا عصى الله علم أن الإيمان قد قل فلا بد أن يتعاهد إيمانه قلبه، فيتوب إلى الله توبة نصوحاً؛ لأن الله يفرح بتوبة العبد أشد من فرح المرء الذي أشرف على الهلاك فوجد النجاة، فالله يفرح بتوبة العبد ويرتقي العبد بهذه التوبة إلى الله جل وعلا فيعلو إيمانه أيضاً. وأيضاً من الأحاديث التي تثبت الزيادة والنقصان في الإيمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فهذا فيه دلالة على أنه لما يزني المرء فإن إيمانه ينقص، ويكون كالظلة مرتفعاً عنه حال الزنا، فكلما ارتكب المرء المعصية أو اتبع هواه على شرع الله جل وعلا فإن إيمانه يقل، وكلما اتبع أوامر الله جل وعلا وآثر الله وأوامره على نفسه وشهوته وهواه فإن إيمانه يعلو ويرتقي إلى الله جل وعلا.

مراتب الإيمان عند الزيادة والنقصان

مراتب الإيمان عند الزيادة والنقصان للإيمان ثلاث مراتب عند الزيادة والنقصان: المرتبة الأولى: مطلق الإيمان، وهي أدنى مرتبة، وهي التي تمنع المرء من الخلود في النار، يعني: ينقص الإيمان شيئاً فشيئاً إلى حد يمنع المرء أن يخلد في نار جهنم. وهذه المرتبة هي التي يكون فيها مطلق الإيمان أو أصل الإيمان موجوداً، وينجو صاحبها من النار، وهذه تستنبط من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يأمر الملائكة بأن يخرجوا من النار ممن فيهم علامات الصلاة لم تحترق، فتخرجهم الملائكة، والمؤمنون يشفعون فيخرجون من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) وفي هذا دلالة على أن معهم أصل الإيمان الذي هو أدنى مراتبه. المرتبة الثانية: الإيمان الواجب أو الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق، وهذه المرتبة هي التي ينجو صاحبها من النار، ويدخل الجنة بعد الحساب، والإيمان المطلق الواجب هو الذي أدى صاحبه الواجبات وترك المحرمات، وترك النوافل واقترف المكروهات، وهو لا يأثم؛ لأن المكروه لا يأثم فاعله ويثاب تاركه، وعكسه المستحبات. وهذا يستدل له بحديث الأعرابي الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (آلله بعثك؟ ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله افترض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: أعلي غيرها يا رسول الله؟ قال: لا، قال: والله لا أزيد -ثم ذكر له النبي الزكاة ثم الصوم ثم الحج- فقال: أعلي غيرها؟ قال: لا، قال: والله لا أزيد عن ذلك ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق)، وفي رواية: (دخل الجنة إن صدق). فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الرجل إذا قام بالواجبات وترك المحرمات فإنه يدخل الجنة بعد المحاسبة. المرتبة الثالثة: هي المرتبة التي يدخل أصحابها الجنة من أول وهلة، فلا حساب عليهم ولا عذاب، وهذه المرتبة مرتبة الإيمان المطلق: الواجب والمستحب، وهؤلاء هم الذين أتوا بالواجبات وتركوا المحرمات، ثم أتبعوا الواجبات بالنوافل وأتبعوا ترك المحرمات بترك المكروهات. وهؤلاء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدخلون الجنة بغير عذاب ولا حساب، ووصفهم بقوله: (هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) وهم سبعون ألفاً. وفي رواية أخرى قال: (مع كل واحد منهم سبعون ألفاً) أيضاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، هذه المرتبة الثالثة التي نختم بها مراتب الإيمان، وأصحابها يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، نسأل الله أن نكون جميعاً منهم.

حكم الاستثناء في الإيمان

حكم الاستثناء في الإيمان الجزء الثاني الذي نتكلم عنه في باب الاستثناء في الإيمان، كأن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا الأمر زلت فيها الأقدام حتى بين أهل السنة والجماعة، فقد حدث خلاف عريض بينهم، وهي على أقوال كثيرة نحصرها في أربعة أقوال: القول الأول: قول الجهمية ومرجئة الأحناف الذين قالوا: إن الاستثناء في الإيمان لا يجوز، فعندهم لو قال المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو كافر، مع أن مرجئة الأحناف التكفير عندهم بعيد، لكنهم قالوا: لو قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهذا يكفر بذلك؛ لأنه بالاستثناء كأنه شك في دين الله، والله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يشكوا، فليس هناك ثمة ريب ولا شك، فهذا قول مرجئة الأحناف. والجهمية قالوا: لا يجوز أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، ولو قال بذلك فهو شاك في دين الله ويكفر. والشافعية قالوا: يجوز الاستثناء في الإيمان، ولذلك من الطرائف أن الأحناف قالوا: يجوز للحنفي أن ينكح الشافعية قياساً على أهل الكتاب؛ لأن الشافعية يقولون: يجوز للمرء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. القول الثاني: قول الشافعية وجمهرة من أهل السنة والجماعة: وهو أنه يجب على المرء إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا يقول: أنا مؤمن بالجزم، فالأحناف وأصحاب القول الأول لابد عندهم أن يقول: أنا مؤمن، جزماً، أما أصحاب القول الثاني فنظروا للمآل والمستقبل والآخرة، فقالوا: وجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]. وأيضاً قالوا: لنا في ذلك أدلة أخرى وهي أن الذي يقول: أنا مؤمن، جزماً، قد زكى نفسه ووقع في المحذور، وقد قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. وهناك قول آخر: وهو إذا قال: أنا مؤمن دون أن يقول: إن شاء الله، فأي مراتب الإيمان يكون فيها، العليا أم الوسطى أم الدنيا؟ وهذا مخالف لطبيعة الإنسان، فالإنسان ظلوم جهول، والإنسان ينسى ويخطئ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فهو إذا لم يلتزم بفعل الواجبات وترك المحرمات يكون كاذباً في دعواه. إذاً: فأصحاب هذا القول نظروا للمآل؛ لأن المؤمن جزماً يكون منتهاه إلى الجنة، لكن لا أحد يجزم أنه في الجنة، فـ أبو بكر نفسه رضي الله عنه وأرضاه قال: (لو وضعت اليمنى في الجنة وبقيت اليسرى خارجها فإني لا آمن مكر الله) وعمر بن الخطاب الفاروق -وما أدراكم ما عمر - يقول: (لو نودي في عرصات القيامة: أن كل من في عرصات القيامة يدخل الجنة إلا رجل لقلت: أنا) فلا يأمن أحد مكر الله جل وعلا. وفي الحديث: (أن رجلاً من بني إسرائيل كان يمر على صاحب له يعصي الله جل وعلا فينصحه في الله، وكان لا يأخذ بالنصيحة، فلما تضايق منه قال له: والله لا يغفر الله لك، فقال الله: من ذا الذي يتألى عليَّ -أي: من ذا الذي يقسم؟ - قد غفرت له وعذبتك). فالمآل يعلمه الله جل وعلا، ويدل لذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح المرء مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)، وقال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ولذلك كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يدعو الله جل وعلا أن يثبت قلبه، فالمآل إلى الله جل وعلا لا يعلمه أحد.

هل للمعاصي صغائر وكبائر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - هل للمعاصي صغائر وكبائر من رحمة الله عز وجل أن جعل المعاصي صغائر وكبائر، ولو كانت المعاصي كلها صغائر فقط لتساهل الخلق في أمرها، ولو كانت كلها كبائر لأصاب الناس حرج ومشقة. وإذا وقع المسلم في كبيرة من الكبائر فلا يسلب منه أصل الإيمان، بل يبقى في دائرة الإسلام، وأمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبه على قدر معاصيه، ثم أدخله الجنة، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة برحمته، ومن الغلو أن يقال: إن صاحب الكبيرة كافر مخلد في النار، ومن التفريط أن يقال: إنه مؤمن لا تضره المعصية ولا تؤثر في إيمانه.

اختلاف أهل العلم في انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر

اختلاف أهل العلم في انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اختلف العلماء في مسألة الكبيرة: هل في المعاصي كبائر وصغائر؟ وهل الذي يفعل الكبيرة كالذي يفعل الصغيرة؟ فبعض العلماء قال: ليس ثمة خلاف بين المعاصي، وكلها شيء واحد، وبعضهم قال: كل المعاصي كبائر، وهؤلاء نظروا إلى عظمة من عُصي، أي: إلى عظمة الله جل وعلا. والذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة: أن المعاصي صنفان: كبائر وصغائر، وهذا يدل عليه الكتاب والسنة. أما في الكتاب فقد قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فنص على الكبائر، فمفهوم المخالفة: أن غير الكبائر صغائر. وأيضاً قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فنص على الكبائر، ونص أيضاً على اللمم، وهي الصغائر. إذاً: فالصحيح الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة: أن المعاصي منها: الكبائر، ومنها: الصغائر. وأما من السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج إلى الحج والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فـ (ما) في قوله: (ما اجتنبت الكبائر) شرطية بمعنى: إذا اجتنبت الكبائر، والمقصود: أنه لما قال: (إذا اجتنبت الكبائر)، فالذنوب التي بين الصلوات، وبين الحج والحج، والعمرة والعمرة، تكفر إذا كانت صغائر، أما الكبائر فلا تفكر إلا بالتوبة. وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور)، فأهل السنة والجماعة اتفقوا على أن هناك كبائر وصغائر.

اختلاف العلماء في مرتكب الكبيرة

اختلاف العلماء في مرتكب الكبيرة الذي يرتكب الكبيرة، كأن يزني، أو يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يكذب أو يشهد زوراً، هل هو مخلد في نار جهنم؟ أو يعذب ثم يدخل الجنة؟ وما هي أحكامه في الدنيا والتي لا بد أن نتعامل معه بها؟ اختلفت أقوال العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الخوارج والمعتزلة.

رأي الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة

رأي الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة فالخوارج قالوا: مرتكب الكبيرة، كشارب الخمر، والسارق، والزاني، كافر خارج من الملة، وبهذا قال مصطفى شكري. وحكمه في الدنيا: أنه يقتل، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وإذا مات لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا توارث بينه وبين أهله من المسلمين، فإذا شرب الإنسان الخمر مرة فإنه يقتل، وإذا مات لا يغسل ولا يصلى عليه. أما المعتزلة فاستحيت من هذا القول وقالوا: إن من شرب الخمر أو زني أو ارتكب غير ذلك من الكبائر فإنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين، لا كافر ولا مؤمن. وقولهم هذا كأنه استحياء من أن يقولوا: كفر، فقالوا: هو في منزلة بين منزلتين في الدنيا، حتى يفروا من مسألة قتله وعدم الصلاة عليه. أما في الآخرة: فقد اتفق المعتزلة والخوارج على أن من شرب الخمر أو زنى أو كذب أو سرق أو أكل الربا أنه خالد مخلد في نار جنهم، لا يخرج منها أبداً، واستدلوا على قولهم بأدلة من الكتاب ومن السنة.

أدلة الخوارج والمعتزلة على أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن

أدلة الخوارج والمعتزلة على أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن استدل الخوارج والمعتزلة على قولهم بأدلة أولها: أن الشارع -وهو الله عز وجل أما الرسول فإنه ناقل للشرع- ترع من مرتكب الكبيرة اسم الإيمان، وإذا نزع منه اسم الإيمان فقد وضعه في دائرة الكفر، وذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، إذاً: فالزاني عند الخوارج والمعتزلة في الظاهر أنه كافر وليس بمؤمن بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه أبصارهم وهو مؤمن)، ففاعل الكبيرة ينزع منه اسم الإيمان، وهذا أول صنف من أصناف الأدلة. ثانيها: قالوا: إن الله جل وعلا جعل مآل الذي يرتكب الكبيرة إلى النار، لا إلى الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث)، وقال: (لا يدخل الجنة نمام)، والديوث: هو الذي يرضى الخبث في أهل بيته، كأن يجعل امرأته تمشي في الشارع متبرجة مثلاً، فهذا من الدياثة. والنمام: هو الذي ينقل الكلام ليفسد بين الآخرين. أيضاً: يستدلون بحديث: (لا يدخل الجنة منان) وهو الذي يمن بالخير الذي يفعله، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن هؤلاء لا يدخلون الجنة لكفرهم. ثالثها: البراءة من الذين يفعلون الكبيرة، كقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)، كالذي يغش في الامتحانات مثلاً، وقد رأينا أناس يغشون في امتحان الشريعة، فإن قيل له: (من غشنا فليس منا) قال: هذا تعاون على البر والتقوى، وليس بغش! والذي أتذاكر معه في الامتحان إنما يذكرني وأذكره!! وقد يقول: إن الغش شيء لا أعرفه، ولكن هذا يذكرني بما نسيت فقط فليس بغش. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد قال بعض أهل العلم: من غش في امتحانات البكالوريوس أو النظام فلا يجوز له أن يعمل بهذا البكالوريوس، والمال الذي يأخذه يمكن أن يكون مشبوهاً أي: فيه شبه. فكل منا يفتش في نفسه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن جلس أو مكث بين أظهر المشركين)، فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا يتبرأ إلا من الكافر. إذاً: من غش أو جلس بين أظهر المشركين، أو طلب الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين فهو من هذا الصنف. رابعها: أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نقل الشرع عن الله جل وعلا سمى الكبيرة والمعصية كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً -بالتصريح- يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر)، أي: الذي يحلف بالنبي، وحياة أمه، ورحمة أبيه، كل هذا كفر. فهذه أدلة جيشوها وأثبتوا فيها أن كل مرتكب كبيرة كافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الفعل كفراً، وتبرأ ممن فعل ذلك، وجزم بأنه: (لا يدخل الجنة نمام ولا قتات). وهؤلاء هم أهل الغلو والإفراط.

رأي المرجئة في مرتكب الكبيرة

رأي المرجئة في مرتكب الكبيرة في المقابل جاء أصحاب التفريط، وهم المرجئة، فلم يفرقوا بين كبيرة ولا غيرها، وقالوا: لو زنى وشرب الخمر وأكل الربا، فإيمانه كإيمان جبريل، لا يقل عنه قيد أنملة -كما يقولون- واستدلوا على ذلك بقول ناقل الشرع صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فقالوا: هذا الرجل الذي فعل الكبائر هو عند الله مثله مثل جبريل، طالما قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وأجود الناس في تطبيق مذهب المرجئة هم المصريون، حيث يقولون: طالما القلب نقي أبيض، والإنسان يقول: لا إله إلا الله، فمكتوب أنه مسلم ولو فعل أي معصية، فإن (لا إله إلا الله) تشفع له، وطالما أن قلب الرجل أبيض نقي فإيمانه كإيمان جبريل، كما ذهبت إليه المرجئة. وهكذا فإن أهل البدع إما في غلو وإفراط وإما في جفو وتفريط.

رأي أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة

رأي أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة إن أهل السنة والجماعة جاءوا بالحق البين، فهم وسط بين طرفين، حيث قالوا: مرتكب الكبيرة في الدنيا فاسق فاجر، له معاملات خاصة: فنحبه في الله على إيمانه وقوله: لا إله إلا الله، وعلى صلاته، ونبغضه بأكله للربا، كما نبغضه ونهجره لله جل وعلا للبدعة التي يبتدعها، وبالمعاصي التي يقترفها. وقالوا: ننظر إليه بعينين: عين الشرع، وعين القدر، فأما عين القدر: فلأن الذي قدر عليه أن يعصي، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقه بخمسين ألف عام هو الله، فنقول: كتب الله عليه ذلك، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، ونبكي عليه، فربما كان أحدنا في مكانه. وأما النظر إليه بعين الشرع: فلأنه قد عصى الله فلا بد أن نعاديه ونبغضه، وعند النظر إليه بعين القدر فلابد أن نشفق عليه وننصحه، ونحمد الله أنا لسنا مثله، هذا كله في الدنيا. أما في الآخرة فمآله إلى الجنة، سواء عذب حتى نظف من هذه المعاصي والكبائر، أو غفر الله له من أول وهلة فأدخله الجنة دون عذاب، سواء زنى أو سرق أو أكل الربا.

الرد على الدليل الأول للخوارج

الرد على الدليل الأول للخوارج الخوارج هم أهل الغلو والإفراط، ولذلك قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). فدل هذا على نزع الإيمان من مرتكب الكبيرة. فإن رددت عليهم بقول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، أو بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، فسوف يقولون لك: نحن نوافقك على ذلك، فصاحب الكبيرة إذا ذكر الله واستغفر وتاب قبلت توبته. ولذلك لما كانوا في السجون إذا اغتاب أحدهم يكفر بذلك، ثم يخرج ويغتسل ويرجع تائباً إلى الله بعد ذلك، فكأنه تجدد دينه مرة أخرى, إذاً: فهذا لا يكفي في الرد عليهم، ولكن الجواب عليهم أن يقال لهم: لا نوافقكم على ذلك؛ لأن مراتب الدين ثلاثة: إسلام، وإيمان، وإحسان، فإذا أسقطتم الزاني من درجة الإيمان، فلابد أن ينزل إلى درجة الإسلام، لكنكم أنزلتموه من مرتبة الإيمان إلى الكفر، وهذا غير صحيح، فلكي يكفر العبد لابد أن ينزل من مرتبة الإحسان إلى الإيمان، ثم من مرتبة الإيمان إلى الإسلام، ثم يخرج من الإسلام إلى الكفر، وأنتم أخرجتموه من الإيمان إلى الكفر مباشرة، ولم تتدرجوا في مراتب الدين. فالعاصي قد ينزل من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام، فإن قالوا: ما دليلكم على ذلك؟ قلنا: دليلنا: أن المسلم هو الذي لا يخلد في النار، ومآله إلى الجنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت له على الأقل أصل الإيمان الذي هو الإسلام، فالمسلم يدخل الجنة بأصل الإسلام وإن زنى وسرق، فالزنى والسرقة أسقطته من مرتبة الإيمان إلى الإسلام، لا إلى الكفر. ولذلك قال بعض السلف: إذا زنا المرء رفع إيمانه كالظلة عليه، ثم إذا رجع إلى ربه نزل إيمانه إلى قلبه كما كان. هذا هو الرد على النوع الأول من أدلتهم.

الرد على الدليل الثاني للخوارج

الرد على الدليل الثاني للخوارج النوع الثاني من أدلتهم: هو أن الله جعل مآل مرتكب الكبيرة إلى النار في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) و (لا يدخل الجنة قتات) و (لا يدخل الجنة نمام) وفي قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمنان والديوث)، وقوله صلى الله عليه وسلم في المتبرجات: (صنفان من أمتي لم أرهما، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها: صنف بأيديهم سياط، كأذناب البقر يعلون بها ظهور الناس، وكاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، رءوسهن كأسنمة البخت)، فهؤلاء لا يدخلون الجنة. والرد عليهم: هو أن دخول الجنة دخولان: الدخول الأول: دخول أولي بغير حساب ولا عذاب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قيل: من هم يا رسول الله! قال: الذين لا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وفي رواية قال: (ومع كل واحد منهم سبعون ألفاً، فكبر عمر، ثم قال: ويحثوا الله بكفه، ثلاث حثيات)، فالرحمن يحثوا ممن يدخلون الجنة بلا حساب، ثلاث حثيات. وهذه زيادة صحيحة. فهؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا دخول أولي. وفي حديث أظنه صحيح الإسناد: (أن الإسلام يأتي يوم القيامة فيتمثل لـ عمر بن الخطاب، فيأخذ بيده، فيحتج أمام ربه، فيقول: هذا الذي أعزني، فيأخذ بيد عمر فيدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب) وأرجو أن يكون صحيحاً، والغرض: هو بيان أن في الجنة دخولاً أولياً من غير حساب ولا عذاب!! الدخول الثاني: هو الدخول الثانوي، بعد التنظيف من الذنوب بالعذاب، حيث يدخل من غلبت سيئاتهم حسناتهم النار، حتى يحترقوا ويصيروا حمماً، فعندما يصيرون حمماً يخرجهم الله من النار، فيدخلهم في نهر اسمه نهر الحياة، فيحيون، ثم بعد ذلك يدخلهم الجنة، إذاً: فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، وقوله: (لا يدخل الجنة ديوث)، وقوله: (لا يدخل الجنة قتات)، وقوله في الكاسيات العاريات: (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) المقصود به: نفي الدخول الأولي، حيث جاءت القرائن بجيوشاً مجيشة، فأخرجت الدخول الثانوي وأبقت الدخول الأولي. فمن هذه القرائن: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله مصدقاً بها قلبه دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) وإن كان ديوثاً، بأن أراد الخبث لأهل بيته، أو شرب الخمر، لكن بشرط: أن يقولها -أي: كلمة التوحيد- صادقاً بها قلبه، أو مخلصاً لله جل وعلا. ومن القرائن كذلك: قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، فقوله: (ما دون ذلك) أي: دون الشرك، فيدخل في ذلك النمام، والقتات، وشارب الخمر، والزاني، والسارق، والمغتاب، والديوث، وكل هؤلاء قد يدخلون في مغفرة الله جل وعلا. فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) أي: لا يدخلها دخولاً أولياً، وقوله عن المتبرجات: (ولا يجدن ريحها) أي: أول الأمر، ثم بعد ذلك يجدن ريحها عندما يدخلن الجنة إن شاء الله. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنان، مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، هذا هو الرد على النوع الثاني من أدلة الخوارج القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة.

الرد على الدليل الثالث للخوارج

الرد على الدليل الثالث للخوارج النوع الثالث من أدلتهم: هو البراءة ممن يفعل الكبائر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن مكث أو جلس بين أظهر المشركين). فتبرأ من الناس التي تقعد في لندن، وفي إنجلترا وأمريكا، وأسبانيا، هؤلاء الذين يعيشون من أجل الدنيا والدرهم والدينار، تبرأ منهم النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فقال: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين، قالوا: علامَ يا رسول الله! قال: لا تراءى نارهما)، أي: أن المؤمن لا ينبغي له الجلوس في مكان يرى فيه نار الكفار من ذلك المكان، للدلالة على بعد المسافة التي لابد أن يبتعد المؤمنون فيها عن الكفار؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] أي: أن الفتنة ستعم الكل. فالذين يعيشون في بلاد الغرب من أجل الدرهم والدينار وقعوا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، وفي رواية: (تعس عبد الزوجة). كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا). والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن فعل ذلك، فهل معنى ذلك أن صاحبه خرج من الملة؟ أم تبرأ من هذا العمل؟ إذاً: فيجاب على استدلالهم بأن التبرؤ، إما تبرؤ فخرج به صاحبه من الملة، وإما تبرؤ من العمل؟ والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تبرأ من عمل المعصية، والذي يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تبرأ من عمل من يعصيه قول الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216]، فدل على أن البراءة من العمل. إذاً: فقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، أي: من عمله، وقوله: (أنا بريء ممن غش)، أي: من عمله، فلم يتبرأ منه، فلا يخرج من دائرة الإسلام، وإنما يستحق العقاب بعصيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، أي: استحق العذاب، وهو في مشيئة الله جل وعلا. كما يحاب عليهم أيضاً بما فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما سمع أناساً يقولون: (صبأنا صبأنا)، يريدون أن يقولوا: أسلمنا، أسلمنا، لكن ما أحسنوا أن يقولوا ذلك، فقتل فيهم خالد رضي الله عنه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد). فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من عمل خالد، ولكنه لم يتبرأ منه، فهل يجرؤ أحد أن يقول: إن خالداً في نار جهنم خالداً مخلداً فيها؛ لأن الرسول تبرأ من عمله؟ حاشا لله أن يكون ذلك، بل هو بإذن الله مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة. نسأل الله أن نكون معهم.

الرد على الدليل الرابع للخوارج

الرد على الدليل الرابع للخوارج النوع الرابع من أدلتهم: هو أن المعصية سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). فعلى قولهم هذا: فحرب الخليج بين الكويت والعراق كان العراقيون والكويتيون فيها كلهم كفرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)! واستدلوا كذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر -أي: فعلهما كفر- الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت). ويجاب على هذه الأدلة بأن الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر. والذي يفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر هي القرائن المحتفة بالأدلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، أي: يقاتل بعضكم بعضاً، فظاهر الحديث أن الذين يفعلون ذلك كفرة، ولكن قد جاءت القرائن وأثبتت لنا أنهم ليسوا بكفرة، وأن فعلهم كفر أصغر، وكبيرة من الكبائر، لكنها ليست بكفر أكبر. فمن هذه القرائن: قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. ولما كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم بالناس دخل الحسن فافتن به النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم، فنزل من على المنبر، وأخذه وضمه، وقال: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، فأخذه وضمه صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وهما معاوية ومن معه، وطائفة علي رضي الله عنه وأرضاه، فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين. إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، المقصود به: الكفر الأصغر لا الأكبر، فالذي حدث بين الكويت والعراق كان معصية، والمتقاتلون عصاة، ومن وافق على ذلك عاص، فالعراق باغية، والكويت لا بد أن تدفع الثأر عنه، فيدخلون تحت الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. وأما النائحة، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تأتي يوم القيامة تطربل بطربال من زفت أو قار)، أي: أنها تعذب بمعصيتها حتى تزيد حسناتها على سيئاتها ثم تدخل الجنة، إذاً: ليست بكافرة؛ لأن الكافر يخلد في النار. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أتى بأمر يذهب العقول، ويجعل الإنسان يخشى على نفسه أن يقع في شرك، قال: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، قال: الشرك هنا عام، سواء كان أكبر أم أصغر، أي: أن الشرك الأكبر والأصغر لا يغفره الله جل وعلا. وإن كان في هذا الكلام بعض النظر، لكن ينبغي على المرء أن يخشى على نفسه أن يقع في الشرك الأصغر، فيحلف بغير الله ولو ناسياً، فإن فعل ذلك فلا بد أن يُكَفِّر، ويقول: لا إله إلا الله، حتى لا تكتب في صفحاته، فلا يغفر له على قول شيخ الإسلام ابن تيمية. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، وأشهد ألا إله إلا أنت، وأستغفرك وأتوب إليك.

سياق ما روي عن النبي في الذنوب التي عدهن من الكبائر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سياق ما روي عن النبي في الذنوب التي عدهن من الكبائر إن الخطأ والتقصير من طبيعة الإنسان إلا من عصمه الله، فلما كان الأمر كذلك فتح الرحمن سبحانه لعباده أبواب رحمته، وحذرهم من الإصرار على المنكرات، والإعراض عن البحث عن المكفرات، ودعاهم إلى التوبة، والتوبة لا يقبل منها إلا النصوح، وهي ما اجتمع فيها ثلاثة أشياء: الندم على ما كان، والعزم على عدم العودة، والإقلاع عن المعصية، وإن كانت المعصية متعلقة بآدمي فلابد من التحلل منه؛ ولذا اختلف العلماء في توبة القاتل.

الكبائر

الكبائر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا فيما سبق عن الكبائر، وحد الكبيرة والصغيرة، والفرق بينهما، وذكرنا هل للكبائر مكفرات من الأعمال أم لا؟ وذكرنا الخلاف بين العلماء في ذلك. ثم ساق المؤلف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذنوب التي عدهن في الكبائر مثل: الشرك بالله، والقتل والزنى، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وأكل الربا، والسحر، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسرقة، واستحلال البيت الحرام، والطعن في الأعراض، وتكلمنا على كثير من هذه الكبائر، وبقي منها مسألة السحر؛ لأنها وردت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر منها (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين والسحر) والسحر أيضاً من الكبائر.

السحر تعريفه وأقسامه

السحر تعريفه وأقسامه السحر في اللغة: كل ما خفي سببه، وهو قسمان: سحر حقيقي، وسحر تخييلي. القسم الأول: السحر الحقيقي: وهو نوعان: النوع الأول: سحر يستخدم فيه الساحر الاستعانة بالشياطين، كما قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، فهذا النوع فيه استخدام الشياطين والجن، حيث يستمتع به الإنس، ويلبي له رغباته في الإضرار بالآخرين، أو في جلب المنفعة له أو دفع المضرة عنه، في شيء لا يستطيعه البشر وهو في قوة الجان، وهذا ليس بدون مقابل؛ لأن الجني لا يمتع الإنسي بهذه الطلبات إلا وهو أيضاً يتمتع منه، فيجعل هذا الآدمي يشرك بالله، ويعمل المنكرات، ويقدم القرابين للجن، وهكذا يستمتع كلاً منهما بالآخر، وهذا مصداقاً لقول الله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128]، فقوله جل وعلا: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، فيه دلالة واضحة على أن الإنسي يستمتع بالجني وأيضا ً الجني يستمتع بالإنسي، حتى في أمر الجماع، فإن الجني يشارك الإنسي في ذلك، وليس هذا مقام التفصيل في هذا الموضوع. النوع الثاني من أنواع السحر الحقيقي: استخدام الساحر للعقاقير والأدوية، يعني: يضعها في مشروب ويقدمه للذي يريد أن يسحره، فتقع في معدة الرجل، فيتأثر به بدنه وعقله وذهنه، وحياته كلها تنقلب رأساً على عقب، وترى ذلك بالتجربة، فإذا قرأ المعالج على الذي شرب السحر، فإن معدته تغلي كالمرجل، فيرى تحركات غريبة في معدته، وهذا من أثر السحر. فالنوع الأول من القسم الأول هو من أكبر الكبائر؛ لأنه شرك أكبر، فالساحر يستعين بغير الله جل وعلا، ونحن شرطنا في الاستعانة بغير الله جل وعلا شروطاً: أن يكون المستعان به حياً حاضراً قادراً، وذلك حتى تكون هذه الاستعانة غير شركية، أما إن كان غائباً، مثل الشياطين والجن، فهذه الاستعانة كفرية شركية، ويتدرج به المرء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، فهذه من الكبائر، ويدخل هذا النوع في الخلاف المشهور بين العلماء: هل الكبائر لها مكفرات من الأعمال أم لا؟ وقلنا: إن هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أن الأعمال تكفر الكبائر، بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يبقى من درنه شيء؟) فإن كان بسبب ثواب يوم وليلة لا يبقى من درنه شيء، فكذلك الأعمال تكفر الكبائر. أما النوع الثاني من القسم الأول فهو ظلم ليس بشرك. القسم الثاني: السحر التخييلي: وهو ليس سحراً حقيقياً، وإنما هو خفة يد، أو خفة حركة، فهو يسحر الأعين، لا يقلب الحقائق، وهذا كما قص الله علينا في سحرة فرعون، فإنهم كانوا لا يقلبون الحقائق، يعني: أن الحبال لم تقلب حيات حقيقة، بل كانت محشوة بزئبق، وكانت تتحرك أمام الناس، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فهذا النوع أيضاً من المنهي عنه؛ لأن فيه تزييف وتزوير وغش، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا)، فهو أيضاً من الكبائر.

إيذاء الجار

إيذاء الجار ثم ذكر بعد ذلك مسألة الجار، وأن إيذاءه من الكبائر، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من لا يأمن جاره بوائقه). وهناك حديث آخر يدل على لعن الذي يؤذي جاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسند أحمد - جاءه رجل فقال: يا رسول الله! جاري يؤذيني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ أمتعتك وضعها في وسط الطريق، ففعل، فكان كلما مر عليه أحد يقول: يا فلان، من فعل بك هذا؟! فيقول: جاري، فيقول: لعنة الله على جارك، فكل من يمر عليه يلعن جاره)، فهذا فيه دلالة على أن إيذاء الجار من الكبائر، ويدخل أيضا الخلاف: هل تكفرها الأعمال أم لا؟ ويبدو لي أن الإمام العلامة -أي: المؤلف- يرى أن هذه الكبائر لابد لها من توبة، وأن هذه الأعمال يمكن أن لا تكفرها، وهو بذلك كأنه ينحو نحو الجمهور، أي: أن الكبائر لابد لها من توبة، ولذلك عقب بعدها بذكر أحاديث وآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب التوبة، وتقديم التوبة عن المعاصي، ووجوب استحلال المسلمين بعضهم من بعض قبل نزول الموت، فبدأ يتكلم عن التوبة بعد أن تكلم عن الكبائر، وكأنه يشعر بأن هذه الكبيرة لا تمحى ولا تكفر إلا بأن يأتي المرء ربه جل وعلا بتوبة نصوح.

التوبة

التوبة التوبة لغة: مأخوذة من تاب يتوب، أي: رجع يرجع، فهي من الرجوع. والتوبة شرعاً: هي الرجوع إلى الله جلا وعلا بصدق وعزم وحزم، وهي الإقلاع عن الذنب خوفاً من الله -أي: ليس استحياء من البشر مثلاً، أو خوفاً على مكانة أو وجاهة- والعزم على عدم فعل هذا الذنب.

التوبة

التوبة التوبة لغة: مأخوذة من تاب يتوب، أي: رجع يرجع، فهي من الرجوع. والتوبة شرعاً: هي الرجوع إلى الله جلا وعلا بصدق وعزم وحزم، وهي الإقلاع عن الذنب خوفاً من الله -أي: ليس استحياء من البشر مثلاً، أو خوفاً على مكانة أو وجاهة- والعزم على عدم فعل هذا الذنب.

حكم التوبة

حكم التوبة التوبة واجبة، فقد أوجبها الله على كل المؤمنين قاطبة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا} [التحريم:8]، فهذا أمر، والظاهر في الأمر الوجوب، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]، إلى آخر الآيات، وأيضاً قال الله تعالى آمراً عباده المؤمنين: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، فقسم الناس إلى قسمين: تائب وظالم، فيدل ذلك على أن الذي لا يحدث لذنبه توبة، فهو ظالم، بعيد عن الله جل وعلا. أيضاً في السنة قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالتوبة، فالصحابة الذين هم أجل الناس وأعظمهم قدراً عند الله جل وعلا، قد أمرهم الرسول أن يكثروا من التوبة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم عن الأغر بن عبد الله المزني - أنه قال في مجلس الصحابة: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة). وفي الصحيح أيضاً عن ابن عمر: أنهم كانوا يعدون للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين مرة، أي: يستغفر الله ويتوب إليه، فقد كان يأتمر بأمر الله عند أن قال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]. فالتوبة مأمور بها كل مؤمن، حتى وإن لم يستحدث ذباً، فإنه يستغفر لتقصيره في طاعة الله؛ لأن التقصير في طاعة الله ذنب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وخرج منه يستغفر الله، فقال: (إنه ليران على قلبي). والعلماء استنبطوا من ذلك أنه إذا دخل الخلا لم يذكر الله جل وعلا بلسانه، فكان يستغفر الله عندما يخرج، مع أن قلبه ذاكر لله جل وعلا، ولكنه يستغفر بعد الخروج لأن لسانه كف عن ذكر الله جل وعلا، وقد كانت وصيته صلى الله عليه وسلم: (اجعل لسانك رطباً بذكر الله جل وعلا). جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! عبد يذنب الذنب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه، يعني: يكتب أنه أذنب الذنب، فقال: يا رسول الله! أرأيت لو استغفر، قال: يغفر له، قال: ثم أذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم استغفر، قال: يغفر له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إن الله لا يمل حتى تملوا)، يعني: كلما فعلتم الذنوب ثم استغفرتم فإن الله سيغفر لكم. وأيضاً في مسند أحمد ورد (أنه جاء رجل مستغفراً ربه فقال: إني قد أذنبت ذنباً، فقال الله تعالى: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفره، اشهدوا أني قد غفرت له، ثم عاد فاقترف نفس الذنب مرة ثانية بعد أن عزم على الإقلاع، ثم جاء فقال: رب إني قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، اشهدوا أني قد غفرت له، ثم جاء الثالثة، فقال الله تعالى: عبدي افعل ما شئت ثم استغفرني فسأغفر لك). ولا عجب في ذلك، فإن الله جل وعلا يفرح أشد الفرح بتوبة العبد المذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولأتى بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم). وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله أشد فرحاً بتوبة العبد من أحدكم كانت معه راحلة في وهدة من أرض قاحلة، ما فيها شيء، وكانت الراحلة عليها زاده ومتاعه فرحلت عنه، فعلم أن الموت سيأتيه، ثم ذهب إلى ظل شجرة يستظل بها وهو ينتظر الموت، فنام ثم استيقظ فوجد الراحلة أمامه، فمن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، والله جل وعلا يعذره؛ لأنه من شدة الفرح قد يحدث الذهول للمرء، فلا يؤآخذ على ما يقول. فالله جل وعلا أشد فرحاً بتوبة العبد من هذا الذي فرح بقدوم راحلته إليه، والمراد التوبة الحقيقية، فيجب أن نحث أنفسنا وغيرنا على التوبة. والتوبة ليست بجهد منا، بل إنما التوبة من الله جل وعلا، فالتوبة محفوفة بتوبتين: توبة قبلية، وتوبة بعدية، وكلاهما من الله جل وعلا، لكن التوبة البعدية هي قبول توبة العبد، قال الله تعالى عن الثلاثة الذين خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]، أولاً: تاب عليهم، أي: أودع في قلوبهم التوبة، وبعد ذلك: مكنهم أن يرفعوا الأيدي، وأن يتذللوا ويتضرعوا ويخضعوا لله جل وعلا توبة إليه، فيقبل هذه التوبة، فالتوبة محفوفة بتوبتين توبة قبلية من الله جل وعلا، وتوبة بعدية هي منه سبحانه أيضاً، أي: قبول توبة العبد التي هي في الوسط.

شروط قبول التوبة

شروط قبول التوبة ولكي تقبل التوبة يجب أن تتوفر فيها شروطها، وهي ثلاثة إذا كان الذنب بين العبد وبين الله، وأربعة إذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي على التفصيل الآتي: الشرط الأول: الندم على ارتكاب المعصية، فلا يتصور في عبدٍ مصر على معصية، يتغنى بها، ويباهي بها الناس، ويحارب الله جل وعلا بها، وينشرها بين الناس، أنه يتوب، أو أنه يريد أن يتوب. فالذي يتوب بحق هو الذي لابد أن يكون في قلبه الحسرة والألم على أنه تجرأ على محارم الله جل وعلا، فالندم أول شروط التوبة، كما في مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، فحتى تكون التوبة مقبولة عند الله لابد أن يتوفر فيها الندم. وعندما أقول: للتوبة شروط حتى يقبلها الله، فهذا يعني: أنه إذا اختل شرط منها فإنها غير مقبولة عند الله جل وعلا، فإن كانت الشروط خمسة، وأتى بأربعة، فإنها لا تقبل عند الله جل وعلا. الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب، فإن العبد إذا قال: أريد أن أتوب، أو أنا نادم على ما فعلت، وهو مصر على ذنبه، فهذا مستهزئ والعياذ بالله، وقد يصل إلى الكفر؛ لأنه يقول: أنا أريد أن أتوب، وهو يزيف هذا في قلبه بحبه لهذه المعصية، كما ورد عن بعضهم أنه يدخل ليزني ويقول: التوبة يا رب، فهذا استهزاء، وقد يصل به إلى الكفر، فلابد من الإقلاع عن الذنب، وهذا هو الشرط الثاني للتوبة، حتى تكون مقبولة عند الله جل وعلا. الشرط الثالث: العزم على عدم فعل هذه المعصية، أي: العزم على عدم الرجوع للمعصية، وإلا فلا يكون صادقاً عند الله جل وعلا. وهذه الشروط إذا كان الذنب بينه وبين الله جل وعلا، أما إذا كان الذنب في حق للآدمي، فلا بد من شرط رابع ينضم إلى هذه الشروط الثلاثة، والقول فيه كالتالي: الشرط الرابع: إرجاع الحق إلى صاحبه، فلا تكتمل التوبة في عبد غصب أو سرق أو اغتاب أو سب أو شتم، حتى يتحلل من ذلك، وحتى يرد الحقوق إلى أهلها، فيتحلل مما بدر منه بلسانه من سب أو شتم أو غيبة، وذلك بطلب السماح من الشخص الذي ظلمه، هذا هو الشرط الرابع، له صور: الصورة الأولى: أن يكون قد اغتاب امرأ مسلماً في مجلس، فتوبته لابد أن تتوفر فيها الشروط الثلاثة أولاً، أما الشرط الرابع، فعند الجمهور أنه لا تكتمل التوبة حتى يذهب إلى الذي اغتابه، فيقول له: قد اغتبتك، وأنا أتحلل منك، أي: اقتص مني، أو سامحني، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما سب عمر بعد غضبه منه، ذهب إليه ليستسمحه، فـ عمر لم يرض، أي: أن أبا بكر أراد أن يقتص عمر منه، أو أن يتحلل مما فعل مع عمر وأيضاً ورد أنه سب بعض الأنصار فقال الأنصاري: يغفر الله لك، فقال أبو بكر: لابد أن تقتص مني، الآن تسبني؛ لأنه يعلم أن التوبة لا تكون إلا بذلك، قال: يا أبا بكر لا أقتص منك، يغفر الله لك. فالغرض المقصود: أنه لابد أن يتحلل، والجمهور استدلوا على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل، فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار يوم القيامة، ولكن الحسنات والسيئات)، فعلى عرصات يوم القيامة ليس هناك دراهم ولا دنانير، بل هي حسنات تؤخذ من المغتاب أو من الغاصب أو من السارق أو من القاتل، تؤخذ من صحيفته إلى صحيفة هذا الذي وقع في حقه أو عرضه. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له قول آخر، غير قول الشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف، وقوله هذا ترجيح للرواية الأخرى عن الحنابلة، حيث قال: إن المغتاب لا يذهب ويتحلل ممن اغتابه، بل له أن يتوب إلى الله جل وعلا، بأن تتوفر فيه الشروط الثلاثة، ثم بعد ذلك يذهب إلى المجلس الذي اغتاب فيه نفس الرجل، فينشر محاسن هذا الرجل، وحجته في ذلك حجة عظيمة؛ لأنه يغوص في المعاني، وينظر إلى مقاصد الشريعة، فقد قال: لو ذهب الرجل إلى الذي اغتابه وقال له: اغتبتك، أو سببتك، أو انتقصت من قدرك، لحدثت المشاحنة والمشاجرة بينهما، ويمكن أن تصل إلى القتال، فإن العرب قديماً كانوا يقتتلون على جمل أو فرس أو أي شيء، فما بالك بالمسبة، فنظر رحمه الله إلى ذلك وقال: حتى تتآلف القلوب، ويكون الوئام منتشراً بين الناس، فلا يذهب ولا يتحلل منه لكن يستغفر الله، ويدعو له، ثم ينشر محاسنه بنفس المجلس الذي سبه فيه. ونحن نقول الراجح من ذلك هو التفصيل، وهذا التفصيل يكون على أمرين: الأمر الأول: هو أن تنظر في حال الذي وقعت في حقه الغيبة، فتنظر فيه وفي شخصيته وأخلاقياته ودينه، فإن كان تقياً ورعاً سليماً مسامحاً، فهذا وجب عليك أن تذهب إليه، وتتحلل منه، وتصرح له أنك وقعت فيه؛ لأنه بدينه وورعه وتقواه، سيسامحك، أو يقول لك: أقتص منك الآن، ولن تحدث المشاحنة بعد ذلك؛ لأنه يعلم من دين الله جل وعلا أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]. ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل، في المرة الأولى والثانية والثالثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فيخرج نفس الرجل)، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص، ذهب إليه لينظر اجتهاده في العبادة، فوجده في الليل نائماً، فقال: لعله إذا أرخى الليل سدوله قام الرجل يصلي لله جل وعلا، فقد شهد له النبي بالجنة، فوجده نائماً طوال الليل، ثم في النهار قال ابن عمر: يصوم النهار، فلعله بالصوم بلغ ما بلغ، فما وجده صائماً، فلما استشكل عليه هذا الأمر، كيف لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لك بالجنة، فقال: والله يا هذا ليس عندي كثير صيام ولا صلاة، ولكني أبيت وليس على أحد في قلبي شيء، وهذا مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير)، فهذا يجب على المرء أن يتحلل منه، فيذهب ويقول له: سببتك في مجلس كذا، وأنا أريد أن أتحلل منك؛ لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه؛ لأنه ليست ثمة درهم ولا دينار يوم القيامة، بل هي الحسنات والسيئات). الأمر الثاني: أن يكون الرجل ليس بهذه الصفات، أي: ليس دينا ولا ورعاً ولا تقياً، بل رجل قلبه غليظ، وهو سريع الغضب، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (سريع الغضب بطيء الرضا)، فهذا -عملاً بمقاصد الشريعة- لا يجوز لك أن تتحلل منه، أي: لا يجوز لك أن تذهب إليه وتقول: أنا سببتك، أو اغتبتك أو وقعت فيك؛ لأنه سيأتي بمفسدة أعظم من المصلحة المرجوة، والقاعدة الفقهية تقول: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن كانت المصلحة أن يتحلل منه حتى لا تكون هذه الغيبة في صحيفته، فإن المفسدة أعظم، وهي التقاتل والتدابر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولعل الله يرضي هذا الشخص يوم القيامة فيعطيه من حسنات غير حسنات هذا الرجل، ويقول خذ بيد أخيك وادخل الجنة. الصورة الثانية: رجل أكل على رجل آخر مالاً، أو أكل أموال الناس بالباطل، سواء في معاملة تجارية، أو في قضية نصب، أو قضية غصب، فحتى تكتمل التوبة، فلا بد من أن توفر الشروط الثلاثة، والشرط الرابع أن يتحلل من صاحب المال، وقد اتفق العلماء على أنه يجب عليه أن يرد هذا المال لصاحبه، فإذا ذهب إلى الرجل فلم يجده، فإنه يرده إلى الورثة، فإن لم يجد هذا الوريث، فيعطي الذي بعده، فإن لم يجد له ورثة، ولا يستطيع أن يصل إلى هذا الرجل -الذي يريد أن يرد عليه الحق- فله في ذلك طريقان: الطريق الأول: أن يتصدق بهذا المال لهذا الرجل، يعني: ينوي أن هذه الصدقة لهذا الرجل الذي أخذت منه المال ولم أجده، وهذا بشرط أنه لم يجده، فإن وجده وفعل ذلك، فإنه يضمن، يعني: لو أخذ مالاً من عمرو، ثم أراد أن يتوب، ولم يبحث عن عمرو حتى يرد له المال، بل تصدق به بنية أنه عن عمرو، ثم خرج عمرو وظهر، فإنه في هذه الحالة يضمن له هذا المال، ويجب عليه أن يرده لعمرو؛ لأن شرط التصدق عنه أن لا يجده أولا يجد له وريثاً، فإذا توفر هذا الشرط وتصدق عنه فلعل الله جل وعلا أن يرضيه يوم القيامة بهذه الصدقة، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه اشترى جارية، ثم قام ليعطي المال أو حق الجارية للرجل فلم يجده، فبحث عنه وجد في البحث فلم يجده، فقال: اللهم هذه الصدقة عن رب الجارية -أو حاكم أو مالك هذه الجارية- فتصدق بها، وقال: فإن رضي في الآخرة بهذا الصدقة، فهي له، فإن لم يرض فهي لي، ويأخذ من حسناتي ما يكفيه لهذا الثمن أو لحق الجارية.

الخلاف في توبة القاتل

الخلاف في توبة القاتل الصورة الثالثة: القتل، وهذه الصورة مشكلة، وفيها خلاف كثير بين العلماء، يعني: رجل قتل نفساً مسلمة، فأراد أن يتوب، فهل له توبة؟ وما شروطها؟ نقول: مسألة قاتل النفس المؤمنة عمداً، وهل له توبة أم لا؟ اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه -معلم ابن عباس - وهو لـ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أنه ليس له توبة، ولأصحاب هذا القول في ذلك أدلة من الأثر ومن النظر: أما من الأثر فقالوا: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. فهذه الآية صريحة، وهي من أقوى الأدلة على خلود القاتل في النار، وإن كان مسلماً، كما أن فيها قوله تعالى: ((وَلَعَنَهُ))، واللعن: أصله الطرد من رحمة الله جل وعلا. وقالوا أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (لا يزال المؤمن في سعة من دينه ما لم يصب دماً حراما)؛ لأنه من الإفساد في الأرض. ويستدل لهم أيضا بالقياس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين- أنه قال: (من قتل نفسه بحديدة فهو بحديدته يتوجؤها في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها، ومن تحسى سماً فهو في نار جهنم يتحساه، خالداً مخلداً فيها)، فهذا قاتل نفسه، ونفس الغير تساوي نفسه، فالعلة مشتركة، إذاً: فالقياس صحيح، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]. والعلماء لما تلكموا في قاعدة الإكراه قالوا: إن الله جل وعلا رفع عن المكره الإثم إلا في القتل والزنا، فلو أكره على شرب الخمر يشرب، ولو أكره على أن ينطق كلمة الكفر ينطق، ولو أكره على الزنا لا يفعل؛ لأن عرض أخيه مثل عرضه، ولو أكره على القتل فإنه لا يفعل بالاتفاق؛ لأنهم قالوا: إن نفسه ليست بأولى من نفس أخيه، فبالقياس على هذا الحديث أن يقال: إذا كان قاتل نفسه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها، فقاتل غيره يأخذ نفس الحكم، وهذه أدلة قوية جداً لهذا الفريق. أما دليلهم النظري فقالوا: إن التوبة للقاتل لا بد أن تتوفر فيها أربعة شروط: الشروط الثلاثة المعروفة، والشرط الرابع أن يتحلل، وكيف يتحلل وهو قد أزهق روح أخيه ولا يستطيع ردها؟ فيتعذر عليه -نظراً- أن يتحلل، ونحن قلنا: إن التوبة في حق الغير لا يمكن أن تقبل عند الله جل وعلا حتى تكتمل الشروط الأربعة، وهذا يتعذر عليه أن يتحلل، ويتعذر عليه أن يرد الروح في هذا الجسد، فقالوا: فإن كان باب التحلل والأداء مغلق، فقد تعذر عليه التوبة، فلا توبة لقاتل. القول الثاني: قول الجمهور من الفقهاء والمحدثين، وهو أنهم قالوا: للقاتل توبة، وعندنا أدلة من الأثر ومن النظر: أما من الأثر: فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]. فالذنوب: جمع معرف بالألف واللام فيفيد العموم، أي: كل الذنوب، فيدخل فيها القتل، ويدخل فيها الشرك كذلك، لكن بشرط أن يكون تائباً، والذي جعلنا نقيد هذا القيد أو نشترط هذا الشرط -مع أن ظاهر الآية العموم: ((يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) - هو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء، أي: دون الشرك كالقتل، فهو دون الشرك. إذاً: القتل يدخل في نص الآية بأنه في مشيئة الله جل وعلا، فإذا كان في مشيئة الله فالنتيجة عدم الخلود في نار جهنم؛ لأن الكافر الذي يخلد في نار جهنم لا يدخل في مشيئة الله جل وعلا، أي: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، بل هو معذب حتماً بنص قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ))، فإذا كان القاتل تحت المشيئة، فهو لا يخلد في النار، إذاً: فله توبة. واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]، إذاً: فليس له التوبة فقط، بل يبدل الله سيئاته حسنات فوق ذلك. لكن الفريق الأول ردوا عن الاستدلال بهذه الآية، فقد قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كنا نرى اللين في هذه الآية: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))، قلنا: حتى قاتل النفس، حتى المشرك، حتى الزاني، إذا تاب يبدل الله سيئاته حسنات، هذا لين عظيم جداً، ثم نزلت الشدة في هذه الآية: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)). فهو رضي الله عنه يلمح بأن هذه ناسخة للآية الأخرى، وهذا الذي صرح به ابن عباس -أي: لمح زيد وصرح ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه- حين قال: لا توبة للقاتل، فقالوا له: كيف تفعل بهذه الآية، فقال: هذه الآية منسوخة، هذه كانت في أقوام من أهل الكفر يزنون ويشربون الخمر، ويقتلون ويسرقون، فجاءوا يسلمون في مكة، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغفر لهم ما قد سلف، فنزلت هذه الآية في مكة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، ثم نزلت آية النساء في المدينة، والمتأخر ينسخ المتقدم، أي: ما نزل في المدينة ينسخ ما نزل في مكة، هكذا قالوا، وسنبين كيف ردوا عليهم. واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. وجه الشاهد قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82]. ووجه الدلالة: أن (من) تعتبر من الأسماء المبهمة، أي: أنها اسم موصول بمعنى الذي، وهي من ألفاظ العموم، فمعنى الآية: أي أحد تاب، سواء أكان مشركاً، أم كان قاتلاً، فإن الله يغفر له ما دام قد تاب من ذنبه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. قالوا: وعندنا من الأحاديث ما يثبت ذلك، أولها ما ورد: (أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب إلى راهب -عابد- فسأله: هل لي من توبة؟ قال: قتلت تسعة وتسعين نفساً، ليس لك توبة، فقتله، فأكمل به المائة -وهذا فيه دليل على أن الفرق كبير بين العابد والعالم، فشتان شتان بين القمر وسائر النجوم، فإن العالم وريث النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كالقمر والعابد كالنجوم، والفرق بينهما كبير- ثم ذهب إلى عالم، فقال: قتلت مائة نفس، هل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة، اذهب إلى أرض كذا فإن فيها أناساً صالحون فاعبد الله جل وعلا معهم، فذهب الرجل ليتوب إلى الله، فقبض في الطريق)، إلى آخر القصة، فالمقصود: أنه قد قتل مائة نفس ومع ذلك فإن العالم دله على التوبة، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. لكن يشكل علينا أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل، فكيف نستدل بها على ما نحن فيه؟ نقول: الخلاف الأصولي كبير في مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فـ الشنقيطي وغيره يرجح: أنه ليس بشرع لنا على الاتفاق، لكن الصحيح الراجح ما قاله الجمهور، وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه. ومثال النسخ ما جاء في الطهارة، فقد كان في زمن بني إسرائيل إذا وقعت النجاسة على الثوب، فإنهم يقرضونها ويقطعون مكانها، لكن الله جل وعلا خفف علينا، وجعل في الماء طهوراً لنا. واستدلوا من الحديث أيضاً بحديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نزني، ولا نشرك بالله، ولا نقتل أولادنا، إلى آخر ما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له). فإذا كان كفارة له فهذه توبة، فهو لا يخلد في النار، فوجه الشاهد: قوله: فهو كفارة له، ووجه الدلالة أنه لا يخلد في النار. واستدلوا أيضاً بحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: عبدي! إن أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً -هذا قيد وشرط مهم جداً- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة)، وجه الشاهد: قوله: بقراب الأرض خطايا. ووجه الدلالة: أن خطايا نكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، أي: يدخل في ذلك كل الخطايا ما عدا الشرك؛ لأنه اشترط بعد ذلك عدم دخوله. إذاً: فهذا الحديث أيضاً حجة لمن يقول بأن القاتل له توبة؛ لأنه مهما أتى الله جل وعلا بأي ذنب غير الشرك فإن الله يتوب عليه، فإنه سبحانه سوف يأتيه بقرابها مغفرة. وهناك أحاديث كثيرة استدلوا بها على أن القاتل له توبة، ولكن نكتفي هنا بما ذكرنا. أما استدلالهم من النظر، فقد استدلوا بقياس الأولى، حيث قالوا: المشرك أو الكافر له توبة، ومعروف أن الشرك أعظم الذنوب، وهو أكبر الكبائر، فما بالكم بالأقل منه، يعني: الكافر الذي أشرك بالله جل وعلا له توبة، وفتح الله له الباب على مصراعيه أن يتوب، فمن باب أولى ما هو دون الشرك

ثمرات التوبة

ثمرات التوبة أول ثمرات هذه التوبة وأفضلها وأعلاها وأقواها: حب الله للتائبين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فالذي يتوب إلى الله جل وعلا محبوب عند الله، فإنك إذا تبت إلى ربك جل وعلا رفعك إلى عليين، وذكر اسمك عند أشرف الخلق، ألا وهم الملائكة، كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فاحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يكتب له القبول في الأرض)، فإذا أحبك الله جل وعلا أدخلك الجنة، وإذا أحبك الله جل وعلا سدد خطاك، ومنعك من كل خطيئة ورذيلة، وإذا وقعت في السفه أو المعصية، رفعك الله جل وعلا بعدها إلى توبة، بل إلى درجة أكبر، وكان سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به ويدك التي تبطش بها، جمع ذلك كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه -فأحب شيء الفرض- وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فأي درجة فوق هذه الدرجة، فبعد تتابع النوافل، يصل العبد إلى درجة المحبوبية، هذه الدرجة -أوصلنا الله وإياكم إليها- لا ينزل العبد منها أبداً، يعني: إذا ارتقى إلى درجة المحبوبية، فإنه لا ينزل منها، ولا يشكل علينا أنه يعصي؛ لأننا نقول: إن الله سيلهمه التوبة، ويكون بحالة أحسن من الأول، ألم يأتكم نبأ المهدي المنتظر؟ كيف سيقود الأمة، وقد كان متخلفاً عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلحه الله في ليلة)، يعني: قبل ذلك لم يكن بنفس الجهد الذي صار إليه؛ لأنه بعد هذه الليلة سارع في الخيرات، ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به).

أهل الكبائر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أهل الكبائر من فضل الله على العباد ورحمته بهم أن جعل الإيمان يتفاضل زيادة ونقصاناً، وذلك لأن العباد ليسوا معصومين من الخطأ إلا من عصمه الله، فلو كان كل من وقع في كبيرة كفر -كما زعمت الخوارج- ثم في الآخرة يخلد في النار كما زعموا هم والمعتزلة؛ لكان هذا تكليفاً بما لا يطاق، وحاشا الشارع الحكيم عنه، وليس الأمر كما زعمت المرجئة أن الإنسان له أن يفعل ما يحلو له من الفجور ثم يكون مؤمناً كامل الإيمان، كجبريل والصديق، ما دام أن أصل الإيمان في قلبه، وهذا تنافيه الحكمة الإلهية والعدل الرباني بين العباد، وإنما من فعل معصية دون المكفرات فهو فاسق بمعصيته مؤمن بأصل إيمانه، وهذا قول الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة.

حكم أهل الكبائر عند أهل الغلو، وأهل التفريط

حكم أهل الكبائر عند أهل الغلو، وأهل التفريط إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنتكلم في هذا الدرس على فساق أهل القبلة، أهل المعاصي والكبائر، وفي هذا الباب مسائل، منها: هل أهل الكبائر مخلدون في نار جهنم؟ وهل أهل الكبائر كفار خرجوا من الملة كما قال أهل الغلو والإسراف، كالخوارج الحرورية أم لا؟ فإن الخوارج الحرورية قالوا: إن أهل الكبائر كفار مرتدون خارجون من الملة، وإذا ماتوا فلا يدفنون في مقابر المسلمين ولا يصلى عليهم، بل إن كانوا أحياء فإنه يفسخ عقد زواج أحدهم من امرأته وتطلق منه، ويعامل معاملة المرتد، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل. أما المعتزلة فقالوا: لا نقول: إنه كافر، وإنما نقول: هو بمنزلة بين المنزلتين، فلا هو كافر ولا مسلم، وإنما هو في منزلة بينهما. والصحيح: أن هذا الكلام تغطية لهم حتى لا يتهموا بأنهم خوارج، لكن قولهم يئول إلى قول الخوارج: إنهم -أي: أصحاب الكبائر- مخلدون في نار جهنم. فهذا الكلام هو كلام أهل الغلو، وهناك من يضاد هذا القول، وهو قول أهل التفريط، وهم أهل الأرجاء، فإن المرجئة قالوا: كل مسلم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً هو رسول الله، وصلى إلى هذه القبلة، وذبح ذبيحتنا، أو أكل من ذبيحتنا فهو مؤمن كامل الإيمان، يرتقي إلى إيمان أبي بكر وعمر، بل يرتقي فوق ذلك إلى إيمان جبريل، وهو من أول وهلة يدخل الجنة، وهذه هي بدعة المرجئة. فأما أدلة الخوارج على ما ذهبوا إليه: فقد صنفوا أدلتهم من الكتاب ومن السنة. فأما من الكتاب: فاستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. فقالوا: وجه الدلالة أن قوله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)، فقال: (ظلماً) والظلم ليس بكفر، وإنما هو معصية وكبيرة. وقد قال الله عنهم: (وسيصلون سعيراً)، وليس لنا دليل يدل على خروجهم من هذا السعير. فقالوا: إن أهل المعاصي خالدون في نار جهنم، استدلالاً بهذه الآية. وأما أدلتهم من السنة فاستدلوا بما يلي: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عن أهل المعاصي، وهذا دليل على أنهم كفار. ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربهما وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن). فنفى عنه الإيمان، وإذا نفى عنه الإيمان فهو فاسق. وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له). فنفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الخائن، فأصبح كافراً؛ لأن المقابل للإيمان هو الكفر. فإذاً: الخائن كافر، والعاصي كافر، والزاني كافر، والسارق كافر كل هذا على قولهم. ثانياً: أنه أثبت الكفر لأهل المعاصي، وهذه أصرح في الدلالة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فأثبت الكفر لهم بقتال بعضهم لبعض. والأحاديث مثل ذلك كثيرة منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: -كما في الصحيحين-: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان في أمتي هما بهم كفر: النياحة على الميت، والفخر بالأحساب) وفي الرواية الأخرى: (الفخر بالأنساب، والاستسقاء بالنجوم). وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) والحلف بغير الله هو: القسم بغيره، فالذي يحلف بحياته، أو بالنبي، أو بشرفه فكل هذا معصية، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، ونزع عنه الإيمان. ثالثاً: البراءة من الشخص، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرأ من أحد إلا إذا كان عمله كفراً، ولو كان مؤمناً لانضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى حظيرة المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين) وفي رواية أخرى: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين). فهذه البراءة من الشخص دلالة على كفره. وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا). فهذه هي أدلة الخوارج الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة كافر خالد مخلد في نار جهنم. أما في الجهة المقابلة لهم فهم المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، فالرجل عندهم وإن زنى وإن سرق طالما أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهو مؤمن. وقد أخذوا بأحاديث الوعد، فالخوارج أخذوا بآيات وأحاديث الوعيد، المرجئة أخذوا بأحاديث الوعد. ومن أدلتهم: أولاً: قول الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:14 - 15]، فهنا أسلوب حصر، أي: أن النار لا يصلاها إلا الشقي، ثم وصفه بقوله: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] إذاً فيكون الأتقى هو الذي سيجنبها، وهو: الذي ليس بشقي، فلم يكذب، ولم يتول، ولم يجحد. فإذاً: المسلم الذي لا يكذب بآيات الله، ولا يكذب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتولى جاحداً، وإن ترك العمل، فهذا سيدخل الجنة ولا يخرج منها. ولا يمكن أن تمسه النار ولو وهلة. واستدلوا من السنة بأدلة كثيرة، وهي أحاديث الوعد، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق دخل الجنة على ما كان من عمل)، أي: أي عمل عمله فسيدخل به الجنة. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل جاءني فبشرني: أن من قال من أمتك: لا إله إلا الله، أو مات لا يشرك بالله من أمتك فسيدخل الجنة. فقال أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر). فهذه دلالة واضحة على أن أهل الكبائر والمعاصي يدخلون الجنة، ولا يسمعون حسيس النار من أول وهلة. إذاً: فالخوارج والمرجئة طرفان متضادان: الطرف الأول: الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن أهل المعاصي مخلدون في نار جهنم. والطرف الثاني: المرجئة الذين يقولون: إن أهل الكبائر وإن زنوا، وإن سرقوا، وإن فعلوا كل الكبائر فهم في الجنة من أول وهلة.

حكم أهل الكبائر عند أهل السنة، وأدلتهم

حكم أهل الكبائر عند أهل السنة، وأدلتهم ودائماً القول الوسط هو الذي يزن الأمور، وهو قول أهل السنة والجماعة الذين معهم الحق فإنهم قالوا: لا نقول: إن صاحب الكبيرة يكون كافراً خارجاً من الملة، ولا نقول: إنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، ولكن نقول: هو فاسق بكبيرته، مؤمن بأصل إيمانه. فننزع عنه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، ونبقي له مطلق الإيمان، أي: أصل الإيمان.

أقسام الإيمان المطلق

أقسام الإيمان المطلق والإيمان المطلق ثلاثة أقسام: القسم الأول: الإيمان الواجب، وهو الإيمان الذي ينجي صاحبه من النار من أول وهلة، وصاحبه هو الذي أتى بالفرائض وانتهى عن المحرمات، كما في الحديث: (والله! لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق). القسم الثاني: الكمال المستحب. القسم الثالث: الإحسان.

حكم العاصي عند أهل السنة والجماعة

حكم العاصي عند أهل السنة والجماعة أهل السنة والجماعة لا ينزعون عن العاصي مطلق الإيمان فيقولون: إنه كافر، ولا يطلقون عليه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، بل يقولون: هو فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه. وأدلتهم على ذلك ما يلي: أولاً: حكمه في الدنيا: ننظر إليه بعينين: عين الشرع وعين القدر. فننظر إليه بعين القدر فنقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، فعلنا لو كنا في موقفه لكنا فساقاً مثله، ولكن الله عصمنا من ذلك. ثم ننظر إليه بعين الشرع، فنبغضه ونبغض فعله ونهجره لعله يرجع، وننصحه في الله، ونأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر. فهذا هو حكمه في الدنيا. أما حكمه في الآخرة عند أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هو تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه على سيئاته، ثم بعد ذلك يدخله الجنة، كما في حديث الشفاعة عنه صلى الله عليه وسلم، أنهم يصيرون حمماً بعدما يعذبون من الكبائر التي اقترفوها، أو يدخله الله الجنة من أول وهلة ويغفر له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. قالوا: والأدلة على ذلك كثيرة، منها: أولاً: أن الله جل وعلا بين أن الذي لا يشرك به مآله إلى الجنة، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وفي رواية: (من قال: لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه دخل الجنة). وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً). فالشاهد فيه: أن الذي لا يشرك بالله شيئاً لا يعذبه الله، أي: يدخله الجنة. ويستدلون أيضاً بالأحاديث التي يستدل بها المرجئة. إذاً: فالدليل الأول عند أهل السنة الجماعة: أن الله بين أن الذي لا يشرك به شيئاً مآله إلى الجنة، وإذا كان مآله إلى الجنة فهو ليس بكافر؛ لأن الكافر مخلد في النار. ثانياً: إن الله أطلق اسم الإيمان على الذي اقترف المعاصي، فسماه مؤمناً، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، والقتال من أشد الكبائر، ومع ذلك سماهم مؤمنين. ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ابني هذا سيد -أي: الحسن - وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). فسماهما: مسلمين. والطائفة الأولى: هي طائفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ومن معه، والطائفة الثانية هي طائفة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ومن معه. فلم ينف عنهم اسم الإيمان، وأيضاً أهل الكبائر سماهم مؤمنين، وإذا سماهم مؤمنين فقد نفى عنهم اسم الكفر. ثالثاً: أن كل من اقترف كبيرة فأقيم عليه الحد فإن الحد كفارة له، وذلك كما في قصة الغامدية، فإنه لما ضربها خالد بالحجر فانتثر الدم عليه فقال: لعنة الله عليك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبها، -أي: لا تلعنها- إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)، وفي الرواية الأخرى: (لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم)، فسمى هذا الحد توبة. وفي الطبراني والنسائي حديث صريح في ذلك: وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجم كفارة لما صنعت). وفي حديث عبادة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً)، وقال في نهاية الحديث: (فمن اقترف ذلك فأقيم عليه الحد فمن عوقب به فهو كفارة له). إذاً: فالحد كفارة، وإذا كان لهم كفارة فليس بكفر. وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه} [المائدة:38]، ثم بعد ذلك بين أن الله غفور رحيم. ومن الأدلة أيضاً: إجماع السلف، فقد أجمعوا على أن من أقيم عليه الحد فإنه لا يسأل عنه يوم القيامة. رابعاً: أن بعض الأدلة جاءت وأثبتت أن أهل الكبائر يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها، يعني: لا يخلدون في نار جهنم. وأصرح ما يكون من هذه الأدلة حديث الشفاعة، فعندما يشفع الله المؤمنين في إخوانهم فيقولون: ربنا إخواننا يصلون معنا، ويزكون معنا، ويحجون معنا. فالله جل وعلا يشفعهم فيهم، فيذهبون فيخرجون من النار من يعرفونهم، ثم يشفع الله الملائكة، فيعرفون أهل الإسلام بعلامة الصلاة، أي: بمواضع السجود؛ لأن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل مواضع السجود. ثم بعد ذلك يقبض الرحمن قبضة فيخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو وزن شعيرة من خردل من إيمان. ففي هذا دلالة أيضاً على أن أهل الكبائر لا يخلدون في نار جهنم. خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر، والشفاعة ممنوعة للكافرين، ولا تقبل عند الله بحال من الأحوال، فالكافر لا يُشفع فيه، إلا لـ أبي طالب استثناءً واحداً؛ كرامةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسديداً لهذا الرجل الذي ذب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر حتى يدخلوا الجنة، ويخرجوا من النار. فهذه أدلة واضحة جلية تثبت أن أهل الكبائر في مشيئة الرحمن، إن شاء عذبهم ومآلهم إلى الجنة، وإن شاء غفر لهم، فدخلوا الجنة من أول وهلة. فأهل السنة والجماعة يقولون: إن أهل الكبائر ليسوا مخلدين في نار جهنم، بل هم تحت المشيئة.

رد أهل السنة والجماعة على المرجئة

رد أهل السنة والجماعة على المرجئة والمرجئة يستدلون بحديث: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة) فعندهم كل من قال: لا إله إلا الله فسيدخل الجنة من أول وهلة، ولا يعذب في حال من الأحوال. والرد عليهم أن نقول: إن هناك من المسلمين من سيدخلون النار لمعاصيهم حتى يصيروا حمماً، ثم بعد ذلك يلقون في نهر الحياة، ثم يدخلون الجنة. وهؤلاء هم الجهنميون الذين يدخلون الجنة بعد عذاب. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى الرجل يقاتل شجاعة وحمية وهم يقولون: هذا رجل يقاتل وينافح عن الدين والإسلام، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو في النار). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم، ومن تحسا سماً فهو يتحساه في قعر جهنم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة). ففي هذا النص الصريح أنه قتل نفسه، وهذه كبيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (عذب به)، فإذاً: هو سوف يعذب به، ثم يدخل الجنة بقوله: لا إله إلا الله، إذا أتى بشروطها. إذاً: فحديث: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة)، له أدلة خصصته. وأما استدلالهم بقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16] فنقول: النار في هذه الآية إما أن تكون ناراً خاصة، وهي نار الكفار التي هي دركات، والدرك الأسفل فيها للمنافقين، فيكون الأشقى هو الذي يصلى النار الكبرى، والنار في قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:14 - 15] هي نار الكفار؛ لأن النار ناران: نار الموحدين، ونار الكفار، والمقصود في هذه الآية: نار الكفار، فتخرج بذلك نار الموحدين التي يعذبون فيها ثم يلقون في نهر الحياة. ووجه ثانٍ من الرد عليهم أن يقال: قوله تعالى: ((فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى)) الصلي صليان: صلي بخلود، وصلي حتى الموت. فالصلي بخلود يكون للكافر، والصلي حتى الموت يكون للمسلم؛ بقرينة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يصيروا حمماً، ثم يلقون في نهر الحياة) أما نار الكافر فلا يموت فيها ولا يحيا، كما قال الله تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13]. أما أهل التوحيد فيموتون في النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يصيروا حمماً)، إلا شيئاً واحداً لا تأكله النار، وهو أثر السجود. وهؤلاء الجهنميون يموتون، ثم يلقون في نهر الحياة بعد ذلك، ثم يدخلون الجنة.

رد أهل السنة والجماعة على الخوارج

رد أهل السنة والجماعة على الخوارج أما الخوارج فيستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت النار امرأة في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض). وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل نفسه: (هو في النار). ونقول لهم: إن قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) على بابها، وهي محمولة على أنهم يستحلون أكل مال اليتامى، وقد حرمه الله، فيكون الاستحلال قد أخرجهم من الملة، وكفروا بهذا الاستحلال، فيمكثون في النار، وهذا له قرائن كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً نقول: إن النار ناران: نار الموحدين ونار الكفار، فهؤلاء سيصلون سعيراً، وهي نار الموحدين، فيبقون فيها قدر الكبيرة التي اقترفوها، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى الجنة. نسأل الله ربنا أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من أول وهلة. وأما الرد عليهم في استدلالهم بالأحاديث: فنقول: إن الكفر كفران، كفر أكبر يخرج من الملة، ويخلد صاحبه في النار، وكفر أصغر لا يخلد صاحبه في النار. وهذا التقسيم من استقراء الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). وهذه الأدلة ونحوها الأصل أنها على بابها، فتكون كفراً أكبر، إلا أن تأتي قرينة تبين أنه ليس المقصود بها الكفر الأكبر. ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] سماهما مؤمنين. فإذاً هذه طائفة مؤمنة، وهذه طائفة مؤمنة، مع أنهم يتقاتلون. فيكون الكفر الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ليس المقصود به الكفر الأكبر، وإنما المقصود به كفر آخر، وهو الكفر الأصغر. وكذلك نقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). أما الدليل الآخر الذي استدلوا به: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان هما بهم كفر: النياحة على الميت والفخر بالأحساب)، فإن النياحة على الميت كفر من هذا الباب، أي: كفر أصغر؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المرأة التي تنوح تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران تعذب به في عرصات يوم القيامة، ثم ترى سبيلها إما إلى النار وإما إلى الجنة. والكافر مآله إلى الخلود في النار، وهذه المرأة إذا كانت ترى سبيلها إما إلى الجنة وإما إلى النار فهي ليست بكافرة. إذاً: ليس المراد في هذا الدليل بالكفر الكفر الأكبر. وأما الصنف الثالث من أدلتهم: وهو البراءة من الفاعل، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) بقوله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين). فنقول: إن البراءة براءتان: البراءة الأولى: براءة من الشخص كليةً، وبراءة من العمل. فإذا كانت البراءة من الشخص كليةً فمعنى ذلك أن هذا الرجل كافر خارج من الملة، ولا بد أن نتبرأ منه، فلا نجالسه، ولا نواليه، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِم} [الممتحنة:4]، أي: الكفار {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4]. فهذه براءة من الشخص كلية، ومن كل أفعاله؛ لأن كل أفعاله كفر فخرج بها من الإسلام، وأحاط الكفر به من كل جانب. والبراءة الثانية: براءة من العمل، يعني: أن هذا العمل يشابه عمل الكفار، ففيه شبه من الكفار، ولكن الشخص كله ليس بكافر. والدليل على ذلك أولاً: قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216]. فتبرأ من عملهم، فالبراءة من العمل لا تخرج صاحبها من الملة، لكن البراءة من الشخص كلية تخرجه من الملة. ثانياً: لما جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه قوماً فقالوا: صبأنا صبأنا ولم يستطيعوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد). ولم يقل: من خالداً، ولم يكفر خالد رضي الله عنه وأرضاه، بل هو سيف الله المسلول، وأسد من أسد الله. إذاً: تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد فتبين بهذا أن البراءة براءتان، وأن المقصود بها في حديث: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين) البراءة من العمل والفعل، لا البراءة من الدين. أو أن المقصود: البراءة مما هو عليه من كفر. قال الإمام الشافعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر، بمعنى: أنه لو قال دون أن يعمل فليس بمؤمن، ولو عمل دون أن يقول فليس بمؤمن، ولو لم يكن هناك نية -وهي: الاعتقاد الصحيح في القلب- فليس بمؤمن. يقول الإمام البخاري: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول فقط.

بيان أن الإيمان يزيد وينقص

بيان أن الإيمان يزيد وينقص قال تعالى حاكياً عن إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]. فهو عنده علم اليقين، ولكنه يريد أن يرى الطير المذبوح يطير أمامه، فهو يريد أن يصل إلى عين اليقين. فهذه دلالة على أن الإيمان يزيد. فأول المراتب: علم اليقين، ثم حق اليقين، ثم عين اليقين. فأنت الآن تعلم الجنة، وهذا علم يقين، وفي عرصات يوم القيامة ستعرف أنها حق اليقين، وبعد أن تدخلها -إن شاء الله- ستعرف أنها عين اليقين. فهذه هي الزيادة. وما كان دليلاً على الزيادة فهو دليل على النقصان. ومما يستدل به على أن الإيمان يزيد وينقص حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. فيقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية؟). فهذا دليل على أنه ينقص الإيمان حتى يصل إلى مثقال حبة أو ذرة أو خردلة من إيمان. وأيضاً روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يخرج من النار من كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة). وهذا دليل عن أن الإيمان ينقص، ويدل بالإشارة على الكمال. وأيضاً: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم). وهذا دليل على زيادة الإيمان. وروى المؤلف أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله، وأبغض لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان). وهذا دليل على زيادة الإيمان. وأيضاً روى المؤلف بإسناده عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، إذ عرض علي عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: الدين). وهذا دليل على الزيادة والنقصان. ووجه الدلالة من الحديث: أن الدين قد يبلغ إلى الثدي، وقد ينزل إلى الحقو، وقد ينزل إلى الركبة. نسأل الله أن يجعلنا ممن يجر ثيابه إيماناً، كحال عمر رضي الله عنه وأرضاه. وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) وهذا دليل على أن الإيمان ينقص.

أصول اعتقاد المرجئة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أصول اعتقاد المرجئة من الفرق المخالفة لمنهج السلف في الاعتقاد المرجئة، فقد خالفوا أهل السنة في مسمى الإيمان، وقالوا بعدم زيادة الإيمان، وقد رد علماء السنة عليهم، وبينوا ضلالهم، وهم أصناف، فمنهم الغلاة، ومنهم مرجئة الفقهاء.

حقيقة الإيمان عند القدرية والمرجئة

حقيقة الإيمان عند القدرية والمرجئة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا في الكلام على المرجئة، وقد ذيل الإمام العلامة اللالكائي الكلام على منهج المرجئة وأصول اعتقادهم، وبما روي في تضليل المرجئة، ثم بعد ذلك نوه بنسقه العجيب على معتقد الخوارج والمعتزلة في الكلام على الكبائر وتقسيمها. كما سنبين أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، واختلاف العلماء في ذلك، وبيان أكبر الكبائر والتقسيم التأصيلي في ذلك بما يمس العقيدة. لقد روى اللالكائي بسنده -وإن كان هذا السند الذي رواه فيه ضعف- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية والمرجئة)، والقدرية هم عكس الجبرية. فالقدرية ينفون القدر ويقولون: إن الأمر أنف، يعني: أنه لم يسبق به القلم، بل إن الله جل وعلا لا يعلم الأمر مما يعمله العباد إلا بعد عملهم له. وأيضاً روى في هذا الكتاب العظيم حديث: (صنفان من أمتي كلاهما في النار: قوم يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق، وآخرون يقولون: إن أولينا كانوا ضلالاً، يقولون: خمس صلوات في اليوم والليلة وإنما هما صلاتان). الإيمان عند المرجئة هو الكلام، فإذا قال المرء: لا إله إلا الله أصبح مؤمناً كامل الإيمان. وفي رواية عن سفيان الثوري عن ابن عباس قال: اتقوا الإرجاء فإنه شعبة من النصرانية.

حقيقة الخلاف في الإيمان بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة

حقيقة الخلاف في الإيمان بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة لقد بينا بالتفصيل الإرجاء، وبينا أن أخف طوائف المرجئة هم مرجئة الفقهاء، الذين هم الأحناف، وقلنا: إن بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة والجماعة خلافاً لفظياً وخلافاً حقيقياً.

صور من الخلاف الحقيقي بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة في الإيمان

صور من الخلاف الحقيقي بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة في الإيمان لقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف لفظي، يعني: صوري، بحيث إذا نظرت إلى المعنى والحقيقة وجدت الاتفاق بين أهل السنة والجماعة وبينهم. لكن هناك خلاف حقيقي، فمثلاً: أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان يزيد وينقص، والمرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض فلا يزيد ولا ينقص، لكن في الحقيقة هم يقرون بالتفاوت بين أهل الإسلام، فمنهم من يكون في الفردوس الأعلى، ومنهم من يكون في أنزل درجة، ولا شك أن الذين في الفردوس الأعلى هم أعلى إيماناً من الذين هم في أنزل درجة، فتكون النتيجة واحدة، وهي أن الإيمان يتفاوت بين الناس. كذلك المرجئة يقولون: مرتكب الكبيرة، مستحق للوعيد، وأهل السنة والجماعة يقولون: هو فاسق بكبيرته، وهو داخل تحت مشيئة الله جل وعلا إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فالخلاف هنا حقيقي؛ لأن المرجئة يجعلون أصل الإيمان واحد، وليس هذا بصحيح، بل هناك تفاوت في أصل الإيمان، فأصل الإيمان عند إبراهيم عليه السلام غير آحاد آمته. أيضاً: المرجئة حصروا الكفر في التكذيب والاستحلال، فعندهم إذا أتى إنسان بمكفر، فإنه لا يكفر إلا إذا استحل بقلبه؛ لأن التكذيب والاعتقاد محله القلب، فقالوا: لو سجد لصنم، أو سب الله، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس بكافر حتى يستحل بقلبه. وقد قلنا: إن هذه الأعمال كفر مستقل، لكن المرجئة لا يقولون بأن الأعمال فيها كفر مستقل، وإنما يقولون: إن الأعمال علامة على الكفر القلبي، فأداروا مسألة الإيمان والكفر وقالوا: محلها القلب، ويقول: أهل السنة والجماعة محل الإيمان والكفر القلب واللسان والجوارح، فالإيمان في القلب الإقرار والتصديق، وهو قول القلب، وعمل القلب من توكل وخوف ورجاء، أيضاً الكفر فيه محله القلب، كالاستكبار، والإيذاء، والإعراض، وعدم الانقياد، والخوف من غير الله جل وعلا كالخوف منه سبحانه إلى آخر هذه. والإيمان محله الجوارح، كالصلاة والصيام والحج والصدقة، كذلك الكفر محله الجوارح، فمن صلى لغير الله جل وعلا فقد كفر، وكذا من سجد لصنم. أيضاً اللسان، فمحل الإيمان فيه بالنطق بكلمه بالتوحيد: لا إله إلا الله، والكفر بالنطق بكلمة الكفر، إلا المكره، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].

أقوال بعض العلماء في المرجئة

أقوال بعض العلماء في المرجئة قال إبراهيم النخعي: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب سابري، يعني: الدين عندهم رقيق لدرجة أنه عري. أما سعيد بن جبير فقد أغلظ فيهم القول وقال: المرجئة يهود القبلة.

رأي علماء الإسلام في أبي حنيفة وما نسب إليه

رأي علماء الإسلام في أبي حنيفة وما نسب إليه ثم بعد ذلك أتى بباب كامل في الكلام على أبي حنيفة، وأبو حنيفة هو الإمام العلم الذي اتبع الناس مذهبه، وكان علماً من أعلام الأمة، حتى قال فيه الشافعي: الفقهاء عيال على أبي حنيفة. وكان من الزهاد العباد، ومن العلماء الذين ظهر فيهم الرأي أكثر من الأثر، وهذا له أسبابه؛ وذلك لأن أبا حنيفة كان في العراق، والتشيع كان موجوداً في العراق وفي بلاد فارس، فكان الشيعة الرافضة يختلقون الأحاديث في فضائل علي، ويختلقون الأحاديث في ذم معاوية، فكان أبو حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه ينأى بنفسه أن يأخذ حديثاً من عراقي، حتى قال: لا تأخذ حديثاً من عراقي، وأيضاً كانت بلاد فارس تدخل على العراق؛ لأن الحدود والتخوم كلها متقاربة، فكانت المسائل تستجد على أبي حنيفة فلا يجد أثراً، والعلماء الجهابذة النقاد الذين يخوضون في الأدلة، عندما تستجد عليهم مستجدات، فإنهم ينظرون في الدليل، ثم يقيسون عليه. ويقول الإمام مالك في أبي حنيفة في مجلس التحديث في المدينة: لو ناظرني أبو حنيفة على أن هذا الجدار، ذهب لأقنعني به، وهذا من رجاحة عقل أبي حنيفة وقوته، فكانت الأئمة تثني الثناء الحسن على أبي حنيفة، لكن أخذ عليه كثيراً في مذهبه أنه لم يكن يتبع الأثر ويقدم الرأي عليه، وقلنا: إن العلة في ذلك: أنه لم يكن يأخذ أحاديث العراقيين، وأيضاً أبو حنيفة لم يكن محدثاً ولا راوياً، فضعفه بعض العلماء في مسألة النقل والرواية، أما الكلام الذي نقل عنه في هذا الكتاب فضربت عنه صفحاً؛ لأن فيه أن أبا حنيفة استتيب، وفيه أن أبا حنيفة كان مرجئاً؛ وكان يقول للزاني: أنت مؤمن، فإن قال له الزاني: أنت الذي تقول أني مؤمن، قال أبو حنيفة؛ أنا أخطأت حين قلت لك: إنك مؤمن، إلى آخر هذه الحكايات التي رويت في كتاب تاريخ بغداد للخطيب وغيره. لكن نقول: هذه الحكايات كلها لم تثبت عنه ولم نر سنداًً صحيحاً بذلك، بل لو ثبتت لقام هؤلاء الأعلام المشاهير كـ الشافعي ومالك وأحمد بذم أبي حنيفة ولبينوا عواره. وهناك دلالة بينة واضحة على براءة أبي حنيفة من مثل هذه الحكايات وذلك أن الله جل وعلا كتب لمذهبه القبول، فكل الأعاجم يأخذون بمذهب أبي حنيفة، وسمعت أن أهل أفغانستان يكادون يقتتلون لو أن واحداً خالف مذهب أبي حنيفة، ومعلوم أن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: (أن يا جبريل إني أحب فلاناًَ فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه، ثم يكتب له القبول في الأرض)، وقد كتب الله القبول لهذا العلم العالم الجهبذ في الأرض، فنضرب صفحاً عن هذا الكلام الذي نقل عنه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

كبائر الذنوب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - كبائر الذنوب الذنوب تنقسم إلى: صغائر وكبائر، ومن رحمة الله بعباده أن جعل الحسنات يذهبن السيئات، وبما أن الإنسان معرض للذنوب فحري به أن يكثر من فعل الطاعات؛ حتى تكفر عنه المعاصي والسيئات، وقد حذر الشرع من الوقوع في الذنوب وخاصة الكبائر منها، وأعظم الذنوب وأكبرها الشرك بالله، فعلى المرء أن يجتنب الذنوب صغيرها وكبيرها.

حقيقة الذنوب وتفاوتها وأقسامها

حقيقة الذنوب وتفاوتها وأقسامها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: من بديع نسق المصنف رحمه الله أنه تكلم عن الذنوب ليلمح بذلك إلى مذهب المعتزلة والخوارج وحكم مرتكب الكبيرة الذي فصلنا فيه القول سابقاً. أقول مستعيناً بالله اختلف العلماء في الذنوب على قولين. القول الأول: أن الذنوب صنف واحد كلها كبائر، وهؤلاء يلحظون عظمة الله جل وعلا، كما قال بعض السلف، لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. القول الثاني: قول الجمهور وهو الحق، ويقولون: إن الذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر، وصغائر، وقول الجمهور صحيح؛ لأن الأثر والنظر يدلان على ذلك. أما الأثر: فقد صرح الله جل وعلا في كتابه فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وهذا تنصيص يفهم منه: أن هناك ذنوباً دون الكبائر وهي الصغائر. وأيضاً قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وقال أبو هريرة: (اللمم) القبلة وهي فوق النظرة، فإذا الكبائر فوق والقبلة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه أعد القبلة من الصغائر. وأيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ وفي رواية: ألا أنبئكم بالكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، فهذا تنصيص من النبي صلى الله عليه وسلم على الكبائر، فدل ذلك على أن هناك ما هو دون الكبائر. أما النظر: فمعروف أن هناك تخصيصاً بين الكبائر وبين الصغائر؛ لأن الشريعة السمحاء، لم تفرق بين المتماثلين ولكنها فرقت بين المختلفين. قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، فالله جل وعلا يفرق بين المفترقين، وهنا لم تسور الشريعة بين الذي قبل أو فاخذ وبين الذي وطأ وزني، فالزنا فيه الحد وليس في التقبيل والمفاخذة الحد؛ لأنه جاء في الحديث: (أن رجلاً قبل امرأة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقم علي الحد فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة حتى أقيمت الصلاة وصلى معه، ثم قال: أين السائل؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]) فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على هذا الرجل الذي قبل؛ لأن القبلة لا تساوي الوطء، بل السب لا يساوي الغيبة والنميمة، كذلك إن رضي في أهله بعض الخبث دون الزنا لا يكون كالديوث؛ لأن الديوث لا يدخل الجنة. فهذه دلالة بالنظر على أن الفريقين المختلفين لا يستويان، فهذا من النظر الذي يدل على تفصيل الذنوب وتقسيمها إلى كبائر وصغائر.

بعض الأحاديث التي ذكر فيها أمهات الكبائر

بعض الأحاديث التي ذكر فيها أمهات الكبائر لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات الكبائر في خمسة أو ستة أحاديث منها: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات)، فهذه سبع من الموبقات المهلكات كما سنبينها إن شاء الله بالتفصيل. ومنها: ما في الصحيحين أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تزاني بحليلة جارك). ومنها أيضاً: ما في الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بالكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) ومنها أيضاً: ما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أو ذكر عنده الكبائر، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس ثم قال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فقال الصحابي: ما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت). فهذه مجموعة من الأحاديث جمعت أمهات الكبائر.

أقوال العلماء في حد الكبائر وضبطها وعددها

أقوال العلماء في حد الكبائر وضبطها وعددها لقد اختلف العلماء في حد الكبائر وضبطها وكم هي، فقال ابن مسعود هي أربع، وسنده الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قلت: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك). وسئل ابن عمر عن الكبائر فقال: هي سبع، وسنده في ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات) فلما روي إلى حبر الأمة ابن عباس: أن ابن عمر قال: هي سبع قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فبين أنها كثيرة. ونقول: الحد الذي حده ابن عباس كان حداً واضحاً فقال: كل ما أوجب الله على عمل من نار فهو كبير، وهذا حد قاطع، يعني: كل شيء أوجب الله النار على من فعله فهو من الكبائر. وقال سعيد بن جبير: من حد على عمل فهو من الكبائر. ثم إن شيخ الإسلام جمع هذه الأقوال وقال: كل لعن في عمل فهو من الكبيرة، وكل ما أوجب حداً فهو كبيرة، وكل ما جاء النص بالويل والثبور والعذاب في الآخرة فهو من الكبائر. يعني: إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله كذا، فهذا الفعل من الكبائر، ويدخل في ذلك أمر يستخف به الناس، وهو الاستنزاه من البول، فعدم الاستنزاه أو عدم الاستتار من البول من الكبائر، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى بل هو كبير، أما الأول فكان لا يستنزه من بوله)، فويل لمن لا يحسن الاستنجاء ويل له؛ لأنه قد فعل كبيرة، وفي رواية أخرى قال: (لا يستتر من بوله)، فويل ثم ويل لمن يتكشف ولا يستر عورته؛ فإن كشف العورات فيها العذاب في القبر، بل عامة عذاب القبر من عدم الاستنزاه من البول. وأيضاً: الغيبة والنميمة هما من الكبائر. وأيضاً: التخلي في الطرق في الأماكن، أو المثمرة -أي: التي فيها شجر أو هي ظل للناس- ببول أو غائط من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللعانين، قالوا: يا رسول الله! ما اللاعنان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم). الغرض المقصود: أن ما فيه لعن أو أوجب حداً أو كان فيه عذاب في الآخرة، فهو كبيرة من الكبائر. س

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأكبر الكبائر

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأكبر الكبائر إن أكبر الكبائر هو الشرك بالله، والشرك أولى التفسير به ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، أي: تجعل لله نداً في الأسماء والصفات، وتجعل له نداًُ في الربوبية، وتجعل له نداً في الإلهية كما سنبين.

أقسام الشرك

أقسام الشرك والشرك قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.

حقيقة الشرك الأصغر ومعناه

حقيقة الشرك الأصغر ومعناه الشرك الأصغر: هو شرك الإرادات والنيات، كأن يقوم المرء يريد أن يصلي فيرى نظر الناس إليه فيحسن من صلاته، فيطيل في القيام وفي الركوع وفي السجود؛ لنظر الناس أو لمقامهم منه، فهذا شرك النيات والإرادات. وقد ورد عن بعض السلف: أن رجلاً دخل المسجد يصلي فأطال القيام وأحسن الركوع والسجود، فكان الناس ينظرون إليه ويتعجبون ويقولون: ما أحسن صلاة هذا الرجل، لكنه كان مرائياً في صلاته؛ ولذلك فإنه بعدما جاء إليهم قال: وأنا كذلك صائم، فهذا يبين أنه كان يرائي في عمله، ولا يفعل ذلك لله جل وعلا، فهذا يحبط عمله، وهذا من الشرك الأصغر. قال ابن القيم: يسير الرياء شرك أصغر، ومفهوم المخالفة: أن كثير الرياء شرك أكبر، يعني: الرياء الذي يتمكن في القلب ويتولد عنه النفاق.

من صور الشرك الأصغر

من صور الشرك الأصغر من صور الشرك الأصغر: المراءاة، فيتصدق ليقال: متصدق، ويعلم ليقال: معلم، ويجاهد ليقال: مجاهد، وهذا جزاؤه في الدنيا من جنس عمله، وفي الآخرة له الثبور والنار، إلا أن يغفر الله له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به)، نعوذ بالله من ذلك، وهذا الشرك خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حيث قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، قالوا: يا رسول الله! وما الشرك الخفي؟ قال: الرياء)، فهو أخف من دبيب النمل.

حقيقة الشرك الأكبر وحكم مرتكبه في الدنيا والآخرة

حقيقة الشرك الأكبر وحكم مرتكبه في الدنيا والآخرة الشرك الأكبر هو أظلم الظلم، وأعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وما ذلك إلا لأن عقوبته في الدنيا وخيمة، وفي الآخرة أشد وأنكى. أما في الدنيا: فإن الذي يشرك بالله جل وعلا فهو حلال الدم، إن كان مسلماً فهو مرتد بذلك، فيستتاب ثلاثة أيام، وبعض العلماء يقولون: يقتل في وقتها دون استتابة؛ لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فهو حلال الدم في الدنيا. وإن كان مشركاً فهو مخير بين ثلاث: إما أن يسلم، وإما أن تضرب عليه الجزية ذليلاً صاغراً، وإما أن يقتل فيكون حلال الدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) فهو مخذول في الدنيا. أما المشرك في الآخرة فلا يغفر له، وإنما يخلد في نار جهنم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وأيضاً: فإنه حرام عليه الجنة، فلا يمكن أن يشم رائحتها، ولا يدخلها بحال من الأحوال، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، إذاً: فله عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، وكذا من وقع في الشرك الأكبر، الذي هو أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.

أنواع الشرك

أنواع الشرك أنواع الشرك: شرك في الأسماء والصفات، وشرك في الربوبية، وشرك في الإلهية.

الشرك في الربوبية وذكر بعض صوره

الشرك في الربوبية وذكر بعض صوره الشرك في الربوبية: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، ومعنى الرب: الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع، فهذه من لوازم الربوبية، فلا بد أن تعتقدها اعتقاداً جازماً، ولو خلا القلب من هذا الاعتقاد لوقع المرء في الشرك، فلا بد أن تعتقد بأن الله جل وعلا هو الذي يدبر الكون كله، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، وتعتقد أن الله جل وعلا هو الخالق، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، أن الله جل وعلا هو الرازق، قال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، وأن الله جل وعلا هو الآمر الناهي المشرع، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وهناك فرق بين الخلق فالأمر: هو التشريع من الله جل وعلا. فمن صور الشرك التي دبت في هذه الأمة في الربوبية أن يصرف هذا الاعتقاد الذي هو لله جل وعلا لغيره سبحانه. ومن صور الشرك في الربوبية: أن تعتقد بأن هناك خالقاً غير الله جل وعلا، كما اعتقدت الثنوية والمنوية أن للكون خالقين: خالقاً للظلمة، وخالقاً للنور، وهذا شرك في ربوبية الله جل وعلا، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهذه صورة من صور الشرك الربوبية. ومن صور شرك الربوبية: ما يحدث من غلاة الصوفية، من اعتقادهم: أن في هذا الكون أقطاباً وأبدلاً يتحكمون فيه من دون الله جل وعلا، حيث يعتقدون أن هناك من يحرك الكون أو يجعل المطر ينزل من دون الله جل وعلا، وهذا شرك في الربوبية. ومن صور شرك الربوبية أيضاً عند غلاة الصوفية: الاعتقاد في الأولياء، أي: بأنهم ينفعون أو يضرون، فتراهم يذهبون إلى البدوي أو عبد القادر الجيلاني أو الحسيني ويعتقدون فيه أنه ينفع ويضر، وأعظم من ذلك أنهم يعتقدون في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينفع ويضر، وأنه لم يمت حقيقة، مما جعلهم يقولون: إن في هذه الدنيا من يرى عياناً الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن لازم قولهم: أن الصحبة لا تنتهي إلى يوم القيامة، وهذا كلام بعيد جداً، لا يصدر إلا من لا علم له، بل فكره فكر المعتزلة المحضة، وسنبين ذلك مفصلاً. الغرض المقصود: أنهم يعتقدون في غير الله ما لا يكون إلا لله وحده جل وعلا. ومن صور الشرك في الربوبية أيضاً: الاعتقاد في النجوم السيارة أنها تتحكم في المطر أو في الأرزاق، وأن هذه النجوم تضر وتنفع أو تنزل المطر، فالاعتقاد المستلزم لهذا الطلب هو شرك في الربوبية. ومن صور شرك الربوبية أيضاً: ما كان في المشركين الذين يتخذون الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، أي: من صور شرك الربوبية: أن يأمر أحداً وينهى خلاف أمر الله ونهيه، فيقدم هذا الأمر أو النهي على أمر الله أو نهيه فهذا شرك في الربوبية؛ لأن السيد المشرع والآمر والناهي هو الله جل وعلا. جاء في الحديث: (دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، فقام عدي منتفضاً فقال: يا رسول الله ما عبدناهم من دون الله -أي: ما سجدنا لهم ولا قربنا القرابين لهم- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أما حرموا عليكم الحلال فحرمتموه، وأحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: تلك عبادتكم إياهم)، يعني: أن هؤلاء أحلوا الحرام وحرموا الحلال من دون الله، ونصبوا أنفسهم أرباباًًَ من دون الله، فتابعتموهم في ذلك، ومن اعتقد في غير الله أن له التشريع أو الأمر والنهي فقد وقع في شرك الربوبية.

الشرك في الأسماء والصفات وذكر بعض صوره

الشرك في الأسماء والصفات وذكر بعض صوره كلنا يعلم أن الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال المطلق والجلال المطلق هو لله جل وعلا. فالشرك في الأسماء والصفات ضابطه: أن تشبه صفات الخالق بصفات المخلوق، هذا هو الضابط، وقال نعيم بن حماد من شبه الخالق بالمخلوق فقد كفر، فضابط ذلك: أن يشبه الاسم بالاسم أو الصفة بالصفة، كما قالت المشبهة: إن الله ينزل، إلى السماء الدنيا كما ينزل أحدنا من سريره إلى الأرض، أو ينزل أحدنا من الأعلى إلى الأسفل، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهذا شرك في أسماء الله جل وعلا، وشرك في صفاته جل وعلا. كذلك يقولون: الله يضحك، وضحك الله كضحك البشر، فهذا شرك في صفات الله جل وعلا؛ لأنهم شبهوا صفات الله بصفات المخلوق. كذلك يثبتون الله يداً لكن، يقولون: يد الله كيد المخلوق، لها أصابع، أنامل، وكذا، فيشبهون يد الخالق بيد المخلوق، وهذا شرك في صفات الله جل وعلا، وظاهره الكفر؛ لأنهم شبهوا الخالق بالمخلوق. ومن الشرك في الأسماء أيضاً: أن يشتق للآلهة الباطلة أسماء من أسماء الله جل وعلا، كالذين اشتقوا اللات من اسم الله، أو الإله، واشتقوا العزى من اسم العزيز، واشتقوا مناة من المنان، فهذه من صور الشرك في أسماء الله جل وعلا. ومن الشرك في أسماء الله وصفاته: التعطيل الكامل، أو التعطيل الجزئي، أما التعطيل الكامل: فهو نفي الاسم والصفة، وأما التعطيل الجزئي: فهو نفي الصفة دون الاسم، والتعطيل الكامل هو مذهب غلاة الجهمية الذين قالوا: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، فهؤلاء شبهوا الله بالعدم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المعطل يبعد عدماً والمشبه يعبد صنماً. وأما المعتزلة فقد نفوا الصفة لكن أثبتوا الاسم، وهذا نوع من الشرك في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

الشرك في الإلهية وذكر بعض صوره

الشرك في الإلهية وذكر بعض صوره إن الشرك في الإلهية هو الذي أنزل الله من أجله الكتب، وأرسل من أجله الرسل، وهو الذي دب في الأمة، فكثير من المسلمين الآن مكتوب على بطاقته: مسلم، ولكنه مشرك بالله، ولا يدري أنه مشرك، وقد أشرك بالله في كثير من العبادات. وضابط شرك الإلهية: أن كل عبادة ثبتت بالكتاب والسنة أنها لله، فصرفها لغير الله شرك. من صور هذا الشرك المتفشي في الناس: السجود لغير الله جل وعلا، كسجود الأعاجم فارس والروم لملوكهم، وعظمائهم، ولذلك جاء في بعض الأحاديث: (أن معاذ بن جبل لما قدم من الشام ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم سجد له، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال معاذ: رأيت فارس والروم يفعلون ذلك بملوكهم، وأنت أحق بالسجود منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها) لعظم حق الزوج. فالغرض المقصود أن السجود لغير الله، كالسجود للصنم أو السجود للمعظمين كما تفعل فارس والروم، من صور الشرك في العبادة، أو الشرك في الإلهية. ومن صور الشرك في الإلهية: الطواف، بالقبور، فالطواف بقبر البدوي شرك أشهر من نار على علم، فهناك ممن ينتسب إلى الإسلام يطوفون بالقبور حقاً ليس خيالاً، ومنهم الذين يحجون إلى البدوي؛ لأنهم يعتقدون أن الحج إلى البدوي أولى بكثير من الحج إلى الكعبة، بستين حجة أو أكثر، فالطواف عبادة لله جل وعلا، والدليل على أنه عبادة قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، والأمر، ظاهر الوجوب. إذاً: فهذا الطواف عبادة، فصرفه لغير الله شرك. وجاء أن الطواف من ذكر الله، وإذا كان الطواف من الذكر فهو عبادة، فإذا كان لغير الله كالطواف بقبر فهو من صور الشرك في الإلهية. وهناك صورة من صور الشرك في الإلهية وهي منتشرة بين الناس: وهي المعالجة من مس الجن، فبسبب الجهل وقع المعالج والمعالج في الشرك، أما الذين يعالجون الناس فيقعون في الشرك وذلك بالاستعانة بالجن والاستعانة بغير الله شرك، وهذا يقع من المعالج. أما المريض فيقع فيه الشرك؛ لأن كثيراً من المعالجين يقول له: الجني يأمرك أن تذبح فرخة حمراء في بيضاء في سوداء، طولها كذا، فهذا المريض يقوم بالذبح لغير الله تعالى، وهذا شرك؛ لأن الذبح لا يكون إلا لله جل وعلا، والذبح عبادة لله جل وعلا، والدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام:162]، والنسك: هو الذبح، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]. إذاً: فالذبح عبادة وصرفها لغير الله شرك. هذا هو النوع الثالث من أنواع الشرك، أي: الشرك في الإلهية، وهو أكبر الكبائر، وهو لا يغفر في الآخرة، وحكم مرتكبه: الدخول في نار جهنم خالداً مخلداً فيها.

