شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي - حسن أبو الأشبال

حسن أبو الأشبال الزهيري

مقدمة الكتاب [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مقدمة الكتاب [1] يعتبر كتاب الإمام اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من أهم الكتب المصنفة في العقيدة؛ لما حوى من المسائل المهمة، وقلَّ أن تجد مصنفاً بعده لا يستفيد منه، وقد كان سبب تأليفه كما يقول مؤلفه هو طلب بعض أهل العلم له أن يؤلف كتاباً في شرح اعتقاد أهل السنة، وكذلك انصراف علماء زمانه عن مذهب أهل السنة وانشغالهم عنه بما أحدثوه من العلوم الأخرى.

التعريف بكتاب أصول الاعتقاد

التعريف بكتاب أصول الاعتقاد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: فمع كتاب (أصول الاعتقاد) للإمام أبي القاسم اللالكائي، وقد تناولنا في الدرس الماضي حياة الإمام من حيث اسمه ونسبه وطلبه للعلم ورحلته وثناء العلماء عليه وغير ذلك. وسنتكلم عن الكتاب -وهو محل الدراسة- فنقول: التعريف للكتاب يشتمل على عدة موضوعات: اسم الكتاب، موضوع الكتاب، سبب التأليف، أجزاء الكتاب، تاريخ تأليفه، توثيق الكتاب، منهج المؤلف في هذا الكتاب، قيمة الكتاب العلمية، المآخذ التي أخذها أهل العلم على الكتاب.

اسم الكتاب

اسم الكتاب أولاً: اختلف أهل العلم في اسم الكتاب، فمنهم من قال: هو (السنة)، ومنهم من قال: هو (شرح السنة)، ومنهم من قال: (شرح اعتقاد أهل السنة)، ومنهم من قال: (أصول السنة)، ومنهم من قال: (شرح حجج أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، ومنهم من قال: (حجج أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، أي: بغير كلمة (شرح)، ومنهم من قال: (السنن)، ومنهم من قال: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وهذا هو الموجود على غلاف الكتاب الذي بين أيدينا، وهو الموجود كذلك في النسختين المخطوطتين اللتي اعتمد عليهما محقق الكتاب. وهو الاسم الذي ترجح لنا أنه اسم الكتاب؛ لوجوده على غلاف النسختين الموجودتين: الظاهرية والهندية. وأما بقية الأسماء الأخرى التي اختلف فيها أهل العلم فإنها تصلح أن تكون أسماء لكتب المعتقد، وهي مذكورة في الفهارس أو في كلام العلماء، وهذا الخلاف إنما نشأ لأن المؤلف صنف كتاباً في العقيدة على منهج أهل الحديث، ولم يختر لكتابه اسماً، فاختلف أهل العلم في تسمية الكتاب على النحو الذي ذكرناه. يقول هنا: وأما مؤلف الكتاب فلم يجعل له عنواناً، وإنما ذكر في المقدمة موضوع الكتاب فقال: [وقد كان تكررت مسألة أهل العلم إياي عوداً وبدءاً في شرح اعتقاد مذاهب أهل الحديث]. أي: أنه يريد أن يقول: إنهم طلبوا مني أن أصنف كتاباً في العقيدة على مذهب أهل الحديث ففعلت، وهذا هو الكتاب. أما هو فلم يضع عنواناً بعينه لهذا الكتاب، وإنما ذكر أنه صنفه على سبيل أهل السنة والجماعة. أي: على طريق ومنهج أهل السنة والجماعة.

موضوع الكتاب

موضوع الكتاب أما موضوع الكتاب فهو يبحث في المسائل الاعتقادية على منهج أهل الحديث ومذهبهم، وهو ما عرف (بأهل السنة والجماعة). يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: [ولم آل جهداً في تصنيف هذا الكتاب ونظمه على سبيل أهل السنة والجماعة]، فمرة يسميه: (سبيل أهل الحديث) ومرة يسميه: (طريق أهل السنة والجماعة) وكلاهما واحد. وقد جعل المؤلف لكتابه مقدمة اشتملت على عدة أمور منها: أولاً: بيان ما كان عليه السلف من اتباع للأثر واجتناب للبدع والنهي عن مناظرة أهلها. أي: أن أول مسألة تكلم فيها الإمام في مقدمة الكتاب هي: بيان ما كان عليه السلف من اتباعهم للأثر، وهذا بلا شك يختلف مع أهل البدع والضلال، فإنهم ليسوا متبعين للأثر، وإنما هم يقدمون العقل على النقل كما ذكرنا ذلك في الدرس الماضي، ولذلك تجد أن من أعظم الفروق بين أهل السنة والجماعة وبين أصحاب الاعتقاد الفاسد أو الفكر المنحرف: أن هؤلاء يقدمون العقل على النقل. ثانياً: التعريض بالمنهج العقلي -أي: ذمة ولو من طرف خفي- وذم رواده من المعتزلة، وذكر جهلهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي يتكلم عن فضل التمسك بالأثر واتباع منهج السلف في ذلك لابد وأنه ولو لم يتكلم عن المواقف فإنه يشتمل ذلك ضمناً على ذم ما خالف ذلك. أي: من خالف ذلك من المعتزلة، ومن أتى بعدهم في تقديمهم العقل على النقل. ثالثاً: الإشارة إلى بداية ظهور البدع وموقف العلماء والحكام من المبتدعة. رابعاً: ذكر فضل أهل الحديث ووجه تسميتهم بهذا الاسم. خامساً: ذكر سبب تأليفه لهذا الكتاب. سادساً: بيان منهجه وشرطه في تصنيف هذا الكتاب. وهذا ما يتعلق بموضوعات المقدمة، إذ إن كل موضوع منها، وكل جزئية منها تصلح أن تكون موضوعاً طويلاً عظيماً؛ لأنها تعد معالم في أصول أهل السنة والجماعة، وفي منهج أهل السنة والجماعة. بل إن كل مسألة من هذه المسائل التي معنا جديرة بالدراسة والتوسع فيها، ولذلك لو لم يكن في الكتاب إلا هذه المسائل لكفى، فضلاً عن أنه جعل ذلك مقدمات لأصل الكتاب. أما أصل وموضوعات الكتاب فقد جعلها المؤلف في مجلدين: المجلد الأول: تكلم فيه على موضوعات معينة. الأول: ذكر أسماء علماء أهل السنة والجماعة. أي: الذين تكلموا في مسائل الاعتقاد. الثاني: الحث على التمسك بالسنة واجتناب البدعة؛ لأن هذا أصل من الأصول، ولذلك كرره المؤلف، فمرة يذكره في المقدمة، ومرة يذكره في آخر كتابه. فيسوق نصوصاً في آخر الكتاب للدلالة على ذلك تختلف عن النصوص التي ساقها في مقدمة الكتاب. الثالث: التوحيد وأسماء الله وصفاته. الرابع: ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة في القرآن. الخامس: النهي عن التفكير في ذات الله عز وجل. السادس: مبحث القدر. السابع: البعثة النبوية والمعجزات. الثامن: جزء من مبحث الإيمان. وأما المجلد الثاني: فإنه يحتوي على الموضوعات الآتية: الأول: تكملة لمبحث الإيمان. الثاني: المرجئة. الثالث: أبواب في المعاصي والتوبة. الرابع: القبر وما فيه. الخامس: الأمور الواقعة يوم القيامة. السادس: المخلوقات غير المرئية كالملائكة والجن. السابع: علامات الساعة الكبرى والصغرى. الثامن: الفضائل، وهو ما سماه بكتاب: (الكرامات)، وبين معتقد أهل السنة والجماعة في الكرامات.

سبب التأليف

سبب التأليف أما سبب تأليفه لهذا الكتاب فيقول: ما دفعنا إلى تأليف هذا الكتاب إلا سؤال بعض أهل العلم له أن يؤلف كتاباً في: (شرح اعتقاد أهل الحديث)، وهذا هو السبب الأول. الثاني: انصراف علماء زمانه عن مذهب أهل السنة والانشغال عنه بما أحدثوه من العلوم الأخرى مما أدى إلى ضياع الأصول القديمة التي أسست عليها الشريعة. أي: عندما رأى أن معالم الشريعة كادت أن تطمس في زمانه، ورأى انصراف أهل السنة عن بيان ذلك والتأليف والتصنيف فيه، تصدى لذلك بناء على طلب بعض أهل العلم له أن يؤلف في هذا الموضوع.

أجزاء الكتاب

أجزاء الكتاب وأما أجزاء الكتاب فقد جعله في مقدمة وجزأين، وقد ذكرنا النقاط والموضوعات التي تكلم فيها في المقدمة وفي الجزأين.

تاريخ التأليف

تاريخ التأليف أما تاريخ تأليف هذا الكتاب فإنه كان قبل موته ببضع سنوات. ونحن قلنا: إن الرجل قد درس المذهب الشافعي ببغداد، وكان من أكابر الفقهاء والمحدثين، ولم يظهر ذلك إلا في آخر أيام حياته. وقد أورد في هذا الكتاب جملة مستكثرة من الأحاديث والآثار والموقوفات والمقطوعات على التابعين وغيرهم، مما يدل على أن هذا الجهد العظيم لابد وأن يسبقه رحلة طويلة وزمن بعيد جداً في تحصيل هذه الأقوال. فهذه علامات وقرائن تدل على أن هذا الرجل قد صنف هذا الكتاب في آخر حياته، فضلاً أن بعض النقول تدل على ذلك، ولذلك يقول رحمه الله وهو يذكر كتاب القدر الذي أمر بقراءته على المنابر: [وجرى ذلك على يدي الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد رحمه الله في جمادي الآخرة سنة 413هـ]، والرجل مات سنة 418. ثم يقول: الطريثيثي في سند رواية الكتاب: (حدثكم الشيخ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الحافظ في ربيع الأول سنة 416) والرجل مات سنة (418)، وغيرها من النقول التي تدل على أن هذا الكتاب ألف في آخر حياة الإمام.

توثيق الكتاب

توثيق الكتاب في الحقيقة هناك نقولات كثيرة جداً عن الإمام الكبير ابن الجوزي -وهو تلميذ الإمام- وعبد الغني المقدسي رحمه الله، وعن أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـ أبي شامة صاحب كتاب البدع، وعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعن ابن أبي العز الحنفي، وعن الإمام الذهبي، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وغيرهم من أهل العلم الذين وثقوا نسبة الكتاب إلى المؤلف.

منهج المؤلف

منهج المؤلف ذكر المؤلف رحمه الله منهجه في مقدمته، وبين الطريقة التي سيتبعها في التأليف وهي: أولاً: أنه لم يبدأ في تأليف هذا الكتاب حتى تصفح عامة كتب الأئمة الماضين، وعرف مذاهبهم ومناهجهم، ولم يأل جهداً في تصنيفه. لذا فمن أراد أن يصنف وأن يكتب وأن يضع السواد على البياض فينبغي إن كان سلفياً حقاً، ومتبعاً لا مبتدعاً، ومتأنياً لا متسرعاً، أن يعلم أن مذهب أهل العلم أنهم ما وضعوا السواد في البياض -أي: ما وضعوا قلماً في ورقة- إلا على هذا النحو. فهو رحمه الله تعالى لم يبدأ في تأليف هذا الكتاب حتى قرأ في هذا الباب كتب من سبقه، وعرف مذاهبهم ومناهجهم، ولم يأل جهداً في تصنيفه. أي: لم يتعجل في تصنيف هذا الكتاب، وإنما بذل فيه جهداً مشكوراً، والمتصفح لهذا الكتاب يعلم ذلك جيداً. ثانياً: أنه فصل المسائل الخلافية. ومعلوم أنه تكلم في المسائل الخلافية بكلام مفصل، وبين المحدث لكل مسألة. أي: المبتدع لكل مسألة ثلاثية. ومعلوم أنه لا يتكلم عن الخلافيات في الفقه، وإنما يتكلم عن خلاف أهل العلم في مسائل الاعتقاد، فهو يذكر المسألة التي خالف فيها الخلف مذهب السلف، ويبين من أحدث هذه البدعة أولاً، ثم من تبعه إلى زمانه. وكذلك تكلم عن الفترة الزمنية التي أحدثت فيها تلك البدعة. ثالثاً: الاستدلال على صحة مذهب أهل السنة والجماعة بالقرآن الكريم. رابعاً: فإن لم يجد فمن السنة. خامساً: فإن لم يجد فيهما ولا في أحدهما استشهد بقول الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وهذا يدل على حجية كلام الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله تعالى: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول سفيه سادساً: فإن لم يجد عنهم فعن التابعين لهم بإحسان. سابعاً: ثم أخبر أنه لم يسلك فيه طريق التعصب على أحد من الناس. فهذه كلها مناهج سلفية، وكلها مذاهب لأهل السنة والجماعة، ولذلك لأهل السنة والجماعة معالم إذا توفرت في المرء عد منهم، وإذا لم يتصف بها المرء لم يكن منهم، أو كان بعيداً منهم على قدر بعده من منهجهم ومعالمهم. قال: [هذا هو المنهج المكتوب]. وهناك جانب آخر منه اتبعه المؤلف ولم يذكره وهو: أولاً: أن المؤلف اهتم بالجمع فقط من غير تمحيص للأحاديث والآثار التي أوردها، وإن كان قد أوردها بأسانيدها فإنه لابد من ذكر درجتها من الصحة أو الضعف، وخاصة وهو محدث حافظ؛ لأنها تمس أهم جوانب الدين، وهو جانب الاعتقاد. وكان هذا مأخذاً أخذه المحقق على المؤلف، وهو في الحقيقة عند عرض هذا الكلام على أصول أهل السنة لا يكون انتقاصاً، فهو يريد أن يقول: إن المؤلف هنا اهتم بقاعدة التقميش التي يقول بها المحدثون، وقاعدة التقميش إذا كنت في موطن أو في محل الكتابة فينبغي أن تأخذ عن كل أحد، وأن تكتب عن كل من هب ودب، وأما إذا كنت في موطن التصنيف، وفي موطن التعليم لغيرك فإنه ينبغي أن تفتش في هذه المجموعات، ولا تحدث إلا بأحسنها وأفضلها. والمؤلف رحمه الله تعالى كتب في كتابه كل ما وقع إليه في الباب أو في المسألة، سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً. وفي الحقيقة هذا لا يعد كبير عيب؛ لأن قاعدة أهل الحديث أن من أسند نصاً فقد برئ من عهدته، فهو يروي هذه النصوص مسندة، وإذا كان هذا الصنيع في هذا الكتاب فما الحرج عليه بعد ذلك؟ وكأنه أحالك إلى البحث في أحوال الرواة الذين رووا مثل هذا الحديث أو هذا الأثر، وهذا صنيع كثير من الأئمة قبل هذا الإمام وبعده، ولم يعب عليهم ذلك أحد. ثانياً: أن المؤلف يعرض الاعتقاد ثم يذكر أدلته سرداً من غير تعليق أو شرح. أي: أنه يتكلم في أصل المسألة التي يريد أن يتكلم فيها، ثم يتكلم بعد ذلك في الأدلة، فيسرد أدلة هذه المسألة، مثل الإمام الطبري في تفسيره، حيث يأتي على الآية ويقول: هذه الآية اختلف في تأويلها على نحو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أقوال. ثم يقول: والقول الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، وأدلة القول الأول كذا وكذا، وهكذا ويذكر بعد ذلك أقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين مسندة إلى زمانه، منها الضعيف ومنها الصحيح، بل ومنها الموضوع، ولا يعد هذا عيباً في الكتاب، ولعل المؤلف رحمه الله معذور في ذلك لكثرة النصوص الواردة، إذ لو اتبع هذا المنهج لتضخم الكتاب جداً. وعلى أي حال لا يعد هذا عذراً للمؤلف إذا ألزمناه بالشرح والبيان، فكم من كتاب ضخم لم يمل منه أهل العلم. ثالثاً: أن المؤلف لم يذكر المذاهب المخالفة في المسألة التي يوردها إلا في أماكن قليلة جداً كما في مسألة: (الاسم والمسمى). أي: الاسم والمسمى لله عز وجل، هل هو واحد أو أن الاسم هو المسمى؟ ستأتي هذه المسألة بالتفصيل إن شاء الله تعالى. والمؤلف رحمه الله تعالى إذا أراد أن يتكلم في المسألة لا يذكر المناهج المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وهذا أيضاً لا يلزمه، وقد تكلم أهل العلم في حديث افتراق الأمة: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافت

قيمة الكتاب العلمية

قيمة الكتاب العلمية يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب المصنفة في العقيدة عند أهل السنة والجماعة، وخاصة في مذهب أهل الحديث أو أهل السنة والجماعة، وقل أن نجد مصنفاً بعده لا يستفيد منه أو يشير إليه، كما رأينا ذلك من قبل في توثيق الكتاب ونسبته إلى مؤلفه. ومن المميزات التي اشتمل عليها المجلد الأول من هذا الكتاب: أولاً: أنه أورد وسرد كثيراً من الآثار على ما يقارب (1300) نص ما بين حديث وأثر كلها تتحدث عن مسائل اعتقادية. ثانياً: أن هذا المجلد يعد موسوعة لأسماء علماء أهل السنة، حيث يشتمل على ما يقارب (600) من أسماء علماء أهل السنة والجماعة، وهذا يؤكد لنا إجماع الأمة على عقيدة أهل السنة قبل وبعد ظهور الانحرافات في الاعتقاد. ثالثاً: أن هذا المجلد حفظ لنا عقيدة أحد عشر إماماً من علماء أهل السنة ذكر في أكثرها مواقفهم من المسائل العقدية التي اختلف فيها أهل العلم. رابعاً: يعتبر الكتاب من المستخرجات، حيث أن المؤلف رحمه الله سلك في إيراده للآثار مسلك المحدثين، إذ يورد الحديث أو الأثر بسنده إلى قائله، أي: أنه يريد أن يقول: إن هذا الكتاب فيه فائدة حديثية عظيمة جداً، وهو أنه سلك في إيراده للآثار طريقة المحدثين، وهو ما يسمى في مصطلح الحديث بـ (المستخرج)، والمستخرج هو: أن يعمد المستخرج -بكسر الراء- إلى نص بعينه، كأن يكون في سنن أبي داود، فيورد هذا النص بسنده هو من غير طريق أبي داود. وهذا بخلاف المستدرك، فإنه بعكس ذلك، ولذلك معظم المستخرجات فيها زيادات، وهذه الزيادات تأتي في الغالب بزيادة المعنى، فإذا أورد النص الموجود عند أبي داود من غير طريق أبي داود فلا يخلو هذا من فائدة في مزيد الأسانيد أو في مزيد النصوص. قال: فإذا كان الحديث مخرجاً في أحد الكتب الستة فإنه لا يورده من طريقه، بل من طريق آخر، ولا يكاد يوجد ضمن هذا الكتاب ما يخالف هذه القاعدة. أي: كأن هذا الكتاب في باب العقيدة مستخرج على كل النصوص الموجودة في كتب السنة. قال: ولا شك أن وروده من تلك الطريق سيؤدي إلى زيادة أو موافقة لها فائدتها الحديثية. هذه هي بعض المميزات التي يتميز بها هذا الكتاب عن ما سبقه من مؤلفات أهل السنة في العقيدة إلى جانب مميزات أخرى لم تذكر.

المآخذ على الكتاب

المآخذ على الكتاب لا يخلو كتاب من الكتب البشرية من صفات النقص والخطأ إذ العصمة لم يجعلها الله تعالى إلا لأنبيائه ورسله، وهذا الكتاب قد أخذ عليه بعض المآخذ منها: أولاً: ركاكة خاصة في المقدمة، إذ إنه بعد المقدمة أورد نصوصاً محكمة، بينما المقدمة يغلب عليها السجع المتكلف الذي لا يتضح معه المعنى في بعض الأحيان. ثانياً: عدم تنظيم وترتيب الأبواب؛ فإن المسألة تفهم بترتيب مباحثها ومسائلها، وأن تبنى الثانية على الأولى والثالثة على الثانية، والمؤلف لم يهتم بهذا الترتيب، فربما قدم ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم، ولا شك أن هذا عيب كذلك. يقول: ولم يهتم المؤلف بالعناوين التي تنظم الأبواب والنصوص، فربما يتكلم في عدة مسائل تحت مسمى واحد أو تحت كلمة واحدة، مع أن كل مسألة من هذه المسائل ينبغي أن تفرد بعنوان أو بباب أو فصل أو مبحث؛ لأنه قد يرغب القارئ في قراءة مبحث في القدر، فتجده يتكلم فيه على القرآن، أو تجده يتكلم فيه عن الإيمان بالملائكة، وربما يكون هناك فوائد تظهر لنا عند دراسة الكتاب، لكن على أي حال يعد هذا عيباً في الكتاب من جهة التأليف. ثالثاً: عدم صحة بعض الأحاديث والآثار الواردة فيه.

مقدمة الكتاب [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مقدمة الكتاب [2] أعظم الأدلة والبراهين التي يجب على كل مسلم تعلم عقيدته من خلالها كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة، ثم إجماع السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، ومن كان معه هذا المنهج فإنه لا يحتاج إلى أن يبتدع في دين الله عز وجل؛ لأن عنده الأصل الأصيل في التشريع، أما من كان شاكاً في أمره، فإنه يترك اليقين للشك، ويذر الهداية للعمى، وهذا هو حال أهل البدع في كل وقت وحين.

مقدمة المصنف رحمه الله تعالى لكتابه شرح أصول الاعتقاد

مقدمة المصنف رحمه الله تعالى لكتابه شرح أصول الاعتقاد إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: ففي الدرس الماضي انتهينا من الكلام عن الكتاب وعن المؤلف كذلك، ووعدنا بأن ندخل في الموضوع مباشرة، والمقدمة التي كتبها الإمام مقدمة طويلة جداً، وفيها فوائد عظيمة، خاصة أنه بين فيها بعض معالم أهل السنة والجماعة، وبعض معالم أهل البدعة والضلالة، وهذه المسألة في غاية الأهمية، إذ إن العلم بها لابد وأن يحفظ صاحبه في مسيره إلى الله عز وجل. قال الكاتب في المقدمة بعد أن ذكر راوي هذه النسخة وسند الكتاب: قال هبة الله أبو القاسم: [الحمد لله الذي أظهر الحق وأوضحه، وكشف عن سبيله وبينه، وهدى من شاء من خلقه إلى طريقه، وشرح به صدره، وأنجاه من الضلالة حين أشفا عليها -أي: حين أقدم عليها وكاد أن يهلك- فحفظه وعصمه من الفتنة في دينه، فأنقذه من مهاوي الهلكة، وأقامه على سنن الهدى وثبته، وآتاه اليقين في اتباع رسوله وصحابته ووفقه، وحرس قلبه من وساوس البدعة وأيده، وأضل من أراد منهم وأبعده، وجعل على قلبه غشاوة وأهمله، في غمرته ساهياًَ، وفي ضلالته لاهياً، ونزع من صدره الإيمان، وابتز منه الإسلام، وتيهه في أودية الحيرة، وختم على سمعه وبصره، ليبلغ الكتاب فيه أجله، ويتحقق القول عليه بما سبق من علمه فيه من قبل خلقه له وتكوينه إياه، ليعلم عباده أنه إليه الدفع والمنع، وبيده الضر والنفع، من غير غرض له ولا حاجة به إليه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، إذ لم يطلع على غيبه أحداً، ولا جعل السبيل إلى علمه في خلقه أبداً، لا المحسن استحق الجزاء منه بوسيلة سبقت منه إليه، ولا الكافر كان له جرم أو جريرة حين قضى وقدر النار عليه]. هذا كلام جميل جداً في القدر، فهو يريد أن يقول: إن المحسن لما استحق الجنة لم يستحقها بإحسانه، وإنما بفضل الله عز وجل، وكذلك الكافر استحق عذاب الله بعدله. قال: [فمن أراد أن يجعله لإحدى المنزلتين -الجنة أو النار- ألهمه إياها، وجعل موارده ومصادره نحوها -أي: يسره لما خلق له، إما الجنة وإما النار- ومتقلبه ومنقلبه ومتصرفاته فيها، وكده وجهده ونصبه عليها؛ ليتحقق وعده المحتوم، وكتابه المختوم، وغيبه المكتوم -كما قال تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى:18]، -وقال-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده الذي لا شريك له، يحيي ويميت وينشئ ويقيت، ويبدئ ويعيد، شهادة مقر بعبوديته، ومذعن بألوهيته، ومتبرئ عن الحول والقوة إلا به. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه إلى الخلق كافة، وأمره أن يدعو الناس عامة؛ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين].

بيان أن أول واجب على المرء هو معرفة الله وتوحيده

بيان أن أول واجب على المرء هو معرفة الله وتوحيده قال: [أما بعد: فإن أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين]. أي: أن أول واجب يجب على المسلم أن يتعلمه هو: أن يتعلم عقيدته، وهذا هو منهج الصحابة كما ثبت عن جرير البجلي رضي الله عنه أنه قال: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن ازددنا به إيماناً. وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا نؤتى الإيمان أولاً، ثم نؤتى القرآن، فإذا قرأناه علمنا حلاله وحرامه، وزواجره وأوامره ونواهيه، ووقفنا عند ما يجب علينا أن نقف عنده منه، ولقد أدركنا أقواماً قد أوتوا القرآن قبل الإيمان، فإذا قرءوه فإنهم لا يعلمون حلاله ولا حرامه، ولا يعلمون زواجره ولا أوامره ولا نواهيه، ينثرونه نثر الدقل. أي: يقرءونه دون أن يخرجوا منه بفائدة إيمانية. لذا فإن المرء لو تعلم الإيمان أولاً فلا بد وأن يقف عند كل نص في دين الله عز وجل، سواء كان هذا النص من كتاب أو من سنة أو إجماع أو قياس صحيح سليم. ولذلك ترى الرجل الذي تربى على الإيمان سرعان ما يبادر إذا وصل إلى سمعه أمر من أوامر الله، أو نهي من نواهي الله عز وجل، فيسارع ويبادر إلى اعتقاد هذا الأمر وتعظيمه؛ لأنه من حرمات الله عز وجل، ويبادر إلى تنفيذه إن كان أمراً، أو ينتهي عنه إن كان نهياً، بخلاف الذي أوتي العلم قبل الإيمان. أي: أن هناك أناساً عندهم علم كثير جداً، لكن ليس عندهم إيمان، فهذا يجعلهم في حيرة وتردد وشك باستمرار كلما ألقي على أسماعهم وقلوبهم أمر من أوامر الله أو نهي من نواهي الله عز وجل، ولذلك إذا لم تؤت الإيمان أولاً فاعلم أنك تحتاج مع كل أمر ونهي إلى من يذكرك بتعظيم أمر الله وحرماته وشعائره، حتى تتهيئ نفسيتك لقبول هذا الأمر والانتهاء عن هذا النهي، أما لو أن هذه القواعد الإيمانية موجودة من الأصل فأنت لا تحتاج مع كل أمر لمن يذكرك بوجوب تعظيم حرمة الله عز وجل عليك؛ لأن وجوب تعظيم حرمة الله من أعظم شعب الإيمان، فأنت إذا كنت تعلمت القرآن، وقد أوتيت الإيمان أولاً، فلا تلبث أن تسمع بالأمر أو النهي فتبادر إلى التنفيذ دون الحاجة إلى من يذكرك. أي: تشعر أن عندك خشية لله عز وجل، فإذا سمعت أنه أمر بأمر تقول: سمعاً وطاعة لله، ولا تجادل ولا تناظر ولا تلاجج ولا تجادل ولا تحاجج؛ لأن الأصول عندك ثابتة، وهي: السمع والطاعة لله عز وجل، وهما ثمرتا الإيمان بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولذلك هناك فرق كبير جداً بين رجل عالم يشار إليه بالبنان لا إيمان عنده؛ فإنه يحتاج مع كل نص إلى مقدمة ومؤخرة، ومن يروضه على قبول هذا الأمر، ثم هو في النهاية يصرف هذا النص عن ظاهره ليهرب من العمل، ليهرب من مقتضيات هذا النص. وأخ صغير يبلغ من العمر عشرين سنة أو أقل من ذلك، لكنه تربى على الإيمان، فسرعان ما يسمع بالآية أو سرعان ما يسمع بالحديث فيقول: والله دون هذا النص دمي، ولابد من تطبيقه والعمل به. فما الذي دفع الشيخ أن يرد هذا الأمر؟ وما الذي دفع هذا الشاب الصغير لقبول هذا الأمر والقتال دون تنفيذه؟ إنه إيمان هذا الشاب بالله عز وجل الذي نتج عنه تعظيم شعائر الله وحرماته، وضعف إيمان ذلك العالم النحرير.

مصادر الاستدلال عند أهل السنة والجماعة

مصادر الاستدلال عند أهل السنة والجماعة قال: [وكان من أعظم مقول -أي: من أعظم الأدلة والنصوص- وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار المتقين]. فتأمل هذا المنهج لأهل السنة في الاستدلال، بينما منهج المبتدعة غير منهج أهل السنة، فهو يريد أن يقول: إن من أعظم الأدلة والبراهين التي يجب على المسلم أن يتعلم عقيدته من خلالها هي: كتاب الله، سنة الرسول، أقوال الصحابة. لكن لا يوجد أحد أو جماعة أو فرقة أو طائفة من أهل البدع من تعتمد على أقوال الصحابة، وإنما هم يقولون: يكفي كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع هذا يقولون: الأصل عندنا في الاستدلال: العقل، ثم القرآن من بعده والسنة، وما وافق العقل من القرآن والسنة أخذناه، وما لم يوافق العقل من القرآن والسنة أولناه وأخرجناه عن ظاهره حتى يوافق العقل، فجعلوا العقل هو الميزان الأعظم الذي تقاس عليه الأمور، والذي يجب أن تنضبط عليه نصوص الكتاب والسنة. ونحن نقول: إذا خالف العقل النقل أخذنا بالنقل، والعيب والقصور في العقل، بينما أهل البدع يقولون -خاصة المعتزلة-: الأصل في الاستدلال العقل. فإذا خالفه النقل فيكون العيب في النقل! لكنهم لا يستطيعون أن يقولوا هذه الكلمة؛ لأنهم يعرفون أنها مكفرة، لكنهم يقولون: إذا تعارض النقل مع العقل فلابد من تأويل النقل حتى يوافق العقل. إذاً: الميزان الأعظم عندهم: العقل. والميزان الأعظم عند أهل السنة: هو النقل. وهذه أول فائدة. الفائدة الثانية: أنهم لا يحتجون بأقوال الصحابة قط، بل قاموا على الصحابة وكفروهم وبدعوهم، وشهروا السيوف في وجوههم، وقد حصل هذا من الشيعة والخوارج وغيرهم، بينما موقف أهل السنة والجماعة معلوم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وما جرى بينهم من فتنة. فهذه لا ينبغي أبداً ذكرها على سبيل التنقص بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). فهذا النص بظاهره وبغير شرح يلجم المرء إلجاماً، فلا يتكلم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلمة سوء واحدة، والذي يتكلم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة على سبيل التنقص، إنما يدل على مرض ونفاق ودخن في قلبه أبداه الله على فلتات لسانه. وهنا نقول: إن منهج الاستدلال عند أهل السنة: كتاب الله المبين، ثم قول الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قول الصحابة الأخيار المتقين. قال: [ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون]. سواء كان إجماع الصحابة، أو إجماع من أتى بعدهم. [ثم التمسك بمجموعها]. أي: التمسك بهذه الأدلة التي هي الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وما أجمع عليه السلف الصالحون. [والمقام عليها إلى يوم الدين]. أي: لا يبرح المرء ولا ينفك أن يحتج وأن يلجأ إلى هذه الأدلة. قال: [ثم الاجتناب عن البدع]. أي: أن الذي معه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس الصحيح لا يحتاج إلى أن يبتدع في دين الله عز وجل، فهذه الأدلة كلها قد شملت أمور المسلم الحياتية والمعادية، فلماذا يبتدع في دين الله عز وجل؟ ولذلك البدعة مناقضة ومناهضة ومجهضة للسنة، فما أحدثت بدعة إلا وأميتت وطمست سنة، ولذلك أحسن الإمام هنا عندما قال: أدلة احتجاج أهل السنة هي كذا وكذا وكذا. ثم قال: [والاستماع إليها مما أحدثها المضلون] أي: اجتناب الاستماع إلى ما أحدثه المبتدعة؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل مبتدع ضال. أي: منحرف عن الطريق السوي. قال: [فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون]. لم نسمع قط أن هناك صحابياً عقلانياً، وهم الذين خوطبوا بهذا الكتاب العظيم! فلم يقل منهم أحد: عقلي مقدم على كلام الله عز وجل. قال: [ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين، ثم من اقتدى بهم من أئمة المهتدين، واقتفى آثارهم من المتبعين]. أي: أن هناك أئمة كثيرين جداً خاصة في أبواب الاعتقاد، فنحن عندما نحتج لمنهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال نقول كلام مالك خاصة في الأسماء والصفات، فقد سئل مالك عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنده بدعة. فهذا القول كلنا نحفظه أنه من قول مالك، في حين أنه ليس من قول مالك أصلاً، وإنما هو قول شيخه ربيعة الرأي. أي: أن ربيعة الرأي هو الذي علم مالكاً هذا الأصل وهذا المنهج وهذا الإجمال في الاعتقاد. وكذلك لم يكن هذا من كلام ربيعة، وإنما هو كلام أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: معناه: أن مالكاً قد أخذ هذا العلم عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. قال: [ثم من اقتدى بهم من

نتائج تحكيم العقل في أمور الشريعة

نتائج تحكيم العقل في أمور الشريعة قال: [ومن أعرض عنها وابتغى في غيرها مما يهواه -أي: يحب أن يميل إليه بهواه- أو يروم سواها مما تعداه؛ أخطأ في اختيار بغيته وأغواه -أي: وقع في الغواية والضلال- فسلكه سبيل الضلالة، وأرداه في مهاوي الهلكة فيما يعترض على كتاب الله وسنة رسوله بضرب الأمثال، ودفعهما بأنواع المحال، والحيدة عنهما بالقيل القال مما لم ينزل الله به من سلطان، ولا عرفه أهل التفسير واللسان، ولا خطر على قلب عاقل بما يقتضيه من برهان، ولا انشرح له صدر موحد عن فكر أو عيان، فقد استحوذ عليه الشيطان، وأحاط به الخذلان، وأغواه بعصيان الرحمن حتى كابر نفسه بالزور والبهتان. فهو دائب الفكر في تدبير مملكة الله بعقله المغلوب]. أي: أن أحدنا لو تفكر في الكون، فمرد ذلك كله إلى قدرة الله وعظمة الله وقوة الله، لكن هذا المسكين إنما يفكر في ذلك بعقله هو، فهو إذا سلك هذا المسلك فهو في النهاية لابد وأن يقبح القبيح؛ لأنه يعتمد على عقله، فيجعل الحسن والقبح مداره على العقل، فما كان عنده قبيحاً قبحه، وما كان عنده حسناً حسنه، وإن كان القبيح عنده عند الله حسن، وإن كان الحسن عنده عند الله قبيح. قال: [فهو دائب الفكر في تدبير مملكة الله بعقله المغلوب وفهمه المقلوب بتقبيح القبيح من حيث وهمه، أو بتحسين الحسن بظنه، أو بانتساب الظلم والسفه من غير بصيرة إليه، أو بتعديله تارة]، فهو يقول: هذا سفه، ولا يمكن أن يكون الله قد فعل هذا. واعلم أن قوله: (ولا يمكن أن يكون الله فعل هذا به). هذا ذر للرماد في العيون، وإلا فهو يريد أن ينكر وأن يعترض على الله عز وجل في مملكته وفي تدبيره وخلقه، ولذلك هو يعترض ثم يقول: لا يمكن أن يفعل الله هذا. لكن ماذا تقول أنت؟ أنت أولاً استبعدت قدرة الله عز وجل، ثم تريد بهذا الاستبعاد -بزعمك- أن تنزه الله عنه، وفي الحقيقة أن الله هو الذي خلق ذلك. كما قالت المعتزلة: القرآن مخلوق؛ لأن القرآن شيء. فلما قام أهل السنة ونزهوا الله تبارك وتعالى ونزهوا صفاته أن تكون مخلوقة، قام عليهم المبتدعة من باب الذب عن الله وعن خلقه؛ لأن القرآن عندهم مخلوق. فلما قال أهل السنة بغير مقالة المعتزلة حرشوا بأهل السنة عند السلاطين. وهذا معلم ثان من معالم أهل البدع، فضلاً عن بعدهم وتحكيمهم لعقولهم في دين الله وفي شرع الله، فإنهم كذلك يحرشون بأهل السنة والجماعة عند السلاطين. أما المعلم الثالث فهو: عداؤهم المستمر وبغضهم الدفين لأهل السنة والجماعة، وتحريشهم بأهل السنة عند السلاطين، وانحرافهم عن المنهج القويم. قال: [وفهمه المقلوب: بتقبيح القبيح من حيث وهمه، أو بتحسين الحسن يظنه، أو بانتساب الظلم والسفه -إليه سبحانه- من غير بصيرة أو بتعديله تارة]، كلمة (أو بتعديله) هي قولهم: (من العدل كذا). وأنتم تعرفون أن العدل هو أحد أصول المعتزلة، والمعتزلة لهم خمسة أصول منها: العدل، والتوحيد، -انظروا هذا الكلام الجميل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذه من أصول المعتزلة، فأنت لما تسمع هذا تقول: هؤلاء المعتزلة أهل توحيد! وأهل عدل! وأهل أمر بمعروف ونهي عن منكر! فلماذا هم مختلفون مع أهل السنة والجماعة؟ A لا. العدل عندهم غير العدل عند أهل السنة، والتوحيد عندهم غير التوحيد عند أهل السنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابط عندهم غير ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل السنة، وسنتعرض لهذا كله عند الكلام عن طائفة المعتزلة. ومن أصولهم أيضاً: قولهم بالمنزلة بين المنزلتين في شأن مرتكب الكبيرة. قال: [أو بتعديله تارة كما يخطر بباله، أو بتجويره كما يوسوسه شيطانه، أو بتعجيزه عن خلق أفعال عباده فهو راكض ليله ونهاره -أي: المبتدع- في الرد على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن عليهما].

تأويل المبتدعة للنصوص وصرفها عن ظاهرها لتوافق بدعتهم

تأويل المبتدعة للنصوص وصرفها عن ظاهرها لتوافق بدعتهم إذاً: المعلم الرابع لأهل البدع: تأويل النصوص. بمعنى: صرفها عن ظاهرها لتوافق بدعتهم، بينما أهل السنة والجماعة يأخذون النص على ظاهره وعلى مراد الله عز وجل، ويأخذون أقوال النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أهل البدع يقولون: لابد من تأويل هذه النصوص حتى توافق أصولهم! فمثلاً: المعتزلة جعلوا لهم أصولاً تميزوا بها عن الحسن البصري وغيره، وجعلوا كل الأدلة الشرعية تعرض على هذه الأصول، فإذا وافقت هذه الأصول سمي عندهم ديناً, وما خالف هذه الأصول وجب ليه وتطويعه ليوافق عقولهم.

مجادلة أهل البدع بالباطل

مجادلة أهل البدع بالباطل قال: [فهو راكض ليله ونهاره في الرد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن عليهما، أو مخاصماً -لهذه الأدلة- بالتأويلات البعيدة فيهما]، أي: الذي هو صرف النص عن ظاهره. قال: [أو مسلطاً رأيه على ما لا يوافق مذهبه بالشبهات المخترعة الركيكة؛ حتى يتفق الكتاب والسنة على مذهبه، وهيهات أن يتفق]. لأن هذا كلام اللطيف الخبير، وهذا كلام المخبول الضال، فكيف نطوع كلام الله عز وجل بكلام عبد قصير النظر وقصير العقل؟! قال: [ولو أخذ سبيل المؤمنين وسلك مسلك المتبعين لبنى مذهبه عليهما واقتدى بهما، ولكنه مصدود عن الخير مصروف]. أي: لما علم الله تبارك وتعالى سلفاً وأزلاً أن هذا العبد بعينه سيختار الضلال على الهدى، وسيعمى بعد بصيرة، هيأه ويسره لما خلق له. قال: [فهذه حالته إذا نشط للمحاورة في الكتاب والسنة]. أي: أنه يخاصم ويجادل، ولن يحتج أبداً بأقوال أهل السنة، ولذلك عندما تناقش شخصاً من المبتدعة سيقول لك: قال الله وقال الرسول، لكن عندما تقول له: ما قول ابن كثير في هذه الآية؟ يقول لك: من ابن كثير هذا؟! وهذا منهج أهل البدع، لكن نحن لو ناقشناهم وحاورناهم فسنقول: هذه الآية قال فيها ابن كثير كذا، والطبري قال فيها كذا، والقرطبي قال فيها كذا، وابن تيمية قال كذا. إذاً: نحن متبعون، وهؤلاء سلفنا، فنحن نحتج بأقوال الله عز وجل بفهم سلفنا رضي الله عنهم، أما هم فيأخذون فقط من الكتاب والسنة، فإذا وافق الكتاب عقولهم ابتداءً أخذوا به، أما لو خالف الكتاب عقولهم ردوه، وفي الغالب يخالف؛ لأنه لا يتفق كلام الله عز وجل مع كلام شخص مجنون مهبول؟! إذاً: فنحن نريد أن نقول: إن أقوال المبتدعة هي التي تخالف أصولهم. وهم يقولون: كلام الله مخالف لأصولنا. فهم جعلوا أصولهم هي الأصل، وكلام الله هو الذي يجب أن يقاس لا أن يقاس عليه، فلما استصعبوا موافقتهم للكتاب والسنة لجئوا إلى التأويل والتحريف لكلام الله وكلام رسوله حتى يوافق أصول مذهبهم. قال: [فأما إذا رجع إلى أصله وما بنى بدعته عليه اعترض عليهما بالجحود والإنكار]. ومعلوم أن هؤلاء المعتزلة ردوا نصف السنة وزيادة؛ لأنها ضعيفة، ولأنها لا تثبت من جهة أنهم زادوا شرطاً في قبولهم للسنة لا يعرفه أهل السنة، ألا وهو: موافقة السنة للعقل إما تصريحاً أو تأويلاً، فإذا لم توافق السنة عقولهم لا تصريحاً ولا تأويلاً -أي: بعد ليها- فهي مردودة عندئذ، ولذلك هم يقولون دائماً: ليس معقولاً أن النبي قال كذا. لكنهم اجتهدوا على الكتاب فأولوه. أي: أولوا فيه كل ما خالفهم أو خالف أصولهم. أي: ليس معقولاً أن يقولوا لنا: ليس معقولاً قال ربنا كذا؛ لأن الله قد قال، وهذا المصحف بين أيدينا، فهم على استحياء شديد، فلا يستطيعون أن يردوا القرآن الكريم، لكن السنة عليها مطاعن كثيرة جداً، وقد جعلوا أصلاً لا يعرفه أهل السنة وهو موافقة السنة للعقل، فلما خالفت السنة عقولهم الحقيرة ردوا معظمها، ولذلك يقول: [فأما إذا رجع إلى أصله وما بنى بدعته عليه اعترض عليهما -أي: على الكتاب والسنة- بالجحود والإنكار، وضرب بعضها ببعض من غير استبصار]. يأتون بالأحاديث التي ظاهرها التعارض فيضربوا بعضها ببعض، ومعلوم أن من أصول أهل السنة والجماعة في تأويل هذه النصوص التي ظاهرها التعارض: الصيرورة إلى النسخ إذا لم يكن الجمع ممكناً، بينما هذا المبتدع يأتي لك بحديث يأمر بشيء، وحديث ينهى عن نفس الشيء، فيقول: أيعقل -ودائماً تسمع بهذه الكلمة من أهل البدع- أن النبي قال في الأمر الواحد بالأمر والنهي، أو في الشيء الواحد بالأمر والنهي؟! لا. ليس معقولاً. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا ولا قال ذاك. وإن كان أحدهما يوافق العقل قالوا به ويبطلون الثاني. قال: [واستقبل أصلهما ببهت الجدل والنظر من غير افتكار، وأخذ في الهزو -أي: في الاستهزاء- والتعجب من غير اعتبار، استهزاءً بآيات الله وحكمته]. وهذه قصة تبين ذلك: فقد ركبت مع شخص أعرفه منذ زمن، ثم قال لي: أتذكر تلك القضية القديمة التي كانت في سنة تسعة وثمانين أو في سنة تسعين؟ فقلت: نعم، أذكرها، وهي قضية أختك عندما قال لها زوجها: لا يحل لكِ أن تتصرفي في مالكِ إلا بإذني. ثم قال: أتذكر الموضوع؟ فقلت له: أذكره. وقلت له: وأذكر يومها أنني أحلتك على سنن ابن ماجه وشرح السنة للبغوي، فقال لي: حصل ذلك. ثم قال لي: تصور أن فلاناً قال كذا وكذا. فقلت له: وأنا أقول بهذا القول الآن كما قلت به سلفاً، أن المرأة لا يحل لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها وإن كان الإسلام حفظ الذمة المالية لكلا الزوجين -أي: أن هذا المال مال المرأة، وهذا المال مال الزوج- لكن للقوامة التي هي للرجل على المرأة، ولضعف المرأة في عقلها وسفهها، واكتمال الرجل في ذلك، وجب على المرأة دواماً للعشرة أن تلجأ إلى زوجها، وألا تنفق من مالها -لا أقول: من ماله، وإنما من مالها-

تقديم المبتدعة لأقوال الرجال على النصوص الشرعية

تقديم المبتدعة لأقوال الرجال على النصوص الشرعية قال: [وضرب بعضها ببعض من غير استبصار، واستقبل أصلهما ببهت الجدل والنظر من غير افتكار، وأخذ في الهزو والتعجب من غير اعتبار بآيات الله وحكمته، واجتراء على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وقابلها برأي النظام والعلاف والجبائي وابنه الذين هم قلدة دينه]. أي: أساتذة المذهب العقلي. فيرد على النصوص بأقوال الفلاسفة، بأن يقول: كيف يقول ربنا ذلك؟! إن النظام قال كذا! وعلي الجبائي قال كذا. ويرد على الأصول الأصيلة عندنا بأقوال الرجال، ومعلوم أن الأصل عند أهل السنة هو أننا لا نعرف الحق بالرجال، وإنما نعرف الرجال بالحق. وهذا منهج أصيل، بينما أهل البدع يقولون: يعرف الحق من خلال الرجال، فإذا وافق الحق أقوال الرجال فهو حق، وإذا خالف فأقوال الرجال هي الحق، وهذا منهج الفلاسفة. وما جهل المعتزلة بالكتاب والسنة وغيرهم من أهل البدع والانحراف والضلال جميعاً، وانحرافهم وفساد قلوبهم إلا لأنهم تنكبوا طريق السلف في منهج الاستدلال. قال: [قوم لم يتدينوا بمعرفة آية من كتاب الله في تلاوة أو دراية، ولم يتفكروا في معنى آية ففسروها أو تأولوها على معنى اتباع من سلف من صالح علماء الأمة إلا على ما أحدثوا من آرائهم الحديثة، ولا اغبرت أقدامهم في طلب سنة أو عرفوا من شرائع الإسلام مسألة، فيعد رأي هؤلاء حكمة وعلماً وحججاً وبراهين]. أي: أن رأي الرجال عندهم هو الحكمة وهو الدليل وهو البرهان. قال: [ويعد كتاب الله وسنة رسوله حشواً وتقليداً وحملتها -أي: حملة الكتاب والسنة- جهالاً وبلهاً، ذلك ظلماً وعدواناً وتحكماً وطغياناً].

موقف المبتدعة من أهل السنة خصوصا وأهل الإسلام عموما

موقف المبتدعة من أهل السنة خصوصاً وأهل الإسلام عموماً

تكفير المبتدعة لجملة أهل الإسلام

تكفير المبتدعة لجملة أهل الإسلام قال: [ثم تكفيرهم للمسلمين بقول هؤلاء إذ لا حجة عندهم بتكفير الأمة إلا مخالفتهم قولهم من غير أن يتبين لهم خطأهم في كتاب أو سنة]. أي: أنهم يكفرون بالجملة، ويقولون: المجتمع كله كافر، بينما أهل السنة والجماعة لا يكفرون الناس ولا الطوائف ولا الفئات ولا الجماعات ولا غيرهم، بل إنهم يتحرزون كل التحرز من تكفير الفرق التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لذا عندما تقرأ كتاب: (الفرقان بين الحق والباطل) لشيخ الإسلام ابن تيمية يدخل في نفسك أن شيخ الإسلام ابن تيمية متسامح جداً، ومبالغ مع هؤلاء الناس؛ لأننا لم نترب تربيته، ولو تربينا تربية فستكون أصولنا هي أصوله، لكن عندما يسأله رجل في هذا الكتاب فيقول: كافر دخل الإسلام على مذهب الخوارج، فما حكم ذلك؟ فيجيب شيخ الإسلام قائلاً: الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على رسوله الذي اصطفى. وبعد: فإن بعض الشر أهون من بعضه. فإن هذه الكلمة منهج عند ابن تيمية. والآن الشيعة انتشروا انتشاراً رهيباً في بلاد أوروبا وأمريكا، ولهم تأثير ملحوظ هناك من خلال نشاطهم وعملهم هناك، فإن هم أتوا بشخص كافر كفراً أصلياً وقالوا له: لابد أن تسلم من أجل دخول الجنة والنجاة من النار، ومن أجل كيت وكيت، فأسلم الرجل، وهو لا يعرف سنة ولا بدعة ولا دليلاً ولا شيئاً من هذا القبيل بالمرة، وإنما أقنعوه بحب النبي، وحب آل البيت، وحب القرآن وحب ربنا، ومن أجل أن يدخل الجنة، ومن أجل كيت وكيت، وقالوا له: لا يطلب منك أكثر من ذلك، فتصلي وتصوم رمضان وتتبع الإمام وتنتظر المهدي المنتظر، وتتزوج بما شئت من النساء، فيقول: والله إن هذا الإسلام جميل جداً، وسهل وحلو، وعلى الأقل الواحد يعيش بالهناء، وفي النهاية سيكون شيئاً ينتظره اسمها: الجنة. فـ ابن تيمية سئل عن مثل هذا فقال: خير للمرء أن يموت على بدعة من أن يموت على الكفر البواح. فبالله عليك لو سئلت هذا السؤال أيكون جوابك نفس جواب ابن تيمية؟! أبداً، وإنما ستقول: الاثنين سواء، فدعه يبقى على كفره أحسن. بل لو سئلت أنه على مذهب التصوف الذي هو الزهادة، وليس التصوف الذي هو التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، لقلت مثل ذلك. إذاً: من معالم أهل البدع: أنهم يقومون قومة رجل واحد على المجتمع المسلم فيكفرونه، وأنتم تعرفون جماعة التكفير والهجرة عندما ظهرت سنة (1974م)، وقبل ذلك بقليل لما ظهرت هذه الجماعة كان أعظم شعار لها هو تكفير المجتمعات كلها، وفي سنة (1983م) جاء شخص منهم إلى الأردن، وقد كنت في مصر سنة (1984م)، جئت من أجل أن أستقر، ولم أجلس عشرين يوماً حتى علمت أن الاستقرار مستحيل، فعدت مرة أخرى، فدخل علي البيت يوم أن كنت في الأردن، وكان عندي أخي، وهو شديد جداً. والمهم أنه قال له: هذا بيت أبي الأشبال، فقال له: نعم. ودخل ولم يلق السلام بالمرة. ثم قال له: أأنت أبو الأشبال؟ قال له: لا. أبو الأشبال في مصر ولعله يأتي بعد عدة أيام. ثم قال له: إذاً أنت أخوه؟ قال له: نعم. قال له: نسمع أنك سفيه ولا يمكن التفاهم معك، فأنا سأنصرف حتى يأتي أبو الأشبال من مصر. والمهم أنه قال له: كنت أريد معرفة رأيك في المجتمع الأردني، فقال له: مجتمع مسلم ونظيف ومحترم جداً. فقال له: لكن أنا على غير ذلك. فقال له: أنت على ماذا؟ قال: على تكفيره. قال: ومن أنت حتى يكون لك رأي؟ فقال: وأنت من؟ قال: على الأقل من أهل السنة. قال له: لا. فنحن أهل السنة. ثم قال له: وإن عندي أدلة تثبت أن هذا المجتمع كافر. أي: أن النبي تكلم عن الأردنيين، وأتى له بحديث مكذوب، فقال له أخي: أين هذا الحديث؟ فقال له: في مسلم. قال له: صحيح مسلم لم يطبع في الدنيا إلا أربع طبعات وهن عندي، فأخرج لي الحديث منهن، وأخي شديد وعنيف، فقد أحضر سكينة وغرزها في الطاولة وقال له: رأسك أو الحديث، وظل يبحث ويقلب في صحيح مسلم، ويمسك هذه الطبعة ويترك هذه، ولم يحصل على الحديث حتى أذن الظهر، ثم قال له أخي: اخرج وصل، ثم عد مرة أخرى لتبحث عن الحديث، وكان باب المسجد أمام باب البيت، ولم يكن بينهما إلا الشارع، فقال الرجل: أنا لا أصلي مع الكفار. فقال له: ومن الكفار؟ فنظر وقال له: هؤلاء الناس الراكعون! إنها جرأة وأي جرأة، ومنهج خرب لأهل البدع. ثم قال له: اجعلني أبحث على الحديث حتى تأتي من الصلاة، فقال له أخي: لا، فأنت لا تؤتمن على دينك، ولا آمنك على هذه المجموعة من الكتب، اخرج إلى الخارج مثل الكلب إلى أن أذهب وأصلي ثم آتي. هكذا قال له. ولما خرجوا من الصلاة لا أعرف ما الذي حصل بالضبط، المهم أنه حصل ضرب شديد، فاجتمعوا عليه وأمسكوا به إخوة المسجد أصحاب السنة، ومسحوا به الأرض، وأنا جئت من مصر بعد هذا الحادث بحوالي أسبوع، فنزلت على أحد أصدقائي في الميدان العام في عمان؛ لأنه كان يسكن معي، فأردت أ

طعن المبتدعة في منهج أهل السنة والجماعة وأدلتهم

طعن المبتدعة في منهج أهل السنة والجماعة وأدلتهم قال: [ثم ما قذفوا به المسلمين من التقليد والحشو] المعتزلة سموا أدلتنا حشواً وتقليداً، وسموا أهل السنة بالحشوية والمقلدة، وعليه فعندما تحتج بآية أو حديث فأنت قد أتيت بكلام ليس له أي داع، وإنما تحشو فقط، وتجمع الكلام الذي لا قيمة له ولا فائدة ولا طائل من ورائه، ومهما قلت: قال الله قال رسوله، فأنت تحشو الكلام حشواً دون فائدة؛ لأن الفائدة كل الفائدة عندهم -أي: المعتزلة- في الاتباع لأدلتهم. قال: [ولو كشف لهم -أي: السني- عن حقيقة مذاهبهم، كانت أصولهم المظلمة، وآراؤهم المحدثة، وأقاويلهم المنكرة، كانت بالتقليد أليق، وبما انتحلوها من الحشو أخلق، إذ لا إسناد له في تمذهبه إلى شرع سابق، ولا استناد لما يزعمه إلى قول سلف الأمة باتفاق موافق أو مخالف، إذ فخره على مخالفيه بحذقه، واستخراج مذاهبه بعقله وفكره من الدقائق، وأنه لم يسبقه إلى بدعته إلا منافق مارق، أو معاند للشريعة مشاقق؛ فليس بحقيق من هذه أصوله أن يعيب على من تقلد كتاب الله وسنة رسوله واقتدى بهما، وأذعن لهما، واستسلم لأحكامهما، ولم يعترض عليهما بظن أو تخرص واستحالة أن يطعن عليه؛ لأن بإجماع المسلمين أنه على طريق الحق أقوم، وإلى سبل الرشاد أهدى وأعلم، وبنور الاتباع أسعد، ومن ظلمة الابتداع وتكلف الاختراع أبعد، وأسلم من الذي لا يمكنه التمسك بكتاب الله إلا متأولاً، ولا الاعتصام بسنة رسوله إلا منكراً أو متعجباً، ولا الانتساب إلى الصحابة والتابعين والسلف الصالحين إلا متمسخراً مستهزئاً] فهذا هو الفرق بيننا وبين أهل البدع. قال: [لا شيء عنده إلا مضغ الباطل، والتكذب على الله ورسوله والصالحين من عباده]. ولذلك لما سئل أيوب بن أبي تميمة السختياني عن أن ينظر في شيء من الرأي -والرأي ظلمة والحديث نهار- قال: لا أنظر فيه قط؟ قيل: ولم؟ قال: لأنني أكره أن أجتر كالحمار. أي: أكره أن أكون كالحمير، فأتشدق بكلام لا قيمة له. وفي رواية أخرى قال: لأنني أكره مضغ الباطل؛ لأن الرأي بخلاف الدليل، فالدليل نص والرأي رأي. قال: [وإنما دينه -أي: صاحب البدعة- الضجاج والنفاق، والصياح واللقلاق، قد نبذ قناع الحياء وراءه]. أي: يخلع قناع الأدب والحياء، ولذلك لا تجد واحداً من أهل البدع يناقش أهل السنة في كل زمن وفي كل مكان إلا ويجهل عليهم، ويسب ويشتم ويصيح ويجادل ويخاصم ويضجر، ويقول كلاماً يحرم قوله؛ لأن هذا من مبادئهم. أما أهل السنة فإن مبدأهم: قال الله وقال رسوله. هذه الكلمة عندما يسمعها المبتدع يتمنى أن تذبحه بسكين ولا تقول له: قال الله وقال رسوله. لأنه بعيد جداً عن هذا المنهج. لذا ما إن يسمع قال الله حتى يأتي بالغث وبالسمين، ولا يوجد عنده سمين حتى يأتي به، بل يأتي بكل الغث والنفاق والصياح وقلة الأدب. وهؤلاء المبتدعة لهم منهج في النقاش والجدل الذي لا ينتبه له يخذل دين الله عز وجل، ولذلك أهل البدع يحب أن يناقش في الظلام، وهذه أيضاً علامة من علاماتهم، فلا يحب أن يناقش على ملأ أبداً، فتقول له: أتريد مناقشتي؟ فيقول: نعم، وذلك في مكان لا يرانا فيه أحد، فتقول الذي عندك وأقول الذي عندي، فيحب أن يعرف ما الذي عندك حتى يرد عليك بعد ذلك، وحتى يرتب أموره ويخرج البلاء المتراكم الذي في قلبه وفي عقله، ويسجلها على أشرطة، وبعد ذلك يرد بها عليك، أو يأخذ حجتك من غير سماع أهل الحق لها، ثم يبطلها ويأتي بأدلته العقلية والنقلية الملوية ويلفقها وينمقها، ثم يدفع بها، ولذلك فإنه يحب أن يبدأ هو بالكلام وبعد ذلك لا يسمح لك بالكلام، فيظل يتكلم لمدة ساعتين حتى يمل المستمعون، ولا تبقى معه ذاكرة تستوعب كلام أهل الحق، وفي الأخير يختم كلامه فيقول: بعد الذي سمعته مني أتريد الكلام يا أخي؟ اذهب الله يسهل لك. فيقوم من ذلك المجلس ويمشي، فيكون المهزوم في هذه الجولة السني، لذا على السني أن يكون ذكياً، فيحدد وقتاً للسؤال والجواب، ومثال ذلك: مناظرات رجل اسمه أحمد ديدات، فقد كان المناظر نفسه يقطع الإجابة من النصف؛ لأن الوقت قد انتهى، ثم يحول الدفة إلى الثاني، أما أنك تترك الشخص يتكلم بالساعتين والثلاث ويخرج كل أصوله ويحشد بها القلوب والأذهان والأسماع، ثم في الأخير يضحك عليك ويتركك ويمشي، ويكون المستمع بعد ذلك ليس عنده أدنى استعداد أن يسمع. بذلك يكون قد غلبك!!

اتهام المبتدعة لأهل السنة بالجهل وعدم فقه الواقع

اتهام المبتدعة لأهل السنة بالجهل وعدم فقه الواقع قال: [وإنما دينه الضجاج والنفاق والصياح واللقلاق، قد نبذ قناع الحيا وراءه، وادرع سربال السفه -أي: لبس درع السفه- فاجتابه، وكشف بالخلاعة رأسه، وتحمل أوزاره وأوزار من أضله بغير علم ألا ساء ما يزرون، فهو كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13]. فهو في كيد الإسلام وصد أهله عن سبيله، ونبز أهل الحق بالألقاب: أنهم مجبرة، ورمي أولي الفضل من أهل السنة بقلة بصيرة، والتشنيع عند الجهال بالباطل، والتعدي على القوام بحقوق الله والذابين عن سنته ودينه. فهم كلما أوقدوا ناراً للحرب -أي: لحرب أوليائه- أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين]. أيضاً: من علامات ومعالم أهل البدع: أنهم يتهمون أهل السنة والجماعة بالجهل والغياب عن الواقع، فأنت عندما تناقش شخصاً ممن سلك مسلكاً مغايراً لما عليه سلف الأمة وخاصة في الخروج على الإمام، والمسألة بينة وواضحة، وإن كانوا معنا على عقيدتنا، ولا خلاف بيننا وبينهم إلا في مسألة الخروج، ولذا لابد أن نميز ونفرق بين مسألة مبدأ التكفير ومبدأ الخروج، فالتكفير لا يستلزم الخروج، لكنهم ربطوا بين التكفير وبين الخروج، وقالوا: إذا كان فلان كافراً وجب الخروج عليه. وإننا نسأل الآن: ماذا جر الخروج على الأمة هنا وهناك؟ إنه لم يجر عليها إلا شراً، ولذلك نقول: إن الخروج ليس مذهبنا ولا مسلكنا ولا من أخلاقنا أبداً، وإن كانت مسألة التكفير تختلف فيها الأنظار، لكن الخروج لا يجوز قولاً واحداً؛ وذلك درءاً للمفسدة، وجلباً للمصلحة، وحقناً لدماء المسلمين، فضلاً عن تكافؤ القوى، وهو كلام قلناه ونقوله في كل مناسبة. لذا عندما تناقش أحد هؤلاء، وتقول له: الشيخ الفلاني أو العلامة الفلاني أو المحدث الفلاني يقول بعدم الخروج. سيقول لك: هذا رجل لا يعرف عن الواقع شيئاً! مع أنه رجل قضى حياته في واقع الأمة، وعلم تاريخ الأمة سلفاً وخلفاً، ومع ذلك يرمى من قبل أناس لم يبلغوا سن التكليف، ويقولون مثلاً: الشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين أو الشيخ الألباني هؤلاء علماء دفاتر، وعلماء أقلام، وعلماء تحقيق، وليس عندهم معرفة بالواقع! وهذا بلا شك انحراف عن المنهج القويم لأهل السنة والجماعة. إن عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة واحدة وليست عقائد متعددة، وهذه العقيدة ثابتة وليست متغيرة، وبالتالي فكل متغير إلى زوال، ويبقى هذا الأصل الثابت ثابت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم إن كل العقائد التي أحدثت واخترعت وابتدعت قد فشلت في مواجهة عقيدة أهل السنة والجماعة، بدليل قول النبي عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). أي: أنهم ثابتون مستقرون على عقيدتهم التي تركهم عليها النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة -وهؤلاء هم أصحاب العقيدة الأولى- قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، رضي الله عنهم أجمعين.

فشل العقائد المبتدعة أمام عقيدة أهل السنة والجماعة

فشل العقائد المبتدعة أمام عقيدة أهل السنة والجماعة قال: [ثم إنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام، وظهرت هذه البدع من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، وأشربت قلوبهم حبها، حتى خاصموا فيها بزعمهم تديناً أو تحرجاً من الآثار، لم تر دعوتهم انتشرت في عشرة من منابر الإسلام متوالية]. أي: أن هؤلاء الشيعة جماعة مبتدعة ليسوا على الحق، ولم نر لدعوتهم انتشاراً في مصر وغيرها، بينما أهل السنة لهم انتشار في كل مكان وزمان؛ لأن هذا دين ربنا سبحانه وتعالى، فهو الذي ينشره وينصره ويؤازره بعباده الصالحين، فأنت عندما تنظر إلى أهل الحق في كل زمان ومكان تجدهم كثير، وأما أهل البدع فقلة لا يكتب لهم ولمنهجهم الانتشار والذيوع، ونحن في بعض الأحيان نهول الأمر جداً مخافة الانتشار، ولذا ليس هناك ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة خاطفة للجهال، والجهال في مصر كثير جداً، فقد يأتي إليك شخص ويجلس معك ويقول لك كلمتين فتقتنع بها، ثم بعد ذلك في المجلس الثاني يكلفك بأن تدعو بهذا الكلام غيرك، وهكذا البدعة تنتشر، لذا أول ما تظهر البدعة لابد أن تأخذ على رأسها بالنعال من أجل أن تردها إلى أصلها، ولذلك نحن في المنصورة أحد المحافظات فيها قرية أو قريتين انتشر فيها التشيع، والمنصورة هذه بلدي، وفيها الكثير من أصحابي أيام الجامعة، وقد ذهبت إليهم ووجدتهم متشيعين، فقالوا لي: والله يا أبا الأشبال! لقد خالفتنا. فقلت لهم: أنا لم أخالفكم، فأنتم الذين خالفتموني، فقد كنا معاً في المعتقد والمنهج. ثم قالوا لي: مع هذا نحن نحبك وأنت غير الناس. فقلت لهم: لا بأس، فهم يريدون أن يثبتوا أنه ليس هناك فرق بيننا وبينهم، وأنهم أناس مؤدبون ويحترمون المخالف، فقلت لهم: سأخطب الجمعة في المسجد الفلاني، وأريد أن أراكم هناك، فهم أحبوا أن يدللوا أنهم أحسن مني، وأنني لا أصلي وراءهم، لكنهم يصلون ورائي، فأتوا، فذكرت الشيعة من أجل الكلام الذي قلناه قبل سنتين، واختصرناه وأجملناه ووقفنا ساعتين إلا ثلث في الخطبة، وهم جلوس، فوجدت أن الناس لم يعجبهم الكلام على التشيع، بينما هؤلاء يعرفون القضية كاملة، بل عامة الناس الفلاحين الجالسين يقولون: كيف تقول يا رجل! على الخميني هذا الكلام؟ إن الخميني هو المخلص، وانظر ماذا عمل مع سلمان رشدي؟ ليس هناك أحد من بني آدم تكلم بكلمة واحدة، ولا وضع مليوني دولار لمن يأتي برأس سلمان رشدي إلا الخميني! وهذا ابن عباس رضي الله عنه عندما سأله الخوارج فقالوا له: هل رأيت أعبد منا يا ابن عباس؟ قال: نعم. النصارى أعبد منكم، فقد جلسوا في صوامعهم وانقطعوا للعبادة وتركوا الدنيا، ومع هذا كانوا كفاراً، فهل الأمر صحة وضعفاً، قبولاً ورداً يقاس بالعبادة أو يقاس بالعلم؟ الكلام في هذا كثير جداً. قال: [لم تر دعوتهم انتشرت في عشرة من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو مقالتهم في الإسلام ظاهرة، بل كانت داحضة وضيعة مهجورة، وكلمة أهل السنة ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نائرة، ونصب الحق زاهرة، وأعلامها بالنصر مشهورة، وأعداؤها بالقمع مقهورة، ينطق بمفاخرها على أعواد المنابر، وتدون مناقبها في الكتب والدفاتر، وتستفتح بها الخطب وتختم، ويفصل بها بين الحق والباطل ويحكم، وتعقد عليها المجالس وتبرم، وتظهر على الكراسي وتدرس وتعلم، ومقالة أهل البدع لم تظهر إلا بسلطان قاهر]. لذا فإن من أعظم معالم أهل البدع: التقرب من الوالي حتى يصلوا إلى البلاط الملكي، وبالتالي تكون البلد كلها معهم، ولذلك أهل البدع دائماً متصفون بالنفاق، إذ البدعة والنفاق عندهم متلازمان، فتجد أهل البدع في أول النهار يقبل يد ورأس الوالي، ويقولون: أنت المخلص وأنت الزعيم وأنت كذا وكذا، ثم بعد ذلك يجلس بجوار الوالي أو السلطان، ويضع الحاكم نعله على رأسه، ويرفعه على كل من خالفه من أهل السنة؛ لأن الغالب في الطرفين الفجور وترك السنن، وأهل السنة يقفون في وجه السلاطين والحكام والملوك والأمراء الذين ابتعدوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله. ثم يقول لك: إن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بأهل السنة أعدائي، بينما هؤلاء أحبائي، ولسان حال السلطان: أتريد أن تجعل الرجل الذي يشتمني على المنبر مثل رجل كل يوم يقبل رأسي ويقبل حذائي؟ لابد أن يكون رجلاً محترماً مثل هذا الذي يقبل الرأس. ويقول: وهذا السني لم يعرف قيمتي، مع أنه لا يعمل ذلك حباً في الحاكم، وإنما يعمل ذلك حباً في نفع بدعته. فيأتي إليه ويقول: يا سعادة الباشا! والله نحن عندنا مسألة ونريد من حضرتك أن تتبناها؛ لأنك خير من يتبناها. فيقول الحاكم: وما هذه المسألة؟ فيقولون: القول بخلق القرآن، فالقرآن شيء، وربنا خالق كل شيء، فيقول الحاكم: ومن يخالفك في ذلك؟ فيقولون: المبتدع فلان وفلان، مثل: أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. فيقول الحاكم: ائتوا به. فيسأله الحاكم: ماذا تقول في القرآن؟ فيقول الإمام: أنا أقول: إن

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث (اللهم إني لا أسألك رد القضاء)

الحكم على حديث (اللهم إني لا أسألك رد القضاء) Q ( اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه) هل هذا حديث أم لا؟ A ليس حديثاً وليس من دعاء السلف، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو بغير ذلك، فقد كان يطلب من الله أن يرفع عنه البلاء، والبلاء من قدر الله عز وجل، ولما كان يدعو برفعه فهو يدعو الله عز وجل أن يرفعه وأن يمن عليه برفع قضائه الذي قدره عليه.

بيان أن إلقاء السلام على المدخنين لا يعتبر إقرارا لهم على المنكر

بيان أن إلقاء السلام على المدخنين لا يعتبر إقراراً لهم على المنكر Q هل إلقاء السلام على المدخنين يعتبر إقراراً للمنكر؟ A لا يعتبر إقراراً للمنكر. لكن ما الذي يمنعك أن تلقي عليه السلام وأن تنصحه في الله عز وجل؟

حكم أذان الفرد إذا كان قد تخلف عن أداء الصلاة في وقتها

حكم أذان الفرد إذا كان قد تخلف عن أداء الصلاة في وقتها Q هل يجوز أذان الفرد إذا كان قد تخلف عن أداء الصلاة في وقتها أم يقيم فقط؟ A لا شك أن أرجح المذاهب في ذلك مذهب الشافعي، وهو وجوب الأذان والإقامة لمن تخلف عن جماعة الإمام.

رأي الشيخ في قراءة كتب الداعية (أحمد ديدات)

رأي الشيخ في قراءة كتب الداعية (أحمد ديدات) Q ما رأيك في قراءة كتب الشيخ أحمد ديدات؟ A أنا أذهب مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القضية، والشيخ أحمد ديدات في وسط هذه البلاد يعتبر من فضل الله ورحمته بهذه الأمة، فقد قام بإظهار حجة الله عز وجل في هذه البلاد، ومع ذلك فعنده بعض الأخطاء، فأحياناً يوافق الكفار أو يوافق الرهبان على بعض المسائل المخالفة للعقيدة، وهو لو يعرف أن هذه مخالفة للعقيدة وللنبي عليه الصلاة والسلام ما قالها، وهذا ظننا فيه، مثال ذلك: قوله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فيثبت أنه ليس لله ولد من خلال التوحيد، ثم يهدم ذلك كله فيقول: وأما إذا كان من باب أننا من خلقه، وأننا من فضله ورحمته، وأننا نتنعم بنعمه، فحينئذ لا بأس أن نقول: نحن أبناء الله وأحباؤه! وإذا كان الأمر كذلك فنحن أولى بأن نكون أبناء الله وأحباؤه، وبذلك هدم السابق كله، وهدم التوحيد الذي قاله بأكمله، وعلى أية حال ربما هو تجوز في هذه المقولة، لكن ليست هذه هي المقولة الوحيدة التي تنكر على الشيخ، بل له مقولات كثيرة جداً تنكر عليه في الاعتقاد، ومنها أيضاً في الأحكام الشرعية. وظننا به أنه يجهل هذا كله، خاصة وأن الشيخ قد قضى حياته في بحث مسألة معينة، فهو ليس رجلاً عالماً كبيراً من علماء المسلمين مثل الأئمة الذين ضربوا بسهم في كل واد، وإنما ضرب بسهم عظيم في باب الاعتقاد، والرد على الملاحدة، والرد على اليهود والنصارى؛ ليبطل زعمهم ويرد على مفترياتهم، فهو يخطئ من حيث لا يدري، والرجل نحبه في الله، ونتمنى أن يسدد، وأن يتقبل الله تبارك وتعالى منه هذا الجهد الجهيد. أما أخطاؤه فبلا شك أنه لو تكلم في بلاد مسلمين بهذه الكلمة لوجد في المجلس الواحد ألف واحد يرد عليه، فإذا قال مثلاً في هذا المسجد: نحن أبناء الله وأحباؤه، فستجد من يرد عليه ذلك.

بداية ظهور البدع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - بداية ظهور البدع البدعة في الدين أمر عظيم، يجر على الأمة من المفاسد والبلايا ما الله به عليم، وحيثما يكون اتباع الكتاب والسنة يحفظ للأمة دينها وشريعتها، وحيثما تظهر الأهواء والأغراض البشرية تنتشر البدعة ويتفشى الانحراف، ولم تزل الكلمة مجتمعة والقلوب مؤتلفة في الأمة حتى نبتت نابتة القدر والخوارج، وهكذا تتابعت فرق البدعة والضلالة في الظهور، وإفساد عقائد العباد، ومع ذلك فإن الله يقيض من عباده الصالحين في كل مكان وزمان من يدفع عن العقيدة، ويذود عن الملة.

ظهور البدع

ظهور البدع إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. توقفنا في الدرس الماضي عند بداية ظهور البدع، وإذا كان للبدع بداية ظهرت فيها فإن الأصل كان على السلامة والأمانة والصدق، وهذا يعني أن الحقبة الزمنية الأولى من عمر الرسالة لم يكن فيها هذه البدع، خاصة زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان بعض أصحابه قد مال إلى مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لا أقول: هم الأصحاب، وإنما هم أصحاب الأهواء والضلال والنفاق، ولذلك: (لما دخل رجل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم الغنائم فقال: اعدل يا محمد! فإن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ فلما ولى الرجل مدبراً قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). يعني: أن هذا الرجل كان هو رأس الخروج على النبي عليه الصلاة والسلام فلما قال هذه المقولة، وحكم عليه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحكم، كان هذا الرجل هو أصل الخروج على النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك الخوارج ينتسبون إليه، وكلهم يقولون بمقالته. وأناس آخرون هم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ومن المحبين المخلصين له، لكن دخل عليهم الشيطان من باب المتشابهات في القرآن الكريم، وقد سمعهم النبي عليه الصلاة والسلام يحتجون على بعضهم البعض بهذه الآيات المتشابهات، فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (أبهذا أمرتم؟ ألهذا وكلتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، وغضب غضباً شديداً، كأنما فقئ في وجهه حب الرمان). فانطلق الصحابة راشدين ولم يعودوا لمثلها قط، وكانت هذه الحادثة في الاحتجاج بالقدر، لكن ما إن تظهر نار الفتنة في زمانه عليه الصلاة والسلام إلا وسرعان ما تنطفئ وتخبو تماماً، وعليه فلم تكن للبدع ظهور في زمانه عليه الصلاة والسلام. وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ظهرت بدعة من يفرق بين الصلاة والزكاة، وهذه أعظم بدعة، وأعظم فتنة تعرض لها الإسلام بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تصدى لها رجل واحد من الأمة وخالفته الأمة بأسرها، وقد نور الله تعالى بصيرته ليدل الأمة على الحق والصواب، هذا الرجل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كيف لا وقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر). إنه العلم النوراني الذي قذفه الله عز وجل في قلب وفي صدر وعقل أبي بكر، الذي ميز به أن هذا الذي فعله المرتدون أمر يخالف دين الله عز وجل. وهذه الشبهة دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى راجع في ذلك أبا بكر، فلما وجد من إصرار أبي بكر على مقاتلة هؤلاء وقتلهم. قال: فعلمت أنه الحق. أي: لإصرار أبي بكر على ذلك، وما كان ليصر إلا على أمر هو دين الله عز وجل، فتبعه على ذلك وتبعته الأمة، وحاربوا هؤلاء الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة. وفي عهد عمر بن الخطاب لم يكن هناك فتن قط؛ لأن عمر شديد الشكيمة، والكل يهابه، بينما أبو بكر كان يتصف بالحلم، لكنه كان عند المخالفة أقوى من عمر كما كان ذلك في حروب الردة، وعمر كان بطبيعته وسجيته شديداً، والعرب يعرفونه قبل الإسلام وبعده، فكانوا يهابونه جداً، وما يجرؤ واحد منهم أن يتكلم بما عنده من نفاق أو زندقة أو إلحاد إلا في جحره، وإلا بين امرأته وأولاده وخاصته، ومع هذا هو يخاف أن يتسرب الخبر إلى عمر. ولما تكلم صبيغ بن عسل بما عنده من متشابه القرآن علم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا هذا الرجل إلى بيته، وكان قد أحضر له العصا والجريد والنعال ليضربه، فقال: يا صبيغ! بلغنا أنك تتكلم في متشابه القرآن، وهذا أمر لم يكن عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أفهذا خير سبقت إليه -أي: سبقت النبي وأصحابه إليه- أم هو أمر جديد من عندك؟ فإن كان جديداً ليس عليه سلف الأمة فلابد وأن تنتهي، وإن كان هذا أمراً قد فتح به عليك، وأغلق دون غيرك، فهذا شر الابتداع في دين الله، فتناول الجريد وظل يضربه على رأسه حتى سال الدم على وجهه، فقال صبيغ: يا أمير المؤمنين! قد ذهب الذي كنت أجد في رأ

ظهور بدعة القدر

ظهور بدعة القدر قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلم تزل الكلمة مجتمعة والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين، حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف، وكلام غير مألوف في أول إمارة المروانية -أي: في عهد عبد الملك بن مروان - تنازع في القدر وتتكلم فيه، حتى سئل -أي: عنهم- عنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما]. وذلك لما أتاه يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن من البصرة، فأتوه وهو يطوف حول الكعبة، فقالوا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة. والذي ظهر عندهم هو: أن معبداً الجهني تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم ثم ارتد، ثم أسلم ثم ارتد. هذا سوسن الذي هو رأس الفتنة في البصرة، ولك أن تتصور تلميذ هذا الرجل: معبد الجهني فهل ينتظر منه خير؟ A لا. فـ معبد ظهر ببدعة لم يكن لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولا للتابعين بها عهد منذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا. هذه البدعة: أنه ينكر أصل القدر ويقول: لا قدر وأن الأمر أنف. أي: مستأنف. بمعنى: أن الله تعالى لا يعلم حقيقة الأشياء إلا بعد وقوعها، فهو بذلك قد سوى الخالق بالمخلوق، فأنت كمخلوق لا تدري ما الذي سيكون بعد لحظة، فسوى بك الخالق سبحانه وتعالى، وقال: وكذلك الخالق لا يعلم وقوع الأشياء إلا بعد وقوعها، وقال بأن الله تعالى ليس هو الخالق لأفعالنا وإنما أفعالنا بإرادتنا ونحن الذين نخلقها ولا دخل لله عز وجل فيها. ولا شك أن هذا كفر بواح؛ لأنه نفى العلم السابق لله تعالى، مع أن الله تعالى علم كل شيء، علم ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولم يخف عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فهذا الرجل إنما أتى ليضرب المسلمين في صميم عقيدتهم بنفي علم الله عز وجل الثابت له في الكتاب والسنة. ولذلك لما دخل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا: لعلنا نوفق إلى واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة. قال -أي: يحيى بن يعمر -: فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره. قال: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -أي: سيدعني أتكلم معه- فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون، أي: يتتبعون دقائق وعويص المسائل- ويقرءون القرآن، يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف. فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء. أي: لا هم مني ولا أنا منهم. والإمام النووي وغيره ينقلون هذا اللفظ من قول عبد الله بن عمر. يعني تكفيرهم وإخراجهم من ملة الإسلام؛ لأنهم أنكروا معلوماً من دين الله بالضرورة، فأنكروا صفات الله عز وجل وأسمائه، ولذا فالذي ينفي عن الله صفات أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، أو ينفي عن الله اسماً أثبته لنفسه، أو أثبته له الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لابد وأنه يستحق هذا الحكم، خاصة وإن كان من أهل العلم؛ لأنه قال: (يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم). يعني: أنه ليس بجاهل، فهو لم يقل هذا عن جهل، وإنما قاله عن خبث طوية وسوء نية مع توفر العلم لديه. فمن ذا الذي يقيم الحجة على معبد الجهني؟ لا أحد؛ لأنه من أكابر أهل العلم، لكنه تلقى علمه من مشكاة غير مشكاة النبي عليه الصلاة والسلام، تلقى العلم من مشكاة سوسن، مشكاة أهل الكتاب، فكان جديراً وخليقاً بأن يستحق الطرد من رحمة الله، ولذا طرده عبد الله بن عمر فقال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني براء. وهذا يعني الكفر والخروج من ملة الإسلام. عند هذه الحادثة لا أقول: كانت بداية ظهور البدع على جهة العموم، وإنما أقول: هي أول نقطة في ظهور بدعة القدر.

ظهور الخوارج

ظهور الخوارج قبل بدعة القدر هناك بدع أخرى في زمن علي بن أبي طالب، وعلى جهة الخصوص سنة (37هـ)، وذلك لما وقع الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فانبرى لـ علي أناس، وانبرى لـ معاوية أناس آخرون، فتمزق شمل المسلمين إلى فريقين: فريق مع علي بن أبي طالب، وفريق مع معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية كان مجتهداً متأولاً له الأجر من الله عز وجل، وعلي كان مجتهداً وافق اجتهاده منهاج النبوة، فهو مأجور أجرين من الله عز وجل، لكن كان لابد من وقوع هذه الفتنة؛ لأن لها جذوراً وأصولاً. ولذا لما قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالتحكيم تحت ضغط شيعته -أي: تحت ضغط أتباعه- وهو يعلم أن هذا التحكيم ما هو إلا لعبة فقط، قالوا له: يا علي! ما بالك لا تقبل التحكيم إلى كتاب الله؟ وقالوا: إما أن تقبل وإما أن ننصرف عنك، فقبل التحكيم تحت ضغط شيعته، ورفعوا المصاحف على أسنة الرماح، وعلي بن أبي طالب يعلم أن هذا حق أريد به باطل، لكن أشياعه لم يقبلوا ذلك منه حتى رضخ إلى رأيهم، فلما كانت النكبة والنكاية بعد ذلك أنكروا على علي بن أبي طالب قبوله للتحكيم، رغم أنهم هم الذين ضغطوا عليه، فقالوا: كيف تقبل حكم الرجال؟ وخرجوا عليه، وقالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فأنت لم تحكم بما أنزل الله، ولم تحتكم إلى ما أنزل الله، وإنما احتكمت إلى الرجال، فخرجوا على علي بن أبي طالب وانشقوا عنه بعد أن كانوا معه، فسموا حينئذ بالخوارج. ولذا فبدعة الشيعة وبدعة الخوارج كانت في الترتيب الزمني أسبق من بدعة القدر، والشاهد من هذا: أنه كلما كانت شوكة الإسلام قوية، وكان ذو منعة، كلما انطمست وخمدت الفتن، خاصة إذا كان السلطان صاحب دين، وصاحب شوكة وقوة ومنعة يستطيع بها أن يضرب المبتدع على أم رأسه، عند ذلك يكون الإسلام حينئذ في عافية وستر، وأمان وسلامة. أما إذا كان السلطان في واد والإسلام في واد آخر، ولا علاقة بينهما، وإنما هو يدور مع نفسه حيث دار -أي: حيث دار هو- خلافاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن القرآن والسلطان سيفترقان، فدوروا مع القرآن حيث دار). فإذا كان السلطان يدور مع نفسه، والقرآن في واد آخر، فلابد وأن يأتي الضعف؛ لأن الناس لا يصلحهم إلا أمير يتأمر عليهم، ووال يترأس عليهم ويوجههم ويرشدهم حتى وإن كان فاجراً، ولم يكن هناك أفجر من الحجاج بن يوسف الثقفي، حتى قال عنه عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم: لو أتت كل أمة بخبيثها وأتينا بـ الحجاج لغلبناهم. وهذا يدل على أنه كان أخبث الخلق ممن انتسب إلى أهل القبلة، ومع هذا فإن الأمر الآن لا يصلح إلا بمثل الحجاج يا ليت! يوماً من أيام الحجاج رغم تجاوزاته، إلا أنه كان من أهل القرآن، ومن أهل البلاغة والفصاحة والبيان، وكان محباً للقرآن والسنة، لكنه كان في العقاب يتجاوز إلى أقصى حد، وقد أنكرت عليه أمه ذات يوم صنيعه، فأخذها إلى السوق وحمل معه سيفه ودخل، فكان يدخل على البقال، وعلى صاحب القماش، وعلى الجزار، وعلى فلان وعلان، فيقلب البضاعة إذا رآها معيبة من الداخل جميلة من الظاهر، وينظر إلى أمه فيقول: أهذا دين محمد؟! فتقول: لا، فيخرج سيفه ويضرب رقبته، فيقول لها: هذا الذي دعاني إلى تأديب الناس، وإن كان ذلك بالقتل. ولا شك بأن الذي يغش المسلمين لا يستحق القتل، بل يستحق التأديب والتعزير والتوبيخ، لكنه تجاوز في العقاب ولم يكن فقيهاً، وإنما كان محباً للفقه وأهل العلم خاصة حملة القرآن الكريم، ومع هذا لم ينج منه لا حملة القرآن ولا حملة السنة، وهذا ليس دفاعاً عن الحجاج، فإنني أبغضه ولا أحبه، وأبعده ولا أقربه، لكن كما ورد في ترجمته حتى من الشانئين المبغضين له أنه ما كان يفعل ذلك إلا حرصاً على دين الله عز وجل. ولذا فهذه الأمة لا يصلحها إلا مثل عمر ليردها مرة أخرى، وليثبت لها العز في هذا الزمان بعد أن باتت في الذل وفي وحل الهوان تحت أقدام اليهود والنصارى.

ما تعرضت له القدرية من العلماء والحكام

ما تعرضت له القدرية من العلماء والحكام قال: [وأن ابن عمر ممن تكلم بهذا أو اعتقده بريء منهم وهم براء منه. وكذلك عرض -أي: أمر القدرية- على ابن عباس وأبي سعيد الخدري وغيرهما فقالا مثل مقالته -أي: عبد الله بن عمر - وسنذكر هذه الأقاويل بأسانيدها وألفاظها في المواضع التي تقتضيه إن شاء الله]. قال: [ثم انطمرت هذه المقالة، وانجحر من أظهرها في جحره -يعني: انطمست هذه المقالة، ولم يكن لها أتباع ولا دعاة- وصار من اعتقدها جليس منزله، وخبأ نفسه في السرداب كالميت في قبره خوفاً من القتل والصلب والنكال والسلب من طلب الأئمة لهم لإقامة حدود الله عز وجل فيهم، وقد أقاموا في كثير منهم، ونذكر في مواضعه أساميهم، وحث العلماء على طلبهم، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم، والاستماع إليهم، والاختلاط بهم لسلامة أديانهم]. ولذلك أهل العلم في كل زمان هم أحرص الناس وأشفق الناس على الأمة، فهم من باب النصيحة يوجهون الكلام إلى عامة المسلمين ويقولون لهم: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تحدثوهم، ولا تأخذوا عنهم، فإن ذلك هو الذي يسبب السلامة لدينكم. أما إذا جلستم معهم، وخالطتموهم وتحدثتم إليهم، وأخذتم عنهم، وتحملتم العلم عنهم، فإنه لا يؤمن عليكم أن تقعوا في فتنتهم، ولكثر أتباع أهل البدع. يعني: عندما يظهر شخص مثل معبد الجهني في البصرة، ويكون له أتباع عظام جداً، لم لم يتبعه أهل العلم في ذلك الزمان؟ بل أنكروا عليه بدعته، وحذروا العامة منه. لكن لما تنكب العامة نصيحة أهل العلم لهم بألا يقتربوا من هؤلاء وقعوا في شراكهم وحبالهم؛ لأنه ليس عندهم من العلم والعقيدة السليمة ما يؤهلهم لبيان هذه المفتريات والرد عليها، ولكنهم لما اقتربوا منهم وقعوا في بدعتهم؛ لأن كلام أهل البدع في الغالب حلو جميل خاصة إذا لم يفضح أمرهم على الملأ. وفي هذا الزمان كثير جداً من أهل البدع، فعندما نأتي وننهى الناس عن الاقتراب منهم والجلوس إليهم والأخذ عنهم يقول لك: لا. فهذا كلامه منطقي ومعقول جداً، ولو لم يعجبك ممكن أنسق لك معه لقاء تناقشه. أنت يا صعلوك! الذي ستنسق لقاء؟! ما علاقتك بهذا اللقاء؟ ثم بعد ذلك هو الذي يدير اللقاء! واحد جاهل لا يستطيع أن يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته هو الذي يدبر ويسير الأمور بين أهل العلم. يعني: هو المتحكم في أهل العلم، وعندما تأتي تكلمه تقول: أنا خائف عليك. يقول لك: لا. لا تخف عليَّ، أنا منتبه. منتبه من ماذا؟! أنت جاهل، أنت لا تعرف شيئاً. يقول لك: النقاب حرام، فتقول له: من الذي قال ذلك؟ يقول لك: إسماعيل منصور. مع أن هذا قول مخترع جديد لم يقل به أحد من أهل العلم قاطبة، لا قديماً ولا حديثاً، حتى المخالفين للنقاب يقولون: النقاب فضيلة، النقاب مستحب. والذين لا يقولون بوجوبه يقولون باستحبابه وبفضله. أما القول بحرمته فلم يقل به أحد، حتى الأبالسة لم يقولوا بهذا، لكن قد يقول لك: هذا عنده حجة قوية! أأنت أيها الجاهل! الذي ستحكم عن الحجة بأنها قوية أو ليست بقوية؟! فيقول لك: لو لم يعجبك ممكن أنسق لك لقاء تتناقش معه، وبعد ذلك هو الذي يرتب ويدير المجلس! ومن هنا يدخل الشيطان على عامة الناس، والمطلوب هنا ألا نقترب من أهل البدع قط. وهذا منهج السلف إن قبلته كنت على الهدي والصراط المستقيم، وإن رددته كنت على طريق أهل البدع. لكن لماذا العلماء يناقشون أهل الابتداع؟ لأنهم لا خوف عليهم، وهذا دورهم الذي كلفهم الله تعالى به، ولذلك نحن نرى أن أهل العلم في كل زمان ومكان يحذرون من الاقتراب من أهل البدع وهم يقتربون؛ لأن دورهم مزدوج، يأمرك أنت ألا تذهب إليه ويذهب هو إليهم ليدحض حجتهم، ويبين فسادها ويكشف عوارها لعامة الناس حتى يحذروهم. والخلاصة: أن أهل العلم إنما حثوا على عدم الاختلاط بالمبتدعة، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم والاستماع إليهم حتى يستقيم لهم أمر دينهم. قال: [وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة]. لأن المبتدع إذا لم يجد له أعواناً فكيف سينشر بدعته؟ وكيف سيشتهر؟ ثم ائتوني ببدعة فيها علماء مشهود لهم بالاستقامة والصلاح. لا يمكن أن تجد هذا أبداً. والمبتدعة إنما هم رعاع الناس وسفلة القوم. فمثلاً بدعة التصوف هل فيهم أهل علم مشهود لهم بالصلاح والاستقامة على الكتاب والسنة؟ أبداً. بل إن أهل العلم هم الطبقة الكبيرة، وعندما تأتي وتنظر في رعاع الجماعة وعامة الجماعة تجد أن سفلة القوم لا عقول لهم من الأصل. قال رحمه الله: [وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة، ومذاهبهم الخبيثة، خوفاً من مكرهم أن يضلوا مسلماً عن دينه بشبهة وامتحان، أو بريق قول من لسان، وكانت حياتهم كوفاتهم]. أي: هم أحياء، لكن كأنهم ميتين؛ لأنهم لا قيمة لهم، ولا خير فيهم، ولا نفع من ورائهم. قال: [وأحياؤهم عند الناس كالأموات، المسلمون منهم في راحة، وأديانهم في سلامة، وقلوبهم ساكنة، وجوارحهم هادية، وهذا حين كان الإسلام في نضارة، وأمور المس

ظهور الاتجاه العقلي

ظهور الاتجاه العقلي قال: [فمضت على هذه القرون سنون كثيرة ينصح فيها الأولون الآخرين، حتى ضرب الدهر ضرباته، وأبدى من نفسه حدثانه، وظهر قوم أجلاف زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف -هؤلاء أصحاب الاتجاه العقلي الذين يقولون: نحن خلف للسلف- وادعوا أنهم أكثر منهم في المحصول]. أي: أن التلاميذ الذين هم باختصار شديد: المعتزلة، لما أتوا بعد ظهور هذه البدع قالوا: صحيح أننا نتبنى الآراء التي قال بها أسلافنا، إلا أننا قد حصلنا من العلم ما لم يحصلوه، وإن كانوا هم قد خافوا أن يجادلوا الحكام، وأن يجادلوا أهل العلم، فنحن الآن على أتم الاستعداد لمجادلتهم؛ لأن عندنا من العقل والعلم والتحصيل والذكاء والفطنة ما ليس عندهم، وأيضاً عندنا الجرأة على النقاش. هذه الجرأة سببها ضعف الحكام، ولو كان مع الحاكم مجموعة من أهل العلم كمجلس الحل والعقد مثلاً، أو مجلس الشورى الذين يبتون في أقوال كل مبتدع، ثم يأمرون الحاكم بأن هذا مخالف، أو هذا موافق، أو هذا متأول ولكل جزاؤه، لاندحر كل مبتدع ودخل في جحره. قال: [وادعوا أنهم أكبر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق -أي: أنهم أكثر وصولاً وتحصيلاً لدقائق المسائل من أسلافهم- وأحسن نظراً منهم في التدقيق، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم]. أي: أن المتقدمين لم يكن لهم بصيرة نافذة؛ لأنهم كانوا أعجز من أن يفكروا في كل أمر، وينظروا في كل مسألة. قال: [ورغبوا عن مكالمتهم لقلة فهمهم]. أي: أنهم يسبون أسلافهم، وهذا للعلم أنه معلم من معالم أهل البدع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض، وأعدل لأهل البدع من بعضهم لبعض؛ لأن أهل البدع يقومون بعضهم بعضاً بالتكفير والتفسيق والتبديع والسباب والشتائم. وهو الآن يقول: [وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم]. أي: لم يكونوا يستطيعون النظر في دقائق المسائل مثلهم. كما رغبوا عن مكالمتهم، أي: أن أسلافهم لم يستطيعوا مواجهة أهل السنة لقلة فهمهم، فيقال لمن يتبعهم: أنت متأكد أن سلفك في هذه القضية لم يكن عنده فهم ولا عقل ولا بصيرة ولا شيء؟ سيرد عليك قائلاً: نعم. إذاً: هو لا يصلح، وأنت قد حصلت ما لم يحصل. قال: [وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم حتى أبدلوا من الطيب خبيثاً، ومن القديم حديثاً، وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه الله عليه، وأوجب عليه دعوة الخلق إليه، وامتن على عباده إتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]، فوعظ الله عز وجل عباده بكتابه، وحثهم على اتباع سنة رسوله] الكريم صلى الله عليه وسلم. عجز المبتدعة أن يتخذوا من هذه الآية وأمثالها منهجاً ونبراساً يقتدون به. قال: [وقال في آية أخرى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، لا بالجدال والخصومة، فرغبوا عنهما -أي: فرغب أهل البدع عن هذين- وعولوا على غيرهما، وسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين، وخاضوا مع الخائضين، ودخلوا في ميدان المتحيرين، وابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة]. أي: جعلوا لهم أصولاً تخالف الكتاب والسنة، فبعد أن كان الأمر أننا نعرض كل شيء على الكتاب والسنة، صار الآن عند أهل البدع أن الكتاب والسنة مطلوب أن يعرضا على أصولهم التي اخترعوها وابتدعوها. قال: [رغبة للغلبة، وقهر المخالفين للمقالة. ثم اتخذوها -أي: هذه الأصول التي ابتدعوها- ديناً واعتقاداً بعدما كانت دلايل الخصومات والمعارضات]. أي: أنه منهج اتخذوه من أجل أن يغلبوا به الخصم، وهذا المنهج سرعان ما صار أصلاً ودليلاً، ثم اعتقاداً، ثم ديناً. قال: [وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين] أي: أنهم حكموا على غيرهم ممن يخالفهم في هذه الأصول من أهل السنة بأنهم من أهل الضلال. قال: [وتسموا بالسنة والجماعة]. أي: أن أصولهم لا علاقة لها بالكتاب والسنة، ومع ذلك يضللون المخالف لهم ويسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة. قال: [وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين، وتسموا بالسنة والجماعة، ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة -أي: وصفوه بأنه من أجهل الناس وأغبى الناس- فأجابهم إلى ذلك من لم يكن له قدم في معرفة السنة -أي: من الجهلة- ولم يسع في طلبها -أي: لم يسع في طلب السنة- لما يلحقه فيها من المشقة، وطلب لنفسه الدعة والراحة] ولذلك معظم أتباع أهل البدع جهال؛ لأنهم لم يطلبوا العلم، ولم يعهد عليهم قط طلب للعلم. قال: [واقتصر على اسمه دون رسمه لاستعجال الرياسة] أي: أنه يتزيا بزي أهل العلم، لكنه في حقيقة الأمر لم يطلب العلم استعجالاً للرياسة. قال: [ومحبة اشتهار الذكر عند العامة، والتقلب بإمامة أهل السنة، وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار]. كما حدث لـ أبي علي الأبار عندما ذهب إلى الأهواز، قال: فدخلت مسجد

نتائج مناظرة المبتدعة

نتائج مناظرة المبتدعة قال: [فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة]. أي: أن أسوأ شيء يضر بدينك أن يناظر أهل العلم مبتدعاً في حضورك؛ لأن كلامه جميل ولسانه حلو، لكن السم الذي يحمله هذا الكلام الحلو لا يعرفه إلا أهل العلم، ولذلك يقول القائل: إن هذه الجماعة الفلانية أو الطائفة الفلانية أو الفرقة الفلانية تقول: كيت وكيت، وهذا الكلام جميل ومعقول. لا يا مسلم! لا يوجد شيء اسمه معقول، إما أن يكون هذا الكلام موافق لكتاب الله وسنة رسوله، أو لا، وإما أن يكون هذا الكلام له أصل عند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أو لا، لذا فأنت لا تعرف هذه المعاني، إنما الذي يعرفها هم أهل العلم، فلا تغتر بحلاوة كلام أهل البدع، فربما يكون كلامهم أحلى من كلام أهل السنة؛ لأن الباطل له بريق، وإلا فلم وقع فيه الناس؟ أما في الداخل فالسم الزعاف، لكن هذا الداخل لا يعرفه حتى قبل الدخول فيه إلا أهل العلم، ولذلك ما ابتلي المسلمون قط بلاءً أعظم من ظهور هذه البدع على عامة الناس، ومناظرة أهل البدع. قال: [ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك]. أي: أن أكثر شيء تغيظ به المبتدع أنك تهمله وتتركه، لكن هذا مشروط بأن تكون بدعته في طي الكتمان، أما لو ظهر ببدعته وصار له أتباع وشوكة، وصولة وجولة فلا، بل لابد من فضحه حتى يرجع إلى الحق، أو حتى يتضح أمره عند عامة الناس. أما لو كانت بدعته غير معروفة ولا منشورة فاتركه ولا ترد عليه؛ لأنك بذلك تكون قد قتلته قتلاً، يقول المتنبي: أرى كل يوم تحت ضبني شويعر قصير يطاولني ضعيف يقاويني لساني بنطقي صامت منه عاذل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل فأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل أي: عندما يناديك شخص وأنت لا ترد عليه فإنك تغيظه غيظاً لا غيظ بعده. ومثل ذلك: شخص يريد التحرش بك، فيظل يشد في ثيابك وذراعك، وربما يناديك بأقبح شيء، ومع هذا فأنت تهمله، فيكون بذلك قد قتلته وأغظته غيظاً مابعده غيظ، أما إذا كان الأمر يستوجب الضرب على الرأس، فهذا أمر لابد منه. قال: [ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً]. لأنه أحياناً تجد شخصاً من أهل البدع يأتي إليك ويراك بأنك رجل سني بلحية تلبس طاقية أو عمامة بيضاء صغيرة، فيقول لك أمام الناس: ألست من أهل السنة والجماعة؟ فتقول له: نعم. فيقول لك: وأنا مبتدع، فتعال وناقشني. فيحضر حاشيته بالكامل، والذي يهمه أن هؤلاء الناس يعتقدون فيه هو، فيقول لك: تعال، أنا أقول كيت وكيت، فهل ممكن أن ترد هذا الكلام؟ أنت لست طالب علم، ولم تكن تحضر المجالس، ولا تحفظ شيئاً من العلم، وإنما كنت تكتفي بسماع الخير فقط، فكيف سترد عليه؟ هل تقول له: والله أنا لا أعرف كيف أرد عليك؟! أو تقوله له: اذهب إلى الشيخ فلان، أو يا فلان اذهب إلى الشيخ فلان وائت به، فيأتي الشيخ فلان، ثم يقول المبتدع: أنا أقول كيت وكيت، وهي في الحقيقة شبهة جديدة غير الأولى التي طرحها؛ لأن هذا الشيء هو ديدنه، فلن يطرح على الشيخ المبجل ما يطرحه على الجاهل قبله. وما إن يأتي فإن الشيخ يجهز رده على الشبهة التي ألقاها فلما يحضر الشيخ يقول المبتدع: اترك هذه المسألة، فقد علمت خطئي فيها. وأنا أقول كيت وكيت، فيلقي شبهة جديدة لا يعرف الشيخ الرد عليها، ويظل يصرخ ويشتم فيه؛ لأن هذه هي حجة الضعيف. وهذا ينزل من قدر الشيخ عند المستمع ويرفع من قدر المبتدع. أما هو فيدعي الوقار وسمت أهل العلم، وفي هذه الحالة سيرتفع هذا المبتدع في أعين ونظر أتباعه ويسقط الشيخ، وكل ذلك لقلة العلم. قال: [حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة -أي: ظهرت دعوة أهل البدع بالمناظرة- وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه بالحجج- فباتت الشبهة حجة والحجة شبهة- وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقراناً وأخداناً، وعلى المداهنة خلاناً وإخواناً بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداداً، وفي الهجرة في الله أعواناً، يكفرونهم في وجوههم عياناً، ويلعنونهم جهاراً، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين. نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة، ويعصمنا بهما بفضله ورحمته].

منهج السلف الصالح في التعامل مع أهل البدع

منهج السلف الصالح في التعامل مع أهل البدع قال: [فهلم الآن إلى تدين المتبعين وسيرة المتمسكين وسبيل المتقدمين بكتاب الله وسنة رسوله، والمنادين بشرائعه وحكمته، الذين قالوا: {آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]]. أي: يا رب! آمنا بكتابك وصدقناه، واتبعنا في ذلك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فاكتبنا ممن شهد ذلك. قال: [وتنكبوا سبيل المكذبين -أي: خالفوا سبيل أهل البدع- بصفات الله وتوحيد رب العالمين، فاتخذوا كتاب الله إماماً، وآياته فرقاناً، ونصبوا الحق بين أعينهم عياناً، وسنن رسول الله عليه الصلاة والسلام جنة وسلاحاً، واتخذوها طريقاً ومنهاجاً، وجعلوها برهاناً فلقوا الحكمة، ووقوا من شر الهوى والبدعة، لامتثالهم أمر الله في اتباع الرسول، وتركهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق].

الحث على الاتباع والاقتداء

الحث على الاتباع والاقتداء قال: [يقول الله عز وجل فيما يحث به على اتباع دينه، والاعتصام بحبله، والاقتداء برسوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]]. فانظر إلى قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}! ولذلك تجد أهل السنة طائفة واحدة، وأهل البدع طوائف متعددة؛ لأنهم اتخذوا دينهم فرقاناً، واتخذوا شرعهم أشتاتاً وأشلاءً، ولذلك تجد في حديث افتراق الأمة أن هذه الأمة ستتمزق، وستبتعد كل الابتعاد عن كتاب الله وعن سنة رسوله، إلا طائفة واحدة تتمسك بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي). أي: أن أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بالأمر العتيق. ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وكأن المبتدع يقول لله عز وجل: أنت لم تكمل شرعك، وأنت لم تتم النعمة علينا، ورسولك لم يبلغ هذا الدين إلينا، فهو يتهم الله تبارك وتعالى في أنه قصر في هذا الدين، وفي إتمامه وكماله، ويتهم الرسول كذلك فيما بلغ عن رب العزة تبارك وتعالى. مع أن الله تبارك وتعالى قد أتم لنا هذا الدين، وأكمله ورضيه لنا، فقال آمراً إياناً: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)). ولا شك أن حبل الله هو كتابه، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. قوله: ((وَلا تَفَرَّقُوا)). هذا نهي عن التفرق والتشرذم والابتعاد عن الاعتصام بالكتاب والسنة. قال: [وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]]. فجعل طريقه واحداً، فقال: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي)) ولم يقل: صرطي وطرقي، وإنما هو طريق واحد، وصراط واحد، وسبيل واحد. قال: [وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]-أي: أن اتباع النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي إلى- {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] أي: على علم. {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. ثم أوجب الله طاعته وطاعة رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]. وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]. وقال: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]. وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، قيل في تفسيرها: إلى الكتاب والسنة -فردوه إلى كتاب الله وإلى رسول الله في حياته، وبعد مماته إلى سنته- ثم حذر من خلافه والاعتراض عليه. فقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]-أي: نفى عنهم الإيمان- {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]-يا محمد- {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]-أي: يرضوا بهذا الحكم كامل الرضا- وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِ

أصحاب الحديث أولى الناس بالاتباع

أصحاب الحديث أولى الناس بالاتباع قال: [فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع، وذم التكلف والاختراع، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين، وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم -وهم أصحاب الحديث- لاختصاصهم برسول الله عليه الصلاة والسلام، واتباعهم لقوله وطول ملازمتهم له، وتحملهم علمه، وحفظهم أنفاسه وأفعاله، فأخذوا الإسلام عنه مباشرة، وشرائعه مشاهدة، وأحكامه معاينة من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه، وحفظوا عنه شفاهاً، وتلقفوه من فيه رطباً، وتلقنوه من لسانه عذباً، واعتقدوا جميع ذلك حقاً، وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقيناً، فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مشافهة لم يشبه لبس ولا شبهة، ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والصافة عن الصافة، والجماعة عن الجماعة، أخذ كف بكف، وتمسك خلف بسلف كالحروف يتلو بعضها بعضاً، ويتسق أخراها على أولاها رصفاً ونظماً].

فضل أصحاب الحديث على الأمة وانتسابهم إلى رسول الله

فضل أصحاب الحديث على الأمة وانتسابهم إلى رسول الله قال: [فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشريعة، وانحفظت بهم أصول السنة، فوجبت لهم بذلك المنة على جميع الأمة، والدعوة لهم من الله بالمغفرة، فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه، فحري أن يكونوا أولى الناس به -صلى الله عليه وسلم- في حياته ووفاته. وكل طائفة من الأمم مرجعها إليهم في صحة حديثه وسقيمه، ومعولها عليهم فيما يختلف فيه من أموره]. قال: [ثم كل من اعتقد مذهباً فإلى صاحب مقالته التي أحدثها ينتسب، وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث] أي: أن كل صاحب بدعة ينتسب إلى بدعته، وكل صاحب بدعة ينتسب إلى مؤسس هذه البدعة، إلا أصحاب الحديث فإنهم ينتسبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [فإن صاحب مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون، وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سنته بقربهم منه يصولون، فمن يوازيهم في شرف الذكر؟! ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟!].

وجه تسميتهم بأهل الحديث وحفظ عقيدتهم

وجه تسميتهم بأهل الحديث وحفظ عقيدتهم وأما وجه تسميتهم بأصحاب الحديث وأهل الحديث: تمسكهم بالكتاب والسنة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حث وأمر المسلمين بالتمسك بالكتاب، فلما كانوا هم أعلم الناس، وأخبر الناس بحديث النبي عليه الصلاة والسلام كانوا أكثر الناس تمسكاً بالكتاب والسنة. قال: [واغتاظ بهم الجاحدون، فإنهم وهم حماة السواد الأعظم والجمهور الأضخم، فيهم العلم والحكم، والعقل والحلم، والخلافة والسيادة، والملك والسياسة، وهم أصحاب الجمعات والمشاهد، والجماعات والمساجد، والمناسك والأعياد، والحج والجهاد، وباذلي المعروف للصادر والوارد، وهم حماة الثغور والقناطر، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واتبعوا رسوله على منهاجه، الذين أذكارهم في الزهد مشهورة، وأنفاسهم على الأوقات محفوظة، وآثارهم على الزمان متبوعة، ومواعظهم للخلق زاجرة، وإلى طرق الآخرة داعية، فحياتهم للخلق منبهة، ومسيرهم إلى مصيرهم لمن بعدهم عبرة، وقبورهم مزارة، ورسومهم على الدهر غير دارسة -أي: ظاهرة غير منطمسة- وعلى تطاول الأيام غير منسية، يعرف الله إلى القلوب محبتهم -أي: يسوق الله تبارك وتعالى حبهم ويغرسه في قلوب الخلق- ويبعثهم على حفظ مودتهم، يزارون في قبورهم كأنهم أحياء في بيوتهم لينشر الله لهم بعد موتهم الأعلام حتى لا تندرس أذكارهم على الأعوام، ولا تبلى أساميهم على مر الأيام، فرحمة الله عليهم ورضوانه، وجمعنا وإياهم في دار السلام]. عقيدة أهل الحديث لا تزال محفوظة، والله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها على عقيدة أهل الحديث، وهي عقيدة النبي عليه السلام وأصحابه الكرام. والمؤلف جزاه الله خيراً قد بذل جهده في تأليف هذا الكتاب، وهو ما سعى فيه إلا لإظهار عقيدة أهل السنة والجماعة على منهج أصحاب الحديث. قال: [ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف، أو عالم من خلف قائم لله بحقه وناصح لدينه فيها]. نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

عموم حديث (ماء زمزم لما شرب له)

عموم حديث (ماء زمزم لما شرب له) Q حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) هل هو خاص بالحاج أو المعتمر، أم لأي شخص يشرب الماء في أي مكان ويدعو فيستجاب له؟ A في الحقيقة الحديث ليس مخصص، وما علمت أحداً من أهل العلم يقول بتخصيصه في مكة بالذات للحاج والمعتمر، إلا شيخنا الشيخ الألباني حفظه الله، وأما أهل العلم فهم على أن ماء زمزم ينفع بإذن الله تعالى في موطنه وفي غير موطنه. بمعنى: أنه إذا انتقل من مكانه -أي: من مكة- لانتفع به وأدى الغرض المقصود منه، ولا أدل على ذلك من أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن ينقلوا له الماء من مكة إلى المدينة، ولو كان نقله ليس فيه فائدة لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بنقله، لكن شيخنا يخالف في ذلك جماهير أهل العلم.

حكم العمل في أعمال الصيانة في البنوك الربوية

حكم العمل في أعمال الصيانة في البنوك الربوية Q هل العمل في البنوك في أعمال الصيانة مثل النجارة والسباكة والدهان ونحو ذلك حرام، مع ترك أصحابها بعد الانتهاء من هذه الأعمال؟ A الأولى ترك ذلك.

حكم وعظ النساء بدون ساتر

حكم وعظ النساء بدون ساتر Q ماذا تقول لهذا الخطيب الذي يعطي درساً للنساء بدون ساتر، وهو خريج جامعة الأزهر، ومعين من قبل الأوقاف، والعجيب أنه شاب، وقال: هذا من الشرع؟ A لا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الفتن، خاصة مع هذا الشاب، ولابد أن يكون هناك حاجز بين الرجال والنساء حتى تؤمن الفتنة.

التحذير من مناقشة أهل البدع

التحذير من مناقشة أهل البدع Q إذا حاورت صوفياً واستشهدت له بأحاديث مروية في البخاري ومسلم، ولم يقتنع بهما وعاب فيهما، فكيف أقنعه بأنهما من الصالحين وأفاضل أهل العلم؟ A لا تقنعه؛ لأن الذي لا يرى الضوء في عز النهار لا يحتاج إلى برهان ودليل.

بيان الفرق بين البدع الدينية والدنيوية

بيان الفرق بين البدع الدينية والدنيوية Q أريد أن أعرف هل يكون اتباع السنة اتباعاً مطلقاً أم أن الأولى بما هو مستحسن في عصرنا، مثل: استخدام أدوات المائدة في الطعام، هل هو بدعة أم لا؟ A يا أخي! عندما نقول: إن البدع التي هي المحدثات المنكرة، إنما نقصد البدع في الدين، أما هذه البدع التي استحدثها الناس في حياتهم ومعاشهم فليست بدعاً مذمومة، مثل: صناعة السيارات والطائرات وغير ذلك من مظاهر المدنية والحضارة، فهذه ليست مذمومة، بل هي ضريبة العقل التي افترضها الله عز وجل على عباده، وهي من البدع المستحسنة والمستحبة؛ لأنها ليست في الدين، وإنما هي في دنيا الناس وحياة الناس، ولا بأس بذلك.

الحكم على حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)

الحكم على حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) Q ما مدى صحة حديث: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق). وما معنى أبغض الحلال؟ A هذا الحديث ضعيف، بل منكر، وقد رواه الحاكم وغيره. ونكارة هذا الحديث: أن الله تعالى ما كان ليحل شيئاً ثم يبغضه، فالحلال ما أحله الله وأحبه، والحرام ما حرمه وأبغضه، فإذا أحب الله الطلاق فهو حلال وليس بغيضاً عند الله عز وجل، كما أن الإسناد في رواية هذا الحديث فيه ضعف كثير.

معنى حديث: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)

معنى حديث: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) Q ما معنى حديث: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)؟ A أي: أوحي إلي بالكتاب، وبمثل الكتاب، وهو السنة.

الحكم على حديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)

الحكم على حديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) Q ما مدى صحة حديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)؟ A اختلف أهل العلم في صحته، والراجح أنه حديث حسن.

الحكم على حديث لعن مروان بن الحكم

الحكم على حديث لعن مروان بن الحكم Q ما صحة الحديث في لعن مروان بن الحكم؟ A أنا لم أعرفه، ولم أسمعه قبل هذا.

الجمع بين فضل الأعمال في العشر الأول من ذي الحجة وحديث (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)

الجمع بين فضل الأعمال في العشر الأول من ذي الحجة وحديث (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) Q كيف نجمع بين حديث: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب الله إلى من هذه الأيام)، أي: أيام العشر، وحديث: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)؟ A لا يوجد اختلاف أصلاً حتى نحتاج إلى الجمع، فالحديث الأول يتكلم عن عموم العمل الصالح، ومحل هذا العمل أيام العشر، والحديث الثاني يتكلم عن نوع معين من العمل الصالح وهو الصيام.

حكم أداء ركعتي الفجر في وقت الفجر الكاذب

حكم أداء ركعتي الفجر في وقت الفجر الكاذب Q هل يجوز صلاة سنة الفجر في وقت الفجر الكاذب. أي: بعد الأذان الأول وقبل الفجر الصادق؟ A لا يجوز؛ لأن السنن الراتبة مرتبطة مع الفرض ابتداءً وانتهاءً، فإذا لم يكن الفجر قد دخل عند الأذان فلا يجوز تعجيل السنة في هذا الوقت؛ لأنها في غير وقتها.

معنى حديث (من سمع النداء فلم يأته)

معنى حديث (من سمع النداء فلم يأته) Q ( من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر) ما معنى هذا الحديث؟ A هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجة بسند صحيح، وهو حث على إتيان صلاة الجماعة، وقد حمله أهل العلم على استحباب وتأكيد الإتيان لصلاة الجماعة.

حكم استخدام وسائل تنظيم الأسرة

حكم استخدام وسائل تنظيم الأسرة Q هل يجوز استخدام وسائل تنظيم الأسرة؟ A إذا كان لغير علة وسبب فلا يجوز، كأن يكون لأجل الفقر، أو لأجل الدلع، أو واحدة تريد الحفاظ على جمالها، فهذا لا يجوز قط، أما إذا كان لعلة أو سبب فجائز، كأن تكون الأم مريضة، أو اتفقت مع زوجها على إتمام إرضاع المولود، فلها عند ذلك أن تنظم لوقت يسمح بإتمام هذه الرضاعة، ثم تخلع هذه الوسيلة للاستعداد لإنجاب آخر. ولا شك أن خير وسيلة في ذلك هو اللولب؛ لأن اللولب أقل الوسائل خطراً، بخلاف الحبوب التي تورث السرطان وغيره من الأمراض.

الحكم على حديث (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)

الحكم على حديث (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره) Q حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)، نريد أن نعرف صحته وفقهه؟ A هو على أي حال حديث ضعيف، فهو عند أبي داود بسند ضعيف.

حكم إعطاء الجوائز على حفظ القرآن الكريم أو المسابقات الثقافية

حكم إعطاء الجوائز على حفظ القرآن الكريم أو المسابقات الثقافية Q المسابقة في حفظ القرآن الكريم فيها جوائز توزع على الفائزين، هل هي محرمة أم مكروهة؟ وكذلك المسابقة على معرفة صحابي أو صحابية؟ A لا بأس بذلك، وهو من الأمور المباحة.

حكم خروج المرأة من بيتها في عدة الوفاة لطلب العلم

حكم خروج المرأة من بيتها في عدة الوفاة لطلب العلم Q امرأة مات زوجها، فهل يجوز لها أن تخرج من بيتها قبل الأربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك لطلب العلم؟ A لا يجوز، والنبي عليه الصلاة والسلام لما نهى المرأة المعتدة من وفاة زوجها عن الخروج إنما نهى أصحابه، مع أن طلب العلم واجب، والخروج من البيت وحضور مجلس النبي عليه الصلاة والسلام من أوجب الواجبات، ومع هذا فإن هذا الخطاب موجه لنساء الصحابة في الدرجة الأولى، ولم يستثن من ذلك طالبة العلم.

حكم من حلف على يقين صادق ثم فوجئ بخلافه

حكم من حلف على يقين صادق ثم فوجئ بخلافه Q تقول المرأة: قد حلفت بالله على شيء أنه لم يكن في هذا المكان، ولكني وجدته فيه، فهل عليَّ صيام ثلاثة أيام؟ A لا يجب الصوم؛ لأن ظاهر السؤال أنها حلفت على يقين، أن هذا الشيء ليس موجوداً هنا، ثم فوجئت بعكس ذلك، فهي حلفت على يقين صادقة ولم تحلف كاذبة.

حكم الرسم بالحناء على اليدين

حكم الرسم بالحناء على اليدين Q هل يعتبر الرسم بالحناء على اليدين وشم؟ A إذا كان رسماً على ظاهر اليدين أو الرجلين فإنه ليس وشماً، وإنما الوشم هو تخريم الجلد وتغذيته بالحناء أو الكحل، بحيث يصير أمراً لازماً في اليد طول حياة الموشوم، فإذا كان الحناء في الظاهر فإنه لا يحرم، وإذا كان على الوجه الآخر فإنه حرام.

حكم التنفل بالصلاة في أوقات الكراهة من باب التصدق على من لم يدرك الجماعة

حكم التنفل بالصلاة في أوقات الكراهة من باب التصدق على من لم يدرك الجماعة Q هل يجوز التصدق على المصلي المتأخر عن الصلاة في أوقات الكراهة، مثل بعد الفجر أو بعد العصر؟ A لا يجوز؛ لأنه معذور في إتيان الصلاة، وأنت لا تجبر على ذلك، ولست معذوراً في دخولك معه في هذه الأوقات المنهي عنها.

كيفية الاستفادة من حضور مجالس العلم

كيفية الاستفادة من حضور مجالس العلم Q أحضر مجالس العلم، لكن أريد الاستفادة منها، فكيف ذلك؟ A إن بركة العلم تكون بالعمل به، وأن تأتي ومعك الكراس وتسجل رءوس الموضوعات، وإذا كان هناك أدلة تحت كل رأس موضوع فلا بأس أن تكتبها حتى تحصل على المسألة بدليلها، ثم تراجع مكتوبك هذا كل فترة معينة من الزمن حتى لا تنسى العلم.

الحكم على حديث (يس لما قرئت له)

الحكم على حديث (يس لما قرئت له) Q ما صحة حديث: (يس لما قرئت له)؟ A ضعيف.

حكم قراءة سورة يس في الأمور الصعبة

حكم قراءة سورة يس في الأمور الصعبة Q رأيت بعض زملائي يقرءون سورة يس وهم في طريقهم للامتحان، كما قد يقرؤها الواحد منهم للآخر عندما يقوم بأمر صعب، فما صحة هذا العمل؟ A لم يصح في يس حديث واحد. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ذكر من اشتهر بالإمامة في السنة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ذكر من اشتهر بالإمامة في السنة أهل السنة والجماعة هم الذين رفع الله ذكرهم، وأعلى مقامهم، وخلد آثارهم، لرفعهم وإعلائهم وتخليدهم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واعتنائهم بها، وحفظهم لها، وذودهم عنها، وقد دون التاريخ عدداً لا يكاد يحصى من أئمة الدين، وأهل الرياسة في السنة، الذين كان لهم قدم صدق في ذلك.

باب سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله إمام الأئمة

باب سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله إمام الأئمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. بعد أن تكلمنا عن أهمية اتباع آثار السلف وعدم الخروج عنها، وذم البدعة واتباع الأهواء، واتباع العقل وتقديمه على النقل، ذكر الإمام اللالكائي باب خص فيه سرد أسماء من رسم بالإمامة في السنة، أي: من اشتهر بالدعوة إلى السنة والدعوة إلى الهداية وإلى طريق الاستقامة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو إمام الأئمة.

المشهورون بالإمامة من الصحابة رضوان الله عليهم

المشهورون بالإمامة من الصحابة رضوان الله عليهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمن الصحابة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأبو موسى الأشعري وعمران بن حصين وعمار بن ياسر وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان وعقبة بن عامر الجهني وسلمان وجابر وأبو سعيد الخدري وحذيفة بن أسيد الغفاري وأبو أمامة صدي بن عجلان وجندب بن عبد الله البجلي وأبو مسعود عقبة بن عمرو وعمير بن حبيب بن خماشة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم أجمعين]. يعني: كأنه أراد أن يقول: أشهر الصحابة الذين دعوا إلى سلوك سبيل السنة هم هؤلاء، وهذا لا ينافي أن الصحابة رضي الله عنهم جميعاً دعوا إلى السنة، ولكن من رسم بالإمامة في الدعوة إلى السنة والدعوة إلى طريق الهداية على منهاج النبوة هم هؤلاء، ولا ينفي أن غيرهم قام بهذا الدور، ولكن أدوارهم كانت أقل في الازدهار والاشتهار من هؤلاء.

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل المدينة

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل المدينة قال: [ومن التابعين من أهل المدينة: سعيد بن المسيب] ولذلك أنت لا تسمع اسماً من هذه الأسماء إلا وهو مشهور، لأن الله تبارك وتعالى كتب له الذكر والثناء الجميل في قلوب الناس بسبب دعوته إلى السنة [وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وسليمان بن يسار ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي بن حسين وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وكعب الأحبار وزيد بن أسلم ومحمد بن مسلم الزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ربيعة الرأي -لأنه إمام أهل المدينة في زمانه وكان شيخاً لـ مالك - وعبد الله بن يزيد بن هرمز وزيد بن علي بن الحسين وعبد الله بن حسن وجعفر بن محمد الصادق. ومن الطبقة الثالثة: أبو عبد الله مالك بن أنس الفقيه وعبد العزيز بن أبي سلمة المعروف بـ الماجشون. ومن بعدهم: ابنه عبد الملك -يعني: عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون - وإسماعيل بن أبي أويس وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ويحيى بن أبي كثير اليماني.

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل مكة

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل مكة قال: [ومن أهل مكة: عطاء -الذي هو ابن أبي رباح - وطاوس بن كيسان المدني ومجاهد بن جبر وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وعبد الله بن طاوس، ثم ابن جريج ونافع بن عمر الجمحي وسفيان بن عيينة وفضيل بن عياض ومحمد بن مسلم الطائفي ويحيى بن سليم الطائفي، ثم أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الفقيه الإمام العلم، ثم عبد الله بن يزيد المقرئ وعبد الله بن الزبير الحميدي رضي الله عنهم أجمعين].

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الشام والجزيرة

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الشام والجزيرة قال: [ومن أهل الشام والجزيرة أو من يُعد فيهما من التابعين: عبد الله بن محيريز ورجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك الجزري. ثم من بعدهم: إمام أهل الشام الإمام الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو ومحمد بن الوليد الزبيدي، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وعبد الله بن شوذب وأبو إسحاق الفزاري]، وهو إمام جبل لو أنك قرأت ترجمته لعلمت أنه لا يقل أبداً في الجلالة والفضل عن أحمد بن حنبل. قال: [ثم من بعدهم: أبو مسهر -وهو عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي - وهشام بن عمار شيخ البخاري ومحمد بن سليمان المصيصي المعروف بـ لوين، وهذا إمام كبير من أئمة النقد.

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل مصر

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل مصر قال: [ومن أهل مصر: حيوة بن شريح والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة]. كانوا دعاة إلى السنة. قال: [ومن بعدهم في مصر: عبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز]، وهو إمام جبل كبير يقول فيه الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه. فكان سريع الغضب وكان إذا غضب طاش وصاح في الذي أمامه، فهذه العصبية وهذا الغضب أثر على قبول كثير من علمه؛ ولذلك قال فيه الإمام الشافعي هذه الكلمة. قال: [وعبد الرحمن بن القاسم وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني -الذي هو تلميذ الإمام الشافعي وكاتبه- وأبو يعقوب البويطي -تلميذ الشافعي كذلك- والربيع بن سليمان المرادي -تلميذ الشافعي - ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم] تلميذ الشافعي أيضاً. واعلم أن الشافعي رحمه الله كان إمام مدرسة الدعوة للسنة، ولذلك خرَّج تلاميذاً كلهم يدعون إلى السنة، فالتلميذ يرضع من شيخه منهجه، ويرضع منه سمته ودله وهديه ومنهجه حتى في حياته، لا أقول في دعوته فحسب وإنما في حياته؛ لأن الإنسان يؤثر ويتأثر، فإذا كان الأمر كذلك فإن كل إمام أخرج أئمة من بعده.

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الكوفة

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الكوفة قال: [ومن أهل الكوفة: الإمام الشعبي وعلقمة بن قيس وأبو البختري بن فيروز وإبراهيم النخعي وطلحة بن مصرف وزبيد بن الحارث والحكم بن عتيبة وابن مغول وأبو حيان التيمي وعبد الملك بن أبجر وحمزة الزيات ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والثوري وشريك القاضي وزائدة بن قدامة وغيرهم من أهل العلم].

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل البصرة

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل البصرة قال: [ومن أهل البصرة: أبو العالية الرياحي والحسن بن أبي الحسن البصري -الإمام الكبير الذي دعا إلى السنة، حتى خرج عليه واصل بن عطاء واعتزله- ومحمد بن سيرين وأبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي -هؤلاء أئمة كبار- ومن بعدهم: أيوب السختياني -الذي هو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة ويونس بن عبيد وعبد الله بن عون وسليمان التيمي وأبو عمرو بن العلاء، ثم حماد بن سلمة وحماد بن زيد ويحيى القطان ومعاذ بن معاذ العنبري وعبد الرحمن بن مهدي ووهب بن جرير وأبو الحسن المديني وعباس بن عبد العظيم العنبري ومحمد بن بشار وسهيل بن عبد الله التستري].

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل واسط وبغداد والموصل

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل واسط وبغداد والموصل قال: [ومن أهل واسط: هشيم بن بشير الواسطي وعمرو بن عون وشاذ بن يحيى ووهب بن بقية وأحمد بن سنان. ومن أهل بغداد أحمد بن حنبل -وإن لم يكن في بغداد إلا أحمد بن حنبل لكفى، فهو إمام الدنيا بأسرها؛ ليس إمام السنة في بغداد فحسب، بل هو إمام أهل السنة في زمانه- وأبو زكريا يحيى بن معين -الإمام الكبير، إمام الجرح والتعديل- وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور وأبو خيثمة زهير بن حرب والحسن بن الصباح البزار وأحمد بن إبراهيم الدورقي ومحمد بن جرير الطبري -صاحب التفسير- وأحمد بن سلمان النجاد -الفقيه- وأبو بكر النقاش المقرئ. ومن أهل الموصل: المعافى بن عمران الموصلي].

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل خراسان

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل خراسان قال: [ومن أهل خراسان: عبد الله بن المبارك -الإمام الكبير- والفضل بن موسى السيناني والنضر بن محمد المروزي والنضر بن شميل المازني ونعيم بن حماد -الإمام الكبير العلم- وإسحاق -المعروف بـ ابن راهويه - وأحمد بن سيار المروزي ومحمد بن نصر المروزي -له كتاب اسمه (تعظيم قدر الصلاة) في مجلدين، ظل أهل العلم ينتظرونه دهراً طويلاً حتى طُبع منذ خمس سنوات فقط -ويحيى بن يحيى النيسابوري - شيخ مسلم وتلميذ مالك -ومحمد بن يحيى الذهلي - قرين البخاري، بل هو أعلى منه- ومحمد بن أسلم الطوسي وحميد بن زنجويه النسوي وأبو قدامة السرخسي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري -الإمام الكبير صاحب الصحيح- ويعقوب بن سفيان الفسوي -صاحب كتاب المعرفة والتاريخ- وأبو داود سليمان بن الأشعث -صاحب السنن- وأبو عبد الرحمن النسوي وأبو عيسى الترمذي -صاحب السنن- ومحمد بن إسحاق بن خزيمة -صاحب الصحيح- ومحمد بن عقيل البلخي].

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الري وطبرستان

المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الري وطبرستان قال: [ومن أهل الري: أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي وأبو عبيد الله الإمام الكبير محمد بن مسلم بن واره الذي انفرد في زمانه بالدعوة إلى منهاج النبوة، وأبو مسعود بن الفرات نزيل أصبهان. ومن بعدهم: عبد الرحمن بن أبي حاتم -يعني: عبد الرحمن ابن الإمام الكبير- ومن أهل طبرستان: إسماعيل بن سعيد الشالنجي والحسين بن علي الطبري وأبو نعيم الاستراباذي وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان القزويني]. يعني: الله تعالى سخر لدينه من يدعو إليه على منهاج النبوة في كل زمان ومكان حتى في البلاد التي لا تتكلم اللسان العربي، وهذا بلا شك من عظيم عناية الله عز وجل بهذا الدين العظيم، أن يسخر في بلاد العجم من يدعو بدعوة محمد عليه الصلاة والسلام، فصدق في هذه الأمة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق -أي: داعين إليه- لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). فلابد في كل زمان ومكان من قائم لله بحجة، ومبلغ دعوة الحق إلى الخلق إلى قيام الساعة. ومن سوء الاعتقاد بالله عز وجل: أن تعتقد أن الله تعالى يُخلي بلداً من داع إليه، أو يُخلي زماناً من داع إليه. هذا من سوء الظن بالله عز وجل. ثم يتكلم الإمام بعد ذلك ويسرد ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها، ويعقبه بباب آخر أجمل منه وهو شروح أهل العلم لبعض الآيات التي حثت على التزام السنة والعمل بالحكمة.

ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها

ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها قال: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها].

من سن في الإسلام سنة حسنة عمل بها بعده

من سن في الإسلام سنة حسنة عمل بها بعده فقال: [عن جرير بن عبد الله البجلي: (كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة عُمل بها من بعده كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة عُمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم)]، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي في الصحيح. والسنة لها معان كثيرة، فالسنة هي الطريقة المسلوكة، فإما أن تكون هذه الطريقة المسلوكة حسنة أو سيئة، ولذلك تقول: فلان يسير سيراً حسناً، أو يسير سيراً سيئاً، أو يسير على طريقة حسنة، أو على طريقة سيئة. فقولك: على طريقة. أي: على سنة سواء كانت سنة سيئة أو سنة حسنة، والسنة كذلك إنما تعني أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته. والسنة إما أن تكون خيراً وإما أن تكون شراً. وعند الفقهاء السنة ما دون الفرض. تقول: هذا فرض، وهذا سنة. الظهر فرض، له سنن قبلية وبعدية. فالسنة عند الفقهاء غير السنة عند أهل اللغة، وكذا هي غير السنة عند الأصوليين والمحدثين. ولذلك السنة عند قوم: هي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. فيتحدد المقصود والمراد من لفظ السنة إذا وردت في دليل أو في نص من السياق، أو من سبب ورود هذا النص، فحديث جرير هنا: (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن في الإسلام سنة سيئة). هل الإسلام فيه سنة حسنة وسنة سيئة مع قوله عليه الصلاة والسلام: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)؟ لا. إذاً: البدعة في دين الله كلها ضلالة؛ لأنها محدثة لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف تكون هذه المحدثة سنة حسنة أحياناً وسنة سيئة أحياناً أخرى؟ لا. لابد -ظاهر حديث البدع والنهي عنها- أن تكون كل محدثة في دين الله سيئة، ولكن بالنظر إلى سبب ورود هذا الحديث على جهة الخصوص -أي: حديث جرير - يرتفع الإشكال. فانظر إلى السنة إذا كانت مندرجة تحت أصل شرعي ستكون سنة حسنة، فقوله هنا: (أن قوماً من مضر جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم حفاة عراة فتمعر وجه النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى ما نزل بهم من الفاقة -أي: من الفقر- فخطب الناس وحثهم على الصدقة، فجاء رجل من الأنصار بصرة عجزت يداه عن حملها، ثم تتابع الصحابة بجمع الصدقة، حتى سُر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فعرض للرجل الأول الذي لمح مراد النبي عليه الصلاة والسلام من هذا التوجيه وهذا الخطاب. لما أمرهم وحثهم على الصدقة فطن هذا الرجل أن هذا الحث إنما هو لأجل هؤلاء القوم الذين أتوا حفاة عراة من مضر، وقد ظهرت على أبدانهم وثيابهم آثار الفقر، فذهب وأتى بما عنده فوضعه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى الصحابة صنيع ذلك الرجل ذهبوا جميعاً إلى بيوتهم؛ فهذا أتى بفضل ماله، وهذا أتى بفضل زاده، وهذا أتى بفضل ملبسه ومشربه وغير ذلك فوضعوه في نطع، وحملوا ذلك النطع. قال الراوي: فكادت أيديهم أن تكل. يعني: أن تتعب من حمل هذا النطع الكبير أو هذا الجلد الكبير الذي وضع فيه تلك الصدقات. قال: بل قد كلت). وهذا دليل على أنهم إنما أتوا بما عندهم من خير. (فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سن في الإسلام سنة حسنة) والذي سن هذا الصنيع إنما هو ذلك الرجل الأول الذي ذهب وأتى بما عنده ففعل بفعله وصنع صنيعه بقية الصحابة، ولكن الرجل هذا لما ذهب إلى بيته ليأتي بما عنده هل اخترع في دين الله أمراً جديداً أم أنه اندرج فعله وصنيعه تحت أصل عام وهو مشروعية الصدقة؟ الصدقة مشروعة من الأصل، ولكنه أحيا هذه السنة في قلوب الصحابة بفعله، فاستحق أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام عنه: (من سن في الإسلام). يعني: من ذكر الناس وأحيا سنة كاد الناس أن يغفلوا عنها. (فله أجرها) أي: أجر إحيائها وأجر عملها، وكذلك له أجر من عمل بهذه السنة من بعده إلى يوم القيامة شريطة ألا يُنقص ذلك من أجور من عمل بها من بعده شيئاً. وفي المقابل: (من سن سنة سيئة). وقال جرير: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن يُنقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً) أخرجه مسلم.

من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه

من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)].

عليكم بالسبيل والسنة

عليكم بالسبيل والسنة قال: [وعن أبي بن كعب قال: عليكم بالسبيل والسنة]، أي: أحثكم وأحضكم على التمسك بالسبيل أي: الطريق، وهذا الطريق هو السنة. قال: [فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة وذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل فيعذبه الله]، يعني: ما من عبد على وجه الأرض على السبيل والسنة يذكر الله تعالى ويخافه حق خوفه إلا فاضت عيناه، فإذا كان كذلك فإن الله لا يعذبه. قال: [وما على الأرض عبد على السبيل والسنة يذكر الرحمن تعالى في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله، إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها، فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها -أي: سقط عنها ورقها- إلا حط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها. وإن اقتصاداً في سنة وسبيل خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة]. أي: اقتصاد في اتباع خير من اجتهاد في ابتداع. لو أن المرء أخذ من السنة ما كان في وسعه وفي طاقته خير له من أن يجتهد في إحداث بدعة، فالبدعة في دين الله إما أن تكون بالنقصان وإما أن تكون بالزيادة، والشر في دين الله إما بالنقصان وإما بالزيادة. فقال هنا: [وإن اقتصاداً في سنة وسبيل خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً؛ أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم]. هذه دعوة إمام كبير وعلم من أعلام الصحابة وهو أبي بن كعب.

النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة عبادة

النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة عبادة قال: [ثنا أبو إسحاق إسماعيل الأقرع: سمعت الحسن بن أبي جعفر يذكر عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة]. وهذا أثر صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالنظر في وجه الرجل من أهل السنة عبادة. يعني: يتقرب بها الناظر إلى الله عز وجل، يتملى من وجوه أهل السنة والجماعة الداعين إلى الله على منهاج النبوة، فلا شك أن هذه النظرة يؤجر عليها صاحبها إن نوى بذلك وجه الله.

قمع البدعة بالسنة

قمع البدعة بالسنة قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني]. ابن عباس يتكلم عن نفسه ويقول: أنا أوقن أنه ليس على وجه الأرض أحد أحب هلاكاً إلى الشيطان مني، قيل له: وكيف؟ فقال: والله إنه لتحدث البدعة في مشرق أو في مغرب فيحملها الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه] أي: على الشيطان؛ لأن الداعي إلى سلوك سبيل الضلالة أو سبل الضلال والانحراف إنما هو الشيطان بالدرجة الأولى على أيدي أعوانه من البشر، فإذا وقعت البدعة على مسامع رجل يدعو إلى السنة ويميز بينها وبين البدعة، ويمقت البدعة ويحب السنة فلا شك أنه سيدحض تلك البدعة ويردها ويثبت عوارها وفسادها، وبذلك لا يفلح الشيطان في استقرار وثبات تلك البدعة في قلوب شيعته، وبذلك يندحر وترد عليه بدعته، فحينئذ يغضب الشيطان من ذلك العالم الذي يدعو إلى السنة، ويتمنى هلاكه؛ لأن الشيطان إنما يجتهد أكثر ما يجتهد على الجُهال والعُباد، كما ورد في ذلك حديث وإن كان ضعيفاً جداً: أن شيطاناً قال لإبليس: أيهما أشد علينا العالم أو العابد؟ قال: العالم. فقال: وما دليل ذلك؟ -حتى الشيطان يسأل عن الدليل- قال: اذهبوا إلى فلان العابد وقولوا له: هل يستطيع ربك أن يجمع الدنيا في بيضة؟ فذهبوا إليه وتمثلوا بشراً وقالوا: يا فلان هل يستطيع ربك أن يجمع الدنيا في بيضة؟ قال: أعوذ بالله إنه لا يقدر على ذلك، فنفى عن الله عز وجل القدرة -نسي أنه القدير وأنه يفعل ما يريد- فرجعوا إليه -أي: إلى شيخهم وأستاذهم إبليس الكبير- فقالوا: إنا سألناه فقال: أعوذ بالله، إنه لا يقدر على ذلك. فقال: كفر من حيث لا يدري. قال: اذهبوا إلى فلان العالم فاسألوه نفس السؤال، فذهبوا إليه فسألوه نفس السؤال؟ فضحك العالم وقال: نعم يقدر على ذلك؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. قالوا: وكيف؟ قال: إما أن يكبر حجم البيضة فيدخل الدنيا فيها، وإما أن يصغر الدنيا ويدخلها في البيضة. وهذا الحديث ضعيف جداً، يذكره الوعاظ على أنه من الأحاديث الثابتة أو من القصص الثابتة، ولكن الحافظ ابن عبد البر رواه بغير إسناد، وإن شئت فقل: بإسناد ضعيف واه جداً.

الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة

الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة قال: [عن عبد الله: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة]. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم -اقتصاد في سنة- وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه). لم يستثن ولم يجعل الانتهاء عن المعاصي في مقدورك، وإنما نهاك عنه كله، ابتعد عن كل ما حرم الله، أما ما أمرك الله تعالى به فأت منه ما استطعت. أرأيت إلى هذه الرحمة عظيمة؟! إذا أمرك الله بأمر فإن كان في مقدورك فاعمله، وإن كان غير ذلك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما المناهي كلها فداخلة في مقدور العبد وقدرته؛ لأنه قال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). ومن هنا تبعيضية. أي: فأتوا منه بعض الذي في وسعكم؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، والتحلي بالفضائل لا يكون إلا بعد التخلي عن الرذائل. إذا أراد المرء أن يتحلى بخصلة جميلة فلابد أن يتخلص من ضدها الذميم قبل أن يتحلى بها. يعني: ينظف قلبه أولاً من أدرانه ثم ينقيه بعد ذلك ويجعله مهيأً لقبول مكارم الأخلاق.

الاعتصام بالسنة نجاة

الاعتصام بالسنة نجاة قال: [عن الزهري قال: الاعتصام بالسنة نجاة]. يعني: نجاة من كل هلكة وانحراف وضلال وزيغ. قال: [ثنا أبو المليح قال: كتب عمر بن عبد العزيز بإحياء السنة وإماتة البدعة]. أي: لما كان والياً كتب إلى عُماله في الأمصار أن أظهروا السنة وادعوا إليها وأميتوا البدعة. فهل رأيتم والياً في عصرنا هذا ينصح عماله بأن يحيوا السنة ويميتوا البدعة؟!

إياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء

إياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء قال: عن عاصم: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تُحرفوا الإسلام يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تُلقي بين الناس العداوة والبغضاء. قال: فحدثت الحسن بهذا فقال: صدق أبو العالية ونصح]. الحسن البصري رجل يعرف الكلام ويعرف وزنه ومقداره، فلما سمع هذا الكلام قال: صدق أبو العالية ونصح لهذه الأمة. [قال: فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي -أي: هو عاصم - أأنت حدثت محمداً بهذا؟ -يعني: أنت حدثت محمد بن سيرين الذي هو أخوها- فقال: لا. قالت: فحدثه إذاً]. هذا كلام جميل جداً، وقد حاز إعجاب الحسن البصري وعاصم الباهلي ومحمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين. يعني: أن الأهواء من شأنها أنها تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. ويرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: إن أهل السنة أرحم لأهل البدع من بعضهم لبعض. أي: رجل من أهل السنة هو أرحم وأعدل في أهل البدع من أهل البدع بعضهم مع بعض.

لا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة

لا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة قال: [ثنا أبو حيان البصري قال: سمعت الحسن: لا يصح القول إلا بعمل]. يعني: مهما قلت إذا كنت لا تعمل فإنه لا نجاة، ولا يصح هذا القول، بل لابد أن يكون القول مع العمل. ولذلك يقول علي بن أبي طالب: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. فالعلم ينادي: اعمل بي وإلا تركتك. ولذلك خير سبيل للمحافظة على العلم أن تعمل به، كما قال بشر الحافي عليه رحمة الله: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا من كل مائتين بخمسة. فشبه العلم بالمال. فلو أن العلم كالمال فاعمل بهذا العلم على قدر ما تخرج من زكاة المال؛ من كل مائة اثنين ونصف، فلما لم يمكن تجزئة الحديث قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث. [قال الحسن: لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية؛ لأن الأعمال بالنيات، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة]. فكم من إنسان يعمل بنية صالحة خالصة ولكن عمله غير مستقيم فلا يقبل منه! وكم من إنسان عمله مستقيم -يعني: صحيح- ولكنه غير مخلص فيه، فكذلك لا يُقبل منه، فإذا صلى المرء رياءً لا تُقبل تلك الصلاة منه، ولكنها تصح إذا استوفت أركانها وشروطها. فلو أن شخصاً صلى فقام قياماً صحيحاً، ركع واطمأن، قام فاعتدل، سجد فاطمأن، جلس بين السجدتين فعل ذلك في كل ركعة، وكان من قبل متوضئاً وضوءاً صحيحاً، فإن هذه الصلاة قد استكملت أركانها وشروطها، فهي صحيحة، ولكن إن راءى بها صاحبها فإنها لا تُقبل عند الله، ولا أجر له فيها، ولكن لأهميتها أنها تُسقط عن العبد أن يطالب بإعادة الصلاة مرة أخرى، ولكن لا ثواب له فيها؛ لأن هذا العمل خلا من نية صالحة. ولو أن العبد صلى لله عز وجل لا يبتغي شهرة ولا رياء ولا سمعة؛ لأن من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به. ولو أن العبد صلى لله عز وجل لا يريد بذلك مدح الناس ولا ثناءهم، ولكنه صلى على غير هدى، نقر الصلاة نقر الغراب أو نقر الديك، أو التفت فيها التفات الثعلب، أو أنه لم يتقنها ولم يحسنها، أو لم يأت بركن فيها، أو أخل بشرط في صحتها، فلا شك أن هذه الصلاة على غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان مخلصاً فيها؛ لأنها ليست مستقيمة، ولذلك يقول الفضيل بن عياض في قول الله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]. قال: لا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً وصواباً. أي: حتى يكون خالصاً لله، وصواباً على منهج النبي عليه الصلاة والسلام. ولذلك تواطأت أقوال أهل السنة في كل زمان ومكان، قول الحسن وقول ابن سيرين وقول حفصة وقول الدراوردي وقول ابن المبارك وقول أحمد؛ تشابهت أقوالهم لأن اعتقادهم واحد، ومنهجهم واحد في العلم والعمل فتشابهت أقوالهم؛ لأن المعين الذي يستقون منه جميعاً كذلك واحد، فلابد أن يكون كلامهم واحد. قال: لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا باتباع السنة.

يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله

يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله قال: [عن الحسن قال: يا أهل السنة! ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس. ولا شك أن أهل السنة كثرة، ولكن الحسن إنما ينصح أئمة السنة لا عامة أهل السنة، والله تعالى أبى أن يعيش في زمان أهل السنة أقلية، ولكن أهل السنة بالمقارنة لأهل البدع كثرة كاثرة، فالقدرية أين هم؟ والخوارج أين هم؟ والشيعة أين هم؟ والإباضية أين هم؟ والإسماعيلية أين هم؟ والمرجئة أين هم؟ فحينما تذكر أصحاب بدعة بالمقارنة لأهل السنة في مجموع الأمة تجد أن مجموع أهل السنة أعظم من أهل البدعة، فقول الحسن موجه لأئمة السنة لا لعامة أهل السنة].

لا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة

لا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة قال: [عن سعيد بن جبير قال: لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل عمل إلا بقول، ولا يُقبل عمل وقول إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة]. وكأنه كلام الحسن البصري لأم؛ لأن المعين واحد. هذا الكلام نُقل عن عشرات ومئات من أئمة أهل السنة، ولكن ما ذُكر يكفي. وعن حماد بن زيد قال: كان أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني إمام أهل البصرة وهو شيخ حماد بن زيد - عندي أفضل من جالسته، وأشده اتباعاً للسنة. أما واصل بن عطاء، فلا أحد يتكلم عنه، وإذا تكلموا عنه لن يتكلموا عنه إلا بكل شر، فاعلم أن أهل السنة الله تعالى يكتب لهم الذكر الجميل والثناء الحسن إلى يوم القيامة، إذا ذُكر واصل بن عطاء والحسن البصري فإننا نميل إلى الحسن ونحبه؛ لأن الحسن كان إمام أهل البصرة في زمن التابعين وهو الداعي إلى السنة، وأما واصل بن عطاء فقد كان تلميذاً من تلامذة الحسن البصري، سأل أحدهم الحسن البصري وقال: ماذا تقول في مرتكب الكبيرة؟ والسؤال هذا موجه للحسن، فيقوم واصل ويسبق عليه الكتاب ويقف في المجلس ويقول: مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهو مخلد في النار. فالسؤال أولاً لم يوجه له، وهذا مناف لأدب مجلس العلم؛ لأن الشيخ هو الذي يتكلم فقط وهو الذي يجيب فقط، وإنما أنت عليك أن تسمع، فلما رأى الحسن تغير وجهه وتمعر وغضب فقام في ناحية المسجد، في آخر المسجد، وأهل البدع في كل زمان ومكان متأخرون وليسوا هم الأفضل، هو لم يجلس في مكان الحسن البصري، بل ذهب إلى ركن المسجد والذي في قلبه مرض ذهب معه، فبمجرد ما إن رأوا رايته منحرفة رفعوا راية الانحراف وذهبوا وجلسوا مع واصل بن عطاء. فهذا الذي حدث أراح الحسن البصري جداً؛ لأنه كان لابد من التمييز؛ تمييز الطيب من الخبيث، لابد من تمييز الصف حتى يكون الجالس في هذا المجلس في أمان وستر وعافية وفهم نقي لمنهاج النبوة.

كراهة السلف للمشي خلفهم وأن توطأ أعقابهم

كراهة السلف للمشي خلفهم وأن توطأ أعقابهم قال: [وقال سليمان بن المغيرة: كنت عند حميد بن هلال فلما قام من مجلسه تبعه أيوب ويونس بن عبيد فدخلوا عليه فرأيت في وجهه المساءة -أي: مغضب- قلت: مالك؟ قال: كنت أحسب أن هذين الشيخين الحسن وابن سيرين إن هلكا خلفاهما أيوب ويونس. قلت: وإنا لنأمل ذلك فيهما. قال: أما رأيت اتباعهما إياي؟ وذكر فعلهما]. يعني: المشي وراء العالم ليس من السنة، وكان الصحابة رضي الله عنهم يكرهون أن توطأ أعقابهم، ويقولون: إنما ذلك ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. والشخص أحياناً لما ينظر في مساجد السلفيين ويرى ما لا يراه في مسجد الحسين والسيدة زينب، ولقد رأيت أحد الدعاة كان يحاضر في مسجد، وهو على سفر فصلى بهم العشاء فقصر وسلم من ركعتين، فحصل الشجار على الصف الأول خلف الشيخ، والذي حصل أيضاً أن شخصاً بعد أن وقف وكبر، قام آخر وأبعده من مكانه، فالإمام حينما سلم من ركعتين، والذين كانوا وراءه مباشرة، وهم راكعون كانوا يمدون أيديهم لكي يسلموا عليه وهم في الصلاة، فلما أدرك الشيخ جزاه الله خيراً خطورة المسألة أجاز لنفسه أن يتحول عن هذا المكان قبل تسليم المأمومين، فقام بعض الناس بعد أن فرغوا من الصلاة، وأراه كالمرأة الثكلى التي فقدت ولدها، والذي يغمى عليه، والذي يقع على الأرض ما هذا! فهل يمكن أن تسمى هذه المساجد مساجد سلفية؟ ومع هذا لن تضروا الشيخ شيئاً، فالشيخ موقفه من الله عز وجل معروف وظاهر من الدعوة إلى السنة واتباعها، ولا ذنب له فيما يحدث حوله، والذنب كل الذنب في أن كلامه لم يُسمع لدى هؤلاء العوام. فعند أن نقول: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. يقال: الشيخ حاقد على الشيخ، أو عنده غيرة منه، أو شيء من هذا! أبداً والله ما هو إلا حب اتباع السنة. وإذا كنت أدعو إلى اتباع السنة فإن الشيخ الذي يصنع معه هذا إنما يدعو بنفس دعوتي ويكره الذي أكرهه، ويمقته أشد المقت كما أمقته أنا، فلماذا أكون أنا حاسداً هذا الشيخ أو حاقداً عليه؟ والنبي عليه الصلاة والسلام كان يكره أن يوطأ عقبه. وعبد الله بن مسعود الإمام الكبير العلم في الصحابة كان إذا فرغ من درسه يوم الخميس وانصرف فرأى أناساً قد تبعوه يتوقف، فيقول لهم: ما حاجتكم؟ فيقضيها، فيفتي في مسألتهم. فأيهما أولى بالاتباع عبد الله بن مسعود أم من أتى بعد عبد الله بن مسعود؟ هذا الكلام هو منهج السلف. وقد رأينا في هذا المسجد تقريباً في سنة (1988م) أو (1989م) على الأكثر أن شيخاً من الشيوخ وداعية من الدعاة المستقيمين على منهج النبي عليه الصلاة والسلام نحسبه كذلك، لما علم بغلو الناس فيه بعد أن فرغ من درسه قال وهو في منبره: أقسمت عليكم بالله العظيم ألا يقوم أحد من مكانه حتى أنصرف خارج المسجد. قال هذا وجزاه الله خيراً، فقد أقام الحجة على الجميع، ومع هذا كأن هذا اليمين لم يُسمع، فلما ترك الشيخ الميكرفون انكب الناس عليه حتى ملكوا ذراعه. وهل هذه سنة أم طفولية؟ فنحن لا تزال فينا جاهلية، ولا يزال فينا انحراف، ونحن نحتاج إلى تقويم وتوجيه.

الاعتناء بأهل السنة والحث على ملازمتهم

الاعتناء بأهل السنة والحث على ملازمتهم قال: [وقال أبو سليمان: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر يسأل عن منازل البصريين: هل قدم أيوب؟]. يعني: سالم بن عبد الله بن عمر جالس في المدينة ويسأل عن أهل السنة الذين يأتون من أماكن بعيدة فيسأل عن أيوب بن أبي تميمة السختياني. قال: [فلما رآه أيوب جمح إليه فعانقه]. وهذه من محبة أهل السنة بعضهم لبعض وإن اختلفت ديارهم. عانقه أيوب. قال: [وجعل يضمه إليه. قال: وإذا رجل خشن عليه ثياب خشنة فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم. وعن حماد بن زيد قال: قال أيوب: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي]. يعني: وكأن أحد أعضائي هو الذي مات وليس هذا الرجل؛ لأن أهل السنة بعضهم مع بعض كالجسد الواحد. قال: [وعن أيوب قال: إن من سعادة الحدث -أي: من سعادة الغلام الصغير- والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة]. يعني: من أعظم نعمة عليك أن توفق إلى رجل من أهل السنة يعلمك السنة ويجنبك البدعة. وهذه النعمة لو أنك ظللت تذكر الله تعالى عليها في الليل والنهار ما وفيته حقه، وإلا فأنت ترى أصحاب الأهواء وأهل الضلال هنا وهناك لا يعرفون شيئاً، وليس عندهم استعداد مطلقاً أن يسمعوا لأهل السنة كلمة واحدة، فالشيطان أغلق على قلوبهم. والمساجد التي فيها الأضرحة والقبور وغيرها، تجد فيها الضباط وأساتذة الجامعات بل إن إمام الصوفية رئيس جامعة الأزهر لو سألته وقلت له: هل الصوفية كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقال لك: لم تكن موجودة. قال: [وعن ابن شوذب قال: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -أي: إذا تعبد- أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها]. يعني: أن يلازم صاحب سنة يعلمه إياها ويدله عليها. قال: [وقال يوسف بن أسباط: كان أبي قدرياً]. يعني: ممن ينفي القدر ويقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف. أي: أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فينفون عن الله علمه السابق. [قال: وإن أخوالي روافض]. يعني: يسبون أبا بكر وعمر قال: [فأنقذني الله بـ سفيان]. يعني: أنقذه من قدرية والده، ومن رفض أخواله، وهؤلاء هم أهله وعشيرته. ولو أتيت إلى بلد كفارس إيران أو العراق أو سوريا التي انتشرت فيها وطغت مذاهب الضلال، فالنصيرية في سوريا كفر محض، وتجد عندهم الرفض والسب والشتم العلني لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. رفسنجاني زعيم إيران أتى ومعه وفده فدخل المسجد النبوي، وصلى فيه ركعتين، ثم ذهب ليزور النبي عليه الصلاة والسلام فصلى عليه، ثم انحرف هو ووفده إلى قبر أبي بكر وعمر ورفعوا أيديهم وظلوا يسبون ويلعنون ويشتمون أبا بكر وعمر! فانزعج الناس، فذهبوا إلى إمام المسجد الإمام الحذيفي. هذا الإمام الذي ما عُرف عنه إلا الالتزام والحفاظ على السنة والأدب والتواضع والإخبات والخوف من الله، حتى أتى إلى جانبه وسمع منه بأذنه هذا السب وهذا اللعن، ولكنه لم يستطع أن يقيم الموقف في حينه ووقته، فذهب فبات في بيته بشر ليلة، فأتاه النبي عليه الصلاة والسلام في النوم وقال له: يا علي! اصعد المنبر فقل: كذا وكذا وكذا أي: رد على هؤلاء افتراءهم وبين لهم فضل عمر وفضل أبي بكر. قال الحذيفي: فجبنت عن ذلك، ثم نمت مرة أخرى فأتاني النبي عليه الصلاة والسلام فجبنت عن ذلك، فأتاني الثالثة بمثل ذلك. فصعد المنبر في يوم الجمعة في خطبة الجمعة، وتكلم بكلام عظيم جداً وحكى الذي قصصته على المنبر، ثم بين فساد الشيعة وعوار مذهبهم ومخالفتهم في الأصول لأهل السنة والجماعة، ثم رفض العلمانية التي أتت من قبل مصطفى أتاتورك في تركيا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمره في الرؤيا المنامية بثلاث: بالرد على العلمانية التي أتت من تركيا، والرفض والسب الذي أتى من فارس، والأمريكان الذين أتوا محتلين لبلاد العرب. فتكلم الإمام الحذيفي حفظه الله في هذه المسائل الثلاث على منبر مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وما كان من الحكومة المباركة إلا أن استدعت الحذيفي وهو عميد كلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية فعزلته عن العمادة وعزلته عن إمامة المسجد النبوي، ولكن هذا لا يضر الحذيفي لأنه عمل لله بسنة وإن كان واحداً، فإن هذا الموقف سيُحمد له على ألسنة أهل السنة إلى قيام الساعة، وإن من خالف ذلك سيُذكر بالسوء إلى قيام الساعة. قال: [وقال عمارة بن زاذان: قال لي أيوب: يا عمارة

ما جاء من الآيات في الحث على الاتباع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء من الآيات في الحث على الاتباع لقد أكمل الله تعالى للناس الدين، وأمر الناس باتباعه، ووعد من التزم به جزيل الثواب، وتوعد من خالفه بشديد العقاب، ولأجل هذا وردت كثير من النصوص تحذر من الابتداع في الدين؛ لأن المبتدع مدع على الله ورسوله بنقصان الدين، وأنه من سيكمله، وأنه قد حصل له من الهدى ما لم يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

سياق ما فسر من كتاب الله عز وجل من الآيات في الحث على الاتباع وأن سبيل الحق هو السنة والجماعة

سياق ما فسر من كتاب الله عز وجل من الآيات في الحث على الاتباع وأن سبيل الحق هو السنة والجماعة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما فسر من كتاب الله عز وجل من الآيات في الحث على الاتباع؛ وأن سبيل الحق إنما هو اتباع منهج أهل السنة والجماعة] أي: الأدلة من كتاب الله عز وجل على أن الطريق المستقيم هو طريق أهل السنة والجماعة: جاء ذلك [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] قال: سبيلاً وسنة]. يعني: طريقاً واحداً وسنة واحدة. قال: [وعن الحسن البصري رحمه الله في قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] قال: الشريعة هي السنة]. قال: [عن عطاء في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] قال: يتبعونه حق اتباعه، ويعملون به حق عمله]. قال: [عن الحسن في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] قال: وكانت علامة حبه إياهم -أي: علامة حب الله تعالى لهم- اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم]. قال: [عن سفيان بن عيينة: أنه سئل عن قوله عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)] والحديث في الصحيحين. سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل يحب القوم ولما يعمل بعمله، يعني: يحب أبا بكر وعمر وعثمان كما ورد من حديث أنس بن مالك، ولكنه في العمل لم يلحق بهم، ولم يعمل مثل عملهم: (أين هو يا رسول الله! قال: النبي عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب). أما سفيان بن عيينة فقال: ألم تسمع قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. قال: يقربكم الحب من الرب تبارك وتعالى. وقال في قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140]. قال: لا يقرب الظالمين. إذاً: الله تبارك وتعالى يقرب المحبين، يقرب المتبعين، ويبعد الظالمين. قال: [وعن الحسن في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، قال: الكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة]. وغير واحد من السلف فسروا الحكمة في القرآن بأنها السنة. قال: [وعن قتادة وعن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: ثم استقام -الهدى هي الاستقامة- وقال: والاستقامة هي لزوم السنة والجماعة]. لم سمي أهل السنة بأهل السنة والجماعة؟ أولاً: سموا بأهل السنة؛ لأنهم يتبعون السنة ويلتزمونها. وسموا بالجماعة؛ لأنهم اجتمعوا على ذلك، اعتقاداً وعلماً وعملاً، وسموا أهل السنة بالتزامهم السنة، وعدم خروجهم عنها، وسموا الجماعة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا المعتقد، واجتمعوا على هذا العلم وهذا العمل. قال: [وعن شمر بن عطية في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]. قال: لمن تاب من الشرك وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأدى الفرائض ثم اهتدى للسنة. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]. قال: فأما الذين ابيضت وجوههم فهم أهل السنة والجماعة وأهل العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالات. وعن عطاء في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. قال: هم أولو العلم] ومن طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة؛ لأن بعض الناس يتصور أن طاعة الرسول هي اتباع السنة فقط، كما أن بعض الناس وهم القرآنيون اعتبروا أن طاعة الله هي اتباع القرآن فقط، مع أن القرآن أمر بطاعة الرسول فكيف نطيع الرسول هنا؟ فالقرآن والسنة متلازمان من جهة التشريع لا يمكن أبداً فك أحدهما عن الآخر. لو أنك قلت: أنا أثري وأنا ألتزم الأثر فقط دون القرآن لكفرت قولاً واحداً. وإذا قلت: أنا قرآني فقط، ولا أعتبر إلا القرآن، فقد تجد في السنة التحذيرات الكثيرة والتهديدات والتوعيدات الكثيرة في الرد إلى كتاب الله، وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ف

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على التمسك بالكتاب والسنة وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على التمسك بالكتاب والسنة وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال: [سياق ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الحث على التمسك بالكتاب والسنة، وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والخالفين لهم -أي: الذين أتوا من بعدهم- من علماء الأمة رضي الله عنهم أجمعين]. معناه: أنه يلزمك أن تتمسك بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، وبقية الصحابة أجمعين رضي الله عنهم، والتابعين وتابعيهم، والأئمة المتبوعين وكل عالم إلى يوم القيامة. والقيد في ذلك: ما دام قوله يوافق فهم سلف الأمة.

ما روي عن النبي في الحث على التمسك بالكتاب والسنة

ما روي عن النبي في الحث على التمسك بالكتاب والسنة أورد الإمام هنا حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: [(وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة دمعت منها الأعين، ووجلت منها القلوب. قلنا: يا رسول الله! إن هذه موعظة مودع فبم تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء)] شبه الشريعة بقطعة القماش البيضاء، أو بالنهار الذي لا خفاء فيه؛ وأن الحق أبلج واضح، كلما أردت أن تصل إلى الحق تصل إليه بإذن الله؛ لأنه بين وواضح. وقال: [(تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها)] لا يخفى الحق فيها أحياناً ويظهر أحياناً وإنما هو واضح وظاهر في كل وحين. قال: [(قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يرجع عنها بعدي إلا هالك)] وهذا وعيد وتحذير. أي: لا يضل عنها بعدي إلا هالك. [(ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فتناً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن كان عبداً حبشياً، وإن المؤمن كالجمل الآنف حيث ما قيد انقاد). وقال عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية: وكان ممن أنزل الله فيهم قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:92]]؛ لأنهم كانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يجهزهم للقتال، فقال لهم: أنا ليس عندي ما أملك تجهيزكم به، فتولوا وذهبوا إلى بيوتهم وهم في غاية الهم والحزن، فنزل فيهم وفي صدقهم قوله تبارك وتعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:92] أي: لتجهزهم للقتال {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]، ورجعوا {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92]. [قال: فدخلنا فسلمنا عليه وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين]. كأنه مرض (ومقتبسين) أي: وطالبين للعلم. الاقتباس هو الأخذ، ولكن لفظ (اقتبس) أبلغ في المعنى وفي شدة النزع من لفظ (نطلب أن نتعلم) أو غير ذلك. فقال: قال صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عاصم: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوماً فأقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب. قال: قلنا: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا - قال أبو عاصم في حديثه: فأوصنا- قال: أوصيكم عباد الله! بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى بعدي اختلافاً كثيراً، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)]. الحديث السابق شرحناه في خطبة جمعة، (وإنما المؤمن كالجمل الآنف حيثما قيد انقاد) هذه المسألة فيها نزاع. قال: [عن جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما بعد: فأحسن الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) أخرجه مسلم]. قال: [عن ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما هما اثنان: الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، وإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة، ألا لا يطول عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم)]. يعني: أنا أخوفكم من طول الأمد فتتحولون عن التمسك بالسنة إلى الابتداع في الدين فتهلكوا. قال: [قال عبد الله: إن أحسن الهدى هدى محمد عليه الصلاة والسلام، وإن أحسن الكلام كلام الله، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم -أي: ستبتدعون ويبتدع لكم- فكل محدث ضلالة، وكل ضلالة في النار. وأتى بصحيفة فيها حديث -أي: فيها حديثه هو، فقد كان يكتب حديثه في صحائف- قال: فأمر بها فمحيت، ثم غسلت تلك الصحيفة، ثم أحرقت في النار، ثم قال: بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنشدت الله رجلاً يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أني أعلم أنها بديرهم لتبلغت إليها]. اختلف أهل العلم من السلف والخلف في جواز كتابة الحديث من عدمه، فمنهم من قال بعدم الجواز، ومنهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان يأمر تلاميذه أن يأتوا بما عندهم من صحف، وكان إذا علم أن فلاناً عنده الصحيفة ولم يأت بها لم يجلسه في مجلسه، فإذا جيء بالصحيفة من عند أي طالب أو تلميذ لذلك الإمام أمر بطست فيه ماء، فوضع الصحيفة فيها، ثم غسلها غسلاً، ثم عرضها للشمس حتى تجف، ثم يحرقها بعد ذلك، ويقول: خذوا من حيث أخذنا، واحفظوا كما حفظنا، فإنما العلم في الصدور لا في السطور. ولا شك أن هذه وجهة نظر عظيمة جداً؛ لأن المرء لو

ما روي عن الصحابة والتابعين في الحث على التمسك بالكتاب والسنة

ما روي عن الصحابة والتابعين في الحث على التمسك بالكتاب والسنة قال: [عن هلال الوزان قال: حدثنا شيخنا القديم عبد الله بن عكيم -وكان قد أدرك الجاهلية- قال: أرسل إليه الحجاج]. الطاغية الكبير، يقول عنه الحسن البصري: لو أتت كل أمة بخبيثها وأتينا بـ الحجاج لغلبناهم. وقد كفره بعض أهل العلم لما أعمل من القتل في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وفي التابعين. [قال: أرسل إليه الحجاج يدعوه، فلما أتاه قال: كيف كان عمر يقول؟ -يعني: ماذا كان عمر يقول؟ - قال: كان عمر يقول: إن أصدق القيل قيل الله عز وجل -يعني: إن أصدق القول قول الله عز وجل- ألا وإن أحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة، ألا وإن الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، ولم يقم الصغير على الكبير، فإذا قام الصغير على الكبير فقد هلكوا]. لأن الأصل أن يأخذ الصغار العلم عن الأكابر، فإذا انعكس الأمر فلا شك أن هذا دليل هلاكنا، بل هو علامة من علامات الساعة. قال: [وقال عبد الله: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم هلكوا]. قال: [عن أبي أمية الجمحي: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)] أي: أن يطلب العلم من عند الأصاغر. [قال موسى بن أيوب النصيبي قال ابن المبارك: الأصاغر من أهل البدع]. قال: [قال إبراهيم الحربي: في قوله: (لا يزالون بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم). قال: معناه: أن الصغير إذا أخذ بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام والصحابة والتابعين فهو كبير]. يعني: لو كان الطفل الغلام متبعاً للأثر فهو كبير مهما كان سنه، وإن الشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنن فهو صغير. دائماً يضرب أهل العلم بـ أبي حنيفة مثلاً للخروج عن الأثر، والولوج في الرأي، مع أنه إمام من الأئمة، بل إمام معظم ومبجل، لكنه كان أول من خاض في الرأي، وترك السنن، ولا أقول: تركها متعمداً، بل هو معذور في تركها، فإن أبا حنيفة رحمه الله كان يسكن الكوفة، ولم تكن السنة في وقته منتشرة الانتشار الذي يسمح له بالتحصيل. نعم قد سبقه في الكوفة عبد الله بن مسعود وتلاميذه جميعاً، وكان يعيش في زمن أبي حنيفة وفي الكوفة سفيان بن سعيد الثوري وكفى به إماماً للأثر، ولكنه قد غلب على أبي حنيفة إعمال النظر في الأدلة، فانشغل بالنظر واستنباط الأحكام أكثر من انشغاله بحفظ ومدارسة وتحصيل الأثر، فقال في دين الله برأيه كثيراً، وله أعذار غير ما ذكرت، فلا يتبع أبا حنيفة على ما خالف فيه الأثر، ولا ينكر عليه ما وافق فيه الأثر، فهو مضرب المثل؛ لأنه اشتهر عنه أنه إمام مدرسة الرأي، فإذا أرادوا أن يذموا الرأي وأن يمدحوا الأثر ذكروا المحدثين من جهة المدح، وذكروا أبا حنيفة من جهة سب الرأي لا سب أبي حنيفة؛ لأن بعض طلاب العلم يفهم من هذا أن أبا حنيفة مبتدع وينبغي ذمه في شخصه، والقدح فيه، وهذا بلا شك لم يقصده أحد من أهل العلم، والحق يؤخذ من كل من أتى به، وما خالف الحق يرد على كل من أتى به، يستوي في ذلك أبي حنيفة وغيره من أهل العلم. قال: [قال عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم]. عبد الله بن مسعود أدرك أن الله تبارك وتعالى ما ترك شاذة ولا فاذة ولا شاردة ولا واردة إلا وبينها في كتابه وبينها رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، ولم يدع فيه مجالاً للرأي والاجتهاد، وقد حصل ذلك لأصحابه وأتباع أصحابه، والأئمة المتبوعين، فلم الابتداع والله تبارك وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]؟ فالدين كامل وليس بناقص. والمبتدع كأنه يقول لله عز وجل: أنت لم تكمل الدين، فيتهم المولى تبارك وتعالى. وأنت لم ترضه لنا، ولم تتم علينا النعمة؛ ولذلك اضطررنا إلى أن نبتدع للناس في أمور دينهم ما كان خللاً في كتابك أو في سنة نبيك. ولا شك أن من قال هذا معتقداً له فهو كافر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) وإن كان الحديث محل نظر عند المحدثين، إلا أن الراجح أنه حديث حسن. قال: [قال عبد الله بن مسعود: إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولا نضل ما تمسكنا بالأثر]. قال: [عن عاتكة بنت جزء قالت: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه عن الدجال، فقال لنا: لغير الدجال] أخوف عليكم من الدجال. يعني: أنا أخاف عل

الأسئلة

الأسئلة

معنى حديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)

معنى حديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) Q ما معنى: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)؟ A هذا من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينفع ذا الجد) أي: صاحب الجاه والسلطان. (منك الجد) أي: لا ينفعه عندك جاهه. عندما تسأل أحدهم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: أبي شيخ في الأزهر، أبي عالم كبير. وأنت لماذا لا تصلي يا فلان؟ يقول لك: أنا رئيس مجلس إدارة شركة الحديد والصلب، الكل يعتمد على جاهه وسلطانه. هذا الجاه وهذا السلطان إن لم يرتبط بتقوى الله تبارك وتعالى والعمل بما أمر والانتهاء عما نهى فلا ينفع هذا الجاه ولا هذا السلطان، ولا هذا المنصب ولا هذا الكرسي بين يدي الله عز وجل. ومعنى (لا ينفع ذا الجد) أي: لا ينفع صاحب الجاه والسلطان عندك جاهه ولا سلطانه. هذا هو المعنى. وما معنى (المغرم) الذي كان يستعيذ منه النبي عليه الصلاة والسلام؟ المغرم هو الخسارة العظيمة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم. أي: أن يقع في الإثم أو أن يخسر خسارة عظيمة.

حكم دفع الزكاة مقسمة على مدار العام

حكم دفع الزكاة مقسمة على مدار العام Q هل يجوز دفع زكاة الأموال مقسمة على مدار العام، أم يجب أن تدفع مرة واحدة؟ A يجوز دفع الزكاة على التقسيط العامي أو السنوي، ولكن مقدمة لا مؤخرة. فلذلك أنت تجد في كتب الفقه: (باب جواز تعجيل الزكاة)، وليس تأخيرها، لو أخرها لعله مات، وحق الله وحق الناس في ذمته. والنبي عليه الصلاة والسلام أخذ من العباس بن عبد المطلب زكاة ماله قبل استحقاقها بعامين، فأخذها وأنفقها على تجهيز الجيش. وهذا هو الدليل في جواز تعجيل الزكاة على مدار العام أو العامين أو الثلاثة، ولكن تأخيرها لا يجوز.

حكم من صامت يوم عاشوراء فجاءها الحيض قبل المغرب

حكم من صامت يوم عاشوراء فجاءها الحيض قبل المغرب Q امرأة صامت يوم عاشوراء ثم حاضت قبل المغرب بدقائق، فهل لها نفس ثواب الصيام وهو تكفير ذنوب السنة الماضية؟ A إن شاء الله تعالى تأخذه؛ لأنها شرعت في العبادة ولكن لم تتم تلك العبادة لأمر خارج عن إرادتها، وهذا أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، فإنها نوت ذلك من الليل، ثم نامت وقامت لصلاة الفجر فوجدت نفسها حائضاً؛ فإنها -بإذن الله تعالى- تأخذ الأجر وإن لم تشرع في الصوم، (فإنما الأعمال بالنيات).

حكم الهدايا للدائن

حكم الهدايا للدائن Q رجل يقرض رجلاً آخر مبلغاً من المال، ويقوم المقترض بإعطاء المقرض بعض السلع كهدية أو كشكر على القرض، ثم يسد ذلك القرض بعد ذلك بكامله، فهل هذا من الربا؟ A يعني: أنا رجل صاحب محل، أخذت منك ألف جنيه قرضاً حسناً، وكلما مررت من عندي أعطيك بضاعة وأرخص لك أكثر من غيرك، أو أعطيك سلعة بلا ثمن كهدية، أو شكراً لما منحتني، وأنت لم تشرط علي ربا، ولم تستشرف نفسك لذلك، ولم يكن بيننا اتفاق على أنني أرد المال بالزائد، فهل هذا الذي أنا أعطيك إياه يعد ربا؟ A لا، وقد أخرج مسلم من حديث أبي رافع قال: (استسلف النبي عليه الصلاة والسلام بكراً) بكراً هذا هو الفتى من الإبل، كالغلام في بني آدم، (فجاءته إبل من الصدقة. قال أبو رافع: فأمرني النبي عليه الصلاة والسلام أن أقضي الرجل بكره -يعني: أرجع له بكرته- فقلت: يا رسول الله! لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً). يعني: قد بلغ السنة السادسة ودخل في السابعة حتى ظهرت رباعيته. يعني: نحن نريد نقضي الرجل، وقد أعطانا جملاً صغيراً ما أكمل سنة، فكيف نعطيه جملاً عمره ست إلى سبع سنين؟ هذا زائد عما أعطاه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطه إياه؛ فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً). فرد بالزيادة، وهذه الزيادة ليست ربا، ولم يحصل فيها اتفاق، ولم تستشرف نفس المقرض إلى ذلك، كما أن هذا من حسن القضاء لا من الربا. وعن جابر قال: (كان لي على النبي عليه الصلاة والسلام دين فقضاني وزادني). فهذا من حسن القضاء لا من الربا؛ لأن بعض الناس يخلط بين البابين.

حكم حديث صلاة التسابيح

حكم حديث صلاة التسابيح Q يقول: هل حديث صلاة التسابيح صحيح؟ A نعم، الراجح أنه صحيح.

الحكم على حديث: (إن الله ينهاكم عن التعري) وبعض أحاديث فضائل الأعمال

الحكم على حديث: (إن الله ينهاكم عن التعري) وبعض أحاديث فضائل الأعمال Q ما صحة حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بحائط أو ببعيره). A هذه كلها بلا شك أخلاق إسلامية قد وردت وصحت في أدلة أخرى، لكن هذا الحديث بعينه أخرجه البزار بسند ضعيف جداً. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من حافظين يرفعان إلى الله عز وجل ما حفظا في يوم، فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفاراً إلا قال تعالى: قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة). هذا الحديث كذلك أخرجه عبد الرزاق بسند ضعيف عن أنس. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة يعرفون بني آدم، ويعرفون أعمالهم، فإذا نزلوا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه، وقالوا: أفلح الليلة فلان، نجا الليلة فلان، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا: هلك الليلة فلان). وحديث: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، كلاهما ضعيف. وحديث في أذكار الصباح والمساء: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) حديث صحيح. وحديث دخول القرية كذلك هو صحيح، (اللهم إني أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها ومن فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن فيها).

حكم حقوق الطبع

حكم حقوق الطبع Q يقول: هل تصوير الكتب الجامعية حرام؟ مع بيان الدليل. A الكتب الجامعية عند إطلاق هذا القول يقصد بها كتاب الدكتور. افترض أن الدكتور ما كان يدرس، والدكتور هذا في الغالب يتكلف لطباعة الكتاب، نعم، الدكاترة فيهم جشع، وربما كانوا معذورين في هذا الجشع، يعني: الكتاب الذي هو معمول من ورق اللحمة، طبعاً كلكم فلاحين وتعرفون ورق اللحمة، عندما تشتري كيلو لحمة يعطيك نصف كيلو لحمة ونصف كيلو من الورق، تحط الورق على الكفة فيرجح الميزان مباشرة. الأصل في الكتاب لو كان مائة صفحة يكون بجنيهين، والدكتور يبيعه بعشرة جنيهات، من أجل أن يعيش نفس الحياة ولو في أول السنة، ثم سيعيش معك على الفول والطعمية، وسيقف معك عند محطة الباصات، لكن القضية أن في الطلاب فعلاً من هو أفقر فلا يستطيع أن يشتري الكتب، مثلاً (20) كتاباً × (5) جنيهات كم تساوي مائة جنيه. فالطالب هذا لو صور الكتاب فسيصوره بـ (50) قرش، ففي الحالة هذه يجوز التصوير للطالب المعدم الذي لا يقوى ولا يقدر على شراء الكتاب، لكن لا يكون هذا منهجاً عاماً، نحن نقول: الطالب الفقير المعدم الذي لا يمكنه الحصول على الكتاب إلا من هذا الطريق؛ لأن كثيراً من الناس يصور الكتب، فأنت وغيرك وغيرك وغيرك والدفعة كلها لما مثلاً عشرة من الدفعة، يشترون عشر نسخ ويشتركون في ثمنها والبقية يصورون منهم، وبقية الكتب (300) أو (500) نسخة من الذي سيأخذها، طبعاً صاحبها لن يأخذها، مما يضر به ضرراً بالغاً قد رفعه الشرع، فإذا كنت أنت معذوراً بين يدي الله عز وجل لأنه لا يمكن لك الحصول على الكتاب إلا من هذا الطريق فأنت معذور، وإلا فأنت مسئول أمام الله عز وجل يوم القيامة. هذه الصورة الأولى. الصورة الثانية التي نعتقد تحريمها على طول الخط: صورة الناشرين، الناشر في الغالب لا مصلحة له في تعليم الناس العلم الشرعي، فكل مصلحته مرتبطة بالمكسب المادي، إلا من رحم الله، يحرصون على تبليغ العلم إلى الناس، لكن جل الناشرين ومعظمهم لا دين لهم ولا أخلاق، أي كتاب في السوق يأخذه ويصوره وينزله، الكتاب بـ (20) جنيه في الأصل، وهو ينزله بـ (5) جنيهات. لماذا عملت هكذا؟ لو كان قلبك يؤلمك لماذا لا تطبع الكتاب طبعة وقف وتوزعها على طلاب العلم؟ لكن أن تصور الكتاب تصويراً رديئاً ونقول: الذي يريد العلم لا تهمه الطبعة الفخمة. ثم تدعي مراعاة طلبة العلم! هذا لا يجوز. ففي هذه الحالة لا شك أن عمل الناشرين لا يصح شرعاً، لا من قريب ولا من بعيد، ولذلك أي كتاب مسروق وغير مسروق يجب الانصراف عنه وعدم شرائه إذا بلغك أنه مسروق وليس للناشر، بل أنت شريك له في الإثم إذا اشتريته.

القضايا العقدية المختلف فيها بين أهل السنة والأشاعرة

القضايا العقدية المختلف فيها بين أهل السنة والأشاعرة Q هل اختلاف الأشاعرة مع أهل السنة والجماعة في فروع العقيدة أم في أصول العقيدة؟ A نعم، الأشاعرة يختلفون مع أهل السنة والجماعة في أصول العقيدة؛ لأن خلاف الأشاعرة مع أهل السنة مرتبط بالأسماء والصفات لله عز وجل، فهم قد أولوا الأسماء والصفات وصرفوها عن ظاهرها صرفاً لا يتفق مع مراد الله عز وجل، وخالفوا في ذلك أهل السنة والجماعة.

صحة حديث: (لا نكاح إلا بولي)

صحة حديث: (لا نكاح إلا بولي) ما صحة حديث: (لا نكاح إلا بولي). A حديث: (لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل) حديث صحيح.

درجة حديث: (سلمان منا آل البيت)

درجة حديث: (سلمان منا آل البيت) Q ما صحة حديث: (سلمان منا آل البيت)؟ A لم يصح من قول النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه صحيح من قول علي بن أبي طالب وموقوف عليه.

الحكم على مقولة: (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه)

الحكم على مقولة: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه) Q ما صحة حديث: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)؟ A هذا ليس حديثاً، وإنما هو كلام درج على ألسنة الناس.

درجة حديث الكساء

درجة حديث الكساء Q ما درجة حديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام ألقى عباءته على فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم وقال: هؤلاء هم أهل بيتي) هل هو صحيح؟ A نعم صحيح، أخرجه الترمذي وغيره بسند صحيح.

حكم تغطية المرأة لشعرها عند قراءة القرآن

حكم تغطية المرأة لشعرها عند قراءة القرآن Q هل يجب على المرأة تغطية رأسها عند قراءة القرآن؟ A لا يجب أبداً، بل يستحب لها ذلك، تأدباً مع كلام الله.

أحكام السترة للمنفرد

أحكام السترة للمنفرد Q هل يجب على المصلي المنفرد اتخاذ سترة؟ وإن لم يتخذها هل يجوز المرور أمامه دون إذن؟ A اختلف أهل العلم في مدى وجوب سترة المصلي من عدمه، فبعض أهل العلم ذهب إلى الوجوب كـ الشوكاني ومن بعده الألباني. وأما جمهور أهل العلم فعلى أن سترة المصلي مستحبة وليست واجبة، ولمن قال بالوجوب أدلة، ولمن قال بالإستحباب أدلة أخرى صرفت هذا الوجوب إلى الاستحباب، وليس هذا مقام التفصيلات. ثم يقول: وإن لم يتخذ؟ طبعاً بلا شك لو أن المصلي اتخذ سترة يحرم المرور بين يديه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لوقف أربعين) قال الراوي: لا أدري أربعين سنة أو شهراً أو أسبوعاً أو يوماً. فلا شك أن هذا التحذير شديد، إذا صليت إلى سترة فهذا صارف للوجوب، (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة) أمر، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى سترة) يصرف الوجوب. وحديث: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فأراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان). هذا يصرف الوجوب، كما أنه يثبت تحريم المرور بين يدي المصلي. لكن فرضاً لو أن شخصاً صلى بنا إلى غير سترة، هل يجوز لي أن أمر من أمامه مباشرة؟ A لا، ولكنك تقدر له ثلاثة أذرع ثم تمر من بعد هذه الثلاثة أذرع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: (كم بين الرجل وبين سترته؟ قال: ثلاثة أذرع) والذراع قدره من المرفق إلى الرسغ، فالمرء يسجد بقدميه ذراع، وببطنه أو ظهره ذراع، ويبقى بينه وبين موطن السترة مقدار مرور شاة، وهذا هو الذراع الثالث، فأنت تقدر الثلاثة أذرع ثم تمر من بعده ولا حرج عليك. وبعض أهل العلم قالوا: يحرم المرور بين يدي المصلي، وإن لم يتخذ سترة، ولو كان هو في مؤخرة المسجد والمار في مقدم المسجد.

حكم الصلاة خلف من ينقر الصلاة

حكم الصلاة خلف من ينقر الصلاة Q أصلي في مسجد الأوقاف بحكم تواجدي في عملي، ولا أستطيع أن أقرأ بتدبر أو أطمئن في الركوع والسجود، وعندما أخرج من الصلاة أشعر أني لم أصل. A أنت لست محتاجاً لأن تدافع عن نفسك، والذين يصلون في مسجد الأوقاف هل كفروا؟ صل في مسجد الأوقاف. وإذا كان هذا شعورك من الأوقاف بلغ إلى هذا الحد فالأمر متعلق بشخصك أنت، وإذا كان لأجل نقر الإمام الصلاة نقراً لا تصح معه الصلاة فصل مع الإمام ثم صل وحدك مرة أخرى؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فوجد رجلاً ينقر صلاته فأمره أن يعيد الصلاة، وهذا الحديث معروف عند الناس بحديث المسيء في صلاته. لما فرغ منها أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (السلام عليك يا رسول الله! قال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل). فلو لم تكن صلاته باطلة لهذا النقر لما أمره بإعادة الصلاة. وقوله: (فإنك لم تصل) لا يحمل على التمام والكمال، وإنما يحمل على أصل الصحة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ما جاء عن النبي في الحث على الاتباع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء عن النبي في الحث على الاتباع لقد حث الإسلام على اتباع الكتاب والسنة والاستمساك بهما، وبين أن المتبعين للكتاب والسنة هم الجماعة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على ملازمتها وعدم الخروج عنها، وبين صلى الله عليه وسلم صفات هذه الجماعة وأنها الطائفة المنصورة، وأنها السواد الأعظم من بين الفرق الأخرى، ومن تركها فهو على شفير الهلكة، وإنما يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فبئست البضاعة بضاعته.

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فمع باب جديد من أبواب أصول الاعتقاد: وهو فيما يخص ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم، وذم تكلف الرأي والرغبة عن السنة، والوعيد في مفارقة الجماعة. وهو باب عظيم جداً يحث على اتباع الجماعة، وأثبت أنهم هم السواد الأعظم، ولعلنا قد تطرقنا إلى بيان ذلك في دروس قد مضت، وهو إثبات أن المسلمين قد تفرقوا إلى شيع وأحزاب وفرق وجماعات، وقلنا في شرح حديث افتراق الأمة: أن أهل السنة والجماعة هم أعظم فرقة، وإلا فمن فرق المسلمين: الخوارج، فلو أردنا الآن أن نقول: أي الفرقتين أعظم وأكثر سواداً: أهل السنة أو الخوارج في مصر؟ لقلنا: أهل السنة. ولو أردنا أن نطبق هذا على كل بلد من بلدان المسلمين لكان أهل السنة والجماعة أكثر وأعظم من غيرهم في أي بلد من البلدان. فأهل السنة والجماعة بفضل من الله تعالى ورحمة هم السواد الأعظم في كل بقعة من بقاع الأرض التي نطقت بتوحيد الله عز وجل. فالنبي عليه الصلاة والسلام يحث على اتباع الجماعة والتمسك بها، والاعتصام بحبلها المتين، وهم السواد الأعظم. وقد وردت أحاديث، بل قد وردت آيات فيها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لمن ترك السواد الأعظم وترك الجماعة، وأثبتت هذه الأدلة: أن من ترك الجماعة قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية، وإليك هذه النصوص:

النهي عن التبتل والاختصاء والغلو في الدين

النهي عن التبتل والاختصاء والغلو في الدين قال: [أخبرنا حميد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله، فمن رغب عن سنتي فليس مني)]، فهذه سمة من سمات السواد الأعظم وهم أهل السنة والجماعة، أنهم معتدلون في التمسك بالسنة فلا يغالون فيها ولا يجافون عنها. وهذا الحديث له مناسبة: لما ذهب ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام فسألوا عن عبادته، فلما أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بعبادة النبي عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، قالوا: هذه عبادة قليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس مثلنا، فهو رجل قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيعبد أو لا يعبد، قد أخذ الوعد من الله عز وجل ألا يعذبه بل يدخله الجنة، وأما نحن فإننا نحتاج إلى عبادة بل وإلى مشقة في العبادة حتى نحظى بشيء مما حظي به النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: لابد أن نكلف أنفسنا أعظم من ذلك من الأعمال والعبادة والصلاح والتقوى والطاعة وغير ذلك، فأما أحدهما فقال: (إني لا أتزوج النساء قط. وأما الثاني فقال: فإني لا أنام على فراش قط. والثالث قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر) وظل كل واحد منهم يتزهد زهداً لم يؤمر به، حتى ذهب بعضهم واستأذن من النبي عليه الصلاة والسلام وهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه في الاختصاء، حتى لا يكون له رغبة في النساء، وينقطع للتبتل؛ أي: ينقطع للعبادة. قال: [قال: أنس رضي الله عنه: (استأذن عثمان بن مظعون النبي عليه الصلاة والسلام في الاختصاء ولو أذن له لاختصينا)]، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأذن. لماذا طلب عثمان بن مظعون هذا؟ لأجل أن ينقطع للعبادة فلا يكون له رغبة في النساء، فالمرأة التي تسل مبايضها لا ترغب في الرجال، والرجل الذي يختصي لا يرغب في النساء قط، وإنما حمل عثمان بن مظعون على مثل هذا الطلب أنه أراد أن ينقطع للتبتل، والتبتل هو الانقطاع للعبادة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن له بذلك؛ لأن الدين الإسلامي وسط بين الروحانية وبين المادية، فلابد للبدن من حاجة ولابد للروح والقلب من حاجة، ولذلك رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون هذا الطلب. فهؤلاء القوم لما أتوا إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام وطلبوا منه ذلك الطلب أو سألوا عن عبادته فتقالوها، خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (ألستم القوم الذين قلتم: كيت وكيت. قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له). ومن الذي يشك أن أفضل الخلق على الإطلاق هو النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما حاز على هذه الأفضلية إلا بتقواه وطاعته لله عز وجل. (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله وأعلمكم بالله). وفي رواية البخاري، ومسلم: (أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله) أي: من جهة العلم والعمل، فهو من حيث العلم بالله فهو أعلم الخلق، ومن حيث التقوى هو أتقى الناس علماً وعملاً. قال: (ولكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وأنام وأصلي؛ فمن رغب عن سنتي) أي: زهداً فيها حباً في غيرها (فليس مني). أي: قد اتخذ سنة غير سنتي، واهتدى بهدي غير هدي، ولاشك أن هذا ضلال وانحراف. فلابد من التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على المراد الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله عز وجل، وليس على مراد أحد، وليس على مراد عالم من العلماء فضلاً عن عامي من عامة الناس، فلابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله، ومن التمسك بالسنة على مراد صاحبها عليه الصلاة والسلام، فلا يجتهد أحد اجتهاداً مخلاً بالآداب والأخلاق والسلوكيات التي أمرنا بها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث أيضاً ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.

النهي عن الخروج على ولي الأمر وشق عصا الطاعة

النهي عن الخروج على ولي الأمر وشق عصا الطاعة قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية)]. ولاشك أن هذا الحديث له قصة طويلة جداً، خاصة لمن قرأ كتاب إمام الحرمين الإمام الجويني، (غياث الأمم) فسيجد أن هذا الحديث في هذا الزمان له مشكلة عظيمة جداً. الحديث يقول: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة) أي جماعة هي؟ المقصود بها: جماعة المسلمين التي تقع تحت راية الخليفة والسلطان. والخليفة الشرعي أين هو؟ لابد من خلافة راشدة على منهاج النبوة حتى نقول: إن من خرج عن هذا فمات مات ميتة جاهلية. بعض الجماعات الموجودة على الساحة كل يدعي أن هذا الحديث يخصها، وأحياناً يعلنون ذلك، وأحياناً بطرف خفي على استحياء، وأحياناً يتبجحون به، ولا شك أن هذا التصريح تصريح خاطئ، فكل جماعة من الجماعات العاملة على الساحة ما هي إلا وحدة من وحدات المسلمين التي تهتم بجانب أو بجانبين أو بمسألة أو بمسألتين من المسائل التي أمر الله تعالى بها ورسوله، ومنهم من يخطئ ومنهم من يصيب، ومنهم من يطرأ إليه الخطأ ومنهم من يطرأ إليه الصواب، لكن هل هي الجماعة التي يجب على كل واحد منا أن يتبعها وإلا لو مات من غير بيعة لفلان أو علان مات ميتة جاهلية؟ A لا. أنت لا يلزمك قط أن تبايع، وإني أعتقد أن من بايع أي إمام أو أي عالم أو أي جماعة في هذا العصر من هذه الجماعات فإن بيعته بدعية وليست شرعية. لماذا؟ أولاً: البيعة لا تكون إلا للخليفة العام الذي اجتمع المسلمون عليه، متمثلاً في مجلس الحل والعقد الشرعي الذي حكم البلاد شرقاً وغرباً بأن يعينوا أميراً للمسلمين عامة كما حدث في سقيفة بني ساعدة في تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان هو الخليفة المعتمد والخليفة الشرعي الرسمي الذي بعد ذلك ولى الولاة، ونصب الأمراء، ثم أطلقهم في الأمصار والولايات، وكل واحد من هؤلاء تحت إمرته هو رضي الله عنه، فإن البيعة لا تكون إلا على هذا النحو. أما هذه البيعات فإنها كلها بيعات لا يقرها الله تعالى ولا يقرها الرسول ولا أحد من أهل العلم الذين لهم بصر نافذ وحافظة قوية، فإن الحديث من خرج من طاعة الخليفة أو طاعة الوالي والأمير والسلطان الذي ولاه وأمره وسلطه الخليفة الأعظم وهو خليفة المسلمين، فلو كان الأمر كذلك وحدث خروج على هذا الرجل فإن من مات على هذا النحو فميتته جاهلية، وأما من خالف ذلك فليس موته بجاهلية قط، فقوله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة) التي يترأسها الخليفة الشرعي كما قلنا فميتته جاهلية. قال: [قال: (ومن خرج على أمتي -وهي الجماعة أيضاً- يضرب برها وفاجرها -يقتل فيها البر والفاجر- لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني)]. أي: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، إذا رفع المؤمن لواء الإيمان والتوحيد قاتله لأجل إيمانه كرهاً في الإيمان وحباً في النفاق والكفر. فإنه لو كان كذلك لكان جاهلياً خارجاً عن ملة الإسلام. ثم يقول: [(ولا يفي لذي عهدها)]. انظر إلى عظمة الإيمان، فإن الله تبارك وتعالى يلزمنا أن نفي بالعهود حتى وإن كانت مع غير المسلمين، ولا يلزم الوفاء بالعهد إذا نكث وخان أصحاب العهد عهدهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد أمهل اليهود في المدينة وأقرهم في سكن المدينة على شروط: ألا يؤذوا مؤمناً وألا يخونوا وألا يغدروا وغير ذلك من الشروط. ولكنهم سرعان ما خانوا وتكشفوا على عورات نساء المؤمنين، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن أخرجهم وأجلاهم عنها؛ لأن الذي خان أولاً هم اليهود، فإنهم إذا خانوا العهد فلا عهد لهم، وهنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى مؤمنها -أي: لا يرقب فيه إلاً ولا ذمة- ولا يفي بعهدها فليس مني، ومن مات تحت راية عمية يغضب للعصبية أو يقاتل للعصبية فميتته جاهلية)]. ولذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (الرجل منا يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل) كيت وكيت وكيت وصاروا يعددون له أمور العصبية الجاهلية. قالوا: أي ذلك في سبيل الله يا رسول الله؟! فلم يذكر أن واحدة من هذه في سبيل الله، وإنما قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). هذه الوحيدة التي تجعلك على الجادة والاستقامة، أما إذا قاتلت لأجل أبيك أو لأجل أمك عصبية أو حمية جاهلية، أو قاتلت لأجل عشيرتك، أو لشيء غير مأذون فيه من جهة الشرع أو غير ذلك فإن هذا ليس أبداً من دين الله عز وجل، ومن مات في قتال على هذا النحو فميتته جاهلية. وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من جاء إلى أمتي وهم جميع -أي: وهم مجتمعون- يريد أن يفرق بينهم فاقتلوه كائناً من كان). يعني: إذا كان للمسلمين خليفة وإماماً يقتدى به محل رضا، وظهر خليفة آخر وطلب البيع

حكم قتل المسلم

حكم قتل المسلم السؤال الثاني: هل يجوز قتل المسلم؟ نعم. يجوز إذا أتى من الأعمال ما يستوجب قتله؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). فالأصل في دم المسلم أنه حرام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في البخاري: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه -يعني: في سعة من دينه- ما لم يصب دماً حراماً). أي: ما لم يقتل نفساً بغير حقها. وهذا يدل على أن المسلم إذا قتل نفساً بغير حقها ضاقت عليه الحلقة جداً، فلعله لا تقبل له توبة، ومذهب ابن عباس: أن من قتل مؤمناً متعمداً لا تقبل توبته قط. هذا قول الله تعالى، ولكن قد ورد في الحديث أن: (دم المسلم لا يحل إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة). فلو أن شخصاً خرج على الإمام بالشروط المذكورة آنفاً يقول: والله إمامتك هذه لا تعجبني وأنا خارج من طاعتك، ولن أتبعك. فلا شك أن هذا الرجل لو قال هذه الكلمة له أحكام عظيمة جداً، فإن كان كلامه هذا لا صدى له عند عامة الأمة ولا خطورة في ذلك على كلمة المسلمين؛ وجلس هذا الخارج في بيته؛ فإنه لا شيء عليه، ولكن لو مات على هذا النحو فميتته جاهلية. أما لو قال للإمام: والله أنا خارج عليك وما لي علاقة بك، وأنت إمامتك غير شرعية، وتبعه في ذلك أقوام وتحيزوا وتميزوا، وصاروا في مكان والأمة في مكان، وجب على الإمام أن يقاتلهم قتال من خرج عن الجماعة. وأنت إذا نظرت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتاله لمن خرج عليه لعرفت ذلك، فإنه لما تميزوا وصاروا في مكان وعلي في مكان قاتلهم؛ لأنهم خرجوا عن الإمرة الشرعية لـ علي بن أبي طالب، فوجب عليه قتالهم؛ فقاتلهم، وفي الوقت نفسه لما سئل عنهم: هل هم كفار؟ قال: لا. إنما هم من الكفر قد فروا، فقالوا له: فماذا هم إذاً؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم. فسماهم بغاة ولم يسميهم كفاراً، ومع هذا قاتلهم فقتل منهم وقتلوا منه، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات:9]. أي: هناك بغي وظلم وعدوان، ومع هذا لم يسلب المولى عز وجل عنها اسم الإيمان أو صفة الإيمان، فالطائفة قد تخرج على الإمام فتكون باغية مع إيمانها، ويجوز للإمام أن يقاتلهم وأن يريق دماءهم مع أنهم مؤمنون، فليس بلازم أن يقاتل الرجل لخروجه عن الملة، بل يقاتل وهو في داخل الملة إذا استوجب ذلك.

الأمر بلزوم الجماعة وبيان خطر الشذوذ عنها

الأمر بلزوم الجماعة وبيان خطر الشذوذ عنها قال: [عن أسامة بن شريك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم)]. وفي الحديث: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). يعني: البعيدة، والغنم مجتمعة عادة وراعيها معها لا يمكن للذئب أبداً أن يخترق هذا القطيع، أما إذا كانت الشاة شاردة شاذة وابتعدت عن أخواتها من الغنم فلابد أن يهجم عليها الذئب، فكذلك الرجل إذا كان مع الجماعة فإنه محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى لهذه الجماعة؛ لأن هذه الجماعة ما اجتمعت إلا اجتماعاً شرعياً حقيقياً على كتاب الله وعلى سنة رسوله؛ لأن معنى أهل السنة والجماعة: أنهم متمسكون بالأثر، وقد اجتمعوا على ذلك، فلا تطلق الجماعة إلا الجماعة الشرعية، على قوم اجتمعوا على كتاب الله وعلى سنة رسوله، والنبي عليه الصلاة والسلام قد وعد وعداً أكيداً أنه قد ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل أبداً: كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام. فإذا كان الأمر كذلك وتمسك المسلمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم واجتمعوا على ذلك فأنى للشيطان أن يخترق هذه الجماعة فضلاً عن غير الشيطان من شياطين الإنس؟ فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الجماعة). بعض الناس وللأسف الشديد في هذا الزمان من أهل السنة ومن الداعين إلى التمسك بالأثر زلت قدمه في هذا الحديث، وقال: اليد هنا بمعنى: القوة. وقال: أنا لا أستطيع أبداً في هذه الصفة على جهة الخصوص أن أعقل أن اليد يراد بها اليد، ثم ذكر نفس التأويل ونفس التفكير في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فقال: أنا لا أعتبر أبداً اليد هنا بمعنى اليد الحقيقية الثابتة لله عز وجل، وإنما اليد هنا بمعنى: القوة، فلما حدثناه في ذلك -لأنه إمام من أئمة السنة- قال: كيف لي بأن أفهم أن اليد هنا بمعنى اليد الثابتة لله عز وجل؟ وكيف تكون يد الله على الجماعة، وإذا كانت هي اليد الثابتة لله فكيف تكون يد الله فوق أيديهم؟ قال: إن ذلك يلزم منه المماسة ولله المثل الأعلى، فقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، يعني: هكذا. فوضع اليسرى على اليمنى أو العكس. قال: واللغة تخص بالفوقية أن تستلزم المماسة. قلت: لا. يد الله فوق أيديهم ويد الله على الجماعة لا تستلزم المماسة. ثم سألته أين السماء؟ قال: فوق. أين الأرض؟ قال: نحن عليها. قلت: ألست تقول: إن السماء فوق الأرض؟ قال: بلى. قلت: هل يلزم من ذلك أن تمس السماء الأرض؟ قال: لا. قلت: إذاً: هكذا. السماء فوق الأرض لا يلزم منها مماسة السماء للأرض. فكذلك يد الله تبارك وتعالى فوق أيدينا، وهذا يدل على علو المولى تبارك وتعالى وفوقيته، فعلى أية حال هو وعد أن ينظر في الأمر وأظن أن عنده الوقت الكافي؛ لأن هذا الأمر مر عليه عامان وزيادة. وقوله: (يد الله على الجماعة) هي إثبات ليد الله تبارك وتعالى الحقيقية، ولا ينفي ذلك: أن نفهم منها ما يلزم من ذلك وهو حفظ الله تبارك وتعالى لهذه الجماعة وعنايته بها ونصره وتأييده وغير ذلك، ومع ذلك لا ننفي المعنى الأصلي وهو أن يد الله تبارك وتعالى فوق الجماعة. قال: (فإذا شذ الشاذ) أي: فإذا انحرف عن هذه الجماعة وتركها ونحا نحواً غير نحوها وذهب مذهباً غير مذهبها اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم.

التحذير من اتباع سنن اليهود والنصارى

التحذير من اتباع سنن اليهود والنصارى وفي حديث عبد الله بن عمر وغيره: [(ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك)]. ولاشك أن بني إسرائيل كان فيهم ذلك، كان الرجل يأتي أمه ويأتي ابنته، وإن هذه الأمة قد ظهر فيها ذلك حقيقة، ففي هذه البلاد وغيرها من الناس من يأتي أمه ويأتي ابنته ويأتي جميع المحارم من باب أولى. إن الذي يجرؤ على أن يأتي أمه يجرؤ على أن يأتي عمته وخالته وبقية المحارم، فإن هذه الأمة قد تبعت بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: [(لتتبعن سنن من كان قبلكم -أي: هديهم- حذو القذة بالقذة، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟! قال: فمن؟)] يعني: إن لم أكن أعني وأقصد هؤلاء فمن أعني؟ يعني: أنتم تتبعون اليهود والنصارى في كل شيء في أخلاقهم وسلوكياتهم، بل وفي بعض عقائدهم. ولا شك أن هذا قد حدث في الأمة ووقع فيها أيضاً، أنا أقول: إن الأمة الآن على غير المنهاج الصحيح، وربما أنا أبالغ -لأنه لا نبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام- إن قلت: إن الأمة تحتاج إلى أنبياء يبعثون من جديد؛ حتى ترد إلى دينها الأصلي وإلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، إن الأمة الآن تحتاج في كل حي إلى عشرات ومئات من الدعاة في الوقت الذي تكمم فيه أفواه الدعاة، وكأن الأمة أريد بها أن تنسلخ من دينها انسلاخاً كلياً؛ فتكون كاليهود والنصارى، في الوقت الذي نرى فيه القساوسة والرهبان يمرحون ويلعبون ويسرحون ويقولون ما يشاءون، أليس هذا الوضع جدير بأن يقف كل منا وقفة مع نفسه ويتقي الله تبارك وتعالى ربه، ويرجع إلى دينه، ويرد نفسه إليه رداً جميلاً، ويدعو إلى الله تبارك وتعالى بالليل والنهار، وإذا كان صاحب درس أو صاحب خطبة لا يكتفي أبداً بهذا، فإن الكلام كثير، والوعظ منتشر في هذه الأيام، ولكنه لا يثمر ثمرته المستمرة، فإنه بعد أن يخرج الموعوظ من المسجد كأنه لم يسمع وعظاً ولم ينتفع به قط، وكأنه أراد أن يقول للواعظ: هذه بضاعتكم ردت إليكم، لا حاجة لنا فيها لا نحن منكم ولا أنتم منا. إن الأمة بينها وبين دعاتها هوة عظيمة؛ لأن الأمة قد رضيت بغير أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فكيف ترجع؟!

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة إلى فرق وأحزاب

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة إلى فرق وأحزاب قال: [(إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ويزيدون عليها ملة)]. وفي حديث آخر: (وأمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة. فقالوا: يا رسول الله! وما هي؟ قال: الذي أنا عليه وأصحابي). بعض الناس يتصور أن هذه الفرق كافرة، وأن هذه الفرق مخلدة في النار، وهذا فهم خاطئ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحكم عليها بالكفر والخروج من الملة، ولذلك أثبت في أول الحديث أن هذه الفرق من الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي). وقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار). فكيف تكون هذه الفرقة من الأمة وهي في النار؟ A صاحب المعصية وصاحب الكبيرة يدخل النار، ومع هذا لا يخلد فيها، وإنما إذا استحق جزاءه عذب في النار ثم خرج منها فدخل الجنة. ولا سبيل إلى ضبط نصوص الوعد والوعيد إلا على هذا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصام وصلى وزكى وحج وأمر بالمعروف ونهى عن منكر ليس كمن يشهد أن لا إله إلا الله ولكنه لا يعرف المعروف ولا يعرف المنكر فيقع في المنكر وينهى عن المعروف. بل من الفرق الإسلامية أو من الفرق التي انتمت وانتسبت إلى الإسلام فرق كثيرة جداً تفرعت عن الفرق الأصلية، ذكرها ابن الجوزي في كتاب (فرق الأمة)، وذكرها ابن تيمية في كتاب (الفتاوى) وغيرها من الكتب التي تكلمت عن الفرق، قال: ومن الفرق الإسلامية فرق تفرعت عن الفرق الرئيسية. هي ثلاث وسبعون، تفرقت عنها فرق خارجة عن ملة الإسلام لم تسلم قط، فهذه الفرق لا تعد من الفرق الإسلامية؛ لأن الفرق الإسلامية لم يحكم عليها النبي عليه الصلاة والسلام بالكفر، وإنما حكم عليها بالضلال والانحراف الذي استحق الوعيد، فكلها في النار، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: كلها في النار خالدة مخلدة فيها أبداً، وإنما قال: (كلها في النار إلا واحدة)، فلا يلزم من دخول المرء النار الخلود فيها أبداً، وإنما دخول النار والخلود فيها بمعنى: المكث الطويل لا الأبدية. ولذلك أنت لو راجعت نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة المطهرة لوجدت أن لفظ: (خالداً مخلداً فيها أبداً) لم يرد إلا في حق الكفار الأصليين، أما المسلم المنحرف العاصي الذي أتى الكبائر وانحرف عن المنهج فلا تجد إلا خالداً مخلداً، ومعنى (خالد) أي: ماكث مكثاً طويلاً، لكنه في نهاية الأمر لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة؛ لأنه قال في يوم: لا إله إلا الله. ولابد من هذا التأويل حتى تستقيم النصوص ولا يحصل فيها تعارض ولا تناقض. قال: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. فقيل: يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ -ما هذه الفرقة؟ - فقبض يده وقال: الجماعة. فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)]. قال: [عن عوف بن مالك قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار)] يعني: واحدة في الجنة: وهم الذين تبعوا موسى عليه السلام وعملوا بشرعه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته قبل مجيء عيسى عليه الصلاة والسلام. قال: [(وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون في النار، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة)]. قال: [عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية فلما قدمنا مكة صلينا صلاة الظهر في مكة، قام فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق ثلاثاً وسبعين ملة -يعني: الأهواء والنحل- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)]، ثم قال: [(إنه سيخرج في أمتي قوم يتجارى بهم كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)]. قوله: (وإن هذه الأمة يتجارى بها) أي: يتمادى بها كما يتمادى الكلب بصاحبه، والكلِب بكسر اللام: داء يصيب الكلب، نقول: هذا الكلب مسعور. أو نقول: هذا الكلب غير مسعور. يعني: كلب طبيعي يألف ويؤلف. وهناك كلب لا يستطيع حتى صاحبه أن يقترب منه؛ لأن كل من اقترب منه عضه. ومعنى (الكلب المسعور): أنه أصيب بداء في بدنه هذا الداء يسمى الكِلب؛ ولذلك من الأخطاء الشائعة أن يقال: مستشفى الكلب، يعني: يستشفى فيها من عض الكلاب. والصحيح: مستشفى الكلِب. أي: المستشفى الذي يعالج به مرض الكلِب، وليس مستشفى الكلْب. فالكلِب داء يصيب الكلب، هذا الداء إذا أصاب الكلب في أي مكان يسري في بدنه سريان الشيطا

بيان أن الأمة لا تجتمع على ضلالة والحث على ملازمة السواد الأعظم

بيان أن الأمة لا تجتمع على ضلالة والحث على ملازمة السواد الأعظم قال: [قال أنس بن مالك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي لا تجتمع على الضلالة)]، والأمة هنا المقصود بها: الجماعة. قال: [(فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم)]. هذا الحديث قد صح من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً. قال: يد الله على الجماعة، واتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار).

بيان استمرار طائفة من الأمة على الحق

بيان استمرار طائفة من الأمة على الحق نحن نسمع كثيراً من الشباب يقول: أين الحق؟ نحن لا ندري من نتبع، ولا نعرف الحق أين هو. فنقول: هذا لتفريطك أنت وتقصيرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). انظروا إلى هذا الحديث العظيم جداً. قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (لا تزال) فاللفظ مضارع يفيد الاستمرار في الحاضر والمستقبل؛ ولذلك من أعظم سمات أهل السنة والجماعة أنها أصيلة وحاضرة ومستمرة. أي: أنهم أصحاب جذور أصيلة، وفي كل واقع هم السواد الأعظم، كما أن الله قد ضمن لهم البقاء إلى قيام الساعة. وجماعة أهل السنة جماعة صاحبة أصول ثابتة، وكم جماعات لم تدم إلا سنوات، فقد تسأل عن جماعة: متى أنشئت؟ فيقال لك: قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة، ثم ما تلبث هذه الجماعة حتى تنتهي، وهذا يدل على أنها كانت خاوية وخربة، ولا قيمة لمنهجها؛ لأن قيمة المنهج أن يبدأ قبل الهجرة النبوية، فهذا منهج جذوره ثابتة نزلت من السماء، لم تكن هذه الجذور استنتاجاً عقلياً لواحد من أصحاب القرن الماضي. إذاً: منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الأصيل الذي أرسى قواعده النبي صلى الله عليه وسلم، وأي منهج بعده لا عبرة له ولا قيمة. إن هذا المنهج الرباني في كل عصر وزمن ومصر له رجال، وهو السواد الأعظم، ولابد أن يكون كذلك، ومن قال بغير ذلك فقد اعتقد بغير ما أمره النبي عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم على ذلك). و (ذلك) اسم إشارة للظهور. يعني: هم ظاهرون في كل عصر ومصر على نفس النهج الأول الذي أرسى قواعده النبي عليه الصلاة والسلام حتى قيام الساعة. أعطوني منهجاً من المناهج الموجودة الآن أو قبل الآن ستستمر في الأيام المقبلة، ويشهد لها واحد من أهل السنة والجماعة. من خلال ذلك نعلم أن كل هذه المناهج هي نتائج عقلية واجتهادات، منها المقبول ومنها المردود، لكن المقبول الذي يجب قبوله ويحرم رده هو المنهج الأول الذي أسسه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً -فالأمة المقصود بها: الجماعة- فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم).

تجديد دين أمة محمد على رأس كل مائة عام وتكليف هذه الأمة بالدعوة إلى الله

تجديد دين أمة محمد على رأس كل مائة عام وتكليف هذه الأمة بالدعوة إلى الله إن أبا الحسن الأشعري عليه رحمة الله لما تاب من أشعريته ورجع عنها وصعد المنبر قال: إني أختلع من معتقدي كما يختلع هذا السيف من غمده وأنا على مذهب أحمد بن حنبل. فلماذا لم يقل: على مذهب النبي صلى الله عليه وسلم؟ A لأن مذهب أحمد بن حنبل كان أظهر المذاهب في ذلك الوقت، ومذهب أحمد بن حنبل من الألف إلى الياء مستقى من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما وقعت الفتنة العظيمة لـ أحمد بن حنبل وثبته الله فيها كتب الله له الظهور والذيوع والنصر والتأييد، فقال كل من يريد أن يظهر دينه وعقيدته: أنا مع أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، فهنا الأمة لا تجتمع على ضلالة قط في العقيدة، إذ لابد أن تكون الحجة ظاهرة لله عز وجل، فخفاء حجة الله تبارك وتعالى في وقت أو في بلد من البلدان مشكلة كبيرة، وبلية عظيمة جداً، ومصادم لجميع النصوص. فلابد أن تعتقد أن حجة الله تبارك وتعالى ظاهرة، وما من وقت وما من مكان إلا ويسخر المولى عز وجل عبداً من عباده لإظهار السنة وإحياء الدين ولو على رأس كل مائة عام، فهذا وعد من النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) فالأمة لن تستمر في الضلالة، ولن تبقى في الجهل يغيب عنها الدين ويغيب عنها العقيدة والسلوك والأخلاق ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام. فعلى رأس كل مائة عام يبعث الله تبارك وتعالى رجلاً يحيي هذا الدين بجميع أوصافه وأركانه وشمائله ومناقبه في قلوب العامة والخاصة، فإذا كادت الأمة تنسى بعث الله تبارك وتعالى على رأس كل مائة عام من يذكرها ومن يعيدها، بالإضافة إلى أن الله تبارك وتعالى كلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على خلاف الأمم السابقة، فكان كل نبي يبعث لقومه خاصة ولا يكلف واحداً من أمته بالدعوة إلى دينه وشريعته، لكن ذلك واجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى كلفنا بأن نحمل دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام حملاً صحيحاً، فقال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. يعني: أنت أيضاً مخرج للناس مبعوث، ومهمتك مثل مهمة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وليس هناك أي أمة سبقت في هذا سواء يهودية أو نصرانية، ولم يكلف واحد من أمة من الأمم السابقة بأن يدعو بدعوة نبيها، وأما نحن فإننا مكلفون جميعاً بأن ندعو الناس إلى الله تبارك وتعالى، وأن نخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والعماية والجهالة والعصبية وغير ذلك إلى الله تبارك وتعالى إلى النور، لكن لابد أن يكون ذلك بعلم، أما بغير علم فلا فإن من دعا بغير علم كان ضرره أكثر من نفعه، وكان فساده أكثر من صلاحه، ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى على لسان نبيه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] على علم وعلى فقه وورع وعمل بما تعلمت.

حرص الصحابة رضي الله عنهم على التمسك بالجماعة ونبذ الفرقة والاختلاف

حرص الصحابة رضي الله عنهم على التمسك بالجماعة ونبذ الفرقة والاختلاف

وصية عبد الله بن مسعود للناس بالطاعة والجماعة

وصية عبد الله بن مسعود للناس بالطاعة والجماعة قال: [قال ابن مسعود رضي الله عنه وهو يخطب: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة -أي: تمسكوا بالطاعة وتمسكوا بالجماعة- فإنهما السبيل الأصيل إلى حبل الله الذي أمر به، وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة، وأن ما تكرهون في اجتماعكم أحب إلى الله تعالى من تفرقكم]. هؤلاء أناس رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يفهمون الأمر كله؛ ولذلك نحن نتعبد بهذا الكلام الله تبارك وتعالى إلى أن نموت، فهذا دين رغم أنه من كلام عبد الله بن مسعود. يقول: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة. يحث على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله. ثم يقول: وعليكم بالجماعة -أي: تمسكوا بها. قال: فإنهما السبيل- يعني: هما الطريق وكل طريق غير هذا فإنه ليس بطريق- فإنهما السبيل الأصيل إلى حبل الله الذي أمر به. قال: وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة. يعني: أحياناً الواحد مع إخوانه الدعاة يخالفهم في الرأي، فإذا كان هذا الاختلاف عن دليل واضح ظاهر فلا ينبغي مخالفته، فإنه على الحق المبين، والآخرين على غير ذلك؛ لأنه معه الدليل، أما إذا كان الاختلاف في الاجتهاد والفهم فيكون الحق مع الجماعة. وأنتم تعلمون أن قصر الصلاة في منى وفي مكة في موسم الحج مسنون لكل من كان حاجاً سواء كان من أهل مكة أو من غيرها، ولا تزال الأمة سلفاً وخلفاً يقصرون الصلاة في موسم الحج، ولما جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أتم الصلاة في منى وخالفه عبد الله بن مسعود، وكان عبد الله بن مسعود في ذلك الوقت إمام الكوفة، فأتى حاجاً في زمن عثمان، فصلى خلفه في مسجد الخيف الظهر أربعاً والعصر أربعاً، فلما استفتي في ذلك: يا أبا عبد الرحمن. أليس من السنة أن نصلي قصراً؟ قال: بلى. السنة أنك تصلي قصراً. فقيل له: فلم صليت خلف عثمان أربعاً؟ قال: الاختلاف شر. فلو كنت أنا مكان عبد الله بن مسعود سأقف في زاوية من زوايا مسجد الخيف وأحضر كرسياً وأجلس عليه وأقول: أيها الناس! هلموا إلي أنتم تعملون أن الأمر كيت وكيت وكيت، والنبي صلى الله عليه وسلم قصر، وأبو بكر قصر، وعمر قصر، وإن الرجل الذي قصرتم وراءه مبتدع، وأرجو ألا يصلي أحد خلفه! فلو كان عبد الله بن مسعود عمل ذلك، فإنها ستكون فتنة عظيمة جداً في موسم الحج، وربما انشغل الناس بها وتركوا الفريضة. فانظروا إلى حكمة ابن مسعود رضي الله عنه. إن عبد الله بن مسعود ترك النصوص الصريحة الصحيحة وتابع عثمان بن عفان؛ وذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن أعظم أغراض الشريعة أنها أتت للحفاظ على المال والحفاظ على العرض والحفاظ على البدن، فلو أننا لم نأخذ برأي عثمان بن عفان في هذا الظرف فإنه سيحصل إهلاك وإفساد لكل ما أتت به الشريعة من المال والعيال والدماء والأرواح. وبينما كان ابن مسعود في المدينة مع عثمان بن عفان؛ رجع عثمان إلى رأيه وسارت الأمور على ما يرام. إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام سن لنا أربع ركعات أو سن لنا ركعتين فما المشكلة في ذلك؟ خاصة أن مذهب جماهير أهل العلم أن قصر الصلاة ليس بواجب بل هو مسنون إلا ما كان من أبي حنيفة فإنه قال: القصر واجب، فلما نأخذ بمذهب الجمهور فإنه والله العصمة والنجاة، فوالله ما رأينا في مذهب الجمهور قط إلا العصمة حتى في الفروع، والحمد لله تبارك وتعالى. جميع أئمة الدين مجمعون على العقيدة إلا ما كان من البعض في بعض مسائل الخلاف، وهي مسائل معلومة معدودة نتعرض لها بإذن الله تبارك وتعالى، والخلاف فيها لا يبدع به المخالف. مثال ذلك: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لله عز وجل في ليلة الإسراء والمعراج، فالسلف أنفسهم اختلفوا فيها، فمنهم من قال: رأى محمد ربه، ومنهم من قال: إنه رأى نوره سبحانه وتعالى. فلو قلت: إن محمداً رأى ربه، أو قلت: إنه لم ير ربه فإن لك فيها سلفاً من الصحابة رضي الله عنهم كـ ابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فلو اعتقدت أنه قد رآه أو اعتقدت أنه لم يره فإنك لا تبدع بذلك. إذاً: المسألة التي اختلف فيها أهل العلم لا يبدع فيها المخالف، ولكن تنجو يا أخي المسلم! باتباع السواد الأعظم، باتباع جماهير علماء الأمة في الاعتقاد وفي الفروع؛ فإن اتباعهم عصمة ونجاة.

وصية حذيفة وأبي مسعود البدري بلزوم الجماعة

وصية حذيفة وأبي مسعود البدري بلزوم الجماعة قال: [عن سعد بن حذيفة قال: سمعت أبا عبد الله -أباه حذيفة بن اليمان - يقول: والله ما فارق رجل الجماعة شبراً وكان يشير بإصبعيه عند فخذه إلا فارق الجماعة]. أي: إلا فارق الأمة وخالفها. قال: [قال المسيب بن رافع: سمعت أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فقلنا: اعهد إلينا. فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ -أي: لعلك تموت في هذه الواقعة- فقال: اتقوا الله واصبروا]. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120]. فهذا هو السلاح الذي يقهر العدو. إن أعظم ما يريح العدو أن ترد عليه، وإن أكثر ما يجعله يستشيط غضباً وحنقاً وبغضاً ألا ترد عليه، فأعظم إهانة لعدوك ألا ترد عليه، وهو من الصبر الذي تعبد به الله تبارك وتعالى. [قالوا: اعهد إلينا! فإن الناس قد وقعوا في الفتنة، فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ فقال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر]. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) حتى الأرض التي يمشي عليها تستريح منه. إن الناس لما يتعرضون للفتنة من الفتن لا يصبرون، فتراهم يشكون وكأنهم يتسخطون على الله عز وجل وعلى أقداره، ويتمنون أن لو يتمكنون فينتقمون ممن أساء إليهم، ألا تعلم يا عبد الله! أن ما عند الله خير وأبقى، وأن عذاب الله تبارك وتعالى أعظم من عذابك؟ فسلط لسانك في الثلث الأخير من الليل، اجعل بينك وبين عدوك الثلث الأخير من الليل، وكِّل ربك في هذه الحرب الضروس أن ينتقم لأهل الإيمان ولأهل التوحيد، أما أن تجعل الانتقام إليك أنت فإنك قد أوكلت الأمر إلى نفسك، وأنت ضعيف وهزيل لا تملك نفعاً ولا ضراً. قال: [(اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة)]. إن العبد ينسلخ من دينه واحدة بواحدة ويظن أن الذي ينسلخ منه هو شيء يسير -وقد يكون كذلك في أول الأمر- ولكن مآله إلى أن ينسلخ من أصل اعتقاده، فتراه يتعرض لضرر أو لمكروه فيبدأ يحلق لحيته، فيجره حلق اللحية إلى معاص كثيرة، ثم يبدأ ينسلخ من الجماعة، وربما -قبل هذا- ينتقل من مسجد السنة إلى مسجد البدعة؛ فيفقد طعم الصلاة وحلاوتها ومذاقها ويفقد فيها الخشوع، ثم يشعر بالضجر والضيق ويقول: صلاتي في بيتي خير من صلاتي في هذا المكان، فيصلي في بيته عند كل أذان، ثم يبدأ يتأخر قليلاً قليلاً حتى يصلي الظهر مع العصر، والعصر مع المغرب، ثم ينام عن الفرض فيصلي الفرضين والثلاثة فروض والأربعة فروض بعد نومه واحدة تلو واحدة، ثم يترك السنن، ثم يترك قيام الليل، وهكذا يبدأ ينسلخ واحدة فواحدة؛ لأنه سلم زمام أمره إلى الشيطان من أول الأمر، فإنه لا يدل على خير وإنما يدل على كل شر. ولكن الأفضل لو اتقى الله وصبر ووضع يده في يد إخوانه فإن الله تبارك وتعالى يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن رأى من المرء صدقاً وإخلاصاً وصبراً ثبته وأيده، وإن رأى منه إعراضاً أوكله إلى نفسه، ومن أوكل إلى نفسه هلك. قال: [قال أبو وائل: عن أبي مسعود البدري قال: خرج معه أصحابه يشيعونه حتى بلغ القادسية، فلما ذهبوا يفارقونه قالوا: رحمك الله! إنك قد رأيت خيراً وشهدت خيراً -يعني: أنت أدركت الخير كله مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام الكبار- حدثنا بحديث عسى الله أن ينفعنا به. قال: أجل]. يعني: سأحدثكم وأنتم قد طلبتم مطلباً عظيماً. [قال: رأيت خيراً وشهدت خيراً، وقد خشيت أن أكون أخرت لهذا الزمان لشر يراد بي، فاتقوا الله وعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر]. قال: [قال حذيفة عند الموت: رب أيام أتاني فيها الموت وأنا كاره له، فأما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري على ما أنا منها. قال: وأوصى أبا مسعود فقال: عليك بما تعرف ولا تتلون في دين الله عز وجل]. أي: لا تتقلب كل يوم تكون في مكان، كل يوم تكون في معصية؛ لأن من شأن الطاعة أنها تسلم إلى طاعة أخرى، ومن شأن المعصية أنها تفضي إلى معصية أخرى، وكلما تفرط في شيء صغير يجرك هذا التفريط إلى شيء آخر، فإذا كنت في صلاة سلمتك هذه الصلاة إلى صيام، والصيام إلى زكاة، والزكاة إلى أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف إلى العمل به، والعمل به إلى النهي عن المنكر، والنهي إلى الانتهاء عنه، فأنت في صراع مع نفسك، فكلما كنت في طاعة فكرت في غيرها فأسلمتك إليها، وإذا كنت في معصية أسلمتك إلى ما بعدها، فكما

ذكر بعض صفات الطائفة المنصورة

ذكر بعض صفات الطائفة المنصورة قال: [عن عمير بن هانىء: أن معاوية بن أبي سفيان خطبهم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال من أمتي أمة قائمة)]. و (من) تفيد التبعيض. يعني: لا يزال بعض هذه الأمة. (قائمة بأمر الله، لا يضرهم خلاف من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله فهم على ذلك). وإذا كنت على حق فلا بد أن يكون في اعتقادك أن المخالف لك لا يضرك ولا يؤثر فيك، فكونك تعتقد أن الحق معك ولكن هذا الحق متأثر بالمناوئين والمخالفين فهذه بلية عظيمة، إذ إن الله تبارك وتعالى جعل لك ألف سبيل لتبليغ دينه. إن الدعوة إلى الله لا تكون في المسجد فقط، فمن الممكن أن هذه الدروس التي تلقى أمام المئات لا يستفيد واحد بكلمة منها، ومن الممكن بحديث واحد لرجل في بيته ينتفع به انتفاعاً عظيماً، وهناك من يأتي إلى المسجد مائة عام ولا ينفعه هذا المسجد. أي: لا يتعلم منه، فإن الدعوة الفردية أحياناً تكون أبلغ وأكثر تأثيراً وأعمق في قلب المدعو من الدعوة الجماعية، وشخص منا يكون جالساً في وسط الناس أول شيء يضعه في ذهنه أن هذا الرجل الذي يتكلم يكلم هؤلاء الناس، وينسى أنه يكلمه هو، لكن لما أكون أنا وأنت في بيت ما يصير الكلام مباشراً لك أنت، وأنا لا أعني به أحداً غيرك؛ والله تبارك وتعالى ينفع بالدعوة في كل زمان ومكان، في الشارع في المقاهي في الأسواق في الخمارات والحانات، ينفع الله تبارك وتعالى بها أقواماً. قال: [قال المغيرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال ناس من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) هذا الحديث عن البخاري ومسلم]. وكذلك ورد من حديث عمران بن الحصين: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال). وفي حديث يزيد: (ظاهرين على من ناوأهم). يعني: من حاربهم وخالفهم، (حتى يأتي أمر الله وينزل عيسى بن مريم). يعني: هذه الجماعة جماعة مباركة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال: [عن سعد بن أبي وقاص قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الدين عزيزة إلى يوم القيامة)]. وهذه زيادة تدل على أن أهل السنة هم الذين في عزة؛ لأنهم قد استمدوا عزتهم من العزيز تبارك وتعالى. فبتمسكك بالكتاب والسنة تستمد عزتك من عزة العزيز تبارك وتعالى، وغيرك الذي ناوأك وخالفك لا عزة له، فإنه ذليل وإن كان في الظاهر أنه عزيز، فهو في الحقيقة من أذل القوم وأحقرهم، ولا خلاق له ولا نصيب لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه لا عزيز له يستمد منه العزة، وأما أنت فإنك تستمد عزتك من عزة الله، وقوتك من قوة الله، ونصرك بتأييد الله، أما هو فإنه لا ناصر له ولا مؤيد له ولا عز له. قال: [عن معاوية بن قرة قال: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال ناس من أمتي منصورين)] وهذه أيضاً إحدى السمات أنهم المنصورون حتى وإن كانوا يداسون بالأقدام والنعال، حتى وإن كانت بيوتهم اصطبلات، فهم المنصورون وهم الأعزة. قال: [(لا يزال ناس من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)]. وجابر بن عبد الله يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) هذا الحديث ثبت من غير طريق جاء في رواية أبي هريرة وغيره (فطوبى للغرباء) قيل: هي شجرة في الجنة عظيمة لا يأكل منها إلا الغرباء. وهذا الحديث له فقه طويل وقصة عظيمة جداً ينبغي طرحها في محاضرة خاصة ولعل ذلك يكون في درس الجمعة القادم بإذن الله تبارك وتعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

بيان أن المعاصي والكبائر لا تخرج أصحابها عن اعتقاد أهل السنة

بيان أن المعاصي والكبائر لا تخرج أصحابها عن اعتقاد أهل السنة Q يسأل البعض عن العصاة من أهل الفسق والفجور، هل هم من عصاة أهل السنة؛ لأنهم لا يختلفون معهم في العقيدة، أم هم خارجون عن هذه الفرقة؟ A إن أصحاب الكبائر إذا لم يخالفوا أهل السنة في أصول معتقدهم فإنهم من أهل السنة مع ارتكابهم لهذه الكبائر والمعاصي؛ لأن الكبائر لا تخرج الرجل عن حد اعتقاده إلا إذا صرح بأنه يعتقد بغير معتقد أهل السنة والجماعة. فلو أن رجلاً من أهل السنة والجماعة وقع في كبيرة من الكبائر هل يخرج من الفرقة الناجية؟ A لا. فالنبي عليه الصلاة والسلام أقام الحد على أناس قد زنوا وسرقوا ومع هذا لم يحكم عليهم بأنهم قد خرجوا من هذه الفرقة، بل صلى عليهم لما ماتوا ودفنهم ودعا لهم، وقال عن ماعز الأسلمي: (إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة) مع أنه زان. وقال عن الغامدية: (قد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم) أو (لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه). فإن أصحاب الكبائر لا يكفرون بها ولا يخرجون بكبائرهم عن معتقد أهل السنة والجماعة.

حكم صلاة الجمعة على المسافر

حكم صلاة الجمعة على المسافر Q ما الدليل على أن المسافر ليس عليه جمعة؟ A يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسافر جمعة).

حكم الغسل على المرأة إذا أرادت أن تصلي الجمعة

حكم الغسل على المرأة إذا أرادت أن تصلي الجمعة Q هل يسن للمرأة الغسل إذا ذهبت إلى الجمعة؟ A نعم. يسن للمرأة إذا ذهبت إلى الجمعة أن تغتسل إلا ما كان من ابن حزم رحمه الله تعالى، إذ إنه حمل أحاديث غسل الجمعة على من أدرك اليوم لا من أدرك الصلاة، وقد انفرد الإمام بهذا الفهم دون بقية فهم الأمة، فقهاء الملة قالوا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) يعني: على كل من بلغ سن الحلم. قالوا: هذا الغسل يسن في حق من وجبت في حقه صلاة الجمعة وأتى إلى المسجد. ابن حزم قال: الحديث لا يقصد به إتيان المسجد والصلاة، ولكن كل من أتى عليه يوم الجمعة وهو حي وجب في حقه الغسل؛ لأن الغسل عنده واجب وليس مسنوناً، ولاشك أنه قد خالف في ذلك جماهير العلماء: أن المقصود بالغسل: إتيان الصلاة، وأنه مسنون وليس واجباً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن لم يغتسل فلا حرج عليه)، وفي رواية: (ومن لم يغتسل فيجزئه الوضوء) يعني: يكفيه الوضوء.

حكم أخذ مصحف موقوف على المسجد إلى البيت للقراءة فيه

حكم أخذ مصحف موقوف على المسجد إلى البيت للقراءة فيه Q هل يجوز لي أن آخذ مصحفاً من المسجد وهو وقف لله تعالى إلى البيت لأقرأ فيه؟ A لا يجوز؛ لأن الوقف على شرط الواقف، فتصور لو أن كل واحد أجاز لنفسه أن يأخذ مصحفاً من المسجد إلى البيت ليقرأ فيه لما بقي في المسجد مصحف واحد، ولما وجد الذي يدخل المسجد مصحفاً يقرأ فيه؛ فلا يجوز صرف الوقف لغير الباب الذي أوقفه عليه صاحبه إلا بشرطين: الشرط الأول: إذن الواقف الأصلي. والشرط الثاني: إذا استغني عن هذا الوقف تحت أي ظرف من ظروف الاستغناء. مثال ذلك: مسجد كل ما فيه موقوف عليه: إذاعة وفرش وكتب ومصاحف وغيرها، لكن المسجد هذا نحن نريد أن نهدمه، فالأشياء الموقوفة عليه لا يحق لنا أن نبيعها ونضع نقودها في جيوبنا؛ لأنها ليست من حقنا؛ لأن هذا المال وقف لله عز وجل. إذاً: ينتقل إلى مسجد آخر، فإنه ليس هناك مانع عند الواقف أن ينتقل هذا الشيء إلى مسجد آخر، إذ إن هذا الشيء الموقوف على هذا المسجد لا حاجة للمسجد فيه في الوقت الذي يحتاج إليه المسجد المجاور، فيجوز نقله إليه.

الحكم على بعض الأحاديث المشهورة عند الناس

الحكم على بعض الأحاديث المشهورة عند الناس حديث: (سلمان منا أهل البيت) موقوف على علي بن أبي طالب، ضعيف مرفوع. وحديث: (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه)، هو كلام الناس وليس حديثاً. وحديث: (ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، حديث صحيح. وحديث (أن النبي عليه الصلاة والسلام ألقى عباءته على فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم وقال: هؤلاء هم أهل بيتي) حديث صحيح. والأمر يحتاج إلى ضبط وليس هذا وقته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ذم الفرقة والاختلاف

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ذم الفرقة والاختلاف لقد حرصت الشريعة الإسلامية من أول أيام التشريع على الوحدة والأخوة، ونبذ التفرق والاختلاف، ولهذا فقد نفرت من التفرق، وأخبرت أنه سبب الفشل والضعف والهوان.

باب ذكر افتراق الأمم في دينهم

باب ذكر افتراق الأمم في دينهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ذكرنا في الدرس الماضي ما يدل على افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة من كتاب الله عز وجل، ثم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وآثار الصحابة، ووقفنا على قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة كلها في الهاوية -أي: في النار- وواحدة في الجنة.

أثر علي رضي الله عنه في تفرق الأمة وأن شرها الداعية إليه

أثر علي رضي الله عنه في تفرق الأمة وأن شرها الداعية إليه وفي رواية عنه عن عبد الله بن قيس قال: [اجتمع عند علي رضي الله عنه جاثليتو النصارى ورأس الجالوت، فقال الرأس: أتجادلون؟ -أي: هل أنتم مستعدون للمجادلة؟ - على كم افترقت اليهود؟ قال: على إحدى وسبعين فرقة. فقال علي رضي الله عنه: لتفترقن هذه الأمة على مثل ذلك، وأضلها فرقة وشرها الداعية إلينا]. وهذه شهادة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبين أن شر الفرق الشيعة. قال: شرها الداعية إلينا أهل البيت، وآية ذلك -أي: وعلامة شرهم وأنهم أسوأ الخلق وأضلهم- أنهم يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذه غصة في حلوق الشيعة عليهم من الله ما يستحقون، والشيعة يحملون هذه النصوص التي يثني فيها علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر وعثمان على التقية، حتى حملوا نكاح عمر رضي الله عنه من ابنة علي رضي الله عنه على التقية كذلك، والتقية باختصار شديد هي الكذب؛ لأن الشيعة اعتقدت الكذب ديناً لها، بخلاف الخوارج فقد كانوا يكفرون بالمعصية؛ ولذلك احتمل النقاد رواية علماء الخوارج؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يكذبون؛ لأن من كذب عندهم فقد ارتكب كبيرة وأصبح كافراً عندهم. فالتقية هي: الكذب والحيلة والخداع والغش والتزوير والتمويه، وهذا هو دين الشيعة، فقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقدم أبا بكر وعمر على نفسه، بل ويقدم عثمان رضي الله عنهم أجمعين على نفسه. وقال: من أتاني قد سب أبا بكر وعمر أقمت عليه حد المفتري، أو: من أتاني قد سب أبا بكر وعمر جلدته حد المفتري. وهذه النصوص يقول عنها الشيعة: إن علياً ما قال ذلك إلا تقية، أي: مداراة ومماراة حتى يفلت من عقاب الطرف الآخر ومن عقاب الخصوم، يعني: يقولون: إن علياً قال ذلك نفاقاً، وهذا النفاق محمود وممدوح عندهم، وهو الخروج من الموقف بلباقة إذا أردنا أن نعبر بأسلوب العصر. وعلي رضي الله عنه كان أفضل وأجل من ذلك بكثير، فقد كان رضي الله عنه يعلم قدر أبي بكر وعمر وعثمان وأنه بعدهم، ولذلك لما قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أي الصحابة أفضل؟ قال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، قيل له: ثم من؟ قال: لا أدري، قيل له: ثم علي؟ فتبسم وقال: وما علي إلا رجل من المسلمين. وهذا أدب عظيم جداً من علي بن أبي طالب. ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الأفضلية في الخلفاء الراشدين على نسقهم وترتيبهم في الخلافة، فـ أبو بكر رضي الله عنه هو أول الخلفاء الراشدين خلافة وفضلاً، ثم من بعده عمر، ثم من بعده عثمان، ثم من بعده علي رضي الله عنه، هذا معتقدنا في الخلفاء الراشدين من جهة الفضل والخلافة. قال ابن بطة: [فقد ذكرت من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من تفرق هذه الأمة ومضاهاتها في تفرقها اليهود والنصارى -يعني: أن هذه الأمة في تفرقها تشابه ما وقع من التفرق والاختلاف في أمة اليهود والنصارى- والأمم السالفة ما في بعضه كفاية لأهل الحق والرعاية]، يعني: أن الذي ذكرته يكفي في قيام الحجة وثبات المحجة لأهل الحق والرعاية. قال: [فإن قال قائل: قد صح عندنا من كتاب ربنا ومن قول نبينا صلى الله عليه وسلم: إن الأمم الماضية من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا وكفر بعضهم بعضاً، ومثل ذلك قد حل بهذه الأمة حتى قد كثرت فيهم الأهواء -يعني: البدع- وأصحاب الآراء والمذاهب، وكل ذلك قد رأيناه وشاهدناه، فنريد أن نعرف هذه الفرقة المذمومة لنجتنبها، ونسأل مولانا الكريم أن يعصمنا منها، ويعيذنا مما حل بأهلها الذين استهوتهم الشياطين، فأصبحوا حيارى عن طريق الحق صادفين. [قلت: فاعلم -رحمك الله- أن لهذه الفرق والمذاهب كلها أصولاً أربعة]، يعني: أنه يجيب على السؤال ويبين هذه الفرق الضالة؛ حتى نحذرها ولا نقع في براثينها، ويقول: لن أعرف لك كل فرقة بفروعها وأصولها، وإنما أذكر لك أصول البدع، وأن هذه البدع الأصلية تتفرع وتتشعب، فأينما وقفت على بدعة أصلية أو فرعية فاحذرها. قال: [فاعلم رحمك الله أن لهذه الفرق -أي: الثنتين والسبعين فرقة والمذاهب كلها- أصولاً أربعة، فكلها عن الحق حائدة، والإسلام وأهله معاندة، وعن أربعة أصول يتفرقون، ومنها يتشعبون، وإليها يرجعون، ثم تتشعب بهم الطرق، فتأخذهم الأهواء وقبيح الآراء حتى يكونوا في التفرق إلى ما لا يحصى].

أصول البدع

أصول البدع قال: [فأما الأربعة الأصول التي بها يعرفون وإليها يرجعون فهو ما حدثنا المسيب بن واضح قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: أصل البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة]. هذه هي أصول البدع، ثم كل فرقة من هذه الفرق تشعبت إلى عشرين فرقة أو أقل أو أكثر، حتى أصبح في نهاية الأمر مجموع هذه الأصول والفروع اثنين وسبعين. وهذا العدد ليس متفقاً عليه، فمنهم من يجعل أصل الفرق أربع فرق، وهم جماهير السلف، وربما يكون اختلاف العد نظراً لاختلاف العصر، فهذه الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن تفرقها عن أمة الإسلام إنما أخبر بها في زمن النبوة، ولم تكن في زمن النبوة مفترقة، ولكن ظهرت أصول بعض البدع في زمن النبوة، ثم ازدادت هذه الأصول بعد ذلك، ثم في كل قرن تزداد ظهوراً ووضوحاً وتفرقاً، فربما يكون سبب اختلاف العد في الأصول والفروع هو بسبب اختلاف الظهور من عدمه في كل عصر من العصور. قال: [ثم تتشعب كل فرقة ثمانية عشرة طائفة، فتلك اثنتان وسبعون فرقة، والثالث والسبعون هم الجماعة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها الناجية]. قال: [قال المسيب: أتيت يوسف بن أسباط فسلمت عليه وانتسبت إليه -يعني: قلت له: أنا قريب منك- وقلت له: يا أبا محمد! إنك بقية أسلاف العلم الماضين -يعني: أنت من بقية السلف الصالحين- وإنك إمام سنة، وأنت على من لقيك حجة -يعني: أنت حجة على من لقيك- ولم آتك لأسمع الأحاديث، ولكن لأسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة)، فأخبرني من هذه الفرق حتى أتوقاها؟ فقال لي: أصلها أربعة، يعني: لم يخبره بالاثنين والسبعين فرقة، وإنما أخبره عن أصول هذه الفرق، قال: القدرية والمرجئة والشيعة -وهم الروافض- والخوارج، فثماني عشرة فرقة في القدرية، وثماني عشرة في المرجئة، وثماني عشرة في الخوارج، وثماني عشرة في الشيعة، ثم قال: ألا أحدثك بحديث لعل الله أن ينفعك به؟ قلت: بلى يرحمك الله، قال: أسلم رجل على عهد عمرو بن مرة فدخل مسجد الكوفة، فجعلت أجلس إلى قوم أصحاب أهواء، فكل يدعو إلى هواه، وقد اختلفوا علي، فما أدري بأيها أتمسك، فقال له عمرو بن مرة: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟] يعني: هذا الذي أسلم في زمن عمرو بن مرة ودخل المسجد، كان كلما جلس إلى قوم وجدهم يدعون إلى أهواء، ولا يدعون إلى كتاب وسنة، فرجع مرة ثانية إلى عمرو بن مرة يسأله: [إني جلست إلى أناس أصحاب أهواء، يدعون إلى أهوائهم، فقال له: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟ يعني: هل يشككونك في أن الله تعالى ربهم؟ قال: لا، قال: اختلفوا عليك في محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الكعبة أنها قبلتهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في شهر رمضان أنه صومهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الصلوات الخمس والزكاة والغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانظر هذا الذي اجتمعوا عليه فهو دينك ودينهم فتمسك به]. ومعنى هذا الكلام: أن الخلاف في الفروع جائز، وأن هذه الفرق قد اختلفت في أصول الدين. وقد ذكرنا كيفية معرفة ما إذا كانت هذه فرقه أو لا، وذلك إذا خالفت في أصل عام من أصول الشرع أو قاعدة كلية من قواعده لا يسع أحداً أن يعذر به، يعني: لو قلنا الآن لأجهل الجاهلين: هل الصلاة إلى القبلة أم إلى غيرها؟ فإنه يقول: إلى القبلة، لكنه لو قال: ولكني لا أدري أهي القبلة التي في مكة أو غيرها؟ فإنه لا يقبل منه هذا ولا يعذر به؛ لأنه لا يوجد أحد لا يعرف مكان القبلة، ولو قال: أنا مؤمن أن الله تعالى افترض علي خمس صلوات في اليوم والليلة، ولكني لا أدري كيفية هذه الصلوات ولا كيفية أدائها ولا أوقاتها لم يقبل هذا منه كذلك. ولو قال: إن الله تبارك وتعالى افترض علي صيام رمضان، ولكني لا أدري متى يكون رمضان، هل هو قبل ربيع أو بعده؟ أو قبل رجب أو بعده؟ أو قبل شعبان أو بعده؟ لم يقبل منه هذا؛ لأن هذه أصول الديانة. فهو هنا يقول له: اختلفوا عليك في الله أنه ربهم؟ قال له: لا لم يختلفوا في هذه القضية، يعني: أنهم متمسكون بأصل التوحيد، قال: اختلفوا عليك في محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيهم وأن الله أرسله إليهم؟ قال: لا، يعني: لم يختلفوا في هذه القضية، فمسألة الرسالة والنبوة من مسائل الأصول لا الفروع، ولا يوجد شخص يقول: أنا أعلم أن الله أرسل الأنبياء والرسل، ولا أدري من آخرهم رسالة، أو يقول: أنا أعلم أن الله تعالى أرسل إلى خلقه الأنبياء والمرسلين، ولكني لا أدري أمحمد رسول أم غير رسول؟ والقائل بهذا يكفر فوراً. فسأله: هل اختلفوا عليك في الصلوات؟ قال: لا، قال: في الصيام؟ قال: لا، قال: في الزكاة؟ قال: لا. وهذا يدل على أن الفرقة لا تكون فرقة إلا إذا خالفت في

أثر ابن عباس في تفرق الأمة

أثر ابن عباس في تفرق الأمة قال: [عن ابن عباس قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين، والنصارى على اثنتين وسبعين، وأنتم على ثلاث وسبعين، وإن من أضلها وشرها وأخبثها: الشيعة الذين يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما]. ونص ابن عباس هذا صحيح عنه، وهو يشهد لنص علي بن أبي طالب، وابن عباس وعلي بن أبي طالب من آل البيت رضي الله عنهما.

أصول الفرق عند ابن المبارك

أصول الفرق عند ابن المبارك قال: [قال: حفص بن حميد: قلت لـ عبد الله بن المبارك: على كم افترقت هذه الأمة -أي: الأمة المحمدية؟ - قال: الأصل أربع فرق. يعني: ستفترق إلى ثلاث وسبعين، ولكن مرد هذا الاختلاف إلى أربع فرق. قال: هم الشيعة والحرورية -والحرورية هم الخوارج، وسموا بالحرورية لنزولهم مكان يسمى حروراء، وفيه تكتلوا وتحيزوا وتميزوا- والقدرية والمرجئة، فافترقت الشيعة على ثنتين وعشرين فرقة، وافترقت الحرورية على إحدى وعشرين فرقة، وافترقت القدرية على ست عشرة فرقة، وافترقت المرجئة على ثلاث عشرة فرقة. قلت: يا أبا عبد الرحمن! لم أسمعك تذكر الجهمية -يعني: لم تذكر إلا الشيعة والقدرية والخوارج والمرجئة، ولكنك ما ذكرت الجهمية- فقال عبد الله بن المبارك: إنما سألتني عن فرق المسلمين -يعني: أن هؤلاء عند عبد الله بن المبارك غير معدودين في فرق المسلمين- ولم تسألني عن الكفار].

أصول الفرق عند أبي حاتم

أصول الفرق عند أبي حاتم قال: [قال أبو حاتم: وأخبرت عن بعض أهل العلم: أول ما افترق من هذه الأمة الزنادقة، وهم: القدرية والمرجئة والرافضة والحرورية، فهذا جماع الفرق وأصولها، ثم تشعبت كل فرقة من هذه الفرق على فرق، وكان جماعها الأصل، واختلفوا في الفروع، فكفر بعضهم بعضاً، وهذا شأن أهل البدع دائماً، إذا اختلفوا في شيء يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً. وأما أهل السنة فإن اختلفوا خطأ بعضهم بعضاً]. ولم يكفر أو يلعن بعضهم بعضاً، فإصدار الأحكام القاسية الشديدة التي في غير محلها إنما هو من شأن أهل البدع، والتخطئة والنصح سراً وعلناً هو سبيل ونهج أهل السنة والجماعة. ولذلك قال ابن تيمية عليه رحمة الله: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم ببعض؛ لأن أهل السنة يتحرجون جداً من إطلاق ألفاظ التكفير إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، وأما أهل البدع فإنهم يبادرون ويسارعون بتكفير بعضهم بعضاً، وبلعن وسب بعضهم بعضاً. قال: وجهل بعضهم بعضاً، فافترقت الزنادقة على إحدى عشرة فرقة، وكان منها المعطلة، ومنها المنانية، وإنما سموا المنانية برجل كان يقال له: ماني، كان يدعو إلى الاثنين -أي: إله الظلمة وإله النور- فزعموا أنه نبيهم في زمن الأكاسرة، فقتله بعضهم. ومنهم المزدكية؛ لأن رجلاً ظهر في زمن الأكاسرة يقال له: مزدك. ومنهم العبدكية، وإنما سموا العبدكية؛ لأن عبدك هو الذي أحدث لهم هذا الرأي، ودعاهم إليه. ومنهم الروحانية، وسموا الفكرية. ومنهم الجهمية، وهم صنف من المعطلة، وهم أصناف -يعني: المعطلة أصناف- وإنما سموا الجهمية لأن جهم بن صفوان كان أول من اشتق هذا الكلام من كلام السمنية، وهم صنف من العجم كانوا بناحية خراسان، وكانوا قد شككوه في دينه وفي ربه حتى ترك الصلاة أربعين يوماً لا يصلي، فقال: لا أصلي لمن لا أعرف، ثم اشتق هذا الكلام. ومنهم السبئية، وهم صنف من العجم يكونون بناحية خراسان، وذكر فرقاً أخر بصفات مقالاتهم. ومنهم الحرورية، وافترقوا على ثماني عشرة فرقة، وإنما سموا الحرورية لأنهم خرجوا بحروراء أول ما خرجوا. وصنف منهم يقال لهم: الأزارقة، وإنما سموا الأزارقة بـ نافع بن الأزرق، ومنهم النجدية، وإنما سموا النجدية بـ نجدة، ومنهم الأباضية، وإنما سموا الأباضية بـ عبد الله بن إباض، ومنهم الصفرية، وإنما سموا الصفرية بـ عبيدة الأصفر، ومنهم الشمراخية وإنما سموا الشمراخية بـ أبي شمراخ رأسهم، ومنهم السرية، وذكر منهم، ومنهم ومنهم، حتى عد اثنتين وسبعين فرقة.

مخالفة الفرق لمذهب أهل السنة في الأصول

مخالفة الفرق لمذهب أهل السنة في الأصول إن من الفائدة: ذكر هذه الفرق الثنتين والسبعين ولو بشيء من الإيجاز؛ حتى نعلم أنهم ما استحقوا اسم الفرقة إلا لمخالفتهم في أصل من الأصول، وعندما تأتي وتذكر هذه الفرق ببعض علاماتها لابد أن تجد في هذه العلامات ولو علامة واحدة من القواعد الكلية والأصول العامة في الشريعة الإسلامية، فلما كان هذا ديدنهم ونهجهم ودينهم استحقوا بمخالفتهم لهذه القاعدة الكلية والأصل العام أن يكونوا فرقة من الفرق، والكتاب لم يذكر هذا بشيء من التفصيل إلا على نحو مما ذكره عبد الله بن المبارك الإمام المبجل المعظم. وهناك كتاب مختصر جداً ابن الجوزي اسمه: (كيد الشيطان لنفسه قبل خلق آدم عليه السلام) ذكر فيه الفرق الضالة، ونحن سنقرأ منه الجزء المتعلق بالفرق الضالة حتى نعلم أصول المخالفات عند كل فرقة من الفرق؛ لنتبين أن المخالفة كانت في أصول. قال الشيخ ابن بطة: [فهذا يا أخي! رحمك الله ما ذكره هذا العالم رحمه الله عبد الله بن المبارك من أسماء أهل الأهواء وافتراق مذاهبهم وعداد فرقتهم، وإنما ذكر من ذلك ما بلغه ووسعه ما انتهى إليه علمه، لا من طريق الاستقصاء والاستيفاء؛ وذلك لأن الإحاطة بهم لا يقدر عليها أحد، والتقصي للعلم بهم لا يدرك، وذلك أن كل من خالف الجادة وعدل عن المحجة واعتمد من دينه على ما يستحسنه فيراه، ومن مذهبه على ما يختاره ويهواه عدم الاتفاق والائتلاف، وكثر عليه أهلها لمباينة الاختلاف؛ لأن الذي خالف بين الناس في مناظرهم وهيئاتهم وأجسامهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وحظوظهم كذلك خالف بينهم في عقولهم وآرائهم وأهوائهم وإراداتهم واختياراتهم وشهواتهم، فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين اجتمعا جميعاً في الاختيار والإرادة حتى يختار أحدهما ما يختاره الآخر ويرذل ما يرذله إلا من كان على طريق الاتباع، واقتفى الأثر والانقياد للأحكام الشرعية والطاعة الديانية]. يعني: يريد أن يقول: لا يمكن أن تجد اثنين متفقين على شيء إلا إذا كان طريقهما الاتباع والانقياد، فمثلاً عندما أصلي المغرب أنت تصلي كما أصلي تماماً؛ لأن طريقنا واحد، ومصدر علمنا واحد. وأما أهل الأهواء فلا يمكن أن تصلي القدرية كالشيعة، ولا الشيعة كالمرجئة، ولا المرجئة كالخوارج. قال: [فإن أولئك من عين واحدة شربوا -الذي هم أهل السنة- فعليها يردون وعنها يصدرون، قد وافق الخلف الغابر للسلف الصالح]. وقال الشيخ: [أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة والأهواء المتبعة، والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتات، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة، وعصمنا وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة]. وعن ابن عباس قال: من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. وقال ميمون بن مهران: إياكم وكل هوى مسمى بغير الإسلام. قال الشيخ: [ورحم الله عبداًَ اتهم نفسه وهواه وانتصح كتاب الله بدينه ودنياه]. وكان الحسن يقول: اتهموا أهواءكم وآراءكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم.

كلام ابن الجوزي حول الفرق

كلام ابن الجوزي حول الفرق

كلام ابن الجوزي عن افتراق اليهود

كلام ابن الجوزي عن افتراق اليهود ذكر ابن الجوزي عليه رحمة الله اختلاف فرقة اليهود، فذكر أن الناس كانوا على التوحيد، ثم استمر الأمر في عهد نبوة موسى عليه السلام -يعني: على التوحيد- أي: في وجود موسى عليه السلام بين أمة اليهود، وإثبات الصفات الكمالية لله عز وجل، إلى أن توفي موسى عليه السلام ودخل الدغل على بني إسرائيل -أي: دخلت عليهم الأهواء والابتداع- ورفع التعطيل رأسه بينهم -أي: عطلوا الباري تبارك وتعالى عن صفاته- وأقبلوا على علوم المعطلة، وهم أعداء موسى عليه السلام، وقدموها على نصوص التوراة، واعلم أن سنة الله عز وجل في الخلق واحدة، فالابتداع والشر ما دخل في دين الله عز وجل بخيله ورجله إلا لما ترجمت كتب اليونان في زمن الدولة العباسية، واتخذ الناس كلام الفلاسفة والمتكلمين ديناً لهم، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم ظهرياً. ولذلك لما مات موسى عليه السلام اتخذ الناس الذين أتوا بعده كلام المعطلة والمتكلمين ديناً، وتركوا نصوص التوراة، وقدموها على التوراة، فسلط الله عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هي عادته تبارك وتعالى وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة المعطلة من الفلاسفة وغيرهم. والحاصل: أن هذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزال ملكهم.

كلام ابن الجوزي عن افتراق النصارى

كلام ابن الجوزي عن افتراق النصارى قال: أما أمة النصارى فإن الله تعالى بعث عبده ورسوله المسيح ابن مريم عليه السلام فجدد لهم الدين -أي: دين بني إسرائيل الذي كانوا عليه في زمن موسى عليه السلام- وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإلى التبري من تلك الأحداث والآراء الباطلة، فعادوه وكذبوه. وما من نبي أرسله ربه إلا وكُذب، وراموا قتله -أي: قصدوا إلى قتل عيسى عليه السلام- فطهره الله تعالى منهم، ورفعه إليه، ولم يصلوا إليه بسوء ولا شر، وأقاموا له أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته حتى صار دينه قائماً على من خالفهم، فدخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، أي: دعوة عيسى عليه السلام، واستقام الأمر على السلام بعده نحو ثلاثمائة سنة، يعني: أن الناس كانوا على دين عيسى عليه السلام ثلاثمائة سنة، ثم دخل بعد ذلك الفساد والانحراف والأهواء والابتداع، ثم أخذ دينه في التبدل والتغيير حتى تناسخ واضمحل، أي: لم يبق منه شيء، ولم يبق في أيدي النصارى منه شيء، بل ركبوا ديناً بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام، يعني: أي كتاب كان يعجبهم كانوا يكتبونه بأيديهم، ثم ينسبون هذا إلى عيسى عليه السلام، وأن هذا دينه الذي أتى به، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوا في دين النصرانية، وهذه مصيبة، فـ (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، يعني: أنهم أحبوا أن يدخلوا الوجهاء وأصحاب الملك وغير ذلك في دين عيسى، فأخذوا معتقدات هؤلاء الملوك وكتبهم ونسبوها لعيسى عليه السلام؛ ليدخلوا السرور على هؤلاء الملوك بأنهم موافقون لدين عيسى عليه السلام حتى يدخلوا في دين عيسى. قال: فنقلوهم من عبادة الأصنام المجمدة إلى الصور التي لا ظل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ومع ذلك فيهم بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم الميت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم الإنجيل من ذلك. يعني: أن الختان كان من دين عيسى عليه السلام، وهو بقية من دين عيسى، وهذا بعد مرور ثلاثمائة سنة من رفع عيسى عليه السلام، فظل الناس ثلاثمائة سنة على شريعة عيسى عليه السلام، ثم دخل التغيير، وبعد دخول التغيير وتحريف نصوص الإنجيل بقيت عندهم بقية مما أمرهم به عيسى عليه السلام، وهذه البقية: الختان والاغتسال من الجنابة، وتعظيم الميت، وتحريم الخنزير، والخنزير الآن علامة على النصرانية، والصليب علامة على النصرانية، وهذا الصليب لا يعرف عنه عيسى عليه السلام شيئاً؛ لأن الصليب ما اتخذ إلهاً إلا بعد رفع عيسى، ولو كان النصارى أذكياء لكان الصليب بالنسبة لهم معرة؛ لأنه هو الذي صلب عليه عيسى كما يزعمون، فهم يزعمون أن عيسى صلب على الصليب وقتل، وأنا لو عرفت أن نبياً صلب على هذا الجدار فسأهد الجدار؛ من أجل أن أمسح هذا العار، لا أنني أتخذه إلهاً، إذ كيف أتخذ هذا الجدار إلهاً وقد صلب عليه نبي؟ فعيسى عليه السلام لا يعرف عن الصليب شيئاً؛ لأنه اتخذ بعد رفعه عليه السلام. وأما الخنزير فإن عيسى عليه السلام حرم الخنزير على أمة النصارى، وهم اتخذوه طعاماً لهم. قال: وتحريم ما حرمته التوراة؛ لأنكم تعلمون أن الإنجيل ودين عيسى عليه السلام متمم لدين موسى عليه السلام. ثم تناسخ شرعه -أي: ثم تناسخ شرع عيسى- حتى استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا عنه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس وهم صلوا إلى المشرق، ولم يعرف المسيح الصليب قط، وهم عظموا الصليب، بل عبدوه ولم يصم المسيح صومهم هذا أبداً، ولم يشرعه لهم، ولم يأخذ به البتة، بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الربيع، وجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضاً عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومانية أو الرومية، وكان المسيح في غاية الطهارة ونهاية النظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، وهم تعبدوا بالنجاسة. وتصور أن النصارى يتخذون النجاسة قربة تقربهم إلى الله، والله لم يأمرهم بهذا، ولا أمرهم أحد من الأنبياء بهذا، فهم لا يغتسلون من الجنابة، مثل الفنانين والفنانات وأصحاب الفكر المنحرف، يقول الواحد منهم: أنا أغتسل في كل شهر مرة، وأما المسلمين فحتى الذي ليست له زوجة، أو التي ليس لها زوج إذا بلغت لا يحل لها أن يمر عليها سبعة أيام دون أن تغتسل مرة. يعني: أقل الغسل أن يكون مرة في كل أسبوع لمن لم يكن به جنابة وهذا أقل شيء، وأما هؤلاء الذين يبدون في غاية الجمال والرونق من الممثلين والممثلات فحظهم من الجمال الصور فقط، وإذا جلست مع الواحد أو الواحدة منهم فلا بد أن تشم منه رائحة النتن والعفن، فهم في صورهم ومناظرهم يبدو منهم الجمال، وهم في حقيقة أمرهم في غاية النتن، ويكفي أن الواحد منهم أو الواحدة منهن لا تعرف أو لا يعرف عن دينه شيئاً لا من قريب ولا من بعيد، وهذا نتن في الفكر والاعتقاد. وهم يحيون في بيوتهم حياة دون حياة الحيوان في جميع ضروبها، وقد تجد أحداً ينظر إلى امرأة جميلة منهم فإذا سألت

كلام ابن الجوزي عن افتراق أمة الإسلام

كلام ابن الجوزي عن افتراق أمة الإسلام قال: أما أمة الإسلام أمة محمد عليه الصلاة والسلام فقد كانوا عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة، كما كان أتباع موسى على عقيدة واحدة ثم أتى بعد ذلك تفرق، وفي زمن عيسى على ذلك، ثم أتى بعد تفرق، فكذلك أمة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا على التوحيد الخالص حتى مات محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا على عقيدة وطريقة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق، ثم نشأ الخلاف فيما بينهم في أمور جارية لا توجب كفراً ولا إيماناً. وهذا كلام جميل فهو يقول: إن الفرقة لا تستحق أن تكون فرقة إلا إذا خالفت في أصل أو قاعدة بينة. قال: والصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل اعتقادية كرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج، وقد أتت نصوص تبين أنه لم يره، وهذه النصوص صحيحة وصريحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (نور أنى أراه)، كما في حديث أبي ذر، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية). وجاء أيضاً عن ابن عباس وابن مسعود ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، ولكن لم يثبت في رواية من رواياتهم أنه رأى ربه بعيني رأسه، ووقع التصريح في روايتهما أنه رآه بفؤاده، وهذا لا يمنع إطلاق الرؤية المعنوية كما في الرواية التي تنكر أنه رآه بعيني رأسه. وإذا اعتبرنا صحة الخلاف في هذه القضية فإن هذا الخلاف خلاف فرعي. قال: ثم نشأ الخلاف فيما بينهم في أمور اجتهادية لا توجب كفراً ولا إيماناً. يعني: لا يبدع فيها المخالف. فلا تقل: أنا قرأت المسألة بأدلتها واطلعت على أقوال العلماء فيها وترجح لدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فمن قال بأنه رأى ربه فهو مبتدع وفاسق وضال؛ لأن القاعدة تقول: إن البدع لا تكون إلا في مخالفة الأصول، والقاعدة الأخرى: ما وسع السلف من خلاف يسع من جاء بعدهم، ونحن لم نسمع أن ابن عباس وابن مسعود بدعا وضللا عائشة وأبو بكر، أو العكس، وهذا يدل على أن هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وإنما من مسائل الفروع، فلما لم يبدع أحدهما الآخر دل على أنها من مسائل الاجتهاد لا من مسائل الأصول المجمع عليها. قال: وكان غرضه من ذلك إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وكان هذا الخلاف يتدرج ويترقى شيئاً فشيئاً إلى آخر أيام الصحابة. ثم ظهر بعد ذلك معبد الجهني، وبئس المعبد هو. وهو معبد بن عبد الله بن عكيم الجهني نزيل البصرة، وهو أول من تكلم في القدر في أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم. قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر هو سوسن النصراني، ثم أخذ الكلام في القدر عن سوسن معبد الجهني، ثم عن معبد الجهم بن صفوان. واعلم أن أصول البدع عندنا أخذت عن أهل الكتاب، وقد قال السلف: ما من بدعة ظهرت في الإسلام إلا ولها شبه في الأمم السابقة. وقال الحسن البصري: إياكم ومعبد فإنه ضال مضل. وقال الذهبي: كان من علماء الوقت على بدعته، هلك قبل التسعين. ثم في نفس الوقت الذي ظهر فيه معبد الجهني ظهر غيلان بن أبي غيلان الدمشقي، وقد تكلم كذلك في القدر، وقتل بسبب كلامه في القدر، وهو ضال مسكين، وكان من بلغاء الكتاب. وفي نفس التوقيت يونس الأسواري، وقد خالف هؤلاء الثلاثة في القدر وإسناد جميع الأشياء إلى تقدير الله تعالى، ولم يزل هذا الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام.

أصول الفرق عند ابن الجوزي

أصول الفرق عند ابن الجوزي قال: إذا عرفت هذا فاعلم أن كبار الفرق الإسلامية على ما ذكر في الكتب الكلامية ثمانية. فـ ابن الجوزي يقول: إن الفرق أصولها ثمانية، وتجد عند أبي الحسن الأشعري من المتكلمين أن أصولهم خمسة عشر، وعند غيره ثمانية عشر، وعند غيره أربعة أصول كما ذكرنا بعض هذا، وهذا أمر يرجع إلى اجتهاد كل عالم بما وصل إليه التفرق والاختلاف في زمنه، فالأوائل على أن أصول البدع أربعة أصول، ومن أتى بعدهم لما ظهرت بدع أخرى عدوها خمسة، ثم سبعة، ثم عشرة، ثم اثنا عشر، ثم خمسة عشر، ثم أكثر من ذلك. وليست العبرة في تحديد العدد وأي هذه الأعداد أصح، فكلها صحيحة، وإنما كان بعضهم يعد ما تشعب من فرقة فرعاً، والبعض يعدها أصلاً، فمثلاً: القدرية تشعبت من الجهمية أو العكس، فبعضهم يعد القدرية نوعاً من الجهمية، والبعض يقول: لا، بل هم فرقة مستقلة، ولذلك اختلف العدد. وتعداد هذه الفرق بأصولها وفروعها لم يكن محل خلاف بين أهل العلم، سواء منهم من عدها أصلاً أو فرعاً. وابن الجوزي عليه رحمة الله ذكر أن أصول الفرق ثمانية، مع أنه ذكر هذا إجمالاً، وفي حين التعداد لم يذكر إلا سبع، والفرقة الثامنة وهي الناجية هم أهل السنة والجماعة.

من فرق الضلال الشيعة

من فرق الضلال الشيعة أول فرقة من فرق الضلال عند ابن الجوزي -عليه رحمة الله- هم الشيعة. وقال في تعريفهم: وهم الذين شايعوا علياً -أي: بايعوه وناصروه، وشرفوه كتشريف النصارى لعيسى عليه السلام- وقالوا: إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص جلي أو خفي، وأن النص ثابت في تعيين علي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، إما ثبوتاً جلياً أو ثبوتاً خفياً. يعني: بالإشارة والإيماء، ويقولون: إن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علي من بعده، ومن خالف هذا النص وصده عن الإمامة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام فقد ظلم وسلب علي بن أبي طالب حقه المنصوص عليه إما جلياً أو خفياً. واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده، وإن خرجت فإما بظلم يكون من غيره أو تقية منه، أي: إما بظلم ظاهر ممن سلب منه الإمامة، أو أن علي بن أبي طالب أذن له بالإمامة من باب التقية لا من باب إيمان علي أن هذا حق أبي بكر، أو أن هذا حق عمر، أو حق عثمان؛ لأن أهل السنة يسألون الشيعة: ما معنى أن علي بن أبي طالب بايع أبا بكر وعمر وعثمان؟ فقالوا: إن علياً يعتقد أن له الحق في الإمامة، ولكنه بايع من باب إثبات التقية، يعني: بايعهم تقية وخوفاً منهم؛ لأن الدولة دولتهم والسلطان سلطانهم، وبهذا يكون قد فرط في ابنته عند أن زوجها عمر بن الخطاب، وقولهم: تقية معناه: أنه ليس مقتنعاً بـ عمر، بل إنه كان ينظر إلى عمر على أنه إنسان ظالم ومفتر وسالب لحقه، ومعاند لله ورسوله، وأن النص كان جلياً في نظر عمر، ومع هذا استحل عمر مخالفة النص بإثبات الإمارة له، ومع هذا زوجه علي بن أبي طالب بابنته من باب التقية، هكذا يقول الشيعة عليهم من الله ما يستحقون. قال: ومن أولادهم اثنان وعشرون فرقة، يعني: من أولاد علي اثنان وعشرون شخصاً افترقوا على اثنين وعشرين فرقة، يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، ولكن أصول الشيعة ثلاث فرق: غلاة وزيدية وإمامية، ولا يوجد في الشيعة فرق إلا وتدخل تحت هذه الأصول، وهم عندهم أكثر من اثنين وعشرين فرقة، ولكنها إما أن تكون من الغلاة أو زيدية أو إمامية، ولا يوجد غير ذلك؛ لأن هذه أصول التفرق والاتباع عند الشيعة. فأما الغلاة فثمانية عشر فرقة، أولهم السبئية؛ وسموا بذلك لأن منشئ هذه الفرقة هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام نفاقاً وعاداه باطناً، وهو الذي زعم أن علياً إله من دون الله عز وجل، وهو الذي قال لـ علي: أنت الإله حقاً. فنفاه علي إلى المدائن -والمدائن هذه في بلاد فارس- وهو أول من أظهر القول بوجوب إمامة علي، وقال: إنه لم يمت، وإنما قتل ابن ملجم شيطاناً تصور في صورة علي -وهذا نفس كلام النصارى- وأنه في السحاب. أي: أن علياً في السحاب الآن. قال: والرعد صوته والبرق سوطه، وبعد هذا ينزل إلى الأرض ويملأها عدلاً بعد أن ملئت جوراً. ومن هذه الفرقة تشعبت أصناف الغلاة، وهم يقولون عند سماع الرعد: عليك السلام يا أمير المؤمنين! والذي يسافر إلى العراق يسمع هذا، فما أن ترعد السماء ويكون الجو بارداً والمطر ينزل يقولون: عليك السلام يا أمير المؤمنين! ويقولون: هذا صوت علي بن أبي طالب، يعني: هذا الرعد الذي تسمعه هو صوت علي بن أبي طالب في السماء. وهذه المخالفات التي ذكرناها عند السبئية مخالفات في الأصول، ولو لم يكن فيها إلا اعتقادهم أن علياً إله من دون الله لكفاهم ذلك، فاستحقوا بذلك أن يكونوا فرقة.

من فرق الضلال الكاهلية

من فرق الضلال الكاهلية الثانية: الكاملية، وهم أصحاب أبي كامل، وهو الذي قال: كفر الصحابة بترك بيعة علي، وكفر علي بترك طلب الحق. فلم يترك أحداً! فالصحابة كفروا لأنهم صدوا علياً عن حقه، وكفر علي مع أنه مظلوم لأنه وقف موقفاً سلبياً، ولم يطالب بحقه، فهم كفار، وهو أكفر منهم في نظر أبي كامل، وقال: بالتناسخ في الأرواح عند الموت، وقال: إن الإمامة نور ينتقل من شخص إلى آخر، وقد يكون في شخص النبوة بعدما كان من شخص آخر إلى آخره، يعني: أنه يمكن للإمام أن يترقى في هذا النور ويزداد في قلبه وفي بدنه حتى يصير نبياً. وإذا انتقل من شخص عادل إمام إلى نبي فمن الطبيعي أنه سينتقل إلى إله.

من فرق الضلال البيانية

من فرق الضلال البيانية ومنها البيانية: وهم أصحاب بيان بن سمعان، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى على صورة إنسان، ويهلك كله إلا وجهه، وروح الله تعالى حلت في أبي علي، ثم في ابنه أبي هاشم، ثم في بيان صاحب الفرقة، يعني: يريد أن يقول: أنه إله.

من فرق الضلال المغيرية

من فرق الضلال المغيرية ومنها المغيرية: وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، وهو الذي قال: إن الله تعالى جسم على صورة إنسان، بل هو رجل من نور على رأسه تاج النور، وقلبه منبع الحكمة، فإنه لما أراد أن يخلق الخلق تكلم بالاسم الأعظم، فطار فوقع تاجاً على رأسه، وذلك تفسير قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:1 - 2]، ثم كتب على كفه -أي: هذا الجسم وهو الإله- أعمال العباد، فغضب من المعاصي فعرق، يعني: لما رأى المعاصي على كفه عرق من شدة الغضب، فحصل من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والآخر حلو نير، ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله، فأنزع بعضاً من ظله فخلق منه الشمس والقمر، وأفنى الباقي من الظل نفياً للشريك، وقال: لا ينبغي أن يكون معه إله آخر، ثم خلق الخلق من البحرين الكفار من المظلم وأهل الإسلام من النير، ثم أرسل محمداً والناس في ضلال، وعرض الأمانة -وهذه الأمانة هي منع علي من الإمامة- على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهو أبو بكر حملها بأمر عمر حين ضمن له أن يعينه على ذلك، بشرط أن يجعل الخلافة من بعده له، يعني: أن عمر قال له: أنا مستعد يا أبا بكر! لإعانتك عليها، وهو قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فـ أبو بكر بعد أن أشفقت الجبال والسماوات والأرض من حمل الأمانة -وهي إثبات إمامة علي - حملها بعد إذن عمر وضمانه له أنه سيعينه على هذه المهمة الصعبة، بشرط أنه عندما يكون إماماً يكتب له وصية بأن يخلفه في هذه الأمانة والمهمة. وقال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} [الحشر:16] نزلت في أبي بكر، وهؤلاء يقولون: الإمام المنتظر هو زكريا بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو حي مقيم في جبل حاجز إلى أن يؤمر بالخروج. وهذا الخلاف الذي فات هو خلاف في الأصول.

من فرق الضلال الجناحية

من فرق الضلال الجناحية ومنها الجناحية: وهم أصحاب عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، وهؤلاء يقولون: الأرواح تتناسخ، فكان روح الله في آدم. والقول بتناسخ الأرواح في ذاته كفر، وهو يعني: أن الله تبارك وتعالى تحل روحه في الآدمي، وهذا هو دين الصوفية، كـ ابن عربي وابن سبعين والفارابي وغيرهم، فهم يقولون: بتناسخ الأرواح، أي: أن روح الإله تحل في المخلوق حتى يكون الخالق والمخلوق سواء، وهذا الذي يسمونه بالحلول والاتحاد. قال: فكان روح الله في آدم، ثم في شيث، ثم في الأنبياء، ثم في الأئمة، حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة، ثم إلى عبد الله هذا، وهو حي مقيم بجبل بأصفهان، وسيخرج، وهؤلاء أنكروا القيامة. وخلافهم هذا في الأصول. وقد استحلوا المحرمات من الخمر والميتة والزنا وغيرها من المحارم، وكان الواحد منهم يقع على أمه وأخته وعمته وخالته، لا من باب أنه يعتقد أن ذلك حرام وما يفعله معصية، وإنما من باب أنهن حلال، فجعلوا الحرام حلالاً والحلال حراماً. وهذه أصول.

من فرق الضلال المنصورية

من فرق الضلال المنصورية ومنها المنصورية: وهم أصحاب أبي منصور العجلي، وقد انتسب إلى أبي جعفر محمد الباقر، فلما تبرأ منه وطرده ادعى الإمامة لنفسه، وهؤلاء -أي: المنصورية- يقولون: إن الإمامة صارت لـ محمد بن علي بن الحسين، ثم انتقلت منه إلى أبي منصور. واعلم أن كل واحد من أصحاب هذه الفرق أو مؤسسوها ساروا على هذه الطريقة، فكان الواحد منهم يدعي أن روح الله تعالى انتقلت إليه بعدما انتقلت إلى آدم، ثم شيث، ثم الأنبياء، ثم الأئمة، ثم إليه. وهذا الكلام موجود في أئمة الصوفية، فتجد الواحد منهم جالساً مثل العجل، لا صلاة ولا صوم ولا حتى اغتسال من الجنابة، ويدعي أن روح الله حلت فيه. ونحن نعلم أن السيد البدوي سمي السطوحي لأنه مكث على سطح بيته أربعين يوماً لا يغتسل ولا يتوضأ، ولا يصلي ولا يغتسل من الجنابة، فقيل لـ عبد العال الذي هو الذراع اليمين للسيد البدوي: فكيف كان يقضي حاجته؟ قال: كان يقضي حاجته بكيت وكيت، وإذا احتاج لحك ظهره حكه بمزراة يدخلها من ياقته، وهذه المزراة معروفة عند الفلاحين، ولها خمس أصابع، يقلبون بها الرز والقمح وغير ذلك وقت درسه، وذلك مما على ظهره من نتن ووسخ، ومع هذا النتن كان يزعم أن روح الإله قد حلت فيه، وأنه يعلم الغيب، وأنه الوتد الوحيد، والصوفية يقولون: العالم محفوظ في كل زمان بأربعة أوتاد، ولما علم السيد البدوي بهذا الأمر قال: لا، أنا الوتد الوحيد في زماني، وليس هناك أوتاد أخرى، ومعنى وتد: أي: أنه يحفظ الكون، فأين الحافظ سبحانه وتعالى؟ وما كانت يا ترى مهمته في زمن السيد البدوي؟ وزعمت المنصورية أن منصور هذا عرج إلى السماء، مثل النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الله على رأسه بيده، وعلى ذلك فهو أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا لم يثبت للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني: أبا منصور العجلي عرج إلى السماء مثل النبي عليه الصلاة والسلام، فعلى ذلك وازى أبو منصور وضاهى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم زاد على نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى مسح على رأسه بيده، وكذلك كلمه الله وقال له: يا بني! اذهب فبلغ عني، ولا ندرى هل كان أبو منصور هذا الابن البكر أم الوسط أم الأصغر، والله تعالى لم يلد ولم يولد، فكيف يقول الرب تبارك وتعالى لأحد خلقه: يا بني! اذهب فبلغ عني؟ وسورة الإخلاص ماذا نعمل بها؟ وآيات التوحيد ماذا نعمل بها؟ قال: ثم أنزله إلى الأرض -فمن المعراج نزل على رقبته إلى الأرض- وهو الكسف المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]. ويقولون: الرسالة لا تنقطع أبداً، يعني: إذا هلك محمد أتى بعده رسول، ثم إذا هلك أتى بعده رسول، حتى يكون الرسول هو أبو منصور العجلي. ويقولون: والجنة رجل أمرنا أن نواليه ولا نعاديه، وهو الإمام أبو منصور، والنار رجل أمرنا بمعاداته وهو ضد الإمام وخصمه كـ أبي بكر وعمر، وكذا الفرائض والمحرمات، فإن الفرائض أسماء رجال أمرنا بموالاتهم، والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم. ومقصودهم بذلك: أن من ظفر برجل منهم فقد ارتفع عنه التكليف والخطاب؛ لوصوله إلى الجنة.

التزام السنة ونبذ البدعة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - التزام السنة ونبذ البدعة المؤمن يلتزم بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ويترك ما خالفهما وينبذه وراء ظهره، والمبتدع يتبع الأهواء والآراء الضالة المضلة المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه وما أجمع عليه الصحابة وسلف هذه الأمة.

الأمر باتباع الكتاب والسنة

الأمر باتباع الكتاب والسنة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمازال الكلام موصولاً عن التزام السنة ونبذ البدعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن الكوفي رحمه الله ورضي عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم]. وفي الدرس الماضي قلنا: كاد أن يكون كلام الصحابة وحياً نزل من السماء؛ لأنهم عاينوا الوحي كتاباً وسنة، فألفوا كلام الله عز وجل، وألفوا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فكان كلامهم يشبه كلام الله وكلام النبي عليه الصلاة والسلام. فلم يتكلم صاحب من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام بقول إلا وله شاهد من كتاب الله أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام. أما قوله رضي الله عنه: (اتبعوا). أي: اتبعوا الكتاب والسنة. (ولا تبتدعوا) في دين الله عز وجل (فقد كفيتم) أي: فقد كفاكم الله تعالى في كتابه، وكفاكم رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته أن تبتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وتجد مصداق ذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فهذا التمام والكمال في شريعة الرحمن تبارك وتعالى إنما تحذر كل الحذر ممن سولت له نفسه أن يشرع للناس من عند نفسه ثم يستحسن ذلك ويأمر الناس باتباع ما ابتدعه. وفي رواية بزيادة: (وكل بدعة ضلالة). أي: كل بدعة في الدين ضلالة، وصاحبها ظالم. قال: [قال ابن مسعود: إنها ستكون أمور مشتبهات -أي: ستظهر فيكم ولكم أمور مشتبهات- فعليكم بالتؤدة]. أي: عليكم أن تسيروا معها سيراً حثيثاً بالتؤدة والاطمئنان وعرض هذه الأمور المستحدثة والمشتبهة على فهم السلف لكلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام. قال: [فإنك أن تكون تابعاً -يعني: فلأن تكون تابعاً- في الخير خيراً من أن تكون رأساً في الشر]. يعني: إياكم والمحدثات، سواء كانت هذه المحدثات في الاعتقاد أو في العبادات أو في الأخلاق أو في السلوك، ولم يأت لها دليل في كتاب الله ولا في سنة الرسول ولا في فعل أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن فيها شاهد ولا نص. قال: فاحذر من اتباع هذه البدعة فإنها محدثة، وكل محدثة في الدين بدعة وضلالة. وقال أيضاً: [إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة أو أمراً مبتدعاً في الدين تنكرونه، فعليكم بالهدي الأول]. كما في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة: (سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون). لأن الحق له صور وعلامات كعلامات القرين، فالأمراء أحياناً يأتون بالمعروف وأحياناً يأتون بما ينكر عليهم. قال: (فمن كره فقد برئ)، أي: من كره بقلبه فقد برئ بيده من الإثم. (ومن أنكر فقد سلم). أي: ومن تعرض لهذا المنكر بالإنكار والتغيير فقد سلم، ولكن الحرج كل الحرج والإثم كل الإثم على من رضي بهذا المنكر وتابع الأمراء عليه. قال: [إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم]. يعني: ربما تأتي البدعة منكم أو تأتيكم من غيركم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول. أي: فعليكم بكتاب الله وسنة رسوله وهدي الصحابة رضي الله عنهم. فكل هذه النصوص إنما تحث المسلم أن يتمسك بما كان عليه سلف الأمة، وبما كان عليه أهل القرون الخيرية الأولى؛ لأنهم أدرى بكتاب الله وهم كذلك أعلم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا ظهر في دين الله عز وجل غير ما تعرفون من كتاب الله وسنة رسوله وفهم الصحابة والسلف الصالح على جهة الخصوص من هذه النصوص فعليكم أن تتمسكوا بالهدي الأول أي: بالأمر العتيق. قال: [قال ابن مسعود كذلك: ما كان أهل الكتاب إلا كان أول ما يدعون السنة، وآخر ما يدعون الصلاة. وقال: يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا -يعني: مفصل أنملة- أو يقول: يأتي من بعدكم أقوام يدعون من السنة -أي: من العقيدة- مثل هذه. وأشار إلى بعض الأنملة. كأنها تلك القطعة من اللحم التي تحت الظفر، وهو شيء يسير جداً. يقول: فإن تركتموهم وما أحدثوا لكم في الدين جاءوا بالطامة الكبرى، وإن لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون السنة وآخر ما يتركون الصلاة، ولولا أنهم أهل كتاب لتركوا الصلاة]. الذي يلزمنا وهو أوضح في المراد: أننا لو تركنا أهل الباطل بباطلهم وأهل الفساد بفسادهم لعم العقاب، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أ

قبض العلم

قبض العلم قال: [عن أبي قلابة أن ابن مسعود قال: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يقبض، أو متى يفتقر إليه]. فقوله: عليكم بالعلم يعني: تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه؛ ولذلك تجد في بعض التراجم مصطلحاً عجيباً جداً، وهو قولهم: صدوق يهم، اضطر الناس إليه أخيراً. يعني: هو لم يكن أهلاً للرواية عنه، ولكن عنده من العلم والرواية ما ليس عند غيره، فاضطر الناس إلى حمل العلم عنه في آخر أيامه؛ لأنه لم يبق أحد عنده من العلم ما عند هذا الرجل، فاضطروا إليه، وهذا معه هدي السلف، حتى وإن كان من أفسق الناس يحملون عنه، ويا حبذا لو حمل عنه أهل الفهم والذكاء والعقل الراجح الذين يميزون بين الحق والباطل، لا عامة الناس الذين يفتنون بباطل هؤلاء؛ ولذلك تجد في بعض التراجم أن كثيراً من علماء السلف إنما حملوا علماً معيناً عن أصحاب البدعة، بل وعن أصحاب المعاصي، حتى ورد عن أحدهم أنه كان تاركاً للصلاة، فقال طلابه: نختبر ذلك فيه، إذا نام لطخنا مؤخرة قدمه بالمداد فنظرنا هل يذهب هذا المداد بماء الوضوء أم لا؟ فظل المداد في قدمه أسبوعاً كاملاً. هل هناك أحد يصلي ويخفى على أحد، فالإنسان الذي يصلي لا يخفى على عامة الناس من جيرانه وإخوانه وطلابه أنه يصلي. فتصور أن يكون شيخاً محل اختبار الطلاب، هل هو يصلي أو لا يصلي؟ ومع هذا كانت الرحلة إليه في زمانه، لأجل علم أصول الفقه ما لا يحمله أحد على وجه الأرض، فذهب الناس إليه العالم وغير العالم لحمل العلم عنه، ولم ينظروا إلى معصيته في هذه الحالة. أما أهل البدع فكم تقرأ في كتب الرجال، بل وفي رواة الصحيحين: فلان قدري، فلان معتزلي، فلان شيعي، فلان خارجي، فلان محترق بالتشيع، وغير هذه الكلمات، وتجدهم من رواة الصحيحين. أما قول ابن مسعود هنا: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، فإن أحدكم لا يدري متى يطلب أو متى يفتقر إليه. يعني: فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج الناس إليه. عندما تنزل قرية وهذه القرية في شوارع القاهرة، الناس يرونك ملتحياً واللحية طويلة، وشكلك شيخ، وأنت لا تعرف شيئاً بالمرة، فيجيء إليك شخص ويقول لك: يا شيخ! أنا طلقت امرأتي، أو قلت لامرأتي كذا، وقلت لأبي وقلت لأمي، ولشريكي في العمل. فأنت واحد من اثنين: إما أن تكون موفقاً وتقول: لا أدري، وإما أن يحملك الحياء المزور الباطل أن تقول في دين الله ما لم ينزل الله به سلطان، وهذا الذي يحصل. فموقف مثل هذا يستحثك على طلب العلم، لو الناس احتاجوا إليك وأنت مؤتمن على دينك، فإذا كان الأمر كذلك فلا أقل من أن تعض بالنواجذ على كل لحظة وثانية تمر من وقتك، فإنه كالسيف إن لم تقطعه قطعك. وكان السلف رضي الله عنهم من أحرص الناس على الانتفاع بأوقاتهم، وعدم التفريط في لحظة واحدة، ولهم في ذلك حكايات وروايات تطول ولا داعي للبدء في هذا الأمر. قال: [كان عروة بن الزبير يأتي بأبنائه وأبناء أخيه عبد الله بن الزبير ويقول: يا بني! تعلموا العلم فإنكم صغار قوم اليوم، وربما تكونوا كبار قوم غداً. وما سئل أحد مسألة فأصيب بخيبة من عالم يسأل في مسألة لا جواب عنده فيها]. فيحثهم على طلب العلم. قال: [قال عمر رضي الله عنه: تعلموا قبل أن تسودوا]. يعني: تعلموا قبل أن تصيروا سادة كبار عظماء في نظر الناس. قال: [قال مالك: لا أحب أن يتولى الرجل القضاء إلا أن يتعلم. قيل: ولم؟ قال: لأنه إن عزل من القضاء أنف أن يرجع في طلب العلم]. يعني: أنف أن يكون طالباً بعد أن كان قاضياً. فهذه بعض النصوص في معنى قول ابن مسعود: فإن أحدكم لا يدري متى يقبض أو متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق. ويقول: وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نبذوه وراء ظهورهم. يعني: لا علاقة لهم البتة بكتاب الله عز وجل ولا بسنة رسوله، وإن كانوا في ظاهر أمرهم يدعونكم إلى كتاب الله، مثل جماعة التكفير والهجرة، الظاهر أنهم يدعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء قد نبذوا القرآن والسنة وراء ظهورهم، ولا توجد علاقة مهما دقت وجلت تربطهم بكتاب الله ولا بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم خوارج هذا العصر حقاً، وهم أبناء الخوارج السابقين الذين ظهر سيدهم وأبوهم الفكري في زمن النبي عليه الصلاة والسلام. حدثني رجل وقال: لقد ذهبت لشراء بعض قطع الذهب لبناتي من شارع فيصل، وأنتم تعرفون أن التكفير والهجرة مقرها في شارع فيصل، فمستنقع التكفير والهجرة فيه، وهم يتمركزون هناك وينادون على بعضهم البعض من أقطار المحافظات للسكنى في هذا المكان، ولا أدري ما علة ذلك! ربما تكون في المستقبل دولة مستقلة مثلاً! أو ينوون

من آوى محدثا في الدين

من آوى محدثاً في الدين قال: [عن أبي العالية في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال: أخلصوا دينهم وعملهم ودعوتهم لله عز وجل]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). فقوله: (من أحدث حدثاً). أي: ابتدع في دين الله عز وجل بدعة أو واقع جرماً استحق عليه الحد أو التعزير أو طلبه السلطان ليعاقبه، ثم خبأه آحاد الناس، فالذي خبأه والذي فعل الفعل وأحدث الحدث في الإثم سواء. (قيل: يا رسول الله! وما الحدث؟ قال: بدعة تغير سنة) يعني: بدعة تضيع سنة وتفوت ظهورها. قال: (أو مثلة تغير قوداً، أو نهبة تغير حقاً) والقود هو القصاص، فذكر مظالم الدماء، ومظالم الأموال وقس على هذه النهبة غيرها بما يماثلها من جرائم الأموال والأعراض والجنايات على الأملاك وغيرها، فمن أحدث حدثاً في دين الله بالابتداع أو بالقتل أو نهب الأموال أو غير ذلك ثم خبأه أحد الناس، وكم تسمعون من هذه المواقف، قد يأتي إليك شخص ويقول لك: أنقذني وخبئني عندك، إنني عملت عملاً وخائف منهم أن يأتوا فيقتلونني، وهذا كان موجوداً في الصعيد غالباً، وربما يكون شيء من ذلك في المدن البحرية، لكنه مشهور غالباً في الصعيد. فيحرم على أحد أن يحدث في دين الله شيئاً، أو يعتدي على أموال الناس وأعراضهم وأبدانهم، كما يحرم على الغير أن يؤويه إذا كان يعلم ذلك أنه يحرم عليه، وإلا فكلاهما يتعرض للعنة الله عز وجل والملائكة والناس أجمعين. قال: [عن عاصم الأحول قال: دخلنا على أبي العالية الرياحي فقال: تعلموا الإسلام ما هو. قال: فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه -أي: فلا تبتعدوا عنه- وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم الإسلام، -أي: هو الإسلام- ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم -أي: عن الإسلام يميناً ولا شمالاً- وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء]. فالناظر في وصايا السلف يجد منهم الأمر العجب! في هذا الزمان لو أن شخصاً قال لأخيه: أوصني، ربما يعجز أن يوصيه بأي وصية، ولا يخطر على باله كلاماً يقوله له، وهذا حادث، لكن انظر إلى السلف، ما كان أحدهم يفوت موقفاً إلا وينصح إخوانه ويذكرهم بالله عز وجل وبدينه والتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام وترك الابتداع في الدين. قال: [عن ابن عمر قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة]، لأن هذا هو شأن البدعة، ما من بدعة قط إلا والناظر إليها لأول وهلة من الجهال يستحسنها ويستجملها ويقول: نعم والله هذا أمر جميل. وهذا شأن البدعة دائماً. وهذا شأن الأحاديث الموضوعة المفتراة المكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام، تجد أن واحداًَ يتكلم بكلام لا يمكن أن يقبله العقل، أما من جهة النقل فكلام ليس له سند أبداً. مثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام الذي يروى عنه: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج)، هذا الحديث لا أقول: إنه مكذوب، بل ليس حديثاً أصلاً. صعد دكتور كبير في علم الشريعة الإسلامية منبراً من منابر الدعوة، ولا أجد حرجاً بأن أقول: منبر مسجد الاستقامة في مدائن الجيزة، وهو أستاذ جامعي كبير، وليس عيباً عليه أن يقول هذا الكلام السخيف، ولكن العجيب أن واحداً في المسجد لم ينكر عليه قط. قال: إن رجلاً تزوج، وبعد بنائه حملت امرأته، فلما سمع بهذا الحمل وكان ذلك في المساء نادى منادي الجهاد، وقال: اللهم إني أستودع ما في بطن امرأتي عندك، وذهب، ثم رجع بعد عام، وكانت الأم قد ماتت، فقيل له -أي: فقال له أهل قريته-: منذ أن دفنا امرأتك وإننا نرى نوراً يخرج من القبر بالليل والنهار، فذهب هذا المجاهد وفتح القبر ووجد الأم عظاماً رميماً إلا ثديها، وقد التقمه الطفل، والطفل جالس في كفنه، وهذه المرأة قد ماتت قبل أن تلد، ولكنها ولدت في القبر. هذا الكلام أقوله باشمئزاز شديد جداً، وهو يقصها للناس والناس تقول: الله الله، وضج المسجد مائة مرة في الخطبة، تصور أن خطبة تقوم على هذا السفه من أولها إلى آخرها! والله سبحانه يحيى العظام وهي رميم! فمن أجل أن يعبر الناس عن فرحتهم بمقدرة الله عز وجل يقفون على أرجلهم ويتحدثون بالخطبة، ألا يوجد في هذه الآلاف المؤلفة عاقل؟ {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]؟ رجل فقط يقوم ويقول: ما هذا؟ ويأخذه من قفاه فينزله، ويقول له: أنت لا تصلح لمثل هذا المكان. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً للعلم أو محباً له، ولا تكن الخامسة فتهلك. قيل: وما الخامسة؟ قال: المبتدع. ولذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما سمع هذا الكلام قال: سبحان الله! لقد جعل للعبد مسالك. يعني: إما أن تكون عالماً أو متعلماً أو مستمعاً للعلم أو محباً له، فلا أقل من ذلك؛ لأنه شي

جزاء من سن في الإسلام سنة سيئة

جزاء من سن في الإسلام سنة سيئة قال: [عن عبد الله بن أبي قتادة قال: من دعا إلى سنة فأجيب إليها أعطاه الله أجر من أجاب إليها، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة فأجابه إليها أحد حمله الله مثل أوزارهم ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، ثم تلا هذه الآية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25]]. ألم أقل: إن السلف كاد أن يكون كلامهم وحياً؟ وهذا الكلام شبيه بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها). فلو أتينا بهذا النص وقلت لك: استنبط منه كلاماً آخر يفيد المعنى، ربما نعجز إلا أن يكون أديباً لغوياً فصيحاً كهذا الراوي عبد الله بن أبي قتادة من كبار التابعين، أبوه هو أبو قتادة الأنصاري الصحابي المعروف الكبير، إنما نسج قولاً على منوال قوله عليه الصلاة والسلام. ثم بين أنه استفاد ذلك من قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25].

المراد بالكتاب والسنة والفرق بينهما

المراد بالكتاب والسنة والفرق بينهما قال: [عن قتادة في قول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:48]-والضمير يعود على النبي عليه الصلاة والسلام- فقال: الكتاب كلام الله عز وجل، والحكمة هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام]. وفي قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34]، وهذا الخطاب موجه لنساء النبي خاصة، ولنساء الأمة عامة: {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] آيات الله هي القرآن، والحكمة هي السنة. وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة. قال: [عن حسان بن عطية رحمه الله قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله من السنة] يعني: ينزل عليه بالقرآن وينزل عليه بالسنة. إذاً: السنة وحي من السماء، لكن الفرق بين الوحيين: أن الوحي الأول كتاب الله عز وجل، هو كلام الله تعالى، الذي روي إلينا بالتواتر من أوله إلى آخره، والسنة ليست كذلك، بل بعضها اليسير تحقق فيه شرط التواتر والبقية وهي الغالبية العظمى من الروايات إنما جاءت من طريق الآحاد. والقرآن متعبد بتلاوته، والسنة ليست كذلك، القرآن كلام الله عز وجل بنصه وحرفه، والسنة كلام الله عز وجل بالمعنى وهي من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فأصل السنة وحي السماء، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عبر عنها بألفاظ من عند نفسه، وألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام ليست كألفاظ غيره من البشر؛ لأنه أبلغ ما خلق الله عز وجل، وأفصح خلق الله عز وجل وغير ذلك من الفروق بين الوحيين. قال: [عن مجاهد في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] قال: سبيلاً وسنة].

عاقبة البدعة

عاقبة البدعة قال: [عن مجاهد وهو مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما قال: أفضل العبادة حسن الرأي]. يعني: أفضل العبادة: أن تعبد ربك على منهاج النبوة، لا تجتهد في عبادتك لله، إلا أن يأتيك الخبر عن الله عز وجل وعن المعصوم صلى الله عليه وسلم. أما غير ذلك فبدع كلها لا عبرة بها، بل ترد على العبد في وجهه، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة الذي أخرجه مسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). أي: من ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو مردود عليه في وجهه غير مأجور فيه، بل هو مأزور عليه. يعني: يناله الوزر ولا يؤجر على ذلك، فأفضل العبادة التزام السنة. وعن ابن عباس قال: لا يأتي على الناس زمان إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة. وهذا أمر لابد أن يتم تلقائياً، إذا ظهرت البدعة فلابد أن يكون في مقابل البدعة في دين الله سنة، فإذا ظهرت البدعة واستقرت وعمل بها الناس فالناس لا يعلمون بالسنة والبدعة، فهم يعملون بأحدهما؛ فإن عملوا بالسنة أماتوا البدعة، وإن عملوا بالبدعة أماتوا السنة، ولذلك جاء في رواية مرفوعة: (ما عمل الناس ببدعة إلا وقد أماتوا سنة). والصواب أن هذا الكلام موقوف من كلام كثير من السلف رضي الله عنهم: لا يأتي على الناس زمان إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن. قال: [عن عبد الله بن الديلمي قال: إن أول الدين تركاً السنة، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة. يعني: اعتقاداً تنقضه شيئاً فشيئاً، عروة عروة، خصلة خصلة حتى تفقد الدين كله]. قال: [قال ابن الديلمي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضياً ولا نزعت سنة إلا ازدادت هرباً]. قال: [عن حسان بن عطية قال: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله من سنتهم مثلها، لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة، عقوبة لهم؛ وأعظمها للمبتدع أن الله احتجز التوبة عنه]. كما في حديث عند ابن ماجة وغيره: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته). حتى تعلموا أهمية الالتزام والاستمساك بالسنة وخطورة البدعة. قال: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن ناساً يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل]. وهذا هو المنهج لمخاطبة أهل البدعة، فأهل البدع لا يمكن أن يجادلوك في محكم القرآن؛ لأن القرآن فيه محكم ومتشابه، كما بين الله تعالى ذلك في صدر سورة آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، لكن أهل الإيمان وبالذات أقوى أهل العلم. فديدن أهل البدع باستمرار حول متشابه القرآن؛ ولذلك يقول واحد من المبتدعة من جماعة التكفير عند أن قيل له: كيف ذاك؟ قال له: أنت شيء من اثنين: أنت ممكن أم مستضعف؟ قال له: ممكن في أشياء وأشياء، ومستضعف في أشياء وأشياء أخرى. قال له: أريد كلمة واحدة، أنت ممكن أو مستضعف؟ قال له: لو قلت أنك ممكن فإثم هذه المرأة المتبرجة في رقبتك. فقال له: لابد أن يغير. ولو قلت أنك مستضعف سقطت عنك الجمعة والجماعات. فتحس أنك عند أناس عربجية؛ لا علم ولا طلاب علم ولا علماء ولا مجموعة من الناس وضعوا أصول من حثالة عقولهم فيا ليت حتى صارت من عقول المعتزلة فيضلل صاحبها، المعتزلة هم على ضلال، لكنهم أناس محترمون، عندهم شيء اسمه شبهة علم، ولهم أصول، لكن هؤلاء لا أصول ولا فروع، ولا حتى مسكة ولا رائحة من رائحة العلم، يريد أن يجعل الدين عبارة عن معادلة كيت أو كيت، مخير أو ليس بمخير أو شيء من هذا القبيل، وفي الأخير تجد شاباً يذهب إلى الهجرة والتكفير ولا ينفع معهم. أقسم بالله لو تمكنت منهم ما ضربتهم إلا بجريد النخل ثم ثنيت بالضرب مرة أخرى. لو كان النقاش يجدي مع كل أحد سنناقش كل منحرف، لكن ثبت أن عمر أتى برجل تكلم في القدر، فعلقه من رجليه في سقف المسجد وضربه بالنعال والجريد حتى سال دمه، وقال المضروب: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب الذي كان برأسي. فهناك أناس لا يذهب ما في رأسه من الشبه إلا بذلك. أحياناً امرأتك إذا ضربتها تخضع لك، فإنك إذا نظرت إليها بعينيك تخاف، لو نظرت إليها تعرف أأنت غضبان، أم مرتاح وفرحان، فهي لا تسمع الكلام إلا بالتقريع والتوبيخ. لو أنك نمت في فراشها وأدرت لها ظهرك قتلتها، وأخرى تقول: الحمد لله أنها جاءت منه! فهن درجات، وأخرى لا ينفع معها إلا الضرب، والله العظيم أنني أعرف أخاً صديقاً له امرأة ودائماً في شجار معها، وعندما تتشاجر معه ويحمى الوطيس تذهب إلى المطبخ وتأتي بالسكين وتعطيه من أجل يضربها، وهذا بلاء عظيم جداً. فكذلك أصحاب الأف

منهج وفكر جماعة التكفير

منهج وفكر جماعة التكفير جماعة التكفير ما جلسوا يوماً واحداً لطلب العلم، وشيخهم إنسان لا علاقة له بالعلم البتة؛ واسمه شكري مصطفى، بل إنه لا يعرف عنه أي اتصال بالعلم، والذي كان يعرف عنه: الهجوم والتكفير لعلماء الأمة، سلفاً وخلفاً، حتى كفر النبي صلى الله عليه وسلم. أقسم بالله العظيم! أن هذا حدث منه، والذي ينقل ذلك عديل شكري مصطفى وهو ثقة، وكان معه في جماعته، وهو يحبه إلى الآن. وقد سمعته أنا بأذني رأسي، وإذا أردتم أن تعرفوا اسم هذا فهو الشيخ محمود شاكر، والذي يريد أن يسأله يذهب فيسأله. حدثني مشافهة في حضرة أخي وشقيقي سمير الزهيري وفي حضرة الدكتور أحمد حطيبة، علم من أعلام الدعوة في الإسكندرية، وفي حضرة غير واحد، حتى قال محمود شاكر لـ شكري في السجن لما نودي عليه ليشنق، وكان محمود قد بدرت منه بادرة التوبة، فقال شكري لـ محمود: يا محمود! أنا سأعيش ثلاث سنوات وسأربيك؛ لأنه بدرت منه بادرة توبة، تكلم بكلام يهز المنهج، فلما جيء إلى حبل المشنقة قالوا له: ما تقول في النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: كافر، قيل: وما كفره؟ قال: الله تعالى هو الذي كفره ولست أنا فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]! قال: فهذا محمد إرضاء لزوجاته حرم ما أحل الله، والمعلوم يقيناً عند المسلمين أن من حرم حلالاً أو أحل حراماً متعمداً فهو كافر. أيمكن أن يكون هذا من بني آدم يقال أنه طالب؟! ولذلك أنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن شكري مصطفى مات على الكفر البواح، والذي لا يكفر شكري لابد أن يراجع إيمانه مرة أخرى مع الله.

منهج السلف في الأخذ بالسنة وترك البدعة

منهج السلف في الأخذ بالسنة وترك البدعة قال: [قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمالاً لفرائض الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله تعالى ما تولى]. قال: [قال أبو الدرداء: لن تضل ما أخذت بالأثر]. يعني: كلما أخذت بالأثر فأنت بعيد كل البعد عن الضلال. قال: [يقول أبو الأسود: إن استطعت ألا تحك قفاك -وفي رواية: جلدك- إلا بأثر فافعل]. يريد أن يخبرك بأن حركاتك وسكناتك كلها لابد أن تكون منضبطة على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي). قال: [قال ابن عباس: من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة -أي: المبتدعة- فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه]. قال: [قال معاوية لـ ابن عباس: أأنت على ملة علي؟ قال ابن عباس: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة محمد عليه الصلاة والسلام. أرأيتم إلى هذا الكلام الجميل. يعني: معاوية يريد أن يقول له: أنت معي أم مع علي؟ فقال له: أنت على ملة علي؟ فرد عليه فقال: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة محمد عليه الصلاة والسلام]. قال: [قال رجل لـ ابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم -يريد أن يلبس على ابن عباس - فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة، إنما هو الأثر]. قال: [قال مالك بن أنس: قيل لرجل عند الموت: على أي دين تموت؟ فقال: أموت على دين أبي عمارة، وعلى ملة أبي عمارة -كأنه رجل كان مبتدعاً، وكان من أهل الأهواء- قال مالك: يدع المشئوم دين أبي القاسم ويموت على دين أبي عمارة؟!]. قال: [عن ابن سيرين قال: الرجل ما كان مع الأثر فهو على الطريق]. يعني: مادمت متمسكاً بالأثر فاعلم أنك على الصراط المستقيم، فإذا حدت عن الأثر لقول فلان وعلان ومذهب فلان أو فلتان فاعلم أنك ضللت ضلالاً بعيداً. قال: [عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها، فهي كذلك حتى أصابتها ريح شديدة فتحات ورقها -أي: فسقط ورقها- إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة]. يعني: إن كان اجتهاد واقتصاد فليكن على منهاج الأنبياء وسنتهم. قال: [كان أبو الأحوص يقول لنفسه: يا سلام! نم على سنة خير من أن تقوم على بدعة]. يعني: كن متبعاً للسنة خير لك من أن تكون رأساً في الشر ورأساً في البدعة. وعن شريح أنه كان يقول: إنما أقتفي الأثر -يعني: أبتدع الأثر- فما وجدت قد سبقني به -يعني: الصدر الأول- حدثتكم به. فهذا شريح ما كان يتكلم بكلمة إلا ولابد أن يكون له فيها سلف، حتى إذا قيل له: من أين لك هذا؟ قال: قال به فلان، أو سمعته من فلان، أو حدثني به فلان. وعن إبراهيم النخعي قال: لو أن أصحاب محمد مسحوا على ظفر لما غسلته التماساً الفضل في اتباعهم، وإبراهيم النخعي إمام الكوفة وكان مجتهد الزمان في زمانه. يعني: الأمر قد ورد في القرآن والسنة بغسل اليد، ولو أن السلف مسحوا على أظفارهم لما تجاوزت المسح؛ لأنهم أفهم لكلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، بل مسحت كما مسحوا اتباعاً، أو يقول: التماساً للفضل في اتباع سلف الأمة، وهذا كلام جميل جداً. قال: [يقول الشعبي: نزل المسح من السماء]. يعني: نزل المسح على النعلين والخفين والجوربين من السماء. قال: [عن الشعبي قال: المسح على الخفين أفضل من الغسل؛ لأن المسح سنة والسنة أفضل]. وأنتم تعلمون أن مسألة المسح على الخفين من مسائل الأحكام، وقد وردت في كتب الاعتقاد؛ لأنها أنكرت عند بعض فرق الضلال، وهم الشيعة الرافضة، فلما كانت هذه علامة على دين الرافضة وأنهم ينكرون المسح على النعلين والخفين والجوربين قام أهل السنة بإظهار هذه السنة، فكانت من مسائل الأحكام العملية من جهة، ومن مسائل الاعتقاد من جهة أخرى. ولذلك يخطئ من يظن أن الكتب المصنفة في العقيدة إنما تحوي مسائل الاعتقاد كلها، وإنما غالب هذه المسائل التي جاءت في كتب الاعتقاد ما اعتنى بها من صنف فيها إلا لمخالفة غير أهل السنة والجماعة لأهل السنة والجماعة في هذه المسائل. وبعبارة أخرى: عندما تقرأ العقيدة ا

النهي عن مناظرة أهل البدع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - النهي عن مناظرة أهل البدع لقد حذر الله تعالى في كتابه والنبي الكريم في سنته من مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع؛ لما في ذلك من إفساد دين المسلم، والناظر يجد أن كثيراً من الناس من طلبة العلم وغيرهم قد استهانوا بذلك، فتعرضوا لأهل البدع بالجدال والخصومة والمناقشة، فولجوا بمذاهبهم واقتنعوا بآرائهم.

سياق ما روي في النهي عن مناظرة أهل البدع

سياق ما روي في النهي عن مناظرة أهل البدع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فموضوع درسنا هو امتداد لدرسنا في كتاب أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي، وهو يتعلق بحكم المعاملة والتعامل مع أهل البدع، فهل يجوز لأهل السنة أن يختلطوا بأهل البدع؟ وما هي حدود هذا الاختلاط، سواءً كانوا علماء أو من دهماء الناس؟ إن هذا الموضوع في غاية الخطورة، مع أن كثيراً من الشباب وخاصة شباب الصحوة يستهينون بهذا الأمر، وما وقع كثير من الناس فيما وقعوا فيه من الشر إلا لأنهم تعرضوا لأهل البدع بالجدال والخصومة والمناقشة، واقتنعوا بمذهبهم وآرائهم، ولعلي أذكر أنه في عام (1975) لما ظهرت جماعة التكفير كنت آنذاك في الثانوية العامة، فلما عرضوا علي فكرهم، قلت: ما الذي يمنعني أن أجلس معهم، وأن أسمع منهم، فإن أعجبني وكان موافقاً لديني أخذته، وإن لم يعجبني رددته. وهذا القول بلا شك فيه مجازفة فضلاً عن تزكية النفس، وفي تلك السنة أين أنا من ديني أولاً؟ هل تعلمته؟ وعن أي من أهل العلم أخذت ديني في ذلك الوقت؟ فلما جالستهم اقتنعت جداً بما طرحوه علي، لكني خشيت من النظام الإداري العام والإطار العام للجماعة، فقلت: دعوني حتى أنظر في رأيي، فلما تركوني ما فررت منهم إلا خوفاً منهم، أما الكلام الذي طرحوه علي فالكلام مقنع جداً، فإنهم قد حملوا نصوص الوعيد على ظاهرها كما حملها الخوارج تماماً. وفي ذلك الوقت قالوا لي: كل عاصٍ لله تعالى كافر، أليس الأمر كذلك؟ قلت: بلى. ووافقتهم على أن كل عاص كافر، فصاروا يعددون لي المعاصي وسائر الذنوب، وأنا أوافق على أن مرتكبها كافر. كما قالوا لي: إن الذي يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغير الله وأسمائه وصفاته كافر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). فلو أنك قلت: إنه ليس بكافر، فلابد وأن تكفر، وإما أن تقول بظاهر الحديث؛ لأنك لو لم تقل بظاهره لكنت معطلاً للنصوص، فخشيت أن أكون معطلاً للنصوص، فوافقتهم على ذلك الفكر. وما هي إلا أيام بفضل الله تبارك وتعالى وقيض الله لنا رجلاً من أهل العلم، فسألناه فهدانا إلى الطريق الحق، فتركناهم وتركونا. ولكني أسأل نفسي: ما الذي حملني على خصومتهم وجدالهم؟ إنه الجهل، إنه الهوى، وعدم اتباع أهل العلم. وهذا رجل منذ ستة أشهر يسكن في منزله في أمريكا قابلته ينادي بتجديد الشريعة والدين، فقالوا: إنها فرصة لتجلس معه. فقلت: بل ليست فرصة، فإن أصحاب البدع متخصصون في بدعتهم، وأنا غير متخصص فيها، وصاحب البدعة لا ينظر ولا يبحث في دين الله إلا عما يؤيد بدعته، وأنت إذا لم تكن عالماً في أصل كلامه ومخرجه والرد عليه سرعان ما يهزمك. فقلت: بل هي ليست بفرصة، وإنما الفرصة كل الفرصة أن تبتعدوا أنتم عني. فهذه نصيحتي لكم أنقلها لكم عن أهل العلم فلان وفلان وفلان، واعتبروا أن الذي أقوله هو هزيمة نفسية مني، واقتربوا منه وحملوا عنه، ولما رأوا أن ذهابهم إليه في بيته أمر يشق عليهم جعلوه شريكاً لهم في سكنهم. وفي الزيارة الثانية وجدت أن القوم أجمعين قد اقتنعوا بمذهبه، فلما رأيت الخطر عظيماً، والتقينا على مائدة إفطار في رمضان. قال لي: ماذا تقول في التجديد؟ قلت: هي دعوى قال بها قاسم أمين وصاحبه. قال: وما رأيك فيها؟ قلت: نحن لا ننظر برأينا، وإنما نحتاج إلى كلام قاله نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل قال بالتجديد عليه الصلاة والسلام؟ فقال: وهل قال النبي عليه الصلاة والسلام بكيت وكيت وكيت؟ ثم أليس هذا الكلام كله قد حدث بعده؟ قلت: وعليه إجماع. لأنه ذكر لي: وهل جمع القرآن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل نص على خلافة فلان وفلان؟ قلت: قد أجمع عليها أهل العلم. قال: بل خالفهم الشيعة. قلت: الشيعة لا عبرة بخلافهم؛ لأنهم أهل البدع. فقال: بل الشيعة أهل حق. وانتبه إلى هذا، فقد نصب أهل البدعة وجعلهم أصحاب الحق. قلت: إذا كان الشيعة أهل حق فماذا تقول في معاوية؟ فقال فيه قولاً عظيماً لا أجرؤ أن أنقله لكم. قلت: أنت بهذا قد رفعت الشيعة، وسببت صحابياً من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شأن أهل البدع، إذ إنهم يقعون في الأخيار ويرفعون الأشرار، فلابد أن تعلم أن هذه سمة أهل البدع وأنت واقع فيها. قال: أنت تتهمني بأني من أهل البدع؟ قلت: أنا لا أتهمك، ولكني أقرر أنك من أهل البدع. ثم قلت له: فماذا يعني التجديد في نظرك؟ قال: النظر إلى النصوص بوجهة نظر عصرية. قلت: اضرب لي مثلاً على ذلك، فقال: لابد أن يخرج فينا من يسب القرآن ويطعن فيه حتى يعظم القرآن في قلوب أهل السنة. قلت: قد ظهر هذا عن بعض الناس، فوجد من يشكك في القرآن ويطعن فيه، مثل: قاسم أمين ونصر أبو زيد، هل تريد شيئاً آخر، وهل لا يعظم عندك الأمر إلا إذا طعن في القرآن؟ قال: نعم. قلت: إن أهل السنة غير ذلك، فهم يعظمون ويبجلون أوامر الله تبارك وتعالى لأول وهلة، {

النصوص النبوية في النهي عن مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع

النصوص النبوية في النهي عن مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم)]، أي: لا تسألوني عن شيء ما دمت أني قد تركته. ثم قال: [(فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم). والحديث أخرجه البخاري]. قوله: (فما نهيتكم عنه فاجتنبوه)؛ لأن كل نهي ورد في الشرع في مقدور جميع المكلفين، بخلاف الأمر فإنه مشروط بالاستطاعة. فمثلاً: الحج مأمور به وهو مشروط بالاستطاعة، والقيام في الصلاة واجب وهو أمر، ومع هذا من لم يستطع أن يصلي قائماً صلى قاعداً حسب استطاعته. وأما النهي فإن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق فيه القول، وقال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ ليدل على أن النهي داخل في مقدور كل إنسان، بخلاف الأمر فإنه مشروط بالاستطاعة كما ذكرنا. قال: [عن أبي أمامة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)]. إذاً لابد عليك أن تعلم أن أحد العلامات التي يتميز بها أهل البدع وأهل الزيغ: أنهم يجادلون في دين الله عز وجل، فيأخذون النصوص ويضربون بعضها ببعض. قوله: (إلا أوتوا الجدل) أي: رزقوا، ثم قرأ النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]. قال: [عن قتادة في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] قال: صاحب بدعة يدعو إلى بدعته]. فهو الذي يجادل في الله بغير علم أتاه. قال: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال الآخرون: ألم يقل الله كذا وكذا)]، أي: أن هذا يأتي بنص من كتاب الله، والآخر يأتي بنص في ظاهره يناقض النص الأول. [(فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن سمعهم وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان -أي: من شدة الغضب- فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض، إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه)]. أي: لا تضربوا كتاب الله تعالى بعضه ببعض؛ لأن هذا من شأن أهل البدع والزيغ والضلال. قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله عز وجل أمركم. ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)]، وهذا لم يكن نهج الصحابة ولا السلف. قال: [عن عائشة قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] حتى بلغ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)]. والذين سماهم الله عز وجل هم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وصفهم الله تبارك وتعالى في صدر الآية فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7]. إذاً: الذي يتبع متشابه القرآن ومتشابه السنة هو الذي في قلبه زيغ، وقد حذر الله تبارك وتعالى منه. قال: [قال علي رضي الله عنه في خطبته: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)]. أي: أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو أتى بقول جديد مخترع لا دليل عليه من كتاب أو سنة فعليه لعنة الله، أو أوى من أتى بهذه المحدثة وهذه البدعة أو هذا الجرم، أو أحدث حدثاً استوجب عليه حداً كالردة وغيرها، أو آوى من فعل ذلك؛ لأجل ألا يقام عليه الحد، فإن من فعل ذلك إنما استجلب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قال: [عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)]، أي: فهو مردود عليه. ولاشك أ

أقوال السلف في النهي عن مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع

أقوال السلف في النهي عن مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع قال: [قال عبد الله بن مسعود: إياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب. قيل: يا أبا عبد الرحمن: فإلى أين؟ قال: إلى لا أين -يعني: يمكث في مكانه- يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحداً من أهل البدع]. وهذا هو الهروب الحقيقي أي: أن يهرب بقلبه ودينه؛ لأن كل مكان فيه بدع وشر، فليهرب بقلبه ودينه، والطريق إلى ذلك: ألا يجالس أهل البدع. قال: [عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان فقدمهم إلى عبدة الأوثان]. وفي رواية: [إلى عبادة الأوثان]. أي: أن مآله في النهاية أن يعبد الأوثان كغيره. قال: [قال الحسن البصري عن معاذ بن جبل: إنما أخشى عليكم ثلاثة من بعدي - معاذ ينصح الحسن البصري -: زلة عالم، وجدال منافق في القرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوه، ومن لم يكن غنياً من الدنيا فلا دين له. قال عبد المؤمن: فسألت أبي ما يعني بهذا؟ قال: سألناه، فقال: من لم يكن له من الدنيا عمل صالح فلا دين له]. قال: [عن مجاهد قال: قيل لـ ابن عمر: إن نجدة الحروري - وهو على رأس أهل البدع - يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه؛ كراهية أن يقع في قلبه منه شيء]. وعبد الله بن عمر إمام، ومع هذا كره أن يسمع مقولة نجدة الحروري. قال: [عن أبي أمامة الباهلي قال: ما كان شرك قط إلا كان بدوه تكذيب بالقدر -أي: أن أول خطوة من خطوات الشرك بالله: التكذيب بالقدر- ولا أشركت أمة قط إلا بدوه تكذيب بالقدر، وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة، فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة -يعني: إذا قابلوكم فلا تسمحوا لهم أبداً بأن يسألوكم، ولا تسألوهم أنتم عن شيء- ثم قال: فيدخلوا عليكم الشبهات. وعن عمر قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا]. أي: إياكم وأصحاب البدع، فإنه قد أعيتهم وأنهكتهم الأحاديث أن يحفظوها، وأن يفهموها ويعملوا بها، فانحرفوا عنها إلى الرأي، فقالوا في دين الله بآرائهم؛ فضلوا وأضلوا. قال: [عن عمر قال: سيأتي أناس سيجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]. قال: [قال علي: سيأتي قوم يجادلونكم فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]. وعمر، وابن مسعود، ومعاذ، وعلي بن أبي طالب أعلم كبار الصحابة يحذرون من الاختلاط بين أهل البدع، ومناظرتهم ومجادلتهم، فما بالكم تقحمون مجادلتهم ومناظرتهم؟! قال: [قال أبو واقد الليثي: (إن رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أتى حنيناً مروا بشجرة يعلق المشركون عليها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط -رأيت من أين يدخل البلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لقد قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)]. فالذي يقول: اجعل لنا شجرة كما لهم شجرة، لابد وأن يئول به الأمر في النهاية إلى أن يقول: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، مع أن الأمر بدأ بشجرة يعلقون عليها الأسلحة، فالصحابة رأوا الأمر سهلاً لا علاقة له بالشرك، لكن مجرد المشابهة في أقوالهم وأفعالهم الخاصة بهم يؤدي في النهاية إلى الشرك بالله عز وجل، فحذرهم من ذلك فقال: (الله أكبر). أي: أن الأمر عظيم وخطره كبير؛ لأنكم ستقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي: هديهم. وقوله: (حذو القذة بالقذة)، أي: الصغيرة بالصغيرة. ثم قال: (حتى ولو دخلوا جحر ضب). ومن الذي يدخل جحر ضب؟! إن هذا واقع، وقد رأينا بعض المسلمين يقلدون اليهود والنصارى في كل شيء، قال: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟). أي: هؤلاء الذين قصدتهم بقولي أنكم ستتبعونهم، ولا يعني به الصحابة فقط، وإنما عنى الأمة بأسرها، والصحابة وقعوا في شيء من ذلك بجهل؛ لأنه لم يسبق لهم علم حتى نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك. قال: [عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخل

أقوال السلف في ذم الخصومة والجدال في الدين

أقوال السلف في ذم الخصومة والجدال في الدين قال: [عن علي قال: إياكم والخصومة، فإنها تمحق الدين]. أي: تحلقه. فتجد الواحد كل حياته خصومة وجدال ومراء! قال: [عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم بما أهلك من كان قبلهم]. أي: السبب الذي به هلك من كان قبلهم، وهو بالمراء والخصومات. وعن ابن الحنفية قال: لا تنقضي الدنيا -أي: لا تقوم الساعة- حتى تكون خصومات الناس في ربهم. أي: حتى تكون الخصومة ليس في المسائل الفقهية، بل في الذات العلية. وهذا علامة من علامات الساعة، إذ إن الدنيا لا تنقضي حتى يختلف الناس في ربهم وفي ذاته وفي أسمائه وصفاته، وقد وقع الخلاف، والفرق كلها على خلاف في العقيدة، بل وفي الله عز وجل. قال أبو العالية: إياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. أي: أن من شأن هذه الأهواء والبدع أنها تلقي بين قلوب الناس العداوة والبغضاء. فإذا اختلفت مع أخيك في قضية ما، فهل يكون قلبك بعد الخصومة وقبلها سواء؟ A لا، لكن ما اختلفوا رضي الله تعالى عنهم فيه من خلاف في فروع المسائل فيسعنا. وسلف هذه الأمة لم يختلفوا في أصل اعتقادهم. قال: [قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت الحسن فقال: صدق ونصح، قال: فحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي، أنت حدثت بهذا محمداً؟ قلت: لا. قالت: فحدثه إذاً]. أي: فحدث بهذا الكلام الجميل محمد بن سيرين. قال: [عن الحسن أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد! إني أريد أن أخاصمك، فقال الحسن: إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه]. أي: أن الذي عنده شك وريبة في دينه هو من يسلك طريق الخصومة والجدال، أما أنا فالحمد لله فمفتخر بديني، وعاقد قلبي عليه، وليس عندي شك، فلم أخاصمك وأداهنك؟ قال: [قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه -وهذا الكلام مهم- غرضاً للخصومات أكثر التحول]. فهو اليوم في حل، وغداً في حل ثاني، وبعد بكرة في حل ثالث، وكلما أتى له واحد ألسن وأعظم بحجته وأكثر بياناً تحول من رأيه الماضي إلى رأي آخر، لذا فالذي يجعل دينه غرضاً للخصومات كلما لاقى خصومة أقوى من سابقتها ترك الخصومة الأولى وتحول إلى الثانية، ثم قد يجد خصومة ثالثة أقوى من سابقتها، فيتركها ويتحول إلى خصومه أخرى، وكل يوم هو في حال؛ لأنه لا استقرار عنده في أمر دينه وعقيدته. قال: [قال الخليل بن أحمد: ما كان جدلاً إلا أتى بعده جدل يبطله]. لأن الجدل منه قوي ومنه أقوى، فالجدل يوصل إلى جدل، والمرء إذا سلم أمر دينه للجدل فإنما يسلمه إلى أعظم جدال، وكلما ظهر له جدل عظيم تحول إليه، لكن ينبغي على المرء أن يعلم دينه أولاً، ولذلك لا يعجبني قول من يقول بلزوم معرفة أهل السنة والجماعة لعقائد أهل البدع والضلال، إنما الذي يعجبني أن تتعلم أنت عقيدة أهل السنة والجماعة بأصلها، وأن توقن أنما عدا ذلك انحراف، وأياً كان هذه الانحراف فلا يضرني من يقوله، فالذي يلزمني أن هذا القول ليس قول أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، فينبغي ويجب عليَّ أولاً أن أتعلم عقيدتي، وأن أعلم أن ما دون هذه العقيدة إنما هي عقائد باطلة منحرفة، وألا أتعلم عقائد أهل البدع والانحراف في أول الأمر، فأقضي عمري كله في دراسة عقائد اثنين وسبعين فرقة، ثم في الأخير بعد انقضاء العمر أقوم بدراسة عقيدة أهل السنة والجماعة! حتى أعلم أن ما دون هذه العقائد هو الحق، وهو الصواب، بل لابد من دراسة عقيدة أهل السنة والجماعة أولاً، ثم أعلم أن ما دون هذه العقيدة لا يلزمني. قال: [قال عمرو بن قيس: قلت للحسن بن عتيبة: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟] أي: ما الذي جعلهم يكثرون من الدخول فيها؟ قال: [الخصومات]. أي: لما فتحوا باب الخصومات على أنفسهم كان لزاماً عليهم أن يدخلوا في هذه العقائد الباطلة. قال: [عن عنبسة الخثعمي - وكان من الأخيار - قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق]. قال: [قال الأحنف بن قيس: كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب]. قال: [قال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات؛ فإنها تحبط الأعمال]. قال: [عن الفضيل بن عياض: لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله]. قال: [عن

أقوال السلف في ذم البدعة في الدين

أقوال السلف في ذم البدعة في الدين قال: [قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية]. فتصور وقوعك أنت في البدعة أحب إلى إبليس من الزنا والقتل وشرب الخمر، لذا فالواحد لما يقع في معصية أو في كبيرة من الكبائر يعرف أنه آثم ومذنب، ويحتاج إلى توبة وتطهير، لكن صاحب البدعة يتقرب بها إلى الله، وصاحب المعصية لا يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل، بل قد يقول صاحب المعصية: أنا أستحق الحد، بينما صاحب البدعة يعتبر أنها الحق الذي يقربه إلى ربه. إذاً: صاحب البدعة في نظره أنه لا يحتاج إلى توبة، بينما صاحب المعصية يعلم أنه في أمس الحاجة إلى التوبة، وأنه على معصية، بخلاف صاحب البدعة، ومن هنا: كانت البدعة أحب إلى الشيطان وإلى إبليس من المعصية. قال: [قال ثابت بن العزان: أدركت أنس بن مالك وابن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، ومجاهد، وابن أبي مليكة، والزهري ومكحول، والقاسم وعد ناساً كثيراً فقال: كلهم يأمرونني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء. قال بقية: ثم بكى، وقال: أي بني! ما من عمل أرجأ ولا أوثق من مشي إلى هذا المسجد. يعني: مسجد الباب]. قال: [كان الحسن البصري يقول: لا تجالسوا أهل الهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم]. وقد [دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث واحد؟ فقال لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: ولا آية]. أي: أن ابن سيرين يخاف على أصحابه من أهل البدع، وإلا فكلام أهل البدع مع ابن سيرين ليس بمشكلة، وإنما المشكلة في موقف أصحاب ابن سيرين، هل سينكرون عليه أم لا؟ وإذا أنكروا فهل هم محقون في هذا الإنكار أم لا؟ قالا: فماذا نصنع معك؟ قال: تقومان عني ويلكم! أي: إما أن تنصرفوا عني وإما تركتكم وانصرفت أنا، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم من أصحاب ابن سيرين: ما كان عليك أن يقرأ عليك آية؟ أي: ما هو الذي يضرك إذا قرأ عليك آية من آيات الله عز وجل؟ قال: إني كرهت أن يقرآ آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي. فتأمل ابن سيرين وخوفه على نفسه وقلبه! قال: [عن أبي قلابة البصري قال: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن عليكم أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون فتهلكوا]. قال: [عن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب، احفظ عني أربع وصايا: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد فأمسك -أي: لا تتكلم في واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالخير، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك]. أي: لا تسمع لهم ولا كلمة؛ لأنك لو سمعت هلكت. قال: [عن أبي قلابة قال: ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف]. فهم بين نقمتين: النقمة الأولى: الانحراف عن المنهج العقائدي. النقمة الثانية: أنهم يتصورون أن عقيدتهم هي الحق، فتحملهم هذه العقيدة الباطلة على الخروج بالسيف، والذين خرجوا على علي بن أبي طالب قد خالفوا الطريق، فخرجوا أولاً في أصل معتقدهم بتكفير المسلم بالكبيرة، ثم شهروا السيف في وجهه. إذاً: فكل صاحب بدعة لابد وأن تؤدي به بدعته في نهاية الأمر إلى الخروج على الأمراء وأهل العلم بالسيف. فهذا ابن طاوس مر على رجل من المعتزلة يتكلم [فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد حتى لا تسمع من كلامه شيئاً]. لأن القلب ضعيف، مع أن هؤلاء أئمة، ومع هذا خافوا على أنفسهم وعلى أبنائهم، وعلى عامة المسلمين، ونحن أولى بذلك منهم. قال: [عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل وقد سأله عن الأهواء: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب، والأعرابي، واله عما سواهما]. أي: دعك من الأشياء الأخرى، وعليك بدين الصبي الصغير الذي خلقه ربنا على الفطرة والإسلام والتوحيد الخالص قبل التلوث، وقبل الوسخ والدخن، وعليك بدين الأعرابي الذي رضع في البادية ولم يتلوث بلوث المدينة. قال: [قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة]. أي: إذا رأيت قوماً يقولون كلاماً غريباً ليس بمفهوم ولا معقول، فاعرف أن هؤلاء في أول بدعتهم وضلالتهم. أي: أن مآلهم أن يظهروا. قال: [عن محمد بن النضر الحارثي قال: من أصغى سمعه إلى صاحب بدع

تحذير السلف من الجدل ومصاحبة أصحاب الكلام

تحذير السلف من الجدل ومصاحبة أصحاب الكلام قال: [عن الأوزاعي قال: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل]. قال: [قال يونس بن عبد الأعلى: قلت للشافعي: تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا؟ أي: يونس بن سعد، فقد كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق ولا تعبأ به ولا تكلمه. قال الشافعي: فإنه والله قد قصر]. لذا فقد يرى المسلم أحوالاً تظهر على أيدي أهل الأهواء في الظاهر أنها كرامات، فاحذرها، فلو رأيت صاحب الهوى يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تركن إليه حتى تنظر إلى عمله، فإن كان موافقاً لكتاب الله ولسنة رسوله، فاعلم أن هذه كرامة من الله تعالى، وإن كان غير ذلك فاعلم أنه كذب من الشيطان. وهذا الكلام عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قرره في كتاب الفتاوى، فلا تحكمن على الرجل بصلاح أو فساد حتى تنظر إلى عقيدته وعمله، فإن كانت مستقيمة، وظهر منه شيء خارق للعادة فاعلم أن هذه كرامة، وإن كان غير ذلك فاعلم أنه استدراج من الشيطان. قال: [قال الربيع: سمعت الشافعي يقول، وقد ناظره رجل من أهل العراق، فخرج إلى شيء من الكلام، هذا من الكلام، دعه]. أي: هذا من الرأي فدعه؛ لأنه لا يتقنه. قال: [قال الشافعي: لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه عدا الشرك خير له من الكلام]. وخير له من الهوى والضلال والانحراف. قال: [قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: تعلم يا أبا موسى! -لأن العلم نجاة- لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول بذلك]. يعني: أن أصحاب الأهواء قالوا كلاماً ما كان الشافعي يتصور أن واحداً من الأمة يقول هذا الكلام، ولا ينجي من هذا الضلال إلا طلبك للعلم، ولذا نصح الشافعي أبا موسى أن يتعلم. قال: [كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول أحدهم إذا خالفه صاحبه: كفرت. والعلم فيه: إنما يقال: أخطأت]. لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن أهل السنة مع أهل البدع أرحم من أهل البدع بعضهم ببعض. لأنك تأتي وتناظر وتجادل واحداً من أهل البدع، وتقول له: أنت أخطأت، لكنهم عندما يتناقشون مع بعض يقول أحدهم للآخر: أنت كفرت، فيرمون بعضهم بالكفر، مع أن أهل السنة يتوقفون في ذلك أشد التوقف. قال: [قال الشافعي: ما تردى أحد بالكلام فأفلح]. قال: [قال الربيع: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة، وقوم في المسجد يتكلمون بشيء من الكلام، فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا وتنصرفوا عنا]. قال: [قال أبو يوسف: من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق]. قال: [قال عبد الرحمن بن حمدان: كان معي رفيق بطرسوس، وهو أبو علي بن خالويه، وكان معي في البيت، وكان قد أقبل على كتب الصوري والأنطاكي وأصحاب الكلام في الرقة، وكنت أنهاه فلا ينتهي، حتى كان ذات يوم جاءني فقال: أنا تائب، فقلت: أحدث شيء؟ قال: نعم، إني رأيت في هذه الليلة كأني دخلت البيت الذي نحن فيه، فوجدت رائحة المسك، فجعلت أتتبع الرائحة حتى وجدتها تفوح من المحبرة فقلت: إن الخير في الحديث]. قال: [قال مصعب: رأيت أهل بلدنا -أهل المدينة- ينهون عن الكلام في الدين]. قال: [قال مصعب: بلغني عن مالك بن أنس أنه كان يقول: الكلام في الدين كله أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهون القدر ورأي جهم، وكلما أشبه، ولا أحب الكلام إلا فيما كان تحته عمل، فأما الكلام في الله فالسكوت عنه؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما كان تحته عمل]. قال: [قال سفيان بن عيينة: قال ابن شبرمة: إذا قلت جدوا في العبادة واصبروا أصروا وقالوا: لا الخصومة أفضل خلافاً لأصحاب النبي وبدعة وهم لسبيل الحق أعمى وأجهلُ] قال: [ذكر أن فتى من أصحاب الحديث أنشد في مجلس أبو زرعة الرازي رضي الله عنه هذه الأبيات فاستحسنه وكتبت عنه: دين النبي محمد أخباره نعم المطية للفتى آثار لاتعدلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

الحكم على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) Q ما صحة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)؟ وإن كان صحيحاً أفلا يعارض قول ابن عباس: الهوى كله شر؟ A الحديث ضعيف، وهو موجود في الأربعين النووية وجامع العلوم والحكم، والحمد لله ليس هناك تعارض.

خزعبلات صاحب كتاب (الإسلام في الخندق)

خزعبلات صاحب كتاب (الإسلام في الخندق) Q يقول السائل: قال الدكتور مصطفى محمود في كتابه: (الإسلام في الخندق): إن تطبيق الشريعة لا يكون في كل زمان، وذلك لأن عمر بن الخطاب لم يطبق حد السرقة في حكمه يوم جاع الناس. أيضاً أن الذي يسرق خمسة جنيهات تقطع يده، وأما الراشي في مائة ألف جنيه فلا تقطع يده! وبالتالي في عصر البلوى وانتشار الفساد، والناس في عصيان وعدم وجود ما يمنعهم من ذلك، فكيف ذلك؟ A يا أخي الكريم! مصطفى محمود في أمس الحاجة إلى من يصلح له عقيدته، وهو والله عدو السنن، ووالله أن أثقل شيء على قلبه أن تسمعه آيات من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأبغض الوجوه إليه وجه صاحب سمت السنة، وهو لا يألو جهداً في صدهم وطردهم من مسجده، ويبغضهم بغضاً شديداً، ناهيك عن هذا كله. هذا الرجل إذا أردت أن تأخذ عنه فخذ عنه علم الأعضاء وعلم التشريح وغير ذلك.

حكم التخلف عن صلاة الجماعة في جميع الصلوات

حكم التخلف عن صلاة الجماعة في جميع الصلوات Q ما حكم الذي يصلي جميع الأوقات في البيت، أو في مكان العمل دون عذر؟ وهل هناك حديث: (من سمع النداء ولم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)؟ A الحديث عند أبي داود بسند صحيح، وهو محمول على نفي كمال الثواب؛ لأن مذهب الجمهور أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة. ويترجح لدى الحنابلة: أن صلاة الجماعة واجبة، والأمر محل خلاف بين أهل العلم، مع أن أهل العلم الذين اختلفوا في حكم الجماعة لم يتخلفوا عن حضور الجماعة، فهم اختلفوا من حيث الحكم الفقهي أو تقرير الحكم، لكن هل تخلف أحد منهم عن الجماعة؟ لم يبلغنا أن أحداً منهم، أو أحداً ممن قال: بأن الجماعة سنة مؤكدة، تخلف عن صلاة الجماعة.

واجب المسلم تجاه تبجح العلمانيين

واجب المسلم تجاه تبجح العلمانيين Q أنا طالب في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة نجد بعض المحاضرين يتكلمون في أمور علمانية، مثل: التجديد، والاستهزاء بذوي اللحى، والمنتقبات، فما واجبنا نحن الطلاب؟ هل نرد عليهم أم نلتزم الصمت؟ A يجب الرد على هؤلاء الناس، ولا يصلح السكوت عن أصحاب الأهواء والبدع والإلحاد، وأمثال هؤلاء لابد أن تقف لهم موقفاً شديداً، وأن تحرجهم أمام الحاضرين، وأن تبين لهم أنهم أصحاب انحراف وزيغ عن دين الله عز وجل، لا أقول: عن المنهج فقط، بل المسألة واضحة، فهم خارجون من الدين. يعني: أنهم ينادون باللادينية، لكن لا يبوحون بذلك خشية المجتمع من حولهم.

عقيدة الإمام سفيان الثوري

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - عقيدة الإمام سفيان الثوري الإمام سفيان الثوري رحمه الله أحد الأئمة الذين حفظ الله عز وجل بهم الدين، لما نشروا من السنن وشيدوا، وهدموا من البدع وأبادوا، فقوله في القرآن بأنه كلام الله، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأنه قول وعمل، وتقديم أبي بكر وعمر في الخلافة والفضل، وألا يقطع لأحد بالجنة إلا بنص، وأن الله تعالى خالق كل شيء من خير وشر، والصلاة خلف أمراء الجور ما لم يكفروا كل ذلك هو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، وعليه إجماعهم من قبل سفيان الثوري ومن بعده.

عقيدة سفيان الثوري في القرآن

عقيدة سفيان الثوري في القرآن الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. مواصلة لما بدأناه من شرح كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي رحمه الله، نقول: إن الباب الذي وقفنا عليه باب في غاية الأهمية، وإن كان الكتاب كله في غاية الأهمية، لكن هذا الباب قد ذكر فيه الإمام جملاً من عقائد بعض أئمة أهل السنة، فلا أقول: إن ما ورد في عقيدة كل إمام هو مسند اعتقاد أهل السنة، وإنما مجموع ما ورد من اعتقاد في تراجم جميع الأئمة يمثل العقيدة الإسلامية لأهل السنة والجماعة، فقد ذكر الإمام هنا عقيدة الثوري، وفيها: أن شعيب بن حرب التقى بـ سفيان الثوري فقال له: [(حدثني بحديث من السنة ينفعني الله به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه، فقال لي: من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان بن سعيد الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤاخذ أنت)]. يعني: يحاسبك الله تعالى عليها. [فقال] أي: سفيان الثوري وهو إمام أهل الكوفة، وكان معروفاً بأمير المؤمنين في الحديث، وهو ناصر السنة وقامع البدعة في منطقة الكوفة وما حولها، وكان صاحب مدرسة الأثر، وكان الإمام أبو حنيفة على رأس مدرسة الرأي، رحم الله الجميع. فـ سفيان كان معروفاً بالأثر، وكان معروفاً بالتمسك بالسنة في كل كبيرة وصغيرة، فلما سأله شعيب بن حرب قال له: [(يا شعيب!) هذا توكيد وأي توكيد! اكتب] أي: اكتب ما سأمليه عليك، فإنه اعتقاد أهل السنة، ونحن الآن لو قلنا لطالب من طلاب العلم الموجودين: قم فأمل علينا عقيدتك، فنحن نريد أن نتعلم العقيدة الصحيحة قم وأخبرنا بعقيدتك التي أخذتها عن أهل السنة والجماعة، فربما يتكلم المرء بمسألة أو مسألتين ثم يتوقف؛ لأنه لم يخطر على باله أن يأخذ عقيدته مسألة مسألة، أما حينما يسأل إمام من أئمة الهدى عن هذه العقيدة فيختلف الأمر.

سبب ابتداء الثوري عقيدته بمسألة القرآن

سبب ابتداء الثوري عقيدته بمسألة القرآن قال: [(بسم الله الرحمن الرحيم. القرآن كلام الله غير مخلوق]. لماذا بدأ سفيان بهذه القضية؟ أولاً: لأنها قضية تتعلق بذات الرب تبارك وتعالى، وأعظم العلم هو علم الاعتقاد خاصة اعتقادك في الله عز وجل؛ لأن أعظم ما يمكن أن يتعلمه المرء، وأوجب الواجبات التي أوجبها الله تبارك وتعالى على المرء: أن يحسن اعتقاده في الله عز وجل، ولذلك يقول أهل العلم: إن أعظم العلوم وأشرفها علم العقيدة؛ لتعلقها بذات الإله، وثاني العلوم علوم القرآن؛ لتعلقه بصفة من صفات الله عز وجل، ثم علم السنة لتعلقه بكلام النبي عليه الصلاة والسلام. إذاً: أول ما يجب عليك أن تطلبه هو العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلف هذه الأمة وعلماؤها. لذا قال: [اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم القرآن كلام غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، من قال بغير هذا فهو كفر]. هذا أولاً. ثانياً: أن هذه الفتنة -أي: فتنة القول بخلق القرآن من عدمه- نشأت في أرض الفتن العراق، وكل عالم ينزل فيها لابد وأن يبتلى وأن يختبر بها، وأنتم تعلمون أن أهل العراق هم في الغالب أهل فتن، والنفاق إليهم أسرع من غيرهم، وقلة احترامهم لأهل العلم مشهورة عنهم، ولا أدل على ذلك من أنهم شايعوا علياً والحسن والحسين، وكانوا أول الناس نكثاً للعهد معهم، فهم أهل غدر ونفاق إلا من رحم الله عز وجل. ولذلك لما رأى سفيان الثوري أن هذه المسألة في غاية الأهمية لتعلقها بذات الإله، وهي من جهة ثانية هي التي تدور على ألسنة العامة والخاصة في بلاده، أراد أن يعالجها ابتداءً. وكلام الله تبارك وتعالى صفة من صفاته، والله تبارك وتعالى يتصف بصفات الذات وصفات الفعل، والكلام من صفات الفعل، فالله تبارك وتعالى يتكلم بما شاء بأي كلام يريده متى شاء، ويسكت عنه متى شاء؛ لأنه من صفات فعله؛ فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، والله تبارك وتعالى متكلم منذ الأزل وإلى الأبد، لا ابتداء لكلامه ولا نهاية له، كما أن الله تبارك وتعالى هو الأول وهو الآخر، فكذلك كلامه يحمل هذه الصفتين؛ فإنه لا أولية له ولا يفنى هذا الكلام، فإن الله تبارك وتعالى متكلم دائماً وأبداً وأزلاً، فلم يكن ساكتاً ثم تكلم، وإذا تكلم لا يفنى كلامه ولا يبيد سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (غير مخلوق) هذه الصفة بل وجميع الصفات غير مخلوقة.

خطورة القول بخلق القرآن

خطورة القول بخلق القرآن ما هي خطورة القول بخلق صفة من صفات المولى عز وجل؟ ولم نشأت الفتنة في ذلك؟ الأمر الأول: خطورة هذا الكلام أنه يلزمك أن تقول: إن كل مخلوق حادث. يعني: لم يكن ثم كان، فهل الله تبارك وتعالى لم يكن متكلماً ثم تكلم؟ هذه صفة عجز وصفة نقص. أن يقال: إن الله عز وجل لم يكن يتكلم، وبعد ذلك تكلم، فمن الذي علمه الكلام؟! أليست هذه صفة نقص؟ بلى. إذاً: الصواب: أن هذه الصفة -وهي صفة الكلام- لازمة لله عز وجل لم يخلقها أحد. ولازمة بمعنى: أنها ملازمة لله عز وجل لا تنفك عنه، لا أول لها ولا نهاية. فإذا قلت: إنه مخلوق، إذاً: أثبت أولاً أن الله تبارك وتعالى كان عاجزاً ثم صار قادراً على الكلام، والعجز صفة نقص لا تجوز على الله عز وجل، بل صفات العجز لازمة للمخلوق وليس للخالق، هذا أمر. الأمر الثاني: لو أني قلت: إن كلام الله مخلوق لابد وأن يفنى؛ لأن كل مخلوق حادث، وكل حادث إلى زوال، كما قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص:88]. فهنا نقول: إن القول بخلق القرآن يستلزم القول بفناء هذا القرآن، وبانتهاء هذا القرآن، ولا قائل بذلك من أهل السنة. إذاً: الذي يقول: إن القرآن كلام الله مخلوق، لابد وأنه مبتدع في أسماء الله وفي صفاته ما لم يكن عليه سلف هذه الأمة، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين رضي الله عنهم أجمعين.

سبب زيادة (غير مخلوق) في وصف كلام الله

سبب زيادة (غير مخلوق) في وصف كلام الله لم يقل أحد من السلف (إن القرآن كلام الله مخلوق). بل ولم يقولوا: (غير مخلوق)؛ لأن السلف لما وقفوا عند ألفاظ معينة ومصطلحات محددة ما تجرأ من أتى بعدهم على أن يخترع لفظة لم يقل بها السلف خاصة في باب العقيدة، فما الداعي لقول مخلوق أو غير مخلوق؟ ولكن لما أتى من قال بخلق القرآن، قام أحمد بن حنبل ومن معه من أهل السنة وردوا عليهم فزادوا: غير مخلوق، وإلا فالأصل أن يقولوا: القرآن كلام الله، وهذه عقيدة السلف، لم يقل أبو بكر ولا عمر ولا غيرهم (غير مخلوق)، ولكن اضطر أحمد بن حنبل أن يرد على من قال: بأنه مخلوق أن يقول له: لا، هو غير مخلوق، ولذلك ينهى أهل العلم جميعاً عن تعلم الفلسفة والمنطق، ولكن لما ازدهر ذلك وانتشر بترجمة كتب اليونانيين في زمن الدولة العباسية قام الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله يرد عليهم، وهو ينهى الأمة عن تعلم الفلسفة والمنطق؛ فهو الذي قال: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق. ومع هذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية إماماً في الفلسفة والمنطق، بل هو الذي رفع عن الأمة حد الواجب الكفائي في الرد على الفلاسفة والمنطقيين؛ لأن ابن تيمية عليه رحمة الله إمام علم متبحر في علوم السنة والهدي فلا خوف عليه ولا لوم عليه أن يسد الثغرة التي ربما يؤتى الإسلام من خلالها في تعلم الفلسفة في ذلك الزمان، مخافة أن يتكلم الفلاسفة مع عامة المسلمين فيضلونهم عن دينهم، فأيد الله عز وجل دينه بهذا الإمام العلم المبجل، فرد عليهم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فسد هذه الثغرة على أهل الإسلام جميعاً؛ على علمائهم وعامتهم، ونصح لله عز وجل أيما نصيحة. ولذلك أهل السنة لما كانت تظهر مسألة من المسائل التي يخشى على العامة منها كانوا يتعرضون لها بأي سبيل مشروع؛ حتى يحققوا الواجب الكفائي لنصح هذه الأمة في كل زمان ومكان.

حكم من اعتقد خلق القرآن

حكم من اعتقد خلق القرآن قال: [اكتب: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال بغير هذا فهو كفر]. ولم يقل: (فهو كافر). وهذه جزئية مهمة جداً في الاعتقاد، فالقائل يكفر إن كان عالماً بما يقول مصراً على قوله واعتقاده، ولكن في الغالب أن المرء ربما تكلم بكلام هو كفر، ولكنه لا يدري أنه كفر. فنقول: إن قول الكفر لا يكفر به صاحبه إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه، تحضره أمامك وتقرره: أنت قلت: إن القرآن كلام الله مخلوق؟ أتعلم خطورة هذا القول؟ فيقول لك: والله لا أعرف. فتقول: لا. هذا القول خطورته كيت وكيت وكيت، وهو في الجملة مخالف لاعتقاد أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يعتقدون غير ما تعتقد، والأدلة من كتاب الله كيت، ومن سنة الرسول كيت، ومن أقوال أهل العلم كيت. والإمام والعالم والسلطان هو الذي يقيم الحجة على من خرج على النهج القويم، فإن أصر صاحب القول المخترع المبتدع على قوله حبس ثلاثاً يستتاب وإلا أقيم عليه الحد الشرعي.

عقيدة الثوري في الإيمان

عقيدة الثوري في الإيمان قال أي سفيان: [والإيمان قول وعمل ونية]. الذي يدخل الإسلام لابد أن ينطق بالشهادتين: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، فمن شهد بالشهادتين ونطق بهما، ولكن قلبه مبغض لهاتين الشهادتين غير محب لهما وغير معتقد لصحة هذه الشهادة فيأخذ حكم المسلم في الدنيا، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ولكنه عند الله منافق؛ لأن هذه الكلمة التي نطق بها لم تستقر في قلبه، بل الذي استقر في قلبه هو بغض هذه الشهادة، وبغض الرسالة وعدم اعتقادها. ولذلك نقول: إن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان ومنها القلب؛ لأن القلب له أعمال فحبه وبغضه وصدقه وإخلاصه وإيمانه هي أعمال القلب، فعندما نقول: الإيمان قول وعمل. أي: عمل الجوارح والأركان، وكذلك عمل القلب؛ لأن القلب له عمل، ومن أعظم أعمال القلب: أن يُعقد على حب الله ورسوله، وعلى اتباع كتاب الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أنك إذا نطقت بهذه الكلمة فلابد أن تنوي بها أن تؤدي ما ألزمك الله تبارك وتعالى من خلالها، فلا يصح أن ينطق شخص بالشهادتين ثم هو تارك للصلاة وللصيام وللزكاة وللحج مع القدرة وغير ذلك من فرائض وأركان ومستحبات الإسلام. فالإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص؛ لأنه لا يستوي الذي يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويقوم على طاعة الله في كل كبيرة وصغيرة، لا يستوي مع من فرط في ذلك كله، فلا شك أن من أتى طاعة الله، وائتمر بأوامره، وانتهى بنواهيه، لا شك أن هذا أعلى إيماناً من الذي فرط في ذلك أو في شيء منه. قال: [والإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية، ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة]. فانظر إلى هذا النصح، وهذا النصح ليس لـ شعيب بن حرب فقط، وإنما هو للأمة بأسرها. الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام، واعتقاد ما كان يعتقده عليه الصلاة والسلام، هو وأصحابه الكرام والأئمة المتبوعين.

عقيدة الثوري في أبي بكر وعمر

عقيدة الثوري في أبي بكر وعمر [قال شعيب: فقلت له: يا أبا عبد الله! وما موافقة السنة؟]. شعيب بن حرب مع أنه إمام علم من أئمة السنة إلا أنه أراد أن يستوثق ما معنى: (إلا بمتابعة السنة) أو (موافقة السنة). فقال سفيان: [تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما]. هل هذا موافقة السنة فقط؟ لا. ليست هذه فحسب، لكن سفيان الثوري أراد أن يعالج قضية مطروحة على الساحة خالفت فيها الأمة ما كان عليه سلفها، فاختار قضية واقعية تحتاج إلى إظهار عقيدة أهل السنة في مثلها، فـ شعيب قال له: ما معنى موافقة السنة؟ قال له: أن تقدم أبا بكر وعمر على غيرهما من الأمة. لماذا؟ لأننا هنا في الكوفة، والكوفة تقدم علياً على أبي بكر وعمر، فإن وافقتهم يا شعيب فأنت على غير السنة، وإن خالفتهم فأنت سني. نحن الآن عندما ندرس عقيدة أهل السنة والجماعة نذكر القضايا التي يموج بها المجتمع موجاً، وخالف فيها المجتمع اعتقاد سلفهم، ولذلك نحن سيمر بنا الآن قضايا فقهية ليست عقدية، مثل المسح على الخفين أهي من مسائل الفقه أو من مسائل الاعتقاد؟ من مسائل الفقه، ومع هذا نرى أن سلف الأمة الذين صنفوا في مسائل الاعتقاد ذكروا المسح على الخفين في كتب الاعتقاد؛ لأن الشيعة قالوا بغير ذلك، ولم يجيزوا المسح، حتى صار عدم جواز المسح على الخفين من أصل عقيدة الشيعة، أما نحن فاعتقادنا في المسح على الخفين الجواز، خالفت في ذلك فرقة من فرق المسلمين، فصارت من هذه الحيثية في ضمن ما يذكر من عقيدة أهل السنة. ما معنى تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر على غيرهما؟ يعني: أنا المطلوب مني أن أقدم أبا بكر ثم عمر على الأمة بأسرها في الفضل والخلافة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نص على أن أبا بكر هو الخليفة من بعده، وهو أفضل الأمة، ولو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر، والأمة التي ستوزن أعمالها ويوزن إيمانها الذي يغلب عليها إيمان أبي بكر فيها عمر، وعمر نفسه عجز عن أن يناهض أبا بكر في عمل الطاعة، فكلما أراد أن يسبقه كان السبق لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى اعترف بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين. فهنا نقول: إن أبا بكر مقدم في الفضل والخلافة على الأمة بأسرها بما فيها عمر، وعمر مقدم في الفضل والخلافة على الأمة بأسرها بما فيها عثمان وعلي. ووقع خلاف بين أهل السنة أنفسهم في الفضل -لا في الخلافة- بين عثمان وبين علي. فمنهم من قال: عثمان أفضل من علي. وهؤلاء هم جمهور أهل السنة. ومنهم من قال: بل علي أفضل من عثمان، بما فيهم سفيان بن سعيد الثوري الذي نحن بصدد سرد عقيدته. قال: إن علياً أفضل من عثمان، وقيل إنه رجع عن هذا الاعتقاد إلى اعتقاد جمهور أهل السنة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: اختلاف أهل العلم في المفاضلة -أي: التفاضل بين علي وعثمان - مسألة قال بها بعض السلف، ولذلك لا يبدع فيها المخالف. يعني: لا يصير مبتدعاً من قال: إن علياً أفضل من عثمان، ولكن يبدع من قال: إن علياً أولى بالخلافة من عثمان، كما قالت الشيعة: إن أبا بكر وعمر وعثمان اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب. وهذا يخالف اعتقاد أهل السنة قاطبة؛ لأن هذا كلام في الخلافة، أما الأفضلية فهي مسألة لا يبدع فيها المخالف، ولكن الذي يرجح من اعتقاد أهل السنة وهو كلام جمهورهم: أن عثمان أفضل من علي بن أبي طالب، وهم في الخلافة على نفس الترتيب في الأفضلية. إذاً: الترتيب في الخلافة والأفضلية: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. ولذلك انظر إلى سفيان الثوري عندما قال له شعيب: ما معنى متابعة السنة؟ قال: تقدمة أبي بكر وعمر. وسكت؛ لأنه قائل بأفضلية علي على عثمان، فلم يرد الثوري أن يذكر هذه المسألة؛ لأنه يعلم أن الخلاف فيها لا يبدع به قائله، وذكر القول المجمع عليه وهو تقدمة أبي بكر وعم

عقيدة الثوري في القطع بالشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة أو النار

عقيدة الثوري في القطع بالشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة أو النار قال: [(يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار إلا للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم من قريش)]. ومنهم الخلفاء الأربعة، وهذا شيء من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: أنهم لا يقطعون لأحد بجنة ولا نار، ولا يقطعون لأحد بأن الله سيرحمه، كما لا يقطعون لأحد بأن الله سيعذبه في النار وإن كان عاصياً، ولا يقطعون بالجنة لأحد حتى وإن كان طائعاً؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والله تبارك وتعالى قد علم أهل الجنة وعلم أهل النار، ثم لم يطلع أحداً من خلقه على قسم أهل النار، وعلى قسم أهل الجنة. أما القطع لأحد من الأمة من غير أن يقطع له رسول الله بأنه من أهل الجنة، فهذا تألٍ وافتراء على الله عز وجل، ولذلك قال رجل في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام: (والله إن الله سيغفر لفلان ويعذب فلاناً، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام أيما غضب، وقال: من ذا الذي يتألى على الله؟). لماذا تفترون على الله؟ أتعرفون أهل الجنة من أهل النار؟ (أشهدكم أن الله تبارك وتعالى غفر لفلان وآخذ فلاناً -أو وعذب فلاناً- الذي قال: إن الله غفر لفلان وعذب فلان). فأنت إذا شهدت لأحد بأنه شهيد، فقلت: فلان الشهيد. هذا قطع بالشهادة لواحد أنت لا تدري أهو شهيد حقاً أو لا؟ أنت عند أن تقول: محمد شهيد، إبراهيم شهيد، زيد شهيد، هذا قطع له بأنه من أهل الجنة؛ لأن الشهداء يقيناً في الجنة، وأنت تضمن له الجنة بطريق إثبات الشهادة، وهذا تأل على الله عز وجل، ولكنك تقول: أرجو أن يكون فلاناً عند الله شهيداً. لذلك من اعتقاد أهل السنة: أنهم يرجون للطائع المغفرة والجنة، ويخافون على العاصي، ويتمنون ألا يؤاخذه الله، وأن يمنَّ عليه بالتوبة قبل الموت. هذه عقيدة أهل السنة. عقيدة أهل السنة: أنهم لا يقطعون لواحد بالشهادة، وبالتالي لا يقطعون له بالجنة، إلا ما جاء الشرع بالقطع لهم بأنهم من أهل الجنة، والذين شهد الشرع لهم بأنهم من أهل الجنة، وهم ليسوا عشرة فحسب، بل هم أكثر من ذلك، فالعشرة مذكورون في الحديث، وأنتم تعلمون أن عكاشة ليس من العشرة، كما في الحديث لما قام إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (ادع الله يا رسول الله أن أكون من أهل الجنة؟ فقال: أنت من أهل الجنة. فقام آخر وقال: ادع الله لي أن أكون من أهل الجنة. قال: سبقك بها عكاشة). أي: الأول الذي أسرع وبادر وقام فطلب هذا الطلب، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، وغير ذلك ممن شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام وهم كثرة. الشاهد هنا: أننا لا نقول عن واحد بعينه: إنه شهيد، ولكن نرجو له أن يكون شهيداً، ولذلك جاء في الصحيح: أن رجلاً حارب مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة من الغزوات فبذل بذلاً عظيماً، وجاهد جهاداً عظيماً حتى افتتن به بعض الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! والله إننا نرى أن فلاناً من أهل الجنة. قال: والله إنه من أهل النار، فانزعج الصحابة أيما انزعاج، ولكنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، وكان قد تبعه أحدهم حتى أصيب بسهم فلم يصبر على جرحه فوضع ذبابة سيفه في صدره، واتكأ عليها فخرج السيف من ظهره فمات، فلما رأى الرجل ذلك ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! أرأيت الذي قلنا عنه كذا، وقلت عنه: إنه من أهل النار، قد فعل بنفسه كيت وكيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر)، فسماه فاجراً مع أنه مجاهد، بل عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كان يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلو تصورنا أن عبد الله بن أبي قتل في غزوة هل يكون شهيداً؟ A لا. لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (الرجل يجاهد شجاعة، ويجاهد حمية، ويجاهد ليرى مكانه). فكل هذه نيات، صحيح أنك تقف في صف الجهاد، تجاهد العدو تبتغي بذلك مرضاة الله وتبتغي بذلك رفع لواء راية التوحيد، والذي بجانبك من هذه الناحية يجاهد من أجل أهله، من أجل أن يقولوا: أرسلنا من قبلنا فلاناً يجاهد، ويقولوا: الشهيد فلان، ومسجد الشهيد فلان، وشارع الشهيد فلان، ويقول: لو أني قتلت سموا الشارع باسمي والمدرسة باسمي والمستشفى. هذه وصيتي لكم. والذي بجانبه يجاهد حمية، هو تارك للصلاة والصوم والزكاة، لكن يعز عليه أن اليهود ماكثين في سيناء، أليست هذه بلدنا؟ نعم. المطلوب أن العدو يخرج منها، فأنا أجاهد اليهود حتى آخر نفس لأخرجهم من أرضي، ليس من أجل الإسلام، وليس من أجل راية التوحيد وليس من أجل الله، في اعتقاده أن هذه أرضنا ولابد أن يخرج اليهود منها. إذاً: أليس هذا حمية؟ فالذي لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يعرف أي شيء عن دينه، فلو مات في المعركة أتقول عنه شهيداً؟ (الرجل يجاهد حمية، ويجاهد رياء، ويجاهد ليرى مكانه)، من أجل أن

عقيدة الثوري في مسائل من فقه الفروع

عقيدة الثوري في مسائل من فقه الفروع قال: [يا شعيب بن حرب لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين]. نحن قلنا قبل ذلك بأن هذه القضية من مسائل فقه الفروع، وليست من مسائل الاعتقاد، لكنها لما دخلت في عقيدة فرقة خالفت أهل السنة كان لابد للرد عليهم من إثبات أن هذا من اعتقاد أهل السنة والجماعة. قال: [حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك]. قال: [يا شعيب بن حرب ولا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بهما]. وهذه كذلك من مسائل الفروع، واعلم أن هذه القضية عند أهل السنة والجماعة من مسائل الخلاف في الفروع لا في الاعتقاد، ولا ندري ما الذي حمل سفيان على أن تكون هذه المسألة عنده من مسائل الاعتقاد. يعني: المالكية والأحناف وهو المذهب الظاهر في العراق في ذلك الوقت على يد أبي حنيفة: أن الجهر بالبسملة في الصلاة سنة، وقراءتها واجبة في الفرض والنفل في كل ركعة، في الصلاة السرية والصلاة الجهرية، ولكن الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية محل خلاف بين أهل العلم، وقال باستحباب الجهر الأحناف، وقال: بوجوب الجهر بالبسملة المالكية، وجمهور أهل العلم يقولون: باستحباب الإسرار بها. وهذه من مسائل الفقه وهي محل خلاف حتى عند أهل السنة والجماعة، وأنا لا أدري ولم أسمع جواباً مرضياً في بيان سبب إدراج هذه المسألة ضمن مسائل الاعتقاد عند سفيان يرحمه الله.

عقيدة الثوري في القدر

عقيدة الثوري في القدر قال: يا [شعيب بن حرب لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، كل من عند الله عز وجل]. إبليس الذي هو رأس الشر على الإطلاق خلقه الله عز وجل، فلو أنك قلت: إن الخير خلقه الله ولم يخلق الشر مع وجود الشر؛ فلابد أن تقول بخالق ثان غير الله عز وجل، ولكن الخير والشر مخلوق لله عز وجل. بمعنى: أن الله تعالى خلق الخير وخلق الشر، ولكن الله خلق الخير وأراده إرادة شرعية وكونية، وخلق الشر وأراده كوناً ولم يرده شرعاً. مثلاً: نهى الله تبارك وتعالى عن القتل في كتابه، ونهى عنه رسوله في سنته، ولكن هل يمكن للقاتل أن يتحرك من بيته، وأن يسل سيفه، وأن يرفع يده، وأن يضرب بها المقتول حتى يقتله بغير إذن الله، وبغير إرادة الله؟ لا. إذاً! نقول: إن كل ما يقع في الكون بإرادة الله عز وجل، ولكن منه ما يريده الله شرعاً، ومنه ما يريده الله كوناً ونهى عنه شرعاً وهو الشر، فالخير والشر مخلوق لله، بمعنى: أن الله تعالى هو الخالق للخير والخالق للشر، فأنت لابد وأن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ذلك كله من عند الله عز وجل. أيضاً ليس لك حجة في أن تحتج بالقدر على معصية الله. يعني: لا تقل: أنا قتلت فلاناً بقدر الله. المعلوم أن كل ما يقع في الكون هو بقدر الله ومنه القتل، ولكن الذي قدر عليك القتل قدر عليك الحد، ولذلك أتى رجل قد سرق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: لم سرقت؟ قال: أتحاسبني يا أمير المؤمنين على أمر قدره الله علي؟ قال: نعم. إن الذي قدر عليك السرقة هو الذي قدر عليك الحد. وأقام عليه الحد، فلا يجوز لأحد أن يحتج بقدر الله على معصية الله. قال: [يا شعيب بن حرب والله ما قالت القدرية ما قال الله ولا قال الرسول، ولا قالت الملائكة، ولا قال أهل الجنة، ولا قال أهل النار، ولا قال أخوهم إبليس عليه لعنة الله]. يعني: القدرية قالوا شيئاً لم يقل به كل هؤلاء! وتصور أن فرقة من الفرق تخترع قولاً لم يقل به إبليس فضلاً أن الله لم يقله ولا قاله الرسل والأنبياء، ولا الملائكة ولا أهل الجنة ولا أهل النار، كذلك إبليس عليه لعنة الله لم يقل هذا القول؛ لأن إبليس لا يجرؤ على ذلك؛ أما القدرية فقد قالوا: إن الله لا يعلم أي شيء عن أي عمل أو فعل إلا إذا وقع الفعل على الحقيقة. يعني: نحن الآن بعد خمس دقائق بالضبط ماذا سيكون وضعنا وحالنا؟ أنعرف هذا الشيء؟ لا. ولا نستطيع معرفة أننا سنغمض أعيننا أو نفتحها، وإذا تنفسنا هل نخرج النفس؟ وإذا أخرجناه هل نستنشقه مرة أخرى؟ نحن لا نعلم ذلك؟ لكن القدرية يقولون: إن الله لا يعلم أي شيء عن أي عمل ولا قول إلا إذا قيل وعمل! وهم بهذا ينفون علم الله السابق له تبارك وتعالى، إن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون، وعلم كل شيء، فينفون صفة من ألزم الصفات الإلهية. إذاً: الزعم بأن الله لا يعلم شيئاً بلوى عظيمة جداً لم يقل بها إبليس. قال: [قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]]. يعني: بعد أن أوتي العلم ضل به ولم يعمل بهذا العلم، واستخدمه في معصية الله؛ لأنه ليس بلازم أن يكون صاحب العلم صاحب هداية، فالهداية شيء والعلم شيء. نعم. العلم يدل على الهداية وهو الطريق إليها، لكن من كان يريد ألا يهتدي، ولا يريد أن يسلك طريق الهداية فلا ينفعه علمه، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. يعني: الذين اختاروا لأنفسهم طريق الهداية، فالله تبارك وتعالى وفقهم لطريق الهداية والتقوى وزادهم تقوى وهدى: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ))، يعني: الإنسان منا لابد وأن يختار طريق الهداية، ثم يوفقه الله سبحانه وتعالى للثبات والهداية والنور والاستقامة على الطريق المستقيم سبحانه وتعالى. قال: [قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]]. من ممكن أنه يهديه؟ لا أحد؛ لأن الهداية بيد الله، والضلال بيد الله عز وجل. يعني: الله عز وجل أثبت لنفسه أنه بيده الهداية وبيده الإضلال. [وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. وقالت الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]]. يعني: صاحب العلم، والعليم الخبير هو الله عز وجل، وهو الذي علم الملائكة، ولا شك أن الذي يعلم غيره هو العالم وهو العليم تبارك وتعالى، فإذا كان الله تبارك وتعالى علم خلقه العل

عقيدة الثوري في الصلاة خلف أمراء الجور

عقيدة الثوري في الصلاة خلف أمراء الجور قال: [يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر] أي: ترى جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر. يعني: لو أن هناك صاحب بدعة، وآخر ظالم وطاغية، ولكن ظلمه وطغيانه وفجوره لم يؤد به إلى الكفر فتجوز الصلاة خلفه. ولكن هل الصلاة تجوز خلف الكافر؟ لا تصح، فإذا فعل ما فعل، ولكن فعله لا يؤدي به إلى الكفر، فإن الصلاة تجوز خلفه، واعلم أنني أقول: تجوز، ولم أقل واجبة، ولا مستحبة، وإنما أقول: جائزة، هذا في عموم الصلوات، أما في صلاة الجمعة والعيدين والاستسقاء الذي لا يكون إلا بالإمام، فإذا كان الإمام ظالماً وطاغية، ولكن ظلم هذا الإمام وطغيانه لم يبلغ به حد الكفر، وأتى وصلى بنا العيد، فإننا نصلي خلفه. Q هذه الأفعال هل يكفر بها الساب والشاتم والظالم والباغي؟ أنت نفسك ستقول: لا. ولو قلت: يكفر وكنت من أهل الاجتهاد سأقول لك: لا يلزمك الصلاة خلقه، ولا تصح صلاتك؛ لأن الصلاة لا تصح خلف الكافر؛ لأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، والكافر لا تصح صلاته لنفسه، وبالتالي لا تصح لغيره، أما الفاجر الذي لم يبلغ فجوره حد الكفر، فإن الصلاة خلفه في الجمعة والعيدين وفي محافل الناس ومجامعهم لابد وأنها واجبة درءاً للفتنة. الحجاج بن يوسف الثقفي تعلمون أنه كان ظالماً، ولكن ظلمه في مذهب جماهير أهل العلم لا يكفر به، بل لا أعلم أن أحداً من أهل العلم كفره إلا الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام. أليس كان الأولى أن يصدر الحكم بكفره من عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؟ لأن هؤلاء كانوا يجلسون في المسجد الذي يخطب فيه الحجاج، وكان الحجاج من أفصح الناس وأكثرهم بياناً، وكان يصعد المنبر فيخطب الجمعة حتى يدخل وقت العصر، ولم يكن أحد من الصحابة ولا من غيرهم يجرؤ أنه يقول للحجاج: إن وقت العصر دخل؛ لأنه كان سينزل ويقطع رقبته. إن الحجاج بلغ من فجوره أنه صعد المنبر في يوم الجمعة والصحابة في المسجد، ثم يقول: ما لي أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها! أرأيتم مثل هذا الإجرام؟! يعني: رءوساً استوت مثل الثمرة عندما تنضج وتغري الناظر ويحين قطافها، وكان عنده ختم حديد يضعه في النار حتى يحمر ويختم به الصحابة بين أكتافهم. لماذا تعمل ذلك يا حجاج؟ قال: من أجل أن أميزكم عن بقية الناس. أرأيت ماذا كان يعمل بالصحابة؟ ولذلك أنس بن مالك عندما جاء عليه الدور في الختم، قال: والله إن النصارى ليفعلون هذا برهبانهم، وأنت تفعله بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيظهر في ثقيف -أي: في قبيلة ثقيف- كذاب ومبير) مبير يعني ظالم، فلما لقيت أسماء بنت أبي بكر الحجاج بن يوسف الثقفي وكلمها بغلظة، قالت: لقد بشرنا بك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنه سيظهر في ثقيف كذاب ومبير). وأما الكذاب فهو المختار بن عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة، وأما المبير فأنت يا حجاج، أنت الظالم الذي خرج في قبيلة ثقيف. والصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلفه مع هذا الفجور والظلم؛ لأنهم يرون أن ظلمه لم يبلغ به حد الكفر، أما لو بلغ فلا ينبغي أبداً أن يتولى عليهم؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]. فلا أحد من الكفار يتولى إمرة المؤمنين ولا حكم بلاد المسلمين؛ لأنه ليس للكافر ولاية على المسلم. قال: [(يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى أن الصلاة جائزة خلف كل بر وفاجر، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة مع كل بر وفاجر، وأن الصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل)]. جار. يعني: ظلم وطغى وبغى أم عدل، فالصبر على إيذائهم أمر واجب. [قال شعيب: (فقلت لـ سفيان: يا أبا عبد الله: الصلاة كلها؟)] يعني: نصلي خلف كل بر وفاجر جميع الصلوات؟ قال: [لا. ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صل خلف من أدركت]. وهنا لم يقل صلاة العيدين والجمعة على سبيل التنصيص والتحديد، بل مراده كل الصلوات التي يحتفل بها الناس ويجتمعون لها، وصلاة الاستسقاء كذلك، والخسوف أو الكسوف، فإن إمام البلد يصعد ويدعو جميع أهل القرية إلى مكان يسع أهل القرية ويصلي بهم ركعتين ويدعو. إذاً: مادام السلطان فجوره وظلمه لم يبلغ حد الكفر وجب الصبر عليه، ولذلك قال: [وأن ترى الصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل ما لم يبلغ الكفر. قال شعيب: (قلت لـ سفيان: يا أبا عبد الله: الصلاة كلها؟ قال: صلاة الجمعة والعيدين خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير، لا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة]. لأن الأمة بأسرها -أي: أهل الس

عقيدة الإمام الأوزاعي وابن عيينة وابن حنبل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - عقيدة الإمام الأوزاعي وابن عيينة وابن حنبل تناول الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اعتقاد عدد من أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ومن هؤلاء الأئمة: الإمام الأوزاعي، والإمام ابن عيينة، والإمام أحمد بن حنبل، فبين اعتقادهم في كثير من مسائل العقيدة، خاصة المسائل التي لا يسع المسلم الجهل بها.

اعتقاد الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى

اعتقاد الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن عقيدة الإمام العظيم سفيان الثوري، وتكلمنا عن ذلك في سبع مسائل: القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلمنا عن الإيمان، قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم تكلمنا عن اتباع السنن، ومعنى السنن في مسائل العقيدة: هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تكلمنا عن عدم القطع لأحد بالشهادة، وبينا أن هذا يستلزم القطع له بدخول الجنة، وهذا لا يجوز لأحد إلا ما ورد بالنصوص، ثم تكلمنا عن جواز المسح على الخفين مخالفة للشيعة، وتكلمنا عن الإيمان بالقدر، وتكلمنا عن جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر، فهذه هي النقاط الأساسية التي وردت في عقيدة الإمام العظيم سفيان الثوري. وسنشرع الآن في عقيدة الإمام أبي عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الشامي، وهو إمام أهل الشام بلا منازع. قال أبو إسحاق: [سألت الأوزاعي فقال: اصبر نفسك على السنة]. أي: وطن نفسك على التزام السنة، وإن وجدت في ذلك المشاق. قال: [وقف حيث وقف القوم]. أي: كل ما وقف فيه السلف ينبغي علينا أن نقف عنده، وكل ما تكلموا فيه لنا أن نتكلم فيه، وما تورعوا عنه فإن الورع يلزمنا أكثر مما يلزمهم. [وقل بما قالوا]. وخاصة في باب العقائد، وفي أسماء الله وصفاته، فإنهم آمنوا بها كما جاءت، وأمروها من غير خوض فيها. [وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم]. قال: [وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة]. أي: بدعة خلق القرآن. هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ وهذا الكلام إنما نشأ في العراق كما قلنا، وقوله: (وقد كان أهل الشام) باعتباره إماماً لهم. قال: [حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق]، كما أخذ عمرو بن لحي الأصنام من الشام وأدخلها مكة وقال: اعبدوها؛ لأنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، وكذلك ما من بدعة -وإن كانت كفراً- إلا ولها رواد وأنصار وأتباع. قال: [حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما ردها عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم]. أي: بعد ما رد فقهاء وعلماء العراق هذه البدعة، ولم يكن لها رواج، وفضح أمر المعتزلة في بلاد العراق، ولما فضحوا وظهر عوارهم، وفساد منهجهم وفكرهم في أسماء الله وصفاته أخذ بعض شياطين الإنس هذه البدعة المفتراة الضالة من العراق وأدخلوها إلى بلاد الشام، فلا بد وأن تجد لها في بلاد الشام أنصاراً وأعواناً. قال: [فأشربها قلوب طوائف من أهل الشام، واستحلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف فيه]. أي: أن نفس الفتنة التي وجدت في العراق قد انتقلت إلى الشام، ونفس الضلال الذي وقع فيه عامة أهل العراق هو نفس الضلال الذي انتقل إلى بلاد الشام. قال الإمام الأوزاعي: [ولست بايس أن يرفع الله شر هذه البدعة حتى يصيروا إخواناً] متوادين كما كانوا قبل أن تدخل عليهم تلك البدعة. قال: [ولو كان هذا خيراً -كأنه ينصح أهل الشام- ما خصصتهم به دون أسلافكم]. أي: ليس معقولاً أن هذا الخير العظيم يخزنه الله سبحانه وتعالى عن نبيه وعن صحابة رسوله ثم أنا أطلعكم عليه! إن هذا لا يعقل. قال: [فإنه لم يدخر عنهم خيراً خبئ لكم دونهم لفضل عندكم -أي: أنتم لستم بأفضل منهم حتى يخصكم بنعمه حرمهم منها سبحانه وتعالى- وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم وبعثه فيهم، ووصفه بما وصفهم به فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]]. فهذا ملخص عقيدة الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى، وقد تكلم في قضايا معينة، ولذا ليس بلازم إذا سئل الإمام عن عقيدته أن يسرد جميع مسائل العقيدة، بل يذكر المسائل التي ينبني عليها العمل، أو التي تموج بها البلاد، أو التي ظهرت بها الفتنة، كالمسائل التي كانت غائبة عن أهل الشام ودخلت إليهم من قبل أهل العراق، فبين لهم الأوزاعي أنهم على الجادة في كل شيء، إلا في هذه المسألة، فإنهم قد خرجوا عن الهدى وعن الصراط المستقيم.

اعتقاد الإمام ابن عيينة رحمه الله تعالى

اعتقاد الإمام ابن عيينة رحمه الله تعالى سفيان بن عيينة الإمام الكبير، مولده كوفي، لكنه تحول بعد ذلك واستقر في مكة، وهو وسفيان الثوري فرسي رهان، وعليهما مدار السنة، وهما من شيوخ الإسلام والأئمة العظام، فإذا كان في إسناد أحد السفيانين والإسناد إليه ثقة أو ثقات فدونك هو. قال: [قال بكر بن الفرج أبو العلاء: سمعت سفيان بن عيينة يقول: السنة عشر مراتب فمن كن فيه فقد استكمل السنة، ومن ترك شيئاً منها فقد ترك السنة: إثبات القدر]. وأنتم تعلمون أن فرقة بأسرها خرجت عن حد الاعتدال والسنة بسبب قولها في القدر، فأنكرت القدر، وأنكرت علم الله تبارك وتعالى، وأنكرت الكتابة. قال: [وتقديم أبي بكر وعمر]. أي: على سائر الأمة بمن فيهم عثمان وعلي رضي الله عنهما، بينما الشيعة قدموا علياً على أبي بكر وعمر، وقالوا: بأنه أولى بالخلافة منهما، ولذلك فالشيعة ليسوا من أهل السنة، فمنهم من هو من أهل القبلة، ومنهم من هو خارج لا له في القبلة ولا في غيرها. وقد قلنا في الدرس الماضي: إن الخلاف وقع بين بعض علماء السنة في التفاضل بين عثمان وعلي. وأقول: في التفاضل لا في الخلافة؛ لأن أهل السنة قاطبة مجمعون على أن الخلافة على الترتيب المعهود لدينا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، لكن وقع التفاضل بين الإمامين عثمان وعلي، فمنهم من قال: علي أفضل من عثمان، وجمهور أهل السنة: على أن عثمان أفضل من علي، كما استقر رأي جمهور أهل السنة على أن المفاضلة بين الأئمة الأربعة هي على نفس ترتيب الخلافة. قال: [والحوض]، وللنبي عليه الصلاة والسلام حوضاً طوله كعرضه، ومسيرته مسيرة شهر، وكأن ابن عيينة رحمه الله تعالى أراد أن يؤكد على مسائل الغيب. ثم قال: [والشفاعة]. أي الشفاعة بجميع أنواعها؛ لأن الله تبارك وتعالى يأمر بإخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير من النار. وقيل: من إيمان. فيأمر الله تبارك وتعالى بهم أن يخرجوا من النار بعد أن امتحشوا فيها. أي: بعد أن حرقوا فيها بالنار فصاروا حمماً وفحماً، فيؤمر بهم فيلقون في نهر الحياة على باب الجنة، فينبتون في هذا النهر كما تنبت الحبة في حميل السيل، وذلك كما إذا ألقى شخص حبة في ذلك الزبد الذي يطوف على سطح الماء، لكن بجوار الشط، فإنها تنبت صفراء ملتوية، وهؤلاء من أهل المعاصي، أما الكافر فإنه مخلد في النار أبد الآبدين، ولا يخرج منها قط، والنار لا تفنى ولا تبيد. وهناك شفاعات أخرى غير شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها: شفاعة أهل الإيمان، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الولدان الذين لم يبلغوا الحلم ولم يجر عليهم القلم، وغير ذلك من أنواع الشفاعات، فـ سفيان بن عيينة جعل الإيمان بإثبات الشفاعة، وأنها حاصلة يوم القيامة، وهي من علامات استقامتك على السنة. قال: [والميزان، والصراط، وأن الإيمان قول وعمل، والقرآن كلام الله، وعذاب القبر، والبعث يوم القيامة، ولا تقطعوا بالشهادة لأحد من المسلمين].

اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

أصول السنة عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى

أصول السنة عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى أصول اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل طويلة وعظيمة، ولا تخرج عن أصول من ذكرنا، لكنها تطول، فقد سأل عبدوس بن مالك العطار -وهو من تلاميذ أحمد المقربين- الإمام أحمد عن السنة فقال كلاماً عظيماً جداً، ألا وهو: [أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]، فهو رحمه الله تعالى لم يذكر فرعيات العقيدة، وإنما ذكر كليات وأصول في العقيدة. قال: [أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم -لأنهم الأسوة والقدوة- وترك البدع وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات]. أي: ترك الخصومات والجدال في الدين؛ لأن هذا ليس من علامات أهل السنة، وإنما هو من خصال ومزايا وصفات أهل البدع. قال: (والجلوس -أي: وترك الجلوس- مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال، والخصومات في الدين)].

عقيدة أحمد بن حنبل في السنة

عقيدة أحمد بن حنبل في السنة قال: [والسنة عندنا: آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: إذا كانت أصول السنة عند الإمام أحمد هي التمسك بما كان عليه النبي وأصحابه، فما هو الذي كان عليه النبي وأصحابه؟ إنها الآثار التي وردت إلينا بالأسانيد الصحيحة.

عقيدة ابن حنبل في تفسير القرآن

عقيدة ابن حنبل في تفسير القرآن قال: [والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن]. ولذلك أعظم التفاسير: أن يفسر القرآن بالقرآن والسنة، ومن الأخطاء الشائعة: أن يقول بعض الناس: أعظم التفسير: أن يفسر القرآن بالقرآن، ثم يقول: أو يفسر القرآن بالسنة، فيجعل السنة في مرتبة متأخرة عن القرآن، وهذا خطأ، ولذلك حكم أهل العلم من المحدثين كـ البخاري رحمه الله على حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن بأنه حديث منكر من جهة المتن، أما سنده فإنه ضعيف؛ لأن أصحاب معاذ الذين رووا عنه هذا الحديث ضعفاء، ونكارته من جهة أنه جعل ترتيبة للاجتهاد: القرآن، فإن لم يجد الحكم في القرآن انتقل إلى السنة، وكأنه يريد أن يقول: إنه لا حاجة لنا إلى السنة ما دامت بغيتنا موجودة في القرآن، وهذا كلام خطأ بلا شك. والصحيح: أن تعتقد أن السنة لزيمة للقرآن، وقرينة له في الاحتجاج والإيمان، فلا يجوز أبداً أن نؤخر السنة عن القرآن. نعم يجوز لنا أن نؤخر الرأي، بل يجب علينا أن نؤخر الرأي إذا كان مع السنة، ولذلك المقطع الثاني من الحديث ربما يكون منضبطاً، قال: (فإن لم تجد في السنة؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو). فالسنة مقدمة على الرأي بلا شك، لكن هل القرآن يقدم عليها؟ A لا. لأنهما متلازمان، فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر، وإلا لو قدم القرآن لزم أن نرد السنة، ولو قدمنا السنة لزمنا أن نرد القرآن. إذاً: أعظم التفسير وأحسنه: أن يفسر القرآن بالقرآن والسنة في وقت واحد.

عقيدة ابن حنبل في ضرب الأمثال بالسنة

عقيدة ابن حنبل في ضرب الأمثال بالسنة قال: [وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال]. أي: إذا أخبرتك بحديث فلا تقل لي: لكن المثل يقول كذا! طيب ما هو رأيك لو عملنا كذا! طيب العقل يقول كذا! والكتاب يقول كذا! أبداً هذا كلام لا يجوز أبداً لمسلم أن يتفوه به في مقابل السنة الصحيحة، وهي لا تدرك بالعقول ولا الأهواء، ولكن بالاتباع وترك الهوى. فلو أننا -مثلاً- نظرنا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر). وعرضنا هذا النص على العقل فإنه لا يقبله. والحوض الذي طوله مثل عرضه، ومسيرته مسيرة شهر، لا يقبله العقل كذلك، ومسائل كثيرة جداً من أمور الغيب، لو عرضناها على العقل فإنه لا يقبلها، كعذاب القبر، ومشاهد يوم القيامة، والجنة والنار، وغيرها من المغيبات، ولذلك لو كان الدين بالعقل لرددناها، والعرض على العقول ليس منهجاً لأهل السنة، وإنما هو منهج المعتزلة، ولذلك جعلوا العقل هو الميزان الأعظم الذي توزن به الأعمال، بل أقول: الذي توزن به النصوص، فإذا وافق النص بعد عرضه على العقل العقل أخذوا به وقالوا به؛ لأنه يدخل في حد عقولهم، وإذا خالف النص العقل ردوه، أو أولوه تأويلاً يتناسب مع العقل، أما أهل السنة فإن ظهرت لهم الحكمة من كلام الله ومن كلام رسوله فخير ونعمة، وإن لم تظهر لهم آمنوا به وسلموا دون نزاع وجدال وخصومات.

عقيدة ابن حنبل في الإيمان بالقدر

عقيدة ابن حنبل في الإيمان بالقدر قال: [ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه]، أي: التصديق بالأحاديث التي وردت إلينا بالسند الصحيح في إثبات القدر لله عز وجل، قال: [والإيمان بها لا يقال: لم؟ ولا كيف؟] أي: لم قال الله كذا؟ وكيف قال الله كذا؟ ولذا لابد أن تؤمن بالقدر، وأن تسلم لله عز وجل بأقداره المؤلمة وغيرها دون أن تقول: لم كذا؟ وكيف كذا؟ قال: [إنما هو التصديق بها والإيمان بها]. قال: [ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق]، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق؛ لأن الأمر أكبر من عقل ابن مسعود، فأراد أن يقول لك ابن مسعود: أنا صدقت النبي عليه الصلاة والسلام في هذا وإن كان فوق حد عقلي، فقدم أنه مصدق بهذا الكلام؛ لأنه صادر عن الصادق صلى الله عليه وسلم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفه)، إلى آخر الحديث. ثم قال: [وما كان مثله في القدر].

عقيدة ابن حنبل في الرؤية

عقيدة ابن حنبل في الرؤية قال: [ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع]. أي: أنه حين يعرض هذه المسائل على العقل فيقول: أنا أنظر إلى الله! كيف ذلك؟! وأين ربنا؟ وما أوصافه؟ فإنه ربما قد ينحرف ويضل، لذا يجب أن يؤمن بأنه سوف يرى الله عز وجل بعيني رأسه، أما كيفية الرؤيا فلا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنك لو رأيت الله تبارك وتعالى وأنت على حالتك البشرية الآن لخررت ميتاً، لذا فالله تبارك وتعالى يعطيك يوم القيامة مؤهلات معينة تؤذن وتسمح لك بالنظر إلى وجه الله الكريم، وهذه المؤهلات لا نعرفها أبداً، لكننا نؤمن بها ونسلم بها، وعليه فالمسألة إذا أتت في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام أكبر من العقل فليس للمسلم غير التسليم والتصديق، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، وهذا شعار ومبدأ ينبغي أن يكون منهجنا ومسلكنا في ديننا على جهة الخصوص. قال: [ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع -أي: استنكرها واستغربها- فإنما عليه الإيمان بها، وألا يرد منها جزءاً واحداً ولا حرفاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات].

عقيدة ابن حنبل في الجدل والخصومة

عقيدة ابن حنبل في الجدل والخصومة قال: [لا يخاصم أحداً ولا يناظره، ولا يتعلم الجدل، فإن الكلام في القدر والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهي عنه، ولا يكون صاحبه -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم]. قد قلنا سابقاً: إن من الخطورة بمكان أن تخاصم وأن تجادل في دين الله عز وجل، وخاصة إذا لم تكن من أهل العلم، وأن أصحاب الخصومات هم أصحاب الأهواء، وكلما أتى واحد بهوى هو أعظم من هواهم تركوا هواهم لهواه، وكلما أتى بحجة هي أعظم من حجتهم تركوا ما كانوا عليه لحجته القوية، فهم كل يوم في تقلب، وكل يوم في بدعة جديدة، وكل يوم في هوى جديد؛ لأنهم لا يسيرون على الأصول الثابتة التي جاءت من عند الله عز وجل، ومن عند رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد أتى رجل من الخوارج وقال لـ ابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. وكأنه يريد أن يوقع بـ ابن عباس، لكن هذا الحبر والبحر قال: كل هوى ضلالة. أي: أن المسألة ليست بالهوى، بل بالاتباع والاقتداء.

عقيدة ابن حنبل في القرآن الكريم

عقيدة ابن حنبل في القرآن الكريم قال: [ويؤمن بالآثار، والقرآن، وأنه كلام الله وليس بمخلوق، ولا تضعف أن تقول: ليس بمخلوق]؛ لأن الوقوع فيها كفر، وذلك إذا وقعت فيها عالماً بخطورتها، غير مكره ولا مجبر عليها، أما إذا كان الأمر غير ذلك فإنك إن شاء الله تعالى معذور. ومن العجيب أن مسألة خلق القرآن هذه لا يوجد له ظل، والأمراء والسلاطين والحكام في وادي آخر ليس لهم علاقة بالقرآن ولا بالسنة، والقضية لا تعنيهم، بل لا يعرفها كثير من أهل العلم والدعاة والمشايخ، فلا يعرفون ما معنى القرآن كلام الله غير مخلوق، ولو سألت أحدهم فقلت له: القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ لقال لك: القرآن مخلوق؛ لأنه إذا لم يكن مخلوقاً فماذا سيكون؟ على الرغم أنه شيخ كبير جداً. ونحن نرى بعض الناس إذا حلف على شيء وضع يده على القرآن وقال: ورب هذا القرآن -ثلاث مرات- فإذا كان الله تبارك وتعالى هو رب هذا القرآن فيلزم من ذلك أن يكون القرآن مربوباً -أي: مخلوقاً- ومن هنا فكأنه يقول: إن القرآن مخلوق؛ لأنه لا يعرف شيئاً، فهو حلف على المصحف ولم يدر ما تبعة ذلك. قال: [ولا تضعف أن تقول: ليس بمخلوق، فإن كلام الله منه -أي: منه بدأ- وليس منه شيء مخلوق، وإياك ومناظرة من أحدث فيه]. أي: من قال: بأنه مخلوق، فلا تجادله ولا تخاصمه، والعجيب أنك قد تجد نصرانياً في الشارع فتسأله: هل عيسى ابن الله؟ فيرد عليك مغضباً: يا شيخ! إن أردت أن تسأل عن شيء في الدين فاذهب إلى الكنيسة واسأل الأسقف، أما أنا فلا تسألني عن شيء من الدين، ويهرب منك، بينما الواحد منا لا يعرف أي شيء، بل لا يعرف أن يتوضأ وأن يصلي، ويقول: أعرضوا علي ما عندكم، فو الله ما تسألوني عن شيء من أمر الدنيا والدين إلى قيام الساعة إلا وسأفتيكم فيه قبل أن أقوم من مقامي هذا! قال: [وإياك ومناظرة من أحدث في القرآن، ومن قال باللفظ وغيره]. هذه مسألة فرعية، وقد ظهرت في العراق كما ظهر أصل الاعتزال في بلاد العراق، وذلك لما تعرضوا لمسألة القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق؟ فماجت البلاد بهذه الفتنة، واختبر بها العباد وخاصة أهل العلم، كالإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى، وذلك لما خرج من بخارى ودخل العراق، فقال أهلها: سوف نختبر البخاري: هل القرآن مخلوق أم لا؟ فسألوه ذلك بدل أن يستفيدوا منه، ولو أجاب عليهم: بأن القرآن مخلوق، فإنه سيكون له أتباع وأعداء، ولو قال: إنه غير مخلوق، فإنه سيكون له أيضاً أتباع وأعداء، ففي كل الأحوال لا بد وأن تقوم الفتنة، فأجاب فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم أتوا مرة أخرى للبخاري بعد أن سلموا له في الأولى، وقالوا له: ماذا تقول يا إمام في اللفظ؟ هذه بلوى جديدة، وما دام أنه نجح في الأولى فلا بد أن يقع في الثانية. فقال رحمه الله: لفظي بالقرآن مخلوق. فأحدثوا ضجة عظيمة، وانصرفوا في الشعاب والأودية يقولون: يقول البخاري: القرآن مخلوق، مع أنهم سألوه عن اللفظ ولم يسألوه عن القرآن، حتى طردوه من العراق، ثم دخل نيسابور، وكان أول ما دخل نيسابور قال محمد بن يحيى الذهلي: عليكم بهذا الرجل، فإنه لن يدخل في بلدكم أفضل منه، وليس هناك أعلى منه إسناداً، فخرجت نيسابور عن بكرة أبيها تستقبل البخاري حتى أدخلوه المدينة، ثم أخذ الناس في حضور مجلسه وترك مجلس إمامهم محمد بن يحيى الذهلي، وقد كان من أعظم تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي الإمام مسلم، فقد أخذ يحضر عند الإمام البخاري، وترك مجلس شيخه الذهلي، ثم بعد مرور فترة من الزمن جاء الحسد والغيرة عند الذهلي، فأخذ يفكر في إخراج البخاري من نيسابور، فكتب الذهلي رسالة وأرسلها إلى السلطان قال فيها: إن فلاناً قد فتن القوم، وإنه يقول: إن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً؛ لأن الاعتزال كان ظاهراً، وكان هو دين السلطة في ذلك الوقت، فلما وشى به عند السلطان أمر البخاري أن يترك البلاد، فجهز متاعه وأدلج ليلاً، وفي اليوم الثاني حضر مسلم مجلس الذهلي، وامتلأ المجلس إلى آخره، لكن الإمام الذهلي أراد أنه يصفي حساباته مع البلد كلها خاصة الإمام مسلم، فقال: من قال بقول البخاري في القرآن فليعتزل مجلسنا. فعرف الإمام مسلم أنه هو المقصود، والإمام مسلم في الحقيقة كان سريع الغضب حاد المزاج، فكان أول ما سمع هذه الكلمة من الذهلي وقف قائماً في وسط الطلاب، ووضع عمامته على كتفه وخرج من المجلس، ولما رجع إلى البيت برك بعيراً وحمله وقره مما كتبه عن الذهلي. ولك أن تتصور أن الإمام مسلم قد أخذ عن الذهلي ما يملي دفاتر تبلغ حمل بعير، وأمر الجمال أن يدفع هذه الكتب إلى الذهلي

عقيدة ابن حنبل في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج

عقيدة ابن حنبل في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج قال: [ومن وقف فيه فقال: لا أدري أمخلوق أو ليس بمخلوق؟ فإنما هو كلام الله وليس بمخلوق]. قال: [والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام من الأحاديث الصحاح وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، وأنه مأثور عن رسول الله عليه الصلاة والسلام صحيح]. لا شك أن رؤية الله تبارك وتعالى محالة في الدنيا على العموم والإطلاق، أما رؤية النبي خاصة لربه فالمقطوع به: أنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه في المنام، وقد روي ذلك في مسند أحمد من حديث اختصام الملأ الأعلى، أما رؤيته لربه في الدنيا بعيني رأسه فهي محل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الخلاف لا يبدع به المخالف؛ لأننا لم ندر من المخالف، فمنهم من يقول: إنه رآه بفؤاده. ومنهم من يقول: إنه رآه بعيني رأسه، وعائشة رضي الله عنها تقول: من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. والنبي عليه الصلاة والسلام لما سئل هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه؟). أي: نوراً كيف أراه؟ كما وردت آثار بإثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث ابن عباس - لربه في ليلة المعراج، فمن الصحابة من أجرى هذا النص على ظاهره وقال: إن النبي قد رأى ربه عياناً. أي: رآه بعيني رأسه. وجمهور أهل السنة ينفون هذه الرؤية بعين الرأس، ويثبتونها بالفؤاد والقلب، ويؤولون رؤيته عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج بأنها رؤية الفؤاد لا رؤية العين. وأما الرؤية لله عز وجل يوم القيامة وفي الجنة فإنها تكون بعين الرأس، وذلك لكل من دخل الجنة، ولأهل الإيمان في الموقف وفي المحشر، ويحجب عن ذلك الكفار، فلا يرون الله عز وجل. قال: [رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره، ولا تناظر فيه أحداً].

عقيدة ابن حنبل في الميزان

عقيدة ابن حنبل في الميزان قال: [والإيمان بالميزان، كما جاء: (يوزن العبد يوم القيامة)]. والرواية الصحيحة: (يزن الله تبارك وتعالى العبد يوم القيامة فلا يوزن عنده جناح بعوضة). ولا شك أن هذه الأعمال التي توزن من الأمور المعنوية، مع أن الأمور المعنوية لا وزن لها في الأصل، بل الذي يوزن الأمور المحسوسة؛ لأنه لا يتصور أن تأتي بهواء وتضعه في كفة الميزان! فالأعمال هذه شيء معنوي ليس محسوساً، لكن كيف توزن؟! سلمها لله عز وجل؛ لأن الله تبارك وتعالى قادر على ذلك، فهو قادر على أن يجعل للأعمال وزناً، فيكون لها ثقلاً وخفة، ولا نعرف كيفية ذلك، بل لا يلزمنا ذلك؛ لأن من أصول السنة عندنا: التسليم والتصديق، وكما أخبرنا الله تعالى بأنه يزن الأعمال فأيضاً يزن العبد بعمله، هذا العبد بلحمه ودمه وعظمه شيء محسوس يوضع في الميزان، فيزن أو يطيش، وهذه بالنسبة لنا ليس فيها إشكال، لكن العبد طاش أول ما وضع في الميزان؛ لأنه لا يزن عند الله جناح بعوضة، لأن الرجل يوزن بعمله وإيمانه، أو بإيمانه وعمله؛ لأن العمل يأتي بعد الإيمان، أليس كذلك؟ بلى. أولاً: أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يزن الأعمال وإن كانت شيئاً غير مادي؛ لأن هذا له، وهو سبحانه إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون. ثانياً: أن العبد يأتي يوم القيامة - طول وعرض - لا يزن عند الله جناح بعوضة، فلو وضعت جناح بعوضة في كفة ووضعت هذا العبد البغل في كفة أخرى، لرجحت كفه جناح البعوضة، والله تبارك وتعالى يزن العبد ومعه العمل. ثالثاً: أن الله تبارك وتعالى يأمر الأعمال أن تتجسد -أي: تأتي في صورة محسوسة- فتوضع في الميزان فيكون لها وزناً, لكن المسألة الإيمانية التي نريد أن نؤكد عليها في وزن الأعمال: أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يزن هذه الأعمال فإنه قادر على ذلك، وعلى النحو التي كانت عليه، سواء كانت محسوسة أو غير محسوسة.

اعتقاد ابن حنبل بتكليم الله لعباده يوم القيامة دون ترجمان

اعتقاد ابن حنبل بتكليم الله لعباده يوم القيامة دون ترجمان قال: [والإيمان به، والتصديق به، والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته]. قال: [وأن الله تبارك وتعالى يكلم العباد يوم القيامة ليس بينهم وبينه ترجمان، والإيمان به، والتصديق به]، وهذا الأمر إن عرضته على العقل فإنه لا يتصوره، لكنه إخبار الذي لا ينطق عن الهوى، فقد جاء في حديث ابن عمر في الصحيحين أنه قال: (وإن العبد المؤمن يؤتى به يوم القيامة بين يدي ربه، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، يا عبدي! فعلت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! ويسأله مرة ثانية وثالثة، والعبد يقول: نعم يا رب! حتى يظن العبد أنه قد هلك؛ لأن صحيفته كلها منشورة، ولا يستطيع أن ينكر منها شيئاً، وإلا ختم الله على فيه فتتكلم أعضاؤه وجوارحه، ثم يقول المولى عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك). فهذا كلام مباشر بين العبد وربه؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (ليس بينهما ترجمان). أي: ليس هناك أحد يترجم بين العبد وربه، وكل الناس إما أن يتكلموا بلغة واحدة لغة القرآن، وإما أن يخاطب الله تبارك وتعالى كل شخص كل على قدر فهمه وعقله.

عقيدة ابن حنبل في الحوض

عقيدة ابن حنبل في الحوض قال: [والإيمان بالحوض، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترد عليه أمته، عرضه مثل طوله مسيرة شهر]، قوله: (مسيرة شهر) هل هو للراكب المسرع، أو البطيء، أو الذي يمشي على رجليه، أو الذي يركب دابة، أو غير ذلك؟ الله أعلم، وإنما نؤمن بأن هذا الحوض طوله مثل عرضه. قال: [آنيته عدد نجوم السماء]. أي: أن أوانيه عدد نجوم السماء، وماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربة واحدة لا يظمأ بعدها أبداً. أي: لا يحتاج أن يشرب بعدها أبداً حتى في الجنة.

عقيدة ابن حنبل في عذاب القبر وفتنته

عقيدة ابن حنبل في عذاب القبر وفتنته قال: [والإيمان بعذاب القبر -أي: الإيمان بإثبات عذاب القبر- وأن هذه الأمة تفتن في قبورها، وتسأل عن الإيمان، وعن الإسلام، ومن ربه؟ ومن نبيه؟ ويأتيه منكر ونكير، كيف شاء الله عز وجل وكيف أراد. والإيمان به والتصديق به]. وهذا الأمر أيضاً لو عرضته على العقل فإنه لا يتصوره، ولربما حار في ذلك، لذا يلزم العبد المسلم الإيمان والتسليم، وإلا ضل والعياذ بالله، والمعتزلة ما وقعوا في هذا الضلال إلا بسبب أنهم قالوا: لم؟ وكيف؟ وكذلك عندما نعرف قول النبي عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا). أي: أن الأصل أنك لا تدفن في قصر وغيرك أيضاً في العالية الواسعة، ووقتها ممكن نقول: إن منكراً ونكيراً سيأتون؛ لأن المكان سيسعهم، بينما اللحد صغير لا يمكن أن يسعهم! ثم لو أتى منكر ونكير فأين سيجلسون؟ وكيف سيكلمونه؟ وكيف يجلسون هذا الميت حتى يسألوه؟ إن كلمة (كيف) لا بد وأن تؤدي بك إلى الشك والاعتراض على كتاب الله وعلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لذا يجب على المسلم تجاه هذه الأمور وأمثالها أن يؤمن ويسلم، فهذا جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، والجناح الواحد يسد الأفق ما بين السماء والأرض، فلو أنه ظهر على حالته هذه وأخذت تنظر في السماء فلن ترى شمساً ولا قمراً ولا نجوماً ولا أي شيء؛ لأنه قد سد الأفق، وحجب الرؤية عن السماء، فهل أيضاً ستقول: كيف ذلك؟ وكيف أن جبريل يأتي في صورة رجل؟ فيسأله النبي الكريم عن الإيمان والإحسان، والصحابة ينظرون إليه. إذاً: كلمة (كيف) تصدر من جاهل ضارب في أعماق الجهل وأطناب الجهل، وإما من إنسان شاك ومعترض على كل شيء، مثل: طه حسين، يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) فيشك فيها، ويقول: لماذا بسم الله؟ لماذا لا تكون: باسمك اللهم؟ ومع ذلك لو كانت: باسمك اللهم يشك فيها أيضاً، ولقال: لماذا لم يكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم؟ ولذلك لم يثبت أن أحداً ممن ينسب للدين والعلم أهان كتاب الله وشك فيه كما شك فيه طه حسين، وقد كتبوا في جريدة الشعب قبل سبع أو ثمان سنوات أنه لما هلك هذا الأديب أخذت زوجته الفرنسية أولادها منه وانصرفت إلى بلدها، وبعد ذلك أتوا بخبر أن ابن طه حسين ذهب إلى الكنيسة وأعلن نصرانيته وارتد عن دين الإسلام، وغضبت الناس! مع أن أباه كان نفس الشيء، والولد أخذ ذلك من أبيه وأمه.

عقيدة ابن حنبل في خروج الدجال وقتل عيسى عليه السلام له

عقيدة ابن حنبل في خروج الدجال وقتل عيسى عليه السلام له قال: [والإيمان أن المسيح الدجال خارج ومكتوب بين عينيه: كافر]. أو (ك ف ر)، والمسيح الدجال أعظم فتنة منذ أن بعث الله تعالى نبيه إلى قيام الساعة، إن لم يكن هناك أعظم منها. قال: [والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن -أي: لا بد وأن يكون- وأن عيسى بن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لد]. فيكون التزامن والتعاصر حاصل بين خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام.

عقيدة ابن حنبل في الإيمان

عقيدة ابن حنبل في الإيمان قال: [والإيمان قول وعمل يزيد وينقص كما جاء في الخبر (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)]، فمن كان خلقه حسناً فإيمانه أعلى من إيمان رجل ليس بحسن الخلق.

عقيدة ابن حنبل في حكم تارك الصلاة

عقيدة ابن حنبل في حكم تارك الصلاة قال: [من ترك الصلاة فقد كفر]. ولا شك أنه كافر، وقد اختلف أهل العلم في نوع كفره، والجميع -أي: الأمة بأسرها- أثبتوا أن تارك الصلاة كافر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر). وقال عليه الصلاة والسلام في حديث جرير: (من ترك الصلاة فقد كفر وأشرك). واختلافهم واقع في نوع الكفر: هل هو كفر عمل أو كفر اعتقاد؟ كفر يخرج به صاحبه من الملة أم لا يخرج؟ فقال الحنابلة وبعض أهل العلم: بأنه كافر خارج عن ملة الإسلام. وقال جمهور علماء الأمة: أن كفره كفر عملي لا يخرج به صاحبه، وأنا أقول: يكفي تارك الصلاة عاراً أن أهل العلم اختلفوا فيه: هل هو مسلم أو كافر؟ قال: [ومن ترك الصلاة فقد كفر، وليس من الأعمال شيء تركه كفر إلا الصلاة، من تركها فهو كافر وقد أحل الله قتله].

خير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام

خير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام قال: [وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان] كما ورد ذلك عند البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر: كنا نخير بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنختار أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم يأتي من بعدهم علي بن أبي طالب. قال: [نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك. ثم من بعد هؤلاء الثلاثة: أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام. ونذهب إلى حديث ابن عمر -في التفاضل-: كنا نعد -ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأصحابه متوافرون- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت. ثم من بعد أصحاب الشورى: أهل بدر من المهاجرين، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، على قدر الهجرة والسابقة، أولاً فأولا. ثم أفضل الناس بعد هؤلاء: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم. كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، وكانت سابقته معه، وسمع منه، ونظر إليه نظرة. فأدنهم صحبة -أي: أدنى الصحابة، ولو بمجرد النظر فقط إلى وجه النبي عليه الصلاة والسلام تثبت به الصحبة- هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال]. لأن صحابياً واحداً أفضل من القرن الذي يأتي من بعده، مع أن هناك فرقاً بين الأفضلية وبين العلم، فالصحابة أفضل من غيرهم من سائر الأمة، وهذا بالاتفاق، لكن فيهم من لم يطلب العلم، وغير الصحابة بلغوا ذروة العلم. إذاً هناك في الأمة من هو أعلم من كثير من الصحابة، لكن من ثبتت له الصحبة فهو أفضل من هذا العالم وغيره ممن لم تثبت له الصحبة، ولا أقول: أعلم من كل الصحابة؛ لأن الصحابة كان فيهم أوتاد في العلم، إذ الواحد فيهم يربي أمة بأسرها، ولو كان ذلك بلحظه دون لفظه، وخير مثال على ذلك: القضايا العظيمة التي كانت تطرح على أبي بكر وعمر، فكان يحلها أحدهم بكلمتين أو ثلاث كلمات، بينما نحن قد نجلس نأخذ ونعطي فيها إلى يوم القيامة ولا نجد لها حلاً، فمثلاً: لو كانت قضية فلسطين هذه موجودة في زمن أبي بكر أو في زمن عمر لكانت حلت في وقتها، ولم يكن لها ظل، ونحن نعرف كيف فتحها عمر، لا سلام ولا أمان، ولا صحبة، ولا صداقة، ولا ديمقراطية، كل هذا الكلام كذب وخداع لهذه الأمم والشعوب الإسلامية، وهذا الكلام لن ينطوي أبداً على أبي بكر وعمر؛ لأن القرآن أخبره أن اليهود والنصارى لن ترضى عنه وعن المسلمين، فقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. أي: لا بد أن تكون يهودياً مثلهم، ولا بد أن تكون نصرانياً مثلهم، حتى يرضوا عنك.

عقيدة ابن حنبل في السمع والطاعة لكل أمير بر أو فاجر

عقيدة ابن حنبل في السمع والطاعة لكل أمير بر أو فاجر قال: [والسمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين البر والفاجر]. أما البر فلبره وطاعته لربه، وأنه لا يأمر إلا بطاعة الله ورسوله، وإلا فلماذا وصف بالبر؟ لأنه ما من عمل يبر به كتاب الله وسنة رسوله إلا وهو مقبل عليه، فيأمر أمته وينصح لهم، وأما الفاجر فالطاعة له لازمة، والفجور هنا متوقف عند حد الفسق، أما الكفر فلا بد وأن تجتمع الأمة على خلعه، وتعيين إمام آخر وإن كان فاجراً، وتأثم الأمة بأسرها إذا لم تجتمع على خلعه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فلا يجوز لأحد من الكفار أن يتولى إمرة أهل الإيمان قط، فإن كان الإمام براً طائعاً عاملاً بالكتاب والسنة، آمر بهما، ناهياً عن غير ذلك، فإن الطاعة له واجبة، والطاعة واجبة للإمام الفاجر ما لم يبلغ فجوره حد الكفر؛ وذلك حقناً لدماء المسلمين، وجلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد. قال: [والسمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين البر منهم والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به. ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين]. أي: أن الأصل أن مجلس الشورى يجتمع فيختار الخليفة، لكن في واقعنا اليوم: أن الرجل يدفع الرشاوى، ويسرق من هنا، ويؤلب من هناك، من أجل أن ينجح في الانتخابات، وهو شخص صعلوك، أو شخص هلفوت، لذا فالأصل أن يحمل الخليفة حملاً على تولي هذه المهمة والرسالة، ومن طلبها لا بد وأن يحرمها؛ لقول النبي الكريم: (إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه). لكن: شخص خرج بشلة وعصابة، وبين يوم وليلة جلس على الكرسي، وأصبحت السلطة بين يديه، والعدة والعتاد، ومن تكلم فيه بكلمة واحدة دمر البلد كله فوق رأسه، لذا نحن نسمع ونطيع حقناً لدماء الأمة كلها. وتولية الخليفة إما عن طريق الاختيار والبيعة، وإما أن عن طريق القهر والغلبة، وفي الحالتين يجب السمع والطاعة، في الأولى؛ لأنه طائع، وفي الثانية؛ لأنه يملك إراقة دماء المسلمين. قال: [والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر، لا يترك. وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة]، أي: لا يصح إقامة الحدود من قبل عامة الناس، فلو أنك دخلت على زوجتك ووجدت عندها رجلاً، فأنت مباشرة سوف تقيم عليه حد الزنا، لكن هو لم يزن، وكذلك حد القذف، هو لم يقذف، وحد السرقة، وهو لم يسرق ولم تتوفر شروط السرقة في هذا الحادث، وحد القتل، هو لم يقتل، لكنه ساعد أو أشار بالقتل، لذا فلكل حد ظروفه وأركانه وشروطه، لا بد من توفرها، وأدنى شبة تدرأ هذا الحد، ولو أن هذا الأمر أوكل إلى عامة الناس لاجتهدوا جميعاً في إثبات الحد وإقامته، وخاصة مسائل التكفير ومسائل الردة، فلو أن شخصاً قال كلمة هي في نظرك ردة، وعليه فيقتل، لكن لو هو في نظرك مرتد فأنت أيضاً في نظره مرتد، وتصبح نصف الأمة في نظرها أن النصف الثاني مرتد، والنصف الثاني في نظرها أن الأول أيضاً مرتد، فهل يتصور أن الأمة تقوم كلها على بعضها، فتدمر نفسها ويحطم بعضها بعضاً؟ نعم يتصور ذلك إذا أسند إقامة الحد إلى عامة الناس، لكن إن أسند إقامة الحد إلى الوالي أو السلطان فلا، بينما التعزير قد يقوم به السلطان أو غير السلطان، ومن الخطورة بمكان أن ترى رجلاً يقيم الحد على ولده أو امرأته أو غيرهما. قال: [وقسمة الفيء -أي: توزيع الغنائم- وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم. ودفع الصدقات إليهم جائزة ونافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه، براً كان أو فاجراً. وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولى جائزة تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع]. وقد ذكرنا صلاة أنس والبراء وعبد الله بن عباس خلف الطاغية الكبير: الحجاج الثقفي.

عقيدة ابن حنبل في الخروج على السلطان

عقيدة ابن حنبل في الخروج على السلطان قال: [ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه]. وتأمل هذا الكلام للإمام أحمد بن حنبل وهو الذي تعرض لفتنة كانت أعظم فتنة بعد فتنة المرتدين في عهد أبي بكر، إذ لم يكن الضرر له أو لبعض الناس، بل كانت فتنة ماجت بها البلاد والعباد، وتوقف عليها استقامة عقيدة الأمة أو فسادها وانحرافها، ومع هذا فالذي يقول هذا الكلام هو الذي تعرض لهذه الفتنة هذا التعرض العظيم، فهذا الخليفة المعتصم أركب أحمد حماراً بالمخلوف. أي: كان وجه أحمد في دبر الحمار، ومشى به في شوارع بغداد كلها، لكن ثبت الله تبارك وتعالى هذا الإمام العظيم، وكان يقول: أنا من أنا؟ من عرفني فقد عرفني، ومن لا يعرفني فأنا أحمد بن حنبل، القرآن كلام الله غير مخلوق، فانظر إلى أين وصل به الإصرار على الحق مع الإهانة والتعذيب؟ لأنه ليس شخصاً من عامة الناس، بل هو إمام يشار إليه بالبنان، وقوله دين إلى يوم القيامة. قال: [ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق]، ولا بد أن تفرق بين حبك للإسلام وغيرتك عليه وعلى ما نزل بالمسلمين، وبين الخروج على السلطان، إذ إن حبك للسنة وشفقتك على ما وصلت إليه الأمة لا يحل لك أن تخرج، ونحن أيضاً نعرف نتيجة الخروج وما جلب للأمة من متاعب ومشكلات.

عقيدة ابن حنبل في دفع الصائل

عقيدة ابن حنبل في دفع الصائل قال: [وقتال اللصوص والخوارج جائز إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله، فله أن يقاتل عن نفسه وماله، ويدفع عنها بكل ما يقدر عليه. وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم، ولا يتبع آثارهم، ليس لأحد إلا للإمام، أو ولاة المسلمين، إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه ذلك وينوي بجهده ألا يقتل أحداً، فإن أتى عليه في دفعه عن نفسه في المعركة، فأبعد الله المقتول، وإن قتل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجوت له الشهادة كما جاء في الأحاديث]. هذا الكلام يعبر عنه الفقهاء بـ (دفع الصائل). أي: الظالم الباغي الذي هجم على بيتك ليسرقه ظناً منه أنه ليس هناك أحد في البيت، أو أنه رتب أموره وأخذ في حسبانه أنه يحتاج إلى العدة معه، فهو عمل حسابه أنه سوف يسرق، لكن لو كان هذا الرجل يدفع بالتخويف، كأن حس أن هناك أحداً في البيت، أو أن صاحب البيت مستيقظ، ولم يتخذ صاحب البيت أقل جهد، وأنه سوف يخاف ويخرج، فأنا أقول: هل يجوز لك أن تجري خلفه؟ A لا. لأنه إذا دفع بوسيلة خفيفة فلا يجوز لك أن تستخدم الوسيلة الأعلى معه، فإذا كان يدفع بالخوف فلا يحل لك بعد أن خاف وولى مدبراً أن تولي خلفه، وأن تسرع وتهرول لتضربه وتقتله، وإن كان الصائل لا يدفع إلا بالضرب فلا يجوز لك أن تضربه بالسكين، وإن كان لا يدفع إلا بالسكين فلك ضربه بالسكين، وإن كان لا يدفع إلا بالقتل جاز لك أن تقتله، وعليه فلا تنتقل إلى الوسيلة الأعلى إلا بعد فشل الوسيلة الدون؛ لأن المقصود: ألا يقع عليك منه ضرر.

عقيدة ابن حنبل في الشهادة بالجنة أو النار لأحد من أهل القبلة

عقيدة ابن حنبل في الشهادة بالجنة أو النار لأحد من أهل القبلة قال: [ولا يشهد على أهل القبلة بعمله يعمله بجنة ولا نار، وإنما يرجو للصالح ويخاف عليه، ويخاف على المسيء المذنب ويرجو له الرحمة]. وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة.

عقيدة ابن حنبل في مرتكب الكبيرة

عقيدة ابن حنبل في مرتكب الكبيرة قال: [ومن لقي الله بذنب يجب له به النار تائباً غير مصر عليه، فإن الله عز وجل يتوب عليه، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات]. عقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة: أن مرتكب الكبيرة قد خالفت فيه فرقتان عظيمتان: الخوارج والمعتزلة، بينما أهل السنة يعتقدون أن صاحب الكبيرة لا يكفر بكبيرته، وإنما هو مسلم فاسق عاص بكبيرته، ففيه جانب إيمان وجانب فسوق، فإن تاب فيما بينه وبين الله تاب الله عليه، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته، ولا يسأله الله تبارك وتعالى عن هذا الذنب يوم القيامة، بل يقيله من صحيفته تماماً، وإن مات مصراً على هذه الكبيرة وهو معتقد حرمتها فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن مات مصراً عليها غير معتقد لحرمتها بعد قيام الحجة الرسالية عليه، وأن الله ورسوله قد حرما ذلك، لكنه عاند وجحد وأصر، فقد خرج من الملة؛ لأنه في هذه الحالة قد أنكر ما علم من الدين بالضرورة، وقد أحل ما حرم الله عز وجل. قال: [ومن لقيه كافراً عذبه ولم يغفر له]. واليهود والنصارى كفار قولاً واحداً، لكن ربما عامة الناس يقولون: هم أتباع نبي ونحن أتباع نبي، وعلى ذلك فهم على الإسلام! لا إن اليهود والنصارى كفار قولاً واحداً، ومآلهم إلى النار خالدين فيها.

عقيدة الإمام ابن المديني

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - عقيدة الإمام ابن المديني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم خير الناس بعد الأنبياء، وقرنهم هو خير القرون، وأدناهم صحبة أفضل من الذين لم يروه، ثم يليهم في الفضل التابعون الذين حملوا لواء الدفاع عن الكتاب والسنة، ووقفوا أمام البدع والشبهات، وعلى هذا سار من بعدهم من أئمة الدين وحفاظ الحديث، يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويؤمنون بالغيب.

اعتقاد علي بن المديني

اعتقاد علي بن المديني إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن مجمل اعتقاد السلف رضي الله تعالى عنهم، وقد ذكرنا في اعتقادهم عدة مسائل، ووعدنا ألا نعيد هذه المسائل في عقيدة كل من نذكر، وسردنا عقيدة سفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وابن عيينة وغيرهم. وهنا سنذكر عقيدة الإمام الكبير العلم الجبل إمام النقد علي بن عبد الله بن جعفر المديني، وهو من أئمة الجرح والتعديل العظام، بل هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو شيخ الإمام البخاري، وقرين أحمد بن حنبل.

عقيدة علي بن المديني في الصحابة الكرام

عقيدة علي بن المديني في الصحابة الكرام سئل علي بن المديني عن عقيدته، فقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بسطام: [سمعت سهل بن محمد قرأها على علي بن المديني -أي هذه العقيدة- فقال له: قلت: أعزك الله: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يأخذها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها]. ثم ذكر أشياء كثيرة قد ذكرناها ولكنه زادها هنا إيضاحاً. ومن هذه الخصال: الإيمان بأن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع عند ربه يوم القيامة لعصاة هذه الأمة الذين استحقوا دخول النار، أو دخلوا النار بالفعل. ثم ذكر بعد ذلك موقف هذه الأمة من الصحابة رضي الله عنهم من حيث تبجيلهم وتوقيرهم واحترامهم وحبهم، وبغض من أبغضهم، والذب عنهم بكل سبيل. ثم قال: [وأفضل الناس بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم كلهم]. يعني: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا في القرن الذي بعث فيه النبي عليه الصلاة والسلام. قد اختلف أهل العلم في معنى (القرن): هل هو مائة عام أو خمسون عاماً أو أقل من ذلك أو أكثر أو طبقة من الطبقات؟ ففي علم المصطلح: الطبقة هم قوم تقاربوا في السن وتشابهوا في الصفات. يعني: لا يمكن أبداً أن آتي برجل من كبار علماء الأمة وطالب علم، ثم أقول: إنهما من طبقة واحدة؛ لأن ذاك الرجل الكبير العالم أدرك من أهل العلم ما لم يدركه ذلك الصغير، وهذا الصغير لم يشترك مع ذاك الكبير في شيوخه، ولم يعاصر أحداث الدولة الإسلامية كما عاصرها الكبير، فلا يمكن أبداً أن أضع ذلك الصغير مع هذا الكبير في مرتبة واحدة، ولا في منزلة واحدة، وإنما يصح هذا إذا كان أحدهما يبلغ من العمر ستين عاماً، والآخر سبعون عاماً، وهذا الأخير طلب العلم مع الأول، فكلاهما أدركا طبقة معينة من الشيوخ، وحينها أقول: إن هذين قد اجتمعا في طبقة واحدة. فهنا قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني). (القرن) إن كان الطبقة فلاشك أن أصغر الصحابة طبقة، والصحابة (12) طبقة وليسوا طبقة واحدة، فليس البدري كمن شهد أحداً، وأصحاب البيعة يأتون بعد من شهد بدراً، ويتقدمون على من شهد أحداً. ثم كبار الصحابة والذين لازموه صلى الله عليه وسلم ليسوا كمن أتى من البادية فرآه مرة ثم انصرف، وليس هذا الذي أتى من البادية فسأل فسمع جواب مسألته فعقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فأخذه وانصرف، كمن ولد فجيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الطفل المولود حديثاً جيء به ونظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فثبتت له بذلك الصحبة، حتى وإن كان أعمى العين لم يره، المهم أنه وضع في حجر النبي عليه الصلاة والسلام ودعا له بخير وسماه، فلا يعد كبير الأعراب وصاحب البادية كذلك الطفل الرضيع الذي أتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فالصحابة أنفسهم وإن اشتركوا في وصف الصحبة إلا أنهم يتفاوتون في المرتبة، ويتفاوتون في الطبقة، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني). هذا القرن إن كان المقصود به مائة عام، فلا شك أن هذه المائة عام قد ولد فيها من التابعين الكثير. وعند إطلاق هذا الكلام أنت تتصور أن هذا المقطع من الحديث المقصود به الصحابة على جهة الخصوص. يعني: لا يشاركهم فيه غيرهم، وهذا خطأ، لأنه إذا كان المقصود من القرن مائة عام فلا شك في دخول بعض التابعين بل جل التابعين، فيكونوا ضمن أخير القرون. وإن كان المقصود بالقرن الأول: الطبقة. فإذاً يطلق هذا على طبقة الصحابة، ثم طبقة التابعين، ثم طبقة أتباع التابعين وإن كان كل واحد منهم يتفرق إلى طبقات متعددة، ولكنه كلام على سبيل الجملة دون التفصيل. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وفي رواية أنه قال: (ثم الذين يلونهم لا أدري أهي الثالثة أم الرابعة؟). فقول علي بن المديني: [أفضل الناس بعد أصحاب رسول عليه الصلاة والسلام القرن الذي بعث فيهم كلهم، من صحبه سنة أو شهراً أو ساعة أو رآه أو وفد إليه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه، فأدناهم صحبة هو أفضل من الذين لم يروه، ولو لقوا الله عز وجل بجميع الأعمال]. يعني: أن أدنى صحابي رؤية وصحبة للنبي عليه الصلاة والسلام هو من جهة الفضل والبر أولى من كل التابعين، حتى وإن لم يبق من أعمال الخير شيء إلا وقد أتوه، فإن الصحابي أفضل من ذلك كله. فإذا كان الصحابي الواحد أفضل من بقية الأمة إن كان عاملاً بالبر والطاعة -وهو كذلك- فكيف بمن يتجرأ على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ويسبهم ويشتمهم ويلعنهم، بل ويكفرهم؟ لا شك أن الذي يفعل ذلك قد خرج بكليته عن الهدي والاستقامة والجادة، بل والملة. والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين لهذه الأمة أنها مهما عملت من خير فإنها لن توفي حق الصحابة رضي الله عنهم، فما بالكم بحق النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد

عقيدة علي بن المديني في محبة أبي هريرة

عقيدة علي بن المديني في محبة أبي هريرة ثم تكلم علي بن المديني عليه رحمة الله عن مسائل كثيرة قد تكلمنا عنها، ولكنه تكلم عن مسائل وفصل فيها تفصيلاً قال: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة ويدعو له، ويترحم عليه، فارجو خيره، واعلم أنه بريء من البدع]. ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا أبا هريرة! والله لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق). انظروا إلى هذا الحديث! ففيه منقبةٌ عظيمة لـ أبي هريرة، فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام محبته رمزاً وآية وعلامة على إيمان صاحب ذلك الحب، فإن أبا هريرة قد أبغضه الكثير، وتكلموا عليه قديماً وحديثاً، وإنما حملهم على ذلك بغضهم وحقدهم على الإسلام وأهله. أبو هريرة أعظم راوية في الإسلام، وهو الذي روى عن النبي عليه الصلاة والسلام جملة مستكثرة بلغت الآلاف المؤلفة، حتى قيل: إننا لو رددنا أحاديث أبي هريرة كان لزاماً علينا أن نرد نصف الدين أو ثلثاه. واحد من الصحابة رضي الله عنهم يروي نصف الدين، فهل يتصور أن يطعن أحد في هذا الراوي؟ لأن الطعن لا يتوقف عند حد الطعن في شخص أبي هريرة، ولكن المقصود منه فقدان الثقة بـ أبي هريرة، فإن فقدنا الثقة فيه فلابد أن نفقد الثقة في روايته، وبالتالي: من طعن في أبي هريرة لابد وأن يكون منافقاً بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام. ثم الغرض من الطعن في أبي هريرة: رد دين الله عز وجل؛ لأنه لم يكن هناك عداوة شخصية بين الطاعن وبين أبي هريرة لأنه لم يره، ولم يعاصره ولم يجالسه، إنما أتى من بعده، وإنما الحقد على الدين، وهذا هو الذي حملهم على أن يطعنوا فيه بكل سبيل وطريق وحيلة، فما كان أمامهم إلا أن يطعنوا في أبي هريرة، وأنتم تعلمون أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، فالذي طعن في أبي هريرة وجد له أنصاراً أخذوا عنه هذا الطعن، ومدرسة الاستشراق لما أتت إلى بلاد المسلمين وترجمت كتب العلم الشرعية علموا خطورة أبي هريرة، وعلموا أهمية أبي هريرة في دين الله عز وجل؛ لكثرة رواياته، ولتفرده برواية أحكام هي من الثبات واليقين عند المسلمين بمكان، فأرادوا أن يزعزوا الثقة في أبي هريرة، وتبعهم على ذلك كثير ممن انتسبوا إلى العلم، وانتسبوا إلى الأزهر كصاحب الحسين وأبي رية وغيرهم من المعاصرين الذين تبعوا أجيال المستشرقين ونهجوا نهجهم، وساروا خلفهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى دخلوا في جحر الضب وفي بؤرة النفاق والفساد والشك في دين الله عز وجل تبعاً لأسيادهم ولعلمائهم ومشايخهم من أهل الكفر والإلحاد والزندقة. فهنا قال: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة، ويدعو له، ويترحم عليه؛ فارجُ خيره، واعلم أنه بريء من البدع]. إذاً: لا يمكن أبداً لمحب أبي هريرة أن يكون من أهل البدع.

عقيدة علي بن المديني في حب عمر بن عبد العزيز

عقيدة علي بن المديني في حب عمر بن عبد العزيز قال: [وإذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها، فاعلم أن وراء ذلك خيراً إن شاء الله]. وعمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله بلغ من الفضل والعلم مبلغاً عظيماً، وكان من جلة علماء المسلمين، ومن كبار المحدثين، ولكنه بعد أن تولى الولاية شغلته السلطة وشغله الحكم عن الحديث، وليس معنى ذلك أنه ترك الحديث وانصرف عنه كلية، وإنما كان يحدث ويتحرى الحديث، وينظر في أحوال الرجال بعد إمامته، ولكنه لم يكن بذاك القدر الذي كان عليه قبل الخلافة، فـ عمر بن عبد العزيز قبل أن يكون والياً وسلطاناً كان من أهل العلم الثقات الأثبات، فهو جبل من جبال الحفظ، وتزهد بعد أن تولى الرئاسة، على عكس ما كانت عليه الدولة الأموية من الغنى والثراء، بل كانوا يحملون عمر بن عبد العزيز على الكبر ويدربونه كيف يكون متكبراً. وبعد أن تولى الخلافة تأسف على كل ذلك، وعاد إلى أصله الفطري، وقال سبحان الله: ما أسوأ قوماً يعلمون أبناءهم كيف يتكبرون! وعمر هو الذي حمل أهل بيته وحمل أولاده على أن يكونوا آخر الأمة تنعماً ورفاهية، وما أظن أنهم ترفهوا قط. مع أن الأمة الإسلامية اتسعت أكثر في عهد عمر بن عبد العزيز، ولكنه قام على حراسة هذه الدولة خير حراسة رغم انشغاله بالسلطة والخلافة، ولكنه ما تشاغل عن متابعة أطراف الدولة شرقاً وغرباً، فكانت تبلغه الأخبار كل يوم، وكان يأتيه البريد في كل ساعة؛ لشدة حرصه على أحوال رعيته؛ لأنه يعلم أنه مسئول عنها بين يدي الله عز وجل مسئول عن الدابة فكيف بالإنسان الذي صار دمه في هذا الزمان أرخص من دم الكلب؟!

عقيدة علي بن المديني في محبة التابعين والتأسي بهم

عقيدة علي بن المديني في محبة التابعين والتأسي بهم قال: [وإذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن وراء ذلك خيراً إن شاء الله. وإذا رأيت الرجل يعتمد من أهل البصرة على أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، ويونس، والتيمي ويحبهم ويكثر ذكرهم والاقتداء بهم فارجُ خيره]. لأن هؤلاء هم الذين نشروا السنة وحثوا عليها وذبوا عنها في البصرة. قال: [ثم من بعد هؤلاء حماد بن سلمة ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، فإن هؤلاء محنة أهل البدع]. يعني: أهل البدع في بلاء وشدة وكرب بسبب هؤلاء الأحياء، فإذا ماتوا فرحوا فرحة عظيمة، كما حدث عندما مات كثير من أهل العلم في الأزمنة المتأخرة، فقد ضربت طبول الفرح في بلاد الكفر شرقاً وغرباً لقتلهم والتمثيل بهم والتنكيل بهم في بلاد المسلمين هنا وهناك؛ لأن هؤلاء غصة في حلوق الكافرين في الداخل والخارج، فلما ماتوا ولما حبسوا، وشردت أسرهم كان في ذلك قرة عين الكافرين، وهذه سنة الله تبارك وتعالى في أهل التوحيد منذ خلق الله تبارك تعالى آدم عليه الصلاة والسلام. قال: [وإذا رأيت رجلاً من أهل الكوفة يعتمد على طلحة بن مطرف، وابن أبجر وابن حيان التيمي، ومالك بن مغول، وسفيان بن سعيد الثوري، وزائدة بن قدامة فارجه]. يعني: فارج خيره، واعلم أنه على خير عظيم؛ لأن هؤلاء هم أهل السنة. قال: [ومن بعدهم عبد الله بن إدريس، ومحمد بن عبيد، وابن أبي عتبة، والمحاربي فارج] أي: فارج خيره كذلك. قال: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه، فلا تطمئن إليه وإلى من يذهب مذهبه ممن يغلو في أمره ويتخذه إماماً]. الذي ينظر إلى هذا النص لأول وهلة ربما يفهم منه استحباب ذم أبي حنيفة، ولكن لابد أن تعلم أولاً أن علي بن المديني الذي نحن بصدد سرد عقيدته كانت بينه وبين أبي حنيفة مشاحنة ومباغضة؛ لأن علي بن المديني كان إمام مدرسة الأثر. يعني: لا يلبس ثوبه إلا بدليل، ولا يخلعه إلا بدليل، بينما أبو حنيفة رحمه الله كان يميل إلى الرأي كثيراً، ويعمل عقله في النص. يعني: يجتهد في مقابل النص، والاجتهاد نوعان: اجتهاد مع النص، واجتهاد في النص، وبينهما فرق كما بين السماء والأرض، فلا يحل لواحد أن يجتهد بخلاف دليل قد ورد في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لا يحل لعالم أن يخالف دليلاً قد بلغه وصح عنده ولم يكن مؤولاً، وغير ذلك من أعذار أهل العلم في تخلفهم عن العمل بالدليل الذي بلغهم. فهنا نقول: الدليل لا يمكن لأحد أن يخالفه. أي: لا يحل له أن يخالفه إذا بلغ أو صح عنده. ثم الاجتهاد في النص بمعنى: إعمال العقل في فهم النص على مراد الله إن كان آية، وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حديثاً. والاجتهاد مع النص. أي: أن يأمرك النص بأمر وأنت تذهب إلى أمر آخر مع وجود الدليل وصراحته، فهذا اجتهاد غير سائغ، ولذلك أنتم تعلمون هذا القول المشهور: (لا قياس مع النص). أو: (لا اجتهاد مع النص). يعني: لا يحل لك أن تجتهد في مسألة النص فيها واضح، ولك أن تجتهد في فهم الدليل وفهم النص، فمثلاً: الحديث الفلاني أنا أسرد لك معناه والمراد منه على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وفهماً ومسايرة لفهم أهل العلم من السلف لهذا الدليل. بخلاف قولي: (أنا لا أرى هذا الدليل). لأن هذا الدليل غير معقول. يعني: فوق حد عقلي لذا أنا لا أتصوره، ولذلك أنا سأرد هذا الدليل وأقول في المسألة المطروحة برأيي. فهذا الرأي وهذا الاجتهاد والإعمال العقلي مردود؛ لأنه اجتهاد مع النص، أما اجتهادك أنت في فهم النص فهو مقيد بفهم السلف، وهذا هو العقل الممدوح الذي مدحه الله تبارك وتعالى في كتابه، ومدحه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته وحث الله تبارك وتعالى عليه.

عقيدة علي بن المديني في الأخذ بالرأي

عقيدة علي بن المديني في الأخذ بالرأي قال: [وإذا رأيت رجلاً يحب أبا حنيفة، ويحب رأيه وينظر فيه، فلا تطمئن إليه]. لأنه يميل أيضاً إلى إعمال الرأي في وجود النص، وأبو حنيفة رحمه الله وقع في شيء من هذا، ولكن أبا حنيفة عليه رحمة الله لم يكن محدثاً بالقدر الكافي، ولم يبلغ في التحديث مبلغ أحمد، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا ابن المديني، ولا البخاري. ولاشك أن البخاري متأخر عنه، ولكني ذكرته حتى أبين أن هؤلاء العلماء قد بلغوا مرتبة عظيمة في علم الأثر لم يبلغها أبو حنيفة، خاصة أن أبا حنيفة لم يرحل في طلب العلم، ولم يثبت له انتقال من الكوفة إلا إلى مكة والمدينة في موسم الحج. وقيل: إنه رأى أنس بن مالك ولكنه لم يرو عنه. ولا يعني ذلك أن أبا حنيفة رجل سوء، وينبغي طيه وإلقاؤه في الطرقات أو على المزابل؛ لأن بعض الناس إذا قرأ هذا يفهم ذلك، وهذا بلا شك خطأ، ولذلك أنا أحب عند ذكر أبي حنيفة أن ألفت الأنظار إلى قراءة رسالة في غاية الأهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية اسمها: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

اعتقاد أبي ثور

اعتقاد أبي ثور يقول أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم: [أرسل رجل من أهل خراسان إلى أبي ثور بكتاب يسأل عن الإيمان ما هو؟] تصور أن واحداً يبعث من آخر الدنيا برسالة يسأل فيها إماماً عن الإيمان ما هو؟ هذا يعني أن الأمر عظيم. قال: [وهل هو يزيد وينقص؟ وهل هو قول أو قول وعمل، أو قول وتصديق وعمل؟]. فأجابه بأجوبة عظيمة جداً قد ذكرناها في عقائد من تقدموا، فلا داعي لنذكرها، ولكنه على سبيل الاختصار قال: [فأجابه: إنه التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وعمل الجوارح. وسأله عن القدرية من هم؟ فقال: إن القدرية من قال: إن الله لم يخلق أفاعيل العباد -يعني: أفعال العباد- وأن المعاصي لم يقدرها الله على العباد ولم يخلقها. فهؤلاء قدرية لا يصلى خلفهم، ولا يعاد مريضهم، ولا يشهد جنائزهم، ويستتابون من هذه المقالة، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. قال: وسألت عن الصلاة خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ فهذا كافر بقوله -أي: بقول الذي يقول لا يصلى خلفه- وذلك أن القرآن كلام الله جل ثناؤه، ولا اختلاف فيه بين أهل العلم. ومن قال: كلام الله مخلوق فقد كفر وزعم أن الله عز وجل حدث فيه شيء لم يكن] يعني: خلق فيه شيء لم يكن. قال: [وسألت: يخلد في النار أحد من أهل التوحيد؟ والذي عندنا أن نقول: لا يخلد موحد في النار]. هذا مجمل اعتقاد أبي ثور رحمه الله.

اعتقاد الإمام البخاري

اعتقاد الإمام البخاري أما اعتقاد الإمام البخاري عليه رحمة الله فإنه كثير جداً، ولذلك قال: [لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم من أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومضر، لقيتهم كرات قرناً بعد قرن، ثم قرناً بعد قرن]، وكرات يعني مرات أي: التقى بالواحد منهم مرات متعددة، وقد بلغ عدد شيوخ البخاري أكثر من ألف. قال: [فلقيت بالشام] أي: فلان، ومضر فلان، ومكة فلان، والمدينة فلان وعدد أقواماً. ثم قال: [واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصراً، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل]. فإذا نطق بالشهادتين ولم يعمل بمقتضى هاتين الشهادتين يكون في الغالب، أو في أرجح أقوال أهل العلم: كافراً بهذه الكلمة. [أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]]. فبعد أن وحدوا الله تبارك وتعالى -أي: نطقوا بشهادة التوحيد- لابد وأن يأتوا بالأعمال، وذكر الله تبارك وتعالى من الأعمال عملان هما: الصلاة والزكاة لأهميتهما. ولا يعني ذلك: أن من أراد أن يتخلف عن الحج أو يجحده فلا حرج عليه، بل إنما ذكر الله تبارك وتعالى أهم فرضين ليدل على الباقي. قال: [وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]. قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: قال ابن عيينة: فبين الله الخلق من الأمر]، يعني: فرق بين الخلق وبين الأمر. [لقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]]. قال: [وما رأيت فيهم أحداً يتناول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم]. يعني: ما رأيت أحداً من هؤلاء العلماء الذين بلغوا ألفاً من أهل العلم ومن أئمة السلف يتعرض لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. [قالت عائشة: أمروا أن يستغفروا لهم، وذلك في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]]. أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ولعنوهم، خاصة الخوارج والشيعة والمعتزلة فهم الذين نالوا من الصحابة كثيراً. قال: [وكانوا ينهون عن البدع]، أي: هؤلاء الألف. والبدع [هي ما لم يكن عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ولقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]. ويحثون على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه، لقول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وأن لا ننازع الأمر أهله -وأن لا ننازع أصحاب السلطان سلطانهم- لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم)]. أي: ذلك المسلم صاحب القلب الطيب النظيف النقي إذا اتصف بهذه الصفات. وهي: [إخلاص العمل لله عز وجل، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم. فإن دعوتهم تحيط من وراءهم]. الذي يتصف بهذه الصفات، لا يكون في قلبه غل ولا حسد ولا حقد على أحد من المسلمين. قال: [ثم أكد ذلك في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم]. يعني: أن لا يرى جواز الخروج بالسيف على أمة النبي عليه الصلاة والسلام، كما خرجت الخوارج ومن بعدهم خرجوا الشيعة. قال: [وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد. قال ابن المبارك: يا معلم الخير من يجترئ على هذا غيرك!] يعني: من يفهم هذا الكلام غيرك؟!

اعتقاد أبي زرعة وأبي حاتم الرازي

اعتقاد أبي زرعة وأبي حاتم الرازي وأما عقيدة أبي زرعة الرازي، وأبي حاتم الرازي فقد ورد عن ابن أبي حاتم أنه قال: [سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟]. وأبو حاتم، وأبو زرعة كانا كفرسي رهان، كاد الناظر في علمهما أن يقول: إنهما نسخة واحدة أو شخص واحد، ولكن أبا زرعة يزيد قليلاً في التوثيق والإمامة عن أبي حاتم، وكلاهما ثقة. قال: [فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأنصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والقدر خيره وشره من الله عز وجل، وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام وهم الخلفاء الراشدون المهديون. وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق. والترحم على جميع أصحاب محمد والكف عما شجر بينهم]. أي: حق وعقيدة. قال: [وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه] ومعية الله تعالى لهم إنما هي معية سمع وبصر وإحاطة وعلم). فالله تبارك وتعالى إذا كان معك فإن ذلك لا يتنافى قط مع العلو والفوقية، فإذا قرأت قول الله تبارك وتعالى: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، فهذه المعية المذكورة في الآية إنما هي معية علم وسمع وبصر وإحاطة، فهذا لا يتنافى مع علو الله عز وجل وارتفاعه وفوقيته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق السموات والأرض، وجعل بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام، وجعل فوق السماء السابعة بحراً، وفوق البحر العرش، وفوق العرش الكرسي). والله تعالى مستوٍ على الكرسي استواءً يليق بجلاله وعظمته. واستواء الله تبارك وتعالى معلوم لدينا، فالاستواء في لغة العرب لا يعني الاستيلاء، وإنما يعني العلو والفوقية، فإذا قلت أنت: إن فلاناً استوى على سقف البيت، فهذا يعني أنه علا وارتفع على سقف البيت، ومع هذا أنت تقول: إن فلاناً معنا، كما أن القمر في السماء والشمس في السماء، ومع هذا فأنت تقول: الشمس معنا والقمر معنا باعتبار النظر إليه، فأنت لا تنظر إلى الله تبارك وتعالى في حياتك الدنيا، وإنما النظر هذا في الآخرة، والله تبارك وتعالى هو الذي يراك ويرى جميع خلقه، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم أبداً، فالغيب والشهادة شهادة لله عز وجل. قال: [وأن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف]. يعني كيف استوى؟ لا ندري. فإذا كنت أنت لا تدري عن ذات الله تبارك وتعالى شيئاً، فأنت لا تدري عن كيفية ذات الله تبارك وتعالى، فكيف يتسنى لك أن تعلم صفاتها، فإذا كنت لا تعلم كيف الذات، فمن باب أولى أن تخفى عليك الصفات، ولا يتصور ذات بلا صفات. تصور أنك تقول: إن هذا كأس، ولكن لا صفة له. فهذا لا يتصور؛ لأن هذا الكأس أولاً له اسم وهو الكأس، ومن صفاته أنه برتقالي، وأنه مستدير، وأن له يداً يتحكم فيه من خلالها، فلا يتصور قط أن هناك ذات لا صفة لها، فإذا قلت: إن إبراهيم رجل كريم فكرم إبراهيم محدود، لأنه كرم بشري، وإبراهيم كريم في حدود طاقته واستطاعته. ولذلك الكرم الذي وصف الله تبارك وتعالى به عباده كرم محدود، أما كرم المولى عز وجل فغير محدود وغير مكيف؛ لأن كرم الله تعالى يتناسب مع ذاته العلية، فإن الله تبارك وتعالى موصوف بكمال الكرم، فليس هناك كرم يضاهيه أو يوازيه، ولذلك نحن لا نخوض في كيفية معرفة صفة الله عز وجل، وإنما نؤمن بها ونمرها كما أمرها السلف، وكما مروا عليها بلا تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل بصفات المخلوقين؛ لأن ذات الخالق تختلف عن ذات المخلوق، فلابد أن صفات الخالق كذلك تختلف عن صفات المخلوق. قال: [وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة، يراه أهل الجنة بأبصارهم، ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء]. يعني: أنت عندما تقرأ في أوصاف الجنة تجد أنها من أعظم النعم، وأعظم ما فيها على الإطلاق: النظر إلى وجه الله عز وجل في يوم المزيد الذي هو يوم الجمعة، يتجلى ربنا تبارك وتعالى لخلقه فيرونه. فتقول: أنا أريد أتصور كيف يتجلى ربنا؟ وما هذه الحجب التي إذا كشفها الله عز وجل رأيناه؟ وتدور بمخيلتك لتصل إلى صورة مرضية ومقنعة لك. أنت غير مطالب بهذا، بل أنت منهي عن هذا؛ لأنك مهما تصورت فإن الحقيقة أعظم من ذلك، وهو نعيم ليس بعده نعيم. إذا كان الله تبارك وتعالى والنبي عليه الصلاة والسلام قد بينا أن في الجنة نعيم من ثمارها وطيبها ورائحتها ما لا يمكن أبداً لعين أن تكون قد رأ

كلام ابن تيمية في الأسماء والصفات

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - كلام ابن تيمية في الأسماء والصفات مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات هو مذهب السلف الصالح، فهو يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من أسماء وصفات من غير تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل كما يليق بجلال الله تعالى. وقد وضع قواعد عظيمة لإثبات الأسماء والصفات لله تعالى، ورد فيها على أهل البدع والأهواء كالمعطلة والمجسمة.

مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات

مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في منهج أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، وذلك في المجلد الخامس (صفحة 45) من مجموع الفتاوى: [فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه]. أي: إذا وصف الله نفسه بوصف، أو وصف رسوله الكريم ربه تبارك وتعالى بوصف أو سماه باسم سميناه كما سماه من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل. قال: [ولم نتكلف منه صفة ما سواه]. يعني: لا نتكلف من عند أنفسنا إثبات صفة لله عز وجل لم يثبتها لنفسه ولم يثبتها له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. قال: [لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف]. والجحود أنواع: الجحود بالتأويل، والجحود بالتحريف، والجحود بالتعطيل، والجحود بالتمثيل. فلا نجحد ما وصف الله به نفسه، كما أننا لا نتكلف وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، فإننا بين أمرين: أن نؤمن بما سمى الله تعالى به نفسه وما وصف به نفسه أو وصفه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولا نجحد شيئاً مما ثبت في الكتاب والسنة، ولا نتكلف شيئاً من عند أنفسنا لم يكن له وجود في الكتاب والسنة. قال: [اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك]. يعني: أن تكون وقافاً عند حد الكتاب والسنة. [ولا تجاوز ما قد حد لك]. أي: لا تجاوز حدك، إما في الإثبات وإما في النفي. [فإن من قوام الدين: معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً؛ ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً]. وهو نفس معنى الكلام السابق. قال: [وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك]. يعني: شيء لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، وضم إلى ذلك أن نفسك قد أنكرت هذا. قال: [وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تكلفن علمه بعقلك]. يعني: لا تثبتن شيئاً من ذلك بالعقل؛ لأن باب الصفات هو تماماً كباب الذات، فكما أنه يستحيل على آدمي أن يصف ذات الله تبارك وتعالى، يستحيل عليه كذلك أن يتكلم في باب الصفات؛ لأن أهل العلم يقولون: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، ولما كان الكل مجمعين على أن ذات الله تبارك وتعالى غيب لا يعلمها أحد فكذلك لابد وأن تكون الصفات تابعة لذلك، فلا يجوز لأحد أن يتكلم في صفة من صفات الله عز وجل، وفي كيفيتها. لا أقصد معناها، كما أني لا أقصد العلم بها. وقلنا من قبل: إن السلف إنما فوضوا الكيف ولم يفوضوا المعنى ولا العلم، فالصفة معلومة لله عز وجل، أثبت لنفسه العين، فلابد وأن يكون عندي علم بأن الله أثبت العين لنفسه، ومعنى العين معلوم لدي؛ لأن الله تبارك وتعالى يستحيل أن يخاطبني بشيء لا علم لي به، ثم يكلفني الإيمان به، ولذلك مخاطبة الخلق بالمحال محال. أي: مخاطبة الخلق بشيء لا يعرفونه ثم لزوم الإيمان به أمر محال، والله تبارك وتعالى لم يتعبد خلقه بأمر محال، فإذا أثبت لنفسه العين علمت أنها عين حقيقة لله تبارك وتعالى كما أن لي عين، ولكن لما اختلفت ذات الله عن ذات المخلوق، لابد بالتالي أن تختلف صفات الخالق عن صفات المخلوقين. ومعنى العين: أنها عين حقيقة كما يفهمها المستمع لها أولاً، والقائل بها أولاً، ولكنها عين تختلف عن أعين المخلوقين؛ لاختلاف الذات، فلابد بالتالي أن تختلف الصفات. قال: [وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث نبيك من ذكر صفة ربك فلا تكلفن علمه بعقلك]. يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى نفى صفة عن نفسه، أو سكت عنها فلم يثبتها ولم ينفها فلا تتكلف إثبات ذلك أو نفيه بعقلك، ولكن الأمر كما قال أحمد بن حنبل: أصول الدين عندنا الالتزام بالكتاب والسنة. أي: أصول الدين عندنا أن نلتزم بالكتاب والسنة. ومعنى الالتزام بالكتاب والسنة: أن تقول بما قال الله عز وجل إثباتاً ونفياً، وأن تقول بما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام إثباتاً ونفياً. أي: ما كان مثبتاً في الكتاب والسنة أثبتناه، إذا كان هذا في حق الإله، فإنما نثبته على الوجه اللائق بالله عز وجل، وإذا كان في حقي فإن هذا أمر يحتمل الكمال البشري ويحتمل العين البشرية، كما أن الله عز وجل خلقني وأثبت أن لي عينين، فإن كانتا سليمتين فيكون كمالاً بشرياً في الرؤية أو في وجود العينين، وإما أن أكون أعور العين أو أعمى كفيفاً فهذا

قواعد مهمة في إثبات الأسماء والصفات

قواعد مهمة في إثبات الأسماء والصفات ومن القواعد التي تخدم الأسماء والصفات، ما يلي:

التوسط في الألفاظ المجملة

التوسط في الألفاظ المجملة القاعدة الأولى: التوسط في الألفاظ المجملة التي لم يرد إثباتها ولا نفيها. أي: إذا كان اللفظ مجملاً أتوقف فيه؛ لأنني لو نظرت في هذا اللفظ لا أجده لا في الكتاب ولا في السنة، لأنه قد استحدث بعد ذلك، كلفظ الجهة والحد، أما الحد فلفظ منكر في غاية النكارة. يقولون: إن الله تعالى إذا أثبتنا وجوده في السماء فإنما أثبتنا وجود الجهة، وهذا أمر يحتمل مدحاً ويحتمل ذماً؛ ويحتمل كمالاً ويحتمل نقصاً. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة. قلنا له: ماذا تقصد بالجهة؟ فإذا قال: أقصد جهة العلو والفوقية والاستواء قلنا: هذا كلام حسن. وإذا قال: أقصد بالجهة أن السماء تحوطه. وأنه قد استقر على العرش والعرش يحمله. فنقول: إن هذا كلام سخيف بارد، وكلام ليس على بطلانه رد أفضل من السكوت عنه، وإن كان الأولى ترك هذه المصطلحات بخيرها وشرها؛ لأنها لم ترد على لسان السلف، وهذه الكلمات حمالة؛ يستخدمها المبتدعون لإثبات بدعتهم، فيدورون بها كما يدور الحمار برحاه، يثبتون فساد معتقدهم. وأما أهل السنة والجماعة إنما دخلوا في هذا الباب رغماً عنهم للرد على المبتدعة، فنقل على ألسنتهم بعض هذه المصطلحات. كما قالوا: إن الله تعالى في السماء بذاته، فكلمة بذاته اضطر السلف إليها وإلى ذكرها، وكما اضطروا كذلك إلى أن يقولوا: (القرآن كلام الله غير مخلوق)، فلفظ (غير مخلوق) ليس على لسان السلف، إلا ما ورد على لسان البعض منهم رداً على المبتدعة، وخاصة فيما يتعلق في صفات الله عز وجل، فهو أمر في غاية الحساسية. قال: [فإذا أتاك لفظ مجمل فتوقف فيه، إذا لم يكن قد ورد إثباته أو نفيه في الكتاب والسنة، أما معنى هذه الألفاظ المجملة فيستفصل عنه]. أي: تقول له: ماذا تقصد بهذا اللفظ؟ إذا قال: أقصد بالجهة العلو والفوقية لله عز وجل والاستواء على العرش، فهذا كلام جميل، لكن بدلاً من أن تقول: الجهة، قل: استوى على العرش، أو الله في السماء؛ لأن هذه هي الألفاظ التي وردت في الشرع، أما الجهة فلم يأت بهذا المصطلح النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أبو بكر الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الشافعي، ولا مالك، ولا أبو حنيفة، ولا أحمد بن حنبل، فينبغي ألا تتكلم بكلمة إلا إذا تكلم بها سلفك.

كل اسم ثبت لله فهو متضمن لصفة من غير عكس

كل اسم ثبت لله فهو متضمن لصفة من غير عكس القاعدة الثانية: كل اسم ثبت لله عز وجل فهو متضمن لصفة من غير عكس، يعني: اشتقت الصفة من الاسم؛ لأن باب الصفات واسع جداً، وأوسع منه باب معاني الكمال اللائق بالله عز وجل، فإذا كان من أسماء الله: (الرحمن الرحيم الملك القدوس السميع البصير الرءوف)، فإنه تشتق من اسم الرحيم الرحمة، ومن الرءوف الرأفة، ومن السميع السمع، ومن القوي القوة، فباب الأسماء أدق وأقل من باب الصفات. إذاً: أنا بإمكاني أن أشتق صفة لكل اسم؛ لأنه ليس هناك اسم إلا ويدل على صفة، وليس بلازم في الصفات أن تدل على الأسماء، فإنه قد ورد قول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فالمخادعة والمكر في الإنسان صفتا نقص، لكنهما في حق الله عز وجل على سبيل المقابلة لأفعال العباد صفتي كمال، فمن كان من المخلوقين أشد مكراً وخداعاً فلا يستطيع أن يخادع الله عز وجل، أو أن يمكر على الله عز وجل؛ لأنه عالم الغيب والشهادة، فمهما يبطن المرء من شيء فإن الله يعلمه، بل ويكشف الله عز وجل عن عباده بما قد نووه من مخادعة ومكر وحيل. والله تبارك وتعالى قال: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يصح أن نسمي الله تبارك وتعالى (المنتقم)، لأن هذا ليس من أسمائه، وكذا ليس من أسمائه المخادع الماكر. إذاً: هذه الصفات التي تدل على النقص في حق البشر ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن على سبيل الكمال؛ لأنها في مقابلة صفات النقص عند المخلوقين، فما كان الله ليخادع إلا بعد أن خادع عبيده، وما كان الله ليمكر إلا بعد مكر عبيده، وما كان الله لينتقم إلا من المجرمين، وكلها صفات لله عز وجل تدل على كماله وإحاطته بخلقه. والذي يتعلق بهذه القاعدة: أنه لا يجوز أن أشتق أسماء من هذه الصفات؛ لأن الأسماء توقيفية، وكذلك الصفات توقيفية، فلا يصح أبداً أنني أصف الله تبارك وتعالى بوصف لم يصفه لنفسه، ولم يصفه به رسوله الكريم، فإذا كان الوصف قد ورد في الكتاب والسنة أثبتناه، ومن ذلك: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] هذا نفي يستلزم كمال الضد. يعني: إذا كنت تنفي عن الله الظلم، فيلزمك أن تثبت ضد الظلم وهو كمال العدل، وهذه قاعدة قد شرحناها قبل ذلك: وهي أنه يلزم من نفي الصفة عن الله عز وجل إثبات ضدها كمالاً، إذا كنت تقول: إن الله لا يظلم الناس شيئاً. إذاً: الله تبارك وتعالى متصف بكمال العدل، وإذا كان الله تعالى قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] هذا يدل على كمال القيومية والحياة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام). وإذا كان الله تبارك وتعالى موصوف بالجود والكرم والتفضل على عباده، فيلزم من ذلك أن ننفي عنه البخل والشح الذي يتصف به بعض خلقه. قال: [كل اسم ثبت لله عز وجل فهو متضمن لصفة من غير عكس] يعني: الصفات تشتق من الأسماء ولا تشتق الأسماء من الصفات؛ لأن باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وكل من الاسم والصفة أمر توقيفي. يعني: لا نثبته إلا إذا كان ثابتاً في الكتاب والسنة. قال: [مثاله: اسم الله: الرحمن متضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، واللطيف يتضمن صفة اللطف وهكذا] كل الأسماء لها صفات، لكن من صفاته: الإرادة والمشيئة والاستواء، فالله تبارك وتعالى أثبت ذلك لنفسه في الكتاب، وأثبتها رسوله في السنة فلا يصح أنني آخذ من صفة الإرادة أو المشيئة أو الاستواء اسماً فأقول مثلاً: المشاء أو المريد أو المستوي، مع أن الله قد قال في الاستواء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؛ فهي قد ثبتت في الكتاب.

دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة قد تكون صريحة أو متضمنة

دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة قد تكون صريحة أو متضمنة القاعدة الثالثة: دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة: إما أن تأتي صريحة، أو تأتي متضمنة، أو تأتي صريحة بفعل أو وصف دال عليها. يعني: ليس بلازم أن يصف الله تبارك وتعالى نفسه صراحة في الكتاب، بل ممكن تأتي صراحة وممكن تأتي متضمِنة أو متضمَنة، وممكن يأتي التصريح بها من باب الفعل أو الوصف. المثال الأول: الرحمة والعزة والقوة والوجه واليدين والأصابع كلها قد وردت صريحة في القرآن والسنة. ومثال التضمن: البصير، فإنه يتضمن صفة البصر لله عز وجل، وهذا كلام يرد به على المعتزلة الذين يقولون: بصير بلا بصر، سميع بلا سمع، رحيم بلا رحمة، قوي بلا قوة، قدير بلا قدرة. ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الصفة متضمنة، فإذا كان رحيماً فلابد أن يكون برحمة، وإذا كان سميعاً لابد أن يكون بسمع، وإذا كان بصيراً لابد أن يكون ببصر، فالصفة تثبت ضمناً للاسم. والمثال الثالث: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، هذه الصفة وردت للدلالة -دلالة الاستواء- أي: دلت على أن الله تعالى متصف بالاستواء، وهو العلو والفوقية. وقال تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فالآية دالة على الانتقام، فهي صفة لم ترد صراحة في الكتاب، وإنما دلت على هذه الصفة.

الكلام في الصفات كالكلام في الذات

الكلام في الصفات كالكلام في الذات والقاعدة الرابعة: الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن ذاته حقيقية لا تشبه الذوات؛ فهو متصف بصفات حقيقية لا تشبه الصفات، سواء كانت هذه الصفات ذاتية أو خبرية أو فعلية. فنثبت هذه الصفات لله تبارك وتعالى كما جاءت ولا نتأولها، ولا نقول فيها بأنها مجاز، لأن الذي يقول بالمجاز يصرف اللفظ عن حقيقته، فالذي يقول: اليد ليست يداً حقيقة إنما هي النعمة، أو هي القدرة، ففي النهاية يصف الله تبارك وتعالى بأنه ذات بلا صفات، ونحن قلنا باستحالة ذلك، فما من ذات إلا ولها صفات، حتى في الدنيا، وفي المخلوقات، فمثلاً: هذه السجادة خضراء طولها كذا عرضها كذا مستديرة مستطيلة مربعة مكعبة فيها ماء فيها هواء، وهذه كلها أوصاف، ولا يمكن قط بل يستحيل على أحد أن يثبت ذاتاً بلا صفات، فإذا كان المنكرون للصفات أو الذين صرفوها عن حقيقتها إلى المجاز لا يقولون بأن ذات الله ليست ذاتاً حقيقة أو أنها مجاز، فإذا قالوا ذلك فبالأولى أن يقولوا بالثانية. قال: [فمن أقر بصفات الله كالسمع والبصر والإرادة، يلزمه أن يقر بمحبة الله ورضاه وغضبه وكراهيته]. يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: [ومن فرق بين صفة وصفة مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضاً في قوله، متهافتاً في مذهبه، مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض]. يعني: لا تقل: إن الله تعالى يغضب غضباً على الحقيقة، واليد ليست يداً حقيقة، فلا تحمل الغضب واليد على الحقيقة أو المجاز؛ فإن حملتهما على الحقيقة وأثبتهما على القدر اللائق لله عز وجل فهذا مذهب السلف، وإذا قلت بالمجاز فهذا مذهب الخلف وهو فاسد باطل.

ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن فهو صفة له غير مخلوقة

ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن فهو صفة له غير مخلوقة القاعدة الخامسة: [ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن عنه فهو صفة له غير مخلوقة]. ومعنى (غير بائن) يعني: غير مغاير ولا مختلف ولا منفصل، وأريد أن أقرب المعنى، وإن كنت أكره هذا اللفظ. فإذا قلنا: بإثبات اليد لله، فهل هذه اليد مباينة لله عز وجل، أم هي صفة ذات لازمة له؟ يعني: أنا ممكن أن أقول: يدك وإن كانت صفة لازمة لك إلا أنه يمكن مباينتها عنك بقطعها، عند أن يأتي شخص يقطع يدك، نقول: قد باين يده عن بدنه. يعني: باعد اليد عن البدن. فالمباينة في الأعمال والجوارح متصورة وواقعة وحادثة في المخلوقين، لكن هل يمكن أن أقول: إن يد الله تبارك وتعالى مباينة لله عز وجل. إذا قلنا: بأن صفات الله عز وجل ليست مباينة له فهذا يعني: أنها غير مخلوقة، فإذا كان الكلام صفة لله عز وجل فلا يتصور أن الله تعالى كان ساكتاً عاجزاً عن الكلام لا يعرف الكلام، ثم عرف فتكلم بعد ذلك؛ لأن من قال بهذا كفر بنص أهل السنة والجماعة، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل. وإذا قلنا بإثبات العين لله، لا نقول: بأنها عين زائدة عن ذات الإله، بل هي صفة ذاتية خبرية لازمة لذاته لا تنفك عنه. ومعنى أنها ذاتية. أي: أنها غير مخلوقة، فكما أن الله تعالى غير مخلوق وهو الخالق لكل شيء فكذلك صفاته غير مخلوقة، بخلاف نسبة الأشياء البائنة عن الله عز وجل المنسوبة إليه فإنها مخلوقة، كما تقول: بيت الله وأمة الله وناقة الله، فالبيت مصنوع مخلوق، والناقة مخلوقة، ونسبتهما إلى الله عز وجل نسبة تشريف، فإذا كانت الصفة بائنة عن الله عز وجل منسوبة إليه فإنها مخلوقة، ونسبتها إلى الله نسبة تشريف، بخلاف صفات الله عز وجل غير البائنة عنه، فإنها صفات غير مخلوقة؛ كصفة اليد وصفة الساق والقدم والأصابع والأنامل والكف والغضب والرضا والسخط والفرح والسرور والرفع والخفض وغير ذلك؛ كل هذه الصفات لله تبارك وتعالى غير مخلوقة.

صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله ولو كان حديث آحاد

صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله ولو كان حديث آحاد القاعدة السادسة: صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كان حديثاً واحداً آحاداً، من أجل أن تعرف أن منهج أهل السنة والجماعة يختلف عن منهج من أتى بعدهم، فأهل السنة والجماعة وعلى رأسهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل وعلى رأسهم جميع الأنبياء والمرسلين أثبتوا لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، وأن الأمة ممن سلك منهج النبوة أثبتت لله تبارك وتعالى ما ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام من أسماء وصفات، وإن كان الحديث الذي يحمل هذا الاسم أو هذه الصفة حديث آحاد، سواء كان هذا الحديث من طريق الواحد أو الاثنين أو الثلاثة. إذا علمت هذا لابد وأن تعلم أن قوم المعتزلة: (لا نحتج في باب الاعتقاد إلا بالخبر المتواتر) قول محدث، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة.

معاني صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة معلومة

معاني صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة معلومة القاعدة السابعة: معاني صفات الله عز وجل الثابتة بالكتاب أو السنة معلومة، فلا يجوز مثلاً أن تقول: أنا لا أعلم معنى الاستواء، مع أن الاستواء معلوم، فهو الفوقية والارتفاع والعلو. ولا يجوز أن تقول: أنا لا أعلم صفة المجيء؛ لأنك تعلم ماذا يعني قولك: جاء فلان. أنا لو قلت لك: جاء زيد. فإنك تفهم كلامي، فإذا قلنا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، فإنك تعلم معنى المجيء، ولكنك تجهل كيفية المجيء. إذاً: السلف لم يفوضوا علم الصفات ولا معاني الصفات، إنما فوضوا الكيف، وقد زلت بهذه المسألة أقدام كثير من أهل العلم. ومن المسائل التي زلت بها أقدام كثيرٍ من أهل العلم: مسألة العلو، قال الله تعالى: {اسْتَوَى} [طه:5]. فمن قال: لا أعلم معنى الاستواء، نقول له: إذاً: الله خاطبك بكلام غير مفهوم. وهذا محال، فإذا كنت تقوله في باب الاعتقاد فقله في باب الأحكام، فمثلاً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، أنت لا تعلم معنى الصلاة، وبالتالي أنت لا تعلم ذات الصلاة، وبالتالي أنت لا تصلي؛ لأنك لا تفعل شيئاً أنت لا تعلمه ولا تعلم له معنى. فهل يتصور أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بشيء لا نعلمه ولا نفهمه؟ A لا. فإذا قلت ذلك في الأحكام والمعاملات فكذلك في الاعتقاد، فالله تعالى قد خاطبنا في باب الأسماء والصفات بما علمناه وعلمنا معانيه، فإذا ثبتت لله تبارك وتعالى صفة الرحمة فلا بد من إثباتها لله عز وجل؛ لأنه قد أثبتها في كتابه، وأثبتها له رسوله. ومن قال: لا أعلم معنى الرحمة! تقول له: هذا كلام سخيف وبارد، ومردود على قائله؛ ولذلك ورد عن بعض السلف أنه جادل رجلاً من أهل البدع، فجهل عليه بالعلم، فقام عليه ذلك العالم الرباني صفعاً وضرباً وركلاً، حتى قال له وهو يتضور تحت قدمه: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وهو كان ينازع في أنه لا يعلم معناها، فلما ضرب وديس بالأقدام علم معنى الرحمة، فاحتج بدليل الرحمة في موضوع الرحمة؛ لأنه يعلم معناها. إذا قلت لك في رابعة النهار: أين الشمس؟ فأفضل جواب عليك السكوت، وإذا كان القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب وأنت تنظر إليه وتقول: أنا لا أرى القمر فأفضل جواب أن نسكت عنك؛ لأنك أعمى البصر والبصيرة، فكذلك الله عز وجل خاطبنا بالصفات التي لها علم عندنا من الكتاب والسنة ولها معان يعلمها جميع العرب، فإذا كان المسلم غير عربي فيجب عليه أن يتعلم العربية كما تتعلم أنت الإنجليزية إذا أردت أن تترجم كلمات كثيرة جداً تمر عليك في صفحات الكتاب الأعجمي تريد قراءتها، لكن لا تعلم معناها، فأنت معذور في هذا، كما أن العجمي إذا استطاع أن يقرأ في كتاب الله فأتى عند صفة من صفات الله عز وجل فيقول: أنا لا أعلم صفة السمع ولا أعرف معناها، قلنا له بالإنجليزية: معنى أن الله سميع، فبينت له بلسانه أنها تثبت صفة السمع لله، فإنه سيقر صفة السمع، فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى خاطب جميع المخلوقين بما هو في مقدورهم أن يفهموه، فلا يدعي واحد بعد ذلك أن الله تبارك وتعالى خاطبه بما لا يفهم. إذاً: صفات الله عز وجل وسائر أمور الاعتقاد تثبت في خبر واحد، ومعاني الصفات الثابتة في الكتاب والسنة معلومة، وتفسر على الحقيقة، فالله سميع بسمع على الحقيقة، والله قدير بقدرة على الحقيقة، و {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] على الحقيقة. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] على الحقيقة. فمن قال: العين مقصود منها الرؤية أو الرعاية أو الإحاطة أو كف الأذى، نقول له: المعنى هو إثبات العين الحقيقة لله عز وجل، لكن كيفية العين لا يعلمها إلا صاحب العين سبحانه وتعالى، فلا مجاز في الصفات ولا استعارة فيها البتة، وأما الكيفية فمجهولة.

ما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به وإن لم يفهم معناه

ما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به وإن لم يفهم معناه القاعدة الثامنة: ما جاء في الكتاب أو السنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به، وإن لم يفهم معناه. يعني: على فرض أنه خفي عليه معنى صفة، فلابد وأن يؤمن بها كما جاءت وكما قرأها، ويثبتها لله على الحقيقة وإن كان المعنى قد خفي عليه. فمثلاً: عدم العلم بمعنى الأسماء الثابتة كالودود أو الحنان أو القيوم، أو الصبور لا ينفي عنك لزوم العلم والإيمان بها، فلابد وأن تؤمن بأسماء الله وصفاته، وإن خفي عليك بعضها أو كلها. وصفات الله عز وجل لا يقاس عليها، فلا يقاس مثلاً السخاء على الجود، إذا كانت صفة الجود ثابتة لله عز وجل فلا أقول: الله تعالى سخي، وإن كان المعنى جميلاً، لأن باب الصفات توقيفي، فلا يصح في صفات الله الاجتهاد والقياس. والقياس إلحاق فرع بأصل، والذي يلحق الفرع بالأصل هم أهل العلم، فإذا كان المقيس والمقيس عليه متساويين في الدليل ومتحدين في العلة ألحقوا الفرع بالأصل، فإذا كان الأصل حراماً فالفرع حرام، وإذا كان الأصل حلالاً فالفرع حلال، فمثلاً: الله عز وجل حرم الخمر صراحة وهذا المقيس عليه، وهو الأصل والحشيش فرع، فهو حرام قياساً على الخمر؛ لأن أدلة الشرع في الأحكام وفضائل الأعمال: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس. فالحشيش حرام؛ لأنه متحد مع الخمر في العلة وهي ذهاب العقل والإسكار، وهذه العلة التي لأجلها حرم الله الخمر صراحة فألحقنا به الحشيش. والله تبارك وتعالى قد ثبت في صفاته أنه جواد، فلا أستطيع أن أقول: إنه سخي، مع أن السخاء هو الجود؛ لأن صفات الله لا يصح فيها الاجتهاد ولا القياس؛ لأنها توقيفية. وكذلك في بقية المعاني التي تدل على الجود إلا إذا كانت ثابتة، فالكرم كذلك من الجود، وباب من أبوابه، وشبيه ومثيل له، لكنه قد ورد في نصوص أخرى أنه كريم. والله تبارك وتعالى هو القوي، فهو قوي بقوة؛ فالصفات تؤخذ وتشتق من الأسماء. إذاً: لفظ القوة ثابت لله عز وجل. والجلد الذي هو تحمل المشاق والصعاب والقوة، لا يصح إثباته لله عز وجل في مقام القوة، أو قياساً عليها؛ لأن باب الصفات لا يقاس عليه؛ لأن الصفات توقيفية. ولفظ (القدير) ثابت لله، وهو قدير بقدرة. إذاً: الله تبارك وتعالى متصف بالقدرة، فلا يمكن أن أثبت لله عز وجل صفة الاستطاعة؛ لأنها لم تثبت في الكتاب ولم يثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام في السنة، إنما الصفة التي وردت تغني عن هذه الصفة وهي صفة القدرة. وصفة الرحمة ثابتة لله عز وجل، ومن معانيها: الرأفة والرقة، فممكن أن أثبت الرأفة؛ لأنها مشتقة من الرءوف، بخلاف الرقة وإن كانت مثل الرحمة، فلهذا يقال: فلان رقيق القلب. يعني: رحيم. وباب القياس في حق المخلوقين في الصفات حدث عنه ولا حرج، لكن في حق المولى تبارك وتعالى لا يجوز أن أقول: إن الله رقيق؛ مع أن الرقة بمعنى الرأفة والرحمة وغير ذلك. وكذلك (العلم) فالله تبارك وتعالى عليم بعلم؛ فعليم اسم وبعلم صفة، والمعرفة من معاني العلم، فلا يجوز أن أثبت صفة المعرفة لله عز وجل؛ لأن صفات الله عز وجل لا يتجاوز فيها التوقيف، فلا نذهب فيها أكثر مما ورد إلينا، كما مر في القواعد السابقة.

أسماء الله وصفاته عز وجل لا حصر لها

أسماء الله وصفاته عز وجل لا حصر لها القاعدة التاسعة: صفات الله عز وجل لا حصر لها؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، وأسماء الله لا حصر لها، أما حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) فتقديره: إن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، فباب الأسماء واسع لا ينتهي؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن مسعود: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي). الشاهد: (أو استأثرت به). فالضمير يعود على الله. أي: أو استأثرت أنت بهذا الاسم الذي أخفيته عن جميع المخلوقين في علم وغيب لا يطلع عليه أحد، فوحدك أنت الذي تعلمه. فباب الأسماء باب واسع جداً، وإذا قلنا: إن كل اسم يشتق منه صفة فلابد وأن يكون باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ لأن كل اسم يدل على صفة، وهناك صفات لا يشتق منها الأسماء.

إثبات صفة العين لله تعالى

إثبات صفة العين لله تعالى نريد أن نثبت لله عز وجل صفة العين، فصفة العين صفة ذاتية لله تبارك وتعالى، غير مباينة عنه، فكما أثبتنا اليد لله عز وجل وأن اليد غير مخلوقة، وأنها غير مباينة له سبحانه، بخلاف يد المخلوق فممكن مباينتها بقطعها. إذاً: الصفات الذاتية هي اللازمة لذات الإله تبارك وتعالى، كما أنها خبرية. أي: قد ورد الخبر بها، ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة. وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تعالى يبصر ببصر، كما أنه يسمع بسمع، ويعلم بعلم، كما يعتقدون أن لله عز وجل عينين تليقان به لكنهما ليستا كعيون المخلوقين؛ لأن هذا يستلزم التمثيل، والتمثيل حرام، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فكل شيء في الوجود لا يشبه ولا يماثل ولا يكافئ ولا يعدل الله تعالى، فإذا كان كذلك فلا يجوز لي أن أقول: إن الله تعالى له عيناً كعيني أو عينان كعيني؛ لأن هذا يستلزم التمثيل والمشابهة، وهو محال. كما أنني لا يجوز لي أن أقول: إن عين الله ليست على الحقيقة، بل هي مجاز والمقصود منها: الرعاية أو الرؤية أو غير ذلك؛ لأنني إذا قلت بالمجاز أو التأويل، لابد وأنني سأقع في التعطيل، وهو: نفي ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم. فالله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهو نفي للماثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، إثبات للأسماء والصفات على الوجه الحقيقي اللائق بالله عز وجل. أما دليل إثبات العين من الكتاب فقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، أي: واصنع يا نوح السفينة ونحن ننظر إليك بأعيننا، ((وَوَحْيِنَا)) أي: وإلهامنا لك كيف تصنع السفينة، فالوحي هنا بمعنى الإلهام. والمعنى: أن الله تعالى أمر نوحاً عليه السلام أن يصنع السفينة من ألواح الخشب والمسامير والحبال يربط بها أطراف السفينة حتى يحمل فيها أهل الإيمان ويسير في البحر إلى أن يصل إلى بر الأمان والنجاة، فيغرق الله تبارك وتعالى من تخلف عنه. إذاً: نقول بإثبات العين الحقيقية لله عز وجل، وأن الله كان ينظر إلى نوح على الحقيقة بعينيه الحقيقتين وهو يصنع الفلك، ويوحي إليه كيف يصنع السفينة. وقال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]. وهذا الخطاب موجه لموسى عليه السلام، فقد ألقى عليه محبة في قلوب الخلق، وكذا محبة الله عز وجل لموسى كلاهما يمكن القول به، ولا تناف بينهما؛ لأنه قد ورد في الحديث: (أن الله تعالى إذا أحب عبداً ألقى محبته في قلوب العباد، بل أمر الملائكة أن يحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) أي: المحبة. قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي: ولتربى. فالصناعة هنا بمعنى التربية، ولذلك تختلف بحسب الحال، تقول: صناعة بيت، وصناعة الأخشاب، وصناعة الدروع، وصناعة الملابس، فكل صنعة من هذه الصنعات تختلف عن غيرها، فصناعة البيت. أي: بناؤه. وصناعة الثوب. أي: حياكته وخياطته. وصناعة الآدمي. أي: تربيته. ومعنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي: ولتربى على عين الله عز وجل. أي: الله تبارك وتعالى يرعاك ويحفظك ويكلؤك وينظر إليك بعينيه الحقيقيتين، ولا غرابة في ذلك. ولذلك أهل البدع يقولون: إنكم تتأولون إذا أردتم أن تتأولون، وتنكرون على من يتأول إذا أردتم الإنكار عليه، فاثبتوا على قدم واحد؟ يوجهون هذا اللوم لأهل السنة. فنقول: إننا نعتقد في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أن الله تعالى يرعاه ويكلؤه ويحفظه ويربيه وينظر إليه وغير ذلك. فنحن نثبت الصفة ولازمها، فالفرق بيننا وبين أهل البدع أننا نثبت الصفة ولازمها بخلافهم؛ فإنهم يثبتون لزوم الصفة وينكرون الصفة، فمثلاً: قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، يقول أهل البدع: اليد بمعنى القدرة. وأرادوا من هذا الكلام نفي اليد الحقيقية عن الله عز وجل، بظنهم أن إثباتها إثبات للتمثيل، وهذا كلام باطل، وأهل السنة يثبتون اليد ولازم اليد، فيثبتون الصفة ولازمها، فيلزم من إثبات العين الرعاية والإحاطة والكلأ والحفظ وغير ذلك من المعاني. أما هم فإنهم يثبتون لوازم الصفة ولكنهم ينكرون الصفة، وبالتالي يقعون في التعطيل، أما نحن فلا نقع في التعطيل ولا في التمثيل؛ لأننا في جانب التمثيل نقول: إن لله يداً حقيقة ليست كأيدي المخلوقين، بل يداً تليق بجلاله. فلا ننفي الصفة، وإنما نثبتها ونثبت معها اللازم، فقوله سبحانه وتعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي: إن الله تعالى ينظر إليك بعينيه ويحفظك ويرعاك ويكلؤك. إذاً: بذلك نكون أثبتنا الصفة ولازمها، فأهل البدع يثبتون لازم الصفة فقط بخلاف الصفة، قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطو

الأسئلة

الأسئلة

حكم صيام أول رجب

حكم صيام أول رجب Q هل وردت نصوص في صيام أول رجب؟ A النصوص الواردة في صيام أول رجب كلها نصوص باطلة غير صحيحة، فمن خص فعليه الدليل.

وجوب معرفة الله بالسمع

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - وجوب معرفة الله بالسمع معرفة الله سبحانه وتعالى واجبة، إذ لا يتصور أن عابداً لله عز وجل يعبده وهو لا يعرفه، ومعرفة الله عز وجل لا تثبت ابتداء إلا بالسمع لا بالعقل، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، ومع هذا لم يكلفه الله معرفته بعقله، وإنما خاطبه بالنقل والوحي ليعرفه به سبحانه وتعالى.

باب جماع توحيد الله عز وجل وأسمائه وصفاته

باب جماع توحيد الله عز وجل وأسمائه وصفاته إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باقٍ]. باب له تعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، ووجوب معرفة الله عز وجل.

معرفة الله تعالى ثبتت بالسمع والنقل

معرفة الله تعالى ثبتت بالسمع والنقل معرفة الرسل والأنبياء واجبة كذلك، ومعرفة الله تعالى ومعرفة رسله تثبت بالسمع لا بالعقل، وهو الذي نسميه أحياناً النقل، فالنقل والسمع والأثر والنصوص كلها بمعنى واحد. فمعرفة الله عز وجل واجبة، ولا يتصور أن عابداً لله عز وجل يعبده وهو لا يعرفه، ولا يتصور أن عبداً يؤمن بالله وهو لا يعرفه، وكذلك لا يتصور أن عبداً يؤمن برسول الله وهو لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعرفة الله تعالى واجبة، وكذلك معرفة الرسول عليه الصلاة والسلام واجبة، وذلك لا يثبت إلا بالسمع. والمصطلح الذي اشتهر على ألسنة الناس: (أننا عرفنا ربنا بالعقل) وهذا يخالف ما كان عليه معتقد سلفنا رضي الله عنهم أجمعين من أن معرفة الله تعالى تثبت بالنقل لا بالعقل. وهذه المسألة لها مدلول لدى العقلانيين والمعتزلة. إن أهل السنة والجماعة يجري على ألسنة بعضهم أخطاء شائعة في الاعتقاد من حيث لا يدرون، فإذا سئل أحدهم: بماذا عرفنا الله؟ أجاب مباشرة بالعقل، وهذه إجابة خاطئة تمام الخطأ، فالله تعالى يعرف بالسمع لا بالعقل، أو بالنقل لا بالعقل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت العبادة أو الشرع لا يعرفان إلا بالنقل فمشرع الشرع لا يعرف كذلك ومن باب أولى إلا بالنقل. قال: [جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باق. وسياق ما يدل من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل].

الأدلة من القرآن على أن معرفة الله ثبتت بالسمع لا بالعقل

الأدلة من القرآن على أن معرفة الله ثبتت بالسمع لا بالعقل قال: [قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام]، يعني: إن هذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن المراد به جميع الخلق. قال: [{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]]. أي: فاعلم يا محمد! أنت وجميع الخلق أنه لا إله إلا الله. فهذه الآية تدل على توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله بحق إلا هو سبحانه وتعالى. ولو كان يعرف ذلك بالعقل فإن أرجح العقول وأقواها وأهداها سبيلاً هو عقل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد خاطبه الله عز وجل بهذا النقل، والأمر ابتداءً لا يعرف إلا من قبل النقل. والعرب كانوا من أرجح الناس عقلاً وذكاءً وفطنة، وغير ذلك، ومع هذا كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون غير الله عز وجل، وقالوا بعقولهم: ما نعبد هذه الآلهة إلا لتقربنا إلى الله زلفاً. والذي هداهم إلى ذلك عقولهم الفاسدة التي كانت من الذكاء والحفظ والإتقان والتثبت بمكان، وربما لا تبلغ أعظم العقول في هذا الزمان أقل العقول في أيام الجاهلية من جهة الحفظ والإتقان، فقد كان الواحد منهم يحفظ القصيدة أو الألفية المكونة من ألف بيت أو ألفين من المرة الأولى، ومع هذا كان منحرفاً في جهة التوحيد وزائغاً ضالاً؛ لأنه ليس عنده نقل يثبت أن الله تعالى إله واحد. وقد خاطب الله عز وجل نبيه بهذا الخطاب ليثبت له سمعاً ونقلاً ووحياً أن الله تعالى هو المتفرد والمستحق للألوهية وحده، وأن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل إنما هي آلهة مزعومة. قال: [وقال الله تبارك وتعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]]. فهو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وكان كل نبي يؤمر بهذا عند رسالته، ويكلف بتبليغ هذا الأمر إلى أمته، فأخبر الله نبيه في هذه الآية أنه بالسمع والوحي عرف الأنبياء من قبله التوحيد. فالأنبياء أنفسهم لم يعرفوا التوحيد إلا من قبل الوحي، ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل الرسالة على الحنيفية السمحاء. وهذا التوحيد الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام بعد الرسالة وبعد التكليف لم يكن يعرفه عليه الصلاة والسلام تفصيلاً قبل الوحي، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام على الحنيفية السمحاء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صاحب عبادة وتهجد واختلاء بالله عز وجل وذكر له، ولكن ليس بهذه المنهجية والتأصيل الذي أرسله الله عز وجل به، وإلا فما فائدة الوحي في حق النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ؟ قال: [فأخبر الله نبيه] أي: في هذه الآيات المتقدمة [أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ:50]-أي: قل يا محمد- {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]]، يعني: أن الهداية بوحي، والإيمان بوحي، والتوحيد بوحي، والوحي سمع ونقل، ولا دخل للعقل فيه؛ لأنه كلام الله تعالى، قال: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50].

استدلال إبراهيم عليه السلام على وحدانية الله بالسمع لا بالعقل

استدلال إبراهيم عليه السلام على وحدانية الله بالسمع لا بالعقل قال: [قد استدل إبراهيم بأفعاله سبحانه المحكمة المتقنة على وحدانيته]. يعني: إبراهيم عليه السلام إمام الحنيفية السمحاء، وأبو الأنبياء لم يعرف ذلك بعقله، وإنما عرف توحيد الله بالنقل والسمع، فقد استدل بأفعال الله عز وجل المحكمة المتقنة على وحدانية. قال: [بطلوع الشمس وغروبها، وظهور القمر وغيبته، وظهور الكواكب وأفولها، ثم قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]]. لأنه كان كلما خرجت له آية يقول: هذا ربي. ثم يرجع عن ذلك. ثم في نهاية الأمر سلم لله عز وجل بأنه صاحب الهداية، وأن الهدية لا تأتي إلا من قبله، وأن الدلالة على توحيد الله لا يمكن أن تكون إلا بالنقل عن الله عز وجل. [قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]. فعلم أن الهداية وقعت بالسمع] لا بالعقل.

بيان أن وجوب معرفة الرسل بالسمع لا بالعقل

بيان أن وجوب معرفة الرسل بالسمع لا بالعقل قال: [وكذلك وجوب معرفة الرسل -ثبت- بالسمع]، يعني: إذا كان الله تعالى لا يعرف إلا بالسمع والنقل فكذلك رسل الله عز وجل لا يعرفون إلا بالسمع، ولذلك لما ادعى المدعون النبوة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كان أتباعهم يعرفون أنهم كذبة؛ لأنه لا نقل ولا سمع ولا وحي ينزل عليهم، وكان أتباعهم متأكدين من ذلك وإن تابعوهم، ولكنهم كانوا في حقيقة أمرهم يعرفون أنه لا ينزل عليهم الوحي، وأنهم كذبة، فمعرفة الرسل لابد أن تكون بوحي من السماء. قال: [قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]]. وهذه الآية تدل على أن معرفة الرسول لا تكون إلا بوحي من السماء.

بيان أن العذاب لا يكون إلا بعد الرسالة

بيان أن العذاب لا يكون إلا بعد الرسالة قال: [وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]]، أي: أن الله تبارك وتعالى لا يعاقب ولا يعاتب إلا بعد بلوغ دعوة الرسل إلى الناس أجمعين. قال: [وقال تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]]. فالرسل هم الذين يقيمون حجة الله على الخلق، وهم الواسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهم المبلغون عن الله عز وجل وحيه ومراده، والذين ينقلون تكاليف الله عز وجل الشرعية إلى الخلق أجمعين. والله تعالى لا يسأل الجاهل الذي جهل بعد أن بذل الوسع في التعلم وخفي عليه العلم، كما أنه لا يسأل الناسي ولا المجنون، ولا السفيه الذي قد عذره الله تعالى في كتابه وعذره نبيه في سنته. وكذلك الله تبارك وتعالى ما أرسل رسله إلا ليفرغوا الوسع ويبذلوا الجهد في تعليم الخلق؛ حتى تنقطع حجتهم بين يدي الله عز وجل حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة. قال: [وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:44 - 47]-يعني: يا رب! لو أنك أرسلت إلينا رسولاً ما وقعنا في هذه الجرائم- {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [طه:133]-يعني: لو يأتينا بآية ومعجزة من ربه- {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:133 - 134]]. قال: [فدل] أي: هذه الآيات [على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة]. فمعرفة الله ومعرفة الرسل إنما تكون بالسمع والنقل لا بالعقل. هذا بعض الأدلة من كتاب الله على قولنا.

الأدلة من السنة على وجوب معرفة الله وصفاته بالسمع لا بالعقل

الأدلة من السنة على وجوب معرفة الله وصفاته بالسمع لا بالعقل قال: [أما من السنة: حديث ضمام بن ثعلبة] رضي الله عنه الذي أتى يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عما قد بلغه رسل رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفي حديث أنس قال: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء)، وهذا النهي هو المذكور في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]. فخافوا بعد نزول هذه الآية أن يسألوا النبي عليه الصلاة والسلام خاصة في قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله عز وجل من سأل عن مسألة فحرمت لأجل مسألته)، أو نحواً من هذا الكلام وهذا المعنى، وكانوا يرغبون عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام، حتى قال أنس بن مالك: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية). وأهل البادية فيهم جلافة وغلظة، وقد كان الواحد منهم يدخل على النبي عليه الصلاة والسلام كما يدخل على أقرانه وأصدقائه من أهل البادية بجلافة وغلظة وحماقة وبداوة وجفاء، فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام بطريقة غير لائقة. وقول أنس: (فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل). يعني: المهذب المحترم الذي تأدب بأدب أهل المدينة، لا بأدب البادية. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا جفا). يعني: من سكن البادية كان فيه من الجفاء والغلظة ما فيه، وقال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97]. يعني: فيهم غلظة وجلافة وشدة. وأهل البادية لا يستريحون مع أهل الحضر، فأهل البادية ينظرون إلى أهل الحضر على أنهم قليلوا العيال فارغين لا ينفعون، وأهل الحضر ينظرون إليهم على أنهم في منتهى الغلظة والجفاء، وعقولهم غير متفتحة. قال أنس: (كان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام ونحن نسمع). وهذا فعل جيد أيضاً؛ لأن أنس لو أراد أن يتفاهم مع هذا الرجل لو سمع وحده فلن يعرف أن ما يأخذه منه حق أو باطل؛ لأنه ربما يستكثر أن يقول له: أنا أرى أن أعمل كيت وكيت، أو ينقله إليه بجلافة وغلظة، ثم إن لسان أهل البادية يختلف عن لسان الحضر. وقد رأينا أناس في الشام من سكان الجبال كأنهم يتكلون اللغة اللاتينية، وحتى أهل الأردن وأهل سوريا وأهل لبنان لا يعرفون هذه اللهجة. وأخبرنا أئمة المساجد الذين كلفوا من قبل أوقاف الشام في سوريا والأردن بالذهاب لإمامة الناس في هذه المساجد التي في البادية أنهم لم يجلسوا معهم أسبوعاً واحداً، وأن البطل فيهم هو الذي جلس أسبوعاً، وكانوا يقولون لهم: نحن لا نفهمكم ولا أنتم تفهموننا، وهذه الكلمة فهمها بعد أسبوع، وكانوا يقولون لهم: اكتبوا ما تريدون منا ونحن نقرأ، فالتعامل صعب جداً بين أهل البادية وأهل الحضر. فقال أنس: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع). قال: [عن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فجاء رجل على جمل له فأناخه ثم عقله -أي: فأناخه على باب المسجد، ثم ربطه بالعقال- ثم قال: أيكم محمد؟)] وهذا من الجفاء والغلظة. [(قال: قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ عليه الصلاة والسلام)]. وهذا فيه وصف النبي عليه الصلاة والسلام بالبياض وفيه: جواز الجلوس متكئاً، ولكن إن كان ذلك ولابد فعلى اليد اليمنى لا على اليسرى. قال: [(ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين أظهر أصحابه، قال: فقال: يا محمد!)] ولم يقل: يا رسول الله، والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. يعني تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل العلم لهم من الحرمة ما ليس لغيرهم، وحرمة النبي عليه الصلاة والسلام أشد. قال: [(قد جئتك يا ابن عبد المطلب! -وهذا أيضاً جفاء جديد- إني سائلك فمشدد مسألتي)]. يعني: أنا سأسألك أسئلة فيها غلظة وجفاء وحدة؛ لأن هذا طبعي، [(فلا تجد علي في نفسك)]، وهذا اعتذار لطيف في أول الكلام. يعني: يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: أنا جلف جاف، وسؤالي فيه غلظة وحدة، فلا تغضب مني، والوجد هو الحزن والغضب. قال: [فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (سل عما بدا لك)]. وهذه ليست أخلاق المدينة، بل هي أخلاق النبوة عليه الصلاة والسلام. قال: [(فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا)]. والزعم ليس بلازم أن يكون كذباً، بل هو مجرد القول، وأحياناً يكون الزعم والظن بمعنى الصدق في الحديث، وقوله: (أتانا

شرح حديث عمر بن الخطاب في بيان مراتب الدين

شرح حديث عمر بن الخطاب في بيان مراتب الدين وفي حديث عبد الله بن عمر قال: [حدثني عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد)]. والمدينة بين جبلين، وبين لابتين، وهي منقطعة عن البلدان وعن العمران، فالذي يأتيها من غيرها لابد وأن يظهر عليه أثر السفر من الغبار والتراب واتساخ الملبس وتعفير الوجه وشعث الرأس، وغير ذلك، وهذا الرجل الذي دخل عليهم وطلع عليهم لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كان رجلاً مرتباً ومنظماً ونظيف الملبس، وليس عليه تراب ولا شيء من هذا. قال: (لا يعرفه منا أحد)، يعني: ليس من أهل المدينة. [(ولا يرى عليه أثر السفر)]. وهذا عجب. قال: [(حتى جلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأسند ركبتيه إلى ركبته -يعني: أسند ركبتي نفسه إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام- ووضع كفيه على فخذيه)]. أي: ووضع كفيه على فخذي نفسه، وليس على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا لا يتناسب مع أدب طلب العلم، فليس من الأدب أن تجلس إلى المعلم وتضع يديك على كتفه، أو على رجله، أو تأتيه من الخلف، فكل هذا من سوء الأدب مع المعلم والشيخ، وإنما من أراد أن يسأل مسألة فليأت من قبل وجه الشيخ، وليجلس إليه، ثم يسأله في أدب ووقار كما سأل هذا الرجل الذي جلس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فوضع ركبتيه إلى ركبتيه. يعني: كان بحذاء النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة. ولا يعني ذلك أنه لامس بركبتيه ركبة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت بمحاذاة ركبة النبي عليه الصلاة والسلام ومسندة إلى ركبته عليه الصلاة والسلام. [(ثم قال له: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ -يعني: عن أركان وشرائع الإسلام- فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)]. وهذه الأركان الخمسة هي أركان الإسلام. [(قال: صدقت، قال عمر -راوي الحديث- فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه)]، يعني: أن هذا الرجل أمره غريب، ومن أول ما دخل وهو يشعر بالغرابة، فهو غريب في منظره وهيئته، وفي مجلسه نوع أدب شديد، وقد أعجب الصحابة منه حتى عمر، ولذلك نقل الهيئة والكيفية، ثم إنه يسأل وهو أيضاً مصدق، وهذا على خلاف عادة السائل، فالسائل يسأل من أجل أن يتعلم، وأما أن يسأل فإذا سمع الجواب قال: هذا حق، وقد صدقت، وهذا لا يكون إلا إذا كان السائل له علم سابق؛ لأنه من العيب أن تقول: أنت صادق أو محق؛ لأن من عادة السائل السؤال حتى يتعلم، ويأخذ الجواب وينصرف، لا أن يقول له: صدقت. وفي المرة الأخرى يقول له: أخطأت. وقد يسأل العالم بالجواب حتى تعم الفائدة، ودليل ذلك: هذا الحديث، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطرح على الناس المسألة لأجل أن يسمع جوابهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم ما هي؟ فوقع الناس في شجر المدينة)، ووقع في قلب عبد الله بن عمر أن المسلم شبيه بالنخلة، والنخلة تعطينا التمر، وبقية الأشجار شجر، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: إن مثل المسلم كمثل النخلة؛ لأن النخلة ليس هناك غيرها، فلو قال: ما هي؟ لعرفوها، ولكنه عم عليهم المسألة فقال: إن مثل المسلم كمثل شجرة ما هي؟ فكلمة شجرة هذه جعلتهم يستبعدوا النخلة، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها النخلة، قال عبد الله بن عمر لأبيه عمر بن الخطاب: لقد وقع في قلبي أنها النخلة، وما منعني إلا الحياء)، يعني: استحيا من مشايخ قريش وزعماء الأنصار، فحزن عمر حزناً شديداً وقال: لو قلتها لكانت أحب إلي من الدنيا وما فيها. وهذا من فرحة الأب بذكاء ولده وبتفوقه، وربما ظل عمر ندمان عليه حتى مات. فـ عبد الله بن عمر عرف ذلك وهو طفل صغير، وقد كان عقله راجحاً من أول الأمر. [قال: (قال: صدقت، فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)]، فأركان الإيمان ستة، وأركان الإسلام خمسة. (قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه). وهذا منتهى المراقبة لله عز وجل. (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: فإنه سبحانه يراك حقيقة. (قال: صدقت. فأخبرني عن الساعة؟ قال: قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: أني مثلك في هذه القضية، فيوم القيامة لا يعرفه أحد؛ لأن هذا من الغيب الذي أستأثر الله تعالى به لنفسه، وأنا لا أستطيع أن أجيبك عن هذا السؤال. (قال: فأخبرني عن أماراتها وأش

معنى الإسلام وأهمية تعليمه

معنى الإسلام وأهمية تعليمه قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. فالإسلام هو الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فمن أتى بدين غير دين الإسلام فإن الله تبارك وتعالى يرده عليه في وجهه ولا يقبله منه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: (يا محمد! علمني الإسلام) أو قال: (ما الإسلام؟) في رواية البخاري، (فنزل النبي عليه الصلاة والسلام من على المنبر، وطلب كرسي فجيء به، فجلس عليه في المسجد أو في صحن المسجد، وعلم الرجل الإسلام، ثم صعد المنبر فأتم الخطبة عليه الصلاة والسلام). فإذا سألك أحد أن تعلمه الإسلام فدع ما في يدك مهما كانت أهميته، وعلم ذلك الرجل كيف يدخل في الإسلام، ولذلك ترك النبي عليه الصلاة والسلام عملاً عظيماً جداً، وهو خطبة الجمعة لأجل هذا، كما قطعها لأجل طفلين صغيرين الحسن والحسين -فلما رآهما النبي عليه الصلاة والسلام نزل من على المنبر وقطع الخطبة، وحمل الحسن والحسين وصعد بهما إلى المنبر، وتلا قول الله عز وجل: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28].

شرح حديث: (الولد مجبنة مبخلة)

شرح حديث: (الولد مجبنة مبخلة) قال عليه الصلاة والسلام: (الولد مبخلة مجبنة مجهلة). ومعنى مبخلة يعني: أنك تقول مثلاً عند داعي الصدقة: أولادي أولى، فأنا لن أتصدق لأني أريد أن أعمل مستقبل لأولادي، فتبقى معك الأموال، ثم تقصر فيما فرضه الله عز وجل عليك، وإذا نصحت بالذهاب إلى الحج مع الناس وتأدية فرض الله عز وجل قلت: لا، أريد أن أربي الولد والبنت. وهذه الأشياء لن تنتهي، فلو أنه زوج العيال كلهم وسترهم بستر الله عز وجل فسيطمع بأن يكون لهم بيت، وإذا بنى لهم بيتاً ثم وقعت المشكلات فيما بينهم يقول: سأبني لكل واحد بيتاً. فالقضية هذه لن تنتهي وليس لها نهاية. وليس فرضاً عليك أنك تزوج أولادك، وتبني لهم البيوت قبل أن تؤدي فرض الله عز وجل الذي فرضه عليك فرض عين. قال الحسن البصري: جاء أعرابي إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! علمني الدين. فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -وهذا يعرف بالسمع لا بالعقل- وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان. قال: وعليك بالعلانية -أي: في كل ما يرضي الله عز وجل- وإياك والسر -أي: وإياك وما يستحيا منه- كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (لما وجد رجلاً من الأنصار يعظ أخاه في الحياء). يعني: يعاتب أخاه في الحياء ويقول له: إن حياءك شديد ويكاد أن يهلكك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان). وفي رواية: (فإن الحياء لا يأتي إلا بخير). وفي رواية: (فإن الحياء كله خير). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وهذا الحديث له معنيان عند أهل العلم: أحدهما: إذا لم تستح من فعلك بين يدي الله عز وجل فاصنعه، فإنه من طاعة الله وفي رضا الله. يعني: إذا لم يكن فعلك هذا مما تستحي منه بين يدي الله إذا حاسبك عليه فافعله الآن؛ لأنه في مرضاته وفي طاعته. وهذا المعنى هو الذي قال فيه عمر: وعليك بالعلانية وإياك بالسر. أي: وإياك أن تعمل عملاً في السر يغضب الله عز وجل. وعليك بالعلانية، أي: وعليك بما لا يستحيا منه بين يدي الله عز وجل في الآخرة، ولا بين الناس في الدنيا، وإن لقيت الله فقل: أمرني بهذا عمر. والمعنى الثاني لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). يعني: إذا كان الشخص ليس عنده حياء قط فليصنع ما شاء بعد ذلك، فإنه إذا نزع من المرء الحياء لم يعاتب ولم يلم على فعله القبيح الذي هو فيه؛ لأن الناس اعتادوا منه سوء الخلق، وسيحاسبه الله عليه يوم القيامة. معنى كون الولد (مجهلة). أي: أنه هو الذي يسبب الجهل لأبيه، فإذا خرج والده في طلب العلم منعه الولد لحاجته ومتطلباته، وغير ذلك مما يخص الولد. يعني: أن الولد يشغل أباه عن طلبه للعلم، فيصير جاهلاً. وقد تكون الزوجة أجهل من ولدها، والولد قد يحتمل، وأما الزوجة فلا تحتمل، فلا يخرج الزوج لدرس العلم إلا خفية من الزوجة، فيقول لها: سأذهب لآتي بكذا وكذا وكذا فتقول له: اذهب وفقك الله، ولو اشترى كتاباً لانتقدته أمه بأنهم ليس معهم مصاريف الأولاد وغير ذلك، حتى أنه يضطر في النهاية إلى شراء الكتاب بغير علمها. فطالب العلم يحتاج إلى صبر عجيب جداً، صبر على شراء الكتاب، وصبر في المحافظة عليها، وصبر في الطلب، وصبر على الزوجة، وعلى الأولاد، وصبر من كل ناحية، وإن لم يكن صاحب حكمة وحنكة وفطنة وحسن تصرف في المواقف المتكررة كل ساعة وكل دقيقة فسيضيع مع أولاده ومع امرأته، فلا بد أن يجعل طالب العلم لقلبه ولوقته ولعلمه وقتاً مع كتاب الله ومع سنة رسوله، وحضور مجالس العلم وإلا سيضيع. والشيخ ابن عثيمين وغيره يشرحون قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد مجبنة) فيما يتعلق بالجهاد. أي: إذا نادى منادي الجهاد يقولون له: انتظر إلى أين ستذهب؟ إن لديك أولاداً صغاراً، فمن سيربيهم؟ مع أن هؤلاء الأولاد هم الذين سيدمرونه ويضيعونه، فهو لن يطلب العلم بسبب العيال، ولن يجاهد حتى يجاهد في العيال، فالولد هو سبب كل بلية، والذكي هو من يعطي لكل ذي حظ حظه، ثم يدع الأمر بعد ذلك لله عز وجل. وكم من شخص حرص كل الحرص على تربية أبنائه، ثم ما رباهم في النهاية؛ لأنه لم يتق الله تبارك وتعالى فيما تعين عليه هو أولاً، بل جعل كل همه في أولاده، وليست هذه دعوة لترك الأولاد والتفريط في حقهم، أبداً، بل هذا مما قد تعين عليك، ولكنه تعين بقدر، فينبغي ألا تزيد عليه ولا أن تنقص منه. والأصل في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). وفي رواية: (أن يضيع من يقوت). فعليه أن يعولهم ويطعمهم ويسقيهم ويعلمهم ويربيهم، ويعلمهم الإيمان بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل، وغير ذلك، فكل هذا داخل في عيالة الأولاد، وفي ا

كلام ابن عثيمين في الإيمان بالله

كلام ابن عثيمين في الإيمان بالله

بيان ما يتضمنه الإيمان

بيان ما يتضمنه الإيمان الشيخ ابن عثيمين حفظه الله لما تكلم عن الإيمان بالله عز وجل قال: (الإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، والإيمان بربوبيته). أي: أنه متفرد بالربوبية، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بألوهيته، وأن ذلك لا يتحقق إلا من قبل السمع، والعقل، والحس، والفطرة.

الأدلة على معرفة الله تعالى

الأدلة على معرفة الله تعالى قال: (ومعرفة الله تعالى تتحقق أولاً: بالسمع. ثانياً: بالعقل. ثالثاً: بالحس. رابعاً: بالفطرة).

دلالة العقل على معرفة الله سبحانه وتعالى

دلالة العقل على معرفة الله سبحانه وتعالى قال: (فأما دلالة العقل فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها؟ يعني: هل وجد هذا الكون وما فيه من سماء وأرض وأجرام ومجرات وآيات عظيمة بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ قال: فإن قلت: وجدت بنفسها فمستحيل عقلاً يعني: أن العقل يحيل أن توجد هذه الكائنات بنفسها؛ إذ إنها في أصلها عدم ثم أنشئت، فكيف تكون موجودة وهي معدومة؟ والمعدوم ليس بشيء حتى يوجد فضلاً عن أن يوجد). فهي لا يمكن أن توجد نفسها؛ لأنها في الأصل معدومة، والمعدوم لا يوجد نفسه، فكيف يوجد غيره؟ وإن قلت: وجدت صدفة فنقول: هذا يستحيل عقلاً أيضاً، فهل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها وجد صدفة؟ فلابد أن يقول: لا يمكن أن يكون ذلك، وكذلك هذه الجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة كذلك، ولا يتصور أن هذا التقدم الحضاري الذي يمر به العالم الآن وجد هكذا صدفة؟ وهل وجدت الطائرة أو الصاروخ أو أي آلة إلكترونية من قبل الصدفة، أم درس ذلك دراسة علمية منضبطة على المنهج التقني والحديث؟ لابد وأن ذلك كان مدروساً، فهذه الحضارة التي هي موجودة الآن التي عمرت الأرض شرقاً وغرباً لا يمكن أن يقول أحد أنها وجدت صدفة، وإذا كان الأمر كذلك فلابد وأن تكون مخلوقات الله عز وجل لها مدبر. ويقال: إن طائفة من السمنية -وهم فرقة من أهل الهند- جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وهل الخالق لهذا الكون موجود أم غير موجود؟ وكان هذا في القرن الثاني الهجري، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يجيبهم بعد يوم أو يومين، فذهبوا ثم عادوا بعد يوم أو يومين وقالوا: ماذا قلت؟ قال: أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت وليس فيها قائد ولا حمالون. قالوا: تفكر بهذا يا أبا حنيفة؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل، فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول. قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه. فهذا حجة عقلية في إثبات وجود الله عز وجل، ونحن متفقون أن الله تعالى إنما وجبت معرفته بالسمع، ولا بأس بمعرفته استئناساً بالعقل، والله تبارك وتعالى خاطب العقول الراجحة السليمة في القرآن في غير ما آية في عشرات ومئات الآيات، مثل قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [محمد:24]، وغير ذلك من الآيات التي تخاطب العقل وتأمره بالتدبر والتفكر في آيات الله عز وجل وفي الخلق والكون وغير ذلك. وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير. يعني: لو أن جملاً مشى في الصحراء لعرف أثر قدمه، والعرب كانوا يعرفون آثار الأقدام، ونحن في هذا الوقت لا نعرف ما يمشي إلا السيارة، وأما الأعراب فكانوا يعرفون أن الذي مشى من هنا معزة فلان، فكانوا يعرفون حتى لمن هي، فهذه حياتهم. وكان أحدهم يضع أذنيه قريباً من الأرض، وقد يسمع أصواتاً من بعد فإذا نظر ولم ير أحداً وإنما سمع دبيب الأرجل على الأرض علم أن هناك أناساً جاءوا من الشمال أو من اليمين أو من الجنوب. فهذه حياتهم، وهم أئمة في ذلك. فهذا الأعرابي لما سئل: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ بلى. ولهذا قال الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. يعني: أهم خلقوا من غير شيء فأوجدوا أنفسهم بعد أن لم يكونوا؟ أم هم الخالقون للكون؟ أم أنهم كانوا في الأصل عدماً؟ فكيف أوجدوا أنفسهم فضلاً عن كيفية إيجادهم لغيرهم؟ فالعقل يدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل، ولا بأس بأن نقول: معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالسمع، ولا بأس أن نستأنس بالعقل السليم الراشد.

دلالة الحس على معرفة الله سبحانه وتعالى

دلالة الحس على معرفة الله سبحانه وتعالى الحس يدل على وجود الله عز وجل؛ فإن الإنسان يدعو الله عز وجل ويقول: يا رب! ويدعو بالشيء ثم يستجاب له فيه، فهذه دلالة حسية. فهو نفسه لم يدع إلا الله، وقد استجاب الله له، فهو قد رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا أن الله استجاب له، فهذه دلالة الحس على أن الشافي هو الله عز وجل؛ لأنه طلب الشفاء فشفاه سبحانه وتعالى، فهذه دلالة حسية. والأعرابي الذي دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب الناس يوم الجمعة فقال: (هلكت الأموال، وانقطعت السبل، وهلك الضرع والزرع، فادع الله يغيثنا. قال أنس: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة -يعني: قطعة سحاب- وما بيننا وبين سلع -وهو جبل في المدينة- من بيت ولا دار). يعني: أن الأرض كلها صحراء جرداء، وهم يرون السماء جيداً ليس فيها سحاب ولا غمام، ولا شيء ينبئ عن نزول مطر، فلما دعا الرسول عليه الصلاة والسلام (خرجت سحابة مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت وأرعدت وأبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام). فهذه دلالة حسية، فقد دعا فاستجيب له. والله تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وهذا أمر واقع يدل دلالة حسية على وجود الخالق. وفي القرآن الكريم كثير من هذا، مثل قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:83 - 84] ومع أن هذه دلالة حسية إلا أنها تشمل معها الدلالة السمعية كذلك، إذ هي آية من كتاب الله عز وجل.

دلالة الفطرة على معرفة الله سبحانه وتعالى

دلالة الفطرة على معرفة الله سبحانه وتعالى الفطرة تدل على الله سبحانه وتعالى، فقد جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة). يعني: على التوحيد والإسلام، كما ورد في إحدى الروايات، (ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام). يعني: على توحيد الله عز وجل. والناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجود الله عز وجل، وجاء في قصة سليمان عليه السلام: (أنه خرج يستسقي فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا سقياك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم). فالحشرات والحيوانات والبهائم والطيور ومنها الغراب والهدهد عرفوا الله عز وجل ووحدوه حق توحيده الذي يجب له وينبغي. إذاً الفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172]. فلما خلق الله تعالى آدم أخرج من صلبه كل نسمة تكون إلى يوم القيمة مثل الذر، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172]، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، أي: ألست الخالق لكم، المدبر لجميع أمركم؟ {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]. فلا تأتوا يوم القيامة وقت الامتحان والاختبار تقولون: كنا يا رب! من الغافلين. فإن الله عز وجل جبلكم وفطركم وخلقكم على توحيده وعبادته، فلا تنحرفوا عن ذلك وتقولوا غفلنا. {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173]. يعني: ليس لنا ذنب، ونحن سمعنا ووجدنا آباءنا مشركين فأشركنا. وهذا لا ينبغي أن يكون جواباً يوم القيامة. فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء استخرجهم الله من ظهر آدم واستشهدهم، أو إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به؛ فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته. وأما دلالة الشرع فهو ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يُصلح الخلق، وهذا يدل على أن الذي أرسلهم بها رب حكيم رحيم عليم خبير، ولاسيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

هل الاسم هو المسمى

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - هل الاسم هو المسمى مسألة: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ مسألة في غاية التعقيد والصعوبة، وقد وجدت هذه المسألة في الأزمنة الأولى، وعلى جهة الخصوص في القرن الثالث الهجري، وذلك لما عربت كتب اليونان، ودخلت الفلسفة على المسلمين، والحق في هذه المسألة: أن الاسم هو المسمى، خلافاً لبعض الفرق المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، الذين خالفوا كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وإجماع المسلمين، ولغة العرب والعرف والعادة.

بداية ظهور مسألة الاسم والمسمى

بداية ظهور مسألة الاسم والمسمى إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن مسألة: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ مسألة في غاية التعقيد والصعوبة، ولا شك أنها مسألة قد صيغت في الأزمنة الأولى، وعلى جهة الخصوص في القرن الثالث الهجري، وذلك لما ظهرت الفلسفة، فتكلم المتكلمون في أسماء الله وصفاته، ووضعوا أمام أهل السنة العراقيل بزعمهم، واضطر أهل السنة إلى أن يردوا عليهم مفترياتهم، وأن يدحضوا الدخيل الذي لم يكن معلوماً لدى سلفنا رضي الله تعالى عنهم. فهل اسم الله يدل على ذات الإله؟ وهل لفظ الجلالة (الله) إذا أطلقناه نعني به ذات الله تبارك وتعالى؟ وإذا أطلقنا لفظ (الخالق) هل هذا الاسم يدل على ذات الإله أم أنه منفصل عن الإله تبارك وتعالى؟ أي: هل الاسم هو عين المسمى، أم أنه خارج عنه؟

إنكار الإمام أحمد لمسألة: هل الاسم هو المسمى

إنكار الإمام أحمد لمسألة: هل الاسم هو المسمى إن هذا الكلام لم يعرفه الصحابة ولا التابعون ولا أتباع التابعين؛ لأنهم علموا سلفاً أن الاسم هو المسمى؛ عرفوا ذلك بفطرهم، وبكتاب الله عز وجل، ولم يخوضوا في معرفة هذا المصطلح، ولذلك لما ظهر هذا المصطلح في القرن السادس أنكره الإمام أحمد بن حنبل غاية الإنكار، ولم يجب عنه لا لجهل عنده، فإنه كان إمام أهل السنة والجماعة، وكان عالماً بكل دقيقة وبكل صغيرة في عقيدة المسلمين، لكنه كره أن يسمع هذا المصطلح فضلاً أن يرد عليه، فتوقف فيه تمام التوقف، وقد نقل توقفه الإمام أحمد بن تيمية عليه رحمه الله في المجلد السادس من كتاب الفتاوى، كما نُقِل توقفه كذلك في كتاب طبقات الحنابلة، وغير ذلك من كتب الاعتقاد، فقد كرهه وأبغضه غاية البغض؛ لأن هذا الكلام لم يكن معروفاً لدى السلف فلم الخوض فيه؟ ولم إنشاؤه الآن؟ وأحمد يعتقد أن السلف رضي الله عنهم -ونحن نعتقد كذلك- ما كان معلوم لديهم فهو دين الله تبارك وتعالى، وما لم يكن معلوماً لديهم، فإنما يكره أو يحرم الخوض فيه لمن أتى من بعدهم؛ لأن السلف رضي الله تعالى عنهم ما عرفوا إلا الحق، وما أذاعوا بينهم إلا الحق والرضا. لكن من أتى بعدهم -بعد دخول العجمة والفلسفة- اضطروا أن ينساقوا خلف الفلاسفة، وخاصة بعد أن عربت كتب الفلاسفة اليونانيين في حكم الدولة العباسية، ودخل الإسلام من الشر ما دخله بترجمة هذه الكتب، وعانى أهل العلم معاناة شديدة للرد على كلام الفلاسفة الذي تأثر به بعض علماء الإسلام وخاصة الأشاعرة.

سياق ما فسر من كتاب الله وما روي عن رسول الله وورد من لغة العرب على أن الاسم والمسمى واحد

سياق ما فسر من كتاب الله وما روي عن رسول الله وورد من لغة العرب على أن الاسم والمسمى واحد قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما فسر من كتاب الله تعالى، وما روي عن رسول عليه الصلاة والسلام، وورد من لغة العرب على أن الاسم والمسمى واحد]. أي: إذا قلت: الله، فالمقصود ذات الإله، وذات الإله واسم الله شيء واحد، فالاسم هو المسمى، والمسمى هو الاسم. قال: [وأنه هو هو لا غير أي: أن الاسم هو المسمى، فلا شيء خارج عنه؛ لذا فالكلام في هذا الباب -هل الاسم هو المسمى- هو ضرب من ضروب الكلام عن القرآن الكريم، وأنه كلام الله تعالى غير مخلوق؛ لأن المعتزلة على جهة الخصوص قالوا: الاسم ليس هو المسمى، ومرادهم بهذا: أن الله تبارك وتعالى كان ولم يكن له اسم، ثم بعد أن كان أوجد أسماءه، والذي يقول: إنه أوجد أسماءه يلزمه أن يقول: إن أسماء الله تعالى لم تكن ثم كانت، ثم يلزمه تباعاً أن يقول: إن أسماء الله تعالى حادثة، وكل حادث لابد وأنه إلى زوال وفناء، فيلزمهم أن يقولوا: إن أسماء الله تعالى كلها مخلوقة كما قالوا في صفة الكلام لله عز وجل، وهو القرآن الكريم، فقد قالوا: إنه مخلوق، أي: حادث، وأسماء الله تعالى ليست هي عين المسمى؛ فيلزمهم أن يقولوا: إن الفناء يطرأ على هذه الأسماء، فكان الله ولم يكن له اسم، ثم تسمى بهذه الأسماء بعد ذلك؛ فيلزمهم أن يقولوا: إن كل هذه الأسماء لابد وأن يحصل عليها الفناء. إن الذي يقول: إن أسماء الله ليست هي الله تعالى، أو ليست هي المسمى، وليست هي عين المسمى؛ يلزمهم أن يقولوا: إن أسماء الله تعالى حادثة، أي: أوجدت وأنشئت بعد أن لم تكن، والذي يقول بهذا الاعتقاد يقول: إنها لابد أن تفنى، فإن الله كان بلا أسماء، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن الله تبارك وتعالى كان بغير اسم الرزاق، ولم يستحق هذا الاسم إلا بعد أن رزق، وكان بغير اسم الخالق، وما استحق أن يكون خالقاً إلا بعد أن خلق، وغير ذلك من أسماء الله عز وجل، وهذا كلام في غاية البطلان والفساد. بل قال أحمد بن حنبل: من قال بذلك فهو كافر؛ قياساً على كلامه في موقف المعتزلة من كلام الله عز وجل، فلما سئل عن القرآن: أهو مخلوق؟ قال: لا، إن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفاته غير مخلوقة، ومن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر.

أدلة أهل السنة والجماعة على أن الاسم هو المسمى

أدلة أهل السنة والجماعة على أن الاسم هو المسمى وحجة أهل السنة والجماعة على أن الاسم هو المسمى، أو هو عين المسمى ما يلي: [قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:1 - 2]، وقال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]]. أي: عندما تدعون الله تبارك وتعالى فإنكم لابد أن تدعونه بأسمائه الحسنى؛ إذ أنه تبارك وتعالى لا يمكن أن تناديه بغير اسمه، بل ولا يتصور هذا، فتقول: يا رحمان يا رحيم يا قابض يا خالق يا رزاق يا بارئ يا مصور يا مهيمن يا عزيز يا جبار، وغير ذلك من أسمائه الحسنى، لكن لو رفعت يديك إلى السماء وأردت أن تدعو الله بغير اسمه فإنك ستعجز عن الكلام، وتعجز عن الدعاء؛ لأنه لابد وأن تذكره باسم من أسمائه، ولا يتصور أن الله تبارك وتعالى كان بغير اسم، ولم يستحق أن يسمى إلا بعد أن خلق له أسماء، لذا فإن من يقول: إن أسماء الله وصفاته مخلوقة، لابد وأن يقول: إنها فانية؛ لأن الله في نظره وفي زعمه كان بلا أسماء، وسيكون في آخر الزمان بلا أسماء كذلك، ولا شك أن هذا قول كذب ومفترى، بل هو الكفر البواح والصريح. قال: [وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65]، وقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3]، ولم يقل أحد من العقلاء: من اسمه: رب هذا البيت). لأنهم يعلمون أن لله أسماء حسنى، وصفات عليا قد تسمى بها أزلاً، ولا تزال هذه الأسماء باقية إلى أبد الآبدين. قال: [ولم يقل أحد من العقلاء من اسمه: رب هذا البيت، ولا قال أحد: ادع الذي اسمه: الله]، وإنما يقولون: ادعوا الله؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. ولأن دعاء الاسم بخلاف دعاء المسمى، فعند إطلاق الاسم على الآدمي لابد وأن تعلم أن أسماء المخلوقين مخلوقة، بخلاف أسماء الخالق تبارك وتعالى فإنها غير مخلوقة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أي: علم آدم بعد أن كان جاهلاً، وبعد أن لم يكن يعلم اسماً من الأسماء، فالله خلقه جاهلاً ولم يخلقه عالماً، ولذلك قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وهذا يدل على أنه قبل تعليم الله له لم يكن عالماً بهذه الأسماء، وهذه الأسماء مخلوقة لآدم ومخلوقة في آدم، أي: أن الله تعالى خلقها وعلمها لآدم بعد أن كان جاهلاً بها. ولذلك فاسمك مخلوق، والاسم الذي ركب فيك وركب عليك كذلك مخلوق، ولذلك عندما يأتي المولود فيقال: نسميه إبراهيم، فيقول آخرون: بل نسميه محمداً، ويقول ثالث: بل نسميه سعداً، والرابع: يسميه سعيداً، وغير ذلك، ثم يستقر اسم ذلك الولد على ما قدره ربه تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ، والذي سجله ربه تبارك وتعالى هناك. ثم انظر يا عبد الله! ألا ترى أنك تسمى حليماً وليس فيك شيء من الحلم، وتسمى لطيفاً وليس فيك من اللطف شيء، فلا يلزم أن يدل الاسم على المسمى؛ لأنك مخلوق واسمك كذلك مخلوق، بخلاف المولى عز وجل، فإنه خالق كل شيء، وهو سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً، وإنما هو الإله الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وكذلك أسماؤه تبارك وتعالى وصفاته العلى، فإنها ليست مخلوقة، وإنما هي أسماء وصفات أزلية أبدية ليست بمخلوقة. وهنا نقول: إن أسماء المخلوقين مخلوقة ولا تدل باللازم على المسمى؛ لأن المرء يسمى محمداً وليس فيه من الحمد شيء، ويسمى أحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من أسماء أفراد هذه الأمة المحمدية وهم تاركون للصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وللأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهل هذا يدل على حمدهم لله، وشكرهم لله، وإنابتهم وإخباتهم لله؟ A لا، فإن أسماء المخلوقين مخلوقة، وليس بلازم أن يدل على عين المسمى، بخلاف المولى تبارك وتعالى فإنه لما كانت ذاته تبارك وتعالى ليست مخلوقة، وذوات المخلوقين مخلوقة، اختلفت الذات عن الذات، وبالتالي لابد وأن تختلف الصفات عن الصفات، إذ إن صفات الله تبارك وتعالى غير مخلوقة تبعاً لذات المولى تبارك وتعالى. وأما ذات المخلوقين لما كانت مخلوقة فلابد وأن تكون أسماءهم وصفاتهم كذلك مخلوقة، ولذلك لم يقل أحد من العقلاء: يا أيها الناس! ادعوا من اسمه الله، وإنما يقال: ادعوا الله مباشرة؛ لأن اسم (الله) يدل على ذات الإله، ولا يلتفت عنه قط، وأن ذات الاسم هو ذات المسمى. وقال تبارك وتعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُ

من أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه، واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق

من أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه، واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق قال: [ومن أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق]. فانظر إلى هذا اللبس وهذا الخلط، فرب رجل من المعتزلة يأتينا فيقول: من تدعون؟ فنقول: ندعو الله، فيقول: لا، أنتم الآن تدعون اسماً من أسماء الله، ولا تدعون ذات المسمى، وهو الله تبارك وتعالى، وأنتم بهذا قد أشركتم بالله! وهذا لبس وخلط، ولذلك رد عليهم الإمام فقال: [ومن أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق]؛ إذاً: فأنت الآن تدعو المخلوق كما تدعو السيد البدوي، والسيدة زينب، ونفيسة وغيرهم من الأولياء، وعليه فما الفرق عندكم -المعتزلة يوجهون هذا السؤال لأهل السنة- بين من يدعو البدوي وبين من يدعو اسماً من أسماء الله؟! فنقول لهم: إن الفرق شاسع وكبير جداً؛ لأننا نعتقد أولاً: أن الاسم هو المسمى، والأمر الثاني: أننا نعتقد أن أسماء الله تعالى لازمة لذاته لا تنفك عنه، فهي أزلية أبدية وليست بمخلوقة. قال: [وهذا قول المعتزلة والنجارية وغيرهم من أهل البدع والكفر والضلال. وقال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. وقد أجمع المسلمون على أن (هو) إشارة إليه، وأن اسمه (هو). وقال تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، فأمر الله تبارك وتعالى أن يذكر اسمه على البدن حين نحرها للتقرب إليه سبحانه]، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} ولم يقل: اذكروا ذات الله، ليدل على أن الاسم هو المسمى. فإذا دعونا الله تبارك وتعالى فإنا نقول: باسم الله أذبح وأتقرب إلى الله، وباسم الله أجامع، وباسم الله آكل، وباسم الله أشرب، وباسم الله أمشي، وباسم الله أتوكل عليه، وأفعل كيت وكيت. بينما المعتزلة إذا سمعونا نقول ذلك يقولون: أنتم تدعون الاسم دون المسمى! فنقول لهم: وإن كان الأمر كذلك فإن الله قد أمرنا بذلك، وعندنا في ذلك بدل النص عشرات النصوص؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج:36]، ولم يقل: فاذكروا ذات الله؛ ليدل على أن الاسم هو المسمى. قال: [وعلى مذهب المبتدعة: لو ذكر اسم زيد أو عمرو أو اللات والعزى يجزيه؛ لأن هذه الأسماء مخلوقة، وأسماء الله عز وجل عندهم مخلوقة]. أي: أنهم يقولون: لا فرق بين أن تدعو اللات والعزى، وأن تدعو الله؛ لأنك بهذا كله إنما تدعو أسماء، سواء دعوت أسماء هذه الآلهة، أو أسماء الله تبارك وتعالى، فالكل عندهم مخلوق، والكل عندهم نداء لغير الله عز وجل. قال: [وقال في آية أخرى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118])، ولم يقل سبحانه: فكلوا مما ذكر ذات الله. وقال في موضع آخر: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]. وقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78]-ولم يقل: تبارك ذات ربك- وقال في آية أخرى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]].

إجماع المسلمين على أن المؤذن إذا قال كلمة التوحيد فقد أتى بالتوحيد وأقر بالنبوة

إجماع المسلمين على أن المؤذن إذا قال كلمة التوحيد فقد أتى بالتوحيد وأقر بالنبوة قال: [وأجمع المسلمون: أن المؤذن إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فإنه قد أتى بالتوحيد]. أي: أقر بتوحيد الله عز وجل، وأنه قد دعا الله تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته العلى. قال: [وأقر بالنبوة]؛ لأنه شهد أن محمداً رسول الله، ولذا فلا يتصور أن واحداً يقول: إن من قال: أشهد أن محمداً رسول الله؛ إنه قد دعا الاسم دون المسمى! كما أن واحداً لو ناداك وقال: قبحك الله يا زيد! وأنت اسمك زيد، فأردت أن تعاتبه فقال لك: أنا ما أردت تقبيح ذاتك، وإنما قبحت الاسم، ولا علاقة لك به، فهل يتصور ويعقل ذلك؟! إن هذا الكلام كله خلط ولا قيمة له، بل حتى في لسان العرب لا تجد مثل هذا الكلام؛ لأن الاسم عين المسمى. ثم قال: [فإنه قد أتى بالتوحيد، وأقر بالنبوة إلا المعتزلة، فإنه يلزمهم أن يقولوا: أشهد أن الذي اسمه (الله) لا إله إلا هو، وأشهد أن الذي اسمه (محمد) هو رسول الله]. ولا يتصور أن يقبل هذا جاهل ولا عالم، فإذا قلنا له: لماذا قلت هذا؟ قال: لأنني اعتقد أن الاسم غير المسمى، وإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، فأنا الآن أنادي الاسم دون المسمى، وإذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، فإنني أشهد للاسم بالنبوة والرسالة دون المسمى! وهذا الكلام غير صحيح، وقد أجمع أهل السنة والجماعة على خلاف ذلك. ولذلك قال المصنف: [وهذا خلاف ما وردت به الشريعة، وخلاف ما عليه المسلمون، وكذلك هذه الأيمان التي بالله تبارك وتعالى كلها عندهم يجب أن تكون مخلوقة]. أي: لو أنك قلت: والله والبارئ والخالق والمصور وغيرها من أسمائه تبارك وتعالى، فكلها أيمان باطلة؛ لأنهم يقولون: إنك قد ناديت المخلوق، وهم بهذا -أي: المعتزلة- يريدون أن يسحبوا ما قالوه في كلام الله عز وجل على بقية أسماء الله وصفاته، وبالتالي يجرون جميع الأحكام التي قالوها في القرآن على بقية أسماء الله وصفاته، فيقولون: لا يجوز الحلف بالله، ولا بأسمائه، ولا صفاته؛ لأنها مخلوقة، وإذا حلفت بالله أو بأسمائه أو بصفاته؛ فإنما تحلف بالمخلوق، وبالتالي تكون مشركاً. فتأمل إلى زعزعة الثوابت في قلوب المسلمين، فهي ليست وليدة اليوم، نعم ظهر الآن في المسلمين بغال وحمير يشككون في الثوابت والأصول كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، لكن زعزعة هذه الأصول على ألسنة هؤلاء الحمير والبغال لها أصول قديمة جداً، فتجد أنه ينعق بها اتباع كل ناعق، واتباع الحمير والبغال في الشرق والغرب؛ ليزعزعوا التوحيد في قلوب أهل السنة والجماعة. وأنا متأكد أنه لو سألك سائل في الشارع: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ فإنك ستقول له: ما هذا؟ من أين أتيت بهذا الكلام؟ ما هو الاسم؟ وما هو المسمى؟ فسيقول لك: الاسم ليس هو المسمى؛ لأن أسماء الله مخلوقة، فيلبس عليك دينك، وتعود إلى بيتك بغير عقيدة أهل الإيمان وأهل التوحيد؛ لأنك بعدت كل البعد عن العلم، وعن طلب العلم، ثم إن هذه المسائل قد استعجمت على كثير من أهل العلم في السابق، فلم لا تعجم عليك يا عبد الله؟! ثم اعلم أن أصحاب البدع متخصصون في بدعهم، فقد علموا عنها كل كبيرة وكل صغيرة، وأحاطوا بها علماً، بل قد صنفوا وألفوا فيها الشبهات التي إذا ألقوها على جهلة المسلمين لتحيروا وتاهوا وضلوا، والعلم حابس لصاحبه ولأهله، فبالعلم تعصم من الضلال وتعصم من الغواية، وأما بغير العلم فإنه إذا ألقيت عليك شبهة تشربها القلب. وأنا أنبه على أن العلم واجب على كل مسلم ومسلمة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم واجب على كل مسلم)، ويدخل فيه تبعاً النساء، وهذا هو العلم الضروري الذي لا يمكن للمرء أن يستغني عنه، وإذا لقي الله تبارك وتعالى بغيره فقد لقيه بتقصير شديد، والله تعالى يؤثمه في الدنيا، ويحاسبه على هذا التقصير يوم القيامة. وإن من ألزم العلوم وأفرضها: علم العقيدة؛ لأنه يتعلق بذات الإله تبارك وتعالى، ولا يسعك أن تجهل إلهك ومعبودك، ولا يتصور أنك تعبد إلهاً وأنت لا تعرفه، وتتقي إلهاً وأنت لا تدري ما تتقيه؟ ومن تتقي؟ وبماذا تتقي؟ ولذلك من الخبط والعشواء أن تعبد إلهاً لست عارفاً به، وأن تتقي إلهاً وأنت لا تدري من هذا الذي تتقيه؟ وما الذي في قدرته وإمكانه؟ وكيف تتقيه؟ وبماذا تتقيه؟ فالاسم عند أهل السنة هو المسمى، وعند غير أهل السنة والجماعة الاسم غير المسمى، وبالتالي فإن أسماء الله تعالى مخلوقة.

أمثلة من السنة على أن الاسم هو المسمى

أمثلة من السنة على أن الاسم هو المسمى قال: [وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في دعائه: (باسمك اللهم أحيا وأموت))، ولم يقل: بذاتك يا من سميت نفسك الله]. وهذه سنة عظيمة لمن أراد أن ينام، فيتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينام على جنبه الأيمن، ويضع يده تحت خده الأيمن، ثم يقول هذا الدعاء: (باسمك اللهم أموت وأحيا) أي: أموت الموتة الصغرى وهي النوم، ثم أحيا منها بإذنك يا رب! وباسمك يا رب! قال: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي للمرضى -أي: يطلب لهم الشفاء من الله تبارك وتعالى- بقوله: (أعيذك بكلمات الله التامة)، وكلمات الله تبارك وتعالى التامة غير مخلوقة]. والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يستشفي للمرضى بصفات الله عز وجل، وهي ليست مخلوقة، فقد كان يستعيذ بكلام الله العظيم تبارك وتعالى، وكان يعوذ بها الحسن والحسين. قال: [وجبريل حين اشتكى رسول الله عليه الصلاة والسلام عوذه بها -أي: أن جبريل عليه السلام عوذ النبي عليه الصلاة والسلام بكلمات الله التامة- ثم قول الناس في الأدعية: اللهم اغفر لي وارحمني، لا أن يقولوا: يا من سميت نفسك (الله) اغفر لنا وارحمنا؛ لأنهم يعلمون أن الاسم هو المسمى، قال: معناه عندهم -أي: عند المعتزلة-: من اسمه الله -الذي هو مخلوق- اغفر لي!].

كفر من زعم أن الاسم غير المسمى

كفر من زعم أن الاسم غير المسمى قال: [وهذا -أي الذي عند المعتزلة- كفر بالله، وخلاف كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله الكريم، وإجماع المسلمين، ولغة العرب، والعرف والعادة]. أي: أن معتقد المعتزلة يخالف هذا كله، إذ ليس له مستند من كتاب، ولا سنة، ولا معقول، ولا منقول، ولا عادة، ولا عرف، وتصور قولاً لا يستند إلى شيء من هذا كله! وأما قول أهل السنة والجماعة فيستند إلى هذا كله، فلابد وأنه الحق كل الحق، وما بعد الحق إلا الضلال.

بيان بطلان مذهب أن الاسم غير المسمى في لغة العرب

بيان بطلان مذهب أن الاسم غير المسمى في لغة العرب قال: [فأما لغة العرب: فهل العرب كانوا يعرفون أن الاسم هو المسمى أم أنهم يعرفون أن الاسم غير المسمى؟ وما قولهم في ذلك؟ يقول الأصمعي ومعمر بن المثنى: إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة. وعن خلف بن هشام البزار المقري أنه قال: من قال: إن أسماء الله مخلوقة فكفره عندي أوضح من هذه الشمس، وأشار إليها]. والذي يقول: إن أسماء الله غير ذاته؛ يلزم من ذلك أن يقول: إن أسماء الله مخلوقة، ومن قال بذلك فكفره أوضح من هذه الشمس.

ذكر العلماء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى

ذكر العلماء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى قال: [ومن الأئمة: الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد ومحمد بن أسلم الطوسي ومحمد بن جرير الطبري، وكل هؤلاء يقولون بذلك، وقد أجمعوا عليه. فهذا سفيان بن سعيد الثوري يروي بسنده عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور). وعن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة. وكان يقول: كما كان أبوكما يعوذ به إسماعيل وإسحاق)]. يعني: أن هذا كان تعويذ إبراهيم عليه السلام لولديه إسماعيل وإسحاق.

تابع الأدلة من السنة على أن الاسم هو المسمى

تابع الأدلة من السنة على أن الاسم هو المسمى قال: [وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن أحدكم لو يقول وهو يجامع -أي: يجامع امرأته-: باسم الله)]، ولم يقل: باسم الذات التي سمى نفسه الله؛ لأن اسم الجلالة يدل على ذات الله، بل هو ذات الله تبارك وتعالى. قال: [(باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قضي بينهما بولد لم يضره الشيطان أبداً)]، أي: لم يقربه الشيطان أبداً، والحديث في الصحيحين. قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ -أي: إني لقيت ما لقيت من سم ذلك العقرب الذي لدغني- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضرك)]. أي: لو أنك قلت يا عبد الله! حين دخل عليك المساء: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضرك شيء حتى تصبح. وكلمات الله التامات ليست مخلوقة؛ لأنها صفة من صفاته تبارك وتعالى، وصفاته غير مخلوقة. قال: [وعن عائشة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى رقاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: باسم الله أبريك)]، أي: أطلب لك البراءة والبرء والعفو والعافية من الله عز وجل. [وفي رواية: (باسم الله أرقيك، من كل داء يشفيك، من شر كل ذي عين، ومن شر كل حاسد إذا حسد). وفي حديث أبي سعيد: (أن جبريل أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: اشتكيت يا محمد؟ -أي: هل اشتكيت يا محمد علة؟ - فقال: نعم، فقال جبريل عليه السلام: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس وعين، الله يشفيك، باسم الله أرقيك). وقال أبو سعيد الأصمعي: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة. وقال أبو بكر ابن أبي داود السجستاني صاحب كتاب المصاحف: من زعم أن الاسم غير المسمى فقد زعم أن الله غير الله، وأبطل في ذلك -أي: أبطل في هذا المدعى، وتكلم بالباطل- لأن الاسم غير المسمى في المخلوقين، لأن الرجل يسمى محموداً وهو مذموم، ويسمى قاسماً ولم يقسم شيئاً قط، وإنما الله جل ثناؤه واسمه منه، ولا نقول: اسمه هو، بل نقول: اسمه منه تبارك وتعالى. أي: أن الاسم هو الذات ومن الذات، وليس منفصلاً عنه؛ لأنك لو قلت: إن الأسماء منفصلة عن الذات فلابد وأن تقول: بأنها مخلوقة، وهذه وصمة عظيمة جداً.

مناقشة المعتزلة حول الاسم والمسمى

مناقشة المعتزلة حول الاسم والمسمى قال: [فإن قال قائل: إن اسمه ليس منه فإنه قال: إن الله مجهول!] أي: لو قال رجل: إن اسمه ليس منه فإنه يلزمه أن يقول: إن الله مجهول؛ لأن الله لا تتعلق به أسماؤه، وليست لازمة لذاته، والله كان بغير اسم، أي: كان مجهولاً لدى ذاته ثم وجد، لكن الله لما علم أن ذلك نقص وعيب سمى نفسه بأسماء؛ حتى يحصل له التمام، ومن قال بذلك فقد كفر؛ لأن نسبة الجهل إلى الله تعني نسبة النقص إلى الله عز وجل، والله متصف بكل كمال وجلال وعظمة، ومن قال: بأن الاسم غير المسمى يلزمه أن يقول: إن الله كان بغير أسماء، وهذا عيب ونقص، والله منزه عن العيب والنقص. قال: [فإن قال: إن له اسماً وليس به]، أي: لو قال المعتزلي: نحن سنوافقكم على أن الله تبارك وتعالى أسماؤه أزلية، أي: كانت له الأسماء، لكنها ليست قائمة ولازمة به، فإنه لابد وأن يقول: إن مع الله إله آخر؛ لأن الأسماء لابد وأن تدل على الذات، فهل -يا معتزلي! - قولك: بأن الله كان وأن أسماءه كانت كذلك، لكن الأسماء لم تكن لازمة له في أول الأمر؛ هل يتصور اسم بغير مسمى، أو مسمى بغير أسماء؟ فإذا قلت: إن الاسم لم يكن له أسماء لازمة به؛ فيلزمك أن تقول بالجهالة، وأن الله كان مجهولاً، وإذا قلت: بأن الأسماء كانت لكنها ليست لازمة لله تبارك وتعالى؛ فيلزمك بأن تقول: بأن هذه الأسماء كانت موجودة على غير مسمى، وهل يتصور اسم بغير مسمى؟! لا يتصور ذلك في المخلوقين، فكيف بالخالق تبارك وتعالى؟! أي: لو قلت: أما رأيت يا فلان! ذلك الرجل الذي اسمه زيد؟ فيقول: هو ابن من؟ فستقول له: هو ابن إبراهيم، فسيقول: إبراهيم هذا لم ينجب له بعد، فستقول له: أعرف ذلك، لكنه ولد جميل ولطيف، وصاحب شعر أصفر، وعيون زرقاء أو خضراء، فسيقول لك: يا فلان! ما الذي جرى لك؟! أتصف رجلاً غير موجود؟! فستقول له: نعم باعتبار ما سيكون بإذن الله، فسيقول لك: أنت مجنون؛ لأنك تصف بهذا الإتقان وبهذه الدقة ذاتاً غير موجودة، ولأنه لا يتصور أسماء بغير مسمى. والمعتزلة أو بعض المعتزلة أحبوا أن يوافقوا أهل السنة في أن أسماء الله تعالى أزلية، لكنهم خالفوهم في أن الأسماء ليست هي عين المسمى، فالمسمى يكون بغير أسماء، والأسماء موجودة لكنها في جانب آخر، وليست ملازمة لعين المسمى، وليست هي عين المسمى ولا ذات المسمى، فنقول لهم: أنتم بهذا يلزمكم أن تنسبوا الجهالة لله عز وجل، وأنه غير معروف باسم من الأسماء، وأن هذه الأسماء إنما وجدت على غير مسمى، وهذا خبل لا يتصور. وكل هذا الكلام الذي قلناه هو من الفلسفة، ولو كان هنا صحابي موجود بيننا فإنه سيتركنا ويرحل، أو لو أن الله تعالى أسقط رجلاً من القرون الأولى بيننا الآن وسمع كلامنا هذا؛ فإنه سيترك هذا المسجد؛ لأنه تربى تلك التربية النبوية، لا على هذا الكلام الفلسفي. والذي جبر علماء الإسلام وعلماء أهل السنة والجماعة على أن يذكروا هذا الكلام هو ذلك الضلال الذي استورد ودخل على المسلمين، حتى أثر في كثير من قلوب أبناء الأمة الإسلامية، فاضطر أهل العلم اضطراراً إلى أن يدخلوه في هذا الباب ليردوه. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ألف كتاباً وسماه: نقض المنطق، وهو القائل: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق، وكان رحمه الله إماماً في الفلسفة والمنطق، والذي جبره على ذلك هو أن يسقط عن هذه الأمة فرض كفاية، وليرد على الفلاسفة وينكر كلامهم، ولو دخل إلينا الآن رجل وقال: أنا أريد أن أعرف هل الله موجود أو ليس بموجود؟ فسنقول له: الله موجود؛ لأن الله تعالى قال كذا وكذا، ويكفي، لكن إن قال: أنا كافر بالكتاب والسنة، فلا تحتج علي بشيء منهما لأنه أصلاً قد أنكرهما وأجحدهما، وبالتالي لابد من حجة عقلية تتناسب مع منهجه، وهذا هو الكلام الفلسفي. وهذا الكلام لم يكن موجوداً في الزمن الأول؛ لأن العربي كان عنده حلاوة وتذوق لكلام الله عز وجل، فكان ما أن يسمع الآية إلا ويعلم أن هذا كلام الإله العليم القدير، ولا يمكن أن يكون هذا كلام محمد عليه الصلاة والسلام؛ فأين بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم من بلاغة القرآن الكريم؟! ومع هذا فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام من أبلغ العرب، بل هو أبلغ وأفصح من خلق الله عز وجل، ومع هذا فبلاغته شيء وبلاغة القرآن شيء آخر؛ لأن بلاغة القرآن معجزة، وبلاغة النبي عليه الصلاة والسلام ليست معجزة؛ لأنها من كلام العرب، وأما القرآن فهو كلام الله تبارك وتعالى، فهو المعجزة الخالدة الباقية على مر الدهر والزمان.