حكم عقوق الوالدين وذكر بعض صور العقوق

حكم عقوق الوالدين وذكر بعض صور العقوق ٍلقد ثنى النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم الكبائر بعد الشرك، ألا وهو عقوق الوالدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين). فالله جل وعلا لعظم حق الوالدين قرن برهما وطاعتهما بتوحيده سبحانه، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، وكذلك قال سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، وكما في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين). فالغرض المقصود: أن بر الوالدين واجب شرعاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أوسط أبواب الجنة هما الوالدان، وبين أن الجنة تحت أقدام الأمهات، فلن يصل عبد إلى ربه أبداً إلا ببر الوالدين. ومن صور عقوق الوالدين وهو أخف العقوق: التأفف، كما قال الله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، ومن باب أولى عدم السب والشتم والإيذاء لهما والاستكبار عليهما، وعدم الائتمار بأمرهما، فإذا كان الوالد مثلاً: يرى في زوجتك خصلة من الخصال التي تبعد عن الإيمان، أو رأى ملحظاً شرعياً في أهلك فأمرك أن تطلق أهلك، فإنك إن عصيته فأنت عاق؛ لأنه قد لحظ على امرأتك ملحظاً شرعياً، وهو ما فعل ذلك إلا خوفاً عليك، وإن استدل مستدل بأن إبراهيم عندما جاء إلى زيارة إسماعيل فلم يجده، وإنما وجد زوجته فسألها عن حالها مع إسماعيل، فاشتكت من ظنك العيش، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فقولي له: جاء شخص صفته كذا؛ ويقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك، قال إسماعيل: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، وطلقها سمعاً وطاعة لأبيه، فإننا لا نقول في ذلك: إن كان أبوك مثل إبراهيم فافعل مثل ما فعل إسماعيل، ولا نقول: إن كان أبوك مثل عمر فافعل مثل ما فعل ابن عمر؛ لأن إبراهيم عليه السلام رأى ملحظاً شرعياً على امرأة إسماعيل، أما ابن عمر فلم يكن يرى ملحظاً شرعياً، بل كان يحب امرأته وأبى أن يطلق لما أمره عمر، لكن عمر الملهم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان نبياً بعدي لكان عمر) وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن يكن في أمتي محدث فإنه عمر) رضي الله عنه وأرضاه، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير هذا الفج)، وهذه المناقب فيها دلالة كبيرة جداً على أن عمر له فراسة فائقة، ولا نظن في عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يكون بهواه رأى أن يطلق ابنه امرأته، ولكن لعله لحظ فيها ملحظاً شرعياً فأمر ابن عمر ابنه بتطليق امرأته، مع أن ابنه لم ير ذلك؛ لأن الحب والعاطفة تجعل الرجل لا يبصر خطأ امرأته، فلم ير ما رآه عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر: (أطع أباك). فنقول: إذا كان الأب يرى ملحظاًًَ شرعياً فلا تعقه وائتمر بأمره إن كان يريد لك الخير، ويلحظ الملحظ الشرعي؟! أما إن كان خلاف الملحظ الشرعي فلا سمع ولا طاعة للأب في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وهناك آباء كثيرون يتضايقون من شدة التزام زوجة الابن فتجد بعض الأمهات تقول: لماذا لا تسلم على ابني الآخر؟ ولماذا لا تجلس وتأكل معه؟ فتقول: لابنها: طلقها؛ فهذه تهجرنا وتجافينا، نقول: طاعة الأم هنا معصية؛ لأنها ما أرادت طلاقها إلا عن هوى ومضادة ومحادة لله ورسوله؛ لأنه ما أرادت ذلك إلا لأنها تتمسك بدين الله جل وعلا، فالغرض المقصود أن هذا يسمع لها ويطيع إن كان الأمر فيه ملحظاً شرعياً وإن لم يكن فلا يسمع ولا يطع. أيضاً من صور العقوق للوالدين: الخروج إلى الجهاد في سبيل الله؛ جهاد لطلب لا جهاد الدفع بدون إذنهما، فهذا عقوق، ولذلك عقاب هذا الرجل أن يقف بين الجنة والنار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل خرج ليجاهد دون إذن والديه:: (ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما). إذاً: فعقوق الوالدين كبيرة بعد كبيرة الشرك.

عظم قتل النفس التي حرم الله وحكم توبة القاتل

عظم قتل النفس التي حرم الله وحكم توبة القاتل يقول: النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الكبائر: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق). قتل النفس من الكبائر؛ لأنه فساد عريض في الأرض، ودم المسلم عند الله أشرف من الكعبة، وأعظم وأشرف من السماوات والأرض، ولذلك فإن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه طاف بالكعبة فقال: أنت الكعبة شرفك الله وعظمك، وحرمة دم المسلم عند الله جل وعلا أعظم منك وأشرف. وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو اجتمع أهل السماوت والأرض على قتل مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) وذلك لأن دم المسلم شريف عزيز عظيم عند الله جل وعلا، ونحن نرى الآن أن دم المسلم صار رخيصاً بين أيدي الكفار؛ لأننا هجرنا دين الله، فنسأل الله جل وعلا ألا نسقط من عينه، وأن يردنا إليه رداً جميلاً؛ لكن لو تمسكنا بديننا وتمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا لرفع الله عنا هذه الذلة المهانة. إن من الأدلة التي تثبت أن قتل النفس من الكبائر: اختلاف العلماء في توبة القاتل، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن القاتل لا توبة له، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]. وجاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما زال المرء في سعة حتى يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً)، أي: انتهى أمره ورق دينه إن فعل ذلك؛ لأنه تعدى حدود الله جل وعلا، والجمهور على أن للقاتل توبة، وهذا هو الصحيح، والذي يفصل النزاع ويقطعه قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فهذا من الأثر. أما من النظر: فقياس الأولى، وذلك أنه قد اتفق العلماء على أن للمشرك الذي أشرك بالله توبة، وأنه إذا تاب من شركه ودخل الإسلام قبل الله توبته، والإسلام يجب ما قبله، فمن باب أولى القاتل أن يكون له توبة.

كبيرة أكل الربا وخطرها على الأمة

كبيرة أكل الربا وخطرها على الأمة الكبيرة الرابعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في تعداد الكبائر: أكل الربا، فالربا أعظم خطر على الأمة، وما والفقر والضيق الذي تعيشه الأمم إلا بسبب الربا؛ لأن الربا موعود صاحبه وآكله بالعذاب والنكال والويل والثبور في الآخرة، وفي الدنيا بالحرب، بل يقول ابن عباس: هي حرب في الدنيا وحرب في الآخرة، وفسر قول الله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، قال: يقال لهم في عرصات يوم القيامة: على آكلي الربا أن يسلوا سيوفهم أو يرفعوا رماحهم؛ فهي الحرب مع الله جل وعلا، وهل أحد يحارب الله جل وعلا؟! وهل أحد يستطيع أن يواجه قوة الله جل وعلا؟! فالحرب في الدنيا وأيضاً في الآخرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم -منفراً عن أكل الربا ومبيناًَ أنه من الكبائر-: (لعن الله آكل الربا -اللعن معناه: الطرد من رحمة الله- وموكله وكاتبه وشاهديه)، فملعون في الربا أربعة، وفي الخمر عشرة، لكن آكل الربا عذابه شديد، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسبح في نهر من الدم ويلقم حجراً، كلما وصل إلى حافة النهر ألقمه الملك الحجر، ثم يرجع إلى آخر النهر فهو يسبح في نهر من الدم جزاءً وفاقاً، فآكل الربا أيضاً فاعل لكبيرة لا بد أن يتوب منها.

مآل آكل مال اليتيم

مآل آكل مال اليتيم الكبيرة الخامسة: أكل مال اليتيم، الأصل فيه -أي: ما اليتيم- أن ولي اليتيم يرعى به اليتيم، فالولي أمين على مال اليتيم، بل يعمل فيه بما ينفع اليتيم، فإن كان الذي اؤتمن آكلاً له، فقد وقع في إثم كبير، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فهذه دلالة على أن آكل مال اليتيم فاعل لكبيرة، لا بد له أن يتوب منها.

حكم التولي يوم الزحف

حكم التولي يوم الزحف الكبيرة السادسة: التولي يوم الزحف، إذا اصطف الجيشان: جيش المسلمين، وجيش الكفار، فلا يجوز للمسلم أن يفر من العدو؛ فإنه سيفت في الصف المسلم، وسيخذل فيه، وهذا من أكبر الكبائر؛ ولذلك شدد الله جل وعلا على المؤمنين، وحذرهم من أن يتولوا أمام الكفار، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16]، فقوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [الأنفال:16]، دلالة على أن هذا من الكبائر. أيضاً من علامات الساعة: (أنه ستحدث مقتلة عظيمة بين الروم وبين المسلمين، وقبل ذلك يشترك مع الروم، فسقة المسلمين، فيقاتلون عدواً للروم وعدواً لهؤلاء المسلمين الفسقة الذين اتحدوا معهم ووالوهم، فيقتلون ويغنمون، ثم يقوم رجل من الروم فيرفع الصليب، ويقول: انتصر الصليب، فقام رجل مسلم فقتله انتصاراً للدين)، فهذه دلالة واضحة على أن من فعل كبيرة مثل هذا الذي والى غير المسلمين وقاتل معهم، أنه لا يكفر، لأن الإيمان تحرك في قلبه وقتل هذا الكافر. ثم قال: (ثم انحاز المسلمون عن الروم فذهبوا إلى الفئة المؤمنة الظاهرة على الحق، التي لم يضرها من خالفها ولا خذلها، فلما انحازوا لهم جاء الروم تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً فيقولون: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نأتيكم بإخواننا، فيشترطون شرطة تقاتل إما النصر وإما الشهادة، فينهزم ثلث: لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث، هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، ولا يفتنون أبدا ً). وذلك لأن هؤلاء تولوا يوم الزحف وهؤلاء من أسوأ الطائفة المسلمة؛ لأنها خذلت هذه الطائفة المؤمنة.

حكم قذف المحصنات وعظم ذلك عند الله

حكم قذف المحصنات وعظم ذلك عند الله الكبيرة السابعة: قذف المحصنات، جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض. فقد جعل الله جل وعلا لحفظ الأعراض، سياجاً قوياً؛ ولذلك قال عن الذين يقذفون المحصنات: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] أي: إن لم يأتوا بأربعة شهداء، وقال شيخ الإسلام: ما أقيم حد الرجم أو حد الجلد في الزنا بشهود أربعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصري، ونحن نقول: إلى عصرنا هذا لم يقم حد الزنا على أحد بأربعة شهود؛ لأنه لا بد لكل واحد من هؤلاء الشهود الأربعة أن يقول: رأيت رجلاً على امرأة ورأيت ذكره في فرجها، ولذلك عندما اتهم المغيرة بن شعبة بالزنا قال أبو بكرة: رأيت رجلاً على امرأة ورأيت الفرج في الفرج، فـ عمر نظر إلى أن صحابياً من الصحابة سيرجم، وينتشر أمره أمام التابعين، وكان عمر مخلصاً لله جل وعلا، فطيب الله قلبه بالستر على بعض الصحابة؛ ثم قال: وجاء رجل آخر مع أبا بكرة وقال: رأيت رجلاً على امرأة وفرجه في فرجها، ثم قال الثالث نفس القول، ثم جاء الرابع قال: رأيت رجلاً على امرأة وسمعت صوتاً، قيل له: هل رأيت الفرج في الفرج؟ قال: ما رأيت الفرج في الفرج، فقال عمر للثلاثة: قوموا لأجلدكم، فجلدهم الحد، ثم قال: الحمد لله الذي ستر على صحابي من صحابة رسول الله، فلما جلد أبا بكرة وصاحبيه، قال عمر لـ أبي بكرة: تب لأقبل شهادتك، قال: والله لا أرجع عن قولي، فلم تقبل شهادة أبي بكرة، لكن قبلت روايته؛ لأن هناك فارق بين الرواية وبين الشهادة. فإذاً المقصود أن قذف المحصنات من الكبائر، ولذلك جعل الله للأعراض سياجاً عظيماً جداً، وكان أشد ما وقع في القذف على المحصنات ما وقع في حادثة الإفك، فبرأ الله عائشة رضي الله عنها وأرضاها من فوق سبع سماوات. هذه أمهات الكبائر التي تكلم عنها وساقها في روايته، وبيناها وشرحناها.

أقوال العلماء في كون الكبائر تكفر بالحسنات والطاعات

أقوال العلماء في كون الكبائر تكفر بالحسنات والطاعات هناك سؤال يطرح نفسه ألا وهو: هل الكبائر كفارة؟ أقول: لقد اتفق العلماء على أن للصغائر كفارة لكن النزاع في الذي فعل الكبيرة ثم لم يتب، فهل فعل الحسنات يكفر الكبيرة، كما جاء في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، يعني: أن كل سيئة إذا أتبعتها بحسنة فإنها تمحها، لكن هل الكبائر تدخل في هذا الباب؟ وهل الحديث على إطلاقه أم هو مقيد بالصغائر؟ هذا هو محل النزاع. أقول: هذه المسألة فيها قولان: القول الأول: أن الكبائر لها مكفرات، من صلاة، ووضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والحج، بعد الحج والعمرة بعد العمرة، ورمضان إلى رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن). هذه الرواية جاءت مطلقة، لكن هناك رواية أخرى جاءت مقيدة، حيث قال فيها صلى الله عليه وسلم: (ما اجتنبت الكبائر). وعمدة أدلة أصحاب هذا القول -وهو من أقوى ما يكون-: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه في مجلس التعليم، ويضرب لهم الأمثال حتى يقرب المعلومة إلى الأذهان، فقال لهم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء) أي: لا يبقى من درنه شيء من صغائر وكبائر ثم قال: (كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا)، أي: أن الصلوات الخمس مثل النهر تنزل على معاصي المرء فتبيدها، بحيث لا يبقى من الكبائر ولا من الصغائر شيء، لكن ليست تلك الصلوات التي نصليها هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكفر الكبائر والصغائر؛ لأن هذه الصلاة التي نصليها فيها نقص، ونرجوا من الله أن يتقبل منها الربع فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه الأمر دخل في الصلاة، ويتدبر كلام الله تعالى، ويتدبر التسبيح في الركوع والسجود، ويتمهما. وهذا عروة بن الزبير رحمه الله لما دب السرطان في رجله، قالوا له: لا بد أن تشرب الخمر حتى نقطع رجلك؛ لأنك لا تحتمل، فقال: لا، إن شرب الخمر حرام، مع أنه ضرورة من الضرورات التي تبيح المحظورات، لكن كان الرجل قلبه منشغلاً بربه، فقال: لا، لكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها، فلما كبر وبدأ في القراءة قطعوا رجله، قالوا: فما شعر بها إلا بعدما حسمت وأغمي عليه، رحمه الله تعالى. فهذه هي الصلاة التي تكفر الكبيرة. وهذا أخوه عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه كان إذا قام فصلى أمام الكعبة طرح كل شيء خلفه، ذكر ابن كثير -كما في البداية والنهاية-: أنه صلى أمام الكعبة حين حاصره الحجاج عليه من الله ما يستحق، وهو في صلاته، فقذفه بالمنجنيق وكان مشتعلاً ناراً، فتدحرج النار على رجله، ولم ينتفض ولم يتحرك، بل أعظم من ذلك أنه صلى مرة قيام الليل وكان له ولد صغير عنده، فجاءت حية فالتفت على الولد وصرخ أهله وصرخ الجيران والتف الجيران من كل مكان من أجل أن الحية التفت على ولده، وهو في صلاته لم يعلم شيئاًً مما يحدث، فتركت الحية الولد، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]، فصلاح الأب يحفظ الأولاد. نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الصالحين. إذاً: فهذه الصلاة هي التي تكفر الذنوب، وهي التي لا تبقي شيئاً من درن العبد، واستدلوا أيضاً بحديث الحج، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). قالوا: فهذا فيه دلالة على أن الحسنات تكفر الكبائر والصغائر. القول الثاني: قول الجمهور: وهو أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة الخاصة، واستدلوا على ذلك بأن كل الروايات التي أتت مطلقة قيدت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فهذا التقييد من النبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة على أن الكبائر لا تكفر بالحسنات. وأما حديث الحج: فتلك مسألة خاصة، فليس كل من ذهب إلى الحج يرجع كيوم ولدته أمه، بل لا بد من صفات تتوافر في هذا الحاج، وهي أنه لم يرفث ولم يفسق، حتى يرجع كيوم ولدته أمه. لكن نحسن الظن بالله جل وعلا ونميل إلى أصحاب القول الأول، أي: بأن الصلوات والجمعة إلى الجمعة والحج تكفر الكبائر والصغائر؛ فإنا لا نقدر على عذاب الله جل وعلا ولا نقوى على سخط الله. رفعنا الله وإياكم إلى الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

الرد على المرجئة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على المرجئة المرجئة من الفرق الضالة في باب الإيمان، فقد خالفوا أهل السنة فيه، ولهم شبه بين باطلة، وهم أنواع: فمنهم الغلاة، ومنهم مرجئة الفقهاء الذين أخروا العمل عن مسمى الإيمان، ويعتقدون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهذا مخالف لأدلة الكتاب والسنة ومخالف لما كان عليه سلف الأمة.

معنى الإرجاء، وأول من قال به

معنى الإرجاء، وأول من قال به إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: بدأ المؤلف رحمه الله بخصال الإيمان توطئة لأمر مهم ألا وهو الرد على المرجئة، وذكر أن من خصال الإيمان البذاذة، ويستدل لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البذاذة من الإيمان)، وهذا الحديث وإن ضعفه بعض العلماء فقد حسنه آخرون، وآخرهم الشيخ الألباني حيث حسن هذا الحديث أو صححه، ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن الإرفاه، وكان يحتفي أحياناً) يعني: كان يمشي حافياً أحياناً، وهذه مآلها إلى الزهد، والزهد من علامات الإيمان، والتمسك بالدنيا ليس من علامات الإيمان، بل من علامات نقص الإيمان عند العبد، ولذلك ورد بسند صحيح عن عمر أنه كان ينصح إخوانه ويقول: اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم. وليس الزهد في أن الإنسان لا يمتلك المال، بل الزهد أن يزهد قلبه من المال والدنيا، ولذلك سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الزهد فقيل: هل الغني يكون زاهداً؟ قال: يكون زاهداً على شرط أنه إذا خرج منه درهم لا يتأثر به قلبه، وإذا دخل آخر لا يتأثر أيضاً به قلبه، فهذه دلالة على أن الدنيا لو كانت في اليد فليس فيها مسبة أو ملامة، لكن إذا تمكنت من القلب فهذا هو النكران وهذه هي محل الملامة. ثم انتقل المؤلف فتكلم عن المرجئة، وهجم على أهل البدعة والضلالة، والمرجئة قال فيهم بعض السلف: هؤلاء هم يهود هذه الأمة، أو: يهود أهل القبلة المرجئة، وقال بعضهم: مجوس هذه الأمة المرجئة. والمرجئة مشتقة من الإرجاء، والإرجاء معناه التأخير، كما قال الإمام الطبري. والحسن بن محمد بن الحنفية الذي كان أول من قال بالإرجاء، إذ كان يقر بخلافة الشيخين أبي بكر وعمر ويقول: نرجئ إمامة عثمان وعلي إلى الله جل وعلا، فكان لا يقر بإمامة الإمامين الشيخين عثمان وعلي، فقال: نرجئ أمرهما إلى الله جل وعلا، ولذلك سمي من اتبعه بالمرجئة، ثم ندم ورجع عن ذلك. وأهل السنة الجماعة لا يخالفون الحسن بن محمد بن الحنفية في قوله، وليس هذا محل نزاع بينه وبين أهل السنة والجماعة، لكن من جاء بعده كـ ذر الهمداني وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة هم الذين اختلف معهم أهل السنة والجماعة؛ لأن هؤلاء يقولون: الإيمان شيء واحد، لا يتبعض ولا يتجزأ، وهذا هو محل النزاع بيننا وبينهم، فهؤلاء لا يتصورون أن يجتمع في المؤمن إيمان وكفر، أو نفاق وإيمان، ويقولون: إما إيمان وإما كفر، إما إيمان وإما نفاق، ولا يجتمع هذا وهذا، وهذا أيضاً أصل من أصول الخوارج، فالمرجئة تتفق مع الخوارج والمعتزلة في هذا الأصل، إلا أن الخوارج غلوا وأفرطوا، فنظروا إلى أحاديث الوعد فقالوا: من فعل المعصية أو الكبيرة فقد خرج من الإيمان؛ لأن بعض الإيمان إذا انتفى انتفى الإيمان كله؛ لأنه شيء واحد، وأما المرجئة ففرطوا وجفوا وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، ونحن الآن بصدد الكلام على المرجئة، وبينا أن دائرة المرجئة مع المعتزلة مع الخوارج دائرة واحدة ظهرت في أواخر القرن الأول. فأصَّل المرجئة أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، ولا يجتمع في المؤمن إيمان وكفر، ولا إيمان ونفاق، وترد عليهم أدلة الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فأثبت لهم الإيمان وأثبت عليهم الكفر، ولكنه كفر دون كفر، وأصرح من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، فقد أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه صفة من صفات النفاق مع أن أصل الإيمان معهم، وإنما ينتفي عنه الإيمان المطلق ويبقى مطلق الإيمان، بمعنى: ينتفي الإيمان الكامل ويبقى أصل الإيمان، مع أن فيهم شعبة من الكفر وشعبة من النفاق، لكن معهم أصل الإيمان، فهذا رد صريح على المرجئة. والمقصود أن المرجئة ضلال وأهل بدعة، وهم الذين قالوا: إن الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعض، وأيضاً قالوا: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان.

ردود العلماء على المرجئة

ردود العلماء على المرجئة لقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على المرجئة بالإجمال ثم فصل الرد، ورد عليهم أيضاً ابن حزم مستدلاً بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، أي: الصادقون في إيمانهم، فقال: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا))، فجعل عدم الارتياب -وهو الشك- والإيمان سواء وهما من عمل القلب، ثم قال: ((وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)) وهذا عمل الجوارح، فبمجمل هذه الأفعال الإيمان، ونفي الارتياب، والمجاهدة في سبيل الله بالمال والنفس، يصدق عليه أن يكون مؤمناً صادقاً، فهذا رد على المرجئة الذين لا يدخلون الأعمال في الإيمان. وأيضاً قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فتحكيم شرع الله غير الإيمان، فالإيمان محله القلب، والتحكيم محله الجوارح وهو اعتقاد القلب بأن الرب هو السيد الآمر الناهي المطاع، وجعل التسليم أيضاً غير الإيمان، فالتسليم عمل من أعمال القلوب، وهذا فيه رد على غلاة المرجئة الذين ينفون أيضاً أعمال القلوب من مسمى الإيمان، وإن كان غالبهم من مرجئة الفقهاء يدخلون أعمال القلوب في مسمى الإيمان، فهذا رد شيخ الإسلام وابن حزم على هؤلاء المرجئة، ولقد رد ابن تيمية بنفس طويل في كتاب الإيمان على المرجئة في ذلك، وبين أن الأعمال متلازمة مع الإيمان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأوضح ذلك بضرب الأمثلة على ذلك منها قوله: لا يتصور في رجل يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ثم بعد ذلك لا يسجد لله سجدة، ولا يتصدق لله بدرهم، ولا يطوف حول البيت، بل هذا ليس في قلبه إيمان البتة، وكذلك قال: إن الإيمان الذي في القلب إن كان تاماً ظهر ذلك على الجوارح، ثم نقل تأكيداً لكلامه عن الحسن أنه قال: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، وهذه المضغة هي مضغة القلب.

أدلة المرجئة على الإرجاء

أدلة المرجئة على الإرجاء استدل المرجئة على الإرجاء بأدلة كثيرة تبين أن الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان، وأدلتنا من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، فالإيمان هنا بمعنى التصديق، والأعمال ليست من التصديق. الدليل الثاني: أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، فإذا قلنا بأن الأعمال من الإيمان للزم انتفاء الإيمان بالكلية عند انتفاء بعض الأعمال. الدليل الثالث: قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فاستشهدوا بهذه الآية على أن محل الإيمان هو القلب فقط، فعمل الجوارح لا تدخل في القلب، ولذلك إذا كان الإيمان التصديق فمقابله الكفر وهو التكذيب، فدائرة الإيمان والكفر عندهم هي على القلب، فلو سجد رجل للصنم، أو سب الله، أو سب الرسول، لا يكفر حتى يستحل بقلبه؛ لأن مظان الكفر والإيمان عندهم يلازم هذا القلب، مستدلين بقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فقالوا: محل الإيمان أو محل الكفر هو القلب. الدليل الرابع من أدلتهم: العطف، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، والأصل في العطف المغايرة، فدل بذلك على أن الأعمال الصالحة غير الإيمان.

الرد على استدلال المرجئة

الرد على استدلال المرجئة مما يرد عليهم عقلاً أن الذي يدعي حب الله ثم يسب الله فإننا نكذبه مع أن الذي في قلبه لم يظهر عليه في الخارج، ولقلنا له: لو كنت تحب الله حقاً لاتبعت شرعه، ولو كنت تحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقاً لاتبعت سنته. ومن الأدلة أيضاً أن الآية صرحت بأن الصلاة إيمان فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فإنه باتفاق المفسرين أن المعنى: وما كان الله ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، ويدل عليه حديث: (فمن تركها فقد كفر)، فسلب الإيمان بترك عمل من أعمال الجوارح، وهو الصلاة، وسماها الله إيماناً، بل جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حداً فاصلاً بين أهل الإيمان وأهل الكفر. ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحياء شعبة من شعب الإيمان) فالحياء هنا عمل قلبي، وسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإيمان، وإماطة الأذى سماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من شعب الإيمان، فهذه دلالة على أن هذه الأعمال من الإيمان لا تخرج عنه، فإذا اعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح فلابد أن نرد على أهل البدع الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان. فنقول: فساد هذا القول تعرفه من لازمه، إذ لازم هذا القول أن كل تارك للصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد في سبيل الله، والذكر، وتلاوة القرآن، مؤمن كامل الإيمان، بل إيمانه مثل إيمان أبي بكر الذي كان يقوم الليل، ويصوم النهار، وينفق ماله للدعوة في سبيل الله، بل إيمانه إيمان جبريل!

الرد على الشبهة الأولى من شبه المرجئة

الرد على الشبهة الأولى من شبه المرجئة هذه البدعة المزرية قد انتشرت في أجوائنا، وكثير من الذين ينتسبون إلى أهل السنة والجماعة يتمذهبون بهذا المذهب مذهب المرجئة وإن كان خفياً، فيقولون بلازم هذا القول، فلا بد للتصدي لهذه البدعة والرد عليها، فنقول: أولاً: احتجاجهم بأن الأعمال ليست من الإيمان لقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، فقالوا: الإيمان في اللغة معناه التصديق، وهذه الآية دالة على ذلك، فإن كان الإيمان هو التصديق فالتصديق عمل القلب، وليس له بالجوارح أي علاقة، فالرد عليهم في ذلك أن نقول: أولاً: لا نسلم لكم بأن الإيمان في اللغة معناه التصديق، فإن الإيمان في اللغة يتعدى بنفسه، ويتعدى بالباء، ويتعدى باللام، فله ثلاثة معان في اللغة: يتعدى بنفسه فيكون بمعنى التأمين ضد التخويف، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، وتقول: أمنته، ضد خوفته، فهذا معنى من معاني الإيمان في اللغة، ويأتي أيضاً متعدياً بالباء فيكون معناه التصديق، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى} [البقرة:136]، إلى آخر الآيات، آمنا بالله أي: صدقنا بالله جل وعلا، صدقنا بوجود الله، صدقنا بربوبية الله، صدقنا بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، صدقنا بألوهية الله جل وعلا، وصدقنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله، كما قال الشافعي: آمنت برسول الله، وبما جاء على لسان رسول الله، على مراد رسول الله، أي: صدقت بأن محمداً أرسل من قبل الرب جل وعلا، وأنه أوحي إليه بهذه الرسالة، وأن القرآن كلام الله جاءنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فيتعدى بالباء فيكون معناه: التصديق الذي فرغتم كل هذه المعاني إلى هذا المعنى فقط. ويتعدى باللام فيكون معناه الاتباع والانقياد والاستسلام تقول: آمنت لله، أي: استسلمت لله، استسلمت لأمر لله، وتقول: آمنت لرسول الله، أي: استسلمت لأمر رسول الله واتبعت شرعه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] يعني: اتبعه لوط على ما هو عليه من الخير، فاستسلم له لوط وانقاد له. فيكون الإيمان في اللغة له أكثر من معنى، فلا تسلم مقدمتكم. ثانياً: نقول: نتنزل معكم ونقول: نحصر معنى الإيمان بالتصديق في اللغة ثم ننظر هل له معنى آخر في الشرع؟ فنجد أن الإيمان في الشرع معناه التصديق المستلزم للانقياد والاتباع والاستسلام، وإذا خالف التعريف في الشرع التعريف في اللغة قدم تعريف الشرع. ونظير ذلك الصلاة، فإن الصلاة في اللغة معناها: الدعاء، لكن معناها في الشرع: أفعال مخصوصة في أوقات مخصوصة، فيقدم التعريف الشرعي على اللغوي، فإذا قيل لك: قم فصل ركعتين، فليس المعنى: قم فادع الله، إلا أن تأتي قرينة أحالت من مفهوم الشرع إلى مفهوم اللغة. إذاً: مفهوم الشرع عندنا يقدم على مفهوم اللغة، ومفهوم الشرع هو التصديق المستلزم للانقياد، والانقياد هنا يكون بعمل القلب وعمل جوارح، وعليه تكون أعمال القلوب وأعمال الجوارح دخلت أيضاً في مسمى الإيمان. ويمكن أن نرد عليهم أيضاً في تعريف اللغة وقولهم: بأن الإيمان التصديق، والأعمال لا تدخل في التصديق، فنقول: نسلم لكم بأن الإيمان في اللغة معناه التصديق، لكن من قال لكم: إن الأعمال تخرج من مسمى التصديق، نحن نقول بقولكم: الإيمان هو التصديق، وندخل الأعمال في التصديق، وعندنا دليل من الشرع في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي) إلى آخر الحديث، ثم قال: (والفرج يصدق هذا أو يكذبه)، فالتصديق أيضاً على عمل الفرج وهو الوطء، وينسحب بعد ذلك على عمل اليد، وعمل العين.

الرد على الشبهة الثانية من شبه المرجئة

الرد على الشبهة الثانية من شبه المرجئة الشبهة الثانية أنهم قالوا: الإيمان واحد لا يتبعض، فلازم القول لذلك أن كمال الإيمان شيء واحد لو انتفى منه جزء انتفى باقيه، فنقول: هذا المقدمة مخالفة ومصادمة لصريح الكتاب، وصريح السنة، وصريح الآثار التي وردت عن السلف والتابعين، أما المصادمة لصريح الكتاب فإن الله جل وعلا بين وأثبت للمرء إيمان وكفر، وإيمان ونفاق في كتابه وأيضاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دلالتها أن الإيمان يتبعض، إذ هو شعب كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وستون) وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وذكر ابن القيم أن شعبة الإيمان القريبة من لا إله إلا الله تأخذ حكم لا إله إلا الله، فالذي يكفر بعدم قول لا إله إلا الله يكفر بالشعبة التي قربت من لا إله إلا الله مثل الصلاة، حيث يكفر لتركها، وإذا نزلت الشعبة إلى مرتبة الأذى أخذت حكمها، وتارك هذه الشعبة إيمانه ناقص غير كامل. ونقول: الإيمان حقيقة مركبة من قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، ونقل الشافعي الإجماع على ذلك، ونقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع من أدرك من التابعين ومن بعدهم من الصحابة على أن الإيمان قول وعمل ونية، فعمل القلب: هو تحركه إذا سمع أمراً من أوامر الله جل وعلا، ويعزم عزماً صادقاً على فعله، أما قول القلب: فهو التصديق والإقرار، فهو التصديق والجزم بأن الله هو خالق السماء، وخالق الأرض، وأنه الرازق الأوحد، وأنه المعطي المانع، الضار النافع، إلى غير ذلك. والمرجئة تتفق مع أهل السنة والجماعة في ذلك، أما قول اللسان وعمل الجوارح فهو ما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة). ومن أعمال القلوب: الانقياد والخوف والحياء والرجاء، وهي داخلة في مسمى الإيمان. ومن أعمال الجوارح: الصلاة، والزكاة، والحج، فمنها عبادات بدنية كالصلاة، ومنها عبادات مالية كالزكاة، ومنها عبادات بدنية مالية كالحج، وهذه كلها تدخل في مسمى الإيمان بإجماع السلف. وهناك آيات كثيرة تدل على ذلك منها قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، فكل هذه من أعمال القلب، ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ} [المائدة:55]، وهذه أيضاً أعمال، ثم ختم الآية بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فهنا صريح الكتاب يثبت أن المؤمن الحق هو من أتى بأعمال القلوب وأعمال الجوارح، ضاماً إلى ذلك تصديق القلب وقول اللسان بالشهادتين. أما الأحاديث فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت) ـ يعني بالإيمان وعمرت ـ (صلح الجسد) فالجوارح تابعة للقلب. فالقول بأن الإيمان حقيقة مركبة من قول وعمل مضاد لما قالته المرجئة: بأنه جزء واحد لا يتبعض.

الرد على الشبهة الثالثة من شبه المرجئة

الرد على الشبهة الثالثة من شبه المرجئة الشبهة الثالثة: استشهادهم بهذه الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، على أن الإيمان محله القلب، والكفر محله القلب أيضاً من أفسد ما يكون؛ لأن هذا دليل عليهم، ولازم هذا القول أن من سجد للصنم لا يكفر إلا باستحلال القلب، ويلزم أن من سب الله وسب الرسول لا يكفر إلا باستحلال القلب، وقد خرج علينا من صرح بهذا، فنحن نقول: هذا كلام باطل جداً؛ لأن من الأعمال ما هو كفر، ومن الأقوال ما هو كفر، فسب الدين كفر وهو قول، وسب الله كفر وهو قول، والاستهزاء بالدين كفر قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فإن كان هذا الاستهزاء كفراً فمن باب أولى سب الله أو سب الدين أو الرسول فهو كفر باتفاق أهل السنة والجماعة، وأيضاً الأعمال منها ما هو كفر مثل السجود لصنم، والطواف للقبر، وهذا باتفاق أهل السنة والجماعة، فما دام أن من الأعمال ما هو كفر ومن الأقوال ما هو كفر، فإذاً: محل الإيمان ليس القلب فقط، بل محل الإيمان القلب واللسان والجوارح. ومما يستدل به عليهم في ذلك قول الله تعالى: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ))، فالله جل وعلا نفى عنه الكفر بعد أن نطق بالكفر؛ لأنه كان مكرهاً، فمفهوم المخالفة في هذه الآية أنه إذا لم يكن مكرهاً وقد نطق بكلمة الكفر فحكمه أنه كافر بدليل الخطاب من الآية. ومثل هذا ما قاله عمار بن ياسر من كلمة الكفر فاشتكى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد)، مفهوم المخالفة: إن لم تكن مكرهاً ونطقت بهذه الكلمة التي هي كلمة الكفر فحكمك أن تكون كافراً أصلاً. فالمرجئة يلزمون بهذه الآية؛ لأنهم يقولون: محل الكفر القلب، والآية تدل على أن هناك كفراً بالقول، ومع أن الآية نزلت في شأن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، إلا أن السبب لا يخصص، لكن هو مؤثر في هذه الأحكام. إذاً: فالآية دليل عليهم، وتدل على أن الإيمان محله القلب والجوارح واللسان.

الرد على الشبهة الرابعة من شبه المرجئة

الرد على الشبهة الرابعة من شبه المرجئة الشبهة الرابعة: العطف في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، وأصل العطف المغايرة. فنقول: عطف شيء على شيء إما أن يكونا متباينين -يعني: مختلفين في الجنس- ولا علاقة بينهما فهؤلاء يشتركان في الحكم فقط، مثل قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، فجنس السماء غير جنس الأرض، ومع ذلك اشتركا في الحكم وهو الخلق، بمعنى: أن الله جل وعلا خلق السماء وخلق الأرض، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، جنس الظلمات يغاير ويخالف جنس النور وأيضاً يشتركان في الحكم، فهل الإيمان والأعمال الصالحة من هذا الباب؟ A ليسا من هذا الباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي جلس في مؤخرة المسجد ولم يصل: (ألست بمسلم؟ أما صليت معنا)، فربط الإسلام بالصلاة، مما يدل على التلازم بين الإيمان والصلاة، ومر الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل -كما في الصحيح- ينصح أخاه في الحياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء من الإيمان)، معنى ذلك أن إيمانه سيظهر عليه بحيائه من الله، وحيائه من الملائكة، وحيائه من الرسول، أو حيائه من الصالحين، فالنبي صلى الله عليه وسلم استدل على أنه لو وجد إيمان في القلب فلابد أن يظهر على أعمال الجوارح. الثانية: عطف شيء على شيء يتلازم معه، حتى لو كانت الأجناس مختلفة، مثال ذلك قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فطاعة الله وطاعة الرسول متلازمان، فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهنا عطف طاعة مستقلة لله وعطف طاعة مستقلة للرسول، لكن هذه الطاعة المستقلة لله والطاعة المستقلة للرسول متلازمان؛ لقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والإيمان والأعمال الصالحة تدخل في هذا القسم؛ لأن من لوازم الإيمان القلبي عمل الجوارح. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، فالمحبة عمل قلبي ومع ذلك استلزمت عمل الجوارح وهو الاتباع، يعني: اتباع الرسول في صلاته، ونومه، وفي إتيانه لنسائه، وفي سنن العبادات والعادات، فإنك إن عملتها اتباعاً أجرت عليها. ومن ذلك أيضاً حديث في الصحيحين وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب)، فالقلب إذا صلح بالإيمان ظهر هذا الصلاح على الجسد وهو الجوارح، فإذاً: الأعمال إذا عطفت على الإيمان يمكن أن تدخل من هذا الباب وهو باب التلازم، يعني: عطف اللازم على الملزوم، من أنه إذا وجد الإيمان في القلب لزم أن يظهر على الجوارح، ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن وجد في القلب إيمان تام فلابد أن يظهر على الجوارح، فإذا انتفت أعمال الجوارح انتفى إيمان القلب، فإن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، فالعطف هنا يدخل من باب التلازم، وبهذا يرد على المرجئة الذين يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان، فنقول: بل هي من الإيمان، فهي إما في دائرته وإما متلازمة معه، وإن كانت الدائرة غير الدائرة لكن هناك تلازم، بمعنى: أنه لو انتفى سقطت الدائرتان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. النوع الثالث في العطف: عطف خاص على عام، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4]، فالروح هو جبريل، وهو من الملائكة، لكنه خص بالذكر للتأكيد. ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فالصلاة الوسطى هي صلاة من الصلوات، فعطف الخاص على العام؛ ليدل على التأكيد، يعني: أؤكد على هذه الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد وتر أهله) أي: قطع أهله، ولم تكن فيه بركة، أو حبط عمله كما في بعض الروايات. ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء) مع أن النساء من متاع الدنيا كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14]، إلى أن قال: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]، فهو عطف خاص على عام للتأكيد. ونقول: الإيمان أيضاً يمكن أن يدخل من هذا الباب، فقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وستون)، وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة)، فهو يدل على أن هذه الجزئيات كلها جزء من كل، فكأن الإيمان شجرة كبيرة وكل غصن من هذه الأغصان جزء من هذه الشجرة، فإذا أفردت الحياء فقط وعطفته على الشجرة، فجزء من الشجرة عطفته على الشجرة، وهو الخاص على العام. إذاً نقول: العطف الذي احتجوا به في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، خاطئ ولا دلالة لهم فيه؛ فإن هذا العطف إما عطف تلازم وإما عطف خاص على عام، وهذا أيضاً لا يخرج الأعمال من دائرة الإيمان. فهذا هو الرد على المرجئة، وهم مع ذلك أقرب الطوائف إلى أهل السنة خاصة مرجئة الأحناف.

الخلاف بين أهل السنة والمرجئة لفظي وحقيقي

الخلاف بين أهل السنة والمرجئة لفظي وحقيقي مرجئة الأحناف خالفوا أهل السنة والجماعة في أشياء، ولذلك قال شيخ الإسلام في الفتاوى: الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الأحناف -أي: مرجئة الفقهاء- خلاف صوري لفظي فقط، وليس خلافاً حقيقياً، وقرر ذلك شارح الطحاوية. وقد جاءت بعض الأحاديث فيها ضعف في ذم المرجئة، منها: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب، القدرية والمرجئة)، والراجح أن النزاع بين المرجئة وبين أهل السنة والجماعة نزاع لفظي في نقطتين، وهو نزاع حقيقي خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية وشارح الطحاوية في نقطتين أيضاً، أما الخلاف اللفظي الصوري بين مرجئة الأحناف وبين أهل السنة والجماعة فهو قولهم: الأعمال ثمرة من ثمرات الإيمان، وقول أهل السنة والجماعة أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، والنتيجة واحدة بين الطرفين من جهة أن ثمرة الأعمال للمؤمن تجعله يتفاوت في الدرجات، فمنهم من يكون في الفردوس الأعلى، ومنهم من ينزل عنها، ومنهم من يكون في آخر درجة من درجات الجنة، وهذه دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص مع أنهم لا يقولون بهذا القول ولا يصرحون به، لكن النتيجة عندهم أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاوتون في ذلك، ولذلك قال الطحاوي: وأهله في أصله سواء، يعني: متساوون، أما في الدرجات فبينهم تفاوت، فمنهم من يرتقي ومنهم من ينزل، وهنا ملحظ لأهل السنة والجماعة وهو أن الناس لا يستوون في أصل الإيمان على الراجح من ذلك، بل هم يتساوون في مطلق الإيمان، أما في أصله فلا، وهناك من أهل السنة والجماعة وهم المالكية يقولون: إن أصل الإيمان لا يزيد، والصحيح الراجح: أنهم أيضاً يتفاوتون في أصل الإيمان، فمنهم من هو أعلم الناس بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ يتدبر آيات الله المرئية، وآيات الله الكونية، فهذا يقوي أصل الإيمان، وأيضاً المخبر ليس كالمعاين، ولذلك نستدل على أنهم يتفاوتون في أصل الإيمان بقول إبراهيم لله جل وعلا: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، لأن عين اليقين تجعل الأصل عنده أدق، والنبي صلى الله عليه وسلم جلس مع أصحابه فقال: (من أعجب الناس أيماناً؟)، أو قال: (من أعرف الخلق إيماناً) فقالوا: يا رسول الله! الملائكة، فقال: (الملائكة عند ربهم يشاهدون) أي: قدرة الله جلا وعلا، والأمر الذي ينزل إليهم، والنهي، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، فهذا يزيد في أصل الإيمان، فقالوا: أنت يا رسول الله! فقال: (أنا يأتيني الوحي)، فقالوا: نحن يا رسول الله! فقال: (أنا بينكم أخبركم، أعجب الناس إيماناً -أو- أعجب الخلق إيماناً أناس يأتون بعدي ما تأتيهم إلا صحف فيؤمنون بما فيها!) ومع ذلك لا يقول أحد: إن في آخر الزمان رجل إيمانه أقوى من إيمان أبي بكر، أو إيمانه أقوى من إيمان أدنى الصحابة، ولذلك جاء بعض التابعين فقال لـ ابن مسعود: لو كنا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحملناه فوق أكتافنا وما جعلناه يسير على الأرض، وجعل العلماء الصحابة عدولاً؛ لرؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رؤيته لا يعادلها شيء، فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم تزيد الإيمان، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم والمعجزات التي تحدث أمامهم تجعل الإيمان عندهم أقوى بكثير، وهم في الأصل ليسوا سواء، ويتفاوتون في الجنة، فالإيمان يزيد وينقص. والخلاف اللفظي الثاني هو في شأن أهل الكبائر، فهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، لكن قالوا: إن الذي فعل الذنب مستحق للعذاب، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهذا قول أهل السنة والجماعة، فقد اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في المآل واختلفوا في اللفظ، فهم يسمون أهل الكبائر مؤمنين، أما أهل السنة والجماعة فيسمون صاحب الكبيرة مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، ولا تقول: هو مؤمن فقط، ويمكن أن تنزله من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام. فهاتان نقطتان اتفق أهل السنة والجماعة مع المرجئة فيهما، والخلاف صوري ولفظي بينهم، أما النقطة الحقيقية في الخلاف فهي أنهم حصروا الإيمان والكفر في القلب، وأهل السنة والجماعة يختلفون معهم في ذلك؛ لأن محل الإيمان عندهم القلب والجوارح واللسان، والإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، أما المرجئة فحصروا الإيمان في القلب. النقطة الثانية: أنهم حصروا الكفر في التكذيب، وهذا خلاف كبير لأهل السنة والجماعة، إذ إن الكفر عندنا كفر إعراض، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، وكفر إباء واستكبار، لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وكفر استهزاء، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فأنواع الكفر كثيرة، وقد عددناها ستة أو سبعة من أنواع الكفر، وهم حصروا الكفر في التكذيب، ونحن نخالفهم في ذلك ونقول: بل الكفر أكثر من التكذيب والاستحلال؛ لأن كل مرجئ يقول: إذا فعل المؤمن ما يكفر به فليس بكافر حتى يستحل بقلبه ما فعل، وأهل السنة يخالفونهم في ذلك فإن الرجل إذا ألقى المصحف في الحشوش قلنا: هذا الفعل فعل كفر، والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبه كما فصلنا، فالمقصود أنهم يقولون: إن الذي ألقى المصحف في الحشوش لا يكفر إلا أن يستحل بقلبه، أو يقولون: إن العمل هذا ليس كفراً بذاته، بل هو علامة على الكفر الذي في القلب، وعلامة على التكذيب والاستحلال الذي في القلب، وهذا خلاف ما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأن من الأعمال ما هو كفر بذاته، وهناك من الأقوال ما هو كفر لذاته، يخرج به الشخص من الملة بعد إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة منه، فهذه هي النقاط التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة اختلافاً حقيقياً مع المرجئة.

جواز الكذب في الإصلاح - الشفاعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - جواز الكذب في الإصلاح - الشفاعة الكذب من كبائر الذنوب، ولكنه يجوز للإصلاح بين المسلمين، وقد ثبتت الرخصة في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر أهل العلم صوراً يجوز فيها الكذب وضوابطها.

خطر الكذب

خطر الكذب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فمازلنا مع هذا الكتاب المبارك للإمام العلامة اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة, وبعدما ساق هذا العلامة السياق البديع في الرد على المرجئة، وتكلم على حكم أهل الكبائر وعدد من الكبائر ما عدد، ساق بعد ذلك بالتناسق البديع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب للإصلاح، والكذب من الكبائر أيضاً، ولو لم يفرد الكذب بالكلام على أنه من الكبائر، لكنه يفهم من خلال السياق، ثم تكلم عما يمحو الكبائر، وهل تشترط في الكبائر التوبة أم أنها تمحى بالمكفرات؟ ذكر هنا سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب للإصلاح، وهذه استثناءات من القاعدة العريضة المستقاة من الكتاب والسنة، فالغرض المقصود: أنه ألمح إلى دخول الكذب في ضمن الكبائر ولم يصرح، وهل يكون مرتكب الكبيرة خالداً في النار إذا مات مصراً عليها، أم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنفعه ويكون داخلاً تحت مشيئة الله جل في علاه؟ وقد أردف المؤلف هذا بذكر شفاعته صلى الله عليه وسلم الخاصة بأصحاب الكبائر. فنتكلم عن الكذب ونقول: الكذب لغة: ضد الصدق, واصطلاحاً: هو الإخبار بخلاف الواقع، كأن تقول مثلاً: انتصر الروم، والروم قد هزموا، وهذا ما قرره الحافظ ابن حجر في تعريف الكذب اصطلاحاً. والكذب مذموم شرعاً, وهو من الكبائر، فقد ذمه الله جل وعلا في كتابه وذمه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فقال الله تعالى مبيناً لنا أن العذاب الشديد الأليم يكون لأهل الكذب والفجور: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، وبين أن لعنته جل وعلا تنزل على الكاذبين المكذبين لله جل وعلا ولرسوله, وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث) وفي رواية قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً - وذكر منها- إذا حدث كذب)، فعدها من الكبائر التي يتصف بها المنافقون، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عظم خطر الكذب، فقد جاء في السنن أو في مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب -هنا عظم الخطر- وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذباً) والعياذ بالله. وعواقب الكذب وخيمة في الدنيا والآخرة: كمحق البركة من الرزق والبيت بأسره، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما, وإن كنتما وبدلا محقت بركة بيعهما)، فبالكذب تمحق البركة، بل الأشد من ذلك والأنكى يكون في الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة ومنهم الكذاب). وهنا مسألة مهمة وهي: هل الله عز وجل لا يكلم أحداً يوم القيامة ولا ينظر إليه سواء كان مؤمناً أو كافراً؟ A هذا عام خصص بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) وما منكم من أحد: نكرة في سياق النفي فهي تفيد العموم، فوجب تأويل النص السابق: بأنه لا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يكلمهم بعطف ورفق وما أشبه ذلك. مسألة أخرى: هل يرون الله عز وجل في المحشر على خلاف صورته أم لا؟ A لا، بل يرون الله على ما هو عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يأتيهم الله جل وعلا في صورة غير التي يعرفونها, فيقول: ما تريدون؟ يقولون: ننتظر ربنا، قال: أتعرفونه؟ قالوا: نعرفه بعلامة بيننا وبينه)، فلم يأتهيم على نفس صورته، لكنه يكشف العلامة لعباده وهي الساق، فإذا كشف عن ساقه جل وعلا سجد الكل إلا المنافقون؛ فإن ظهورهم تصير كالرخام طبقة واحدة، والله أعلم. والحق أن الكذب أصبح فساده مستشرياً عريضاً في المجتمعات، والكذاب قد يهدم بيوتاً بل مجتمعات بأسرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الكبائر، فإن كان من الكبائر فعلى العبد أن ينأى بنفسه عن أن يكون كذاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل كما في السنن: (أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم, أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، ثم قيل له: أيكون المؤمن كذاباًَ؟ قال: لا)، فلا يجتمع الكذب والإيمان في قلب مؤمن أبداً، فإذا رأيت العبد يكذب فاعلم أن هذه إشارة وعلامة على أنه ليس بمؤمن الإيمان الكامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيكذب المؤمن؟ قال: لا) فالكذب حرام، بل إنه كبيرة من الكبائر التي تدخل في مسألة الخلاف الذي تكلمنا عنه في مسألة المكفرات, وهل الأعمال تكفر الكبائر أم لا؟

الأحوال التي يجوز فيها الكذب

الأحوال التي يجوز فيها الكذب ذكر المؤلف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب، ونحن نعلم أن الكذب حرام؛ لعموم النهي عنه، فهل يستثنى من هذا العموم شيء؟ نقول: نعم، يستثنى من هذا العموم في حرمة الكذب ثلاثة أحوال سنبينها، وقبل ذكرها نقرر قاعدة مهمة تنفع طلاب العلم عند سيرهم في هذا الطريق: القاعدة الأولى: من مقاصد الشريعة: درء المفاسد وجلب المصالح, وتمخضت هذه القاعدة وهذا المقصد قواعد كثيرة منها: أولاً: إذا تعارضت مصلحتان لا يمكن الجمع بينهما قدمت الكبرى على الصغرى. ثانياً: إذا تعارضت مفسدتان لا يمكن دفعهما معاً دفعت الكبرى واحتملت الصغرى، وكل ذلك مستند لآيات وأحاديث منها: قول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، فبالرغم من أن مسبة الآلهة التي تعبد من دون الله طاعة وقربة إلا أن الله جل في علاه نهانا عن ذلك مراعاة للمفاسد والمصالح؛ لأنك إذا سبيت آلهتهم فستدفعهم إلى سب الله جل في علاه. ومن الأدلة أيضاً: ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم)، فلم يفعل ذلك من أجل المصلحة والمفسدة. أما بالنسبة لتعارض المفاسد مع المصالح، فإن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح؛ ولذلك حرم الله تعالى الخمر مع أن فيه منافع، لكن المفسدة فيه كانت أعظم من المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، مفسدة كبيرة، {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، ففي هذه الحالة نرفع المفسدة الكبيرة الموجودة في الخمر: من زوال العقل وانتشار الفساد والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، ويكون درء هذه المفسدة العظيمة أولى من جلب المصلحة الكامنة في الربح الزهيد المترتب على بيع الخمر ونحوه. ومثال تعارض المصلحة مع مصلحة أخرى: إذا تعارضت مصلحة رفع إعلاء راية لا إله إلا الله ونصر المسلمين مع مصلحة حفظ نفسك التي تسجد لله وتنكأ في أعداء الله، فعند ذلك تقدم المصلحة الكبرى المتضمنة إعلاء كلمة التوحيد على حساب تفويت المصلحة الصغرى الكامنة في حفظ النفس الذي هو من مقاصد الشريعة. أما إذا تعارضت مصلحة العامة مع مصلحة الخاصة فإنها تقدم المصلحة العامة على الخاصة، وهذا مثل تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي، فمن مقاصد الشريعة تقديم المصلحة العامة مصلحة المجتمع على مصلحة الخاصة أو الفرد. إذاً: يجوز أن يكذب الإنسان مراعاة للمصالح والمفاسد، ومراعاة لمقاصد الشريعة، وهذا هو التأصيل العلمي لهذه المسألة، فنقول: يجوز الكذب في ثلاثة أحوال: الأولى: الإصلاح بين الناس, فللمرء أن يكذب من أجل الإصلاح بين الناس، إذ إن الإصلاح بين الناس هو من أسمى ما يكون في التعامل بين المسلمين؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، (وفساد ذات البين هي الحالقة)، فهي التي تضيع الأمم، وما التشرذم والتفرق وعدم الوحدة الذي نعيشه الآن إلا بسبب التفكك وعدم الترابط, فالله جل وعلا حذرنا من فساد ذات البين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فساد ذات البين هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) , ففساد ذات البين هو سبب التدابر والتباغض, وهو سبب التشرذم والتفرق الحاصل للأمة كما هو حال واقعنا المعاصر الذي نعيشه الآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، فللمرء هنا أن يقع في هذه المفسدة الصغرى -وهي الكذب- لدرء المفسدة الكبرى: وهي فساد ذات البين، فله أن يكذب بين قبيلة وقبيلة، أو دولة ودولة، أو أشخاص وأشخاص؛ حتى يصلح بينهم, فللمرء أن يذهب إلى زيد وعمرو مثلاً، فيقول لزيد: سمعت عمراً يثني عليك ثناء عالياً، فهو يرى فيك رجلاً يقتدى ويتأسى به فتلين قلبه بالكلام الطيب حتى تصلح بينهما, فهذا يجوز من باب غمر المفسدة الصغرى في خضم المصلحة العظمى الكبيرة: ألا وهي التآلف والتواد والترابط، كما قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فإن العزة والقوة تكون في التلاحم والترابط، ولذلك روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس أو الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً) يعني: أنه يكذب، لكنه مأجور عند الله جل في علاه بسبب الكذبات؛ لأنه يأتي بالإصلاح, فهذه أول الحالات التي يمكن للإنسان أن يكذب فيها من أجل مصلحة أكبر. الحالة الثانية: بين الرجل وزوجته: كأن يبغض الرجل زوجته بسبب صعوبة التعامل معها وعدم لينها معه، فمثل هذا يجوز أن يكذب عليها فيقول: كأني أرى قطعة من القمر أمامي، وأنا أحبك أكثر من نفسي، فالشرع أجاز له أن يكذب عليها، مع أنه يريد أن يلوي عنقها، وأباح له أن يكذب على زوجته حتى في الأموال التي معه؛ من أجل أن يؤلف قلبها؛ لأنه يعلم أن المقصود من الزواج: حصول السكن والمودة والرحمة، كما قال عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، ومن المعروف: أن تكذب عليها حتى تطيب قلبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء) ومن الغريب: أن هذا الكذب يعد من باب التقوى في النساء؛ لأنهن ناقصات عقل ودين, وهذا أيضاً من المفاسد التي يجوز الوقوع فيها مراعاة للمفسدة الكبرى التي قد تقع بسبب هذه العقول الخربة؛ لأن الإنسان لو وقف أمام زوجته موقف الرجل الصنديد الصلب فإنه إما أن يجن وإما أن يقتلها، فلابد أن يصلح من حاله معها ولو بالكذب عليها؛ حتى يحصل المقصود من الزواج، وقد جاء في مسند الإمام أحمد حديث فيه ضعف: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعدما حذر من الكذب: (إلا لرجل يكذب على أهله)، أي: يتلطف مع أهله بالمحبة والود. الحالة الثالثة التي يجوز فيها الكذب: الحرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، فيجوز لك أن تكذب على الكافرين في الحرب، ولو اتهموا الإسلام بالكذب، فتقع في المفسدة الصغيرة وهي الكذب من أجل المصلحة العظمى المتمثلة في نصرة هذا الدين ورفع رايته، لكن هل للرجل المجاهد إذا أراد الدخول إلى دولة ما أن يكذب وأن يزور لأجل هذه المصلحة؟ A لا بد له من مراعاة أمور قبل ذلك، فإذا دخل بأمان هذه الدولة، فهل له أن يخون هذا الأمان أم لا؟ وهل هذه البلدة حربية ضد الإسلام أم لا؟ فهذه ضوابط لا بد أن يعرفها من يريد التزوير أو الكذب في الحرب، وسيأتي الكلام عنها بمشيئة الله تعالى. والغرض المقصود: أنه يجوز للمرء في هذه الحالات الثلاث أن يرتكب المفسدة الصغيرة لاستجلاب مصلحة أكبر منها. والخلاصة في هذا: أن المرء يجوز له أن يفعل المحرم مثل الكذب، لجلب منفعة لا يستغنى عنها، أو لدفع مضرة لا يمكن أن تدفع إلا بالكذب، ومثل هذا: أن يكذب التاجر على صاحب الضرائب مدعياً الخسارة في تجارته وعدم الربح ليتهرب من هذه المكوس المحرمة؛ لأنه يدفع هذه المفسدة العظمى بمفسدة صغرى، وهي الكذب. رجل أيضاً من المؤمنين مطارد من قبل الظلمة، وهذا الرجل المؤمن دخل عند رجل آخر فجاء إليه هذا الظالم وسأله عن الرجل المؤمن، وهذا الرجل يعلم أن هذا الظالم يريد قتل المؤمن، ففي هذه الحالة يجوز لهذا الرجل أن يكذب ويدعي عدم وجوده عنده؛ لأن هذه المضرة المتمثلة في القتل لا تندفع إلا بالكذب فجاز. كذلك: إذا احتاج إلى شيء ضروري لا غنى له عنه، ولا يمكن أن يحصله إلا بالكذب فله ذلك، كما أنه لو أراد أن يحصل على منفعة ضرورية لا غنى له عنها، ولا يحصلها إلا بأن يرشي هذا المرتشي الذي يأكل سحتاً، فيجوز أن تعطيه؛ لأنه لن يمشي لك هذه المعاملة التي هي حق صرف لك إلا بذلك. إذاً: ضابط هذا الأمر أنك تقع في هذه المفسدة الصغيرة لدفع مضرة ستقع عليك لا تندفع إلا بالكذب، أو جلب مصلحة ضرورية لك -وهذا القيد مهم- لا يمكن أن تجتلبها إلا بهذا الكذب، وقد قال العلماء: لا بد أن تكون هذه الضرورة أخروية لا دنيوية, فلا يكذب من أجل أن يتحصل على مسألة دنيوية تنفعه في دنياه دون آخرته، هذا ضابط الكلام في جواز الكذب.

الشفاعة

الشفاعة ثم بعد أن بين الإمام الأحوال التي يجوز فيها الكذب وأن الإنسان قد يقع في المحرم دون أن يكتب عليه شيء، ذكر هل يخلد في النار من وقع في كبيرة الكذب أم أنه تحت مشيئة الرحمن؟ وهل تنفعه الشفاعة أم لا؟ فدخل في باب آخر: وهو سياق ما روي في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر. أقول: الشفاعة في اللغة: هي جعل الوتر شفعاً، فتجعل الواحد اثنين، أما في الاصطلاح: فهي التوسط من أجل جلب مصلحة أو دفع مضرة، سواء بين بني البشر أو بين الله جل وعلا وبين خلقه كما سنبين, والشفاعة حق تام محض صرف لله جل وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فالشفاعة ليست لأحد، وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه العظيم شفاعة مثبتة وشفاعة منفية: أما الشفاعة المنفية فهي شفاعة الكافرين, قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فهذا نفي عام، ينفي فيه الشفاعة للمشركين كما قال الله تعالى حاكياً لنا على لسانهم أنهم قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] , فهذه الشفاعة منفية عن الكافرين، واستثنت منها شفاعة واحدة كما سنبين لاحقاً.

شروط الشفاعة

شروط الشفاعة الشفاعة المثبتة: هي الشفاعة للمؤمنين، ويدخل في المؤمنين أهل الكبائر الذين هم عصاة الموحدين، وقد أثبت الله جل وعلا هذه الشفاعة بشرطين لا بد من توافرهما في هذه الشفاعة: الشرط الأول: الإذن للشافع, قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، أي: فلا أحد يمكنه أن يشفع عند الله جل وعلا في أحد أن يدخله الجنة، لا مجاهد ولا حافظ قرآن ولا مؤمن ولا ملائكة ولا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد إذن الله جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهذا أسلوب حصر مفاده: أن الشفاعة لا تكون إلا بهذا الإذن. الشرط الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع، قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وهذا عموم، فلا بد أن يرضى الله عن الشافع وعن المشفوع حتى تقبل الشفاعة، وقد جمعهم الله في آية واحدة فقال: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فجمع الشرطين: الإذن والرضا حتى تقبل الشفاعة.

أنواع الشفاعة

أنواع الشفاعة الشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة عامة، وشفاعة خاصة، فالشفاعة الخاصة: هي لنبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يشترك معه أحد فيها، وتكون من الموقف الذي يشتد فيه الكرب، وتدنو فيه الشمس من الرءوس قدر ميل، ويغرق الناس في عرقهم، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه وإلى ساقيه وإلى ركبتيه وإلى حقويه وإلى صدره وإلى أذنه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فلشدة وقع الكرب على الناس يذهبون إلى آدم فيقولون: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا تشفع لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول آدم: نفسي نفسي، ثم يحيلهم إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، ثم يحيلهم إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيذهبون إلى إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث ويقول: نفسي نفسي، ثم يحيلهم إلى موسى، ومن ثم إلى عيسى عليه السلام، فيقول عيسى: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فيذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم بالمؤمنين فيقول: أنا لها أنا لها، وفي رواية: أمتي أمتي، قال: (فأذهب فأسجد تحت العرش، فأحمد الله بمحامد يعلمني إياها، فيقول الله: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وهذه كرامة كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، للمقام المحمود الذي اختصه الله تعالى به؛ ليبين بذلك أنه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الشفاعة في أهل المحشر جميعاً حتى يقضي الله بين الخلائق، وهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشترك معه فيها أحد، وهو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يقال بعد الأذان: (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)، فإن الله يبعثه المقام المحمود في عرصات يوم القيامة. ومن أنواع الشفاعة الخاصة به: الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة، فلا يدخل بشر الجنة حتى الأنبياء إلا بشفاعته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يطرق الباب -كما جاء في الحديث- فيقال: من؟ فيقول: محمد فيقال: ما أمرنا أن نفتح إلا لك، فلا أحد يدخل الجنة أبداً وإن كان من مستحقيها إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. أما الشفاعة الثالثة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم: فهي الشفاعة المستثناة لعمه، حتى إن إبراهيم عليه السلام لا يشفع لأبيه، فقد تبرأ منه لما رآه عدواً لله جل وعلا، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يشفع في عمه أبي طالب، فبعد أن كان في الدرك الأسفل من النار أصبح عليه نعل أو نعلان من نار يغلي منهما دماغه ومع ذلك يقول: ما رأيت أحداً أشد عذاباً مني في النار، وفي البخاري: (أن العباس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعلت لعمك وقد كان يحوطك وينصرك؟ فقال: لولاي لكان في الدرك الأسفل من النار). أما الشفاعة الرابعة: فهي مشتركة بين المؤمنين والملائكة والأنبياء والمرسلين، حتى إن الله جل وعلا يقول: (شفعت الملائكة وشفع المؤمنون وشفع الأنبياء, وبقيت شفاعة رب العالمين، فيقبض قبضة فيخرج من النار كل من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من الإيمان)، فهذه الشفاعة عامة يشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون والملائكة. ومن هذه الشفاعات أيضاً: الشفاعة في أهل الكبائر، وهذا هو الشاهد وهو السياق الذي أورد من أجله أحاديث الشفاعة, فإنه يشفع لأهل الكبائر الذين يستحقون النار ولم يتوبوا من هذه الكبائر، وهذا قيد مهم جداً؛ لأنهم لو تابوا لما استحقوا العذاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). ودليل هذه الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (لكل نبي دعوة مستجابة دعاها على قومه، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي) وفي رواية أخرى: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وفي بعض الروايات وإن كانت لا تصح إلا موقوفة يقول: (أتحسبونها للمتقين للمؤمنين؟) يعني: أن الشفاعة هذه لا تكون للمتقين والمؤمنين، قال: (لا، بل هي للمذنبين من أمتي) فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر الذين استحقوا النار ألا يدخلوها ويدخلوا الجنة. ومن الشفاعات أيضاً: أنه يشفع في أناس دخلوا النار وماتوا، كما في مسند أحمد، قال بالتصريح: (فيموتون فيصيرون حمماً ثم يؤخذون إلى نهر الحياة)، فهؤلاء أهل الكبائر الذين أدخلهم الله النار، بعدما عذبوا بكبائرهم فيموتون ويصيرون حمماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم، وتشفع الملائكة، ويشفع المؤمنون، فيخرجون من هذه النار ويدخلون في نهر الحياة فيخرجون ويدخلون الجنة، كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آخر أمتي دخولاً الجنة من الذين يفعلون الكبائر فيموتون، ثم يلقون في نهر الحياة، فبعدما يخرجه الله يقول: رب أبعدني عن النار -يعني: أن لهيبها قد أصابه- فيبعده الله عن النار، فينظر فيجد شجرة يريد أن يستظل بها، فيقول: رب اجعلني تحت هذه الشجرة لأستظل بظلها، فيقول الله: ويحك يا ابن آدم! لو أعطيتك هذه لسألتني غيرها، فيعطي المواثيق والأقسام أنه لا يسأله غيرها، فما أن أجلسه الله تحت هذه الشجرة حتى نظر إلى أهل الجنة فاشرأبت عنقه)، وهو لا يستطيع الصبر ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يعقب على هذا ويقول: (وربك يعذره)؛ وهذه دلالة يستدل بها العلماء: أن الإنسان لو أقسم على غالب ظنه، ثم وجد الأمر مخالفاً لقسمه فإنه لا يحنث، وهنا يرى أهل الجنة يتمتعون وهو في الخلف فيقول: رب! قربني من هؤلاء، فيقول: (ويحك يا ابن آدم! أما أخذت عليك المواثيق ألا تسأل؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: وربك يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه)، فيقربه الله جل وعلا. وهنا قاعدة مهمة: وهي أن الله جل وعلا إذا أراد شيئاً هيأ له سببه، فاستبشر خيراً، فإن أراد الله جل وعلا بك خيراً هيأ لك أسبابه، فجعلك تحضر دروس العلم، وجعلك تفعل ما يفعل المؤمنون المتقون، وجعل همك كله منصباً في كيفية إرضاء الله جل وعلا, وهنا أراد الله جل وعلا لهذا الرجل أن يدخل الجنة فطمعه فيها، فهو الكريم ولن يخيب من طمع في كرمه، وعند ذلك يريه الله الجنة فيقول: رب أدخلنيها فيدخله الله الجنة، ويعطيه مثل ملْك ملِك من ملوك الدنيا وفوقه عشر مرات بفضل الله ورحمته، فهؤلاء هم أهل الكبائر الذين يدخلون الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبشفاعة المؤمنين والأنبياء والملائكة. ثم بعد ذلك الشفاعة الخامسة والأخيرة: وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم في أناس كانوا في درجة أقل في الجنة ليرتقوا إلى الدرجات العلى، ولم يكن عمله قد أوصله إلى هذه الدرجة العليا فيرتقي بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يكون دون الفردوس فيرتقي بشفاعة النبي إلى الفردوس. وإذا كان الأب مثلاً في درجة عالية والابن في درجة أنزل منه فإنه يرتقي بشفاعة النبي إلى درجة الأب، أو العكس كما بين الله جل وعلا ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] يعني: ما أنقصناهم من عملهم من شيء. نسأل الله جل وعلا أن يجعل النبي صلى الله عليه وسلم شفيعاً لنا، وأن يشفع فينا الملائكة، ونسأله جل وعلا أن يقبلنا في الصالحين الموفقين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحوض

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الحوض من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالحوض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفاته، ولكل نبي حوض تشرب منه أمته، ويحرم من ورود الحوض أهل البدعة والضلالة؛ ولذا حرم الشرع كل البدع، وبالغ في الزجر عنها والتنفير منها، فينبغي معرفة ضابط البدع وأنواعها من أجل الحذر من الوقوع فيها.

الإيمان بالحوض

الإيمان بالحوض إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]،. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الله جل وعلا يبين أن فلاح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وهذا الذي يدل على صدق الإيمان في القلب، فبدأ المصنف بالغيبيات، وأول ما بدأ به سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحوض. والحوض لغة: الجمع، ويطلق على المكان الذي يتجمع فيه الماء. وشرعاً: هو الحوض الذي شرف به الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض كما سنبين، بل يشترك إخوانه من الأنبياء والمرسلين في هذه الفضيلة الكبيرة ألا وهي الحوض.

أدلة ثبوت الحوض من الكتاب والسنة والإجماع

أدلة ثبوت الحوض من الكتاب والسنة والإجماع الحوض الذي شرف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة ثابت في الكتاب بالإشارة، وفي السنة بالتواتر، فهو ثابت كالجبال الرواسي، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، والكوثر فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نهر من أنهار الجنة، يصب في حوض النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة. قلنا: إنه ثابت بالكتاب والسنة، وأيضاً أجمع السلف الصالح على ثبوت الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه فضيلة تشرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إظهاراً لمكانته ومنزلته عند الله يوم القيامة، وأجمع السلف على ذلك، وهذا الإجماع ما انخرق، لكن خالف أهل السنة والجماعة الخوارج والمعتزلة فأنكروا الحوض، وهؤلاء -جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل- إن شاء الله سيحرمون ويصدون عن هذا الحوض، وهم أشد ما يحتاجون إلى هذا الحوض في عرصات يوم القيامة. وقد جاءت أحاديث كثيرة متواترة تبين الحوض، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض -أي: أنا الذي أتقدمكم على الحوض- ولأذودن عن حوضي) أي: يزيح الناس من الأمم الأخرى عن الحوض، وهذه مزية لهذه الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين أمته وبين الأمم التي سبقت وآمنت بالرسل غير النبي صلى الله عليه وسلم.

بيان صفة الحوض كما ورد في الأحاديث

بيان صفة الحوض كما ورد في الأحاديث وردت أحاديث كثيرة تبين الحوض وتصفه، وهذه الأحاديث وإن كان فيها اختلاف في ظاهرها، لكن الاختلاف تمثيلي وتقريبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت الروايات عنه في طول هذا الحوض وعرضه، ففي بعض الروايات أنه بين أيلة وعدن، أو بين مقامي هذا ومسيرة ثلاثة أيام، فبين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث مختلفة مواضع أو مساحة هذا الحوض، وهذه الأحاديث لا تختلف أبداً؛ لأنها تمثيلية تقريبية، وفي رواية: طول هذا الحوض مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، ومعنى ذلك: أنه دائري أو مربع وزواياه مستوية، وتستوي فيه الأطراف، أما عدد الأواني التي ستشرب منها هذه الأمة فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها كعدد نجوم السماء، فيستنبط من هذا سعة وكثرة هذه الأواني حتى تسع هذه الأمة بأسرها. ويستنبط من الرواية الأخرى: (كنجوم السماء): أنها تتلألئ، فيتمتع الشارب متعة معنوية ومتعة حسية، أما المتعة الحسية عندما يشرب من هذا الحوض، شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً، فماؤه عذب زلال، أحلى من العسل. والمتعة المعنوية متعة الروح عند النظر إلى هذه الأواني وهي تتلألئ، كما تتلألئ النجوم في السماء فهي زينة للسماء، وأيضاً هذه الأواني زينة يتمتع الناظر إليها، فيتمتع الشارب حسياً بالشرب شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً، ويتمتع معنوياً بالنظر في هذه الأواني اللامعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الحوض العظيم: (له ميزابان) يعني: كل ميزاب يصب على الحوض، ميزاب من ذهب وميزاب من ورق، والورق: الفضة، وهذا الحديث يستدل به الفقهاء على أن الذهب والفضة إذا حرم على المؤمن والمسلم استعمال أوانيها في الدنيا، فهي له في الآخرة، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا)، يعني للكفار: (ولكم في الآخرة)، فالميزاب الأول من ذهب والميزاب الثاني من فضة، يصبان في هذا الحوض من نهر الكوثر. وهذا الماء أبيض من اللبن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماؤه أبيض من اللبن)، وفي رواية أخرى قال: (ماؤه أبيض من الورق) يعني: أبيض من الفضة، وهذا فيه زيادة في المعنى، فليس أبيض فقط، بل فيه بريق ولمعان، كأنه يخطف الأبصار، ليس الخطف الذي ورد في الآية، ولكنه يجعل الأبصار تتلألئ إذا نظرت إلى هذا الماء العذب، الذي هو أبيض من الورق، وأبيض من اللبن، أما طعمه فأحلى من العسل، كأنك تشرب العسل، وينزل في صدرك بحلاوته، فهذا الماء أحلى من العسل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ورائحته أطيب من المسك، فلونه أبيض من اللبن، وطعمه أحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك، وأفضل ما فيه: أن المرء إذا شرب منه لا يحتاج إلا شربة واحدة بيد النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة فلا يظمأ بعد هذه الشربة أبداً، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

حاجة الناس الشديدة يوم القيامة إلى الحوض

حاجة الناس الشديدة يوم القيامة إلى الحوض يوم القيامة تشتد الحاجة إلى الحوض، لأن الناس في كرب شديد، وفي ظمأ وجهد شديدين في عرصات يوم القيامة، فهم يحتاجون إلى شربة ماء؛ حتى يروي كل واحد منهم هذا الظمأ الذي فيه، وهذه الشدة وهذا الكرب في عرصات يوم القيامة، فحاجة الناس إلى الماء تشتد جداً في عرصات يوم القيامة، خاصة عندما يتلألئ بريق هذا الحوض، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الشمس تدنو من الرءوس قدر ميل، فيعرق كل امرئ على حسب طاعته، فمنهم من يعرق فيصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ساقيه، ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل العرق إلى صدره، كل بحسب معصيته وطاعته، ومنهم من يصل العرق إلى أذنيه، ومنهم من يغطيه ويلجمه العرق إلجاماً، نعوذ بالله أن نكون كذلك. فهؤلاء من شدة ما يعانون، ومن قرب الشمس منهم، يحتاجون أشد ما يحتاجون إلى الشرب من هذا الماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأمته: هلموا هلموا، حتى يسقيهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحوض الشريف.

لكل نبي حوض

لكل نبي حوض ليست ميزة الحوض خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل يشترك في هذا الخاصية جميع الأنبياء والمرسلين، فلكل نبي حوض، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لكل نبي حوضاً)، وهو حديث يتسامح في إسناده؛ لأنه بمجموع طرقه حسن، قال: (إن لكل نبي حوضاً، وإنهم ليتباهون بأكثرهم وارداً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً) ويرد على بعضهم الفئة من الناس، ويرد على بعض الأنبياء العصبة من الناس، ويرد على بعضهم الرجلان والرجل، وبعض الأنبياء لا يرد أحد على حوضه، فيقال له: قد بلغت قد بلغت، يعني: ما عليك إلا البلاغ، كما قال الله تعالى: {فاعلموا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] أي: ما عليك إلا البلاغ، حتى وإن لم يستمع أحد، فقد بلغت وتشكر على هذا، والله سيشكر لك صنيعك، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أكثر الناس وارداً).

مزية هذه الأمة على غيرها من الأمم عند ورودها الحوض

مزية هذه الأمة على غيرها من الأمم عند ورودها الحوض خير الأمم وأكثرها هي هذه الأمة التي ترد على هذا الحوض، ومن الممكن أن تتداخل الأمم بعضها مع بعض، فيذهبون إلى حوض النبي؛ لأنه أشد حلاوة، وأشد بريقاً، وأكثر وارداً، فيتهافتون فيتداخلون مع هذه الأمة، فهل النبي صلى الله عليه وسلم يميز هذه الأمة وهو لم يرها؟ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأذود عن حوضي لأمتي، كما يذود أحدكم البعير الغريبة) يعني: كل إبل غريبة ليست من إبله يذودها عن حوضه، حتى تأتي إبله وتشرب من هذا الحوض، (فقالوا: يارسول الله! أوتعرف أمتك) أي: أمتك التي جاءت بعدك أوتعرفها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ترد أمتي على الحوض غراً محجلين)، وهذه ميزة خاصة لهذه الأمة الخيرية، ولا أمة تشترك معها في هذه الخاصية، قال: (ترد هذه الأمة على الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء)، ولذلك كان أبو هريرة عندما يتوضأ يقول: أيها الناس: أطيلوا غرتكم، والغرة هي: البياض في الوجه، ولا تطال على الراجح، فالصحيح أن التحجيل هو: البياض الذي في الرجل، أرأيت الخيل السود البهم، خيول فيها بياض في الرأس وبياض في الرجل، تعرف من بين الخيول السود البهم، كذلك هذه الأمة يردون على الحوض غراً محجلين.

المحرومون من ورود الحوض والشرب منه

المحرومون من ورود الحوض والشرب منه فإذا كانت هذه الأمة ترد والنبي صلى الله عليه وسلم يميز هذه الأمة عن الأمم السابقة، وهو الذي يسقيهم بيده، فهل من محروم في هذا اليوم العصيب؟ عندما يشتد الكرب، عندما يريد كل واحد من الناس أن يروي ظمأه، هل من مصدود محروم لا يشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً؟ نقول: نعم والله، فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الذين أنكروا هذا الحوض، وأنكروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكروا ما هو ثابت بالتواتر، جزاؤهم من جنس عملهم، فإن الله جل وعلا يصدهم عن الحوض ويحرمون منه، فلا يشربون من هذا الحوض، وهم أشد الناس حاجة إلى شربة ماء واحدة، يروون بها هذا الظمأ، كما ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليختلجن رجال من دوني، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، لا تدري ماذا أحدثوا بعدك). وفي رواية أخرى: عندما يقال له: (لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي). إذاً: أهل البدع وأهل الأهواء محرومون من الشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم، محرومون من أن يشربوا شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً من يد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه إشارة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين عظم وخطر البدعة وأنها أشد من الكبائر، فأعظم الكبائر هي البدعة؛ لأن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، أرأيتم! كل الناس سيشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم إلا المبتدع، حتى العاصي وفاعل الكبيرة سيشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، إلا المبتدع لعظم جرمه؛ لأن البدعة بريد للكفر، والبدعة هي أحب إلى الشيطان من المعصية، فالمعصية وإن كانت كبيرة يتوب منها الإنسان، أما البدعة لا توبة له، لا أقول: لا توبة له شرعاً، أقول: لا توبة له كوناً، فهو أصلاً في الشرع فتح الله له باب التوبة، وأمره بالتوبة، فقد قسم الله الناس إلى ظالم وتائب، فهو مأمور بالتوبة محثوث عليها، فلا بد من أن يتوب إلى الله، لكن كوناً يمنع منها، وقد ورد في ذلك كثير من الآثار أنه لا توبة لصاحب بدعة؛ لأنها تترسخ في قلبه ويدافع عنها وينافح عنها، ويأتي بالأكاذيب والأباطيل والموضوعات حتى ينافح ويدافع عن هذه البدعة، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من البدعة ومن أهل البدع.

وقت الحوض ومكانه

وقت الحوض ومكانه الصحيح الراجح: أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يكون في عرصات يوم القيامة قبل المرور على الصراط، فالذي يشرب شربة لا يظمأ بعدها أبداً، نقول: بإذن الله أنه يمر كالريح أو يمر كأجاويد الخيل على الصراط حتى ينجو ويدخل الجنة بسلام.

البدعة لغة وشرعا

البدعة لغة وشرعاً البدعة لغة: مشتقة من الابتداع، والابتداع معناه: الاختراع، فالبدعة هي: الطريقة المخترعة على غير مثال سابق، وأما شرعاً فأجمل ما يقال في البدعة ما قاله الشاطبي: هي: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يعني: توازيها وتشاكلها وتشابهها، أو يقصد السلوك عليها: التقرب إلى الله جل وعلا، ويقصد بالعمل بها: التقرب إلى الله جل وعلا، كما قال الله تعال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، ومعنى طريقة في الدين مخترعة: لم يأت دليل من الكتاب ولا من السنة أن هذه عبادة، وهم يتعبدون بها لله جل وعلا، فهي مخترعة؛ لأنها لم ترد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن، أو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث النبوية. فهي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية وتشاكلها، كصلاة الألفية مثلاً، أو صلاة الرغائب، أو صوم يوم في زمان لم يشرعه الله جل وعلا ولم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يضاهي الشرعية، يعني: يشاكل ويشابه ما أصل شرعاً، وورد به الكتاب ووردت به السنة. والمقصود بها: أن يتقرب إلى الله جل وعلا، كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، فيقصدون بذلك التقرب إلى الله جل وعلا.

الدلائل من الكتاب والسنة والعقل على ذم البدعة وأهلها

الدلائل من الكتاب والسنة والعقل على ذم البدعة وأهلها والبدعة مذمومة شرعاً وعقلاً، أما شرعاً فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى} [القصص:50]، وقال جل وعلا: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، وقال جل وعلا في سياق ذم النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ماليس منه فهو رد) من أحدث أي: ابتدع واخترع فهو باطل مردود على وجهه، وفي رواية أخرى قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وأيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رغب عن سنتي -يعني: ابتدع غير سننتي - فليس مني)، فقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي السنن أيضاً عن علي قال: (لعن الله من غير منار الأرض، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً)، فإن كان الذي يؤوي المحدث المبتدع ملعوناً، فما بالكم بالذي يبتدع في دين الله جل وعلا؟ والآثار في ذلك كثيرة، وأيضاً عن العرباض بن سارية كما في مسند أحمد وفي السنن أنه قال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)، وأيضاً في خطبة الحاجة ما كان يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه شيئاً إلا ويقول: (إن الحمد لله -إلى آخر ما يقول- وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة -وفي رواية عند النسائي قال:- وكل ضلالة في النار) يعني: البدعة ليس منها حسنة ومنها سيئة، بل كل البدع ضلالة، كما ورد بسند صحيح رواه الدارمي وغيره عن ابن عمر أنه قال: كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وقد دخل على أناس يسبحون بالحصى يقول الرجل: كبروا مائة سبحوا مائة هللوا مائة فدخل ابن مسعود وهم يذكرون الله جل وعلا على هيئة حلق، ولا يقولون شيئاً فيه تخاريف، ولا فيه شرك، بل أقوال فيها تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، فقال ابن مسعود مندهشاً مما يفعلون: أما أنكم على ملة أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. لأنكم أتيتم بعبادة لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأتيتم بعبادة لم يأت بها الصحابة الكرام، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال: أوصني. قال: أوصيك بتقوى الله، والسمع والطاعة، واتبع ولا تبتدع. ولذلك قال ابن المسيب: من أحيا بدعة فقد أمات سنة، فالذي يحيي البدع، هو الذي يميت السنن، فالدين كله يهدم بالبدع. وقال بعضهم: إني أرجو أن أدخل المسجد فأجده يشتعل ناراً خير لي من أن أجد فيه بدعة، فانظروا إلى حرص السلف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال الثوري: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، فإن المعصية يتوب المرء منها، وإن البدعة لا يتوب المرء منها، والآثار في ذلك كثيرة.

أقسام البدعة

أقسام البدعة البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة مكفرة، وبدعة مفسقة، البدعة المكفرة: هي البدعة في أصول الاعتقاد، فالبدعة المكفرة هي البدعة في الأصول، يعني: البدعة في العقيدة، وأمثالها كثيرة جداً، كبدعة الجهمية المعطلة الذين ينفون أسماء الله وصفاته، والذين يقولون: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، فهذه بدعة كفرية، يكفر بها صاحبها، لكن يكفر نوعاً لا عيناً، فالقول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة كما قعدنا في مسائل الإيمان. ومن البدع الكفرية بدعة غلاة الرافضة من العلويين والنصيريين الذين يعتقدون في علي أنه إله، أو الذين يعتقدون أن الرسالة كانت ستنزل على علي فأخطأ جبريل، فأنزلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بدعة الدروز الذين يعتقدون أنهم لا يكلفون إلا بعد الأربعين، وهم يبيحون مع ذلك الزنا واللواط، بل يستبيحون وطء المحارم، فهذه من البدع المكفرة، ومن البدع الكفرية ما ورد عن غلاة الصوفية الذين يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يعتقد إلا في الله جل وعلا، فقائلهم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وعقب ابن رجب في هذا البيت قال: ما ترك هذا الرجل لله شيئاً، كل شيء أصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: الدنيا وضرتها، أي الدنيا والآخرة. وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم، اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله جل وعلا. وكذلك اعتقادهم في مسألة الأقطاب والأبدال، هذه أيضاً بدع مكفرة يخرج صاحبها من الملة. أما القسم الثاني من البدعة: فهي البدع المفسقة، وهذه البدعة تكون في الفروع وليس في الأصول، يعني: تكون في العبادات، وإذا قلت: في العبادات تخرج العادات. والبدعة في العبادات هي البدعة المفسقة، وقد قسمها العلماء إلى بدعة أصلية، وهي: تأصيل عبادة ليس لها موضوع في الشرع، وبدعة زمانية، وبدعة مكانية، وبدعة في الهيئة وفي الصورة، وليس هذا مجال التفصيل فيها.

البدعة في شهر رجب

البدعة في شهر رجب من البدعة في شهر رجب أن يخصه المرء بصيام، كثير من الناس لا يصومون، حتى إذا أتى رجب يكثر من الصيام فيه وهذه بدعة مميتة مردودة على صاحبها، وكان أهل الجاهلية يعظمون شهر رجب ويصومون فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل نهى أصحابه عن ذلك، ولم يرد حديث يخص رجب بالصيام إلا حديثاً واحداً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (صم من الحرم واترك) وهذ الحديث ضعيف يستأنس به فقط، وما ورد في الأشهر الحرم من حديث صحيح إلا في الشهر الحرام، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصيام بعد رمضان هو الشهر المحرم، فهذا الشهر هو الذي حث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الصوم، أما رجب فلا. أيضاًَ من البدع التي كان أبو بكر وعمر ينهيان عنها أن عمر كان يسير بالدرة، فإذا وجد أحدهم صائماً في رجب يضربه ويقول: تفعل ما يفعل أهل الجاهلية؟ وقال ابن عمر: هذا شهر عظمه أهل الجاهلية فهو كغيره من الشهور، صم فيه ولا تصم فيه، زد عليه من الخير ولا تزد، يعني: لا تفعل الخير خاصة لهذا الشهر. أيضاً من البدع في هذا الشهر ما يعرفه كثير من المصريين وهو عمرة رجب، وخميس رجب، ولكن خميس رجب أشهر، وهو أن الإنسان يذهب إلى المقابر في خميس رجب، يجمعون النساء ويأتون بالحلوى وبالطعام ويذهبون إلى المقابر، زيارة في خميس رجب، وهذه من البدع المميتة أيضاً، وكأن المقابر لا تزار إلا في رجب فقط، وكأن الموتى لا يدعى لهم إلا في رجب! أيضاً من البدعة تخصيص رجب بعمرة؛ لأنهم يعتقدون أن هذه العمرة عمرة ميمونة مباركة في شهر رجب، هذه أيضاً من البدع.

اختلاف العلماء في حكم العتيرة والفرع

اختلاف العلماء في حكم العتيرة والفرع هناك مسألة اختلف فيها العلماء، وهل هي من البدع أم من السنة؟ ألا وهي مسألة العتيرة، جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العتيرة حق)، والعتيرة: هي الذبيحة، فقدكان أهل الجاهلية يذبحون في رجب، وأيضاً الفرع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا فرع ولا عتيرة)، وقد اختلف العلماء في العتيرة، وهي ذبيحة في رجب؛ ولذلك تكثر الأسئلة فيها هل يسن أن يذبح المرء في رجب، كما هو مشهور في الولائم وفي العقيقة وفي الأضحية؟ وهل من ضمن إراقة الدماء المشروعة العتيرة أم لا؟ اختلف العلماء لاختلاف الأحاديث، وورد حديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العتيرة حق)، وورد في البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة)، والفرع: هو أول مولود للناقة، كان أهل الجاهلية أيضاً يعظمونه، فيذبحون الفرع قربة لآلهتهم الباطلة، ولا يأخذون منه شيئاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وبين أن هذه من أفعال الجاهلية، فلا تشاكلوا ولا تشابهوا أهل الجاهلية. وأما العتيرة، فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (العتيرة حق)، فلذلك قال النووي: يستحب للمرء أن يذبح في رجب، أي: يذبح ذبيحة، فيفرق لحم هذه الذبيحة على الفقراء والمساكين، وهذه قربة لله جل وعلا بإراقة الدماء في رجب، والمعتمد في المذهب أنها ليست مستحبة، ولكنها مكروهة جمعاً بين الحديثين، الحديث الأول الذي رواه البخاري: (لا فرع ولا عتيرة)، والحديث الثاني حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العتيرة حق). ونقول: الجمع هذا جمع حسن، وجمع النووي أيضاً جمع حسن على أساس أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة) أي: في أيام الجاهلية، كما كانوا يتقربون بها إلى الآلهة الباطلة، أما إذا تقربوا بها لله جل وعلا فذبحوا في رجب وأراقوا الدماء ووزعوها من أجل الفقراء والمساكين، فهذا لله جل وعلا، ويستحب ويستحسن له أن يذبح في رجب، فالراجح فيها: أنها لا تنزل عن درجة الإباحة.

حكم صوم شعبان

حكم صوم شعبان قال العلماء: يستحب صوم الكثير من هذا الشهر، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما البدعة فهي التي أصَّلها المبتدعة الذين يتبعون أهواءهم في ليلة النصف من شعبان، ففي ليلة النصف من شعبان ترى كثيراً من الناس يقيمون الليل، أو يصلون صلاة يسمونها صلاة الألفية، فيها أذكار مخصوصة وركوع وسجود وإطالة، يعني: كلام كثيرٌ جداً، وصلاة مبتدعة مخترعة يصلونها في هذه الليلة. قال زياد القاضي عند ابن أبي مليكة: إن أجر ليلة النصف من شعبان -يعني: قيام ليلة النصف من شعبان- كأجر قيام ليلة القدر أنها خير من ألف شهر، فقال ابن أبي مليكة: لو معي عصا أو درة عمر لأوجعته ضرباً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤكد ذلك والصحابة لم يفعلوا ذلك، فهذه بدعة مميتة؛ لأن ليلة النصف من شعبان لا تقام بصلاة ولا بعبادة ولا باستغفار من أول الليل إلى آخر الليل، ولا يصام نهار النصف من شعبان، وهذه البدع كثير من الناس يعملها، وكثير من الناس ممن نعرفهم يصوم يوم النصف من شعبان، ويقيم هذه الليلة، وله بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل أحد إلا المشرك أو المشاحن)، فهذا فيه إشكال أنه قد ورد بالأسانيد وإن كان فيها ضعف، لكن يعضد بعضها بعضاً في فضل هذه الليلة، فلها فضل، فإن كان لها فضل فلا بد علينا أن نجتهد في هذه الليلة التي لها الفضل، وكفى بفضلها أن الله جل وعلا ينزل نزولاً خاصاً، غير نزول كل ليلة في ثلث الليل الآخر، ينزل نزولاً خاصاً فيغفر لكل الناس الذين هم على الإيمان والإسلام، يغفر للمؤمنين والمسلمين، جميعاً إلا الكافر أو المشاحن الذي في صدره شيء من أخيه، أي: الذي هجر أخاه فوق ثلاث، وهذه الفضيلة تستلزم الاجتهاد في العبادة حتى يشملنا الله بعفوه وبمغفرته. وهذا الإشكال ضعيف، لكن هذا الإشكال لا بد أن نرده بعلم؛ لأنهم أتوا بدليل يدل على فضل هذه الليلة، وهذا اليوم، فكيف نمنعهم من عبادة في يوم فيه فضل وليلة فيها فضل؟ هذا الحديث أسانيده ضعيفة، لكن يعضد بشواهده، وهو حسن لغيره، ويحتج به شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان يغفر لكل واحد، إلا المشاحن والكافر، لكن هذا حديث يشكل علينا نحن؛ لأنه قد ثبت فضل اليوم وثبتت فضل الليلة، فلا بد أن نجتهد حتى يشملنا الله جل وعلا بكرمه وعفوه وعطائه في هذا اليوم الذي فيه الفضل العميم. أما رأيتم فضل السحر، وأن الله ينزل في السحر، فينبغي لك أن تقوم وتستغفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟)، وفي رواية وفي رواية عند الطبراني قال: (هل من مستشف فأشفيه؟). والرد على ذلك: أن فضل الليلة أو فضل اليوم لا يستلزم إنشاء عبادة، وهناك نظائر من الشرع في ذلك؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد ثبت فضل ليلة الجمعة، وثبت فضل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه مات وفيه تقوم الساعة)، وخير الأيام: هو يوم عيد المسلمين، وخير أيام السنة على مدار الأسبوع كله هو يوم الجمعة، بل ليلة الجمعة هي من أفضل الليالي، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إفراد يوم الجمعة بصيام، بل ونهى عن إفراد ليلة الجمعة بقيام، فهذا ثبت فضله وثبت النهي عن الاجتهاد في العبادة فيه، فلا يستلزم أصولياً لثبوت الفضل ثبوت العبادة، إذ إن الأصل في العبادات التوقيف، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فهذه الشبهة ترد على أصحابها فنقول: ثبت الفضل ونحن مع الفضل ندور، لكن لا ننشئ عبادة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان خيراً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لفعله أبو بكر، ولفعله عمر. فهذه بدعة مميتة أيضاً من بدع شعبان، نربأ بأنفسنا أن نفعلها حتى لا نذادَ عن الحوض، وأي امرئ قد وقع في بدعة ضلالة، وقد بين له أهل السنة وأقام الحجة عليه من يعلم بهذه السنة ولم يتبع، فهذا مصدود مردود عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم. وصلِّ اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عذاب القبر ونعيمه

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - عذاب القبر ونعيمه القبر هو أول منازل الآخرة، وهو البداية الحقيقية لرحلة الدار الآخرة، فإن كانت سهلة وهيّنة هان وسهل ما بعدها، وفيه يسأل العبد عن ربه ودينه ونبيه، فإن أحسن الإجابة أنعم الله عليه في قبره، وإن أخفق أتاه العذاب الشديد والعياذ بالله. والنعيم والعذاب في القبر يكون على الروح وأيضاً على البدن أحياناً، والله على كل شيء قادر.

الموت أول منازل الآخرة

الموت أول منازل الآخرة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الحمد لله الذي هز بالموت عروش القياصرة، وقصم ظهور الجبابرة، وأرغم أنوف المتجبرة، فالموت أول منازل الآخرة. سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين إذا نزلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير، وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب. روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]). وروى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من دفن الرجل وقف على قبره وقال: (استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل). وروى بسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار، يقال له: هذا مكانك إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (ما من عبد يموت إلا وعرضت روحه إن كان من أهل الجنة على الجنة، وإن كان من أهل النار على النار) إلى آخر الروايات التي ساقها في مساق الكلام على الإيمان بالغيب. الموت هو أول منازل الآخرة، فالذي يطلب الرضا من ربه جل وعلا والتقرب إليه فلا بد أن يستعد للرحيل.

مباحث الكلام عن الموت

مباحث الكلام عن الموت الكلام على الموت سيكون في أكثر من مبحث. أولها: الكلام على الموت والاستعداد للرحيل. المبحث الثاني: نزول القبر، وما يتعلق به من ضمة القبر، وهل هي عامة أم خاصة؟ وسؤال القبر، وهل سؤال القبر خاص بهذه الأمة أم لغيرها من الأمم؟ وهل يختص أحد بعدم سؤاله في قبره؟ المبحث الثالث: عذاب القبر ونعيمه وإثبات ذلك بالدليل، والرد على المخالفين الذين قالوا: لا عذاب ولا نعيم في القبر، ثم الحديث عن أنواع عذاب القبر. ثم نتكلم: هل العذاب على الروح فقط أم على الاثنين معاً؟ والخلاف في ذلك. ثم نبحث عن مسألة تزاور الأموات بعد الموت. ثم بعد ذلك نختم بأمرين: الأمر الأول: سماع الموتى: فهل يسمعون كل أحد أم سماعهم خاص أم أنهم لا يسمعون أبداً؟ الأمر الثاني: ما الذي يبلى في القبر؟ هل كل إنسان يبلى في القبر؟ فهل يبقى منه شيء؟ وهل بعض الناس لا تبلى أجسادهم في القبر؟

لكل إنسان أجل محدد معلوم عند الله

لكل إنسان أجل محدد معلوم عند الله الموت هو أول منازل الآخرة: فما من أحد إلا وسيموت وسيقبض وسيأتيه أجله، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، وقال جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] فهذا تنصيص على أن الموت لا يفوت أحداً، وأن هذا الكأس كل منا سيشربه، وإذا كان كل واحد منا سيموت وسيقبض فله أجل مضروب ومعلوم، ومقدر ومكتوب في اللوح المحفوظ. صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمع أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها تقول: اللهم! متعني بزوجي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتعني بأبي: أبي سفيان، ومتعني بأخي: معاوية بن أبي سفيان، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد سألت الله جل وعلا آجالاً مضروبة وأرزاقاً مقسومة، وآثاراً موطوءة لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر، ولو أنك سألت الله جل وعلا أن يعافيك من عذاب الآخرة وعذاب القبر لكان خيراً لك). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين أن لكل أجل كتاب، وأن كل إنسان لا بد أن يموت في وقته، قال الله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38]، وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]، فالأجل مضروب ومكتوب ومعلوم، والمرء لا يتقدم ولا يتأخر عما كتب من أجله كما في الحديث أن الملك يقول: (أي رب! ذكر أم أنثى؟ أي رب! كم عمره؟) فيكتب العمر، وصحائف الملائكة يمكن أن تتغير فيها هذه الثوابت، لكنها في اللوح المحفوظ قد كتبت، وعلم عمر المرء ومدة حياته، لكن الله جل وعلا بحكمته لم يبين للناس متى سيموتون، فما اطلع أحدنا على الغيب، ولا علم متى سيموت، والحكمة في ذلك: أن يجتهد المرء؛ ليصل إلى ربه وإلى طاعة ربه وإلى رضا ربه باجتهاد عالٍ، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]؛ لأنه إذا جهل أجله فإن الله جل وعلا مد له حتى يجتهد في عبادته. قال ابن عيينة مترجماً لبعض رواة الحديث: هذا الراوي لو قيل له: ستموت غداً ما زاد في عبادته شيئاً؛ لأنه كان يجتهد اجتهاداً عالياً، حتى يصل إلى ربه جل وعلا وهو مجتهد في عبادته، طائع لربه متذلل متمسكن لله جل وعلا. وكان عمر بن الخطاب ينصح الأمة، ينصح الصحابة الكرام، وينصح التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بأن يجتهدوا في العبادة، فإنهم حتماً راجعون إلى الله جل وعلا، فقال: قد ارتحلت الدنيا مدبرة، وقد ارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. وكان يقول رضي الله عنه وأرضاه: إن الدنيا تطلعت مدبرة، وتطلعت الآخرة مقبلة، فعليكم بالجد والسعي. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقبض على لحيته ويقول: يا دنيا! غري غيري طلقتك ثلاثاً. وكان بعضهم ينشد ويقول: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا والموت هو من أقوى دواعي استكمال إيمان العبد، إذ إن الله جل وعلا قد علق الفلاح والهدى بالإيمان بالغيب، فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4 - 5]، فربط الفلاح والهدى بالإيمان بالغيب. أول المباحث: بعدما يموت المرء، ويأتي الملكان فيسحبان روحه، فإن كان من المؤمنين جاء الملك بكفن وحنوط من الجنة، وطيب من الجنة، فأخرج روحه بسهولة، فتخرج فيرتقي بها الملك إلى السماء فتقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ أو يمدحون هذه الروح ويسألون عنها، فيقال: فلان بن فلان بأحلى وأجمل أسمائه التي كان يحبها في الدنيا، ثم يصعد إلى السماء السابعة فيقال: (صدق عبدي فاكتبوا كتاب عبدي في عليين). أما إن كانت الأخرى والعياذ بالله فيكون حنوط من النار وكفن من النار، فيأخذها الملك ويصعد بها إلى السماء بأنتن ريح فتقول الملائكة: ما هذه الريح النتنة؟ فيقال: فلان بن فلان بأبغض أسمائه، ثم يصعد إلى السماء السابعة فيقال: (قد كذب عبدي فاكتبوا كتاب عبدي في سجين) فبعد أن يموت المرء ويكفن ثم ينقل إلى القبر، وتبقى روحه فيبشر فإن كان من أهل الإيمان كأنه ينادي ويقول: قدموني قدموني، وإن كان من أهل الكفر والعصيان والعياذ بالله فيقال: (يا ويليها إلى أين تذهبون بها؟) فالأحاديث أثبتت أن كل الخلائق تسمع هذا، كل الخلائق من شجر وحجر وثمر وطير إلا الثقلين: الجن والإنس، وإلا لما كان للغيب فائدة، ولذلك نصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (أسرعوا بالجنازة) وبين العلة في ذلك: (إن كان خيراً قدمتموها إليه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن أكتافكم).

ضمة القبر

ضمة القبر نأتي إلى المبحث المهم وهو: أول شيء القبر الميت هو القبضة التي تختلف منها الأضلاع ولا يستثنى من ذلك أحد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم بين وأشفق على عبد صالح اهتز عرش الرحمن لموته وهو سعد بن معاذ كما ورد في بعض الأحاديث وصححه بعض العلماء: (إن العرش اهتز فرحاً بقدوم سعد بن معاذ) فعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للقبر ضمة إذا نجا منها أحد نجا سعد بن معاذ) رواه أحمد في مسنده، وصححه بعض العلماء، يعني: هذه الضمة لا ينجو منها أحد، ولو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ، وفي حديث آخر فيه ضعف (أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد طفلاً يقبر فأشفق عليه من ضمة القبر). قال بعض العلماء الأفاضل: إن هذه الضمة بالنسبة للمؤمن كضمة الأم الحنون لابنها عطفاً عليه، وهذا بعيد، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم أشفق على سعد وقال: (لو نجا منها أحد -أي الضمة التي تختلف منها الأضلاع- لنجا سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه، وما الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشفق على طفل كما روي ما دامت ضمة الأرض له كضمة الأم الحنون؟! بل هي ضمة فيها آلام لكنها تتفاوت في القوة بين المؤمن الخالص وبين الفاسق وبين المسلم وبين الكافر، فالكافر تتمزق وتختلف أضلاعه، فأول ما يحدث له عند نزول القبر هو هذه الضمة.

أحاديث في ذكر فتنة القبر

أحاديث في ذكر فتنة القبر بعد الضمة يأتي إليه ملكان يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ وورد في ذكر فتنة القبر أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر، وأنكرها كثير من المعتزلة وأهل الكلام كما سنبين. من هذه الأحاديث: حديث البراء الطويل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل المرء إلى قبره جاءه ملكان فيقعدانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيك؟ فإن كان من المؤمنين قال: ربي الله، وديني الإسلام، وعن الرجل يقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: صدقت، أما إن كان من الآخرين فيقول: ها، ها، لا أدري، فيضرب ضربة يصعق منها كل الخلائق إلا الثقلين، فيقال له: لا دريت ولا تليت) وهذا الحديث يثبت سؤال الملكين. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الملكين بأنهما أسودان أزرقان، تتصدع القلوب وترتجف من هول الموقف، لا يستطيع أن يثبت في هذه الفتنة إلا من ثبته الله؛ ولذلك ارتجفت قلوب الصحابة لما علمت بمنكر ونكير وعندما علمت بسؤال الملكين، فالله جل وعلا طمأن قلوبهم بهذه الآية العظيمة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] فأول منازل الآخرة القبر، فإن الله يثبت ويلهم الحجة المؤمن الخالص الذي تعبد لله في الدنيا، وتعرف إلى الله في الرخاء فعرفه الله في الشدة. ومن الأحاديث التي تثبت سؤال الملكين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ما أُدخل أحد القبر إلا وقال: (سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) فهذا نص يبين سؤال الميت في قبره. وورد حديث عام في الصحيحن عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما دخلت عليها اليهودية تبين لها فتنة القبر فاستنكرت ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما دخل عليها وعرضت عليه كلام اليهودية (إنكم تفتنون في قبوركم) والفتنة عامة من سؤال ومن عذاب، وهذا يدل على أن الملائكة تسأل العبد في قبره. وقد أنكر بعض المبتدعة سؤال الملكين في القبر، وأنكروا عذاب القبر، وسنبين الشبه التي احتجوا بها، لكن الخلاف بين أهل السنة والجماعة: هل سؤال الملكين على الروح أم على البدن أم على الروح والبدن؟ القول الأول لجمهور أهل السنة والجماعة: أن سؤال الملكين للميت يكون على الروح وعلى البدن؛ لأن الأحاديث صرحت أن روح المرء ترجع إلى جسده عندما يقبض، فيأتي الملك فيجلسه بروحه وجسده ويسأله فيجيب بروحه وجسده، والأحاديث في ذلك كثيرة. أما ابن حزم فقال: السؤال لا يكون إلا على الروح، وفي قول للإمام أحمد بن حنبل، أن السؤال لا يكون على الروح بل يكون على البدن. قال ابن حزم: الأحاديث التي أثبتت نعيم أو عذاب تثبت أن ذلك على الروح، وأن أرواح الشهداء كحواصل طير خضر تعلق من أشجار الجنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في روح المؤمن: (نسمة كطائر تسرح في رياض الجنة)، فكل الأحاديث جاءت على الروح ولم تأت على البدن، وخالف ذلك أحمد بن حنبل وقال: السؤال لا يكون إلا على الجسد، واستدل على ذلك أن الضرب والعذاب يكون على الجسد، والله قادر أن يجعل الجسد ينطق كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] وبين الله جل وعلا في أكثر من آية أن الأيدي تتكلم وأن الأرجل تتكلم وأن الله يختم على الأفواه، فالله قادر على أن يجعل السؤال للجسد والجسد هو الذي يجيب. والصحيح الراجح في ذلك: أن السؤال على البدن وعلى الروح، وأن الروح ترجع إلى الجسد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروح ترجع إلى الجسد، ثم يجلس فيسأله الملك فيجيب.

الأصناف المستثنون من فتنة القبر

الأصناف المستثنون من فتنة القبر هل سؤال الملكين عام أم خاص؟ يعني هل يشمل كل الناس أم يستثنى منه أناس؟ نقول: هذا السؤال عام في كل الأمم، في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي اليهود من باب أولى أما في اليهود فبالنص؛ لأن يهودية قالت لـ عائشة: ((تفتنون في قبوركم)) فهذه اعتقدت أنهم سيفتنون في القبور، والأمم السابقة أيضاً تفتن بقياس الأولى، إذ إن الله جل وعلا رفع الأغلال ورفع الآصار عن هذه الأمة، وهذه الأمة مرحومة تعمل عملاً قليلاً وتأخذ أجراً كبيراً، فإن كانت ستفتن في قبرها فمن باب أولى الأمم الأخرى. والمستثنى من السؤال أو من فتنة القبر أصناف من الناس: الصنف الأول: الشهداء -جعلنا الله وإياكم منهم- فالشهداء يقيهم الله جل وعلا فتنة القبر العظيمة الشديدة، فالملكان الأسودان الأزرقان، اللذان ترتجف وتتصدع القلوب والأفئدة من هول ذلك الموقف، ينجي الله جل وعلا الشهيد من هذه الفتنة ولا يسأل في القبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألوه: (يا رسول الله! ما بال الناس يفتنون في قبورهم ما عدا الشهداء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى ببوارق السيوف فتنة) والعلة في ذلك: أن سؤال الملكين في القبر هو اختبار لصدق المرء، هل آمن بصدق أم كان من المرتابين أم كان من المنافقين؟ والشهيد قد بين وأظهر صدقه بأنه بذل روحه فداء لهذا الدين، وإرضاءً لله جل وعلا، ولذلك ألحق بعض العلماء الصديقين مع الشهداء، وقالوا: إن هذا من باب أولى، وفيه نظر؛ لأن القياس في الغيبيات لا يصح، فالغيبيات لا يصح فيها إلا النقل لا العقل، لكن بدقة النظر للعلة نجد أن السؤال هو اختبار للصدق، والصديق قد ظهر صدقه من أول إيمانه فهذا لا يسأل في القبر وإن كان في الأمر نظر. الصنف الثاني: المرابطون على ثغور الإسلام. فهؤلاء نجاهم الله من فتنة القبر كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر ومن قيامه، فإن مات أجري عليه عمله ورزقه وأمن الفتان) أي: أمن فتنة سؤال القبر، فهنيئاً لمن يرابط على ثغور المسلمين فهو يؤمَّن من فتنة القبر أيضاً. الصنف الثالث: الأطفال؛ لأن السؤال في القبر من أجل التكليف والاختبار والصبي ليس بمكلف فلا سؤال للصبي. الصنف الرابع: المبطون، فإن المبطون شهيد، وهو يلحق بالشهيد، وقد وردت الآثار بأن الذي مات بداء البطن يؤمَّن من فتنة القبر. الصنف الخامس: الذين يقرءون سورة تبارك كل ليلة، وهذا يكون على حسب الديمومة. وكذلك الذي يستديم قراءة سورة البقرة كل يوم وليلة يؤمَّن من فتنة القبر أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن سورة الملك: (هي المنجية هي المانعة) أو قال: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها من عذاب القبر) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. الصنف السادس: من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، فهذا من الذين يؤمنهم الله جل وعلا من فتنة القبر.

عذاب القبر ونعيمه

عذاب القبر ونعيمه ثبت عذاب القبر بالكتاب والسنة، ويصح أن نقول: وبالنظر أيضاً. أما الكتاب فقد الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، والشاهد هو ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) إذاً النار التي يعرضون عليها غدواً وعشياً هي قبل يوم القيامة. الدليل الثاني: قول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]، فسر ابن مسعود وغيره من الصحابة العذاب الأدنى: أنه عذاب القبر. وقول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] الفاء هنا للتعقيب والسرعة، والتعقيب والسرعة لا يناسبها يوم القيامة بل يناسبها بعد الموت، فقد أغرقوا فماتوا فأدخلوا النار، وهذا يدل على أنه في البرزخ. ومن الأدلة على عذاب القبر ونعيمه من السنة عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفتنون في قبوركم) كما في الصحيحين. والحديث الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل منكم إلا ويعرض له مقعده: إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، يعرض له مقعد من أهل الجنة يأتيه من طيبها وريحها وإن كان من أهل النار يأتيه من أهل النار حتى يبعث يوم القيامة). وحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن ابن عباس: (أنه مر بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان بكبير، بل هو كبير، أما الأول: فكان لا يستتر -أو لا يستنزه- من بوله، وأما الثاني: فكان يمشي بين الناس بالنميمة) فسمع النبي صلى الله عليه وسلم عذابهما في القبر. وفي الحديث أن الملك يأتي بمطرقة يضرب بها بين عيني المرء فيهوي به إلى سبع أرضين، فيه دلالة على عذاب القبر. وأما نعيم القبر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان من أهل الجنة فيفتح له باب من الجنة) فيشم رائحة طيب أهل الجنة ويرى فيها نعيم أهل الجنة. وبهذا يكون قد ثبت عذاب القبر ونعيمه من الكتاب ومن السنة.

الرد على من ينكر نعيم القبر وعذابه

الرد على من ينكر نعيم القبر وعذابه خالف في عذاب القبر ونعيمه المعتزلة وكثير من الناس في هذه العصور الذين يقولون: إنك ترى النبي صلى الله عليه وسلم في وقتك الحاضر يقظة، ومن أهل الاعتزال الذين يقدمون العقل على النقل الذين قالوا: لا عذاب في القبر ولا نعيم، وعندنا من الأدلة من الأثر ومن النظر. أما من الأثر: فيستدلون بقول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] ويقولون: إن المقبور لا يعذب ولا ينعم؛ لأن الله جل وعلا قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]. ووجه الدلالة: أنهم يقولون: إن الآية فيها نص صريح: أنه لا يموت إلا موتة واحدة فإذا نزل قبراً فعادت روحه إلى جسده فسئل فبعدما سئل عذب أو نعم ثم مات مرة ثانية، فهذه موتتان، وهذا يعارض هذه الآية. الأثر الثاني الذي استدلوا به على أنه لا عذاب ولا نعيم في القبر قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقال الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] فقد ثبت بالدليل الصحيح أن الميت لا يسمع، فكيف نقول: إنه لا يسمع، ثم يجيب، فهو لا يسمع السؤال أصالة فلا يصح أن يجيب الإجابة. هذا ما استدلوا به من الأثر، أما من النظر فقالوا: نحن نرى المصلوب أمامنا شهوراً ولا نرى عذاباً ولا نرى نعيماً ولا نرى عليه أثر من سؤال الملكين، ولا شيء مما تقولون، فهذه أدلة من الأثر ومن النظر ترد على من قال بأن في القبر عذاباً وأن في القبر نعيماً. وقد أثبتنا بأن في القبر عذاباً وفي القبر نعيم، وإذا وافقتم على هذا واعتقدتم هذا وجب عليكم الرد على المخالف، والمخالفون اليوم كثر، والمعتزلة صورها كثيرة في هذه العصور، ويظهرون على شاشات التلفاز، فكثير من الناس ينكرون عذاب القبر وسؤال الملكين علناً أمام الناس، فكيف يكون الرد على هذه البدعة المميتة؟ فهم ينكرون حتى الدجال لكن الكلام هنا على أمر ثابت وراسخ في العقيدة وهم ينكرونه، فما من صاحب بدعة إلا وله دليل من الكتاب أو من السنة كما بينا ذلك كيف نرد عليهم؟ نحن الآن أثبتنا أنه ثمة عذاب وثمة نعيم في القبر؛ لأنه أول منازل الآخرة، وهم ردوا علينا وقالوا: لا عذاب ولا نعيم، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] فإن قلتم بعذاب أو نعيم في القبر ففيها حياة ثم موت ثم بعد ذلك حياة ثم موت، وبذلك تكون موتتان والله نصَّ على موتة واحدة، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ} [الدخان:56]. والجواب على هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: نقول لهم: نحن نوافقكم على هذه الآية وأن ما يحدث في القبر ليس بموت، بل هو نوم، والنوم يسمى موتاً مجازاً كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] والحديث صريح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المستبشر بالخير: (فيقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة فيقال له: نم -لم يقل له مت- كنوم العروس) فهذه نومة وليست موتة وتسمى موتة مجازاً، فتبقى الآية على صريحها أنها ليست إلا موتة واحدة التي هي موتة الدنيا ونحن نوافق على ذلك. ويبين لنا ذلك أيضاً حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما يستقيظ من نومه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) فسماها موتة مع أنها نومة، فأصبح النوم هنا بمعنى الموت مجازاً، فالذي يحدث في القبر ليس بموت، ونحن نوافق على هذه الآية، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] التي هي موتة الدنيا، وهذه ليست بموتة ولكنها نوم. الوجه الثاني: أن الاستثناء في هذه الآية استثناء منقطع {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] وهذا كلام عن أهل الجنة، فإذا دخلوا الجنة لا يموتون، ولا يكون لهم موت، وإلا فقد وردت الأدلة على أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار صاروا حمماً فماتوا، فتكون الآية خاصة بمن دخل الجنة وأنه يتنعم ويتلذذ فلا يموت بعد ذلك، فإذا دخل الجنة فلا موت له، بل يعيش في نعيم وخلود أبدي، فإنه يذبح الموت على عرصات يوم القيامة، ثم يقال: (يا أهل النار! خلود بلا موت، يا أهل الجنة! خلود بلا موت) هذا الوجه الثاني في الرد عليهم. أما الدليل الثاني الذي استدلوا به علينا وقالوا لا عذاب ولا نعيم في القبر فهو قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقول الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] فكيف يجيب وهو لا يسمع؟ وقالوا: أنتم زعمتم أنه يأتيه ملكان فيقعدانه ويسألانه وهو لا يسمع فكيف سيجيب؟ فنرد عليهم ونقول: قال الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] فإذا كان الرسول لا يُسمِعُ الموتى، فإن المَلَك سيُسمعه، فنفي السماع عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] نفى الله جل وعلا قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على إسماع الميت، ولكن الله قادر على أن يجعل الملك يسمع هذا المقبور. الأمر الثاني: السماع سماعان: سماع إجابة وسماع على الإطلاق بالآلة، فسماع الإجابة: أن يسمع فيجيب، وهذه منفية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يسمعون ولا يجيبون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل قليب بدر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر: يا رسول الله! تكلم الأموات؟) يعني: كيف يسمعونك؟ فقال: (ما أنتم بأسمع منهم الآن) يعني: إنهم يسمعونني أشد مما تسمعون أنتم، لكنهم لا يجيبون وليس لهم القدرة على الإجابة، فإذاً: النفي هنا نفي سماع الإجابة ولا إشكال فيه. السماع الثاني: إذا قلنا: نفي السماع الكلي المطلق فهو نفي عن قدرة النبي أن يسمعهم ولا تستلزم نفي أن الملائكة يعطيهم الله قدرة فيُسمعوا الميت المقبور فيسألانه حتى يجيب، وهذا الرد على الدليل الثاني من الأثر. أما دليلهم الثالث والذي هو من النظر: فقالوا: وجدنا المصلوب أمامنا ميتاً وهو لا يسأل ولا يضرب ولا يعذب ولا ينعم، تأتي إلى من يصلب أمامك فهل ترى فيه تغييراً؟ وهل ترى فيه عذاباً؟ وهل ينزل إلى سابع أرض؟ وهل تأتيه الحيات فتعذبه؟ لا ترى ذلك، والذين قتلتهم الكلاب والسباع والحيتان أين عذابهم؟ وكيف سؤالهم؟ حتى قال بعضهم من المتأخرين: وضعنا السماعات في القبر فما سمعنا أسئلة، وما سمعنا أجوبة، وما سمعنا عذاباً، فكيف تقنعوننا بهذا العذاب؟! فهذا هو نظرهم فكيف نرد عليهم؟ سأؤصل لكم أصلاً مهماً جداً لطالب العلم وهو أن الدور ثلاثة كل دار لها حكم يختص بها وهي: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، فدار الدنيا لها أحكام، وأحكامها تقع على البدن والروح تكون تابعة، كالسارق الذي تقطع يده، فهذه على البدن وهو يتألم معنوياً، فالروح تابعة. ودار البرزخ تقع أحكامها على الروح والجسد يكون تابعاً، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة). الدار الثالثة التي لها حكم خاص هي: دار الآخرة، ودار الآخرة تجمع الشمل، فدار الآخرة تقع أحكامها على البدن وعلى الروح خلافاً للنصارى الذين يعتقدون أن المتعة في الآخرة لا تكون إلا معنوية، وأن العذاب لا يكون إلا معنوياً، وهذه عقيدة الشيخ أحمد ديدات غفر الله له ذلك، فهو يعتقد هذه العقيدة، ولذلك ننصح من يناظر النصارى أو يحاول أن يدعو الكفار أن يكون متقناً لشريعته أولاً ثم يتطلع بعد ذلك لأصحاب الأديان الأخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من تعمق في دينه فليناظر أهل الأديان الأخر، فهو يعتقد هذه العقيدة: أن النعيم الأخروي نعيم معنوي، وأن العذاب الأخروي عذاب معنوي، والصحيح الراجح: أن النعيم والعذاب يقع على البدن ويقع على الروح. هذا التأصيل مهم جداً يصاحبنا في الرد عليهم، فنقول: إن هناك اختلافاً في الحياتين، فلا يقاس أمر الدنيا على أمر البرزخ؛ لأن هذه حياة لها أحكام خاصة بها، وهذه حياة لها أحكام خاصة ومثال ذلك: إذا دخلت على رجلين نائمين: الأول: يرى رؤيا أنه في جهنم يأخذ من صديدها، ويشرب من حميمها - والعياذ بالله- ويعذب في نار جهنم وتراه يتحرك كأنه يتعذب في نار جهنم، والآخر: يرى أنه في رياض الجنة يسرح، ويعانق حور العين، ويتمتع بالثمار والأنهار، ويشرب من اللبن ومن الخمر، وأنت واقف بينهما لا تعرف ماذا يحدث لهذا وماذا يحدث لهذا؟ وكذلك عندما تقف أمام المصلوب فهو يعذب وينعم وأنت لا تدري. وكذلك في الدنيا -من باب قياس الأولى- فعند خروج الروح يأتي الملك فيضربه، يقول الله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] وأنت لا ترى ذلك، وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:85 - 87] هذا في الدنيا وليس في البرزخ فقبل أن يموت تأتي الملائكة إلى الميت لتسحب روحه وأنت لا ترى ذلك، أما الفاسق أو الكافر فيضرب على وجهه وعلى ظهره قال تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وأنت لا ترى ولا تسمع ذلك، فهذا من ناحية النظر والقياس، وهذا قياس مع الفارق، ولا بد في القياس أن يكونا متماثلين، والأصل والفرع هنا غير متماثلين.

أنواع العذاب في القبر

أنواع العذاب في القبر أنواع العذاب متنوع، وعلى الراجح أن العذاب يكون على الروح تارة، وتارة على البدن. النوع الأول: العذاب بالمطرقة فقد دلت الأحاديث على ذلك: أن ملكاً يأتي بمطرقة لو اجتمع الثقلان على حملها لا يستطيعون ذلك، فيضرب ضربة بالمطرقة يصرخ صرخة يسمعها كل الخلائق إلا الجن والإنس. النوع الثاني من أنواع العذاب: الحيات، فيسلط الله عليه حيتين كما في حديث أحمد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن الرجل إذا أُدخل في قبره وكان من أهل الفسق أتته حيتان: حية عند رأسه وحية عند رجله فيقرصانه وينهشانه حتى يجتمعا عند وسطه). النوع الثالث من العذاب: أن يسبح في نهر من الدم، وهذا يختص بآكل الربا -والعياذ بالله- كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يسبح في نهر من الدم ويلقم حجراً إذا وصل إلى أول النهر حتى يصل إلى آخره ويرجع ويسبح في نهر من الدم. ومن أنواع العذاب التي تقع في القبر التنور، وهو تنور الزناة والعياذ بالله، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

خلاف العلماء في عذاب الروح أو البدن في البرزخ

خلاف العلماء في عذاب الروح أو البدن في البرزخ هل عذاب البرزخ يكون على الجسد أو البدن؟ فيه أقول: القول الأول: قال به طائفة من أهل العلم ومنهم ابن حزم أن النعيم أو العذاب لا يكون إلا على الروح، ويستدل بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (روح المؤمن طائر يطير في رياض الجنة) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء كحواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة). وأيضاً ورد في تفسير قول الله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] قال ابن مسعود: (الفجار) أي الكفار أرواحهم في حواصل طير سود تطير بهم في الجحيم في سابع أرض في سجين، في الأرض السابعة. القول الثاني: أنه على البدن لا على الروح، وهذا لازم قول الإمام أحمد بن حنبل؛ لأنه قال: لا يسأل إلا البدن، فلازم قوله أنه لا يقع النعيم أو العذاب إلا على البدن، ويستدل لهم أيضاً بحديث المطرقة وحديث الحيات؛ لأن هذا العذاب لا يكون إلا على الجسد فقط. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية القول الثالث وهو الصحيح، وقد جمع شمل الأدلة، قال: يقع العذاب والنعيم تارة على البدن، وتارة على الروح، وتارة على البدن والروح؛ لأن المفارقة لا تكون كلية حتى ولو أن الجسد بلي، فالأجساد إن بليت يشعر بالألم عجب الذنب فقط، وأما الأحاديث التي استدل بها من قال بالروح، والأحاديث التي استدل بها من قال بالبدن فالذي يجمع بينها حديث الإسراء والمعراج، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسبح في البرزخ، فهذا فيه عذاب البدن والروح، بل ورأى عمرو بن لحي وهو في النار قال: تندلق اأقتابه وهو يدور حول أمعائه؛ لأنه سيب السوائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم رآه جسداً وروحاً، ورأى كذلك الزناة والمرأة التي تعلقت من ثديها وتحتها نار، فهذا إشعار بأن النعيم والعذاب يقعان على البدن والروح.

تزاور الأموات

تزاور الأموات وردت بعض الآثار أنه عندما يقبر الميت وينزل إلى قبره يجتمع عليه أهله ومقربوه وأحبابه وأصحابه يسألون عن أهل الدنيا، ماذا فعلوا؟ فإن كان من أهل النار والعياذ بالله وكانوا من الصالحين يقول لهم: أما أتاكم؟ فيقولون: ويل أمه، إنه قد ذهب به إلى أمه الهاوية، وهذه الآثار كثيرة جداً ولكنها آثار ضعيفة. أما التزاور فقد ورد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يتزاورون على أكفانهم) فالأب يتزاور مع ابنه ومع أخيه ومع عمه ومع خالته، فيحدث التزاور بينهم، لكن إذا أثبتنا التزاور فهل يقع التزاور من الروح والبدن كما قال: (في أكفانهم) أم الأرواح فقط؟ الراجح: أن التزاور لا يكون إلا بالأرواح في رياض الجنة فيذهبون ويروحون ويجيئون ويتزاورون في رياض الجنة بالأرواح، وإذا كانت الزيارة بالأرواح فأين يتزاورون؟ فنقول: الأرواح متفاوتة كما أن الأبدان متفاوتة والأعمال متفاوتة، فأرواح الأنبياء في عليين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! الرفيق الأعلى، اللهم! الرفيق الأعلى) وأرواح الصديقين والشهداء في حواصل طير يسبحون في رياض الجنة، وأرواح المؤمنين الذين ليسوا بشهداء كالطير ليسوا في حواصل طير، بل كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: نسمة كالطير أو هي طير تسرح أيضاً في رياض الجنة، فهؤلاء يتزاورون في أماكنهم، وأرواح الأطفال في حواصل عصافير يكفلهم إبراهيم عليه السلام وهم في الجنة، أما أرواح الكافرين فإنهم في حواصل طير سود يأكلون من النار والعياذ بالله، فأهل الصلاح الذين هم في علو أهل الشهادة يتزاورون في رياض الجنة، والمؤمنون الخلص أيضاً يتزاورون هناك، وبعض المؤمنين يُحبسون وتقف أرواحهم على أبواب الجنة؛ يحبسهم عن الجنة الدَين أو غيره، وردت أدلة أثبتت أن المرء يحبس في قبره بدينه، وغيره من الأفعال التي فعلها تحبسه عن الجنة، فهؤلاء لا يتزاورون في الجنة، لكن إن كانوا على أبواب الجنة فهم يتزاورون على أبواب الجنة.

سماع الأموات

سماع الأموات اختلف العلماء في سماع الأموات على قولين: القول الأول: قول جمهور أهل السنة والجماعة وهو: أن الأموات لا يسمعون، واستدلوا على ذلك بالنفي العام المطلق في قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقول الله جل وعلا: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]. القول الثاني لطائفة من أهل السنة والجماعة: أثبتوا لهم السماع، واستدلوا على ذلك بأحاديث، فالحديث الأول حديث قليب بدر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)؟ فبين لـ عمر أنهم يسمعون، وقال: (ما أنتم بأسمع منهم) في هذه اللحظات. وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليسمع قرع نعالهم)، يسمع قرع النعال فهو يسمع. ووردت أحاديث أيضاً كلها ضعيفة، لكن يعضد بعضها بعضاً أن المرء إذا مر على قريبه في القبر فسلم عليه وقال: السلام عليكم رد الله عليه روحه فرد عليه السلام، فهذه دلالة على أنه يسمع السلام ويرد أيضاً السلام. والراجح من هذه الأقوال: هو قول جمهور أهل السنة والجماعة أن الأموات لا يسمعون، والجمع بين النفي العام المطلق هذا وبين الأحاديث التي أثبتت النفي بأن نقول: هذا خصوص من عموم، فإنهم لا يسمعون مطلقاً إلا في حالات: الحالة الأولى: عندما يقبر ويولي عنه فإنه يسمع قرع النعال. الحالة الثانية: عندما يسلم عليه فيرد الله عليه روحه، وأنا أشك في هذا؛ لأن معنى أن الله يرد عليه روحه أنه لا فرق بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا أشك في هذه المسألة، والأسانيد التي وردت في رد السلام كلها ضعيفة، وإن كان لها أصل. الحالة الثالثة: أنه لا يسمع إلا الملك الذي يسأله، وقصة قليب بدر خاصة بقليب بدر، تسلية من الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم وتبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً للذين عاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع دعوته.

الذين لا تبلى أجسادهم في القبر

الذين لا تبلى أجسادهم في القبر الأجساد التي لا تبلى في القبر أجساد الأنبياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وكذلك أجساد الشهداء، فقد وردت آثار كثيرة جداً أن أجساد الشهداء لا تبلى، فإن عبد الله بن حرام أبو جابر رضي الله عنه وأرضاه لما قتل في أحد، بعد ستة أشهر كشف عنه جابر فوجده كما هو إلا تغير يسير في أذنه، وفي خلافة معاوية أيضاً عندما أراد أن يجري عيناً من أحد، فمر بها على قبور شهداء أحد، فنبشوا ووجدوهم كما هم، وأصيبت رجل حمزة رضي الله عنه وأرضاه فأدمت، وهذا فيه دلالة على أنه كما كان، وكان الدم حاراً. وعمر رضي الله عنه وأرضاه وجد جسد دانيال النبي الكريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام فعمى قبره على الناس، والمقصود: أنه وجد جسده كاملاً، فقد حرم الله جل وعلا على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. وشيء واحد فقط لا يبلى من جميع الناس وهو عجب الذنب كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعند قيام الساعة الله جل وعلا يأمر السماء فتمطر مطراً يشبه المني، فينبت المرء منه من عجب الذنب، فعجب الذنب أيضاً لا يبلى ولا يفنى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

البعث والنشور

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - البعث والنشور أخبر الله تعالى بالبعث من بعد الموت، ودلل على ذلك بأدلة هي في الأصل أقيسة عقلية كقياس الأولى وقياس المثل ودليل المشاهدة وغيرها لتقوم على الناس الحجة في ذلك، وبين سبحانه أحوال الناس بعد البعث وعند العرصات، وأصناف الناس عند العرض عليه سبحانه وتعالى، فعلى المرء أن يؤمن بذلك، وأن يستعد له بالأعمال الصالحة.

الخلاف في عدد النفخات في الصور

الخلاف في عدد النفخات في الصور إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: ففي كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي تكلمنا عن مسألة الاحتضار ثم النزول إلى القبر وسؤال الملكين والاختلاف في ذلك وترجيح أن في القبر أسئلة من الملائكة، وأنه يكون فيه العذاب والنعيم، وبينا اختلاف العلماء في مسألة: هل العذاب والنعيم على الروح أم على البدن أم على الروح والبدن؟ ثم تكلمنا عن المنزلة الثانية من منازل الآخرة ألا وهي منزلة النفخ في الصور التي هي بداية الآخرة، وتكلمنا عن اختلاف العلماء في مسألة: هل النفخ نفختان أو ثلاث أو أربع؟ وذكرنا أن فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: قول من قال بنفختين. القول الثاني: قول شيخ الإسلام أنها ثلاث نفخات. القول الثالث: قول ابن حزم، فإنه قال بأربع نفخات، والصحيح: أن النفخ في الصور نفختان.

أدلة إثبات البعث

أدلة إثبات البعث البعث والنشور هو قيام الناس من القبور. ولعظم هذه المسألة وخطرها نوع الله وصنف الأدلة في كتابه الكريم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا وسيقف أمام ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، كل أعماله في صحائفه مسطرة، لا يغيب عن الله شيء منها ألبتة، وسيقف كل امرئ منا أمام ربه جل وعلا المحسن يجازى بإحسانه والمسيء يجازى بما عمل، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من المحسنين. والأدلة على البعث متنوعة، منها: الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا يبعث من في القبور، قال الله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، ثم بين الله جل وعلا ونوع الأدلة للناس حتى يستيقنوا أن البعث لا بد أن يكون للناس أجمعين، وهذه الأدلة كلها ضروب وأقيسة عقلية؛ ليطمئن القلب أن المرء لا بد أنه سيقف أمام ربه. النوع الأول من الأدلة التي هي ضروب وأقيسة عقلية: قياس الأولى أو القياس الجلي، فإن الله جل وعلا أمر العباد أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف خلق هذا الخلق الذي أبهر به العقول، فالسماء رفعها بغير عمد، والأنهار أجراها في هذه الأراضي، وأرسى الجبال الشم الشوامخ، كل هذه تدل على قدرة الله جل وعلا، وأمرنا الله أن نتدبر أخلق الإنسان أكبر أم خلق السماوات والأرض؟ أي عاقل لا يحتاج إلى أن يفكر ويتدبر؟ فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولذلك قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ} [غافر:57]، ثم بين الله جل وعلا هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله، فإذا خلق الأعظم فمن باب أولى أن يخلق الأقل منه، ولذلك قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف:33]؛ لأنه خلق الأعظم، فالأدنى أسهل أن يخلقه، وأيضاً قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ} [الإسراء:99]، فهذا يثبت أن البعث قائم، وأن الناس سيقومون حتماً من القبور إلى الله جل وعلا، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالله جل وعلا إذا خلق الأكبر فمن باب أولى أنه يستطيع أن يخلق الأقل والأصغر. النوع الثاني من الأدلة على البعث: قياس المثل، فإن الله جل وعلا ضرب لنا مثلاً عقلياً أيضاً، فالإنسان الصانع لو صنع سيارة بعقل مدبر ورسم الرسم التصويري لها ثم أخذ الآلات وركب هذه السيارة فجاءت بصورة معينة، وهو الذي ابتدأها وتعب حتى ابتدأها، فإذا هدمت هذه السيارة هل يسهل عليه أن يعيد مثلها أم لا؟ في الواقع المشاهد أن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده، فالله جل وعلا قرب لأذهاننا هذا المثل العظيم، فقال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال الله تعالى أيضاً مبيناً لنا ذلك: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، وقال جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]، فضرب لنا قياساً بديعاً هو: أن الإعادة مثل الابتداء، بل هو أسهل؛ لأن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده. النوع الثالث من أنواع الأدلة التي تدل على البعث، وأننا سنقوم أمام الله جل وعلا: واقع مشاهد، بين لنا الله جل وعلا أمراً مشاهداً وقال: أنتم ستقومون مثل هذا الأمر المشاهد، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]؛ فبين الله لنا أن الأرض القحلة الميتة إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت، فهذه دلالة على أننا سنقوم بعد الموت، قال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]. إذاً: الله سيحيي الموتى كما أحيا الأرض، ولكن كيف سيحيي الموتى؟ يبين الله لنا هذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تمطر السماء مطراً كالطل، أو كالظل أو كالظِل) وفي رواية: (كمني الرجل)، فالسماء هنا بدل أن تمطر ماءً ستمطر يوم القيامة ما هو أشبه بمني الرجل، فتمطر كمني الرجل مطراً، فينزل على عجب الذنب، وهو العظم الذي لا يبلى أبداً في الإنسان، فكل شيء في الإنسان يبلى بعد موته إلا عجب الذنب، فهذا العظم ينبت منه الإنسان عندما ينزل المطر، فكما ينزل المطر في الأرض، فتحيا الأرض والنبات فكذلك الإنسان ينزل عليه المطر كالمني فينبت من عجب الذنب، فيقوم الإنسان كما قامت هذه النبتة من الأرض. النوع الرابع: أن الله جل وعلا قال: أميت واحداً أمامكم وأحييه، حتى تستيقنوا أن هذه الإماتة والإحياء هي التي ستحدث يوم القيامة، فالله جل وعلا ضرب هذه الأمثلة الواقعة أمام بني إسرائيل، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، وأيضاً في حادثة البقرة لما قتل الرجل عمه وألقاه على قرية وذهب إلى أهل القرية وقال: قتله اليهود، فقتل عمه ليستعجل الميراث، ثم أخذ جثته وألقاها في قرية، وقال: أريد دم عمي، أو الفدية، أو دية عمي، فأنتم الذين قتلتموه، فحاروا فيه، فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة، إلى أن قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، فقام الرجل وقال: قتلني ابن أخي. فأحياه الله أمامهم عياناً، فهذه دلالة أيضاً على البعث. فهذه أدلة متنوعة تثبت لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، وكل منا سيقف أمام ربه، قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259]، وأهل الكهف أيضاً جعلهم الله مثلاً مضروباً ليتبين لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، إذاً: فالبعث قائم، والدليل عليه من الكتاب والسنة قائم جلي كالشمس الساطعة في رابعة النهار، فيستلزم منا ذلك أن نؤمن بهذا البعث، ونخلص أعمالنا لله جل وعلا حتى نقف أمامه بنظافة من كل دنس ومن كل رجس ومن كل سيئة.

هل البعث خلق جديد أم إعادة للخلق القديم؟

هل البعث خلق جديد أم إعادة للخلق القديم؟ يتعلق بالبعث أمر مهم جداً، ألا وهو: هل البعث هو نفس الخلق أم يتغاير؟ أقول: البعث خلق جديد، يتفق في الجنس ويختلف في السمة والنوع والصفة، فيتفق معه في الجنس فهو نفس الخلق، فأنت محمد مثلاً، مت وسيبعثك الله محمداً، لكن صفاتك وطبيعتك تختلف عن صفاتك وطبيعتك في الدنيا، والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال: (ليس بين ما في الجنة وبين ما في الدنيا إلا الاسم) موز موز، عنب عنب، اسم فقط، لكن يختلف في الطعم والرائحة، وإنما الاسم مشترك والجنس واحد. وأيضاً أنت محمد في الدنيا وأنت محمد في الآخرة متفق في الجنس وفي الهيئة، لكن الصفة والسمة مختلفة تماماً، والذي يدلنا على ذلك هو أنك إذا أخذت رجلاً فألقيته في النار فسيحرق ويموت، وتخرج روحه، فهذه ليست الآخرة، أما في الآخرة فإنه إذا ألقي في النار فإنه لا يموت -أقصد الكافر- فإنه كما قال معاذ: الأرواح تسكن أجساداً لا تموت، فهذا أول تغاير بين الدنيا الآخرة، فالإنسان الكافر يحترق ويبقى في النار ولا يموت، وصور الله لنا هذه الصورة الهائلة فقال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، يعني: أسباب الموت كلها موجودة: جوع عطش حر برد إهانة تنكيل كل ذلك من أسباب الموت، وهي موجودة ولكنه لا يموت، قال: ((وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ)) أي: يحيط به الموت {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]؛ لأن الله جل وعلا أبقاهم، والطبيعة قد تغيرت. وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر يوم القيامة كجبل أحد)، فضرس الكافر في الآخرة يكون كجبل أحد، حتى ينكل به أشد النكال، فهذه دلالة أيضاً على أن خلقك يوم القيامة يكون مغايراً في طبيعته لخلقك وأنت في الدنيا، فأنت في الآخرة أوضح وأجلى وأرقى من ذلك، أسأل الله أن نكون كلنا من هؤلاء عندما ننظر إلى ربنا. وموسى لما طلب رؤية الله جل وعلا في الدنيا ما استطاع؛ لأن طبيعته البشرية لا تستطيع ولا تحتمل أن تنظر إلى الله جل وعلا، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فلا الجبل يحتمل ولا طبيعة موسى عليه السلام تحتمل، لكن أنت في الآخرة قال الله عنك: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فستنظر إلى أنوار سبحات وجه الله جل وعلا يوم القيامة، ولكن لن تنظر إلى الله جل وعلا بطبيعتك هذه، بل الطبيعة ستتغير، كما قال عز وجل: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ولذلك في عرصات يوم القيامة ترى الملائكة وترى الجن وأنت في الدنيا لا تراهم، كما قال عز وجل عن الدنيا: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فأنت لا ترى الجن، لكن يوم القيامة على عرصاتها تقف أنت وبجانبك الجن، وتنظر إلى الملائكة فالله جل وعلا ينادي: فلان بن فلان فيأتيه ملكان، ويأخذانه إلى العرض على الله جل وعلا وهو ينظر إليهما، وينظر أيضاً إلى الجن والشياطين، وينظر إلى الكل، فهذه دلالة على أن الطبيعة تتغاير، والعبد يرى ربه يوم القيامة في الجنة ويتمتع أكبر المتعة وأحسن المتعة برؤية ربه جل وعلا، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنات عدن)، فإذا نزع رداء الكبر فكل منا سيرى ربه جل وعلا. فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على أن الطبيعة متغايرة، فأنت في الخلق الأول في الدنيا غير ما تكون عليه في الخلق الثاني في الآخرة، نسأل الله جل وعلا أن يجعل خلقنا في الآخرة على أحسن صورة، وأن تكون على أتم ما يكون في يوم البعث، وأن يجعلنا ممن ينظرون إلى المليك المقتدر.

كيفية الحشر وبيان مكانه

كيفية الحشر وبيان مكانه يقوم الشخص من القبر إلى أرض المحشر التي قال عنها الله جل وعلا: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وهي كالقرص النقي أي كالعجينة البيضاء التي ليس فيها ثمة شيء، أرض لم يعص فيها الله جل وعلا قط، ولم يرق فيها دم قط، كلها بيضاء عفراء نقية، يقف عليها الأشخاص، ويحشرون جميعاً لا يتخلف أحد عن الله جل وعلا، قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، وقال جل وعلا: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]. فكل إنسان سيقف أمام ربه جل وعلا، ولا يتخلف أحد عن الحشر إلى أرض المحشر، وستحشر على هيئة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين أنك ستحشر كما ولدت عارياً غير مكسي ولا مختون، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً)، فالكل سيحشرون حفاة عراة غرلاً، يعني: غير مختونين، وأي شيء نقص منك سيأتيك يوم القيامة. فهذا الحديث لما سمعته عائشة اندهشت، فقالت: يا رسول الله! الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) هذا اليوم يشيب له الولدان، كما قال عز وجل: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين أن الشمس تدنو من الرءوس، فيبلغ الكرب والغم من الناس مبلغاً، لا يطيقونه ولا يحتملونه. ثم يحشرون إلى المليك المقتدر، يقف المرء على عرصات يوم القيامة فينادى: فلان بن فلان، فيأتي ملكان فيأخذانه، وكأنه ذاهب إلى محكمة، بل هي محكمة، لكن الله جل وعلا هو الحاكم وهو القاضي سبحانه وتعالى إن صح أن نطلق على الله هذه الألفاظ، فإن هذا من باب الأخبار لا من باب الصفات ولا الأسماء، فالله جل وعلا هو الذي سيقضي في أمرك أو سيحكم في أمرك، ولا يغيب عنه شيء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله الناس أجمعين الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو منهم الشمس) الحديث، قال عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].

العرض على الله وأصناف الناس فيه

العرض على الله وأصناف الناس فيه قال الله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:48 - 49]، الناس في ذلك اليوم على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: صنف يرخي الله عليه ستره وكنفه، ثم يعرفه ذنوبه، فيقول: عبدي أما عملت ذنب كذا يوم كذا؟ أما انتهكت حرمة كذا يوم كذا؟ والعبد يقول: أي رب، أعرف ذلك وأقره، فيرخي عليه ستره، ويقول: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. وذلك من رحمة الله ومن كرم الله. الصنف الثاني: صنف يناقش الحساب، وهذا الصنف هو الذي يعذبه الله على ذنوبه، ويقول: فعلت كذا وكذا وكذا، ولا يغفر ذنباً من هذه الذنوب بحال من الأحوال، وهذا الذي لا يغفر له الذنب، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد هلك) وسيأتي بيان ذلك. الصنف الثالث: صنف مفضوح -نسأل الله أن يرخي علينا ستره في الدنيا والآخرة- والفضيحة الكبرى إنما تكون على عرصات يوم القيامة وليست في الدنيا؛ لأن في الدنيا قد تكون على مجموعة خمسين شخصاًً أو عشرين شخصاً أو بلدة بأكملها أو على الإنترنت، لكن الفضيحة هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للفضيحة الكبرى يوم القيامة، فليس هناك فضيحة من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة إلى آخر مخلوق سيخلق عندما لا يقال: الله الله إلى قيام الساعة تعادل الفضيحة الكبرى. والفضيحة أنواع أيضاً: فضيحة لأهل الإيمان الذين هم من الفسق بمكان، وهم لا يخلدون في النار، وفضيحة لأهل الكفر، أما فضيحة أهل الإيمان فكل غادر ينشر له لواء، فيقال: هذه غدرة فلان، يقرؤها القارئ وغير القارئ، واللواء: علم، فكما أن الناس يسيرون بأعلام يعرفون بلادهم بهذه الأعلام، هذا الرجل أيضاً الغادر له لواء منشور أمام الخلائق أجمعين، يراه رسول الله ويراه آدم ويراه نوح، وينظرون إليه، وأفاضل الخلق سيرون هذه الفضيحة، هذا لأهل الإيمان، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وأما الكافر فهذا بالقول وبالفعل، فيقال عنه على رءوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، لعنة من الملائكة ومن الله ومن أهل الإيمان، يقال: ألا لعنة الله على الظالمين. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله جل وعلا ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: أن صدقة واحدة يمكن أن تنجيك من عذاب الله يوم القيامة. وأيضاً في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: يدنو المؤمن من ربه فيرخي عليه ستره وكنفه ثم يعرفه يقول: عبدي! هل تعرف كذا؟ يذكر له الذنب الذي أذنبه، وانتهاك الحرمة التي انتهكها، فيقول: أي رب أعرف، فيقر ولا يعترض، فيقول: عبدي! هل تعرف ذنب كذا؟ يقول: نعم رب أعرف، فيقول: عبدي تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب أعرف، فيقر ولا يعترض على ربه، وهذا هو العبد الذي غلبته شهوته، وغلبه هواه، ولكنه خاضع مسكين، يعلم أن أمره بيد ربه، فيقول: رب نعم أعرف، فيقول: (عبدي! سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك اليوم) وفي رواية: (أغفرها لك اليوم) فيغفرها الله، فهذا المؤمن المذنب. وأما المنافق -نعوذ بالله من النفاق- والكافر فيقال على رءوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. الصنف الثالث: صنف يناقشون الحساب وتعدد سيئاتهم -والعياذ بالله-، وهؤلاء لا بد أن يدخلوا نار جهنم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، وفي رواية أخرى: (من نوقش الحساب هلك)، فـ عائشة -وهي فقيهة- اعترضت بدليل، فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لها الحجة، ولذلك ما أنكر عليها أنها اعترضت؛ لأن عندها دليل، فإنها قالت: يا رسول الله! أوليس الله قد قال: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك العرض) أي: يعرض على الله، فيعرفه ذنوبه ويقول: عبدي! تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب، فيقر، فيقول الله: (أغفرها لك اليوم). وقوله: (ذاك العرض، من نوقش الحساب فقد هلك) لا بد لهذا من تفسير، وقد فسره علماؤنا فقالوا: مناقشة الحساب أن يعدد عليه ذنوبه كلها، ذنباً ذنباً، ولا يغفر له منها ذنباً واحداً، كما روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم عن الحسن البصري أنه سئل: ما هو سوء الحساب؟ فقال: أن تعد السيئات أو الذنوب ولا يغفر ذنباً واحداً منها أبداً. فهذا الذي إذا نوقش الحساب عذب يدخل الجنة وقت ما يشاء الله جل وعلا. فإذا حشروا وسئلوا ووفاهم الله أعمالهم، أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأدخل أهل النار النار. ثم ذكر المصنف رحمه الله الميزان، وما الذي يوزن: الأعمال أم الأشخاص؟ وذلك بعد أن بين لنا أصناف أهل الجنة وأصناف أهل النار.

مصير اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام

مصير اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام بوب المصنف باباً من أهم الأبواب؛ لأن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام ضيعوا عقائد الناس وميعوها، هذا الباب هو باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام يدخلون النار. فهذا واضح وهل يحتاج النهار إلى دليل؟ وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل فعندنا من قال بوحدة الأديان، وعندنا من قال: أخي بطرس، وعندنا من يقول: بيني وبينهم خلة، والله عز وجل يقول: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فهو مع ذلك يقول: الأديان السماوية والتسامح في النصرانية والتسامح في اليهودية فسنبين لهم لعلهم يتركونها، أو نبين لنا حتى نثبت على عقيدتنا ونعلم أن هذا الكلام هراء، وأن هذا الكلام يصل بالمرء إلى الكفر، فإن قائل هذا الكلام إن لم يتق الله في نفسه يكفر هو أيضاً، فيحشر معه، والمرء مع من أحب. قال الله تعالى مبيناً أنه لا يقبل أبداً من أحد إلا الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فالدين معرف بالألف واللام فيفيد العموم، فالأديان كلها التي نزلت تساوي الإسلام، فحصر كل الأديان وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وتفسيها بلآية الأخرى، من باب تفسير القرآن بالقرآن، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] أي: لا يقبل منه بحال من الأحوال، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]. قال سعيد بن جبير: هم اليهود والنصارى. وأوضح من ذلك ما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به، إلا كان من أصحاب النار)، فالنصراني الذي لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به محمد يكون من أصحاب النار، واليهودي الذي لم يؤمن بمحمد وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يكون من أصحاب النار، بنص الحديث، وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى عمر يقرأ في التوراة، فقال: (أمتهوك فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) أي: يكون خلفي، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. فكل إنسان وكل نبي وكل أحد رأى رسول الله لا يسعه غير أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرامة من الله لهذه الأمة، حتى عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان لا يحكم إلا بشريعة محمد، بل لا يؤم أمة محمد؛ كرامة لهذه الأمة، فإنه ينزل عيسى على جناح الملك، فيجد الصلاة قد أقيمت والمهدي سيكبر، فيراه المهدي أو يشم رائحته، فإن عيسى عليه السلام ينزل وكأن حب اللؤلؤ يتقاطر منه عليه السلام، فيرجع المهدي؛ لأنه يعرف مقامه، ويريد أن يقدم النبي، فيقول عيسى: لا، تقدم؛ إمامكم منكم؛ تكرمة الله لهذه الأمة. ولذلك أول أمة تحاسب هي هذه الأمة، لكرامة نبيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي تحت العرش ويقول: (يا رب أمتي أمتي، أمتي أمتي). وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي)، فكرامة هذه الأمة واسعة جداً، فهذه الأمة لا بد لكل الأمم أن تنزل تحت لوائها، ولا بد أن تتبعها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

حكم من لم يكفر اليهود والنصارى

حكم من لم يكفر اليهود والنصارى اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم هم أهل كفر، وهم أهل ضلال، ومن لم يكفرهم ويعتقد خلودهم في نار جهنم إذا ماتوا على الكفر بعد إقامة الحجة عليهم، وبعد بيان حالهم من الكتاب والسنة فهو كافر خارج من الملة، خالد مخلد في النار. إذا رأيت الرجل يقول: النصراني دينه دين سماحة، أو هذا أخونا في الدين، فهذا على خطر عظيم، فمن كان هذا حاله فقل له: النصارى ألا يقولون: باسم الله باسم الأب باسم كذا باسم كذا؟! فسيقول: نعم، فقل له: ألا يقولون في عيسى: إنه إله وإنه ابن الله وإنه ثالث ثلاثة؟ فالنصارى يقولون بألوهية عيسى، فمنهم من يقول بالأقانيم الثلاثة، ويقولون: فيه شيء من الناموس وشيء من اللاهوت، وعقيدة النصارى كلها كذلك، فهم يقولون عن عيسى: ابن الله، فأنت ائت بالمصحف وقل له: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، فهل تكفرهم أم لا تكفرهم؟ إذا قال: لا، هم إخواننا في العقيدة، فقل له: أنت كافر؛ لأنه كذَّب الله جل وعلا؛ لأن الله -ومن أصدق من الله حديثاً، ومن أصدق من الله قيلاً- قال: إنهم كفار، فكيف يقول: هم مسلمون؟! فهذه دلالة على أن من لم يكفرهم يكفر بعد إقامة الحجة عليه، وأيضاً الله جل وعلا قال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، فهذا مسطر عندهم: محمد صلى الله عليه وسلم، مسطر في التوراة والإنجيل، وهم ينكرون، فالذي لا يكفرهم بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر خالد مخلد في نار جهنم إن لم يتب ويموت على التوبة. إذاً: هذا الباب من أهم الأبواب، ومنه يتبين لنا أن الذين يميعون العقائد عند الناس هم أضل الناس، ولذلك قال سفيان بن عيينة: كنا نقول عن علمائنا الذين يضلون: إنهم أشبه ما يكون باليهود؛ لأنهم يضلون على علم، فالذين يميعون العقيدة عند الناس هم في ضلال مبين إن لم يكونوا على كفر. فإذا قيل: إنهم لا يقولون ذلك، بل يعتقدون كفرهم، لكن يقولون ذلك حفاظاً على الكراسي، فنقول: مآلهم إلى الله، لكن الظاهر عندنا أنه إذا كفر اليهود أمامهم، ثم لم يكفرونهم كفروا، وأيضاً النصارى، وعندنا حديث جلي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينادى اليهود فيقول الله تعالى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزيراً ابن الله - حاشا لله- فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقول الله تعالى مبكتاً إياهم: اشربوا، فيتساقطون في نار جهنم، ثم يؤتى بالنصارى فينادى على النصارى: ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد المسيح وينسبونه إلى الله جل وعلا - حاشا لله - فيقول الله تعالى: كذبتم، لم يتخذ الله صاحبة ولا ولداً، فيقول الله جل وعلا: ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقول الله تعالى مبكتاً لهم: اشربوا، فيتساقطون في نار جهنم) والعياذ بالله. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض وأضل أهل الأرض، نعوذ بالله أن نقول بقولهم، ونعوذ بالله أن نعمي على الناس، وأن نميع عقائدهم فلا يعرفون الكافر من المسلم. وأشد ما يكون على الناس ألا يفرقوا بين الكافر وبين المسلم؛ لأن للكافر أحكاماً وللمسلم أحكاماً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الميزان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الميزان يؤمن أهل السنة والجماعة بميزان حقيقي توزن فيه أعمال العباد وصحائفهم والعباد أنفسهم، فمن ثقلت موازينه بأعماله الصالحة نجا، ومن خفت موازينه هوى، وبعد الميزان يجوز الناس على الصراط المضروب على متن جهنم، فمنهم من يجوز عليه كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل، ومنهم من تخطفه كلاليب كشوك السعدان فيكردس في نار جهنم.

أدلة البعث والنشور

أدلة البعث والنشور إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: ما زلنا مع الجزء السادس من هذا الكتاب المبارك العظيم: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي. انتهينا من الكلام على البعث وأدلته التي بينها لنا الله جل وعلا، ثم تكلمنا على العرض والحساب، وكيفية عرض الناس يوم القيامة ليحاسبوا أمام ربهم، ثم ختمنا بالحديث عن اليهود والنصارى وأنهم إذا ماتوا على غير ملة الإسلام فهم من أهل النار خالدين فيها. ومن باب التذكير بما مضى نقول: كل منا يؤمن ويستيقن ويعلم أنه سيقف أمام ربه، ويحاسب على ما قدم، وأن الله جل وعلا سوف يجازيه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عقاباً إن شاء ذلك وإن شاء غفر له ذلك، وقد بين الله لنا الأدلة على البعث والنشور، فإذا قال لك كافر: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا فبم ستجيبه؟ هل ستقنعه بالضرب؟ كلا، ولكن لابد أن تبين له قولك بالدليل والحجة والبرهان على أدلة البعث التي تعتقد أنت بها، وأنك ستبعث وستحاسب على ما قدمت. نذكر أولاً تصنيف الأدلة إجمالاً ثم نفصل: ضروب الأدلة هي: قياس جلي هذا الضرب الأول وهو قياس الأولى، والضرب الثاني من الأدلة: قياس المثلية وهو قياس الغائب على الشاهد، ثم نبين أن البعث نفسه قد ظهر لنا جلياً في الحياة الدنيا. ومعنى قياس الأولى: أنه إذا كان الحكم متوفر في الأدنى فهو في الأعلى من باب أولى، ودليل ذلك قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، فالله جل وعلا أمر العباد أن ينظروا في خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان؛ فمن باب أولى أن يخلق الإنسان مرة ثانية. والصنف الثاني من الأدلة هو العقيدة، فهي فرض عين على كل إنسان أن يتقنها، قال الله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، فقاس الإعادة على البداءة، وهذا ظاهر جداً، فإن كان قد ابتدأ شيئاً فأيسر عليه أن يعيده، مثال ذلك: الرجل لو صنع صنعة وسهلت عليه هذه الصنعة، فإذا أراد أن يعيدها كانت أسهل وأسهل. الصنف الثالث من الأدلة: هو الحكم على اليهود والنصارى، فحكمهم أهل كتاب، فإن أسلموا فحكمهم مؤمنون، فإن ماتوا على ما هم عليه فحكمهم في الآخرة أنهم في النار، وتعاملنا معهم في الدنيا كأهل كتاب، هذا هو التفصيل. فأما حكمهم في الدنيا فهم كفار بدليل قول الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] والنصارى يقولون بذلك، وكذا قول الله في آية أصرح من ذلك تدل على أن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لا يقبل من أحد غيره يقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. والدليل على أنهم لو ماتوا على ذلك فهم أصحاب النار قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] فإذا مات اليهودي أو مات النصراني على ملته فمآله إلى النار، ثم لا يخرج منها أبداً، والدليل على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48]، وجه الاستدلال من هذا الشاهد: أن اليهود قد أشركوا وقالوا: عزيرٌ ابن الله، ونسبوه لله، هذا هو وجه الشاهد ووجه الاستدلال بالترتيب العلمي الذي قد تستدل به. إذاً: الكفار من المشركين، والله لا يغفر لمشرك، وأيضًا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صرح بأنهم خالدون فيها ولن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا أرحامهم، قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) يعني: خالداً مخلداً فيها.

ميزان الأعمال في الآخرة

ميزان الأعمال في الآخرة نبدأ أولاً بما روي بأن الحسنات والسيئات توزن يوم القيامة بالميزان، وسوف نتكلم عن الميزان، ثم ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: أن الكفار لا يحاسبون يوم القيامة، وسنبين الخلاف فيه ثم الإيمان بالصراط. أولاً الميزان من علم الغيب، وعلوم الغيب أمرنا جميعاً أن نؤمن بها، والله جل وعلا قد علق الفلاح على من آمن بالغيب، فقال عمن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، فالإيمان بالغيب هو معقد الفلاح، ومن الغيبيات الميزان، وهو لغة: ما توزن به الأشياء، وشرعاً: الميزان الحقيقي الذي له كفتان توزن فيه أعمال الناس يوم القيامة.

أدلة ثبوت الميزان

أدلة ثبوت الميزان الميزان ثابت في الكتاب والسنة، ويوافق عليه جل أهل السنة والجماعة، وما خالف في ذلك إلا المعتزلة أصحاب البدع، وبعض أهل السنة والجماعة أولوه على غير حقيقته. أما ثبوته بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، وقال جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9]. وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في مسند أحمد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة: (فتوضع السجلات في كفة والبطاقة المكتوب فيها (لا إله إلا الله) في كفة أخرى) فدلل بالنص الصريح أنه ميزان حقيقي له كفتان: يمنى ويسرى.

رد خلاف المعتزلة لأهل السنة في حقيقة الميزان

رد خلاف المعتزلة لأهل السنة في حقيقة الميزان السلف بينهم شبه اتفاق على أن ميزان يوم القيامة حقيقي، إلا ما أتى عن مجاهد والأعمش من أهل السنة والجماعة فقد قالا: المقصود بالميزان العدل، واستدلوا بما استدل به المعتزلة، وهم أهل تأويل لا يقبلون شيئاً على حقيقته في الغيبيات بل يأولونه بما يوافق العقول؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، فلما سمعوا أن الميزان له كفتان قالوا: ليس هناك ثمة ميزان، ووزن الأعمال إنما هو شيء معنوي، معناه العدل، وكل إنسان سيحاسب بعدِّ حسناته إن كثرت يدخل الجنة، وسيئاته إن كثرت إن شاء الله أن يعذبه فيعذبه، وأيضًا بالعدل في الخصومات، هذا معنى الميزان عند المعتزلة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9]، وهذا معناه: أنك في التعامل بينك وبين الناس تعدل في كل شيء تعدل في الإحسان تعدل في القدح أو الجرح والتعديل تعدل في العطاء والمنع تعدل في البيع والشراء. ونحن نوافقهم على ذلك إن قصد بهذا الميزان العدل في التعامل البشري في الدنيا، لكن الله ذكر الميزان، والميزان لفظ صريح، فلا بد علينا لزاماً أن نثبت ما أثبته الله، فهو ميزان حقيقي الله أعلم بكيفيته، فنثبت أولاً حقيقة ما أثبته الله وهو الميزان، ثم نثبت تبعاً لهذا لازم الميزان وهو العدل، فيكون في ذلك رد على المعتزلة. ونحن نثبته حقيقية ونقول: الله أعلم بكيفيته، ونثبت أن له كفة يمنى وكفة يسرى توزن فيهما الأعمال، وبذلك يظهر العدل. إذًا: من أهل السنة والجماعة من قال بقول المعتزلة، ويغفر الله لهم ذلك؛ لأنه اجتهاد أخطئوا فيه، فلهم -بإذن الله- أجر، ونحن مع ما دل عليه الكتاب من أن الميزان له حقيقة يوم القيامة، وله كفتان كفة يمنى وكفة يسرى.

اختلاف العلماء فيما يوزن في الميزان

اختلاف العلماء فيما يوزن في الميزان ما الحكمة من الميزان يوم القيامة؟ الإجابة: لتوزن الأعمال أو الصحائف أو البشر، أقوال اختلف فيها العلماء. وسيكون يوم القيامة ميزان على مرأى من الناس، لتوزن أعمال العباد فيه، لكن هل العمل شيء حسي أم معنوي؟ معلوم أن الأعمال كلها معنوية، فكيف ستوزن؟ أقول: إن الله صادق، فإن الله جل وعلا سيظهر لنا قدرته يوم القيامة، والأعمال ستجسم وتصور وتوضع في الميزان، يدل على ذلك ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما يوم القيامة)، فالله جل وعلا يجعل البقرة وآل عمران وكأنهما غمامة تظلل صاحبها، وتحاج عنه، بل تتكلم، فهي ليست فقط ظلة فوق المؤمن، وهذه كرامة للقارئ بين يدي الله. فالأعمال إذاً ستجسم وستوزن كمال قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان للرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذه الكلمتان ستوضعان يوم القيامة في الكفة لتزن وترجح بها، فهي ثقيلة جداً في الميزان. وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في ميزان العبد: حسن الخلق)، فحسن الخلق شيء معنوي، ومع ذلك فإن الله سيجسمه يوم القيامة، ثم يوضع على الميزان فيكون أثقل شيء فيه. فهذه دلالة واضحة على أن الأعمال ستجسم وتصور وتوزن يوم القيامة لتفرق بين العاملين. هذا هو القول الأول لأهل العلم، وهم من أهل السنة والجماعة. القول الثاني: أن الذي سيوزن هو العامل، وهذا القول يلزمه الدليل؛ إذ لا يقبل قول أحد إلا بدليل، وإلا يرد على صاحبه حتى يأتينا بالحجة والبرهان. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه ودليل أصحاب هذا القول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرء البدين الجسيم يأتي يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، إهانة واحتقاراً وسخرية وتبكيتاً وتوبيخاً لهذا المرء الجسيم البدين أمام أعين الخلق من لدن آدم إلى آخر الخليقة نعوذ بالله من الخسران، ونعوذ بالله من الفضيحة يوم القيامة. هذا الرجل الذي ملأ الأرض، وكان يمشي كأنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً، وكان ممتلئاً بالكبر، يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قال الراوي: فاقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وأيضاً حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى صحابته فرآهم يضحكون، فسألهم عن ذلك، فقالوا: نضحك من دقة ساق ابن مسعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مقولة تبين لك أنك إذا أردت أن تقدر الناس حتى ولو بشيء فيه ضحك أو ابتسامة فلا تبتسم حتى تنزل الناس منازلهم وتعطيهم قدرهم، فرسول الله ما ابتسم كما ابتسموا وما أنكر عليهم، ولكنه بين لهم عظم قدر الرجل فقال لهم: (والذي نفسي بيده! إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد)، ومعنى هذا: أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سيوزن كله، وعليه فالبشر أيضًا سيوزنون في هذا الميزان يوم القيامة، والكيفية يعلمها الله جل وعلا، وهذا القول الثاني لأهل السنة والجماعة. القول الثالث: إن الذي سيوزن هي الصحائف، فلله جل وعلا ملائكة يتعاقبون فينا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار يلتقون في الفجر والعصر، ثم يصعدون إلى الله) إلى آخر الحديث، والملائكة وصفهم الله بقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، كل شيء مكتوب ومسطر، وكل شيء قد كتب في الزبر من قبل، ولكن الملائكة تكتب وتصعد لتقارن بين ما في الصحيفة وبين ما في اللوح المحفوظ فلا يخطئه في شيء، فالله جل وعلا يجعل الملائكة يكتبون السيئات والحسنات في الصحائف، ثم هذه الصحائف هي التي ستوزن يوم القيامة، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (توضع السجلات في كفة) السجلات هي التي تكتب فيها الحسنات اليومية والسيئات، ثم توضع في الميزان، فهذه دلالة على أن الصحائف توزن، وهذا أيضاً قول صحيح لأنه مستند لدليل. إذا دققت النظر ستقول: لا منافاة بين الأقوال الثلاثة بل ستجتمع بينها بقول واحد وهو: يصح أن نصرح بأن الأعمال توزن يوم القيامة، ولدينا الدليل على ذلك من السنة، وأيضاً العامل سيوزن يوم القيامة، وعندنا دليل ذلك من السنة، كما أن الصحائف ستوزن للدليل الوارد في السنة، وإذا نظرت ودققت النظر بالتدبر في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلا تجد أن لكل شيء حكمة من الله جل وعلا، فالمرء يوزن والحكمة في ذلك: أن يظهر الله جل وعلا لنا مقدار كرامة هذا المؤمن الذي سارع بالخيرات عند ربه، ويبين للناس ثقل ميزانه، وإن كنتم تحتقرونه في الدنيا ولا تسمعون له، (ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب) وإن كنتم تنظرون إليه نظرة لا تساوي حقه فهو عندي ثقيل، وأنا سأكرمه على رءوس الأشهاد، فيوزن وتظهر مكانته وكرامته على الله جل وعلا يوم القيامة، وما أجلها من حكمة! وما أروعها من كرامة يكرم الله بها عباده المؤمنين! كما أكرم الله جل وعلا نبيه بأن جعل حاجة كل البشر إليه في الشفاعة، فهذه حكمة من الحكم التي ستظهر. أيضاً هناك حكمة أخرى تظهر في الأعمال إذا وزنت، حيث يبين الله لنا يوم القيامة أنها تأتي مجسمة مصورة، وفي هذا أيضاً دلالة على قدرة الله جل وعلا، وعلى عظمة الله جل وعلا بأن جعل المعنوي حسياً مادياً أمامنا؛ تقريراً لقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ومن الحكم أيضاً: أن هذه الصحائف ستميز بين الحسنات إذا كثرت على السيئات ويكون مآله إلى الجنة -نسأل الله أن نكون منهم- وإذا السيئات كثرت فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وأدخله الجنة.

حسن الخلق وتثقيله للموازين

حسن الخلق وتثقيله للموازين هذه هي أهم النقاط في مسألة الميزان، وسواء كنا سنوزن أو كانت الأعمال ستوزن، فعلى المرء أن يسارع في تثقيل نفسه حتى يكون عند الله ثقيلاً له الكرامة العظمى يوم القيامة، ويشرف ويكرم على رءوس الخلائق من لدن آدم إلى آخر الخليقة، والفقيه تاجر مع الله جل وعلا، ينظر أعظم شيء يثقل ميزانه فيكثر منه، وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فإنه ما ترك لنا شيئاً إلا وأظهره لنا ودلنا عليه، وأثقل شيء يكون في الميزان كما في الحديث: (أثقل شيء في الميزان حسن الخلق) ولا غرابة في ذلك فإن الله لما شرف النبي امتدحه أمام الخلق أجمعين بصفة أرقى ما تكون ألا وهي حسن الخلق فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: (ما رأيت ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والله ما قال لي لشيء أنا فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو قدر له لفعل) وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تقول: (كان خلقه القرآن)، وبينت أنه من أفضل ما كان فيه من خلق: أنه ما مست يده الشريفة يد امرأة قط، هكذا الخلق يرقى بالإنسان، كما في مسند أحمد أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرء ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وهو نائم على سريره بحسن خلقه يرتقي إلى درجة الصائم القائم! وحسن الخلق هو إفشاء السلام، وبذل الطعام، وأن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تحسن للناس حتى وإن أساءوا إليك، ومن تمام حسن الخلق الذي يثقل الموازين ذكر الله أكثر من ذكر نفسك وولدك، وروى البيهقي في الشعب -ويظهر على الحديث الوضع-: (اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون) إذا رآك الناس وأنت تذكر ربك وأنت نائم وقائم وجالس وما عندك إلا ذكر قالوا عنك: مخبول. فذكر الله جل وعلا هو أثقل شيء في الميزان بعد حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الرجل الذي قال: إنه كثرت عليه الشرائع، فقال له: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله جل وعلا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) نسأل الله جل وعلا أن يثقل موازيننا. آخر ما يستنبط في تثقيل الميزان: الصدقة الجارية، وهي تثقل الميزان، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن المرء إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث منها الصدقة الجارية، الصدقة الجارية تثقل الميزان؛ لأن صاحبها بعد مماته تكتب له حسناتها، وعمله ممتد إلى يوم القيامة، فالصدقة الجارية والوقف هو الذي يثقل ميزانك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من حبس فرساً له في سبيل الله -يعني أوقفه- فإن بوله وروثه وشبعه وريه في ميزانه)، يعني: في ميزان العبد، حتى البول والروث والطعام والشراب في ميزانه إلى يوم القيامة، فما بالك بمن أوقف مالاً معيناً للمجاهدين، أو لأهل العلم، أو للفقراء أو المساكين، هذه كلها تثقل الميزان يوم القيامة.

حساب الكفار يوم القيامة وأقوال العلماء فيه

حساب الكفار يوم القيامة وأقوال العلماء فيه هل الكفار لهم حساب أم ليس لهم حساب؟ هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم من أهل السنة والجماعة على قولين فهما طرفان، وقول ثالث هو وسط، والوسط هو التفصيل وهو الراجح.

القول بأن الكفار لا يحاسبون وأدلته

القول بأن الكفار لا يحاسبون وأدلته القول الأول: أن الكفار لا يحاسبون، واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما سألوه عن النجوى فقال: (يدني الله المؤمن منه حتى يضع عليه كنفه، ثم يقرره بأعماله يقول: عبدي تذكر يوم كذا وكذا، وتذكر يوم كذا وكذا، فالعبد يقول: أعرف ربي، أذكر ربي، ثم يقول الله جل وعلا: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك، -محل الشاهد- أما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويتساقطون في نار جهنم- وفي آخر الحديث قال- ثم ينادى: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين) ففي الحديث دلالة على أن الله جل وعلا لا يدني الكافر ولا يضع عليه سترة كما فعل مع المؤمن، بل ينادى بهم فقط: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة على الظالمين. الدليل الثاني: ما ورد في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما بين لهم أنهم يرون ربهم ولا يضامون في رؤيته قال: (فينادي المنادي: ليلحق كل واحد ما كان يعبد، فأهل الأصنام يلحقون بأهل الأصنام، وأهل الطواغيت يلحقون بالطواغيت، ومن كان يعبد الشمس يلحق بالشمس، ومن كان يعبد القمر يلحق بالقمر، وكل ذلك يكور ويتساقط في نار جهنم، ثم قال: ويبقى من كان يعبد الله من مؤمن بار أو فاجر ومنافق كان يعبد الله رياءً حتى يحاسبوا، وغبرات من أهل الكتاب) فظاهر الحديث أن الذي سيحاسب هم المؤمن البر والفاجر وغبرات من أهل الكتاب والباقي يتساقطون ولا حساب عليهم، فالكفار بهذه الأدلة لا يحاسبون.

القول بأن الكفار يحاسبون وأدلته

القول بأن الكفار يحاسبون وأدلته القول الثاني: أن الكفار يحاسبون، لعمومات تثبت ذلك: الدليل الأول: قول الله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، وهذا وجه الشاهد، فعموم اللفظ يدل على أن عليك البلاغ مثل كل رسول وعلينا الحساب لكل هذه الأمم التي أرسلت إليهم الرسل. الدليل الثاني: حديث عدي بن حاتم في الصحيح قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان)، فكل هذه عمومات تبين الحساب لأهل الكفر.

الجمع بين القولين

الجمع بين القولين القول الوسط: أن الحساب يذكر ويراد به عرض الأعمال على العبد، وهذا بلا ريب المراد من الحساب، فسيحاسبون قطعاً لأن الله جل وعلا سيوبخهم ويبكتهم، ويجعلهم في حسرة وندامة بعرض أعمالهم عليهم، دليل ذلك قول الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65]، وقول الله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] فهذا عرض للأعمال، ويبين الله جل وعلا للكافر هذه الأعمال ويبكته ويجعله في حسرة وندامة على ما فعل وضيع في هذه الدنيا وخاب وخسر في الآخرة. هذا المراد بالحساب: أنه يراد به عرض الأعمال، فكل شخص يكشف له عن عمله، ويقرر ذلك بشهود من نفسه أو بأعضائه، ثم يلقى في نار جهنم. كما يذكر الحساب ويراد به زنة الأعمال والفرق بين الحسنات والسيئات، وهذا له نظران: النظر الأول: إن أريد به كفة حسنات وكفة سيئات حتى يرى سبيله إلى النار أو إلى الجنة فقطعاً هم غير محاسبين، لم؟ لأنه لا يمكن أن يرى له سبيل إلا سبيل النار، وليس لهم سبيل إلا الخلود في نار جهنم، فإن أريد بذلك أنه سيرى وزن الحسنات والسيئات فهم غير محاسبين؛ لأنه لا سبيل لهم إلا النار. النظر الثاني: إن أريد به أنه ينظر في السيئات وتجعل حسنات أهل الكفر هباء منثوراً فنعم، فهم لهم حسنات قد عملوها في الدنيا، من صلة الأرحام، والعطف على المسكين والبهائم، وإن كانوا أضل منهم، ويقولون: حياة الغوريلا! ويدققون النظر في حياة الغوريلا، وكيفية العطف عليها، وقربها من البشر، ثم هم يقتلون المسلمين في العراق! ويالها من قلوب طيبة تقتل الأطفال والشباب والمسلمين وتعتني بالبهائم! أي تعمية هذه على البشر بهذه الطريقة؟! فهذه الحسنات التي يقدمونها يعجل الله جل وعلا لهم بها هذه الطيبات في الدنيا، كما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]، وأيضًا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فلا حسنات لهم، فإنما تكون زنة الحسنات والسيئات لتفاوت الدرجات، وهم لا حسنات لهم، وإنما يتفاوتون في الدركات لا في الدرجات، فهم محاسبون، وبقدر ما صنع يوضع في الدرك الأولى أو الثاني ثم المنافقين في الدرك الأسفل من النار. أما قول الله تعالى: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:26]، فهو ليس نصاً قطعياً على أنه سيحاسب.

الصراط والإيمان به

الصراط والإيمان به الصراط والسراط لغتان قال الله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، والصراط لغة: الطريق، وشرعاً: الطريق المضروب على متن جهنم للعبور عليه إلى جنات العلا، نسأل الله أن نكون ممن يمر على هذا الصراط حتى نصل إلى جنة الخلود، وهو من الغيبيات التي يجب على المرء أن يؤمن بها، وقد أناط الله الفلاح بالإيمان بالغيب، ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالصراط، والصراط جاء في الكتاب بالإلماح، وهو بالنص الصريح في السنة النبوية، أما في الكتاب فقال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] قال ابن مسعود وزيد بن أسلم: وإن منكم إلا واردها عابراً عليها على الصراط. ووجه الشاهد من هذا: أن الغيبيات لا يستطيع الصحابي أن يتجرأ ويتكلم عنها إلا بوحي أو بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو إلماح، فنقول: إن ذلك هو مستند ابن مسعود حين بين أن الصراط يمرون عليه. أما بالنص الصريح فهو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال: (ويضرب الجسر -والجسر هو الصراط- بين ظهراني جهنم)، وأيضًا: النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: (أين أجدك؟ قال: تجدني على الصراط، قال: فإن لم أجدك على الصراط؟ قال: تجدني عند الميزان، قال: وإن لم أجدك عند الميزان؟ قال: تجدني عند الحوض، ولا تخطئني في هذه الثلاث)، يعني: إن لم تجدني على الصراط فستجدني عند الميزان، وإن لم تجدني عند الميزان فستجدني عند الحوض عندما تشرب منه، فهذا فيه تصريح بالصراط من قول النبي صلى الله عليه وسلم.

صفة الصراط

صفة الصراط الصراط له صفة عظيمة بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وطالما كان طريقاً فالطريق إما أن يكون معبداً وإما أن يكون متعرجاً، وإما أن يستطيع الإنسان أن يسير عليه وإما لا، فلذلك احتاج البشر لمعرفة صفة هذا الطريق ونوعه وشكله، وأدق ما وصف به الصراط هو ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيه كلاليب مثل شوك السعدان)، ففيه كلاليب وحسك وهو مفلطح وله شوك، وهو (أحد من السيف، وأدق من الشعرة)، فله شوك مثني يخطف البشر قال: (لها شوكة عكيفاء، مثل شوك السعدان تكون بنجد يقال لها: السعدان)، وفي رواية قال: (خطاطيف أو كلاليب مثل شوك السعدان، أرأيتم شوك السعدان؟ فقالوا: بلى يا رسول الله! قال: إنها مثل شوك السعدان تخطف الناس) فهذه التفصيلات التي فصلها النبي من الكلاليب والشوك والعقيفاء والشوكة كلها عملها واحد وهو أن تخطف المرء وتنزل به إلى نار جهنم، ما من أحد يسمع هذا إلا ويرتجف قلبه، فإن الخطب عظيم، والأمر شديد، والهول أعظم مما يتصوره الناس، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، ما من نبي مقرب ولا رسول معظم عند ربه إلا ويرتجف قلبه عندما يرى الصراط، والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا ذلك فيقول: (كلامهم يومئذ -أي: الرسل-: اللهم سلم سلم) الخليل يقول ذلك، والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول ذلك، وموسى الكليم يقول ذلك، حتى أعظم الخلق سيد الأولين والآخرين يقف فينظر إلى الصراط فيقول: رب سلم سلم، وقلبه يرتجف على أمته، وأول من يعبر عليه هم هذه الأمة كرامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أحوال المارين على الصراط

أحوال المارين على الصراط بين النبي صلى الله عليه وسلم أصناف الذين سيمرون على الصراط، فمنهم من يمر كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب وكالطير والماشي والزاحف ومن يحبو حبواً لأن أعماله قصرت به، والكلاليب تصعد لتخطفه وتخدشه، وقلبه يرتجف، ثم يرى أن الله قد نجاه من المرور على هذا الصراط ووصل إلى الجنة. المؤمنون في ذلك الموقف يخافون على إخوانهم ويذهب منهم الغل والحقد {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] فينظرون إلى إخوانهم يريدون من الله أن ينقذ هذا الرجل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (والمؤمنون منهم كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ثم قال: حتى يكون آخرهم يسحب سحباً -إلى أن يصل سالماً إلى الجنة- ومنهم من تخطفه الكلاليب فيكردس في نار جهنم). أول من يمر على الصراط هم هذه الأمة الخيرية الكريمة المكرمة بكرامة نبيها صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز على الصراط) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقف على الصراط ويقول: يا رب سلم سلم، ويرتجف قلبه على أمته كما قال (خبأت دعوتي شفاعة لأمتي) فتمر هذه الأمة، ثم تأتي بعد ذلك أمم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته أول الأمم محاسبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون) يعني: نحن الأولون في القضاء وأول من نحاسب، وكرامة لهذه الأمة فإن أول من يعبر على متن الجسر على جهنم هذه الأمة، جعلنا الله ممن يمر عليه كالطرف أو كالبرق إلى الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. هذا آخر ما تكلم عنه المصنف في باب الغيبيات، ثم يدخل بعد ذلك في باب جديد، ونحن بإذن الله على مشارف الانتهاء من الجزء السادس من شرح أصول الاعتقاد لأهل السنة والجماعة، وبعده الكلام على الفتن التي كانت بين الصحابة، وكيف نتكلم عنها ونتأدب مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

القصاص

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القصاص من عدل الله جل وعلا أن جعل القصاص يوم القيامة للعالمين، فلا ينجو أحد بظلمه حتى يقتص منه، وذلك يوم عصيب وشديد، يوم تشيب منه الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، فما من أحد إلا وسيقتص له أو منه في ذلك اليوم الرهيب.

قدر أمة محمد بين الأمم

قدر أمة محمد بين الأمم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: بعد أن يشتد الكرب على الناس، ويعظم الخطب، وكل يذهب يلهث إلى من يشفع له عند ربه جل وعلا، يصور لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه المشاهد العظيمة الخطيرة، التي تنخلع لها القلوب، وترتجف وتذهل منها العقول، يوم ينادى آدم عليه السلام كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينادى آدم: يا آدم! فيقول: لبيك ربي وسعديك والخير في يديك -أو قال: لبيك وسعديك- قال: ابعث بعث النار، فقال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)، وفي هذا الوقت يشيب الولدان {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، قال: (فشق ذلك على الصحابة فقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل) أي: من يأجوج ومأجوج ألف ومن المسلمين رجل واحد، ثم قال: (أبشروا، والله! إني لأرجوا أن تكونوا ربع أهل الجنة، فحمدوا الله وكبروا، ثم قال: والله إني لأرجوا أن تكونوا ثلث أهل الجنة) وفي رواية أخرى أنه قال: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)، ثم قال: (والله إني لأرجوا أن تكونوا شطر أهل الجنة -ثم مثل لهم مثل بينهم وبين الناس فقال:- أما إنكم في الناس كمثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض). وفي رواية أخرى أيضاً متفق عليها بين البخاري ومسلم قال: (مثلكم ومثل الناس كمثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود) فالمثل الأول: كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، والمثل الثاني: كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وفي رواية الأحمر أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وهنا ترتجف القلوب، بل تنخلع؛ لأن بعث النار تسعمائة وتسعة وتسعون، وبعد ذلك تدنو الشمس من الرءوس، وصورها لنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ليبين لنا هول هذا الموقف وعظمه؛ ليستعد المرء لهذا الموقف، وكل بحسب عمله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس من الرءوس قدر ميل أو قدر شبر)، وفي رواية: (قدر ميل وقدر شبر)، (فيعرق الإنسان ويبلغ العرق من الإنسان بقدر عمله) يعني: لهول الموقف، وطول الموقف، وعظم وخطر الموقف، فكل بحسبه وحسب عمله وحسب تقربه إلى الله جل وعلا، فمن سارع إلى الله وكان لسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فهذا الذي سيرضيه الله جل وعلا ويأمنه الرجفة، والخوف، والخطب العظيم، أما الذي يتقاعس في طاعة الله جل وعلا فسيشعر بهذا الخطب العظيم. الشمس تدنو من الرءوس فيعرق الناس، فمنهم من يصل العرق إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، ونربأ بأنفسنا أن نذل وأن نخزى يوم القيامة، بل نسارع إلى ربنا جل وعلا فلا نعرق، ولا نشعر بدنو الشمس منا، كرامةً من الله لأهل الإيمان.

بيان صور من المقاصة يوم القيامة

بيان صور من المقاصة يوم القيامة انتقل المصنف بعد أن صور لنا هذا الخطب العظيم إلى مسألة القصاص؛ لأن أهل الجنة لا يدخلونها وفيهم دنس من أكل أموال الناس بالباطل، أو الحقوق التي عليهم، بل لا بد أن ينظفوا من هذه الحقوق، ويقتص من كل واحد لأخيه حتى يدخل الجنة. فإن الله جل وعلا لا يترك العباد يدخلون الجنة وعليهم حقوق للآخرين؛ لأن هذه منافاة ومضادة لحكمة الله البالغة سبحانه وتعالى، فهو حكيم عليم، وعدل سبحانه وتعالى، فلا يدخل الجنة أحداً عليه حق لأحد، فإن الله يطهر عباده من هذه الحقوق بالمقاصة، أو القصاص، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم وحث أصحابه أن يتحللوا، ولا يحتفظ أحد بمظلمة لأحد في الدنيا، فإن الدراهم والدنانير تفوت مع الدنيا، أما الحسنات والسيئات فهي أحوج ما يكون يوم القيامة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت لأخيه مظلمة فليتحلل فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار). أي: ليس في يوم القيامة درهم ولا دينار، قال: (إنما هي الحسنات والسيئات) فتؤخذ الحسنات من الذي عليه الحق إلى الذي له الحق، فإن لم يكن ثمة حسنات فالسيئات التي على من له الحق توضع على الذي عليه الحق). وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: (لي عبيد -يعني: عمال- يسرقونني ويخونونني، قال: وإني أسبهم، أو أضربهم، أو أشتمهم فما لي أو علي؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنك ستأتي يوم القيامة فيعرض جرم هؤلاء العبيد -من الخيانة والسرقة التي تحدث معك- ثم يقاس فعلك معهم، فإن كان هذا أشد من هذا أخذوا منك حسناتك، وإن كان فعلهم أكبر من فعلك أخذت أنت منهم الحسنات مقاصة عند الله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]). وأقوى في الدلالة وأعظم في البيان أن الله جل وعلا سيقتص من البهائم، حتى النملة من النملة يقتص منها (فإن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى شاتين ينتطحان فقال لـ أبي ذر: هل تعرف لم ينتطحان؟ فقال: لا يا رسول الله، قال: الله يدري فيقضي بينهما) فإن الله جل وعلا سيقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء، فالمقاصة لا بد منها يوم القيامة، فلا يظلم الناس شيئاً.

حرمة دم المسلم عند الله

حرمة دم المسلم عند الله أول ما يقتص به بين العباد: الدماء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يقضي الله فيه بين العباد الدماء) وكيف لا؟! والله جل وعلا بين عظم وخطر الدماء، وبين عظم وشرف وقدر المسلم عنده جل وعلا، وهذه الدماء التي تسال ليلاً ونهاراً، مشرقاً ومغرباً، وليس هنا من يتحرك لهذه الدماء، ولا يعرف عظم هذه الدماء إلا الله جل وعلا؛ لأنها عند الله شريفة عظيمة، ولئن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من أن تسال هذه الدماء؛ لأن هذه الدماء المسلمة عند الله عزيزة شريفة، كيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل امرئ مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) فدم المسلم عند الله جل وعلا غالٍ. وذات مرة دخل ابن عمر على الكعبة فطاف بها فقال: أنت الكعبة عظمك الله وشرفك، وإن حرمة دم المسلم عند الله أعظم منك، وأشرف منك، وكيف لا يكون دم المسلم عند الله جل وعلا أعظم من الدنيا وما فيها وزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من أن يسال دم المرء المسلم؟ وقد نصب الله الحرب على من عادى المسلم، فكيف بمن أسال دمه؟! وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: أعلمته بالحرب، ولم أر أدلة تبين أن الله نصب الحرب إلا على صنفين اثنين: الصنف الأول: الذي يعادي أولياء الله جل وعلا، لا ليقتلهم بل يعاديهم فقط، لا ليحبسهم لا لينكل بهم لا لينتقم منهم بل ليعاديهم بقلبه فقط، فإن الله نصب الحرب عليه. والصنف الثاني الذي نصب الله الحرب بينه وبينه: آكل الربا نعوذ بالله من ذلك، فالذين يأكلون الربا نصب الله الحرب بينه وبينهم، قال الله تعالى لآكلي الربا إن لم يتوبوا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]. فنصب الله الحرب لمن يعادي الدم المسلم فكيف بمن يسيل دمه؟! فمن ساعد على قتل مسلم، أو أرشد إلى قتله، أو أباح، أو سهل، أو يسر، أو رضي بقتل امرئ مسلم فعند الله الموعد، وعند الله تجتمع الخصوم، وأقسم برب السماوات والأرض أن الكفار لا يزنون أي زنة لدم العبد المسلم الذي يسبح الله ويذكره. أولم يأتكم نبأ زكريا عليه والسلام لما اختبأ من اليهود حين قتلوا يحيى، وفر منهم إلى أقرب شجرة ففتحت الشجرة نفسها لزكريا، فقالت: اختبئ في، فاختبأ فيها كما روى ذلك ابن كثير في قصص الأنبياء، فاختبأ فيها فأغلقت الشجرة على زكريا ولم يبق منه إلا قطعة من الثوب، فجاء بنو إسرائيل -عليهم من الله ما يستحقون- يتتبعون زكريا ليقتلوه، فنشروا الشجرة وقسموه نصفين، لكن الله جعله لا يشعر بالألم إلا كوخزة الدبوس. وامرأة بغي من بني إسرائيل قدم لها رأس نبي من أجل إرضائها، فما قتل يحيى إلا لأنه أفتى للملك اليهودي أنه لا يصح أن ترد امرأتك؛ لأنك طلقتها ثلاثاً فلا تنكحها حتى تنكح زوجاً غيرك، فاشتدت غيضاً على يحيى، فما زالت توعز له حتى قتل يحيى وقدم لها رأسه على طبق وهو نبي من الأنبياء، فهم يتتبعون الأنبياء فكيف نستغرب أن يتتبعون الأبرياء؟! وهذه الآثار عن بني إسرائيل رأس أمرنا فيها أن نقول: نحدث عن بني إسرائيل ولا حرج، لا نكذب ولا نصدق حتى تأتينا الأدلة، وفي بعضها: قال الله تعالى: لو شعر زكريا بالمنشار وهو يقسمه نصفين لأكبهم الله كلهم في النار انتصاراً لزكريا عليه السلام، فالمؤمن عند الله جل وعلا غالٍ وثمين، ودمه عند الله شريف، لا يهدر بحال من الأحوال. ولذا فإن الله جل وعلا نصب القصاص يوم القيامة أول ما يكون في الدماء، ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (يأتي المقتول يوم القيامة يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً فيقول: يا رب! سله فيم قتلني؟) فإن كان قتله بالحق فسيذكر ذلك، والله جل وعلا يصدق ذلك أو يكذب، وإن كان بالباطل فعند الله الموعد ولا بد أن يقتص منه. قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يجلس معهم يبين لهم عظم القصاص: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) فقال النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً لهم معنى المفلس وأن النظر للآخرة لا للدنيا، فالدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، فقال: (المفلس من أمتي الذي جاء بصلاة وصيام وذكر -عبادات حج وزكاة وجهاد- ثم قال: جاء وقد سب هذا، وشتم هذا، أو اغتاب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فأكب في النار) فهذا هو المفلس بحق، جاء بحسنات كالجبال ففنيت؛ لأنه قدح في الناس، ولم يراقب الله جل وعلا في الناس، فاقتص منه في الآخرة. نعوذ بالله من مسألة القصاص، ونستحل من أي أحد اغتبناه، ونسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا، وأن يجعلنا نذكر محاسن من اغتبناه في أي مجلس من المجالس، أو أخذنا من أحد درهماً أو ديناراً لا يحل لنا، ونسأل الله أن يخلصنا من الدنيا لا لنا ولا علينا، فلا يكون علينا لأحد شيئًا، وإن كان لنا على أحد شيء فنحن نسامحه. تأتي الأم لابنها، الأم التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (أمك، ثم أمك، ثم أمك)، الأم التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة تحت قدمها، التي جعلها هي والأب وسط الجنة، فلا تدخل الجنة إلا بهما، وقد قال الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] فالأم أرفع منزلة من الأب، تأتي يوم القيامة فتقول: (أي بني! ألم تكن لك بطني وعاء؟ أي بني! ألم يكن لك ثديي سقاء؟ أي بني! ألم يكن لك حجري غطاء؟ أي بني! أحتاج إلى حسنة اليوم، فيقول الابن لأمه: أي أم! إني أحوج لها منك اليوم) ويبخل بهذه الحسنة على أمه التي تحتاجها. فنحن أحوج ما نكون إلى هذه الحسنات، وكل منا سيقتص منه في الآخرة، ونعوذ بالله أن نتجرأ على أحد، أو أن نغتاب أحداً، أو أن نهضم حق أحد، نعوذ بالله من ذلك، وإذا فعلنا ذلك فنسأل الله أن يغفر لنا ويقتص منا في الدنيا لا في الآخرة، فليس هناك درهم ولا دينار، بل هي الحسنات والسيئات.

المقاصة يوم القيامة بين الحيوانات

المقاصة يوم القيامة بين الحيوانات يوم القيامة سيقتص من العجماوات غير المكلفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى شاتين تنتطحان فقال لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! أتدري لماذا تنتطحان؟ قال: لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله يدري وسيقضي بينهما). وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيقتص للشاة الجلحاء -يعني: التي ليس لها قرون- من الشاة القرناء، ثم يقول للبهائم: كوني تراباً، هنالك: {يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40])، وهذا الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، فالقصاص سيكون بين الوحوش. وقد تكلم في هذه الأحاديث الصحيحة بعض المتكلمة وأهل العقل من المعتزلة وغيرهم مثل الغزالي، والألوسي وغيرهما، أما نعيم الألوسي فسلفي معروف، وكتابه (روح المعاني) في التفسير من أنفع وأمتع الكتب، لكن له هنات وزلات في هذا الكتاب، ففيه بعض التصوف والاعتزال، وقال الغزالي عن الوحوش: لا قصاص بينها، وهذه الأحاديث إنما جاءت كناية عن العدل، فتبين عدل الله جل وعلا، واستدل على ذلك بالعقل فقال: ما من شيء إلا وله حكمة عقلية، والله جل وعلا عللها بالحكم والعقل يأبى ذلك؛ إذ إن القصاص معناه: الثواب والعقاب، ولا ثواب ولا عقاب على العجماوات، وأيضاً القصاص من التكليف ولا تكليف على العجماوات. وهذا دليل عقلي صحيح، لكن نقول: عندنا قاعدة وهي: أنه إذا أتانا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا قول لأحد مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم. والقاعدة الثانية: العقل الصحيح لا يخالف بحال من الأحوال النقل الصريح الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. اما قوله: لا حكمة في ذلك، إذ لا ثواب ولا عقاب فنقول: بل هناك حكمة عالية جداً وهي بيان أثر اسم الله الحكيم، وأن الله من صفاته العدل، فمن كمال عدل الله جل وعلا أن يقتص من العجماوات غير المكلفة مقابلة، فما بالكم بالذين كلفوا، أيتركهم سداً وهملاً دون قصاص؟! لا والله! وهذا يفتح لأهل العقول القياس الجلي، وقياس الأولى، وهو إن كان الله جل وعلا سيقتص من القرناء للجلحاء، فمن باب الأولى أنه سيقتص من الذين أوتوا الكتاب، وأوتوا الفهوم والعقول منهم، فهذه الحكمة البليغة العالية التي ترد على أهل العقل. وهناك إجابة ثالثة وهي: أن هذه المقاصة أو القصاص من باب المقابلة، لا من باب الثواب والعقاب.

وجود الجنة والنار مخلوقتان الآن

وجود الجنة والنار مخلوقتان الآن بعد ذلك انتقل المصنف إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الجنة والنار مخلوقتان. والجنة لغة: هي البستان كثير الأشجار والثمار، قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32]. وشرعاً: هي دار المقامة، ودار الخلود التي كلمنا الله عنها بأنها منازلنا الأولى. والنار لغة: مادة الإحراق. وشرعاً: هي أيضاً دار المقامة للكافرين. وقد بين الله جل وعلا أن النار والجنة مخلوقتان الآن خلافاً للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع، قال الله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] وأعدت: فعل ماضٍ، بمعنى: أنه قد فرغ منها، وقال عن جهنم: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] فجهنم أيضاً محل للكافرين وقد أعدت، وأعدت يعني: فرغ منها. وأيضاً في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس حين كسفت الشمس يوماً، وبعد أن صلى بالناس صلاة الكسوف قال: (أريت كل شيء في مقامي هذا، حتى إني رأيت الجنة عندما رأيتموني تقدمت فأخذت عنقوداً -يعني: رأى الجنة ورأى ما فيها من ثمار- ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا -أو ما بقيتم- وأريت النار فلم أر منظراً كاليوم أفظع من هذه النار). وقال: (ورأيت فيها عمرو بن لحي وهو الذي سيب السوائب)، وفي رواية أخرى في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ورأيت النار، ورأيت هرة تخدش امرأة -أي: تأخذها في النار، فالهرة في النار والمرأة في النار- فقلت: ما هذه؟ -يعني: ما شأنها- فقيل: هذه المرأة حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض) فهذه المرأة حبست هرة، وما حبست رجلاً يقول: لا إله إلا الله ما حبست رجلاً يقيم الليل بدموعه لله ما حبست رجلاً يجوب الأرض شرقاً وغرباً يدعو إلى الله جل وعلا ما حبست رجلاً باع نفسه لله وقال قسطاً وعدلاً: أنا وقف لله ما حبست رجلاً ينشر دين الله جل وعلا، حبست هرة فقط فكان عقابها أن الهرة تخدشها في نار جهنم. فما بال الذين يجحفون على أهل الله، وعلى أولياء الله، ويحبسون الذين ينشرون دعوة الله جل وعلا، لا يبغون من ذلك إلا إعلاء كلمة الله، فيجحفون عليهم، ويشددون وطأتهم عليهم؟! ألا يعتبرون بالمرأة التي عذبت بالهرة؟! الجزاء من جنس العمل، فقد جعل الله لها هرة تخدشها في النار. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لما صلى العيد شق الصفوف ونزل على النساء فوعظهن، ثم أمرهن فقال: تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) وقوله: (رأيتكن أكثر أهل النار) رؤيا الأنبياء حق، أو أنه رآهن عند الإسراء والمعراج (قلن: لم يا رسول الله؟ قال: تكفرن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: تكفرن العشير والإحسان) فيحسن لها الرجل طيلة حياته أو مدة من الزمن (فإذا رأت منه شيئاً قالت: ما رأيت خيراً منك قط). وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم عن الجنة قال: (رأيت قصراً فيها، ورأيت امرأة وضيئة -يعني: امرأة شديدة الجمال- تتوضأ فقلت: لمن هذا القصر؟ -فالنبي صلى الله عليه وسلم من تواضعه- يقول: فحسبت أنه لي، فقيل: هو لعبد من أمتك يدعى عمر قال: فعلمت غيرة عمر فلم أدخل هذا القصر) ورؤيا الأنبياء حق. والنبي صلى الله عليه وسلم قال في منزلة سعد: (لمنديل من مناديل سعد بن معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- خير من الدنيا وما فيها). فالجنة موجودة، والنار أيضاً موجودة، وقد بين ذلك الله جل وعلا في كتابه إجمالاً، وفصل لنا النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلاً في سنته صلى الله عليه وسلم.