أمثلة من السنة وغيرها على أن الحلف لا يكون إلا باسم أو صفة من صفات الله

أمثلة من السنة وغيرها على أن الحلف لا يكون إلا باسم أو صفة من صفات الله قال: [قال أبو بكر بن حماد: سمعت خلف بن هشام فيمن قال: الاسم غير المسمى، وهو ينكر أشد النكارة، ثم قال: لو أن رجلاً شتم رجلاً على قول من قال هذه المقالة -أي: على قول المعتزلة- فقال للرجل بعد أن شتمه: أنا لم أشتمك، وإنما شتمت الاسم]، والاسم غير المسمى، فإنه سيغضب غضباً شديداً. وإن كان الرجل معتزلياً وقلت له: إذا كنت تقول: إن لله عز وجل أسماء، وهذه الأسماء غير المسمى، وهذه مسألة مجمع على خلافها عند أهل السنة والجماعة، وإجماع أهل السنة والجماعة في المخلوقين أن الأسماء غير المسميات، بل قد يكون اسمك محموداً وليس عندك شيء من الحمد، ويكون اسمك عابداً وأنت ضال، ويكون اسمك صالحاً وأنت طالح، فالاسم غير المسمى في المخلوقين، ومع هذا لو قلت لعابد: يا عاصي! فإنه سيغضب، مع أنه قد يكون من المسابقين في الفروض والسنن والمستحبات، وواقع في كل إثم وذنب ومعصية، فلو ناديته بغير اسمه الذي يعرفه فإنه سيغضب. ثم قال: [ولو أن رجلاً حلف بالله على مال رجل لم يلزمه في كلامه حنث]، أي: لم يلزمه على كلام المعتزلي حنث؛ لأن الحلف عندهم بأسماء الله شرك، وأسماء الله مخلوقة، ولا يلزمه إلا التوبة؛ لأنه وقع في الشرك لا في الحنث، فانظر إلى هذه الثوابت عندنا وقد زعزعها المعتزلة! فإن قيل لهم: ماذا تقولون في كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)؟ فهنا أخذ المعتزلة هذه النصوص وأمثالها فأولوها، وقالوا: تأويلها: احلفوا بالذات التي اسمها الله! فإن قيل لهم: إذا أراد المرء أن يحلف فبماذا يحلف؟ إن حلف وقال: والله العظيم لم أفعل كذا؛ فإنه مشرك عند المعتزلي؛ لأنه حلف بالمخلوق، وهذا المخلوق هو الاسم وليس المسمى، والاسم غير المسمى، والأسماء مخلوقة، فلو قلت: والله، فإنما تدعو المخلوق دون الخالق، والخالق اسم أيضاً، فلن يقول: دون الخالق، بل سيقول: دون الذات؛ لأن الخالق اسم، فما الفرق بين الله وبين الخالق؟! وما الفرق بين الله وبين الرحمن؟ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]، فكلها أسماء لله تبارك وتعالى، وهو الذي قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والضمير هنا يعود على الأسماء لا على المسمى نفسه؛ لأن الاسم يدل على ذات المسمى، بل الاسم هو المسمى، ولذلك قالوا: يحلف العبد بالذات التي اسمها الله. لكن لو أن شخصاً حلف بهذه الصيغة عند القاضي لأنكر عليه أشد الإنكار، ولقال له: أتضحك علينا أم ماذا؟ بل إن الذين انتكست فطرهم لا يتفقون مع المعتزلة في ذلك. قال: [ولو أن رجلاً حلف بالله على مال رجل لم يلزمه في كلامه حنث على قول من قال هذه المقالة، ويقول: إنما حلفت بالاسم فلم أحلف بالمسمى]. ويدور أمر الإسلام على هذا الاسم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: نشهد أن الذات التي من أسمائها الله هي الإله؛ لأن الله هو ذات الإله وذات المسمى تبارك وتعالى. قال: [أرأيت الوضوء حين يبدأ فيه الإنسان يقول: باسم الله، فإذا فرغ قال: سبحانك اللهم؟ ورأيت الأذان أوله: الله أكبر، ولا يزال يردد أشهد أن لا إله إلا الله؟ ثم رأيت الصلاة حين يفتتح بقوله: الله أكبر؛ لا يزال في ذلك حتى يختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله. ولم يقل: ورحمة الذات التي من أسمائها الله، فأولها وآخرها الله]. أي: أن أول الصلاة: الله أكبر، وآخر الصلاة: السلام عليكم ورحمة الله، فأول الصلاة الله وآخر الصلاة الله؛ لأن هذا الاسم هو ذات المسمى، فهل يتصور أنك تصلي لغير الله؟! وإذا كنت تقول: الله أكبر، فهل يعقل أن تقول: إن كلمة (أكبر) صفة للاسم دون المسمى؟ وإذا قلت: الله أكبر، فأنت قد كبرت الاسم دون المسمى؟ وبالتالي صليت لغير المسمى، وعبدت غير المسمى، وأطعت غير المسمى، وهذا الكلام كله خبل. قال: [ورأيت الذبيحة باسم الله]، أي: إذا أردت أن تذبح الذبيحة فتقول: باسم الله. قال: [أمر الإسلام يدور على هذا الاسم، فمن زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر، وكفره عندي أوضح من هذه الشمس].

أقوال أهل العلم في تكفير من زعم أن أسماء الله مخلوقة

أقوال أهل العلم في تكفير من زعم أن أسماء الله مخلوقة قال: [قال إبراهيم بن هانئ: سمعت أحمد بن حنبل وهو مختفي عندي -وابن هانيء من تلامذة أحمد بن حنبل، وفي الفتنة اختبأ عنده أحمد بن حنبل في بيته- فسألته عن القرآن، فقال: من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر]. ولم يجيبه عن القرآن فقط، بل عمم الجواب ليشمل جميع الأسماء، وفي ذلك رد على المعتزلة وبعض الخوارج وبعض الشيعة القائلين بأن أسماء الله مخلوقة. قال: [قال إسحاق بن راهويه: أفضوا إلى أن قالوا -أي: تكلموا مع إسحاق بن راهويه حتى بلغوا إلى أن قالوا-: أسماء الله مخلوقة؛ لأنه كان ولا اسم، وهذا الكفر المحض]. قوله: (كان الله ولا اسم) هو قول المعتزلة، ومعناه: كان الله تبارك وتعالى وليس له اسم، كالمولود يولد ولا اسم له، ثم بعد ذلك نسميه في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع أو السابع، والسنة قد صحت بتسمية الولد في اليوم الأول كما روى ذلك أبو داود، وصحت التسمية كذلك في اليوم السابع. والمهم أنني أريد أن أقول: إن المولود يولد بغير اسم، ثم يسمى بعد ذلك، والذي يقول: إن الله كان ولا اسم له يلزمه أن يشبه الخالق تبارك وتعالى بالمخلوق، بل يلزمه أن يقول: إن الذات كالذات تماماً؛ لأن الصفات تصور عن الذات، والله تبارك وتعالى إذا اتصف بصفات، وتسمى بأسماء؛ فإنما هذه الأسماء تدل على ذاته تبارك وتعالى، وكذلك المولود حادث والأسماء حادثة، بمعنى: أن الاسم والمولود كانا بعد أن لم يكونا، ولذلك تقول: إذا جاء لي ولد فسأسميه محمداً، وتعقد العزم على ذلك أنت وزوجتك، ثم تضع امرأتك أربع بنات، فهل ستلغي اسم محمد بالمرة لأنه لم يأت لك ولد؟ وعليه فهل هناك في أسماء الله اسم يلغى؟ لا يمكن؛ لأنه أزلي أبدي. ولو كان مخلوقاً للزم أن تقول: الإله حادث؛ لأنه لو كان مخلوقاً فلابد وأن يطرأ عليه الفناء والتغيير، وهذا المخلوق بعد أن يكبر ربما يذهب إلى أمريكا، وقد يأتي إليه صاحب العمل، أو الناس في الأتوبيس، أو الناس في الخمارات وخانات الفساد ويسألونه عن اسمه؟ فيقول: اسمي محمد، ويأتي إليه آخر فيقول له: يا سعادة البيه محمد، فيتأذى ويشمئز من اسمه، ويذهب إلى السجلات المدنية هناك فيعرف أن اسمه مثبوت في السجل المدني، ثم يذهب إلى أمريكا ويقول: يا ناس! أنا أريدكم أن تسموني: ماركو فرانكو، أما اسم محمد فلا أريده بالمرة! فأين الإسلام والولاء والبراء من هذا الرجل؟! وعند عودته إلى بلاده يستعمل البطاقة الشخصية التي تحمل اسم محمد، وهو قد شرب الخمر، وخالط المجتمع الأوروبي الكافر، وفعل الفواحش والمنكرات هناك. فيا أيها الزنديق! الذي آثرت الكفر على الإيمان، وفضلت الضلال عن الهدى، وآثرته بعد أن هداك الله عز وجل، إن الاسم له تصور عن عقيدتك، وتعلق كبير جداً بإيمانك، ولذلك الرجل المؤمن الموحد الذي يغار على دينه عندما يسميه أبوه رفعت: جبريل، وجده اسمه سمير، فتأتي إلى الأخ وتقول له: ما اسمك؟ فيقول لك: اسمي: جبريل رفعت سمير، فتقول له: ما الأمر؟ فيقول: أنا مسلم، لكني سميت بهذا الاسم، أأعلي ذنب؟ فتقول له: لا، ليس عليك ذنب، فيقول: هل يمكن أن أغير اسمى؟ فتقول له: نعم، اذهب إلى السجل المدني وادفع خمسمائة جنيه، وهي ليست رسوم رشوة، وإنما مقابل تغيير الاسم. إذاً: فالأسماء الحادثة يطرأ عليها التغيير، وأما أسماء الله تبارك وتعالى فلا يطرأ عليها التغيير ولا التبديل.

كلام الإمام الطحاوي عن الاسم والمسمى وبيانه

كلام الإمام الطحاوي عن الاسم والمسمى وبيانه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى توسع جداً في هذه القضية، أعني: مسألة: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ والمسألة فيها أقوال كثيرة، وقد خالف فيها بعض أهل السنة، وهذا كلام حادث، وقد أنكروه غاية النكارة ولم يجيبوا فيه بقول، ولذلك قال ابن أبي العز الحنفي في شرح قول الطحاوي: مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة، ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفاته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً. وهذا كلام جميل وقوي، وقد شرحه ابن أبي العز شرحاً جميلاً، لكن فيه شيء من الفلسفة على أية حال، حتى وصل إلى قوله: وكذلك قولهم: هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ أي: هل الاسم هو عين المسمى وذات المسمى أو غيره؟ قال: ولطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، قال: فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، أي: أنه عند إطلاق الاسم أحياناً يراد به المسمى، وأحياناً يراد به اللفظ الدال على المسمى لا عين المسمى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو: سمع الله لمن حمده، فالمراد به المسمى نفسه؛ لأنه لا يتصور انصراف الذهن إلى غير الذات. وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى، فالمراد هنا هو الاسم لا المسمى، فإذا قلت: الرحمن لفظ عربي فإنه لابد وأن ينصرف الذهن إلى الكلام عن الاسم لا عن المسمى، فهو يريد أن يقول لك: قد يطلق أهل السنة الاسم أحياناً ويريدون الكلام عن المسمى، وأحياناً يطلقون الاسم ولا يريدون المسمى، وإنما يريدون الكلام عن الاسم نفسه. وعند إطلاق أهل السنة للاسم وإرادتهم له دون المسمى لا يقولون بالمغايرة بين الاسم وبين الذات، حتى وإن أرادوا أن يتكلموا عن الاسم؛ لأن المباينة تستلزم أن يكون الله ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهل يتصور أن آدم هو الذي سمى الله عز وجل -باعتبار أن آدم أول البشر- أو أن الملائكة -وهم خلق من خلق الله- هم الذين سموا الله تبارك وتعالى؟! إن هذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى. والإمام الطحاوي رحمه الله قد أشار بقوله: ما زال بصفاته قديماً، إلى اسم من أسماء الله عز وجل ألا وهو: الأول، ولفظ القديم لا يليق بالله عز وجل، وليس هو من أسمائه ولا من صفاته؛ أن لفظ القديم يلزم منه أن هناك من هو أقدم منه، ولا أول قبل الله عز وجل، فالله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن. فيستحب أن يقال: إن الله هو الأول، ولا يقال: هو القديم؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، بمعنى: أننا لا نسمي الله تبارك وتعالى إلا بما سمى به نفسه، ولا نصفه إلا بما وصف به نفسه، فكوننا نقول: إن الله هو القديم، أو أنه الستار، أو أنه المنعم فإننا نقصد بذلك: أن هذه أسماء لله تبارك وتعالى، وليس لدينا نص يثبت أن هذه أسماء لله عز وجل، ولا شك أننا إن سميناه بذلك فإننا نكون قد سميناه بما لم يسم به نفسه. وقوله أيضاً: فإن الله تعالى ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه؛ قصد بذلك الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إن الله تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليهما! فصار متكلماً بعد أن كان عاجزاً، وصار خالقاً بعد أن خلق، وصار وهاباً بعد أن وهب، وغير ذلك في بقية أسمائه وصفاته تبارك وتعالى، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، أي: أن ربنا كان عاجزاً عن معرفة الأشياء على حقيقتها، وبعد أن وقعت عرفها. وكان ليس له قدرة، ثم صارت له قدرة! وكان ممتنعاً عن الكلام، ثم صار قادراً على الكلام! إن الواحد منا يخاف ويخشى أن يقول لمخلوق صاحب وجاهة وسلطة: إنك عاجز عن الكلام؛ لأن لك ساعة أو ساعتين لا تتكلم فيها بكلمة واحدة! إننا نقول هذا حتى تعلموا أن الكلام في ذات الله تبارك وتعالى صار أسرع من الكلام فيما يجري بين الناس. ثم قال: فإنهم قالوا -أي: المعتزلة-: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي، أي: أنه كان بنفسه عاجزاً عن الكلام، ثم صار بنفسه قادراً على الكلام، فإذا كان العجز الذاتي واجباً له فمن أين أتت له القدرة؟! والمخلوق إذا كان عاجزاً بذاته، ثم صار قادراً بعد ذلك، فمن وهبه القدرة؟ إنه الله عز وجل، فهل يتصور أن الله تعالى الذي يرزق ويهب القدرة وغيرها وهو بذاته عاجز؟ أعوذ بالله! إن هذا كفر بالله. قال: وعلى ابن كلاب والأشعري، أي: أن المؤلف يرد على ابن كلاب صاحب الفرقة الكلابية، وعلى الأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه. وأما كلام الله تبارك وتعالى فلا يدخل عندهم تحت مشيئته تبارك وتعالى، وهو عند أهل السنة والجماعة صفة م

الأسئلة

الأسئلة

كلام النبي عليه الصلاة والسلام ليس بمعجز

كلام النبي عليه الصلاة والسلام ليس بمعجز Q ذكرتم يا شيخ! أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام ليس بمعجزة، مع أن الله تبارك وتعالى تحدى ببلاغة النبي عليه الصلاة والسلام مشركي العرب؟ A أعطنا آية أو حديثاً يثبت أن الله تبارك وتعالى تحدى ببلاغة نبيه العرب، ليس هناك آية أو حديث في ذلك، وأنا قلت: إن كلام الله تبارك وتعالى معجز، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم غير معجز، وهم كانوا على علم كبير باللغة العربية.

وجود المعتزلة في بعض الدول العربية

وجود المعتزلة في بعض الدول العربية Q هل يوجد معتزلة الآن في الدول العربية، وبالأخص مصر؟ A يا أخي الكريم! إذا أردنا أن نتكلم عن الاعتزال، فإنما هو منهج وفكر عقدي، والمعتزلة لهم أصول خمسة، ومن هذه الأصول: تقديم العقل على النقل، وإذا سمعت بأصولهم الأخرى فستقول: إن منهج المعتزلة من خير المناهج! كما أنه من أصولهم: التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين. لكن قد يقول قائل: هل التوحيد عندهم فيه شيء؟ ف A إن التوحيد عند المعتزلة غير التوحيد عند أهل السنة والجماعة، وكذلك: العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، وقد أنزلوها أساساً في مرتكب الكبيرة.

الحكم على حديث: (يا علي! لا تنم حتى تأتي بخمس)

الحكم على حديث: (يا علي! لا تنم حتى تأتي بخمس) Q حديث علي بن أبي طالب: (يا علي لا تنم حتى تأتي بخمس: قراءة القرآن، والتصدق، وزيارة الكعبة,) هل هو حديث أم لا؟ A هذا حديث موضوع.

عجز البشر جميعا عن مدح الله بصفة غير ما وصف به نفسه

عجز البشر جميعاً عن مدح الله بصفة غير ما وصف به نفسه Q هل يستطيع البشر جميعاً أن يمدحوا الله عز وجل بصفة غير التي وصف بها نفسه؟ A لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا نحصي ثناء عليك) أي: لو أن الخلق جميعاً أثنوا على الله تبارك وتعالى فلن يستطيعوا أن يوفوا الله تبارك وتعالى ولو بعض ما يستحقه من مدح وثناء أبداً، بل ولا الأنبياء أنفسهم؛ إذ أن مقام الله تبارك وتعالى أعلى من ذلك.

النصيحة لمن أتم ولده حفظ المصحف وهو دون التاسعة

النصيحة لمن أتم ولده حفظ المصحف وهو دون التاسعة Q أتم ابني ولله الحمد حفظ القرآن وهو دون التاسعة، فأرجو منك النصيحة حتى أحافظ عليه وعلى حفظه، وماذا أفعل معه، وكيف أوجهه؟ A أسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ عليك ولدك، وأن يجعله من أئمة المسلمين الداعيين إلى الله تبارك وتعالى على منهاج النبوة، واعلم يا أخي الكريم! أن الحسد وارد في كتاب الله عز وجل، فنصيحتي التي قد نصحت بها من سبقك أن يكف ولده عن الأضواء والشهرة، فأبى، فما كان إلا أن أذهب الله تبارك وتعالى ما في صدره من كلامه ومن علمه. وهناك بعض الأطفال في طريقهم إلى هذا، وقد سمعت أن طفلاً حفظ القرآن الكريم دون العاشرة، وأصيب بالغرور، وإني لأعجب لطفل قبل العاشرة أن يتعلم كيف يغتر! وكيف يتكبر! فلابد وأنه سقى ذلك من والديه، أو من مجتمعه الذي عاش فيه، أو أنه تأثر ببعض شيوخه الذين أخذ عنهم وقرأ عليهم القرآن. لذا فإني أنصح هذا الأخ أن يعلم ولده بعد ذلك السنة، وأن يحفظه بعض المتون في الفقه والأصول والعقيدة والحديث وغيرها، ثم لا يظهر هذا الولد إلا إذا استوى عوده، وتعلم الحكمة، فإن أهل العلم قديماً لم يتصدروا للمجالس والإقراء والتدريس إلا بعد أن يجيز أحدهم جملة مستكثرة من أهل العلم هنا وهناك. ثم أخي الكريم! لابد وأن تعلم ولدك أدب العلم: كيف أنه يحترم من هو أكبر منه، وكيف يحترم أهل العلم، ولابد أن يكون ولدك مؤدباً مهذباً متخلقاً بالأخلاق الحسنة، وإلا فإن القرآن لا ينفعه، وسرعان ما يتفلت منه عقوبة لك وله، والله تبارك وتعالى يحزنك فيه إذا علمته العلم ولم تعلمه الأدب والأخلاق الحسنة. فاتق الله أيها العبد! وحافظ على ولدك، وأخفه عن الأضواء حتى يتعلم، وحتى تعتقد أنه قد حان الوقت لأن يكون نافعاً لدينه ولأمته.

ما ورد أن القرآن كلام الله غير مخلوق

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما ورد أن القرآن كلام الله غير مخلوق القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو ما كان عليه أهل الجادة والمنهج القويم في القرون المفضلة، ولم يخالف في ذلك إلا أهل الفرق الضالة، الذين أبت عليهم عقولهم القاصرة أن يثبتوا لله سبحانه وتعالى صفة كمال فضلوا وأضلوا وأوردوا أنفسهم وأتباعهم طرق الهلاك، وحكم عليهم أئمة الإسلام بالكفر.

إجماع السلف الصالح على أن القرآن كلام الله غير مخلوق

إجماع السلف الصالح على أن القرآن كلام الله غير مخلوق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. خاتمة هذا المجلد الذي نحن بصدد دراسته يتكلم عن مسألة ربما نظر البعض إليها على أنها مسألة هينة أو يسيرة، أو أن الكلام فيها قد كثر، ولكنا نقول: إن الكلام مهما كثر في ذات الله تبارك وتعالى أو في أسمائه وصفاته فليس بكثير، وكما قال عثمان رضي الله عنه: المؤمن لا يشبع من كلام الله عز وجل. وهذا البحث له تعلق عظيم جداً بكتاب المولى تبارك وتعالى، وخص المؤلف بالذكر صفة الكلام -أي: كلام الله عز وجل- وأنه غير مخلوق، ثم ساق دلائل ذلك من كتاب الله تبارك وتعالى تصريحاً أو استنباطاً، وساق دلائل ذلك من حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أقوال وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعمل السلف جميعاً على ذلك. والقرون الخيرية من كان منهم على المنهج والجادة أنكر غاية النكارة أن يكون كلام الله تبارك وتعالى مخلوقاً، وسرد المؤلف ما يزيد عن ثلاثمائة اسم في هذا الجزء كلهم يقولون: إن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فمن قال بغير ذلك فهو كافر. وقد بينا من قبل خطورة القول بخلق القرآن وأن هذا من أعظم الباطل، بل هو من ظلم العبيد لله عز وجل، أن ينسبوا صفة من صفاته للخلق دون أن يعتقدوا ويؤمنوا أنها صفة لازمة لذاته تبارك وتعالى، ولكن على أية حال في سماع كلام السلف بنصه وفصله فوائد عظيمة جداً؛ ولذلك نحن إذا سمعنا لفظ النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف أن نسمع معنى كلامه؛ لأن كلام النبوة له نور عظيم؛ فكذلك كلام سلفنا رضي الله عنهم؛ لأنهم ما خرجوا عن حد الكتاب ولا السنة في كلامهم، إلا ما شذ من أصحاب القرون الأولى وخالف السلف في معتقدهم ومسلكهم ومنهجهم فقال بغير قولهم، فإننا نجد على كلامه ظلمة كسواد الليل. ولذلك يحسن بنا أن نسرد سرداً سريعاً على شكل مقتطفات؛ لننظر إلى ذلك النور الذي شع من أفواههم وعلى ألسنتهم.

دلائل القرآن الكريم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق

دلائل القرآن الكريم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق

دلالة قوله تعالى: (قرآنا عربيا غير ذي عوج) على أن القرآن غير مخلوق

دلالة قوله تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) على أن القرآن غير مخلوق فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال في قول الله عز وجل: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال: غير مخلوق؛ لأن العوج صفة نقص، والنقص يليق بالمخلوق ولا يليق بالخالق وأسمائه وصفاته، فالله تبارك وتعالى بين أن هذا القرآن أولاً: عربي، ثانياً: غير ذي عوج، أي: لا اعوجاج فيه ولا التواء ولا غموض. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] أي: غير مخلوق؛ لأن العوج للمخلوق أليق، وهذا الكلام -وهو القرآن العربي- غير مخلوق، فلابد أن يكون غير ذي عوج. وهكذا في كل صفات المولى تبارك وتعالى وأسمائه، فإن الذي يقول: إن القرآن وإن كان كلام الله إلا أنه مخلوق -يعني حادث- فلابد وأن ينزل ذلك على بقية الأسماء والصفات، لابد أن يقول: إن رحمة الله حادثة، وإن سمع الله حادث، وإن بصر الله حادث، وإن رأفة الله حادثة، وإن حلم الله حادث ينزل ذلك على جميع الصفات، وإلا فلم اختار صفة الكلام بالذات وقال: إنها حادثة، وإنها مخلوقة؟ فلابد أن ينطبق هذا المنهج المعوج على جميع صفات المولى تبارك وتعالى، وإلا فإنا نسألهم: لماذا فرقتم بين اسم واسم، وبين صفة وصفة، والمنهج واحد في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولذلك هم ذهبوا -بزعمهم- إلى تنزيه المولى تبارك وتعالى، وقالوا: الإنسان مخلوق يتكلم، فإذا قلنا: إن الله تعالى الخالق يتكلم فلابد أن يكون هذا الكلام كذلك مخلوقاً؛ ظناً منهم أن هذا نفي للنقص عن الله عز وجل، ولكن هذا الكلام كلام فاسد وباطل؛ لأنهم أرادوا التنزيه فوقعوا في التشبيه، وإلا فقول الجهمية مثلاً والخوارج: إن الله تبارك وتعالى لا يتكلم؛ لأنه لو تكلم للزم أن يشارك الإنسان -وهو أحد خلقه- في صفة الكلام، فقالوا: لا، الله تعالى لا يتكلم، كما أنهم قالوا: لا يتكلم بحرف ولا صوت؛ ظناً منهم أن هذا تنزيه للمولى تبارك وتعالى؛ فوقعوا كذلك في تشبيه الله تعالى بالجمادات؛ لأن الجمادات غالباً لا تتكلم، وإن كانت تتكلم أحياناً، وهذا في المعجزات التي جرت على يد الأنبياء والرسل. فلا شك أن الله تبارك وتعالى يتكلم، وأن المخلوق يتكلم، لكن كلام المخلوق ليس ككلام الخالق؛ لأن ذات المخلوق تختلف وتتباين عن ذات الخالق تبارك وتعالى، فما الذي يمنع المرء أن يسلم أن الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت كيف يشاء وكما يشاء في أي وقت شاء؟ وكلامه معجز لا يستطيع أحد من البشر أن يتكلم ككلام المولى تبارك وتعالى. قال ابن عباس: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال: غير مخلوق.

دلالة قوله تعالى: (أن يقول له كن فيكون) على أن القرآن غير مخلوق

دلالة قوله تعالى: (أن يقول له كن فيكون) على أن القرآن غير مخلوق ومن دلائل الكتاب من حيث الاستنباط: قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، أي: إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوجد شيئاً وشاءه في عالم محسوس فيقول له: (كن) فيكون هذا الشيء الذي أراده الله تبارك وتعالى، ولكن محل الشاهد من الآية: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ} [يس:82] إذاً: الله تبارك وتعالى يتكلم، والقول إنما هو الكلام، فهذه الآية أثبتت أن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً في أي وقت وفي أي مكان وفي أي زمان فقط يقول له: (كن) فيكون هذا الشيء. فقوله: (أَنْ يَقُولَ) يدل على أن الله تعالى يتكلم. وقال البويطي: إنما خلق الله كل شيء بـ (كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقاً. يعني: أليست هي قول كذلك؟ إذا أراد الله عز وجل شيئاً يقول له: (كن)، معنى ذلك على منهج المعتزلة والخوارج وبعض الشيعة: أن كلمة (كن) من قول الله عز وجل، فإذا كان قول الله عز وجل مخلوقاً فكذلك تكون كلمة (كن) مخلوقة، فقوله: (كن) إذا كان مخلوقاً هل يتصور أن يكون قوله: (كن) قادراً بذاته على أن يخلق غيره وهو (كن) الثانية؟ فإذا أراد الله أن يخلق شيئاً يقول له: (كن) فيكون، فقوله الأول: (كن) إذا كان مخلوقاً وأوجد غيره من الأشياء، فهذه الأشياء مخلوقة؛ لأنها حادثة، فهل يتصور أن كلمة (كن) المخلوقة تخلق غيرها؟ A لا. قال البويطي: إنما خلق الله كل شيء بـ (كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقاً، إذاً: نسبوا الخلق إلى غير الله عز وجل، أرأيت خطورة الأمر؟ قلت: وهذا معنى ما يعبر عنه العلماء اليوم: إن هذا -أي: (كن) الأولى- كان مخلوقاً، فهو مخلوق بـ (كن) أخرى، يعني: (كن) غير مخلوقة و (كن) مخلوقة. وهذه فلسفة تجعل الشخص يخرج كل ما في بطنه؛ لأن الصحابة والسلف والنبي عليه الصلاة والسلام من باب أولى لم يعرفوا هذا الكلام ولم يتعرضوا له.

دلالة قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) على أن القرآن غير مخلوق

دلالة قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) على أن القرآن غير مخلوق استنباط آخر من آية أخرى من كتاب الله، وهو قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ففرق الله تعالى بين الخلق وبين الأمر، والخلق هم المخلوقات، والأمر هو القرآن الكريم، فقال: (أَلا لَهُ) أي: من عنده (الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)؛ ولذلك أهل العلم يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، يعني: لا يفنى هذا الكلام ولا ينتهي. وقال ابن عيينة لما أراد أن يعرض لـ بشر المريسي -وهو أحد من قال بخلق القرآن-: ما يقول هذا الدويه؟ يعني: هذا السائل الحيران ماذا يقول؟ قالوا: يا أبا محمد! يقول: القرآن مخلوق، قال: كذب ورب الكعبة، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فالخلق خلق الله، والأمر هو القرآن. فتفسير الأمر عند ابن عباس وعند ابن عيينة وأحمد بن حنبل وابن المبارك وسعيد بن جبير وغيرهم من أهل العلم: أنه كلام الله تبارك وتعالى ليس بالأمر الهين، وردوا هذا التأويل. وكذلك قال أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد السلام بن عاصم الرازي وأحمد بن سنان الواسطي وأبو حاتم الرازي وغيرهم من أهل العلم. قالوا: الأمر في هذه الآية هو كتاب الله تبارك وتعالى، وكلام الله تبارك وتعالى.

دلالة قوله تعالى: (ولكن حق القول مني) على أن القرآن غير مخلوق

دلالة قوله تعالى: (ولكن حق القول مني) على أن القرآن غير مخلوق استنباط آخر من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، ولم يقل: حق القول عني؛ ولذلك يقولون: القرآن منه بدأ وإليه يعود ولم يقولوا: عنه أتى، وإنما قالوا: منه بدأ، أي: أنه صفة ملازمة لذاته تبارك وتعالى. ففي قوله: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) قال أهل العلم: وما كان منه فهو غير مخلوق. وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق، فقلت: يا أبا سفيان! من أين قلت هذا؟ يعني: من أين لك هذا الفقه وهذا العلم؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] ولا يكون من الله شيء مخلوق. وكذلك فسره أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والحسن بن الصباح البزار وعبد العزيز بن يحيى المكي الكناني.

دلالة قوله تعالى: (ما نفدت كلمات الله) على أن القرآن غير مخلوق

دلالة قوله تعالى: (ما نفدت كلمات الله) على أن القرآن غير مخلوق استنباط آخر من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، والمخلوقات كلها معلوم أنها تفنى وتبيد وتنتهي، فكل مخلوق حادث، وكل حادث لابد أن يطغى عليه الزوال والفناء. وقد قال قوم من الكفار: غداً هذا القرآن ينتهي، فالكفار والمنافقون كانوا ينزعجون جداً من نزول آية أو آيات، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن كلام الله سينتهي، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية؛ ليبين أن كلامه أول بأولية الله عز وجل ولا آخر له؛ لأنه ملازم لذاته، فقال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:27] يعني: لو أنكم جمعتم أشجار الدنيا بأسرها فجعلتموها أقلاماً، وجعلتم مع البحار سبعة أبحر كلها حبر ومداد، وكتبتم بهذه الأقلام التي من مجموع أشجار الدنيا بعد وضعها في ذلك المداد؛ لنفدت هذه البحار، وتكسرت وفنيت هذه الأقلام وانتهت، ولم تنته بعد كلمات الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على أنه قادر على الكلام في أي وقت شاء وفي أي زمان شاء. قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] أي: لم تنته كلمات الله، والمخلوقات كلها تنفد وتفنى وكلمات الله لا تفنى، وتصديق ذلك قوله تعالى حين يفني خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، أليس هذا قول أيضاً؟ وهو سؤال يوجه يوم القيامة قبل البعث وبعد النفخ -أي: النفخة الثانية أو الثالثة على مذهب- وفناء الخلق أجمعين، فالمولى تبارك وتعالى في سماه ينادي نداءً: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وهو الذي يجيب على نفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؛ لأنه ليس هناك أحد من خلقه يجيب هذا الجواب. فالشاهد من هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى بعد أن أفنى جميع المخلوقات وأبادهم وأماتهم وأهلكهم تكلم وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وهذا في حد ذاته قول؛ ليدل على أن قول الله غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً للزمه الفناء مع بقية المخلوقات، ولكن الله تعالى لما أفنى جميع المخلوقات تكلم بعد هذا الفناء العام؛ ليدل على أن كلامه سبحانه ليس مخلوقاً؛ لأنه لو كان كذلك لطرأ عليه الفناء والفساد -عياذاً بالله تبارك وتعالى- على قول من يقول بأن كلام الله مخلوق. وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، يعني: يوشك أن ينتهي، فأنزل الله تعالى ما تسمعون -أي: هذه الآية- رداً عليهم. يقول: لو كان شجر الأرض أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفدت البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وكلماته وعلمه؛ لأن هذا من صفات المولى تبارك وتعالى، فإنه لا يفنى ولا يبيد.

إثبات رجل عامي لأبي الهذيل العلاف أن القرآن كلام الله غير مخلوق بأنه لا يفنى ولا ينتهي

إثبات رجل عامي لأبي الهذيل العلاف أن القرآن كلام الله غير مخلوق بأنه لا يفنى ولا ينتهي وسأل رجل أبا الهذيل العلاف -وهذا رأس الاعتزال- سأله رجل من عامة الناس عن القرآن: أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال العلاف: هو كلام الله مخلوق، فقال له الرجل: مخلوق يموت أو يخلد؟ فقال: يموت. قال: فمتى يموت القرآن؟ انظر كلام الناس، وهكذا حال الفطر السليمة. قال: فمتى يموت القرآن؟ قال: إذا مات من يتلوه فهو موته، وهكذا عندما تورط العلاف أراد أن يلوي لسانه على عادة أهل البدع إذا وضعوا في خانة اليد لووا ألسنتهم وكلامهم وصرفوا النصوص عن ظاهرها. فقال الرجل: فقد مات من يتلوه -يعني: اعتبر أن جميع من تلا القرآن قد مات- ألا تقول: إن الخلق جميعاً قد ماتوا؟ قال: نعم. قد ماتوا، فقال: وقد ذهبت الدنيا وتصرمت وقال الله عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، فهذا القرآن وقد مات الناس. يعني: فلماذا لم يمت قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)، فالله تعالى يتكلم بهذا يوم القيامة وقبل بعث الخلق من مرقدهم، ألا تعتقد يا علاف! أن هذا قول الله عز وجل؟ قال: بلى. هو قول الله عز وجل، قال: إنه تكلم به بعد أن مات القراء والتلاة؛ ليدل على أن كلام الله لا علاقة له بقارئه وتاليه، وأنه لا يموت بموت القارئ والتالي، وهل يتصور تعدد القرآن؟ هل يتصور أن كل واحد له قرآن إن قلنا: إن كل قرآن يموت بموت قارئه)، لكن إذا ماتت جماعة بقيت جماعة أخرى تتلو القرآن؛ ليدل على أن القرآن لا علاقة له بقارئه ولا تاليه. فقال له الرجل: فقد مات من يتلوه، وقد ذهبت الدنيا وتصرمت، أي: انقضت وفاتت، وقال الله عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] فهذا القرآن وقد مات الناس. وليعلم أن العلاف هذا من كبار أوتاد المعتزلة. فقال العلاف: والله ما أدري! وبهت، بهت الذي ابتدع ونافق، وعجز عن أن يرد على ذلك العامي الذي عرف أن القرآن كلام الله بفطرته غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فعجز ذلك الزنديق الأعظم أن يرد على رجل من عامة الناس، وما استطاع بعلمه وبفلسفته وموقفه الفاسد أن يرد على ذلك الرجل الذي استقامت فطرته على منهج النبوة. [وذكر ذلك عبد الرحمن قال: حدثنا أبو سعيد -أي: أحمد بن يحيى بن سعيد الأنصاري القطان - قال: سمعت رجلاً سأل أبا الهذيل فذكر نحو هذا الكلام. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك. فأين ملوك الأرض؟)]، بعد أن يميت الله تبارك وتعالى جميع خلقه يتكلم بهذا: أنا الملك فأين ملوك الأرض؟ أنا الجبار فأين جبابرة الأرض؟ فإذا قلنا: إن القرآن مخلوق يفنى بفناء الخلق فماذا نقول في كلام الله تعالى هذا بعد أن يفني خلقه؟ لماذا لم يفن هذا الكلام؟ ولماذا لم ينته هذا الكلام؟ قال: [هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس قال: ينادي منادي الله عز وجل بين يدي الصيحة، فيسمعها الأحياء والموتى، وينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]]، فالله تبارك وتعالى هو الذي يسأل ويجيب على نفسه؛ ليدل على أن كلامه باق بقاء الدهر. ونعيم بن حماد وإسحاق بن راهويه وهشام بن عبيد الله الرازي وسعيد بن رحمة المصيصي صاحب ابن المبارك وأبي إسحاق الفزاري، جميعاً يعتقدون بهذه الآية أن الله تبارك وتعالى كلامه غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.

سياق ما روي عن النبي مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة

سياق ما روي عن النبي مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة قال المصنف رحمه الله تعالى: [أما ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة]. في الحقيقة لا ينبغي أن يقال: إن صفات الله قديمة؛ لأن وصف الله تبارك وتعالى بالقديم وصف لم يرد في كتاب ولا في سنة، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه الأول وأنه الآخر وأنه الظاهر وأنه الباطن، لا أول قبله ولا آخر بعده سبحانه وتعالى، فنقول: إن الله تعالى بأوليته كذلك أول بصفاته وأول بأسمائه. يعني: الله تبارك وتعالى أول برحمته وعلمه وحلمه وسمعه وبصره، فما استحق أن يكون سميعاً بعد أن سمع؛ لأن الله تبارك وتعالى يسمع أولاً بلا ابتداء، كما أن ذاته أول بلا ابتداء فكذلك صفاته لازمة لذاته، فلا نقول: إن الله تعالى كان بغير سمع ثم سمع، فما استحق أن يكون سميعاً إلا بعد أن سمع، وكان الله تبارك وتعالى بلا رحمة فخلق في ذاته الرحمة، فما استحق أن يكون رحيماً إلا بعد أن رحم، وكان الله ولم يكن شيء من المخلوقات، فما استحق أن يكون خالقاً إلا بعد أن خلق، إن الذي يقول: إن صفات الله تعالى مخلوقة لابد أنه ينفي جميع الصفات والأسماء أولاً عن الله عز وجل، وهذا القول كفر بواح؛ ولذلك نقول: إن الله تبارك وتعالى كان خالقاً قبل أن يخلق الخلق، كان رحيماً قبل أن يرحم الخلق؛ لأنهم غير موجودين من الأصل، وكان الله تبارك وتعالى عالماً بكل شيء. أليس الله تبارك وتعالى هو الذي كتب كل شيء كان وما سيكون إلى قيام الساعة وما بعدها في اللوح المحفوظ، فهو محفوظ عنده تحت العرش؟ أليس الله تبارك وتعالى كتب وقسم أرزاق الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صح ذلك الخبر عند مسلم؟ أليس الذي يفعل هذا عليماً؟ فإن الذي يقول: إن صفات الله تبارك وتعالى مخلوقة لابد أنه يلحق النقص بالله عز وجل؛ لأنه يقول: إن الله كان ذاتاً مجردة عن الأسماء والصفات، ثم اكتسب هذه الأسماء والصفات، وهل يمكن أن يكون هنالك ذات بغير صفات؟ بل إن ذوات المخلوقين لابد أن يكون لها صفات من اللون والطول والعرض والحجم والسعة والضيق وغير ذلك، فلا يتصور من باب أولى أن يكون الله تبارك وتعالى بغير صفات أو بغير أسماء. وصفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه موقوفة، أي: أنه لا يجوز لي أن أصف الله تبارك وتعالى بما لم يصف به نفسه ولم يصفه به رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فلا يصح أن أقول: إن الله تبارك وتعالى من أسمائه الستار، أو من أسمائه المنعم. هذا غلط؛ لأنه لم يصح في ذلك حديث قط، وإنما الذي صحَّ ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة). وفي رواية الترمذي: (هو الله الخالق البارئ المصور) إلى آخر الأسماء التسعة والتسعين، ولكن سرد الأسماء في زيادة الترمذي ليست صحيحة، أي: أن الحديث بهذه الزيادة ليس صحيحاً، ولذلك من الأمور المخالفة أن تكتب هذه الأسماء، وأن تعلق هنا وهناك على أنها أسماء الله تبارك وتعالى الواردة في الحديث الذي أخرجه الترمذي، فكيف نعتمد في أمر من أمور العقيدة -وهو أمر عظيم يتعلق بأسماء الله وصفاته- على حديث ضعيف؟ إذا كان أهل العلم قد اختلفوا في اعتبار الحديث الضعيف في فضائل الأعمال فما بالكم بالأحكام والعقائد؟ ولكن الله تبارك وتعالى -كما تعرض لذلك غير واحد من أهل العلم- له تسعة وتسعون اسماً مستفادة من كتابه ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أي: أنه عندما تجمع الأسماء التي صحت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وجاءت في كتاب الله تجدها من مجموع الكتاب والسنة تسعة وتسعين اسماً. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك). هذا الحديث يدل على أن لله غير هذه الأسماء أسماءً استأثر بها في علم الغيب عنده، ولكن النبي عليه السلام أخبرنا أن الذي أنزل في الكتاب والسنة تسعة وتسعون اسماً، وهذا لا ينفي أن يكون هناك أسماءً أخرى استأثر الله تبارك وتعالى بها.

دلالة حديث آدم وموسى على أن علم الله تعالى صفة أزلية له سبحانه

دلالة حديث آدم وموسى على أن علم الله تعالى صفة أزلية له سبحانه قال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقي آدم موسى فقال موسى لآدم: أنت الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، فعلت ما فعلت وأخرجت ذريتك من الجنة! فقال له آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه وآتاك التوراة، أنا أقدم أم الذكر؟)، فكل واحد صاحب منة معينة، فآدم خلقه الله تعالى بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه من كل شيء، وصحيح أنه بسبب زلته أخرج ذريته من الجنة، لكن آدم قال: يا موسى! أليس الله تعالى قد اصطفاك؛ لأنه من المعلوم أن آدم نبي وأن موسى رسول، والرسول أعظم من النبي، ولذلك قال هنا: (أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته) ولم يقل: بنبواته. قال: (أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وكلمك ولم يكلم أحداً, وآتاك التوراة)، يعني: ألست موسى الذي على هذا النحو؟ قال: نعم. قال: يا موسى! إني أسألك: (أنا أقدم أم الذكر؟) أي: اللوح المحفوظ الذي كتب الله تبارك وتعالى فيه ما وقعت فيه أنا وقدره عليَّ تقديراً؟ يعني: هذا الذي عملته أنا ووقعت فيه بقدر الله وعلمه السابق الأزلي الأبدي أو حادث؟ قال: (فحج آدم موسى)، أي: فانتصر آدم في حجته على موسى، وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى أول بصفاته، فقد علم الله تبارك وتعالى أن آدم سيفعل كذا، فكتبه عليه كتابة قدرية وليست شرعية؛ لأن هذا مخالفة للأمر، فآدم أكل من الشجرة بغواية الشيطان له، ولكن الله تعالى لما علم أزلاً أن آدم سيعصي الأمر، وأنه سيتبع الشيطان في ذلك في لحظة ضعف أو في لحظة هوى، أو حب الأبدية وحب البقاء في الجنة والخلود فيها، فصدقه وفعل ما فعل، هل كان الله تبارك وتعالى يعلم ما وقع من آدم أم لا؟ A يعلم؛ ولذلك كتبه في اللوح، فهو محفوظ عند الله تبارك وتعالى، فآدم حج موسى، أي: انتصر على موسى بهذه الحجة؛ لأنه عندما قال له موسى: يا آدم! كيف وقع منك هذا؟ قال له آدم: ما وقع مني إلا بقدر، يعني: وقع وانتهى، ولابد أن نؤمن أن كل ما في الكون من خير أو شر إنما هو من عند الله عز وجل، فالله تعالى خلق إبليس وهو رأس الشر، وليس لإبليس خالق غيره؛ لأن الله خالق كل شيء؛ ولذلك حج آدم موسى. فعلم الله تبارك وتعالى صفة أزلية أو حادثة؟ A أزلية، أي: أولية، فلما كانت هذه الصفة أولية يلزم أن تكون جميع الصفات أولية كصفة الكلام، ولو قال: يا موسى! إن الله تبارك وتعالى لم يكتب هذا علي، ولم يقدره علي تقديراً كونياً قدرياً، فمعنى ذلك: أن الله تعالى ما علم ما بدر منه وما وقع إلا بعد أن وقع، وهذا قول القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه وأن الأمر أنف، وهذا كلام فاسد. فآدم استدل له بصفة العلم وصفة الكتابة؛ ليقيس على ذلك كل صفة من صفاته سبحانه.

ضوابط الاحتجاج بالقدر على المعاصي، والفرق بين القدر الكوني والقدر الشرعي

ضوابط الاحتجاج بالقدر على المعاصي، والفرق بين القدر الكوني والقدر الشرعي أهل العلم لهم ضوابط في الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ويفرقون بين القدر الكوني والقدر الشرعي، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية، أما ظاهر النص هنا فإنه يدل على أن آدم احتج بقدر الله على ما وقع منه وهو معصية، مع إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية. فنقول: الفرق بين موقف آدم وإجماع أهل العلم وما أتى به جميع الأنبياء والمرسلين: أن آدم تاب وأناب إلى ربه، وهذا بخلاف الرجل الذي سرق في عهد عمر، فجيء به بين يديه فأمر بإقامة الحد عليه، فقال: يا عمر! أتريد أن تجلدني على أمر قدره الله علي؟ انظر بجاحته وجرأته وكأنه لم يعمل شيئاً. فقال عمر: نعم. إن الذي قدر عليك هذا قد فرض عليك الحد، وهو من قدر الله عز وجل. فأنت حينما تقع في الذنب، فتعتصر هماً وغماً وألماً، وتتوب وترجع إلى الله تبارك وتعالى، وتعزم على ألا تعود لمثل هذا الذنب، فهذا أمر مقبول، فما من نبي يقع في ذنب أو هفوة من الهفوات الصغيرة إلا وقد استغفر ربه وأناب ورجع، فما وقع فيه الأنبياء والمرسلون من هذه الهفوات اليسيرة الصغيرة التي لا تخدش في رسالتهم ولا في إيمانهم كان ذلك بتقدير من الله تعالى مع أنه معصية، ولكن الفرق بين الاثنين: أن هذا يحتج بقدر الله السابق على معصيته بجرأة وبجاحة وسفالة ووقاحة، وهذا يحتج بقدر الله السابق؛ لأنه يعلم ويعتقد بعد توبته أن الذي بدر منه ما بدر إلا بعلم الله عز وجل وأن الله لما علمه كتبه، فهم لا يحتجون بالقدر، وإنما يعتقدون أن الله قد علم ذلك سلفاً وأولاً، فلما علمه كتبه. وأنتم تعلمون أن أولى مراتب القدر: العلم الصادق الأزلي لله تبارك وتعالى، ثم الكتابة، وهو أن الله تبارك وتعالى علم كل شيء كان وسيكون إلى يوم القيامة، فكتب ذلك في كتاب، فهو محفوظ عنده تحت العرش. والمرتبة الثالثة من مراتب القدر: المشيئة، والمشيئة نوعان: مشيئة شرعية دينية، ومشيئة قدرية كونية، فالمشيئة الشرعية الدينية مبناها على محبة الله تعالى ورضاه، وهي طاعته التي أمر بها ونهيه الذي نهى عنه، فطالما التزم المرء أمره وانتهى عن نهيه نقول: إنه دخل في مشيئة الله الشرعية الدينية، بمعنى: أنه أطاع الله فيما أمر وانتهى عما نهى، وما أطاع ذلك الرجل ما أمره الله ورسوله وما انتهى عما نهاه الله ورسوله إلا بحب الله وتوفيق الله وتقدير الله له، والله تبارك وتعالى في المقابل علم أن هذا العبد سيزني ويسرق ويقتل ويشرب الخمر وغير ذلك، فكتبه عليه وقدره عليه، ومعنى: قدره عليه أنه أذن في وقوعه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال لهذا العبد: لا تشرب الخمر، فإن فيها كيت وكيت، ولا تطع الشيطان لأنه لا يدل على خير، ولا تقتل ولا تسرق ولا تزنِ ولا تعمل كيت ولا كيت ولا كيت، ولكن العبد خالف ذلك فوقع في هذا المحذور، فوقوعه في هذا المحذور الله تبارك وتعالى علمه أولاً فكتبه، وليس معنى كتبه: أنه جبره على أن يفعله، ولو قلت ذلك لقلت بقول الجبرية، فلو قلت: إن هذه المعاصي المرء مجبور على فعلها فستكون من الجبرية، وتكون من القدرية في وقت واحد. ولكن لابد أن تعلم أن الله تعالى كتب المعاصي على عباده بمعنى: أنه علم أن العبد سيختار المعصية، فلما علم ذلك سلفاً كتبها عليه، فمثلاً: كتب أن أحمد سيفعل كذا، سيقتل، سيسرق، وأحمد يعلم أن هذه سرقة، ويعلم أن الله تعالى حرمها، وأنه لو أطاع لدخل في المشيئة الشرعية الدينية التي مبناها على محبة الله ورضاه، ولو خالف لدخل في مشيئة الله الأخرى، وهي أن الله تعالى لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته وإذنه. تصور لو أن عبداً أراد أن يسرق الآن، فلابد أن السرقة تستلزم مجموعة من الأفعال: المشي والهم بالسرقة، وتحديد ذلك، ومد اليد على المسروق، ثم أخذه وتحريزه والجري به، أليس كل هذا مخلوقاً لله عز وجل؟ هل يستطيع العبد أن يفعل ذلك بغير إرادة الله؟ هل يمكن أن يقع شيء في الكون بغير إذن الله؟ أنا أود أن أسرق هذا الشيء وأخرج جرياً، فمن الذي قواني على الجري؟ ومن الذي منحني القدرة والقوة على أن أخطف هذا الميكرفون؟ إنه الله تبارك وتعالى الذي خلق كل ذلك، فهذا تم بتقدير الله ليعاقبني الله تبارك وتعالى عليه بعد ذلك؛ لأنه أمرني ألا أفعل هذا، بل أفعل غيره، فإذا رأيت من يسرق نهيته عن ذلك وأمرته بطاعة الله عز وجل، فلما خالفت ذلك وذاك فإننا نقول: إن هذا كله وقع بتقدير الله، لكن ليس بتقدير الله الشرعي؛ لأن الله تعالى يكره ذلك، يكره السرقة وحذر منها، كما أن الله تبارك وتعالى لا يرضى لعباده الكفر، ومع هذا هو الذي أذن بوجود الكفر إذناً قدرياً، فكفر الكافر وقع في الأرض بإذن من الله، ولو أن الله تبارك وتعالى شاء أن يجعل الناس أمة واحدة مؤمنة لجعلهم مؤمنين جميعاً، ولو شاء أن يجعلهم جميعاً كفاراً لجعلهم كذلك، ولكن حكمة الباري اقتضت وجود الإيمان والكفر، وجود الخير والشر، وجود المعاصي والطاعات، وجود الجنة والنار في المقابل، وبين الله تبارك وتعالى في كتابه البيان الشرعي ال

خلق أفعال العباد ومسألة اللفظ

خلق أفعال العباد ومسألة اللفظ المرتبة الرابعة: مرتبة خلق أفعال العباد. إن الكلام والبصر والسمع والجري وغير ذلك مما يفعله العبد بالليل والنهار في جميع أوقاته، كل ذلك مخلوق، بمعنى: أن حركة لساني الآن وأنا أتكلم وأنت ترد علي، بل حركة عقلك عندما أتكلم وأنت تفهمني؛ هذا الفهم مخلوق وليس أزلياً؛ لأنك أنت نفسك لست أزلياً، فكيف يكون الفهم أزلياً؟ فهنا نقول: إن أفعال العباد مخلوقة، والأئمة عندما تعرضوا لمسألة خلق القرآن أنكروا ذلك تماماً وحكموا بالكفر على من يقول: القرآن مخلوق، ولكنهم اختلفوا في مسألة اللفظ، فجمهور أهل السنة لم يتعرضوا لمسألة اللفظ، وهناك فرق كبير بين اللفظ بالقرآن والتلفظ بالقرآن، فمن قال: إن لفظي بالقرآن مخلوق فقد أخطأ، ولو قال: إن تلفظي بالقرآن مخلوق فقد أصاب؛ لأن اللفظ اسم، وهو يدل على الملفوظ وهو القرآن الكريم، فإذا قلت: إن لفظي بالقرآن مخلوق فكأنك -ولو كان ذلك على سبيل الإشارة- تقول: القرآن مخلوق. أما إذا قلت: إن تلفظي، يعني: حركة لساني وإخراج الصوت من فمي أو من صدري مخلوق، بمعنى: أنه حادث؛ فهذا لا بأس به. إنك تقرأ في حاشية هذا الكتاب أن الناس اختلفوا في مسألة القرآن، فمنهم من قال: هو مخلوق، ومنهم من قال: غير مخلوق، ومنهم من قال بالتوقف، يعني: توقف ولم يتكلم لا بهذا ولا بذاك، ومنهم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ثم يرجح المحقق أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصحيح وما عداه باطل، وهو أن القرآن كلام الله غير مخلوق وسيرد على من قال بمسألة اللفظ.

حكم القول: يا رب القرآن!

حكم القول: يا رب القرآن! كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، قوله: (اللهم يا رب القرآن!) يدل على أن القرآن مربوب، وكل مربوب مخلوق حادث، فهذا الرجل إما أنه كان على مذهب الاعتزال، وإما أنه جاهل لا يعلم شيئاً، ولكن ابن عباس فطن إلى الأمر؛ فوثب إليه ابن عباس فقال: مه! وهي كلمة زجر، وقيل: هي كلمة تعجب عند العرب، أي: كيف تقول هذا؟ هذا من أنكر المنكرات! فقال ابن عباس: القرآن منه. أي: أن القرآن كلام الله ليس بمربوب، منه بدأ وإليه يعود، فانظر إلى ابن عباس! لاحظ كلمة يقع فيها كثير من الناس في هذه الأيام؛ لأن هذه الزيادة (رب) ليست في حديث صحيح قط، وإنما الصحيح: (يأتي الصيام والقرآن فيشفعان للعبد فيقول القرآن: أسهرت ليله فشفعني فيه، ويقول الصيام: أظمأت نهاره فشفعني فيه)، وهذه الرواية صحيحة، أما رواية: يا رب! فليست صحيحة. وقال عبد الله بن عمر: القرآن كلام الله غير مخلوق. وعن عمرو بن دينار قال: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.

ذكر إجماع التابعين من مكة والمدينة والكوفة والبصرة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق

ذكر إجماع التابعين من مكة والمدينة والكوفة والبصرة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق يذكر أهل مكة والمدينة، ثم يذكر أهل البصرة والكوفة، ويذكر منهم علي بن الحسين ويذكر أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن البصري وسليمان التيمي وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان وسليمان الأعمش جميعاً يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. فهذا الثوري يقول: سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: قولوا لفلان الكافر: لا يقرب مجلسي، فإنه يقول: القرآن مخلوق. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين وأحمد بن يونس وأصحابه: ثبت أبو نعيم وقال: لقيت سبعمائة شيخ، ذكر الأعمش والثوري وجماعتهم. قال: ما سمعت أحداً منهم قال ذا القول، يعني: يقول بخلق القرآن، إلا رجل واحد.

ذكر ما روي عن أتباع التابعين في أن القرآن كلام الله

ذكر ما روي عن أتباع التابعين في أن القرآن كلام الله يذكر أهل مكة والمدينة، ثم يذكر أهل البصرة والكوفة، ويذكر منهم علي بن الحسين ويذكر أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن البصري وسليمان التيمي وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان وسليمان الأعمش جميعاً يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. فهذا الثوري يقول: سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: قولوا لفلان الكافر: لا يقرب مجلسي، فإنه يقول: القرآن مخلوق. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين وأحمد بن يونس وأصحابه: ثبت أبو نعيم وقال: لقيت سبعمائة شيخ، ذكر الأعمش والثوري وجماعتهم. قال: ما سمعت أحداً منهم قال ذا القول، يعني: يقول بخلق القرآن، إلا رجل واحد.

قول جعفر بن محمد أن القرآن كلام الله غير مخلوق

قول جعفر بن محمد أن القرآن كلام الله غير مخلوق جاء تحت باب: [ما روي عن أتباع التابعين من الطبقة الأولى من بلدان شتى]، عن إسحاق بن بهلول قال: [سألت موسى بن داود عن القرآن، فقال: حدثني معبد أبو عبد الرحمن عن معاوية بن عمار الدهني قال: قلت لـ جعفر بن محمد: إنهم يسألوننا عن القرآن: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله]. يعني: لا يقال عنه: خالق ولا مخلوق، ولكن يقال: إنه كلام الله. قال: أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد قال أبي أحمد بن حنبل: رأيت معبداً هذا ولم يكن به بأس، وأثنى عليه أبي، قال: وكان يفتي برأي ابن أبي ليلى]، وسئل جعفر عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. [وعن موسى بن جعفر قال: سئل أبي -الذي هو جعفر بن محمد - عن القرآن: خالق هو أو مخلوق؟ فقال أبي: لو كان خالقاً لعبد -لأن من شأن الخالق أن يعبد- ولو كان مخلوقاً لنفد]، ولو كان مخلوقاً لأتى عليه الفناء.

قول ابن المبارك أن القرآن كلام الله غير مخلوق

قول ابن المبارك أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقال في ترجمة عبد الله بن المبارك: [قال ابن المبارك: سمعت الناس منذ تسعة وأربعين عاماً يقولون: من قال: القرآن مخلوق فامرأته طالق طالق طالق، البتة. قلت: ولم ذاك؟ قال: لأن امرأته مسلمة، والمسلمة لا تكون تحت كافر]. أرأيت؟ ليس هناك محاباة في دين الله عز وجل. قلت أنا: فقد لقي عبد الله بن المبارك جماعة من التابعين مثل سليمان التيمي وحميد الطويل وغيرهم وليس في الإسلام في وقته أكثر رحلة منه ولا أكثر طلباً للعلم وأجمعهم له وأجودهم معرفة به، وأحسنهم سيرة وأرضاهم طريقة مثل ابن المبارك، ولعله يروي عن ألف شيخ من التابعين، فأي إجماع أقوى من هذا، وابن المبارك يقول: هذا ما أدركت الناس عليه. فهل يتصور يا إخواني! أن هذا حق خفي على النبي وأصحابه والتابعين والقرون الخيرية وبان لهؤلاء الفلاسفة؟ A حتى لو لجأنا إلى المنطق العقلي لا يتصور أبداً أن أمراً يخفى على النبوة وعلى الصدر الأول للرسالة، ولا يظهر إلا لمن بعدهم، لكرامة هؤلاء على الله عز وجل أبداً؟ لأنه ليس أحد أكرم على الله من أنبيائه ورسله وأصحاب أنبيائه في المرتبة الثانية، فإن الله ما كان ليخفي شيئاً عنهم جميعاً ثم يظهره للمعتزلة أو للأشعرية، أو للماتريدية، أو للخوارج، أو للشيعة! إن الذي يقول بهذا لابد أن يكون قد فقد عقله.

كلام الفضل بن دكين فيمن أدرك ممن يقولون بأن القرآن كلام الله

كلام الفضل بن دكين فيمن أدرك ممن يقولون بأن القرآن كلام الله قال: [قال أحمد بن يونس: لقيت أبا نعيم فقال لي: إنما هو ضرب الأسياط، قال ابن أبي شيبة: فقلت: ذهب حديثنا عن هذا الشيخ، فقيل لـ أبي نعيم فقال: أدركت ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنما قال هذا قوم من أهل البدع كانوا يقولون: لا بأس برمي الجمار بالزجاج، ثم أخذ زره -يعني: أبو نعيم أخذ زر قميصه- فقطعه، ثم قال: رأسي أهون علي من زري، يعني: سأرمي الجمار برأسي ولا أرميها بالزجاج؛ وذلك لأن النص ذكر أن الجمار إنما هي من حصى الخذف، من حصى مكة أو منى أو المزدلفة أو عرفة على المذهب الراجح، والذي يقول: إن رمي الجمار لا بأس أن يكون بالزجاج، يفتح المجال أمام الآخر ليقول: لا بأس أن يكون بالفضة والذهب، وما المانع؟ إن الشيعة الآن يعتقدون أن رمي الجمار بالدم مجزئ، بل قربة إلى الله عز وجل عندهم؛ ولذلك يصعد الشيعة ويحرصون على أن يرموا جمارهم من فوق الكبري في مكان الرمي، ويرمون سبعة أكياس من الدم تعبيراً عن شؤمهم بإهراق دم الحسين، فينتهزون الفرصة ليعبروا عن حبهم المزعوم لآل البيت، وحزنهم الشديد على الحسين، ويا ليته كان معنا الآن! ثم يقولون: إن هذه الأكياس من الدم إنما تجزئ لأننا نرمي بها ونرجم بها، ويسقط كيس الدم في ذلك المكان المعد للجمار وينفجر فيلوث جميع الحاضرين، وعلى أية حال! لا يأتي من الشيعة على جهة الخصوص ومن المبتدعة على جهة العموم إلا كل شر.

قول أبي جعفر المنصور في أن (لا إله إلا الله) كلام الله غير مخلوقة

قول أبي جعفر المنصور في أنَّ (لا إله إلا الله) كلام الله غير مخلوقة قالك [وكتب أليون ملك الروم إلى أبي جعفر المنصور يسأله عن أشياء ويسأله عن لا إله إلا الله: أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ قال: فكتب إليه أبو جعفر: كتبت إلي تسألني عن لا إله إلا الله: أخالقة أم مخلوقة؟ قال: وليست خالقة ولا مخلوقة، ولكنها كلام الله عز وجل]، يعني: حتى السلاطين كان لهم عناية بأسماء الله وصفاته.

ذكر ما كان من ابن أبي ليلى مع الرجل الذي قال بخلق القرآن

ذكر ما كان من ابن أبي ليلى مع الرجل الذي قال بخلق القرآن قال: [قال محمد بن عمر: إن ابن أبي ليلى قال: حدثني أبي قال: لما قدم ذلك الرجل إلى محمد بن عبد الله بن أبي ليلى شهد عليه حماد بن أبي سليمان وغيره أنه قال: القرآن مخلوق، وشهد عليه قوم مثل قول حماد بن أبي سليمان، فحدثني خالد بن نافع قال: كتب ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر وهو بالمدينة بما قاله ذلك الرجل، وشهادته عليه وإقراره، فكتب إليه أبو جعفر: إن هو رجع وإلا فاضرب رقبته وأحرقه بالنار، فتاب ورجع عن قوله في القرآن. قال وكيع: ولما كان من أمر الرجل ما كان قال له ابن أبي ليلى: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن خلق منطقك؟ قال: الله. قال: خُصِمت، قال: صدقت، فماذا تقول؟ قال: فإني أتوب إلى الله. قال: فبعث معه ابن أبي ليلى أمينين فيوقفاه إلى حلقة من حلق المسجد يقولان لهم: إنه قال: إن القرآن مخلوق فقد تاب ورجع، فإن سمعتموه يقول شيئاً فارفعوا ذلك إلي، قال: وأمر موسى بن عيسى حرسياً -أي: شرطياً- فقال: لا تدعنه يفتي في المسجد. قال: فكان إذا صلى قال الحرسي: قم إلى منزلك، فيقول له: دعني أسبح، فيقول: ولا كلمة]. انظر إلى حرص الناس على دين الله عز وجل، إنه لأمر عجب! [قال: فلا يتركه حتى يقيمه، فلما قدم محمد بن سليمان جمع جماعة فكلمه؛ فأذن له وجلس في المسجد]. فلم يجلس في المسجد إلا برخصة. ونحن في الحقيقة أردنا أن نستبشر خيراً بسرد كلام السلف؛ لأن سرد كلام السلف فيه نور وبركة عظيمة جداً، فأردنا أن نسعد بسماع وقراءة كلام سلفنا رضي الله عنهم أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تحية المسجد لمن لا ينوي مفارقته

حكم تحية المسجد لمن لا ينوي مفارقته Q هل يلزم المرء سنة تحية المسجد إذا أراد أن يخرج من المسجد إلى الحمام، أو ليشرب ويرجع، أو يكلم طالباً له أو غير ذلك؟ A هناك فرق بين من يخرج من المسجد ينوي مفارقة المسجد، ومن خرج من المسجد لا ينوي المفارقة، ولا شك أن الحمامات ليست من المسجد، وهذه التوسعات التي حول المسجد ليست من المسجد؛ ولذلك يجوز فيها ما لا يجوز في المسجد من البيع والشراء وغير ذلك، فنقول: إن الذي خرج من المسجد بنية عدم العودة إذا رجع إلى المسجد كان هذا رجوعاً جديداً يلزم منه تحية المسجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). أما إذا خرج بنية العودة وكان خروجاً يسيراً للحمام أو أن يكلم واحداً في الخارج، كأن يكلم أهله، أو يقضي شيئاً يسيراً ويرجع مرة أخرى؛ فإن هذا لا يلزمه تحية المسجد. والله تعالى أعلم.

حكم لبس المرأة للنقاب أثناء العمرة

حكم لبس المرأة للنقاب أثناء العمرة Q ما حكم لبس المرأة للنقاب أثناء العمرة؟ A يعني: أثناء الإحرام، والنبي عليه السلام يقول: (لا تنتقب المرأة المحرمة)، فالنقاب مخالف لهدي النبي عليه الصلاة والسلام في الحج والعمرة عند الإحرام، ولكن للمرأة أن تطرح ثوبها على رأسها فيسدل على وجهها، وهذا لا يعد نقاباً، لا يسمى في لغة الاصطلاح: نقاباً، فلو طرحت المرأة مثلاً البيشة على رأسها، فنزلت فغطت وجهها غطاءً أو غطاءين أو ثلاثة كما تشاء المرأة، فإن هذا ليس من النقاب في شيء، بل النقاب هو المعروف لدينا: الذي تعصب به المرأة رأسها؛ ولذلك لا تعصب المرأة بثوبها رأسها في الإحرام.

بيان ما يفعله الطبيب إذا علم أن امرأة فضت بكارتها من غير زوجها

بيان ما يفعله الطبيب إذا علم أن امرأة فضت بكارتها من غير زوجها Q يقول الطبيب: أتاني رجل بزوجته ولم يمر على زواجهما أكثر من أسبوع، ولكنه عند جماعه إياها لم ير دم البكارة. فهل يجوز لي أن أخبر زوجها بحقيقة الأمر؟ A نعم. يجب عليه أن يخبره بحقيقة الأمر؛ لأن هذا الرجل إذا كان طيباً فكيف له أن يعاشر امرأة قد جامعها غيره في حرام، وإن هذا من العيوب المؤثرة في إتمام الزواج أو في استمراره، فهناك من العيوب من إذا أخفاه الزوج أو الزوجة على صاحبه لا يكون مؤثراً في الزواج وفي استمراره، ومن العيوب ما إذا عرفه الطرف الآخر لم يقبل الزواج، كما لو أن المرأة عرفت أن زوجها عنين أو مجبوب أو لا يستطيع أن يصل إلى النساء وإن كان في الظاهر أن له عضواً كأعضاء بقية الرجال، فلها الحق الشرعي في أن تطلق من زوجها. وإذا علم الرجل كذلك أن للمرأة عيباً عظيماً تتأثر به الحياة ولا تستقيم، والزوجة أخفت هذا العيب عن الزوج ولم تطلعه عليه إلا بعد البناء بها أو العقد عليها، فللزوج أن يطلقها كذلك لهذا العيب المؤثر. فأرى أن هذا من العيوب المؤثرة، وكيف يستقيم البيت أو يعتدل المزاج الزوجي مع زوجة لا يُدرى: أكان ذلك منها بنكاح أم بسفاح، خاصة إذا كان هذا الأمر بسفاح فكيف يستقيم الأمر بينهما؟ فأرى أن الطبيب يلزمه أن يصرح لهذا الزوج بما كان من تلك المرأة.

حكم زواج المسيحي من المسلمة والعكس، وحكم تحدث الخطيب عن التبرعات في الخطبة

حكم زواج المسيحي من المسلمة والعكس، وحكم تحدث الخطيب عن التبرعات في الخطبة Q هل من الممكن تزوج مسلمة من مسيحي، فالمسيحي يقول: إني أريد أن أسلم؟ فالرجاء الإفادة، وهل يجوز للخطيب في الجمعة أن يتحدث عن التبرعات؟ A على أية حال. يجوز أن يتحدث الخطيب عن التبرعات ويحث الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحث أصحابه على الصدقة، لكن السؤال الأول وهو البلية العظيمة جداً وكنت أظن أن ذلك معلوم من الدين بالضرورة: أن المسلمة لا تكون تحت كافر قط، والعكس صحيح: أن الكافرة من اليهودية أو النصرانية وأصحاب الكتاب تكون تحت مسلم بشرط أن تكون محصنة حرة عفيفة غير زانية ولا مشركة، كأن تقول: عيسى هو الله أو ابن الله أو أن عزيراً ابن الله أو غير ذلك، فإن هذه مشركة وإن كانت من أهل الكتاب؛ فلا يجوز الزواج منها؛ لأن بعض الناس يتصور أن الزواج بالمسيحية أمر على إطلاقه، وليس الأمر كذلك، إنما الأمر مشروط بألا تكون مشركة، وأن تكون محصنة حرة عفيفة ليست زانية ولا باغية، وأن تكون السيادة في البيت للزوج، وأن يلحق الأولاد به لا بها عند الفراق أو عند استدامة الحياة بينهما. فبهذه الشروط يجوز نكاح الرجل المسلم من المرأة الكافرة الكتابية، أما نكاح المسلمة من الكافر فإنه لا يجوز البتة، ولم يجوزه إلا ضلال الفرق المنحرفة الذين جوزوا مع هذا زواج الأب من ابنته وزواج البنت من أبيها وزواج الأخ من أخته والأخت من أخيها، فإنهم وقعوا في مثل هذا كله، وبالمناسبة قالوا بجواز زواج المسلمة من كافر، فإن هذا أمر لا عبرة به؛ لأن الخلاف هنا غير معتبر. إن النصارى قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ليسوا كلهم يقولون: إن عيسى ابن الله ولا أنه الله، فإن جلَّ النصارى من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: إن عيسى رسول الله، وبعضهم يقول: ابن الله، والبعض يقول: هو الله، يقولون بالتثليث والتثنية، لكن ليس كل النصارى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام يقولون هذا؛ ولذلك لو رجعت إلى كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري وهو أول كتاب في الصحيح في شرح حديث أبي سفيان صخر بن حرب لما لقي هرقل الروم، لعرفت أن هرقل اختلف أهل العلم فيه: هل آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام أو لم يؤمن؟ والراجح: أنه لم يؤمن، بدليل أنه حارب النبي عليه الصلاة والسلام وحاربه النبي عليه الصلاة والسلام في أرض الشام، ولو كان مسلماً لما حارب النبي عليه الصلاة والسلام. وهناك أدلة كثيرة تشهد بأن هرقل لم يدخل في الإسلام، وإن كانت بعض الروايات أثبتت إسلامه، ولكن أقوى الروايات لم تثبت إسلامه. الشاهد في هذا: أن هرقل كان نصرانياً، ومع هذا أثنى عليه النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث، وأنه من أهل الكتاب، وكان مع هرقل من يقول بهذه الأقوال الثلاثة: أن عيسى ابن الله، وأنه هو الله، وأنه نبي الله. فأنا أقول: إن النصراني يكون أحياناً معه نوع شرك فيما يتعلق بإثبات البنوة أو الألوهية لعيسى، وإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فإنه يبقى على أصل كفره من أهل الكتاب. وهذا عند الإطلاق، فأهل الكتاب في كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يطلق على من يقول: إن عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان كافراً.

حكم الجمع بين نية تحية المسجد والسنة الراتبة في ركعتين

حكم الجمع بين نية تحية المسجد والسنة الراتبة في ركعتين Q أيهما أولى بالتقديم: تحية المسجد أو السنة الراتبة؟ A ما المانع أن تجمع بينهما بنيتين؟ يعني: تصلي السنة بنيتين، وهذا مذهب جمهور العلماء: أن صلاة النوافل تجمع فيها النيات المتعددة، نيتان وثلاث وأربع وخمس وعشر إن شئت.

حكم تشميت المرأة الأجنبية إذا حمدت الله

حكم تشميت المرأة الأجنبية إذا حمدت الله Q هل يشمت الرجل المرأة الأجنبية إذا عطست وقالت: الحمد لله؟ A في الحقيقة النص عام، حديث أبي هريرة في الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ست، ومنها: وإذا عطس فحمد الله فشمته)، وحق المسلم للذكر من باب التغليب، وإلا فالأصل حق المسلم على المسلم والمسلمة على المسلمة وحق المسلمين بعضهم على بعض، هذا هو الأصل، لكن القضية ترجع إلى فرع آخر، وهو إذا كان ذلك له تعلق بالفتنة بين الرجال والنساء فإنه لا يشمتها كالسلام تماماً، فإنه من حق المسلم على المسلم إذا لقيه أن يسلم عليه، وأن يرد عليه السلام وهذا من الواجبات، فإذا كان سلام الرجل على المرأة أو العكس فيه فتنة لهما؛ فإنه لا يسلم، بمعنى إلقاء السلام لا المصافحة، أما المصافحة فممتنعة تماماً بين الرجال والنساء ما لم يكونوا من المحارم، وكذلك تشميت العاطس على النحو من هذا.

حكم مصافحة المرأة الكبيرة في السن

حكم مصافحة المرأة الكبيرة في السن Q هل يجوز مصافحة المرأة الكبيرة في السن؟ A المصافحة لا تجوز قط، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في زمنه نساء عواجز كثر، ولم يثبت أنه صافح واحدة منهن، بل ثبت العكس أن عائشة كما ورد في الصحيح تقول: (ما مست يد النبي عليه الصلاة والسلام يد امرأة لا تحل له)، وفي رواية: (أجنبية عنه قط)، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أسوة لهذه الأمة. أما البنت الصغيرة التي لم تبلغ الحلم فلا حكم لها، يجوز مصافحتها والسلام عليها وغير ذلك؛ لأنها بنت لا تشتهى، صغيرة في السن جداً، والواحد يتعجب من الإخوة الذين يشددون في الأمور قليلاً، فلا يرضى أن يسلم على البنت التي عمرها سنتان أو ثلاث. وهناك من البنات الصغيرات من تشتهى فعلاً، كأن تكون جميلة وبيضاء وشعرها جميل للغاية، فإذا لم تبلغ البنت ولم تحدثك نفسك بشيء من هذا فاعلم أن الأمر على الستر والسلامة، وإذا حدثتك نفسك فابتعد، والأولى أن تلحق هذه البنت وإن لم تبلغ الحلم ببقية النساء. ومسألة مصافحة العجائز لم ترد في كتب السلف على أية حال، فالشخص يرى واحدة كأمه أو جدته أو أكبر من ذلك، وإذا بها تقول له: خذ بيدي يا بني! وهي امرأة عجوز جداً، وهذا لا يمكن أبداً، فإذا كان ذلك لحاجة ماسة أو ضرورة ملحة؛ فعلى الشخص أن يمسك بذراعها، أو يمسك بثوبها ليدلها على الطريق، وأنا نفسي أفعل هذا، وأفعله بحرج كبير، لكن من باب الرحمة ومساعدة المحتاج وفك كرب المكروبين، ولا يخطر بالبال قط شيء مما يدور في ذهنك ورأسك، إذ إنها امرأة تتجاوز سبعين أو ثمانين سنة، فكيف تشتهى هذه المرأة من شاب عنده من العمر عشرون أو ثلاثون سنة أو أربعون سنة؟!

الحكم على حديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)

الحكم على حديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) Q هل الحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) حديث صحيح؟ A نعم. حديث صحيح، قاله النبي عليه الصلاة والسلام بمناسبة أنه نهى الناس عن تلقيح النخل، فلم يثمر النخل في ذلك العام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل لما سألوه: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: افعلوا ما شئتم.

شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)

شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) Q قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، ما معنى هذا الحديث؟ A ليس معنى هذا الحديث كما يتبادر إلى بعض الأذهان أنه ليس هناك شيء اسمه خطأ ولا نسيان ولا إكراه، بل إن الخطأ واقع، والنسيان واقع، والإكراه واقع، ولكن لو وقع منك فعل خطأ أو معصية على سبيل الخطأ أو على سبيل النسيان أو على سبيل الإكراه، فإن الله لا يحاسبك عليها. ولنضرب أمثلة على ذلك: الخطأ أو النسيان مثلاً في الصلاة، كشخص صلى الظهر فقام إلى الركعة الخامسة، فلو قام متعمداً لبطلت جميع صلاته من أولها إلى آخرها؛ لأنه زاد عن النص بغير نص وخالف الهدي فيحاسب على ذلك، لكن إذا قام إلى الخامسة نسياناً فلا تبطل صلاته، وقد وقع منه الخطأ والله لا يحاسبه عليه؛ ولذلك يجبر خطؤه بسجدتي السهو. والإكراه واقع، ولكن الله تعالى لا يحاسبك عليه، فلو أتى السلطان مثلاً فهجم على بيتك بالليل، وانتهك حرمتك، وكشف سترك وعرضك، فوجد أن امرأتك جميلة مثلاً، فقال لك: طلق هذه المرأة، فقلت: لا، لن أطلقها. هذه امرأتي وأم أولادي، وأنا أحبها وأحتفظ بها، فقال لك: تطلقها وإلا سنعمل فيك كذا وكذا؟ وبدأ فعلاً في تنفيذ ما هدد به من ضرب وركل وكهربة وغير ذلك من أساليب التعذيب، فبلغ بك التعذيب حداً لا تحتمله؛ فخشيت على نفسك من الهلاك، فقلت مكرهاً: امرأتي طالق؛ ليتزوجها هو، فهل هذا الطلاق يقع صراحة؟ A لا يقع. فقوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، المعنى: رفع إثم ذلك عن أمته، فالمرفوع هو الإثم وليس الفعل؛ لأن الفعل واقع منك، والخطأ واقع، والنبي عليه السلام نفسه نسي، كما ثبت في الصحيح: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في بيت عائشة فسمع رجلاً يقرأ في المسجد فقال: رحم الله فلاناً؛ أذكرني آية كنت قد أنسيتها)، فالنسيان واقع حتى من النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن نسيان النبي عليه الصلاة والسلام لا تعلق له بالوحي، فإنه لم ينس شيئاً من الوحي إلا بعد أن بلغه لأصحابه، فكان محفوظاً لدى الأصحاب، فلا يضر بعد ذلك نسيان النبي عليه السلام له أو تذكره؛ لأنه قد بلغ أولاً، كما أنه صلى العصر وفي رواية الظهر في حديث (ذي اليدين) ركعتين، فهمهم القوم، فقام رجل طويل اليدين، فرفع يديه وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما قصرت وما نسيت) يعني: وما أظن أني نسيت. (فقال: إنك صليت بنا ركعتين، فقام النبي عليه السلام وكبر وصلى ركعتين ثم سجد للسهو)، وهذا يدل على النسيان؛ لأنه ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام أن يصلي الظهر ركعتين متعمداً، فالنسيان واقع حتى من الأنبياء، وهذا أمر لا يخل بالشرع؛ لأن نسيان الأنبياء بعد البلاغ لا قبل البلاغ، ومادام قد بلغ فإن البلاغ محفوظ لدى الأصحاب بدليل أنهم أنفسهم ردوا عليه عليه الصلاة والسلام. فالخطأ واقع والنسيان واقع والإكراه موجود، وما أكثره خاصة في هذا الزمان، ولكن إثم الأفعال الناجمة عن الخطأ والنسيان والاستكراه لا يأثم عليها المخطئ ولا الناسي ولا المكره، إنما يأثم بها المكرِه لا المكرَه، والعلماء لهم كلام فيمن أكره على العصية، فيجمعون على استحباب أن يهلك المرء دون الوقوع في المعصية، وإذا لم يحتمل الإكراه فإنه لا بأس عليه في اقتراف المعصية، والرأي الأول أحب وأولى.

الحكم على أحاديث الذهب المحلق

الحكم على أحاديث الذهب المحلق Q أحاديث الذهب المحلق والتي جاء بها فضيلة الشيخ الألباني هل هي صحيحة أم ضعيفة؟ وإذا كانت صحيحة كيف العمل بها؟ A في الحقيقة هذه المسألة يخالف فيها الشيخ الألباني جماهير علماء الأمة قديماً وحديثاً، وإن كانت صحيحة إلا أنها مؤولة بمنع الزكاة، أو البخل بالتصدق بها أو إعارتها، أو غير ذلك مما ذكره أهل العلم. وأما التفريق بين المحلق وغير المحلق فهذا مذهب جديد لشيخنا لم يسبق إليه، والله تعالى أعلم. وكل إنسان يخطئ ويصيب.

حكم صوم الولد عن والده

حكم صوم الولد عن والده Q هل يجوز للولد الصيام عن والده الذي توفي، وهل يصل ثوابه للميت؟ A نعم. النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، واختلف أهل العلم في نوع هذا الصيام: هل هو صيام الفرض أو صيام الواجب؟ فصيام الواجب كصيام النذر أو صيام الكفارات، وصيام الفرض هو شهر رمضان لا غير، فهل قوله عليه السلام: (من مات وعليه صوم)، يشمل الواجب والفرض على السواء أم يشمل الواجب فقط؟ جمهور أهل العلم على أن ذلك متعلق بالواجب فقط دون الفرض، وأن الفرض يكفيه الكفارة، أي: إطعام مسكين عن كل يوم وجبتين، وبعض أهل العلم يقولون: الصوم متعلق بالواجب والفرض على السواء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

من أفتى فيمن قال القرآن مخلوق

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - من أفتى فيمن قال القرآن مخلوق الكلام صفة من صفات الله تعالى، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والله يتكلم كيفما شاء ومتى شاء، ومن قال غير هذا فقد ضل سواء السبيل، وخالف مذهب أهل السنة والجماعة، وقد حكم عليه أئمة الإسلام بأحكام غليظة هي لازم تكفيرهم له، فقالوا في معتقد ذلك أنه لا يرث ولا يورث، وماله فيء للمسلمين إن مات، وامرأته تبين منه بينونة كبرى، ولا ينكح، ولا يصلى خلفه، ولا يعاد إذ مرض ولا تشهد جنازته، وما ذاك إلا لعظيم فريته، وخطر ما قال به من فساد معتقده.

سياق ما روي عمن أفتى فيمن قال القرآن مخلوق

سياق ما روي عمن أفتى فيمن قال القرآن مخلوق إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا يزال الكلام موصولاً عن كتاب الله عز وجل المتمثل في صفة الكلام، وهو: أن القرآن العظيم كلام الله تعالى غير مخلوق، وقد فرغنا من تصحيح الاعتقاد في أن كلام الله عز وجل هو صفة من صفاته سبحانه، وأن من قال: إن كلام الله تعالى مخلوق فلاشك أنه قد حاد عن جادة الصواب، وانحرف عن عقيدة النبوة. وهذا الباب الذي نحن بصدده انعقد في إفتاء من أفتى فيمن قال بأن القرآن مخلوق، أي: في حكم من قال: إن القرآن مخلوق.

اضطراب مالك في إصدار الحكم على من قال القرآن مخلوق

اضطراب مالك في إصدار الحكم على من قال القرآن مخلوق لقد اضطرب الإمام مالك عليه رحمة الله في إصدار الحكم على من قال: بأن القرآن مخلوق، فقال تارة: اقتلوه، وفي مرة أخرى سئل فقال: سلوه واستتيبوه، فإن تاب وإلا فاضربوا عنقه. فهل يقتل دون أن يسأل ويستتاب، أو لابد من استتابته ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل؟ قال مالك في مرة ثالثة: ربما كان مخطئاً. فمن قال: إن القرآن مخلوق إما أن يكون مخطئاً، أو متأولاً، أو معاند. فاضطرب مالك عليه رحمة الله في إطلاق هذه الأحكام، وأما غيره فقد ورد عنه الاستتابة مرة واحدة، وغيرهم ورد عنه القتل مباشرة.

الجمع بين ما ورد عن سلفنا في حكم من قال القرآن مخلوق

الجمع بين ما ورد عن سلفنا في حكم من قال القرآن مخلوق وبعد قراءة ما ورد عن سلفنا فيما يتعلق بحكم من قال: بأن القرآن مخلوق؛ خرجنا بنتيجة تأليفاً لأقوالهم، وعدم تضاربها: بأن من قال: القرآن مخلوق وهو جاهل لا يعلم ذلك فإنه يعلم ولا يستتاب؛ لأنه جاهل، فبمجرد أن يتعلم فإنه يترك هذا الخطأ الذي كان عليه، وينحاز إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وإنما سمع الناس يقولون: مخلوق، فقال: مخلوق، وهو لا يدري ما معنى هذه الكلمة ولا ما خطورتها، وأما من قال ذلك متأولاً -والتأويل في هذه القضية غير سائغ ولا معتبر- فإنه لابد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من قال ذلك عناداً وجحوداً وهو يعلم خطورة الأمر فإنه يقتل دون أن يستتاب، ولو أنك تصفحت كلام أهل العلم لخرجت بهذه النتيجة؛ ولذلك سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه عمن قال: القرآن مخلوق ما هو؟ قال: كفر، وقائله إما مخطئ فيعلم، وإما عالم فيقتل. وأرجو أن ينسحب الكلام الذي قلناه في هذه الصفة على صفات الله عز وجل كلها، فهذا كلام ذكرناه على صفة الكلام لله عز وجل؛ لأن المناسبة استدعت ذلك، وأن الفتنة قامت فيما يتعلق بهذه الصفة، فوضع كل أصولاً؛ ليمشي عليها بقية جماعته وفرقته؛ فوضع أهل السنة في مقابل أصول أهل البدعة أصولاً؛ لتجري هذه الأصول على بقية الصفات، فإذا كانت صفة الكلام غير مخلوقة لله عز وجل فكذلك بقية صفاته غير مخلوقة، ولا يجوز أبداً أن نقول عن أي صفة: إنها مخلوقة، فإن صفات الله تبارك وتعالى منه وإليه، ولا يجوز أبداً أن تقول: إن الله كان بغير صفات ثم اتصف بهذه الصفات، أو كان بغير أسماء ثم تسمى بهذه الأسماء؛ لأنه يلزمك -والحالة هذه- أن تقول: إن الذات العلية كانت مجردة عن الأسماء والصفات، ثم أحدثها الله تبارك وتعالى لنفسه. وقولك: (ثم أحدثها) يعني: ثم خلقها، وهذا بلا شك كفر؛ لأن فيه نسبة النقص إلى المولى عز وجل، وأنه كان مجرداً ثم اتصف، وكان مجرداً ثم تسمى، وكأنه كان عاجزاً من أول الأمر أن يتسمى أو يتصف، ثم لما علم سبحانه أن هذا نقص وعيب أراد أن يتمه وأن يكمله؛ فسمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات. فمن جاء عنه ذلك مالك عليه رحمة الله، ومن الخلفاء: أبو جعفر المنصور، وأما من الفقهاء فكثير جداً لا يكاد العد يحصرهم. قالوا لـ مالك: ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ قال: اقتلوه؛ كافر، فقال السائل: يا أبا عبد الله! إني لم أقله، إنما قلت لك: قال إنسان، قال مالك: إنما سمعته منك. يعني أن مالكاً أمر الناس أن يقتلوا الذي سأله، فلم يقل مالك: اقتلوا القائل، وإنما قال: اقتلوا السائل. فقال السائل: أنا أقول لك: إن شخصاً يقول كذا، وأنا لم أقل ذلك، فقال: أنا ما سمعته منه، وإنما سمعت هذا منك. وهذا يدل على حساسية الأمر لدى السلف، وأنهم ما كانوا يحبون أن ينتشر هذا الكلام ولو على سبيل السؤال؛ لأنه باب عظيم من أبواب نشر الفاحشة بين الناس. والفاحشة إن كانت عند إطلاقها تعني: الزنا وتغير الذنوب، إلا أن أعظم من ذلك وأشر هو الكلام في أسماء الله وصفاته بغير علم. وقال سفيان بن عيينة: قال يحيى بن السراج: كنا عند ابن عيينة فتشوش الناس -يعني: أحدثوا أصواتاً متداخلة ومختلطة- فقال ابن عيينة: ما هذا؟ قالوا: قدم بشر المريسي، قال: وما يقول هذا؟ قالوا: يقول: القرآن مخلوق، قال: آتوني بشاهدين حتى آمر الوالي بضرب عنقه. أي: شهد عندي اثنان أو ثلاثة أنه يقول هذا أمرت الوالي أن يضرب عنقه. وعن حفص بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما كنت أعرض أحداً من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية. قال الربالي: هم والله كفار. وقال ابن مهدي: لوددت أن أقوم على رأس الجسر فلا يمر أحد إلا سألته، فإن قال: القرآن مخلوق؛ ضربت عنقه، وألقيته في الماء. فهذا عبد الرحمن بن مهدي إمام عظيم جداً من أئمة السنة، وهو شيخ الإمام الشافعي، قال: من زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى بن عمران تكليماً فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن القرآن محدث -أي: حادث- ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأرى أنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وهكذا جاء عن عبد الله بن داود الخريبي وغيرهم. وسئل أبو عبيد القاسم بن سلام: ما تقول يا إمام! فيمن قال: القرآن مخلوق؟ قال: هذا رجل يعلم ويقال له: إن هذا كفر، فإن رجع وإلا ضربت عنقه. وهذا النص يستلزم الاستتابة، كما أن فيه عقيدة عظيمة جداً لأهل السنة وهي: مبدأ ورود العذر بالجهل. وعن القاسم قال: من قال: إن القرآن مخلوق فهو شر ممن قال: إن الله ثالث ث

شناعة إنكار صفات المخلوق الثابتة، فكيف بإنكار صفات الخالق

شناعة إنكار صفات المخلوق الثابتة، فكيف بإنكار صفات الخالق إن صفات المخلوقين تختلف عن صفات الخالق تبارك وتعالى، فلو أنك موصوف بالحلم والناس يعرفون عنك ذلك، فجاء شخص وأنكر أنك حليم، فإنك ستفقد هذا الحلم وتغضب؛ لأنه نفى عنك صفة لازمة لك جبلك الله عز وجل عليها، إذ إن الصفات إما جبلية، وإما مكتسبة. فالمرء إما أن يولد بصفات جبله الله عز وجل عليها وخلقه عليها، وإما أن يكتسب هذه الصفات بالتعلم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم). وقيل: إن الحسن البصري رحمه الله ذهب إلى السوق ليشتري عبداً سيئ الخلق، فقيل: ولم؟ قال: حتى أتعلم فيه الحلم. يعني: يسيء إلي وأحسن إليه إلى أن يكون الحلم سجيتي. وقال النبي عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه: (إن فيك خصلتين يحبهما الله). وفي رواية: أنه قال: (إن فيك لخصلتين من خصال الله عز وجل)، ومن صفات الله عز وجل: الحلم والأناة. قال: يا رسول الله! أجبلني الله عز وجل عليهما، أم أنهما مكتسبتان -كما في معنى الرواية- قال: بل جبلك الله عليهما، يعني: خلق فيك هاتين الخصلتين، فالصفات إما جبلية، وإما مكتسبة. والشاهد من هذا الكلام: أنه لو أتى واحد وأنكر عليك صفة ونفاها عنك وأنت متصف بها على الحقيقة مجبول عليها، فإنك تغضب غضباً شديداً جداً؛ لأنه قد نفى عنك الصفة، فما بالكم بمن ينفي الصفات اللازمة لله عز وجل، وله المثل الأعلى؟!

الأحكام المترتبة على مقالة: إن القرآن مخلوق

الأحكام المترتبة على مقالة: إن القرآن مخلوق إن هذا الأمر خطير؛ ولذلك حاز اهتمام الأئمة والخلفاء والراشدين، بل قال بعض أهل العلم: إن من قال: القرآن مخلوق لا يرث ولا يورث، فإذا مات أحد من أقربائه وله في ماله ميراث فإنه لا يرثه، وإذا مات هو فإن ماله فيء للمسلمين، وليس لأحد من الورثة أن يطالب بشيء منه؛ لأنه لا توارث بين أهل ملتين، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم. فمن قال: القرآن مخلوق لا يرث ولا يورث، وامرأته تبين منه بينونة كبرى، أي: كأنه بمثابة من طلق امرأته ثلاثاً وبانت عنه بينونة لا رجعة فيها؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك: سمعت الناس منذ (49) سنة يقولون: من قال: القرآن مخلوق فامرأته طالق ثلاثاً البتة. قلت: ولم ذاك؟ قال: لأن امرأته مسلمة، والمسلمة لا تكون تحت كافر. وكثير من أهل العلم قالوا: من قال: القرآن مخلوق لا ينكحون، ولا يصلى خلفهم، ولا يعاد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، وإن موالاة الإسلام انقطعت بينهم وبين المسلمين. فانظروا إلى هذا الكلام الخطير العظيم الذي يدل على أن من قال ذلك -وهو عالم بما يقول- فهو خارج ومارق ومرتد عن ملة الإسلام.

حكم العلماء على الواقفية

حكم العلماء على الواقفية وقال أحمد: الواقفي لا يشك في كفره. أي: من قال: أنا متوقف في هذه القضية، فلا أقول: إنه مخلوق، ولا إنه غير مخلوق، فإن وقف لجهل منه فإنه يعلم، وإن وقف وهو يعلم أنه كلام الله غير مخلوق فإنه شر ممن قال: إنه مخلوق. ولذلك قال أحمد: إنما يقول: أتوقف يستتر بها من قوله: مخلوق. وفي رواية أخرى قال: فإن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وإن من وقف في إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال: أنا لا أقول بأنه مخلوق ولا غير مخلوق؛ فهو شر من الذي يقول: إنه مخلوق. فلا يجوز اعتقاد أن كلام الله مخلوق، كما لا يجوز التوقف في أن كلام الله غير مخلوق.

معنى أن القرآن كلام الله حقيقة

معنى أن القرآن كلام الله حقيقة إن سياق الآيات في كتاب الله تعالى، وما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام والصحابة والتابعين يدل على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وأهل السنة والجماعة لم يلجئوا لهذه المصطلحات إلا في مقابل مصطلحات أهل البدع؛ لأن أهل البدع يقولون: القرآن كلام الله، وأهل السنة يقولون: القرآن كلام الله، لكن أهل البدع يقولون: مخلوق، وأهل السنة يقولون: غير مخلوق، فهم مشتركون في اعتقادهم أن القرآن كلام الله، ومختلفون في أنه مخلوق أو غير مخلوق، فأهل السنة وأهل البدعة متفقون على الله تكلم بهذا الكلام، لكن من أهل البدع من يقول: إن القرآن هو كلام الله تكلم به مجازاً. ومنهم من يقول: إن القرآن كلام الله تكلم به كلاماً نفسياً. ومعنى ذلك: أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام، لكنه كلام ليس بحرف ولا صوت، إذ إن جبريل عليه السلام علم ما دار في نفس الله عز وجل وما أراد أن يتكلم به، فعبر عما دار في نفس الله عز وجل، فعلى ذلك يكون القرآن من كلام جبريل لا من كلام الله عز وجل، وهذا قول الأشاعرة، فإنهم لا يثبتون أن الله تكلم بهذا الكلام بحرف وصوت، وإنما يقولون: إن الله تكلم كلاماً نفسياً، يعني: أصل هذا الكلام دار في نفس الله عز وجل، فنقله إلينا جبريل، فلم يتكلم الله تعالى به على الحقيقة بحرف وصوت. والأشاعرة والماتريدية -وهم من أضل فرق المسلمين- قال عنهم الأزهريون: هم من أهل السنة والجماعة. وليس الأمر كذلك، بل هذا من باب الخلط واللبس، فالأشاعرة ليسوا من أهل السنة، والماتريدية شر منهم، وليسوا من أهل السنة كذلك، فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تبارك وتعالى تكلم بهذا الكلام على الحقيقة بحرف وصوت، لكن بحرف وصوت يليق به عز وجل، فليس كحرفي وصوتي، فانتبه.

سياق ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن كلام الله على الحقيقة

سياق ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن كلام الله على الحقيقة قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة]. وكلمة (على الحقيقة) وضعها أهل السنة للرد على من قال: إن كلام الله مجازي، وإن كلام الله نفساني، فكلام الله على الحقيقة، تكلم به بحرف وصوت، وأنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم من السماء، وهذا يدل بمفهوم الموافقة أو بالاستنباط على أن الله تبارك وتعالى مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وقد أنزل هذا القرآن على محمد وأمره أن يتحدى به، وهذا يدل على أن القرآن معجز ولا يستطيع أحد أبداً أن يأتي ولو بآية من مثل كتاب الله عز وجل، وأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إليه، وهذه صفة خامسة: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد البيان لابد أن يدعو الناس إلى هذا القرآن، وأنه القرآن على الحقيقة، يعني: تكلم الله به بحرف وصوت. قال: [متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن]. أي: ليس بقصة افتعلها جبريل، ولا عبر جبريل عن هذا الكلام الذي دار في نفس الله عز وجل. فقوله: (ولا عبارة عن قرآن) يعني: هو كلام الله على الحقيقة. قال: [وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول -والمجعول بمعنى: المخلوق- ومربوب -أي: وغير مربوب- بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلماً -يعني: يتكلم في أي وقت شاء- ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة]. هذا مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكلام الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فالله تعالى يتكلم، وقد كلم موسى، والذي يقول: إن الله لم يكلم موسى معناه: أنه مكذب للقرآن، منكر لهذه الصفة. وقال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]. وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، يعني: أن الله عز وجل يتكلم. وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]. فالله عز وجل يتكلم بكلام أنزله من السماء على نبيه؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]. وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50]. وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. فهذه الآية لها حكاية وقصة عصرية، إذ كل زعيم في كل زمان يبحث له عن آية تناسبه، فيتأول القرآن هؤلاء المنافقون الزنادقة ويتأكلون به، فيصرفون كلام الله عز وجل على غير مراده، وهكذا إلى أن ظهر الرئيس مبارك، فيقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، والله إن هذا التأويل قد حدث في جامع الأزهر. وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، إذاً: هذا القرآن منزل من عند الله عز وجل. وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193] أي: جبريل عليه السلام. فأشار الله عز وجل إلى أن كلامه غير مخلوق، وهو منزل منه سبحانه، فمن قال: إن القرآن هو الذي في السماء -أي: في اللوح المحفوظ فقط دون الذي بين أيدينا- أو من قال: إن القرآن في السماء -يعني: لم يتكلم به الله عز وجل وإنما دار في نفسه- فقد خالف الله ورسوله، ورد معجزات نبيه، وخالف السلف من الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة. وقال عكرمة: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)، والضمير يعود على الله عز وجل (خضعاناً لقوله)، إذاً: فهو يتكلم، قال: (كأنها سلسلة على صفوان)، والصفوان: هو الحجر أو الجبل الأملس. قال: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه. وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ قال: يقول الحق، قال: فينادون الحق الحق)، فيرددون أن الله تعالى يتكلم بالحق. وهنا منقبة عظيمة لـ عبد الله بن مسعود أن

تحريم السفر بالقرآن إلى أرض العدو المحارب

تحريم السفر بالقرآن إلى أرض العدو المحارب وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يناله العدو)، والحديث عند البخاري ومسلم. إن الانجليز والفرنسيين أعداؤنا، وكل من لم يكن مسلماً فهو عدو لنا، وها نحن نسافر بالقرآن إلى أمريكا وروسيا ولبنان -لبنان تعتبر نصرانية- فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما الموقف من فعلنا وواقعنا مع نهي النبي عليه الصلاة والسلام ألا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو؟ إنك عندما تصل إلى المطار فإنه يفتشك ويلاقي بجيبك مصحفاً فيقوم يأخذه منك، ويرميه في الزبالة، فماذا تعمل في هذه الحالة؟ إن لم تقتله لن ترجع إلى هذا البلد مرة أخرى. إن هذا الحديث ليس على ظاهره، بل المراد منه معنى آخر، فكل من لم يكن مسلماً فهو عدو لك، لكن هناك من الأعداء من هو محارب، ومن الأعداء من هو مسالم. فهناك فرق عظيم جداً بين ديار الكفر وديار الحرب، فدار الحرب كفر أصلاً، ولكنها زادت أنها رفعت لواء الحرب مع دار الإيمان، والحرب والله لابد أن تدور، ولابد أن يكتب النصر لأهل الإيمان، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعجل بما وعدنا به. والعدو ينقسم إلى محارب ومسالم، فأما المسالم فإن النهي لا ينطبق عليه، وأما المحارب فينطبق النهي عليه، وهذا مقصود الحديث. مثال ذلك: الحرب التي دارت بين مصر وإسرائيل في فلسطين، ففي هذه الآونة من الحرب لا يجوز قط لواحد أن يأخذ معه المصحف ويدخل به فلسطين؛ لأن غلبة الظن أن القرآن يتعرض للإهانة، وأن العدو ينال منه؛ لأن البلدين في حالة حرب. واحترام اليهودي لكتاب الله ليس معناه: أنه محب للقرآن، بل هو عدو وخبيث ومجرم، وأقرب إلى أن يكون محارباً، لكن ليس هناك حرب بين البلدين الآن، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام من أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو المحارب.

الأمر بتعاهد القرآن

الأمر بتعاهد القرآن يقول عبد الله: عن النبي عليه الصلاة والسلام: (بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا، بل هو نسي). وهذا القول فيه كراهة شديدة، كذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في البخاري: (لا تقل: نسيت آية وكذا، وإنما قل: نسيت آية كذا وكذا). يعني: أن الذي أنساك هذه الآية هو الشيطان، فقال عبد الله: تعاهدوا هذه المصاحف -وربما قال: القرآن- فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من النعم من عقلها. وانظر إلى الإبل حين تتفلت من عقالها ورباطها، ثم تنطلق في الصحراء، فكذلك القرآن إن لم يتعاهده صاحبه فإنه يتفلت منه.

حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق

حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق قال أهل العلم بكفر من قال لفظي بالقرآن مخلوق، ولا فرق بينه وبين من يقول: القرآن مخلوق؛ لأن قوله: لفظي يعني: ملفوظي بالقرآن، أي: الذي تلفظت به مخلوق، بخلاف قولك: تلفظي بالقرآن يعني: حركة اللسان والفم والأضراس والحلقوم والصوت والحروف، فكل هذا قد خلقه الله عز وجل فيك، وأما المنطوق والمتلو والمقروء والملفوظ فإنه ليس بمخلوق. فقولك: لفظي بالقرآن مخلوق يعني: القرآن الذي تلفظت به مخلوق، وهذا بلا شك قول كفر، بخلاف قولك: حركاتي أنا قد خلقها الله في، فحركة شفتيك ولسانك هذه مخلوقة بلا شك.

رؤية العبد النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، وما تقوله الصوفية في معنى اليقين

رؤية العبد النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، وما تقوله الصوفية في معنى اليقين قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن من رآه في النوم فقد رأى الحق، والنبي حق صلى الله عليه وسلم، وأن الشيطان لا يتمثل به -أي: لا يأتي في صورته- وفيمن رآه وسأله عن القرآن فأجاب بأنه غير مخلوق من العلماء والسلاطين]. هذا باب عظيم في الرؤيا، والرؤيا من الله عز وجل، والحلم من الشيطان. فالرؤيا التي هي من عند الله عز وجل مبشرات، وهي عاجل بشرى المؤمن، وهي منحة الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين في الدنيا، ولا يعني ذلك: أن هذه الرؤيا يؤخذ منها الأحكام والعقائد، بل هي مبشرات فقط؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فسيراني حقاً، أو قال: فكأنما رآني في اليقظة؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي). وقد يأتي إليك الشيطان ويقول لك: أنا النبي؛ وهو كذاب، أو يقول لك: أنا محمد، أو يقول: أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لك: كيت وكيت، ورفع عنك الصلاة والصوم والزكاة والحج، ورفع عنك كل شيء، ويقول: ما دمت قد بلغت درجة اليقين فليس عليك عبادة، فأنت رجل بلغت درجة لم يبلغها أحد من الأمة ولا حتى أنا. فهؤلاء المجرمون يقولون: سقطت عنا التكاليف؛ لأننا بلغنا مرحلة اليقين، والله تعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ونحن قد حصلنا على مرتبة اليقين التي ليس بعدها يقين؛ ولذلك وضعت عنا العبادة. فنقول لمثل هؤلاء: هل بلغت من اليقين مبلغاً لم يبلغه النبي عليه الصلاة والسلام؟! إن عمر طعن وهو يصلي، وأبو بكر الصديق صلى إلى آخر لحظة في حياته، وكل الصالحين وأهل السنة يصلون ولم يرفع عن واحد منهم قط شيء، ولم يرفع عنهم خلق من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فضلاً عن عبادة أو واجب أو فرض من الفروض، واليقين في الآية كما يفهمه القاصي والداني هو الموت. فبعد الموت محاسبة على ما مضى من تقصير وتفريط، والصوفية يقولون: اليقين درجة من درجات التوكل على الله عز وجل، يبلغها المرء فيكشف له الحجاب، وكل هذا كذب. فهذا عبد القادر الجيلاني -وهو ممن تزهد، وقد أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية عدة مرات- أتاه الشيطان في صورة شيء عظيم، فقال له: يا جيلاني! أنا ربك، وقد وضعت عنك كل شيء، فقال الجيلاني: اخسأ أي عدو الله! فذهب ولم ير شيئاً بعد ذلك. وشيخ الإسلام ابن تيمية في ترجمة الجيلاني يثني عليه ثناءً قوياً، ويقول: هذه هي الولاية لله حقاً. فالشاهد: أن الشيطان لا يتمثل في حقيقة النبي عليه الصلاة والسلام ولا يستطيع، لكن قد يأتي في صورة أخرى غير صورة النبي عليه الصلاة والسلام ويدعي أنه النبي، فقد ادعى أنه الله عز وجل، وقد ادعى أنه الإله، فكيف لا يدعي أنه نبي في صورة غير صورة النبي؟! فالشيطان قد يتمثل على هيئة أخرى ويدعي أنه محمد، ثم يلقي بعد ذلك مفترياته على ذلك الرائي أو صاحب الحلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني فإنما رأى الحق). وقال عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة). فالرؤيا الصالحة يراها العبد لنفسه أو ترى له، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وهذه منحة من الله عز وجل. وليس معنى ذلك: أن الذي يرى ستاً وأربعين رؤيا يكون نبياً؛ لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، ولكنها مبشرات.

رؤيا الصالحين لرسول الله وهو يخبرهم أن القرآن غير مخلوق

رؤيا الصالحين لرسول الله وهو يخبرهم أن القرآن غير مخلوق قال محمد بن منصور: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه رجلان أعرفهما بوجهيهما، قلت: يا رسول الله! ما نقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق، قلت: هذه رؤيا جميلة، فقلت للرجلين: اشهدا على هذا الكلام. وقال يحيى بن عبادة: سمعت رجلاً من أهل دمشق ممن يكتب عنه العلم يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فقال لي: قل لـ يحيى بن أكثم: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، وقد بانت منه امرأته. ثم قال الرجل: والله ما رأيت يحيى وما أعرفه، أتروني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذكره عبد الرحمن قال: حدثني يوسف إلى أحمد بن الوليد قال: حدثني علي العابد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بعبادان -قرية- فقلت: يا رسول الله! أما ترى ما نحن فيه من الاختلاف في القرآن، هذا يكفر هذا وهذا يكفر هذا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وما ذنبي وقد رفعت لكم علماً، فضم إليه قوم وانقطع عنه آخرون. فقلت: يا رسول الله! فكيف السنة وكيف أقول؟ قال: هكذا، وعقد ثلاثين وأومأ إلى فيه، كأنه أراد أن يقول: إن القرآن ثلاثون جزءاً، وقال: كلام الله وليس بمخلوق. فقلت: يا رسول الله! هؤلاء الذين وقفوا فقالوا: لا نقول كذا ولا كذا؟ قال: فكلح وجهه وقال بيده كهيئة المستخف. يعني: أشار بيده أن ابعد عني ولا تخبرني عن هؤلاء. وقال محمد بن عبد الله بن طاهر: كان أبي لا يكاد يرى رؤيا فقال: رأيت في النوم رجلاً حسن الهيئة فقال لي: ما تقول في القرآن؟ فقلت: لأسألنه عنه، فقلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: فقال: الخلق في كلام العرب: التقدير، وكلام الله أجل من أن يكون مقدراً. يعني: كلام الله غير مخلوق وغير مقدر، فهو يتكلم بما شاء، في أي وقت شاء. قال ابن الأعرابي: ما رأيت قوماً أكذب على اللغة من قوم يزعمون أن القرآن مخلوق. يعني: هب أنهم يكذبون على الله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قول: القرآن مخلوق لا يستقيم في لغة العرب. وقال أحمد بن محمد المروزي صاحب الإمام أحمد: رأيت أحمد بن حنبل في النوم وعليه حلتان -والجزاء من جنس العمل- خضراوان، وفي رجليه نعلان شراكهما من الرمجان، وعلى رأسه تاج مكلل بأنواع الجواهر، فقلت: يا أبا عبد الله! ما الذي فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وكساني، وقال لي: يا أبا عبد الله! إنما أعطيتك هذا لمقالتك: القرآن كلام الله غير مخلوق. فانظر إلى هذه الرؤيا العظيمة، فإنها مبشرات قليلة ونادرة.

ما روي من الرؤيا السوء لمن قال بخلق القرآن في الدنيا، وما أعد الله عز وجل لهم من العذاب في الآخرة

ما روي من الرؤيا السوء لمن قال بخلق القرآن في الدنيا، وما أعد الله عز وجل لهم من العذاب في الآخرة قال خالد بن خداش: رأيت في المنام كأن آتٍ آتاني بطبق قطن، فقال: اقرأ، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم. إن ابن أبي دؤاد يريد أن يمتحن الناس، فمن قال: القرآن كلام الله كسي خاتماً من ذهب، فصه ياقوتة حمراء، وأدخله الله الجنة، وغُفِر له أو قال: غَفَر له. ومن قال: القرآن مخلوق جعلت يمينه يمين قرد، فعاش بعد ذلك يوماً أو يومين، ثم يصير إلى النار. وابن أبي دؤاد صاحب فتنة أن القرآن مخلوق. وقال الحسين بن الصباح: رأيت في المنام قائلاً يقول: مسخ ابن أبي دؤاد، ومسخ شعيب، وأصاب ابن سماعة فالج -مرض- وأصاب آخر الذبحة ولم يسمه. وقال: علي بن الموفق: حدثني أبو عمرو التمار قال: كان لنا جار مجوسي يقال له: بهرام فمات، فرأيته بأقبح رؤيا فقلت: أي بهرام! فقال لي بصوت ضعيف: نعم؛ أنا بهرام يا أبا عمرو! فقلت: إلى أي شيء صرت؟ قال: إلى قعرها، قلت: فتحتكم أحد؟ قال: نعم. هؤلاء الذين يقولون: القرآن مخلوق. قال أبو بكر بن أبي العوام: ثم لقيت أبا عمرو التمار فسألته عن هذا فحدثني كما حدثني علي بن الموفق عنه. وكان علي بن الموفق يقول: كان لي جار مجوسي فكنت أعرض عليه الإسلام فيأبى، فمات على المجوسية، فقال: نحن في الدرك الأسفل من النار. قلت: وتحتكم أحد؟ قال: نعم، قوم منكم. قلت: من أي الطوائف؟ قال: الذين يقولون: القرآن مخلوق. وقال الدورقي: سمعت أحمد بن نصر الشهيد يقول: مررت برجل وقد صرع، فجئت أقرأ في أذنه، فإذا قائل يقول: دعني أقتله؛ فإنه يقول: القرآن مخلوق. أي: حتى الجن لا يرضون بهذا، وليس من عقيدتهم. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يحيينا وإياكم على كتابه، وسنة نبيه على مراد الله ومراد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الأسئلة

الأسئلة

أهمية الاعتقاد بأن القرآن كلام الله غير مخلوق

أهمية الاعتقاد بأن القرآن كلام الله غير مخلوق Q ما الفرق بالنسبة لنا بين أن يكون القرآن كلام الله أو مخلوقاً؟ A لو قلت لك: ما هو معتقد أهل السنة والجماعة في كلام الله عز وجل؟ أو قلت لك: ما هو معتقد أهل السنة والجماعة في استواء المولى عز وجل على عرشه؟ أو قلت: اشرح لي هذه الآية: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28]. فإنك ستقول كما قال ابن عباس: غير مخلوق. فالفائدة بالنسبة لك أن تستقيم لديك صفة من صفات الله عز وجل على منهج أهل السنة والجماعة، وأن تعتقد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال بغير ذلك فهو كافر. ففائدة علمك أن هذا القرآن كلام الله، وهو غير مخلوق: أن تنجو بنفسك من الكفر، وأن تحسن اعتقادك في الله عز وجل وأسمائه وصفاته.

تزيين الشيطان عمل من يدعي أنه المهدي حتى يدعي الألوهية

تزيين الشيطان عمل من يدعي أنه المهدي حتى يدعي الألوهية Q يوجد بالطالبية شاب متعلم، ويحفظ بعضاً من القرآن الكريم، وعنده شيء من علم الشرع، ويصلي بالليل ويبكي كما تقول زوجته، ويشاهد التلفزيون وزوجته متبرجة، ويدعي أنه المهدي المنتظر، وهذا الادعاء منذ سنوات، وعقله صحيح سليم، فعندما كلمته وأثبتَّ أنه كذاب ضحك مني وسخر، وأقر على ذلك. ويدعي أيضاً أنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مخلوق من نور الله، ورغم ذلك هو يسخر من صاحب اللحية والجلباب القصير، فهل هو كافر أم ماذا يكون حكمه؟ A انتظروا شهرين أو ثلاثة أشهر وسيدعي الألوهية، وهذا الأمر ليس فيه خلاف، ولو قرأت في تاريخ الفرق فإنك ستجد في الفرق أمماً ادعت الألوهية، وذلك بعد أن كان الواحد منهم يدعي أنه المهدي، فإن لم يجد ذلك ادعى النبوة، فإن لم يجد النبوة ادعى الألوهية، وخاصة لو أراد الحكم ومعه العتاد والعدة، ففرعون ادعى الإلوهية؛ لأن معه المجرمين الذين يشيرون عليه، ويفرضون على الأمة المصرية أنه إله شاءوا أم أبوا، فكل من يدعي هذا ماذا يقصد من وراء ذلك؟ إن المسلم عندما يسمع هذا الكلام فإنه يقول: ما أحلم ربي! وما أعظم صبره على من يسبونه ويفترون عليه! بل ويغذيهم ويطعمهم ويسقيهم ويصحهم، ويكسوهم من عري، ويقويهم من ضعف.

حكم رؤية الأب مخطوبة ابنه

حكم رؤية الأب مخطوبة ابنه Q هل يجوز للأب أن يرى من سيخطبها ابنه؟ A لا يجوز، فالذي سيخطبها هو الولد وليس الأب، وأحاديث محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وغيرهما من الصحابة كلها تقول: (انظر إليها). يعني: انظر أنت وليس أبوك.

حكم من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه

حكم من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه Q رجل حلف بالله ألا يقوم ببيع شيء في محل ثم باعه، فما هي كفارة هذا الحلف؟ A كفارة يمينه على هذا الترتيب: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه).

نصائح لمن ابتلاه الله بالاستمناء

نصائح لمن ابتلاه الله بالاستمناء Q شاب رأيت فيه الالتزام، ومظهره يدل على ذلك، فهو يحفظ كتاب الله، ويحضر دروس العلم، ولكنه يشكو من أنه يقوم بالاستمناء، ويقول: إنه في حالة ضيق شديد من هذا الفعل، ولديه شهوة عظيمة جداً لا يستطيع ردها، حتى إن الشهوة تفاجئه وهو في الصلاة، فما حكم هذا الاستمناء؟ A أسأل الله تبارك وتعالى أن يصرف عنه هذا السوء، وأن يبدله مكانه عفة وطهارة ونقاء، على هذا الشاب إن كان قادراً على الزواج أن يبادر به؛ لأنه لا علاج له إلا النكاح، فإن لم يكن قادراً فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً له وهو الصوم، فليكثر من الصوم، ولو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فخير الصوم صيام داود عليه السلام. كما أنه يجب عليه أن يختار لنفسه الصحبة المؤمنة، والرفقة الطيبة، وألا يدع لنفسه المجال في أن يخلو بنفسه، فإن خلا بنفسه غلبه الشيطان، ويجب عليه أن يتذكر دائماً أن نظر الله تبارك وتعالى إليه أسبق من مد يده بالاستمناء، وليستشعر أن الله تبارك وتعالى يراقبه في السر والعلن، وهذه درجة الإحسان، وهي: أن تعتقد أن الله تعالى يراك، وإن كنت لا تراه في الدنيا فإنه تعالى مطلع عليك، محيط بك بسمعه وعلمه وبصره وقدرته عليك أيها العبد! كما ينبغي عليك أن تكثر من قراءة القرآن الكريم، وأن تطالع كتب أهل العلم. وأخيراً: لا تخلُ في وقت من الأوقات في أثناء نومك على جهة الخصوص بنفسك قط، وينبغي أن يكون معك أحد من إخوانك، أو أحد من أهل بيتك، ولا تطالع تلك المجلات الخبيثة والجرائد الفاضحة التي تعرض صور الفاتنات التي يفتن بها من تزوج أربعاً! فهذه فتنة عظيمة جداً، أسأل الله تعالى لي ولكم النجاة منها.

عدم طاعة الولد أباه في تطليق زوجته إلا لمصلحة شرعية

عدم طاعة الولد أباه في تطليق زوجته إلا لمصلحة شرعية Q لو قال رجل لابنه: طلق زوجتك، فماذا يفعل؟ A هذا الأب معتمد على الأثر الذي روي عن عمر بن الخطاب مع ولده عبد الله، وليست هذه الرواية على إطلاقها، فقد دعت الضرورة والمصلحة الشرعية إلى أن يأمر عمر ولده أن يطلق امرأته، وليس هناك حجة في قول عمر وأمره لولده، بل الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال لـ عبد الله: (أطع أباك)، وكانت هذه المرأة جميلة جداً، وقد كادت تفتن عبد الله بن عمر؛ مما جعله يتخلف عن حضور مجالس علم النبي عليه الصلاة والسلام. فلما رأى عمر أن هذه المرأة بجمالها كادت تفتن ولده أمره أن يطلقها، وهذه حجة شرعية؛ ولذلك أقره النبي عليه السلام على هذا الأمر. وقد أتى رجل إلى أحمد بن حنبل وقال: إن أبي أمرني أن أطلق امرأتي، فماذا أفعل؟ قال: إن كان أبوك مثل عمر فطلقها.

حكم قراءة القرآن وإعطاء ثوابه للميت

حكم قراءة القرآن وإعطاء ثوابه للميت Q هل يجوز قراءة القرآن وإعطاء ثوابه للميت؟ A الراجح من أقوال أهل العلم: أن ذلك لا يجوز، وأنه حرمان للقارئ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خير مال المرء من كسب يده، وولده من كسبه). ويقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له)، فإنك بمجرد عملك الصالح -ومنه قراءة القرآن- وبمجرد أن تهم به ويحول بينك وبينه حائل؛ يذهب ثوابه إلى الوالد مباشرة مع عدم حرمانك أنت، لكن لو قلت: اللهم إني قرأت ربع القرآن لك على أن تجعل ثوابه لأبي فإنك جريء على الله، وكأنك تتألى عليه، وهي على الأقل قلة أدب مع الله عز وجل. فينبغي للمرء أن يطيع الله تبارك وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليس عليه شيء بعد ذلك، فإن هذا الثواب سيأخذ القارئ حظه فيه تاماً كاملاً، ومن سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، فهي أجور توزع بغير نقصان. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

قواعد السلف في إثبات الصفات

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - قواعد السلف في إثبات الصفات هناك قواعد قعدها السلف في باب الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، ولا يمكن فهم وإثبات صفات الله عز وجل على منهج السلف إلا بحفظ هذه القواعد واعتقادها، كما أن معرفتها وفهمها يقودان إلى معرفة سبب الانحراف الذي وقع فيه الخلف الذين خاضوا في التمثيل والتعطيل والتأويل لأسماء الله وصفاته.

القواعد التي انتهجها أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات

القواعد التي انتهجها أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فسنبدأ في المجلد الثاني من كتاب أصول الاعتقاد للإمام أبي القاسم اللالكائي، وهذا المجلد في غاية الأهمية؛ لأنه يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته، وأنتم تعلمون أن الأمة بأسرها إلا من رحم الله تعالى من أهل السنة والجماعة قد خاضوا خوضاً عظيماً في صفات المولى تبارك وتعالى حتى شككوا عامة الناس. فصفات المولى تبارك وتعالى بين مؤول صارف لها عن ظاهرها، بمعنى: أنه قد عطلها، فإذا صرف الاسم أو الصفة عن ظاهرها فمعنى ذلك: أنه لم يثبتها لله عز وجل كما أراد وكما أراد رسوله عليه الصلاة والسلام، ففي هذه الحالة عطل هذا الاسم أو هذه الصفة، وعلى النقيض من هذا نجد من أثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله من أسماء وصفات ولكنه قال: إن هذه الصفات الثابتة للمولى تبارك وتعالى تناسب الصفات التي أثبتها الله تعالى لخلقه، فصفة اليد وصفه الوجه وصفة الساق وغيرها من الصفات ثابتة لله تبارك وتعالى، ولكنهم قالوا: إن يد الله كأيدينا، ووجه الله كوجوهنا، وساق الله كساقنا، فمثلوا الخالق بالمخلوق، ولم يجعلوا فارقاً بين الخالق والمخلوق. وأهل السنة والجماعة هم وسط بين المعطلة وبين الممثلة المشبهة، فقالوا: نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله على النحو الذي أراده الله عز وجل، من غير تعطيل ولا تمثيل، فلا يعطلون الصفة ولا يصرفونها عن ظاهرها، ولا يشبهون هذه الصفات بصفات المخلوقين، فهم وسط بين الاثنين، أثبتوا لله الصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله، ولكن على صورة تليق به تبارك وتعالى، وما وقع أهل البدع والأهواء فيما وقعوا فيه في صفات المولى تبارك وتعالى إلا لأنهم غفلوا عن أشياء وصرفوا أشياء عن ظاهرها، ولذلك كان من المهم جداً أن نتعرف على قواعد وأصول يجب على دارس العقيدة أن يتعلمها؛ لأنه من لم يزل في قاعدة قد يزل في غيرها، لكن إذا استجمعت لديه هذه القواعد وهذه الأصول فإنه لا يزل بإذن الله أبداً. فينبغي علينا الآن أن نكتب هذه القواعد وأن نسمعها، ولا بد لنا من شرحها والعروج عليها، ولكننا سنكتبها أولاً، سأملي عليكم هذه القواعد ثم بعد ذلك نتعرض لها بالشرح بإذن الله تعالى.

التوحيد وإفراد الخالق عن مشابهة المخلوقين

التوحيد وإفراد الخالق عن مشابهة المخلوقين القاعدة الأولى: التوحيد وإفراد الخالق عن مشابهة المخلوقين، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].

إثبات الصفات على مراد الله ومراد رسوله ووجوب الإيمان بذلك

إثبات الصفات على مراد الله ومراد رسوله ووجوب الإيمان بذلك القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله عز وجل وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإيمان بذلك. وهذه القاعدة احتراز من التعطيل الذي هو نفي الصفات، كما أنها احتراز من التأويل بغير دليل الذي سماه العلماء: (تحريفاً) فبعد أن أثبت الله تبارك وتعالى أنه ليس كمثله شيء بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فنفى المثلية والمشابهة بينه وبين جميع الأشياء، وما دون الله تبارك وتعالى مخلوق والمخلوق شيء، فليس هناك شيء في مخلوقات الله تعالى يماثل ويشابه المولى تبارك وتعالى، ثم أثبت في نفس الآية الصفات فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] سميع بسمع، بصير ببصر. فبعد أن نفى المماثلة أثبت ما يمكن أن يوهم التشبيه: فلان سميع والله سميع، فلان بصير والله بصير، فقد يفهم الشخص من هذا التشبيه في السمع والبصر بين الخالق والمخلوق، وليس الأمر كذلك، فقد أثبت المولى تبارك وتعالى أنه ليس كمثله شيء، وأثبت لنفسه سبحانه الصفات اللائقة، كما في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وفي قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]؛ لأن من صفات الله تبارك وتعالى العلو. وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: علا وارتفع. وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فمن صفات المولى تبارك وتعالى أنه يتكلم. وقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3]. وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]. وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]. وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا إذا بقي الثلث الأخير من الليل)، فالنزول والمجيء صفتان لله تبارك وتعالى، والغضب والرضا والعجب كلها صفات للمولى تبارك وتعالى. وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من أحدكم براحلته) إلى آخر الحديث. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر) ورؤية المولى تبارك وتعالى جائزة وممكنة، بل حادثة يوم القيامة، بمعنى: حاصلة. هذه القاعدة الثانية.

الكف عن الخوض في كيفية الصفات

الكف عن الخوض في كيفية الصفات القاعدة الثالثة التي تعين على فهم صفات المولى تبارك وتعالى كما فهمها السلف: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات. فلا تقل: كيف يكون شكل الله؟ وكيف تكون صفاته؟ وكيف يسمع؟ وكيف يأتي؟ وكيف يصعد؟ وكيف ينزل إلى السماء؟ وكيف يجيء؟ وكيف يرى؟ وغير ذلك من الأسئلة؛ حتى تسأل عن ذات المولى تبارك وتعالى، وأنت منهي عن هذا كله، ولذلك ثبت عن السلف أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، أي: لا تتعرضوا لها ولا تخوضوا فيها بتأويل غير سائغ ولا بصرفها عن ظاهرها، فآمنوا بها وصدقوا بها على النحو الذي جاءت به في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، من غير أن تتعرضوا لها بتمثيل أو تعطيل أو تحريف. وقول أم سلمة وربيعة الرأي ومالك وهو قول مشهور: الاستواء معلوم. فقد سئل مالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم. لماذا معلوم؟ لأن الله تبارك وتعالى يخاطبنا بلغة نحن نفهمها، ولا يتصور أن الله تعالى خاطب هذه الأمة بما ليس له مدلول في اللغة عندهم، فاستوى في اللغة بمعنى: علا وارتفع إذا كان هذا متعلقاً بالمولى تبارك وتعالى. فالاستواء في اللغة إذا قيد بالمولى تبارك وتعالى فهو يعني: العلو والارتفاع، بخلاف استواء بلقيس على عرش اليمن، إذ إن استواء بلقيس يختلف عن استواء المولى تبارك وتعالى، واستواء الزعيم على كرسيه يختلف عن استواء المولى تبارك وتعالى على كرسيه، فإذا قيد الاستواء بذات المولى تبارك وتعالى فإنه يعني: أنه علا وارتفع، واللغة لا تسمح إلا بهذا، وسنبين هذا أيضاً. وقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فإذا كان الله تبارك وتعالى قد حجب نفسه عنا بحيث لا أحد منا يعلم ذات الله تبارك وتعالى، ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل يعلم ذات المولى تبارك وتعالى، فمن باب أولى أنه يجهل كنه صفات المولى تبارك وتعالى، أي: لا يعلمها على كيفيتها الثابتة للمولى تبارك وتعالى. فإذا كنت لا تعرف كنه الله ولا كيفية ذاته؛ فلا بد أن تسلم بأنك لا تعرف الصفات؛ لأنها فرع وتصور عن الذات، وكل ذات لها صفات، وهذه الصفات هي تصور وفرع عن الذات، فإذا كنت تعلم الذات وكيفيتها فلا بد أن تعلم كذلك الصفات. هب أنك سئلت عن محمد أو عن علي أو عن إبراهيم، فقلت: نعم، أنا أعرفه، طوله كذا وعرضه كذا وأبيض اللون أو أسود اللون وذو لحية وله يدان طويلتان أو قصيرتان وكتف عريض وغير ذلك. وتصفه تماماً؛ لأنك تعلم ذاته وبالتالي تعلم صفاته. أما إذا سألناك: هل الله موجود؟ فتقول: نعم موجود. ولو سألناك: كيف هو؟ فتقول: لا أعلم كيف هو، فكان لزاماً عليك أن تقول: أنا لا أعلم كيفية الصفات الثابتة للمولى تبارك وتعالى، وفي المقابل قد أثبت الله تبارك وتعالى لنفسه هذه الصفات فينبغي عليك أن تؤمن بها، وأن تصدق وأن تسلم للمولى تبارك وتعالى، فكما سلمت بوجود الذات وأنت تجهل كيفيتها فلابد أن تسلم بالصفات وأنت تجهل كذلك كيفيتها. ولذلك سئل مالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ علو المولى تبارك وتعالى هذا صفة واستواؤه على العرش سبحانه وتعالى صفة، فإذا كنت تجهل الذات فلا بد أن تجهل الصفات ومنها الاستواء؛ ولذلك قال مالك: الاستواء معلوم. يعني: نحن نعلم في اللغة ما معنى استوى، إذا قرنت بالمولى تبارك وتعالى فمعناه: ارتفع وعلا، وهذا معلوم. قال: والكيف مجهول، يعني: لا يُعلم كيف استوى الله تبارك وتعالى على العرش، فلا يستطيع أحد أبداً أن يقول: إن الله تبارك وتعالى استوى على العرش على نحو استواء المخلوق؛ لأن كيفية الاستواء لم تأتِ في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وإنما ورد الاستواء، وهو العلو المعلوم لدى العرب. فنحن لا نعلم كيفية استواء المولى تبارك وتعالى، كما أننا لا نعلم كيف يسمع المولى تبارك وتعالى، ولا كيف يبصر المولى تبارك وتعالى، ولا كيف يجيء المولى تبارك وتعالى، ولا كيف ينزل إلى السماء الدنيا تبارك وتعالى، فإذا كنت تجهل كيفية صفة واحدة فينبغي أن تجهل كيفية جميع الصفات، ولو أنك ادعيت العلم في كيفية صفة فلابد أن تدعي العلم في كيفية جميع الصفات، وإلا فلا حجة مع من فرق بين صفة وصفة، وبين اسم واسم. إذاً: هذه القاعدة الثالثة التي قعدها أهل السنة والجماعة في معرفة أسماء الله وصفاته: أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، ونكف عن الخوض في التأويل ومعرفة الكيفية، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ لا ندري، ولكننا نؤمن ونسلم، فمن الله الرسالة وعلينا التصديق والتسليم. فإذا كنت تؤمن بكتاب الله وبكلام الله فلا بد أن تعلم أن الله تعالى نفى المماثلة بينه وبين خلقه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وأثبت لنفسه السمع والبصر بقول

القول في الصفات فرع عن القول في الذات

القول في الصفات فرع عن القول في الذات القاعدة الرابعة: الترابط بين الذات والصفات؛ لأنها ذات واحدة للمولى تبارك وتعالى متصفة بصفات كشأن أي ذات، فليس هناك شيء في المخلوقات ليس له صفات، فهذا المنبر هل له صفات؟ نعم. له صفات؛ فهو مرتفع عن الأرض، عريض، طويل، بني اللون، له كرسي يجلس عليه الإمام، وغير ذلك من الصفات، وكذلك هذا الكتاب له ذات ومتصف بصفات، فله طول وعرض، وله عمق، كما أنه أخضر اللون وبداخله ورق أبيض، فكل هذه صفات إذا ذكرتها لك فمعنى ذلك: أنني قد حددت هذه الذات بصفاتها، فهل يمكن أن أقول: هناك كتاب لا صفة له؟ لا يمكن أبداً، إذ كيف يكون كتاباً؟ ومن الذي سماه كتاباً إذا كان معدوم الصفات؟ فإن الذي ليس له صفة هو العدم؛ لأنه لا يمكن أبداً القول بأنه موجود. فذات المولى تبارك وتعالى متصفة بصفات، فإذا كنت تقر أن ذات المولى تبارك وتعالى موجودة فلا بد أن تنسب الصفات لهذه الذات، وفي نفس الوقت أنت لا تعلم هذه الذات، وبالتالي لا تعلم كيفية صفات المولى تبارك وتعالى. فالقول في الصفات كالقول في الذات، والقول في الذات كالقول في الصفات، فإذا كنت تقول: الذات موجودة فلابد أن تقول: الصفات موجودة، وإذا نفيت -عياذاً بالله- الذات فلابد أن تنفي كذلك الصفات؛ لأن الذات لا بد لها من صفات. وهذا الكلام يرد به على المعتزلة الذين أثبتوا الذات ونفوا الصفات، فجعلوا المولى تبارك وتعالى في نهاية الأمر أنه ذات بغير صفات، وهذا محال في العقل وفي الشرع. كما أن الأشعرية أثبتوا للمولى تبارك وتعالى سبع صفات فقط، ونفوا عنه بقية الصفات؛ ولذلك أهل العلم يقولون عن الأشعرية: السبعية؛ لأنهم يثبتون سبع صفات وينفون بقية الصفات. والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فإذا أثبت لله بعض الصفات فلابد أن تثبت البعض الآخر التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، وإذا كنت تكيف بعض الصفات فلابد أن تكيف البعض الآخر، والتكييف باطل. فالقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر يرد به على الأشعرية الذين أثبتوا لله سبع صفات فقط ونفوا عنه بقية الصفات الثابتة في الكتاب والسنة.

طريقة السلف في الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل

طريقة السلف في الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل القاعدة الخامسة: طريقة السلف في الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل، أي: أن السلف رضي الله عنهم نفوا عن الله تعالى إجمالاً جميع صفات النقص، وأثبتوا لله تبارك وتعالى تفصيلاً جميع صفات الكمال. وسنشرح هذه القاعدة بالتفصيل إن شاء الله.

طريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد

طريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد القاعدة السادسة: طريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد، يعني: إذا نفيت أن الله تعالى ينام، والنوم صفة نقص في حق المولى تبارك وتعالى، وكل صفات النقص منتفية عن المولى تبارك وتعالى، فإذا كنت تنفي صفة النقص هذه عن المولى فلابد أن تثبت كمال ضدها، فتقول: هو القيوم، فكمال الضد للنوم أن الله قيوم قائم بذاته لا يحتاج إلى أحد من خلقه، كما أنه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولا يجوز أن نفرض أنه لو نام لحدث كذا وكذا؛ لأن هذا الفرض مجرد طرحه لا يجوز ولا ينبغي؛ لأن طريقتنا في النفي هي النفي المطلق لجميع صفات السلوب، أي: جميع صفات النقص. فالناس ينامون ويستيقظون، والمولى تبارك وتعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، فطريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد، فإذا نفيت صفة نقص عن المولى عز وجل فلابد أن أثبت ضد هذه الصفة على أعلى درجات الكمال. فالإنسان يوصف بأنه أعمى، والمولى تبارك وتعالى يوصف بضد هذه الصفة، فهو البصير تبارك وتعالى، وبصر الله تبارك وتعالى لا حد له ولا نهاية؛ لأنه يبصر على أعلى درجات الكمال، وليس هناك أحد من خلقه يشبهه في الإبصار؛ وذلك لأن الله تبارك وتعالى يبصر السر وأخفى، يبصر الخطيئة، ويبصر الغيب كما يبصر المشاهد، وأنت لا تبصر إلا الذي أمامك، وبصرك محدود، فأنت لا ترى إلا من بالمسجد، وكذلك لا ترى جميع من بالمسجد، بل إنني لو وقفت أمامك فإنك لم تحطني رؤية وبصراً؛ لأنك لا ترى مني إلا ما يقابلك من جسدي كالوجه والصدر ومقدم اليدين ومقدم البدن، أما من خلف فأنت لا تراني، وإن أتيت إلى خلفي فأنت ترى خلفي ولا ترى أمامي، فبصرك ضعيف عاجز ناقص، بخلاف بصر المولى تبارك وتعالى؛ فإنه يبصر كل شيء، لا يخفى عليه شيء لا بالليل ولا بالنهار، مهما أخفيت شيئاً فإن الله يعلمه، ولو وضعته في سبع أرضين فإن الله تعالى يبصره ويعلمه، فإذا كنا ننفي عن المولى تبارك وتعالى صفة نقص فإن الله تبارك وتعالى يتصف بضدها بأعلى درجات الكمال. ونحن نقول: فلان ظالم، فالظلم صفة نقص، والمولى تبارك وتعالى نفى عن نفسه الظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] بل رحمته سبقت غضبه. فالظلم صفة نقص يتصف بها المخلوق وليس الخالق، فنفي صفة الظلم عن الله سبحانه وتعالى يلزم منه إثبات ضدها للمولى عز وجل وهي العدل، كما أن عدل الله ليس كعدل المخلوق؛ لأن عدل الله تبارك وتعالى عام وشامل وفي أعلى درجات الكمال من العدل. ومن الممكن أن أقول: فلان عادل، لكنه ليس عادلاً بصفة مستمرة؛ لأن عدله ليس مع كل الناس، فهو بشر قد يحيد في يوم ما على فلان من الناس. فلو أن قاضياً قضى بين متخاصمين، وأحد هذين الخصمين عدو أو بغيض إلى ذلك القاضي، فأنت لا تأمن أبداً قضاءه في هذا الخصم؛ وذلك لأنه بشر ربما يحيد، وإن اعتبرنا أن هذا القاضي عادل في الخصومة؛ لأنه ليس له عدو من المتخاصمين، ولكنه يقضي بما يسمعه من المتخاصمين لا بما يراه، وربما أحد الخصمين ألحن بحجته من صاحبه فيقضي القاضي للظالم، وهو ليس آثماً بهذا الحكم؛ لأنه حكم بناءً على ما سمع. فالذي يعلم خصوصية العدل وحقيقته هو الله عز وجل، وسيقضي بعدله يوم القيامة بأن يرد المال إلى صاحبه على شكل حسنات، أي: يؤخذ من حسناته ويعطى لصاحب الحق، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئات الأول فطرحت عليه حتى طرح في النار؛ وذلك لأن عدل الله تبارك وتعالى متعلق ببقية صفاته كالعلم والسمع والبصر وغير ذلك، وإن الله تعالى في هذه الخصومة قد علم الحق أين هو، وقد شاهد ذلك مشاهدة يعلمها هو سبحانه وتعالى، فرغم إجراء الباطل في الدنيا إلا أن الأمور ترد إلى نصابها يوم القيامة. فنقول: إذا اتصف المرء بالظلم فإن الله ليس بظلام للعبيد، بل إنه متصف بضد هذه الصفة وهو كمال العدل للمولى تبارك وتعالى.

التحريف بالتأويل أشد قبحا من التعطيل والتكييف والتمثيل

التحريف بالتأويل أشد قبحاً من التعطيل والتكييف والتمثيل القاعدة السابعة: التحريف بالتأويل أقدح من التعطيل والتكييف والتمثيل وأقبح، وإن كان الكل قبيحاً، إلا أن التحريف في الذات أقبح ما أتت به فرق الضلالة، لأنهم يحرفون النص عن ظاهره ويعطلون المولى تبارك وتعالى عن صفاته التي وصف بها نفسه، وكأنهم كذبوا بالقرآن والسنة.

كل شيئين بينهما قدر مشترك وقدر فارق

كل شيئين بينهما قدر مشترك وقدر فارق القاعدة الثامنة: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن نفى القدر الفارق فقد مثل، ومن نفى القدر المشترك فقد عطل، والقاعدة هذه من أعظم القواعد في الأسماء والصفات، أسسها شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم. ولنضرب مثالاً: الله تبارك وتعالى ذات، وقد وصف نفسه بأن له يدين، وأنا ذات ومتصف بصفات منها اليدان، إذاً القدر المشترك بين يدي ويدي الله تبارك وتعالى أن الذي لي اسمه يد، وأن الذي ثبت لله تبارك وتعالى كذلك، فالقدر المشترك بيني وبين الله هو مجرد التسمية، لكن هناك فارق، ويعلم هذا الفارق بالإضافة وعند إطلاق كلمة يد، فحينما أقول: (يد) فقط يعني: اليد المعلومة التي تراها، وهي اليد الملاصقة لبدنك، لكن لو قلت: يد الله، فالمعنى يحمل شيئاً آخر، وهو أن يد الله تبارك وتعالى لا يعلم كيفيتها أحد من الخلق؛ وذلك لوجود القدر الفارق بين ذات الله وذات المخلوق، فلا بد أن يكون هناك قدر فارق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فمن صفات الخالق أن له يداً لكنها يد تليق بذاته، ولما كان ذات الله بالنسبة لي مجهولة فلا بد أن تكون يده كذلك بالنسبة لي مجهولة، لكن لو قلت: يدي فقط، أو يد محمد، أو يد إبراهيم، أو زيد، أو عبيد، فأنت تعلم كيفية هذه اليد حتى وإن لم ترها، لكن لو قلت: يد الله فوق أيديهم، فإنني أثبت لله تبارك وتعالى اليد التي أثبتها لنفسه على مراده هو، وعلى كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. فالقاعدة الثامنة: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن عطل القدر الفارق فقد مثل؛ لأنه يلزمه أن يقول: يد الله كيدي، ولو أنك مثلت صفات المولى تبارك وتعالى بصفاتك فيصبح الله سبحانه عبارة عن إنسان، بل يكون إنساناً على صورة قبيحة تعالى الله عن ذلك! لأن الله تبارك وتعالى له ساق واحدة كما أثبت لنفسه، فعندما ترى إنساناً له ساق واحدة فإن هذا منظر قبيح على غير العادة والمألوف. فهل يتصور أن يكون الخالق تبارك وتعالى في نهاية الأمر عبارة عن صورة قبيحة؟! وسيصبح وجه المولى تبارك وتعالى ممسوحاً لو مثلته بالمخلوق؛ لأن المولى تبارك وتعالى لم يثبت لنفسه الأذن ولا الأنف ولا الفم، وهذا لا يتصور عنه سبحانه، تنزه عن ذلك كله، بل لو أن إنساناً بغير فم ولا أنف ولا أذن فإن منظره سيكون قبيحاً. إذاً: لا بد أن نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، كما قال: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فالله تبارك وتعالى هو أعلم بذاته وأعلم بصفاته، وهو جميل يحب الجمال، ففي الحديث: (إن الله جميل) فإذا أثبتنا أن الله تبارك وتعالى يشابه أو يماثل خلقه فلا بد أن يكون الله تعالى عبارة عن شخص له ساق واحدة وبلا وجه، بمعنى: أنه ليس له أنف ولا فم ولا أذن، وسينطبع في مخيلتي وذهني قبح هذه الصورة، والله تبارك وتعالى جميل يحب الجمال، فكيف يتفق ما دار في ذهني مع ما ثبت في النص؟ إذاً: لابد أن أرجع إلى إثبات النص على مراد الله عز وجل. إنَّ الله تبارك وتعالى له ساق واحدة وهي في حقه غاية الكمال، وقد تكون صفة النقص في حق المولى تبارك وتعالى كمالاً في حق المخلوقين، بل لا يستقيم ولا تستقيم حياة المرء إلا بهذه الصفة، فالنوم مثلاً صفة نقص في حق المولى تبارك وتعالى، وهي صفة كمال للمرء؛ لأنه لو لم ينم لجن، وذلك لأنه يلبي رغبة بدنه وهي النوم، فإذا نام واستيقظ فإنك تجده في أحسن منظر ويظهر عليه الوضاءة والنضرة؛ لأنه أخذ حاجته من صفة لازمة له، فالنوم نقص في حق المولى تبارك وتعالى ولا ينبغي له، وهي صفة كمال في حق المخلوقين لا تستقيم حياتهم إلا به، فالذي ينفي القدر الفارق بين الله تبارك وتعالى وبين المخلوقين لا بد أن يثبت لله صفات كصفات المخلوقين. ومن نفى القدر المشترك فقد عطل، والقدر المشترك هو أن يكون الاشتراك بيني وبين الله عز وجل في الاسم فقط، فالقدر المشترك بين يدي ويدي المولى تبارك وتعالى في مجرد التسمية، قال الله سبحانه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]. وفي الحديث: (يد الله على الجماعة)، وفي رواية: (يد الله مع الجماعة). وأهل البدع يقولون: قوة الله، باعتبار اللازم لهذه اليد؛ لأن اللازم لليد هو القوة، وباعتبار اللازم تصير اليد هنا بمعنى: القوة، وقد سمى الله تبارك وتعالى نفسه القوي واتصف بالقوة، فالأحاديث والآيات أثبتت له القوة من جهة الصفة، وأثبتت أنه قوي من جهة الاسم، فلما أقول: اليد بمعنى: القوة، إذاً: لا داعي أن أثبت أنه قوي كما في الآية الأخرى، قالوا: لأننا في الحقيقة ننزه المولى تبارك وتعالى عن مشابهته لخلقه، فإنه يلزم من إثبات اليد المشابهة بين الخالق والمخلوق، وهكذا عجزوا بعقولهم أن يثبتوا لله يداً تليق بجلاله وكماله وعظمته، فهم بذلك أرادوا أن يهربوا بزعمهم من التمثيل والتشبيه فوقعوا في التعطيل، وقالوا: اليد في قوله تعالى: {يَدُ ال

مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل

مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل القاعدة التاسعة: مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل؛ لأن الأمة كلها وسط بين الأمم السابقة: بين اليهود والنصارى، فاليهود أمة مادية، والنصارى أمة روحانية رهبانية، ونحن وسط بين هذا وذاك، فهذه الأمة متمتعة بالوسطية في كل شيء، وعلى رأس هذه الأشياء اعتقادها في المولى تبارك وتعالى. فهم لا يشبهون الله تعالى بخلقه ولا يعطلونه عن صفاته، إنما يثبتون له ما أثبته لنفسه على مراده سبحانه، وما أثبته له رسوله على مراده سبحانه وعلى مراد رسوله الكريم الذي هو أعلم الخلق على الإطلاق بربه ومولاه وسيده.

كل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها وكل معطل ممثل

كل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها وكل معطل ممثل القاعدة العاشرة: كل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها. فالذي يقول: يد الله كيدي في الحقيقة هو معطل ليد الله عز وجل، صارف لها عن حقيقتها. كذلك كل معطل ممثل، أي: أن الذي يعطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته لا بد أن يئول في نهاية الأمر إلى تمثيله بالمخلوقين، لأنه لم يفهم من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوقين. فإن قال قائل: لا أقدر أن أتصور أبداً كيفية يد الله عز وجل فكيف يخاطبني الله سبحانه وتعالى بشيء لا أعرفه؟ قلنا: إن الله سبحانه وتعالى يخاطبك بشيء لا تعرفه، وذلك من باب أنك لا تعلم كيفيته؛ ليبتليك أتؤمن أم تكفر، فإنه يصعب عليك أن تثبت لله تبارك وتعالى صفاته وتقول بلزوم التمثيل والتشبيه، فإن قلت: وأنا لا يمكن أبداً أن أتصور يد الله إلا أن تكون كيدي، وساق الله إلا أن تكون كساقي، ومجيئه إلا كمجيئي ونزوله كنزولي من السلم، فهذا هو النزول الذي أعلمه، ولا أتصور أن الله يخاطبني بما لا أعلمه. فنقول: الله تبارك وتعالى خاطبك بما تعلم، ولكن ليس عالم الغيب كعالم الشهادة، فلما كان ذات الله تبارك وتعالى غيباً عنا غير مشاهد فكذلك صفاته غيب عنها غير مشاهدة، ولذلك يلزم الإيمان بها كما أقررت بلزوم الإيمان بالذات وأنت لم تره. فلو قلنا لك الآن: هل تعلم ذات المولى عز وجل؟ ستقول: أعوذ بالله! أنا لا أعلمها، بل الذي يعلمها هو الله تبارك وتعالى، لكني أؤمن أن الله تبارك وتعالى له ذات موجودة، فإذا كنت تستعيذ بالله من وصف الذات فلا بد أن تستعيذ بالله من وصف الصفات كذلك، وهذا أمر لازم.

بيان معنى السلف والخلف

بيان معنى السلف والخلف هذه عشر قواعد قعدها أهل العلم قديماً وحديثاً، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، ولكن لا بد أن نعلم من أين أوتي أهل البدع والأهواء القاعدتين اللتين قام عليهما مذهب الخلف في تعطيل الصفات، وعندما أقول: (الخلف) هذا في مقابل السلف، فيكون عندنا مصطلحان: سلف وخلف، وكلمة السلف لها معنيان: المعنى الأول: تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها خير القرون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فإذا قصدت بيان معنى كلمة السلف من جهة الزمن فهو القرن الأول والثاني والثالث، وإذا قصدت ما هو أعظم من ذلك فإنما تقصد المنهج، فإن المنهج ليس له علاقة مطلقاً بالحقبة الزمنية، فعند إطلاق لفظ: (فلان سلفي)، معناه: إما أن يكون عاش في تلك الحقبة الزمنية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلوهم) فأقول: هذا سلفي زمانياً، وإما أن يكون على سلف المنهج والتلقي والمشرب والاعتقاد، وهو من كان على مثل ما كان عليه السلف إلى يوم القيامة، فلو أن شخصاً اعتقاده في الله عز وجل ومنهجه وأصوله كلها هي التي كان عليها النبي عليه السلام وأصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فإننا نقول عنه: سلفي المنهج. ومن هنا نفهم أنه ليس كل من عاش في القرن الأول الهجري أو الثاني أو الثالث سلفي المنهج، فهناك الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيرهم من أهل البدع وواصل بن عطاء المعتزلي، فهؤلاء نسميهم خلفاً؛ لأنهم خالفوا السلف في المنهج. ولذلك القول الذي يقول: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف محل نظر؛ لأن هذا قد يحمل على الحقبة الزمنية، (كل خير في اتباع من سلف) أي: في اتباع القرون الأولى. وكل شر في اتباع من أتى بعدهم في الحقبة الزمنية، فالأفضل أن نقول: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان هذا الاتباع في القرون الأول أو في القرون التي بعدها، والابتداع سواء ظهر في القرن الأول أو في القرن الألف فهو ابتداع؛ لأن كله شر؛ بل إن الشر ظهر في القرون الخيرية على أيدي رءوس البدع، فلا يمكن أبداً نسبتهم إلى السلف ولا أنهم سلفيون، بل ولا سلف لهم في البدع التي أتوا بها وأفسدوا بها عقائد الأمة وضمائرها وعبادتها. ففي هذه الحالة نبين أن لفظ السلف له معنيان: معنى زمني ومعنى منهجي، فلا أستطيع أن أقول مثلاً: أنا خلف لـ أبي بكر الصديق، لأن إطلاق لفظ الخلف يعني: الذم، لكن أقول: أنا تابع لـ أبي بكر، تابع لـ عمر، لـ عثمان، لـ علي، لأن نفس المنهج الذي استقاه أبو بكر هو الذي أنا عليه وإن كنت مقصراً، حيث إني لا أقدم منهجاً آخر غيره خاصة في باب صفات المولى تبارك وتعالى.

قواعد الخلف المخالفة لسلف الأمة في صفات الله

قواعد الخلف المخالفة لسلف الأمة في صفات الله

حكم قياس الخالق بالمقاييس التي تحكم المخلوق

حكم قياس الخالق بالمقاييس التي تحكم المخلوق القاعدة الأولى التي مشى عليها الخلف وجعلتهم يخالفون سلف الأمة: هي قياسهم الخالق سبحانه وتعالى بالقوانين والمقاييس التي تحكم المخلوق. فقالوا: إن الله تبارك وتعالى استوى على العرش بمعنى: أنه استولى وقعد على العرش وصار لصيقاً وملاصقاً للعرش؛ وذلك لأن الواحد فينا لو جلس على الكرسي لكان ملاصقاً للكرسي. ونقول لهم: هل القوانين التي تحكم البشر هي التي تحكم المولى تبارك وتعالى؟ A لا؛ ولذلك لما حكموا المقاييس والمعايير التي لا تصلح إلا للبشر في حق المولى تبارك وتعالى وقعوا تارة في التشبيه وتارة في التمثيل، وأحبوا أن يهربوا من تشبيه الخالق بالمخلوق فوقعوا في التعطيل، فغلطوا في كل الأحوال، فلا تعطيل ولا تمثيل ينفعهم، ولا تشبيه ولا تأويل ولا تحريف ينفعهم، فقياسهم الخالق سبحانه وتعالى بالقوانين والمقاييس التي تحكم المخلوق ممتنع في الأصل، فممتنع أن يمثلوا الله بخلقه، أو يقيسوا صفات المولى تبارك وتعالى بصفة المخلوق؛ وذلك للزوم الوحدانية لله عز وجل، أي: أن الله واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله. فإذا قلت: المولى تبارك وتعالى تكلم فليس كلامه ككلامنا، بل إنه يتكلم على نحو لا يستطيع أحد من خلقه أن يتكلم مثله؛ وذلك لأنه واحد في كلامه، أي: لا يشبهه أحد من خلقه في صفة الكلام، فهو واحد في أفعاله. ومن صفات الله المجيء، فربنا تبارك وتعالى يجيء، قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. فالرب تبارك وتعالى يأتي، فإن قيل: كيف يأتي؟ A الله أعلم، لكنه يأتي؛ لأنه أثبت صفة الإتيان وصفة المجيء لنفسه، فأنا أثبت لله تبارك وتعالى صفة المجيء كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] فلا أقول: وجاء أمر ربك؛ لأن هذا ضلال وزيغ وتحريف للنص، حيث إن الله أثبت لنفسه صفة المجيء، فأنت لو قلت: المقصود بقوله: (وجاء ربك) أمر ربك: لنفيت صفة المجيء عن الله عز وجل، وهذا ليس منهج السلف، بل أنا أثبت لله تبارك وتعالى صفة المجيء، ولكنه مجيء غير مجيئي أنا؛ وذلك لأن هذا فعل لله عز وجل، ولما كان الله تعالى واحد في أفعاله فإن أفعاله لا تشبه أفعال المخلوقين. إذاً: الله تبارك وتعالى يجيء ويأتي ويغضب ويرضى ويسخط على نحو لا يشبهه مجيء الخلق ولا إتيانهم ولا غضبهم ولا رضاهم ولا سخطهم، فهو واحد لأنه متصف بالوحدانية في الذات والصفات والأفعال.

التأويل لصفات الله الثابتة له للخروج من تمثيله بالمخلوقين

التأويل لصفات الله الثابتة له للخروج من تمثيله بالمخلوقين هذه القاعدة الأولى جرت الخلف إلى الانحراف، وإلى تصوير الله تعالى بصورة قبيحة، سبحانه وتعالى عما يقولون، فأرادوا أن يفروا من ذلك فوقعوا بين نارين. قالوا: لو أثبتنا لله ما أثبته لنفسه بالمماثلة لصفة المخلوقين فإن الله سيكون إنساناً، وهذا ليس معقولاً، فوقعوا بين نارين: أن يكذبوا بآيات الله الواردة في وصفه سبحانه كما فعل الجهم بن صفوان، فلا يد ولا ساق ولا عين ولا وجه؛ لأن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه والتمثيل، فقالوا: ونحن ننزه المولى عز وجل عن ذلك، فنفوا عن المولى عز وجل ما أثبته لنفسه. وهذه بلية أخرى. وإما أن يؤولوها فيقولون: لو نفينا الصفات لأصبحنا نكذب بالقرآن، والله قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فأثبت الله لنفسه العين وأثبت لنفسه اليد، فلا بد أن نؤولها بالمجاز ونخرجها عن معناها الحقيقي اللائق به سبحانه وتعالى، وبهذا نكون قد أثبتنا لله تعالى ما أثبته لنفسه، فنقول: يد الله بمعنى: القوة. وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] المقصود بالعين هنا الرعاية، يعني: أحوطك وأشملك برعايتي حتى تتربى وتصير شاباً فتياً، وبالتالي يصرفون صفات المولى تبارك وتعالى عن معناها ومضمونها الحقيقي إلى المعنى المجازي. هذه هي القواعد التي قعدها السلف في الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، ولا يمكن أبداً فهم صفات المولى عز وجل على منهج السلف إلا بحفظ هذه القواعد واعتقادها، فلابد أن تراجعها بين الفترة والفترة حتى تعرف من أين أتي الخلف. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

صفة الاستواء لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الاستواء لله عز وجل من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، واستواؤه تعالى معناه: علوه وارتفاعه على خلقه فوق سماواته وعرشه، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم المعتبر، خلافاً للفرق الضالة الخارجة عن الطريق المستقيم، والذين يؤولون ذلك تأويلات عقلية مبناها على اللغة، وعلى اعتبار عدم مناقضتها لصفة المعية كما هو في المخلوقين، ولبئس ما فهموا، وساء ما إليه فطنوا.

اشتراك المخلوق مع الخالق في بعض الصفات لا يستلزم المشابهة والمماثلة

اشتراك المخلوق مع الخالق في بعض الصفات لا يستلزم المشابهة والمماثلة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. في الدرس الماضي ذكرنا عشراً من القواعد التي تلزم كل مسلم -فضلاً عن طالب العلم- في سبيل دراسته لعلم الاعتقاد، وقلنا: إن صفات المولى تبارك وتعالى لا يمكن فهمها كما فهمها السلف إلا من خلال هذه القواعد، وهذه القواعد كنا قد استفدناها من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وقد جمع جلها شيخنا محمود عبد الرازق المنصوري في كتاب سماه: توحيد الصفات بين معتقد السلف وتأويل الخلف، وبالأمس أرسل إلي عدة نسخ من مختصر لهذا الكتاب، فقرأته اليوم فألفيته مختصراً نافعاً جداً؛ ولذلك آثرنا أن نوزعه عليكم إن شاء الله. ذكرنا أن أول هذه القواعد هي: توحيد المولى تبارك وتعالى، بمعنى: إفراده بالوحدانية في كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يتصف بصفة على الوصف الكامل لله عز وجل من خلقه قط، فلو ذكرنا صفة الرحمة فإن الله تعالى موصوف بها، وإن كثيراً من عباده موصوف بها، لكن الله تعالى تفرد بهذه الصفة على الوجه الأكمل الذي ليس بعده كمال، فلا تستوي رحمة المخلوق ورحمة الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن رحمة الخالق واسعة وعامة وشاملة لمن كان أهلاً لها؛ ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، أما رحمة العباد فلا تسع كل شيء؛ ولذلك هناك مفارقة ومباينة بين صفة المخلوقين وصفة الخالق تبارك وتعالى. فعند إطلاق صفة من الصفات على مخلوق من المخلوقات -وإن تشابهت وتماثلت- مع صفة لله عز وجل، فلا يعني هذا أنها شبيهة ومماثلة لها من جميع الوجوه ومن جميع الجوانب، بل هي شبيهة بها من حيث الاسم فقط، فإذا كانت المخلوقات نفسها تتماثل أو تتشابه في الاسم، وتختلف في الصورة، فإن الله تبارك وتعالى خلق العسل وخلق الخمر، وخلق التمر وخلق الجنان وخلق التفاح وخلق المطعومات، ولكنك إذا وازنت بين مطعومات الدنيا التي تطعمها أنت الآن ومطعومات الجنة فشتان ما بين هذا وذاك. وإذا قلنا لك: هل تستطيع أن تكيف تين الجنة أو زيتونها؟ تقول: لا، أنا الذي أعرفه من هذا النعيم الأسماء فقط؛ وذلك لأن الله ذكر في كتابه أنه خلق في الجنة التين والزيتون، لكن هل هو كالتين والزيتون اللذين نأكلهما؟ A لا، فالزيتون الذي نأكله نحن الآن ليس كالزيتون الذي خلقه الله في الجنة، فإذا كانت المخلوقات نفسها اتحدت في أحد الأوصاف ولكنها تباينت واختلفت في بقية الأوصاف، فهل يمكن أن تسوي صفات الخالق سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين عند الإطلاق؟ لا يمكن أبداً، هناك مباينة ومفارقة.

سياق ما روي في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)

سياق ما روي في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) ونحن بصدد ضرب بعض أدلة استواء الله تباك وتعالى على عرشه، فاستواء سليمان على العرش، واستواء بلقيس على العرش، واستواء أي ملك على عرشه يختلف تماماً عن استواء المولى تبارك وتعالى؛ لأن استواء المخلوقات يتناسب مع ضعف وعجز ونقص هذه المخلوقات، أما استواء المولى تبارك وتعالى فلا شك أنه على الوجه الأكمل الذي يتناسب مع كمال صفاته تبارك وتعالى، وإن كان الجميع يسمى: استواء. فليس استوائي هذا على الكرسي وأنا مماثل له كاستواء المولى تبارك وتعالى على عرشه، فإن هذا استواء يليق بالله عز وجل، واستوائي على الكرسي يليق بذلك الضعف البشري الذي خلقت له ومن أجله. وقد ذكر الإمام اللالكائي باباً وسرد فيه أدلة استواء الرحمن على العرش، فقال: [سياق ما روي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأن الله على عرشه في السماء]، فهل كلمة (على) هنا تستلزم المماسة؟ هذا الذي فهمه أصحاب الفرق الضالة. فقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قالوا: (استوى) بمعنى: استولى، ولنا وقفة مع هذا التفسير. الوقفة الأولى: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، هل يلزم من هذا الحرف (على) أن الله تعالى مماس وملاصق للعرش؟ فإذا قلنا ذلك فإنه يلزمنا أن نقول: إن العرش يحمله، وهو سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، فهو أكبر من العرش، وأكبر من جميع المخلوقات؛ فلا يحمله خلق من خلقه تبارك وتعالى، وإنما نقول: إن الله تعالى علا فوق العرش، أي: خلق الأرضين وخلق السماوات السبع، وجعل فوق السماء السابعة بحراً، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والله تعالى فوق العرش، ليس مماساً له سبحانه وتعالى؛ لأنه منزه أن يلتصق بأحد من مخلوقاته. قال: (وأن الله على عرشه في السماء)، قولنا: (في السماء) لا تستدعي الظرفية كذلك، بل (في) بمعنى (على)؛ لأن المتفق عليه أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فقوله: (في) يعني: (على)، أي: وأن الله على عرشه على السماء، بمعنى: فوق السماء؛ لأن (على) تفيد العلو والفوقية، فـ (في) هنا بمعنى (على)، أي: على السماء؛ ومثلها قوله تبارك وتعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، فهل يتصور أن ذلك المجرم يدخل غيره في جذع النخلة حتى يعاقب ويصلب؟ A لا، ولكن التقدير: ولأصلبنكم على جذوع النخل، فـ (في) بمعنى (على). إذاً: قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} [طه:5]، أي: فوق العرش، وأن الله على عرشه في السماء، يعني: على السماء، فهذه الحروف إنما تفيد الفوقية والعلو.

الأدلة من القرآن على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه

الأدلة من القرآن على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه قال: [وقال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]]، فالصعود لا بد وأن يكون إلى جهة العلو، وكذلك الرفع، قال: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ))، أي: يرتفع {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأن الله تعالى يجازي صاحبه خيراً، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، أي: يرفعه إليه ويقبله. قال: [وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]]، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، والذي في السماء هو الله عز وجل، وكما اتفقنا أن (في السماء) بمعنى: (على السماء). قال: [وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61]]، فأسند لنفسه تارة العلو وتارة الفوقية، وهما بمعنى واحد، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61]، أي: يرسل عليكم من السماء إلى الأرض حفظة؛ فدلت هذه الآيات على أنه تعالى في السماء، وعلمه في كل مكان من أرضه وسمائه. فهذا أمر معلوم لدى جميع السلف أن الله تعالى بذاته استوى على العرش، ولكن لما خاض المعتزلة والأشاعرة من بعدهم في صفات المولى تبارك وتعالى، وتكلموا على استوائه وفوقيته، أو معيته مع خلقه -قالوا: إن الله تعالى مع خلقه بذاته في كل مكان، هذا قول المعتزلة والأشاعرة، وهو قول يناقض وينافي الحق تماماً ولا حق فيه، بل الحق أن الله تبارك وتعالى مستو بذاته على العرش، مباين لخلقه، كما ثبت ذلك من كلام السلف، وللإمام الطحاوي شعر ونظم جميل جداً في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في معية الله تبارك وتعالى، قال: نؤمن بالله تعالى، وأنه فوق السماء، أي: وأنه استوى على عرشه بائن من خلقه، ومعنى بائن: غير ملاصق لخلقه، بل مغاير لهم. ولا بد أن نعرف أن العرش مخلوق ولا خالق إلا الله عز وجل، وقول الإمام: بائن من خلقه، يدل على أن الله غير ملاصق للعرش، ولكنه فوق العرش سبحانه وتعالى، وذلك لما كان العرش أعلى شيء في المخلوقات؛ فإن الله تعالى فوق هذا العلو، يعني: أن الله تبارك وتعالى أعلى من كل مخلوق، وأعلى المخلوقات هو العرش، والله تعالى فوق العرش. فدلت هذه الآيات على أنه تعالى في السماء، وعلمه بكل مكان من أرضه وسمائه؛ لأن الله تعالى قد أحاط علمه بكل شيء، والسماوات شيء، والأرض شيء، وجميع المخلوقات شيء، وأن علم الله تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء، روي ذلك عن الصحابة: عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة، ومن التابعين: ربيعة بن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وقال به من الفقهاء: مالك بن أنس، والثوري، وأحمد بن حنبل، ونحن نذكر هذا على سبيل الاختصار، وإلا فقد سبق أن سردنا الكثير من أسماء السلف الذين تكلموا وصنفوا في معتقد سلف هذه الأمة.

الأدلة من السنة على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه

الأدلة من السنة على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه ذكر الإمام اللالكائي في هذا الباب -كما ذكر في غيره على عادة المصنفين المسندين- آثاراً وأحاديث بعضها صحيح والبعض الآخر ضعيف، ولا شك أن الحجة في الصحيح، خاصة إذا كان الاحتجاج في باب الاعتقاد، أما الضعيف فلا حجة فيه، ولا حتى في فضائل الأعمال على المذهب الراجح، ولذلك ذكر هنا أحاديث ضعيفة كما ذكر آثاراً أعرضنا عن ذكرها صفحاً؛ لأنها ليس فيها حجة. ومما صح من روايته عن معاوية بن الحكم السلمي، وهذا الحديث عند الإمام مسلم وهو المعروف بحديث الجارية. قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (يا رسول الله! كانت لي جارية ترعى غنيمات لي من قبل أحد والجوانية -أي: كانت لي بنت صغيرة ترعى الغنم بين جبل أحد والجوانية- وإني أطلعتها يوماً إطلاعة، فوجدت ذئباً قد ذهب منها بشاة)، يعني: اختبرتها وراقبتها ذات يوم؛ فوجدت ذئباً أخذ شاة من تلك الغنيمات. قال: (وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون)، يعني: أحزن لفقدان مالي وأغضب، (فصككتها صكة)، يعني: لما غفلت عن تلك الغنيمات؛ صفعتها وصككتها على وجهها صكة. قال: (فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم)، استعظم ذلك جداً وأنكره. قال معاوية: (فقلت: يا رسول الله! ألا أعتقها؟ -أي: فيكون ذلك كفارة لي؟ - فقال: ادعها إلي، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أين الله؟ قالت: الله في السماء)، وهذه جارية صغيرة، وإن شئت فقل: بدوية لا تعرف من دينها ولا من دنياها شيئاً غير أنها ترعى الأغنام في الجبل، ومع هذا لم تقع فيما وقع فيه فرق كثيرة من فرق المسلمين، وضلت فيه جماعات من أمة محمد عليه الصلاة والسلام: كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم. فقالت هذه الجارية: (الله في السماء. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاوية بن الحكم السلمي: اعتقها فإنها مؤمنة)، فرتب النبي عليه الصلاة والسلام إيمان هذه الجارية على معرفتها بذات الله تبارك وتعالى، وأنه مستو على عرشه في السماء، وأنها أقرت برسالة ونبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا بلا شك أعظم علامات الإيمان: اعتقادك بالله عز وجل واعتقادك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله. انظروا إلى هذه الجارية الصغيرة في السن، البدوية التي لا حظ لها في العلم، علمت بفطرتها أن الله تعالى في السماء، مستو على عرشه. وعن أبي هريرة: (أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام بجارية سوداء أعجمية)، والأعجمي ليس بلازم ألا يكون عربياً، فالأعجمي: هو كل من لم يجد اللسان العربي، ولكنه يتكلم بلسان آخر، وكذلك العربي الذي لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه بلسان عربي فصيح مبين يسمى أعجمياً وإن كان عربياً. أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام بجارية سوداء أعجمية فقال: (يا رسول الله! إن علي عتق رقبة مؤمنة)، يعني: قد فعلت فعلاً يستوجب أن أعتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء)، أي: أنت رسول الله الذي في السماء، وهذه جارية أعجمية؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اعتقها)، يعني: هي تصلح أن تكون كفارة لذنبك؛ لأنها مؤمنة، وإن الذنب الذي ارتكبته ورتب الله تبارك وتعالى عليه عتق رقبة مؤمنة هذه الجارية بهذه الإجابة مؤمنة وهي تجزئ في كفارتك؛ فأعتقها. قال: [وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء -وهذا محل الشاهد وفي رواية: بصره إلى السماء- فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)]. الشاهد: أن المرء إذا توضأ ثم رفع بصره إلى السماء، لماذا يرفع بصره إلى السماء؟ لماذا لا يضع وجهه في الأرض وينادي المولى تبارك وتعالى؟ A لداعي الفطرة في قلبه وفي روحه ونفسه أن الله تعالى في السماء، وما وجدنا واحداً قط من المسلمين، بل ولا حتى من غير المسلمين يدعو الله تبارك وتعالى إلا وهو يتوجه بيديه وبوجهه ورأسه ورقبته، بل وبكليته إلى جهة السماء؛ لأن داعي الفطرة من داخله يناديه أن الله تعالى في السماء، وأنك إن توجهت إليه بالدعاء قبل الله دعاءك. وهذا الحديث محل خلاف بين أهل العلم من المحدثين، فبعضهم يحسنه، والبعض الآخر يضعفه، كالذي بعده؛ لأنه من رواية أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وهو أبوه، وقيل: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه إلا بعض أحاديث -أربعة أو خمسة- قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود

أقوال السلف في استواء الله على عرشه وعلوه وفوقيته على خلقه

أقوال السلف في استواء الله على عرشه وعلوه وفوقيته على خلقه

قول عمر رضي الله عنه في علو الله وفوقيته

قول عمر رضي الله عنه في علو الله وفوقيته قال عمر رضي الله عنه: (والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه على مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله؛ لقتلته به). هذا النص خفي على المحقق فقال في الحاشية: لم يتبين لي المراد من هذا القول، والمراد من هذا القول: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أن الله تعالى يقبل دعاء المؤمنين ويقبل دعاء الصالحين، فلو أن واحداً من المؤمنين توجه إلى السماء، أي: إلى الله عز وجل بالدعاء على مشرك من غير ما جريرة ارتكبها واقترفها استوجبت أن يدعو المسلم والمؤمن عليه، وقتل ذلك المشرك من جراء هذه الدعوة؛ لقتله عمر بن الخطاب؛ لأنه قتل مشركاً بغير ذنب.

قول ابن عباس رضي الله عنهما في علو الله وفوقيته

قول ابن عباس رضي الله عنهما في علو الله وفوقيته وعن مجاهد قال: قيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون بالقدر -أي: يتكلمون فيه وينفون علم الله تبارك وتعالى بما كان وما سيكون- فقال: (يكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه)، يعني: لئن ظفرت بواحد منهم لأضربنه ضرباً مبرحاً، وعبر عنهم بأنه إذا لقي الواحد منهم أخذ شعره حتى يقطعه ولا يبقي في رأسه شعرة، قال: (إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه)، والشاهد في قول ابن عباس في الباب: إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فإن الله تعالى كان على العرش، وأهل العلم اختلفوا: هل القلم خلق أولاً أو العرش؟ لأنه قد وردت نصوص تدل على أن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، وورد أن الله تعالى قبل أن يخلق شيئاً من مخلوقاته خلق العرش؛ لأنه كان على العرش ولم يكن شيئاً. واختلاف أهل العلم له محاضرة أخرى؛ لأن الكلام فيه والتأويل فيه طويل جداً، ويحتاج إلى صفاء ذهن في هذه الجزئية على جهة الخصوص: هل خلق العرش أولاً أو القلم؟ ولكن الراجح: أن القلم خلق أولاً، وخلق الله تعالى العرش فاستوى على العرش. وعن عكرمة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17]، ولم يقل: سآتيهم من فوقهم. قال ابن عباس: لم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لعلمه أن الله من فوقهم. وعن بشر بن عمر قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: ارتفع. لأن استوى في لغة العرب بمعنى (علا وارتفع)، خاصة إذا قيدت بالمولى تبارك وتعالى، فاللفظ له معنى عند الإطلاق، وله معنى عند التقييد، فعند الإطلاق (استوى) بمعنى: (علا وارتفع)، وذلك عند العرب، فإنهم لا يعرفون (استوى) إلا بمعنى: (علا وارتفع)، وعند التقييد لها معان متعددة سنذكرها الآن.

شرح قول أم سلمة في استواء الله عز وجل

شرح قول أم سلمة في استواء الله عز وجل وعن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. قالت: الكيف غير معقول. أي: إذا كنا متفقين على أن (استوى) بمعنى: (علا وارتفع)، فما هي الكيفية التي استوى الله عز وجل بها على عرشه؟ هذا أمر لا يدخل في دائرة العقل قط، فهو أمر غيبي، ونحن نؤمن بوجود الله عز وجل، ولا يشك أحد في أن الله تعالى ذات موجودة، لكن لو قلنا لواحد: صف لنا الله عز وجل؛ فإنه لا يستطيع، والذي لا يستطيع أن يصف المولى تبارك وتعالى لا بد أنه سيعجز عن وصف صفاته، وعلى ذلك فإنه سيعجز كذلك عن معرفة كيفية يد الله عز وجل، وساق الله عز وجل، وعين الله عز وجل، ووجه الله عز وجل؛ وذلك لأن اليد من الصفات، والوجه من الصفات، والساق من الصفات، وكذلك الأمر في بقية الصفات. والصفات في حق المخلوقين هي المكونة للذات، فإذا قلت لك: صف لنا محمداً أو إبراهيم أو سعداً، فإنك تستطيع أن تصفه تماماً؛ لأنك لا تستطيع أن تصف شيئاً إلا إذا كان مماثلاً لأمر أنت رأيته، فلو أني قلت لك: صف لنا إبراهيم! لقلت: إبراهيم طويل أو قصير، أو عريض أو نحيف أو سمين، ذو عينين زرقاوتين، أو أصابعه طويلة، أو أبيض أو أسود، حليم غضوب، وغير ذلك من الصفات، فأنت تصف إبراهيم بهذه الدقة؛ لأنك رأيت إبراهيم، أو رأيت من هو مثل إبراهيم، وهكذا فتستطيع أن تصف إبراهيم من خلال مثيله. ولكن الله تبارك وتعالى ليس له مثيل، وأنت لم تر الله عز وجل، إذاً: الله تبارك وتعالى غيب عن الخلق أجمعين؛ فلا نستطيع أبداً أن نصف المولى تبارك وتعالى، نعجز عن ذلك؛ لأنه غيب، وهو لا مثيل له ولا عدل له ولا كفء له؛ ولأنه منزه عن الشريك والمثيل والضد وغير ذلك من أنواع المماثلات والمتشابهات في عالم المخلوقات، فإذا كان الله تبارك وتعالى غيباً عنا على هذا النحو الذي ذكرناه، فإما أن ننكره وإما أن نثبته، فإن أنكرناه لا بد أن ننكر ذاته؛ لأن هذه الذات هي متصفة بتلك الصفات، فإن أنكرناه كفرنا، وإن أثبتنا وجود الذات؛ لا بد أن نثبت وجود الصفات، لكن وجود الصفات يكون على نحو يليق بالذات، ونحن لا نعلم كيفية الذات. فإذا كنت أنا أعجز عن وصف ذات الإله، فلا بد أنني سأعجز عن وصف يده وساقه ووجهه وبقية الصفات اللازمة له عز وجل، التي أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته؛ ولذلك عندما يأتي شخص ويقول لي: كيف الله؟ أقول: هذا أمر أنا لا أعقله، ولا أقدر أن أصفه، فإن قال لي: صف لي يد الله تبارك وتعالى فقط، أقول له: لا أقدر على ذلك، والذي لا يستطيع أن يتكلم في الذات لا يستطيع أن يتكلم في الصفات؛ لأن الذات والصفات أمر واحد، وصفات المولى تبارك وتعالى -كما قلنا- لازمة لذاته. فالذي يستطيع أن يتكلم في الذات يستطيع أن يتكلم في الصفات، والصواب: أننا لا نستطيع أن نتكلم في الذات، وبالتالي يحرم علينا أن نتكلم في الصفات، ولكن علينا أن نؤمن بها كما جاءت، أليس عندنا إيمان بوجود الله من غير ما نراه ومن غير ما نمثله؟ فلماذا لا نؤمن بصفات الله من غير ما نراها ومن غير ما نمثلها ونشبهها بصفات المخلوقين؟ وهذا أمر لازم لإيمانك بالذات من غير أن تراها، فكذلك لا بد أن تؤمن بالصفات على الوجه اللائق الكامل لله عز وجل وأنت لم ترها ولا تعرف كيفيتها؛ ولذلك لما سئلت أم سلمة عن معنى الاستواء الذي هو أحد صفات المولى تبارك وتعالى قالت: الكيف غير معقول، أي: لا يدخل في دائرة عقلي قط؛ لأن عقلي قاصر وعاجز أن يكيف الاستواء لله عز وجل. فاستواء المولى تبارك وتعالى شيء آخر يختلف عن استواء المخلوقين؛ لأن الذات تختلف عن ذوات المخلوقين، وكذلك الصفات لا بد أن تختلف عن صفات المخلوقين، فالكلام في كيفية الاستواء كالكلام في كيفية كل صفة من صفات المولى تبارك وتعالى، يمتنع ويستحيل ولا يجوز لأحد أن يمثل ولا أن يشبه، ولا أن يحرف الكلم عن مواضعه؛ فيصرف هذه الصفات عن مدلولها الذي وضعه المولى تبارك وتعالى له؛ فلا يجوز لأحد أن يقول: اليد هي القدرة، والعين هي الرعاية، والمجيء هو الأمر، وغير ذلك من صفات المولى تبارك وتعالى، بل نثبتها كما أثبتها السلف، ونمرها كما جاءت، ولا نتكلم فيها قط، ونؤمن بها على هذا النحو. فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه هذه الآيات لم يخف عليه معناها، ولم يناقش أحد من الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام في كيفية الاستواء؛ وذلك لأنهم يعلمون أن الاستواء بمعنى العلو والارتفاع، فهذا كان أمراً مستقراً لديهم، ولذلك لم يسألوا عنه، بل لم يثبت أن واحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن صفة واحدة لله عز وجل؛ لأنهم سكتوا عن هذه الصفات، وآمنوا بها على هذا النحو الذي وردت به ظاهراً، وعلموا المعنى؛ لأنه لا يعقل أن الله تبارك وتعالى يخاطب المخاطبين بكلام هم لا يعلمون معناه؛ ولذلك قالوا: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، يعني: معلوم لنا أن الله تعالى استوى؛ لأنه أخبر في

شرح قول الإمام مالك في استواء الله عز وجل

شرح قول الإمام مالك في استواء الله عز وجل الجواب الذي أجابت به أم سلمة قد أجاب به ربيعة الرأي، وأجاب به مالك كذلك، فقد جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته -يعني: ما رأيته غضب غضباً شديداً إلا عندما وجه إليه هذا السؤال- وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وهذا يدل على أن هذا السؤال لم يطرح في عالم السلف، وكان بالنسبة لـ مالك كصاعقة نزلت على رأسه. قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه، فلما سري عن مالك قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول -يعني: معلوم لدينا أنه استوى بمعنى: علا وارتفع- والإيمان به واجب على ما جاءت به النصوص من غير تأويل ولا تحريف، والسؤال عنه بدعة. فالسؤال عن كيفية صفات المولى تبارك وتعالى بدعة؛ لأن أمرها موكول إلى الله عز وجل، فلا يحل لأحد أن يسأل عن كيفية صفات المولى عز وجل؛ لأن الذي يسأل عن كيفية الصفات لا بد أن يسأل عن كيفية الذات، فالله له وجه يليق به ليس كوجوه المخلوقين، وله ساق تليق به ليست كسوق المخلوقين، وله نفس لكن ليست كأنفس المخلوقين، وفي النهاية نعلم أن ذات المولى تبارك وتعالى تختلف عن ذوات المخلوقين؛ لأنها تابعة للخالق. قال: والسؤال عنه بدعة؛ فإني أخاف أن تكون ضالاً، فأمر به فأخرج من المسجد. وهنا وقفة طيبة جداً: أن من سأل عن شيء تورع عنه السلف؛ فلا بد أن يعلم أن هذا أول الطريق للضلال، خاصة إذا كان تعلقه بالمولى عز وجل بذاته أو صفاته من جهة الكيفية، لا من جهة العلم والمعنى، ألسنا دائماً نردد هذا الشعار: ما وسع السلف يسعنا؟ لكن لماذا في الأسماء والصفات لم يسعنا ما وسع السلف؟ لماذا السلف سكتوا عن تكييف صفات المولى عز وجل ونحن لا نريد أن نسكت؟ فالسلف وسعهم أن يؤمنوا ويصدقوا بهذه الأخبار التي أثبتت أن لله تبارك وتعالى صفات تليق بجلاله وكماله، لماذا نحن لا نريد أن نسكت؟ ولماذا الأمة كلها لم تسكت، وخاضت في الأسماء والصفات؟ فمنهم من عطل المولى تبارك وتعالى وحرَّف الكلم عن مواضعه، بحيث يصل بهم الحال في النهاية إلى أنه لا يوجد شيء اسمه إله متصف بصفات؛ لأن اليد عندهم هي القدرة، والعين هي الرعاية، وغير ذلك من تحريف وتأويل الصفات عن معناها اللائق بالله عز وجل؛ هؤلاء معطلة. ولذلك إذا سألت: أين إله المعطلة؟ سيظهر عندهم أنه إله بلا ساق وبلا يد وبلا عين وبلا وجه وبلا ذات، وصدق ابن تيمية عليه رحمة الله لما قال: المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً؛ لأن الممثل والمشبه قالا: الله تعالى له يد كيدي، وله عين كعيني؛ فنصل في النهاية إلى أن ربنا عبارة عن شخص من الأشخاص، وذات من ذوات المخلوقين؛ ولذلك قال ابن تيمية: وكل ممثل يعبد صنماً؛ لأن الصنم معلوم لديه، فهذا القول من أفضل أقوال ابن تيمية: الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً. فالممثل والمشبه لصفات المولى تبارك وتعالى بصفات المخلوقين ينتهي إلى أن هذا الإله هو عبارة عن إنسان، والمعطل الذي أراد بزعمه أن ينزه المولى تبارك وتعالى عن منهج المجسمة والممثلة والمشبهة نفى تلك الصفات عن الله عز وجل، فأصبح عندهم في النهاية إلهاً بلا صفات، وبهذا وقعوا فيما فروا منه، وقعوا في شر لكن من نوع آخر. وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، لا يعطلون صفات المولى تبارك وتعالى، بل يثبتونها، ولكن ليس على مذهب المثبتة الممثلة المشبهة، وإنما يؤمنون بما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله على الوجه اللائق بكماله وجلاله، فهم يفارقون المشبهة ويفارقون في الوقت نفسه الممثلة.

شرح قول ربيعة الرأي في استواء الله عز وجل

شرح قول ربيعة الرأي في استواء الله عز وجل وسئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول -يعني: هو معلوم لدينا- والكيف غير معقول، لا نستطيع أن نعقله؛ لأن العقل لا يدرك إلا ما أحاط به، أما شيء غيبي فلا يدخل في مقدور العقل ولا في حدوده؛ فكيف يعقله؟ أو كيف يكيفه ذلك العقل؟ قال: الكيف غير معقول، ومن الله الرسالة -أي: الأمر بإثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله- وعلى الرسول البلاغ وقد بلغ، وعلينا التصديق، أي: الإيمان بما فرض الله عز وجل علينا. وقول مالك: فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به -أي: السائل- فأخرج من المسجد؛ هذا يدل على أن كل منحرف عن معتقد السلف ينبغي ألا يجالس؛ لأن مجالس السلف فيها عامة الناس وفيها خاصتهم، وأما الخاصة فلا يخشى عليهم، لكن الخشية كل الخشية أن تفسد عقائد عامة الناس، ولذلك كل مبتدع ضال -خاصة في مسائل الاعتقاد- ينبغي أن يعزل عن مجالس أهل الخير إذا علم عناده وجحوده، أما إذا أتى طالباً للعلم وطالباً للهدى ومنقاداً لأهل العلم من سلف هذه الأمة وممن سار على منهجهم وأخذ من منبعهم؛ فلا شك أن جلوسه هنا مستحب بل واجب عليه.

شرح قول ابن الأعرابي في استواء الله عز وجل

شرح قول ابن الأعرابي في استواء الله عز وجل وعن داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل. انظر إلى الجواب كأنه فسر الماء بالماء، لو قلنا: صف لنا الماء، ستقول: الماء هو الماء، ولا يوجد تفسير أسهل من هذا، والسلف كانوا يفسرون الماء بالماء. فقال له: ما معنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ قال: معناه: أنه على عرشه كما أخبر. إجابة مريحة لكن لمن أراد أن يرتاح، فقال له: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى. إذا كنا نفسر قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: استولى، فمن هذا الذي كان ينازع الله تبارك وتعالى على العرش فغلبه واستولى على العرش؟! وهذا من لازم التأويل، إذا كنت تقول: إن (استوى) بمعنى: (استولى) فلا بد أن يكون قد حصل هناك مغالبة بين الله وبين غيره، وكان هذا العرش بينهما، أو كان هذا العرش مع غير الله، وأن الله استولى على ذلك الغير وضربه وهزأه ثم أخذ منه العرش، هل يعقل أن يكون هذا تفسيراً؟ وهل هناك مجنون -فضلاً عن عاقل- يقبل هذا التفسير في حق المولى عز وجل؟! إذاً: (استوى) بمعنى: (علا وارتفع) لكن لو قلت: استوى بمعنى: استولى في حق المولى عز وجل؛ فهذا يدل على أن المغالبة كانت بين الله وبين غيره، ولكن في النهاية كتب النصر لله عز وجل، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. فقال: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه -أي: ليس معناه: علا وارتفع- إنما معناه: استولى. قال ابن الأعرابي: اسكت، ما أنت وهذا، لا يقال -يعني: لا يقال: (استوى) بمعنى: (استولى) - استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى، أما سمعت النابغة يقول: ألا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد ففي حق المخلوقين لا بأس، لكن في حق الخالق لا. وقال أبو بكر محمد بن أحمد بن النضر: كان أبو عبد الله بن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل -يعني: يقيمه ويتعلم فيه- وذكر لنا أن ابن أبي داود سأله: أتعرف باللغة استوى بمعنى استولى؟ وكان ابن الأعرابي لغوياًّ ومحدثاً وفقيهاً، فقال: لا أعرف، إنما استوى بمعنى: علا وارتفع. وقال ثعلب -أي: أبو العباس -: استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً. وهذا أحد المعاني، (ثم استوى إلى السماء)، أي: أقبل إلى السماء، واستوى على العرش بمعنى: علا، واستوى وجهه: اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمر: تشابها، واستوى فعلاهما وإن لم تتشابه شخوصهما، هذا معنى استوى في اللغة، واختار من بينها استوى على العرش، بمعنى: علا، فإذا صرف الاستواء لغير الله عز وجل كانت له معانٍ أخرى، أما إذا قيد بالرحمن فإن الاستواء يكون بمعنى: العلو والارتفاع، هذا الذي يعرف من كلام العرب.

شرح تفسير مقاتل لقوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)

شرح تفسير مقاتل لقوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، يعني: لو تناجى ثلاثة أو أربعة أو خمسة؛ إلا كان الله تعالى معهم أينما كانوا، حتى وإن أخفوا كلامهم. أتت امرأة تشتكي زوجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة الظهار، تقول عائشة: فدخلت المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، وكنت في زاوية منها، والمرأة تجادل النبي عليه الصلاة والسلام في أمر زوجها الذي قال: أنت علي كظهر أمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتظري حتى يأتينا الوحي). فانتظرت المرأة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]، تقول عائشة لما نزلت هذه الآية: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! مع أنها نجوى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين تلك المرأة إلا أن الله سمع ذلك؛ ولذا قالت عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! ما من شيء صغير ولا كبير، غيب ولا شهادة إلا الله يعلمه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم). فالله تبارك وتعالى مستو بذاته على عرشه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] بسمعه وعلمه وإحاطته وبصره ورعايته وغير ذلك من بقية صفات المولى تبارك وتعالى اللازمة لعلمه وسمعه وبصره وإحاطته بالخلق. قال مقاتل في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، قال: هو على العرش ولن يخلو شيء من علمه. قوله: (هو على العرش) أي: بذاته، وكلمة (بذاته) لم يتعرض السلف لها ولم يذكروها؛ لأنها معلومة لديهم، فلم يذكروها إلا بعد أن تكلم الخلف المبتدعون في الذات الإلهية، وقالوا: إن الله تعالى مع كل خلقه بذاته. يعني: لو أنا دخلت الحمام، أو دخلت الحوش، أو دخلت الأماكن النجسة فإن ذات الله تبارك وتعالى موجودة معي في هذه الأماكن القذرة والنجسة؟! تنزه الله عن ذلك! فالصحيح: أنني لو صنعت في الحمام صنيعاً أحاسب عليه، فإن الله يعلمه ويراه ويسمعه. إذاً: الله تعالى مع خلقه بعلمه وسمعه، أما ذاته العلية فإن الله تبارك وتعالى قد استوى على عرشه، وقد تحرج السلف من كلمة الذات؛ لأنها لم تكن على لسان النبي عليه الصلاة والسلام ولا على لسان أصحابه، فلم يذكروها، والسلف كانوا يتحرجون أشد الحرج من الحق ما لم يتكلم به من قبلهم. وكلمة الذات حق، ولكن لكونها لم ترد عن السلف؛ فإنهم تورعوا عن ذكرها، مثال ذلك: في قصة خلق القرآن، فإن السلف يقولون: القرآن كلام الله، ولم يقولوا يوماً: مخلوق ولا غير مخلوق؛ لاعتقادهم أنه غير مخلوق، لكن لا يلزم بهذا المعتقد التصريح به، ولما وقع المعتزلة فيما وقعوا وقالوا: هو مخلوق؛ اضطر أحمد بن حنبل ومن معه أن يقولوا: هو غير مخلوق، فكلمة (غير مخلوق) هذه تحرج بعض السلف من ذكرها ونطقها وإطلاقها؛ لأنها لم تأت على لسان الصحابة والتابعين. لكن في مقابلة أهل البدع وذكرهم لهذا صراحة صرح السلف رضي الله تعالى عنهم بأقوال يكرهونها، لا لأنها الحق، وإنما لأنها لم ترد على لسان السلف، فكذلك لم نجد واحداً من الصحابة يقول: استوى الرحمن على العرش بذاته، وإنما هو علم من نفسه وآمن وصدق بأن الرحمن استوى على العرش، أما كلمة (بغير ذاته) فلم يخض فيها السلف، وإنما خاض فيها الخلف، إذ قالوا: الله معنا في كل مكان بذاته، فالسلف اضطروا إلى التصريح، قالوا: أنتم تقولون: الله معنا بذاته، ولو كان الصحابة يقولون ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يقوله؛ فهذا أمر آخر، أما أن تقولوا شيئاً لم يقله الصحابة: إنه معنا بذاته، فالله تعالى عن ذلك، ونحن سنتعرض للذات، ونقول: إن الذات العلية في السماء على العرش، وأما المعية لله عز وجل فإنها معية علم وسمع. ولذلك قال: هو على العرش، ولن يخلو شيء من علمه، ولم يقل: من ذاته، يعني: هو على العرش بذاته، وليس شيء يخلو من علمه، يعني: هو معنا بعلمه، وأما ذاته العلية فهي فوق العرش.

قول سليمان التيمي في علو الله وفوقيته

قول سليمان التيمي في علو الله وفوقيته وقال سليمان التيمي -وهو من أئمة السلف-: لو سئلت: أين الله تبارك وتعالى؟ لقلت: في السماء. من هذا القول نعلم أن السلف لم يدخلوا في هذه التعقيدات التي دخل فيها الخلف، إنك عندما تقرأ مثلاً: كتاب مقالات الإسلاميين لـ أبي الحسن الأشعري، أو كتاباً من كتب الخلف عموماً -وأبو الحسن سلفي؛ لأنه قد ثبتت سلفيته- لوجدت أمراً صعباً شديداً جداً على العقل وتخشى أن تقبله، فهناك كلام في المقالات مثل الطلاسم، تقول: هذا الكتاب أشبه بالسحر؛ لأن العقيدة أخفى وأدق من ذلك، وهناك كثير من طلبة العلم يقولون: أشق الدروس على نفوسنا وعقولنا دروس العقيدة؛ لدخول المحاضر في تلك التعقيدات الخلفية التي أتى بها الخلف، وأنها أشبه بالكلام الذي لا معنى له، وكأنها سفسطة وخوض في الباطل. قال التيمي: لو سئلت: أين الله تبارك وتعالى؟ لقلت: في السماء، فإن قال -أي: السائل-: فأين عرشه قبل أن يخلق في السماء؟ قلت: على الماء، فإن قال لي: أين كان عرشه قبل أن يخلق الماء؟ قلت: لا أدري. وأنا لست مطالباً أن أستمر معك في هذه الأسئلة، لا بد أن تؤمن كإيماني، وأنا لست مكلفاً بذلك، أعطني نصاً من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام يقول بوجوب التسلسل مع هذا السائل. لا يوجد؛ لذلك قال: لا أدري، وهذا كلام جميل، واعتقاد سليم، وهو من أئمة السلف، ومع هذا يقول في أمر من أمور الاعتقاد: لا أدري؛ لأنه غير مكلف بذلك.

أقوال سفيان الثوري وعبد الله بن نافع وأحمد بن حنبل في علو الله وفوقيته

أقوال سفيان الثوري وعبد الله بن نافع وأحمد بن حنبل في علو الله وفوقيته وقال سفيان الثوري في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، قال: علمه، أي: علمه معكم أينما كنتم. وعبد الله بن نافع يقول: ملك الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء. وقال يوسف بن موسى البغدادي: قيل لـ أبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه في كل مكان؟ قال أحمد: نعم، على العرش، وعلمه لا يخلو منه مكان. وفي رواية حنبل أن أحمد سئل عن قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]. انظر! يحتجون بظاهر القرآن الذي هو في ظاهره تعارض، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فيقولون: هذا فوق وهذا تحت، أليس فيه تعارض؟ فأجاب أحمد بأن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، يعني: بعلمه، أما ذاته العلية فهي فوق. قال: علمه، عالم بالغيب والشهادة، علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد. أليس العرش مخلوقاً، والكرسي وسع السماوات والأرض، وهو أكبر من العرش، لكنه على أية حال في النهاية هو كالسقف الذي أظل الخلق أجمعين، وله حد. والله تبارك وتعالى باعتباره على العرش له صفة يعلمها هو سبحانه، لكن لا يعلمها أحد من خلقه، لكن ليس له حد سبحانه، إذا كان الذي يتكلم في حد الله عز وجل يريد أن لله ذاتاً فإننا نؤمن أن الله تبارك وتعالى ذات متصف بالصفات ونوافقه على ذلك، أما إذا كان يريد أن الله تعالى محدود يميناً ويساراً، وفي الأمام والخلف، وطولاً وعرضاً؛ فإننا نقول: هذا كفر بواح. قال: وربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسع كرسيه السماوات والأرض بعلمه.

قول محمد بن جعفر في استواء الله على عرشه

قول محمد بن جعفر في استواء الله على عرشه وسئل محمد بن جعفر عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: من زعم أن الله استوى على العرش استواء مخلوق على مخلوق فقد كفر، ومن اعتقد أن الله استوى على العرش استواء خالق على مخلوق فهو مؤمن. وهو بهذا يريد أن يقول: إن استواء الخلق غير استواء المخلوق، فإذا اعتقدت أن الله استوى استواء يليق به؛ فأنت مؤمن، وإذا اعتقدت أن الله يستوي كاستوائك أنت؛ فأنت كافر، والذي ينبغي في هذا أن يقال: إن الله استوى على العرش من غير تكييف، يعني: عندما يقال: كيف استواؤه؟ أقول: لا أعلم، هذا علمه لله عز وجل.

الجمع بين قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) وبين أن الله مستو على العرش

الجمع بين قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) وبين أن الله مستو على العرش هنا سؤال مهم، والجواب عليه إما أن يكون بالنقل والسمع، وإما أن يكون بالعقل: معية الله تبارك وتعالى لخلقه في الوقت الذي نثبت فيه العلو والارتفاع هل بينهما تناقض؟ كيف تجمع بين أن الله على العرش وهو كما في الآية: {مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]؟ فإنك إن لم يكن عندك علم تقف، وبعد هذا التوقف تشك، والشك في ذات الله تبارك وتعالى وفي صفاته كفر، فهل بين العلو والمعية تناقض؟ A ليس بينهما تناقض لأول وهلة، حتى لو لم تكن تعرف الجواب، فلعلمك أن هذا ورد في الكتاب تحكم بعدم التناقض؛ لأنه {لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فهذا كلام الله عز وجل الذي لا يخطئ قط، ولا يجوز عليه الخطأ، بل هو مستحيل في حقه تبارك وتعالى، فما دام هذا كلامه فلا بد من الجمع والتأويل بما يتناسب مع كمال الله وجلاله، أما من قال بالتعارض والتناقص في حق الله عز وجل فهو كافر.

ما ورد في القرآن ليس فيه تناقض

ما ورد في القرآن ليس فيه تناقض الوجه الأول من أوجه A أن الله جمع بينهما حين وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله تعالى به نفسه، يعني: يكفي أنهما في القرآن قد وردا، فلا يوجد بينهما تناقض؛ لأن الله عز وجل قال هذا، وهذا إيمان مطلق، ما دام ربنا قال هذا، وما دام النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا فالكلام صحيح، كقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الجماعة)، وفي رواية: (يد الله مع الجماعة)، معنى هذا الكلام: أنه عندما أجتمع معك على البر والتقوى فربنا معنا ومؤيدنا وناصرنا ومعيننا، لكن (يد الله على الجماعة) أو (مع الجماعة) عجزت بعض العقول أن تفهم هذا المعنى، فقالوا: لا، اليد هنا ليس المقصود بها اليد الحقيقية لله عز وجل، إنما المقصود بها: النصرة والتأييد والإعانة والتثبيت، كيف ذلك والله تعالى قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]؟ فلو كانت اليد بمعنى القوة فهذا صرف للصفة عن مدلولها الحقيقي، وكأنك تقول: إنه ليس لله يد، ولو كانت اليد بمعنى القدرة فأنت تنفي أن تكون لله يد؛ لأنك أولت، بل حرفت النص عن ظاهره بما ينتج عنه تعطيل المولى عز وجل عن إحدى صفاته وهي صفة اليد. فالقول الصحيح في تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]: فوقية يد الله فوق أيدي الجماعة المؤمنة لا يعلم كيفيتها إلا الله، وهذه قاعدة أخذناها في الدرس الماضي: أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في بقية الصفات، والكلام في الصفات كالكلام في الذات.

عدم وجود تعارض بين العلو والمعية

عدم وجود تعارض بين العلو والمعية كذلك عندما تمشي في الصحراء ليلاً فإنك تجد القمر معك وهو في السماء معك، فتقول: أنا كنت ماشياً في الصحراء والقمر يمشي معي، لكن المعية هذه تشير إلى أن القمر كان ماشياً بجانبك، فهل كان القمر يمشي بجانبك؟ كذلك لو قال شخص: كنت أمشي في صحراء مكة والشمس تسير معي، فهل سارت الشمس معه؟ والشمس كانت معه بالفعل، فالشمس معي بضوئها، والقمر كذلك معي بضوئه ونوره، فالقمر في السماء بينك وبينه ملايين الأميال، ومع هذا أنت جوزت لنفسك أن تقول: القمر معي، والشمس معي، والنجوم معي، وغير ذلك من المخلوقات. كذلك السماء فوق الأرض، فعندما أقول: السماء فوق الأرض، هل يلزم من ذلك أن السماء ملاصقة للأرض مماسة لها؟ فكلمة (فوق) عند الإطلاق ولأول وهلة تعني المماسة والالتصاق، فقولي: السماء فوق الأرض، يعني: أن السماء قد التصقت وماست الأرض، وهذا الكلام في الواقع غير صحيح؛ لأن بين السماء الدنيا وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام، هذه السماء الدنيا تبعد عن الأرض بنحو خمسمائة عام للراكب المسرع، بل قال بعضهم: بسرعة الضوء، وسمك السماء الواحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام حتى السماء السابعة. خمسمائة عام في (13) أو في (14)، وفوق السماء السابعة بحر، وهو الماء المعبر عنه بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فالماء ليس هو الساحل الأحمر أو الأبيض، بل الماء الذي فوق السماء السابعة، عمقه مسيرة خمسمائة عام، وفوق هذا الماء العرش، وفوق العرش الكرسي، والله تعالى استوى على العرش، انظر إلى علو الله تبارك وتعالى على هذه المخلوقات جميعاً بهذه الأبعاد الفلكية الخطيرة التي لا يمكن إحصاؤها، ثم بعد ذلك هو مع خلقه بعلمه وسمعه يرى مكانهم ويسمع كلامهم، ويجازيهم على الإحسان إحساناً، ويقدر لهم خيراً أو شراً على ما صنعوه من شر؛ إما أن يؤاخذ به، وإما أن يعفو عنه. إذاً: الوجه الثاني في الجمع بين معية الله تبارك وتعالى وفوقيته: أنه ليس بين العلو والمعية تعارض، إذ من الممكن أن يكون الشيء عالياً وهو معك، مثلما ذكرنا في القمر والشمس وغيرها. أرأيت لو أن إنساناً على جبل عال وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان بعيد في المعركة وأنا معكم، فمعيته هنا ليست ببدنه، ولكنهم أرادوا أن يثبتوا ذلك من باب المجاز، فقد يقول أمير الجيش للجيش: اذهبوا قاتلوا العدو الفلاني وأنا معكم، ووضع نفسه أو التف على قمة الجبل، ووضع المنظار على عينيه، وهو يرى الجيش رغم المسافات البعيدة بينه وبين الجيش إلا أنه يرى أحوال الجيش، وفي الحقيقة هو ليس معهم إلا بمجرد المنظار، فإذا كان هذا القائد يقول لجنوده: أنا معكم رغم هذا البعد وهو مخلوق، فما بالكم بالخالق تبارك وتعالى؟

تعذر اجتماع العلو والمعية في حق المخلوق لا يعني تعذر اجتماعهما في حق الخالق

تعذر اجتماع العلو والمعية في حق المخلوق لا يعني تعذر اجتماعهما في حق الخالق الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق لم يكن متعذراً في حق الخالق؛ للكلام الذي قلناه في الدرس الماضي: أن نظام الأقيسة والجاذبية الأرضية التي يتعامل بها الناس في حياتهم لا يمكن أن تنطبق على الله، ولا أن يخضع لها المولى عز وجل؛ لأنها مقاييس ضعيفة وهزيلة تتناسب مع ضعفنا. أما المولى تبارك وتعالى القوي الواحد المتفرد الصمد الذي تلجأ إليه جميع المخلوقات، ولا يلجأ هو لأحد، هو الغني عن الخلق، والخلق كلهم فقراء، غنيهم وفقيرهم فقير إلى الله تبارك وتعالى، فإذا كان اجتماع المعية والعلو والارتفاع في حق المخلوقين مستحيل، أو غير ممكن، فإنه ممكن في حق المولى تبارك وتعالى؛ لأن البشر تحكمهم المقاييس، هذه المقاييس والمعايير لا يمكن أن تحكم على الصفات الإلهية؛ لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين في ضوء التباين بين الخالق والخلق. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول في السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل)، يعني: أنت معي في سفري، وأنت معي في أهلي، وأنت خليفتي في أهلي، يعني: أنا يا رب! قد استخلفتك على أهلي أن تحفظهم وترعاهم، وهذا الفهم الذي في عقولنا إنما يتناسب مع المخلوق. لو قلت لك: يا أخي! ستسافر معي؟ فتقول أنت: أنا موافق، فأقول لك: بشرط أن تخلفني في أهلي؛ فإنك ستقول: أنت مخطئ هل سأقسم نفسي نصفين؟ فإما أن آتي معك وإما أن أخلفك في أهلك، اختر واحدة من اثنتين؛ لأن قدرتي لا تتسع للأمرين، لكن قدرة المولى تبارك وتعالى فوق ذلك بكثير، فهو القدير وهو القادر تبارك وتعالى، فإنه يصحب كل من يسافر، والأمة كلهم مسافرون وحاضرون، والله تبارك وتعالى معهم جميعاً في الحضر والسفر. قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) فجمع بين كونه صاحباً له في السفر، وخليفة له أيضاً في أهله. وفي الحديث القدسي العظيم في سورة الفاتحة: (إذا قال العبد أو المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الرب: حمدني عبدي)، فكم من الناس يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]؟ ملايين، مع أن لكل واحد من الله عز وجل جواباً على حده؛ لأن الله تبارك وتعالى ساق في هذا الحديث الجواب بصيغة الفرد: (إذا قال عبدي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي)، والثاني يقول: الحمد لله، وفي نفس الوقت تلقى آخر في مكان آخر بل في نفس المسجد يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:4 - 6]، ولكل واحد منهم جواب. فالله تبارك وتعالى يجيبه، فلو قلت لك: أنا وأدهم مثلاً سنقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، على نَفَس واحد، وسنقرأ الفاتحة كلها، وأنت تقول: حمد أدهم وحمد حسن، ومجد أدهم ومجد حسن، فهذا ليس في قدرتك، لكن المولى تبارك وتعالى عليم بما يقول العباد حتى وإن أسروا في أنفسهم، بل هو أسهل من السهولة عليه تبارك وتعالى أن يرد على كل واحد وإن تعددت أقاويل المتكلمين، ويجيب كل واحد بما يتناسب مع سؤاله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]، حمدني عبدي، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3 - 4]، والمولى تبارك وتعالى يجيب على جميع الخلائق؛ لأن هذا في قدرته، وإذا كان هذا في مقدور الخالق تبارك وتعالى؛ فلا بد أن تقر أن المقاييس التي تحكمني أنا ليست هي المقاييس التي تحكم كلام الباري تبارك وتعالى. فلما أقول: إن الله تبارك وتعالى في السماء وهو معنا، لا بد أن تؤمن بذلك؛ لأنه في مقدوره تبارك وتعالى أن يكون معنا، فعندما أسألك عن أخيك مثلاً تقول: هذا يا أخي! مسافر في المنصورة، لي (10) سنوات منه ولا أعرف عنه شيئاً، لكن الله تبارك وتعالى يعلم عنه كل شيء، ويعلم عنك وأنت هنا كل شيء، ويعلم جميع الخلائق على بعد أوطانهم، وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم وقلوبهم، يعلم كل شيء، عالم الغيب والشهادة لا يعزب عن علمه شيء يعلم كل ذرة وكل دقيقة؛ لأنه عليم وعلاَّم -صيغة مبالغة- أي: لا يخفى عليه شيء مهما حاول أحد من المخلوقين أن يخفى عن الناس؛ فإنه لا يخفى على الله عز وجل؛ لأنه عالم الغيب وعالم الشهادة. وقد ثبت في السنة أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يدعون الله تبارك وتعالى بصوت عالٍ جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، يعني: ادعوا بصوت هادي، فالله يعلم كل هذا ويشاهده؛ لأنه

صفة السمع لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة السمع لله عز وجل أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وسط بين المجسمة والمعطلة، فهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تبديل ولا تأويل، سواء في صفات الذات كالسمع والبصر، أو صفات الأفعال كالمجيء والاستواء، وغيرها.

سياق ما دل من الكتاب والسنة في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق

سياق ما دل من الكتاب والسنة في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من كتاب الله، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم]. وهذا في باب الأسماء والصفات للمولى عز وجل، وهو من أعظم الأبواب ومن أخطرها، فيجب أن يكون الكلام في هذا الباب في غاية الأهمية، خاصة وأن الذات الإلهية غيب عنا، فإذا كان الأمر كذلك، فهذا يستلزم أن صفاته كذلك غيبٌ عنا، فلا نستطيع أبداً أن نجزم باسم لله عز وجل، أو بصفة من صفاته إلا عن طريق السمع والخبر، فأنا أستطيع أن أصفك لأني أراك، والمولى تبارك وتعالى ليس كذلك؛ لأنه لا يراه أحد في الدنيا، ولو كان يراه أحد لرآه موسى عليه السلام حينما طلب من ربه أن يراه، فقال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]. فالله تبارك وتعالى لم يحقق هذه الرغبة لموسى عليه الصلاة والسلام، ولكنه قال: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولكن الجبل لم يستقر. فرؤية المولى تبارك وتعالى في الدنيا مستحيلة وغير ممكنة ألبتة، لا نقول إلا أن يشاء الله فلو شاء الله أي شيء كان، ولكن الله تعالى قضى ألا يراه أحد في الدنيا على خلاف الآخرة؛ فإن المؤمنين يرونه رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، بخلاف الكافرين فإن الله تعالى يحجب ذاته ونفسه عن الكافرين عقوبة لهم. الشاهد من هذا الكلام: إذا كان الله تعالى غيب عنا فلا نعرف أوصافه، ولا أسماءه، وفي المقابل نقول: إن الله تعالى أرسل رسوله، وأنزل معه الكتاب، وأخبرنا في هذا الكتاب أن له أسماء وصفات، فإذا كنا نؤمن بهذا الكتاب، فلابد وأن نؤمن بأن لله أسماء وصفات، والله تبارك وتعالى فرق بين الأسماء والصفات. فقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] أثبت في هذه الآية اسمين: السميع والعليم، فلابد وأن نثبت أن لله هذين الاسمين. وقال الله تعالى لموسى وهارن: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. والله تبارك وتعالى يسمع بسمع، ويبصر ببصر، ويعلم بعلم، ويقدر بقدرة، وهو رحيم برحمة، وقوي بقوة، فهذه الأسماء اشتقت منها الصفات مع أن الصفات ثابتة، فضلاً عن جواز اشتقاق الصفة من الاسم، إلا أن الله عز وجل أثبت بالنص أن له صفات بخلاف الأسماء ولكنها تتناسب مع الأسماء؛ لأنه هو السميع وهو يسمع، وهو البصير ويبصر، وهو العليم ويعلم. هذا الكلام أجمعت عليه الأمة إلا المعتزلة، وقليل من الجهمية، قالوا: إن الله تعالى يسمع بغير سمع، ويبصر بغير بصر، ويعلم بلا علم، ويرحم بلا رحمة؛ لأنه عليم بذاته، بصير بذاته، رحيم بذاته. أرادوا من ذلك إثبات الأسماء ونفي الصفات. ولكن أهل السنة والجماعة اتخذوا قاعدة في أسماء الله تعالى وصفاته، هذه القاعدة لا يضل من تمسك بها، بل يضل من خالفها وجعلها وراء ظهره، وهي: (أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية). ومعنى توقيفية: أي: ما أوقفه الشرع، فمثلاً: صلاة الظهر أربع ركعات فقط، بلا زيادة ولا نقصان، فالله تعالى قد شرع وأذن وفرض ألا يصلى الظهر متعمداً أكثر من أربع ولا أنقص منها إلا في حال القصر وهو تشريع بنص.

بيان أن صفات الله وأسماءه توقيفية

بيان أن صفات الله وأسماءه توقيفية إذاً: معنى أن أسماء الله وصفاته توقيفية هو أنني لا أثبت لله تعالى إلا ما أثبته لنفسه من غير زيادة ولا نقصان، فمثلاً: الله عز وجل هو المنعم حقاً على جميع العباد، ولا يوجد نص يثبت أن الله تعالى اسمه المنعم، فلا يجوز لي أبداً أن أسمي الله تعالى المنعم، وإن كان الإنعام من صفات الكمال، وهي ثابتة من هذا الوجه لله عز وجل، لأنه لا ينعم غيره، ولذلك قال الله تعالى في قصة زيد بن حارثة والنبي عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، فالله تعالى هو المنعم والمتفضل والرزاق، ولكن القضية في إثبات الاسم من عدمه، هل يجوز لي أن أتبجح بذكر اسم لله تعالى لم يثبته تعالى لنفسه؟ A لا. حتى وإن كان هذا الاسم جميلاً ومعناه حسناً، فهذا شيء، وإثباته لله تبارك وتعالى شيء آخر. فمهما كان الاسم جميلاً إذا كان الله تعالى لم يثبته لنفسه في الكتاب، ولم يثبته له رسوله في السنة الصحيحة فلا يجوز لأحد أن يجتهد في إثبات ذلك لله عز وجل.

بيان أن اسم (الستار) ليس من أسماء الله تعالى

بيان أن اسم (الستار) ليس من أسماء الله تعالى الناس يعتقدون أن من أسماء الله تعالى (الستار)، وليس في كتاب ولا في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام هذا الاسم، فنسبة هذا الاسم لله عز وجل تقول وافتراء على الله بغير علم؛ لأن الله تعالى أعلم بذاته، وبما تستحقه ذاته العلية من الأسماء والصفات، فإذا كان الله تعالى لم يسم نفسه بهذا الاسم، فلا يجوز لأحد أن يسمي الله تعالى به. والستر يحبه الله عز وجل، ولم يسم نفسه به، وإنما وصف نفسه به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر). وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة). فستر الله تبارك وتعالى على عباده من صفاته سبحانه وليس من أسمائه، وإذا كان الله تعالى متصفاً بالستر، فلا يجوز أن يسمى الستار، وهذا خطأ واشتقاق على غير منهج السلف؛ لأن منهج السلف في قضية الأسماء والصفات هو التوقف عند النص، فهم لا يثبتون اسماً زائداً على النص ولا ناقصاً عنه، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة). أي: من علمها وحفظها وعمل بمقتضاها دخل الجنة. وفي حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك). فهذا الحديث يبين أن الله تبارك وتعالى له أسماء، منها: ما اختص الله عز وجل نفسه بعلمه ولم يطلع أحداً عليه. وقوله: (أو علمته أحداً من خلقك). أي: من الأنبياء، وهذا فيه رد على صناديد الصوفية الذين يدعون دائماً أنهم يعلمون اسم الله الأعظم، وأن الله تعالى أوحى إليهم وأطلعهم على اسمه الأعظم، وهذا افتراء عظيم على الله عز وجل؛ لأن الأنبياء أحق بذلك، ومع هذا لم يدع نبي من أنبياء الله ولا رسول من رسله أنه يعلم الاسم الأعظم. وقوله: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، أي: حجبته عن خلقك أجمعين أنبياء وغير أنبياء، فإذا كان الله تبارك وتعالى له أسماء قد حجبها عن الخلق أجمعين ومنهم الأنبياء فلا يجوز لعامة المسلمين والمؤمنين أن ينسبوا أسماء لله تبارك وتعالى لم يصرح المولى عز وجل بها في كتابه، ولا على لسان رسوله، ولا أطلع أحداً من الخلق أجمعين بما فيهم الأنبياء والمرسلين على هذه الأسماء. والله تعالى إذا أثبت لنفسه اسماً وصفة فلا يجوز لأحد من الخلق إثبات الاسم ونفي الصفة، أو إثبات الصفة ونفي الاسم، وإنما نتوقف فيما أوقفنا الله تعالى عليه سواءً كان ذلك في باب الأسماء أو في باب الصفات، ولذلك عقد الإمام هذا الفصل والذي بعده لإثبات هذه القضية فقال: [سياق ما دل في كتاب الله، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم]. فهذان اسم وصفة.

بيان أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق

بيان أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق قال: [وأن علمه غير مخلوق]. ليرد على القدرية الذين نفوا علم الله تبارك وتعالى الأزلي السابق؛ لأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يكن عالماً، ثم علم بعد ذلك، وبعد أن علم خلق الخلق. فقولهم: (إن الله لم يكن عالماً فصار عالماً). هذا نقص. وكذلك قولهم: (لم يكن سميعاً فصار سميعاً)، فالكلام في اسم واحد أو في صفة واحدة كالكلام في جميع الأسماء والصفات، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن الله عالم بغير علم، ولكنه سميع بسمع. وخلافه تخبط وخبل؛ لأن الكلام في الأسماء والصفات كلها شيء واحد في جهة الإثبات، أو في جهة النفي، فإذا كان في الكمال فهو كلام في الإثبات، وإذا كان في النقص فهو كلام في النقص، لأن الله تعالى متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص. إذاً: قوله: [إن الله عالم بعلم، وأن علمه غير مخلوق] فيه قضيتين: القضية الأولى: أن الله عالم بعلم. أي: إثبات الاسم والصفة في وقت واحد. والثانية: أن علمه غير مخلوق. قال: [قال الله عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]. وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]. وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]. وقال: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]. وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]. وقال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]. وروى ذلك من الصحابة ابن عباس وبه قال من العلماء: الشافعي وأحمد، وإسحاق، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وأحمد بن سنان الواسطي]. قال: [عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه)]، وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنه يشهد له عدة آثار في ذلك. ومعنى ذلك: أن علم الله تعالى سابق عن الخلق، ولذلك جاء في صحيح مسلم وغيره أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، فهل يصح في المعقول والمنصوص أن يصدر هذا من غير عالم؟ إن الواحد منا يتصف بالعلم وبالجهل، وأن علمنا حادث؛ لأن المرء يولد جاهلاً، ثم يتعلم شيئاً فشيئاً، وربما تقدم على الشيء وأنت تجهل ماهيته وحقيقته، وكيف يعمل وكيف ينتج وكيف يسير، ثم تتعلم بعد ذلك. كما لو أنك اشتريت سيارة أو مكينة أو شيئاً من الأشياء وأنت لا تستطيع أن تتعامل معه؛ لأنك جاهل بحقيقة هذا الشيء، ثم تأتي بمعلم ليعلمك على هذا الجهاز أو غيره، ثم بعد أن تتعلم تصير عالماً بهذا الجهاز؟ لأن الله تعالى خلق فيك العلم بعد أن كنت جاهلاً. أما الله عز وجل فلا يوصف بأنه لم يكن عالماً فصار عالماً، فأما علمي فإنه على قدر بشريتي أعلم شيئاً وأجهل أشياء، وعلمي لهذا الشيء الذي أنا تعلمته وعلمته إنما هو علم حادث. ومعنى أنه حادث: أنه مخلوق. وأما علم الله تبارك وتعالى فإنه علم شامل محيط بجميع الخلائق، فهو يعلم تبارك وتعالى ذاته ويعلم أسماءه، ويعلم صفاته كما أنه يعلم كل شيء من خلقه أجمعين. وأما أنت فعلمك على قدر ما تحتاج وربما أقل مما تحتاج، فلم يدع أحد من الخلق أنه أحاط بكل شيء علماً، أو ادعى صفة من صفات الربوبية إلا أن يكون فرعون، والله تعالى قد كذبه وأهلكه، ولو كان إلهاً كيف يتسنى له أن يموت، مع أن الحياة والقيومية صفتان ذاتيتان لازمتان لله، ولذلك ورد في الأثر: أن امرأة طرقت الباب على فرعون فقال لها: من؟ فقالت وهي بالباب: بئس الإله الذي لا يعرف من في الباب. أي: أتزعم أنك إله ولا ترى من خلف الباب فكيف ترى الكون؟ ولا ينازع أحد في أن الله تعالى يرى كل كبيرة وصغيرة في الكون، فعلمه محيط، ولو تفكرت في علم الله لوجدت عجباً. إن الله تعالى يعلم ما في جوفك وما في ظاهرك، وما في جوف الآخرين وظواهرهم، بل وما في جوف السماوات السبع والأرضين السبع وما في ظاهرها، وإن الله تعالى يعلم الموجود، وإن الله تعالى يعلم الغيب ويعلم الشهادة، فعلمه محيط بكل شيء، علم عام وشامل، أما علم المرء فإنه علم قاصر ضعيف حتى في أخص خصوصيات عملك واختصاصك فكثيراً ما تقابل أشياء من صميم عملك فتقول: أنا ما تعلمت هذه القضية، وأنا أجهلها. إذاً: علم الله تعالى علم لا يقاس به علم، وكذلك سمع الله لا يقاس به سمع، لأنه يسمع كل شيء مهما دق وخفي، فأنت ربما تحدث نفسك بأشياء ومعك جارك أو صديقك أو صاحبك، وربما يقول لك صاحبك: فيم تفكر يا فلان؟ الذي يفكر فيه ذلك المرء يعلمه الله تبارك وتعالى، ويعلم ما هو صائر إليه، ونتيجة هذا التفكير الذي لا يعلمه العبد إنما يعلمه الله؛ فإن الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض وقبل أن يخلق هذا العبد علم أن عبده فلان

إثبات أن صفة العلم صفة ذات أزلية لله تعالى

إثبات أن صفة العلم صفة ذات أزلية لله تعالى قال: [عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل عند المريض وكان في علم الله ألا يموت في مرضه ذلك: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفاه الله)]. والشاهد من هذا الحديث: إذا قال الرجل عند مريض في زيارة مرضه: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك شفاه الله تعالى) إذا دعا بها سبع مرات، إذا كان في علم الله الأزلي السابق أن هذا المرض ليس هو مرض الموت، ولذلك كانوا يفرقون بين مطلق المرض ومرض الموت، فمطلق المرض يمرض ويشفى، بينما مرض الموت يموت بسببه، فإذا كان لم يسبق في علم الله عز وجل أن هذا الرجل في هذا المرض يشفى من مرضه فإنه يشفى بسبب هذا الدعاء. وهذا يعني أن الله تعالى علم في الأزل أن هذا العبد لم يمت، ولذلك فإن هذا النص يثبت أن الله تبارك وتعالى لا يزال عالماً منذ الأزل، ولا ينتهي علمه أبداً، لأن العلم صفة ذات للمولى تبارك وتعالى. وصفة الفعل إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل، مثل صفة الكلام إذا شاء الله تعالى تكلم، وإذا شاء ألا يتكلم لا يتكلم، بخلاف صفة الذات فإنها لازمة له لا يمكن أن تنفك عنه كصفة اليد مثلاً، فإن الله تعالى أثبت لنفسه اليدين فهو سبحانه وتعالى متصف بهما أزلاً وأبداً. ومن قال: إذا شاء الله أن يحتفظ بيديه احتفظ بهما، وإذا شاء أن يستغني عنهما استغنى، فهذا سوء أدب مع الله عز وجل، حتى وإن كان ذلك على سبيل المثال. فهنا نقول: إن صفة العلم صفة لازمة لله عز وجل، ليست صفة فعل، لأننا لو قلنا إنها صفة فعل، لجاز لنا أن نقول: إذا شاء علم وإذا شاء جهل، والجهل منتف عنه تعالى، فلابد أن يثبت له العلم أولاً وآخراً، فهنا نقول: الله تبارك وتعالى علم أزلاً أن هذا العبد سيموت في هذا المرض أو لا يموت، فإذا كان الله تعالى علم أنه لا يموت في هذا المرض شفاه بسبب هذا الدعاء، وإذا كان علم أزلاً أنه سيموت في هذا المرض، وأنه قدر عليه المرض وكتبه ويموت بسببه، فإن الناس أجمعين لو اجتمعوا على أن يدعوا لهذا المريض لا ينفعه ذلك، ولو أتوا بأصلح من في الأرض وأتقى من في الأرض لا ينفع ذلك الدعاء؛ لأن الله تعالى كتب أزلاً أنه سيموت بهذا المرض، حتى ولو جمع الله الأنبياء والمرسلين يدعون لعبد من عباده بالشفاء، ولكن الله كتب له ألا يشفى من هذا المرض بل يموت فيه لا تقبل دعوات الأنبياء والمرسلين، ولكنه من باب الدعوات وطلب الخير فقط، ولا يلزم أن يشفى منه بسبب دعاء المرسلين، فكم دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في مرض موتهم، ولكن الله تعالى كتب أزلاً أنهم سيموتون في هذا المرض، فكتب لهم الأجر بسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يملك لهم السلامة والشفاء من هذا المرض.

الرد على ما يروى عن ابن عباس في معنى الكرسي وتأويله بالعلم

الرد على ما يروى عن ابن عباس في معنى الكرسي وتأويله بالعلم قال: [عن ابن عباس قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] قال: علمه]. في الحقيقة: هذا نص لم يثبت عن ابن عباس، والحمد لله أنه لم يثبت، ولو ثبت على مذهب من حسن هذا الأثر فليس فيه حجة؛ لأن الكرسي لا يجوز صرفه عن ظاهره. فلا يجوز أن أقول: الكرسي بمعنى العلم. أي: وسع علمه السماوات والأرض؛ لأن سعة علم الله عز وجل في السماوات والأرض قد ذكرت في آيات ونصوص آخر، والكرسي قد وردت فيه أحاديث تثبت أن لله تبارك وتعالى كرسي، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله خلق الأرضين، وخلق السماوات وجعل بين السماء الدنيا وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وفوق كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وفوق السماوات البحر، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والله تعالى فوق العرش). وقال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الكرسي، قال: (هو موضع القدمين لله عز وجل). فهل يتصور أن علم الله تعالى هو موضع قدميه؟ هذا كلام لا معنى، فكيف يفسر الكرسي بأنه العلم، وهل دعت الضرورة إلى صرف هذا النص وهذا اللفظ عن ظاهره؟ A لا. وأهل السنة متفقون على أن ما يخص المولى تبارك وتعالى من أسماء وصفات خاصة في أمور الغيب لا يجوز صرفها عن ظاهرها أبداً وإلا وقع الصارف في التعطيل، أي: تعطيل المولى عز وجل عن صفاته.

حكم القول: (بأن علم الله مخلوق)

حكم القول: (بأن علم الله مخلوق) قال: [أخبرنا عبد الله بن أحمد بن علي المقرئ، قال: سمعت أبا بكر عبد الله بن محمد بن زيد النيسابوري يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: قال حفص الفرد: علم الله مخلوق. قال الشافعي: كفرت بالله العظيم]. هذا القول إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان؛ لأن كل مخلوق حادث جديد، وعلم الله تبارك وتعالى أزلي أولي، فهل يتصور أن الله تعالى لم يكن عالماً فصار عالماً حتى نقول إن علم الله مخلوق؟! فضلاً عن أن كل مخلوق يفنى، وما من شيء إلا وهو حادث يطرأ عليه البلى والفناء، فهل الله تبارك وتعالى لم يكن عالماً فصار عالماً، ولزاماً أن نقول: إن علمه حادث ومخلوق، وكل مخلوق فان، فهل كان الله تعالى جاهلاً ثم صار عالماً، ثم يئول بعد ذلك إلى الجهل؛ لأنه إذا كان علمه حادثاً فلابد وأن يفنى، فهذا كلام هو للكفر أقرب منه إلى الإيمان. ولذلك كفَّر أهل العلم من قال بهذا القول: [قال الشافعي: كفرت بالله العظيم]. أي: كونك تقول: إن علم الله حادث. وهؤلاء المبتدعة يتكلمون من طرف خفي ومع خاصتهم في صفة واحدة لا في كل الصفات، ثم يصير من سمع هذا الكلام فرحاً ببيان بدعة ذلك المبتدع في علم الله، وليس في علم الله فحسب، وإنما في جميع الصفات، لأن أهل السنة يعتقدون أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات إما إثباتاً أو نفياً، فمن قال: إن علم الله حادث أو مخلوق، يلزمه أن يقول: إن سمع الله تعالى كذلك، وحلم الله تعالى كذلك، وقدرة الله تعالى كذلك، وأنه لم يكن قادراً فصار قادراً، ولم يكن سميعاً فصار سميعاً، ولم يكن مبصراً فصار بصيراً بعد ذلك، وكذا في بقية الصفات. ولماذا تقول بالذات: (علم الله تعالى حادث)، مع أن العلم صفة، والسمع صفة والرحمة صفة، والقوة صفة، والإرادة صفة والمشيئة صفة، فلم تقول هذا في صفة وتترك في بقية الصفات؟ لابد أنه سيعجز عن جواب هذا السؤال. ولذلك لما أتى يحيى بن يعمر البصري إلى مكة ومعه حميد بن عبد الرحمن البصري قال له: لعل الله تعالى يقيض لنا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: فأتينا الكعبة فوجدنا أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر يطوف بها. قال: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي أسأله أنا فقلت: أبا عبد الرحمن! قد ظهر قبلنا أناس يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف. والشاهد في قوله: (وأن الأمر أنف). يعني: مستحدث. أي: أن الله لا يعلمه أزلاً، وما علمه إلا بعد أن وقع بالفعل. يعني: أن الله تبارك وتعالى - على مذهب الجعد وتلميذه الجهم بن صفوان - لا يعلم قبل صلاة العشاء أنه هناك درس، وما علم أن هناك درس في مسجد الهدى إلا بعد يوم السبت حقيقة. فهل يتصور في جنب الله عز وجل أنه لم يكن عالماً به إلا بعد أن وقع فعلمه؟ وهذا يعني أن صفات المولى عز وجل خلقت له سبحانه وتعالى، وهذا كلام هو إلى الكفر أقرب، ولذلك كفر عبد الله بن عمر هؤلاء وتبرأ منهم. وفي رواية أنه قال: أو قد قالوها؟ كأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوقعون أن يظهر هذا، ولذلك ورد في صفاتهم أنهم يتنطعون ويتعمقون، وهذا شأن كل متنطع في دين الله عز وجل أن يبوء بالفشل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أنه قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا). فما من إنسان تشدد في دين الله عز وجل في كل مسائله وقضاياه أكثر مما ورد فيه النص إلا انقطع، إما غالى مغالاة شديدة جداً فكان حرباً على الإسلام والمسلمين، وإما سقط وترك كل شيء، وخير الأمور أوسطها، وهذه الوسطية وهذا العدل هو الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يحيا به وعليه، وكذلك أصحابه الكرام وأهل العلم الذين يقتدى بهم في دين الله عز وجل. قال عليه الصلاة والسلام: (إن دين الله يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه). يعني: لن يغالب الدين أحد إلا غلبه الدين. لو أن رجلاً قام الليل كله يصلي لغلبه النوم فنام قبل صلاة الفجر ولم يصل الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وإن شئت فقل إلا بعد أذان الظهر؛ لأنه قام الليل كله، وانقطع لذلك عن أداء الفرض، والنبي عليه الصلاة والسلام يحذر أن يكون الرجل منا كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. والمنبت: هو المسرع الذي يجري جرياً سريعاً متلاحقاً، فلو أن رجلاً أراد سفراً إلى بلد ما، فركب دابة وظل يضربها على ظهرها، ويأنف أن تمكث وأن تستريح في أثناء الطريق، فإنها ستكل وتعجز عن السير مهما ضربها، فلا هو أبقى الدابة وحافظ عليها، ولا هو وصل إلى البلد التي يريد الوصول إليها، لأنه مسرع على غير العادة متنطع متشدد. أما الاستمساك بكتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي عليه الصلاة والسلام على منهاج العدل والوسطية الذي كان علي

الإيمان بمدلول الأسماء والصفات

الإيمان بمدلول الأسماء والصفات قال: [وعن إسحاق بن راهويه: إن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة]. والمعتزلة قالوا: إن الله سميع بغير سمع، بصير بغير بصر، قادر بغير قدرة، ومعنى ذلك: أن الله تعالى ذات متصفة بأسماء لا مدلول لها في الواقع. من الممكن أن يكون الإنسان قوياً ويصرعه أحد الناس، أو كريماً وفيه ما فيه من البخل والشح أو لطيفاً وعنده من الغلظة ما فيه، فلا يلزم من صفات المخلوقين أن يكون لها وجود في الواقع، بل من الممكن أن يتصف المرء بصفة وبضدها، وليس لصفات المولى تبارك وتعالى ضد، وإنما ضدها في المخلوقين لا في الخالق، فالله تبارك وتعالى اتصف بالحلم فحلمه وسع كل شيء، وهو حليم إلى أقصى درجات الحلم وأكمل درجات الحلم، بحيث لا حلم بعد ذلك، ولا أحد يتصف بهذه الصفات فيداني أو يقارب المولى تبارك وتعالى، لأنه متفرد في صفاته، فلا أحد في الخلق يبلغ مبلغ الحلم لله عز وجل، ولا يدانيه ولا يقترب منه، لأن حلمه عام وحلم المخلوق خاص. فكذلك لو قلت: إن الله سميع بغير سمع يلزمني أن أقول: ربما يتصف بالسمع وغيره. أنا ممكن أن أسمى سميع وأنا أصم، وأنا في الحقيقة لا أسمع شيئاً لأنني أصم، فلا يلزم من كون اسمي سميعاً أن أكون سميعاً حقاً. فهذه المسألة مهمة جداً: إذا قلت: إن الله سميع بغير سمع، وبصير بغير بصر، وعليم بغير علم، يلزمك أن تقول: أنه لا يسمع أصلاً، ولا يبصر أصلاً، ولا يعلم أصلاً، أو أحياناً يعلم وهو لا يعلم، ويبصر وأحياناً لا يبصر، وأحياناً يكون قادراً وأحياناً يكون عاجزاً. بالنسبة للمخلوق لا يلزم من ذكر اسم قادر أن يكون في كل شيء قادراً، فلا يلزم من كان من المخلوقين اسمه قوي أن يكون قوياً، أو من كان اسمه قادر أن يكون قادراً على كل شيء، إنما يلزم لله عز وجل أن يكون صاحب القدرة، والقوة المطلقتين، فهو سميع بسمع، وبصير ببصر، وغير ذلك من الأسماء والصفات.

سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله بأن الله سميع بسمع قادر بقدرة

سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله بأن الله سميع بسمع قادر بقدرة قال: [سياق ما دل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]]. فأثبت لنفسه السمع والعلم. [قال تبارك وتعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]]. وهذا قول إبراهيم لأبيه، وهذه الآية بمفهوم المخالفة تثبت أن الإله يسمع ويبصر وهو الغني ولا يغني عنك شيئاً؛ لأنه الغني تبارك وتعالى. [وقال في قصة موسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، وروي عن عمر أنه كلمته هذه المرأة. فقيل لها: أكثرت على أمير المؤمنين. فقال: دعها أما تعرفها؟ هي التي سمع الله منها] أي: فأولى بنا أن نسمع. فـ عمر رضي الله عنه أثبت لله صفة السمع، فقال: دعها أما تعرفها هي التي سمع الله جدالها. وهذا نص من عمر بن الخطاب وفيه انقطاع، ولكن يشهد له أصل القصة أنها في كتاب الله عز وجل. [وقالت عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات]. يعني: سمع الله تبارك وتعالى أحاط بجميع الأصوات، لا أقول: يسمع أصوات الآدميين فحسب، بل وأصوات جميع المخلوقات آدميين وغير آدميين من شجر وبشر وحجر وخيل وريح وجميع المخلوقات. [وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع أصحابه يرفعون أصواتهم بالدعاء، فقال: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)]. وكان هذا في غزوة من الغزوات، كانوا كلما نزلوا منزلاً أو صعدوا جبلاً رفعوا أصواتهم بالدعاء، فأتاهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أربعوا). يعني: تلطفوا وأرفقوا بأنفسكم، (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً). فنفى عنه صفة النقص، وأثبت له صفة الكمال، فالله تبارك وتعالى لا يتصف بالصفات التي تليق بالمخلوقين كالصمم وغيرها، فأثبت له الكمال في السمع والبصر، ونفى عنه صفة الأصم والغائب؛ لأن الله تعالى لا يغيب عنه شيء، لأنه حي قيوم. [وأشار النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة لما قرأ (سميعاً بصيراً) فوضع أصبعه السبابة التي يدعو بها وإبهامه على عينه وأذنه -يعني بذلك- أن الله تعالى يسمع بسمع، بصير ببصر]. لكن لا يلزم من هذه الإشارة أن الله تعالى له عين كعيني وأذن كأذني، خاصة وأن الذي فعل ذلك هو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد حذرنا من أن نمثل صفات المخلوق بصفات الخالق، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين لنا أن المولى تبارك وتعالى يتصف بصفات هي صفات لنا من جهة الاسم فقط، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق. فالقدر المشترك بين سمع الله وسمع المخلوق هو في الاسم فقط ومن ذلك أن الدنيا فيها تفاح والجنة فيها تفاح، والدنيا فيها عسل ولبن وخمر والجنة فيها عسل ولبن وخمر، فهل خمر الجنة وعسلها وتفاحها كخمر الدنيا وعسلها وتفاحها؟ شتان ما بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. إذا كان هذا الاختلاف في المخلوقات التي خلقها الله سواء في الدنيا أو في الآخرة، فإنهما يختلفان تماماً من جهة المذاق والحلاوة، فكذلك صفات الله تعالى تختلف عن صفات المخلوق. قال: [عن أبي موسى رضي الله عنه: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) -يعني: أقرب شيء إلى شعر رقبة بعيره- قال أبو موسى: (فقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)]، فالله تعالى معنا بسمعه وعلمه وبصره، أما ذاته العلية تبارك وتعالى فهو فوق العرش. قال: [عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز وجل، يشرك به ويجعل له ولد، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم) أخرجه مسلم من حديث جرير، والبخاري من حديث الأعمش]. فأي حلم وأي صبر للمولى عز وجل! والشاهد من هذا الحديث: إثبات السمع لله عز وجل، فهو الذي يخلق الخلق ويعافيهم ويرزقهم الصحة والرزق والمال والطعام والشراب وغير ذلك، ثم بعض هؤلاء الخلق يطوفون حول قبر البدوي، أو الحسين، ويدعونهم من دون الله عز وجل، وهذا من أعظم الظلم لله عز وجل، وهو أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قال: [عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه سميع بصير، فوضع أصبعه السبابة وإبهامه على عينه وأذنه) أخرجه أبو داود، وهو إسناد صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه]

صفة الوجه والعين لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الوجه والعين لله عز وجل صفة الوجه ثابتة لله عز وجل بأدلة الكتاب والسنة، وقد تضافرت أقوال علماء السنة على إثباتها لله عز وجل، كما أثبتها سبحانه لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كعادتهم في إثبات سائر الصفات الله عز وجل، بدون تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، وقد خالف أهل البدع في ذلك فأولوا هذه الصفة، كما أولوا غيرها من الصفات، ظانين منهم أنهم ينزهون الله عز وجل بزعمهم عن الأبعاض والأجزاء ومشابهة المخلوقين، وهذا انحراف وضلال مبين.

سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله على أن من صفات الله الوجه

سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله على أن من صفات الله الوجه إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فإن الوجه ثابت لله عز وجل في كتابه الكريم، وفي سنة نبيه العظيم عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وخالف في ذلك المتأخرون، أو خالف في ذلك الخلف جميعاً. وصفة الوجه لله عز وجل صفة ذاتية خبرية، وليست صفة فعلية، بل هي صفة ذاتية، بمعنى أنها لازمة لذاته منذ الأزل وإلى الأبد، فهي لازمة له أولاً وآخراً ولا تنفك عنه، فهي ليست من صفات الأفعال التي إذا شاء الله تعالى فعلها وإذا شاء لم يفعلها كصفة الكلام والضحك والغضب والإتيان والمجيء والسرور والفرح، وغير ذلك، فهذه صفات فعلية إذا شاء فعلها وإذا شاء لم يفعلها، بخلاف الصفات الذاتية اللازمة له، والتي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى. وثبتت هذه الصفة كغيرها من الصفات الخبرية بكتاب الله عز وجل، قال: [قال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]] فهذه الآية أثبتت أن لله تبارك وتعالى وجهاً. قال: [وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]]. أي: وجه الله تبارك وتعالى. قال: [عن أبي موسى: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه -يعني: يخفض الميزان ويرفعه- يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفها -أي: لو كشف هذا الحجاب- لأحرقت سبحات وجهه) زاد عبد الله: (كل شيء أدركه بصره)]. فأثبت في هذا الحديث أن له وجهاً. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: [(ما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)]، فإذا رفع هذا الحجاب رأى الناس ربهم تبارك وتعالى وذلك في الآخرة. أي المؤمنون. وهذا الحديث قطعة من حديث طويل عند البخاري ومسلم في أبواب رؤية الرب تبارك وتعالى لأهل الإيمان.

إتيان السلف لصفة الوجه كسائر الصفات

إتيان السلف لصفة الوجه كسائر الصفات أطبق سلفنا رضي الله عنهم وأتباعهم على الإيمان بهذه الصفة كغيرها من صفات الرب تبارك وتعالى، وإثباتها على ما يليق بالله، وهم لا يفسرونها ولا يؤولونها، وإنما يؤمنون بها كما جاءت، ويمرونها كما جاءت، وهذا مذهب سلفنا رضي الله عنهم في جميع الصفات الخبرية لله عز وجل، بل وفي جميع الصفات، فهم يؤمنون بها على ما وردت في النص دون أن يتعرضوا لها بالتأويل أو التحريف أو التمثيل أو التكييف، ولا يطلقون عليها شيئاً من الألقاب التي يرددها النفاة -أي: المعطلة أو المتأولون- مثل العضو أو الجزء. المعطلة والمؤولة يقولون: الوجه لله عز وجل يلزم منه إثبات أنه كل يتجزأ. قالوا: فالوجه جزء من البدن والذات، فلو أننا قلنا: إن لله وجهاً للزم أن نقول: إن الله ذات مكون من أبعاض وأجسام وأجزاء. وهذه هي شبهة الممثلة أو المعطلة الذين أرادوا أن ينزهوا بزعمهم الله تبارك وتعالى عن مشابهته للمخلوقين. قالوا: ولو أننا أثبتنا الوجه للزم من ذلك أن نقول بالأبعاض أو الأجزاء للكل وللذات العلية، ولما كان هذا عندهم يتنافى مع تنزيه المولى تبارك وتعالى فقد قالوا: نحن لا نثبت له وجهاً؛ لأن إثبات الوجه يلزم منه أنه سبحانه وتعالى جسم. وإن سلفنا رضي الله عنهم لم يذهبوا في هذه الصفة -كما لم يذهبوا في غيرها- إلى مثل هذه التأويلات، بل قالوا: نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه من صفات النقص، ونثبت له ما أثبته له رسوله من صفات الكمال، وننفي عنه ما نفاه عنه رسوله من صفات النقص، وإذا أثبتنا شيئاً لله تبارك وتعالى قد ورد في الكتاب والسنة فإنما نثبته على الوجه اللائق بالله عز وجل، ولا نخوض فيه بتأويل أو تعطيل أو تحريف؛ لأننا لو عطلنا هذه الصفة وقلنا: ليس لله وجه فلابد وأن نكون مكذبين بالقرآن الكريم وبأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. والله تبارك وتعالى أعلم بنفسه من خلقه، ونبيه أعلم به من بقية الخلق، وإذا كان الله تبارك وتعالى -وهو أعلم بذاته العلية- قد أثبت لنفسه الوجه فلم لا نثبته نحن؟ وإذا أثبت الرسل لله تبارك وتعالى الوجه فلم لا نثبته نحن؟ وإذا كنا متبعين غير مبتدعين فلم لا نتبع النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمرنا؟ ولم لا ننته عما حذرنا منه؟ ولماذا نعطل الله تبارك وتعالى عن صفاته العلية وأسمائه الحسنى؟ وهنا أمر أكرره دائماً؛ لأنه في غاية الأهمية، وهو أن نعتقد معتقد السلف في صفات المولى تبارك وتعالى وفي أسمائه العلية، ولو نظرت الآن على وجه المعمورة والبسيطة لوجدت قلة قليلة جداً من أهل العلم -ولا أقول من طلاب العلم ولا من عامة الناس- يعتقدون معتقداً صحيحاً في الله عز وجل، وأما عامة أهل العلم فإنهم قد وقعوا فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وحذر منه أصحابه الكرام، فقد وقعوا في التأويل تارة، وفي التحريف تارة، وفي التعطيل تارة، وغير ذلك زعماً منهم أنهم ينزهون الله تبارك وتعالى.

خطأ إطلاق لفظ (كتب التربية الدينية) على الكتب الشرعية

خطأ إطلاق لفظ (كتب التربية الدينية) على الكتب الشرعية إننا لو نظرنا الآن إلى القائمين على المناهج الدراسية التي أعدت إعداداً لإبعاد أطفالنا وأولادنا عن سلوك طريق الهدى المستقيم، وعن سلوك طريق ربهم لوجدنا أنهم أقوام تربوا على أيدي اليهود تربية طويلة، أخذت أمداً بعيداً من السنين، وإذا نظرنا إلى كتب التربية الدينية، وهذا اسم خطأ، وإنما الصحيح أن تسمى: التربية الشرعية الإسلامية، وليست التربية الدينية؛ فإن اليهود يقولون: التربية الدينية. والنصارى يقولون: التربية الدينية، ونحن نقول: التربية الدينية. إذاً: نحن نعترف بأن لليهود ديناً، وغير ذلك، ودين الله تبارك وتعالى واحد، فقولنا: التربية الدينية هذا أمر مجمل، وفيه لبس عظيم جداً، وهو يجعل المستمع لهذا المصطلح يقول: هناك تربية دينية لليهود وللنصارى وللمسلمين، ولو قلنا: (التربية الشرعية الإسلامية) لكان أمراً قاطعاً وجازماً، فالمصطلح الأول مصطلح غربي لا علاقة لأهل الإسلام به.

اشتمال المناهج الدراسية على عقيدة التأويل والتحريف والتعطيل والتمثيل

اشتمال المناهج الدراسية على عقيدة التأويل والتحريف والتعطيل والتمثيل أيضاً: لو نظرنا في أمثال هذه الكتب التي تدرس التربية الشرعية لأولادنا في المدارس وإخواننا في الجامعات لوجدنا فيها التأويل والتحريف والتعطيل بل والتمثيل تارة كما عند النصارى، وهو تمثيل الخالق بالمخلوق، وهذا أمر في غاية الفظاعة، فأولادنا يتربون أعواماً طويلة على هذا الانحراف العقدي، ثم بعد ذلك إذا أردنا أن نضبط هذا الفكر والفهم تعبنا كل التعب؛ لأنهم منذ عشرين عاماً وهم يدرسون تلك العقيدة الفاسدة التي استقوها من جوهرة التوحيد، أو من كتب النسفي، أو من كتب الزمخشري، أو غيرها، فيعز بل يصعب جداً أن يستقيم هذا الذي درس هذا الانحراف أمداً طويلاً، وأن يعود بين يوم وليلة. وأنا أحذر كل الحذر الإخوة والآباء لهؤلاء الطلاب والتلاميذ، وأنصحهم أن يراجعوا على جهة الخصوص كتب اللغة العربية والتربية الدينية، ويقوموا أولادهم، ويبينوا لهم فساد وعوار ما أدخل في هذه الكتب، وأنه قد حرص واضعيها على إرضاء أسيادهم هنا وهناك. إن تصحيح معتقدك ومعتقد أبنائك وأهل بيتك أمر في غاية الأهمية؛ لأن العقيدة أهم شيء في حياة المسلم، فإن استقامت استقام ما بعدها، وإن اعوجت فقد اعوج كل شيء بعدها، ولا يسلم للعبد شيء قط إذا كانت عقيدته غير منضبطة على عقيدة السلف رضي الله وتبارك وتعالى عنهم. والسلف رضي الله عنهم يثبتون لله تبارك وتعالى الصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله على المعنى اللائق به، وكونهم يثبتون ذلك هذا يرد على المعطلة الذين ينفون هذه الصفات عن الله عز وجل، وكونهم يثبتونها على المعنى اللائق بالله عز وجل يردون به على الممثلة الذين قالوا: إثبات هذه الصفات يستلزم التمثيل، فقال السلف: إثباتها لا يستلزم التمثيل، ولكننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه على الوجه الذي يليق بذاته العلية. وإذا كنا نؤمن أن لله تبارك وتعالى ذاتاً علية تختلف عن ذوات المخلوقين، فلابد وأن نؤمن لزاماً أن لهذه الذات العلية التي تختلف عن ذوات المخلوقين صفات علية تختلف عن صفات المخلوقين؛ لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا بلغنا هذا المبلغ وعرفنا أن هذه الذات متصفة بصفات، وأنها علية لا تتناسب ولا تتماثل وتتشابه مع ذوات المخلوقين، فلابد أن تكون الصفات كذلك.

شبهة نفاة صفة الوجه والرد عليهم

شبهة نفاة صفة الوجه والرد عليهم السلف لا يطلقون على هذه الصفات شيئاً من الألقاب التي يرددها النفاة مثل العضو، والجزء، والبعض، وغير ذلك من الألقاب التي يطلقونها ليتذرعوا بها إلى نفي هذه الصفة، بدعوى أن إثبات هذه الصفة يعني التركيب المستلزم للحاجة والافتقار، فهم يقولون: لو أنكم أثبتم الوجه فلا بد أن تقولوا: إنه بعض من كل؛ لأن الوجه جزء من الجسم ومن البدن، فإذا أثبتنا لله عز وجل وجهاً فلابد وأنه جزء من ذاته، قالوا: كما أن إثبات اليد يستلزم أن تكون جزءاً من ذاته، وكذلك العين والساق، فهو إذاً: ذات مكونة من أبعاض وأجزاء وأجسام، وهذا كلام في غاية الإجرام في حق الله عز وجل. والمخلوق مكون من أجزاء وأجسام وأبعاض، ولو سئلت: هل تقيس الخالق بالمخلوق؟ فلا بد وأنك ستقول: لا، فالذات تختلف عن الذات. أي: ذات الخالق تختلف عن ذات المخلوق. وإذا كان هذا النافي أو المشبه يقول بهذا، فنقول له: اختلاف الذات عن الذات يستلزم اختلاف الصفات، وهذا يعني: أن نثبت الصفات، ولكن على الوجه اللائق بتلك الذات، فلما كانت الذات كاملة علية جليلة، فلابد وأن تكون الصفات كذلك، فنثبت لله تبارك وتعالى الوجه. وهم يقولون: الوجه هو الذات. فإذا سئلوا: لماذا تقولون إن الوجه هو الذات؟ لقالوا: اعتماداً على قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. ونحن نثبت لله تبارك وتعالى الساق والوجه واليد والعين والنفس، وكل ما أثبته الله تعالى لنفسه، ولو قلنا بإثبات الوجه الحقيقي لله عز وجل لقال النفاة: يلزم من إثباتكم الوجه لله عز وجل: أن ذات الإله هالكة مع من يهلك، ولا ينج إلا وجهه، ويستشهدون بظاهر الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].

رد ابن عثيمين على من أول الوجه بالذات

رد ابن عثيمين على من أول الوجه بالذات تعرض الشيخ ابن عثيمين حفظه الله تعالى لرد هذه الشبهة بكلام ممتع وجميل جداً فقال: فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت -يعني: عطلت- فإذا قلت: إن هذا الوجه عبارة عن الذات فيكون المعنى: إنه ذات بلا وجه، كما قال أحد المفسرين: إن الله تبارك وتعالى ليس له وجه، فالله تبارك وتعالى يثبت أن له وجهاً، وهو يقول: ليس لله تبارك وتعالى وجه. وقال في قوله تعالى في سورة القصص: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، أي: إلا ذاته. لأنه ليس لله وجه، إذ لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، فنفى الوجه عن الله تبارك وتعالى نفياً صريحاً، وقال: الوجه عبارة عن الذات حيث إنه لا وجه له؛ لأنه يلزمنا من إثبات الوجه أن نشبهه بالمخلوقين، ولما كان لا يشبه المخلوقين ولا يشبهه مخلوق يلزمنا نفي صفة الوجه. ولذلك قال صراحة في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. أي: إلا ذاته؛ لأنه ليس لله وجه، إذ لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء. وهذا الرجل الكبير هو فريد وجدي، وتفسير فريد وجدي يقع في مجلد عظيم، وقد سلك فيه مسلك الأشاعرة في كل الصفات، وقد نفى عن الله تبارك وتعالى صفة الوجه التي أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: إن قلت المراد بالوجه الذات فيخشى أن تكون حرفت، وهذا التحريف يستلزم التعطيل، وإن أردت بالوجه نفس الصفة -أي: صفة الوجه- وقعت في محذور، وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه. يقول: و A إن أردت بقولك إلا ذاته يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه. أي: بذات لها وجه. وإن أردت بقولك الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون إثبات الوجه، فهذا تحريف وهو غير مقبول. أي: أن ابن عثيمين مشى على قاعدة: أن السلف يثبتون الصفة ولازمها، فهو يقول: إذا أردت بالوجه الذات فلا بأس بهذا المراد إذا كنت تثبت أن هذه الذات لها وجه، وأما إذا قصدت أن الوجه هنا يعني الذات المجردة عن الصفة فهذا تحريف وتعطيل. إذاً: لا بأس أن تقصد بالوجه الذات، ولكن مع الإيمان بأن هذه الذات لها وجه. وهذا كلام جميل ومقبول، وإن كنت لا أستريح راحة كاملة لهذا التأويل، وهذا التفسير والبيان، ولكني أؤمن بالصفة كما جاءت هكذا، ولكن يلزمني أن أجيب عن السؤال، وأقول: من قال: إن الهلاك يلزم كل شيء إلا الوجه، وأن الله تبارك وتعالى يهلك فقد كفر. ويكون معنى الآية: إن الله تبارك وتعالى يهلك كل عباده ولا يهلك هو؛ لأن الهلاك صفة عجز ونقص، وهذا لا يجوز على المولى تبارك وتعالى، بل تبقى ذاته ويبقى وجهه، وربما يكون هذا صياغة أخرى لكلام الشيخ ابن عثيمين حفظه الله، ولذلك يقول: وعليه فنقول: {إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، أي: إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء. والفرق بين هذا القول وبين قول أهل التحريف: إن هؤلاء يقولون: إن المراد بالوجه الذات ولا وجه لهذه الذات. ونحن نقول: المراد بالوجه الذات المتصفة بأن لها وجهاً، فعبرنا به عن الذات. أي: فعبرنا بالوجه عن الذات رداً على هذه الشبهة. وهناك أدلة أخرى في كتاب الله عز وجل تدل على إثبات هذه الصفة -أي: صفة الوجه لله- ومنها: قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22]. ومن السنة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لما قسم النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم يوم حنين قام إليه رجل وقال: يا محمد! إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله). فأثبت الوجه لله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟). يعني: إذا عم الظلم في الأرض فمن يعدل إلا الأنبياء والرسل؟ والشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره على سياق هذا الكلام وفهمه وأن لله وجهاً، وهذا الرجل هو زعيم الخوارج، ولما ولى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليخرجن من ضئضئ هذا -أي: من صلبه وظهره- قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم. قال: فإذا لقيتموهم فاقتلوهم). وهم الخوارج. فهذا إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام لفهم هذا الرجل أن لله تعالى وجهاً. ومنها: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الثلاثة الذين حبسوا في الغار، وقصتهم طويلة معروفة مشهورة، وقال كل واحد منهم: اللهم إن

كلام ابن خزيمة في إثبات صفة الوجه لله تعالى

كلام ابن خزيمة في إثبات صفة الوجه لله تعالى قال إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد بعد أن أورد جملة من الآيات تثبت صفة الوجه لله عز وجل: فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق الشام ومصر مذهبنا أن نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا -أي: نشهد به بألسنتنا- ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين -يعني: نؤمن بهذه الصفة كما جاءت دون تشبيه ودون تمثيل- عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين -يعني: لا وجه شبه بين الخالق والمخلوق- ثم استعاذ من مقالة المعطلين النافين لصفات المولى تبارك وتعالى.

كلام ابن مندة في إثبات صفة الوجه لله تعالى

كلام ابن مندة في إثبات صفة الوجه لله تعالى قال الحافظ ابن منده في كتاب التوحيد: ومن صفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه: قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وكان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بوجه الله من النار، والفتن كلها، ويسأل بوجه الله تبارك وتعالى. ثم سرد ابن منده بسنده أحاديث، ثم قال: بيان آخر يدل على أن العباد ينظرون إلى وجه ربهم عز وجل. إلى أن قال: باب آخر: فيه إثبات أن العباد ينظرون إلى وجه الله عز وجل، وسرد بسنده ما يدل على ذلك من أخبار سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

كلام الأصبهاني في إثبات صفة الوجه لله تعالى

كلام الأصبهاني في إثبات صفة الوجه لله تعالى قال الأصبهاني في كتاب الحجة: ذكر إثبات وجه الله عز وجل الذي وصفه بالجلال والإكرام، والضمير في قوله (وصفه) يعود على الوجه. قال: باب: ذكر إثبات وجه الله عز وجل الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. فهو لم يقل: ذي الجلال، وإنما قال: ((ذُو الْجَلالِ))، وذو الجلال صفة للوجه، ولو قال: ذي الجلال لكان الجلال والإكرام صفتان للرب تبارك وتعالى، وليس للوجه. وقال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]. وهنا لابد أن نفرق بين الآيتين، فلم يقل الله تبارك وتعالى في الآيتين: (ذو). ولم يقل فيهما: (ذي)، وإنما قال في الوجه: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال في الذات: {ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]. وهذا يدلنا على إثبات الوجه، وأنه متصف بالجلال والإكرام، وعلى إثبات الذات، وأنها كذلك متصفة بالجلال والإكرام، فمن قال: إن الوجه عبارة عن الذات -أي: أنه ذات بلا وجه- فلابد وأنه سيخطئ في تفسير قوليه تبارك وتعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو) و (ذِي)، ولن يخرج من هذه الورطة. وقد تعرض ابن عثيمين -رحمه الله- لهاتين الآيتين اللتين ذكرتا في كتاب الله وتعرض كذلك لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فقال في الآية الأولى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]: وهذه معطوفة على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]. ثم أعقب ذلك بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]. ولهذا قال بعض السلف: ينبغي إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أن تصلها بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}؛ حتى تبين الاستثناء؛ حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، فهذا فناء وهذا بقاء. أي: هذا فناء كتب على المخلوقين، وهذا بقاء واجب لله تبارك وتعالى. وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، أي: لا يفنى. الوجه معناه معلوم عند العرب، فهو ثابت لله عز وجل، وكيفيته لدينا مجهولة، كما أن الذات مجهولة لدينا، وكذلك الصفات مجهولة لدينا، ونحن لا نعلم كيفية وجه الله تبارك وتعالى كما لا نعلم سائر صفاته، ولكنه يلزمنا أن نؤمن بأن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، وموصوفاً بالبهاء والعظمة والنور العظيم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وسبحات وجهه أي: بهاءه وعظمته وجلاله ونوره. وقوله: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) فبصره ينتهي إلى كل شيء. يعني: لو أن الله كشف هذا الحجاب -الذي هو من نور- لأحرقت سبحات وجهه جميع المخلوقين؛ لأن بصره ينتهي إلى جميع المخلوقين، وعليه فلو كشف الله هذا الحجاب -الذي هو النور أو النار- لاحترق كل شيء في الأرض. ولهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، ولا يمكن أبداً أن يماثل أوجه المخلوقات. وبناء على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهاً حقيقة، وقد أخذنا هذا ونأخذه من قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وهذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فهذا نفي للمثلية بين الخالق والمخلوق، ونحن نجهل كيفية هذا الوجه؛ لقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه، أو أن يتحدث عنها بلسانه فهو مبتدع ضال؛ لأن هذا ليس طريق السلف، وهو قول على الله من غير علم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فالتعرض لذكر كيفية الوجه لله عز وجل قول على الله بغير علم. وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، أي: أنك مسئول على كل هؤلاء. وأما قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، فقد وصف نفسه بأنه رب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه ربوبية خاصة، وقوله: ((ذُو)) صفة للوجه، والدليل الرفع، فلم يقل: ذي، وإنما قال: ذو، ولو كانت صفة للرب لقال: ذي الجلال، كما قال في نفس السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْ

معنى قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)

معنى قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، أي: فان. وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] أي: هالك إلا وجهه، وهي توازي قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] والمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل فإنه باق، ولهذا قال: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، أي: فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم. وقيل في معنى الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: إلا ما أريد به وجهه. وهذا تأويل ثان، والتأويل الأول: أن يراد بالوجه الذات العارية عن الصفات. وهذا التأويل قد رددناه بقوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو)، ولم يقل: ذي؛ لأن الجلال والإكرام هنا صفة للوجه، بخلاف قوله تبارك وتعالى: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ))، فذي الجلال صفة للرب تبارك وتعالى. وأما التأويل الثاني لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: إلا ما أريد به وجهه تبارك وتعالى، فيكون هذا الهلاك على الأفعال، أي: أفعال العباد، فكل من فعل فعلاً لا يبتغي به وجه الله فهو هالك، أي: يصبح هباء منثوراً. وهناك أحاديث أخرى كثيرة جداً في الأمر بلزوم النية الصالحة في العمل والإخلاص لله عز وجل، وهي تبين أن من عمل عملاً على غير هذا النحو فإنه يكون هباء منثوراً، بل صاحبه في النار، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تعلم العلم ليتصدر به المجالس، أو يماري به السفهاء، أو يجادل به العلماء فالنار النار)، مع أنه تعلم العلم، ولكنه لم يتعلمه لوجه الله عز وجل، ولم يخلص فيه لله عز وجل، وإنما تعلمه بنية سيئة فاسدة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات). فالنية يترتب عليها الجزاء والعقاب، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فقولهم في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] بأنه: إلا ما أريد به وجهه هذا كلام فاسد جداً؛ لأنه يلزم منه نفي الصفة؛ لأن الهلاك سيكون مترتباً على الفعل نفسه، وهم قالوا: إن سياق الآية يدل على ذلك، فقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به؛ لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باق لا يفنى في جنات النعيم. والمعنى الأول أسد وأولى.

تأويل أهل التحريف للوجه بالثواب والرد عليهم

تأويل أهل التحريف للوجه بالثواب والرد عليهم أيضاً: فسر أهل التحريف وجه الله بالثواب، فقالوا: المراد بالوجه هنا: الثواب، فكل شيء يفنى إلا ثواب الله عز وجل فإنه لا يفنى. وإذا قلنا: إن الوجه الثواب لزمنا أن نقول: إن الذات غير متصفة بالوجه. يعني: أنها ذات بلا وجه، وهذا تعطيل. ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال لله عز وجل بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود؛ لأن الثواب إذا شاء الله تبارك وتعالى أوجده وإذا شاء جعله هباء منثوراً، فالثواب بيد الله عز وجل، فهو يثيب عبداً ولا يثيب آخر، والثواب على هذا النحو مخلوق؛ لأنه حادث، فأنت لن تثاب إلا إذا عملت، فثواب الله تبارك وتعالى مخلوق حادث ومترتب على العمل، والعمل كذلك مخلوق وحادث، فإذا قلنا: إن الوجه في الآية المراد به الثواب فالثواب حادث، ووجه الله تبارك وتعالى ليس حادثاً، فلا يصح أن نقول: إن الوجه مقصود به الثواب، بل الذي يصح أن نثبت لله تبارك وتعالى وجهاً على المعنى الذي يليق بكماله وجلاله، فإذا فسر بالثواب صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.

بيان أن كل الآيات التي ذكرت الوجه مضافا إلى الله فإنه يراد بها وجه الله الثابت له

بيان أن كل الآيات التي ذكرت الوجه مضافاً إلى الله فإنه يراد بها وجه الله الثابت له الأصل أن كل آية فيها إثبات الوجه مضافاً إلى الله فإنه يراد بها وجه الله الثابت له، كما في قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]. وقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]. وما أشبههما من الآيات، فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله عز وجل وجه الله تبارك وتعالى، الذي هو صفة من صفاته.

اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) وبيان الصحيح منها

اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) وبيان الصحيح منها اختلف المفسرون في آية واحدة، وهي قوله الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقال بعضهم: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا)) أي: إلى أي مكان وليتم وجوهكم عند الصلاة، ((فَثَمَّ)) أي: فهناك وجه الله عز وجل. ومنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة، وإن معنى {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: فثم الجهة التي وجهكم الله تعالى إليها، وهذا تأويل أيضاً، فأولوا {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: فثم الجهة، فأولوا الوجه بالجهة، وقالوا: إن الوجه بمعنى الجهة؛ لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148]. فلم يقل: لكل وجه هو موليه، ولكن قال: لكل وجهة. فالوجه عند هؤلاء هو الجهة، أي: فثم جهة الله التي يقبل الله صلاتكم إليها، قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، فإذا صلى الإنسان النافلة فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت عليه القبلة، فإنه يتحرى ويصلي، سواء كان ذلك في الفرض أو في النافلة. والصحيح أن المراد بالوجه هنا هو وجه الله تبارك وتعالى الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون فثم وجه الله تبارك وتعالى؛ لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله يقبل عليه بوجهه، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يبصق الرجل عن أمامه أو عن يمينه، ولكن إذا أراد أن يبصق فليبصق عن شماله أو تحت قدمه اليسرى، فإن الملائكة تلازم يمينه، وإن الله تبارك وتعالى من تلقاء وجهه. فإذا صليت في مكان لا تدري أين القبلة فيه واجتهدت وتحريت وصليت ثم بان أن القبلة خلفك فالله يكون قبل وجهك حتى في هذه الحال، ويقبل عليك بوجهه؛ لأنك قد بذلت ما في وسعك وتحريت ما أمكنك. وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية.

حال كتاب: المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات وحال مؤلفه

حال كتاب: المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات وحال مؤلفه للشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي كتاب عظيم جداً اسمه: (المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات). وهو مع صغره إلا أنه عظيم النفع جداً، والشيخ المغراوي رجل مغربي، وعريق في مذهب السلف، وقد التقيت بهذا الرجل في السعودية مرة، وفي الكويت مرة أخرى، وهو في غاية الشدة في إثبات مذهب السلف، وعادة المغاربة بدءاً من ليبيا وانتهاء بالمغرب أنهم قوم لا يعرفون إلا الحدة والعصبية لأي رأي يتبنوه. ومن أعظم نعم الله على ذلك الرجل أنه تعصب لمذهب السلف، وقل أن تجد في المغرب رجلاً يفهم عقيدة السلف حق الفهم كما فهمها هذا الرجل، فصنف هذا الكتاب بعد أن طاف وجال في جميع التفاسير التي ألفها المفسرون، فمنهم من كان معتزلياً محترقاً، أو جهمياً جلداً، أو أشعرياً قحاً، أو سلفياً.

حال المفسرين في التأويل

حال المفسرين في التأويل من المفسرين من وقع في التأويل بغير قصد كـ الشوكاني مثلاً، فـ الشوكاني كان سلفي المعتقد، وكان أولاً زيدياً شيعياً، ولكن الله تبارك وتعالى من عليه بالرجوع إلى مذهب السلف، والذي يترجح لدي أن الله من عليه بوجود محمد بن عبد الوهاب في أرض الجزيرة العربية؛ لأن الشوكاني عاصر محمد بن عبد الوهاب عليهما رحمة الله، وانتشر مذهب ابن عبد الوهاب السلفي العقيدة في أرض الجزيرة كلها في حياته، ولعل الشوكاني عليه رحمة الله تأثر به، فانحرف عن مذهب الزيدية إلى مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم، ثم بقيت عنده بقايا ربما لا يقصدها، ومن باب النصيحة في الدين أقول: إنه وقع في بعض التأويل؛ لأن صاحب البدعة قل أن يتنظف منها بالكلية، بل لابد أن يبقى فيه شيء من رواسبها، ولذلك لا يمكن أن يكون صاحب البدعة الأصلية كصاحب السنة الأصلية وإن تاب صاحب البدعة، فليس هذا كذاك عند الله عز وجل إلا إذا أحسن إحساناً ليس بعده إحسان واستقام استقامة نهائية، وتخلى عن بدعته من أولها إلى آخرها.

حال ابن عطية وابن الجوزي في التأويل

حال ابن عطية وابن الجوزي في التأويل أيضاً: من المفسرين ابن عطية الأندلسي، وهو إمام كبير جداً ومفسر عظيم وصاحب سنة، ولكنه كان في العقيدة أشعرياً، وكان صاحب سنة -أي: له رواية وسند- وتفسيره من التفسيرات العظيمة التي هي محل الاعتبار والاهتمام، ولكنه في آيات الصفات وقع وزل. وكذلك ابن الجوزي عليه رحمة الله.

حال الزمخشري والبيضاوي والنسفي في التأويل

حال الزمخشري والبيضاوي والنسفي في التأويل أيضاً الزمخشري له كتاب عظيم جداً في التفسير، وهو عظيم في باب اللغة، وباب الصرف، والبيان والإعجاز، أما في صفات المولى تبارك وتعالى فلا يساوي شيئاً؛ لأنه معتزلي ومحرف، والبيضاوي كذلك، وكذلك النسفي الذي هو عمدة الأزهر. ومن التلبيس العظيم: أنك تسمع وتدرس في الأزهر أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا تلبيس عظيم جداً على الأمة، فالأشاعرة والماتريدية من أهل القبلة وليسوا من أهل السنة، بل هم خلف، وهم في الترتيب الثاني في إثبات خلفيتهم بعد المعتزلة.

حال الخازن وأبي حيان والجلالين والشربيني وأبي السعود في التأويل

حال الخازن وأبي حيان والجلالين والشربيني وأبي السعود في التأويل أيضاً الخازن في تفسيره كذلك، وكذلك أبو حيان الأندلسي الغرناطي، وهو من غرناطة. وجلال الدين السيوطي كان أشعرياً قحاً، وكذلك جلال الدين المحلي، وتفسير الجلالين معلوم لديكم ومشهور، رغم أنه لا يعتبر في عالم التفاسير تفسيراً؛ لأنه تعليقات يسيرة وبسيطة على كلمات المولى تبارك وتعالى، ولكن لإثبات أشعريتهما جعل الله تبارك وتعالى القلم يجري بأيديهما في آيات الصفات، فأولاها وصرفاها عن ظاهرها حتى تعلم الأمة ولا تضطرب أو تختلف في إثبات أشعريتهما، وسمي هذا التفسير تفسير الجلالين نسبة إلى جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي. كذلك الخطيب الشربيني وهو كذلك عمدة الأزهر، وأبو السعود عمدة الأزهر.

حال الشوكاني في التأويل وعدم تعمده للباطل كالزمخشري

حال الشوكاني في التأويل وعدم تعمده للباطل كالزمخشري والشوكاني سلفي، وله كتاب اسمه: التحف في مذاهب السلف، ولكنه وقع في التأويل، وقد نبهنا مراراً أن الذي يتحرى الحق ولا يصيبه ليس كالذي يتعمد الباطل، وهذا مثل الزمخشري. إن الزمخشري في تفسيره للآيات التي أثبتت رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى صرف هذه الآيات عن ظاهرها، ولم يتكلم فيها، ولما أتى إلى الأحاديث التي تثبت ذلك سمى أهل السنة: الحشوية. وقال: لقد صنع الحشوية أحاديثاً يثبتون بها -بزعمهم- رؤية المؤمنين لربهم. وهذه الأحاديث متواترة، والذي يردها كافر، فالذي يرد الحديث المتواتر كالذي يرد الآية من كتاب الله؛ لأن هذا ثابت بالتواتر وذاك ثابت بالتواتر، ولكنه لم يستطيع أن يرد الآية فأولها، وهذا مذهب أهل البدع. يعني: إذا لم يستطيعوا نزعها من جذرها تعرضوا لها بالتأويل. يعني: يصرفوها عن ظاهرها. فكأنه يقول: الحديث أمره سهل، وأما الآية فلا أستطيع؛ لأن الأمة كلها ستقوم علي، وأما الحديث فهو محل أخذ ورد، فهو يقول عن الأحاديث التي أثبتت الرؤية: أنتم الذين صنعتموها. قال الإمام الذهبي رداً على الزمخشري: ليته ما تكلف. فهل أهل السنة سيطبقون ويجمعون في الأرض مع اختلاف بلدانهم وألسنتهم وألوانهم ومعارفهم على اختلاق أحاديث تبلغ حد التواتر؟ فالمتواتر عند المحدثين هو: الحديث الذي روي بالعدد الكثير في كل طبقة من الطبقات من أول السند إلى منتهاه بحيث يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب. يعني: لا يمكن أبداً أن يتفق مغربي مع واحد مصري مع شامي مع حجازي مع يمني مع طلياني في إثبات حديث وسياقه على نسق واحد إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ إن كل واحد من هؤلاء في جهة، ومع هذا يتناقلون حديثاً على وجه واحد، فهذا يدل على صدقهم، ومع ذلك قال الزمخشري: إنهم صنعوا أحاديث يثبتون بها رؤية المؤمنين لربهم. وهذا لم يضرب ولم يقتل في ذلك الوقت، وهو أشر من الحكام.