مكان الجنة والنار

مكان الجنة والنار إذا كانت الجنة والنار موجودتان فأين مكانهما؟ A ليس عندنا تفصيل عن ذلك، ولكن الإجمال جاءنا في الكتاب، فقال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] فالجنة في عليين، والتفصيل لا نعرفه، ونعرف أن الفردوس الأعلى أوسط الجنة وأعلى الجنة، وأن عرش الرحمن هو سقفها. والنار أسفل سافلين، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7]، وفي حديث البراء الطويل في عذاب القبر أنه قال: (أن صدق عبدي، اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض) يعني: أعيدوا روحه إلى الأرض، ثم قال في الفجار: (كذب عبدي، اكتبوا كتاب عبدي في سجين) يعني: أسفل سافلين.

وصف الجنة

وصف الجنة لسنا بصدد وصف الجنة والنار، لكن نمر عليها مرور الكرام، أما الجنة فقد بينها الله لنا إجمالاً تشويقاً للقلوب كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). وهناك أنهار في الجنة كما ورد في بعض الآثار: أن المرء يأخذ النهر ويمشي به حيث ما أراد من كرامة الله لأهل الجنة، فأنهار الجنة أصناف مختلفة متنوعة: الصنف الأول: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِن} [محمد:15] أي: غير مشوب، وغير مكدور أبداً، فالماء صافٍ أصفى من الماء الذي تراه الآن. الصنف الثاني: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] أي: أحلى ما يكون، وأطعم ما يكون مذاقاً للعبد المؤمن في الجنة. الصنف الثالث: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] ففي الجنة خمر لا يذهب بالعقول، بل يتمتع بها من امتنع عنها في هذه الدنيا، وقد وصفه الله جل وعلا وصفاً بديعاً بقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] أي: لا يأتيهم الصداع، ولا تذهب بعقولهم، ولا يتمايلون ويتبخترون كما يفعل أهل الدنيا، يرزقهم الله هذه الخمر، وهي خمور نقية أعدت للمؤمنين. الصنف الرابع: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ} [محمد:15] وهذا اللبن أطعم ما يكون مذاقاً في الجنة. وأهل الجنة إذا اشتهى المرء منهم شيئاً جاءه سريعاً إلى مكانه، يعني: لو نظر إلى الطير فاشتهاه لجاءه سريعاً مشوياً جاهزاً محضراً له، فقط عندما يشتهيه! أما ما في الجنة من خير ومتعة الشهوة لأهل الجنة فقد بينه الله جل وعلا بأكبر وصف، وأمتع وصف، وأوجز وصف حيث قال: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ولو لم يكن لها ميزة إلا هذه الميزة لكفت، إذ إن المرأة إذا قصرت طرفها على زوجها كانت من أفضل نساء العالمين، والله جل وعلا بهذه الميزة خلق كل حور العين للمقربين. وهذا يبين لك الفرق بين المقرب وبين صاحب اليمين، حيث قال الله تعالى عن حور صاحب اليمين: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} [الرحمن:72] أي: قصرهن الله جل وعلا، بخلاف أولئك فقد خلقن أصالة قاصرات الطرف، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الحور: (تنظر إليه فتقول: والله! ما خلقت إلا لك، وما رأيت أجمل منك، وما زلت تزداد لي بهاءً، ثم تغني له: نحن الجميلات التي لا نبأسن، نحن الخالدات التي لا نمتن، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها من شدة بياضها وجمالها). والمرأة في الدنيا عندما ترفض أن تلتقي بزوجها إن أرادها فإن الملائكة تلعنها، وتأتي حور العين وتقول: لا تفعلي معه هذا -انظر: ضرائر في الدنيا وفي الآخرة- إنه ليس لك، إنه لي وسيأتيني قريباً، يعني: سيموت ويدخل الجنة إن كان من الصالحين. وللمرء اثنتان من حور العين، أما الشهيد فله سبعون حورية من حور العين، رزقنا الله وإياكم الشهادة وطلبها بصدق من الله جل وعلا. وأما أشجار الجنة فقال الله تعالى عنها: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وفسرها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة شجرة يسير فيها الراكب أربعين سنة)، وهذا تفسير لقول الله تعالى (في ظل ممدود). والثمار بينها الله جل وعلا بقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] نسأل الله جل وعلا أن نكون من أهل الجنة.

وصف النار

وصف النار النار أصعب ما تكون، وأنكى ما يكون من عذاب من هذه النيران، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن صخرة وقعت فيها فما نزلت إلى القعر إلا بعد سبعين خريفاً، وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجاء بالنار لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك) ولا يعلم عظم هذه النار إلا الله جل وعلا، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة) نعوذ بالله من ذلك. طعامهم فيها الحميم ومن غسلين نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، وهم في سلاسل يسحبون على وجوههم، فيمثل بهم في نار جهنم، وإذا أرادوا الماء شربوا من حميم شرب الهيم، قال تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56] نعوذ بالله أن نكون منهم.

مسألة فناء الجنة والنار

مسألة فناء الجنة والنار هل الجنة والنار تفنيان؟ أقول: الجنة لا تفنى بالاتفاق، فلا خلاف بين أهل العلم في أن الجنة لا تفنى؛ لأن الله جل وعلا لما تكلم عن أهل النعيم قال: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57] فبين أنهم في خلود دائم لا موت فيه، وأيضاً عندما يؤتى بالموت ويراه أهل النار وأهل الجنة على الصراط فيذبح يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، فلا خلاف بين أهل العلم في أن أهل الجنة يخلدون فيها وأنها لا تفنى. أما مسألة فناء النار فقد ورد عن الأولين والآخرين أنها لا تفنى إلا ما ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من أن النار تفنى، واستدلوا على ذلك بكثير من الآثار والأدلة التي لا معول عليها، وقد ورد كلام آخر عن شيخ الإسلام وابن القيم أنها لا تفنى، وهذا الأليق بشيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. أما دليلهم الذي استدلوا به على فناء النار فقالوا: قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فاستدلوا بهذا الاستثناء، وقالوا: قد ورد بسند صحيح عن ابن مسعود وأبي هريرة أنهما قالا: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد) وهذا هو الشاهد، ووجه الاستدلال: أنها تخلوا فإذا خلت فنيت لأنه لا عمل لها. والصحيح الراجح: أن هذا الكلام من أخطأ الخطأ، وإن كانت من شيخ الإسلام تغفر في بحر الحسنات، ومن مثل شيخ الإسلام؟ والمعصوم من عصمه الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وإن كانت من هذا العالم فقد اجتهد فأخطأ فله أجر، وإن كان قد أصاب فله أجران، لكن الصحيح خلاف قول شيخ الإسلام وابن القيم.

وجوب لزوم الكتاب والسنة

وجوب لزوم الكتاب والسنة في هذا المقام تقعيد وتأصيل مهم لأهل العلم وهو أن نقول: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، فلو أفتى أحد من المشاهير اللوامع، الذين تضرب لهم الطبول، ويعرفهم القاصي والداني، والذين بلغوا في العلم مداه، بفتوى خالفت الكتاب والسنة، لرد هذا القول على من قال به كائناً من كان، وقد قال ذلك أجل الناس، وأشرف الناس، وأعلى الناس، وأعلم الأمة الشافعي حيث قال: إن خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله، ودخل عليه امرؤ يسأله: يا شافعي ‍! ما تقول في مسألة كذا؟ وكان بجانبه المزني والبويطي وتلاميذ الشافعي، فأجابه رجل فقال: هذه المسألة قال فيها رسول الله، وأنهى المسألة. والواجب علينا إذا قيل في مسألة: قال رسول الله أن نقول: سمعنا وأطعنا. وبعض السائلين يكون جاهلاً لا يفقه شيئاً، فعندما تقول له: قال رسول الله، يقول لك: الشيخ الفلاني أفتى بحلها، وتقول: قال رسول الله، وقال الله، وهو يقول: الشيخ الفلاني وجدته يفعلها، أو السلف كانوا يفعلونها، ولقد قال بعض الصحابة: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال فلان، وقال فلان! فلذلك لما قيل للشافعي: أتقول بهذه المسألة؟ أو أتقول بهذا القول؟ قال: أرأيتني خرجت من كنيسة؟! وهذه دلالة على كفر أهل الكنائس على كفر أهل الصليب وعباد الصليب، فلا يجوز لامرئ مسلم قط أن يهنئهم بهذا العيد، قال بعض علمائنا: من أهداهم بيضة في عيدهم فقد كفر، تقعيداً وتخريجاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (فإذا وجدتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) وقال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام)، فكيف بتهنئة العيد والرضا بكفرهم، والقاعدة المشهورة: الرضا بالكفر كفر. والضابط في هذه القاعدة أن نقول: إذا كان الكفر الذي كفر به المرء كفراً متفقاً عليه، لا خلاف فيه ولا نزاع، وهو كفر لنا فيه من الله برهان، فمن رضي به فقد كفر. والدليل على هذه القاعدة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] وفي الآية الأخرى يقول تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [محمد:7 - 9]، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]. وهنا أقول: العالم الذي يعلم عقيدتهم، ويعلم كفرهم البين، ثم يجلس في مجلسهم الكفري، ويرضى بكفرهم، بل يذهب ويهنئهم ويقبلهم ويحتضنهم، فهذا رجل لا نقول فيه إلا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ونقول له: قد بين الله لك بالاتفاق أن هؤلاء كفار فبين لهم كفرهم، أما الذين لا يعرفون إذا استفتوا أقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم ولا تهنئونهم بالعيد؛ لأنكم بتهنئتكم لهم في هذا العيد تقرونهم على كفرهم، وأنتم مأمورون شرعاً أن تبينوا لهم كفرهم، حتى يعلموا يقيناً أنهم على باطل، وأنهم إن لم يرجعوا إلى دين الله فهم على كفر وضلال. ولقد اتصل بي أخ وقال لي بالتصريح: السلام عليكم، أنا كل مدرائي نصارى، وكل عيد يهنئونني ويأتوني بالهدايا، ويجاملونني، فماذا أفعل؟ قلت له: لا تهنئهم، بل ادعهم إلى الإسلام، فهذا هو الفعل الصحيح، قال: أريد أن أسلم عليهم فقط، وأجاملهم بعيدهم كما يفعلون، قلت له: لا تفعل، قال: إن أخذت بقولك فسأفقد وظيفتي، قلت له: أيهما أفضل، أن تفقد وظيفتك أم تفقد دينك؟ فهذا الرجل لا يعتمد على ربه في الرزق، بل يحسب أنه إن لم يسلم عليهم في عيدهم، ويهنئهم بكفرهم، فسيضيع عمله؛ لظنه أن الرزق بأيديهم، وهذه عقيدة فاسدة، فالعطب في عقيدته الأولى جره إلى عطب في عقيدته الثانية. فمن سلم عليهم في يوم عيدهم فقد رضي بكفرهم، فهو ينزل هذه المنزلة إن كان من العالمين المتقنين الفاهمين لعقيدتهم الخربة. والمقصود أنه لما قال الشافعي: أخرجت من كنيسة؟ يبين له أن هؤلاء أهل كفر، فإني إن رددت قول النبي لكنت مثلهم، فانظر: على حديث واحد يرده بعد أن اقتنع به يرى الشافعي أنه يمكن أن يكون مثلهم، قال: أرأيتني قد خرجت من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ يعني: يهودياً، يقول: قال رسول الله فماذا أقول أنا؟ أقول: قال رسول الله، وأقول به، ولذلك نقول: المرء إذا جاءه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت وأطعت، ويقدم قول النبي على قول أي أحد كائناً من كان. فنقول: أولاً: جاءتنا الأدلة التي قعدت لنا وأصلت الخلود للجنة والخلود للنار، منها قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [المائدة:119] أي: على التأبيد، فهذه الآية تثبت عدم فنائها. ونرد على أدلة شيخ الإسلام من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الآثار لم تثبت، وأهل الحديث عللوا هذه الآثار بالانقطاع وبغيره. فإن تنزلنا مع الخصم وقلنا: ثبت عن ابن مسعود وأبي هريرة أنهما قالا: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد) فنئوله على أن المقصود ليس فيها أحد من الموحدين. ونحن نقول: إن نار الموحدين تفنى، لما ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلى الله علية وآله وسلم: (اذهب فمن كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فأخرجه) وبعد ذلك دينار، ثم نصف دينار، ثم مثقال ذرة، ثم حبة من خردل، ثم قال: (أذن لي ربي أن أشفع فيمن قال: لا إله إلا الله، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله) وهذا بيان بأن من قال: لا إله إلا الله وكان يصلي فهو يخرج من النار ولا يخلد فيها، وتفنى هذه النار، ويكون تأويل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم على أن التي تفنى هي نار الموحدين، ويلتئم الشمل وتجتمع الأدلة، ولا نزاع بإذن الله. أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنات، وأن يبعدنا جمعياً عن النيران. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

بيان مغفرة الكبائر

بيان مغفرة الكبائر Q هل تغفر الكبائر؟ A هذا على خلاف بين أهل العلم، ففي حديث أنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين، لأنه مرتبط بحقوق الآخرين، ويقاس عليه كل حقوق الآخرين فإنها لا تغفر، بل لا بد من المقاصة، أو يرضي الله جل وعلا الذين لهم الحق على هذا الرجل. وهل تغفر الكبائر التي بين الصلاة والصلاة، وبين العمرة والعمرة، والحج والحج؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وأنا متوقف عن الترجيح؛ لأن أدلة الفريق الأول قوية، وأدلة الفريق الثاني قوية، ولم أستطع الترجيح بينهما.

بيان أول ما يحاسب عليه المرء

بيان أول ما يحاسب عليه المرء Q ورد حديث بأن أول ما يقضى بين الناس في الدماء، وورد حديث آخر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب المرء عليه الصلاة) فما توجيهكم لهذين الحديثين؟ A نقول: إن أول ما يحاسب عليه العبد فيما بينه وبين الله الصلاة، وأول ما يحاسب عليه العبد فيما بينه وبين الناس الدماء.

منزلة نساء الدنيا بين حور الجنة

منزلة نساء الدنيا بين حور الجنة Q ما منزلة المؤمنات بين الحور العين في الجنة؟ A منزلتها بين الحور العين أنها الرئيسة والحور وصيفات لها.

بيان أكثر أهل الجنة

بيان أكثر أهل الجنة Q هل يعمل بمفهوم المخالفة لحديث: (وإني رأيتكن أكثر أهل النار)؟ A ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) مما يدل أن أهل الجنة أكثرهم من الرجال.

تعريف الحديث الموقوف

تعريف الحديث الموقوف Q ماهو الحديث الموقوف؟ A الحديث الموقوف: هو الذي أوقفه رواته على الصحابي، كأن يقولوا: قال أبو هريرة: (يقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) فهنا القول نسب لـ أبي هريرة فهذا الموقوف، أما المرفوع: فهو ما رفع للنبي صلى الله عليه وسلم.

رد توجيه الغزالي لحديث المقاصة بين الوحوش

رد توجيه الغزالي لحديث المقاصة بين الوحوش Q لماذا لا يؤخذ بقول الغزالي في توجيه حديث المقاصة بين الوحوش؟ A لأن القاعدة الأصولية تقول: إن اللفظ يبقى على ظاهره إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، فعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتص الله من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) ظاهر اللفظ أن الله جل وعلا يأمر الشاة التي ليس لها قرون أن تنطح التي نطحتها بقرونها في الدنيا.

بقاء بعض الذنوب بعد مجاوزة الصراط

بقاء بعض الذنوب بعد مجاوزة الصراط Q هل يجاوز الصراط احد وعليه ذنب؟ A نعم، فبعد أن يمر على الصراط يقف حتى ينظف من كل ما عليه من حقوق، ويعطيها للناس ثم بعد ذلك يدخل الجنة نظيفاً.

حقيقة نعيم البرزخ

حقيقة نعيم البرزخ Q هل يدخل أحد الجنة حقيقة وهو في البرزخ؟ A لا، ليس دخولاً في الجنة، بل يعرض عليه مقعده من الجنة، ويعرض عليه مقعده من النار، ويأتيه من طيبها وريحها، لكن لا يدخل الجنة أحد حقيقة إلا يوم القيامة، فحياة البرزخ حياة لا هي حياة أخروية ولا هي حياة دنيوية، بل حياة غيبية يعلمها الله جل وعلا. أما ما قيل لـ حبيب كما قال تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26] فإن المعنى: مآلك إلى الجنة، فهذا هو المعنى الصحيح بالقرائن المحققة والمؤصلة من العمومات التي أثبتت أنه لا دخول للجنة إلا في الآخرة، وكل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة أو النار كل هذا يكون في البرزخ والدليل على ما قلناه هو قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، فإنهم لم يدخلوا بل قال: (يعرضون)، ثم قال بعد ذلك: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أما الأرواح فهي في حواصل طير تطوف بالجنة وتتنعم، أما الأجساد فلا تدخل الجنة إلا في الآخرة، والجمع بين الجسد والروح لا يكون إلا في الآخرة.

حقيقة الجنة التي فيها آدم

حقيقة الجنة التي فيها آدم Q ما هي الجنة التي كان فيها آدم، أهي جنة الآخرة أم جنة أخرى؟ A هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، فمنهم من قال: جنة أخرى، وأول قوله: {اهْبِطَا} [طه:123] على أنها جنة في الأرض، أو بين الأرض والسماء، وليست جنة الآخرة، والصحيح أنه كان في جنة الآخرة، ومن أبين الأدلة وأفصحها على أن الجنة التي كان فيها آدم هي جنة الآخرة أن النبي صلى الله علية وسلم قال: (فحج آدم وقال: أنت آدم خلقك الله بيده) إلى آخر الحديث حيث قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) فإن قيل: هو قال: الجنة مطلقة، ولم يقيد بهذه وتلك، نقول: إذا أطلقت فهي جنة الآخرة.

الاستسماح من الغيبة

الاستسماح من الغيبة Q ما هو المخرج إن اغتبت أحداً في مجلس ثم لم أجده لأستسمحه؟ A يكفي من ذلك أن تنشر محاسنة في المجلس الذي أسأت إليه فيه، والعبد إذا صدق الله في توبته؛ فإن الله يقلب قلب عدوه فيكون حبيباً له.

شرح حديث (أنا أحق بذلك منك)

شرح حديث (أنا أحق بذلك منك) Q ما الحكمة من قول الله تعالى للمتخاصمين إذا عفا أحدهما عن الآخر: (أنا أحق بذلك منك) الحديث؟ A الحكمة في ذلك هو إظهار سبيل رحمة الله جل وعلا بعباده، لكن هذا ليس لأي أحد، بل لمن علم الله في قلبه مخافته، وإلا فإبليس كان يدعى بطاووس الملائكة؛ لشدة عبادته، لكن علم الله من قلبه الكبر والتكبر فابتلاه بالأمر بالسجود فلم يسجد لكبره؛ فلعنه، وجعله من الخارجين والملعونين إلى يوم القيامة.

الحكمة من رؤية المؤمنين لأهل النار في النار

الحكمة من رؤية المؤمنين لأهل النار في النار Q ما الحكمة من رؤية المؤمنين لأهل النار في النار وهم يعذبون؟ A من متعة أهل الجنة أن ينظروا إلى الفسقة الفجرة الكفرة في النار يعذبون، بل وأهل النار يقولون: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف:50]، فهذا من تمام متعة أهل الجنة، بأن تشفى صدورهم وهم يرون أهل الكفر يعذبون أمامهم، وأيضاً هذه من زيادة النكاية والعذاب والتوبيخ والتنكيل بأهل الكفر وهم في النار، حيث يرون أهل الجنة يمتعون وينعمون بما ينعمون به في الجنة.

استقلالية حياة البرزخ بالعذاب والنعيم عن حياة الآخرة

استقلالية حياة البرزخ بالعذاب والنعيم عن حياة الآخرة Q هل عذاب القبر يرفع قسطاً من عذاب الآخرة؟ A لا، عذاب القبر لا يرفع قسطاً من عذاب الآخرة، ونعيم القبر لا يقلل من نعيم الآخرة، بل حياة البرزخ لها أحكامها الخاصة بها، والآخرة لها حياة أخرى غير الحياة البرزخية ولها أحكامها الخاصة بها، كما أن الدنيا لها أحكام خاصة بها.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q ما حكم تارك الصلاة؟ A تارك الصلاة تركاً كلياً بحيث لم يسجد لله سجدة يكفر ولا يدخل في دائرة الإسلام إلا إذا صلى، والذي يصلي ويقطع ليس بكافر، بل هو فاسق فقط، والخلاف في حكم تارك الصلاة خلاف فقهي وليس خلافاً عقدياً.

قدر المسافة بين الدرجات في الجنة

قدر المسافة بين الدرجات في الجنة Q ما قدر المسافة بين الدرجات في الجنة؟ A ينظر صاحب الدرجة الأدنى إلى درجة الأعلى منه بدرجة واحدة كما ينظر الذي في الأرض للكوكب في السماء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: الفارق بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، فحري بنا أن نسعى جاهدين لأن نلتقي بالنبي في الفردوس الأعلى، ومن أروع ما يقال في هذا المقام: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، نعوذ بالله ممن يتقاعس عن طاعة الله جل وعلا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الجنة والنار

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الجنة والنار من أصول اعتقاد أهل السنة أن الجنار والنار مخلوقتان وأنهما لا تفنيان، وأن الله جعل الجنة رحمته، وجعل النار غضبه، وصفة الرحمة ثابتة في الكتاب والسنة، وقد أولها أهل البدع على عادتهم في تأويل الصفات.

عدم فناء الجنة والنار

عدم فناء الجنة والنار إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ونحن على مشارف الانتهاء من المجلد السادس. تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الجنة والنار، وذكرنا أنهما موجودتان الآن، وبينا أن الأحاديث النبوية والآيات أثبتت وجود الجنة ووجود النار، وأن الله تعالى قد خلقهما، فأعد الجنة رحمة للمؤمنين، وأعد النار عقاباً للكافرين. وتعرضنا لمسألة مهمة، وهي: هل تفنى النار أم لا تفنى النار؟ وذكرنا أقوال العلماء والراجح في ذلك، وأزيد هنا في ذكر الأدلة على أن النار والجنة موجودتان مخلوقتان: حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اختصمت الجنة والنار: فقالت النار: رب جعلتني للمتجبرين أو المتكبرين، وقالت الجنة: رب جعلتني للضعفاء، فقال الله للنار: أنت عقابي أعاقب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء). وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في البخاري ومسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم). ومعنى: (فأبردوا بالظهر) أي: تؤخر صلاة الظهر، والإبراد في الظهر فيه خلاف بين العلماء، فبعضهم يقول: تصلي بعد الزوال بساعة، والصحيح أن الإبراد بالظهر لا يكون إلا قبيل العصر، أي: قبيل أن يصير الشيء ظل الشيء مثله، والشاهد أن شدة الحر من فيح جهنم. وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)، فهذه الأدلة تدل على وجود الجنة والنار. وأما مسألة: هل تفنى الجنة والنار أم لا تفنيان؟ فالجنة لا تفنى بالاتفاق، قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]، وأما النار فقال بعضهم: إنها تفنى، واستدلوا بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128] ويوضح هذا الاستثناء حديث أبي هريرة وابن مسعود: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد)، فدل بذلك على أن النار تخلو من المعذبين فتفنى بذلك، والراجح أن النار تبقى دائماً ولا تفنى. ويرد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية بفنائها من وجهين: الوجه الأول: قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت فيقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت). والتي تفنى هي نار الموحدين، فقد جاء في الأحاديث: أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة أو شعيرة من إيمان، فتخلو نار الموحدين من الموحدين ثم بعد ذلك تفنى.

صفة الرحمة

صفة الرحمة ختم المؤلف الكتاب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرحمة، والرحمة صفة من صفات الله جل وعلا، وهي صفة ذاتية وفعلية، وهي مشتقة من اسمي الله جل وعلا: الرحمن الرحيم، والصفة الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته، فهو إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، فالله جل وعلا سيرحم المؤمنين ولكنه يعاقب الكافرين. والصفة الذاتية هي الصفة التي لا تنفك عن الله جل وعلا بحال من الأحوال، فإن قلت: فعلية بالإطلاق فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، ونظيرها في الصفات الكلام، فهي صفة فعلية قديمة النوع حادثة الأفراد. قال الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] سبحانه وتعالى.

مظاهر رحمة الله جل وعلا

مظاهر رحمة الله جل وعلا مظاهر رحمة الله جل وعلا عظيمة جسيمة كثيرة، فمن مظاهر رحمة الله جل وعلا بديع وحسن تنسيق الكون، فهذه النجوم المتلألئة في السماء الصافية، وهذه الشمس المشرقة الدافئة تدل على رحمة الله لخلقه، فهذه من مظاهر رحمة الله جل وعلا، وهي تدل على ربوبية الله تعالى وعظمته، وتدل على أنه الخالق المبدع المكون سبحانه وتعالى لهذا الكون رحمة للعباد؛ حتى يصلوا سريعاً إلى ربهم فلا يعبدوا غيره، فهذه من مظاهر رحمة الله جل وعلا. وأيضاً من مظاهر رحمة الله جل وعلا بعباده أنه أرسل الرسل، فالله رحيم لا يعذب أحداً بجهل، ولا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة، والله جل وعلا لم يكن ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، ولم يكن ليعذب قوماً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم طريق الهدى، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا. وأيضاً من آثار رحمة الله جل وعلا: الغيث الذي ينزل من السماء رحمة من الله جل وعلا، فإذا قنط العباد فإن الله الرب الكريم الرحيم يضحك من عباده حين يقنطون والفرج قريب كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57]، فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا، ولا يقنط من رحمة الله إلا الكافر، ولا ييئس من روح الله -أي من رحمة الله جل وعلا- إلا الضال المبتدع، قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] يعني: الكافرين، وقد قال الله تعالى على لسان يعقوب: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]، فروح الله هنا معناها الرحمة، فمن مظاهر رحمة الله أنه يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته. وأيضاً من رحمة الله أنه خلق مائة رحمة، فاحتجز عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل جزءاً من هذه الرحمات في الدنيا، فبها يرحم الخلق بعضهم بعضاً، فيتراحم بها الفرس مع وليده كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرحمة في الدنيا من الجزء اليسير، واختزن الله للبشر تسعة وتسعين جزءاً في الآخرة يرحمهم بها ويدخلهم الجنات جل وعلا.

سبب ذكر المصنف الريح بعد ذكر صفة الرحمة

سبب ذكر المصنف الريح بعد ذكر صفة الرحمة ذكر المصنف ختاماً لهذا الكتاب باب الريح، فقال: باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الريح مخلوقة، وتعجب محقق الكتاب من هذا التصنيف، فقال: لم أتى بهذا الباب بعد صفة الرحمة؟ وكذلك لم ينكر أحد أن الريح مخلوقة لله جل وعلا! و A أن الريح من آثار رحمة الله حتى وإن قلنا بالتفريق الذي ذكره بعض العلماء بين الريح والرياح، فقد قالوا: إن الريح تأتي بالمساوئ أو بالشدة على الناس، وأما الرياح فإنها تأتي بالخيرات والمبشرات، فإن قلنا بأن الريح فيها شدة فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا، لأن الريح التي فيها شدة ينصر الله بها المؤمنين، ويهلك بها الكافرين، فالله جل وعلا يقول: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]، فالله جل وعلا يعذب الكافرين بالريح، ويشفي صدور قوم مؤمنين، فهي من آثار رحمته للمؤمنين وإن كانت شديدة على الكافرين. وأيضاً مناسبتها لهذا الباب أن الرياح فيها الرحمة، وهو الغيث، وهذه الرحمة من آثار رحمة الله جل وعلا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

سياق في أن السحر له حقيقة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سياق في أن السحر له حقيقة لقد كرم الله الإنسان ورفعه، ودفع عنه كل ما يضره ويمس دينه أو عرضه أو عقله وغير ذلك؛ ولذلك حرم الله السحر. وللسحر حقيقة وتأثير، وهو ناتج عن استعانة الساحر بالشياطين، ولا يتم له ذلك حتى يتقرب لهم بشتى القرب والعبادات، وحتى يكفر بالله رب العالمين، وحكم الساحر القتل ردة؛ لأنه كافر برب العالمين، ويقوم بذلك ولي الأمر أو نائبه.

معنى السحر لغة وشرعا

معنى السحر لغةً وشرعاً إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: افتتح المصنف الكتاب الثامن فقال: سياق ما روي في أن السحر له حقيقة. وهذا تصنيف بديع؛ فبعدما تكلم عن علم الغيب تكلم على ما يشتبه بين الغيب وغيره، وتكلم عن السحر، ثم ثنى بالكلام عن إبليس وجنود إبليس والصرع واللبس؛ لأن كثيراً من الذين يتنطعون الآن ويتملقون يقولون: ليس هناك شيء اسمه تلبس ولا صرع، فلا يدخل الجان في الإنسان. السحر، لغة: كل ما لطف سببه وخفي ودق، فمادة السحر مشتقة من كل ما دق وخفي سببه؛ ولذلك سمي السحر سحراً؛ لأن فيه خفاء، فلا يأتي السحر إلا في آخر الليل. وأما شرعاً: فهو الرقى والتمائم والعزائم والعقد التي يتأثر بها المسحور، ويؤثر بها الساحر بالاستعانة بالشياطين، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102].

حكم السحر في الشرع

حكم السحر في الشرع السحر محرم شرعاً، وهو كبيرة من الكبائر، بل هو من أكبر الكبائر، وقد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد يكون شركاً أصغر، قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، سواء كفر أكبر أو كفر أصغر، وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات، وذكر من هذه السبع: السحر، فالسحر من المهلكات، وهو محرم شرعاً ونظراً، والنظر أن السحر فيه ضرر على الآخرين، فإذا أضر الرجل غيره من البشر فقد وقع في المحظور؛ إذ لا ضرر ولا ضرار.

أقسام السحر

أقسام السحر السحر سحران كما قسمه العلماء، سحر حقيقي، وقد اختلف العلماء فيه اختلافاً كثيراً، وأنكره المعتزلة كما سنبين في مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وسحر تخييلي، والسحر الحقيقي لا يقلب الأشياء على الصحيح، فقد اختلف العلماء هل هذا السحر يقلب الأعيان أولا، يعني: هل يقلب الإنسان إلى قرد، أو القرد إلى إنسان، فهذا اختلف فيه أهل السنة والجماعة، والغالب المقصود هو هذا النوع وهو السحر الحقيقي، وهذا السحر لا يمكن للإنسان أن يصل إليه وأن يتمرس فيه حتى يؤدي القرابين إلى من يعلمه ذلك وهم الشياطين، فلا يمكن للإنسان أن يقرع باب السحر المؤثر حقيقة بإذن الله الكوني إلا أن يقدم القرابين للشياطين كما سنبين كيفية تعليم السحر. والنوع الثاني من السحر: السحر التخييلي، والسحر التخييلي ليس له تأثير أبداً، وإنما تأثير يكون على الرؤية فقط، فهو خداع وتلبيس وتضليل، فيسحر أعين الناس، كما هو حال سحرة فرعون، قال الله عنهم لما قال لهم موسى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فعظم الله هذا الفعل من التدليس والتلبيس على الناس وقلب الحقائق في أعينهم، فقد رموا بالحبال المطلية بالزئبق والمواد الكيماوية التي يستعملونها والعقاقير، فتحركت فتخيل الناس أنها حيات وثعابين، والحق أنها حبال لا روح فيها؛ ولذلك لما ألقى موسى عصاه فتلقفت كل هذه الحيات آمن السحرة؛ لأنهم علموا أن هذا حق وأن هذه الروح من عند الذي خلقها سبحانه وتعالى. ومثل هذا ما يفعله الآن بعض السحرة الذي بخفة يده يضحك على الناس، فيخرج الدرهم من يد أحدهم أو يلعب بالبيضة يخرجها من أذن الرجل أو من جيب الرجل، فكل هذه من أنواع السحر التخييلي، وهذا لا يصل إلى الكفر كما سنبين.

تعلم السحر من الشياطين

تعلم السحر من الشياطين وأما كيفية تعلم السحر، فأما خفة اليد فتسألون عنها هؤلاء الذين يسرقون أعين الناس ويسترهبونهم. وأما بالنسبة لكيفية تعلم السحر الحقيقي الذي يؤثر فإن ذلك يكون عن طريق الشياطين، فالشيطان يعلم المرء كيف يطير في الهواء أمام الناس، أو يمشي على الماء، أو يأتي بخوارق العادات كما يفعله كثير من الكهنة والمشعوذين والدجاجلة، وآخر هؤلاء الدجاجلة وأكبرهم هو المسيح الدجال كما سنبينه، فالغرض المقصود أن الشيطان هو الذي يعلم المرء كيف يأتي بهذا المؤثر حقيقة بإذن الله الكوني، وقد ورد في بعض الروايات كما أوردها المصنف عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أنها جاءت امرأة إلى عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أتتني امرأة عجوز ومعها كلبان أسودان، فقالت لي: اركبي هذا الكلب -وهو من الجن- قالت: فركبت هذا الكلب وركبت العجوز الكلب الآخر، قالت: فسار بي فأسرع فوجدت نفسي عند بابل، وهناك رجلان معلقان فقالا لي: اذهبي إلى التنور، فبولي فيه، قالت: فارتبت فتراجعت، فقالا لي: ارجعي ولا تكفري، ثم رجعت لهم مرة ثانية، فقالا لي: اذهبي إلى التنور فبولي، قالت: فارتبت فرجعت، فقالا لي: ارجعي ولا تكفري)؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، (قالت: فارتبت فرجعت، ثم رجعت مرة ثانية فقالا لي: اذهبي فبولي عند التنور، قالت: فذهبت فبلت عند التنور فخرج مني فارس صنديد فصعد إلى السماء، فرجعت إليهما فقالا لي: ماذا رأيتي؟ قالت: رأيت فارساً خرج مني صعد إلى السماء، قالا: صدقت، هذا إيمانك قد خرج منك). ورواه أيضاً ابن جرير الطبري في تفسيره بسند صحيح إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذه دلالة واضحة على أن الذي يتعلم من الشيطان السحر يكفر، وهي ذهبت تستفتي الصحابة فكل الصحابة يتورع عن الإجابة ويقول لها: لا أفتي في شيء لا أعلمه! وهذا تعليم لنا أن نقف عند حد ما تعلمناه. فالمقصود أنها تعلمت السحر من هنا، فكل ساحر عاتٍ مشعوذ دجال لا يمكن أن يأتي بالسحر الذي تراه أنت إلا وقد قدم القرابين للشياطين، وهذه القرابين إما أن يسجد للشيطان، أو أن يمتهن المصحف ويدخل به الحمام، أو يتوضأ بالبول، ويفعل أشياء تأمره بها الشياطين، فيأتي بها حتى يمتعه الشيطان، وهذا تصديق لقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128]، فاستمتاع الجني بالإنسي أن الجني يقدم له العبادة التي لا تصح إلا لله جل وعلا، فيمتعه بهذا الكفر، وهو سيكون قريناً معه في النار؛ لأنه أخذ عزماً على نفسه إلى يوم الدين: أنه لابد أن يكفر بني آدم، فهذا يسجد له، أو يكفر بالله جل وعلا، أو يمتهن المصحف، أو يفعل ذلك أمام الناس، فهذه متعة الجن والعياذ بالله. أما متعة الإنسي فإنه يأتي الناس فيحدثهم بالمغيبات، والجن يسترقون السمع كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يركب بعضهم بعضاً حتى يصل المارد إلى السماء فيسترق السمع، فمنهم من يسمع صريف الأقلام فيسمع كلمة، فقبل أن يأتيه الشهاب -وهو ميت لا محالة- يقرقرها في أذن من تحته من الجن حتى تصل إلى أذن الكاهن، فيكذب عليها مائة كذبة، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه متعة للبشر: أن يقول للناس ويخبرهم بأمور مغيبات حقاً، أو يخبرهم على مغيب نسبي وليس مطلقاً، كالمسروقات، فالجني هذا يحدث الجني الآخر فيقول: هي في المكان الفلاني، أو يقول: هذه سرقها فلان بن فلان، فيحدث به ويخبر به، أو يمتعه أكثر بأنه يفعل له خوارق العادات أمام الناس، كأن يكون في الإمارات يوم عرفة، فيراه الناس الذين في الحج في عرفة، فيسلم على الناس وهو في الإمارات وفي نفس اليوم يأخذه الجني ويطير به إلى عرفة، فالجني يقوى على هذا، فالله جل وعلا أعطاهم هذه الخفة، فيطير به إلى أن يقف في عرفة يوم عرفة فيحج مع الناس، والناس تنظر في ذلك وتنبهر به، وقد يألهونه من غير الله جل وعلا، فالجهال الأغمار يفعلون ذلك، فهذه متعة أيضاً يمتع بها الجن الإنس. فهذه هي المتعة التي يقدمها الجن للإنس، وأما المتعة التي يقدمها الإنس للجن فهي أن يسجد له أو يكفر بالله العظيم.

أقوال العلماء في حكم السحر

أقوال العلماء في حكم السحر وأما حكم السحر فقد قلنا: إن السحر نوعان: نوع حقيقي ونوع تخييلي، فاتفق الجمهور من المالكية والحنابلة والأحناف على أن السحر كله كفر بنوعيه، واحتجوا على ذلك بعمومات الأدلة كقول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر). وأما الشافعية ففصلوا القول في السحر، وهذا هو الراجح الصحيح الذي تدل عليه الآثار، والواقع أن السحر سحران: سحر هو كفر، وسحر هو معصية وكبيرة، والسحر الذي هو كفر هو السحر الذي يستخدم فيه الساحر الشياطين، فيقدم لهم القرابين، فيكفر بذلك. والسحر التخييلي معصية وكبيرة وموبقة من الموبقات والمهلكات، وهو ذريعة إلى الكفر الأكبر، وهو التخييل والتلبيس والتدليس الذي يستخدم فيه العقاقير أو يستخدم فيه المواد الكيماوية؛ لأن فيه كذباً وضرراً يقع على الآخرين، وهذا هو الراجح الصحيح.

الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة

الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة هذه الثلاث: السحر والكرامة والمعجزة تتفق في خرق العادات، فالسحر فيه خرق للعادات، فصاحبه يمشي على الماء، ويطير في الهواء، ويفعل الأعاجيب بخرق العادات، والكرامة هي ما يظهره الله على يد ولي من أوليائه؛ إظهاراً لشرفه وكرامته وعلو مكانته عنده، فهذه كرامة من الله جل وعلا بدون مقدمات، فلا يقدم الولي شيئاً حتى تظهر على يديه الكرامة، بل الله يمنحه هذا بدون مقدمات، ولا شك أن المقدمات الأولى هي الطاعات، وأما الساحر فلابد أن يقدم للشيطان حتى يصنع له خوارق العادات. وأما المعجزة فهي خارقة للعادة والفارق بينها وبين السحر والكرامة أن المعجزة هي خرق للعادة مع التحدي؛ ولذلك سميت معجزة، فالله جل وعلا يعطي النبي المعجزة يتحدى بها البشر أن يأتوا بمثلها، كما أعطى نبيه معجزة القرآن وقال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] إلى آخر الآيات: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] وهذا إعجاز، وهل هناك أشد أعجازاً من هذه الآية الكريمة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، فلم يقم أبو لهب وسط الناس ويقول: هو قال: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)) وأنا سأؤمن بمحمد الآن، لم يفعل ذلك وهذا أكبر إعجاز، فهذا هو الإعجاز المعنوي. وأما الإعجاز المادي فكقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فقد رأوا القمر شقين: شقاً على اليمين والشق الآخر على اليسار والجبل يفصل بين الشقين، فهذه معجزة تحدى الله عباده أن يأتوا بمثلها، وأما الكرامة فلا يمكن للولي أن يتحدى بها أحداً وإلا فقد كذب على الله، والله يخذله كما يحدث من الساحر، فـ المسيح الدجال ساحر يستعمل الشياطين حتى إن الرجل يأتي إليه ويقول له: إن أردتني أن أؤمن بك فأخرج لي أبي وأمي، فيقول: أين قبراهما؟ فيأتيهما فيقول لأمه: اخرجي، ويقول لأبيه: اخرج، فيخرج أبوه ويخرج أمه، والذي خرج من القبرين حقيقة هما شيطانان يستعملهما، فهو يستعمل الجان؛ ولذلك إذا تحدى وأظهر الإعجاز فإن الله يخذله، فإنه يقول للخربة: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويشق الرجل نصفين ثم ينادي به فيأتيه متهللاً فرحاً، فيقول له: أنت الدجال، فإنه يدعي النبوة، ثم بعد ذلك يرتقي فيدعي الربوبية؛ فإذا ادعى الربوبية والإلهية بعد النبوة فإن الله يخذله، فلا يستطيع أن يفعل ما منحه الله من الإعجازات مرة ثانية؛ لأن التحدي لا يكون إلا لنبي من أنبياء الله تعالى. فهذا هو الفارق بين السحر والكرامة والمعجزة.

التفصيل في حكم الساحر

التفصيل في حكم الساحر

حكم الساحر إذا كان مسلما ثم تعلم السحر

حكم الساحر إذا كان مسلماً ثم تعلم السحر اتفق العلماء على أن الساحر الذي يستخدم في سحره الشياطين، ويستخدم الكفر فإنه يكفر بالسحر، فإذا كان يسجد للشيطان، ويستعمل الشيطان في العقد والنفث، فهذا حكمه بالاتفاق القتل، فتضرب عنقه. واختلفوا في الذي يأتي بسحر التلبيس والتدليس، أو يأتي بأشياء يسرق بها أعين الناس، فالجمهور على أنه أيضاً يقتل، وستأتي أدلتهم، وقال الشافعية: لا يقتل بل يعزر، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت لها جارية سحرتها فلم تقتلها، وباعتها، فـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها الفقيهة أم المؤمنين لم تقتل الساحرة، وهذا دليل على أن الساحر الذي يأتي بسحر التخييل -وإن كان فيه بعض الإيذاء للناس- لا يقتل. والصحيح الراجح في ذلك قول الجمهور: أنه يقتل، لكن ضابط المسألة: أن الذي يأتي بالسحر الذي هو كفري فإنه يقتل ردة لا حداً؛ لأنه كافر خارج من الملة، فيخلد في نار جهنم، وأما الساحر الذي يأتي بالسحر الآخر فهذا حده أيضاً الضرب بالسيف؛ للعمومات التي سأذكرها، فيضرب بالسيف حداً لا ردة. والفرق بين الحد والردة أن الذي يقتل حداً ما زال مسلماً، فهذا الحد يطهره، ولا يسأل عن فعله ذلك يوم القيامة، وأما الردة فصاحبها خالد مخلد في نار جهنم، والأدلة على ذلك كثيرة منها: أولاً: حديث جندب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: حد الساحر ضربة بالسيف، وقد رواها جندب قولاً ثم فعلها فعلاً، فقد جلس أحد الأمراء وهو الوليد وبين يديه رجل ساحر يستخدم الجن، والناس ينظرون، فيقطع الساحر رقبته فتتدحرج على الأرض، فيأخذها ثم يردها مكانها مرة ثانية، ويضحك الوليد ويضحك الناس أمامه، فجاء جندب رضي الله عنه وأرضاه الفقيه الصحابي الجليل من بعيد فرأى الرأس تتدحرج ثم ترجع مكانها، فعلم أن هذا من فعل الشياطين ومن سحر الجان، فاستل سيفه فذهب إلى الساحر فأطاح برأسه وقال له: أعد رأسك الآن، فغضب الوليد من فعله فحبسه، فلما ذكر هذا أمام سلمان رضي الله عنه وأرضاه قال سلمان رضي الله عنه وأرضاه: أخطأ الوليد؛ لأنه لا يصح له أن يحبس الصحابي، فكل التابعين في ميزان هذا الصحابي، وما وصل الدين إلا عن طريق هؤلاء الصحابة، ثم الوليد أخطأ عندما جعل الساحر يلبس على الناس بسحره. قال: وأخطأ جندب لأنه افتأت على ولي الأمر، إذ إن إقامة الحدود لا تكون إلا لولي الأمر والوكيل عنه، فلما فعل ذلك جندب من غير استئذان ولي الأمر كان هذا خطأ منه، ولكن لا يمكن أن يحبس هذا الصحابي ولا أن يعزر، بل ينصح في ذلك. فهذا دليل قوي جداً على ضرب الساحر دون استفتاء، وأقر سلمان ذلك. ثانياً: جاء في مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة، وسنده صحيح، فقاموا وقتلوا ثلاث سواحر. ثالثاً: عن حفصة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت لها جارية سحرتها، فأمرت بقتلها فقتلت، وهذا دليل ثالث يدل على أن الساحر يقتل، وهذا بعمومه يدخل فيه النوع الأول والنوع الثاني. الدليل الرابع: استنباطاً ونظراً، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] إلى آخر الآية، والذي يستخدم السحر ويستخدم الشياطين، أو الذي يؤذي الناس بسحره، فهذا من المفسدين في الأرض، فيدخل تحت عموم الآية: {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] إلى آخر الآية؛ لأنه سعى في الأرض فساداً. وهذه الأدلة الأربعة تدل دلالة واضحة على أن حد الساحر القتل. واستدل الشافعي على قوله بأن عائشة رضي الله عنها سحرتها امرأة فلم تقتلها بل باعتها. فنقول: إن الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا في قول الصحابي وفعله؛ فقول الصحابي وفعله حجة إذا لم يخالفه أحد من الصحابة فكيف إذا خالفت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإن لم يأت حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن عائشة قد خالفها بعض الصحابة كـ حفصة وعمر وجندب رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا اختلف الصحابة فلا حجة في قول أحدهم على الآخر، فالصحيح أن حد الساحر ضربة بالسيف، فيقتل إن كان السحر من النوع الثاني حداً، وإن كان من النوع الأول فإنه يقتل ردة.

حكم الساحرة

حكم الساحرة هل تقتل المرأة الساحرة أو لا؟ اختلف العلماء فيها على قولين: فالجمهور على أنها تقتل، والأحناف على أنها لا تقتل، فأما الأحناف فاستدلوا بالأحاديث التي فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحروب مر على امرأة قتلت فقال: (ما كانت هذه لتقاتل!)، فنهى عن قتل النساء ونهى عن قتل الأطفال، وهذا عام في الساحرة وفي غيرها، فإذا كان هذا وهي كافرة خارجة عن الملة، فما بالكم إن كان عندها أصل الإسلام، فلا تقتل من باب أولى، والجمهور على أنها تقتل وهذا الراجح الصحيح؛ لعمومات الأدلة. وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها فهو لعلة، وهي المبينة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه لتقاتل). والثاني: هذه مسألة خاصة بالسحر؛ لأن السحر أضر بكثير من النساء، ويعضد ذلك قوله: (ما كانت هذه لتقاتل) يعني: لو قاتلت ستضر بالمسلمين فتقتل، فمن باب أولى إذا أضرتهم بالسحر فتقتل.

حكم الساحر الذمي

حكم الساحر الذمي المسألة الأخيرة: هل يقام الحد على الساحر الذمي؟ صورتها أن يأتي رجل من أمريكا أو من بلاد الأدغال إلى بلادنا مثلاً بتأشيرة أعطاه إياها ولي الأمر، فهذا دخل بأمان، فإن كان ساحراً فسحر الناس هل هذا يقام عليه الحد أو لا؟ الجمهور على أن الذمي لا يقام عليه الحد، واستدلوا على ذلك بحديث طويل في الصحيحين وفيه: (أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو من اليهود من أهل الذمة، وهذا فيه دلالة واضحة على أنه لا يقتل. وقالت الأحناف: بل يقتل، والراجح في الأثر والنظر مع الأحناف أنه يقتل؛ إذ إننا لو نظرنا إلى الكافر على الإطلاق لوجدناه على نوعين: الأول: كافر حربي وهذا يقتل ويهدر دمه أصالة من غير أن يسحر أحداً. الثاني: كافر ذمي لنا معه عهد وأمان وذمة، فعليه دفع الجزية، فنأخذ منه الجزية، وإذا أضر بالمسلمين فقد نقض العهد؛ لأن شرط أخذ الجزية عليهم أنهم لا يضرون بالمسلمين، فإذا آذوا المسلمين فقد خالفوا عقد الذمة بيننا وبينهم، وينتقض عهد الذمة، فيقتل ساحرهم، ويرجع إلى أصله من كونه حربياً، فيقتل لأنه حربي أو لأنه ساحر، وهذا الراجح الصحيح. وأما الرد على حديث لبيد فنقول: لدينا قاعدة قعدها النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها ليعلمها الناس قولاً وفعلاً، فأما قولاً: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة -كما في الصحيحين-: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر -أو بالجاهلية- لهدمت الكعبة)؛ لأنها لم تقم على قواعد إبراهيم، (ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس وباباً يخرج منه الناس)، فقريش جعلت الباب عالياً من أجل أن يدخل الشرفاء فقط، ولو دخل غيرهم دفعوه فلا يدخل، وحتى الآن لا يدخلها أي أحد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يجعلها على قواعد إبراهيم، ويجعل لها بابين: باباً يدخل منه كل الناس، وباباً يخرج منه الناس، والذي منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر)، فقعد قاعدة مهمة جداً وهي: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فالمصلحة أن يبني الكعبة كما بناها إبراهيم عليه السلام، لكن المفسدة أعظم وهي أن قريشاً لم يسلموا إلا حديثاً فقد يقولون: لماذا يهدم الكعبة التي عظمناها وشرفناها وعظمها الله، فقد يؤدي بهم ذلك على الكفر والردة، فالنبي صلى الله عليه وسلم درء هذه المفسدة لجلب المصلحة الكبرى وهي: أن يبقوا على الإسلام. وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم سبه عبد الله بن أبي بن سلول، وسبه كثير من المنافقين فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استأذن عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب أعناق هؤلاء، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قسم قسماً، فأتاه ذو الخويصرة -رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله! اعدل!)، وفي رواية أخرى قال: (هذه القسمة ما أريد بها وجه الله)، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إذ لم أعدل أنا؟! فقام عمر فقال: يا رسول الله! ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين -يعني: يخرجون- كما يمرق السهم من الرمية)، فانظروا الفارق بين العلم والجهل، والعالم والجاهل، فالرجل يتعبد ليلاً ونهاراً: صياماً وقياماً ولا يزن عند الله بعوضة، فالشاهد من الحديث أن عمر قال: (ائذن لي أضرب عنقه)، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وفي رواية قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، فدرأ هذه المفسدة لجلب مصلحة أكبر؛ حتى يثبت الناس على الإسلام ولا يتحدث أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. فالإجابة عن هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم حتى لا يؤلب عليه اليهود؛ إذ إن العرب قد رمته عن قوس واحدة، فكل العرب قاطبة اتفقوا عليه، ولما قالت عائشة: (ألا تنتصر؟ قال: لا أنتصر؛ قد شفاني الله جل وعلا)، فهذا هو الجواب عن هذا الحديث. فالقاعدة إذاً: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأما الآن: لو وجدنا ساحراً يسحر الناس ويؤذيهم ويستعمل الشياطين، فلا بد من رفع أمره إلى ولي الأمر حتى يقيم عليه الحد، أو يحبسه كما يرى إن كان المسألة فيها تعزير دون الحد. وهذا ختام لباب السحر، ويبقى لنا جزء واحد في باب السحر وهو: سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وقول المعتزلة الذين ردوا الحديث الذي في الصحيحين، فهل سحر النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يسحر؟ وهل أثر ذلك على نبوته ورسالته أم لم يؤثر؟ فسنرد على المتنطعين الذين ردوا الحديث الذي في البخاري ومسلم، ثم نثني بالكلام عن الجن واللبس والصرع، وكيفية علاج ذلك، ثم بعدها ندخل في الكلام عن الصحابة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

أسئلة

أسئلة

حكم استتابة من أتى بالسحر على سبيل التدليس

حكم استتابة من أتى بالسحر على سبيل التدليس Q هل يستتاب الذي يأتي بالسحر على سبيل التدليس والتلبيس أم لا يستتاب؟ A يستتاب في النوعين على الراجح، والجمهور على أنه لا يستتاب بل تضرب عنقه، ويستدلون على ذلك بقصة المرأة التي ارتدت، أو الرجل الذي ارتد، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، الفاء للتعقيب، والصحيح الراجح أنه يستتاب؛ إذ الشرع متشوف لإسلام الكافر فما بالكم بالذي أسلم وتذوق حلاوة الإيمان أولاً؟ فالصحيح الراجح أنه يستتاب، فإن لم يتب تضرب عنقه.

حال قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل لتعلم السحر

حال قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل لتعلم السحر Q ما حال إسناد قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل لتعلم السحر؟ A القصة رواها اللالكائي بسند صحيح، وفي ابن جرير الطبري أيضاً بسند صحيح إلى عائشة لكن هشام بن عروة لم يصرح بالتحديث عن عائشة، وهشام بن عروة اتهمه بعض العلماء بالتدليس لكن الكلام هنا هل تدليسه يحتمل في هذه الرواية أو لا يحتمل؟ عندنا بعض الروايات التي عضدت هذا الأمر، وهي مذكورة عند تفسير قول الله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة:102]. ففي قصة المرأة أنها كفرت، وابن عباس قال ذلك في تفسير هذه الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، قال ابن عباس: بتعليم السحر، فالمرأة التي ذهبت إلى بابل كفرت بتعلمها السحر.

حكم التبرك بالأولياء

حكم التبرك بالأولياء Q ما حكم التبرك بالأولياء؟ A التبرك بالولي فيه تفصيل، وهو: أنه يجوز التبرك بدعائه لا بذاته، فلا يجوز أن أجلس يجانب الولي كي أحتك بجسده وأتبرك به، أو آتي به إلى بيتي فأطعمه ظناً مني أن البيت سيمتلئ بركة، لكن التبرك بالولي إنما يكون بدعائه فقط، ولذلك بينا أن التوسل على ثلاثة أنواع ومنها هذا، وأما ذات الولي فلا يتبرك بها حياً ولا ميتاً. ويمكن للناس أن يعرفوا الولي بصلاحه، فقد جاء في البخاري ومسلم: (مرت جنازة بالنبي صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليها خيراً -أي: أنه من الصالحين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر: يا رسول الله! مرت جنازة فقلت: وجبت، ومرت الثانية فقلت: وجبت! قال: أما الأولى فقد أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وأما الثانية فأثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض). وطلب الدعاء لا يكون من كل أحد، وإنما يكون من الصالحين، فأنت إذا حسبت رجلاً من الصالحين ورأيته يتقي الله ويتورع ولا يتكلم إلا بقول الله وقول الرسول، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا يمكن أن تقول له: ادع الله لي. فيمكن أن تتوسم الصلاح في أحد وتحكم على ظاهره فقط، أما الباطن فأمره إلى الله تعالى.

حكم الهجرة من البلدة التي لا تحكم بشرع الله تعالى

حكم الهجرة من البلدة التي لا تحكم بشرع الله تعالى Q ما حكم الهجرة من البلاد التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية؟ A هذا فيه تفصيل، فإذا كانت هذه البلد يعلوها الكفر لا الإسلام فهي دار كفر، ولا يجوز للمسلم أن يجلس فيها، بل عليه أن يهاجر وجوباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن أقام بين أظهر المشركين)، فلا يجوز له الجلوس هناك إلا إذا كان يدعو إلى الله جل وعلا وينتشل الكافرين إلى الإسلام، فإن كان يفعل ذلك ويمكن له أن يعلو بدينه فله ذلك، فإن لم يفعل وجبت عليه الهجرة، فإن كان ببلده وقد طغى وهجم عليها الكفار، فهذا يجب عليه الجهاد ليطرد هؤلاء من بلده، وإذا استطاع أن يقيم الحد على الذين تعدوا حدود الله جل وعلا فليقم؛ لأنه هو الحاكم الصحيح لهذه البلدة.

النظريات العلمية تقبل إذا أيدت ما أثبته الشرع وترده إذا ناقضته

النظريات العلمية تقبل إذا أيدت ما أثبته الشرع وترده إذا ناقضته Q ما دام أن النظريات العلمية ليست دليلاً على ما أثبته الشرع فهل نردها مطلقاً؟ A أقول الإعجاز العلمي موجود، لكن الخطأ في الذين يفسرون القرآن بالإعجاز العلمي ويأتون لبعض النصوص فيلوون عنقها من أجل أن توافق نظرية علمية معينة، وهذا خطأ منهم، قال شيخ الإسلام تفسير القرآن له قواعد، وهي: تفسير القرآن بالقرآن، وهو أولى التفاسير وأصدقها وأصحها، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة، ثم تفسير القرآن باللغة. وما بعد ذلك فخذ منه ودع، وطبعاً التفسير باللغة مع أنه يأتي في المرتبة الأخيرة إلا أنه يشترط فيه ألا يكون إلا من عالم لغة فصيح قوي العارضة، لكن أن نأتي إلى النصوص فنلوي أعناقها من أجل أن نقول: هذا إعجاز علمي، فهذا لا يصح. فمثلاً أثبت العلماء بنظرياتهم العلمية أن الأرض كروية وبعد ذلك جاءت نظرية تثبت أنها بيضاوية فقالوا: عندنا في القرآن دليل على أنها بيضاوية، وهو قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]. وممن طوع القرآن على حسب الاكتشافات العلمية محمد عبده رحمه الله وغفر زلاته، فجاء إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:1 - 3] قال: ليس هناك طير أبابيل، إنما المقصود به: الجدري! ويفسر القرآن بهذه الطريقة من أجل أن تستوعبه عقول الناس، فلا يجوز أن نراعي عقول الناس ونطوع الآيات من أجل هذا الإعجاز، لكن الصواب أن ننظر في هذه النظريات فإن وافقت الشرع قبلناها، وإلا رددناها غير مأسوف عليها. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.

الرد على أهل البدع في مسائل السحر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على أهل البدع في مسائل السحر ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة وقوع السحر للكثير من الناس، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وتعاطى الأسباب لإبطال أثر هذا السحر مشرعاً لأمته من بعده، ومبيناً الوسائل المطلوبة والأسباب الشرعية التي يلزم اتباعها من أجل التداوي من السحر وآثاره.

إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر

إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب العظيم شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وتوقفنا فيه عند الكلام على السحر، وفرقنا بين السحر وبين المعجزة وبين الكرامة، وأثبتنا أن السحر نوعان، وبينا هذين النوعين. ونتكلم اليوم عن مسألة مهمة قد أنكرها كثير من أهل البدع، وردوا الأحاديث الصحيحة فيها، وهي مسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم، سُحِر، فهل معهم حجة في ذلك أم لا؟ أقول: قد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دلالة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت الله أن للسحر تأثيراً، وأن هذا التأثير لا يكون إلا بإذن الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فأفاد هذا النص الكريم أن السحر يضر، وأن السحر يؤثر، وقد بينا أن السحر يؤثر في الظاهر وفي الجوارح، فيمكن أن يؤثر على القلوب بالهم والغم ويؤثر على العقول، لكن مع ذلك فإنه لا يقلب الحقائق. وقد ثبت خبر سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يأتي أهله وما يأتي أهله. وفي رواية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفتيت ربي فأفتاني، وجاءه ملكان ملك عند رأسه وملك عند رجله فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ -يعني: من سحره؟ - قال: لبيد بن الأعصم) ثم استخرج السحر من المكان الذي وضع فيه وشفي النبي صلى الله عليه وسلم. ولم ينتصر النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من لبيد لحكمة بيناها فيما مضى. والمقصود: أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وثبت أنه كان يخيل إليه أنه يأتي أهله وما يأتيهم، وقد ثبت هذا بالنص الصريح، والشرع من الله جل وعلا والوحي قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

الحكمة من وقوع السحر في النبي عليه الصلاة والسلام

الحكمة من وقوع السحر في النبي عليه الصلاة والسلام والله عز وجل لا يصنع شيئاً إلا وله حكم بليغة في هذا الصنيع، والله حكيم عليم، ومن دقق النظر في خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت له وحكم بليغة جداً منها:

ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على بشريته

ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على بشريته أولاً: الرد القاطع على أهل التصوف الغالين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يثبت الله جل وعلا للناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلكم، ومن جلدتكم، ومن بني آدم، يتأثر بما تتأثرون به، ويأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ويأتي أهله، ويمرض، بل إنه يسحر كما تسحرون، وهذا رد قاطع على المتصوفة الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم فوق طبقة البشر، وإنما خلق من نور ولم يخلق من ماء وطين! فمن رحمة الله للعالمين أنه أرسل إليهم رسولاً منهم يدعوهم إلى الله جل وعلا. فأول هذه الحكم تقطع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم -ليحسم مادة الشرك وليحافظ على التوحيد-: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، إذ إن الذين غلوا في عيسى ما قالوا: إنه خلق من ماء وطين، بل قالوا: هو مشتق من الأقانيم الثلاثة، التي هي نور من الله جل وعلا، ونسبوا عيسى لله جل وعلا. وأهل التصوف شابهوا فعلهم هذا فقالوا: محمد لم يخلق من ماء وطين بل خلق من نور، ثم ارتقوا بعد ذلك إلى أن وسموه بالربوبية والإلهية، كما قال البوصيري في البردة: وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فما ترك لله شيئاً، فالدنيا والآخرة من وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم اللوح والقلم من علم النبي صلى الله عليه وسلم، فأين الله؟! ولذلك تعقب ابن رجب صاحب البردة فقال: هذا الرجل جن في عقله، فما ترك لله جل وعلا شيئاً، وإنما جعل كل شيء للنبي صلى الله عليه وسلم. فمن الحكم البليغة فيه إظهار بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثر كما يتأثر البشر، ويمرض كما يمرض البشر، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً يتألم ويتوجع، فقلت: يا رسول الله! إني أراك توعك وعكاً شديداً، فقال: نعم. إني أوعك مثلما يوعك الرجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: نعم). والشاهد في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك البشر، بل إنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته في أحد وكاد يقتل صلوات ربي وسلامه عليه لولا أن الله جل وعلا أنزل في كتابه أمراً مقضياً: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. فالله جل وعلا مكّن ليهودي كافر حاقد حاسد من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم لبشريته صلى الله عليه وسلم.

ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تشريع للبشر من بعده

ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تشريع للبشر من بعده ثانياً: في خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم تشريع للبشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما شفي من السحر قال: (استفتيت ربي فأفتاني فجاء الملكان) أي: بعدما أخرج السحر الذي عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من البئر شفاه الله، لكنه لم يقتل لبيداً مع أن حد الساحر أن يضرب بالسيف، ويقتل إما ردة وإما حداً على التفصيل السابق، فلم يفعل رسول الله ذلك تشريعاً للأمة، وليبين أن المسألة وإن كان فيها أمر وإن كان فيها شرع، فالمرء يمكن أن يمتنع عن تطبيقه لعلة ولحكمة أبلغ. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيداً حتى لا تتألب عليه الأمم، وحتى لا يقول اليهود: إن محمداً يقتل الناس بغير حق ولا إثبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيداً لهذا المقصد العظيم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطل بعض الحدود لعلل وحكم مقاصد، ففي عام الرمادة كان الناس يقتتلون على الطعام ولا طعام لهم ويمكن أن يسرق بعضهم من بيت مال المسلمين نفسه؛ ومع هذا لم تقم الحدود؛ لأن هذه شبه تدرأ بها الحدود.

ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بلاء واختبار لصدق أهل الإيمان

ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بلاء واختبار لصدق أهل الإيمان ثالثاً: في سحر النبي صلى الله عليه وسلم بلاء واختبار وتمحيص لإظهار أهل الدين، هل يصدقون ربهم أم لا؟ وقلوبهم هل استقر فيها الإيمان بحق أم لا؟ إذ إن الله جل وعلا يختبر القلوب، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، والله جل وعلا ليختبر صدق المرء ينزل عليه البلايا والفتن تترى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. إن مما يتلى على الناس ليل نهار، قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فعندما يسحر النبي صلى الله عليه وسلم تفتتن القلوب كما حدث للأغرار الأغمار من المعتزلة وأهل البدعة والذين ينفخون في أبواق المعتزلة في هذه العصور، يفتتنون بذلك ويقول قائلهم: رسول معصوم كيف يسحر؟ فنجيبهم: هو عبد لله جل وعلا ويسحر، فيفتن الله جل وعلا الناس ليغربلهم. ولذلك قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] فهو فتنة، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، فيرتقي الطيب عنده وينزل الخبيث في صفوف المنافقين في الدرك الأسفل من النار. فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سحر، وهذه بعض الحكم التي أدركناها. وما خفي كان أعظم وأعظم وأعظم، إذ إن حكم الله لا يكون لها عد، ولكل شيء فعله الله حكمة بليغة، لكن يوصل الله لها من يشاء من عباده.

إنكار أهل الأهواء والبدع لحادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم

إنكار أهل الأهواء والبدع لحادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم فهذا الحدث الثابت ثبوت الجبال الرواسي في البخاري ومسلم أصح الكتب بعد كتاب الله أنكره بعض المبتدعة، شرذمة من أهل الأهواء يأتون إلى شرع الله فيختبرونه بعقولهم العطبة، ويأتون إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمررونها على العقول، فإن قبلتها عقولهم أخذوا بها، وإلا نحوها جانباً، فهم يقدمون العقل على النقل، فالمعتزلة وأذيال المعتزلة في وقتنا الحاضر من أهل الإسلام المستنير يأتون في الفضائيات وغير الفضائيات ويقولون: كيف يسحر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم؟ وإثبات هذه الحادثة إنما هو قدح في نبوته وفي رسالته وفي تبليغه، وهذه العلة التي يتمسكون بها أوهى من بيت العنكبوت، قالوا: إذا أثبتنا هذا الحدث العظيم، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر فإنه يكون غير معصوم، وإن كان ليس بمعصوم إذاً لم يبلغ تمام البلاغ، وهذا قدح في النبوة، نعوذ بالله من ذلك. وكثير من المتكلمين في هذه العصور يردون على البخاري ومسلم روايتهما في إثبات حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم بزعم أن هذا قدح في النبوة، وقدح في التبليغ والعصمة.

إنكار وقوع السحر للنبي نفي لما أثبته الله جل وعلا

إنكار وقوع السحر للنبي نفي لما أثبته الله جل وعلا ونرد على المنكرين لحادثة سحر النبي عليه الصلاة والسلام من جوه: الوجه الأول: نقول لهم: لم تنفون ما أثبته الله؟ ونحن متعبدون ومربوبون لله، فما أثبته الله فهو ثابت، وما أثبته رسوله فهو ثابت، لا يغيره شيء بحال من الأحوال. وقد ثبت بالدليل الصريح الصحيح وبالشرع الذي يقبله العقل، وهو من النقل الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، فإذا ثبت ذلك فليس لكم أن تنفوا ما أثبته الله جل وعلا، وإلا كان لازم هذا الفعل أن تقعوا تحت طائلة الآية: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]. فأنتم تخالفون مفهوم هذه الآية وقوة هذه الآية، إذ إن الله جل وعلا قد أثبت شيئاً فيلزمكم أن تصدقوه، فتثبتون ما أثبته الله جل وعلا، فأول واجب على المسلم أن يتمسك بالشرع، فالشرع قاصم لظهر أي مبتدع، ولذلك أنا أنصح أي طالب علم إذا جاء مبتدع ليجادله فلا ينبس ببنت شفة إلا بقال الله وقال الرسول فيحار في أمره، ولا يستطيع أن يواجه هذه الأدلة، فضوء الشرع ساطع يحرق كل مبتدع. فالله جل وعلا أثبت أن للسحر تأثيراً، حيث قال جل وعلا: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، ومفهوم هذه الآية ومعناها: أن السحر له تأثير بإذن الله جل وعلا، وقد أذن الله أن يتأثر رسوله صلى الله عليه وسلم لحكم بليغة سبق الكلام في بعض منها. كما أن هذا النص الصريح الصحيح لا مدخل للطعن في إسناده فأسانيده كالشمس وقد اتفق عليها البخاري ومسلم، فأثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر وقد تأثر بالسحر صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء أثبته الله وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم فوجب عليكم إذا أقررتم أنكم من عباد الله أن تسلموا لأمر الله بأن تثبتوا ما أثبته الله ورسوله، وليس لكم سبيل للخروج من هذا.

وقوع السحر للنبي لا ينفي عصمته في الأمور الدينية

وقوع السحر للنبي لا ينفي عصمته في الأمور الدينية الوجه الثاني: أن نقول: العصمة عصمتان: عصمة في التبليغ، وعصمة في الأمور الدنيوية -يعني: عصمة أخروية وعصمة دنيوية- والعصمة الأخروية أو العصمة الدينية هي المقصودة بقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وليست العصمة الدنيوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب وكسرت رباعيته، وكاد يقتل في أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم وقع عن بعيره ودحست وركه، والنبي صلى الله عليه وسلم مرض، فإذا قلت بأن {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] المقصود بها العصمة الدنيوية فإنك تكون قد كذبت بالآية، والصحيح أنك تقر بهذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وأن الله جل وعلا يعصمه في التبليغ، وقد ثبت في الحديث: (أن أعرابياً قام على رأس النبي صلى الله عليه وسلم والسيف في يده صلتاً وهو يقول: من يعصمك مني؟ قال: الله، فوقع السيف من يد الرجل، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يعصمك مني؟ قال: كن خير آخذ) صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قال لنبيه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فهذا الرجل لن يقتلك؛ لأن لك وقتاً ستبلغ فيه البلاغ التام حتى يتم هذا الدين. فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] مفاده العصمة في مسألة التبليغ، أما الأمور الدنيوية فإن الله يبتلي بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليه المرض، حتى إن بعض العلماء قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات بتأثير السم الذي كان في كتف الشاة التي أهدته المرأة اليهودية، فلما نهش منها نهشة أخبرته أنها مسمومة، وكان أنس يقول: (ما زلت أرى ذلك في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم)، ومات متأثراً بالسم، (وكان صلى الله عليه وسلم عند موته يضع يده في الماء، ويضعه على رأسه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات). فيكون المقصود بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، العصمة الأخروية وإن كانت عصمة دنيوية فإنما هي من أجل التبليغ، وأدلة ذلك متوافرة متضافرة كثيرة جداً لا تحصر في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ثلاثة من حدث بهن فقد كذب، وفي رواية: فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، أو فقد كذب، ثم استدلت الأدلة التي تكلمنا عنها قبل ذلك، وقالت في الثانية وهو محل الشاهد: ومن قال لكم: إنه لم يبلغ، فقد أعظم على الله الفرية أو فقد كذب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالبلاغ، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم تمام البلاغ، وقال في حجة الوداع: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم. قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد). فالعصمة عصمتان: عصمة من أجل التبليغ، وعصمة دنيوية، وهذه غير مطلوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقع عليه ما يقع على البشر، والعصمة الأخروية للتبليغ لا بد أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قضاها: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، فيقع عليه أمر النسيان، لكن فيما سوى التبليغ، إذاً: هو بشر يعتريه ما يعتري البشر من النسيان إلا في التبليغ، والدليل على ذلكم قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]. فالعصمة هي للبلاغ والتبليغ.

تأثير السحر في العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وسلم

تأثير السحر في العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وسلم الوجه الثالث: استدلوا بقول عائشة: (وكان يأتي أهله وما يأتي أهله)، فقالوا: في هذا الدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي أهله وما يأتي أهله. فنقول لهم: الرد على هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: تفسير: (كان يأتي أهله وما يأتي أهله)، فيه إثبات وفيه نفي، ومعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهم ويعزم ويشتهي أهله فيذهب ليجامع أهله فيربط عن ذلك وتخور العزائم وتفتر الهمم عن الجماع. وهذا واقع مشاهد عند كثير من الناس فإنهم إذا أرادوا الجماع يربطون عن أهليهم. الوجه الثاني: أن هذا من باب التخيل، وهو ما نسميه في الوقت الحاضر بأحلام اليقظة، حيث يجلس المرء يفكر في شيء فيسرح مع هذا الشيء وهو لم يكن قد وقع، والنبي صلى الله عليه وسلم يحصل له مثل هذا فهو لم يجامع أهله واقعاً، لكن يتخيل ذلك من أثر السحر، وهذا رد عليهم على هذه الشبهة. والصحيح الراجح كما بينا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، وهذا السحر وقع عليه، والله جل وعلا له في ذلك حكم. أما بالنسبة لحديث عائشة: (كان يأتي أهله وما يأتي أهله)، معناه: إذا أراد أن يأتي فلا يأتي، ودليل ذلك من اللغة قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، ومعناه: إذا أردت أن تقرأ القرآن. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس ورد ذكر الجن في الآيات والأحاديث، فيجب الإيمان بوجودهم، وبما ذكر من صفاتهم، وهم مكلفون كالإنس، وسيجازون بأعمالهم يوم القيامة.

حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس

حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

أصل خلقة الجن وأصنافهم

أصل خلقة الجن وأصنافهم قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن إبليس خلق من خلق الله]. انتقل المصنف إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات أن إبليس خلق من خلق الله جل وعلا. وقد سمي الجن بهذا الاسم لاجتنانهم -يعني: اختفائهم- ولأنهم أخفى ما يكون على الإنسان، قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]. والجن خلق من خلق الله جل وعلا، خلقوا قبل بني البشر، وهذه المدة حددها بعض العلماء بعشرين سنة أو أكثر، وهذا لا دليل عليه، والصحيح الراجح: أنهم خلقوا قبل البشر مع جهلنا للمدة، ويستدل لذلك بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فهذا قياس من الملائكة، وهذه دلالة على أن للملائكة عقولاً؛ لأن هناك من الناس من ينكر أن يكون للملائكة عقول، فهم قاسوا على ما سبق، كما فسر ذلك ابن كثير، حيث قاسوا البشر على من سبقهم من الجن، فالجن هم الذين أفسدوا في الأرض من قبل فقاسوا عليهم، وأيضاً في بعض الروايات التي يذكرها ابن كثير: أن إبليس طاف بآدم عليه السلام قبل أن ينفخ فيه الروح، فدخل من فيه وخرج من دبره، وقال: والله إنك لضعيف، لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت أنت علي لأفتننك، فهذه دلالة على أنه مخلوق قبل أن يخلق آدم. ومادة خلق الجن غير مادة خلق البشر، فقد خلقوا من مارج من نار، أي: من لهب مختلط بالسواد، قال الله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27]، وقال جل وعلا في سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]، قال بعض العلماء: هو اللهب المختلط بالسواد، وإبليس هذا هو سيد القائسين قياساً فاسداً عندما اعترض على ربه في السجود وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، ثم بين العلة وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. فمادة خلق الجن من نار، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما ذكر لكم)، فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لكتاب الله: أن مادة خلق الجن من النار، ففيهم خفة، ولهم هيئات مختلفة، يعني: ليسوا كلهم سواء كبني البشر، ودل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الجن ثلاثة أصناف: فصنف يطيرون)، إذاً: لهم أجنحة يطيرون بها، فهذا صنف مختلف في الخلقة عن غيره، أو نقول: أصل الخلقة واحدة لكنهم يتهيئون أو يتكيفون بكيفيات مختلفة، قال: (وصنف حيات وكلاب)، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا القطط السوداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، وقال بعض الفضلاء: إن الجن يمكن أن يتمثل في صورة الكلب، وقال: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) يعني: شيطان الكلاب، فالكلاب لهم شياطين كما أن للإنس والجن شياطين، وهذا مرجوح كما سنبينه. قال: (وصنف يرتحلون ويظعنون) يعني: الصنف الثالث من الجن، يرتحلون ويظعنون، يعني: هم رحالة دائماً، فهذه أصناف الجن. إذاً: مادة خلقهم النار، وأصنافهم مختلفة.

الجن مكلفون

الجن مكلفون الجن مكلفون كبني البشر، لهم الثواب إذا أحسنوا وعليهم العقاب إذا أساءوا، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. الاستثناء هنا يمكن أن ينزع منه (ما) و (إلا) فيكون المعنى: خلقت الجن والإنس ليعبدون، ثم انزع (الإنس) وأكمل الجملة لو كانت في خارج القرآن فتقول: خلقت الجن ليعبدون. إذاً: الحكمة من خلق الجن هي العبادة، فهذه دلالة على أنهم مكلفون ولهم الثواب وعليهم العقاب، بل هم مخاطبون بفروع الشريعة، بل حتى في النكاح، فلو قلنا بوجوب النكاح على الموسر نصحب الحكم على الجن أيضاً؛ لأنهم مكلفون ومخاطبون بفروع الشريعة. وقد ثبت عن ابن مسعود بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وأمرهم ووعظهم وذكرهم)، والقرآن أصرح من ذلك وأرقى دلالة، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، ونحن أولى بذلك منهم، فهم عندما سمعوا وانقادوا وفهموا عن الله قول الله جل وعلا ذهبوا لينذروا قومهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]. وهذه دلالة على أنهم مكلفون. وأيضاً هم أصناف من حيث الظلم، ومن حيث الحقد والحسد، ومن حيث الإسلام والكفر، والعتو في الكفر، فمنهم الجني ومنهم العفريت ومنهم المارد، قال الله تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11]، وقال أيضاً: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] يعني: الظالمون، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15]. فهؤلاء أيضاً أصناف من الجن، فمنهم المسلم ومنهم الكافر؛ ولذا نقول: إن المصروع لو صرع بجني مسلم فلك أن تخاطبه وتقول له: قد ظلمت، اتق الله واخرج، وكما نعلم فإن الصرع موجود حقاً من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم قد عالج من السحر، وعالج من الصرع، وأخرج الجني من الإنسان المصروع رغم أنف هؤلاء المبتدعة الذين يردون ذلك كله. ونذكر هنا مسألة مهمة حول الجن؛ وهي أن الجن له فقه وله علم ويعلّم، وقد حصل ذلك لأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو هريرة، فقد علمه جني، إذ فاقه فقهاً في مسألة فعلمه إياها، وهذا هو الجني الذي جاء متمثلاً في صورة الرجل، فقد جاء في الصحيحين: (أن أبا هريرة كان حارساً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فكان هذا الرجل يأتي ويأخذ من الصدقة، فيأخذه أبو هريرة ويقول: سآخذك إلى رسول الله، فيقول: دعني عندي عيال ويعده ألا يعود، ثم يأتيه في الليلة الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عنه ويخبره أنه سيعود، ثم بعد ذلك جاء في الليلة الثالثة فأمسكه وقال: لا بد أن آخذك إلى رسول الله، فقال: دعني وسأعلمك كلمات ينفعك الله بها، ثم علمه فقال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ آية الكرسي). وفي رواية قال: (إذا قرأت آية الكرسي فلا يزال عليك من الله حافظ بهذه الآية). فلما ذهب أبو هريرة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره قال له: (صدقك وهو كذوب) يعني: صدق في تعليمك هذا، وهذه أصبحت سنة من هذا الجني الذي لا نعرف اسمه، وهي سنة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما قاله هذا الجني من أننا لا ننام حتى نقرأ آية الكرسي.

استمتاع الجن بالإنس وحقيقة وقوع الزواج بين الجن والإنس

استمتاع الجن بالإنس وحقيقة وقوع الزواج بين الجن والإنس وهناك مسألة مهمة تتعلق بالجن ألا وهي: هل الجن يستمتعون ويتزوجون من الإنس؟ وهذه القضية زل فيها كثير من الذين لا تستطيع عقولهم قبول مثل هذه الحقائق، فأسأل الله أن يقروا بالشرع أو يبتليهم الله بالصرع، وأن يدخل فيهم مائة جني حتى يقروا بهذا الشرع القويم؛ لأنهم يردون أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتنطعون ويقولون: هذا ليس بصحيح. أقول: الجني يمكن أن يتزوج من الإنس وقد سئل الإمام مالك: هل يتزوج الجني بالإنسية؟ قال: أكره هذا. فلما سألوه عن العلة، قال: تأتي المرأة بحملها وتقول: هذا من زوجي الجني، فتدخل الشبهة على الناس. فالإمام مالك يقرر أنه يمكن أن يحصل زواج، وأن يكون فيه ولي وشهود، فهذا إقرار منه، فأقول: حتى وإن كان بعض أهل السنة يقولون بهذا، لكن نحن نقول: أنه لا تزاوج الآن، ولا نستطيع أن نقول بالتزاوج، لكن نقول بلازم التزاوج، وهو الاستمتاع، فللجني أن يستمتع بالإنسي، والإنسي يستمتع بالجني، وأنا لمست هذا واقعاً وعندي في ذلك الأثر والنظر، أما الأثر فقد قال الله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، وهذا وجه الشاهد، {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128]، أما وجه الدلالة فتمتع الجني بالإنسي بأن يخبره بالكلمة التي يسترقها ويكذب عليه مائة كذبة، فهذا المقصود باستمتع بعضنا ببعض. والمتعة جاءت في السياق بصيغة النكرة ليست معرفة، والنكرة تفيد العموم، فقوله: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ))، هذا الفعل يدل على عموم الاستمتاع: استمتاع بالإخبار استمتاع بالمتعة الجنسية المعروفة استمتاع بما يصنع له من الكرامات والمعجزات، فهذه على العموم: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)). فهذا دليل على أن الاستمتاع موجود بين الجن والإنس، وخذ ما هو أقوى وأرقى في الدلالة: أن الجني يفعل ما يفعله الإنسي، قال الله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] (لم يطمثهن) يعني: يمكن للجني أن يفعل ما يفعله الإنسي، فسيتمتع كما يستمتع الإنسي، ويجامع كما يجامع الإنسي، وهذا واقع، فقد ألزمت مرة أن أقرأ على رجل -بحكم وجودي في ذلك المكان- وكان لا يريد أن يقرأ عليه أحد، وكان هذا الرجل تأتيه جنية في أحسن صورة، ويستمتع بها كيفما شاء، لدرجة أنه هجر امرأته، فصار لا يأتيها بحال من الأحوال، فهو يستمتع بالجنية، وتأتيه في كل صورة يتخيلها. وهذا يحرم، ومثل هذا لا يرجم في ذلك ولو كان محصناً، ومع ذلك فإن لازم النكاح -وهو الاستمتاع- موجود. أما مسألة النكاح بين الجني والإنسي فهذا صعب، وما جاء في تفسير ابن كثير في مسألة بلقيس لما كشفت عن ساقيها بسبب الأرض الممردة بالقوارير، قال: إن ذلك بسبب أن سليمان كان يشك في أن أباها من الجن، وهذا ليس بصحيح، لكن نحن نقول أثراً ونظراً وواقعاً: إن الجني يستمتع بالإنسي، والإنسي يستمتع بالجني قال الله تعالى: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)). وبعض العلماء: يرجح أن من رأى في منامه أنه يجامع فهذا من تلاعب الشيطان به، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم.

إثبات دخول الجني في الإنسي وإلحاق الضرر به

إثبات دخول الجني في الإنسي وإلحاق الضرر به تبقى مسألة تتعلق بالجن وهي: طالما أن الجني يستمتع بالإنسي فهل يدخل فيه أم لا يدخل؟ الصحيح الراجح في ذلك أثراً ونظراً: أن الجني يدخل في الإنسي. أما الدليل من الأثر: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). إذاً: فالشيطان يدخل في الإنسان، وله خفة بحيث يمشي في العروق كالدماء، وأنت ما تدري عن عظم أو دقة خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فهذه الدلالة من الأثر أنه يدخل بني آدم. أما واقعاً فقد ورد بالنص وبالاستنباط: أما بالنص: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على امرأة عندها غلام قد جن من المس، يعني: حدث له صرع من الجن، ويغيب هذا الجني عقله، فيذهب عقله مرة ويفيق مرة، فلما اشتكت هذه المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتيني بالغلام، فأتته بالغلام فأخذه وأداره فضرب على ظهره). رواه الطبراني بسند صحيح، وفي هذا دلالة على أن الضرب لا يقع على الإنسي بل يقع على الجني، لكن لا يحصل هذا من كل إنسان، فبعض الناس -ممن ليس عنده علم فقه ولا علم بالقراءة ولا علم بكيفية علاج المصروع- أخذ يضرب امرأة ويسب الجني الذي بداخلها ويقول: اخرج عدو الله، اخرج يا ظالم، ويضرب المرأة على رأسها بالعصا حتى ماتت المرأة! فلما أحس هذا الرجل أنه سيعدم، قام بحلق نصف لحيته وترك النصف الآخر ومشى في الشارع أمام الناس من أجل أن يحسبوا أنه مجنون، فالمسألة تحتاج لعلم! فالمقصود: أن الضرب لا يقع للإنسان وإنما يقع على الجني، لكن للخبير التقي الذي يعرف كيف يعالج المصروع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الغلام وضربه على ظهره وقال: (اخرج عدو الله إني رسول الله)، وفي رواية أخرى قال: (فتح فمه ثم قرأ فيه ونفث فيه وقال: اخرج عدو الله إني رسول الله)، هذا فعل رسول الله، فأين المتنطعون؟! وأين هؤلاء الذين جنوا في عقولهم فرفضوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأيضاً الإمام أحمد بن حنبل لما قالوا له: هناك مصروع، فقال: خذ نعلي واذهب به إليه وحرج عليه وقل: يأمرك الإمام أحمد أن تخرج، فخرج الجني، وقيل: بعدما مات أحمد رجع فيه مرة ثانية. والمرأة السوداء التي كانت تصرع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورآها ابن عباس تتعلق بأستار الكعبة فسألها عن ذلك، فقالت: أخشى من الخبيث أن يكشفني، وهي تعني بالخبيث: الجني الذي يصرعها، ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله: (إن شئت دعوت الله لك فيشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي أن لا أتكشف)، فهي من فقهها فضلت الصبر كما أنها أرادت الستر. فهذا الحديث دلالته ظاهرة على أنها كانت تصرع ويتلبسها الجني. وأيضاً ابن صياد أكبر الدجاجلة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويحسبه المسيح الدجال؛ لأنه لا يعلم الغيب، ويختبئ له خلف شجرة، فيجده معلقاً بين شجرتين وله همهمة مثل همهمة الشياطين، فقالت له أمه: (هذا محمد فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترى؟ فيقول: أرى عرشاً على الماء، ويأتيني صادق وكاذب، فقال له النبي: خبأت لك خبيئة، قال: الدخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك). وهذا هو محل الشاهد. وقد رآه ابن عمر في سكة من سكك المدينة فنظر إليه ابن عمر فإذا بالرجل ينتفخ وينتفخ حتى سد الطريق الذي سار فيه ابن عمر، فذهب إليه ابن عمر فأوجعه بعصاه ضرباً، وذهب إلى حفصة وقال لها: أما رأيت ماذا فعل ابن صياد كذا وكذا وكذا، قالت له: وكيف تضربه؟ أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه يخرج من غضبة يغضبها)؟ فهي حسبت أنه المسيح الدجال. المهم: أن هذا الانتفاخ الذي وقع له هو من الجن. فالجني يتعامل مع الإنسي ويصرعه، ولذلك كان ابن تيمية يقول: كنت أعالج امرأً فقلت للجني: اخرج، أنت ظالم، فقال: أنت شيخ الإسلام أخرج كرامة لك لتقاك وورعك. وما قال ذلك إلا ليفتنه، ولذلك قلنا: إن المعالج لا بد أن يكون فقيهاً لا جاهلاً، إذ إنه يمكن أن ينصب له الجني شرك الكفر والشرك والاستعانة به. لذلك قال له ابن تيمية الفقيه الحبر: اخرج عدو الله لا كرامة لي ولكن طاعة لله، فإنك ظالم. يعني: اخرج لأن هذه مظلمة ستحاسب عليها يوم القيامة.

إثبات أن الجن يأكلون ويشربون ويبولون

إثبات أن الجن يأكلون ويشربون ويبولون الجن يأكلون ويشربون ويبولون كما يفعل بنو آدم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن العظم: (إنه طعام إخوانكم من الجن). ومن أدلة ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فأكل كل ما في الصفحة من طعام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سم الله، رأيت الشيطان يأخذ بيده ليأكل معه)، فهذه دلالة على أنه يأكل. ومن الأدلة على أن الجن يشربون ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: (مر رسول الله برجل يشرب قائماً، فقال له: أتريد أن يشرب معك الهر؟ -أي: القط- فقال: لا يا رسول الله! قال: يشرب معك من هو أشر منه، الشيطان)، فهذه دلالة على أن الشيطان يشرب. وعندنا أدلة على أن الشيطان يبول في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ذكر عنده فلان نام حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وقوله: (حتى أصبح) فيه تأويلان: التأويل الأول: أنه نام حتى أصبح في الفجر، يعني: حتى طلع الفجر فلم يقم يصلي لله في الليل، وهذا قول بعض العلماء، فحذاري من التفريط في الأخذ من الليل ولو بركعة واحدة يقوم بها العبد لله جل وعلا. والتأويل الثاني وهو الذي رجحه الجمهور، وهو الذي يرتاح إليه القلب ويميل إليه: أنه بات حتى أصبح فلم يصل الفجر. وخلاصة القول: إن الجني يشارك الإنسي في كل شيء، حتى إنه مكلف كما هو مكلف.

الأسئلة

الأسئلة

الاستدلال بآية الربا على دخول الجني في الإنسي

الاستدلال بآية الربا على دخول الجني في الإنسي Q هل نستدل بآية الربا في الرد على منكري دخول الجني في الإنسي؟ A نعم. فآية الربا من أوضح الأدلة على ذلك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، فهل هناك أصرح من هذه الآية من كتاب الله جل وعلا، فكيف يردون هذه الآيات؟! سبحان الله! لا يكون هذا إلا لمن أراد الله أن يعمي بصيرته ويضله، ومن يضلل الله جل وعلا فلن تجد له ولياً مرشداً.

تمثل إبليس للنبي في صلاته حقيقي وليس من قبيل التخيل

تمثل إبليس للنبي في صلاته حقيقي وليس من قبيل التخيل Q هل كان تمثل إبليس للنبي في صلاته بسبب السحر؟ A ليس هذا من تأثير السحر، إبليس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم متمثلاً له وأراد أن يحرقه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وكاد يربطه في السارية ليلعب به الصبيان لكنه قال: (لولا دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] لربطته في سارية المسجد).

قدرة الجني على التمثل في صورة الإنسان

قدرة الجني على التمثل في صورة الإنسان Q هل يتمثل الجني في صورة شخص معين؟ A للجني أن يتمثل بصورة الإنسان، ويأتي الإنسان على أنه إنسان، فـ أبو هريرة قلنا: إنه رأى رجلاً فقيراً، وهو يتمثل في صورة حيات كما ثبت في قصة الحية التي وجدت في مكان المرأة فذهب الرجل ليقتلها برمحه فاضطربت عليه، فما يدري من كان أسرع موتاً، فلما أخبر النبي بالقصة قال: (إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوهم ثلاثة أيام).

دخول بعض الجن في الإنس بسبب أذية الإنسي لهم

دخول بعض الجن في الإنس بسبب أذية الإنسي لهم Q هل صحيح أن من الجن من يدخل في الإنسي بسبب أذية الإنسي له؟ A هذه صحيح، فالإنسان أصلاً لا يرى الجن فيحدث أنه يذهب ليبول في جحر أو في الصحراء أو في أماكن يتوقع أن يسكنها الجن، فالجني جاهل، فإذا بال الإنسان عليه دون أن يراه، يقوم ويصرعه عقاباً له، وأيضاً إذا صببت عليه ماء حاراً خاصة في الحمام الذي هو مسكنهم، فهذا الماء الساخن جداً قد يصيب أحد الجن فيؤذيه أو يقتله، فيصرعه الجني الآخر للانتقام منه.

فك السحر بالسحر ليس علاجا حقيقيا

فك السحر بالسحر ليس علاجاً حقيقياً Q وجدنا في الواقع أن بعض المسحورين يعالجون بالسحر ويتعافون، فما قولكم في ذلك؟ A هذا هو حل السحر بالسحر، والمريض يظهر له في البداية أنه تعافى لكن فيما بعد ستكون حاله أكثر سوءاً من السابق، فهذا حل سحر بسحر، وهذا يوقع الناس في الكفر والشرك، فلا يجوز لهم أن يفعلوا هذا.

كيف يفعل من أراد صب ماء حار في الحمام ليتجنب أذية الجن؟

كيف يفعل من أراد صب ماء حار في الحمام ليتجنب أذية الجن؟ Q هل تشرع التسمية لمن أراد أن يصب ماء حاراً وهو داخل الحمام؟ A لو أردت أن تصب ماءً حاراً في الحوض فعليك أولاً أن تسمي الله حتى لا تؤذي الجان؛ لأن هذا مكانهم، فهم يسكنون في الحمامات والأسواق والبحار والجحور، فإذا أردت أن تصب الماء الحار فعليك أن تخرج وتسمي الله ثم تدخل الحمام أو تسمي بقلبك.

ذكر الآيات التي تقرأ على المصروع

ذكر الآيات التي تقرأ على المصروع Q ما هي الآيات والأذكار التي يشرع للراقي أن يقرأها على المصروع؟ A الإنسان المصروع تقرأ عليه فواتح سورة البقرة وآية الكرسي، وهي أشد شيء يزعجه، وإذا أردت فزد عليها بقوله تعالى: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، وسورة الصافات من بدايتها: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]، إلى قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11]، وتكرر منها قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:6 - 8]، تكرر هذه أيضاً، وأيضاً آية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115]، وتكررها، والشطر الأخير من سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29]، و {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1]، والمعوذتان و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].

لا يشترط في الراقي القدرة على محاورة الجن

لا يشترط في الراقي القدرة على محاورة الجن Q إذا كان الراقي لا يستطيع أن يحاور الجني المتلبس بالإنسي فماذا عليه؟ A إن كان لا يستطيع أن يدعوه إلى الله، أو يحاوره، فما عليه إلا أن يقرأ، فإنه مع مواصلة القراءة عليه سيموت لا محالة.

أسباب دخول الجني في الإنسي

أسباب دخول الجني في الإنسي Q ما هي أسباب تلبس الجني بالإنسي؟ A هناك أسباب كثيرة لدخول الجني في الإنسي، فهو يدخل بسبب السحر؛ لأن السحر نوعان: سحر بدون جن وسحر بجن، كذلك يدخل عند شدة التفريط من المسلم، يعني: إذا كان ملتزماً لكن غفل عن ذكر الله وتقاعس عن ذكر الله ويكون الشيطان يتربص به الدوائر، فإذا رأى منه غفلة تلبس به، ومن أشد الأسباب معصية الله جل وعلا، فهي التي تجلب الشياطين على الإنسان، وعند حل السحر بالسحر يكون الشيطان فيها متمكناً غاية التمكن من الإنسي.

إمكانية تلبس الجني بمن يحافظ على الأذكار ويواظب على العبادات

إمكانية تلبس الجني بمن يحافظ على الأذكار ويواظب على العبادات Q هل يتلبس الشيطان بالإنسي حتى مع عبادته ومحافظته على الأذكار؟ A هذا يحصل، لكن يندر أن يكون الإنسان على التزام وذكر لله ويتلبس به شيطان، وقد يكون هذا من باب أن لهذا الرجل درجة عند ربه جل وعلا لا يبلغها بعمله، فالله جل وعلا يبتليه بهذا حتى يرتقي إلى الدرجة التي أعدها الله له.

الرجل الراقي يمكن أن يتلبس به الشيطان كغيره من الناس

الرجل الراقي يمكن أن يتلبس به الشيطان كغيره من الناس Q هل صحيح أن الراقي يكون عرضة لتلبس الشياطين به؟ A نعم صحيح، وكان بعض الإخوة معالجاً، فجاءت عليه أوقات قصر فيها في طاعة الله وغفل عن ذكر الله فصرعه شيطان، فقيل له: نقرأ عليك، قال: لا تقرءوا علي، وأنا أعرف علاجي، فاعتكف خمسة عشر يوماً في المسجد يقوم الليل ويصوم النهار، فخرج منه فكأنما نشط من عقال.

كلام شيخ الإسلام والإمام مالك في إثبات الزواج بين الجن والإنس

كلام شيخ الإسلام والإمام مالك في إثبات الزواج بين الجن والإنس Q هل ترد قول مالك وشيخ الإسلام بحصول الزواج بين الجن والإنس؟ A ما دام قد قرره شيخ الإسلام وقرره الإمام مالك فنحن نتبع في الإقرار، لكن نقول: لم نشهد، ونقر بالاستمتاع بالأثر والنظر.

إمكانية تمثل الجني للإنسي بصورة إنسان والتكلم معه

إمكانية تمثل الجني للإنسي بصورة إنسان والتكلم معه Q هل يمكن للجني أن يتمثل أمام الإنس ويكلمهم ويخطب فيهم؟ نعم يستطيع، فيأتيهم على صورة رجل فيخطب فيهم، وقد فعلها الشيطان من قبل فأتى كفار قريش على صورة سراقة، وقال: إني أرى ما لا ترون، وكان يأتي إلى أبي جهل على صورة مرة وهو الذي كان يخطط له كيف يذهب ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أن جنياً مسلماً ذهب ليدعو من وراءه من الجن.

الشروط الواجب توافرها للانتفاع بالرقية الشرعية

الشروط الواجب توافرها للانتفاع بالرقية الشرعية Q ما هي الشروط التي يحصل بتوافرها الانتفاع بالقراءة لعلاج السحر؟ A أولاً: لا بد للمسحور أو المصروع أن يدعو الله بإخلاص. الثاني: أن يستيقن أن كل هذه العلاجات أسباب فقط، وأن الأمر بيد الله جل وعلا. ثالثاً: أن يتخير من المعالجين التقي الورع الذي يرضي الله فيما يفعل فقط.

الجن أصناف

الجن أصناف Q ما هو الدليل على وجود عدة أصناف من الجن؟ A من أوضح الأدلة على التصنيف في الجن قول الله جل وعلا: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل:39] يعني: هذا صنف من الجن. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

خروج الدجال

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خروج الدجال فتنة الدجال أعظم فتنة منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرثهما وما عليهما، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أوصافه؛ حتى يعرفه المسلم، ويحذر منه، وبين الأمور التي تكون بها العصمة منه، فعلى المرء أن يعرفها ويتحصن بها.

التحذير من الدجال

التحذير من الدجال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك العظيم (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة). والكلام في هذا المقام هو عن الدجال وهو من الكلام على الغيبيات، وقد ذكر العلماء بأنه يعتبر من أشراط الساعة الكبرى، فـ الدجال شر غائب ينتظر، وهو أشد فتنة تقع على الناس في آخر العصور، فهو منبع الكفر والضلال، ومورد الفتن والأوحال، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف نتناول الكلام على الدجال في أكثر من موضع: الأول: التحذير منه. الثاني: وصفه. الثالث: فتنته. الرابع: كيفية النجاة منه. الخامس: نهايته. السادس: ذكر الذين ردوا أحاديث الدجال وشغبوا عليها، وقالوا أو زعموا زعماً باطلاً بهتاناً وزوراً أن الدجال هو كل رجل خبيث، يعني: أن الدجال رمز لكل شيء خبيث.

صفة الدجال

صفة الدجال الدجال: اسم لكل فاسق زنديق يخرج عن دين الله جل وعلا، ويبتدع فيه، فمن كان كذلك يسمى دجالاً، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الدجال أيما تحذير، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وقد حذر أمته الدجال)، وفي رواية: (ونوح قد حذر أمته من الدجال). وأيضاً في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من الدجال الكذاب، فصعد فيه وخفض على المنبر حتى قال الصحابة: حسبنا أنه في طائفة النخل، يعني: قلنا: إن الدجال من شدة ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم بجانب النخل أو الشجر، يعني: خلفنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى من الصحابة هذا الخوف والوجل قال: (إذا خرج فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن خرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم). وهذا الدجال وصفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون المرء على بينه منه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في وصف بعد أن ذكر المسيح ابن مريم: (ورأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً، كأشبه الناس بـ ابن قطن، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال) فمن أوصافه أنه جعد قطط، كأشبه ما يكون بـ ابن قطن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في وصفه: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور). وقال صلى الله عليه وسلم: (كأن عينه عنبة طافية). فعينه الأولى فيها عور، يعني: لا يرى بها، والأخرى: فيها عيب. فهذا من دقيق وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعور الدجال.