حال الألوسي في التأويل

حال الألوسي في التأويل أيضاً: من المفسرين الذين وقعوا في التأويل: الإمام الألوسي، وكتابه (روح المعاني) في التفسير يقع في عشرة مجلدات، وهو كتاب عظيم إلى أقصى حد، ولكن الألوسي زل في بعض الصفات وأولها، وليته ما كتبها، لأن أصله ليس أشعرياً، فزل في بعض الصفات وليس في كلها، فهو مرة يدافع عن مذهب السلف ومرة يقع فيما وقع فيه المؤولة، وهذا يدل على أنه لم يتمكن من دراسة الاعتقاد. ومن واجبي أن أبين لك ذلك؛ حتى إذا قرأت في كتب هؤلاء تحذر، وأنا أحثك على القراءة وطلب العلم من هذه الكتب، إلا في موطن الصفات والذات فينبغي أن ترجع لرجل سلفي سني، أو تقرأ له؛ لأن حبك لفلان ربما يجعلك تعمى وتصم عن أخطائه، وهذا مذهب غير معمول به عند المسلمين.

حال سيد قطب في التأويل

حال سيد قطب في التأويل أيضاً: سيد قطب رحمه الله تبارك وتعالى، وهو لم يتمكن من دراسة الاعتقاد، فقد دخل السجن قبل أن يقرأ كتاباً في العقيدة، وما تعلم في السجن شيئاً، بل تفرغ للكتابة والتصنيف. والذي يظهر أن السيد قطب يثبت صفة الوجه، ولكن بتحفظ شديد جداً، فقد قال في سورة البقرة عند قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]: فهي توحي بأنها جاءت رداً على تفضيل اليهود في إدعائهم أن صلاة المسلمين إلى بيت المقدس كانت باطلة وضائعة ولا حساب لها عند الله، والآية ترد عليهم هذا الزعم، وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة، فثم وجهه حيث توجه إليه عابد، وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله، لا أن وجه الله سبحانه في جهة دون جهة، والله لا يضيق على عباده ولا ينقصهم ثوابهم، فهو عليم بقلوبهم ونياتهم، ودوافع اتجاهاتهم، وفي الأمر سعة، والنية لله، إن الله واسع عليم. وقال في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]: فكل شيء زائل، وكل شيء ذاهب، المال والجاه والسلطان والقوة والحياة والمتاع، وهذه الأرض ومن عليها، وتلك السماوات ومن فيها وما فيها، وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله كله هالك، فلا يبقى إلا وجه الله الباقي متفرداً بالبقاء. وقال عند قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]: وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس، وتخشع الأصوات، وتسكن الجوارح، وظل الفناء يشمل كل حي، ويطوي كل حركة، ويغمر آفاق السماوات والأرض، وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح والزمان والمكان، ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار. ثم ذكر كلاماً وقال بعده: ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب، فيعد استقرار هذه الحديقة الغناء لكل من عليها، وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده بعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس. وقال عند قوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]: ثم ماذا ينتظر هذا الأتقى الذي يؤتي ماله تطهراً وابتغاء وجه ربه الأعلى؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب ومفاجئ على غير المألوف. فهو في تفسيره لهذه الآيات لا يؤولها بل يبقيها على ظاهرها، فنحمله على المتبادر إلى الذهن من إثبات الصفات. وسيد قطب أول صفات كثيرة لله عز وجل وأقل تأويله هو تأويله لصفة الوجه، وقد أول صفة الاستواء، وصفة الكلام، وصفة الكرسي، وصفة الإتيان والمجيء، وصفة النفس، وصفة العين، والمحبة، واليد، والفوقية، وإثبات الرؤية، وصفة المعية، وأقل تأويله هو تأويله لصفة الوجه دون هذه الصفات.

حال المراغي ومحمود حجازي والطاهر بن عاشور في التأويل

حال المراغي ومحمود حجازي والطاهر بن عاشور في التأويل أيضاً: المراغي إمام كبير من أئمة الأزهر وعالم من علمائهم وقد أول هذه الصفات كذلك، وكذلك الشيخ محمود حجازي وقع في التأويل، وطاهر بن عاشور في تفسيره العظيم جداً وقع في التأويل، وكان متأولاً أصيلاً.

حال الصابوني في التأويل وذكر نماذج من تأويلاته

حال الصابوني في التأويل وذكر نماذج من تأويلاته أيضاً: الصابوني -حفظه الله وهداه- وقع كذلك في التأويل، فقال في صفة الوجه عند قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: كل شيء يفنى وتبقى ذاته المقدسة، ففسر الوجه بالذات، وقال: أطلق الوجه وأراد ذات الله عز وجل. قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبر بالوجه عن الذات، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقال عند قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، أي: ويبقى ذات الله الواحد الأحد ذو العظمة والكبرياء والإنعام والكرام. وقال عند قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115]. أي: إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته، فخص الوجه بالقبلة التي رضيها لكم، وقد نزلت الآية فيمن أضاع جهة القبلة. وكذلك القرطبي عليه رحمة الله. وإذا نظرت إلى كلام المفسرين، أو إلى تأويل المفسرين لكدت أن ترجع بالحسرة والندامة، وبشديد الحزن والغم والهم، فقل أن يسلم لك إمام من الأئمة أو مفسر من المفسرين إلا ووقع في التأويل أو كان مؤولاً أصيلاً. وهؤلاء الذين عددناهم الآن حوالي عشرين مفسراً، وبقية الكتاب تناول بقية المفسرين من أول من صنف في التفسير إلى آخر من صنف كـ الصابوني، وهم كثرة كثيرة جداً.

تفاسير ينصح بالرجوع إليها

تفاسير ينصح بالرجوع إليها أعظم تفسير ترجع إليه هو تفسير الإمام الطبري؛ فقد كان على رأس أهل السنة والجماعة في زمانه، ثم اختصر كتابه العلامة الكبير النحرير شيخ السلف والمفسرين في زمانه: ابن كثير الدمشقي عليه رحمة الله تعالى. ونحن ننصح دائماً بالرجوع إلى تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير لمن أراد النظر في التفسير، ومن عز أو شق عليه هذا أو لم يفهمه فليرجع إلى مختصر هذا الكتاب، وهو اختصار شيخنا وأستاذنا وعالمنا رحمه الله الشيخ محمد نسيب الرافعي، فقد اختصر تفسير ابن كثير في أربع مجلدات، فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب الثلاثة، وأما غيرها فالأولى أن لا يقرأ فيها ولا ينظر فيها إلا طالب للعلم الشرعي الذي قد تمكن من علم العقيدة على مذهب السلف. فإذا نظرت في الآية المتعلقة بصفات المولى تبارك وتعالى فلابد أن تعلم كون هذا المفسر متبعاً أو مبتدعاً.

حال ابن الجوزي في العقيدة

حال ابن الجوزي في العقيدة ابن الجوزي -عليه رحمة الله- أشعري أصيل، وتجد له أحياناً أقوالاً في غاية الروعة والجمال في مذهب أهل السنة والجماعة، ونبذ الابتداع، وتضليل المبتدعة، والأمر بلزوم وسلوك سبيل السلف، ولكن القضية كانت عند ابن الجوزي غير منضبطة، فهو يأمر باتباع السلف ويخالفهم، فقد قال في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]: قال المفسرون: معناه يبقى ربك، ففسر الوجه بالذات. وكذا قال في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] أي: يريدونه هو. وقال في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات. وهذا الكلام في غاية الخطورة، فهو يقول: وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم. والذين أنكر عليهم ابن الجوزي هم السلف، فقد ذهبوا إلى إثبات أن لله تعالى وجهاً، وهو صفة زائدة على الذات. وهذا هو معتقدنا نحن، فنحن نقول: ونعتقد أن لله تبارك وتعالى وجهاً يختلف عن الذات؛ لأننا لو قلنا: إن الوجه هو الذات فستكون الذات من غير وجه، ولكن الوجه صفة زائدة للذات، فهو سبحانه ذات متصفة بالوجه. وابن الجوزي يقول: و (قد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى إثبات أن لله تعالى وجهاً) وليس له دليل إلا ما عرفه من الحسيات، من أن ذلك يوجب التبعيض، وأنا إذا أثبتنا أن لله وجهاً فهذا يوجب التبعيض. قال: ولو كان كما قالوا -أي: ولو كان الأمر كما قلنا نحن- كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه. ويستدل بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. قال ابن حامد: أثبتنا لله وجهاً ولا يجوز إثبات رأس. يعني: إذا أثبتنا أن لله وجهاً لا يلزم هذا أن نثبت أن لله رأساً؛ لأنه لم يرد في النصوص، فلو قلت: إثبات الوجه يلزم منه إثبات الرأس؛ لأن وجهي في رأسي، فكيف أثبت وجهاً بلا رأس؟ فسأقول لك: هذا الكلام في حقي أنا وأنت، وأما في حق الله عز وجل فلا؛ فلو قلت: يلزم من إثبات الوجه إثبات الرأس، فسأقول لك: أنت وضعت صورة لله عز وجل في رأسك وقلبك وجعلت الله كنفسك، وجعلت الذات العلية كذاتك أنت السفلية. ولا نثبت لله وجهاً بلا رأس، فهذا أيضاً خطأ، بل نثبت لله وجهاً لأنه أثبته، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، فلا نثبت الرأس، ولا مانع أن يكون الله اتصف به، ولكنه لم يخبرنا، ونحن لا نثبت لله شيئاً إلا إذا كان ثابتاً. يقول: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ما ذكر، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس. فـ ابن الجوزي ينقم على ابن حامد الذي يقول: إننا نثبت الوجه لكن لا نثبت الرأس، قال: لأنه يلزم من إثبات الوجه التشبيه بين الخالق والمخلوق.

حال كتاب دفع شبه التشبيه لابن الجوزي وسبب تأليفه له

حال كتاب دفع شبه التشبيه لابن الجوزي وسبب تأليفه له إن كتاب (دفع شبه التشبيه) لـ ابن الجوزي أشأم كتاب صنف في الإسلام في الاعتقاد، وكان غرضه من تصنيف هذا الكتاب أن يرد على أهل السنة، معتبراً أن الذي عندنا شبهات وهو يدفعها عننا. قال: لأن إثباتكم للشبهات التي في عقولكم يلزم منها التشبيه بين الخالق والمخلوق، فهو يسمينا تارة المجسمة، وتارة المشبهة. فقد انبرى قلمه في تصنيف هذا الكتاب ليرد به على أهل السنة والجماعة؛ ظناً منه أن ما عندنا هو مجموعة شبهات، وابن الجوزي رد على إمامه أحمد بن حنبل. حتى أن الإمام الذهبي حينما تكلم في المجلد الرابع عشر من السير في ترجمته لـ ابن الجوزي قال: وليت ابن الجوزي سكت وما خالف إمامه. لأن ابن الجوزي في الفروع حنبلي، وأحمد بن حنبل كان سيد الأمة في زمانه في إقامة العقيدة على ما كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام وعند أصحابه الكرام. وابن الجوزي اعتبر أن أحمد بن حنبل ومن معه مشبهة، وقد أساء غاية الإساءة للحنابلة ولـ أحمد بن حنبل خاصة في مذهبه، وأساء إلى مذهب السلف على العموم رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهو يقول: إنه سلفي، ويحث الناس على معتقد السلف.

مناقشة لأحد دكاترة الأزهر حول من هم المتكلمون وصفة الكلام

مناقشة لأحد دكاترة الأزهر حول من هم المتكلمون وصفة الكلام سألت أحد مشايخ الأزهر كان يدرس العقيدة للسنة الأولى في كلية الشريعة، وقد أكثر من قول: (والمتكلمين). فقلت له: من المتكلمون؟ قال لي: أهل السنة، قلت: من هم؟ قال لي: الأشاعرة والماتريدية مجموعهم هم أهل السنة، قلت: والمعتزلة؟ قال: والمعتزلة خالفوا في بعض الصفات فقط، قلت: ومن الذي خالف في كل الصفات؟ قال: الذين أثبتوها على ما جاءت ولم يتعرضوا لها بالتأويل. قلت: وما الذي منعهم أن يتعرضوا لها بالتأويل؟ قال: جهلهم بالنصوص، قلت: الذي نعلمه من كتب الاعتقاد أن أبا بكر لم يتعرض لهذه الآيات بالتأويل، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتبع سنة هؤلاء، فقد قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). قال: لا، أمر النبي عليه الصلاة والسلام باتباع سنة الخلفاء في السياسة والحكم، قلت له: من أين لك هذا القيد؟ قال: لأن السنة إذا أضيفت إلى خليفة قصد بها الحكم، وإذا أضيفت إلى عالم قصد بها في هديه وسمته، قلت: أيضاً سنطالبك بالدليل في هذا. وكان أكبر رأس في الأزهر، وهو رئيس جامعة الأزهر، وهو الدكتور عبد الفتاح الشيخ. ثم قلت له: يا أستاذ! الذي نعلمه من مذهب سلفنا أن أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته لا يتعرض لها بالتأويل، وما سكت سلفنا عن تأويل هذه الصفات عن جهل وإنما عن علم وإيمان، فقد آمنوا بها ولم يرد أن أحداً منهم سأل النبي عليه الصلاة والسلام ما المقصود باليد أو الوجه أو الساق أو القدم أو الأنامل أو الأصابع؟ وهب أن أبا بكر جاهل، فهل الأمة والصحابة في ذلك الزمان كلهم جهال؟ فقد علمهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يسألوا إذ لم يعلموا، فكونهم لم يسألوا دليلاً على أنهم آمنوا بها كما جاءت، وأمروها ولم يتعرضوا لها بتأويل، وأما من تعرض لها بتأويل فإنه خلفي وليس سلفياً. قال: ماذا تقصد؟ قلت: أقصد أن من تعرض لها بالتأويل أشعري، والأشاعرة ليسوا من أهل السنة بل هم من أهل القبلة، وهذه مجاملة معهم، وأما أن تدعي أمام الطلاب أن الأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة فهذا تلبيس، فثار ثورة عارمة وسب وشتم، ثم حرش بي عند العساكر الذين كانوا يحرسونه. في المحاضرة الثانية كنت جالساً في الدكة الأولى، فقال في صفة الكلام لله عز وجل: والكلام ثابت لله عز وجل، فقلت: يمكن أنه تاب والحمد لله، ويبدو أن الرجل قد راجع نفسه واستقام، فقال: ولكن ليس على مذهب الحشوية، فقلت له: يا شيخ! من الحشوية؟ قال: من سموا أنفسهم بالسلف، قلت: نحن يعني؟ قال: هو أنت، قلت له: ليس أنا فأنا تابع، قال: وأما الكلام الثابت لله عز وجل فهو كلام نفساني، وإن الله لا يتكلم على الحقيقة، قلت: آخر الكلام ينقض أوله، قال لي: كيف؟ قلت له: الله تبارك وتعالى يتكلم كلاماً على الحقيقة متى شاء وبأي كيفية شاء ونحن لا نعلم حقيقة الكيفية، قال لي: كيف؟ وهل ربنا يؤاخذنا بشيء لا نعلمه؟ قلت له: لا، وأرجو ألا ترفع صوتك حتى لا تضيع المعلومة، فالكلام ثابت لله عز وجل على المعنى اللائق به، ثم قلت له: وهل أنت رأيت ربنا؟ قال: لا، قلت: هل رأيته كيف يتكلم؟ قال: لا، قلت له: وكيف أثبت أن له كلاماً نفسانياً؟ وما الذي يمنعك أن تثبت له الكلام على الحقيقة؟ قال: كيف يا بني؟ وهل له أسنان ولسان؟ قلت له: وهل لابد أن نثبت له ذلك؟ قال: فكيف تقول: إنه يتكلم حقيقة؟ قلت له: هل ربنا له مخ؟ فلو أن له مخاً فسيتكلم كلاماً نفسانياً، فهل تثبت له المخ؟ قال لي: لا، قلت له: كيف يكون له كلام نفساني؟ قال: تعال إلى المكتب لنتناقش، قلت له: بل هنا؛ لأنك تكلمت بهذا الكلام أمام الطلاب، ولا يصلح أن يخفى هذا على الطلاب، ولا أن تعتقد أنت لنفسك أن الله تبارك وتعالى يتكلم كلاماً نفسانياً، ومعذرة فأنا سأبيّن الطلاب ماذا يعني الكلام النفساني عند الأشاعرة، ثم قلت له: من أول من سن الأشعرية؟ قال لي: أبو الحسن الأشعري، قلت له: وفي أي قرن كان؟ قال: في القرن الثاني، قلت له: وفي خلال هذين القرنين أتظن أن الأمة كانت مجمعة على الضلال إلى أن أتى أبو الحسن الأشعري؟ ثم إن أبا الحسن الأشعري صنف كتباً بعد توبته وأعظمها كتاب (الإبانة)، وكتاب رسالة إلى أهل الثغر أثبت فيها عقيدة أحمد بن حنبل، وخلع نفسه من عقيدته الأولى -عقيدة المتكلمين- وقد تكلم بكلام عظيم ومتين جداً في الإثبات والنفي على مذهب السلف، وعلى مذهب أحمد بن حنبل. إذاً: فمن ماذا تاب؟ هل تاب من الحق ورجع إلى الباطل أم تاب من الباطل؟ فقال لي: توبة أبي الحسن غير ثابتة، قلت له: بل ثابتة وبقلمه، قال: أنت الذي افتريت عليه، قلت له: كيف؟ قال: أنتم الذين صنفتم كتاب الإبانة. ثم قلت لهذا الدكتور: دعني أبين للطلاب الكلام النفساني، قال: لا أنا من سيبينه. ثم قال: الله تبارك وتعالى لا يليق به أن يتلكم كلاماً على ال

مناقشة لأحد مشايخ الأزهر حول صفة اليد في قوله تعالى: (يد الله فوق أيدهم)

مناقشة لأحد مشايخ الأزهر حول صفة اليد في قوله تعالى: (يد الله فوق أيدهم) أيضاً: أحد مشايخي في الأزهر كنت أظن فيه خيراً، وكان شديداً جداً في السنة، ولم أكن أعرف أن عنده هذا التأويل العظيم، فقلت له: نريد أن تعطينا محاضرة في مسجد الرحمة، قال: نعم، وأين مسجد الرحمة؟ قلت له: في شارع الهرم، قال: أولم تجد إلا شارع الهرم؟ قلت له: لا بأس فيه خير أيضاً إن شاء الله، قال: ما عنوان المحاضرة التي تريدونها؟ أتريدونها في العقيدة أم في الأصول أم في الفقه؟ قلت له: لا، إنما نريدها محاضرة عامة، قال: ولنجعلها في العقيدة، قلت له: هناك عندنا ناس يا دكتور! يقولون: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] يعني قوة الله فوق قوتهم، قال لي: نعم هكذا أقول، وماذا تقولون أنتم؟ قلت: يكفي يكفي لا نريدك، وكنت أتكلم معه بالتليفون وأنا بعيد منه، ثم قال: ماذا تقولون يا أخي؟! قلت له: نثبت لله يداً حقيقية، قال: من قال لكم هذا الكلام؟ قلت: الذي قال لنا هذا الكلام النبي عليه الصلاة والسلام ثم أبو بكر وعمر، قال لي: أنتم تكذبون على هؤلاء، هؤلاء أطهار وأشراف. وقد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهاً، كما أن له يدين وسمعاً وبصراً وصورة وعلماً وحياة وقدماً، وغير ذلك مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل. ونحن نثبت الوجه لله عز وجل؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وكما أننا نثبت لله تبارك وتعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له تعالى وجهاً لا شبيه له ولا نظير. وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وأرادوا بها قطعاً معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق، وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع؛ لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.

الرد على من أول صفة الوجه بأدلة الكتاب والسنة

الرد على من أول صفة الوجه بأدلة الكتاب والسنة بالاعتصام بالكتاب والسنة تنجو من أباطيل أهل البدع وشبههم، وهناك الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة التي ترد على الجهمية وغيرهم من النفاة وتدحض شبههم، وتقمع باطلهم: قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وجاء في صحيح البخاري -رحمه الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال النبي عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجهك، فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65]، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجهك، قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:65]، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أيسر)، وهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية الخبرية. ومن الأدلة على إثبات صفة الوجه لله تعالى: ما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور)، وفي رواية: (النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه، فعموا وصموا، والأشاعرة تحرفه وتتأوله بتأويلات فاسدة، إما بتفسير الوجه بالذات؛ لتنفي صفة الوجه عن الله، وإما بغير ذلك من التأويلات الباطلة. وهناك العديد من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه، وهي تغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة، ففي البخاري ومسلم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). فقوله: (على وجهه) فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة، وأهل الباطل تأولوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال القاضي عياض: فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، أي: فمن آمن به على ظاهره وأثبت الوجه لله أفضى به ذلك إلى التجسيم، يعني: كأنه أراد أن يقول: إذا أثبت الوجه لله فلابد وأن تقول بأن الله تعالى جسم له أجزاء وأبعاض؛ لأن الوجه جزء من الجسم، وبعض من الكل. والقاضي عياض كان إمام المتأولة، وكلامه هذا خطأ وغلط، فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله محمد عليه الصلاة والسلام إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل. والواجب على جميع الخلق: التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد، والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه. والله المستعان. ومن الأدلة كذلك على إثبات الوجه لله تعالى: ما رواه أبو داود عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا دخل المسجد، قال: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم). فقوله: (وبوجهه الكريم) دليل على إثبات الوجه لله تعالى، وهو يرد على من زعم أن الوجه هو الذات، فقد استعاذ صلى الله عليه وسلم أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانياً بوجهه الكريم. وهذه المغايرة للتباين بين الذات وبين الوجه، وإثبات أن الوجه صفة لتلك الذات، والعطف يدل على المغايرة. والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد أخرجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول والتسليم، ولم ينكرها أحد منهم. قال ابن خزيمة: فنحن وعلماؤنا جميعاً في جميع الأقطار نقول: إن لمعبودنا عز وجل وجهاً كما أعلمنا الله في محكم تنزيله.

خطأ ابن الجوزي في نسبته تفسير الوجه بالذات إلى جميع المفسرين

خطأ ابن الجوزي في نسبته تفسير الوجه بالذات إلى جميع المفسرين ابن الجوزي تأول قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] بأنه يبقى ربك، وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ عظيم جداً. فهناك من المفسرين قبل ابن الجوزي من فسر الآية بغير ما ادعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس مقصوراً على من صنف كتاباً أو كتباً في التفسير، وليس بلازم أن نأخذ تأويل الصفات من التفسير، فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله ليس له كتاب التفسير، ومع هذا تكلم عن صفات المولى تبارك وتعالى. والطبري في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، قال: يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد! ذو الجلال والإكرام. فلم يقل: ويبقى ربك، وإنما قال: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ))، فهذا إثبات لصفة الوجه، وقوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] نعت للوجه، ففرق بين قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وبين قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]. فذو الجلال والإكرام صفة للوجه، وأما ذي الجلال والإكرام فصفة للذات تبارك وتعالى. قال: وهذا مذهب أهل التحقيق، ومن فسر الوجه بالذات فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.

رد ابن خزيمة على من أول الوجه بالذات في قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)

رد ابن خزيمة على من أول الوجه بالذات في قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وقال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه -أي: التي أضاف إليها الجلال بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]-، قال: وزعمت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام لا الوجه. قال أبو بكر: أقول -وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] فذكر الوجه مضموماً في هذا الموضع مرفوعاً، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو كان قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] مردوداً إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة: ذي الجلال والإكرام مخفوضاً كما كان الباء مخفوضاً في ذكر الرب جل وعلا -أي: في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]- فلما كان الجلال والإكرام في هذه الآية صفة للرب خفض (ذي)، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعاً كانت صفة الوجه مرفوعة، فقال: (ذو) ولم يقل: ذي، فتفهموا يا ذوي الحجا! هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، ولا تغالطوا فتتركوا سواء السبيل.

رد ابن القيم على من أول الوجه بالذات

رد ابن القيم على من أول الوجه بالذات قال ابن القيم عليه رحمة الله في مختصر الصواعق كلاماً عجيباً، فقد قال: إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه. يعني: لا توجد حتى لغة في العالم تفهم أن الوجه بمعنى الذات، فكيف تقولون بأن الوجه في الآية المقصود به الذات؟ قال: وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه السور، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابل لدبره، ومعنى هذا أن وجه الكعبة مقابل لدبرها، فهو وجه حقيقة، فما الذي يمنعك أن تثبت لله وجهاً على الحقيقة؟

رد ابن تيمية على من نفى الصفات عن الذات

رد ابن تيمية على من نفى الصفات عن الذات قال ابن تيمية: وإذا قال من قال من أهل الإثبات للصفات: أنا أثبت صفات لله زائدة على ذاته فحقيقة ذلك أننا نثبتها زائدة على ما أثبته النفاة من الذات. وهذا كلام جميل جداً، فهو يريد أن يقول: النفاة لم يثبتوا تلك الصفات الزائدة على الذات، وأما نحن فنقول: إن الذات متصفة بصفات، والنفاة سموا نفاة؛ لأنهم نفوا تلك الصفات الزائدة على الذات، وقالوا: نحن نثبت الذات فقط، وأما هذه الصفات فإنا نؤولها أو نعطلها، أي: يصرفونها عن ظاهرها، أو يعطلونها تماماً. وابن تيمية عليه رحمة الله -وهو سيد المثبتين على منهج السلف- يقول: إنما نثبت لله تبارك وتعالى إثباتاً بلا تمثيل، وننزهه تنزيهاً بلا تعطيل. والكلام في هذا الأمر أظنه يطول جداً. فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به فليعلم أن النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها. ومن أنكرها فإنما ينكر على الله تبارك وتعالى قوله، وعلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ومن رد آيات الصفات وأحاديثها أو حرفها فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم. وقول ابن حامد: ولا نجوز إثبات الرأس قصده في ذلك أن النص لم يأت به، ولو جاء النص به لكنا أول القائلين به؛ تفادياً من مخالفة الله ومخالفة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. فلما لم يأت النص بإثبات الرأس لله تعالى لم يقل به ابن حامد، وأي عيب في هذا؟ ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهاً، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحيحة، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.

حكم تأويل العين بالرؤية

حكم تأويل العين بالرؤية أيضاً: من الناس من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية، وهذا تأويل، يعني: قال في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي: بمرأى مني، وفي قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] أي: بمرأى منا، وكذلك في قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]. وقد يكون ذلك من صفات الذات، وتكون صفة واحدة، والجمع فيه للتعظيم، ومنهم من حملها على الحفظ والكلاءة -أي: الرعاية- وقال: إنها صفات فعل، والجمع فيها سائغ. ومن قال بأحد هذين زعم أن المراد بالخبر نفي نقص العور عن الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين من الآفات والنقائص.

رد البيهقي على من نفى الصفات عن الذات

رد البيهقي على من نفى الصفات عن الذات قال البيهقي في الرد على هؤلاء: والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين صفة لا من حيث الحدقة أولى. فهو يريد أن يقول: أثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه من صفة العين على الحقيقة، ولا تتوهمن أن العين جارحة؛ لأن العين في حق المخلوقين هي الحدقة، فلا تقولن: حدقة في حق الله عز وجل، وهذا القول الذي اختاره البيهقي هو الذي عليه سلف الأمة، وأما محاولة بعض الناس حمل النصوص على خلاف ما يظهر من ألفاظها فمحاولة جهمية معروفة. وأما تفسير من فسر الآيات السابقة بالرؤية مع إنكار صفة العين فقوله شبيه بقول المعتزلة القائلين: إنه تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، وهو قول مرفوض شرعاً وعقلاً، كما تقدم وذكرناه. وابن الجوزي عليه رحمة الله وقع في هذا التأويل، ورد على ابن خزيمة، وهو من أئمة السلف. وابن الجوزي مضطرب جداً في باب الاعتقاد خاصة في باب الأسماء والصفات، فهو تارة يثبتها وينافح ويجادل ويهاجم المبتدعة، وتارة يقول بقول المبتدعة ويهاجم أهل السنة ويسميهم مشبهة، فهو هنا أنكر على ابن خزيمة إثبات العينين لله تبارك وتعالى حقيقة، وقال: هذا لا يشبه كلام السلف. ثم قال: وقد أتى ابن خزيمة بما لم يسبق به، مع أن ابن خزيمة هو إمام من أئمة المسلمين، وهذه زلة خطيرة وسقطة شنيعة وقع فيها ابن الجوزي عليه رحمة الله، وما ذكرناه آنفاً يكفي للرد عليه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حال النصوص الواردة في قيام أول رجب، وحكم تخصيص أول رجب بالقيام

حال النصوص الواردة في قيام أول رجب، وحكم تخصيص أول رجب بالقيام Q هل وردت نصوص في قيام أول ليلة رجب؟ A النصوص التي وردت في قيام أول رجب كلها نصوص باطلة غير صحيحة، فمن خص أول يوم في رجب بقيام اعتقاداً منه أن هذه طاعة مخصوصة منصوص عليها فقد وقع في الابتداع، أي أنه غير معذور بجهله، وليحذر المرء من الأيام التي يلتزم المبتدعة بصيامها، وتلك الليالي التي يخصونها بقيام دون ما نص في كتاب الله، أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم التصفيق للرجال، وحكم القسم بقول (اللهم أقسم بك عليك)

حكم التصفيق للرجال، وحكم القسم بقول (اللهم أقسم بك عليك) Q ما حكم التصفيق للرجال في أي مناسبة؟ وهل يجوز أن أدعو الله تعالى بقولي: اللهم إني أقسم بك عليك؟ A حكم التصفيق للرجال مكروه كراهة شديدة جداً، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه كان يصفق في أي مناسبة من المناسبات، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل التصفيق من شأن النساء، والتسبيح من حق الرجال في الصلاة، فقال: (إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال)، يعني: إذا أخطأ الإمام فلتصفق المرأة وليسبح الرجل، فبعض أهل العلم عمم التصفيق على كل الأحوال، وبعضهم قال: إنما هو مخصوص بالصلاة، ولا بأس أن يصفق الرجل في غير الصلاة. والله تعالى أعلم بذلك. وأما قول الرجل أريد أن أدعو الله تعالى بقولي: (اللهم إني أقسم بك عليك) فليس عندي جواب على هذا السؤال. ولك أن تقسم بالله وبأسمائه وصفاته، وأما أن تقسم بالله عليه أو تقسم بصفة من صفاته عليه، أو بفعل من أفعاله عليه سبحانه وتعالى فليس عندي علم في هذا الباب، ولعل الله تعالى يطلعنا ويعلمنا حكم هذا.

حكم شراء مصحف لطالب العلم من مال الزكاة

حكم شراء مصحف لطالب العلم من مال الزكاة Q هل يجوز شراء مصحف لطالب علم يحفظ القرآن ويريد أن يتم حفظه كاملاً من مال الزكاة؟ A يجوز إذا كان فقيراً؛ لأن زكاة المال لها مصارف ثمانية معلومة في كتاب الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] إلى آخر الآية، فإذا دخل هذا الطالب تحت صنف الفقراء جاز ذلك، أو تحت صنف المساكين جاز ذلك، أو تحت صنف آخر من بقية الأصناف جاز له ذلك. وأما شراء مصاحف ووقفها في المساجد من زكاة المال فهذا أمر لا يجوز، كما أنه لا يجوز بناء المساجد من زكاة المال من باب أولى، والمعاصرون توسعوا جداً في فهم في سبيل الله، وهذا التوسع الله أعلم بحقيقة قبوله، وهل هو صحيح أم لا؟ فقد أدخلوا فيه كل شيء، وكل من هب ودب، وكل محتاج، والأصل في إطلاق سبيل الله أنه الجهاد، أي: جهاد العدو، هذا هو الأصل. وقد ورد حديث في مسند أحمد يدل على أن سبيل الله هو الجهاد والحج، والسلف توقفوا عند هذين، وجمهورهم على أن سبيل الله هو الجهاد، وأما المعاصرون فإنهم أدخلوا الكثير والكثير في هذا السهم، الذي هو من أسهم الزكاة، والمنصوص عليه في الآية. فالله أعلم بحقيقة الأمر.

حكم صيام الإثنين والخميس إذا وافق يوم الشك

حكم صيام الإثنين والخميس إذا وافق يوم الشك Q الذي يصوم الإثنين والخميس طول السنة هل له أن يصوم آخر يوم في شعبان إذا كان إثنين أو خميس أم يقف في خمسة عشر شعبان؟ A يصوم في كل إثنين وخميس إلى أن يدرك رمضان، حتى وإن كان اليوم الذي قبل رمضان هو يوم الإثنين أو الخميس، وقد وقع خلاف سنة (1984م) في الأردن، وهذا الخلاف كان في يوم الأربعاء، وهل رمضان غداً أم بعد غداً؟ فسألت الشيخ الألباني: هل الصيام غداً أم بعد غد؟ قال: على أية حال أنا في الحالين صائم. وهذا يعتبر جواباً صريحاً أو ضمنياً للرد على سؤال الأخ، فيجوز لك أن تصوم الإثنين أو الخميس الذي قبل رمضان مباشرة، فإن كان من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن من رمضان فهو نافلة؛ لأنه قد ثبت من عادتك أنك تصوم الإثنين والخميس على مدار السنة كلها. وليلة النصف من شعبان أو يوم النصف من شعبان كل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة، وأنا لن آخذ بحديث ليلة النصف ونهار النصف من شعبان ولكن آخذ بحديث الثلاثة الأيام البيض، وإذا كنت أصوم منذ اثني عشر شهراً فلا تأت تمنعني اليوم، هذا فضلاً أنه فيه عدم مشاركة المبتدعة في بدعتهم. وأما حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) فهو حديث ضعيف، وهذا الذي اعتمد عليه الأخ في سؤاله. ويوم الشك هو يوم الغيم الذي لا تتضح فيه الرؤيا، والنبي عليه السلام قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). والعدة إذا كانت في أول الصيام فالمقصود بها عدة شعبان، وإذا كانت في آخر الصيام -أي: في آخر رمضان- فالمقصود بها عدة رمضان.

حكم قول: (لسوء حظي)، و (لا قدر الله)

حكم قول: (لسوء حظي)، و (لا قدر الله) Q ماذا تقول في قولي الناس: (لسوء حظي)، و (لا قدر الله)؟ A ( لسوء حظي) كلمة تدل على الشؤم، ولا شؤم في الإسلام كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فقد قال: (لو كان الشؤم في شيء لكان في ثلاث: في المرأة، والدابة، والبيت). يقول الحافظ ابن حجر: وهذا يدل على أنه لا شؤم قط في الإسلام؛ لقوله: (لو كان الشؤم في شيء)، فدل على أنه لا شؤم أصلاً في الإسلام. وهذا من الألفاظ النابية التي ينبغي للمسلم أن يتورع ويتنزه عنها. وقوله: (لا قدر الله) كلام مجمل إذا أراد قائله أن الله لا يقدر الأشياء إلا بعد وقوعها فهذا قدري جلد، أو جاهل، وإذا كان هذا من باب الدعاء لرفع الشر فلا بأس بذلك، كما تقول: فلان رحمه الله، وما يدريك أنت أن الله قد رحمه، فإذا كنت تخبر أن الله قد رحمه فهذا قول على الله بغير علم، وإذا كنت تقول هذا من باب الدعاء له فلا بأس بهذا، فقولك: (لا قدر الله). أي: أسأل الله ألا يقدر عليك الشر، فهذا من باب الدعاء، وهو جائز ولا بأس به.

حكم قول: (يا مولانا)

حكم قول: (يا مولانا) Q يقول الناس: (يا مولانا!) فهل هذه الكلمة صحيحة أم لا؟ A هي صحيحة، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، فأنت مولاي وأنا مولاك، وكلنا يتولى أخاه وصاحبه، والولاية من الولاء، والولاء معقود في الله عز وجل حباً وبغضاً، إيماناً وكفراً، فالكافرون يتولى بعضهم بعضاً، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. وكلمة (مولانا) لها عند العجم مدلول أحسن بكثير جداً من العرب، فالعربي يقول لك: يا مولانا! استهزاء تارة وبحق تارة وبلغو الكلام تارة ثالثة. والعجم لا يقولون: يا مولانا إلا لرجل ذو مكانة وعلم سابق، أو الشيخ له مكانته، فإذا سمعت الباكستاني يقول لآخر: يا مولانا، فاعرف أن هذا الرجل له مكانة عظيمة جداً في بلده، وأما في مجتمعنا الآن فهي تقال لكل أحد.

حكم إيراد المفتي والقاضي للدليل على فتواهما

حكم إيراد المفتي والقاضي للدليل على فتواهما Q إذا سئلت مسألة أعلمها ولكنني لا أتذكر الدليل جيداً من الكتاب والسنة، أو أنني أعلم الدليل ولكني أشك في صحته وتمام الإجابة؛ فهل إذا سكت عن الإجابة التي ربما تنفع مسلماً أكون كاتماً للعلم النافع وواقعاً في الإثم حقاً أم أنني على صواب؟ A القاضي والعالم لا يلزمان بسوق الدليل عند إجابة الأسئلة، فإذا ساقا الدليل على صحة كلامهما فهذا فضل، ولذلك استقر في أذهان وعقول وقلوب الناس -العالم منهم والجاهل- أن الحاكم إذا حكم بحكم لا يطالبه المحكوم عليه بسوق أدلته، وأجمع أهل العلم أن القاضي لا يلزم بإثبات أدلته، أو بسوق مستنده في هذا الحكم، وكذلك المفتي. وتجد في أصول الفقه مسألة: هل يلزم المفتي أن يسوق أدلة فتواه في كل فتوى؟ ويجيبون كلهم: بـ (لا). قولاً واحداً، فإذا ساق فهذا فضل، فأنت لا يلزمك أن تسوق الدليل، وإن سقته كان أحسن وأفضل. وإذا كنت تعلم أن الذي يستفتيك متعنت فلا تجبه ابتداء، وقد كان الرجل يأتي إلى مالك فيسأله السؤال فلا يجبه مالك، فيعيده عليه فلا يجبه مالك، وقد حدث منه هذا مرات وفي عدة مجالس، فإذا تأدب وانكسر وذل بين يدي الإمام أجابه، ثم يقول له الإمام في نهاية A يا فلان! سل تعلماً ولا تسل تعنتاً، فإن الذي يتأدب ويريد أن يتعلم علمناه، وأما من يريد أن يتنطع فلا؛ لأن الذي لم يتأدب ولم يتعلم أصول الأدب في طلب العلم فلابد وأنه سيفسد بهذا العلم كثيراً، وهناك أناس كثر في هذا الزمان تعلموا بعض العلم ولم يتعلموا له الأدب فصار شرهم على علماء الأمة بالذات ظاهر وبين وواضح، وأول ما طعنوا طعنوا في أهل العلم؛ لأنهم لم يتعلموا الإخلاص أولاً في طلب العلم الذي هو أوجب الواجبات على طالب العلم، ثم لم يتعلموا حق الشيخ، وحق الكتاب، وحق الأقران، وحق الأمة عليهم، فإذا لم يتعلم طالب العلم هذا كله وهجم على العلم هجوماً فلابد وأنه سيتراجع عن طلب العلم، ثم بعد ذلك يدير ظهره لعلماء الأمة وطلاب العلم فيها.

حكم طاعة الوالدين إذا منعا الولد من طلب العلم

حكم طاعة الوالدين إذا منعا الولد من طلب العلم Q هل يجوز الكذب على الوالدين لأنهما يمنعاني من حضور مجالس العلم خوفاً علي، وكذلك يمنعاني من إطلاق اللحية؛ لأنهما يرفضان التعصب، زادكم الله علماً وحفظكم؟ A هذا السؤال صراحة مشكل جداً، وقد سمعت العلماء يجيبون عن هذا Q بأن العلم الذي لا يسعك جهله لا طاعة لوالديك في الامتناع عنه، كعلم الاعتقاد مثلاً، أو علم فرائض الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، هذا إذا لم تكن تعلمه ولا سبيل لك إلى تحصيله تحصيلاً سليماً، ففي هذه الحالة لا طاعة لوالديك في الامتناع. وأما إذا كان العلم من باب النافلة -وأنت عالم وراسخ على أصول ثابتة في هذه المسائل الأساسية، أو أنك جاهل وتريد أن تصبح واعظاً- ففي هذه الحالة سماع كلام الوالدين أولى من حضور هذه المجالس، والعلماء يفرقون بين العلم الذي لا يسعك جهله والعلم الذي يسعك جهله. والوعظ والمجالس الوعظية من العلم الذي يسعك أن تجهله، وليس لازماً أن تبكي، ولكن يلزمك أن تعرف أن الظهر أربع ركعات، وإذا كنت صاحب مال لزمك أن تعرف حق الله تعالى في هذا المال، وإذا أرادت الحج لزمك أن تعرف كيف تحج.

وقت حادثة الإسراء

وقت حادثة الإسراء Q هل صحيح أن الإسراء كان في رجب؟ A لا، لم يصح، ولكنهم يحتفلون في رجب من أجل حلاوة المولد.

حكم الوصية

حكم الوصية Q سمعت أن من مات ولم يوص لم يكلمه الله يوم القيامة، وقد كتبت وصيتي، ولكني لا أعلم ماذا أكتب فيها غير بعض الأشياء منها، وذلك تقريباً لعامل السن، فأنا لم أبلغ العشرين بعد وأشعر بقلق من هذا الأمر، فبماذا تنصحني؟ A مادام أن الوصية الشرعية معك فلا بأس، وهي تكفيك إن شاء الله. ولا حرج عليك إذا لم توص خاصة إذا لم يكن عندك شيء توصي به، ويمكن أن توصي بالمسائل الشرعية، ونبذ البدع، واتباع السنن، وحث القوم على سلوك مذهب السلف من الاعتقاد الصحيح وغير ذلك، ووصية الإنسان لا بد أن تكون معلومة من حياته، فلو علم عن شخص أنه صاحب مذهب فاسد، وأنه يتحين فرصة أن يموت أحد الجيران أو أحد الأقارب ثم يلطم الخدود ويشق الجيوب ويدعو بدعوى الجاهلية -وهذا الفعل كان يفعله النساء في الجاهلية، ولكن في هذا الوقت أصبح من أعمال الرجال، فجاهلية الماضي أفضل من جاهلية المسلمين في هذه الأيام، فإذا مات شخص من الأسرة فإنه يلطم ويشق الجيوب، فإذا لبس جلابية قطعها، ثم يقطع الثوب الأول والثاني والثالث وهكذا، ثم يجعل ذلك باباً للولاء والبراء- فإذا مات ولم يوص ففي هذه الحالة سنقول: إنه كان يلزمه أن يوصي وصية شريعة يبرأ بها إلى الله عز وجل. وقد دعيت مرة لألقن امرأة كانت في الاحتضار أو شيء من هذا، فذهبت مسرعاً، فقالت لي: يا شيخ حسن! هل تعرف خالتي أم زينب؟ قلت: لا والله أنا لا أعرفها. فأوصتني أن هذه هي التي تنوح عليها أول الأمر. فقلت لها: هذا حرام وأنتِ آثمة بهذا. فهل تريدين أن تدخلي النار؟ قالت: ولماذا أدخل النار؟ فأنا صوت على الناس حتى أصيبت حنجرتي بالمرض شهراً. قلت: إذاً يلزمك أن تتوبي من هذا قبل أن تموتي، فقالت: خلاص يا شيخ حسن! أنا وضعت وصيتي في رقبتك، وأنت مسئول على كل شيء، ولو حاسبني ربي عن شيء سأسألك أنت يوم القيامة، قلت لها: إذاً توكلي على الله، ثم التفت فإذا بها قد ماتت. فجاء أهلها يريدون أن يقدموا الواجب الذي عليهم، فقلت لهم: هذه قد أوصت بكيت وكيت وكيت، وإذا لم تنفذوا وصيتها فسنأتي بشبابنا وننفذ وصيتها بالإكراه، وذهبنا ودفناها ورجعنا، فكتب الله تبارك وتعالى لهذه المرأة أن توصي وصية شرعية في آخر لحظة من لحظات حياتها. فالمرء بلا شك يلزمه أن يوصي، ولكن لزوماً لا يبلغ به الإثم إذا لم يكن له ما يوص فيه، فالأمر على الاستحباب المؤكد جداً، وبعض أهل العلم ذهب إلى وجوب الوصية، ورتب الإثم على من تركها. والله تعالى أعلم.

معنى حديث (صلة الرحم تزيد في العمر) ودرجته

معنى حديث (صلة الرحم تزيد في العمر) ودرجته Q قرأت في شرح الطحاوية أن صلة الرحم تزيد في العمر -أي: سبب طول العمر- فما معنى هذا؟ A هذا حديث صحيح، ومعناه: أن الله قدر أن هذا يصل رحمه فيعيش، وأن هذا سبب إلى وصوله هذه الغاية، ولو لم يعمل بالسبب لم يصل إلى هذه الغاية. وهذا الحديث قد روي بطرق كثيرة، ومجموع هذه الطرق يرتقي بالحديث إلى درجة الصحيح لغيره. وقد اختلف العلماء في معنى زيادة العمر مع أن الله تبارك وتعالى كتب العمر، ولن يتغير بزيادة ولا نقصان، والإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب (الداء والدواء) تعرض لشرح هذه القضية وفصلها تفصيلاً جيداً ونقل الاختلاف فيها: فقال: زيادة العمر هنا بمعنى البركة. أي: بركة العمر، فمثلاً الإمام الشافعي مات وعمره أربع وخمسون سنة، وقد ذاع علمه في الأرض شرقاً وغرباً، وسيظل بإذن الله إلى قيام الساعة، فإذا نظرت إلى عمر هذا الرجل وذلك الميراث العظيم الذي ورثته عنه الأمة قلت: هذا إعجاز وأعجوبة من أعاجيب الزمان، وهناك من بلغ أربعاً وخمسين سنة ولا يعرف كيف يصلي ولا يصوم، وحينما تنظر إلى عمرك وعمر الشافعي تعلم أنه كان ممتلئاً بركة وأنت على غير ذلك. قال: زيادة العمر هنا البركة في العمر التي قدرها الله عز وجل؛ لأن غيرك في نفس العمر، وليس هناك بركة في عمره ولا في عمله. ومنهم من قال -وهو التفسير الأولى-: إن هذا هو المحو والإثبات في الكتب التي بأيدي الملائكة، وأما الذي لا يقبل المحو ولا الإثبات فهو اللوح المحفوظ المذكور في قول الله تبارك وتعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].

قواعد في الصفات مع صفة اليد

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - قواعد في الصفات مع صفة اليد صفات الله الذاتية لا تثبت إلا من طريق السمع فقط، ولا دخل للعقل ولا للنظر فيها، كالقدم والساق واليد والنفس، فكلها ثابتة بالكتاب والسنة، وقد وضع أهل السنة والجماعة قواعد تميزهم عن الفرق الضالة التي خرجت عن جادة الصواب في اعتقادهم في أسماء الله وصفاته ما بين تمثيل أو تعطيل أو تأويل، وقد ثبت بالكتاب والسنة أن لله يدين كلتاهما يمين، نمرها كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل لها، ومن غير تعطيل ولا تأويل.

الإيمان بذات الله وصفاته من الإيمان بالغيب

الإيمان بذات الله وصفاته من الإيمان بالغيب إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. مع باب جديد من أبواب أصول الاعتقاد. هناك صفات ذاتية للمولى تبارك وتعالى لا تثبت إلا من طريق السمع فقط ولا دخل للعقل ولا للنظر فيها، وهي: الصفات اللازمة لذاته تبارك وتعالى كصفة اليد والعين، والقدم والساق والنفس وغير ذلك مما أخبر المولى عز وجل أنه متصف بها، وأخبر بها رسوله عليه الصلاة والسلام، نقول: إنه لا دخل للعقل فيها؛ ولا دخل للنظر فيها؛ لأن الله تبارك وتعالى بذاته وصفاته غيبها عنا، فلابد أن نؤمن بما أخبرنا الله ورسوله حتى وإن لم يكن ذلك داخلاً في مقدور عقولنا، لأنه الابتلاء في الإيمان، فإذا أخبر الله عز وجل أن له يدين فلابد أن أؤمن أن له يدين؛ ولذلك فرق الضلالة التي انتسبت إلى الإسلام وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام عنها هي كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). هذه الواحدة هي التي نهجت نهج النبوة في اعتقادها ومسلكها ومشربها.

اختلاف الناس في صفات الله وبيان مذهبهم

اختلاف الناس في صفات الله وبيان مذهبهم وقد اختلف الناس، واختلافهم عظيم، ولكنه يرجع إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: ادعى أصحاب هذا المذهب أن إثبات هذه الصفات الذاتية لله تبارك وتعالى يستلزم التشبيه. قالوا: إذا كان لله يدان وعينان، وله سمع وله قدم وعين وساق إلى غير ذلك فإن هذا يستلزم أن يكون الله عز وجل مشبهاً بخلقه. ولذلك وقعوا إما في التمثيل، وإما في التعطيل. قالوا: لا ينبغي لإله أن يتصف بما يتصف به خلقه، ولذلك عطلوا هذه الصفات فقالوا: ليس لله يد ولا ساق ولا عين ولا نفس، وغير ذلك من الصفات الخبرية؛ لأن وجود هذه الصفات وإثباتها لله يستلزم المماثلة والمشابهة مع خلقه؛ ولكنهم لا يقولون ولا يجترئون أن يقولوا: نعطل هذه الصفات؛ لأنهم لو قالوا ذلك وصرحوا به لكان لأطفال المسلمين الذين يلعبون في الشوارع أن يكفروهم، ولكنهم قالوا: لا. العين يقصد بها: الرعاية. واليد يقصد بها: القوة. والساق يقصد بها: الرفعة، وغير ذلك من تأويل النصوص وصرفها عن ظاهرها وعن مراد الله تبارك وتعالى منها. فهم لم يصرفوا هذه الصفات ويعطلوها عن الله عز وجل صراحة، وإنما أولوها فوقعوا في شر عظيم جداً؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: المتأول أشد شراً من المعطل. ويقول أيضاً: إن الممثل يعبد صنماً، وإن المعطل يعبد عدماً. لأنه لا يمكن أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا كنت تؤمن بذات الله تبارك وتعالى وأنها ذات علية موجودة، فإن هذه الذات لابد أن يكون لها صفات؛ لأن ذوات كل شيء لها صفات، فكذلك ذات المولى تبارك وتعالى أولى وأحرى أن تكون لها صفات خاصة، وقد أخبر المولى تبارك وتعالى بصفاته في كتابه، وأخبر بها رسوله عليه الصلاة والسلام. إن الذي ينفي هذه الصفات عن الله عز وجل ويعطلها عن الذات لابد أنه سيخرج في النهاية بلا ذات، وإذا كان يستحيل أن توجد ذات بغير صفات في حال تعطيلك فلابد أن يكون في النهاية أنك تعبد إلهاً غير موجود، وغير متصف بأي صفة من الصفات، فهو والعدم سواء. هذا في مذهب المعطلة؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: المعطل يعبد عدماً. والممثل يقول: إن يد الله كيدي، وإن عيني الله كعيني، وإن رجل الله كرجلي، فسيصير هذا الإله في النهاية عبارة عن إنسان، ربما يكون جميلاً وربما يكون هو كالإنسان في جماله أو أقل أو أكثر، والذي يعبد الله على هذا النحو لا شك أنه يعبد صنماً. ولذلك أهل السنة والجماعة ذهبوا مذهباً وسطاً بين الممثلة والمشبهة، وبين المعطلة والنفاة من جهة أخرى، فلم يعطلوا الصفة عن الذات، ولم يمثلوا هذه الصفة بصفات المخلوقين، ولكنهم أثبتوا الصفة ثبوتاً حقيقياً لله عز وجل كما يليق بجلاله، فلا يشبهونها بصفات المخلوقين، ولا يعطلون الصفة عن الذات، فأثبتوا الصفات من جهة، وهذا الإثبات يليق بالله عز وجل، وليست هذه الصفات كصفات المخلوقين، فالله تبارك وتعالى له يدان، لكن هاتين اليدين ليست كيدي، وله عينان ليست كعيني، وله ساق ليست كساقي؛ لأن ذاته تختلف عن ذاتي، فلابد أن تختلف الصفات كذلك عن صفاتي. فأهل السنة والجماعة لهم مذهب وسط بين المعطلة وبين المشبهة إذ أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله عز وجل وعظمته، فلا إشكال حينئذ. ما الذي يضرك أن تعلم أن لله يدين على الوجه اللائق به؟ لأن الأيدي في لغة المخلوقين وحياتهم مختلفة، فإن أيدي الضفادع والبهائم ليست كأيدي الآدميين، وليست أيدي الجن كأيدي الإنس، فإذا كانت الأيادي والصفات تختلف في عالم المخلوقات، فلم لا تقول بهذا الاختلاف بين الخالق والمخلوق. وأن لله صفات تختلف عن صفات المخلوقين جميعاً؟ ولكن لما وقع الخلاف وبين أبناء هذه الملة المباركة، وكل واحد منهم نحا نحواً يختلف فيه عما أراده النبي عليه الصلاة والسلام، وعما أراده الله عز وجل، لاشك أنهم يبتعدون كل البعد، ويتشبهون تارة بالنصارى، وتارة باليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]. إذاً: لابد أن نذهب المذهب الوسط بين الممثلة الذين شبهوا صفات الخالق بصفات المخلوق، وبين المعطلة الذين نفوا عن الذات جميع الصفات، وبعضهم نفى بعض الصفات وأثبت بعضها.

قواعد مهمة في عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات

قواعد مهمة في عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات ذهب أهل السنة والجماعة إلى وضع قواعد وأصول، من خلالها يمكنك بيسر دون عسر أن تفهم معتقد أهل السنة والجماعة في ذات الإله وصفاته تبارك وتعالى.

القاعدة الأولى: إفراد الله تبارك وتعالى بالوحدانية في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله

القاعدة الأولى: إفراد الله تبارك وتعالى بالوحدانية في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله أول قاعدة هي: إفراد الله تبارك وتعالى بالوحدانية، سواء في ذاته أو في أسمائه أو في صفاته أو في أفعاله. ومعنى أنه واحد في ذاته: أن أحداً من خلقه لا يشبه ذاته، فإن جميع المخلوقين ذوات، فذات الإنسان وذات الحيوان وذات الجن وذات الجماد والحجر والشجر تختلف تماماً عن ذات المولى تبارك وتعالى، ولا يجوز لأحد أن يتصور في الذهن أن ذات الله تبارك وتعالى كذاته هو؛ لأن الله تعالى ليس له مثيل؛ ولذلك قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فنفى التمثيل والتشبيه بينه وبين جميع المخلوقات، فلا أحد يشبهه قط في شيء من الأشياء، ولا في ذاته العلية تبارك وتعالى. فلما كان واحداً في ذاته فهو كذلك واحد في صفاته، فالمرء يتصف بالرحمة، والله تبارك وتعالى متصف بالرحمة، ولكن الله تعالى واحد في رحمته، إذ إن رحمته لا تشبه رحمة المخلوقين جميعاً ولو اجتمعت، فلا يجوز أن أقول: (أنا رحيم والله تعالى رحيم فرحمتي كرحمة الله). هذا لا يجوز؛ لأنني في هذه الحالة جعلت الشبه قائماً بين صفتي وصفة المولى تبارك وتعالى، وهذا لا يجوز، والله تعالى واحد في صفاته، وليس لأحد من خلقه أن يتصف بصفة من صفاته إلا على وجه الكمال البشري، أو على وجه النص العام، فربما يتصف المرء بأنه رحيم بكل الناس، لكن هل رحمته وسعت كل شيء كما وسعت رحمة المولى تبارك وتعالى كل شيء؟ لا. لأن الله لم يثبت لعبد من عباده رحمة واسعة. فرحمة الله تختلف عن رحمة جميع المخلوقين، وهذا يبين القول بأن الله تعالى واحد في صفاته. وصفاته تبارك وتعالى لازمة له، وأما صفاتنا فليست بلازمة؛ لأنني يمكن أن أقول: سماني أبي وأمي رحيماً، أو كريماً، وليس عندي رحمة بل أنا غضوب وجهول، وبخيل لست كريماً، أما المولى تبارك وتعالى إذا سمى نفسه بالرحيم ووصف نفسه بالرحمة يلزم أن يكون رحيماً. وإذا كان المولى تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى: الكريم، فهو متصف بالكرم؛ لأنه كريم بكرم، ولا يكون المولى تبارك وتعالى بخيل قط، والبخل هو عكس الكرم؛ لأن البخل صفة نقص لا تليق بالبشر فضلاً عن رب البشر. فالمولى تبارك وتعالى واحد في صفاته، كذلك واحد في أفعاله. إذا أخبرنا المولى تبارك وتعالى بأنه ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ويقول: (هل من داعٍ فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له)، وغير ذلك من النداءات التي ينادي بها المولى تبارك وتعالى فلا نقول: إن الله تعالى ينزل كنزولي هذا وينزل الدرج. لأن نزول المولى تبارك وتعالى نزولاً كاملاً يليق بجلاله وكماله، أما نزولي أنا فيتفق مع عجزي وضعفي ونقصي. وهو كذلك سبحانه وتعالى يغضب، لكن ليس كغضبي، ويفرح ليس كفرحي، وهكذا أفعاله تبارك وتعالى، هو واحد في أفعاله لا يجوز أبداً أن أشبه أفعالي بأفعال المولى تبارك وتعالى، إنما هو اشتراك في الاسم دون المسمى، فنزوله عز وجل يوافق نزولي في الاسم فقط ويختلف في المسمى. وإذا كنت لم أر الله تبارك وتعالى، وأخبرني أنه ينزل فهذا النزول لا أعلم أنا كيفيته، وليس نزول أحد من الخلق كنزول الله تبارك وتعالى حتى أقول: إن الله ينزل مثل فلان؛ لأنه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنفى المماثلة والمشابهة بينه سبحانه وبين أحد من الخلق، فهو واحد في ذاته، واحد في أسمائه، واحد في صفاته، واحد في أفعاله.

القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله ومراد رسوله، ووجوب الإيمان بذلك

القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله ومراد رسوله، ووجوب الإيمان بذلك القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله عز وجل، وعلى مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان بذلك دون بحث في الكيفية، فإنه ما من أحد خاض في كيفية أسماء الله وصفاته إلا حار وظل وتاه. فمنهم من تاب، ومنهم من مات على بدعته؛ لأن صفات المولى تبارك وتعالى تصعد فوق حد الخيال العقلي والتصور الذهني. فإذا فكرت في كيفية نزول المولى تبارك وتعالى، أو في كيفية غضبه أو فرحه لا يمكن أبداً أن تدرك حقيقة ذلك، ولكن الله تعالى أخبرك أنه ينزل، فأنت تؤمن إيماناً جازماً بأن الله تبارك وتعالى ينزل ويفرح ويضحك، ويغضب ويسخط، لكن لا تعلم كيفية هذا النزول، ولا كيفية هذا الغضب، ولا كيفية هذا الضحك، ولا يضحك ربي كضحكي؛ لأنني أضحك ضحكاً يستلزم فماً ونواجذ وأسناناً ولساناً، والمولى تبارك وتعالى لم يثبت ذلك لنفسه، فضحكي يناسبني أنا، أما ضحك المولى تبارك وتعالى فإنه ضحك يتناسب مع ذاته العلية، فلذلك أهل السنة لم يخوضوا قط في كيفية الصفات. دخل رجل على مالك بن أنس رحمه الله تعالى وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم. لأن الله تعالى أخبرنا أنه استوى، ولذلك لا يجوز لنا أبداً أن نفوض العلم. واستوى بمعنى: علا وارتفع، فإثبات الفوقية لله عز وجل أمر معلوم لدينا لا نشك في ذلك، والعرش لا يحويه ولا يستلزم هذا حداً؛ لأن من قال بالحد فهو مبتدع. ثم قال مالك: والكيف مجهول. يعني: استواء المولى تبارك وتعالى لا يعلمه إلا المولى تبارك وتعالى؛ لأن استواءه لنا غيب، فنثبت لله تبارك وتعالى الاستواء على الكيفية التي أرادها المولى عز وجل لنفسه. قال مالك: والسؤال عنه بدعة. وخوض في الباطل، وكلام على الله بغير علم، وهذه القاعدة تقال في كل صفة من صفات المولى تبارك وتعالى.

القاعدة الثالثة: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات

القاعدة الثالثة: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات القاعدة الثالثة: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات، والترابط بين الذات والصفات؛ لأن ذات الله تبارك وتعالى قد اتصفت بصفات لازمة للمولى تبارك وتعالى، فليس هناك فاصل بين الذات والصفات.

القاعدة الرابعة: النفي المجمل والإثبات المفصل والنفي المتضمن لكمال الضد

القاعدة الرابعة: النفي المجمل والإثبات المفصل والنفي المتضمن لكمال الضد القاعدة الرابعة: أن طريقة السلف في الصفات هي: (النفي المجمل) أي: نفي جميع النقائص عن الله عز وجل، فكل نقيصة معلومة في عالم المخلوقات لا يتصف المولى تبارك وتعالى بها قط، بل هو المختص بالكمال والجلال المطلق. فطريقة السلف في الصفات هي: (النفي المجمل والإثبات المفصل). وطريقة السلف هي: (النفي المتضمن لكمال الضد)، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]. وفي الحديث: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام). فإذا نفينا النوم عن الله عز وجل لابد وأن نثبت ضد النوم وهو كمال القيومية والحياة لله عز وجل حياة تليق بجلاله تبارك وتعالى لا كحياتنا. كما أن المولى تبارك وتعالى حي قيوم حياة دائمة سرمدية أبدية، لا أول لها ولا آخر؛ لأنه تعالى هو الأول وهو الآخر، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء. فنقول: إن طريقة السلف في إثبات الصفات هي: (النفي المتضمن لكمال الضد). أي: نفي جميع النقائص عن الله عز وجل، وإثبات ضد هذه النقائص، وهي: صفات الكمال.

القاعدة الخامسة: أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق

القاعدة الخامسة: أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق القاعدة الخامسة: السلف يقولون: التحريف بالتأويل أقبح من التعطيل، والتكييف والتمثيل، وما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق، فالقدر المشترك مثلاً بين صفة الله تبارك وتعالى (الحلم) وصفتي هي أن الحليم من أسماء الله وهو حليم بحلم، فهذه صفة لله تبارك وتعالى ثابتة، وكذلك اسمه (الحليم)، وأنا كذلك سماني والدي حليماً، فأنا أشابه المولى تبارك وتعالى في مجرد الاسم فقط، ولا يجوز أن يسميني والدي الحليم؛ لأن الحليم معرف على ذات علية، ولا يجوز لأحد أن يشارك هذه الذات في هذه الصفة المعرفة بالألف واللام، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بالكريم أو الحليم، أو العظيم، أو الرءوف أو الرحيم إلا أن يكون على نسبة العبودية لله تبارك وتعالى: كعبد الرحيم، عبد العظيم، عبد السميع، وغير ذلك، فالله هو السميع البصير الحليم القوي القدير؛ لأن هذه ثابتة لله تبارك وتعالى فقط دون أحد من خلقه، ولذلك ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، والقدر المشترك يكون في التسمية فقط، أنت رحيم والله رحيم، أنت كريم والله كريم. هذا من جهة الصفة، وبالإمكان أن تسمى كريماً وليس عندك شيء من الكرم، أما إذا كان الله تعالى موصوفاً بالكرم فلابد أن نثبت له حقيقة صفة الكرم. ومعنى القدر الفارق: أن رحمة الله تختلف عن رحمتي، وكرم الله يختلف عن كرمي، وفضل الله يختلف عن فضلي، وغير ذلك من الفوارق بين الخالق والمخلوق، فلا تقل: إن لله ذاتاً تشبه ذاتك، أو إن لله صورة كصورتك، ولا تتصور أن نزوله -سبحانه- كنزولك، إلا أن الاشتراك يقع في مطلق الاسم، أو في مجرد الاسم فقط، فإن صفات المخلوقين تختلف عن صفات الخالق تبارك وتعالى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن نفى الأول -أي: فمن نفى القدر المشترك -فقد عطل- لأنه جعل نفسه كالله تبارك وتعالى- ومن نفى القدر الفارق فقد مثل. ومذهب السلف وسط بين التشبيه والتعطيل، وقد عرجنا عليه، وكل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها، وكل معطل ممثل. هذه القواعد تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في فتاواه العظيمة، وأخذها تلميذه ابن القيم ووضعها في كثير من كتبه.

توسط أهل السنة والجماعة في اعتقادهم من بين الفرق الأخرى في صفة اليد

توسط أهل السنة والجماعة في اعتقادهم من بين الفرق الأخرى في صفة اليد لما تكلمنا عن بعض صفات المولى تبارك وتعالى من جهة الإجمال كان لزاماً علينا أن نتكلم عن صفاته من جهة التفصيل، وسنعيش في كل محاضرة مع صفة واحدة من صفات المولى تبارك وتعالى، وهذه المحاضرة مع (صفة اليد).

مذهب الفرق الضالة في تفسير اليد والرد عليهم

مذهب الفرق الضالة في تفسير اليد والرد عليهم صفة اليد كجميع الصفات الخبرية التي أخبر المولى تبارك وتعالى أنه متصف بها، قد طاشت فيها سهام الخلف عن إصابة الهدف، وأخذوا يفسرونها تفسيراً يساوي عقيدتهم، ففسروها مرة بالقدرة، ومرة فسروها بالنعمة؛ يريدون الفرار بزعمهم من التشبيه والتمثيل، ويا سبحان الله! قد وقعوا فيما فروا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى أثبت ذلك لذاته العلية وهو أعلم بذاته وبجميع خلقه، أثبت هذا لنفسه وهم نفوه، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. (مَا مَنَعَكَ) أي: يا إبليس؟! لم لم تسجد لآدم الذي خلقته بيدي؟ و (يدي) تسمية. وهذا فيه: إثبات أن لله تبارك وتعالى يدين لا يداً واحدة. ويقول تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، رداً على اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]. فهل من الجائز أن يقال في قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي، أو بقدرتي؟ إن هذا الكلام لا يستقيم في لغة العرب؛ لأن المعلوم أن لله تبارك وتعالى قدرة واحدة تشمل جميع الخلق، ولذلك قال الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]، فلم يثبت المولى تبارك وتعالى تعددية في قدرته، فتفسير اليد بالقدرة تفسير لا يعرفه العرب، وإن قلت بالتعددية فلا بد أن تطالب بالدليل ولا دليل، فلابد أن ترجع مرة أخرى للبحث عن معنى اليد. إذاً: اليد صفة لله تبارك وتعالى، وهي معلومة لدينا، أما كيفيتها في جنب الله عز وجل فإن الله تعالى هو الذي يعلمها، وليس من الجائز أن يقال: (مما خلقت بنعمتي). بالإجماع؛ لأن الذي يؤمن به جميع المؤمنين -والخلف كذلك منهم- أن نعم الله كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما أخبر الله فقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. يعني: كثيرة جداً. فلا يستقيم كذلك أن يقال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي؛ لأن الله تعالى نعمه كثيرة جداً، بحيث أن العاد والحاصي لا يستطيع أن يعدها ولا أن يحصيها. ويلزم من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أن يقال: خلق الله آدم بقدرتين. وهذا لا يجوز بالإجماع؛ لأن الذي ندين به -سواء كان في ذلك السلف والخلف- أن لله تعالى قدرة واحدة وباهرة وهو على كل شيء قدير؛ لعدم الدليل على التعدد، وهذا يتضح فيه الصواب في المسألة بإذن الله تعالى. وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري زعيم تلك الفرقة، تاب وأناب ورجع إلى مذهب السلف، وتبرأ مما كان عليه من قبل، قال هذا الإمام العظيم الجبل في رسالته لأهل الثغر وفي بقية كتبه الاعتقادية: فلو كان الله عز وجل عنى بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك ميزة؛ لأن الله تعالى خلق آدم بقدرته وخلق إبليس بقدرته، بل خلق جميع الخلق بقدرته تبارك وتعالى، وكل مولود يولد بقدرة الله وإرادته، فإذا كانت اليد هنا بمعنى: القدرة فلابد أن إبليس سيرد على المولى تبارك وتعالى هذا القول، ويقول: أنت كذلك خلقتني بقدرة، كما خلقت آدم بقدرة، لكن إبليس لم يرد على المولى تبارك وتعالى؛ لأنه علم من الخبر أن الله تعالى خلق آدم بيديه سبحانه وتعالى، وأخبر الله تبارك وتعالى إبليس أن آدم يمتاز عنه ويتفوق عليه بأنه خلقه بيديه الكريمتين سبحانه وتعالى. وإبليس لما فهم ذلك لم يرد، فسبحان الله! الذي فهمه إبليس لم يفهمه الأشعرية، ولم يفهمه المعتزلة، ولو كان خالقاً لإبليس بيديه كما خلق آدم بيديه لم يكن بتفضيله عليهم بذلك وجه من الوجوه، ولقال إبليس محتجاً على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم بهما. فلما أراد الله عز وجل تفضيله عليه بذلك قال له موبخاً باستكباره على آدم أن يسجد له: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. إذا كان لا يصح في الأذهان ولا في الاعتقاد تفسير اليد بالقدرة ولا بالنعمة، فلابد أن يكون هناك تفسير ثالث، وهو إثبات هذه الصفة للمولى تبارك وتعالى على النحو الذي يليق بجلاله سبحانه، وإذا ثبت بطلان هذا التأويل فلابد من الذهاب إلى تفسير غير الذي ثبت لدينا أنه باطل.

مذهب أهل السنة والجماعة في تفسير قوله تعالى: (لما خلقت بيدي)

مذهب أهل السنة والجماعة في تفسير قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) التفسير الذي نذهب إليه: إثبات الصفة لله تبارك وتعالى كما أراد على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، نؤمن بذلك ونسلم، وإلا فإننا في النهاية نقع في الخوض في ذات الله، وسنصوره في عقولنا، ولما كان الخوض محرماً كان الثاني (التصور) من باب أولى محرماً، فدل على أنه ليس معنى اليد: القدرة، إذ إن الله عز وجل خلق الأشياء جميعها بقدرته، وأراد الله إثبات يدين لم يشارك إبليس آدم عليه الصلاة والسلام في أن خلق بهما، ولا يخلو قوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] من إثبات اليدين لله عز وجل، كذلك لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله تعالى له يد جارحة كأيدينا، وإن قلت ذلك فقد مثلته بيدي، وهذا لا يجوز. فلابد في النهاية من إثبات يدين ليست نعمتين، ولا جارحتين ولا قدرتين، ولا يوصفان إلا كما وصف الله عز وجل بها نفسه، فلا يجوز عند أهل اللسان أن يكون معنى قول القائل: عملت بيدي. يعني: نعمتي. فلو أن واحداً قال لك: أنا رفعت هذه المنضدة بيدي. هل تفهم من ذلك: أنه رفعها بنعمتيه؟ فتفسير اليد بالنعمة ليس معلوماً في كلام العرب خاصة عند التثنية. أما عند الإفراد والجمع فهذا وارد في كلام العرب. تقول: فلان له علي يد. أي: له علي جميل وفضل ونعمة. هذا عند الإفراد، وفلان صاحب أياد بيضاء. أي: صاحب نعم وتفضل. وهذا في الجمع. أما عند التثنية فإن العرب لا تعرف عند التثنية أن اليد بمعنى: النعمة. قال ابن تيمية: وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله: (بِيَدَيَّ): إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين، ولا يوصفان إلا بأن يقال: بأنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت. إذاً: جاءت اليد في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أنواع وأنحاء، قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] على الإفراد. وقال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] على التثنية. وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]. فاليد أتت بالإفراد وأتت بالتثنية وأتت بالجمع، وقلنا: إن العرب لا تعرف ذلك عند تثنية اليد وإنما تعرفه إذا تعدى الخبر إلى المفرد أو إلى الجمع، وإذا راجعنا هذه الاستعمالات الثلاثة في اللغة فإنك ستجد أن الله تبارك وتعالى إذا ذكر اليد المسماة يضيف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد: (بيدي) ويتعدى الفعل بالباء إليهما. أي: إلى اليدين، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] في الإفراد والتثنية. وهنا ذكرهما بصيغة الجمع، فأضاف العمل إلى اليد نفسها، وإضافة العمل إلى اليد تعني: النعمة، كما قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71]. فقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] أي: مما عملنا. وهذا يشهد له قول الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] والمعنى: بما كسبتم. وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] أي: بما قدمت أنت، لأنه تعدى بحرف الباء: ((فَبِمَا كَسَبَتْ))، وقوله: ((بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ))، فإذا تعدى الفعل بحرف الباء يضاف العمل إلى العامل، وليس إلى الصفة، وأما إذا أضيف الفعل إليه تبارك وتعالى ثم عدي الفعل بالباء إلى يده مثناه أو مفردة، فهذا مما باشرته يده سبحانه وتعالى على الحقيقة. فقوله: (خلقت بيدي) تعدى الفعل بالباء هنا، ولابد أن يضاف إلى اليد حقيقة عند التثنية؛ لأن الله تعالى هو الذي باشر خلق آدم بيديه تبارك وتعالى، ولا يحتمل المعنى أبداً القدرة، وقد جاء في التوراة في قول موسى لآدم وآدم لموسى في حديث المحاجة: (احتج آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة أنت الذي خلقك الله بيده فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده). إذاً: الله تعالى خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، فلما احتج موسى على آدم بأن الله خلقه بيده، احتج عليه كذلك آدم بأن الله كتب له التوراة بيده وكلمه تكليماً. الشاهد من هذا: أن الله تعالى باشر كتابة التوراة بيده سبحانه، وباشر خلق آدم بيده سبحانه، فلا يجوز أن نقول: إن الله كتب التوراة بنعمته، أو بقدرته، لأن كل شيء بنعمة الله، وكل شيء بقدرة الله، فنقول: للتوراة هنا فضيلة وليست صفة على غيرها، وكذلك إذا كان الله تعالى خلق آدم بقدرته فكذلك خلق جميع الخلق بقدرته، فما الداعي أن يقول: إنه خلق آدم بقدرته؟ فليس هناك فضل لآدم على بقية المخلوقات إذا حملنا اليد على القدرة أو على النعمة؛ وذلك لأن الجميع مخلوق بقدرة الله. إذاً: هذه اليد التي باشرت الخلق يد على الحقيقة، وأن الله باشر ذلك على الحقيقة، وخلاصة ذلك: أن هذه الصفة صفة بها العطاء والأخذ والقبض وهي غير القدرة وغير النعمة، وقد ورد في كثير من الأدلة صفة اليد كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (

اختلاف علماء أهل السنة والجماعة في كون كلتا يدي الله يمين أو هما يد يمنى ويد يسرى

اختلاف علماء أهل السنة والجماعة في كون كلتا يدي الله يمين أو هما يد يمنى ويد يسرى هناك إشكال عظيم جداً يقع فيه كثير من الناس، وهو: بعد أن أثبتنا أن الله تبارك وتعالى له يدان هل هما: يد يمنى والأخرى يسرى؟ فأنت لا تعرف من صفة اليدين في المخلوقين إلا اليمين واليسار، خاصة وقد وردت بعض الأدلة التي تثبت أن لله تبارك وتعالى يدين، فهل هما يمين أم شمال؟ هذا أمر لابد من تحريره، فنتغاضى عن إثبات اليدين لله عز وجل، لأننا قد علمنا ذلك من خلال الأدلة، وأن اليدين لله عز وجل فهل هما يمين وشمال، أو كلاهما يمين؟

وصف كلتا يدي الله بأنها يمين وثبوت ذلك بالكتاب والسنة

وصف كلتا يدي الله بأنها يمين وثبوت ذلك بالكتاب والسنة أولاً: توصف يد الله عز وجل بأنها يمين، وهذا ثابت بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]. فليس في كتاب الله عز وجل وصف ليده بأنها شمال أو أنها يسار، وأن الآيات كلها نطقت بأن يد الله تبارك وتعالى موصوفة بأنها يمين. والدليل من السنة: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة). أي: لا تنقصها نفقة. وأيضاً جاء من حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم: (ويطوي السماء بيمينه). وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري ومسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، فإن الله يتقبلها بيمينه).

أدلة القائلين بإثبات صفة اليد الشمال لله تعالى

أدلة القائلين بإثبات صفة اليد الشمال لله تعالى أهل السنة والجماعة يؤمنون أن لله عز وجل يدين، وأن إحدى يديه يمين، فهل الأخرى توصف بالشمال، أو أن كلتا يديه يمين؟ القائلون بإثبات صفة الشمال منهم: عثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى الفراء، والإمام محمد بن عبد الوهاب، وصديق حسن خان، ومحمد بن خليل هراس ذلك العالم النحرير المصري، وعبد الله بن سليمان الحجازي، وأدلتهم في ذلك هي: ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى). وهذا إثبات لليمين، (ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك) إلى آخر الحديث. والشاهد في هذه الجزئية: (ثم يقضي الأرضين بشماله). والحديث في صحيح مسلم من طريق عبد الله بن عمر. وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للتي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي). يعني: أنتم قسم الجنة وحظ الجنة. (وقال للتي في يساره: إلى النار ولا أبالي). هذا الحديث حديث حسن، ولكن من ذهب إلى إثبات اليسار لله عز وجل فسر الضمير هنا بأنه يسار المولى تبارك وتعالى، وليس كذلك السياق، فأنتم تعلمون أنه لا يستقيم قط أن يكون الضمير عائداً على المولى تبارك وتعالى، قال: (خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه) والضمير يعود على أقرب اسم مفرد (كتف)، أي: كتف آدم اليمين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، (وضرب كتفه اليسرى) والضمير يعود على كتف آدم، (فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للتي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي) أي: الذرية التي خرجت من كتف آدم الأيمن إلى الجنة ولا أبالي. قال: (وقال للتي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي). فسقط احتجاجهم بهذا الحديث؛ لأن الضمير في (كتفه) يعود على كتف آدم. ومن أدلتهم: أنه قد ورد في بعض الأدلة: (ويأخذ الله تبارك وتعالى السماوات بيمينه، أو يطوي السماوات بيمينه، والأرضين بيده الأخرى). قالوا: (الأخرى) تستلزم أن تكون في مقابلة اليمين، وهذا تأويل واجتهاد في النص، فإذا كان يقول: (يطوي المولى تبارك وتعالى السموات بيمينه، ثم يطوي الأرضين بيده الأخرى) قالوا: لابد أن تكون الأخرى هي اليسرى، وهذا استنباط من النص، وهذا الاستنباط ربما يصح في جنب المخلوقين، لكنه لا يصح في جنب الله عز وجل، فلا يستقيم مع النصوص التي وردت بأن كلتا يديه يمين. ونحن نعلم أنه لا اجتهاد مع النص، فإذا كان النص قد ثبت بأن كلتا يديه يمين، فلا يجوز أن نقول في لفظه: (بيده الأخرى): أنها اليسار؛ لأنها في مقابلة مذكورة وأنها اليمين، وهذا من أدلتهم في وصف إحدى اليدين باليمين كما في الأحاديث السابقة، وهذا يقتضي أن الأخرى ليست يميناً فتكون شمالاً. على أية حال: اجتهد كل واحد في إثبات ما لديه من علم، والذي يترجح من خلال النصوص أن كلتا يدي الله يمين لا شمال ولا يسار فيهما. ومن القائلين بهذا: إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله تعالى في كتابه العظيم كتاب التوحيد، والإمام أحمد بن حنبل، والبيهقي. ومن العلماء المعاصرين: جميع العلماء إلا الشيخ الغنيمان فقد تردد في ذلك، ولا أظن أنه قطع في هذا.

أدلة القائلين بأن كلتا يدي الله يمين

أدلة القائلين بأن كلتا يدي الله يمين أدلة من قال بأن كلتا يديه سبحانه يمين: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين)، وهذا نص ثابت. وحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مرفوعاً: (أول ما خلق الله تعالى القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين). واعلم أن الحديث الذي جاء في إثبات الشمال أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عمر، وهنا ثبت عن عبد الله بن عمر أنه روى حديثاً: (أول ما خلق الله تعالى القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين). إذاً: عبد الله بن عمر وافق جمهور الرواة، ووافق الروايات بإحدى روايتيه وخالف في الأخرى؛ ولذلك هذه المخالفة في إثبات الشمال لله عز وجل إذا أتت من طريق واحد تدل على الاضطراب. يعني: إذا كان الراوي لهذه الصفة هو عبد الله بن عمر مرة يثبت أن كلتا يديه يمين، ومرة يثبت أن لله يدين إحداهما يمين والأخرى شمال فلابد أن نقول: قد حدث هنا اضطراب، ولا يلزم أن يكون هذا الاضطراب من جانب الصحابي، بل إن ذلك في الغالب العام من طرف أحد رواة الإسناد. ولذلك هذا الخبر هو الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: (أول ما خلق الله تعالى القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيهما شئت يا آدم! فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة، ثم بسطها). هذا الحديث عند ابن أبي عاصم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في الأسماء والصفات وغيره. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يمين الله ملأى لا يغيضها شيء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض) والحديث في الصحيحين. فلو قلنا: إن اليد هنا بمعنى: القدرة أو بمعنى: النعمة، فهل يصح أن نقول: إن النعمة تقبض وتبسط؟ قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: باب ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا جل وعلا يدين كلتاهما يمينان، لا يسار لخالقنا عز وجل، إذ اليسار من صفة المخلوقين تجلى ربنا عن أن يكون له يسار. هذا كلام ابن خزيمة. وقال في التوحيد أيضاً: بل الأرض جميعاً قبضة ربنا جل وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه وهي اليد الأخرى. يعني: هي كذلك يمين، وكلتا يدي ربنا يمين لا شمال فيهما جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يساراً إنما يكون من علامات المخلوقين جل ربنا وعز عن التشبه بخلقه. وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب طبقات الحنابلة لـ أبي يعلى: وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وكلتا يديه يمين) لابد من الإيمان بذلك. قال: فمن لم يؤمن بذلك ويعلم أن ذلك حقٌ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مكذب برسول الله عليه الصلاة والسلام. وسئل الشيخ الألباني رحمه الله كما في مجلة الأصالة: كيف نوفق بين رواية: (بشماله) الواردة في حديث ابن عمر في صحيح مسلم، وبين الرواية: (وكلتا يديه يمين)؟ A قال: لا تعارض بين الحديثين، فقوله: (وكلتا يديه يمين)، تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. يعني: لابد أن تصرف من الذهن تشبيه الخالق بالمخلوق، فإذا صرفته فلابد أن تعلم بإثبات اليدين لله عز وجل ليس على نحو أيدي المخلوقين. قال: فقوله: (وكلتا يديه يمين) تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيد للتنزيه، فيد الله ليست كيد البشر (شمال ويمين)، ولكن كلتا يديه سبحانه يمين. وترجيح آخر للروايتين: أن رواية: (بشماله) رواية شاذة كما بينتها في تخريج المصطلحات الأربعة لـ أبي الأعلى المودودي. ويؤكد هذا: أن أبا داود روى نفس الحديث الذي رواه مسلم وأثبت فيه -أي: مسلم - الشمال دون أن يثبت فيه هذه الرواية الأخرى، ولكن قال: (وبيده الأخرى) بدل (وبشماله)، وهو الموافق لقوله تعالى، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكلتا يديه يمين).

مناقشة الأدلة التي تثبت صفة اليد الشمال لله تعالى

مناقشة الأدلة التي تثبت صفة اليد الشمال لله تعالى أولاً: أن حديث عبد الله بن عمر عن مسلم الذي فيه لفظة: (الشمال) تفرد بها عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وعمر بن حمزة ضعيف، وإن كان أحد رواة مسلم، فضلاً عن أنه قد روى رواية خالف فيها جمهور الرواة، وإن الضعيف إذا أتى برواية يخالف فيها الثقات، فهذه الرواية منكرة، وهي في غاية النكارة إذا تعلقت بذات الإله أو بصفاته. والحديث الذي رواه ابن عمر عند البخاري وكذلك عند مسلم ليس عندهما لفظة: (الشمال) والحديث المتفق عليه في الصحيحين أولى مما تفرد به مسلم، بل ومن طريقه راوٍ ضعيف. وقال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات: ذكر الشمال في الرواية تفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر ولم يذكرا فيه الشمال. فلما خالفه عمر بن حمزة وهو ضعيف دل ذلك على أن روايته منكرة. وروي ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعيف كذلك بمرة، تفرد بأحدهما جعفر بن الزبير، وفي الطريق الثاني يزيد الرقاشي وهما متروكان، فكيف يقال: إن الشمال في مقابلة اليمين؟ وتخرج من ذلك إلى أنه لا يصح دليل ولن يصح دليل في إثبات صفة الشمال في يدي الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه اللفظة إنما وردت من طريق الضعفاء، والذي روي من طريق الثقات كذلك ورد في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى له يدان، وكلتا يديه يمين. وأما قولهم: إن ذكر اليمين يدل على أن الأخرى شمال قول صحيح لو لم يرد ما يدل على أن كلتا يديه يمين. يعني: صحيح عند إطلاق اليدين في لغة العرب وفي التصور الذهني أن أحدهما يمين والآخر شمال، لكن هذا في حياة المخلوقين أولاً. ثانياً: أن هذا القياس لا يصح مع المولى تبارك وتعال خاصة، فإنه قد ثبت بالأدلة أن كلتا يديه يمين على أية حال، ونحن نعلم يقيناً أن الخلق جميعاً إذا كانت لهم يدان فإحداهما يمين والأخرى يسار، وقد ورد في بعض أشعار العرب مدحاً بوصف الرجل باليمينين، فكيف لا يكون المولى تبارك وتعالى كذلك إذ إن وصف اليدين بأن كلتيهما يمين لا يعني عند العرب أن الأخرى ليست يساراً، بل قد يوصف الإنسان بأن يديه كلتاهما يمين كما قال المرار الأسدي: وإن على الأمانة من عقيل فتى كلتا اليدين له يمين ولا يعني ذلك: أنه لا شمال له، بل هو من كرمه وعطائه بشماله ويمينه، فهو يعني: أن يده الشمال تنفق وتعطي كيده اليمين. ولقب أبو الطيب طاهر بن حسين بن مصعب بذي اليمينين، كتب له أحد أصحابه: للأمير المهذب المكنى بطيب ذو اليمينين طاهر بن الحسين بن مصعب والشاهد: (ذو اليمينين) لفرط عطائه وجوده. يريد أن يقول له: أنت يدك تعطي وتبذل بالليل والنهار، وأنت لا تبخل عن أصحابك بشيء سواء بيمينك أو بشمالك، وهذا كلام لا يستقيم في الأذهان، ولكنه خرج مخرج المجاز في الإطناب والمدح، وإلا فإنفاق الشمال مكروه في الشرع؛ ولذلك قالت عائشة: وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في أمره كله كان يحب التيمن في ترجله، وتنعله وفي عطائه وأخذه، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي إلا بيمينه، وما كان يأخذ شيئاً من أصحابه إلا بيمينه. والترجيح: أن صفات الله تبارك وتعالى توقيفية، والذي قد ثبت بالنص أن كلتا يديه يمين، ولابد من القول والذهاب إلى هذا المذهب بأن كلتا يدي ربنا تبارك وتعالى يمين، ولا توصف إحداهما بأنها شمال. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

الحكم على حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) Q ما صحة الحديث بأن الله تعالى خلق آدم على صورته؟ A هذا حديث صحيح متفق عليه عند البخاري ومسلم، لكن لا يلزم منه إثبات الصورة لآدم، أو أن الضمير يعود على المولى تبارك وتعالى، وهذا كلام أيضاً محل تفصيل، فقد ورد في الحديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن). وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا ضربت فلا تقبح ولا تلعن، ولا تضرب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته). هل الضمير هنا يعود على آدم أو على صورة آدم، أو على صورة المضروب، أو على صورة الرحمن؟ كلام طويل جداً نبحثه عند الكلام عن صفة (الصورة) للمولى تبارك وتعالى.

ثبوت اكتحال النبي صلى الله عليه وسلم

ثبوت اكتحال النبي صلى الله عليه وسلم Q هل أحاديث اكتحال النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة؟ وهل هو مستحب أم واجب؟ A نعم. صحيحة، وإذا صح الأثر لزم العمل به، سواء كان ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب والندب.

بيان أن السنة قص الشارب لا حلقه

بيان أن السنة قص الشارب لا حلقه Q هل السنة قص الشارب أم حلقه؟ A السنة في ذلك قص الشارب دون الحلق.

حكم التصدق على زانية

حكم التصدق على زانية Q هو يجوز لي أن أتصدق على زانية؟ وكيف أفعل حتى لا أفتن بها؟ A نعم يجوز؛ لحديث الرجل الصالح الذي تصدق على سارق وزانية وغني فأصبح الناس يقولون: تصدق على سارق. استشهد الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله في درس له أنه لما يتصدق المسلم على زانية ربما بهذه الصدقة تستعف عن الزنا. وهذا نص الحديث. ولا يلزم أن تعطيها الصدقة بنفسك، من الإمكان أن تحتال في إيصال هذه الصدقة إلى هذه المرأة التي تريد التوبة، ولا سبيل لها إلا أن تستعف بمال حلال كصدقتك، فلا بأس أن تذهب أمك إليها، أو أختك أو إحدى محارمك، أو شيخ كبير هرم لا يفتن بها ولا تفتن به، ولا تمكنه من نفسها، وإذا كان يغلب على ظنك أن هذه المرأة الزانية البغية ربما تفتنك فيحرم عليك أن تقترب منها؛ لغلبة ظن وقوع الفتنة بينك وبينها، فأوسط الأمر أن تجعلها صدقة سر، وهي -إن شاء الله تعالى- مقبولة عند الله عز وجل.

النصح بشراء كتاب أصول الاعتقاد

النصح بشراء كتاب أصول الاعتقاد Q هل تنصحنا بشراء كتاب أصول الاعتقاد للالكائي وهو محل الكلام، أم نسمع ونكتب الشرح فقط؟ A لا أرى تعارضاً بين شراء الكتاب، وبين أن تسمع الشرح، وأن تكتب نقاط الفوائد. وأهل الأصول يقولون: إذا كان الجمع ممكناً بين الاثنين فهو خير من رد أحدهما.

الحكمة من تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله

الحكمة من تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله Q قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] الآية، فما الحكمة من تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله؟ A سؤال لطيف، الله تعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فأخر الإيمان وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما السياجان اللذان يحيطان بالإيمان ويحفظانه، فأمة ليس فيها أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر لابد أن يضيع فيها الإيمان، فقدم المولى تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهما السياجان اللذان يحيطان بالإيمان ويحافظان عليه. وأنتم تعلمون بداهة: أن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو ليس من أهل الإيمان والإسلام لا يقبل منه ذلك، فالكافر لو أمر بالمعروف ونهى عن المنكر يكافئه الله عليه بزينة الحياة الدنيا، لكن في الآخرة ليس له نصيب، ولا يقبل الله تبارك وتعالى منه ذلك العمل؛ لأنه عديم الإيمان، وعديم الإسلام والتوحيد.

بيان أن صفات الله سبحانه توقيفية كما أن أسماءه توقيفية

بيان أن صفات الله سبحانه توقيفية كما أن أسماءه توقيفية Q هل تثبت هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى: الجميل، الطيب، النظيف؟ A هذه صفات للمولى تبارك وتعالى دون الثالث قولك: (نظيف) لم أسمع به، لكن من صفاته: أنه جميل يحب الجمال، وأنه طيب لا يقبل إلا طيباً. ولابد أن تعلموا أن الصفات كذلك توقيفية كالأسماء، فلا يجوز أن نسمي الله تبارك وتعالى إلا بما سمى به نفسه، ولا يجوز أن نصف الله تبارك وتعالى إلا بصفة قد وصف الله تبارك وتعالى بها نفسه. وعندما ننسب صفة لله أو اسماً لله ليس وارداً في الكتاب ولا السنة فإن هذا لا يجوز؛ لأن الأسماء توقيفية وكذلك الصفات. أما باب المعاني الجميلة فهو باب أوسع من باب الأسماء والصفات، فنثبتها لله تبارك وتعالى، فالمنعم والستار ليست من أسماء الله، وغير ذلك من الأسماء التي درجت على ألسنة الناس، وليست في حقيقتها من أسماء الله. فالمنعم ليست صفة ثابتة لله تبارك وتعالى وردت في كتابه أو في سنة رسوله، ولكنها من المعاني الجميلة التي تليق بالمولى عز وجل؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، فالله تبارك وتعالى بلا شك هو المنعم والمتفضل ليس على سبيل أن (المنعم) من أسمائه أو من صفاته، ولكنه معنى جميل يليق بجلال المولى تبارك وتعالى في الجملة.

معنى حديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)

معنى حديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا) Q هل يوصف الله بالملل كما في حديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)؟ A لا. ملل المخلوق المعروف لا يوصف به المولى تبارك وتعالى؛ لأنه صفة نقص، والملل في حق الله تبارك وتعالى صفة كمال؛ لأننا متفقون على أنه متصف بالكمال المطلق، منفي عنه جميع النقائص. فأحسن تفسير لحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا): أن الله لا يمل من إعطائكم الثواب على الأعمال الصالحة حتى تمتنعوا أنتم عن تلك الأعمال، فإن الله يقطع ثوابه عنكم، وهذا أحد وجوه التفسير في هذا الحديث: (إن الله لا يمل)؛ لأنكم تعلمون الحديث: (من عمل حسنة فله عشر أمثالها). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا حديث فيه الحث على علو الهمة في طلب معالي الأمور وعظيم الأعمال التي يثيب المولى تبارك وتعالى عليها، فإن المرء كلما عمل صالحاً أثابه الله تبارك وتعالى، ويتوقف هذا الثواب إذا توقف العمل. فعبر المولى تبارك وتعالى عنه بكلام من لغة العرب حتى يفهموه. فقوله: (إن الله لا يمل) أي: من إعطائكم الثواب على الأعمال حتى تكفوا أنتم عن الأعمال، فإن الله تبارك وتعالى يمنعكم ويحرمكم الثواب، لأنكم منعتم أنفسكم العمل الصالح. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

صفة الأصابع لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الأصابع لله عز وجل أهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى الأسماء والصفات كما يليق بجلال الله من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا نفي ولا تأويل، ومن ذلك إثباتهم لصفة الأصابع والأنامل، فقد ثبت ذلك في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي ذكر فيها أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا.

الأدلة على إثبات صفة الأصابع لله تعالى

الأدلة على إثبات صفة الأصابع لله تعالى إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فلا زلنا نتكلم عن صفات الباري تبارك وتعالى، واليوم بمشيئة الله عز وجل نتكلم عن صفة الأصابع لله تبارك وتعالى، بعد أن تكلمنا أنه ذو يدين سبحانه وتعالى، وكلتا يديه يمين لا شمال فيهما، وأما الأحاديث التي وردت تثبت أن لله يميناً وأن له شمالاً فأحاديث شاذة ضعيفة خالفت كتاب الله عز وجل، وخالفت ما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن كلتا يديه سبحانه يمين، ورددنا كل تأويل صرف لفظ اليد لله عز وجل عن ظاهرها وعن حقيقتها، والذي قلناه في صفات اليد لابد وأننا سنقوله في كل صفة ولذلك فإننا لا نعيد الكلام اعتماداً على فهمه في المرة الأولى أو الثانية. واليوم نتكلم عن صفة الأصابع فنقول: لله عز وجل أصابع، وإذا كنا لا نعلم كيفية اليد، فإننا كذلك لا نعلم كيفية الأصابع لله عز وجل، ولكننا نثبتها له سبحانه وتعالى بلا كيف ولا حد، فلا نستطيع أن نكيف صفات المولى تبارك وتعالى، سواء كانت صفاته الفعلية، أو الخبرية الذاتية، ومعنى أنها صفة ذاتية. أي: أنها لازمة لذاته تبارك وتعالى لا تنفك عنه، أولية بأوليته دون ابتداء، وآخرية بآخريته بلا انتهاء، بخلاف -مثلاً- صفة الكلام لله عز وجل وصفة النزول، وصفة المجيء وغيرها من الصفات، فإن الله تبارك وتعالى أعلمنا أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، فلا يجوز لأحد أن يقول: إنه ينزل في الثلث الأول، أو ينزل في النهار، أو ينزل في بعض الليل دون بعضه، إلا ما حدده الله تعالى ورسوله، فإذا كان الخبر يثبت أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، فيمنع أن يقول أحد: أنه ينزل في منتصف الليل، أو في أول الليل أو في بعض أجزاء النهار؛ لأنه ينزل حيث أخبر، وبالطريقة التي تليق به تبارك وتعالى. إذاً: الله تبارك وتعالى ينزل في وقت ولا ينزل في وقت آخر، ولا ينزل في بقية الليل وكذلك النهار، وإنما ينزل في الثلث الأخير من الليل، والله تبارك وتعالى يتكلم بأي كلام متى شاء، وله أن يتكلم في وقت دون وقت، لكننا لا نقول: إن لله تبارك وتعالى يد بالليل، وليست له يد بالنهار، لأنها صفة ذاتية، ومعنى ذاتية أنها ملازمة لذاته لا تنفك عنه، فيمتنع أن نقول في هذه الصفات: إنها ثابتة لله عز وجل في وقت دون وقت، وإنما هي ثابتة له في كل وقت وحين، فإن الله تبارك وتعالى لا تنفك عنه يده، كما أنه لا تنفك عنه أصابعه. يعني: لا يوصف في وقت أنه ذو أصابع، ثم ننفي عنه في وقت أنه ذو أصابع، لأنها لازمة له على الدوام من الأزل وإلى الأزل، دون بداية ولا نهاية. ذكر غير واحد من العلماء في كتبهم أن صفة الأصابع لله عز وجل ثابتة لله عز وجل، وتلقاها بالقبول أهل السنة والجماعة، ومما يؤيد ذلك: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما -أي: البخاري ومسلم - وكذلك ذكره ابن عبد البر في كتابه العظيم: (التمهيد)، وقد جمع أكثر طرقه الإمام الدارقطني في رسالة صغيرة لطيفية جداً سماها: (صفات الباري تبارك وتعالى)، هذه الرسالة ليس فيها حديث إلا له تعلق بصفات الله عز وجل، والإمام الدارقطني كان على رأس طبقته ممن يدعو إلى السنة على منهج النبوة، فقد كان إماماً عظيماً جبلاً من جبال السنة والداعين إليها، الآمرين فيها بالمعروف، والناهين فيها عن المنكر، جمع في هذه الرسالة عدة أحاديث تثبت صفات المولى تبارك وتعالى.

حديث: (إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع)

حديث: (إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع) من هذه الأحاديث التي رواها الدارقطني في هذه الرسالة: ما أخرجه ابتداءً الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عز وجل عنه قال: (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى حبر: عالم من علماء اليهود، (فقال: يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى -الذي هو التراب- على أصبع، وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر وتصديقاً له). وعبد الله بن مسعود راوي الحديث فهم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ضحك تعجباً وتصديقاً ولا غرو في ذلك؛ لأنه حق أتى من قبل اليهودي فقبلناه، لا لأن القائل به يهودي، ولذلك لم يرده النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له لا هذا الخبر يرد؛ لأنك يهودي لا يقبل منك هذا الخبر، وإنما ضحك تعجباً وتصديقاً لمن أخبر بذلك الخبر، (ثم قرأ قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). وقد روى هذا الحديث غير واحد من الصحابة، فلم ينفرد به ابن مسعود، بل رواه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما. وقريب منه: حديث أبي هريرة عند مسلم والحديث متفق عليه -أخرجه الشيخان- رواه البخاري في كتاب التوحيد في صحيحه.

حديث: (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن)

حديث: (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن) أيضاً: وفي معنى هذه الأحاديث المشار إليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم ولفظه: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال -أي النبي عليه الصلاة والسلام-: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك). والشاهد: إن قلوب العباد كقلب واحد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وهذا الحديث كذلك هو الحديث الثاني في إثبات أن لله تبارك وتعالى أصابع.

حديث: (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)

حديث: (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن) كذلك في معناه الحديث الثالث: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند مسلم ونصه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الميزان بيد الرحمن إن شاء يرفع أقواماً ويضع آخرين، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه). (إن شاء أقامه): أي هداه. (وإن شاء أزاغه): أي أضله. فهذه أحاديث ثلاثة تثبت الأصابع لله تبارك وتعالى، فصفة الأصابع لم تثبت بالكتاب العزيز، ولا يلزم في إثبات صفة من الصفات أن يكون لها ذكر في القرآن الكريم، وإنما مصدر التشريع والاعتقاد كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما نعتمد على السنة وحدها إذا لم يكن هناك خبر في القرآن الكريم، وقد نطقت السنة فيما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو وكذلك رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان وما اتفق عليه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. هذه الثلاثة الأحاديث أثبتت أن لله تبارك وتعالى أصابع، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). وبهذه الأحاديث الصحاح يثبت علماء الحديث وأهل السنة لله تعالى الأصابع، بثبوتها صفة لله تعالى خبرية؛ لأن الخبر قد ورد بها.

منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات

منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات من القواعد المسلم بها عند أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات المولى تبارك وتعالى وأسمائه: أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله، وينفون عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. فلابد وأن نثبت الأصابع لله عز وجل، لأنه قد ورد في السنة إثباتها. أي: نطقت السنة بإثبات أن لله تبارك وتعالى أصابع، وأحاديث صفة الأصابع لله عز وجل لم تسلم من تحريف المحرفين كأي صفة من الصفات، بل تعرضوا لها مرة بالتأويل، ومرة بالتحريف، بل منهم من تعرض لها بالتعطيل، ومنهم من تعرض لها بالتمثيل. قالوا: إذا كنا نثبت لله تبارك وتعالى أصابع، فلابد وأنها تكون كأصابعنا، ولا شك أن هذا غلو شديد، وانحراف عن منهج النبوة فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل؛ لأن المنهج الحق هو منهج أهل السنة وهم وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، فلا ينفون الصفة وقد أثبتها الله تعالى ورسوله، كما أنهم لا يشبهون صفات الخالق بصفات المخلوقين، فلا يمثلون صفات الباري عز وجل بصفات المخلوق الجارحة، فإننا نثبت أن لله تبارك وتعالى أصابع ليست جارحة، فلا تشبه أصابعنا، إنما هي أصابع تليق بالمولى عز وجل، ونسكت على ذلك، ونؤمن به إيماناً جازماً، فأحاديث الصفات نالها ما نال غيرها من نصوص الصفات الأخرى. وزعم بعضهم: أن صفة الأصابع تخليط من اليهود، فقالوا: نحن لا نثبت صفة الأصابع، لأنها إنما أتت من طريق اليهود، وهذا الكلام مردود عليهم، فإن الحجة ليست بقول اليهودي وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، لأن خبر بني إسرائيل إن وافق ما عندنا فلا بأس وإن خالف رددناه، وإن لم يخالف ولم يوافق فإننا لا نؤمن به ولا نكذبه. أي: لا نصدقه ولا نكذبه، فلا عبرة به عندنا، وإن قال به حبر من أحبار اليهود، والنبي عليه الصلاة والسلام ضحك تعجباً لما قال، وتصديقاً له، فإنما نأخذ الحجة من تصديق النبي عليه الصلاة والسلام لذلك الحبر. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) ليس فيه واحد من اليهود أو النصارى بل هو خبر مسلم قح من أوله إلى آخره، وكذلك حديث النواس بن سمعان، وكلاهما يثبتان أن لله تبارك وتعالى أصابع، فلماذا نرد هذه الأخبار؟ ومعلوم أن اليهود مجسمة فما من بدعة وقعت في الإسلام إلا ولابد أن صاحبها إما يهودي أو نصراني أو مجوسي أو صاحب هوى وبدعة، فكل الانحرافات والبدع الخاصة بالعقيدة مصدرها اليهود والنصارى والمجوس، ثم أصحاب الأهواء الذين يميلون بأهوائهم إلى الابتداع لا إلى الاتباع. وقالوا: أن ضحك النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الحبر ليس دليلاً على تصديقه لليهودي، بل هو دليل الكراهة والغضب والاستنكار، وهذا كلام بعيد جداً. ومتى علم أحد من المسلمين أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أنكر أمراً ضحك له؟ وهل وجدتم دليلاً في السنة من أولها إلى آخرها أو سمع أحدكم أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سمع شيئاً يكرهه وينكره فإنه كان يضحك؟ إنما كان يغضب غضباً شديداً حتى يرى ذلك في وجهه، وإذا كان ذلك في عموم الأشياء فإنه من باب أولى في أحاديث الصفات لله عز وجل، فلابد أن يكون شديد الغضب، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت على باطل، وضحكه لا يدل على استنكاره، وإنما يدل على تعجبه وتصديقه. هب أن المسألة مسألة عقول وأفهام، فأيهما أحسن عقلاً وأشد فهماً عبد الله بن مسعود الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك، أم هؤلاء الذين صرفوا الضحك إلى الاستنكار ورد خبر ذلك الحبر؟ إن الواحد إذا ضحك ربما يضحك استهزاءً، أو سخرية، أو استنكاراً لما يسمع، أو تعجباً مما يسمع، أو موافقة وقبولاً لما يسمع، لأن التشريع لا يناط به، ولكن الذي يعلم أنني أضحك تعجباً أو استنكاراً هو الذي يراني أضحك، يعلم كيف أضحك، وعلام يدل هذا الضحك، فـ عبد الله بن مسعود هو الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك، فلو كان يعلم أن هذا الضحك ليس للتعجب ولا للتصديق بل هو للاستنكار ولغرابة الخبر لصرح بذلك ونقله إلينا، بل هو الذي رأى الضحك، ويعلم من حال ضحك النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يستنكر ولا يستغرب وإنما قال: (ضحك النبي عليه الصلاة والسلام مما قال الحبر تعجباً وتصديقاً له). وإذا كانت المسألة مسألة فهوم وعقول فعقل عبد الله بن مسعود أرجح، وفهمه أقوى وأشد من فهم هؤلاء الذين حرفوا النص عن ظاهره لينفوا عن الله عز وجل أنه ذو أصابع. وادعوا كذلك أن ذكر الأصابع لم يرد في القرآن أو في حديث متواتر، والرد عليهم أنه ليس بلازم قط أنها ترد في القرآن الكريم، ودعواهم في ظاهرها حق ولكن أريد بها باطل، ولو وردت لفظة الأصابع في القرآن لأولوها كما أولوا غيرها من الصفات التي وردت في القرآن، كما أولوا صفة اليد مع أنها ثابتة لله في القرآن فأولوها بالنعمة، وبالقدرة. المهم أنها

مذهب المعتزلة في الصفات والرد عليهم

مذهب المعتزلة في الصفات والرد عليهم ومن هؤلاء المعتزلة من يتفلسف ويقول: إننا لا نحتج في صفات المولى عز وجل إلا بالأحاديث المتواترة. وهؤلاء معتزلة، بل هم شر من المعتزلة، فمعتزلة هذا الزمان شر من المعتزلة في ذلك الزمان الأول، فإنهم تأولوا هذه الصفات وهم يعتقدون أن هذا دين يتقربون به إلى الله عز وجل، أما هؤلاء الملاحدة الذين تبنوا مذهب الاعتزال في هذا الزمان فإن التسمية الحقيقية لهم أنهم ملاحدة، ولكنهم تستروا بسترا العقل وقالوا: نحن عقلانيون، نحن تابعون للعلم الحديث، نحن معتزلة ولكنهم في الحقيقة لا يجرءون على أن يصرحوا بمكنون صدورهم؛ لأنه يؤدي بهم إلى الكفر الصريح عياذاً بالله تعالى فهنا يقولون: إن هذه الصفة ليست ثابتة في الكتاب ولذلك لا نقول بها إلا إذا وردت بأحاديث متواترة. والرد عليهم فيما يلي: الرد الأول: أن غيرها من الصفات ثبتت في الكتاب ولم تقولوا بها؟ وهذا يدل على فساد قلوبكم، وسوء طويتكم. الرد الثاني: أنه لا يلزم من ثبوت شيء في دين الله عز وجل أن يرد في الكتاب، بل إن الله عز وجل أمرنا أن نتبع محمداً عليه الصلاة والسلام؛ لأن سنته وحي من عند الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن لله أصابع، وقد صح بذلك الخبر فلم لا نقول به؟ ولم لا نعتقده؟ ولم نرد على النبي عليه الصلاة والسلام؟ تصور أنك جالس بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) أتقول له لا هذا الخبر ليس متواتراً؟ أم أين دليلك من الكتاب؟ A أنك لا يمكن أن تتكلم، ولو تكلمت بهذا الكلام الكفري بين يديه لوجدت من يؤدبك ومن يقطع رقبتك كأمثال عمر وغيره، بل هو اعتراض وتقدم بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام. الرد الثالث: من الذي فرق في صفات المولى عز وجل بين قبول الخبر إذا جاء متواتراً ورده إذا جاء آحاد؟ من الذي قال بهذا؟ أهو النبي عليه الصلاة والسلام أم الخلفاء الأربعة أم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أم الأئمة المتبوعون إلى قيام القيامة؟ A لم يقل أحد من هؤلاء برد الخبر إذا كان في الاعتقاد إذا أتى من طريق الآحاد، بل قالوا: إذا صح الخبر فهو مذهبنا، وهو معتقدنا، وبه نقول، فإذا كان هذا الخبر قد ورد في الصحيحين بإثبات هذه الصفة لله عز وجل فلماذا لا نقول بها إذاً؟ ولذلك (أرسل النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً وحده إلى اليمن، وقال: إنك تدعو قوماً أهل كتاب -يهود ونصارى- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) هذا اعتقاد. وأرسل معاذاً وهو خبر آحاد، وقبله أهل اليمن ولم يردوا معاذاً ويقولوا له: اذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو اذهب إلى أبي القاسم فأخبره أننا لا نقبل هذا الكلام إلا إذا كان متواتراً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام لما استقر عنده أن خبر معاذ كاف وحده في إقامة الحجة على أهل بلد أرسله إليهم يعلمهم الاعتقاد أولاً، فلما لم يكن هذا ولا ذاك، قام أهل اليمن وقبلوا خبر معاذ وأتوا بعد ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام مسلمين، بعضهم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليسمع بالسند العالي ما أوحى الله عز وجل به إلى نبيه. فقولهم: إن هذا الخبر ليس في القرآن مردود. إذاً: ماذا تصنع السنة؟ وما قيمتها حينئذ؟ كما أن خبرهم أو قولهم بأننا لا نقبل في إثبات الصفات إلا الأحاديث المقطوعة ويقصدون بها المتواترة، خبر كذلك أشد رداً مما سبقه.

مذهب الأشاعرة في الصفات والرد عليهم

مذهب الأشاعرة في الصفات والرد عليهم أيضاً الذين أثبتوا هذه الأحاديث، هم أحسن حالاً ممن سبق، هؤلاء قالوا: سنسلم بأن هذه الأحاديث صحيحه، وأننا سنحتج بها في الاعتقاد، لكنهم ذهبوا مذهباً آخر، واضطربوا اضطراباً شديداً، وتحيروا وتخبطوا، فقالوا: هذه الأخبار صحيحة ولكننا سنؤولها -وهؤلاء الأشاعرة- ونصرفها عن ظاهرها، وعن المراد منها، ومحاولة التأويل بدعوى أن مثل هذه النصوص لا يراد ظاهرها؛ لأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، ومن أصول المبتدعة: تقديم العقل على النقل، لكن من أصول أهل السنة تقديم النقل على العقل، والذي خلق العقل هو الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، وهذا العقل منه الفاسد ومنه السليم، ونصوص الشرع منها الصحيح ومنها السقيم، فالصحيح كتاب الله عز وجل وما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، والسقيم منها: الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإذا كان الخلاف وقع بين أهل العلم فيما يتعلق بالاحتجاج بالضعيف في فضائل الأعمال، فمن باب أولى وأحرى إذا كان هذا الخبر الضعيف يثبت صفة لله عز وجل فلا نثبتها، لأنهم يشترطون في ذلك يأتي الخبر من طريق صحيح، ومن طريق الثقات. فقولهم إنما نؤول الأصابع لأنها لا تتفق مع العقل؛ ولأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، لأنهم تصوروا أن أصابع الخالق كأصابع المخلوقين، فأرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى برفض الأدلة، وإما أن ينزهوه بتأويل الأدلة، فلما ثبتت الأدلة ثبوتاً يقينياً قالوا: إن هذه الأدلة ظاهرها غير مراد. يعني الكلام هذا على سبيل المجاز. أي: أن الكلام هذا لا يقصد به حقيقة الأصابع، فيصرفون النص عن ظاهره ويقولون بالمعنى المترتب عليه، وهو القبض وهو لا يتم إلا بالأصابع، والبسط لا يكون إلا بالأصابع وغير ذلك، والحثيات كذلك لا تكون إلا بالأصابع، أي براحة اليد وبالأصابع، فلما ثبت هذا كله لله عز وجل أردوا أن يقولوا: إن هذه الأصابع إنما هي فرع وتصور عن اليد التي هي أصلاً عندهم القوة، فالأصابع لا يراد منها الظاهر بل هي مجاز لله عز وجل، والمجاز فيما يتعلق بأمور الغيب -خاصة فيما يتعلق بالباري تبارك وتعالى- لا يجوز قط، وليس هو منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم يثبتون لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله على الوجه اللائق به حقيقة لا مجازاً، فإن لله يد حقيقة، لكن لا يعلم كيفية هذه اليد إلا الله عز وجل. أما المبتدعة قالوا: لابد من التأويل إلى ما يليق ويقبله العقل، فنقول: هذا غيب لا دخل للعقل فيه، والغيب ابتلاء من الله عز وجل، فالجنة والنار والحور العين لا نقول فيها أنها مجاز، وإلا للزم من ذلك القول بأن الله عز وجل مجاز؛ لأنه ليس ذاتاً حقيقية -حسب زعمكم- لأنكم أنكرتم الصفات اللازمة للذات، فإذا كنتم تنكرون هذه الصفات وتؤولونها بأنها مجاز لابد وأنكم تقولون في النهاية بأن الذات العلية كذلك مجاز. إذاً: في النهاية لا يوجد إله. ويصح هنا ما قاله ابن تيمية: إن المعطل يعبد عدماً، وإن الممثل يعبد صنماً. فـ ابن تيمية لم يقل هذا الكلام من فراغ بل هو خبر قلوب القوم لا أقوال ألسنتهم، فعلم بنور من الله عز وجل أن المعطلة الذين يعطلون الصفات ويلزم بذلك أن يعطلوا الذات يعبدون عدماً؛ لأنهم في النهاية لا يكون لهم إله؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا كانوا نفوا الصفات فلابد وأن ينفوا في النهاية الذات. والممثلة على النقيض من ذلك، فهم يثبتون أن لله تعالى يداً كأيدينا وعيناً كأعيننا، وساقاً كساقنا، وأصابع كأصابعنا، وينزل كنزولنا، ويجيء كمجيئنا، فيصورونه في النهاية شخصاً، فهم يعبدون صنماً؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وقال آخرون: يحتمل أن يكون المراد بالأصابع خلقاً يخلقهم الله عز وجل ليحملوا ما تحمله الأصابع. وهذا تأويل ساذج إذ جعلوها شيئاً حادثاً منفصلاً عن الذات، وصفات الله تبارك وتعالى ليست حادثة، لأنك لو قلت بحدوثها فيلزمك أن تقول: إن الله كان متصفاً بالنقص فكمل نفسه. وهذا كفر والعياذ بالله. وقال آخرون: لعل المراد بالأصابع نعمة النفع والدفع، أو أثر الفضل والعدل إلى آخر تلك التكلفات التي نحن في غنى عن سردها؛ لأن حسن اعتقادنا في الله عز وجل أن نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك فإن منهج أهل السنة في غاية الراحة والطمأنينة، ولذلك إذا أتاك أي خبر لابد وأن تسأل: من القائل به؟

بيان أنه لا تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح

بيان أنه لا تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح ناقشني رجل فقال: يرحم الله فلاناً فإنه كان يشن الغارة على السلفيين، وهو خبر القوم، وعلم فساداً من هديهم وفساد قلوبهم. قلت: أما يرحمه الله فإنا نسأل الله أن يرحمه، وأما أنه خبر القوم، فوالله ما خبرهم ولو خبرهم لتبعهم، بل منعه كبره أن يقبل الحق وأن يتبع شباباً صغاراً في سن أولاده وهو عالم كبير في الأزهر، وكان يغتاظ أشد الغيظ إذا سمع كلمة سلفي أو كلمة سنة. قلت: أليس هو الذي رد حديث الذبابة وهو في الصحيح؟ قال: نعم. ثم قلت: أليس هو الذي رد حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم. هذا لا يليق بجناب النبوة. قلت: النبي أعلم بجناب النبوة منك، فهو الذي أخبر أنه سحر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الطبيب الأول الذي أخبرنا أن الذبابة إذا وقعت في شراب أحدنا فليغمسها في هذا الشراب فإن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء، وأنت لا تدري بأي الجناحين سقطت هذه الذبابة، فمن باب الاطمئنان ودفع الوسواس أن تغمسها، فإذا كان جناحها الذي يحمل الداء هو الذي سقط عالجه الجناح الآخر؛ لأن فيه الدواء، وإن كان الذي سقط فيه هذا الشراب هو الجناح الذي فيه الدواء فإن غمس الجناح الذي فيه الداء لا يضره، ثم إني قلت له في نهاية المناقشة: من الذي أبلغك أن أبا بكر رد هذا الكلام؟ قال: لا أحد. قلت: وعمر؟ قال: لا. وعثمان؟ قال: لا. والشافعي؟ قال: لا. وأبا حنيفة؟ قال: لا، قلت: ما تقول في هؤلاء، أليس هم علماء الأمة؟ ومن الذي يقول بما تقوله الآن؟ قال: المعتزلة. فقلت: رضيت لنفسك ولدينك أن تكون متبعاً لمنهج المعتزلة وهم الخلف. قال: لأن هذا الكلام غير معقول. قلت: العقل ليس مصدراً للتشريع، بل الكتاب والسنة حاكمان على العقل، هاديان له، مرشدان له إلى طريق الحق والخير، فأنت جعلت عقلك حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يعقل. ثم قلت: أتظن أنك العاقل الوحيد؟ قال: لا وأنت أيضاً يا شيخ عاقل؟ قلت: إذا كانت المسألة مسألة عقول فإن عقلي يقبل كل خبر جاء في كتاب الله أو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام سواء علمت معناه أم لم أعلمه، علمت حقيقته أم لم أعلمها، فإن عقلي يأمرني بذلك، وأنت عقلك يرد هذا، فهل يتصور أن يكون الله عز وجل جعل العقل حاكماً على الكتاب والسنة؟ أنت اليوم عاقل وغداً لست عاقلاً، فأنت اليوم تقبل خبراً وغداً ترده، والخبر الذي تقبله بعقلك أنا أرده بعقلي والعكس بالعكس، فلا يصح أن يكون العقل المتغير الموصوف بالعجز والنقص والضعف حاكماً على الكتاب والسنة. نعم. الله تبارك وتعالى خاطب العقل وكلفه بأعظم تكليف أن يؤمن بهذا الكتاب، وأن يتدبر في آيات الله عز وجل؛ لأن العقل المخاطب هو العقل السليم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ). لأن هؤلاء الثلاثة لا عقول لهم، ولذلك لا يقعون في دائرة التكليف، والشرع لم يكلف هذه العقول أن تمعن النظر؛ لأنها لا نظر لها، فكيف تجعل من عقلك حكماً على الكتاب والسنة؟! ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل: لا يوجد أبداً تعارض بين النقل والعقل، وإن كنا أحياناً نشعر بوجود تعارض، فالنقل الصريح في الكتاب والسنة يتفق مع العقل الصحيح السليم من كل آفة وهوى وابتداع وزيغ وانحراف عن الحق. وإذا لم يوافق العقل الشرع فلابد أن تكون هناك علة، هذه العلة ليست في دين الله عز وجل، وإنما هذه العلة إما أن تكون بفساد العقل، وإما أن تكون في ضعف النقل كأن يكون الحديث ضعيفاً، ثم ذكر مثالاً على ذلك، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: وما اكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة). وحديث آخر من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر). وهذا الحديث يحتج به الصوفية، فيقال: إن التعارض واقع بين هذين الخبرين، فإما أن يكون الجمع بينهما ممكن، وعقلي هو الذي قصر لفساد فيه وجهل فيه عن الجمع بين الدليلين، وإما أن يكون العيب في عدم ثبوت واحد منهما، فلما فتشنا علمنا أن حديث القلم هو الصحيح، وأن حديث: (نور نبيك يا جابر) حديث موضوع، فلما علمنا بوضعه استبعدناه فلم يبق لنا إلا خبر واحد: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) فليس عندي في هذه المسألة إلا خبر واحد، فلابد أنه سيتفق مع عقلي تمام الاتفاق، لأن النقل صريح، والعقل صحيح، ففي هذه الحالة ليس هناك تعارض أبداً. ولذلك فإن ابن خزيمة إمام الأئمة رحمه الله تعالى، صاحب كتاب التوحيد وهو كتاب عظيم جداً، قال: ما من دليلين ترون أن بينهما ت

مذهب الحافظ ابن حجر في الصفات

مذهب الحافظ ابن حجر في الصفات ممن أنكر الإثبات وتكلف في معنى حديث الأصابع: الحافظ ابن حجر إمام أئمة السنة، فقد زلت قدمه في بعض الصفات فوافق فيها الأشعرية، ولا يعني ذلك أنه في موافقته للأشاعرة في بعض الصفات أنه أشعري، بدليل أنه حمل حملة شعواء في شرحه للصحيح في المجلد الثاني عشر على مذهب الأشاعرة، وأثبت أنهم من أهل القبلة لا من أهل السنة. فأهل العلم يفرقون بين المصطلحين: أهل القبلة، وأهل السنة، فأهل القبلة: يثبت لهم الإسلام فقط وعندهم انحراف وبدع. وأما أهل السنة: فإن الاتباع والاقتداء ثابت لهم، ولذلك سموا أهل السنة والجماعة، لأنهم استنوا بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وهم الجماعة الذين اجتمعوا على الاقتداء والاتباع بالنبي عليه الصلاة والسلام. أما الأشاعرة فإنهم فرقة من الفرق، وكذلك المعتزلة فرقة، والخوارج فرقة، والقدرية فرقة، والإباضية فرقة، والشيعة فرقة، والصوفية فرقة، وكلهم ضالون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قضى وحكم بذلك، فإننا نقضي ونحكم بما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فحكم بأنهم للنار لأجل انحرافهم وضلالهم حين ابتعدوا عن منهج السنة. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: حيث أوضح أن في تصرف هؤلاء المتأولة الطعن في ثقات الرواة، وصرفهم هذه النصوص عن ظاهرها فيه طعن للرواة الذين رووا هذا الخبر ورد الأخبار الثابتة إلى أن قال: ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي للزم فيه تقرير النبي عليه الصلاة والسلام على الباطل، وسكوته عن الإنكار وحاشاه من ذلك. يعني: إذا كان كلامهم صحيحاً فإن النبي عليه السلام أقر عبد الله بن مسعود على فهمه الباطل، ولما كان ذلك محال في حق النبي عليه الصلاة والسلام أن يسكت على باطل لابد وأننا نقول: بأن ابن مسعود فهم فهماً صحيحاً سليماً أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحك تعجباً وتصديقاً وليس استنكاراً كما قالت المتأولة. ثم قال: وممن أنكر بل تشدد في الإنكار على من ادعى أن الضحك في الحديث كان على سبيل الإنكار هو ابن خزيمة، فإنه بعد أن أورد هذا الحديث في كتابه التوحيد، قال: يا له من موقف غريب؟ هل هؤلاء يدعون أنهم أعلم بالله وما يليق به من رسول الله أو من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو من التابعين لهم بإحسان؟ فمثل هذا يحتار فيه المرء ولا يدري كيف يفسره. وعلى كل حال فهذه مواقف ثلاثة تمخضت من دراسة أحاديث الأصابع ومواقف الناس منها، وهي: الأول: إثبات صفة الأصابع كما جاءت بها السنة، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة. الثاني: تأويل الأحاديث الواردة والخروج بها عن ظاهرها، وهذا مذهب الأشاعرة. الثالث: إنكار الأحاديث وردها بدعوى أنها مخالفة للأدلة العقلية القطعية في زعمهم، وهذا منهج المعتزلة والجهمية، والحق أبلج والباطل لجلج.

إثبات صفة الأنامل لله تعالى

إثبات صفة الأنامل لله تعالى هناك صفة أخرى لله عز وجل أحب أن أذكرها؛ لأنها تابعة لصفة الأصابع، وهي صفة (الأنامل) وإثباتها لله عز وجل، فقد ثبت فيما رواه أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه عز وجل فيما يرى النائم. وأنتم تعلمون أن الخلاف قائم في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج، ولكن هذا له درس مخصوص، سيأتي بإذن الله. أما الذي لا خلاف فيه بين الأمة أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه في المنام بدليل حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثاً. قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي) وهذا فيه إثبات لصفة الكف لله عز وجل. قال: (حتى وجدت برد أنامله في صدري): يعني المولى تبارك وتعالى وضع كفه التي تليق به سبحانه وتعالى بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام، ولو فسرنا الكف بالنعمة فهل يتصور أن يكون المعنى: إن الله وضع نعمته بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا بد وأن نقول: بأنها كف حقيقة على المعنى اللائق بالمولى عز وجل. قال: (حتى شعرت ببرد أنامله في صدري). فهذا الحديث يثبت لله تعالى صفتين صفة الكف وصفة الأنامل، وهو حديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، وابن أبي عاصم. وشيخ الإسلام ابن تيمية رد على الإمام الرازي صاحب التفسير لما أول قوله: (وجدت برد أنامله) بالعناية، وأنه وجد أثر تلك العناية يفسر بأن الله تعالى وضع كفه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتنى به أعظم عناية، فشعر النبي عليه الصلاة والسلام بهذه العناية في صدره، فرد عليه ابن تيمية فقال: فتخصيص أثر العناية لا يجوز. يعني: إذا كان الأمر كما قال الرازي فلن يكون هناك معنى جديد من أنه شعر ببرد أنامله على صدره، ونحن نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب، فهل يقول كلاماً ليس له معنى، أم كلامه كله له معنى؟ فكلامه صدر عن حكمة، وعن وحي، وتشريع، فلا يتصور أبداً تخصيص أنه شعر بذلك في صدره، فلماذا ما شعر في جميع بدنه؟ إذا كانت رجلك تؤلمك فإنك تستشعر بأن الله تعالى سحب منها نعمة القوة والدفع والنزع، أما إذا كانت لا تؤلمك فإنك تستشعر بأن نعم الله تبارك وتعالى وعناية الله تبارك وتعالى تحيط بك حسياً ومعنوياً فلماذا خصص النبي عليه الصلاة والسلام أنه شعر ببرد أنامل المولى عز وجل على صدره؟ ولماذا لم يقل: في بطنه، أو في ظهره، أو قدمه، أو في عقله أو غير ذلك؟ فكونه خص الصدر لابد أن يكون ذلك لفائدة. قال: فتخصيص أثر العناية لا يجوز إذا لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه، فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نقل بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس، وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي. هذا نص من النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز صرفه، ولا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ يعني: لا يتصور أن يكون هذا البرد الذي قال به النبي صلى الله عليه وسلم هو مجرد العناية؛ لأن العناية ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الرؤيا، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسفسطائية. ثم قال ابن تيمية الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال: (فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها). وفي رواية: (برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب). يعني هذه الرؤيا كان فيها العلم، وقوله: (فعلمت ما بين المشرق والمغرب). يعني علمت فيم يختصم الملأ الأعلى. لأن السؤال الأول: (أتدري فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: لا يا رب). وهذه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله عز وجل على علم ما بين السماء والأرض إلى قيام الساعة. قال: (فعلمت ما بين المشرق والمغرب) فذكر وضع يده بين كتفيه، وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين كتفيه وهذا معنى ثان، ويجوز هذا أيضاً عن شيء مخصوص في محل مخصوص، وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر، والشاهد من هذا الكلام كله: أن صفة الكف ثابتة لله عز وجل، وصفة الأنامل ثابتة لله عز وجل، وصفة الأصابع ثابتة لله عز وجل.

مذهب الإمام النووي في الصفات

مذهب الإمام النووي في الصفات الإمام النووي تارة يذهب مذهب الخلف في التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، وتارة يذهب مذهب السلف وينافح ويدافع عنه، وتارة ينقل مذهب السلف والخلف ولا يرجح ويسكت، وهذا بلا شك تردد عظيم جداً ينم عن أن الإمام النووي لم يتمرس في هذا المسائل تمرس أهل السنة والجماعة، ولم يكن على علم وإحاطة بمذهب السلف فيما يتعلق بصفات الباري تبارك وتعالى، كما كان الأمر عند أحمد، وعند ابن خزيمة، وعند ابن راهويه، وعند يحيى بن معين، وعند الشافعي وغيرهم من أهل العلم، ولم يكن قد بلغ في الاعتقاد هذا المبلغ، وإذا كان أحياناً يتحير ويتردد، وأحياناً يقطع بالحق، وأحياناً يميل إلى الباطل، ليس اعتقاداً أنه باطل، ولكنه تصور هذا بعقله، ووقع فيما يريد أن يفر منه. لذلك لا نقول: إنه خلفي وإنما هو سلفي وافق المبتدعة في بعض أقوالهم، وهذه الموافقة إنما نتجت عن عدم تمكنه في دراسة الاعتقاد، بل تبعيته في الأخذ والتلقي عن الإمام المازري وعن القاضي عياض، وهما أشعريان، خلفيان، متأولان، وهما اللذان أورداه هذه الموارد، وأخرجاه إلى حد الابتداع فيما يتعلق بالصفات، ولذلك قال النووي معلقاً على قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع)، هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق فيه المذهبان: مذهب الخلف، ومذهب السلف، والتأويل مذهب الخلف، والإثبات مع الإيمان به مذهب السلف. يقول: أنني قدمت أو شرحت هذا الأمر مراراً وتكراراً أن أحاديث الصفات فيها المذهبين مذهب الخلف ومذهب السلف مع التصديق الجازم على ما جاءت به دون خوض أو تأويل أو تحريف. قال: مع اعتقادي أن الظاهر منها غير مراد، وهذا القول لا ينسب إلى أهل السنة. نحن نقول: الظاهر منها مراد لله عز وجل على ما يليق به، فنؤمن بصفة اليد مع اعتقادنا أن الظاهر منها مراد لله حقيقة لكن على الوجه اللائق به تبارك وتعالى. قال: (فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصبع هنا على الاقتدار). أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة في الاقتدار، فيقول أحدهم: بأصبعي أقتل زيداً. أي: لا كلفة علي في قتله. وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته. قال: (وهذا غير ممتنع). يعني جائز، وممكن، أي: هذا الكلام وجيه لا يرد، ولذلك ينبغي بل يجب على طلاب العلم أن يتفحصوا وأن يتحروا كل لفظ يقرءونه في كتب السلف أو في كتب غيرهم وإن كان فيها شر مستطير فاحذر من القراءة فيها ابتداء، وكتب السلف ممكن يقع فيها الخبط والخلط، والإمام النووي على العين والرأس، يا ليت واحد في هذا الزمن مثل النووي أو حتى نصف النووي، وقد تعلمنا من النووي وغيره أن من خالف الكتاب والسنة فكلامه يرد على قائله، ومن وافقهما أخذ من قائله حتى وإن كان يهودياً أو نصرانياً، لحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها). قال النووي: وقيل: يحتمل أن المعنى بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة، فمرة وافق أهل السنة، ومرة يخالف ونحن نقول: إن اليد الجارحة مستحيلة على الله عز وجل، فلو أثبت لله يداً مثل يدي الجارحة فأنا قد شبهت الخالق بالمخلوق، وهذا حرام لا يجوز ولا ينبغي، فقالوا: إن إثبات اليد لله عز وجل مجازي، والمقصود باليد: القدرة والغلبة والقوة، وإلا لترتب على ذلك أن يد المولى عز وجل مثل يد المخلوق. ومذهب أهل السنة وسط بين الاثنين، فأثبت هذه الصفة لله على حقيقتها وعلى المراد منها ظاهراً لله عز وجل على الوجه اللائق، ولذلك فإن مذهب أهل السنة مريح جداً، فهو عبارة عن كلمات يسيرات تعتقدها، وتتعبد مولاك بها، وليس فيها تلف، وعقيدة الأنبياء والمرسلون فيما يتعلق بالإيمان لا تتغير عن بعضهم البعض.

موقف أهل السنة والجماعة من التفويض

موقف أهل السنة والجماعة من التفويض قال النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن) هذا من أحاديث الصفات، وفيها القولان السابقان، والإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى. وهذا الكلام غلط، ومردود عليه؛ لأن المعنى معلوم لدى السلف. إن أهل السنة يفرقون بين تفويض العلم، وتفويض المعنى، وتفويض الكيف، فتفويض العلم ليس مذهب أهل السنة الجماعة، لأنهم علموا يقيناً أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لأن الخبر ورد بذلك فليس عندي مجال أن أفوض علم الاستواء لله عز وجل، لأن الله عز وجل هو الذي أعلمني وأخبرني في كتابه أنه استوى. أما تفويض معنى الاستواء لله عز وجل هو أنني لا أعرف أن الله قد أخبرني بالاستواء، ولا أعلم معنى الاستواء، وأفوضه لله عز وجل، وهذا غلط لأن الاستواء معناه: الفوقية والارتفاع والعلو، فلا يفوض العلم والمعنى، وإنما تفوض الكيفية. وليس من اختصاصي أن أعرف كيفية استواء ربنا على العرش، وهذا من اختصاص ربنا، لأني لم أر الله عز وجل، ومن أجل أن أكيف لك الاستواء لابد أن أراه سبحانه وأنا لم أره، فيقال: فلان استوى على الكرسي بمعنى أنه تربع أو جلس مدلدلاً رجليه، واستوى عليه بمعنى علا وارتفع عليه أو استقر عليه أو استولى عليه، وهذه المعاني كلها في الاستواء لا تليق بالمولى عز وجل، وإلا في النهاية لو أن الاستواء في حق المخلوق مثل حق الخالق سيكون ربنا في النهاية جالس على الكرسي ولابس عمامة تعالى الله عن ذلك. وأصحاب الجمعية الشرعية يقولون عن السلفيين أنهم يريدون أن يجلسوا ربنا على الكرسي ويلبسونه عمامة، وهذا كلام في منتهى الإجرام في حق المولى تبارك وتعالى. قال: (الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى). لا يا حبيبي نحن نعرف المعنى جيداً معنى أن الله له أصابع نحن نعرف الأصابع؛ لأن الله تبارك وتعالى خاطبنا بما نعلم، بكلمات نعلم معناها، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بما لا يقع له معنى في عقولنا، وإلا فربنا يخاطبنا بالمحال، والمخاطبة بالمحال غير واردة في الشرع وهي مسألة محل خلاف عند الأصوليين، والراجح فيها أن الله لم يخاطب عباده إلا بمعان معلومة لديهم، فمعنى الأصابع معلوم لدينا، لكن أصابع الخالق تليق بالكمال والجلال الثابت لله عز وجل. قال: (بل نؤمن بأنها حق، وأن ظاهرها غير مراد). أي: أنه يؤمن بأنها حق، وهذا كلام جميل، يؤمن بأن الله تبارك وتعالى له أصابع على الحقيقة، وأن هذا حق وليس باطلاً. أما قوله: (وأن ظاهرها غير مراد). هنا لابد أن يوقعك في التأويل، وينصرف النص عن ظاهره، بل نقول: إن ظاهر هذه النصوص التي أثبتت لله الأصابع مراد لله عز وجل حقيقة على المعنى اللائق به تبارك وتعالى. ومعنى (غير مراد). أي: غير معلوم لدي، ولذلك لما سئل مالك بن أنس عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: الاستواء معلوم -لأن الله أخبرنا- والكيف مجهول. إذاً: نفوض الكيف، لا العلم والمعنى، فتعمل عملاً لا يليق، بل يجب عليك أن تفوض الكيف، فتقول: لله أصابع. فالعلم قام لدي بأن لله أصابع من أجل خبر ورد ولذلك نحن نسميها صفات خبرية ذاتية؛ لأنها قد وردت في الخبر، وذاتية أي ملازمة لذات الله تبارك وتعالى لا تنفك عنه، فنقول: إن لله أصابع، وأن هذه النصوص على ظاهرها، والمراد منها معلوم لدينا على الوجه اللائق لله عز وجل، ولا نعلم كيفية أصابع المولى عز وجل. قال النووي: والثاني: التأويل. وهذا خطأ في الفهم من النووي لمعتقد أهل السنة والجماعة، وكل الناس يؤخذ من قوله ويرد، والتأويل ما كان يليق بالله عز وجل أبداً، ولذلك فإن النووي كان يخلط بين مذهب السلف والخلف كأنه لا يعلم كيف هذا. قال: تؤول بحسب ما يليق بها، فعلى هذا فإن المراد هو المجاز -والسلف لا يقولون بالمجاز في الصفات بل حاربوا من قال بذلك أشد المحاربة- كأن يقول القائل: فلان في قبضتي، وفلان في كفي ولا يراد به أنه حال في كفه بل المراد تحت قدرتي. ويقال: فلان بين أصبعي أقلبه كيف شئت. أي أنه قادر على قهره والتصرف به كيف شاء. والكلام هذا يصح في لغة المخلوقين ومع المخلوقين بعضهم البعض، لكن لا يصح مع الله قط؛ لأنه لا يشبه المخلوقين لا في وحدانيته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، والقدرة من أفعاله تبارك وتعالى، والتصرف من أفعاله تبارك وتعالى، فقدرة الخلق ليست كقدرة الخالق ولو أجمع الخلق أجمعون على قدرتهم وجعلوها في رجل واحد. قال: فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده. يعني: جعل الأصابع عبارة عن التصرف؛ لأنه قاس الخالق على المخلوق، فإن الأصابع في حق المخلوق تقبض وتبسط، وتدفع وغير ذلك، فكذلك قالوا: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ليس الأمر على حقيقته وعلى ظاهره، بل هذا كلام مجاز تعبير عن قدرة الله عز وجل أنه

صفة القدم لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة القدم لله عز وجل صفة القدم ثابتة لله تعالى في السنة، وهي قدم تليق بالله سبحانه لا تشبه أقدام المخلوقين، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في جميع الصفات، إذ يجب إمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف ولا تأويل، وقدم الله سبحانه لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وتعالى.

إثبات أهل السنة والجماعة صفة القدم لله تعالى

إثبات أهل السنة والجماعة صفة القدم لله تعالى إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. فمع صفة أخرى لله عز وجل، وهي من الصفات الخيرية اللازمة لذاته سبحانه، وهي صفة الرجل أو القدم، وكلاهما بمعنى واحد، وهذه الصفة ثبتت لله عز وجل بالسنة لا بالكتاب ولا بالإجماع إلا أن يكون إجماع أهل السنة والجماعة، أما إجماع الأمة فلا، لأن الفرق الضالة خالفت أهل السنة والجماعة في هذه الصفة. وإذا قلنا: إن هذه الصفة ثبتت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيلزمنا سوق الأدلة على ذلك. قال أبو هريرة في المحاجة التي دارت بين الجنة والنار: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. فقال الله تبارك وتعالى للجنة حينئذ: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها). أي: على الله تعالى أن يملأ الجنة وأن يملأ النار. (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار رجله فيها، فتقول: قط قط قط). أي: اكتفيت اكتفيت اكتفيت، أو حسبي حسبي حسبي. (فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً)، أي: يخلق لها خلقاً حتى يملأها. الشاهد من الحديث: أن النار لا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فهذا المقطع من الحديث يفيد ثبوت صفة القدم لله عز وجل. وروى البخاري هذا الحديث من حديث أنس رضي الله عنه بنحو هذه الرواية. وابن عباس رضي الله عنه قال: الكرسي موضع القدمين، والكرسي هو أحد مخلوقات الله عز وجل العظيمة، قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]. ومعنى: وسع. أي: شمل وأحاط. فهذه السماوات السبع وهذه الأرضين السبع ما هي في الكرسي إلا كحلقة في فلاة. والعرش أعظم من الكرسي؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة). هذا حديث عظيم جداً يدل على أن الكرسي بالنسبة إلى العرش لا شيء، كما أن السماوات والأرض بالنسبة إلى الكرسي لا شيء، ومثل النبي عليه الصلاة والسلام لهذا بمثل عظيم جداً ليقرب الأذهان، فقال: هب أن السماوات والأرض حلقة بين يديك ألقيتها في صحراء هل تظهر لك هذه الحلقة؟ A لا. بل تختفي؛ لأنها ليست شيئاً بالنسبة إلى هذه الفلاة. قال: إذا كانت السماوات والأرض في الكرسي على هذا النحو فالكرسي نفسه لا يمثل شيئاً بالنسبة إلى العرش، فكيف يكون حجم العرش حينئذ؟ إنه عظيم جداً، والله تبارك وتعالى من فوق العرش. وتصور أن الكرسي الذي هذا وصفه وأن السماوات والأرض بالنسبة له لا شيء هو موضع قدمي الله عز وجل، فكيف تكون هاتان القدمان لله عز وجل؟ أمر لا يمكن أبداً أن يدخله قياس ولا أن يحيط به عقل، فسبحان الله الكبير المتعال، أثبت لنفسه العلو وأثبت لنفسه اسم الكبير وصفة الكبر، بل العظمة رداؤه والكبر إزاره سبحانه وتعالى، فلابد أن كل صفة من صفاته تليق بكبريائه تبارك وتعالى وعظمته وعلوه فوق عرشه. فإذا كنا لا نستطيع تكييف مخلوق لله عز وجل وهو الكرسي فعجزنا عن تصور ذات الله أولى. وهذه الأرض بين أيدينا ونحن نعيش عليها، لكنها ليست أرضاً واحدة، وكانوا قديماً يقولون: ليس بعد بلاد مغرب العرب بلاد أخرى، وكانوا يقولون: بحر الظلمات الذي ليس بعده شيء، ثم اكتشفوا منذ حوالي (400) عام دولة أمريكا، اكتشفوها بعد أن أيقنوا أنه ليس بعد بلاد المغرب العربي بلاد أخرى؛ اكتشفوا أعظم دولة، والآن رجعوا إلى نفس الكرة مرة أخرى وقالوا: ليس بعد أمريكا إلا بحر الظلمات، والمسافة من أول أمريكا إلى آخرها عشر ساعات بالطائرة متواصلة. يعني: كما بين مصر إلى أمريكا. لكن هل أمريكا آخر بلدان العالم؟ لابد أن يتصل الغرب بالشرق؛ ولذلك هذا كلام أثاره أهل العلم بمناسبة ذكر المسيح الدجال وحديث الجساسة الذي رواه مسلم في آخر كتاب الصحيح. قالوا: المسيح الدجال موجود من زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وحديث تميم الداري في ذكر الدجال في صحيح مسلم، يثبت أن تميماً الداري رأى المسيح الدجال ورأى الجساسة. وهل هو ابن صياد

مذاهب الفرق الضالة في صفة القدم

مذاهب الفرق الضالة في صفة القدم

إنكار المعطلة لصفة القدم لله عز وجل

إنكار المعطلة لصفة القدم لله عز وجل قال الخطابي: ونحن أحرى ألا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر منا علماً وأقدم زماناً وسناً، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: منكر لما يروى من هذه الأحاديث، وهؤلاء هم الجهمية الذين أنكروا صفات الباري تبارك وتعالى، ومكذب به أصلاً. فإما أنه يرد الأحاديث ويثبت أنها ضعيفة أو مكذوبة بعقله لا بالأدلة والقواعد التي وضعها أهل العلم لإثبات النص ورده، وإما إذا غلبناهم وقلنا: إنها صحيحة وأنها قد وردت في الصحيحين وغيرهما لجئوا إلى حيلة أخرى وهي تأويل هذه النصوص وصرفها عن ظاهرها. قال: منكر لما يروى من هذه الأحاديث ومكذب به أصلاً، وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث، وهم أئمة الدين وثقة السنن، والواسطة بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام. فلماذا ترد هذه الأحاديث؟ يعني: هذا الحديث الذي بين يدينا رواه البخاري ومسلم، وهو يثبت أن لله تبارك وتعالى رجلاً أو قدماً والأمة اتفقت على قبول الصحيحين وأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فهل سترد حديثاً اتفقت الأمة على قبوله؟ سيجد المبتدع حرجاً، فيقول: لا. إذاً: لابد أن نذهب مذهباً آخر، ولو رده سأقول له: ولم رددته؟ أفيه انقطاع؟ سيقول: لا. أرواته عدول؟ فسيقول: نعم. عدول. بمعنى: أنهم ثقات ضابطون؟ سيقول: نعم. أهناك شذوذ؟ يقول: لا. فيه علة؟ يقول: لا. إذاً: لم رددته؟ يقول: لأنه يستحيل عقلاً أن يثبت هذا لله عز وجل؛ لأنه يلزم من ثبوت هذا ثبوت الجارحة لله عز وجل، واليد الجارحة كأيدينا تماماً، وكأرجلنا تماماً، إذا كنتم تؤمنون بأن لله رجلاً. وأنه سبحانه يضعها في النار حتى تقول: قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض، فيلزمكم أن تقولوا: إن لله رجلاً كأرجلنا. وأهل السنة يقولون: لا. لا يلزم من إثبات الصفة لله عز وجل مشابهتها لصفات المخلوقين، لكننا نثبتها لله عز وجل على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولا نتعرض لها بتكييف ولا تحريف ولا نصرفها عن ظاهرها، وإنما نؤمن بها ونمر أدلتها كما جاءت بعد الإيمان والتسليم بهذه الأدلة على مراد الله عز وجل في إثبات صفاته وكماله.

ضلال المشبهة بتشبيه صفة القدم لله بصفات خلقه

ضلال المشبهة بتشبيه صفة القدم لله بصفات خلقه الطائفة الأخرى: مسلمة للرواة فيها -قالوا: لا نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث ضعيف أو مكذوب أو مردود، فنسلم للرواة فيها- ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهباً يكاد يفضي إلى القول بالتشبيه. يعني: الأولون كأنهم أرادوا أن يثبتوا تنزيه المولى عز وجل عن مشابهته للمخلوقين، فقالوا: لا يوجد شيء اسمه الصفات أبداً، لا يوجد شيء اسمه يد ولا رجل ولا ساق ولا شيء أبداً؛ لأننا ننزه المولى عز وجل من أن يكون مثل المخلوقين، وهذا الفريق ذهب مذهباً مناقضاً، وهو إثبات هذه الصفات لله عز وجل، ولكنهم قالوا: يد كأيدينا ورجل كأرجلنا، ونفس كأنفسنا، فشبهوا الخالق بالمخلوق. يعني: قوم أرادوا أن ينزهوا فوقعوا في التعطيل، وقوم أرادوا أن يثبتوا فوقعوا في التمثيل والتشبيه، أما أهل السنة فوسط بين الاثنين، قالوا: نحن ننزه المولى عز وجل على مذهب الفريق الأول ولكننا نخالفهم في إثبات الصفات، ونوافق الفريق الثاني في إثبات الصفات ولكن دون تمثيل أو تشبيه. هذا معتقد أهل السنة في صفات الله عز وجل.

ضلال المؤولة لصفات الله تعالى

ضلال المؤولة لصفات الله تعالى ونحن نرغب عن الأمرين معاً، ولا نرضى بواحد منهما. أي: لا نرضى بمذهب التعطيل ولا بمذهب التمثيل والتشبيه. وقال آخرون: يجب علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند تأويلاً. قال أهل التأويل: القدم هاهنا يحتمل أن يكون المراد به: من قدمهم الله للنار من أهلها. وهذا كلام سخيف وبارد. قالوا: (حتى يضع الرب قدمه فيها) هذه اللفظة تعني: أن من علم الله سلفاً أنه من أهل النار فقدمهم إليها، فيقال لكل من قدمه الله قدم. أنت نفسك لست مستفيداً من هذا التأويل ولن يدخل في ذهنك هذا، ولكن احذر ألا تفهمه، بل افهم أن هذا التأويل تأويل سامج وبارد، فيقولون: أن هذا القدم في هذا الحديث تعني من قدمه الله تعالى إلى النار. يعني: من قذفه فيها. قالوا: ولغة العرب تطلق القدم على السابقة من الأمر. فنقول لهم: ماذا تقولون في الضمير؟ (حتى يضع الجبار فيها قدمه). فالهاء تعود على الجبار. وفي رواية: (حتى يضع الله عز وجل فيها رجله)؟ وقال النضر بن شميل في معنى قوله: (حتى يضع الجبار فيها قدمه). أي: من سبق في علمه أنه من أهل النار، وهذا تأويل باطل. قال الخطابي: وقد تأول بعضهم الرجل على نحو من هذا، والمراد به: عدد استيفاء الجماعة الذين استوجبوا دخول النار. هذا في تأويل الرجل، قالوا: هذه الرجل بمعنى الجماعة، والعرب تسمي جماعة الجراد رجلاً، كما تسمي جماعة الظباء سرباً، واستعير ذلك لجماعة الناس. أيتصور هذا الكلام؟! اعلم أن هذه الصفة قد عاد الضمير إليها، قال: (رجله) لم يقل: رجلاً، وقال: (قدمه) ولم يقل: قدماً، وأنتم تعلمون أن الضمير إذا أضيف إلى صفة مخصوصة يلزمها ولا يتعدى إلى غيرها بخلاف إطلاقه وعدم إضافته، كما لو قلت: قدم، يصح أن تقول قدم الله عز وجل وقدم المخلوقين، لكن إذا قلت: قدمي فإنه لا يفهم منها أنها قدم الله عز وجل، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى يضع الله قدمه. يدل على أنها قدم الله عز وجل، لأنها مضافة إلى الله عز وجل، فلا يصح صرفها عن هذا التخصيص مطلقاً. وإن الإمام القرطبي من أعظم المتأولة، مع أن تفسيره في غاية الإمتاع، إلا أنه في صفات المولى عز وجل يجب التحذير منه، فله كتاب اسمه (الأسنى في أسماء الله الحسنى) قد بلغ في أسماء الله وصفاته مبلغاً عظيماً لم يسبق ولم يلحق به؛ فأثبت لله عز وجل أسماء وصفات لم يثبتها له رسوله ولم يثبتها لنفسه المولى عز وجل، وأنتم تعلمون أن الأسماء والصفات أمر توقيفي. قال القرطبي: وقيل: إن هؤلاء قوم تأخر دخولهم في النار وهم جماعات؛ لأن أهلها يلقون فيها فوجاً فوجاً، كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8]، فالخزنة تنتظر أولئك المتأخرين الذين لم يدخلوا بعد في النار، إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به ولم يبق أحد قالت الخزنة: قط قط. لفظ الحديث أن الذي قال: قط قط هي النار. قال: وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها، وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر، فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم لا أن الله تعالى جسم من الأجسام تعالى الله عن ذلك. نقول: أنت تنزه الله تبارك وتعالى عن ذلك مع أن الله لم ينزه نفسه ولم ينزهه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام عن هذا، كما أن إثبات القدم والرجل لله عز وجل لا يستلزم إثبات الجسم والجارحة. وقال بعضهم: القدم: خلق من خلق الله تعالى، فمادام أن هناك مكاناً في الجنة فارغاً، وربنا تبارك وتعالى سينشئ خلقاً جديداً فيسكنهم الجنة حتى تكتفي الجنة فكذلك القدم والرجل إنما هما علم واسم على مخلوق جديد لله عز وجل يخلقه في ذلك الوقت فيلقيه في النار حتى تقول: قط قط. وهذا تأويل آخر. يعني: هذه القدم والرجل أسماء لمخلوقات جديدة سيخلقها الله عز وجل في حينها، حينما تقول جهنم هل من مزيد؟ فيخلق الله عز وجل لها خلقاً جديد قد استوجبوا النار، هذا الخلق يسمى الرجل تارة ويسمى القدم تارة أخرى! قال: القدم بخلق من خلق الله تعالى يخلقه يوم القيامة، فيسميه قدماً ويضعه في النار فتمتلئ منه. قال ابن فورك: قال بعضهم: القدم: خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدماً، ويضيفه إليه من طريق الفعل. فقوله: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) إضافة الضمير للفعل، وكذلك قوله: (حتى يضع الجبار فيها رجله) قالوا: إن هذا خلق جديد اسمه قدم واسمه رجل، والله تبارك وتعالى يأمر به فيلقى في جهنم، فإذا ألقي قالت النار: قط قط. وقال بعضهم: المراد بالقدم هنا: قدم خلقه. وهذا كذلك لا يصح أبداً، ولا يمكن أن يستقيم مع لغة العجم وليس العرب فقط؛ لأن من استوجب دخول النار دخلها كل بدنه، فهل تتصور أن رجليك كمخلوق تدخل النار، وأنت تدخل الجنة من غير رجليك؟! ومعلوم أن الناس في الجنة على أحسن منظر وأحسن هيئة، فلا يتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فيضع الجبار فيها قدمه).

الاستدلال بحديث تحاجج الجنة والنار لإثبات صفة القدم لله تعالى وكلام أهل العلم في ذلك

الاستدلال بحديث تحاجج الجنة والنار لإثبات صفة القدم لله تعالى وكلام أهل العلم في ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة وقالت النار)، نحن نثبت أن الجنة تتكلم على الحقيقة ولكن ليست لها جارحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا أن هذه الجنة عبارة عن ذات مكونة من صفات وجوارح، وكذلك النار تتكلم بقدرة الله عز وجل، والله تعالى يخلق لها الكلام فتتكلم به، والذي يسمع هذا الكلام هو الله عز وجل، وتسمعه النار وتسمعه الجنة، بدليل الحديث: فقالت النار وقالت الجنة يعني: رداً عليها. فالجنة تسمع النار، والنار تسمع الجنة، والله تعالى يسمع الجميع. ولذلك قالت النار: (أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم. فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها، فتقول: قط قط. فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض). وهذا الحديث رواه غير واحد من الصحابة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام. وفي بعض رواياته: (حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول: قط قط قط ثلاثاً). وفي بعضها: (حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط، وعزتك). فموقف السلف من معنى الحديث: أن هذا الحديث من أحاديث الصفات، وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تمر كما جاءت دون تأويل أو تحريف في النص، ودون تشبيه أو تمثيل لصفات الله بصفات خلقه، فلا تقاس القدم بأقدام خلقه، ورجله بأرجل مخلوقاته، بل يكتفى بالمعنى الوضعي للكلمة دون محاولة لإدراك حقيقة قدمه، وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه، فآمنا وسلمنا لله ورسوله، وهذا موقف لا يتغير ولا يتبدل بالنسبة لأتباع السلف، فهو موقف ثابت، وهو اتباع النصوص في جميع الصفات الخبرية أو غيرها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. والحديث بجميع رواياته يدل على أن الله سوف يخلق في الجنة والنار تمييزاً وقدرة على الكلام دون أن يكون لهما آلات التكلم من الفم والأسنان واللسان وغيرها، وهو المعتاد بالنسبة لنا. وأما الخلف فقد تكلفوا في تأويل هذا الحديث أكثر من تكلفهم في تأويل أي نص آخر من نصوص الصفات، وذكرنا من قبل تأويل الخلف في المراد بالقدم ورددنا عليه. وابن الجوزي عليه رحمة الله في كتابه دفع (شبه التشبيه) شن غارة شعواء على بعض علماء السلف. قال ابن الجوزي: وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية وقال مثله في: (يضع قدمه في النار). قال ابن الجوزي: وذكر الساق مع القدم تشبيه محض. وقد اتفقنا من قبل أن ابن الجوزي كان مضطرباً جداً في مسائل الاعتقاد، فهو يريد أن يقول: إن القاضي أبا يعلى أثبت الساق وأثبت معها القدم، وأن إثباتهما يستلزم التشبيه. وهذا لا يصح عنده. وليس القاضي أبو يعلى فقط الذي أثبت هذا، بل كل علماء السنة أثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه، ومنها الساق والقدم ولم يقولوا بالتشبيه، بل نزهوا المولى تبارك وتعالى عن التعطيل ونزهوه عن التشبيه، وكلام ابن الجوزي ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض، فإن الأدلة كتاباً وسنة تدل على إثبات ذلك لله، فمن أنكره فإنما ينكر على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى الصحابة الذين نقلوا إلينا ذلك. وقال ابن الجوزي: وقال أبو يعلى مثله في: (يضع قدمه في النار). وهذا أيضاً من الحق الذي يجب الاعتقاد والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية التي يجب الإيمان بها دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تشبيه. ثم ذكر حديث الاحتجاج بين الجنة والنار، وقوله: (قدمه) وأن الهاء تعود على الرب جل وعلا، وهو قول واحد عند أهل السنة والجماعة، والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله عز وجل. وذكر بعد ذلك أثر ابن عباس وأثر أبي موسى الأشعري في إثبات أن الكرسي موضع القدمين لله عز وجل؛ لأنه أمر غيبي له حكم الرفع، فلا يقال فيه من قبل الرأي ولا مجال للاجتهاد فيه، فيؤخذ منه إثبات قدمين لله عز وجل، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. قال أحمد بن حنبل: أحاديث الصفات تمر كما جاءت. أي: الأحاديث التي فيها إثبات صفة لله عز وجل تؤمن بها على حقيقتها، وتفوض كيفية هذه الصفة لله عز وجل، مع كونك تعلم علماً يقينياً أن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل. قال الإمام الثقة الجبل حماد بن سلمة البصري وكان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع: من رأيتموه ينكر

الأسئلة

الأسئلة

الثبات على عقيدة الفرقة الناجية

الثبات على عقيدة الفرقة الناجية Q نرجو إعلامنا بمشاهير التأويل الذين نقرأ لهم كـ القرطبي وابن الجوزي؟ وكذلك أي الجماعات الحالية التي هي على الساحة متأولة وذلك للحيطة؟ A على أية حال نحن بينا أن القرطبي كان متأولاً، وبينا أن ابن الجوزي كان متأولاً، فتارة ينافح عن مذهب السلف ويهجم على الخلف، وتارة يهجم على السلف، وتارة ينسب للسلف قولاً ليس من أقوالهم قط، لذلك الذهبي عليه رحمة الله قال في السير: وابن الجوزي لم تثبت قدمه على وتيرة واحدة، فكان أحياناً ينصر مذهب السلف وأحياناً ينصر الخلف، ولا يصح أيها الإخوة! أن عقل المرء وإيمانه يكون عبارة عن قص ولصق، فالجملة التي تعجبه من عند المعتزلة يأخذها ويعتقدها، والتي تعجبه من عند الجهمية يعتقدها، والتي تعجبه من عند الأشعرية يعتقدها، والتي تعجبه من عند الشيعة يعتقدها، يعني: عقيدته عبارة عن مجموع عقائد الفرق الضالة مع الفرقة الناجية وهي أهل السنة والجماعة، بل لابد للمرء أن تكون عقيدته لا تزيد ولا تنقص عن معتقد السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

أخطاء سيد قطب رحمه الله لا تعني بغضه وعدم الترحم عليه

أخطاء سيد قطب رحمه الله لا تعني بغضه وعدم الترحم عليه Q هل سيد قطب من المتأولة؟ A إذا أردنا الكلام عن الأديب البارع السيد قطب فلا شك أن هذا الرجل كانت له ظروف علمها من علمها وجهلها من جلها، فـ سيد قطب عليه رحمة الله ظهر في فترة كان الناس فيها هم للكفر أقرب منهم للإيمان، ولم يكن هذا العلم السلفي منتشراً في ذلك الوقت، قضى سيد قطب معظم حياته في سجون عبد الناصر الهالك عليه من الله تعالى اللعنة، فلم يتأهل اعتقادياً قبل أن يدخل السجن، كـ النووي عليه رحمة الله لم يتمكن من دراسة العقيدة، واكتفى بالنقول من المازري والقاضي عياض وكلاهما أشعري، ولكنه ينقل عنهما التأويل دون تقعيد وأحياناً يقعد، وأحياناً ينقل ويستحسن، واعتذر عنه بعض تلاميذه أنه لم يكن قد تمكن من دراسة علم الاعتقاد على يد مشايخ زمانه، فوقع فيما وقع فيه، فإن قيل: الإمام النووي هل هو أشعري جملة؟ A لا. ليس كل من وقع في بدعة ينسب إليها، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر يصير كافراً، فأحياناً يقع المسلم في قول كفري أو فعل كفري لكن لا يلزم من وقوع هذا الكفر الكفر، كما أن الرجل يقع في البدعة ولما يعلم بعد أنها بدعة. يذكر أن رجلاً من المحدثين عمل بحديث ضعيف عشرين عاماً، فقال أحد تلامذته: إن هذا الحديث فيه فلان وفلان وهما ضعيفان، فوجد المحدث أن الطالب صادق فبكى. قيل له: خير يا إمام! يعني: هون عليك. قال: خير؟! والله ما في عملنا منذ عشرين عاماً بهذا النص خير قط. فلا يلزم من وقوع الرجل في بدعة أنه مبتدع، كما لا يلزم من وقوعه في الكفر أنه كافر، بل ولا يلزم من إطلاق الكفر على الجماعة كفر كل معين فيها، فلو قلنا: إن بلداً من البلدان كافرة، هل يلزم من هذا أن كل من بهذه البلد يكون كافراً؟ فهاهي أمريكا بلد كفر، ومع ذلك نجد كثيراً من إخواننا يعيشون في تلك البلاد، فلا يلزم من إطلاق الحكم العام بالكفر على مجموعة لزوم هذا الكفر على كل فرد من أفراد المجموعة، ولذلك لما نقول: لعنة الله على الظالمين، هل كل ظالم ملعون بعينه؟ الجواب: لا، فهناك ظلم لم يرد النص بلعن صاحبه في القرآن ولا في السنة، ومع هذا فهو ظلم، لكن لا يلزم منه إثبات اللعن في شخصه. نرجع إلى كلامنا: سيد قطب عليه رحمة الله وقع في تأويل بعض الصفات، وهو كغيره من أهل العلم نحب فيه الصلاح والخير والطاعة وموافقة السنة. أليس هذا منهج أهل السنة والجماعة؟ ونكره كل ما يخالف الحق ويخالف الكتاب والسنة. وكوننا نكره ما يأتي من قبل عالم أو مجتهد في مسألة من المسائل خالف فيها الحق لا يعني ذلك بالضرورة أننا نبغضه هو، بل نحن نحب سيد قطب عليه رحمة الله، ونتولاه وندعو له بالرحمة، وندعو له بالخير، وندعو له بأن يبيض الله تبارك وتعالى وجهه مع وجوه المؤمنين يوم القيامة، وفي نفس الوقت نرد عليه ما خالف فيه الكتاب؛ لأن الكتاب أحب إلينا من سيد قطب وغيره، والسنة أحب إلينا من أنفسنا وليس من سيد قطب فحسب. فالشيخ سيد قطب عليه رحمة الله خالف منهج السلف في كثير من الصفات كما هو في كتاب (الظلال) وغيره من كتبه. فأغلب الظن أن سيد قطب لم يتأهل في هذا الباب، وليس في هذا عيب؛ لأن معظم حياة سيد قطب قضاها في السجون، وأنت تعجب إذا علمت أنه ألف (الظلال) وهو في السجن. وأنت لو كلفت أن تحفظ جزء عم في السجن قد تعجز. كان عبد الناصر وزبانيته من كلاب الأرض في ذلك الزمان يحبسون سيد قطب في داخل سجونهم وزنازينهم، ولو كنت مكانه لأيقنت أنك لن تستطيع أن تفسر لحظة واحدة تفسيراً هادئاً، فكيف برجل يخرج هذا التفسير العظيم من بين جدران السجون؟ فإذا نظرت إلى خطئه في الاعتقاد فانظر إلى إصابته الحق في كثير من المسائل التي تكلم فيها في كتابه الظلال. فالشاهد من هذا الكلام: أن السيد قطب له حسناته الكثيرة، وله أخطاؤه كذلك، فما أخطأ فيه نرده على سيد قطب وعلى غيره، وكذلك وجب علينا أن نقبل ما أصاب فيه ووافق الكتاب والسنة؛ لأن الحق ضالة المؤمن يلتمسه ويأخذه حيث وجده.

صفة الساق لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الساق لله عز وجل صفة الساق لله تعالى من الصفات الذاتية، وهي صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وقد جاء عن بعض السلف في هذه الصفة كلام مخالف لما عليه الجمهور، وقد طار أهل البدع بهذا القول فرحاً، واستندوا إليه في قولهم بنفي هذه الصفة، إلا أن هذا الكلام مردود بالكتاب والسنة وقول جمهور الصحابة.

إثبات صفة الساق لله عز وجل

إثبات صفة الساق لله عز وجل إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن صفات الله عز وجل الذاتية الخبرية، ومنها: صفة الساق، وهذه الصفة قد ثبتت لله عز وجل بآية وبحديث.

رفع الإشكال الوارد في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق)

رفع الإشكال الوارد في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]. هذه الآية بهذا السياق أحدثت إشكالاً عظيماً عند أهل العلم، بل أقولاً عند أهل السنة؛ لأن الآية لم تكن صريحة في إثبات الساق لله عز وجل؛ لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، فوردت منكرة وغير منسوبة لله عز وجل، ولذلك اختلف السلف رضي الله عنهم في ماهية هذه الساق، لكن جمهور أهل العلم من السلف وغيرهم رفع عنهم هذا الإشكال بحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا جمع الله العباد في صعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون). أي: لينصرف كل قوم من أهل الموقف إلى معبودهم الذين كانوا يعبدونه في الدنيا. قال: (فيلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم. فيأتيهم -أي: ربنا- فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا الذي كنا نعبده. فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا). أي: إذا أتانا في صورته التي عرفنا بها في حياتنا الدنيا عرفناه. قال: (فيكشف لهم عن ساقه). فوردت (الساق) هنا مضافة إلى الله عز وجل، ولم يقل: فيكشف لهم عن ساق. قال: (فيكشف -أي: الله عز وجل- لهم عن ساقه فيقعون سجوداً، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. ويبقى كل منافق لا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة). وفي حديث أبي سعيد: (يوم يكشف ربنا عن ساقه). وهذا تصريح ثان. فهذا الحديث بشواهده قد رفع الإشكال الوارد في الآية.

أقوال أهل العلم في معنى الساق في الآية

أقوال أهل العلم في معنى الساق في الآية هذه الصفة كغيرها من الصفات أحدثت إشكالاً عظيماً جداً عند كثير من أهل العلم، ولذلك ابن الجوزي عليه رحمة الله في تفسير هذه الآية يقول: قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة والجمهور -وهذا كلام فيه شطط وغلو-: يكشف عن شدة. وهذا هو التأويل الأول في معنى الساق. وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق أي: إذا اشتدت الحرب بنا. وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة. وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون. فإذا كانت الساق في اللغة العربية تعني الشدة في أحد وجوهها، فلا تفسر هنا على أن الساق الواردة في حق الله عز وجل بمعنى الشدة؛ لأن هذا سيكون حتماً تحريفاً للكلم عن مواضعه، وصرفاً للفظ عن ظاهره إذا احتملت اللغة للمصطلح وجهاً، لكنها وردت في سياق لا تحتمل هذا الوجه اللغوي، وعليه فلا يمكن حمل هذا اللفظ على الوجه اللغوي أبداً، وإلا فاليد أحد وجوهها في اللغة: النعمة، والقوة، فهل يمكن أن نحمل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] على أن نعمته فوق نعمتهم، أو أن قوته فوق قوتهم؟ A لا. لكن إذا عبرنا عن اليد بالقوة فهذا أمر جائز في اللغة، لكنه في الاصطلاح وفي سياق الآية لا يجوز لنا أن نحمل اليد على القوة أو القدرة أو النعمة مع عدم إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل على المعنى اللائق، فإذا أردنا أن نثبت هذا وذاك، أو أن نثبت الوجه اللغوي، فلابد أولاً من إثبات الوجه الشرعي، ثم نثبت بعد ذلك الوجه اللغوي؛ لأن أهل البدع المتأولون يعتقدون صرف النص عن ظاهره إلى معناه المجازي أو معناه اللغوي دون إثبات حقيقته لله عز وجل. أما أهل العلم من السلف فإنهم يثبتون الصفة لله عز وجل ولازمها بعد ذلك، فيثبتون اليد أولاً، ثم يثبتون لازم هذه اليد، بخلاف المتأولة فإنهم يثبتون اللازم ولا يثبتون الصفة الحقيقية لله عز وجل. فإذا قلنا هنا: إن الساق في اللغة لها وجه بمعنى: الشدة، فإننا لابد وأن نثبت أولاً لله عز وجل الساق، ثم نثبت لازم ذلك وهو الشدة والقوة، أما تحريف هذه الكلمة عن ظاهرها، وإثبات الشدة للساق دون إثبات الساق لله عز وجل، فهذا صرف للنص عن ظاهره دون مسوغ شرعي.

بيان أن ثبات الصفات لله عز وجل لا يقتضي المماثلة ولا المشابهة لخلقه

بيان أن ثبات الصفات لله عز وجل لا يقتضي المماثلة ولا المشابهة لخلقه روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يكشف عن ساقه). فإذا قلنا: إن المراد بالساق الشدة، فيكون معنى الكشف الإزالة. أي: يزيلها، وهذا كلام لا تحتمله اللغة. قال ابن الجوزي: وقد ذهب القاضي أبو يعلى: إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: (يضع قدمه في النار). فـ ابن الجوزي ينكر على أبي يعلى الفراء إثبات أن الساق والقدم صفة ذاتية لله عز وجل. ويقول ابن الجوزي: إثبات الساق مع القدم لابد وأنه يستدعي تشبيه الخالق بالمخلوق! والجواب عليه من وجهين: الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، ومن ثم كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن البيان في باب الاعتقاد أولى منه في باب الأحكام والحلال والحرام، ولأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته هي أساس الإيمان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يبين هذا الباب بياناً عاماً، فعلمه الخاص والعام، وعلمه العالم والجاهل، والبدوي والحضري، ولم يستنكر أحد منهم شيئاً في هذا الباب قط، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جل وعلا تقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، أو تشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما آمنوا بها إجمالاً على الوجه اللائق بالله عز وجل، وإنما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا، وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، فإذا كان المخلوق له يد والله تعالى له يد، فلابد وأننا نثبت اليد الحقيقية لله عز وجل على ما يليق بجلال ذاته وعظمته، بخلاف المخلوق، فهي شبيهة وشريكة ليد الله عز جل في الاسم دون المسمى؛ لأنها يد ويد الله تعالى يد، فهما متماثلتان ومتشابهتان في الاسم فقط دون المسمى ودون الحقيقة، فحقيقة يد المخلوق تختلف تماماً عن حقيقة يد الخالق تبارك وتعالى، ولا يعلم حقيقتها ولا كيفيتها إلا الله عز وجل، فكيف نقول بالمماثلة والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق؟! لكن أهل البدع لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما فهموه من صفات المخلوق، فقالوا: إن الله تعالى قد خاطبنا بأن له يد، ونحن نعلم ما هي اليد؟ بدليل أننا نراها، والله تبارك وتعالى لما أخبر أن له يداً، وأنا أعلم سلفاً يدي وكيفية يدي، فلابد وأن يكون الله تعالى قد خاطبني بما أفهم، وخرجوا من ذلك بأن يد الله تبارك وتعالى كيد خلقه؛ لأن الله تعالى لابد وأنه قد خاطبنا بما نفهم. والجواب عليهم: أن الله تبارك وتعالى له ذات، وهم يؤمنون بذلك، فهل ذات الله كذات المخلوق؟! لا. فذات الله ليست كذات المخلوق، وأقصى ما يمكن أن يقوله: إن ذات الله تبارك وتعالى لا يعلمها إلا هو. فنقول: وكذلك الكلام في الذات كالكلام في الصفات، فكما أن ذاته خفية وغيبية عنا، ولا يعلم كيفيتها أحد من الخلق، فكذلك صفاته -ومنها: الساق- لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وعليه لما اختلفت الذات لابد أن تختلف الصفات. ومن هنا نحن نثبت الصفات لله عز وجل على الوجه الحقيقي اللائق به، ولا يعلم كيفية الذات ولا كيفية الصفات إلا هو سبحانه وتعالى، ولم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا رسول مرسل، ولا نبي تنبأ. وعليه فقولهم: إن إثبات الصفات لله عز وجل تقتضي المماثلة بينها وبين صفات المخلوق عجز وضعف عقلي عندهم؛ لأنهم لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفاتهم هم، مع أن هذا ليس بلازم، بدليل: أن الله تبارك وتعالى خلق خلقاً عظيماً كثيراً، وجعل لكل مخلوق من مخلوقاته يداً وساقاً وعيناً وقدماً، وغير ذلك من الجوارح، فهل يقول ذلك المتأول: إن ساق الله تبارك وتعالى كساقي فنقول له: إن الله عز وجل قد خلق خلقاً كثيراً غيرك، سواء من الحيوان، أو الدواب، أو الطير، أو الإنس، أو الجن، أو غيرها، فلم لا تقول: إن الله تعالى له ساق كساق الجن، أو كساق الملائكة، وهم أعظم وأشرف خلقاً من العصاة. سيرد قائلاً: لأن الله تعالى خاطبني أنا بذلك. فهذه الحجة مردودة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد بعث نبيه أيضاً للجن، فإذا كنت تقول: إن ساق الله كساقك أنت، فلم لا يكون ساقه كساق الجن، وهم مكلفون مخاطبون بأوامر الشرع أمراً ونهياً؟ لابد وأنه ستسقط حجته، ويسلم في نهاية الأمر بإثبات الساق لله عز وجل التي تختلف عن جميع سوق المخلوقات من الإنس والجن والطير والدواب والهوام والحشرات وغير ذلك، لابد وأنه سيصل في النهاية إلى الإقرار والاعتراف بهذا. وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إثباتاً بلا تمثيل ولا مشابهة بينه وبين خلقه، وتنزيهاً بلا تعطيل. أي: ننزه الله تبارك وتعالى أن تكون صفاته كصفاتنا، وفي الوقت ذاته نثبتها لله عز وجل، فنحن نثبت

مخالفة أهل البدع لأهل السنة في إثبات صفة الساق لله عز وجل

مخالفة أهل البدع لأهل السنة في إثبات صفة الساق لله عز وجل من الصفات التي يوصف بها الرب جل وعلا، وقد شرق بها أهل البدع وغربوا، ولم يثبتوها له سبحانه تعالى: صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهاً للخالق بالمخلوق، لكن هذا ضلال عظيم وبعد عن منهج السلف، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بالله عز وجل، فإذا وصف النبي عليه الصلاة والسلام ربه بوصف فلا يجوز لأحد بعد ذلك أن يدعي الورع، أو أن يدعي التنزيه، أو أن يستلزم المماثلة والتشبيه؛ لأنه لابد وأن يزعم بأنه أعلم بالله من النبي عليه الصلاة والسلام. وقد دلت سنة النبي عليه الصلاة والسلام الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد على أن الساق ثابت لله تعالى، وكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نقول في صفات الله تعالى كالساق وغيرها: إنها لا تشبه صفات المخلوقين؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا هو حقيقة الإيمان. أي: أن نسلم لله عز وجل بما أمرك ونهاك، ونبرأ من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحت بها النصوص كالساق وغيرها، من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاءت في الكتاب والسنة، وننكر عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه. وهذا مذهب جمهور السلف في تفسير هذه الآية، وإذا كان الفعل: (يُكْشَفُ) مبني للمجهول لما لم يسم فاعله، فإن الحديث قد سمى صاحب الساق، وهو الله تبارك وتعالى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يوم يكشف ربنا عن ساقه)، فالذي أخفته الآية بينه الحديث.

الرد على المبتدعة في الاحتجاج بتفسير ابن عباس للساق

الرد على المبتدعة في الاحتجاج بتفسير ابن عباس للساق وأما ما جاء عن ابن عباس أنه قال: يريد القيامة والساعة لشدتها، فقد ضعفه كثيرون من أهل العلم بالحديث، وقالوا: ولا يصح شيء من هذا عن ابن عباس، ولهذا لما جاء هذا الخبر عن ابن عباس طار به أهل البدع فرحاً، وهذه من علامات أهل البدع. أي: أن تقع أعينهم وعقولهم على قول لرجل -وإن كانت غير راجحة- ليؤيد ما هم عليه من البدعة، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لم تكن هناك صفة لله عز وجل محل جدال ونقاش وخلاف بين السلف إلا هذه الصفة. وما روي عن ابن عباس فيها طار به أهل البدع فرحاً؛ لأنهم نسبوا التأويل للسلف، ولم يقولوا: إن هذه زلة لـ ابن عباس مثلاً، مع أنها ليست بزلة؛ لأنه لم يثبت عنه هذا الكلام، وعلى فرض ثبوته -وهذا يعني على أضعف الإيمان وأقل الأقوال- فإن ابن عباس قد قال: إن قاتل النفس لا توبة له. كما قال: إنه ليس هناك رباً إلا ربا النسيئة المذكور في القرآن، ولم يقل بربا الفضل، بل قد زل ابن عباس في أكثر من سبع مسائل خالفه فيها جمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهنا في هذه الصفة قد خالفه الصحابة وعلى رأسهم: عبد الله بن مسعود وقال: الساق صفة ذاتية لله عز وجل. لذا فلو ثبت هذا عن ابن عباس فنحن نعلم أن إثبات لازم الصفة عند السلف يستلزم إثبات الصفة أولاً، وهذه قاعدة عند السلف، بخلاف المتأولة الذين يثبتون لازم الصفة دون الصفة. فإذا كان هذا معلوماً من مذهب ابن عباس في صفات الله تبارك وتعالى كلها، فلم يثبت المبتدعة هنا لازم الصفة وينفون أصل الصفة الذي هو من معتقد ابن عباس في جميع صفات الله تبارك وتعالى؟ وفي هذه الحالة لابد -وهذا على فرض صحة وثبوت هذا الكلام عنه- من إثبات الصفة ولازمها. ومن أمثل الأسانيد التي جاءت عن ابن عباس في ذلك: ما رواه الفراء في كتابه (معاني القرآن). قال: حدثني سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]. أي: يريد القيامة والساعة لشدتها. وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة. نعم ابن عباس ترجمان القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام قد دعا له، وكان من أحبار هذه الأمة، لكن هل يستلزم هذا بالضرورة ألا يخطئ ابن عباس؟ إنه إذا لم يكن معصوماً فالخطأ جائز عليه حينئذ، وإذا جاز الخطأ عليه فنرده بقول بعض أصحابه له، ولذلك نحن دائماً نقول: إن إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، لكن على فرض أن هذا تأويل ابن عباس، فتأويل هذه الصفة من ابن عباس هل عليه إجماع الصحابة؟ لا. فلا أقل من أن نقول: إن هذه الصفة محل خلاف عند السلف، لكن هذا الخلاف لابد من فصل النزاع فيه، فنقول: إن حديث: (يوم يكشف ربنا عن ساقه)، لم يصل ابن عباس، وإذا كان هذا الحديث لم يصل ابن عباس وقال بغيره، فهو مجتهد مأجور أجراً واحداً لأن الصحابة قد خالفوه بإثبات الساق الحقيقية لله عز وجل، وفي هذه الحالة لابد من رد كلام ابن عباس، أو حمله على أحسن المحامل، ورده أولى، وعليه فهذا التفسير للآية من ابن عباس لا تقوم به الحجة؛ لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية.

رواية أبي هريرة في إثبات الساق لله تعالى

رواية أبي هريرة في إثبات الساق لله تعالى وأما حديث أبي هريرة ففيه: (فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجوداً) فلا يمكن أبداً أن تحتمل اللغة تفسيرهم: (فيكشف الله تعالى عن شدته فيقعون سجوداً)؛ لأنه قد قال: إن كشف الساق هو كشف الشدة، وكشف الشدة بمعنى: إزالتها، أي: رفع الشدة، فهل يناسب أن نقول: إن الله تعالى في الموقف والمحشر يرفع شدته. بمعنى: أنه يكون هناك حالة رضا. لا. ولا شك أن السجود هذا إنما هو داعي الخوف، فلا يسجد الناس والله تبارك وتعالى قد رفع عنهم الشدة والخوف، بل هم يسجدون إذا خافوا، فهذا الوجه في اللغة غير محتمل. بل الحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت في الآية، فقوله: (فيكشف لهم عن ساقه)، صريح في إثبات الساق لله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدة قطعاً. وقوله: وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى. ويؤيده ما رواه الدارمي في كتابه: الرد على الجهمية -وهو كتاب من أمتع الكتب، وهناك أيضاً كتابين بهذا العنوان: الرد على الجهمية للإمام أحمد، والرد على الجهمية لـ ابن منده، وكلها كتب لثلاثة من أئمة السلف للرد على الجهمية المعطلة بعنوان واحد- فقد روى الدارمي من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، قال: يكشف الله عز وجل عن ساقه). وفي حديث آخر: (يوم يكشف ربنا). فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أن الآية من آيات الصفات، وليس المقصود بالساق هنا: الشدة. وأن المراد منها -أي من الآية-: إثبات الساق كصفة ذاتية لله تبارك وتعالى، وقد جاءت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.

رواية أبي سعيد في إثبات صفة الساق لله تعالى

رواية أبي سعيد في إثبات صفة الساق لله تعالى قال البخاري: باب: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]: قال: حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً). أي: أن الله تبارك وتعالى يوم يكشف عن ساقه لأهل الإيمان وللمنافقين -أي: في المحشر- فإن كل مؤمن عندما يرى الله عز وجل ويعرف أن الله عز وجل هو هذا بساقه التي عرفهم بها في الدنيا، يقع كل مؤمن ومؤمنة ساجداً لله عز وجل؛ لأنهم يعرفون الله تعالى بهذه الصورة التي عرفهم بها في حياتهم الدنيا، ويذهب كل منافق ومعاند وجاحد ليسجد كما رأى أهل الإيمان يسجدون، والمنافقون الذين ما كانوا يصلون ولا يصومون إلا رياء وسمعة يذهبون ليسجدون، فيجعل الله تبارك وتعالى ظهورهم قطعة واحدة لا مقاطع ولا مفاصل فيها، فلا يتمكنون من السجود لله عز وجل، إذ السجود في هذا اليوم شرف عظيم، وبيان وتمييز لأهل الإيمان من أهل النفاق، فإنه لا يتمكن من السجود في ذلك اليوم إلا كل مؤمن ومؤمنة. كما روى الإمام مسلم هذا الحديث، وكذلك أحمد في كتاب السنة من طريق عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع الله الأولين والآخرين -أي: جميع الخلق- لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة). أي: يقفون أربعين سنة في الموقف. قال: (شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء). فانظر إلى هذا الحديث! إنه من أمتع ما يمكن أن تسمعه أذنك، فالله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في الموقف لمدة أربعين سنة، وكل واحد منهم يشخص ببصره إلى السماء. أي: ينظر إلى جهة العلو والفوقية لله عز وجل، ينتظرون من الله عز وجل أن يفصل وأن يقضي بين العباد. قال: (فينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام). ينزل ربنا تبارك وتعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، وهذا يعني أن العرش فوق الكرسي. قال: (ثم ينادي مناد: أيها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟). أي: ألا ترضون من الله عز وجل أن يلحق كل واحد منكم بمعبوده وإلهه الذي كان يعبده في الدنيا؟ قال: (أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى. قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا. قال: فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون). أي: أن الله تبارك وتعالى يجعل كل معبود في الدنيا عبد من دون الله يمثله على نفس الهيئة والشكل التي كان عليها في الدنيا، حتى يتعرف عليه كل مخلوق كان يعبده، فالذي كان يعبد الشمس يمثل الله تبارك وتعالى له الشمس، فيذهب إليها ليعبدها في ذلك، والقمر والأوثان والأصنام والحجارة والمقابر وغير ذلك فإن كل معبود يتبعه عابدوه في هذا اليوم ولا شك. قال: (ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى). أي: ما من نبي إلا وله شيطان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم تغلب على شيطانه فآمن، ولم يثبت أن شيطان عيسى آمن، والذي كان يعبد عيسى بن مريم عليه السلام من دون الله عز وجل يتمثل له شيطان عيسى في صورة عيسى حتى يذهب إليه من كان يعبد عيسى فيعبد هذا الشيطان؛ لأن عيسى لا يرضى بذلك، بل قد تبرأ من عبادة النصارى له ولأمه، والله تبارك وتعالى قد أكرمه بأنه لا يعبد أمام عينه في هذا الموقف العصيب الرهيب، لكنه سبحانه مثل الشيطان في صورة عيسى، ولذا لما كان عيسى يعبد في الدنيا من دون الله عز وجل كان من العدل أن يلحق الله عز وجل من كان يعبد عيسى بشيطان عيسى حتى يقيم كل واحد منهم الحجة على نفسه. قال: (ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيتمثل الرب جل وعز فيأتيهم فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً). أي: نحن لم نكن نعبد أحداً إلا الله عز وجل، (فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟). ومن المعلوم أننا لا نعرف الله عز وجل، ويوم القيامة سيظهر لنا، فكيف نعرفه؟ باختلاف ذاته وصفاته عن ذوات جميع المخلوقات التي رأيناها. لكن المسيح الدجال يقول: أنا ربكم. لكنه أعور، وربنا ليس بأعور، وكذلك يأتي من الآيات ما يثبت صحة هذا القول في الظاهر، فيأتي بأشياء لا يمكن أن يفعلها إلا إله قادر، فيحضر رجلاً من أهل المدينة فيشقه نصفين حتى يل

رواية ابن مسعود في إثبات صفة الساق لله تعالى

رواية ابن مسعود في إثبات صفة الساق لله تعالى وروى ابن خزيمة في كتاب التوحيد حديث ابن مسعود في كشف الساق، وهذا الكتاب من أنفع ما يمكن أن يقرأ في كتب العقيدة، لذا فلابد عليك أن ترتقي عن فتح المجيد وعن العقيدة الطحاوية، فعندما تقرأ في كتب العلم المسندة تشعر بلذة ما بعدها لذة، كأن تمسك بكتاب التوحيد لـ ابن خزيمة وتنهل منه في الوقت الذي لا تعرف الأمة من ابن خزيمة ولا ما هو كتاب التوحيد له، فتعرف أن هذه نعمة من نعم الله عز وجل عليك، وعندما تقرأ كتب السنة كلها، فتقوم بأخذ المجلد الأول والثاني والثالث والرابع إلى المجلد الحادي عشر من كتاب فتاوى ابن تيمية، هذه المجلدات التي ضمن فيها الإمام ابن تيمية عقيدة المسلمين، سواء عقيدة السلف أم عقيدة الفرق الضالة، فعندما تبدأ تقرأ في هذه المجلدات ستقول: هذا كلام بعيد! لا، فليس بعيداً أبداً، فإنك إذا شرعت في قراءتها فإنك ستكملها، ثم ممكن أن تبدأ بكتاب التوحيد، وهو مجلدين بعدما حقق. روى ابن خزيمة في كتابه (التوحيد) من طريق أبي الزعراء قال: ذكروا الدجال عند عبد الله بن مسعود فقال: (تفترقون أيها الناس! عند خروجه ثلاث فرق). أي: سيفترق المسلمون ثلاث فرق عند ظهور الدجال، وذكر الحديث بطوله ثم قال: (ثم يتمثل الله عز وجل للخلق). أي: يأتي الخلق في صورة يرتضيها الله عز وجل لنفسه. قال: (فيلقى اليهود. فيقول لهم: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئاً). انظر إلى الكذابين! (فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا اعترف لنا عرفناه). أي: إذا أتانا في صورته التي نعرفه بها عرفناه. (فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خر لله سجداً). وهذا موقوف حسن على عبد الله بن مسعود، وقد تقدم مرفوعاً. والحاصل: أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة الصحيحة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.

خطأ ابن الجوزي في نقله قول الجمهور في صفة الساق لله تعالى

خطأ ابن الجوزي في نقله قول الجمهور في صفة الساق لله تعالى أما ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، أي: يكشف عن شدة، فقول غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنة علم خطأ هذا القول وبطلانه؛ فهذا أحمد بن حنبل، وابن خزيمة، وابن منده، والدارمي، وغيرهم كثير جداً قد صنفوا في الاعتقاد، وما رأينا في كتب الاعتقاد المصنفة عند أهل السنة والجماعة أنهم أولوا الساق بالشدة، ولم نجد من هؤلاء من يقوله، وهذا القائل إما أنه لا يعرف من هم السلف، وإما أنه أطلق هذا القول جزافاً دون تحقيق، ولو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور فإنه لا يدل على صحة قولهم وبطلان ما عداه؛ لأنه ليس دائماً الحق مع الجمهور، إذ إن كل مسألة من مسائل الدين، سواء في باب الأصول أو الفروع لا نبحث فيها عن رأي الجمهور؛ لأنه ليس ذلك بلازم، والجمهور في أكثر من مسألة قد خالفوا فيها الدليل، لكن الأمة في مجموعها معصومة، بمعنى: أن الحق لا يخفى على مجموعها في زمن ولا في بلد، وإنما الحق لابد أنه يكون ظاهراً في كل زمان وفي كل مكان، حتى وإن ظهر لواحد من الأمة فقط، مثلاً: عندما نأتي إلى قرية (الطالبية) ونذكر مسألة من المسائل فماذا سنقول؟ هل سنقول: إن هذه المسألة قد خفيت على أهل الطالبية بأسرهم؟ لا؛ لأن هذا يخالف سنة الله تبارك وتعالى، ولأنك لو قلت: إن الحق قد خفي على مجموعة من الناس في مكان أو في زمان، فلابد وأن تعتقد حينئذ أن حجة الله تبارك وتعالى تخفى عن عباده وعن خلقه في أي وقت أو في أي مكان، وهذا بخلاف عقيدة المسلمين، بل الحجة تقوم على المسلمين ولو بواحد، ولا يمكن أن يخفى الحق على مجموع الأمة، لا في زمن ولا في مكان، ولذلك لما وقع هذا الخلاف بين ابن عباس وبين الصحابة رضي الله عنهم خالفه ابن مسعود. بل صح السند لـ ابن مسعود في المخالفة، ولم يصح إثبات التأويل عن ابن عباس كما ذكرنا، فنقول في هذه الحالة: على فرض صحة ما ادعى ابن الجوزي من أن مذهب الجمهور هو التأويل، فهل يلزمنا أن نقبل مذهب الجمهور هنا؟ لا. لأنه قد يكون لشخص من الأشخاص قول لا نعلم له مخالفاً فيكون إجماعاً، ولو علمنا له مخالف لا أقل من أن نقول: إن هذه المسألة قد اختلف فيها الصحابة، وممكن أن يشتهر قول أحد الأصحاب ولا يشتهر القول الثاني، فيأتي بعد ذلك المقلدة فتجدهم يقلدون القول ويلتزمونه نقلاً من الكتب أو سماعاً من المشايخ دون تحقيق لهذا القول، وسائر القول على هذا النحو، من أجل ذلك أنا أحكي لك عن مسألة قال بها ألف واحد من العلماء، لكن هذا الألف بلا تحقيق لا قيمة له، إنما القيمة في التحقيق، وأقول: التحقيق دائماً؛ لأنه عندما يكون هناك مسألة هي محل نزاع بين أهل العلم، فإنهم يعرضونها على المشرحة، وهذه المشرحة هي مشرحة الكتاب والسنة، الميزان الأعظم، هذا الميزان الذي لا يمكن أبداً أن يهتز؛ لأنه الميزان الذي أزن به الأعمال والأقوال، صحيحة أو غير صحيحة، مقبولة أو غير مقبولة، وعليه فمذهب الجمهور على نقل ابن الجوزي -إن صح أن الجمهور قالوا بذلك- مردود ليس عليه دليل، وهم -إن صح ذلك عنهم- نفوا والنافي لا يطالب بالدليل في النقاش العلمي، فالذي ينفي الشيء لا يطالب بالدليل، وبالتالي فالذي يطالب بالدليل هو الذي يثبت؛ لأن معه من العلم والحجة ما ليس عند النافي، وفي هذه الحالة فمسألة الساق اختلف فيها أهل العلم، فجمهورهم ينفيها، وبعضهم يثبتها، فهل تتصور عقلاً أن آتي إلى النافي وأقول له: ما دليلك على نفي الساق؟ سيقول: الأصل عدم إثبات ما نفاه الله عن نفسه، أو لا أثبت لله إلا ما أثبته لنفسه ولم يثبت لنفسه ساقاً. فسأقول له: إن هذا الفريق الثاني المناهض والمناقض يقول: أن هناك ساقاً، فسيقول: ليأتينا بالدليل، فأقول: الدليل: حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وحديث عبد الله بن مسعود، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وعليه؛ فإذا كانت الآية مطلقة وعامة فلابد من حملها على الحديث المقيد، وأن هذه الساق التي وردت منكرة غير مضافة إلى الله عز وجل قد وردت في الحديث مضافة وثابتة، وصريحة في إثباتها الساق لله عز وجل. وفي هذه الحالة سأقول له: أنت أيها الجمهور! قد خالفك رجل واحد في الأمة، والدليل معه، فضلاً أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن مسعود، أو هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أثبت، وإذا كنا نعتقد أنه أعلم الخلق بالله عز وجل فلابد وأننا نقول: بأن حديثه مقدم على مذهب الجمهور. ثم لو افترضنا مثلاً صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل ذلك على صحة قولهم وبطلان ما عداه، إذ ليس كل قول يذهب إليه الجمهور يكون صواباً، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف

رد ابن تيمية على من يؤول صفة الساق لله تعالى

رد ابن تيمية على من يؤول صفة الساق لله تعالى قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في (نقض أساس التقديس)، وهذا الكتاب من أمتع ما يمكن أن يقرأ، وأقول لك: إن كثيراً من الإخوة يعتقدون أنه ليس هناك كتب عقيدة في الإسلام إلا العقيدة الطحاوية، وفتح المجيد، والواسطية فقط، وهذا غلط، بل إن هناك كتباً كثيرة في الاعتقاد، ثم إن العلماء قد صنفوا هذه الكتب من أجلنا نحن فقط، من أجل ذلك فنحن لا نعرف غيرها! ولذا فهم عندما رأوا أننا لا نستطيع أن نفهم أي كلمة من كلام السلف، قالوا: نصنف لهؤلاء الجيل علم على قدر همتهم وفهمهم، حتى يلقوا الله عز وجل باعتقاد سليم. إذاً: فنحن لا نتوقف عند هذه الكتب فقط، إذ إنها قد صنفت للمبتدئين في العلم، وأنتم أصبحتم في مستوى كبير، فلابد أن تكبروا عن ذلك قليلاً، فهناك أكثر من ألف مصنف مسند وغير مسند في توحيد الله عز وجل، وحاولوا أن تنتهوا من العقيدة الطحاوية من أجل أن تأخذوا مرحلة أعلى قليلاً. وعلى كل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نقض أساس التقديس: إن هؤلاء يتأولون كشفه عن الساق بأنه إظهار الشدة -انظر هذا الكلام الجميل- وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفونه، فيكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة. فهو يريد أن يقول: في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، أن المتأولة يقولون: إن الله تبارك وتعالى لا يأتي ولا يجيء ولا يذهب ولا يرضى ولا يسخط ولا يفرح ولا، ينفون كل هذه عن الله عز وجل، فيقولون في تفسير قوله تعالى: ((وَجَاءَ رَبُّكَ))، أي: وجاء أمر ربك، أو رحمة ربك، أو رضا ربك، والمهم أن الرب تبارك وتعالى عندهم لا يأتي، وعليه فإذا كنتم تفسرون مجيء وإتيان الله عز وجل بإتيان الرحمة، وأنتم الذين تقولون: لو ظهر لنا بما نعرفه لعرفناه، لكن هو سيعرف لكم بالساق مثلما أبنتم ذلك، فإذا كانت الساق هي الشدة فهل تسجدون لها؟ A لا. فإذا قلتم: إن الإتيان والمجيء لله عز وجل هو إتيان الرحمة، فلا يتصور أنك إذا رأيت رحمة ربك سجدت في هذا الموقف. واعلم أن هناك أصلاً مهماً جداً لابد وأن تعض عليه بالنواجذ خاصة فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل، وهو: (حمل الألفاظ على ظاهرها دون تحريف، أو تأويل، أو تمثيل، أو تكييف، أو تشبيه)؛ لأن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يرد ما يخرجها عن ذلك. يعني: إذا كانت الآية تقول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]. إذاً هي ساق، حتى لو لم نكن متصورين صفة الساق، ولا نصرف هذه الساق عن ظاهرها كما يفعل المبتدعة؛ لأنه لابد أن يكون معك صارف لها أو قرينة على الصرف؛ ولأن الأصل في الألفاظ أنها تحمل على الحقيقة لا على المجاز، سواء المجاز الشرعي أو المجاز اللغوي أو المجاز العقلي. فقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، أثبتت الآية أن هناك ساقاً، ولا أستطيع أن أقول: بأنها الشدة؛ لأنه لابد من صارف أو قرينة صارفة، واللغة ليست صارفة إلا بشرط: استحالة حمل اللفظ على ظاهره، واللفظ الذي معي أحمله على معناه الاصطلاحي الشرعي، فإن كان محالاً أحمله على الحقيقة اللغوية، وإن كانت الحقيقة اللغوية محالة فأحمله على الحقيقة العرفية، وهذا ترتيب أهل العلم في صرف النص عن ظاهره. لكن في هذه الحالة عندما يثبت ربنا سبحانه لنفسه الساق، فإننا نحمل هذا اللفظ على حقيقته الشرعية، ولا يمكن أن نتعدى ذلك إلى غيره لأنها خطوات وضعها أهل العلم وأمرونا باتباعها، ولو تخطينا الحقيقة الشرعية في صفة الساق فلابد وأن نتخطاها في جميع الصفات الذاتية لله عز وجل. وبهذه المناسبة أذكركم بقاعدة قد مرت وهي: (أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات)، فإذا تخطينا الحقيقة الشرعية في الساق فيلزمنا أن نتخطاها في جميع الصفات. إذاً: مذهب السلف هو إثبات الألفاظ على حقيقتها وعدم صرفها عن ظاهرها إلا بنص أو قرينة. وعندما أريد صرف الساق عن ظاهرها، فهل أبحث لها عن صارف؟ لو قلت: نعم. فلن أجد لها صارف في اللغة، وبعد أن أصرفها عن ظاهرها إلى معناها اللغوي سأجد الحديث قد صرح بأن الساق ساق لله عز وجل، إلا إذا كنت سأصرف لفظ الله أو الرب عن ظاهره فأقول: الله هذا، أو الرب هذا مخلوق من المخلوقات! ألا يمكن أن يقول أحد بذلك؛ لأن الحديث: (يوم يكشف الله عز وجل عن ساقه)، فهل أستطيع أن أتصرف في هذا اللفظ؟ بمعنى أن أقول: ليس المقصود هنا بالله عز وجل: (الإله المعبود). إن من يقول بذلك سيكون مجنوناً بلا شك، ولو قلت: إن الله عز وجل ليس المقصود به: الإله المعبود! سأنظر وأجد الحديث الثاني يقول: (يوم يكشف ربنا عن ساقه). فلا يجتمع في مخلوق قط لفظ الرب مع لفظ الله، ممكن أن يكون رب البيت، رب الدار، رب الغنم، رب البقر، لكن الرب -بالتعريف-

خطأ الإمام النووي في تأويله لصفة الساق لله تعالى

خطأ الإمام النووي في تأويله لصفة الساق لله تعالى قال الإمام النووي في تفسير حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم في قوله: (فيكشف عن ساق)؛ قال: فسره ابن عباس وجمهور أهل اللغة بالشدة. وانتبه أنه قال: جمهور أهل اللغة، وابن الجوزي قال: جمهور العلماء. أي: علماء الشرع. لذا فأنت عندما تسمع مذهب الجمهور فالمقصود به: جمهور الفقهاء، لا جمهور اللغويين، فانظر إلى ابن الجوزي كيف عمى علينا وقال وجمهور العلماء؟! والصحيح أنهم جمهور اللغويين الذين قالوا: بأن الساق هي الشدة، ولو قالوا بذلك فلا يعول على كلامهم؛ لأن الساق تعني الشدة في أحد وجوه اللغة، لكن لا يستلزم هذا إنزال هذا المعنى اللغوي على هذا النص؛ لأن هذا يعتبر تلبيساً. والإمام النووي قد نقل كلاماً عظيماً جداً عن كثير من أهل العلم القائلين بأن الساق تعني الشدة، وهذا على عادة الإمام النووي، فإذا كان مضطرباً في مسألة ما فإنه ينقل أقوال أهل العلم دون أن يرجح، وفي ترجمة الإمام النووي التي ذكرناها من قبل: أنه لم يتمكن من دراسة علم العقيدة، مع أن علم العقيدة متعلق بذات الله تبارك وتعالى، فأنت الآن عندما تدرس كل العلوم الشرعية ولست متمكناً من العقيدة فسيخرج لك صبي في الكتاب يعدل عليك، لكن في الفقه عندما تخطئ أو تتبنى مذهباً شاذاً لا يكون لذلك تأثير، أو غير ذلك. يعني: نحن مثلاً: عندما نعيب على ابن حزم، أو نعيب على أحد من أهل العلم مذهباً قد ذهب إليه في مسائل الفروع في الفقه، فلا يكون لذلك تأثير، لكن عندما نقول: فلان هذا جهمي، رغم أنه فقيه، فلان هذا معطل، رغم أنه محدث، فلان هذا قدري، رغم أنه كذا كذا، فلان هذا شيعي، رغم أنه كذا وكذا، فسيكون ذلك أمراً شنيعاً جداً؛ لأن الخطأ في العقيدة ليس كأي خطأ قط، ولذلك ينبغي أن تتنبه إلى أن دراسة علم الاعتقاد والتمكن منه على مذهب السلف ومعرفة أصولهم التي أصلوها وساروا عليها، أهم شيء في حياة العبد المسلم. ولذلك يقول أهل العلم: وهذا من العلم الذي لا يسع المسلم جهله، إذ إن من العلوم ما يمكن أن يسعك جهله، ومنها ما لا يمكن أن يسعك جهله، وعلى رأس ذلك: علم الاعتقاد والتوحيد فلا يسعك جهله. وعلم العقيدة لا يتوقف على أنك تذهب لتتزوج فيأتون لك بالبنت من أجل أن تراها، وتقول لها: أين الله؟ فتقول لك: في السماء. فتقول: يكفي. هذه البنت سلفية (100%). هذه خيبة! إذ إنه لم يثبت أن واحداً من السلف تقدم لخطبة امرأة واختبرها، بل كان يتلصص إلى أن يرى جزءاً من بدنها، فينظر ما يعجبه ويسره فيتقدم لها، لذا فلا يصح أن يتقدم شخص لفتاة فيخرج هذه الورقة من جيبه ويسأل هذه الأسئلة. ورحم الله الشوكاني فإنه قال في تفسير سورة القلم: وقد أغنانا الله سبحانه وتعالى في تفسير هذه الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً، فليس كمثله شيء. فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فالحديث يبين الآية، وقد بين أن المقصود من الساق في الآية هي ساق الله عز وجل، فنثبتها من غير تجسيم ولا تمثيل مثل بقية الصفات، ولا يصح أن نخصها بكلام بمفردها، فهي مثل العين واليد، والقدم والأصابع والكف والأنامل وغيرها، فنقول فيها كما نقول في بقية الصفات.

إثبات الصحابة جميعا لآيات وأحاديث الصفات من غير تحريف ولا تأويل

إثبات الصحابة جميعاً لآيات وأحاديث الصفات من غير تحريف ولا تأويل أخذ المتأوله ما نقل عن ابن عباس من تأويل لهذه الآية فطاروا به كل مطار، وإذا كانوا يريدون أن يأخذوا بكلمة ابن عباس هنا، فيلزمهم أن يأخذوا بكلام ابن عباس في كل الصفات، وهذا هو منهج ابن عباس، بل إن أقصى ما يمكن أن يدافع به عن ابن عباس: أن ابن عباس لم يكن عنده علم بالحديث، فحمل الساق على المحمل اللغوي، ولو كان عنده علم بالحديث ما قال هذا قط. والحق أن تفسير ابن عباس للساق الذي ورد في الآية الكريمة ليس من تأويل الأشاعرة؛ لأنه ليس منهج ابن عباس، بل هو رأي رآه، وهذا على فرض ثبوت هذا التأويل عنه، وهو غير ثابت. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الذي أقوله الآن وأكتبه، وإن كنت لم أكتبه في ما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس -هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات ليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]-أي: يريد أن يقول: إن هذا ليس كلام الصحابة، بل لم يختلفوا إلا في تفسير هذه الصفة- فروي عن ابن عباس -صيغة التمريض- وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة. وعن أبي سعيد وطائفة: عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين. اهـ. وقال ابن القيم: و (الصحابة متنازعون في تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع) اهـ. لكن هنا جملة أمور وحقائق لا يجوز لأحد أن يتعداها، أو أن يغض نظره عنها، وهي أن الخلاف وقع بين الصحابة إلا أنه في هذه الصفة فقط؛ لأن التأويل ليس مذهبهم بتأويل الساق بالشدة. وابن القيم يريد أن ينصحنا بنصائح، وكأنه يقول: رغم وقوع النزاع في هذه الصفة إلا أن هناك عدة نصائح أريد أن أنصحكم بها، وهي: أن تفسير بعض التابعين أو ابن عباس من الصحابة -على فرض صحته عنهم- لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بالشدة في الآخرة ليس من التأويل الذي فيه صرف للآية عن ظاهرها. أي: أنه ليس تأويل الأشاعرة، ولا فيه تعطيل لصفة من صفات الله جل وعلا، بل إنهم يثبتون هذه الصفة بالأحاديث الأخرى الصحيحة، فشتان بين قولهم وبين تعطيل وتأويل الأشاعرة. كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات. أي: أنه يريد أن يقول: إن الآية ليست صريحة في إثبات أن أن الساق صفة لله عز وجل، وإنما أتى التصريح في الحديث. ثم قال: ولا ريب -أي: ولا شك- أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل (عن ساقه)، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنها من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إذ إن التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، لكن كثيراً من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً له، كاليد على القدرة والنعمة، والعين على الإحاطة والرعاية، ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلاً، وهذا خطأ من وجهين. وقد سبقه أبو يعلى الفراء فحمل تأويل ابن عباس على قول أهل اللغة، وليس على التأويل الفاسد الذي هو مذهب الأشاعرة. وأما ما روي عن ابن عباس في تأويل الساق فقد خالفه ابن مسعود، ولا أقل من أن يقال: إن الصحابة اختلفوا في هذه، وليس قول أحدهم بحجة على قول الآخر إلا بدليل أو بنص، والنص مع ابن مسعود لا مع ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما، وعليه فلا إشكال إذاً. وأظن بذلك الكفاية والغنية، وقد اتضح أن لله تبارك وتعالى ساقاً ليست كساق المخلوق، وأنها ساق حقيقية لله عز وجل يتعرف بها إلى خلقه في الموقف، وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد أخطأ في صرف هذه الصفة إلى المعنى اللغوي، وهذا إن صح عنه ذلك، وإن لم يصح فقد أغنانا ضعف الإسناد إليه عن نسبة التأويل له رضي

صفة الكلام لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الكلام لله عز وجل منهج أهل السنة والجماعة في صفات الله أنها صفات تليق به سبحانه، لا يجوز فيها التمثيل ولا التشبيه ولا التكييف ولا التأويل، بل يجب إثباتها كما أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن ذلك ما ورد أن لله يدين وعينين ووجهاً وقدماً ورجلاً، وغيرها من الصفات الذاتية، كما نثبت لله عز وجل صفة الكلام وهي صفة ذاتية وفعلية، فهو تعالى يتكلم وقتما يشاء، بحرف وصوت ليس كحرف وصوت المخلوقين.

مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات صفة الكلام لله عز وجل

مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات صفة الكلام لله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. فكنا نتكلم عن صفات للمولى تبارك وتعالى تثبت بالسمع ولا شك أنها تثبت بالعقل كذلك، فصفة الكلام -مثلاً- لله عز وجل لا بد للعقل أن يتصور أن الله يتكلم، فلو فرض أنه لم يأت نص سمعي يثبت أن الإله يتكلم بحرف وصوت للزم أن يتصور العقل أن هذا الإله لابد أن يكون متكلماً، بخلاف الصفات الأخرى فإنها لا تثبت بالعقل، بل تثبت بالسمع فقط. أي: بالمنقول أو بالخبر؛ ولذلك يسميها أهل العلم: الصفات الخبرية، أو الصفات السمعية؛ لأن إيماننا بها يتوقف على السمع، والسمع هو النص -أي: المنقول- بخلاف العقل؛ ولذلك يسمي أهل العلم الصفات الذاتية لله عز وجل بالصفات السمعية والخبرية، يعني: لا تثبت عن طريق العقل، وإنما تثبت عن طريق النص، وتثبت عن طريق السمع، كصفة اليد والعين والرجل والقدم والأصابع وغير ذلك من الصفات الذاتية للمولى عز وجل لا يمكن أبداً أن أثبتها لله تعالى صفة ذاتية أصلية من مصدر الاجتهاد؛ وذلك لأن العقل محرم عليه أن يتصور ذات الإله وصفاته الذاتية، وإلا وقعت في تشبيه الله عز وجل بأحد مخلوقاته، فلابد أن أتوقف في إثبات هذه الصفات إلا إذا ورد في ذلك النص، فإذا أثبت النص أن لله وصفاً أثبتناه، وإذا نفى النص عن الله عز وجل وصفاً نفيناه؛ لأننا لم نر الله عز وجل. إذاً: يتوقف إيماننا بصفات الله تعالى الذاتية على الخبر، وعلى النص الوارد إلينا؛ ولذلك نقول: إن صفات الله عز وجل الذاتية صفات خبرية بحتة لا مجال للعقل فيها، بخلاف صفات أخرى كصفة الكلام، فهب أنه إذا لم يرد نص أن الله تعالى يتكلم فإنه لابد أن يتصور العقل أن الإله لابد أن يكون متكلماً، فصفة الكلام تثبت بالسمع وبالعقل، وهذه الصفة صفة ذات وصفة فعل. صفة الكلام صفة ذات وصفة فعل؛ لأن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه صفة الكلام فهي صفة ذاتية له، إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم، وهذا معناه: أنها صفة فعلية. بمعنى: إذا شاء فعل الكلام وإذا شاء لم يفعل، له ذلك وله ذلك. فإن الله تعالى يتكلم في أي وقت شاء، وبأي كلام شاء، وله ألا يتكلم في وقت، وأن يتكلم في وقت آخر سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء. فالكلام صفة ذاتية وصفة فعلية. أي: لها تعلق بفعله تبارك وتعالى، وفعله يختلف عن أفعال المخلوقين، فإذا قلنا: إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لا يلزم من ذلك أنه يتكلم ككلامي هذا الذي يخرج من لساني ومن فمي بحرف وصوت، فالحرف معلوم لديكم والصوت أنتم تسمعونه، أما الله عز وجل فإنه يتكلم بحرف وصوت ليس بحرف كحرفي وصوت كصوتي، ولكنه يتكلم بكيفية لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى؛ لأنني لو قلت: إن المولى عز وجل يتكلم ككلامي أو ينطق بنفس الطريقة التي أنطق بها للزم من ذلك أن نثبت أن لله تعالى فماً؛ لأنه لو لم يكن لي فم ما استطعت أن أتكلم، ولو لم يكن لي لسان ما استطعت أن أتكلم، وإن الله عز وجل لم يتكلم عن إثبات صفة الفم أو اللسان له سبحانه، فيحرم على المرء أن يثبت للمولى عز وجل صفة لم يثبتها لنفسه؛ ولا أنفي ذلك ولا أثبته؛ لأن النص سكت عنه. فإن قيل: إذا لم يكن له فم ولا لسان فكيف يتكلم؟ A أنه يتكلم حيث شاء وكيف شاء، ولا يلزم من كلامه المماثلة والمشابهة بين كلامه وكلام المخلوقين، فإنه يتكلم بكيفية وطريقة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ولما كان الكلام صفة من صفات المولى عز وجل لزم أن نؤمن بهذا كما ورد، ولا نخوض في الكيفية، والكلام في صفة الكلام كالكلام في بقية الصفات، فالله عز وجل أثبت لنفسه صفة اليد، وأثبت لنفسه العين والأصابع والقدم وأثبت أنه يضحك، وأثبت الساق وغير ذلك. ولذلك عقد المصنف اللالكائي عليه رحمة الله هذا الباب لإثبات هذه الصفات من جهة السمع والخبر، وأفردها بباب مستقل، كأنه يشير إلى أن هذه الصفات ع

سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله على أن من صفات الله الوجه والعينين واليدين

سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله على أن من صفات الله الوجه والعينين واليدين قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل الوجه والعينين واليدين]. وسكت، ولكنه ذكر في نفس الباب صفة الأصابع والقدم والضحك والساق والكلام، ولعله لم يقصد أن يتطرق إلى ما لم يذكره في التبويب بخلاف الذي ذكره من الوجه والعينين واليدين.

الأدلة على إثبات أن لله وجها يليق به سبحانه

الأدلة على إثبات أن لله وجهاً يليق به سبحانه قال: [قال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]]. هذه الآية أثبتت أن لله وجهاً، لكن هل وجه الله عز وجل كوجوه المخلوقين؟ من أراد أن يشبه وجه الله عز وجل بوجهه نقول له: لم اخترت لله عز وجل بالذات أن يكون وجهه كوجه بني آدم، فجميع المخلوقات لها وجوه؛ فلم لم يختر المولى عز وجل أن يكون وجهه كوجه غير بني آدم من المخلوقات؟ إذا طرح عليه هذا السؤال لابد أنه سيعجز عن الجواب، فإذا قال: إن الله تعالى يخاطب بني آدم فقط، وأنه يخاطبهم بما يعرفون، وإنما يعرفون من أنفسهم الوجه. نقول: لو كان وجه الله عز وجل كوجهك للزم أن يكون من ذلك أن ذاته كذاتك، فهل تقول بذلك؟ لابد أنه سيقول: لا. إن ذات الإله عز وجل تختلف عن ذوات المخلوقين جميعاً من بني آدم وغيرهم. فنقول: وكذلك صفاته تختلف عن صفات المخلوقين، ومنها الوجه. ولذلك الذين أولوا الوجه بالنعمة ليس لديهم حجة ولا برهان، والذين قالوا: إن الوجه هو الذات: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] قالوا: المراد هنا بالوجه: الذات العلية. نقول لهم: إن هذا تأويل باطل وفاسد كذلك؛ لأنك إذا قلت: إن الوجه هو الذات لابد أنك تنفي عن الله عز وجل حقيقة الوجه؛ لأن الوجه عندك هي الذات، ولو قلت بذلك للزمك أن تنفي عن الله عز وجل صفة الوجه، وهذا طبعاً كلام لا يقول به إلا خلفي متأول، أما السلف فإنهم أثبتوا لله تبارك وتعالى الوجه وقالوا: المراد بالوجه هو وجه الرحمن تبارك وتعالى، فأثبتوا الوجه على النحو الذي يليق بجلاله وكماله، ولم ينفوه بتأويل الخلف أن الوجه هو الذات؛ لأن الذي يقول: الوجه هو الذات يقول: لا وجه؛ لأن الوجه عبارة عن ذات الإله، وهم ظنوا أنهم ينزهون المولى عز وجل عن مشابهة المخلوقين. فما الذي حدا بهم إلى هذا التمثيل وهذا التشبيه؟ وما الذي يمنعهم أن يثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه على الوجه اللائق به سبحانه، ويؤمنون بذلك. صفة الوجه ثابتة بالله عز وجل، ليس كوجوه المخلوقين، وليس الوجه هو ذات الله عز وجل؛ لأن هذا تأويل الخلف، فيحرم أن تصرف صفة من صفات الله عز وجل عن معناها وعن حقيقتها التي أرادها المولى عز وجل منك، كما يحرم عليك أن تؤولها وأن تلوي عنقها لتصرفها عن ظاهرها. قال: [وقال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]]. فأثبت كذلك في هذه الآية أن له وجهاً سبحانه وتعالى.

الأدلة على إثبات أن لله يدين تليقان به سبحانه

الأدلة على إثبات أن لله يدين تليقان به سبحانه قال: [وقال الله عز وجل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]]. أي: ما الذي منعك يا إبليس! أن تسجد لآدم الذي خلقته أنا بيدي، سبحانه وتعالى. يقولون نفياً ليدي الله عز وجل: اليد بمعنى: القدرة. واليد بمعنى: النعمة. وهذا كلام بعيد جداً، وفيه غلو كما أن فيه تعطيلاً، فروا بزعمهم مما يسمى تشبيهاً فوقعوا في التعطيل. أي: جردوا الذات العلية من تلك الصفات الخبرية السمعية. فالله عز وجل قال لإبليس: ما منعك أن تسجد لآدم الذي خلقته بيدي؟ فإذا كانت اليد هنا بمعنى النعمة فليس لآدم فضل على بقية المخلوقات؛ لأنه في هذه الحالة لابد أن الله خلق الخلق جميعاً بنعمته، فلم يقول عن آدم بالذات - {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]- إذا كانت اليد هي النعمة؟ كما تقول: فلان له علي يد -يعني: له علي جميل ونعمة- وهذا معروف في كلام العرب. وهذا الذي أوقع الخلف في صرف النص عن ظاهره، فاعتمدوا فقط على بعض ما ورد في كلام العرب من أن اليد يقصد بها النعمة، وقالوا كذلك: اليد هنا بمعنى القوة. فمعنى: ((خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) أي: خلقت بقوتي؛ لأنه ثنى اليد: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولم يقل: بيدِي، وإنما قال: بيدَيَّ. فإذا قلنا: إن اليد بمعنى القوة -كما يقول الخلف- فيلزمنا أن يكون التأويل هكذا: ما منعك أن تسجد لما خلقت بقوتيَّ. ولم يقل أحد: إن لله قوتين؛ حتى يكون التأويل: خلقت بقوتيَّ. ثم إن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه اليد وأثبت لنفسه القدرة والقوة، فكونك تجعل صفة مركبة على صفة أخرى فإنه يستلزم تعطيل الصفة التي حملتها على الثانية، فأنت تقول: اليد بمعنى القدرة أو اليد بمعنى القوة، وإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه القوة والقدرة واليد، فكونك تؤول اليد بالقدرة والقوة، فالقدرة والقوة من الأساس موجودة وثابتة لله عز وجل، ولكن تأويلك اليد بالقدرة والقوة ينفي صفة اليد عن المولى عز وجل، وستأتي معنا نصوص لإثبات أن هذا التأويل الخلفي تأويل باطل كذلك. قال: [وقال عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]]. فهل يستقيم أن نقول: بل نعمتاه مبسوطتان؟ أو بل قوتاه مبسوطتان ينفق كيف يشاء؟ هذا كلام لا يستقيم حتى في لغة العرب. قال: [وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]]. فأثبت العين. قال: [وقال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]. وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]]. إثبات لصفة اليد كذلك.

كلام بعض السلف في إثبات أن لله عينا ووجها

كلام بعض السلف في إثبات أن لله عيناً ووجهاً قال: [وعن الزبير بن العوام: أنه سئل بوجه الله -يعني: قيل: أعطني لوجه الله- فقال: أعطه، فإنه بوجه الله سأل لا بوجه الخلق]. وهذا يثبت أن صفة الوجه كانت ثابتة عند السلف. قال: [وعن القاسم بن محمد: أنه سئل بوجه الله فقال: لا يفلح من رده]. أي: لا يفلح من رد سائلاً سأل بوجه الله. وهذا يعني: أن صفة الوجه ثابتة لديهم.

حديث: (أن الله سبحانه خط التوراة بيده)

حديث: (أن الله سبحانه خط التوراة بيده) قال: [عن طاوس سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى)] يعني: كانت بينهما محاجة، كلٌ منهما يذكر حجته على الآخر، كأنها خصومة أو مناظرة: [(احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة)]. أي: بسبب فعلك يا آدم! كنت سبباً في طرد الخليقة من الجنة، وذلك لما طردك الله عز وجل وأهبطك على الأرض، وكانت بعد ذلك الذرية والنسل، فكان موطن الذرية الأرض لا الجنة، فأنت الذي خيبتنا، وأنت الذي أخرجتنا من الجنة. قال: [قال له آدم: (أنت موسى اصطفاك الله بكلامه)]. وهذا إثبات لصفة الكلام لله عز وجل، وأن الله كلم موسى تكليماً من وراء حجاب، فموسى سمع كلام الله عز وجل بنفسه لا عن طريق الوحي، ولا عن طريق جبريل عليه السلام، وإنما سمع موسى كلام المولى عز وجل. والجعد بن درهم -ذلك المبتدع الأثيم- أنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الله كلم موسى تكليماً، وقام خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى وخطب الناس، ثم نزل من على سلم المنبر وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ لأنه أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً. فذبح الجعد بن درهم عند أصل المنبر. أي: عند أول عتبة المنبر، مع أن الجعد استجار بعد ذلك؛ وكأنه يريد أن يعتذر من مقالته خوف القتل، ولكن خالد القسري لم يأبه لذلك وقال: إن هذه مقولة صار لها أتباع، وصار لها متقولون يتقولون بها ويجهرون بها. فقتله لخطورته، كما أن الذي أتى به الجعد هو كفر بواح، فلو قتله لكفره اجتهاداً لكان هذا اجتهاداً سائغاً، ولو قتله لعظيم بدعته التي انتشرت في العامة والخاصة لكان قتله كذلك لمنع الفتنة أمراً جائزاً في الشرع، فعلى الوجهين قد أصاب خالد بن عبد الله القسري. قال: [قال آدم لموسى: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده)]. والضمير يعود على يد الله عز وجل. أي: أن الله تعالى هو الذي كتب التوراة بيده، وهذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله عز وجل بيده الشريفة، خلق آدم بيديه، وكتب التوراة بيده. وقال في رواية أخرى: (يا موسى! ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى خط التوراة بيده قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال: بلى). وهذا إقرار من موسى عليه السلام أن الله كتب التوراة في الأزل قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق الخلق. ومعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وقبل نوح -بل وقبل الخلق أجمعين بأربعين سنة- خط الله عز وجل التوراة بيده، وكتب في التوراة الخطيئة التي ستقع من آدم، وأن آدم بعد عصيانه سيتوب ويستغفر وينيب إلى ربه. فقال له: وأن الله خط لك التوراة بيده، وكتب فيها ما قد وقع مني، وأنه أمر قدره علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة. قال: [(تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)]. إن كتاب التوراة هو الكتاب الذي أرسل به موسى، وبين موسى وآدم عشرة قرون، وقبل خلق آدم بأربعين سنة خط الله عز وجل التوراة بيده ويمينه، ثم أثبت في هذه التوراة أن آدم سيعصي، وسيتبع شيطانه فيما يسول له ويجمل من الأكل من شجرة في الجنة؛ طلباً للخلد، فعصى آدم ربه فغوى. ثم قال آدم لموسى: أتلومني على ذلك؟ هذا أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة! فلو أننا اعتبرنا أن القرن (100) عام إذاً: قبل (1040) سنة كتب الله عز وجل في التوراة أن آدم سيعصي ولكن هذا على سبيل المثال. قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(فحج آدم موسى)] يعني: فارتفعت حجة آدم على حجة موسى. قال: [أخرجه البخاري ومسلم]. ولكن ربما ينطبع في أذهان الحاضرين أنه يجوز للمرء أن يحتج بالقدر على المعصية، فيقول: آدم نفسه قال: (أتلومني على أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟). يعني: هذا مكتوب في اللوح المحفوظ. فنقول: إن إجماع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعاصي. الأمر الثاني: الفارق بين من يحتج بالقدر على المعصية وبين آدم: أن آدم لما عصى تاب إلى الله عز وجل، وهذا لم يتب. الأمر الثالث: أن آدم قال ذلك وهو ليس في دار التكليف، وأنت تحتج بالقدر على المعصية وأنت في دار التكليف. فمن هذه الفوارق لا يجوز لأحد أن يعتمد على القدر في استباحة واستجازة معاصيه، وهذا الأمر محل اتفاق بين العلماء في عدم الجواز.

حديث: (إن الله يبسط يده بالليل والنهار للتائبين)

حديث: (إن الله يبسط يده بالليل والنهار للتائبين) قال: [عن أبي موسى: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، حتى تطلع الشمس من مغربها) أخرجه مسلم]. الإمام المازري قال: اليد هنا بمعنى: القبول. يعني: ليست هي اليد الحقيقية، وإنما اليد بالنسبة للمولى عز وجل بمعنى قبول توبة العبد إذا تاب إلى الله عز وجل. إذاً: يكون التقدير هكذا: إن الله تعالى يقبل توبة عبده الذي عصى بالنهار إذا تاب في الليل، ويقبل توبة عبده بالليل إذا عصى في النهار. وهذا كلام لا يستقيم مع معتقد أهل السنة والجماعة في اليد، فاليد هي اليد الحقيقية لله عز وجل التي تثبت على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولو قلنا: إن اليد عبارة عن قبول التوبة، أو أن اليد هي النعمة أو هي القدرة، فلابد أن يكون هذا الحديث في نهاية الأمر لا معنى له. والإمام النووي عليه رحمة الله ينقل عن المازري، لم يكن ضليعاً في مسائل الاعتقاد. لا أقول: إنه أشعري وإن كان يتبنى مذهب الأشاعرة في بعض الأحيان، وليس حال الإمام النووي بأحسن من حال ابن الجوزي، فكلاهما مضطرب في أمر الاعتقاد، خاصة في باب الصفات، فهما تارة ينافحان ويدافعان عن مذهب السلف بكل ما أوتيا، ويقولان: نؤمن بهذه الصفات ونمرها كما جاءت، ولا نخوض فيها بتأويل ولا تعطيل، بل نثبتها على الوجه اللائق بالله عز وجل، وتارة يقولان: لابد من تأويل هذه الصفة؛ لأن الأمر لا يستقيم في أذهانهم على المنهج الأول وهو منهج السلف. وتارة نسمع أن مذهب السلف أسلم وأن مذهب الخلف أعلم وأحكم، وهذا الكلام في غاية الخطورة؛ لأنه يجعل من التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها علماً أزيد وحكمة أوسع مما كان عليه السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام تعرض لصفة من الصفات بالتأويل، أو صرفها عن ظاهرها المعلوم لدى النطق بها وسماعها لدى أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، كما لم يثبت أن صاحباً من أصحاب رسول الله سأل عن معنى اليد أو العين أو الساق أو القدم لله عز وجل، وإنما آمنوا بها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، وأمروها دون أن يخوضوا فيها؛ لعلمهم أن ذات الإله تختلف عن ذوات المخلوقين، فأثبتوا هذه الصفات لله على الوجه الذي يليق بذاته العلية تبارك وتعالى، فقال: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها).

حديث: (أن لله وجها لو كشف عنه الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل شيء)

حديث: (أن لله وجهاً لو كشف عنه الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل شيء) قال: [عن أبي موسى: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع كلمات: -يعني: قال أربع كلمات- فقال: إن الله لا ينام، ولا يبنغي له أن ينام)]. لأن النوم صفة نقص وهي تليق بالمخلوق لا تليق بالخالق، ولا يصح في الأذهان أن نقول: فماذا يحدث لو أنه نام لأن هذا طرح فاسد وباطل؛ إذ ذلك يستحيل في حق الله تبارك وتعالى؛ لأنه نقص، والنقص عليه محال، والنقص ثابت في حقنا، فالله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. قال: [(ويخفض القسط ويرفعه)] وهذه الثانية. والقسط: هو الميزان. ويرفعه. أي: يجعل الميزان العام الذي توزن به أعمال العباد يوم القيامة تارة عليهم وتارة لهم. يفعل ما يشاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. قال: [(ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار)]. يرفع إليه عمل الليل في وقت الفجر قبل أن تطلع الشمس، ويرفع إليه عمل النهار قبيل المغرب، أو في صلاة المغرب. وقيل: في صلاة العصر. والراجح: قبل دخول الليل. قال: [(يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل)]. وقوله: (يرفع إليه) يدل على أن الله تبارك وتعالى في السماء؛ لأن الرفع لا يكون إلا إلى جهة العلو والفوقية. ثم قال: [(حجابه النار أو النور)] أي: أن الله عز وجل جعل بينه وبين خلقه حجاباً، هذا الحجاب من نار أو من نور، على اختلاف في الروايات وكلاهما ثابت للمولى عز وجل. قال: [(حجابه النار -أو النور- لو كشفه -أي: لو كشف هذا الحجاب- لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره أو ما انتهى إليه بصره من خلقه)]. يعني: لو أن الله عز وجل كشف هذا الحجاب بينه وبين خلقه في الدنيا لأحرق جميع المخلوقين؛ لأنهم لا يقوون على رؤية المولى تبارك وتعالى، ولو كانوا يقوون على ذلك لكان أولاهم بهذه القوة موسى عليه السلام، فقد طلب موسى أن يرى الله تبارك وتعالى جهرة؛ لأن اليهود طلبوا منه ذلك، {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، فموسى حاك في نفسه ذلك فطلب من ربه أن يراه، ولكن الله عز وجل أخبره بعجزه ونقصه البشري وأنه لا يقوى على ذلك، وكذلك الخلق أجمعون، لو أن الله عز وجل كشف الحجاب الذي بينه وبينهم لاحترقوا جميعاً؛ لأنهم لا يقوون على هذا إلا بإذن الله تبارك وتعالى في دار الآخرة لا في دار الدنيا؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم لما علموا يقيناً أنهم لا يقدرون على رؤية المولى عز وجل سألوا عن مدى وإمكانية رؤيتهم للمولى تبارك وتعالى في الآخرة. قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟). لأنهم علموا أنهم لا يستطيعون رؤيته في الدنيا. قالوا: إذا كان موسى عجز عن ذلك، فهل نرى ربنا يوم القيامة؟ (قال النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيتم القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا غمام، ورأيتم الشمس في رابعة النهار لا يحول بينكم وبينها غيم ولا غمام؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه ضيم). أي: أنكم لا تضامون، لا يحصل لكم ضيم ولا غيم ولا شك في رؤية المولى تبارك وتعالى في دار الآخرة، وأن الله تبارك وتعالى يحجب نفسه العلية وذاته العلية عن الكافرين، ويمكن المؤمنين من رؤيته تبارك وتعالى. وهذا يثبت أن الرؤية مستحيلة في حق المخلوقات في الدنيا، وأنها ثابتة في الآخرة على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة من أن الرؤية مستحيلة في الدنيا والآخرة، وهم بذلك كأنهم كذبوا القرآن الكريم.

حديث أن لله رداء كبرياء على وجهه

حديث أن لله رداء كبرياء على وجهه قال: [عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنات الفردوس ثنتان، من ذهب حليهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليهما وآنيتهما وما فيهما، ليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)]. ليس بين من دخل الجنة وبين الله عز وجل إلا ذلك الرداء وذلك الحجاب وهو كبرياؤه تبارك وتعالى. قال: (وهي -أي: هذه الأنهار- تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدع بعد الأنهار). أي: أن هذه الجنات كأنها تنزف نزيفاً عظيماً، وتسيل سيلاناً عظيماً، ثم تنشأ الأنهار من تلك الجنات الأربع.

حديث أن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة

حديث أن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى). واليمين بمعنى: يده اليمنى. قال: [(يمين الله ملأى لا يغيضها شيء)] أي: لا ينقصها شيء مهما أنفق، لا ينقص مما في يمينه شيء. قال: [(سحاء الليل والنهار)] سحاء تفيد: شدة العطاء وكثرته. أي: يعطي بقوة وسرعة. وهذا يدل على شدة عطاء المولى تبارك وتعالى بالليل والنهار لعباده. قال: [(أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض)]. أرأيتم ما أنفق الله عز وجل منذ أن خلق السماوات والأرض؟ فبسبب هذا الإنفاق الكثير لابد أن تفنى تلك الخزائن، لكن هذا لا يكون إلا في قياس المخلوقين، أما في قياس الخالق فلا؛ لأن خزائن الله عز وجل تختلف عن خزائن البشر، فالبشر مهما بلغت خزائنهم لابد أنها تفنى، أما خزائن المولى تبارك وتعالى فمهما أنفق منها عز وجل فإنها لا تتأثر إلا كما يتأثر البحر إذا أدخل فيه المخيط. يعني: تصور أنك تأتي بإبرة وتدخلها في البحر، ثم تخرج هذه الإبرة مرة أخرى. ما الذي تعلق بها؟ لا أقول: نقطة ماء، بل نقيطة ماء. فهل هذه النقطة ومهما عظمت هل تؤثر في ماء البحر؟ أو هل تؤثر في وزن البحر، أو في حجم الخير الذي في البحر؟ أبداً. فمهما أنفق المولى تبارك وتعالى، وسحت يده بالليل والنهار فإن ذلك لا ينقص من خزائنه شيء إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، وهذا يدل على أنه لا تنقص هذه الخزائن أي نفقه ينفقها المولى عز وجل، وخزائنه بيده ينفق منها كيف يشاء. قال: [(أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينفق ما في يمينه)] أي: لا يزال الخير الذي وضعه في يمينه رغم أن هذا الخير يغط فيه الخلق أجمعين من بني آدم وطير وحيوان وحشرات وغيرها، فإن الخزائن لا تزال موجودة بتمامها وكمالها في يمين المولى تبارك وتعالى. قال: [عن عبد الله بن عمرو ويبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور -والمقسط هو العادل- عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)] هذا أمر في غاية الإعجاز. هذا أمر يجعل المرء يحار، ولابد في النهاية أن يسلم المرء بأن ذات الله وصفاته تختلف عن ذوات المخلوقين وصفات المخلوقين. كيف تكون يداه الاثنتان يميناً، ومعلوم أن اليمين دائماً تكون أقوى في المخلوقين من الشمال؟ نقول: ليس علينا معرفة الكيفية، ولا يعرفها أحد من المخلوقين، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ ولذلك فإن الأدلة التي وردت بأن لله عز وجل يداً شمالاً كما قال: (ويطوي السماوات بيمينه ويقبض الأرضين بشماله) هذه الرواية وإن كانت في مسلم إلا أنها شاذة؛ لأنها من رواية عمر بن حمزة، وعمر ضعيف. وأما مسلم فقد احتج به لتوثيق عمر عنده، مع أن جميع النقاد على أن عمر بن حمزة ضعيف، وعيب على مسلم إخراجه لحديث عمر بن حمزة، سواء هذا الحديث أو غيره. فالرواية في مسلم لا تأخذ الحصانة إذا كانت في جنب الله عز وجل، وقد أعرض البخاري عن هذه الرواية، بل اتفق معه مسلم على أن (كلتا يدي الرحمن يمين). فهذه الرواية هي المتفق عليها، والرواية الثانية وإن أتت من ثلاث طرق إلا أنها من طريق عمر بن حمزة وهو ضعيف، وجاءت من طريقين كل منهما في إسناده رجل متروك، فالرواية شاذة غاية الشذوذ، بل منكرة غاية النكارة؛ لأن الحديث المنكر: هو مخالفة الضعيف للثقة. بخلاف الحديث الشاذ فإنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو لمجموع الثقات، فهذا الحديث في غاية النكارة، وقد ثبت لله عز وجل كما اتفق على ذلك البخاري ومسلم أن كلتا يديه يمين. قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا). أخرجه البخاري ومسلم].

حديث: (وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض)

حديث: (وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض) قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. وقال لنا: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه -أي: لم ينقص ما في يمينه- وعشره منه ملأى، وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض)]. أي: يرفع به ويخفض به. فهذا يدل على أن لله تبارك وتعالى يدين: اليمين واليد الأخرى، والأخرى ليست شمالاً كما فهم الخلف، وإنما هي يمين كذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وكلتا يديه يمين).

أحاديث أن الله يقبض الأرض ويطوي السماوات يوم القيامة

أحاديث أن الله يقبض الأرض ويطوي السماوات يوم القيامة قال: [أن عبد الله بن عمر أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه. يقول: أنا الملك)]. وقال: [(يقبض الله الأرض بشماله، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك)]. هذه رواية شاذة، هذه الرواية الثالثة، وأنا أحذر منها كل الحذر؛ لأنها وردت في صفات الله تبارك وتعالى وفيما يتعلق بالذات العلية؛ ولذلك ينبغي الحذر والتحذير منها، وهي رواية ضعيفة، وكل الروايات التي وردت في إثبات أن الله تعالى له يسار أو شمال ضعيفة جداً، وإذا أراد أحدكم أن يحقق في هذه القضية فليفعل. [عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله السماوات فيقبضها، ويقبض الأخرى بيده ويقول: أنا الملك. أين الملوك؟ أنا الجبار. أين الجبارون؟)].

حديثا أبي هريرة في قبض الصدقة وقبوله سبحانه لها بيمينه

حديثا أبي هريرة في قبض الصدقة وقبوله سبحانه لها بيمينه قال: [عن أبي هريرة -ولا أراه مرفوعاً- قال: (إن الله تعالى يقبض الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً، ويقبلها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه -والفلو: هو المهر أو ولد الناقة- حتى يجعلها أعظم من أحد). وقال أبو هريرة: في كتاب الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]-يعني: يربيها وينميها ويزيدها- ثم تلا: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104] إلى آخر الآية].

حديث صدقة الرجل تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل

حديث صدقة الرجل تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل قال: [عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما تصدق رجل بصدقة إلا وقعت في يد الرب قبل أن تقع في يد السائل]. هذا نص أيضاً أثبت أن لله تعالى يداً. قال: [وهو يضعها في يد السائل، ثم قرأ: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104]]. إذاً: من الذي يأخذ الصدقات؟ الله عز وجل.

إثبات أن لله أصابع

إثبات أن لله أصابع قال: [عن عبد الله قال: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع)] انتبه! هذا حديث يثبت صفة أخرى للمولى عز وجل وهي صفة الأصابع. قال: [(إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى -التراب- على إصبع، وذكر كلمة كلها على إصبع -يعني: ذكر مخلوقات أخرى على إصبع الرحمن- ثم يهزهن المولى تبارك وتعالى، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك. فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له)] فالحجة ليست في خبر الحبر، وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام. [ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ({وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67])]، يعني: مع علم اليهود بذلك إلا أنهم لم يقدروا الله تعالى حق قدره، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه من الحق الذي سمعه من ذلك الحبر، ولكنه عاب على اليهود أنهم ما قدروا الله حق قدره. قال: [أخرجه البخاري ومسلم]. قال: عن عبد الله قال: (جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم! أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع؟ فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] إلى آخر الآية). واللفظ لـ أحمد، أخرجه مسلم من هذا الطريق والبخاري من حديث الأعمش]. [عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء)؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك)]. وذلك لأنها بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء. فقلوب العباد جميعاً كقلب رجل واحد في يد الله عز وجل؛ لأنه قال: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد). يعني: كأن الله جمع القلوب جميعاً فجعلها في قلب واحد، وجعل هذا القلب بين أصبعيه يصرفه ويقلبه كيف شاء إلى الطاعة إلى المعصية إلى الجنة إلى النار إلى الحب إلى البغض وغير ذلك مما يشاء تبارك وتعالى، ويفعل ذلك لحكمة عظيمة لا يعلمها إلا هو.

وقفات مع حديث: (خلق الله آدم على صورته)

وقفات مع حديث: (خلق الله آدم على صورته) قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته)]، يا ترى! الضمير في قوله: (صورته) يعود على الله عز وجل، أم على آدم، أم على المضروب؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديثه: (إذا ضربت فلا تقبح ولا تضرب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته). ولذلك يقول بعض أهل العلم: الضمير في صورته يعود على الله عز وجل اعتماداً واتكالاً على حديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وهذه الرواية صريحة. ثم يقولون: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: على هيئته التي خلقه عليها يوم خلقه. فالضمير يعود على آدم. وهناك تأويل ثالث: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: على صورة ذلك المضروب. (فلا تقبح)؛ لأنك لو قبحته كأنك قبحت وجه أبيك آدم، ولكن الكلام عن حديث الصورة سنخصص له محاضرة كاملة. قال: [(خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك، فإنه تحيتك وتحية ذريتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله. قال: فزادوا: رحمة الله. قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً)]. يعني: كل الذين يدخلون الجنة يكونون على صورة آدم، طوله في السماء ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن. يعني: الله تبارك وتعالى لما خلق آدم خلقه وطوله في السماء حوالي (45) متراً، تصور أنك ستدخل الجنة وطولك (45) متراً، طبعاً أنت تنتظر هذا اليوم، ولن تدخل الجنة من أجل أن تنظر صورتك وأنت طويل هكذا! وقد وردت بعض الآثار أنهم يدخلون في عمر متوسط (33) عاماً، فعمر سيدنا عيسى عليه السلام (33) عاماً، وفي الحقيقة هذه أمور كلها وإن جاز في العقل تصورها إلا أننا نقول: نؤمن بها كما جاءت. قال: [عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه)] يعني: إذا ضرب، من المقاتلة والمفاعلة. أي: وقع شجار. [قال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)]. الضمير يعود على المضروب. وفي حديث: [(إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه لا يقولون: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)]. وعن ابن عمر مرفوعاً: [(لا تقبح الوجه؛ فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)].

إثبات أن لله عينين

إثبات أن لله عينين قال: [حدثني قتادة، قال سمعت أنساً يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا أنذر الدجال أمته، ألا إنه الأعور الكذاب)]. ما هي علامته؟ قال: (ألا إنه الأعور الدجال) ومعنى الأعور: يرى بعين وعين أخرى فاسدة كأنها عنبة طافية. قال: [(وإن ربكم ليس بأعور)]. وهذا يدل على أن صاحب العين الواحدة أعور، وأن الله تبارك وتعالى ليس بأعور. إذاً: هذا يثبت لله تبارك وتعالى عينين. قال: [(مكتوب بين عينيه -أي: المسيح الدجال -: كافر، يقرؤه كل مؤمن)] حتى وإن لم يكن قارئاً، أي: حتى الذي لا يحسن القراءة والكتابة سيقرأ كلمة كافر على جبهة المسيح الدجال، فأين العذر بعد ذلك؟ فأنت تعرف أنه كافر، وأنه المسيح الدجال فلماذا تتبعه؟

إثبات أن لله قدما أو رجلا

إثبات أن لله قدماً أو رجلاً قال: [عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد)] أي: الخلق والبعث الذين بعثهم الله تبارك وتعالى يلقون في النار، وهي تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، كلما ألقي فيها فوج طلبت المزيد. قال: [(حتى يضع عز وجل رجله أو قدمه فيها فتقول: قط قط)]. هذا فيه إثبات صفة القدم أو الرجل للمولى عز وجل، والحديث عند البخاري. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اختصمت الجنة والنار)]. يعني: احتجت الجنة والنار [(فقالت النار)]. وهل هناك نار تتكلم؟ نعم. الذي خلقها قادر على أن ينطقها، النار تتكلم، والجنة تتكلم، كما أن الموت يوم القيامة يتكلم، والموت مخلوق كما تعلمون: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] فالموت مخلوق والحياة مخلوقة، وكل مخلوق لابد أن يموت، وفي الحديث: (وإن الله تعالى يجعل يوم القيامة الموت على صورة كبش حتى يؤتى به فيذبح). يعني: الموت في نهاية الأمر يجعله الله في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار؛ لأن الموت آخر من يموت، فكل المخلوقات تموت على يد ملك الموت، حتى لا يبقى إلا ملك الموت، فيأمر المولى عز وجل الموت أن يميت ملك الموت، فإذا مات لا يبقى إلا الموت، فيصوره الله عز وجل ويخلقه في صورة كبش، فيقضي عليه بالموت فيموت فلا يبقى إلا الله عز وجل، وبعدها تقوم الساعة. قال: [(اختصمت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله عز وجل للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء وقال للجنة: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء، ولكل واحد منكم ملؤها -الجنة لها ملؤها والنار لها ملؤها- وإذا كان يوم القيامة لم يظلم الله أحداً من خلقه شيئاً ويلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الله قدمه فيها، فهناك تملأ، ويزوى بعضها إلى بعض -يعني: تنضم أركانها وأبعادها إلى بعض- وتقول: قط قط)] أي: كفى. والحديث كذلك أخرجه مسلم.

إثبات أن الله تعالى يضحك

إثبات أن الله تعالى يضحك قال: [عن أبي رزين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضحك ربنا تبارك وتعالى من قنوط عباده وقرب غيره -وهذا فيه إثبات لصفة الضحك- قال: قلت: يا رسول الله! أويضحك الرب؟ قال: نعم. لن نعدم من رب يضحك خيراً)] يعني: أملنا في الله عظيم، وهذا نص ضعيف من جهة الإسناد، لكن متنه تشهد له الرواية الثانية التي أخرجها البخاري، وهي من طريق أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة. قال: يقاتل هذا -الأول- في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيؤمن فيقاتل في سبيل الله فيستشهد)] فيدخل كذلك هو الجنة، فكلاهما يدخل الجنة. يعني: كأنه مؤمن وكافر، فالمؤمن يقاتل في سبيل الله فيقتله الكافر، فيدخل المؤمن الجنة، ثم يسلم بعد ذلك الكافر فيقاتل في سبيل الله فيقتل فيدخل كذلك الجنة، فإن الله تعالى يضحك إلى رجلين على هذا النحو، وهذا فيه إثبات صفة الضحك. وجاء [أن ابن عباس قال في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] قال: عن بلاء عظيم]. فعبر عن الساق بالبلاء العظيم والشدة والكرب. وهذا التفسير من ابن عباس لم يوافقه عليه أحد من أصحابه، وأنتم تعلمون أن قول الصاحب حجة إذا لم يكن له مخالف، فإذا خالفه جميع الأصحاب فالحجة في قولهم. كل الذي ذكرناه الآن من اليدين والعينين والقدم والساق والأصابع والصورة سنفرد لكل واحدة تباعاً في الدرس القادم بإذن الله محاضرة تامة كاملة، حتى نستوعب الأدلة التي وردت في كل صفة، وإذا كان هناك شبهة في بعض الأدلة أوضحناها بإذن الله تبارك تعالى اعتماداً واتكالاً على كلام أهل العلم عليهم رحمة الله. قال: [عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:65]، قال عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجه الله)]. وهذا إثبات لصفة الوجه. إن الإمام اللالكائي لم يرتب النصوص ترتيباً دقيقاً، فبعد أن يتكلم عن الوجه، يتكلم عن العين، ثم يتكلم عن الوجه مرة أخرى، ثم يتكلم عن اليد ثم عن الصورة ثم عن اليد مرة أخرى، والأصل أن يسرد كل النصوص الواردة في صفة تلو بعضها، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما أنه أراد أن يرتب بعد الجمع، فوافته المنية قبل أن يرتب، كما هو الشأن في كثير من أهل العلم، صنفوا كتباً وقبل أن يرتبوها وافتهم المنية، فبقيت كتبهم على هذا النحو، فهل يجوز لمن أتى بعدهم أن يرتبوها؟ A يجوز بشرط أن يُعلم أن هذا الترتيب من ترتيب فلان، كـ العلائي رتب كتاب ابن حبان على الأبواب الفقهية، فهو من حيث الكلم ومن حيث الأدلة والأسانيد من جمع ابن حبان، لكن لم يرتبه ابن حبان على هذا النحو الذي بين أيدينا، وإنما رتبه على نحو آخر، وترتيبه هذا كان فيه مشقة علينا حتى إن الحافظ ابن حجر قال: من أراد البحث في صحيح ابن حبان أضناه. لأنك ممكن قد تجد حديثاً في الوضوء وهو في نفس الوقت موجود في الجنائز، أو موجود في الحدود، فكان صحيح ابن حبان كتاباً عظيماً جداً في بابه، إلا أنه لم يرتب، فلما رتب عظمت به المصلحة.

مقتطفات من كلام السلف في إثبات صفات الله عز وجل

مقتطفات من كلام السلف في إثبات صفات الله عز وجل قال: [حدثني هشام بن عروة عن أبيه: جاءنا سائل فسأل بوجه الله. قال: فقام الزبير فعلاه بالدرة -يعني: ضربه بالدرة- فقال: أبوجه الله تسأل؟ ألا سألت بوجه الخلق]. يعني: لو أنك سألت بوجه الخلق كان فيه فسحة، لكن كونك سألت بوجه الله إذاً: ألزمتنا بأن نعطيك. وهذا يدل على أنهم يؤمنون بأن لله وجهاً. قال أشعب: [دخلت على القاسم بن محمد في حائط له وكان يبغضني في الله وأحبه فيه]. انظروا إلى الصراحة، أشعب دخل على القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: وكنت أحبه في الله؛ لأن القاسم مستقيم، لكن أشعب كان فيه انحراف. قال: وكنت أحبه في الله ويبغضني فيه، لكن بغض القاسم لـ أشعب لم يمنع أشعب أن يحبه في الله؛ وذلك لأنه على الاستقامة. [فقال: ما أدخلك علي؟ اخرج عني. قلت: أسألك بوجه الله لما جذذت لي عذقاً]. يعني: لو قطعت لي عنقوداً من العنب أو شيئاً من هذه الثمار، فإنني أسألك بوجه الله العظيم. [قال: يا غلام! خذ له عذقاً فإنه سأل بمسألة لا يفلح من رده]. وهذا فيه إثبات الوجه لله عز وجل. قال: [عن ابن عمر قال: احتجب من خلقه بأربع -أي: أن الله عز وجل احتجب من خلقه بأربع-: بنار وظلمة ونور -ولم يذكر الرابعة- وخلق أربعاً بيده: آدم والعرش والقلم وجنة عدن]. وأنتم تعلمون أنه تبارك وتعالى كتب التوراة بيده، فإما أن يقصد ابن عمر أن الله تعالى كتب التوراة بيده. أي: حيث أمسك الله تبارك وتعالى القلم بيده فكتب التوراة، أو أنه كتب التوراة بيده كيف شاء، والذي يترجح إلي الثاني دون الأول. قال: [(وقال لسائر خلقه: كن فكان)]. يعني: خلق الله تبارك وتعالى بيده أربعاً ثم قال لسائر خلقه: (كن) أمر، فكان. [قال عبد الله: خلق الله أربعاً بيده: العرش وآدم والقلم وعدْن، وقال لسائر خلقه: كن فكان]. وهذا طبعاً يوافق قول عبد الله بن عمر. وقال وكيع: [إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا]. لأن صفة الضحك صفة فعل، إذا شاء ضحك وإذا شاء لم يضحك، بخلاف صفة الذات، فالضحك ليست صفة ذات، وضحك المولى عز وجل ليس كضحكنا؛ لأننا لو قلنا بذلك لكان هذا يستلزم الفم والثغرين والأسنان على حسب حال الضحك من المخلوقات، فمنهم الذي يضحك فيبتسم في وقار، ومنهم الذي يضحك ويفتح فمه، فالمولى تبارك وتعالى لا يقاس بخلقه ولا يشبههم قط؛ بل نثبت له صفاته وأفعاله على الوجه اللائق به تبارك وتعالى. قال: [إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا]. أي: أن الضحك لا يثبت إلا بالسمع، ولا يثبت بالعقل؛ لأننا لم نر الله عز وجل، وصفة الفعل تثبت بالعقل والسمع تارة، وتثبت بالسمع تارة، فصفة الضحك تثبت بالسمع؛ لأننا لم نره تبارك وتعالى. قال: [نا بقية: قال لي الأوزاعي: يا أبا محمد! ما تقول في قوم يبغضون حديث نبيهم؟] يقصد حديث النبي عليه الصلاة والسلام المتعلق بالصفات. [قال: قلت: قوم سوء]. الذين يبغضون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوم سوء. [قال: ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بخلاف بدعته إلا أبغض الحديث]. وهذه علامة من علامات أهل البدع، أنك ما حدثته بآية ولا بحديث يخالف بدعته وهواه إلا أبغض الآية وأبغض الحديث وإن لم يظهر ذلك عليه، وإن لم يصرح لغيره ببغضه الآية والحديث، فصاحب الهوى إذا حدثته بآية تخالف هواه أو بحديث يخالف هواه تحير وتكلف الرد على الآية والرد على الحديث؛ لأنه يقدم هواه على المفهوم والمنقول. قال الفضل بن زياد: [سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة]. يعني: يجب الإيمان والتسليم المطلق لله عز وجل ولرسوله. وقال مخلد بن الحسين: [قال الأوزاعي: يا أبا محمد! إذا بلغك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حديثاً فلا تظنن غيره]. أي: فلا تعتقد غيره. [فإن محمداً عليه الصلاة والسلام كان مبلغاً عن ربه]. وإذا كان هو الذي يبلغ عن ربه فهو أعلم، وهذه البلاغات التي أبلغنا بها عليه الصلاة والسلام مصدرها الوحي، والله عز وجل أعلم بنفسه، يضحك، يغضب، يرضى، يسخط هو أعلم؛ لأنه يخبرنا عن نفسه التي لم نرها نحن تبارك وتعالى، فإذا كان الله عز وجل أثبت لنفسه الغضب فكيف أصرفه أنا، أو كيف لا أؤمن به؟ مع أن الذي أخبرني بهذا هو المولى تبارك وتعالى، فإذا أتاك الخبر عن الله وعن رسوله فآمن به ولا تعتقد غيره. وقال بقية: [ثنا الأوزاعي قال: كان الزهري ومكحول يقولان: أمروا الأحاديث كما جاءت].

الأسئلة

الأسئلة

اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الحياة الدنيا

اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الحياة الدنيا Q هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه؟ A هذه المسألة محل خلاف حتى بين السلف؛ ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: وهذه الفرعيات في الاعتقاد التي اختلف فيها السلف لا يبدع فيها المخالف. كأنه أراد أن يقول: إن اختلاف السلف في بعض مسائل الاعتقاد من الأمور السائغة والمعتبرة، والذي يترجح لدينا: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه، وإنما رأى نوراً؛ لأنه لما سئل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) أي: حجبني النور عن المولى عز وجل، فكيف أراه مع وجود هذا الحجاب؟

حكم دخول المرء الحمام وعلى رأسه رباط مكتوب عليه حديث نبوي أو آية

حكم دخول المرء الحمام وعلى رأسه رباط مكتوب عليه حديث نبوي أو آية Q ما حكم دخولي الحمام وعلى رأسي رباط مكتوب عليه حديث نبوي أو آية؟ A لا يجوز.

حكم دخول المرء الخلاء وعلى جسده وشم مكتوب فيه ذكر

حكم دخول المرء الخلاء وعلى جسده وشم مكتوب فيه ذكر Q ماذا تنصح من وشم على جسده: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وماذا يفعل عند دخول الخلاء؛ لأنه عجز عن إزالة هذا الوشم؟ A إذا كان عجز فلا شيء عليه.

حكم الصلاة باستحمام لم يتضمن نية الوضوء

حكم الصلاة باستحمام لم يتضمن نية الوضوء Q يسأل كثير من الأشخاص عن جواز الصلاة بعد الاستحمام دون نية الوضوء عند الاغتسال؟ A لا يجوز له أن يصلي؛ لأننا لو قلنا بقول بعض أهل العلم أن رفع الحدث الأكبر يرفع معه الأصغر وإن لم يباشر غسل الأعضاء؛ فإنهم يلتزمون أن يكون ذلك الاغتسال بنية رفع الحدث الأكبر والأصغر، فإذا نوى رفع الحدثين فله أن يصلي بهذا الوضوء. والذي يترجح لدي أن الترتيب كاد يكون واجباً من واجبات الوضوء، وأنا أعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام خالف الترتيب مرة، وهذه المخالفة ربما يكون لها تأويلات وصرف عن ظاهرها، ولو أخذنا بظاهرها لقلنا: إن الترتيب ليس واجباً، وإنما هو مستحب؛ لمداومة النبي عليه الصلاة والسلام عليه، وهو سنة مؤكدة من سنن الوضوء عنه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن الذي لم يباشر الوضوء فقد خالف النبي عليه الصلاة والسلام في الاغتسال، فإنه كان يغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يصب الماء عن يمينه ثم عن شماله، ثم يعمم بدنه بالماء. هذا صفة غسله، لكن لو افترضنا أنك دخلت في الماء بكليته دون هذا الترتيب وهذا الهدي فإن الجنابة ترتفع بالنية. يعني: إذا نوى رفع الجنابة ارتفعت بذلك، وكذلك إذا نوى رفع الحدثين أو رفع الجنابة وحدوث الوضوء كما نوى أن يصلي، وإذا لم ينو لا هذا ولا ذاك فإن الجنابة لا ترتفع. يعني: إذا أجنب رجل ودخل في الماء لا بنية رفع الجنابة، وإنما بنية التبرد فقط فإنه لا ترتفع الجنابة حتى وإن اغتسل، ومن باب أولى لا تصح صلاته بهذا الاستحمام، والله أعلم.

حكم أداء الصلوات أو أغلبها في البيت

حكم أداء الصلوات أو أغلبها في البيت Q يقول: إن لي أباً يصلي الصلوات أغلبها في البيت، وأنصحه مرة بعد أخرى، ولكنه يستمر في ذلك، فهل علي وزر إن تركت نصيحته في بعض الأحيان، فإنه يترك الصلاة في المسجد مع قدرته؟ A على أية حال هذا أمر يهون كثيراً عمن ترك الصلاة بالكلية، فإن الذي نعتقد من خلال الأدلة الواردة في الجماعة أن الجماعة سنة مؤكدة، وأذهب إلى عدم الوجوب، ولكن ليس معنى أن الجماعة سنة مؤكدة: أن يتركها المرء، فإن الجمهور الذين قالوا بأن الجماعة سنة مؤكدة لم يثبت أنهم تركوها مرة، ولكن من حيث ترتيب الحكم الشرعي هي ليست واجبة. وهذه المسألة نحن ذكرناها هنا في محاضرة كاملة لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وذكرنا فيها أربعة مذاهب لأهل العلم، وترجح لدينا في ذلك الوقت ما لم يكن راجحاً لدينا في قلوبنا؛ لأننا رجحنا في المحاضرة الوجوب. قلنا: إن الذي يترجح لدينا هو الوجوب؛ لما نرى من تفريط الناس وتفريط الإخوة في حضور الجماعة. فكل يرجح من باب المصلحة هذا الحكم، مع أن الذي كان يستقر في نفسي أنه ليس براجح، لكن دعت المصلحة الشرعية للمستمعين أن ألقيها بين ظهرانيهم وأنها واجبة. فلذلك لما اضطررت إلى ذكر ما أعتقد في القضية صراحة قلت: هي سنة مؤكدة. ولما سمعها مني من سمع تخلف عن الجماعة على اعتبار أنها سنة، ولا يأثم بتركها، وأنا في الحقيقة لم أندم على تصريحي بأنها سنة مؤكدة؛ لأن الذي يريد أن يفوت عن نفسه الخير لا تأس عليه ولا تحزن؛ لأن الخير بيد المرء أن يأخذ سبعاً وعشرين درجة في كل صلاة، ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام في الجنة. فالذي يريد أن يفوت هذا الخير على نفسه فأنا على يقين من أنه لن يفوت جنيهاً إذا دعي في الميكرفون: إن الإمام يوزع جنيهاً لكل من أتى المسجد، فأنا أؤكد أن النصارى سيأتون إلى الصلاة. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو دعي إلى مرماتين عظيمتين لأتاهما ولو حبواً). يعني: لو نادى المنادي: إننا سنوزع عظماً ليس لحماً، فإنك ستجد النساء والأطفال والرجال كلهم قد أتوا إلى المسجد، كل طوائف المجتمع جاءت المسجد من أجل أن تأخذ العظم! فما بالهم لا يفقهون أن صلاة الجماعة لها ثواب ودرجات في الجنة؟! لكن سبحان الله! لا يعقل هذا الفضل إلا العالمون، ويغفل عنه الغافلون، بل إن الله تبارك وتعالى يطمس على قلوبهم فلا يعقلون هذا الفضل؛ لأنهم لا يستحقونه، أما من تخلف عن الجماعة بعذر فلا شيء عليه، ومتى صلى فصلاته صحيحة.

صفة النفس لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة النفس لله عز وجل من سمات أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله، ومن تلك الصفات التي أثبتوها صفة النفس لله تعالى، وقد اختلف السلف والأئمة من أهل السنة في كونها صفة للذات الإلهية، أم أنها دلالة على الذات الإلهية، وكذلك اختلفوا في النَفَس فبعضهم جعله صفة، وبعضهم حمله على التنفيس، ولكل قول منها ما يعضده من الأدلة.

أدلة إثبات صفة النفس لله تعالى

أدلة إثبات صفة النفس لله تعالى إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فإن العقيدة هي أهم شيء في حياة المسلم، وأهم شيء في العقيدة هو أن تعتقد في ذات الإله تبارك وتعالى ما يجب له وما يستحيل عليه، وما يستحيل عليه هو ما لا يجوز نسبته إلى الله عز وجل، وهي جميع صفات النقص. وما يجب إثباته لله عز وجل هو جميع صفات الكمال التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى، وأثبتها له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومما أثبته الله تبارك وتعالى لنفسه وأثبته له رسوله الكريم: (صفة النفس). و Q هل لله نفس؟ A نعم. لله نفس؛ لأن هذه الصفة ثبتت في الكتاب وثبتت في السنة الصحيحة، فإذا ثبتت في الكتاب فلابد وأن نسلم؛ لأن الله تعالى أعلم بنفسه من غيره، وإذا جاءت على لسان رسوله، فلابد وأن نقر بأن النبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الخلق بربه، وأن نسلم له حتى وإن لم يكن ما قاله يتناسب مع عقولنا؛ لأن الله تبارك وتعالى فوق حد العقول، ولا يمكن لعقل أن يحيط بالله عز وجل؛ لا بأسمائه ولا صفاته ولا ذاته. فإذا كان عقلك يستجيز أن ذات الله تبارك وتعالى لا يمكن الإحاطة بها، فلم تقول: إنه لا يعقل أن يكون لله نفس أو يد أو عين أو ساق؟ لم تستبعد هذا وتستقرب ذاك والجميع واحد، والكلام في صفة النفس كالكلام في بقية الصفات؟ صفة النفس جاء ذكرها في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]. فهذه ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل -ويوجد غيرها- تثبت أن الله تبارك وتعالى نفساً. والنفس بإسكان الفاء؛ لأن لله تبارك وتعالى نفس بتحريك الفاء، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في ثنائه على الله عز وجل: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). فأثبت الحديث أن لله تعالى نفساً. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة وهو قطعة من حديث طويل قدسي: (قال الله عز وجل: وإذا ذكرني -أي: عبدي- في نفسه ذكرته في نفسي). وبهذه الأدلة يجب علينا أن نثبت أن لله تعالى نفساً. وبعض أهل العلم ادعى المشاكلة في الآية الكريمة: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] فقالوا: سبب المشاكلة أن الله تبارك وتعالى عبر بما هو في معقول العباد، وما هو في مفهومهم حتى يقرب إليهم المعنى، وليست النفس هنا حقيقة، ولكن الله عبر بشيء يعلمه المخاطب، وهذا باب المشاكلة أو المقابلة. يعني: ذكر النفس في مقابل النفس، ولكن النفس في البشر حقيقة، كما قال عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة:116]، ونفس البشر معلومة، والله تبارك وتعالى منزه عن النفس. لماذا تنزهون الله تبارك وتعالى عما أثبته هو لنفسه، وما أثبته له رسوله؟ أأنتم أعلم أم الله؟ أأنتم أعلم أم النبي عليه الصلاة والسلام؟ هذه دعوى غير واردة بل باطلة؛ لأن النصوص الأخرى كلها وردت دون مقابلة أو مشاكلة. أيضاً: ذكرت النفس في هذه الآية: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. هو من كلام عيسى عليه السلام، والله تبارك وتعالى إنما تكلم بهذا الكلام على لسان عيسى؛ فأين المشاكلة وأين المقابلة؟ أيضاً: أن الله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، فإذا كلمه عبد من عباده أو نبي من أنبيائه أو رسول من رسله فإنه يعلم ذلك حتى قبل أن يتكلم، فلا مشاكلة هنا ولا داعي للمقابلة. كذلك لو سلمنا جدلاً بأن الله تبارك وتعالى ساق هذا على سبيل المشاكلة والمقابلة -وهي دعوى عريضة لا دليل عليها- فهل ذكر النفس في الأدلة الأخرى والأحاديث الصحيحة الثابتة أيضاً جاء على سبيل المشاكلة والمقابلة؟ A لا. لأنه تعالى قال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]. أين المشاكلة هنا وأين المقابلة؟ والمقابلة: هي ذكر النص في مقابل نص، فقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} لم تذكر فيه إلا نفس واحدة وهي نفس الله تبارك وتعالى، فلابد من إثبات النفس لله عز وجل، وليس هناك ما يدعو إلى التأويل أو التحريف؛ إذ شأن النفس كشأن الصفات الخبرية الذاتية الكثيرة التي تعرضنا لمعظمها وسنتعرض لباقيها إن شاء الله تعالى.

خلاف أهل السنة في النفس هل هي الذات أم صفة للذات

خلاف أهل السنة في النفس هل هي الذات أم صفة للذات أهل السنة والجماعة يثبتون النفس لله تعالى، ولكن بعض أهل السنة قالوا: النفس هي الذات، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وإن كان هذا يعد تأويلاً، إما أن تثبت أن الله تبارك وتعالى ذات له نفس، وإما أن تثبت أن النفس هي بذاتها ذات المولى تبارك وتعالى، فيكون الله تبارك وتعالى ذات بلا نفس، أو نفس الله عز وجل هي ذاته المتصفة بالصفات ومنها صفة النفس. يعني: أمامك تأويلات ثلاثة: إما أن الله تعالى ذات بلا نفس. وهذا كلام باطل، وهو كلام المتأولة. وإما أن الله تعالى له نفس زائدة على الذات. بمعنى أنها صفة لازمة للذات، فيكون المولى تبارك وتعالى ذاته متصفة بالصفات، وهذا لا بأس به، بل هو أرجح الأقوال في القضية. والذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية: أن النفس هي ذات الإله تبارك وتعالى. وهنا إشكال: ماذا يقصد ابن تيمية بهذا الترجيح؟ هل يقصد أن النفس هي ذات الإله الذي لم يتصف بأن له نفس، أو أنها ذات الإله المتصف بالصفات ولها النفس؟ الظن أن ابن تيمية عليه رحمة الله مال إلى تفسير النفس بأنها الذات المتصفة بالصفات ومنها صفة النفس، وهذا من باب إحسان الظن بكبير وشيخ أهل السنة في زمانه. أما أهل السنة فإنهم يثبتون صفة النفس لله تعالى، ونفسه هي ذاته عز وجل، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، فقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. والدليل من السنة: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي). وحديث عائشة رضي الله عنها: (وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). وحديث أبي هريرة: (فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفس الله: (ونفسه هي ذاته المقدسة). والذي يترجح لدي أنه تأويل. وقال أيضاً في الفتاوى: (ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه). يعني: تقول: نفس محمد. لو أنك قلت: أنا كلمت محمد، أقول لك: هل كلمته نفسه؟ تقول: نعم. كلمته نفسه. يعني: تقصد ذاته. ففي لغة العرب النفس والذات بمعنى واحد، وهذا الذي حدا بكثير من أهل العلم من السلف أن يقولوا: إن نفس الله تعالى هي ذاته، كما يقال: رأيت زيداً نفسه وعينه، وقد قال الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}. وفي الحديث أنه قال لأم المؤمنين: (لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته). وفي الحديث القدسي: (وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). فهذه المواضع المراد بها عند جمهور العلماء: الله نفسه. يعني: يفسرون النفس بأنها ذات الإله، ولكني كنت قد نبهت على قاعدة عند سلفنا رضي الله تعالى عنهم: (أنهم يثبتون الصفة ولازمها)، ولكن كلماتهم أحياناً تطلق على الصفة ويراد بها الصفة واللازم، وأحياناً يطلقون اللازم ويريدون إيجاد الصفة قبل اللازم، فأظن أن شيخ الإسلام ابن تيمية إنما عنى بأن النفس هي الذات -أي: المتصفة بالصفات- ومنها صفة النفس. قال: (فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: ((اللَّهُ نَفْسَهُ)) التي هي ذاته المتصفة بصفاته). جمهور العلماء يطلقون النفس على الذات، ويقولون: النفس والذات بمعنى واحد، ولكنها النفس التي هي ذاته المتصفة بصفاته، وليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات. يعني: ذات الله تبارك وتعالى متصفة بصفات لازمة لهذه الذات لا تنفك عنه، وهي المراد بها صفة للذات. وهذا الكلام هو الذي أتحرج منه أشد التحرج. قال: (ولا المراد بها صفة للذات، بل هي صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، هذه الطائفة هي التي على الحق المبين؛ أن النفس صفة لله تبارك وتعالى، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة)، لا. أي: أن ذات الله تبارك وتعالى غير متصفة بأي صفة، مجردة عن الصفات وكلا القولين خطأ، بل أقول: إن أحد هذين القولين صواب والثاني خطأ. قال الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}. وقوله جل ذكره: ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)). وقال القاسمي في التفسير: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: ذاته المقدسة. يذهب في هذا المذهب إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية.