فتنة الدجال

فتنة الدجال ّبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد فتنة منذ آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة هو الدجال، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من فتنة منذ ذرأ الله الذرية أو ذرية آدم إلى آخر الخليقة مثل فتنة الدجال). هذا الأعور الكذاب قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان الحديث فيه ضعيف لكن نستأنس به مع هذه الأحاديث الصحيحة-: (بادروا بالأعمال فتناً) يعني: بادروا قبل الفتن التي تهجم عليكم، ثم قال: (الدجال شر غائب ينتظر) فهو شر غائب ينتظر، وهو أشد فتنة تأتي. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة الدجال وبينها أيما تبيين للأمة؛ لتعلم أن هذه أشد فتنة بحق، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عباد الله! فاثبتوا) وإنما قال هذا ليبين هذه الفتنة الشديدة على الناس، وقال: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور) وقال أيضاً: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا؛ فإذا رأيتموه فليس هو بربكم)، ثم بين فتنه. وفي روايات كثيرة في الصحيحين وفي السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين من فتنته أنه ينظر إلى السماء فيقول لها: (أمطري فتمطر، وينظر إلى الأرض فيأمرها أن تنبت فتنبت، ويأتي على الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها). ومن فتنته: أنه يأتي إلى الأعرابي فيقول له: (أنا ربك، تؤمن بي إن بعثت لك أباك وأمك؟ فيقول: نعم، أؤمن بك، فيأمر شيطاناً فيتمثل له في أبيه وأمه)، فهذا الشيطان يأتيه بصورة أبيه وصورة أمه فيقولان له: آمن به فهو ربك، فيؤمن به، والعياذ بالله! ومن فتنته ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يمر على القوم فيكذبون فما تبقى لهم سائمة) يعني: تموت كل السوائم، ويعيشون في ضنك بعدما يكذبونه، وهذه فتنة من الله جل وعلا وبلاء عظيم، ثم يمر على القوم فيؤمنون به فيرجعون أحسن ما كانوا وأغنى ما كانوا، يعني: تنزل عليهم النعم، وتطرأ عليهم حين يؤمنون به، وهذا أيضاً فتنة من الله جل وعلا. وأشد الفتن التي يأتي بها -كما بين النبي صلى الله عليه وسلم-: أن معه ناراً وجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: (معه نار وجنة، وجنته نار، وناره جنة، فليدخل أحدكم رأسه في هذه النار وليدع الله جل وعلا) أو قال: (ليستعذ بالله وليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)، ثم قال: (فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام). فهناك فتن عظيمة جداً مع هذا الرجل. وأشد الفتن بعد الجنة والنار: أنه يأتي برجل ثم يقول للناس: ترونه؟ لو أمته ثم أحييته أليست هذه صفة الربوبية؟ فهل تؤمنون بي؟ قالوا: نعم، فيأخذ الرجل فيشقه بمنشار حتى يقسمه نصفين، ويسير بينهما، ثم ينادي عليه فيقول: قم، فيلتئم نصف الشق الأيمن مع الشق الأيسر فيقوم متهللاً ينظر إليه، فيقول: تؤمن بي؟ أنا ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً أن هذا هو خير الشباب في تلك العصور- فيقول له: (والله ما ازددت فيك إلا بصيرة؛ أنت الأعور الكذاب، أنت الدجال الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم). فيمكث في الناس قدر ما يمكث، ويأتي بخوارق العادات، وبالأعاجيب التي ملكه الله إياها حتى يكون بلاءً على الناس، وأكثر من يؤمن بـ الدجال اليهود عليهم لعائن الله جل وعلا، وأيضاً: النساء أكثر أتباع الدجال، وأيضاً يتبعه من النصارى جزء، وكل طائفة من هؤلاء الطوائف الثلاثة يتبعون المسيح. أما الأمة الإسلامية فتنتظر مسيح الهدى الذي يقتل الدجال، رغم أنوف أهل الاعتزال والخوارج وأهل الكلام، وأيضاً: النصارى ينتظرون المسيح، ولكن ينتظرون المسيح ربهم، واليهود ينتظرون المسيح الذي بشر به موسى، والمسيح الذي بشر به موسى قد جاء وهو عيسى بن مريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. المقصود: أن الثلاث الطوائف ينتظرون المسيح؛ فـ المسيح الدجال سيؤمن به اليهود والنصارى، أما نحن فننتظر مسيح الهدى الذي سيقتل هذا المسيح الدجال الذي يمكث في الأرض يفتن الناس ويفتتن به الناس.

مكث الدجال في الأرض

مكث الدجال في الأرض وأما مكثه في الأرض فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما سألوه وقالوا: يا رسول الله! ما مكثه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يلبث فيكم أربعون: يوماً كسنة -يعني: يلبث أو يمكث يوماً كسنة- ويوماً كشهر، ويوماً كأسبوع، وباقي أيامه كأيامكم هذه) ولذلك قالوا: يا رسول الله! أنصلي في اليوم الذي هو سنة صلاة واحدة وتكفينا؟ فقال: (لا؛ اقدروا له قدره) يعني: تعرف على ما بين العصر والظهر، وكلما يمر عليك وقت كما بين الظهر والعصر تصلي الظهر، ثم تصلي العصر، ثم تصلي المغرب، ثم تصلي العشاء، فحتى وإن لم تغرب الشمس عاماً كاملاً تصلي كل يوم، وتقدر له قدره، هذه مدة لبث المسيح الدجال في الأمة، فهي ليست بالهينة.

كيفية النجاة من فتنة الدجال

كيفية النجاة من فتنة الدجال إذا علم المسلم فتنته وعلم المدة التي سيمكث فيها فكيف ينجو منه ومن فتنته العظيمة؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيما بيان. فأول طريق من طرق النجاة من فتنة الدجال: الهروب منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع به فلينأ عنه) فإذا سمعت به في مكان فاذهب في المكان المخالف؛ فإن كان في المشرق فكن في المغرب، وإن كان في المغرب فكن في المشرق، ولا تجتمع معه في مكان بحال من الأحوال، فهذه أول طرق النجاة. واستنبط العلماء من ذلك: أن كل امرئ لا بد عليه إذا وردت فتنة أن لا يستشرفها، ويظهر لها؛ إذ أنه لو استشرف هذه الفتنة استشرفته وأخذته وقبضته، وقلبته، وقد يظن بنفسه أنه مؤمن فيقع، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا رجلاً ظن بنفسه الخير، وظن بنفسه أنه على أتم ما يكون من الإيمان، فيسمع بـ الدجال فيقول: أنظر إلى هذا الدجال، وأذهب إليه، فيذهب إليه فيفتتن فيؤمن به! فالمرء عليه أن يبعد عن مكان الفتن، وإذا أتت من مكان يذهب إلى مكان آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع به فلينأ عنه). الطريق الثاني من طرق النجاة: أن يقرأ في وجهه فواتح سورة الكهف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليستغث بالله، وليقرأ فواتح سورة الكهف). هذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففواتح سورة الكهف تنجي الإنسان من فتنة الدجال وتعصمه، وتكون حاجزاً بينه وبين فتنته. الطريق الثالث من الطرق التي تكون فيها النجاة عن هذا الدجال الأعور: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا بياناً شافياً فدلنا على علامة يراها كل قارئ وغير قارئ، فبين أن الدجال مكتوب بين عينيه: كافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباد الله! إنه بين عينيه مكتوب: ك ف ر، أو قال: كافر، يقرؤها كل قارئ وغير قارئ) حتى الأمي يقرؤها، فعلى المؤمن أن ينظر في هذه العلامة التي بين عينيه؛ فإنه مكتوب بين عينيه: ك ف ر، وهذه على الحقيقة وليست على المجاز، فإذا قرأها يعلم أنه الدجال فينأى عنه. الطريق الرابع من طرق النجاة من هذا الدجال الكذاب: سكن مكة والمدينة؛ فإن الدجال قبل ما يمكث في الأرض تستدبره الريح، فيسير في كل أنحاء العالم في ساعات قليلة، أو في دقائق معدودة، أو ثوانٍ معدودة، لكنه لا يستطيع الدخول إلى مكة والمدينة، فيعصم المرء بمكثه في مكة أو المدينة؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل نقب من نقاب المدينة ملك معه سيف مصلت) فإذا جاء ليدخل مكة والمدينة رأى الملائكة فرجع الخبيث عدو الله، ونكص على عقبيه فلا يدخل المدينة، لكن المدينة ترتجف وتتزلزل تحت أقدام المنافقين فتخرج كل منافق، فيؤمن به، لكن المؤمن حقاً هو الذي يبقى في المدينة، والله جل وعلا سيعصمه من فتنة الدجال. الطريق الخامس من الطرق التي ينجو بها المرء من فتنة الدجال: كثرة الدعاء بالعصمة من هذه الفتنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله كثيراً أن يعصمه من فتنة الدجال، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من أربع) يعني: بعد كل صلاة بعدما يقرأ التشهد يستعيذ من أربع: (اللهم إني أستعيذ بك من فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر ومن عذاب النار)، فكان يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات من فتنة المسيح الدجال. فهذه الطرق التي ينجو بها المرء من هذا الدجال الكذاب.

ذكر بعض الأحاديث في وصف الدجال

ذكر بعض الأحاديث في وصف الدجال وهذا الدجال وصفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون المرء على بينه منه، ومن ذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال بعد أن ذكر المسيح ابن مريم: (ورأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً، كأشبه الناس بـ ابن قطن، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال) فمن أوصافه أنه جعد قطط، كأشبه ما يكون بـ ابن قطن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في وصفه: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور). وقال: (كأن عينه عنبة طافية). فعينه الأولى فيها عور، يعني: لا يرى بها، والأخرى: فيها عيب. هذا أيضاً من دقيق وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعور الدجال.

وجوب الإيمان بخروج الدجال ووجوده، والرد على من ينكر ذلك

وجوب الإيمان بخروج الدجال ووجوده، والرد على من ينكر ذلك وبقيت هنا مسألة واحدة في الكلام على الدجال، وهي: إن ثبت لنا بالحديث الصحيح خروج الدجال وإن ثبتت لنا طريق فتنة الدجال، وإن ثبت لنا طريق النجاة من هذه الفتنة العظيمة، إن ثبت كل ذلك فما علينا إلا أن نقول: نستيقن ونعتقد خروج الدجال، فإن شوش علينا أو إن شغب علينا بعض المبتدعة، أو بعض أهل الأهواء، أو بعض أهل الكلام على هذه الحقائق الثابتة الراسية كرسوخ الجبال، فإنا نرد عليهم ذلك. وكلام أهل البدع في الدجال هو أنهم ردوا هذه الأحاديث، وهم على طائفتين: الطائفة الأولى: ردوا هذه الأحاديث كلية، يعني: كذبوها. والطائفة الثانية: لم ترد، ولكنها أولتها تأويلاً غير مقبول وغير سائغ. أما الطائفة التي ردتها فهم: المعتزلة والخوارج، فإنهم ردوا أحاديث الدجال ولم يؤمنوا بها، وقالوا: هذه الأحاديث ليست بثابتة. والطائفة الثانية قالوا: الدجال رمز لكل شر، يعني: أن أحاديث الدجال هذه ليست على حقيقتها، فـ الدجال ليس بشراً من لحم ودم، بل هو رمز يدل على كل شر. وقالوا: أما بالنسبة لأحاديث عيسى عليه السلام والملائكة فهذا رمز لكل خير، فـ الدجال رمز لكل شر، ونزول عيسى وقتل الدجال هو رمز لكل خير. فالمعتزلة وأفراخ المعتزلة الذين هم أهل الأهواء ردوا الأحاديث أو أولوها، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بوجود الدجال، وصرح بفتنته، والأحاديث في البخاري ومسلم ترد عليهم. ولا نعاني إلا الرد على بعض الفضلاء الذين قالوا: الدجال ليس موجوداً الآن، أي: يقولون: نحن نؤمن بمجيء الدجال بفتنته، لكن لا نثبت وجوده الآن، فهؤلاء يقولون: ليس بموجود الآن، وشبهتهم في ذلك: أن الأقمار الصناعية الموجودة في هذا العصر الحديث لم تر الدجال، يعني: أن الأقمار الصناعية التي رأت كل شيء لم تكشف لنا عن وجود الدجال، فالأقمار الصناعية والجواسيس والمستحدثات الكثيرة لم تر الدجال، فلو كان موجوداً في أي بقعة من بقاع الأرض لرأته الأقمار الصناعية من الفضاء، قالوا: فإننا ننظر بواسطتها في كل بقاع الأرض، فلم نجد الدجال، ولا رأيناه مسلسلاً ولا غير ذلك، وأيضاً: لم نره موجوداً تحت ساحل البحر، ولا في الصحراء، ولا في أي مكان، فـ الدجال غير موجود. فنقول لهم: أأنتم أعلم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن الله جل وعلا قد أثبت وجود الدجال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت لنا في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال موجود، وأن فتنته ستأتي على هذه الأمة، فإن رددتموها على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الشبهة التافهة فقد ضللتم، فالأقمار الصناعية وغيرها هي قاصرة عن رؤية أخبار الثقة، وهي قاصرة عن الاطلاع على الأضواء التي تسقطها هي، فإن بعضهم يقول: إنهم نزلوا في قرية من القرى وأسقطوا عليها الأشعة فخفيت عن هذه الأقمار الصناعية، فالأقمار الصناعية ما أحاطت علماً بالغيب، والله هو الذي أحاط العلم بالغيب. فبالنسبة للأقمار الصناعية نقول فيها: هي من صنيع البشر، والأصل في البشر العجز والتقصير، فيكون ما نتج منهم أيضاً عاجز وقاصر عن أن يرى مثل هذه الغيبيات، التي أخبرنا بها جل وعلا، ومن هؤلاء الفضلاء: الشيخ محمد بن صالح بن العثيمين، وهو يؤمن بفتنة الدجال، لكن لا يثبت وجوده الآن، ويرى عدم صحة حديث تميم الداري في مسلم، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني تميم الداري بحديث قد حدثتكم به) ثم ذكر ما رآه تميم الداري من أنه دخل إلى الجزيرة فوجد دابة كثيرة الشعر، فدلته على الدجال، إلى آخر الحديث، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الخبر، ففرح صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف وخطب الناس. وقال: (حدثني تميم الداري) ثم ذكر خبر الدجال، فالشيخ ابن العثيمين كأنه يضعف هذا الحديث، والحديث ثابت في صحيح مسلم، والأصل أن لا يرد هذا الحديث من أجل أننا نقول: ما رأيناه في مكان من الأمكنة، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وجود الدجال منذ زمنه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، فنحن نثبته والنبي صلى الله عليه وسلم قد أثبته، ولم يأتنا دليل على نفي وجوده. نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا ويثبت المسلمين من هذه الفتن، ويقينا الظاهرة منها والباطنة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة-المفاضلة بين بني آدم والملائكة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة-المفاضلة بين بني آدم والملائكة اختلف العلماء في المفاضلة بين المؤمنين والملائكة، والراجح أن الملائكة أفضل باعتبار البداية أي في الدنيا، والمؤمنون أفضل باعتبار النهاية أي في الآخرة، وهذا التفصيل يجمع به بين الأدلة، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.

ذكر الخلاف في المفاضلة بين بني آدم والملائكة

ذكر الخلاف في المفاضلة بين بني آدم والملائكة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ذكر المؤلف هنا مسألة: تفضيل بني آدم على الملائكة، وهذه مسألة عجيبة جداً، يقل من يتكلم فيها، وبعض المبتدعة قالوا: هذه المسألة محدثة لم يتكلم فيها أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من السلف. ويرد عليهم: أنه قد ورد بالسند الصحيح الكلام في هذه المسألة، فتكلم فيها عبد الله بن سلام، وتكلم فيها عمر بن عبد العزيز وكثير من السلف. وقبل أن ندخل في هذه المقارنة بين من أفضل صالحي البشر أم الملائكة؟ نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل من الملائكة، بل أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم، فما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما ناداه جل وعلا في كتابه العزيز باسمه قط؛ توقيراً له وتعظيماً، فما ناداه إلا بلقبه، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]. وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]. وقال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فما ناداه الله جل وعلا إلا بلقبه؛ تعظيماً وتوقيراً لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم. أيضاً من الدلائل على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على الملائكة: أنه ليلة المعراج لما عرج به مع جبريل كان جبريل له منتهى، وقال له: لا أستطيع بعد ذلك، اصعد أنت، فهذه دلالة على فضل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أرقى من جبريل عليه السلام. أيضاً من الدلائل على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على الملائكة: ما قاله عبد الله بن سلام ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: يا عبد الله! وجبريل وميكائيل؟ قال: هل تدرون ما جبريل وميكائيل؟ هم كالشمس والقمر. يعني: مسخرين كالشمس والقمر، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو مكلف، يعني: يعمل بأوامر الله جل وعلا وينتهي عما نهاه الله عنه. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، وأفضل الخلق على الإطلاق إذا قلنا بهذه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] والتفسير الصحيح: أن البرية: هم الخلائق أو الخليقة، فهذه الآية فيها دلالة على أن البشر خير من الملائكة، فإذا قلنا: ولد آدم خير من الملائكة فمن باب أولى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو خير من الملائكة؛ لأنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. إذاً: فالإطلاق أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم خير من الملائكة، بل خير من الخلق أجمعين. أما بالنسبة لصالحي البشر فهل هم خير أم الملائكة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: قول كثير من أهل السنة والجماعة: أن صالحي البشر أفضل من الملائكة. القول الثاني: قول المعتزلة والخوارج وبعض أهل السنة والجماعة: أن الملائكة أفضل من صالحي البشر.

أدلة من رأى أن صالحي البشر أفضل من الملائكة

أدلة من رأى أن صالحي البشر أفضل من الملائكة أدلة من قال بأن صالحي البشر هم أفضل من الملائكة أدلة كثيرة، كما يلي: الدليل الأول: أن الله جل وعلا أمر الملائكة بالسجود لآدم، ولا يسجد الملك إلا لمن هو خير منه. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29]. وقال عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] فالسجود يدل على شرف المسجود له. الدليل الثاني من الأدلة التي تبين فضل صالحي البشر على الملائكة: أن الله جل وعلا علم آدم ما لم يعلمه أحداً من ملائكته، ومعلوم أن العالم أفضل بكثير من غيره الذي ليس بعالم، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. وقال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] والله جل وعلا سأل الملائكة: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:31 - 33] ففيه دلالة على أن مرتبة آدم أعلى من الملائكة بالعلم. الدليل الثالث: أن الملائكة يلهمون التسبيح ويلهمون الذكر والعبادة لله جل وعلا، أما البشر فهم مكلفون، والتكليف فيه مشقة عليهم، والذي تشق عليه العبادة يكون أرقى من الذي لا تشق عليه العبادة، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أجرك على قدر نصبك) يعني: أجرك على قدر تعبك. فكل تعب له أجر، والبشر تشق عليهم العبادة، ويخالفون شهواتهم وأنفسهم من أجل رضا الله جل وعلا. الدليل الرابع: أن الله قد خلق آدم بيده، ففيه دلالة على أنه أفضل من الملائكة؛ لأنه خلق الملائكة بـ (كن)، أما آدم فخلقه الله بيده، كما قال عز وجل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75] فالله جل وعلا خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، يعني: من روح من عنده. أما الملائكة: فقد خلقهم الله بالكلمة، فقال لهم: كونوا، فكانوا. الدليل الخامس: أن الله جل وعلا لا يباهي بأحد إلا وهو أفضل من الذي يباهى عنده. فعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشروا فإن الله يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن الله يباهي بأهل عرفة الملائكة يقول: انظروا إلى هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً). فالمباهاة هاهنا تدل على فضل صالحي البشر الملائكة، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].

أدلة من رأى أن الملائكة أفضل من صالحي البشر

أدلة من رأى أن الملائكة أفضل من صالحي البشر القول الثاني: قول المعتزلة وبعض أهل السنة والجماعة أن الملائكة أفضل من صالحي البشر، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة أولها وهو أقواها: الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه). ووجه الشاهد قوله: (خير منه). ففيه دلالة على أن الخيرية كتبت لمن ذكر عندهم. ثانيها: قول الله تعالى على لسان بعض الأنبياء: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31] فهنا يقول: أنا لست بملك وإنما أنا بشر، فهذا يبين فضل الملائكة. الدليل الثالث: أنهم لا يتغوطون ويذكرون الله ليل نهار، ومنهم المسبح، ومنهم: الراكع، ومنهم: الساجد، ومنهم المحتف حول حلقات العلم ينظر في ذكر الله جل وعلا ويصعد به إلى السماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فالذين يحضرون مجالس الذكر ومجالس العلم يفضلون أنفسهم حتى يتعلموا دين الله جل وعلا، وهؤلاء من أفضل البشر إن لم يكونوا هم أفضل البشر على الإطلاق. فهذه من أدلة من قال بأن الملائكة أفضل من البشر. والملائكة تتفاوت مكانتهم؛ فجبريل منزلته أرقى المنازل عند الله جل وعلا.

ذكر الراجح في مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر

ذكر الراجح في مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر والترجيح حقاً لا يخرج عن توضيح شيخ الإسلام. قال شيخ الإسلام: أما الملائكة فهم أفضل باعتبار البداية، فالملائكة يسبحون ويحمدون ولا يعصون الله ما أمرهم، فمنهم: الذاكر، ومنهم: المسبح، ومنهم: الراكع، ومنهم: الساجد، ومنهم: الموكل بأمر لا يمكن أن يعصي الله جل وعلا فيه بحال من الأحوال، فهذا حقاً أكمل المراتب. بل أنت عندما تخلو بربك فتدمع عينك وتبكي رقة من الله جلا وعلا، وتذوق حلاوة الإيمان تقول: لا أحد مثلي في هذه الدنيا، أنا في جنة ما دخلها أحد. فالملائكة هم في هذه الحال طيلة هذه الحياة، فالملائكة أفضل باعتبار البداية؛ لأنهم على أكمل المراتب في هذه الحياة. أما في الآخرة: فالبشر أفضل من الملائكة؛ إذ إنهم عند دخولهم الجنة يكونون أرقى بكثير من الملائكة، ويزدادون قربة من الله، وينظرون إلى وجهه سبحانه، ويتمتعون بما في الجنة، وخدم أهل الجنة هم الملائكة، فهذه دلالة على أنهم أرقى عند الدخول. فيكون الترجيح هو اعتبار البداية واعتبار النهاية: فالملائكة أفضل باعتبار البداية، وصالحو البشر أفضل باعتبار النهاية، وبهذا تتآلف الأدلة وتجتمع ويحصل الجمع بين القولين. والملائكة الذين في السماء الأولى ليسوا بنفس درجة الذين في السماء الثانية، والذين في الثالثة ليسوا بدرجة الذين في الثانية، بل هم أعلى منهم وأرقى، فتتفاوت مراتب الملائكة، وأرقى الخلق من الملائكة عند الله جل وعلا هو جبريل، وميكائيل، وإسرافيل. والملائكة يلهمون هذا، لكن نقول: هذا الإلهام فيه علو الدرجات وفيه قرب كبير من الله جل وعلا، وشعور بحلاوة الإيمان عندما يسبحون الله، ويذكرونه جل وعلا.

الأسئلة

الأسئلة

بيان أن ابن صياد ليس هو الدجال

بيان أن ابن صياد ليس هو الدجال Q هل ابن صائد هو الدجال؟ A الذي جعل الناس يشكون في أنه الدجال هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختبئ له خلف الأشجار، وجاءه مرة وهو معلق بين شجرتين يهمهم همهمة الشياطين، فقالت له أمه: يا صاف! هذا محمد -صلى الله عليه وسلم- فدعاه. فقام فزعاً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يأتيك) أو قال: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء يأتيني صادق وكاذب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: خلط عليه، ثم قال له: خبأت لك خبيئة. قال: الدخ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، قال: إن يكنه فلن تسلط عليه). يعني: ليس لك أن تقتله، إذ إن الله سيفتن به الناس في آخر الخليقة، (وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله). فهذا الحديث هو الذي جعل الناس يشكون هل هو ابن صائد أم لا؟ فالصحابة شكوا فيه. وفي حديث جابر وغيره أنه كان ذاهباً إلى مكة ليحج فقال له: أما زلت تشك فيه؟ أو أتشك فيه؟ أما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يدخل مكة ولا المدينة) وأنا ذاهب من المدينة إلى مكة، أما قال: (إنه لا يولد له ولد) وأنا عندي من الأولاد كذا، ثم بين لهم أنه ليس هو، وبعدما اقتنع جابر وانتظر حتى استقر في قلبه أنه ليس هو شككه مرة ثانية. فقال: ولو عرض علي ما رفضته، يعني: لو عرض عليه أنه يكون هو الدجال الأكبر ما رفض، وهذه أيضاً تشكك، لكن لا تجعل المرء يستيقن أنه هو الدجال، فهو بيقين ليس بـ ابن صائد، بل ابن صائد مات ودفن وصلوا عليه. ومن أوضح الأدلة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم) يعني: أن كل موجود على أرض البسيطة في هذه المائة سنة سيموت. لكن يشكل على هذا أن المسيح الدجال كان موجوداً والنبي صلى الله عليه وسلم لم يره؛ إذ إن تميماً الداري قد رآه، ولكن يقال: لو كان المسيح هو ابن صائد لأخبر به تميم الداري؛ فإنه رآه في المدينة؛ لأنه كان في المدينة، والصحابة كلهم كانوا في المدينة، ولذلك النووي عند أن تكلم في هذه الأحاديث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف له تميم الداري الدجال وصفه بنفس الوصف الذي وصفه حين قال: إنه أعور، وإنه كذاب، وهذا يبين أن هذا الوصف يخالف تماماً الذي عليه ابن صائد. ومن الأدلة على أن ابن صائد ليس هو الدجال: أن تميماً الداري رآه مسلسلاً، وابن صائد لم يكن مسلسلاً، بل كان حراً موجوداً حياً يرزق. وأيضاً: قد ولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يولد له) فهذه أدلة فيها قطع النزاع في ذلك.

حقوق أولياء الأمور

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - حقوق أولياء الأمور لقد أمر الله عز وجل بطاعة ولاة الأمور من السلاطين والعلماء، لكن طاعتهم تابعة لطاعته سبحانه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج على ولاة الأمور إن لم يأتوا كفراً بواحاً؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة، من سفك للدماء وانتهاك للأعراض، وغير ذلك.

حقيقة ولاة الأمور

حقيقة ولاة الأمور إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع هذا الكتاب العظيم، كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للعلامة اللالكائي، وقد انتهينا في الدرس الماضي من الكلام عن الغيبيات، وتكلمنا عن الدجال، وعن اختلاف العلماء في تفضيل بني البشر على الملائكة، واليوم إن شاء الله سيكون الكلام عن سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة الأئمة والأمراء ومنع الخروج عليهم، ثم نختمها بالكلام على الطائفة المبتدعة وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج. اختلف العلماء في ولاة الأمور هل هم الأمراء أم العلماء؟ على قولين، والصحيح الراجح: أن الأمراء والعلماء هم ولاة الأمور؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فهذه خاصة بالأمراء أو السلاطين، والآية الأخرى تدل على أن ولاة الأمور هم العلماء، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]. فالاستنباط هو من خصائص العلماء، فدل ذلك على أن الأمراء هم العلماء، والسلاطين: هم الذين لهم الحكم بالقوة والملك، والعلماء: لهم الحكم بالحجة والبيان.

السمع والطاعة لولاة الأمور وضوابط ذلك

السمع والطاعة لولاة الأمور وضوابط ذلك إن أول ما يجب على الأمة تجاه الأمراء أو العلماء السمع والطاعة. والسمع والطاعة من أهم واجبات هذه الأمة بالنسبة لولاة الأمور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بايعنا الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعلى أثرة منا)، فالشاهد من الحديث قوله: (على السمع والطاعة) يعني: لولاة الأمور. وفي حديث مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة). وفي السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة). وأيضاً وردت أحاديث كثيرة في السمع والطاعة من الأمة للأمراء والعلماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالسمع والطاعة وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك). وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وأدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم). فالأدلة كثيرة على السمع والطاعة، لكن السمع والطاعة على هذه الأمة نحو الأمراء والعلماء ليست مطلقة بل مقيدة، صحيح أن كل هذه الأحاديث والآيات التي ذكرت السمع والطاعة مطلقة، لكنها قيدت بآثار أخرى، فمنها: ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف). وإنما أسلوب حصر، يعني: الطاعة كل الطاعة لا تكون إلا بالمعروف، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرك بالمعصية فلا سمع ولا طاعة). وما من خليفة راشد استلم الخلافة في عهد السلف إلا وخطب الناس أول ما خطبهم وقال: أطيعوني ما أطعت الله فيكم. فشرط الطاعة بطاعة الله جل وعلا. وأيضاً قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم، أي: لم يجعلها طاعة مستقلة، بل جعلها تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله، فهذه دلالة على أن هذه الطاعة ليست طاعة مطلقة، بل سمع وطاعة فيما يرضي الله جل وعلا. أما بالنسبة للمعصية فلا، ولذلك ورد عن عمر بسند صحيح أنه قال: (عليك بالسمع والطاعة وإن أمرك بما ينقص دنياك، أما إن أمرك بما ينقص دينك فقل: دمي دون ديني). إذاً: فالسمع والطاعة لولاة الأمور من العلماء والأمراء مقيدة بما يرضي الله جل وعلا، فإنما الطاعة في المعروف.

النصيحة لولاة الأمور

النصيحة لولاة الأمور من الواجبات التي لا بد أن تؤديها الأمة نحو ولاة الأمور من العلماء والأمراء: النصيحة. والنصح يكون للأمراء والعلماء، إذ من الممكن أن يزل عالم أو يجهل مسألة أو يخطئ فيها فتنصح له، فالنصح للعلماء وللأمراء. قال بعض العلماء: إن النصح واجب على كل امرئ لولاة الأمور. والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب ومن السنة، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، والتعاون على البر والتقوى: أن تنصح في الله فيما ينفع وتحذر مما يضر. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). وأيضاً في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، والنصح لكل مسلم). إذاً: فالنصح يكون للعلماء والأمراء ولآحاد المسلمين، وهو من باب الإرشاد والتعاون على البر والتقوى. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: والنصح لولاة الأمور).

آداب النصيحة وهدي السلف في ذلك

آداب النصيحة وهدي السلف في ذلك من الواجبات على هذه الأمة أن تنصح لولاة الأمور، وهذا النصح له آداب لا بد أن يتحلى بها الناصح. أولاً: أن يكون عالماً بهذه النصيحة التي سيؤديها من الكتاب أو من السنة، وعنده الإتقان في هذه المسألة التي سينصح فيها. ثانياً: أن يكون هذا النصح سراً لا علانية وجهاراً؛ لدرء المفاسد، وهذا من هدي السلف، أي: أنهم كانوا يناصحون ولاة الأمور في السر لا في العلن، دليل ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (من أراد منكم أن ينصح أميره أو ذي السلطان فلا يبديه علانية، وليمسك بيده، فإن سمع منه، فهذا المحمود المطلوب، وإلا فقد أدى الذي عليه) يعني: أدى الناصح الذي عليه. وأيضاً في الصحيح: (أن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه جاءه الناس، فقالوا: يا أسامة ألا تدخل على عثمان فتكلمه، أي: في أشياء تأول فيها وأنكرها بعض الناس، فالإنكار هنا كان للتأويل وعثمان رضي الله عنه وأرضاه في خلافته هو سيد الأمة بالإجماع وبالاتفاق، ولم يخالف هذا الأمر إلا أهل البدع الذين أنكروا ذلك، فـ عثمان تأول بعض التأويلات أنكرت عليه، فقالوا: (يا أسامة ألا تدخل عليه تكلمه -يعني: تنكر عليه- قال: أو كلما كلمته تسمعون؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ولا أحب أن أفتح باباً أكون أنا أول من فتحه). يعني: لا أريد أن أكون أول من فتح باب الإنكار علناً على ولاة الأمور؛ فتحصل المفاسد العظيمة والشر المستطير، وانقلاب الناس على ولي الأمر والخروج عليه. فهذا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينصح ولي الأمر سراً بينه وبينه. كان الإمام مالك يقول: إذا دخلت على ولي الأمر ولك كلمة عنده فانصح، وإلا فلا تذهب إليه، إلا أن تعلم أنه سيسمع لقولك فتنصح لله سراً. وكان الإمام الأوزاعي يكتب إليهم بالرسائل، وكذا ابن المبارك والنووي كانا يكتبان لولاة الأمور بالنصح بالكتاب والسنة قال الله قال الرسول، سراً، ويبعثان إليهم بهذه الرسائل لعل الله جل وعلا أن ينفع بها. إذاً: فالنصح لهم بالسر.

النصح لولاة الأمور بالدعاء

النصح لولاة الأمور بالدعاء إذاً: فالنصح نوعان: النصح سراً وبالرسائل، والثاني: بالدعاء. هذا هو فعل السلف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعوة المستجابة دعوة الأخ المسلم لأخيه بظهر الغيب). وكما ورد بسند صحيح عن الإمام أحمد قال: لو كانت لي دعوة مستجابة لخبأتها لولي الأمر. لم؟ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. فالناس كما يقولون تبع لملوكهم، إن كان شرقاً كانوا في المشرق وإن كان غرباً كانوا في المغرب. فالمرء المخلص إن علم أن له دعوة مستجابة عند الله جل وعلا ورفع يده لله جل وعلا سراً أو سحراً فيقول: اللهم أصلح ولاة الأمور، واجعل أمرهم لنصر دين الله جل وعلا، ولإعلاء كلمتك، فإن كان مخلصاً واستجاب الله له فإن الدين ينصر بمثل هؤلاء، والله جل وعلا ينصر الدين بكل واحد نصبه، ودلالة ذلك: أن الخلافة الأموية حدث فيها ظلم وفسق استشرى، ومع ذلك كانت الانتصارات على أيدي هؤلاء، فهذا الحجاج فيه من الظلم والفجور والفسق ما فيه، حتى اختلف العلماء في حكمه هل هو كافر أم لا؟ ومع ذلك جعل الله الانتصارات على يديه. والخلافة العباسية حدث فيها ما حدث من الفسق والظلم والفجور، ومع ذلك كانت فيها فتوحات وانتصارات. فكان هارون الرشيد يقول للسماء: أمطري حيث شئتِ فيأتيني خراجكِ. وكان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وتكلم مع ملك الروم بكلمات تبين عزة الدين، قال: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى كلب الروم الأمر ما ترى لا ما تسمع. فولاة الأمور إذا صح دينهم ودعوت الله مخلصاً أن يجعل الله عملهم نصرة للدين، فهذا من أفضل الأعمال التي تقدمها لله جل وعلا، ومن أفضل النصح لولاة الأمور، فكونك تدعو لهم سحراً: اللهم اجعلهم نصراً للدين، وارفع بهم راية لا إله إلا الله، فهذا نصراً للأمة، وإن كانوا على فسق أو على فجور أو على عدالة أو ضبط وحسن دين، فدعاؤك لهم لو كنت مستجاب الدعوة سيكون سبباً في هذا الانتصار.

عدم الخروج على ولاة الأمور

عدم الخروج على ولاة الأمور الثالث من الواجبات لولاة الأمور: عدم الخروج عليهم، وإن استشرى شرهم، وظهر فسقهم، وعلا ظلمهم، إذ الخروج عليهم يحدث بسببه خراب الدنيا بأسرها، من إراقة الدماء، مع المفاسد العظيمة التي لا يمكن للإنسان أن يحجمها، فيكاد الخروج على ولاة الأمور من أفسد ما يكون، والله جل وعلا أمر الأمة بالتآلف والتحابب، والخروج على ولاة الأمور يقطع هذا التآلف والتحابب. لقد جاءت السنة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يمنع الخروج على ولاة الأمور. أما بالنسبة للآيات: فكقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فهذا على الإطلاق، وينافيه الخروج عليهم، إذ الخروج على ولاة الأمور ليس فيه طاعة، والله جل وعلا أمر بالطاعة لولاة الأمور. أما من السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مصرحاً في ذلك كما في حديث أنس: (لا تسبوا ولاة الأمور، أو لا تسبوا أمراءكم، ولا تبغضوهم، ولا تغشوهم، واصبروا) فأمر بالصبر وهو مناف للخروج عليهم. وأيضاً في حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً: (من رأى منكراً من سلطانه فلينكر عليه سراً). وفي السنن أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره منكراً فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة فمات فميتته ميتة جاهلية). يعني: إذا خرج على الأئمة واستشرى الفساد بخروجه مات ميتة جاهلية. وأيضاً ورد موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) يعني: بخروجه على الأمراء. وقيل لـ ابن عمر: (بويع لـ يزيد بن معاوية -يعني: استخلف معاوية ابنه- فقال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: إن كان خيراً رضينا وإن كان شراً صبرنا) أي: لم نخرج عليه. وأيضاً في الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -إلى آخر الحديث، فقال:- وألا ننازع الأمر أهله) هذا نص صريح. وفي رواية قال: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً). وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ما صلوا، أو قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة). وفي رواية قال: (لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). فمنع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج على ولاة الأمور، إلا أن نرى كفراً بواحاً، حتى إذا رأيت كفراً بواحاً وقد كفر بالله مثلاً والعياذ بالله جهاراً أمام الناس علناً دون استحياء، فإنك لا تخرج عليه إلا بضوابط، هذه الضوابط أن تتأكد وتستيقن أن مصلحة الخروج تكون أكبر من المفسدة التي تحدث، أما إذا أتيت بمفسدة أعظم فلا يجوز لك ذلك، حتى مع الكفر الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز الخروج إلا مع ضمان عدم المفسدة، ولذلك قيل للحسن البصري: أما رأيت فلاناً قد خرج على الإمام؟ قال: مسكين، رأى منكراً فأراد أن ينكره فأتى بما هو أنكر منه. فقاعدة المصالح والمفاسد قاعدة معروفة. قوله: (وأن لا ننازع الأمر أهله) هذا هو فعل السلف، ابن عمر وأبو هريرة وأنس رضوان الله عليهم أجمعين فهؤلاء الصحابة كانوا متوافرين في عصر الحجاج الظالم الذي قلت: اختلف العلماء هل يكفر أم لا، ومع ذلك لم يخرجوا ولم يأمروا بالخروج، ولم يقروا بالخروج بحال من الأحوال، بل صلى خلفه ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه. فالخروج على الأئمة أفسد ما يكون، فإذا اجتمعت طائفة وكانت لهم شوكة وقالوا: نخرج على الإمام فهذا أمر باطل في الشرع لا يجوز بحال من الأحوال، وهو باطل بالكتاب وبالسنة وبفعل السلف رضوان الله عليهم. هذا آخر ما نتكلم عليه من باب وجوب طاعة الأئمة وعدم الخروج عليهم.

الخوارج النشأة والمسميات والسمات والحكم

الخوارج النشأة والمسميات والسمات والحكم

أسماء طائفة الخوارج

أسماء طائفة الخوارج لقد ثنى المصنف بالخوارج وحكم الخوارج الذين يخرجون على الأئمة. هذه الطائفة سنتكلم عن اسمها ومسمياتها ومتى أنشئت، وكفر هذه الطائفة من عدمه، وحكمها عند أهل السنة والجماعة. أما طائفة الخوارج فلها أسماء عدة، فمن مسمياتها: الخوارج، والحكمية، والنواصب، والحرورية، فلها أسماء أربعة. فسموا بالخوارج؛ لأنهم خرجوا على علي رضي الله عنه وأرضاه، وعلى معاوية، ويقاتلون أهل السنة والجماعة. وسموا الحكمية؛ لأنهم قالوا: لا حكم إلا لله وهي كلمة حق أرادوا بها باطلاً. وسموا حرورية؛ لأنهم خرجوا من منقطة حروراء. وسموا نواصب؛ لأنهم نصبوا العداء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأسماء هذه الطائفة الضالة المبتدعة الخوارج: خوارج، حكمية، حرورية، نواصب.

ظهور الخوارج

ظهور الخوارج ظهرت هذه الطائفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم الغنائم كما في الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فجاء رجل غائر العينين محلوق الرأس، فقال: يا محمد اعدل أو قال: اتق الله واعدل). وفي رواية قال: (هذه القسمة ما أريد بها وجه الله جل وعلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إن لم أعدل، فقام خالد فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم لما استدار الرجل وولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس أو أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم). فبين النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه يخرج من عقب هذا الرجل هذه الطائفة، فهذا الرجل هو أصل المنبع لطائفة الخوارج. ثم ظهرت بقوة وبشوكة وبكثرة زمان الفتنة بين علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضوان الله عليهم أجمعين. ولما ظهرت الفتنة بينهما قامت قائمة الخوارج، فقالوا: حكموا الرجال ولا حكم إلا لله، فنصبوا العداء لـ علي بن أبي طالب ونصبوا العداء لـ معاوية، وقاتلهم علي وهو أولى الطائفتين بالحق. هذه بداية نشأة أو ظهور قوة للخوارج أو النواصب.

صفات الخوارج

صفات الخوارج من مواصفات هذه الطائفة، أولاً: أنهم يحلقون رءوسهم، ولذلك ترى في الحديث: (جاء الرجل غائر العينين محلوق الرأس) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات تصريحاً: (سيماهم التحليق). يعني: الصفة التي تعلوهم التحليق. وأيضاً في بعض الروايات في السنن أنه جاء أبو موسى يناقش ويناظر بعض الصحابة، فقال: (أتراني من الذي يحلقون) يعني: من الحرورية. وأيضاً من مواصفاتهم: أنهم يجتهدون اجتهاداً عظيماً في الطاعة، كما قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]. نعوذ بالله أن نكون منهم. وكما جاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على قسيس يجتهد اجتهاداً كبيراً في عبادة الله جل وعلا عبادة باطلة، فنظر إليه فبكى فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فهم كذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم). يعني: يجدون في قراءة القرآن، لكنه لا يجاوز حناجرهم، من الجهل العميق الذي هم فيه. وأيضاً لما جاءت المرأة تسأل عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إذا حاضت المرأة فلا صلت ولا صامت، فتسألها عن قضاء الصلاة. فقالت لها: أحرورية أنت؟ وذلك لأن الخوارج يجتهدون في العبادة حتى أوجبوا على المرأة الحائض أن تقضي الصلاة التي عليها، وهذا من التنطع والغلو في الدين والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (تخرج أقوام حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول خير البرية). يعني: يتكلمون بخير الكلام كلام الله وكلام الرسول ومع ذلك يضعونه في غير موضعه، فهذه أيضاً من صفاتهم أنهم يجهلون الشرع مع أنهم يجدون في الطاعة. أيضاً من السمات التي وسمهم بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، والقصة المشهورة: أنه مر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه فأخذوه فقتلوه وهو صحابي ابن صحابي، وبقروا بطن زوجته، فهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان من جهلهم العميق. وأيضاً من جهلهم: أنهم يضعون الآيات في غير موضعها أو يستدلون بغير دليل صحيح، كما قاموا على علي وقالوا: حكَّم الرجال. فقال علي: حق أريد به باطل. فبين لهم وقال: قال الله تعالى عن المرأة إذا نشزت أو تخاصمت مع زوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا} [النساء:35]، وهذا نص كتاب الله جل وعلا وجعل تحكيم الرجال جائزاً بنص كلام الله جل وعلا، فقال: أما يقرءون هذه الآيات، فبعث إليهم ابن عباس فناظرهم، ونصحه علي نصيحة، فقال: لا تناظرهم بكتاب الله، فعليك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب فناظرهم فرجع بالنصف منهم وبقي النصف الآخر على ما هم عليه، ثم قاتلوا علياً فقتلهم علي، وكانت هذه بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم أن أولى الطائفة بالحق هم الذين يقتلون الخوارج.

الحكم على الخوارج

الحكم على الخوارج حكم هذه الطائفة، أو حكم الخوارج، أو النواصب، أو الحرورية، أهم كفار أم هم مسلمون؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: طائفة قالوا: هم كفار خرجوا من الدين، وهي رواية عن أحمد والشافعي ومالك، ويستدل لهم بأمور: أولاً: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). يعني: إذا خرج السهم من القوس فلا يرجع إليه. ثانياً: يستدل لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأقتلهم قتل عاد وإرم). فشبههم بعاد وإرم وهم كفار. أما دليلهم من النظر: فهم قتلوا علياً استحلالاً، وأرادوا قتل معاوية استحلالاً، وقتلوا كذلك المسلمين استحلالاً، ومن استحل دم المسلم كفر بذلك. والدليل على أن الاستحلال محرم ويكفر بذلك المرء قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ} [النحل:116]، فهذا الاستحلال من باب الافتراء على الله الكذب. وحديث عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما كانوا يحلون لكم الحرام فتتبعونهم، ويحرمون عليكم الحلال فتتبعونهم؟ قال: نعم، قال: تلك عبادتهم). القول الثاني: عدم كفرهم وإنما هم ظلمة وجهلة وليسوا بكفار، وهذا رواية عن أحمد ورواية عن الشافعي ورواية عن مالك، وأدلتهم في ذلك: أن الصحابة أجمعوا على عدم كفر الخوارج، وهم كانوا متوافرين موجودين في عصر علي بن أبي طالب، فسئل علي بن أبي طالب: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: المنافق لا يذكر الله إلا قليلاً). يعني: هم يذكرون الله كثيراً ليسوا منافقين. وفي رواية عن ابن عمر أنه صلى خلف خارجي. وأيضاً: عن علي بن أبي طالب لما قتله ابن ملجم، قال: (دعوه أو احبسوه فإن برئت فالجروح قصاص، وإن أنا مت فاقتلوه قصاصاً). فأمرهم أن يقتلوه قصاصاً أي: حداً لا ردة ولا كفراً. فهذه دلالة أيضاً على عدم تكفيرهم. وأيضاً قيل لـ علي بن أبي طالب: (فلم تقاتلهم؟ قال: أمرنا الرسول. أو قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم). فدل على أنهم من البغاة أو على الترجيح الصحيح: أنهم قوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ورتب لمن قتلهم الأجر الكبير والعظيم. وأيضاً ورد عن علي أنه قال: (أنتم إخواننا لا نمنعكم مساجدنا، ولكم ما لنا من الفيء، فإن قاتلتمونا قاتلناكم). أرسل إليهم بهذا، فهذه دلالة على عدم كفرهم، وهذا فيه إجماع الصحابة وإجماعهم يؤول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين). يعني: لا يمرقون كلية من الإيمان، لكن يبقى معهم أصل الإيمان وأصل الإسلام. أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقتلنهم قتل عاد وإرم). فإن القتل لا يدل على الكفر، بل شرع لنا قتال المسلمين من البغاة، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. فقال: من المؤمنين، ثم قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات:9]. فالبغاة أمرنا بقتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وأيضاً الذين منعوا الزكاة قاتلهم المسلمون على أنهم منعوا الزكاة فقط، وإطلاق الردة عليهم لغة فقط، هم منعوا الزكاة فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. فالقتل بالإطلاق لا يستلزم الكفر، والخوارج قوتلوا على استحلالهم دماء المسلمين. نقول: القاعدة التي لا بد أن يضبطها طالب العلم هي: أن الاستحلال كفر، لكن أن تسقط عليه عيناً أنه كافر لا يجوز لك ذلك؛ إذ أنه قد تعرض له الشبه والتأويلات التي لا تجعلك تكفره. وقبل أن أسرد الكلام على هذه القاعدة المهمة جداً أقول: الصحابة لم يكفروا هؤلاء، واعتذروا لهم بتأويلهم استحلال الدماء بما حدث من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن بعض الصحابة كفر بعضاً من أجل الإتيان بالكفر تأويلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر الذي كفر أحد الصحابة، يعني: الصحابي الأول كفر الصحابي الثاني، والثاني أتى بفعل كفر لكنه في هذا الفعل كفر شبهة أو تأويل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر الصحابي الأول من أجل هذه الشبهة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها وإلا حارت عليه). إلا أن يكون هناك ثمة تأويل وشبهة. فالشبهة عند الأول: أن هذا فعل فعلاً كفرياً، والشبهة عند الثاني: أن هذا الفعل ليس بكفر. وإليكم الأدلة على ذلك: الدليل الأول: حادثة حاطب بن أبي بلتعة لما بعث إلى قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يجهز الجيش ليغزوكم، قام عمر لما عرف الأمر وقال: (يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق) رماه بالنفاق. وقال الله عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]. فكان عمر له هذه النظرة ألا وهي إظهار عورة المسلمين للكافرين: (فجاء حاطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما فعلت ذلك ردة، ولكن رأيت أن لكل واحد منكم يداً في قريش وليس لي يد، ولي أهلون هناك أخاف عليهم، ففعلت ذلك من أجلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم قد غفرت لكم). يعني: ليس بكافر من أجل هذه الشبهة، أي: من أجل هذا المسوغ الذي جعله يفعل هذا الفعل الكفري، فلم يكفر عيناً به. الدليل الثاني: حادثة الإفك، قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً: (من يعذرني في رجل أساءني في أهلي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إن كان منا فعلنا به وفعلنا، وإن كان من إخواننا الخزرج فعلنا به ما أمرتنا، فقام سعد بن عبادة حمية فقال: والله لا تفعل معه شيئاً، فقال أسيد بن حضير لـ سعد بن عبادة: والله لنقتلنه وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين). فـ سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، وقال له أسيد بن حضير: والله إنك لمنافق تجادل عن المنافقين، رماه بالنفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أسيد ولم يقر هذا الحكم على سعد، بل قام يسكت الناس؛ لأنه قام الحيان ليتقاتلا، فلم ينكر على أسيد للتأويل الذي تأوله بما رآه من الظاهر، وأيضاً لم يطبق الحكم على سعد لأن سعداً عنده تأويل أو عنده شبهة أو جاءته حمية دون أن يرتضي بهذا الفعل. الدليل الثالث: أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، قال: (أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، قال: فصبحنا القوم قال: فتعقبت رجلاً أنا وأنصاري، فقام الرجل فقال: لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري، فأخذته فطعنته برمحي فقتلته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ فقال أسامة: يا رسول الله، والله ما قالها إلا تعوذاً). فهذه الشبهة جعلت أسامة يستحل قتل المسلم الذي قال: لا إله إلا الله، وهو ظاهره الإسلام. (قال: يا رسول الله، والله ما قالها إلا تعوذاً. أو ما قالها إلا متعوذاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أسامة ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة، فما زال يكرر: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، حتى ندم أسامة وقال: تمنيت أن لا أكون أسلمت إلا بعد هذا اليوم). الشاهد من هنا ما استدل به شيخ الإسلام قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عذر أسامة للتأويل الذي استباح به دم هذا المسلم الذي قال: لا إله إلا الله؛ لأنه لما قال: لا إله إلا الله أسلم ظاهراً. وهذا التأويل والشبهة التي جعلت أسامة يقتله: أنه ظن أنما قال الرجل: لا إله إلا الله متعوذاً، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالقصاص أو بالدية. فهذه فيها دلالة أنه عذره بهذا التأويل، وهذه الشبهة أسقطت الحكم عنه. فهذه دلالات كثيرة تبين أن المتأول بفعل كفري أو الذي له شبهة بالفعل الذي جاء النص بأنه كفري أنك لا تطبق عليه حكم الكفر، فهؤلاء الخوارج استحلوا دم علي واستحلوا دم معاوية واستحلوا دم الكثير من المسلمين وكفروهم ومع ذلك لم يكفرهم الصحابة؛ للتأويلات والشبه التي كانت عندهم، فهم قالوا: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. وعلي حكم أبا موسى ومعاوية حكم عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، فهؤلاء حكموا الرجال والحكم لا يكون إلا لرب الرجال، فهذه دلالة على أنهم يكفرون عندهم؛ لأنهم حكموا الرجال فيما لا يكون الحكم فيه إلا لله العلي الجليل. فتأولوا بهذه الآية وكانت شبهة لهم، فلذلك لم يحكم عليهم الصحابة بأنهم من الكافرين. فالصحيح الراجح: أن هذه الطائفة طائفة مبتدعة ضالة وليست بكافرة.

عقيدة الخوارج

عقيدة الخوارج عقيدة الخوارج كالمعتزلة تماماً ولكنهم أرقى منهم. هم في باب الإيمان يرون أن الإيمان كل متكامل، إذا سقط سقط كلية وإذا قام قام كلية، بمعنى أن المعصية تجعل كل الإيمان يضيع، فيكفرون بالكبيرة، وفاعلها عندهم كافر خالد مخلد في نار جهنم كالمعتزلة. وأيضاً لهم تأويلات أخرى في رؤية الله جل وعلا، لكن الأهم عندنا: أن الخوارج أهم ما يعتقدونه التكفير بالكبيرة، فهم يرون أن أي امرئ قد عصى الله فهو كافر من الكفار، ولا بد أن يتوب ويرجع إلى الإسلام؛ لأنه مرتد، وإن لم يرجع بالتوبة يقتل ردة.

فضائل الصحابة - حكم من سب الصحابة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل الصحابة - حكم من سب الصحابة إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الخلق بعد الأنبياء، كيف لا وقد تخرجوا من مدرسة سيد الأولين والآخرين، ومعلم البشرية أجمعين عليه الصلاة والسلام، وفضائلهم أشهر من نار على علم، وإنما تظهر لنا كي نتأسى بهم ونحذو حذوهم لننال شيئاً من الفضل الذي نالوه، ونحصل بعضاً مما حصلوه، ونرغم بالثناء عليهم أنوف المبتدعين والمنافقين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.

نظرة إجمالية للموضوع

نظرة إجمالية للموضوع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك، وهو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ونحن في خاتمة هذا الكتاب في الكلام على الأخيار أفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام عليهم سنبين فضلهم، وواجب الأمة نحوهم، وحكم من سبهم، أو كفرهم، أو لعنهم، ثم مع ذلك سنفرد -إن شاء الله- أياماً متتابعة في الكلام على خلافة أبي بكر وصحتها، وهل كان علي وصياً، أي: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بخلافة علي أم لا؟! والكلام على ما دار بين أبي بكر وفاطمة، وبينه وبين عمر، وأيضاً سنذكر الكلام في مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، والكلام عما دار بين معاوية وعلي، وسنتكلم ذباً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نختم بكرامات الأولياء، وسيدور الحديث مع أهل البدعة والضلالة في مسائل كرامات الأولياء.

تعديل الله وتزكيته للصحابة الكرام

تعديل الله وتزكيته للصحابة الكرام إن الله جل وعلا فضل هذه الأمة تفضيلاً عظيماً، فجعلها أفضل الأمم، وميزها بميزات لا تدانيها أمة في التاريخ في ذلك. وأهم هذه الميزات أنه فضلهم برسولهم محمد صلى الله عليه وسلم فجعله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، وهو القدوة والإمام؛ بل سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم، فهذه من مميزات هذه الأمة. إن من سنن الله الكونية أنه إذا اختار رسولاً بشرياً وجعله أفضل الخلق؛ فإنه يختار له صحبة تنصره على ما يدعو إليه، وتنشر دعوته، وتعينه، وتتحمل معه المشاق. فموسى عليه السلام تخير الله له خيرة الناس في وقته، وكذلك عيسى عليه السلام اختار الله له الحواريين لصحبته، وكانوا من أفضل أصحابه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الله له أفضل الناس بعد الأنيباء على الإطلاق، فلا يدانيهم أحد من صحابة رسول أبداً، فهؤلاء الصحابة أعلى البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وقد اختارهم الله على علم عنده، ورباهم الرسول على عينه. ولقد أنزل الله جل وعلا عدالة الصحابة من فوق سبع سموات؛ حيث قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]. فقوله: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)) فيه أن خيرية الأمة مبتدأ من صحابة رسول الله، أي: من أبي بكر إلى آخر الصحابة موتاً رضي الله عنهم وأرضاهم. وكذلك بين الله جل وعلا عدالتهم وأنهم خير الناس، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، قال المفسرون: معنى وسطاً: أي خياراً عدولا، فلا أحد أخير من صحابة رسول الله، ولا أعدل منهم، فعدلهم الله في كتابه، ونشر النبي صلى الله عليه وسلم فضائلهم في سنته، وأثنى عليهم. ومدحهم الله جل وعلا فزكى صدقهم ويقينهم وتوكلهم وإيمانهم، فقال الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172]. ثم بين الله صدق هؤلاء في التوكل عليه -لذلك جعلهم سادة وقادة ولهم الريادة- فقال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. بل وأرقى من ذلك: لما جاءت الجموع والأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا -أي: المنافقون المتظاهرون بمظهر الصحابة الكرام- ماذا قال المؤمنون الأخيار الذين اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قالوا كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، فزكاهم الله جل وعلا، بل وزكى صدقهم في بيعهم أنفسهم له جلا وعلا، وكل منهم يبيت ويقول: أي منا سيراق دمه تحت هذه الراية الشريفة، أي: راية لا إله إلا الله؟! وأنزل الله آيات معدلاً لهم، ومبيناً صدقهم، ومنتصراً لهم على من ناوأهم أو لمزهم أو غمزهم فقال سبحانه: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) و (من) هنا للتبعيض، أي: هؤلاء فقط.

صور من صدق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

صور من صدق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، نزلت هذه الآية في أنس بن النضر وأمثاله رضي الله عنهم أجمعين. وذلك أنه في يوم أحد جاء أنس بن النضر وقال: إن أول قتال مع رسول الله لم أشهده، والله لئن أشهدني الله جل وعلا قتالاً مع رسول الله ليرين الله مني خيراً. صدق مع الله فصدقه الله، ونشر الله ذكره إلى يوم الدين بقوله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]. ففي غزوة أحد فر كثير من أصحاب رسول الله بل من أفضلهم كـ عثمان بن عفان، وكثير من الصحابة فروا عن رسول الله، وبقى وحيداً فريداً صلى الله عليه وسلم، ودخل أنس بن النضر وسط الجموع والصفوف والأسنة والرماح، يقول له سعد بن معاذ -الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منديل سعد في الجنة أفضل من الدنيا وما فيها، وخير من الدنيا وما فيها)، أتعرفون سعداً؟ هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد) - وهو يفر: أين أنت يا أنس؟! أي: أين تذهب يا أنس؟! فصفوف المشركين مكتظة متكتلة، فقال له أنس: إيه يا سعد! والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، ودخل رضي الله عنه وأرضاه -وصدق الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]- يقاتل حتى آخر نفس في حياته فقتل، ولم يعرف بين القتلى، حتى عرفته أخته ببنانه، ووجد فيه تسعين ضربة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ونزلت فيه هذه الآية الكريمة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]. وقام قائمهم فنظر إلى السماء فقال: اللهم ارزقني بكافر جلد صنديد، يبقر بطيني ويجدع بأنفي، ثم آتيك فتقول: فيم هذا؟ فأقول: فيك يا رب العالمين! فاستجاب الله له، فكان في الصباح مثلما قال. وجاء الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمان بصدق وهو يوزع الغنائم، فأراد النبي إعطاءه، فيقول له: (يا رسول الله! ما على هذا بايعتك، بايعتك على أن أدخل ساحة الوغى، فأقاتل فأضرب هاهنا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدق الله يصدقك). وأنزل الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، ووجد الرجل بعد الغزوة ما ضرب إلا بالمكان الذي أشار إليه. وقام طلحة رضي الله عنه وأرضاه الذي قدم نفس رسول الله على نفسه عملاً بقول الله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، فما كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله أبداً. في غزوة أحد بعدما فر الناس عن رسول الله، وبعدما قتل عشرة من الأنصار أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بقي إلا طلحة رضي الله عنه درعاً لرسول الله فيقول: يا رسول الله! لا ترفع رأسك يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم شهر سيفه وقاتل به حتى دق وكسر، فألقى به، وصد السيوف عن رسول الله بيده حتى شلت، ثم قال رسول الله لـ أبي بكر وعمر: (دونكم صاحبكم فقد أوجب)، أي: أوجب الجنة بصدقه؛ لأنه فداني بنفسه. وجاء أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه فاحتضن رسول الله، والرماح والسيوف تأتي على ظهره، وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله!

طرف من صفات الصحابة في القرآن

طرف من صفات الصحابة في القرآن لقد بين الله مكانة الصحابة وعدالتهم ورضي عنهم وأرضاهم، في كثير من المواطن في الكتاب العزيز فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] ثم قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، ووالله لو أن أحداً من الصحابة في هذا العصر لقاد ولساد مشارق الأرض ومغاربها؛ فإن الله ملكهم الدنيا بأسرها في مدة وجيزة من عمر الزمن. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين هم الذين قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]. ثم قال عن الأنصار ولم يبخس حقهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فعدلهم الله من فوق سبع سماوات، فتباً تباً وسحقاً سحقاً لمن ينتقص من قدرهم. قال الله جل وعلا فيهم -يبين الأخلاقيات السامية العالية-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، هذه من أفضل الصفات التي اتسم واتصف بها هؤلاء الأخيار، أي: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. وحدثت بين أبي ذر وبلال رضي الله عنهما حادثة كالآتي: قال أبو ذر لـ بلال: يا ابن السوداء! -أي: عيره بأنه أسود- فذهب بلال يشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم -انظر إلى تطبيق الآيات- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (أعيرته أمه؟! -فلا يوجد أنساب، ولا تفاخر بمكانات ولا أموال، ولا سيادة أو ريادة، إنما هو الدين، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]- إنك امرؤ فيك جاهلية) فما كان من أبي ذر إلا -وهو يطبق بحق هذه الآية الكريمة: ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) - أن نزل بخده على التراب وقال: يا بلال! والذي نفسي بيده! لا أرفع خدي حتى تطأ بقدميك عليه، وهذا رفعة لـ بلال، وتبيين لمكانته، وقد قال فيه قبل ذلك عمر رضي الله عنه وأرضاه -وهو يبين لـ أبي سفيان وسهيل بن عمر مكانة بلال -: بلال سيدنا، وأعتقه سيدنا أو قال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، أي: بلال رضي الله عنه وأرضاه. وأجمع ما أنزل الله جل وعلا في تعديل الصحابة هو قول الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]. قال الله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى) يعني: لا إله إلا الله. وقوله: (وكانوا أحق بها وأهلها)، يقول ابن مسعود رضي الله عنه -فيما ورد عنه بسند صحيح-: إن الله نظر في قلوب العباد ووجد أن خير هذه القلوب هو قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاختاره ليكون سيد المرسلين، ثم نظر في قلوب العباد بعد رسول الله فوجد أفضل القلوب قلوب أصحابه؛ فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولنصرة دينه. ثم قال عنهم: فإنهم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم أخلاقاً. ثم أرشدنا قائلاً: من كان مستناً فليستن بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعديل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في سنته

تعديل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في سنته لقد عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ونشر فضائلهم في سنته، ومن أعظم ما خشي منه هو سب أصحابه؛ شكراً لجميلهم، وقد شكرهم الله في كتابه، كما شكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن صنيعهم في سنته، ففي الصحيحين يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم حصن لهذه الأمة، قدوات لها، فبجهادهم تؤتى الأمة ما وعدت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي) -أي: أصحاب رسول الله هم الوقاية لهذه الأمة من الفتن والملمات، فقال رسول الله: (وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد). ولذلك كان المسمار الذي كسر النعش بالكلية هو قتل عمر، قال حذيفة في الصحيح لـ عمر بن الخطاب لما سأله عن الفتن: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والزكاة، فقال: ليس عن هذا أسأل، أسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين! بينك وبينها باب، فقال عمر: يا حذيفة! أيفتح الباب أم يكسر؟! فقال حذيفة: لا يا أمير المؤمنين! بل يكسر، فقام عمر وقال: إذاً لن يقام ثانية! ومعنى: (لن يقام ثانية) أي: ستصبح الأمة في فتن إلى يوم القيامة، وهذا هو الذي حدث، فلما حدث حذيفة بهذا الحديث، قالوا له: أعلم عمر من الباب؟ قال: والله! إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، وقد علم عمر من الباب -أي: هو رضي الله عنه- فلما قتل عمر أقبلت الفتن تترا، فقتل عثمان، ثم جاء علي فظهرت رءوس الزندقة في خلافته، وجاءت الفتن بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فنستغفر الله مما حدث، ونترحم عليهم، ونترضى عنهم، ونقول: رب! هؤلاء هم الأخيار، ربنا! اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، اللهم! حقق دعاءنا يا رب العالمين، وألحقنا بصحابة نبيك الكريم، واجعلنا معهم في الفردوس الأعلى يا رب العالمين. ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته كثيراً من سب صحابته الكرام، أو التجرؤ عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تسبوا أصحابي) ثم قال: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، والمد: هو قدر كف اليد، ومعنى الحديث: لو أتيتم بجبال من ذهب فتصدقتم بها، والصحابة جاء أحدهم بكف اليد من بر لا من ذهب فأنفقه فهو عند الله أفضل من هذه الجبال من الذهب. وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على حب أصحابه فقال: (الله! الله! في أصحابي)، يوصي الأمة بصحابته خيراً. والمتمتعون الرافضة يسبون عائشة، وأبا بكر وعمر علناً والعياذ بالله، ولا أحد يتصدى لهذا المنكر! وسنبين أن هذا من واجب الأمة بأسرها، أي: أن لا تسكت عن هذا الطعن في أبي بكر وعمر سيدا هذه الأمة.

علامة الإيمان حب الصحابة وعلامة النفاق بغضهم

علامة الإيمان حب الصحابة وعلامة النفاق بغضهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته: (من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم). بل أرقى من ذلك دلالة جعل النبي صلى الله عليه وسلم علامة الإيمان حب صحابته وعلامة النفاق بغضهم، ثم نجد كثيراً من الناس يستمعون لبعض المتنطعين الذين يتكلمون في صحابة رسول الله ويلمحون بالتنقيص من قدرهم ويقولون: والله! قمنا بعد ما سمعناه وفي قلوبنا غل لـ معاوية، أو غل لـ عائشة، لمز وغمز في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصريحاً أو تلميحاً، وسيرد هؤلاء بإذن الله على الحوض فيردون، ثم يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً، وعقابهم عند ربهم جل وعلا بانتظارهم. ومما يدل على أن علامة الإيمان حب الصحابة، وعلامة النفاق بغضهم: ما ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)، فاللهم! حبب إلينا الأنصار، واجعل قلوبنا عامرة بحب صحابة رسولك صلى الله عليه وسلم.

عزة الصحابة الكرام بدينهم

عزة الصحابة الكرام بدينهم إن الصحابة هم الخيار والأفاضل والأماجد، وهم الذين جعلهم الله جل وعلا يجوبون ربوع الأرض فسادوا وقادوا في مدة وجيزة من عمر الزمن، ثم نشروا دين الله جل وعلا، وكانت مهتم في هذه الدنيا: هي تعبيد الناس لربهم، كما بين ذلك ربعي بن عامر، عندما دخل على رستم عزيزاً برمحه يقطع فرشه التي من حرير، ثم يطأ عليها ببغلته، فيقال له: دع بغلتك في الخارج، ودع سلاحك، فيقول: لا والله! دعوتموني فسأدخل كما أريد، فقال رستم: دعوه، فدخل، فقطع وسادة ثم ربط بغلته، وأخذ برمحه يضرب ويطعن في فراشه الوفير، بعزة المسلم، بشموخ لا تذلل فيه إلا لله جل وعلا وحده فتعجب منه رستم وقال: يا هذا! من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فقال ربعي -يبين دعوتنا، ومنهجنا ومهمتنا في هذه الدنيا-: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولنخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. وإنما سعة الدنيا والآخرة بالذل لله، والتوكل عليه، والصدق معه سبحانه وتعالى. وصحابة رسول الله هم الذين جاءنا الدين على أكتافهم غضاً طريا، فتباً تباً لمن يسبهم. قال أبو زرعة الرازي -وهو الإمام المعروف الذي قال عنه الإمام أحمد: ما جاوز هذا الجسر مثل أبي زرعة، فقد كان حافظاً ثقة ثبتاً. وقال عنه ابن أبي حاتم -وهو ابن خالته-: لما مات أبو زرعة ما خلف بعده مثله. وكان يقول بعض علمائنا: أبو زرعة يا أبا حاتم أحفظ من البخاري. وكان صاعقة في الحفظ، وكان فطناً لبيباً، ينظر إلى الذين يتنطعون ويسبون أصحاب رسول الله فيرد عليهم: من سب أو انتقص قدر صحابي فهو زنديق، إذ أنه يلمح بضرب الشريعة، والشريعة لم تأتنا إلا عن طريق الصحابة، فإن لم تعدل الصحابة فلا شريعة، وقال: من انتقص من قدرهم فهو زنديق، وهم العدول قد عدلهم الله جل وعلا، وعدلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء هم القدوة والأسوة الذين نفتخر بأنهم أجدادنا حقاً، لا فرعون ولا هرقل ولا كسرى ولا قيصر، إنما أفتخر بأجدادي حقاً: كـ خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة الذي تبختر ومشى مشية التعجب بين الصفين ورسول الله يشكر له هذه المشية ويقول: (هذه مشية -أي: مشية التفاخر والتبختر والكبر- يبغضها الله إلا في هذا الموقف)؛ لأنه يعتو ويتكبر على المتكبرين الكافرين. وأبو دجانة هو الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه بعد أن هز النبي الخشبة -وهذه من معجزاته- فأصبحت سيفاً، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أول من أشهر سيفاً في سبيل الله، والذي قام في مقتلة عظيمة بينه وبين الروم يشق الصفوف ويقتل يميناً ويساراً، ويرجع ويقول: هل منكم من يستطيع أن يفعل ذلك؟! فقال: أنا يا رسول الله! فيجلسه، ثم يقوم الثانية فيجلسه، ثم يقوم أبو دجانة فيقول: أنا يا رسول الله! آخذ هذا السيف بحقه. ثم تأتي الغزوة فيربط أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه، ويقول الصحابة من الأنصار -مفتخرين به-: ربط أبو دجانة عصابة الموت، فينزل في ساحة الوغى فيقتل مقتلة عظيمة في أهل الكفر، ثم يجد امرأة تجهز على كل جريح من المسلمين، فرفع عليها السيف، فلما رآها امرأة -وكانت هنداً رضي الله عنها وأرضاها قبل أن تسلم- لم يقتلها، وقال بعدما علاها بالسيف: أترفع بسيف رسول الله أن يقتل امرأة، وتركها ورحل رضي الله عنه وأرضاه.

واجب الأمة نحو الصحابة

واجب الأمة نحو الصحابة

حب الصحابة

حب الصحابة إن واجب الأمة نحو الصحابة يتمثل في أمور: أولاً: حبهم؛ فهو دين نتعبد الله جل وعلا به، كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق -أو علامة النفاق- بغض الأنصار)، وقد قال أنس كما في الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب). فمن تحب ستكون معه، فإن كنت تحب البابا شنودة، وأهل الكفر والضلال، فأنت معهم، وإن كنت تحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجو الله أن تكون معهم في الفردوس الأعلى. وما رأيت حديثاً أفرح لي بمثل هذا الحديث أو قال: ما فرحنا بمثل هذا الحديث، إذ أننا نحب رسول الله -كأنه يلمح بأن عمله لا يصل به إلى أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى- وأبا بكر وعمر، ونرجو الله أن نكون معهم بهذا الحديث: (من أحب قوماً حشر معهم). ونحن إذا أحببنا صحابة رسول الله فنحن معهم إن شاء الله. فأول واجب على الأمة إذاً: هو حب صحابة رسول الله، وتعميق ذلك في قلوبنا، وفي قلوب الأهل والأقرباء والأصدقاء؛ لأنه دين نتعبد لله جل وعلا به، والمرء مع من أحب. والإمام مالك يبين لنا كيف نحب رسول الله وصحابته الكرام فيقول: كان السلف يعلمون صبيانهم حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل ابن المبارك: من الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر. وسئل الحسن: حب أبي بكر وعمر سنة؟ قال: لا، فريضة. فلازم وواجب حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دام أن رسول الله قد ربط الإيمان به وجعله علامة له.

نشر فضائلهم ومدحهم بما فيهم

نشر فضائلهم ومدحهم بما فيهم ثانياً: نشر فضائلهم، ومدحهم بما فيهم، وجعلهم أسوة لنا، فنغرس في أبنائنا أنهم هم القدوة والأسياد، والقادة بحق، وهم الذين كانت لهم الريادة المطلقة. فتأتي إلى كتب التاريخ -التي فيها فضائل الصحابة- فتسطر لأولادك فضائل الصحابة، وتحكي لهم عن خالد قائد الأمة، الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم -لما ارتقى المنبر وهو يبكي-: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، واستلم الراية سيف من سيوف الله سله الله على المشركين، جعل الله النصر على يديه). هذا هو الذي جعل هرقل ملك الروم يقول له: من أنت؟! أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبداً؟!. هذا سيف الله المسلول الذي ما دخل معركة قط إلا وجعل الله النصر على يديه. فعلم أولادك حب خالد وسيرته وشجاعته، ثم تورد لهم عنه ما قاله وهو يموت -وأسأل الله أن لا نكون ممن عناهم خالد - ما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، ألا لا نامت أعين الجبناء. نعوذ بالله أن نكون كذلك، ونعوذ بالله أن ينزع من قلوبنا حب الجهاد في سبيله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق). ثم احك لأهلك وقرابتك عن أبي عبيدة بن الجراح، فقد لا يعرف أحد من هو أبو عبيدة وما مكانته. أبو عبيدة هو الذي يقول فيه عمر -وهو على فراش الموت-: لو كان أبو عبيدة حياً لأعطيته الخلافة؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). واحك لهم عن جليبيب، وبين لهم أمراً من أهم الأمور: وهو أن الشهرة لا تساوي شيئاً، وفي الحديث: (إن الله يحب التقي الخفي النقي)، فالله تعالى يحب العبد الأشعث الأغبر، الذي إذا طرق على الأبواب دفع، فإذا أقسم على الله أبره. جليبيب هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة: أتفقدون أحداً؟ قالوا: لا نفقد أحداً، بحثنا عن كل أحد فما فقدنا أحداً، قال: ولكني أفقد أخي جليبيب، فإذا عرفه الله ورسوله، ما ضره أن الصحابة لم يعرفوه. فواجب على كل الأمة أن تحدث أبنائها عن هؤلاء الأخيار، وأن تبين سيرهم، وأن تمدحهم، وتجعلهم قدوة تتخذ، فإذا فعلنا ذلك نحشر معهم إن شاء الله جل وعلا.

الذب عنهم

الذب عنهم ثالثاً: النصرة لهم والذب عنهم، فلا يرضى مسلم بسب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقبل أحداً يفعل ذلك، أي: يسب أبا بكر أو عمر أو عائشة، كالرافضة الذي يقول قائلهم: اللهم! العن صنمي قريش أبا بكر وعمر. حاشا لله، بل اللهم! العن من لعنهم وانتقم منه يا رب العالمين. فأنت يجب عليك أن تذب عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا ترضى عمن يسبهم عملاً بقول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، وهم قد ظلموا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فهذا من حقهم عليك يا مسلم. وسل نفسك من الذي أوصل إليك القرآن غضاً طرياً؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود: (من أراد أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليأخذه من ابن أم عبد) أي: ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضن ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل)، فعلى أكتاف هؤلاء وصلتنا الشريعة غراء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فوجب عليك أن تذب عنهم، وأن تنصرهم، وأن ترد على من يتنطع ويتكبر ويتجبر عليهم، وإذا سمعت رجلاً يقدح في عائشة وفي شرفها فاقطع لسانه إن أردت؛ لأنه قد كفر برب العزة جل وعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فلا بد أن تذب عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجوب الكف عما شجر بين الصحابة

وجوب الكف عما شجر بين الصحابة رابعاً: الكف عن الخوض فيما شجر بين صحابة رسول الله، كموقعة الجمل وصفين ومقتل عثمان، وغيرها من الفتن التي دارت بين الصحابة، فلا تتكلم بها، كما قال إمام أهل السنة والجماعة عند أن سألوه: ماذا تقول في هذه الفتن؟ فقال: ما أقول إلا بقول الله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. وقد قال ابن كثير كلاماً ما معناه: حروب رحم الله أجسادنا منها، فنبرئ ألسنتنا وأقلامنا من الخوض فيها. ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أجمعت الأمة على وجوب الكف عن الكلام في الفتن التي حدثت بين الصحابة. ونقول: كل الصحابة عدول، وكل منهم اجتهد، فمنهم من اجتهد فأصاب كـ علي فله أجران، ومنهم من اجتهد فأخطأ كـ معاوية فله أجر، فكل منهم مأجور، القاتل والمقتول، حتى الطائفة الباغية لها أجر واحد لا أجران، يعني: ليس فيهم مأزور بفضل الله سبحانه وتعالى. فيجب على الأمة الكف عن الخوض في الفتن التي حدثت بين الصحابة، واعتقاد أن كل الصحابة عدول، وأنهم اجتهدوا فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. وهذا التأصيل والتقعيد أصل في التعامل مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قلنا: لعنة الله جل وعلا على كل من سب صحابة رسول الله جاز ذلك؛ لأننا لا نلعن معيناً، وإنما نلعن طوائف، كما يقول الله: {لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]. والساب للصحابة لا يخلو من أربعة أقسام:

حكم من كفر الصحابة

حكم من كفر الصحابة القسم الأول: من سبوا صحابة رسول الله وكفروهم، وقالوا: ارتدوا ولم يبق منهم مسلم إلا أربعة نفر، فهؤلاء كفروا بالإجماع، كغلاة المعتزلة الذين يقولون: إن صحابة رسول الله ارتدوا على أعقابهم بعد موت رسول الله. وما الدليل على كفرهم؟ A مخالفتهم لظاهر القرآن، وصريح آياته.

حكم من فسق الصحابة لأجل دينهم

حكم من فسق الصحابة لأجل دينهم القسم الثاني: من يسبون كل الصحابة ويفسقونهم لدينهم، ولنصرتهم له، فهؤلاء أيضاً كفار بالإجماع.

حكم من سب أبا بكر أو عمر أو عائشة رضي الله عنهم

حكم من سب أبا بكر أو عمر أو عائشة رضي الله عنهم القسم الثالث: من يسبون أبا بكر وعمر وعائشة، فهؤلاء كفرة، رغم أنف من يقول: إنهم غير كفرة. فقد بين الله جل وعلا عدالة أبي بكر في قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، فالله العظيم جبار السماوات والأرض يحدث ويخاطب عبداً من عبيده ويقول له للتعظيم والتفخيم: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة)، فهنيئاً لك يا أبا بكر أن يقال عنك: (أولو الفضل). وكان أبو بكر في مكة من أغنى أغنيائها، وكان من الجود بمكان، فأنفق كل أمواله على رسول الله، كما قال الرسول في الصحيح: (وواساني بأهله وماله) وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول: (ما تركت لأهلك وعيالك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله. ونظر جبريل إلى أبي بكر وعليه ثياب رثة، فقال جبريل مشفقاً على أبي بكر وهو بالثياب الرثة بعدما كان من أغنى الأغنياء: يا رسول الله! أبلغ أبا بكر بأن الله يقرئه السلام ويقول: يا أبا بكر! إن ربك عنك راض، فهل أنت عن ربك راض؟) الله أكبر، لمن هذا الكلام؟ لعبد من عباد الله يقال له: (يا أبا بكر! إن ربك عنك راض) ثم يقال له: (فهل أنت راض عن ربك؟!)، ومعنى ذلك: أأنت راض عن قضاء ربك عليك؛ لأنك بعدما كنت أغنى الأغنياء وسيد السادة رضيت أن تبقى فقيراً مع رسول الله، مهزوماً حتى ينصرك الله وينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل أنت راضٍ عن الله، وعن قضائه وقدره؟! قال: والله! إني عن ربي راض، والله! إني عن ربي راض، والله! إني عن ربي راض. وقد زكاه الله جل وعلا في كتابه فقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6]، وفي آخر الآيات قال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20]، الإخلاص أمر في القلوب لا يعلمه إلا الله، لكن إخلاص الصديق نشره الله بين الناس. فمن سب أبا بكر أو عمر كما تفعل الرافضة في أعيادهم، أي: أحياناً يأتون بصنم من حلوى ثم يضعون في بطنه عسلاً ثم يشقون بطنه ويدخلون رؤوسهم ويشربون من العسل ويقولون: نشرب من دم الصنم الأكبر! حاشا لله. ثم ترى قائلهم عندما يريد أن يسب أمه أو ابنته أو أخته يقول لها: يا عائشة! خسئت وخسئ أبوك إن كان علمك ذلك. يقولون عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قال فيها عمار في موقعة الجمل -لما لعنها أو سبها رجل-: أخرس الله لسانك، إنها زوجة نبينا في الدنيا وفي الجنة، ولكن الله يبتليكم بها لينظر هل تسمعون كلامها أو تسمعون كلامه، فسبحانه وتعالى. فبين رضي الله عنه أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة وهي حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوها حبيب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: (ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً). فمن سب عائشة في شرفها فهو كافر ملحد زنديق، كما صعد قائلهم وأميرهم وسب عائشة علناً، ورماها بالزنا والإفك والعياذ بالله، والله جل وعلا قد برأها من فوق سبع سماوات، فمن رمى عائشة بالإفك فعليه لعنة الله؛ لأنه كافر ملحد يستحق الخلود في نار جهنم، إلا أن يتوب الله عليه، فإذا تاب الله عليه فمات مسلماً تائباً فالحمد لله.

حكم سب الصحابة لا لدينهم أو شرفهم

حكم سب الصحابة لا لدينهم أو شرفهم القسم الرابع: الذي يسب الصحابة لا لدينهم ولا لشرفهم ولا لشيء من ذلك، وإنما حقداً عليهم، أو لتقديم أحد منهم على أحد، كمن يسب معاوية مثلاً فيقول: سرق الخلافة، وهو الذي أنشب الحرب بينه وبيه علي. فهذا ليس بكافر لكنه فاسق على شفا جرف هار، سينهار به إن لم يتب. بل هو ذريعة للكفر، وباب من أبوابه، لكن لا نقول بكفره بحال من الأحوال، بل نقول: فاسق مبتدع زنديق من سب معاوية أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الشيعة

حكم الشيعة Q هل كل الشيعة كفار؟ A الشيعة ليسوا كلهم كفاراً، بل يوجد من الشيعة من هو كافر ملحد لا يشك مؤمن في كفره، لكن نصطحب التقعيد الذي قعدناه، أي: أن الكفر كفر نوع وكفر عين. فمن الشيعة من هم كفار كالذين يقولون: إن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو بالقرآن الصحيح، بل هو ثلث القرآن فقط، أما ثلثيه فهو في كتاب فاطمة، أو في السرداب، مع الرجل الذي ينادونه: يا إمام خرج اخرج، فيكونون أضحوكة وهم أمام السرداب. فالمقصود: أن هؤلاء كفار. ومثلهم الذين يسبون عائشة علناً، كغلاة المعتزلة الذين يقولون: ارتد الصحابة إلا أربعة نفر. ومن الشيعة الزيدية، وهم لا يسبون أبا بكر وعمر، ولا يقدحون في خلافتهما، بل يقرون بها، لكن يقولون: علي أفضل من أبي بكر وعمر، وهو أحق بالخلافة منهم، لكن الناس عدلوا عن الأفضل للمفضول، وإمامة المفضول تصح؛ لأن أبا بكر صلى بالنبي، وكذلك عبد الرحمن بن عوف، فهما إمامان مفضولان، والفاضل صلى الله عليه وسلم صلى خلفهما، فتجوز إمامة المفضول، فهذا التأويل لهم، فليسوا بكفار. ومما ينبغي أن نؤكد عليه هنا: أن القول قد يكون كفراً وكذلك الفعل ومثلهما الاعتقاد لكن القائل أو الفاعل قد لا يكفر، حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ولا أقول: إن علماء الشيعة وعوامهم كفار، بل أتحرج من هذا، ولا أستطيع التجرؤ عليه، لكن الشيخ ابن جبرين وهو من جبال أهل العلم، يقول ذلك، لكني لا أقلده في هذا. أقول: علماؤهم كفار، لكن العوام ليسوا بكفار حتى تقام عليهم الحجة، وتزال عنهم الشبهة، وهذا منهج شيخ الإسلام ابن تيمية عند أن يتكلم عن المعتزلة والجهمية والذين ينفون صفات الله جل وعلا، فيقول: علماؤهم كفار، أما العوام فلا، للعذر بالجهل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. فلو وجدت رجلاً يذبح لغير الله جل وعلا، هل تكفره؟ لا تكفره، بل تقول: هذا الجاهل فعل كفراً، وقال كفراً، لكن لا أكفره حتى أقيم عليه الحجة وأزيل عليه الشبهة. أما لو جاءني رجل وقال لي: أنت مفتر كذاب أفاك! فأقوله له: لماذا يا رجل؟! قال: لأنك تكفر اليهود والنصارى وهم أهل كتاب. أقول له: سأبين لك الحجة على أنهم كفار، فإن لم تكفرهم بعد ذلك فأنت كافر؛ لأنك تكذب الله. فإن قال: كيف ذلك؟ أقول له: هم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فهل هذا صحيح عنهم؟ وهل كفروا بذلك؟ فإن قال لي: هذا القول صحيح عنهم؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وهو قول باطل، وهم كفار بذلك. فأقول له: الحمد لله الذي نجاك من الكفر. فإن قال: لا، أي: لم يقولوا ذلك، أو ليسوا كفاراً بقوله، وعاند وعتى فأقول له: كفرت أنت أيضاً. الخلاصة: أنه لا بد من قيام الحجة وإزالة الشبهة حتى يكفر قائل الكفر أو فاعله. وما هو ضابط إقامة الحجة عليهم؟ كثير من العلماء لم يبينها وسأقعد لك قاعدة قد من الله علينا بها، وهذه القاعدة مهمة جداً في معنى إقامة الحجة، فنقول معناها: أن يفهما مثله، وليس المعنى مجرد وصول المعلومة؛ لأنه قد يعاند ويجحد. وقد لا يفهمها مثله، فلو أتيت برجل صيني وكلمته بالمصري ففهم كلامك، ثم قال لك: ابتعد عني، لا أريد أن أفهم منك شيئاً، أو يقول: لن آخذ منك شيئاً، فهذا الرجل يكفر؛ لأن مثله يفهم هذه الحجة. فالضابط في المسألة: بلوغ الحجة، ومعناها: أن تصل إليه ويفهمها مثله، وليس مهماً أن يفهمها هو، لكن الأهم أن يفهمها مثله؛ لأنه قد يكون جاحداً، فلا يريد أن يفهم منك. وكذا لو تعمد عدم الفهم يكون كافراً؛ لأنه معرض، وقد قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3].

التقية عند الرافضة

التقية عند الرافضة Q ما مكانة التقية عند الرافضة؟ A التقية عند الرافضة أصل العقائد، بل هي مقدمة عندهم على لا إله إلا الله، وهي من أهم الأشياء في حياتهم، فنسأل الله أن يهديهم إلى سواء السبيل.

حكم التزوج من نساء الشيعة

حكم التزوج من نساء الشيعة Q هل يجوز التزوج بامرأة شيعية؟ A المسألة فيها تفصيل، فأي شيعية تتزوجها؟ إن كانت هذه الشيعية من الكفار الذين حكم الدليل عليهم بالكفر، فلا يجوز أن تتزوجها؛ لأنها كافرة، وليست من أهل الكتاب حتى نقول: إنها تقاس على النصارى واليهود، بل هي كافرة، وتعد من المشركين، فلا تتزوجها، أما إذا كانت من الزيدية مثلاً فنقول: تزوجها مع الكراهة، وعلمها السنة؛ لعلها أن ترجع إليها، أما إن كانت متمسكة بما هي فيه، فستفسد عليك أولادك.

حكم الزواج بالكتابية

حكم الزواج بالكتابية Q هل يجوز أن يتزوج الرجل امرأة من أهل الكتاب وهو يعلم أنها قد وقعت في الزنا؟ A الشروط التي اشترطها الله للزواج من أهل الكتاب معلومة وهي: أولاً: أن تكون من أهل الكتاب حقاً. ثانياً: أن تكون محترمة ذات حشمة، بل أرتقي وأقول: المسلمة الزانية لا يصح العقد عليها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ولذلك من المحرمات في النكاح -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العقد بين الحر العفيف والزانية. فإن كان لا يجوز أن يعقد على امرأة مسلمة زانية، فمن باب أولى إن كانت زانية من أهل الكتاب. ولا بأس في الزواج من العفيفة من أهل الكتاب؛ لقول الله تعالى في سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]. أما الزانية فشرط الجواز قد اختل، والحكم يدور مع علته حيث دارت، لكن لا ينبغي أن نقول: إنه لا يجوز النكاح من أهل الكتاب عموماً؛ لأننا بذلك عطلنا ظاهر الكتاب، وإجماع الصحابة على جواز الزواج من الكتابية، والآية ظاهرة في ذلك، فإن وجدنا المحصنة -إن شئنا- تزوجناها، وإلا فلا. ولو زنت الكتابية مرة واحدة ثم كفت عن ذلك فهل هذا توبة لها؟ A الضابط أن يطهر فرجها. وتعرف ذلك بأن تسأل جيرانها، أو من يعيش معها، فإن كان جيرانها فاسقون فابحث عن أخرى ممن تمتنع عن الفاحشة، ولا نظلم أهل الكتاب بالقول بعدم وجود عفيفات فيهم بل ذلك موجود بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية: (إن أهل الكتاب سيتملكون الدنيا بحسن أخلاقهم) أي: بحلم وعطاء وبر وغيرها من الأخلاق العالية التي هي من أخلاقيات الإسلام، شعروا أم لم يشعروا. والزنا عندهم في الإنجيل حرام، فالمتدينات من نسائهم لا يزنين. وكذا من كان عندهن نخوة وكرامة، وأخلاقيات عالية يترفعن عن هذا. والزواج بالمسلمات لا ريب أولى، ومن كان من الفئة التي تتغرب لعلم معين تنتفع به الأمة، لا للدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء ممن يقيم بين أظهر المشركين) يعني: ممن يقيم عندهم لا لمصلحة شرعية، فهذا إن خاف العنت نقول له: يجوز أن تتزوج كتابية، لكن تحرى أن تكون محصنة. ويحذر من مغبة مخالفة النبي صلى الله علي وسلم بالبقاء بين أظهر المشركين لغير مسوغ شرعي.

حكم الترضي على غير الصحابة

حكم الترضي على غير الصحابة Q هل يجوز أن نترضى عن أهل الصلاح والجهاد فنقول: رضي الله عنهم؟ A لا، لا يترضى إلا على صحابة رسول الله، أما التابعون فاختلف العلماء فيهم، والصواب: أنك لا تترضى إلا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله جل وعلا قد قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، لكن العلماء قصروها على صحابة رسول الله، وإن ذكر التابعون في الآية. فإذا قال الإنسان: رضي الله عنهم، لغير الصحابة، ومراده بذلك دعاء فلا بأس، أي: يدعوا الله أن يرضى عنهم ويرضوا عنه، فمثل هذا الدعاء بلفظ الترضي جائز للصحابة وتابعيهم بإحسان كما في الآية، أما إذا قالها على أنه أمر قد حسم -أي: قد رضي الله عن المقول فيه ذلك- فلا يصح إلا للصحابة فقط. ولو أردت أن تذكره أي: لفظ الترضي، فقله في أصحاب القرون الثلاثة المفضلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).

عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب

عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب Q لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) لمن منعوا من الورود على حوضه، ألا يعلم رسول الله ما في القلوب؟ A رسول الله لا يعلم ما في القلوب، والذين منعوا من الورود على حوضه رأى منظرهم كالصحابة وكانوا من المنافقين، والله أعلم بهم، ألم يقل الله جلا وعلا: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]، فدلت الآية على أنه لا يعلمهم، فهؤلاء من الذين لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أصحابي أصحابي -أي: في الظاهر-، فيقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: بعداً بعداً، سحقاً سحقاً) فلا حجة في الحديث لمن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب. والمبتدعة سيدخلون في الحديث؛ لتغييرهم وتبديلهم، فإذا كان هؤلاء من الصحابة في الظاهر ويقال لهم ذلك فمن باب أولى من جاء بعدهم من المبتدعة، أي: سيقال لهم: (سحقاً سحقاً، بعداً بعداً). ولما سب خالد عبد الرحمن بن عوف قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي) مع أن خالداً صحابي وأي صحابي! لكن الإسلام يبين حتى منازل الصحابة، وهذا تفضيل آخر سنبينه، أي: أن كل الصحابة يتفاوتون، فأعلاهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان على خلاف فيه: إذ الشوكاني والثوري وأبو حنيفة يقدمون علياً على عثمان كما سنبين، فهذا الترتيب أي: بتقديم عثمان على علي قد أجمع عليه بعد ذلك أهل السنة والجماعة، ثم بعد ذلك العشرة المبشرين بالجنة، ثم الصحابة الأفاضل. فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لـ خالد وهو الصحابي الجليل أن عبد الرحمن يقدم عليه؛ لأنه أي: عبد الرحمن من السابقين الستة، وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون توحيدين -فسادوا وقادوا-: توحيد رب العالمين وتوحيد الاتباع لرسول الله، فلا يوجد أهواء، ولا إحداث، ولا بدع، بل كلهم يقولون: سمعنا وأطعنا. وأما نحن فصرنا غثائية، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (قالوا: أو من قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل). قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، فنحن غثاء في هذا الزمان إلا قليلاً. ونحن في غربة تحت غربة تحت غربة، ولا عبرة بكثرة المخالف، يقول تعالى مبيناً لنا أن الكثرة مذمومة: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فإن القلة التي هي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أهل الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم). ويوجد كثير من الناس قد يسمع الرقة والموعظة فترق نفسه، فالذي كلمه وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستفطر عندنا) هذا هو الذي يأخذ منه الدين، وأما العالم الذي يهتم بالدين فلا يأخذ عنه شيئاً، فالأمة ضائعة بسبب هذا، أي: لم تعرف موازين الناس، ولم تقدرهم قدرهم، أي: لم يضعوا كلاً في قدره ومكانته، فلم يعلموا أن الداعية داعية، والعالم عالم، وهو بستين ألف داع، إذ العالم داعية وزيادة، فالعالم يرسخ لنا العلوم التي نسير بها إلى الله جل وعلا، أما الداعية فما له إلا كلمات طيبة يجذب بها الناس، ثم قد يكون مخلصاً فيقول: لست لها أنا، بل لها العلماء، اذهبوا فتعلموا، أنا أتيت بكم إلى الطريق ولكنه ليس طريقي الصحيح، وإنما هو طريق العلماء، فنحن ضعنا بمثل هذا. والعوام لا دخل لهم بشيء، وإنما يريدون الكلمة الطيبة لكي يذهبوا ورائها. ودليل ذلك أن علياً بن أبي طالب لما صنف الناس إلى ثلاثة أقسام: عالم رباني، وطالب علم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم. وهذا هو المهم، أي قوله: لم يستضيئوا بنور العلم، أي: لما كانوا كذلك أصبحوا أتباع كل من يتكلم عن الدين بعاطفة، فيقولون: هذا هو الدين. وهذا خطر، فهناك بعض الناس يستغلون هذا ويجعلونهم أي: العوام، رأس مالهم، حتى يقول العامة: هذا هو الدين، فالدين عندهم ليس في اللحية، أو في مسواك، أو في قميص قصير، فأصبح كل الناس يتكلمون في الدين: الدين كذا وكذا، وهذا حلال وهذا حرام، مع أن الحنفيات عندما تعطب ولا ينزل منها الماء، لا يأتون إلا بالسمكري، ولا يمكن أن يأتوا بغيره كرجل ميكانيكي مثلاً، لكن الدين تجد أي شخص يتكلم فيه، ثم تقول العامة: هذا هو عالم الدين. فلذلك ضعنا وضيعنا؛ لأننا لم نعرف موازين الناس وأقدارهم، ولم نعرف الطريق الصحيح الذي نصل به إلى رب العالمين. ونسأل الله جل وعلا أن يشكر لكل ساع مجاهد سعيه وجهاده، لكن ما أحوجنا لذكر مسألة الراهب، فبعد أن علم الراهب الغلام وجد أن الغلام فاقه، فقال له: صرت الآن خيراً مني، أي: أنت الآن مقدم علي، فقدمه ليدعو إلى أبواب الخير وينشر دعوة الله، أي: لما أخلص الراهب كان هذا الغلام في ميزان حسناته، والغلام أدى ما عليه، فنشر دعوة الله جل وعلا، وقتل بعد دعوته الناس لتوحيد الله جل وعلا، فما أحوجنا إلى من يقول ذلك، أي: يقول: لست أنا، بل فلان الفلاني اذهبوا إليه لتعلموا دينكم، فلا أحد يقول هذا الآن إلا من رحم ربك، فادع الله ليل نهار: اللهم ارزقني رجلاً يسلك بي الطريق الصحيح، ويعلمني العلم النافع الذي يرسخ في قلبي فلا أسأل بعده أبداً، نسأل الله ذلك. وليس عزيزاً على ربنا جل وعلا أن يجعلك في سنة طالب علم جيد، قد أتقنت العقيدة والمصطلح والأصول والفقه. وتأمل كفار قريش كيف عرفوا المراد منهم في القرآن لما فقهوا اللغة العربية فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] قالوا ذلك لأنهم علموا أن لا إله إلا الله، لها قيود ولوازم. والصحابة كانوا يحرصون أيما حرص على التعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، فأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو هريرة ثم عبد الله بن عمرو بن العاص، لكن عبد الله بن عمر كان يكتب، نفسه، وأبو هريرة كان يحفظ في صدره فقال قائل: أكثر علينا أبو هريرة، فقال أبو هريرة: إن إخواننا الأنصار شغلهم الزرع، وإخواننا المهاجرون شغلهم الصفق -الذي هو التجارة- وكان أبو هريرة يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه، فيقول: وكنت أجوع ومن شدة الجوع يغشى علي، فيحسبون أن بي جنون وليس بي إلا الجوع، وقد مكثت مع رسول الله لأحفظ حديثه عليه الصلاة والسلام. فكانوا أي: الصحابة حتى المشغول منهم بالتجارة، لا يشبه الذي نحن عليه الآن، نحن الآن ماذا يشغلنا؟ تشغلنا الآلة الحاسبة، والدرهم الذي ذهب، والدرهم الذي جاء، والعمل الذي نمضي فيه الساعات الطوال، والعلم الذي نحصل عليه هو ما نحصله من كلام الخطيب يوم الجمعة، أو ما نحصل عليه من كلام رجل يكلمنا عن الحب والعطف والحنان والشوق، فنقول: دعنا نسمع هذه الكلمات كي ترقق قلوبنا وانتهى الأمر. ولو قلت: لن أضيع وقتي، بل نصف ساعة أجلس فيها مجلس علم، أحضر البركة، ولا يفقدني الله جل وعلا، وتصعد الملائكة باسمي، فيثني الله علي في الملأ الأعلى، وأتعلم مسألة أعمل بها، لكنت جهبذاً من جهابذة العلم إن شاء الله. وانظر إلى عمر بن الخطاب عندما شغله الكسب ماذا عمل؟ قال لأخيه من الأنصار: تنزل يوماً فتتعلم من رسول الله فتعطيني ما تعلمته، وأنزل اليوم الثاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعمل أنت، فأعلمك ما قاله رسول الله. كانت أمي دائماً -رحمة الله عليها وعلى أبي- لما أن ترى معي كتاب الأم للشافعي تقول: يا بني! اتق الله في نفسك، وذاكر كتب الجامعة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (إن أخي يجلس معك ليل نهار وأنا أعمل من أجل أنفق عليه فقال للطالب: أخوك أفضل منك). يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس طالب العلم هو الأفضل، بل قال: أخوك الذي يعمل أفضل منك، قلت لها: أبعدت النجعة، فقد استدللت بحديث موضوع، وسأصحح لكي المفاهيم، بحديث صحيح: جاء رجل يشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أعمل وأكد لأخي وهو يجلس عندك في المجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لعلك ترزق به)، انظر ماذا قال له، ولم يقل له: إنه أفضل منك فقط، بل قال له: الخير الذي يأتيك هو بسببه، أي: بسبب أنه يجلس ويتعلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلو فرغ المسلم نصف ساعة من وقته لحضور درس علمي يتعلم فيه مسألة جديدة ليعمل بها، أو يتعلم أمراً يرفعه الله به، والله ليصبح بعد عام رجلاً عنده كم علمي مبارك، ولا يقوى أحد أن يعمي عليه المسائل. والفرق بيننا وبينهم أنهم لم يأخذوا العلم جملة لكي يضيع منهم جملة، فالصحابة تعلموا العلم ليعملوا، ولذلك جاء بسند صحيح في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: تعلمنا الإيمان. أي: أول شي تعلمناه الإيمان حتى نطبقه، ثم تعلمنا القرآن، فنزل نور القرآن على نور الإيمان، فأصبح نوراً على نور. فالنور الذي على نور هذا لمن علم وعمل، ولذلك كان

أول ما يجب على المسلم تعلمه

أول ما يجب على المسلم تعلمه Q ما هو الترتيب الصحيح في دراسة العلوم الشرعية؟ A الترتيب الصحيح أنك أولاً: تؤمن بالله، فكيف تؤمن به؟ لن تؤمن بالله حتى تعرفه، أي: تعرف عنه ما أوجب عليك معرفته، مما يدلك عليه؛ لقول الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، ثم قال عقبها: {وَاسْتَغْفِرْ} [محمد:19]، فأنت لا بد أن تعلم، ثم تعمل. فتعرف عن الله أسماءه الحسنى، وصفاته العلى، ودينه الذي أنزله. ولو سأل سائل عن سبب ضياع الأمة الآن، وما الشيء الذي جعل الأمة ترتجف من أشياء قد تكون أضعف من الذباب؟! A سبب هذا كله هو ضعف اليقين بالله، فلو علمت أن الله جل وعلا إذا أراد أن يقلب الدنيا رأساً على عقب بقوله: كوني، فتكون، فحينها لن تخف إلا من ربك جل وعلا، ولن تذل إلا له، ولن تتوكل إلا عليه، فوجب عليك أن تعلم من الله؟! فإذا عرفت ربك ارتفعت نفسك وسمت. فاللهم ارزقنا تعظيمك يا رب العالمين. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (أنا أعلمكم بالله).

تفضيل الصحابة على من بعدهم

تفضيل الصحابة على من بعدهم Q كيف الجمع بين حديث: (أجر الواحد منهم بخمسين منكم، فقال أبو هريرة: يا رسول الله! بخمسين منهم، قال: لا، بخمسين منكم) أي: القابض على دينه في آخر الزمان أجره بخمسين من الصحابة، وبين حديث: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)؟ A الجمع سهل بفضل الله، فنقول: الأمة كلها في ميزان الصحابة، إذ (الدال على الخير كفاعله)، فإذاً أجر أحدهم يلصق بما بعده.

تابع فضائل الصحابة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تابع فضائل الصحابة اختار الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أناساً هم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقاً، فنشر الله فضلهم ومحاسنهم، وأنزل عدالتهم من فوق سبع سموات، فتربعوا على عرش الدنيا في فترة قصيرة، فكانوا سادة الدنيا بأسرها، فمن أحبهم فقد أحب الله ورسوله، وأرضى الله ورسوله، ومن أبغضهم وتكلم فيهم فقد أسخط الله ورسوله، والويل له يوم القيامة من عذاب السعير.