نقض مذهب المبتدعة في الصفات وبيان مذهب السلف في الإثبات والنفي

نقض مذهب المبتدعة في الصفات وبيان مذهب السلف في الإثبات والنفي أيضاً: من السلف من يعد النفس صفة لله عز وجل. وهذا هو الذي يترجح لدي، ومنهم الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد حيث قال في أوله: (فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه). يعني: أول صفة ذكرها إمام الأئمة في كتاب التوحيد هي صفة النفس لله عز وجل. ثم قال: (جل ربنا عن أن تكون نفسه كنفس خلقه، وعز أن يكون عدماً لا نفس له). يريد أن يقول: نثبت له الصفات بغير تمثيل، وننزهه بغير تعطيل، وهذا هو منهج السلف: إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. كيف ذلك؟ أنا أعلم من نفسي أن لي نفساً، وأعلم أن هذه النفس قد اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: هي الروح. ومنهم من قال: هي الدم. ومنهم من قال: هي النفس الذي يتنفسه المرء. وغير ذلك مما يقع في أودية الحد والتعريف لنفس الإنسان. أنا أثبت لنفسي النفس؛ لأن الله تبارك وتعالى جبلني وخلقني عليها، وأثبت لله عز وجل النفس، ولكنها نفس تختلف عن نفسي. لماذا؟ لأن ذات الله تختلف عن ذاتي، ولما كانت النفس من صفات الله عز وجل، والذات غيب عني، وأنا لا أعلم كنه الذات ولا كيفية الذات، فلابد وأنني سأسكت عن الخوض في الصفات؛ لأن الذات إذا كانت علية جليلة سامية فلابد وأن الصفات تابعة لها، ومنها صفة النفس، فإن الله تعالى له نفس، ولابد وأنها تختلف عن نفسي. كيف هي؟ الله أعلم بنفسه. ولا نعطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته، فنقول: لا نفس له. لأن هذا نفي لما أثبته الله تعالى في كتابه، وما أثبته له رسوله في سنته. فلو قلت: إن لله نفساً كنفسي، جعلت الله تبارك وتعالى كخلقه. وهذا حرام. وإذا قلت: إنه ليس هناك نفس لله، سلبت الذات العلية الإلهية صفاتها التي أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وهو أعلم بنفسه، ورسوله أعلم به. فحيث أردت إثبات ما أثبته الله لنفسه احذر من الوقوع في أن أقول: إن له نفساً كنفسي. لأن هذا تمثيل وهو حرام. وإذا أردت أن أنزه الله عز وجل فلا أنزهه على مذهب المعطلة النفاة الذين ذهبوا بزعمهم إلى تنزيه الإله، فقالوا: ذات بلا صفات. لماذا؟ قالوا: لأن إثبات هذه الصفات يستلزم المشابهة. ففروا من التمثيل والمشابهة فوقعوا في التعطيل، وكلاهما شر. أما مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته فوسط بين الممثلة وبين المعطلة، فقد أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، ولم يخوضوا في معرفة كيفيته، بل أثبتوه على الوجه الذي يليق بعظمة الله تبارك وتعالى وجلاله وكماله. وهم يقولون: له نفس، ولكن نحن لا نعلم كيفيتها؛ لأن الذات غيب عنا، ولا نعلم كيفية الذات، وإذا كنا لا نعلم كيفية الذات، فلن نعلم كيفية الصفات. ولكن انظر مرة ثانية إلى كلام ابن خزيمة عليه رحمة الله حيث يقول: (فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نفسه كنفس خلقه -رد للتشبيه والتمثيل- وعز ربنا أن يكون عدماً لا نفس له). وهذا رد على المعطلة النفاة. واعلم أن هناك بعض الحانقين الحاسدين في زمن ابن خزيمة سموا كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة: كتاب الشرك، مع أنه ينضح توحيداً على مذهب السلف. ابن خزيمة عليه رحمة الله ذكر الذهبي في ترجمته أنه كان ممن يخضب. وهذا ربما يقال بأنه لا يحتاج إلى ذكر، والواقع غير هذا؛ لأن في ترجمة أي راوٍ من الرواة عندما يذكر مثل ذلك الذي يُرى أنه لا قيمة له، كان لذكره سبب، وقيمته كامنة في اتباع ذلك الراوي لهدي النبي عليه الصلاة والسلام ومنابذته في هذا الهدي لليهود والنصارى وغيرهم، ولذلك ابن خزيمة لما تكلم بهذا الكلام، لابد وأنه يرد به على بقية الفرق الضالة عن سواء السبيل، واختلفوا في دينهم، حتى اختلفوا في ذات الإله تبارك وتعالى. وللشيخ الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله كتاب اسمه: (كيد الشيطان لنفسه قبل خلق آدم عليه السلام وذكر الفرق الضالة)، يذكر فيه كيف طرأ الفساد على هذه الأمة المباركة، ويذكر تسلسلاً لا تكاد تشبع منه حتى تقرأ الكتاب مرات ومرات، يشنع فيه على اليهود تارة وعلى المجوس تارة وعلى النصارى أخرى، ثم يشنع أيما تشنيع على الفرق الضالة الذين انتسبوا للإسلام واختلفوا فيه. ومما قاله: (ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن التشبه باليهود والنصارى، فإن النصارى اختلفوا في ربهم وفي إلههم، فلو سألتهم عن ربهم لكان للرجل رأي، وللمرأة رأي، وللأولاد آراء، وللخادم عندهم رأي حتى أنك تطرح عليهم المسألة وهم عشرة فتخرج منهم بإحدى عشر رأياً). اختلاف عظيم جداً في ربهم، ولكن الدليل على أن أهل السنة والجماعة هم أعلم الناس بالله عز وجل، وأنهم أهل الإيمان الحقيقي: أنهم لم يختلفوا في ربهم، لا في ذاته ولا أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله، كلامهم واحد. ولو أخذت هذا الكلام لـ ابن خزيمة عليه رحمة الله وعرضته على كلام أحمد لوجدته يتطابق تمام المطابقة معه، ومع كلام السلف كلهم، وك

تأويلات النفس

تأويلات النفس الشيخ مرعي الكرمي له كتاب: (أقاويل الثقات) وقد أصل لنفسه أصولاً وقعد قواعد ينبغي أن يخالف فيها، من هذه القواعد: أنه عد آيات صفات لله عز وجل من المتشابهات، وليس الأمر كذلك، والمحكم والمتشابه في صفات الله تبارك وتعالى له محاضرة خاصة. قال: (ومن المتشابه: النفس). وليس الأمر كما يقول. بل هي من المحكمات، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقوله عز وجل: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). قال أهل التأويل كما ذكر ذلك البيهقي -وهو أشعري المعتقد- النفس في كلام العرب على وجوه. يعني: عند إطلاق كلمة النفس في كلام العرب لها معاني. قال: نفس متفرقة مجسمة مروحة -لها روح- ومنها مجسمة غير مروحة، تعالى الله عن هذين. وهو يريد أن ينزه الله تبارك وتعالى عن هاتين النفسين. قال: ونفس بمعنى إثبات الذات. يعني: نفس بمعنى الذات، وعليه فيقال في الله سبحانه: إنه نفس. يعني: فسر النفس بالذات، لا أن له نفساً منفوسة أو جسماً مروحاً، وقد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. أي: تعلم ما أخفيه في نفسي ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك، ففسر النفس بالعلم، وهذا تأويل آخر: أن النفس تفسر بالعلم. وهذا كلام بعيد جداً؛ لأن العلم من لوازم النفس وليس هو النفس نفسها. وقوله: (فِي نَفْسِكَ) للمشاكلة. وقد قلنا: إن هذا الكلام مردود؛ لأن قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) إن كان ورد على سبيل المشاكلة -أي: مقابلة النفس بالنفس- فإن النفس قد ذكرت في غير ما آية وحديث بغير مقابلة ولا مشاكلة. قال: والمشاكلة وإن ساغت هنا لا تكون في غيره. ومثله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). أي: حيث لا يعلم به أحد ولا يسأله عليه. وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، أي: ويحذركم الله إياه. أي ذاته، ففسر النفس بالذات. وقال السهيلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد. وهذا كلام في غاية الخطورة؛ لأنه سيثبت الذات المجردة عن الصفات -يعني يريد أن يقول: النفس هذه ليست صفة زائدة ثابتة لله تعالى- وقد استعمل من لفظها النفاسة والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه تعالى. وقال ابن اللبان: أولها العلماء بتأويلات، منها: أن النفس عبر بها عن الذات. قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة لكن تعدي الفعل إليها بـ (في) المفيدة للظرفية محال في حق الله عز وجل. وهذا إبطال لذاك التأويل السابق. وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله عليه الصلاة والسلام: (إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن). قال: أي تنفيسه الكرب. فعبر عن نفس الله عز وجل بالتنفيس وتفريج الكربات. وهذا بلا شك أمر بعيد جداً، وقد ظهر فيما مر أن النفس تطلق على الله مراداً بها الذات المتصفة بالصفات. ومنهم من قال: إن إطلاق صفة النفس على الله عز وجل يلزم من ذلك أن يكون الله تعالى شخص، ولا حرج في كون الله تبارك وتعالى شخص والأدلة قد وردت بإثبات أن الله تعالى شخص كما في حديث: (لا شخص أغير من الله). فلما علموا ذلك نكصوا على أعقابهم يؤولون الشخص مرة أخرى، يعني: هم ظنوا أولاً أن أهل السنة لا يوافقونهم على هذا الطرح بأن إثبات صفة النفس لله عز وجل يستلزم أنه شخص، فظنوا أن أهل السنة والجماعة يفزعون من هذه التسمية ويرفضونها، ففوجئوا بأن أهل السنة يقولون: وما المانع أن يوصف الله تعالى بأنه شخص وقد جاءت الأدلة بإثبات ذلك ومنها قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: (لا شخص أغير من الله)، (لا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين). (لا شخص أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة). وهذا دليل يثبت أن الله تعالى شخص. والإشكال أنك تتوهم في ذهنك شيء عن الله، ثم تنزل الله تبارك وتعالى منزلة ما تعرفه من نفسك، وهذا حرام ولا يجوز. لما تكلمنا عن اليد استبشع بعض السامعين أن لله يد، مع أن الله قد أثبتها لنفسه، ولما تكلمنا عن العينين استبشع بعض السامعين أن لله عينين. ما البشاعة في ذلك؟ البشاعة عندك أنت، لما وضعت في تصورك ومخيلتك أنك تثبت لله تبارك وتعالى صفة كصفتك وتظن عند سماعها بأن الله تعالى متصف بما خلقك أنت عليه، وهذا هو الذي لا يجوز، ولا ينبغي أن يخطر ببالك. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: إطلاق الشخص في صفة الله غير جائز؛ لأن الشخص لا يكو

ذكر من أثبت من العلماء أن النفس صفة للذات الإلهية

ذكر من أثبت من العلماء أن النفس صفة للذات الإلهية السلف أهل الحق يثبتون النفس لله سبحانه، ويسكتون عما وراءه من الخوض في حقيقتها أو كيفيتها، مادام الله تبارك وتعالى أثبت النفس لنفسه فما المانع أن أثبتها وأكف عن الخوض في الكيفية كما كففت عن بقية الصفات؟ وينزهون الله عن مشابهة نفسه بأنفس المخلوقين، كما لا يقتضي عندهم أن يكون سبحانه مركباً في نفس وبدن تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وقد وردت الآيات والأحاديث الدالة على إثبات هذه الصفة لله تعالى، كما قال الحافظ عبد الغني المقدسي وقد تقدم ذكر ذلك. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فكتبه على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي). فما جوزه النووي رحمه الله من التأويل مردود مخالف لمنهج السلف، أما ما ذكره أولاً من أن المراد بالنفس الذات فله وجه في العربية، فإن النفس تأتي في كلامهم بمعنى الذات كما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه حمل النصوص التي فيها إثبات هذه الصفة لله عز وجل. بينما ذكر غيره هذه النصوص مثبتاً بها أن النفس صفة لله تعالى يظهر ذلك من صنيع ابن خزيمة فإنه قال: باب: (ذكر البيان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات النفس لله). ثم حشد النصوص في ذلك، ثم قال: (فالله جل وعلا أثبت في آي من كتابه أن له نفساً، وكذلك قد بين على لسان نبيه أن له نفساً، وكفرت الجهمية بهذه الآي وهذه السنة، وزعم بعض جهلتهم: أن الله تعالى إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه، وزعم أن نفسه غيره -أي: زائدة- كما خلق غيره، وهذا لا يتوهمه ذو لب وعلم فضلاً عن أن يتكلم به). وقد كتب الله الرحمة أفيتوهم مسلم أن الله كتب على غيره الرحمة؟ يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، فإذا كانت النفس بمعنى الغير وبمعنى الخلق، فيكون المعنى: ويحذركم الله غيره، فهل يستقيم المعنى هكذا؟ A لا. قال: (وحذر الله العباد نفسه، أفيحل لمسلم أن يقول: إن الله حذر العباد غيره؟ أو يتأول قوله لكليمه موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] إذا كان المقصود بالنفس الغير أو الخلق فهل يقال: واصطنعتك لغيري من المخلوقين؟ A لا. ولا يستقيم هذا المعنى. أو يقول: أراد الروح لله بقوله: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]. أي: ولا أعلم ما في غيرك. هذا ما لا يتوهمه مسلم ولا يقوله إلا كل معطل كافر انتهى كلامه. وإلى أنها صفة للذات ذهب أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه (اعتقاد التوحيد)، فقد نقل عنه ابن تيمية عقيدته، ومما فيها: إثبات النفس لله تعالى، فقال بعد أن أورد النصوص من الكتاب والسنة في إثبات النفس: فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. يعني: نفس ليست كأنفس المخلوقين. ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صديق حسن خان: ومما نطق به القرآن وصح به النقل من الصفات: النفس. وسرد الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وهذا هو الصواب الموافق لمنهج السلف. وخلاصة الأمر: أننا لابد وأن نثبت لله تبارك وتعالى نفساً كما أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله الكريم، وأن هذه النفس هي صفة لله تبارك وتعالى. ويحتمل -وهو بعيد في الشرع لا في لغة العرب-: أن تكون النفس هي الذات، فإن كانت النفس هي الذات في المخلوقين، فإن الخالق لا يقاس على المخلوقين، فإن نفسه صفة لازمة لذاته، وهي صفة ذاتية خبرية قد وردت في الأخبار والآثار.

إثبات صفة النفس لله تعالى

إثبات صفة النَفَس لله تعالى صفة النَفَس لله عز وجل جاء فيها حديث سلمة بن نفيل السكوني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مول ظهره إلى اليمن: (إن لأجد نَفَس الرحمن من هنا). ولم يقل: نَفْس الرحمن. رواه الطبراني والبزار والبخاري في التاريخ الكبير والبيهقي في الأسماء والصفات، وأسانيده صحيحة. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن). وشيخنا الألباني حفظه الله حكم على هذا اللفظة: (نفس الرحمن) بالشذوذ والنكارة، وهو الوحيد الذي تفرد بتضعيف هذه الزيادة. ولا أتصور أن معه الحق في ذلك حفظه الله، فهو مجتهد عظيم، ولكنه خالف العلماء سلفاً وخلفاً في تضعيف هذه اللفظة، وللحديث شواهد على فرض ضعف هذه الرواية التي تكلم عنها شيخنا، وهي حديث أبي هريرة في المسند، حتى وإن أثبت أنها ضعيفة، فإنما يشهد لها حديث سلمة بن نفيل السكوني، وكذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه موقوفاً عليه: (لا تسبوا الريح؛ فإنها من نفس الرحمن تبارك وتعالى). ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح، بل قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: بل صحيح على شرط البخاري فقط. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). قال الأزهري في تهذيب اللغة بعد أن ذكر هذا الحديث: (أجد نفس ربكم من قبل اليمن). قال: أجد تنفيس ربكم عنكم. أي: تفريج ربكم، فأول النفس بالتنفيس وتفريج الكربات؛ لأن الله جل وعز نصرهم بهم، وأيدهم برجالهم. وكذلك قوله: (الريح من نفس الرحمن). أي: من تنفيس الله بها عن المكروبين، وتفريجه عن الملهوفين انتهى كلامه. وقال في القاموس المحيط: وفي قوله: (ولا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن)، (وأجد نفس ربكم من قبل اليمن)، قال: هو اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من نفس تنفيساً ونفساً. أي: فرج تفريجاً. وهو واقع في نفس التأويل أيضاً. قال أبو يعلى الفراء في إبطال التأويلات بعد أن ذكر حديث: (الريح من نفس الرحمن). قال: اعلم أنا شيخنا أبا عبد الله -وهو أحمد بن حنبل - ذكر هذا الحديث في كتابه -أي: في مسنده- وامتنع أن يكون على ظاهره في أن الريح صفة ترجع إلى الذات، والأمر على ما قاله. ويكون معناه: أن الريح مما يفرج الله عز وجل بها عن المكروب والمغموم، فيكون معنى النفس بمعنى التنفيس، وذلك معروف في قولهم: نفست عن فلان. أي: فرجت عنه، وكلمت زيداً في التنفيس عن غريمه. أي: في أن يفرج وأن يحط عن غريمه الدين. ويقال: نفس الله عن فلان كربه. أي: فرج عنه. وروي في الخبر: (من نفس عن مكروب كربة، نفس الله عنه كربة يوم القيامة). وفي الخبر: أن الله فرج عن نبيه بالريح يوم الأحزاب، فقال سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]. وإنما وجب حمل هذا الخبر على هذا. أي: حمل خبر النَفَس على التنفيس، ولم يجز تأويل غيره من الأخبار. يريد أن يقول: إن الخبر هذا بالذات يجوز تأويله، لأنه قد روي في الخبر ما يدل على ذلك؛ وذلك أنه قال عن الريح: (فإذا رأيتموها فقولوا: اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به). فإذا كانت الريح من نفس الرحمن تبارك وتعالى، وليست من تنفيس الكربات فيكيف نستعيذ بالله تبارك وتعالى من شر الريح، ومن شر ما تحمل، ومن شر ما فيها وما أرسلت به؟! هذا لا يليق بالله عز وجل، وهذا يقتضي أن فيها شراً، وأنها مرسلة. قال: وهذه صفات المحدثات -أي: صفات المخلوقات- وفي النفس شيء من هذا الكلام. الله تبارك وتعالى قد ثبت في غير ما دليل أنه يضحك، يأتي، يسخط، يغضب، ينزل إلى السماء الدنيا. وعند إطلاق هذه الأوصاف على المخلوقين فإنها محدثة مخلوقة، ونحن نعلم أن الخير والشر من الله عز وجل، ولا يكون في الكون إلا ما أراد، والريح مخلوقة بدليل أنها تسكن تارة وتهيج تارات أخرى، فلما قلنا: بأن الريح من نفس الرحمن. أي: أن الله تبارك وتعالى له نفس من آثار هذه الصفة الله تبارك وتعالى يخلق الرياح التي تحمل الخير تارة، والتي تحمل الشر تارة أخرى. ما المانع أن نؤمن بأن لله تعالى نفساً، وأن الله تبارك وتعالى يجعل من هذه النفس الرياح التي تحمل الخير والشر، وإن كانت محدثة فإن إحداث ال

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما يجب على المرأة من الصلوات إذا طهرت قبل أو بعد الغروب

بيان ما يجب على المرأة من الصلوات إذا طهرت قبل أو بعد الغروب Q نرجو بيان الصلاة التي تجب على المرأة بعد أن تطهر من الحيض؛ علماً بأن الصلاة في كتاب فتاوى المرأة -والفتوى للشيخ ابن باز -: إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس وجب عليها صلاة الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر وجب عليها صلاة المغرب والعشاء؟ A هذا هو الكلام الصحيح، وعليه جمهور أهل العلم.

حكم الفرق التي تخالف أهل السنة

حكم الفرق التي تخالف أهل السنة Q الفرق التي لا تتفق مع السلف، مثل الأشاعرة والمنهج الذي ينشأ عليه تلاميذ الأزهر -مثلاً- ما جزاء هؤلاء أمام الله؟ وهل الذي يسير على هذا المنهج يؤدي به ذلك للكفر بالله؟ A ليس من الضروري أن نقول لك: إن هذا يؤدي إلى الكفر بالله من أجل ألا تمشي وراءه. وقوله عليه الصلاة والسلام: (كلهم في النار إلا واحدة) لا يلزم منه الخلود في النار، بل يلزم منه المكث الطويل للمفارقة بين المتبع والمبتدع. ولو قلنا: بأن الفرق الضالة التي خالفت في أسماء والله وصفاته في النار لا نحكم عليها بالخلود؛ لأنه لا يخلد فيها إلا كافر، لكن اعلم أننا عندما نقول: هذه فرق ضالة. هي بالفعل ضالة. لماذا؟ لأنها ضلت السبيل، وضلت عما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، لكن هل ضلوا بعناد وجحود؟ لا يمكن، إلا إذا كان صاحب هوى وصاحب انحراف، مثل عبد الله بن سبأ الذي قال: إن علياً هو الله، أو مثل الشيعة الذين يتقربون إلى الله بسب أبي بكر وعمر وعثمان، وتكفير الثلاثة، بل وتكفير معظم الصحابة إلا عدد قليل منهم. وقولهم: إن القرآن الذين بين أيدينا ليس هو كلام الله ولا كتاب الله، وأن كتاب الله عز وجل يبلغ ثلاثة أضعاف هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وأنه موجود محفوظ مع المهدي المنتظر المزعوم. وأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى علياً بهذا الكتاب، وعلي أخفاه تقية، ثم أعطاه فاطمة، وفاطمة أعطته لمن بعدها وغير ذلك كلام كله خبل. أنا أريد أن أقول لك: هناك تأويل سائغ وهناك تأويل غير سائغ وغير معتبر، ولذلك عندما تقرأ لأصحاب الفرق الضالة في كتاب ابن الجوزي المذكور آنفاً تجده يقول: ولقد بلغ أقوام من أهل الضلال مبلغاً جعلهم يقولون: إن الله تعالى شخص جميل، ومنهم من صرح بذلك فقال: إن الله تعالى إنسان لطيف، فأثبتوا له ما هو من صفات المخلوقين، من أن الله تبارك وتعالى يأكل ويشرب ويتغوط وينكح ويلد، وهذا بلا شك كفر صريح يصادم القرآن الكريم. إذا علمت هذا فلابد وأنك ستقدر موقف المعتزلة في مسألة خلق القرآن الكريم، المعتزلة قالوا: إن القرآن مخلوق وهو كلام الله. يعني: وافقوا أهل السنة بأن القرآن كلام الله، لكنهم قالوا: إنه مخلوق. وأهل السنة يقولون: هو كلام الله غير مخلوق. ومن قال: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأن كل مخلوق حادث، وكل حادث لابد وأن يطرأ عليه الفناء. أما المعتزلة فقالوا: لا يلزم من ذلك القول بالذات، وقامت الدنيا ولم تقعد في زمن الدولة العباسية في الصدر الأول في القرن الثالث الهجري وعذبوا أحمد بن حنبل ومن معه لرده على المعتزلة. لو أني سألت نفسي سؤالاً: إن هذه القضية متعلقة بذات الإله، وليست لها علاقة بالدنيا ولا بالسلطان ولا بالمال ولا بالأبناء ولا بالزوجات، بل ولا حتى بالكرسي والعرش، حتى ندعي بأنهم عندما دخلت السياسية في هذه القضية كانوا يقصدون بذلك المحافظة على كراسيهم وعلى مناصبهم ودولتهم، فهي قضية عقدية بحتة عند المعتزلة، ولابد أن أحكم بأن المعتزلة كانوا يريدون بهذا المذهب وجه الله عز وجل، فإن المعتزلة حين أحدثوا هذا المذهب الباطل لم يعلموا بأنه الباطل الذي ليس بعده بطلان، وأنه أفسد الفساد، ولكنهم ذهبوا هذا المذهب وفي ظنهم واجتهادهم أن هذا دين الله عز وجل، ومن أجل ذلك قاموا على أهل السنة فضربوهم وآذوهم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الكلام في الله عز وجل حادث، وأحمد بن حنبل لا يقول بأنه حادث، حتى قامت الحجة واستقر الأمر، ومَنَّ الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بظهور أحمد بن حنبل ومن معه، لكن لابد أن أوضح بأن الدولة العباسية في ذلك الزمان كان يهمها أن ترعى دين الله عز وجل، لا ترعى دنياها ولو أفسدت الدنيا والدين كمن يفتي بحل الربا، بل أصبح الآن حلالاً بقانون وبقرار. أيعقل أنه لا يعرف أنه هذا ليس حلالاً؟ يعرف، لكن هذا كرسي وسلطان وأموال تدفع شهرياً فأصبح معلوماً لكل ذي عينين ولمن كان له لب أن هذه الفتوى فتوى مأجورة مفصلة، وليست فتوى دين أبداً. ومعظم الفتاوى التي على هذا النحو ليست ديناً، حتى الحراس والزراع في أراضيهم يعلمون هذا؛ لأنه يصدمهم فيما تربوا عليه ونشأوا وأنت أبوك الفلاح الذي يحسن كتابة اسمه يعلم أن التعامل مع البنوك ربا. لماذا؟ لظهور العلم وانتشاره. تأتي وتقول: أين العمل بهذه الفتوى؟ سأقول لك: إنك صاحب هوى، أنت كذاب، أنت متبع لهواك عندما تقول: أضعها في رقبة عالم وأخرج منها سالم. أما المعتزلة عندما أخطئوا فما كانوا يقصدون الخطأ، ولم يكن من وراء خطئهم مصلحة لهم في قيام دولتهم، وإنما هو الدين الذي حرصت الدولة في ذلك الوقت على بيانه وظهوره على الدين كله، ولكنهم في هذا الاجتهاد أخطئوا، ولما انتشرت هذه البدعة وماجت في الأرض شرقاً وغرباً كان لزاما

حكم هجران المداوم على المعاصي بعد نصحه

حكم هجران المداوم على المعاصي بعد نصحه Q لي ابنة أخت عمرها تسع عشرة سنة لا تصلي ومداومة على التبرج والمشاهدة للتلفزيون وسماع الأغاني واقتناء المجلات الخليعة، ولي أم كلما أنكرت هذا غضبت علي ودعت علي وصارت مشكلة، علماً بأن ابنة أختي تعيش معنا، وأن الآن لا أخاطبها إطلاقاً ولا أكلمها منذ شهور، وأعتني بنصح أمي وأختي؟ A الصحيح أن تداومي على نصيحتها وأن تصلوا لله عز وجل في الثلث الأخير من الليل وتدعو لها بالصلاح والفلاح والرشد وغير ذلك، ولا تملي من نصحها بالليل والنهار، فإما أن تقبل وإما أن تخرج من البيت.

حكم التوسل بالأولياء والصالحين

حكم التوسل بالأولياء والصالحين Q أثر عمر بن الخطاب في الاستسقاء: كنا نستسقي بنبينا صلى الله عليه وسلم واليوم نستسقي بـ العباس عم نبينا، فهل يدل على جواز التوسل بالأولياء؟ A لا، وإنما التوسل يكون بدعاء الصالحين وبالعمل الصالح الذي يعمله المرء، ويكون بالله تعالى وأسمائه وصفاته، أما التوسل بذوات المخلوقين فلا يجوز قط.

حكم إحداث قول جديد لم يرد عن السلف

حكم إحداث قول جديد لم يرد عن السلف Q هل يجوز لنا أن ننشئ قولاً جديداً لم يأت به أحد من السلف كقولكم في أمر النفس؟ A لا، لا يجوز. يعني: أنت تريد أن ترد علي وتقول: مادام السلف أجمعوا أن النفس هي التنفيس، فلماذا تتحرج منها؟ أنا أقول لك لماذا أتحرج منها: لأن القضية ليس فيها إجماع، وأن لم آت برأي ثالث، بل بعض السلف -وهم قلة بلا شك- أثبتوا النَفَس لله عز وجل، على ما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، وما الحرج أن أتبع ولو واحداً من أهل العلم في إثبات هذا، وأن هذا الذي يترجح لدي، ورأيي هذا ليس رأياً ثالثاً، وإنما هو ترجيح لأحد الرأيين في المسألة. والله أعلم.

حكم أكل الجلالة من الدجاج

حكم أكل الجلالة من الدجاج Q سمعنا أن بعض الدجاج في القرى أكلها لا يجوز وتدخل في حكم الجلالة، فهل هذا حديث، وهل هذا صحيح أم لا؟ A في الحقيقة هذه مسألة محدثة لم تكن معروفة في الماضي، إنما الجلالة هي التي ترعى وتأكل القاذورات، ويتغير لحمها عن لحوم مثيلاتها، والجلالة نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن أكلها حتى تحبس ثلاثاً أو أكثر من ذلك لكي يتغير لحمها. يعني: تأكل طعاماً جيداً نظيفاً نقياً طاهراً حتى يتغير لحمها ودمها فحينئذ يجوز أكلها. لكن في الحقيقة كون هذه فراخ الدجاج جلالة من عدمه أمر ليس محل اتفاق بين أهل العلم، وكثير ممن يربون الدواجن في مزارعهم يثبتون أن هذه ليست جلالة، وأن الطعام الذي يأتون به طعام نقي جيد وطاهر، أما قول القائلين بأن في الطعام نسبة دم، فالأطباء يقولون: إن نسبة الدم عبارة عن (1%) فقط بالنسبة للطعام الكلي، وهذه النسبة لا يتعلق بها تحريم ولا كراهة. يعني: على فرض صحة قولهم بأن الطعام فيه نسبة (1%) دم، فنسبة (1%) إلى (99%) لا يمكن أن يتعلق بهذه النسبة حرمة ولا كراهة. والله تعالى أعلم.

حكم المكره على القتل والزنا

حكم المكره على القتل والزنا Q عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وذكر الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث أنه يستثنى من ذلك الإكراه على الزنا والقتل فلا يباحان؟ A يريد أن يقول: إن الإمام النووي استثنى هذين الاثنين: القتل والزنا؛ وبالفعل فقد ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله. لأنني إذا أكرهت على قتلك فلابد من إزهاق النفس، وإن كنت لا آثم بذلك. أي: إذا قتلت مكرهاً، فما المانع ألا أقتل، وإن كنت أنا الذي سأقتل. يعني: المكْرِه أعظم ما يمكن أن يملكه للمُكْرَه: القتل. إذاً يقتلني فنفس مقابل نفس، نفس أكرهت فلم تقبل هذا الإكراه فقتلت فهي شهيدة أو بريئة عند الله عز وجل، وهذا خير من أن تقتل نفساً بريئة لا ذنب لها إلا الإكراه، هذا في حق القتل. أما في حق الزنا، فلعظم خطره ولاختلاط النسب فيه واختلاط المياه. أي: ماء الرجل بماء غيره، وما يترتب عليه من مفسدة عظيمة على الفرد والمجتمع؛ لذا قال: إن الزنا والقتل يستثنيان من الإكراه. مداخلة: ما حكم الذي أحكم في قيده وأكره على الزنا من باب التعذيب والإجبار؟ الشيخ: لا يمكن لأحد مع هذه الحالة أن يقوى على الزنا، أما إذا كان الكلام موجه لبعض الجهات والهيئات التي ألفوا اغتصاب المؤمنين والمؤمنات سواء باللواط أو الزنا، فهذا أمر ليس فيه إكراه، وأي إكراه في ذلك؟ فإما أن تكون قد أنيطت بك تلك المهمة وأنت مجبر عليها، فلابد وأن تترك هذا العمل فوراً، وإن أوذيت وعذبت فلابد من الترك كذلك. مداخلة: وهل الأفضل لهذا المكره أن يموت إن خير بين القتل والزنا أم يرتكب الفاحشة؟ الشيخ: يموت خير له، وهذا الكلام هو الذي قاله شيح الإسلام ابن تيمية. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.

صفة النزول لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة النزول لله عز وجل صفات الله الفعلية هي ما يتعلق بأفعال الله تبارك وتعالى، وأفعاله لا منتهى لها، فهو يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيفما يشاء، ومن صفات الله الفعلية صفة النزول، وأهل السنة يثبتون لله سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وقد خالفهم في ذلك فرق الخوارج الذين يردون الأحاديث الواردة في ذلك، أو يشبهون نزوله بنزول المخلوقين، كما خالفهم في ذلك القائلون بعدم نزوله تعالى مطلقاً، وغيرهم من أهل المذاهب المنحرفة، والتي ما هي إلا نتاج إعمال العقل وتقديمه على النص، واتباع الهوى الذي يئول بصاحبه إلى التردي في أودية الهلاك.

اعتقاد أهل السنة والجماعة في صفة نزول الرب تبارك وتعالى

اعتقاد أهل السنة والجماعة في صفة نزول الرب تبارك وتعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. تعرضنا لصفات الذات لربنا تبارك وتعالى، ويقاس عليه ما لم نذكر، ويفهم مما ذكرنا المراد، فتعرضنا لذكر الساق واليد والعين والقدم وغيرها، وما لم نذكره يقاس على ما ذكرناه، بحيث يفهم أن المؤمن لا بد أن يؤمن بصفات المولى تبارك وتعالى الذاتية الخبرية دون خوض في كيفيتها. وإذا قلنا: إن الصفات نوعان: صفات ذات وصفات فعل، فقد ذكرنا من صفات الذات ما يغني عن تكراره، ويقاس عليه ما لم نذكر. وأما صفات الفعل: فهي ما يتعلق بأفعال الله تبارك وتعالى، وأفعاله لا منتهى لها، لأنه يفعل ما يشاء في أي وقت شاء وفي أي مكان شاء؛ ولذلك عبر المولى تبارك وتعالى عن مشيئته المطلقة في كتابه الكريم فيما يتعلق بأفعاله، فقال سبحانه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. فأفعاله متعلقة بمشيئته وإرادته، والله تبارك وتعالى لا يسأل عما فعل، فلا يقال لأفعاله: لم فعل؟ ولا كيف فعل؟ لأنه يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، بخلاف الخلق فإنهم يسألون عما يفعلون. فأفعال الله عز وجل كالمجيء والإتيان والنزول والاستواء وغيرها من الأفعال تقول عنها: هذه صفة فعل لا صفة ذات، فاستواؤه تبارك وتعالى فعل، ومجيئه تبارك وتعالى يوم القيامة والملك صفاً صفاً فعل، ونزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فعل، وغير ذلك مما يطلق عليه أفعال لا صفات ذات. فإذا كنا تكلمنا عن بعض صفات الذات وقلنا بوجوب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون الخوض في كيفيتها، ونثبتها لله تبارك وتعالى بلا تمثيل، وننزهه عن التشبيه بلا تعطيل؛ فكذلك نقول في أفعاله تبارك وتعالى. فصفة الفعل التي نتعرض لها في هذه الليلة هي نزول المولى تبارك وتعالى، فقد ثبت أنه ينزل في ليلة عرفة، وثبت أنه ينزل ويدنو في النصف من شعبان، وليس هذا يعني أننا نخص ليله بقيام ونهاره بصيام، ولكن المولى تبارك وتعالى ينزل في ليلة النصف من شعبان؛ ليغفر لعباده الصالحين، وينزل تبارك وتعالى في كل ليلة من الليالي إذا بقي ثلث الليل الآخر، فينادي في عباده: (أنا الملك. هل من داع فأجيبه؟ هل من مريض فأعافيه؟ هل من مستغيث فأغيثه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر) أي: حتى يظهر الصبح. ينادي المولى تبارك وتعالى ويتودد ويتحنن إلى عباده في هذا الوقت، وهو وقت إجابة الدعوة كما أجمع على ذلك أهل العلم، لكن القضية الآن: هل نزول الله تبارك وتعالى ثابت أم لا؟ والسؤال الثاني: إذا كان ثابتاً بالأدلة فكيف ينزل؟

اعتقاد الفرق الضالة في صفة نزول الله سبحانه

اعتقاد الفرق الضالة في صفة نزول الله سبحانه

المذهب الأول: إنكار ورود أحاديث النزول في الصحيحين

المذهب الأول: إنكار ورود أحاديث النزول في الصحيحين نازع الخوارج والجهمية في ثبوت أحاديث النزول؛ لأن الخوارج لهم في رواياتهم رجال غير رجال أهل السنة؛ ولذلك فهم لا يعتمدون خبر أهل السنة، وهم -عند أهل السنة- مغالون متطرفون في شروطهم ومنهجهم وفي اعتقادهم، بل هم من الفرق الضالة، وبالتالي كيف يعتمد خبرهم الذي يؤيد بدعتهم؟ وأهل العلم بينوا ذلك من أول ما وقعت الفتنة في زمن عثمان وعلي بن أبي طالب، ولذلك كان ابن سيرين يقول: كنا لا نسأل عن الرجال حتى وقعت الفتن فقلنا: سموا لنا رجالكم. فما سموا لنا من أهل السنة أخذنا بأحاديثهم، وما سموا لنا غيرهم تركناهم. ويقول ابن المبارك: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. أي: عن أهل الأهواء والبدع، أم عن أهل السنة والجماعة، ولذلك معظم الفرق التي انحرفت وضلت إنما كان انحرافها في عقيدتها في ربها تبارك وتعالى. هذا مذهب الخوارج والجهمية ومعظم المعتزلة أنهم أنكروا ورود هذه الأحاديث رغم وجودها في الصحيحين.

المذهب الثاني: إثبات أحاديث النزول وتشبيهه بالمخلوق

المذهب الثاني: إثبات أحاديث النزول وتشبيهه بالمخلوق مذهب آخر قال: نحن نثبت هذه الأحاديث ولكن لا نفهم معنى النزول إلا ما نفهمه من نزول المخلوقين. فنحن لا نرد النصوص، ولكننا ننازع في فهم هذه النصوص، فنقول: نحن لا نفهم من النزول إلا ما نفهمه من نزول أحدنا، وأحدنا لا ينزل إلا إذا كان في علو ونزل درجة درجة. وافترى بعضهم على شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى أنه قال على منبر المسجد الكبير في الشام: إن الله تبارك وتعالى ينزل كنزولي هذا، ونزل درجتين ثم صعد. وهذا في حق شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له رسالة في شرح أحاديث النزول من أمتع ما يمكن أن تقرأ وتسمع، والذي يذكر فيها مذاهب الفرق جميعاً في معنى نزول ربنا تبارك وتعالى، ثم يذهب في معنى النزول إلى ما قاله مالك: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ولذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة في جميع صفات المولى تبارك وتعالى الذاتية والفعلية قولهم هذا: الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة. إذاً: فكيف يقال: إن شيخ الإسلام يقول: إن ربنا ينزل كنزولي هذا وينزل درجتين ثم يصعد المنبر مرة أخرى. هذا كذب وافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن على أية حال! طار بهذا الخبر وبهذا النقل الكاذب أصحاب الأهواء والبدع الذين يبغضون شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ويبغضون السنة وحامليها، طاروا بهذا الخبر فرحاً وقالوا: هذا في حكم شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن كفرتم بعض المتعنتين الغالين من الفرق الضالة فيلزمكم أن تكفروا شيخكم شيخ الإسلام ابن تيمية. وشيخ الإسلام لم يصدر عنه هذا، بل صدر عنه غيره، وكلامه مسطور مكتوب، فضلاً عن أن شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله لم يكن خطيباً قط، وهذا الخبر نقل أنه كان يخطب الجمعة فقال هذا، وشيخ الإسلام ابن تيمية لا يعلم من حياته قط أنه كان خطيباً. وهذا وجه ثان للرد على هؤلاء الكذبة الذين افتروا على شيخ الإسلام ابن تيمية. الوجه الثالث: أن هذا العام الذي نقل ابن بطوطة في رحلته، وذكر السنة التي فعل فيها شيخ الإسلام ابن تيمية هذا لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية حراً، بل كان مقيداً بالسلاسل في السجن. وهو الوجه الثالث في إثبات بطلان هذا الكلام ونسبته إلى شيخ الإسلام عليه رحمة الله. إذاً: للفرق الضالة رأيان: الرأي الأول: رد النصوص وبالتالي عدم التعرض للكيفية، لأن المسألة غير ثابتة. الرأي الثاني: ثبوت النصوص وتأويلها بما يتفق مع نزول المخلوقين، وهذا غلو في التشبيه، وأنهم لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفاتهم إذا اتحدت الصفة في الاسم. ولعلكم تذكرون تلك القاعدة التي ركزنا عليها أيما تركيز في أول شرح هذه الأصول وقلنا: (ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق وافتراق)، ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق في الاسم وافتراق في المسمى، وافتراق في الحقيقة، فنزول الرب تبارك وتعالى يستوي مع نزولي في الاسم فقط، فأنا أنزل والرب تبارك وتعالى ينزل، فالنزول له ثابت والنزول لي كمخلوق ثابت، ولكن مسمى وحقيقة النزول لله تبارك وتعالى تختلف عن حقيقة النزول بالنسبة لي، ولذلك هذه القاعدة ركزنا عليها أيما تركيز وقلنا: ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل وقال: إن الله تعالى كذاتي وصفاته كصفاتي وأفعاله كأفعالي. ومن نفى القدر الفارق فقد عطل. إذاً: إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق آدم على صورته) لو افترضنا أن الضمير في صورته يعود على آدم، لو افترضنا ذلك جدلاً فهل صورة الرحمن تبارك وتعالى كصورة آدم تماماً بتمام؟ لا. لماذا؟ لأن آدم خلقه الله تعالى على صورة، والله تبارك وتعالى له ذات بكيفية وصورة تليق بجلاله. إذاً: فأنا أثبت لله تبارك وتعالى أنه على صورة، وأنه على هيئة، وأنه على كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، وليست صورته كصورة آدم، فصورة آدم صورة مخلوق، وصورة الله تبارك صورة الخالق، فالله تعالى له صورة وآدم له صورة. إذاً: الاتفاق بين آدم وبين الله تبارك وتعالى في الاسم، والمسمى يختلف؛ لأن الله تعالى واحد في صورته. أي: لا يشبه في صورته أحداً من خلقه، ولا أحداً من خلقه يشبهه في الصورة، فالذات تختلف عن الذات، والصورة صفة لله عز وجل تختلف عن صورة المخلوق، فالنزول ثابت لله عز وجل، لكن لا نذهب فيه مذهب الذين لا يفهمون من النزول إلا ما يفهمونه من نزولهم هم، وإنما يقول: إن ربنا تبارك وتعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله، فلو أني صعدت على هذا المنبر وجلست عليه لقال الناظر لي: إن فلاناً قد استوى على الكرسي. أي: قعد وتمكن من الجلوس على الكرسي. فلا نقول هذا في استواء المولى تبارك وتعالى، وإنما نقول: استوى حقيقة استواءً

المذهب الثالث: أن الله تعالى لا ينزل لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه

المذهب الثالث: أن الله تعالى لا ينزل لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه مذهب ثالث يقول: إن الله تبارك وتعالى لا ينزل. قالوا: لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه. انظر الكلام الغريب! يضربون القرآن بعضه ببعض؛ لأن القرآن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولا يفهمون من النزول إلا ما يفهمونه هم من صفاتهم: بأن الواحد منهم إذا جلس على الكرسي ونزل عنه خلا الكرسي عنه، فإذا كنت تقول: إن صفات الله عز وجل كصفاتك فيلزمك أن تقول بخلو العرش، وإذا كنت تقول: إن الله تعالى ليست ذاته ولا صفاته كذاتي وصفاتي فيلزمك أن تقول: إن نزول المولى تبارك وتعالى لا يستلزم منه خلو العرش؛ لأن الله تبارك وتعالى فوق كل شيء وهو بائن عن كل شيء. فإذا قلت: إن الله تعالى ينزل ويخلو منه العرش فلا بد أن تقول حين نزول المولى تبارك وتعالى: إن العرش أعلى من الله عز وجل، وأن السماوات السبع أعلى من الله عز وجل، وأن الكرسي أعلى من الله عز وجل، وأن الماء أعلى من الله عز وجل، ولا يقول بهذا إلا جاهل أو كافر، فما الذي يمنعك أن تقول: إن نزول المولى تبارك وتعالى لا يستلزم خلو العرش منه، لأن هذا لا يليق إلا بالعاجز المخلوق، وأما الخالق تبارك وتعالى فلا ينفي دنوه علوه؛ وذلك لأنه يفعل ما يشاء، لا يسأل عما يفعل، بلم ولا كيف. فنحن نعتقد أن الله تبارك وتعالى استوى على الكرسي، واستوى على العرش، وهو مع خلقه يدنو منهم وينزل وهو مستو على العرش تبارك وتعالى، لا يخلو منه العرش، بل هذا كلام حادث أحدثه أهل البدع لا نحب أن نخوض فيه، ولكنني ذكرت ذلك على سبيل الإجمال وعلى وجه السرعة؛ لأنه ربما خطر ببالك كما خطر ببال بعض السلفيين في هذا الزمان أنهم خاضوا في هذه القضية، وعيب عليهم أن يخوضوا فيها وإن كانوا علماء؛ لأنه يجب عليهم أن يسلموا لله عز وجل ويؤمنوا إيماناً مطلقاً جازماً بكل ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير خوض ولا تكلف تأويل، ولكنهم مع هذه القواعد الثابتة المستقرة في قلوبهم خاضوا في كيفية النزول لله عز وجل، وقالوا: هل يخلو منه العرش أم لا؟ وهذه مرحلة أخشى أن تؤدي بعد ذلك إلى القول بخلو العرش حقيقة ويقيناً عندهم، فيقعوا فيما وقع فيه أهل البدع.

المذهب الرابع: أن الله لا ينزل إنما الذي ينزل هو رحمته وأمره

المذهب الرابع: أن الله لا ينزل إنما الذي ينزل هو رحمته وأمره أيضاً: نزول الرب تبارك وتعالى فيه مذهب رابع لأهل البدع، وقد وقع في هذا المذهب الرابع بعض أهل السنة، أو بعض من ينتسب إلى السنة. قالوا: إن الله تعالى ينزل، ولكن ينزل أمره وتنزل رحمته. وهذا كلام مردود وباطل من وجوه: الوجه الأول: إن قولك: إن الله لا ينزل وإنما الذي ينزل رحمته وأمره. فيه رد للنصوص الصحيحة الصريحة بغير حجة ولا برهان. الوجه الثاني: إن رحمة الله تبارك وتعالى تنزل بالليل والنهار، لا تحتاج إلى نزول في الثلث الأخير من الليل، وليست محدودة بزمان ولا مكان. الوجه الثالث: أن الحديث يقول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إذا بقي الثلث الليل الآخر فيقول: أنا الملك! من يدعوني فأستجيب له). فقوله: (أنا الملك) وقوله: (ينزل ربنا) صريح في أن الذي ينزل هو الله عز وجل، فهل يمكن أن يتصور صرف لفظ: (الرب) ولفظ: (أنا الملك) إلى الأمر والنعمة والرحمة؟ لا يمكن. هذا كلام لا تحتمله اللغة، بل العقل كذلك يرده، وهو تعطيل للإيمان بصريح النصوص، وقد وقع في هذا التأويل كثير من أهل العلم الذين نعتمد كلامهم وأخبارهم. وعلى أية حال: الحق لا يعرف من خلالهم، وإنما الحق يعرف بالكتاب والسنة وبالأدلة البينة الواضحة، والأدلة ترد عليهم. فما هي تلك الأدلة التي أثبتت نزول الله تبارك وتعالى؟ إن كنت أتكلم في هذه القضية كلاماً عاماً مجملاً بعد بيان عرض معتقدات أهل الملة في نزول المولى تبارك وتعالى -فإنني ألزمكم إلزاماً بقراءة رسالة عظيمة جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية يفسر فيها حديث النزول، وهي مطبوعة في الهند، وطبعت هنا في الريان، وهي مأخوذة من المجلد الخامس من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن لم يتمكن من شراء الرسالة على انفراد تمكن من قراءة هذه الرسالة في المجلد الخامس من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، كتاب عظيم جداً بلغ حوالي مائتين صفحة.

الأدلة على إثبات النزول لله عز وجل من السنة

الأدلة على إثبات النزول لله عز وجل من السنة الأدلة على إثبات النزول لله عز وجل في السنة أتت بطريق التواتر، وأنتم تعلمون أن الحديث المتواتر: هو ما رواه عدد كثير في كل طبقة من طبقاته بحيث تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. حديث يأتي من عشر طرق أو من عشرين أو ثلاثين أو سبعين أو مائة، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكر هذا الحديث في كل مكان وفي كل زمان، سمعه من النبي عليه السلام ما يزيد عن عشرين نفساً من أصحابه، كلهم رووه رضي الله عنهم أجمعين، منهم: ابن مسعود وابن عباس وأم سلمة وأبو هريرة وغيرهم كثير. فرواية أبي هريرة التي هي من طريق الزهري قال: [أخبرني أبو سلمة والأغر - سلمان صاحب أبي هريرة - أن أبا هريرة أخبرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا)] فالنزول ليس إلى الأرض وإنما إلى السماء الدنيا. أي: السماء التي تلي الأرض ينزل إليها ربنا تبارك وتعالى. والزمن: حين يبقى ثلث الليل الآخر. وهناك روايات قد وردت أنه ينزل إذا انصرم الثلث الأول من الليل، أو إذا مضى الثلث الأول من الليل. ورواية: أو شطر الليل، ينزل ربنا تبارك وتعالى إذا انتصف الليل إلى سماء الدنيا، وإن كانت كل هذه أحاديث صحيحة في الجملة، إلا أن اتفاق أهل العلم على أن أصح الروايات في نزول المولى تبارك وتعالى حديث أبي هريرة الذي هو من طريق الزهري لا من طريق غيره، وأن نزول المولى تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر. يعني: ينزل في آخر الليل وهو الوقت المشهود، الوقت الذي يستجيب الرب تبارك وتعالى فيه دعاء العباد. قال: [(ينزل الله عز وجل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه)] إلى آخر الحديث. وقد روي هذا الحديث من طريق أبي سعيد الخدري، ومن طريق علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق رضي الله عنه وجابر بن عبد الله الأنصاري ورفاعة الجهني، ومن طريق أبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأبي ثعلبة الخشني وعقبة بن عامر الجهني، كلهم وغيرهم يروي هذا الحديث، كما روي في مرسلات علي وعائشة رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود. كل هذا يثبت أن الله تبارك وتعالى ينزل وإن اختلفت المناسبة، فينزل ليلة عرفة -أي: يوم عرفة- حتى يدنو من العباد فيقول: (ألا هل من داع؟ ألا هل من مستغفر؟ ألا هل من تائب؟). ويدنو في ليلة النصف من شعبان، وينزل في الثلث الأخير من الليل كما جاء عن أم سلمة كذلك.

إثبات التابعين لنزول الرب سبحانه على الوجه الذي يليق به سبحانه

إثبات التابعين لنزول الرب سبحانه على الوجه الذي يليق به سبحانه ومن التابعين عطاء بن يسار وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي: [عن عطاء بن يسار: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل منها -يعني: ليلة النصف من شعبان- ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، فيغفر لكل عبد إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم]. قال: [عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان عطاء إذا ذكر عنده ليلة النصف من شعبان وما يقال فيها فيقول: إني لأرجو أن يكون ذلك في كل ليلة]. أي: أن يغفر الله عز وجل للعباد في كل ليلة؛ وذلك لأنه يؤمن أن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة، فليلة النصف من شعبان كبقية الليالي. فـ عطاء كان يرجو أن يغفر الله عز وجل لكل أحد في كل ليلة. وهذا ثابت كذلك عن عمر ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم. قال مكحول الشامي: [يطلع الله تبارك وتعالى على خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويتوب على التائبين، ويدع أهل الحقد بحقدهم، فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن]. وقال الفضيل بن فضالة: [إن الله يهبط إلى سماء الدنيا -يهبط بمعنى: ينزل- ليلة النصف من شعبان، فيعطي رغاباً، ويفك رقاباً، ويفخم عقاباً]. وهو دليل على المغفرة. وذكر أحمد بن علي الأبار أن عبد الله بن طاهر - وهو أمير خراسان - قال لـ إسحاق بن راهويه: يا أبا يعقوب! ما هذه الأحاديث التي تحدثون بها، إن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ أهو ينزل ويصعد؟ فقال له إسحاق: تقول: إن الله يقدر على أن ينزل ويصعد ولا يتحرك؟ قال: نعم. قال: فلم تنكر إذاً؟ يعني: هل أنت تعتقد أن الله تبارك وتعالى قادر على أن ينزل وأن يصعد دون أن يتحرك، وأنه مستو على العرش؟ قال: نعم. لأنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فنزولي أنا يحتاج إلى انتقال وحركة، لكن لا يلزم من نزول الله عز وجل إذا أراد أن ينزل وأن يصعد أن يخلو منه العرش ولا أن يتحرك ولا أن ينتقل، بل هو مستو على عرشه كذلك. فقال: أتقول: إن الله تعالى قادر على ذلك؟ قال: نعم. قال: فلم تنكر إذاً أنه ينزل؟ كلام جميل! كلام أهل العلم، إذ إن القضية كلها أن تصدق أن القياس بينك وبين الخالق قياس مع الفارق، قياس غير صحيح ألبتة لا في الذات ولا في الأسماء ولا في الصفات ولا في الأفعال. وقد سبق أن بينا القاعدة الأولى: وهي وحدانية الله تبارك وتعالى. أي: واحد في ذاته، ولا يمكن أبداً لأي ذات من الذوات أن تشبه ذات الإله، ولا الأسماء ولا الصفات ولا الأفعال، فأنا لما أنزل هذا فعل، وربنا ينزل أيضاً فهذا كذلك فعل، لكن فعلي له مثيل فنزول محمد كنزول زيد، لكن ليس نزوله كنزول الله عز وجل؛ لأنه سبحانه واحد في أفعاله، ونزوله من أفعاله. إذاً: نزوله سبحانه نزول تفرد، فلا يمكن أبداً أن يشبه نزول أحد من خلقه، فلا بد أن أؤمن بوحدانية الله عز وجل في أفعاله. إن الجهمي يقول: أحاديث النزول غير صحيحة، بل هي كاذبة وباطلة، ولا يوجد شيء اسمه نزول وصعود؛ لذلك قال: [قال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل ويصعد فقل: وأنا أومن برب يفعل ما يشاء]. فيا له من كلام جميل! لا تتكلف التأويل والأخذ والرد، وإقامة الحجة عليه، فهؤلاء مجرمون، لا يسلمون لك بحجة، ولو أثبت الصفة من السنة قال لك: لا. لا بد من القرآن، وهو قبل قليل أنكر صفة كان دليلها القرآن. فهو لا يمكن أن يثبت معك على حال قط، وهو ليس محتاجاً إلى بينة أو دليل، إنما الذي دعاه إلى الإنكار هو كفره وجحوده بالله عز وجل، وقياسه الفاسد بين الخالق والمخلوق، وأنه لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يقيسه هو من صفات الخالق على صفات ذاته. قال يحيى بن معين: [إذا سمعت الجهمي يقول: أنا كفرت برب ينزل. فقل: أنا أومن برب يفعل ما يريد]. وقال حنبل بن إسحاق -ابن أخي أحمد بن حنبل -: [سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاحاً، ولا نرد على رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق. حتى قلت لـ أبي عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا]. يعني: لا تخض في ذلك، أثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون خوض، وآمن به كما جاء وصدق به كما جاء، ولا ترد شيئاً مما صح في أخباره وصفاته وأفعاله، على الوجه اللائق. قال: [فقال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إنما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب قال الله عز وجل: {

إثبات إسحاق بن راهويه نزول الرب سبحانه في مجلس الأمير عبد الله بن طاهر

إثبات إسحاق بن راهويه نزول الرب سبحانه في مجلس الأمير عبد الله بن طاهر مما يحتج به أهل السنة والجماعة: نقاش دار بين إسحاق بن راهويه والأمير عبد الله بن طاهر، حين سئل إسحاق بن راهويه في مجلس الأمير عن حديث النزول: أصحيح هو؟ فقال إسحاق بن راهويه: نعم. قال السائل: كيف ينزل؟ قال إسحاق: أثبته فوق. أي: أثبته أولاً فوق حتى أقول لك كيف ينزل. لأن هذا السائل ربما يكون جهمياً أو معتزلياً، وهم لا يقولون بالعلو والفوقية لله عز وجل، والأشاعرة يقولون بأنه في كل مكان مع خلقه. فقال السائل: أثبته. يعني: ناقشني على اعتبار أنني مصدق ومؤمن بأن الله تعالى استوى على العرش. فقال إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] تلا إسحاق هذه الآية؛ لأن استقامة الأمير استقامة الرعية وفساده فساد الرعية، فلما سمع الأمير هذه الآية قال لـ إسحاق: هذا يوم القيامة. فقال إسحاق: أعز الله الأمير! ومن يأتي يوم القيامة من يمنعه أن يأتي اليوم؟ فبهت الأمير. وهذا ذكاء إسحاق بن راهويه. أجاب إجابة لا تناسب إجابة السائل حتى يسكت الأمير.

منهج أهل السنة والجماعة في إثبات نزول الله تعالى دون تكييف

منهج أهل السنة والجماعة في إثبات نزول الله تعالى دون تكييف السؤال الذي طرحناه: هل إذا نزل الله إلى السماء الدنيا يخلو عنه العرش أم لا؟ A المفروض عدم ورود هذا السؤال. سكت عن ذلك السلف، فقد قال مثل شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الصواب المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أن الله سبحانه لا يزال فوق العرش ولا يخلو منه العرش مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه قط، وكذلك يوم القيامة كما جاء في الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك، فالله سبحانه وتعالى قريب في علوه -يعني: عال مستو ومع ذلك قريب من عباده- وعلي في قربه، وهو مع جميع مخلوقاته بعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوالهم، وهو مع الصابرين والمحسنين والمتقين من عباده بالكلأ والحفظ والنصر والتأييد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. أما الأدلة فهي ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول -وفي رواية: حين يبقى ثلث الليل الأخير- فيقول: أنا الملك! من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك). قال الذهبي: رواه أحمد وإسناده قوي. وهو من طريق آخر عند البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني) إلى آخره.

كلام ابن عبد البر في إثبات صفة النزول

كلام ابن عبد البر في إثبات صفة النزول قال ابن عبد البر في التمهيد: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، رواه أكثر الرواة عن مالك. إلى أن قال: وفيه دليل على أن الله في السماء على عرشه من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة - يعني: أهل السنة - وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش، والدليل على صحة ما قالوه -أي: ما قاله أهل السنة- أهل الحق في ذلك: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. ثم قال ابن عبد البر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا) فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة. وقد قال قوم من أهل الأثر أيضاً: إنه ينزل أمره وتنزل رحمته. وروي ذلك عن حبيب كاتب الملك. هو أبو محمد المصري، وهو كذاب، وأخباره منكرة باتفاق أهل العلم.

كلام ابن القيم في إثبات صفة النزول

كلام ابن القيم في إثبات صفة النزول قال ابن القيم: إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه نحو ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة، وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يبلغ ذلك في كل موطن ومسمع. ثم سرد الأحاديث التي تدل على ذلك.

كلام ابن جرير في إثبات صفة النزول

كلام ابن جرير في إثبات صفة النزول وقال ابن جرير الطبري إمام المفسرين عليه رحمة الله: وأهل العلم بالكتاب والأثر من السلف والخلف يثبتون جميع ذلك ويؤمنون به بلا كيف ولا توهم، ويمرون الأحاديث الصحيحة كما جاءت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، بما في ذلك صفة النزول.

كلام ابن القيم في اختلاف أهل السنة في صفة النزول

كلام ابن القيم في اختلاف أهل السنة في صفة النزول قال ابن القيم: اختلف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال: فأحدها: أنه ينزل بذاته. قال شيخنا - يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية - وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين. وقالت طائفة ثانية: لا ينزل بذاته. وقالت طائفة أخرى: نقول: ينزل لا نقول بذاته ولا بغير ذاته، بل نطلق اللفظ كما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه، وهذا ما يفهم من كلام الأوزاعي وحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه. وقد سئل أحمد بن حنبل فقيل له: يا أبا عبد الله! أينزل إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم. فقال السائل: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال الإمام: اسكت عن هذا. فغضب غضباً شديداً ثم قال: أمض الحديث على ما روي. يعني: آمن به كما جاء ولا تخض في الكيفية. ومن أقوال هؤلاء الأئمة ومواقفهم يتضح جلياً موقف السلف الصالح من هذه الصفة وغيرها من جميع الصفات الإلهية، وهو الاكتفاء بفهم المعاني العامة للصفات، والإمساك عن الخوض فيما وراء ذلك، فهم لا يبالغون في الإثبات إلى حد التشبيه والتجسيم، كما لا يبالغون في النفي إلى حد التعطيل، بل يقفون مع ظاهر النصوص ولا يتجاوزونها. يعني: يثبتون بلا تمثيل، وينفون بلا تعطيل.

كلام أبي سعيد الدارمي في إثبات صفة النزول

كلام أبي سعيد الدارمي في إثبات صفة النزول قال أبو سعيد الدارمي في كتابه العظيم (الرد على الجهمية) بعد أن ذكر حديث النزول: فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن -أي: في هذه الأزمنة- في ليلة النصف من شعبان، في يوم عرفة، في الثلث الأخير من الليل. قال: وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد ولا يمتنع من روايتها. لأن بعض أهل العلم كانوا يتحرجون من رواية أحاديث الصفات بالذات، ومنهم من كان ينكرها بقلبه ويكره روايتها للناس.

كلام ابن خزيمة في إثبات النزول

كلام ابن خزيمة في إثبات النزول وقال إمام الأئمة محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد: (باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة). قال: (نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب تبارك وتعالى من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفيه نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، فنزوله لدينا معلوم والكيفية مجهولة، لأنها لم توصف). قال: (والله جل وعلا لم يترك -وكذا نبيه- بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم. فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول). فإذا كان النبي الذي هو أعلم الخلق بالله عز وجل لم يتعرض للكيفية فلم نتعرض نحن لها؟ قال: (وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح: أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى). فالذي ينزل ينزل من أعلى إلى أسفل. قال: (ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل).

كلام ابن تيمية في صفة النزول

كلام ابن تيمية في صفة النزول وقال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص في كتابه (دقائق التفسير): (فالرب سبحانه إذا وصفه رسوله بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلم موسى في الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخان، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة). يعني: لا يلزم من النزول والكلام والإتيان والمجيء الذي نحن نفهمه أن يكون مثل نزولنا ومجيئنا واستوائنا وغير ذلك. قال: (حتى يقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر). يقصد بذلك: أن نزول الله تبارك وتعالى بخلاف نزولنا، فالنزول يستلزم تفريغ المكان الذي كنت مستوياً عليه، بخلاف نزول المولى تبارك وتعالى فإنه لا يستلزم ذلك؛ لأن نزول المخلوق غير نزول الخالق، فلا نخوض فيما لم يخض فيها السلف رضي الله عنهم أجمعين. وذكر مرعي الكرمي مذاهب أهل العلم التي ذكرناها واختلافهم في نزول المولى تبارك وتعالى، وسرد ذلك كله البيهقي. قال البيهقي: وأسلمها - أي أسلم هذه المذاهب - الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق صلى الله عليه وسلم فيصار إليه. قال: ومن الدليل على ذلك: اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم. وهذا مذهب السلف الذي أقول به وأدين الله تعالى، وأسأله سبحانه الموت عليه مع حسن الخاتمة في خير وعافية.

كلام العلامة الصوفي في صفة النزول

كلام العلامة الصوفي في صفة النزول قال العلامة الصوفي في كتابه (قواعد وجوب الاستقامة والاعتدال): والمشهور عند أصحاب الإمام أحمد بل عند السلف جميعاً: أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة. أي: لا يتأولون الصفات التي توهم في ظاهرها الحركة كالمجيء والإتيان والنزول والهبوط والدنو والتدلي والاستواء، كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح. قال: وكلام السلف في هذا الباب يدل على إثبات المعنى المتنازع فيه، كما قال الأوزاعي لما سئل عن حديث النزول قال: أنا أومن برب يفعل ما يشاء. وقال حماد بن زيد: يدنو من خلقه كيف يشاء. قال: وهو الذي حكاه الأشعري - أي أبو الحسن - عن أهل السنة والأثر. وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء. وقال أبو الطيب: حضرت عند أبي جعفر الترمذي -وهو من كبار فقهاء الشافعية، أثنى عليه الدارقطني وغيره- فسأله سائل عن حديث: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) قال له: فالنزول كيف يكون، يبقى فوقه علو؟! فقال أبو جعفر الترمذي: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. كما أجاب مالك في الاستواء وأم سلمة وغيرهما، وهو قول أهل السنة في سائر الصفات. وقال أبو عبد الله الرباطي: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر وحضر إسحاق بن راهويه فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد الأمير: يا أبا يعقوب! أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ قال له إسحاق: أثبت أنت الحديث حتى أصف لك النزول. فقال له الرجل: أثبته. فقال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] فقال الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة. فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ وقال حرب بن إسماعيل: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: ليس في النزول وصف. يعني: لا يحل لأحد أن يصف نزول الرب تبارك وتعالى. قال: وقال إسحاق: لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين. أي: إذا كنت تريد أن تصف شيئاً فصف أفعال المخلوقين، أما أفعال الخالق فلا، لأن الله تعالى قال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. قال: ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وأفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين. يعني: يحرم عليك أن تفكر أو يجول في ذهنك أن الله ينزل كنزولك أو يستوي كاستوائك أو يأتي كإتيانك أو يجيء كمجيئك. قال: وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء، ولا يسأل كيف نزوله؛ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما شاء.

كلام الجويني في صفة النزول

كلام الجويني في صفة النزول يقول أحد المحققين من الشافعية، وهو والد الإمام الجويني إمام الحرمين كلاماً جميلاً مع أنه أشعري. قال: والذي شرح الله صدري - أي: والذي شرح الله له صدري - في حال المتكلمين الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر، واليدين بالنعمتين والقدرتين، أنه ما فهموا من صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله تعالى استواءً يليق به ولا نزولاً يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله. قال: ولا ريب ولا شك أننا نحن وهم متفقون على إثبات صفة الحياء والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله تعالى، ونحن قطعاً لا نعقل من الحياء والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا. يعني: لما تقول: الله تعالى حي وآدم حي، فحياة آدم أنا أعلمها؛ لأنها كحياتي أنا، لكن حياة الله عز وجل تختلف عن حياة آدم، ولا أعلم كيفية حياته سبحانه، فأنا أثبت الحياة الكاملة التي لا يطرأ عليها فناء ولا فساد لله عز وجل، بخلاف حياتي فإنه يطرأ عليها العلل والأدواء والأمراض كلها وتنتهي وتفنى وتزول، فحياة المولى عز وجل تختلف عن حياة المخلوقين، فإياك أن تتوهم أن الله حي بحياة تليق بحياتك أنت، يا مخلوق يا ضعيف! يا من تنتهي حياتك في يوم ما! قال: ونحن قطعاً لا نعقل من الحياة والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا، فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض. فأنت تثبت أن لله تبارك وتعالى عينين، لكن هل هما جارحتان؟ لا، وكذلك اليد والساق وغيرهما من صفات الذات لله تبارك وتعالى. قال: فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض بل هي صفات كما تليق به. أي: صفات كمال لا أعرف كيفيتها، لكنني أعلم علماً يقينياً أن الله تعالى حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، فأنا لا أعرف الشيء إلا من خلال أمرين: الأمر الأول: أن أراه هو. فهل رأيت الله عز وجل؟ وهل لله مثيل؟ لا. ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، فإذا كنت أجهل كيفية الذات سأجهل كيفية الصفات، لأنني لم أر ذات المولى تبارك وتعالى، فلا يمكن أبداً أن أمثل صفات الخالق بصفات المخلوقين. قال: بل هي صفات كمال كما تليق به لا كما تليق بنا، ومثل ذلك بعينه: فوقيته واستواؤه ونزوله ونحو ذلك، نقول فيه بأن الكيف مجهول. قال: وكل ذلك ثابت معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل كما يليق بعظمته وجلاله، فإن صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، ولا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، الكل ورد في النص. فإن قالوا في الاستواء والنزول: شبهتم. يعني: إن قالوا لنا: أنتم تثبتون الاستواء والنزول؟ نقول: نعم. فيقولون لنا: شبهتم. فنقول لهم: في السمع والبصر شبهتم أنتم؛ لأنكم أصلاً لا تثبتون النزول ولا تثبتون الاستواء، إنما تثبتون السمع والبصر، فإذا كنتم تدعون أننا مشبهة لأننا نثبت الاستواء والنزول، فأنتم أيضاً مشبهة؛ لأنكم أثبتم السمع والبصر؛ لأنه لا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، كلها صفات لله عز وجل. قال: قلنا لهم: شبهتم كما شبهنا، ووصفتم ربكم بالعرض. فإن قالوا: لا نثبت له عرضاً، بل كما يليق به تعالى في السمع والبصر. قلنا كذلك: ونحن نثبت له الاستواء والنزول كما يليق به تبارك وتعالى. فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه، نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم، فكما هم لا يجعلونها أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا أعراضاً ولا ما يوصف به المخلوق. وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين، فيحتاجون إلى التأويل والتحريف، ونفهم ذلك في الصفات السبع. وهم السبعية من الأشاعرة. قال: وحيث نزهوا ربهم في الصفات السبع مع إثباتها فكذلك يقال في غيرها، فإن صفات الرب تبارك وتعالى كلها جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة. فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وأولنا هذه وحرفناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية. انتهى كلام والد إمام الحرمين الإمام الجويني عليه رحمة الله.

كلام ابن تيمية في آيات وأحاديث الصفات

كلام ابن تيمية في آيات وأحاديث الصفات وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: (جماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون: تجرى على ظواهرها) في كل الصفات. قال: (وقسمان يقولون على خلاف ظواهرها). يعني: يؤولونها ويحرفونها. قال: (وقسمان يسكتون. وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، فقل له: كيف هو؟ هل رأيته؟ فيقول: لا. فقل: وأنا كذلك لم أر نزوله، فإذا كنت أنت لا تستطيع أن تكيف ذات الإله فأنا لا أستطيع أن أكيف أفعال الإله. فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية الموصوف وأنت لم تعلم كيفية الصفة؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له، بل هذه الروح علم العاقل اضطراب النفس فيها. فهذه الروح مخلوقة واختلف الناس فيها لعدم رؤيتهم لها، فأنت لا تستطيع أن تصف الروح مع أنها مخلوقة، وهي معك إذا نمت وإذا قمت، بل في كل أحوالك هي معك، فمن باب أولى أن تعجز عن وصف الخالق وصفات الخالق وأفعال الخالق. قال: (والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثانية، وهي طريقة إمرارها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت). وابن الجوزي قال كلاماً طيباً في كتاب (صيد الخاطر) مع أنه أشعري المعتقد إلا أنه أحياناً ينطق بكلام السلف، فيقول: من أضر الأشياء على العوام: كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات، فإن الأنبياء عليهم السلام بالغوا في الإثبات ليقرروا في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات؛ فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات، فكان من أعظم الضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاوماً لإثبات الأنبياء بالمحو، وشارعاً في إبطال ما بعثوا به. قال: (وبيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس بإثبات الإله ووجوده، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، وقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقال: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14] وقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المجادلة:22]. وأخبر الرسول أنه ينزل إلى السماء الدنيا فقال: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن). وقال: (وكتب التوراة بيده). وقال: (كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش) إلى غير ذلك مما يطول ذكره. فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس؛ قيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فمحا من قلبه ما نقشه، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة؛ ولهذا أقر الشارع على مثل هذا، فسمع منشداً يقول: وإن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا فضحك. وقال له آخر: (أويضحك ربنا؟ فقال: نعم. وقال: إنه على عرشه هكذا وأشار بيده مثل القبة) كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس. وهو حديث ضعيف. وعلى أية حال! كلام ابن الجوزي يحتاج إلى حذر شديد جداً؛ لأنه يضع السم في العسل فيما يتعلق بالاعتقاد، ولا يفعل ذلك ليفسد اعتقاد الأمة، وإنما أمور العقيدة عنده لم تنضبط، ولذلك خلط بينها كما خلط النووي وغيره بين الغث والسمين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من دخل المسجد والإمام يصلي بالناس

حكم من دخل المسجد والإمام يصلي بالناس Q هل يجوز لأحد دخل المسجد والجماعة قائمة أن يصلي وحده أو يبقى بلا صلاة؟ A لا يصح له ذلك، وكل من دخل المسجد ووجد الجماعة قائمة وجب عليه أن يصلي معهم وإن كان ذلك قبل التسليم مباشرة، فقد دخل رجل المسجد فجلس ولم يصل، (فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: أقبل. فأقبل. قال: ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: إني صليت يا رسول الله!) قد يكون صلى في بيته، أو صلى في جماعة أخرى وأتى إلى المسجد فوجدهم يصلون، فاجتهد أنه قد صلى فلم يصل معهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت المسجد فوجدت الناس يصلون فصل معهم وعدها نافلة). لكن يحظر عليك أن تدخل المسجد فتصلي صلاة غير صلاة الإمام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة). إذا دخلت المسجد وشرعت في صلاة السنة وسمعت المؤذن يقيم الصلاة فسلم من صلاتك والحق بالجماعة، وإذا دخلت المسجد ورأيت الناس يصلون وإن كنت قد صليت في الخارج فالحق بهم وصل بصلاتهم وعدها نافلة، كما أنه يحظر عليك أن تجلس بلا صلاة، فإن هذا يطرق للإمام أنك تكره الصلاة خلفه، وفي هذا من الفتن ما الله تعالى به عليم.

فضل العالم على العابد

فضل العالم على العابد Q قلت في محاضرة سبقت: إن بعض تلاميذ الشيخ الألباني والشيخ ابن باز اتجهوا للعبادة، وبعضهم اتجه للعلم ونشره والدعوة إلى الله عز وجل. فمن أحب الفريقين إلى الله عز وجل؟ A لا شك أن العالم أفضل من العابد، وإن كانت الأحاديث التي تدل على الأفضلية لا يصح فيها دليل، فقوله: (عالم خير من ألف عابد) لا يصح به دليل، ولكن الله تبارك وتعالى أثنى على أهل العلم وجعلهم في مرتبة فوق مرتبة العباد ومرتبة عامة الناس، قال تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، فأهل العلم منزلتهم لا يمكن لأحد أن يدانيهم فيها ولا أن يساويهم، فهم ورثة الأنبياء، ولا شك أن ورثة الأنبياء خير ممن لم يرث الأنبياء كالعباد وغيرهم.

حكم كتم العالم علمه عند الحاجة إليه

حكم كتم العالم علمه عند الحاجة إليه Q وهل على الفريق الأول -العباد- ذنب لتركهم نشر العلم الذي أنعم الله عليهم به؟ A لا شك أن كاتم العلم عند الحاجة إليه آثم، فإن قام به غيره ولم يحتج إليه فلا إثم عليه، لأن نشر العلم فرض كفاية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة) هذا لمن احتيج إلى علمه، فإن لم يحتج إلى علمه فلا شيء عليه.

سبيل الحصول على العلم

سبيل الحصول على العلم Q إن أعلام الدنيا في زماننا كـ ابن باز والألباني وابن عثيمين لو أنهم رحلوا عنا - أمد الله في أعمارهم- قلتم إن الله سيستخلف أقواماً غيرهم فنريد رداً يعكس وضع حياتنا؟ A على أية حال! ابن باز كغيره من الناس، ولد لا يعلم شيئاً ولا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا ضراً وغيره كذلك من أهل العلم، يقول يحيى بن أبي كثير اليماني الإمام: لا ينال العلم براحة الجسد. وهو مخرج في صحيح مسلم. هؤلاء سهروا الليالي، واصلوا الليل بالنهار وزاحموا العلماء بركبهم، وتواضعوا وتأدبوا وحصلوا وذاكروا، وسامروا وناقشوا وتعلموا من كل علم قدراً وحظاً عظيماً جداً حتى يسر الله تبارك وتعالى لهم البحث والنظر في جميع العلوم الشرعية، ولا غرو أبداً إذا سلكت مسلكهم وهممت ونشطت في طلب العلم أن يوفقك الله عز وجل، وليس ذلك عليه بعزيز.

حكم صلاة المنفرد خلف الصف

حكم صلاة المنفرد خلف الصف Q من حضر إلى الصلاة فلم يجد مكاناً في الصف ولا فرجة فيه، فهل يقف بنفسه؟ A نعم. من دخل المسجد ولم يجد مكاناً في الصف فله أن يصلي وحده، فإن وجد فرجة في الصف فليلحق بها، وإن كان بإمكانه أن يلحق بالصف أو أحد الصفوف ولكنه آثر أن يصلي في صف وحده فصلاته باطلة، (والنبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلي وحده فقال: أعد صلاتك) ولو كانت صحيحة ما قال له هذا.

بيان أن حجاب الله عز وجل واحد فقط

بيان أن حجاب الله عز وجل واحد فقط Q ما الدلالة على إثبات الحجاب؟ ويوجد حديث في مجمع الزوائد يقول فيه: (سبعون حجاباً من نور ثم سبعون حجاباً من نار)، وهل يدخل في باب الصفات، فما الرد على من قال: هو حجاب واحد؟ A الحجاب حجاب واحد لله عز وجل، تقدم قبل ذلك الدليل في سنة النبي عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك مسلم. قال: (حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) قال: حجابه، ولم يقل: حجبه، فالحديث السابق لا يمكن أن يعارض هذا الحديث الصحيح.

باب كيفية وزن الأعمال يوم القيامة

باب كيفية وزن الأعمال يوم القيامة Q هل الأعمال يوم القيامة توزن بالحسنات والسيئات أم هي أعراض وأجسام؟ A هذه المسألة يعلمها الله عز وجل، وإن كان بعض أهل العلم تكلموا فيها، وإذا كنت تثبت القدرة المطلقة لله عز وجل فما المانع أن يزن الله تبارك وتعالى الحسنات والسيئات بغير أن يجعلها أجساماً وأعراضاً. أنا أؤمن بذلك كما آمن النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر: أن الله تعالى قادر على كل شيء ويفعل ما يشاء، فإذا أراد أن يزن الأعمال خيرها وشرها دون أن تكون أعراضاً محسوسة أو ملموسة فهو قادر على ذلك، وهو قادر على أن يجعل هذه الحسنات والسيئات والأعمال أعراضاً، له هذا وله ذاك، وهو سبحانه على ما يشاء قدير.

حكم من سها في صلاته ونسي أن يسجد سجود السهو

حكم من سها في صلاته ونسي أن يسجد سجود السهو Q شخص صلى المغرب وفي الركعة الثانية بعد قراءة التشهد قام بالتسليم وعلى الفور ذكرناه فتذكر أنه صلى ركعتين فقام وجاء بالثالثة ثم سلم ونسي أن يسجد سجدتي السهو، فماذا يفعل؟ وهل صلاته صحيحة؟ A أهل العلم يفرقون بين نسيان الزمن الطويل والزمن القصير، بأن كان لا يزال في مكانه الذي صلى فيه أو قريباً منه وتذكر وجب عليه أن يسجد للسهو حتى وإن كان هناك بعض الوقت بين تسليمه وبين تذكره، وإن طال الوقت فلا يجب عليه حينئذ، لكن إن شاء فعل وإن شاء ترك.

ميراث أولاد الأم التي ماتت قبل أبيها في تركة جدهم

ميراث أولاد الأم التي ماتت قبل أبيها في تركة جدهم Q هل يرث أولاد الأم التي ماتت قبل أبيها في تركة جدهم؟ A نعم. يرثون -تحت باب الوصية الواجبة- حظ أمهم، والوصية الواجبة هي أن يموت الفرع بوجود الأصل، ولهذا الفرع أحفاد، فهم يرثون في تركة جدهم حظهم منه من باب الوصية الواجبة.

حكم حلق اللحية

حكم حلق اللحية Q يقول: من تنبت له لحية ولكن في أجزاء متفرقة، هل يجوز له حلقها؟ A لا يجوز، لا يجوز فعل ذلك.

حكم ترك الحارس لصلاة الجمعة خشية الضرر

حكم ترك الحارس لصلاة الجمعة خشية الضرر Q شخص يعمل حارس أمن، ويأتي وقت صلاة الجمعة وهو في عمله فلا يستطيع صلاة الجمعة التي يكون فيها العمل لوقوع الضرر عليه، فماذا يفعل؟ وهل يأثم بعدم صلاتها؟ وهل يصليها ظهراً؟ A صلاة الجمعة لا مفر من الإتيان إلى مسجد الإمام والصلاة خلفه، لكن إذا منع من ذلك مانع مع تحسر وتفطر قلب العبد وأن العذر قد منعه تماماً كالمريض والمسافر والعبد والمرأة كان معذوراً عند الله كعذر هؤلاء، وكذلك المحبوس لا جمعة عليه، فإذا كان عذره بلغ هذا المبلغ بحيث صار معذوراً عند الله عز وجل فلا جمعة عليه حينئذ ويصلي الظهر، والله أعلم.

ما يفعله المغتاب إن أراد التوبة

ما يفعله المغتاب إن أراد التوبة Q أحسست أني قد اغتبتك وسامحني سامحك الله؟ A على أية حال، هذه المسائل اختلف فيها أهل العلم. قيل لـ عبد الله بن المبارك: إني اغتبتك فسامحني. قال: لا أحب أن أسامحك في شيء حرمه الله عليك. وقيل لـ محمد بن سيرين: سامحني فإني قد اغتبتك. قال: إني تصدقت بعرضي عليك فقل فيه ما شئت كل صباح ومساء. وقول ابن سيرين أحب إلي من قول ابن المبارك.

حكم القنوت في صلاة الفجر

حكم القنوت في صلاة الفجر Q ما حكم قنوت الفجر، وهل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث صحيح فيه؟ A فيه خلاف بين أهل العلم، فالشافعية يقولون بوجوب القنوت، ولكن الراجح من مذاهب الفقهاء: أنه لا قنوت خاص بصلاة الفجر ولا بأي صلاة من الصلوات الخمس، وإنما القنوت عند النوازل في الصلوات الخمس لا في صلاة دون صلاة، وهو المذهب الراجح. فإن قيل: هل أقنت خلف إمام يقنت أو أفارقه؟ A تقنت خلفه رفعاً ودرءاً للفتنة والشقاق الذي يمكن أن يحدث ولا تقل شيئاً، بل ارفع يديك خلفه ولا تنزل يديك إلا عند نزول الإمام أو عند إنزال المصلين أيديهم لا لأنه دين، ولكن لأن الدين رفع الفتن عن المسلمين، ولو صح حديث أنس بن مالك: (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقنت حتى قبض) لزال الإشكال، ولكنه حديث صحيح عند الشافعية، منكر عند جمهور أهل العلم، والصواب: أنه منكر.

صفة الإتيان والمجيء لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الإتيان والمجيء لله عز وجل صفتا الإتيان والمجيء لله عز وجل من الصفات الفعلية التي تخضع لمشيئته سبحانه وتعالى، وهما ثابتتان بالكتاب والسنة ثبوتاً يليق بالله سبحانه دون تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، خلافاً للمؤولة الذين صرفوا النصوص عن ظاهرها ومرادها، فأولوا الإتيان والمجيء لله بأنه مجيء أمر الله سبحانه أو رحمته، لا مجيئه بذاته سبحانه وتعالى.

صفات الله الذاتية والفعلية

صفات الله الذاتية والفعلية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن صفات الله عز وجل، وصفات الله تعالى إما ذاتية وإما فعلية. فالصفات الذاتية هي: الصفات اللازمة لذاته التي لا تنفك عنه. بمعنى: أنها لا تخضع لمشيئته، إن شاء فعل وإن شاء ترك، بل هي صفة ذاتية لازمة لله عز وجل: كصفة اليد، والعين، والساق، والقدم، وغيرها من الصفات. وأما الصفات التي تخضع لمشيئته فيسميها أهل العلم بصفات الأفعال، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وفعله تبارك وتعالى لا منتهى له، وهو مع ذلك خاضع لمشيئته وإرادته، فإذا أخبر أنه استوى، فالاستواء فعل لله عز وجل، يستوي كيف شاء، في أي وقت شاء، وإذا أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو يدنو من عباده، أو يقترب منهم؛ فهذه كلها أفعال يفعلها في أي وقت شاء، وفي أي زمان ومكان شاء، وإن شاء ألا ينزل لا ينزل، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام حدد وقت النزول للمولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، وهذا يدل على أنه ليس في كل وقت ينزل، وإن أراد أن ينزل في كل وقت لفعل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه ينزل في أوقات معلومة، وأعظم هذه الأوقات هو يوم عرفة، فيدنو من عباده في يوم عرفة فيغفر لهم، وينزل في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده الصالحين كذلك، بل وينزل كل ليلة إذا بقي الثلث الأخير من الليل، فينادي على عباده ويتودد ويتحنن إليهم، هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ ويظل ينادي على عباده حتى ينبلج الفجر. والكلام عن صفة النزول قد تعرضنا له من قبل وكذا الاستواء، وقلنا: إن معتقد أهل السنة والجماعة في صفات الأفعال كمعتقدهم في صفات الذات، فكما أنهم أثبتوا اليدين والعينين لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى دون تشبيه ولا تعطيل، فكذلك قالوا في صفات أفعال ربنا تبارك وتعالى، فإنه يأتي، يجيء، لكن ليس كإتيان البشر، وليس كمجيء المخلوقين، وكما أن الله تعالى لا تُعلم كيفية ذاته، فكذلك لا تُعلم كيفية صفاته التي منها: المجيء والنزول والاستواء والغضب والرضا والفرح وغير ذلك من بقية صفات الأفعال، فلا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، لكننا نوقن أنه يفرح، وأنه يغضب إذا انتهكت محارمه، ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا، فنوقن بكل ما ورد في الكتاب والسنة على ما أخبر به مالك وأم سلمة وربيعة الرأي أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. أي: السؤال عن كيفية الصفة. ولذلك قال أحمد: من قال لك: كيف استوى؟ فقل له: كيف هو؟ لأن الصفات تصور عن الذات، والكلام في الصفات يستلزم الكلام في الذات، فإذا كنت تقر بأنك تجهل ذات الإله، فلا بد وأنك كذلك تجهل كيفية صفات ذلك الإله سبحانه وتعالى، فالذي لا يستطيع أن يتكلم، وأن يصف ذات الإله، لا بد وأن يلتزم الصمت في وصفه لأفعال الله عز وجل.

إثبات صفة المجيء لله عز وجل

إثبات صفة المجيء لله عز وجل صفة الإتيان ثابتة بالكتاب والسنة، فيأتي الرب يوم القيامة للفصل بين العباد، وقد ثبت ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن المتأولة أبوا إلا أن يصرفوا مجيء الرب تبارك وتعالى إلى غير ظاهر النص، فقالوا في قوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. أي: جاء أمر ربك. ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن تفسير مجيء الرب بالأمر ينفي صفة عن الله عز وجل أثبتها لنفسه، وهذا يصطدم مع معتقد أهل السنة من أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه، فإذا أثبت الله لنفسه أنه يجيء، وأنه يأتي؛ فلا بد من إثبات هذه الصفة على الوجه اللائق به عز وجل، فيجيء حيث شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، ولا نسأل عن الكيفية. والذي يتأول مجيء الرب بأنه مجيء الأمر لا بد وأن ينفي عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، وكأنه يريد أن يقول: أنا أعلم بالله من الله، وأنا أعلم بالله من رسل الله؛ لأنهم أثبتوا جميع الصفات لله عز وجل، فأثبتوا صفات الكمال والجلال والعظمة، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه المجيء، وأثبت لنفسه الإتيان، فلم نتكلف نحن في صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟ كما أولوا المجيء بالرحمة، فقالوا في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]. أي: وجاءت رحمة ربك. وهذا تأويل. وهم مع ذلك يثبتون السمع والبصر والعلم والحياء وغيرها لله عز وجل، ويقولون: إن إثباتنا لصفة المجيء لله عز وجل يستلزم الحركة والانتقال، ويستلزم أنه في حيز، وأن السماء تحيطه، وأن العرش والكرسي من فوقه حين ينزل وحين يجيء، مع أنهم هم الذين ينكرون علو الله عز وجل، لكن المتأولة لا يثبتون على قدم واحدة، فيقولون في هذا الموطن كلاماً يردون على أنفسهم في موطن آخر، فهم الذين يقولون: إن القول بمجيء الرب يستلزم منه الحركة والانتقال. كما أنهم يقولون: إنه لا ينزل؛ لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه. فنرد عليهم: بأنهم لم يثبتوا لله تبارك وتعالى الفوقية، وهم الذين يقولون بأن الله في كل مكان، فكيف الآن تعترفون؟! والنزاع ليس في الفوقية، وإنما النزاع في النزول، وهل الذي ينزل لا ينزل إلا من علو؟ فلا يتصور أنه يصعد من الدور الأرضي إلى الدور الثاني أو الثالث أو الرابع، ولا نقول: فلان نزل من الأرض إلى الدور الخامس، وإنما نقول: نزل من الدور الخامس إلى الدور الأرضي أو الرابع أو الثالث. فالنزول في لغة العرب إلى أسفل، والارتفاع والعلو إلى علو، واستواء المولى تبارك وتعالى يختلف عن استواء المخلوقات، فاستواؤه لا يعلم كيفيته إلا هو، لكننا نعلم يقيناً أنه استوى؛ لأنه أخبرنا أنه استوى، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فالاستواء معلوم لدينا، لكن كيفية هذا الاستواء مجهول لا نعلمه؛ لأننا لا نعلم كيفية الذات، فكيف نعلم كيفية صفاته التي منها الاستواء؟ الذي نقوله في النزول والاستواء نقوله كذلك في المجيء والإتيان؛ فإن الله تعالى يأتي ويجيء حيث شاء، وبالكيفية التي يشاؤها ويريدها على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولا نقول: إنه يأتي كإتياننا، ويمشي كمشينا، ويهرول كهرولتنا، ويسارع كإسراعنا، بل كل ذلك بعيد عن الله عز وجل. فصفة المجيء والإتيان جاءت في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. والمتأولة يقولون: المجيء هو مجيء الملائكة، وليس مجيء الله عز وجل، وهذا كلام فاسد وباطل، يبطله قول ربنا تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210]. ومع هذا فسروا ذلك لياً لأعناق النصوص، وقالوا: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ملائكة الله في ظلل من الغمام؟ وكل ذلك حتى لا يفتروا -بزعمهم- على الله عز وجل أنه يجيء ويذهب، ويروح ويأتي، وغير ذلك، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه ذلك، فلم أتكلف أن أصرف ذلك عن ظاهره؟ قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]. فهذه الآية مفحمة؛ لأن الله تعالى أثبت فيها إتيانه، وأثبت فيها إتيان الملائكة، وأثبت فيها إتيان بعض أمر ربك. فإذا قالوا: إن إتيان الله يعني إتيان بعض آياته؛ فقد أثبتته الآية. وإذا قالوا: إنه إتيان الملائكة وإتيان الأمر؛ فقد أثبتته الآية، فيبقى إتيان الله عز وجل، فلابد وأن يقروا بأن الله تعالى يأتي إتياناً يليق بجلاله وكماله. ومن التقاليد الموروثة لدى كثير من المفسرين الذين ينهجون منهج الخلف ومنهج المتأولة: أنهم يفسرون المجيء المذكور في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] بمجيء أمر الله تعالى.

السؤال عن الله بـ (أين) لا يستلزم التحيز ولا الجهة

السؤال عن الله بـ (أين) لا يستلزم التحيز ولا الجهة يبقى سؤال هنا للذين يقولون: إن أمر الله هو الذي ينزل، وهو الذي يجيء ويأتي، فنسألهم: أين الله؟ فلا يقبلون هذا السؤال، ولا يحبون الجواب عنه، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الجارية هذا السؤال بلفظه ومعناه: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. فقال لسيدها ومولاها الحكم بن معاوية السلمي: أعتقها فإنها مؤمنة). فشهد لها النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان؛ لأنها تعتقد وتقر بلسانها أن الله تعالى في السماء، ولذلك لا بأس أبداً من توجيه هذا السؤال، فإذا سألنا الذين يصرفون آيات الله تعالى عن ظاهرها فراراً من التشبيه بزعمهم، فنقول لهم: أين الله الذي يأتي الأمر من جهته؟ فسيضطربون اضطراباً عظيماً جداً في الجواب عن هذا السؤال، لذا فأول ما يفعله النفاة في مثل هذا الموقف أن يقولوا: لا يسأل عن الله بـ (أين). وهم الآن ينفون هذا السؤال، ويخطئون من يسأل ويقول: أين الله؟ إذاً: فهم أعلم من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي سأل هذا السؤال، وليست الحجة في قول الجارية، وإنما الحجة في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام للجارية، لكنهم يردون علينا بسؤالنا أين الله؟ بقولهم: هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ولا يسأل عن الله بـ (أين)، مع أنه قد صح في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله؟) فيقولون: لأن إثبات الأينية لله عز وجل يستلزم الحيز والجهة، وإذا كان في حيز أو في جهة، فهذا يعني أنه داخل في بعض خلقه، وإذا كان داخلاً في بعض خلقه؛ فإن الخلق يحيط به، مع أن الله تعالى هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وليس في المخلوقات من أحاط الله عز وجل، أو ما أحاط بالله عز وجل، فهكذا تفلسفوا، وهكذا تمنطقوا. وهذا كلام في غاية العجب. إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما السماوات والأرض بالنسبة للكرسي إلا كحلقة في فلاة). أي: في صحراء، في برية، في بادية، فهل تظهر هذه الحلقة؟ لا تظهر، إذاً فالسماوات والأرض بهذا الحجم الذي نراه إذا سرنا فيه ما هي بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء. قال: (وما الكرسي بالنسبة للعرش إلا كحلقة في فلاة، والله تعالى مستو على العرش، والكرسي موضع قدميه سبحانه وتعالى). والكرسي يحيط بالسماوات والأرض وزيادة؛ لأن السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، وهذا الكرسي العظيم إنما هو موضع القدمين لله عز وجل، وهو بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، فما بالكم بالعرش كيف هو؟ لا يستطيع أحد أن يصف العرش، كما لا يستطيع أحد أن يصف الكرسي، مع أن الكرسي بالنسبة للعرش شيء قليل جداً، وشيء بسيط جداً، لكن هذا الشيء البسيط يحيط بالسماوات والأرض. إذاً: فهل نحن مكلفون بأن نتفكر في ذات الله تبارك وتعالى؟ فإقحام العقول والأفكار والأفهام في البحث عن ذات الله عز وجل لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى ضلال صاحبه وتحيره وتيهه، وربما أدى به إلى الكفر بالله عز وجل، ولذلك أمرنا أن نتفكر في آيات الله، وألا نتفكر في ذاته تبارك وتعالى؛ لأن ذاته فوق كل فكر، وفوق العقول، وفوق الإدراك، ولا يمكن أبداً أن يحيط عقل بصفة من صفات الله، فضلاً أن يحيط بذات الله تبارك وتعالى. وإذا كنا نعجز أن نصف الله عز وجل، فإننا بالتالي نعجز أن نتصور صفات المولى تبارك وتعالى التي منها: المجيء، بل علينا أن نسلم، وأن نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنؤمن بذلك ولا نخوض فيه، لا بعقل ولا بفكر. ومن فضل الله عز وجل: أنه لا يسألنا عن ذاته، ولا يسألنا عن كيفية صفاته، والمرء إنما يحرص على ما ينفعه، وإقحام العقل في صفات الله عز وجل وفي ذاته إنما هو أمر يؤدي إلى الضرر، والعبد غير مسئول عن هذا، فهل يعقل أن يدع ما يسأل عنه بين يدي الله عز وجل من أحكامه وفرائضه وسننه، ثم يقحم نفسه في مسألة لم يكلفه الله تبارك وتعالى بها؟ على كل حال إذا كان النفاة لا يثبتون علو الله على خلقه، فلا معنى لقولهم: جاء أمر ربك؛ لأنهم لا يدرون من أين يأتي الأمر، وهم يقولون: إن الله في كل مكان، اللهم إلا إذا زعموا أن الأمر يأتي من كل مكان، لتصورهم أن الله تعالى في كل مكان، ولا نعلم أحداً قال بهذا القول، حتى هم لم يقولوا: إن الأمر يأتي من كل مكان، فالله عز وجل قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. فنحن نعلم مجيء الرب تبارك وتعالى، ونعلم أنه يأتي من علو، وهؤلاء لا يثبتون العلو لله عز وجل، فنقول لهم: إذا فسرتم وأولتم مجيء الرب بأنه مجيء الأمر فمن أين يأتي الأمر؟ وهم يقولون: إن الله في كل مكان. إذاً: يأتي الأمر من كل مكان، وهذا الكلام لم يقل به أحد، حتى هم لم يقولوا بذلك. فليس لدى النفاة جواب بالنسبة لهذه الآيات ما لم يركبوا رءوسهم، إذ لم يبق هناك من يضيفون إليه المجيء؛ لأن الآية قطعت عليهم خط الرجعة كما يقولون، حيث ذ

عدم إحاطة العباد بالله علما

عدم إحاطة العباد بالله علماً هل لأحد أن يدعي أنه يحيط علماً بالله؟ A لا. لأن ذلك مستحيل شرعاً وعقلاً، والواقع أن الله تعالى هو الذي يحيط خلقه بعلمه، أما هو سبحانه يُعلم ولا يحاط به علماً، فهو معلوم الوجود، وأنه واجب الوجود، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]. فهم لا يحيطون بذاته ولا بصفاته ولا بأفعاله علماً، والنزول والمجيء من أفعال ربنا تبارك وتعالى، فينتهي علمنا فيهما وفي غيرهما من أفعال ربنا تبارك وتعالى بمعرفة المعنى العام أنه يأتي وأنه يجيء، أما كيف يأتي وكيف يجيء فهذه ليست لنا ولا نعرفها، بل ولا يعرفها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف يدعي هؤلاء صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟ وتعطيل النصوص بالضرورة يستلزم تعطيل صفات المولى تبارك وتعالى. ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، ومما يحدثه في نهاية المطاف لهذه الدار: أن يأمر الشمس أن تطلع من مغربها بدلاً من طلوعها من مشرقها؛ إعلاناً وإعلاماً لنهاية هذه الحياة، وهنا يغلق باب التوبة، ولا يقبل إيمان ممن يريد أن يؤمن، أو عمل صالح ممن يريد أن يعمل عملاً صالحاً. ثم إذا جمع الله الأولين والآخرين يأتي يوم القيامة ليحاسب عباده، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. وهناك يتميز المؤمن الصادق الذي كان يعمل بصدق ويقين {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، فيأتي الرب تبارك وتعالى فيعرفه المؤمنون بعلامته الخاصة، وهي ساقه تبارك وتعالى، فيسجدون له سبحانه سجود تعظيم وشكر في آن واحد، ويحاول المنافقون والمراءون أن يسجدوا كسجود المؤمنين، فيجعل الله تبارك وتعالى ظهورهم طبقاً واحداً، فإذا أرادوا أن يسجدوا لله خروا على ظهورهم؛ لأنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا، ومن سجد منهم إنما سجد مرائياً منافقاً، ولم يكن يسجد لله بصدق وإيمان ويقين. إذاً: هذه الصفة ثابتة لله عز وجل على الوجه اللائق، ونقول فيها كما نقول في غيرها من بقية الصفات.

إثبات أن لله هرولة تليق به سبحانه

إثبات أن لله هرولة تليق به سبحانه قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي يقول فيه المولى عز وجل: (وإذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً). فأثبت القرب من العباد لله عز وجل. (وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة). فأنا أهرول، والله تعالى يهرول، لكن هرولة الله ليست كهرولة المخلوقين، وإنما ذلك اتفاق في الاسم واختلاف في المسمى والمضمون، والمعنى معلوم، والكيف مجهول. فهرولة الله تبارك وتعالى يقيناً معلومة لدينا؛ لأنه أخبرنا أنه يهرول، لكن كيف يهرول؟ هذه ليست لنا، ولو سألتني: كيف يهرول زيد أو عمرو؟ لقلدت لك هرولة زيد وعمرو؛ لأن الأمر لا يعلم إلا بشرطين: إما برؤيته له، فأستطيع أن أصفه، وإما بوجود المماثل له. وأنت سألتني: كيف يهرول عمرو أو زيد؟ فهل عمرو سيأتي بهرولة جديدة؟ لا. فنحن نهرول كبعضنا، ولكل واحد من البشر هرولة خاصة، وهو رمل واحد، وإسراع واحد، وجري واحد، وبطء واحد، ويستطيع المرء أن يصف ذلك في المخلوقات؛ لأنه رأى ذلك بنفسه ويستطيع أن يفعل ذلك، وهناك أمثلة عديدة في البشر يستطيع أن يقيس؛ لأني كزيد وكعمرو وكإبراهيم وكمحمد، لكن لا أقول: أنا كالله تعالى! لأننا إذا كنا نتفق على أن ذات المخلوقات تختلف عن ذات الله عز وجل فلا بد وأن نقول: إن صفاته تبعاً لهذه الذات تختلف عن صفات المخلوقين فهو يهرول كيف يشاء، ولا أستطيع أبداً أن أصف هرولة الله عز وجل؛ لأنني لم أر الله، ولم أر هرولة الله، ولذلك لا أستطيع أبداً أن أمثلها؛ لأنها غيب عني، وكل ما في الأمر: أن الله تعالى ألزمني الإيمان بأنه يهرول، وأنه يأتي، وأنه يجيء، وأنه يتقرب إلى عباده. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية قال: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم! فيقولون: لا، نبقى هنا حتى يأتينا ربنا كما نعرفه). لأنهم قد رأوه أول مرة في المحشر، ولذا لما ظهر لهم في صورة أخرى وقال: أنا ربكم! قالوا: لا. إنما لربنا علامات نعرفه بها، عينان، وساق، ويدان. فهذه وغيرها جوارح في حق المخلوقين، لكنها ليست جارحة في حق الله عز وجل. ولذلك لما ظهر الله تعالى لهم لم يروا له مثيلاً ولا نداً ولا شبيهاً في حياتهم قط، فعرفوا أن هذا هو الله عز وجل؛ لأنه واحد في ذاته، واحد في صفاته، لا يشبه أحداً، فلما بدا لهم وظهر لهم وكشف الحجب بينه وبينهم ورأوه على هذا النحو الذي لا يمكن لبشر أن يصفه قالوا: أنت ربنا.

أقوال أهل العلم في إثبات صفتي الإتيان والمجيء

أقوال أهل العلم في إثبات صفتي الإتيان والمجيء

قول ابن جرير في إثبات صفتي المجيء والاتيان

قول ابن جرير في إثبات صفتي المجيء والاتيان قال ابن جرير: اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره الله تعالى في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210]. فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول. أي: لا بد أن نسلم أنه يأتي مثلما قلنا في النزول والاستواء وغير ذلك، ونفوض علم الكيفية لله عز وجل، وغير جائز لأحد تكلف القول في ذلك إلا بخبر من الله عز وجل، أو من رسل الله تعالى. ولذا عندما لم يأت الخبر بالكيفية؛ وجب أن نسكت عما سكت عنه الأنبياء، وعما سكت عنه أصحاب الأنبياء، ولذلك لم يرد في أثر -ولو باطل- أن واحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال له: يا رسول الله! كيف يأتي ربنا؟ كيف يستوي ربنا؟ كيف يتكلم ربنا؟ فلم يسألوا عن الكيفية قط؛ لأنهم يعلمون أن لله تبارك وتعالى ذاتاً تختلف عن ذواتنا، وهم لا يمكن أبداً أن يحيطوا بها علماً، ولذلك لم يتكلفوا السؤال عنها، وعن كيفية صفاتها.

إثبات أبي الحسن الأشعري لصفتي المجيء والإتيان

إثبات أبي الحسن الأشعري لصفتي المجيء والإتيان وقال أبو الحسن الأشعري، وهو من أفراخ المعتزلة ورئيس الأشاعرة، لكن الله تعالى منَّ عليه بفضله؛ فانسلخ من معتقده الفاسد الأول، وجاء مقراً بعقيدة أحمد بن حنبل، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة قال: وأجمعوا -أي: أهل السنة- على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً. فإجماع السلف على أن الله تعالى يجيء، وأنه يأتي، وأنه يتقرب إلى عباده، ويقترب، ويدنو منهم، وكيفية ذلك لا يعلمها إلا هو سبحانه.

قول الشيخ الهراس في إثبات صفتي المجيء والإتيان

قول الشيخ الهراس في إثبات صفتي المجيء والإتيان وقال الشيخ الهراس في شرح الواسطية -بعد أن ذكر الآيات والأحاديث الثابتة في صفة الإتيان والمجيء -: وفي هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل -أي: من صفات فعل الله عز وجل- وهما: صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة: الإيمان بذلك على حقيقته. أي: نؤمن بأن الله تعالى يأتي حقيقة لا مجازاً، ويبتعدون عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل.

تأويل الإمام النووي وابن الجوزي لصفتي الإتيان والمجيء والرد عليهما

تأويل الإمام النووي وابن الجوزي لصفتي الإتيان والمجيء والرد عليهما وقد جاءت صفتا الإتيان والمجيء مقترنتين في حديث واحد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا تلقاني عبدي بشبر؛ تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع؛ تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع؛ جئته وأتيته بأسرع). صفتان ثابتتان لله عز وجل: الإتيان والمجيء، لكن بعض أهل العلم لا يدعون هذه الآيات تمر هكذا، كـ ابن الجوزي عليه رحمة الله، والنووي عليه رحمة الله، وكلاهما لم يتمكن من دراسة العقيدة دراسة وافية مستفيضة على يد أهل السنة والجماعة؛ ولذلك وردت أخبار في ترجمة ابن الجوزي عليه رحمة الله، أنه شيخ الوعاظ وصاحب ورع وتقى وهدى، لكنه في باب الصفات لم يحكم ذلك إحكاماً، وإنما كان له تخبط، فتارة يقول بقول السلف، وتارة يقول بقول الخلف، وتارة يذكر الخلاف ولا يرجح، تماماً كما يفعل النووي، ولذلك عاب عليه الذهبي عليه رحمة الله في كتاب السير باعتبار ابن الجوزي حنبلي المذهب، فقال: ويا ليته سكت أو تبع إمامه. أي: يا ليته ما تكلم في الصفات، ويا ليته إن تكلم اتبع إمامه أحمد بن حنبل. فـ ابن الجوزي ممن دخل في هذا التأويل، وكذا النووي عليها رحمة الله، لكن تلاميذ النووي نقلوا عنه أنه لم يحكم دراسة العقيدة، بل كان يقلب فيها، وينقل من كتب القاضي عياض، والإمام المازري وكلاهما أشعري معروف بأشعريته وخلفيته، فذكر الإمام النووي هذه الآيات وهذه الأحاديث، وذكر فيها خلاف أهل العلم، ورجح فيها مذهب الخلف للأسف، فأثبت أن المجيء إنما هو مجيء الأمر لا مجيء الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يفهموا من صفات الله عز وجل إلا ما يفهمونه من صفاتهم البشرية، وقياسهم مجيء الرب على مجيئهم، وإتيان الرب على إتيانهم، وقرب الرب على قربهم ودنوهم، فهم لم يفهموا ولم يدركوا من صفات الله عز وجل إلا ما يدركون من صفاتهم التي يرونها ويعلمونها من أنفسهم، وهذا بلا شك خطأ عظيم جداً، والرد عليه من أوجه كثيرة: أولاً: أن النووي لما رجح مذهب الخلف ادعى أن هذا مذهب السلف، فإن كان يقصد مذهب الأشاعرة، وأنهم سلف بالنسبة له وأنه تابع لهم في بعض الصفات؛ فكلامه صحيح، وإن كان يقصد أن هذا مذهب السلف الصالح عامة؛ فكلامه مردود، إذ إن التأويل ليس هو مذهب السلف، وإنما هو مذهب الخلف. ومذهب السلف رضي الله عنهم إنما هو إثبات المعاني، وتفويض علم الكيفية إلى الله تعالى، وقد فصلنا القول في ذلك مراراً ولا داعي لإعادته. ثانياً: تأويله للإتيان والمجيء بالرؤية، أو ببعض ملائكة الله، ليس تأويلاً صحيحاً، بل هو يناقض العقيدة السلفية في صميمها، فنحن إذ نقول بإثبات صفة المجيء والإتيان للرب تبارك وتعالى لا يستلزم ذلك التشبيه والتجسيم؛ لأننا قلنا من قبل: ما من شيئين إلا وبينهما اشتراك وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل، ومن نفى القدر الفارق فقد عطل. والله تعالى يأتي في صورة فيقول: أنا الجبار، وهو سبحانه قد صورني وخلقني على صورة معينة، فهل صورتي كصورة الله عز وجل؟ A لا. لكن أوجه الشبه بيني وبين الله أن لي صورة ولله تعالى صورة. فالخلق يتفقون مع الخالق في مجرد التسمية فقط، ومن نفى القدر المشترك فقد مثل، كأن يقول: صورتي كصورة الله عز وجل؛ لأنه أثبت لنفسه صورة، وأثبت لله صورة، فلا بد وأن تكون صورته كصورة الله، وهذا خطأ عظيم؛ لأننا إذا كنا نفرق بين ذات المخلوق وذات الله، فلا بد وأن المخلوق يقول بنفس الفارق بين صورته وصورة الله عز وجل، وإلا إذا لم يقم هذا الفارق بينه وبين الله فلا بد وأن يجعل نفسه أو ذاته كذات الله تعالى، وهذا إلحاد وكفر. ومن نفى القدر الفارق فقد عطل. أي: عطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته. كما أن الله عز وجل يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، وكل ذلك على الحقيقة من غير أن يلزم فعله سبحانه وتعالى ما يلزم المخلوقين إذا فعل مثل ذلك. ومن المؤكد أن النبي عليه الصلاة والسلام وسلف هذه الأمة وأئمتها يعلمون أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة، أو وصفه رسوله بصفة أن ذلك ثابتاً له على ما يليق به سبحانه وتعالى، فلا يشبه شيئاً من صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته سبحانه ذواتهم، وكذلك القول بالنسبة لأفعاله سبحانه وتعالى. ومن الجدير بالذكر هنا: أن في صفات الخلق ما يختلف فيما بينهم، فليس كل الخلق يتصفون بصفة واحدة، ولذلك الحيوانات لها صورة، والطيور لها صورة، وبنو آدم لهم صورة، والله تبارك وتعالى له صورة، فهل اتفاق الجميع في لفظ الصورة يستلزم المماثلة والمشابهة بين هذه المسميات؟ A لا، فتشابه الصفات في الاسم لا يستلزم تشابه الذوات.

كلام ابن تيمية في إثبات صفتي المجيء والإتيان

كلام ابن تيمية في إثبات صفتي المجيء والإتيان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: وإذا قيل: الصعود والنزول، والمجيء والإتيان أنواع جنس حركة. قيل: والحركة أيضاً أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، والروح تتحرك في البدن، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يصف الروح التي هي بين جنبيك، وتتحرك فيك بالليل والنهار وأنت نائم ومستيقظ، فكيف تصف صفات المولى تبارك وتعالى؟! وكذلك الملائكة لها حركة، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، فالذين يقولون: إن إتيان الرب تبارك وتعالى يستلزم الحركة والانتقال والحيز، نقول لهم: ليس ذلك بلازم، فهناك بعض المخلوقات تتحرك دون حيز، كما يراد بالحركة أمور أخرى كما يقول كثير من الطبائعية والفلاسفة، منها: الحركة في الحكم كالحركة في النمو، فمثلاً تقول: فلان ينمو ويتحرك دائماً. والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، كأن تقول لابنك: يا بني! تحرك قليلاً؛ لما ترى ما يكتب له في الشهادة وهو راسب، أو درجاته قليلة، فتقول له: تحرك. فأنت لا تقصد بقولك هذا أن ينتقل من حيز إلى حيز، أو من مكان إلى مكان، وإنما تقصد أن ينتقل بكيفية أخرى، وهي أنه يعلو من الجهل إلى العلم، وحركة اللون من سواد إلى بياض، والحركة في الأين فليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز، فإذا كانت حركة المخلوقات لا تستلزم الانتقال وخلو المكان الأول، فهي من باب أولى في جنب الله عز وجل، وفي نزول الله عز وجل، وقد قلنا فيما مضى: إن بعض الناس يتوهم أن نزول المولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل لا يستلزم خلو العرش منه، وأن العرش والسماوات من فوقه فيكون سبحانه محصوراً بين خلقه، فهذا كفر وضلال لمن قال به. لكنهم أرادوا أن يلزموا أهل السنة الحجة بذكر هذا الكلام السخيف التافه؛ لأنهم يعلمون من أنفسهم أن الواحد منهم إذا كان في مكان عال ونزل يلزم من ذلك خلو المكان العالي منه، فقاسوا أنفسهم على الله عز وجل، وقاسوا الله تعالى عليهم، وهذا ضلال مبين. وعقيدة أهل السنة والجماعة أن يسكتوا عما سكت عنه الله تعالى، وسكت عنه رسله وأنبياؤه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب، ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وبالوجه واليد ونحو ذلك: إن هذا يقتضي التجسيم؛ لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فنحن لا نعرف واحداً يوصف بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وله وجه، وله يد وله عين وغير ذلك إلا أجسام محسوسة أمامنا. ولذلك ينفون عن الله عز وجل هذه الصفات، فيقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، فينفون عن الله تعالى كل شيء أثبته لنفسه إلا سبع صفات، وهذا اضطراب؛ لأننا قلنا: إن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات، كما أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فالذي يريد أن يتكلم إما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا سكت وآمن وسلم فهذا هو مذهب السلف، وإذا تكلم إما أن يتكلم بكلام السلف، وإما أن يتكلم بغير ذلك فيكون من الخلف. والذين يقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، هم النفاة، لكنهم يثبتون لله تعالى الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام. لكن: يقال لهم: أنتم تقولون: ليس له يد، وليس له ساق، وليس له عين، ونفيتم عنه تبارك وتعالى جميع الصفات الذاتية، فكيف يتصور وجود ذات بلا صفات؟! فقالوا: نحن نثبت له صفات معينة، وهي: صفة الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام؛ لأنها قد وردت في القرآن والسنة. فإن قيل لهم: والصفات الذي قلناها أيضاً في الكتاب والسنة؟ قالوا: لا. لأن إثباتكم لهذا الكلام يستلزم التشبيه. فنقول لهم: لا، فنحن وسط بينكم وبين غيركم، فأنتم تنفون صفات الله عز وجل وتقولون: هذا تنزيه لله عز وجل؛ حتى لا يكون شبيهاً بالمخلوقات. وغيركم يقول: لا. نحن نثبت لله تعالى هذه الصفات لكن لا نعلم منها إلا ما نعلمه من أنفسنا. أي: أن له يداً كيدي، وعيناً كعيني، ثم في النهاية هو رجل مثلي، فإذا كانت صفات المولى عز وجل مثل صفاتي، ففي النهاية هو مثلي بالضبط؛ لأنني إذا تكلمت في الصفات فأنا أركبها في الذات، وهذه الذات لا يصلح أن تتركب إلا في ذات تدخل في تصورك أنت، وهو شخصك، وهب أن الذي تكلم بهذا الكلام امرأة -لا بد من هذا الطرح أيضاً- فإذا كنت لا تفهم من صفات الله إلا ما تفهمه من صفاتك أنت فلا بد أن هذا المعتقد سيسود الرجال والنساء، فهل تقبل أنت كرجل تثبت هذه الصفات بالمماثلة والمشابهة مع صفاتك أنت من امرأتك، أو أمك، أو أختك، أو ابنتك أن تقول: إن الله تعالى مثلي تماماً، فذاته كذاتي، وصفاته كصفاتي؟! معاذ الله! فأنت نفسك لا تقبل هذا، فلم تقبل أن تشبه الله تبارك وتعالى بذاتك ونفسك؟! لا بد أن تثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه على مراده هو، بالكيفية والوجه الأكمل اللائق به سبحانه وتعالى. وهؤلاء المثبتة ردوا على النفاة، والذين ينفون عن الله صفاته ردوا عليهم بأنك

الأسئلة

الأسئلة

حكم ما يقع بين الناس من التعصب لفريق معين من لاعبي كرة القدم

حكم ما يقع بين الناس من التعصب لفريق معين من لاعبي كرة القدم Q ما حكم ما يقع بين الناس من التعصب للكرة أو لفريق معين؟ A قد بلغ التعصب للكرة حداً عند أبنائها وأهلها لم يبلغ هذا التعصب عند أتباع المذاهب لأصحاب المذاهب، بل نرى ونسمع من يقذف بنفسه من البلكونات من الأدوار العالية الشاهقة عندما يسمع بخسارة فريق معين! وربما يسقط في الطريق ميتاً! وهذه قصص نسمعها ونراها، وهي واقعة كثيرة جداً، مثل: أربعة عشر واحداً ماتوا عندما ماتت أم كلثوم، وأحد عشر شخصاً رموا بأنفسهم من البلكونات، أو إحدى عشرة امرأة لما مات عبد الحليم حافظ! ثم يأتي شخص ويسألني عن الغناء هل هو حلال أم حرام؟! أما كرة القدم باعتبارها رياضة، وهي مفيدة بدنياً وذهنياًً، لا يلزم فيها أن تضيع شيئاً من صلاتك، أو من دينك وعبادتك، وأن تتعصب لها، ذهبت أو جاءت، وأن تقع عينك على محرم، وأن تلهيك في الجملة عن ذكر الله عز وجل. لكن الواقع الذي نراه الآن بخلاف ما أمر به الدين، فقد يضيع المسلم صلاته وهو جالس أمام التلفزيون، ناهيك عن الذي نسي نفسه حتى ضاعت منه كل الصلوات، ثم يقول لنفسه: أين سأصلي؟ وأين سأتوضأ؟ والناس هنا أمم والآف، وكل يلعب على ما يحلو له، فهذا يلعب على الموسيقى، وهذا على الرقص، وهذا على التمارين الرياضية، والكل يلعب إلا من رحم الله عز وجل، وطائفة قليلة جداً في الأمة تأخذ الأمر بجدية، وليس في يدها ما تفعل، ولا تقدر أن تتصرف؛ لأن بقية الأمة -وليس الكفار- يضيعون جهد هذه الطائفة ويبعثرونه، ثم تأتي وتسأل: الكرة حلال أم حرام؟

حكم تشغيل إذاعة القرآن قبل صلاة الجمعة

حكم تشغيل إذاعة القرآن قبل صلاة الجمعة Q ما حكم تشغيل إذاعة القرآن الكريم قبل أي صلاة خاصة صلاة الجمعة، هل هذا وارد؟ A هذا ابتداع في الدين.

حكم ذهاب الأولاد إلى القرية الفرعونية

حكم ذهاب الأولاد إلى القرية الفرعونية Q هل يجوز السماح لأولادنا بالذهاب في رحلة مع المدرسة إلى القرية الفرعونية الموجودة في السيد زكي؟ خاصة وأن ابنتي كلمتني اليوم، أنها ذهبت مرة إلى هناك فرأت نساءً عرايا ليس عليهن إلا طقوس الفراعنة، فوقفت على الباب من الخارج حتى انتهت الرحلة؟ A لا والله، لا يجوز، وإذا كان هذا الطفل علم حرمة هذا الأمر وهو طفل لم يبلغ ولم يكلف، فما بالك أنت؟

حكم إعطاء الهدية بنية إرجاع هدية أخرى

حكم إعطاء الهدية بنية إرجاع هدية أخرى Q هل هدية العرس تدخل تحت حديث: (مثل الذي يرجع في هديته كمثل الكلب يرجع في قيئه). مع ملاحظة أن النية هي أن المعطي يريد أن ترجع إليه مرة أخرى في مناسبة له، وهل يجوز إعطاؤها نقداً؟ A يجوز إعطاء الهدية على أي وجه من الوجوه ما لم تكن أصل الهدية حراماً. يعني: لا يصلح أن تهديه زجاجة خمر مثلاً، فهذا حرام، وإن كانت عند قوم أعظم هدية، لكنها في الشرع غير مقومة، وغير ممولة. أي: لا قيمة مالية لها؛ ولذلك يقول أهل العلم بالإجماع: إن من كسر زجاجة خمر لا يطالب بدفع قيمتها، لماذا؟ لأنها لا قيمة لها في الإسلام، مال غير مقوم. وليس معنى كلامي أن تطلع على الخمارات والحانات تكسر وتخرب ثم تقول: الشيخ قال، أنا لم أقل هذا الكلام! أنا قلت: الخمر في الإسلام غير مقوم، لكن الهدية تجوز نقداً وتجوز عيناً وتجوز منقولات وتجوز عقارات، وتجوز كل شيء، فهي هدية وهبة، ومن خوارم المروءة صراحة: أنك تنتظر أن ترد إليك الهدية مرة أخرى، ومن أجل هذا هناك أناس كثيرون جداً جداً من إخواننا الفلاحين يحجم عن السفر، وقد أحجم كثير من أصحابي عن السفر، فعند السفر تلاحظ أن كل البلد عن بكرة أبيها تأتي إلى بيت أخينا المسافر كل واحد متحمل ما لذ وطاب هدية للمسافر، ثم ينتظرون العودة، وعيونهم مفتحة ينتظرون ماذا سيأتي لهم، فهذا يعطيه ثوباً يرجعه ويقول لك: هذا ضيق هذا واسع، أعطني شيئاً علي، فهو يعطي الهدية وينتظر هدية، والهدية بلا عوض، اسمها هبة، وعقد الهبة بلا عوض، فأنت تعطي ولا تنتظر، ومن خوارم المروءة أنك تنتظر العوض.

حكم سماع الحكايات التي تذاع في الراديو

حكم سماع الحكايات التي تذاع في الراديو Q هل يجوز سماع الحكايات التي تذاع في الراديو؟ A نعم.

حكم سماع بعض التمثيليات التي تحكي قصصا اجتماعية وتذاع في الراديو

حكم سماع بعض التمثيليات التي تحكي قصصاً اجتماعية وتذاع في الراديو Q هل يجوز سماع بعض التمثيليات التي تذاع في الراديو، والتي تحكي قصصاً اجتماعية؟ A نعم يجوز، وذلك إذا كان على هذا النحو الذي تسأل عنه السائلة، والتي تفيد الإنسان في تكوينه الفكري والعقلي، أما سماع التمثيليات والقصص الخليعة التي تدعو إلى الرذيلة والفاحشة فلا يجوز ذلك.

رؤية المؤمنين لله عز وجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - رؤية المؤمنين لله عز وجل تعد مسألة رؤية المؤمنين لربهم عز وجل من أشرف مسائل الدين وأجلها، إذ إنها تتعلق بالاعتقاد وأصول الدين، بل هي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وهي الزيادة التي أكرم الله بها عباده المؤمنين في الآخرة، وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة، خلافاً لبعض أهل الأهواء والبدع.

ذكر الخلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج

ذكر الخلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي عن مدى إمكانية رؤية الله عز وجل بالعين، وقلنا: إن ذلك محال في حق البشر، وذكرنا الخلاف الذي حدث في حق النبي عليه الصلاة والسلام في رحلة المعراج: هل رآه بعيني رأسه أم رآه بفؤاده؟ وذكرنا أن هناك خلافاً شكلياً ظاهرياً، فـ ابن عباس خالف جمهور الصحابة فأثبت الرؤية لله عز وجل، إلا أنه لم يثبت عنه أنه قال: رآه بعيني رأسه، وإنما وردت عنه أقوال مطلقة، ومن ذلك: أنه سئل: [(هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقال: نعم)]. والتقييد الذي ورد في كلامه بأنه رآه بفؤاده لا بد وأن يحمل عليه كلامه المطلق، وبهذا ينضم قول ابن عباس إلى قول جمهور الصحابة، فلا يكون هناك في الحقيقة خلاف بينهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما رأى ربه بعيني رأسه، وإنما رآه بفؤاده، ولا أدل على ذلك من قول عائشة رضي الله عنها لـ مسروق: (من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وفي رواية أنها قالت: (لقد قف شعري مما أسمع، إني أسمع أقواماً يقولون: إن محمداً رأى ربه، فمن قال ذلك فقد أعظم الكذب على الله). ثم مما يؤيد كلامها: كلام عبد الله بن مسعود، فإنه قال نفس الكلام، وفوق هذا الكلام كله: حديث النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر لما سأله: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي رواية قال: (رأيت نوراً). كما أثبتنا في الدرس الماضي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه مناماً لا يقظة؛ لما رواه أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في منامي في أحسن صورة، حتى وضع كفه بين كتفي فشعرت ببردها بين ثديي)، ورؤيا الأنبياء حق ووحي. وبهذا يتبين خلاصة الأمر وخلاصة الكلام في هذا: أن رؤية الله تبارك وتعالى بعيني الرأس في الدنيا؛ سواء للمؤمنين أو للأنبياء لا تجوز، وعلى ذلك إجماع علماء الإسلام. وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فإنه قد رآه في منامه ولم يكن ذلك بعيني رأسه، وإنما رآه بفؤاده، وهذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية بالعين.

رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة وأما رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة، فهل هي ممكنة وجائزة وثابتة أم منتفية؟ أردنا في هذا الدرس أن نكمل موضوع الرؤية، فكان لزاماً علينا حتى يتم الكلام في باب رؤية المولى عز وجل أن نتكلم عن هذه الجزئية، وهذه القضية خالفت فيها بعض الفرق أهل السنة والجماعة، كالجهمية والمعتزلة وغيرهم.

كلام الإمام الطحاوي وغيره في إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل

كلام الإمام الطحاوي وغيره في إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يقول الإمام الطحاوي عليه رحمة الله: والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وتفسيره -أي: تفسير الرؤية- على ما أراد الله تعالى وعلم، وما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، ولا ندخل بذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم أحد في دينه إلا من سلم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. والمخالف في إثبات الرؤية -أي: رؤية الناس لله عز وجل- من الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية على جهة الخصوص، قولهم باطل مردود في الكتاب والسنة؛ لأن مسألة الرؤية ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع. وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كـ أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة وحماد وغيرهم من أئمة الدين، وأهل الحديث عامة، وسائر طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، فكلهم أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة في الجنة. وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي تتعلق بالاعتقاد وأصول الدين لا بفروعه، بل هي الغاية التي شمر إليها المشمرون؛ ولذلك قيل للشافعي: ماذا تقول في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]؟ قال: تغشاهم نضرة بسبب نظرهم إلى الله عز وجل، فإنهم يلتمسون من نوره، وكل مسلم إنما تظهر على وجهه علامات الرضا وعلامات السخط نظراً لما يطلب. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها). قال أحمد بن حنبل: (نضر الله امرأً) أي: جعل في وجهه النضرة، وهي البشر والسرور والفرح، فترى وجهه نير وإن كان أسود أو أسمر؛ لأنه استمد هذه النضرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد: ما رأيت عالماً من علماء الحديث إلا وقد عرفته، قيل له: كيف؟ قال: بالنضرة التي في وجهه، أي: بالبشر والفرح والسرور، والنور الذي يشع من وجهه بسبب طلبه لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا تأويل لقوله: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها). وهذا يدل على أن من سمع ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، أو تذاكره، أو درسه، أو اهتم، أو بثه في الخلق علماً وعملاً فإنه يحظى بهذا الوعد العظيم الذي وعد به النبي عليه الصلاة والسلام، وهي تحقيق النضرة في وجهه. وقال محمد بن إدريس الشافعي في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]: تغشاهم نضرة في وجوههم بسبب نضرهم لله تبارك وتعالى، قيل له: أأنت تقول بذلك؟ أي: أهذا معتقدك؟ قال: والله لو لم يكن ذلك لما عبد محمد بن إدريس ربه. أي: لولا أني أعتقد أني ألقى الله عز وجل يوم القيامة، وأنظر إليه فما فائدة عبادتي الآن؟ أي: إذا لم أكن على يقين من أنني سأتزود بنور الله عز وجل يوم القيامة، وأتنعم وأتلذذ بالنظر إلى وجه الله تعالى، فإذا كنت أشك في ذلك فلم أعبد ربي إذاً؟! وهذا يدل على أن المرء يعبد ربه طمعاً في جنته، وطمعاً في التلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى. قال: وهذه مسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون.

أعظم الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

أعظم الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم في الجنة وقد ذكر الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى أن من الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم في الجنة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وهي من أظهر الأدلة وأعظمها في إثبات النظر إلى الله تعالى. وأما من أبى إلا أن يحرفها بما يسميه تأويلاً فقوله غير صحيح، فنصوص المعاد والجنة والنار والحساب سهل تأويلها على أرباب التأويل، يعني: من أراد أن يؤول فالتأويل وارد وليس عنه ببعيد، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص وأن يحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأولو هذه النصوص. يريد أن يقول: إن الذي يريد أن ينحرف لا بد وأن يجد أمامه سبل الانحراف، بخلاف من عقد العزم من أول أمره على أن يكون متبعاً لا مبتدعاً، وعلى أن يكون له سلف في كل قول وفعل، لا من أراد أن ينخر في دين الله عز وجل بهواه، وبتأويل لم يثبت عن واحد من السلف. وهذا هو الذي أفسد الدين والدنيا، وهو ما فعلته اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وقد حذرنا الله تعالى من أن نفعل فعلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية؟! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ وجرى بسببه ما جرى في يوم الجمل وفي يوم صفين، وقتل بسببه الحسين رضي الله عنه، وجرى ما جرى يوم الحرة، وخروج الخوارج على علي بن أبي طالب، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كل ذلك بسبب التأويل الفاسد.

استعمالات النظر في اللغة

استعمالات النظر في اللغة وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديت الفعل بأداة (إلى) صريح في نظر العين المجردة، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله تعالى أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله. والنظر له عدة استعمالات في اللغة، ففي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، تعدى الفعل (ينظروا) بحرف (في)، وذلك يدل على أن النظر هنا ليس بالعين المجردة، وإنما هو بالتفكر والاعتبار، وإذا تعدى بنفسه كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ} [الحديد:13]، دل على التوقف والانتظار، وإن تعدى الفعل (نظر) بـ (إلى) دل على النظر بالعين المجردة، كقوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99]، فهنا تعدى الفعل (نظر) بحرف الجر (إلى)، فدل على أن العين هي التي قصدت، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر!!

استدلال السلف الصالح بقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) على إثبات الرؤية

استدلال السلف الصالح بقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) على إثبات الرؤية روى ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ({وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن -فهي يومئذ بهية وحسنة وجميلة- {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: في وجه الله عز وجل). إذاً: فالنظر لا بد وأن يكون إلى وجه الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون عن طريق التفكر أو التدبر أو التوقف والاعتبار، وإنما هو عن طريق العين المجردة. وعن الحسن قال: نظرت إلى ربها فنضرت بنوره عز وجل، أي: نظرت العين إلى ربها فأصابتها وغشيتها النضرة بسبب اقتباسها من نور الله عز وجل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل. وقال عكرمة في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]: ناضرة من النعيم، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً. ثم حكى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثله، وهذا قول كل من فسر من أهل السنة والحديث هذه الآية؛ وكأن إجماع أهل السنة والجماعة قد انعقد في تفسير هذه الآية على أن المرء ينظر إلى ربه يوم القيامة بالعين المجردة.

استدلال السلف بقوله تعالى: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) على إثبات الرؤية

استدلال السلف بقوله تعالى: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) على إثبات الرؤية وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي الله عنهما: هو النظر إلى وجه الله عز وجل. قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق:35]، أي: من جميع أنواع النعيم، {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] أي: ولدينا نعمة زائدة على نعيم الجنة، وهو النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.

استدلال السلف الصالح بقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) على إثبات الرؤية

استدلال السلف الصالح بقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) على إثبات الرؤية وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، أي: للذين أحسنوا في هذه الدنيا بعمل الطاعات، والائتمار بالأوامر، والانتهاء عن النواهي، لهم الجنة وزيادة، والزيادة هي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. وقد فسرها بذلك النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة من بعده، فقد جاء في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة -وهذا نعيم- وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب؟)، أي: فيكشف الله تبارك وتعالى الحجاب بينه وبين عباده فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي تلك الزيادة في الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم كما روى ابن جرير ذلك عن جماعة منهم: أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فهذه الآية في حق الكفار، فنفرق بين رؤية المؤمنين ورؤية الكفار، فالكفار محجوبون، ومفهوم المخالفة يدل على أن المؤمنين غير محجوبين عن رؤية الله عز وجل، فيكشف لهم الحجاب فيرونه عز وجل، فضلاً عن ورود الآية الصريحة في إثبات الرؤية وهي قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فهذه الآية في حق أهل الإيمان، وآية الحجب: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] في حق الكفار. وقد احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، إذ أنها صريحة في ذلك، ومنطوقها يدل على حجب أهل الكفر عن الرؤية، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي. وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان -وهو تلميذ الإمام الشافعي - قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وقد جاءته رقعة قماش من الصعيد فيها Q ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا. فاحتج بهذه الآية التي منطوقها صريح في حجب الكفار عن الرؤية، واحتج بمفهوم المخالفة على إثبات الرؤية لأهل الإيمان.

شبه المعتزلة في إنكار الرؤية والرد عليها

شبه المعتزلة في إنكار الرؤية والرد عليها وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى لموسى عليه السلام عندما طلب من ربه أن يره: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فقد احتجوا بالآية على نفي الرؤية، وأقول: لو كانت مسألة الرؤية ممكنة وجائزة لما منع الله عز وجل طلب نبيه موسى عليه السلام، وهذه قد تكون شبهة لا حجة. والجواب عليها من وجوه: الأول: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم موسى عليه السلام -وهو أعلم الناس بربه في وقته- أن يسأل الله عز وجل ما لا يجوز عليه سبحانه. الثاني: أن توقن بأن الأنبياء هم أعلم الخلق بالله عز وجل، وبما يجوز وما لا يجوز، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يستحيل وما هو ممكن في حق الله عز وجل، وأن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله وأتقاهم له، وكذلك كل نبي هو أعلم الخلق في زمانه بالله عز وجل، ولو كان موسى يعلم أن رؤية الله تبارك وتعالى مستحيلة لما سأل ذلك؛ لأنه يعلم ما يجوز وما لا يجوز على الله عز وجل. ولما سأل ربه أن يراه وأن ينظر إليه منعه الله عز وجل فقال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولم ينكر الله عليه سؤاله كما أنكر على نوح عليه السلام عندما طلب من ربه الشفاعة لابنه، فقال الله عز وجل: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فهنا ربنا تبارك وتعالى أنكر على نوح، ولو أنك نظرت إلى سؤال موسى وجواب الله عز وجل عليه فستلمس منه المنع لا الإنكار، مع أنه قال لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] فرد عليه، ثم أنكر عليه بقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] أي: حذاري أن تسألني ما أنت به جاهل، وما لا ينبغي ولا يجوز، فأنا أحذرك من ذلك؛ ولذلك تاب نوح عليه السلام واعتذر إلى ربه. الثالث: أن الله تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولم يقل: إني لا أُرى، أي: أنت الآن على سطح هذه المعمورة لن تراني، ولم ينف الله عز وجل مبدأ الرؤية أبداً وأزلاً، وإنما قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، و (لن) تفيد النفي في المستقبل لا تأكيد النفي؛ ولذلك لو قلت لولدك: لن أعطيك مالاً؛ لا يدل على أنك ستمنعه المال ما حييت، لكنه إن طلب مرة أو مرتين أو ثلاثاً فإنك ستمنعه، لكن سيئول الأمر في النهاية إلى أنك ستعطيه، وكذلك قولك للآخر: لن أرضى عنك، لا يدل على أنك ساخط عليه مدى الحياة، وإنما هذا نفي للمستقبل أو لشيء من المستقبل، لا نفياً مؤبداً. ولذا قال ربنا عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولم يقل: إني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، أو لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً، فقال: أطعمنيه، فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل، إذاً فهو نفي للأكل مطلقاً؛ لأن الحجر لا يؤكل، وأما إذا كان الذي في كمه طعام فإنه يقول: إنك لن تأكله، وكذلك تدل الآية على أنه سبحانه وتعالى مرئي، لكنه لا يرى الآن، وموسى عليه السلام لا تحتمل قواه في هذه الدار رؤية ربه عز وجل. ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت أمام تجلي الله عز وجل في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟! فالله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عنده سواء. الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، فإذا جاز أن يتجلى الله عز وجل للجبل -وهو جماد لا ثواب له ولا عقاب- فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟! لكن الله تعالى أعلم موسى عليه السلام أن الجبل إذا لم يثبت برؤيته في هذه الدار فالبشر من باب أولى. الخامس: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير واسطة؛ فرؤيته أولى من باب الجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، فمن أنكر الرؤية لا بد أن ينكر الكلام، ومن أثبت الكلام لا بد وأن يثبت الرؤية، وقد جمع أهل العلم بين الرؤية والكلام. وأما دعواهم: تأكيد النفي بـ (لن)، وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة، فتأويل فاسد جداً؛ لأنها لو قيدت في التأكيد لا تدل على جواز النفي في الآخرة، فكيف إذا أسقطت، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فهم تمنوا أن يقضي الله عز وجل عليهم، مع أن الله تعالى قد قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}

استدلال المعتزلة بقوله: (لا تدركه الأبصار)

استدلال المعتزلة بقوله: (لا تدركه الأبصار) وأما الآية الثانية التي يتمسك بها نفاة الرؤية لله عز وجل فهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فقد يقول لك قائل: أنت تعتقد أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة؟ فتقول له: نعم، وفي الجنة. فيرد عليك قائلاً: والآية التي تقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فهل ستقول: أنا رجعت عن كلامي ورأيي! لأدنى شبهة تلقى عليك، ولذلك فدروس العقيدة هي من أهم ما يمكن أن يحرص عليه المرء، وهذه شبهة يقول بها المعتزلة والجهمية والخوارج، وهي في الحقيقة حجة لأهل السنة في إثبات الرؤية مع أن ظاهرها يدل على نفي الرؤية، لكن أهل السنة استنبطوا منها أنها تثبت الرؤية، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية لا العدمية أو السلبية، فالله تبارك وتعالى يمدح نفسه دائماً بصفة المدح، ولا يمكن أن يكون هناك مدح إلا من جهة الثبوت لا من جهة السلب، وقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فالسنة والنوم صفات نقص لا يمكن أن يمدح الله تبارك وتعالى نفسه بها، لكن فهمنا منها المدح بإثبات النقيض والضد، فمدح الله عز وجل نفسه بإثبات كمال الحياة والقيومية. إذاً فهو لم يتمدح بصفات النقص، وإنما مدح نفسه بما ينقض ويناقض ويناهز هذه الصفات، وهي إثبات الحياة والقيومية لله عز وجل، وهما صفتان معارضتان للسنة والنوم، ولذا نقول: إن الصفات العدمية أو السلبية لا مدح فيها، وإنما المدح في الصفات الوجودية الإيجابية، فيمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمر وجودياً، فأنت إذا نفيت عنه السنة والنوم فلا بد أن تثبت له الصفة المناقضة، وهي الحياة والقيومية. إذاً فربنا تبارك وتعالى يمدح نفسه بشيء موجود، كمدحه نفسه بنفي السنة والنوم المتضمن لكمال القومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء -التعب والمشقة- لإثبات كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن لكمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن لكمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل والعلم والغنى، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه -أي: غيابه- المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته. وربنا سبحانه وتعالى لم ينف عن نفسه شيئاً ليس له أمر ثبوتي وجودي في المقابل، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه. فالمعنى إذاً: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فأهل السنة يقولون: إن قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) ليس نفياً للرؤية، وإنما هو نفي للإدراك والإحاطة، فأنت نفسك ممكن ترى مخلوقاً فضلاً عن الله عز وجل، لكنك لا تحيط به ولا تدركه، ولذلك لما قال قوم موسى لما فروا من فرعون وتبعهم فرعون وجنوده: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال موسى: {قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62]، فنفي موسى الإدراك، مع أن موسى وقومه كانوا يرون فرعون وجنوده، وموسى عليه السلام لما قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لم يقل: لم يرونا أو لن يرونا، وإنما قال: (كلا)، فالجواب هذا متعلق بكلام قوم موسى في الإدراك، أي: لن يدركنا فرعون، وقول موسى ونفيه الإدراك لا ينفي أن فرعون وقومه كانوا ينظرون ويرون موسى ومن معه، إذاً فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، وهذا في حق المخلوق. ولو أنك رأيت جبريل على صورته التي خلقه الله عز وجل عليها له (600) جناح، كل جناح يسد الأفق، فكيف ستحيط بجبريل وهو مخلوق؟! إنك لن تستطيع أن تحيط به، مع أنه مخلوق من مخلوقات الله. وأيضاً: لو أنك وقفت أمامي وجهاً لوجه، ونظرت إليك ونظرت إلي، فهل سيحيط كل منا بصاحبه؟ لا؛ لأني إذا رأيت وجهك خفي علي ظهرك، وإذا رأيت ظهرك خفي علي وجهك، إذاً أنا أراك ولكني لا أدركك، فإذا كان هذا في المخلوق الإنسان الضعيف فكيف بالله عز وجل؟! إذاً فقوله (لا تدركه الأبصار) ليس نفياً للرؤية بقدر ما هو نفي للإدراك والإحاطة؛ ولذلك يقول الله عز وجل {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] أي: لا يمكن أبداً أن تقع منك الإحاطة بالله عز وجل؛ لأنه منزه عن ذلك؛ لإثبات كمال وحدانيته. فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، فإذا كنت لا تدرك أنت الشيء الصغير المخلوق فالله تبارك وتعالى من باب أولى، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، إذ الإدراك أعم من الرؤية، والرؤية أخف، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62]، فلم ينف موسى عليه

ما روي عن النبي والصحابة والتابعين في رؤية المؤمنين لربهم

ما روي عن النبي والصحابة والتابعين في رؤية المؤمنين لربهم

رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي عليه الصلاة والسلام

رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي عليه الصلاة والسلام وأما الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقد بلغت حد التواتر، ورواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، منها [حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)]، وتأمل الدليل عندما يكون صحيحاً وصريحاً فإنه يطمئن، ويبطل النزاع، ومع ذلك فهذه الأدلة لم تنفع المعتزلة والجهمية، فإنهم لما كانوا أصحاب هوى وانحراف أضلهم الله عز وجل؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى، فأعماهم الله عز وجل في الدنيا والآخرة. [قال: (إن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)]، وهذا سؤال واضح؛ لأنهم يعرفون أنهم لن يروه في الدنيا، والصحابة كانوا مجمعين على أن رؤية الله مستحيلة في الدنيا. وعند ذلك سألوا عن شيء آخر وجديد، (هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، والمقصود بيوم القيامة: يوم المحشر، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] المراد بقوله سبحانه: (يومئذ) أي: يوم المحشر، فإن أهل الإيمان هم الذين ينظرون إلى الله عز وجل، لكن هل ينظر إليه الكفار والمنافقون في المحشر؟ هذه الجزئية والفرعية سنتكلم عنها بإذن الله. فقوله: (قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، وكان بإمكانه أن يقول: نعم، لكنه أراد أن يضرب لنا مثلاً ليكون أبلغ في إيصال هذا العلم، [فقال: (هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟)]، أي: عندما يكتمل القمر لا يكون بينكم وبينه ضير ولا ضيم، ولا يحجبكم عن رؤيته شيء. قال: [(قالوا: لا يا رسول الله! قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)]، أي: عندما تطلع الشمس وتكون صحواً، هل تعلمون علماً يقيناً حين النظر إليها أن هذه الشمس هي التي خلقها الله أم لا؟ [قال: (فإنكم ترونه كذلك)] أي: لا يمنعكم ضيم ولا شك ولا ريب من رؤية الله عز وجل كما ترون الشمس والقمر. وهنا شبهة عظيمة جداً وقعت فيها المعتزلة والجهمية، فقالوا: إن هذا النص يفيد التشبيه، أي: تشبيه المولى تبارك وتعالى بخلقه، إذ أنكم لو أثبتم هذا للزمكم أن تقولوا بالتشبيه بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه من الشمس والقمر. والجواب عن هذه الشبهة: أنه قد ورد في نفس الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فإنكم ترونه كذلك)، فالضمير يعود إلى الله عز وجل، أي: كما ترون الشمس والقمر، إذاً ليس هنا تشبيه. والمقصود من الحديث تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، فالنبي عليه الصلاة والسلام شبه رؤيتك في الوضوح لله عز وجل برؤيتك للشمس والقمر في الوضوح، بحيث لا يمنعك شيء؛ لأن الذي يمنعك عن الله عز وجل هو الحجاب، فإذا كشف الله تبارك وتعالى الحجاب هل يمنعك من رؤية الله عز وجل شيء؟ لا. فالشمس إذا كان بينك وبينها سحاب تحجب، وإذا رفع هذا الحجاب، ولم يكن هناك سحاب فإنك ترى الشمس صحواً، وإذا نظرت إلى القمر ليلة البدر في تمامه ليس هناك غيم ولا ضوء عليك؛ فإنك ستراه على صورته الحقيقية. لذا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس)، فشبه الرؤية بالرؤية من جهة الوضوح، ولم يشبه المرئي -وهو الله عز وجل- بالمرئي -وهو الشمس والقمر-. وحديث أبي سعيد الخدري بنفس سياق حديث أبي هريرة.

رواية جرير بن عبد الله البجلي

رواية جرير بن عبد الله البجلي [عن جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً)]، أي: سترون ربكم بأعين رءوسكم، لكن لماذا موسى لم يره؟ لأن الله عز وجل سيركب فينا يوم القيامة بصراً شديداً حديداً نتمكن به من رؤيته، وأما الآن في الدنيا فلا؛ لأن نظرنا لا يحتمل. [قال: (كما ترون هذا -وأشار إلى القمر- لا تضامون في رؤيته)].

رواية أبي موسى الأشعري

رواية أبي موسى الأشعري وحديث صهيب الذي ذكرناه، [وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء)]، أي: أن الحجاب الذي بيننا وبين رؤية الله عز وجل هو رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى في جنة عدن، فإذا كشف هذا الرداء رأيت الله سبحانه وتعالى.

رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه

رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه [وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه)]، واللقاء ثابت، فإذا كنت تلقى الله عز وجل لقاءً -واللقاء يقتضي المعاينة- فمعنى ذلك أنك ستراه بعينك، [قال: (ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب!) -ولو أنكر فإنه سيختم على فيه فتتكلم جوارحه- قال: (فيقول: بلى يا رب! فيقول: ألم أعطك مالاً، وأتفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب!)]. والشاهد في الحديث: أن اللقاء يوم القيامة سيكون وجهاً لوجه بين الخالق والمخلوق، وهذا يقتضي النظر إليه سبحانه وتعالى بالعين، وقد روى أحاديث الرؤية نحو من ثلاثين صحابياً، فهي قد بلغت حد التواتر، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب على سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأت الخلق يوم القيامة لفصل القضاء، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إليهم، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية والمعتزلة بمنزلة الصواعق، بل أكره شيء على كل الفرق الضالة أن تسمعهم آيات وأحاديث الصفات؛ لأنهم مؤولون ومخالفون لها. قال: [وكيف يعلم وصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله؟]، وهذا كلام جميل وقوي، ومعناه: من أين ستتعلم هذه الأصول من قول فلان وعلان؟! كما يقول ابن القيم: العلم قال الله وقال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول سفيه يعني: إذا ثبت الكلام في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليس لفقيه قول، وإذا تكلم الناس بخلاف ما في الكتاب والسنة فأقوالهم مردودة ومطروحة؛ ولذلك يقول هنا: وكيف نتعلم أصول ديننا الإسلامي من غير كتاب الله وسنة رسوله؟ وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسر به رسوله وأصحاب رسوله الذي نزل القرآن بلغتهم؟ والورع كل الورع ألا يتكلم امرؤ في دين الله عز وجل إلا بعلم، ولذلك يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما سئل عن معنى (الأب) في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت في دين الله تعالى ما ليس لي به علم. أي: اسألوا واحداً آخر غيري عن معنى الأب، فأنا لا أعرف معناها. فتأمل كلام الصديق رضي الله عنه، والظن به أن يعلم ذلك، لكن لما كان المراد مرعى الإبل والماشية ربما يكون أهل البدو أعرف بهذا التأويل من أبي بكر الحضري، فقال: اسألوا عنه غيري، فأنا لا أستطيع أن أتكلم في دين الله عز وجل برأيي؛ لأني أخشى ألا تظلني السماء، ولا تقلني الأرض إن قلت في دين الله ما ليس لي به علم. قال: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر، تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي]. ويقول: وفي هذا الحديث دليل آخر على علو الله على خلقه؛ لأنه قال لهم: (هل ترون القمر؟ هل ترون الشمس؟)، إذاً فأنتم سترون ربكم في جهة العلو؛ لأنه ضرب لك مثلاً بشيئين موجودين في السماء، فإذا كنت ترى الشمس أو القمر في العلو فلا بد وأن ترفع وجهك إلى السماء حتى ترى الله عز وجل. قال: [فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟]، وأما الأشعرية فقالوا بأن الرؤية ستتم، لكن بشرطين: الأول: رؤية بلا مقابلة! وهذا كلام غير منطقي ولا يعقل. الثاني: رؤية الفؤاد وليست رؤية العين. ومنهم من قال: يرى لا في جهة، ولفظ (جهة) من الألفاظ المحدثة التي لم تكن معلومة في حياة السلف، ومنهج السلف أن الله سيُرى، لكن قولهم: ليس في جهة، مصطلح محدث، وأي مصطلح محدث وجديد لا يقول به السلف، وإنما يتوقفون عنده، ومن قال به ناقشوه: ماذا تريد بهذا اللفظ؟ لأن الكلام في الاعتقاد من أخطر ما يمكن، فكلمة فيه تأخذك إلى جهنم، وكلمة تدخلك الجنة. فمن قال: إن الله يرى لا في جهة، سنقول له: هل لفظ (الجهة) قاله النبي عليه الصلاة والسلام؟ فسيقول: لا، فنقول: قاله أبو بكر؟ فسيقول: لا، فنقول: قاله عمر، أو عثمان، أو الصحابة والتابعون؟ فسيقول: لا، فنقول: إذن لماذا قلته؟ فسيقول: إنما قصدت به معنى عندي، فنقول له: ما هو هذا المعنى؟ قال: أنا أردت أن الله تعالى ليس محدود بحد؛ لأن وجوده في ناحية أو في جهة يدل على أنه محدود، أو على أنه جسم من الأجسام، فنقول له: أليس عندك في ذلك شيء قط من اعتقاد السلف؟ فإن قال: ما أردت بكلمة (الجهة) إلا العلو والفوقية لله عز وجل، فنقول له: نعم، لكن الأولى أن تلتزم في هذا الباب وفي هذه المسألة بما ورد من مصطلحات في الشرع. فعندما تقول: إن الله تعالى في السماء، فسنقول لك: ليس هناك أي خلاف معك، وكونه في السماء لا يدل على أنه محدود بجهة، فقولك: إن الله في السماء خير من قولك: في جهة

أقوال أهل العلم في رؤية الكفار والمنافقين لله عز وجل في المحشر

أقوال أهل العلم في رؤية الكفار والمنافقين لله عز وجل في المحشر والرؤية حق لأهل الجنة، وهي تخصيص لأهل الجنة، فإن تخصيص أهل الجنة بالذكر يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة؛ لأن رؤية الله تبارك وتعالى تتم مرتين: مرة في المحشر أمام جميع الخلائق، وليس فقط للمؤمنين، فيكشف الحجاب سبحانه ويراه أهل الموقف في المحشر، بل ويكلمهم ويحاسبهم ويزن أعمالهم، ثم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فهل يثبت من هذا رؤية أهل الكفر والنفاق لله عز وجل في المحشر؟ إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة، ورؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الجنة ثابتة لا يزاحمهم فيها غيرهم؛ لأنه ليس هناك غير المؤمنين في الجنة، لكن القضية هنا محصورة في المحشر، فهل يرى الكافرون ربهم؟ وهل يخاطب الله تبارك وتعالى الكافرين والعصاة والمنافقين أم لا؟ قال: [(ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} [الأحزاب:44])]، أي: يوم يلقونه في المحشر. قال: (واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يراه في المحشر إلا المؤمنون. والقول الثاني: يراه أهل الموقف -يعني: جميع من يقف في الحساب والعرض يراه- المؤمن والكافر والمنافق، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك)، يعني: يرون الله عز وجل في وقت الحساب والعرض، ثم يحتجب عنهم بعد ذلك كما احتجب عنهم قبل ذلك. (القول الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار)، وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف. والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى رجح الرأي الأول، أي: أن المؤمنين فقط هم الذي يرون ربهم يوم القيامة في المحشر، كما يخصون برؤية المولى عز وجل في الجنة، واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعيني رأسه. وأما قوله: (بغير إحاطة ولا كيفية) أي: لا تدركه الأبصار، فلا تحيط به علماً ولا كيفية؛ لأن الله تعالى لا يكيف من قبل خلقه، بل ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، وكما خفيت علينا كيفية الذات فلا بد وأن تخفى علينا كيفية الصفات، ومن صفاته الفعلية: الرؤية، والكلام مع خلقه من غير ترجمان، والإذن لخلقه بالنظر إليه ورؤيته. فهذه من صفات أفعاله سبحانه وتعالى، وإن كانت الرؤية من فعل العبد، إلا أن الله تبارك وتعالى مكن منها عباده المؤمنين. وأما تفسير قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما منكم) أي: ما منكم يا معشر الأمة، قال: (من أحد إلا سيكلمه ربه)، ولما تكون هناك مسألة تحتاج إلى أدلة، وهذا الدليل يفهم منه عدة أوجه؛ فإن الترجيح فيها يكون بناءً على شيء ينقدح في نفس العالم، ويأتي عالم آخر فينقدح في ذهنه وعقله ترجيح مذهب آخر، وبناءً عليه يصعب جداً أن تقطع فيه بقول فصل وتقول: وما عدا هذا القول باطل، لكن تقول: هذا أرجح من ذاك؛ لأنه عندما تقرأ الأقوال وتطلع عليها وأنت طالب علم فكيف ترجح القول هذا؟! ولو سألناك عن الدليل، فهل يكفي أنه شيء انقدح في نفس الجاهل؟ لا. وأختم بأبيات جميلة في إثبات الرؤية للإمام ابن القيم عليه رحمة الله تعالى: فبينا هم في عيشهم وسرورهم وأرزاقهم تجري عليهم وتقسمُ تجلى لهم رب السموات جهرة فيضحك فوق العرش ثم يكلم سلام عليكم يسمعون جميعهم بآذانهم تسليمه إذ يسلم يقول: سلوني ما اشتهيتم فكل ما تريدون عندي أنني أنا أرحم فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضا فأنت الذي تولي الجميل وترحم ولله أفراح المحبين عندما يخاطبهم من فوقهم ويسلم ولله أبصار ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة أمن بعدها يسلو المحب المتيم فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولله واديها الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لو كنت منهم وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش واليوم موسم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التوفير في البنك الربوي

حكم التوفير في البنك الربوي Q دفتر التوفير في البنك يحدد آخر كل سنة مقدار الأرباح، وتختلف من سنة لأخرى، فهل يكون هذا ربا؟ A يا أخي! لا تذهب إلى البنك؛ لأن المسألة فيها لبس، والذي فهمته وأنا بعيد عن البنك، ألا يستطيع أن يفهمه المتخصصون في البنك، لو أعطاك كل سنة (10%) فستبقى النسبة معروفة ومحددة سلفاً، لكن لو أعطاك هذه السنة نسبة والسنة الآتية نسبة تختلف عنها، والسنة التي بعدها تختلف على الاثنتين، فهم ضابطون لحساباتهم جيداً، وحاسبون الربح جيداً، لكن على أية حال نقول: إذا أردت أن تضع أموالك فضعها في بنك فيصل، أو في المصرف الإسلامي الدولي.

حكم تفضيل الأنبياء على بعضهم

حكم تفضيل الأنبياء على بعضهم Q يقول البعض: إنه لا يجوز تفضيل نبي على نبي؛ كأن نقول: إن سيدنا محمد أفضل من سيدنا إبراهيم قولاً باللسان، وإن كان ذلك من المعلوم في النصوص، فهل هذا صحيح؟ A سؤال وجيه صراحة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) مع أنه هو القائل عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فالله أعطى نبيه السيادة والسؤدد والعلو والرفعة على ولد آدم ومنهم الأنبياء، ومعلوم قطعاً عند كل مسلم أن أفضل الخلق على الإطلاق منذ أن خلق الله الخلق إلى يوم القيامة هو محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يجمع بين ذلك؟ و A أن معنى ذلك: أنه لا تفضيل بين نبي ونبي في الإيمان بنبوته، بل أنت ملزم بأن تؤمن بجميع الأنبياء كما آمنت بمحمد عليه الصلاة والسلام. أما اعتقادك أنه خير الخلق، وأفضل الأنبياء؛ فهذا اعتقاد واجب ولازم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إليه بقوله: (أنا سيد ولد آدم). وقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) أي: لا تفضلوني عليه من جهة اعتقادكم أنه نبي وأنا نبي.

حكم إعطاء الوالد لبعض أولاده شيئا دون الآخرين

حكم إعطاء الوالد لبعض أولاده شيئاً دون الآخرين Q كتب رجل لاثنين من أولاده الذكور قطعة أرض اشتراها؛ بحجة أنهما بذلوا مجهوداً شاقاً في شراء الأرض، مع العلم بأنه ذو خمس بنات، فما حكم ذلك؟ A لا يجوز ذلك، وقد أتى بشير إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشهد على أن ينحل أحد أولاده نحلة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنحلت كل ولدك مثلما نحلت هذا؟ -أي: هل أعطيت كل واحد من أولادك مثل ما أعطيت هذا؟ - قال: لا، قال: اذهب إلى غيري فأشهدهم على ذلك، فإني لا أشهد على زور)، وهذا من باب التغليظ والتوبيخ على سوء فعله، لا من باب أنه أجاز له ذلك الفعل، فيذهب يستشهد واحداً آخر. ودائماً تبقى حقوق البنات مهضومة وكأنها سنة متفق عليها، وقد كنت في قضية في مدينة السلام منذ أيام، حيث قابلت رجلاً يملك أرضاً شاسعة جداً، وهو مليونير، وأولاده من الذكور والإناث كلهم ملتزمون، وقد أراد أن يقسم الميراث قبل موته، وبالفعل قسمه على أولاده الذكور، وأعطى لكل بنت ما تقوم به الحياة من أموال. فولد من أولاده سألني عن حكم ذلك التقسيم؟ فقلت له: إنه غير جائز، ثم ذهبت أتكلم مع هذا الرجل فقال لي: يا شيخ! كلمة واحدة، ما فيه شيء اسمه بنت تأخذ أرض، فقلت له: ما فيه حاجة اسمها تقسيم الميراث في حياتك، اسمه ميراث؛ لأنه يوزع بعد موتك، والتوزيع هذا باطل، وأولاده كلهم جالسون، فقلت لهم: كل واحد تستهويه نفسه أن يأخذ عقد البيع والشراء الذي كتبه له أبوه هذا، ووالله العظيم إنه حطب جهنم وبئس المصير، فإذا أردتم أن تأخذوا هذه الأوراق فخذوها، فقالوا: كلهم: لا نريدها، فقال لهم أبوهم: سأحرمكم وأتزوج أخرى، وأكتب لها كل الأرض. لذا دائماً في كل أسرة وبعد كل وفاة تطرح قضية الظلم في توزيع الميراث، وخاصة في الفلاحين، فحدث ولا حرج، فالبنت ليس لها عندهم أي شيء مطلقاً، فيقول لك: خسارة أن يرجع الميراث لزوج ابنتي! مع أن هذا شرع ربنا، ثم هل ربنا لما فرضه كان ينسى أن هذا سيئول إلى زوجها؟ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] فالله تبارك وتعالى كما قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فلما شرع الشرع هذا ختمه بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] أي: أي إنسان يتعدى ما حدده له الميراث فهو معتدي. وهذا العدوان لا ينفعه في قبره، ولو أراد أن يقسم الميراث قبل الموت فجائز، بل أحياناً المصلحة تستدعي ذلك. فلو أن رجلاً عنده ولد طيب وموحد ومتسامح، ولا يريد المشاكل، وعنده ولد هو شيطان، فلو أنه ترك الأرض والبيت والسيارات للأولاد يقسموها بينهم بشرع الله، فإن هذا الولد لن يمكنهم من شرع ربنا، ولا حتى من شريعة نابليون، بل سيأخذ المال كله، والذي لا يريد يضرب رأسه في الرصيف، ففي هذه الحالة توزيع الميراث ربما يكون جائزاً مشروعاً؛ رفعاً للضرر، لكن لا بد أن يتم بشرع الله تبارك وتعالى، ويبقى الرجل صاحب حق في البيع والشراء؛ لأن هذا ماله، ولا بأس أن يكتب أوراقاً تضمن له الحق؛ لأننا نسمع بالليل والنهار أن الرجل ربما يريد أن أولاده لا يختلفون من بعده، فيكتب لهم كل شيء له، فأول ما كتب استلم كل واحد منهم الورقة في يده وطردوه من البيت، وصار شريداً يتكفف الناس حتى يأكل ويشرب، وهذا حاصل، فهذا الشعب المجرم انتشر الظلم فيه من كل وجه، حتى مع الآباء والأمهات.

حكم المذي عند المرأة

حكم المذي عند المرأة Q ما حكم المذي عند المرأة إذا كانت كثيرة المذي؟ A إذا خرج من الفرج وأصاب الثياب ببلل؛ وجب عليها أن تغسل الموضع، وأن تتوضأ.

الرؤية يوم المحشر

الرؤية يوم المحشر Q جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام بعد قراءته الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: (لما دخل أهل الجنة الجنة والنار النار) إلى آخر الحديث، قال: ففي الحديث أن أهل الجنة يقولون: (ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة). إذاً فالرؤية زيادة لم تحدث من قبل، وهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله؛ ولذلك جاءت بعد دخولهم الجنة، وكانت أفضل النعيم، فكيف الرؤية يوم المحشر؟ A لقوله تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، و (ما منكم من أحد إلا يلقى ربه فيحاسبه) وهذا في المحشر؛ لأن الجنة ليس فيها حساب، واللقاء لا يكون إلا برؤية.

كيفية دفن النبي عليه الصلاة والسلام

كيفية دفن النبي عليه الصلاة والسلام Q هل دفن النبي عليه الصلاة والسلام في شق أو في لحد؟ A دفن في لحد، وهو القائل: (اللحد لنا، والشق لغيرنا)، فكيف يخالف الأمة في قبره عليه الصلاة والسلام؟!

موقف الإمام عند الصلاة على الجنازة

موقف الإمام عند الصلاة على الجنازة Q أين يقف الإمام عند الصلاة على الجنازة؟ A يقف من المرأة عند وسطها، ويقف من الرجل عند رأسه.

حكم من يسب الله أو دينه

حكم من يسب الله أو دينه Q ما حكم الدين في معاملة الوالد الذي يسب دين الله، بل يسب الله تعالى، كما أنه كثير الكذب، وأنا لا آكل معه، ولا ألقي عليه السلام، كما أن نفسي لا تستريح إلى معاملته ومخالطته؟ A إن الذي يسب الله عز وجل كافر كفراً مخرجاً من الملة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، ولا يوجد أحد يجهل أن سب الله كفر، إذ إن ذلك مما فطر عليه الخلق، فلا يحتاج إلى علم؛ لأن العلم به قرن بالقلوب منذ أن خلق الله تعالى الخلق، وإذا ثبت كفره على هذا النحو فإنه يأخذ حكم الكافر في كل شيء.

رؤية النبي لله عزوجل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - رؤية النبي لله عزوجل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا بعينيه غير ثابتة، لكنه رآه بقلبه ورآه مناماً، هذا هو الراجح من كلام المحققين من العلماء، كما أن المؤمنين لن يروا ربهم في الدنيا حتى يموتوا، ورؤيتهم له في يوم القيامة وفي الجنة حق، ويحجب الكفار عن رؤيته في ذلك اليوم؛ عقوبة لهم من الله، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لما يعتقده أهل الفرق الضالة والمنحرفة.

مباحث في رؤية النبي والمؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة

مباحث في رؤية النبي والمؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سنتكلم الآن عن موضوع له علاقة بهذه الأيام وبهذا الشهر الجاري وهو شهر رجب، فالناس قد انطبع في أذهانهم أن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، مع أن هذه المسألة غير ثابتة وغير موثقة، وتحديد ليلة الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام والعروج به إلى السماء السابعة غير دقيق، وهو محل نزاع واختلاف بين أهل العلم، ولكن شاع وفشا وانتشر أن ذلك كان في رجب، حتى ظن العامة أن الإسراء والمعراج كانا في السابع والعشرين من شهر رجب، ثم انطبع في أذهانهم أن النبي عليه السلام قد رأى ربه بعيني رأسه في هذه الليلة. وهذه المسألة محل نزاع كبير بين أهل العلم، وهذا الكلام قد نشأ في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ففي الوقت الذي يؤيد فيه ابن عباس الرؤية تنفي فيه عائشة وعبد الله بن مسعود وأبو ذر رضي الله عنهم أجمعين الرؤية كذلك. فهذه المسألة لا يضلل فيها المخالف ولا يبدع؛ لأن الخلاف قد وسع الصحابة رضي الله عنهم في هذه القضية، مع أننا لو دققنا النظر لما وجدنا أي خلاف بين مذهب ابن عباس ومذهب عائشة وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، ولكن الخلاف وقع بعد ذلك بين أهل العلم، وعلى وجه التحديد وقع في القرن الثاني، وفي بداية القرن الثالث. وهنا عدة أسئلة وهي: الأول: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء أم لا؟ السؤال الثاني: هل رآه بفؤاده وبقلبه أم لا؟ السؤال الثالث: هل رؤية الله عز وجل للمؤمنين -أي: من غير الأنبياء- بأعين رءوسهم ممكنة في الحياة الدنيا أم لا؟ السؤال الرابع: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه في المنام أم لا؟ السؤال الخامس والخاتم لهذه الأسئلة في مسألة الرؤية: هل الكافرون والمنافقون يرون ربهم تبارك وتعالى؟ فهذه أسئلة أساسية في قضية الرؤية، ينبغي الإجابة عن كل سؤال بالتفصيل.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج ونبدأ بخلاف أهل العلم في مدى تمكن النبي عليه الصلاة والسلام من رؤية ربه في ليلة الإسراء من عدمها، فهل رآه حقاً بعيني رأسه أم رآه بفؤاده؟ ذكر الإمام النووي في شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نور أنى أراه؟)، وأنى بمعنى: كيف، أي: نور كيف أراه؟ فقد حجب النور رؤيتي لله عز وجل، فلو لم يكن هذا النور لرأيته. وهذا يدل على أنه لم ير الله عز وجل، لكن سئل ابن عباس رضي الله عنه: (هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج؟ فقال: نعم). ولا شك أن الإسناد إلى ابن عباس صحيح، ولكن وقع نزاع في إجابة ابن عباس المترتبة على السؤال، فقوله: (نعم)، ماذا يقصد به، هل قصد ابن عباس أنه رآه بعيني رأسه، أو أنه رآه بفؤاده وقلبه؟ فبعضهم مال إلى أن إجابة ابن عباس مفادها أنه رآه بعيني رأسه، وليس هناك تصريح في شيء من كتب السنة أن ابن عباس قال: رآه بعيني رأسه، ولكنهم حملوا إجابته على رؤية العين. وأما جمهور أهل العلم فحملوا إجابة ابن عباس على رؤية الفؤاد، خاصة وأن عائشة رضي الله عنها حدثت بالسند الصحيح إليها فقالت: (ومن حدثكم أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وفي رواية: (فقد كذب). أي: من حدثكم أنه رآه بعيني رأسه فقد كذب، ولم توجه هذا الكذب لـ ابن عباس؛ لأنها حملت كلام ابن عباس على رؤية الفؤاد ورؤية القلب، ولم تحمله على رؤية العين. فتبين عند التدقيق أن كلام السلف جميعه محمول على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لله تعالى بعين قلبه وفؤاده لا بعين رأسه. وهنا نحمل كلام من أثبت الرؤية على رؤية الفؤاد والقلب، ومن نفى الرؤية على نفي الرؤية بعيني رأسه، فنخرج من هذا أن الرؤية ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعين قلبه لا بعيني رأسه.

إثبات النووي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعيني رأسه والرد عليه

إثبات النووي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعيني رأسه والرد عليه ولكن الإمام النووي عليه رحمة الله مال إلى إثبات رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه بعيني رأسه، فقال عليه رحمة الله بعد أن ذكر خلاف أهل العلم في هذه القضية: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء؛ لحديث ابن عباس، والإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله عليه الصلاة والسلام. أي: ليس معقولاً أن ابن عباس يجيب السائل: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه؟ فيقول: نعم؛ من غير أن يكون عند ابن عباس دليل، لكن ابن عباس لم يسق هذا الدليل. وهذا غير صحيح، ولو ساق الدليل لحملناه على أنها رؤية فؤاد وقلب. قال: وهذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه. أي: أن الصحابة إذا أخبروا في هذه القضية بخبر فلا بد أن يكون لهم فيها نص عن النبي عليه الصلاة والسلام. ثم قال: ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان معها منه حديث لذكرته. يقصد أن عائشة لما قالت: (من حدثكم أن محمداً قد رأى ربه فقط أعظم على الله الفرية). فهذا كلام من عندها هي، وهي لم تنف الرؤية بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى أنها لم تسأله فأجابها بالنفي. فنقول: إذا كانت عائشة رضي الله عنها لم تنف بحديث مرفوع فقد نفى بحديث مرفوع أبو ذر رضي الله عنه، وذلك لما قال: سألت النبي عليه الصلاة والسلام: (هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي رواية: (نور أنى أراه؟) أي: حجبني النور، أو أن الله تعالى نور، فمن أسمائه النور، وهذا النور مخلوق لله عز وجل بنور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، ولا يجوز أن نشبه النور الذي نعرفه بالنور الموصوف به الله تبارك وتعالى والمسمى به؛ لأن النور جسم من الأجسام، وهذا لا ينبغي ولا يجوز لله عز وجل. وقال النووي في تأويل حديث أبي ذر: (نور أنى أراه؟): حجابه نور فكيف أراه؟ أي: والحالة هذه فكيف أرى الله عز وجل وقد حجبني عن الرؤية النور الذي اتخذه الله عز وجل، أو النور الذي هو من أسماء الله تعالى وصفاته. فإذا كان الإمام النووي يؤكد هذا المعنى، ويميل إلى هذا التأويل فما باله يذهب مرة أخرى إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه؟! فهذا يؤكد صحة ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه في تلك الليلة. فإن قيل: إن هذا حدث وعائشة لم تزل صغيرة، فلعلها أخطأت، فنقول: لم لم ترجع عائشة عن هذا القول؟ نعم أن الإسراء والمعراج كان والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولكن عائشة استمرت حياتها بعد ذلك لمدة أعوام، وماتت في سنة (50) هجرية أو بعدها، فإذا كانت عائشة قد أخطأت قبل أن تبلغ الحلم فما الذي منعها أن تصحح هذا الخطأ بعد بلوغها، وفي تقدمها في السن؟ وخاصة أن هذه مسألة اعتقادية خطيرة لا بد وأن تراجع فيها عائشة مرة أخرى وثانية وثالثة، فلم لم ترجع عن هذا المذهب؟ ثم إن عائشة لم تنفرد هنا وحدها بالنفي، فهناك معها أبو ذر، ومعها عبد الله بن مسعود، وسكوت الصحابة رضي الله عنهم عن مثل هذا يدل على أنهم موافقون لـ عائشة، وتأويلهم لحديث ابن عباس أنها رؤية قلب يدل على أن المسألة عند الصحابة على جهة الخصوص لم يكن فيها خلاف؛ لتأويل كلام ابن عباس بما يتفق مع مذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم. وابن تيمية عليه رحمة الله يتكلم بكلام جميل جداً على قوله عليه الصلاة والسلام: (نور أنى أراه؟) فيقول: معناه: كان ثَم نور، يعني: كان هناك نور فحجبني عن الرؤية، وحال دون رؤيته، ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً) ولم يقل: نعم، وإنما قال: (رأيت نوراً)، وقد أعضل أمر هذا الحديث، وأشكل على كثير من الناس، حتى صحفه بعضهم فقال: نوراً إني أراه، وهذا لا يتفق مع اللغة العربية، وتصحف كذلك بما هو أقبح من ذلك على بعض المحدثين فقال: (نوراني أراه) بدل (نور أنى أراه؟) فجعلها كلمة واحدة فقال: نوراني أراه، وهذا شر من سابقه. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي -وهو من جبال السنة- في كتابه الرد على بشر المريسي إجماع الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج. إذاً: فهذا إجماع الصحابة -وهو محل احترام واعتبار- على أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ربه ليلة المعراج، وبعض من صنف في هذا الباب يستثني ابن عباس من ذلك، وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة؛ فإن

القول الراجح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج

القول الراجح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين). وهذا تخصيص من ابن عباس أن الرؤية كانت بالفؤاد والقلب، فلم يصرح بل ولم يجسر أحد أن يروي عن ابن عباس تصريحه بأنه رأى ربه بعيني رأسه، في الوقت الذي نجد التصريح الصحيح عن ابن عباس أن هذه الرؤية كانت بالفؤاد مرتين. وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، فهل بعد هذا التوفيق يكون هناك تعارض بين قول ابن عباس وقول عائشة؟! فلابد أن نصدق عثمان بن سعيد الدارمي في أن الصحابة أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه. فالرؤية في معتقد ابن عباس كانت بالفؤاد وليست بعيني الرأس، وهذا المذهب لـ ابن عباس يوافق مذهب جماهير الصحابة في إثبات الرؤية بالفؤاد لا بالعين. وتارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول: رآه محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما لفظ صريح بأنه رآه بعينه. وكذلك الإمام أحمد تابع لـ ابن عباس في ذلك، والإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله مذهبه أثري حديثي يلتزم بالنص الوارد، وأنت تجد أن أهل العلم يفتون على قواعد أصولية، ويفتون على استنباطات اجتهادية، وكذلك أحمد بن حنبل، ولكن أحمد قال: إذا بلغك الأثر فاعمل به ولو مرة؛ تكن من أهله. ولذلك لو نظرنا إلى كلام أهل العلم في صلاة الضحى مثلاً لوجدنا لهم قولاً واحداً، ولـ أحمد أقوال: ركعتان، وأربع ركعات، وست، وثمان، واثنتا عشرة ركعة، لماذا؟ لأن كل عدد من هذه الأعداد جاء به نص، فتارة يفتي بهذا الحديث، وتارة يفتي بغيره، وتارة يفتي بالثالث حتى يستوعب ما ورد في المسألة من أقوال وآثار عن السلف. فـ أحمد بن حنبل قال مرة: رأى محمد ربه، فحمل بعض الناس هذا الإطلاق في كلام أحمد كما حملوه في إطلاق ابن عباس، فقالوا: قصد أحمد أنه رآه بعيني رأسه، وليس الأمر كذلك، بل ورد كلامه مقيداً. فالإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده كما قال ابن عباس، والذي قلناه في تأويل كلام ابن عباس نقوله في تأويل كلام أحمد بن حنبل، ولم يقل أحد من الحنابلة أو من غيرهم: إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهموا منه رؤية العين، وهذا الفهم لا عبرة به، وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، يعني: ليس هناك دليل يدل لا من قريب ولا من بعيد على أن الرؤية كانت بالعين، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، بل ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، أي: أن النصوص الصحيحة تنفي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه؛ لإثباتها أن هذه الرؤية بالفؤاد مرتين، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟). فالمسألة هذه مسألة اعتقادية عظيمة جداً، فلو كانت الرؤية قد ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعيني رأسه فما الذي يمنعه أن يصرح بها وأن يبينها بياناً كافياً؛ حتى لا تختلف الأمة، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد بين ما هو دونها بمراحل كثيرة جداً، وقد قلنا في باب الرؤية في الآخرة: إن الأحاديث قد تواترت في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فأيهما أعظم وأجل قدراً: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه في الدنيا، أم رؤية المؤمنين ربهم بأعين رءوسهم في الآخرة؟ بلا شك أن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام أعظم، مع أننا نجد أن المسألة في رؤية المؤمنين لربهم ثابتة بطريق التواتر، يعني: ورد في الرؤية عدة أحاديث عن كثير من الصحابة، في الوقت الذي لا نجد نصاً واحداً يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه. وقال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، ولو كان الله تعالى قد أراه ذاته العلية بعينه لكان ذكر ذلك أولى، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج رأى من آيات ربه العظمى، وأعظم آية أن يرى ربه، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى يذكر الآيات الصغرى ولا يذكر الآية الكبرى العظمى وهي الرؤية، فلو كان رأى ربه

رؤية المؤمنين ربهم

رؤية المؤمنين ربهم قال شيخ الإسلام: واتفقوا على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة عياناً، ومعنى عياناً: بأعينهم، ولكن ذلك بشرطين: أن هذه الرؤية تتم في يوم القيامة، ولأهل الإيمان خاصة، كما يرون الشمس والقمر. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا، فبعضهم يقول: أنا رأيت الله في المنام، وأنهم يخطر لهم بغير سؤال ما حصل لموسى بالسؤال، فانظر إلى هذه الكرامات! أي: أن الله منحهم هذه الكرامة من غير أن يسألوه، ومنعها عن موسى بعد أن سأله، فهم أكرم على الله من موسى عليه السلام الذي هو من الأنبياء! فأجاب: أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم، ولم يتنازعوا إلا في النبي عليه الصلاة والسلام. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: حتى يموت فيبعث يوم القيامة. فبعد هذا الإجماع المنعقد من الأمة المبني على الدليل: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى الله حتى يموت) من يقول: أنا رأيت ربنا، نقول له: أنت كذاب. ومن قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال. ومعظم الصوفية يدعي ذلك، كما قال أحدهم: لو فاتتني رؤية ربي في كل يوم وليلة لعددت نفسي منافقاً، فنقول له: أنت كافر بهذه الادعاءات، وهذا كذب. قال: فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ لاسيما إذا ادعوا أنهم أفضل من موسى عليه السلام، فإن هؤلاء يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، والله تعالى أعلم. هذا ولم يثبت عن أحمد بن حنبل أنه رأى ربه، ولم يثبت عن الأوزاعي كذلك أنه رأى ربه، وهب أن ذلك ثبت فإنه لا عبرة بهذا الثبوت، فإن رؤية واحد من الأمة لا يمكن أن نعارض بها ما ثبت من النصوص وإجماع السلف. وأنتم تعلمون أن هناك فرقاً عظيماً بين قول المحدث: هذا أثر أو حديث صحيح، وبين قوله: هذا إسناد صحيح، أما قوله: (هذا حديث صحيح) أو (أثر صحيح) فهذا كلام ينطبق على المتن، وهو ما انتهى إليه السند من الكلام، وأما قوله: (هذا إسناد صحيح) فلا يستلزم قطعاً صحة المتن، فقد يكون السند صحيحاً والمتن شاذاً أو به علة، ومن علل المتن أن يخالف كتاب الله، أو أن يخالف حديثاً صحيحاً، أو يخالف ما أجمعت عليه الأمة، أو تحيل العقول السليمة الصحيحة المستقيمة على منهج النبوة أن يكون هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو من كلام واحد من أصحابه، ولو كان ذلك لرد لأجل هذه العلل، فما بالك بعد أن سمعت الآيات والأحاديث وإجماع سلف الأمة على أنه لن يرى الله تعالى أحد حتى يموت فيبعثه الله؟ فإذا قلت: قد رأى أحمد ربه، ورأى الأوزاعي ربه؛ قلنا: لا عبرة بهذه الرؤية إن صحت، ومع ذلك فهي غير صحيحة، فليس هناك نزاع ولا اختلاف والحالة هذه.

ما روي من أحاديث مكذوبة تفيد رؤية الله في الدنيا من الرسول وغيره

ما روي من أحاديث مكذوبة تفيد رؤية الله في الدنيا من الرسول وغيره وسئل ابن تيمية عن بعض الأحاديث التي وردت في صفات الله تبارك وتعالى، والتي ليس لها وجود في دواوين السنة، وأنها في الغالب كذب وبهتان؛ فقال ابن تيمية: بل هي كفر شنيع. قال: وقد يقولون: من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثاً، مثل حديث: (إن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق يخاطب ويعانق المشاة!)، وهذا أمر مخل جداً بجناب الإله تبارك وتعالى، ومعنى أنه يعانق المشاة ويصافح الركبان: أن الركبان فوق مرتبة الإله، وصور الإله وكأنه رجل يعانق المشاة؛ لأنه بمحاذاتهم وموازاتهم! قال: وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث في أحد دواوين السنة، ولم يروه أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقال أهل العلم كـ ابن قتيبة وغيره: هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار والملاحدة؛ ليشينوا به على أهل الحديث؛ حتى يقال: إنهم يروون مثل هذا. يعني: يحاولون بقدر الإمكان أن يشوهوا صورة المحدثين، فيقال: هؤلاء هم المحدثون الذين تأخذون عنهم دينكم، يروون أن الله ينزل في عشية عرفة راكباً جملاً، ويصافح الركبان، ويعانق المشاة، وعند ذلك تفقد الثقة في الرواة. وكذلك يروون حديثاً آخر فيه: (أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة -يعني: هو نازل من مزدلفة أفاض منها إلى منى- يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف)، أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله. وهكذا حديث: (إن الله يمشي على الأرض)، فإذا كان هناك موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه، ويقرءون قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]، وهذا أيضاً كذب باتفاق العلماء، ولم يقل الله: فانظر إلى آثار خطى الله، وإنما قال: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50]، ورحمته هنا النبات. وهكذا أحاديث في بعضها: (أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف) أي: رأى ربه وهو يطوف حول الكعبة، وفي بعضها: (أنه رآه وهو خارج من مكة)، وفي بعضها: (أنه رآه في بعض سكك المدينة). قال: وكل حديث فيه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، فهذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم. وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمداً عليه الصلاة والسلام هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، والنصوص واردة عن معظم علماء السنة أنه رأى ربه ليلة المعراج، لكن لم يقولوا: بعيني رأسه. وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها ينكرون ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، ولا سألته عن ذلك، ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه، كما يرويه ناس من الجهال أن أباها سأل النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نعم. وقال لـ عائشة: لا، فـ عائشة لما سألته نفس Q هل رأيت ربك؟ قال: لا، ولما سأله أبوها: هل رأيت ربك؟ قال: نعم. هذا لا يتصور صدوره من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. وذكر القاضي أبو يعلى وغيره: أنه اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله: هل يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، أو يقال: بعين قلبه، أو يقال: رآه؟ وأصح رواية فيها أنه قال: رأى ربه وسكت، والرواية الثانية: رأى ربه بعين فؤاده، أو قال: بعين قلبه. وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: (رأيت ربي في صورة كذا وكذا) وهو المعروف عند أهل العلم بحديث: اختصام الملأ الأعلى، رواه أحمد بن حنبل، والدارمي في سننه، وليس في أحد من دواوين السنة الأصيلة إلا في هذين. قال أحمد: حدثني عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة -يعني: في النوم- فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ -وهم الملائكة- قال: لا يا رب!). الشاهد من هذا الحديث: (أتاني ربي في أحسن صورة وأنا نائم). إذاً: فرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ثابتة له في الدنيا، لكن رؤية منام لا رؤية حقيقية، ورؤى الأنبياء حق، فهذه الرؤية كانت منامية، ولم تكن بعين رأسه على الحقيقة. (

الرؤية القلبية والفؤادية تكون حسب عبادة العبد وتقواه لله عز وجل

الرؤية القلبية والفؤادية تكون حسب عبادة العبد وتقواه لله عز وجل قال شيخ الإسلام: ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله، ويقين القلوب ومشاهدتها وتجلياتها على مراتب كثيرة، قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فرؤية الله عز وجل لعباده رؤية حقيقية، وما الذي يمنع أن يرى عباده وهو سبحانه وتعالى البصير؟ فهنا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الرؤية القلبية والفؤادية تكون حسب عبادة العبد وتقواه لله عز وجل. وبعد أن ذكر إجماع الأمة أن أحداً لا يرى الله عز وجل بعيني رأسه، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا عبد من العباد، قال: لكن من الممكن الرؤية المنامية، والرؤية القلبية، والتجليات، وتحصل لواحد من العباد حسب تقواه وإيمانه وورعه وعبادته وطاعته لله عز وجل. واستدل على ذلك بحديث: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) قال: فرؤية المؤمن لله عز وجل بقلبه أو مناماً جائزة ولا مانع منها، وذلك حسب إحسان العبد، يعني: أن يكون مسلماً، وأن يكون مؤمناً محققاً الإيمان بكماله وأعلى درجاته، والذي فوق ذلك هو الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه عياناً، ولما كان ذلك محالاً قال: اعبده كأنك تراه. قال: وإحالة الرؤية بالعين للعبد لا ينفي أن العبد يرى ربه بعين قلبه أو بعين فؤاده، وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة، على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه. يعني: رأى صورة ناقصة. قال: ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة بالحقائق، وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضاً من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلى في الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا. وهذا الكلام إذا عرفه الصوفية طار فرحاً، وسيكون شيخهم الكبير هو ابن تيمية مع أنه العدو اللدود لهم، فهذا الكلام يوافق هواهم، ويوافق مذهبهم ومعتقدهم. قال: وربما غلب على أحدهم ما يشهده قلبه، وتجمعه له حواسه؛ فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام. فهكذا من العباد من يحصل لهم مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العبّاد المتقدمين أو المتأخرين أنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان. فكلام ابن تيمية هذا كله نخلص منه إلى أن الرؤية بالعين مستحيلة.

قول شيخ الإسلام في رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة

قول شيخ الإسلام في رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة قال: نعم؛ رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضاً للناس في عرصات القيامة. قوله: (للناس) يعني: كل الناس المؤمن والكافر، ولكن الرؤية على ثلاثة أنواع: فيراه الكافرون ثم يحجب الله تبارك وتعالى نفسه عنهم؛ من باب العقوبة. لا يراه الكافرون قط، فيعاتبهم ويوبخهم الله عز وجل على كفرهم وعنادهم. ويراه المنافقون ثم يحجب الله تبارك وتعالى نفسه عنهم؛ عقوبة لهم، ويتجلى ربنا لأهل الإيمان في المشهد كما يتجلى لهم في جنة عدن في كل يوم من أيام الأسبوع، وهو يوم المزيد يوم الجمعة، وهذا ثابت لأهل الإيمان على جهة الخصوص؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ثم يذكر ابن تيمية عليه رحمة الله بعد ذلك رؤية المؤمنين لربهم، ويسوق عليها بعض الأدلة، فقال: كما تواترت الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)، فالرؤية لأهل الإيمان، وهي رؤية بالأبصار، ولكنها لا تكون إلا في الآخرة. قال: (وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب). وقال عليه الصلاة والسلام: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن). وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو: ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف ربنا تبارك وتعالى الحجاب فينظرون إليه عياناً، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي المذكورة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] أي: الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] أي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى). وهذه الأحاديث وغيرها في الصحيحين، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق أهل السنة والجماعة عليها، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة الشيعة ونحوهم، الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق. ودين الله تعالى وسط بين تكذيب هؤلاء -أي: بين تعطيل هؤلاء- بما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في الآخرة، وبين تصديق الغالية بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل. إن منهج أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية وسط بين المعطلة الذين يقولون: كل هذه الأحاديث كذب، أو يحرفونها فيحملون الرؤية على رؤية الآيات، أو رؤية المحشر، أو رؤية النعيم، أما الله عز وجل فلا يرى عندهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة. وهناك على الطرف الآخر والنقيض قوم يقولون: إن رؤية الله تعالى بالعين الحقيقية تثبت في الدنيا، بل ولكل العباد، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة وبين المثبتة، فأهل السنة يقولون: إن رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة ثابتة لأهل الإيمان، ومحجوبة عن أهل الجحود والنكران والكفران.

معتقد الفرق الضالة في رؤية الله عز وجل وفي ذاته

معتقد الفرق الضالة في رؤية الله عز وجل وفي ذاته أما في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى لا يرى بعين الرأس البتة، ولكن يراه النبي عليه الصلاة والسلام في منامه، والدليل الأحاديث التي وردت في اختصام الملأ الأعلى، فهي صريحة في أنه رأى ربه بفؤاده في المنام، وليس هناك أثر واحد يثبت صحة رؤية المولى تبارك وتعالى بعين الرأس في الدنيا لا للأنبياء، ولا للملائكة، ولا لغيرهم، وكلام هؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا ضلال كما تقدم. ومثل ذلك من يزعمون أنهم يرونه في بعض الأشخاص، يقول أحدهم: أنا رأيت الله في فلان، ولا يقول هذا الكلام إلا الحلولية والاتحادية الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات، ويتحد معها حتى يكون المخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق. فيقولون: إنهم يرونه في بعض الأشخاص، إما في بعض الصالحين أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم. قال: فعظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم، وهؤلاء الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، وفيهم شعبة من شعب النصارى، واعلم أن هناك ناساً آخرين شراً من هؤلاء، يعممون الرؤية في جميع الخلق، فيقولون بحلول الله عز وجل أو اتحاده في جميع الموجودات حتى في الكلاب والخنازير والنجاسات، وهذا القول كفر، وهو يشبه قول من قال: إن الله موجود في كل الوجود بذاته؛ لأنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى في الحمامات، وفي الحشوش، وفي الأماكن النجسة بذاته. وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية لله عز وجل، وأنه استوى على العرش كيف شاء، وأنه مع عباده ومع خلقه بسمعه وعلمه وبصره وإحاطته، فيتنزه ربنا تبارك وتعالى عن قول هؤلاء الذين يوجدون الله تبارك وتعالى في هذه الأماكن التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم فضلاً عن رب المسلم. فهؤلاء الضالون يقولون بأن الله تعالى يتحد ويحل في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات، كما يقول ذلك قوم من الجهمية، ومن تبعهم من الاتحادية -أي: الصوفية- كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وغيرهم، ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب، -يعني: اليهود والنصارى- أن الله سبحانه وتعالى خالق العالمين، ورب السماوات والأرض وما بينهما أجمعين، ورب العرش العظيم، والخلق جميعاً عباده، وهم فقراء إليه، هذا كلام المعتدلين من أهل الكتاب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، فأثبت في أول الآية العلم، وأثبت في آخر الآية البصر والرؤية. إذاً: فمعيته لخلقه معية علم وبصر وسمع، وهو معكم أينما كنتم، فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً، وإما صبياً أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمه؛ يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانوا كفاراً؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفروا وعظم كفرهم، بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولداً، حتى قال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم:88 - 89] أي: مفترى، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:90 - 93]. فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ فهذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله، كما زعمت السبئية من الشيعة، يزعمون أن عليا هو الله تعالى، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثاً ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفق الصحابة رضي الل

قول الكرمي في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا

قول الكرمي في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا ويقول مرعي الحنبلي الكرمي: اختلف العلماء: هل رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه بعين رأسه أو بعين قلبه، فمذهب ابن عباس وطائفة أنه رآه بعين رأسه، وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأشعري ومن وافقه. وكذلك أبو الحسن الأشعري لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه. ومذهب عائشة رضي الله عنها أنه لم يره بعين رأسه؛ لحديث أبي ذر: (نور أنى أراه؟)، وعلى هذا طائفة من العلماء، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: قد تدبرنا عامة ما صنفه المسلمون في هذه المسألة، وما تلقوه فيها قريباً من مائة مصنف، فلم أجد أحداً يروي بإسناد ثابت ولا صحيح، بل ولا عن صاحب ولا عن إمام أنه رآه بعين رأسه. قال: فالواجب اتباع ما كان عليه السلف والأئمة وهو إثبات مطلق الرؤية، أو رؤية مقيدة بالفؤاد، ولم يثبت عن الإمام أحمد التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه. نحن قلنا: إن فيه ثلاث روايات عن أحمد: رأى ربه بعيني رأسه، رأى ربه بفؤاده، رأى ربه، ولكن رواية إثبات الرؤية بعين رأسه غير ثابتة -يعني: غير صحيحة- وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه رآه رآه حتى انقطع نفسه. لكن ابن تيمية أعلم بنقول أحمد، فـ ابن تيمية نخل وغربل مذهب أحمد بن حنبل، بل والمذهب الحنبلي كله، بل ومذاهب أهل العلم، فكيف يقدم كلام النقاش على كلام ابن تيمية الذي هو من أهل بيت أحمد بن حنبل، يعني: من أهل بيت علمه وفقهه؟! يقول: وأحمد أجل من أن يكون عنده من عدم السكينة ما يتكلم بمثل هذا حتى ينقطع نفسه، إنما هي حكايات المجازفين في النقول عن الأئمة، فتأمل وصاحب البيت أدرى، وكم للناس من مجازفات في المنقول والمعقول، والمرجع في ذلك إنما هو لأقوال المحققين والعلماء الراسخين والأئمة الربانيين كـ ابن تيمية وغيره.

كلام ابن القيم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه

كلام ابن القيم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه وقال ابن القيم عليه رحمة الله في الزاد: واختلف الصحابة: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، فهذه مطلقة وهذه مقيدة. وصح عن عائشة وعن ابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] إنما هو جبريل، وصح عن أبي ذر أنه سأله: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه؟) أي: حال بيني وبين رؤيته النور، كما قال في لفظ آخر: (رأيت نوراً)، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس مناقضاً لهذا، يعني: حتى ابن عباس ليس مختلفاً مع عائشة ولا عبد الله بن مسعود في الحقيقة؛ لقوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى) ولكن لم يكن هذا في الإسراء، -هذا في حديث اختصام الملأ الأعلى- ولكن كان ذلك في المدينة لما احتبس عنهم صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد -أي: بنى رأيه ومذهبه في هذا الأمر- وقال: نعم، رآه حقاً؛ ولكن لم يقل أحمد رحمه الله: إنه رآه بعيني رأسه يقظة وحقاً، وإنما قال: رآه حقاً، ولم يذكر يقظة ولا أنها كانت رؤية عين. فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه كـ النقاش: أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، أي: ليس فيها التصريح بأنه رآه بعيني رأسه، رحمه الله تعالى ورضي عنه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

النهي عن التفكر في ذات الله تعالى

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - النهي عن التفكر في ذات الله تعالى يسعى الشيطان حثيثاً إلى سوق الإنسان إلى نار جهنم سوقاً، وذلك بإقحامه في الكفر بالله، فإن لم يستطع لجأ إلى الوسوسة وتشكيك المؤمن في عقيدته وأحكام الشريعة، ولذلك فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم علاجاً يخنس الشيطان عند استعماله، وهو الاستعاذة بالله منه والانتهاء عن التفكر في ذلك، فالشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التفكر في ذات الله عز وجل

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التفكر في ذات الله عز وجل إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. كنا في أواخر الدروس التي تناولناها فيما يتعلق بأصول الاعتقاد للالكائي قد تكلمنا عن صفات الله عز وجل الخبرية، ولا أدعي أننا أحصيناها شرحاً وبياناً، وإنما ما تناولناه يقاس عليه غيره، فالكلام فيما لم نذكره هو نفس الكلام فيما ذكرناه، وذلك إن شاء الله تعالى معلوم لديكم. ولذلك ننتقل إلى مسألة أخرى وهي: مسألة الوسوسة في الإيمان، وأظن أن هذا الباب مناسب جداً لما نسمعه في هذه الأيام الأخيرة: أن كثيراً من الإخوة -فضلاً عن عامة الناس- يأتي ويشكو أن الشيطان تسلط عليه في ذات الله تبارك وتعالى، وأنه أوقعه في دائرة الشك في الله عز وجل، وإذا استرسلت معه يقول: أنا أريد جواباً على سؤال محدد وهو: من خلق الله؟ كثير من الناس في هذا الزمان يسأل هذا السؤال. وهذا بلا شك وسوسة شيطان، وباب من أبواب إغوائه وإضلاله للبشر؛ ولذلك لما أطلع الله عز وجل رسوله على أن هذا الباب سيكون موجوداً في الأمة لم يترك الأمة، بل ولم يترك أهل العلم يجتهدون في دفع هذا الوسواس، وإنما حدد لهم الجواب. ولذلك عقد اللالكائي هذا الباب وهو: [باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التفكر في ذات الله عز وجل]. والقرآن الكريم والسنة النبوية كذلك مليئان بالآيات والأحاديث التي تأمر بالتفكر في آلاء الله عز وجل، وفي خلق الله عز وجل؛ في سماواته، وفي أرضه، بل وفي نفسك وأعضائك، وفي حركاتك وسكناتك، وفي الجبال وغير ذلك من مخلوقات الله عز وجل، التي تدل بوجودها على وجود من أوجدها وهو الله تبارك وتعالى. فنحن مأمورون بأن نتدبر وأن نتفكر في مخلوقات الله لا في ذات الله عز وجل؛ لأن الذي يتفكر في ذات الله عز وجل لابد أنه يئول أمره إلى ما آل إليه أمر الفرق الضالة؛ ولذلك ورد النهي عن التفكر في ذات الله؛ لأنه ربما تطرأ هذه الشبهة على الأذهان والقلوب؛ لغفلة ولجهل من صاحبها، ولتسلط الشيطان عليه في لحظة غفلته مثلاً أو غير ذلك، فقد جعل الشرع لذلك علاجاً. [عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله عز وجل. وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟)]. فالشيطان يأتي إلى العبد المؤمن فيقول له: من خلق الجبال؟ فيقول: الله، ومن خلق السماوات؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق كذا وكذا وكذا فيعدد له خلقاً من خلق الله عز وجل، ولما كان مستقراً عند هذا العبد أن الله تعالى خالق كل شيء فهو يقول في كل Q الله، فيقول الشيطان -عليه لعنة الله-: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ وكيف وجد الله عز وجل؟ وهذا سؤال بلا شك لا جواب عليه؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا بلغ ذلك منك -أي: فإذا بلغ الشيطان منك ذلك المبلغ- فليستعذ بالله ولينته). فهذا الحديث ذكر فيه الداء، وذكر مع ذلك الدواء، فهو حديث اشتمل على العلة والدواء منها، فالعلة هي: وسوسة الشيطان في ذات الله تبارك وتعالى: من خلقه؟ ولما لم يكن هناك جواب عقلي على هذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن العلاج: أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتنتهي. لذلك قال الإمام النووي: وهذا في حالة أن تطرأ الشبهة ولا تستقر في القلب، ولا تكون هذه الخاطرة محل شبهة أو دليل عند من أغواه الشيطان. فـ النووي يريد أن يقول: إن إغواء الشيطان ووسوسة الشيطان في ذات الله تبارك وتعالى هي على ضربين ونوعين: إما خ

نهي السلف عن الخوض في صفات الله بالتكييف والتأويل ونحو ذلك

نهي السلف عن الخوض في صفات الله بالتكييف والتأويل ونحو ذلك [قال أبو عبيد القاسم بن سلام لما ذكرت عنده أحاديث: (ضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده)، و (الكرسي موضع القدمين)، و (وأن جهنم لتمتلئ فيضع ربك قدمه فيها) وأشباه هذه الأحاديث؛ فقال أبو عبيد: هذه الأحاديث عندنا حق، يرويها الثقات بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها قلنا: ما أدركنا أحداً يفسر منها شيئاً، ونحن لا نفسر منها شيئاً، نصدق بها ونسكت]. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات الله عز وجل التي هي فوق مستوى عقول البشر: أنهم يؤمنون بها كما جاءت، ويمرونها ولا يتعرضون لها، ولا يخوضون فيها بتأويل ولا بتفسير وغير ذلك، وإنما يؤمنون بها. قوله: (ضحك ربنا) فهو سبحانه يضحك كيف يشاء، ضحكاً يليق بجلاله تبارك وتعالى. قوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) ينزل كيف يشاء، فنؤمن بأنه ينزل، لكن لا يعلم الكيفية إلا الله عز وجل، ولذلك كانوا يؤمنون بهذه الأصول ويمرونها كما جاءت، ولا يتعرضون لها، ولا يخوضون فيها بتأويل ولا بشرح ولا بيان؛ لأن هذه الأصول وهذه الصفات فوق مستوى الشرح، وفوق مستوى البيان والتفسير والتأويل، بل هي فوق مستوى العقول. فإذا كنت أنت لا تدرك ذات الله تبارك وتعالى، ولا تستطيع أن تصف الذات لله عز وجل؛ لأنك لم ترها ولم تر لها مثيلاً؛ فلابد أن هذه الذات متصفة بصفات الكمال، ولا يجوز لأحد أن يشرحها، فضلاً عن أن العقول لا تستوعب ذلك؛ ولذلك أخفاها الله عز وجل حتى على أنبيائه ورسله، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام عنده شيء من ذلك تفصيلاً لأخبرنا به، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك خيراً إلا وقد دل أمته عليه، فلما امتنع وسكت عن هذا تبين أنه ليس عنده بيان في هذا. قال: [وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن -وهو ربيعة الرأي شيخ أهل المدينة- عن قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: الاستواء معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والله عز وجل لا يحد]. وهذا حتى لا تتصور في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أن العرش يحويه أو يحيط به، فالله تبارك وتعالى أكبر من جميع المخلوقات، والعرش مخلوق، فلابد أن العرش لا يحيط بالله عز وجل، فيكون ((اسْتَوَى)) بمعنى: علا وارتفع، لا بمعنى: استولى، ولا بمعنى: قعد. ولذلك هذه الزيادة من ربيعة زيادة في غاية الأهمية، قال: وأن الله تعالى لا يحد، أي: لا تحده حدود من جميع الجوانب. قال: [ولما سئل نعيم بن حماد -وهو شيخ البخاري، وهو وإن كان في الحديث ضعيفاً إلا أنه إمام كبير من أئمة السنة -لما سئل عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق) قال نعيم: ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء من الأشياء. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية -أي: ذكر رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى- فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف]. مع أن هذه النصوص لها جانب آخر وهو جانب الرؤية، وذلك لأن الرؤية غير حاصلة في الدنيا، وليس لها مثيل كذلك، ورؤيتنا لله عز وجل في الآخرة لا نعلم نحن كيفيتها، فالذي نؤمن به تمام الإيمان أننا نرى ربنا تبارك وتعالى عياناً، فهل نكون في ذلك الوقت على حالتنا وعلى ضعفنا وقلة حيلتنا في الدنيا؟ وهل نكون بهذا التكوين الفسيولوجي حين نرى الله عز وجل في الجنة، أم أن الخلق سيكون لهم بنيان آخر يقوون به على رؤية المولى عز وجل؟ فهذا أمر لا نعلمه، وإنما نؤمن أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى، ويحجب عنه الكافرون فلا يرونه قط.

النهي عن الوسوسة في الإيمان

النهي عن الوسوسة في الإيمان عقد الإمام مسلم عليه رحمة الله باباً عظيماً في صحيحه في كتاب الإيمان وهو: باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها. فأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به) فيسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويخبرونه بحالهم. قولهم: (إنا نجد في أنفسنا) أي: نشعر بخاطر يجول في نفوسنا، ويتعاظم أحدنا أن يتفوه بكلمة واحدة منه. يعني: حتى معك أنت يا رسول الله! لا نستطيع أن نذكر شيئاً من ذلك؛ لأن الأمر عظيم وخطير، فهي وسوسة عظيمة جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقد وجدتموه؟) كأنه علم أن الأمة لابد أن تقع في مثل هذا الداء. فقوله: (وقد وجدتموه؟) سؤال يستنكر به تسلط الشيطان عليهم، وقد فهم النبي عليه الصلاة والسلام عما هم عنه سائلون. قال: (قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: ذاك صريح الإيمان). بعض الناس فهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان) أن الوسوسة من الإيمان، وهذا بلا شك انحراف شديد جداً عن فهم أهل العلم من السلف لهذا الحديث. فقد أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن تسلط الشيطان على المؤمن إنما يكون بإغوائه وإضلاله، فإنه قد نجح في إضلاله وإغوائه للكافرين، فإذا فشل الشيطان في إضلال العبد المؤمن -مع أنه نجح في إضلال الكافر- فإنه يتسلط عليه من باب آخر وهو باب الوسوسة والشك في الله عز وجل، وهناك فرق بين عبد جحد الله عز وجل، وعبد شك في الله عز وجل، ففرق بين العبد الجاحد لله وآلائه واستحقاقه للعبودية والربوبية وغير ذلك مما يجب لله عز وجل، وبين عبد آمن وسلم بذلك كله، ولكنه شك في الله عز وجل. فلما فشل الشيطان مع العبد المؤمن أن يجعله هو والكافر سواء؛ اجتهد عليه في باب الشك والوسوسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقد وجدتموه؟) يعني: هو فشل في خلعكم من إيمانكم، ولكنه رضي أن يحرش لكم في الإيمان، وأن يوسوس لكم فيه، والشك إنما هو الحلقة الوسطى بين الإيمان الكامل وبين الكفر، أي: أن الشك هو الطريق إلى الكفر فقال: (وقد وجدتموه؟) يعني: أو قد تسلط عليكم من هذا الباب؟ (قالوا: نعم. يا رسول الله!) قال: هذا علامة إيمانكم، ولولا أنكم آمنتم بالله عز وجل، وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتبعتم النبي عليه الصلاة والسلام ما تسلط عليكم بالوسوسة؛ لأنه لا يوسوس للكافر، وإنما يغويه مباشرة ويضله مباشرة، فالكافر لا يحتاج إلى وسوسة، وإنما يوسوس الشيطان للعبد المؤمن إذا قوي إيمانه بإيقاعه في دائرة الشك في الله عز وجل. فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن تسلط الشيطان بالوسوسة في الإيمان إنما هو علامة إيمان العبد، فقال: (ذاك صريح الإيمان). وفي رواية: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الوسوسة؟ قال: تلك محض الإيمان) ومحض الإيمان: هو الإيمان الكامل. إذاً: العبد الذي كمل إيمانه لا يركن إلى كمال هذا الإيمان، بل يجتهد في العبادة، ويجتهد في الطاعة والإخلاص لله عز وجل؛ لأن العبد كلما ازداد إيمانه ازداد الشيطان تسلطاً عليه في باب الوسوسة، فقال لما سئل عن الوسوسة: (تلك محض الإيمان). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله).

علاج المؤمن من تسلط الشيطان ووسوسته

علاج المؤمن من تسلط الشيطان ووسوسته أرجو أن تسجل هذه الأدوية؛ حتى تستخدمها إذا تسلط الشيطان -لا قدر الله- عليك، فأول علاج كما في حديث أبي هريرة: (فليستعذ بالله ولينته). والعلاج الثاني: مجاهدة العبد نفسه في دفع هذا الخاطر وهذه الوسوسة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولينته) يعني: ليكن منك بذل للجهد في دفع هذا الشيطان، ودفع هذا الوسواس، ودفع هذا الخاطر المضل. قال: (ثم قل: آمنت بالله)؛ فإقرارك الذي يسمعه منك الشيطان في حال الوسوسة أنك تؤمن بالله ورسله أمر يضعف كيده ووسوسته. وفي رواية أخرى: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله، -ثم ذكر بمثله وزاد-: ورسله) يعني: قل: آمنت بالله ورسله. وفي رواية أيضاً: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا، حتى يقول له: من خلق ربك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته). وفي حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال الناس يسألونكم عن العلم)، وباب التفكر باب من أبواب العلم. قال: (لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: الله خلقنا؛ فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة وهو آخذ بيد رجل: صدق الله ورسوله) يعني: كأن أبا هريرة قد أتاه رجل فسأله عن هذا، فأخذ بيده وقال: صدق الله ورسوله. وفي رواية: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة: لا يزال الناس يسألونك عن العلم يا أبا هريرة! حتى يسألونك عن الله عز وجل، فأتى قوم إلى أبي هريرة يسألونه، حتى سألوه عن الجبال والشمس والقمر والأرض وهو يقول: الله خلق هذا، فقالوا: هذا الله خلق كل هذا، فمن خلق الله؟ فتناول كفاً من حصى وألقاه في وجوههم وقال: قوموا عني، صدق خليلي صلى الله عليه وسلم). وفي رواية أبي هريرة: (ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟). وعند أبي داود: (فإذا قالوا ذلك -أي: فإذا قالوا لكم: فمن خلق الله؟ - فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد). كما أتى المشركون إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: انسب لنا ربك؟ فنزل قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أي: رد عليهم يا محمد! بنسب الله عز وجل أنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فهذا نسبه، وهذه أعظم سورة في كتاب الله عز وجل على الإطلاق، فكل أجزائها توحيد لله عز وجل، وليس في القرآن من أوله إلى آخره سورة هي أعظم من سورة الإخلاص، كما أنه ليس في القرآن من أوله إلى آخره سورة كلها توحيد لله عز وجل إلا هذه السورة، وجميع القرآن إنما تكلم عن التوحيد وغير التوحيد إلا هذه السورة؛ فإنها لم تشمل إلا التوحيد فقط. قال: (ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً -أي: دحراً للشيطان- وليستعذ بالله). إذاً: العلاج (فليستعذ بالله ولينته)، وليقل: (آمنت بالله ورسله)، (وليتفل عن يساره ثلاثاً)، (وليقرأ سورة الإخلاص) فهذه أربعة علاجات للوسوسة، وبهذا يندفع الشيطان ويذهب معه هذا الخاطر، فعلينا أيها الإخوة! أن نؤمن بهذه الأصول، وقد يأتي شخص بعلاج آخر غير هذا العلاج فنقول له: لا علاج غير هذا العلاج إلا أن تذهب إلى الساحر! فإذا كانت النصوص لا تعجبك ولم تأت بنتيجة فالعيب فيك أنت. وقد ثبت في السنة: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، وهو (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الثانية فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الثالثة فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه فقال: قد فعلت؟ فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك. اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ) وأنت تريد من أول جرعة أن تأخذ الدواء وتشفى وتبرأ تماماً؟! إن النصوص تحتاج إلى قلب واع مؤمن، قد تمكن الإيمان منه حتى استطاع أن يتعامل معه، فعند أن تتبع النصوص بغير اعتقاد فإنها لا تنفعك، بل حتى الأطباء يقولون: العامل النفسي في العلاج مهم جداً لإتمام البرء، فأنت عند أن تأخذ علاجاً صرفه لك الطبيب وأنت لا تثق بهذا الطبيب ولا بهذا الدواء، ولا تعتقد أن هذا الدواء سيكون سبباً في الشفاء ففي الغالب لا يعطي نتيجة. فإذا أردت التعامل مع النصوص فلابد من تنظيف وتطهير القلب أولاً. إذاً: فهذه خمسة علاجات لدفع هذا الوسواس وهذا الخاطر.

كلام الإمام النووي في معاني أحاديث النهي عن الوسوسة في الإيمان

كلام الإمام النووي في معاني أحاديث النهي عن الوسوسة في الإيمان يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: أما معاني هذه الأحاديث وفقهها: فقوله عليه الصلاة والسلام: (ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان) معناه: استعظامكم أن تتفوهوا بكلمة من هذا الوسواس لهو دليل صادق على إيمانكم. أي: أن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك. واعلم أن الرواية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد -يعني: هو الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام- وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم الرواية الأولى، وقيل: معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، أي: لمن أيس من نقله من الإيمان إلى الكفر، فأعظم ما يصبو إليه الشيطان إكفار الناس وخروجهم عن ملة الإيمان، فقد يفعل ذلك مع شخص فينجح، ويأتي ليفعل ذلك مع الآخر فلم ينجح، فمن غباء الشيطان أنه يصر على وسيلة هو فيها فاشل، فلابد أن يستخدم سلاحاً آخر، ووسيلة ثانية، وحيلة أخرى. فقال: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه -أي: لعجزه عن كفره- وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد. قال: وعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول هو الذي اختاره القاضي عياض. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله) وفي الرواية الأخرى: (فليستعذ بالله ولينته) فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله عز وجل في إذهابه. قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. يعني: لا يصح أن تقول: لا، إنك أيها الشيطان! مضل مجرم، ولذلك أنا لا أسمع لإغوائك؛ بدليل أن الله تعالى قال: كيت وكيت، فأنت لا تحتاج إلى استدلال وبعد نظر في دفع هذا الوسواس؛ لأنك من الأصل مؤمن كامل الإيمان، فلا تحتاج مع هذا إلا أن تدفع عنك هذا الخاطر سريعاً دون أن تتكلف بإتيان الحجج والأدلة والبراهين على أن هذه من وسوسة الشيطان، بل عليك أن تطرده عن بابك قولاً واحداً دون أن تتكلف بالإتيان بالأدلة. قال: والذي يقال في هذا المعنى: أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت؛ فهي التي تدفع بالإعراض عنها، يعني: مجرد خاطر مر على القلب ولم يستقر فإنه يدفع بالإعراض عنه؛ لأنه غير متمكن، وعلى هذا يحمل الحديث. وعلى مثلها ينطبق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير أصل دفع بغير نظر ولا دليل؛ إذ لا أصل لهذا العارض حتى نحتاج معه إلى استدلال وبرهان، وهذا يختلف عن الخواطر التي استقرت في القلوب. وهذا كشخص مرض مرضاً يسيراً، فعند أن ترك العلاج ذهب هذا المرض، بخلاف رجل تمكن المرض منه تمكناً عظيماً، فلما كان هناك فرق بين الداءين في البدن فلابد أن يكون هناك فرق بين الوسوستين والخاطرين في القلب، فإما خاطر خطر ومر على القلب ولم يستقر، وإما خاطر قد مر بالقلب فوجده فارغاً فتمكن منه. وكأنه يقول: إن هذا القلب إما عامر بالإيمان، وإما فارغ وخاو وخال من الإيمان، فإن كان عامراً بالإيمان فلا تتمكن منه هذه الخواطر والهواجس والوساوس؛ ولذلك يكفي صاحبها أن يستعيذ بالله، وأن يجاهد نفسه مجاهدة يسيرة لدفع هذا الوسواس، وأن يقرأ سورة الإخلاص، وليتفل عن يساره ثلاثاً. وأما الذي تمكنت منه فمن حقه أن يطالب أن تزال عنه الشبه بالحجج والبراهين. إذاً: فالوسواس لا يمكن أن يتمكن إلا من القلب الذي فرغ من الإيمان، وحتى تدفع هذا الخاطر لابد من جهد عظيم جداً وخارق في دفع هذا الوسواس بالأدلة والبراهين، فنحن نحتاج إلى أدلة وبراهين لمن كان قلبه خاوياً من الإيمان حتى ندفع عنه ذلك الوسواس، ويعمر قلبه بالإيمان، ويحصن نفسه ضد هذه الوساوس والهواجس. قال: وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة -يعني: تمكنت من صاحبها بسبب الشبهة التي طرأت عليه- فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليستعذ بالله ولينته) فمعناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله عز وجل في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها. فيشتغل بالذكر، وبالقرآن، وبالاستغفار، وبمصاحبة الإخوة والخلان وغير ذلك من الطاعات. وهذا الكلام كلام متين جداً في علاج الوسوسة، ودفع الشيطان على هذا النحو.

كلام ابن القيم في علاج الوسوسة في الإيمان

كلام ابن القيم في علاج الوسوسة في الإيمان وشيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله له كتاب ممتع جداً اسمه: إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، وقد عقد فيه فصولاً متعددة على طول الكتاب وعرضه يتكلم فيها عن كيفية محاربة العبد للشيطان، واعتبر أن الأعداء الذين يعادون ابن آدم إنما هما النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، ومعظم الضلال إنما يأتي منهما، فعقد فصولاً متعددة في أبواب شتى وهو يتكلم وينصح العباد كيف يتعاملون مع الشيطان إذا وسوس لهم في أي باب من الأبواب، فقد يمكن أن يوسوس في باب الوضوء، أو في باب الصلاة، أو في باب الصيام، أو في باب الزكاة، أو في باب الحج، وأعظم أبواب الإغواء والوسوسة إنما هي في الإيمان؛ لأن الوسوسة في هذه الحالة إنما هي في ذات الله تبارك وتعالى. ولا شك أن الوسوسة كلها مذمومة وغير محمودة، وممقوتة لدى أهل العلم وفي الشرع، لكن بعضها أعظم من بعض، فلا يتصور التساوي بين عبد دخل الشيطان له في باب الوضوء ووسوس له، فبدلاً من أن يغسل العضو ثلاث مرات يغسله ثلاثين مرة، وبدلاً من أن يتوضأ بالمد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، ويغتسل بالصاع فإنه يتوضأ ببرميل أو برميلين، وبعد هذا كله لا يرى أنه أحسن الوضوء، وهو حقيقة لم يحسن، بل قد أساء الوضوء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً وثلاثاً، وتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وثلاثاً وقال: (من زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم). فقوله: (من زاد عن هذا) أي: من زاد عن الغسلات الثلاث لكل عضو (فقد أساء وتعدى وظلم). وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد -أي: بملء الكفين- ويغتسل بالصاع -وهو أربعة أمداد-، فقال رجل ممن سمعه: إنك لتراني عظيم البدن مشعراً، فلا يكفيني المد، بل لا يكفيني الصاع في الاستنجاء، فغضب جابر رضي الله عنه وقال: قد كان يكفي من هو أعظم منك وأشعر)، يريد أن يقول له: إن الذي أنت عليه وسوسة، ولو أن الإيمان تام كامل عندك لما قلت هذا، وإن كانت هذه بلية فاحتفظ بها كما احتفظ بها الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: (يتعاظم أحدنا أن يتكلم به). فعند أن تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وأنت تصب برميلاً؛ فاعلم أن هذه بلية، وحاول أن تعالجها، لكن إياك أن تجعل هذا الأمر حجة، فيلقيها الشيطان على قلبك. وقد نقل شيخ الإسلام ابن القيم عن ابن قدامة المقدسي كيفية العلاج من الوسوسة. فقال: فمن أراد التخلص من هذه البلية -التي هي الوسوسة- فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه عليه الصلاة والسلام على الصراط المستقيم، وأن ما خالف هديه في قوله وفعله إنما هو من تسويل إبليس ووسوسته. ويوقن العبد أنه -أي: الشيطان- عدو له، وأن النجاة من هذا العداء في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الشيطان لا يدعوه إلى خير قط: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]. وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائناً ما كان، فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم، ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته، وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته، ويقول لنفسه: ألستِ تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم؟ فإذا قالت له: بلى، قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: لا، فيقول لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعتِ سبيله كنت قرينه -أي: كنتِ قرينة له- وستقولين: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.

النظر إلى أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم

النظر إلى أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقتد بهم، وليختر طريقهم. قال بعضهم: لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته. يعني: لو كان الوضوء هو غسل الظفر فقط ما غسلت غيره؛ دفعاً للوسواس. قال زين العابدين يوماً لابنه: يا بني! اتخذ لي ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب؛ لأن الحمام فيه ذباب والذباب يقع على الوساخة والقاذورات، ثم إذا دخلت الحمام وقع هذا الذباب علي. قال: ثم انتبه زين العابدين فقال: ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا ثوباً واحداً، فتركه. وكان علي بن أبي طالب يدخل المسجد فيطأ الوحل والطين من بيته إلى المسجد، ثم يصلي ولا يغسل قدمه، فلما حُدِّث في ذلك قال: أليس في الصيف يجف هذا الطيب ويصير تراباً، فتسفيه الرياح على وجهك وفي شعرك وثوبك فتصلي به، أم أنك تتوضأ؟ قال: أصلي به، قال: وأنا أصلي به الآن. وأتى رجل إلى ابن قدامة وقال له: يا إمام! إني أشكو من عجزي أن أكبر في الصلاة، قال: تشكو من ماذا؟ قال: لا أستطيع أن أقول: الله أكبر، فكيف أقولها؟ قال: قلها كما قلتها الآن. قال: وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله عليه الصلاة والسلام انتهى، حتى إنه قال: لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب؛ فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز، فقال له أبي بن كعب: مالك أن تنهى؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبسها ولُبست في زمانه، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله، فقال عمر: صدقت. ثم ليعلم هذا الموسوس أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة خيراً من الله عز وجل لأعطاها أولاً لأنبيائه ورسله، ثم لأصحاب أنبيائه ورسله، ثم للأمثل فالأمثل، فلما حجبها عن هؤلاء جميعاً دل على أنها شر. ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله عليه الصلاة والسلام الموسوسين لمقتهم وذمهم، ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وغير ذلك من كلام السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم. وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن شيخه أبي الوفاء بن عقيل: أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيراً وأشك هل صح لي الغسل أم لا، فما ترى يا إمام؟ فقال له: قد سقطت عنك الصلاة. قال له: كيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة ومنها: المجنون حتى يفيق) وأنت إنسان مجنون، فالذي ينغمس في الماء مراراً ولا يرى أنه قد طهر لابد أن عقله قد ذهب، وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت وأشغله بوسوسته في النية حتى تفوت التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب. فالأمثل في الموسوسين الذي يخطف تكبيرة الإحرام ويركع مع الإمام، إذ يفوت على نفسه تكبيرة الإحرام وهو كان مدركاً لها، ويفوت على نفسه قراءة الفاتحة وكان في حقه مستطاعاً؛ وكل ذلك وهو يرفع يديه يقول: الله أك، الله أك، الله أك، أك أك أك إلى أن يركع الإمام. يقول ابن قدامة: ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان -أي: أن هذا الموسوس مطيع للشيطان وليس مطيعاً لله عز وجل- حتى اتصفوا بوسوسته، وقبلوا قوله وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع النبي عليه الصلاة والسلام -يعني: زهدوا في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته- حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، أو صلى كصلاته فوضوءه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في مواكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجساً يجب عليه تسبيع يده، يعني: يجب عليه أن يغسل يده سبع مرات. وأهل العلم يقولون: الفقه كل الفقه في الاقتصاد في الدين، والاعتصام بالسنة، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. وقال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه -أي: تساقطت- كما يتحات عن الشجر اليابسة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصاداً أن تكونوا على منهاج الأنبياء وسنتهم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم الأكل في الطريق

حكم الأكل في الطريق Q هل يجوز الأكل في الطريق؟ A من حيث الجواز يجوز، والأفضل تركه؛ لأن بعض أهل العلم عدوه من خوارم المروءة، وخوارم المروءة هذه مرتبطة بالعرف؛ لأن الشرع لم ينص على أفعال معينة أنها من خوارم المروءة، وإنما هي خاضعة لعرف كل زمان ومكان، فما عده أهل كل زمان في بقعة من البقاع أنه من خوارم المروءة أصبح الأمر كذلك، فلو كان الأكل منها فلا ينبغي لأحد أن يأكل في الشوارع ولا أن يأكل في الأسواق وغيرها، وإلا انخرمت مروءته، ولم تصح شهادته، لكنني أبشرك أنه ليس هناك شيء في هذا الزمان من خوارم المروءة.

حكم القول عن الرجل الصالح: إنه من الأبدال

حكم القول عن الرجل الصالح: إنه من الأبدال Q كثيراً ما أقرأ في كتب التراجم عن صاحب الترجمة: أنه من الأبدال؟ A هي كلمة يقولونها للمبالغة في صلاح وتقوى المترجم له، لكنها لفظة أخذت بعداً عظيماً جداً عند المتصوفة، ولذلك ينبغي الاستغناء عنها بغيرها، فيوصف العبد بالصلاح والتقوى والعبادة وغيرها خير من أن يوصف بأنه بدل من الأبدال، فالصوفية عندهم أن الأبدال إنما هم أقطاب يملكون التصرف في الكون من جميع نواحيه.

منهج الألباني في تصحيح الحديث

منهج الألباني في تصحيح الحديث Q هل صحيح أن الشيخ الألباني متساهل في التصحيح؟ A هذا ليس صحيحاً، وإنما الشيخ له منهج في التصحيح والتضعيف، ومنهجه ليس فيه تساهل.

الوضوء بالمد

الوضوء بالمد Q هل يمكن أن يكون المد -ملء الكفين- كافياً للوضوء ثلاثاً ثلاثاً؟ A يكفي حسب فقه العبد، فإذا علمت أن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كان يتوضأ ولا يبل الأرض بفضل وضوئه؛ علمت أن هذا المد يكفي للوضوء، ونحن قد قمنا بالوضوء بالمد، فكنا نأخذ العلبة من علب المربى في الجيش فنستنجي بها بعد الاستجمار، ونتوضأ منها، فالضرورة علمتنا.

الإخلاص أفضل سورة في القرآن على الإطلاق

الإخلاص أفضل سورة في القرآن على الإطلاق Q أيهما أفضل سورة في القرآن: الإخلاص أو الفاتحة؟ A الإخلاص هي أفضل سورة على الإطلاق، كما أن أفضل آية على الإطلاق هي آية الكرسي.

حكم زواج المرأة بدون إذن وليها

حكم زواج المرأة بدون إذن وليها Q رجل تزوج من امرأة بدون إذن وليها، واستمرت حياتهما لمدة عامين أو أكثر، وبعد ذلك رضي ولي الزوجة، فهل على الزوج والزوجة من حكم شرعي؟ A هذا الزواج غير صحيح في مذهب الجمهور، وعند الأحناف صحيح، ولكن يفرق بين المرأة البالغة الرشيدة وبين المرأة غير البالغة، فالإمام أبو حنيفة لا يشترط الولي للمرأة البالغة أو الثيب، ويشترطها في غير البالغة، بل يقول: لا يشترط الولي في البالغة ولا في الثيب إذا اختارت كفؤاً لها، فهو أيضاً اشترط الكفاءة، والكفاءة محل خلاف عند أهل العلم: هل هي في الدين فقط أم في الدين والدنيا؟ فالكفاءة في الدين محل اتفاق، والكفاءة في الدنيا محل اختلاف عند أهل العلم، ومعظم الحوادث التي تتم بين الزوجين منشؤها عدم الكفاءة، مثل رجل جاهل يتزوج بمثقفة، ورجل لا يعرف شيئاً عن دينه يتزوج بمتفقهة إلى أقصى حد في دينها، فكيف تستقيم الحياة؟! وكيف سيفكرون؟! فمعظم المفاسد بالفعل تأتي لعدم الكفاءة. فزواج المرأة بغير ولي نكاحها باطل، لكن الذي تزوج وأنجب وجاء بسرب عيال، وسمع أن الزواج بغير ولي باطل؛ فلا شك أن هذا الزواج قائم، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنه باطل، ولا أن ما دار بينهما زنا؛ وذلك لشبهة المذهب الحنفي، وأنت لو أردت أن تبطل هذا النكاح الذي تم لأبطلت نكاح ربع الأمة، فقارة آسيا كلها أحناف ويعتمدون هذا المذهب، وهو عدم اشتراط الولي، فماذا ستقول لهم؟ أتبطل نكاح ربع الأمة؟! فلا شك أن الذي قد مضى عليه ذلك فليتق الله عز وجل وليستأذن الولي في ذلك؛ ولذلك كثير من أهل العلم يقولون: إن صحة النكاح مشروط بإذن الولي ولو كان بعد الدخول، فمادام الولي قد رضي فإن شاء الله تعالى لا حرج عليك، وإنما الحرج على من أقدم، وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل).

رؤية الله في المنام

رؤية الله في المنام Q هل يرى الإنسان الله عز جل في منامه، أم أن ذلك من وساوس الشيطان؟ A بل من وساوس الشيطان، ولم ير أحد ربه تبارك وتعالى في منامه قط إلا النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث اختصام الملأ الأعلى الذي أخرجه أحمد بسند صحيح.

معنى حديث: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم)

معنى حديث: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم) Q ما معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم)؟ A ثبت في السنة أن امرأة مات ولدها، فقالت: هو في الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل هو في النار (أتتألين على الله عز وجل؟ فبكت المرأة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا رسول الله ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم). أي: أنا رسول الله ولا أتألى على الله بهذا، وإنما هو محض فضله تبارك وتعالى. ولذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يقطع لأحد بجنة ولا نار إلا ما ورد القطع به في الكتاب والسنة، وقد ورد القطع بأن عليه الصلاة والسلام في الجنة حيث قال: (النبي في الجنة، والصديق في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة)، والحديث بتمامه كما أخرجه الطبراني: (ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ كل امرأة ودود ولود عئود، إذا غضب عليها زوجها قالت: لا أذوق غمضاً حتى ترضى) يعني: لا أستطيع أن أنام إلا وأنت عني راض. فالنبي عليه الصلاة والسلام مقطوع له بالجنة، بل هو أول من يقرع باب الجنة، ولكنه أراد أن يؤدب الأمة ألا تتألى على الله عز وجل، فقد قال رجل من أهل الطاعة لرجل كان على معصية: (والله لا يدخلك الله الجنة أبداً) وهذا الحديث كثير من الإخوة يحفظه، ومن الناس من إذا كان صاحب لحية قطع لنفسه بالجنة، ويحكم على غيره بالنار، والله ليس هذا الفيصل؛ إذ ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى، واللحية من التقوى، لكنك لا تضمن لنفسك أنك في الجنة. فقال: (والله لا يدخلك الله الجنة أبداً، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عمله)؛ لأن الجنة والنار لا يملكهما إلا خالقهما، فليس لك الحكم بأن هذا في الجنة وهذا في النار؛ لأن الأعمال بالخواتيم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) والعكس بالعكس. فلا تغتر بطاعتك، فربما يختم لك بغير هذا، وإن العاصي ربما تاب الله عز وجل عليه فختم له بخاتمة السعادة، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

تشكيك الشيطان المرء في قدرة الله عز وجل

تشكيك الشيطان المرء في قدرة الله عز وجل Q هل من الوسوسة أن المرء يزعم أن الجن لها قدرة فوق قدرة الله تعالى؟ A من الممكن أن الشيطان يتسلط على المرء بأن يوسوس له أن الله تعالى غير قادر عليه، فمن الممكن أن يتسلط عليه ويشككه في قدرة الله عز وجل.

حكم تخليل اللحية بالماء في الوضوء

حكم تخليل اللحية بالماء في الوضوء Q بالنسبة لتخليل اللحية؛ هل يكفي لتخليلها الإصبع المبلولة بالماء، أم لابد من إدخال الماء خلال شعر اللحية؟ A على أية حال حديث تخليل اللحية بالماء في الوضوء حديث ضعيف، فإن فعلته بنية النظافة أو إتمام الطهارة فلا بأس، وإن لم تفعله فلا شيء عليك.

حكم العمل في المحرمات

حكم العمل في المحرمات Q أنا أعمل في تجارة في الأدوات المنزلية، وأبيع كئوساً لفنادق، وأعرف أن هذا الكأس سيشرب فيه الخمر، فهل علي في ذلك وزر؟ A نعم؛ عليك وزر، عليك أن تتحرى الحلال في تجارتك.

حكم حضور أفراح فيها مغنون ودفوف، وحكم الأناشيد الإسلامية

حكم حضور أفراح فيها مغنون ودفوف، وحكم الأناشيد الإسلامية Q هل يجوز الذهاب للأفراح وبها مغنون ودفوف، وإن كان يترتب من عدم الذهاب قطيعة الرحم؟ A الإمام أحمد بن حنبل ما كان يذهب إلى مكان فيه بدعة قط، وإذا رأى شيئاً يخالف دين الله كان يترك المكان وينصرف، والأناشيد الإسلامية فيها شيء إذا كانت عند الرجال، وتاريخ الأمة كله يشهد بأن الذي كان ينشد هن النساء، ويضربن بالدف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فرق ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف). وأما الأفراح الإسلامية والأناشيد الإسلامية عند الرجال فلا شك أن هذا كله مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام.

من نذر طاعة الله لزمه الأداء

من نذر طاعة الله لزمه الأداء Q امرأة نذرت أن تصلي لله ألف ركعة بعد أن تضع حملها إن رزقت بولد، فهل لها أن تصلي من الألف ركعة قبل الوضع؟ A لا، سبحان الله! لقد كانت في سعة من أمرها، فضيقت الخناق على نفسها، فأدركت أنه لابد أن تتخفف من هذا النذر؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما يستخرج به -أي: بالنذر- من البخيل)، فلو كنت امرأة ذكية لما نذرت، وإنما أكثرت من النوافل قبل الوضع أو بعد الوضع، فنذر المرأة بألف ركعة قد يكون سبباً في بغضها للعبادة، وإثقال العبادة على قلبها. على أية حال هذه التي نذرت يلزمها الوفاء بعد الوضع حسب الشرط الذي اشترطته، وهي قد أثقلت على نفسها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وهذا نذر طاعة فيلزم الوفاء به. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

تكفير المشبهة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - تكفير المشبهة كل الفرق التي ضلت في صفات الله عز وجل إما نفاة أو مشبهة، وإن كان هناك ضلالة أخرى في هذا الباب فمردها إلى هذين الصنفين، والمشبهة من الفرق التي مرقت من دين الإسلام، وقد حكم أهل العلم والدين بكفر من شبه الله عز وجل بشيء من خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

النفي والتشبيه في الصفات هما أصلا الانحراف والضلال في هذا الباب

النفي والتشبيه في الصفات هما أصلا الانحراف والضلال في هذا الباب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. إن الفرق الضالة التي ضلت في صفات الله عز وجل إما أنهم نفاة، وإما أنهم مشبهة، وإن كانت هناك ضلالة أخرى فمردها ومرجعها إلى هاتين الضلالتين، وحديث الافتراق تعلقه بصفات الله عز وجل بالدرجة الأولى، فما ضلت هذه الأمة أعظم ضلال إلا لاختلاف فرقها، وكان الصدر الأول للإسلام على الجادة والاستقامة خاصة في عهد الخلفاء الراشدين، فلم تظهر تلك الانحرافات إلا في عهد صغار الصحابة، أي: في أواخر المائة الأولى للهجرة، كما روى مسلم في صحيحه: أن أول من قال بالقدر في البصرة هو معبد الجهني. فسبب الافتراق والضلال هو أن الأمة اختلفت في ربها وخاصة في صفاته، فمنهم من لم يفهم من صفات الله عز وجل إلا ما يفهم من صفات المخلوقين، وإذا مر على ذكر أو تلاوة صفات المولى عز وجل لا يسعه مع هذا القصور الفكري إلا أن يمثل أو يشبه الله تبارك وتعالى بخلقه، فإذا قرأ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] قال: إن لله تعالى يداً كيدي، وساقاً كساقي، وعيناً كعيني. وقلنا من باب اللزوم: إذا كانت هذه الصفات الثابتة لله عز وجل هي كصفات المخلوقين فيلزم من ذلك أن نقول: إن الذات تشبه ذوات المخلوقين، ومن هنا وقعوا في اضطراب وحيرة شديدة، لأنهم لا يقولون بتماثل ولا بتشابه الذات، فكيف تختلف الذات وتتحد الصفات مع صفات المخلوقين؟ وهناك فرقة أخرى وهم النفاة الذين أرادوا بزعمهم أن ينزهوا الله تبارك وتعالى، فنفوا عنه هذه الصفات، فقالوا: ليس له عين ولا يد ولا ساق ولا قدم ولا كيت ولا كيت، فلجئوا إلى تأويل النصوص، مع أنه ليس منهجاً للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا لأصحابه الكرام، ولا لسلف الأمة، وإنما منهج أهل السنة - وهم أهل العدل والوسطية - أنهم آمنوا بهذه الصفات وأمروها كما جاءت، وفوضوا كيفيتها إلى الله عز وجل، وأما علمها فإنه مستقر معلوم في قلوب أهل السنة والجماعة.

الحكم على بعض الفرق الضالة

الحكم على بعض الفرق الضالة يأتي بعد ذلك الحكم على أصحاب هذه الفرق، فقد اختلف فيهم أهل العلم: هل هم كفار أم لا؟ فمنهم من أطلق الكفر على الغلاة، وهنا أبين أنه في كل فكر غلاة وأتباع، وعند إطلاق لفظ الكفر فإنما يقصد به الغلاة والأئمة الداعين إلى هذا الفكر لا بقية الأتباع، فلو أردنا مثلاً أن نقول: إن أهل العلم كفروا الرافضة فهل كل من تبنى الرفض أو تمذهب به هو كافر؟ A لا، وإنما المراد أئمة الرفض والدعاة إليه العالمين بمدلول مذهبهم الفاسد، فهم المعنيون بالكفر لا كل الرافضة، ولا يمكن أبداً أن تسوي بين إمام من أئمة الرفض كـ الخميني مثلاً وبين رعاع الشعب الإيراني أو رعاع الشيعة الرافضة، فهذا غلام ولد ونشأ في مجتمع يكفر أبا بكر وعمر، وهو لا علم له بحقيقة مذهب الرافضة، بخلاف خميني إيران الذي صار صدراً وإماماً يدعو إلى هذه البدعة، ويتقرب بزعمه إلى الله بتكفير أبي بكر وعمر، فلا يستويان قط. ولذلك إذا قرأت في تكفير أصحاب الفرق الضالة فاعلم أنه حكم ينصب على الغلاة لا على بقية أهل المذهب. والمشبهة هم الذين مثلوا أو شبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، وأحياناً يطلق أهل العلم لفظ المشبهة ويعنون بها النفاة، مع أنهم نفاة وليسوا مشبهة؛ لأنهم شبهوا الله تعالى بالعدم، وجعلوه إلهاً بلا صفات، فلا يتصور أن يكون هذا الكتاب ذاتاً بغير صفات، فله لون وله حجم وله عرض وله طول وله عمق وهذه صفاته، فلا يتصور أن تكون هناك ذات بغير صفات، والذين نفوا الصفات عن الله عز وجل -بزعمهم حتى لا يمثلوه ولا يشبهوه بالمخلوقين- إنما وقعوا في شر مما فروا منه، وهو أنهم شبهوا الله تعالى بالعدم، فيطلق عليهم مجازاً مشبهة.

سياق ما روي في تكفير المشبهة

سياق ما روي في تكفير المشبهة الإمام اللالكائي في هذا الباب يروي ما ثبت عن السلف في تكفير المشبهة فقال: [قال شعبة بن الحجاج العتكي قال لي الأعمش - وهو سليمان بن مهران الكوفي - ما عندك في قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137] فقال شعبة: حدثني أبو حمزة قال: قال لي ابن عباس: لا تقل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137] فإنه ليس لله مثل، ولكن قل: (فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا)]. وهذه قراءة ابن عباس، ولا حرج في هذه القراءة وليست شاذة، ولكن ابن عباس يفهم من رده -وهو حبر الأمة-: أن بعض الناس يتصور أنه يجوز له أن يؤمن بإله آخر، وينزل هذا الإله منزلة الإله الأعظم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فقد كانوا يعبدون أصناماً وخشباً وثماراً وأعظماً وينزلونها منزلة الإله، ويعطون لها ما هو حق خالص للإله الأعظم سبحانه وتعالى، الإله الحق، فيستغيثون بها، ويذبحون وينذرون لها، ويستعينون بها، وغير ذلك مما لا يجوز ولا ينبغي إلا لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله لغير الله فقد اتخذ شريكاً لله عز وجل، وما قام بحق العبودية ولا الوحدانية لله عز وجل. فخشي ابن عباس أن بعض الناس يتصور أنه يجوز له أن يعبد إلهاً آخر مماثلاً -في ظنه- لله عز وجل. {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، فلو أنهم آمنوا بمثل ما آمنتم به -وهو الله- فقد اهتدوا. فيجوز على هذا الفهم لكل واحد أن يعبد إلهاً ليس الله عز وجل، فكانت القراءة عنده في هذه الآية: (فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا).

مناظرة بين عبد الرحمن بن مهدي وأحد المشبهة

مناظرة بين عبد الرحمن بن مهدي وأحد المشبهة قال: [قال عبد الرحمن بن مهدي لفتى من ولد جعفر بن سليمان: مكانك، فقعد حتى تفرق الناس]، وعبد الرحمن بن مهدي إمام من أئمة السلف، وصاحب سنة وهدي، وهو شيخ الإمام أحمد بن حنبل، ومنه تعلم السنة، والاعتقاد الصحيح، وكانت الحلقة تجتمع لـ ابن مهدي بما يتجاوز المائة ألف، فيعلمهم السنة والحديث والفقه، فلما أراد القوم أن ينصرفوا بعد فراغ ابن مهدي من المجلس أشار إلى فتى من ولد جعفر بن سليمان الأمير، فقال: مكانك لا تنصرف وأمر الناس بالانصراف. [ثم قال: تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف -يعني: أتعرف ما في هذا البلد وهو بغداد من الأهواء والاختلاف والاضطراب في العقيدة؟ - وكل ذلك يجري مني على بال] يعني: هذه الاختلافات والأهواء المضلة أنا عندي بها خبر، ولست غافلاً عنها. قال: [وكل ذلك يجري مني على بال رضي إلا أمرك وما بلغني] يعني: إلا أمرك لم يخف علي, وأن هذه الأهواء وهذه الفتن المضلة وإن كانت فتناً إلا أنها أقل خطراً من الذي بلغني عنك، وكأنه قد أتى ببدعة جديدة لا عهد ولا قبل لأهل الإسلام بها. قال: [فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصر إليكم] أي: ما لم يصل إليكم يا معشر السلاطين. [فإذا صار إليكم جل وعظم] يعني: أما الفتن والاختلافات بين عامة الناس فيمكن حلها بالمناظرات والمجادلات وإقامة الحجج والبراهين، وأما إذا تبنى السلطان مذهباً فاسداً فسرعان ما ينتشر ويجد له ظهراً قوياً يحميه، كما كان في الدولة العباسية من تبنيهم المذهب الاعتزالي، فأوذي السلف إيذاءً عظيماً جداً بسبب أن أئمة العباسيين وسلاطينهم قد تبنوا الاعتزال، فلهم ظهر يحميهم، ولهم صولة ونجدة. وأما إذا كان الأمر لا يعني السلطان من قريب ولا من بعيد ولا يتبناه فإن الأمر يهون. قال: [فقال: يا أبا سعيد] وهي كنية عبد الرحمن بن مهدي. قال: [وما ذاك؟] أي: وما هذا الذي بلغك عني؟ قال: [بلغني أنك تتكلم في الرب تبارك وتعالى وتصفه وتشبهه، فقال الغلام: نعم] كأنه أراد أن يقول: وما الغضاضة؟ وماذا تنكر علي؟ قال: [فأخذ يتكلم في الصفة] انتقى صفة من صفات الله عز وجل وأخذ يتكلم عنها مع الإمام. [فقال: رويدك يا بني] أي: على مهلك. قال: [حتى نتكلم أول شيء في المخلوق] يعني: قبل أن نتكلم في صفات الخالق نتكلم في صفات المخلوق. قال: [فإذا عجزنا عن المخلوقات فنحن عن الخالق أعجز وأعجز، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن أبي إسحاق الشيباني قال: سمعت زراً - وهو ابن حبيش - قال: قال عبد الله - وهو ابن مسعود - في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]] كأنه أراد أن يقول له: ماذا تقول في تأويل هذه الآية؟ [قال: رأى جبريل له ستمائة جناح، قال: نعم] يعني: ابن مهدي يقره على هذا الفهم لهذه الآية. [فعرف الحديث، فقال عبد الرحمن: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح] أي: صف لي جبريل. قال: [فلما عجز بقي الغلام ينظر إليه، فقال عبد الرحمن: يا بني! فإني أهون عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين] أي: جناحاً. [صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، ركب الجناح الثالث منه موضعاً غير الموضعين اللذين ركبهما الله تعالى حتى نعلم] أي: لا تقل له جناح في اليمين وجناح في الشمال، بل ضع الجناح الثالث في المكان الذي ركبه الله عز وجل فيه، فعجز الغلام. قال: [فقال: يا أبا سعيد! نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق، ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز]، وهذا لمن وفق وهدي [وأشهدك إني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله]. ومن هذا يتبين: أن وجود أهل العلم من أهل السنة والجماعة في بقعة، أو في كورة من الكور، أو بلدة من البلدان؛ أعز وأكرم على الله عز وجل وعلى أهل القرية من عين تنبع لهم بالماء؛ لأن غذاء القلوب والأبدان والعقول والأفكار أعظم من غذاء الأبدان، فالبدن إذا فسد مع صلاح القلب كان مآله عند الله خيراً، وإذا فسد القلب مع صلاح البدن فقد شبه الله تبارك وتعالى هؤلاء بما شبه به الكافرين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أي: لا قيمة لهم مع صلاح أبدانهم، ولذلك يقول عبد الله بن المعتز رحمه الله: العالم في البلد كالعين تنبع بالماء، وهو أعز وأكرم؛ لأن العين تغذي الأبدان، والعالم يغذي القلوب والأرواح. فعالم واحد يهدي الله عز وجل به أمة من الأمم، ويرفع به أمة من الأمم، كما أن عالماً واحداً فاسداً تزل به أمة بأسرها إذا انحرف عن الصراط.

موقف أهل العلم من داود الجواربي

موقف أهل العلم من داود الجواربي قال: [تكلم داود الجواربي في التشبيه]، وداود الجواربي من أئمة الضلال، ولقب بـ الجواربي لأنه من محلة ببغداد كانت تصنع الجوارب، وكان يسكن في هذه المحلة فنسب إليها. قال: [فاجتمع إليه أهل واسط بالعراق منهم: محمد بن يزيد وخالد الطحان وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير -أي: أمير البلد- وأخبروه بمقالته، فأجمعوا على سفك دمه]. مع أنهم لم يقولوا بسفك دم من سمعه، أو بسفك دم من تبعه، وإنما أجمعوا على سفك دمه هو؛ لأنه داعية إلى بدعته، ولأنه عالم بما يقول بخلاف الأتباع. قال: [فمات في أيامه فلم يصل عليه علماء أهل واسط] أي: مات قبل أن يتمكن منه السلطان، فلما أجمعوا على سفك دمه طلبوه حتى يقتلوه، ففر وفي أثناء فراره مات، فلم يصل عليه أحد من أهل العلم في ذلك الزمان، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون أربعون -وفي رواية: مائة- يوحدون الله تعالى ولا يشركون به شيئاً؛ شفعوا فيه). فإذا لم يكن أهل العلم هم الموحدون لله عز وجل حقاً وبعلم وبصيرة فمن هم إذاً؟ فإذا امتنع العلماء عن الصلاة على رجل فهذه عين الخسارة، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يترك الصلاة أحياناً على بعض أصحابه؛ تأديباً للأمة أن يقعوا في مثل ما وقع فيه، كما ترك الصلاة على ماعز الأسلمي، وصلى على المرأة الغامدية والجريمة واحدة، ولكن توبة الغامدية كانت أحسن ظهوراً من توبة ماعز. فقد ساق سيد ماعز وهو نعيم بن هزال ماعزاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واستدرجه وقال له بعد أن أخبره بالزنا: (اذهب بنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام لعله ينزل فيك قرآناً) يعني: بالتوبة، وهو يعلم أن القرآن قد نزل بوجوب الحد، وأن الحد إذا بلغ السلطان أو الأمير أو الحاكم فلا شفاعة فيه، بل لا يجوز للحاكم أن يسامح فيه؛ لأن ذلك ليس من اختصاصه، وإنما من اختصاص الحاكم أن يغير وأن يبدل في التعزير، وأما في الحد فلا. فلما بلغ ماعز إلى النبي عليه الصلاة والسلام شهد عنده أربع مرات بالزنا، فلما شهد قال: (أقيموا عليه الحد)، فلما أجمعوا على حده فر منهم، فلقيه رجل فضربه بوظيف كان معه فقتله، فلما قتل وبلغ أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أقتلتموه؟ هلا تركتموه؟ وغضب غضباً شديداً وقال: صلوا على صاحبكم، فصلوا عليه ولم يصل النبي عليه السلام عليه). وأما المرأة الغامدية التي زنت بعد ماعز فقد أتت إليه عليه الصلاة والسلام وقالت: (لا تفعل معي كما فعلت بـ ماعز بالأمس)، لأن ماعزاً لما أتى وشهد عنده بالزنا أول مرة أشاح عنه بوجهه، ولم يقبل منه هذا، فأتاه من قبل وجهه فشهد عنده الثانية فأشاح عنه أربع مرات، وماعز يصر على أن يبلغ الخبر النبي عليه السلام. قال: (لعلك قبلت؟ قال: زنيت، فقال: لعلك فاخذت؟ قال: زنيت) ثم قال: (أتدري ما الزنا؟ -يعني: أنت تعرف ما معنى الزنا؟ - قال: نعم، قال: أغاب هذا منك في ذاك منها كما يغيب المرود في العين، أو كما يغيب الرشاء في البئر، قال: أقيموا عليه الحد). فـ الغامدية قالت: (يا رسول الله! أنا زنيت). وفي رواية: (إني فجرت فطهرني، وهذا حملي من الزنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين وليها؟ قال: هأنذا. قال: اذهب بها فأكرمها حتى تضع حملها) وهي زانية عاصية ولكنه قال: أكرمها، لا لأنها زنت ولكن لأنها تابت وصدقت مع الله عز وجل. (فذهبت حتى وضعت حملها وأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: هذا ولدي من الزنا، وإني قد أتيتك بالأمس فأمرتني أن أضع حملي وهذا هو، فطلب وليها وأمرها أن تذهب حتى تفطمه) فذهبت ومكثت عامين وأتت بالغلام للمرة الثالثة وكان بإمكانها ألا تأتي والنبي عليه الصلاة والسلام لا يبحث عنها، وإنما هي تبحث عن الطهارة والنقاء ومغفرة الذنب. (فأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يد ولدها كسرة من خبز وقالت: هذا ولدي قد فطمته وهو يطعم، فأمر بها فشد عليها ثيابها ورجمت، وصلى عليها النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ذلك بعض أصحابه قال: أتصلي عليها وهي زانية؟ قال: إنها تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم). وفي رواية: (إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس -يعني: جامع الضرائب- لتاب الله عز وجل عليه). وفي حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جيء إليه برجل ليصلي عليه، قال: (عليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: صلوا على صاحبكم)، فأمرهم بالصلاة عليه وامتنع هـ

كلام أهل العلم على داود الجواربي وغيره من المشبهة

كلام أهل العلم على داود الجواربي وغيره من المشبهة ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال أن داود الجواربي رأس في الرفض والتجسيم -يعني: إمام من أئمة الضلالة- من قرام جهنم. أي: من فحول جهنم كـ فرعون. قال أبو بكر بن أبي عون: سمعت يزيد بن هارون يقول: الجواربي والمريسي - الذي هو بشر - كافران، ثم ضرب يزيد - وهو يزيد بن هارون - مثلاً للجواربي فقال: إنما داود الجواربي عبر جسر واسط فانقطع الجسر فغرق من كان عليه، فخرج شيطان فقال: أنا داود الجواربي. يعني: أن داود الجواربي والشيطان شيء واحد. والذهبي يقول: هذا الضرب -أي: هذا الصنف- من الناس لا أعلم له رواية، مثل: بشر المريسي وأبي إسحاق النظام - وهو صاحب الاعتزال - وأبي الهذيل العلاف، ومعمر أبي المعتمر العطار البصري، وهشام بن عمرو الفوطي وأبي عيسى الملقب بـ المزدا، وأبي موسى الفراء، فلكونهم لم يرووا الحديث لم أحتفل بذكرهم، ولا استوعبتهم، فأراحنا الله تعالى منهم؛ لأنهم مقلون جداً في الرواية لا تكاد تذكر لهم رواية، فقال: فأعرضت عن ذكرهم. والإمام البغدادي في كتاب الفرق بين الفرق تكلم عن داود الجواربي وقال في ذكر أو في معرض ذكره للمشبهة: ومنهم المشبهة المنسوبة إلى داود الجواربي -يعني: أنه كان صاحب فرقة- الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية. وهو القائل كما ذكر ذلك السمعاني في الأنساب بعد ذكر هشام بن سالم الجواليقي: وعنه أخذ داود الجواربي قوله: إن معبوده له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية.

نقل أبي الحسن الأشعري لمذاهب أهل التشبيه والتجسيم

نقل أبي الحسن الأشعري لمذاهب أهل التشبيه والتجسيم وذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين داود الجواربي في أثناء الكلام على اختلاف الناس في التجسيم، فقال: اختلفت المجسمة فيما بينهم في التجسيم، وهل للباري تعالى قدر من الأقدار، وفي مقداره، على ست عشرة مقالة، فقال هشام بن الحكم: إن الله جسم محدود عريض عميق طويل، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، نور ساطع، له قدر من الأقدار -بمعنى: أن له مقداراً في طوله وعرضه وعمقه- لا يتجاوزه، في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية، يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم ورائحة ومجسة، لونه هو طعمه، وهو رائحته، وهو مجسته، وهو نفسه لون، ولم يثبت لوناً غيره، وإنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد. ولولا أن الله تعالى حكى مقالة الكافرين والمشركين في كتابه ما تجرأ آدمي أن يحكي مقالة هؤلاء. وحكى عنه أبو الهذيل أنه أجابه إلى أن جبل أبي قبيس أعظم من معبودهم. وجبل أبي قبيس في مكة، وهو أكبر من الله عز وجل عند هؤلاء الضلال! فجعلوا بعض مخلوقاته أعظم من الخالق. وحكى عنه ابن الراوندي: أنه زعم أن الله سبحانه يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات، ولولا ذلك ما دلت عليه، وحكى عنه أنه قال: هو جسم لكن لا كالأجسام. ومعنى ذلك أنه شيء موجود. وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملوناً، ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة، وأن يكون طويلاً وعريضاً وعميقاً، وزعم أنه في مكان دون مكان، متحرك من وقت خلق الخلق. وقال قائلون: إن الباري جسم، وأنكروا أن يكون موصوفاً بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام هذا، غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه. واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسماً، فقال قائلون: هو جسم، وهو في كل مكان، وفاضل عن جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكثر من مساحة العالم؛ لأنه أكبر من كل شيء. وقال بعضهم: مساحته على قدر العالم. وقال الآخرون: إن الباري جسم له مقدار في المساحة، ولا ندري كم ذلك القدر. وقال بعضهم: هو في أحسن الأقدار، وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا القليل القميء. وحكي عن هشام بن الحكم: أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه. وقال بعضهم: ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية، وإنه ذاهب في الجهات الست: اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت، قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق، وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب. وقال قوم: إن معبودهم هو الفضاء -الفراغ- وهو جسم تحل فيه الأشياء، ليس بذي غاية ولا نهاية. وقال بعضهم: هو الفضاء وليس بجسم، والأشياء قائمة به. وقال داود الجواربى -وهو الشاهد في المشبهة والمجسمة- ومقاتل بن سليمان: إن الله جسم، وإنه جثة على صورة الإنسان: لحم ودم وشعر وعظم. فإذا كان هذا إمام من الأئمة فكيف لا يكفر؟ قال: وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع هذا لا يشبه غيره، ولا يشبهه الغير. وأهل السنة لا يقولون بهذا، ولكن يقولون: إن له أسماء وصفات، وأما أن تجعل الصفات جوارح وأعضاء فلا بد وأنها تمثيل وتشبيه. قال: وكثير من الناس يقولون: هو مصمت -يعني: غير مجوف- ويتأولون قول الله تعالى: {الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] بمعنى: المصمت الذي ليس بأجوف. ومعنى الصمد عند أهل السنة والجماعة، بل في اللسان العربي: الذي تصمد إليه الخلائق، أي: ترجع إليه في حوائجها. وقال هشام بن سالم الجواليقى: إن الله على صورة الإنسان، وأنكر أن يكون لحماً ودماً. يعني: أنكر على داود مقالته تلك. وإنه نور ساطع يتلألأ بياضاً، وإنه ذو حواس خمس. يعني: جعله كالإنسان. كحواس الإنسان سمعه غير بصره، وكذلك سائر حواسه، له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم، وإن له وفرة سوداء. يعني: له شعر أسود، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً. فهذا داود الجواربي قد جعل الله تعالى في نهاية الأمر كالإنسان تماماً بتمام.

كلام يزيد بن هارون في الجهمية والمشبهة

كلام يزيد بن هارون في الجهمية والمشبهة [قال هشام بن يحيى الواسطي: كنت قاعداً عند يزيد بن هارون فجاء رجل فقال: يا أبا خالد! ما تقول في الجهمية؟] والجهمية هم النفاة الذين ينفون الصفات عن الله تبارك وتعالى، ينزهون الله تعالى بزعمهم. وأهل السنة وسط بين هذه الفرق، كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم فأهل السنة والجماعة وسط بين هذه الفرق الضالة، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بالضلال وبالنار فقال: (كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هم؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم)، الكلام الباطل الذي أتى به داود الجواربي وهشام بن الحكم وهشام بن سعيد الجواليقي لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عن واحد من أصحابه، حاشا وكلا، هذا كلام باطل وسخف يؤدي بصاحبه إلى الكفر البواح، ولذلك لما سئل يزيد بن هارون عن الجهمية النفاة الذين يزعمون تنزيه المولى عز وجل وهم قد نفوا عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه في مقابل من عجزوا عن إثبات ذلك لله عز وجل على الوجه اللائق له فقالوا بالتمثيل والتجسيم والتشبيه، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من مثل فإنما يعبد صنماً، ومن عطل فإنما يعبد عدماً. أي: من عطل المولى عز وجل عن صفاته فهو يعبد عدماً، لأن الإله الحق سبحانه وتعالى وصف نفسه بصفات، فإذا نفيتها فيلزمك أن تنفي الذات، وإذا مثلت صفات الخالق بصفات المخلوقين يلزمك أن تعبد صنماً؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فالذي يعبد إلهاً قد مثله بصفات المخلوقين فإنما يعبد صنماً، والذي يزعم أنه نزه الباري عن صفاته فلا بد أن يئول أمره إلى أن هذا الإله عدم، فالذي يعبد إلهاً بلا صفات فإنما يعبد عدماً، والذي مثل صفات الخالق بالمخلوقين فإنما يعبد صنماً. [سئل يزيد بن هارون عن الجهمية النفاة فقال: يستتابون]. يعني: يحبسون في بيوتهم أو في محابس السلطان ثلاثة أيام فتقام عليهم الحجة؛ فإن تابوا ورجعوا وندموا وإلا قتلوا، لكن لا يقتلون حداً وإنما يقتلون ردة. [إن الجهمية غلت ففرغت في غلوها إلى أن نفت، وإن المشبهة غلت ففرغت في غلوها حتى مثلت] يعني: كل واحد من الفريقين بلغ الغاية في بدعته، هذا بلغ غاية النفي، وهذا بلغ غاية التشبيه والتمثيل. [فالجهمية يستتابون، والمشبهة كذا وكذا رماهم بأمر عظيم] أعظم مما رمى به النفاة.

مقالات بشر المريسي وموقف أهل العلم منه

مقالات بشر المريسي وموقف أهل العلم منه قال: [وقال محمد بن عمر بن كميت: سمعت وكيعاً يقول: وصف داود الجواربي الرب عز وجل فكفر في صفته، فرد عليه المريسي فكفر المريسي في رده] بشر المريسي] أي: رد على داود الجواربي فقال: أنت قد مثلت الله عز وجل بصفات المخلوقين، فأنت مبتدع، فهذا رأس في بدعته يرد على مبتدع آخر رأس في بدعته. قال: [فقال وكيع: داود الجواربي وصف الرب فكفر بهذه الصفة، فرد عليه بشر المريسي فكفر بشر برده كذلك، إذ قال: هو في كل شيء]. وبشر المريسي له كلام خطير جداً، فقد قال البغدادي في كتاب الفرق بين الفرق لما ذكر المريسية أتباع بشر المريسي في فرق المرجئة قال: هؤلاء هم مرجئة بغداد من أتباع بشر المريسي، وبشر هو ابن غياث المريسي مبتدع ضال تفقه في أول أمره على قاضي القضاة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأتقن علم الكلام، ثم جرد القول بخلق القرآن - يعني: قال: القرآن مخلوق - وناظر عليه، ولم يدرك الجهم بن صفوان ولكنه أخذ مقالته، واحتج لها ودعا إليها، وأخذ في أيام دولة الرشيد وأوذي لأجل مقالته. وحدث البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: ناظرت المريسي في القرعة فذكرت له فيها حديث عمران بن حصين، فقال: هذا قمار، فأتيت أبا البختري القاضي فحكيت له ذلك، فقال: يا أبا عبد الله! شاهد آخر وأصلبه. يعني: أحضر معك شاهداً ثانياً وأنا سأصلبه، فهو يقول عن القرعة: إنها قمار، وقد فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف -وهو صاحب أبي حنيفة وكان رجلاً سنياً في المعتقد- وضللته الصفاتية -يعني: الذين يقولون بإثبات الصفات لله عز وجل ضللوه- ولما وافق الصفاتية في القول بأن الله تعالى خالق أجسام العباد، وفي أن الاستطاعة مع الفعل؛ كفرته المعتزلة. يعني: كفرته المعتزلة؛ لأنهم لا يقولون بذلك. فصار مهجور الصفاتية والمعتزلة معاً، وكان يقول في الإيمان: إنه هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً. يعني: أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وهذا قول المرجئة، كما قال ابن الراوندي: إن الكفر هو الجحد والإنكار. يعني: لا يكفر المرء إلا إذا جحد وأنكر بلسانه. وزعم أن السجود للصنم ليس بكفر، ولكنه دلالة على الكفر. والخطيب البغدادي أدرى بأهل بلده، فقال في كتابه تاريخ بغداد عن بشر المريسي -وقد ذكر له ترجمة طويلة-: أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكيت عنه أقوال شنيعة ومذاهب مستنكرة أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها، وقد أسند من الحديث شيئاً يسيراً -يعني: كان مقلاً في الرواية- عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وأبي يوسف القاضي وغيرهم. (وقال عباد بن العوام: كلمت بشراً المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم أنه ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء) يعني: ليس في السماء إله. (وعن عمر بن عثمان قال: كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت: يا أبت! يدخل عليك مثل هذا؟ فقال: يا بني! وما له؟) يعني: ماذا فيه؟ وماذا يقول هذا الرجل؟ قال: قلت: إنه يقول: القرآن مخلوق، وإن الله معه في الأرض -أي: بذاته- وإن الجنة والنار لم يخلقا، وإن منكراً ونكيراً باطلان، وإن الصراط باطل، وإن الساعة باطل -يعني: هو لا يؤمن بالبعث- وإن الميزان باطل مع كلام كثير ذكره. قال: فقال: أدخله علي. أي: أدخله علي لأرى ما هي حكايته. قال: فأدخلته عليه، قال: فقال: يا بشر! أدنه. أي: اقترب مني. ويلك يا بشر، أدنه مرتين أو ثلاثاً. وبشر خائف؛ لأن أهل السنة لهم هيبة ووقار وخشية في قلوب العباد خاصة المبتدعين الضلال. (فلم يزل يدنيه حتى قرب منه، فقال: ويلك يا بشر من تعبد؟ وأين ربك؟ قال: وما ذاك يا أبا الحسن؟) أي: لماذا تسألني هذه الأسئلة؟. (قال: أخبرت عنك أنك تقول: القرآن مخلوق، وأن الله معك في الأرض، ولم أر شيئاً أشد علي من قولك: إن القرآن مخلوق، وإن الله معك في الأرض، فقال له: يا أبا الحسن! لم أجئ لهذا) يعني: أنا لم أجئ من أجل أن تختبرني. (إنما جئت في كتاب خالد تقرؤه علي). يعني: أتيت لأطلب الحديث. (قال: فقال له: لا؛ ولا كرامة)، وكان مذهب أهل السنة

موت بشر المريسي

موت بشر المريسي [قال إبراهيم: ويوم مات بشر جعل الصبيان يتعادون بين يدي الجنازة ويقولون: من يكتب إلى مالك؟ من يكتب إلى مالك؟] يعني: كانوا يقولون فرحاً بموته: من يكتب إلى مالك في المدينة أن بشراً قد مات، فقد كان لعبة للصبيان. (وقال هارون أمير المؤمنين: بلغني أن بشراً المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحداً قط)، وهذا لما كان الحكام والسلاطين عندهم فهم لدين الله عز وجل، وكانوا يعرفون ما معنى القرآن، ويعرفون صفات الله عز وجل. (قيل لـ سفيان بن عيينة: إن بشراً المريسي يقول: إن الله لا يرى يوم القيامة) يعني: لا يراه المؤمنون. (فقال: قاتله الله، دويبة) يعني: هذا دابة وحشرة من الحشرات، بل أقل من ذلك. (ألم يسمع قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15])، وهذا الكلام عن الكفار. (فجعل احتجابه عنهم عقوبة لهم، فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء فأي فضل للأولياء على الأعداء إذاً؟ وعن محمد بن أبي كبشة قال: سمعت هاتفاً في البحر يقول: لا إله إلا الله على ثمامة، وعلى المريسي لعنة الله، قال: وكان معنا في المركب رجل من أصحاب بشر المريسي فخر ميتاً. ولما مات بشر بن غياث المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم والسنة أحد إلا عبيد الشونيزي، وهو رجل من أهل السنة. فلما رجع من جنازة المريسي أقبل عليه أهل السنة والجماعة وقالوا: يا عدو الله! تنتحل السنة) يعني: تذهب مذهب أهل السنة. (وتشهد جنازة المريسي؟ قال: أنظروني حتى أخبركم، ما شهدت جنازة رجوت فيها من الأجر ما رجوت في شهود جنازته) يعني: صلاتي على الرجل هذا من أرجى الأعمال لدي عند الله عز وجل. (قال: لما وضع في موضع الجنائز قمت في الصف فقلت: اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة، اللهم فاحجبه عن النظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون، اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن بعذاب القبر، اللهم فعذبه اليوم في قبره عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، اللهم عبدك هذا كان ينكر الميزان، اللهم فخفف ميزانه يوم القيامة، اللهم عبدك هذا كان ينكر الشفاعة، اللهم فلا تشفع فيه أحداً من خلقك يوم القيامة. قال: فسكتوا عنه وضحكوا. وقال المروزي: سمعت بشر بن الحارث -وهو بشر الحافي، وهو رجل من الأولياء الصالحين- يقول: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود). يعني: لو لم يكن السوق موقع يشهر فيه العبد، فلو سجد شكراً لله على سماع خبر نعي بشر المريسي، فسيقولون: هذا بشر الحارث قد سجد، وهو ما كان يحب أن يشهر؛ لأنه كان ورعاً. فقال: [لولا أن موضع السجود في السوق موضع شهرة لسجدت. ثم قال: والحمد لله الذي أماته، هكذا قولوا. مات بشر المريسي في ذي الحجة سنة ثمان عشرة ومائتين، قال: ويقال: سنة تسع عشرة ومائتين].

كلام الذهبي في بشر المريسي

كلام الذهبي في بشر المريسي والذهبي تكلم عن المريسي فقال: (هو المتكلم المناظر البارع أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريم العدوي مولاهم البغدادي المدني، لأنه كان من موالي آل زيد بن الخطاب رضي الله عنه. وكان بشر من كبار الفقهاء، أخذ عن القاضي أبي يوسف، وروى عن حماد وسفيان بن عيينة، وناظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة من العلماء، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالاته من أتباعه. وللمريسي تصانيف كثيرة، ذكره النديم وأطنب في تعظيمه وقال: كان ديناً ورعاً متكلماً، ثم حكى أن البلخي قال: بلغ من ورعه أنه كان لا يطأ أهله ليلاً؛ مخافة الشبهة). يعني: كان لا يجامع امرأته بالليل مخافة أن تكون ليست امرأته، والتنطع في الإسلام إما أن يكون بالسلب أو الإيجاب، بإدخال ما ليس من الدين فيه، أو بترك ما فرضه الله عز وجل تنطعاً وانحلالاً. قال: (ولا يتزوج إلا من هي أصغر منه بعشر سنين؛ مخافة أن تكون رضيعته، وكان جهمياً له قدر عند الدولة، وكان يشرب النبيذ، وقال مرة لرجل اسمه كامل: في اسمه دليل على أن الاسم غير المسمى. له كتاب في التوحيد، وكتاب في الإرجاء، والرد على الخوارج، والاستطاعة والرد على الرافضة في الإمامة، وكفر المشبهة، وكتاب في المعرفة، وكتاب في الوعيد، وأشياء غير ذلك كثيرة. قال ابن مهدي أيام ما صنع بـ بشر ما صنع: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وقال يزيد بن هارون: ما في فتيانكم من يفتك به؟) يعني: لا يوجد أحد يتخلص منه. (وقال أحمد بن حنبل لما ذكر عنده المريسي: كان أبوه يهودياً، أي شيء ترونه يكون؟) أي: يكون يهودياً مثله بالضبط. وقال الإمام الذهبي كلاماً جميلاً جداً، وهذا يدل على قمة العدل والإنصاف عند الإمام الذهبي، قال: (مات بشر المريسي سنة ثمان عشرة ومائتين وقد قارب الثمانين، فهو بشر الشر، وبشر الحافي بشر الخير). والاثنان كانا في زمن واحد، وفي بلدة واحدة أيضاً. (كما أن أحمد بن حنبل هو أحمد السنة، وأحمد بن أبي دؤاد أحمد البدعة). ومن كفر ببدعة وإن جلت -يعني: وإن عظمت وكبرت- ليس هو مثل الكافر الأصلي. يعني: الذي يكفر ببدعة ليس هو كالكافر الأصلي. (ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وصام وصلى وحج وزكى وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع؛ كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها). وهذا كلام فيه اعتدال، فهو يريد أن يقول: إن هذا المجرم كافر، لكن كفره لا يسوى بكفر فرعون وهامان، فكفرهما كفر أصلي، وهم في جهنم، لكنهم في دركات تختلف بعضها عن بعض، فليس كفر الكافر الأصلي كالكفر الطارئ.

كلام ابن كثير في بشر المريسي

كلام ابن كثير في بشر المريسي وتكلم ابن كثير كذلك عن بشر المريسي فقال: غلب عليه الكلام، وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه، وقال الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام. وقد اجتمع بشر بـ الشافعي عندما قدم بغداد. قال ابن خلكان: جدد القول بخلق القرآن، وحكي عنه أقوال شنيعة، وكان مرجئياً، وإليه تنسب المريسية من المرجئة، وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر. وكان يناظر الشافعي، وكان لا يحسن النحو، وكان يلحن لحناً فاحشاً حتى يضحك منه الصبيان. ويقال: إن أباه كان يهودياً صباغاً بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي ببغداد، والمريس عندهم هو الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر. قال: ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة]. قال اللالكائي نقلاً عن وكيع: [وصف داود الجواربي الرب عز وجل فكفر في صفته، فرد عليه المريسي فكفر المريسي في رده عليه؛ إذ قال: هو في كل شيء.

حكم من شبه الله بشيء من خلقه

حكم من شبه الله بشيء من خلقه قال: [قال نعيم بن حماد]، وهو من أئمة السنة، وقد كان من شيوخ البخاري، وهو إمام وجبل من جبال السنة، وكان على عقيدة أهل السنة والجماعة، داعية إليها، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وأما هو في الحديث فكان ضعيفاً: قال: [من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه] يعني: حتى لا تحتج علينا الممثلة أو المشبهة أن ربنا له عين وله رجل وله يد وله كذا، نقول: له هذه الصفات كما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى. [وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه وصف بصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال إسحاق: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة، وما أولعوا به من الكذب: أنهم مشبهة]. يعني: أهل البدع كالنفاة يقولون عن أهل السنة: إنهم مشبهة؛ لأنهم أثبتوا الصفات لله عز وجل. قال: [بل هم المعطلة، ولو جاز أن يقال لهم: هم المشبهة؛ لأنهم شبهوه بالعدم لاحتمل ذلك، وذلك أنهم يقولون: إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله، في أسفل الأرضين، وأعلى السماوات على معنىً واحد، وكذبوا في ذلك، ولزمهم الكفر].

نبز أهل الأهواء أهل السنة بالألقاب السيئة

نبز أهل الأهواء أهل السنة بالألقاب السيئة وقال أبو حاتم الرازي: [علامة الجهمية أنهم يسمون أهل السنة: مشبهة]. فالجهمية النفاة يطلقون على أهل السنة والجماعة أنهم مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، لكن على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولا نقول بأنها تماثل صفات المخلوقين، ونقول بأن من قال بذلك فقد كفر. قال: [علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة: مشبهة، وعلامة القدرية تسميتهم أهل السنة: مجبرة] أي: أن العباد مجبورون على أفعالهم. [وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة: نقصانية]؛ لأننا نقول: إن الإيمان يزيد وينقص حسب العمل والطاعة، فمن زادت طاعته زاد إيمانه، ومن نقصت نقص إيمانه، فالمرجئة يقولون: أهل السنة نقصانية، وهم يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولو تصور نقصانه كان كفراً، وهذا ضلال. قال: [وعلامة المعتزلة تسميتهم أهل السنة: حشوية]، وهذا من الوقيعة في أهل الأثر، فهم يريدون إبطال الآثار عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيقولون: المحدثون حشوية. قال: [وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة نابتة وصابئة] والتشيع ليس هو الأسبق في الوجود من السنة، فالسنة هي الأصل، والشيعة يسموننا: ناصبة، أي: أننا ناصبنا علياً العداء، فنحن نحن نحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولكن دون إفراط ولا تفريط، فلا نجافي ولا نغالي، ونضعه في منزلته في الخلافة والإمامة، والمنزلة بعد أبي بكر وعمر وعثمان. وشاه إيران عليه لعنة الله أحب أن يعمل مقارنة بين أهل السنة والشيعة، وهو لم يكن له علاقة بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وإنما أحب أن يتسلى على عادة الحكام الذين يتسلون بأصحاب الديانة، فجمع علماء أهل السنة وعلماء الشيعة ليتناظروا، وليرى من الذي سيغلب، فقيض الله لأهل السنة رجلاً من كبار أهل العلم، ومن أصحاب الاستقامة، فأمر أتباعه ألا يتكلموا بين يديه بكلمة واحدة، وما عليهم إلا أن يفعلوا كما يفعل هو. فلما دخل علماء أهل السنة على شاه إيران قام إمام أهل السنة وخلع نعله ووضعه تحت إبطه، فلما رآه أصحابه قاموا بخلع نعالهم، ووضعوها تحت آباطهم، والشيعة جلسوا في الناحية المقابلة لهم، فإمام أهل السنة وضع الجزمة على الطاولة وكذا أصحابه فـ شاه إيران قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: عندنا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الشيعة على عهده كانوا يسرقون النعال، فقام زعيم الشيعة وقال: لم يكن هناك شيعة على عهد الرسول، فقال العالم: قد حكمت. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم كشف العورة للضرورة

حكم كشف العورة للضرورة Q ما حكم من تعرض لكشف العورة أثناء العمليات الجراحية؟ A معلوم يقيناً أن الطب لا بد فيه من كشف العورات، وبلا شك أنه كلما ضاقت هذه الدائرة كان ذلك أفضل، ولا شك أن الطبيب إذا كان رجلاً والمريض كذلك فهو الأصل ولا يصار إلى غيره إلا لعذر، كأن تكون هناك طبيبة جراحة في قرية وليس في هذه القرية طبيب غيرها، والحالة قد أتتها مستعجلة ولا يمكن حملها إلى مكان آخر، ففي هذه الحالة لا حرج على هذه المرأة أن تجري العملية على هذا النحو، والعكس بالعكس بين النساء والرجال.

قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) الإيمان بالقدر ركن عظيم من أركان الإيمان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بالإيمان به، ولما كان باب القدر من أعظم الأبواب التي يمكن أن يدخل منه أصحاب الشبه وأرباب البدع فقد حذر السلف من الخوض فيه، وبذلك يسلم للعبد دينه، ولا ينحرف في هذا الباب انحراف القدرية والجبرية على طرفي نقيض.

الإيمان بالقدر وأهميته

الإيمان بالقدر وأهميته إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. إن الإيمان بالقدر ركن عظيم جداً من أركان الإيمان التي وردت في غير ما آية وفي غير ما حديث، ونصوص السنة قد اهتمت بإبراز هذا الركن من أركان الإيمان، وفي سؤال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). فمعظم الروايات أعقبت القدر بعد ذكر الإيمان فقال: (وأن تؤمن بالقدر)، والسياق يقول: (وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره)، فأفرده وقرنه بالإيمان، ولم يقل: أن تؤمن بالله، وأن تؤمن بالملائكة وأن تؤمن بالرسل، وإنما قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر)، وهذا يدل على مزيد عناية السنة بإبراز هذا الركن من أركان الإيمان؛ لأنه ركن مهم جداً. ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) مع أنه لا يؤمن حتى يؤمن بالله، وحتى يؤمن بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، ولكن لما كان هذا الركن قد أخذ كلاماً كثيراً وطويلاً ولغطاً واختلاطاً في الجاهلية على ألسنة اليهود والنصارى والمجوس والفلاسفة وعبدة الأوثان قبل الإسلام؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أفرده بالذكر وعناه بالاهتمام؛ ليدل على أهميته؛ وعلى أنه ركن عظيم وخطير من أركان الإيمان.