فضل الصحابة

فضل الصحابة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) وأسأل الله أن يرزقنا الشكر، فالله جل وعلا يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، أي: أن الشكر سبب لمزيد النعم والبركة، واجتماع طلبة العلم بركة، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه أن أفاضل الناس على الإطلاق كل من ينشغل بعلم الشرع، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فهؤلاء هم أفاضل الناس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يرثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ واف). والعلم في الحقيقة هو غذاء القلوب، فيقدم على غذاء البطون، فغذاء القلوب تشتاق إليه النفوس الشريفة العفيفة، قال الإمام أحمد: إن حاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء. ولذلك صدرت الباب بشرح الكتاب حتى لا أنقطع عن هذا الخير، ولعلها تكون بركة بإذن الله تعالى، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل من علماء الأمة المجاهدين الصابرين المحتسبين الربانين من يحذوا حذو سلفنا الصالح، كـ الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبي حنيفة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، وينبغي أن يكون كلاً منا يرتقي بصره وتشرئب عنقه إلى أن يصل إلى ما وصلوا إليه، وأن يتمنى أن يكون ولده مثلما يتمنى لنفسه، وفوق ما تمنى لنفسه، وأسأل الله جل وعلا أن يمنحه الصدق في قلبه عند كبره، فيقول: بعت نفسي لك يا رب! وقف لله، وكل منا إذا منحه الله ولداً مجاهداً عالماً فليكن طالباً لرزق الله الأخروي. كنا قد انتهينا من فضائل الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الرعيل الزكي النقي، الذين جابوا ربوع الأرض شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، وفضلهم الله على كل البشر، فتربعوا على عرش الدنيا في مدة وجيزة من عمر الزمن، فكانوا سادة، وكانوا قادة، وكانوا أصحاب الريادة رضي الله عنهم وأرضاهم. لقد نشر الله فضلهم ومحاسنهم، وأنزل عدالتهم من فوق سبع سموات، ونشر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فضائلهم ومدائحهم ومحاسنهم، وبين صدقهم، وشكر لهم حسن صنيعهم معه صلى الله عليه وسلم، كيف لا، وقد قام قائلهم يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو صلى الله عليه وسلم منتظر ما يقول- يا رسول الله! لن نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، لا والله، بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلمح ويعرض بالأنصار؛ لأنهم ما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا على القتال في المدينة لا خارجها، فقام سيدهم سعد الذي اهتز عرش الرحمن لموته، فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا؟! قال: نعم. وقد اشتاقت نفسه صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك من سيد الأنصار، فقام سيدهم، وأكرم وأنعم به من سيد، فقال: يا رسول الله! قد أخرجنا الله بك من الضلالة إلى الهدى، ومن العمى والظلام إلى النور، فأحبب من شئت، واضرب من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، والله يا رسول الله! لو خضت بنا البحر لخضناه. كلام كله صدق وعزيمة مع اعتقاد صادق في الله جل وعلا، ولذلك كانوا هم السادة، والأماجد، والأفاضل والأكارم، وهم الأسوة بحق وهذه الأمة هي التي قادت الدنيا بأسرها في مدة وجيزة من الزمن، وعبّدوا الناس لرب الناس جل وعلا.

أقسام الناس في السب واللعن للصحابة رضوان الله عليهم

أقسام الناس في السب واللعن للصحابة رضوان الله عليهم قد تكلمنا فيما سبق عن حكم سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواجب الأمة نحوهم، وقلنا: إن الناس ينقسمون في السب واللعن لخير البشر -لجهلهم وغبائهم وشدة عنائهم وعذابهم في الآخرة إن لم يتوبوا- إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أناس سبوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرموهم واتهموهم بالقبائح، كغلاة الشيعة وغلاة المعتزلة، فقد قالوا: كل الصحابة ارتدوا عن الدين إلا أربعة نفر، منهم: سلمان وغيره ممن عدهم الشيعة، فهؤلاء بالإجماع كفرة خرجوا من الملة. القسم الثاني: الذين يسبون ويطعنون ويلعنون الشيخين، كما يقول قائلهم: اللهم العن صنمي قريش، يقصد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويطعنون أيضاً في دينهم وأعراضهم، فهذا أيضاً كفر بالإجماع. القسم الثالث: الذين ينتهكون عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ويتهمونها بالإفك الذي برءها الله منه من فوق سبع سموات، وهؤلاء أيضاً قد كفروا بالإجماع؛ لأنهم كذبوا كلام الله تعالى، وكذبوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. القسم الرابع: هم من الفسق والبدعة بمكان، وهؤلاء الذين يغمزون ويلمزون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقدمون بعض الصحابة على بعض، كأن يقول أحدهم: معاوية سارق للخلافة، كان يقاتل من أجل حطام الدنيا، أو يغمز علياً، أو يغمز بعض الصحابة الآخرين، فهذا الغمز واللمز للصحابة من الفسق، وصاحبه على خطر عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الله الله في أصحابي لا تسبوا أصحابي، أو قال: الله الله في أصحابي من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وجاء بسند ضعيف متكلم فيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله اختارني من بين الناس نبياً، واختار لي أصحاباً، وجعل منهم مهاجرين وأنصاراً، فمن أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله جل وعلا أن يأخذ)، والله جل وعلا إذا أخذ أحداً لم يتركه. كما ورد أيضاً بسند متكلم فيه، لكن الشواهد تعضده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعنة الله على من سب أصحابي). وجاء أيضاً بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (أمروا أن يستغفروا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنوهم وسبوهم). قال: ابن عمر لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم -أي: بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- كعمل أحدكم في عمره كله. أي: أنه لو صام النهار، وقام الليل، وأنفق وجاهد في سبيل الله، فلن يبلغ مقام أحدهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن المحققين من أهل العلم الذين يبينون الفارق بين معاوية وعمر بن عبد العزيز، يقولون: إن عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين لا يساوي يوماً واحداً من أيام معاوية مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما لـ معاوية من فضل، ككونه من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قد نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك فخراً ومزية. وقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه لما استنصحه ميمون بن مهران، فقال: انصحني في قوم يعتدون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ميمون! -نصيحة يعض عليها بالنواجذ- لا تسب أصحاب محمد، وادخل الجنة بسلام، أي: أن دخولك الجنة بسلام مرهون بأن لا تسب أصحاب محمد، وإن سمعت سب أصحاب محمد فلا تسكت، بل لابد أن تنكر، لأن الساكت عن الحق، أو الرضا بالمنكر كمرتكبه. ثم قال ابن عباس: أُمِرْنا أن نستغفر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يعلم جل وعلا أنهم سيقتتلون. أي: أن الله كتب قدراً أنهم سيقتتلون، وستحدث منهم الفتن، ومع ذلك أمرنا بالاستغفار لهم، وإذا كان لا يجوز سب أو شتم آحاد المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فكيف بالذين يطعنون في علماء المسلمين، أو في طلبة العلم! إن هؤلاء من أشر الناس؛ لأنهم وقعوا في أفاضل الناس، فكيف بالأدهى والأطم أن يقعوا في الأخيار الأماجد، الذين قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أفضل القلوب قلب محمد فاختاره نبياً، ثم نظر في قلوب العباد فوجد أفضل قلوب العباد بعد قلب نبيه قلوب أصحابه، فاختارهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقا. فإذا كان الاعتداء على أحد المسلمين فيه من الفسوق ما فيه، فكيف بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهو القائل -كما في الصحيح-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وقال بعض علمائنا -فيمن ينتقص من قدر العلماء، وقدر طلبة العلم-: إن لحوم العلماء مسمومة، وإن عادة الله في هتك منتقصيهم معلومة. فالله جل وعلا ينكل أشد النكال في من يقع بعالم من علماء الأمة، ولو اتهمه بأنه عالم سلطة لغير قرينة، أو اتهمه بفتوى قد أفتاها، وإن كان قد أخطأ فيها، وأنزل من قدره، فعادة الله لمثل هذه الرجل معلومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة، فما بالكم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد ورد في الآثار والأخبار التي تبين هذا العقاب الشديد في الدنيا، ثم ينتظرون أشد النكال والعقاب يوم القيامة، يوم يقال لهم: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً، ثم يكون أشد العذاب من الله جل وعلا على من سب الأصحاب.

فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أقول: سعد بن أبي وقاص صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمامه وأمام الناس وقال: هذا خالي -خاله من الرضاعة- فليريني أحدكم من خاله. افتخاراً بـ سعد رضي الله عنه. قال علي بن أبي طالب: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتدي بأبويه أحداً مثل ما افتدى بـ سعد يوم أحد. يوم أن اشتد الهم والغم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك اليوم يرمي أحد المشركين امرأة، فيراها تتقلب في دمها، ويضحك المشرك، فقام سعد فرماه بالسهم فقتله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: (ارم سعد! ارم فداك أبي وأمي). سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه الذي ترك الدنيا بأسرها، وترك الخلافة مع أنه كان أحق بها من الستة الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، يقول له ابنه: يا أبت! الناس يقتتلون على الخلافة، وأنت هاهنا في الصحراء! فقال سعد: يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب التقي الخفي). وانظروا في من طعن فيه، ماذا كان مآله؟ فقد جاء في الصحيحين أنهم اشتكوا إلى عمر سعد بن أبي وقاص، فبعث إليه، فقام قائلهم يقول: لا يعطي العطاء، ولا يقسم بالسوية، وأخذ يطعن في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد أن سمع هذا الرجل فقال: اللهم إن كان قام هذا رياء وسمعة، اللهم أطل عمره، وأعم بصره، وعرضه للفتن. قال الراوي: والله لقد رأيته وقد سقط حاجبه على عينيه، ورأيته يتعرض للجواري في الشوارع، ويقول: عبد مفتون أصابته دعوة سعد رضي الله عنه وأرضاه.

فضل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم

فضل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم سعد الذي خرج على بعض الناس فوجدهم يتكلمون في علي وطلحة والزبير، ويتكلمون في علي، بطل الإسلام وفارس خيبر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله يجعل الله الفتح على يديه)، وكان يقول رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره وكان يفتح الله عليه الفتح الذي لا يمكن أن يفتح على مثله، ففي يوم الخندق قام عمرو بن ود فارس أهل الكفر -وكان أشد ما يكون على المسلمين- متبختراً بقواه وشدته يقول: أما تشتاقون إلى الجنة، أما زعمتم أن الذي سيقتل منكم يدخل الجنة، أما واحد منكم يشتاق إلى الجنة، أما ينزل لي إلى ساحة الوغى أحد؟ فيقوم علي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس يا علي! فيقول عمرو بن ود: -يصرخ بقوة الفاجر، وعزة زائفة زائلة بفضل الله سبحانه وتعالى- أما منكم من أحد يشتاق إلى الجنة؟ فيقوم علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اجلس يا علي! وفي الثالثة قام علي، فقال: اتركني يا رسول الله! فقال رسول الله: يا علي! إنه عمرو بن ود، قال: وأنا علي بن أبي طالب، فاختلف في الضربة فقتله الله جل وعلا على يد علي رضي الله عنه. وأما الزبير فهو أول من أشهر سيفاً في سبيل الله جل وعلا، وذلك عندما أُشيع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقام عرياناً -لم يستر عورته- وأشهر سيفه في أهل مكة، فلقب بأنه أول من أشهر سيفاً في سبيل الله جل وعلا. أما طلحة رضي الله عنه، فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: طلحة الخير. أي: أنه صلى الله عليه وسلم لقبه بهذا اللقب العظيم، طلحة الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: يا رسول الله! لا ترفع رأسك، حتى لا يصيبك أذى، نحري دون نحرك يا رسول الله! وكان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السيوف بيده، حتى شلت يده رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد أوجب. نعود إلى سعد بن أبي وقاص عندما رأى هؤلاء المتنطعين يتكلمون في هؤلاء الثلاثة، فقال للرجل منهم: اتق الله، وانته عن سب أصحاب رسول الله، فلم ينته الرجل، فقال: والله لأدعون عليك. فقال له الرجل: أتخيفني بنبي من الأنبياء. أي: أن دعوته لا ترد، فقام سعد فتوضأ ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء يتطاولون على أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم فأرني فيه آية. فند بعير بعد ما أنزل سعد رضي الله عنه يده، ففرق الناس، وكأنه يقصد ذلك الرجل الذي لم ينته عن سب أصحاب رسول الله، فقصده البعير فوطأه حتى قتله، فقالوا: يا أبا إسحاق! قد أرانا الله فيه آية.

عاقبة المتطاولين على الشيخين خصوصا والصحابة عموما

عاقبة المتطاولين على الشيخين خصوصاً والصحابة عموماً وهذا محمد بن سيرين كان يطوف بالكعبة، فسمع رجلاً يقول: اللهم اغفر لي، وإني لا أظن أنك لن تغفر لي، فقال محمد بن سيرين: يا رجل! كيف تدعو بهذا الدعاء! فقال: أنت لا تعرف حكايتي. قال: ما حكايتك؟ قال: قد نذرت لله أني ألطم عثمان على وجهه فما استطعت ذلك في حياته، فلما مات دخلت عليه فطلمته في وجهه فيبست يدي كما ترى، أي: شل الله يده؛ لأنه تعرض لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذو النورين. وأيضاً عن الثوري أنه كان يصلي الفجر بغلس، يعني: يذهب إلى صلاة الفجر بغلس، والناس نيام، فيذهب إلى المسجد ويستغفر ويدعو الله جل وعلا. قال: فكنت كلما ذهبت إلى المسجد بغلس رأيت كلباً مترصداً للناس، فخفت أن أسجد فيؤذيني. فقلت: أنظر ما حكاية هذا الكلب؟ فمررت به ثم جلست، وإذا بالكلب ينظر إلي، فقال: يا أبا عبد الله! مر ولا تخف! فإني أمرت بمن يسب أبا بكر وعمر، أي: ذلك مترصد للذين يسبون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينهش في لحومهم. وأيضاً: ورد عن بعض الأخيار أنه مر على قرية، فكان فيها أناس يسبون أبا بكر وعمر، فنهاهم الرجل، فقال لأحدهم: اتق الله، ولا تسب أبا بكر وعمر، فإن أبا بكر وعمر كانا كذا وكذا، وأخذ يذكر له فضائلهما، والرجل لم ينته عن سبه لـ أبي بكر وعمر، قال: وهو معنا في سفرنا، فنظرنا إلى يد الرجل فإذا يده يد خنزير، وواصلنا السفر حتى أتينا على قطيع من الخنازير، فسمعنا من خلفنا صيحة خنزير مع الخنازير، ثم دخل بين الخنازير، فما عرفناه من بينهم، أي: أن الله قد مسخه خنزيراً حقيراً؛ لأنه كان يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. اللهم العن من يسب هؤلاء، وامسخهم خنازير وقردة يا رب العالمين! واجعل في قلوبنا حبك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً: ما من أحد يسب رسول الله، أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ويشدد الله جل وعلا عليه، ويمثل به في الدنيا قبل الآخرة. وأما الخلافة الراشدة، والكلام على خلافة أبي بكر، وفضله، وفضل عمر وعلي وعثمان، وفضل العشرة المبشرين، فسيأتي في دروس لاحقة بعون الله عز وجل.

فضائل أبي بكر الصديق

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل أبي بكر الصديق لقد أيد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بصحابة أفذاذ، في مقدمتهم الصديق، الذي سماه الله بذلك من علياء سمائه، لمبالغته في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر خير الأمة بعد نبيها على الإطلاق، فهو الصاحب في الغار إجماعاً، وهو الذي بذل كل ماله فداء ونصرة لهذا الدين، وهو الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم خليلاً، وصفاته رضي الله عنه تفوق الحصر، يكفيه منها: أن إيمانه راجح على إيمان الأمة أجمع خلا نبيها.

ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فنحن في هذا الدرس على موعد مع خير البرية على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، على موعد مع من نصر الله به الدين وثبت به الأولين، على موعد مع من تفتح له أبواب الجنة الثمانية، على موعد مع رجل صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحل وفي الترحال! مع صاحب المكانة الأسمى عند الله جل وعلا، مع صاحب الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع من أجمع السلف أجمعين على أنه خير من صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم؛ إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

اسمه وكنيته

اسمه وكنيته هو عبد الله بن عثمان وأبوه عثمان كنيته: أبو قحافة، فهو أبو بكر بن أبي قحافة أو أبو بكر بن عثمان يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب. كنيته: أبو بكر.

وصفه

وصفه أما وصفه: فكان جميلاً نحيفاً كما وصفه الواصفون، وقالوا: كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه جميل الوجه ولذا لقب بالعتيق كما سنبين وكان أبيضاً نحيفاً أجنأ، يعني: له انحناء في ظهره رضي الله عنه وأرضاه. وكان معروق الوجه قليل اللحم، وكان إزاره يسترخي منه رضي الله عنه وأرضاه.

ألقابه وسبب إطلاقها عليه

ألقابه وسبب إطلاقها عليه لقب بـ الصديق، قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بذلك، ولأن الله سماه بـ الصديق؛ ولأن الصحابة أقروا على ذلك. أما بالنسبة لتسمية الله له؛ فقد قيل لـ علي بن أبي طالب: أخبرنا عن أبي بكر. فقال: هو أفضلنا -أو هو سيدنا- خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سماه الله بالصديق على لسان جبريل ولسان محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: سمي أو لقب بـ الصديق؛ لأنه ما سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم من شيء إلا وقال: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: صدق. ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما تكلمت معه في شيء ولم يرد علي شيء). أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما جاء مشركوا العرب وقالوا: اليوم نأخذ من محمد صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى أبي بكر وقالوا: أما رأيت ما يزعم صاحبك؟ قال: وما يزعم؟ قالوا: يزعم أن الله أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم رجع في ليلة واحدة، وهذا في المعقول مستحيل ولا يمكن أن يصدق، تضرب الإبل شهراً حتى تصل إلى بيت المقدس وترجع، ففي ليلة واحدة يذهب من البيت الحرام إلى بيت المقدس، وظنوا أن أبا بكر يتخلى عن صاحبه؛ لأن العقل لا يمكن أن يقبل هذا الكلام. فقال أبو بكر: أقال هذا؟ قالوا: نعم، قال: صدق، قالوا: تصدقه في هذا؟ قال: والله! إني لأصدقه في ما هو أبعد من هذا، إني أصدقه في خبر السماء. غدوة وروحة. رضي الله عنه وأرضاه. وأيضاً لقب بـ الصديق لصدقه وأمانته، فقد بلغ القمة في الصديقية، ولذلك بعض العلماء الذين لهم نظر ودقة فقه يقولون: استثنى النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الناس، أو سبعة من الأقسام، أو الأصناف على أنهم لا يعذبون في القبر: كالشهيد والمطعون وغيرهما فقالوا: الصديق أيضاً رضي الله عنه وأرضاه ينجو من فتنة القبر؛ لأن الشهيد ينجو من فتنة القبر، فقد امتحن في ساحة الوغى على صدقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى ببوارق السيوف فتنة). أما الصديق ففي حياته كلها صدق، وما يأتيه خبر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إلا يقول بيقين: صدق، ويصدقه في ذلك. قالوا: فهو أولى من الشهيد بأن يوقى فتنة القبر. ولقب أيضاً رضي الله عنه وأرضاه بالعتيق، قيل: لعتاقة وجهه أي: جماله. وقيل: لأنه كان كثير العتق، فكان يشتري العبيد بماله ويعتقهم في سبيل الله جل وعلا. وقيل: بل بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عتيق من النار كما في سنن الترمذي: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (دخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول أول ما رأى أبا بكر: أبشر يا أبا بكر! إنك عتيق الله من النار). فبشره بالعتق من النار فلذلك لقب بالعتيق. ولقب بالصاحب، وما من أحد لقب بهذا اللقب أو اقترن ذكره مع ذكر رسول الله إلا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه. قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة:40] وبالإجماع الصاحب هنا هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. ولقب أيضاً بالأواه؛ لأنه كان خاشعاً متبذلاً أمام ربه جل وعلا، ما قرأ آية إلا وبكى، ولذلك ورد عن إبراهيم النخعي أنه قال: الأواه هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

خلق أبي بكر الصديق

خلق أبي بكر الصديق كل إنسان منا يتمنى أن يرتقي في الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرء بحسن خلقه ليدرك درجة الصائم القائم). أما خلق أبي بكر فهو خلق الأنبياء بالإطلاق، ولو دققت النظر في مواقف أبي بكر ومواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فستجد أنهما يسيران في خط واحد، ويجلي لك ذلك واضحاً ما قالته خديجة في رسول الله، وما قاله ابن الدغنة في أبي بكر. أما خديجة لما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم مهرولاً مسرعاً يقول: دثروني دثروني، قالت: لا والله! لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتكرم السائل، وتعين على نوائب الحق إلى آخر ما قلت. وابن الدغنة وصف أبا بكراً بنفس الصفات دون أن يستمع من خديجة ما قالته عن رسول الله. فقال لـ أبي بكر عندما قامت قريش عليه عندما كان يقرأ ويجتمع عليه الناس، فخاف كبار قريش فقالوا: يجب أن يرحل من مكة، فجاء ابن الدغنة وقال: مثلك لا يخرج؛ أنت أكرم الناس، وأعز الناس، إنك لتعين على نوائب الحق، وتقري الضيف، وتكرم السائل. فكانت الصفات التي أطلقت عليه من كصفات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو نظرت لـ أبي بكر قبل الإسلام فإنه لم يشرب الخمر قط، والسبب في ذلك أن أبا بكر أتي برجل قد شرب الخمر، فوجده يضع يده في العذرة ويقربها إلى فيه وجعل يشم رائحتها، فقال أبو بكر: إن هذا لسفه، وابتعد عن الخمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرب الخمر قط لا في الجاهلية ولا في الإسلام وحاشاه صلى الله عليه وسلم. وأبو بكر لم يسجد لصنم قط كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول أبو بكر عن نفسه: إن أباه أخذه عندما ناهز الحلم وأدخله في كتيبة أصنام، وقال: هذه آلهتك الشم الشوامخ، تسألها وتدعو لها وتعبدها. فدخل أبو بكر قال: فوجدت الصنم واقفاً فقلت له: إني جائع فأطعمني، فلم يرد علي، ثم قلت له: إني عارٍ فاكسني، فلم يرد علي -كأنه مختبراً لها- قال: فأخذت صخرة وضربت فيها فوقع وانكب على وجهه، فعلمت أنه لا خير فيه، فلم يسجد لصنم قط. فـ أبو بكر خلقه كخلق النبي صلى الله عليه وسلم. والله جل وعلا لقب رسوله بأنه رءوف رحيم، وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أيضاً بالمؤمنين رءوف رحيم، وهذا بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر فقال: (أرفق أمتي وأرحم أمتي بأمتي أبو بكر). رضي الله عنه وأرضاه. أيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الناس، كما قال ابن عباس: (كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن). والمقصود: أن أجود الناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجود الناس بعده خليفته أبو بكر رضي الله عنه، فقد أنفق أربعين ألفاً أو أكثر في الدعوة إلى الله، وكان يشتري العبيد ويعتقهم في سبيل الله بنفقة ماله الذي للتجارة، وأنفق ماله كاملاً في تجهيز الجيش، وفي النفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال رسول الله كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر. فبكى أبو بكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!). فكان أجود الناس وينفق كل ماله على رسول الله. وأيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (واساني بماله وأهله وأنكحني ابنته، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر). رضي الله عنه وأرضاه. فكرمه يضرب به المثل في مكة وفي خارجها رضي الله عنه وأرضاه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سخياً.

شجاعة أبي بكر الصديق

شجاعة أبي بكر الصديق أشجع الناس هو رسول الله كما قال علي بن أبي طالب فارس الإسلام، قال: كان إذا حمي الوطيس احتمينا برسول الله، فكان أبو بكر يتمثل في شجاعة رسول الله، تخلف من تخلف في أحد وفر من فر، وكان المقدام أبو بكر يسارع إلى رسول الله بعدما طرح طلحة فقال رسول الله لـ أبي بكر عندما أسرع إليه: (دونكم صاحبكم فقد أوجب). وعزم على نفسه أن يحمي رسول الله في غزوة بدر عندما اقترحوا أن يكون ثم عريش لرسول الله يجلس فيه حماية له صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر مشهراً سيفه أمام العريش ينافح عن رسول الله بشجاعة وبسالة رضي الله وأرضاه. وسأبين بالتفصيل شجاعته وصلابته في القرارات الحاسمة عندما أتكلم عن جوانب العظمة في شخصيته.

علم أبي بكر الصديق

علم أبي بكر الصديق إن كان أعلم الناس على الإطلاق بأمر الله ونهيه هو رسول الله، فإن أبا بكر أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). وعزم على الصحابة أن لا يؤمهم إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (كيف يؤم القوم أحد وفيهم أبو بكر)، رضي الله عنه وأرضاه، وكان يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس). فهو أقرأ الناس لكتاب الله وأحفظهم له، بل هو أفقه الناس في مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بين يدي أصحابه، كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين فقال: (خير الله عبداً من عباده بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فانكب أبو بكر باكياً فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله! فقال أبو سعيد: فاندهشنا من أبي بكر، رجل يخير بين ما عند الله وبين الدنيا فاختار ما عند الله، فما يبكيه؟! قال: فكان ذلك إشارة لدنو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر أعلمنا وأفقهنا لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان عند أبي بكر العلم الذي لم يكن عند صحابة رسول الله، لكن النووي بين أن أبا بكر كان قليل الحديث؛ لانشغاله بالخلافة كما سنبين، فكان عنده من العلم ما لم يكن عند صحابة رسول الله، وعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد الأمر على الصحابة ولم يعرفوا ماذا يفعلون مع رسول الله، وهل يكشفون ثيابه عنه أم لا؟ وهل يدفنونه في البقيع؟ أم أين يذهبون به؟ وهل يغسلونه أم يتركونه؟ فكل هذه المسائل لا علم عندهم بها، فجاء أبو بكر فدخل على رسول الله وقبل بين عينيه وقال: طبت حياً وميتاً. ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: عندي من ذلك العلم، قال رسول الله: (إذا مات نبي لا يقبر إلا في مكانه) يعني: في المكان الذي مات فيه، وهذا العلم خفي على كل الصحابة إلا على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: يغسل في ثيابه، ولا تخلع الثياب منه. وأيضاً: في مسألة الكلالة، كان الرجحان في كلام أبي بكر رضي الله عنه. وفاطمة لما ذهبت إلى أبي بكر وقالت: أريد ميراث أبي. فقال لها: إن أباك لا يورث، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وكان هذا العلم ليس عند أحد إلا عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وانظروا إلى فقهه لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه البديع، فقد اختصم هو وعمر وكثير من الصحابة في قتال مانعي الزكاة، فقال عمر: يا أبا بكر! كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟! كيف تقاتل قوماً قال فيهم رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهم يقولون: لا إله إلا الله؟! فقال أبو بكر بقياسه البديع وذكائه الوقاد: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -فهما قرينان في كتاب الله جل وعلا- ولو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. فبقياسه البديع باقتران الصلاة والزكاة جاء أبو هريرة ومعه نص صريح من رسول الله فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة). فوافق قياس أبي بكر بعلمه الدقيق نص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان الصديق أعلم الصحابة وأفقههم على الإطلاق، وكانت له الحصيلة الكبرى من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي منعه من التحديث هو انشغاله بالخلافة، رضي الله عنه وأرضاه.

مكانة أبي بكر الصديق عند الله

مكانة أبي بكر الصديق عند الله سنتكلم عن مكانة الصديق عند ربه عند رسوله ومكانته عند صحابة رسول الله. أبو بكر خير البشر على الإطلاق سوى الأنبياء والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه، فهنيئاً له، كانت له الحظوة الأسمى والمكانة العظمى عند رب العزة جل وعلا. يكفي أبو بكر فخراً أن الله يخاطب عبداً من عباده من آحاد المسلمين بلفظ الجمع للتعظيم والتفخيم ولإظهار مكانته العليا عنده، فقد قال الله تعالى فيه لما عزم على أن لا ينفق على مسطح وكان قريباً له، وقد تكلم في عائشة، فقال الصديق: والله! لا أنفق عليه، فأنزل الله جل وعلا معاتباً له ومبيناً مكانته، ومعظماً قدر هذا الرجل بين آحاد المسلمين، فقال الرب الجليل في حقه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] فقال: ((أُوْلُوا)): بلفظ الجمع يخاطب جل وعلا فرداً من عباده مربوباً ومخلوقاً من خلقه، ويقول عنه: ((أُوْلُوا الْفَضْلِ)) تعظيماً وتفخيماً وإشارة للبشرية أجمعين أن هذا هو خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين. ثم قال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فقال أبو بكر مسارعاً: أحب أن يغفر الله لي، أحب أن يغفر الله لي. ومن أروع الأمثلة أيضاً التي ضربت لبيان مكانته عند ربه جل وعلا، أنه لم يشهد الله لأحد من عباده بالإخلاص وهو يمشي على الأرض مثلما شهد لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال جل وعلا: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17] فلقبه بالأتقى، وهو الأتقى على الإطلاق، فلا عمر ولا عثمان ولا علي بل لو اجتمعت الأمة بأسرها فلن تداني ولن تقارب مكانة هذا الصديق. قال الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. نتيجة عظمى بعد ذلك، كأن الله يقول: أنت الأتقى وأنت الأخلص وستثاب على ذلك في الآخرة، فأشار له إلى ذلك وهو يمشي على الأرض. ومثله النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشبه الناس بإبراهيم، فقال الله جل وعلا على إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:120 - 121] وهذا بيان أعظم صفات لإبراهيم، ثم قال: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:121]. فبعد أن بين صفاته الجميلة والعظيمة في الدنيا بشره أنه في الآخرة من الصالحين. وانظروا إلى أبي بكر فهو أشبه ما يكون بإبراهيم عليه السلام، فقد بين الله صفاته العظيمة ثم بشره: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21]، ومعنى: يرضى أي: في الآخرة، ورضاه بينه رسول الله؛ ليبين مكانته عند الله، وأن الله سيكرمه ويشرفه ويعلي مرتبته في الآخرة في عرصات يوم القيامة من بني البشر من لدن آدم إلى آخر الخليقة، وتفتح أبواب الجنة الثمانية لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، كأن كل باب ينادي تعال يا أبا بكر! ويتشرف بدخوله منه، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لـ أبي بكر أن في الجنة باباً لأهل الصيام يقال له: باب الريان، وفي الجنة باب لأهل الصدقة، وباب للجهاد، وباب للصلاة، أي: للذين يكثرون من الصلاة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود). فقال أبو بكر صاحب الهمة العالية، وصاحب العظمة في الطلب الذي طمع في الكريم: (يا رسول الله! هل لواحد من البشر أن تفتح له هذه الأبواب كلها؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون أنت). فهذه بشارة من الله، ووحي من الله لرسوله، يبين مكانة أبي بكر عند الله جل وعلا، وأن أبواب الجنة الثمانية تفتح لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. ومما يظهر مكانة أبي بكر نزول جبريل خصيصاً ليبلغه السلام من ربه جل وعلا، وذلك أن الله جل وعلا أنزل جبريل يقول لرسول الله -وأبو بكر أمامه عليه ثياب رثة-: (قل لـ أبي بكر: إن الله يقرؤك السلام. فقال له الرسول: إن الله يقرؤك السلام. قال: وقل له: إن ربك عنك راضٍ، فهل أنت عن ربك راضٍ؟ فبكى أبو بكر، وقال: والله! إني عن ربي راضٍ، إني عن ربي راضٍ). فله المكان الأسمى عند الله جل وعلا، وله أيضاً الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصاحب الصاحب هو أبو بكر، والخليل الخليل هو أبو بكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).

مكانة أبي بكر عند رسول الله

مكانة أبي بكر عند رسول الله أما مكانته عند رسول الله فهو الصاحب، وهو الذي اقترن ذكره بذكر رسول الله لما قال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أي: معية النصرة والتأييد كما شرحنا، وأيضاً: معية الذكر، فلا يذكر الله جل وعلا إلا ويذكر مع ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: لا يذكر رسول الله إلا ويذكر معه غالباً خليفته أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. ولما جاء أبو بكر قال: (يا رسول الله! الهجرة الهجرة). وكأنه يقول: أنت أذنت لأسد الله أن يهاجر، وكذا لـ عمر بن الخطاب ولكثير من الصحابة، أي: أذنت لهم أن يهاجروا وأنا أريد الهجرة في سبيل الله، فقال: (يا أبا بكر! امكث لعل الله يجعل لك صاحباً). انظروا إلى هذا الفضل العظيم، فالله جل وعلا يبقي أبا بكر ولا يأذن له بالهجرة، مع أن قلبه شغوف بها، ويبقيه الله لأمر عظيم ولأمر جلل، هو صحبة رسول الله. ولما جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم، فقال: (أعندك أحد؟ قال: هم أهلك يا رسول الله! فقال: أريدك في أمر، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة يا أبا بكر!). فبكى أبو بكر وجهز الرواحل وذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما دخل الغار دخل مقدماً على رسول الله يقول: شمس الإسلام لا تشرق إلا من قبل رسول الله، أما أنا فكآحاد المسلمين لو مت مت فرداً من الأفراد، فدخل الغار ثم سد كل فتحة من فتحات الكهف، فما بقيت إلا فتحة واحدة، ودخل رسول الله فسدها أبو بكر برجله الشريفة فلدغته حية، فما أراد أن يوقظ رسول الله. مما يدل على قوة الصحبة، امتلاء قلب أبي بكر بحب رسول الله، وكان رسول الله نائماً على فخذ أبي بكر رضي الله عنه فخشي أن يوقظ رسول الله حتى بعد أن لدغته الحية، فما تحرك لمكان رسول الله من فخذه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دموع أبي بكر التي سقطت على وجهه، فلما علم الخبر وضع يده الشريفة على رجله، فبرأه الله جل وعلا من لدغة هذه الحية ببركة رسول الله، وبركة الصحبة. فلما سار مع رسول الله قال: كنت أسير خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسير أمامه، ثم أسير في اليمين، ثم أسير في اليسار، ومن رآه يقول: ما للرجل لا يمشي في مكان واحد، وعلل ذلك الصديق بقوله: كنت أتذكر الطلب من الخلف فأمشي خلف رسول الله حتى أحمي ظهره، ثم أتذكر العدو من الأمام فأتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية له، وأتذكر العدو من اليمين أو من اليسار فأذهب يميناً ويساراً. ولما دخل مع رسول الله المدينة كان الناس يحسبون أن أبا بكر هو رسول الله، فلما جاءت الشمس على رسول الله قام أبو بكر بردائه يظلله فعرفوا أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك كانت له المكانة العليا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يشاور أحداً قبل أن يشاور أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه. ففي أسرى بدر أول ما ابتدأ النبي بالمشورة ابتدأ بـ أبي بكر وكان الحق معه على تفصيل سنبينه فيما بعد، ولما سألوا عن أسارى بدر، فبرحمته ورفقه ورأفته بالأمة قال له: يا رسول الله! أرى أن نأخذ منهم الفدية لعل الله جل وعلا أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله. وهذا بالضبط هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله). فالكلام الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر أحب عباد الله إلى رسول الله. ولما أمّر رسول الله عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفي الجيش أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وهم من أشرف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتر عمرو بن العاص فقال: إن لي مكانة عند رسول الله، لأرجعن إليه فأسأله من أحب الناس إليه وهو متوقع أن يكون هو؛ لأنه أمره، وهذا يبين لك أن الإمامة أو الرياسة أو المقدمة لا تدل على الفضل، والخفاء كذلك لا يدل على الفضل، فهذا عمرو بن العاص بعد ثلاثة أشهر من إسلامه أُمر على أبي بكر وعلى عمر وعلى أبي عبيدة، فقال: (يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ فقال الرسول: عائشة. فقال: لست عن النساء أسأل، فقال: أبوها) فهذا إظهار بالإطلاق أن أحب الناس إلى رسول الله هو أبو بكر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يتمدح في صفات أبي بكر ويقول: (واساني بماله وأهله، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر). رضي الله عنه وأرضاه. ويبين لكم عظيم قدر أبي بكر عند رسول الله ما حدث من الدفاع المستميت من رسول الله لصاحبه، حيث إن عمر الفاروق -وعمر هو الذي قال فيه كثير من الصحابة: أعز الله الدين بإسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه- كانت بينه وبين أبي بكر مشادة، وكان أبو بكر شديداً فاشتد على عمر، ثم ذهب إليه ليستسمح منه فلم يسامحه، بل قال له: لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندم عمر فذهب إلى البيت فقال: أثَّم أبو بكر؟ -يعني: هنا أبو بكر؟ - قيل: لا. فذهب أبو بكر رافعاً عن ثوبه حتى ظهرت ركبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نظر إلى صاحبه: (أما هذا فقد غامر). فدخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فقص على رسول الله ما كان بينه وبين عمر، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وغضب، وظهر ذلك على وجهه، فلما جاء عمر إلى رسول الله اشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتمعر وجهه، حتى إن أبا بكر خشي على عمر من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثى على ركبتيه وقال: والله! يا رسول الله! كنت أنا أظلم، أنا أظلم يا رسول الله! لأنه الرفيق، ولأنه خير البشر بعد رسول الله، ورسول الله الذي علم الأمة أن ينزل الناس منازلهم، وأن كل صاحب فضل عليه أن يعرف لـ أبي بكر فضله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل عمر: (هلا تركتم لي صاحبي). بشدة وحدة على عمر الفاروق وقال صلى الله عليه وسلم: (قد قلتم: كذبت، وقال: صدقت). وهذا هو الفارق البعيد الذي جعل أبا بكر في الأعالي وجعلهم لا يسبقونه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وواساني بأهله وماله)، كأنه يقول: أنفق علي كل ماله، ثم قال: (سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر، هلا تركتم لي صاحبي). فلم ير بعد ذلك من أذية تقع في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وأروع ما ضرب في ذلك: أن بعدها حدثت مشادة -كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي - بين أبي بكر وبين أحد الأنصار، فسب أبو بكر هذا الأنصاري، فقال الأنصاري لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: يغفر الله لك. قال: اقتص مني. قال: يغفر الله لك لا أقتص منك. قال: اقتص مني، وإلا استعديت عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعض الأنصار وهم لا يفقهون من أبو بكر يستعدي عليك رسول الله وهو الذي سبك؟ والله! لنأتين معك ولنستعدين عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصاري فقيهاً، فقال: اسكتوا، لا يعلم أبو بكر بكلامكم فيغضب، فيغضب رسول الله لغضب صاحبه؛ فيغضب الله لغضب رسوله فيهلك صاحبكم، فما رد على أبي بكر بعد ذلك من قول قط؛ لمكانة أبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مكانة الصديق عند الصحابة

مكانة الصديق عند الصحابة بالإجماع: كانت مكانة أبي بكر عند الصحابة هي هذه المكانة. فقد جاء بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال: لو وزن إيمان أبي بكر في كفة ووضع إيمان الأمة بأسرها سوى رسول الله في كفة لرجحت كفة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن أبا بكر بالأمة بأسرها. فهو بأمة بعده حتى بالصحابة، حتى بـ عمر وعثمان وعلي. فـ أبو بكر كان سبباً في إسلام من أرسى الله قواعد الإسلام على أكتافهم، كان سبباً في إسلام الزبير بن العوام، أول من أشهر سيفاً في سبيل الله، وكان سبباً في إسلام عبد الرحمن بن عوف الذي قال عنه عمر: مات رسول الله وهو عنه راض، وكان من أهل الشورى، وكان سبباً في إسلام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وأبو بكر هو الذي دعا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي دعا طلحة الخير طلحة بن عبيد الله، وكل هؤلاء في ميزان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فكانت له المكانة العليا والأسمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مبايعة الصحابة لأبي بكر

مبايعة الصحابة لأبي بكر أختم الكلام على أبي بكر في البيعة وما دار حولها من خلاف، وهل رسول الله استخلف أبا بكر أو أوصى بها لـ أبي بكر وقد قالت عائشة: كيف يزعمون ذلك؟! وقد مات رسول الله على فخذي أو بين سحري ونحري ولم يوص بأحد. وقد اختلف العلماء في خلافة أبي، هل هي منصوص عليها أم بالاختيار والإجماع؟ على قولين: القول الأول: أنها بنص كما رجح ذلك الحسن البصري، وقال: إنه بالنص ولكنه مستنبط، يعني: بالنص الخفي لا الجلي. وهذا هو الراجح الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة منها أولاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن لا يؤمهم أحد في الصلاة إلا أبو بكر، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وكانت عائشة تخشى من ذلك؛ لأن الناس يتعجبون أن أحداً يأخذ مكانة رسول الله؟ أي: يتشاءمون. فقالت: (مر عمر فإن أبا بكر رجل بكّاء قال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). فقال علي رضي الله عنه الفقيه لما سألوه عن أبي بكر: رجل رضيه الله لديننا فكذا نرضاه لدنيانا. وهذا قياس جلي أو قياس الأولى، فما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم للدين فللدنيا يكون من باب أولى. وفي مرضه صلى الله عليه وسلم أيضاً قال لـ عائشة: (ابعثي إلى عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب كتاباً لا يطمع طامع في هذا الأمر - يعني مع وجود أبي بكر -ثم قال: لا، يأبى الله) أي: قدراً وكوناً مكتوب في اللوح المحفوظ فقال: (يأبى الله ويأبى المؤمنون). أيضاً قدراً لا شرعاً، ثم قال: (إلا أبا بكر). يعني: إلا بتولية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وأصرح من ذلك: جاءت امرأة إلى رسول الله فسألته عن مسألة فقالت: (إذا أتيت ولم أجدك من أسأل؟ قال: ائتي أبا بكر). وهذا إشعار من رسول الله أي: كأنه يقول: إذا مت فسيكون بعدي أبو بكر رضي الله عنه. وهذه من الأدلة التي تثبت أن النص جاء على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. أما الطائفة الثانية فقالوا: لم تكن خلافة الصديق بالنص وإنما كانت بالاختيار، وحجتهم في ذلك: أن عمر بن الخطاب لما قتل قال: إن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني وهو رسول الله، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني وهو أبو بكر. فنقول: هذا مأول، ومعنى كلام عمر: أن خلافة أبي بكر لم تكن مكتوبة ومنصوصة عليها نصاً جلياً. وقصة بني ساعدة وثقيفة لما ذهب الأنصار وأخذوا سعد بن عبادة ليبايعوه جاء أبو بكر، فقال: لا، منا وزير ومنكم وزير، ونزلوا على كلامه. ثم قال: أرضى لكم أحد الرجلين عمر وأبو عبيدة. وكان أبو عبيدة يمشي مع عمر! فقال -أي: أبو عبيدة -: ابسط يدك يا عمر! لأبايعك. قال: لو قالها غيرك، كيف تقول ذلك، أؤمر عليكم وفيكم هذا الصديق؟ أأكون أنا وفيكم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟ فلما قال أبو بكر: ابسط يدك يا عمر أبايعك. قال: لا والله! لا يتقدمن عليك أحد يا أبا بكر! فقال: رضيه الله لديننا ونرضاه لدنيانا. فبايع أبا بكر وبايع أبو عبيدة أبا بكر أيضاً، وبايع الأنصار قاطبة أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، وتخلف عن البيعة سعد بن عبادة وعلي بن أبي طالب، وسعد ما تخلف؛ إلا لأنه توج لأن يكون أمير المؤمنين، أو يكون خليفة رسول الله؛ لأنه لما جلس الأنصار واجتمعوا قالوا: سيدنا سيد الخزرج هو سعد بن عبادة، على أن يؤمر عليهم واستبقت منهم الكلمة على ذلك، فلما جاء أبو بكر انهال الأنصار وبايعوا أبا بكر، ولم يبايعوا سعد بن عبادة، حتى الوفود التي أتت كالنهر الجاري على الصديق ضربت سعداً، فجرح سعد وأوذي بدفع الأنصار، فقال الأنصار: قتلتم سعداً، قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر من شدته في الحق المعروفة: قتله الله، ما نحن قتلناه. وهذا له فقه، يعني: أنكم أردتم إمارته، وأراد الله إمارة أبي بكر فالله هو الذي قتله، يعني قتله: قتلاً معنوياً، إذ أن أبا بكر سيقدم عليه وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خلافة أبي بكر الصديق

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلافة أبي بكر الصديق هناك كثير من الرجال الأبطال الذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في الصدق والإخلاص والثقة بالله، والثبات على دينه، والجود بما رزقهم الله من فضله، وقول الحق والعمل به، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهو أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضائله ومناقبه كثيرة.

خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

مبايعة الصحابة لأبي بكر

مبايعة الصحابة لأبي بكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ما زلنا مع خير البرية على الإطلاق -سوى الأنبياء والمرسلين-، مع أرحم هذه الأمة بهذه الأمة، مع ألين الناس قلباً وأفقههم في دين الله جل وعلا، وأبرهم قلبا رضي الله عنه وأرضاه، مع صديق هذه الأمة، وقد تكلمنا عن فضائله رضي الله عنه وأرضاه، ووصلنا إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سنبين- وكانت المصيبة به جلل، فذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه إلى سقيفة بني ساعدة، حيث اجتمع الأنصار فيها ليختاروا لهم خليفة يبايعونه؛ من مات وليس له بيعة مات ميتة جاهلية، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا بد من أمير يخلفه صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الغراء، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ واجتمعت كلمة الأنصار على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فلما علم أبو بكر بذلك ذهب إليهم هو وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، قال عمر: فزورت كلاماً، يعني: جملت الكلام بفصاحة وبلاغة حتى تكون الحجة قوية معنا، قال: فزورت كلاماً فذهبت، فلما دخلت هممت أن أتكلم، فقال أبو بكر: اسكت، فسكت عمر، فقام أبو بكر خطيباً في الناس يتكلم بعدما قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه: منا أمير ومنكم أمير، أي: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، قال عمر: ما أردت كلمة قد زورتها أن أتكلم بها إلا وقد تكلم بها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وأبلغ في المقالة، وكانت له الحجة القوية على الأنصار، قال لهم: أيها الناس! لكم فضلكم، ثم بين لهم فضائلهم، ومدحهم وبين لهم مكانتهم عند رسول الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو سلك الأنصار فجاً لسلكت فج الأنصار)، ثم قال رضي الله عنه: إن الله جل وعلا قد سمانا في كتابه الصادقين، وسماكم المفلحين، وأمركم أن تتبعوا الصادقين حيث قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ثم قال لـ سعد بن عبادة بعدما اجتمعوا عليه أن يؤمروه عليهم: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الناس تبع لقريش في هذا الأمر) أي: في الولاية والإمارة، قال: سعد: صدقت، فقام الناس يبايعون فقال أبو بكر: إني أرجح لكم أحد الرجلين: عمر وأبا عبيدة ولكن كل واحد منكم يعلم منزلة الآخر، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، وأنزل الناس منازلهم. وقال عمر: لأن أقدم فتضرب عنقي خير لي من أقدم على أمة فيها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قام عمر فقال: ابسط يدك يا أبا بكر، فبايعه، فبايعه أبو عبيدة، ثم تتابع الأنصار يبايعونه. قال بعض العلماء: كان فيهم علي، وبعضهم قال: لم يكن معهم، والاختلاف يدور حول بيعة علي لـ أبي بكر، وهل تخلف عن البيعة أم لا؟ فإنه لما بلغ فاطمة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم جلست في بيتها حزينة، فقال بعضهم: جلس علي معها واستخفى عن الناس -لم يظهر- وقيل: بايع في سقيفة بني ساعدة، وقيل: بل بايع في اليوم الثاني عندما قام أبو بكر خطيباً في الناس، وألقى كلمة يجب أن تكون نبراساً لكل حياة، ويجب أن تكون في كل بلدة من البلاد، قال أبو بكر: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: الضعيف منكم قوي عندي حتى آتي بحقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، ثم قال: إني لست بخيركم فأقيموني أيها الناس! فقام علي رضي الله عنه إلى منبر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيك لديننا فكيف لا نرضاك لدنيانا. واستتب الأمر بذلك، واتفق الناس بالإجماع على أن أفضل الصحابة على الإطلاق هو الخليفة -خليفة رسول الله، أبو بكر - وظهرت حكمة الله جل وعلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر) يعني: يأبى الله أن يضع في هذا المكان إلا الأفضل، وهو أبو بكر، ويأبى المؤمنون ذلك، وقد رضي المؤمنون واتفقوا على أن أبا بكر هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نماذج من رحمته ورقة قلبه رضي الله عنه

نماذج من رحمته ورقة قلبه رضي الله عنه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجفت المدينة وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً بهذه المصيبة العظيمة، وتكالبت أمم النفاق مع الكفر، وظهر النفاق أمام الصحابة رضوان الله عليهم، وارتد من العرب من ارتد، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما ثبت على الإيمان إلا طوائف من أهل المدينة والطائف ومكة، وارتد كثير من العرب على عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وفي هذه الأوقات كان لا بد من شخصية ثابتة راسخة كالجبال الشم الشوامخ، تظهر معالمها في هذه الأوقات الحالكة، تجمع بين القوة والصلابة وبين الشفقة والرحمة، وقد ظهرت هذه الأخلاق في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. فقد طبق واقعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)، رضي الله عنه وأرضاه. فظهرت رحمته جلية في عتق العبيد، فقد كان يطوف في مكة فيرى بلالاً في حر الرمضاء، وأمية بن خلف يسوءه سوء العذاب، فذهب إليه واشتراه بمال كثير وأعتقه، وأنفق كل ماله رضي الله عنه وأرضاه رحمة وشفقة على أهل التوحيد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، رضي الله عنهم أجمعين، ومر ذات مرة بـ زنيرة أمة من الإماء كانت عند عمر بن الخطاب، فكان يسومها سوء العذاب قبل أن يسلم رضي الله عنه وأرضاه، حتى إنها من شدة العذاب عمي بصرها، وقالوا: قد خطف بصرها اللات والعزى، فقالت: لا والله! رب العباد قادر على أن يعيد علي بصري، هو الذي أخذه وهو القادر على أن يعيده، فأعاد الله عليها بصرها في تلك الليلة فاشتراها أبو بكر وأعتقها لوجه الله رحمة وشفقة ورأفة منه رضي الله عنه وأرضاه. بل ظهرت رقة قلبه في صلاته، وهذه النعمة منة من الله تعالى يتذوق بها المؤمن حلاوة الإيمان، ولا يتذوقها إلا من رحمه الله ولطف به وأنعم عليه، كما قال شيخ الإسلام: في الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة، هذه الجنة هي حلاوة الإيمان، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بمكة يتخذ داره مسجداً فيصلي بالليل خاشعاً راكعاً متدبراً آيات الله جل وعلا، فكان يقرأ فيبكي بكاء شديداً فتأتي النساء والصبيان إليه، فخاف أهل مكة على نسائهم وصبيانهم من الفتنة -حسب زعمهم- من هذا الدين. وظهر ذلك جلياً من قول عائشة رضي الله عنها حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل إذا صلى بالناس بكى فلم يفقه الناس عنه شيئاً، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس).

نماذج من جوده وإنفاقه رضي الله عنه

نماذج من جوده وإنفاقه رضي الله عنه ومع هذا اللين والرأفة والرحمة كان هو المثل الأعلى في الجود والإنفاق، فقد كان ينفق ما معه ولا يخشى شيئاً، وضرب أروع الأمثلة في هذا الجانب، عاملاً بقول الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لتجهيز الجيوش، فجاء عمر فقال: اليوم أسبق أبا بكر، فذهب وأتى بشطر ماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك يا عمر؟ قال: تركت لهم شطر مالي)، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، ثم جاء أبو بكر بماله فوضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر قال: تركت لهم الله ورسوله)، انظروا إلى الجود والكرم، انظروا إلى التوكل واليقين التام بالله، فقال عمر: والله لا أسبقك بعد اليوم.

جوانب من قوته وثباته على الحق

جوانب من قوته وثباته على الحق إنفاق وجود ورحمة ولين، ثم في الجانب الآخر من شخصيته كان فيه القوة وفيه الثبات والعزيمة حتى عند الأحزان، فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ارتجت المدينة وزلزل المؤمنون زلزالاً عظيماً، فمنهم من قال: رسول الله لم يمت، ومنهم من سكت ولم يتكلم، ومنهم من خر مغشياً عليه، حتى إن عمر أخذ سيفه وقال: من قال: إن رسول الله قد مات لأعلونه بسيفي، فإن رسول الله ذهب إلى ربه أربعين ليلة كما ذهب موسى، وسيرجع وليقطعن أيدي وأرجل المنافقين، ثم جاء أبو بكر وكان في العوالي، جاء يعلمهم ويعلمنا القوة والعزم الثبات عند الحيرة والاضطراب، جاء أبو بكر ودخل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- فكشف عن وجهه الغطاء وقبل بين عينيه وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، عشت حياً وميتاً، لا يجمع الله لك الموتتين، وهذا معناه أن الموتة الأولى هي موتة الدنيا، والموتة الثانية هي الموتة التي في القبر، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم نوم العروس، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا تأتيه في البرزخ هذه الموتة؛ لأن الأنبياء أحياء، ثم خرج رضي الله عنه فقال لـ عمر: اسكت، فذهبت الحيرة والاضطراب، ثم قام على المنبر وقال: أيها الناس! إن محمداً قد مات فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا عليهم قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144]. قال عمر: فلما سمعت هذا أغشي علي، وكأني لم أسمع هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فانفض الناس، ومشوا في سكك المدينة يتلون: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، وثبت الله جل وعلا المدينة بأسرها بسبب هذا الرجل الجبل الشم الشامخ رضي الله عنه وأرضاه. موقف آخر من ثباته رضي الله عنه، هذا الموقف في صلح الحديبية، عندما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح؛ لأنه يريد من الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً، فليسمع المتنطعون الذين يقولون: انتشر هذا الدين بالسيف، والله لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع سيفه إلا في وجه العدو العاتي الذي يريد محق بركة هذا الدين الإسلامي، ومحق هذه الدعوة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح وشروطه، فقال عمر بن الخطاب حين رأى هذه الشروط، ومنها قول كفار قريش: من جاءكم منا مسلماً لا بد أن تردوه علينا، ومن جاءنا منكم لا نرده عليكم، فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: (بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال: أنا رسول الله، ولن يخزيني الله، فقال له: يا رسول الله! أما قلت لنا: إننا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، ولكن أقلت لك: هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك تأتي البيت وتطوف به)، فـ عمر لم يستطع أن يحتمل هذه الشروط، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له هذا الكلام، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله، ولن يخزيه الله، ثم قال عمر: ألم يقل لنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: أقال لك تأتي هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك ستأتي البيت وستطوف به. فـ أبو بكر لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نزل عليه وحي ولكنه توافق القلوب، فبهذا ثبت عمر وثبت الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وصدق القائل: إن لله عباداً يجعلهم لتثبيت العباد، الله جل وعلا ينصب عباداً للأوقات الشديدة الحالكة حتى يثبت بهم عباده الذين يمكن أن يرتجفوا عندما تتوالى الأمور والأحداث، وكان سيدهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. وعندما كفر من كفر من العرب، وارتد من ارتد منهم، ومنع الناس الزكاة، واشتد الأمر على المسلمين، ورمت العرب الإسلام بقوس واحدة، واشرأبت أعناق اليهود والنصارى، فكان لا بد من استئصال هؤلاء الذين يريدون القضاء على الدولة الإسلامية، ولا بد من قتلهم أجمعين، فقام أبو بكر بقتال هؤلاء، حتى إن عمر القوي في دين الله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقوى هذه الأمة في أمر الله عمر)، قال له: ارفق بالناس يا أبا بكر! فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقال له عمر: كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فإن منعوك الزكاة فلا تقاتلهم، بل ارفق بهم حتى يرجعوا إلى حظيرة الإسلام، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر: والله لقد وجدت أن الحق مع أبي بكر؛ لأن أبا بكر شد عليه وقال: أردت نصرتك فتأتيني بخذلانك! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام! والله لأقاتلنهم والله لأقاتلنهم، ثم نزل على رأيه وقاتل مانعي الزكاة، وكان هذا القتال أول تثبيت لعروش أهل الإسلام في هذه الآونة الصعبة.

إنفاذه لجيش أسامة

إنفاذه لجيش أسامة الأمر الثاني: وهو أشد من الأول، حيث كان المسلمون في قلة، والردة كثيرت قام أبو بكر فأمر أسامة على جيش حتى يؤدب القبائل العربية التي تخضع لحكم الروم، وحتى يثأر أسامة رضي الله عنه وأرضاه لأبيه زيد ولـ جعفر ولـ عبد الله بن رواحة - الذين استشهدوا في غزوة مؤتة - فأمره على جيش عرمرم، وأراد أن ينفذ هذا الجيش، فجاء الأنصار والمهاجرون يقولون: يا عمر! اذهب إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العرب قد رمتنا عن قوس واحدة، والكل ينظر إلينا، وإن المدينة ستخرب إذا ذهب هذا الجيش، أي: لا بد أن يبقى هذا الجيش مرابطاً لحماية المدينة، فقال عمر لـ أبي بكر: كيف ينفذ جيش أسامة والمدينة فيها ما فيها وأنت ترى ما ترى من ردة العرب! فقال: والله لينفذن هذا الجيش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك قبل وفاته، والله لا أغيرن أمراً أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتجلى بوضوح أن المتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم هو الفائز، ودائماً هو على الصواب، ولو خالفه أهل الأرض كلهم فإن الله سيظهر أن الحق معه، فلما علم الأنصار أنه لن يتراجع عن هذا الأمر طلبوا من عمر أن يطلب منه أن ينحي أسامة عن إمارة الجيش؛ لأنه شاب صغير فكيف يكون أميراً على هذا الجيش العرمرم، الذي سوف يذهب إلى الروم؟ فكلمه عمر، فقال: ثكلتك أمك يا عمر، قد رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المنزلة، أأضعه أنا! لا والله، إمارة الجيش لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، ثم كلمه الناس أن يجعل عمر رضي الله عنه وأرضاه معه مشيراً ومعيناً، فنزل أبو بكر لهذا الرأي، ثم ذهب مع أسامة يودعه، فغبر قدمه في سبيل الله، فقد كان يمشي على الأرض، وأسامة -أمير الجيش- يقول: يا خليفة رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، قال: لا، والله لأغبرن قدمي في سبيل الله سبحانه وتعالى، ثم أوصاه بوصايا، يا ليت أهل الكفر يسمعون هذه الوصايا، وكانت عشر وصايا أجلى ما فيها قال له: اغزوا باسم الله، كما وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا من كفر بالله جل وعلا، ثم قال: لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا طفلاً وليداً، ولا راهباً في صومعته، ولا تقلعوا شجرة، ولا تحرقوا زرعاً. هذه الوصايا لو سمعها أهل الكفر لسكتوا عما يقولون عن الإسلام والمسلمين، ولرأوا الفارق الكبير بين تعاليم الإسلام وبين ما يفعلون في حروبهم، فنحن اليوم نرى وأد البنات، قتل الأطفال، هدم البيوت، في فلسطين وفي غيرها، عجب تسمع! لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة. فبعد هذه التعاليم التي جاء بها ديننا الحنيف ما بال هؤلاء القوم الأوباش أحفاد القردة والخنازير يتهموننا بالإرهاب، وهم الذين قتلوا أنبياء الله جل وعلا، وارتقوا بعد ذلك فسبوا الله جل وعلا، ثم يتنطعون ويرموننا نحن بالإرهاب؟! أما سمعوا وصية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: لا تقتلوا وليداً، لا تقتلوا امرأة، لا تقتلوا شيخاً كبيراً، لا تقلعوا شجرة، لا تهدموا بيتاً، لا تحرقوا زرعاً؟! هذه هي الوصايا التي على كل إنسان أن يعلو صوته بها ليبين سماحة هذا الدين، وأن هذا الدين هو أعظم الأديان، وأنه الحق المبين، ومن خالف هذا الحق فله الخلود في نار جهنم، والعياذ بالله.

قوته في الحق

قوته في الحق كان أبي بكر الصديق رضي الله عنه أقوى ما يكون في الحق، كما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله كما قال له أسامة عندما جاء يشفع في المرأة المخزومية التي جحدت عارية أو سرقت، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟! والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد -رضي الله عنها وأرضاها- سرقت لقطعت يدها). فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة والعباس إلى أبي بكر، وطلبا إرث النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدك وخيبر وبعض الأموال التي كان يأكل منها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر الشفيق الرحيم، ذو الرقة واللين: والله إن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي، ولكني لا أخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وأبى أن يعطي فاطمة رضي الله عنها وأرضاها من إرث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبوة لا تورث إلا العلم والوحي، لا تورث الدنيا، ورحلت فاطمة غاضبة على أبي بكر، فوجدت في نفسها عليه، قال بعض العلماء: وجدت في نفسها؛ لأنها ما أرادت الإرث، وإنما أرادت الثمرة فقط، ولكن أبا بكر فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إن عائشة كذلك، وهي بنت أبي بكر وزوج النبي صلى الله عليه وسلم، ما أعطاها من إرث النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ً فلهذا -كما سبق-غضبت فاطمة، ولكن روى البيهقي بسند مرسل لكنه يحتج به بإذن الله، أنه لما مرضت ذهب أبو بكر إليها فترضاها فرضيت، ولما ماتت قال بعض الرواة: لم يؤذن علي أبا بكر لموتها، فصلى عليها ودفنها ليلاً، فلم يعرف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ويقال: إن علياً رضي الله عنه وأرضاه لم يخرج لمبايعة أبي بكر محاباة لـ فاطمة حتى ماتت، وكان الناس وجوههم سمحة مع علي بن أبي طالب حتى ماتت فاطمة، فتغيرت وجوه الناس عليه، فعلم أن ذلك كان بسبب مسألة أبي بكر، فذهب إليه وبايعه، وكان سيفاً من سيوف أبي بكر يضعه حيثما شاء رضي الله عنهم أجمعين. فهذا ما حدث بين أبي بكر وفاطمة، وكان الحق كل الحق مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولم يتكلم فيه أو ينتقده أحد من الصحابة الكرام، حتى علي حين خطب بالناس فقام رجل وقال: من أفضل هذه الأمة؟ فقال: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته ثمانين جلدة حد المفتري أي: الكذاب، أفضل هذه الأمة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر بن الخطاب، وسكت ثم قال: والله أعلم بعد ذلك من أفضل، فلم يكن يخير عثمان على نفسه، لكن ورد عن ابن عمر بسند صحيح أنه قال: كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل هذه الأمة بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيقرنا رسول الله، وبينت سابقاً الخلاف بين أهل السنة والجماعة في مسألة: من أفضل عثمان أم علي؟ وذكرنا أن كلمة أهل السنة والجماعة اتفقت بعد ذلك على أن أفضل هذه الأمة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.

بداية الفتوحات في عهده

بداية الفتوحات في عهده ثم حانت الفرصة لنشر الإسلام بعدما استتب الأمر وانتهت فتنة الردة، فبدأت الفتوحات قرب موت أبي بكر، فمنّ الله على أبي بكر بفتح أبواب الفتوحات الإسلامية، فقد بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه والمثنى بن حارثة إلى أهل فارس لفتح العراق، وبعث خالد بن الوليد إليهم بثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال، فبعثوا إليه وقالوا: إن أردت في كل عام أن تأتينا ثم نعطيك الدراهم والملابس لهؤلاء الرعاع فخذ منا، فبعث خالد إليهم بالكلمة المشهورة التي أرعبتهم وأخمدت عروشهم، قال خالد بن الوليد: جئتكم بأناس بحبون الموت كما تحبون الحياة، وفي رواية أخرى أنه قال: جئتكم بأناس يحبون الموت كما تحبون أنتم الخمر، ثم وقعت المعركة، وأصبح القتل يميناً ويساراً بأهل الفرس، وفتح الله على يديه العراق. ثم بعث إليه أبو بكر بأن يذهب لتأديب الروم، فكانت المعركة الكبرى التي تقابل فيها أربعون ألفاً أمام مائة وأربعين ألفاً، وهي معركة اليرموك، التي مات أبو بكر قبل أن ينتصر المسلمون فيها، فهو الذي أصر على تأمير خالد رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن عمر جاء أكثر من مرة إلى أبي بكر يقول له: اعزله، فيقول: لا والله، لا أغمدن سيفاً قد سله الله وسله رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لأقطعن عنهم وساوس الشيطان بـ خالد بن الوليد، وهذا الذي جعل ملك الروم يقول لـ خالد: من أنت؟ أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبداً؟ ذهب خالد عبر الصحراء حتى وصل الشام، ثم بعث أبو بكر إليهم بالكتاب وقال فيه: إذا جاءكم خالد فأمروه عليكم، ونزل أبو عبيدة وجميع المسلمين تحت إمرة خالد وهم أربعون ألفاً وجيش الروم مائة وأربعون ألفاً، لكن خالد كان بطل الحروب، فهو الذي لم يهزم في معركة بإذن الله، حتى في قتال المسلمين حين كان كافراً، ففي أحد كان هو سبب هزيمة المسلمين، فقد قام بخبرته العسكرية بعد اليقين بالله جل وعلا، والإيمان الراسخ، فعمل ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة، فجعل أبا عبيدة -أمين هذه الأمة- في الخلف، وجعل نفسه في المقدمة، وأحد الصحابة في الميمنة والآخر في الميسرة، ثم دخل إلى قلب الروم إلى خيمة رئيسهم، وقتل منهم ثم رجع، وهكذا أخذ بالكر والفر حتى هزم الروم، وكتب الله للمسلمين النصر، ثم جاءت البشارة إلى عمر بعدما مات أبو بكر، الذي كان سبباً في هذه المعركة الخالدة التي تبين أن النصر حليف المسلمين لا محالة، وإن كانوا أقل عدة وعتاداً، وذلك إذا تمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا صدقوا في نصرة الله وفي نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا رفعوا راية التوحيد، فلو تكالب الجن والإنس على أهل الإسلام الذين رفعوا راية لا إله إلا الله فإن النصر سيكون لأهل الإسلام، كما قال شيخ الإسلام مقعداً قاعدة عظيمة قال: إذا التقى الجيشان: فإن كانا كافرين جعل الله الغلبة للأقوى، وإن كان الجيش الأول مسلماً والآخر كافراً جعل الله النصرة لأهل الإسلام. فجعل الله النصرة في معركة اليرموك لـ خالد ولأصحابه رضوان الله عليهم؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وصدقوا في نصرة الله جل وعلا.

وفاته رضي الله عنه وأرضاه

وفاته رضي الله عنه وأرضاه حانت ساعة وفاة أبي بكر بعدما ثبت بإذن الله هذه العروش، ولذلك قال قائلهم: لولا خلافة أبي بكر لما توسعت رقعة الإسلام، ولما ثبتت عروش خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه، فبعد أن بلغ أبو بكر من العمر ثلاثاً وستين عاماً -كما كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين مات- جاءه الأجل رضي الله عنه الله عنه وأرضاه، وقبل أن يموت ضرب أروع الأمثلة في الزهد والصلاح والعدالة في الحكم، فقد كان يجلس على قطيفة من حق بيت مال المسلمين، فبعث بها إلى بيت مال المسلمين، ثم قال: إن بستاني وحائطي الذي ألزمني عمر به أتقوت منه يرد إلى بيت مال المسلمين، ثم قال: انظروا إلى ثوب تكفنوني فيه، ثم قال: كيف كفن رسول الله؟ قالوا: في ثلاثة أثواب، فقال: انظروا، قالوا: نحن جهزنا لك ثلاثة أثواب جديدة، قال: لا، انظروا إلى ملآتي هذه الخلقة القديمة، أما الجديد فالحي أحوج إليه. ثم أمر أن يكفن بهذه الأثواب القديمة، ثم بعد ذلك بعث بكل ما عنده يملك، ومن ناقة كان يشرب منها، وهو خليفة رسول الله، ومع ذلك كان له ناقة فقط، هي التي يشرب منها، ثم أمر برد الناقة الحلوب إلى بيت المال، وأمر بغلام كان يخدمه، فقال: والغلام إلى بيت مال المسلمين، فلما رأى عمر ذلك بكى بكاءً شديداً، وقال كلمته المشهورة: لقد أتعبت من بعدك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دخل عليه عثمان وهو في مرضه الشديد فقال له: اكتب، ثم أغشي على أبي بكر، فلما أفاق قال له: ما كتبت؟ قال: كتبت عمر، قال: لو كتبت عثمان لكنت لها أهلاً ولكنه عمر، ثم جاءه الناس، فقالوا: كيف تستخلف علينا هذا الشديد - عمر رضي الله عنه وأرضاه- وتعلم حدته وشدته، قال: لو سألني ربي لقلت له: استخلفت عليهم أتقاهم وأقواهم في دين الله، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رضي الله عنه وأرضاه، وصلى عليه عمر والمسلمون، ثم دفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أختم سيرة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه بكلمة لـ علي بن أبي طالب، وأرد بها على المتنطعين الهالكين، الذين يقعون في عرض أبي بكر، ويزعمون الحب لآل البيت، فقد قال علي بن أبي طالب في وفاة أبي بكر بعد أن وقف على الباب: رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناًَ، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءً، وأحفظهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحزنهم على الإسلام، وأحنهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن المسلمين خيراً، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخل الناس، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً، فقال جل وعلا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]-فالذي جاء بالحق هو رسول الله، والذي صدق به حين كذبه الناس هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه- يريد محمداً ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً وعلى الكافرين عذاباً، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك. هذا ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عن الصحابة أجمعين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل ربي جل وعلا أن تكون هذه النماذج حسنة لنا، حتى نتأسى بهم ونسير على نهجهم النقي، وجزاكم الله خيراً.

فضائل عمر بن الخطاب [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عمر بن الخطاب [1] عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إسلامه عزاً، وهجرته نصراً، وخلافته عدلاً ورحمة، وحكمة وحنكة، ضرب أروع الأمثلة في علمه وفقهه وعدله وشدة بأسه في الحق، وقوة بديهته في الفراسة والإلهام، وتحريه في اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

سيرة عمر بن الخطاب

سيرة عمر بن الخطاب

عمر بن الخطاب في الجاهلية

عمر بن الخطاب في الجاهلية الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع الشموس المشرقة، والأقمار النيرة، نقرأ في صفحات التاريخ بين سطوره فنستخرج الروائح الزكية، والنسمات العابقة من هؤلاء الأماجد الأكارم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. نحن اليوم على موعد مع خير هذه البرية، ومع خير هذه الأمة بعد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الرجل الذي فرق الله به بين الحق والباطل، مع الرجل الذي كان أقوى ما يكون في الأمة في الحق، كان حاسماً حازماً قوياً ليناً رقيقاً رضي الله عنه وأرضاه، مع عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، واسمه: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن كعب بن غالب القرشي العدوي، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن غالب. عمر بن الخطاب بلغ عمره في الجاهلية خمسة وثلاثين عاماً، ثم عاش ثلاثين سنة على الإسلام، ثبت فيها عرش المسلمين، وثبت أركان الدولة الإسلامية، وطار بأجنحته مشارق الأرض ومغاربها، يدعو إلى الله جل وعلا، وينشر دين الله جل وعلا، وقد فتحت الدنيا بأسرها وخزائن كسرى وقيصر على عهده رضي الله عنه وأرضاه. عاش في الجاهلية جلداً صلباً صلداً وكان غليظاً فظاً رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبوه الخطاب على نفس خلقه فظاً غليظاً، وكان خاله أغلظ من أبيه وهو أبو جهل عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جلداً في الجاهلية، وكان سفيراً لقريش في الأحداث أو الاختلاف بين القبائل أو الحروب، ولكنه كان مغموراً أيضاً في قريش؛ لأن مقياس الناس عند قريش في تلك الأزمنة المال والولد، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه قليل المال والولد، فكان مغموراً في قريش، ولكن الله جل وعلا أعزه بالإسلام، وأعز الإسلام به، فكان بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر السمع والبصر، وكانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مشورته رضي الله عنهما.

إسلام عمر بن الخطاب

إسلام عمر بن الخطاب أما إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه، فيذكر أهل السير قصصاً عديدة لإسلامه، فقد شهر سيفه ذاهباً إلى رسول الله ليقتله، وكان فظاً غليظاً، وكان يقول: هذا الرجل الذي جاء يفرق بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وسفه أحلامنا وآلهتنا، فأخذ سيفه مهرولاً إلى رسول الله ليقتله، فقال له رجل: إذا كنت فاعلاً فانظر إلى أهل بيتك، انظر إلى أختك وزوجها فقد صبئا. فذهب إليها فوجدها تقرأ القرآن فصفعها، فأدمى وجهها، فلما رأى الدم منها رق لها، ثم قال: أعطيني هذا الكتاب الذي بيدك، قالت: لا، إنك نجس، والنجاسة هنا نجاسة معنوية، لكنها أبت أن تعطيه الكتاب حتى يغتسل. وهنا أستأنس بهذه الواقعة على أمر مهم وهو خلاف فقهي، فالراجح أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، لا يمسه إلى متوضئ. فقالت: لا حتى تغتسل، فدخل فاغتسل، فأخذ الكتاب فقرأ: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:1 - 4]، فرق قلبه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه حمزة من بعيد قال: هذا عمر، إن جاء لخير فهو له خير، وإن جاء لغير ذلك فقتله علينا هين، فلما دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله فأخذ بتلابيبه، وقال: الآن يا عمر! الآن يا عمر! فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحققت فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، فأصابت الدعوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. كان رجلاً طويلاً إذا مشى بين الناس كأنه على بعير من طوله رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبيض مليحاً أصلع رضي الله عنه وأرضاه. بعدما أسلم عمر بن الخطاب قال ابن مسعود كلمات تحفر على السطور في منقبة عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمامته رحمة. كان إسلام عمر فتحاً، كما سنبين كيف نشر الله الإسلام بإسلام عمر، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة، لما دخل على رسول الله وأسلم ما خار، وإنما ظهرت قوته في دينه قال: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: لم الإخفاء الآن؟! لا بد أن نعلنها صراحة أننا على الإسلام والإيمان، ثم قام فصف الناس صفين فتقدم الصف الأول عمر بن الخطاب، ووضع على الصف الثاني أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب، ويتوسط الصفين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى مكة فأعلنوا الصلاة أمام قريش، فاشتاطت قريش غيظاً، وتألمت ألماً شديداً لما رأت عمر وحمزة كبيرا قريش في القوة والجلد، عمر وحمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتوسطهما. ثم بعد ذلك قام عمر فقال: من أشد الناس نقلاً للأخبار؟ قالوا: فلان، فأخذه وقال له: أما علمت أنني صبأت؟! يعني: أسلمت، فقام الرجل مسرعاً إلى جميع قريش ينادي: قد صبأ عمر! قد صبأ عمر! وهو يقول: لا، بل أسلمت! بل أسلمت! ثم قال: من أشد الناس تغيظاً لإسلامي؟! فقالوا: خالك أبو جهل، ثم ذهب إليه فقرع عليه الباب، ففتح فقال: أهلاً بابن أختي! فقال له عمر: أما علمت أنني على دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! فصفع الباب في وجهه رضي الله عنه وأرضاه تغيظاً. ومن قوته في إعلاء كلمة الله جل وعلا ونصرة الدين والحق أنه قام عند الهجرة إلى كبار قريش وسادتهم فأخذ الرماد وذره على أعينهم وقال: شاهت الوجوه! يعني: قبح الله هذه الوجوه إني مهاجر إلى ربي، فمن أراد أن تثكله أمه فليأت ورائي خلف هذا الوادي، وهاجر معلناً بهجرته رضي الله عنه وأرضاه.

زهد عمر بن الخطاب

زهد عمر بن الخطاب نعم الرجل! ونعم الصاحب! ونعم الأمير رضي الله عنه وأرضاه! كان والله عابداً زاهداً متصدقاً فقيهاً ورعاً عالماً مجاهداً، لو جلسنا شهوراً وسنين نتكلم عن هذه الشخصية الفريدة فلن نعطيها حقها. لكن اليوم سوف نتكلم مع عمر الزاهد العابد الفقيه العالم، عمر رضي الله عنه وأرضاه أوجز وأعذب وألطف ما قيل في زهد عمر ما قاله بعض المؤرخين: إن الدنيا لم ترد أبا بكر، وأبو بكر لم يرد الدنيا، لأن أبا بكر زاهد، ولم تفتح الدنيا عليه، ولا خزائن كسرى ولا قيصر فتحت عليه، قال: أبو بكر لم يرد الدنيا ولم ترده الدنيا، أما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها رضي الله عنه وأرضاه، كان يقف خطيباً أمام الناس وثوبه مرقع، كان يأكل الزيت والخبز، ويقول لبطنه بعدما يربط عليها الحجر والحجرين: قرقري كما تريدين، والله لا تأكلين إلا هذا الطعام، زيت وخبز. وكان والله متصدقاً منفقاً، لما استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام للإنفاق في سبيل الله ذهب بشطر ماله فوضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول: ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم شطر مالي، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه. كذلك لما أصاب مالاً في خيبر قال ابن عمر كما في الصحيحين: أصاب عمر مالاً ما أصاب مالاً خيراً منه، وهو سهم في خيبر، فذهب إلى رسول الله وقال: ما عندي مال خير من هذا المال، ضعه فيما شئت يا رسول الله، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون وقفاً لله، قال: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمرة). يعني: أوقفته في سبيل الله، فأوقفه عمر في اليتامى ولذي القربى والمساكين، حتى ناظر هذا الوقف جعله يأكل منه غير متمول، فكان منفقاً في سبيل الله، حتى إنه مات وعليه ديون فكلف ابن عمر أن يسدد عنه هذه الديون بعد مماته رضي الله عنه وأرضاه.

عبادة عمر بن الخطاب

عبادة عمر بن الخطاب كان والله فقيهاً عابداً، كان عمر بن الخطاب لا يترك الليل أبداً، بينه وبين ربه ساعة يخلو فيها بربه، يتذلل ويدعو الله جل وعلا ويستغفر سحراً، ويتلو كتاب ربه والناس نيام، فبعدما يرخي الليل سدوله وتغور نجومه يقوم يناجي ربه. ذات مرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فسمع عمر وهو يقرأ في صلاته بصوت جهوري، وكان قد مر بـ أبي بكر، فسمعه يقرأ بصوت منخفض، فسأل عمر: (يا عمر! سمعتك تقرأ بالأمس بصوت جهوري! فقال: يا رسول الله! -انظروا إلى القوة في الحق، انظروا إلى الجواب البديع- أوقظ النومان وأطرد الشيطان)، بالقوة يطرد الشيطان رضي الله عنه وأرضاه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض من صوته رضي الله عنه وأرضاه.

فقه عمر بن الخطاب

فقه عمر بن الخطاب كان رضي الله عنه وأرضاه عابداً زاهداً فقيهاً عالماً يحرص على طلب العلم الذي ندر في هذا الزمان، ونحن في فتن والله ليس بعدها فتن، وأقسم بربي إنه آلمني ويدمي قلب كل مسلم أن الأصاغر يتكلمون في أمر عظام يتخبطون فيها خبط العشواء، وكأنهم يتقحمون النار على بصيرة، ويتكلمون بغير علم، والمستمع لا علم له، وهذا والله الذي لا إله إلا هو ما وقع إلا بترك العلم، وتصديقاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويتخذ الناس رءوساً جهالاً، فيسألون فيفتون بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)، فتاوى تصل بالناس إلى شفير جهنم، بل تصل بالناس إلى الخروج من الدوائر الصحيحة التي يمكن أن تعتبرها في الدين بسبب الجهل، فالناس في غفلة مميتة مزرية لا يعلمون عن دينهم شيئاً، وأيضاً يتركون طلب العلم؛ لأنهم يحسبون أن العلم كلمة طيبة دون الدراسة التي تعلمهم كيف يتعبدون لله جل وعلا بتوحيد خالص دون أدنى شرك. فهذا عمر بن الخطاب أمير هذه الأمة كان طالباً للعلم، وكان يحرص على مجالس التحديث إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يعلمهم، وكان إذا شغله الزرع أو التجارة يتناوب مع أخيه الأنصاري حرصاً على العلم، فيجلس الأنصاري المجلس، فيأتيه فيقول: قد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كذا وكذا وكذا، وهو يأتي في اليوم التالي يتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقل هذا العلم إلى أخيه الأنصاري، حرصاً على العلم؛ لأنه يعلم أنه لن يرتقي عند ربه، ولن ينجو من الفتن والمحن إلا بالعلم، ولذلك شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم وحياً من الله، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام أني أشرب اللبن، حتى بلغ الري أظفاري، ثم أعطيت فضلي لـ عمر، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: أولته العلم). وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم على فضل وفقه وعلم عمر بن الخطاب، بل وعلى دين عمر بن الخطاب وورعه. كذلك جاء في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام الناس عليهم قمص -ثياب- ومنهم من يبلغ قميصه إلى ثديه، ومنهم من يبلغ دون ذلك، ورأيت عمر يجر قميصه، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: الدين)، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالدين والعلم والفقه رضي الله عنه وأرضاه، ولم لا وقد آتاه الله مقومات العلم؟! فهو المهلم المحدث تتكلم الملائكة على لسانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن قبلكم محدثون، ولو كان في هذه الأمة لكان عمر) يعني: عمر بن الخطاب هو الملهم الذي تتكلم الملائكة على لسانه. فسرها بعض العلماء بالتفرد في شدة الذكاء، وهذا في عمر حق، وفسرها بعض العلماء بأن الملائكة تتكلم على لسانه بالحق، وإليكم بيان ذلك، فقد وافق ربه في أكثر من عشرين موضعاً من القرآن، قبل أن تنزل الآية يقولها عمر كما في البخاري قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أما الأولى: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله جل وعلا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. والثانية: قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن؛ فإنه يدخل عليهن البر والفاجر، قبل أن تنزل آية الحجاب، فنزلت: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]. والثالثة: أنه لما اجتمع النساء على النبي صلى الله عليه وسلم قلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، بنفس نص الآية، فهو موفق رضي الله عنه وأرضاه. كذلك قال: وافقت ربي في ثلاث، ثم ذكر منها أسارى بدر، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وقال: نأخذ الفدية، وقال عمر: أرى يا رسول الله! أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، ولاء وبراء، تحقيق لركن التوحيد لا إله إلا الله، وعمر يشهرها علناً ولاء وبراء، قال: يا رسول الله! أرى أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، وأرى أن تعطي عقيلاً لـ علي بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وأرى أن تعطي فلان ابن أبي بكر، فيضرب عنقه؛ ليعلم أنه لا هوادة في قلوبنا، ولا محبة لأهل الشرك والكفران، عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال ذلك مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر في أخذ الفدية، فأنزل الله موافقاً لقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67] فبكى رسول الله وأبو بكر، ووافق الله جل وعلا عمر رضي الله عنه وأرضاه. كذلك عمر وافق الله في مسألة أخرى، لما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الذي قال يوم كذا كذا وكذا، يعني: في غزوة بني المصطلق لما رجع قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله تصلي على عدو الله؟ قال: (إليك عني يا عمر! فإن الله خيرني: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، فخيره فقال: استغفر لهم لعل الله يغفر لهم) فأنزل الله موافقاً لقول عمر: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]. فكان ملهماً موفقاً رضي الله عنه وأرضاه، وأنفع ما يكون من ذلك لما احتار النبي صلى الله عليه وسلم جاءه يستشيره في حادثة الإفك، فقال: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟ قال: الله) كيف زوج الله جل وعلا السيدة عائشة بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ جاءه جبريل بصورتها وقال: هذه زوجك مرتين، فقال: (إن كان الله كتب ذلك فسيقضيه)، فقال له عمر الموفق: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟! قال الله، قال: أرأيت الله يدلس عليك؟!) ما هذا الفقه؟! سبحان الله! ولذلك عقب بعدما قال ذلك، فقال: سبحانك هذا بهتان عظيم! قال: يا رسول الله! أرأيت الله يدلس عليك؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! فأنزل الله الآيات ثم ختمها بقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]، موافقاً لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه. كذلك من مقومات فقه عمر وبيان أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أفقه الصحابة على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر رضي الله عنه قال حذيفة: كأن علم الناس كان مدسوساً في قلب عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونظر إليه ابن مسعود فقال: هذا أفقه الناس بكلام الله جل وعلا. وقال أيضاً بعض الصحابة: لو وزن علم عمر في كفة، وعلم الأمة أجمعين في كفة لرجحت كفة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

عمر بن الخطاب صاحب الإلهام والفراسة

عمر بن الخطاب صاحب الإلهام والفراسة انظروا إلى الإلهام والتوفيق، قام عمر خطيباً بعدما أرسل سرية إلى العراق، وأمر على هذه السرية سارية، فلما كان يخطب الخطبة وتحته عبد الرحمن بن عوف، والناس الجموع غفيرة تنظر إلى أمير المؤمنين وهو يخطب، قطع الخطبة وقال: يا سارية الجبل الجبل! يا سارية الجبل الجبل! ثلاث مرات! فاندهش الناس وقالوا: ما باله؟! كيف يتكلم في هذا؟! وعبد الرحمن بن عوف يتأفف ويتأسف: ماذا يفعل عمر؟! ما الذي جرى له؟! فبعدما نزل عمر قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! خشيتُ أن يقول الناس شيئاً، كيف تقول: يا سارية الجبل الجبل! قال: والله لقد شعرت بأن السرية التي بعثتها انهزموا، وأن النصر لا يكون حليفاً لهم إلا إذا احتموا بالجبل، فقدم رسول الجيش فقال: يا أمير المؤمنين! انهزمنا أولاً، ثم سمعنا صوتاً مدوياً … إلخ. ولو كان عمر موجوداً في الأمة اليوم والله لانتصرنا، والله الذي لا إله إلا هو لرفعنا راية لا إله إلا الله، وكنا تحتها منتصرين أعزاء، لكن كتب الله جل وعلا أن الخيار يكون مع خير البرية؛ لأن الله جل وعلا حكيم يضع الشيء في موضعه، فهؤلاء الأماجد الأكارم لا يكونون إلا مع سيد البشر، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال: يا سارية الجبل الجبل! قال الرجل: فسمعنا صوتاً مدوياً يقول: يا سارية الجبل الجبل! فرجعنا حتى احتمينا بالجبل؛ فكتب الله لنا النصر. هذه كرامة من الله جل وعلا لعبد من عباد الله رضي الله عنه وأرضاه عمر بن الخطاب، وكان من تفرسه إذا نظر إلى الشخص يعلم أنه كذاب أو صادق، فتكلم معه بعض الناس بكلام، فكلما عرض بكلمة قال له: احذف هذه، لا تكمل هذا الكلام، فيحذفه ثم يعرض عليه بكلمة أخرى، فيقول: احذفها، فيقول: أنت كذبت فيها فيقول الرجل: نعم يا أمير المؤمنين، وهذا من تفرسه وشدة فراسته رضي الله عنه وأرضاه. كذلك الرجل الذي جاءه فقال: اسمي جمرة بن لظى بن كذا بن كذا، قال: أدرك بيتك فقد احترق، فذهب الرجل إلى بيته وقد احترق!

منهجية عمر بن الخطاب العلمية

منهجية عمر بن الخطاب العلمية كيف شرب عمر العلم وارتقى إلى هذا المرتقى الصعب؟ أقول: هناك منهجية اتخذها عمر علينا أن نأخذ بها والمنهجية موجودة حتى في السير، وهذه المنهجية التي استقى منها عمر علمه أجملها ابن القيم في قوله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كان عمر بن الخطاب مشربه الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة أو عمت مصيبة نظر في الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيها الحل، أو لم يصل اجتهاده إلى الاستنباط العالي من الكتاب والسنة، نظر في اجتهاد أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر). فكان يأخذ من الكتاب والسنة، أو من كلام أهل العلم، فإن لم يجد يجتهد رأيه رضي الله عنه وأرضاه، وإليك البيان الذي صدقه واقعاً لما طعن رضي الله عنه وضع خده على التراب ثم قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يقصد أبو بكر رضي الله عنه- وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هوخير مني، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على قوة مشرب عمر رضي الله عنه وأرضاه للعلم، وهنا قعدنا قاعدة في منهجية عمر في أخذ العلم، وهي: الكتاب والسنة، أو اجتهاد من سبقه الذي هو أعلم منه وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. أنا أقول: هذه القصة دليل على ما أقول، عندما قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف لم يستخلف من هو خير مني، فقال ابن عمر: فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف، فهو نظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أن الرسول لم يستخلف، ووجد أن أبا بكر قد استخلف، فهو قال: من أقدم أبو بكر أو الرسول صلى الله عليه وسلم؟ يجوز أن يستخلف لأن أبا بكر سنته متبعة؛ لأنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتعداها أحد، ولذلك قال ابن عمر: فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف؛ لأنه يقدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، وجعلها مشورة في الستة الذين وقع الاختيار عليهم. كذلك من دلائل علم عمر وفقهه العالي أنه لا يتكلم إلا إذا وجد دليلاً ناصعاً صادعاً علم به، ولا يتكلف؛ لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، فكان يسير هو وعمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فوجد حوضاً يريد الشرب والوضوء منه، فقال عمرو: يا هذا! أترد السباع هذا الحوض؟ فقال عمر: يا هذا! لا تجبه فإنه متكلف، وقد قال الله تعالى آمراً نبيه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، ويستدل الفقهاء بهذا الفعل من عمر على تقعيد قاعدة مهمة جداً (اليقين لا يزول بالشك) يعني: هو في شك من مرور السباع، ولكن عنده يقين على أن الماء الذي في الحوض ماء طاهر، فلا يزول هذا اليقين بالشك، فانظروا إلى فقه عمر رضي الله عنه وأرضاه! كذلك من فقهه البديع مع أحفاد القردة والخنازير أنه -انظروا إلى فقهه وهو ينظر إلى الشرع والقدر ويصدق الشرع والقدر- جاء إلى يهود خيبر، فأمر بإجلائهم، فجاءه كبيرهم، فقال: أنت تخالف أبا القاسم، فقد ضرب لنا عهداً على خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاطرهم على العمل، وأقرهم على الأرض فيعملون ويزرعون ولهم الشطر، فقال له عمر -كما في الصحيحين: أظننتني قد نسيت أن رسول الله قال: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك) يعني: تمشي بك بعيرك تخرج من هذه البلاد، قال: إنما كانت مزحة من أبي القاسم، فقال: خسئت وكذبت؛ فإن الرسول لا يقول إلا حقاً. كذلك من فقهه البديع أنه قال له: أقركم ما أقركم الله جل وعلا، وقال: قد أقركم رسول الله، وأقركم أبو بكر، وشاء الله أن أجليكم. فطبق الشرع على القدر بحديث آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وفي الحديث الآخر في مسند أحمد: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب). فأول هذا الحديث بأن المشيئة هنا مشيئة كونية قدرية والفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية أن الكونية تكون فيما يحبه الله وما لا يحبه كمشيئة الله في خلق إبليس، وإبليس لا يحبه الله، وكمشيئة الله لعلو الكفرة على المسملين، وهذا لا يحبه الله جل وعلا، لكن شاءه كوناً لحكمة عظيمة، وربك حكيم خبير. كذلك المشيئة الكونية لا بد أن تقع، فقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن أهل الكفر تكون لهم الدولة على أهل الإسلام لحكمة عظيمة عند الله جل وعلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لن تختم الدنيا حتى يعود الإسلام غريباً كما بدأ غريباً. فـ عمر بن الخطاب نظر فوجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجهم، فقال: هذه مشيئة شرعية وطبقها، فوافقت المشيئة الكونية، فالأصل أن عمر رضي الله عنه وأرضاه من فقهه قال: هذه المشيئة ليست مشيئة كونية، هي مشيئة شرعية يقصد أنه أمر ونهي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، فأجلاهم رضي الله عنه وأرضاه. كذلك من فقه عمر العالي أنه يسوس الناس بسياسة شرعية حتى يقطع دابر المعصية والتعدي على حدود الله، مثال ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب على شرب الخمر ويجلد عليه أربعين، وأبو بكر جلد عليه أربعين، وصدر من خلافة عمر كان يجلد عليه أربعين، حتى جاءه علي فقال: إن الذي يشرب الخمر يهذي، فإذا هذي افترى، وحد المفتري ثمانين؛ فجلده ثمانين رضي الله عنه وأرضاه، فهذه سياسة شرعية حتى يحد من التعدي لحدود الله جل وعلا، واستنبط العلماء من هذا أن ولاة الأمور لهم أن يأمروا بأمر فيكون واجب السمع والطاعة إن كان تحت دائرة الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وما قال: وأطيعوا أولي الأمر، فعلى المرء بالسمع والطاعة لأولي الأمر مقيداً بالمعروف: (إنها الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق). كذلك في حكم الطلاق ثلاثاً، كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق طالق طالق في مجلس واحد، أو قال لها: أنت طالق بالثلاث، تحسب طلقة واحدة، وفي عصر أبي بكر تحسب طلقة واحدة، فجاء عمر وقال: اجترأ الناس على أمر كان لهم فيه سعة، لأمضينه عليهم، فجعل الطلاق ثلاثاً واقعاً وتبين منه بينونة كبرى، فهذه سياسة شرعية يسوس بها الناس؛ حتى تقام حدود الله جل وعلا. إن مواقف عمر البطولية وقوته في ضرب الأعداء وقتاله مع رسول الله حفاظاً على حياته صلى الله عليه وسلم، وجوانب العظمة في سياسة عمر وعدله، والقصص البديعة التي تبين هذا العدل الذي قال فيه عامل الروم لما دخل وسأل عن أمير المؤمنين، فأشاروا إليه تحت شجرة، قال: أريد قصر أمير المؤمنين، قالوا: هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان يتوسد نعله تحت الشجرة؛ فقال: هذا أميركم؟! قالوا: نعم، هذا أميرنا، فقال: يا عمر حكمت فعدلت؛ فأمنت فنمت. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.

فضائل عمر بن الخطاب [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عمر بن الخطاب [2] لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلاً كانوا نبراساً للحياة، وقدوة يقتدى بهم في جميع جوانب الحياة، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي تمثلت شخصيته في العدل والإنصاف والقوة والثبات والحلم والأناة، فعلى المسلم أن يقرأ سيرهم ليأخذ الدروس والعبر منها، وتكون له نبراساً في حياته.

مواقف من عدل عمر بن الخطاب

مواقف من عدل عمر بن الخطاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الإخوة الكرام! ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي، في الكتاب الأخير، والكلام عن فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما زلنا مع الخليفة الثاني - الفاروق - الذي فرق الله به بين الحق والباطل، ونصر الله به الدين، ورفع به رايته، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فج عمر)، وقد لقي عمر الشيطانَ في أحد جهات المدينة فتصارعا فصرعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. فلنقف مع جوانب العظمة في شخصية هذا الخليفة الفذ الراشد رضي الله عنه وأرضاه، فمن جوانب العظمة في شخصية الفاروق رضي الله عنه وأرضاه؛ العدل البشري الذي بلغ المنتهى في الكمال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد خليفته أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فالعدل صفة من صفات الله جل وعلا، والله جل وعلا يحب أن يرى آثار هذه الصفات بأن تظهر على عباده جل وعلا، فالله رفيق يحب كل رفيق، والله جميل يحب كل جميل، والله عدل يحب كل عدل، ويحب العدل في الأقوال، وفي الأفعال. عمر رضي الله عنه وأرضاه ضرب لنا أروع الأمثلة في مسألة العدل، التي هي صفة من صفات الله جل وعلا، فقد تخلق بهذا الأثر في نفسه ثم في أهله ثم في رعيته حتى انتشر العدل في الرعية، وأروع هذه الصور ما شهد به الأعداء، فإنه لما دخل مبعوث الروم الكفرة يسأل عن قصر خليفة المسلمين -قصر عمر بن الخطاب - فقيل له: هذا أمير المؤمنين، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يتوسد نعله تحت ظل شجرة، فذهب فوجد عمر بن الخطاب يتوسد نعله تحت ظل شجرة، فتعجب الرجل مندهشاً، ثم شهد بالفضل لهذا الفاروق وقال: يا عمر! حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت، يا لها من كلمات تحفظ في الصدور وتكتب بماء الذهب. فانظروا إلى عدل عمر رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة وفي غيره، فإنه كان لا يرتدي إلا اللباس العادي، وكان لا يرتقي ولا يتكبر على عباد الله جل وعلا، ولا يأكل إلا من أكلهم بل أدنى من أكلهم. وانظروا إلى قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فإنه بعد ما قتل أهل فارس وهدم الله عروش كسرى على يد عمر رضي الله عنه كما سنبين في -إحدى المعارك في أراضي فارس- قبل القادسية أو عند القادسية، انتصر المسلمون وغنموا غنائم كثيرة، واشترى ابن عمر هذه الغنائم من أصحابها؛ لأنه عندما تقسم الأسهم فإن كل من أخذ الغنيمة يمتلكها، فله بعد ذلك أن يبيعها، أو أن يهديها، فاشترى ابن عمر من أصحاب الغنائم غنائمهم بأربعين ألفاً، وذلك من أجل أن يتاجر فيها، فلما أقبل على عمر سأله من أين لك هذا؟ قال: اشتريت الغنائم بأربعين ألفاً، قال: قام الناس فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله، وابن أمير المؤمنين، وأحب الناس إليه، قد أرخصوا لك فيه، والله لا تربح عليها إلا كما يربح التجار في قريش، درهم لكل درهم، فأخذ الغنائم فباعها بثمن كثير، ثم أعطاه درهماً على كل درهم، يعني: ثمانين ألفاً، ثم أخذ الباقي فبعثه إلى سعد بن أبي وقاص وقال: وزعه على الناس أو في مصالح المسلمين. مثال آخر من أمثلة العدالة أو العدل الذي انتشر في عصر عمر رضي الله عنه وأرضاه، جاء قوم إلى عامل من عمال عمر فأكرمهم أيما إكرام، ثم أعطى السادة وترك الموالي، فبعث إليه عمر يبين له العدل والسوية، وأن لا فرق بين الناس إلا بالتقوى، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فلا فرق بين سيد وعبد، ولا فرق بين أبيض وأسود، ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، كان هذا هو ميزان العدل عند عمر، فبعث إليه فقال: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، فهلا ساويت بينهم؟ يعني: هلّا أعطيت كل واحد من السادة والعبيد ولم تفرق بينهم؟ وأروع من ذلك حادثة عمرو بن العاص حينما كان والياً على مصر، فتسابق ابنه مع قبطي، فسبقه القبطي، فغضب ابن عمرو وضربه بالسوط، وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فعلم القبطي عدل عمر فذهب إليه يشتكي فقال: ضربني ابن الأمير، فبعث عمر بن الخطاب برسالة صارخة يوبخ فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه بكلمات شديدة، مع أن الشكوى جاءت من قبطي، فانظروا إلى سماحة الإسلام، إلى الحرية بحق، إلى العدالة بحق، إلى السماحة بحق، كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إلى عمرو بن العاص فقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراًً؟ عزمت عليك أن تأتي أنت وولدك، فذهب عمرو بن العاص مذعوراً فأتى بابنه حتى مثل أمام الخليفة، وعنده القبطي، فلما أقر ابن عمرو بن العاص بما فعل، قام عمر بن الخطاب وقال للقبطي: قم، فقام القبطي فأعطاه الدرة أو السوط، وقال قل له: خذ وأنا ابن الأكرمين، واضربه، ثم قال لـ عمرو بن العاص: اخلع عمامتك، وقال للقبطي: اضربه على صلعته؛ لأنه أباح لابنه أن يضربك، ويتعدى حقه، وهذا فيه تأنيب وتعزير لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه ترك المجال لابنه أن يضرب هذا القبطي، وإن كان تحت إمارته، وإن كان كافراً؛ لأن الظلم لا يقبل، فقال الرجل: قد أخذت حقي يا أمير المؤمنين، وهذه من أروع الصور التي تمثل عدل عمر رضي الله عنه وأرضاه، ولو تكلمنا كثيراً عن عدل عمر لن ننتهي، ولكن هذه نبذ يسيرة من الصور التي تبين عظمة شخصية هذا الفاروق.

تعامله مع أهل الكتاب

تعامله مع أهل الكتاب من جوانب العظمة في شخصية عمر: حسن تعامله مع أهل الكتاب، فإنه كان يعرف كيف يفرق بين الناس، ويتعامل بموازين الحق مع كل البشر، فتعامل مع أهل الكتاب على حسب نوعهم كما جاء في كتاب الله جل وعلا، فإنه سبحانه وتعالى قد قسم لنا أهل الكتاب إلى ثلاثة أقسام: قسم هم أهل حرب يقاتلون أهل الإسلام، ينفقون أموالهم ليلاً ونهاراً ليصدوا عن سبيل الله، يقاتلون من قال: لا إله إلا الله، يحاربون من ينشر دعوة الله جل وعلا، فهؤلاء جاء فيهم قول الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:14]، وقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، وقوله جل وعلا: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا السيف، ولا ينفع معهم إلا قطع الرقاب؛ لأنهم واجهوا الله جل وعلا، وواجهوا دين الله جل وعلا، وصدوا عن سبيل الله جل وعلا، وسنرى كيف تعامل معهم عمر رضي الله عنه وأرضاه. القسم الثاني من أهل الكتاب: هم أهل ذمة وعهد، وهؤلاء هم قوم في بلادنا -في أرض الإسلام- وتحت أيدينا، فلهم خيار من ثلاثة خيارات: إما القتل، وإما الجزية، وإما الإسلام، فإن أبوا الإسلام وقالوا: نجلس تحت أيديكم، يحكم علينا شرع الله جل وعلا، وحكمكم نافذ فينا، وأنتم تقاتلون عنا، وندفع لكم الجزية، فهؤلاء هم أهل الذمة -أهل الجزية- يدفعون الجزية، ولهم شروط كما سنبين الشروط العمرية على أهل الجزية. القسم الثالث من أهل الكتاب: قوم هم أهل حرب على المسلمين، لكن طلبوا الأمان من أهل بلدة من بلاد الإسلام، مثل رخص الدخول من جوازات وفيز وغير ذلك مما يسمونه الآن، فهذا يعتبر عقد أمان لهم؛ لأنهم يدخلون بتصريح من ولي الأمر، فهؤلاء أهل أمان وليسوا أهل ذمة، وهم في الأصل أهل حرب، ولذلك فأمانهم لا بد أن يكون مؤقتاً لا على الديمومة، فهؤلاء يكون لهم الأمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، فأقل واحد لا بد أن يوفي بهذه الذمة، لكن للمسلمين الاستفادة منهم، بأن يضربوا عليهم الأعشار، ويفرضوا عليهم الضرائب في تجارتهم، كما فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه.

تعامله مع المحاربين من أهل الكتاب

تعامله مع المحاربين من أهل الكتاب ذكرنا أن أهل الكتاب ثلاثة أقسام، القسم الأول: قوم حاربوا دين الله جل وعلا، وهم حرب على أهل الإسلام، وأنفقوا ما لهم من أجل الصد عن سبيل الله، فهؤلاء كيف تعامل عمر معهم رضي الله عنه وأرضاه؟ هؤلاء لا ينفع معهم إلا السيئ، هؤلاء لا ينفع معهم إلا الشدة، ولا نقول: هذا مناف ومضاد لسماحة الإسلام، أو للدين الحنيف، أو للرأفة التي أمرنا الله جل وعلا أن نتعامل مع الناس بها، ونحن نعلم أن أحب القلوب عند الله ألينها وأطيبها وأرحمها بالناس، ولكن تجاه من كفر بالله ورسوله، وحارب الله ورسوله والذين آمنوا، يجب ألا يكون في قلب المسلم لهم رحمة ورأفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الرحيم الرءوف، ومع ذلك كان يقاتل أهل الكفر، وأهل الزيغ والبطلان، فـ عمر بن الخطاب شد وطأته على أهل الكفر، ونصر الله به الإسلام، وبه رفعت راية لا إله إلا الله ترفرف خفاقة عالية في أرض فارس، وفي الجبهة الغربية، وقد هاجم الروم، وهاجم الفرس. أما نحو المشرق فمعارك طاحنة حدثت بين المسلمين -تحت راية عمر بن الخطاب - وبين أهل فارس، وأقوى هذه المعارك هي معركة القادسية، فهي المعركة الفاصلة بين راية الحق وراية الباطل، فهدم الله عرش كسرى على يد عمر بن الخطاب، حتى إن كنوز كسرى كلها جاءت إلى عمر بن الخطاب، فلما نظر إليها بكى وقال: قوم يؤدون هذه الكنوز إنهم لأمناء! فقال علي بن أبي طالب بعد ما بكى عمر: يا أمير المؤمنين! كنت عدلاً فكانوا كذلك، وكنت أميناً فكانوا كذلك، رضي الله عنهم أجمعين، ففي هذه المعركة كانوا قد تشاوروا أن يؤمر عليهم عمر، لعل الله أن يفتح عليهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: ابق هنا يا أمير المؤمنين، إن حدث لك شيء فجع المسلمون بك، فأمر عليهم من ترى وتختار، فقال عمر: إذاً فاختار أنت، قال: ما هو إلا خال رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، ولذلك قال علي بن أبي طالب: ما جمع النبي صلى الله عليه وسلم أباه وأمه لأحد إلا لـ سعد بن أبي وقاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (هذا خالي فليرني أحدكم من خاله) يعني: افتخاراً بهذا الخال، فقام عمر وكتب إليه: لا يغرنك قول الناس: هذا خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنك طاعتك، واعلم أنك تواجه قوماً أصحاب عدة وعتاد، وبينكم وبينهم الطاعة والمعصية، هم يعصون الله جل وعلا، فإن عصيتم الله استويتم في المعصية، وكانت الغلبة للأقوى، وهم الأقوى عدة وعتاداً، وإن التمست ما عند الله جل وعلا فإنما عند الله لا يؤخذ إلا بطاعته، فأنتم لا تقاتلون القوم بعدة ولا عتاد، وإنما تقاتلونهم بالإيمان، فأخذ سعد بن أبي وقاص بهذه النصيحة وجعلها نصب عينيه، ثم قال له: أرسل إليه بالوفود، لعل الله جل وعلا يهديه على يدك، فاختار أكثر من نقيب حتى تكون سفارة بليغة تذهب إلى رستم قائد الفرس، لعل الله جل وعلا يهدي قلبه إلى الإسلام، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فبعث إلى رستم، ربعي بن عامر، وما أروع ما قاله ربعي! ذكر أهل العلم أن رستم كان عنده الملك الكثير من الفرش الوفير والذهب، والقوارير والفضة، وكانت له السطوة على العرب والكلمة الكبرى عليهم، وكانت دولته أكبر قوة في العالم، فدخل ربعي ساخراً من هذه القوة والفخامة والقدرة، دخل عليهم ومعه سيف صغير ورمحه وبغلته، دخل يمزق برمحه هذه الفرش الوفيرة، وهم يتعجبون من جراءته، فمنعوه فقال لـ رستم: طلبتموني، فإن أردتموني دخلت بما أنا عليه وإلا رجعت أدراجي، فقال: اتركوه، فدخل بعزة الإسلام، وبقوة المسلم، ثم قطع وسادة وربط بغلته، ودخل بالسيف، فنظروا إليه وضحكوا وقالوا: ما هذا السيف؟! سيف صغير ماذا تفعل به؟ فنظر إليهم مزدرياً قولهم مبيناً قوة وثبات وجأش المسلمين، وقال لهم: سيف صغير أتقدم به في نحور الأعداء ولا أفر ولا أتأخر، فخاف القوم، ثم دخل على رستم، فقال له رستم وهو متعجب من حاله: من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فقال بعزة المسلم: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، كلمات توضع على الجبين، وتحفر على الصدور بماء الذهب، كلمات من رجل يلبس الرداء الرث، يسير ومعه السيف الصغير، لا عدة ولا عتاد، لكنها قوة كمنت في القلب، إنها قوة الإيمان والعقيدة. قال: نحن عباد لله، أهم عزة وأشرف عزة هي العبودية لله جل وعلا، لا أطأطئ رأسي ولا أتذلل إلا لربي جل وعلا، ولا أنصر إلا دين الله جل وعلا، قال: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج عباد الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، لك إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، فلك ما لنا وعليك ما علينا، ولك نصرتنا في الدين، وتخرج وترجع إلى بلادك أميراً على أصحابك، قال: ما الثانية؟ قال: تعطي الجزية عن يد وأنت صاغر، قال: وإن لم تكن هذه؟ قال: المنابذة، السيف بيننا وبينك، ثم بعدما رحل قام رستم فقال: أرأيتم ما يقول الرجل! تعجباً مما فعل وقال، فازدروا فعله وقوله، فدخل عليهم المغيرة فقال لهم مثلما قال ربعي، فعلم رستم أن هؤلاء القوم ليسوا بالهينين، بل لهم قوة، هذه القوة كامنة في الإيمان الذي يحملونه في قلوبهم. وحدثت الكرامات لهذا الجيش بفضل الله جل وعلا، فهم الطائفة المؤمنة التي تقاتل من أجل دين الله جل وعلا، وترفع راية لا إله إلا الله، ومن هذه الكرامات ما حدث معهم عند عبور البحيرة فقد كانت بينهم وبين جيش رستم بحيرة، فأخذ سعد يفكر كيف نصل إلى القوم؟ فقال لـ سلمان الفارسي: أنت الذي خططت للنبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فانظر كيف نصل إلى هؤلاء؟ فقال: دعني أنظر، فدخل يبحث في القوم ليلاً، فوجد أصحاب الرايات الحقة قياماً يتلون كتاب الله جل وعلا، ويذكرون الله ويستغفرونه في السحر، ووجدهم فرساناً في النهار، كما قال عامل الروم لملك الروم: رأيتهم رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، فهم يأخذون بالسبب المادي مع وجود السبب الشرعي الذي هو الأصل الأصيل لهذه الأمة، فلما نظر سلمان إلى هؤلاء ورأى حالهم هذه قال لـ سعد: والله لقد رأيت هؤلاء رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، وقد رأيت قوم موسى أدنى من هؤلاء، وقد أمر الله البحر فانشق من أجل قوم موسى، وأنتم والله خير من قوم موسى، ويصنع الله لكم أفضل مما صنع لقوم موسى، فتوكل على الله بإذن الله، وشق البحر، فاقتنع سعد بكلام سلمان، وعلم أن الكرامات تنزل على أولياء الله الذين ينصرونه، وينصرون دينه، فقام سعد وركب فرسه، ثم نزل إلى البحيرة باسم الله، فكأنه يمشي على أرض صلبة، فقد جعل الله جل وعلا البحر كأنه أرض صلبة، ودخل الجيش وراء سعد حتى دخلوا على جيش كسرى وقتلوهم شر قتلة، وقتلوا رستم، وأعلى الله الدين بهؤلاء الذين نصروه، فنصرهم الله مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، هذا شرط شرطه الله جل وعلا، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولذا فإن الله جمع كل كنوز كسرى للمسلمين عندما صدقوه ونصروه، ودخل بها الساعي إلى حجر الكعبة وقال: رجحت راية لا إله إلا الله على أرض فارس، هذا أول مشوار عمر وفتوحاته مع أهل الكفر الذين أنفقوا أموالهم صداً عن سبيل الله جل وعلا. أما في الجهة الغربية -نحو الشام- فإن الله فتح عليه الشام بما فيها القدس، وكذلك مصر، فبعد أن نصر الله المسلمين في أجنادين بقيادة عمرو بن العاص، ظهروا على بيت المقدس وحاصروها، وكان على بيت المقدس رجل من الروم لقبه أرطبون الروم، وكان داهية الروم، فقال عمر قولته المشهورة -كما قال أبو بكر: لأقطعن وساوس الشيطان عن الروم بـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه -قال عمر: لأضربن أرطبون الروم بأرطبون العرب، وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فحاصر المدينة وتم حصار القدس، لكن أرطبون الروم بعث إلى عمرو بن العاص أو إلى أبي عبيدة -اختلفت الروايات- وقال: هذه المدينة لا تفتح إلا برجل واحد صفته عندنا الخليفة عمر بن الخطاب، فاستشار عمر الناس، فقالوا له: لا بد أن تذهب لعل الله يفتح على يديك هذه المدينة، فذهب عمر -الفاروق أمير المؤمنين الذي ملكه الله مشارق الأرض ومغاربها- على بعير واحد فقط هو ومولاه، يتناوبان على البعير، نوبة يمشي فيها عمر ويركب المولى، ونوبة يمشي فيها المولى ويركب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، حتى وصلا إلى بيت المقدس وكانت النوبة في المشي والأخذ بخطام البعير لـ عمر بن الخطاب، والمولى هو الذي يركب، فاستاء أبو عبيدة بن الجراح لما رأى هذا من عمر بن

تعامله مع أهل الذمة والشروط العمرية عليهم

تعامله مع أهل الذمة والشروط العمرية عليهم ذكرنا تعامل عمر رضي الله عنه وأرضاه مع صناديد الكفر، الذين أنفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فكيف كان تعامل عمر مع الطائفة الثانية، التي قال الله جل وعلا فيها: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، يعني: تحسنوا المعاملة معهم، وهم أهل الذمة، أو أهل الجزية، هؤلاء هم الذين رفضوا الإسلام، ولكن رضوا بدين الله جل وعلا أن يكون حاكماً عليهم، ورضوا أن يكونوا تحت قيادة المسلمين، وأن يدفعوا الجزية؟ عمر رضي الله عنه وأرضاه وضع لهم مكانة، وبين لهم حدوداً يتعامل فيها المسلم معهم، فاشترط عليهم شروطاً أنقلها لكم إجمالاً، هذه الشروط هي: أباح لهم حرية العبادة؛ لأن الله تعالى يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فأباح لهم أن يعبدوا الله جل وعلا على طريقتهم، لكنه منعهم من إظهار شعائرهم، فحرم عليهم أن يظهروا صليباً، أو يدقوا ناقوساً، أو يرتدوا زياً كزي المسلمين، وذلك حتى يتميزوا عن المسلمين، أيضاً لا يشربوا خمراً أو يبيعوها بين المسلمين، ولا يأكلوا خنزيراً علناً، لكن في بيوتهم لهم أن يفعلوا ذلك، وأن يعطوا الجزية وهم صاغرون. فهذه هي الشروط التي اشترطها عمر، والتي سميت بالشروط العمرية، ولا تحتاج إلى البحث عن أسانيدها؛ لأن الأمة تلقتها بالقبول، وشهرتها عالية جداً، قال الخلال في كتاب (أحكام أهل الملل): عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: اتخذت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حين صالح النصارى -أهل الكتاب- وشرط عليهم فيه أولاً: ألا يحدثوا في مدينتهم، ولا في ما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا بيعاً ولا صوامع، إذاً أول شرط من هذه الشروط عدم الإحداث، يعني: تبقى الكنيسة التي كانت موجودة كما هي، لكن يمنعون من إنشاء كنيسة جديدة، ومن إنشاء صوامع بيع جديدة، وإذا هدمت الكنيسة القديمة لا تنشأ مكانها كنيسة جديدة؛ لأن هذا فيه إضمار للرضا بما هم عليه من كفر، فنقول لهم: تعبدوا بطريقتكم لكن لا تعلنوا بكفركم أمام المسلمين، وكل هذا فيه قمع للدين الباطل، وإظهار للدين الحق. الثاني: ألا يمنعوا أحداً من المسلمين من النزول في هذه الكنائس، وعليهم طعامهم وإيواؤهم، إذاً: إذا مر عليهم مسلم وجب عليهم ضيافته ثلاثة أيام، ويدخل المسلمون الكنيسة ويجلسون في ساحتها، ولهم أن يصلوا فيها، فهذا فيه جواز الصلاة في الكنائس، قال: ولا يئووا جاسوساً؛ لأنهم إذا آووا جاسوساً فقد انتقض عقد الصلح بيننا وبينهم. قال: ولا يؤذوا مسلماً؛ لأن أذى مسلم واحد تنتقض به الذمة، قال: ولا يكتموا غشاً، يعني: لا يضمروا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يضمروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام، ولا يردونهم إلى النصرانية. قال: وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم، وإذا أراد المسلم الجلوس قام النصراني من مكانه وجلس المسلم، احتراماً لدينه، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه). قال: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، والآن المسلم هو الذي يتشبه بالكافر، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال: ولا يتسموا بكنى المسلمين، ولا يركبوا فرساً، ولا يتقلدوا سيفاً، حتى لا يظهروا قوتهم، ولا يظهروا كبراً، ولا مكانة أمام المسلمين، ولا يبيعوا لحم الخنازير، وأن يشدوا الزنار على أوساطهم، ولا يظهروا شيئاً من كتبهم بين المسلمين، إلى آخر هذه الشروط التي اشترطها عمر بن الخطاب، وقد ضرب هذه الشروط، فإن اختل شرط واحد منها فقد انتقضت الذمة، وأصبحوا من المحاربين، ولا بد أن يبلغوا مأمنهم، ثم يشهر في وجوههم السيف.

تعامله مع أهل الأمان

تعامله مع أهل الأمان أما القسم الثالث: وهم أهل الأمان: فإن عمر تعامل معهم بأن أدخلهم على بلاد المسلمين تجاراً، ومنعهم من مكة والمدينة والحجاز، وأجلى يهود خيبر -كما بينا في فقه عمر - وفرض عليهم ضرائب، ونستفيد من هذا أنه يجوز أخذ المال من الكافر إذا كنت كفيلاً له في بلاد المسلمين، كما ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الضرائب على أهل الكفر عندما مروا على ديار الإسلام يتاجرون ويستفيدون من أموال المسلمين، فللمسلم أن يستفيد منه بوجوده بعهد الأمان في البلاد الإسلامية.

وفاته رضي الله عنه وأرضاه

وفاته رضي الله عنه وأرضاه أختم حديثي هذا بالحديث عن وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قد تمنى الشهادة، ودعا الله كثيراً بهذا، وفي يوم استلقى على ظهره في البطحاء فقال: رب! قد كبر سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. هذه أمنية لأمير المؤمنين الذي ملأ الأرض صدقاً وعدلاً، وملكه الله مشارق الأرض ومغاربها، وقد تحققت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عندما اهتز أحد: (اثبت أحد، فإن عليك نبياً، وصديقاً، وشهيدين)، ويقصد بالشهيدين عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، وقد قتل شهيداً، قتله أبو لؤلؤة المجوسي بخنجر مسموم؛ لأنه اشتكى من المغيرة فقال له: اتق الله في مولاك، فغضب هذا المجوسي وأخذ خنجراً مسموماً، وقتل عمر في صلاة الفجر بعد أن كبر تكبيرة الإحرام، فقال عمر: قتلني الكلب، ثم استخلف عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، فأخذه ابن عمر على فخذه فقال: دع وجهي، أو ضع خدي على التراب، لعل الله جل وعلا أن يرحمني، فلم يفعل، فقال: ويح أمك ضع خدي على التراب لعل الله جل وعلا أن يرحمني، ثم إنه عند موته لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد دخل عليه رجل، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: يا بني ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك. وقال له ابن عباس: أبشر يا أمير المؤمنين، والله لقد كنت عدلاً وأميناً، ثم عدد فضائله، فقال: أتشهد لي بذلك عند ربك يوم القيامة؟ قال: والله أشهد بذلك، فقال عمر: ليتني خرجت منها لا لي ولا علي. ثم قال لـ ابن عمر: أحب ما يكون إلي أن تستأذن لي عائشة رضي الله عنها وأرضاها، تقول لها: عمر بن الخطاب، ولا تقل: أمير المؤمنين، فلست الآن بأمير المؤمنين، فقال: قل لها: عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فذهب ابن عمر إلى عائشة فسمعها تبكي على عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فقالت عائشة: كنت أريد هذا لنفسي، فآثرت عمر بن الخطاب على نفسها، ووافقت، ودفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع صاحبيه. قال علي بن أبي طالب بعد أن مات عمر بن الخطاب: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، يعني: بمثل عمل عمر بن الخطاب، فايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، فإني كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وجئت أنا وأبو بكر وعمر)، دعوت الله أن يحشرك مع صاحبيك، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فرحم الله الفاروق. وقبل أن يموت لم يستخلف أحداً من بعده؛ لأنه أراد ألا يكون العبء عليه، وقال: إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني - أبو بكر - وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعل الأمر شورى بين الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم: عبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله - طلحة الخير- والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وترك سعيد بن زيد مع أنه من العشرة المبشرين بالجنة؛ لأنه من ذوي القرابة، وأيضاً عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يقل فضلاً عن هؤلاء الستة، لكنه لم يكتبه معهم؛ لأنه خشي عليه من تبعات هذه المسئولية، لكنه قال: يشهد المشورة عبد الله بن عمر، وإذا اختلفتم إلى ثلاثة وثلاثة، فـ عبد الله بن عمر يفصل بين الثلاثة، حتى وصلوا إلى الاتفاق على خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

الأسئلة

الأسئلة Q كم قتل أبو لؤلؤة بعدما طعن عمر؟ وماذا حدث له بعد ذلك؟ A لقد كان الخنجر الذي مع أبي لؤلؤة له رأسان، فبعدما قتل عمر بن الخطاب قام في الصفوف هائجاً وطعن به ثلاثة عشر شخصاً، فمات منهم سبعة، ثم قام بعض الصحابة الذين من ذوي المهارة فألقوا عليه ثوباً، فلما علم الخبيث أنهم سيمسكون به نحر نفسه بالسم فمات متردياً عليه من الله ما يستحق.

عدد من قتلهم أبو لؤلؤة المجوسي من المسلمين عندما قتل عمر

عدد من قتلهم أبو لؤلؤة المجوسي من المسلمين عندما قتل عمر Q كم قتل أبو لؤلؤة بعدما طعن عمر؟ وماذا حدث له بعد ذلك؟ A لقد كان الخنجر الذي مع أبي لؤلؤة له رأسان، فبعدما قتل عمر بن الخطاب قام في الصفوف هائجاً وطعن به ثلاثة عشر شخصاً، فمات منهم سبعة، ثم قام بعض الصحابة من ذوي المهارة فألقوا عليه ثوباً، فلما علم الخبيث أنهم سيمسكون به نحر نفسه عليه من الله ما يستحق.

سبب قتل أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه

سبب قتل أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه Q ما أصل أبي لؤلؤة؟ وما سبب المشكلة التي أدت إلى قتل عمر؟ A أبو لؤلؤة مجوسي الأصل، كان عبداً من موالي المغيرة بن شعبة، وكان سبب المشكلة أن المغيرة بن شعبة كان يطلب منه أن يعمل مقابل أربعة دراهم في اليوم، والباقي له؛ لأن العبد لا يملك فالمال مال لسيد. فاستثقل الأربعة الدراهم، فاشتكى إلى عمر، فقال له: اتق الله في مولاك، فغضب، وسارع في قتل عمر؛ لأن هذا كان قدراً مقدوراً.

حكم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير بالنسبة لأهل الذمة في بلاد المسلمين

حكم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير بالنسبة لأهل الذمة في بلاد المسلمين Q ما حكم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير بالنسبة لأهل الذمة في بلاد المسلمين؟ وماذا يفعل من رآهم يفعلون ذلك؟ وهل يجوز للمسلم أن يبيع الخمر والخنزير لهم؟ A بالنسبة لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير من قبل أهل الذمة؛ فإن كانوا يفعلون ذلك خفيةً في بلاد المسلمين دون أن يعلم المسلمون بذلك، فلا شيء عليهم في ذلك، وكذلك لا شيء عليهم في بيعها فيما بينهم دون إظهار ذلك بين المسلمين. أما إذا أظهروا ذلك بين المسلمين فهذا يعتبر نقضاً للعهد بيننا وبينهم. وبالنسبة إذا وجد المسلم أحدهم يشرب الخمر أو يأكل لحم الخنزير خفيةً، فيجب على المسلم أن يدعوه، ويبين له حرمة ذلك، وهذا من باب الإنقاذ للناس. وأما أن يبيع المسلم لهم الخنزير أو الخمر، فهذا لا يجوز في حال من الأحوال، والمال هذا مال محرم، ولذلك عمر بن الخطاب لما بعث إليه أبو موسى الأشعري: إن النصارى ما استطاعوا أن يدفعوا الجزية، لكن عندهم خمر، أفنأخذها منهم، ونأخذ المال؟ فقال عمر: لا، بل هم يتولون بيعها؛ لأنهم يستحلون ذلك، وأنتم تأخذون الثمن.

لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس فقط

لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس فقط Q هل تؤخذ الجزية من أهل الكتاب فقط أم من جميع الكفار؟ A هذه مسألة خلافية عريضة بين الفقهاء، والصحيح الراجح في ذلك: أن أهل الكتاب فقط هم الذين تؤخذ منهم الجزية، ودليل ذلك قول الله تعالى في سورة المائدة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فقيد أخذ الجزية بالذين أوتوا الكتاب، ومفهوم المخالفة: الذين ليسوا من أهل الكتاب لا تؤخذ منهم الجزية، ويستثنى من ذلك المجوس، ومنهم أهل فارس، فقد كانوا مجوساً، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم -كما في السنن- عن المجوس فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، يعني: خذوا منهم الجزية كما تأخذونها من أهل الكتاب، أما الإمام مالك فيرى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، وهو ما رجحه كثير من أهل العلم.

كيفية التعامل مع أهل الأمان من الكفار

كيفية التعامل مع أهل الأمان من الكفار Q كيف نتعامل مع أهل الأمان من الكفار؟ A يكون التعامل معهم بألا نعتدي عليهم، ولا نظلمهم، ثم بعد ذلك نتعامل معهم كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ألا نبدأهم بالسلام، وإن كانوا في الطريق فيضطرهم إلى أضيقها، وأيضاً إن استطعت ألا يكون مديرك أو المسئول عنك كافراً تفعل؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، يعني: إن وجدت نفسك مثلاً في شركة كلها هندوس من الصغير إلى المدير، فأولى لك أن تذهب إلى شركة فيها مسلمون، ويكون مديرك مسلماً، فإنه سيراقب الله فيك، أما الكافر فإنه سيتربص بك الدوائر، يقول الله جل وعلا: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، فهو إن استطاع أن يقطع دابرك سيقطعه، فالكافر يضمر لك في قلبه حقداً دفيناً. لكن لو عملت في شركة وهذه الشركة مديرك فيها كافر، أو صاحب لك زميلك في العمل كافر، فيجب عليك ألا تظلمه، وتؤدي له حقه، ثم تعامله بما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بألا تبدأه بالسلام في حال من الأحوال، ولا تهنئه في عيد من أعياده الكفرية.

حكم تمكين المستأمنين من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير

حكم تمكين المستأمنين من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير Q هل يجوز لأهل الأمان أن يشربوا الخمر ويأكلوا لحم الخنزير في بلاد المسلمين؟ A يجوز لهم ذلك، كما ورد في كلام عمر بن الخطاب أنه أباح لهم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، لكن يكون ذلك في بيوتهم، ولا يظهرون ذلك أو يعلنونه أمام المسلمين؛ لأن في إظهار ذلك أذية للمسلمين، ودعوة إلى ما حرم الله تعالى.

هل كان أبو لؤلؤة المجوسي مسلما أم كافرا

هل كان أبو لؤلؤة المجوسي مسلماً أم كافراً Q هل كان أبو لؤلؤة المجوسي مسلماً أم كافراً؟ A ورد في بعض الروايات عن عمر أنه قال: الحمد لله الذي لم يجعل أجلي على يد أحد من أهل القبلة، وهذه الرواية تبين أن أبا لؤلؤة ليس من أهل الإسلام، لكن أنا أرجح أنه كان منافقاً؛ لأن أبا لؤلؤة المجوسي قتل عمر في المسجد بعدما أخذ عمر يسوي الصفوف، أي: أنه وقف خلف عمر، وعمر يراه وهو يسوي الصفوف، فهذا دليل على أنه من أهل النفاق. ثم نقول: إن كان كافراً -ولم يعلم بكفره أحد- فعليه ما يستحق على كفره، وإن كان قد أسلم ونافق فأيضاً عليه ما يستحق على نفاقه، لكن إن كان كافراً وظهر كفره، فهذا يبدأ الإشكال؛ لأنه كان في المدينة وفي المسجد النبوي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وقد أخرجهم، فهل يجوز للمسلم أن يتخذ مولى نصرانياً فيدخل به المدينة ومكة؟ هذا فيه نظر، وتحتاج المسألة إلى تأمل ومراجعة.

كل من المسلمين واليهود والنصارى ينتظرون المسيح ولكن لكل منهم اعتقاده

كل من المسلمين واليهود والنصارى ينتظرون المسيح ولكن لكل منهم اعتقاده Q هل يجوز إطلاق كلمة (مسيحي) على النصراني؟ A من الخطأ إطلاق هذا اللفظ على النصراني؛ لأن المسيحي معناه: أنه تابع للمسيح عليه السلام، وهم ليسوا كذلك في الحقيقة، لكن لو قصد بها مآلهم أنهم أتباع المسيح الدجال، فهذا قد يكون له وجه؛ لأنهم حقاً أتباع المسيح الدجال، واليهود كذلك. ومن العجب أن الأمم الثلاث كلها تنتظر المسيح: المسلمون واليهود والنصارى، وكل من اليهود والنصارى يؤمنون بمعركة هرمجدون التي تحدث في آخر الزمان، وينتصرون فيها على المسلمين حسب زعمهم، كما يؤمنون بأن هذه المعركة لا تكون إلا قبيل نزول المسيح، والمسيح لن ينزل إلا بعد بناء الهيكل، وهذه من عقائدهم التي حرفوها في التوراة والإنجيل، فلذلك هم يمهدون لإسرائيل بناء الهيكل حتى ينزل عيسى الذي ينتظرونه، وهو عند النصارى عيسى المخلص، عيسى الرب، وبه سوف ينتصرون على من سواهم، والحقيقة أنه سوف ينزل يقتلهم، ولا يقبل منهم أي شيء غير الإسلام. واليهود ينتظرون عيسى كذلك، عيسى الذي بشر به موسى، لكنهم لا يعتقدون أن عيسى بن مريم هو الذي بشر به موسى، فهم لا يزالون ينتظرون عيسى الذي بشر به موسى حتى يخرج المسيح الدجال، فإذا خرج أصبحوا من أتباعه؛ لأن الشيطان سوف يلبس عليهم بأن هذا هو المسيح الذي بشر به موسى عليه السلام. فانظروا كيف أضل الله النصارى عن المسيح، وأضل اليهود عن المسيح، وهدى الله هذه الأمة من كمال رحمته، وكمال منته عليها، هداها إلى مسيح الهدى، فإننا ننتظر مسيح الهدى -عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم- فإنه سوف ينزل على جناح ملك، ثم تلتق حوله الطائفة المؤمنة، ويقوم بملاحقة المسيح الدجال، ثم يقتله بالرمح، ويخلص البشرية منه، ثم يوحى إليه أن الله جل وعلا أخرج قوماً لا قبل لكم بهم، فيذهب إلى جبل الطور فيخرج يأجوج ومأجوج. فالمقصود أن الأمة الإسلامية تنتظر مسيح الهدى، والأمة النصرانية التي أضلها الله عن مسيح الهدى ينتظرون الرب المخلص -كما يزعمون-، واليهود ينتظرون المسيح الدجال الأعور، فأتباع الأعور هم اليهود ومعهم النساء.

الفواحش محرمة في جميع الأديان

الفواحش محرمة في جميع الأديان Q هل الخمر والزنا حلال عند اليهود؟ A لا يوجد نص مكتوب عندهم بأن الزنا حلال، حتى في التوراة المحرفة لا يوجد ذلك، فالزنا عندهم حرام، وكذلك الخمر، حسب علمي والله اعلم، ولكن أهواءهم هي التي قادتهم إلى تحليل ذلك.

الربا عند اليهود حرام بينهم حلال مع الناس -حسب زعمهم-

الربا عند اليهود حرام بينهم حلال مع الناس -حسب زعمهم- Q هل الربا محرم عند اليهود؟ A اليهود عندهم الربا محرم، لكنهم جعلوه محرماً فيما بينهم، وحلالاً على الناس، يعني: أنهم يتعاملون مع الناس بالربا لكي يحصلوا على المال منهم، لكنه فيما بينهم يعتبر حراماً لا يجوز!

نقض العهد من قبل الذمي أو صاحب الأمان

نقض العهد من قبل الذمي أو صاحب الأمان Q إذا قام الذمي أو صاحب الأمان بنقض العهد، فما العمل معه؟ A إذا نقض العهد بأن خالف شرطاً من الشروط، كأن اعتدى على مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، فنقول له: أنت قطعت أمانك وعهدك، ويقوم ولي الأمر بإبلاغه مأمنه، وهو المكان الذي يأمن فيه على ملكه، ثم بعد ذلك إذا أعلن علينا الحرب أعلنا الحرب عليه، وبهذا نكون غير ظالمين له. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

جوانب العظمة لعمر بن الخطاب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - جوانب العظمة لعمر بن الخطاب جوانب العظمة في شخصية الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرة، وقد ذكر العلماء كثيراً منها في كتب التواريخ والسير، فعلى المسلم أن يعرف عظمة هذا الخليفة، وأن يقتدي به.

فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: نتكلم بإذن الله عن جوانب العظمة في شخصية عمر بن الخطاب، كما سلف أن تكلمنا عن جوانب العظمة في شخصية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وسنتكلم في جزئية مهمة، هذه الجزئية هي التي تتضمن ما نريد، ألا وهي جزئية تعامل عمر رضي الله عنه وأرضاه مع أهل الكتاب، وهذه عظمة من جوانب العظمة في شخصية عمر سنبينها بإذن الله بالتفصيل، وسنذكر كيف كان يعامل عمر النصارى واليهود من أهل الكتاب. ونبدأ نتكلم عن أمير المؤمنين الفاروق الذي فرق الله به بين الحق وبين الباطل، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عمر إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غير فج عمر). عمر رضي الله عنه وأرضاه القوي الحاكم الرقيق اللين، عمر بن الخطاب الذي لم تلد النساء مثل عمر، الذي قال فيه ابن مسعود: ما علمنا العزة إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه. عمر عنوان للمكانة والعظمة والدقة والقوة والرقي والسمو في جوانب الحياة كلها في الدنيا والآخرة. عمر رضي الله عنه وأرضاه قال عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: علته مهابة لم تعل أحداً، ولم أرها على أحد مثل عمر، وقال: كنا نسير خلفه فإذا نظر خلفه وقعت قلوبنا في أرجلنا، والذي يقول هذا هو حيدرة، أشجع الشجعان علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

تواضع عمر

تواضع عمر عمر كان كله تواضع، ولن ترى تواضعاً مثل هذا التواضع، فتواضع عمر من جوانب عظمة شخصية هذا الرجل الفاروق رضي الله عنه وأرضاه. ويوم الجمعة يوم مشهود، ويوم عيد ضيعه كثير من الناس، هذا اليوم الذي فيه ساعة إجابة لا يردها الله جل وعلا أبداً، ومن آداب يوم الجمعة: أن يغتسل المرء، والغسل فيه من السنن المستحبة على الراجح عند الفقهاء، ويرتدي إما ثياباً جديدة أو ثياباً نظيفة، فـ عمر رضي الله عنه نظف ثيابه في يوم جمعة وارتدى ثياباً نظيفة؛ ليصلي بالناس، فهو أمير المؤمنين، ثم ذهب قاصداً المسجد، وكان للعباس ميزاب وذُبح له فرخان في ذلك اليوم، فصب الماء ووافى نزول الماء قدوم عمر رضي الله عنه وأرضاه، فنزل الماء المخلوط بالدم على ثياب عمر، فأمر عمر بقلع الميزاب، ثم رجع إلى بيته فغير ثيابه، ثم قام خطيباً في الناس، فبعدما انتهت الخطبة قام العباس وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الميزاب -أي: الذي أمرت بقلعه- ما وضعه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: عزمت عليك لتركبن ظهري، ولأحملنك فوق ظهري، ولتضعن الميزاب مكان ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل هذا أمام الجماهير من رعيته تواضعاً. فأي تواضع هذا تجده في أمير المؤمنين حاكم البلاد، وهو الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها؟! ومع ذلك لما قال له العباس: إن هذا الميزاب وضعه رسول الله، قال: لتركبن على ظهري ولتضعنه في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن تواضع الفاروق الذي ما أتت النساء بمثله: أنه خرج في يوم شديد الحر، فالتفع بثوبه وغطى بثوبه رأسه، فوجد غلاماً على حمار، فقال: يا غلام! تحمل مثلي خلفك؟ انظروا إلى التواضع، فلو أن حاكم البلاد رأى رجلاً بسيارة وقال: استأذنك أن تحملني معك؟ فسيترك الرجل السيارة ويترك كل شيء، بل يقبل يده أن يركب هذه السيارة، أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال للغلام: يا غلام! أستأذنك أن تردفني خلفك؟ فأردفه الغلام خلفه ومشى الغلام بالحمار وعمر خلفه، والناس في المدينة ينظرون إلى تواضع هذا الأمير الكريم الذي كان نبراساً لكل أمير، فرضي الله عنه وأرضاه. وأيضاً من تواضعه رضي الله عنه وأرضاه: أنه مر بالمدينة فأوقفته امرأة فقالت: إيه يا عمر! كنت في مكة تلعب مع الصبيان صغيراً تدعى عميراً، ثم كبرت فدعوت عمر، واليوم إيه يا عمر! يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية يا عمر! فهذه امرأة عجوز تشد وطأتها على عمر وتقول له: إيه يا عمر! اتق الله في الرعية، ثم وعظته ونصحته في الله، فلما وعظته أغلظت له في القول، فقام عامله وقال: يا امرأة! اتقي الله، أما تعرفين من تكلمين؟ فقال: اسكت أما تعرفها؟ هذه المرأة هي: خولة التي سمع الله مقالتها من فوق سبع سماوات، أما يسمع مقالتها عمر؟ وانظروا إلى تواضعه لربه جل وعلا قبل أن يتواضع لهذه المرأة، فرضي الله عنه وأرضاه، فإن من تواضعه ما يؤلف فيه الكتب. وهذا جانب من جوانب العظمة في شخصيته رضي الله عنه وأرضاه. ومرة قام رجل فقال لـ عمر: يا عمر! أو يا أمير المؤمنين، إنك أقوى الناس في الحق، وأشد الناس في الصدق، وأشد الناس على المنافقين، والله يا عمر! ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عوف بن مالك منتفضاً فقال: كذبت والله! فاندهش القوم! قال: بل رأينا من هو خير من عمر، أو قال: كذبت، والله! لقد رأينا بعد رسول الله، فقالوا: من هو؟ قال: أبو بكر، فقام عمر متواضعاً يعطي لكل قدره ويضع الشيء في نصابه، فقال: والله! لقد صدق عوف بن مالك وكذبتم أنتم، كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أطيب من ريح المسك، وكان عمر أضل من بعير أهله! يعني: أن أبا بكر أسلم قبله، فقال هذا تواضعاً منه؛ ليعرف كل إنسان مقدار غيره.

اهتمام عمر رضي الله عنه برعيته

اهتمام عمر رضي الله عنه برعيته من جوانب عظمة عمر رضي الله عنه وأرضاه اهتمامه بالرعية، فقد حمل على كاهله شئون رعيته، فهو أمير المؤمنين، والإمارة ليست تشريفاً، بل هي تكليف، وكثيراً ما كان عمر يقول: وددت أن أخرج منها كفافاً لا لي ولا علي، وكثيراً ما كان يقول: ضع خدي على التراب عل الله يغفر لي. فانظروا إلى مبادئ عمر وهو أمير المؤمنين كيف يهتم بشئون الرعية، وهو من قال: قوام الحياة الآمنة وقوام العزة وقوام الكرم لا يكون إلا في نصاب الدين، فصب اهتمامه على الأمر الديني، ثم الأمر الدنيوي. ومن شئون الدولة التي كان يهتم بها عمر جداً: دين الناس، ولذلك قال: لن تنتصر أمة ولن ترتقي أمة ولن يكشف عنها الغمة إلا بالدين، والدين لا يصل الإنسان إليه إلا بالعلم والتعلم، فلذلك نجد عمر رضي الله عنه وأرضاه اهتم اهتماماً كبيراً بالمدارس الفقهية والحديثية والعلم، حتى ينتشر العلم في الأمصار والبلاد، فكان يعظم أهل العلم، ويخرج للناس عظماء لهم القدر الأعلى، حتى يأتسي الناس بهؤلاء ويأخذون منهم العلم، فيرتقون عند ربهم جل وعلا، ويأمنون في الدنيا، ويصلون إلى رضا الله جل وعلا في الآخرة. وكان أهم ما كان يشغل عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ينصب من هو أهل ليعلم الناس، فبعث في الأمصار الصحابة الكرام، وتأسست مدرسة الكوفة ومكة والبصرة، المدارس الفقهية المختلفة كلها كان على رأسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باهتمام عمر رضي الله عنه، وكان يبين للناس أن طلب العلم هو أفضل شيء يمكن أن نرتقي به، فكان يقول: المرء يتحمل ذنوبه ثم يذهب إلى مجالس العلم فيرجع كيوم ولدته أمه، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، والمعنى: أنه إذا جلس في مجلس علم يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فرضي الله عن عمر وأرضاه.

اهتمام عمر رضي الله عنه بالتوحيد

اهتمام عمر رضي الله عنه بالتوحيد اهتم عمر بالعلم وقال: أهم العلوم التي يرتقي بها المرء التوحيد؛ إذ إن العقيدة السليمة هي التي يصل بها المرء إلى الله وإلى جناته دون أدنى حساب، فالتوحيد هو أهم العلوم التي لابد أن ينصب الاهتمام عليه؛ لأن التوحيد أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحافظ على توحيد الله، فقد بعث عمرو بن العاص إلى مصر ونظر إلى العقائد الخربة وحبال الشرك فقطعها، وسد الذرائع عن الشرك، وقد كانت تنتشر في مصر عقائد خربة جداً، هي العقائد الفرعونية التي مازال كثير من الناس يتغنى بها ويفتخر بها. فـ عمر لما بعث عمرو بن العاص لفتح مصر وفتحها، جاء أهل مصر إلى عمرو بن العاص فقالوا له: عادتنا كل عام في شهر معين أنه بعدما تمر عشرة أيام من هذا الشهر نأتي ببنت فنزينها أحسن الزينة، ونلبسها أحسن الثياب بالحلي والذهب، ثم تلقى في النيل، حتى يجري النيل ولا يحدث الجفاف فيه، فبين عمرو بن العاص أن هذا من الشرك، وأن هذه عقائد خربة لابد أن تقطع، وقال: لا تفعلوا هذا، فلما سمعوا له وأطاعوا ابتلى الله صدقهم فحدث الجفاف، ولم يجر النيل، فبعث عمرو إلى عمر مستشكلاً، وقال: القصة كذا وكذا وكذا، فقام عمر فأثنى على عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه بين لهم العقيدة الصحيحة، ثم كتب بطاقة وكتب كتاباً على هذه البطاقة، وقال لـ عمرو بن العاص: إذا وصلت هذه البطاقة فألقها في النيل، ففتح البطاقة فوجد فيها التوحيد الخالص الذي يبين أن العبودية هي رأس الأمر، وجد فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، وأما الذين يتغنون به ويقولون: مصر هبة النيل، فهذا شرك محض، وهذا من الألفاظ التي لابد أن تعدل في أفراد المسلمين، فمصر هي هبة الله جل وعلا، والنيل هبة الله، والذي يهبنا الحياة هو الله جل وعلا، والذي يهبنا الرزق هو الله جل وعلا النافع الضار. فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحقق كامل التوحيد، فقال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، إن كنت تجري بأمرك فلا تجر ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الواحد القهار فنسأل الله أن يجريك. هذا هو التأسيس الصحيح للعقيدة، فالنيل لا يملك شيئاً، ولا أحد يملك شيئاً، وأنا وأنت لا أحد منا يملك لأحد شيئاً، حتى كبيري في العمل لا يملك لي شيئاً، بل لا يملك لنفسه شيئاً، ولا أحد في هذه الدنيا يملك لأحد شيئاً، لا دول تتحكم في مقدرات الناس، ولا أشخاص ولا جماعات ولا طوائف، فالله جل وعلا هو النافع الضار، وهو المعز المذل، ولذلك قام عمر يؤكد أصول التوحيد التي إذا أثرت في القلوب انتهى الظلم، وارتقى المرء وارتفع عند ربه جل وعلا، وتحققت كل الأماني، فقال مخاطباً النيل: إن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأل الله جل وعلا أن يجريك، وما إن ألقيت هذه البطاقة إلا وأجرى الله النيل عشرة أذرع وكثر كثرة لم يعهدها مثلها؛ كرامة لتحقيق التوحيد من عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهذه القصة مشهورة جداً، وما ذكرتها إلا لشهرتها، وفي إسنادها ابن لهيعة وهو مختلف في تجريحه وتوثيقه. ومن جوانب حب عمر للتوحيد وسده ذرائع الشرك: أنه كان إذا طاف بالكعبة مضى إلى الحجر فقبله، ثم قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر. حتى يظهر للناس أن النافع الضار هو الله، وأن المعز المذل هو الله جل وعلا، فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك فقبلتك، فقعد قواعد عظيمة في التوحيد: أما الأولى فهي قاعدة مهمة في قلوب الناس: فإن النافع الضار هو الله جل وعلا، فابتهل لربك وتذلل إلى ربك ولا تعتقد إلا في ربك، لا تعتقد في البشر، فهم لا ينفعونك ولا يضرونك. القاعدة الثانية: التسليم التام لأوامر الله جل وعلا، فإذا أمر الله بالسجود لبشر نسجد للبشر؛ لأن الله أمر به، كما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم مع أن السجود لا يكون إلا لله، لكن كان السجود امتثالاً لأمر الله جل وعلا، وإذا أمر الله جل وعلا بتقبيل الحجر فيقبل الحجر إرضاءً لله جل وعلا. أيضاً من مظاهر حب الفاروق للتوحيد: أنه كان بعض التابعين يريدون التبرك بشجرة موقعها من أهم المواقع، وهذه الشجرة هي التي حدثت عندها بيعة الرضوان، وذلك لما أنبئ النبي صلى الله عليه وسلم بأن عثمان رضي الله عنه قد قتل، فبايعهم على الموت، وأنزل الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فكان كثير من التابعين وكثير ممن يعرفون فضل هذه الشجرة يذهبون فيصلون عند هذه الشجرة، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقطع دابر الشرك؛ لأن هذا من باب التبرك الممنوع. فالتوحيد مهم جداً، والله! ما ننتصر إلا بالتوحيد، ولا نرتقي إلا بالتوحيد، ولا ترفع عنا الغمة إلا بالتوحيد: لأن الله جل وعلا ما أنزل الكتب إلا للتوحيد، وما أرسل الرسل إلا للتوحيد، والله ما رفع علم الجهاد إلا للتوحيد. واليهود لعنة الله عليهم جميعاً هم الذين وضعوا الشرك وأسسوه في الأمم، وقد كان المشركون يتبركون بشجرة، ويقولون: النصر من عندها، فقال بعض الصحابة الذين كانوا حديثي عهد بالجاهلية: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138])، فبين أن هذا من الشرك، فـ عمر كان يخشى من ذلك، وكان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرج على الصحابة، وقال: (الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) فقطع هذه الشجرة وقطع دابرها حتى لا يتبرك بها؛ إعلاناً لكلمة التوحيد، فرضي الله عن الفاروق الذي حافظ على جناب التوحيد. ومن جوانب العظمة لهذا الشخص العظيم: أنه عزل خالداً أيضاً؛ حفظاً لجناب التوحيد، فإنه لما تولى الخلافة بعث إلى خالد يعزله من إمارته، فلما عوتب: كيف تغمد سيفاً سله رسول الله، بل سله الله جل وعلا قبل أن يسله رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فاعتذر للناس بوجاهة، وبعلم دقيق وفقه عالٍ، فقال: رأيت الناس قد افتتنوا بـ خالد. يعني: لأنه ما في معركة دخل فيها خالد إلا وجعل الله النصر على يديه حتى في الجاهلية. ففي غزوة أحد كان خالد رضي الله عنه وأرضاه سبب الهزيمة للمسلمين، قال: فأردت أن يعلموا أنه بصنيع الله لا بصنيع خالد، فعزله حماية للتوحيد حتى لا يفتتن به الناس.

اهتمام عمر بعبادات الناس

اهتمام عمر بعبادات الناس ومن جوانب العظمة في شخصية عمر أنه اهتم بعبادات الناس بعدما اهتم بالتوحيد الخالص؛ لأنهم لن يصلوا إلى ربهم جل وعلا إلا بتوحيد خالص ولن يرتقوا عنده إلا بتوحيد خالص، فاهتم بعبادات الرعية واهتم بالدين؛ فإن الدين هو الذي يأتي بالنصر، وكان صلاح الدين الأيوبي يمر على جنوده فينظر: إن رآهم في قيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله قال: من هنا يأتي النصر، وإن مر عليهم فوجدهم يمرحون ويلعبون قال: من هنا تأتي الهزيمة، وما من قائد عسكري كان من لدن الخلافة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها إلا كان يهتم بالعبادة. وإذا نظرنا في انتصاراتهم ومحصنا النظر وقرأنا في التاريخ نرى أنه لا يمكن أن ينتصر إلا أن يُعْبِّد الناس لله جل وعلا، ثم يذهب بعد ذلك إلى القتال، والله جل وعلا يجعل النصر لأهل الإسلام، فكان يقول: عبادة الناس هي التي تأتي بالتمكين للحق، وبالنصر للحق، فكان يهتم بأهم العبادات وبالركن الرصين والأصل الأصيل لهذا الدين وهو الصلاة، ويضرب عليها، ويضرب على الخشوع فيها، بل جمع الناس لصلاة التراويح، ولما نظر إلى المسجد ووجده يؤمه رجل واحد، ووجد الناس يصلون مع هذا الإمام، قال: نعمت البدعة هي، ويقصد بذلك المعنى اللغوي. وكان يضرب على الخشوع وكان هو يخشع بلسان الحال، فمرة صلى بالناس في الفجر فقرأ من سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فبكى بكاءً شديداً حتى سمع نحيبه من آخر الصفوف، فرضي الله عنه. وكان يعدد الطرق للعبادات، فلعبادة الحج كان من المسارعين، فقد حج مع الناس عشر سنوات، وعلم الناس مناسك الحج، وفي الزكاة وفي الصوم كان يحث الناس على الزكاة، ونشر الدواوين، وكان يهتم بإبل الصدقة، وهو الذي أمر بوسم إبل الصدقة ليميزها عن غيرها.

اهتمام عمر بأحوال رعيته الدنيوية

اهتمام عمر بأحوال رعيته الدنيوية كانت اهتمامات عمر بن الخطاب لرعيته بأمر دينهم أهم شيء، فإذا تولى الإمارة قال: دين الناس أولاً، ثم دنيا الناس ثانياً، فلما اهتم بدين الناس ورأى الناس قد أتموا هذه العبادات بدأ في الاهتمام بأمر دنياهم، وأمر الدنيا هي: معاملات، فكان يدخل السوق ومعه الدرة ينظر إلى الباعة فيقول للبائع: تعلمت فقه البيوع؟ فإذا قال له البائع أو المشتري أو التاجر: لا، ضربه بالدرة وقال: وقعت في الربا لا محالة. وكان دائماً يذكر الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار، إن التجار يوم القيامة يأتون فجاراً إلا من صدق وبر)، فمر على رجل قد غش اللبن، جعل مع اللبن الماء، فأراق كل اللبن تعزيراً له، ولذلك استند العلماء الذين يقولون بجواز التعزير بالمال إلى فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه. وكان يحث الناس على التجارة، يقول: اتجروا في الأموال حتى لا تحتاجوا إلى مثل هؤلاء، فلا تحتاج إلى كافر، أو تحتاج لرجل أقل منك أو أدنى منك، فيقول لأصحاب الوجاهات: اتجروا بهذه الأموال، فاهتم بالمعاملات، واهتم بنشر فقه البيوع رضي الله عنه وأرضاه حتى تسلم دنيا الناس. وكان يأمر عماله أن يعلموا الناس فقه البيوع، ودخل الأسواق فوجد الاحتكار فمنع الاحتكار، ومنع الغش، ولم يسعر، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد هذه القاعدة لما قالوا له: (سعر لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، وإني أرجو أن آتي يوم القيامة وليس لأحد عندي مظلمة).

حراسة عمر رضي الله عنه لرعيته

حراسة عمر رضي الله عنه لرعيته من اهتمامه برعيته أنه كان يحرسهم ليلاً مع أن الحراسة كانت للشرطة، وهي التي لها الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن عمر كان هو الذي يحرس رعيته رضي الله عنه وأرضاه، ويضرب أروع الأمثلة في الحفاظ على الرعية، فكان يعس ليلاً، يدور ليحرس الرعية، وكان من ثمار هذا الحفظ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان يسد الخلة عن الناس ويحفظ الأعراض. فقد مر ليلاً ببيت فسمع امرأة تتكلم وتقول: ألا سبيل إلى خمر فأشربها أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج؟ فاندهش من هذا البيت الذي يدعو للريبة من امرأة مسلمة تطلب كأساً من خمر أو تطلب رجلاً يسمى نصر بن حجاج، فلما أشرق الصبح قال: ائتوني بـ نصر بن حجاج، ففتشوا المدينة حتى أتوه بـ نصر بن حجاج، يقول الراوي: فرآه أصبح الناس وجهاً -أي: أجمل الشباب- وأحسنهم شعراً، فقال له -حفظاً على الأعراض-: احلق شعرك، فحلق شعره فوجده أجمل مما كان، فقال له: تعمم، فصار أجمل مما كان، فقال: ستفتتن النساء بمثل هذا الرجل، فبعدما وجد الجمال منه في كل حالة أمر بأن يرحل إلى البصرة حيث الجهاد؛ حتى لا يهتم بنفسه ولا تفتن به النساء، عمل هذا حفظاً على رعيته. وأيضاً: مر ذات ليلة على امرأة فسمعها تقول بعدما أرخى الليل سدوله: تطاول هذا الليل واسود جانبه وليس إلى جنبي ضجيع ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فرأى امرأة تشتاق إلى رجل وتقول: سيتحرك السرير لولا تقوى الله جل وعلا، فخشي على رعيته من الزنا، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن صاحب هذا البيت، فقالوا: هذا البيت لفلان، وسأل عن زوجته فبعث إليها، وقال لها: سمعت منكِ كذا وكذا، ما بالك تقولين هذا؟ فبينت له أن زوجها قد ابتعد عنها أشهراً عديدة ولم تستطع الصبر، فذهب إلى حفصة -وهنا أخذ الفقهاء قاعدة في بعد الرجل عن زوجته- فقال: يا ابنتي! ما المدة التي تحتمل فيها المرأة البعد عن زوجها؟ فطأطأت رأسها حياءً من أبيها، قال: عزمت عليكِ أن تقولي، فقالت: أربعة أشهر، فحددت أن الرجل لا يبتعد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، ومع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن عمر أراد أن يحافظ على رعيته ويحافظ على دينهم، فكتب: لا يغزون أحد فوق أربعة أشهر، ولا تخرج سرية فوق أربعة أشهر، فعل كل هذا حفاظاً على الرعية. وأيضاً: لما كان يعس ليلاً جاءت رفقة فنزلت بالمصلى، فقال لـ عبد الرحمن بن عوف: ما رأيك أن نبيت نحرسهم؟ قال: نعم، فذهب معه عبد الرحمن، فسمع عمر بن الخطاب بكاء طفل، فذهب إلى أمه قال: يا امرأة! أما تتقين الله في هذا الطفل أو هذا الصبي؟ وتركها وذهب، حتى إذا كان آخر الليل وهو ما زال يسمع البكاء فذهب إليها فقال: والله! إنكِ أم سوء، كيف لا تتقين الله في هذا الصبي؟ فقالت: يا رجل! إليك عني، إني أشغله عن الرضاع ولا ينشغل، قال: فلمَ لا ترضعينه؟ قالت: فطمته، قال: ولم تفطميه؟ فقالت: إن عمر لا يكتب الفرض -أي: لا يعطي عطاء بيت مال المسلمين- لكل مولود في الإسلام إلا إذا فطم، فـ عمر بن الخطاب حدد العطاء للذي يفطم، فكانت بعض النساء التي ترضع ابناً تفطمه قبل الحولين حتى تأخذ المال، فقال لها: لا تفطميه، ثم صلى بهم الصبح، وبعد أن صلى بكى بكاءً شديداً، ثم قال: ابعثوا في الأمصار: كل مولود فطم أو لم يفطم فله حصة كذا وكذا، ثم قال: يغفر الله لـ عمر كيف قتل أولاد المسلمين، أو كم قتل من أولاد المسلمين؟ فهذا من باب حفظه على رعيته وعدله معهم رضي الله عنه وأرضاه. وكان أيضاً يعس ليلاً، ومن فوائد هذه الحراسة ليلاً أنه سمع امرأة تقول لابنتها: ضعي على اللبن الماء، فقالت: يا أماه! اتقي الله، أما علمتِ أن أمير المؤمنين قد حرج على ذلك أو حرم هذا؟ فتحريم الأمير إن كان لا يخالف الشرع يجب اتباعه، فقالت: قد حرم أمير المؤمنين ذلك، فقالت لها: أين أمير المؤمنين الآن؟ فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا! فأعجب عمر بذلك، وزوجها بابنه، فخرج من هذا النسل الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.

ورع عمر رضي الله عنه وخوفه

ورع عمر رضي الله عنه وخوفه كان دأب عمر في رعيته حفظ دينهم أولاً بالتوحيد، ثم بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم حفظ أعراضهم، وحفظ أموالهم. وارتقى حفظ عمر وانشغاله بالرعية من بني آدم إلى الحمير والغنم والإبل، فبعدما حفظ رعيته من بني آدم قال: الإبل والبهائم لها علينا حق، فما ترك حق البهائم، وهو الذي قال الكلمة المشهورة التي كل مسلم دائماً يلوكها في فمه، وهي: لو عثرت دابة في العراق لسئل عنها عمر. ويقال: إن عمر نظر إلى جمل فوجد عليه إعياءً وعرقاً شديداً، فأخذ يده على ذفره وقال: اسكن اسكن، أخشى والله! أن يسأل عمر عنك! واشتهى عمر مرة سمكاً طرياً، فقال لعامله: اشتهيت السمك، فذهب يبحث له عن السمك وبقي ليلتين ذهاباً وإياباً حتى أتاه بالسمك، فشق على الجمل، فقال: ذهبت تأتي بهذا السمك ليلتين على هذا البعير؟ قال: نعم، قال: عذبت بعيراً من أجل شهوة بطني، والله! لا آكله أبداً، وحرمه على نفسه طاعة لله جل وعلا. وكان يرفق كثيراً بإبل الصدقة، وكان هو الذي يعاملها، فقد دخل عليه رجل فوجده يسم إبل الصدقة -أي: يميزها عن غيرها من الإبل بعلامة- فقال: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين! أما كان عبد من عبيد الصدقة يقوم بذلك عنك؟ فقال له عمر بن الخطاب: أو عبد غيري؟ يعني: أن حق الأمير على الناس أن يكون لهم خادماً. فرضي الله عن عمر ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وهذه جوانب من باب جوانب العظمة في شخصية هذا الرجل الفذ الذي يعد أمة وحده.

تعامل عمر مع أهل الكتاب

تعامل عمر مع أهل الكتاب من جوانب هذه الشخصية تعامل عمر رضي الله عنه مع أهل الكتاب، وهذا سنفصله تفصيلاً تاماً بإذن الله في الدرس القادم، ولكن نذكر نتفاً صغيرة منه؛ فقد كتب عمر بن الخطاب إلى حذيفة يشدد عليه الوطأة لما أرسل إليه حذيفة: إني قد تزوجت امرأة من أهل الكتاب -امرأة يهودية- فقال له: أنكحت المومسات وتركت المسلمات؟ وشد عليه الوطأة، حتى بعث إليه حذيفة فقال: يا أمير المؤمنين! أحرام النكاح من أهل الكتاب؟ فبين له المسألة الفقهية، وسنسرد الكلام الذي كان بين حذيفة وبين عمر، حتى نزل حذيفة على أمره وطلق هذه المرأة. وأيضاً: لما جاءه أبو موسى الأشعري بعامل من النصارى يعمل عنده، فلما دخل عليه أبو موسى يبين له الكتب لم يدخل معه، فقال له: لِمَ لم يدخل هذا الرجل، أجنب هو؟ فقال له: لا يا أمير المؤمنين! قال: لِمَ لم يدخل المسجد؟ قال: هو نصراني، فغضب عليه غضباً شديداً، وقال: كيف تكرمونهم وقد أهانهم الله؟ وكيف تقربونهم وقد أبعدهم الله؟ ثم قال له: والله! ما رأيت أكفأ منه، فقال له: عليك بالمسلم، وقال له عمر حاسماً للمادة منهياً للقضية: مات النصراني -أي: اعتبر النصراني مات- وانظر إلى مسلم يقوم مقامه. وسنبين كيف أجلاهم، وكيف عاملهم، وكيف فتح البلاد، وكيف أنه عبدهم لله جل وعلا ولم يخضع لهم رضي الله عنه وأرضاه، وسنبين كل هذا في الدرس القادم بإذن الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

فضائل عثمان بن عفان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عثمان بن عفان عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الثالث، وله فضائل كثيرة، ومناقب عديدة، وأعمال عظيمة، من أعظمها أنه جمع القرآن على حرف واحد، وأنقذ الله به الأمة من الاختلاف في وجوه القراءات، وقد قتل صابراً محتسباً مظلوماً شهيداً، فرضي الله عنه وأرضاه.

ترجمة عثمان بن عفان

ترجمة عثمان بن عفان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: نحن على موعد مع ثالث الخلفاء الراشدين، مع الذي استحيت منه الملائكة، إن فضائله جمة، فقد ثبته الله جل وعلا، وقتل صابراً محتسباً شهيداً مظلوماً، وارتقى عند ربه جل وعلا، وحظي بالمكانة السامية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ختن رسول الله الذي فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه وزوجه بابنتيه، وورد في بعض الروايات التي يتسامح فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كانت عندي الثالثة لزوجتك إياها)، نحن مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.

اسمه ولقبه وكنيته

اسمه ولقبه وكنيته عثمان بن عفان بن أبي العاص يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد الرابع ابن عبد مناف. وكان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بست سنوات. لقب بـ ذي النورين، لقبه به كثير من الصحابة، بل إن علي بن أبي طالب لما سئل عنه قال: هذا الرجل يدعى عند أهل السماء بذي النورين، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقب بهذا اللقب؛ لأنه تزوج بـ رقية ثم بـ أم كلثوم رضي الله عنهم أجمعين، وقد تزوج بـ رقية قبل النبوة والمبعث ثم في غزوة بدر مرضت مرضاً شديداً وامتنع من حضور بدر بسبب تمريض بنت النبي صلى الله عليه وسلم بأمر منه، وماتت في وقت غزوة بدر، وضرب الله له بسهم في غزوة بدر، فلما ماتت زوَّجَه النبي صلى الله عليه وسلم بـ أم كلثوم رضي الله عنه وأرضاه. أما كنيته فكان يكنى بـ أبي عمرو، وقيل: كان يكنى بـ أبي ليلى لرقته ودماثة خلقه ولين جانبه رضي الله عنه وأرضاه، فلما ولدت له رقية عبد الله كني به رضي الله عنه وأرضاه. فضائله جمة لا تحصر لكن سنتكلم بإيجاز عن فضائله، ثم عن الفتوحات التي كانت في عصره، وفي جوانب عظمة شخصيته، ثم فتنة مقتله، ونبين أن فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه فتنة كبيرة جعلت هذه الأمة تحلب دماً بدلاً من اللبن بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

فضائله

فضائله كان عثمان رضي الله عنه وأرضاه زاهداً ورعاً عابداً فقيهاً عالماً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وخمسين حديثاً، وكان رضي الله عنه وأرضاه -كما اتفق الصحابة- من أعلم الصحابة على الإطلاق بالمناسك، ويخلفه بعد ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان من فقهاء الصحابة فهو عالم فقيه محدث، وكان عابداً لله جل وعلا قانتاً له، لا يترك صيام النهار عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً). فكان صواماً للنهار قواماً لليل، حتى أثر عنه أنه كان يختم القرآن في ليلة واحدة في ركعة واحدة. ولما حج بالناس قام في الحجر من العشاء إلى الفجر يختم القرآن، وقد أنزلت فيه الآيات كما جاء ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب في قول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] قال ابن عمر: هذه في عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. فكان قواماً لليل صواماً للنهار، ويكفيه أنه الذي بين لنا كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أنه أخذ تنوراً فيه الماء فغسل يديه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه وغسل رجليه ثلاثاً ثم قال: توضأ رسول الله نحو وضوئي) يعني: هذا الوضوء بالضبط هو الذي توضأه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من فقهه ودقة نظره لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه). والمعنى لا يفكر في أمور الدنيا ولو هجمت عليه أمور الدنيا سارع بردها، حتى يفرغ قلبه لله جل وعلا ولتدبر الآيات. قال: (غفر له ما تقدم من ذنبه). فرضي الله عن عثمان الذي بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفائدة العظيمة. وكان سخياً كريماً زاهداً رضي الله عنه وأرضاه. جواداً كريماً فالجود والكرم كانت من خلاله، وكان الحياء مع الجود والكرم صديقان له ملازمان لشخصيته، والحلم والأناة كانت من صفاته أيضاً، فـ عثمان بن عفان كان من أجود الناس، أنفق كل ماله في سبيل الله، وكان له السبق في الإسلام والهجرة كما سنبين، وبعد الهجرة واجهت المسلمين مشكلة أيما مشكلة، وهي مشكلة الماء، فقد قدر الله بحكمته أن الماء يكون في يد خبيث لعين من أحفاد القردة والخنازير، وهي بئر رومة، فقد كان يمتلكها يهودي، وكان يرفع السعر على المسلمين فيشترون منه الماء بثمن غالٍ، فاشتد ذلك عليهم وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشرفت نفسه إلى من يجود بما معه من المال ليشتري هذا البئر للمسلمين ويكفيهم مئونة الماء، فعلم عثمان بن عفان بحكمته رضي الله عنه وأرضاه ماذا يريد رسول الله، فذهب فساوم اليهودي على بئر رومة، فما أراد الرجل أن يبيعها له على الإطلاق، فقال: تأخذ أنت نصفها وأشتري أنا نصفها، فاشترى نصفها باثني عشر ألفاً، ثم أوقف النصف الذي اشتراه على المسلمين، فالبئر تكون يوماً لـ عثمان ويوماً لليهودي، فكان اليوم الذي لـ عثمان يأتي المسلمون فيأخذون من الماء ليومين، ويصبح اليوم الذي يمتلكه اليهودي فارغاً لا يأخذ منه ماء ولا ينتفع به، فلما علم اليهودي أن المسلمين أوقعوه في حفرة لا يخرج منها ذهب فساوم عثمان على النصف الآخر والشطر الآخر فاشتراه منه وأوقفها كاملة في سبيل الله جل وعلا، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يشتري بئر رومة وله الجنة؟). فحازها عثمان رضي الله عنه وأرضاه. ولما اشتد بالمسلمين البأس في تجهيز جيش العسرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنصر الناس لينفقوا على الجيش الذي سيذهب لتأديب أتباع الروم، فجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وما عليها، وبأموال طائلة وضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وسر النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر الفرح على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى عثمان وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم). وهذا يقطع ألسنة كل من أخذ على عثمان رضي الله عنه وأرضاه أي مأخذة، فأي فعل يفعله يغمر في ميزان حسناته رضي الله عنه وأرضاه. وهو من السابقين إلى الإسلام فقد سبق إسلامه ستة أو سبعة فقط، وكان إسلامه على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عثمان ذا عقل راجح فذهب إليه أبو بكر ليدعوه إلى الإسلام فقال: ويحك يا عثمان! أتعبد صنماً لا يضر ولا ينفع وتترك رب الأكوان؟ فأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلمة واحدة تؤثر في القلوب النقية، أما القلوب القاسية فهي بعيدة أبعد ما تكون عن الله جل وعلا، ولذلك دائماً أنا أقول: محل مقياس الناس ومقامات الناس عند رب الناس هو نقاء القلوب، ولذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما لبث أن سمع الكلمة حتى رق قلبه للإسلام، فدخل على رسول الله بقلب صاف نقي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان! أجب داعي الله إلى جنته). فبكى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالقلوب النقية البيضاء الصافية تدخل إلى دين الله جل وعلا، فكان رضي الله عنه وأرضاه ذا عقل راجح وقلب نقي. وكان مع هذا اللين والرقة شجاعاً، والشجاعة تظهر عند الحزم في الأمور، وعندما يكلف بمهمة يتقاعس عنها أشجع الناس فتظهر شجاعته، وهذه الشجاعة ظهرت جلية في السفارة عند صلح الحديبية، وذلك لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب أن يكون سفيراً إلى قريش يبين المسألة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر عمر، ثم كلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان فذهب عثمان حتى أن بعض الصحابة اغتبط عثمان في ذلك وقال: هنيئاً له سيطوف بالبيت، ولننظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يظن في عثمان، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والله! لا يطوفن البيت قبل أن نطوفه) ولما ذهب عثمان إلى مكة رأى البيت وهو متشوق إلى أن يطوف بالبيت فقال: لا أطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف به، ومنع نفسه الطواف. والمقصود أنه قبل أن يكون سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وهذه من بطولاته وشجاعته. ومن شجاعته الحازمة أيضاً أنه جمع القرآن في مصحف واحد وهو مصحف عثمان الذي وحد الله به الأمة، وهذه من المآخذ التي أشعلوها فتنة عليه كما سنبين. والمقصود أن فضائل عثمان كثيرة جداً، فله المكانة السامية السابقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة وهو يمشي على رجليه بين أظهر الناس، وفي الحديث: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل أحد فاهتز به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اثبت أحد، ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان). وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان بن عفان، فأما عمر وعثمان فكانا شهيدين رضي الله عنهما. وأيضاً قيل في رواية أخرى: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فاهتز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما عليك إلا نبي وصديق وشهيد). وشهيد هنا نكرة في سياق النفي فتعم، فكأن المعنى: كل من عليك شهيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً، وأبو بكر مات شهيداً أيضاً، وعمر وعثمان وطلحة كل هؤلاء ماتوا شهداء كما في وقعة الجمل. والنبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة لما كان أبو موسى بواباً له ففي الحديث: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، فقال أبو موسى: سأكون بواباً لرسول الله اليوم، فجاء أبو بكر يستأذن فقال أبو موسى: انتظر، فدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: أبو بكر. قال: ائذن له وبشره بالجنة. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً في الحائط تتدلى رجله في الماء، فجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم على يمينه وأدلى برجله في الماء، ثم جاء عمر يستأذن. فقال أبو موسى: مهلاً، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: عمر. قال: ائذن له وبشره بالجنة. فبشره بالجنة ودخل وجلس في الجانب الأيسر للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه فاستأذن فقال أبو موسى: مهلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من؟ قال: عثمان. قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه). وهذه البلوى كما سنبين في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم بينها أيما بيان لـ عثمان نفسه. (فدخل عثمان فتغير وجهه وقال: الله المستعان). يعني: سيبشر بالجنة على بلوى تصيبه (فدخل عثمان ثم جلس مقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم). ففي مسند أح

مبايعته بالخلافة

مبايعته بالخلافة لما مات عمر بويع عثمان بالخلافة، واختلف كيف بويع عثمان هل بالتنصيص أم بويع له رضي الله عنه وأرضاه بالاختيار؟ والصحيح الراجح أنها كانت بالاختيار؛ لأن عمر بن الخطاب قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ثم كتب الستة الذين مات عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم وهم: سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وعلي، وكأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يلمح بـ سعد بن أبي وقاص فقد قال: وإن ولي هذا فهو لها. يعني: هو الجدير بالخلافة، وقال: لم نعزله لخيانة أو عجز. فكان يرى أن أصلح الناس للخلافة هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان يرى في عثمان اللين، وكان يقول في علي: إن تولاها علي ففيه دعابة، ولكنه سيحملهم على الحق. وكان يرى في عبد الرحمن بن عوف أنه أمين وإيمانه يعدل نصف إيمان الأمة، لكنه لين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إنك رجل ضعيف وإنها أمانة ويوم القيامة تكون حسرة وندامة). فأشار إلى ذلك وألمح، وقال لهؤلاء الستة النفر: عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه شاهد لكم ويحكم بينكم، يعني يفصل بين الأقوال، ثم أعطى الزبير وطلحة صوتهما لـ علي بن أبي طالب وعثمان، وبقي عبد الرحمن بن عوف فقال: أيكم ينخلع عنها؟ فسكت علي وسكت عثمان، حتى أنهما تقدما ليصليا على عمر فقال عبد الرحمن: ارجعا كلاكما يريد الخلافة، يصلي عليه صهيب حتى يفصل في النزاع، فسكت، فقال عبد الرحمن: أتولاها أنا، فمر على الصحابة فوجد أن الصحابة لا يفضلون على علي وعثمان أحداً، فانفرد بـ علي فقال: أخذت عليك ميثاق الله إن لم تأتِ إليك الخلافة من تولي؟ قال: عثمان. ثم ذهب إلى عثمان وقال: إن لم تكن الخلافة لك من تراه يكون؟ قال: علي. فذهب عبد الرحمن بن عوف فدار على بيوت الأنصار وذهب على أصحاب رسول الله، حتى ذهب إلى النساء في خدورهن فما عدلوا بـ عثمان أحداً. وهذا يعتبر إجماعاً من صحابة رسول الله على أن أفضل الأمة بعد أبي بكر وبعد عمر هو عثمان، وهذا هو الراجح الصحيح، وإن خالف بعض أهل السنة والجماعة ففضل علياً على عثمان، لكن الراجح الصحيح أن عثمان بن عفان هو أفضل هذه الأمة بعد العمرين رضي الله عنهم أجمعين. وعبد الرحمن بن عوف ذهب إلى منبر رسول الله ونادى علياً، فجاءه علي فقال: ابسط يدك فبسط يده. قال: تبايعني على أن تحكم كتاب الله وتتبع العمرين يعني أبا بكر وعمر؟ قال: لا آلو إلا أن أكون تبعهم على قدر استطاعتي، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فسحب يده ثم قال لـ عثمان: قم. فقام عثمان فبايعه على نفس ما بايع علياً فقال: اللهم نعم. فبايعه، ثم كان أول من بايع عثمان علي بن أبي طالب، واستتم الأمر بفضل الله تعالى على عثمان، وأصبح أميراً للمؤمنين بعد الأيام الثلاثة التي جعلها عمر بن الخطاب ليختاروا لهم فيها أميراً عليهم. ولما تأمر عثمان في الست السنين الأولى اغتبط به الناس، وقدموه على عمر وفرحوا به أيما فرح، وكان لين الجانب رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر قد حبس الصحابة في المدينة وقال: لا يخرج منكم أحد، حتى في الفتوحات الكثيرة التي فتحت للمسلمين، فقد خشي عمر على أصحاب رسول الله أن تأخذهم الدنيا عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم). رضي الله عنه وأرضاه، لكن عثمان فتح لهم الأبواب وخرجوا في الأمصار، فبعد السنوات الست أشعلت الفتن، وهذا الذي سنختم به الكلام على عثمان.

جوانب العظمة في شخصية عثمان

جوانب العظمة في شخصية عثمان جوانب العظمة في شخصية عثمان كثيرة منها: أولاً: الاهتمام بالدين عن طريق عمارة المساجد، فقد اهتم بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه البناء بالحجارة والنقش، وزاد في بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليه ذلك وقيل له: كيف تفعل هذا ولم يفعله أبو بكر وعمر؟ فاحتج عليهم بفقهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى مسجداً لله ابتغاء وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة). فكان أول من اهتم بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسعة المسجد. ثانياً: لما رجع حذيفة من معركة نهاوند مع الفرس بين له أن العراقيين يقرءون بلغة والمغاربة يقرءون بقراءة، والقرشيون يقرءون بقراءة، فخشي من تشرذم الأمة وأن تظهر العصبية الجاهلية، فأشار على عثمان أن يجمع المصاحف كلها على مصحف واحد، فاستعان عثمان بـ زيد بن ثابت وغيره من الصحابة الذين كانوا يحفظون كتاب الله جل وعلا وقال: إذا اختلفت القراءات فاجمعوها على قراءة قريش، وحملهم كلهم على مصحف واحد وهو مصحف عثمان رضي الله عنه وأرضاه الذي بين أيدينا الآن، وهذه من فضائله رضي الله عنه وأرضاه.

الفتوحات في عصر عثمان

الفتوحات في عصر عثمان الفتوحات في عصر عثمان لم تكن كثيرة لكنها كانت إتماماً لفتوحات عمر، وكان هناك القمع للتمرد الذي حدث بعد موت عمر، فلما مات عمر وتولى عثمان كان كبير السن، فقد كان يكبر النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين فقط، وكان أكبر من عمر بن الخطاب، فكان شيخاً كبيراً عندما بويع له، فلما تولى عثمان الخلافة قال الفرس والروم: لا بد من إعادة الأمجاد، وتمردوا على الأمة الإسلامية، وابتدءوا يتحركون في الفتنة. وأفضل ما حدث وما يكتبه التاريخ ويسطره بماء الذهب لـ عثمان أنه أنشأ أسطولاً بحرياً للأمة الإسلامية، فـ عمر بن الخطاب خشي هذه الخطوة لما ذكر له السفن ورجال البحر وما أمر به لكن عثمان في عصره أنشأ أسطولاً بحرياً يقاتلون به، والمعركة التي دارت في البحر هي أشهر المعارك في العالم وهي ذات الصواري فقد كانت بين المسلمين وبين الروم، حتى أن المسلمين تشاوروا معهم أن يجعلوا المعركة على ظهر الأرض فأبوا فذهب المسلمون فربطوا سفنهم بسفن الروم ثم تجالدوا بالسيوف حتى أثخنوا قسطنطين قائد الروم بالجراح وفر، ونصر الله المسلمين. وفي الجهة الغربية كانت أيضاً معارك مع الروم، وأقوى وأروع ما يقال في هذا أن قائداً للمسلمين اسمه حبيب بن مسلم الزهري فقد كان مغواراً مقداماً شجاعاً، وكان في عشرة آلاف يعقد الألوية، فجاءه الروم بثمانين ألفاً، ثم طلب المدد فوصل إلى ثمانية عشر ألفاً، فلما عقد الألوية جاءته زوجته، فقالت: يا حبيب! أين ألقاك إذا حمي الوطيس وهاجت الرياح؟ -فانظروا الثابت- قال لها: اللقاء بيني وبينك في خيمة قائد الروم أو في الجنة، وانظروا إلى الثبات والقوة، يعني: إنه سوف يشق الصفوف قتلاً فيهم حتى يذهب إلى قائد الروم فيقتله لله جل وعلا، وفي المعركة ثمانية عشر ألفاً مقابل ثمانين ألفاً يتصارعون بالسيوف، وكتب الله النصر للمسلمين، وقابلته زوجته في خيمة قائد الروم بفضل الله جل وعلا عليه. فتمت الفتوحات وتسنى الأمر لـ عثمان.

الإرهاصات قبل حادثة مقتل عثمان

الإرهاصات قبل حادثة مقتل عثمان بعد الست السنين الأولى حدثت الشائعات والفتن، وظهر المغرضون والمفتونون والمأثومون الذين أرادوا قتل عثمان، وحسدوا وحقدوا هذه الأمة الإسلامية، وأرادوا هدم عروش هذه الأمة التي دانت لها الدنيا بأسرها، فبدءوا يشعلون نيران الفتنة، فأتوا بشبه على عثمان حتى يرتقوا إلى خلع عثمان أو قتله وهذه الشبه هي: شبه في شخصية عثمان، ثم شبه دينية، ثم شبه سياسية في التعامل والإدارة، ثم شبه في التعامل مع الأفراد والأسرى، وأنا ألخص ما قاله ابن تيمية فـ عثمان غير معصوم، هذا الأصل، فإذا أخطأ أخطأ وهو غير معصوم لكن عثمان سبق الناس لفضله، وعثمان هو ذو النورين الذي تستحيي منه الملائكة، وعثمان رضي الله عنه وأرضاه ولو وقع في الخطأ لضاع هذا الخطأ في بحر حسنات عثمان رضي الله عنه وأرضاه. عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث اللعين دخل في الصف المسلم ليكون طابوراً خامساً من المنافقين ويشعل نار الفتنة، فـ عبد الله بن سبأ هو الذي خرب عقائد المسلمين، فقد جاء لهم فقال: المسلمون عندهم في أبواب الفقه القياس الجلي أو قياس الأولى وقياس العلة، فقياس الأولى عنده يقول: إذا أقررتم أنتم برجوع عيسى عليه السلام ومحمد أفضل من عيسى فمن باب أولى أن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أن يخرب عليهم عقولهم، وأقرب الناس إلى هذه الفتن هم الشيعة الرافضة عليهم من الله ما يستحقون، فهم الذين أسقطوا الخلافة العباسية، وما من طامة كبرى نزلت على المسلمين إلا بسبب الشيعة، فأي خراب وأي دمار وأي هزيمة نكراء لا تأتي إلا من قبل الشيعة، حتى قام قائمهم يضرب حجر الكعبة ويأخذه ويقول: أين الحجارة من سجيل؟ أين الطير الأبابيل؟ متجاسراً على ربه جل وعلا. فالشيعة الباطنية أكفر ما يكونون، حتى المعتدلون منهم يقولون: ما عليك أن تأخذ اللقطة من سني أو من كافر، وإذا كانوا يعملون في الدوائر الحكومية فإذا خرج المسلمون نهبوا المكان، فهم يستحلون هذا المال غنيمة عندهم؛ لأن هؤلاء كفرة، فأهل السنة والجماعة أكفر أهل الأرض عند الشيعة، وهم الذين أشعلوا مع عبد الله بن سبأ الخبيث الفتنة، وألقوا بالشبهة الأولى الشخصية على عثمان فقالوا: إن عثمان ليس له فضل، فهو لم يشهد بدراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم). الشبهة الثانية في شخصية عثمان رضي الله عنه وأرضاه: أنه فر يوم أحد، ولم يقف في المعركة. الثالثة: إنه لم يحضر بيعة الرضوان، والله جل وعلا أنزل تعديله لأهل بيعة الرضوان، ولأهل بدر فلم يحضر بدر، ولا بيعة الرضوان، وفر يوم أحد، وكفى بهذا. وقد كفانا مئونة الرد عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما دخل عليه المصري عليه من الله ما يستحق يتنطع ويقول: يا ابن عمر! أما رأيت أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: اللهم نعم. قال: أما تقر أنه لم يحضر؟ قال: اللهم نعم. قال: أما رأيت أنه لم يحضر بيعة الرضوان؟ قال: اللهم نعم. فقال الخبيث: الله أكبر، فقام عبد الله بن عمر وقال: مهلاً! أما بدر فإن عثمان بن عفان قام يمرض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم سهماً في غزوة بدر فكان أفضل ممن حضر بدراً؛ لأنه قام بأمرين: قام بأمر رسول الله أن يمكث مع بنته، وقام بالأمر الثاني يمرض بنت رسول الله حتى دفنها، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم له بسهم في غزوة بدر. أما قولك: قد فر في أحد، فقد أنزل الله عدالته ومغفرته له من السماء السابعة حيث قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155]، ووجه الشاهد قوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)) فهذا تنصيص بأن الله عفا عمن فر يوم أحد، وقد فر كثير من الأفاضل والأكارم كـ سعد بن معاذ وغيره في هذه، وكان له تأويل إذ إنه أبيح لهم أن يفر المسلم من عشرة، وهم كانوا كثيراً، والله جل وعلا أنزل غفرانه لهم في كتابه فقال: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)). أما الثالثة فهي لـ عثمان وليست عليه، قال له: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاره سفيراً له، ثم جاء في بيعة الرضوان قال: وهذه يدي اليمنى واليمنى أفضل من اليسرى، هذه يد عثمان فطبق بها وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكأن اليد اليمنى يد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قال ابن عمر: خذها وارحل. فكفانا مئونة الرد على هذه الشبهة المتهافتة، وكلها شبه متهاوية ضعيفة جداً. أما الشبه الثانية فهي شبه دينية، قالوا: قد أحدث في الدين ما لم يفعله أبو بكر وعمر. فأول ذلك الأذان فقد جعل أذانين، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم أذان واحد في الجمعة، وكذا فعل أبو بكر وعمر، فهو جعل أذانين، والأذان من العبادات التي لا يجوز الزيادة والنقص فيها. والشبهة الثانية الدينية قالوا: أتم في منى، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم في منى وأبو بكر وعمر، وعثمان صدراً من خلافاته، ثم أتم. قالوا: الثالثة أنه أحرق المصاحف كلها وجمعها على مصحف واحد. والجواب عن الشبهة: أنه قد كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب، وكثرت الفتوحات في عصر عمر، وأيضاً لا يشكل علينا أن عمر لم يفعله إذ إن هذا اجتهاد، وعثمان كان يرى أن الناس ضيعوا شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من المصلحة، وقد تفرق الصحابة في الأمصار والعلم ينحصر في الصحابة، والناس ضيعوا قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، ولذلك الخلاف مشهور بين الفقهاء هل البيع صحيح إذا وقع بعد الأذان الثاني أم غير صحيح؟ مع الاتفاق على أن البائع والمشتري آثمان إذا عرفا الحكم، فقال: نجعل مؤذناً في الزوراء يدعوهم ويبين لهم أن الوقت قد اقترب فكل بائع وكل تاجر يترك تجارته ويجهز نفسه حتى يذهب إلى الصلاة، وهو تعلم من إنكار عمر عليه؛ لأنه كان في السوق ذات مرة يبيع ويشتري فسمع الأذان فذهب فتوضأ ودخل إلى المسجد وعمر لا يسكت عن أمر يتخلف عنه فاضل كـ عثمان بن عفان وهو في الخطبة، فقطع الخطبة ثم قال: ما بال أقوام يأتوننا بعد قيام الخطيب أو بعد الأذان؟ فقال عثمان: والله! يا أمير المؤمنين! ما زدت على أن توضأت وجئت. يعني: سمعت الأذان في السوق فما هو إلا أن توضأت وجئت. قال: والوضوء أيضاً! يعني الوضوء فقط وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الغسل أفضل فتترك هذه الفضيلة أيضاً، وهذا الذي احتج به العلماء على أن غسل الجمعة سنة؛ لأنه لو كان فرضاً ما تركه عمر، فـ عمر أنكر عليه في الفضيلة فألا ينكر عليه في الواجب؟ فلما علم ذلك عثمان وتعلم الدرس جعل مؤذناً يذكر الناس بأن يتركوا الصفق والبيع والشراء في الأسواق ويأتون إلى صلاة الجمعة. والإجابة الثانية: أن هذه تقيد شرعاً أنها من المصالح المرسلة. والإجابة الثالثة: أنها سنة متبعة؛ لأن عثمان له سنة مستقلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ). وهذه سنة متبعة وليست بدعة. أما الشبهة الثانية وهي مسألة الإتمام في منى فقد كفانا الرد علي بن أبي طالب لما سألوه عن ذلك فقال: كان عثمان قد تأهل بمكة يعني عنده أهل في مكة، وأيضاً عنده بيوت هناك، فقال: كان عثمان قد تأهل في مكة فأراد أن يتم لأنه تأهل، لأن عنده القصر يكون للسفر لا للنسك، فهو غير مسافر الآن، وهو من أهل مكة فعليه أن يتم، وهذا الذي اعتذر به ابن القيم وغيره لـ عثمان؛ لأنه لم يتم، حتى إن ابن مسعود وافقه في هذا. وإن قلنا: إنه خالف أبا بكر وخالف عمر فقد ترك الأولى أو ترك السنة لكنه غير مبتدع؛ لأن للمسافر أن يتم وأن يقصر، والقصر أولى، لكن إن أتم فلا إنكار عليه. أما الثالثة في جمع القرآن فنقول: هي فضيلة له، فهو لم يبتدع فقد جمع أبو بكر، وجمع عمر، وجمع هو القرآن على كتاب واحد. تبقى مسألة الشبهات التي أوردوها عليه في التعامل مع أفاضل الصحابة مع ابن مسعود، ومع أبي ذر، ومع عمار بن ياسر. أما أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه فقد كان له منهج فيه تشديد يمكن أن يحتمله الصحابة لكن بعض الصحابة يمكن ألا يحتمل هذا، فكان أبو ذر -وهو من أزهد الناس وأصدقهم لهجة- مذهبه أن أي مال اكتنزه المرء زائداً عن النصاب لا يجوز أن يحتفظ به، بل لا بد أن يتصدق به، فمثلاً لو أن رجلاً عنده أربعة آلاف وزكى حين بلغ النصاب فلو بقي معه مال زائد عن حاجته في يومه ذلك وجب عليه إخراجه وإن لم يخرجه أثم بذلك! فشق ذلك على بعض الصحابة وبعض التابعين فراجعوا عثمان فراجع عثمان أبا ذر فلم يرجع أبو ذر وقال:

مقتل عثمان

مقتل عثمان قتل عثمان صابراً محتسباً، وكان قد نام ليلة طيبة هنيئة، فرأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا عثمان! تفطر عندنا اليوم. فعلم أنه مقتول رضي الله عنه وأرضاه، فقام صائماً وما أفطر، ثم أخذ كتاب الله بين يديه يتلوه، فتسور هؤلاء الأوغاد بيتاً بجانب بيت عثمان رضي الله عنه وأرضاه ثم دخلوا عليه، فلما دخلوا عليه رأوه يقرأ كتاب الله فدخل عليه محمد بن أبي بكر أولاً، وقال بعض الرواة: إنه دخل فأخذ بلحيته. فقال عثمان: لو كان أبوك حياً ما رضي بهذا المقعد مني، يعني ما رضي هو نفسه أن يقعد هذا المقعد مني، فارتجف قلب محمد بن أبي بكر وقام يحجز عنه ويدافع عنه وينافح وما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وفي رواية: لما دخل على عثمان فرآه فقال: ارجع فلست بصاحبي. فرق قلبه لهذا الكلام وخرج من وقته، ثم دخل هؤلاء الأوغاد، والمصري الخبيث هو الذي قتله، ويقال: إن عبد الله بن سبأ هو الذي قتله، وممن قال هذا محب الدين الخطيب فلعله ينافح عن المصريين فهو قال: ما قتله إلا عبد الله بن سبأ الأسود الخبيث. وبعض الروايات قالت: المصري الخبيث هو الذي قتل عثمان، فدخل عليه وهو يقرأ الكتاب ويمسك المصحف بيده فقطع يده، فسال الدم على المصحف فقال: كم كتبت هذه اليد كلام الله جل وعلا؛ لأنه كان كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تركوه ينزف حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه. ودخلت زوجته فقطعوا يدها، ثم نظر هذا الخبيث إلى جسدها فقال: ما أجمل هذا الجسد! قالت: خسئت والله! ما جئت لله. يعني لو جئت لله ما قلت هذا، وتنظر إلى عورة أمير المؤمنين. ثم تركوه حتى مات رضي الله عنه وأرضاه صابراً محتسباً، ودفن بالبقيع، وذهب تصديقاً للرسول صلى الله عليه وسلم يفطر مع رسول الله. ونسأل الله جل وعلا أن نراه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، ويحشرنا معه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

الأسئلة

الأسئلة

بيان بطلان دعاوى ظلم عثمان لرعيته

بيان بطلان دعاوى ظلم عثمان لرعيته Q هل هناك علامات تدل على أن عثمان قتل ظلماً؟ A نعم، فهناك حديث مهم جداً في البخاري وهو حديث حذيفة لما جلس بجانب عمر فقال عمر بن الخطاب: (أيكم يحفظ حديث الفتن؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين! قال: إنك لجريء، ثم قال له: هاته. فقال له: فتنة الرجل في أهله وماله يكفرها الصلاة إلخ، قال: لست عن هذا أسأل. قال: عم تسأل؟ قال: عن الفتن التي تموج كموج البحر. قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟! بينك وبينها باب -انظروا إلى الفقه- قال: يا حذيفة! يفتح الباب أم يكسر؟ قال: يكسر. قال: إذاً لا يغلق بعد اليوم). وحقاً ورب العزة! لم يغلق حتى الآن. فقالوا لـ حذيفة: أكان يعلم عمر من الباب؟ قال: كان يعلمه كما كان يعلم أن غداً دون الليل. يعني يقيناً يعلمه، ولذلك ورد عن أنس وعن أبي هريرة وأم سليم وغيرهم لما جاءهم مقتل عثمان قالوا: قتل عثمان مظلوماً، فقرروا هذا، ثم بينوا للأمة القرينة والإشارة التي تبين أن قتله كان ظلماً فقالوا: والله! لو كان قتله حقاً لتحلبن الأمة بعده لبناً. يعني: أن هذا باطل أزاحوه للحق فتأتيهم الدنيا بالخير. وإن كان قتله ظلماً لتحلبن الأمة بعده دماً، ولم يرقأ دم الأمة حتى الآن، فحتى الآن تحلب الأمة دماً بسبب مقتل عثمان ظلماً رضي الله عنه وأرضاه. فما إن تولى علي بن أبي طالب إلا وعملت السيوف في المسلمين، ثم بعده في الخلافة الأموية، ثم في الخلافة العباسية.

بيان حقيقة الأرض التي أعطاها عثمان لمروان بن الحكم

بيان حقيقة الأرض التي أعطاها عثمان لمروان بن الحكم Q هل أخذ على عثمان أنه أعطى مروان أرضاً؟ A نعم، هو أعطى هذه الأرض لابن عمه، فهو أخذ عليه أيضاً أنه أعطاها لـ مروان، وهو ما أعطاها لـ مروان، بل مروان أخذ سهمه، واشترى مروان باقي الغنائم وبقي عليه في ذمته مال، فلما جاءه وبشره بحصار المسلمين على الروم قال: هي هبة لك. فوهبه الباقي له من ماله الخاص، فقد كان ثرياً غنياً رضي الله عنه وأرضاه. وأيضاً هذه الأرض كانت مواتاً فله أن يحيي ما شاء، فليست بشبهة أيضاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا مواتاً فهي له) وله أن يحيي أي أرض للمسلمين وإن كان مروان يعمل عليها؛ لأنه كان كاتباً له.

بيان منهج أبي ذر في الأموال

بيان منهج أبي ذر في الأموال Q ما هو منهج أبي ذر في الأموال الذي نفاه عثمان من أجله؟ A أن أبا ذر كان يرى من منهجه أن أي مال زائد عن الحاجة فهذا كنز لا بد من التخلص منه، والتصدق به وجوباً، يعني أنت الآن تقر بأن لك ألف زيادة مثلاً، فـ أبو ذر من منهجه أنه يأمرك وجوباً أن تخرجه، واستدل بإطلاق الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، وهذا مما اشتد وشق على المسلمين فراجعه عثمان فلم يرجع عن قوله فنفاه إلى الربذة.

براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان

براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان Q هل كان لـ محمد بن أبي بكر يد في مقتل عثمان؟ A الله جل وعلا طهر يده من دم عثمان فهو بريء من دم عثمان كما برئ الذئب من دم ابن يعقوب عليه السلام.

الأدلة التي تبرئ محمد بن أبي بكر من دم عثمان

الأدلة التي تبرئ محمد بن أبي بكر من دم عثمان Q هل هناك أدلة تثبت أن محمد بن أبي بكر لم يشترك في قتل عثمان؟ A نعم، نحن عندنا مخارج كثيرة تثبت أن محمد بن أبي بكر لم يفعل ذلك ولم يشترك فيه، فـ عائشة أولاً خرجت في خلافة علي ولم تبايع علياً بل خرجت تطالب بدم عثمان ولو كان محمد مشتركاً في دم عثمان لكانت طلبت بدم أخيها، ولما قتلوا أخاها بكت، بل قنتت شهراً على من قتل محمداً رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان قتل محمد من أجل دم عثمان كان قتلاً حقاً فكيف تقنت هي شهراً على من قتله؟ فالراجح أنه لم يشترك رضي الله عنه وأرضاه، بل حفظه الله وحفظ يده من أن تتلوث بدم عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

فضائل علي بن أبي طالب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل علي بن أبي طالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو رابع الخلفاء الراشدين المهديين، أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة البتول، وأعظم الشجعان الأبطال، وهو أكثر من وردت فيه الفضائل من الصحابة الكرام. وقد ضلت فيه طائفتان: طائفة ترفعه فوق منزلته، وتصفه بما ليس فيه، وطائفة تنصب له العداء وتسبه، والحق وسط بين الجافي والغالي، فهو أفضل الصحابة بعد الثلاثة الخلفاء، وقد كان الحق معه فيما حصل في عصره من الاختلافات والخصومات.

مقدمة في الفتن

مقدمة في الفتن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع ختام المسك مع هذه الكتاب الجليل العظيم (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وذلك في الكلام على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالذات عن الخلفاء الأربعة، ونختم اليوم بالكلام على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه. جاء في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أنه جلس مع عمر بن الخطاب فقال عمر: أيكم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسليم أحاديث الفتن، فقال: أنا يا أمير المؤمنين! قال: إنك عليه لجريء! قال حذيفة: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي) فقال عمر: ليس عن هذا أسأل، فقال حذيفة: عم تسأل يا أمير المؤمنين؟! قال: أسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟! بينك وبينها باب مغلق قال: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه بفقهه الواسع: إذاً لا يغلق أبداً. وقد كسر الباب ولم يغلق حتى الآن، وقالوا لـ حذيفة: يا حذيفة! أعلم عمر بن الخطاب من الباب؟ قال: نعم، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، علم أنه هو الباب كما يعلم أن دون غد الليلة. وأيضاً لما بلغ أنس بن مالك وبعض الصحابة مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه اتحدت كلمتهم وقالوا: والله لئن قتلوه حقاً فإن الأمة بعده لتحلبن لبناً، وإن قتلوه ظلماً لتحلبن الأمة بعده دماً، وقد حلبت الأمة بعده دماً عبيطاً، وما زال الدم حتى الآن يسيل ولا يتوقف. وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه انتفضت الأمة لتؤمر عليها خليفة وهو الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وسنتكلم عن فضله ونسبه، ثم نتكلم عن إمامته، ثم بعد ذلك سنذكر الفتن التي ظهرت في عصره، ثم نبين مع من كان الحق.

نسب علي بن أبي طالب

نسب علي بن أبي طالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الرابع، وهو من أبوين هاشميين، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تربى في بيت النبوة، فلشدة الفاقة التي أحاطت بـ أبي طالب اقترح النبي صلى الله عليه وسلم على أعمامه أن يأخذ كل واحد منهم ولداً من أولاده؛ ليخففوا الحمل عنه، فقال أبو طالب: خذوا من شئتم واتركوا لي عقيلاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فتربى عنده في بيت النبوة، وأخذ حمزة جعفراً رضي الله عنهم. وعلي بن أبي طالب كان يكنى بـ أبي الحسن، ويكنى بـ أبي تراب، فأما كنيته بـ أبي الحسن فلئن أكبر أولاده هو الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكنى بـ أبي الحسن، وكناه الرسول صلى الله عليه وسلم بـ أبي تراب، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة ذات يوم وكان بين علي وبين فاطمة ما يحصل بين الزوج وزوجه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (أين ابن عمك؟) وكأنه قد شعر بأن هناك شيئاً بين علي وبين فاطمة فقالت: يا رسول الله! غاضبني ثم ذهب إلى المسجد، فذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع التراب على بردة علي بن أبي طالب وهو نائم في المسجد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أزاح التراب عن جسده: (قم يا أبا تراب، قم يا أبا تراب)، فكناه بـ أبي تراب، فكانت أحب الكنى إليه أن يكنى بـ أبي تراب رضي الله عنه وأرضاه. ولقب بالإمام، وهذا اللقب جاء عن طريق الشيعة، فالشيعة هم الذين رفعوا هذا الشعار، لكنه الخليفة الراشد الرابع. وعلي بن أبي طالب كانت له الحبوة والمكانة السامية عند رسول الله صلى، فهو ابن عمه، وهو سليل بني هاشم، وهو الذي تزوج سيدة نساء العالمين فاطمة، ولما تقدم لها أبو بكر وتقدم لها عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أزوجها لـ علي رضي الله عنه وأرضاه.

الأحاديث في فضل علي بن أبي طالب

الأحاديث في فضل علي بن أبي طالب وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل علي، حتى قال شيخ الإسلام وغيره: إن أكثر الصحابة جاءت الآثار في فضله هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ومن هذه الآثار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فقال عمر الفاروق: ما تمنيت الإمارة إلا ذلك اليوم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحبه الله ورسوله. وأيضاً جاء في فضله أن سعد بن أبي وقاص كما روى مسلم عنه أنه قال: (ثلاث قالهن رسول الله لـ علي لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، والثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب في إحدى الغزوات -وهي غزوة تبوك- فاستخلف علي بن أبي طالب على المدينة، فقال علي: يا رسول الله! أتتركني مع النساء والذراري؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، وأما الثالثة: فلما أنزل الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] أتى النبي صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وقال: اللهم إن هؤلاء أهلي)، فتمنى سعد واحدة من هذه الثلاث. وأيضاً في الصحيح عن علي بن أبي طالب قال: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بأن علامة الإيمان حبي، وعلامة النفاق بغضي، أو قال: من أبغضني فهو منافق)، رضي الله عنه وأرضاه. ووردت آثار كثيرة في فضل علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وربما كانت مكانته السامية عند النبي صلى الله عليه وسلم هي نفسها موجودة عند أبي بكر وعمر وعثمان، فرضي الله عنهم أجمعين.