موقف أهل السنة والجماعة من الإيمان بالقضاء والقدر

موقف أهل السنة والجماعة من الإيمان بالقضاء والقدر إن لأهل السنة والجماعة موقفاً متميزاً من القدر كموقفهم من أي ركن من أركان الإيمان، ولما كان هذا الركن هو أعظم ركن يمكن أن تدخل منه الشبهات في قلوب وعقول أبناء المسلمين؛ نهى السلف رضي الله عنهم عن الخوض والكلام فيه، وقالوا: يجب الإيمان به وإمراره كما جاء، وكأنهم أنزلوه منزلة الصفات لله عز وجل من جهة عدم التعرض له، وعدم الخوض فيه، فالمرء لابد أن يؤمن أن كل شيء من عند الله خيراً كان أو شراً، وأن مطلق الشر لا ينسب إلى الله عز وجل وإن كان الله تعالى قد أذن فيه، بمعنى: أذن في إيجاده وخلقه، والعبد هو المكتسب للخير والشر؛ لأنه الذي مارس بيديه الخير والشر.

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر

مرتبة العلم

مرتبة العلم فالخير قد أذن الله تعالى في وجوده وفي خلقه، ورضيه وأحبه، والشر أذن الله تعالى في وجوده وخلقه، ولكنه لم يرضه ولم يحبه. وقد جاءت آيات في كتاب الله وأحاديث في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لها تعلق بإثبات القدر، ونقل إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعاتها ومعاصيها، فكل فعل يصدر عن العبد فإن الله تعالى هو الذي أذن بوجوده وخلقه، سواء كان هذا الفعل معصية أو طاعة؛ لأن المعصية لا يمكن أن يوجدها فاعلها دون إذن الله تبارك وتعالى، بمعنى: أنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، فكيف يتصور أن الزاني يزني والله لم يأذن له في ذلك؟ فلا يتصور وجود من خير أو شر في الكون إلا والله تعالى قد أذن فيه، ومعنى أذن فيه: أنه وقع بعلم الله، وأن الله تعالى أراده، ولكنها إرادة كونية قدرية مبناها على ما أحب وكره، بخلاف الإرادة الشرعية فإن مبناها المحبة والرضا، فإذا صليت وصمت وزكيت وحججت إلى بيت الله الحرام، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؛ فإن هذه الأفعال كلها مخلوقة لله عز وجل، وقد أذن فيها، بل وأمر بإتيانها وأحبها؛ ولذلك فرضها، وهذه الأفعال تقع تحت مشيئة الله الشرعية؛ لأنها متعلقة بالأمر الذي أحبه الله تعالى لعباده ورضيه لهم. وأما أفعال الشر من الزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من أنواع المعاصي كبائرها وصغائرها؛ فإن هذه المعاصي كرهها الله عز وجل، ونهى عنها، ورتب عليها في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم العقوبة الشديدة لمن اقترفها، ولكن العبد يأتيها بعلم الله، فقد علم سبحانه قبل أن يخلق السموات والأرض أن من عباده فلاناً سيزني في يوم كذا، في الساعة كذا، في المكان كذا، وأنه سبحانه كتب ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض. فالمرتبة الأولى: هي مرتبة العلم، فالله تعالى يعلم ما سيقع من عباده، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.

مرتبة كتابة الأعمال

مرتبة كتابة الأعمال المرتبة الثانية: أن الله تعالى كتب في صحيفة هذا العبد أنه سيزني، أو سيسرق، أو سيقتل، أو سيشرب الخمر أو غير ذلك.

مرتبة الإرادة والمشيئة

مرتبة الإرادة والمشيئة المرتبة الثالثة: هي مرتبة الإرادة والمشيئة لله عز وجل، فالله تعالى أذن في وقوع المعاصي وأرادها، ولا تقتضي كلمة (أرادها) أنه أحب ذلك، فهو يحب الطاعات ويكره المعاصي، فإذا أتى العبد فعلاً من أفعال الطاعات فنقول: إن هذا الفعل متعلق بإرادة من الإرادتين؛ لأن الله تعالى يريد إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، وهي أعمال الطاعات. فمعنى إرادة شرعية: أن لها تعلقاً بالشرع، وبالأمر الذي أحبه ورضيه لعباده، ومعنى دينية: أن لها تعلقاً بالكتاب والسنة مبناها على المحبة والرضا، ولو أن الله تعالى لم يحبها ولم يأذن فيها بل نهى عنها كالمعاصي، فإنه ما من شيء يقع في الكون إلا وهو بعلم الله، وقد كتبه الله على ذلك العبد، فالعبد لما اختار هذه المعصية، وعلم الله عز وجل علماً أزلياً أن هذا العبد سيسلك هذا الطريق -وهو طريق المعصية- كتبه عليه، وقد أفرغ الله تعالى حجتك بأن أرسل إليك الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة. وأنت الآن لو خيرت في سبيل له طريقان: طريق أخبرت أن فيه شوكاً وعقبات، وطريق آخر ممهد سهل ميسر، فإنك ستختار الطريق الميسر، فكذلك الله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، وبين لك الحلال والحرام، وأمرك بالحلال وبالطيبات، وحذرك من الحرام ومن المعاصي، ثم بين لك أن عاقبة التقوى وعاقبة الطاعة الجنة، وأن عاقبة المعاصي النار، ومع هذا فهناك من يختار طريق النار، وهو يعلم أن هذه المعصية تؤدي بك إلى النار. فلما علم الله عز وجل منك ذلك سلفاً، وقد بين لك هذا وهذا، وأنت تأتي هذه المعصية عالماً بأنها معصية، وعالماً بمآلها؛ كتبها عليك؛ لأنك اخترتها، وتركت الخير الذي يضادها، فكتبها الله عز وجل عليك، فالطاعات أرادها الله تعالى لك، ورضيها وأحبها وأمر بها، وجعل عاقبة من أتاها الجنة، وأما المعاصي فإن الله تعالى كرهها وسخطها وبغضها إلينا، وبين عاقبتها ومآلها، وحذرنا منها؛ ولأجلها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق لها في الآخرة ناراً لمن أدمن هذه المعاصي؛ وخاصة الكفر والشرك. والعبد يختار هذا مع علمه بمآله وعاقبته. وهذه المعاصي ما كانت لتقع من العبد رغماً عن الله، فلو أراد العبد الآن أن يقوم من مقامه فإنه لا يقوم إلا بإذن الله، ومن الناس من يقوم لصدق في نيته، ومن الناس من يقوم لمعصية في نيته، فرجل يخرج من بيته ليطلب العلم؛ فيعينه الله تبارك وتعالى، وييسر له طريق الصواب، ويعطيه القوة على أن يصل إلى بغيته، ورجل بجواره على نفس الكرسي قام ليزني، أو ليسرق، أو ليقتل؛ فهل كان بإمكانه أن يقوم من مقامه رغماً عن الله أو بغير إذن الله؟ هل يتصور أن يقع في الكون غير ما أراد الله؟ فإرادته الشر إرادة كونية قدرية وليست إرادة شرعية دينية، بمعنى: أن الله تعالى قدر الأفعال التي تقع في الكون، وأرادها وأذن في وقوعها، ومبناها أحياناً يكون على المحبة والرضا كالإرادة الشرعية الدينية، وأحياناً يكون مبناها على السخط والبغض كالمعاصي وأعظمها الكفر.

مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر

مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد، وهذه المرتبة أخذت بعداً عظيماً في اختلاف الناس، فبعضهم قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، فنقول: إن هذا العبد إما أن يكون خالقاً أو مخلوقاً، ولا أحد يقول بأن العبد خالق، فلا بد أن يكون مخلوقاً، وأفعاله وما يصنعه مخلوق؛ لأنه لا يتصور أن هناك مخلوقاً يكون خالقاً لغيره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته). فأنت من صنع الله ومن خلق الله، وما تأتي من أفعال من خير أو شر هي بإرادة الله عز وجل، فإذا كانت أفعال شر فإن ذلك بإرادته الكونية القدرية، وإذا كانت أفعال خير فبإرادته الشرعية الدينية، فالله عز وجل خلق إبليس وهو رأس الشر، وهو سبحانه لا يحب إبليس وما يفعله، فلو أن الله تعالى أراد أن يمنع إبليس من إغوائه وإضلاله لمنعه، فإبليس يسول ويغوي ويضل؛ لأن الله أذن له في ذلك. فإذن الله له لا يعني: أنه يحب ذلك، بل كره الله تعالى منه ذلك، وأوعده وأوعد أتباعه بالنار وبئس المصير يوم القيامة، وكان بإمكان المولى عز وجل أن يمنع إبليس من الإغواء والإضلال، وأن ينور بصائر العباد بعدم الاستماع له، وبأن يكتب عليهم جميعاً الصلاح، لكن لا قيمة للحياة بغير الخير والشر، وإلا لو أراد الله عز وجل أن يجعل جميع الخلق مؤمنين لفعل، ولكن الحياة لا تحلو ولا تجمل إلا بوجود النقيضين ووجود الضدين. فأنت لا تعرف الصحة إلا بوجود المرض، ولا تعرف الشبع إلا بوجود الجوع، ولا تعرف الخير إلا بوجود الشر، ولا تعرف فضل الجنة إلا بوجود النار، ولا تعرف فضل الملائكة إلا بوجود إبليس، ولذلك خلقه المولى عز وجل وجعل له حظاً ونصيباً من الخلق، وقد ورد في الحديث: (إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها). فالمرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: هي مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر على السواء، وأن الذي أذن بوجود الخير، وأذن بوجود الشر هو الله عز وجل، أذن فيها وأعان عليها. فالعبد أحياناً يكون له اختيار، وأحياناً لا يكون له اختيار، بل هو مسير مقهور على ذلك، كعبد يصاب بمرض معين، فهذا المرض من أقدار الله عز وجل، وهو مخلوق لله عز وجل، فهو الذي خلقه، وهو الذي أوجده، وهو الذي صنعه، وهو الذي أذن في وجوده، فالعبد مسير فيه، بمعنى: أنه لا يمكن له دفع هذا المرض. فلو أنك أبيض اللون والبشرة، وتريد أن تكون أسود؛ هل تستطيع ذلك منذ نشأتك الأولى؟ أو أن تكون أسود وتريد أن تكون أبيض: هل هذا بيديك؟ لا، فهذه الألوان من خلق الله عز وجل، فأنت مقدور عليها مجبور عليها، فقد خرجت لأبوين أسودين أو أبيضين؛ فكنت أبيض أو أسود، ولا اختيار لك فيه، فأنت فيه مسير، وهناك من الأعمال ما يكون الإنسان فيها مسيراً ولا يمكن له الاختيار فيه، ومن الأعمال ما يمكن للعبد فيها الاختيار. فتصور لو أننا أتينا بملكة جمال ووضعناها في غرفة، وأوقدنا الغرفة المجاورة لها ناراً، وأتينا بأزنى الناس وقلنا له: ازن بهذه المرأة الحسناء، ولكن بعد فراغك من هذه الفعلة القبيحة ادخل تلك الغرفة المجاورة، هل سيرضى الرجل بالزنا مع أنه أزنى الناس؟ لا يرضى به، بل ولا يقوى عليه؛ لخوفه من العقوبة. فهو يختار ألا يزني إذا رأى عاقبة زناة، فمن الذي خلق فيه هذا الاختيار؟ إن الله عز وجل هو الذي خلق فيه هذا الاختيار، وهو الذي أعانه على أن يختار الخير وأن يختار الطاعة، ولو ترك هذا العبد لاختار المعصية. وفي حال اختياره للمعصية هل يستطيع أن يزني رغماً عن الله؟ A لا يستطيع، فنقول: إن الله تعالى أذن في وجود الكفر، وأذن في وجود المعاصي، ولكنه لم يرضها، ولو كانت المعصية والطاعة عند الله سواء فما قيمة بعث الرسل، وإنزال الكتب؟ وما قيمة الدعوة؟ وما قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ بل ما قيمة الجنة والنار؟ فإن الأفعال كلها خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أنه أذن في وجودها، ولكنه رتب على الشر العقوبة، ورتب على الطاعة الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة. ولذلك انعقد إجماع السلف على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، أي: أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن الذي اكتسب الفعل بجارحته هو العبد، فهو الذي قام فصلى وقرأ وركع وسجد على الحقيقة، وهو الذي قام ومشى ووصل إلى موطن الجريمة وأجرم، فالله تعالى أعان الطائع في صلاته، ويسر الطريق ومهده لذلك العاصي. فهذه المسألة أخذت كلاماً كثيراً جداً سلباً وإيجاباً عند السلف، بل وقبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام.

ذكر معتقد السلف في علم الله تعالى ومن خالفهم في ذلك

ذكر معتقد السلف في علم الله تعالى ومن خالفهم في ذلك المرتبة الأولى: وهي مرتبة العلم، أن الله تعالى علم كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض، فعلمه أزلي لا أول له، والعلم صفة من صفات الله عز وجل، وهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، فإن الله تعالى لا يقاس عليه أحد من خلقه، فنحن لا نعلم إلا ما هو مشاهد، وربما نشاهد الشيء ولا نعلمه، ولكن الله تعالى يستوي عنده العلمان، فهو عالم الغيب كما هو عالم للشهادة، فالكل مشاهد وحاضر بين يدي الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن يكفر الصحابة رضي الله عنهم من أنكر علم الله تعالى السابق الأزلي. ولذلك ورد في صحيح مسلم في أول كتاب الإيمان: أن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة حاجين أو معتمرين، فقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقالا: ليتنا نرى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري، فوفقا لـ عبد الله بن عمر وهو يطوف حول الكعبة، فقال حميد: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فقلت: لعله يكل الكلام إلي -يعني: لعله يفوضني في الحديث معه- فقلت: يا أبا عبد الرحمن! قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتكلمون في القدر، ويقولون: إن الأمر أنف -ومعنى أنف: أن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، فنفوا عن الله تبارك وتعالى علمه السابق بأفعال العباد، وما هم عاملون ومكتسبون- وإنهم يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -يعني: يطلبون دقائقه، وهم مستمرون في قراءة القرآن وتلاوته- قال عبد الله بن عمر: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني. جمهور أهل العلم: على أن مراد عبد الله بن عمر بهذا هو تكفيرهم، ثم انعقد اجتماع أهل السنة والجماعة على أن منكر علم الله تعالى الأزلي كافر. وانتقلوا بعد ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وكان إماماً من أئمة البصرة، فلما بلغه مقولة معبد، أي: معبد الجهني تلميذ سوسن النصراني، الذي أسلم ثم تنصر مرة أخرى، وهو أول من نفى القدر وتكلم فيه، وأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ عن معبد الجهم بن صفوان. فقال حميد لـ ابن عباس: إن بالبصرة أناساً يقولون: لا قدر، وإن الأمر أنف. قال: أوقد فعلوها؟ وكأن ابن عباس عنده علم سابق من النبي عليه الصلاة والسلام أن الأمة سيظهر فيها من يقول بهذا، ولكنه تعجب من سرعة ظهور هؤلاء. وكل بدعة حدثت في الإسلام إنما مردها إلى نحلة باطلة، أو مردها إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، فالقول بالقدر بدعة نصرانية في أصلها؛ لأن القدر ما انتشر في الإسلام إلا على يد معبد تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم نفاقاً ثم ارتد إلى النصرانية مرة أخرى. والقول بالقدر ظهر على وجه التقريب سنة أربع وستين هجرية على لسان معبد الجهني، وظهر في البصرة، بل إن معظم البلايا والفتن التي حدثت في الإسلام كان مردها إلى البصرة وإلى الكوفة، فالعراق معروفة منذ فجر الإسلام -بل وقبل الإسلام- بأنها بلاد الفتن، ومنها تطل برأسها.

مرتبة الخلق والإيجاد عند علماء الإسلام وعند أهل البدع

مرتبة الخلق والإيجاد عند علماء الإسلام وعند أهل البدع لقد اختلف الناس في الخلق والإيجاد بعد أن اختلفوا في علم الله تعالى، فقال بعضهم: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وإن الأمر أنف، وأهل السنة والجماعة كفروا من قال بذلك، وأما مرتبة الخلق والإيجاد: فمنهم من يقول: إن العبد مسير، أي: مقهور ومجبور على إتيان أفعاله خيرها وشرها، وهذه الفرقة تسمى: الجبرية، وهذه المقولة خطيرة فضلاً عن عدم مناسبتها واتفاقها مع معتقد أهل السنة، ونتج عن هذه المقولة أنه لا يجوز لله عز وجل أن يعاقب العبد، ولو عاقبه لكان ظالماً؛ لأنه هو الذي قهر العبد، ولم يثبتوا للعبد إرادة ولا اختياراً، بل قالوا: إن الفاعل الحقيقي للطاعات والمعاصي هو الله، وهذا ضلال مبين. وفي المقابل ظهرت فرقة أخرى تقول: إن الأفعال كلها وقعت باختيار وإرادة العبد، ولا دخل لله عز وجل فيها مطلقاً، وخطورة ذلك أنهم جعلوا العبد خالقاً لأفعاله، ولا دخل لله عز وجل في أفعال العباد أبداً. وهذا يتعارض مع معتقد أهل السنة والجماعة القائل: إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته، وهو يلبس على عامة المسلمين بالإرادة والمشيئة، فلم يقسموا الإرادة والمشيئة إلى قسمين كما قسمها أهل السنة: إرادة شرعية دينية، مبنية على المحبة والرضا، وإرادة كونية قدرية لا يشترط فيها المحبة والرضا؛ لأن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضاها، ومع هذا فإن الله تعالى قد أذن بوجودها، وهو غير ظالم لمن أتى بها؛ لأنه قد أرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وجعل له العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، فاختار العبد الشر، فلما اختار العبد الشر يسره الله تعالى لاختياره. إذاً: فالعبد أحياناً يكون مخيراً، وأحياناً يكون مسيراً مجبوراً.

سياق ما فسر من الآيات والأحاديث في إثبات القدر وإجماع الصحابة ومن بعدهم

سياق ما فسر من الآيات والأحاديث في إثبات القدر وإجماع الصحابة ومن بعدهم

بيان ما جاء في بداية ظهور بدعة القدر وإنكارها

بيان ما جاء في بداية ظهور بدعة القدر وإنكارها قال: [سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعاتها ومعاصيها. وروي ذلك عن الصحابة لفظاً: عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر] وعدد كثير من الصحابة. قال: [وعن طاوس -وهو من التابعين- قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر. وبه قال من التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار، وكعب الأحبار]، وعدد كثيراً من التابعين. قال: [قال يونس بن عبيد: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سيسويه -اسم سوسن النصراني بالفارسية: سيسويه - ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة أو بني عوانة]. يعني: لا يقول بالقدر في البصرة إلا ثلاثة: أولهم سيسويه، وبعده معبد -وهو تلميذه-، ورجل آخر ملعون في قوم يسمون: بني عوافة أوبني عوانة. قال: [وعن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان]. يعني: أيهما أفضل علي أم عثمان، والإجماع منعقد على أن علياً بعد عثمان في الخلافة، لكن وقع الاختلاف في أيهما أفضل: علي أو عثمان؟ ونشأ هذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وممن كان يقول بأفضلية علي: سفيان الثوري، وهو من أئمة السلف وأئمة السنة، ولكنه رجع عنه. فالراجح وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة: أن عثمان أفضل من علي بن أبي طالب، وترتيب الأربعة في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. فلم يختلفوا في الخلافة، وإنما اختلفوا في الأفضلية بين علي وعثمان، وهذا الخلاف لا يضلل به المخالف ولا يبدع، فهناك مسائل في الاعتقاد وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة، وهذه المسائل بعينها لا يضلل فيها المخالف، وإنما يضلل المخالف إذا اختلف مع أهل السنة والجماعة في شيء غير ما وقع بينهم من اختلاف. مثلاً: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه أم لا؟ بعضهم قال: رآه، وبعضهم قال: لم يره، وهذا الكلام ذكرناه وذكرنا الخلاف فيه سابقاً، لكن الراجح من مذهب جمهور أهل السنة: أنه لم يره، والذي قال: إنه رآه لم يتبين من قوله هل: هو أراد أنه رآه بفؤاده أو بعيني رأسه؟ ولم يكن هناك تصريح منه أنه رآه بعيني رأسه، فيحمل قوله على أنه رآه بفؤاده، وبهذا يتفق مع مذهب بقية أهل السنة والجماعة. فإذا قال قائل: إنه رآه بعيني رأسه لا يضلل؛ لأنك لو قلت ذلك للزمك الوقيعة والطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شك يخالف ما عليه أهل السنة في معتقدهم وتبجيلهم واحترامهم لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، المخطئ منهم والمصيب، فنقول: أخطأ فلان ولا نقول: ضل فلان؛ لأن من شعار أهل البدعة أنهم إذا اختلفوا في مسألة كفر بعضهم بعضاً، وضلل بعضهم بعضاً. فمعتقد أهل السنة والجماعة إذا اختلفوا في مسألة أن يخطئ بعضهم بعضاً فقط، فنقول: فلان أخطأ؛ وذلك لأنه ليس معصوماً، وأما أن يقول: ضال أو كافر فهذا مذهب أهل البدع، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض. فانظر إلى منهج الاعتدال عند أهل السنة والجماعة. قال: [قال ابن عون: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ ها هنا حقير يقال له: سيسويه البقال، وكان أول من قال بالقدر]. وهذا يدل على أن بدعة القدر نشأت من عند النصارى في البداية. قال: [وعن أيوب السختياني قال: أدركت الناس وما كلامهم إلا وإن قضى الله، وإن قدر الله]. يعني: كان الناس كلهم متفقين على أن القضاء والقدر من عند الله، إلى أن نشأ سوسن، واتخذ له تلاميذ من أبناء الإسلام بزعمهم، فقالوا بتلك المقولة الفاسدة. قال: [وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: لقد أدركت وما بالمدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل واحد من جهينة يقال له: معبد] ومعبد الجهني أخذ البدعة من البصرة على يد سوسن، ثم انتقل بها إلى المدينة، وأحاديث أهل ال

ظهور التشيع في مصر والمغرب على يد أبي عبد الله الفارسي

ظهور التشيع في مصر والمغرب على يد أبي عبد الله الفارسي والتشيع ما ظهر في بلاد مصر، ولا في القطر المغربي كله إلا على يد رجل واحد أيضاً يقال له: أبو عبد الله الفارسي، وقد أتى من بلاد فارس حاجاً، فنصب خيمته في منى، وتظاهر بالعبادة الشديدة بجوار خيام المصريين. فلما رأوا من عبادته وحسن صلاته وقيامه ودعائه أعجبهم ذلك جداً، فأرادوا أن يتعرفوا عليه، فلم يذكر لهم اسمه أبداً، وإنما قال: أنا أبو عبد الله الفارسي حتى عرفوه بهذا، وبعد أن فرغ من الحج قالوا: إلى أين تريد؟ قال: إلى بلاد المغرب، قالوا: ولم؟ قال: لأعلم صبيانهم القرآن الكريم. قالوا: غرض نبيل، إذا أردت أن تذهب إلى بلاد المغرب فلا بد أن تمر بمصر، فحملوه حملاً على أن يبقى في مصر، وهو يريد أصلاً البقاء فيها؛ لأنه يعلم أن مصر ثغر من ثغور الإسلام، فإذا أراد أحد أن يضرب الإسلام فعليه بمصر، وإذا أراد أحد أن ينصر الإسلام ويؤيده فعليه بمصر. فهذا المخالف يعلم أن هذه البقعة المصرية عليها مدار العز والذل لأهل الإسلام، فهو يريد أن يبقى في مصر، لكنه يتظاهر بالاستغناء عن ذلك، فحملوه حملاً على أن يبقى في مصر، وبعد أن بث سمومه بواسطة تحفيظه القرآن الكريم للغلمان والأطفال، ونشأ جيش كبير جداً من الشباب والرجال يتشيعون لـ علي بن أبي طالب افتضح أمر ذلك الرجل، وعرفه أهل السنة والجماعة، فهرب، وبدأ بأفريقية وانتهى بالمغرب العربي، وهناك أنشأ دولة أخرى عظيمة من دول الشيعة، ولما ضعف المسلمون تماماً أتى بذلك الجيش الجرار الشيعي من بلاد المغرب، وكلما مر على ملأ أخذ منهم حظاً ونصيباً من المتاع والعتاد والأفراد الذي يدخلون في مذهبه، ورتب داخلياً مع تلاميذه وأبنائه الذين رباهم في مصر، وكانت هذه البداية لنشأة الدولة الفاطمية في مصر. ولما حكم الفاطميون مصر قضوا على الأخضر واليابس في دينها، إلى أن قيض الله عز وجل لهذه الأمة بأسرها صلاح الدين الأيوبي. والفاطميون أناس خبثاء، فقد دخلوا مصر ونشروا فيها مذهبهم، وأرادوا أن يظهروا أمام الناس بمظهر حسن، فبنوا الجامع الأزهر لتدريس العلوم الشرعية على مذهب الشيعة، ولكن الشعب المصري لا يميز بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا بين العسل والسم، فإن معظم الشعب قد تحسى السم وهو يقول للشر: خير، وللباطل: حق؛ لأن الشيخ فلان قال به، والعالم فلان قال به. وهكذا حال هذا الشعب في صبر وفي حرب إلى قيام الساعة، فهذا الخلاف وهذا الشر لم يكن موجوداً في الصدر الأول للإسلام.

إنكار السلف لبدعة القدر

إنكار السلف لبدعة القدر [قال: لقد أدركت وما في المدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل واحد من جهينة يقال له: معبد ومن الفقهاء -أي: الذين قالوا بأن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، وقالوا بإثبات القدر-: مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومن أهل مكة ابن جرير، وسفيان بن عيينة وغيرهم، ومن أهل مصر، ومن أهل الشام، ومن أهل العراق، ومن أهل الكوفة، ومن فقهاء أهل البصرة، ومن أهل بغداد، ومن خراسان، ومن القراء والأدباء] وغيرهم كثير. قال: [قال أحمد بن يحيى ثعلب: لا أعلم أعرابياً قدرياً]. يعني: لا أعلم عربياً خالصاً أصيلاً قال بالقدر، فالقدر لم يكن معروفاً عند العرب. [قيل له: يقع في قلوب العرب القول بالقدر -صحيح أن هذه البدعة ليست من قولهم ولا من كيسهم، وإنما تشربتها قلوبهم- قال: معاذ الله! ما في العرب إلا مثبت للقدر خيره وشره، أهل الجاهلية والإسلام، وذلك في أشعارهم وكلامهم كثير. قال الشيخ أبو القاسم الحافظ: وهو مذهب أهل السنة والجماعة، يتوارثونه خلفاً عن سلف من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، والحمد لله على ذلك، وأسأل الله تمام ذلك بفضله ورحمته].

استدلال السلف ببعض الآيات والأحاديث المثبتة للقدر

استدلال السلف ببعض الآيات والأحاديث المثبتة للقدر قال: [باب: تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]]، (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ): أنتم وما تعملونه، فإنه مخلوق لله تعالى، بمعنى: أن الله تعالى هو الذي أذن في إيجاد وخلقه. قال: [عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته)]. أي: أن الله خالق كل مخلوق وما عمل، وهذا الحديث عند البخاري في كتاب الرد على القدرية، وكذلك عند مسلم. قال: [وعن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يصنع كل صانع وصنعته)، قال الفزاري: قال رجل: يعني: خلقكم وما تعملون]. فأنتم كما أنكم مخلوقون لله، فكذلك ما تفعلونه مخلوق لله من باب أولى. قال: [وعن ابن عباس في هذه الآية: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، قال: كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة. قال: والملائكة يستنسخون ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]] يعني: نكتب ما كنتم تعملون. قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، قال: الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير]. أي: من صفات العلماء الذين يخشون الله تعالى أنهم يقولون: إن الله على كل شيء قدير. وما جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]: قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -يعني: يجادلونه في مسألة القدر- فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49])]. فهذه الآيات نزلت رداً على المشركين الذين لا يثبتون أن كل شيء بقدر. قال: [وقال أبو هريرة: جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية ثم تلاها. وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يعني: هو يخرج بالدلو ماء من زمزم- وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحداً منهم فقأت عينه. وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] قال: يقول: الله خلق الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة]. هذا كلام ابن عباس حبر الأمة، فالكل مخلوق لله عز وجل، ولا خالق إلا هو سبحانه، قال: وخلق الخير والشر، ومعنى خلقه ذلك: إذنه في وجوده، ومع ذلك فهو لا يرضاه ولا يحبه.

باب ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت

باب ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت قال: [باب: ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر)] ومعنى (لا يؤمن) فيه تفصيل، والحكم يختلف بحسب هذه المراتب، وبحسب ما إذا كان الذي لا يؤمن بالقدر رأساً في بدعته، أو تابعاً فيها، فإذا كان المنكر للقدر منكراً لعلم الله الأزلي؛ فإنه يكفر ويخرج عن ملة الإسلام، وإذا كان ينسب الخلق والإيجاد للعبد دون الله عز وجل فإنه يكفر كذلك؛ خاصة إذا كان رأساً في بدعة القدر، عالماً بما يقول، وحينئذ ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد) أي: يكفر من لا يؤمن بالقدر، أو حتى يؤمن بالقدر. [قال أبو حازم: لعن الله ديناً أنا أكبر منه، يعني: التكذيب بالقدر]. يريد أن يقول: إن قوماً تدينوا بدين لم يكن هو دين النبي عليه الصلاة والسلام، فهم ملعونون وما يدينون، أما أنا فارتفع عن هذه الديانة، أي: ارتفع عن هذا التكذيب وهذا الكفر. [وقال ابن عباس في القدرية: أولئك شرار هذه الأمة. وعن حماد بن زيد عن أيوب قال: أدركت الناس هاهنا وكلامهم: وإن قضى وإن قدر]، يعني: أن الناس كانوا على إثبات عقيدة القضاء والقدر.

كلام أبي الأسود الدؤلي في القدر وبراءته من القول بنفي القدر

كلام أبي الأسود الدؤلي في القدر وبراءته من القول بنفي القدر قال: [عن عثمان بن عبد الله قال: أول من تكلم في شأن القدر أبو الأسود الدؤلي]. أبو الأسود إمام كبير جداً من أئمة البصرة، وهو تلميذ علي بن أبي طالب؛ ولذلك فهذا الكلام له محملان: إما أن يكون شاذاً؛ لأن أبا الأسود الثابت عنه بالسند الصحيح أنه يثبت عقيدة القضاء والقدر، وإما أن يكون أول من تكلم في القدر أبا الأسود الدؤلي من جهة إثباته، ويكون هذا الكلام فيه تجوز؛ لأن أول من تكلم في إثبات القدر هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، والتابعون، وأتباعهم إلى يومنا هذا. فإذا كان المقصود: أول من تكلم في إثبات القدر هو أبو الأسود فمحمله: أنه أول من تكلم في إثبات القدر بالبصرة في وجود معبد الجهني، ويكون حميد قد ذهب إلى مكة وقابل عبد الله بن عمر، فيكون أول من رد على معبد الجهني هو أبو الأسود الدؤلي. والدليل على أن أبا الأسود الدؤلي من الذين ثبت عنهم أنهم أثبتوا عقيدة القضاء والقدر: ما روي عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق -يعني: كان شاباً مراهقاً -وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل آنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً. قال: فلقيت أبا الأسود الدؤلي فذكرت ذلك له، فقال: كذب، ما رأينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت القدر. إذاً: فعقيدة أبي الأسود إثبات القدر. قال: يحيى بن يعمر: ثم إني حججت وحميد بن عبد الرحمن الحميري، فلما قضينا حجنا وكنا قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر، فلما أتينا المدينة لقينا أناساً من الأنصار فلم نسألهم، قلنا: حتى نلقى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري. قال: فلقينا ابن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، قال: فقمت عن يمينه وقام هو عن شماله، قال: قلت: تسأله أو أسأله؟ قال: لا، بل اسأله، قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن! إن ناساً عندنا بالعراق قد قرءوا القرآن، وفرضوا الفرائض، وقصوا على الناس، يزعمون أن العمل أنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً، قال: فإذا لقيتم ذلك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل بمثل أحد ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر! لقد حدثني عمر: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى لقي آدم فقال: يا آدم! أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار. قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ تلومني بما قد كان كتب علي قبل أن أخلق؟! فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى). يعني: آدم غلب موسى بحجته، وهذا الحديث ظاهره جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية، فآدم قد عصى الله فأكل من الشجرة، واحتج بالقدر، وما كان احتجاج آدم إلا بعد أن تاب؛ ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا لمن تاب؛ ولذلك حدت الحدود، وأقيمت العقوبات؛ لتطهير من أذنب، وهذه العقوبات كذلك هي من قدر الله. جيء إلى عمر برجل قد زنى، وأراد أن يحتج على زناه كما احتج آدم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتحدني في أمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم، إنما نحدك بقدر الله أيضاً. فالمعاصي وقعت بقدر الله الكوني القدري، والعقوبات جعلت بقدر الله تطهيراً لهذه المعاصي، فالمرء يفوض أمره إلى الله عز وجل ويتوب، وتقام عليه الحدود، ويعتقد في قلبه أن ما وقع منه كان باختياره، ولو أراد الله تعالى ألا يقع فيها العبد لفعل، ولكن لما اختار العبد طريق المعصية مهد الله تعالى له الطريق إليها؛ ولذلك اختلف المعتزلة والجهمية في مسألة القدر، فبعضهم يثبت أن العبد مسير ومجبور، وبعضهم يقول: هذه الإرادة كلها والاختيار كله للعبد ولا دخل لله عز وجل، فيها. وأهل السنة والجماعة يقفون موقفاً وسطاً بين هذين الفريقين، فيقولون: (كل ميسر لما خلق له)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. قال: لقد حدثني عمر: أن رجلاً في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إليه فقال: (يا رسول الله! أدنو منك؟ قال: نعم، قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته، فقال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟)، وأشراط الساعة وغيره ذلك، وهو حديث جبريل الطويل، وقد سقت هذا الحديث لإثبات أن أبا الأسود الدؤلي لم يكن قدرياً، بل كان من أهل السنة والجماعة.

بداية الكلام في القدر وإنكار السلف ذلك

بداية الكلام في القدر وإنكار السلف ذلك [وعن الحسن بن محمد قال: أول من تكلم في القدر حين احترقت الكعبة -والكعبة احترقت سنة (64) هـ- قال قائل: كان هذا من قضاء الله أن احترقت الكعبة، فقال آخر: ما كان هذا من قضاء الله. وعن حازم قال: سمعت حوشب يقول لـ عمرو بن عبيد في حبوة الحبس: ما هذا الذي أحدثت، قد نبت قلوب إخوانك عنك؟ -أي: جعلت قلوب الناس تنفر عنك وتبغضك- قال: الحسن انطلق حتى نسأله عن هذا الأمر، قال: كسرها الله إذاً. يعني: رجليه. وعن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصر بـ عمرو بن عبيد، فجثوت على ركبتي، قلت: يا أبا الخطاب! وإذا الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ قال: يا أحول! رجل ابتدع بدعة؛ تذكر بدعته خير من أن يكف عنها. قال: فوجدت على قتادة فوضعت رأسي، فإذا بـ عمرو يحك آية من القرآن. كان عمرو بن عبيد من أوتاد العلم، فلما وضع في السلاسل والأغلال قال: ارحمه؛ رجل فقيه، فقال قتادة: هذا لا يرحم؛ لأنه ابتدع بدعة وإن كان عالماً، فذهب عاصم يراقب عمرو بن عبيد في السجن، قال: فإني رأيته يحك آية في القرآن، هذه الآية: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]-لأن هذه الآية حجة عليه- قال: عاصم: فقلت: ما تصنع أنت؟ قال: إني أعيدها. قلت: أعدها، قال: لا أستطيع]. فصدق قتادة حينئذ، فالمبتدع وإن كان عالماً يستحق القيد ويستحق التأديب، خاصة إذا كانت بدعة خطيرة وفي أصول الإيمان. قال: [وعن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: سنسويه البقال، قال: فكان أول من تكلم في القدر. قال حماد: ما ظنكم برجل يقول له ابن عون: هو حقير. وعن يونس بن عبيد قال: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة. وعن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير أبو عبد الله قال: أخبرني أبي قال: كنا جلوساً عند هشام بن عروة فذكروا له إبراهيم بن أبي يحيى المديني. قالوا: يا أبا المنذر! إنه حافظ الحديث، فقال: مولى أسلم؟ قالوا: نعم، إلا أنه قدري، فقال هشام بن عروة: لعن الله ديناً أكبر منه، وفي رواية: لعن الله ديناً أنا أكبر منه]. يعني: لعنه الله. فإن هذا دين لم يأت به الشرع. [وعن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان -أي: غيلان الدمشقي - عن معبد]. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من أمر في المنام بذبح شيء

حكم من أمر في المنام بذبح شيء Q جاءني في المنام أشخاص لم أرهم، وقد أعطوني حمامتين بيضاوتين، وقالوا لي: اذبحيهما؛ لأنك مريضة، فماذا أفعل؟ A لا تفعلي، مع أنه ليس عندك حمامتان أصلاً، لكن لو فرضنا أن معك حمامتين بيضاوتين في بيتك، وقد رأيت أشخاصاً يقولون لك في منامك: اذبحيهما فإن هذا من الشيطان، وهو شرك بالله العظيم؛ لأن الذبح عبادة ولا يجوز إلا لله عز وجل، فلا تفعلي ما يأمرك به الشيطان، فاستعيذي بالله، واتفلي عن يسارك ثلاثاً، وانتهي، وتحولي عن مكانك، وإذا استيقظت فصلي ركعتين في جوف الليل، وادعي الله تبارك وتعالى أن يشفيك.

حكم قول الرجل لزوجته: علي الحرام، أو لو فعلت كذا فأنت محرمة علي

حكم قول الرجل لزوجته: علي الحرام، أو لو فعلت كذا فأنت محرمة علي Q ما حكم قول الرجل لزوجته: علي الحرام، أو لو فعلت كذا فأنت محرمة علي؟ A قوله لها: (أنت محرمة علي)، (وعلي الحرام) قول ضمني، فكونه يقع به طلاق أو لا يقع ذلك حسب نية القائل، فإن نوى طلاقاً وقع، وإن نوى ظهاراً وقع ظهاراً؛ لأن لفظ: (علي الحرام) من الألفاظ الضمنية وليس من الألفاظ الصريحة، واللفظ الصريح يقع به الطلاق ولا يحتاج إلى نية. أما إذا قال لها لفظاً يحتمل الطلاق ويحتمل غيره؛ فذلك مرهون بنيته وقصده وإرادته، فإذا قصد ظهاراً وقع ظهاراً، وإذا قصد طلاقاً وقع طلاقاً، والله أعلم.

فهم العقيدة الصحيحة وأصول العبادة أمر ضروري على طالب العلم

فهم العقيدة الصحيحة وأصول العبادة أمر ضروري على طالب العلم Q متى يجوز لطالب العلم أن يشتغل بالأحاديث النبوية الصحيحة والضعيفة؟ وما الكتب التي يقرؤها؟ وعلى يدي من يأخذ هذا العلم في هذا البلد؟ A إن طلب الحديث صار شهوة عند الكثير من الطلاب، وهذه الشهوة مبعثها حب الظهور، فلا تجد الرجل يفقه شيئاً في دين الله عز وجل إلا بعض القواعد في المصطلح، فتراه لا يهتم بأصول دينه، ولا بأصول عبادته، ولا بكتاب الله، ولا بالعلوم اللازمة له، بل لا يهتم بعقيدته في الله عز وجل، وإنما كل مراده: أن يتعلم الحديث ويتعلم أصوله، وكيف يصحح وكيف يضعف، وما هو السبيل إلى ذلك، ويتشبث به، ويكون هو الشغل الشاغل له في الليل والنهار

إثبات القدر وأن الله خالق الخير والشر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - إثبات القدر وأن الله خالق الخير والشر جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، والله أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو كانت في جانب المناهي كالمعاصي، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية، التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية.

معنى قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)

معنى قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. في الدرس الماضي تعرضنا لتفسير قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -أي: ينازعونه فيه، فيأخذون منه ويردون عليه- فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس رضي الله عنهما وهو ينزع في ماء زمزم، وقد ابتلت أسافل ثوبه، فقلت له: قد تُكلم في القدر -أي: أن الناس قد خاضوا في القدر- فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]. ثم قال: لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحداً منهم فقأت عينه. يقول: الله خلق الخلق كلهم بقدر، وخلق خير والشر، فخير الخير السعادة. وشر الشر الشقاوة].

أنواع الذين تكلموا في القدر

أنواع الذين تكلموا في القدر وشيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله له تفسير أوضح من هذا الكلام في تفسير هذه الآية في شفاء العليل، فقال رحمه الله في الباب التاسع في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. بعد ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مخاصمة قريش للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: والمخاصمون في القدر نوعان -أي: الذين تكلموا في القدر نوعان من الناس-: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، أي: أنه لا يعتقد أن الأمر والنهي صدر من الله عز وجل، كالذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]. والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق. والطائفتان خصماء الله عز وجل. قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، ولذلك لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الإيمان بالقدر. وقال: إن الله تبارك وتعالى قدر أقداراً، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى كل ذلك من عند الله عز وجل. قال الإمام أحمد: القدر هو قدرة الله عز وجل، إذا شاء أمراً قال له كن فكان. قال: واستحسن ابن عقيل -وهو أبو الوفاء بن عقيل - هذا الكلام جداً حينما سمعه عن الإمام أحمد، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو بلا شك كما قال، فالقدر هو قدرة الله عز وجل، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها. وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم.

مراتب القدر

مراتب القدر ومراتب القدر أربع، وأولها: مرتبة العلم. أي: علم الله عز وجل بما هو كائن إلى قيام الساعة. فالله عز وجل علِم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما علم ذلك كتبه. وهذه هي المرتبة الثانية، فكل شيء بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ الذي لا يلحقه محو ولا تبديل ولا تغيير، فالمحو والتبديل والتغيير إنما يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة الكرام البررة، ولذلك يقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً، ولا تبديلاً ولا تغييراً غير الذي فيه. فالله عز وجل كتب علمه الأزلي، وما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، ولا يخفى عليه شيء قبل أن يخلق الخلق. ولذلك روى مسلم في صحيحه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ولا بد أنه حينما عَلِمه كَتَبه، والله عز وجل عالم وعليم سبحانه وتعالى، فعلم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما كان ذلك منه خلق القلم، وهو أول مخلوق لله عز وجل على أرجح الأقوال، كما في الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) فكتب القلم. فأول مرتبة هي إثبات العلم لله عز وجل، فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، وكل ذلك لديه مشاهد معلوم، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية. وهذا بخلاف ما يقوله صناديد القدرية: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن أي واحد من الحاضرين إذا أراد أن ينصرف من المسجد فإن الله تعالى لا يعلم إلى أين ينصرف يميناً أم شمالاً، زاحفاً على يديه أم ماشياً على قدميه؟ فالله لا يعلم ذلك إلا بعد أن يمشي العبد! وهذا بلا شك كفر، ولذلك أجمعت الأمة على كفر من أنكر العلم الأزلي السابق لله عز وجل. والله عز وجل علم ذلك فكتبه، فالذي ينفي العلم عن الله عز وجل لا بد وأنه ينفي الكتابة، والقلم يكتب الذي كان في علم الله بأمر الله عز وجل، فإذا كان النافي ينفي العلم فلا بد وأن ينفي الكتابة كذلك. المرتبة الثالثة: وهي مرتبة عظيمة، ولعلها بيت القصيد، وهي: مرتبة المشيئة والإرادة لله عز وجل. والمشيئة أو الإرادة نوعان: مشيئة دينية شرعية، مبناها على المحبة والرضا، وموضوعها الأمر والنهي قال الله افعل، أو نهي الله فلا تفعل، فقول الله افعل مثل: صل، صم، زك، حج، مر بالمعروف وانه عن المنكر فكل ذلك شرع، فلو فعلته فإن الله يحب ذلك، ولو أن الله تبارك وتعالى نهاك عن المعاصي وأتيتها فالله تعالى يبغض ذلك. إذاً: فالإرادة أو المشيئة الشرعية الدينية: هي كل أمْر أمَر الله عز وجل به وهو يحبه، فالصلاة عمل يحبه الله عز وجل، وكذلك الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من أوامر الإسلام، فإذا أتاها العبد دخل في محبة الله عز وجل هو وعمله؛ لأن الله أمره فأطاع الأمر. والله تبارك وتعالى لا يُحب الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، وغير ذلك من المعاصي، وإنما يبغض ذلك، فحينما أبغضها نهانا عنها، ولا يتصور أن الله تعالى ينهانا عن شيء وهو يحبه. ولذلك نقول: إن المناهي -وهي المعاصي والمخالفات الشرعية- مبناها على بُغض الله عز وجل، ولكننا نقول: إن الإرادة الربانية أذِنت في وقوعها، فأعظم ذنب هو الشرك بالله عز وجل، والشرك موجود في الأرض، والقتل موجود، والسرقة موجودة، والزنا موجود، وشرب الخمر موجود وكل المعاصي موجودة، ولا يتصور أن يقع في الكون شيء بغير إرادة الله، فلو أن شخصاً قال: أنا سأقتل شاء الله أو أبى، فلا يتسنى له القتل أبداً. ولا يمكن، فهذا إجرام وكفر بالله العظيم. لذلك فنحن نقول: إن القتل وقع بإرادة الله، والذي كسب القتل وفعل القتل بيديه هو العبد.

اختلاف الناس في أفعال العباد

اختلاف الناس في أفعال العباد إن جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو في جانب المناهي كالمعاصي كل ذلك يقع بإذن الله وإرادته، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئته وإرادته الكونية القدرية، أي: أن الله عز وجل قدر أن تقع هذه المعاصي في الكون. فالقدرية بمعنى: أن الله هو الذي قدرها وخلقها، وأذِن في وقوعها. والكونية: أنها أفعال تقع في الكون وفي حياة الناس. وكل المعاصي عبارة عن ترك أمر، أو فعل نهي ترك أمر لله عز وجل، أو فعل أمر نهى الله عز وجل عنه، فلو أن العبد ترك طاعة لله قد أمر بها، أو أتى معصية لله عز وجل قد نهى عنها؛ فإننا نقول: إن ذلك مخلوق لله عز وجل، ولكن العبد قد اكتسبه كما اكتسب الطاعة بيديه، ولكن المعاصي مبناها على بغض الله عز وجل، فالمعاصي واقعة في الكون بإرادة الله؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر. إذاً: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، هذا لفظ عام يشمل الطاعات والمعاصي، والخير والشر، والقدر حلوه ومره، وخيره وشره، ولذلك جاء عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] قال: هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير. وهذا تفسير غريب جداً، والغرابة هذه لا تخرج إلا من قلب نوّره الله عز وجل بنور الإيمان. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] معنى الآية هو: تخصيص وقصر الخوف من الله عز وجل على أهل العلم، فأهل العلم هم أعلم الناس بالله عز وجل، فكلما ازداد المرء علماً ازداد خشية لله عز وجل، فهذا تفسير لظاهر الآية. وابن عباس أتى بمعنى أعمق من هذا المعنى الظاهر، فيقول: العلماء الذين يخشون الله عز وجل هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير. يقول: وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل -أي: بالتفسير- ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها، ولو كانوا يقرون فمُنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، فالذين ينكرون القدر سينكرون أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، فهم لا يقرون بها على وجهها، ولا يأتون بهذا التأويل على وجهه. ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به، ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، فالله تعالى يأذن لهذا بالطاعة، ويأذن لهذا بالمعصية، أي: أنه ييسر لهذا الطاعة وييسر لهذا المعصية، لأن الله علم أزلاً أنه إذا خلق فلاناً بين له الطريق وبين له الحق من الباطل على لسان رسله وأنبيائه، وكتبه التي أنزلها عليهم، وقد ضربت لك مثلاً في الدرس الماضي وهو لو أن غاية أو هدفاً أمامك له طريقان أحدهما معبد ممهد وميسر، والثاني طريق وعر صعب فيه شوك، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين لتصل إلى هدفك، فأي الطريقين ستسلك؟ إنه السهل، فالله عز وجل خلق المعاصي وخلق الطاعات، وخلق الجنة والنار، فإذا سلكت المعاصي وصلت وبلغتك إلى النار، وإذا سلكت الطاعات بلغتك إلى الجنة، فأنت حينئذ تختار لنفسك، فإذا كنت تريد النار فاسلك طريق المعاصي، وإذا كنت تريد الجنة فاسلك طريق الطاعات، فالعبد له اختيار. ولذلك فإن الله عز وجل لا يُعذب عبداً على معصية اقترفها وهو لا يعلم أنها معصية، أو فعلها ناسياً أو مخطئاً (إن الله رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فلو أتاك السلطان وأكرهك على فعل معصية ففعلتها، ولو كانت هذه المعصية هي كلمة الكفر، وعذبك عذاباً لا طاقة لك به: إما أن تنطق بها، وإما أن يفتك بك، حينما لم يكن لك قِبل بهذا العذاب ونطقت بكلمة الكفر فإنك لا تكفر، فانظر إلى رحمة الله عز وجل، فإنه يرفع عن عباده الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإنما ذلك وقتها)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، والتفريط أن يكون الإنسان مستيقظاً فيأتي وقت صلاة العصر مثلاً فيقول: لا يزال الوقت بدري حتى يأتي وقت المغرب، ويقول: العشاء ممدودة إلى الفجر فهذا تفريط؛ لأن الله تعالى جعل ميقاتاً محدداً للصلاة فقال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: موقتاً بوقت. ولو أن رجلاً متعوداً أن يصلي جماعة، ففاتته الجماعة أو فاته الفرض، وفي الأسبوع المقبل تذكر أنه كان في الأسبوع الماضي قد نام وذهبت عليه صلاة العصر، ففي أي وقت تذ

مشيئة الله عز وجل القدرية

مشيئة الله عز وجل القدرية نرجع إلى موضوعنا الأول وهو مشيئة الله عز وجل القدرية، وهي التي قدر أن تقع في الكون، قال: ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه؛ لا يُقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وأنه نزل إلى الشجرة فكلم موسى منها، وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم ويضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار فيضيق بها أهلها، وينزوي بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من شئونه وأفعاله؛ من لم يقر بها لم يقر بأنه على كل شيء قدير، فيا لها من كلمة من حبر الأمة وترجمان القرآن! وقد كان ابن عباس شديداً على القدرية، وكذلك الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

الحكمة من العمل مع أن الأمور مقدرة ومفروغ منها

الحكمة من العمل مع أن الأمور مقدرة ومفروغ منها وابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية يقول عند قول الإمام الطحاوي: وكل ميسر لما خُلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله. أي: أن كلٌ ميسر لما خلق له من السعادة أو الشقاوة، ولذلك في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خُلق له). ولذلك فإن أكثر من واحد قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت ما بقي لنا من أعمالنا وعمرنا شيء قد سبق وقد كتبه الله عز وجل، أو شيء مستأنف؟ قال: بل شيء سبق -أي: مكتوب ومعلوم لدى الله عز وجل- قال الصحابي: (ففيم العمل إذاً؟) أي: إذا كانت الأمور معلومة لدى الله عز وجل ومقدرة ومكتوبة؛ فلماذا نعمل؟ فكل واحد إذاً يركن على المكتوب. فنقول: تشتغل لأنك لا تدري أأنت من أهل الشقاوة، أو أنك من أهل السعادة، فابذل جهدك لأن تكون من أهل السعادة، والله تبارك وتعالى ييسر لك بحرصك على الطاعة أمر الطاعة، ولو أنك تركت الطاعة وحرصت على المعصية؛ سهلها لك؛ لأنك نفسك تميل إلى المعاصي، فهناك نفوس خبيثة تميل إلى الخبيث، وهناك نفوس طاهرة نظيفة مؤمنة إذا سمعت بمعصية فرت منها فرارها من الأسد، وهرولت وأسرعت إلى طاعة الله عز وجل. فهناك من إذا فاتته تكبيرة الإحرام يتفطر قلبه حزناً، وهناك من إذا أجبرته على الدخول إلى المسجد فإنه لا يصلي، ولو كان اسمه محمداً، أو أحمد، أو عبد الله، أو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ويشابه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، فهناك نفوس خبيثة ونفوس طيبة، فهذا كله بقدر الله، لكن الله تعالى يسر لهذا لأنه علم منه أزلاً أنه لا يميل إلى الطاعة، وخلق الله النار لحكمة.

عدل الله تعالى والحكمة من خلق الجنة والنار

عدل الله تعالى والحكمة من خلق الجنة والنار فتصور أنك رجل مؤمن موحد مطيع لله عز وجل، وجارك رجل عاص وفاسق وزنديق وغير ذلك، لو أتيتما يوم القيامة والله تعالى أدخلكما جميعاً الجنة فستقول: ما هي القضية؟! وهذا لا يحصل؛ لأن الله خلق الجنة وخلق النار لحكمة عظيمة، فهل مآل هذا المشرك المعرض العاصي الجاحد الجنة؟ وهل أهل الجنة يقفون على الباب والعصاة يدخلون الجنة؟ لا، لا بد للكفرة من عقاب، وعقابهم أن يدخلوا النار. والذي يهزأ ويسخر، بل ويُعذب المؤمنين الموحدين؛ لا يهنأ قلبك حينما يكون بجوارك في الجنة؟ فهو لن يدخلها، ولا بد له من عذاب وعقاب. ولا بد أن تعتقد أن ما عند الله عز وجل من خيرات هي أعظم مما في أيدي العباد من خيرات، وما عند الله كذلك من عذاب وعقاب هو أشد وأبقى، فهناك من عنده روح الانتقام، ولا يحب أن يفوت صغيرة، فعندما يغلط عليه واحد لا بد أن يتشفى منه، ولا يقر له قرار إلا بعد أن يأخذ حقه، فالله بقادر على أن يأتي به يوم القيامة، والله يقدر على مثل ذلك بمئات المرات، فلماذا أنت متضايق؟ ففوض أمرك إلى الله عز وجل، واصبر واحتسب، فالصبر عبادة، وقد فرضه الله على عباده {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فالحق عبادة، والصبر أيضاً عبادة. وهذه العبادة تستخدمها وقت الضعف، وأما في وقت القوة فتستخدم الحق؛ لأنك ستكون لك صولة وجولة ونجدة وغير ذلك حينما تكون في زمن القوة، فعندها تستخدم الجهر والصدع بالحق وغير ذلك، وكل الذي يقابلك في الطريق يعطلك عن هذه الدعوة خذه في طريقك، ولذلك نجد الإسلام حينما كانت له دولة وشوكة كان النبي عليه الصلاة والسلام يبعث الجيش إلى أي بلد من البلدان ليغزوها، أو يفتحها، أو يدعوها فإنه يخيرهم بين ثلاثة أشياء. إما أن تسلموا وتدخلوا معنا في الدين، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا فليس هناك فرق بيننا وبينكم. وإما أن تبقوا على ديانتكم ولكن لا بد أن تأذنوا لنا في الدخول، فإذا أذنتم ولم تدخلوا في الدين فادفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. والواحد منا الآن حينما يسمع هذه الآية قلبه يتقطع فيقول: نحن صاغرون في هذا الوقت، يقول الإمام ابن تيمية: ولو أن اليهود والنصارى علوا وحاصروا المسلمين في ثغر أو بلد، وأمروهم بدفع الجزية وإلا أُريقت دماؤهم؛ كان واجباً على المسلمين أن يدفعوا الجزية، وأصبحت الجزية على المسلمين بعد أن كانت مفروضة على رقاب النصارى واليهود، وليس هذا فحسب، وإنما أيضاً يدفعونها بذلة فيدفعونها وهم صاغرون، أي: أن زعيمهم وعمدة بلدهم يأتي بالجزية فتقول له: اذهب وخذها معك وهاتها غداً، ثم يأتي في الغد فتقول له: خذها وأرجعها في الشهر القادم، وتذله وتذل أنفاسه، وأما الآن فنحن في ذلة؛ وهذا إنما هو بسبب بعدنا عن الكتاب والسنة.

العمل بالأسباب موافق للدين والعقل

العمل بالأسباب موافق للدين والعقل يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي بن أبي طالب: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له)، وما يدريك أنك من أهل الشقاء أو السعادة؟ وفي حديث جابر: جاء سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من كبار الصحابة رضي الله عنه، وكان من أعظم المحاربين للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي بعثته قريش لقتل النبي عليه الصلاة والسلام في هجرته من مكة إلى المدينة، وحينما كاد أن يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ساخت قدم فرسه في الأرض، فعلم أنه هالك، كل هذا كان لأجل أن يأخذ مائة ناقة من قريش في مقابل قتل محمد وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه، فأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ -أي: نحن سنعمل لماذا؟ - أفيما جفت به الأقلام -يعني: فيما جرت به الأقلام وكتبته- وجرت به المقادير، أم فيما يُستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟) قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألته: ماذا قال؟ قال: (اعملوا فكل ميسر) فهو يسأله: ففيم العمل؟ قال: اعملوا -أي: لا بد من العمل- فكل ميسر. والجوع يكون بقدر الله، لكن هل من الممكن أن تقول: إن الله عز وجل قد كتب سلفاً وأزلاً أنني في الوقت الفلاني سأجوع، وما دام هذا بقدر الله فأنا لا آكل؟ لا يمكن؛ لأن الجوع بقدر والشبع بقدر، وكذلك المعاصي بقدر، والعقوبة المترتبة على هذه المعصية بقدر. وآخر يقول: أنا لن أتزوج، ولو شاء الله تعالى أن يرزقني الولد بغير زوجة لفعل، ونحن نعرف أن الله على كل شيء قدير، لكن الأسباب لا بد منها، ولذلك من اعتمد على السبب فقد أشرك، أي: أن الذي يعتبر أن الطعام الذي أكله هو الذي أشبعه، فهذا ضرب من ضروب الشرك؛ لأن الذي أشبع على الحقيقة هو الله، والذي شفى المريض على الحقيقة هو الله، وإنما الدواء عبارة عن سبب، فالله تعالى خلق المرض وهو ابتلاء، فهو مخلوق بقدر، وكذلك العلاج بقدر. وإذا قدر الله لي المرض فأنا أتداوى، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله! فما من داء إلا وله دواء) إذاً فالداء بقدر الله، والدواء أيضاً من قدر الله عز وجل.

بيان أن الأعمال بالخواتيم

بيان أن الأعمال بالخواتيم وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) أي: أنه يعمل الطاعات، لكنه في هذه الطاعات لم يكن مخلصاً فيها لله عز وجل، وإنما يعملها رياء ونفاقاً، كما كان عبد الله بن أبي ابن سلول يصلي، ويصوم، ويزكي، وكان أيضاً يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كان قلبه مليئاً بالكفر، وأما عمله في الظاهر فيما يبدو للناس فعمل رجل من أهل الجنة. وهناك رجل حارب حرباً شديدة جداً، وقاتل قتالاً عنيفاً جداً، حتى أُعجب الصحابة بفدائيته وفروسيته، فقالوا: إنه من أهل الجنة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأراه من أهل النار) فاندهش الصحابة حينما رأوه يعمل بعمل أهل الجنة، فلم يجدوا فارساً في الجيش فعل مثل ما فعل! ففزعوا كيف يكون من أهل النار مثل هذا الرجل؟! فتبعه رجل فكلما أسرع أسرع خلفه، وكلما وقف وقف، فكان يراقبه حتى أصابه سهم فلم يصبر على ألمه، فقتل نفسه، وضع ذبابة سيفه في صدره، واتكأ عليها فخرجت من ظهره، فحينئذ قال هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، فهذا الرجل عمل في الظاهر بعمل أهل الجنة، ولكنه في نفسه من أهل النار. وأول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: العالم، والجواد، والمقاتل، فحينما ينادون للجهاد يخرج هذا المجاهد أول واحد، ويحضر إلى الصف بفرسه، والعالم تعلم العلم لغير الله عز وجل ليقال عالم، فيؤمر به فيُسحب على وجهه فيدخل النار، والجواد لا يترك باباً من أبواب الخير إلا وينفق إليه، وهذا عمل صالح، لكنه لا ينوي بهذا وجه الله، وإنما يبتغي المدحة والثناء من الناس، والذي يصلي رياءً لو تركته في خلوة لا يصلي، وإذا حضر الناس تجده في خشوع وقيام وسجود وركوع ويطيل في ذلك، فتقول: ما أعبده! وما أخشعه لله عز وجل! وفي الحقيقة هذا خشوع للبدن، وليس خشوعاً في القلب لله عز وجل، أي: أن خشوعه اصطنعه لأجل أن يقال: خاشع أو عابد أو غير ذلك. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)، لكن قد تلحقه التوبة، ولا حرج على فضل الله عز وجل، ولو أن رجلاً أشرك وكفر وأتى بجميع المعاصي، ومات بعد أن نطق بالشهادة بلحظة؛ فهو لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج، ولم يأت طاعة إلا نطقه بكلمة التوحيد، فإنه يدخل الجنة، فلا حرج على فضل الله عز وجل، فهذا له سبحانه وتعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ولو كانت لك وأخذها أحد الناس منك فإنك لا ترضى بذلك، أما وهي لله عز وجل فله الحق حينئذ أن يعطيها لمن يشاء. قال: وزاد البخاري: (إنما الأعمال بالخواتيم) أي: حسب ختام الله لك. وهذا الكلام يجعلنا في غاية الوجل والخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (والله لا يغفر الله لفلان! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وصعد المنبر وقال: من ذا الذي يتألى على الله؟) أي: أن الجنة ملك لله فلا يدخل فيها إلا رجل قد أذن الله له، (قال الله تعالى: أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لفلان، وأني عذبت فلاناً) وهو المطيع. ومن هنا تعلم قولهم: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة. أي: أن رجلاً مثلاً صلى صلاة، وظل يفاخر بها، أو حج ولم يجد الناس يكتبون على الحيطان: حج مبرور وذنب مغفور، مبروك يا حاج فلان وغير ذلك فتجده يغضب غضباً شديداً حين لم يُكتب له مثل هذا، وأنه حينما دخل البلد لم يجد استقبالاً على عادة الناس، وظل يسب دين البلد بأكمله، مع أنه قد أتى من الحج، فالذي يقول له: يا عم أحمد أو يا سيد أحمد لا يرد عليه، وإذا أجابه إنما يقول: نعم يا بني! فهل يتصور أن العمل هذا ممكن يُقبل؟! لا يُقبل أبداً، نسأل الله السلامة، والأعمال بالخواتيم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك -وهو ملك الأرحام وليس جبريل- فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات -أي: يؤمر بكتابة أربع كلمات-: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، أي: من أهل النار أم من أهل الجنة، فهذا مكتوب عليك قبل أن تولد، وليس في هذا ظلم للعبد؛ لأن الله تعالى منزه عن الظلم، ومتصف بالعدل والحكمة. (فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عل

القدر سر الله في خلقه فلا يتعمق فيه

القدر سر الله في خلقه فلا يتعمق فيه ثم قال الطحاوي: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، أي: الذي يظل يجادل ويناظر في القدر، ويقول: لماذا فعل الله كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ وما هي الحكمة من كذا؟ فهذا يدل على أن العبد هذا مخذول، فالخير كل الخير في اتباع من سلف، والسلف لم يكونوا يعملون هذا، فالسلف ممسكون تماماً عن الكلام في القدر، فما الذي يمنعنا أن نمسك عن القدر، ونؤمن به خيره وشره! قال: والتعمق والنظر في ذلك -أي: في القدر- ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه -أي: عن خلقه-، ونهاهم عن مرامه -أي: عن مقاصده وغاياته- كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل الله كذا؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.

مذهب القدرية والمعتزلة في القدر والرد عليهم

مذهب القدرية والمعتزلة في القدر والرد عليهم وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، وهذا صحيح: أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر، ولكن الله تعالى كذلك شاء منه الكفر، ومعنى أن الله تعالى شاء من خلقه الإيمان: أنه أمر الخلق جميعاً بالإيمان، فقد شاءه منهم، ولكن الله تعالى أذن لبعض عباده بوقوع الكفر منهم، وشاءه منهم، وهذه مشيئة قدرية كونية لا شرعية دينية، وبيت القصيد هو التفصيل بين الاثنين، فالإيمان من مشيئة الله القدرية الكونية؛ لأن الإيمان وقع في الكون بقدره، والكفر وقع بمشيئته الكونية القدرية، بمعنى أن الله أذن بوقوعه في الكون وقدره. فالمعتزلة والقدرية قالوا: إن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فقالوا هذا القول لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من أشياء فوقعوا فيما هو شر منها، فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! ويلزم من قول المعتزلة والقدرية أن هناك مشيئتين: مشيئة الله، ومشيئة العبد، فالله عز وجل شاء الإيمان منه، وهو شاء الكفر من نفسه، ومشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا كفر، أي: أنه حينما أقول لك: إن الله أراد مني الطاعة، لكني أريد المعصية، فتتعارض إرادتي مع إرادة الله، فحينما وقعت مني المعصية هذا دليل على أن إرادتي ومشيئتي غلبت إرادة الله ومشيئته! وهذا كفر. إذاً فلا بد أن أقول: إن الله تعالى شاء الكفر، لكن ليست هي المشيئة الشرعية الدينية وإنما هي المشيئة القدرية الكونية.

مناظرة بين قدري ومجوسي في القدر

مناظرة بين قدري ومجوسي في القدر قال عمرو بن الهيثم: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله. أي: إذا أراد الله لي الإسلام سأُسلم، وهذا المجوسي يعلم أن الإسلام بقدر الله عز وجل. فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد، أي: أن الله يريد منك الإسلام، ولكن الشيطان لا يريد منك الإسلام، وانظر إلى هذا المجوسي فقد كان فقيهاً جداً فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي فأنا مع أقواهما!! وكأنه يقول له: تعارضت إرادة الله مع إرادة الشيطان، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله! فبقيت على مجوسيتي، فإذا كان الشيطان إرادته أقوى من إرادة الله، فالطبيعي جداً والعقلي أنني أكون مع القوي، وهو الشيطان! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فيستفاد من قول هذا المجوسي: أن إرادة الله أقوى من إرادة الشيطان؛ لأنه قال له: أسلم، قال: حتى يريد الله؛ لأنه يعلم أن الإيمان لا يكون إلا بإرادة الله.

أعرابي يغلب عمرو بن عبيد

أعرابي يغلب عمرو بن عبيد ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد -وهو رأس الاعتزال ورأس القدر، وكان أسوأ من بشر المريسي الذي ذكرنا ترجمته في الدرس الماضي- فقال الأعرابي: يا هؤلاء! إن ناقتي قد سُرقت، فادعوا الله أن يردها علي. فهو أتى إلى طلاب العلم لعل فيهم واحد تكون دعوته مقبولة ومستجابة، فقال لهم: فادعوا الله أن يرد ناقتي؛ لأنها سُرقت. أي: أن الله تعالى هو الذي أراد إرادة كونية قدرية أن تُسرق هذه الناقة. فقال له عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسُرقت، فأرددها عليه، أي: أن إرادة السارق أقوى من إرادة الله. فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك. وبعض المتكلمين وأئمة الاعتزال والفلسفة بعد أن حاروا في علم الكلام؛ كانوا في فراش الموت يوصون بكلمة واحدة: عليكم بدين العجائز، أي: الزموا العقيدة الصافية. فحينما تقعد عند جدتك وجدك تجد أن عندهما من التوكل على الله والثقة بالله ما ليس عندك. فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولِم؟ قال: أخاف أن يريد ردها فلا ترد. فالأعرابي غلب عمرو بن عبيد. وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له فله أن يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء. أي: أن الهدى له فهو يعطيه لمن يشاء، ويمنعه ممن يشاء، وإذا علم الله تعالى من العبد الخير واستحقاق الهدى لا يمنعه، وإذا علم الله تبارك وتعالى ميل عبده إلى المعصية، وحرصه عليها، فلِم يعطيه الهدى؟

مناظرة بين عبد الجبار المعتزلي وأبي إسحاق الإسفراييني في القدر

مناظرة بين عبد الجبار المعتزلي وأبي إسحاق الإسفراييني في القدر ودخل القاضي عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة على الصاحب بن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني المعروف بالأستاذ، وهو من أئمة السنة، فلما رأى عبد الجبار الأستاذ الإسفراييني قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. أي: عن الإذن للفواحش بالوقوع، فهو يريد أن يقول له: إن الفحشاء لا تقع بإذن الله. فقال له: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟ فقال الأستاذ: أيعصى ربنا قهراً؟ يعني: هل تقع المعصية في ملكه غصباً عنه؟ فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أساء؟ فقال الإسفراييني: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبُهت القاضي عبد الجبار، لكنه مع ذلك ظل أيضاً قائماً على اعتزاليته، ولم يستطع الرد.

الأدلة على عموم مشيئة الله تعالى وأنها الغالبة النافذة

الأدلة على عموم مشيئة الله تعالى وأنها الغالبة النافذة وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]. إذاً: فقد شاء الله تعالى الهداية لأهل الجنة، وشاء الضلال لأهل النار، وكل يقع بأمره، وقوله {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] أي: أن إرادته نفذت في أهل الضلال حتى أدخلهم النار، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. فالله تعالى أثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله، فلا يمكن أبداً أن يشاء العبد شيئاً إلا وقد سبق في مشيئة الله وإرادته، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، وهذه إرادة شرعية دينية؛ لأنه أراد له الهداية، فهداه وشرح صدره للإسلام، ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)) أي: أن الضلال يقع بإذنه ويقع بعلمه، والله تعالى كتبه أزلاً.

منشأ الضلال عند القدرية

منشأ الضلال عند القدرية ومنشأ الضلال عند القدرية والمعتزلة أنهم سووا بين المشيئة والإرادة من ناحية، وبين المحبة والرضا من ناحية أخرى، وقالوا: إن الله تعالى لا يفعل شيئاً، أو لا يأذن في شيء، أو لا يشاء شيئاً إلا إذا أحبه ورضيه، ولذلك تساوى الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، أي: أن كل ما يقع في الكون بقضائه وقدره، وهو محبوب مرضي لله، أي: أن المعاصي محبوبة لله عز وجل وإلا لم يأذن في وقوعها، ويلزم من قولهم: أن الله عز وجل يحب الزنا، وشرب الخمر، والقتل؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد وقدر، ولا تكون إرادته وقدره إلا متعلقاً بالمحبة والرضا. وسموا بالجبرية: لأنهم قالوا: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، والعبد لا علاقة له بالفعل؛ لأنه مجبور، أي: أن العبد كالحمار أو الجاموسة التي تسحبها من خطامها، ولا قدرة لها على الانفكاك، فقالوا: إن العبد يساق إلى المعاصي كما سيق إلى الطاعات، فهو مجبور على فعل الطاعات، ومجبور على فعل المعصية؛ فالله قد جبره على فعل ذلك، فالعبد ليس عليه ذنب، وليس عليه إثم. فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأنه مجبور، وهذا فساد، وأنا لا أقول هذا القول وأقرره، وإنما أرد عليه وأُبين عوار هذا المعتقد. وهناك نوع آخر من القدرية وهم نفاة القدر، ويقولون: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فالمعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، فليست مقدرة ولا مقضية، أي: أن الله لم يأذن في وقوعها، وإنما أذن في وقوعها العبد. وقال قوم: إن الله يحب المعاصي؛ لأنه أذن في وقوعها، وجبر العبد على ذلك، وهؤلاء هم الجبرية المثبتة، أي: الذين يثبتون الجبر، وهو أن العبد مجبور على فعله الطاعة والمعصية، وإذا كان مجبوراً فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأن الفاعل الحقيقي هو الله. ومع هذا إلا أن عندهم وجه حق وهو: أن كل شيء من عند الله، أي أن الله تعالى أذن في وجوده وخلقه، لكنهم يقولون: إن العبد مجبور على ذلك، فلا ثواب له على طاعة، ولا عقاب عليه على معصية. والجبرية النفاة قالوا: إن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، وهذا الكلام صحيح، لكن الغلط في قولهم: إنها ليست مقدرة ولا مقضية، أي: أنها وقعت في الكون بغير قضاء الله وقدره، ولكن بقضاء العبد، وهذه المصيبة السوداء التي نريد أن نعالجها. وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة، بل والفطرة الصحيحة، فنصوص الكتاب في المشيئة والإرادة مثل قوله تعالى في المحبة والرضا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]. لكن الفساد واقع بإذن الله، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وجوده وفي خلقه في الكون، وكذلك الكفر، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، أي: أن الله يكره هذه الأفعال كلها، وفي الصحيح: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). إذاً: فالله يكره هذه الأشياء، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)،وغير هذا من الكلام الجميل المتين الذي تكلم فيه أهل العلم، ولولا الإطالة لذكرت بقية كلامهم.

معنى حديث: (والشر ليس إليك)

معنى حديث: (والشر ليس إليك) والشيخ ابن عثيمين قال في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً جميلاً يبين فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه وهو يثني على ربه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك). ظاهر النص: أن الشر غير مقدر لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لم يأذن فيه، والكلام هذا مردود عليه، قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وإذنه في وقوع الأشياء، وأما المقدور فهو اسم مفعول بمعنى فاعل؛ لأن المفعول والمقدور هو الفعل الذي يأتيه العبد، فالقتل فعل العبد، ولكنه وقع بقدر الله، ومقدور لله، بمعنى أنه مخلوق لله عز وجل، ولكن هو شر. قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في الحديث، وكما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]. أي: أن الله كتب كل ما كان، وما يكون في السماوات والأرضين {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]. وقوله: (نؤمن بالقدر خيره وشره)، أما وصف القدر بالخير فلا إشكال فيه، أي: أن الطاعات كلها وقعت بقدر الله، وأما وصف القدر بالشر فالمراد به شر المقدور لا شر القدر؛ لأن القدر هو فعل الله عز وجل، وأما المقدور هو فعل العبد الذي أذن الله في وقوعه. أي: أن فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، فكل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته التي وقعت بكسب العبد وبقدر الله عز وجل. فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، وأما باعتبار الفعل فلا؛ لأن الفعل هو فعل الله عز وجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك). أي ليس إليك من جهة المقدور، وإنما هو من جهة القدر فقط، ففي المخلوقات المقدورات شر، ففيها الحيات والعقارب والسباع، والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، فأنت حينما ترى ثعباناً فإنه شر؛ لأنك لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور، والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، أي باعتبار أن الله تعالى أذن في وقوعها، وقدرها أن تقع في الكون فهي خير؛ لأن الشر المحض لا يُنسب إلى الله عز وجل. قال: لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها. وعلى هذا يجب أن نعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات التي يأتيها العبد، لا باعتبار التقدير الذي قدره الله عز وجل وفعله. ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، كما قال تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ))، وهذا الفساد بقدر، وهو من أفعال العباد؛ لأنه فساد، والله تعالى يُنسب إليه الشر على جهة القدر لا على جهة المقدور. قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] أي: أن الفساد حينما يظهر على أيديهم يُعذّبهم المولى عز وجل؛ لعلهم يستيقظوا بعد هذا، وإذا استيقظوا رجعوا إلى الله، وتابوا وأنابوا إليه. إذاً: فهذا هو وجه الفساد الذي فيه خير، وبما أن النتيجة طيبة فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً. فمثلاً حد الزاني، إذا كان الزاني غير محصن - أي: غير متزوج - فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرب عاماً، وهذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، كما لو ربطنا شخصاً في الصحراء وضربناه، فهذا بالنسبه له شر. لكن لو أن العقوبة هذه تمت في التلفزيون على الهواء مباشرة، والأمة كلها تفرجت عليه، فإنه لا يتصور أن واحداً يفكر في الجريمة مرة أخرى، ولو فكر فيها فإنه سيراجع نفسه مليون مرة. إذاً: فهذا بالرغم من أنه بالنسبة له هو شر، إلا أن فيه خيراً عظيماً لمجموع الأمة، بل وفيه خير له أيضاً، لأنه لن يفكر فيها مرة أخرى. إذاً: فالفساد هذا في طياته خير، فنسبته إلى الله عز وجل من هذه الحيثية نسبة مشروعة، ولذلك يقولون: إن الفساد والشر والمعاصي تقع في الأرض بقدر الله عز وجل؛ لحكمة علمها الله عز وجل، أو علمها من علمها وجهلها من جهلها. وأما بالنسبة للأمور الكونية القدرية فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً كالمرض، فالإنسان إذا مرض فلا شك أن المرض بالنسبة له شر، لكن فيه خير بالنسبة للواقع، وخيره تكفير الذنوب، فالمرض من هذه الحيثية خير وإن بدا لك أنه شر، ورغم أنه شر لكنه وقع بإذن الله. فالذي لا بد أن نعلمه جميعاً أن الخير والشر بقدر الله عز وجل، وفي الدرس الماضي تحدثنا أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأذن في بقائه وحياته إلى قيام الساعة، وعلم ما سيكون عليه إبليس، ومع هذا خلقه لحكمة عظ

الأدلة على أن الله خالق الخير والشر

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الأدلة على أن الله خالق الخير والشر إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء؛ ومن ذلك أفعال العباد، فالله خالق الخير والشر، ولا يقع في ملكه إلا ما أراد وشاء، وقد ذكر الله تعالى أدلة كثيرة على أنه خالق الخير والشر، وقد فسرها وبينها العلماء أحسن تفسير وأعظم بيان.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: لا زال الكلام موصولاً عن إجابة السؤال الذي يحير العقول: هل الله تعالى خالق للخير والشر أم لا؟ وعرفنا في الدرس الماضي أن الله تعالى خالق لهما جميعاً، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد وشاء. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فمعناه: أن الشر المحض الذي لا خير فيه ليس إليك، وقد عرفنا في الدرس الماضي أن معظم الشر يبدو للناس أنه لا خير فيه، وفيه الخير كل الخير، وضربنا لذلك مثلاً بمن زنى وأُقيم عليه الحد، فالحد بالنسبة له في الظاهر شر مع أنه بالنسبة له خير؛ لأنه طهرة له، والله لا يحاسبه على ذنبه يوم القيامة؛ لأن من أقيم عليه الحد فهو كفارته، كما أنه فيه خير عام لجميع أبناء الأمة؛ لئلا يقعوا في مثل ما وقع فيه.

الأدلة على إثبات أن الله خالق للخير والشر

الأدلة على إثبات أن الله خالق للخير والشر

ذكر ما روي في تفسير قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)

ذكر ما روي في تفسير قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) فالله عز وجل هو الخالق الواجد للخير والشر؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما أراد وشاء، وأما العبد فهو المكتسب لفعل الشر، وهو كذلك المكتسب لفعل الخير، والله عز وجل يتمنن على عباده أحياناً بالخير والفضل والثواب دون عمل ودون سبب، ويتمنن عليهم بالخير والفضل والثواب بسبب العمل. وهنا سيذكر الأدلة في إثبات وبيان أن الله تعالى خالق للخير والشر جميعاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في تفسير قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:8]. قال أبو الأسود الدؤلي: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت به الحجة عليهم؟ قال: قلت: بل شيء مضى عليهم -أي: شيء مكتوب أزلاً- قال: فهل ذلك ظلم؟ -أي: فهل ذلك المكتوب الذي كتبه الله تعالى ظلم وعدوان على العبد؟ - ففزعت منه فزعاً شديداً فقلت له: ليس شيء إلا خلقه وملك يده، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. قال: سددك الله! إنما سألتك لأحزر عقلك -أي: لأختبر ذكاءك- إن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وأقيمت عليهم الحجة في دينهم؟ فقال: بل في شيء مضى عليهم، قال: ففيم العمل؟ -أي: لم نعمل إذاً إذا كان كل شيء مكتوب أزلاً؟ - قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين -أي: للجنة أو النار- يهيئه لها، تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8])]. أي: فجبلها على الطاعة أو جبلها على المعصية بعلمه السابق الأزلي أن هذا العبد إنما يختار طريق الطاعة، أو يختار طريق المعصية، وإلا فالله عز وجل قادر على أن يجعل العباد جميعاً على قلب أتقى رجل واحد، وقادر كذلك على أن يجعلهم جميعاً على قلب أفجر رجل واحد، ولو شاء الله عز وجل لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لأضلهم جميعاً، لكن هذا على غير مقتضى الحكمة من الخلق، والله تبارك وتعالى موصوف بالحكمة ومتسم بها، فلو خلق الله جميع الناس كلهم مؤمنين؛ فمن ذا الذي يعرف الكفر أو الشرك؟ وما فائدة خلق النار هنا؟ قال: [وعن الحسن في هذه الآية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:8 - 10]]. في الحقيقة هذه الآية محل نزاع في عود الضمير فيها: هل يعود على الله عز وجل، أو يعود على صاحب النفس في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] أي: قد أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، وقد خابت نفس دساها الله عز وجل، هذا معنى، وهو الراجح، وهو مذهب جماهير المفسرين. والمعنى الثاني: أن ذلك دعاء لصاحب النفس وعلى صاحبها بأنه هو الذي زكاها، وهو الذي دساها زكاها بالطاعة، ودساها بالمعصية، فيكون التقدير، قد أفلح عبد زكى نفسه، وقد خاب عبد دس نفسه بالمعصية. [وعن الحسن قال: قد أفلحت نفس اتقاها الله عز وجل، وقد خابت نفس أغواها الله عز وجل]. إذاً: فالله تبارك وتعالى هو واهب التقوى، وهو باعث الضلال والشقاء، بمعنى أنه هو الذي أذن في وجوده وخلقه، وترتب في العبد لعلم الله تعالى الأزلي أن هذا العبد سيختار طريق التقوى أو طريق المعصية. فحينما علم الله عز وجل من عبده سلفاً وأزلاً أنه يختار طريق الطاعة حتى يموت عليها؛ أذن له في دخول الجنة، وجعله من قسمها، وحينما علم أن عبده الآخر لا يقبل الطاعة، وإنما يقيم على المعصية ويميل إليها، ويعملها ولا يتوب منها؛ جعله من قسم النار وهيأه لهذا العمل، وإلا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب؟ والله عز وجل أخذ الميثاق الأول على بني آدم حينما أخرجهم جميعاً من صلب آدم: أن يكونوا موحدين لا مشركين، وأقروا بذلك، فالله عز وجل أرسل بعد ذلك الرسل والأنبياء ليذكروا العباد فقط بذلك الميثاق الغليظ، وهو أعظم ميثاق على الإطلاق، ألا وهو ميثاق الإيمان والتوحيد. قال: [وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دس الله نفسه]. وهذا يدل على أن التزكية والطهارة والنقاء والتقوى من الله، كما أن الدس والضلال والحيرة والتيه من الله عز وجل. إذاً: فيكون الله تعالى هو الخالق للخير والشر.

ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين)

ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين) وقال في تفسير قول الله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]. ((وَهَدَيْنَاهُ)) الضمير يعود على المهدي، وأما الهادي فهو الله عز وجل؛ لأنه هو الذي هدى. قال: [وعن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال: الخير والشر]. أي: هديناه لعمل الخير، وهديناه لعمل الشر. قال: [ومن طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال: الخير والشر. وعن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال: نجد الخير ونجد الشر]. أي: طريق الخير، وطريق الشر.

ما ورد في تفسير قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون)

ما ورد في تفسير قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) قال: [وعن مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]-في قصة إبليس والملائكة في سورة البقرة- علم الله تعالى من إبليس المعصية وخلقه لها]. أي: علم منه أنه سيكون عاصياً، ومع هذا خلقه لها، إذاً: فالله هو الذي خلق إبليس، مع أنه أس الفساد والمعصية، ومع ذلك فإن الله تعالى خلقه وأوجده.

ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة)

ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة) قال: [وعن علي بن أبي طلحة في قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:30] أي: كتب عليهم الضلالة، فالله عز وجل هو الذي هدى فريقاً، وهو الذي أضل فريقاً آخر. قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29 - 30] قال: إن الله سبحانه بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً -أي: خلقهم على الإيمان والكفر فريق آمن وفريق كفر- ثم قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم على صنفين: مؤمن وكافر].

ما روي في تفسير قوله تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه)

ما روي في تفسير قوله تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه) وفي قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]. [قال ابن عباس: يعني: من كان كافراً ضالاً فهديناه] لأن الكافر كالميت تماماً، فقلبه ميت، ومن مات قلبه فلا خير فيه. {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] يعني بهذا النور القرآن، وذلك من صدق به وعمل به، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] والظلمات هي الكفر والضلالة {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]. وفي قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]. ((مِنْ)) هنا بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله. [قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)) أي: الملائكة {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، فإذا جاء القدر المعلوم والمكتوب أزلاً تخلوا عنه؛ لينفذ القدر أو المكتوب].

ما روي في تفسير قوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه)

ما روي في تفسير قوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه) وفي قوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]. [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية: يحول بين المرء والكفر، حتى لو أراد المرء أن يكون كافراً، وأن يخرج من الإيمان لا يستطيع إلا أن يكون ذلك مأذوناً فيه، مقدراً عليه أزلاً. فمسألة أن يختار الواحد منا الإيمان أو يختار الكفر مسألة كلها بيد الله عز وجل، وهذا الكلام يخوف جداً ويرعب، لأن المرء ربما يعمل عملاً صالحاً ولكن يُختم له بعمل أهل النار، فيكون من أهلها، وربما يكون العكس، ففائدة الإيمان بالقدر في هذه المسألة بالذات أن المرء يتعلق قلبه في الليل والنهار بخالقه وبارئه أن يثبته على الإيمان. ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أفضل الخلق على الإطلاق-: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك) مع أن المتصور في حقه عليه الصلاة والسلام أنه لم يأت بمعصية أو بكبيرة من الكبائر فضلاً أن يتحول في إيمانه، أو يتحول قلبه، ومع هذا كان دائماً معلقاً بالله عز وجل أن يثبته على الإيمان، وأن يصرف قلبه دائماً إلى طاعته سبحانه وتعالى. فالحيلولة بين المرء وبين قلبه يملكها الله عز وجل، فربما يفعل المرء طاعة ثم يعقبها بمعصية، والعكس بالعكس. [قال ابن عباس: يحول بين المرء والكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله]. وفرعون عليه لعنة الله حينما غرق في البحر قال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، فمنعه كبره أن يقول: آمنت بالله، أو آمنت برب موسى وهارون، أو أن ينطق بلفظ الرب؛ لأنه يعتقد في قلبه أنه هو الرب وهو الإله، فحرمه الله عز وجل من إطلاق هذا اللفظ أو من النطق به. ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام كان يضع الطين في فم فرعون؛ حتى لا ينطق بكلمة التوحيد، والذي أمر جبريل بذلك هو الله عز وجل، وهذا أمر رهيب جداً تفزع منه القلوب، وكذلك بالإمكان أن يكون هذا المصير مآل كل مخلوق على وجه الأرض، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإذا كان الأمر كذلك، وأن الخير والشر بيد الله عز وجل؛ فهذا أمر يستدعي من المرء أن يكون دائماً على صلة واتصال بالله عز وجل في الليل والنهار.

ما روي في تفسير قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم)

ما روي في تفسير قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم) وفي قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]. قال: [قال ابن عباس: فريقين] أي: أن الله تعالى خلق الناس فريقين. فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم فيختلف، فمنهم شقي وسعيد. قال: [وقال الحسن في هذه الآية: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك فهم غير مختلفين. فقال له منصور بن عبد الرحمن وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119]. قال: خلق هؤلاء -أي: الذين لا يختلفون- لجنته، وخلق الذين يختلفون للنار]، فخلق هؤلاء لرحمته، وهؤلاء لعذابه. [وقال أشهب: سألت مالكاً عن قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]؟ قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة، وفريق في النار].

إثبات مشيئة الله تعالى للشر كونا والرد على المشركين والقدرية

إثبات مشيئة الله تعالى للشر كوناً والرد على المشركين والقدرية وقوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] يحتج به المشركون يوم القيامة على أنهم لم يكونوا يعرفون، فقالوا: وجدنا آباءنا مشركين فأشركنا معهم، ولو شاء الله لهدانا ولكنه لم يهدنا. ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) أي: لو أن الله أراد أن يهدينا لهدانا {وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] وكذلك آباؤنا لم يشركوا، ولكن الله كتب عليهم الشرك، وكتبه علينا من بعدهم. وكذلك قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]. قال: [قال ابن عباس في قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]: وكذلك كذب الذين من قبلهم، ثم قالوا: لو شاء الله ما أشركوا، فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زلفى، فأخبر الله أنها لا تقربهم، قال تعالى: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107]. يقول جل ثناؤه: ولو شئت لجمعتهم على الهدى. وعن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول: الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] حتى بلغ إلى قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. قال ابن عباس: والعجز والكيس بقدر]. أي: حتى العجز والكيس والحركة والسكون كل ذلك بقدر، فأولى أن يكون الإيمان والكفر بقدر، وأن تكون الطاعة والمعصية بقدر كذلك. وفي قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ)) والذي شاء هنا هو العبد. قال: [قال ابن عباس يقول الله تعالى: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له أن يكفر كفر، وهو قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]]. إذاً تفسير هذه الآية: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر، ولكن الله تبارك وتعالى علم أزلاً أن هذا العبد سيختار الشرك على الإيمان، فمهده ويسره له، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) فهذا العبد خُلق للإيمان، والله تبارك وتعالى يسر له الإيمان، وهذا العبد خُلق للشر، فمال إليه واختاره على الإيمان، فيسره الله عز وجل له.

معنى قوله تعالى: (أم على قلوب أقفالها)

معنى قوله تعالى: (أم على قلوب أقفالها) وفي قوله تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. ورد نص هنا وإن كان في سنده ضعف إلا أنه جميل جداً، وهو يؤدي المعنى الذي هو معتقد أهل السنة والجماعة. فعن سهل بن سعد قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وغلام جالس عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: بلى والله يا رسول الله! إن عليها لأقفالها، ولا يفتحها إلا الذي أغلقها). معنى ذلك أن فتح القلوب وإغلاقها بيد الله عز وجل. (فلما ولي عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله) أي: أنه طلب هذا الغلام ليجعله عاملاً على إحدى الولايات؛ لما رأى من رجاحة عقله وثقيب سهمه لآيات القدر، وقال: (لم يقل ذلك إلا من عقل) أي: صاحب عقل راجح.

معنى قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)

معنى قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]. [قال مجاهد في هذه الآية: أي: في أم الكتاب]. وقد قلنا: إن الكتاب كتابان: كتاب يقبل المحو والإثبات، وهو الكتاب الذي بيد الملائكة، وكتاب لا يقبل المحو والإثبات وهو اللوح المحفوظ.

معنى قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)

معنى قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) وقال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. [وعن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: الشقاء والسعادة والموت لا تقبل المحو ولا الإثبات]. لأن الله تعالى علم من عبده أنه سيختار طريق السعادة أو سيختار طريق الشقاء، وعلم أنه سيولد هذا العبد في لحظة كذا، ويموت في لحظة كذا. [وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] قال: إن الله عز وجل في ليلة القدر يمحو ما يشاء من المقادير والآجال والأرزاق، إلا الشقاوة والسعادة فإنهما ثابتان].

معنى قوله تعالى: (ما أصابك من مصيبة فمن الله)

معنى قوله تعالى: (ما أصابك من مصيبة فمن الله) وفي قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) أي: بفضل الله عز وجل عليك، فهو سبحانه يمن به عليك إما بسبب أو بغير سبب، ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) أي: من جراء عملك وميلك إلى الشر، وإن كان الله تعالى هو الذي أذن في إيجادها. وهناك مناظرة وقعت بين عبد الجبار المعتزلي وسني، فحينما دخل عليه رجل من أهل السنة قال: الحمد لله الذي تنزه عن الفحشاء. فرد عليه السني قائلاً: الحمد لله الذي لا يكون في ملكه إلا ما يشاء. أي: من خير وشر حتى الفحشاء، فيكون ذلك في ملكه بإرادته وإذنه وخلقه وإيجاده.

معنى قوله تعالى: (قل كل من عند الله)

معنى قوله تعالى: (قل كل من عند الله) [قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78]، قال ابن عباس: أي: أن الخير والشر من الله عز وجل]. أي: أن الحسنة والسيئة من عند الله، فأما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. وليس من اللازم أن تكون السيئة عقوبة من الله عز وجل، فربما تكون السيئة منحة من الله عز وجل لك ليرفع بها درجاتك، أو يكفر بها سيئاتك، فالمرض بلية من البلايا، وهو شر في نظر العبد، ولكن الله عز وجل يبتلي العبد بالمرض حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد ليبتلى حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)، وحتى الأنبياء، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أشد الناس بلاء الأنبياء)، ولم يكن ذلك لمعصية عملوها، ولكن ليرفع الله عز وجل بها الدرجات، وأما في حق بقية العباد فإنه يرفع بها الدرجات، أو يحط عنهم السيئات. فإما أن تكون منحة ومكافأة من الله عز وجل لمحو الخطايا والذنوب، وإما أن تكون منحة لرفع الدرجات. [قال ابن عباس: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها]. [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. قال: هو يوم أحد -أي: أن هذا خطاب موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام يتعلق بما وقع على المسلمين من بلاء في يوم أحد- ما فتحت لك من خير فمني، وما كانت من بلية فبذنبك]. أي: أن الله عز وجل هو الذي فتح عليك أبواب الخير، وأما ما وقع عليكم من بلاء فبذنبك [وأنا قدرت ذلك عليك] أي أنا أعلمه أزلاً وكتبته في القدر أنه سيقع وسيكون بسبب معصية، وبسبب ذنب، وإن لم يكن هو المذنب عليه الصلاة والسلام، فبعض أصحابه هم الذين خالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام، ونزلوا لجمع الغنائم؛ ظناً منهم أن الحرب قد وضعت أوزارها، ولم تضع الحرب أوزارها بعد، بل استدار خالد بن الوليد رضي الله عنه -وكان في ذلك الوقت مشركاً، وكان على رأس جيش قريش- وصعد الجبل وكان ما كان في أواخر هذه المعركة. فالذي وقع من بلاء على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه في يوم أحد إنما كان في آخر الغزوة بعد مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام، وأما قبل مخالفة الأمر فقد كان نصراً مبيناً. [وعن: أبي صالح في هذه الآية قال: بذنبك، وأنا قدرتها عليك]. أي أنا قد كتبت عليك في اللوح المحفوظ أن هذا سيكون، فهو واقع لا محالة. [وعن طاوس عن أبيه: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، وأنا قدرتها عليك].

معنى قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق) وقوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)

معنى قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق) وقوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) وفي قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68]، أي: لولا مكتوب كُتب عليك من الله في الأزل {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، وقوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37]. [قال سعيد بن جبير في قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68]، قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة. وفي قوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37]. قال: ما سبق لهم من السعادة. وفي قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]. قال: كما كتب عليكم تكونون، فما كتب الله تعالى عليكم من السعادة والشقاوة يكون عليكم لا محالة].

معنى قوله تعالى: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين)

معنى قوله تعالى: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) وفي قوله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]. قال: [قال حميد: قرأت القرآن كله على الحسن البصري من قبل أن يموت بسنة واحدة، وكان يفسر القرآن على الإثبات، فسألته عن قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]؟ قال: كذلك سلكنا الشرك في قلوب المجرمين]. أي: حينما علم الله عز وجل منهم أزلاً إجرامهم وإعراضهم وجحودهم؛ جعل للشرك طريقاً يتمكن في قلوبهم، فالذي خلق الشرك والمعاصي هو الله عز وجل، ولكن الله تعالى ما كتبه على عباده ظلماً، فهو العدل سبحانه وتعالى، ولكن حينما علم الله عز وجل أزلاً أن هذا العبد سيُعرض عن الرسل، ويجحد النبوات والآيات؛ جعله أهلاً للشرك، فسلك إلى قلبه طريقاً يتمكن الشرك منه. وقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43]. قال: [عن ابن عباس في هذه الآية قال: هم الكفار؛ كان يُدعون في الدنيا وهم آمنون]. إذاً فسالمون بمعنى آمنون، فقد كانوا يُدعون في الدنيا إلى السجود وإلى الطاعة والصلاة وهم آمنون، [فاليوم يدعوهم وهم خائفون] أي: فاليوم يدعوهم إلى السجود وهم خائفون. ثم أخبر الله سبحانه أنه قد حال بين أهل الشرك وبين أهل طاعته في الدنيا والآخرة، فحينما علم منهم ميلهم إلى الشرك حال بينهم وبين الإيمان، أي: جعل هناك سداً بينهم وبين قبول الإيمان. قال: [وأما في الآخرة فإنه قال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:42 - 43]].

معنى قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين)

معنى قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين) وفي قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7]. سجين: هو أسفل سافلين، وعليين: أعلى عليين، فكتاب أهل الإيمان في أعلى عليين، وكتاب الفجار في سجين. قال: [قال خصيف: سأل مجاهد بن جبر المكي محمد بن كعب القرظي وأنا معه عن قوله تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7]-أي: ما معنى هذه الآية؟ - قال محمد: رقم الله عز وجل كتاب الفجار في أسفل الأرض، فهم عاملون بما قد رُقم عليهم في ذلك الكتاب]. أي: قدر عليهم أن يكونوا في أسفل سافلين، ولا يعملوا إلا بمعصية الله عز وجل، وهذا بعلمه الأزلي أنهم يختارون المعصية على الطاعة. قال: [ورقم كتاب الأبرار فجعله في عليين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا بما قد رُقم عليهم في ذلك الكتاب].

الإعجاز في قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)

الإعجاز في قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) وقول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]. فيه إعجاز رهيب، ثم أكد هذا التب والخسارة والحسرة والندامة بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وقد قدر الله تعالى سلفاً وأزلاً، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ وعلى أبي لهب؛ لعلمه بجحوده وإنكاره للنبوة، ومحاربته للرسالة والرسول عليه الصلاة والسلام، وقد كان بإمكان أبي لهب أن يُحرج هذه الآية، ويقول: ربك يا محمد يقول في كتابه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وأنا قد آمنت، فمن الذي حال بين أبي لهب وبين الدخول في الإيمان؟ إن الله عز وجل لم يحل بينه وبين الإيمان ظلماً وعدواناً، لكن لعلمه الأزلي أنه لا يقبل الإيمان، ولو كان الأمر متعلقاً بمشيئة العبد لكان بإمكان أبي لهب أن يكذب هذه الآية ويقول: أنا آمنت، مع أنه ما استطاع أن يقولها ولو نفاقاً، وهذه آية تدلك دلالة يقينية على أن كل شيء يقع في الوجود فإن الله عز وجل يعلمه ويكتبه، وقد أذن في وقوعه وخلقه وإيجاده؛ وإن كان المكتسب من الفعل هو العبد.

معنى قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وأنت فيهم)

معنى قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وأنت فيهم) قال: [وفي قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]]. الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] فهذه الآية عظيمة جداً، أي: ما كان الله تعالى ليعذبهم يا محمد وأنت باق فيهم لمهمة قيام الحجة عليهم؛ لأن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا إذا بلغته الحجة، فما دام النبي عليه الصلاة والسلام قائم بحجة الله في خلقه فمن العدل أن الله تعالى لا يعذب أحداً لم تبلغه الحجة. ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] الاستغفار هنا بمعنى الإيمان، أي: وما كان الله معذبهم وهم مؤمنون، وإنما يعذب أهل الشرك. ويقول للكافر: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، والطيب يكون على غير ما عليه الكافر، ولا بد من الابتلاء، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والفتنة هي التي تنقي المعادن الطيبة، وتميزها عن المعادن الخبيثة، فإذا وقعت الفتنة ظهر فيها من كان صادقاً في ادعائه للإيمان ومن كان كاذباً في هذا الادعاء. قال: [فميز أهل السعادة من أهل الشقاء]. وقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال:34] أي: عذب الله أهل الشرك بالسيف يوم بدر، كما عذب أهل الإيمان بالسيف كذلك، لكنهم ثبتوا فتميز صف الموحدين في جانب النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وتميز صف أهل الخبث والجحود والشرك في جانب قريش.

معنى قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا)

معنى قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً) قال: [وفي قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]. عن مجاهد قال: فأعشيناهم عن الحق]. {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ} [يس:9] أي: فقد عموا تماماً (فهم لا يبصرون) الحق؛ لأن الله تعالى حال بينهم وبين الحق بسد رباني منيع لم يروا من خلاله الحق؛ لأنهم أحبوا الباطل ومالوا إليه وألفوه وقبلوه.

معنى قوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة)

معنى قوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة) قال: [وعن مجاهد في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25] قال: كالجعبة التي يوضع فيها السهام جعلها الله عز وجل على قلوبهم]. أي: غلفت قلوبهم فكان عليها شيء كالران الذي لا يرى معه صاحبه خيراً ولا شراً، فلا يميز بين الحق والباطل؛ لأن قلبه أسود مرباد لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.

معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)

معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: [وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]] هذه هي آية الميثاق الغليظ، فحينما خلق الله عز وجل آدم مسح سبحانه وتعالى بيده على ظهر آدم، فأخرج كل نسمة كاملة من نسل آدم إلى قيام الساعة، أخرجهم كالذر، وخاطبهم المولى عز وجل بخطاب قد علموه وعقلوه وفهموه. ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ)) أي: من ظهر آدم، ((ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) أنا ربكم أم لا؟ ((قَالُوا بَلَى)) أي: أنت ربنا. قال: [قال عمر بن الخطاب حينما سُئل عن هذه الآية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها؟ فقال: (إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه واستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، وخلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون)]. فأنت حينما تنظر في هذا النص تقول: هذا ظلم؛ فالناس لم يُخلقوا بعد! ومع ذلك فربنا سبحانه وتعالى كتب عليهم أنهم من أهل النار، لماذا لم ينتظر حتى يعملوا؟! ف A أن الله عز وجل سلفاً وأزلاً قد علم ما هم عاملون، فعلم منهم أنهم سيعملون الشر ويعملون الكفر، وعلم من هؤلاء أنهم سيعملون الإيمان ويعملون الطاعات، فحينما علم من هؤلاء الشرك جعلهم من قسم النار، وحينما علم من هؤلاء الإيمان جعلهم من قسم الجنة. إذاً: فالمسألة كلها مبنية على علم الله الأزلي، فالذي ينكر علم الله الأزلي لا بد أنه ينسب الظلم لله، فغلاة القدرية حينما نفوا علم الله الأزلي أنكروا مثل هذه الأحاديث، ولكن الله تبارك وتعالى هو العليم القدير اللطيف، وهو الحكم العدل، وما كان ليظلم عباده قط؛ لأنه المتصف بكمال العدل والحكمة، فلما علم أزلاً بما هؤلاء عاملون، وما هم إليه صائرون؛ كتب لهم الجزاء، وكذلك فعل مع القسم الثاني

الشقاوة والسعادة بيد الله

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الشقاوة والسعادة بيد الله الخير والشر، والهداية والإضلال، والسعادة والشقاوة بيد الله عز وجل وفي علمه الأزلي القديم، والله عز وجل يقسم ذلك بين عباده بعدله وحكمته، فالعبد بعد توفير سبل الهداية له يختار إما طريق الخير أو طريق الشر. هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، بخلاف المبتدعة من الجبرية القائلين بأن العبد مسلوب الإرادة، والقدرية القائلين بأن الله لا علاقة له بأفعال العباد.

الأدلة على أن الهداية والإضلال بيد الله

الأدلة على أن الهداية والإضلال بيد الله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وبعد: فما زال الكلام موصولاً حول مسألة مهمة من مسائل القدر وهي: (الشقاوة والسعادة) و (الكفر والإيمان)، و (الهداية والإضلال) بيد الله عز وجل. وهذا لا يعني أن الله عز وجل يقسم هدايته ورضوانه على عباده بغير عدل ولا حكمة، والذي يعنيه هذا في الدرجة الأولى: أن الله تعالى أضل من سبق في علمه أنه يضل، وهدى من سبق في علمه أنه يقبل الهدى، لا أن الله تعالى فرض عليه الضلال، وإنما علم الله عز وجل سلفاً وأزلاً أن هذا العبد رغم إتاحة جميع سبل الهداية له إلا أنه يختار طريق الضلال والشقاء فكتبه عليه، وليس في ذلك من ظلم، وهذا معنى قول سلفنا: إن الله تعالى يملك الإضلال والهداية، الخير والشر، السعادة والشقاء. إذاً: عندنا الآن مسألتان: الأولى: أن الهداية والإضلال بيد الله عز وجل. المسألة الثانية: أنه سبق في علم الله الأزلي أن هذا العبد رغم إتاحة جميع سبل الهداية له إلا أنه يختار السعادة أو الشقاء، فلما علم الله ذلك من عبده أزلاً كتبه عليه، والأدلة على ذلك سبق بعضها في الدرس الماضي، وبقية الأدلة في هذا الدرس.

حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)

حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على هذه الفطرة)]. وهي فطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله عز وجل على العباد لما أخرجهم كالذر من صلب أبيهم آدم وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]. قال: [(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)] أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (ويشركانه أو ويشرِّكانه). أي: يجعلانه مشركاً. [(كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)]. يعني: لو أن البهيمة التي اجتمع جميع أعضائها لا عيب فيها ولا نقص فهي جمعاء؛ والجمعاء تلد جمعاء، ولذلك لما أخذ الله تعالى الميثاق الأول على ذرية آدم فلاشك أن كل واحد منهم يولد على هذه الفطرة الأولى، ولكن التغيير والتبديل إنما يطرأ عليه بسبب التربية، وبسبب المجتمعات التي يتربى فيها، وبسبب عوامل أخرى خارجية، أما أصل خلقه فإنه يخلق وقد اجتمعت فيه خصال الخير وفطرة الإسلام. قال: [ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]]. (فِطْرَةَ اللَّهِ) أي: سنة الله التي خلق الناس عليها أولاً وهي: التوحيد. [قال الأوزاعي: وذلك بقضاء وقدر]. يعني: هذا التبديل وهذا التنصير والتهويد والإشراك إنما كله بقضاء وقدر. وقال الأوزاعي: [لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون]. لأنه في الحديث: (يولد المولود على الفطرة، فأبواه يهودانه). يعني: ربنا يعلم أن الأبوين سيهودان المولود، فالله يعلم ذلك، وبتهويدهما لولدهما لم يخرجا هذا الولد من علم الله، وإنما الله تعالى علم ذلك أزلاً، ولذلك قال الأوزاعي لا يخرجانه -أي: الأبوين- يخرجانه من علم الله؛ لأن الله علم أزلاً أن أبويه سيهودانه، وأنه إذا عقل التهويد وخالف فطرته التي فطره الله عليها كتبه عليه. قال: لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما ينتجون بالبهيمة بهيمة، فهل ترون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟)]. يعني: البهيمة تولد كاملة الأعضاء، ولكن يتدخل صاحبها بقطع جزء منها، ووسمها في أذنها أو وجهها، وغير ذلك من التشوهات والتغيير والتبديل الذي يطرأ عليها، فإنما ذلك يكون بتدخل صاحبها [(قالوا: يا رسول الله، أفرأيت وهو يموت وهو صغير؟)] يعني: أفرأيت إن مات هذا الغلام وهو صغير فما حكمه؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)]. قيمة هذا الكلام: أن كل شيء بعلم الله السابق في الأزل، ولو نفترض فرضاً: لو أن الطفل الصغير وهو من أبناء المشركين مات في صغره فالله عز وجل أعلم بما لو كان عاش وبلغ ماذا سيكون، يعلم ذلك، ولذلك الجواب هنا يقول: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)]، أي: لو عاشوا وبلغوا مبلغ الرجال، فالله عز وجل يعلم ماذا كانوا يصنعون، وما سيصيرون إليه شقاء أم سعادة، هداية أم ضلال، يقبلون الهدى أو يقبلون الضلال، يعلم ذلك منهم، ولذلك أوكل النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم إلى الله عز وجل؛ لأنه العليم سبحانه وتعالى. قال: [عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفوراً)]. وهذا الحديث فيه ضعف إلا أنه يشهد له بقية الأدلة. قال: [عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث: - (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) - فقال مالك: احتج عليهم بآخره]. أهل القدر يقولون: الغلام لا علاقة له بالتهويد ولا التنصير ولا المجوسية، لأن هذا فرض عليه فرضاً من قبل أبويه، أو أن الغلام ينشأ مؤمناً في بيت مؤمن لا يختار هذا الإيمان، فيكون الإيمان وكذلك الشقاء واختيار ما يضاد أحدهما قصد للعبد به؛ لأنه إما أن يخلق مؤمناً على فطرته الأولى في بيت مؤمن فهو لا يكون بذلك قد اختار الإيمان، وإما أن يفرض عليه التبديل والتغيير عن طريق والديه وهو صغير وبالتالي لا علاقة له بهذا. فقالوا لـ مالك: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث؟ قال مالك: احتج عليهم بآخره. إذا كانوا يعتمدون صدر الحديث وأوله، وأن الشقاء ليس للعبد فيه دخل وأن ذلك جبر عليه وقهر بدون اختيار له، فاحتج عليهم بآخر الحديث: (الله أعلم بما كانوا عاملين). وعمل العبد بعد بلو

قوله تعالى حاكيا عن إبليس: (فبما أغويتني)

قوله تعالى حاكياً عن إبليس: (فبما أغويتني) قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى حاكياً عن إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16] أي: فبسبب ما أغويتني وأضللتني]. إذاً: الغواية والضلال بيد الله عز وجل.

قوله تعالى: (وأضله الله على علم)

قوله تعالى: (وأضله الله على علم) وفي قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] في تفسير ابن عباس في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] يقول: [أضله الله في سابق علمه]. فهذا ليس متبعاً للكتاب والسنة، وإنما متبع لهواه، كل ما يمليه عليه هواه فهو دينه يتبعه كأنه شرع منزل من السماء، والله تعالى ينكر على صاحب الهوى أنه قد اتخذ إلهه هواه، مع أن الإله واحد والرب واحد تبارك وتعالى، فكيف يترك العبد هذا الوحي من الكتاب والسنة، ويحل محلهما هواه ومزاجه وذوقه ووجده؟! فقال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ} [الجاثية:23] أي: يا محمد، {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية:23] إذاً: الضلال أتى بعد اتخاذ العبد إلهه هواه وليس في ذلك من ظلم، فالله تعالى جعل لك العقل لتميز به الحسن من القبيح، بل ربط الحسن والقبح بالكتاب والسنة. أي: بالوحي. فالحسن هو ما حسنه الله عز وجل ورسوله، والقبيح: هو ما قبحه الله عز وجل ورسوله، ولم يجعل للعقل في التمييز بين هذا وذاك مجالاً إلا مجالاً أذن الله تعالى فيه، فهنا نقول: إن الله عز وجل جعل لك العقل، وألزمك بالوحي، وأرسل إليك الرسل، وأنزل عليهم الكتب، كل ذلك لأجلك أنت. فإذا كان الأمر كذلك وأنت استغنيت عن هذا كله وذهبت تتخذ إلهاً من دون الله عز وجل وهو الهوى، فلابد وأن الله تعالى قد علم أنك ستعرض عن الوحي وعن الخير وعن الهدى، وتختار هواك إلهاً من دون الله عز وجل فكتبه عليك؛ لأنه علم ذلك منك أزلاً، فيكون معنى قوله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]. أي: سبق في علم الله أن هذا العبد سيضل ويترك الوحي ويتخذ إلهه هواه من دون الله، فلما علم الله ذلك منه أزلاً كتبه عليه.

قوله تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين)

قوله تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين) وفي قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162]. قال ابن عباس: [لا يضل أحد أحداً إلا سبق في علم الله أنه من صال الجحيم]. قال: [عن عمرو بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس] لأنه رأس العصيان، ورأس الفساد، ولو أراد الله تعالى أن يطاع في الأرض ولا يعصى قط ما خلق إبليس. [وقد فصل لكم وبين لكم، قال تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] إلا من قدر له أن يصلى الجحيم]، أي: فإنه حينئذ يضل. وقال خالد للحسن: [ألهذه خلق آدم ثم أشار إلى السماء، أم لهذه وأشار إلى الأرض؟] يعني: أخلق آدم للسماء أم خلق للأرض؟ ويشير بذلك إلى معصية آدم، وأن آدم كان في الجنة، وكان في السماء، وأهبط منها إلى الأرض فهو يسأله، ويقول له: آدم خلق لهذه وأشار إلى السماء أم لهذه وأشار إلى الأرض؟ قال الحسن: [بل لهذه وأشار إلى الأرض]. رغم أنه كان في الجنة وكان في السماء، فما الذي أهبطه إلى الأرض؟ لأنه خلق لها وما نزلها إلا بقدر. يعني: الذي دار بين آدم وإبليس، وأن المعصية التي خالف فيها آدم ربه، لم تكن تخفى على الله قبل أن يخلق آدم، فقد وقعت بقدر والله عز وجل علم أزلاً أن إبليس سينتصر في هذه الخدعة التي بينه وبين آدم، وعلم أن آدم سيقنع بحجة إبليس، وأنه سينسى العهد الذي أخذه مع ربه. ثم يسأل خالد الحسن فيقول: تصور لو أن آدم اعتصم من الخطيئة. يعني: لم يقع فيها، فلم يعملها أكان ترك في الجنة؟ قال الحسن: [سبحان الله! كان له بد من أن يعملها]. كان لازم يعمل كذا؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيعمل ذلك، والذي سبق في علم الله وكتبه في اللوح المحفوظ لابد وأن يقع. قال: [قلت: يا أبا سعيد قوله عز وجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من قدر له أن يصلى الجحيم].

قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)

قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) قال: [قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ} [الأنبياء:35] الابتلاء: هو الاختبار، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فإذاً: الخير والشر فتنة من الله عز وجل للعبد. قال: [عن ابن عباس -في تفسير هذه الآية- نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة]. {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. يعني: تصور لو أن عبداً لم تتح له قط سبل المعصية هل سيشعر بحلاوة الطاعة وهو قائم بالطاعة بالليل والنهار؟ فلا يشعر بعناء المعصية ولا بمجاهدة نفسه في البعد عن طاعة الله عز وجل. تصور لو أن واحداً يعيش في مجتمع نقي نظيف لا فتنة فيه، أموره كلها لله، يقوم من طاعة ويقعد في طاعة، وينتهي من طاعة فإذا به يستلزم طاعة أخرى، ويعمل طاعة أخرى، لأن المجتمع كله يعينه على الطاعة. أما لو عاش في مجتمع كله فساد وشر، فالمرء يجاهد نفسه مجاهدة شديدة جداً حتى لا يقع في معصية الله عز وجل، كمن تعرض عليه جريمة الزنا، ولكنه يجاهد نفسه حتى لا يقع في هذه الفاحشة، فإذا لم يقع فيها فإنه يشعر بنعمة عظيمة جداً، وأنه كان على مشارف معصية فنجاه الله تعالى منها. لو أن واحداً قد طحنه الفقر طحناً، وعرضت عليه أموال كثيرة جداً يسرقها ويغنى، ولكنه جاهد نفسه وكف يده عن الحرام فأغناه الله عز وجل، أو أبدله حلاوة لا يشعر بها إلا في قلبه. هذه أحلى من مد يده، يشعر العبد حين مجاهدة نفسه بأن الخير أحياناً يكون فتنة والشر أحياناً يكون فتنة. والله تعالى يبتلي العبد بهذا وذاك، حتى يختار العبد لنفسه ما شاء مع قيام الحجة الرسالية عليه.

قوله تعالى: (صم بكم عمي)

قوله تعالى: (صم بكم عمي) وفي قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] قال ابن عباس: [لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه]. لا يسمعون الهدى. أي: لا يسمعونه سماع إجابة، وإلا فهم يسمعون. فالمشركون لما دعاهم النبي عليه الصلاة والسلام سمعوا قوله، ولكنهم لم يسمعوه سماع إجابة، وإنما سمعوه سماع جحود وإعراض. مثلما قلت لك: افعل كذا تسمعني وإلا ما تسمعني. تقول: سمعت. وأنت في نيتك أنك لا أنت منفذ ولا أنت سائل عنه، فهذا سماع إجابة وليس سماع جحود وإعراض، فالله عز وجل وصفهم بالصم والبكم والعمي، وعدم التعقل لما يسمعونه ويبصرونه، رغم أنهم يسمعون ويبصرون.

قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما)

قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماماً) قال: [قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]]. هذا على جانب التقوى، نحن نتكلم عن الخير والشر، والذي يملك التقوى هو الله عز وجل، والله تعالى يصطفي من عباده من يشاء لأن يكون أهلاً للتقوى، فقال ابن عباس: [أئمة يهتدي بنا الناس ولا تجعلنا أئمة ضالين، لأنه قال لأهل الشقاء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]]. فهناك أئمة للتقوى، وأئمة للضلالة. وأئمة التقوى وأئمة الضلال كثيرون في هذا الزمان، فالتقوى بيد الله عز وجل، والإضلال بيد الله عز وجل، ولما سبق في علم الله عز وجل أن عبده هذا يختار طريق التقى والهداية يسره له على عكس عبده الثاني. ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، يعني: والذين اختاروا طريق الهداية الله عز وجل زادهم وثبتهم على طريق الهدى، وآتاهم تقواهم.

قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثقاهم)

قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثقاهم) قال: [قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7]]. وليس هناك إشكال في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7]، لكن الإشكال في قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] مع أن الترتيب الطبيعي: ومن نوحاً ومنك، فإن نوحاً أسبق من محمد، بل نوح هو رسول أرسل إلى البشرية، وآدم أول نبي نبئ إلى البشرية، فالله تعالى قال: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] ولم يقل: ومن نوح ومنك؛ ليدل على أن الله تعالى علم أزلاً أنه سيخلق محمداً عليه الصلاة والسلام، مع أن خلق نوح كان قبل خلق محمد، ولكن الله تعالى قدمه هنا في الذكر؛ ليدلنا على أن محمداً هذا كان في علم الله أزلاً فقدمه على نوح، فهذه حجة على القدرية.

قوله تعالى: (أو تقول لو أن الله هداني)

قوله تعالى: (أو تقول لو أن الله هداني) قال: [قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57] عن ابن عباس: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:57 - 58] من المهتدين]. ولذلك فإن بعض السلف بنى له قبراً في بيته، واستشهد بهذه الآية: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، كان يدخل قبره كل ليلة حتى يغلق عليه القبر تماماً ويحدث نفسه في داخل القبر: يا نفس أنت دخلت القبر، ثم يسمح لنفسه بالخروج مرة ثانية من القبر، ويقول: أنت عدت مرة ثانية إلى الدنيا فاعملي صالحاً: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]. أي: من المهتدين. اعملي صالحاً واهتدي قبل أن تموتي موتة لا بعث فيها إلا يوم القيامة. قال ابن عباس: [فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى؛ لأنهم اختاروا طريق الضلالة، وقد علم الله عز وجل ذلك منهم أزلاً فكتبه عليهم، قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]]. أي: كاذبون في قولهم: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، ولو ردوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك لعادوا لما كانوا عليه قبل ذلك من تعاطي أسباب الشقاء والضلال.

قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم)

قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) قال: [قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]. أي: لو ردوا إلى الدنيا ولحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة]. يعني: سبق في علم الله أنهم لا يقبلون الهدى، فيسر لهم طريق الضلال.

قوله تعالى: (ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة)

قوله تعالى: (ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة) قال: [وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:111] يقول: معاينة]. {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام:111]. الكلام هذا خاص بأهل الشقاء، فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام:111]. يعني: لو أننا بعثنا لهم الملائكة يدعونهم إلى الهدى، ولم نرسل لهم رسلاً من أنفسهم ولكن نرسل إليهم الملائكة وكلمهم الموتى -للعظة- بأن يخرج الموتى من قبورهم فيقولون: أيها الأحياء! اعملوا صالحاً، فإنا وجدنا غب أعمالنا في قبورنا، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً -أي: معاينة- يرونهم بأعينهم ما كانوا ليقبلوا الإيمان والهدى إلا أن يشاء الله، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أنهم يدخلون في الإيمان.

قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)

قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) قال: [قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] هذه أيضاً آية ترد على القدرية، ونحن قلنا في أول دروس القدر: إن القدرية نوعان: قدرية غلاة وهم الجهمية، وقدرية المثبتة. النوع الأول: يقولون: إن العبد مجبور على عمله لا إرادة له، مسلوب الإرادة، لا علاقة له بعمله، ولذلك من الظلم أن يعاقبه الله عز وجل. والرد عليهم: أن هذا الشيء قدره الله عليه، فهو شيء مكتوب عليه، ولكنه قد سبق في علم الله أن العبد سيختاره فكتبه سبحانه وتعالى له. إذاً: العبد ليس مجبولاً على المعصية، ولكن علم الله عز وجل ذلك منه أزلاً بعد تيسير سبل الدعوة، وإقامة الحجة الشرعية، وبيان الحلال من الحرام، ولكن العبد في المقابل هو الذي اختار طريق المعصية، فلما كان منه ذلك كتبه الله عز وجل عليه، لأنه العليم سبحانه وتعالى. فقوله هنا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] رد على القدرية، وأن للعبد مشيئة. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. يعني: لك مشيئة، ولك إرادة، ولكن إرادتك في علم الله ومشيئتك سبقت في علم الله، فقد علم الله ماذا سيكون عملك، وكيف تصير إليه؟ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ. النوع الثاني من القدرية قالوا: لا علاقة لله عز وجل قط بأفعال العباد، والعبد له المشيئة المطلقة في إتيان الهدى وإتيان الضلال. فالقدرية ضد بعضهم البعض، فطائفة تقول: العبد مسلوب الإرادة، وطائفة تقول: لا مشيئة لله عز وجل ولا إرادة له في أفعال العباد، وأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وهو الذي يوجد فعل نفسه، وكلاهما على ضلال بين. فهذه الآية ترد على هاتين الفرقتين بإثبات الإرادة والمشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي الأولي. قال: [عن زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس]. يعني: القدرية قد أتوا بالبدع التي لم يأت بها حتى إبليس، فما وجه مخالفتهم لله؟ وما وجه مخالفتهم للملائكة ولأهل الجنة والنار؟ [قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]] فهذه الآية ترد على القدرية بنوعيها، وذلك بإثبات المشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي. [وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]. إذاً: الله تعالى هو الذي علم الملائكة قبل أن تعلم، والملائكة خلقهم الله عز وجل لا علم لهم ثم علمهم، ولا يتصور أن الله تعالى علمهم ما لا علم له به أصلاً، فهو العليم الخبير, تعلم ملائكته من علمه، وهو الذي علمهم من علمه. والقدرية يقولون: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء حتى تقع، وهذا في قولهم: أنه لا قدر وأن الأمر أنف. يعني: أن الله لا يعلم الشيء حتى يكون. إذاً: هذه الآية فيها إثبات العلم لله عز وجل، فربنا علم الملائكة أسماء كل شيء، وأمر الملائكة أن تعلم آدم الأسماء، والله تعالى علم الأشياء بأسمائها وأفعالها وأقوالها وحركاتها وسكناتها وشقائها وسعادتها، علم ذلك كله أزلاً قبل أن يخلق الخلق فكتبه في اللوح المحفوظ، فالله تعالى يعلم ما العباد عاملون وكيف يصيرون إليه. قال: [وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89]. فأثبت المشيئة الأزلية لله عز وجل، وأنه إذا سبق في علمه الشقاء أجراه، وإذا سبق في علمه الهدى أجراه ويسره. [وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} [الأعراف:43]] فالهداية بيد الله عز وجل، ومعنى ذلك أنه سبق في علمه أن أهل الجنة سيختارون الطاعة فيسرهم لها ومهد لهم السبيل إلى الجنة. [{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]]. فأثبت أهل الجنة أن الهداية بيد الله عز وجل. [وقال أهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]]. يعني قد اخترنا الشقاء وغلب علينا؛ لأن الله تعالى علم أزلاً أننا سنختار الشقاء فكتبه، وما يكتبه الله عز وجل لابد أن يغلب، لأنه الغالب على أمره. [وقال أخوهم إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]] يعني: رب بما أضللتني. فإبليس يعلم أن السعادة والشقاء، والهداية والإضلال بيد الله عز وجل فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]. قال الشافعي لما رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه: [لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله عز وجل خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء] يعني: من أهواء الفرق

قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته)

قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته) قال: [قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]. يعني: ومن علم الله عز وجل أنه سيختار طريق الفتنة والضلالة فلا يمكن لأهل الأرض -ولو اجتمعوا- أن ينقلوا هذا العبد مما اختاره الله وسبق في علم الله فكتبه عليه إلى الهداية والسعادة. (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ)، يعني: ومن سبق في علم الله أنه يفتن فليس لأحد من الخلق، بل ليس للخلق أجمعين أن ينقلوه من الفتنة إلى الهداية. قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يقول الله: من يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئاً].

قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وغيرها من الآيات

قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وغيرها من الآيات قال: [قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، قال ابن عباس: [ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي، ومن شقوتي وسعادتي]. يعني: المهمة الأولى للخلق هي العبادة، ولكنه سبق في علم الله من يعبده ومن يعصيه، من يشقى بمعصيته ومن يسعد بطاعته، فلما سبق في علم الله ذلك كتبه.

قوله تعالى: (الذين خسروا أنفسم)

قوله تعالى: (الذين خسروا أنفسم) قال: [قول الله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]] قال ابن عباس: [هم الكفار الذين خلقهم الله تعالى للنار، وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة، {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]] يعني: فخسروا الدنيا والآخرة. [وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]]. والدعاء هنا: هو الإيمان. أي: ما يعبأ بكم ربي لولا إيمانكم. قال: [يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين]. قال: [قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]] لأنهم اختاروا طريق الكفر والجحود والضلال، والله تبارك وتعالى لما علم ذلك منهم أزلاً كتبه عليهم، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم فإنهم يخسرون الإيمان، وهم قائمون على الكفر والجحود والنكران، وهذا سابق في علم الله وكتبه، ولكن لابد من قيام الحجة عليهم حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. فليس هناك من يجيء يوم القيامة ويحتج على ربنا ويقول: يا رب! ما بعثت رسولاً، وما أنزلت كتاباً.

ذكر ابن عباس للآيات الدالة على أن الهداية والإضلال بيد الله

ذكر ابن عباس للآيات الدالة على أن الهداية والإضلال بيد الله قال: [عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]، وقوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99]، وقوله: {الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [الرعد:5]، وقوله: {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]، وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] ونحو هذا من القرآن]. كل هذه الآيات تدل على أن الإيمان والكفر والشقاء والسعادة والهداية والإضلال بيد الله عز وجل. قال: [وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول]. الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يجمع جميع الخلق على السعادة، وربنا قال له: أنت لا تستطيع أن تفعل ذلك، وليس هذا لك ولا لأحد، وإنما هذا لرجل قد سبق في علم الله أنه من أهل السعادة، وليست لرجل سبق في علم الله أنه من أهل الشقاوة. قال: [فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول. ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6]-يعني: مهلك نفسك- {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]. يقول: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4]. ثم قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [فاطر:2]. ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]]. أي: ليس لك يا محمد من الأمر شيء، فأنت لا تعلم ما الذي كتبه الله عز وجل أزلاً على العباد من السعادة والشقاء، والهداية والإضلال، وما عليك يا محمد إلا أن تبلغ هذا الوحي إلى الناس، أما الخواتيم فلا يعلمها إلا الله عز وجل.

قوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا)

قوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) قال: [قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]]. قال: [عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلق كلهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)]. ومن المقادير: السعادة والشقاوة، الجنة والنار، الرزق. كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فإذا كان الله تعالى كتب ذلك بعلم، فلابد أن نثبت أولاً العلم الأزلي لله عز وجل، وهو علم كل شيء، علم لا نهاية له، ولا منتهى له، وأن الله تعالى علم ذلك أزلاً فكتبه في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل التبديل ولا التغيير ولا التحريف، ولا يلحقه إثبات غير ما هو مثبت فيه، أما الذي يقبل الإثبات والمحو فالكتب التي بيد الملائكة، أما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو ولا الإثبات إلا ما كان فيه، فلما علم الله ذلك أزلاً كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم كتب للعبد الشقاء أو السعادة، وهذه الكتابة بعدل وحكمة من الله، وليس بظلم منه. والله تبارك وتعالى خاطب المؤمن والكافر بالإيمان، وألزمهما وكلفهما به، ولكن العبد التقي اختار طريق التقى والهدى طلباً للجنة ولرضوان ربه، فإن العبد الذي سبق في علم الله أنه شقي هو الذي اختار طريق الشقاء وطريق النار، فلما سبق في علم الله ذلك منه كتبه عليه بعد أن أرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ورزقه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين السعادة والشقاء، وبين الهدى والضلال. قال: [(كتب الله مقادير الخلق كلهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)]. قال: [عن طاوس قال: أدركت ناساً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)]. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)] مع أن هذا مؤمن وهذا مؤمن، لكن هذا مؤمن قوي، قوي في علمه، قوي في إيمانه، قوي في عمله، فهو أحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف. [(وفي كل خير)]؛ لأن كل واحد منهما فيه إيمان، والإيمان خير، [(فاحرص على ما ينفعك، واستعن بالله تبارك وتعالى ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقولن: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)]. يعني: كل شيء عنده بمقدار حتى العدل والكيل (فإن لو تفتح عمل الشيطان)]. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره)]. يعني: أنت تقول: يا رب! لو ابني نجح سأذبح شاة، وابنك نجح، فهذا قد سبق في علم الله. لكي لا تتصور أن ذبح النعجة معلق بسبب نجاح ابنك، بل كتب في اللوح المحفوظ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يكره النذر في الطاعة، ويقول: (إنما يستخرج به من البخيل). يعني كأنك تقول: يا رب لو ابني نجح أذبح، وإذا ما نجح ما أذبح. وهذا لا يصح، ففي زمن السلف لم يختلفوا في هذه القضية. ولابد أن يكون النذر في طاعة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه). فمثلاً: واحد يقول: يا رب لو أنا حصل لي كيت سأترك الصلاة. فهذا النذر يأثم به العبد، ولا يلزمه هذا النذر، إنما لو نذر في طاعة يلزمه النذر والأفضل عدم النذر، والنذر لن يغير شيئاً في المكتوب والمقدر. فتقول: يا رب لو ابني نجح سأذبح شاة، فنجح ابنك، ثم بعد ذلك تلف وتدور وتتلمس الأعذار فتقول أصوم فأنا ممكن أصوم ستة شهور ولا أذبح -لأنك بخيل- وممكن أن تحدث نفسك بأنه كان مكتوب في اللوح المحفوظ أنه سينجح، فما الذي جعلك تنذر؟ ولذلك النذر يستخرج به من البخيل، أما للإحسان وهو أن ربنا أحسن إليك في نجاح ولدك، أو في قضاء مصالحك فاذبح من غير ما تنذر، فلا ينفع أن تعمل الطاعة وأنت محتار، بل وأنت راض ومبسوط، ومقبل على ربك، لابد أن تعمل الطاعة ورقبتك تحت رجلك، فلا تذبح الشاة وأنت كاره، قال: (إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره). يعني: هذا النذر لم يغير من القدر شيئاً، ولكن النذر يوافق القدر، والله عز وجل علم أزلاً أنك ستنذر فلابد أن تفي بالنذر. ويفضل ألا تنذر حتى في الطاعة، وإذا كنت تريد أن تشكر ربك بذبح شاة، فلا يكن ذلك في صورة نذر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطاعة بدون نذر خير من الطاعة بنذر. إذاً: الأفضل هو ألا تنذر، وأن تفعل هذه الطاعة بلا نذر، لكن الله تعالى بعد أن أرسل إليك رسولاً، وبين لك أن الطاعة بغير نذر أفضل من الطاعة بنذر علم

الأسئلة

الأسئلة

ضرورة التفريق بين الإرادة الشرعية والكونية

ضرورة التفريق بين الإرادة الشرعية والكونية Q إذا كان الله علم أزلاً أن العبد سيختار طريق الشقاء كتبه عليه فإنه سبحانه هو الذي جعل العبد يختار هذا الطريق؟ A هو يريد أن يقول: إذا كان الله عز وجل علم أزلاً أن هذا العبد سيختار طريق الشقاء كتبه عليه، فالله هو الذي جعل العبد يختار طريق الشقاء، وهذه شبهة القدرية، ولذلك فإن معظم السلف ما كانوا يتكلمون كلمة واحدة في القدر، لما تنظر إلى كلام أحمد بن حنبل تجد أنه لم يثبت عنه أنه تكلم في القدر بكلمة إلا كلمة واحدة قال: القدر هو قدرة الله عز وجل. فليس معنى ذلك أن الإمام أحمد لم يستطع أن يؤلف مصنفات في القدر، ولكن معظم السلف كانوا ينكرون هذا الكلام إنكاراً عظيماً جداً. ولذلك ورد عنهم: إذا جاء القدر فأمسكوا. لأن الشيطان سيسلمك من سؤال إلى سؤال، إلى حد أن تقول: إن ربنا ظالم لنا. ونحن أثبتنا أن العبد له إرادة، والله عز وجل له إرادة، والعبد له مشيئة، والله تبارك وتعالى له مشيئة، والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ابتداءً، وأمرهم بالإيمان، ونهاهم عن الكفر ولم يرضه لهم، فالعبد لا يكفر غصباً وإنما بمشيئة الله. فالذي حصل له ألم لا يرضى أنه يتعذب به في الدنيا وكذا في الآخرة، والذي صفعك لا يستطيع أن يصفعك إلا بإرادة الله، وسترد عليه بإرادة الله، وما رفع يده إلا بإرادة الله، ولا يقدر ينزلها إلا بإرادة الله، فهل الله تبارك وتعالى يرضى عن هذا الفعل؟ لا. ومع هذا أذن بوقوعه؟ فالشيطان من خلق الله، وأعمال الشيطان هي من خلق الله وإيجاد الله، فهل ربنا رضى عنها؟ إذاً: نحن لابد أن نفرق بين المسألتين: الإرادة الشرعية الدينية، والإرادة الكونية القدرية: الإرادة الشرعية هي: أنك تصلي معنا المغرب والعشاء، فربنا أذن في ذلك وخلق فيك هذه الحركات من قيام وركوع وسجود وقراءة، وأضل غيرك، أو أنساه صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويمكن أنه ما يصلي نهائياً. وهذا بإرادة الله، لكن الله لا يرضاه، إنما أذن بوقوعه، مثلما أذن بوقوع الكفر في الكون، مع أنه حذر منه، وأرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، والله لا يرضى الكفر، ومع هذا فالكافر هو الذي اختار الكفر. لما تقول لابنك: يا ابني! الطريق هذه تؤدي بك إلى النجاح، والطريق هذه تؤدي بك إلى الرسوب، ومع هذا ابنك يصر على عدم المذاكرة مع المراقبة الشديدة وتوفير جميع وسائل الراحة التي تؤهله للنجاح في نهاية العام، ومع هذا فالولد كلما تؤكد عليه يعرض عنك، فهذا الولد يعرض عنك بإرادة؛ بدليل أنك موفر له سبل الراحة، والولد لا يستغل سبل الراحة ولا يذاكر. فالله عز وجل علم إعراض هذا الولد، وعلم أنك ستقوم تجاهه بالواجب، ويأجرك على هذا الواجب والولد يأثم عند الله عز وجل بتمتعه بهذه النعم وإعراضه عن المذاكرة. الولد يعرف في نفسه أنه لو ذاكر سيرضي ربه ويرضي والده، ومع هذا يعرض. فإذا كان لا يعلم ذلك فإنه لا يأثم. إذاً: لا يوجد ظلم هنا، فالله تبارك وتعالى خلق الجنة وخلق النار، خلق لهذه قسم الله أعلم بهم، وخلق لتلك قسم الله أعلم بهم، وبين لهم الطرق والأسباب التي تؤدي بهم إلى الجنة، وإلى النار، وأنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل فقامت عليهم الحجة، فالذي يكفر يعلم أنه كافر، والذي يزني يعلم أنه يزني، ويعلم أن الزنا معصية، وأن الله سيعاقبه عليه، ولكنه لا يستطيع أن يزني بغير إرادة الله. وليس معنى: (بقدر الله) أن الله عز وجل يحب الزنا ولذلك أذن فيه، فهو لا يحبه، إنما يحب العفاف والطهر وأمر به، ويكره الزنا ويمقته ونهى عنه، لكن الذي يأتي الطاعة فهو يأتيها بإرادة الله، والذي يأتي المعصية هو يأتيها بإرادة الله؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراده الله وقدر، لكن من إرادته ما يثيب عليها، ومن إرادته ما يعاقب عليها.

بيان عدد الرضعات التي تحرم وحكم لبس الكرفتة

بيان عدد الرضعات التي تحرم وحكم لبس الكرفتة Q ما عدد الرضعات التي تحرم الرضيع من أم غير أمه وهل يشترط أن تكون في وقت واحد؟ والرجل إذا لبس كرفتة هل يكون متشبهاً بالكفار؟ A الكرفتة تشبه بالكفار، لكن من يلبسها ليس كافراً، وإنما يجب على الرجل أن يتنزه عن مشابهة غير المسملين. أما عدد الرضعات المحرمة: فهي خمس رضعات في كلام الله، وحديث عائشة في الصحيحين: (كان مكتوب في الكتاب عشر رضعات محرمات جعلها الله عز وجل خمساً، فهي خمس رضعات مشبعات متفرقات). والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان). (سئل هل تحرم الرضعة يا رسول الله؟ قال: لا. قال: هل تحرم رضعتان؟ قال: لا). واختلف أهل العلم في التحريم، ورأي الجمهور هو الصواب: أن الرضاع يحرم كما قال عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). أي: أن الرضعات المحرمات خمس رضعات مشبعات، وهو أن يترك الولد الثدي باختياره وبإرادته.

حق المطلقة التي لم يبن بها زوجها

حق المطلقة التي لم يبن بها زوجها Q ما هو حق الزوجة التي لم يبن بها زوجها بعد الطلاق؟ A هو يريد أن يقول: امرأة عقدت عليها ولم أبن بها ثم طلقتها، فهي تبين بينونة كبرى بهذه الطلقة، فإذا أراد أن يتزوجها لابد من عقد جديد ومهر جديد، وهذه المرأة ليس لها نفقة ولا متعة، ولا سكن ولا شيء من هذا نهائياً، إنما إذا كان قد خلا بها خلوة شرعية فلها المهر كله، وإذا لم يخل بها أي: لم يدخلها في مكان ويغلق الباب، ويرخي الستر عليهما حتى وإن لم يقبلها ولم يمسها، فإذا حدثت هذه الخلوة وإن لم يمسها فيجب لها المهر كاملاً، أما إذا لم تحدث هذه الخلوة فليس للمرأة عند زوجها إلا نصف المهر، ولو عفت عنه لا يطالب الزوج به، ولكن لابد أن يكون العفو بإذن الولي أياً كان، سواءً كان الولي أخوها أو عمها أو جدها، فأنت لا ترضى أن تعفو ابنتك إذا طلقت، فقد تضربها على ذلك.

حكم تخصص الرجل في قسم النساء والولادة

حكم تخصص الرجل في قسم النساء والولادة Q ما حكم التخصص في قسم النساء والولادة؟ وما حكم ذهاب النساء إلى دكتور أمراض النساء والولادة؟ A التخصص في هذا سمج بارد، وأنا أظنه ظناً يقينياً: أن هذا معصية لله عز وجل، كيف أن الدكتور يعيش حياته بالليل والنهار بين أفخاذ النساء؟ والعلماء يقولون: النساء عليهن أن يتعلمن، ومجال الطب لابد أن يكون فيه طاقم نسوي فيما يتعلق بتعليم المرأة في الطب، أما أن الرجل يكون رئيس قسم النساء والتوليد والعقم، فهذا من البلاء العجيب، وليس هذا مستساغاً فضلاً عن مخالفته، ولذلك نحن نرى الإخوة الطيبين الذين تورطوا في هذا القسم لما يتوبوا فإنهم يبحثون عن قسم آخر يتخصصون فيه، ويأخذون فيه دراسات من جديد.

أدلة السنة في إثبات القدر [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أدلة السنة في إثبات القدر [1] يعتقد أهل السنة والجماعة بوجوب الإيمان بالقدر وما يتضمنه من مراتب، ويعتقدون أنه سر الله تعالى في خلقه، لا يخوض فيه إلا من زلت به القدم، والآيات من الكتاب والأحاديث الصحيحة من السنة النبوية تشهد على ذلك، وهي كثيرة معلومة تناولها أهل العلم بالتفسير والإيضاح ورد كل شبهة أو متمسك للمبتدعة فيها.

سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله وما روي من السنة في إثبات القدر

سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله وما روي من السنة في إثبات القدر الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً في سرد أدلة القدر، وأن ذلك كان أمراً مستقراً عند سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وأنهم كانوا يكرهون الخوض فيه، فقد كانوا يؤمنون ويسلمون به، ومن الأدلة على ذلك:

حديث: (جف القلم على علم الله عز وجل)

حديث: (جف القلم على علم الله عز وجل) [عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى خلق خلقاً في ظلمة ثم ألقى عليه من نوره، فمن أصابه شيء من ذلك يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك يقول: جف القلم على علم الله عز وجل)]. أي: حينما خلق الله تبارك وتعالى هذه النطفة وألقاها في رحم المرأة -رحم المرأة ظلمة- أفاض من نوره على هذه النطفة، فإن اقتبست هذه النطفة من نور الله عز وجل فهذا دلالة على سعادتها، وإن لم تقتبس فهذا دلالة على شقاوتها وتعاستها، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (قد جف القلم بما هو كائن). أي: أن هذا أمر قديم قد فرغ منه، ولذلك تعجب السامع من الصحابة وقال: (يا رسول الله! إذا كان هذا أمر قديم ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له).

حديث: (لا تكثر همك ما يقدر يكن)

حديث: (لا تكثر همك ما يقدر يكن) قال: [وعن مالك بن عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ ابن مسعود: (لا تكثر همك، ما يُقدر يكن، وما تُرزق يأتك)]. أي: لا تنشغل بمسألة الأجل ومسألة الرزق، لذا فالعبد من الممكن أن يشرك بالله عز وجل لأجل الحفاظ على عمره وحياته ورزقه. أي: أن المرء قد يقع في أعظم ذنب على الإطلاق -وهو الشرك بالله- مخافة الرزق ومخافة الأجل، مع أنهما مضمونان لله عز وجل، فلا يمكن لأحد قط أن يتدخل فيها مهما أوتي من قوة، فهذا فرعون ما استطاع أن يؤثر في رزق موسى أو في عمره، بل كان هلاك فرعون على يد موسى عليه السلام.

حديث: (خلق آدم وأخرج الخلق من ظهره)

حديث: (خلق آدم وأخرج الخلق من ظهره) قال: [عن عبد الرحمن بن أبي قتادة السلمي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خلق آدم وأخرج الخلق من ظهره -هذا حديث النفاق الذي سبق ذكره- فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي)]. أي: حينما خلق الله عز وجل آدم أخرج من صلبه كل نسمة تكون إلى يوم القيامة، إلى آخر نسمة من صلب آدم، ثم قال وهم كالذر: هؤلاء قسم الجنة وحظها ونصيبها، وهؤلاء قسم النار وحظها ونصيبها، وقال في كل: (لا أبالي)؛ لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فهو الذي يحاسب الخلق وحده. [قيل: علام نعمل] أي: إذا كان ذلك مقدراً ومقسوماً منذ أن خلق الله آدم بل قبل آدم والله تبارك وتعالى يعلم أهل الجنة وأهل النار ففيم العمل؟ قال: [(على مواقع القدر)]. أي: أنك أنت لا تعمل إلا بقدر؛ لأن العجز بقدر، والعمل والنشاط والجد والخمول كل ذلك بقدر، فالله تبارك وتعالى علم أنك تفتر هنا وتنشط هنا، تصح هنا وتمرض هناك، تعلو هنا وتنخفض هناك، تغنى وتفقر، تُعز وتُذل، وغير ذلك مما يتعرض له المرء في أثناء حياته، فالله تبارك وتعالى قد علمه ليس قبل أن يخلق ذلك الشخص، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض. والذي يسأل: إذا كان ذلك هو القدر فلِم نعمل؟ ف A أنه لا يدري الواحد منكم في أي فريق هو، في فريق الجنة أم في فريق النار، وهذا إجابة عقلية. أي: لو كان فهمنا مستقيم للمسألة هذه ففيم إذاً إرسال الرسل؟ أليس الأمر كله بقدر قبل أن يخلق الله عز وجل الخلق كلهم؟ فلماذا بعث الله الرسل إذاً؟ ولماذا أنزل الكتب؟ ولماذا جعلك عاقلاً؟ كل هذا لتميز به بين الحق والباطل. فلماذا هذا العمل كله؟ لأنه لا بد أن تعمل، ومن قدر الله عز وجل أن تطيع الرسل، وأن تؤمن بالكتب، ومن الإيمان بالكتب: الإيمان بالقدر، وأن كل شيء بقدر، فلا بد أن تعمل، ولا يصلح أن تكون بلا عمل؛ لأنك ابتداءً لا تدري هل جعلك الله عز وجل من فريق الجنة أم من فريق النار؟ فإن كنت لا تدري هذا عن نفسك فلا تغتر بعملك الصالح؛ لأنه ربما يُختم لك بغير ذلك! ولا تستمر في معصيتك فربما يوفقك الله عز وجل في آخر حياتك لعمل الخير، وأن تعمل بعمل أهل الجنة فتدخلها، فلا تتمادى في معصيتك ولا تغتر بطاعتك، فرُب رجل اغتر بطاعته وفاخر بها فعاقبه الله عز وجل بأن ختم له بخاتمة الشقاء، نسأل الله السلامة لنا ولكم. وقوله عليه الصلاة والسلام: (على مواقع القدر). أي: أنتم لا تعملون إلا بقدر، ولا تتركون العمل إلا بقدر؛ لأن الله علِم أزلاً أنك تعمل أو لا تعمل، وأنك تشقى أو تسعد، وأنك تغنى أو تفقر، وغير ذلك من أطوار حياة العبد، فلا بد من العمل، فليس هناك جنة بلا سبب، كما أنه ليس هناك نار بلا سبب، فالله عز وجل بإمكانه أن يأتي بأعظم الناس شركاً ويدخله الجنة ولا يعترض على ذلك أحد، وبإمكانه أن يأتي برجل من أهل الجنة ويدخله النار، لكنه سبحانه قطع على نفسه ألا يفعل ذلك، والله لا يخلف وعده أبداً. إذاً: لماذا دخل هذا الجنة ودخل هذا النار؟ بالعمل. وإن كانت رحمة ربك تسبق من دخل الجنة؛ لأن الله تعالى هو الذي وفقه لطاعته، وهذه الطاعة هي السبب في دخوله الجنة، وأما هذا الذي دخل النار فبعدل الله عز وجل؛ لأنه قد أقام عليه الحجة من كل جانب ومن كل وجه، فلا يبقى له عذر بعد أن أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب، وجعله عاقلاً يميز بين الحق والباطل بين الصحيح والخطأ، فلا عذر لمن سلك طريق المعصية إلا أن يدخل النار، فإن كان موحداً فإنه لا محالة يخرج من النار ويدخل الجنة، وإن كان من أهل الكفر والشرك البواح؛ فإنه مخلد في النار لا يخرج منها أبداً.

حديث: (إن العبد ليعمل فيما يرى للناس بعمل أهل الجنة)

حديث: (إن العبد ليعمل فيما يرى للناس بعمل أهل الجنة) قال: [عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل فيما يُرى للناس بعمل أهل الجنة)]. أي: أن أول ما يروه الناس يعمل هذا العمل فإنهم يقولون: هذا رجل بعمله هذا من أهل الجنة، كما اغتر الصحابة بالمجاهد وقالوا: والله إنا لنراه من أهل الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو من أهل النار)؛ لأنه كان مرائياً، فقد كان يجاهد ليقال عنه: مجاهد، وكان يبتغي الأجر من الناس، ويبتغي أن يمدحه الناس، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل هو من أهل النار). لكن هل هو من المخلدين في النار؟ لا. ليس من المخلدين فيها، وإن مكث فيها مكثاً طويلاً فمآله أن يخرج منها. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) فهذا الكلام على أصحاب المعاصي، أما أصحاب الكفر البواح فإنهم سيدخلون النار حتى لو لم يترد من جبل، فمثلاً: نتنياهو اليهودي، ما دام أنه لم يترد من جبل فهل سيدخل الجنة أم ماذا؟ أم هل سيدخل النار ثم يخرج منها إلى الجنة؟ لا. بل هو في النار مخلداً فيها إن مات على كفره. وبالمناسبة فهناك من الناس من يعتقد أن اليهود والنصارى في الجنة ويقولون: هؤلاء إخواننا وأحبابنا! بل يزيدون ضلالاً ويقولون: والله إن هذا أحسن من المسلمين. وهذا من الخطأ الكبير! أن ترفع يهودياً أو نصرانياً أو كافراً -عموماً- فوق المسلم وإن كان أعتى العتاة ما لم يكفر، وإذا صدر منك ذلك فلابد أن تراجع إيمانك فوراً، فإيمانك فيه نظر، وأنت على خطر عظيم جداً، فربما يُخرجك هذا من الإيمان إلى الكفر البواح. قال عليه الصلاة والسلام: [(إن العبد ليعمل فيما يُرى للناس بعمل أهل الجنة، وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل فيما يُرى للناس بعمل أهل النار، وإنه لمن أهل الجنة)]. وبعد هذا يبين النبي عليه الصلاة والسلام المسألة هذه، لأن فيها إشكال. فبالنسبة للجزء الأول: أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، فهذا رياء وقد انتهينا منه، والله عز وجل يعلم ذلك. وأما المشكل في الجزء الثاني فهو: أن الرجل يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، (وإنه لمن أهل الجنة). فكيف يكون من أهل الجنة وهو تارك للصلاة والصيام والزكاة والحج وأركان الإسلام وأركان الإيمان؟! حدد النبي عليه الصلاة والسلام الجواب عن هذا السؤال في تمام هذا الحديث فقال: (وإنما الأعمال بالخواتيم). حتى يحل الإشكال للرد على الجزئية الثانية، ولذلك الرجل الذي رأى أخاه على معصية فقال: والله لا يغفر الله لفلان -والمغفرة بيد الله عز وجل- فغضب الله عز وجل غضباً شديداً، وأخبر نبيه بذلك فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: (من ذا الذي يتألى على الله؟ إن أحدكم يقول: والله لا يغفر الله لفلان، والله تعالى يقول: أشهدكم يا ملائكتي أو يا عبادي أني قد غفرت لفلان وأدخلت فلاناً النار) أي: الذي اغتر بطاعته وحكم على صاحب المعصية بأنه لا يدخل الجنة قط أو لا يغفر الله تعالى له.

حديث: (لا عليكم ألا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بما يختم له)

حديث: (لا عليكم ألا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بما يختم له) قال: [عن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا عليكم ألا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بما يُختم له)]. أي: لا تقطعوا لأحد بالجنة أو النار حتى تنظروا ماذا يختم له. ولذلك الإمام النووي رحمة الله تعالى ذكر خلاف أهل العلم في مسألة الدعاء للمشركين أو للكفار، أو الدعاء عليهم ما داموا أحياء، وذكر أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أنه يجوز. الثاني: لا يجوز مطلقاً. الثالث: يجوز الدعاء عليهم إذا ماتوا على الشرك والكفر. ونقل الثلاثة الأقوال ورجح القول الثالث. أي: أنه لا يجوز الدعاء عليهم في الحياة، وإنما يجوز الدعاء عليهم إذا خُتم لهم بالكفر. وإذا كان هذا في حق الكفار، وأهل العلم قد اختلفوا فيهم على هذه الأقوال، فما بالكم بأصحاب المعاصي؟! لو نظرنا إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأهل القبلة من المسلمين من أصحاب المعاصي، فسنجد أن المعتقد فيهم: أننا نرجو الله تبارك وتعالى لهم الرحمة، وأن يوفقهم للطاعة، وأن يرحمهم في الآخرة، ولا نقطع لأحد بالجنة أو النار إلا من قطع له القرآن أو السنة بذلك؛ لأن الجنة والنار ليست ملكاً لأحد، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فكيف نقطع لفلان بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار؟! أرأيتم لو أن رجلاً مسلماً قاتل كافراً فلما تمكن المسلم من الكافر -وما هي إلا ضربة بسيف أو طعنة برمح ويذهب ذلك الكافر إلى ربه- نطق الكافر بكلمة التوحيد!! وقد فعل ذلك أسامة بن زيد كما في الحديث المعروف، فلما علم ذلك النبي عليه الصلاة والسلام غضب غضباً شديداً، ولام أسامة لوماً عظيماً، حتى قال أسامة: ليتني أسلمت الآن. وكأنه يقول: ليتني عملت هذا وأنا في حال كفري، ثم أسلمت الآن من غير أن أقترف هذا الذنب. لكن: لو أن الذي قالها قالها مخلصاً ولم يقلها مخافة السيف أو نجاة من القتل ولم يعمل شيئاً قط غير أنه نطق بكلمة التوحيد فإنه من أهل الجنة، مع أن عمله كله في حياته يشهد له بالنار، لكن الله تعالى ختم له بخاتمة السعادة. وكثير في التاريخ ما يروي عن بعض أهل الطاعات فيما يبدو للناس ما يخالف ذلك عند الموت، بل ذكر الذهبي رحمه الله عن رجل أنه قال في سكرات موته حينما لُقن الشهادة: أنا لا أُحبها، أنا كافر بالله العظيم، ثم خرجت روحه، مع أن عمله كان فيما يبدو للناس أنه من أهل الجنة. فلما كان هذا أمراً غيبياً فإنه لا يجوز القطع لأحد قط بجنة ولا نار إلا من شهد القرآن أو السنة بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار، فذلك متعلق بمن شهد له القرآن أو السنة عيناً، كـ أبي لهب وغيره مما ذُكر في القرآن والسنة، ولا يجوز لمتنطع أن يقول: وما يدرينا أن هذا الكافر أو هذا النصراني أو هذا المشرك مات على الكفر البواح؟ فلعله كان مسلماً ولكننا لا ندري، أو لعله أسلم وأخفى إسلامه، ولعل ولعل، والباب واسع جداً! لذا فنحن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر. فلو أن رجلاً مات على نصرانيته المعلومة لدينا، فهل يجوز لنا أن نقول: لعل هذا الرجل مات مسلماً ونُنزله منزلة المسلمين فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر في مقابر المسلمين؟ إن ذلك لا يصلح قط، أما إن كان قد أسلم وأخفى إسلامه فهذا بينه وبين الله عز وجل، وهو يكافؤه على ذلك يوم القيامة، أما نحن فليس لنا إلا الظاهر.

حديث: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم قابضا على شيئين في يده)

حديث: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم قابضاً على شيئين في يده) قال: [عن ابن عمر قال: (خرج النبي عليه الصلاة والسلام قابضاً على شيئين في يده. قال: ففتح اليمنى فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الله الرحمن الرحيم، فيه أهل الجنة بأعدادهم وأحسابهم وأنسابهم، مجمل عليهم إلى يوم القيامة لا يُزاد فيهم ولا يُنقص منهم أحد، وقد يُسلك بالعبد طريق الأشقياء حتى يقال: هم منهم هم هم، ثم يُدرك أحدهم سعادته، ولو قبل موته بفواق ناقة)]. والحديث طويل جداً، وهو ضعيف.

حديث: (لا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له)

حديث: (لا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له) قال: [عن أنس قال: (لا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره -أو برهة من دهره- بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً)]. فهذه النصوص مروعة جداً ومخيفة، وتدلنا على أن الأمر لا يزال في قبضة الرحمن تبارك وتعالى حتى تدخل الجنة فتأمن. قال: [(وإن العبد ليعمل زماناً من عمره عملاً سيئاً لو مات عليه دخل النار، ويتحول فيعمل عملاً صالحاً. وإذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً استعمله فيه قبل موته)]. أي: إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العبد من أهل السعادة استعمله بعمل أهل السعادة، ووفقه لطاعته ولصالح العمل حتى يقبضه عليه. قال: [(قيل: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)]. مثال ذلك: أن أحد العلماء مات في الحرم سنة (1992م)، وهو يلقي درساً في شهر رمضان، والدرس كان بعد العصر، والرجل كان في لحظة موته قد وضع رأسه بين يديه واتكأ على فخذيه، وظننا أنه يفكر في مسألة ما، أو يستجمع أمره أو غير ذلك، فلما طال الأمر قال المستملي وكان بجواره: يا شيخ! يا شيخ! وإذا بالشيخ قد ذهب إلى ربه. أرأيت هذا الموقف؟ إنه موقف عصيب جداً، بل لا أذكر أن واحداً من أهل الموقف في ذلك اليوم إلا وقد بكى بكاء عظيماً جداً حتى خرج بفائدة وعبرة عظيمة ليس بعدها عبرة. وظللنا نضرب الأمثال فنقول: لو أن رجلاً كان خماراً فمات على ذلك، أو مات على الزنا، أو غير ذلك من المعاصي، فكيف سيكون حاله؟

حديث مصير أولاد المشركين يوم القيامة

حديث مصير أولاد المشركين يوم القيامة قال: [عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين؟ قال: الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)]. أي: أن الله قبل أن يخلقهم يعلم أنهم لو عاشوا بعد ذلك ماذا كانوا سيصنعون؟ ولكن الله قدر عليهم الموت في سن قبل سن الحساب وجريان القلم، ولذلك فالله عز وجل يعلم ما العبد يعمل، وما هو إليه صائر قبل أن يعمل العامل، وإذا عمل العامل عملاً صالحاً أو سيئاً ربما نسيه، ولكن الله تبارك وتعالى لا يضل ولا ينسى. وهذا الكتاب الذي تستلمه أنت بيمينك أو بشمالك أو من خلف ظهرك، فيه كل شيء، وهو محل ثواب وعقاب، كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. وقد اختلف أهل العلم في تأويل هذه الآية: هل كل قول يقوله المرء يُحاسب عليه أم يُكتب عليه؟ فبعض أهل العلم قال بظاهر الآية. أي: أن كل شيء يكتب على العبد وإن كان كلاماً مباحاً لا ثواب فيه ولا عقاب. وجمهور المفسرين على أن الذي يُكتب على العبد هو الكلام الذي يثاب ويعاقب عليه، والذي هو محل مساءلة، ومحل جزاء وحساب، وعليه فإذا كان الأمر كذلك فالله عز وجل علم ماذا سيعمل أولاد المشركين لو أنهم عاشوا بعد بلوغهم الحلم. واختلف أهل العلم في مصير أولاد المشركين، ولم يختلفوا في أولاد الموحدين المؤمنين لو ماتوا قبل بلوغهم سن التكليف، فإنهم لو ماتوا فهم من أهل الجنة، أما أولاد المشركين فلو ماتوا قبل سن التكليف فالعلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: أنهم تبع لآبائهم. أي: أنهم في النار مع آبائهم. القول الثاني: أنهم من أهل الجنة؛ لأن الله تعالى يحاسبهم على أساس فطرتهم -فطرة التوحيد- التي خلقهم عليها أولاً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يولد المولود على الفطرة). وفي رواية: (على فطرة الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وفي رواية مسلم: (ويشركانه). أي: يجعلانه مشركاً. فهذا الولد لم يدخل في هذا الشرك، أو في هذه اليهودية، أو في هذه النصرانية إلا بعد أن يكبر ويميز ويختار هذا الكفر أو هذا التهويد أو هذا التنصير أو غير ذلك، فإذا مات قبل اختياره وقبل تمييزه واعترافه وإقراره بهذا الشرك، فإنه من أهل الجنة؛ لأنه مات على أصل فطرته الأولى، وهي فطرة التوحيد التي خلقه الله تعالى عليها. القول الثالث: التوقف. وأصحاب هذا القول قالوا: الله عز وجل أعلم بمصيرهم، إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. القول الرابع: أن الله تبارك وتعالى يعقد له اختباراً وابتلاءً يوم القيامة، فإذا اختار طريق المعصية وفقه إليها وأدخله النار، وإذا اختار طريق الطاعة وفقه إليها وجعل طريقه إلى الجنة. فهذه هي الأقوال الأربعة فيما يتعلق بمصير أولاد المشركين.

حديث أبي بن كعب في القدر

حديث أبي بن كعب في القدر قال: [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب]. لما لمسألة القدر من أهمية عظيمة، إذ هي أعظم ما يمكن أن تتعامل معها، وهي السلاح التي تسلم به بين يدي الله عز وجل وتطمئن به في الدنيا، وهو أن تقول: آمنا وسلمنا وصدقنا، والخير والشر من عند الله عز وجل. ولذلك حينما سئل أحمد عن القدر؟ قال: هو قدرة الله عز وجل. واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. فحينما تسمع هذا التفسير، أو معتقد أحمد في القدر تقول: قد أجاب أحمد إجابة بعيدة جداً! فنحن نسأله عن معتقده في القدر وهو يقول: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. إذاً: فنحن نعرف هذا، وإذا كنت تعرفه فهذا هو القدر. [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر -وهي كنية أُبي -: إنه وقع في نفسي شيء من القدر، وقد خشيت أن يكون فيه هلاك ديني أو أمري]. أي: أخاف أن يكون هذا الذي يدور في نفسي فيه هلاكي، [فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني]. أي: فأنقذني وعلمني. [فقال] أي: أُبي نصاً رائعاً فيما يتعلق بالإيمان بالقدر، قال: [لو عذب الله أهل سماواته]. أي: من الملائكة، مع أنهم مجبولون ومفطورون على طاعة الله عز وجل. [وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم]، وهذا هو معتقد أُبي، بل هو معتقد السلف. وأنت سوف تقول في قوله: (لو عذب الملائكة): لماذا يعذبهم وهم أهل طاعة، ولا يمكن قط أن تصدر منهم معصية؟ سأقول لك: إن المصيبة هي فيما تقوله، إذ إن معتقدنا الصحيح من الملائكة: أنهم مجبولون على الطاعة، فإن نفسهم هو التسبيح والذكر والتهليل، وهم لا يملون ولا يفترون من طاعة الله عز وجل، والمعصية هذه لا تخطر لهم على بال نهائياً، والله تبارك وتعالى خلقهم من نور، ونزع منهم الشهوة، ولا شهوة لهم إلا شهوة حب الله، وشهوة الذكر والتسبيح والتهليل، والسجود والركوع لله عز وجل، فإذا عذبهم فإنه يعذبهم وهو غير ظالم لهم لأنهم عبيده. وهنا لا بد أن نرجع إلى مسألة أخرى، وهي: هل يجوز أن ننسب الظلم لله عز وجل؟ ولو أنك نسبت الله تعالى إلى الظلم، أو نسبت الظلم إليه لكفرت. وهذا محل اتفاق بين كل الناس، فننفي الظلم عن الله عز وجل أولاً، سواء عذب من شاء أو رحم من شاء، ولو عذب أهل السماوات وأهل الأرض فإنه لا يكون ظالماً؛ لأن الظلم صفة نقص لا تليق إلا بالعباد، بل ببعض العباد، وليس كل العباد ظالماً، وإنما كثرة من العباد ظالمة. فإذا كان بعض العباد يتصف بالعدل والحكمة فرب العباد أولى بذلك، والله تبارك وتعالى قد سمى نفسه بأسماء الكمال كله، والنقص لا يُنسب إلى الله عز وجل، والظلم صفة نقص لا تليق إلا بالمخلوق، ومقابلها تمام العدل، وهو الذي يليق بالله عز وجل، فسواء عذب فلاناً أو رحم فلاناً، فلا ننسب إليه الظلم قط. بل نقول: إن الله تعالى إذا عذب أهل السماوات وأهل الأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم. أي: إنه عذبهم بعدله. ونحن نعلم أن طاعة الطائع لا تنفع المولى عز وجل، كما أن معصية العاصي لا تضر الله عز وجل. إذاً: فعذابه لذلك الظالم أو لذلك العاصي إنما هو يعدله سبحانه، وإنما هو جزاؤه عند ربه على معصيته التي عصى بها، لكن الله تبارك وتعالى عدلاً منه ورحمة وعد ألا يعذب إلا العاصي، بل مجمل العصاة يدخلون في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم. قال: [ولو رحمهم -أي: أهل السماوات والأرض- كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم]. فلا يقولن أحد معكم: لا، فأنا أدخل الجنة بعملي! فقد أخرج الحاكم في مستدركه حديثاً لا بأس به، وهو حسن في الشواهد: (أن رجلاً عبد الله ستمائة سنة، فلما مات أوقفه الله عز وجل بين يديه، وقال: عبدي تدخل الجنة بعملك أم برحمتي؟ فقال: بل يا رب! بعملي -وهنا يظهر لنا مدى سعة رحمة الله عز وجل- فقال الله عز وجل: عبدي من قواك على طاعتي؟ -من الذي أعطاك الصحة التي عبدت بها؟ - قال: أنت يا رب!). إذاً الأصل في الرحمة هو الله عز وجل، ثم عدد الله عز وجل عليه نعمه حتى بلغ إلى نعمة النظر، فأمر الله ملائكته أن يضعوا عبادة ستمائة سنة في كفة ونعمة النظر في كفة لوحدها، فطاشت بتلك العبادة، وثقل الميزان بنعمة النظر، مع أن الأعمى له أن يعبد الله تبارك وتعالى على تلك الحال، بخلاف المريض أو المكسر أو المكسح، فإنه لو نام في الفراش فربما لا يقدر أن يصلي، وكذلك لو ذهبت منه نعمة العقل فإنه لا يستطيع أن يأتي بطاعة لله عز وجل، وليس مكلفاً بطاعة؛ لأنه ليس من أهل التكليف. وبعد أن رأى العبد أن عبادته لا تساوي نعمة واحدة، مع أن نعم الله لا تعد ولا تحصى. قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي

حديث ابن عباس: (احفظ الله يحفظك)

حديث ابن عباس: (احفظ الله يحفظك) قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ردفت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً -أي: كنت خلفه على الدابة- فأخلف يده ورائي)]، أي: أنه أتى بيده من ورائي، وكأنه يحضنه من الخلف. [(فقال: يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟)]، ومعلوم أنه سينفع ابن عباس بهذا وينفع الأمة كلها؛ لأن الخطاب وإن وجه إلى الصحابة بالدرجة الأولى إلا أن الأمة معنية بهذا الخطاب، فالخطاب عام للأمة كلها. قال: [(يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك)]. أي: لو حفظت الله تبارك وتعالى في قلبك وجوارحك، وفي طاعتك، وفي إحسانك، وفي كرمك، وفي أدبك، وفي المحافظة على الفرائض والنوافل والسنن، فإن الله تبارك وتعالى سيحفظك ويوفقك إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. قال: [(احفظ الله تجده أمامك)]، أي: تجده أمامك ولا يمنع هذا أنك تجده أمامك على الحقيقة برحمته وفضله وإحسانه وجوده، [(وإذا استعنت فاستعن بالله)]. وهذه هي عقيدة التوكل على الله عز وجل، والتي غابت من حساب معظم الأمة، فالواحد إذا أراد أن يقضي مصلحة فكر أولاً بالوسيط من البشر، ولا يعتمد أول الأمر على الله تعالى. وقد حدثتني امرأة قبض على زوجها، فقالت: ما تعرف فلاناً وفلاناً؟ فقلت: لا أعرفهم. قالت: إن زوجي حينما أعطاني أرقام التليفونات هذه قال لي: أول ما يعتقلوني اتصلي بالناس هؤلاء، فلن يخرجني من المعتقل إلا هم! فإذا كانوا لا يُخرجوك إلا هم فمن الذي أدخلك؟ بل إنك دخلت بقدر وسوف تخرج بقدر طال الزمن أم قصر، والناس هؤلاء إنما هم سبب فقط، ولذلك الاعتماد على الأسباب اعتماداً كلياً شرك بالله عز وجل، كما أن ترك الأسباب قدح في التوحيد، ولو كان ترك الأسباب أمراً مشروعاً فهل تستطيع إنجاب الولد بغير زوجة، والشبع بغير طعام، والري بغير شراب؟ مستحيل. وعليه فلا تقل: إن الجنة هذه لو كانت بقدر، وأن هذا مكتوب وجف به القلم فأنا لا أشتغل! إذاً فنحن نريدك أن تشبع دون أن تأكل، ونريدك أن تأتنا بالولد دون أن تتزوج وأنت لا تستطيع ذلك. إذاً: الأسباب مسألة ضرورية ومهمة جداً. قال: [(وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، رفعت الأقلام وجفت الصحف)]. أي: جف القلم الذي أمره الله عز وجل بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلن يكتب شيئاً بعد ذلك، فأول ما خلق الله خلق القلم فقال له: أقبل فأقبل. فقال له: اكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة. قال: [(لو جهدت الأمة)]، أو [(لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء)]. وليس الضابط الفلاني، أو المدير الفلاني، وإنما الأمة بجميع فئاتها ومستوياتها، ووالله العظيم لو اعتقدت هذا لكنت أسعد الناس، وتمشي مطمئناً وتدخل النار وتخرج من الناحية الأخرى، وإذا قدر الله عز وجل لك الحرق ستُحرق، وليس معنى ذلك أن تذهب بنفسك إلى النار؛ لأن من الأسباب ألا تدخل النار، لكن إن ألقاك أحد في النار فاعتقادك وأنت فيها أن هذه النار هي من قدر الله عز وجل، وإن أمرها أن تكون برداً وسلاماً عليك كما كانت على إبراهيم، فلا يسعها إلا سماع أمر الله عز وجل، وإن قدر لك الحرق ستُحرق بقدر، ويؤتى بك يوم القيامة شهيداً؛ لأن من مات بالحرق شهيد، ولكن ليس المنتحر. قال: [(لو جهدت الأمة على أن ينفعوك بشيء قد كتبه الله لك، ولو جهدت الأمة ليضروك بشيء قد كتبه الله عليك)]. فلا يكون إلا ما قدره الله.

حديث أبي سعيد: (ألا أعلمك لعل الله ينفعك)

حديث أبي سعيد: (ألا أعلمك لعل الله ينفعك) قال: [عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! ألا أعلمك لعل الله ينفعك؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله يكن أمامك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، تعرف إلى الله في الرخاء)]، وهذه مصيبتنا اليوم، إذ إننا نتعرف إلى الله في الشدة، وحينما نخرج من هذه الشدة ننسى الله عز وجل وننسى طاعته وأمره ونهيه. قال: [(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، جرى القلم بما هو كائن)]. أي: أن القلم كتب كل شيء. قال: [(فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يعطك الله لم يقدروا عليه)]. أي: لو أنك أتيت بمليون لواء ليخرجوك من الحبس فلا يمكن ذلك، إلا إذا كان مقدر في اللوح المحفوظ أنك ستخرج منه بسبب فلان وفلان. قال: [(ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئاً قدره الله لك وكتبه لك ما استطاعوا)]. فالمدير حين يقول لك: إذا لم تلتزم بعملك سأفصلك وأقطع عيشك ورزقك، فقل له: أنت كذاب. وليس معنى هذا أنه حين يفصلك من العمل أنك تأتيني وتقول لي: شغلني. فالشغل ليس بيدي وإنما بيد الله، فلا تحملني مسئوليتك. وقد حصل لي مثل هذا، جاء رجل فقال: إن المدير قال له: صل الظهر مع العصر حينما تذهب. فقال له: وهل أنا مسافر لكي أصلي الظهر والعصر جمع تأخير؟ الكلام هذا غير صحيح. فقال له: سنقطع عيشتك من هنا. قال له: أنت كذاب، فطرده. إذاً: كان قوله له: (أنت كذاب) بقدر، ولو لم يكن مكتوب لما قالها، وحينما طرد الرجل هذا من الشغل كان أيضاً بقدر، فهل أنت تسأل الله عز وجل أم لا؟ وهل تريد أن تدخل الجنة من غير ابتلاء؟ إن هذا الرجل يحاربك في أصل دينك فكيف تقعد معه؟ أنت مطالب أن تصاحب الخليل الذي هو على مثل نهجك وإيمانك، (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). ففي هذه الحالة حينما تخرج من شغلك لا تأت إلي في مسجد الرحمة فتقول: أنت قلت لي أن أقول للمدير: أنت كذاب! وأنا الحمد لله خرجت فابحث لي عن شغل. سأقول لك: أنا آسف، فهذا الشغل ليس لي ولكنه رزق من السماء، والمطلوب منك أن تسعى، والله تبارك وتعالى سيرزقك. وقد قابلت أنا والشيخ عبد الفتاح الزيني رجلاً نصرانياً أسلم، ووالله إنه ليأكل من القمح الذي يُلقى للحمام في المسجد الحرام، ويقول: لا يمكن أقبل شيئاً من أحد، فأنا أسلمت لله عز وجل فقط لا لأحد. ونحن الآن نرى أناساً ممن أسلموا في الشارع وورق إشهار إسلامهم في أيديهم يتسولون بها، وهذا المنظر في الحقيقة يغيظني جداً، والذي يسألني بإسلامه وإيمانه وتحوله من الكفر إلى الإسلام أنهره نهراً شديداً جداً، ولا أملك نفسي قط، والذي لا أملك نفسي أمامه من باب أولى أنه لا يزال حديث عهد بالإسلام، فيأتي يقعد على الكرسي ويحدث مشايخ المسلمين ويحدث علماءهم وطلاب العلم. ما هذا؟ أنت لا تزال حديث عهد بالإسلام، وعمرك في الإيمان والإسلام يوم واحد، ثم تأتي الآن وتحدثنا عن محاسن الدين الإسلامي؟! يجب عليك أن تقعد وتبرك عند الركب ثلاثين عاماً حتى تتعلم دينك، كما قد تجد الجماعة الفلانية أو الجماعة العلانية تقول لك: أسلم المفكر الإسلامي العظيم، والذي عمل كذا وكذا، ثم من اليوم التالي يأتي ليلقي دروساً في المساجد! والله المستعان.

حديث عبادة بن الصامت في القدر

حديث عبادة بن الصامت في القدر قال: [عن عطاء بن أبي رباح قال: سألت ابن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟] وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من كبار الصحابة. [قال: جعل يقول: يا بني اتق الله! واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره]. فيأمره بتقوى الله، ثم يقول له: إنك لا تستطيع أن تبلغ تقوى الله إلا بالعلم؛ إذ كيف تتقي الله وأنت لا تعرف الله عز وجل، ولا تعلم ما تتقي ومن تتقي؟ فكيف تكون تقياً أو متقياً وأنت لا تعلم من تتقي أو ما تتقي؟ ثم أمره بالتوحيد، وعلى رأس التوحيد والإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره. [قلت: يا أبتي كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإن مت على غير هذا دخلت النار]. أي: أن تعلم أن ما أصابك من خير فلن يفوتك، وما فاتك فلا يستطيع أحد أن يجلبه إليك، وهذا مجمل اعتقادنا في القدر. قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: ما أكتب؟ فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد)].

حديث: (سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله)

حديث: (سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله) قال: [عن عطاء بن أبي رباح: كنت عند سعيد بن المسيب جالساً فذكروا رجالاً يقولون: إن الله قدر كل شيء ما خلا الأعمال]. أي: أن كل شيء من قدر الله إلا الأعمال. وتصور حينما يسمع البخاري عليه رحمة الله شيئاً كهذا، فينتفض وينبري قلمه للرد على من اعتقد ذلك بتأليف كتاب كامل مسند اسمه: (خلق أفعال العباد)؛ ليرد على هؤلاء الذين يقولون: إن الله عز وجل قدر كل شيء إلا الأعمال. قال عطاء: [فوالله ما رأيت سعيداً غضب غضباً أشد منه حتى هم بالقيام. فقال: ثم سكت. ثم قال: تكلموا به؟ أما والله لقد سمعت فيهم حديثاً كفاهم به شراً، ويحهم لو يعلمون! قال: قلت: رحمك الله وما هو؟ قال: حدثني رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون)]. إذاً: فالذي يُنكر القدر ولو في جزئية من جزئياته فإن حكمه أنه كذب الله، وكفر بالله، وكفر بكلام الله عز وجل، وهو القرآن والسنة. [قال: قلت: (يقولون ماذا يا رسول الله؟)]. أي: ما هو سبب كفرهم هذا؟ [(قال: يقولون الخير من الله، والشر من إبليس)]. وفي هذا الزمان الكثير من الناس يقولون هذا، والقدرية يقولون هذا، بل هم أصل هذا البلاء، [(يقولون: الخير من الله، والشر من إبليس، ويقرءون على ذلك كتاب الله، ويكفرون بالله وبالقرآن بعد الإيمان والمعرفة، فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء، ثم يكون المسخ فيهم عاماً، أولئك قردة وخنازير، ثم يكون الخسف قل من ينجو منهم)]، أي: أن المسخ والخسف قائم في الأمة، وهذا من علامات الساعة، والمسخ أن يُمسخ البشر قردة وخنازير على الحقيقة، وهذا مذهب من المذاهب، وأن الإنسان يتحول إلى خنزير أو يتحول إلى قرد، وذلك كعقوبة من الله عز وجل لا أن أصل الإنسان قرد، وإنما يتحول بعد أن يخلقه الله تعالى آدمياً مكرماً معززاً، فيعيش في وحل المعاصي، فالله تبارك وتعالى يعاقبه بأنه يجعله قرداً أو خنزيراً. وإذا كان هذا المسخ على الحقيقة -وهو مذهب كثير من أهل العلم- فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: صعدت جداراً قد مسخ الله تبارك وتعالى أهل هذا الجدار بسبب معاصيهم، فلما نزلت على سلم أقبلوا إلي، إذ إنهم يعرفونني ولا أعرفهم. لأنهم خنازير وقردة. ولذلك فهذا مذهب كثير من أهل العلم أن المسخ حصل على الحقيقة في صدر هذه الأمة، والسند إليه فيه نزاع، والراجح أنه حسن، ذكره الحافظ ابن كثير، وذكر كلاماً كثيراً جداً وعظيماً حول تفسير المسخ. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يسبق أحدكم الإمام فإن من سبق إمامه حول الله رأسه رأس حمار، وصورته صورة حمار). والحديث في صحيح البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: وما المانع أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار على الحقيقة، فيكون بدنه بدن آدمي ورأسه رأس حمار؛ لأن العقوبة وقعت على الرأس دون غيره كما في الحديث، ولأن أول ما يتحرك من المأموم رأسه، وهو الذي يفكر به، فالله تبارك وتعالى يمسخه ويجعله في صورة حمار على الحقيقة. قال: وربما قصد بذلك مسخه من جهة الفكر والحس، فيكون بليداً كالحمار. ولو كانت القضية هكذا لامتسخت معظم الأمة والله العظيم، فهو لا يمكن أن يكون هذا دين الله عز وجل الذي نحياه الآن، وهذه حياة المسلمين تعج ليلاً ونهاراً بالمعاصي، فهل هذه الحالة الآن يرضاها الله عز وجل أم هي دينه، أو ربع دينه؟ لا يمكن، بل ولا جزء من مليون جزء من دين الإسلام الذي نحن عليه الآن. إذاً هذه الأمة ممسوخة، وامش مع واحد تجده يمشي مع امرأته على اليمين وبناته على الشمال عاريات كما لو كانوا يمشون في شوارع نيويورك وأمثالها، ويتبجح ويتحامق ويقول إنه مسلم، أو أنه موحد. وآخر يفرغ من صلاة الجماعة ثم يجد امرأته تنتظره في السيارة عريانة! ألم تكن قبل قليل تعبد الله عز وجل؟ إن الذي أمرك أن تعبده أمرك أيضاً أن تستر امرأتك. فيقول لك: أنا حر في امرأتي! فلها أن تمشي عريانة، فالذي أمرك بالصلاة هو الذي يأمرها أن تأمر امرأتك بالحجاب والنقاب، ثم يقول لك: لا تأتي بسيرة امرأتي فهي شريفة! إلى غير ذلك من حماقة وجهل وقلة أدب وسفالة. وعندما تأتي لمناقشته في عقيدته تجده زبالة القوم وحثالة القوم، فتجده لا يقع إلا على كل ساقطة ولاقطة، فهذا واحد يقول: ليس هناك شفاعة في الإسلام، فيوافقه آخر فيقول: هذا كلام منطقي. وآخر يقول: ليس هناك عذاب قبر، فيوافقه آخر أيضاً فيقول: صحيح. وهل هناك عذاب في الدنيا وفي الآخرة؟! وآخر يقول: لا وجود للملائكة، فنحن لا نؤمن بالملائكة إلا بملك نراه. فيقول: صحيح. وما هي الحكمة من إخفاء الله عز وجل لملائكته؟! فتصور أن هذه هي حال المسلمين! وقل أن تجد رجلاً في الأمة كما أراد الله عز وجل وخاص

حديث: (لا يجربني عبدي)

حديث: (لا يجربني عبدي) قال: [عن الزهري عن ابن طاوس عن أبيه قالا: لقي عيسى بن مريم إبليس -وهذا كلام للاستشهاد لا للاحتجاج- فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قُدر لك؟ فقال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل -أي: اطلع هذا الجبل- فترد منه فانظر أتعيش أم لا؟]. وانظر إلى إبليس وهو يقول لعيسى: أنت تعتقد أنه لا يصيبك إلا ما كُتب لك، إذاً فاصعد الجبل هذا وارم بنفسك من أعلاه، وانظر هل تعيش أم تموت؟ [قال ابن طاوس عن أبيه قال: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت. قال: فقال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربه]. أي: يختبر ربه، فيصعد الجبل ثم يرمي بنفسه من أعلاه، ففي هذا الاختبار سوف يموت. ثم قال: [ولكن الله يبتلي عبده. قال: فخصمه]. أي: عيسى عليه السلام غلب إبليس.

حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع)

حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع) قال: [عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله بعثني بالحق، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر)].

حديث: (لن يؤمن من لم يؤمن بالقدر)

حديث: (لن يؤمن من لم يؤمن بالقدر) قال: [وعن شداد قال: خرجت مع ابن عمر إلى السوق فكان أكثر كلامه مع من لقي: سلام عليكم، تعوذوا بالله من قدر السوء]. أي: أن يكون الله قدر لنا سوءاً وشراً، وهذا يعني أن القدر السيئ والشر أيضاً من الله عز وجل. [قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لن يؤمن من لم يؤمن بالقدر خيره وشره)].

سياق ما روي في النهي عن الكلام في القدر والجدال فيه والأمر بالإمساك عنه

سياق ما روي في النهي عن الكلام في القدر والجدال فيه والأمر بالإمساك عنه قال: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج على الصحابة وهم يتنازعون في القدر هذا ينزع آية وهذا ينزع آية)]. أي: يتخاصمون، فهذا يأتي بآية يثبت بها القدر، وهذا يأتي بآية ينفي بها القدر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً [(فكأنما فقي في وجهه حب الرمان)]. أي: غضب حتى احمر وجهه. [فقال: (بهذا أمرتم؟ أو بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ أنظروا إلى ما أُمرتم به فاتبعوه، وما نُهيتم عنه فاجتنبوه)]. [عن علي بن أبي طالب أنه سئل: يا أبا الحسن! ما تقول في القدر؟ قال: طريق مظلم فلا تسلكه]. أليسوا هؤلاء هم السلف؟ إذاً فالذي يتكلم بالقدر بكلام طويل لا بد وأننا نقول: إن هذا المنهج خلاف ما كان عليه السلف، فأنت مطلوب منك أن تؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه من عند الله. [فقال: يا أبا الحسن! ما تقول في القدر؟] وهنا يكرر السؤال مرة أخرى. فقال: بحر عظيم فلا تلجه. فقال: يا أبا الحسن! ما تقول في القدر؟ فقال: سر الله فلا تكلفه]. أي: أن القدر هو سر الله تعالى في الخلق، فلا تتكلف الدخول فيه. قال: [عن عمر قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)]. أي: إذا لقيتهم في طريق فاسلك طريقاً آخر، وليس أن تقول: إن هؤلاء عندهم شبهة في القدر فتذهب لمناقشتهم، وتقيم عليهم الحجة، ثم حين تذهب لمناقشتهم ترجع وتقول: فعلاً عنده حق. وهذه عقوبة من الله عز وجل حول بها قلبك وعقلك وفكرك؛ لأنك خالفت أمره. ودائماً تجد أهل البدع يتخصصون في بدعتهم فقط، وإن شئت فقل: هو أضل من حمار أهله، فلو ناقشته في الصلاة أو الصوم فإنه لا يعرف شيئاً، فحياته كلها وهمه اجتمع في معرفة القدر وشبهات الخصم والرد عليها، وتكلف تأويل النصوص التي وردت في هذا الباب. ولذا أريد أن أقول: إنه يعرف كل شيء عن بدعته، فإذا كنت أنت ليس لديك الوقت لأن تعرف في مسألة واحدة مليون دليل وأنت الآن تؤمن بأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فلو قلت لك: أعطني دليلين اثنين على ذلك، فإنك لن تستطيع. فعندما تجلس عند واحد من هؤلاء، كـ إسماعيل منصور ذلك المبتدع الضال الذي كان سنياً، ولعله ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (ولعل أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). فالقلوب بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء، ويختم لمن يشاء بخاتمة السعادة، ويختم لمن يشاء بخاتمة الشقاوة، فاللهم سلم يا رب. فهنا حينما تذهب إلى واحد قد ألف أن القبر ليس فيه عذاب ولا نعيم، فإنه سيغلبك عندما تناقشه؛ لأنه رجل متخصص في بدعته، ولذا فإن إسماعيل منصور ما تحول إلى مبتدع إلا لدخوله في مناظرات أهل البدع دون أن يتخصص فيها، فقد دُعي للسفر إلى أمريكا ليناظر رجلاً يدعي الألوهية، فلما أتى ما في جعبته ولم يستجب ذلك الإله المزعوم تحول إلى رجل آخر يدعي النبوة، فتأثر ببعض ما عنده، وما تلك النوازح التي تنزح من بئر إسماعيل منصور إلا من مخلفات النقاش مع المجرم الكبير رشاد المصري الأمريكي الذي زعم أنه لا إله، وأنه نبي ملهم. قال: [عن ابن سيرين قال: إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله، فلا أدري من هم؟]. قال: [عن ابن عباس قال: باب شرك فُتح على أهل الصلاة: التكذيب بالقدر] أي: فُتح على أهل القبلة وأهل الإيمان باب من أبواب الشرك، وهو الخوض في القدر [فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم]. أي: لا تناظروهم ولا تخوضوا معهم حتى لا تتأثروا بهم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

أدلة السنة في إثبات القدر [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أدلة السنة في إثبات القدر [2] معتقد أهل السنة والجماعة في القدر أن الله عز وجل يكتب أعمال العباد وأعمارهم وآجالهم وهم لا يزالون في الأرحام، فما من عبد إلا وقد حدد له مصيره إما أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة، إلا أن ذلك لا يمنع صاحب العقيدة السليمة من العمل والسعي فكل ميسر لما خلق له.

بعض الأحاديث الواردة في القدر

بعض الأحاديث الواردة في القدر بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فقد تكلمنا عن القدر في الدروس الماضية، وقلنا: إن القدر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وسردنا الآيات التي تدل على إثبات القدر، ومنها قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. ومنها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وغير ذلك من الآيات. كما ذكرنا بعض النصوص الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن النبي عليه الصلاة والسلام الدالة على إثبات القدر، بل وعن السلف كذلك، ويبقى أن نسرد شيئاً منها في هذه المحاضرة والمحاضرات التي تليها، مع بيان مخالفة القدرية والجهمية وبعض المعتزلة وغيرهم لأهل السنة في ذلك.

حديث أبي هريرة في احتجاج آدم وموسى وذكر بعض رواياته

حديث أبي هريرة في احتجاج آدم وموسى وذكر بعض رواياته أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(احتج آدم وموسى -أي: صارت بينهما محاجة، فصار أحدهما يقيم الحجة على صاحبه- فحج آدم موسى -أي: فغلب آدم بحجته موسى عليه السلام- فقال موسى: أنت خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض)]. يعدد نعم الله عز وجل، ثم يقول: وبسبب خطيئتك أهبطت الناس من الجنة، أو من السماء إلى الأرض. قال: [(قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟ -أي: بكم سنة وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ - قال موسى: بأربعين عاماً)]. أي: أنه موجود في التوراة التي بيد موسى عليه السلام والتي خطها الله عز وجل وكتبها بيمينه أن آدم سيفعل ذلك، وهذا مكتوب على آدم قبل أن يُخلق بأربعين عاماً. قال: [(قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى؟). أي: هل هذا مكتوب في التوراة التي بين يديك؟ (قال: نعم. قال: فتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة)]. أي: أنت تلومني على عمل مقدر ومكتوب عليَّ قبل أن يخلقني الله بأربعين عاماً. [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى)]. أي: أقام عليه الحجة وغلبه، فكانت الحجة لآدم، وهو أول من أثبت من البشر حجية القدر، وأن كل شيء بقدر قبل أن يُخلق المرء. وليس في هذا الحديث حُجة لأهل المعاصي؛ لأن آدم تاب وأناب ورجع إلى ربه، وإلا لكان لإبليس حُجة كذلك. أجمع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ومن قبل ضربنا عدة أمثلة على ذلك، منها: ذلك الرجل الذي زنا وجيء به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليقيم عليه الحد. قال: يا أمير المؤمنين! أتحدني في أمر قد قدره الله عز وجل علي؟! قال: نعم. نحدك بقدر الله عز وجل. أي نقيم عليك الحد بقدر الله، فالذي قدر عليك المعصية هو الذي قدر عليك إقامة الحد. إذاً: ذاك بقدر، وهذا أيضاً بقدر، وغير ذلك من النصوص التي تثبت هذا المعنى. ومنها: امتناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الدخول إلى القرية التي سمع أن بها طاعوناً، فلقيه رجل وهو قافل، فقال: يا عمر أتفر من قدر الله؟ قال: نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله. فالدخول بقدر، والخروج أيضاً بقدر، الإقدام بقدر، والإحجام كذلك بقدر؛ لأن المرء لا يخطو خطوة واحدة إلا إذا أذن الله تبارك وتعالى له بها. فهنا آدم يختلف عن إبليس، فإبليس عصى وغوى واستمر في غوايته وأضل غيره ولم يتب، فكان جزاؤه النار، وأما آدم عليه السلام فعصى وغوى، لكن بعد أن عصى وغوى وأهبط إلى الأرض تاب إلى الله عز وجل، وعليه فالاحتجاج بالقدر على المعصية سبيل الشيطان، وليس في هذا الحديث حجة لذلك؛ لأن آدم قد تاب، فمن وقع في معصية وتاب منها إلى الله عز وجل وتفطر قلبه حسرة وندماً على ما بدر منه وفرط، فله بعد ذلك أن يحتج. ومعنى ذلك أنه لا يُعاقب في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، لكن الله تعالى بفضله ورحمته وكرمه ومنه وعدنا أن من تاب توبة نصوحاً من ذنبه أنه عز وجل يتوب عليه، بل ربما كافأه بحسن توبته أنه يبدل سيئاته حسنات، لكن بشرط: إحسان التوبة. أي: أن يتوب توبة نصوحاً بحيث يتفطر قلبه، ويندم ندماً شديداً جداً على ما بدر منه، ثم يعزم على عدم العودة إلى ما وقع منه من معاص وآثام، وكذلك آدم عصى ثم تاب، واحتج بالقدر بعد التوبة. ولك أن تحتج بالقدر كما احتج آدم على المعصية، لكن هذا لا يكون إلا بعد التوبة. فلا تكن جريئاً على الله عز وجل، فإذا زنى رجل تقول: الزنا بقدر، ومثلها السرقة، فتقول: لو لم يكن الله مقدراً علي أن أسرق لما سرقت. فهذه الصورة لا تجوز في الشرع؛ لأنك الآن تحتج مطلقاً بالقدر على المعاصي، وهذا ليس مسلكاً لأهل الإيمان، وإنما هو مسلك أهل الجحود والنكران. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى: فقال موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض؟! فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاك الله عز وجل كل شيء، واصطفاك على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: تلومني على أمر قد كان كتب علي قبل أن أفعله من قبل أن أُخلق؟ فحج آدم موسى)]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(حج آدم موسى: قال: أنت آدم أبو البشر الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟)]. وانظر كيف أن موسى كانت فيه حدة خاصة على أبيه آدم عليه السلام؟! قال: [(فقال: نعم)]. أي: اعترف بذلك. قال: [(فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه؟ قال: بلى. قال: ألست تجد فيما

حديث جندب بن جنادة في احتجاج آدم وموسى

حديث جندب بن جنادة في احتجاج آدم وموسى قال: [عن جندب أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقي آدم موسى: فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ثم فعلت ما فعلت، وأخرجت ذريتك من الجنة؟ قال: وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وكلمك وقرأك التوراة، فأنا أقدم أم الذكر؟ -أي: في الإيجاد- فقال: بل الذكر)]. أي: الذكر الذي نزل على موسى، رغم أن موسى بعد آدم، بل بعد نوح، وبين نوح وآدم عشرة قرون، أي: ألف عام، وبين نوح وموسى عليه السلام مسافة عظيمة جداً كذلك من الزمن. [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى)]. على اعتبار أن هذا مكتوب في التوراة.

إجماع الصحابة على إثبات القدر وإنكارهم على من ينكر ذلك

إجماع الصحابة على إثبات القدر وإنكارهم على من ينكر ذلك

رواية يحيى بن يعمر لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية

رواية يحيى بن يعمر لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية قال: [وعن يحيى بن يعمر -البصري- قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق -أي: فيه مراهقة وشغب- وكان يتوثب على جيرانه]. أي: يبغى عليهم ويظلمهم ويسرقهم، وهكذا أهل البدع دائماً يكون تاريخهم أسود، فعندما تبحث عن تاريخه تجد تاريخاً لا تطمئن إليه أبداً. قال: [ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص على الناس -أي: أنه كان أيضاً قصاصاً- ثم إنه صار من أمره أنه زعم: أن العمل أنف، من شاء عمل خيراً ومن شاء عمل شراً]. أي: أن الذي يريد أن يعمل خيراً يعمل، والذي يريد أن يعمل شراً يعمل، فالله لا يعرف شيئاً إلا بعد أن يقع! قال يحيى بن يعمر: [فلقيت أبا الأسود الدؤلي فذكرت ذلك له. فقال: كذب ما راينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُثبت القدر]. وهذا يدل على إجماع الصحابة على إثبات القدر؛ لأن الله تعالى عليم بكل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض. قال: [ثم إني حججت وحميد بن عبد الرحمن الحميري، فلما قضينا حجنا وكنا -أي: بالمسجد الحرام- قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر -وهذا الكلام كان بالبصرة؛ لأن أول ما نشأت وانتشرت هذه البدعة في البصرة- فلما أتينا المدينة لقينا أناساً من الأنصار، فلم نسألهم، قلنا حتى نلقى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري] وهذا يدلك على أن هذه الفتنة كانت في أوائل عهد الصحابة؛ لأن ابن عمر وأبا سعيد الخدري كانوا من صغار الصحابة، وكون يحيى بن يعمر وحميد يبحثان عنهما يدل ذلك على أنهما يبحثان عن كبار الصحابة في ذلك الوقت، وإلا لو كانت هذه الفتنة في أول عهد الصحابة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة لكانوا بحثوا عن أبي بكر أو عمر أو أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، لكن حينما نأتي لننظر إلى ابن عمر أو أبي سعيد الخدري ثم ننظر إلى الصحابة الآخرين نجد أن هؤلاء كانوا صغاراً، فمثلاً ابن عمر في غزوة بدر وأحد كان عمره أربع عشرة سنة، وقد ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليجيزه للقتال، ولم يجزه؛ لأنه ما كان يجيز أحداً إلا إذا بلغ خمسة عشر عاماً. ومعنى هذا أنه كان من صغار الصحابة، ولذا فعندما يأتي واحد من البصرة يريد ابن عمر بالذات فلا بد أن يكون ابن عمر في ذلك الوقت كبيراً في السن والشأن، ولا يكون هذا إلا في أواخر عهد الصحابة. قال: [فلقينا ابن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله. قال: قلت: تسأله أو أسأله؟ قال: لا. بل أسأله؛ لأني كنت أبسط لساناً منه -وفي رواية: وكنت أحد منه لساناً- قال: قلت يا أبا عبد الرحمن -وهذه كنية عبد الله بن عمر - إن ناساً عندنا بالعراق قد قرءوا القرآن، وفرضوا الفرائض -أي: التزموا بالفرائض- وقصوا على الناس، يزعمون أن العمل أنف، من شاء عمل خيراً ومن شاء عمل شراً. قال ابن عمر: فإذا لقيتم ذلك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل بمثل أحد ما تُقبل منه حتى يؤمن بالقدر. وفي الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر). ثم قال: [لقد حدثني عمر -وهو أبوه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى لقي آدم فقال: يا آدم أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار)] أي: لولا الخطيئة التي فعلتها ما دخل أحد من ذريتك النار، وإنما كلهم كانوا سيدخلون الجنة. قال: [(فقال: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، تلومني بما قد كان كُتب علي قبل أن أُخلق؟ فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى)]. قال: قال -أي: ابن عمر - لقد حدثني عمر أن رجلاً في آخر عمر النبي عليه الصلاة والسلام جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله أدنو منك؟ -وانظروا إلى هذا الأدب الشديد، أدب المتعلم بين يدي المعلم- قال: نعم. قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته -أي: حتى وضع هذا السائل يده على ركبته هو، لا على ركبة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا يتنافى مع أدب العالم والمتعلم- فقال: ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: نعم. قال: صدقت)]. ومن شأن السائل أنه جاهل، فلا يصدق المجيب ولا المفتي ولا المسئول، ولذلك قال عمر: [(قال: فجعل الناس يتعجبون منه يقولون: ا

رواية ابن بريدة لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية

رواية ابن بريدة لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية قال: [عن ابن بريدة قال: قدمنا المدينة فأتينا عبد الله بن عمر فقلنا: يا أبا عبد الرحمن إنا بأرض قوم يزعمون أن لا قدر. فقال: من المسلمين هم؟ ممن يصلي إلى القبلة؟ قلنا: نعم ممن يصلي إلى القبلة. قال: فغضب حتى وددت أني لم أكن سألته. ثم قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه براء]. أي: أنهم ليسوا مني ولست منهم، ومعنى هذا أنهم ليسوا من المسلمين، ولا المسلمين يمتون لهم بصلة، فالحبل الذي بينهم قد انقطع، ولذلك إجمع الصحابة على أن من تكلم في القدر كافر خارج عن ملة الإسلام وخاصة هؤلاء الغلاة. [ثم قال: إن شئت حدثناك عن النبي عليه الصلاة والسلام. فقلت: أجل. قال: (كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فأتاه رجل حسن الثياب طيب الريح حسن الوجه. فقال: السلام عليكم يا رسول الله. قال: وعليك. قال: يا رسول الله أدن منك؟ قال: ادن. فقلنا: ما رأينا كاليوم رجلاً أحسن ثوباً ولا أطيب ريحاً ولا أحسن وجهاً ولا أشد توقيراً للنبي عليه الصلاة والسلام. ثم قال: يا رسول الله أدن منك؟ قال: نعم. فدنا منه نبذة)]. أي: اقترب منه اقتراباً، وكلمة (نبذة) تفيدنا فائدة وهي: أنه لم يقترب منه حتى لزق ركبته إلى ركبته، ولذا إذا قال بعد ذلك: حتى وضع كفيه على فخذيه، فيكون الذي وضع كفيه على فخذيه هو جبريل؛ لأنه لم يلزق فيه لزوقاً، وإنما دنا منه نبذة. أي: اقترب منه شيئاً يسيراً. قال: [(فقلنا مثل مقالتنا. ثم قال الثالثة: أدن منك يا رسول الله؟ قال: نعم. فدنا حتى ألزق ركبته بركبة النبي عليه الصلاة والسلام. فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتغتسل من الجناية. قال: صدقت. قال عمر: (فقلنا ما رأينا كاليوم رجلاً كأنه يعلم رسول الله، -أي: كأنه هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس جاهلاً، ثم تبين بعد ذلك أنه فعلاً معلم- ثم قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والملائكة، والكتاب، والنبيين، والقدر كله خيره وشره، حلوه ومره)]. إذاً: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس والمعاصي، لكن الذي قدر المعاصي على العبد قدر لها عقوبة وحداً، فتكون المعصية بقدر الله، ويكون الحد أو العقوبة بقدر الله. [قال: (صدقت. فقلنا: والله ما رأينا كاليوم قط فوالله كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما المسئول بأعلم بها من السائل. ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل -أي: اتبعوا هذا الرجل- قال عمر: فقمنا بأجمعنا نطلب الرجل فطلبناه فلم نقدر عليه)]. لأنه بمجرد ما إن خرج من المسجد وغاب عن أعين الناس رجع إلى طبيعته التي خلقه الله عليها، وحجب عن الصحابة، فهو يراهم لكنهم لا يرونه. وتأمل حينما قال لهم: علي بالرجل. لم يعتذر أحد منهم؛ لأنه أمر. [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل جاء ليعلمكم دينكم، وما أتاني في صورة إلا عرفته قبل مرتي هذه)]. أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلا بعد أن ولى. وهناك أمارة أيضاً في صدر الحديث تقول: إن هذا الرجل ليس عادياً، حيث أن عمر يقول: (بينما نحن جلوس عند النبي عليه الصلاة والسلام إذ طلع علينا رجل). ولم يقل إذ خرج علينا رجل، وهذا لا تنطبق على الرجال العاديين. قال: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر). أي: لا غبار عليه ولا تراب، فهو غريب عن المدينة، والمدينة كلها إنما هي عدة البيوت بين جبلين (لا يعرفه منا أحد، ولا يُرى عليه أثر السفر)، أي: أن هذا الرجل إما أنه أتى من الأرض أو أنه أتى من السماء؛ لأنه لو كان من المدينة لعرفناه، وهذا لم يعرفه منا أحد، ولو كان جاء من سفر لكان عليه أثر السفر، فليس في هذا الرجل أي علامة تدل على أنه أتى من سفر، إذاً فلا بد أن يكون رجلاً غير عادي. وفي هذا أيضاً: جواز أن يرى المسلم أو المؤمن الملائكة، لكن على غير صورتهم التي خلقهم الله عز وجل عليها، فقد خلق الله جبريل له ستمائة جناح، والجناح الواحد يسد الأفق. أي: أنك حين ترى جهة السماء لن ترى الشمس ولا النجوم ولا القمر، بل لن ترى شيئاً أبداً؛ بسبب جناح جبريل. مع أنه لا يمكن أن تتصور مخلوقاً له ستمائة جناح، فإذا كان هذا جبريل فما بالك برب جبريل؟! لا يمكن لأحد أبداً، ولا يسمح له ولا يجاز له في أن يطلق خياله لأن يتصور الذات العلية سبحانه وتعالى.

الروايات الواردة في إثبات كتابة مصير العبد قبل ولادته

الروايات الواردة في إثبات كتابة مصير العبد قبل ولادته

حديث ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)

حديث ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) قال: [عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق]. وانظروا إلى هذا الكلام الجميل، فهو عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق، حتى وإن كان الأمر لا تستوعبه عقولنا، لكن ما دام أن الذي حدثنا به هو النبي عليه الصلاة والسلام فهو صحيح. ثم أرأيت إلى إيمان الصحابة؟ فإنه ليس كإيماننا، تجد الواحد منا قد يقول: الشفاعة هذه ليست معقولة، والجنة والنار ليستا بمخلوقتين، وربما قال: لا أؤمن بالجنة أو النار حتى أرى رجلاً من أهل النار يخرج علينا، لطلع لنا واحد من أصحاب النار بعد أن رأى النار بعينيه فيقول: كان أبوك فيقول لنا: آمنوا بالنار والجنة؛ لأنني أنا رأيتها رأي العين. لكن من رحمة الله عز وجل أنه لا يبعث الموتى إلا يوم البعث، وترك الناس بعد أن أنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل، ورزقهم العقل الراجح الذي يميزون به بين الحق والباطل بين الصواب والخطأ. إذاً: فكل يعمل على شاكلته، فالذي يعمل خيراً يجد خيراً، والذي يعمل شراً يجد شراً، حتى وإن كان هذا الكلام لا تستوعبه عقولنا؛ لأنه يخفى الشيء الكثير عنها -أي: عن عقولنا- فأمور الغيب كلها لا تستوعبها عقولنا. أي: حينما نقيسها بالعقل فإننا لا يمكن أن نستوعبها، فمثلاً إذا كان القبر قطعة من الأرض متر في مترين، والكافر يُضرب فيها بمزربة عظيمة حتى يغوص في الأرض سبعين ذراعاً، فكيف هذا؟! إن هذه الأمور تريد قلوباً مؤمنة مسلمة تقول: يا رب سمعنا وأطعنا، وهذا هو الابتلاء في الإيمان. وأما بالنسبة للابتلاء في البدن فهذه مسألة سهلة جداً، بل لا يوجد أسهل منها، فتُضرب وتتألم وتعلق وتكهرب، كل هذه أشياء بسيطة؛ لأنك في النهاية تخرج، ولا سلطان لأحد على قلبك، إنما لو كان هناك سلطان على قلبك فهذه هي المصيبة السوداء، فيتحول قلبك من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو من الثبات إلى الزعزعة والشك، فتدخل بها النار والعياذ بالله. إنما السلطان على البدن إذا أرادوا أخذه فليأخذوه، أما القلب فلا يفرط فيه المسلم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- كان دائماً يدعو ربه بقوله: (اللهم ثبتني على الإيمان). لأنه يعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولذلك يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. فيأتي له واحد ويقول له: نريد منك أن تفتي في المسألة الفلانية بأنها حلال -وهي حرام- فيأتي بأدلة ونصوص ويلويها ليحلل هذه المسألة، أو يأتي بمسألة حلال فيحرمها. مع أنه يتهيأ لي أن الشيطان لا يستطيع أن يفكر بهذه الطريقة، فيعجز أن يلوي نصوص الرحمن، وإلا حينما خاطب الله عز وجل إبليس كان إبليس صريحاً في جحوده ونكرانه وكفره، بينما هؤلاء ليس عندهم صراحة، والمنافقين لم يبلغوا هذا المبلغ أيضاً. قال: [(إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك)]. كل هذا الكلام غيب، ولهذا ابن مسعود قال: أنا مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عندي علم بهذا وما يجري داخل رحم المرأة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتكلم إلا بالصدق، فهو صادق مصدق عليه الصلاة والسلام. قال: [(ثم يبعث إليه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه)]. ما الذي سيأخذه؟ وما هو الشيء الذي هو من نصيبه أو ليس من نصيبه [(وعمله)]. ماذا يعمل؟ حلال أم حرام؟ قد يعمل في الشركة الفلانية، ثم ينتهي عمله فيها، ثم يعمل في شركة أخرى. [(وأجله)]. متى يموت؟ وكم يعيش؟ بالثانية الواحدة. [(وشقي أو سعيد)]. ولذلك الذين يقولون: نحن الآن بالتكنولوجيا قد توصلنا إلى معرفة الجنين: أذكر أم أنثى؟ نقول لهم: لا بأس بهذا الكلام، والشرع لم يمنع منه، وإنما الإسلام تحدى أن تعرف كل شيء عن الجنين. وأيضاً: مسألة الأجهزة التي تثبت الذكورة أو الأنوثة للجنين ليست صادقة في كل ما تقول، فربما تكون صادقة في معظم ما تقول، لكن قد تخطئ أحياناً، والذي لا يخطئ قط هو الله عز وجل. ثم إذا علموا أنه ذكر أو أنثى فهل هذه الأجهزة تعلم شقاوته أو سعادته؟ هل تعرف أن هذا الجنين سيكون من أهل النار أم من أهل الجنة؟ لا تعرف. وهل تعرف رزقه؟ أيضاً لا تعرف؛ لأن الأرزاق بيد الله عز وجل لا يعرفها إلا هو، كما أنهم لا يعرفون ماذا يعمل في المستقبل؟ لكن أحياناً الطبيبة تقول: أنا أعرف البنت هذه أو الابن هذا ماذا سيعمل؟ تقول لك: إنه طبيب مثلي، فهل جرت العادة على أن أبناء الأطباء مثل آبائهم؟ من الممكن أن يعمل عملاً آخر ممتهن وحقير، ويمكن أن يفقد عقله بشرب المخدرات وغير ذلك من البلايا التي تجعل أذكى الناس أغباهم، والمخدرات تدمر خلايا المخ تماماً، فلا يحصل على الإعدادية؛ لأن شرب هذه المادة يبدأ من سنة أولى ابتدائي، ويم

رؤيا محمد بن يزيد الأسفاطي في حديث ابن مسعود

رؤيا محمد بن يزيد الأسفاطي في حديث ابن مسعود قال: [حدثنا محمد بن يزيد الأسفاطي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله حدثت عن عبد الله بن مسعود حيث يقول: حدثني الصادق المصدوق -أعني حديث القدر- فقال: نعم إي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به، ورحم الله الأعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأعمش، ورحم الله من حدث به بعد الأعمش]. فهذه رؤيا منامية يدعو فيها النبي عليه الصلاة والسلام لكل من حدث بهذا الحديث ابتداء من عبد الله بن مسعود -أول السند- إلى الأعمش، ثم دعا دعوة عامة لمن حدث به بعد الأعمش وقبل الأعمش. ومعلوم أن هذه الرؤى إنما هي مبشرات لأصحابها، ولا يؤخذ منها أحكام عند أهل السنة والجماعة. قال: [قال ابن قتيبة في كتاب (مختلف الحديث): حُكي عن أبي الهذيل العلاف]. وهو من مجرمي المبتدعة وليس مبتدعاً فحسب، بل من كبار الضُلال ورأس من رءوس المعتزلة، قد كذَّب بكل شيء، وشكك في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وعمل ليله ونهاره على محاربة أهل السنة في زمانه والتشكيك في المبادئ والمسلمات لديهم. حكى عنه ابن قتيبة: [أنه لما روي له عن عبد الله بن مسعود هذا الحديث فقال: كذب عبد الله بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وهل لك أنت أن تكذب أحد الصحابة؟ وما هي القيمة أن تقول: رسول الله؟ إن الذي يحترم الرسول لا بد أن يحترم أصحابه، والذي يؤمن بالرسول لا بد وأن يؤمن بأصحابه، ولذا فلو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فالصحابة لهم قدسية أخذوها من قدسية النبي عليه الصلاة والسلام، وما أخذوا هذه القدسية إلا لشرف الصحبة. إذاً كيف يأتي هذا ويقول: كذب عبد الله بن مسعود! بل هو الكذاب المجرم الجاحد الكافر. ولذلك قال ابن قتيبة: [وكذب أبو الهذيل الكافر الجاحد لعنه الله].

حديث حذيفة بن أسيد: (إذا مضت على النطفة خمسة وأربعون)

حديث حذيفة بن أسيد: (إذا مضت على النطفة خمسة وأربعون) قال: [عن عمرو سمع أبا الطفيل يقول: قال حذيفة بن أسيد: سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: (إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول الملك: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول الله عز وجل -أي: فيقول الله: شقي أو سعيد- فيكتبانه فيقول الملك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله ويكتب الملك. ويقول: عمله وأجله؟ فيقضي الله ويكتب الملك ثم يطوي الصحيفة فلا يزاد فيها ولا يُنقص منها)، أخرجه مسلم]. وقد اختلف أهل العلم في السن التي يؤمر فيها الملك بكتب الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة، وهي اللحظة التي يؤمر الملك فيها بنفخ الروح، والراجح من أقوال أهل العلم: أن الروح لا تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، وإنما تنفخ بعد أربعين ليلة. وقيل: بعد خمس وأربعين ليلة. وينبني على هذا الكلام: أن الإجهاض حرام بعد الأربعين ليلة، وقبلها جائز، لكن قد تأتيك امرأة تستفتيك وتقول: والله أنا صحتي تعبانة، وعندي كثير من الأولاد، ولا أستطيع تربيتهم، فهل يجوز لي الإجهاض؟ A لا. لأن هذه ليست أعذاراً، والطبيبة أو الطبيب الحاذق المسلم الورع هو الذي يقرر أن هذا الحمل يضر بهذه المرأة، أو يقتلها، أو غير ذلك من الأضرار الجسيمة التي لا قِبل للمرأة بها، وعند ذلك يجوز للمرأة أن تسقط جنينها، أما بعد الأربعين فقد سمعت شيخنا الإمام العلم المبجل الشيخ ابن عثيمين يقول: لو ماتت المرأة لا تُسقِط جنينها وإن كانت صاحبة عذر بعد الأربعين. أي: أنها وإن كانت صاحبة عذر فلا يجوز لها؛ لأن من يقول بهذا الرأي -وهو الصواب- يأخذ المسألة من جانبين: الأول: أن الأربعين حد بين الحلال والحرام، والعذر في الإجهاض، وهو كذلك حد بين جواز الإجهاض وعدمه، فإذا بلغ الجنين في بطن المرأة أربعين يوماً، وكانت صاحبة عذر فلا يحل لها الإجهاض، أما إذا لم يبلغ وكانت صاحبة عذر فيحل لها الإجهاض، وإذا لم تبلغ الأربعين ولم يكن لديها عذر فلا يحل لها ولو كان الجنين ابن يوم واحد.

حديث ابن مسعود: (الشقي من شقي في بطن أمه)

حديث ابن مسعود: (الشقي من شقي في بطن أمه) قال: [عن ابن جريج قال: حدثني أبو الزبير عن أبي الطفيل: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره]. وانظر إلى هذا الكلام الجميل! إذ هو فهم للقدر، وهل هذا ظلم أم عدل؟ أنت تشك في أن هذا عدل؛ لأنه لو كان عدلاً مستقراً عندكم لقلتم: عدل. وليس هناك شيء اسمه ظلم؛ لأن الله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة. إذاً: فلماذا قلنا: إنه عدل؟ A لأنه سبحانه علِم ما سيعملون وما إليه يصيرون فكتبه عليهم. وعلة أخرى: الميثاق الذي أخذه الله على العباد وهم في عالم الذر، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. أي: أنهم شهدوا الله بالربوبية والوحدانية، ولذا عندما أدخلهم الله صلب آدم مرة أخرى، وكانوا بعد ذلك على هيئة البشر، نسوا ذلك؛ لأن الميثاق قد أُخذ عليهم من يوم أن خلق الله تعالى آدم وأخرجنا من صلبه كالذر، فنحن لا نذكر هذا الميثاق، وحجتنا أننا لا نذكر هذا الميثاق، فهل هذه الحجة تنفع بين يدي الله؟ لا. لأن الله أرسل لنا الرسل ليذكرونا بهذا الميثاق، وأنزل الكتب أيضاً لتذكرنا بالميثاق الأول، وعليه فليس لنا حجة بعد ذلك. لكن قد يقول قائل: إذا كان الإنسان مجنوناً فما ذنبه؟ نقول: هذا لا يحاسبه الله؛ لأنه غير مكلف، والقلم مرفوع عنه. [قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه]. أي: أن الشقاوة والسعادة معلومة أزلاً لله عز وجل، وأن هذا العبد بعد استنفاد الحجج معه سيختار طريق الشقاء، فالله تعالى يكتبه شقياً قبل أن يخلقه. قال: [والسعيد من وعظ بغيره]. ولذلك حينما يفكر أحدنا بالسرقة ثم يفكر أن الحد يقام على سارق أمام الجميع، وأن هذا المشهد سيأتي على التلفزيون، والأمة كلها تراه، فإن مليوناً من السرق سيفكر في هذا الموقف قبل السرقة، وعليه فسيكون سعيداً؛ لأنه قد وعظ بغيره، حيث أنه كان يفكر في الشقاء، فحينما رأى نتيجة الشقاء قال: كيف أسرق ربع دينار وأفقد ذراعي؟! فأنا سأذهب لأشتغل وآتي بهذا الربع الدينار، بل وآتي بألف دينار، وهنا يكون قد وعظ بغيره، وهذا باب من أبواب السعادة. إذاً علم الله عز وجل أزلاً أنه سيتعظ بغيره، فكتب أنه من أهل السعادة. [قال: قلت: خزياً للشيطان أيسعد ويشقى قبل أن يعمل؟ قال: فأتى حذيفة بن أسيد فأخبره بما قال ابن مسعود. قال: أفلا أخبرك بما سمعت من النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: بلى. قال: سمعته يقول: (إذا استقرت النطفة في الرحم اثنين وأربعين صباحاً نزل ملك الأرحام فخلق عظمها ولحمها وسمعها وبصرها، ثم قال: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك بالصحيفة، وما زاد ولا نقص)]. أي: دون زيادة ولا نقصان.

حديث أبي هريرة: (السعيد من سعد في بطن أمه)

حديث أبي هريرة: (السعيد من سعد في بطن أمه) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه)]. وهذا الحديث ضعيف، لكن النصوص الأخرى تشهد بصحته.

روايات في إثبات أن العباد ميسرون لما خلقوا له

روايات في إثبات أن العباد ميسرون لما خلقوا له

حديث علي: (ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار)

حديث علي: (ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار) قال: [عن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به في الأرض -أي: أنه أخذ عصا أو شيئاً فظل يضرب به الأرض- ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة -أي: أن هذه المسألة محسومة قديماً- فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ -أي: لماذا العمل؟ لا بد أن تعمل؛ لأنك لا تدري أمن أهل الشقاوة أنت أم من أهل السعادة؟ - فقال: لا اعملوا فكل ميسر لما خُلق له -أي: من خلق من أهل السعادة فبعمل أهل السعادة يعمل، ومن خُلق للشقاء فبعمل أهل الشقاء يعمل- قال: أما ما كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما ما كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10])، أخرجه البخاري عن آدم ومسلم من حديث شعبة]. قال: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي عليه الصلاة والسلام فانتهينا إلى بقيع الغرقد -أي: حتى وصلنا إلى البقيع- فقعد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قعدنا حوله، وأخذ عوداً فنكت به في الأرض، ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا وقد عُلم مكانها من الجنة أو النار، شقية أو سعيدة. فقال رجل: يا رسول الله ألا ندع العمل ونقبل على كتابنا، فمن كان منا من أهل السعادة صار إليها، ومن كان منا من أهل الشقاوة صار إلى الشقوة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر، فمن كان من أهل الشقوة يُسر لعملها، ومن كان من أهل السعادة يُسر لعملها، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5])] إلى آخر السورة.

حديث ابن عمر: (علام نعمل؟)

حديث ابن عمر: (علام نعمل؟) قال: [عن عبد الله بن عمر قال: نزل: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]-فقال عمر: (يا نبي الله! علام نعمل على أمر قد فُرغ منه أم لم يُفرغ منه؟ -أي: هل نحن نعمل شيئاًَ جديداً الآن الله يعلمه وكتبه علينا قبل ذلك، أم شيئاً في المستقبل؟ - قال: لا. على أمر قد فُرغ منه وجرى به القلم -أي: شيء مكتوب قديماً- ولكن كل امرئ ميسر، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5])].

حديث عمران بن حصين في معرفة أهل الجنة من أهل النار

حديث عمران بن حصين في معرفة أهل الجنة من أهل النار قال: [عن عمران بن الحصين أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل أو قيل: (أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: نعم كل ميسر لما خُلق له). أخرجه البخاري ومسلم].

حديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)

حديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) قال: [عن سراقة قال: قلت: (يا نبي الله! خبرنا عن ديننا كأننا ننظر إليه. قال: فيما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير يعملون؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) أخرجه مسلم].

حديث: (إن الله تعالى خلق للجنة أهلا)

حديث: (إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً) قال: [عن عائشة أم المؤمنين قالت: (دُعي رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى جنازة غلام من الأنصار. فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدركه السوء ولم يعمله -لأنه غلام صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجري عليه القلم- قال: أوغير ذلك؟)]. لأنها قالت: طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، ولذلك حينما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الأطفال؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). وفي رواية أنه سئل عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). ومذهب جماهير أهل السنة: أن أطفال المشركين في الجنة، وإجماعهم على أن أطفال المسلمين في الجنة. وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى يختبر ويبتلي أطفال المشركين يوم القيامة، فإذا عملوا صالحاً وقالوا صواباً أدخلهم الجنة، وإذا قالوا غير ذلك أدخلهم النار. والفريق الثالث توقف في أطفال المشركين، ولم يقل فيهم خيراً ولا شراً. فـ عائشة رضي الله عنها حينما شهدت بأن هذا الغلام من عصافير الجنة فطوبى له قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(أوغير ذلك؟ إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً وهم في أصلاب آبائهم)] ولذلك حينما يسمع أحدنا هذا الحديث فإنه لا يطمئن أبداً. فهذا أبو بكر الصديق أحد المبشرين بالجنة يقول: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله. وهذا عمر بن الخطاب يقول: لو نودي في المحشر: كل الناس يدخلون الجنة إلا واحداً لظننت أنني هو. فلا يأمن أحد من مكر الله عز وجل.

حديث كفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام

حديث كفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام قال: [عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً)]. ألم ينكر عليه موسى حينما قتل الخضر الغلام فقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]؟ أي: أمراً منكراً الذي أتيت به. وفي هذا الحديث سلوى لمن كان عنده أو عند امرأته عقم، فيشقى بالليل والنهار لأجل الولد، ويقول: إن الأطباء جميعاً قد قرروا أنه ليس هناك إنجاب، وأيضاً عنده أمل ويسعى، وإن كان يذهب ليشحت ويسرق ويستدين ليعمل عمليات هو يعلم أنه لا فائدة من ورائها، لكنه يعمل هذا كله رجاء في الإنجاب، وفي النهاية تنجب الزوجة ولد طاغية وعاص لله، فيقول: يا ليتني لم أسع، يا ليتني لم أذهب ولم أرجع، ويكره الأولاد ويكره الذرية والحياة بسبب هذا الولد، لذا كانت تربية الأولاد من أصعب الصعوبات، فهي مهمة الأنبياء. أي: أن التربية مهمة الأنبياء جميعاً، فعندما يكون لديك ولد من حُفاظ القرآن وحفاظ السنة وحريص على الصلوات في جماعة، ومؤدب معك ومع أمه وجيرانه والناس أجمعين، فما أسعدك به، لكن حينما يكون عندك ولد كل خطوة بمشكلة ومصيبة فأنت ستكره الأولاد وتكره عيشتهم السوداء، والواحد دائماً يتمنى الولد الصالح الذي يسعد به في الدنيا والآخرة، ولا يتمنى الولد العاصي.

حديث اعتذار الهالك في الفترة والمعتوه والمولود

حديث اعتذار الهالك في الفترة والمعتوه والمولود قال: [عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الهالك في الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ثم تلا هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} [طه:134]). ويقول المعتوه: لم يجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً. ويقول المولود: لم أدرك الحلم -أي: أن كلاً منهم عنده عذره وعلته، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً، لكن الشواهد في الشرع تشهد به- فترفع لهم نار فيقال: اوردوها أو ادخلوها. قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل. قال: ويمسك عنها من كان في علمه شقياً لو أدرك العلم. قال: فيقول: إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب أتتكم؟)]. وهذا الحديث ضعيف. نتوقف هنا؛ لأن هذا الباب فيه أدلة كثيرة، وأدلة إثبات الإيمان بالقدر أدلة ممتعة جداً، وهي مئات الأدلة من كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على النبي محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

أقوال الصحابة في إثبات القدر [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أقوال الصحابة في إثبات القدر [1] الإيمان بالقدر وما يتضمنه من مراتب من جملة أركان الإيمان التي لا يتم الإيمان بدونها، وقد امتلأت كتب الآثار بكلام الصحابة في إثبات القدر، ونكيرهم على الجبرية والقدرية الذين زاغوا عن الهدى القويم، والصراط المستقيم.

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. لا زال الكلام موصولاً عن القدر، والقدر هو سر الله تعالى في الكون، وحكمته من خلق الخلق، ومراتب القدر أربع قد تكلمنا عنها، وقلنا: إن أول مرتبة هي مرتبة العلم. أي: أن الله تبارك وتعالى علم أزلاً ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما كان ذلك كتبه الله تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل المحو ولا الإثبات، ثم قدر ذلك وشاءه لعباده، فشاء لهم الطاعة وشاء لهم البر والخير مشيئة شرعية دينية، محلها ومناطها الرضا، وشاء الله تبارك وتعالى الكفر والكبائر وسائر المعاصي، بمعنى أنه أذن في وجودها في الكون، وأذن الله تعالى في خلقها لا أنه يحبها ويرضاها، بل حذر منها ونهى عنها ورتب عليها العقوبات، ولأجلها أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ومنحك العقل، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة. والمرتبة الرابعة: هي مرتبة الخلق. فأفعال العباد جميعاً مخلوقة لله عز وجل. بمعنى: أنه أذن في وجودها خيرها وشرها، فالخير والشر من الله عز وجل، كما دل على ذلك تلك الآيات الكثيرة التي سقناها في دروس مضت، ثم أقواله عليه الصلاة والسلام وأحاديثه التي مضت في دروسنا أيضاً لإثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل، مع أنه لا يرضى الشر، ولكنه أذن في وجوده ووقوعه، وأذن في خلقه؛ لأن الله تعالى علم أن العبد سيختار طريق المعصية فكتب ذلك عليه، لا أنه سبحانه يرضى المعاصي.

أقوال الصحابة في إثبات القدر وأن الخير والشر من عند الله عز وجل

أقوال الصحابة في إثبات القدر وأن الخير والشر من عند الله عز وجل وها نحن اليوم مع الأدلة من أقوال الصحابة رضي الله عنهم في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل، ولا يجوز لأحد أن يقول: إذا كان الخير والشر من عند الله فلِم يعاقبنا عليه؟ لأنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا بشرط التوبة منها. ولذلك إذا كانت المعاصي من قدر الله فإن العقوبات كذلك من قدر الله، فهل ترضى أن تُقطع يدك؟ سيكون الجواب حتماً: لا. لأنه لا أحد يرضى بذلك، فإذا كنت لا ترضى بقطع يدك فلِم مددتها للسرقة؟ لِم أطلقت ليدك العنان أن تأخذ أموال الناس من أحرازها؟ فإذا كانت المعاصي من قدر الله وهي كذلك، فلا بد أن هذه العقوبات هي كذلك من قدر الله، فلا بد لكل إنسان ذكي عاقل قبل أن يفكر في الذنب أن يفكر في عقوبته، وأن الذنب وعقوبته المترتبة عليه إنما هما بقدر الله عز وجل. وأقوال الصحابة في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل كثيرة جداً لا تكاد تحصى، بل لم يأتنا نص واحد عن صاحب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يبين أن الخير من عند الله وأن الشر من عند الناس؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا أنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد وقدر، فإذا كان هذا الأمر محل إجماع الصحابة رضي الله عنهم فكفى به إجماعاً، بل كفى به دليلاً، فلو لم يأت في كتاب الله آية واحدة ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام حديث واحد لكفى إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الخير والشر من عند الله عز وجل. تصور أمر يُجمع عليه جميع الأصحاب ولم يأتنا مخالف لهم، بل لم يأتنا مخالف لهم حتى ممن أتى بعدهم من أهل السنة والجماعة وممن نهج منهج أهل السنة، فكيف يكون هذا الأمر محل نزاع أو محل خصومة؟

قول أبي بكر رضي الله عنه في إثبات القدر

قول أبي بكر رضي الله عنه في إثبات القدر هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: [خلق الله الخلق فكانوا في قبضته -أي: في قبضة الله عز وجل- فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى -وهي اليمين كذلك؛ لأن كلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، أما الحديث الذي ورد بإثبات الشمال لله عز وجل حديث شاذ كما ذكرنا ذلك بالتفصيل آنفاً- ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة]. أي: هذا كائن إلى يوم القيامة. معنى ذلك: أن الله تعالى علم أهل الجنة سلفاً وأزلاً، وعلم أهل النار أزلاً، بل قبل أن يخلقهم علم أهل الجنة وأهل النار. قال: [عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ قال أبو بكر: نعم. قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ -يُنكر ذلك. أي: إذا كان الله تعالى هو الذي قدر علي الزنا فكيف يعذبني- قال أبو بكر: نعم يا ابن الخنا] يزجره؛ لأنه تكلم في القدر بكلام عجيب لم يرد عن سلف هذه الأمة. [قال: نعم. يا ابن الخنا] أي: يا ابن الفواحش [أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك]. أي: أن يقطع أنفك.

قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إثبات القدر

قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إثبات القدر عن أبي عثمان النهدي رحمه الله -وهو من سادات التابعين، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام- قال: [سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف بالبيت يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها -أي: إذا كنت كتبتني من أهل السعادة- فهو يرجو ربه أن يثبت على أهل السعادة وأن يبقى فيهم حتى يلقى الله عز وجل- وإن كنت كتبتني في الشقوة -أي: من أهل الشقاء والتعاسة- فامحني منها وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب] وتكلمنا أن أم الكتاب لا تقبل المحو ولا الإثبات، أما الصحف التي بأيدي الملائكة فهي التي تقبل المحو والإثبات.

قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إثبات القدر

قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إثبات القدر قال: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ذُكر عنده القدر يوماً -أي: عند علي بن أبي طالب ذكر قوم القدر- فأدخل أصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم بهما على باطن يده، فقال: أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب]. أي: أن هذا قد علمه الله تعالى أزلاً. أي: حينما أدخل السبابة والوسطى في فمه فبلهما بريقه ولعابه فختم بهما باطن كفه قال: هذا الختم والله قد علمه الله تعالى قبل أن يخلق الخلق فكيف لا يعلم سبحانه وقوع الخير والشر من العباد؟ [عن علي قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه -أي: لن يستقر الإيمان في قلبه- حتى يستقر يقيناً غير ظن أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويقر بالقدر كله] خيره وشره. فمسألة القدر تعلقها بالإيمان تعلق عظيم جداً: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر). لأن القدر أمر عجيب جداً، إذ ليس لك أمام القدر إلا التسليم والإيمان والإذعان، فلو قلت: لِم فعل كذا؟ ولِم قال كذا؟ فإنك ستضل كما ضل من قبلك.

قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في إثبات القدر

قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في إثبات القدر قال: [عن عبد الله يعني: ابن مسعود قال: أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه]، أي: من كتب الله تعالى عليه الشقاء قبل أن يخلقه. وهل هذا من الظلم؟ الجواب لا. لأن الظلم نقص لا يليق إلا بالعباد، والله تعالى منزه عن كل نقص، فإن الله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة. إذاً: فلِم كتب الله تعالى هذا العبد من أهل الشقاء وهو في بطن أمه. وهو لم يعمل خيراً ولم يقم على الشر، بل لم يولد بعد، فلم كتبه الله تعالى من أهل الشقاء؟ A لأن الله تعالى علم أزلاً قبل أن يخلق الخلق أن من عباده فلان ابن فلان سيميل إلى الشر مع بيان الشر والخير ووضوحهما له تمام الوضوح، ولكن العبد سيختار طريق الشر، ولذلك العبد له اختيار لأعماله، وليس معنى: أن الله تعالى كتب عليه الشر أنه جعله مقهوراً مجبوراً أن يقع في الشر. لا، فالله تعالى حينما علم أنه سيعمل الشر ويميل إليه ويترك الخير مع معرفته إياه كتب ذلك سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ: أن عبده فلان سيعمل بالشر. وهكذا أعطانا الله تبارك وتعالى كل البينات والحجج، فلم يبق لنا بين يدي الله معذرة، بعد أن بين الله لنا طريق الجنة وطريق النار، لو سألناك عن أي عمل تعمله أو لا تعمله: هل هذا يؤدي إلى الجنة أم إلى النار؟ لو سألناك عن الصلاة لقلت: تؤدي إلى الجنة. فلم تتركها؟ لو سألناك عن الزنا لقلت: يؤدي إلى النار. فلم تأتيه؟ لماذا تدع الطاعة وتُقبل على المعصية، وأنت تعلم علماً يقينياً أن مآل الصلاة الجنة، ومآل الزنا النار، ومع هذا تخالف ما تعلمه من دينك يقيناً؟ علمت ذلك من الكتب التي أنزلها الله عز وجل عن طريق رسله، والله تعالى جعلك مكلفاً بالغاً عاقلاً مميزاً، فأين حجتك التي تحتج بها أمام الله عز وجل؟ هل ستقول: لماذا يا رب! قدرت هذا علي؟ إذا كان الله قدر عليك الزنا فقدر عليك كذلك الرجم أو الجلد، فهل ترضى أن تُرجم أو تُجلد؟ A لا، لا أحد يرضى بذلك أبداً، فلم رضيت بشيء أدى بك إلى إيقاع هذه العقوبة ببدنك؟ ولذلك نحن لو أتيناك بطريقين يؤديان إلى غرض واحد، أحدهما قد امتلأ شوكاً والآخر ممهد ملطف، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين فإنهما جميعاً يؤديان إلى غرضك، فأي الطريق ستسلك؟ لا شك أن ستسلك الطريق الممهد، فلِم تختار طريق الشوك الذي يؤدي بك إلى النار؟ قال: [فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره]. أي: علم الله تعالى أن عبده سيختار طريق النار، فحينما علم ذلك من عبده قدره عليه، وأراده له إرادة كونية قدرية لا شرعية دينية. [عن عبد الله قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يكن]. [عن الحارث قال: سمعت ابن مسعود يقول وهو يدخل أصبعه في فيه قال: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر]. وكأن الإيمان شيء محسوس له طعم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً) فهنا صور النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان بالشيء الذي يؤكل أو يُشرب وله مذاق جميل، لكن لا يتذوق الإيمان على هذا النحو إلا رجل آمن بالقدر. [ويقر ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث من بعد الموت]. [عن ابن مسعود قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة: اصرفوا عنه] أي: أن العبد يأتي عملاً من أعمال الدنيا، والله تبارك وتعالى ينظر له من فوق سبع سماوات، وربما يكون في هذا العمل شر للعبد، فإن الله تعالى يأمر ملائكته أن يصرفوا عبده عن الإتيان لهذا الفعل. قال: [فإني إن يسرته له أدخلته النار -أي: بسبب هذا الفعل- فيصرفه الله عز وجل] أي: فيصرف العبد عن إتيان هذا العمل.

قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في إثبات القدر

قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في إثبات القدر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [العجز والكيس بقدر]. وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فيصح مرفوعاً وموقوفاً. [عن ابن عباس قال: لو أخذت رجلاً من هؤلاء الذين يقولون: لا قدر، لأخذت برأسه وقلت: لولا ولولا]. أي: أن ابن عباس تمنى أن يقتله قتلاً؛ لأنه ينكر القدر. قال: [عن مجاهد قال: قيل لـ ابن عباس: [إن ناساً يقولون في القدر]. أي: هناك ناس تكلموا في القدر، وهذا الأمر كان منكراً جداً لدى الصحابة، فلم يكن يتكلم أحد في القدر، فلما تكلم الناس في القدر أنكر ذلك ابن عباس، بل الصحابة كـ ابن عمر وغيرهم أشد الإنكار. قال: [يُكذبون بالكتاب؟]. لأن الكتاب أثبت القدر خيره وشره، فالذين تكلموا في القدر بعد كتاب الله وبعد سنة النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يريدون؟ وماذا يقولون؟ قال: [يُكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه -أي: لآخذن بناصيته- إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق القلم فأمره أن يكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة]. قوله: (كتب ما هو كائن) أي: قبل أن يخلق الخلق؛ لأن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة، وكان آدم لم يُخلق بعد؛ لأن المقطوع به عند علماء المسلمين أن القلم مخلوق قبل آدم، والقلم جرى بما هو كائن وبما عليه العباد إلى يوم القيامة، وهذا يدل على علم الله الأزلي. قال: [فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه]. أي: على أمر قد علمه الله تعالى أزلاً، فكتبه على العباد وقدره عليهم، وشاءه لهم، وأذن في خلقه وإيجاده ووقوعه، ومنه ما أراده إرادة شرعية دينية مبناها الرضا وهي اتباع الشرع في باب الأوامر، وأما في باب النواهي فإن العبد لو انتهى بما نهاه الله تعالى ورسوله عنه فهذا أيضاً من الإرادة الشرعية الدينية، وإذا وقع فيما نهاه الله عز وجل عنه فإنما يقع فيها بقدر من الله عز وجل، لكن لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي. قال: [عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد -القدر هو التوحيد- فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد]. وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) ابن عباس يقول: القدر نظام التوحيد. أي: أنه أساس التوحيد ومحل الابتلاء والاختبار فيه، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء والقدر نقضاً للتوحيد. [ومن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها]. و [عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس! أرأيت من صدني عن الهدى، وأوردني الضلالة والردى، ألا تراه قد ظلمني؟] فهذا السؤال من جهة العقل له وجه، لكن الدين لا يثبت بالعقل وإنما يثبت بالنقل. يقول له: أليست الهداية والإضلال بيد الله عز وجل؟ ما تقول فيمن صدني وردني وأضلني وأوردني الهلاك والردى والضلالة، ألا يكون قد ظلمني؟ إذاً فمن الذي بيده الضلالة؟ الله عز وجل، والسؤال هذا يطرأ على أذهان الجميع إلا من رحم الله عز وجل من أهل العلم. وانظر إلى ابن عباس ماذا قال له؟ قال: [إن كان الهدى كان شيئاً لك عنده فمنعكه -أي الله عز وجل منعك إياه- فقد ظلمك]. فـ ابن عباس قرب له المسألة من جهة العقل، وإلا فالأصل في هذا المثل ألا يُضرب، لكنه يريد أن يقرب له المعنى في مقابلة سؤاله الذي لا يجوز طرحه. قال: [إن كان الهدى كان شيئاً لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان هو له -أي: ملكه سبحانه وتعالى- يؤتيه من يشاء فلم يظلمك. قم لا تجالسني]. أرأيتم إلى مسائل القضاء؟ تحتاج إلى قلوب واعية جداً، وأفهام نيرة، وقلوب لا تملك إلا الخضوع والذل لله عز وجل، يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى. فليس لك بعد أن علمت أن الهداية والضلال بيد الله عز وجل إلا أن تتعلق بحبال الطاعة، ليس لك إلا ذلك، ترجو ثواب الله وتهرب من عقابه. فلو أنك علمت أن الله تعالى يسوق الرزق إليك عن طريق فلان من الخلق لتملقت له أشد التملق، فلماذا لا تتملق لله عز وجل فهو الأولى بذلك؟ قال: [عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الهدهد يدل سليمان على الماء -مع أن الهدهد هذا طائر ضعيف- فقلت له: كيف ذاك يا إمام! والهدهد يُنصب له الفخ عليه التراب؟]. الصبيان ينصبوا الفخ للهدهد عليه التراب، حتى يأتي الهدهد فيقع فيه؟ أي أنه طائر غبي لا يعرف شيئاً، فكيف ينقر في الأرض وينقب فيها حتى يخرج الماء لسليمان ويدله على أن هذا المكان فيه ماء وأن هذا المكان ليس فيه ماء؟ [فقال -أي: ابن عباس - ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر؟] إذا قدر الله شيئاً

أقوال ابن عمر والحسن بن علي وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في إثبات القدر

أقوال ابن عمر والحسن بن علي وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في إثبات القدر قال: [عن يحيى بن يعمر قال: قلت لـ ابن عمر: إنا نسافر فنلقى قوماً يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف -أي أن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع- قال -أي: ابن عمر - إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء، ثلاث مرات] قال ذلك. وبذلك قال أبي بن كعب وعبادة بن الصامت وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان. وقال الحسن بن علي بن أبي طالب وهو صحابي صغير: [قضي القضاء -أي: قضى الله تعالى القضاء- وجف القلم، وأمور بقضاء في كتاب قد خلا]. يعني: أمور قد قضى الله تعالى أن تكون، وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق. [قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث -أي: إلى ثلاثة أمور-: المرء يفر من القدر وهو لاقيه] المرء يفر من شيء قدر له وهو ملاقيه، فقد تتوقع وجود الشر هنا فتفر منه، فإذا بك تجد الشر ينتظرك على ناصية الطريق الآخر الذي هربت إليه. إذاً: إيماننا بالقضاء يعلمنا حسن التوكل على الله عز وجل. [قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه -وهذه واحدة- ويرى في أعين أخيه القذى فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها]. وهذا معنى الحديث المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) الواحد منا ينظر إلى الناس فيرى عيوبهم مهما دقت وجلت وصغرت، فيستعظمها جداً، ويرى أنه صاحب طاعة، وفيه من العيوب ما ليس في الآخرين، ولكنه لا يُبصر عيوبه وربما لا يرضى بالنصيحة أن توجه إليه؛ وذلك لأنه يرى نفسه أعلى من كل أحد، وأنه قد خلا عن كل مفسدة، فهو يرى في نفسه أنه صاحب طاعة، والآخرين أصحاب معصية، عبد هذه نظرته لا يُرجى خيره قط، فالذي يُرجى خيره أن يكون في عين نفسه حقيراً وفي أعين الناس كبيراً. الثالثة: [ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها]. الصعر: آفة تصيب الحيوانات، فهو إذا أصابت دابته علة وآفة قام بإصلاحها، كأن تكون لديك سيارة إذا اشتكت أي شكوى قمت بإصلاحها من باب الأمان، فمهما كان عيبها صغيراً حقيراً لا بد من أخذ الاستعداد والأهبة لهذا الطريق الطويل، فبينما أنت على هذه الحال نسيت أنك قد امتلأت غشاً وحسداً وبغضاً وضغينة وخيانة وغير ذلك من البلايا القلبية وغير القلبية، ومع هذا لا تُراعي في نفسك إصلاح هذه العيوب.

قول عبد الله بن عمرو بن العاص في إثبات القدر

قول عبد الله بن عمرو بن العاص في إثبات القدر قال: [عن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له -أي: بستان أو مزرعة- بالطائف. قال: ومعه فتى من قريش يزن بشرب الخمر -أي: يعاب عليه أنه يشرب الخمر- فقلت له: بلغني عنك حديث: (أنه من شرب شربة خمر لم يقبل الله توبته أربعين صباحاً، وإن الشقي من شقي في بطن أمه)] قال: نعم. يقر ذلك. محل الشاهد قوله: (وإن الشقي من شقي في بطن أمه) وأنتم تعلمون حديث عبد الله بن مسعود عن الصادق المصدوق، إذا بلغ أربعين يوماً، فمذهب الجمهور: أن الروح تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، ولكن الراجح عند المحققين: أنها تنفخ بعد الأربعين، ويؤمر الملك الموكل بكتابة أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، مع أنه ما زال في بطن أمه، ولكنه يُكتب: هل هو من أهل الشقاء أم من أهل السعادة، فهل في هذا شيء من الظلم؟ لا.

قول أبي الدرداء رضي الله عنه في إثبات القدر

قول أبي الدرداء رضي الله عنه في إثبات القدر قال: [عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذروة الإيمان أربع:] أربعة أشياء هي قمة الإيمان التي تدل على أن صاحبها قد حقق الإيمان الكامل في قلبه وجوارحه. قال: [الصبر للحكم] والحكم هذا من أثقل الأشياء، فأنت إذا كانت لك الصولة والجولة وكان لك الحق في مسألة لطرت بها في الآفاق؛ لتثبت للناس أنك صاحب حق، ولو كنت مخطئاً تعلم ذلك من نفسك لخنست فلا تريد أن يعرف أحد عنك ذلك، ولو قضي عليك بالحق لكرهت ذلك، وتتمنى أن يخفى الحق أو يلتبس على الحكم فيحكم لك، مع أنك تعلم أنك مخطئ، والحُكم هو من خصائص الله عز وجل؛ ولذلك قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فليس الحكم إلا لله عز وجل. ولذلك قال الشافعي عليه رحمة الله: من شرع فاستحسن فقد كفر. لأن التشريع حق لله عز وجل، ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز لأحد من الأمة بأسرها أن يشرع أو أن يأتي بشيء من عند نفسه بين يدي الله عز وجل، وإلا فإنه محاد لله ورسوله مضاد لشرعه، بل كافر بشرع الله عز وجل. فالحكم لله عز وجل لا لأحد غيره، ولذلك لا يرضى به ولا يحقق مراد الله عز وجل في هذا الباب إلا رجل قد اكتمل إيمانه. وأنتم تعلمون على الساحة العالمية في كثير من العصور المتأخرة أن الناس قبل أن يجلسوا على كراسيهم يظنون أنهم يحكمون بشرع الله، فإذا ما جلسوا على هذه الكراسي المزيفة حكموا بآرائهم وأهوائهم ووثائقهم كما حكم التتار بتلك الوثائق المخترعة، فالحكم ثقيل جداً ولا تقوى على حمله إلا قلوب قد امتلأت إيماناً. ولذلك قال أبو الدرداء: [ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر]. وهناك فرق يا إخواني! بين من يصبر على القدر وبين من يرضى بالقدر. يقول علماء التصوف: إن البلاء إذا نزل بالعبد فصبر عليه فعمله عمل صغار القوم، أما كبار القوم فإنهم يرضون به ويفرحون. فحينما تمرض وتعلم أن هذا المرض هو من قدر الله عز وجل فتصبر على ذلك، فهذا بلا شك أجر عظيم جداً وإيمان بالقضاء والقدر، لكن أعلى من ذلك أنك ترضى وتفرح بما آتاك الله عز وجل، وابن تيمية عليه رحمة الله لما سجنوه علم أنهم ليس لهم سلطان إلا على البدن، وسلطانهم أيضاً مقيد بقدر الله عز وجل، فكان يقول: فماذا يفعل أعدائي بي؟ إن سجنوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة. وهل هناك أفضل من الخلوة للذكر والتسبيح والتهليل وقراءة القرآن والصلاة وقيام الليل وغير ذلك؟ فالذي لا يستطيع أن يفعله في خارج السجن يفعله داخله، ولذلك فإن الذين هم بداخل السجون في نعيم نحن لسنا فيه، فنحن مشغولون بدنيانا، أما من كان بالداخل فهو أرق فؤاداً ممن كان بخارجه إلا من رحم الله عز وجل. ولذلك حينما أغلقوا عليه باب السجن تلا آية تغيظ الكفار والمجرمين. قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] أتظنون أنكم في سعة من أمركم، وفي حرية؟ بل أنتم والله المسجونون، وهذه حقيقة، فالواحد فيهم يمشي بحراسة وبمدرعات ومصفحات مدججة، ومع هذا لا يشعر بالأمان، وأنت بعد أن تصلي الفجر تخرج بأي لباس كان وتمشي بحرية تامة، فلا يستطيع أن يعمل مثل عملك هذا هؤلاء المجرمون؛ لأنهم يخافون. قال: [والرضا بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب]. هذا هو الإيمان الكامل.

قول سلمان الفارسي رضي الله عنه في إثبات القدر

قول سلمان الفارسي رضي الله عنه في إثبات القدر قال: [عن أبي الحجاج الأزدي قال: سألت سلمان: ما الإيمان بالقدر؟ فقال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك] الذي ليس لك ولا من نصيبك لو اجتمع العالم كله في صعيد واحد أن يجلبوه لك لا يقدرون، ولا يمكن أن يكون من حظك ولا من نصيبك. وقال أبو نعامة السعدي: [كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره -أي: أني مطمئن وفرح ومسرور بأن الله تبارك وتعالى كتب ما أنا عامل أولاً قبل أن يخلق الخلق- فقال: ثبتك الله! كنا عند سلمان: فحمدنا الله ودعوناه -أي: دعونا الله- وذكرناه فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره، فقال سلمان: ثبتك الله! إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار] وفي رواية: ما هو ذراري؛ وهذا حديث الميثاق الطويل الذي ذكرناه من قبل. قال: فأخذ عليهم العهد: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. إذاً: فقد اعترفوا بالربوبية وبالألوهية وتوحيد الرب تبارك وتعالى الذي ورد في حديث: (ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة). وفي رواية: (على فطرة الإسلام -ثم يأتي بعد ذلك النجس والخبث- فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه). وفي رواية مسلم: (ويشركانه) أي: ويجعلانه مشركاً. قال: [إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارٍ إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة، فمن علم الله تعالى أنه من أهل السعادة فعل الخير ومجالس الخير -أي: وفقه ويسر له هذا- ومن علم الله عز وجل فيه الشقاوة يسره لعمل أهل الشقاوة ففعل الشر وجلس مجالس الشر].

قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه في إثبات القدر

قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه في إثبات القدر قال: [عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره]. المسألة مهمة جداً، أي أن تؤمن بأن كل شيء من خير وشر إنما هو من عند الله عز وجل. [ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه].

قول عائشة رضي الله عنها في إثبات القدر

قول عائشة رضي الله عنها في إثبات القدر قال: [عن عائشة قالت: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة، وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار]. ولذلك أنت تقول: العبد طيلة حياته يعمل بعمل أهل الجنة، فكيف يختم له بالنار؟ فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إنما الأعمال بالخواتيم)، ويقول: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)؟ أي: أنك ترى أن هذا العمل عمل أهل الجنة لا يعمله إلا ناس قد أحبهم الله عز وجل ويسرهم ووفقهم إلى فعل هذا الخير، ولكنه يصلي الفجر معك ويضع رجله على رجليك؛ ويجلس بجوارك ليتجسس عليك ويعرف اسمك ويكتب فيك تقريراً فهذا العمل عمل أهل النار وليس عمل أهل الجنة. قالت: [إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار]. إذاً: فهذا يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولا بد من كلمة: (فيما يبدو للناس)؛ لأن هذه قد وردت في رواية ابن مسعود من طريق آخر، وهي تحل جميع الإشكالات التي وردت في هذا الحديث. وقال محمد بن كثير العبدي: سمعت سفيان الثوري يقول: إن الرجل ليعبد الأصنام وهو حبيب الله. وعبادة الأصنام هذه محببة إلى الشيطان، ولكن العبد يعبد الأصنام وهو حبيب الله؛ لما سبق من علم الله أنه سيُختم له بخاتمة الطاعة، فيكون من أحبائه بعد الهداية لا أثناء عبادة الأصنام: (والأعمال بالخواتيم)، وقال: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) فحينئذ يكون حبيب الله عز وجل.

أقوال التابعين في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل

أقوال التابعين في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل

قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في إثبات القدر

قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في إثبات القدر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [إن الله لو كلف العباد العمل على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء، ولكن أخذ منهم اليسر]. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فلا يستطيع أحد أن يؤدي لله حقاً، فلو أن أحدنا سجد سجدة لله طيلة عمره من أول التكليف والتمييز حتى قبض هل أدى حق الله عز وجل؟ A لا، بل لم يؤد نعمة واحدة من نعم الله عز وجل عليه، ولكن الله رضي منا بالشيء اليسير، فقد فرض علينا خمس صلوات وأعطانا فضلاً منه أجر خمسين صلاة، وهذا فضل عظيم جداً. قال: [إن الله لو كلف العباد العمل على قدر عظمته -أي: على قدر قدره ومكانته سبحانه وتعالى- لما قامت لذلك سماء -وما قدرت على ذلك- ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء، ولكن أخذ منهم اليسر، ولو أراد ألا يعصى لم يخلق إبليس رأس المعصية]. فإبليس هو رأس الشر، فلو لم يخلق الله إبليس هل ستكون في الأرض معصية؟ لا يمكن. لأن مصدر كل معصية هو إبليس، فإذا كان الله تعالى لم يخلق إبليس لم يكن هناك معصية، بل كان جميع الخلق مؤمنين موحدين، لا يعرفون طريق المعصية كالملائكة تماماً: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ولكن الله تعالى حينما علم أن عباده سيفعلون المعصية جعل لهم سبباً في ذلك وهو خلق إبليس، ولكنه عرفهم بأنه عدوهم وحذرهم من اتباعه، ولكن العباد تركوا هذا التحذير ووقعوا في حبائل الشيطان. قال: [عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتاباً فكان فيما كتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة] إلى آخر الكلام. إذاً: يقول: أنا أسأل الله تعالى الذي بيده القلوب، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). يعني: يجعلها كافرة، يجعلها مؤمنة، يجعلها طائعة، يجعلها عاصية، له سبحانه وتعالى في قلوب عباده ما يشاء؛ لأننا ملك له سبحانه وتعالى، كما أن الهداية والإضلال ملك لله عز وجل، فكذلك العباد وقلوبهم ملك لله عز وجل، ومعلوم أن المالك يصنع في ملكه ما يشاء سبحانه وتعالى.

قول الحسن البصري رحمه الله في إثبات القدر

قول الحسن البصري رحمه الله في إثبات القدر قال: [عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن -رحمه الله تعالى- يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82]. قال -أي: الحسن في تفسير هذه الآية- لوح من ذهب مكتوب فيها: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟] عجبت لمن يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه من عند الله كيف يحزن إذا وقع به البلاء؟ [وعجبت لمن آمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله]. هذا الكلام كلام موقوف عن الحسن وفيه نظر؛ لأن العبد إذا أدركه الموت إن كان من أهل الطاعة فرح بلقاء الله عز وجل، وبذلك صحت الأخبار، وأما إذا كان من أهل المعصية فإنه يكره لقاء الله عز وجل، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. عن تمام بن نجيح قال: [سمعت الحسن وقد تاه رجل فأخذ بعنان دابته فقال: أيها الضال المضل! حتى متى تضل الناس؟ فقال الرجل: وما ذاك؟ قال الحسن: أتزعم أن من قُتل مظلوماً فقد قُتل في غير أجله؟ قال -أي: الحسن - فمن يأكل بقية رزقه يا لكع؟] هل يمكن لأحد أن يأكل رزق الآخر؟ وهل يمكن لأحد أن يأخذ عمر الآخر؟ لا يمكن. ولكن أليس داود عليه السلام قد أخذ أربعين عاماً من عمر أبيه آدم؟ هو الوحيد الذي أخذ عمراً من عمر أبيه آدم، أما بقية الخلق فإنه قد كُتبت أعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وشقاوتهم وسعادتهم على النحو المعلوم لدى الله عز وجل كتابة لا تقبل المحو في اللوح المحفوظ. قال: [أتزعم أن من قُتل مظلوماً فقد قُتل في غير أجله؟ فمن يأكل بقية رزقه يالكع؟ خل الدابة] أي: انزل عنها، فإنها أفضل منك. وهل هناك أحد يُقتل قبل أجله؟ فمن يكمل أجله؟ ولذلك من الأخطاء الفادحة جداً في الاعتقاد أنك تذهب لواحد قد مات له ميت فتقول له: البقية في حياتك! هل هو مات قبل أجله؟ ولذلك علمنا النبي عليه الصلاة والسلام عزاءً شرعياً: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل). أي: أن هذا الذي مات مات في أجله، فاصبر واحتسب وليس لك إلا هذا، قد أوجب الله تعالى عليك في هذا الموطن أن تصبر على ما نزل بك من بلاء وتحتسب عند الله عز وجل حتى تؤجر عليه، وتصبر صبراً صادقاً، وترضى رضاء تاماً عن الله عز وجل وعن أفعاله سبحانه وتعالى، لا أن تظل تلطم وجهك وتضع التراب على رأسك، وفي الأخير أنت تعرف أنه قد مات ووضع في قبره، فلماذا الجزع؟ بل تصبر وتحتسب. وقال الحسن: [الشقي من شقي في بطن أمه]. وقال في مرضه الذي مات فيه: [إن الله قدر أجلاً وقدر معه مرضاً -أي: جعل المرض سبباً لنهاية الحياة- وقدر معه معافاة]. لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء. فتداووا عباد الله). فالمرض بقدر الله، وأيضاً العلاج بقدر الله، ومن الناس من يقول: العلاج هذا يقدح في التوحيد. فنقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام عولج من مرضه، وقال: (إن الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوي أصحابه مرة بالتفل ومرة بالدعاء، وكلها أسباب للشفاء فقال: (تداووا عباد الله! ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء) فإذا كان العلاج يقدح في التوحيد فإذا جعت فلا تأكل؛ لأن هذا اعتماد على الطعام، وأنت رجل موحد فاعتمد على الله عز وجل، وإذا عطشت فلا تشرب، وإذا أردت الولد فاحصل عليه دون زوجة!! وفي الحقيقة كل هذا كذب، والأصل أخذ الأسباب وإعمالها في حصول المسبب. قال الحسن في مرضه الذي مرض فيه: [إن الله قدر أجلاً وقدر معه مرضاً، وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب القرآن فقد كذب بالحق]. وقال: [من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام]. كأن القدر هو الإسلام كله، كأن عنوانك في الإيمان والإسلام وثبوتك على ذلك إنما هو إيمانك بالقدر.

أقوال مطرف بن عبد الله الشخير ووهب بن منبه رحمهما الله في إثبات القدر

أقوال مطرف بن عبد الله الشخير ووهب بن منبه رحمهما الله في إثبات القدر قال: [عن مطرف قال: نظرت فإذا ابن آدم ملقى بين يدي الله وبين يدي إبليس]. معنى (نظرت) أي: فكرت وتدبرت وأمعنت في النظر، فتصور لي أن ابن آدم ملقى بين يدي الله وبين إبليس. قال: [فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إبليس]. واجتمع وهب بن منبه وعطاء الخرساني بمكة، فقال له عطاء: يا أبا عبد الله! بلغني أنك كتبت في القدر، أي: كتبت كتاباً عن القدر وتكلمت فيه. قال وهب: [ما كتبت كتباً ولا تكلمت في القدر]. أي: أنا على إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وعقيدته. ثم قال وهب: [قرأت نيفاً وتسعين كتاباً من كتب الله، منها نيف وسبعون ظاهرة لا يعلمها إلا قليل من الناس، فوجدت فيها كلها: أن كل من وكل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر]. وهذا كلام يرد به على الجهمية الذين يقولون: إن الله تبارك وتعالى لا علاقة له بأفعال العباد، وأنها من مشيئة العباد وأعمالهم وأفعالهم، وأن الله لا دخل له بأعمال العباد. ولذلك لو رجعنا إلى نص مطرف قال: [فإن شاء الله أن يعصمه عصمه]. فالعصمة والهداية والضلال بيد الله؛ لأن الله لو ترك عبده لتخطفه إبليس، وتخطف إبليس لهذا العبد إنما هو بقدر من الله عز وجل. [عن ثابت أن مطرفاً قال: نظرت في هذا الأمر ممن كان فإذا بدؤه من الله عز وجل، وإذا تمامه على الله] إذاً: بداية هذا الأمر بيد الله، ونهايته بيد الله عز وجل. قال: [ونظرت ما ملاكه، -أي: ذروة سنامه- فإذا ملاكه الدعاء] لأن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. يقول ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب الداء والدواء: الدعاء على ثلاث مراتب يشرح الحديث: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) أي: لا شيء ينفع مع القضاء إلا الدعاء. وأنتم تعلمون أن الدعاء كذلك بقضاء وقدر، فإن الله تعالى علم أزلاً أنه سيبتلي عبده فلان في المكان الفلاني والزمان الفلاني ببلية فلانية، وأن العبد بقدر الله سيوفق لدعاء يدعوه في هذا الموطن وفي هذا المكان وفي هذه الحالة، وأن الدعاء يكون أقوى من البلاء، إذ يلح فيه العبد بصدق وإخلاص وحسن لجوء وتوجه إلى الله عز وجل؛ فيكون الدعاء أقوى من البلاء الذي نزل، فيدفع الله تبارك وتعالى هذا البلاء بهذا الدعاء؛ لأنه أقوى من البلاء. وأحياناً يكون الدعاء رخواً ميتاً لا روح فيه، فيكون البلاء أقوى منه ويستقر في العبد، وأحياناً يكون الدعاء على قدر مساو للبلاء فيتعالجان أو يعتلجان أو يتناطحان في السماء إلى يوم القيامة، فلا هذا يغلب هذا ولا هذا يغلب هذا، وكله بقضاء الله وقدره وعلمه السابق.

قول كعب الأحبار رحمه الله في إثبات القدر

قول كعب الأحبار رحمه الله في إثبات القدر قال: [عن يونس بن سيف أن عطية بن قيس: أخبره أن رهطاً عادوا كعب الأحبار. - كعب بن ماتع الحميري حينما مرض عاده أناس- فقالوا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟! قال: بخير، عبد أُخذ بذنبه -أي: أني أنا قد أخذني الله تعالى بذنب اقترفته- فإن قبضه الله إليه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، وإن عاقبه ينشيه نظيفاً] أي: يبعثه في الجنة نظيفاً بلا ذنب. هذا الكلام فيه أصول وعقائد عظيمة جداً، منها: الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من عند الله عز وجل. ومنها: أن صاحب الكبيرة أو أن صاحب الذنب يعفو الله عنه، أو يعذبه بذنبه في النار ثم يخرج منها. ومنها: أن العبد العاصي الذي وحد الله وخلط ذلك بمعصية لا يستوي مع عبد كفر بالله عز وجل أصلاً، فإن هذا مخلد، والأول ناج وإن دخل النار أولاً.

قول محمد بن كعب القرظي رحمه الله في إثبات القدر

قول محمد بن كعب القرظي رحمه الله في إثبات القدر وقال محمد بن كعب القرظي: [ما أُنزلت هذه الآية إلا تعييراً لأهل القدر: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]]. ما دون الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته مخلوق. فكلامنا الآن وحديثنا وحركاتنا وسكناتنا وقيامنا وقعودنا مخلوق لله عز وجل، والمرض مخلوق، والذي خلقه هو الله عز وجل، فكل شيء من عند الله بقضائه وقدره، سواء كان خيراً أو كان شراً.

قول علي بن الحسين رحمه الله في إثبات القدر

قول علي بن الحسين رحمه الله في إثبات القدر وقال علي بن الحسين: [إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم فقالوا لله: لِم] أي: لم فعلت كذا يا رب؟! يسألون الله تبارك وتعالى سؤال استنكار: لِم قدر كذا؟ ولِم قضى بكذا؟ ولِم فعل كذا؟ [ولا ينبغي أن يقال لله لِمَ؟] مستنكراً: لِم كذا؟ وكيف فعلت كذا؟ لأن أفعال الله تبارك وتعالى لا تحصر، ولا يقال فيها: لِم ولا كيف.

قول محمد بن علي بن الحسين رحمه الله في إثبات القدر

قول محمد بن علي بن الحسين رحمه الله في إثبات القدر قال أبو عبد الله العطافي -ينقل عن الشيعة- قال: [جاء رجل من أهل البصرة، فسأل عن محمد بن علي بن الحسين بن علي؟ والشيعة يقولون: إنه من رجالنا وأئمتنا فقيل له: هو ذاك الغلام. فقال: فجئت إليه وكأنه ما بلغ بعد -غُلام صغير- قال: فقلت: يا سيدي! إني وافد أهل البصرة إليك، وذاك أن القدر قد نشأ في البصرة، وقد ارتد أكثر الناس، وأريد أن أسألك عنه؟] إن أول من تكلم في القدر هو معبد وبئس المعبد هو، ومعبد شيخه سوسن النصراني، ولذلك أصل كل ضلالة في الإسلام إما نصراني أو مجوسي أو يهودي، وإذا نظرت إلى تاريخ كل بدعة وأصلها لوجدت أن أهل هذه البدعة يضعون أيديهم في أيدي أصل هذه البدعة عندهم حرباً على الإسلام وأهله. [قال: سل. فقلت: أحب الخلوة. فقام فمشى حتى خلا. قال له: سل. فقال: فقلت: الخير؟ فقال لي: اكتب: علم وقضى وقدر وشاء وأراد وأحب ورضي. قال: قلت: زدني. فقال لي: هكذا خرج أو هكذا جاء إلينا أو وصل إلينا]. إذاً: نحن في باب القدر بالذات نتوقف عند الذي جاء عن سلفنا، ولذلك كان كثير من السلف جداً يسكتون إذا سئلوا عن القدر، لا عن عجز وإنما اتباع لسلف هذه الأمة. [قال: قلت: الشر؟ قال: اكتب: علم وقضى وقدر وشاء وأراد ولم يرض ولم يحب]. وفي الخير قال: ورضي وأحب، ولكن في الشر قال: ولم يرض ولم يحب، مع أنه قضى وقدر وأراد وشاء، لكن أراد وقدر وشاء إرادة الشر إرادة كونية قدرية، فليس من الممكن أن يذهب أحد فيزني ثم يقول: أنا سأذهب لأزني، قدر الله ذلك أو لم يقدره، شاءه أو لم يشأه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراده الله، لكن لا يجوز الاحتجاج بهذا، فإذا أردت أن تحتج بهذا فاحتج بالعقوبة أيضاً، ولذلك جيء برجل قد سرق إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو زنى في رواية أخرى، فلما أمر به عمر ليقام عليه الحد، قال: يا عمر! أتحدني في أمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم. نحدك بقدر الله أيضاً. إذاً: الحد أيضاً من قدر الله. [قال: قلت: زدني. قال: هكذا خرج إلينا]. الخير: أراده وقضاه وقدره وشاءه وأحبه ورضيه. والشر: أراده وشاءه وقضاه وقدره ولم يحبه ولم يرضه، ومع هذا أذن في وقوعه وخلقه وإيجاده. فهل أنتم تحبون الكفر أم تكرهونه؟ فالله تبارك وتعالى أشد كراهية للكفر منكم، ومع هذا هل يستطيع أحد أن يكفر دون أن يقدر الله عليه هذا الكفر؟ A لا، والله يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ومع هذا وقع الكفر في الكون، ولكن وقع بإذنه وأمره وإيجاده وخلقه، ولم يحبه ولم يرضه. [قال: زدني. قال: هكذا خرج إلينا]. أي: هذا الذي وصلنا عن سلفنا. قال: [فقال الرجل: فرجعت إلى البصرة فنصب لي منبر في مسجد الجامع، فاجتمع الناس فقرأت عليهم ما كتبت فرجع أكثر الناس]. فقد كان معبد قبل ذلك يُعمل لسانه في غيبة أهل العلم.

قول جعفر بن محمد الصادق رحمه الله في إثبات القدر

قول جعفر بن محمد الصادق رحمه الله في إثبات القدر قال: [قال رجل من الشيعة للصادق: إن القدرية تقول لنا: إنكم كفار. قال: فقال له: اكتب: إن الله عز وجل لا يُطاع قهراً. ولا يعصى قهراً، فإذا أراد الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت، فإن عذب فبحق، وإن عفا فبفضل]. فهل جعفر الصادق يرضى عن الخميني وعصابته؟ لا يرضى عنهم، ونسبتهم إليه نسبة كذب وافتراء. ألم تعلموا أن شاه إيران هذا ليس له في الشيعة ولا في السنة حظ ولا نصيب وفي الإسلام أصلاً، إلا حظاً يتسلى به كما يتسلى الملوك عادة بأهل العلم أو أهل الالتزام أو غير ذلك. قال: اليوم سأعرف هل الشيعة على الحق أم أهل السنة؟ وجمع (11) من أهل السنة، و (11) من الشيعة، يريد أن يلعب ويتسلى، ووضع مناظرة فيما بينهم، فقال رجل من أهل السنة -وهو زعيم الفريق- آمراً لإخوانه: لا تقولوا شيئاً ولا تفعلوا إلا أن تصدروا عني -أي: لا تتكلموا حتى أتكلم أنا- فلما دخل على طاولة النقاش قام بوضع نعله تحت إبطه، فلما رأوه فعل هذا قاموا بتقليده ووضعوا نعالهم تحت آباطهم، فلما دخلوا وجلسوا وضع زعيم أهل السنة نعله أمامه على الطاولة، فوضع أتباعه من أهل السنة أحذيتهم على الطاولة، فتعجب شاه إيران كيف يكون هذا بحضرة الملك؟! فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: عندنا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الشيعة كانوا على زمانه يسرقون النعال، فقام زعيم فريق الشيعة وقال: لم يكن الشيعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهت المناظرة. [قال رجل من الشيعة للصادق: إن القدرية تقول لنا: إنكم كفار. قال: فقال له: اكتب: إن الله عز وجل لا يُطاع قهراً كما أنه لا يُعصى قهراً، فإذا أراد الطاعة كانت -أي: كانت من العباد ووقعت منهم- وإذا أراد المعصية -إرادة كونية قدرية- كانت، فإن عذب فبحق، وإن عفا فبفضله سبحانه وتعالى].

قول زيد بن علي رحمه الله في إثبات القدر

قول زيد بن علي رحمه الله في إثبات القدر [جاء رجل إلى زيد بن علي فقال: يا زيد! أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يُعصى؟ فقال له زيد: أيُعصى عنوة؟ قال: فاقبل يحظر].

قول ربيعة الرأي رحمه الله في إثبات القدر

قول ربيعة الرأي رحمه الله في إثبات القدر قال: [قال غيلان الدمشقي -قدري- لـ ربيعة: يا أبا عثمان! أيرضى الله عز وجل أن يُعصى؟ فقال له ربيعة: أفيعصى قسراً؟] أي: هل يمكن أن يعصى الله رغماً عنه وقسراً عنه سبحانه وتعالى؟ فهذا لا يمكن. [قال: ولا أعلمه إلا قال: يا أبا مروان].

قول سالم بن عبد الله بن عمر رحمه الله في إثبات القدر

قول سالم بن عبد الله بن عمر رحمه الله في إثبات القدر سأل رجل سالم بن عبد الله بن عمر فقال: [أيزني الرجل بقدر؟ قال: نعم. قال: أشيء كتبه الله عليه؟ قال: نعم. قال: فيعذبه عليه وقد كتبه عليه؟ قال: فحصبه] بحصى كانت في يده. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته التي كان يكررها دائماً: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) أي: أن الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.

قول محمد بن سيرين رحمه الله في إثبات القدر

قول محمد بن سيرين رحمه الله في إثبات القدر قال: [قال يحيى بن عتيق: كنا في بيت محمد بن سيرين أنا وسالم بن قتيبة. فقال سالم: لوددنا أنا علمنا ما قول محمد بن سيرين في القدر؟ قال: فدخل رجل فقلنا: سله ما يقول في القدر. فسأله الرجل قال: فنكس محمد ونكسنا مطرقين -أي: أنه سكت وسكتنا؛ لأن الخوض في القدر مصيبة- ثم إن محمداً قال: أيهم أمرك بها؟ ثم سكت ساعة ثم قال: إن الشيطان ليس له سلطان، ولكن من أطاعه أضله].

قول طاوس بن كيسان رحمه الله في معبد الجهني

قول طاوس بن كيسان رحمه الله في معبد الجهني قال طاوس لأصحابه: [احذروا معبد الجهني فإنه قدري أو قال: فإنه كان قدرياً].

قول أبي قلابة رحمه الله في إثبات القدر

قول أبي قلابة رحمه الله في إثبات القدر قال أبو قلابة لـ أيوب: [يا أيوب! اضبط عني أربعاً -أي: احفظ عني أربع مسائل- لا تقولن في القرآن برأيك -لأن هذا محذور شرعي- وإياك والقدر -أي: أن تتكلم فيه- وإذا ذُكر أصحاب محمد فأمسك]. وأنتم تعلمون أن الشيعة وقعوا في جُل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، بل لم ينج من ألسنتهم إلا نفر قليل من أصحابه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان يقول: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي: أقل من النصف. قال: [وإذا ذُكر أصحاب محمد فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء سمعك فيغيروا قلبك]. أي: احذر أن تجتمع بصاحب بدعة. فهؤلاء الأئمة في الأزمنة السابقة كانوا يفرون من أصحاب البدع فرارهم من الأسد مع أنهم أئمة وكانت بإمكانهم مناظرتهم، فالحجة بأيديهم يقيمونها عليهم، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا ليقتدي بهم من يأتي بعدهم، فليس لك أن تقول: أنا من أهل العلم المجتهدين، وسأذهب لأناقش أصحاب التكفير والهجرة، ثم ما إن ترجع من مناقشتك معهم إلا وقد أخذت عنهم الكثير، ثم تقول بأنهم على حق، فهذا ليس ميدانك. نكتفي بهذا، وصلى الله على محمد، وآله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تعليم الرجال للطالبات

حكم تعليم الرجال للطالبات Q بمناسبة الإجازة الصيفية للطلبة والطالبات يسأل كثير من الإخوة في أحد المساجد عن مدى مشروعية تحفيظهم للتلميذات داخل المسجد مع تعليمهن بعض آداب الإسلام، علماً بأن كثيراً من أبناء وبنات المسلمين لا يعلمون عن الإسلام شيئاً، ولو تركناهم وخلينا بيننا وبينهم لزاد فسادهم وفسادهن، وبالتالي يزداد إفسادهن للغير، مع العلم بعدم وجود أخوات يقمن بتحفيظهن وتعليمهن، فإن جاز قيام الإخوة بهذه المهمة، فما هي الاحتياطات اللازم اتخاذها، وإن لم يجز فيتساءلون: ألم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم النساء ويخص لهن يوماً يذهب إليهن فيه. نرجو توضيح المسألة؟ A في الحقيقة تعليم البنات كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام أمر لازم لا يختلف فيه أحد، ولكن ما هي الضرورة إلى أن يتصدر إلى تعليم البنات رجل؟ خاصة وقد أثبت الواقع مفاسد لا نهاية لها، فإذا أرادت البنت أن تتعلم أو أراد والدها أن يعلمها فليأت لها بصاحبة مثلها تتعلم القرآن، وإذا كانت المسائل هذه في نطاق هذه المنطقة فأنا أدل الآباء والأمهات على إرسال أولادهن من الذكور والبنات إلى مسجد نور الإسلام، إذ يقوم على هذا الملتقى العلمي في الصيف إخوة أفاضل جداً فيما يتعلق بتعليم الأولاد القرآن والآداب الإسلامية، وكذلك أخوات هنَّ نقابة قد أُجيزت، فالنقابات التي هناك حافظات خاتمات للقرآن الكريم، حاصلات على إجازة في رواية القرآن الكريم، وهن صاحبات دين كذلك ولا أزكي على الله أحداً. فأيهما يزيدك اطمئناناً: أن تدفع بابنتك إلى شاب مراهق ربما يتسلط عليه الشيطان، أو إلى امرأة مثلها؟ إنما حينما تحتج بحديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه جعل للنساء يوماً يعلمهن فيه! فهذا الحديث صحيح في البخاري في كتاب العلم، ولكن الزمان قد اختلف، والقلوب قد اختلفت والواقع يشهد بذلك. كما أنه لم يكن بين النساء وبين الرجال سترة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، والسترة مشروعة، لكنها لم تكن في زمانه لغلبة الإيمان، وحرص كل رجل على أن يتقرب بتقوى الله عز وجل إليه، وأن يتقيه من النار. فليس لك أن تحتج على جواز أن تتكشف المرأة أمام الرجل، كما هو منهج بعض المساجد أو بعض الجمعيات وتقول: لا دليل على وجوب السترة بين الرجال والنساء، أو بين المعلم والمتعلم حتى وإن كان المعلم رجلاً والمتعلم أنثى! نقول: هناك أدلة، منها أن الله تعالى أمرنا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] وغير ذلك من الأدلة، لكن على فرض أن المسألة ليس فيها دليل فالواقع يشهد بلزوم الساتر والحاجز بين المرأة وبين الرجل، فإننا الآن نسمع عن مصائب لم تكن من قبل، فإنه لم يكن من أحوال القرون الأولى أنه كان رجل يقابل امرأة في الطريق فيجامعها، بل على السيارات، وهل نسيتم ما يحصل في داخل السيارات من اختلاط النساء بالرجال؟

التداوي من الأمراض أمر مشروع

التداوي من الأمراض أمر مشروع Q هل التداوي من الأمراض -كما في الحديث- بالأسباب البشرية فقط أم بالأسباب الطبيعية الإلهية أي: الدعاء والعسل وغير هذا؟ A بالأمرين.