زهد علي وورعه وعلمه وفقهه

زهد علي وورعه وعلمه وفقهه كان علي زاهداً عابداً ورعاً فقيهاً عالماً شجاعاً مبرزاً فارس الميدان، وهو أشجح الشجعان بالاتفاق، وقد كان عابداً قائماً بالليل، صائماً بالنهار، متصدقاً، زاهداً رضي الله عنه وأرضاه، فكان يأكل الخل، ويمشي مع الصبيان إلى حيث أرادوا، ويعين ذا الحاجة، ويغيث الملهوف رضي الله عنه وأرضاه، وما أروع ما وصفه به ضرار، فلما سأل معاوية ضراراً وقال له: صف لي علياً، قال: نحني عن هذا، قال: لا بد أن تصف لي علياً رضي الله عنه وأرضاه، فقال: والله يا أمير المؤمنين! كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يستأنس بوحشة الليل، طويل الفكرة، غزير العبرة -يعني: أنه بكاء رضي الله عنه وأرضاه- رأيته ذات ليلة وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قائم قابضاً على لحيته يتململ تململ السقيم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا! غري غيري، قد طلقتك ثلاثاً، أبي تشوفت؟ أئلي تطلعت؟ عمرك قصير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد وطول السفر ووحشة الطريق! رضي الله عنه وأرضاه. وكان أيضاً تقياً عالماً، وهو من أعلم الصحابة إن لم يكن أعلم الصحابة بالقضاء، كيف ولا وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقضاهم علي بن أبي طالب)، رضي الله عنه وأرضاه، كما سنبين أن عمر الملْهَم في القضاء كان يأخذ بقضاء علي ويقول: قضية أو مسألة ليس فيها أبو الحسن أعوذ بالله منها. فكان علي عالماً فقيهاً، وقد قسم الناس من حيث العلم إلى ثلاث مراتب فقال: الناس على مراتب: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم. وهو الذي أسس أصول علم النحو واللغة العربية لما وكّل بذلك أبا الأسود الدؤلي، وكتب له تقاسيم العلم وقال: من أقسام العلم: ظاهر ومضمر، وما ليس بظاهر وما ليس بمضمر. فكان عالماً فرضياً. وكان قاضياً، وقد رفعت مسألة إلى عمر بن الخطاب أن امرأة زنت فاشتبهت هل هي حبلى من هذا الزنا أم لا؟ فقام عمر بن الخطاب ليجلدها الحد، فقال علي: لا تجلدها الحد؛ فقد سلطك الله على جسدها ولم يسلطك على ما في بطنها، أي: أنها تتحين حتى تتيقن هل هي حبلى أم لا، فأخذ عمر بن الخطاب بقول علي بن أبي طالب. ولما جيء بالمخمور الذي يشرب الخمر أكثر من مرة احتار عمر أيجلده الأربعين أم يجلده فوق الأربعين، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: إن الذي يشرب الخمر إذا شرب الخمر سكر، فإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون جلدة، فأخذ بقوله وجلده ثمانين جلده، رضي الله عنه وأرضاه. وكان زاهداً، فكان ينصح الأمة بأسرها ويقول: إن الدنيا قد تهيأت مدبرة، وإن الآخرة قد تهيئات مقبلة، ولكل بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا. رضي الله عنه وأرضاه، ونسأل الله جل وعلا أن يحشرنا في ركابه مع النبي صلى الله عليه وسلم.

بيعة علي

بيعة علي وأما بيعة علي فلما قتل عثمان باليد الأثيمة غدراً وظلماً وكان شهيداً فاضلاً محتسباً، ظلت الأمة لا أمير لها خمسة أيام، فعلم الثوار أنهم لو رجعوا إلى بلادهم ولا أمير للأمة فإن الدائرة ستدور عليهم، فذهبوا إلى علي بن أبي طالب يطلبونه للإمارة، وكان يهرب منهم إلى البساتين والحوائط، فدخلوا عليه ومعهم السيوف، واشتجروا في المدينة، فذهب بعض القوم إلى طلحة، وبعضهم إلى ابن عمر، وبعضهم إلى الزبير، وحق لنا أن نقول: ما كان حينئذ على وجه الأرض أحد أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فهو أفضل الناس على الإطلاق، وهو الذي له الأهلية التامة للخلافة، فبايعوه فاستتب له الأمر، وبايعه طلحة والزبير، وأما معاوية فكان على الشام، ولم يرد أن يبايع علياً حتى يقتص من قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه. ونقل علي الخلافة إلى الكوفة، وأنا سأمر على هذه الفتن مرور الكرام؛ أدباً مع الصحابة، وحتى لا تشحن الصدور، ولا تغوص الأقلام في هذه الدماء، فهي دماء عصمنا الله من أن نشاهدها فنعصم ألسنتنا من الكلام فيها، فسنمر عليها مرور الكرام، ونبين أين الحق من الباطل. فـ معاوية لم يبايع علياً رضي الله عنه وأرضاه، وقيل: إن سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وأبا موسى رضي الله عنهم وغيرهم لم يبايعوا علياً، وهذا باطل، فالصحيح أن الصحابة أجمعين قد بايعوا علياً وأقروا بإمامته رضي الله عنه وأرضاه، وأما معاوية فلم يبايع حتى يشترط، وهو لم ينازعه في الخلافة، ولكن اشترط أن يقتص من قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وسنبين أن الحق لم يكن مع معاوية، فقد اجتهد فأخطأ فله أجر رضي الله عنه وأرضاه، وعلي بن أبي طالب اجتهد فأصاب فله أجران. فالمقصود أن البيعة تمت لـ علي، وأصبح خليفة للمسلمين باستحقاق وبجدارة كما قال الذهبي: ما كان على أرض البسيطة أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب. وكذلك باتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نهج في سياسة الخلافة نهج عمر بن الخطاب، فقد حبس الصحابة في المدينة، حتى لا يغتروا بأمر الدنيا، وأخذ الاقطاعات التي كان وزعها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وردها إلى بيت المال، وعزل كل الولاة الذين تسببوا وأثاروا الفتنة.

الفتن التي ظهرت في خلافة علي

الفتن التي ظهرت في خلافة علي

وقعة الجمل

وقعة الجمل لما استتب له الأمر بعث عبد الله بن عباس وغيره إلى الأمصار التي كانت تحت يده ليكونوا أمراء عليها، ثم ظهرت فتن في هذا العصر الذي هو خلافة على منهاج النبوة، وهي فتن ثلاث، هذه الفتن سنتكلم عنها بإيجاز، ونحقق المسائل فيها ونبين أين الحق من الباطل. فأما الفتنة الأولى فهي فتنة الجمل، والفتنة الثانية: فتنة صفين، والفتنة الثالثة: فتنة النهروان، وهذه هي أشد الفتن التي حدثت في عصر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. وقبل أن نتكلم عن هذه الفتن فقد أخذ على علي بعض الأمور في خلافته، وهي: أولاً: أخذ عليه أنه لم يولِّ طلحة والزبير أي إمارات. ثانياً: أنه تولى الخلافة في هذا الزمن العصيب بعد مقتل عثمان والفتن قد نزلت تطغى على الناس. ثالثاً: أخذ عليه أنه عزا معاوية ولم يداره ويجعله تحت أمرته حتى يبايعه، ثم بعد ذلك يفعل ما شاء. رابعاً: أخذ عليه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أنه حبس الصحابة في المدينة كـ أبي موسى وغيره. وهذه المآخذ التي أخذت على علي كان الحق فيها مع علي، فأما مسألة طلحة والزبير فقد نظر إلى طلحة والزبير فرآهما قرينين له، وكانا من أهل الشورى ويتطلعان إلى الخلافة، ولو أمر كل واحد منهما على مصر من الأمصار لالتف الناس حوله، وثارت الفتن مرة ثانية، وقد كان ما توقعه، فلما خرجا واستأذنا علي بن أبي طالب للعمرة قال: هذه ليست عمرة ولكنها غدرة، ولما خرجا حدث ما حدث كما سنبين. وأما الأمر الثاني وهو قبوله للخلافة في وقت الفتن، فقد كان الحق معه أيضاً، ومن أحق من علي بالخلافة، قال يوسف عليه السلام، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، ولو تمناها وطلبها علي فهو أحق بها، ولا أحد أحق بها من علي رضي الله عنه وأرضاه. ولو ترك الناس يتخبطون لضاعت الأمة، فلا بد من أمير يضبط أمور الخلافة، فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أهل لها. وأما مسألة عدم تولية معاوية فـ علي لا يناقض نفسه، فكثيراً ما قام إلى عثمان يشاوره وينصحه أن يعزل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فلما تولى هو الخلافة قال: أنا أتكلم مع الرجل في عزله وأبقيه على نفس المكانة! فعزله وكان الحق معه، وحتى وإن لم يكن الحق معه فحكمة الله اقتضت أن تنزل الفتن في هذا العصر. وأما فتنة الجمل فبعدما استأذن طلحة والزبير رضي الله عنهما وأرضاهما إلى مكة للعمرة، قامت عائشة وقالت: نطلب بدم عثمان، فالتقوا بـ مروان بن الحكم الذي كان سبباً في قتل عثمان؛ لأن علي بن أبي طالب لما تعمم بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج متقلداً بسيفه حفاظاً على عثمان رده عثمان، وكان قد أرسل الحسن والحسين لنصرته، وقيل له: لو قدم لهم مروان ما قتل، وكان ذلك اجتهاداً من عثمان أنه يبقى صابراً محتسباً، فالتقوا به في مكة، فخرجوا طلباً للثأر من قتلة عثمان، وقتلة عثمان قد انتشروا في جيش علي بن أبي طالب وهو لا يعرفهم. فخرجوا إلى البصرة فوقفوا عند مكان يسمى الحوأب، فنبحت الكلاب، فقالت عائشة: هل هذا الحوأب؟ فقيل: نعم، فقالت: ردوني؛ فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟). وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وصححه بعض العلماء، لكن يستأنس به أن عائشة كأنها وجدت نفسها ليست صائبة في الخروج في طلب دم عثمان، وقد دلس عليها الثوار على أنها ليست في الحوأب، فذهبت مع طلحة، فبعث إليهم علي بن أبي طالب بـ القعقاع بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، فذهب فقال: يا أمي! ما الذي أتى بك؟ قالت: أتيت للإصلاح بين الناس، فقال لـ طلحة: ما الذي أتى بك؟ فقال نفس مقالة عائشة، وقال ذلك للزبير، فقال مثل ما قالت عائشة، فقال القعقاع: آلإصلاح يأتي بالقتل؟! وكانوا في الطريق قد مروا ببعض قتلة عثمان فقتلوهم، فتألبت القبائل نصرة لهؤلاء الذين قتلوا، وذكر لهم القعقاع أنهم قد أفسدوا أكثر من المصلحة التي ترجى، فاقتنعوا بكلامه، فبعثوا إلى علي أن الأمر على الصلح ويرجعون من حيث أتوا، لكن الثوار أبوا ذلك، وحكمة الله اقتضت أن تثار الفتنة، فذهب ألف من الثوار فأعملوا القتل في جيش طلحة والزبير، ثم التقى الصفان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقام علي بن أبي طالب صاحب المروءة والشجاعة فقال: ألا يخرج طلحة؟ ألا يخرج الزبير؟ فخرج له طلحة، فقال له علي بن أبي طالب مبكتاً: يا طلحة أحبست زوجك في بيتك وخرجت بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها؟! فاستحيا طلحة، ثم قال له: أما سمعت رسول الله يقول: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، فأغمد سيفه واستدار، ثم قال: أين الزبير؟ فخرج الزبير، فقال: يا زبير! أما تذكر أني مررتُ عليك فنضرت إلي فضحكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحبه، فقلت: نعم، فقال لك رسول الله: تقاتله وأنت له ظالم؟) أتذكر؟ فقال الزبير: والله ما تذكرته إلا الساعة، فأغمد سيفه واستدار، فكلمه ابنه، فقال: لا رجعة، فرحل الزبير، لكن أبى الله جل وعلا إلا أن يقتتل الفريقان لحكمة سنبينها. فاقتتلا وقتل الزبير وقتل طلحة، وقاتل الزبير دخل بسيف الزبير على علي، فنظر علي مندشهاً وقال: أسيف الزبير هذا؟ قال: نعم، وقد سلبته منه، فقال له: أبشر بالنار، من قتل ابن صفية فهو في النار، اذهب. وقال: دلوني على طلحة، فوجده طريح الأرض، فنحى التراب عن وجهه وقال: يعز عليَّ أن أراك في هذا الموقف، ثم بكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. وذهب إلى أصحابه فوجد المقتلة عضيمة عند الجمل، فالتف الجنود حول جمل عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقال عمار بعدما سبها رجل منهم: مه - يعني: اسكت - والله! إنها لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وإن الله ابتلاكم بها أتسمعون لها أم تتبعون أمر الله جل وعلا. ثم أمر علي بأن يعقروا هذا الجمل فعقروه، ثم أخذوا عائشة في الهودج ومكن لها مكاناً طيباً مريحاً، ثم أكرمها أيما إكرام، ثم أحسن لها الكلام، ثم رجع بها إلى المدينة، وأخمدت الفتنة، ومات طلحة ومات الزبير، ورجع علي إلى الكوفة.

وقعة صفين

وقعة صفين لما رجع علي إلى الكوفة ارتحل معاوية إلى علي بجيشه من الشام، فبعث إليه علي بن أبي طالب يبين له أن الإمرة له، وأنه لا يحق له أن يشق عصا الطاعة، فلم يستمع معاوية إلى هذه الرسالة، وزحف بجيشه وكانت الفتنة الثانية وهي: فتنة صفين. وهذه الفتنة ضيع المؤرخون والمستشرقون التاريخ فيها، ولطخوه بدماء فاسدة وبكلام مزور، حتى إنهم ذكروا أن أبا موسى الأشعري يضحك عليه وكأنه طفل غر، وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه ضحك عليه وغرر به حتى قال: خلعت علي بن أبي طالب، وقال عمرو بن العاص: أثبت معاوية، وهذا كله باطل مختلق، والصحيح في ذلك ما عليه أهل التحقيق أن أبا موسى الأشعري لما جلس معهم في الجلسة قال: أرى أن الأمر لا يخرج عن النفر الذين توفي رسول الله وهم عنهم راضٍ، ومن هؤلاء النفر سعد لكنه رحل وباع الدنيا وزخارفها وباع الخلافة، حتى إن ابنه يقول له: إنهم يتصارعون على الخلافة وأنت هنا في الصحراء، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)، فاعتزل الناس. وبالاتفاق أن علياً هو أولى الناس بها ممن تبقى من الستة أصحاب الشورى. فقال أبو موسى: ولا شأن لك أنت ولا معاوية، وإن يستعن بكما ففيكما معونة، يعني: فأنتم أمراء، وأما الخلافة فلا تكون إلا في هؤلاء النفر، فهذا الذي عليه أهل التحقيق. فلم يسمع لـ أبي موسى الأشعري، وحدثت مقتلة عظيمة بين الاثنين ولن نتكلم عنها، وإنما نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل في الذي أثار الفتنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأسأل ربي العظيم أن يجعل المخطئ منهم مأجوراً غير مأزور، ويجعل أجر المصيب منهم فوق الذي أخطأ، ويغفر لهم زلتهم. ولما حدثت المقتلة قام علي بمروءته فقال لـ معاوية: اخرج بارزني؛ يقتل أحدنا الآخر وتبقى الخلافة لواحد منا ولا نريق دماء المسلمين، فلم يستمع له وخاف من مبارزته، فخرج عمرو بن العاص فبارزه وكاد أن يقتله حتى أظهر سوءته فاستحيا علي منه فتركه، فهرب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، ثم رفعوا -أي: أصحاب الشام- المصاحف بعدما كانت الدائرة تدور عليهم، فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح والسيوف، فتوقف جيش الكوفة، وكان علي صائب النظر فقال: لا تتوقفوا، فلم يستمعوا له وتألبوا عليه، فلما يرضوا بكلام علي بعد رفع المصاحف، ثم أتوا بـ أبي موسى الأشعري، وكان علي يقول: ابن عباس، وقال ابن كثير يقول: يا ليتهم رضوا بـ ابن عباس؛ لأنه كان ذا حجة يستطيع أن يقنع القوم، ولكن لم يرضوا إلا بـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وأبوا على علي أن يبعث عبد الله بن عباس.

فتنة الخوارج

فتنة الخوارج وبعد حدوث المقتلة في صفين رجع كل صف إلى مكانه علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام، واستتب الأمر بعد ذلك لـ معاوية قبل أن تظهر فتنة الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تخرج خارجة يمرقون من الدين، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان)، وقال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم)، فخرج أهل الكوفة وانقسموا على علي، فخرجوا بتنطع بارداً وهم يقولون: حكّم الرجال، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فكفروا علياً وكفروا من معه وكفروا الصحابة، ثم ذهبوا إلى النهروان ومر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنهم وأرضاه، فقالوا له: حدثنا بحديث سمعته من أبيك سمعه من رسول الله، فقال: سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي)، ثم سألوه عن علي بن أبي طالب فقال فيه قولاً حسناً، فقتلوه وقتلوا امرأته، وبقروا بطنها وكانت حبلى، وقد قالت لهم: اتقوا الله فيّ إني امرأة حبلى، فلم يبالوا فقتلوها وبقروا بطنها، حتى إن واحداً منهم بتنطع بارد سقطت ثمرة فأكلها ومضغها، فقال الآخر: اتق الله إنها ليست ملكاً لك، فلا بد أن تشتري هذه الثمرة أو تستأذن صاحبها! فبعدما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وبقروا بطن امرأته صاروا يتنطعون بهذا الورع الكاذب! ومن حكمة الله جل وعلا أننا علمنا فقه قتال الطائفة الباغية مما حدث مع علي، ولولا ما حدث مع علي ما عرفنا كيف يقاتل المؤمن الطائفة الباغية، وما هو فقه التعامل مع الطائفة الباغية. ولما قالوا لـ علي: هل كفروا؟ قال: لا، من الكفر فروا، وقال: هم إخواننا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا إلا أن يبارزونا -يعني: أن يبتدءوا القتال معنا-، فإن قاتلونا قاتلناهم، ولا نسبي نساءهم، ولا يذفف على جريح، وهذه ضوابط قتال الطائفة الباغية، وهذا الكلام مشتق من قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. ومن هذا الفقه: ألا يذفف على جريح، يعني: لو جرح رجل منهم فلا يقتل، بل يؤخذ ويداوى، وأيضاً إذا ألقى أحد سلاحه فلا يقتل. فمن فقه قتال الطائفة الباغية ألا يذفف على جريح، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن استسلم فهو آمن؛ لأنه مسلم كالمسلمين. فقاتلهم علي رضي الله عنه وأرضاه وقتلهم، وكانت هذه علامة من علامات أن الحق مع علي كما سنبين، وهذه الفتنة هي الأخيرة.

استشهاد علي

استشهاد علي بعد هذه الفتن الثلاثة التي كانت في عصر علي استعجل الثوار قتل علي، فيموت شهيداً عند ربه مصداقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على أحد واهتز أحد وكان هو عليه وعلي وعثمان وأبو بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أثبت أحد؛ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد)، وكان علي من الشهداء. وأيضاً نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي ذات مرة فقال له: (أتعرف من أشقاها؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أشقاها صاحب الناقة، وأشقاها من يضرب هذه فتبتل به هذه)، ويشير إلى رأس علي رضي الله عنه وأرضاه. فجاء أشقاها، وكان علي بن أبي طالب قد اغتم بأهل الكوفة أيما غمّ، ورأى منهم الشقاق والخيانة، فطلب من ربه أن يقتل وأن يسارع أشقاها بقتله، فكان يمشي بين السواري ويقول: أين أشقاها؟ أما يبعث أشقاها؟ حتى جاء أشقاها فضربه رضي الله عنه وأرضاه وقتله بسيف مسموم، فذهب إلى ربه شهيداً، وكان الحق معه.

الأدلة على أن الحق كان مع علي

الأدلة على أن الحق كان مع علي الأدلة على أن الحق في الثلاث الفتن كان مع علي ما يلي: الوجه الأول: رجوع الصحابة إليه، فهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان أفقه الناس في عصره، وقد بكى بكاء شديداً بعدما علم بقتال علي للخوارج وأن الانتصار كان لـ علي، فبكى وقال: يا ليتني قاتلت مع علي، فندم ندماً كبيراً أنه لم يقاتل مع علي. وعائشة لما بلغها مقتل الخوارج، قالت: والله! إن الحق كان مع علي، وما كان بيني وبينه إلا ما كان بين الأحماء بعضهم وبعض، رضي الله عنهم وأرضاهم. الوجه الثاني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، إذاً فـ عمار كان مع الفئة التي معها الحق، بل جاء صريحاً في بعض الآثار والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أينما كان الحق كان عمار)، وهذا دليل آخر على أن علياً كان معه الحق؛ لأن عماراً كان مع علي رضي الله عنه وأرضاه، فقد قتل عمار في وقعة صفين التي وقعت بين جيش علي وجيش معاوية، فدخل الرجل الذي قتل عماراً وقال: قتلت عماراً وهذا سلبه، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أبشر بالنار، (فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بالنار من قتل ابن سمية) ثم بين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، حتى إن كثيراً من جيش الشام ذهب يبايع علياً؛ لأنه علم أن الحق مع علي، فما كان من معاوية إلا أن قال: قتله الذين أخرجوه، يعني: علياً، فرد علي بن أبي طالب بفقه رصين فقال: إذاً قتل محمد حمزة، رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه هو الذي أخرجه إلى أحد. فهذا أيضاً دليل من الأدلة والآثار التي تثبت أن الحق مع علي. والدليل الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تمرق مارقة من الدين، قوم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، يقرءون القرآن لا يبلغ تراقيهم، فيهم رجل يده كثدي المرأة)، فلما قاتل علي الخوارج ذهب يبحث في الناس حتى وجد الرجل، فسجد لله شاكراً؛ لأنه علم أن الحق كان معه، وهذا كان جلياً واضحاً أن الحق مع علي، فنرجو الله جل وعلا ونسأله أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يأجره أجراً عظيماً وفيراً؛ لأن الحق كان معه، ونرجو الله جل وعلا أن يأجر معاوية على اجتهاده، وإن كان قد أخطأ وله في ذلك الأجر، وأن يحشره مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو كاتب الوحي رضي الله عنه وأرضاه، وهو خال المؤمنين؛ لأنه أخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

ترتيب الخلافة - العشرة المبشرين بالجنة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - ترتيب الخلافة - العشرة المبشرين بالجنة من عقائد أهل السنة أن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وأفضل الأمة بعدهم باقي العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أصحاب بيعة الرضوان، فهم أعظم أولياء الله الذين حققوا الإيمان والتقوى.

ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل

ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنحن على مشارف الانتهاء من هذا الكتاب الجليل العظيم: كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وقد انتهينا من الكلام على فضائل الأئمة الأربعة خير هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , واليوم سنتكلم بإذن الله عن ترتيبهم في الفضل. الخلفاء هم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهل هذا الترتيب في الخلافة هو نفس الترتيب في الفضل أم هناك خلاف بين أهل العلم؟ لم يحدث خلاف بين أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه على الأمة بأسرها سوى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم تفضيل عمر رضي الله عنه وأرضاه بعد أبي بكر. روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم أنه سئل الإمام مالك: أي الأمة أفضل؟ قال: أما أبو بكر وعمر فلا خلاف فيهما, وأما علي وعثمان فحدث فيهما الخلاف, وحقاً قد حدث بعض الخلاف بين أهل السنة والجماعة في تقديم علي على عثمان، فقد كان أبو حنيفة والثوري وبعض علماء أهل الكوفة يرون تقديم علي رضي الله عنه وأرضاه على عثمان بن عفان، ولم يخالفوا في تقديم أبي بكر وعمر، فقد رضيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم للدين فرضوهم للدنيا. وإيمان أبي بكر لو وضع في كفة ووضع إيمان الأمة في كفة لرجحت كفة إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وجاء بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال: ما سبق أبو بكر الأمة بكثير صلاة ولا صيام، ولكن سبق الأمة بشيء قد وقر في قلبه, وعمر وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الملهم في هذه الأمة، ولو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير الفج الذي سلكه عمر رضي الله عنه وأرضاه. وقد قام علي بن أبي طالب على منبر الكوفة يخطب في الناس ويقول: خير هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري، أي: ثمانين جلدة, وفي رواية أخرى أن علي بن أبي طالب قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم، وهذه الرواية تلمح بأن علي بن أبي طالب ما كان يرى تقدم عثمان عليه, لكن سنبين بالأدلة القاطعة أن عثمان يتقدم في القدر على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه, وهذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة قد قطع وحسم بالأثر والنظر. أما بالأثر ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويقر به، فلو كان عثمان يتقدم على علي في القدر لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ولقدمه على عثمان في القدر. أيضاً ورد عن عبد الرحمن بن عوف قال: ما رأيت الأنصار والمهاجرين يعدلون بـ عثمان أحداً حتى النساء في خدورهن، يعني اتفقوا على تقديم عثمان على علي رضي الله عنه وأرضاه. وأيضاً جاء بسند صحيح عن أيوب السختياني أنه قال: من فضل علي على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ أي: لأنهم ما اختاروا إلا الأفضل, وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. وجاء إلى الحسن البصري رجل من أهل الشام فقال: من أفضل أبو بكر أم علي؟ فقال: أما علي فله سوابق وقد شاركه فيها أبو بكر -وهي سبق الإسلام ومناصرة الدين- وكان لـ علي أحداث لم يشاركه فيها أبو بكر، ويقصد بذلك الفتن التي حدثت في قتال الجمل وصفين، وما حدث بينه وبين الصحابة مثل طلحة والزبير، وهذه ما كانت في عهد أبي بكر، فيفضل بذلك أبو بكر على علي. ثم قال: أعلي أفضل أم عمر؟ فقال: كان لـ علي سوابق شاركه فيها عمر، وكان لـ علي أحداث لم يشاركه فيها عمر، فـ عمر كان سيفاً قاطعاً في الحق، وما قصر في السير على نهج النبي وأبي بكر، وكان هو الباب الذي إذا كسر فتحت الفتن، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لم يشارك علياً في الأحداث، فـ عمر أفضل من علي. ثم قال: من أفضل عثمان أم علي؟ فقال له مثلما قال في أبي بكر وعمر. ثم قال له في الرابعة: من أفضل علي أم معاوية؟ فقال له: أما علي فله سوابق لم يشاركه فيها معاوية، وكانت له أحداث شاركه فيها معاوية، فـ علي أفضل. إذاً: استقر عند أهل السنة والجماعة أن فضلهم مثل ترتيبهم في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنه وأرضاه, وهذا الآن اتفاق عند أهل السنة والجماعة.

فضل العشرة المبشرين بالجنة

فضل العشرة المبشرين بالجنة نعتقد اعتقاداً جازماً -لأن هذا من باب الاعتقاد- أن الذي يتلو الخلفاء في الفضل باقي العشرة المبشرين بالجنة؛ الذي جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد كما في مسند أحمد عن عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) هؤلاء العشرة بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة وهم يمشون بين أظهر الناس. وفي رواية أخرى: دخل رجل على المغيرة بن شعبة ودخل أيضاً سعيد بن زيد، وهو أحد المبشرين بالجنة، فقام الرجل يتكلم عما حدث من الفتن بين الصحابة, فقال له: اسكت أيسب صحابة رسول الله وأنا جالس؟! سمعت أذني ورأت عيني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة)، ثم سرد تسعة دون أمين هذه الأمة أو دون عبد الرحمن بن عوف، لكن الحديث الأول هو الأتم ففيه ذكر العشرة الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة.

من فضائل سعد بن أبي وقاص

من فضائل سعد بن أبي وقاص سعد بن أبي وقاص هو أفضل الناس بعد الخلفاء الأربعة، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (سعد خالي، ليريني أحدكم من خاله!) يتشرف بأنه خاله من الرضاعة رضي الله عنه وأرضاه. وقال علي بن أبي طالب كما في الصحيح: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه, نثر له كنانته ثم قال له: (ارم سعد! فداك أبي وأمي). وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أرق فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني، فسمع صوت السلاح في الخارج، فقال: من؟ فقال: سعد بن أبي وقاص؛ جئت لأحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم).

من فضائل طلحة

من فضائل طلحة ومن المبشرين بالجنة طلحة الذي فدى بروحه نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد مثلما قاتل طلحة، في غزوة أحد فر كثير من الصحابة وبقي رسول الله ومعه طلحة وسعد بن أبي وقاص , فـ سعد بن أبي وقاص يرمي بالنبل وطلحة ينافح عنه بالسيف، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يصد عنا القوم من المشركين وهو رفيقي في الجنة؟ فقام طلحة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس، ثم قال للأنصار: من ينافح عن رسول الله وهو رفيقي في الجنة؟ وكانوا عشرة فقام واحد تلو الآخر حتى قتلوا جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان طلحة يقول: يا رسول الله! لا ترفع رأسك، لا يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله, ثم قاتل ونافح عن رسول الله بالسيف، وصد السيوف التي تأتي على رسول الله بيده حتى شلت, فسقط على الأرض، فجاء أبو بكر وعمر فقال رسول صلى الله عليه وسلم: دونكم صاحبكم فقد أوجب) يعني: أوجب الجنة بما فعله، وجاء في بعض الروايات أنه ما قاتل أحد مثلما قاتل طلحة وسعد بن أبي وقاص يوم أحد.

من فضائل الزبير

من فضائل الزبير الزبير هو أول من أشهر سيفاً في سبيل الله في مكة، وذلك عندما سمع أنه قد أصيب رسول صلى الله عليه وسلم، فأشهر سيفه وخلص إلى رسول الله، فلما علم رسول الله الخبر دعا له، ودعا لسيفه, وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب رجلاً من صحابته يوم الخندق أن يأتيه بخبر القوم دون أن يؤلب عليه الناس، فقام الزبير فذهب فأتى بالخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: لكل نبي حواري وحواريي الزبير) , وفي رواية قال: (أنت حواريي وابن عمتي) رضي الله عنه وأرضاه.

من فضائل عبد الرحمن بن عوف

من فضائل عبد الرحمن بن عوف عبد الرحمن بن عوف إيمانه يعدل نصف إيمان الأمة، كان حليماً، وكان مستشاراً لـ عمر بن الخطاب، وقد اشتد رسول الله على سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه بسبب عبد الرحمن بن عوف، حدثت مشادة بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فاشتد خالد على عبد الرحمن، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل عبد الرحمن فقال: (لا تسبوا أصحابي)، مع أن خالداً صاحب، لكنه لا يعدل في القدر والفضل عبد الرحمن بن عوف، ورسول الله ينزل الناس منازلهم قال: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

من فضائل أبي عبيدة وسعيد بن زيد

من فضائل أبي عبيدة وسعيد بن زيد أبو عبيدة بن الجراح قال فيه عمر بن الخطاب: لو كان حياً لأوصيت له, يعني: بالخلافة، وقد كان يقدمه على كثير من الصحابة، وعندما ذهب لفتح بيت المقدس ونزل إلى المخاضة فخلع نعليه وجعلهما تحت إبطيه، قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! ما أحب أن القوم يرونك على هذه الحالة؟ فقال: لو غيرك قالها! يعني لأنبته وعزرته؛ لأن أبا عبيدة كان له عند عمر بن الخطاب مكانة عالية، فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)، فمن كان مديراً لشركة أو خليفة أو أميراً وأراد أن يستعمل رجلاً فلابد أن يكون هذا الرجل متصفاً بصفتين هما: القوة والأمانة: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وكان أبو عبيدة متصفاً بالقوة والأمانة، وكان أمير الجيوش في فتوحات الشام رضي الله عنه. وسعيد بن زيد كان من عشيرة عمر بن الخطاب، وهو ممن بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهم يمشون على الأرض.

فضل أهل بدر والحديبية

فضل أهل بدر والحديبية نعتقد اعتقاداً جازماً أن أفضل هذه الأمة بعد العشرة هم أهل بدر, فإذا وجدت من يسب بعض صحابة رسول الله فقل له: أفضل البشر على الإطلاق بعد العشرة أهل بدر, أما أتاك نبأ عمر بن الخطاب عندما قال: (دعني أضرب عنق هذا المنافق -يعني حاطب بن أبي بلتعة لما بعث إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزوكم -فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم قد غفرت لكم). ثم نعتقد اعتقاداً جازماً بأن أفضل الصحابة بعد أهل بدر هم أهل بيعة الرضوان، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] فرضي الله عنهم بالتنصيص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، فهؤلاء هم أهل الفضل الذين قدمهم رسول الله، وقد قدمهم قبله الله جل وعلا.

بعض فضلاء الصحابة

بعض فضلاء الصحابة

حمزة بن عبد المطلب

حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حمزة سيد الشهداء)، دخل حمزة على فرعون هذه الأمة وسمع أنه قد سب رسول الله وما كان قد آمن، لكن للحمية صفعه حتى شج رأسه، وكان حمزة من القوة بمكان، وقال: أما تعلم أنني على دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! نصر الله به الدين، كان في غزوة بدر يضع ريشة نعام تفرق بينه وبين الذين يقاتلون، فقال أبو سفيان: من الذي كان يضعها، فقد فعل بنا ما لا يفعل غيره؟! وهو حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وما كان أحد يجابه حمزة، حتى وحشي ما قتل حمزة إلا غدراً، ولذلك ما أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى وجه وحشي، فبعدما أسلم قال له رسول صلى الله عليه وسلم: (قص علي كيف قتلت حمزة)، فذكر له أنه اختبأ خلف صخرة حتى طعنه برمحه، وذكر أن حمزة لقي رجلاً من المشركين فقال له حمزة: تعال إلي يا ابن مقطعة البظور؛ لينتهك حرمته، ويبين قلة قدره، قال: فضربه حمزة فكان كأمس الدابر يعني: كالليلة البارحة، قال: وعندما ضربته برمحي اقترب مني فضمني حتى وجدت منه ريح الموت، فلما قص ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم شق عليه أيما مشقة فقال: (لا تريني وجهك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحمد لله وحشي أسلم بفضل الله جل وعلا، وهو الذي قتل مسيلمة، طعنه بالحربة وقال: هذه بتلك، لكن أي حربة تعدل بقتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنه مات مخموراً، فقال عمر: قد علمت أن الذي قتل حمزة لا يسلم من شر، والله أعلم بهذه القصة، لكن نقول: هو أسلم، ويصدق عليه حديث: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقتل الكافر المسلم، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيدخلان الجنة). والضحك صفة يتصف الله بها، فنثبتها من غير تعطيل ولا تشبيه، فضحك الله غير ضحك البشر، قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وقد جاء في حديث آخر إثبات ضحك الله جل وعلا، وهو: (قيل: يا رسول الله! ما يضحك الرب عز وجل؟ فقال: أن تقتل مقبلاً غير مدبر، فقال رجل: أيضحك ربنا من هذا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك) انظروا إلى الفقه، يعني إذا كان الله يضحك فسيضحك لنا ويجعلنا من الشهداء، فالرجل صدق بصفة الضحك وقال: (أيضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك، فخلع درعه وأقبل على العدو فقاتل حتى قتل شهيداً). فالله يضحك في الجهاد وأيضاً في جهاد النفس، ففي الحديث الذي معناه: (يضحك الله من الرجل الذي غلبته عينه يريد أن ينام ويقول: لا راحة لي في النوم إلا أن أقوم أناجي ربي). الغرض المقصود أن لله صفة الضحك، وهذه صفة فعلية إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك، وهي صفة ثبوتية، ومثلها صفة العجب، قال الله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] على القراءة الأخرى (عجبتُ) يعني: عجب الله.

العباس

العباس العباس رضي الله عنه وأرضاه أثبت النبي صلى الله عليه وسلم فضله بتوقيره وإعظامه وإجلاله لعمه، وفي الحديث: (لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضاً فأغشي عليه، فخشي القوم أن يكون مرضه من بعض الأمراض التي كانوا يلدون المريض منها، فلدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم وجد الدواء في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل بي هذا؟ لا يبقى أحد إلا لد غير العباس) توقيراً للعباس. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العباس: (أما علمت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه).

من فضائل أمهات المؤمنين

من فضائل أمهات المؤمنين أمهات المؤمنين لهن الإعظام والإكبار والإجلال، والواحدة منهن أفضل من أم الرجل، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وكلهن يشتركن في أصل الفضل ويتفاوتن في الكمال، واختلف العلماء هل خديجة أفضل أم عائشة أفضل؟ أما خديجة فقد جاء في فضلها كثير من الآثار كما في الصحيح: (أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بشر خديجة ببيت من قصب -يعني: من لؤلؤ- لا نصب فيه ولا صخب) , وكانت عائشة تقول: ما غرت من امرأة مثلما غرت من خديجة رضي الله عنها وأرضها, وفي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد) فهذا نص في محل النزاع، ويدل على أن خديجة أفضل من عائشة، لكن جاء حديث آخر جعل العلماء يختلفون في التفضيل بينهما، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وسيد الطعام عند العرب هو الثريد، وكانت عائشة تقول: ما من امرأة من نسائه بكر غيري، وهذا أيضاً فضل لها رضي الله عنها وأرضها, ومن فضلها المعلوم المشهور جداً مسألة الإفك، حيث أظهر الله براءتها من فوق سبع سماوات، وأنزل براءتها بآيات في القرآن تتلى إلى آخر الزمان، فيا ويل من يتهم هذه الشريفة العفيفة الصديقة! فيا ويل من غالى في التشيع وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!

ضلال الشيعة

ضلال الشيعة الشيعة يزعمون أنهم يحبون آل البيت، وهم يسخطون آل البيت، كما قال علي بن أبي طالب: حبكم أصبح لنا شيناً؛ لأنهم رفعوهم عن منزلتهم, وكان الحسن يخطب فيهم ويقول: أطيعونا ما أطعنا الله ورسوله لا لأننا من آل البيت. الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وأيضاً كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! يا عم رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً, يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً)، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو فقال كما في الصحيحين: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) فهو عبد الله ورسوله، وهذا فيه الوسطية بين الغالي والجافي، أما الغالي فهو الذي يرفعه إلى درجة الربوبية أو الإلهية كما فعلوا مع عيسى، فقالوا: هو ابن الله حاشا لله, أو قالوا: هو الله، فقال: هو عبد حتى ينفي الغلو, وأيضاً قال: هو رسول الله، حتى ينفي الجفاء، كما قال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] يعني: لا تقولوا: يا محمد كما تقول الأعراب، لكن نادوه بوصفه: يا رسول الله، يا نبي الله. وأيضاً في الحديث: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أناس فقالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان). أما الشيعة الروافض الخبثاء فقد غالوا في آل البيت، حتى إنهم وصلوا بـ علي أنه الإله المعبود, ولما سمع ذلك حرقهم بالنار، فزادوا ضلالاً فقالوا: لا يحرق بالنار إلا الله, فعبدوه من دون الله. والله الذي لا إله إلا هو إن الشيعة أضر على الدين من اليهود والنصارى، وأسوأ علينا من المنافقين الكاذبين الفاسقين، هؤلاء خبثاء ألهوا علياً رضي الله عنه وأرضاه، وغالوا في أهل البيت، وهم الذين خذلوا أهل البيت, فأهل الكوفة هم الذين خذلوا الحسين بعدما بعثوا له الرسائل ليقدم عليهم، فهم سبب مقتل الحسين، وهم الذين سبوا الحسن، فقالوا له: يا مسود وجوه المؤمنين، عندما تنازل عن الخلافة لـ معاوية تصديقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).

الولاية

الولاية

معنى الولاية

معنى الولاية الولاية معناها لغة النصرة والمحبة, والولي هو النصير، قال الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]. أما معنى الولاية شرعاً فهي: مرتبة ومنزلة عظيمة لعبد عند رب العباد جل وعلا تستوجب النصرة والتأييد والتثبيت عند المحن، ويشترط في هذا العبد أن يكون قد قام بالدين ظاهراً وباطناً. إذاً: للولاية شرعاً وجهان: الوجه الأول: ما يخص الرب جل وعلا من العناية بالعبد والتسديد والتثبيت والنصرة والتأييد. الوجه الثاني: ما يخص العبد أن يكون قد قام بالدين ظاهراً وباطناً.

كيف يكون العبد وليا لله؟

كيف يكون العبد ولياً لله؟ كيف يكون العبد ولياً لله؟ وكيف يرتقي إلى هذه المنزلة؟ قال الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، ثم بين هذه الصفات: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] إذاً: ولي الله جل وعلا لابد أن تتوافر فيه صفتان: الصفة الأولى: كمال الإيمان ظاهراً وباطناً, وهو قول باللسان، وعمل بالجوارح، وتصديق بالجنان. الصفة الثانية: التقوى، وهي أن يعمل بطاعة الله على نور من الله -يعني على بصيرة وعلم لا على جهل- يرجو ثواب الله, وأن يجتنب محارم الله على نور من الله يخشى عقاب الله, فهو يعبد الله رغباً ورهباً, وهذا الذي امتدح الله به أنبياءه, لا كما ينسب إلى رابعة العدوية أنها قالت: ما أعبدك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن حباً فيك، وهذا كلام ساقط، فهل هي أفضل من الأنبياء؟ قال الله تعالى عن الأنبياء: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]. فالمؤمن والولي الحق هو الذي قام بدين الله ظاهراً وباطناً، ويدعو الله رغباً ورهباً، ويعمل بدين الله على نور من الله يعني: على علم لا على جهل, يرجو ثواب الله، ويجتنب محارم الله على نور من الله يخشى عقاب الله, هذا هو الولي الحق.

مراتب الأولياء

مراتب الأولياء الأولياء لهم مراتب تتفاوت كما بين السماء والأرض, وأدنى هذه المراتب: أن يقوم بالفرائض وينتهي عن المحرمات, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم وصف هذا الولي فقال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فيقوم بالواجبات وينتهي عن المحرمات، وهذه أول درجة. ثم الدرجة التي هي أعلى وأرقى أنه يتبع الفرائض بالنوافل. وهذه درجة عظيمة جداً، من منّ الله عليه بهذه الدرجة لا يسقط منها أبداً، مع أن العبد قد يعصي الله، وقد يتجرأ على محارم الله، تأتيه شهوة فيسقط مرة، فهو ليس بملك، لكن إذا أوصله الله لدرجة الولاية المحبوبية فلا يسقط منها؛ لأن الله جل وعلا يتبع له هذه السيئة بحسنة، ويلهمه التوبة؛ فيرتقي عند الله جل وعلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أراد مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وقال الله تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).

فوائد الولاية

فوائد الولاية إذا ارتقى المرء إلى درجة المحبة أو المحبوبية صار ولياً لله, وله مكافأة في الدنيا وفي الآخرة, أما في الدنيا فقد قال الله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] يعني: لا خوف عليهم في دينهم فلا يفتنون في الدين، ولا يفتن في دينه إلا من كان منافقاً أو في قلبه دغل، أما الخوف والحزن في الدنيا فهذا لا يسلم منه أولياء الله، وكم في السجون من أولياء الله المتقين، وليس هذا نفياً لخوفهم في الدنيا من الله، ففي الحديث القدسي: (لا أجمع لعبدي خوفين وأمنين، من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة). إذاً: أولياء الله لا خوف عليهم في الدنيا من جهة دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ماذا يريدون مني؟ إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة, وإن سجنوني فخلوة لربي، أنا جنتي في قلبي، فهذا لا خوف عليه؛ لأن قلبه ثابت، ولو قطع صدره ورأسه بالمناشير فقلبه ثابت بالإيمان لا يفتتن، فلا خوف عليه بحال من الأحوال؛ لأنه ولي، فأعظم فوائد الولاية التثبيت, فهو مثبت من قبل الله بقلبه، ولما فزع الصحابة من فتنة القبر وهي أعظم فتنة يراها المرء أنزل الله آية تسكن قلوبهم؛ لأنهم أولياء لا خوف عليهم، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]. أيضاً: لا خوف عليهم في الدنيا من أن تستأصل شأفة المسلمين، ولو اجتمع مشارق الأرض ومغاربها على أهل الإسلام، فستبقى أمة وطائفة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم. أيضاً لا يحزنون في الدنيا حزناً يجعلهم يتقاعسون عن عبادة الله, فهذا هو الحزن المذموم, لكن قد يصابون بالهم والغم، لكن لا يصل بهم الحزن إلى أن يتقاعسوا عن عبادة الله أو يقنطوا من رحمة الله جل وعلا. قال الله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] , أما في الحياة الدنيا فالملائكة عند الموت تبشرهم برحمة الله ورضوان الله وجنات عند ربهم جل وعلا, وفي الآخرة يفرحون بما يرون عند الله جل وعلا. أيضاً: من المكافآت ما جاء في الحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها) , ومعنى: (سمعه الذي يسمع به) أنه يكون عبداً موفقاً مسدداً من قبل الله؛ لأنه ولي لله, فأغلق عليه باب المعصية، أما سمعتم رجلاً يقول: أريد أن أدخل المسجد لأصلي لله، وما أعلم ما يمنعني، كلما أذهب أرجع؟! أما رأيتم عبداً يقول: أتقصد مكان تجمع النساء لأنظر إليهن، فما أرى أحداً منهن في الشارع؟! فهذا عبد موفق مسدد، الله جل وعلا اتخذه ولياً، فلا يرى إلا ما يحبه الله, ويعصم الله بصره من المعاصي، كما فعل الله جل وعلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الجاهلية قال له عمه العباس: اخلع إزارك واحمل الحجارة، ففعل فأغشي عليه، وفي بعض الروايات أنه مر بلهو فسمع الغناء فأغشي عليه وما سمع، وإن كان في الإسناد كلام، فهو محفوظ من قبل الله جلا وعلا. أما العبد الذي خلع الله عنه الحفظ فهو يتوه ويتخبط في الأرض في معاصي الله, بينما العبد المسدد المثبت الموفق الذي اتخذه الله ولياً لا يرى إلا ما يحبه الله, (وبي يسمع) لا يسمع إلا القرآن، لا يسمع إلا مجالس العلم، لا يسمع إلا الذكر، وإن جاءته الشهوة فالله جل وعلا يذكره ما يجعله يخاف من الله فيرجع عن المعصية، وإن عصى فالله يوفقه للتوبة. (وبي يبطش) كما قال الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وهذه لا تكون إلا لأولياء الله، فالله يغربل الناس، والنصرة ستأتي على يد قوم قال فيهم رسول الله: (لن يهزم اثنا عشر ألفاً من قلة)، فهؤلاء هم الأولياء بحق، هم الأتقياء بحق، هم الذين حققوا الدين ظاهراً وباطناً. وتمام مكافأة الولي قال: (ولئن سألني لأعطينه) , فمن رأى في نفسه أنه يحقق الدين ظاهراً وباطناً فليرفع يده، فإن الله جل وعلا حيي كريم لن يرده خائباً. (ولئن استعاذني لأعيذنه) إن استعاذه من شيء فالله يسارع فيما يرضيه. ثم قال: (وما ترددت في شيء أنا فاعله مثل ترددي في قبض روح المؤمن)، انظروا إلى مكانة الولي عند الله جل وعلا! الله اصطفاه واتخذه وليه ومع هذا يتردد في قبض روحه؛ لأنه يتردد في إساءته, انظروا كيف يسارع الله جل وعلا في مرضاة عبده الولي!

كرامات الأولياء

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - كرامات الأولياء الولاية هي النصرة، وهي كرامة يعطيها الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين، الذين يؤمنون به ويتقونه، وقد يتلاعب الشيطان بمن يجتهد اجتهاداً عالياً في العبادة وهو جاهل بأسماء الله وصفاته وتوحيده، فيبعده عن الطريق الصحيح، فمن هؤلاء الجهلة من يصل به الحال إلى أن يدعي الألوهية، أو النبوة، أو يتعلم السحر أو غير ذلك. وولاية الله لعباده الصالحين متفاوتة، وقد يكرم الله بعضهم ببعض الكرامات، وأهل السنة يثبتون الكرامات كما دل على ذلك الكتاب والسنة.

صفات الأولياء

صفات الأولياء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن ولي الله له صفات لا بد أن تتوافر فيه حتى يصير ولياً لله جل وعلا، فيجني من هذه الصفات ثمرة الولاية. والولاية معناها: النصرة، ومعناها: المحبة، والولي لا بد أن تتوفر فيه صفتان حتى يوصف بأنه ولي من أولياء الله. الصفة الأولى: تحقيق الإيمان ظاهراً وباطناً. والصفة الثانية: التقوى والورع. الصفة الأولى التي لا بد أن تتوافر في ولي من أولياء الله: الإيمان الظاهر والباطن، وتحقيق الإيمان ظاهراً أي: تحقيق الإيمان بالجوارح، وتحقيق الإيمان باللسان، عن طريق الذكر الواجب، ودخول الإسلام لا يكون إلا بالتوحيد؛ بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحقيق الفرائض بالجوارح. وتحقيق الإيمان باطناً أي: تحقيق الإيمان داخل القلب من التصديق والقبول واليقين والتوكل والإنابة والخشية، هذا تحقيق الإيمان ظاهراً وباطناً. وأيضاً لا بد له من صفة أخرى زائدة على هذا الإيمان وهي: التقوى، التقوى التي تحجب عن معاصي الله جل وعلا وعن المحارم، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، والتقوى هي: العمل بطاعة الله على نور من الله، يعني: على بصيرة وعلم، لا على جهل، وكثير من العباد تراهم على جهل بدين الله جل وعلا، وسيحاسبون على ذلك، كما سنبين أن الشيطان يتلاعب بمن يجتهد اجتهاداً عالياً في العبادة، وهو جاهل بأسماء الله الحسنى، جاهل بصفات الله، جاهل بالتوحيد الخالص الذي يقدمه بين يدي عبادته. وهكذا يتلاعب الشيطان بهؤلاء الجهلة، فلا بد أن يعمل بطاعة الله على نور من الله يعني: على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: على علم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فيعمل بطاعة الله على نور من الله، ويرجو ثواب الله، ويجتنب محارم الله على نور من الله، يعني: على علم وعلى بصيرة، ويخاف عقاب الله جل وعلا. إذاً: يخلط بين الخوف والرجاء: كما قال تعالى: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقلنا: هذا التقسيم فيه رد على المتصوفة الذين يتنطعون، ويزعمون أن رابعة العدوية قالت: لا أعبدك طلباً لجنتك، ولا خوفاً من نارك. مع أن الذهبي انتصر لها وبين أن أسانيدها ليست بصحيحة. وهذا لا يهمنا في شيء، سواء صحت الأسانيد إليها، أو صح عنها أو صح عن غيرها من المتصوفة، فهذا الكلام خطأ محض، وهو مخالف لشريعة الله جل وعلا، بل أفضل الخلق على الإطلاق الأنبياء والرسل قال الله عنهم: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] أي: خوفاً ورجاءً، فلا بد للولي أن تتوافر فيه هذه الصفات: الإيمان الظاهر والباطن والتقوى التي فيها عمل بطاعة الله، واجتناب محارم الله جل وعلا.

الولاية مراتب تتفاوت

الولاية مراتب تتفاوت مراتب الولاية لا تتوقف، بل تتفاوت كما بين السماء والأرض، لكن أدنى هذه المراتب من أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، فهذا أول الدرج الذي يصعد فيه الولي، ليصبح ولياً لله جل وعلا. وأكمل المراتب في الولاية: من أدى الفرائض، وانتهى عن المحرمات، وأتبع الفرائض بالنوافل والمستحبات، وأتبع الانتهاء عن المحرمات بالانتهاء عن المكروهات، والشبهات تدخل مع المحرمات، فمن انتهى عن المحرمات، وعن المشتبهات، وانتهى عن المكروهات، وأيضاً عن كثير من المباحات، فقد وصل في الورع والتقوى مبلغاً، فهذه أكمل مراتب الولاية لله، جعلنا الله وإياكم ممن ينزل هذه المنزلة ويرتقي هذا المرتقى في الطاعة. لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبرا وقال بعض علمائنا: من طلب العلا سهر الليالي. فلا بد أن تجد وتجتهد؛ لأنه ليس بين الله وبين عباده حاجز، إن وجدك الله جل وعلا صادقاً في جدك واجتهادك، وفي عبادتك له جل وعلا ارتقيت إلى هذه المنزلة، وبينهما من المنازل ما تتفاوت به المراتب، وتشرأب أعناق الناس إلى هذه المنزلة، ويرتقي المرء إلى ربه بهذه المنزلة، من منزلة المحبة إلى منزلة المحبوبية، وقد بينا أن منزلة المحبوبية إذا ارتقى إليها المرء، لا ينزل منها مرة ثانية، وإن عصى وإن ألم بالسيئات، فإن الله يلهمه التوبة بعد التوبة؛ حتى يصعد مرتقى غير هذه المنزلة التي نزلها، مرتقى أعلى منها؛ لأن العبد بعدما ينكسر ويتذلل ويبكي على معاصيه، ويتوب إلى الله توبة نصوحاً، فإنه ينزل منزلة أعلى من المنزلة التي كان عليها، ويتقرب قربة أكثر من الله جل وعلا، نسأل الله أن نرتقي إلى هذه المراتب. إذاً: فهو ينتقل من المحبة إلى المحبوبية ليجني ثمرة الولاية.

البشريات التي يلقاها الولي في الدنيا والآخرة

البشريات التي يلقاها الولي في الدنيا والآخرة العبد الولي عبد موفق مسدد مثبت مبشر، له بشريات في الدنيا وفي الآخرة، أما بشرياته في الدنيا فقد جاءت بأسانيد صحيحة مذكورة عند تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى} [يونس:63 - 64]، فورد في الآثار بالأسانيد الصحيحة أن البشرى هي الرؤيا الصالحة، يراها الولي أو ترى له، هذه أول بشريات الولي في الدنيا، أنه يرى رؤيا صالحة، أو ترى له، وهذه البشرى جزء من أجزاء النبوة، وهي التي بقيت من الوحي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة). وقيل: البشرى أن الله جل وعلا يبشره ببعث الملائكة عند قبض روحه لمكانته في الجنة كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30]، فيبشرونهم بالجنة عند قبض الأرواح، والبشارة في الآخرة أن الله جل وعلا يفتح له المجال، ويعرفه ويهديه إلى مكانه في الجنة، فيكون أشد معرفة له من معرفته لبيته في الدنيا، فهذه من بشريات الولي في الدنيا ثم في الآخرة، قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64]، وقال تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]. أيضاً هو مسدد مثبت، قال الله تعالى: (إن أحببته)، يعني: الولي الذي ارتقى المرتقى الرفيع فوصل إلى درجة المحبوبية، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته). فهذا حديث عظيم يبين أن الولي مسدد مثبت من عند الله جل وعلا، لا يذكر إلا ما يرضي الله جل وعلا، ولا يسمع إلا ما يرضي الله جل وعلا، وإذا بطش لا يبطش إلا بقوة الله، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. ومن البشريات أيضاً أن الله جل وعلا يظهر فضله في الدنيا، ويظهر مكانته أمام الصالحين، بكرامة تظهر على يديه، علمها أو لم يعلمها، وهذه من البشريات التي تثبت أن هذا الرجل له منزلة عند الله جل وعلا، وأنه ولي من أولياء الله الصالحين، وهي الكرامة.

معنى الكرامة لغة واصطلاحا

معنى الكرامة لغة واصطلاحاً الكرامة لغة: مشتقة من الكرم، والكرم هو العطاء والجود، واسم الله الكريم، وهذا الاسم يتضمن صفة الكرم، فالكرامة عطاء من الله لعبد من عباده اصطفاه على باقي العباد. أما شرعاً واصطلاحاً فالكرامة هي أمر خارق للعادة، يتفضل الله به على عبد من عباده اصطفاه، غير مقرون بتحد؛ لأن المعجزة مقرونة بتحد؛ لأن الله جل وعلا يبعث النبي ويتحدى، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23 - 24] التحدي: أن يأتوا بمثل هذه المعجزة، أما الكرامة فلا تحدي فيها، إذاً: هو أمر خارق للعادة غير مقرون بتحد.

اختلاف الناس في كرامات الأولياء

اختلاف الناس في كرامات الأولياء الكرامة اختلف فيها على ثلاثة مذاهب، المذهب الأول: مذهب فيه غلو، والمذهب الثاني: مذهب فيه جفو، والمذهب الثالث: مذهب وسط وهو مذهب أهل السنة والجماعة. أما المذهب الأول: مذهب الأشاعرة، يرون أن الكرامة والمعجزة أمر واحد لا خلاف بينهما، الفارق الوحيد: هو أن الكرامة لا يتحدى بها الولي، والمعجزة يتحدى بها النبي، إذاً: الأشاعرة يثبتون الكرامة، ويقولون: هي كالمعجزة، وما يحدث للنبي يحدث للولي. معنى ذلك: أنه يمكن للولي أن يأخذ عصاً ويضرب بها البحر فينفلق؛ لأنه يساوي ما يحدث للنبي، أو يأخذ خشبة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيهزها، فتنقلب سيفاً أمامهم، أو يلقي الخشبة أو العصا فتكون حية، هذا على كلام الأشاعرة، أن ما يحدث للنبي قد يحدث للولي، لكن الولي لا يتحدى والنبي يتحدى، وهذا غلو كما سنبين. المذهب الثاني: على النقيض مذهب فيه جفو، وهو مذهب المعتزلة، الذين يمررون كل شيء على العقل، هؤلاء لا يثبتون الكرامة، ويخالفون بذلك الكتاب والسنة والواقع المشاهد، قال: لا كرامة لولي بحال من الأحوال، واستدلوا على ذلك بشبهٍ عقلية، قالوا: لو قلنا بالكرامة ساوينا بين الولي والنبي، ولازم ذلك تلبيس الأمر على العامة، يلبس عليهم الأمر فيقولون: كل الأولياء هم أنبياء، ولا يفرقون بين نبي ولا ولي، ويكون الذي تميز به النبي قد تميز به الولي، فلا فرق بين نبي ولا ولي، هذه هي الشبهة العقلية. المذهب الثالث: المذهب الوسط في الكرامة، مذهب أهل السنة والجماعة، قالوا: الكرامة ثابتة بالكتاب والسنة، أما بالكتاب، فإن الله أثبتها لبعض عباده، قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] فأثبتها الله جل وعلا في أمة من إمائه، وأيضاً ثبتت في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الكرامة تأتي لعبد صالح قد أدى الفرائض وانتهى عن المحرمات وتمسك بالسنة، كما جاء عن أنس الصادق الذي صدق الله ما وعد، (جاء أنس عندما كسرت أخته الربيع سن جارية، فطلب القصاص، فقال أنس: سنُّ الربيع يا رسول الله! والله لا تكسر -هو لا يقسم على النبي صلى الله عليه وسلم رداً حاشا لله، لكنه صادق مع ربه- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أنس! كتاب الله القصاص -يعني: لا بد أن تكسر- فرضي ولي الجارية بالعفو مقابل الدية، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم متعجباً لـ أنس، ثم قال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). ومن الكرامات: أن يرفع يده، وما ينزل يده إلا ويستجاب له في الحال، كما حدث مع البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه. والغرض المقصود أنها ثابتة: بالكتاب وبالسنة وبالواقع المشاهد، فكثير من الصحابة شاهدوا كرامة عمران بن الحصين، كانت الملائكة تسلم عليه وهو يمشي في الشوارع. أيضاً أسيد بن حضير كان يمشي ومعه العصا في الظلمة فتنير له الطريق. كذلك الأسد كلم سفينة وأخذ به إلى جيش المسلمين؛ كرامة لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: يا أبا الحارث، اعلم أني مولى رسول الله، فحرك ذنبه له، ثم قال: دلني على الجيش، فأخذه حتى أوصل، ثم حرك ذيله كأنه يسلم عليه؛ كرامة لهذا الصحابي، فهي ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالواقع المشاهد. فمذهب أهل السنة والجماعة أنها ثابتة، لكنها أقل من المعجزة، فهي تتفق مع المعجزة وتفترق، تتفق بأنها أمر خارق للعادة، وتفترق بأنها أقل درجة من المعجزة، يعني: لا يمد الخشبة فتكون سيفاً، ولا تقلب له حية، ولا ينفلق له بحر، ولا يضرب الحجر فيتفجر ماءً، لا يحدث له ذلك، لكن يمكن أن يطير في الهواء، ويمكن أن يمشي على الماء، ويمكن أن يرفع يده وقبل أن ينزل يده يستجاب له الدعاء في التو واللحظة، يمكن له ذلك؛ لأن هذا من الكرامات، فهي ثابتة لكنها أقل درجة من المعجزة. والأدلة على ذلك أن الله جل وعلا إذا أرسل النبي صلى الله علبه وسلم إلى قوم فمنهم السفيه ومنهم الغبي ومنهم المتغابي، ومنهم الجهول، فلا بد أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم، ويصد عن الرسالة التي أرسل بها مع الأهوال التي سيقابلها، فلا بد من قوة في الآيات التي تنزل عليه، فلذلك ترى النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأقوى ما كانوا يتمتعون به، بمعجزة هم كانوا يتمتعون بها وهي البلاغة. وقد كان بعض الشعراء من البلاغة يقرأ الشعر من الصباح إلى المساء في الحج، وكان لا يستطيع أن ينطق حرف الراء نطقاً صحيحاً، فأتى بآلاف من أبيات الشعر، ولم يأتِ ببيت واحد فيه حرف الراء، حتى لا يبين العيب الذي فيه، من الفصاحة والبلاغة، فكانت المعجزة هذه كاسرة له، فلذلك أنزل الله هذه المعجزة؛ ليبين أن هذه من عنده، وليست من قبل النبي، بل هو أمي، لا يقرأ ولا يكتب. وأيضاً عيسى عليه السلام شاع الطب في عصره، فأنزل الله له هذه المعجزة، أنه لا يمسح على أحدٍ حتى يبرأ، ولذلك سمي المسيح؛ لأنه ما مسح مريضاً إلا ويبرأ على يديه. وأيضاً في عصر موسى كان السحر والتبديل أمام أعين الناظرين لقلب الأعين، فكانت تقلب حقيقة معجزة للنبي موسى. إذاً: يحتاج النبي إلى معجزة قاصمة للظهور، أما الولي فلا يحتاج للتحدي، بل الكرامة إظهار مكانته وورعه وزهده وتقواه، حتى يتأسى به بعض الحاضرين، فلا يحتاج مثلما يحتاج النبي، فكانت أقل درجة من النبوة. أما بالنسبة للأشاعرة فيرد عليهم بأنه لا تنقلب الأعيان للأولياء، وما حدث ذلك قط لأي ولي، ائتوني بولي واحد حدثت له كرامة تشبه معجزة النبي، أو تساوي معجزة للنبي، ما حدث ذلك قط. أما المعتزلة فالرد عليهم أنه لا خلط بين نبي وولي، إذ إن الولي إذا حدثت له الكرامة علم أو لم يعلم، وما قام الولي خطيباً فقال: قد حدثت لي كرامة كذا وكذا، وأدعوكم إلى الله فإني رسول إليكم، أترون الولي يفعل ذلك؟ لو فعل ذلك لكان متنبئاً أفاكاً، كذاباً، أثيماً، فالولي لا يفعل ذلك فلا يبقى عند الناس، أما النبي فيقوم وسط الناس ويقول: أنا نبي، قد أرسلني الله إليكم، وإن كان الولي يفعل ذلك فإن الله يكذبه في التو واللحظة، كما قام بعض الذين ادعوا النهضوية في هذه العصور، قام في أمريكا خطيباً في الناس وادعى النبوة، وادعى أنه بعث إلى الناس وأتى بآيات الله جل وعلا، وابتلاه الله في نفس اللحظة بإسهال حتى نزل على المنبر، وبنفس المرض بين الله كذبه وزوره في نفس الوقت واللحظة، فالولي لا يستطيع أن يتحدى بالكرامة التي كرمه الله بها. إذاً: يوجد مذهب يقول: الكرامة تساوي المعجزة وهو مذهب الأشاعرة، ومذهب يقول: لا كرامة وهم المعتزلة، ومذهب أهل السنة والجماعة يثبتون الكرامة للولي، ويقولون: هي ثابتة بالكتاب والسنة، وهي أقل من المعجزة. هذه جملة الكلام على معنى الكرامة ومنزلتها عند أهل السنة والجماعة.

خوارق العادات وأقسامها بالنسبة للمؤمنين وغيرهم

خوارق العادات وأقسامها بالنسبة للمؤمنين وغيرهم المؤمنون أو غير المؤمنين ينقسمون بالنسبة لخوارق العادات أربعة أقسام: القسم الأول: قسم وحدوا الله حق التوحيد وأتموا الفرائض وانتهوا عن المحرمات، وقالوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثت لهم خوارق العادات، وهؤلاء من أولياء الله الصالحين، الذين قال فيهم الله جل وعلا: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. القسم الثاني: قسم فسقة وفجرة، استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، وتراهم يمشون على الماء وتراهم يذهبون للحج يوم عرفة ويرجعون ويقولون: حججنا، وهم في بلاد بعيدة، وتراهم يفعلون أموراً خارقة للعادة وهم ليسوا على الإسلام، كما قال الشافعي: إذا رأيت رجلاً يمشي على الماء أو يطير في الهواء، فنقيسه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو من أولياء الله الصالحين، وإلا فهو من أولياء الشيطان الرجيم. القسم الثالث: قسم كفرة، جحدوا بآيات الله جل وعلا، وأيضاً هؤلاء الناس استخدموا الشياطين، ولكنهم استخدموهم في إفساد عقائد الناس، فهم دجلة، وسيدهم هو الدجال الأكبر: المسيح الدجال، الذي سيأتي أمام الناس يحيي الموتى، يأتيه الرجل فيقول له: تؤمن بي؟ يقول: أؤمن بك على شرط، يقول: ما شرطك؟ يقول: تحيي لي أبي وأمي، فيظن الرجل أنه يحيي أباه وأمه، ولكن ذلك عن طريق الجن حيث يتمثلون في أبيه وأمه، وهو لا يحيي أباه وأمه. فهؤلاء الناس استخدموا الشياطين كفراً وإلحاداً لإفساد عقائد الناس، ويتجرءون على الله، ويزعمون أنهم من الربوبية بمكان، ومن الإلهية بمكان؛ لأن الدجال يرتقي، يدعي النبوة بعدما يصنع خوارق العادات، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن اسمه المسيح؛ لأنه يمسح مشارق الأرض ومغاربها في أوقات يسيرة، ويأتي على الأرض الخربة فيقول: أخرجي كنوزك، فتخرج الكنوز، وينظر إلى السماء فيقول: أمطري فتمطر، فيغوي الناس بذلك، ويمر على الفقراء فيغنيهم، ويمر على الأغنياء فيفقرهم، أي: آتاه الله من لوازم الربوبية ما آتاه فتنة للعباد؛ فيدعي النبوة، ثم يرتقي إلى الربوبية، ويطلب لنفسه الإلهية، ويقول: أنا ربكم الأعلى، كما قال فرعون. وهذا القسم الثالث هم من الكفر بمكان، وهم أكثر الناس. القسم الرابع: قسم عباد زهاد، ولكنهم لا يرتقون هذه المنزلة التي سبقت؛ لأن الشياطين هم الذين يستغلونهم، فهؤلاء عبدوا الله على جهل، وهؤلاء صنف من صنف المتصوفة، الذين يرون بالكشف والوجد والذوق، تجد الرجل يجلس ثم ينتفض ويقوم ويبتسم وكأنه يعانق أحداً، فلما تسأله يقول: قد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حضر شيطانه، لكن يحسب أن هذا رسول الله، ويحسب أن هذه كرامة له من الله جل وعلا أو أن الملائكة تحرسه أو تأكل معه، أو يرى دابة على صورة حمار تأخذه فتطير به في الهواء، ويقول: هذه كرامة من الله، وهو جاهل، ويعبد الله على جهل، ويخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والولاية لا تكون لجاهل أبداً، إذ الجاهل يعبد الله وهو على جهل، فيشرك بالله حيث أراد صاحبه، وكم من مريد للخير لم يبلغه! فهذا القسم الرابع نعوذ بالله منهم، ونسأل الله جل وعلا أن نكون من الصنف الأول.

صور من الكرامات في الأمم السابقة

صور من الكرامات في الأمم السابقة انتقل المصنف إلى صور من الكرامات في الأمم السابقة ثم في هذه الأمة، أما في الأمم السابقة فقد تأولوا هذه الكرامات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال الكثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، وذكر مريم عليها السلام). كما وصف الله جل وعلا: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، كرامة من الله جل وعلا. فزكريا كان يدخل على مريم فيجد فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وهذه كرامة وإظهار لمنزلة مريم عند الله جل وعلا أمام الناس جميعاً. أيضاً من الكرامات التي حدثت في الأمم السابقة صاحب سليمان ووزيره الذي عَلِمَ اسم الله الأعظم، وهو ولي من أولياء الله الصالحين، صنع الله له كرامة أمام نبي، وهذه تدل على أن الولاية لها مكانة علية، وهي لا تساوي النبوة كما يقول المتصوفة، ولا تتعداها، لكنها قريبة منها، فهذا الوزير أظهر الله على يديه كرامة أمام نبي صادق مصدوق، وهو سليمان عليه السلام، لما أراد عرش بلقيس قال تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، فكان هذا الوزير يحفظ اسم الله الأعظم، فدعا به قبل أن يرتد طرف سليمان، فوجد سليمان عليه السلام عرش بلقيس أمامه، فقال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ} [النمل:40]. وأيضاً في الأمم السابقة حدثت كرامة عظيمة جداً، أنطق الله طفلاً رضيعاً كرامة لعبد زاهد تقي نقي، تعبد لله جل وعلا وترك الدنيا خلفه زهداً، من أجل رضا الله سبحانه، هذا الرجل كما في الصحيحين كان عابداً، لكن الفقه ما كان له مرتقىً فيه، وبينما هو يصلي النافلة، إذ جاءت أمه تناديه، فقال: يا رب! أمي وصلاتي! من أقدم؟ فتحير كثيراً ثم قال: صلاتي، فاختار صلاته على أمه، ولكن الفقه يقول: لو دعته أمه وهو في صلاة الفرض لا يجوز أن يستجيب؛ لأنه عند تعارض الواجبات يقدم الأهم والأوجب، فالواجب أن لا يقدم أمه على صلاة الفرض، ولكن إن كانت الصلاة نافلة يقدم أمه على الصلاة، وكثير من الناس لا يعرفون ذلك. يعني: لو أن رجلاً في صلاة النافلة وأمه دعته يجب عليه أن يخرج من الصلاة ويستجيب لأمه، لكن جريج فضل صلاته، فدعت عليه، وقالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجه النساء اللاتي يفعلن الفاحشة، فما أماته الله حتى نظر في وجه النساء اللاتي يفعلن الفاحشة؛ لأنه لما لم يقطع الصلاة من أجل أمه فقد أساء؛ ولذلك استجاب الله دعاء أمه، وكانت محقة لما دعت عليه، فجلس بعض الشياطين يريدون أن يوقعوا بهذا العابد، فأوزعوا إلى امرأة تفعل الفاشحة من بني إسرائيل أن تختبر صدق هذا العابد، فذهبت إليه، فراودته عن نفسه، ولأنه صادق في عبادته لله جل وعلا أبى، فلما رجعت راودها رجل فلاح مزارع فوطأها، فحملت منه، فلما أنجبت ووضعت الطفل، قالوا: ممن هذا؟ قالت: هذا ابن جريج، فهدموا صومعته. وهذا فيه دلالة على أن دهماء الناس والعامة لا تأخذ منهم خيراً كثيراً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عامة الناس من هذا الزمان: (إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل). فالطائفة المنصورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة قليلة، والذين يخالفونهم ويعارضونهم أكثر، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم). وهؤلاء العامة ذهبوا ليقتلوا جريجاً، وهدموا الصومعة، وأخذوه، فإذا به ينظر إلى النساء اللاتي يفعلن الفاحشة، فأخذ يعاود نفسه يراجعها كيف لم أبر بأمي؟ وكيف لم أقطع الصلاة من أجل أمي؟ وأصبت بالنظر إلى المرأة التي تفعل الفاحشة بدعاء أمي. وهذه لفتة مهمة جداً، وهو ضعيف الإيمان في قلوبنا، كل منا تشرأب عنقه حتى ينظر إلى امرأة جميلة، ويظفر بالنظر إليها، ولا يعرف أن هذا الطريق يودي به إلى المهالك؛ لأن الله جل وعلا قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]. فإنه من الممكن لأي شخص منا أن يطلق بصره على امرأة جميلة تعجبه، وانظروا إلى جريج العابد، فإن المعصية التي فعلها أدت به إلى أمر قد يودي بدينه، وهو نظره إلى اللاتي يفعلن الفاحشة، والنظر إلى اللاتي يفعلن الفاحشة مصيبة أيما مصيبة، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، فهذا الرجل كانت له عند الله مكانة؛ لتعبده وزهده وتقواه وورعه، فإن الله أنشأ له كرامة أيما كرامة، فقد ذهب إلى الطفل فوغزه وقال: من أبوك؟ فقال الطفل: أبي فلان المزارع، نطق أمام الناس، فعلموا أن هذه كرامة له، وبرأه الله على رءوس الأشهاد، فقالوا: نبني لك صومعة من ذهب؛ لأنك ولي من أولياء الله الصالحين، فأبى وطلب منهم أن يعيدوها كما كانت، فالكرامة لا تكون إلا لمن صدق الله، فارتقى إلى منزلة الولاية. كذلك لا ييئس الذي عصى الله، وارتكب الكبائر، وتجرأ على الله أن يكون ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا رجل قتل مائة نفس ونحن نعلم أن قتل نفس واحدة تكفي للخلود في نار جهنم، ولكن الله جل وعلا جعل هذا الرجل ولياً من أولياء الله الصالحين، فقد قتل هذا الرجل تسعة وتسعين نفساً كما في القصة المشهورة، ووجد الراهب الذي لا يعلم شيئاً عن دينه، فقتله فأكمل به المائة، وذلك حين سأله: هل لي من توبة؟ فقال له الراهب: لا توبة لك، فلقي عالماً فنصحه العالم أن يذهب إلى أرض كذا فيها الخير وأهل الخير، ونصحه بأن يتعاون معهم على البر والتوبة، فلما ذهب مات في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قالت ملائكة العذاب: لم يتب، وهو أقرب إلى أرض العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: ذهب إلى ربه تائباً، فلما اختصموا فصل الله النزاع، بأن أرسل ملكاً على صورة بشر، يفصل النزاع بينهم، قال: قيسوا بين الأرض: التي ذهب إليها ليتوب فيها، والأرض التي خرج منها وعصى الله فيها، كرامة من الله لهذا الولي الصادق الذي تاب توبة نصوحاً، فارتقى إلى الولاية، فقد أمر الله الأرض التي قصدها ليتوب أن تقترب، وأمر الأرض التي عصاه فيها أن تبتعد، ثم أخذته ملائكة الرحمة، كرامة من الله لهذا الولي. أما كرامات هذه الأمة فهي أعظم وأكبر؛ لأن الله جل وعلا فضل هذه الأمة على باقي الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]. فكرامات هذه الأمة وردت وثبتت في السنة في عهد رسول الله وبعد عهده صلى الله عليه وسلم في القرون الخيرية. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.

التوسل المشروع والتوسل الممنوع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - التوسل المشروع والتوسل الممنوع التوسل نوعان: توسل مشروع وتوسل ممنوع، وقد جاءت الأدلة التي تبين الفرق بينهما، والتي ترغب في التوسل المشروع، وتحذر من التوسل الممنوع.

صور من كرامات الأولياء

صور من كرامات الأولياء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اليوم نستكمل كرامة مهمة من كرامات الأولياء لنستنبط منها أمراً مهماً في مسائل التوحيد، ألا وهي مسألة التوسل المشروع والتوسل الممنوع. لقد بينا أن من كرامات الأولياء تسبيح الطعام بين يدي ابن مسعود وسلمان الفارسي وأبي موسى الأشعري، فقد سبح الطعام وسمعوا ذلك كرامة من الله جل وعلا لهم. أيضاً من كرامات سلمان -والأسانيد التي تتكلم عن الكرامات يتسامح فيها بعض العلماء ومنهم النسائي عليه رحمة الله- أنه دخل على رجل من محبيه، فوجده على مشارف الموت، فقال بأعلى صوته: يا ملك الموت! كن به رءوفاً رحيماً، فسمع صوتاً يقول: يا سلمان! إني بكل مؤمن رءوف رحيم، فكأن ملك الموت رد عليه كرامة له من الله جل وعلا. ومن كرامة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتيها العطاء من عمر بن الخطاب فتنظر في العطاء فتجده كثيراً وافراً، فتخشى على نفسها؛ لأنها عاشت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يمر عليهم الشهر أو الشهران لا يطبخون طعاماً، وإنما يأكلون التمر والماء، فلما جاء عصر الفتوحات كثر المال فخشيت على نفسها، فكانت تنفق المال في سبيل الله وكما بينا أن لها اليد الطولى في الصدقة، فرفعت يدها وقالت: اللهم! اقبضني قبل عطاء عمر، فماتت من عامها. فهذه كرامة من الله جل وعلا لزوج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الكرامة أحدثت لنا إشكالاً وهو أنه كيف تدعو على نفسها بالموت وقد جاء النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (لا يتمنين أحدكم الموت، إن كان محسناً فلعله يزداد، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب)؟ فهي تمنت الموت بل دعت به على نفسها، فكيف تكون كرامة أن يستجاب لها والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت؟ فالإجابة على هذا الإشكال من وجوه: الوجه الأول: أن النهي عام، ويستثنى منه إذا خشي المرء على نفسه الفتنة فله أن يتمنى الموت، وأن يدعو على نفسه بالموت، وقد أقر الله جل وعلا مريم رضي الله عنها وأرضاها عندما خشيت على نفسها التهمة، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فتمنت الموت وأقرها الله على ذلك، والله لا يقر على باطل. الوجه الثاني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم! أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كانت الوفاة خيراً لي). الكرامة الأخرى كرامة أسماء رضي الله عنها وأرضاه لما علمت أن ابنها مصلوباً رضي الله عنه وأرضاه رفعت يدها وقالت: اللهم! لا تمتني حتى تأتني بجثته، فما ماتت حتى أتاه الله بجثته كل عضو يأتي إليها متهللاً فتكفنه وتدفنه، فبعد أن دفنته ماتت من أسبوعها. وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أيضاً كان له نفس الكرامة التي كانت لأخيه البراء بن مالك، وهي أنه جاءه عامل من عماله يقول: أصاب القحط أرضك، فرفع يديه واستسقى وقال: اللهم! اسقني، قال الراوي: فجاءت سحابة أظلت أرضه، فسقت أرضه ولم تتعد أرضه شبراً كرامة لـ أنس رضي الله عنه وأرضاه. واليوم سنذكر كرامة مهمة، ونتكلم على أصل من أصول التوحيد، وهي الكرامة التي كانت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه.

التوسل إلى الله بدعاء الصالحين

التوسل إلى الله بدعاء الصالحين روى اللالكائي أن عمر بن الخطاب كان إذا أصابه القحط قام فقال: اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا استسقينا، أو قال: توسلنا إليك بنبيك، ونحن اليوم نتوسل إليك بعم نبيك! يا عباس! قم فاستقِ. فهو يقول: كنا نتوسل إليك بنبيك في حياته، فلما مات نبيك نتوسل إليك بعمه العباس فلم يتوسل بالنبي بعد موته بل توسل بعمه الذي ما زال حياً، قال: قم يا عباس! فقام العباس فرفع يديه، وقال: اللهم! إنك تعلم أنهم يتوسلون بي لقربي من نبيك، اللهم! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، وهذه أيدينا رفعت إليك بذنوبها، ونواصينا بالتوبة، اللهم! اسقنا، فكانوا يسقون بدعاء العباس رضي الله عنه وأرضاه. فنستفيد من ذلك أن التوسل مشروع بل هو قربة.

تعريف التوسل

تعريف التوسل التوسل لغة: هو التقرب إلى المطلوب بالرغبة فيه، أو هو اتخاذ الوسيلة واتخاذ الواسطة للحصول على المرغوب أو المطلوب، فالوسيلة هي الواسطة، أو القربة التي يتقرب بها العبد إلى الله جل وعلا ليحصل له ما يرغبه ويطلبه، قال الله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، أي تقربوا إليه بالدعاء والصلاة وغيرها لتحصلوا على ما تريدون منه جل وعلا.

أقسام الناس في التوسل

أقسام الناس في التوسل التوسل قربة والأصل في القربات التوقيف، إذاً فلا بد من دليل من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتقرب العبد إلى الله، فلما كان الأمر كذلك انقسم الناس في التوسل إلى قسمين: قسم توسلوا بما شرع الله جل وعلا، وقسم ابتدعوا في دين الله، وقدموا بين يدي حاجاتهم بدعاً مقيتة، فأنى يستجاب لهم؟ وسنذكر لكم أدلة كل فريق.

التوسل المشروع وأنواعه

التوسل المشروع وأنواعه أما الفريق الأول الذين توسلوا بما شرعه الله في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أي تقربوا بما في الكتاب أو في السنة وقد أرشدنا الكتاب والسنة أن نتوسل لله جل وعلا بأنواع ثلاثة: التوسل الأول: التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وهو أن تتوسل إلى الله جل وعلا بين يدي حاجتك حتى تقبل عند الله بأسمائه وصفاته، كأن تقول: يا غفور! اغفر لي، يا رحمن! ارحمني، اللهم! بعزتك أعز الإسلام، اللهم برحمتك ارحمني، وهذا يسمى توسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا جل وعلا. ودليله من الكتاب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي توسلوا إليه بها، وأيضاً قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. ومن السنة حديث: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يصلي، فلما قرأ التشهد قال: اللهم! إني أسألك يا ألله! يا واحد! يا أحد! يا فرد! يا صمد! يا من لم يلد ولم يولد! ولم يكن لك كفواً أحد! اللهم! اغفر لي فإنك أنت الغفور الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)، انظروا إلى توسل الرجل قال: أسألك يا ألله! وهو اسم الله الأعظم، ثم ذكر الصفات التي تضاف إلى الله، فقال: يا واحد! يا أحد! توحيد لله جل وعلا، يا صمد! والصمد هو الذي لا يحتاج لأحد، بل الكل يصمد إليه ويسأله حاجاته، ومن معاني الصمد هو الذي لا يأكل ولا يشرب، فلا جوف له. فيتوسل إلى الله بأسمائه جل وعلا. ومن توسل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا حي! يا قيوم! برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). فتوسل باسم الله الحي، الذي يتضمن صفة الحياة، وقوله: يا قيوم! توسل باسم الله القيوم الذي يتضمن صفة القيومية، هذا توسله بالأسماء وفي آخر الحديث توسل بالصفة، فقال: (برحمتك أستغيث) أي: أتوسل إليك بصفة الرحمة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أيضاً: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)، فهو توسل بصفة العظمة لله جل وعلا، وقال: (وأعوذ بعزتك أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)، فتوسل إلى الله جل وعلا بصفة من صفاته الدالة على الكمال وهي صفة العزة. وسليمان عليه السلام كان يتوسل إلى الله جل وعلا بالأسماء والصفات، قال الله تعالى على لسان سليمان: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فتوسل بصفة الرحمة: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]. النوع الثاني من أنواع التوسل المشروع: التوسل بالأعمال الصالحة، كحب النبي صلى الله عليه وسلم فتقول مثلاً: اللهم! إني أدعوك بما علمت من حبي لنبيك أن تفرج عني الكرب، أو تدعو الله جل وعلا بعمل قد أخلصت فيه لله، فلم يكن للرياء فيه مسرح، ولا للشيطان فيه مدخل فتتوسل إلى الله بهذا العمل الصالح أن يرزقك ما تريد. والدليل عليه من الكتاب قول الله تعالى حاكياً عن الذين آمنوا بعيسى: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، وأيضاً قول الله تعالى حاكياً عن أهل الإسلام أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193]، يتوسلون بإيمانهم، وهو عمل صالح، {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. ومن السنة قصة الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار، فتقرب كل رجل منهم إلى الله بعمل صالح، رأى في نفسه أنه أخلص لله تعالى فيه فالأول لم يزن بابنة عمه، وأعطاها المال إخلاصاً لوجه الله جل وعلا، فانفرجت فرجة، والثاني قال: أنه كان يبر بوالديه إخلاصاً لله، فقبل الله منه هذا العمل، والثالث: أعطى الأجير حقه ونمى له المال، حتى أعطاه وادياً من الغنم، فاستغرب الأجير أن يكون هذا ماله، لكن الرجل كان أميناً مخلصاً لله جل وعلا، فانفرجت الصخرة التي كانت على باب الغار. النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع: التوسل بدعاء الصالحين، الذين تقربوا إلى الله جل وعلا بالواجبات ثم بالمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، فنتوسل إلى الله جل وعلا بدعاء الصالحين لا بذواتهم. والدليل على ذلك من الكتاب، قول الله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97]، فطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ما أخطئوا في حق يوسف عليه السلام. أما من السنة فحديث عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة) إلى آخر الحديث، فقام عكاشة بن محصن فقال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم، فقام رجل آخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة). وأيضاً الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره إذا رأى أويس القرني أن يطلب منه أن يستغفر له، فهذا دليل على التوسل بدعاء الصالحين. ويحتج شيخ الإسلام بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر وهو ذاهب إلى العمرة: (يا أخي! لا تنسانا من صالح دعائك) وهذا حديث ضعيف تغنينا عنه الأحاديث الصحيحة.

التوسل الممنوع وأنواعه

التوسل الممنوع وأنواعه أما القسم الثاني فهم الذين جروا خلف العواصف والويل وتركوا السنة وراءهم ظهرياً، الذين ابتدعوا في دين الله جل وعلا، وتوسلوا التوسل الممنوع. والتوسل الممنوع أيضاً ينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: شرك يخرج من الملة، فصاحبه كافر خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، وهو الذي يأتي إلى الولي، أو إلى قبر من يظن أن فيه خيراً فيستغيث به، أو يطلب منه جلب نفع، أو دفع ضر، وقد جلست مع بعضهم وكنت أقول له: اتق الله، فيشيح بوجه عني ولا يجيب، فهو يخشى من الإجابة، وأنا أقول له: إذا ذهب رجل إلى الحسين فقال: يا حسين! اشفي مريضي، أو قال: يا حسين! ابنتي لا تنجب اجعلها تنجب، ماذا تقول فيه؟ وهو يأبى أن يجيب، فعله يعتقد في قلبه أنه يجيبه؛ لأن بعض الثقات ذكروا لي أنه يقول: إن للكون أقطاباً وأبدالاً يتحكمون فيه، وإن أرواح الأولياء تحرج فتنصر المؤمنين! وسنعقد فصلاً خاصاً للرد عليه بإذن الله، فهو كافر، وسنأتي بكلامه نسمعكم إياه، ونرد عليه، حتى نؤصل العقيدة الصحيحة، احتراماً واحترازاً وحفظاً لجناب التوحيد. فمثال النوع الأول من التوسل الممنوع أن يذهب إلى البدوي فيقول: يا بدوي! اشف ابني، أو يقول: يا سيدة زينب! أنت مباركة، ابنتي لا تلد فاجعلي ابنتي تلد، أو تكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا حدث واقعاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذهبت امرأة فكتبت ورقة وقالت فيها: يا رسول الله! ابنتي لا تنجب اجعلها تنجب، اعتقدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون لله جل وعلا، والأشد منه أن يذهب إلى البدوي أو المرسي أبي العباس أو إلى غيره يدعوه ويستغيث به، ويطلب منه جلب النفع، أو دفع الضر، ومن فعل هذا فقد وقع في الشرك من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: شرك في الألوهية إذ إن الدعاء عبادة، والقاعدة أن كل عبادة ثبت بالكتاب أو بالسنة أنها عبادة ففعلها لله توحيد، وفعلها لغير الله شرك، والدعاء لطلب النفع أو لدفع الضر عبادة كما ثبت ذلك بالكتاب، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] وهذا هو محل الشاهد، فثبت أن الدعاء عبادة، بالتصريح وبالتنصيص من قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الدعاء هو العبادة)، وهذا أسلوب يسمى أسلوب حث، يعني كل العبادة دعاء، والدعاء هو كل العبادة، إذاً: الدعاء عبادة، ففعلها لله توحيد، وفعلها للبدوي أو للحسين أو للسيدة زينب أو للجيلاني شرك. الوجه الثاني من الشرك: شرك في الربوبية، إذ إن الذي يستغيث بـ البدوي أن يشفي ابنه أو يشفي مريضه يعتقد في قلبه اعتقاداً بأن البدوي يستطيع أن يشفي ابنه، وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا، فهذا جعل صفة الربوبية لميت لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً. الوجه الثالث من وجوه الشرك التي يقع فيها من يدعو ويستغيث غير الله لجلب نفع أو دفع ضر: شرك في الأسماء والصفات، حيث إنهم أنزلوا الخالق منزلة المخلوق، وفيه تشبيه فالملك أو الرئيس، أو مدير العمل، كيف تدخل عليه، لا بد من سكرتير أو أمير الديوان يشفع لك عند المدير، فهم نزلوا الخالق منزلة المخلوق فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، كأن الله ملك لا يمكن لأحد أن يدخل عليه حتى يستأذن من السكرتير أو حتى يأتي بالشفيع ليشفع له، فسبحان الله ما أكرمه! وما أحلمه! وما أعظمه! ما عليك إلا أن تتوضأ ثم تخلو بربك وتكبر للصلاة فإذا بك قد دخلت عليه، بل هو قِبَل وجهك، فكلما سجدت وبكيت لله جل وعلا كنت أقرب ما تكون له، بل إنك حين تدعو الله جل وعلا وتتضرع وتتذلل وتتمسكن له يستجيب لك، فهو لا يحتاج إلى بواب ولا يحتاج إلى شفاعة. فوجه الشرك في الأسماء والصفات، التشبيه حيث أنزلوا الخالق منزلة المخلوق. النوع الثاني من التوسل الممنوع: هو مثل الأول لكنه أخف، وهو ذريعة إلى الشرك الأكبر، فهو من الشرك الأصغر وصورته أن يذهب إلى الميت لكن لا يطلب منه جلب نفع ولا دفع ضر، لكنه يخاطبه، يقول: يا بدوي! أنت عند الله جل وعلا، وقد رأيت الكرامات، ولك مكانة فاشفع لي عند ربك أن يغفر لي أو قال: اسأل الله جل وعلا أن يرزقني، إذاً: هو ما طلب من البدوي أن يرزقه أو يغيثه، ولكنه خاطب الميت، على اعتقاد أن الميت يسمع، وهذا مما اختلف فيه العلماء، فعلماء الحجاز قاطبة يجعلونه من الشرك الأكبر، والصحيح الراجح عند تدقيق النظر أن هذا ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر؛ لأنه إنما خاطب ميتاً يعتقد أنه يسمع، وسماع الميت فيه خلاف بين العلماء، ولا طلب منه جلب نفع، ولا دفع ضر، ما سأله إلا أن يستغفر الله له، مثله مثل الذي يتذكر آيات الله جل وعلا بأن الذين يحملون العرش ومن حوله يستغفرون للذين آمنوا، فيقول: يا ملائكة ربي! استغفري لي، فهو أمركم أن تستغفروا لي، فهذا ليس بمشرك، مع أنه خاطب غائب؛ لأنه لم يطلب منه دفع ضر ولا جلب منفعة، فهذا ليس بشرك. إذاً: النوع الثاني من التوسل الممنوع ليس بشرك أكبر، لكنه من الشرك الأصغر. النوع الثالث من أنواع التوسل الممنوع فيه اختلاف فقهي، وليس اختلافاً في العقيدة ألا وهو: التوسل بذات النبي أو بجاه النبي، وقد كثر على الألسنة قول: بحق جاه النبي افعل لي كذا، وقد ذكرت هذا لأكون منصفاً، فهذا فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة، منهم من أباحه ومنهم من منعه، والمنع أقرب للصواب؛ لأن الحجة مع من منع كما سنبين. أما الذين قالوا بصحة التوسل بجاه النبي أو بذات النبي فقد وردت رواية عن أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة وهذه الرواية مستغربة جداً، ورجحها العز بن عبد السلام، والإمام الشوكاني، بل إن الشوكاني توسع في المسألة حتى قال بجواز التوسل بذوات الصالحين، وأدلتهم جواز التوسل بجاه النبي وذات النبي من الأثر ومن النظر، أما من الأثر: فعن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا نتوسل إليك بنبيك ونحن نتوسل إليك بعم نبيك، أي بذات عم النبي أو بجاه عم النبي صلى الله عليه وسلم. واستدلوا أيضاً بحديث آخر رواه الحاكم في المستدرك وصححه وهو صحيح عن عثمان بن حنيف أنه قال: (جاء رجل أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ادع الله لي أن يرد علي بصري، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة -كما قال للمرأة التي كانت تصرع- قال: ادع الله لي، فقال: اذهب فتوضأ ثم صلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أتوجه إليك بنبيك أو أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، يا محمد! يا نبي الرحمة! إني أتوجه بك إلى ربي، ثم قال: اللهم! شفعه في وشفعني فيه). وتفسير شفعه في أي: اقبل شفاعته فيَّ، فالرجل لا يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله، ولكنه يقول: يا رب! اقبل دعائي أن تقبله شفيعاً لي عندك، كما سنبين. وأما من النظر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم خلق الله على الله، فلنا أن نتوسل بجاهه ونتوسل بذاته عند الله جل وعلا. فهذه هي أدلة الذين قالوا بجواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم. أما جماهير أهل العلم وترجيح شيخ الإسلام رحمة الله عليه الذي نشر العلم والذي حارب من أجل ارتفاع كلمة أهل السنة والجماعة، ودحض أهل البدعة، فقد رجح أن هذا التوسل ممنوع، وإن كان هناك قول آخر له بأنه مشروع لكنه رجع عنه، واستدل بنفس حديث العباس؛ لأن عمر بن الخطاب قال: إنا كنا نتوسل بنبيك، ثم قال: ونحن اليوم نتوسل بعم نبيك. فهل توسل بعم النبي لجاهه أم بدعائه؟ في نفس الحديث قال له عمر بن الخطاب: قم يا عباس! فقام العباس وقال: اللهم! إنهم توسلوا بي -أو بمكانتي- عند نبيك، اللهم! ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ورفع يديه حتى استسقى لهم، فسقاهم الله جل وعلا بدعاء العباس. وأيضاً استدل جماهير العلماء: بأن الصحابة رضوان الله عليهم عمر وأبو بكر ومعاوية ومن بعدهم لم يتوسلوا لا بذات النبي ولا بذات غير النبي صلى الله عليه وسلم، فـ عمر رضي الله عنه ما كان له أن يترك الأفضل ويذهب إلى المفضول، وما كان له مع القحط وعام الرمادة أن يتوسل بالضعيف ويترك القوي، فالقوي هو ذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقف على المنبر ويقول: أتوسل إليك بجاه نبيك، أو بذات نبيك. وأيضاً معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، لما أصيب الناس في عصره بالقحط، قام على المنبر وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بأفضلنا وخيرنا، قم يا يزيد! وهو يزيد بن الأسود، فقد كان بكاءً زاهداً في الدنيا عابداً متحمساً، وفي رواية قال: قم يا بكاء! فاستسق لنا، فقام يزيد فرفع يديه فاستسقى فما نشب أن وضع يده حتى أنزل الله المطر كرامة لـ يزيد العابد. فـ معاوية ما كان ليترك التوسل بذات النبي أو جاهه ويذهب إلى يزيد التابعي ليتوسل بدعائه، إلا لأنه وقر في قلبه أنه لا يجوز التوسل بذات النبي، وهذا هو الراجح الصحيح. فالصحيح أنه لا يجوز لأحد أن يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان التوسل بذات النبي وجاهه خيراً لسبقونا إليه وهم أفضل وأفقه. فإذا كان هذا هو الراجح فلا بد لنا من الإجابة عن أ

فضل طلب العلم ومكانة طالبه

فضل طلب العلم ومكانة طالبه إن شمس البدعة بزغت، ولن يتصدى لها إلا طالب علم يحقق المسائل ويدقق النظر في الأدلة، قال بعض السلف رحمهم الله: ما انتشرت بدعة إلا وأخمدت سنة، ولما انتشرت البدع أميتت السنن، وانقلب الحال، فأصبحت السنة بدعة والبدعة سنة، فوجب على طالب العلم أن يصبر على طلب العلم، قال الإمام أحمد: ما رأيت أفضل من طلب العلم لمن أخلص نيته، وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من قيام الليل ومن الصيام ومن الصدقة. بل إن طلب العلم أفضل من الجهاد، والعالم أفضل من المجاهد، وهذا في جهاد النافلة لا جهاد فرض العين، فطلب العلم أفضل من سبعين باباً من أبواب الجهاد، وضربنا مثلاً بما فعله الشافعي مع أحمد، لما ذهب إليه وأكل عنده كثيراً، وجلس طيلة الليل على الفراش فحسبته ابنة أحمد أنه نام، ثم قام فصلى الفجر بوضوء العشاء، فقالت ابنة أحمد: يا والدي! لقد أخذت على الشافعي ثلاثاً، قال: هاتها: قالت: أكل كثيراً، ونام كثيراً، وصلى الفجر بغير وضوء، فاستشكل أحمد فسأله عن ذلك فقال له الشافعي: أما طعامك فطعام الصالحين، فعلمت أنه مليء بالبركة، فأكثرت الأكل منه، وفي هذا فقه وفطنة من الشافعي، ثم قال الشافعي: وأما إني لم أصل من الليل فقد جلست أفكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، فاستخرجت منه أكثر من عشرين مسألة، ولو جلست المجامع الفقهية في الكويت، والمجامع الفقهية في مصر والمجامع الفقهية في السعودية ليلة كاملة، ثم خرجوا بخمس مسائل فجزاهم الله خيراً، فالحديث خمس كلمات أو ست كلمات يستخرج منها الشافعي مسائل، ولذلك كان الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمة لله عليه يتأمل في الأدلة، وبلغني عمن لازمه من طلبة العلم قال: كان أفضل ما يدهشنا من الشيخ أنه كان ينظر في الدليل ويتأمل فيه. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، ولذلك تجد أحدهم يجلس بجانبنا من الفجر إلى الظهر، يسمع الصحيحين، وبعدها يسمع بقية الكتب الستة، وهذا جيد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) لكن إذا سألته عن الفقه وجدته لا يفقه شيئاً. ولذلك أفضل العلماء من خلط بين الفقه والحديث، وكان وتداً في العقيدة، فطالب العلم الذي يخلو عقله من العقيدة أو من الفقه أو من الحديث طالب ضعيف؛ لأنه سيضعف أمام المسائل، فلا بد من الاجتهاد والإخلاص، وأذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه، وفهم المتن رأس الأمر. قال الشافعي لـ أحمد: وأما صلاة الفجر فإني صليتها بغير وضوء، فما نمت من العشاء إلى الفجر. عند ذلك قال أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة وهو الفقيه والمحدث بحق: هذه التي لا نقوى عليها، وهذه التي هي أنفع للأمة من صلاة الليل، يعني: أن أمة لا تنتفع إلا بمثلك؛ لأنك تخرج على الأصول الفروع فتنتفع بها الأمة. فنحن في زمان عز فيه الطلب، فتجد كثيراً من الناس ما عندهم صبر، وهذا هو الذي يضيع عليهم الخير؛ لأن الترف أضاعهم، وأبشرهم بما يحزنهم، حتى يجعلوه خلف ظهورهم، قال الإمام مالك: لن يصل إلى هذا العلم إلا من أدقعه الفقر، أي نام في العراء، ولم يجد طعاماً ولا شراباً فهو الذي يصل إلى هذا العلم، فنقول: إن أنعم الله عليك بالمال فاستخدمه في رضا الله وفي طلب العلم، وإذا جلست في مجالس العلم، فاصبر وصابر وستصل بإذن الله، فالأمة الآن تحتاج إلى علماء، كما أهيب بالإخوة أن يصبروا، ويصابروا. لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فاتقوا الله في أنفسكم، والله الله في العلم، واعلموا أن قيام الساعة لن يكون حتى يضيع العلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويكثر الجهل، وإذا كثر الجهل اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا). فاعلموا حفظكم الله أن النجاة في العلم، وكفى بطالب العلم شرفاً أن يكون وريثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى به أنه ليس بينه وبين النبي إلا درجة النبوة، فلمثل هذا فليعمل العاملون، ولمثل هذه المكانة تشرئب الأعناق، فهذه المكانة فوق مكانة المجاهدين، وبين العالم المجد وبين غيره تفاوت في الدرجات، فكن عالماً أو كن متعلماً، ولا تكن الثالث. أنا لا أريد أن تكون محباً لأهل العلم فقط حتى لا تكون ذيلاً، وعلى الإنسان أن يربأ بنفسه أن يكون ذيلاً لأحد، واسأل نفسك: لم لا أكون رأساً، إن لم أكن مثل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم لا أنحو نحوه، وأحذو حذوه، وأسير على دربه؟ لم لا أتخذ شيخ الإسلام ابن تيمية نبراساً أمامي، يكون هو الذي تشرئب عنقي إليه، حتى أصل إليه، وإن لم أصل إليه أسير على دربه؟ فالناس بحاجة إلى العلماء، مثل حاجتهم إلى الماء والهواء أو أكثر، فانشغلوا بالعلم، فالعلم أفضل طاعة تطيعون الله بها، والعلم هو أفضل ما تقدمه بين يديك يوم القيامة، فإذا كنت من العلماء وقفت خلف الأنبياء. فالناس لهم صفوف ولهم درجات عند الله يوم القيامة، فإذا كنت عالماً كانت درجتك تحت النبي، فلماذا تريد أن تكون في الأسفل؟ إن الله يحب عالي الهمة، فأنا أهيب بإخوتي أن ينشغلوا بالعلم، وينقضوا عليه، ويجتهدوا، فلا تنم إلا قليلاً، ولا تأكل إلا قليلاً، واجعل غذاءك العلم، وكما قيل: الرزق رزقان، رزق القلوب، ورزق الأبدان، ورزق القلوب أفضل وأروع من رزق الأبدان؛ لأنه هو الذي به النجاة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

§1/1