كتابة الأشياء عن المولود وهو في بطن أمه قابلة للمحو والإثبات

كتابة الأشياء عن المولود وهو في بطن أمه قابلة للمحو والإثبات Q الحديث الذي فيه أن الملك يؤمر بكتابة أربعة أشياء عن المولود، هل هذه الكتابة قابلة للمحو والإثبات؟ A نعم. قابلة للمحو والإثبات؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وأم الكتاب: هو الكتاب المحفوظ، وهو لا يقبل محواً ولا إثباتاً بعد الذي أُثبت فيه، أما الذي يقبل المحو والإثبات كما في الآية: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) في الكتب التي بأيدي الملائكة. فإنه كما في الحديث: (صلة الرحم تزيد في العمر)، أو (البر يزيد في العمر)، مع أن العمر هو الأجل، وإذا كان الأجل مكتوباً على نحو واحد لا يتبدل ولا يتغير، فليس لهذا الحديث معنى إلا معنى قد قاله بعض أهل العلم: أن ذلك متعلق ببركة العمر. لكن هناك تأويل آخر لهذا الحديث وهو: أن الله تبارك وتعالى علم أنه سيعطي ويمنح عبده هذا خمسين عاماً، وأخفى ذلك على ملك الأرحام فقال: اكتبه إن كان يصل الرحم فيعيش خمسين عاماً، وإن كان قاطعاً فيعيش ثلاثين عاماً. فهل الملك هنا يعلم يقيناً أن هذا العبد سيعيش ثلاثين أم خمسين؟ الذي يعلم ذلك هو الله، فلما علم الله تعالى أن هذا العبد سيكون واصلاً للرحم كتبه في اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه أحد غيره أن العبد سيعيش خمسين عاماً، ولكن ملك الأرحام إنما يكتب أن عمر العبد سيتردد ما بين الثلاثين إلى الخمسين، على حسب صلته للرحم أو قطعه لها، ولا يعلم ذلك يقيناً بالتحديد، فإذا بالعبد يكون واصلاً للرحم، فيمحى العمر الأول (30) سنة، ويثبت له عمر (50) سنة. وهذا تأويل ابن القيم -وينقله عن كثير من أهل العلم- في كتابه الداء والدواء.

حكم خلط الثمار

حكم خلط الثمار Q ما الحكم في خلط الثمار كالكوكتيل؟ A النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الخليطين أو عن الثمرتين أن ينبذا جميعاً، فنهى كما في البخاري ومسلم عن خلط التمر بالبسر، وعن خلط التمر بالجنيب، والجنيب بالبسر، وأهل العلم اختلفوا في هذا فقالوا: النهي للتحريم، والجمهور: على أن النهي للكراهة، والراجح أنه للتحريم. ثم ذكروا مسألة أخرى: هل الحرمة والكراهة متعلقتان بالمذكور نصاً؟ أي: أنها متعلقتان بأصناف الثمار المذكورة في الحديث؟ الظاهرية وبعض الحنابلة قالوا: بالمذكور نصاً، وجمهور أهل العلم على أن ذلك عام في كل الثمرتين. أي: حينما تضع فراولة وموز وتنقعهم في الماء فهذا خلط قد نهى عنه الشرع. وفي رواية المختار بن فلفل عن أنس رضي الله عنه في سنن النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين). وهذا حديث عام يعم الثمار كلها؛ ولذلك ذهب أهل العلم في الكوكتيل إلى مذهبين: الحرمة والكراهة إذا كان ذلك نقعاً؛ لأن الانتباذ هو النقع.

أقوال الصحابة في إثبات القدر [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أقوال الصحابة في إثبات القدر [2] كثر السؤال عن القدر في زمن الصحابة، وكثر جوابهم عن هذه الأسئلة، حتى إنك لا تكاد تجد صحابياً لم ينبه على مسألة القدر، ويوضح الأمر فيها لمن جاء بعدهم من الأمة، وما ذاك إلا لخطر الانحراف في هذا الباب، وكل من جاء بعد الصحابة والتابعين هم عيال عليهم ويسعه ما وسعهم فيه.

أقوال الصحابة رضوان الله عليهم في إثبات القدر

أقوال الصحابة رضوان الله عليهم في إثبات القدر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. تكلمنا عن القدر وسقنا الآيات ثم الأحاديث التي تدل على أن السلف كانوا يثبتون القدر، وأن من نفى القدر إنما أتى ببدعة في الإسلام. ويبقى أن نتكلم وأن نسرد أقاويل الصحابة رضي الله عنهم في إثبات القدر. فروي في إثبات القدر عن أبي بكر وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة والتابعين.

أقوال الخلفاء الراشدين الأربعة في إثبات القدر

أقوال الخلفاء الراشدين الأربعة في إثبات القدر فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أتاه رجل فقال أبو بكر: خلق الله الخلق فكانوا في قبضته فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام. حينما خلق الله عز وجل الخلق قسمهم إلى قسمين: فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى -وهي اليمين أيضاً؛ لأن كلتا يديه يمين-: ادخلوا النار ولا أبالي. قال: فذهبت إلى يوم القيامة. أي: ذهبت كل طائفة منهما إلى يوم القيامة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن نافع عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ -يسأله عن وقوع المعاصي هل تقع بقدر، أي: هل الله عز وجل قدرها؟ - قال: نعم]. أبو بكر قال: الزنا يقع بقدر، ولعلكم تذكرون أننا حينما تكلمنا عن القدر قلنا: هناك مشيئة كونية ومشيئة شرعية، أو قدر شرعي وقدر كوني، ولا يلزم في القدر الكوني محبة الله عز وجل، وإنما يلزم في القدر الشرعي، فكل ما في الكون يقع بقدر الله عز وجل من خير وشر، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وقوعه وقدره. فقال الرجل لـ أبي بكر: أرأيت الزنا بقدر؟ قال أبو بكر: نعم. قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ فهذا فهم القدر بمعنى: أن الله تعالى جبره على ذلك. قال: [فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ قال أبو بكر: نعم. يا ابن الخنا! -أي: يا ابن الفحش- أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك]. أي: لو كان عندي الآن من آمره أن يجأ أنفك وأن يضربه لفعلت. قال: [وهذا عمر رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني]، أي: إن كنت قدرت علي الشقاء فامحه عني واجعلني في السعداء، وهذا يثبت أن عمر إنما كان يؤمن أن الخير والشر بيد الله عز وجل، وأن الله تعالى كتب وقدر الخلائق إلى قسمين فجعل أحدهما في النار والآخر في الجنة، فلما خفي هذا عن عمر رضي الله عنه وفي أي القسمين هو ناجى الله عز وجل بقوله: اللهم إن كنت كتبتني شقياً -أي: قدرت علي الشقاء- فسامحني واكتبني في السعداء. قال: [وقال أبو عثمان النهدي: سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف بالبيت قال: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في الشقوة -أي: في فريق الشقاء- فامحني منها وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب]. والمحو والإثبات في الصحف التي بيد الملائكة، أما أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ فلا محو فيه ألبتة؛ لقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] فالمحو والإثبات بيد الملائكة {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] الذي ليس فيه محو ولا إثبات بعد الذي أُثبت فيه. قال: [وعن ابن أبزى قال: أتي عمر فقيل له: إن ناساً يتكلمون في القدر فقام خطيباً فقال: يا أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم في القدر، والذي نفس عمر بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما]. حينما بلغ عمر أن رجلاً تكلم في القدر بمعنى أنكره أو أنكر علم الله عز وجل، وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها قال: والله لا يأتيني أحد يتكلم في القدر إلا ضربت عنقه. وهكذا مهمة الأمراء والولاة والخلفاء: الحفاظ على الدين أولاً، وعلى عقيدة الناس بعد ذلك. قال: [فأحجم الناس فما تكلم فيه أحد حتى ظهرت نابغة الشام]، أي: حتى ظهر من يتكلم في ذلك بالشام. قال: [وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب في الناس يوماً فقال: ما يمنعه أن يقوم فيخضب هذا من هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! أما إذ عرفته فأرنا نبير عترته. فقال: أنشدكم الله ألا يقتل بي غير قاتلي. قالوا: فأوصنا. قال: أكلكم إلى ما وكلكم الله ورسوله إليه. قالوا: فما تقول لربك إذا قدمت عليه؟ قال: أقول: كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم حتى توفيتني، وهم عبادك إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم]. والشاهد قوله: إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم، يدل على أن الصلاح والفساد بيد الله عز وجل. قال: [وهذا عبد الله بن سبع يقول: إن علياً خطبهم بهذه الخطبة. وقال عبد الله بن الحارث: سمعت علياً يقول: ليأتين على الناس زمان يُكذبون فيه بالقدر، تجيء المرأة سوقاً أو حاجتها، فترجع إلى منزلها وقد مُسخ زوجها بتكذيبه القدر]. أي: أن المرأة تترك بيتها وتذهب إلى السوق وزوجها يتكلم في القدر، والمعلوم أن الواحد يقضي حاجته بأسرع وقت في السوق؛ لأنها شر البقاع، فإذا انقلبت المرأة بعد قضاء حاجتها من السوق إلى بيتها وقد اشترت حاجاتها تجد أن زوجها الذي تركته زوجاً ورجلاً قد مُسخ قرداً أو خنزيراً؛ لماذا؟ لأنه يتكلم في القدر. قال: [وعن علي بن أبي طالب قال: إن القدر

قول عبد الله بن مسعود في إثبات القدر

قول عبد الله بن مسعود في إثبات القدر قال: [عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره]. والشاهد هنا في قوله: (فإن الشقي من شقي في بطن أمه) أي: أن الله تبارك وتعالى كتبه من الأشقياء قبل أن يولد، فمن قال: إن هذا ظلم؛ كفر؛ لأنه يقصد أن الذي ظلمه هو الله، والله تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فما بال الله عز وجل كتبه وهو في بطن أمه من الأشقياء؟ وأنتم تعلمون حديث عبد الله بن مسعود: (ويؤمر الملك بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) وهذا يكون بعد تكوين الجنين بأربعين يوماً، وقيل: بمائة وعشرين يوماً، والراجح: أن الروح تنفخ بعد الأربعين لا بعد المائة والعشرين، والمسألة محل خلاف بين أهل العلم. والذي يترجح لدي: أنها تنفخ بعد الأربعين؛ ولذلك لا يجوز الإجهاض بعد الأربعين حتى وإن ماتت المرأة، أما إذا كانت هناك علة وعذر شرعي للإجهاض قبل الأربعين فبها ونعمت، وإن لم يكن هناك عذر حرم الإجهاض أيضاً. قال: (والشقي من شقي في بطن أمه) أي: يختار طريق الشقاء فيكتبه الله عليه حينئذ؛ لأن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك وما قبل ذلك، فعلم الله عز وجل أن هذا العبد قبل أن يكون جنيناً حينما خلقه من ظهر أبيه آدم، أنه سيختار طريق الشقاء رغم إرسال الله عز وجل للرسل، وإنزاله الكتب، وتسخيره العقل السليم لهذا الرجل الذي يميز به بين الحق والباطل، ومع هذا يختار هذا الشقي طريق الشقاء. فإذا كان الأمر كذلك فما الضرر بعد ذلك أن يكتبه الله تبارك وتعالى من الأشقياء؟ قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي، أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يكن]. أي: لا يعترض على قضاء الله وقدره. قال: [ويقول الحارث: سمعت ابن مسعود يقول وهو يدخل إصبعه في فيه: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر، ويُقر ويعلم أنه ميت مُخرج، وأنه مبعوث من بعد الموت وكل هذا بقدر. وقال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة: اصرفوا عنه. فإني إن يسرته له أدخلته النار]. أرأيتم رحمة الله؟ أي: أن المرء يحب أن يفعل شيئاً، وربما يستخير الله عز وجل على فعل هذا الشيء، لكنه قبل أن يستخير يتمنى أن لو يُسر له هذا الأمر، إذاً: الاستخارة هذه ضعيفة جداً، والدعاء فيها يكاد يكون ميتاً؛ لأنه قد عقد قلبه على محبة هذا الشيء وحب الحصول عليه، فـ عبد الله بن مسعود يقول: وإن هذا العبد ليهم بفعل الأمر ويهواه ويشتهيه ولو أن الله تعالى يسره له لكان فيه هلكته، ولكن الله تعالى يصرفه. فكم من رجل كان صاحب خلق ودين، فلما عمل بالتجارة فسدت أخلاقه وضاع دينه، وكم من رجل لما تأمر وتسلط وترأس نسي دينه تماماً، فبسبب معاصيه وانهماكه في معصية الله عز وجل يدخله الله تبارك وتعالى النار، ولو أن الله صرف عنه التجارة من الأول لكان في ذلك النجاة كل النجاة، ولكن العبد إنما يحب ما يراه هو خيراً لا ما يراه الله عز وجل؛ ولذلك شرع الله تعالى الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر -أي: إذا أراد أن يفعل شيئاً- فليركع ركعتين من غير الفريضة -أي نافلة- ثم ليقل: اللهم إني أسألك بعلمك -أي بعلمك السابق الأزلي الذي تعلم به الخير والشر- وأستقدرك بقدرتك وأستخيرك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم -وهذا من الأدب- اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -الذي يريد أن يقدم عليه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أي: في الآخرة- آجله وعاجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان) فكأن العبد يرتمي بكليته في بحر علم الله عز وجل وبحر كرمه وفضله: يا رب اختر لي فأنا لا أعلم شيئاً.

قول عبد الرحمن بن عوف في إثبات القدر

قول عبد الرحمن بن عوف في إثبات القدر قال: [وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مرض مرضاً شديداً أُغمي عليه فأفاق فقال: أُعمي علي؟ قالوا: نعم. قال: إنه أتاني رجلان غليظان، فأخذا بيدي فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين. فانطلقا بي فلقيهما رجل قال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين، فقال: دعاه -أي: اتركاه- فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه].

قول عبد الله بن عباس في إثبات القدر

قول عبد الله بن عباس في إثبات القدر قال: [يقول طاووس -تلميذ ابن عباس -: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر]. أي: النشاط والقدرة والقوة وكذلك الضعف والخوف كل ذلك بقدر الله عز وجل. قال: [وعن ابن عباس قال: لو أخذت رجلاً من هؤلاء الذين يقولون: لا قدر لأخذت برأسه وقلت: لولا ولولا. وقيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر -أي: أنهم يتكلمون في القدر ويقولون: لا قدر- وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأمر إلا بعد وقوعه]. ونحن نعلم أن الإنسان لا يعلم الأشياء المستقبلية التي غابت عنه أو غابت عنه أسبابها حتى تقع؛ ولذلك لو حدث شيء الآن لقلنا: سبحان الله! كيف حدث؟ لم يكن عندنا علم ولا أسباب سبقته ولا غير ذلك، فالذي علم ذلك في الأزل هو الله عز وجل، فهناك أناس يتكلمون في القدر ويقولون: إن الأمر أُنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيكون. وهذا فيه تسوية للخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى. قال: [قيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر، قال: يكذبون بالكتاب؟ -أي: يكذبون بالكتاب الذي أثبت العلم الأزلي لله عز وجل؟ - لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه -أي: لأقطعنه- إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً فخلق القلم -أول المخلوقات- فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة]. فالذي أمر بأن يكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة عالم أم لا؟ A عالم سبحانه وتعالى. قال: [فإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه]. أي: أن الذي يفعله الناس اليوم مقدر في الأزل، وأن الله تعالى علمه من عباده وخلقه؛ فقدره عليهم وكتبه عليهم، هذا من أهل السعادة وذاك من أهل الشقاء. قال: [وقال ابن عباس: القدر نظام التوحيد]، أي هو سلوك الموحدين وطريقهم؛ لأن من كفر بالقدر فقد كفر بالتوحيد وكفر بالله عز وجل؛ ولذلك أفردته النصوص بإلزام الإيمان به، فلما سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فلم يعطف القدر على بقية أركان الإيمان وإنما أفرده (قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله) ولم يقل: وأن تؤمن بالملائكة، وأن تؤمن بالرسل، وإنما قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر) فعطف هؤلاء جميعاً على قوله: (أن تؤمن) ثم أفرد القدر. قال: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)، فلا يصح إسلام العبد ولا إيمانه إلا إذا آمن بالقدر خيره وشره، وأن القدر خيره وشره من عند الله عز وجل، ولكن الله تعالى أراد من عباده الخير وكلفهم به وألزمهم بإتيانه وأثابهم عليه، وأن الشر يقع في الكون بإرادة الله وإذنه مع أن الله قد نهى عنه، وغضب وسخط على من يأتي الشر أو المعصية، لكن هذا لا يُفهم منه أن الخير من الله وأن الشر من الناس. فيكون الشر من خلق الله عز وجل، ومعنى (من خلقه) أي: أن الله تعالى أذن في وجوده ووقوعه في الكون، وإلا لو أراد رجل أن يزني فقال: أنا أزني رغماً عن الله عز وجل. هل يستطيع ذلك؟ أبداً لا يستطيع، إذا كان الله لم يقدر هذا الزنا؛ لأن الزنا لا يقع إلا إذا أذن الله تعالى به، وإن كان الله تعالى حرمه فما قصة وقوعه بقدر؟ A لأنه لا شيء يقع في كون الله إلا إذا أمر الله تعالى به أو إذا قدره وأراده إرادة كونية قدرية لا إرادة شرعية دينية. فالإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا كما اتفقنا، فإن الذي يصلي فيقوم ويركع ويسجد ويجلس ويسلم يمنة ويسرة كل ذلك بقدر، والله تعالى يحب ذلك؛ لأنه خير والله تعالى أمر به، والذي يخطو خطوات لأجل السطو على أموال الغير أو قطع الطريق أو الزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك، هل يستطيع عبد أن ينقل قدماً وأن يحط أخرى إلا بقدر، فإن الذي يمشي إلى الصلاة يمشي بقدر، وإن الذي يمشي إلى السرقة يمشي كذلك بقدر، ولكن الله تعالى يحب المشي إلى الصلاة ويبغض المشي إلى السرقة والكل بقدر الله عز وجل، فإن الله تعالى قدر المشي إلى الصلاة وأمر به وأذن في وقوعه في كونه وأثاب فاعله على ذلك؛ لأنه أطاع الأمر، وفي المقابل الذي يخطو هذه الخطوات للسرقة الله تعالى أذن له وقدر له هذه الخطوات، مع أن الله تعالى أفرغ عذر هذا الرجل بأن أرسل له الرسل وأنزل عليهم الكتب، وبلغته الدعوة، وحذره وبين له أن هذا شر بناء على العقل السليم الذي ركبه في رأسه، وإلا لو زنى مجنون هل يؤاخذ؟ ولو سرق مجنون هل يؤاخذ؟ لو شرب الخمر مجنون هل يؤاخذ؟ لا، ولكن الله تعالى جعل العقل مناط التكليف. ولذلك لو أتيناك بطريقين أحدهما قد امتلأ شوكاً، والآخر قد امتلأ ورداً وقلنا: اسلك أحد الطريقين وكلاهما يبلغ إلى المكان الفلاني أو الغرض الفلاني، فأي الطريقين تسلك أنت؟ الجواب: طريق الورد، فلو سألناك: لِم سلكت هذا الطريق وتركت الثاني؟ لقلت: إن هذا ممهد موطأ معبد، وإن هذا قد امتلأ شوكاً. فالذي جعلك تميز بعقلك السليم بين هذا وذاك يجع

قول ابن عمر في إثبات القدر

قول ابن عمر في إثبات القدر قال: [وعن يحيى بن يعمر قال: قلت لـ ابن عمر: إنا نسافر فنلقى قوماً يقولون: لا قدر. قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات]. فالعلماء حملوا براءة ابن عمر من القدرية على الكفر، ونحن قلنا: إن القدر هذا أربع مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة العلم. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة. المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة. المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق. مرتبة العلم: أن الله تعالى علم كل شيء يفعله العباد من خير وشر، فقدره عليه بعد أن أفرغ حجته. ثم حينما علم الله عز وجل كل شيء كان خلق القلم، وأمره بأن يكتب كل شيء سيكون إلى يوم القيامة. وهاتان المرتبتان منكرهما وجاحدهما كافر خارج عن ملة الإسلام، والذي كان يقول: لا قدر في البصرة وهو معبد الجهني في زمن عبد الله بن عمر كان ينكر علم الله السابق وينكر الكتابة. فالذي ينكر هاتين المرتبتين والمنزلتين كافر خارج عن ملة الإسلام. أما المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة، والمرتبة الرابعة مرتبة خلق أفعال العباد خيرها وشرها فإن النزاع قائم بين أهل العلم في كفر من قال بغير ذلك أو عداه. قال ابن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات.

أقوال أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة وزيد بن ثابت في إثبات القدر

أقوال أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة وزيد بن ثابت في إثبات القدر والكلام في القدر من جهة الصحابة ثابت عن أبي بن كعب وعبادة بن الصامت وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وغيرهم. قال: [قال ابن الديلمي: أتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر! إنه وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني]. أي: أن ابن الديلمي ذهب لـ أبي بن كعب ليستنجد به، وأنتم تعلمون أن أبي بن كعب من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الحفاظ المتقنين المتثبتين. فهو يقول له: دخل في نفسي شيء من القدر فأرجو أن تتكلم حتى يزول عني؛ لأنه يعلم أنه باطل ولكن ربما دخلته الشبهة. قال: [فقال أُبي: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم]. وأهل السماوات هم الملائكة، وهؤلاء الملائكة جبلوا وخلقوا وكتبوا على الطاعة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] أي: أن المعصية لا تأتي من جهتهم قط، فعلام يُعذبون؟ ولكن لو أن الله عذبهم هل يكون ظالماً لهم؟ قال: [إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار]. قال ابن الديلمي: ثم أتيت ابن مسعود فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني بمثل ذلك. فهؤلاء الصحابة قد تكلموا في القدر هنا بكلام جميل جداً وممتع للغاية، ثم نجد أن مسائل القدر حاكت في صدور التابعين ومن بعدهم أيما حياكة، فكان من شأن علماء التابعين ومن بعدهم أنهم كفوا عن الكلام في القدر، وكان يوصي بعضهم البعض فيقولون: إذا ذُكر القدر فأمسكوا، وإذا ذُكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم- فأمسكوا، فكانت هناك مسائل إذا ذُكرت لا يتكلم فيها أحد لا عن جهل، وإنما يرون أن ذلك باب عظيم للفتنة، فقلة الكلام فيه أولى من التصدي له.

أقوال الحسن بن علي وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو وأبي الدرداء في إثبات القدر

أقوال الحسن بن علي وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو وأبي الدرداء في إثبات القدر قال: [وعن الحسن بن علي قال: قضى الله القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خلا]. أي أن الله تبارك وتعالى قدر الأقدار وقضى القضايا قبل أن يخلق السماوات والأرض، فكتب ذلك في كتاب لا يقبل المحو ولا الإثبات. قال: [وعن عمرو بن العاص قال: انتهى عجبي إلى ثلاث -أي عجبت عجباً شديداً من ثلاث-: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في أعين أخيه القذى فيعيبها ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها]. وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه). أي: أن أحدنا يرى من أخيه أدق العيوب وهو عنده أعظم العيوب فلا يراها (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه). قال: [ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها. وعن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف بالوهط، -وهذا اسم الحديقة والبستان الذي تركه عمرو بن العاص رضي الله عنه لولده عبد الله - ومعه فتى من قريش يزن بشرب الخمر -أي: أنه يُعرف بأنه شارب خمر- فقلت له: بلغني عنك حديث: (أنه من شرب شربة خمر لم يقبل الله توبته أربعين صباحاً، وإن الشقي من شقي في بطن أمه). وعن أبي الدرداء قال: ذروة الإيمان أربع -أعلى مسائل الإيمان أربع-: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب تبارك وتعالى]. والشاهد: (والرضا بالقدر).

قول سلمان الفارسي في إثبات القدر

قول سلمان الفارسي في إثبات القدر قال: [وعن أبي الحجاج الأزدي قال: سألت سلمان الفارسي: ما هو الإيمان بالقدر؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. وعن أبي نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله ودعونا فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره. فقال: ثبتك الله، كنا عند سلمان فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره. فقال سلمان: ثبتك الله. إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارٍ إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة، فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير، ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر]. فقوله هنا: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره، أي: إنني أؤمن إيماناً جازماً بما قدره الله عز وجل وقضاه علي أولاً، فأنا أفرح بما قدره الله عز وجل علي أولاً قبل أن يخلقني، وأن عملي وإن كان صالحاً ما هو إلا سبب لدخول الجنة. فهو يفرح بما قدره الله له، ولا يفرح بعمله؛ لأن الأعمال بالخواتيم.

أقوال جابر بن عبد الله وعائشة في إثبات القدر

أقوال جابر بن عبد الله وعائشة في إثبات القدر قال: [وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر]، وأهل العلم يقولون: (لا) هنا نافية لأصل الإيمان: فقوله: (لا يؤمن) أي: لا يؤمن ألبتة عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره. قال: [وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن عائشة قالت: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار]. أي: إن العبد ليعمل عمراً طويلاً بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار، وهذا ليس ظلماً، وتفسره الرواية التي تقول: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)، ولكنه مراءٍ ومنافق بهذا العمل، فلا يعمله لله عز وجل، وإنما يعمله لوجوه الناس، فهو عمل حابط وإن كان في ظاهره صالح إلا أنه عند الله لا يساوي شيئاً؛ لأنه لم يبتغ به وجهه، وأشرك فيه مع الله تعالى آخر؛ ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، أنا أغنى الشركاء عن الشرك أنا أغنى الشركاء عن الشرك أنا أغنى الشركاء عن الشرك).

أقوال التابعين رحمهم الله في إثبات القدر

أقوال التابعين رحمهم الله في إثبات القدر

أقوال سفيان الثوري وعمر بن عبد العزيز في إثبات القدر

أقوال سفيان الثوري وعمر بن عبد العزيز في إثبات القدر قال: [وقال محمد بن كثير العبدي: سمعت سفيان الثوري يقول: إن الرجل ليعبد الأصنام وهو حبيب الله]. وليس هو حبيب الله في وقت عبادته للصنم، وهذا معلوم بداهة، وإنما هو حبيب الله لأن الله تبارك وتعالى قدر أن هذا العبد سيتوب وسيعبد الله تبارك وتعالى. فـ عمر رضي الله عنه كُتب له في اللوح المحفوظ أنه من أهل السعادة قطعاً؛ لأن النبي قطع بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذا عمر كان يعبد الأصنام، وحينما كان يعبد الأصنام سبق في علم الله عز وجل أنه يتوب وأنه يؤمن وأنه يعبد الله تبارك وتعالى، بل يحارب الدنيا بأسرها لأجل عبادة الله، فهل كان مكتوباً أولاً أنه من أعداء الله ثم تغير اللوح المحفوظ وأُثبت مكان هذه العداوة محبة، أم أنه كان مكتوباً أولاً أنه سيكون من أحباب الله؟ بل حتى في اللحظة التي كان يعبد فيها الصنم كان مكتوباً أنه سيكون من أهل السعادة ومن أهل محبة الله عز وجل. فهذا معنى كلام سفيان الثوري حتى لا تستنكره: إن الرجل ليعبد الأصنام وهو حبيب الله. ليس حبيب الله عز وجل لأنه يعبد الأصنام، وإنما هو حبيب الله باعتبار ما سيكون بعد التوبة. قال: [كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتاباً فكان فيما كُتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة]. يعني: يقلبها كيف يشاء كما في الحديث، يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة، إذاً: فالله تبارك وتعالى يصنع في القلوب الهدى والضلالة، وهنا (يصنع) بمعنى: يخلق. يخلق الهدى ويخلق الضلال. أليس الهدى فعلاً والضلال فعلاً؟ A نعم. إذاً: الأفعال مخلوقة لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى قدر وجودها، فكما قدر وجود الصلاة قدر وجود السرقة، لكن الصلاة هدى والسرقة ضلال، فحينما قدر الله عز وجل هذا وذاك معناه: أنه يملك خلق الهدى والضلال سبحانه وتعالى.

قول الحسن البصري في إثبات القدر

قول الحسن البصري في إثبات القدر قال: [وعن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن البصري - قال في قول الله عز وجل: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] قال الحسن: لوح من ذهب مكتوب فيها: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن آمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله]. هذا تفسير الحسن البصري رحمه الله لقوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] ولكن هذا التفسير مردود؛ لأنه من علم الغيب، ولا يتكلم أحدٌ في الغيب إلا بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. قال: [وقال تمام بن نجيح: سمعت الحسن وقد أتاه رجل فأخذ بعنان دابته فقال: أيها الضال المضل حتى متى تضل الناس؟]. واحد اعترض للإمام الحسن البصري وأخذ بلجام دابته وقال: أيها الضال المضل! فهو يوجه الكلام للحسن البصري فيقول له: أنت ضال مضل. ثم قال له: إلى متى تضل الناس؟ قال: [قال: وما ذاك؟ قال: تزعم أن من قتل مظلوماً فقد قُتل في غير أجله؟ قال الحسن: فمن يأكل بقية رزقه يا لكع! خل الدابة. قتل في أجله]. أي: اترك الدابة لقد قُتل في أجله وأنا ما قلت ذلك. قال: [فقال الرجل: والله ما أحب أن لي بما سمعت منك اليوم ما طلعت عليه الشمس]. أي: أن أحب شيء إلي هو هذا الكلام الذي سمعته منك الآن. قال: [وقال أبو خلدة: سمعت الحسن يقول: الشقي من شقي في بطن أمه]. أي: من كُتب عليه الشقاء وهو في بطن أمه. وهذا لا يردنا عن العمل الصالح، لأن الشبهة هذه دخلت على الصحابة أيضاً رضي الله عنهم. أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن ما نحن فيه اليوم أمر قد فُرغ منه أم بعد؟) أي: أنه قد قُدر علينا وانتهى أم ليس مقدراً بعد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أمر قد فُرغ منه، فقال الرجل: ففيم العمل إذاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا. فكل ميسر لما خُلق له) فأنت لا تعتمد على ما قُدر لك، فهل تعرف ما الذي قدره الله عز وجل لك؟ أتعرف إذا كنت من أهل الشقاء أم من أهل السعادة؟ فمن الطبيعي أنك تحرص أن تكون من أهل السعادة، والذي يحرص أن يكون من أهل السعادة يأتي الطاعات ويترك المنكرات، وهي أسباب السعادة، فإذا اجتهد المرء في ذلك ولم يوفق وارتكب النهي واقترف المعصية واكتسب الإثم والوزر فكل هذا سبب في الشقاء، فالطاعة بأسباب والمعصية والشقاء بأسباب، وهذه الأسباب مقدرة، والله تبارك وتعالى علمها من عبده فقدرها عليه، فحينما كان الواحد منا لا يعلم ما هو مكتوب له في اللوح المحفوظ وهل هو من أهل الشقاء أم من أهل السعادة، فطبيعي أنه سيحرص على أن يكون من أهل السعادة فيأتي أسباب السعادة، فإذا تنكب الطريق فقد أتى الأسباب التي تؤهله لدخول النار. قال: [وقال عاصم: سمعت الحسن يقول في مرضه الذي مات فيه: إن الله قدر أجلاً، وقدر معه مرضاً، وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق. وقال الحسن: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام. ثم قال: إن الله خلق خلقاً فخلقهم بقدر وقسم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر]. أي أن كل شيء في الدنيا لا بد أن يكون بقدر حتى البصمة التي ذكرناها في يد علي بن أبي طالب أيضاً مكتوبة في اللوح المحفوظ.

قول مطرف بن عبد الله بن الشخير في إثبات القدر

قول مطرف بن عبد الله بن الشخير في إثبات القدر قال: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: نظرت فإذا ابن آدم ملقي بين يدي الله عز وجل وبين يدي إبليس]. فهو يريد أن يقول: ابن آدم هذا إما أن يكون بين يدي الله عز وجل فيطيعه، أو بين يدي إبليس فيطيعه. قال: [فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إبليس]. وإن تركه الله -وهذا الترك بقدر- ذهب به إبليس. قال: [وقال مطرف: نظرت في هذا الأمر ممن كان؟ فإذا بدؤه من الله عز وجل وإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه فإذا ملاكه الدعاء]. أي: أن المرء الذي يؤمن بأن القدر خيره وشره من عند الله وأنه إما أن يكون من أهل الشقاء أو من أهل السعادة، فإذا كان الأمر هكذا في معتقد العبد فينبغي أن يتضرع إلى الله عز وجل بالليل والنهار بالدعاء، حتى يصرف عنه ذلك البلاء إذا كان كتب له.

أقوال كعب الأحبار في إثبات القدر

أقوال كعب الأحبار في إثبات القدر قال: [وجاء قوم إلى كعب الأحبار فقالوا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟! -أي: كيف حالك يا أبا إسحاق؟ - قال: بخير. عبد أُخذ بذنبه، فإن قبضه إليه ربه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، وإن عاقبه ينشئه نظيفاً]. كأنه يقول لهم: الحمد لله أنا في عافية، إن أراد الله عز وجل أن يدخلني الجنة فهذا فضل منه ورحمة، وإن شاء أن يدخلني النار حتى أتطهر من ذنوبي ثم ينشئني في الجنة نظيفاً بعد ذلك فله ما يشاء سبحانه وتعالى.

قول محمد بن كعب القرظي في إثبات القدر

قول محمد بن كعب القرظي في إثبات القدر قال: [وعن محمد بن كعب القرظي قال: ما أنزلت هذه الآية إلا تعييراً لأهل القدر، وهي قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]]. فهنا لفظ (كل) من ألفاظ العموم، فهو يشمل كل شيء؛ الأشياء العظيمة والحقيرة، ويشمل الصغيرة والكبيرة وغير ذلك.

قول علي بن الحسين في إثبات القدر

قول علي بن الحسين في إثبات القدر قال: [وعن علي بن الحسين أنه قال: إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم. فقالوا لله: لِم؟]. أي: أن أصحاب القدر يقولون: لِم فعل الله كذا، ولِم قدر كذا؟ ولا ينبغي أن يقال لله: لِم؟ ولا كيف؟ ولا ينبغي أن يقول أحد لله: لماذا أخذت أبي؟ لماذا أمت ابني؟ فهذا اعتراض على الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز ولا ينبغي. وغير ذلك أيها الإخوة الكرام من أقوال سلفنا -رضي الله عنهم- الشيء الكثير التابعين وأتباعهم، بل ورد في كلام العرب من الشعر والنثر والنظم الشيء الكثير. فبقية الباب أدعه لقراءتكم؛ لأنه لا يزيد الأمر إلا وضوحاً، ليس فيه جديد عما ذكرناه.

الأسئلة

الأسئلة

التوبة تجب ما قبلها

التوبة تجب ما قبلها Q كنت تاركاً للصلاة مدمناً للخمر، ولكن الله عافاني من ترك الصلاة، وظللت مدة أصلي وأنا أشرب الخمر، وذات يوم أخطأت في الصلاة فعاهدت ربي ألا أشرب خمراً إلى أن يقبضني الله عز وجل، وتبت إليه ولم أرجع إلى هذه الكبيرة، ولكني قرأت حديث طينة الخبال: (عهد الله إلى شارب الخمر أن يسقيه من طينة الخبال)، وأنا ندمت على هذه الأيام، وعزمت على عدم العودة، فهل يعافيني ربي من هذا العقاب؟ A نعم. إذا كنت صادقاً في توبتك عازماً على الاستمرار في الطاعة، فإن الله تبارك وتعالى قد فتح باب التوبة على مصراعيه: (وإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وإن العبد إذا أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً وبلغ السلطان وجب إقامة الحد، أما إذا لم يبلغ السلطان فليس عليك إلا أن تتوب بينك وبين الله عز وجل، والله تعالى يتوب عليك كما وعد سبحانه، ووعد الله عز وجل لا يتخلف ولا يُخلف؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، أما وعيده فإن شاء أنفذه وإن شاء عفا سبحانه وتعالى. فالتوبة معروضة على العبد حتى يغرغر كما في الحديث: (إن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر) أي: ما لم يبلغ حالة الاحتضار، فهذا الأخ الذي كان تاركاً للصلاة شارباً للخمر، ما دام قد تاب من هاتين البليتين العظيمتين فهنيئاً له التوبة، وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا والسائل على الطاعة.

بيان ما يفعل من سرق مالا

بيان ما يفعل من سرق مالاً Q كنت أعمل أجيراً عند أحد الناس، وتجمع لي عنده مبلغ من المال، وماطل في دفعه إلى أن يئست منه، فسرقت منه شيئاً مقابل مالي الذي عنده، ثم اكتشفت بعد ذلك أن هذا الشيء الذي سرقته ملك لوالد زوجته، وكنت في هذه الفترة لم أصل بعد، وأنا أعرف صاحب هذا الشيء الذي سرقته منه، وكلما رأيته -بعد أن هداني الله للصلاة- ذكرت أنني سرقته، ولا أعلم ماذا أفعل؟ هل أرد هذا الشيء وهو صعب جداً، أم أدفع إليه ثمنه بطريقة غير مباشرة، أم أنه لا شيء علي حيث أني كنت لا أصلي ولا أعرف شيئاً حينها، وشكر الله لكم؟ A ولكم شكر الله. السؤال صريح جداً وجريء، ويحتاج إلى جرأة كذلك في المنتهى. فإذا كنت جريئاً في الأولى فينبغي أن تكون جريئاً في الثانية، وهذا الذي ذكرته استوعبه شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (إغاثة اللهفان) في شرحه لحديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك). فقوله: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) أمر، وقوله: (ولا تخن من خانك) نهي، فهذا الرجل الذي عملت عنده أجيراً فماطل في دفع مالك أو أكل حقك أو غير ذلك لا يسمح لك أن تسرقه، وأنت في سؤالك قد سميت فعلك سرقة، والسرقة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، فحينما سميته سرقة كان ينبغي أن تعطي لنفسك الجواب؛ لأن السرقة ليست بأمر مشروع، بل هي أمر محرم، فهنا يجب عليك -خاصة بعد أن علمت أن هذا المال الذي سرقته ليس مال الرجل الذي ماطل في دفع الحق، وإنما هو مال غيره الغير مكلف بدفع هذا المال إليك- وجوباً شرعياً أن تتخلص من هذا المال برده إلى صاحبه ما دام معلوماً فهو أولى به، ولا بد من رده إليه، وأنت تعلم أن من شروط التوبة رد المظالم إذا كانت بين العباد، فينبغي رد المظالم إلى أصحابها، وهو شرط في قبول التوبة الصحيحة، فهذا السائل يجب عليه أن يدفع هذا المال إلى صاحبه بأي طريقة كانت، ولا بأس أن يتحرى طريقة ليس فيها مفسدة أعظم، ولكن لا يسولن له الشيطان أن يتصدق بها عنه؛ لأنه بالإمكان إيصال هذه الأموال إلى أصحابها، أما التصدق عنه فهذا شيء يمكن عند خفاء صاحب الحق أو ذهابه وعدم عودته، أو أن يكون الأمر يتوقع منه مفسدة أعظم كمن زنى بامرأة الجار، وتاب إلى الله عز وجل، وأراد أن يستسمح صاحب المعصية التي وقع فيها، فهل يتصور أنه يذهب إليه ويقول: سامحني! فأنا قد زنيت بامرأتك في اليوم الفلاني؟! فإذا كانت هناك مفسدة أعظم فما عليه إلا أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل، ويكثر من الصدقات والدعوات لصاحب هذه المظلمة. والله تعالى أعلم.

حكم تدريس الرجال للبنات في المرحلة الإعدادية والثانوية

حكم تدريس الرجال للبنات في المرحلة الإعدادية والثانوية Q هل يجوز تدريس الرجال للبنات والعكس في المرحلة الإعدادية والثانوية؟ A لا يجوز، نحن في الحقيقة مللنا من توجيه السؤال هذا، إنك تذهب للتدريس في مدرسة ثانوية، والفتاة عمرها ثماني عشرة سنة أو أقل أو أكثر، فهي مؤهلة للزواج، وفي سن يفور شباباً وحيوية وجمالاً واهتماماً بمنظرها وجمالها، وأنت لست بحائط ولا عمود، أنت رجل لك شعور يتحرك، وإذا كنت ممن يشتهي الجمال ويطلق العنان لبصره أن ينفذ إلى أي شيء جميل فكبر على نفسك أربعاً لوفاتك في هذه المدرسة، وكثير جداً من المدرسين يشكو ويقول: أنا أدرس في الفصل الفلاني، وهناك بنت جميلة، وأنا صراحة لا أستطيع أن أحجب نفسي عنها، وقد فعلت كذا وكذا، واتفقت معها وغير ذلك من البلاء الذي نسمعه في كل يوم، وقد علمتم بأنه قد وقع الزنا في المدارس الابتدائية، وعلمنا بأن مدرساً يزني ببنت لا تزال ما بين سن السابعة إلى سن العاشرة من عمرها، هذا إذا كانت في سن الابتدائية فما بالك بالإعدادية ثم الثانوية ثم الجامعة؟! فهذا الأمر قطعنا فيه بعدم الجواز، فيجب أن يدرس في مدارس البنات نساء، ومدارس الأولاد يدرس فيها رجال. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

القدري من يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - القدري من يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد القدرية هم الذين ينفون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف، فيزعمون أن ثمة خالقاً مع الله عز وجل، وهم في ذلك يشابهون المجوسية القائلين بوجود إلهين إله الخير والنور وإله الشر والظلمة، وقد رد عليهم أهل السنة والجماعة وأبطلوا مذهبهم وحاربوه، حتى أظهر الله على أيديهم الحق وأزهق الباطل.

مراتب الإيمان بالقدر

مراتب الإيمان بالقدر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: ففي هذا الباب الذي بين أيدينا لا يزال الكلام موصولاً ابتداءً عن القدر، وزعم قوم أن الله تبارك وتعالى خالق الخير، وأنه ليس خالقاً للشر، وهذه عقيدة وثنية؛ لأن الوثنيين كانوا يعتقدون أن للكون إلهين: إله للنور وإله للظلمة. وغيرهم كان يعتقد أن للكون إلهين: إله للخير وإله للشر، وأن إله الخير لا يخلق الشر، وأن إله الشر لا يستطيع أن يخلق الخير، وهذه عقيدة مجوسية وثنية، ولذلك ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (القدرية مجوس هذه الأمة). في الوقت الذي لم يكن هناك قدرية في ذلك الوقت؛ لأن القدرية في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لهم ظهور ولا نابتة، ومع هذا حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقبل أن نبدأ في هذا الباب لا بد وأن نعرج على أصول الإيمان بالقدر، أو مراتب القدر: المرتبة الأولى: مرتبة العلم. أي: أن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، لما علم الله عز وجل كتب، ولا أقول: لما علم أنه كان غير عالم ثم علم، ولكن العلم الأزلي السرمدي الأبدي ثابت لله عز وجل، فعلم الله عز وجل بما هو كائن قبل أن يكون فكتبه في اللوح المحفوظ. العلم أولاً ثم الكتابة، ثم المشيئة والإرادة.

الفرق بين الإرادة الشرعية والكونية عند أهل السنة والجماعة

الفرق بين الإرادة الشرعية والكونية عند أهل السنة والجماعة مشيئة الله تبارك وتعالى مشيئة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، وهي أوامره التي أمر بها وأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام التي أمر بها كذلك. أما أوامره الكونية وهي الوقوع في مناهيه ومعاصيه فهي وقعت بإرادة الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر على العباد، وليس بلازم أنه أحب ذلك، فالزنا والسرقة وشرب الخمر وسائر المعاصي تقع في الكون بإرادة الله وإذنه، ليس معنى ذلك أن الله أحبها، ولا أنه يرضى عنها، وفي المقابل لا يزني الزاني رغماً عن الله ولكن بإذن من الله عز وجل، فالله أذن أن تقع هذه المعصية في كونه مع أنه لا يحبها، فهناك إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أي: محبة الله ومحبة الرسول، ورضا الله ورضا الرسول. وإرادة كونية أي: أن هذه الأفعال والمعاصي تقع في الكون، فهذه إرادة كونية قدرية، أي: ما وقعت إلا بقدر من الله عز وجل وكتابة من الله عز وجل وعلم من الله عز وجل الأزلي السابق بأن عبده فلاناً سيفعل كيت وكيت من معاصيه في يوم كذا وكذا وفي مكان كذا وكذا، فلما علم الله عز وجل منه ذلك كتبه وقدره عليه. والأمر عندنا أن الأشياء إما خالقة وإما مخلوقة، فلما كان مستقراً عند العامة والخاصة أنه لا خالق إلا الله عز وجل تبين أن ما دون الله عز وجل مخلوق، وأسماء الله عز وجل وصفاته ليست مخلوقة، لأن الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق وإنما هو الخالق الوحيد، فصفاته لازمة لذاته، أي: أنها ليست مخلوقة، فلا أولية لها كما أنها لا آخرية لها، لأن الله تعالى هو الأول وهو اسم من أسمائه ليس قبله أحد، وهو الآخر ليس أحد بعده، وهو الظاهر وهو الباطن، فأسماء الله عز وجل وصفاته ليست مخلوقة، لأن الله تبارك وتعالى المتصف بهذه الصفات ليس مخلوقاً، بل هو الخالق سبحانه وتعالى. فتبين أن ما دون الله عز وجل وما دون أسمائه وصفاته مخلوق، فالعبد مخلوق، وما ينتج عن هذا العبد مخلوق، مشيك، كلامك، حركاتك، سكناتك، أفعالك، تصرفاتك، خطواتك كل هذا الله عز وجل أذن فيه وخلقه وشاءه على هاتين المشيئتين دينية أو كونية قدرية، وكتب ذلك لأن الله علم أنك ستفعل ذلك، وأن هذا الفعل لا يكون إلا بإرادته ومشيئة، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت للعبد مشيئة وأثبت لنفسه سبحانه مشيئة، ولكن العبد لا يشاء شيئاً إلا بعد مشيئة الله له أن يشأ ذلك، فمشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، فليس لعبد أن يشأ شيئاً لم يشأه الله عز وجل، وليس لعبد أن يريد شيئاً كما قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67] فأثبت العبد إرادة ولكن الله عز وجل له إرادة أخرى، فإرادة الله عز وجل فوق إرادة العبد، ومشيئة الله عز وجل فوق مشيئة العبد، فليس لعبد أن يريد شيئاً إلا إذا أراده الله إما إرادة شرعية وإما إرادة كونية، وليس للعبد أن يشأ شيئاً إلا أن يشاء الله إما مشيئة شرعية وإما مشيئة كونية قدرية. والنبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) يعني: أنت مخلوق لله عز وجل لأن الله هو الذي خلقك، وما ينجم عنك من حركة وسكنة ومشي وسكون وتكلم وسكوت وغير ذلك، هذا أيضاً مخلوق فيك لله عز وجل. بمعنى: أن الله تعالى هو الذي خلق فيك الكلام ولو شاء لأخرسك، خلق فيك المشي ولو شاء لأقعدك، خلق فيك النظر ولو شاء لأعماك، فكلما تفعله أنت فإن الله تعالى خلقه وأذن فيه وشاءه وكتبه وعلمه، وهذه كلها مراتب القدر، ولذلك هذا تفسير وتأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خالق كل صانع) أي: كل مخلوق. (وصنعته) أي: وأفعاله وأقواله وحركاته وسكناته، فأنت وما تفعل مخلوق لله عز وجل. هذا الكلام فيه الرد على القدرية الذين يقولون: إن الله تعالى لا يخلق الشر وإنما يخلق الخير. وبعضهم قال: إن الله تعالى جبر العبد - وهؤلاء هم الجبرية - على الأفعال فكيف يحاسبهم؟ أي: إذا كنت مجبوراً على إتيان الشر فكيف يعاقبك الله عز وجل وهو الذي جبرك وقهرك على أن تفعل الشر، وكيف يحاسبك حينئذ؟ فيلزمهم لزوماً أكيداً بسبب هذه المقالة أن يقولوا: إن الله تعالى ظالم، والظلم صفة لا تليق بالله عز وجل إنما تليق بالمخلوقين. وبعضهم قال: ليس لله عز وجل في أفعال خلقه مشيئة، فأفعال العبد هو الذي شاءها وأرادها وفعلها وليس لله تبارك وتعالى فيها دخل. بمعنى: أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه. وهؤلاء سلبوا الله عز وجل صفة هي من أعظم صفاته وهي صفة الربوبية المتعلقة بالخلق، فيجعلون مع الله إلهاً آخر؛ لأن المعلوم أن الإله هو الذي يخلق، وأن أفعال العبد مخلوقة، فإما أن يخلقها العبد لنفسه، وإما أن يخلقها الله تعالى في عبده. فإذا قالوا: إن الله لم يخلقها في العبد وإن العبد هو الذي خلقها في نفسه فيكون العبد حينئذ خالقاً، وهذا سلب لصفة الربوبية عن الله عز وجل، فكلاهما شر مستطير.

سياق ما روي في القدري الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد

سياق ما روي في القدري الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد يقول المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في أن القدري الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد] القدري هو الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يقدرها عليهم، فمعتقد القدرية أنهم قالوا أولاً: إن الله لم يخلق أفعال العباد. إذاً: هنا أنكروا مرتبة من مراتب القدر وهي الخلق. وقولهم: (ولم يقدرها عليهم) إنكار لمرتبة المشيئة. قال: [ويكذب بخلق الله لها، وينسب الأفعال إلى نفسه دون الله]. كأنه يقول: أنا خالق لفعل نفسي، بدليل: أنني لو أردت أن أقوم الآن لقمت، وإذا أردت ألا أقوم لا أقوم. ونسي أن الله عز وجل قادر على أنه إذا هم بالقيام أقعده الله، وإذا كان واقفاً فأراد أن يجلس ما استطاع أن يجلس، وهذا يدل على أن الخلق بيد الله عز وجل لا بيد العباد، ولذلك جرت مناظرات بين سلفنا رضي الله عنهم وبين القدرية. قال: [عن ابن عباس: كلام القدرية كفر]. لأنه لا ينكر مرتبة العلم ولا مرتبة الكتابة إلا كافر بالله عز وجل [وكلام الحرورية ضلالة]. وقال أيضاً: [لا أعرف الحق إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم في الأمور إلى الله تبارك وتعالى]. فهذا الكلام يصح أن يكون أصولاً سلفية لترشيد هذه الصحوة الإسلامية فيما يتعلق بمسألة الاعتقاد. فقوله: لا أعرف. وابن عباس إذا قال: لا أعرف، فمعنى ذلك: أن الذي لا يعرفه ابن عباس لا يكون ديناً. قال: لا أعرف الحق إلا في كلام قوم ألجئوا - أي: فوضوا - ما غاب عنهم في الأمور إلى الله تبارك وتعالى. يعني: الأمور الغيبية الاعتقادية نفوض الأمر فيها إلى الله عز وجل وإن كان ذلك أكبر من عقولنا. قال: [وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقضاء الله وقدره]. يعني: آمنوا بأن القضاء والقدر من عند الله عز وجل وإن كان ذلك أمر فوق طاقة عقولهم إلا أنهم يقولون سمعنا وأطعنا. قال: [أتى عبد الله بن عباس على قوم يتنازعون في القدر. فقال: لا تختلفوا في القدر، فإنكم لو قلتم: إن الله شاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من مشيئة الله إلى مشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله بأعظم ملكه]. أي: وجد قوماً يتخاصمون في القدر فقال: لا تختلفوا في القدر؛ لأن اختلافكم لا يدور إلا على أمرين اثنين لا ثالث لهما، فإن قلتم: إن الله أمر العباد وشاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من طاعته ودخلوا في معصيته بمشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله. أي: سلبتم الله تبارك وتعالى أعظم ملكه وهي الربوبية. [وإن قلتم: إن الله جبرهم على الخطايا]، وعلى فعل المعاصي، فإما أن تكون المعاصي من عند الله عز وجل، وإما أن تكون من عند العبد، فإن كان العبد يعمل المعصية بمشيئته وقدرته وإرادته وقضائه لنفسه وقدره على نفسه فإنه لا دخل حينئذ للإله وللرب تبارك وتعالى في أفعال العباد، فيكون العبد هو الخالق لفعل نفسه وليس الله عز وجل هو الذي خلق، وهذا سلب لصفة الربوبية عن الله عز وجل. [وإن قلتم: إن الله جبرهم على الخطايا ثم عذبهم عليها لقلتم إن الله ظلمهم]. فالقدر ليس هو إلا أمرين اثنين: إما أن يشاء الله عز وجل ويخلق ويكتب ويعلم ويقدر، وإما أن يسلب ذلك ويخلق العبد فعل نفسه، وإما أن الله يجبر العبد على فعل الخطايا ثم يعذبه فإنه حينئذ ظالم، فلا تختلفوا حينئذ لأنكم بين شرين وبين ضلالتين، بل وبين كفرين. قال: [ذكر ابن عباس رضي الله عنه القدر فقال: الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة]. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لم يؤمن بالقدر)، فالإيمان بالقدر فرض، والتكذيب به كفر، والكلام فيه بدعة، والسكوت عنه سنة.

سياق ما روي عن الصحابة والتابعين والعلماء في إقامة الحدود على القدرية

سياق ما روي عن الصحابة والتابعين والعلماء في إقامة الحدود على القدرية قال: [سياق ما روي من المأثور عن الصحابة وما نقل عن أئمة المسلمين من إقامة حدود الله في القدرية من القتل والنكال والصلب. عن أبي الزبير قال: كنا نطوف مع طاوس فمررنا بـ معبد الجهني قال: فقيل لـ طاوس: هذا معبد الذي يقول بالقدر. قال: فقال: أنت الذي تفتري على الله بما لا تعلم؟! قال: فقال: يكذب علي -أنا لم أقل شيئاً- قال: فدخلنا على ابن عباس فقال له طاوس: يا ابن عباس! الذين يقولون في القدر، فقال: أروني بعضهم، قال: صانع ماذا؟ قال: أدخل يدي في رأسه ثم أدق عنقه]. وقد مضى عنه أنه قال: أدخل يدي في عينيه فأقلعهما ولا نصونه. يعني: بعدما نقلع له عينيه لا نضمنهما. يعني: ليس علينا فيهما دية، لأنهم لا دية لهم. قال: [وهذا كله لا يفعل بالمسلمين وإنما يفعل بالكفار].

موقف عمر بن عبد العزيز من غيلان الدمشقي

موقف عمر بن عبد العزيز من غيلان الدمشقي قال: [قال عمر بن عبد العزيز: يا غيلان!] هذا من القدرية في دمشق سوريا اسمه غيلان الدمشقي. [قال عمر بن عبد العزيز: يا غيلان! بلغني أنك تتكلم في القدر. فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين. قال: اقرأ علي سورة يس، فقرأ عليهم: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:1 - 7] والشاهد: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]. وكذا قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ما كان في إمكان أبي لهب أن يؤمن لو أراد أن يعاند، ولكن علم الله تعالى السابق أن أبا لهب لا يؤمن قط وأنه من الهالكين، فلم يؤمن ولم يحرج النبي عليه الصلاة والسلام لأنه سبق في علم الله أنه لا يقول ذلك، وأنه من الهالكين لا محالة، وأنه ليس من الناجين في يوم ما قط، فالله تعالى قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس:7] يعني: دخول النار، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7] فلم ينطقوا بالشهادتين ولو كذباً أو نفاقاً، فالله تعالى يتكلم بعلم، فإذا تكلم بعلم عن أمر في المستقبل وأنهم لا يؤمنون نثبت العلم الأزلي لله. ولذلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي ما كانوا يثبتون العلم لله عز وجل. ولذا فإن عمر بن عبد العزيز قال لـ غيلان: اقرأ علي يس، حتى تعلم أن الله تبارك وتعالى قضى على أشياء في المستقبل بأنها لا تكون، فهل هذا من العليم الخبير أم ممن لا يعلم؟ قال غيلان: لا والله، لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من القول بالقدر]. وهو كذاب لأنه بين يدي أمير المؤمنين الذي سيقتله ويعلقه في السقف، فهو خائف أن يواجه أمير المؤمنين. [فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين]. يعني: افضحه إذا كان كاذباً، واجعله آية للمؤمنين. قال: [مر التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث. قال ابن عون: أنا والله رأيت غيلان الدمشقي مصلوباً بدمشق] لأنه كان دجالاً، كان يكذب على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي قال: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا. فـ غيلان كذب على عمر بن عبد العزيز، وطبعاً من غشنا في الله أو من خدعنا في الله خدعنا له، هذا منهج أهل السنة، من أقسم بالله أنه تاب فليس لنا عليه سبيل، وحسابه على الله عز وجل، لكن علينا نحن بالدعاء له أو عليه، إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله للمؤمنين آية. فصلب في دمشق. وقال أبو جعفر الخطمي: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر. فقال له: ويحك يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم -أي: في علم الله- قال: نفذ العلم. أي: العلم لله ثابت. قال: أنت مخصوم. يعني: مغلوب. فاذهب فقل ما شئت، يا غيلان! إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحد فتكفر. ثم قال له: أتقرأ يس؟ قال: نعم. قال: اقرأ، فقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2] إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7] قال: قف كيف ترى الآية هذه؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين! قال: زد. فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:8 - 9] فقال عمر: {سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:9 - 10] علم الله أزلاً وسلفاً أن الإنذار لا ينفع معهم، فسواء أنذرتهم أو لم تنذرهم لا يؤمنون، ولا يعتبرون بهذا الإنذار، والذي علم أنهم لا يؤمنون هو الله. فالله تعالى عالم قبل هذا الإ

موقف هشام بن عبد الملك من القدرية

موقف هشام بن عبد الملك من القدرية وعن الوليد بن هشام قال عن أبيه: بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره. فقوله: وقد أغوى خلقاً كثيراً مع أنه قدري ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة، إلا أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة. فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشر. قال: بذلك أقول، فأحضر من شئت يحاجني فيه. قال له: أنا أقول ربنا لم يخلق الشر، وإذا كنت لا تصدقني أدخل علي من يناظرني في المسألة هذه. فبعث هشام بن عبد الملك إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته. الإمام الأوزاعي كان صاحب مذهب، عمل بمذهبه في الشام مائتي سنة، لم يكن هناك أحد يسمع عن أبي حنيفة ولا عن مالك ولا عن أحمد بن حنبل ولا عن الشافعي، كان أهل الشام يقولون في فتاويهم: قال الأوزاعي كذا، إلى أن ظهرت وانتشرت هذه المذاهب الأربعة فغطت على بقية المذاهب ومنها مذهب الأوزاعي. الأوزاعي كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ينهى أمة ويأمر أمة، وقد صنفت في ترجمته رسالة لطيفة اسمها: (أحسن المساعي في بيان فضائل ومناقب الأوزاعي) لما تقرأها تحتقر نفسك، بل تحتقر علماء الأمة في هذا الزمان، كان جبلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان لا يهمه الحجاج ولا غير الحجاج، الحجاج الذي لم يكن أحد يدخل عليه لا من الصحابة ولا من غيرهم إلا ويخاف على نفسه، أما الأوزاعي فما ضره ذلك، دخل عليه فوعظه وأمره ونهاه ثم انطلق وقال: لا يضرني ملكك ولا جبروتك، لأن الملك وصاحب الجبروت الأعظم في السماء قادر عليك. الأوزاعي جاء من أجل أن يناظر هذا القدري الذي يقول: إن الله لم يخلق الشر، فقال له الأوزاعي: إن شئت سألتك عن واحدة، وإن شئت سألتك عن ثلاث، وإن شئت عن أربع، أخبرني عن الله: هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء. أي: أنا لم أفهم شيئاً. فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه واحدة. أي: الأوزاعي يقول لـ هشام بن عبد الملك: هذه واحدة لا يعرف كيف يرد عليها. ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر. يعني: هل الله منع دون ما أمر؟ فقال المبتدع: هذه أشد من الأولى. فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه اثنتان. أي: سجل عندك. ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرم؟ يعني: ساعد ويسر على ما حرم؟ قال: هذه أشد من الأولى والثانية. فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه قد حل بها ضرب عنقه. ولم يأت بالمسألة الرابعة. فأمر به هشام فضربت عنقه. وهذا لما كانت للإسلام قوة وسطوة، وأيام ما كان لهم اهتمام بأمر الدين، هذه الأسئلة الثلاثة لما أنكرها هذا المبتدع حلت رقبته فقتله هشام بن عبد الملك، وهشام لا يفهم الكلام هذا، لكن المبتدع يفهم ولا يريد أن يجيب، لأنه إذا أجاب هزم ويلزمه التوبة. ثم قال هشام بن عبد الملك للأوزاعي: يا أبا عمرو! فسر لنا هذه المسائل. يعني: بين لنا الكلام هذا. قال: نعم. يا أمير المؤمنين! سألته أولاً: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى. السؤال الأول وهو أن الله تعالى نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثم قضى عليه بأكلها، وهذا ثابت في القرآن والسنة، فالله تعالى قضى عليه وقدر أن يأكل منها، ولو أن المبتدع أجاب عن هذا السؤال للزمه أن يقول: إن الله قضى على ما نهى، فالله لا يقضي على شيء إلا إذا علمه، وهذا الشر الذي وقع من آدم بعلم الله وبقدره، وأن الله هو الذي أذن فيه بقضائه وقدره. قال: وسألته ثانياً: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ -أي: منع دون ما أمر- أمر إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود. لما إبليس أمر بالسجود امتنع، فامتناع إبليس مخلوق، والذي خلقه هو الله عز وجل، خلقه بعلم سابق، فالامتناع عن السجود لآدم ومخالفة الأمر شر، والذي خلقه هو الله، فالله الذي خلق الخير والشر، لكن المبتدع لما أدرك هذه الحقيقة اعتذر عن الجواب، فقال: لا يعرف شيئاً. هذه مسألة صعبة جداً. قال: وسألته ثالثاً: هل يعلم أن الله أعان على ما حرم أم لا؟ فقال: هذه أشد من الأولى والثانية. والمعنى: أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه، فالله تعالى أعان على ما حرم مع أنه شر ولكنه رخص في مواطن وظروف بعينها، والذي رخص هو الله عز وجل. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ فقال: كنت سأقول له: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً. يعني: أنه جعل مشيئته مع مشيئ

موقف المهدي من القدرية

موقف المهدي من القدرية ويقول الإخباري: قرأت في أخبار إبراهيم بن المهدي أنه حدث عن زيبة المدني [أن المهدي أشخص من المدينة -أي: أرسل من المدينة- ثلاثين شيخاً ممن تكلم في القدر واشتهر به. قال: فكنت فيهم -يعني: زيبة كان فيهم وكان صبياً صغيراً أتى من المدينة إلى العراق مع ثلاثين شيخاً يتكلمون في القدر -فلما مثلنا بين يديه ضربهم بالسياط أجمعين وأخرني لصغره- فلما قدمت قال: أراك صبياً ألم يكن بالمدينة من هو أسن منك تتم به العدة؟] يعني: إبراهيم بن المهدي يقول له: هم ما أرسلوا رجلاً يكمل الثلاثين، كأن العدة ثلاثين شخصاً، حتى أرسلوك وأنت صبي صغير. [قلت: جماعة يا أمير المؤمنين! فقال: إذاً إنما قربت إليهم لأنك من مثلهم -يعني: أنت جئت معهم لأنك قدري مثلهم- ثم دعا بالسياط، فلما ضربت سوطاً، فقلت: يا أمير المؤمنين! نشدتك الله إلا أدنيتني إليك أكلمك ولك رأيك. فقدمني فقلت: أنا رجل من أهل المدينة قطن أبي فيها -أي: سكن أبي في المدينة- وهو من وادي القرى -أي: بمكة- وكان تاجراً ذا مال، فعلمني القرآن ثم أمرني أن أغدو إلى حلقة ابن أبي ذئب - ابن أبي ذئب كان قدرياً- وأروح إلى ربيعة الرأي، فعن لي شيخ لم أكن رأيته قط -يعني: أنا فكرت بشيخ لم أره قط- فقال لي: يا بني! قد بلغت من العلم وما أراك استبصرت في دينك] يعني: أنت يا ابني عالم أخذت العلم عن ربيعة الرأي وعن ابن أبي ذئب ولكن العلم هذا ليس له قيمة، لأنك لست بصيراً بدينك. [فقلت: وما ذاك يا عم؟] يعني: أنت ماذا ترى؟. [قال: هل رأيت مقعداً قط؟] يعني: هل رأيت رجلاً مشلولاً لا يستطيع أن يقوم. [قلت: نعم. قال: فلو رأيت رجلاً كلفه صعود نخلة ما كنت تقول؟] يعني: لو رأيت رجلاً قال لهذا القعيد: اصعد هذا الدرج أو السطح، أيستطيع؟ [قلت: هو جاهل. قال: فلو ضربه على قصوره عن صعودها؟ قلت: ظالم] لأنه يضرب رجلاً ليس في إمكانه أن يصعد ويحمله الصعود فهو ظالم. [فقال: يا بني! هذا حكمك على إنسان فكيف بالله سبحانه في عدله؟ أتقول: إنه يكلف عباده ما ليس في وسعهم ثم يعاقبهم عليه مع قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] قال: فتعدني يا أمير المؤمنين بالمقعد -يعني: أنت تأمرني مثل المقعد، تكلفني فوق طاقتي ثم تعذبني- قال زيبة: فضحك المهدي أمير المؤمنين ثم أمر فطرح ثيابي علي، فلما لبست أدناني ثم قال: أجبني وأنت آمن -يعني: تكلم براحتك، واعلم أنني لا أمد على بدنك السوط نهائياً- قال أمير المؤمنين: لو أنك في سفر فرأيت عليلاً في برية -أي: في الصحراء- فاستطعم رجلاً فلم يطعمه وتركه ومضى ما كنت قائلاً؟ قلت: ظالم. قال: فهل علمت أن أحداً من خلق الله كان في برية عليلاً عادماً للطعام والشراب؟ قلت: كثيراً -أي: كثير من يموت من الجوع- قال: فإن دعا ربه أن ينجيه هل كان الله سبحانه قادراً على أن يطعمه ويسقيه؟ قلت: اللهم نعم -أي: لو دعا ربه فإن الله قادر على أن يطعمه ويسقيه- قال: فهل تقول إن دعا ربه أن يطعمه ويرويه فلم يجب دعاءه ومات أن الله ظلمه؟ -يعني: ربنا ما استجاب دعاء هذا الذي في البرية للطعام والشراب فمات، هل الله تعالى قد ظلمه في هذا؟ - قلت: لا. قال: فكيف تقول لمن أقعدك مثل هذا؟ -أي: كيف تقول لمن أقعدك إنه ظالم- قال: لأن الأشياء كلها لله تعالى لا عليه، والتجوير يجب علي من الأشياء لا له يا زيبة، إن الإيمان إذا سكن القلب قبل الاحتجاج لم يخرجه الاحتجاج]. يعني: الإيمان عندما يكون في القلب حتى وإن كان صاحب هذا الإيمان جاهل وحجة الخصم أقوى فهذه الحجة لا تخرج هذا الإيمان من القلب. أذكر وأنا في معهد البخوري سنة (1982) دخل علينا رجل يتكلم عن الإسراء والمعراج وأنه كان بالروح دون الجسد. قلت له: يا شيخ! هل هذه عقيدتك؟ قال: نعم. قلت: ولكن عقيدة أهل السنة أن الإسراء كان بالروح والجسد. فقال لي: قم واقفاً من أجل أن أراك. فقمت نصف ساعة وأنا واقف على قدمي يشرح لي معنى حرف الباء فقط في قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ليخرج في النهاية أن من معاني الباء أنها مصاحبة للروح دون البدن، وبعد نصف ساعة قال لي: فهمت يا ابني. قلت له: نعم فهمت. قال: وماذا فهمت؟ قلت: أن الإسراء بالروح والجسد. فقال لي: اقعد فأنت يا ابني عامل حسابك ألا تفهم. قلت له: صحيح. لأنني فهمت معتقد أهل السنة والجماعة فليس عندي استعداد أن أغيره. قال: [إن الإيمان إذا سكن في القلب قبل الاحتجاج لم يخرجه الاحتجاج، وإذا سكن الحجاج قبل الإيمان كان منتقلاً متى حاجه من هو أحج منه]. يعني: إذا كان لا يقوى على حجج المبتدعة فإنه كلما أتاه مبتدع حجته أقوى من حجة المبتدع الأول تنقل، النهار هذا قدري، بكرة شيعي

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على أثر عمر (اللهم إن كنت كتبتني من أهل الشقاء) وبيان معناه

الحكم على أثر عمر (اللهم إن كنت كتبتني من أهل الشقاء) وبيان معناه Q جاء عن عمر أنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل الشقاء فامحني واكتبني من أهل السعادة، هل صح هذا الدعاء؟ وما معناه؟ A هذا دعاء صحيح، فقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دعا بهذا الدعاء، ومعنى ذلك: أن هذا العبد يتمنى على الله عز وجل أنه إن كان كتبه من أهل الشقاء فليمح ذلك وليثبته من أهل السعادة، وهذا لا يعدو أن يكون دعاءً ورجاءً في الله عز وجل. يعني: يحسن نية هذا العبد أن يميته على الإسلام، والله أعلم.

حكم تحديد مواقيت إقامة الصلاة

حكم تحديد مواقيت إقامة الصلاة Q ما حكم تحديد مواقيت إقامة الصلاة؟ A ليس ذلك من السنة، المحدود في المساجد أن صلاة الفجر بعد نصف ساعة وصلاة الظهر والعصر والعشاء بعد ربع ساعة، والمغرب بعد خمس دقائق أو عشر دقائق، هذا ليس من السنة، ولكن إقامة الصلاة تكون بإذن إمام المسجد لا بغير إذنه، ولا ينبغي لإمام المسجد أن يأمر بإقامة الصلاة ولم يجتمع إليه أهل الحي، إنما هذا الأذان فائدته إعلام القوم وإخبارهم بدخول وقت الصلاة، فالذي يسمع الأذان بعد أن يبتدئ دخول الوقت يستعد له فيتوضأ ويأتي إلى المسجد فيصلي ركعتين ثم يصلي مع الإمام. وليس معقولاً أن الإمام يأمر بإقامة الصلاة وكل من في المسجد أو غالبهم يصلي السنة، بل ينتظر حتى يفرغ الناس من السنة، فإذا اجتمع أهل الحي فلا قيمة للانتظار، بل يقيم بعد خمس دقائق، أو عشر دقائق، أو خمسين دقيقة، على حسب عادة أهل الحي، فإذا كنا أهل الحي قد اجتمعنا جميعاً في الدرس بعد المغرب وأذن لصلاة العشاء، أقيموا الصلاة، نحن لسنا منتظرين أحداً، أهل الحي موجودين من المغرب وأذن لصلاة العشاء فلا قيمة للانتظار.

الفرق بين نافع مولى ابن عمر ونافع صاحب القراءة المشهورة

الفرق بين نافع مولى ابن عمر ونافع صاحب القراءة المشهورة Q هل نافع الذي روى عنه ورش القراءة المعروفة هو نافع الذي روى الحديث عن ابن عمر؟ A لا، نافع الذي يروي عن ورش هو غير نافع الفقيه مولى ابن عمر.

حكم لبس الطاقية

حكم لبس الطاقية Q هل لبس الطاقية من السنن المستحبة أم ماذا؟ A لبس الطاقية من السنن المستحبة، وهو هدي النبي عليه الصلاة والسلام.

مقدار الأخذ من اللحية

مقدار الأخذ من اللحية Q ما هو مقدار الأخذ من اللحية؟ A إذا زادت عن القبضة فخذ ما دون القبضة. يعني: تمسك لحيتك من الذقن والعارضين، والذي يفضل عن القبضة خذه.

حكم من عصى الله في رمضان وأفطر فيه ثم تاب إلى الله

حكم من عصى الله في رمضان وأفطر فيه ثم تاب إلى الله Q ما حكم من ارتكب الفواحش في رمضان وأفطر فيه ثم تاب إلى الله تعالى؟ A الأخ الذي يسأل من أنه في أيام معاصيه وقبل توبته ارتكب فاحشة في رمضان أو ارتكب معصية أو كبيرة ولكنه تاب منها وندم على ما فعل وقضى الأيام التي أفطر فيها في أثناء معصيته فهذا يكفيه ولا شيء عليه، ولكن لو أكثر من السنن والمستحبات لكان خيراً له حتى تتم له التوبة، والله تعالى أعلم.

حكم من أقيمت الصلاة وهو يصلي السنة القبلية

حكم من أقيمت الصلاة وهو يصلي السنة القبلية Q من كان يصلي سنة والسنة -مثلاً- رباعية وهو في الركعة الثالثة وأقيمت فهل يسلم قبل أن يصلي الرابعة لحديث: (لا صلاة إلا المكتوبة)؟ A الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) وهو حديث صحيح، ولكن تأويله محل نزاع بين أهل العلم. الرأي الأول: أنه لا صلاة قط بحضرة المكتوبة، إذا أقيم لها فلا صلاة. وهذا كان مذهب الشيخ الألباني رحمه الله، كان يقول: إذا أقيمت صلاة الفرض فلا صلاة مطلقاً لأحد في المسجد، وإن أتم الصلاة فصلاته باطلة، ولكن هذا الرأي فيه غلو. وبعض أهل العلم قالوا وهو الرأي الراجح وهو مذهب الجمهور: إذا أقيم لصلاة الفرض فلا صلاة لمصل يشرع فيها. وهذا أقوى الأقوال، وكنت آخذ بغيره آنفاً والآن أرجع عن القول الأول وأميل إلى الرأي الثاني، والمرء قد يرجع عن قوله ويتبنى قولاً جديداً، وهذا الرأي هو مذهب الجمهور: أنه إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز لأحد أن يشرع في صلاة سنة، فإن شرع فصلاته باطلة.

ما روي في منع الصلاة خلف القدرية

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما روي في منع الصلاة خلف القدرية الإيمان بالقدر مرتبة من مراتب الإيمان ضل فيها الجبرية والقدرية لانحرافهم عن دلائل النصوص من الكتاب والسنة، ولا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بالقدر كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شنع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسلف هذه الأمة من التابعين والفقهاء والعلماء على القدرية وحذروا من اتباعهم ومجالستهم والصلاة خلفهم، وتزويجهم وأكل ذبائحهم ومجالستهم ومبايعتهم وقبول شهادتهم، بل جعلوهم بمنزلة أهل الكتاب، حتى سماهم النبي عليه الصلاة والسلام مجوس هذه الأمة؛ لفظاعة ما أتوا به وشناعة ما نسبوه إلى الله تعالى.

سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية

سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن القدر، والآن مع [ما روي في منع الصلاة خلف القدرية والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم، ورد شهادتهم]. قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية، والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم، ورد شهادتهم] شهادة الفاسق مردودة عند جماهير العلماء، ولكن ترك أكل الذبائح لا يكون إلا مع الكفار، ومنع الصلاة لا يكون إلا خلف المبتدع والكافر، وكذلك ترك الزواج لا يكون إلا من الكافرين والكافرات.

كلام السلف في حكم الصلاة خلف القدرية

كلام السلف في حكم الصلاة خلف القدرية قال: [روي عن واثلة بن الأسقع أنه أمر بإعادة الصلاة خلف القدرية، ونهى عن الائتمام بهم]. رجل يقول: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، فهذا لا تجوز الصلاة خلفه، لأنه كافر مرتد، وبالتالي من صلى خلف قدري وجبت عليه الإعادة ولو بعد مائة عام. قال: [ومن التابعين: عن علي بن عبد الله بن العباس أنه كان يقول: إذا كان الإمام صاحب هوى فلا يصلى خلفه]. أي: صاحب بدعة وهو داعٍ إلى بدعته ورأس فيها فلا يصلى خلفه. [وعن محمد بن علي بن الحسين: أنه أمر بإعادة الصلاة خلف القدري. وعن سيار أبي الحكم يقول: لا يصلى خلف القدرية، فإذا صلي خلف أحد منهم أعاد]. أي: وجبت عليه الإعادة. [وعن أيوب السختياني مثله]. الكلام السابق. قال: [ومن الفقهاء: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي وأبو يوسف القاضي -صاحب أبي حنيفة - والإمام أحمد بن حنبل مثله]. أي: هذا الكلام. [وعن ابن سيرين: أنه كره ذبائح القدرية]. لم يحرمها تحريماً إنما كرهها. قال: [عن حبيب بن عمر الأنصاري قال: حدثني أبي قال: سألت واثلة بن الأسقع -وهو صحابي رضي الله عنه- عن الصلاة خلف القدري، فقال: لا يصلى خلفه، أما إني لو صليت خلفه لأعدت صلاتي]. أي: لو أني صليت خلفه لوجبت علي الإعادة. [عن الحارث بن سريج البزاز قال: قلت لـ محمد بن علي: إن لنا إماماً يقول بالقدر -إمامنا في المسجد قدري- فقال: يا ابن الفارسي! انظر كل صلاة صليتها خلفه أعدها، إنما هم إخوان اليهود والنصارى، قاتلهم الله أنى يؤفكون]. القدرية إخوان اليهود والنصارى، وما من بدعة من البدع وردت في الإسلام إلا وأصولها يهودية أو نصرانية أو مجوسية، والقدرية إنما هي بدعة نصرانية في أصلها قال بها سوسن العراقي، وعنه أخذ معبد الجهني، وعن معبد غيره حتى تسلسل الأمر. قال: [كان سيار أبو الحكم يقول: لا يصلى خلف القدرية، فإذا صلى خلف أحد منهم أعاد الصلاة]. عن صدقة بن يزيد قال: [مررت مع أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - وهو آخذ بيدي إلى المسجد لنصلي فيه، فمررنا بمسجد قد أقيمت الصلاة فيه، فذهبت لأدخل فنتر يده من يدي فترة، ثم قال: أما علمت أن إمامهم قدري]. وما قصد صدقة أن يصلي خلف قدري، وإنما اجتهد في إدراك الصلاة خاصة وأنه قد سمع إقامة الصلاة، ولكن أن تفوتك الصلاة خير من أن تصلي خلف قدري، والسلف رضي الله عنهم كانوا يتحرون الصلاة خلف أوثق وأعدل الأئمة الذين أنيطت بهم إمامة الناس في الصلاة وفي غيرها. عن مصعب قال: [سمعت مالك بن أنس يقول: لا يصلى خلف القدرية]. وعن مروان بن محمد قال: [سألت مالك بن أنس عن تزويج القدري فقال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة:221]]. وهذا حكم عقدي عليه بأنه كافر. [وروي عن مالك أنه سئل عن القدري الذي يستتاب من هو؟ قال: الذي يقول: إن الله عز وجل لم يعلم ما العباد عاملون حتى يعملوا]. يعني: الذي ينكر العلم الأزلي الأبدي السرمدي لله عز وجل، فهذا الذي يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهل يقتل حداً أو ردة؟ يقتل ردة؛ لأنه لا يقتل حداً إلا صاحب المعصية، على أن تكون هذه المعصية دون الشرك، إذ كل معصية دون الشرك فالعقوبة فيها حد، مثل حد الزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من المعاصي كلها العقوبة فيها الحد، وما دون هذه الكبائر فإن العقوبة فيها التعزير، أما الشرك والردة -وهي نوع من الشرك والكفر- فالعقوبة فيها ردة لا حداً. فإذا استتيب هذا القدري فتاب تاب الله عز وجل عليه، فإن لم يتب قتل ولكنه يقتل ردة، ويموت على الكفر لا يرث ولا يورث، وماله لبيت المال. وعن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قال: [سمعت أبي يقول: لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة]. وعن سوار بن عبد الله قال: [حدثني معاذ بن معاذ قال: صليت خلف رجل من بني سعد، ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة، أو ثلاثين سنة]. شك الراوي. انظروا إلى اهتمام السلف بأمر الصلاة إلى أي حد بلغ! [عن أبي يوسف القاضي -وهو صاحب أبي حنيفة - قال: لا أصلي خلف جهمي، ولا رافضي -شيعي خبيث- ولا قدري. وعنه أنه سئل: ما الحكم في القدرية -يعني: لو أنك حاكم ماذا تصنع بهم- قال: الحكم أنه من جحد العلم أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته]. والعلم هو أول مرتبة من مراتب القدر، والذين كفرهم عبد الله بن عمر رضي الل

حكم الأئمة في تزويج القدرية

حكم الأئمة في تزويج القدرية وعن عبد الصمد بن مردويه قال: [سمعت رجلاً يقول للفضيل: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها، فقال له الفضيل: من زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها]. فالفاسق أهون من المبتدع، الفاسق صاحب كبيرة أو المصر على الصغيرة المبتدع شر منه، ولذلك العلماء لما قسموا المعاصي قسموها على الترتيب الثلاثي: الكفر، البدعة، المعصية، والكفر أمره معلوم، وصاحب المعصية إنما يعصي الله وهو يعلم أنه عاصٍ، وهل يتصور أن الزاني يزني وهو يعتقد أن الزنا طاعة وقربة؟ أو أن سارقاً يسرق وهو يتقرب بهذه السرقة إلى الله؟ لا يمكن أن يكون هذا. أما المبتدع فهو قائم على بدعته ظناً منه أنها الحق، وأنها قربة إلى الله عز وجل، ولذلك هو يتمسك ببدعته فوق تمسك صاحب المعصية بمعصيته. ولذلك أنت إذا حدثت صاحب معصية في معصيته وضع وجهه في الأرض استحياء مما يأتي، حتى لو كانت من المعاصي الصغيرة التي لم تبلغ حد الكبائر، ويبدأ يلوم نفسه ويسأل الله المغفرة، وغير ذلك من الكلمات التي تسمعها بصدق من لسان هذا العاصي. ولكن انظر إلى رافضي خبيث شيعي مجرم يتقرب إلى الله -وقد صحت النصوص عندهم- بتكفير الشيخين، بل جاء في كتاب الكافي وهو عند الشيعة كـ البخاري عند أهل السنة، جاء فيه: أن من لم يلعن أبا بكر وعمر في كل صباح ومساء فليس برافضي حقاً، وليس بشيعي حقاً. تصور رجلاً يقوم مبكراً ويسب أبا بكر وعمر وهو يعتقد أنه يتقرب إلى الله عز وجل بذلك، خاصة إذا كان من رعاع المذهب لا من رءوسهم، فهذا الذي تريد أن تخلعه عن هذه الكبيرة وهذا الجرم وهذا الكفر كيف تخلعه؟ أمر صعب جداً، ولذلك نسمع في كل يوم أن عشرات من أصحاب المعاصي يتوبون إلى الله عز وجل ويتركون معاصيهم، وفي كل مائة عام نسمع عن توبة رجل من رءوس البدعة، لأنه أشد تمسكاً ببدعته من صاحب المعصية بمعصيته، ولذلك المعصية أخف ضرراً من البدعة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته). ولم يقل ذلك في أصحاب المعاصي، بل أصحاب المعاصي تحت مشيئة الله، وهذا في حالة ما إذا ماتوا وهم مصرون على معاصيهم وإن كانت كبائر، فإن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وإن ماتوا على ذلك غير مستحلين لها فهم تحت مشيئة الله إن شاء تاب عليهم وعفا عنهم، وإن شاء أخذهم بذنبهم، بخلاف صاحب البدعة؛ فإن الله تعالى يؤاخذه لأنه يدخل في الدين ويلحق به ما ليس منه، كما أنه اتهام الله عز وجل بعدم تمام الشريعة وبنقصان هذا الدين، مكذباً بالقرآن والسنة، ومكذباً بأقوال الرسول عليه الصلاة والسلام.

حكم الأئمة في عيادة المريض من القدرية

حكم الأئمة في عيادة المريض من القدرية قال الأثرم: قيل لـ أحمد بن حنبل: [رجل قدري أعوده إذا مرض؟] أي: هل يحل لرجل من أهل السنة أن يعوده في مرضه؟ قال: [إذا كان داعية إلى الهوى فلا]. يفرق أحمد هنا بين صاحب البدعة الداعي إليها الرأس فيها، وبين عامة الناس في هذه البدعة، فلهذا حكمه وللآخر حكم آخر يفرق بين صاحب البدعة، ومن هو رأس فيها وداعٍ إليها ومدافع ومنافح عنها في الليل والنهار، وينفق ماله ومال أمته على هذه البدعة وعلى إظهارها، وطمس مذهب أهل السنة والجماعة، فهذا الرجل له حكم بخلاف من نشأ في بدعة أو في بلد قد انتشرت فيه هذه البدعة. أقول: الخميني الذي أقام ثورته الإسلامية المكذوبة، والذي طبل له المغفلون في هذه البلاد وفي غيرها شرقاً وغرباً وصفق له المغفلون والجهلة في كل مكان ظناً منهم أن هذه ثورة إسلامية، وهم لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين العقيدة الصحيحة وبين غيرها، بل معظمهم على غير العقيدة السليمة، وعلى غير عقيدة السلف، ولذلك الخميني له حكم ورعاع الشعب الإيراني لهم حكم، أما الخميني فإنما هو رأس في البدعة مجتهد فيها، داع إليها، فهذا له الحكم الذي ينطبق على معبد الجهني، وغيلان الدمشقي وغيرهم من أصحاب البدعة، أما عامة الشعب فلا يكفرون، وإنما يفسقون ببدعتهم، وفرق بين الكفر وبين الفسق. قال: [إذا كان داعية إلى الهوى فلا. قيل له: أصلي عليه؟ فلم يجب]. يعني: إذا مرض هذا الرجل القدري وكان رأساً في البدعة فلا تعده، وأما عن الصلاة خلفه فما استطاع أحمد رحمه الله أن يتكلم، ولا أن يجيب عن هذا السؤال، وكان بحضرته إبراهيم بن الحارث العبادي. [فقال له إبراهيم بن الحارث العبادي وأبو عبد الله يسمع: إذا كان صاحب بدعة فلا تسلم عليه، ولا تصلي خلفه، ولا تصلي عليه. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: كافأك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيراً]. وهذا إقرار منه لفتواه.

رأي الأئمة في ذبائح القدرية ورد شهادتهم

رأي الأئمة في ذبائح القدرية ورد شهادتهم قال: [عن ابن سيرين: أنه كره ذبائح القدرية]. وعن علي بن المديني شيخ الإمام البخاري وقرين أحمد بن حنبل قال: [سمعت معاذ بن معاذ حين قدم من عند هارون الرشيد في القدمة التي كان أجازه فيها هارون، فسمعته يقول: قال لي أمير المؤمنين: إني والله ما بعثت إليك لموجدة وجدتها عليك، ولكن لم أزل أحب رؤيتك ومعرفتك]. يعني هارون يقول له: أنا ما أرسلت إليك لأجل خصومة بيني وبينك وغضب مني عليك، وإنما أرسلت إليك، لأني أحب رؤيتك، أيام ما كان الأمراء والخلفاء يحبون أهل العلم. ثم قال: [بلغني أنك ترد شهادة قوم. قلت: يا أمير المؤمنين! قدرية ومعتزلة. قال: أصبت وفقك الله].

كراهة العلماء لمجالسة ومبايعة أهل القدر

كراهة العلماء لمجالسة ومبايعة أهل القدر قال: [عن إدريس القصير عن أبيه قال: شهدت عبيد الله بن الحسن العنبري واختصم إليه رجلان -كان قاضياً عظيماً مشهوراً، واختصم إليه رجلان في قضية من القضايا- فقال أحدهما: اشتريت منه عبداً على أنه ليس به داء ولا علة ولا غليلة، بيع المسلم للمسلم وأنه قدري]. يعني: ممنوع أن يكون هناك غليلة وإخفاء للعيب بين المسلم والمسلم، ولكني لما اشتريته وجدت هذا الغلام قدري، وهذا أمر لابد أن يبينه البائع، فلما اشتراه كان لزاماً على البائع أن يبين عيبه أنه قدري، ولما أخفى هذا العيب بطل البيع، ولذلك حكم عبيد الله العنبري ببطلان البيع للعيب. قال: [فقال عبيد الله بن الحسن له: إنما اشتريت مسلماً ولم تشتر كافراً فرد عليه]. قال: [أرسل رجل من أهل خراسان بكتاب يسأل أبا ثور -وهو إمام عظيم من أئمة الفقه- فأجاب: سألتم رحمكم الله عمن قال: إن المعاصي لم تقدر هل هو فاسق يصلى خلفه]. رجل يقول: المعاصي ليست من عند الله، ولم يقدرها الله عز وجل على العباد إنما هي من فعل البشر، ووقعت بمشيئة الفاعل ولا علاقة لمشيئة الله بها، فهل هو فاسق؟ وهل يصلى خلفه أم لا؟ فقال: [فهذا فاسق بتفسيق أهل العلم، لا يصلى خلفه، وهو داخل في حكم أهل القدر، ومن قال: الأشياء كلها بقدر إلا المعاصي فلا يصلى خلفه]. وهذا يبين أن الأشياء من عند الله عز وجل خيرها وشرها، ويكفينا حديث النبي عليه الصلاة والسلام (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره). فأثبت أن الشر بقدر. إذاً: الخير من الله والشر من الله، الخير أراده الله عز وجل وأمر به إرادة شرعية دينية، والشر نهى الله عز وجل عنه، ولكنه أراده في كونه إرادة كونية قدرية لا شرعية دينية. [قال سفيان بن عيينة: لا تصلوا خلف الرافضي، ولا خلف الجهمي، ولا خلف القدري، ولا خلف المرجئ]. تصور عندما يذهب من يزعم أنه أمير جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يذهب إلى إيران بدعوى من الخميني، وهذا الرجل قد تربينا على يديه من سنة (1979م) إلى سنة (1981م)، ثلاث سنوات ونحن نسمعه في مسجد سوق الآخرة بحلوان، وكان لا يتوقف عند المحطات الصغيرة، والذي كان يفسقه أهل العلم كان يكفره هو، فما بالك بالذي يكفره من أهل العلم؟! فكان قد حكم في ذلك الزمان بأن خميني إيران كافر، وأن هذه الثورة ثورة كاذبة لا تمت للإسلام بصلة، بل كان يحكم على طلاب إيران الموجودين في كلية دار العلوم في ذلك الوقت بالكفر، وكان يطردهم من مسجده، ويقول: إنما أتوا إلينا تقية؛ لأن خميني إيران سئل بعد ثورته بعام من قبل طلاب كلية دار العلوم بالقاهرة: ماذا نفعل في مسائل تعترضنا في حياتنا بمصر لا نجد لها جواباً ولا نعلم لها حلاً في ديننا؟ أي: في دين الشيعة. قال: سلوا علماء الناصبة -أي: علماء السنة- ثم خالفوهم، فإذا قالوا حلالاً، فاعلموا أنه حرام، وإذا قالوا حراماً فإنما هو حلال. هذه فتوى الخميني عليه لعنة الله. هذا الرجل لما فتن في دينه، وأراد أن يظهر، وقد حذرنا منه الصادقون المخلصون ولكننا على عادتنا ونحن في بداية طريقنا لم نقبل هدى الذي يريد أن يهدينا، ولا نصح الذي يريد أن ينصحنا، لأننا ألفنا أن نسمع من رجل واحد، وهذا خطأ، ولذلك أنت لا تعلم خطأ شيخك حتى تسمع من غيره، إذ كيف يتسنى لك أن تعرف الحق من الباطل وأنت تزعم أن كل إنسان ليس معصوماً إلا الأنبياء؟ فشيخك ليس معصوماً، فينبغي أن تسمع من غيره حتى يتبين لك الخطأ، فإذا كان الأمر كذلك فنحن خالفنا في أول الطريق حتى رأينا بأعين رءوسنا وقلوبنا أن هذا الرجل قد فتن، وأنه ذهب يبحث عن المناصب والمظاهر شرقاً وغرباً أماته الله عز وجل، وهو حي الآن يحمل وزره، ولكنه في قلوب الشباب ميت لا قيمة له، ولا دعوى له تسمع. ذهب هذا الرجل إلى إيران فصلى خلف الخميني، وهو الذي كان يكفره، صلى خلفه وقد مرت به هذه النصوص، وهو يعلم أن الصلاة خلف الرافضي لا تصح وتجب إعادتها، إذا صلى خلفه مسروراً أو مكرهاً أو خائفاً، وجبت عليه الإعادة ولو إيماءً، فصلى خلفه ثم أتى إلى مصر وهو يشيد بثورة الخميني، ويقول: لقد جالسته فوجدته صالحاً! والله كلاكما كاذب، وأنت ما سافرت إلا ليقال: فلان سافر، وفلان رحل، وفلان قابل الزعيم الشيعي وغير ذلك. قال روح بن عبادة: [سمعت منادياً ينادي على الفجر يقول: إن الأمير أمر ألا يبايع زكريا بن إسحاق ولا يجالس، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة لموضع القدر]. أي: بعلة القدر.

موقف الحارث المحاسبي من أبيه لقوله في القدر

موقف الحارث المحاسبي من أبيه لقوله في القدر قال: [مات أبو الحارث المحاسبي] يعني: والد الحارث المحاسبي، وأنتم تعلمون أن الحارث المحاسبي كان إماماً في الزهد والورع، وعاش في عصر أحمد بن حنبل، وأثنى عليه أحمد بن حنبل خيراً في زهده وورعه وتقواه. ولذلك لما سألت امرأة أحمد بن حنبل أيغزل في ضوء موكب السلطان، ثم يباع ويتربح ويتكسب من هذا وهذه الإضاءة وهذه الأنوار ليست له خاصة، فتعجب أحمد بن حنبل من السؤال، وقال: من السائل؟ قالت: أنا أخت الحارث. قال الإمام: من بيتكم خرج الورع، أما إنه لا يحل لك أنت بالذات إنما لسائر الناس يحل؛ لأن الأمر على الإباحة والجواز، لكن الحارث لو سمع بهذا ما أجازه من شدة ورعه وزهده وخوفه من الله عز وجل، فقال: من بيتكم خرج الورع. كان والد الحارث المحاسبي قدرياً. قال: [يوم مات وحارث محتاج إلى أقل من درهم -أو كما قيل- لعيال وبنات عليه، وترك أبوه مالاً وضيعه وأثاثاً وأموالاً كثيرة نفيسة، فلم يقبل -أي: الحارث - منها شيئاً. فقيل له في ذلك؟ فقال: روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أهل ملتين شتى لا يتوارثان)] نعم. (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم). يعني الحارث المحاسبي يكفر والده، لأنه كان قدرياً. وهذا فارق ما بيننا وبين السلف! كما قيل للفقيه: إن الكلب قد بال على الجدار كيف نطهره؟ قال: بهدمه وبنائه سبع مرات. قيل له: إن الجدار بيننا وبينك. قال: إنما يكفيك شيء من الماء ترشه عليه. هذا الفقيه هو أنا أو أنت، إذا كانت النصوص لنا فبها ونعمت، وإذا كانت علينا لوينا رءوسنا وتنكرنا لها.

ما ذكر من مخازي مشايخ القدرية وفضائح المعتزلة

ما ذكر من مخازي مشايخ القدرية وفضائح المعتزلة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ما ذكر من مخازي مشايخ القدرية وفضائح المعتزلة]. عن معاذ بن معاذ قال: [كنت عند عمرو بن عبيد -وعمرو بن عبيد رأس في القدر- فجاءه رجل، فقال: ألا تعجب من فلان يزعم أن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو بن عبيد: لئن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وتب في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من لوم، وما على الوليد من لوم، يعني في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11]]. يعني: جاءه رجل في حضرة معاذ بن معاذ يقول له: يا عمرو بن عبيد! يزعم رجل أن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] في اللوح المحفوظ. فقال له: إذا كانت في اللوح المحفوظ فلم يعاقبه الله وقد حكم عليه بأنه من الهالكين أولاً قبل أن يخلقه؟ ولم يعاقب الوليد والد خالد بن الوليد رضي الله عنه؟ وهو الذي نزلت فيه الآيات الطويلة في سورة المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:11 - 14] إلى آخر الآيات. قال: فلم يعاقبهم الله وقد قضى عليهم في الأزل أنهم من الهالكين. قال [عن ثابت البناني قال: رأيت عمرو بن عبيد في النوم يحك آية من المصحف، فقلت: ما تصنع؟ فقال: أثبت مكانها خيراً منها]. هذا عمرو بن عبيد يريد أن يثبت آية في كتاب الله خيراً من كلام الله عز وجل. وعن عاصم الأحول قال: [جلست إلى قتادة فذكِر في هذا المجلس عمرو بن عبيد، فقلت: يا أبا الخطاب! -وهي كنية قتادة - ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض. قال: يا أحول! أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تعلم؟!] لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى أشياء من الغيبة، فذكرك أخاك بما يكره غيبة إلا ما استثناه النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذا المستثنى ذكرك صاحب البدعة، وصاحب الفجور الذي يجاهر بفجوره ومعصيته. ولذلك تلك المرأة التي لاعنها زوجها هلال بن أمية عند النبي عليه الصلاة والسلام، قيل: لـ ابن عباس أهي هذه المرأة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت جالداً أحداً أو راجماً أحداً بغير بينة لرجمت هذه) قال: لا. إنما هذه امرأة أعلنت السوء، والحديث في الصحيحين. يعني: لو كان يحل لي أن أرجم أحداً بغير بينة ولا شهود ولا إقرار لرجمت هذه المرأة التي اشتهر عنها البغاء والزنا، ولكن لم يثبت عليها بشهادة أربعة، وهو نصاب الشهادة في الزنا فلا يحل إقامة الحد، بل من تكلم في عرض أحد بغير نصاب الشهادة جلد هو في ظهره ثمانين جلدة، وهو حد القذف. [قال: يا أحول! أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تعلم؟!] هذا صاحب البدعة ينبغي أن يذكر ببدعته في المجالس وعلى الملأ حتى نحذر بدعته. قال: [فجئت من عند قتادة وأنا مغتم -لم يعجبه كلام قتادة، مع أنه كان قدرياً ثم تاب- لقوله في عمرو بن عبيد، وما رأيت من نسك عمرو بن عبيد وهديه]، يعني: غره نسك صاحب البدعة، وأصحاب البدع لعلهم أشد في العبادة من أصحاب السنة، فيغتر الجهلاء والحمقى بهذه العبادة، كيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام نفسه شهد بهذا فقال: (سيأتي أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية). وأنكر أبو موسى الأشعري على هؤلاء الناس العبادة والذكر والتسبيح والتهليل، وابن مسعود الفقيه الصحابي الجليل رضي الله عنه لم تنطلي عليه هذه العبادة، وأنها عبادة غير مستقيمة ولا مرضية، فلذلك قال لهم لما رآهم على هذه الكيفية من العبادة والتي لم تأت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام قال: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة ولا أراه إلا هذا. أي: ولا أراكم إلا على ضلالة، مع أنه رآهم يسبحون ويكبرون ويهللون ويحمدون. فأنت رجل لا علم عندك، أول ما ترى صاحب بدعة له عبادة أو له شهرة بالدعوة إلى الإسلام تغتر به، مثل من سمع عن خميني إيران عندما قاد الثورة الإسلامية، الكل ذهب يطبل ويزمر فرحاً بالثورة الإسلامية الثورة بنيت على غير أساس ودليل، بل بنيت على الباطل من أولها إلى آخرها، وكل ما في الأمر أنه نجح في تطويع شعبه

سياق ما روي عن الرؤيا السوء من المعتزلة

سياق ما روي عن الرؤيا السوء من المعتزلة قال: [وسمعت أبا أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد الفرايضي رحمه الله الشيخ الصالح الأمين الثقة يقول غير مرة: كان رجل ضرير من أهل القرآن يقرأ علي، وأثنى عليه خيراً أبو أحمد، فقال لي بعدما مات الجعد لعنه الله: قد رأيت رؤيا. فقلت: ماذا رأيت؟ قال: رأيت كأني كنت في مسجد وفيه جماعة من الناس يريدون الصلاة، وقد قام الإمام ليقيم الصلاة، فدخل رجل من برا -أي: من البر- وأسر إليه شيئاً، فالتفت الإمام وقال: قد مات جعد لا رحم الله جعداً، وحشا قبره ناراً وأراح المسلمين منه]. فموت الجعد كان لهذا الإمام بشرى طيبة، ولذلك أعلن قبل الدخول في الصلاة هذا القول، قال: [لا رحم الله جعداً وحشاً قبره ناراً، وأراح المسلمين منه]. ولذلك حمل هذا الإمام على أن يصلي على الجعد، فقال: والله لأصلين عليه وإن حملتموني على ألا أصلي عليه. يعني: حتى لو لم تريدوا أن أصلي عليه لابد من أن أصلي عليه، فغضب عليه أهل السنة وتركوا الصلاة خلفه فترة من الزمان حتى قدموا إلى بيته، وقالوا: يا فلان، ما الذي حملك على أن تصلي على هذا الرجل؟ قال: وما الذي يمنعني من أن أصلي عليه؟ قالوا: كيف قلت في صلاتك؟ قال: والله ما قرأت فاتحة الكتاب، ولا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أبي الأنبياء، وإنما أخذتها من أولها إلى آخرها: اللهم احشره في زمرة فرعون وهامان وقارون، اللهم العنه في الدنيا والآخرة، اللهم املأ قبره عليه ناراً، اللهم لا تخلفه بخير في المسلمين. وظل يدعو عليه، فاعترفوا به إماماً للمسجد وصلوا خلفه بعد ذلك. قال الشيخ أبو أحمد: [قلت له: تعرف هذا الرجل الذي رأيت له الرؤيا؟ قال: لا والله ما أعرفه، ولا سمعت باسمه إلا في الرؤيا. قلت: هذا من متكلمي المعتزلة، وقد مات في هذه الأوقات. قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: وسمعته غير مرة يذكر أبا حامد المرورذي يثني على عمله، ويطنب في فضله وحسن صورته وجملته، فقال: رأيته في النوم وكأنه على سطح مسجد قاعد وحوله جماعة وسخة ثيابهم كأنهم يشبهون غلمان البزارين، وبين يديه طبق عليه عود يلوكه بأسنانه، وقد أسودت جلدة وجهه بعد حسنها ونضارتها في حياته، فلما نظرت إليه أنكر نظري وكأنه خُيل إليه أنه أنا نائله- أي: آخذ منه، أو مصيبه بشيء مكروه -لما أعلم مما كان يرمي به من بدعته. فقال: إنا لا نظلم الله. فقلت: ألا لعنة الله على الظالمين. فهمَّ الذين حواليه بسوء يوقعونه بي، فقرأت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وأخذت أشير بأصبعي، وكان رحمه الله يشير في اليقظة كذلك وانتبهت]. وهذا النص لا أراه نصاً صريحاً ولا صحيحاً ولا جيداً، خاصة: وأن من رؤيت له هذه الرؤيا كان من كبار فقهاء الشافعية العاملين بسنة النبي عليه الصلاة والسلام.

سياق ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت

سياق ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت قال: [سياق ما وري أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر)]، قوله: (لا يؤمن عبد). هل هذا النفي على إطلاقه؟ أي: لا إيمان للعبد ألبتة؟ هل هذا نفي لمطلق الإيمان أم الإيمان المطلق؟ يعني: نفي لأصل الإيمان أم نفي لكمال الإيمان؟ [قال أبو حازم: لعن الله ديناً أنا أكبر منه. يعني التكذيب بالقدر]، أي: لعن الله دين القدرية الذي أنا لا أعتقده، وأنهم يكذبون بالقدر. وعن عطاء بن أبي رباح قال: [أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يأخذ ماءً بدلو من زمزم- قد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت: قد تكلم في القدر. قال: أوقد فعلوها؟ فقلت: نعم. فقال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49] أولئك شرار هذه الأمة]. وكل من ألفاظ العموم أو من الخصوص؟ لو قلت: من ألفاظ الخصوص، فأنت متفق مع القدرية بأن الله تعالى خلق الخير ولم يخلق الشر، لكن إذا قلت: إن كل من ألفاظ العموم فيشمل الخير والشر وهو من عند الله عز وجل، والله عز وجل هو الذي خلقهم. وعن أيوب بن أبي تميمة السختياني قال: [أدركت الناس هاهنا وكلامهم: وإن قضى وإن قدر]. يعني: وإن قضى الله قضاءً أمضاه، وإن قدر الله قدراً أمضاه. وعن عثمان بن عبد الله قال: [أول من تكلم في شأن القدر: أبو الأسود الدؤلي. وأنتم تعلمون أن أبا الأسود الديلي] تاب ونزع من هذه البدعة، وقد مر بنا التنبيه على أن أبو الأسود الدؤلي رحمه الله إمام من أئمة البصرة، بل هو الذي نقط القرآن وشكله وضبطه بأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من سادات التابعين ومن أئمة اللغة، وهو الذي وضع علم العروض وعلم العربية وغير ذلك من مناقبه العظيمة، ويكفي أنه تلميذ علي بن أبي طالب. [عن الحسن بن محمد قال: أول من تكلم في القدر حين احترقت الكعبة] سنة أربع وستين هجرية. كانت هذه أول مرة تحترق فيها الكعبة، وقد احترقت بعد ذلك مرات، وسرق الحجر الأسود منها مرات، لكن أول مرة حرقت الكعبة كانت سنة أربع وستين في دولة بني أمية على يد الحجاج في زمن الزبير، فقال قائل أهل السنة: إن احتراق الكعبة من قدر الله، فقال آخر: ما كان هذا من قضاء الله. إحراق الكعبة شر من عند الناس، والناس هم الذين يفعلون الخير والشر، ويجري على أيديهم الكسب، والكسب هو العمل، والعفة مخلوقة في العبد، والشر مخلوق في العبد، والزنا مخلوق في العبد. هل هناك خالق غير الله عز وجل؟ فالله عز وجل خلق الشر وقدره ولم يرض عنه وحذر منه، وعاقب عليه بخلق النار، وأمر بالطاعة وأحبها ورضيها ويسر لها أهلها، ثم كافأهم بأن جعل لهم في الآخرة الجنة. عن حازم قال: [سمعت حوشب يقول لـ عمرو بن عبيد في حبوة الحبس: ما هذا الذي أحدثت؟ قد نبت قلوب إخوانك عنك. قال: انطلق إلى الحسن حتى نسأله عن هذا الأمر. قال: كسرها الله لو ذهبت إليه -يعني: رجليه- وكان قتادة يتكلم في حقه ويسبه وربما يلعنه، قال: فجثوت -أي: عاصم الأحول - على ركبتي، وقلت: يا أبا الخطاب! وإن الفقهاء ينال بعضهم من بعض -يعني: لا يصح أن تقع فيه ولا هو يقع فيك- قال: يا أحول! رجل مبتدع ابتدع بدعة تذكر بدعته خير من أن يكف عنها. قال: فوجدت على قتادة -أي: فغضبت منه- فوضعت رأسي، فإذا بـ عمرو يحك آية من القرآن. قلت: لم تصنع؟ قال: إني أعيدها. قال: فحكها. قلت: أعدها. قال: لا أستطيع]. [عن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: سنسويه البقال]. وهو اسم فارسي معرب بـ سوسن، وهو رجل نصراني أسلم ثم ارتد، ثم أسلم ثم ارتد، فتكلم في القدر، فأخذ عنه معبد الجهني قال: [فكان أول من تكلم في القدر. قال حماد: ما ظنكم برجل يقول عنه ابن عون: هو حقير؟!] يعني: تكفي عليه هذه الشهادة. وقال الأوزاعي: [أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد]. وهلم جرا إلى يومنا هذا. فبدعة القدر أصلها نصراني من العراق، ومعظم الفتن أصلها العراق، والنبي عليه الصلاة والسل

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاستدلال بالرؤى على الأحكام

حكم الاستدلال بالرؤى على الأحكام Q فيما يتعلق برؤى أهل العلم، هل يترتب على هذا شيء في الاعتقاد أو غيره؟ A الرؤى والأحلام في مذهب سلفنا رضي الله عنهم لا يبنى عليها اعتقاد، وإنما هي من المبشرات، والصحابة رضي الله عنهم منهم من رأى الخير في منامه ومنهم من رأى الشر، ورؤية الشر في المنام لا تعد من أسباب سوء الخاتمة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم في منامه ما يكره فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً، وليتفل عن يساره ثلاثاً، ويتحول عن مكانه الذي كان ينام فيه، ولا يخبر بذلك أحداً، فإنها إن شاء الله لا تضره). إذاً: الذي يرى ما يكره في منامه عليه: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم بمجرد أن يستيقظ، وأن يتفل عن يساره ثلاثاً، وأن يقوم فيتوضأ ويصلي ركعتين، ولا يخبر بذلك أحداً، فإنها إن شاء الله لا تضره.

الجمع بين حديث: (ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة) وحديث ادخار الدعاء

الجمع بين حديث: (ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة) وحديث ادخار الدعاء Q كيف نوفق بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، وبين الحديث الآخر الذي مؤداه: أن الدعاء يجاب في الحال، أو في المآل، أو يدخر له إلى يوم القيامة، أو يدفع من السوء مثله، كيف نجمع بين اليقين بإجابة الدعاء، وبين ما سبق؟ A ليس هناك تعارض بين الدليلين. قوله عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)؛ وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (دعاء المؤمن إما أن يدخر له إلى يوم القيامة، أو يدفع عنه من الشر مثله). أنا في كل الأحوال على يقين بأن الله تقبل دعائي خاصة إذا حققت شروط قبول الدعاء من أكل الحلال واليقين بالله عز وجل، والتوكل عليه، وغير ذلك من أسباب الطاعة التي تؤهلني لرفع دعائي إلى الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فأنا على يقين بأن الله تقبل دعائي، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني أن قبول الدعاء ليس بلازم أن يكون مرئياً رؤيا العين؛ لأن الله تعالى يؤخر لي الإجابة ليكافئني بها يوم القيامة، أو يدفع عني من الشر الذي لا أعلمه مثل الذي طلبته، فأنا أحوالي كلها تدور من خير إلى خير إلى خير، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وعد بهذا فما الذي يضيرني أن أعقد قلبي وأعزم عقيدتي على أن دعائي مجاب في كل الأحوال، فليس هناك تعارض بين الدليلين.

المكتوب في اللوح المحفوظ هو علم الله فيما سيعمله العبد

المكتوب في اللوح المحفوظ هو علم الله فيما سيعمله العبد Q هل المكتوب في اللوح المحفوظ هو قدر الله على العباد، أم أنه علم الله بما سيعمله العباد؟ A المكتوب في اللوح المحفوظ هو علم الله تبارك وتعالى فيما سيعمله العباد، فقدره عليهم ثم كتبه.

معنى قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون)

معنى قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) Q ما معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]؟ A هذه الآية وافقت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الله خالق كل صانع وصنعته) فأنت مخلوق لله عز وجل، وهذا الذي يوافق قول الله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]. أي: وما تصنعون. فهذا الكلام الذي تتكلمه أنت مخلوق فيك أي: حركات فمك ولسانك وأطرافك وحلقومك وغير ذلك كلها حركات مخلوقات، والصوت الذي خرج من فمك مخلوق كذلك. أما الذي تتكلمه فإما أن يكون مخلوقاً أو غير مخلوق، فإن تكلمت بكلام الله عز وجل فكلام الله غير مخلوق، وإن تكلمت بكلام غير الله فكلام غير الله مخلوق. وحركاتك وأداؤك وإخراجك الحروف والأصوات مخلوق، وصناعتك ومشيك وقعودك وسكونك وحركتك كل هذا مخلوق، وأعمالك التي تنتجها كلها مخلوقة لله عز وجل، وهذا معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].

مصير الكفار في الآخرة

مصير الكفار في الآخرة Q هل الكافر يوم القيامة داخل في مشيئة الرحمة أو العذاب، أم أنه ليس له إلا النار؟ A الكافر لا رحمة له في الآخرة، وليس له إلا النار.

الأحاديث في غير الصحيحين

الأحاديث في غير الصحيحين Q هل كل حديث خارج الصحيحين لا يعمل به إلا بعد التأكد من صحته أو حسنه؟ A كل حديث ليس في الصحيحين ينبغي البحث عن أحوال رواته وعنه قبولاً ورداً.

صحة حديث: (استوصوا بأهل مصر خيرا)

صحة حديث: (استوصوا بأهل مصر خيراً) Q يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بأهل مصر خيراً، وبأرض الكنانة). هل هذه الأحاديث صحيحة أم لا؟ وما معنى كلمة: شعب مصر وهل هو دليل أم كلام؟ A هذه الأحاديث في مجموعها حسنة.

تفسير رؤيا

تفسير رؤيا Q رأيت في المنام الشيخ يمسك يدي اليمنى ويقرأ قرآن، وعندما استيقظت من نومي سمعت هذا القرآن في محطة القرآن الكريم، أرجو الإفادة؟ A الكلام هذا غلط، لا يحل للشيخ أن يمسك بيدك وأنت أجنبية.

حكم المجامع يسمع أذان الفجر

حكم المجامع يسمع أذان الفجر Q هل يجب على من يجامع أهله أن ينزع عند الأذان الصادق؟ A لا. بل قبل الأذان الصادق، ولكن إن وافق ذلك الأذان نزع، مع أن هذه مسألة قد اختلف فيها أهل العلم، قالوا: لو أن الرجل سمع أذان ابن أم مكتوم وهو يجامع ماذا يصنع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم). قال الجمهور: إذا كان الرجل يجامع أهله فسمع تأذين ابن أم مكتوم فلينزع. قال الأحناف: لا ينزع. قيل: لم؟ قالوا: لأن النزع لذة، ولا تحل اللذة بعد دخول الوقت. فيقال لهم: فماذا يعمل؟ هل يبقى مجامعاً حتى ليل اليوم الثاني؟ طبعاً رأي الأحناف رأي باطل وفاسد، والمذهب الصحيح أن الرجل ينبغي عليه أن ينزع قبل الفجر الصادق في وقت يسمح له بالاغتسال والطهارة. فإذا قام من الليل وظن أن الفجر بقي عليه من الوقت ما يسمح له ثم جامع ففوجئ بالأذان وجب عليه أن ينزع ثم يبادر بالاغتسال، وإن جامع الرجل ونام بلا غسل وهو ينوي أن يقوم قبل الفجر ليغتسل ثم أخذته نومة فقام بعد أن طلع النهار أو أذن الفجر فلا شيء عليه، ويغتسل، ويتم صيامه ولا إعادة عليه.

نصيحة لموسوس

نصيحة لموسوس Q خلاصة Q أنه موسوس، لا يكاد يتوضأ وضوءاً إلا ويرهقه الوساوس، وهو في الصلاة كذلك، وبعد الصلاة إذا خرج منه ريح يسأل هل يذهب يتوضأ حتى يتمكن من التسبيح أم التسبيح يحصل بغير وضوء؟ A التسبيح يمكن بغير وضوء، وذكر الله تعالى على غير وضوء جائز، وهذا مذهب العلماء. أما السائل الذي يسأل عن وسوسته عند قيامه للصلاة، فهذا السائل نسأل الله تعالى لنا وله العافية، فالوسوسة ليست من دين النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا نقول: ما عليه إلا أن يتوضأ ثلاثاً ويقف خلف الإمام، ويكبر للصلاة فور تكبير الإمام، ولا شيء عليه بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم في صلاته فلا يخرج منها حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا يدل على المبالغة في رد الوسواس.

حكم رواية المبتدع بدعة مكفرة

حكم رواية المبتدع بدعة مكفرة Q المبتدع إن كفر ببدعته ترد روايته؟ A نعم. إن كفرته ببدعته ترد روايته، وإن لم يكفر ببدعته ولم يستحل الكذب وتوافرت فيه شروط قبول الرواية قبلت. مداخلة: وهل هناك فرق بين المبتدع الداعية وغير الداعية؟ الشيخ طبعاً هناك فرق بين المبتدع الداعية وغير الداعية، فالداعي إلى بدعته يغلب عليه الكذب، ولذلك ترد روايته، وهناك فرق بين المستحل وغير المستحل.

حكم الصلاة خلف القدرية

حكم الصلاة خلف القدرية Q من عقائد أهل السنة والجماعة: (أن الصلاة تجوز خلف كل بر وفاجر)، وأنت قلت: إن الصلاة لا تجوز وراء القدرية؟ A ليس هذا قولي: (إن الصلاة لا تجوز خلف القدرية)، بل إن أمة لا إله إلا الله تقول هذا الكلام، والذي قلته هو إن الصلاة تجوز خلف كل بر وفاجر ما لم يكن مبتدعاً بدعة تكفره ويدعو إليها.

جماع الكلام في الإيمان - الأركان الخمسة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - جماع الكلام في الإيمان - الأركان الخمسة جماع الكلام في الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت، وتؤمن بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وتعلم أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، هذا هو مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة، ومن خالف أهل السنة والجماعة في شيء من ذلك فهو من أهل الضلالة والزيغ والغواية.

مسلك اللالكائي في كلامه عن مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة

مسلك اللالكائي في كلامه عن مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فهذا كتاب (مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة) لإمام كبير من أئمة السنة، وهو أبو القاسم الطبري اللالكائي رحمه الله، وهو كتاب عظيم جداً في بابه، فقد جمع شتات مسائل الاعتقاد التي خالفت فيها الفرق الضالة أهل السنة والجماعة. وهذا الكتاب سلك فيه مؤلفه مسلكاً عظيماً وإن كان فيه شيء من الخلل، فقد ذكر المسائل التي خرج بها من خرج عن حد الاستقامة من أصحاب الفرق الضالة، والتي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة، وإذا كانت المسألة محل نزاع عند أهل السنة فإنه لا يذكر هذا النزاع ولا يعتني به، وإنما يذكر ما ترجح لديه وأدلته، فمثلاً في مسألة رؤية الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام لم يسق فيها الخلاف الذي حدث، وإنما ذكر ما ترجح لديه -وهو الراجح حقاً- أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه بعيني رأسه، وإنما رآه بفؤاده، فساق الأدلة لإثبات هذا المعتقد، وهو الصحيح. فهو لا يعنى بالخلاف حتى وإن كان هذا الخلاف بين جماعة أهل السنة والجماعة. والكتاب قد شرحناه منذ عام يقل قليلاً أو يزيد قليلاً، ولن نرجع نسرد أدلة الكتاب ونقرأ الأبواب من أول الكتاب، وإنما سنبني على ما مضى، وكنا قد وقفنا عند موضوع حيوي جداً، وهو الكلام في الإيمان وأصوله، والتعليق على عقائد الفرق الضالة. وهذا الموضوع بدأ في نهاية الجزء الرابع وينتهي في نهاية الجزء التاسع، والكتاب طبع في خمسة مجلدات، الأربعة الأولى كل واحد منها جزءان، وكان الجزء الثاني مفقوداً من المخطوط، ولكن المحقق عثر عليه أخيراً فطبعه في مجلد مستقل. وقد عقدنا العزم على دراسة كتب السنة المفردة -أي: كتب الاعتقاد المسندة- ككتاب الإيمان لـ ابن مندة، وكتاب السنة للخلال، وكتاب السنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب الشريعة للإمام الآجري، وغيرها من الكتب لمؤلفيها.

جماع الكلام في الإيمان

جماع الكلام في الإيمان قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب جماع الكلام في الإيمان. سياق ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن دعائم الإيمان وقواعده: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان]. وسنستغني عن ذكر الأدلة الضعيفة وسردها، وسنذكر الأدلة الصحيحة، ولن نذكر الإسناد وإنما سنذكر المتن مع الصحابي الذي رواه، أو مع الراوي الذي قاله. قال ابن عباس: [إن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بالإيمان بالله قال: (أتدرون ما الإيمان؟)]. ووفد عبد القيس كانوا لا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام إلا في الأشهر الحرم؛ لأن بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام كفار مضر، فقالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم). وهذا من شدة أدبهم رضي الله عنهم، وإلا فالإيمان بالله معلوم لدى العامة فضلاً عن الخاصة، ووفد عبد القيس أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليسألوه عن أصول دينهم، وعما يجب عليهم وما حرم، وعما أحل لهم، فهم لم يكونوا يعملون ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم). ومن أدب الطالب: أن ينسب الجهل إلى نفسه، وأن ينسب العلم إلى شيخه، وإن كان جاهلاً، وهذا من باب حسن الأدب ومكارم الأخلاق، حتى يستفيد مما عند شيخه، ولو أن طالباً أظهر ما عنده من علم ثم عرج على جهل شيخه فإنه لن يحظى منه بشيء، فالأدب الصادق أن يظهر جهله وإن كان عالماً، وأن يظهر علم الشيخ وإن كان جاهلاً. [[(قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)]. والصواب أن هذا الحديث ليس فيه الحج؛ لأن الحج لم يكن قد فرض بعد، فهو إنما فرض مؤخراً، والسؤال كان قبل فرض الحج، فيكون الأمر: (آمركم بالإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان). وليس فيه الحج. ثم قال: [(وأن تؤدوا الخمس من المغنم)]. أي: من المغانم، فقد كانوا أهل جهاد مع كفار مضر، وأهل الجهاد إما أن يخسروا وإما أن يغنموا، فلما غلب النصر على هؤلاء لزم من ذلك حصولهم على الغنائم الكثيرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: (وأن تؤدوا الخمس من المغنم). وليس معنى ذلك أن أداء الخمس معطوف على ما أمرهم به عليه الصلاة والسلام من أصول الإيمان، بل هو من الإيمان، وقد أفرده البخاري في كتاب الإيمان له فقال: باب قوله: باب أداء الخمس من الإيمان. وقد ذكره في نهاية كتاب الإيمان من صحيحه، وعد أداء الخمس شعبة من شعب الإيمان. فهنا قال: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قالوا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان). وقد كان قال لهم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع). وقوله: (وأن تؤدوا الخمس من المغنم) تعد خامسة، فهي معطوفة على قوله: (آمركم بأربع). يعني: ليست داخلة في الأربع، وإنما هي خامسة، فقد كانوا في حاجة إليها لأنهم أهل جهاد، فزادهم ما يخص عملهم وكفاحهم وجهادهم مع كفار مضر، فهم لما كانوا أهل جهاد وغنيمة لزمهم في ذلك أن يؤدوا الخمس، فزادهم هذه من عنده، وليس هذا من الأربع التي أمرهم بها عليه الصلاة والسلام، بل هذا أمر مستقل يبعد عما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أولاً أن يأمر به. قال: (وأنهاكم عن الحنتم والنقير والدباء والمزفت). وهذه أوان كان يستعملها العرب في الجاهلية في تخمير الخمر، والشيء إذا وضع في هذه الأواني كان سريع التخمر والحموضة، فنهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن استعمال هذه الأواني. وهذا الحديث أخرجه البخاري. قال: [عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)]. وهذا الحديث كذلك عند الشيخين في الصحيحين. والشاهد في هذا الحديث قوله: (بني). وهذا يدل على أن دعائم الإيمان والإسلام تقوم على هذه الأسس؛ لأنها مبانٍ، وليست مكملات ولا فرعيات ولا شكليات، وإنما هي مبانٍ كالقواعد والسواري والأعمدة للبناء العظيم الذي هو الإسلام، وهذا يعني أن من لم يأت بقائمة من هذه القوائم اختل إسلامه، فالخلل لا يقع في الإيمان فحسب

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإسلام أعم من الإيمان والإيمان أخص منه

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإسلام أعم من الإيمان والإيمان أخص منه قال: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص منه]. الإسلام دائرته أوسع من دائرة الإيمان، فدائرة الإيمان خاصة، ودائرة الإسلام عامة، فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص منه. [قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14]]، أي: ادعوا أنهم قد آمنوا، [{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]]. فانظر إلى نفي الله عز وجل ادعاء الأعراب أنهم آمنوا، [{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]]. أي: لم يدخل بعد، ولكنه سيكون في المستقبل، فـ (لما) تفيد عدم التحقق حالاً، وربما يتحقق مآلا في المستقبل، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14] فهنا فرق بين الإيمان والإسلام، بأن الإيمان شيء والإسلام شيء آخر. فالإسلام أصل وهو يثبت لصاحبه ومدعيه بالشهادة وإن كان كاذباً. يعني: لو قالها متعوذاً ثبت له الإسلام ظاهراً في أحكام الدنيا وإن كان عند الله كافراً، ولو قالها كافر في ساحة الوغى والجهاد فراراً من القتل لما تمكن منه المسلم فيجب على المسلم الذي تمكن منه وكان على وشك قتله أن ينتهي عن قتله، وإلا صار آثماً إثماً عظيماً، ولا أدل على ذلك مما فعله أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فإنه لما تمكن من رقبة كافر نطق بالشهادتين فقتله أسامة، فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قال: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال أسامة: إنما قالها متعوذاً). يعني: يريد أن ينجو بها لما أيقن الهلاك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله. قال: يا رسول الله! قالها تعوذاً. قال: يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله. ثلاث مرات، حتى قال أسامة: ليتني ما أسلمت إلا الآن). يعني: يا ليت هذا الجرم لم يقع مني في حال إسلامي، ويا ليتني أسلمت الآن إسلاماً لا خطأ فيه، وحزن أسامة على فعله حزناً شديداً حتى مات رضي الله تعالى عنه.

ما ينقض به الإسلام

ما ينقض به الإسلام الإسلام يثبت بكلمة الشهادة، وإذا ثبت بهذه الكلمة فلا ينتفي إلا بما يضادها، فإذا أتى بنقيضها كأن يصرح بأنه يعبد إلهاً آخر غير الله عز وجل كفر، كهؤلاء الذين ظهروا في مصر مؤخراً يعبدون الشيطان، وقد صرحوا بأنهم يعبدون الشيطان، فالذي يعبد إلهاً غير الله يكفر، وإن لم يكفر فلا يوجد في الدين أو الدنيا كفر بعد ذلك، فهؤلاء قد كفروا من أوسع الأبواب، وكذلك من رضي بفعلهم والتمس العذر لهم مع إقرارهم الذي لا يحتاج معه إلى إقرار، وهم معلومون بأعيانهم وذواتهم؛ لأنهم من أبناء علية القوم، فهم قد كفروا بالله العظيم، كما كفر ذلك الدعي الذي سماه الناس أو سمى نفسه أو سمته وزارة الثقافة حيدر، وهو صاحب الكتاب المشهور الذي ذكر فيه قبل أسبوعين أن كلام الله (خرى) هكذا -أعوذ بالله- وأن الله تعالى كذاب فاشل. هكذا قال، وأن الرسول مزواج كما جاء في كتابه. فهذا الكلام كفر بواح، ومن دافع عنه بأنه ليس كفراً أو أن كاتبه أو ناشره أو طابعه أو طالبه ليسوا كذلك فهو كذلك كافر، فمسائل الإيمان والكفر لا تحتاج إلى هوادة خاصة في هذا الزمان الذي رفع فيه كل كذاب عقيرته، بل ينبغي في مسائل الإيمان والكفر وضع النقاط على الحروف من أول وهلة؛ حتى يعلم كل عبد أهو مسلم أو كافر. وإذا كنا أهل السنة ندع هؤلاء بيننا يتكلمون بما شاءوا من طعن في الله عز وجل، وفي الرسول والقرآن ثم نذهب نلتمس لهم الأعذار التي لا يتمنونها هم فهذا خبل وجنون. هو نفسه لا يتمنى ذلك، ولا يريد أن يلتمس أحد له عذراً، بل إنه أتى برسالة ومهمة يؤديها على أكمل وجه تحت عين ونظر وبصر وزارة الثقافة، وإن شئت فقل: وزارة السفالة والإباحة المصرية. فهذا كفر ليس بعده كفر، ومن رأى غير ذلك فليهنأ بكفره ذلك، سواءً كان ذلك كبيراً أو صغيراً، أو حتى رجل الشارع. فهذه مسائل لا يعذر بالجهل فيها، فلا يعذر بالجهل من سب الله عز وجل؛ لأنه لا يجهل أحد أن سب الله تعالى كفر حتى يسب الله تعالى، ويسب كلام الله القرآن الكريم. وأما أن يهان الله عز وجل وحاشاه أن يهان، أو يهان كلامه، أو يهان رسله وأنبياؤه ونحن باقون على وجه الحياة فلا قيمة لنا، والموت أهون من كل شيء، وهو خير من أن يحاسبنا الله عز وجل كيف قيل هذا الكلام ولم يكن لكم فيه كلام ولا رد.

ثبوت أصل الإيمان بالإسلام

ثبوت أصل الإيمان بالإسلام قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: الإسلام باق لكم، وأما الإيمان الذي تزعمونه وتدعونه فإنه شيء آخر لم تكسبوه بعد. {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أي: فهذا غير موجود الآن، وليس معنى ذلك أن الإيمان لم يوجد منه شيء قط في قلوبهم؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل إما بالقلب وإما باللسان والجوارح، والقول هو إقرار العبد بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وإقراره بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشره، فإذا آمن العبد بهذا فقد آمن بأصول الإيمان. أي: تمسك بأصول الإيمان. وأما كمال الإيمان ونقصانه فهذا محله الطاعات التي فرضها الله عز وجل على العباد من الفرائض والواجبات والسنن والمستحبات وغير ذلك، فكلما اجتهد فيها العبد وأداها على أكمل وجه كلما ازداد إيمانه، وكلما قصر في شيء من ذلك فقد قصر في شيء من تمامه وكماله، وهذا يعني أن المسلم لابد أن يكون عنده شيء من الإيمان، ولذلك أهل العلم يفرقون بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فالإيمان المطلق: هو الإيمان الكامل الشامل، وهو تمام الإيمان وكماله وزيادته إلى أقصى حد، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان. والإيمان له قاعدة وجذور، وله فروع، فأصل الإيمان موجود مع من دخل في دين الله -أي: في الإسلام- ولو بمجرد النطق بالشهادتين، واستقرار هذا الأصل الإيماني محله القلب. فالإيمان الآن له أصل وله فروع، فالأصل موطنه القلب، وهو أنه إذا نطق بالشهادتين صدق هاتين الشهادتين وآمن بهما، وأحبهما وعلم معناهما، وهو على استعداد كامل لأداء ما أوجبته هذه الكلمة، وكل هذا محله القلب، ويسمى إيماناً، فالمسلم معه أصل الإيمان، ثم يأتي بعد ذلك بالطاعات التي هي عمل الجوارح، فكلما ازداد المرء منها ازداد من الِإيمان بفروعه وجذوره وأصوله، فكلما ازداد العبد من الطاعات ازداد إيمانه ويقينه بالله عز وجل، وكلما نقص نقص إيمانه، حتى إذا ترك العمل بالكلية خرج من إيمانه بالكلية إذا خرج من أصل هاتين الكلمتين، وهما: الشهادتان.

مخالفة المرجئة لأهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه

مخالفة المرجئة لأهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] لا يعني أنهم كفار، بل المسلم معه أصل الإيمان، ولا يتصور إسلام بلا إيمان، وهذه شبهة من قال: الإيمان هو التصديق، والتصديق محله القلب وليس الجوارح، فقالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لا يتصور على تعريفنا للإيمان بأنه التصديق أن يكفر بهذا، لأن المصدق للخبر إذا نقص تصديقه نقص إلى العدم، فكأن المصدق للإسلام والإيمان إذا نقص تصديقه فقد ذهب إيمانه، ولذلك الإيمان عند المرجئة لا يزيد، كما أنه غير قابل للنقصان؛ لأنه إذا نقص يكفر صاحبه كما قالوا، فهم يقولون: الإيمان هو التصديق، وأما أهل السنة والجماعة فالإيمان عندهم ليس هو التصديق فحسب؛ لأن التصديق عند أهل السنة يعني أصل الإيمان الذي لا يثبت إسلام العبد إلا به، ولكن كمال الإيمان وتمامه باب آخر عند أهل السنة والجماعة، وله تعليق آخر عند أهل السنة والجماعة. وليس معنى ذلك أن أهل السنة لا يقولون بأن الإيمان هو التصديق، بل يقولون: بأن الإيمان هو التصديق والزيادة. فالتصديق عند أهل السنة يعني التصديق بالشهادتين، وهو: استقرار أصل الإيمان في القلب. والجوارح لها عمل، والقلب له عمل، وعمله: المحبة والرضاء والتصديق والإيمان، وكل هذه أعمال قلبية، فالقلب له عمل كما أن الجوارح لها عمل، ولكن عمل القلب أصل في الإيمان، وأما عمل الجوارح فهو من مكملات ومتممات الإيمان، ومن أسباب كماله وزيادته، وبعض أعمال الجوارح أصل في الإيمان.

تفريق العلماء بين الإيمان والإسلام

تفريق العلماء بين الإيمان والإسلام قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]. هذه الآية تدل على أن الإسلام لابد أن يكون معه أصل الإيمان. قال: [وقال الزهري: الإيمان: العمل]. عرف الإيمان بالعمل، والزهري من أكابر أهل السنة، فقال: الإيمان هو العمل. أي: عمل القلب وعمل الجوارح. ولو أن إنساناً عمل بجوارحه جميع أعمال الطاعات التي تؤدى بالجوارح ولم يستقر الإيمان في قلبه لم يصلح إيمانه، بل لا يصلح إسلامه أيضاً، وإن استقر الإيمان في قلبه ولم ينطق بالشهادتين لم يصح إسلامه، فلو أن أحداً يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويعمل كل شيء ويجاهد ولكنه يبغض هذا كله فليس بينه فرق وبين عبد الله بن أبي بن سلول، فقد كان يصوم ويصلي ويزكي ويحج، بل كان يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام في ساحة الجهاد، ولكنه لم ينفعه ذلك؛ لأن أعمال الجوارح هذه كلها لم يستقر أساسها وأصلها في قلبه، بل كرهها وأبغضها، وإنما كان يفعلها نفاقاً ورياءً. [قال الزهري: الإيمان: العمل. والإسلام: الكلمة]، يعني: الإسلام يثبت بمجرد الكلمة. والمبحث الذي تدور حوله المشكلة دائماً ليس في كيفية ثبوت الإسلام، بل الكل يعلم يقيناً أن الإسلام يثبت بالكلمة، بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ولكن كيف يخرج المرء من الإسلام، فالقضية كلها في أحكام الردة، والمشكلات التي تثار حول الإيمان والإسلام كلها متعلقة بكيف يحكم بالردة على المسلم. قال: [وعن الحسن البصري ومحمد بن سيرين أنهما كان يهابان مؤمن ويقولان: مسلم]. وهذا من باب كراهة التزكية، وأن الله تعالى أعلم بمن اتقى، وهؤلاء كانوا يقولون: نحن مسلمون، أو أنا مسلم، ولا يزكون أنفسهم بقولهم: أنا مؤمن. وفي حديث جبريل لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام عرفه له وبينه، ثم سأله عن الإيمان فعرفه وبينه، ثم سأله عن الإحسان، وهذا يدل على أن كل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسن، ويدل على أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن. وبين هذه الألفاظ والمصطلحات الثلاثة عموم من جهة وخصوص من جهة أخرى. وأما إذا كان قول أحدهم أنا مؤمن من باب بيان الحال، وكذلك يؤدي إلى نفع المجتمع فإنه لا بأس أن يقول المرء: أنا مؤمن. قال: [وبه قال من الفقهاء: حماد بن زيد ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وأحمد بن حنبل] أي: نفس هذا الكلام.

تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والإسلام

تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والإسلام قال: [عن عامر بن سعد - وهو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- يروي عن أبيه قال: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى رجالاً ولم يعط رجالاً)]. يعني: في توزيع الغنائم أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أناساً ولم يعط آخرين، [(فقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! ما بالك أعطيت أناساً ولم تعط آخرين، وإني لأراهم مؤمنين -يعني: رأيتك أعطيت فلاناً ولم تعط فلان وهو مؤمن- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوهو مسلم. فقال: يا رسول الله! هذا مؤمن)]. وهذا لما يعلمه سعد بن أبي وقاص من حال ذلك الرجل، وأنه يأتي بجميع الطاعات صغيرها وكبيرها ويحافظ عليها، فهو قدوة ومثل يقتدى به، ومعلوم من صلاحه وتقواه الشيء الكثير، ولذلك أصر سعد بن أبي وقاص على أن هذا الرجل مؤمن، ولكن لما كان الإيمان أصله القلب ثم يظهر ذلك على الجوارح، وربما ظهر على الجوارح ما لا يدل بالضرورة على أصله في القلب كان الحكم بالإيمان لله عز وجل أو للرسول عليه الصلاة والسلام إذا أطلعه ربه على إيمان عبد بعينه، ولكن سعد بن أبي وقاص لما أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أناساً من الغنائم ولم يعط آخرين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك أعطيت فلاناً ولم تعط فلاناً، وإني لأراه مؤمناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أو هو مسلم -يعني: يا سعد أو هو مسلم- قال: يا رسول الله! بل مسلم) ثلاث مرات ينازعه سعد في إثبات إيمان من منعه وحرمه النبي عليه الصلاة والسلام من قسم الغنائم، ثم بين له النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن الفرق قائم بين المؤمن والمسلم، وهذا يدل على أن الإسلام شيء والإيمان شيء آخر أخص منه، فبين النبي عليه الصلاة والسلام عذراً لإعطائه أناساً وحرمانه آخرين رغم بيان الأفضلية ولو في الظاهر، فقال: [(إني لأعطي أناساً وغيرهم أحب إلي منهم؛ مخافة أن يكبهم الله تعالى على وجوههم أو قال: على مناخرهم). وفي رواية: (على مناخرهم في النار). فقوله: (إني لأعطي أناساً وغيرهم أحب إلي) أي: في إيمانهم وإسلامهم أحب، وهم يقدرون القضية أيما تقدير، ولذلك شرع أن يصرف من مال الزكاة على المؤلفة قلوبهم، وهم: حديثو العهد بالإسلام والإيمان؛ لتثبيتهم على الإيمان. وقد سن النبي عليه الصلاة والسلام سنناً عظيمة جداً وسار عليها الصحابة رضي الله عنهم وخاصة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في إعطاء كل صاحب منزلة منزلته وزيادة؛ تثبيتاً له على الإيمان والإسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن). ودار أبي سفيان ليست حرماً حتى ينعقد الأمن فيها؛ ولكنها منقبة لـ أبي سفيان، لأنه قد ورد في رواية: (إن أبا سفيان رجل يحب الفخر). فهذا منقبة لـ أبي سفيان يفاخر بها أصحابه بأن من دخل داره كان آمناً، وهذا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام وشهادته وإقراره، ولم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام بيت أحد من أصحابه حتى ولا بيت الخلفاء الراشدين مع بيت أبي سفيان حتى يكون لـ أبي سفيان هذا المنقبة منفرد بها؛ لأنه رجل يحب الفخر. وسلمة بن الأكوع رضي الله عنه كان في الجاهلية رجلاً عظيماً شريفاً في قومه، فإذا أسلم فلابد أن ينزل منزلة عظيمة في الإسلام، وهذا يشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا). ولما أسلم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وكان من أشراف قومه أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن ينزل في عوالي المدينة. يعني: يسكن في القصور التي هي على مشارف المدينة؛ لأنها تتناسب مع مقامه. وهذا يلزم منه أن يركب البعير فوق الأرض الساخنة والرمال الملتهبة، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام معاوية بن أبي سفيان أن يأخذ بخطام بعير سلمة، فأخذ معاوية بخطام بعير سلمة بن الأكوع، وسلمة يعرف أي فتى معاوية، فقد كانوا يعرفون بعضهم بعضاً، فلما اشتدت الحرارة في أقدام معاوية قال: يا سلمة! احملني خلفك. قال سلمة: إنما يكفيك أن تستظل بظل البعير، وسلمة لا يخفى عليه الحال في مثل هذا ولكنه أبى. فقال: يا سلمة! هل لك أن تسلفني نعلك؟ فقال: لا. فاستمر معاوية في سوقه البعير حتى وصل إلى عوالي المدنية؛ لأنه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام وليس أمر سلمة، وهذه المنزلة هي منزلة سلمة، وسلم

الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا

الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا اختلف أهل العلم في الإيمان والإسلام، فبعض أهل العلم قالوا: الإيمان هو الإسلام، ولا فرق بينهما، واحتجوا بأدلة، منها قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69]. قالوا: فهذان وصفان لموصوف واحد وهو المخاطب، فوصفهم بالإيمان والإسلام، وهذا يدل على أنه لا فرق بينهما. وقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. وهذا يدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد. والأصل ألا نضرب آيات الله عز وجل بعضها ببعض، ولا نضرب كلامه بعضه ببعض، فهذه الآية بينت أن الإيمان والإسلام قد اجتمعا في موصوف واحد، ولكن الآيات والأدلة الأخرى بينت الفرق بين الإيمان والإسلام بنفي الإيمان، ولذلك أهل العلم يقولون: الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. يعني: إذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد، فهذا يدل على أن الإسلام له مدلول، والإيمان له مدلول آخر، وإذا افترق الإيمان والإسلام دلا على أن كل منهما بمعنى الآخر، ومثاله: قول النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل ما الإسلام؟ قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت). فعلمنا أن دعائم وأركان الإسلام هي هذه. (فقال: صدقت. ثم سأله عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره). فعلمنا أن هذا هو مدلول الإيمان. إذاً: الإيمان إذا اجتمع مع الإسلام كان لكل منهما مدلول يخصه، مثل الفقير والمسكين، وإذا افترقا فهما بمعنى واحد. يعني: إذا ذكر الفقير شمل المسكين، وإذا ذكر المسكين فقط شمل الفقير، فكذلك الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يخصه، وإذا ذكر واحد منهما في دليل شمل الآخر معه، كما في حديث وفد عبد القيس قال: (وآمركم بالإيمان. أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان). وهذا نفس تعريف الإسلام في حديث جبريل، ولكنه لم يذكر الإسلام هنا، فدل على أن الإيمان يشمله، كما ذكر الإسلام في قول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فشمل معه الإيمان. فهذا معنى قول أهل العلم: إذا اجتمعا -أي: في دليل- افترقا. يعني: كان لكل واحد منهم تعريف خاص. وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الإيمان أو الإسلام في دليل خاص شمل معه الآخر. قال: [عن أبي برزة الأسلمي قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته). فقال في هذا الحديث: (يا معشر من آمن بلسانه)، واللسان جارحة، ولابد من النطق في إثبات الإسلام، ولا يثبت الإسلام لعبد قادر على الكلام إلا بالنطق بالشهادتين، والنطق بالشهادتين محله اللسان، والنطق بالشهادة شرط في صحة إسلام العبد، أي: الخارج عن الكفر. فقوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه)، أي: لم يدخل كمال الإيمان وليس أصل الإيمان، لأنه لو آمن بلسانه فإنه يلزم من هذا الإيمان الظاهري وجود أصل الإيمان في القلب من المحبة والرضا والقبول والاستعانة والاستغاثة وغير ذلك، وأما عمل الجوارح فهو مكمل ومتمم للإيمان. عن أبي سلمة الخزاعي: [إن حماد بن زيد كان يفرق بين الإيمان والإسلام، ويجعل الإسلام عاماً والإيمان خاصاً]. أي: يضع الإسلام عاماً مع أصل الإيمان. أي: معه مطلق الإيمان، وأما الإيمان المطلق فهو فوق الإسلام بكثير. وقال حنبل - وهو ابن أخ الإمام أحمد بن حنبل قال: [سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - وسئل عن الإيمان والإسلام قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام: القول. والإيمان: العمل]. وهذا نفس كلام الإمام الزهري الذي تقدم. وقوله: الإسلام القول. يعني: يثبت الإسلام بالنطق بالشهادتين، وهو عمل اللسان. والإيمان: العمل. إما عمل قلب أو عمل جوارح، فإذا فرط العبد في عمل الجوارح نقص إيمانه على قدر ما فرط من العمل، وإذا انخلع أصل الإيمان من قلب العبد انخلع إسلامه؛ لأن الإيمان نوعان: إيمان القلب، وهو عمل القلب، وإيمان الجوارح، فإيمان القلب هو مطلق الإيمان، وإيمان الجوارح هو الإيمان المطلق. فلابد أن نفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان المستقر في القلب، فإذا زال هذا الإيمان زال إسلام العبد؛ لأن هذا يشمل التصد

ما روي أن الصلاة ركن في الإيمان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما روي أن الصلاة ركن في الإيمان الصلاة من أعظم أركان الدين، فهي تأتي في الأهمية بعد الشهادتين، ومن ثم فقد اعتنى بها الإسلام، وحث عليها، ورتب أعظم الأجور عليها، وأيضاً رتب الإثم والعقوبة على تاركها، وهدده أعظم تهديد، بل جاءت النصوص موضحة أنه لا يتركها مسلم أبداً. وأمام هذه النصوص الشديدة التهديد اختلف العلماء في تاركها، وهل يحكم له بالإسلام أم أنه قد انخلع منه ودخل في الكفر؟ فمن العلماء من حكم بإسلامه، ومنهم من كفره.

سياق ما جاء عن النبي في أن الصلاة من الإيمان

سياق ما جاء عن النبي في أن الصلاة من الإيمان

اختلاف العلماء في كفر تارك الصلاة

اختلاف العلماء في كفر تارك الصلاة بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وبعد: فالذي يقرأ الأدلة من الكتاب والسنة، ويعرف كلام أهل العلم في تارك الصلاة يكاد يحار ويتوقف في حكم تاركها ولا يجزم بأمر منهما، وهل هو كافر خارج من الملة، أو أنه فاسق بتركه للصلاة؟ ولاشك أن من قال بعدم كفره كفراً اعتقادياً يثبت له الكفر العملي، بل هو عنده من أخبث الناس، يعني: أنه يثبت له أخطر درجات الكفر، وذهب كثير من السلف خاصة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين والأئمة المتبوعين إلى كفر تارك الصلاة كفراً أكبر يخرج به صاحبه عن ملة الإسلام. والناظر في الأدلة يكاد يرجح جانب الكفر الاعتقادي على جانب الكفر العملي، يعني: يكاد يرجح أنه خارج عن ملة الإسلام، والأدلة تشهد بهذا. والعلماء الذين لم يكفروه أولوا هذه الأدلة وصرفوها عن ظاهرها، وإن شئت فقل: رجحوا صرفها وتأويلها بغير مرجح. وهذه المسألة ما جزمت فيها إلى يومي هذا بحكم من الاثنين، هل هو كافر حقاً ويخرج من الملة، أو أنه فاسق فسقاً عظيماً جداً لكن لا يخرج من الملة. وكثيراً ما ذهبت إلى كفره ثم رجعت، ثم عدت إلى تكفيره ثم رجعت؛ وهذا لغلبة كل من القولين على الآخر، وإن كان في كل مرة يترجح لدي كفره، وما ذهبت إلى كفر تارك الصلاة إلا من تركها بالكلية، وأما من تركها ثم عاد إليها ثم تركها ثم عاد إليها -يعني: يصلي تارة ويقطعها تارة- فهذا يرفع عنه حكم الكفر، ولا خلاف عندي في أن هذا من أفسق الناس، وأما كونه كافراً فلا، وأما من تركها بالكلية ولم يصل قط فالذي يترجح لدي أنه كافر خارج عن ملة الإسلام. وأنت إذا اطلعت على أدلة القائلين بكفره وعدم إسلامه فلابد أن تقف إذا كنت صاحب علم، ولست متبعاً للهوى، وإن لم تقف فستجزم بكفره؛ لأن الأدلة الواردة عن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كلها قاضية بكفره، فالإمام أبو القاسم اللالكائي يذهب في هذا الكتاب إلى كفر تارك الصلاة، وذهب غير واحد ممن صنف في السنة إلى كفر تارك الصلاة؛ لأن الله تعالى ذكر أن الصلاة من الإيمان، فهي ليست من أعمال الجوارح فحسب، وإنما هي من أصول الإيمان.

من ذهب إلى كفر تارك الصلاة

من ذهب إلى كفر تارك الصلاة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي ذلك -يعني: كفر تارك الصلاة- عن الصحابة منهم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء والبراء وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين]. قال: [فعن جابر بن عبد الله أنه سئل ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة]. ولو كان المقصود من هذا النص الكفر العملي لجمع الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك؛ لأن من ترك شيئاً من هذا سمي كافراً كفراً عملياً، ولا يخرج من الملة. ولكن السؤال هنا انصب على الكفر المخرج من الملة، فقد قال: ما الذي كان يفرق بين الإيمان والكفر؟ ولو كان يسأل عن الكفر العملي لما كان للإيمان هنا معنى؛ لأنه ذكر الإيمان في مقابلة الكفر، فدل على أن الكفر المذكور في السؤال هو الكفر الذي يناقض الإيمان، وهو المخرج من الملة. هذه إجابة جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من المقربين إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومن كبار الصحابة. قال: [وعن الحسن قال: بلغني أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر]. وهذا القول قاله من التابعين مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس، وسعيد بن جبير تلميذ ابن عباس كذلك، وجابر بن زيد، وعمرو بن دينار تلميذ ابن عمر، وإبراهيم النخعي، والقاسم بن مخيمرة، كلهم يقولون: بأن تارك الصلاة كافر خارج عن الملة. ولو لم يكن في هذه القضية عار لتارك الصلاة إلا أن أهل العلم اختلفوا في كفره من عدمه لكفى. ومن الفقهاء الذين يقولون بكفر تارك الصلاة الإمام مالك بن أنس، والأوزاعي إمام الشام، والشافعي وشريك بن عبد الله النخعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور، وأبو عبيد القاسم بن سلام، جميع هؤلاء يقولون بكفره وخروجه من ملة الإسلام. وهؤلاء الذين كفروا تارك الصلاة هم علماء السنة وعلماء الإسلام فلا يقال: إن من كفر تارك الصلاة من الخوارج، ومن قال ذلك يلزمه أن يسحب هذا الحكم وهذا الاستهزاء على كل من كفر تارك الصلاة.

سبب نزول قول الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

سبب نزول قول الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) روى أبو إسحاق عن البراء -أي ابن عازب - في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] قصة طويلة في سبب نزولها، ومفاد هذه القصة كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً قبل أن تتحول القبلة إلى بيت الله الحرام، وهذا كان في المدينة، وصلى معه أناس وماتوا قبل أن تتحول القبلة إلى بيت الله الحرام، فلما مات من مات ممن صلى إلى بيت المقدس أشفق عليهم أصحابهم الذين بقوا حتى تحولت القبلة، فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن حكم صلاة من صلى إلى بيت المقدس، وهل هي مقبولة صحيحة يثابون عليها؟ فلما سألوا عن ذلك أنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]. فالإيمان هنا بمعنى الصلاة، والتقدير: وما كان الله ليضيع صلاة من صلى إلى بيت المقدس، بل صلاته محفوظة مقبولة صحيحة. فسمى الله عز وجل الصلاة في هذه الآية إيماناً، وهذا يدل على أن الصلاة من الإيمان، لا أنها من أعمال الجوارح فحسب، فهي وإن كانت تؤدى بالجوارح إلا أن الله تعالى سماها إيماناً، فمن أتى بهذه الصلاة كان مؤمناً، ومن تركها كان كافراً. وهذا هو ما فهمه كل من ذكرناهم بل وغيرهم من أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء والأئمة المتبوعين، فقد فهموا أن الصلاة من الإيمان، فمن أتى بها كان مؤمناً، ومن تركها كان كافراً، فهذا الفهم قديم قدم هذه الرسالة، وقد فهمه الصحابة رضي الله عنهم.

التحذير من ترك الصلاة

التحذير من ترك الصلاة قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بين العبد وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة -أي: بيننا وبين اليهود والنصارى، أو بيننا وبين الكفار- فمن تركها فقد كفر)، وفي رواية: (فقد كفر وأشرك)، بالعطف لا بأو التي تفيد التخيير. وعن شريك قال: استأذنت على المهدي وعنده أبو يوسف القاضي -وهو صاحب أبي حنيفة، والأحناف لا يقولون بكفر تارك الصلاة، ومنهم أبو يوسف القاضي -وقد امتريا- يعني: تجادلا وتخاصما وتناظرا- في تارك الصلاة هل هو كافر أم غير كافر؟ فقال المهدي: هو كافر، وقال أبو يوسف: ليس بكافر، فقال المهدي: لقد دخل من يفصل بيننا، يعني: شريك بن عبد الله النخعي دخل وهو الذي يقضي بيننا، وكان المهدي يقول: الصلاة من الإيمان، وأبو يوسف يقول: الصلاة ليست من الإيمان، قال: فلما دخل سلم، قال: فردوا عليه، فقال -أي المهدي -: يا أبا عبد الله! ما تقول في رجلين امتريا فقال أحدهما: الصلاة من الإيمان، وقال الآخر: الصلاة من العمل؟ أي من عمل الجوارح التي لا علاقة لها بأصل الإيمان. قال شريك: أصاب الذي قال الصلاة من الإيمان، وأخطأ الذي قال الصلاة من العمل، قال: فقال أبو يوسف: من أين قلت ذاك؟ قال: حدثني أبو إسحاق عن البراء بن عازب في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] قال: صلاتكم نحو بيت المقدس، قال: فألقمه حجراً]، أي: أقام عليه الحجة أن الصلاة من الإيمان، وأن تركها كفر. قال: [وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -لأن هذا أصل الإسلام- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)]. فهنا قرن الصلاة والزكاة بالشهادة، وهذا يدل على أن الصلاة من الإيمان؛ لأن الشهادة إيمان بلا خلاف بين أهل العلم، وهذا الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما. قال: [وعن أنس قال: قال رجل: (يا رسول الله! كم افترض الله على عباده من الصلوات؟ قال: خمس صلوات، قال: هل قبلهن وبعدهن شيء -أي مفروض-؟ قال: افترض الله على عباده صلوات خمساً، فحلف الرجل لا يزيد عليهن ولا ينقص، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن صدق دخل الجنة). وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لئن صدق ليدخلن الجنة)]، يعني: لو صدق في إتيانه لهذه الصلوات الخمس، فهو يتكلم هنا عن الصلوات الخمس فحسب، ومن البدهي أن الصلاة بعد الشهادتين؛ لأنها لا تصح قبلها، وتكون مردودة على صاحبها. وقوله عليه الصلاة والسلام: (لئن صدق) أي في إتيانه بهذه الصلوات الخمس على أكمل وجه، (ليدخلن الجنة)، وهذا يدل على أن من لم يأتها دخل النار. قال: [وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم). أخرجه الشيخان. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة)]. وهذا يدل على أن من ترك الصلاة وقع في الشرك. وهذا الحديث يدل على أن الصلاة من الإيمان، وأن إتيانها إيمان، وتركها كفر ونفاق. قال: [وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة). وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة). أخرجه مسلم].

حكم تارك الزكاة

حكم تارك الزكاة يتساءل البعض لماذا لم يقم الخلاف في منع الزكاة كما قام في ترك الصلاة؟ و A لوجود هذا النص وأمثاله، فإنه مخصص لعموم الأدلة التي ذكرت الزكاة، وإن كان بعض أهل العلم أخذ بظاهر النصوص التي شملت وقرنت الزكاة بالصلاة، وهي كثيرة جداً تبلغ أكثر من سبعين آية، وهناك مئات الأحاديث قرنت الزكاة بالصلاة، فأخذ بعض أهل العلم بظاهرها وقالوا: إن مانع الزكاة وتارك الصلاة كافران، ولكن جمهور السلف على أن مانع الزكاة لا يكفر إلا إذا جحد ذلك بعد قيام الحجة عليه، مثل تارك الصلاة جاحداً ليس هناك نزاع بين أهل العلم في كفره.

استتابة تارك الصلاة

استتابة تارك الصلاة تارك الصلاة يستتاب ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل. ولا يتصور أن يترك إنسان الصلاة متكاسلاً، فليس هناك شيء اسمه كسل، وإنما هو إيمان وكفر، فيحبس ثلاثة أيام، فإما أن ينيب ويتوب إلى الله عز وجل ويرجع ويتوب ويؤدي هذه الصلاة، وإما يقتل بالسيف. وتصور شخصاً يحبس في غرفة ثلاثة أيام وهو يعلم أنه إن صلى ثبت له الإسلام وأخرج وإلا قتل بالسيف ردة وليس حداً ومع هذا يبقى ثلاثة أيام في الحبس ولا يصلي، فهل هذا يعد متكاسلاً؟ لا يمكن، فأي كسل هذا؟

كيفية التعامل مع تارك الصلاة مع تعذر إقامة حكم الردة عليه

كيفية التعامل مع تارك الصلاة مع تعذر إقامة حكم الردة عليه إن الرجل الصالح في المجتمع اليوم هو الذي لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ويسب الله والرسول، ولكنه ليس صالحاً عند الله. والذي لا يصلي الآن ليس بإمكان أحد من حملة الراية والمهتمين بنشر دعوة الإسلام لا من الحكام ولا من المحكومين استتابته، لكن يبقى إقامة الحجة عليه، وتخويفه بكلام أهل العلم سلفاً وخلفاً أنه يكفر إن لم يرجع إلى الصلاة، ثم يقرع سمعه بالأدلة من الكتاب والسنة، فإن رجع في خلال ثلاث فقد رجع إلى إيمانه وإلا فهو كافر ولا كرامة، فهذه نصوص شرعية، وهذا فهم أهل العلم لها. ونحن نخاف اليوم من تكفيره لأنه ليس بإمكاننا استتابة تاركها.

تلون بعض أهل الإسلام اليوم في عقائدهم ومقارنته بثبات أهل الجاهلية على ضلالهم

تلون بعض أهل الإسلام اليوم في عقائدهم ومقارنته بثبات أهل الجاهلية على ضلالهم والناس في هذا الزمان يتلونون في كل لحظة عدة ألوان، وأما في السابق فقد كان الرجل عند كلمته، إذا قال: نصلي يذعن، وإذا كان تركه للصلاة عن اعتقاد وردة فإنه لا يرجع إلى الإسلام وإن كان في ذلك قتله، ونحن نعلم أن دخول الإسلام بكلمة، واليوم لو قابلت نصرانياً أو يهودياً في الشارع وقلت له: قل: لا إله إلا الله فإنه يقولها أمامك مائة مرة، بل ويشرحها لك ويبين شروطها وواجباتها وأركانها، وهو مع هذا باق على يهوديته ونصرانيته وكفره. وقد كان أبو سفيان يستطيع أن يقولها قبل أن ينشرح صدره للإسلام، ولكنه لم يرض بهذا، وكانت الحروب الضارية التي قامت بين معسكر الإيمان والكفر في زمن النبوة بسبب هذه الكلمة، وكان الواحد يتعرض لبريق السيف على أم رأسه، ومع هذا كان يفضل أن يقتل ولا يرجع عن دينه، وكان بإمكان أبي طالب أن يقولها، ولكنه كان رجلاً قومياً شديداً، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حالة الاحتضار: (قل كلمة أشهد لك بها عند ربي)، قال: أتريد أن تقول العرب: إن أبا طالب صبأ عن دين قومه وأجداده؟ فالشاهد من ذلك: أن الشخص منهم كان بإمكانه على الأقل في وقت الضيق أن يقولها، ولكنه كان رجلاً مع أنه مشرك. وأبو سفيان يقول بعدما سأله هرقل عن النبي عليه الصلاة والسلام: لولا أن تعدها العرب علي كذبة لكذبت، ومع أن الشرك أعظم من الكذب، إلا أنه لما اتخذ الشرك والكفر وعبادة الأصنام والأوثان ديناً، وصار هذا عاماً في أهل ذلك الزمان صار الشرك أعظم من الكذب؛ إلا أنه مألوف، ولكن الكذب لم يكن مألوف، ولذلك خشي أبو سفيان أن تعيره العرب بأنه كذب، فلم يكذب، وكان كلما سأله هرقل عن النبي عليه الصلاة والسلام سؤالاً أجاب إجابة على الحقيقة، ليس فيها خداع، ولما سأله هرقل: هل يغدر؟ قال: لا، ولكنا منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. وقد كان المشركون في ذلك الوقت في هدنة بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سأله هرقل: هل يغدر محمد؟ قال له: لا يغدر، ولكن بيننا وبينه في هذا الوقت عهد لا نزال فيه، فيمكن أن يغدر ويمكن ألا يغدر. قال أبو سفيان: وما استطعت أن أدخل إلا بهذه الكلمة، يعني: أنه كان يريد أن ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء ولكنه يخاف من الكذب، عن الذي مضى. اليوم قد تأتي إلى الشخص وتدعوه إلى الصلاة فيقول: نعم سأصلي فالصلاة هذه أفضل شيء، فالواحد يخرج من الصلاة مرتاحاً وقلبه منور، فإذا سألته: إذا كنت تعلم بهذه الفوائد كلها عن الصلاة والتي لا نعرفها نحن ونحن نصلي فلماذا لا تصلي؟ فيقول لك: يمنعني صاحب العمل وصاحب الشركة، وهل يمنعه صاحب الشركة عن الصلاة في يوم الجمعة وهو في البيت؟ فكل هذا كذب ودجل، ويدل على فساد قلب ذلك المتكلم. قال معدان بن أبي طلحة: قلت لـ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا حديثاً ينفعنا الله به فسكت، فقلت: حدثنا حديثاً ينفعنا الله به قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك).

فضل الصلاة

فضل الصلاة قال: [عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون -يعني: تعرفون من أحوالهم، وتنكرون منها- فمن أنكر فقد بريء، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع -أي: من رضي هذا منهم وتابعهم على ما أساءوا فيه وما أتوا به من منكر- قالوا: أفلا نقتلهم؟ -يعني: إذا أظهر هؤلاء الأمراء المنكر هل نقاتلهم؟ - قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا ما صلوا، لا ما صلوا)]، يعني: لا تقاتلونهم إذا كانوا يصلون، وهذا يدل على أن الصلاة مانعة وعاصمة للدماء والأموال، وهذا كما في حديث عبد الله بن عمر السابق: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فمن فعل ذلك فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقها وحسابه على الله). قال: [وعن جابر قال: (قال النعمان بن قوقل: يا رسول الله! أرأيت إن صليت المكتوبات، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئاً أدخل الجنة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)]. فذكر الصلاة في هذا الدليل يدل على أن لها حكماً خاصاً دون بقية الفرائض والواجبات والأركان. قال: [وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان وهو يبكي، ويقول: يا ويلي! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار)]، وهذا يدل على أن السجود هو أعظم ركن من أركان الصلاة، من فعله دخل الجنة ومن لم يفعله دخل النار، وأن من ترك الصلاة فيه شبه عظيم من الشيطان؛ لأن الشيطان أمر بالإيمان أولاً فكفر، وأمر بالسجود فلم يسجد، وكذلك الذي أمر بالإيمان فلم يؤمن، والصلاة من الإيمان، فهو أمر بالصلاة -أي: أمر بالإيمان- فلم يؤمن، وأمر بالسجود فلم يسجد. فالذي ترك الصلاة فيه شبه بالشيطان عظيم جداً. وقد جاء هذا عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم.

حكم عمر بن الخطاب فيمن ترك الصلاة

حكم عمر بن الخطاب فيمن ترك الصلاة قال: [عن المسور بن مخرمة أنه دخل هو وابن عباس على عمر بن الخطاب بعد ما أسفر، يعني بعد ما كاد يخرج وقت الفجر، وقالا له: الصلاة يا أمير المؤمنين! فقال: نعم، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وجرحه يثعب دماً]، يعني: يسيل دماً. والذي طعنه هو أبو لؤلؤة المجوسي في أثناء الصلاة، وهكذا أهل الغدر ينتهزون الفرص التي لا يجابههم فيها أحد كالمشركين، كما قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فهذا أتى لـ عمر وهو في الصلاة فطعنه وطعن غيره، فقتل عدداً من أصحابه، ومات عمر بسبب هذه الطعنة رضي الله عنه، ولكنه لم يمت في الحال، وإنما مات بعدها وقد أدركته عدة فروض بعد ما طعن، فكانوا في كل فرض ينبهونه من غيبوبته التي هو فيها ويقولون: يا أمير المؤمنين! الصلاة، فيلتفت إليهم ويقول: نعم، إنه لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الصلاة، وهذا يدل على أن الصلاة إسلام وإيمان، فمن تركها فقد ترك الإسلام وترك كذلك الإيمان. قال: [وعن ابن عباس قال: لما طعن عمر أخذته غشية - أي: إغماء- قال: فقال رجل: إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة]، يعني: لا يمكن أن يفيق معكم إلا إذا ذكرتم عند أذنه الصلاة فإنه حينئذ يفيق، هذا لأهمية الصلاة في الإسلام، وبيان أهميتها عند عمر رضي الله عنه، وليس الزكاة والصيام والحج كالصلاة، وهذا قد جاء في نصوص كثيرة لأهل العلم. قال: [فقلنا: الصلاة يا أمير المؤمنين! قال: ففتح عينيه فقال: أصلى الناس؟ قلنا: نعم، قال: أما إنه لا حظ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة، وربما قال: ترك الصلاة، ثم صلى وجرحه يثعب دمعاًً].

الصلاة قوام الدين

الصلاة قوام الدين قال: [نزل عمر بالجابية في الشام لما ذهب إلى بيت المقدس، قال: فمر بـ معاذ بن جبل وهو في مجلس قال: فقال له يا معاذ! ائتني ولا يأت معك من القوم أحد، قال: فجاءه معاذ، فقال أمير المؤمنين يا معاذ! ما قوام هذا الأمر]، يعني ما هو الشيء الذي يقوم الدين والإسلام به ويعتمدا عليه وإذا انكسر انكسرا معه؟ قال: [قال معاذ: الصلاة، وهي الملة، قال: ثم مه؟ -أي: ما الذي بعد ذلك؟ - قال: ثم الطاعة وسيكون اختلاف]، أي: طاعة العلماء والأمراء. وقد أخرج أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله عليه الصلاة والسلام موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، أي: السمع لأولي العلم، والطاعة لأولي الأمر، أو كلاً منهما لأهل العلم وللأمراء. قال: (والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً). والمخرج من هذا الاختلاف قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). فالنبي صلى الله عليه وسلم شخص الداء ووصف معه الدواء، وهو السمع والطاعة. فقول معاذ: الخلاف والاختلاف لابد أن يقع، يعني: عدم السمع والطاعة لابد أن يقع. قال: [فقال عمر: حسبي]. وعمر لم ينكر على معاذ أن قوام الإسلام والدين والإيمان هو الصلاة، بل قال: حسبي، ولو لم يكن لـ عمر من رحلته من المدينة إلى الشام إلا هذه الفائدة من معاذ بن جبل لكفاه. قال: [فلما ولى عمر -أي ذهب- قال معاذ: ما -ورب معاذ - سأل بشر منهم، قال: فأخبرني أنه سمع عمر يدعو على المنبر: اللهم ثبتنا على أمرك، واعصمنا بحبلك، وارزقنا من فضلك]. فـ عمر يدعو؛ لأن هذه الفتنة ليست بعيدة على أحد. الناس اليوم يقولون: إن المشايخ والعلماء والدعاة معصومون، وأنهم لا يتأثرون بالفتنة وبالبلاء الذي عم المجتمع في الليل والنهار، ولا يعلمون أن الشيخ معرض للفتنة في كل وقت أكثر من غيره؛ لأن الشيخ معروف وظاهر، فإذا وقعت فتنة من الفتن فالشيخ معرض لأولها وآخرها، وبقية الناس معرضون لآخرها فقط، فلا يتصورن أحد أن الشيخ هو خباب بن الأرت أو معاذ بن جبل أو حذيفة أو عمر أو أبو ذر. وهذه الفتن تعرض على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأيما قلب أشربها -سواء كان قلب العالم أو الشيخ أو الداعية- نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصير في القلب ران أسود لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، اللهم سلم.

دلالة ومفهوم إكثار الله عز وجل من ذكر الصلاة في القرآن

دلالة ومفهوم إكثار الله عز وجل من ذكر الصلاة في القرآن قال: [قال عبد الله بن مسعود: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن]، فهنا ينبهنا ابن مسعود أن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]. وقال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]. قال: [قال: ذلك على مواقيتها، قال: نرى ألا تترك؛ فإن تركها الكفر]، ولم يقل: فإن تركها كفر، وإنما قال: فإن تركها الكفر، والألف واللام هنا للعهد، يعني: أنه الكفر الذي تعهدونه وتعرفونه، وهو المخرج من الملة، فقوله: فإن تركها الكفر، يعني: الكفر المعروف لدينا. قال: [وقيل لـ عبد الله: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن الكريم، قال: ذاك على مواقيتها. وقالوا: ما كنا نرى أن تترك الصلاة].

اختلف الصحابة في حكم تارك الصلاة مع أنه لم يتركها أحد منهم

اختلف الصحابة في حكم تارك الصلاة مع أنه لم يتركها أحد منهم إن لنا أن نتساءل كيف وقع هذا الخلاف بين الصحابة مع أنه لم يرد أن أحداً من الصحابة ولا من التابعين ترك الصلاة؟ و A إن هذا الخلاف وقع على فرض أن أحداً ترك الصلاة، هو ترك الصلاة، والذي يصلي يوصف بأنه إرهابي ومتشدد ومتطرف، ويقولون: إن المصلي يمرض القلب، فهو كلما سمع الأذان ذهب إلى المسجد ثم يرجع منه، فما هذا العمل المزعج.

حال الناس اليوم مع الصلاة

حال الناس اليوم مع الصلاة إن صلاتنا اليوم ليس فيها طعم ولا لون ولا رائحة في الحقيقة، ولو عرضت هذه الصلاة على سلف الأمة لردوها ولما قبلوها؛ لأنه ليس فيها خشوع أو خضوع أو ذل. هل صلاتنا هذه هي الصلاة التي أمرنا الله عز وجل بها؟ وأجيب عن نفسي وعنكم بالنيابة واسمحوا لي بهذا: ليست هي الصلاة التي أمرنا الله بها؛ لأن الذي يراجع حال السلف في الصلاة يوقن أننا لا نصلي، فقد كان الواحد منهم يقف في الصلاة فيحمر ويخضر لونه، ويكاد يذهب عقله، فإذا سئل عن ذلك؟ قال: أتدرون بين يدي من أقف؟ يعني: أن الواحد منهم كان يستشعر أنه واقف بين يدي الله تعالى، ومن منا اليوم يستشعر أن الله تعالى ينصب وجهه إليه؟ وهناك أناس صالحون، فإنه لا يعدم الخير في الأمة، والطائفة المنصورة ستبقى موجودة وقائمة إلى قيام الساعة رغم أنف المعاندين والجاحدين. ولا تصح صلاة من صلى بغير وضوء، كما لا يصح إيمان من ترك الصلاة، وفي الحديث: (لا إيمان -وهذا نفي للإيمان- لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له).

تفريق الصحابة بين المؤمن والكافر كان بالصلاة

تفريق الصحابة بين المؤمن والكافر كان بالصلاة قال: [وجابر لما سئل: هل كنتم تعدون الذنب فيكم كفراً؟] يعني: هل كنتم تسمون المذنب كافراً؟ وجابر صحابي، فقال: [لا إلا الصلاة]، يعني: كنا متفقين ومجمعين على أن صاحب الذنب لا يكفر بذنبه إلا تارك الصلاة، وقال: [وما بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة]. قال: [قلت له: ما كان يفرق بين الإيمان والكفر عندكم من الأعمال على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: الصلاة. وعن الحسن قال: بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر]. وقد جاء هذا في نصوص كثيرة، ولكن أكتفي بذكر هذا في بيان أن السلف كان جمهورهم على أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر وقد خرج من الملة.

قول أهل العلم في حكم تارك الصلاة جحودا أو جهلا أو تكاسلا

قول أهل العلم في حكم تارك الصلاة جحوداً أو جهلاً أو تكاسلاً هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم. اتفق أهل العلم على أن تارك الصلاة جاحداً لها كافر، وهذا محل إجماع لا نزاع فيه. واتفقوا كذلك على أن من ترك الصلاة جاهلاً بها لحداثة عهده بالإسلام أو لعجمة عنده لم يتعرف بها على فراض الله عز وجل أنه لا يكفر، كأن يكون مثلاً في دولة أجنبية كدول أوروبا أو أمريكا ثم أسلم ولم يسمع عن صلاة ولا صيام ولا زكاة، ولا شيء من هذا، فلو أنه ترك كل هذا لم يكفر؛ لأنه جاهل لا يعرف ما فرض الله عز وجل عليه. وأما إذا عرف ذلك فحكمه حكم من عاش في ديار المسلمين وقامت عليه الحجة بظهور العلم. وأما تارك الصلاة كسلاً فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً بيناً، فمنهم من كفره وهم جمهور السلف، ومنهم من قال: لا يكفر؛ لأن تارك الصلاة كسلاً لا يستوي مع تاركها عمداً بغير عذر، والذي يترجح لدينا أن تارك الصلاة بالكلية كافر، وينبني عليه أحكام الكفر المعروفة. أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

الإيمان قول وعمل

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الإيمان قول وعمل اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، وقد وردت في ذلك الآيات الكثيرة، والأحاديث الصحيحة المستفيضة، والآثار عن الصحابة والتابعين.

سياق ما روي عن النبي في أن الإيمان تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح

سياق ما روي عن النبي في أن الإيمان تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإيمان تلفظ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح]. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان؛ ويتكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: وهو واجب اللسان، فلابد من التلفظ بالشهادة لمن كان قادراً عليها، ثم ما تلفظ به يعتقده ويقر به جازماً بذلك قلبه، ثم يعمل بمقتضى ما تلفظ به وما استقر في قلبه سواء كان ذلك من عمل القلب أو من عمل الجوارح. هذا معتقد أهل السنة والجماعة: أن الإيمان لفظ باللسان، أي: النطق بالشهادتين، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فمن اعتقد ذلك اعتقاداً جازماً وعمل بمقتضاه، ولكنه لم يتلفظ فإنه ليس مؤمناً، بل ليس مسلماً، ومن تلفظ ولكنه كره ما تلفظ به ولم يعمل بمقتضاه فإنه ليس مسلماً، بل هو كافر، فمن تلفظ بالإيمان وجزم بذلك قلبه ثم قصر في العمل فعنده من الإيمان على قدر ما عنده من العمل، وعنده من النفاق والفسق على قدر ما فيه من تقصير في العمل. على اختلاف بين أهل العلم في الأعمال المكفرة من غيرها، ومن الأعمال القلبية ما يجعل صاحبه كافراً، ومنها ما يجعله صادقاً، فذكر أن الذي يبغض الله تعالى أو يبغض رسوله صلى الله عليه وسلم أو يبغض الشرع، وإن أقر بلسانه وصام وصلى وزكى وحج فإنه عند الله كافر، وإن كان حكمه في الدنيا أنه مسلم؛ لأنه أتى بالشهادتين، لكنه عند الله تعالى كافر لبغضه لشرعه. ومن عرف الإيمان بأنه معرفة الله عز وجل فقط، فهو جهمي، فإن الجهمية قالوا: الإيمان هو العلم. إبليس عليه لعنة الله كان يعلم أن الله تعالى واحد، ولا يخفى عليه وحدانية الله عز وجل، بل أبو طالب لما دعاه النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته إلى أن ينطق بالشهادتين قال: إني لأعلم أنك على الحق، لكني أخشى أن تعيرني نساء قريش، يعني: هو كان يعرف ذلك. فالإيمان ليس هو المعرفة فحسب ولا هو اليقين فحسب، بل هو عند أهل السنة والجماعة مجموع من ثلاثة: إقرار باللسان وهو نطق بالشهادتين، واعتقاد بالقلب، ثم عمل يصدق الإقرار والاعتقاد الجازم.

الأدلة على أن الإيمان قول باللسان

الأدلة على أن الإيمان قول باللسان وأراد الإمام في هذا الباب أن يبين أدلة هذا عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. والأدلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام على صحة ما عليه أهل السنة والجماعة، على أنه تلفظ باللسان؛ قول الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]. هذه الآية لم تنف عن الأعراب أصل الإيمان، وإنما نفت كماله وتمامه، قالت الأعراب وزعمت الأعراب أنهم آمنوا، والله تبارك وتعالى رد عليهم زعمهم فقال: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، يعني: لم يدخل الآن، ولكنه سيدخل في المستقبل بالعمل، و (لما) لنفي الحال وجواز وقوعه في المستقبل. لا أعني من هذا أن الله تعالى نفى عنهم الإيمان من أصله، ففي الدروس الماضية قد بينا الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان: هو أصل الإيمان، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل. إذاً: الله تبارك وتعالى نفى عنهم مطلق الإيمان؛ لأنهم لم يعملوا بعد، ولذلك أوقفهم الله تعالى عند حد الإسلام؛ لأنهم أقروا به ولم ينف عنهم أصل الإيمان؛ لأن المسلم إذا تلفظ بالشهادتين يلزمه أصل الإيمان بجوار الإقرار والنطق بالشهادتين حتى يكون مسلماً صحيح الإسلام. فلو قال إنسان تعوذاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ يعني: خائفاً من السيف؛ أول ما تمكن منه المسلم في ساحة الجهاد نطق بالشهادتين، لكنه لم ينطق بها معتقداً بذلك قلبه وإنما مخافة السيف. ولذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أسامة بن زيد لما قتل من نطق بالشهادتين في الجهاد؛ لما تمكن منه أسامة قال: (يا رسول الله! والله ما قالها إلا تعوذاً، قال: أشققت عن صدره؟)، يعني: ما يدريك أنه قالها تعوذاً ربما يكون صادقاً. فهذا يدل على أن لنا الظواهر والله يتولى السرائر؛ فالله يتولى فعل هذا المتعوذ الذي اضطر حتى نطق بالشهادتين، ولذلك {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، ولم من ألفاظ النفي، لكنه لم ينف مطلق الإيمان وإنما نفى الإيمان المطلق؛ نفى كمال الإيمان وتمامه؛ لأن من نطق بالشهادتين يلزمه محبة هذه الكلمة والرضا بها، والاقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبة الله ورسوله على محبة غيره، وغير ذلك من مقتضيات وشروط هذه الكلمة؛ كالعلم واليقين والصدق. فإذا جمع هذه الأعمال القلبية من الصدق والمحبة والرضا وغير ذلك إلى هذه الكلمة فهذا يسمى عمل القلب، وقد قلنا من قبل: إن الأعمال أعمال جوارح وأعمال قلب، أما أعمال القلب فهذه يطلق عليها من أول وهلة أصول الإيمان؛ ولو أن شخصاً نطق بالشهادتين ولم يكن في حال نطقه بالشهادتين مقراً بقلبه بيقين وصدق وإخلاص وحب لهذه الكلمة لا يكون مسلماً عند الله. ولذلك لابد أن يجمع مع الإقرار محبة هذه الكلمة والصدق في نطقها، والاستعداد التام للعمل بمقتضاها والعلم بمعناها الحقيقي لله عز وجل، وغير ذلك من شروط التوحيد. فإذا اكتملت هذه الأعمال القلبية في حال النطق بالشهادة فيكون قد جمع أصول الإيمان في قلبه مع النطق بالشهادتين. فإذاً: قول الله عز وجل: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: لم تؤمنوا الإيمان الكامل، وأصل الإيمان موجود في قلوبهم. وهنا بين النبي عليه الصلاة والسلام شرط نطق الشهادتين باللسان، وذلك لمن كان قادراً على ذلك بخلاف من كان أخرس أو أبكم لا يستطيع أن ينطق، أو لا يستطيع أن يتكلم من أصله فإنه لا يلزمه ذلك إلا إذا علم ذلك بالإشارة، وإنما تكفيه الإشارة. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -أي: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا بألسنتهم لا إله إلا الله- فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل).

الأدلة على أن الإيمان اعتقاد بالقلب

الأدلة على أن الإيمان اعتقاد بالقلب والدلالة على أنها اعتقاد بالقلب قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: كماله وتمامه ليس موجوداً؛ ولكنه سيوجد في المستقبل، وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7]، وموطن هذا الحب هو القلب: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ} [الحجرات:7]، وتفسير الآية: وحبب وزين الإيمان في قلوبكم. إذاً: الحب والتزيين للإيمان محله القلب، ولذلك محبة هذه الكلمة شرط في صحة إيمان من قالها، ولذلك من قالها وهو يبغضها لا يكون عند الله مسلماً مؤمناً. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22] أي: فرض في قلوبهم الإيمان، أي: جعله فرضاً في القلب لا يغادره، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]، يقول بلسانه: أنا مؤمن كمال الإيمان، أما قلبه فليس فيه من الإيمان حبة خردل، ومحل الإيمان هو القلب. وحديث أبي برزة الأسلمي وبريدة بن الحصيب والبراء بن عازب كلهم يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه -يعني: يا معشر من زعم أنه مؤمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه- لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عورتهم اتبع الله تعالى عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته)، أي: الجزاء من جنس العمل. وهذا يدل على أن محل الإيمان في القلب. والأدلة على أنه اعتقاد بالجنان -أي: القلب- قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فالعبادة على القلب والجوارح، ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ)) فأعاد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على إخلاص العبادة لله عز وجل.

الأدلة على أن الإيمان عمل بالجوراح

الأدلة على أن الإيمان عمل بالجوراح لما كان الإخلاص عملاً قلبياً وكذلك الزكاة والصلاة عمل من أعمال الجوارح جمع الله تبارك وتعالى العبادة في آية واحدة مما يدل على أن الإيمان يشمل عمل القلب وعمل الجوارح. وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110]، أي: يؤمل أن يلقى الله تبارك وتعالى أحسن لقاء، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. أما قوله: ((وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) فهذا يدل على شرط الإخلاص لله عز وجل وعدم الشرك به في القول والعمل، وهذا قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: فليعمل عملاً مستقيماً من صلاة وزكاة وصيام وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وكل ما سوى ذلك من عمل شرعي يعمله الإنسان على وجه الصلاح، ووجه الصلاح لا يكون إلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم إدخال الزيادة على العبادة، كما أنه لا يجوز له أن ينقص منها. لابد أن يكون العمل الصالح مستقيماً على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام بغير زيادة ولا نقصان، فالزيادة كالنقصان بدعة سواء بسواء. أما عدم الشرك بالله عز وجل وهو الشرط الثاني من شرطي قبول العمل عند الله عز وجل، قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، هذا هو محل الشاهد. والخير هنا بمعنى: العمل الصالح من الطاعات التي فرضها الله عز وجل على العباد، والعبد الذي يأتيه بعض آيات ربه وهو الموت في ساعة الاحتضار يتمنى ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]؛ لأنه يرى الحقائق في لحظة موته عياناً بياناً، فحينئذ يستبشر بلقاء الله عز وجل إذا كان من أهل الصلاح، أو يسوءه لقاء الله عز وجل وهو على هذا الحال، وفي هذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)؛ لأن العبد إذا كان من أهل العمل الصالح بشر بمقعده من الجنة، ورأى مقعده من النار؛ لأن كل إنسان أعد الله تبارك وتعالى له مقعداً في النار ومقعداً في الجنة. فالعبد الصالح في لحظة الاحتضار يرى مقعده من النار، والملائكة تبشره وتقول: يا فلان هذا مكانك من النار أبدلك الله تبارك وتعالى به مكانك في الجنة وهو هذا فانظر إليه، فحينئذ يستبشر ويفرح بلقاء الله عز وجل، فالله تبارك وتعالى يرضى ويفرح بلقائه، وهو يفرح بلقاء الله عز وجل. وكذلك العبد السيئ الذي لم يعمل صالحاً، أو لم يكن لديه عمل يؤهله لدخول الجنة يرى مكانه من الجنة، والملائكة تبشره بالعذاب والسوء، فيقولون: يا فلان هذا مكانك في الجنة، ولكن الله أبدلك به مكاناً في النار فانظر إليه، فحينئذ يكره لقاء الله فيكره الله تعالى لقاءه. فهنا لابد أن يجمع العبد في قلبه إيماناً، هذا الإيمان يترجم ترجمة عملية في أداء الطاعات واجتناب المنهيات، والنبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته لما نزل إليه ملك الموت وبشره بالرفيق الأعلى، وما من نبي قبض إلا خير بين البقاء والقبض، وهذه علامة من علامات موت الأنبياء، فلما بشره ملك الموت بالرفيق الأعلى قال: (يا محمد أتبقى؟ قال: بل الرفيق الأعلى)، فعلمت ابنته فاطمة رضي الله عنها -وكانت تحضر وفاته- أن أباها يحتضر صلى الله عليه وسلم. قال: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، يعني: أتت من الأعمال الصالحة ما يؤهلها لهذا الخير. وحديث الأعرابي لما عد عليه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال، وهو حديث في الصحيحين طويل معروف يقول: يا رسول الله! ماذا علي من الصلاة؟ ماذا علي من الصيام؟ ماذا علي من الحج؟ ماذا علي من الزكاة؟ فكل مرة يقول: هل إذا فعلت ذلك فأنا مسلم صادق؟ قال: نعم. ثم قال: بأن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وهذا مذهب الصحابة من تقدم ذكرهم في الرواية وغيرهم كـ عمر وعلي ومعاذ وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وغيرهم كثير، يعني: هذا مذهب السلف جميعاً. وكذلك من التابعين الحسن وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومجاهد وهشام بن حسان و

حكم تارك الزكاة في الإسلام كحكم تارك الصلاة

حكم تارك الزكاة في الإسلام كحكم تارك الصلاة قال: [وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة أخبره قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال ذلك عصم مني ماله ودمه ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)]. هذا الحديث من أعظم الأحاديث وأجلها وأكثرها فوائد. يقول فيه أبو هريرة: (لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب) يعني: ارتد من العرب من ارتد، والردة هي الخروج والمروق عن الإسلام تماماً، مع أن الأدلة قضت بأن في هؤلاء المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر من لم يكونوا في الحقيقة مرتدين، بل كانوا مقرين بالزكاة، بل بنو يربوع جمعوا الزكاة -أي: زكاة أموالهم- وأرادوا أن يرسلوها إلى المدينة إلى أبي بكر وهو الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام فمنعهم مالك بن نويرة وأخذ أموالهم فصرفها فيهم. ولكن هؤلاء لم يتميزوا ولم يتحيزوا، وإنما كانوا في ضمن صفوف وبيوت هؤلاء المرتدين، والمرتدون الذين حاربهم أبو بكر على عدة أصناف: منهم أتباع مسيلمة الكذاب وأتباع الأسود العنسي، وهؤلاء مرتدون، وحتى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانوا من المنافقين وأنتم تعلمون ذلك. وقسم آخر من هؤلاء جحدوا الإسلام فتركوا الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك. وأما الصنف الثالث فمنهم من منع الزكاة متأولاً ومنهم من أدى الزكاة، ولكن مجموع هؤلاء جميعاً كانوا في صعيد واحد، وخطرهم على المدينة محدق، ولابد لـ أبي بكر أن يتخلص من هؤلاء حتى يستقيم له الأمر وإلا فهؤلاء يشكلون خطراً عظيماً جداً على الإسلام، ولما لم يتحيز ويتميز هؤلاء الذين أقروا بالزكاة أو جمعوها بالفعل وأرادوا إرسالها ولكن منعهم مالك بن نويرة؛ فحينئذ حاربهم جميعاً أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن هذا المعلوم في الإسلام بحكم الثغر. إذا كان في ثغر من ثغور الإسلام بعض الأعداء وخطرهم محدق بالإسلام وأهله، ومع هؤلاء في نفس الموضع أناس من أهل التوحيد والإيمان، لكن لا يمكن تخليص هؤلاء من بين الأعداء كما لا يمكن التخلص من الأعداء إلا بقتلهم فيقتل الجميع ثم يبعث المسلم على نيته، ولذلك قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه هؤلاء جميعاً المتأول وغير المتأول، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قامت عنده شبهة فقال: كيف تقاتل الناس وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوها، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)؟ فـ عمر نظر إلى صدر الكلام ولم ينظر إلى عجزه، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه انتبه إلى الشرط (إلا بحقها) أي: إلا بحق هذه الكلمة، وحق هذه الكلمة: أن يصلوا وأن يصوموا ويؤدوا الزكاة، فقال: يا عمر! لو أن الناس تركوا الصلاة أكنت تقاتلهم؟ قال: نعم. هذا أمر مستقر لدى الصحابة أن من منع الصلاة أو ترك الصلاة يقاتل حتى يصلي، مع أنه تارك للصلاة وهو دائم على قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهذا كان أمراً معلوماً مستقراً لدى الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك الصلاة قوتل حتى يرجع إليها وإلا قتل ردة، فلما كان هذا معلوماً مستقراً عند عمر وعند غيره من الناس أراد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يلفت نظره إلى أن الصلاة كالزكاة، إذا كانت الصلاة هي علاقة العبد بربه، فكذلك الزكاة هي حق المال الذي فرضه الله عز وجل. فكما أن الله هو الذي فرض الصلاة هو كذلك الذي فرض الزكاة، فمن فرق بين الصلاة والزكاة قاتلته، لأن الذي يفرق لا حجة له بعد التفريق؛ لأن الله تعالى جمع بينهما في أكثر من سبعين آية في كتاب الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فمن فرق بينهما وجعل لكل واحد منهما حكماً فقد فرق بغير مسوغ وبغير دليل. ولذلك قال: (فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ودمه ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله). وقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن

منهج الإيمان في الأخذ بالأسباب

منهج الإيمان في الأخذ بالأسباب قال: [وعن سعيد بن المسيب أن عمر قال: (يا نبي الله! أرأيت ما نعمل نحن الآن لأمر قد فرغ منه أو لأمر نستقبله استقبالاً؟)] هذا كلام جميل جداً في القدر. أي: الأعمال التي عملناها يا رسول الله أهي أعمال قد كتبت علينا وفرغ الأمر منها أو هي مستقبلية؟ قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل لأمر قد فرغ منه، فقال عمر: فعلام العمل إذاً؟)] أي: لماذا نعمل؟ لأن هذا العمل قد كتبه الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في رواية مسلم، ألسنا نريد مقاتلة المشركين؟ فالله عز وجل إما أن يكون قد كتب النصر أو الهزيمة، من منا يعلم قبل بدء المعركة ما كتب لنا من نصر أو هزيمة؟ لابد من خوض المعركة. فإذا كتب لنا النصر علمنا أن الله تعالى كان قد كتب لنا النصر، ولذلك سخرنا وهدانا لهذا النصر أخذاً بالأسباب، هل يستطيع إنسان أن يقول: أنا جائع ولا داعي للأكل، لأن الله تعالى لو كتب لي الشبع فإنه قادر على أن يشبعني دون أن أطعم أو أشرب، وكذلك من يريد ولداً يقول: إن الله تعالى قادر على أن يرزقني الولد من غير أن أتزوج؟ هذا لا يمكن أن يقوله إنسان عاقل. لابد من استعمال السبب، وترك السبب قدح في توحيد الله عز وجل، كما أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل. ومعنى (فرغ منه) أي: علمه الله عز وجل، ولما علمه كتبه في اللوح المحفوظ وسطره على العباد، لكن هل العباد يعلمون هذه القضية؟ هل العباد علموا ما كتب لهم وقدر؟ هل هم يعلمون ذلك إلا بعد أن يقع؟ فالعباد لا يعلمون ذلك. فلذلك لابد من اتخاذ الأسباب، وبعد اتخاذ الأسباب يعلمون ما كان قد قدر لهم، لأن ربنا كتب كل شيء، فهو عنده في كتاب تحت العرش، وأنت ما أدراك أن هذا المكتوب خير أم شر، لك أو عليك؟ لابد من العمل حتى تدرك بعد ذلك ما كان قد قدر لك من الخير أو الشر. كان أحدهم ممن لا يؤمن بالقدر وعنده فلسفات جدلية على القدر، وكان في إحدى زياراتي له ضرب ابنه ضرباً مبرحاً من أجل أن يجتهد في المذاكرة، والامتحان كان على الأبواب، مع أنه قبل ساعات طويلة كان يقول: إن كل شيء قدره الله عز وجل، فلم العمل؟ نفس السؤال الذي عرضه عمر على النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن عمر آمن بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوراً، ولا يمنع أن يكون عمر سأل لأجل أن يتعلم الجاهل، فهذا لا يخفى عليكم. فهذه العشرون عاماً أجرى الله تبارك وتعالى فيها أحكام الدنيا إلى قيام الساعة تأصيلاً أو فروعاً أو سياسة، ولذلك أحداث الدنيا إلى قيام الساعة لابد أن يكون لها أصلا في كتاب الله أو في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أو في إجماع الأمة أو بالسند الصحيح، وهي مصادر الإسلام. فقلت لهذا المخبول بعد أن ضرب ابنه: لم تضربه هذا الضرب كله؟ قال: الامتحان على الأبواب، وهو لا يريد أن يذاكر، قلت: ولم يذاكر؟ قال: حتى يوفق في الامتحان وينجح، قلت: إذا كان الله قدر له النجاح سينجح وإن لم يذاكر ويدخل الامتحان، فنظر وبحلق في عيني، قلت: هذه مثل تلك التي كنت تناقش فيها منذ ساعات؛ لأنه لم يكن يعمل، وكان يظن أن العمل شرك بالله عز وجل، وهذا هو البرماوي وأنتم تعرفونه، ويعتقد أن هذا من باب التوكل على الله. قلت: وما الذي يمنع ابنك أن يتوكل على الله أعظم من توكلك؛ بأن يجتهد في المذاكرة قبل دخول الامتحان، وعلى اعتقادي أن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يجعله الأول على الجمهورية وعلى العالم كله لفعل ذلك؛ لأن كل شيء بيده سبحانه وتعالى، لكن لما كان كل شيء بيده تبارك وتعالى أمرنا باتخاذ الأسباب. وقلت له بعد ذلك: يلعب ويمرح ويلهو ويأخذ الذي قدره الله عز وجل له، وعلمت بعد أيام من هذا اللقاء أنه رجع عما كان عليه؛ لأن مناقشته في قدرة الله عز وجل وإرادته في أمر قد مسه هو شخصياً، لم يتلقاه عن شيخه المضل، وإنما تلقاه عن ولده الذي ربما يضيع لو ترك المذاكرة، والمذاكرة سبب من أسباب الله عز وجل. قال: [(قال عمر ففيم العمل؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا ينال إلا بعمل -يعني: هذا المفروغ المقدر لا ينال إلا بعمل- فقال عمر: إذاً نجتهد)]، إذا كان المقدر والمكتوب هذا لا ينال إلا بعمل، إذاً: لابد أن نجتهد ونعمل. الله عز وجل كتب أن العبد لابد أن يعمل فعمل العبد هو كذلك مكتوب، والله تبارك وتعالى كتب أن إبراهيم سينجح وكتب أن إبراهيم سيذاكر، فالله كتب العمل وكتب نتيجته، فإذا كان هذا وذاك مكتوبان فلابد من الإتيان بهما. قال: [وقال عمران بن حصين: (قال رجل: يا رسول الله! أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العامل)]، فالله عز وجل يعلم أهل الجنة من أهل النار، وما أدراك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار؟ والله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق

فضل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

فضل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال: [وعن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان رديفه معاذ رضي الله عنه على الراحلة فقال: (يا معاذ بن جبل -ثلاثاً- ومعاذ يقول: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا حرمه الله على النار)]، هاتان الكلمتان لهما مقتضيات، فمن تلفظ بهما وهو لا يعلم معناهما ولا يعرف أي شيء عنهما لا يصح هذا منه. وآخر يقول هاتين الكلمتين ولكنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم أشد البغض لا يقبل منه هذا، ويكون هذا رياء ونفاقاً. إذاً: هذه الكلمة عند إطلاقها ليست مقصودة في ذاتها، ولكن تنفع صاحبها إذا كانت مكتملة الشروط والأركان. قال: [(يا رسول الله! أفلا أخبر به الناس)، معاذ بن جبل يقول: يا رسول الله! هل تأذن لي وتسمح أن أبشر الناس بذلك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إذاً يتكلوا)]، يعني: يتكلوا على مجرد القول، ويتركوا العمل. قال: [(فأخبر بها معاذ في آخر حياته تأثماً)]، يعني: مخافة أن يموت وهو كاتم العلم. قال: [وعن سليم أبي عامر قال: (سمعت أبا بكر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج فأنادي من يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فله الجنة. قال: فخرجت فلقيني عمر فسألني فأخبرته، فقال: ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قل له: دع الناس يعملون فإنهم إن سمعوا اتكلوا عليه)]. وحديث أبي هريرة عند مسلم، قال رضي الله عنه: (كان النبي عليه الصلاة والسلام في نفر من أصحابه، وفينا أبو بكر وعمر، فقام عنا فأبطأ علينا، فخشينا عليه، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت حائطاً من حوائط الأنصار فدرت به حتى وجدت جدولاً -والجدول الربيع أو قال: وجدت ربيعاً والربيع جدول- فاحتفزتُ كما يحتفز الثعلب، فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبا هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: يا رسول الله! إنك كنت بيننا فقمت عنا، فأبطأت علينا وخشينا عليك، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط، فمررت به علِّي أجد مكاناً أدخل منه، ولم أجد إلا جدولاً فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة خذ نعلي هاتين، أو خذ نعلي هذا واذهب، فمن لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فبشره بالجنة، قال: فخرجت فكان أول من لقيني عمر، وقال: ما هذا يا أبا هريرة؟ قلت: هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة، فقال: أمرني النبي عليه الصلاة والسلام أن آخذ نعله وأخرج خارج الحائط، فمن لقيته يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله بشرته بالجنة، قال: فضربني عمر في صدري حتى خررت على استي، أو وقعت على مؤخرتي، قال: فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على إثري -يعني: عمر وراءه خطوة بخطوة- فلما دخلت على النبي عليه الصلاة والسلام قصصت عليه ما كان من أمر عمر، فقال: يا عمر ما حملك على هذا؟ قال عمر: يا رسول الله أأنت قلت له كيت وكيت؟ -يعني: أنت الذي قلت له: اعمل كيت وكيت وكيت؟ - قال: نعم، قال: يا رسول الله! لا تفعل؛ خل الناس يعملوا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: خلهم يا عمر يعملوا) عمر رضي الله عنه خشي أن يتكل الناس على مجرد النطق بهذه الكلمة، وأما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يعلم علماً يقينياً أن من أتى بها مجردة عن العمل القلبي وعمل الجوارح لا تنفعه بين يدي الله عز وجل، وخشي أن يتغير الزمان وتتقلب الأحوال ويكتفي الناس من إسلامهم وإيمانهم بمجرد الكلمة. ولذلك وافق عمر على الفور في وجوب أو استحباب ستر هذه البشارة عن الناس؛ لأنه فعلاً ربما اتكلوا عليها، وأنتم ترون أن الناس متكلون عليها، يأتي العبد من العباد أفجر خلق الله لم يترك معصية إلا وهو في أوحالها بالليل والنهار، أما الطاعات فلا دراية له بها ألبتة، لسانه لسان الزنباوي؛ لأن الزنباوي من أيام الثورة سنة 1957م، يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، فلم يكن أحد أشطر منه في الأفق، حتى ضرب بلسانه المثل بعد ذلك. فتصور شخصاً تكلمه يقول لك: أتظن أنك لا تصلي إلا أنت، أبعد عني، أتعلمني كيف أصلي، وكيف أتوضأ وعمري ستون أو سبعون سنة؟ وهو لا يريد أن يتعلم، وهو يدعي أن قلبه أنظف القلوب، بل هذا القلب من أوسخ القلوب التي خلقت، فهو أوسخ من قلوب اليهود والنصارى. فهذا دليل وعلامة من علامات النبوة أن النبي عليه الصلاة

كلام بعض السلف في معنى الإيمان ومقتضياته

كلام بعض السلف في معنى الإيمان ومقتضياته قال: [وعن عدي بن عدي قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز]، وعدي بن عدي هو والي الجزيرة لـ عمر بن عبد العزيز في فترة خلافته. قال: [كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن للإيمان فرائض]، يعني: أعمالاً مفروضة مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك. إذاً: الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك من فرائض الإسلام هي من فرائض الإيمان كذلك. قال: إن للإيمان فرائض، وهي الأعمال التي فرضها الله عز وجل على أهل الإسلام. قال: [فإن للإيمان فرائض وشرائع]، هذه الشرائع هي العقائد الدينية، أو الأمور الغيبية الاعتقادية. إذاً: عندنا الفرائض هي الأعمال المفروضة، وعندنا الشرائع هي المعتقدات. إذاً: فجانب الاعتقاد يطلق عليه شريعة، وجانب الفرائض يطلق على الأعمال، والشريعة عمل قلبي، وهي: مجموعة الاعتقادات، والاعتقادات محلها القلب. فيكون قول عمر هنا: إن للإيمان فرائض وشرائع، وفي رواية البخاري في مقدمة كتاب الإيمان أنه أورد هذا الأثر قال: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، والحدود هي التي ترتبت عن ارتكاب المنهيات. قال: [وسنناً -أي: مندوبات- فمن استكملها استكمل الإيمان]، يعني: من أتى بالفرائض والشرائع وترك ما يستوجب الحد وأتى بالسنن والمندوبات والمستحبات فقد استكمل الإيمان. وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص عند عمر بن عبد العزيز، من أتى بهذه الأعمال كلها سواء كانت اعتقادية أو عملية فقد استكمل الإيمان. قال: [ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن عشت أبينها لكم حتى تعملوا بها]، ليس المقصود بيان الأصول، وإنما بيان الفرعيات الدقيقة؛ لأن الأصول مستقرة لدى التابعين. قال: [فإن عشت أبينها لكم حتى تعملوا بها إن شاء الله، وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له]، يعني: أنتم أمرتم بالصلاة والزكاة، والأمر بهما مقرون في كتاب الله وفي سنة رسوله، فلم فرقتم بين هذا وذاك؟ قال: [فمن ترك الزكاة فلا صلاة له. وقال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بمسلم ينفعه عمله. وعنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم. وكان هشام بن حسان في حلقة بمكة فقيل له: ما كان الحسن يقول في الإيمان؟ قال: كان الحسن يقول: هو قول وعمل، وقيل للحسن: ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة، قال: الصبر على محارم الله، والسماحة في فرائض الله]، فالصبر على ألا يقترف معصية من معاصي الله عز وجل، والسماحة القيام بطاعة الله عز وجل. قال: [وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: الإيمان قائد]-أي: الإيمان هو بمثابة القائد الذي يقودك إلى الله- والعمل سائق، والنفس حرون]، ومعنى حرون: تأبى عليه، يقال هذا حرون، أو هذا الحمار أو الحصان حرن، وهذه الكلمة عربية أصيلة، يعني: أن الدابة مهما ضربتها فإنها لا تنقاد. فهو يقول: الإيمان قائد والعمل سائق، أي: الإيمان يقودك إلى الله والعمل معه بمرتبة السائق، والنفس بطبيعتها تأبى وترفض هذا، فمن تغلب على نفسه نفعه إيمانه وعمله. قال: فإذا وني قائدها، كأنه يقول لك: إياك أن تضعف، إياك أن تفتر. قال: [فإذا وني قائدها لم يستقم سائقها]، يعني: إذا نقص الإيمان لم ينفعه العمل، إذا وني قائدها لم يستقم سائقها، قال: [الإيمان بالله مع العمل والعمل مع الإيمان، ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى يقدمان على الخير إن شاء الله تعالى. وعن إبراهيم التيمي قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً]، أي: ما عرضت بزعمي الإيمان الكامل على عملي القليل النادر إلا خشيت أن أكون إنساناً كذاباً، وهذا الكلام محمول منه على الورع الشديد جداً في قوله هذا، وهذا هو الظن به. فإذا كان إبراهيم التيمي لم يحقق كمال الإيمان، فمن الذي سيحققه؟ فكيف إذا أتى ورآنا ونحن في أسوأ حال؟ ومع هذا تجد منا من هو في منتهى الجرأة على الله فيدعي تمام الإيمان وكماله، ويقول بكل بجاحة: إن قلبي عامر بالإيمان! وكل هذا كذب وعواطف، وإبراهيم التيمي لم يكن يعرف هذا. إبراهيم التيمي قد حقق أحسن الأعمال وأكملها وأتمها، ولكنه يقول: العملية أقل مما يطلب منا بكثير جداً. وقال عبد العزيز بن أبي رواد بعد أن سأل هشام بن حسان وهو في الطواف، ما كان الحسن يقول في الإيمان؟ قال: كان يقول: هو قول وعمل. قال: [وعن زيد بن أسلم -وهو من أئمة المدنيين وسيد من سادات التابعين- يقول: لابد لهذا الدين من أربع]، يعني: حتى يستقيم لك دينك لابد من اجتماع أربع مسائل: قال: [دخول في دعوة المسلمين]، أي: ألا تفارق جماعة المسلمين.

مناقشة كلام أبي ثور في الإيمان وضوابطه

مناقشة كلام أبي ثور في الإيمان وضوابطه قال: [وعن إدريس بن عبد الكريم المقرئ قال: سأل رجل من أهل خراسان أبا ثور عن الإيمان]، وأبو ثور إمام كبير من الأئمة الفقهاء، وللأسف الشديد لا تعرفون مذهبه! قال: [سأل رجل أبا ثور عن الإيمان ما هو؟ وهل يزيد وينقص؟ وهل هو قول وعمل؟ فأجابه أبو ثور فقال: اعلم يرحمنا الله وإياك]، وهذا من المستحب أن يبدأ الإنسان بالدعاء لنفسه قبل الغير، فلا ينبغي أن يقول: يرحمك الله وإيانا. قال: [أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح]، وانتبه لهذه الوصية فإنها وصية جامعة، وفيها مناقشة عقلية رائعة. قال: [اعلم أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن الله تعالى واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به، أنه ليس بمسلم]. يعني: ليس بين أهل العلم خلاف أن هذا ليس بمسلم، هل قد سمعتم مثل هذا الكلام أيها الإخوة؟ فهذا الإنسان علم أو اعترف، ولم يستقر ذلك في قلبه، فليس بمسلم. قال: [وأنه ليس بين أهل العلم قط خلاف في أن من قال ذلك ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، ولم يعتقد قلبه على شيء من ذلك أنه كافر في إظهار ذلك وليس بمسلم]، وهذا كلام جميل. في الصورة الأولى يقول: أنه أقر بما يجب عليه أن يقر به بلسانه، ولم يعقد قلبه على ذلك ليس هو بمسلم، بل هو منافق. وفي الصورة الثانية: أنه أقر بأن المسيح هو الله، وقال: إياكم أن تصدقوني أنا أضحك فقط؛ لأني في قرارة نفسي لا أعتقد أن المسيح هو الله، أرأيتم كيف أن هذه الصورة عكسية؟ في الصورة الأولى أقر بالإيمان بلسانه ولم يعتقده بجنانه، فهذا ليس بمسلم. والصورة الثانية: أتى ما يستوجب الكفر وهو قوله: إن المسيح هو الله، وإن لم يعتقد ذلك في قلبه فلنا نحن الظاهر، والظاهر في الصورتين الكفر؛ لأنه لما أقر بالإيمان بلسانه، رجع مرة أخرى فأقر بلسانه وسمعناه يقول: أنه لم يعتقد شيئاً من هذا كله، وحكمنا عليه بالكفر؛ لأنه لما أقر بالإيمان رجع مرة أخرى فأنكره، وقال: لا تصدقوا أني أصدق شيئاً من هذا ولم يستقر منه شيء في قلبي. والصورة الثانية: نطق بالكفر، وهو قوله أن المسيح هو الله، وأنكر شرائع الإسلام، فمثلاً تقول له: صل يا فلان، يقول لك: صلاة ماذا؟ وما هذه الصلاة؟ أنترك أعمالنا ونذهب إلى هذه الصلاة؟ أتظن أننا غير مشغولين؟! أو تقول له: زك يا فلان، فيقول: ولمَ أزك؟ والنبي قد مات، وكلما تكلمه في فريضة من فرائض الإسلام ينكرها ويركض كالحمار، ومع هذا يقول: المسيح هو الله، أو ابن الله، هذا لا يكون مسلماً، فالذي لا يكفره يكون كافراً. قال: [ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن. فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمناً، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً حتى يكون مصدقاً بقلبه مقراً بلسانه] يعني: الإقرار باللسان لا يكفي، وجزم القلب وتصديق القلب بذلك مع عدم الإقرار وإمكانية الإقرار، هو كذلك ليس بمسلم. قال: [فإذا كان تصديق بالقلب وإقرار باللسان كان عندهم مؤمناً]، فإذا كان إقرار باللسان وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- كان عند البعض مؤمناً. قال: [وعند بعضهم لا يكون حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت فيه مؤمناً. فلما نفوا أن الإيمان شيء واحد وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم وثلاثة أشياء في قول البعض الآخر لم يكن مؤمناً إلا بما اجتمعوا عليه]، يعني: البعض قالوا: إذا أقر بلسانه واعتقد بقلبه فهو مؤمن، والبعض الآخر قالوا: هذا الذي يقر بلسانه ويعتقد بقلبه والجوارح تصدق ذلك، بأن يعمل بمقتضى الإقرار والتصديق هذا الذي يكون مؤمناً. والذين قالوا: إن المؤمن هو من أقر بلسانه وصدق بقلبه وفرط في العمل أو لم يعمل لا يختلف مع من يقول بوجوب العمل وهذا هو الإيمان، يعني: الذي يقول الآن بعدم وجوب النقاب، هل يقول بعدم الاستحباب؟ فنفي الوجوب لا ينفي الاستحباب. فالذي ينفي شيئاً يثبت ما هو دونه من دون الوجوب ويثبت ما هو فوقه من باب الاستحباب، فالذي يقول: إن النقاب ليس بواجب على المرأة، يقول: ولو انتقبت لكان ذلك أفضل. إذاً: ينفي الوجوب لأجل الاستحباب، فالذين يقولون: الإيمان يثبت بالإقرار باللسان والتصديق بالقلب، هم من باب أولى يثبتون الإيمان بالدرجة الأولى لمن جمع إلى هذين العمل، فيتفقون مع من يوجب العمل، لكن يختلفون في مسألة واحدة أن هذا العمل شرط أم ليس بشرط؟ القول الأول: العمل ليس شرطاً في الإيمان، والثاني: العمل شرط في الإيمان، لكنهما يجتمعان في أن العبد إذا عمل لكان هذا إيماناً. قال: [فلا ندع ما اجتمعوا عليه لما اختلفوا لها]، يعني: إذا كان هذا إيماناً فلا ندع ما اجتمعوا عليه من لزوم العم

شعب الإيمان [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - شعب الإيمان [1] الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، منها: الشهادتان والحياء، وإماطة الأذى عن الطريق، والعمل بأركان الإسلام وأركان الإيمان، والجهاد لإعلاء كلمة الله، وتفضيل حب الله ورسوله على حب ما سواهما، وحب الأنصار، والحب في الله والبغض في الله، وحب علي بن أبي طالب، وعدم إيذاء الجار، وإكرام الضيف، وإلقاء السلام، وصيام رمضان وقيامه، وغيرها من الشعب.

الشهادتان والحياء وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان

الشهادتان والحياء وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: في الدرس الماضي من دروس الاعتقاد استعرضنا سريعاً كتاب الإيمان في صحيح البخاري، وقلنا: إن شعب الإيمان محل نزاع بين أهل العلم، منهم من قال: هي بضع وستون، ومنهم من قال: هي بضع وسبعون، وسبق العلماء الإمام ابن حبان، فعد خصال الإيمان من القرآن والسنة، ومن أقاويل السلف رضي الله عنهم أجمعين فبلغ بها بضعاً وسبعين شعبة. ومرد هذه الشعب إما أن يكون إلى أعمال الجوارح، أو أعمال القلب، أو أعمال اللسان، فمرد هذه الشعب كلها إلى هذه الثلاثة الأصول. والإمام البخاري إنما نهج في كتاب الإيمان على منوال واحد، فذكر أولاً الإيمان، وبين اختلاف أهل العلم في تعريف الإيمان، هذا في أصول الأبواب عنده. ثم بين أن الإيمان يزيد وينقص، وعلامات ذلك من كتاب الله تعالى ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بين أن الإيمان شعب ومراتب، ثم ذهب في بقية الكتاب يعدد هذه المراتب وهذه الشعب، فقال: الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان، الحج من الإيمان، الجهاد من الإيمان، أداء الخمس من الإيمان، إلى أن عد شعباً عديدة، لكنه لم يجمع شعب الإيمان؛ لأنه إنما قصد في كتابه هذا أن يعد شعب الإيمان التي على شرطه؛ لأنه لا يخرج عن شرطه لأجل أن يعد شعب الإيمان؛ لأن هذا ليس مقصداً أساسياً له بخلاف أنه أراد ألا يذكر في كتابه إلا حديثاً كان على شرطه؛ فهذا استعراض سريع لكتاب الإيمان عند البخاري وليس هو المراد، إنما المراد ذكر كتاب وشعب الإيمان عند الإمام اللالكائي في كتاب أصول الاعتقاد. ولذلك آثرت أن أرجع إلى نفس الباب من كتاب أصول الاعتقاد للالكائي خاصة وأن الإمام إنما ذكر شعباً لم يذكرها البخاري ولم يذكرها كذلك الحافظ ابن حجر، فقد ذكر شعباً أدلتها ضعيفة لا يمكن تقوى، ولا يمكن إثبات أنها من الإيمان لعدم نهوض الدليل على كونها كذلك. فقال: [ذكر الخصال المعدودة من الإيمان المروية في الأخبار، فأول مرتبة من إيمانه وأعلاه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله]. قال: [وأدناه -أي: أدنى مراتب الإيمان- إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان]. ثم ذكر حديث أبي هريرة: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فهذا الحديث إنما ذكر ثلاث شعب من شعب الإيمان.

أركان الإسلام كالصلاة والزكاة وغيرهما من شعب الإيمان

أركان الإسلام كالصلاة والزكاة وغيرهما من شعب الإيمان والخصلة الرابعة هي: الصلاة، وبينا في الدرس الماضي أن الصلاة من الإيمان في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، أي: ليضيع صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل إنزال الوحي بتحويل القبلة إلى البيت الحرام. والخصلة الخامسة: الزكاة، والسادسة: الخمس من المغنم، والسابعة: الصوم، والثامنة: الحج. كل هذا من الإيمان، ومن هذه الخصال ما يتعلق بالقلب وهو الاعتقاد، ومنه ما يتعلق بالجوارح، ومنه ما يتعلق باللسان وهو الشهادتان. كما في حديث ابن عباس وهو المعروف بحديث وفد عبد القيس لما أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك كفار مضر ولا نخلص إليك -أي: ولا نأتي إليك ولا نتمكن من لقائك- إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا، قال: آمركم بالإيمان بالله وحده؟ أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتؤدوا الخمس من المغنم). فعرف الإيمان هنا بما عرف به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام، قال: (وأنهاكم عن أربع: أنهاكم عن الدباء والحنتم، والنقير، والمقير) وفي رواية: (والمزفت). وكل هذه إنما هي أسامي أواني كانوا يخمرون فيها الخمر، ومن شأن هذه الأواني على جهة الخصوص أن الخمر أو أن الشراب إذا وضع فيها اشتد سريعاً؛ ولذلك كان العرب قبل الإسلام يأتون بهذه الأواني خصيصاً حتى لا تتأخر فيها الأشربة بحيث تتخلل وتتخمر سريعاً، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك.

أركان الإيمان الستة من شعب الإيمان

أركان الإيمان الستة من شعب الإيمان وذكر الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، والقدر خيره وشره فذلك ثمان خصال؛ إلا أن ذكر الإيمان بالله تعالى تقدم فتبقى سبع، وهي مع الثمان الخصال السابقة التي ذكرناها تكون حينئذ خمس عشرة خصلة. قال: [وعن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ -أي: ما هو الإيمان وما حقيقته؟ - قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم، قال: ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: أرأيت إن فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: نعم) إلى آخر الحديث فبين النبي عليه الصلاة والسلام هنا أن شعب الإيمان تتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره، وبالبعث بعد الموت، والجنة والنار، والصراط والحساب والجزاء؛ كل هذا من الإيمان، بل كل ما يتعلق بأمر غيبي هو من أصول الإيمان، فإنكاره يؤدي بالعبد إلى النار عياذاً بالله. فلو أن عبداً أنكر الجنة والنار لأنه لم يرهما، أو أنكر البعث بعد الموت؛ كل من أنكر شيئاً من أمر الغيب الذي جاء في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام المتواترة فإنه يكفر بذلك ويخرج عن ملة الإسلام.

الجهاد لإعلاء كلمة الله من شعب الإيمان

الجهاد لإعلاء كلمة الله من شعب الإيمان الخصلة السادسة عشرة: هي الجهاد، أي: إثبات أن الجهاد من الإيمان. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور)].

تفضيل حب رسول الله على حب الولد والوالد والناس أجمعين

تفضيل حب رسول الله على حب الولد والوالد والناس أجمعين الخصلة السابعة عشرة: قال: [عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). يعني: حتى يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. الناس يخالفون هذه الشعبة من حيث لا يدرون، فالوالد يقدم محبة ولده على محبة الله ورسوله وهو لا يدري، لو كان الولد عاصياً أو شارباً للخمر مثلاً، فالوالد يعطي ولده المال ليشرب الخمر أو ليشرب البانجو، أو ليعصي بها أياً كان نوع المعصية، فإذا قيل للوالد: لم تفعل هذا؟ قال: والله هو شباب ولا بأس في ذلك وغير هذا من الأعذار، وهو لا يدري أن هذا فيه معصية لله ومعصية للرسول عليه الصلاة والسلام ثم يميع أمر الله عز وجل في مقابلة أن يرضي ولده، فمثل هذا العبد فاقد للإيمان، لأنه قدم حب ولده على حب الله ورسوله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وفي رواية: (حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين)، فلا بد من تقديم محبة الله ومحبة الرسول عليه الصلاة والسلام على كل محبوب دونهما.

الحب في الله وكراهية الكفر من شعب الإيمان

الحب في الله وكراهية الكفر من شعب الإيمان والخصلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرون: قال: [عن أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)]، وهذا من أعظم شعب الإيمان وعرى الإيمان. قال: [(وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن توقد له نار فيقذف فيها)]. فلو أن ناراً أججت وقالوا: إما أن ترجع عن دينك وإما أن نلقيك في النار، فقل: النار أحب إلي، وليس هذا كلاماً يقرأ، فهذه عقيدة المسلمين دائماً. فلا بد من الوقوف عند كل نص شرعي، واستنباط المعاني والأحكام والعقائد والأخلاق والآداب والسلوكيات منه، ولا يمكن أن تبنى الشخصية الإسلامية المحترمة إلا بالوقوف عند كل نص، واستنباط ما ذكرت منه، بل والوقوف عند هذه الاستنباطات لأجل العمل بعد الاعتقاد. أما إنسان يقرأ القرآن من أوله إلى آخره دون أن يقف على حدوده، ودون أن يقف على حلاله وحرامه فكيف له أن يتعرف على الحلال والحرام؟ وكيف له أن يتعرف على العقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد، وكذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ فلا بد للإنسان من الوقوف عند كل نص ليستفيد، ثم لا يجاوز هذه النصوص إلا بعمل.

حب الأنصار من شعب الإيمان

حب الأنصار من شعب الإيمان قال: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)]. إذاً: ما دام النبي عليه الصلاة والسلام علق هذه الشعبة بالإيمان فهي من الإيمان، فحبي للأنصار علامة على إيماني، وبغضي للأنصار علامة على نفاقي. وهذا الحديث فيه فضيلة للأنصار وأبنائهم إلى قيام الساعة، وإن كان لفظ الأنصار عند الإطلاق يطلق على من ناصر النبي عليه الصلاة والسلام من أهل المدينة خاصة، مع أنه قد نصره من هم من غير أهل المدينة، فالمهاجرون لما هاجروا من مكة إلى المدينة أليس هذا نصرة للنبي عليه الصلاة والسلام ولدين الإسلام؟ وغيرهم من القبائل والبلاد المجاورة للمدينة، بل أهل الحبشة الذين ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وغير أهل هذه البلدان قد ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام. فكلهم أنصار، وكلهم قد تحققت فيهم النصرة والمؤازرة والتعزير والتوقير للنبي عليه الصلاة والسلام، لكن لفظ الأنصار عند الإطلاق يطلق على أهل المدينة ممن صحب النبي عليه الصلاة والسلام. أما عند إرادة إطلاق اللفظ فيطلق على الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار إلى آخر الزمان، فبغض الأنصار لأجل النصرة علامة على النفاق، حتى لا يتحرج الإنسان الآن أنه يدخل المدينة فيجد رجلاً مثلاً من أهل المدينة لكنه من أهل المعصية ليس من أهل الطاعة، أي: أنه رجل مثلاً يزني ويسرق ويشرب الخمر وغير ذلك، فهذا لا يحب وإن كان من الأنصار، فقوله عليه الصلاة والسلام: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) أي: علامة الإيمان أن تحب الأنصار لكونهم ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وعلامة النفاق أن تبغض الأنصار لأنهم ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، فإثبات الإيمان ونفيه متعلق بحب الأنصار وبغضهم لأجل النصرة. فحينما نذكر مثلاً سعد بن معاذ نقول: رضي الله عنه، لقد ناصر النبي عليه الصلاة والسلام، ونحب أبناءه وأبناء أبنائه الذين هم على الطاعة؛ لأنهم ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وناصروا الله عز وجل. أما أن يأتيني رجل مثلاً من الأنصار، لكنه يعيث في الأرض فساداً فأنا أبغضه، لا أبغضه لأن آباءه ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، لكني أبغضه لأنه يعصي الله، فهذا أيضاً من الإيمان، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وأن تبغض لله) يدخل في هذا المهاجرون والأنصار. لو أن مهاجراً ممن هاجر من مكة إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان إلى الكفر فلا نحبه؛ فهجرته نسخت بردته؛ لأن الردة تمحو ما كان قبلها من خير، كما أن الإيمان يمحو ما كان قبله من شر.

حب الخير للآخرين من شعب الإيمان

حب الخير للآخرين من شعب الإيمان قال: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)]، وهذه علامة مهمة، وهي أن تحب لأخيك مثل الذي تحب لنفسك تماماً، وهذه مرتبة ينبغي أن نقف عندها؛ فقد قل من الناس من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل كل الناس أو جلهم إنما يحب نفسه أكثر من كل شيء، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: (والله يا رسول الله إني لأحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي)، وهو عمر، وهذه نفس بشرية جبلت على هذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، فوقف عمر مع نفسه وقفة فقال: والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء حتى من نفسي التي بين جنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر) يعني: الآن قد حققت كمال الإيمان، لأن عمر قال هذا حينما سمع قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).

عدم إيذاء الجار واجتناب الغيبة والنميمة من شعب الإيمان

عدم إيذاء الجار واجتناب الغيبة والنميمة من شعب الإيمان قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)]. هنا علق حقوق الجار بالإيمان، فلا يحفظها إلا مؤمن، ولا يضيعها إلا إنسان ناقص الإيمان أو فاقد الإيمان. فالذي يؤذي جاره لا يتحقق لديه كمال الإيمان، فليس من الإيمان إيذاء الجار، بل من الإيمان حفظ حقوق الجار، والجيران في هذا الزمان كاد كل واحد منهم أن يخرج من داره ومن أهله وبيته هرباً مما يحدثه الجار من إزعاج ومعاص وارتفاع بالمذياع وسباب للدين، وسباب للرسول والقرآن والسنة وغير ذلك عياناً بياناً. ولو كان لهذه الأمة حارس يخشى على دين الله عز وجل لأدب الناس في حجر نومهم، لكن لا حارس للأسف الشديد، فلا يبقى أمام الناس إلا الوازع الديني الذي استقر في قلوبهم، فإذا غاب السلطان والحاكم لا بد من استخلاف الوازع الديني في قلب العبد المؤمن، بحيث يحمله على ملازمة التقوى والمروءة، ويأمره ويحضه على ملازمة التقوى؛ لأن السلطان لا يمكنه أن يفلح في هذا مهما بلغ بجبروته وطغيانه وعدته وعتاده لا يمكن للسلطان أن يسيطر على قلبك، بل القلب موهبة من الله عز وجل، والوازع الديني والإيماني في قلب العبد هو منحة ربانية من الله عز وجل؛ ولذلك لو راقبك العالم أجمع فاستطعت أن تصنع شيئاً في غفلة هؤلاء لفعلت، لكن لو أن العبد قد استكمل الإيمان بقلبه بمعنى أنه حقق خشية الله عز وجل على أعلى مستوى، فلو وضعوه مع أعظم المشتهيات كملكة جمال مثلاً، أو كان يشرب الخمر سابقاً ووضعوه في غرفة خمر مثلاً، لكنه تاب إلى الله عز وجل وعرف الله تعالى، فإنه لا يستطيع بل ولا يجرؤ أن يزني أو يشرب الخمر لأن معه الوازع الديني، ولأنه يملك بين جنبيه مخافة الله عز وجل، فلا يمكن أن ينظر إلى تلك المرأة، بل ربما يراها أذم الخلق، ويراها خبيثة فينصرف عنها، وهذه تكون منحة من الله عز وجل. والسلطان الحاكم لا تأثير له إلا على الأبدان، أما تأثير الإيمان فإنه ينطلق بالعبد فيمشي في وسط الشوك بلا خدش، لا تخدشه المعاصي ولا تخدشه الشهوات ولا الشبهات من هنا وهناك؛ لأن حارسه نابع من داخله، فلا يتأثر بهذا الفساد الذي يحيط به من كل جانب. قال: [(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)]. إذاً: الغيبة والنميمة وطول اللسان وهتك الأعراض وغير ذلك ليس من الإيمان، وليست القضية مجرد أنه بمقدورك أن تغتاب ما شئت، ثم تنصرف من المجلس وتقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت حتى يُغفر لك ما كان في المجلس، فالقضية هذه متعلقة بالإيمان، وإن غفر الله تعالى لك غيبتك لأخيك في مجلس جلسته واغتبته فيه فيبقى أن إيمانك تأثر بهذا الكلام، فلو كان منسوب الإيمان عندك مثلاً (70%) واغتبت أخاً في الله ربما ينزل إلى (50%) وأقل من ذلك، لأن الغيبة والنميمة وهتك العرض والكلام في أعراض الناس والطعن والقذف؛ كل هذا مناف للإيمان، وقديماً كان السلف إذا ذكرت غيبة في مجلس أنكروا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بأمر الله ورسوله، فإذا استجاب القوم وإلا انصرفوا. ولذلك يقول قائلهم: إذا كنت في مكان به منكر فأنكر، فإن زال وإلا فزل أنت عنه. أي: فإن استطعت أن تغير هذا المنكر إلى معروف، أو على الأقل تزيل المنكر فافعل، وإلا فيجب عليك أن تقوم من هذا المكان وتنصرف. ولذلك عذب الله عز وجل بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا إذا رأوا المنكر أنكروا، حتى إذا كان الغد لم يمنع هؤلاء الذين أنكروا بالأمس أن يكونوا معهم في الأكل والشرب والمجالس، والله عز وجل قد لعن قوماً جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر. فهم لم يشربوا وإنما جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر؛ فكأنهم رضوا بهذا، والراضي بالذنب كالفاعل للذنب. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: دعه فإن الحياء من الإيمان). يعظ أخاه أي: ينهاه. وليس معنى هذا أن تقول له: ما من داع لأن تستحي كثيراً، فأنت كثير الحياء؛ فبهذا تكون قد نهرته عن الحياء ولم تعظه. فحينما نرى من عنده حياء فنقول: هذا حيي فوق اللازم وأكثر من اللازم، فنحن ننهره بهذا، بل الحياء كله خير. إذاً: ما في الحياء شيء اسمه أكثر من اللازم إذا كان هو كله خير كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، أي: أنه لا يأتي من روائه إلا خير، فهل يقال لفلان: انته عن الحياء؟ أليس النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع رجلاً يعظ أخاه في الحياء، يعني: سمعه يقول له ليس بالضرورة كثرة الحياء، قال له: (دعه فإن الحياء من الإيمان).

إلقاء السلام وإفشاؤه من شعب الإيمان

إلقاء السلام وإفشاؤه من شعب الإيمان قال: [قال: النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا -لأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة- ولا تؤمنوا حتى تحابوا). إذاًَ: فسبب الإيمان هو المحبة، أو علامة الإيمان محبة المؤمنين بعضهم لبعض. قال: [(أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟)]؛ يعني: أدلكم على البوابة التي إذا فعلتموها ودخلتم منها حصلت لكم المحبة والثواب، قال: [(أفشوا السلام بينكم)]. ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب إلقاء السلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألق السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف)، أي: من المسلمين، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لقيتم اليهود والنصارى فلا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم، فإنهم لا يقولون السلام: وإنما يقولون: السام. أي: يقول اليهود والنصارى: السام عليكم، فإذا قالوا لكم ذلك فقولوا: وعليكم). ولذلك دخل رجل من اليهود على النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (السام عليك يا محمد! فقالت عائشة من خلف الجدار رضي الله عنها: وعليك السام واللعنة والغضب يا عدو الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، يا عائشة! إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. قالت: يا رسول الله! أما سمعت ما قال؟ -أي: أما سمعت أنه يقول: السام عليك يا محمد أي: الهلاك والموت عليك يا محمد! - قال: أما سمعت ما رددت به عليه؟) يعني: أنا قلت: وعليكم، وهذا فيه كفاية. لو أني سمعت مسلماً يقول لرجل من المسلمين أحبه: السام عليك لغضبت غضباً شديداً، ولو قال أحد لشيخك مثلاً: السام عليك، وأدركت المقصود ربما غضبت غضباً شديداً وحدثت بينكما مشاجرة. فهذه عائشة رضي الله عنها أخذتها الغيرة والغضب والحب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن حبها للنبي انعقد في الله عز وجل، فتأبى هذه المحبة أن تسمع دعاء بالهلاك على النبي عليه الصلاة والسلام، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه). قال العلماء: اضطرار اليهود والنصارى في أضيق الطريق أن يكون للمسلم عرض الطريق، أي: وسطه، ولليهود والنصارى حافة الطريق، فهذا الاضطرار لأضيق الطرق؛ لأن بعض الإخوة فهمه للنص أن يظل يضيق عليه في مطلق التعامل معه. وهذا مفهوم غير صحيح للنص، وإنما دعه يمشي على حافة الطريق، أما المسلم فله وسط الطريق، وهذا الوسط يدل على العزة، ولكن هذا الكلام حينما كان للمسلمين عزة، ودولة وصولة وجولة، وحكام يدافعون عنهم ويحبون الإسلام والمسلمين وغير ذلك، ولما كنت كذلك محترماً لدينك ولإسلامك ولإيمانك، لكن حينما فقدنا هذه المؤهلات كلها وصرنا أذل أمة وأحط من اليهود والنصارى فينبغي أن نجعل اليهود والنصارى يمشون معنا في وسط الطريق. فهذا كان من قبل خاصة أيام الدولة الأموية ناهيك عن الخلافة الراشدة أو فترة النبوة، كان النصراني أو اليهودي إذا كان في شارع أمام بيته ووجد مسلماً أتى من بعيد كان يهرب إلى داخل بيته ويغلق البيت، حتى يوسع الطريق للمسلم، وما كان ممكناً أن يضع رجلاً على رجل والمسلم يمشي في الشارع، لم يكن هذا موجوداً، فلو كان ممكناً لقطع رقبته، ولقامت فيها مجازر بين اليهود والمسلمين. فـ سنسبري اليهودي الذي كتب على محلاته في لندن: ممنوع دخول الكلاب والعرب، أي: أنه يساوينا بالكلاب! ثم يأتي إلى بلادنا ويستثمر فيها، وهذا كله لمصلحة البلد، نعم لمصلحة ضرب اقتصاد البلد، وغيرها من الشركات التي ترتع في أموال المسلمين بالليل والنهار، فهذه الشركات النصرانية واليهودية التي تمرح وترعى في البلد بغير رقيب ولا حسيب، هم هؤلاء ناس صالحون ومحترمون!! أما أن تقوم شركات إسلامية تظهر للعالم حسنة واحدة من حسنات الإسلام ومن حسنات الاقتصاد الإسلامي فهذا لا يمكن، فهؤلاء ينبغي أن يقتلوا في مهدهم وينبغي ألا يظهروا. وهذا ليس موضوعنا، إنما موضوعنا لما يسلم علينا يهودي أو نصراني إذا تأكدنا من أنه يقول: السلام عليكم، نقول: وعليكم السلام، وهذا مذهب ابن تيمية وابن القيم، أما إذا لم نتأكد ماذا قال فيجب علينا أن نقول: وعليكم فقط، أي: الهلاك علينا وعليكم، نحن وأنتم سنموت فليس أحد منا سيخلف. ولو اضطررت إلى ذلك فاخرج منها واهرب منها، فقل: كيف حالك، سلامات، صباح الخير، مساء الخير. الخصلة السابعة والعشرون: [قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)]، وأفشوا من الفشو والانتشار، وكأنه يريد أن يقول: ما أحد يمر على أحد إلا ويسلم عليه، سواء يعرفه أو لا ي

صيام رمضان وقيامه واتباع جنازة المسلم من شعب الإيمان

صيام رمضان وقيامه واتباع جنازة المسلم من شعب الإيمان قال: [قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)]، إذاً: صيام رمضان من الإيمان. قال: [(ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً)]، وقيام رمضان من الإيمان. قال: [(ومن تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً)]، وتشييع الجنائز من الإيمان، ففي هذا الوقت الناس لا تفعل ذلك من باب الإيمان؛ ولذلك يا إخواني لابد من الإخلاص في هذا العمل. والواحد منا لما يقرأ في الإخلاص أو يقرأ في سير المخلصين من السلف يوقن بالهلاك، ويتهم نفسه بالنفاق في كل قول وعمل، لأن السلف ما كانوا يصنعون شيئاً إلا بعد أن يحاسبوا أنفسهم قبل العمل، أنا أعمل العمل هذا لله وإلا للناس؟ إذاً: المسألة هذه متعلقة بأداء الواجب، فأنت ترى أن هذا واجب عرفي فلا بد أن تؤديه، فلا تفعله من باب الإيمان، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه لما سمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تبع جنازة من بيتها حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى توارى في قبرها فله قيراطان، والقيراط كجبل أحد، بكى عبد الله بن عمر وقال: والله لقد فرطنا في قراريط كثيرة). فلو كنت راكباً في سيارة ولست مستعجلاً، ورأيت جنازة ماشية استأذن من السواق، أو إذا كانت سيارتك فأوقفها على جنب، وانزل وشيعها تأخذ قيراطاً، أو إذا صليت عليها أخذت قيراطين، القيراط الواحد كجبل أحد من الثواب والحسنات. إن عضلة القلب كعضلة الذراع تماماً بتمام، عضلة الذراع لا تتقوى إلا بالمجهود، كذلك عضلة القلب لا يمكن أن تتربى على الإيمان إلا بالعمل، ومن العمل الصالح أن تشيع الجنازة، وأن تقف على القبر حتى يدفن ويوارى هذا الميت، وتبقى بعد المواراة قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه، هذه هي السنة، وليست السنة أن نرميه ثم نجري ونخرج من المقبرة، بل نضعه بمنتهى الشفقة والرفق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (كسر عظم الميت ككسره حياً) يعني: احترام الميت مثل احترام الحي؛ لأن كسر عظم الميت ككسره وهو حي. ثم تنتظر على شفير القبر مقدار أن يذبح جمل ويسلخ ويوزع لحمه على الفقراء، فهذه المدة نحن مأمورون أن نقف على القبر بمقدارها بعد أن يوارى الميت. فإنه يسأله منكر ونكير؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اسألوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل)، فكل إنسان ينشغل بالدعاء للميت، وهذا تقريباً يعتبر من أخريات الحقوق لهذا الرجل على من شيع جنازته، أنهم يقفون معه في الموقف العصيب. فقد ورد في وصف منكر ونكير ما يدل على أنه لا يصمد أمامهما أحلم الحلماء. والدعاء الجماعي بدعة، والمسنون أن يتقدم أحد الوعاظ بموعظة، يذكر الناس فيها بالله في هذا الموطن الذي جرحت فيه القلوب، وتعلقت بربها، فإن فعل كان ذلك حسناً، أما الدعاء فكل يدعو بنفسه، ولو كان الدعاء جماعياً في هذا الموطن مشروعاً لدعا النبي عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه، ولكنه أمرهم جميعاً أن يدعو كل واحد بما تيسر له، والدعاء عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، فإذا كان الدعاء عبادة فلا تحرم نفسك من العبادة في هذا الموطن. أما رواية: (الدعاء مخ العبادة)، فهي رواية ضعيفة. قال: (من تبع جنازة مسلم) إذاً: القيد هنا بأنها جنازة مسلم، فلا تتبع جنازة كافر، وليس للتابع فيها أجر، فالكافر يلقى، وهذا إجماع أهل العلم أنه لا يستحب دفن الكافر إلا إذا خيف التأذي به بعد الموت؛ لأن الكفار لا يكرمون أحياء ولا أمواتاً، فدفن الميت من أعظم إكرام الميت، وغير المسلم إذا مات الأصل فيه أنه لا يوارى ولا يقبر ولا يدفن ولا يصلى عليه، وغير ذلك مما يترتب للمسلم، فالذي يفعل ذلك من المسلمين هذا من خيبة الأمل، لما يموت نصراني أو نصرانية، فإذا نظرت ستجد أن معظم المعزين مسلمون، ومع ذلك فإنهم قد ابتدعوا أيضاً، فالنصارى يقلدون المسلمين فيأتون بقسيس يعظ، يعني: إبليس يتكلم ويعظ الناس، وتجد المسلمين وهم جلوس، ويضعون أيديهم على جيوبهم، فهم متأثرون ومتجاوبون مع القسيس.

الجهاد من شعب الإيمان

الجهاد من شعب الإيمان والجهاد من الإيمان، وهل ضيع المسلمين إلا ضياع الجهاد وترك الجهاد، أقسم بالله لو أن اليهود في فلسطين يسمعون أن المسلمين يعدون للجهاد، وأن المسلمين اصطلحوا مع بعضهم وقرروا الجهاد، فإن اليهود سيسلمونا المفاتيح. هم هكذا؛ لأنهم أجبن الخلق، ربنا يخبرنا بأن أجبن الخلق هم اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]؛ لو كانوا شجعان لكان القتال وجهاً لوجه، لكن هم أهل غدر، لا يقاتلون إلا غدراً. قال: [(أنتدب الله لمن خرج في سبيله)]، بمعنى: تكفل الله لمن خرج في سبيله مجاهداً. قال: [(لا يخرجه إلا إيمان به)]، أي: لا يخرجه إلى الجهاد في سبيل الله، إذاً: الجهاد إيمان. قال: [(وتصديق برسله أنه ضامن -أي: أن الله تعالى ضامن- أن يدخله الجنة، أو أن يرده إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة)]، يعني: معه الذي معه من الأجر عند الله أو الغنيمة التي يأخذها.

دفع الوسوسة ومجاهدة النفس من شعب الإيمان

دفع الوسوسة ومجاهدة النفس من شعب الإيمان قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن أحدنا ليحدث نفسه بشيء ما يود أن يتكلم به -يعني: الواحد فينا يحيك في صدره أشياء- لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك محض الإيمان)]، إذاً: هذا الكلام يفهم منه أن دفع الوسوسة ومجاهدة النفس من الإيمان. قال: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شكا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام رجل الوسوسة، فقال: ذاك صريح الإيمان)] يعني: كونك تألمت من هذا الوسواس فهذا يدل على صحة إيمانك.

السرور عند الحسنة والحزن عند السيئة من شعب الإيمان

السرور عند الحسنة والحزن عند السيئة من شعب الإيمان قال: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)]، يعني: الذي يصنع المعروف ويفرح به علامة على الإيمان، والذي يفعل السيئة ويغتم ويستاء من نفسه ويكره نفسه؛ لأنه فعل السيئة وما كان ينبغي لمثله أن يفعل ذلك، فهذا دليل على الإيمان أيضاً، يعني: تصور أنك لما تعصي الله عز وجل بمعصية تضيق عليك نفسك حتى لا تجد في الأرض رحباً، مع أن الأرض واسعة، فتحس بضيق صدر وضيق أفق عندك، حتى كدت أن تموت وتختنق؛ لأنك وقعت في معصية الله، هذا الضيق وهذا الألم الناتج عن حدوث المعصية علامة على إيمان العبد، لكن واحد يشرب خمراً، وحين تقول له: يا فلان هذا حرام، يقول: أنا أحسن من غيري ألف مرة، فهذا معناه أنه مستمر على المعصية، فقل أن يوجد عنده إيمان، لما تكلمه في معصية يذكر لك معصية أعظم منها وأفجر منها، يقول لك: صحيح أنا أزني وأسرق واقتل وأشرب الخمر، لكن غيري يعمل مثل الذي أنا أعمله عشر مرات، أنا والحمد لله ما أعمل إلا هذه الخمس فقط. فالعبد الصالح الذي نقى قلبه لله عز وجل يفرح فعلاً بالطاعة، ومع فرحه بالطاعة يخشى ألا تتقبل منه، فهذه خشية تحمله على المزيد من أداء العمل الصالح؛ ولذلك (لما تلت عائشة رضي الله عنها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]-فمعنى قلوبهم وجلة أي: خائفة- قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ قال لها: لا يا ابنة الصديق! إنما هؤلاء أقوام قد أتوا بصلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، يخافون ألا يتقبل منهم) يعني: قد عملوا الصالحات، لكنهم يخافون ألا يتقبل الله منهم ذلك، فيحملهم الخوف على المزيد من العمل، لا يحملهم الخوف على اليأس؛ لأن الخوف منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم، فالخوف الذي يؤدي إلى اليأس من رحمة الله، هذا نوع كفر، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، إنما الخوف الذي يؤدي بك إلى المزيد من الطاعة هذا هو الخوف الممدوح، فالذي هو خائف من النار فإنه يعمل من أجل أن ينجو من النار، فيلتزم الأوامر وينتهي عن النواهي ولا يتعدى الحد، فإن من يتعدى حدود الله فقط ظلم نفسه. إذاً: أمامك ثلاثة أشياء: التزام الأمر والعمل به، وترك النهي طاعة لله عز وجل واستجلاباً لرضاه، والوقوف عند حدود الله ومحارمه لا تتعداها. لو أن عبداً أتى إلى الله بهذه الثلاث لنجا من النار ودخل الجنة. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عمر أمتي ما بين الستين إلى السبعين لا يزيد عنه إلا قليل) فمن زاد عن ذلك فقوته تتهدد، وإن ارتكب المعاصي فهو أشقى الخلق، فإن الأصل أن الإنسان بعد الستين سنة ينتهي أمره، ويبدأ في العد التنازلي. فالأصل في هذا السن أنه لا يقع في المعصية، لأنه يعجز غالباً عن الوقوع فيها، فإذا كان عمر الإنسان يتحدد بستين سنة، وهذه الستين السنة منها عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة نوم، وعشر سنوات إلى خمس عشرة سنة قبل البلوغ، ومجموع ذلك ثلاثون سنة، والباقي ثلاثون سنة، فهل يعجز المرء أن يستقيم على أمر الله ثلاثين سنة، مقابل نعيم لا ينفد ولا ينقطع، في جنة عرضها السماوات والأرض؟ حياة أبدية سرمدية لا نهاية لها، من النعيم واللذة والنظر إلى وجه الله الكريم، الواحد منا لو يحجز نفسه في بيت، ويلزم نفسه بالطاعة إلى أن يأتيه أجله، يفعل ذلك من أجل النعيم الذي سيأتي. فما وقع عبد في معصية إلا وأحس بتفاهة نفسه بعد الوقوع فيها، خاصة العبد الذي عنده أصول الإيمان. تصور لو أنك سرقت مال أخيك، فحين تنفقه لا تشعر بلذة، وتتمنى لو أنه رجع إلى صاحبه ثانية، ولو أن أحدهم زنى، فبعد الفراغ من الزنا مباشرة يحتقر نفسه، بل ربما يبصق على نفسه من سوء ما فعل؛ ولذلك فإن بين الطاعة والمعصية لحظة، فاضغط على نفسك فيها. تصور لو أن امرأة جميلة مشت في الشارع تنادي على الزناة أن ينظروا إليها، وأن يقعوا عليها، وأنت لقيت هذه المرأة في الطريق، فما بينك وبينها إلا أن تغض بصرك لحظة حتى تمر خلف ظهرك، وتفرغ من أمرها، ثم ترى بعد ذلك ما يقدر الله عز وجل لك من الخير. فالفرق بين الطاعة والمعصية ما هي إلا لحظات! يضغط فيها العبد على نفسه حتى ينجو من عذاب الله عز وجل.

حسن الخلق من شعب الإيمان

حسن الخلق من شعب الإيمان قال: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة)]. فقوله: (إن أكمل المؤمنين) يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فهنا شيء كامل وشيء ناقص. فمن حسن خلقه فقد وافق شعبة من شعب الإيمان، ومن ساء خلقه ثم تاب إلى الله من ذلك، واعتذر إلى إخوانه فهو دليل على صدق إيمانه، وقل أن يأتي أحد في هذا الزمان ويعتذر عن فعل قبيح قد فعله، وعلى المسلمين أن يقبلوا عذر هذا المعتذر، وأن يعفوا جميعاً عنه ويقبلوا معذرته، ولهم أن يجربوه في الأيام المقبلة، فإن تحسن خلقه حقيقة كان ذلك فضلاً من الله عز وجل، وإن ساء خلقه أو عاملهم بمثل معاملته السابقة فلهم أن يتجنبوه أو يحتملوه. فلا يقبل العذر إلا كريم، ولا يرده إلا لئيم، وإذا أتاك أخوك معتذراً فاقبل منه، وهذا قول ابن سيرين عليه رحمة الله.

حفظ الأمانة من شعب الإيمان

حفظ الأمانة من شعب الإيمان قال: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)]، وقل من الناس من يستأمن على شيء فيكون أميناً، وهذه شكوى عامة في الخلق، لا يؤتمن أحد على شيء إلا كما يؤتمن الذئب على الغنم.

أعجب الخلق إيمانا

أعجب الخلق إيماناً قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أي شيء أعجب إيماناً)] النبي عليه الصلاة والسلام يخاطب أصحابه يقول لهم: ما أعجب شعب الإيمان أو ما أعجب شيء في الإيمان؟ قالوا: [(الملائكة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: كيف وهم في السماء يرون من أمر السماء ما لا ترون؟!)] يعني: كيف لا يؤمنون وهم عند ربهم يرون من أمر السماء ما لا ترون؟ فالملائكة جبلوا على الطاعة، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وهؤلاء أيضاً لهم منزلة، فهم أهل السماء، يعرفون من الأخبار ما لا تعرفون فكيف لا يؤمنون؟ [(قالوا: يا رسول الله! فالأنبياء قال: كيف وهم يأتيهم الوحي؟)]، يعني: النبي يأتيه الوحي، وهو رسولٌ اصطفاه الله تعالى من الخلق فكيف لا يؤمن؟ قالوا: [(فنحن يا رسول الله! -أي: فلم يبق لك إلا الصحابة- قال: فكيف وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟!)] يعني: أنتم تقرءون القرآن بالليل والنهار وفيكم رسوله، فكيف لا تؤمنون؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أعجب الخلق إيماناً قوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيؤمنون بي ولم يروني)] وهم التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة. والحديث هذا محل نزاع بين أهل العلم، والراجح أنه حديث حسن. ومعنى الحديث أنك إذا قرأت هذا القرآن وصدقته وصدقت أنه من عند الله، وسمعت أباً عن جد أن الله أرسل نبياً اسمه محمد فآمنت به واتبعته، هذه درجة من الإيمان عظيمة جداً. وبنو إسرائيل ما كانوا يؤمنون بشيء إلا بعد أن يروه، إلى أن قالوا لموسى: أرنا الله جهرة من أجل أن نؤمن، فبنو إسرائيل ما كانوا مؤمنين بالله؛ لأنهم اعتادوا وألفوا ألا يؤمنوا بشيء إلا إذا رأوه، حتى طلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى عياناً بياناً.

انتفاء الإيمان عمن يؤذي جيرانه

انتفاء الإيمان عمن يؤذي جيرانه قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من هو يا رسول الله! خاب وخسر -أي: من هذا الذي تحلف عليه بقولك: والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن- قال النبي عليه الصلاة والسلام: من لا يأمن جاره بوائقه)] والبوائق التي هي الغوائل والشرور. يعني: جارك لا يأمن شرك فكيف تكون مؤمناً؟ والنبي عليه الصلاة والسلام أقسم ثلاثاً وهو الصادق المصدوق بغير قسم عليه الصلاة والسلام، لكنه أقسم هنا وأكد قسمه ثلاثاً بالتكرار وكثرة العدد لبيان خطورة الأمر، وأن الجار الذي لا يأمن جاره بوائقه يدل على فساد إيمانه.

الألفة والمحبة بين المسلمين من شعب الإيمان

الألفة والمحبة بين المسلمين من شعب الإيمان قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وقال عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان عند مسلم: (المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر). وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). وقال النبي عليه الصلاة السلام: (وإن الشيطان ليأكل من الغنم القاصية)]، ويقول غير واحد من السلف كـ عبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: وإن ما تعملونه في الجماعة وأنتم تكرهون خير لكم مما تعملونه في الفرقة وأنتم تحبون، يعني: العمل الذي تعمله في وسط جماعة المسلمين وإن كنت لا تحبه هو خير لك بين يدي الله عز وجل من أن تعمل عملاً في الفرقة وإن كنت تحبه. ولذلك الخلاف شر، والود والألفة والمحبة بين المسلمين خير، فمحبة الله ورسوله والمؤمنين من العمل الصالح، والنصارى دائماً يدندنون على المحبة، وهذه بضاعتنا فإن الغرب أخذوا ديننا فعملوا به فسادوا الدنيا بأسرها في الوقت الذي نحن تأخرنا عن ركب الحضارة؛ لأننا لم نتمسك بحبل الله المتين. الأصل في كل رقي ديني أو دنيوي، عقائدي أو أخلاقي هو القرآن والسنة، فإذا تمسك به الكفار سادوا، وإذا تمسك به المسلمون سادوا، فهذه القضية ما فيها محاباة، فهي قضية اتباع وقضية إيمان بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المسافر شيطان، والمسافران شيطانان، والثلاثة ركب)، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده، وفي حديث آخر: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يسافر الرجل وحده، أو أن يبيت وحده)، الواحد فينا لما يبيت في بيت لوحده، لو قام في الليل وفزع، فربما يذهب عقله، وهذا يحصل. ولو أن شاباً في ريعان شبابه يبيت وحده، ربما مارس العادة الخبيثة مرتين وثلاث في الليلة؛ لأنه يبيت في بيته مع الشيطان، والشيطان يأمره بالمعصية؛ ولذلك إذا بات الرجل وحده فقد بات معه الشيطان، ولا يبيتن رجل في غرفة لوحده، إنما يبيت الاثنان؛ لأن المرء إذا دخل غرفته وأغلق على نفسه الباب وإن كان معه في الغرف المجاورة أناس آخرون، فهو يمكن أو يسهل عليه أن يقع في المعصية؛ ولذلك من عوامل تثبيت الإيمان في القلب الصحبة المؤمنة، والذي يتعرف على شباب فاسدين سيتأثر بهم، بخلاف ما لو تعرف على شباب صالحين. فالصحبة المؤمنة تزيد من إيمان المرء، لأن المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن يألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف). فمن كان لا يألف ولا يؤلف فهو في خطر عظيم؛ وعلى المسلم أن يعامله معاملة حسنة وأن يحتسبه عند الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد أوذي ومع هذا تكلف الود. فقد كان يأتي الأعرابي البدوي الجلف من البادية فيجذب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤثر في رقبته، يقول: (يا محمد! أعطني من مال الله فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك!). فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (دعه يا عمر! واقض حاجته)، فـ عمر هو الذي سيأخذ هذا الرجل وسيذهب به إلى بيت المال، وسيعطيه إلى أن يقول: كفاية، فأعطاه منه حتى قال له: أرضيت؟ قال: رضيت. فرجع الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا رسول الله! لقد قرأت في كتب أهل الكتاب أن علامة النبي العربي أنه إذا جهل عليه أحد حلم، فأردت أن أعرف ذلك فيك) يعني: ما عمل هذا إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يتأكد من أن هذه علامة النبي الجديد، أنه كلما يجهل عليه أحد يزداد حلماً، إلى أن رأى بعينه. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن في حاجة لدفاع عمر، فإنه لم يدخل في مصارعة قط مع أحد إلا صرعه، فهو ما يرد الإساءة بالإساءة، إنما يرد الإساءة بالإحسان. اجعل بينك وبين أخيك المؤمن أو المسلم وداً وألفة ومحبة، أما غير المسلم فإنك تتصنعه لاستمالة قلبه للدخول في الإسلام.

حب الإمام علي بن أبي طالب من شعب الإيمان

حب الإمام علي بن أبي طالب من شعب الإيمان قال: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لعهد إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)]، إذاً: حب علي بن أبي طالب دليل على الإيمان، وبغضه دليل على النفاق، فالذي يبغض علي بن أبي طالب يكون على خطر عظيم جداً. لكن على آية حال نحن نحب النبي عليه الصلاة والسلام وآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام حباً كما أحبهم أهل السنة والجماعة، بغير إفراط ولا تفريط، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم) يعني: لا تمدحوني وتثنوا علي بما ليس في ولا أستحقه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يستحق شيئاً ولا يستحق شيئاً آخر، فلا يستحق أن يكون إلهاً، أو أن يكون ابن الإله؛ لأن النصارى مدحت عيسى بن مريم وجعلته إلهاً، وبعضهم قال: هو ليس إلهاً ولكنه ابن الإله، فهذا بلا شك غلو شديد جداً في الأنبياء. فالنبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يحذر من ذلك، فلا يجوز أن يسجد أحد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صرف ما لله لغير الله، ولا يجوز صرف ما يجب أن يصرف لله لغير الله، كما لا يجوز أن يصرف لغير الرسول ما للرسول، فلا يجوز أبداً أن نؤمن بـ علي بن أبي طالب كما نؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن علي بن أبي طالب ما هو إلا رجل من المسلمين، وهو خليفة من الخلفاء الراشدين، نحبه؛ لأنه رجل مؤمن؛ ولأنه رجل صالح؛ ولأنه من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه أحد الخلفاء؛ ولأنه من أهل بيته عليه الصلاة والسلام. وغير ذلك من مناقبه وشمائله رضي الله عنه، لكن لا نرفعه إلى مرتبة النبوة، كما فعلت الشيعة، الذين يجعلون مرتبة الولاية فوق مرتبة النبوة كما تقوله الصوفية تماماً بتمام، حتى قالوا: الخلفاء الاثنا عشر هم الخلفاء الراشدون، فلا يعترفون بـ أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، إنما يعترفون بـ علي بن أبي طالب ومن بعده من أهل بيته، حتى الإمام الثاني عشر وهو عندهم المهدي المنتظر، والمهدي المنتظر عند الشيعة يختلف عن المهدي المنتظر عند اليهود والنصارى، وأهل السنة والجماعة. فالمهدي المنتظر عند الشيعة هو أبو الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء في العراق، وله من العمر أربع سنوات، يزعمون أنه اختفى وأخذ قرآن فاطمة، ويقولون: القرآن الذي بيد النواصب -ويقصدون بذلك أهل السنة- ليس منه حرف واحد نزل من السماء، وهو يقدر بثلث القرآن الحقيقي الذي اختفى في سرداب سامراء مع المهدي المنتظر، وهم ينتظرونه يوماً في كل عام على فوهة السرداب بالخيل المزينة والمزخرفة وغير ذلك، والله تبارك وتعالى في كل عام يخيب سعيهم إلى قيام الساعة. والمهدي المنتظر عند اليهود والنصارى هو المسيح الدجال الذي حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام، أما المهدي المنتظر عند أهل السنة والجماعة فإنه محمد بن عبد الله القرشي، رجل من قريش، وافق اسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، واسم أبيه اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، رجل يصلحه الله تعالى في ليلة، ثم يظهر في الأرض فيقطعها شرقاً وغرباً يدعو الناس إلى الله عز وجل، ويمكث في الأرض قدراً من الزمان، ويضع يده في يد عيسى بن مريم عليه السلام، فينزل عيسى بن مريم عند باب لد في فلسطين فيقتل المسيح الدجال وهو مهدي اليهود والنصارى، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير وهما رمز النصارى. ثم ينطلق عيسى بن مريم مع محمد بن عبد الله المهدي لدعوة الناس إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أجمع أهل السنة والجماعة على أن عيسى بن مريم هو أحد أفراد أمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو آخر الصحابة موتاً في آخر الزمان على الإطلاق؛ لأن عيسى حي عليه السلام، رفع إلى الله عز وجل في السماء، وهو حي الآن، وينزل في آخر الزمان، ولا يموت إلا موتة واحدة في آخر الزمان، وقد رأى عيسى بن مريم النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء، وسلم عليهم نبياً نبياً، فهنا بيان أن عيسى بن مريم هو آخر الصحابة موتاً؛ قال ذلك الإمام الذهبي في كتاب تجريد أسماء الصحابة.

مراقبة الله في السر والعلن من شعب الإيمان

مراقبة الله في السر والعلن من شعب الإيمان قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان)]، وهذه مرتبة الإحسان والمراقبة؛ ولذلك فإن في حديث جبريل: الإحسان يشمل الإيمان والإسلام، والإيمان يشمل الإسلام بغير عكس، يعني: كل محسن مؤمن ومسلم، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، كما أنه ليس كل مؤمن محسناً. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بـ: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا تمام وكمال المراقبة لله عز وجل، وهذه شفافية ما بعدها شفافية بين العبد وبين الله عز وجل، وهذه من الإيمان، لأن كل محسن مؤمن، فالإحسان إيمان.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستئذان الأهل من شعب الإيمان

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستئذان الأهل من شعب الإيمان الخصلة الثالثة والخمسون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الخصلة الرابعة والخمسون: تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليسلم على أهله -أو على أهل بيته- إذا دخل)]، يعني: إذا دخلت البيت فقل: السلام عليكم يا أم فلان، أو يا أولاد أو يا فلانة، فلا تدخل وتضع عصاك أمام الباب، ثم تأخذها وتدخل بالضرب والصياح والشتيمة وغير ذلك، لا يمكن أن تكون هذه عيشة أبداً. فالتأديب بقدره، إما بالهجر وإما بالضرب غير المبرح، فقد فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (ألا تشق رأساً ولا تكسر عظماً)، وبعض الناس لا يحلو له إلا الضرب في الرأس والوجه، مع أن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه قال: أن تطعمها مما تطعم، وأن تلبسها مما تلبس، وألا تقبح ولا تضرب الوجه) يعني: لا تقولن لامرأتك: قبح الله وجهك؛ لأن الله تعالى خلق آدم على صورته، فسب الوجه أو سب الخلقة إنما هو كسب آدم عليه السلام. نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شعب الإيمان [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - شعب الإيمان [2] شعب الإيمان كثيرة ومتعددة، فمنها: الحب في الله والبغض في الله، وحسن الخلق، والزهد عن الدنيا والتقلل منها، والجهاد في سبيل الله تعالى، وذكر الله سبحانه وتعالى، والمحافظة على الطهور والورع، والتعرف على الله والإيمان به قبل تعلم العلم ثم الإقبال عليه.

الحب في الله والبغض في الله من شعب الإيمان

الحب في الله والبغض في الله من شعب الإيمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه فهو عبد طعم الإيمان وحلاوته)]، ثلاث من كن فيه أي: من توفرت فيه هذه الخصال الثلاث فقد حقق العبودية لله عز وجل، وقد ذاق طعم الإيمان، فشبه الإيمان بالشيء الحلو الذي يتذوق من طَعِمَه. قال: [فقال: قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم]، يعني: الراوي عن أنس يسأله هذا السؤال يقول: هل أنت سمعت هذا من النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) أي: أن يكون الله ورسوله من جهة الاعتقاد والعلم والعمل والمحبة والرضا وغير ذلك من شعب الإيمان القلبية والعملية، قال: [(وأن يحب في الله ويبغض في الله)] لأن أعظم عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله. قال: [(وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها ولا يشرك به شيئاً)]، يعني: لو أن ناراً عظيمة أججت في أخدود عظيم جداً وألقي فيها المرء كان ذلك أحب إليه من أن يقع في الشرك بالله عز وجل، هذه الثلاثة الأشياء لو اجتمعت في قلب العبد المؤمن وجرت مقتضياتها على جوارحه فإنه يكون قد حقق الإيمان الكامل التام، وذاق طعم الإيمان. قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله عز وجل وعاد في الله، فإنه لا تنال ولاية الله عز وجل إلا بذلك]. فإن تحب في الله، وتبغض في الله، وتعطي لله، وتمنع لله، كل ذلك لا يمكن للعبد المؤمن أن يفعله إلا لله عز وجل، ولو فعله لنفسه أو نصرة أو غضباً لنفسه أو حمية أو غير ذلك من النيات والأغراض والمقاصد الأخرى فإنها ليست لله عز وجل، وإنما هي انتقام أو انتصار لنفسه؛ ولذلك لو أن العبد منع العطية لوجه الله عز وجل، أو أعطى العطية لوجه الله عز وجل، أو خاصم هذا في الله، أو صالح هذا في الله، فهذا العبد قد ضبط نفسه وسلوكه وعمله على أن تكون كلها لله عز وجل. أنت تخاصم أخاك الفلاني؛ لأنه قد عصى الله عز وجل، وعلمت من واقع حاله أنه لا يصلح إلا بالهجر، فتهجره في الله عز وجل، كما هجر الصحابة رضي الله عنهم الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وصار الواحد منهم لا يدري أين يذهب. كان لـ كعب -وهو أحد الثلاثة- جار وقريب له، وكان يصعد الجدار ويسلم على جاره، ولكن هذا الجار ما كان يرد عليه السلام -مع أن رد السلام واجب- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقاطعوا هؤلاء الثلاثة، فكان الواحد منهم يمشي في شوارع المدينة حائراً لا يدري ماذا يفعل، ضاقت عليه الأرض، الوفاة خير له من الحياة من فرط ما ضاقت به أموره وأحواله؛ لأنه تخلف عن الجهاد بغير عذر، فلما نزلت توبتهم من السماء فرح هذا الجار فرحاً عظيماً جداً، وأسرع بمجرد سماع الآيات إلى كعب يبشره بأن الله تعالى قد تاب عليه، فلو كان هذا خصاماً للذات أو لخلاف وقع بين الجيران أو غير ذلك لا يهمه أن تنزل فيه توبة، وكذا الصحابة لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكلموهم، فامتنع الصحابة جميعاً عن محادثة القوم، فلما نزلت التوبة فرح الصحابة، وليس الثلاثة فحسب، فهذا المنع من محادثة القوم كان لله عز وجل، وهذا المنع قد بلغ خمسين يوماً، فتصور أن امرأة لا تكلمه، وأن ولداً لا يكلمه، وأن جاراً لا يكلمه، وأن صديقاً لا يكلمه، وأن تاجراً لا يكلمه، المدينة كلها امتنعت عن محادثة القوم، حتى أهل بيت الثلاثة لم يكونوا يكلمون هؤلاء الثلاثة قط، فتصور رجلاً يعيش وحده في مجتمع يعج بالأفراد شرقاً وغرباً، لا يتكلم أحد منهم معه، فماذا يكون حاله؟ يكلم نفسه، أو يتكلم هؤلاء الثلاثة، مع أنهم قد كره بعضهم بعضاً في هذه المدة؛ لأنهم شعروا باتحاد المعصية بينهم، فكره الواحد منهم أن يكلم أخاه؛ ولذلك لما جاءت لـ كعب رسالة من أمير من أمراء الكفر أن ائتنا نولك ما رغبت يعني: ائت إلينا وسنوليك ونعطيك من المال ما ترغب فيه، قال: هذه ثالثة الأثافي، هذا ابتلاء واختبار، ثم قال: لا والله إن محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه أحب إلي من الدنيا وما فيها، فالإيمان لا يزال متمكناً في قلوبهم، لكنها غفلة انتهزها الشيطان فخلفهم عن الجهاد. الشاهد من هذا كله أن الصحابة امتنعوا حيث أمروا بالامتناع عن المحادثة، وفرحوا أشد الفرح حيث كان الأمر يستوجب الفرح، فهم فرحوا لله، وامتنعوا لله عز وجل، وهذا من فرط وكمال وتمام إيمان الصحابة رضي الله عنهم. قال: [ولن تجد طعم ا

حسن الخلق من شعب الإيمان

حسن الخلق من شعب الإيمان الخصلة الحادية والستون: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يستكمل العبد الإيمان حتى يحسن خلقه، ولا يشفي غيظه)]، وهذا الحديث في سنده بعض الضعف، وبعض أهل العلم حسنه، ومعنى حسن خلقه يعني: عامل الناس بالخلق الحسن؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بعض أصحابه ويقول: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، فهذا الخلق الحسن الذي تخلق به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وتخلق به أصحابهم وحواريهم. فقوله: (لا يستكمل العبد الإيمان) يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وقوله: (حتى يحسن خلقه، ولا يشفي غيظه) يعني: لا ينتقم ولا ينتصر لنفسه.

تغيير المنكر من شعب الإيمان

تغيير المنكر من شعب الإيمان ٌقال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)] وهذا باب عظيم جداً من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه أراد أن يقول: وتغيير المنكر من الإيمان؛ لأنه من شعب الإيمان، فقال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لم يخالط الناس ولم يصبر على أذاهم. أحياناً يبلغ اليأس ببعض الدعاة ورؤيتهم القاتمة لما عليه المسلمون من ضلال وانحراف عن شرع ربهم بأن يؤثر في أحدهم اليأس أن يقيم في بيته وألا يتكلم مع أحد، وهذا الحديث أو النص كفيل وخليق بأن يرده إلى رشده وصوابه. وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم)، وفي رواية: (فهو أهلكَهم) أي: فهو الذي تسبب في إهلاكهم، أو على الرواية الأولى: فهو أشدهم هلاكاً، ومن قال: (هلك الناس فهو أهلكهم) أي: فهو الذي أهلكهم، وهذا نص كفيل بأن يحاسب كل أحد منا نفسه. وإذا كان الناس فيهم خلل أو نقص أو عيب أو جرأة أو فجور فلا بد أن يكون في الداعية حظ ونصيب من هذا كذلك، فإذا كان يعيب على الناس أشياء مثل هذه فلا بد أن يرجع لنفسه باتهامها أكثر من اتهامه للناس، حتى يستقيم له الأمر. وفي حياة الأنبياء وجهادهم أعظم قدوة ونبراس لنا، فنوح عليه السلام الذي مكث في قومه ٍيدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما آمن معه بعد هذه الأعوام كلها إلا قليل، فأعظم عدد ذكر أنهم ثمانون رجلاً، وأقل العدد اثنا عشر رجلاً، وحتى لو كانوا خمسين رجلاً، فمعنى ذلك أنه يؤمن كل عشر سنين رجلاً واحداً، فهذا أسوة وقدوة لنا، خاصة للإخوة في الريف، فالأخ قد يمكث أربع سنوات في القاهرة من أجل الدراسة في الجامعة أو غير ذلك فيمن الله تبارك وتعالى عليه بالعلم الشرعي والفهم الصحيح وغير ذلك، فيذهب إلى قريته بعد التخرج، فيفاجأ بالواقع المر الأليم في قريته، ويعرف أن الناس إنما مكثوا على دين منذ مئات السنين وما عند أحدهم استعداد أن يغير ذلك، فيصدم في واقعه الذي عاش فيه وكان هو أحد أفراده، فيصاب بيأس شديد جداً، فيأتي بعد ذلك من القرية ويشكو مر الشكوى من قومه الذين لا يقبلون دعوته، هو كان أحد أفراد هذا المجتمع الذي لم يقبل دعوة من سبقه، فلا بد من الصبر، فهذه سنة كونية قدرية في أهل الإيمان، بدءاً بالأنبياء والمرسلين وانتهاءً بالصالحين، وحذاري أن تظن أنك إذا آمنت بالله ورسوله، وحملت هذه الدعوة ورفعت لواءها أن الأرض تفرش لك بالحرير، إذا كنت تتصور ذلك فأرجو أن تعتزل وأن تعتذر الآن وتمكث في بيتك، فطريق الدعوة هو أصعب طريق خلقه الله عز وجل؛ ولذلك خلق له أعظم البشر وهم الأنبياء والمرسلون؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الناس بلاءً -وفي رواية: أشد الناس بلاءً- الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) يعني: ثم من يشبه الأنبياء ثم من يشبه من يشبه الأنبياء، وهكذا. فالمعلوم أن الأنبياء وأتباعهم من الدعاة والعلماء هم على نسق ومنوال واحد من وقوع الأذى بهم؛ لأن الناس الذين انتكست فطرهم إنما يحبون الحياة الدنيا حباً جماً، ويحبون جمع المال من حل ومن حرام، وإن الدعاة هم الذين يقفون حائل صد أمام هؤلاء لبيان الحلال والحرام، وبنهي هؤلاء الذين يرتكبون المنكرات والفظائع والفجور ينهونهم عما هم عليه؛ ولذلك تكون العداوة بينهم وبين أهل الإيمان، وكذلك أصحاب الجاه والمناصب والكراسي وغيرها، كل حظ ليس لله تبارك وتعالى فيه نصيب لا بد أن تحدث العداوة بين أصحاب هذه الحظوظ وبين الدعاة إلى الله عز وجل. وسنة الله تبارك وتعالى قضت بأن عامة الفساق لهم تمكن في وقوع الأذى بأهل الإيمان ما لم يكن لأهل الإيمان راية تحميهم، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي بل يجب على أهل العلم بالذات من أهل الإيمان أن يعدوا صبراً عظيماً جداً وتحملاً فوق طاقة البشر في حمل دعوة الله عز وجل وتبليغ دعوة الحق إلى الخلق. أما أن تتصور أنك صاحب سنة أو صاحب دين أو صاحب علم أو غير ذلك، وأن الناس ستفرش لك الأرض حريراً ويضعونك على الرءوس فهذا لن يكون، فلا بد أن توقن أن الناس يضعونك تحت أقدامهم، وأن الناس يحاربونك من أول وهلة تخرج عليهم فيها فتسفه أحلامهم، وتبطل ما هم عليه من باطل، وترتفع بإيمانك وعلمك على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه الناس، فلو أنك بهذه الأخلاق، وبهذه القوة والمتانة، فلا أحد يتركك، بل كل من استطاع أن يلحق بك الأذى فعل ولا يقصر، فمخالطة الناس والصبر على أذاهم أعظم أجراً ودرجة ممن اعتزل الناس؛ لأنه لم يصبر على أذاهم بلا شك.

الحب في الله من شعب الإيمان

الحب في الله من شعب الإيمان قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إن من الإيمان أن تحب أخاك عن غير معرفة ولا قرابة ولا مال أعطاك لا تحبه إلا لله]، أي: من شعب الإيمان أن تحب أخاك المؤمن من غير معرفة سابقة ولا قرابة ولا جوار، إنسان قابلته فبدا منه الصلاح والعمل الصالح، وحب الله ورسوله، فهذا الإنسان يجب عليك أن تحبه في الله، وإلا فلا يزال الإيمان في نقصان ويحتاج إلى زيادة.

الزهد عن الدنيا من شعب الإيمان

الزهد عن الدنيا من شعب الإيمان قال: [وعنه قال: إن الله قسم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم]، فالأخلاق رزق كالطعام والشراب، الأخلاق رزق والمنطق رزق، لسانك الذي في فمك هو رزق من السماء، إما أن يكون حلواً لذيذاً يقطر عسلاً أو يقطر سماً وهو اللسان في نهاية أمره، وشتان بين منطق كل لسان واللسان الآخر، فهذا يقطر سماً وهذا يقطر عسلاً، هذا أديب، وهذا فصيح، وهذا بليغ، وهذا مفسر، وهذا محدث، وكل ذلك إنما تظهر آثاره على اللسان. قال: [وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن يبغض]؛ لأن الدنيا لا قيمة لها، ولا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وهذا من هوان الدنيا على الله. ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام عاش حياته كلها يحذر أصحابه الفتن، ومنها وأعظمها فتنة الدنيا، أن يفتن المرء بأي فتنة من فتن الدنيا، فتنة النساء، فتنة المال، فتنة الجاه، فتنة السلطان، كل هذا من فتن الحياة الدنيا. ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله لا أخشى عليكم الفقر) أو (ما أخشى عليكم الفقر ولكني أخشى أن تفتح عليكم -أي: الدنيا- فتنافسوها كما تنافسوها -أي: كما تنافسها من كان قبلكم- فتهلككم كما أهلكتهم). فبين عليه الصلاة والسلام أن الدنيا مهلكة، وقال أيضاً: (ويقول الإنسان: مالي مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى)، فالذي هو حريص على جمع المليارات هو يحب من؟ ميمون بن مهران رضي الله عنه ورحمه يقول: عجبت لجامع الدنيا يحاسب عليها مرتين، يعني: يحاسب على ماله مرتين، أو قال: يسأل عنه مرتين، يتركه كله ويسأل عنه كله. ولو أنه جمعه من حلال وأدى حق الله فيه فنعم المال الصالح للعبد الصالح، لكن الحذر كل الحذر لمن يجمع الدنيا من حل وحرام من أجل أن يبقى عنده مال، فلو لبس أحسن الملابس، وركب أحسن المراكب، وأكل أفخر الطعام، فلا بد أنه سيترك المال لورثته، ثم يسأل عن هذا المال كله يوم القيامة، فيشقى به حياً وميتاً. في الوقت الذي لا تضمن فيه أن هذا المال ربما يكون سبباً لفتنة أبنائك، فما وجدت أعظم من أن يعرق الإنسان بجبينه في جمع لقمة عيشه، وإذا أتت الدنيا إلى آحاد الناس بسهولة لا بد أنها تذهب عنه كذلك بسهولة، الإنسان منا لو أنه جد واجتهد في جمع الدينار والدرهم لا بد أنه يحافظ عليه ويفكر ألف مرة قبل إنفاقه. أما إنسان انتقلت إليه الملايين أو الألوف عن طريق الميراث مثلاً أو الهدايا أو المنح والهبات فإن هذا المال يكون أهون عليه من أن يفكر مرة واحدة حين إنفاقه، ولذلك فإن أصحاب الأعمال هم أنجح الناس، كالذي يعمل بمسحاته وفأسه وفي مصنعه وفي شركته بيده ويبيت في ليله مكدوداً من عمل يده طول النهار، فهؤلاء هم أنجح الناس وهم الرجال وعليهم اعتماد الأمة. أما هؤلاء المرفهون المترفون الذين يرتعون في أموال آبائهم وأمهاتهم لا يدرون من أين أتت هذه الأموال فهم كذلك لا يدرون كيف ينفقون هذه الأموال، وإننا لنعلم أطفالاً مصروف أحدهم يبلغ مائتي جنيه، وهذا في اليوم الواحد وليس في الشهر؛ ولذلك فسد هذا الولد وشرب الخمر، وتعرف على النساء وانحرف أيما انحراف، فكل مجالات الانحراف انحرفها. فلما استدعانا أبوه لنكلم الولد قلت له: أنا منذ أن رأيت هذا الولد لا يطمئن قلبي له ولا لك، قال: وهل آذاك أحدنا؟ قلت: أنت قد آذيت نفسك وآذيت أمتك، لما دخل عليه الولد وقال: أعطني مصروفي، فناوله الأب خمسين جنيهاً، -أنا قلت: ليتني ابنه- وإذا بالولد يقذف بالخمسين جنيهاً في وجه أبيه، فقلت له: لماذا يا بني عملت هذا؟ قال: أنا مصروفي مائتي جنيه. وكان من قبل أبوه يشكو لي ظروف الحياة، فقلت: ماذا تعمل؟ قال: أنا مدير بنك، قلت: تأخذ كم؟ قال: سبعة آلاف جنيه، فقلت: وتشتكي ظروف الحياة، والإخوة يعملون في المحلات في مقابل مائتين أو ثلاثمائة جنيه في الشهر، وابنك يأخذها مصروفاً في اليوم، قال: أنا مضطر أن أعطيه. وأعطاه مائة وخمسين جنيهاً، قلت: لا بأس أن تقبل يده من أجل أن ترضيه؛ لأنه ممكن أن يغضب، ويخرج غضبان، قال: إذا لم يأخذ مني مائتي جنيه فإنه سيأخذ السائق ويذهب معه إلى المصنع، وهناك يأخذ بالقوة ما يشاء من خزينة المصنع. انحرف الولد انحرافاً ما بعده انحراف، ومع هذا كان يتمتع بذكاء خارق، حتى كان أبوه يرسله إلى أعمامه وأخواله وإخوانه في أمريكا وأوروبا لوحده، وعنده من العمر ستة عشرة أو سبع عشرة سنة. فإذا بهذا الولد ينقلب بزاوية (180) درجة على والده وعلى والدته فيلقيهما أشد أنواع العذاب، حتى دعا عليه أبوه، وكان دائماً يدعو عليه لما كبر الولد صار الأب من فرط ما تأذى بولده يدعو عليه. وفي يوم من الأيام اتصلت به شرطة المرور من طريق الصحراوي وقالوا له: أنت فلان؟ قال: نعم، قالوا: وجدنا سائق سيارة مرسيدس نوعها كذا وموديلها كذا، قال: نعم، قالوا: ولك ابن اسمه كذا، قال: نعم، قالوا: تفضل استلمه فإنه مقتول في سيارته، وهذا فعلاً هو نهاية سوء التربية. قا

ذروة الإيمان وكماله

ذروة الإيمان وكماله قال: [وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذروة الإيمان أربع -يعني: كمال الإيمان وتمامه أربع- الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص والتوكل، والاستسلام للرب تبارك وتعالى. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: ثلاث من استكملهن فقد استكمل بهن الإيمان -أي: ثلاث خصال من واضب عليها وحققها كاملة فقد حقق الإيمان كله-: إنصاف المرء من نفسه]، من منا ينصف الناس من نفسه؟ بل كل الناس لهم الحق عند هذا الرجل من بعضهم البعض، أما إذا كان حق آحاد الناس عنده فلا حق له؛ ولذلك ينبغي إذا اتهم الإنسان الآخرين أن يكون لنفسه أشد اتهاماً، لا يزكي نفسه فالله تعالى أعلم بمن اتقى. قال: [إنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار -يعني: إنسان فقير محتاج ومع هذا يتصدق- وبذل السلام للعالم]؛ لأن هذا دليل المحبة، وسبب لانتشار الإيمان بين الناس، الذي يؤدي بدوره إلى دخول الجنة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، فإفشاء السلام للعالم يوازي قوله عليه الصلاة والسلام: (وألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف) أي: من المسلمين.

الجهاد في سبيل الله من شعب الإيمان

الجهاد في سبيل الله من شعب الإيمان قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بموعد الله كان شبعه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة)]، وهذا يدل على أن الجهاد من شعب الإيمان، فهذا إنسان حبس فرسه في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعد الله عز وجل، فإذا حازه وميزه وقال: هذا الفرس أنا أعده للجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا كانت نيته هكذا إيماناً بالله وتصديقاً بما عند الله من ثواب للمجاهدين، فإن روث هذا الفرس وبوله وطعامه وشرابه كله في ميزان صاحب الفرس، وكذا السيارة، فإنها لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتروث، فالله تبارك وتعالى قادر على أن يجعل لك من الثواب أعظم مما جعل لصاحب الفرس. وهذا مثل حديث: (من خرج من بيته إلى صلاة الجمعة فلا يرفع قدماً ولا يحط قدماً إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة) فمن خرج إلى صلاة الجمعة راكباً فله مثل ذلك، فإن الله تعالى قادر على أن يثيبك الأجر الذي يناسبك، ماشياً أو راكباً، والنبي عليه الصلاة والسلام ذهب للصلاة ماشياً وراكباً.

زيادة الإيمان ونقصانه عند الصحابة

زيادة الإيمان ونقصانه عند الصحابة أما قانون الصحابة في شعب وخصال الإيمان وإثبات أن الإيمان يزيد وينقص، فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: [هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله عز وجل]، يعني: يا معشر الصحابة! هلموا نجتمع فنذكر الله تعالى حتى نزداد بهذا الذكر إيماناً بالله، إذاً: الذكر سبب لزيادة الإيمان، لكن يكون الذكر على الطريقة السلفية، ليس على الطريقة الصوفية. قال: [وفي حديث علي: إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب]، يعني: نَكتة مثل النقطة، فاللمظة في اللغة هي النَكتة. قال: [كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة]، يعني: القلب تنكت فيه نكتة إيمان، ثم مع العمل تزداد هذه النكتة أو هذه اللمظة إيماناً، حتى يمتلئ القلب كله إيماناً، يعني: الإيمان بسبب ترك الأعمال يظل في نقصان، حتى لا يبقى منه في القلب شيء، ومع العمل واستمراره يزيد الإيمان حتى يطفح عن القلب ويسيل، فيكون في اللحم والدم والعظم والأحشاء وغيرها، فيمتلئ المرء كله إيماناً؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا في المنام، أن الناس يلبسون أثواباً فمنهم من بلغ ثوبه إلى ثديه، ومنهم من بلغ إلى سرته، ومنهم من بلغ إلى حقوه، ورأى عمر يجر ثوبه، يعني: رأى عمر مسبلاً ثوبه، فهذه رؤيا في المنام لا تفيد جواز الإسبال؛ ولذلك قال الصحابة: (فما أولتها يا رسول الله! قال: بالدين) وهذه رواية البخاري، والدين هو عبارة عن الإيمان والإحسان والإسلام، كما في حديث جبريل عليه السلام. فـ عمر رضي الله عنه قد بلغ في الديانة والإيمان والإسلام مبلغاً عظيماً حتى فاض عنه، فالإيمان في القلب يكون مثل ما لو أتيت بقدر مثلاً أو إناء من الأواني، فامتلأ بالماء حتى تسرب من الإناء. قال: [وعن علي قال: الطهور نصف الإيمان]، وهو الوضوء، وفي الحديث: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وهذا يدل على أن الوضوء شعبة من شعب الإيمان، فمع كل وضوء تزداد إيماناً، ويا حبذا لو أتيت بعد كل وضوء بركعتين. قال: [وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود في دعائه يقول: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً]، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد، اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً. قال: [وعنه قال: ينتهي الإيمان إلى الورع]، يعني: أعظم درجات الإيمان في الورع، والورع أنواع، وأعظم الورع ترك المباح، لكن من كان صدراً في الناس يشار إليه بالبنان أنت لو رأيت واحداً من عامة الناس يجري وراء الحافلة ويستمر يجري على أمل أن يدرك الحافلة ستقول: ما شاء الله، هذا الرجل عنده عزيمة وإصرار، الحافلة ذهبت ومع هذا هو مصر على أنه يدركها، فأنت تنظر إلى هذا الفعل من عامة الناس على أنه عمل جيد، ودليل على الفتوة وعلى قوة العزيمة والإصرار على إدراك المصلحة. لكن لو وجدت شيخاً قد ألقى محاضرة ثم هو يجري وراء الحافلة، فهذا العمل لا يليق بالرجل هذا، ستقول: كيف تجري وراء الحافلة وأنت شيخ وعالم؟ لماذا لا تركب تكسياً بجنيه؟ أما غير العالم فبالنسبة له هذا عمل مباح. مثل بعض الناس الذين يسبون الدين، فهم يقولون: الشيخ لا يسب الدين، فإن دين الشيخ غير ديننا، فهذا عيب على الشيخ، لا يصح منه ذلك. كذلك مثلاً عندما يدخل السينما، فإن أول شخص سينكر عليه هو الذي يقطع التذكرة، وصاحب السينما نفسه ممكن يعترض ويقول: أنت شيخ لا تدخل، وهذا عيب لا يصح، أما أنا فهذه تجارتي، وهذا عملي، إنما منك فهذا عيب لا يصح، هذا لا يستقيم مع أخلاقك ولا دينك، ومعنى هذا أن الناس تعرف منهجك، وتعرف الحلال والحرام، إنما الأمر من باب وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين. فهنا ينبغي للشيخ أو لطلاب العلم أن يتورعوا عن بعض أو كثير من المباح، وهذا أعلى درجات الورع. قال: [ومن خير الدين -أي: ومن أعظم الدين- ألا تزال تالياً باكياً]، يعني: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل وأنت باك، وهذا من أعظم شعب الإيمان. قال: [من ذكر الله ومن رضي بما أنزل الله من السماء أدخله الله الجنة إن شاء، ومن أراد الجنة لا شك فيها فلا يخاف في الله لومة لائم]، من أراد الجنة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فلا يخشى في الله لومة لائم؛ لأن أعظم ما يمكن أن يحققه من لوم اللائمين القتل. بمعنى: لو أراد أحد أن ينكر عليك وأنت تدعو إلى الله عز وجل، فإن أعظم ما يمكن أن ينزله بك هو القتل، وقبل ذلك السباب والشتم والتعذيب والضرب وغير ذلك، فأعظم درجة يوقعها أعداء الملة بك وأنت تدعو إلى الله هي القتل، فإن قتلت وأنت تدعو إلى الله عز وجل فهذا عين الشرف. أذكر منذ حوالي سبع أو ثمان سنوات ونحن في الحرم، مات رجل عالم من علماء الحرم بعد صلاة العصر وهو يلقي الدرس، فالفضائل التي اجتمعت على هذا الرجل، أنه رجل من أهل العلم والإيمان -نحسبه كذلك- وأتاه الموت وهو يلقي الدرس بعد صلاة العصر، وفي بيت الله الحرام، وهو صائم، وكان اليوم يوم جمعة، فهذه الم

التعرف على الله تعالى والإيمان به قبل تعلم القرآن

التعرف على الله تعالى والإيمان به قبل تعلم القرآن قال: [يقول جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -يعني: أشداء- فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن بعد فازددنا إيماناً)، وهذا نص عظيم جداً، أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن. وهذا يدل على وجوب التعرف على الله عز وجل أولاً قبل دراسة العلم، أو قبل القرآن الكريم؛ ولذلك الذي كان يأتي من أهل الشرك والكفر بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام كان يشهد الشهادتين بين يديه ويدخل في الإيمان، ثم بعد ذلك يتعلم الآيات القليلات من كتاب الله عز وجل فيزداد بها إيماناً. عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (ما كنا نجاوز العشر آيات من كتاب الله عز وجل حتى نتعلم ما فيها من حلال وحرام وأحكام وإيمان وغير ذلك، فإذا حفظنا ذلك وعملنا به حفظنا غيرها) أي: غير هذه العشر الآيات، كل هذا بعد أن اكتسبوا الإيمان بسبب صحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا فيه إثبات أن الإيمان يزيد وينقص؛ ولذلك لا يمكن قط أن يستوي إيمان عبد يحفظ كتاب الله عز وجل مع عبد لا يحفظ كتاب الله، لقول جندب وعبد الله بن عمر: ثم نتعلم كتاب الله فنزداد به إيماناً، وهذا يدل على أن من درس كتاب الله لا بد وأن يزداد به إيماناً، بخلاف العبد الذي لم يدرس كتاب الله عز وجل. قال: [وقال عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه -أمير مصر-: إن الرجل يتفضل بالإيمان كما يتفضل ثوب المرأة]، يعني: يزداد في إيمانه حتى يفضل عنه، يقصد أن الإيمان يزيد زيادة ملحوظة حتى يشمل ويعم جميع صاحبه ويزيد عنه، كما أن ثوب المرأة ينبغي أن يكون ساتراً وزائداً، كما في حديث أم سلمة لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إزرة المؤمن إلى منتصف الساق، فإن أبى ففوق الكعبين، فقالت أم سلمة: وإزرة النساء يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى الأرض -يعني: أن يبلغ ثوبها الأرض- قالت: يا رسول الله! إذاً ينكشفن) المرأة لما يكون ثوبها إلى الأرض ثم تركع أو تسجد ممكن تنكشف، فـ أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (إذاً ينكشفن يا رسول الله! قال: تزيد شبراً -وفي رواية- ترخي أو يرخين شبراً، قالت: إذاً ينكشفن يا رسول الله! قال: يرخين ذراعاً ولا يزدن عليه) معذرة في سياق الرواية أنا أتيت بها بالمعنى ولذلك زدت فيها. لما كانت أم سلمة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن ثوبها قال: (يرخين شبراً) لم يقل إلى الأرض، وإنما قال: يرخين شبراً تحت الكعب، فقالت: (إذاً ينكشفن) قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرخين ذراعاً لا يزدن عليه) يعني: لا يجوز أن تطيلي بعد هذا، هذا آخر حد المرأة، المرأة التي ترخي شبراً أو ذراعاً من ثوبها بعد كعبها لا شك أنه يجرجر خلفها، ويفيض على الأرض، فكذلك الإيمان يتفضل في العبد كما يتفضل ثوب المرأة، يعني: يزيد ويكون زائداً كما يزيد ثوب المرأة عن عادته.

حكم من قال بأن الإيمان هو التصديق فقط

حكم من قال بأن الإيمان هو التصديق فقط قال: [وقال حذيفة: إني لأعلم أهل دينين في النار]، يعني: أنا أعرف فرقتين في النار، وإن كانوا يدينون بدين واحد، ويزعمون أنهم مسلمون. قال: [يقولون: الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق]، يعني: يقولون: الإيمان تلفظ فقط، وهذا قول المرجئة، وغلاة الجهمية. فالمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، يعني: لو أن العبد صدق بقلبه يكون كفاية، لكن الجهمية يقولون: الإيمان هو الإقرار، يعني: لا بد أن يقر العبد بلسانه أنه مسلم، وكلاهما باطل. فيقولون: الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق وإن قتل، وهم يقولون: إن من كان قبلنا كانوا ضلالاً، وهذه الفرقة الثانية يزعمون أن الصلوات ليست خمساً وإنما هي اثنتان، واحدة في الصباح وواحدة في المساء، فالقائلون بهذا حوالي ثنتي عشرة فرقة من فرق الضلالة. والحقيقة ليست كل فرقة قالت هذا وإنما بعض الفرق الفرعية التي تشعبت عن الفرق الأصلية قالوا هذا؛ ولذلك هذا القول غير مشهور. لكن الصلاة أمر معلوم من دين الله بالضرورة، من حيث العدد أمر معلوم، فمثلاً: لو قال رجل: الظهر ثلاث ركعات، لا نقبل منه هذا الكلام، ولا يحل له أن يقول هذا، فأنت لما تسأل طفلاً صغيراً لم يبلغ الحلم: كم ركعات صلاة الظهر؟ يقول لك: أربع ركعات، ولما تقول له: والصبح كم ركعة؟ يقول لك: ركعتان وهكذا، فهو يريد أن يقول لك: إن عدد الصلوات والركعات من الأصول التي لا يقبل من أحد خلاف ما هو مجمع عليه، وما جاء في الكتاب والسنة فيها. وهناك شخص يقول بهذا القول وهو لا يخفى عليكم، وهو المعروف بـ إيهاب بن حسن السلفي الأسدي، فقد كتب كتاباً ينكر فيه دخول الجني في الإنسي، وأنا لما قرأت قليلاً من هذا الكتاب ما طقت، لأنه كلام ليس فيه روح العلم ولا نور العلم ولا إيمان أبداً، كلام من عند نفسه، لم يرجع فيه إلى أحد من أهل العلم، وقد رد عليه سماحة الشيخ ابن باز وسلخه سلخاً. فـ ابن باز قال بجواز دخول الجني في الإنسي، فقلت للذي أعطاني الكتب: أنا لا أستطيع قراءة هذا الكتاب، وأرجعه للحيوان هذا وأخبره أنه لا بد أن يبتلى في دينه؛ لأن هذه ضريبة الوقوع في أعراض أهل العلم، هذا ليس من عندي ولا أنا مكشوف عني الحجاب، لكنها سنة الله تعالى الكونية في الخلق، أن الذي يقع في أهل العلم لا بد أن يبتلى؛ لأن أهل العلم يقولون: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وما تعرض أحد لعالم بالثلب إلا ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فقلت له: سيبتلى، وفوجئنا بثنتي عشرة رسالة، منها: الرد على جهالة الألباني، والرد على سفالة الألباني، فكل عنوان رسالة، فيزين العنوان حتى أن الناس تقرؤه وتشتريه، وهكذا. ففي هذه الرسالة تضعيف ما صححه الألباني، وتصحيح ما ضعفه الألباني، فهذا لا يمكن أن يصدر من إنسان سوي محترم، فلم يكتب لهذه الكتب القبول، بل صبت اللعنات والسباب والشتائم على قائل هذه الكلمات، وما برح هذا الرجل أن مضى على طباعة هذه الكتب سنة أو سنتين إلا وسمعنا أنه يخطب في الناس ويقول: بأن الصلوات الخمس لم يثبت بها دليل، إنما هما صلاتان في الصباح والمساء، قلت: الحمد لله أنه وصل إلى هذه المرحلة، الحمد لله أنها جاءت منه، من أجل يأخذ الختم الأحمر ليس خسارة فيه. قال: [إني لأعلم أهل دينين في النار، يقولون: الإيمان كلام وإن زنا وقتل]، يعني: يقولون: الإيمان هذا عبارة عن إقرار، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يكون إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإن أتى جميع القبائح والنقائص، فهم لا يعدون العمل من الإيمان. قال: [وقوم آخرون يقولون: إن من كانوا قبلنا ضلالاً يزعمون أن الصلاة ليست خمساً وإنما هما صلاتان: صلاة العشاء وصلاة الفجر].

معنى زيادة الإيمان ونقصانه عند السلف

معنى زيادة الإيمان ونقصانه عند السلف قال: [وفي تفسير الزيادة والنقصان يقول عمير بن حبيب: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه]، وهذا يدل على أن العمل من الإيمان. قال ابن رواحة وابن عمر وابن مسعود ومعاذ وعمر وغيرهم: إن الزيادة هي ذكر الله تعالى، والنقصان ضد ذلك، وهذا قد ثبت عن غير واحد من السلف. أما أقوال التابعين فقال كعب: [من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وسمع وأطاع توسط الإيمان]، يعني: بلغ في الإيمان وسطه ونصفه. قال: [ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان]، فهذا يدل على أن الإيمان له أصل ووسط وكمال. أصل: وهو لا يمكن أن يقبل من عبد أن يأتي الله بغيره، وهناك فرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فالإيمان المطلق هو الكامل، ومطلق الإيمان هو أصل الإيمان، هذا لا بد أن يكون موجوداً مع كل إنسان مسلم. ولما قال الله تبارك وتعالى للأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، يعني: إسلام ليس معه أي إيمان لا يمكن أن يقبل منه؛ ولذلك لو قال إنسان بلسانه فقط دون أن يعتقد بقلبه ما يقول: آمنت بالله ورسوله، لو قالها بلسانه ولم يكن لها ظل في قلبه ولا رصيد في قلبه لا يقبل ذلك منه عند الله، وهو منافق؛ ولذلك قالها المنافقون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وقبلت منهم وعوملوا على أنهم مسلمون، ولم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه عرفهم بأعيانهم وأسمائهم وذواتهم، بل وأخبر بعض أصحابه بأعيانهم، ولذلك لما نصح عليه الصلاة والسلام أن يقتلهم حيث عرفهم، قال: لا، مخافة أن يتحدث الناس غداً أن محمداً يقتل أصحابه، صناديد الشرك يعرفون أن عبد الله بن أبي ابن سلول هو رأس المنافقين؛ لأنه لا تزال الصحبة بينه وبينهم قائمة، لكن لو أن النبي عليه الصلاة والسلام قتلهم فإن هؤلاء على الأقل سيقولون: ألم نقل لكم: إن محمداً يقتل المسلمين، فقد قتل عبد الله بن أبي ابن سلول، رغم أنه كان يصلي ويصوم ويجاهد معه، فما الداعي في قتله؟ ألم نخبركم من قبل أن محمداً يقتل أصحابه؟ إذاً: هذا باب من أبواب الصد عن دين الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل هؤلاء لأجل المصلحة العامة، وهي مصلحة الإسلام. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) والمعنى: أن نقض الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم هو الأولى، وهذا من المصلحة الشرعية، لكن المصلحة الخاصة هي ألا يقول المشركون والمنافقون والملحدون في زمانه: أرأيتم الكعبة معظمة ومشرفة قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ألم تكن معظمة عند أهل الجاهلية؟ هذا محمد بعدما سفه أحلامنا وجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً، رجع إلى الكعبة وهدمها، وأنتم تعرفون أنها معظمة ومشرفة. قال كعب: من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان. وقال: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) يعني: أنه إنسان خائن للأمانة دائماً يبقى معه أصل الإيمان الذي هو مطلق الإيمان، أما كمال الإيمان وتمامه فلا، حتى يكون أميناً، ويتعلم كيف يكون مؤتمناً على ما كلف بحفظه ورعايته، ففي الحالة هذه يزداد إيماناً. قال: [وقال الحسن في قوله تعالى: {َمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] قال: ما زادهم البلاء إلا إيماناً بالرب، وتسليماً للقضاء]. وبعض الناس ما زادهم البلاء إلا تسخطاً على الله عز وجل وعلى شرعه وقدره، أما أهل الإيمان فما زادهم البلاء إلا إيماناً بالله، لما ينزل على أحدهم البلاء يكون مثل الذهب الذي أدخل النار، فيصير خالصاً؛ ولذلك لا بد من الابتلاء. إذاً: القضية كلها متعلقة بك أنت وليس بالغير. أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

الأسئلة

الأسئلة

صفة توبة من سب الدين

صفة توبة من سب الدين Q من سب الدين فهذا كفر مخرج من الملة، فكيف الدخول في الملة مرة أخرى؟ A على أية حال السائل مصيب في هذا، وإن كان قد حدث عنده في الفهم لبس. سب الدين لا يختلف أحد أنه كفر؛ ولذلك نقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم الصارم المسلول في حكم سب الرسول، تعرض في المسألة الرابعة لسب الدين وقال: أجمع العلماء نقلاً عن ابن عيينة وسفيان الثوري على أن سب الدين كفر لا خلاف على ذلك. لكن الخلاف هو مناط البحث في الساب نفسه، هل يكفر بسبه للدين؟ إذاً: نريد أن نفرق بين القول وقائله، فالقول هو سب الدين وهو كفر بلا خلاف بين أهل العلم. أما القائل أي: الساب هل يكفر بهذا أم لا يكفر؟ هذا الذي وقع فيه الخلاف والاجتهاد، فبعضهم قال: يكفر، وبعضهم قال: لا يكفر إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع، فمن موانع إلحاق الكفر بقائل الكفر أن يكون ناقلاً لذلك عن الغير؛ ولذلك أهل العلم يقولون: ناقل الكفر ليس بكافر، كمن كلف بتوصيل أو نقل رسالة فيها كفر. وكمن قال: سمعت فلاناً يسب الدين، ويحكي قوله، أو أن القاضي يسأل الشاهد ويقول: ماذا سمعته يقول؟ فيقول: سمعته بأذني ورأته عيناي يسب الدين ويقول كذا وكذا، فهذا القول كفر لكنه ناقل له لا فاعل له على الحقيقة، هذا مانع من الموانع. المانع الثاني: أن يكون مجنوناً، إنسان مجنون سب الدين، ليس عليه حرج، وصبي لم يبلغ ولم يعرف خطورة الأمر ليس عليه حرج كذلك. والعجيب أنني سمعت امرأة شامية تدرس نساء فيما يتعلق بسب الدين وكان ذلك سنة 1983م، وتقول لهن: وكذلك من الموانع: امرأة حائض، هذا عذر، فهذا ليس عذراً. وقالت لهن: إن رفع الفستان قريباً من الركبة أمر جائز ليس حراماً، واستشهدت بقول الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44]. ومن الموانع كذلك عدم توجه القصد والإرادة، كمن يسب الدين وهو لم يقصد دين الله الذي نزل من السماء، إنما قصد بالدين أخلاق المسبوب وأفعاله، هذا لا يكفر، لكن يعزر لأنه أطلق السب على الدين. وكذا من توجهت إرادته لغير دين الله، فلو أن إنساناً سب الدين فقلنا له: ماذا تقصد؟ قال: أقصد دين الله الذي نزل من السماء على محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا يكفر، فالذي توجهت نيته وإرادته إلى سب دين الله والذي توجهت إرادته إلى سب أخلاق المسبوب لا يستويان في الحكم.

حكم منح المدير إجازات للموظفين من غير أيام الإجازة الرسمية

حكم منح المدير إجازات للموظفين من غير أيام الإجازة الرسمية Q أنا أعمل في إحدى الشركات وصاحب القرار في هذه الشركة هو المدير، فاجتهد المدير في أن يعطي لكل موظف في الشركة يوم راحة، وكأنه يقصد غير يوم الجمعة، فهل هذا يجوز له أم لا يجوز؟ A إذا كان قد خول من قبل الدولة في إدارة هذه الشركة، وأن الحكومة قد أعطته الحق في أن يدير هذه الشركة بما يجلب عليها المصلحة والنفع، ورأى هذا المدير أن المصلحة في أخذ يوم أو اثنين إجازة فلا حرج على الموظفين في قبول هذه الهدية.

الاستثناء في الإيمان

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الاستثناء في الإيمان اختلف السلف رحمهم الله في مسألة الاستثناء في الإيمان إلى مذاهب مختلفة، والصواب -كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية- هو التفصيل، وهو أنه إن صدر الاستثناء عن شك فهو حرام، وإن صدر تورعاً من العبد مخافة أن يزكي نفسه فهو واجب. والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، ولم يخالف في ذلك إلا المبتدعة كالمرجئة القائلين بحرمة الاستثناء في الإيمان.

سياق ما ذكر في وجوب الاستثناء في الإيمان

سياق ما ذكر في وجوب الاستثناء في الإيمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما ذُكر من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين من بعدهم، والعلماء الخالفين لهم في وجوب الاستثناء في الإيمان].

المذاهب في حكم من قال: (أنا مؤمن إن شاء الله)

المذاهب في حكم من قال: (أنا مؤمن إن شاء الله) جاء في الحديث: (من حلف فاستثنى -أي: في يمينه- لم يحنث) أي: لو قال رجل: والله لأفعلن كذا إن شاء الله فإن لم يفعل فلا حرج عليه ولا كفارة، لأنه علق الفعل على مشيئة الله عز وجل، فهل يجوز لمسلم أن يقول: أنا مؤمن بغير أن يعلق هذا الإيمان على مشيئة الله عز وجل، أي: بغير أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؟ هذه المسألة أخذت مآخذ وردوداً عند أهل العلم قديماً وحديثاً، وهذه القضية فيها أربعة مذاهب: المذهب الأول: وهو مذهب الأحناف قالوا بحرمة الاستثناء، أي: أنه لا يجوز عند الأحناف أن يقول المؤمن أو المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله، أو تعليق الإيمان على المشيئة، وهذا الحكم جرياً عندهم على أن الإيمان هو التصديق أو القول، وهذا هو مذهب الجهمية من قبلهم. فقالوا بحرمة الاستثناء، لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب، أو هو قول اللسان، ويقولون: هذا التصديق لا يتصور نزوله إلا إلى الكفر البواح، وأن التصديق عندهم لا يقبل الزيادة والنقصان، ولذلك هم يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن الإيمان عندهم تصديق، كما أن الإيمان عند الجهمية قول باللسان وقد قال، أي: قد نطق بالشهادتين وقال: أنا مؤمن بالكتاب والسنة وغير ذلك، فلا يتصور الرجوع عن هذا القول باللسان ولا ترك الاعتقاد القلبي أو التصديق عند المرجئة إلا من باب الشك. ولذلك يقولون: من استثنى في الإيمان فإنما مرده إلى الشك في إيمانه، ولذلك يسمون أهل السنة الذين يقولون بوجوب الاستثناء بأنهم شكاكون، وهذا المصطلح معروف في كتب الاعتقاد التي صنفها المرجئة والجهمية، لأن الإيمان عندهم تصديق وقول أو تصديق أو قول، وقد قالوا وقد صدقوا، فلا يشكون ولا يعلقون هذا الإيمان على مشيئة الله عز وجل، لأنه قد وقع منهم حقيقة، فلماذا يعلقونه إذاً؟ المذهب الثاني: وهو مذهب عامة السلف يقولون بوجوب الاستثناء، وهذا يعتبر مذهب مناقض للمذهب الأول، فالمذهب الأول يقول بحرمة الاستثناء، وهذا المذهب يقول بوجوب الاستثناء. وهذا المذهب اعتمد على اعتبارين: الاعتبار الأول: أن الإيمان هو ما يُختم به للمرء لا ما يحيا به، فالعبرة عند عامة السلف في الإيمان بما يُختم للعبد به، وهذا في المستقبل. فربما عاش العبد في إيمان فيما يبدو للناس وخُتم له بغير ذلك، كما في حديث عبد الله بن مسعود (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). فالأعمال بالخواتيم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، والإيمان عمل قلب وعمل جوارح، وإذا كانت هذه الأعمال بالخواتيم فإن الإيمان إنما يُحكم به للعبد إذا خُتم له بذلك، والعبد لا يعلم ذلك من نفسه؛ لأن هذا أمر سيكون في آخر حياته، فكيف يتعرف عليه العبد؟ فهم يقولون: لا بد أن يقول العبد: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: إن قدر لي ذلك في المستقبل وختم لي به، وإلا فأنا لا أعرف شيئاً. الاعتبار الثاني بهذا المذهب: هو أن عدم الاستثناء تزكية للنفس، وشهادة لها بأنها من الأتقياء الأبرار. فلو قال عبد: أنا مؤمن، فكأنه يقول: أنا من أهل الجنة، مع أن بعض الصحابة رضي الله عنهم رغم أنهم مبشرون بالجنة كانوا يخافون أشد الخوف على أنفسهم من النفاق في أعمالهم وأقوالهم، وقد ورد هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا يعني أنهم لا يأمنون مكر الله عز وجل، ولا يعرفون ما يُختم لهم به، ولذلك قال عامة السلف أن الاستثناء في الإيمان واجب من باب الهروب من تزكية المرء نفسه. وعلى العبد أن يأتي بجميع المأمورات وأن يكون قد ترك جميع المنهيات، وأن عبداً ما ليس في وسعه أن يفعل هذا كله، فالعبد الكامل الإيمان إنما هو الذي حقق المأمورات وترك المنهيات، ومن من الناس لم يقع في معصية؟ أو لم يترك أمراً أمر الله عز وجل به أو أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام؟ فإذا كان أحدنا فرط في الأمر أو اقترف النهي، فكيف يزعم أنه مؤمن كامل الإيمان حينئذ؟ إذاً: عندنا مذهبان: مذهب يقول بحرمة الاستثناء وهو مذهب المرجئة والجهمية. والمذهب الثاني وهو مذهب عامة السلف: القائل بوجوب الاستثناء تحقيقاً لمخافة الله عز وجل وخشيته، وهروباً من تزكية المرء نفسه، وكذلك هروباً من الشهادة لنفسه بأنه من الأتقياء الورعين المتقين. والمذهب الثالث: يذهب إلى التفصيل، فإن صدر الاستثناء عن شك في أصل الإيمان فهذا بلا شك حرام بل كفر. فعندما يسألك سائل: هل أنت مؤمن؟ تقول: أنا لا أعلم ذلك من نفسي هل أنا مؤمن أم لا وما معنى الإيمان؟ فإنه إذا صدر جوابه هذا من باب الشك في الإيمان وأصوله فلا شك أنه كافر. وإن صدر استثناؤه في الإيمان من باب التورع عن التزكية والشهادة فهو واجب مخافة الوقوع في التزكية وإثبات أنه من المتقين أو الأبرار أو من أهل الجنة. المذهب الرابع: هو التوقف واعتبار أن توجيه مثل هذه الأسئلة بدعة في الدين، ولذلك أنكرها كثير من السلف كالإمام

الأدلة على وجوب الاستثناء في الإيمان

الأدلة على وجوب الاستثناء في الإيمان أما الإمام اللالكائي فإنه رجح المذهب الثاني القائل بوجوب الاستثناء، فذكر من أدلة ذلك: [من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح:27]]، أي: أن الله تعالى علم أنه لا بد ولا محالة أنهم داخلون المسجد الحرام. قال: [وقوله تعالى كذلك: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]. وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] والمؤمنون يكونون في الجنة قال النبي عليه الصلاة والسلام حين دخل المقبرة: (إنا إن شاء الله بكم لاحقون)]، مع أنه لو قال: إنا بكم لاحقون لما أخطأ في ذلك، لأنه لا محالة سيموت الأحياء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فلماذا علق اللحوق بأصحاب القبور والموتى على المشيئة؟ مع أن ذلك لا بد أنه واقع. وروي عنه عليه الصلاة والسلام بسند ضعيف: (من تمام إيمان المرء استثناؤه في كل كلام) أي: تعليق كل كلام المرء على مشيئة الله عز وجل. وروي عن عمر وهو كذلك حديث ضعيف قال: من قال أنا مؤمن حقاً فهو كافر حقاً، وهذا كلام لم يثبت عنه رضي الله عنه.

القائلون من الصحابة والسلف بالاستثناء في الإيمان

القائلون من الصحابة والسلف بالاستثناء في الإيمان وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعائشة وابن أبي مليكة الاستثناء في الإيمان. قال ابن أبي مليكة: أدركت كذا وكذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات رجل منهم إلا وهو يخشى النفاق على نفسه. وابن أبي مليكة أدرك أكابر الصحابة. أما التابعون فمنهم طاوس والحسن ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وأبو البختري سعيد بن فيروز والضحاك والأعمش ومنصور وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وحمزة الزيات وعمارة بن القعقاع ومغيرة بن مقسم ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم ومحل بن خليفة. ومن الفقهاء كذلك ابن شبرمة ومعمر والثوري وابن عيينة وجرير وابن المبارك والقطان قالوا جميعاً: وما أدركت أحداً من أصحابنا وما بلغني عنه إلا الاستثناء. وكذلك عن أحمد وأبي عبيد وأبي ثور الاستثناء في الإيمان.

الاستثناء في الدعاء عند المقابر

الاستثناء في الدعاء عند المقابر قال: [وعن ابن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أتى على المقابر) أي: زار المقابر، وفي رواية سفيان: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا خرجنا إلى المقابر قال: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)]. الشاهد هنا: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فحينما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا محالة هو وجميع الخلق لاحقون بأهل القبور، فلماذا علق ذلك على المشيئة؟ قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقبرة فسلم على أهلها فقال: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). وعن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى البقيع فقال: سلام عليكم وإنا بكم لاحقون إن شاء الله، أسأل الله ألا يحرمنا أجركم ولا يفتنا بعدكم)].

عدم حصول الولد لسليمان عليه السلام لعدم استثنائه

عدم حصول الولد لسليمان عليه السلام لعدم استثنائه قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن نبي الله سليمان عليه السلام كان له ستون امرأة فقال: لأطوفن الليلة على النساء، وستحمل كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله، قال: فطاف على نسائه فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق إنسان، أي: إنساناً معيباً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله) وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحب -أي صاحب سليمان-: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)]، أي: لأتت كل امرأة بولد فارس يجاهد في سبيل الله عز وجل. والحديثان في الصحيحين.

استثناء النبي في إخباره أنه أتقى الخلق وأعرفهم بالله

استثناء النبي في إخباره أنه أتقى الخلق وأعرفهم بالله قال: [وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال: (يا رسول الله إني أُصبح جنباً وإني أريد الصيام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وإني أُصبح جنباً وإني أريد الصيام فأغتسل ثم أُصبح من ذلك صائماً، فقال الرجل: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقيه)] أي: بما أتقي من عذاب الله عز وجل، أو بمن أتقي أي: بالله عز وجل. فالنبي عليه الصلاة والسلام رد على هذا الرجل الذي يقول: أنا أُصبح جنباً وإني أريد الصيام، فماذا أصنع؟ أي: يؤذن الفجر ويدخل وقت الصبح وأنا جنب، وإني أريد الصيام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا السائل: وأنا يحدث لي مثل الذي يحدث معك، فأُصبح جنباً من جماع غير احتلام فأغتسل وأصلي الصبح، ثم أصوم ولا يمنعني هذا. قال: يا رسول الله! إنك لست كهيئتنا، أنت رجل قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت خير الخلق، وأنت أول من ينشق عنه القبر، وأنت الشافع المشفع، وأنت وأنت وظل يعدد من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، أي: أنت في غنى عما نحن فيه. وقصة الثلاثة الذين أتوا إلى بيته يسألونه عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالوها قالوا: إنما يلزمنا أن نجتهد في العبادة، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، أما نحن فنؤاخذ بذنوبنا، فنحن نحتاج إلى مزيد من الطاعة حتى تشفع لنا طاعتنا عند ربنا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا كنتم تقولون إنني أول من تنشق عنه الأرض وقد غفر الله لي وكذا وكذا وظللتم تعددوا من خصائصي ومناقبي، كأنه أراد أن يقول لهم هذا، فإن الذي قد حباه الله تعالى بهذه الخصائص إنما يلزمه أن يكون أخشى الناس لله وأتقاهم له، وإن العبد إنما يعبد ربه على نحو خوفه ورجائه في الله عز وجل، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الناس بالله فلا بد أنه أعلم الناس بما عنده من نار وبما عنده من جنة بما عنده من ثواب وبما عنده من عقاب، فالذي يعلم ما عند الله من خير وشر، من جنة ونار، من ثواب وعقاب أحق الناس بالعبادة، ولكن الفارق بين عبادة المذنب وعبادة غير المذنب أن عبادة غير المذنب إنما هي عبادة شاكر، أما عبادة المذنب فإنما هي عبادة مستغفر يرجو أن يغفر الله تعالى له ذنبه. ولذلك قال: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقيه) والحديث أخرجه مسلم.

استثناء النبي في ادخاره دعوته لأمته يوم القيامة

استثناء النبي في ادخاره دعوته لأمته يوم القيامة قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له)]، أي: كل نبي له دعوة واحدة مستجابة وهي الدعوة العامة التي تخص الأمة بأسرها، فكل نبي استنفد دعوته في أمته إلا نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [(وإني أريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)]، فلماذا قال: إن شاء الله مع أن الله تعالى خيره بين أن يدعو بدعوته أو أن يدخرها شفاعة لأمته في عرصات القيامة، فاختار اختياراً سبق وانتهى أمره وحسم بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي في عرصات القيامة) فلماذا حينما أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه ادخر دعوته علق ذلك على المشيئة؟ مع أن هذا قد مر وانتهى. قال: (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله) وهذا الشاهد (أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) والحديث كذلك أخرجه مسلم.

في ذكر صفات المؤمن والمسلم

في ذكر صفات المؤمن والمسلم قال: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خطب عمر رضي الله عنه الناس بالجابية وهي قرية بالشام فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا، أي: صعد المنبر فخطب الناس ووعظهم فكان فيما قال: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن). من سرته حسنته أي: من فرح بطاعته واغتم لذنبه، فهذا علامة إيمانه. وعن عامر الشعبي قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال له: أخبرني ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عبد الله: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)]. المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، مع أن تعريف الإسلام غير ذلك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يعالج أمراً عند السائل قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وذكر اللسان واليد على جهة الخصوص؛ لأن معظم الأذى إنما يقع بهما ومنهما، معظم الأذى يقع باليد التي تبطش وباللسان الذي ينم ويغتاب ويعير وغير ذلك فمن حفظ لسانه ويده فقد حقق كمال الإسلام الذي هو الاستسلام والخضوع لله عز وجل. والمهاجر عند الإطلاق يعني الذي يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، وأصل الهجرة كانت من مكة إلى المدينة، وهذه الهجرة منسوخة إلى يوم القيامة؛ لأن مكة دار إيمان إلى قيام الساعة، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه عرف المهاجر هنا بالتعريف العام للهجرة لا التعريف الخاص، فقال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وفي رواية قال: (المهاجر من هجر المعاصي) والمعنى واحد.

الحكم لمعين بالشهادة

الحكم لمعين بالشهادة قال: [وقال عمر رضي الله عنه: (لما كان يوم خيبر قُتل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة غلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) والحديث أخرجه مسلم]. إذا قلت لفلان إنه شهيد فكأنك تقول إنه من أهل الجنة؛ لأن الشهداء في الجنة، لكن الحرج أن تشهد لفلان بعينه أنه شهيد، فكأنك قلت: فلان بعينه من أهل الجنة، وأنت لا تعلم ما صنع. ولذلك حينما قُتل هذا الرجل في يوم خيبر، وأنتم تعلمون أن خيبر كانت بين اليهود وبين المؤمنين، وأن القتلى الذين يكونون في مثل هذه المعارك إما قتلى في معسكر الإيمان أو في معسكر الكفر، فأما من قتل في معسكر الكفر فهو في النار لا محالة؛ لأنه مات على الكفر، إلا أن يكون أخفى إسلامه، ولم يقاتل وإنما خرج قهراً أو قسراً وجبراً وأخفى إسلامه مخافة القتل، فهذا بلا شك على معصية في تكثير سواد المشركين، لكن إن دعته دواع للخروج لقتال معسكر الإيمان ولكنه لم يشارك حقيقة في القتال ومات بسيف الإيمان بسبب قتال معسكر الإيمان فهو من أهل الإيمان ومن أهل الإسلام. أما الذين يموتون من معسكر الإيمان فلا يقطع لهم بالشهادة، إنما نرجو الله أن يتقبلهم في الشهداء، أما القطع لهم بالشهادة حتى لو كانوا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فلا يجوز، ولذلك من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد الله تبارك وتعالى له في كتابه، أو شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته. ولذلك فالصحابة رضي الله عنهم إنما ساروا على الأصل الأصيل عندهم، وأن من مات في القتال مع العدو فهو شهيد، فساروا بين القتلى وهم يقولون: هذا فلان نعرفه كان في معسكرنا إنه شهيد، وهذا فلان كان في معسكرنا وإننا نعرفه هو فلان بن فلان فهو شهيد، لأنه قُتل في معركة بين المؤمنين والكفار فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا والله إني رأيته في النار في بردة غلها أو في عباءة غلها). والذي يحول بين العبد وبين الشهادة بردة أو عباءة أخذها من الغنيمة قبل توزيعها، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161]، ويحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل توزيعها؛ لأنه له فيها الخمس ولا شيء له بعد ذلك. فقال: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] حتى لو كان نبياً، والغلول كبيرة من الكبائر، ولا يمكن أن يقع النبي في كبيرة، ولكن الله تعالى ضرب هذا المثال لفظاعة الغلول، وأنه مهلك، وأنه حائل بين العبد وبين دخوله الجنة، ولذلك قال: (كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها أو في عباءة أو شملة غلها)، ولذلك حينما رأى الصحابة رضي الله عنهم رجلاً يقاتل قتالاً عنيفاً حتى أن هذا القتال أثار إعجابهم جميعاً قالوا: إن فلاناً يمشي بيننا وهو من أهل الجنة، كأنهم كانوا ينظرون إليه ويعجبون به أيما إعجاب، يظنون أنه من أهل الجنة، بسبب قتاله وقوته وشدته على العدو، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (والله يا رسول الله إنا لنرى فلاناً من أهل الجنة، فقال: وإني لأراه من أهل النار) أي: أنتم ترونه من أهل الجنة وأنا أراه من أهل النار، ففزع الصحابة أيما فزع لهذا، إذا كان هذا الرجل على قوة قتاله وتقدمه في صفوف الأعداء من أهل النار، فكأنهم قالوا: فما بالنا نحن؟ قال أحدهم: فتبعت هذا الرجل، فكلما أسرع أسرعت وكلما وقف وقفت أنظر ماذا يصنع؟ أي: ماذا يأتي من الأعمال التي تجعله من أهل النار لا من أهل الجنة، فقال: فأُصيب بسهم فلم يصبر عليه، فوضع ذبابة سيفه في بطنه فاتكأ عليه فخرج من ظهره فقتل نفسه، فذهب هذا الرجل مسرعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله أترى هذا الرجل الذي قلنا فيه إنه من أهل الجنة وقلت فيه إنه من أهل النار، لقد صنع في نفسه كيت وكيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الحمد لله أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فالأعمال بالخواتيم أسأل الله أن يحسن خاتمتنا جميعاً. فقال: (يا ابن الخطاب اذهب وناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون).

حكم الشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة

حكم الشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة قال: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الإرجاء بدعة، والشهادة بدعة]، أي: الشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة بدعة مخالفة لمعتقد السلف ومعتقد أهل السنة، والبراءة كذلك بدعة. قال: [ويقول ابن مسعود: من شهد على نفسه أنه مؤمن فليشهد أنه في الجنة]. هل يستطيع أحد منا أن يقطع لنفسه بأنه من أهل الجنة؟ والله لقد قطع رجل لنفسه بأنه من أهل الجنة فمات على الكفر البواح وارتد عن الدين تماماً، وصنف كتباً يسب فيها الإسلام. قطع لنفسه بالجنة فحول الله تعالى قلبه، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، والعكس بالعكس. والبراءة مختلف فيها، ولذلك يقول المحشي: البراءة المراد بها ما يفعله الخوارج مع بعضهم البعض ومع غيرهم إذا خالفهم في أمر فإنهم يتبرءون منه، ولا يكاد يخلو هذا الوصف في عقائد جميعهم. قال نافع بن الأزرق: والذي أحدثه البراءة من القعدة. وقال عن الأزارقة أنها لتتبرأ ممن تقدمها من سلفها من الخوارج، وهكذا تُذكر البراءة في مواطن من عقائدهم. وكأنه يريد أن يقول: إن ترك البراءة بدعة، أي: حينما يأتي إنسان فيسأل: هل أنت مسلم يا فلان؟ فيجيب: نعم، أنا مؤمن، والحمد لله، ثم يسأل: هل تبرأت من الكفر والطواغيت؟ فيقول: لا، هذا لا يلزمني كمن يأتي إلى أحد من أهل السنة فيقول له: هل أنت من أهل السنة؟ يقول: نعم إن شاء الله، هل تبرأت من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والقدرية وو؟ يقول: لا، أنا ليس لي علاقة بهؤلاء أبداً، لأنه ليس من معتقدي البراءة، إنما من معتقدي الولاء، فأنا أوالي الله ورسوله والمسلمين. كما يقال لرجل: من تعبد؟ يقول: الشيطان، فيقال: لماذا؟ قال: حتى أتجنب شره، أي حتى يكون بيني وبينه سلم ولا يكون هناك حرب بيني وبين الشيطان فأنا لا أعبده وإنما أراضيه، وبالتالي لا يوسوس لي ولا يتسلط علي ولا يفعل بي أي شيء! هذا الكلام كفر بواح. فكذلك أهل البدع لا يتبرءون من عقائد بعضهم البعض، ولكن أهل السنة يلزمهم في حسن إيمانهم وإسلامهم إثبات البراءة أولاً ثم إحلال الولاء محل هذا البراء، ولذلك لا يمكن أبداً أن يحقق العبد الإيمان لله عز وجل إلا بالكفر بالطواغيت فكيف تؤمن بالله والطواغيت في وقت واحد؟ لا يمكن أبداً أن يجتمعا في قلب عبد مؤمن. قال: [وقال علقمة: قال رجل عند عبد الله بن مسعود: أنا مؤمن أي: ولم يستثن، قال: قل: إني في الجنة]. عبد الله بن مسعود يسكته فيقول له: أنت تقول أنك مؤمن ولم تقل: إن شاء الله، ما دام الأمر كذلك فقل أنك في الجنة. ثم قال ابن مسعود: [ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر] إلى آخر فروع وأصول الإيمان. قال: [وعن أبي وائل قال رجل لـ عبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! لقيت ركباً فقلنا: من أنتم؟ قالوا: نحن المؤمنون. وقال أبو وائل: إن حائكاً -أي: خياطاً- من المرجئة بلغه قول عبد الله بن مسعود في الإيمان قال: زلة عالم]، وأنه يقول بوجوب الاستثناء، والمرجئة يقولون بحرمة الاستثناء، أي: أن المرجئ يقول: أنا مؤمن من غير أن يقول: إن شاء الله، وعامة السلف على وجوب الاستثناء مخافة التزكية، ومخافة أن يكون قد فرط في أمر أو ارتكب نهياً أو مخافة أن يُختم له بغير ذلك، وأن الإيمان أمر مستقبل، والعبرة فيه بالخواتيم، وهذا أمر لا يعلمه المرء حتى يموت، فكيف يقطع بالإيمان؟ ولذلك مذهب عامة السلف وجوب الاستثناء في الإيمان. فهذا المرجئ يقول بغير قول عامة السلف، حينما بلغه أن عبد الله بن مسعود استثنى قال: زلة عالم. خياط يعدل على عبد الله بن مسعود ولكنه يعلق بأدب، ويثبت أن ابن مسعود لا يفهم شيئاً، ولكن بأسلوب رقيق نوعاً ما فيقول: هذه زلة عالم خياط يعدل على سادس ستة في الإسلام صاحب النعل للنبي عليه الصلاة والسلام. أحد الخياطين من التابعين يقول عن عبد الله بن مسعود أحد أكابر المحدثين والفقهاء في الصحابة: زلة عالم، وقد أحسن حينما قال أنه عالم، ولكن أخطأ حينما قال أنه زل. وآخر يقول مثلاً: الشيخ ابن باز شيخ عالم وفاضل، ولكنه لم يوافق التوثيق أو خالف الصواب في هذه المسألة وإذا قلت له: الظهر كم ركعة؟ وما الأدلة على ذلك؟ والله لا يستطيع أن يجيب أن يجيب. قال: [وعن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وبكير الطائي وميسرة وأبو البختري فأجمعوا أن الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والولاية بدعة، والإرجاء بدعة]. الشاهد هنا أنهم اعتبروا أن الشهادة بدعة، وهي كذلك. ولذلك كثيراً ما نسمع الشهيد فلان والشهيد فلان وهذا الكلام لو عرضناه على كلام أهل العلم فإنه لا يصح.

حكم من لا يستثني في الإيمان عند السلف

حكم من لا يستثني في الإيمان عند السلف قال: [وقال جرير: سمعت منصور بن المعتمر والمغيرة بن مقسم والأعمش وليث بن أبي سليم وعمارة بن القعقاع وابن شبرمة والعلاء بن المسيب وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وحمزة بن حبيب الزيات ويزيد بن أبي زياد وسفيان الثوري وابن المبارك ومن أدركته يستثنون في الإيمان ويعيبون على من لا يستثني]. فالسلف يستثنون في الإيمان، إذا سئل أحدهم قال: أنا مؤمن إن شاء الله، ويعيبون على من قال: أنا مؤمن فقط ولم يستثن. قال: [وعن جرير بن عبد الحميد قال: كان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني. وعن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم النخعي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله]. أي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ ويمكن السؤال هذا يواجهك، وربما تظل محتاراً في الإجابة عن هذا السؤال بسبب اختلاف العلماء، ولكن قل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار والصراط وغير ذلك وبهذا تكون قد خرجت من الخلاف، فلا تقل: نعم أنا مؤمن، أو أنا مؤمن إن شاء الله. فعدد أصول الإيمان وقل: آمنت بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فإذا كنت مؤمناً بهذا كله فيكون جوابك من غير إن شاء الله، لأنك قاطع بأنك مؤمن بهذا كله، وهذه غيبيات وأنت قد آمنت بها، وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان في حديث جبريل وغيره بهذا حين سئل عن الإيمان؟ فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) فلو سئلت عن الإيمان فعدد أنك قد آمنت بأصول الإيمان، وأنت الآن مؤمن بالأعمال الموجبة لدخول الجنة، فأنت لم تزك نفسك بعمل، لأن هذا من أصول الإيمان، عليك أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره فأنت قد قررت بأنك آمنت بكذا وكذا وكذا ولم تزك نفسك بخلاف لو قال لك: أنت مؤمن؟ فقلت: نعم أنا مؤمن، مع أن الإيمان يستلزم فوق ما آمنت به غيباً أن تأتي به عملاً وأن تنتهي عنه تركاً، وهذا متعلق بالأوامر والنواهي بالواجبات والمحرمات، فهذا باب آخر غير الباب الغيبي الذي آمنت به. فلو أنك قلت: نعم أنا مؤمن، فكأنك تقول: أنا قد أتيت من الأعمال ما يستوجب على الله أن يدخلني الجنة، ولكن حينما تقول: أنا آمنت بالله وملائكته وكتبه فأنت هنا تقرر حالتك الإيمانية.

الإيمان والإسلام بين أهل السنة والمرجئة والجهمية

الإيمان والإسلام بين أهل السنة والمرجئة والجهمية درسنا كله متعلق بالإيمان، ولكن يعكر على ذلك تعريف المرجئة والجهمية للإيمان؛ لأن المرجئة والجهمية إنما يعرفونه بمطلق الإيمان لا الإيمان المطلق، وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان. وقلنا: إن مطلق الإيمان هو أصل الإيمان، وهي القاعدة التي لا يمكن أن تنزل ولا يتصور نزولها إلا إلى الكفر، وهو التصديق عند المرجئة والتلفظ عند الجهمية هذا تعريف مطلق الإيمان عند الجهمية والمرجئة. أما الإيمان عند أهل السنة فإنما يعني الإيمان المطلق الكامل، فالاستثناء في درسنا هذا متعلق عند أهل السنة بالإيمان المطلق، أما عند المرجئة والجهمية فإنه متعلق بمطلق الإيمان. وأنت لا يسعك إلا ما وسع السلف بصرف النظر عنهم، سواء كان سائلك جاهلاً أو عالماً: هل أنت مؤمن؟ قل: نعم أنا مؤمن إن شاء الله. وحديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أناساً ولم يعط آخرين، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وتركت فلاناً وهو مؤمن قال: أو مسلم؟ قال: بل مؤمن يا رسول الله! قال: أو مسلم؟ ثلاث مرات)، والمعلوم أن المسلم إن وقف عند حد الإسلام فمعه مطلق الإيمان، ومع هذا تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم عن مطلق الإيمان، لأن القصد في الإيمان: الإيمان المطلق، وحينما قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14]، والأعراب مسلمون، والمسلم معه أصل الإيمان وهو يسعه أن يدخل الإسلام بهذا الأصل، ومع هذا نفى الله تبارك وتعالى عنهم الإيمان {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14] هل النفي هنا يشمل أصل الإيمان أم الكمال؟ إذاً: يجوز أن أنفي الإيمان عن المرء ولكن هذا النفي ينصب على الإيمان الكامل التام، ويبقى معه أصل الإيمان؛ لأن الله تعالى نفى ذلك عن الأعراب، مع أنه لا يسعهم إلا المحافظة على أصل الإيمان، ومع هذا قال لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ} [الحجرات:14]، يدخل هنا بمعنى يزداد {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: حينما يزداد الإيمان في قلوبكم، و (لما) التي تفيد نفي الحصول في الماضي ولا تفيد نفيه في المستقبل، أي: أنه سيكون عندكم الإيمان الكامل في المستقبل، فالواحد حينما يسأل: هل أنت مؤمن؟ وهو يعلم أنه مؤمن وأنا أعرف أنه مؤمن، لأن هذا لا يسعنا أن ننزل عنه، وهو مطلق الإيمان، لأن المؤمن بغير هذا اليقين لا يصح منه حتى الإسلام، لكن النزاع في مطلق الإيمان، ولذلك فإن الذين يخالفون أهل السنة هم الجهمية والمرجئة، لأن الإيمان عندهم لا علاقة له بالزيادة ولا بالنقصان، إذاً: فالكلام كله متعلق بالإيمان الكامل. قال: [وقال حماد بن زيد قال: سمعت هشاماً وهو ابن حسان الأزدي يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم، ويهابان مؤمن]. إذاً: الحسن البصري قد حقق كمال الإيمان، وكذلك محمد بن سيرين، وهما من المنزلة بمكان في قلوب كل الموحدين، لكن لا نستطيع أن نقطع لهما بالجنة، فالجنة ليست ملكاً لأحد، فالذي يجعلك تقطع لفلاناً بالجنة يجعلك تقطع لفلان بالنار، فهل هذا شأنك؟ ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. قال: [وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق]. كمن يقول لك: في أي جماعة أنت؟ فقل: أنا مسلم. أو يقول لك: كل الناس هؤلاء مسلمون، ولكن من أي جماعة أنت؟ فقل: ولكني أنا مسلم، على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج السلف الصالح، وعلى ما فهمه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فاختصر هذا وقل: أنا سلفي. فحينما تقول: أنا سلفي، فعندها أنا سأعرف كيف تفكر. لأن المصطلح هذا يتناول عدة عناوين ورءوس أقلام ومعتقدات وقواعد، وسأفهم أنك على كل هذه الأصول والقواعد بكلمة واحدة وهي كلمة: سلفي، كما يقول آخر: أنا كذا. فنكون بهذه الكلمة الواحدة قد عرفنا منهجه كاملاً. والسلف كانوا يقولون للذي يسألهم عن الإيمان بأنهم قد آمنوا بالله وكتبه ورسله وما أُنزل على نبينا وعلى الأنبياء السابقين وهذا كلام جميل جداً، لأن هذا ليس سؤال عبد، فأنت حينما تقول: أنا مؤمن فتكون قد زكيت نفسك على ربك، فالمسألة متعلقة بالله عز وجل وليست متعلقة بالسائل. قال: [قال أبو أسامة: قال لي الثوري وأنا وهو في بيته مالنا ثالث ثلاثة: نحن مؤمنون والناس عندنا مؤمنون، ولم يكن هذا أفعال من مضى]. كأن الإمام الثوري يقول له: نحن مؤمنون والناس الذين عندنا أيضاً مؤمنون، لكن لا بد أن تعرف أن هذا ليس نهج سلفنا، إنما نهج سلفنا أنهم لا يقولون نحن مؤمنون إلا أن يستثنوا، و

مذهب المرجئة في الإيمان [1]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مذهب المرجئة في الإيمان [1] لقد تعددت الفرق في باب العقيدة وتنوعت، واختلفت فيما بينها اختلافاً كثيراً، واختطت كل فرقة لنفسها خطاً سلكته وسارت عليه، وتميزت به، ومن هذه الفرق المرجئة، فقد سلكت لنفسها طريقاً خاصاً بها في باب الإيمان بالله عز وجل، ثم إنها انقسمت على نفسها إلى فرق شتى، مبنية على المنهج الأساس، وكل هذه الفرق ضالة منحرفة، تتفاوت في درجة انحرافها بحسب ما عندها من تفصيلات، وقد حذر علماء الإسلام من هذه العقيدة وبينوا قبح لوازمها وفساد نتائج القول بها.

الإرجاء بين أهل السنة والمرجئة

الإرجاء بين أهل السنة والمرجئة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فقد ذكر الإمام اللالكائي الإرجاء باعتبار أنه بدعة وفرقة من الفرق الضالة، ولكنه قدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم، فذكر في الفصل الأول ذم الإرجاء وذكر من ذم الإرجاء، ثم عقب بباب لمدح من ترك الإرجاء، ثم ثلث بباب أول ظهور الإرجاء، وكان الحق أن يقدم الباب الثالث بدل الباب الأول. والإرجاء هو تأخير العمل عن الإيمان، ونحن قلنا في الدروس الماضية: إن العمل من الإيمان.

مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل من الإيمان

مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل من الإيمان وكثير من السلف في مصنفاتهم -وعلى رأسهم الإمام البخاري عليه رحمة الله، ومن قبله الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة- التي صنفوها في معتقد أهل السنة والجماعة قالوا: العمل من الإيمان، وكانوا يصدرون هذا الباب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون أو وستون شعبة -وفي رواية عند مسلم - أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، ثم يعقبون هذا بأبواب تتعلق بالعمل، وأنه من الإيمان، وذلك مثل: باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الحج من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب دفع الخمس من الإيمان. وكل هذه أعمال جوارح، وقد أطلق النبي عليه الصلاة والسلام عليها أنها من الإيمان كما أطلق القرآن كذلك على بعض الأعمال أنها من الإيمان، وأنها الإيمان ذاته.

تعريف الإيمان عند أهل السنة وعند المرجئة

تعريف الإيمان عند أهل السنة وعند المرجئة تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة مختلف عن تعريفه عند الفرق الضالة، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، وهو يزيد وينقص، بخلاف المرجئة الذين يقولون: الإيمان هو التصديق، ومنهم من قال: هو الإقرار، ومنهم من قال: هو العلم. فهذه تعريفات ثلاثة للإيمان عند أهل البدع، وليس يصح عند أهل السنة والجماعة تعريف منها. والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، أي: تصديق القلب، وهو متعلق بالقلب فقط، ولو لم يتلفظ به صاحبه أو يعمل بمقتضاه، وهم متفقون على أن العمل لا علاقة له بالإيمان، ولذلك يقولون: العمل يتأخر عن الإيمان، أي: لا علاقة له به، وبالتالي يستوي عندهم أطوع الناس لله عز وجل ولرسوله الكريم مع أعصى وأفسق الناس لله عز وجل ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، حتى قال قائلهم: يستوي إيمان أفسق الناس مع إيمان جبريل وميكائيل؛ لأن تفاضل الأعمال عنده لا علاقة له بالإيمان، بل الإيمان عنده هو التصديق، وقد صدق جبريل وميكائيل كما صدق هذا الفاسق الزنديق العاصي بأن الله تبارك وتعالى واجد وموجود وموجد، وأنه أرسل الرسل، وغير ذلك. فالإرجاء هو تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وهذه قضية عظيمة جداً، وهي تقريباً بيت القصيد في خلاف أهل العلم قديماً وحديثاً حتى في وقتنا الحاضر، فالذي يؤخر العمل عن الإيمان لا يفسق ولا يبدع ولا يكفر، حتى وإن كان ترك العمل كفراً فإنه لا يكفر تاركه؛ لأنه لا علاقة لهذا العمل بالإيمان أصلاً. قال الإمام البغدادي في كتابه العظيم الفرق بين الفرق: وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان.

أول ظهور الإرجاء وسببه والمقصود به

أول ظهور الإرجاء وسببه والمقصود به سبب ظهور الإرجاء أنه كان رد فعل لتكفير الخوارج للحكمين ولـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليس هو الإرجاء المتعلق بالإيمان، يعني: أن أول كلمة إرجاء ظهرت على الساحة كانت في القرن الأول الهجري، وأطلق هذا المصطلح على الحكمين وعلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، والحكمان هما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما اللذان انتخبا لفصل النزاع وفض الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فلما حصل ما حصل في شهادة الحكمين أرجأ أناس أمرهما إلى الله وعلى رأسهم الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، فـ الحسن لما سئل عن حكم الحكمين، أي: عن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري أرجأ أمرهما إلى الله عز وجل، وقال: أرجئ أمرهما إلى الله عز وجل، ومن هنا قيل لأول مرة: الإرجاء، أي: أن مذهب الحسن بن محمد بن الحنفية في الحكمين الإرجاء، أي: تأخير حكمهما حتى يحاكمهما الله عز وجل. فالإرجاء الذي تقدم به الحسن بن الحنفية لم يكن له أدنى علاقة بالإيمان، وليس هو الإرجاء الاصطلاحي الذي ظهر بعد ذلك، وإنما كان عبارة عن تأخير الحكم على الحكمين حتى يحكم الله عز وجل فيهما. والناظر إلى هذا الكلام لا يمكن أن يقول: إن هذا هو الإرجاء المذموم، بل هو الإرجاء اللغوي، أي: تأخير الحكم على هذين حتى يحكم الله عز وجل فيهما، وأما مصطلح الإرجاء فقد ظهر بعد ذلك واتخذ شكلاً آخر سياسياً، ثم شكلاً آخر شرعياً، وصار له أصوله وقواعده وأتباعه وجماعته وفرقته، ثم استقر مصطلح الإرجاء بعد ذلك على ما يسمى بتأخير العمل عن مسمى الإيمان، وأن العمل لا علاقة له بالإيمان وليس داخلاً فيه. قال: فإن أول من تكلم في الإرجاء لم يكن كلامه إلا في إرجاء أمر المتقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل، وأول من تكلم في الإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى عام (99هـ)، وقد ذكر ذلك كل من ترجم له، فقال ابن سعد في كتابه الطبقات في ترجمة ابن الحنفية: وهو أول من تكلم في الإرجاء، ويذكر كذلك أن زادان وميسرة دخلا عليه، فلاماه على الكتاب الذي وضعه في الإرجاء، يعني: أن الحسن بن محمد بن الحنفية كتب كتاباً في الإرجاء، وعاب عليه زادان وميسرة لما دخلا عليه أن يكتب كتاباً في الإرجاء، فقال ابن الحنفية لـ زادان: يا أبا عمر! لوددت أني كنت مت ولم أكتبه. ويبدو من كلامه هذا أنه تكلم في الإرجاء الاصطلاحي ولم يكن الأمر كذلك، وإنما تكلم فيه عن إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة الشيخين أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل. وهذا المعنى أكده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه تهذيب التهذيب، فقال: وقد اطلعت على هذا الكتاب، والمراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه هو غير الإرجاء المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة، فهذا إرجاء وذاك إرجاء آخر؛ وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، وأخرجه ابن أبي عمر في كتاب الإيمان له، وقال في آخره: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس -يعني: الحسن عندما صنف هذا الكتاب في الإرجاء كان يأمر عبد الواحد بن أيمن أن يقرأه على الناس- وقال فيه: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، وذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية بكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله. إلى آخر الكلام. وهذا محل الشاهد، فقد قال: نوالي ونحب أبا بكر وعمر؛ لأن الأمة أجمعت عليهما، ولم يخالف في ذلك إلا الشذاذ من الشيعة وغيرهم، وأما عثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص وما وقع من فتنة ومن هرج وقتل وإراقة للدماء وغير ذلك فلا نتكلم فيها، بل نكل أمرها إلى الله عز وجل يفصل فيها بما يشاء. وبلا شك فإن هذا هو الإرجاء اللغوي وليس الإرجاء الاصطلاحي المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة والجماعة، والذي مفاده تأخير العمل عن مسمى الإيمان. قال: فهذا هو الإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن محمد، وقد أكد

اختلاف الفرق في حكم مرتكب الكبيرة

اختلاف الفرق في حكم مرتكب الكبيرة يقول الشهرستاني في بدعة واصل بن عطاء المعتزلي: دخل واصل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج عن الملة، وهؤلاء هم وعيدية الخوارج، -يعني: الذين يأخذون بالوعيد ولا يعتبرون الوعد- وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، يعني: يؤخرون الحكم على صاحب الكبيرة ولا يحكمون عليه بشيء ألبتة، لا بالفسق ولا بالكفر ولا بالإيمان. والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، يعني: لو قال الإنسان: أنا مؤمن وارتكب جميع الكبائر إلا الشرك فإن هذه الكبائر كلها لا تضر الإيمان؛ لأن العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الإيمان، فكيف تحكم لنا في ذلك يا إمام الدين؟! أي: فكيف تحكم على هؤلاء؟ أو ما هو الحكم الصحيح الصواب في مثل هذا المعتقد؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا مؤمن ولا كافر. وأما المرجئة فهم يقولون: صاحب الكبائر مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن العمل لا علاقة له به، وسواء كان عملاً صالحاً أو عملاً سيئاً، ولذلك يستوي عندهم صاحب المعصية مع صحاب الطاعة، بل المطيع دوماً يستوي عندهم مع العاصي دوماً؛ لإخراجهم العمل عن مسمى الإيمان، وأنه لا علاقة له به.

الاختلاف في تعريف الإرجاء

الاختلاف في تعريف الإرجاء قال ابن الجوزي: المرجئة لقبوا بذلك لأنهم يرجئون العمل عن النية، أي: يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، أو أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وقد عرف الإرجاء بتعريفات عدة، الأول: إن الإرجاء هو التأخير، كما قال الله تعالى: {قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ} [الأعراف:111]، أي: أخره وأمهله. والتعريف الثاني: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، هذا باعتبار إعطاء الرجال، فقد كانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء في ثواب الله، يعني: لا يقنطونه من رحمة الله، ومهما ارتكب من المعاصي فإنهم يبشرونه بأن الله سيغفر له. وقيل: الإرجاء هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة. وهذا تعريف ثالث للإرجاء فلا يحكمون على صاحب الكبيرة ولا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه مثلاً من أهل الجنة أو من أهل النار. وعلى هذا فالمرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان، فالمرجئة يقولون: لا تضره كبيرته، والوعيدية -أي: الخوارج- يقولون: هو كافر يخلد بكبيرته في النار. وقيل: الإرجاء هو تأخير علي بن أبي طالب عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. وعلى هذا فالمرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان، فالمرجئة يقولون: علي بن أبي طالب يؤخر إلى المرتبة الرابعة، والشيعة يقولون: هو مقدم على أبي بكر وعمر، بل من الشيعة من جعل علي بن أبي طالب في مرتبة النبوة، ومنهم من جعله في مرتبة الإلهية، وهم السبئية عليهم لعنة الله.

فرق المرجئة وأصنافهم

فرق المرجئة وأصنافهم المرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة. قال ابن الجوزي: وفرق المرجئة خمس، ومنهم من جعلها سبعاً، ومنهم من جعلها عشراً، ومنهم من جعلها ثنتي عشرة، ومنهم من جعلها خمس عشرة فرقة، وهذا لا يضر؛ لأن الذي زاد إنما قسم الفرقة الواحدة إلى أقسام متعددة باعتبار الخلافات الداخلية التي حصلت في كل فرقة على حدة.

من فرق المرجئة اليونسية

من فرق المرجئة اليونسية أول فرق المرجئة: اليونسية، وهم أصحاب يونس النميري، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى، ولا شك أن أعرف الخلق بالله عز وجل هو أول الخلق، وهو إبليس، فهو أعرف الخلق بالله، وأعلم الخلق بقدر الله عز وجل، ولكنه عصى وطغى وبغى. ومن يسمع هذا الكلام يظن أنه كلام مستقيم ومتزن، فهم يقولون: الإيمان هو المعرفة، أي: هو معرفة الله عز وجل، ولكن هذا التعريف غير كاف؛ لأن من الكفار من يعرف الله تعالى، فمجرد المعرفة بالله عز وجل لا يثبت بها الإيمان لصاحبها، وإلا لكان إبليس من أوائل المؤمنين. ويقولون: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى والخضوع له والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن، ولا يضر معها ترك الطاعات وارتكاب المعاصي، بل ولا يعاقب عليها صاحبها، يعني: لو أن العبد عرف الله تعالى وأحبه وخضع له وذل فإن أتى بعد ذلك بجميع المعاصي فإنه لا يعاقب عليها. وهذا كلام كله ضلال؛ لأن إبليس كان عارفاً بالله تعالى، والمرجئة لم يكفروا إبليس لكفره بالله عز وجل، وإنما كفروه لاستكباره وترك الخضوع لله تعالى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. هذه الفرقة الأولى، وكلامها كله تخبيط وخلط.

من فرق المرجئة العبيدية

من فرق المرجئة العبيدية الفرقة الثانية من فرق المرجئة: العبيدية، وهم أصحاب عبيد المكتب، وهؤلاء قالوا بنفس مقولة اليونسية، وزادوا عليها أن علم الله تعالى لم يزل شيئاً غير ذاته، وكذلك باقي صفات المولى تبارك وتعالى، وهذا كلام يخالف كلام أهل السنة.

تشبيه العبيدية للخالق بالمخلوق والرد على أدلتهم

تشبيه العبيدية للخالق بالمخلوق والرد على أدلتهم قالت العبيدية: إن الله تعالى على صورة إنسان، يعني: قالوا: إن الله تعالى إنسان، وعلى صورة إنسان، ولكنه أجمل وألطف وأطيب وأطهر من الإنسان، وهذا بلا شك تمثيل في غاية القبح، واستندوا في هذا الكفر الذي أتوا به إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وهذا الحديث في الصحيحين، وفي رواية خارج الصحيحين: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن). وهذا حديث مشكل، وبعض أهل العلم ضعف رواية الرحمن، ولكن الصحيح من مذاهب المحدثين أن الحديثين صحيحان. فقوله: (إن الله خلق آدم على صورته) أخرجه الشيخان، ومناسبته: أن معاوية بن الحكم السلمي لطم جاريته، ثم ذهب يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن كفارة ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تضرب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته)، فقال بعض أهل العلم: الضمير في قوله: (صورته) يعود على وجه المضروب، وربما يكون الأمر كذلك، ولكن الرواية الأخرى: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) يعكر هذا التفسير، وقال المحققون من أهل السنة: إن الله تعالى له ذات وله صورة، وإن العبد له ذات وله صورة، فيكون التقدير: لا تضرب الوجه؛ فإن الله تعالى خلق هذا الوجه وصوره في صورة بمشيئته وقدرته، كما أن لله تعالى صورة تليق بجلاله وكماله. إطلاق لفظ الصورة على الله عز وجل أمر اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وليس إثبات الصورة لله عز وجل يساوي إثبات الصورة للعبد، كما أن إثبات الصورة للعبد لا تعني بذلك أنه شبيه ومثيل لله عز وجل في صورته.

قاعدة في اللفظ المجرد واللفظ المطلق وتطبيقها في مسألة الصفات

قاعدة في اللفظ المجرد واللفظ المطلق وتطبيقها في مسألة الصفات اللفظ المجرد دائماً يراد به المعنى المطلق المتبادر إلى الأذهان، بخلاف ما لو قيد هذا اللفظ المطلق، فإذا قلت: يد، تبادر إلى ذهن المستمع يد الإنسان، ولكنه لا يتصور أنها يد محمد أو يد إبراهيم أو يد زيد أو يد عمرو؛ لأن هذه الكلمة مفردة مطلقة غير مقيدة، ولكن لو قلت: يد الله فقد أضفت اليد لله عز وجل، وعند إطلاق هذه اليد مقيدة ومضافة لله عز وجل لا يمكن قط أن يخطر ببال وعقل إنسان تصور ولا تمثل لهذه اليد؛ لأنها يد الإله تبارك وتعالى، وكما خفيت ذاته تبارك وتعالى عن أفهام خلقه فكذلك لابد أن تخفى صفاته عن أفهام خلقه، وإذا قلنا: يد محمد تصورنا يد محمد، ولو قلنا: ضرب عمرو زيداً بيده لم نجد عناء في تصور اليد وتصور الضرب، لأن يد عمرو يد مخلوقة يستوي معها كثير من أيدي المخلوقين، وأما لو قلت: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فهذا فيه إضافة اليد لله عز وجل، ولا يمكن أن نتصور يد الله عز وجل، ولكن هناك قدر مشترك، فإن لله يداً ولمحمد يداً، فالقدر المشترك أن لكل منهما يداً، ولكن عند الإضافة لابد أن تختلف يد الله عن يد محمد، ولذلك لو قلنا: يد فقط لشردت الأذهان إلى تصور اليد وتمثيلها وتكييفها، ولو أضفنا هذه اليد إلى الله فإن الأذهان تتوقف تماماً ولا تخوض في الكيفية، ويحرم عليها التصوير والتمثيل، ولابد أن نثبت أن ليد الله تبارك وتعالى صورة لا يعلمها إلا الله، أما يد محمد فأنا أتصورها وأكيفها وأمثلها وأصورها، فالصورة في اللغة هي الذات المتصفة بالصفات. والحق تبارك وتعالى له ذات وله صفات، وآدم له ذات وله صفات، واللغة عند تجردها تكون عامة في الاستخدام بين الله وبين الخلق، مثلما لو قلت: عين مطلقة ومجردة ومفردة، فهي في اللغة تعني: العين الباصرة التي يبصر بها المرء، وتعني: الفهم أحياناً، وتعني: الجاسوس والمخبر، وتعني: العين التي ينبع منها الماء، فكل هذه يطلق عليها عين عند التجرد، وأما لو أضفت هذه الكلمة فقلت: عين محمد فيكون المقصود بالعين هنا عين محمد، ولو قلت: عين الله كما في قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فالضمير في (عيني) يعود على عين الله، ولا يستطيع أحد أن يصف عين الله؛ لأنه لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل. فاللغة عند تجردها عامة الاستخدام بين الله وبين الخلق. فلما قال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته) أي: في القدر المشترك؛ لأن هذه الألفاظ متجردة عن الإضافة، وصورة آدم بينها وبين الحق تبارك وتعالى ما دل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وصفة اليد عند التجرد صالحة للاستخدام في حق الله وحق آدم، ولكنها لو أضيفت إلى الله فليست هي يد آدم، ولو أضيفت إلى آدم فليست هي يد الله.

القدر المشترك والقدر الفارق بين الموصوفات

القدر المشترك والقدر الفارق بين الموصوفات قال ابن تيمية عليه رحمة الله: ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق، وهذا القدر المشترك يكون عند التجرد والإفراد، مثل لو قلت: يد، فهي عند الإطلاق تصدق على يد الله وعلى يد آدم، وأما عند التقييد والإضافة مثل قولنا: يد الله فهذه الإضافة تخرج يد آدم، ولو قلنا: يد آدم فإنه يخرج منها يد الله عز وجل. فالقدر المشترك بين يد الله ويد آدم هو الاسم فقط، والقدر الفارق أن يد الله تختلف عن يد آدم. وهذا حتى في الفاكهة ففي الجنة تفاح ورمان وزيتون، والتفاح والزيتون والرمان الذي في الجنة لا يشترك مع التفاح والزيتون والرمان الموجود في الدنيا والذي نأكله نحن الآن إلا في الأسماء، فالذي في الجنة غير الذي في الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا يدل على أن الاشتراك بينهما في الاسم فقط، وأما الكنه والكيفية فتختلف تماماً، ففاكهة الدنيا وإن اشتركت مع فاكهة الآخرة ونعيم الجنة في الاسم إلا أنها تختلف عنها في الكيفية، ومن باب أولى أن تختلف الأوصاف المخلوقة في الدنيا مع أوصاف الخالق تبارك وتعالى، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وهذا القدر المشترك يكون في الاسم، والقدر الفارق يكون في الأوصاف والكيفيات. يقول ابن تيمية: فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، فالمعطلة والجهمية قالوا: لو أثبتنا لله يداً وعيناً ورجلاً وغير ذلك فسيكون في النهاية إنساناً، ولذلك نفوا جميع الصفات، والنفي بمعنى التعطيل، أي: عطلوا الخالق تبارك وتعالى عن صفاته، فقالوا: هو ذات بغير صفات، مع أنه لا يمكن تصور ذات بغير صفات خاصة، والله تبارك وتعالى قد وصف نفسه ووصفه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بصفات عديدة. فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل، يعني: لا نقول: إن يدي كيد الله تبارك وتعالى، وعيني كعين الله تبارك وتعالى، فهذا تمثيل. وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية كلام ممتع ورائع جداً، وقل أن تجده في كتاب أو تسمعه من عالم إلا إذا كان قد أتى بعده واستفاد منه، فهو يقول: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل. فلو علمت هذه القاعدة وعرفت معناها فستكون إن شاء الله عصمة لك في كل أسماء وصفات الباري تبارك وتعالى.

الرد على من قدر عود الضمير على آدم في حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)

الرد على من قدر عود الضمير على آدم في حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) من قدر عود الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (صورته) على آدم تقديره مردود من ناحيتين، الأولى: لأن المعنى يكون حينئذ: إن الله خلق آدم على صورة آدم. وهو كلام غير بليغ ولا فصيح، ولا يليق بكلام النبوة ولا بالنبي الذي أوتي جوامع الكلم. الثاني: أن هذا التقدير لا يبين القدر المشترك والقدر الفارق للصورة، والذي تقدم بسطه آنفاً. والذين استبشعوا لفظ صورة الرحمن قالوا: لأنه يلزم من هذا تشبيه الله بخلقه، وليس الأمر كذلك، ولا يضرهم أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يليق بجلاله وكماله سبحانه، وتنزيه الله تعالى لا يكون بسلب ونفي صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال كما أراد سبحانه، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]. وإن التنزيه حق التنزيه إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى درجات الكمال؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به إلا الله عز وجل وحده. هذا وإنه ليترجح لدينا مع قلة البضاعة وفقدان الصناعة صحة الحديث بلفظيه، أي: على صورته، وصورة الرحمن، وأن الضمير في اللفظ الأول محمول على التصريح في اللفظ الثاني على أصول السلف في صفات الباري تبارك وتعالى.

تابع: فرق المرجئة وأصنافهم

تابع: فرق المرجئة وأصنافهم

من فرق المرجئة الغسانية

من فرق المرجئة الغسانية الفرقة الثالثة من فرق المرجئة هي: الغسانية، وهم أصحاب غسان الكوفي، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة، ولكنهم زادوا فقالوا: المعرفة بالله وبرسوله إجمالاً لا تفصيلاً. وهذا الكلام في منتهى الخطورة، ودائماً كلام أهل البدع كلام مجمل؛ حتى لا ينتبه له من لا حظ له من العلم. والإجمال مثل أن يقول العبد: قد فرض الله الحج، ولكن لا أدري أين الكعبة، فأنا مؤمن بأن الله تعالى فرض علي الحج، ولكن كيف أحج؟ وأنا مؤمن أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، ولكني لا أدري أين الكعبة، فلعلها التي في مكة، ولعلها غير التي في مكة، وأعلم أن الله تعالى حرم الخنزير، ولكني لا أعرف الخنزير، فربما يكون هو هذه الدابة أو هذه الشاة أو غيرها، وأعلم أن الله تعالى حرم الخمر، ولكني لا أعرف الخمر التي حرمها الله عز وجل، يعني: أنه يقر بالأصول وينكرها في نفس التوقيت، وهذا تلاعب. والقائل بهذه المقالات عندهم مؤمن، ومقصوده بما ذكره أن هذه الأمور ليست داخلة في حقيقة الإيمان، وإلا فهذه الأمور لا يشك فيها عاقل. والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان إنكار أصول الإسلام وثوابت الإيمان عندهم هو تمام الإيمان فكيف يتصور نقصانه وزيادته؟

من فرق المرجئة الثوبانية

من فرق المرجئة الثوبانية الفرقة الرابعة: الثوبانية، وهم أصحاب أبي ثوبان المرجئ، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسوله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله، وما جاز في العقل أن يفعله فليس اعتقاده من الإيمان. وقولهم: الإيمان هو الإقرار والمعرفة بالله وبرسوله هذا الكلام لا بأس به، ولكن قولهم: وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله الله ولا أن يفعله الرسول غير مقبول؛ إذ إن مرد الإيمان عندهم إلى العقل، فما تصوره العقل في حق الله وفي حق الرسول عليه الصلاة والسلام فهو من الإيمان، وما لا يمكن أن يتصوره العقل في حق الله ولا في حق الرسول فليس من الإيمان، فجعلوا العقل حاكماً على الله وعلى رسوله، حتى في الأمور الغيبية. وقال لي شخص من المرجئة سنة (1983م): أنا لا أتصور أن الله تعالى خلق السماوات في يومين والأرض في يومين، ولا أتصور أن الله خلق جميع الخلق وقدر السماوات والأرض والأقوات والمخلوقات في ستة أيام، ونازع وأصر أن الله على فرض أنه فعل ذلك فلابد أن يكون يوم الجمعة هو يوم راحته، مع أن القرآن نفى أن الله يكل أو يمل أو يتعب نفياً صريحاً أكيداً، ولكنه أصر على هذا الكفر والعناد. قالت الثوبانية: إن الإيمان هو: أن نؤمن بكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله -أي: أن يفعله الله ورسوله- وما جاز في العقل أن يفعله ليس اعتقاده من الإيمان. ومن أصول المعتزلة الأصيلة تقديم العقل على النقل، ومعنى تقديم العقل على النقل: أن التحسين والتقبيح راجعان إلى العقل، فالذي يحسن ويقبح هو العقل عند المعتزلة، وهو كذلك عند هذه الفرقة الضالة الثوبانية. أما التحسين والتقبيح عند أهل السنة فإنه يستند إلى الشرع، والشرع عبارة عن الكتاب والسنة، والتحسين والتقبيح في الشرع مداره على النقل، فما قضى النقل بأنه قبيح يكون قبيحاً، وما قضى النقل بأنه حسن يكون حسناً.

دليل المعتزلة على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين والرد عليهم في ذلك

دليل المعتزلة على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين والرد عليهم في ذلك استدل المعتزلة على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين بحديث عبد الله بن مسعود: (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو قبيح)، وهو حديث ضعيف، قالوا فلم يقل: ما قضى الله ورسوله أنه قبيح يكون قبيحاً، وما قضى الله ورسوله أنه حسن يكون حسناً، وإنما قال: (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن)، وفي رواية: (ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح). وهذه شبهة المعتزلة، فهم يستدلون بهذا الحديث، ويهتمون ببيان صحته وثبوته، ولو افترضنا أن الحديث صحيح فمعناه ما رآى المسلمون اجتهاداً منهم أنه حسن، فيكون الحكم على الشيء بأنه حسن موافق للشرع، ولا يكون هذا إلا باجتهاد المجتهدين. ومعنى المؤمنون في الحديث أي: المجتهدون من أهل العلم، فما أجمع عليه العلماء أنه حسن فهو حسن، فيكون حسناً بتحسين الشرع. وقد أجمع العلماء على تحسين الصلاة، وأنها من الأعمال الحسنة الطيبة، وإجماعهم على تحسين الصلاة وأنها من العمل الحسن الطيب المبارك مرده إلى الشرع. وأجمعوا على قبح شرب الخمر، وهذا الإجماع مرده إلى الشرع. إذاً: فما رأى المسلمون باجتهادهم وإجماعهم أنه حسن بتحسين الشرع له فهو عند الله حسن، وما رأى المسلمون المؤمنون المجتهدون العالمون أنه قبيح بتقبيح الشرع له فهو عند الله قبيح. فمدار الحسن والقبح عند أهل السنة والجماعة على النقل لا على العقل خلافاً للمعتزلة، وبذلك تزول شبهة المعتزلة حول حديث ابن مسعود، وللشيخ الألباني بحث طيب جداً في هذا في السلسلة الصحيحة بإمكانك أن ترجع إليه.

مشابهة عقائد الثوبانية لعقائد المعتزلة

مشابهة عقائد الثوبانية لعقائد المعتزلة قال: والثوبانية يرون تأخير العمل كله عن الإيمان، يعني: أنه لا علاقة للعمل قط بالإيمان، لا عمل القلب ولا عمل اللسان ولا عمل الجوارح؛ لأن العمل عندهم خارج عن مسمى وماهية الإيمان، واتفقوا على أنه تعالى لو عفا يوم القيامة عن عاص فلابد أن يعفو عن كل من هو مثله، يعني: لو أن الله تبارك وتعالى عفا عن زان أو سارق أو شارب للخمر فعلى مذهب الثوبانية يلزمه لزوماً أن يعفو عن كل من هو مثل هذا المذنب أو العاصي. وهذا المبدأ عند الثوبانية يشبه مبدأ جبرية المعتزلة، وهذا المبدأ عند المعتزلة يسمونه العدل، وهو من أصولهم. وأصول المعتزلة خمسة، أولاً: التوحيد. ثانياً: العدل. ثالثاً: المنزلة بين المنزلتين. رابعاً: الوعد والوعيد. خامساً: تقديم العقل على النقل. وهناك أصل سادس يدخل تحت الوعد والوعيد وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والناظر إلى هذه الأصول يجدها جيدة، يعني: إذا قلنا: من أصول المعتزلة التوحيد فليس هناك من يكره التوحيد، ولكن التوحيد عندهم يساوي تعطيل الصفات؛ لأنهم قالوا: بلزوم التشبيه حين إثبات الصفات، فقد قالوا: نحن نريد أن ننزه ربنا، فنفوا جميع الصفات الموجودة في الكتاب والسنة وأولوها، قالوا: لأن الإثبات يستلزم تشبيه الخالق بالمخلوق، فمثلاً إذا أثبتنا اليد فإن الذهن ينصرف إلى تشبيه يد الخالق بيد المخلوقين، وإذا قلنا بهذا فنحن لم نوحده، بل جعلنا الخلق شركاء له في الصفات، فكلمة التوحيد التي يزعمونها أصلها ضلال. ومن أصول المعتزلة العدل، وهو يعني عندهم وجوب الأصلح على الله عز وجل، وقيل: وجوب الصالح، يعني: أنهم مختلفون فيما بينهم، فالعدل عندهم يساوي وجوب الأصلح في حق الله أو وجوب الصالح، وكلاهما باطل. والله تبارك وتعالى لا يشرع لعباده إلا الأصلح أو الصالح، ولا يقدر لهم إلا الأصلح أو الصالح. وقالوا: بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي، وأن هذا عدل، وأن الله تبارك وتعالى لا يساوي بين الطائع والعاصي، بل الطائع لزاماً على الله أن يثيبه، والعاصي لزاماً على الله أن يعاقبه، وهذه جرأة وقلة أدب مع الله عز وجل. وأهل السنة والجماعة يقولون: لو مات مرتكب الكبيرة عليها فإنه في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فهو يفعل ما يشاء، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وأن هذه كلها مشيئة الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يحاسب الله تعالى لم أثاب هذا ولم عاقب هذا، بل المقطوع به يقيناً عند أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لو أدخل عبداً الجنة لأدخله برحمته وفضله، ولو أدخله النار لأدخله بعدله غير ظالم له، وأنه إذا عفا تبارك وتعالى عن عبده فإن ذلك يكون لحكمة؛ لأن أفعال الله تبارك وتعالى كلها موصوفة بالحكمة. وهؤلاء قالوا: العدل يعني: أن الطائع لابد أن يأخذ ثواب الطاعة، ونحن نسألهم: إذا رأينا رجلاً يصلي لغير الله، ومعلوم أن الصلاة طاعة، أو يصلي رياء وسمعة، وآخر يجاهد رياء وسمعة، وآخر يعلم العلم رياء وسمعة وطلباً للشهرة والرئاسة وغير ذلك، هل يلزم الله تبارك وتعالى أن يثيب هذا العبد؛ لأنه طائع؟ A لا، والأعمال بالخواتيم، ونحن نعرف حديث ابن مسعود الطويل: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار -أي: طوال حياته- فإذا ما كان بينه وبينها إلا ذراع -يعني: وقت يسير جداً- سبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). والمعتزلة يقولون: لا، إذ كيف يعمل خمسين سنة بعمل أهل النار من المعاصي والفجور وغير ذلك ثم قبل أن يموت بيومين أو ثلاثة يعمل بالطاعة ويدخل الجنة؟ بل لابد أن يأخذ عقابه تماماً على معاصيه طوال الخمسين السنة، وبعد ذلك يثاب على طاعة اليومين أو الثلاثة، مع أنه جاء في الحديث: (الأعمال بالخواتيم). فهم قالوا بلزوم الأصلح في حق الله عز وجل أو بلزوم الصالح، ووجوب إثابة الطائع وعقاب العاصي على الله عز وجل، وأوجبوا ذلك على الله عز وجل. وهذا المبدأ يسمى عند المعتزلة مبدأ العدل. وكلمة العدل عند الإطلاق ممدوحة، ولكنها على تفسيرهم صارت مذمومة، وهذا من أجل أن تعلم أن كلام أهل البدع دائماً مجمل؛ لأنهم لو شرحوه وبينوه فسيكون قبيحاً وسيرد عليهم في ذلك. واتفق الثوبانية على أنه تعالى لو عفا في القيامة عن عاص فإنه يلزمه أن يعفو عن جميع العصاة من أمثاله، وكذا لو أخرج أحداً من النار للزمه أن يخرج كل من هو مثله. وهذا الكلام شبيه بمبدأ العدل عند المعتزلة. والثوبانية لم يجزموا بخروج عصاة المؤمنين من النار، بل قالوا: يمكن أن يخرجوا ويمكن ألا يخرجوا. وكلمة يمكن أنهم لا يخرجون تعني: أنهم قد يخلدون في النار، وأهل السنة والجماعة يجزمون بأنه لا يبقى في النار قط من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وإن دخل بعض المؤمنين النار بسبب أعمالهم التي استوجبت لهم العذاب في النار فإنهم لابد خارجون منها، وداخلون الجنة ومخلدون فيها، ولا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، وأما المؤمنون فإنهم وإن دخلوا الن

من فرق المرجئة التومنية

من فرق المرجئة التومنية الفرقة الخامسة والأخيرة من فرق المرجئة هي: التومنية وهم أصحاب أبي معاذ التومني، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك كله أو بعضه كفر، وليس بعضه إيماناً ولا بعضه كفراً. قالوا: ولو ترك كل ما جاء به الرسول يكون كافراً، وكل معصية لم يجمع على أنها كفر فصاحبها يقال له: فاسق، أو يقال: إنه فسق، أي: ارتكب عملاً من أعمال الفسق، ومن ترك الصلاة مستحلاً يكفر؛ لتكذيبه بما جاء به النبي. وقولهم: ومن ترك الصلاة مستحلاً يكفر هذا معتقد أهل السنة والجماعة، ولكن علة الكفر عندهم هو تكذيب ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تركها بنية القضاء لا يكفر، ومن قتل نبياً أو لطمه يكفر، لا لأجل القتل أو اللطم، بل لكونه دليلاً على تكذيبه وبغضه. وهذه هي المرجئة الخالصة. ومنهم من جمع بين الإرجاء والقدر، بمعنى إسناد الأفعال إلى العباد، وقال: إن الله عز وجل لم يقدر أفعال العبد، وإن العبد هو المتصرف في أفعاله، وأنها ليست مخلوقة لله عز وجل، وهذا ضلال، ومن هؤلاء الصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب، بل منهم من جمع إلى ذلك الخروج أيضاً كـ غيلان حيث قال: يجوز ألا يكون الإمام قرشياً، يعني: يجوز أن يكون من غير قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الأئمة من قريش).

بعض ما يرد به على المرجئة

بعض ما يرد به على المرجئة روى اللالكائي عن زبيد بن الحارث اليامي قال: [لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). قال شعبة: وحدثني منصور بن المعتمر وسليمان الأعمش أنهما سمعا أبا وائل يحدث عن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). قال شعبة: فذكرت ذلك لـ حماد بن أبي سليمان -وهو شيخ أبي حنيفة، وكان رأساً في الإرجاء في الكوفة- فقال حماد لـ شعبة: يا شعبة! أنت منا إلا قطرة؛ لأن حماد بن أبي سليمان كان من كبار المرجئة، وهو شيخ أبي حنيفة، بل وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بعض الإرجاء عن حماد بن أبي سليمان، وهذا مما عيب عليه، فأراد حماد بن أبي سليمان أن يجر شعبة إلى الإرجاء]، فقال: يا شعبة! أنت منا لولا قطرة، يعني: نحن وأنت متفقون في كل شيء، لولا أنك تخالفنا في هذه القضية، أي: قضية العمل هل هو من الإيمان أو ليس من الإيمان، فيا ليتك تقول: إنه ليس من الإيمان، فتكون منا تماماً، وأما كونك تخالفنا في هذه القضية فأنت منا ونحن منك في كل شيء إلا في هذه القضية. قال: [قال شعبة: أتتهم زبيداً؟ قال: لا، قال: أتتهم منصوراً؟ قال: لا، قال: أتتهم سليمان؟ قال: لا، ولكني أتهم أبا وائل] وهو شقيق بن سلمة الكوفي تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان متهماً بالإرجاء كذلك، يعني: أن الإرجاء كان من القدم، فـ أبو وائل كان من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن مسعود مات مبكراً بالكوفة، وأكبر تلاميذه على الإطلاق أبو وائل كان مرجئاً.

ترفع السلف عن كلام المرجئة

ترفع السلف عن كلام المرجئة قال: [قال أبو المليح: سئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك]، يعني: أنا أكبر من أن أتكلم في كلام المرجئة، يعني: كلامهم سخيف ليس عليه أحد من سلف الأمة، ولذلك أنا أجل نفسي أن أتكلم فيه. قال: [وعن قتادة قال: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث]، وابن الأشعث مات في سنة (82) في قتال دار بينه وبين الحجاج بن يوسف الثقفي. قال: [وقال جرير: ذكر الإرجاء عند سليمان بن مهران الكوفي الأعمش فقال: ما ترجو من رأي أنا أكبر منه]، يعني: لا أتكلم في مثل هذا؛ لأنه أسخف من أن نتكلم فيه. قال: [قال جرير: وكان المغيرة يقول: أخبرنا حماد بن أبي سليمان قبل أن يصير مرجئاً، وربما قال: حدثنا حماد من قبل أن يفسد]، فالمؤلف في هذا الباب يريد أن يقول: إن الإرجاء قديم جداً في القرن الأول الهجري؛ لأنه يذكر عن أبي وائل وحماد بن أبي سليمان، وكل هؤلاء من أبناء القرن الأول الهجري. قال: [عن المغيرة قال: لم يزل في الناس بقية -أي: بقية خير- حتى دخل عمرو بن مرة في الإرجاء، فتهافت الناس فيه]. وعمرو بن مرة هو المرادي، وكان رجلاً عابداً صالحاً أثنى عليه العلماء، وإنما عيب عليه دخوله في الإرجاء، حيث كان دخوله في الإرجاء فتنة عظيمة جداً لغيره، فمثله في علمه وفضله وصلاحه إن أظهر قولاً أو عمل عملاً فإنه يؤثر في اتجاه العامة. فـ عمرو بن مرة المرادي على جلالة قدره وعلو منزلته في العلم والعمل والزهد والعبادة والصلاح والتقوى دخل في الإرجاء، وكان قد بلغ منزلة في العلم والعمل لم يبلغها أحد في زمانه، فلما دخل في الإرجاء ظن العامة أن الإرجاء حق، فلما زلت قدم عمرو بن مرة المرادي في الإرجاء زلت بزلته أقدام كثيرة، ولذلك دائماً أهل العلم يقولون: زلة العالم بزلة عالم، ودائماً كلام وعمل أهل العلم محسوب عليهم. وأنا لست من أهل العلم، وأحد ضباط الجيش كان صديقاً لي منذ أن كنا أطفالاً رضع، فهو ينظر إلى عملي ولا يسألني، ففوجئت بوالده -وهو بلدي- يقابلني في المنصورة، ويقول: يا شيخ حسن! أريد أن أسألك سؤالاً وأرجو ألا تتحرج مني وأن تجيبني بصراحة، فقلت له: تفضل، قال: المرآة حلال أم حرام؟ قلت: المرآة حلال، ومن الذي حرمها؟ فسكت، قلت له: لابد أن تخبرني؛ لأن في بلادنا جميع أنواع البدع، فأريد أن أعرف من القائل، قال: إن هذا الكلام منقول عنك، قلت: منقول عني؟ قال لي: قاله ابني علي، فقابلت علياً وهو عقيد في الجيش، يعني: أنه ليس بسيطاً، فقلت له: يا علي! أنا حرمت المرآة؟ فاصفر وجهه، وقال: يا شيخ! أنا دائماً أدخل عندك وأنت تدخل عندي وعندما أدخل عليك لا أرى عندك مرآة قط، قلت: وهل يلزمني أن أضع المرآة في غرفة الضيوف؟ وأدخلته غرفة النوم وغرفة الأولاد وهنا وهنا، وقلت له: انظر، عد المرايا، بل الدولاب في غرفة النوم في داخله مرايا، حتى إذا لبس الشخص الملابس لا يتكلف الذهاب إلى مرآة أخرى. فهذا حرم المرآة على أهل بيته؛ لأنه لم يسأل، وإنما رأى أن أحداً ممن يظنه من أهل العلم لا يوجد عنده مرآة، فظن أنها محرمة، ودائماً العلماء يقولون: العامة يتورعون في الحلال والحرام، وأما أهل العلم فيجب أن يتورعوا في باب المباح؛ لأن الناس ينظرون إليهم على أنهم القدوة والأسوة والمثل الأعلى. فينبغي على أهل العلم أن يحتاطوا دائماً في أقوالهم وأفعالهم، ويتورعوا عن المباح؛ مخافة أن يقع الناس فيما هو أعظم من ذلك وشر. قال: [قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة، يعني: أنا أكبر من أن أصاحبهم وأجالسهم وأتكلم فيهم. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: الحسن بن محمد بن علي أمه جمال بنت قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي أول من تكلم في الإرجاء. وقال مسعر: رأيت مسلم البطين يهجو المرجئة، يعني: يقول فيها شعراً يذمها، فقلت له: سبحان الله! وقال عبد الله بن نمير: سمعت سفيان وذكر المرجئة، فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره]، رأي محدث، أي: مذهب المرجئة مذهب محدث، رأيت الناس -أي: سلف الأمة- على غير هذا. قال: [قال الحسن بن وهب الجمحي: قدم علينا عبد العزيز بن أبي رواد وهو شاب يومئذ ابن نيف وعشرين سنة -وكان من العلماء الصالحين جداً ومن العباد والثقات الأثبات في الرواية- فمكث فينا أربعين أو خمسين سنة لا يعرف بشيء من الإرجاء -يعني: لا أحد يعلم عنه أي خلل في اعتقاده- حتى نشأ ابنه عبد المجيد -يعني: حتى

الأسئلة

الأسئلة

حسن العشرة مع الزوجة

حسن العشرة مع الزوجة Q ما نصيحتكم للزوج الذي يظهر لزوجته الحدة وسوء الخلق، ويعاملها بمنتهى العنف والشدة؟ A المؤمن أو الحر تكفيه الإشارة، والعبد يقرع بالعصا، وربما لا تنفع معه العصا، فالحر المؤمن الواعي يكفيه أن تقرع سمعه بقال الله وقال رسوله، والله تعالى يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]. فالإمساك دائماً -أي: الإبقاء على الزوجة دائماً- يكون بالمعروف، ولما سئل معاوية بن حيدة النبي عليه الصلاة والسلام عن حق الزوجة بقوله: (ما حق امرأة أحدنا علينا يا رسول الله؟! قال: أن تعاشرها بالمعروف، وأن تطعهما مما تطعم، وتلبسها مما تلبس، وتسكنها مما تسكن، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح). وفي حديث جابر في صحيح مسلم في حجة الوداع ذكر هذه الحقوق كذلك، فقال: (ولكم عليهن ألا يأذن في فرشكم لأحد تكرهونه)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال). فكل هذه النصوص تبين أنه يلزم الرجل أن يعامل امرأته بالمعروف، كما يجب على المرأة كذلك أن تعامل زوجها بالمعروف وحسن الخلق، فمن تنكب هذا فإنما يتنكب طريق السنة والهداية، وآثر سوء الخلق على حسن الخلق، وربما يكون المشكو منه موجوداً معنا. فأسأل الله تعالى أن ينتفع بهذه الكلمات.

حث الشريعة على الإكثار من الأولاد

حث الشريعة على الإكثار من الأولاد Q هل من الشريعة الإسلامية والسنة النبوية الاكتفاء بولد أو اثنين أم الإكثار من الأولاد؟ A الشريعة حضت على كثرة الولد، ولذلك أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بنكاح الولود الودود، وقال: (إني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: يأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الفئة، ويأتي ومعه العشرة، ويأتي ومعه الاثنان، ويأتي النبي وليس معه أحد، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة. فالإكثار من الأولاد سنة النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم الزكاة على مبلغ (1400) جنيه

حكم الزكاة على مبلغ (1400) جنيه Q عندي أموال عمرة ألف وأربعمائة جنيه، هل عليها زكاة؟ A ليس على هذا المال زكاة؛ لأن هذا المال لم يبلغ النصاب.

الكتب التي تتحدث عن كيفية تحديد القبلة، وكيفية تحديد القبلة لمن يعيش في بلاد المشرق

الكتب التي تتحدث عن كيفية تحديد القبلة، وكيفية تحديد القبلة لمن يعيش في بلاد المشرق Q ما هي طرق العرب أو المسلمين في التعرف على القبلة، وما هي الكتب التي تتحدث عن هذا؟ A لا أعرف كتباً خاصة في مثل هذا، ولا يخلو الأمر من إخراج كتب، وهذا يوجد في شروح النصوص المتعلقة بمعرفة القبلة، وجهة القبلة في بلاد المشرق أن يقف الإنسان ووجهه جهة الشمال ويده اليسرى جهة طلوع الشمس ويده اليمنى جهة الغروب ثم يميل بزاوية خمسة وأربعين درجة جهة الشمال.

الأحكام تجرى على الظاهر

الأحكام تجرى على الظاهر Q أخت تقول: إنها لم تكن ملتزمة من قبل، فمن الله عليها بالهداية، وحاولت مع زوجها مراراًً أن يلتزم، وهو يتصنع الصلاة أمامها، فما العمل؟ A أنت غير ملزمة بالبحث والتنقيب عن مثل هذا، ويكفي أنه يصلي، وأما كونها تذهب معه أو تذهب وراءه إلى العمل وتسأل زملاءه هل يصلي أو لا يصلي وتسأل الجيران وغير ذلك فهي ليست مطالبة بهذا، وأما كونه يتصنع لها الصلاة أو يصلي لأجلها فهذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولذلك نحن مأمورون بإجراء الأمور على الظاهر والله تعالى يتولى السرائر. وهناك كثير من الإخوة يسألون أسئلة لا ينبني عليها عمل، وهذا باب من أبواب التنطع، فمثلاً أحدهم يسأل ما اسم أم موسى؟ وما له وأم موسى؟ فهو لن يسأل عنها يوم القيامة، ولو عرف أن اسمها زليخة أو زينب أو فاطمة فما الداعي لهذه المعرفة؟ وهناك من يسأل وهو مهتم وحزين ومغموم وسيموت كمداً إن لم يعرف اسم كلب أصحاب الكهف، مع أنه مطالب بالإيمان أن هؤلاء الناس الطيبين كان معهم كلب فقط، وليس مكلفاً بمعرفة اسمه، ومع ذلك فهو مغموم بشدة وحزين ومستاء غاية الاستياء، وقد وضع في رأسه هم الدنيا لمعرفة اسم الكلب!

العقيدة في كتب الأزهر

العقيدة في كتب الأزهر Q ذكر في كتاب التوحيد في المدارس أن اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] تعني: قوة الله فوق أيديهم، فهل هذا صحيح؟ A أنصح الإخوة ألا يقرءوا نهائياً في العقيدة في كتب الأزهر؛ لأنها عقيدة الأشاعرة، وهي بلا شك عقيدة فاسدة.

الحجة في تعدد الزوجات ولمن يكون، وضوابط التعدد، وحكم الطلاق

الحجة في تعدد الزوجات ولمن يكون، وضوابط التعدد، وحكم الطلاق Q ما الحجة في تعدد الزوجات؟ A الحجة كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وفعله، وفعل الصحابة والسلف إلى يومنا هذا، وليس هناك حجة أفضل من ذلك. وأنا عندما تكلمت في مؤتمر مسجد العزيز وعلقت تعليقاً سريعاً عن تعدد الزوجات استاء الناس مني، ومن سوء الأدب الشديد جداً أن يتكلم رجل في مسألة فيتلقفها المستمع ويؤولها حسبما يراه، فأنا عندما تكلمت في مؤتمر العزيز عن الطلاق وأنه شريعة الله عز وجل قلت: الطلاق الأصل فيه المنع والحظر، وبينت بالدليل أن الأصل في النكاح الدوام والاستمرار والطلاق طارئ عليه، وهو استثناء له من البقاء، ولذلك لا يصار إليه إلا لعلة، وبعد استنفاد الوسائل المشروعة في قيام البيت، وكما يقال: آخر الدواء الكي، أي: أننا لم نتزوج لنطلق، وإنما تزوجنا لنستمر، ويقطع هذا الاستمرار علة قوية لا ينفع معها البقاء. فلابد من اختيار الزوجة على أصل سليم، وتربيتها على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليمها وتثقيفها بأمر دينها وحق زوجها، ولو دفع ما دفع من المهر. وليست هذه هي القضية، وإنما القضية الآن أن البيت الواحد الذي يعيش في مستوى الدون يصرف أهله في اليوم عشرة جنيهات، أي: ثلاثمائة جنيه في الشهر، وممنوع أن يطرق الضيف الباب؛ لئلا تختل الميزانية. فلا يصح أن أقول لشخص دخله مائتي جنيه في الشهر وهو متزوج وعنده ثلاثة أو أربعة أولاد يفطرون فولاً ويتغدون فولاً ويتعشون فولاً: إن عليك الزواج مرة أخرى، ولو لم تتزوج فأنت آثم ومكذب للقرآن والسنة. وبعض الناس كتب كتباً يقول فيها بوجوب تعدد الزوجات، وعندما يقرأ شخص هذه الكتب يتزوج حتى ينجو من الإثم، ثم يتابع الزواج بعد ذلك، ثم يفاجأ بواقع مرير، فهو يتقاضى مائتي جنيه أو ثلاثمائة أو حتى خمسمائة جنيه، وهذا المبلغ لا يقيم بيتاً، ولو افترضنا أن هذا يقيم في بيت وعنده أربعة أولاد في المدرسة، وكل ولد مصروفه في كل يوم نصف جنيه في المدرسة، واثنين أو ثلاثة جنيه للإفطار فهذا المبلغ لن يكفي الأولاد عشرة أيام في الشهر، فإذا تزوج امرأة أخرى فكيف سيصنع معها ومع أولادها ومع استئجار بيت لها. ويعلم الله عز وجل أنني دائماً أنصح من يريد الزواج والظروف تسمح له بذلك بالزواج. ولا يحل للشخص المدين والمغرق في الدين الزواج. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب)، والمعلوم من الخطاب لأول وهلة أنه للزواج الأول، فلم يقل له: يتوكل على الله إذا كان ليس له دخل، ولم يقل له: اذهب وتزوج صاحبة المغزل كما في الحديث الموضوع الذي يحتجون به، فإذا كانت الباءة والقدرة عليها مشروطة في الزواج الأول فمن باب الأولى أن تكون مشروطة في الأنكحة المتعاقبة أو المتعددة. وأقسم بالله العظيم أن هناك اثنين وعشرين بيتاً مسجلين عندي في دفتر الذي انهار منهم قد انهار والذي لم ينهر على وشك الانهيار؛ بسبب أنه صدق بوجوب التعدد، وهناك شخص يعيش أصلاً على أموال الصدقات والزكوات وينتظر الصدقة من الناس، ثم فوجئت بأنه تزوج الثانية، فلما نصحناه قال: أبو الأشبال يحارب التعدد، وهو الآن بصدد طلاق امرأتيه، وهذا مثل شخص من أصحابنا تزوج امرأة واختلف معها فقال: لابد أن أؤدبها وآتي بامرأة أخرى، فاتفقتا، فتزوج الثالثة فاتفقن على غير قياس، فتزوج الرابعة فاتفقن على غير قياس، فترك الأربع وذهب إلى أمه. وهناك أمثلة كثيرة جداً من المحيط الذي نعيش فيه، وأصحابه يندمون ندماً كبيراً جداً. وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، هذا في النكاح الأول. والفقير هو الذي له دخل لا يكفيه، وهو درجات، فذكر في الآية أنهم فقراء، وليس معنى ذلك أنهم معدمون مساكين ليس لهم شيء، بل إن لهم دخلاً، فالله تبارك وتعالى يغنيهم إن شاء الله من فضله، هذا في الزواج الأول، وزواج الثانية والثالثة والرابعة لمن كان غنياً يقدر أن يفتح بيتاً واثنين وثلاثة وأربعة، والزوجة الواحدة لا تكفيه، وكانت حاجته إلى النساء شديدة، فله أن يتزوج، وأي إنسان مجنون وليس عاقلاً فقط يقول له: يتزوج. والإمام أحمد بن حنبل لم يتزوج المرة الأولى إلا في سن الأربعين حرصاً على طلب العلم، ولا زلت أسمع أهل العلم وآخرهم الشيخ الألباني عليه رحمة الله يقول: لا أحب تعدد الزوجات لطالب العلم حرصاً على طلب العلم، وأنا أقول هذا الكلام، وأقول: إذا غلب على ظنك أنك لا تعدل بين الزوجتين لم يجز لك تعداد الزوجات، فهذه كلها قيود وشروط. وهذا الذي يدعو إلى تعدد الزوجات يذكر الأمر بغير هذه القيود والشروط، وأنت إذا أردت التكلم عن هذه المسألة فعليك أن تأخذها من جميع جوانبها وشروطها وقيودها، فإذا سمعها شخص قال: أنا لست من أهل التعدد، فأنا أحب امرأتي جداً جداً جداً، ولا يمكن أن أستغني عنها، ويغلب على ظني أني لو تزوجت مرة أخرى فسأظلمها، ولو سمعها رجل فقير جداً لقال: يكفيني واحدة فقط، ويعرف أ

مذهب المرجئة في الإيمان [2]

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مذهب المرجئة في الإيمان [2] عقيدة الإرجاء عقيدة فاسدة، حذر منها السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم والصلاح، وذلك لأنها تؤول بصاحبها إلى المجوسية، ولهذا فقد حكم السلف على أصحابها بالضلال، وأوصوا بهجرهم وعدم الجلوس معهم؛ حتى لا تنطلي بدعهم على الناس.

باب ما روي في تضليل المرجئة وهجرانهم

باب ما روي في تضليل المرجئة وهجرانهم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: في الدرس الماضي عرفنا الإرجاء، ومتى ظهر الإرجاء في الأمة. وهذا باب جديد في سياق ما روي مرفوعاً وموقوفاً في تضليل المرجئة وهجرانهم، وترك السلام عليهم والصلاة خلفهم والاجتماع معهم. والمرجئة من المبتدعة، والمبتدع قسمان: فإما أن يكون داعية ضلالة، كأن يكون مؤصلاً لها أو كاتباً داعياً إليها، وإما أن يكون من رعاع أهل البدع يتبع كل ناعق، ولا يدري حقيقة ما هو عليه، وربما يقرأ القارئ كلمات أو نصوصاً في تكفير أهل البدع، ونصوصاً أخرى في عدم تكفيرهم، وقد قال أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية: إن نصوص التكفير إنما تقع على رءوس أهل البدع والدعاة إلى البدعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في تضليل المرجئة وهجرانهم]، وهجر أهل البدع دائماً هو وصية السلف للخلف. قال: [وترك السلام عليهم والصلاة خلفهم]، أي: لا نصلي خلف مبتدع داع إلى بدعته، خاصة إذا كانت بدعته مكفرة. قال: [والاجتماع معهم] ولا نجتمع معهم مخافة أن تتغير وتتبدل قلوبنا. قال: [عن ابن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية، والمرجئة)]، وكل الأحاديث المرفوعة التي رويت في ذم الإرجاء لم يصح منها شيء، والأمر لا يحتاج إلى التعلق بشيء ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك بعد أن أجمعت الأمة على أن الإرجاء ضلالة محدثة في الدين، وأن المرجئة فرقة من فرق الضلالة في الإسلام. قال: [وفي حديث حذيفة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي كلاهما في النار)] فهنا حكم عليهما بدخول النار، ولا يعني ذلك أنهم كفار، كما لا يعني أنهم مخلدون فيها أبداً. وقد تكلمنا عن هذا أثناء كلامنا على حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة هي ما أنا عليه وأصحابي) في معرض كلامه عن فرق الضلالة.

ملحوظتان حول حديث (كلها في النار إلا واحدة)

ملحوظتان حول حديث (كلها في النار إلا واحدة) حديث: (كلها في النار إلا واحدة هي ما أنا عليه وأصحابي) يحتاج إلى عدة ملحوظات. الأولى: قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) لا يستلزم أنها كافرة؛ لأن عصاة الموحدين كذلك يدخلون النار ولا يخلدون فيها، وإنما أمرهم إلى الله عز وجل إن شاء عذبهم ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، وإن شاء عفا عنهم بمنه وكرمه سبحانه وتعالى. الثانية: قوله: (كلها في النار إلا واحدة)، أي: إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، وليسوا هم من علم معنى الأسماء والصفات فقط، أو من لهم موقف سليم سديد من جهة ذات الإله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، وليسوا بالضرورة أنهم الذين أطلقوا لحاهم ولبسوا الثياب البيض وغير ذلك، بل هم من تمسك بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من جهة العقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملات والعلم والعمل، فإذا كنت كذلك فأنت من أهل السنة حقاً، ولا يلزم من تزييك بزي أهل الصلاح أن تكون صالحاً، حتى يعلم أبناء الصحوة أنهم مطالبون بأخذ الدين مظهراً وجوهراً، وأنهم لن يكونوا من أهل السنة على الحقيقة إلا إذا كانوا كذلك، وأما إذا اكتفوا من الإسلام بالظاهر فليسوا من السنة في شيء.

شرح حديث (صنفان من أمتي كلاهما في النار)

شرح حديث (صنفان من أمتي كلاهما في النار) يقول عليه الصلاة والسلام في حديث ضعيف: [(صنفان من أمتي كلاهما في النار: قوم يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنا وإن سرق)]، أي: هذا المؤمن عندهم؛ لأن العمل عندهم ليس من الإيمان، ولا يدخل في مسمى الإيمان، فاحتجوا بأن الإيمان هو التصديق، فإذا قال الإنسان: آمنت بالله أو شهد الشهادتين وأتى جميع المعاصي فإنه مؤمن؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب فقط، ولم يقولوا حتى: الإيمان هو الإذعان. والانقياد والخضوع بالقلب والجوارح، وإنما قالوا: الإيمان هو التصديق فقط. وليس الأمر كذلك، فالإيمان ليس هو الإقرار فقط، ولا الشهادتان فقط، وإنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهو يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه متعلق بالعمل، وسواء كان ذلك عمل القلب أو عمل الجوارح. فقال في الحديث: (قوم يقولون: إن الإيمان كلام)، أي: نطق أو إقرار أو شهادة فقط. قال: [(وإن زنا وإن سرق، وآخرون يقولون: إن أولينا كانوا ضلالاً يقولون: خمس صلوات في اليوم والليلة، وإنما هما صلاتان)]، يعني: حكموا على الأوائل بأنهم أهل ضلالة؛ لأنهم أجمعوا على أن الصلوات خمس في اليوم والليلة، وهؤلاء أي: ضلال القدرية يزعمون أن الصلاة إنما هي صلاتان فحسب، صلاة في أول النهار، وصلاة في أول الليل، وكل صلاة منهما ركعتان، ولا ندري من أين أتوا بهذا الكلام، فإنه من أعجب الكلام. وهذا الكلام من جهة الرفع غير ثابت، وإن ثبت أن بعض الفرق الضالة قالت به فعلاً، وقد ذكرت لكم منذ عدة أشهر أن إيهاب بن حسن الأثري أبو عبد الرحمن صنف كتاباً يذم فيه أهل العلم مثل الشيخ الألباني مثلاً والشيخ ابن باز وغيرهما من أهل العلم، وهو الآن ينكر الصلوات الخمس ويقول: ما هما إلا صلاتان في أول النهار وفي آخره، يعني: أن هذا ما زال موجوداً إلى يومنا هذا. فلا يزال ميراث الفرق الضالة التي ظهرت ونشأت منذ عدة قرون تتوارثه الأجيال إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة؛ لأن الناس في نقصان دائماً، وأعظم النقصان أن يكون في الدين وفي الإيمان.

ذم الصحابة للمرجئة

ذم الصحابة للمرجئة قال: [جاء عن ابن عباس أنه قال: اتقوا الإرجاء؛ فإنه شعبة من النصرانية]، أي: خصلة منها. قال: [وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: لقد لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم]. وهذا كلام يحتاج إلى نظر.

تدرج البدع من الإرجاء إلى المجوسية

تدرج البدع من الإرجاء إلى المجوسية قال: [قال مجاهد: يبدءون فيكم مرجئة، ثم يكونون قدرية، ثم يصيرون مجوساً]. وهذا في الحقيقة ترتيب وتدرج طبيعي لأهل البدع؛ لأنهم يبدءون بالرجاء في الله عز وجل، وهذا الرجاء يحملهم على ترك العمل، ومنهج أهل السنة والجماعة أن الخوف والرجاء جناحا المؤمن إلى الله عز وجل، فالخوف يحمله على مزيد الطاعة، والرجاء يحمله على عدم الإياس من رحمة الله عز وجل، فهما صنوان لكل عبد يريد أن يسير إلى الله سيراً حثيثاً، وأما إذا غلب جانب الخشية على إنسان وخاصة عند مماته فإنه يلقى الله تعالى آيساً من رحمته، وهذه كبيرة من الكبائر، وإذا غلب على إنسان في حال حياته جانب الرجاء على الخوف فإنه يقع في التسويف وترك العمل، ومعظم الأمة الآن مفرطة عاصية تاركة لفرائض الإيمان والإسلام، إذا ذكرتهم بالله أو بالصلاة أو بالزكاة أو بالحج وهم قادرون على ذلك قالوا: رحمة ربك واسعة، وإن ربك غفور رحيم، فهم يرجون الله تعالى بغير عمل، وفي حقيقة الأمر ليس هذا من باب الرجاء المشروع، وإنما الرجاء أن تعمل ثم ترجو الله تعالى أن يتقبل منك ذلك، كما كان حال النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان أعبد الناس وأتقاهم وأعلمهم وأخشاهم لربه، ومع ذلك لم يفرط قط عليه الصلاة والسلام في عمل سواء كان مفروضاً أو واجباً أو مستحباً أو مندوباً، فقد كان يقوم الليل كله حتى تتفطر قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة والأسوة والمثل الأعلى الحسن، وهو الذي ما فرط في عمل قط مهما دق وجل، فينبغي إذا كنا فعلاً صادقين في زعمنا أو قولنا بأننا مؤمنون ومسلمون ومتبعون أن نضع النبي عليه الصلاة والسلام نصب أعيننا في المثل والقدوة. فقوله: يبدءون فيكم مرجئة، يعني: يبدءون أول بدعتهم بالإرجاء، وهو تأخير العمل عن مسمى الإيمان وترك العمل بالكلية استناداً واتكالاً على رحمة الله عز وجل، وأنها وسعت كل شيء. ثم يكونون قدرية، يعني: ينتقل من الإرجاء إلى القدر، ثم ينتقل من القدرية إلى المجوسية؛ لأن بين القدرية والمجوسية شبه عظيم جداً مثل الشبه بين النصرانية والإرجاء.

حكم سؤال الشخص أهو مؤمن

حكم سؤال الشخص أهو مؤمن قال: [عن ابن سيرين قال: سؤال الرجل أخاه: أمؤمن أنت؟ محنة وبدعة]. وهذا كما يمتحن الخوارج الناس. وهذا النص كان أليق به أن يكون في الباب قبل الماضي.

تحذير إبراهيم النخعي من المرجئة

تحذير إبراهيم النخعي من المرجئة قال: [عن المغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يدعو إلى هذا الرأي، أي: إلى الإرجاء، فحدث بذلك إبراهيم النخعي، فأتيته فقال: أخبرني يا مغيرة! هل يدعو إلى هذا الرأي أحداً؟ فإنه حلف لي بالله أن الله لم يطلع على قلبه أنه يرى هذا الرأي، وقد كنت سمعته يدعو إليه]، يعني: أن إبراهيم النخعي جاء إلى إبراهيم التيمي وقال له: بلغني أنك تدعو إلى الإرجاء؟ قال: والله ما دعوت إليه، ووالله ما أنا بمرجئ، فسأل إبراهيم النخعي المغيرة: هل كان إبراهيم التيمي يدعو إلى الإرجاء، فإني قد سألته فأقسم أنه ليس كذلك؟ قال: [فدارى عليه المغيرة وقال: لعله تاب من ذلك، مع أني قد سمعته يدعو إلى ذلك، وقال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة]. والأزارقة هم أتباع نافع بن الأزرق، وهو من رءوس الخوارج، فاختلف مع بقية الرءوس في هذه الفرقة، فتنحى وصنع لنفسه فرقة هي أضل فرق الخوارج وأسماها باسمه، وهم الأزارقة نسبة إلى أبيه. وكلام إبراهيم النخعي حقيقة، وصحيح أن كل فتنة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وأن الإرجاء والخارجية مصيبتان حلتا بالأمة، ولكن الإرجاء وجهه حسن لأول وهلة، والخوارج وجههم قبيح لأول وهلة، ولذلك فتنة الخوارج لا يشربها أحد إلا بعد مناظرات ومجادلات وربما تأثر بها فدخل فيها، وأما الإرجاء فشكله جميل؛ لأنه دعوة إلى رحمة الله وإلى فضله ومغفرته وتوبته، وأن الله يتجاوز ويعفو عن المسيء، وهو يعطي الرجاء والأمل للعاصي أن الله لا يعذبه، وهذا أمر يتعلق به كل عاص. وتصور لو أنك وقعت في ذنب أتحب من يتوعدك ويتهددك أو من يؤملك خيراً ويطمئنك على موقفك بين يدي الله عز وجل؟ لا شك أنك تحب الثاني. فالمرجئة خرجت على الأمة بهذا الرجاء في الله عز وجل، ولكنه زاد وفاق عن الحد حتى أثر في اعتقاد القوم من جهة إتيان العمل المستلزم للإيمان أو الذي هو ثمرة الإيمان الذي وقر في القلب، فتركوا العمل اتكالاً على رحمة الله عز وجل. قال: [وقال إبراهيم النخعي: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب سابري]. وأنا لا أدري من هو سابري هذا، وربما يكون في النص تحريف، فإني لم أطلع عليه إلا في هذا الكتاب وفي هذا النص، ولم أجد من تعرض لتعريفه، وربما يكون رجلاً رقيقاً أو ناعم الملبس أو غير ذلك، فأراد إبراهيم النخعي في الكوفة أن يبين أن فتنة المرجئة إذا دخلت في قلب إنسان فإنما تأخذ دينه عروة عروة وشيئاً فشيئاً حتى تدعه بلا دين، أو لا تدع فيه من الدين إلا الشيء اليسير واليسير جداً، ربما يكون المعنى هكذا. والله أعلم.

هجر العلماء للمرجئة

هجر العلماء للمرجئة قال: [عن المغيرة قال: مر إبراهيم التيمي بـ إبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه السلام]. وهذا فيه جواز هجر أصحاب المعاصي والبدع الكبار. قال: [وعن سعيد بن جبير -وهو سيد من سادات التابعين ومن تلاميذ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما- قال: المرجئة يهود أهل القبلة]، يعني: يهود أهل الإسلام. قال: [وعن أيوب -وهو ابن أبي تميمية السختياني البصري - قال: رآني سعيد بن جبير وأنا جالس إلى طلق بن حبيب -وكان طلق من أهل البدع- قال أيوب: وما أدركت في البصرة أعبد منه]، أي: من طلق بن حبيب، فجلس أيوب معه لأجل عبادته. قال: [فلما رآه سعيد أنكر عليه ذلك، وقال: لا تجلس معه؛ لأنه يرى رأي المرجئة].

قاعدة في الحكم على الأشخاص

قاعدة في الحكم على الأشخاص أيها الإخوة! إن الحكم على الأشخاص يستلزم دائماً نظرة عامة له من جهة العلم والعمل، فلا يحكم على إنسان بأنه ضال لمجرد وقوعه في الضلال، ولا يحكم عليه بالاستقامة لمجرد أنه وجد متلبساً بعمل طاعة، بل لابد من نظرة شاملة عامة لما هو عليه من علم وعمل، وأقصد بالعلم الاعتقاد، فالعلم دائماً يطلقه أهل العلم الذين تكلموا في السنة على الاعتقاد، والسنة كذلك إنما تعني الاعتقاد، فإذا كان المرء من جهة العلم والاعتقاد والدعوة على السنة، وكان عاملاً بهذا العلم ويجري هذا العلم على جوارحه فإنه بلا شك على استقامة وإن تلبس بمعصية، وإن وقع في بعض البدع سواء من بدع الاعتقاد أو العمل، أما إذا كان المرء الأصل فيه الانحراف والزيغ والضلال فلا يحكم عليه بالصلاح والتقوى لمجرد أنه قائم بالليل أو صائم بالنهار، أو يصلي في اليوم ألف ركعة؛ لأن الأصل فيه الفساد من جهة العلم والعمل كذلك، فلابد للحكم على الآخرين من نظرة عامة شاملة، فلا يحكم عليه بعدم الصلاح لكونه مثلاً زنى، أو سرق، ولست بذلك أهون من شأن هذه الكبائر والمعاصي، بل أقول: إن هذه المعاصي والكبائر وقعت من سلف الأمة ومن صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام حد الزنا على بعض أصحابه، كما أقام حد السرقة على بعض أصحابه، والحدود إنما وردت للأمة بأسرها، والمخاطب بها أولاً هم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا زنى أحد صحابة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يعني هذا أنه فاسد، وأنه خارج عن حد الصحبة وعن حد قول الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، بل هذه لحظة ضعف تسلط فيها عليه الشيطان، ولا يخرج بهذا عن صلاحه، وإنما نقول: إنه كان غافلاً ساهياً، فتسلط عليه الشيطان فأوقعه في حبائله وفي معاصي الله عز وجل ومحارمه، وأما غيره -أي: غير الصحابة من الأمة- فإن الذي يأتي بهذه الكبائر والمعاصي فلا شك أنه فاسق بكبيرته مؤمن ببقية أعماله العلمية والعملية. وفي خطبة الجمعة الماضية في مسجد العزيز تكلمت عن الشيعة وانتشارهم في هذه البلاد، وأن أحدهم يقرر أن الشيعة بلغوا ستة ملايين شخص في مصر، وبصرف النظر عن صحة هذا الكلام أو عدم صحته أقول: إن العبرة بصحة ما أنت عليه من عمل، وليس بكثرة الأتباع، ولكن العبرة بموافقة ذلك للحق والإخلاص لله عز وجل. وأقول بهذه المناسبة: إن طلق بن حبيب كان من أعبد الناس بالبصرة وأبر الناس بوالديه، ولكن هذا لا يعني أنه على الحق، ولا شك أن العبادة وبر الوالدين أمران ممدوحان، ولكن توفرهما في شخص لا يلزم منه أن يكون بالضرورة صالحاً من جميع الوجوه. فتكلمت عن الشيعة وسوء معتقدهم، وقد تناولنا منذ عدة سنوات معتقد الشيعة في هذا المسجد بتفصيل لم نتناوله في غيره من بيوت الله عز وجل، فقام أحد الأشخاص لا أدري أهو جاهل أو مغرض أو غير ذلك فقال: أنت تسب الشيعة وتقول: عليهم من الله ما يستحقون، ويكفي أن الإمام الخميني هو الذي وقف من حكام المسلمين بجوار العراق، ويكفي أنه الذي رصد مليون دولار لمن يقتل سلمان رشدي، وله مواقف محمودة جداً. وأقول: نعم هذه مواقف محمودة، والله تعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. فالعمل الصالح صالح وإن أتى من الكافر، ولو أن يهودياً اتصف بإكرام الضيف لحمد له هذا، ومن الظلم البين عدم احترامه واعتباره في هذا الباب؛ لأن هذا من مكارم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، بل وجعلها شعبة من شعب الإيمان، لكن لا يقبل هذا عند الله إلا بعد الإيمان إذا صدر من الكافر، فكون خميني إيران رصد مبلغاً من المال لفلان أو أنه وقف بجانب فلان ليس له ثمرة، ونحن نعتقد أن الذي حدث من خالد الإسلامبولي ليس موافقاً للشريعة، وإذا كان موافقاً فليس له ثمرة جنتها الصحوة الإسلامية، بل تأخرت مائة عام، والذي سبق خير من الحادث، وإن اشتركا في كثير من الباطل، وأظن أن الذي عاصر ذلك الوقت يقول اليوم: يا ليت يوماً واحداً من أيام السابق يعود، فقد كان الواحد منا يرتع بالليل والنار، ويجوب محافظات مصر بحرية، فإذا سمع بمحاضرة للشيخ الفلاني في البحر الأحمر ذهب إليها دون أن يستوقفه أحد، واليوم لا تستطيع أن تزور أبويك في الفيوم مثلاً إلا واستوقفك غير واحد على الطريق ويحاكمك، فأيهما خير هذه الأيام أم الأيام السابقة؟ وما حدث هذا إلا بسبب الخروج.

شروط الخروج على الحاكم

شروط الخروج على الحاكم نحن نعتقد أن الخروج على السلطة له فقهه وأحكامه، ومن أعظم فقهه وأحكامه عدم الخروج إلا إذا رأينا كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان، أي: دليل قاطع على أن هذا كفر مجمع عليه لا يختلف فيه، ثم الحكم بالكفر يختلف عن الخروج عليه، فلا يخرج على الحاكم إلا بإجماع أهل الحل والعقد، وأن يكون ذلك بسبب الكفر، والشرط الثالث: أن يكون هذا الخروج مضمون النتيجة، فلا يكون الخارج ضعيفاً، بل لابد أن يكون قوياً متسلحاً، فالذي يحمل نبلاً مثلاً أو حجراً أو غير ذلك لا يقال: إنه قوي وبإمكانه أن يخرج، فهذا خبل، وإن فعل ذلك بحسن نية فنسأل الله تعالى أن يغفر له ويأجره على نيته، وأما العمل من جهة ميزان الحق فليس هذا من عمل السلف، ولا يوافق عليه لا السلف ولا حتى الخلف، وأما تزكية الخميني الإيراني فإنها لا تعطي لهذا العمل مشروعية، وخميني إيران يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف، وكان رجلاً ذكياً فقيهاً في مذهبه، أي: في مذهب التشيع، على مستوى العقيدة والفقه، وكان عالماً بأصول الاعتقاد عند الشيعة الإثني عشرية، بل وغيرهم من فرق الشيعة. والذي أقرره وأؤكد عليه دائماً أن المرء لو وقف بعض المواقف المحمودة في نظر البعض لا يستلزم بالضرورة أن يكون محموداً من كل جانب، بل ربما يكون الأصل فيه الفساد والضلال كما هو شأن الخميني. قال: [قال سعيد بن جبير: ألم أرك جالساً إليه؟ -أي: أيوب - لا تجالسه، قال أيوب: وكان والله ناصحاً وما استشرته]، أي: سعيد بن جبير كان ناصحاً لـ أيوب وأبدى إليه نصيحة من غير أن يستشيره فيه.

تحذير العلماء من التنقل بين الفرق

تحذير العلماء من التنقل بين الفرق قال: [قال سعيد بن جبير لـ ذر: يا ذر! ما لي أراك كل يوم تجدد ديناً؟] يعني: تنتقل من الاعتزال إلى الإرجاء إلى القدرية، وهكذا، فما لي أراك تتقلب وتجعل دينك عرضة للخصومات والمنازعات، فكل يوم أنت في حدث وشكل. قال: [وعن أبي البختري قال: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي قال: مررت به فسلمت عليه فلم يرد علي، وقال أبو البختري لـ سعيد، فقال سعيد بن جبير: إن هذا كل يوم يجدد ديناً، لا والله لا أكلمه]، أي: حتى يثبت على السنة. قال: [وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد المرجئة قال: فضرب لهم مثلاً، فقال: مثلهم مثل الصابئين -يعني: الروحانيين، وإذا أطلق الصابئون في كتب الاعتقاد فإنما يقصد بهم الروحانيون من الفلاسفة- أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، فتركوهم وأتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بين دينين، فلم يثبتوا على دينهم ولم يتهودوا ولم يتنصروا، فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء]، وهكذا شأن من أراد أن ينتقل ويتحول من دين إلى دين أو من ملة إلى ملة، أو من فرقة إلى فرقة.

تشبيه العلماء للمرجئة باليهود

تشبيه العلماء للمرجئة باليهود قال: [عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: ما ليل بليل، ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود]، يعني: أن هؤلاء المرجئة أشبه باليهود من الليل بالليل ومن النهار بالنهار، يعني: إذا دخل عليك الليل فلن تستطيع أن تميز ولا أن تفرق بين هذه الليلة وما فيها من سواد وبين الليلة الماضية، وإذا طلعت الشمس فلا تستطيع أن تفرق بين هذا النهار وما فيه من ضوء ونور وبين النهار الذي سبقه أو الذي يتلوه، وكذلك المرجئة هم أشبه باليهود تماماً بتمام. هكذا ضرب لهم المثل.

التحذير من الإرجاء وتضليل السلف لهم

التحذير من الإرجاء وتضليل السلف لهم قال: [قال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهما على هذه الأمة من الإرجاء]، يعني: أعظم هوى في الأمة هو الإرجاء. قال: [قال منصور بن المعتمر: أعداء الله المرجئة والرافضة]. والرافضة هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما قالوا لـ زيد: أنت إمامنا لكن بشرط أن تلعن أبا بكر وعمر، قال: كيف ألعنهما وهما وزيرا جدي؟ ولما خرج الخوارج على أمير المؤمنين والخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز كفروه، فقال: وما وجه تكفيري؟ قالوا: إنك لا تلعن بني أمية، وهو من بني أمية، يقصدون معاوية وولده يزيد، قالوا: فإما أن تلعنهم وإما تبرأنا منك، قال: أسألكم بالله أتلعنون فرعون؟ أي: وقد جاء صريحاً في النصوص وجوب اللعنة عليه، ووجوب التبري منه ومن دينه، قالوا: لا، قال: فكيف بكم تركتم من استحق اللعنة في الكتاب والسنة وتلزموني أن ألعن رجلاً آمن بالله ورسوله؟ فهذا خلط وتخبيط. فلما رفض زيد أن يلعن أبا بكر وعمر رفضوه وخرجوا عليه، ومن هنا سموا الرافضة، وهم فرقة من أضل فرق الشيعة، وفرق الشيعة بلغت حوالي خمسة عشر فرقة أو زيادة. قال: [وعن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة. وعن أبي عاصم قال: جاء عكرمة بن عمار إلى ابن أبي رواد فدق عليه الباب وقال: أين هذا الضال؟] لأن ابن أبي رواد كان مرجئاً.

ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وأقوال العلماء فيه

ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وأقوال العلماء فيه قال: [عن طاوس قال: يا أهل العراق! أنتم تزعمون أن الحجاج مؤمن؟] والحجاج هو ابن يوسف الثقفي، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه يخرج من ثقيف كذاب ومبير). فأما الكذاب فهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة، وأما المبير -أي: الظالم لنفسه ولأمته- فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد تولى حكم المسلمين في العراق في خلافة بني أمية كذلك. وقوله: يا أهل العراق! أنتم تزعمون أن الحجاج مؤمن؟ أي: مع كل ما أتاه من ظلم وفجور؟ والحجاج اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من كفره، ومنهم من توقف عن تكفيره، ومنهم من أثبت له الإسلام وقال: الذي أتاه الحجاج كان معاص، فقد كان الحجاج معروفاً مشهوراً بسفك وإراقة الدماء، وكان معروفاً بشدته وقسوته على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكان له موقف مع أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام، فقد اتخذ الحجاج خاتماً وكان يحميه في النار حتى يحمر ويختم به أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بين أكتافهم في ظهورهم، فلما جاء الدور إلى أنس بكى، فقال: ما يبكيك يا خادم رسول الله! يعني: أن الحجاج يعلم أن هذا خادم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: والله لا أبكي جزعاً، وإنما أبكي أن النصارى لا يفعلون هذا بأساقفتهم ولا رهبانهم، وأنت تفعل هذا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يبكي لأن الأمة أنجبت مثل هذا. ويقول عمر بن عبد العزيز كما قال الحسن البصري: لو جاءت كل أمة بأخبث من فيها وجئنا بـ الحجاج لغلبناهم. وقد كان الحجاج محباً للقرآن الكريم، ومعظماً جداً للقراء، وأنس من أهل القرآن، ولكنه لم يكن مشهوراً به كشهرة أبي بن كعب مثلاً، كما كان الصحابة يعرفون الفرائض ولكن ليس كمعرفة زيد بن ثابت بها، فـ الحجاج كان يعظم رءوس القراء الذين لهم اجتهاد وحذق في كتاب الله عز وجل، وكان يغدق عليهم ويكرمهم، وهذه بلا شك منقبة، وكانت له عبادة طويلة في ليله ونهاره كالصيام والقيام، وكانت له من البلاغة ومحبة الفصاحة ونصرة اللغة العربية على غيرها الشيء والباع الطويل. والشاهد: أنه كانت له مناقب ومثالب، وهذا الذي حدا ببعض أهل العلم أن يتوقف فيه، وهم كثرة، وكان الحسن يقول فيه قولاً شديداً، فلما مات الحجاج، قيل: إن الحسن رآه في نومه فسأله: ما فعل الله بك يا حجاج؟! قال: قتلني بكل نفس قتلتها قتلة، أي: قتلني قتلة في مقابل كل نفس قتلتها، ثم غفر لي، قال الحسن: فوالله لا أقول فيه شيئاً بعد اليوم، أي: لا أكفره بعد اليوم، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت عن السلف، فمن قادح ومن مادح ومن متوقف ومن مكفر في أمر الحجاج، ويكفيه عاراً أن الأمة اختلفت في إيمانه وإسلامه وفي كفره، ولأجل هذا قال طاوس لأهل العراق: أنتم تزعمون أن الحجاج مؤمن؟ قال: [وقال منصور عن إبراهيم: كفى به عمى الذي يعمى عليه أمر الحجاج]، يعني: الذي يعمى أن الحجاج كافر مثلاً فهذا عمى وعقوبة من الله عز وجل، وقد طمس على بصيرته. قال: [وقال إبراهيم لما ذكر الحجاج: ألا لعنة الله على الظالمين]. ومن المعلوم أن اللعنة لا توجه إلا إلى كافر. قال: [وعن طاوس قال: عجبت لإخواننا من أهل العراق يقولون: الحجاج مؤمن! وعن أبي رزين قال: إن كان الحجاج على هدى إني إذاً لفي ضلال]، يعني: إذا كان الحجاج مع كل هذا البلاء مؤمن وعلى هدى فمن يحمل عليه فهو على ضلال، وهذا الكلام مفاده أنه لا يستوي أهل المعاصي مع أهل الإيمان والطاعات، يعني: يريد أن يقول: نحن نعلم يقيناً أننا على الهدى، وأن الحجاج على المعاصي، ويكفي أنه سفاك للدماء، فإذا كان الحجاج يستوي مع أهل الطاعة فهذا يعني أن أهل العراق وخاصة الكوفة يقولون: إن أصحاب المعاصي يستوون في الإيمان مع أصحاب الطاعات، وهذا هو الإرجاء، فالمرجئة يقولون: أفسق الناس كأعبد الناس فيما يتعلق بالإيمان، حتى قال قائلهم: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل. وهذا بلا شك كلام يخالف أصل الاعتقاد. [وقال الأجلح: قلت للشعبي: إن الناس يزعمون أن الحجاج مؤمن؟ قال: صدقوا، مؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله]. والإيمان أشكال وأنواع. قال: [وقال الحجاج -وهو الحجاج بن محم

اشتراط العمل في صحة الإيمان

اشتراط العمل في صحة الإيمان وكثير من الطلاب يسألون خاصة مع الفتنة التي تدور على الساحة الدعوية: هل العمل شرط صحة أو شرط كمال؟ ونقول ابتداء: إن أهل السنة يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، وأن العمل داخل في مسمى الإيمان، فالإيمان قول باللسان وعمل بالقلب والجوارح، والعمل القلبي: هو انقياد القلب وإذعانه وخضوعه لما أقر به اللسان، وعمل القلب شرط صحة في الإيمان، وأما عمل الجوارح فمكمل للإيمان. والكمال نوعان: كمال واجب وكمال مستحب، وهذا أعظم كلام في الإيمان وهو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى، فهو يقول: إن العمل عملان: عمل واجب، وهو ما يطلق عليه الكمال الواجب في الإيمان من الحلال والحرام وغير ذلك من الأمور المفروضة والواجبة، وكمال مستحب وهو الذي يتعلق به المستحبات من سائر النوافل المطلقة والراتبة وغير ذلك، فكلما ازداد المرء من هذه النوافل أحبه الله عز وجل، كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فهذا هو الكمال الواجب، وأما الكمال المستحب ففي قوله تعالى في نفس الحديث: (ولا يزال المرء يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث. فالكمال الواجب متعلق بالواجبات والفروض في الإسلام، ولها تأثير قوي جداً في زيادة الإيمان ونقصانه، والكمال المستحب هو الذي يبلغ بصاحبه ذروة الإيمان وكماله وتمامه. هذا معتقدنا في كون العمل شرطاً في صحة الإيمان أو شرط كمال، نقول: إذا كان الكلام منصرفاً إلى عمل القلب فإن عمل القلب من الذل والخضوع والانقياد شرط صحة في الإيمان، وأما عمل الجوارح فمنها ما هو متعلق بالكمال الواجب، وهذا يتعلق كذلك بأعمال الجوارح فعله المفروضة الواجبة، وأما الأعمال المستحبة فإنها تدخل في الكمال المستحب. ونعتقد أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الشيء إذا كان قابلاً للزيادة فلابد أن يقبل النقصان، وهذه القاعدة مسلم بها حتى عند المنطقيين والفلاسفة، وكذلك عند المرجئة، فالمرجئة يقولون: إذا كان الإيمان يزيد فلابد أن ينقص، ولما كان الإيمان عندهم هو التصديق فقد قالوا بعدم الزيادة في الإيمان، قالوا: لأن تصور الزيادة يستلزم تصور النقصان، والتصديق عندهم لا يقبل النقصان؛ لأنه لو قبل النقصان ونقص لنقص إلى الكفر والخروج عن الملة.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة أهل العلم الذين كفروا تارك الصلاة لم يكفروا الذي يأتيها مرة ويدعها أخرى، وإنما كفروه إذا تركها بالكلية، وهذا هو الراجح لدى أهل العلم، والإمام الحميدي نقل الإجماع في مسنده على أن تارك الخمس كافر في آخر المجلد الثاني قبل الفهرس، فقد ذكر هناك مجمل اعتقاده، وهو مجمل اعتقاد أهل السنة، وقد أجمل معتقد أهل السنة والجماعة في ورقة واحدة، حتى تعلموا بساطة الشرع وبساطة الاعتقاد، يعني: تصور أن اعتقادك يجمل في ورقة، هذا شيء عظيم جداً. فقد قال: وأجمع أهل السنة أن تارك الخمس كافر، أي: تارك الخمسة الأركان، ووقع النزاع في تارك الواحدة منهن، يعني: من ترك الصلاة الواحدة هل يكفر أو لا يكفر نزاع بين أهل العلم، والنزاع هذا معتبر، وتارك الزكاة كذلك وقع فيه النزاع، وأما تارك الصيام فلم يقع فيه كبير نزاع، وأعظم النزاع شهرة هو ما وقع في ترك الصلاة.

حكم تارك الزكاة

حكم تارك الزكاة اختلف العلماء في تارك الزكاة؛ لما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قاتل مانعي الزكاة، لكن مقاتلة أبي بكر لمانعي الزكاة كان لها فقه وتأويل، بدليل أن أبا بكر لما سئل: أكفار هم؟ قال: لا، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن مقاتله الخوارج: أكفار هم؟ قال: لا، ولكنهم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم، فعدهم من البغاة، بل والنبي عليه الصلاة والسلام حكم بذلك عندما قال: (تقتل عمار الفئة الباغية). وكان عمار بن ياسر في صف علي بن أبي طالب، فسماهم بغاة، والبغاة لا يقاتلون إلا بشرطين، الشرط الأول: أن يتحزبوا ويتميزوا ويتحيزوا في صعيد واحد، والشرط الثاني: أن يعظم خطرهم على الإمام ومن معه، أو أن يبدءوا الإمام بالقتال، فحينئذ يجوز بل يجب على الإمام أن يقاتل من بغى وخرج عليه، وهذا الذي حدث من علي بن أبي طالب مع الخوارج ومن قبله أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومن مانعي الزكاة من تأول قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]. فمانعو الزكاة الذين حاربهم أبو بكر الصديق كانوا صنفين، منهم قوم ظنوا واجتهدوا اجتهاداً خاطئاً أن الزكاة إنما تخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون من يأتي بعده، لقول الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: ((خُذْ))، أي: يا محمد! ((مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، وفهموا أن هذا الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، وليس لأحد من الخلفاء ممن يأتي من بعده. فهؤلاء تأولوا، ولكنهم أخطئوا، والمتأول المخطئ لا يحارب، وإنما يفهم ويبين له الأمر، ولكن هؤلاء تميزوا وتحيزوا مع المرتدين الذين ارتدوا عن دين الإسلام، فصاروا في صعيد واحد، فأخذ هذا الأمر حكم ما يسمى في الإسلام بقتال أهل الثغر. والثغر يجوز فيه قتل المؤمنين الموحدين إذا بقوا في وسط الكفار إذا قامت الحرب بينهم وبين الإمام، وهذا أمر معلوم، كما قال الله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح:25]، ولكنهم لم يتزيلوا، ومعنى تزيلوا: أي: تحيزوا وتميزوا، فهؤلاء لم يتميزوا ولم يتحيزوا، وصاروا ثلة قليلة من مانعي الزكاة المتأولين في وسط قوم عظام كثرة ارتدوا عن دين الإسلام صراحة، وكان يلزم أبا بكر الصديق أن يقاتل ويحارب هؤلاء المرتدين حتى يردهم إلى الإسلام أو يقتلهم، وإذا قتلهم فلابد أن يقتل معهم المتأولين في منع الزكاة، وإما أن يتركهم بلا قتال، وبالتالي يعظم خطرهم جداً على المدينة وعلى أهل المدينة من المؤمنين، خاصة مع موت النبي عليه الصلاة والسلام وجرح جميع القلوب في المدينة، بل وفي كل بقعة دخلت في الإسلام، فكانت المصلحة تستدعي قتالهم، وقد أنكر عمر بن الخطاب على أبي بكر قتالهم في أول الأمر، ثم أقره في آخر الأمر وشاركه في مقاتلتهم وقال: فما خاصمت أبا بكر فيها بعد، فسرعان ما انشرح لذلك، وعلمت أنه الحق، أي: علمت أن ما عليه أبو بكر الصديق هو الحق، وعلمت أن الله شرح صدره لذلك، فعلم عمر بذلك أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق.

حكم السجود للأصنام

حكم السجود للأصنام من سجد للصنم خوفاً من القتل وقلبه مطمئن بالإيمان فقد قال الله فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، أي: إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر، وأهل العلم يقولون: ليس كل من تلبس بالبدعة لبسته البدعة، وليس كل من وقع في الكفر كان كافراً. هذا كلام أهل السنة، فلو أن رجلاً سجد لصنم فقد يكون لم يره، فالمبادرة إلى الحكم الشرعي عليه بالكفر تجاوز، وربما سجد للصنم وهو لا يدري أن هذا صنم، لكن الرائي له يعلم أن هذا صنم، وأما الذي سجد فلا يعلم أنه صنم، فهو جاهل هنا بأن هذا صنم، وأما من سجد للصنم مختاراً غير مكره وهو راض بذلك فلا شك أنه كافر.

حكم العمل وتركه في الإيمان

حكم العمل وتركه في الإيمان لو قلنا: إن العمل ركن مجمل في الإيمان فهذا كلام لطيف، والركن هو ما كان داخلاً في ماهية الشيء، فيصح الشيء بصحته ويبطل بإبطاله، فهو داخل في ماهية الشيء، كالركوع في الصلاة مثلاً، فلا تصح الصلاة بغير ركوع، سواء تركه المرء عامداً أو جاهلاً أو ناسياً. هذا تعريف الركن عند الأصوليين. وماهية الشيء: أصله وذاته، فيبطل الشيء بترك ركنه عمداً أو سهواً أو جهلاً، ودائماً الذي تربى على مذهب واحد في قضية ما يصعب عليه أن يتعايش مع القضايا الأخرى، وإذا كان الخلاف بين أهل العلم معتبراً فأرجو أن يكون عندك معتبراً، والذي يترجح لدي في تارك الصلاة أنه كافر، وهذا هو الذي تخدمه الأدلة، ولكني لا أكفر إلا من ترك الصلاة بالكلية، وأما الذي يأتيها أحياناً ويدعها أحياناً فإنه وإن كان على خطر عظيم لكني لا أجرؤ على تكفيره، هذا إذا كنت تريد أن تسمع رأيي في القضية، وأما إذا كان الأمر لا يعنيك فهو كذلك لا يعنيني إن شاء الله. فمجمل العمل ركن في الإيمان، بمعنى: أن المرء لو ترك العمل كله لكفر، وهذا هو كلام الحميدي الذي نقلته، قال الحميدي: أجمع العلماء على أن من ترك الخمس كفر. وأنا أيدت الحميدي، وهذا هو كلام ابن تيمية، فالرجل الذي يصلي الصلوات الخمس مؤمن، وكلما صلى كلما ازداد إيمانه، فإن كان لا يصلي السنن الراتبة ولا النوافل وغيره يصلي الخمس مثله ويحافظ على السنن الراتبة والنوافل فالذي يصلي الرواتب والنوافل أعظم أيماناً منه، فزيادة الإيمان هنا ترتبت على العمل، لكن العمل منه ما هو فرض ومنه ما هو مستحب، والكمال الواجب في الإيمان هو الذي لا يسع المؤمن تركه، ويمكن أن نقول عنه: إنه المفروض، أو أصل الإيمان. ولو أن شخصاً الآن يصوم رمضان دائماً، وآخر يصوم رمضان ويصوم الإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر وغير ذلك من الأيام، وثالث يصوم يوماً ويفطر يوماً -وهذا خير الصيام وهو صيام داود عليه السلام- فإن الثالث أعظم إيماناً، وهذا بلا خلاف بيني وبينك، والثاني أعظم إيماناً من الأول، وقد أتت زيادة الإيمان من النوافل، وزيادة الإيمان هنا متعلقة بالإيمان المستحب، ونحن لا نختلف في هذا. وتسمية ابن تيمية للإيمان بالإيمان الواجب والإيمان المستحب هذا محل اجتهاد، فلك أن تسمي الكمال الواجب بأصل الإيمان أو فرض الإيمان، خاصة إذا كان هذا فيما يتعلق بمجمل العمل وعمل الفرائض، وأما عمل المستحبات فلا خلاف بيني وبينك -كما لا خلاف بيننا وبين ابن تيمية - أنه متعلق بالكمال المستحب.

ضرورة التفريق بين رؤساء الفرق والأتباع

ضرورة التفريق بين رؤساء الفرق والأتباع قال: [قال: سألت سفيان الثوري: أصلي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ قال: لا، ولا كرامة]، يعني: لا تصل خلفه. وهذا محمول على الداعية، أو على الرءوس. وقد سئل مرة عالم من علماء الحرم: هل الشيعة كفار أو مسلمون؟ وهذا السؤال وجيه جداً، وأوجه من ذلك أن يوجه لكل فرقة من فرق الضلالة، هل هي كافرة أو مسلمة؟ فأجاب الشيخ إجابة عظيمة جداً، فقال: تقصد الشيعة الذين ينظرون ويدعون ويكتبون ويؤلفون، أم تقصد الشيعة الذين يسيرون في الشوارع والطرقات؟ ولو قرأت في ترجمة علي بن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما لوجدت أن شيخ الإسلام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء يقول بعد أن تكلم في الفتنة بكلام لطيف جداً: وما ذنب من نشأ في الشام يحب يزيد؟ أو قال: ما ذنب من نشأ في الشام على رضاع حب يزيد وحب معاوية ولا يعرف الرأي الآخر، وهو ليس من أهل العلم والنظر؟ كما أنه كذلك ما ذنب من نشأ بالعراق على حب علي رضي الله عنه، ولا حظ له من العلم والبحث والنظر فدرس القضية من أولها إلى آخرها، وإنا لنحمد الله تعالى أنه لم يجعلنا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فإننا نحب علياً ومعاوية ونواليهما ونترضى عنهما. وهذا كلام جميل جداً، فهو يحمد الله أنه لم يكن من أهل هذا الفريق ولا من ذاك، ولكنه يلتمس العذر لمن نشأ من عامة الشعب الشامي أو من عامة الشعب العراقي، فهذا نشأ في حب معاوية وذاك نشأ في حب علي، وهما لا علم عندهما ولا فقه، ولو أخذت الآن طفلاً عمره سنتان ووضعته في بيئة نصرانية فبلا شك أنه سيكون نصرانياً، وربما تعصب للنصرانية؛ لأنه لم ير غيرها، ولو أتيت بطفل نصراني إلى بيئة المسلمين فنشأ بينهم فسيكون مسلماً، ولو نشأ بين إخوة داعين للسنة ومحبين لها فسينشأ معهم في مسجدهم محباً للسنة مدافعاً عنها، يغضب إذا انتهكت حرمة من حرماتها؛ لأنه نشأ على هذا. وقد التقيت في أمريكا برجل كان من رءوس الشيعة في العراق، وكان قد أخذ على عاتقه دعوة الشيعة في مدينة دترويت، وهي أعظم مدينة في أمريكا تشيعاً، والذي يدخل في الإسلام من الأمريكان يدخل على مذهب الشيعة؛ لأن أحداً هناك لا يجرؤ أن يدعو إلى السنة مخافة بطش الشيعة في هذه البقعة من الأرض، فهم لهم شوكة ونجدة قوية جداً في هذا البلد، حتى إن الإخوة السلفيين يخافون أن يتكلموا، وبالمناسبة -والحر تكفيه الإشارة- الشيعة لا يسمحون لأحد بالكلام إلا لجماعة التبليغ، وهذا له مدلوله عندي. فالشيعة يدعون في هذا المكان، والذي يدخل في الإسلام يدخله على مذهبهم، وهذا الأخ العراقي كان مشاركاً في الحرب الإيرانية العراقية والعراقية الكويتية، فأسر في بلاد الحجاز ومكث في بلاد الحجاز عامين، ثم خيروه بعد ذلك بين أن يرجع إلى بلاده أو يهاجر إلى أي بلد من بلاد المهجر؛ لأن السعودية أبت أن تبقي الأسرى بين أحضانها أكثر من ذلك، فاختار هذا الأخ السفر إلى بلد أوروبي آمن، فاختارت السعودية أن تذهب بهؤلاء إلى لندن وفرنسا وأمريكا، فكانت قرعة هذا في أمريكا، وفي أمريكا اختلط رغماً عنه بإخوة سلفيين، وظل يسمع منهم تقريباً على مدار عام وهو على تشيعه، وكانت له زوجة بالعراق وسبعة من الأبناء، فلما هداه الله عز وجل للسنة أنفق كل ماله على الهاتف مع امرأته وأولاده يدعوهم إلى السنة وإلى ترك التشيع، وحتى عهد قريب جداً لم يدخلوا، بل إنهم من أشد الناس حرباً على أبيهم، وحاربته المرأة مع أهلها وحاربه أهله؛ لأنه صبأ وخرج عن التشيع الذي هم فيه. وقد أخبرني هذا الأخ أن بلاد العراق يكاد البيت لا يخلو من أصنام أهل البيت، فهم يصورون التماثيل لـ علي بن أبي طالب أو لـ محمد الباقر أو لـ موسى أو لـ جعفر الصادق أو غيرهم من أئمة الشيعة، حتى أبو الحسن العسكري مهديهم المنتظر، فيصورون هذه التماثيل ويتقربون إلى الله بعبادتها، كل في بيته. ويقول: لا يخلو شارع ولا حارة ولا مسجد ربما من قبر من قبور أهل البيت. وقال: يصعب جداً على رجل يعيش في العراق أن ينخلع من شيعيته. ولا بد أن نعلم أن أصل العراق كان على السنة، والذي أدخل التشيع في العراق هي إيران، كما أنها تحاول جاهدة الآن إدخال التشيع في بلاد مصر.

ترك العلماء شهود جنائز أهل البدع

ترك العلماء شهود جنائز أهل البدع قال: [قال أبو نعيم: مرت بنا جنازة مسعر بن كدام منذ خمسين سنة ليس فيها سفيان ولا شريك]، مع أن الكل من الكوفة، ولكن لما كان مسعر بن كدام مرجئاً لم يشهد جنازته سفيان ولا شريك النخعي؛ لأنه مبتدع، مع أن الأئمة احتملوا حديث مسعر بن كدام، بل إن حديثه في صحيح مسلم، وهو من رجال مسلم.

حكم رواية المبتدع

حكم رواية المبتدع البدعة شيء والعدالة في الرواية شيء آخر، فربما يكون المبتدع من أشد الناس في روايته، ولذلك يقول الإمام الشافعي: رواية أهل البدع الأصل فيها الرد ما لم يوافق الثقات إلا الخوارج، مع أن الخوارج هؤلاء من شر خلق الله كذلك، ولكن الأصل عندهم تكفير مرتكب الكبيرة، والكذب المتعمد في حديث الناس كبيرة، فما بالك في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهم مع بدعتهم لا يكذبون قط في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يكذبون في حديث الناس، فكيف يكذبون على الله ورسوله؟ فلما اطمأن أهل السنة إلى أن رواية الخوارج ليس فيها كذب ولا تدليس ولا خيانة ولا غش احتملوها؛ لأنهم من جهة الرواية ثقات عدول، وأما من جهة الاعتقاد فهم على بدعة، وأهل السنة يقولون: لا بأس بحمل الرواية عن المبتدع ما لم يكن داعية إلى بدعته، وما لم تكن روايته مؤيدة لبدعته، مثل أن يأتي حنفي مثلاً يروي بالسند المتصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (سيخرج في أمتي رجل يسمى محمد بن إدريس هو أشد عليها من إبليس). ومحمد بن أدريس هو الشافعي، فهذا الكلام فضلاً عن نكارته الظاهرة فإن رواته أحناف وكذابون فلا يقبل، ولم يرد الشافعية عليهم، يعني: لم يردوا عليهم الكذب بالكذب والاختراع بالاختراع.

نهي الإمام مالك عن تزويج المرجئة

نهي الإمام مالك عن تزويج المرجئة قال: [كان رجل بالمدينة يقال له: أبو الجويرية يرى الإرجاء، فقال مالك بن أنس: لا تناكحوه].

بعض معتقدي الإرجاء كانوا من أكثر الناس عملا

بعض معتقدي الإرجاء كانوا من أكثر الناس عملاً كان أئمة الإرجاء من أشد الناس عملاً، وليس معنى أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان عندهم أنهم لا يعملون اتكالاً على هذا، فـ طلق بن حبيب كان مرجئاً وكان من أعبد الناس، فلا يلزم من المخالفة في المعتقد أو القول بشيء يخالف المعتقد أن يخالف كذلك من جهة العمل، فعندما يروى عن إمام من أئمة الإرجاء أنه يقول: الإيمان قول بلا عمل فهذا لا يستلزم أنه نفسه تارك للعمل، بل ربما يكون من أشد الناس وأحرصهم على العمل، وعندما نتكلم عن حكم صلاة الجماعة سنقول اختلف أهل العلم فيها على أربعة مذاهب، منهم من قال: هي واجبة، ومنهم من قال: سنة مؤكدة، ومنهم من قال: هي واجبة لكنها ليست شرط صحة في الصلاة، ومنهم من قال: بل هي واجبة وشرط صحة في الصلاة، وجمهور العلماء الذين قالوا: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة لم يرد عنهم أنهم تركوا الجماعة.

اختلاف حكم الداعية للبدعة عن المتبع لها فقط

اختلاف حكم الداعية للبدعة عن المتبع لها فقط قال: [قال يزيد بن هارون: من كان داعية إلى الإرجاء فإن الصلاة خلفه تعاد]. وهذا النص فيه تصريح في التفريق بين الداعية وبين الأتباع. فلا يصح عند أهل السنة إطلاق البدعة على المتبع للبدعة، وإنما يصح على المبتدع أو الداعية، وقد قلت: إن الشيخ الذي في الحرم عند أن سئل: هل الشيعة مسلمون أم لا؟ قال: تسأل عن من؟ أتسأل عن الخميني الذي هو إمامهم والمنظر لهم، وهو روح الله آية من الآيات عندهم، وهو الذي يدعو إلى التشيع ويحميه في العالم كله؟ أو تسأل عن شخص نشأ في إيران؟ فكان هذا التفريق من توفيق الله عز وجل لهذا الشيخ.

مخالفة المرجئة للإيمان

مخالفة المرجئة للإيمان قال: [وقال محمد بن يوسف دخلت على سفيان الثوري وفي حجره المصحف وهو يقلب أوراقه، فقال: ما أحد أبعد منه من المرجئة]، أي: أنه يريد أن يقول: المصحف كله من أوله إلى آخره يأمرنا بالعلم والعمل على حد سواء، فكيف بالمرجئة يفرقون في كلام الله عز وجل بين الأمر بالإيمان والأمر بالعمل الذي هو أصل أو داخل في مسمى الإيمان.

باب ما نقل من مقابح مذهب المرجئة

باب ما نقل من مقابح مذهب المرجئة قال: [باب ما نقل من مقابح مذهب المرجئة].

ما روي عن أبي حنيفة من القول بالإرجاء

ما روي عن أبي حنيفة من القول بالإرجاء قال: [عن سفيان الثوري قال: سمعت عباد بن كثير يقول: استتيب أبو حنيفة مرتين، قال مرة: لو أن رجلاً قال: أشهد أن لله بيتاً إلا أني لا أدري أهو هذا أو بيت بخراسان كان عندي مؤمناً]. وهذا صريح في كتاب المجروحين لـ ابن حبان بلفظ: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. هكذا ورد النص. وأبو حنيفة عند الإطلاق هو الإمام العلم المشهور النعمان بن ثابت الكوفي، وهو معاصر لـ سفيان الثوري وعباد بن كثير، وكلهم من بلد واحد، وكان بينهم من الإحن ما بينهم، فقد كان أبو حنيفة إمام الرأي، وكان سفيان الثوري وعباد بن كثير رأسان في السنة، وأنتم تعلمون أنهم بشر، والقاعدة عند أهل العلم: كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى، ولو أصغينا لكلام كل قرين في قرينه لم يسلم لنا أحد لا من السلف ولا من خلف. وأما قول عباد: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، فهذا فيه نظر من جهة السند ومن جهة النظر، ولو صح هذا الأمر في حق أبي حنيفة لكان مشهوراً جداً شهرة النار على العلم، أو شهرة الشمس في رابعة النهار، ولا يتصور أن أمراً خطيراً كهذا يروى بإسناد واحد ومن طريق واحد، وأي عمل أوقع أبا حنيفة في الكفر؟ وأنا ما كنت أحب دراسة هذا الباب، لكني خشيت أن يفهم فهماً مغلوطاً معكوساً فأحببت التعريج والتعليق عليه. فأما التعليق فأحيل إلى الكتاب الجليل العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وذكر منهم أبا حنيفة رضي الله عنه ورحمه. فـ أبو حنيفة وقع حقيقة في شيء من الإرجاء، ولكنه لم يكن داعية إليه، وليس هو الذي ابتدع الإرجاء، وإنما قال بقول المرجئة أحياناً، ولم يتبن مذهب الإرجاء في كل قضية من قضايا الإيمان، وإنما زلت قدمه في بعض القضايا فوافق فيها المرجئة، فهذه المسائل تعاب عليه وترد، ولا ننفي أن الأصل فيه الاستقامة والصلاح من جهة العلم والعمل، وكان داعية إلى السنة وإن خفيت عليه في بعض الأحيان، وأما كونه استتيب من الكفر مرتين، يعني: أنه حبس في بيت ثلاثة أيام في كل مرة، ويقال له: إما أن ترجع عن هذا الكفر الذي تقوله أو نقتلك، فما وجد بداً إلا أن يرجع مخافة القتل، فهذا كلام بعيد جداً أن يصدر من إمام من أئمة الهدى كـ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولا يتصور أن أبا حنيفة يقول: أشهد أن لله بيتاً، لكني لا أدري أهو الذي بمكة أو بيت آخر بخراسان، لا من جهة النظر ولا من جهة العقل، وقد ثبت أن أبا حنيفة حج مراراً، فلم يحج إلى خراسان ولا مرة يبحث عن البيت هناك، بل كان حجه مع المسلمين إلى بيت الله الحرام. قال: [ولو أن رجلاً قال: أشهد أن محمداً رسول الله إلا أني لا أدري أهو الذي بالمدينة أو رجل كان بخراسان، كان عندي مؤمناً]. وهذا لا يتصور عنه كذلك كما لا يتصور الأول. قال: [وقال حمزة بن الحارث عن أبيه: سمعت رجلاً سأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق، ولكني لا أدري هي هذه أم لا، فقال: مؤمن حقاً. وسأله رجل فقال: أشهد أن محمد بن عبد الله نبي، لكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا، قال: مؤمن حقاً. قال حنبل: قال الحميدي: من قال هذا فقد كفر، وسمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر]. وهذا صحيح عن أحمد. ولكنهم لم يكفروا أبا حنيفة، وإنما قالوا: من قال هذا. وفي ثبوت هذا عن أبي حنيفة أكبر النظر من جهة الإسناد ومن جهة النظر كذلك في حال أبي حنيفة وفي عمله. فمن قال: إن لله كعبة لكني لا أدري أهي التي في مكة أم في غيرها، ومن قال: إن الله أرسل محمداً نبياً، ولكني لا أدري أهو الذي قبره بالمدينة أم غير ذلك، ومن قال: إن الله افترض خمس صلوات في اليوم والليلة، ولكني لا أدري أهي الصلاة التي يصليها الناس أو غيرها، ومن قال: إن الله افترض زكاة في أموال الأغنياء ترد إلى فقرائهم، ولكني لا أدري ما كنه هذه الزكاة وما مقدارها وعددها، وغير ذلك على سبيل التنكر فإنه لا يكون مؤمناً، ولم يكن أبو حنيفة من هذا الصنف. قال: [قال أبو إسحاق الفزاري: قال أبو حنيفة: إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد]. وهذا لا يمكن أن يقوله أحد من أجهل جهلة المسلمين، بل لو سئل كافر يهودي عن هذا الكلام لأنكره، وقال: لا يعقل هذا، مع أن اليهود يكرهون جبريل؛ لأنه صاحب الوحي، وعداؤهم لجبريل لا ينتهي، وقد بين الله تعالى عداءهم له عليه السلام في سورة البقرة وفي غيرها من السور، حتى هم نفس

تحذير السلف من منهج المرجئة

تحذير السلف من منهج المرجئة قال: [قال الثوري: اتقوا هذه الأهواء، قيل له: بين لنا -رحمك الله- ما هي الأهواء وماذا نجتنب؟ فقال: أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل، من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان -أي: عند المرجئة- إيمانه على إيمان جبريل والملائكة، وإن قتل كذا وكذا فهو مؤمن، وإن ترك الغسل من الجنابة فهو مؤمن، وإن ترك الصلاة، وهم يرون السيف على أهل القبلة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: من قال: إنه مؤمن فهو مرجئ. وقال الأوزاعي: من آمن وعصى إيمانه كإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل؛ لأن جبريل آمن وأطاع، وإبليس آمن وعصى. وقال وكيع: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة تقول: الإيمان قول بلا عمل، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة. ومر أبو حنيفة بسكران -أي: برجل سكران- فقال له: يا أبا حنيفة! يا مرجئ! -أي: السكران هو الذي يقول لـ أبي حنيفة: يا مرجئ! - فقال له أبو حنيفة: صدقت، الذنب مني، جئت سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان]، يعني: أنا المخطئ إذ سميتك مؤمناً؛ لأنه مرتكب كبيرة، وعند المرجئة أن من ارتكب جميع الكبائر إيمانه كإيمان أبي بكر. فتصور أن أبا حنيفة كان مخطئاً في مذهبه وجاءه شخص سكران فأفاق أبو حنيفة مما هو فيه من الباطل عندما قال له السكران: يا مرجئ! فقال أبو حنيفة: أنا مخطئ إذ جعلت لهؤلاء الناس أشياء لا يستحقونها.

ثناء العلماء على أبي حنيفة

ثناء العلماء على أبي حنيفة أثنى العلماء على أبي حنيفة، ولا يكاد أحد منهم يذكر أبا حنيفة إلا ويثني عليه، وقد قال ابن تيمية كلاماً جميلاً حيث قال: من ظن بـ أبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى. وقال ابن كثير في ترجمته: فقيه العراق وأحد أئمة الإسلام والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء. وأورد ثناء الأئمة عليه، منهم يحيى بن سعيد وابن المبارك والشافعي وأبو نعيم ومكي بن إبراهيم وهؤلاء العلماء كانوا قريبي عهد به، فلو كان ما نسب إليه من مستشنعات صحيحاً عنه لكانوا أول من يعلم به، ولكنهم أثنوا عليه مع اطلاعهم على هذه المستشنعات ولم يلتفتوا إليها، فرحم الله علماء الأمة الإسلامية، وكتب لهم أجر جهودهم ونشرهم لدينه سبحانه وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

تحالف الشيعة مع المجوس واليهود والنصارى

تحالف الشيعة مع المجوس واليهود والنصارى Q إن الشيعة على فساد عقيدتهم هم الذين تحدوا الظلم والجبابرة على مر العصور، فهل هذا فتنة لأهل السنة والجماعة، أم أن الأسماء ليست دليلاً دقيقاً على المسميات، أقصد أن أهل السنة والجماعة أيضاً يشوبهم كأشخاص نقص؟ A ليس الشيعة هم الذين تحدوا الظلم وتصدوا للجبابرة، بل الدارس لتاريخ الشيعة يعلم جيداً أن الشيعة وضعوا أيديهم في أيدي المجوس تارة والنصارى واليهود تارات أخرى في محاربة أهل السنة والجماعة، وهذا أمر يطول، وقد تناولت طرفاً عظيماً منه في أثناء التعليق على معتقدات الشيعة، والمقام لا يسمح بسرد شيء منه، ولو رجعت مثلاً إلى البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو إلى كتاب تاريخ السنن والملوك أو العواصم من القواصم للإمام ابن العربي أو غيرها من الكتب لعلمت أن هؤلاء فرقوا المسلمين، وهم يعملون بالليل والنهار على محاربة السنة. ومصر كانت في زمن الدولة الفاطمية بلداً شيعياً، فقد حمل البلد على التشيع رغم أنفه، والذي يتتبع تاريخ الفاطميين يعلم أنهم لما فتحوا مصر بنوا الأزهر لنشر مذهب الباطنية والإسماعيلية والرافضة وغير ذلك، بل هذه المذاهب هي التي كانت تدرس فحسب في الأزهر الشريف، لما لم يكن شريفاً في ذلك الوقت، وما كان الأزهر شريفاً إلا في فترة صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله. ولما كان للشيعة في مصر الغلبة والنجدة والصولة كانوا يفتشون بيوت أهل السنة بيتاً بيتاً في كل ليلة، فإذا وجدوا عند أحدهم مصحفاً أو كتاباً من كتب السنة كـ البخاري أو مسلم أو موطأ مالك أو مسند أحمد شنقوا صاحب هذا الكتاب في الميادين العامة حتى يكون عبرة لغيره. وهذا الكلام مذكور في كتب التاريخ ككتاب البداية والنهاية.

حكم إقامة غير المؤذن، وحكم الخروج من المسجد بعد الأذان

حكم إقامة غير المؤذن، وحكم الخروج من المسجد بعد الأذان Q أذنت أذان صلاة العشاء، ثم وكلت شخصاً لإقامة الصلاة؛ لأنني أريد أن أحضر درس العلم وأحرص على حضور الدرس من أوله، فما حكم هذا الفعل؟ A هو مشروع وإن كان خلاف الأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قضى بأن من دخل المسجد بعد الأذان فلا يخرج منه حتى يصلي الفرض الذي أذن له، وهذا الأمر محمول على الاستحباب، ومن خالف ذلك فقد وقع في الكراهة التنزيهية، والحكم يختلف بحسب السبب الداعي للخروج، فلو أنك دخلت مسجداً فوجدت فيه قبراً فيجب عليك أن تخرج منه، ومن كانت له حاجة أو عنده مصلحة تقضي أن يصلي في مسجد آخر فلا بأس أن يخرج من هذا المسجد إذا أيقن أنه يدرك الجماعة في المسجد الآخر، حتى وإن كان هذا الخروج بعد الأذان.

حكم الاتكاء على راحة اليد الشمال

حكم الاتكاء على راحة اليد الشمال Q هل النهي عن الاتكاء على راحة اليد الشمال في الصلاة فقط، أم هو نهي عام؟ A هو نهي عام في الصلاة وغيرها.

حكم الأكل من الطعام المصنوع بمناسبة مولد الحسين

حكم الأكل من الطعام المصنوع بمناسبة مولد الحسين Q اشترت جارة لنا لحماً وصنعت طعاماً بمناسبة مولد الحسين -رضي الله عنه- ووزعته على الجيران، فهل يجوز الأكل منه أم لا؟ A لا يجوز، سواء ذبحته لهذه المناسبة أو اشترته من الجزار لأجل هذه المناسبة، فلا يجوز الأكل منه، وهو أشبه بلحم ذبح على النصب.

صفة ثوب الصلاة للمرأة

صفة ثوب الصلاة للمرأة Q ما صفة ثوب الصلاة للمرأة؟ A يجب على المرأة أن تلبس ثوباً طويلاً للصلاة، يغطي ذراعيها إلى الرسغين على الأقل ويغطي ظهر القدم.

حكم العقيقة، وميقاتها

حكم العقيقة، وميقاتها Q إذا لم يعق عن الولد في اليوم السابع أو الرابع عشر أو الواحد والعشرين هل يعق عنه في أي وقت؟ وهل كل إنسان يعق عن نفسه إذا كبر إذا لم يعق عنه والده؟ وهل العقيقة سنة أم واجبة؟ A العقيقة محل نزاع بين أهل العلم بين سنيتها ووجوبها، والذي يترجح من مذاهب جميع العلماء: أن العقيقة سنة مؤكدة، والنبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد البعثة، وهذا يدل على تأكيدها، وقال: (كل غلام مرتهن بعقيقته). وهذا تهديد ربما تناسب مع قول القائلين بأن العقيقة واجبة. وأما ميقاتها ففي اليوم السابع، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يعق عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى)، يعني: يحلق رأسه ويماط عنه الأذى في يوم سابعه، وأما حديث الأربعة عشر أو الواحد والعشرين فحديث ضعيف، وذهب ابن حزم إلى أن من لم يعق عن ولده في اليوم السابع لم يقبل ذلك بعد السابع، ولكن جمهور أهل العلم -ورأيهم هو الرأي الصواب- أن من لم يتيسر له العق عن ولده في اليوم السابع فهي في ذمته متى تيسر له ذلك، واستحب أحمد أن يستدين ليعق عن ولده في اليوم السابع إذا غلب على ظنه أن يأتيه مال بعد السابع. ويستحب للإنسان أن يعق عن نفسه إذا لم يعق عنه والده، وليس على سبيل الوجوب؛ لأنه إن كان فيها إثم فإنما يقع على الأب إذا تيسر له ذلك فلم يفعل. وأما من لم يتمكن من العق مطلقاً في حياته لعدم الميسرة فإن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا شيء عليه.

قول الشيعة الإمامية بنقص القرآن الكريم

قول الشيعة الإمامية بنقص القرآن الكريم Q ما هي الفرقة التي ادعت أن القرآن غير مكتمل، وأن ثلثيه سيأتي به المهدي المنتظر؟ A الإمامية، قالوا: القرآن الذي بين يدي الناصبة -الذين هم نحن، يعني: أهل السنة، فهم يسموننا ناصبة أو نواصب؛ لأننا نناصبهم أو نناصب أهل البيت العداء، وليس الأمر كذلك، بل إننا نحب أهل البيت حباً جماً، ونعطي لهم حقهم، رضي الله عنهم- إنما هو ثلث القرآن الحقيقي، ومنهم من يقول: ليس هو القرآن الذي بين يدي الناصبة -أي: أهل السنة- وأن هذا القرآن لم ينزل منه حرف واحد من السماء، وأن القرآن الذي نزل من السماء خص النبي عليه الصلاة والسلام به علياً، وخص علي به فاطمة، وخصت به فاطمة أبناءها الحسن والحسين وغير ذلك، حتى اختفى هذا القرآن مع المهدي المنتظر أبو الحسن العسكري في سرداب سامراء في العراق، وسيظهر آخر الزمان، وهو المهدي المنتظر عندهم، بخلاف المهدي المنتظر عندنا.

حكم حلق اللحية للسفر إلى العمرة

حكم حلق اللحية للسفر إلى العمرة الشيخ: شخص يريد السفر لأداء العمرة وجواز سفره فيه صورة من غير لحية، وأصبح الآن له لحية، فهل يحلق لحيته أم لا؟ وإذا لم يحلقها فهل يلحقه ضرر من ذلك؟ A إن شاء الله لا يكون في ذلك ضرر، وتوكل على الله وسافر، وقد سافر معنا أناس على نحو ما ذكرت، وإن شاء الله بالخروج بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل تنجو من فتنة القوم.

حكم لعن إبليس والاستعاذة منه

حكم لعن إبليس والاستعاذة منه Q هل يجوز لعن إبليس أم نستعيذ بالله منه فقط؟ A يجوز الاثنان، فإذا كانت اللعنة جائزة على أصحاب المعاصي أحياناً، فكيف برأس المعاصي كلها والسبب في وجودها.

العذر بالإكراه

العذر بالإكراه Q لو قال رجل من أهل العلم المتبعين قولاً وهو مجبر مضطر، والعامة والجمهور يعتقدون أنه قال ذلك عن علم وحجة، واتبعوه على ذلك، فما حكمه، مثل أن يقول للعامة: إن بين المسلمين وغيرهم أخوة وطن وقومية، فهل يعذر لو كان مجبراً؟ A دائماً ينظر الواحد للقضية على أنها قضية الغير وليست قضيته، فلماذا لا تضع نفسك أنت في هذا الموقف، فإنك إذا أخذت وعزلت ستقول ذلك، وأنت مجبر؛ لأنك قد عذبت غاية العذاب، وعندما نرى أن ما نزل بك من بلاء أقوى من قدرتك على تحمله فسنعذرك. نسأل الله السلامة لنا ولكم.

حد عورة المرأة المسلمة بين المحارم

حد عورة المرأة المسلمة بين المحارم Q ما هو حد العورة للمرأة المسلمة بالنسبة لمحارمها؟ A الكلام في هذه القضية كلام طويل جداً، وقد سمعت في الأسبوع الماضي شريطاً مدته ساعة ونصف تقريباً للشيخ الألباني رحمه الله يتعلق بهذه القضية فقط، وعنوان الشريط عورة المرأة المسلمة أمام المحارم، وخلاصته: أن عورة المرأة المسلمة أمام محارمها -يعني: أمام ولدها وعمها وأبيها وخالها وابنها من الرضاعة- هي مواضع الوضوء، يعني: لا بأس أن تظهر المرأة شيئاً من قدمها وشيئاً من ذراعها مثلاً، ورقبتها ووجهها وكفيها إذا كانت من أهل النقاب، وأما الشعر فقد وقع فيه نزاع، وكره أحمد بن حنبل رحمه الله أن يطلع -أي: المحارم- على شعر المرأة، وهذا طبعاً داعية إلى تمام الصيانة والعفة.

حكم الصلاة خلف مرتكب البدعة غير المكفرة

حكم الصلاة خلف مرتكب البدعة غير المكفرة Q هل تجوز الصلاة خلف الإمام المرتكب بدعة غير مكفرة؟ A نعم إذا كانت البدعة غير مكفرة، والذي يطوف حول القبر ويستغيث بالمقبور بدعته مكفرة، لأنه صرف ما يجب لله عز وجل لغير الله، وهذا النوع شرك، فإذا دخلت المسجد ووجدت حلقة ذكر مثلاً وأصحابها يترنحون يمنة ويسرة ويذكرون الله على الحقيقة، وفي أثناء ذكرهم يتلون أشعاراً أو يذكرون الله تعالى ذكراً ليس فيه نوع شرك، فهذه الطريقة طريقة مبتدعة، ولو صلى أحد الصوفية وليس له من البدعة إلا هذا النوع من الذكر فهذه البدعة غير مكفرة، وهي لا تمنع من الصلاة خلفه، فإذا كانت البدعة غير مكفرة فلا بأس أبداً بالصلاة خلفه، مع اعتقاد أن الأمة سلفاً وخلفاً لا تزال تحرص على أداء الصلاة، وعلى صحبة أفضل الناس وأخيرهم وألزمهم للسنة، ولست بذلك أعني أنه لابد أن تصلي خلفه، بل لو كان هناك من الأئمة من هو أحسن منه حالاً فلا شك أن الصلاة خلفه أولى من الصلاة خلف هذا، ولكن لو اضطررت إلى أن تصلي خلف مبتدع بدعة غير مكفرة فإنه لا بأس بهذه الصلاة وهي صحيحة.

إفتاء الشيخ الألباني بإخراج زكاة الفطر حبوبا وما شابهها

إفتاء الشيخ الألباني بإخراج زكاة الفطر حبوباً وما شابهها Q المعروف عن الشيخ الألباني رحمه الله أنه يقدم الحديث على أي قول، فكيف قال بجواز صدقة الفطر من المال، ولم يقل من الطعام كما ورد في النص؟ A أين قرأت هذا الكلام للشيخ؟ وهل قال هذا الشيخ الألباني؟ فالمشهور والمعروف عن الشيخ الألباني أنه يرفض رأي أبي حنيفة في هذا تماماً، وهو معروف بتشدده جداً في هذه القضية، وقد سئل مراراً وسمعناه مشافهة وفي المسجلات يرفض تماماً أن تخرج زكاة الفطر مالاً، ويقول بوجوب إخراج زكاة الفطر حبوباً وما شابهها، بل إنه سئل -وأنا جالس أسمع- عمن أخرج زكاة فطره مالاً فقال: يعيد إخراجها طعاماً إذا كان في رمضان، يعني: إذا كان ما زال في رمضان يعيد مرة أخرى ويخرجها طعاماً، فنسبة الوهم إلى الناقل لهذا الكلام أولى من نسبة هذا القول إلى الشيخ مع ما اشتهر عنه من القول بالرأي الآخر.

حكم الدراسة عند أهل البدع

حكم الدراسة عند أهل البدع Q أريد أن أقرأ على شيخ في أحد المذاهب الفقهية وأنا محتاج إلى هذا، ولكن هذا الشيخ تغلب عليه البدعة في بعض مسائل العقيدة، ويغلب على ظني أني لن أتأثر به إن شاء الله، فهل يجوز أن أقرأ عليه؟ A أصل هذا السؤال عند أهل العلم الجواز، فربما يكون مبتدعاً في باب الاعتقاد مجتهداً في غيره من الأبواب، وتاريخ الأمة يقضي بأن الواحد إذا كان عنده خلل أو تقصير أو ضعف في جانب فلا يمنع أن يبلغ ضابط الاجتهاد في جوانب أخرى، والأمة تستفيد منه في هذه الجوانب التي تفوق فيها، ولكن الخطر كل الخطر على من يأخذ على يد هذا المبتدع، فإذا كان متيقظاً وحذراً جداً من بدعته وفتنته في الاعتقاد أو في المسلك فلا بأس بالأخذ على يديه. وكثير من أبناء هذا المسجد -حتى لا نبعد بعيداً- ذهبوا إلى شيخ من شيوخ البدعة في الأزهر مشهور ومعلوم عنه البروز في الفقه وأصوله خاصة فقه الشافعية، ولكنه في الاعتقاد أشعري، حتى أصبح الواحد منهم يرسل الرسائل ويقول: أنا مستعد للخصومة والمحاججة في أن مذهب الأشاعرة هو الحق، وأن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، والذي أرسل إلي بهذه الرسالة كان قد أرسل إلي بمثل هذا السؤال سواء بسواء، وقال: أنا آمن على نفسي الفتنة منه، وإذا به في حقيقة الأمر لم يأمن، بل وقع في براثن الانحراف من أول وهلة؛ لأن هؤلاء يملكون الحجج والبينات والبيان والفصاحة واللسان الطلق الذي لا يمكن لأحد أن يقف أمامهم إلا أحد على مثل ما هم عليه من فصاحة وبيان وإلمام بالأدلة ومعرفة بما عليه الخصم ورد أهل السنة على مفترياتهم وغير ذلك، وما أظن أن أحداً تأهل لذلك. فالأصل في هذا عند السلف الجواز، وواقع الناس يخوف من الأخذ بما قاله السلف تماماً.

حكم العلاج بالعسل

حكم العلاج بالعسل Q ما حكم استخدام العسل في العلاج مثل استخدامه في فتحة الشرج؟ A جائز.

حكم تشميت العاطس

حكم تشميت العاطس Q إذا قال العاطس: الحمد لله، فهل يجب على كل من سمعه أن يقول له: يرحمك الله؟ A هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وقد ذكر ابن عبد البر في مطلع كتابه الاستذكار فروض الكفايات وفروض الأعيان وحقوق الإسلام، فذكر كما هو راجح في مذهب المالكية أن هذا من فروض الأعيان، كتشييع الجنازة مثلاً أو الصلاة عليها أو رد السلام أو عيادة المريض، فترجح لديه أن هذا فرض عين على كل من سمع السلام مثلاً أو ألقي عليه السلام، فلو دخل شخص الآن المسجد وقال: السلام عليكم فعلينا كلنا الرد عليه، والجمهور على أن هذه الواجبات من فروض الكفايات، وإذا رد البعض سقط الإثم عن الباقين. وأما المالكية فترجح لديهم أن هذه الواجبات هي واجبات على الأعيان، والراجح هو مذهب الجمهور.

حكم الاستعانة بالجن على إخراج الكنوز من باطن الأرض

حكم الاستعانة بالجن على إخراج الكنوز من باطن الأرض Q هل يجوز الاستعانة بالجان لاستخراج الكنوز وغيرها من باطن الأرض؟ A قد أجبنا على هذا السؤال مراراً بأنه لا يجوز ذلك.

الواجب على من أراد أن يكون طالب علم

الواجب على من أراد أن يكون طالب علم Q ماذا أفعل لكي أكون طالب علم وماذا علي؟ A الذي عليك أن تواظب على حضور مجالس العلم.

النية شرط في العبادات

النية شرط في العبادات Q هل النية شرط في أعمال العبادات والطاعات وأيضاً في الأعمال المباحة كالأكل والشرب والاغتسال المباح والنوم، أم في العبادات فقط، وكيف تعقد عند كل عمل إن كانت شرطاً لصحة العمل، وجزاكم الله خيراً؟ A النية شرط في العبادة بلا خلاف بين أهل العلم، والنية هي التي تفرق العادة من العبادة، كما أنها تفرق العبادات بعضها عن بعض، فهذا فرض وهذا نفل، فالنية هي التي دفعتك إلى الدخول في العبادة، فمثلاً: أنت عندما تسمع أذان العشاء وتتوضأ وتخرج من البيت وتقف في الصف خلف الإمام، فهذا الخروج من البيت والوقوف مع الإمام وأداء الصلاة معه من النية، فهي لا تنعقد نطقاً وإنما تنعقد بالقلب؛ لأن محلها القلب، فلا يلزم أن تقول مثلاً: نويت أن أصلي العشاء في المسجد الفلاني في الساعة الفلانية خلف الإمام الفلاني، وغير ذلك من الكلام الطويل الذي يقوله الناس.

ما يحذر العاقد فعله أيام العقد

ما يحذر العاقد فعله أيام العقد Q هل يجوز للعاقد أن يقبل ويضم زوجته قبل البناء، وإن كان لا يجوز فما الذي يجوز له؟ A الأخ عبد المنعم إبراهيم صنف كتاباً لطيفاً في هذه الحقوق اسمه الإتحاف، وأعطاني نسخة منه يوم الجمعة الماضية، وهو كتاب لطيف إن شاء الله، فيه من الفوائد والأحكام الشيء الكثير، ويلزم كل عاقد على أن يعرف ما له وما عليه. وأما هل يجوز له أن يضم ويقبل؟ فإذا كانت الإجابة بالإيجاب فإنه يخشى مما هو أبعد من ذلك، فينبغي لكل عاقل أن يحترم نفسه، وأن يصبر على حرقة الشوق مدة العقد حتى يدخل بشيء من الحب والشوق إلى امرأته بعد البناء؛ لأن الذي يقبل ويحضن وغير ذلك خاصة إذا طالت مدة العقد فإنه يفتر شيئاً فشيئاً حتى إذا أتى موعد البناء لم يكن له حاجة فيها في الغالب، ثم إن هذا قد يؤدي إلى جماعها، وغالباً الإنسان إذا كان شاباً ولم يسبق له الزواج لا يأمن على نفسه، وعائشة رضي الله عنها في غير ما حديث تقول: (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم ويخرج إلى الصلاة فيصلي ولا يتوضأ)، يعني: بوضوئه الأول، (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أملككم لإربه، وأيكم -تخاطب الصحابة- أيكم أملك لإربه؟) أي: حاجته وشهوته، فإن أحداً لا يستطيع ذلك، فإذا كان هذا الخطاب للصحابة فهو من باب أولى أن يكون لشباب اليوم الذي يتحرق ناراً وشوقاً إلى معاشرة النساء. فإذا علم أن المعقود عليها حلال له الاستمتاع بها ظاهراً فربما أدى به إلى الإيقاع بها باطناً، وأحد الإخوة لما علم أن ذلك له مباح فعل، فلما فعل استنكف جداً أن تكون هذه امرأته، وقال: هذه المرأة ليست شريفة، ولو كانت شريفة لدفعتني ومنعتني، فلما فعلت ذلك هذا يدل على أنها مكنت من نفسها غيري، فلا مانع أن تمكن الغير منها بعد البناء، ولعب الفأر بعبايته أو برأسه واستقر أمره على أن يطلقها. ووقعت أكثر من عشر حالات على هذا النحو ثم وقع بينهم الطلاق، ولابد من النظر إلى العرف، فكيف ينظر أهل الحي لهذه المرأة؟ وهل ينظرون إليها على أنها زانية أم أنها شريفة وأن زوجها هو الذي أتاها؟ فينظر المجتمع الجاهل على أن هذا المرأة زانية، وظاهر نصوص القرآن والسنة توجد فيها فروق كثيرة بين المعقود عليها وبين المدخول بها من جهة الحقوق، من الميراث والعدة، وغير ذلك من سائر الحقوق التي بين الزوجين. أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد.

ما جاء في أن الإيمان اسم مدح

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء في أن الإيمان اسم مدح معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، فالأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان؛ وما من عمل إلا وهو يؤثر في إيمان العبد؛ فإما يزيده، وإما ينقصه، وإما يسلبه بالكلية.

ما ورد في كتاب الله تعالى في أن اسم الإيمان اسم مدح وأن المؤمنين في الجنة

ما ورد في كتاب الله تعالى في أن اسم الإيمان اسم مدح وأن المؤمنين في الجنة بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فأول الجزء السادس من كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي يتكلم عما ورد من الآيات في كتاب الله عز وجل، في أن اسم الإيمان اسم مدح، وأن المؤمنين في الجنة.

المقصود من اسم الإيمان الوارد في الكتاب والسنة

المقصود من اسم الإيمان الوارد في الكتاب والسنة أنا أريد أن أقول: إن مصطلح الإيمان أو اسم الإيمان واسم الكفر أو الفسوق أو العصيان وضعت لمعانٍ معينة. أما ما ورد في الكتاب والسنة باسم الإيمان فإنما ورد في معرض المدح لا في معرض الذم، وأن هذا المصطلح إنما وضع للأعمال والمعتقدات، مما يدل على أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ لأنه لما تكلم الله عز وجل في غير ما موطن من كتابه عن المؤمنين تكلم لا عن ذات المؤمنين وإنما عن السبب الذي مدح به المؤمنون، وهو أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم عن اللغو معرضون، وغير ذلك من صفات المؤمنين، فالمدح إنما انصب على عملهم. أما هم فهم في الجنة والسبب أعمالهم التي هي داخلة في مسمى الإيمان أو في حقيقة الإيمان، وهذا بخلاف غيرهم ممن أوردهم الله عز وجل على سبيل الذم، وهم المنافقون، والكافرون، والعصاة، ولكل واحد منهم منزلة في النار، أو يعفو الله عز وجل عن عصاة الموحدين، فهو يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى. فالمؤلف رحمه الله أراد أن يبين في هذا الباب أن مصطلحات معينة في الشرع وضعت، منها ما وضع للمدح كمصطلح الإيمان، ومنها ما وضع للذم كمصطلح الفسوق والعصيان والنفاق والكفر. أما الإيمان فإنما هو اسم مدح لأهله؛ لأنهم عملوا كيت وكيت من الأعمال الصالحة، وأما مصطلحات الفسوق والعصيان والفجور والنفاق والكفر فكلها مصطلحات ذم وضعت لأقوام عملوا لمعصية الله عز وجل، وعدد بعض الصفات التي استوجبت لأصحابها النار، كما أنها استوجبت لأصحابها اسم الفسوق أو العصيان أو النفاق أو الفجور أو الكفر، وغير ذلك من سائر المصطلحات التي تستوجب النار أو يعفو عنها الغفار تبارك وتعالى. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، أي: أفمن كان مؤمناً من الناس يعمل الطاعات وينتهي عن المعاصي كمن كان فاسقاً، والفاسق: هو من ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة، سواء من جهة الميل القلبي أو من جهة العمل، أي: عمل الجوارح. فإن الذي يزني لا بد أن يسلب عنه حين الزنا اسم الإيمان، ولذا فإننا نفرق دائماً بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق. أما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان الذي استقر في القلب وقت النطق بالشهادتين، وهذا الإيمان الذي هو من عمل القلب إذا زال عن المرء زال عنه تماماً اسم الإيمان والإسلام. أما الإيمان المطلق فهو كمال الإيمان وتمامه، إما كماله الواجب أو كماله المستحب، فالكمال نوعان: إما كمال واجب يتعلق بالحلال والحرام وغير ذلك من سائر الفرائض والأركان الشرعية، وإما كمال مستحب يتعلق بسائر النوافل. فمن أدى الفرائض وحرم الحرام وأحل الحلال وعمل بالأمر وانتهى عن النهي فإنما يكون قد أدى الكمال الواجب في الإيمان المتعلق بالجوارح، وأما إذا زاد عن ذلك فعمل النوافل وتقرب إلى الله عز وجل بسائر المستحبات فإنما قد حقق الإيمان الكامل أو قد بلغ حقيقة الإيمان؛ ولذلك لما أثنى الله تعالى على المؤمنين بأعمالهم قال في نهاية مدحه لهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4] يعني: هؤلاء الذين بلغوا حقيقة الإيمان، وكمال الإيمان، وتمام الإيمان، لأنهم فعلوا أعمالاً صالحة.

تفريق الله تعالى في كتابه بين المؤمن والفاسق أو المنافق

تفريق الله تعالى في كتابه بين المؤمن والفاسق أو المنافق قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:18] هذه الآية فيها رد على المرجئة الذي يقولون: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنهم يخرجون العمل عن ماهية الإيمان وعن مسمى الإيمان وعن حقيقة الإيمان، فيقولون: الإيمان هو: التصديق بالقلب والقول باللسان. والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة، حتى وإن لم يستقر ذلك في القلب، وإن لم يتلفظ به اللسان، فإبليس عليه لعنة الله يعلم جيداً أن الله عز وجل حق، وبالتالي يرد عليهم بأيسر ما يمكن؛ لأن حجتهم أوهن من بيت العنكبوت. وكذلك المرجئة الغلاة فهم لا يفرقون بين الطائع والعاصي؛ وهذا كلام استقر في أذهان العامة، فضلاً عن الخاصة؛ فالذي يزني ويعتاد الزنا ليس كالطاهر العفيف، حتى في أعراف الناس لا يستويان، وكذلك السارق الذي أدمن وألف السرقة لا يمكن قط أن يستوي مع إنسان عف نفسه عن الحرام أو امتنع عما ليس له. فالمرجئة يقولون: إيمان أطوع الناس لله عز وجل كإيمان أعصى الناس لله عز وجل. إذا كان إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليس كإيمان جبريل، وأبو بكر رضي الله عنه هو من هو في الإمامة والهدى والعلم وغير ذلك؛ ومع هذا لا يستوي إيمانه مع إيمان جبريل عليه السلام، بل جبريل عليه السلام أسبق إيماناً من أبي بكر؛ لأن الله تعالى خلق الملائكة قبل أن يخلق الإنس، فجبريل في الخلق سابق على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبو بكر الصديق في آخر أمة من أمم الله عز وجل، فجبريل قد وحد الله تعالى آلاف السنين قبل أن يخلق الله أبا بكر، فكيف يستويان، فضلاً عن استواء العاصي مع الطائع؟ ولذلك الله تعالى إنما ذكر هذه الآية على سبيل التقريع والتوبيخ أو لفت الأنظار. فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:18]، يعني: هما الاثنان لا يستويان، فبين الله تبارك وتعالى الفرق بين المؤمن العامل بمقتضى الإيمان وبين الفاسق الذي لم يعمل بمقتضى الإيمان. قال: [وقال تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11]]، ففرق بين الإيمان والنفاق، فالنفاق هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، ولكن إذا خفي هذا على الخلق فإنه لا يخفى على الله عز وجل، والله تعالى يعلمه حقيقة العلم قبل أن يوجد وقبل أن يخلق. قال: [وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، فكيف يكون مؤمناً من كان فاسقاً منافقاً؟ وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]]، النداء وجه لأهل الإيمان، فإذا كان الإيمان اسم مدح لصاحبه فلم أمرهم الله عز وجل في هذه الآية بعد أن مدحهم أن يتوبوا إليه؟ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء) ولفظ (كل) من ألفاظ العموم، والراجح أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من أهل السنة وهو الحق الذي أيدته الأدلة من الكتاب والسنة، فأصلح الصلحاء، وأطوع الطائعين من بعد الأنبياء أولى باقتراف الذنب، إما هفوة ولمماً أو صغيرة وإما كبيرة، بل أحياناً نجد من أهل الصلاح من يرتد عن دين الله عز وجل ثم يرجع إليه أخرى، فالنداء هنا لأهل الإيمان الممدوحين سلفاً. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] توبوا: فعل أمر يفيد الوجوب. أي: توبوا توبة خالصة صادقة لا ترجعوا بعدها إلى الذنب، بأن تعزموا على الاقتلاع والانتهاء عن المعصية، وأن تتفطر قلوبكم عما بدر منكم، مهما قل ودق وصغر حجمه. قال: [ولا شك أن التوبة تكون من المحظورات والمناهي]، فالمسلم يتوب من شيء وقع فيه، من معصية صغيرة أو كبيرة، فإذا كان الله تعالى أمر أهل الإيمان أن يتوبوا فمن باب أولى أن يوجه هذا النداء لأهل العصيان والفجور والفسوق وغير ذلك من أصحاب الكبائر. فدلت هذه الآية مع قوله عليه الصلاة والسلام: [(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة كبيرة يتطلع إليه فيها الناس بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل الغال حين يغل وهو مؤمن)]. أي: لا يزني الزاني، ولا يسرق السارق، ولا ينهب الناهب، ولا يغل الغال، إلا ويسلب عنه اسم الإيمان، لكن سلب الإيمان لا يدل على أنه قد كفر؛ لأن بعض الناس يقول: إن لم يكن مؤمناً لا بد أن يكون كافراً، لابد أن تعلم كما قال كثير من السلف وأشاروا بأصابعهم إلى أن الإسلام دائرة كبيرة عظيمة، وأن الإيمان هكذا، وحلقوا بأصابعهم حلقة صغيرة في وسط دائرة الإسلام، إذا نزع هذا الإيمان لا بد أن يقع صاحبه في دا

الأدلة على أن الأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان

الأدلة على أن الأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان ودلت الآيات والأخبار كلها عن أن الإيمان اسم مدح يستحق صاحبه المدح على أفعاله، والفسق اسم ذم يستحق صاحبه الذم على أفعاله، ودليل هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} [الأنفال:2] يعني: خشعت قلوبهم وذلت وانقادت وخضعت لله عز وجل، فالإيمان يزيد بسماعهم لتلاوة آيات الذكر الحكيم، كلما سمعوا آية ازدادوا إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، فكل الذي سبق عمل قلبي. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، الصلاة عمل الجوارح، وعمل القلب كله داخل في الإيمان. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، والنفقة تكون بالجوارح. إذاً: عمل الجوارح وعمل القلب داخل في حقيقة الإيمان. وقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، بين الله عز وجل أن من جمع بين عمل القلب الإيماني وعمل الجوارح هو المؤمن حقاً، وهذا يدل على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، كل على حسبه، {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4]. قال: [وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]]، والوعد والجزاء للمؤمنين الذين أتوا من الأعمال القلبية وأعمال الجوارح ما يحقق لهم الإيمان الكامل أو الإيمان التام. ٌقال: [وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65]، وقال تعالى في صفة المنافقين: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]]، فهؤلاء استحقوا هذه الدركة من النار بسبب ما قد أتوا من أفعال استوجبت لهم هذه الدركة، وسماهم الله تعالى منافقين وهو اسم ذم. قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)]، فلا يمكن أن يستوي الذي يسب الناس ويشتمهم ويلعنهم ويؤذيهم مع الذي لا يسبهم ولا يشتمهم ولا يلعنهم ولا يؤذيهم؛ لأن الذي يسب ويشتم ويلعن ويفسق ويبدع بغير حق يستحق الذم لما قد بدر من لسانه من السب والشتم واللعن، والضرب باليد والقدم، كل هذه من أعمال الجوارح، فإنها تخرج صاحبها من اسم المدح وهو الإيمان وتدخله في اسم الذم وهو الفسوق، فالذي يسب ويشتم ويلعن وغير ذلك بغير حق فإنما هو فاسق. وإذا كان لفظ القتال، يعني: إراقة الدماء، فقتل المؤمن بغير حق لا شك أنه معصية كبيرة، ونحن نعلم أن صاحب المعصية لا يكفر مهما كانت كبيرة إلا إذا استحلها، مع قيام الحجة عليه، كل أنواع الكبائر لا يكفر صاحبها إلا إذا استحلها، حاشا الشرك، فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وإذا أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإذا مات مصراً على الذنب غير مستحل له فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. هذا تأصيل علمي لمرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة، بخلاف المرجئة فإنهم يقولون: لو ارتكب امرؤ كل الكبائر عدا الشرك بالله فإنه مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ولا حرج عليه. لا شك أن هذه دعوة إلى الفجور والمعاصي، إذا علم المرء من نفسه أن إيمانه لا يتزعزع ولا ينقص، وأنه داخل الجنة لا محالة مهما ارتكب من كبائر وسيئات، فلا يردعه عن الكبائر شيء؛ لأنه وجبريل عليه السلام في منزلة واحدة في الجنة مهما ارتكب من الكبائر. فإذاً: ما الذي يمنعه عن ارتكاب الكبائر؟! فهذا المذهب من أفسد المذاهب، وأنا لا زلت في حيرة من أمري، هل هؤلاء القائلون بهذا الرأي فقدوا عقولهم تماماً حتى يتجرأ قائلهم ويقول: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وأنهم في منزلة واحدة في الجنة؟ أما الخوارج فإنهم قاموا على مرتكب الكبيرة وكفروه وغلاتهم كفروا مرتكب الصغائر، أما عامة الخوارج فإنهم يكفرون مرتكب الكبيرة، بخلاف المعتزلة، فإنهم وقفوا من مرتكب الكبيرة موقفاً مخزياً إلى أقصى حد، فقالوا: مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهذا حكمه في الدنيا. أما في الآخرة فإنه مخلد في النار لا يخرج منها أبداً، كيف ذلك والعقيدة المستقرة بأنه لا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، سواء كان الكفر كفراً أصلياً أو كفر ردة، والمنافقون كذلك، هؤلاء هم الذين يخلدون في النار ولا يخلد أحد غيرهم، فكيف لا هو مؤمن ولا هو كافر ومع هذا هو مخلد في النار؟ وأهل السنة والجماعة يقولون: مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فهم لا ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، كما لا يعطونه م

الأعمال التي تنقص من الإيمان أو تسلبه بالكلية

الأعمال التي تنقص من الإيمان أو تسلبه بالكلية فقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، أي: لا يستوي قط من سب مسلماً ومن لم يسب، ولا من قاتل مسلماً ومن لم يقاتل، فالذي لم يقاتل يستحق المدح، والذي قاتل وسب يستحق الذم، وذمه إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون فاسقاً، فالسباب فسوق، أما القتال فمنه ما هو فسوق إذا كان كبيرة، ومنه ما هو كفر إذا استحل ذلك بعد قيام الحجة عليه. قال: [وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: الكذب يجانب الإيمان]، يعني: الكذب لا يمكن أن يتفق قط مع الإيمان؛ لأن الكذب كبيرة من الكبائر، خاصة الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (آية المنافق ثلاث -يعني: علامة المنافق ثلاث- إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وفي رواية: (وإذا عاهد غدر). والمعلوم أن الواحد منا يكذب، ويعد ولا يفي، ويؤتمن ويخون، وغير ذلك من الخصال المذكورة في الحديث، فهل الواحد إذا كذب في حديثه يكون منافقاً؟ أنتم تعلمون أن النفاق أشد خطورة من الكفر البواح؛ لأنه يبدي ويظهر خلاف ما يبطن، فيأمنه الناس على دينه، وهو في حقيقة الأمر غير أمين على شيء، فخطورته عظيمة جداً. وهذا الحديث قال فيه أهل العلم: أنه ورد بصيغة الاستمرار (إذا) التي تفيد الاستمرار، فقوله: (إذا حدث كذب) قالوا: الغالب عليه في حديثه الكذب، فقل أن يصدق، فهو مثل الشيطان الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، لأنه ليس له مصلحة في هذا الموطن أن يكذب فصدق حتى يأخذ النوال والعطاء. فلما دعته المصلحة الشخصية للصدق صدق، لكن الأصل فيه أنه كذوب، فقوله: (إذا حدث كذب)، يعني: مستمر وقائم ومداوم على الكذب، حتى إن الناس يشيرون إليه بأصابع الاتهام: إن فلاناً هذا كذاب فلا تصدقوه. على عكس ما كانوا يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فالصدق اسم مدح، والكذب اسم ذم، ومن وقع في الكذب استحق الذم، ومن تلبس بالصدق استحق المدح، فالصادق والكاذب لا يستويان، هذا مذموم وذاوك ممدوح، هذا في الجنة وذاك في النار. فالكاذب في أثناء ما يحدثك هو يكذب ويعلم أنه يكذب ومستمر على الكذب ومصر عليه. وإذا استحل الكذب كفر، وإذا كان مداوماً عليه غير مستحل له فإنه فاسق مرتكب لكبيرة عظيمة من الكبائر. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا وعد أخلف) أي: كما أنه إذا وعد أخلف، وحرف (إذا) يفيد الاستمرار، يعني: هذا الإنسان معلوم عند الناس أنه لا يفي بوعد قط، بل في أثناء وعده إياه بعمل الشيء أو باللقاء في المكان الفلاني هو غير ناو الوفاء، لأنه يخلط بين الكذب في الوعد وبين خلف الوعد في أثناء الوعد، وكذلك (إذا عاهد غدر). وهذه الخصال كانت في الجاهلية مذمومة، فـ أبو سفيان رضي الله عنه لما كان مشركاً كافراً وسأله هرقل عظيم الروم عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصدق في كل جواب رداً على هرقل ويقول: (لو لم تعدها علي العرب كذبة لكذبت) يعني: هو خائف أن العرب تقول: أبو سفيان كذاب، لأجل كذبة واحدة. وكذلك مسألة الجوار، فقد كان الجوار معروفاً في الجاهلية، فإن الواحد منهم كان يفعل الفعلة أو يأتي من بلاد بعيدة وينزل على فلان من الناس عظيم أو شريف من الشرفاء ويقول له: أدخلني في جوارك، أو ارحمني، فلا يمكن لأحد قط أن يمسه بأذى إلا أن يخرج من الجوار، وكانوا يحترمون هذا ولا يغدرون به قط. أما هذا الوقت فإن فيه من التفريط والإهمال والمعاصي والمنكرات التي تسربت إلى أبنائنا لما تشربوها من آبائهم وأمهاتهم، فعندما يقول القائل: أنا في جوار ربنا، فإن الخصم ينتقم منه أشد الانتقام، لا يراعي جوار الله، ولا جوار الشرع ولا أصل الأصول ولا أي شيء، وهذا يدل على أنه إذا عاهد غدر، يعني: بعدما يدخل بجواره يقتله وهذا غدر، فلا يمكن قط أن يستوي صاحب هذه الخصال مع من يأتي بنقيضها مما يأمر به الإيمان. [وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء وأبي هريرة وعقبة بن عامر الجهني والحسن وعطاء وأبي جعفر الباقر والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ممن تقدم وممن لم يأت. قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، فقوله: (حين) يعني: في وقت زناه يسلب عنه الإيمان، وكذلك في وقت السرقة يسلب عنه الإيمان ثم يعود إليه، لكن لا يعود إليه الإيمان إلا إذا تاب، ولكنه لا يخرج من حظيرة الإسلام إلا إذا استحل هذه المعصية اعتقاداً، سواء عمل بها بالجارحة أو لم يعمل. قال: [(ولا يغل

كلام ابن عباس في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي

كلام ابن عباس في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي قال: [وعن ابن عباس أنه قال لغلمانه -أي: لمواليه-: من أراد منكم الباءة زوجناه -يعني: من أراد منكم أن يتزوج زوجناه- لا يزني منكم زان إلا نزع الإيمان منه]. هو يقول لهم: ممنوع لأي شخص منكم أن يفكر أن يزني؛ لأن الواحد منكم إذا كان في حاجة إلى الزواج فليخبرني وأنا أزوجه، مخافة أن يقع في الزنا الذي يسلب معه الإيمان. قال: [فإن شاء أن يرده الله عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه]، لأن الأمر مثلما يقول ابن تيمية وابن الجوزي وغيرهما أن الطاعة دائماً تسلم إلى أختها، وأن المعصية في الغالب تسلم إلى أختها، وقل أن يوفق صاحب كبيرة إلى التوبة، لأن المعصية لها حلاوة، والقلب يتعلق بها أيما تعلق، فيصعب جداً على صاحب القلب الضعيف والإيمان القليل أن يرجع إلى إيمانه الذي تركه أو الذي سلب عنه آنفاً. فتصور لو أنك مثلاً شاهدت حلقة من مسلسل في التلفزيون، وإن كان المسلسل خنا وضياع وشذوذ لكنك وقفت على لقطة سلبت قلبك فأنت متعلق بالحلقة التالية منتظر لها لأنه قد نزع من قلبك الإيمان الذي يحملك على بغض النظر إلى هذا، وركب في قلبك شهوة لها اتصال قوي بالمعاصي، فهي تريد أن تعرف إلى أي حد تصل هذه المعصية، فأنت مع كل حلقة تسلمك إلى الثانية. أما إذا كنت من أهل الإيمان وأهل الطاعة وأصحاب الصلاة وأصحاب العلم فإنك إذا سمعت درساً في شعبة من شعب الإيمان فأنت متعلق بهذا الدرس حتى تعلم الشعبة الثانية والثالثة والرابعة والعاشرة والخمسين والسبعين والبضع والسبعين، حتى تكتمل لديك شعب الإيمان. فالطاعة دائماً تسلم إلى طاعة، والمعصية تسلم إلى معصية، وقل أن تسلم معصية إلى طاعة، لأن التوبة شديدة جداً على نفس العاصي، فاحذر من هذا؛ ولذلك فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تهديد حيث قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) وفي نهاية الأمر (والتوبة معروضة بعد) يعني: بعدما وقعت في هذا كله التوبة أمامك، فهل تستطيع أن تتوب أو لا؟ فقل أن يتمكن إنسان بعد انغماسه في المعاصي من الرجوع إلى الله عز وجل؛ لأن الشيطان لا يتركك، الشيطان يقول لك: انظر إلى هذا الفيلم فقط، أو إلى هذه الحلقة فقط، أو إلى هذه البنت الجميلة فقط. أو يزين لك فيقول: يا رجل أنت بعيد عن الزنا، نحن نسمع من الشيوخ أنه حرام، وربنا أكده والرسول عليه الصلاة والسلام فقط أنظر إليها، استمتع فقط بالنظر. والاستمتاع بالنظر يأتي بعده البسمة، ثم الضحك، ثم الغمز، ثم اللمز، ثم الوعد، ثم المقابلة وغير ذلك من أعمال المعاصي التي هي بريد الزنا. فلا بد في نهاية الأمر أن تقع في الفاحشة البينة، فإذا كان ذلك منك فهل يا ترى تستطيع أن تقلع عن الذنب حينئذ؟ ربما يكون ذلك وربما لا يكون، فإذا كان الأمر غير راجح عندك أنك تترك المعصية فلا بد أن تستأصل شأفة الأسباب المؤدية إلى اقتراف الذنب من أول وهلة. قال: [وقال ابن عباس: الحياء والإيمان في قرن واحد، فإذا انتزع أحدهما من العبد اتبعه الآخر]؛ لأنه ما امتلك زمامه. فأنتم تعلمون أن الحياء من الإيمان، وهو شعبة من شعبه كما أخبر عليه الصلاة والسلام، إذا نزع الإيمان نزع الحياء، وإذا نزع الحياء نزع قدره من الإيمان. إذا كانت هذه كلها شعب الإيمان فبلا شك أن ترك شعبة من الإيمان يترك من الإيمان على قدر تركها، فمن ترك مثلاً الصدقة لا بد أن يخدش إيمانه على قدر تفريطه في الصدقة، والذي يترك الحياء فلا بد أن يخدش إيمانه على قدر تركه للحياء، وهكذا كل شعبة من شعب الإيمان.

كلام أبي هريرة في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي

كلام أبي هريرة في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي قال: [وقال أبو هريرة: لا يزني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن. قال عطاء: يتنحى عنه الإيمان]، ولا يبقى في القلب إلا غبرات الإيمان وأصله وشبحه. أما الإيمان الذي ينير القلب لصاحبه ليسلك الطريق إلى الله عز وجل، فلا شك أن ذلك مرهون بالعمل؛ فإن جملة العمل -أي: عمل الجوارح- في الإسلام داخلة في مسمى الإيمان. قال: [وقال أبو هريرة: إذا أتى الرجل امرأة حراماً فارقه الإيمان]، يعني: إذا زنا الرجل فارقه الإيمان، ووصفه أحد الرواة بأن وضع إحدى يديه على الأخرى ثم فرق بينهما قليلاً. قال: إذا أتى الرجل امرأة حراماً انتزع منه الإيمان ورفع إحدى كفيه عن الأخرى شيئاً يسيراً، فإذا سرق زادت، أي: زادت المفارقة بسبب المعاصي، فإذا غل زاد، وهكذا كلما ارتكب ذنباً تباعد إيمانه، أو انسلخ إيمانه من قلبه. قال: ثم فرق بينهما قليلاً ثم قال: يفارقه الإيمان هكذا حتى إذا رجع أعمال الطاعة رجع الإيمان حتى أطبق بين يديه؛ ولذلك فإن إبراهيم بن عيينة وهو أخو سفيان بن عيينة لما سمع الثوري أو سمع أخاه سفيان بن عيينة يقول: وإن الإيمان يزيد وينقص، قال: يا إمام! يزيد لكنه لا ينقص، قال: اسكت يا غبي، فإن الإيمان ينقص حتى لا يبقى في القلب شيئاً. هذا نص عظيم جداً من إمام من أئمة السنة سواء كان هو ابن عيينة أو الثوري فإنهما إمامان عظيمان من أئمة السنة والأثر.

كلام أبي الدرداء في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي

كلام أبي الدرداء في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي قال: [قال أبو الدرداء: ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى]. وأريد أن أؤكد على أن هذه النصوص وغيرها إنما تتكلم عن الإيمان الواجب والإيمان المستحب، أما أصل الإيمان فإنه إذا فارقه العبد لا بد أن يفارقه الإسلام جملة. يعني: لو قلنا: إن الإيمان أصل ومقتضى، فالأصل إنما هو القدر الذي يلزم المرء في ثبوت إسلامه، فهذا الذي يسميه العلماء أصل الإيمان، أو مطلق الإيمان، فإذا ذهب هذا الإيمان أو ذهب هذا الأصل لا يبقى مع صاحبه لا إيمان ولا إسلام. أما الآيات والأحاديث التي تسلب المسلم اسم المدح بسبب ذنب ارتكبه فإنما سلبت هذه الآيات وهذه الأحاديث اسم المدح وهو الإيمان المتعلق بالإيمان الواجب والإيمان المستحب الذي يتعلق بالحلال والحرام ويتعلق بالواجبات والفرائض وأركان الشريعة وغير ذلك. أما الإيمان المستحب فهو المتعلق بسائر النوافل والطاعات التي ليست بواجبة أصلاً. قال: [قال: ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه]؛ لأن الأصل في المؤمن أنه يسير إلى الله تعالى بجناح الخوف وجناح الرجاء، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، فمن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة) وفي رواية: (يوم يقوم الحساب).

كلام أبي بكر في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي

كلام أبي بكر في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي قال: [وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان. وقال الحسن: يجانبه الإيمان ما دام كذلك]، فإذا ترك الكذب رجع إليه الإيمان، فالذي يقع في الكذب وهو كبيرة من الكبائر لا بد أن يخصم من إيمانه على قدر كذبه. والإيمان والفجور مخلوقان، فالله تبارك وتعالى جعل الإيمان على قدر الطاعات، وجعل الفجور على قدر المعاصي. ومدح الله تعالى أهل الإيمان باسم المؤمن، وذم أهل المعاصي باسم الفسوق والعصيان وبكل أساليب الذم. فإذا كان هذا وذاك رزق أو خلق فإن الله تعالى جعل الإيمان على قدر ما خلق من أعمال الطاعات، فكلما أتى المرء طاعة من الطاعات ازداد من الإيمان على قدر حفاظه على هذه الطاعة، فإذا فرط في طاعة وتلبس بمعصية فإنما يمقت إيمانه على قدر هذه المعصية، كما أنه يستحق اسم الذم للوقوع في المعصية، فإذا كانت مفسقة كان بها فاسقاً، كالزنا والسرقة وسائر الكبائر أو الإصرار على الصغائر.

خروج العاصي من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام

خروج العاصي من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام قال: [وسئل أبو جعفر محمد بن علي وهو أبو جعفر الباقر عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)، فقال: هذا هو الإسلام، ودور دائرة عظيمة، ثم دور دائرة في جوفها أصغر منها، ثم قال: هذا الإيمان]. إذاً: حظيرة الإسلام أوسع من حظيرة الإيمان، والذي يشمله الإسلام لا يلزم أن يشمله الإيمان، لكن الذي يشمله الإيمان لا بد أن يشمله الإسلام من باب أولى، والذي يسلب عنه الإيمان لا يلزم أن يسلب عنه الإسلام، بخلاف الذي يسلب عنه الإسلام لا بد أن يسلب عنه الإيمان من باب أولى. قال: [هذا الإيمان مقصور في الإسلام، فإذا هو زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام]، ولا يخرج من الإيمان إلى الكفر، لأن فيه مرتبة لا يتعداها إلا إذا أتى فيها ما يستوجب الخروج عنها. يعني: يعتبر أن الإيمان دائرة ومن بعده دائرة الإسلام وهو أوسع، ومن بعده دائرة الكفر وهو أوسع الدوائر، فمن خرج من الإيمان ينحط إلى الإسلام، ومن أتى عملاً يناقض الإسلام متعمداً مع قيام الحجة عليه يسقط إلى هاوية الفسق أو الكفر. ونذكر من الدوائر دائرة الفسق؛ لأنه لا يمنع أن يكون الرجل مؤمناً وفاسقاً، ولا يمنع أن يكون مسلماً وفاسقاً، وهذا الذي تكلمنا عنه منذ قليل فيما يتعلق بارتكاب الكبائر، وأن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن بطاعته، فاسق بكبيرته أو فاسق بمعصيته. قال: [فإذا هو زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، فإذا تاب رجع إلى الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله]، وأنا أرى النص هذا من أفضل وأوضح النصوص فيما يتعلق بالإيمان والإسلام والكفر، فهو في غاية الأهمية.

سياق ما روي عن النبي في أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، وعلامة المنافق

سياق ما روي عن النبي في أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، وعلامة المنافق قال: [سياق ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر]. وكذلك باقي علامات المنافقين. فمعنى الحديث: أن المسلم إذا سب المسلم وقذفه فقد كذب، والكذاب فاسق ويزول عنه اسم الإيمان، وباستحلاله قتاله يصير كافراً. وقال: (من علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر)، وغير ذلك من خلال وخصال المنافقين، لكن لا يكون منافقاً -أي: خارجاً عن الإسلام وداخلاً في دائرة الكفر- إلا إذا استحل هذا مع قيام الحجة عليه بحرمة هذا كله. أما إذا وقع فيها مرة أو مرتين فإن هذا لا يضره، إلا على قدر ما قد أتى، أما إذا كان مداوماً عليه يشار إليه بأصابع الاتهام أنه مقيم على ذلك على اعتبار ما يفيده حرف (إذا) الذي يفيد الاستمرار، من أنه دائماً كذاب، ودائماً مخادع، ودائماً غدار، ودائماً فاجر عند الخصومة، وغير ذلك من الأعمال التي ذكرت في هذا الحديث. وبعضهم قال: إن هذا الحديث ورد في رجل خاص بعينه، فهي حادثة عين في زمنه عليه الصلاة والسلام. وبعضهم قال: بل هذا إنما هو نفاق العمل، وكل عالم يرجح قولاً من هذه الأقوال، كما اختلف ابن بطال عن الإمام الحافظ ابن حجر عن الإمام النووي، فكل منهما رجح قولاً من هذه الأقوال، ولا بأس أبداً بحمل الحديث أو بحمل هذه الأقوال كلها على الحديث، خاصة أنه ورد بصيغة العموم. وهنا حديث مرسل من طريق الحسن عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن في أثناء الحديث ما يفيد باتصاله، وإن كان الذي يترجح لدي ضعف هذا الحديث. قال: [قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، من إذا حدث كذب)]، (ومن) من صيغ العموم، (وإذا) تفيد الاستمرار، يعني: أي إنسان مسلم. قال: [(إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)، هذه خمس خصال وخلال من علامات المنافقين. قال: فسأل محمد بن محرم الحسن البصري فقال: لئن كان لرجل علي دين فلقيني فتقاضاني فخفت أن يحبسني أو يهلك عيالي، فوعدت أن أقضيه إذا رأيت الهلال، فلم أفعل، أمنافق أنا؟ فقال: حدثته ووعدت فأخلفته. ثم قال: إن عبد الله بن عمرو حدث أن أباه لما حضره الموت قال: إني كنت وعدت فلاناً أن أزوجه فزوجوه، لا ألقى الله عز وجل بثلث النفاق. قال محمد بن محرم: يا أبا سعيد! أيكون في الرجل ثلث النفاق وثلثان إيمان؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال محمد بن محرم: فحججت إلى بيت الله الحرام، فلقيت عطاءً، فذكرت له هذا الحديث، وما قال لي الحسن البصري. قال عطاء: فقال: أعجزت أن تقول للحسن: أخبرني عن إخوة يوسف، ألم يعدو أباهم فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، وحدثوه فكذبوا، أمنافقين كانوا؟ أفلم يكونوا أنبياء؟ وأبوهم نبي وجدهم نبي؟] والحقيقة أنهم فعلوا ذلك قبل أن يكونوا أنبياء، فقد كانوا مسلمين، وعملهم هذا لم يخرجهم هذا من دائرة الإسلام. قال: [قلت: يا أبا محمد! حدثني بأصل هذا الحديث وأصل النفاق، يعني: زدني فيما يتعلق بالحجة، قال: حدثني جابر بن عبد الله أن هذا الحديث خاصة في الذين حدثوا النبي عليه الصلاة والسلام فكذبوه، وائتمنهم على سره فخانوه، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه. فقال: وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن أبا سفيان قد توجه وهو في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا، قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله عز وجل: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال:27]، ونزل في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] إلى قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:77] إلى آخر الآية. قال عطاء: فإذا أتيت الحسن فأخبره بالذي قلته لك، وبأصل هذا، قال: فرجعت إلى الحسن فأخبرته بما قلت لفظاً وبما قال لي، قال: فأخذ الحسن بيدي فأشالها، ثم قال: يا أهل العراق! أعجزتم أن تكونوا مثل هذا سمع مني حديثاً فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء]. وهذا الحديث يغلب على ظني أنه ضعيف، خاصة وأن الحسن البصري إمام أهل البصرة، وإمام أهل السنة في زمانه، لا تخفى عليه مسائل الإيمان والكفر ما دق منها وجل وصغر وعظم، فلا يخفى عليه قط أن علامة المنافق لا تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام إلا إذا استحل هذا. وهذا الحديث يقضي بأن الحسن البصري إنما عد أن من ارتكب هذه الخلال

حكم القاتل عمدا وهل له توبة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - حكم القاتل عمداً وهل له توبة القتل كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو أعظم الذنوب على الإطلاق بعد الشرك بالله عز وجل، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في القاتل عمداً، فمنهم من قال بأنه ليست له توبة، وأنه مخلد في النار، ومن من قال غير ذلك.

مسائل في الإيمان

مسائل في الإيمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن الإيمان، والإيمان في عقيدة أهل السنة والجماعة قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وأنواع الطاعات كثيرة، فكل ما أمر الله عز وجل به فامتثال الأمر فيه طاعة، وكل ما نهى الله عز وجل عنه ورسوله فالانتهاء بهذا النهي طاعة، فالامتناع عن الزنا لأن الله نهى عنه طاعة لله عز وجل، والتعفف عن السرقة لأن الله نهى عنها طاعة لله عز وجل، فالطاعة تكون بامتثال الأمر واجتناب النهي. وإذا كان في عقيدتنا أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فهذا يدل على أن المرء كلما ازداد من الطاعات ازداد معه الإيمان، وكلما وقع في معصية نقص من إيمانه بقدر هذه المعصية التي ارتكبها.

حديث شعب الإيمان وبيان تعدد هذه الشعب

حديث شعب الإيمان وبيان تعدد هذه الشعب الإيمان شعب، كما في حديث أبي هريرة في مسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة). وفي الصحيحين: (بضع وستون شعبة، أعلاها -كما في رواية مسلم - لا إله إلا الله). وهو توحيد الله عز وجل. فأعلى شعبة من شعب الإيمان توحيد الله عز وجل، ويقابله في أعظم الذنوب الشرك والكفر بالله عز وجل، فأعظم ذنب يرتكبه المرء هو أن يشرك بالله عز وجل. وأعلى شعبة من شعب الإيمان التوحيد الخالص لله عز وجل، كما في الحديث: (أعلاها -أي: أعلى هذه الشعب- لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان). وهذا الحديث فيه إشارات متعددة: الأولى: بيان أن شعب الإيمان متعددة، وبالتالي الطاعات متعددة. الثانية: أن شعب الإيمان بعضها أقوى من بعض، فلا يمكن أبداً أن يستوي إماطة الأذى عن الطريق مع توحيد الله عز وجل، بدليل أن من ترك الأذى في طريق الناس وهو قادر على أن يميطه لا يستوي مع من أشرك بالله عز وجل، بل هذا ذنب وذاك كفر بواح. فإذا كانت شعب الإيمان متعددة فهي كذلك متفاوتة في المرتبة والفضل والخلق وغير ذلك، ويجمعها كلها اسم الإيمان، ولذلك قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة). وهذا يدل على أن هذه الشعب كلها تدخل في مسمى الإيمان. الثالثة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والحياء شعبة من الإيمان). ولم يذكر بقية الشعب. ولو نظرنا إلى المذكورات في هذا الحديث لوجدنا أن المذكورات: شهادة أن لا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء.

توحيد الله عز وجل من شعب الإيمان

توحيد الله عز وجل من شعب الإيمان جعل النبي عليه الصلاة والسلام توحيد الله عز وجل أعلى مراتب الإيمان، وهو كذلك حقاً، وهذا التوحيد متعلق بالقلب واللسان والجوارح، فهو متعلق باللسان أولاً؛ لأن المرء القادر على أن ينطق بالشهادتين إذا لم ينطق بهما لا يصح له الإسلام، بل لا يثبت له الإسلام وإن عمل بمقتضى الإسلام كله؛ لأنه يجب عليه أولاً قبل العمل أن ينطق بالشهادتين، وفي حين نطقه بالشهادتين يستقر في قلبه الإيمان الجازم بهذه الكلمة محبة ورضاً وذلاً وخضوعاً، وغير ذلك من لوازم الإيمان. إن كلمة التوحيد تستلزم نطقاً باللسان واعتقاداً بالقلب وعملاً بالجوارح بمقتضى هذا الإيمان، ونحن نقول دائماً: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وعمل بالجوارح والقلب، فلا بد أن يحب القلب هذه الكلمة، وأن يرضى عنها، وأن يعلم حقيقتها، وإلا فقد امتنع المشركون عن النطق بهذه الكلمة؛ لأنهم علموا مقتضياتها، وأنها ليست مجرد كلمة تقال فقط. هذه الشعبة الأولى من شعب الإيمان، وهي في أصل الطاعة.

الحياء وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان

الحياء وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان الشعبة الثانية: إماطة الأذى عن الطريق، وإماطة الأذى عن الطريق من عمل الجوارح، فجمع عليه الصلاة والسلام بين عمل اللسان وعمل القلب في شهادة التوحيد، مع عمل الجوارح في إماطة الأذى عن الطريق، مع العامل النفسي الحياء؛ لأن الحياء هو انفعالات نفسية تدور في نفس الإنسان، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول: الإيمان لا بد أن يتخلل لسان المرء وقلبه وجوارحه وعواطفه، وحينئذ يكتمل الإيمان. ولو أن المرء استقصى أعمال الإيمان كما استقصيناها من قبل مراراً، لوجدنا أن أعمال الإيمان فيما هو الراجح من أقوال أهل العلم بلغت تسعاً وسبعين شعبة، فلو أن المرء حقق هذه الشعب كلها لاكتمل إيمانه؛ لأنه قال: (الإيمان - أي: الإيمان الكامل التام - بضع وسبعون شعبة). والبضع من ثلاث إلى تسع. وقد تتبع ابن حبان وغير واحد الأعمال القلبية وأعمال الجوارح واللسان التي وردت في القرآن والسنة فوجدوها تسعاً وسبعين عملاً، وهذا قد صنف في غير ما كتاب، كما صنف في ذلك القزويني والإمام البيهقي وغير واحد في كتب أسموها: شعب الإيمان، وأقوى هذه الكتب وأكثرها استيعاباً هو كتاب شعب الإيمان للبيهقي، وهو كتاب عظيم جداً في حوالي عشرين مجلداً شرح فيها شعب الإيمان، وقد سار فيه على منهج ابن حبان بأن شعب الإيمان تسعاً وسبعين شعبة. وهناك كتاب الإيمان للإمام البخاري، وكذلك كتاب الإيمان للإمام مسلم، وهما في صحيحيهما، وأصرح من مسلم الإمام البخاري حيث كان يقول: باب الزكاة من الإيمان وأتى بالدليل باب الصلاة من الإيمان باب الحج من الإيمان باب الصدقة من الإيمان باب الجهاد من الإيمان وفي كل باب كان يأتي بأدلة من السنة؛ ليثبت أن هذا العمل هو شعبة من شعب الإيمان.

كما أن الإيمان يزيد بالطاعة فإنه ينقص بالمعصية

كما أن الإيمان يزيد بالطاعة فإنه ينقص بالمعصية إذا كان كل طاعة يأتيها المرء يزداد بها إيمانه فكذلك كل معصية في المقابل لا بد أن ينقص بها إيمان المرء، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن). فالعفاف والإحصان والطهر من الإيمان، وفي المقابل الزنا والفجور والخنا لا بد أن تكون مؤثرة في الإيمان بالنقصان. قال: (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة حين ينتهبها ذات شرف يتطلع إليه فيها الناس وهو مؤمن)، يعني: الغصب، فمن غصب شيئاً فهذا مؤثر في إيمانه.

حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة وغيرهم

حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة وغيرهم قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) استدل به بعض الناس على إخراجه من الإيمان مطلقاً وأبقوا له الإسلام، وبعضهم قال: بل ينتفي عنه الإيمان في لحظة الزنا ثم يعود إليه فور انتهائه من الزنا، وهذا الرأي التزام بظاهر النص (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يعني: ينزع عنه اسم الإيمان -وهو اسم المدح- حين المعصية، ثم يعود إليه اسم المدح بعد انتهائه من المعصية. والخوارج يقولون: بل يكفر بهذا الذنب، لأن الخوارج أو غلاة الخوارج عندهم أن مرتكب الكبيرة كافر خارج عن الملة، والمعتزلة عندهم أن مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين بين الإيمان والكفر. ومن عجيب أقوالهم أنهم يقولون: هذا حكمه في الدنيا، وأما في الآخرة فإنه مخلد في النار، مع أن المقطوع به عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار إلا الكفار سواء كان كفرهم كفراً أصلياً أو ردة أو نفاقاً، وأما الزنا فمع بشاعته وجرمه ونفور النفوس الطيبة عنه إلا أنه من جهة حكمه الشرعي كبيرة، وصاحب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة إن تاب منها تاب الله عز وجل عليه بغير حد، وإن رفع أمره إلى السلطان واعترف أو أقيمت عليه البينة وأقيم عليه الحد فالحد كفارته؛ لأن الحدود كفارات لأهلها. وإذا مات من ذنبه -أي: مات وهو مذنب مصر على ذنبه- وهو غير مستحل له فهو في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]. وهذا قطع، فالله عز وجل لا يغفر الشرك مطلقاً إلا إذا تاب صاحبه منه، فإذا مات عن غير توبة فإنه لا يغفر له شركه، بل هو من المخلدين في نار جهنم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]. وكلمة ما دون ذلك تشمل الكبائر والصغائر، ولكن هذا مرهون ومعلق على مشيئة الله، يعني: إن شاء الله تعالى عذبه بعدله، وإن شاء سبحانه وتعالى عفا عنه بفضله. فصاحب الكبيرة بل وصاحب الصغائر هو في مشيئة الله عز وجل إن لم يتب قبل موته. ومن ارتكب كبيرة وهو مستحل لها عالم بحرمتها خرج من دائرة الإسلام، فمن علم أن القتل كبيرة، وعلم أدلة هذا العمل الشنيع البشع، ولكنه أقدم على قتل صاحبه استحلالاً، يعني: وهو لا يعتقد أنه يأتي معصية، وإنما يفعل ذلك مستحلاً، كأن يقال له: إن هذا الدم حرام، فيقول: لا، بل هو حلال، فكأنه عاند وجحد، فمن استحل ذنباً كبيراً فلا شك أنه يخرج به من دائرة الإسلام إلى الكفر.

اختلاف الصحابة في حكم قاتل المؤمن عمدا راجع إلى قول بعضهم بنسخ آيات النساء المتعلقة بجزاء قاتل المؤمن عمدا

اختلاف الصحابة في حكم قاتل المؤمن عمداً راجع إلى قول بعضهم بنسخ آيات النساء المتعلقة بجزاء قاتل المؤمن عمداً وقضية قاتل المؤمن عمداً قضية مشكلة، ولذلك أشكلت على بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الأمر فيها يحكمه عدة أدلة، فمنهم من ادعى النسخ بين هذه الأدلة التي جاءت في كتاب الله عز وجل، ومنهم من قال بأن الآيات محكمة وليست منسوخة، وإذا قيل: آية محكمة فهذا يعني أن زعم النسخ فيها غير صحيح، أو أنه لم يقل أحد بأن فيها نسخاً، وقول الخطيب أو الواعظ: وجاء في آيات الله المحكمات، أي: التي لم يلحقها نسخ. والنسخ لا يشمل الأخبار قط، وإنما يشمل الأحكام، وقضية النسخ في القرآن والسنة أو في العلم عموماً لا تلحق الخبر؛ لأن الخبر لا يحتمل إلا أمرين، الصدق أو الكذب. أما الإنشاء فيدخله النسخ، ومنه الأحكام، فالأحكام تتغير وتتبدل، فالله عز وجل قد أمر المسلمين أول الأمر أن يصلوا إلى بيت المقدس، حتى صلوا إليه سبعة عشر شهراً أو ستة عشر شهراً كما في الصحيحين، ثم نسخ ذلك وأمرهم بالصلاة إلى بيت الله الحرام، وهذا حكم. والله تعالى لم يخبرنا عن أمة أو عن نبي أو عن رسول من السابقين ثم قال: لا، هذا لم يحدث، لأن هذه كلها أخبار عن الأمم الماضية والغابرة لا يلحقها النسخ، والنسخ إنما يلحق الأحكام. لما كان القتل من الأحكام لا من الأخبار وتعارضت ظواهر نصوص الكتاب فيما يتعلق بهذا الحكم زعم جمهور أهل العلم من الصحابة وغيرهم أن الآيات التي وردت في هذه القضية أو في هذا الحد -فيما يتعلق بقتل المؤمن عمداً- منسوخة بآيات أخر سنذكرها الآن. وزعم ابن عباس وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل: أن الآيات غير منسوخة، بل هي محكمة، وسموا الآيات كما أسماها زيد بن ثابت رضي الله عنه: آيات الغلظة وآيات اللين، فسمى آيات سورة الفرقان بالآيات اللينة أي: التي لانت في أسلوبها مع القاتل أو مع وصف عباد الرحمن، وسمى آيات سورة النساء المتعلقة بجزاء القاتل للمؤمن عمداً بالغلظة والشدة.

سياق ما روي في أن القاتل عمدا له توبة

سياق ما روي في أن القاتل عمداً له توبة قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في أن القاتل عمداً له توبة، وتفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] وأنها منسوخة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]. وروي ذلك عن عمر وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وإحدى الروايتين عن ابن عباس. ومن التابعين روي ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وأبي مجلز لاحق بن حميد وغير واحد].

كلام ابن عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار

كلام ابن عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار قال: [قال ابن عمر: كنا نرى أن من قتل مؤمناً فقد وجبت له النار. يعني: كانوا في أول الأمر وفي صدر الإسلام يرون أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه النار. قال: وكنا نرى أن من أكل مال يتيمه فقد وجبت له النار، ومن أكل الربا فقد وجبت له النار، حتى أنزل الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]]. والشاهد من هذا الحديث: أنهم كانوا يرون أن قاتل المؤمن عمداً قد وجبت له النار، حتى نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فلم يستثن من عدم المغفرة إلا ذنباً واحداً وهو الشرك، وعلق مغفرة الذنوب التي هي دون الشرك على مشيئته، فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، أي: ما دون الشرك. {لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. ومنها القتل سواء كان ذلك قتل المؤمن أو قتل غير المؤمن. قال: [قال ابن عمر: فلم ندر من يدخل في مشيئة الله ومن يخرج منها، فكففنا ورجونا]. يعني: يقول ابن عمر: لما أنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] علمنا يقيناً أن الشرك ذنب لا يغفر، وأن ما دون الشرك يغفر إذا أراده الله عز وجل وشاءه، فلما خفيت علينا مشيئة الله في من أراد الله تعالى عذابه بذنبه أو مغفرته تفضلاً منه سبحانه كففنا عما كنا نعتقده أولاً أن آكل الربا قد وجبت له النار، وأن آكل مال اليتيم قد وجبت له النار، وأن قاتل المؤمن عمداً قد وجبت له النار، فكففنا عن هذا المعتقد وقلنا: ما هي إلا ذنوب لا تبلغ درجة الشرك، وإذا كانت دون الشرك فهي داخلة في الذنوب التي علقت على مشيئة الله، فإن شاء أخذ المذنب بها وإن شاء عفا سبحانه وتعالى. فلما خفي هذا على ابن عمر وغيره من سائر الخلق قال: فكففنا ورجونا. وكلمة رجونا إشارة إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمعصية العاصي، فلو عصى إنسان معصية كبيرة فلا نتمنى له أن يدخل النار، وهذا من سعة رحمة رب العالمين، فقد أمرنا أن نترحم على أصحاب المعاصي، ونرجو لهم أن يرحمهم الله عز وجل. والناس عندهم من المعاصي الظاهرة ما يوجب لهم النار، ولو أراد الله تعالى أن يعاملهم بعدله لأدخلهم النار، ولكنه سبحانه وتعالى يتفضل بالعفو عنهم؛ لأنه الغني عن عذاب عباده. ونحن عندنا من الذنوب الشيء الكثير الذي يبلغ درجة الزنا وشرب الخمر والقتل أحياناً، وهو الوقيعة في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، ونقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وهذه من كبائر الذنوب، ونحن نقع فيها بالليل والنهار، والإخوة الصالحون يأنفون جداً من سماع لفظ الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر وغير ذلك، وهم أبعد الناس عن ذلك، وإذا كانوا يحرمون السجائر فكيف بالخمر الصريحة؟ وهذا من فضل الله عز وجل على أبناء الصحوة وأصحاب الالتزام، لكن هناك كبائر عظيمة جداً مهلكة لأصحابها يقعون فيها، بل من فرط ما وقعنا فيها استمرأناها، كالغيبة والنميمة وغيرها من الذنوب. ولو أنك راجعت كتاباً من كتب الكبائر ككتاب الكبائر للإمام الذهبي فإنك ستجد أنه عد اثنتين وسبعين كبيرة، ولعلمت أنك واقع في عشر كبائر على الأقل، مع أنك تنظر بعين السخط لأصحاب الكبائر الظاهرة، في الوقت الذي تقع أنت فيه في كبائر أخرى، لكنها كبائر خفية، مثلما تقع في الغيبة والنميمة في ثوب النصح، ولكن هذا المكر لا يخفى على الله عز وجل. فينبغي على كل منا أن يعلم الفرق بين كبائر الذنوب وصغائرها، وأن ينزه نفسه ودينه وعرضه عن كبائر الذنوب وصغيرها. قال: [وقال ابن عمر: كنا نبت على القاتل -أي: نقطع للقاتل عمداً بأنه في النار- حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فأمسكنا]، أي: فأمسكنا عن هذا البت والقطع. يعني: كانوا إذا أتاهم قاتل يقول: أنا قتلت مؤمناً، يقولون له: أنت في النار لا محالة، وليس عندنا من العلم إلا هذا، حتى نزل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]. ومنه القتل.

كلام عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار

كلام عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار قال: [وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقرأ عليه عمر: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:1 - 3]، ثم قال له: اعمل ولا تيئس]. فبين له أن الله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وإجابة عمر إجابة ليس فيها قطع في القضية، ولكن عمر شرح له هذه الآية وقال له: اعمل ولا تيئس، وإذا كان مقطوعاً له بالنار لا محالة فلم العمل؟ والكافر الذي يموت على كفره لا ينفعه عمل صالح إلا إذا أسلم وآمن، فحينئذ يضاعف له عمله ويضم إليه عمله الصالح الذي كان يعمله في الجاهلية.

كلام ابن عباس في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار

كلام ابن عباس في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار قال: [وجاء إلى ابن عباس رجل فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها]، أي: لما تقدم لها غيره رضيت بذلك وقبلت ووافقت، فغار عليها مع أنه ليس خاطباً ولا عاقداً ولا قريباً لها، فلما غار عليها قام إليها فقتلها، وهذا حب أعمى. قال: [قال ابن عباس: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل وتقرب إليه]. وابن عباس من صغار الصحابة، فقد ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، في شعب من شعاب قريش قبل هجرة النبي عليه السلام بثلاث سنين، وصغار الصحابة هو وعبد الله بن عمر والبراء وأنس بن مالك وغيرهم لما كانت غزوة بدر لم يكن سنهم بلغ الخامسة عشر، ولذلك لم يجزهم النبي عليه الصلاة والسلام في القتال، لأنه ما كان يجيز من كان أقل من سن خمسة عشر عاماً، ابن عباس كان أصغر منهم جميعاً. ولما جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن ابن عباس نبت له، يعني: كان صغيراً لم ينبت له شعر، فالنبي عليه السلام مات وعند ابن عباس ثلاثة عشر عاماً فقط، وكان طفلاً أو غلاماً ذكياً جداً ببركة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام له، فلما سأل عمر كبار المهاجرين والأنصار عن معنى قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] أجمعوا كلهم على أن المقصود بها فتح مكة. فلما جاء الدور على ابن عباس قال: ما أرى إلا أن الله تعالى نعى إلينا رسوله، فقال أمير المؤمنين: وأنا والله لا أرى منها إلا ما ترى يا ابن عباس! قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]-ولا شك أن القاتل قد عمل سوءاً وقد ظلم نفسه- قال: أخبر الله تعالى عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً]. ولم يقل له ابن عباس: كفرت، أو وجبت لك النار. ونحن نعلم أن هذه المسألة - أي: مسألة قتل المؤمن عمداً - خالف فيها ابن عباس جميع الصحابة، فقال بأنه في النار خالد مخلد فيها أبداً، وقال جمهور الصحابة: بل قتل المؤمن كبيرة من الكبائر، وتأخذ حكم الكبيرة، فإذا أقيم عليه الحد أو تاب منها أو مات ولم يتب فإنه في مشيئة الله عز وجل. والشاهد من ذلك: أن ابن عباس اجتهد في أول أمره في حكم قاتل المؤمن عمداً فقال بخلوده في النار، وأنه لا يغفر له ذلك، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك لما وقف على قول جماهير الصحابة أو قول كل الصحابة دونه، فلما علم أن الحق معهم رجع عن قوله الأول.

سبب إهمال اللالكائي لما روي عن ابن عباس أول الأمر من عدم قبول توبة القاتل عمدا

سبب إهمال اللالكائي لما روي عن ابن عباس أول الأمر من عدم قبول توبة القاتل عمداً لما كانت هذه المسألة محل اضطراب عند ابن عباس، ولم يعلم ويشتهر بمخالفة جماهير الصحابة فيه إلا هذا الصحابي الجليل ابن عباس لم يورد الإمام اللالكائي الآراء المسندة إليه بعدم قبول توبة التائب من قتل المؤمن عمداً، وإنما أتى بالرأي الثاني الموافق لجماهير العلماء ومنهم الصحابة أجمعون إلا هو، وقيل: وافقه زيد بن ثابت. وهذا ضعيف عنه. وقد روي عن ابن عباس ما يدل على أنه رجع، فقد قال: أخبر الله تعالى عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً - والمعلوم أن القتل كبيرة من الكبائر - ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال.

ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين في قبول توبة القاتل عمدا

ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين في قبول توبة القاتل عمداً قال: [وقال ثمامة بن حزن: كنت مع أبي فسأل رجل عبد الله بن عمرو - أي: ابن العاص - فقال: من كل ذنب توبة يقبل الله التوبة؟ -يعني: لو أن العبد أذنب ذنوباً فتاب من كل ذنب هل يقبل الله تعالى التوبة؟ - قال: نعم]. وهذا اللفظ من ألفاظ العموم، فقوله: (لو أن عبداً أذنب كل ذنب) يشمل الكبائر والصغائر ويشمل القتل كذلك. قال: [وعن مجاهد - وهو مجاهد بن جبر المكي من التابعين- قال: لقاتل المؤمن توبة]. ولما عدد الله عز وجل الكبائر أو بعض الكبائر ومنها قتل النفس قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفرقان:70]، يعني: لا يتوب عليهم فقط، بل يجعل أعمالهم السيئة حسنات بحسن إيمانهم وصدقهم في توبتهم. قال: [وعن سعيد بن جبير قال: ما أعلم لقاتل المؤمن توبة إلا الاستغفار]. يعني: جعل الاستغفار علامة توبة المؤمن. وهناك حديث ضعيف يشهد لهذا المعتقد، قال: [فعنه صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] قال عليه الصلاة والسلام: (هو جزاؤه إن جازاه)]، يعني: هذا جزاؤه إن جازاه الله عز وجل. قال: [وعن سعيد بن جبير: أنها نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل الفهري، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معه ليأخذ دية أخيه فأنزل الله فيه قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]]، يعني: أن الله عز وجل سماه مؤمناً وأخاً لك، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]. فالمعفو له هو القاتل، وصاحب العفو هم أولياء المقتول. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، يعني: تلطف حتى في الكفارات وغير ذلك. والله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]. فلم ينف الإيمان عن إحدى الطائفتين سواء كانت قاتلة أو مقتولة، ولا يمكن قط أن يستقيم وصف الإيمان - وهو اسم مدح - مع معتقد أن القاتل المؤمن عمداً مخلد في نار جهنم وأنه لا تقبل منه التوبة، إذ كيف يكون مؤمناً حينئذ؟

شرح حديث قاتل المائة نفس

شرح حديث قاتل المائة نفس قال: [وعن أبي سعيد الخدري: أنه حدث أصحابه قال: لا أحدثكم إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته أذناي ووعاه قلبي: (أن عبداً قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل -أي: راهب- فأتاه، فقال: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: أبعد قتل تسعة وتسعين نفساً؟)] يعني: جئت تسأل عن التوبة بعدما قتلت تسعة وتسعين نفساً. قال: [(فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المائة)]، يعني: فأشهر سيفه وقتله؛ لأنه أيسه من رحمة الله عز وجل، فقد قال له: قتلت مائة نفس وتريد تتوب؟ كيف تتوب؟ فأيسه من رحمة الله، فأتم به المائة. قال: [(ثم عرضت له التوبة)]، يعني: ثم فكر في التوبة من جديد: [(فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل فأتاه، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟)]، واللغة تسمح بأن يعبر الشخص عن نفسه بضمير الغائب. [(قال العالم: من يحول بينك وبين التوبة؟)] يعني: ومن الذي يمنعك من ذلك إذا كان باب التوبة مفتوحاً؟ والله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، والتوبة تكون من المعصية، والله تعالى يقبل توبة العبد، وهي التوبة الخاصة بكل عبد على حدة، بخلاف التوبة العامة، فإن بابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، فحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. وأما التوبة الخاصة بكل عبد على حدة فوقتها الذي ترفع فيه ولا يقبل من صاحبها توبة هو أن تبلغ الروح الحلقوم ويصل إلى الغرغرة، أي: أن يشرف على الموت، فإذا أشرف على الموت وعاينه قال: إني تبت الآن، ولا يقبل منه ذلك. قال: [(من يحول بينك وبين التوبة؟ اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها)]، يعني: أيضاً فتح له باب الأمل والرجاء في سعة رحمة رب العالمين، ثم وصف له الطريق الذي ينجو به، وهو أن يهجر أرض السوء والمعصية وصحبة الباطل وينصرف إلى أرض جديدة يعبد الله تعالى فيها ولا يشرك به. قال: [(اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة كذا وكذا، فاعبد ربك فيها. قال: فخرج فعرض له أجله)]، يعني: أدركه أجله في أثناء الطريق قبل أن يصل. [(فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، فقال إبليس عليه لعنة الله: لم يعصني ساعة قط -يعني: هذا تبعي، ومن حزبي- فقالت ملائكة الرحمن: إنه خرج تائباً)] أي: يردون على إبليس فهو لم يعصك قط، لكن آخر أمره هو التوبة والرجوع والإنابة، والأعمال بالخواتيم كما أخبر عليه الصلاة والسلام. قال: [(فبعث الله ملكاً فاختصموا إليه)، يعني: رضوا بأن يحكم بينهم]. قال: [(فاختصموا إليه، قال: انظروا إلى أي القريتين كان أقرب)] أي: قيسوا ما بين القريتين التي خرج منها والتي هو قادم إليها، فأياً كان قربه إليها فهو من أهلها، فإذا كان لا زال في النصف الأول فقرية الخبث أولى به، وإذا كان أقرب إلى القرية التي هو ذاهب إليها فهو إلى الرحمة أقرب، قال: (انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بها. قال قتادة: فحدثنا الحسن: أنه لما عرف الموت احتضر بنفسه فقرب الله منه القرية الصالحة، وباعد منه القرية الخبيثة فألحقه بأهلها)]، يعني: أمر الله تعالى الأرض أن تطوى وأن تقترب حتى - جاء في أحدى الروايات - أنه كان أقرب إلى الأرض الطيبة قدر شبر واحد، فألحقوه بأهلها. وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.

كفارة القتل العمد إذا عفى أولياء المقتول عن القصاص

كفارة القتل العمد إذا عفى أولياء المقتول عن القصاص قال: [وعن ابن الديلمي قال: أتيت واثلة بن الأسقع]، وواثلة بن الأسقع هو آخر الصحابة موتاً على الإطلاق. قال: [فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب، وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص، فقلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام]، يعني: ما قصدوا ظاهر الكلام، واعتذروا بأن مقصودهم: حدثنا بحديث سمعته من الرسول لكن بغير زيادة ولا نقصان، فلا نريد أن نسمع من قولك شيئاً، ولكن انقل إلينا ما سمعته حرفياً، فغضب لذلك وقال: إن أحدكم يقرأ في المصحف في بيته فيزيد وينقص، فكيف تلزموني بهذا؟ قال: [(فقال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب -أي: وجبت له النار- فقال: اعتقوا عنه يعتق الله كل عضو منه عضواً منه من النار)]. ولذلك جماهير العلماء يقولون: إن كفارة القتل العمد إذا رضي أهل القتيل بذلك هي عتق رقبة مؤمنة، فإذا أعتق نصف هذه الرقبة، يعني: لو كان شريكاً في رقبة فأعتق نصيبه فقد أعتق نصفه أو حظه في الشركة من هذا العبد من بدنه من النار، ويلزمه أن يشارك في عبد آخر ثم يعتق نصيبه حتى يكتمل له عبد كامل، مع إلزامه بالاستغفار والتوبة وحسن الإنابة إلى الله عز وجل. قال: [وعن ابن عمر: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك والدة؟ قال: لا. قال: ألك خالة؟ قال: نعم. قال: اذهب فبرها)]، وهذا يدل على أن الخالة بمنزلة الأم. أكبر الذنوب هو قتل المؤمن عمداً، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم لم يختلفوا قط في كبيرة من الكبائر بأن لها حكم الكبيرة إلا في قتل المؤمن عمداً، ولذلك آثر اللالكائي أن يتكلم عن هذا في مقدمة موضوع حكم مرتكب الكبيرة لأجل الخلاف الناشئ فيه بين ابن عباس وبين الجمهور، والذي يترجح لدي أن ابن عباس رجع عن رأيه الأول وهو أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له، وأن الله تعالى يقبل توبة التائب من ذنبه مهما كبر حتى وإن كان قتل المؤمن عمداً. والمعاصي كلها صغيرها وكبيرها مؤثرة في نقصان الإيمان، كما أن الطاعات مؤثرة في الإيمان بالزيادة، حتى وإن كانت أعظم الذنوب، وأعظمها هو قتل المؤمن عمداً. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من لم يقدر على إرجاع ما أخذه من الغير

حكم من لم يقدر على إرجاع ما أخذه من الغير Q كنت أعمل في أحد الفنادق وألزمني المدير أن آخذ ملاحتين من الفندق، ثم تركت العمل لما علمت بخبثه، وأريد إرجاع ما أخذت، ولا سبيل إلى ذلك، فكيف أعمل؟ A بإمكانك أن تتصدق بهما وتتخلص منهما.

ما يباح للخاطب

ما يباح للخاطب Q أنا خاطب، فهل يجوز للمخطوبة أن تجلس معي وهي كاشفة وجهها؟ A لا تجلس لا وهي كاشفة ولا وهي مغطية، وأنا قد سألت هذا السؤال الشيخ الألباني رحمه الله فقال: ولا أن يراسلها مراسلة، ولا أن يشافهها على الهاتف؛ لأن المخطوبة امرأة أجنبية، فإذا أردت أن تجلس معها فاعقد عليها، وأما قبل ذلك فإن الخطبة لا تثبت حقاً إلا حق الاحتجاز، يعني: أنها محجوزة لك، فلا يجوز لأحد أن يخطبها إلا أن تدع أنت، وبعضهم يقول: أجلس معها حتى أعلمها، فنقول: علم أبوها وأبوها سيعلمها، وتكون قد ضربت عصفورين بحجر.

الإيمان بكرامات الأولياء والتحدث بها إلى الآخرين

الإيمان بكرامات الأولياء والتحدث بها إلى الآخرين Q هل يجوز التحدث عن كرامات بعض الصالحين في هذا الزمن وأنا لم أرها، ولكني سمعتها من بعض الإخوة، فهل يجوز لي التحدث بها؟ A الإيمان بكرامات الأولياء من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، فكيف نكتم أصلاً من أصول إيماننا. ولكن نخشى أن يلتبس هذا الكلام بخرافات الصوفية وغيرهم، وكرامات الأولياء والصالحين أمر ثابت مستقر في عقيدة الموحدين، والتحدث به من باب البشارة ومن باب الخير، وأرجو ألا يخلط بين هذا وذاك، ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله حداً فاصلاً بين هذه الخزعبلات والخرافات وبين الكرامات، كما نقل عنه غير واحد، فقد قال: لا تعجب من عمل العامل حتى لو طار في الهواء ومشى على الماء حتى تنظر إلى عمله، فإن كان عمله مستقيماً على كتاب الله وسنة رسوله فاعلم أن هذه كرامة، وإذا كان عمله غير ذلك فاعلم أن هذا استدراج من الشيطان.

مدى صحة حديث (من أدخل سرورا على مسلم)

مدى صحة حديث (من أدخل سروراً على مسلم) Q يقول: (إن من أدخل سروراً على مسلم خلق الله من هذا السرور ملكاً يعبد الله عز وجل إلى يوم القيامة)؟ A لا أعرفه أبداً، ويبدو أنه من وضعك أنت، يعني حتى أنك لم تأت به من كتب الموضوعات.

حكم تأخر من يصلح للإمامة إذا لم يوجد غيره

حكم تأخر من يصلح للإمامة إذا لم يوجد غيره Q من كان يعمل كبيرة توجب لعنة الله ثم تركها لأجل الله عز وجل وتعلم القرآن وصار الناس يرونه أهلاً للإمامة وهو يخاف أن يتقدمهم، ويخاف أيضاً أن يتخلف عن إمامتهم فهو من أقرئهم للقرآن، حتى لا يدخل للإمامة من يفسد الصلاة، فكيف المخرج يرحمكم الله تعالى؟ A ويرحمكم. لا بد أن تعلم أن الإمامة هي دين الله عز وجل، يعني: أن مسألة الإمامة والتصدي لإمامة الناس أو تدريسهم أو قضاء حوائجهم من التكليف الشرعي، فهذا الأمر ليس من باب التشريف بل هو تكليف شرعي، فإذا تعينت عليك الإمامة -بمعنى: أنه لا يوجد أحد في الناس يصلح أن يكون إماماً إلا أنت- فتأخرك معصية لله عز وجل، وهذا ورع كاذب، بل الورع هو الاستقامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فالاستقامة: أن تحافظ على صحة صلاتك وصحة صلاة الناس. ولو تورعت أن تصلي بالناس ثم دخلت في الصلاة الجهرية خلف شخص لا يحسن قراءة الفاتحة فإنك ستبقى في صراع نفسي أثناء الصلاة هل تعيد الصلاة أم لا؟ وإذا كنت خائفاً على صلاة الناس أيضاً فماذا ستقول لهم بعد الصلاة؟ وهل ستأمرهم بإعادة الصلاة؛ لأن هذه الصلاة باطلة. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله في النار)؛ لأنه تعين عليهم العمل فتخلفوا عنه عمداً، فهذه معصية أخرى، فلا تتصور أن هذا ورع في وقت قد تجرأ فيه جل الناس على الإمامة، وكل واحد يرى أنه أولى بالإمامة وأنه أهل للإمامة، بل إن المؤذن الذي لا يحسن أن يؤذن إذا أذن وأقام الصلاة يجد شخصاً واقفاً جنبه أو اثنين أيضاً، بل إنه بعد أن يفرغ من الإقامة يطمع في الإمامة، وكل واحد يرى أنه أهل للإمامة، والورع أن تنظر بتقوى الله فلا ترى من هو أفضل منك للإمامة، وليس معنى ذلك أنك أفضل الناس على الإطلاق، ولكنك أفضل الموجودين في شروط الإمامة، مع أنه يمكن أن تكون فاسقاً عياذاً بالله، فقد يكون عندك كبيرة تفسق بها، وصاحب الكبيرة المحافظ عليها فاسق، وإمامة الفاسق جائزة، والفاسق لا يفسق إلا بكبيرة أو بالمحافظة على الصغيرة. وتسعون في المائة من الأئمة في التكبير حتى في الصلاة السرية يقول: الله أجبر بالجيم بدل الكاف، ومذهب جماهير الفقهاء أن تحويل الكاف إلى جيم يبطل الصلاة ويلزم الإعادة حتى في الصلاة السرية. فهذه مسائل فنية لا دراية لأحد بها إلا أحد تدرب عليها وعرف أحكام التجويد ومخارج الحروف، وعامة الناس لا علم لهم بذلك. وهذه من مسائل الدين.

حكم مرتكب الكبيرة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - حكم مرتكب الكبيرة لقد رغبت الشريعة الإسلامية في التوبة من الذنوب، والعودة إلى الله عز وجل، بل جعلت التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وأخبرت أن من مات مصراً على معصيته فهو تحت مشيئة الله عز وجل، وخالف بعض أهل البدع في حكم الكبائر، فمنهم من حكم بكفر مرتكبها، ومنهم من فسقه، ومنهم من حكم له بالخلود في النار.

سياق ما روي فيمن تاب من الكبائر

سياق ما روي فيمن تاب من الكبائر بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين لا تضرهم الذنوب التي هي الكبائر إذا ماتوا عن توبة من غير إصرار، ولا يوجب التكفير، وإن ماتوا عن غير توبة فأمرهم إلى الله تعالى، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم]. هذا الباب متعلق بحكم مرتكب الكبيرة، وأن من وقع في كبيرة إن تاب منها تاب الله عز وجل عليه قولاً واحداً، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته، وإن مات من غير توبة فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. هذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمرتكب الكبيرة. وأما المعتزلة فقالوا: مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً في الدنيا، وأما في الآخرة فهو مخلد في النار أبد الآبدين. والمعلوم قطعاً عند أهل السنة أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، والمعتزلة لم يجعلوه مؤمناً ولا كافراً، ثم جعلوه من المخلدين في النار. وأما الخوارج فقالوا: مرتكب الكبيرة كافر خارج عن الملة مخلد في النار إلا من تاب. ونصوص القرآن والسنة شاهدة على بطلان قول الخوارج وقول المعتزلة في آن واحد، ولا يسلم لنا إلا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو أن مرتكب الكبيرة إن أُقيم عليه الحد فالحد كفارته، ولا يطالبه الله عز وجل يوم القيامة، ولا يسأله عن هذا الذنب أبداً؛ لأنه تطهر منه في الدنيا بقيام الحد عليه، وإن تاب فيما بينه وبين الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، وأما إن بلغ أمره إلى السلطان فيجب على السلطان أن يقيم عليه الحد حتى وإن تاب، وليس للسلطان العفو عن صاحب الكبيرة إذا قال: لقد تبت إلى الله عز وجل؛ لأن السلطان حر فيما يتعلق بما هو دون الكبيرة، وأما الكبائر فلا بد من إقامة الحد على المذنب إذا بلغ الأمر إلى السلطان، وإذا مات صاحب الكبيرة وهو مصر عليها غير مستحل لها فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

موقف الصحابة والتابعين من أهل الكبائر من المسلمين

موقف الصحابة والتابعين من أهل الكبائر من المسلمين قال: [قال أبو سفيان: قلت لـ جابر: كنتم تقولون لأهل القبلة: إنكم كفار؟ قال: لا. وعن سليمان اليشكري: أكنتم تعدون الذنب شركاً -أي: مخرجاً عن الملة- قال: لا. وعن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود: أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر -أي: يرجون الله تعالى أن يغفر لأهل الكبائر-. وصلى علي رضي الله عنه على قتلى معاوية. وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح -أي: لا يجهزون عليه إذا أدركوه جريحاً ولا يقتلونه، وإنما يعفون عنه- ولا يطلبون مولياً -أي: الذي يهرب منهم لا يطلبونه، ولا يعدون خلفه لقتله- ولا يسلبون قتيلاً]؛ لأنه لا يُسلب إلا كافر، والسلب هو: أخذ متاع الفارس أو المقاتل، مثل أخذ فرسه وماله وطعامه وشرابه، وكل هذا لا يحل إلا في قتال الكافرين، ولما لم يفعل علي رضي الله عنه شيئاً من ذلك دل ذلك على أن مقاتليه لم يكونوا عنده كفاراً، ولذلك حينما سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: أهم كفار؟ قال: بل هم من الكفر فروا، قيل: إذاً فمن هم؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم، فما سماهم أكثر من بغاة، والباغي لا يزال الإسلام ثابتاً له. قال: [وعن أبي الجوزاء قال: ليس فيما طلبت من العلم ورحلت فيه إلى العلماء وسألت عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت الله عز وجل يقول لذنب: لا أغفر]. وكأنه يقول: ما سمعت أحداً قط ينقل عن الله ولا عن رسوله أن صاحب الذنب لا يغفر له، بل صاحب الذنب يغفر له إذا تاب من ذنبه. قال: [وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أنه سئل عن أصحاب الجمل؟ فقال: مؤمنون وليسوا بكفار. وعن ابن سيرين قال: لا نعلم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا من غيرهم من التابعين تركوا الصلاة على أحد من أهل القبلة تأثماً]. ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يصلون خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر، ما لم يكفر وما لم يشرك، وأما الكافر فإنه إن مات على كفره فإنه لا يصلى عليه؛ لأنه ليس أهلاً للصلاة عليه. وهنا ينقل ابن سيرين عن جميع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وعمن أدركه من التابعين أنه لم يترك أحد منهم الصلاة على فاجر تأثماً، أي: مخافة الوقوع في الإثم؛ لأنه لا يزال من أهل القبلة. قال: [وعن النخعي قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة]، أي: لم يكونوا يمنعوا الصلاة على أحد من أهل القبلة. ومعلوم أنه عند إطلاق مصطلح أهل القبلة يدل على أنهم ليسوا على السنة ولا يعني أنهم كفار، فليس معنى أن الأشاعرة مثلاً أو الماتريدية أو المعتزلة أو المرجئة ليسوا من أهل السنة أنهم كفار، ولكن العلماء يفرقون بين قول: ليسوا من أهل السنة، وقول ليسوا من أهل القبلة، فإذا لم يكونوا من أهل القبلة فهذا يعني أنهم كفار، وأما كونهم ليسوا من أهل السنة فهذا يعني: أنهم من أهل القبلة.

الصلاة على من مات من أهل الكبائر من المسلمين

الصلاة على من مات من أهل الكبائر من المسلمين قال: [وعن عطاء قال: صل على من صلى إلى قبلتك. وعن الحسن قال: إذا قال: لا إله إلا الله صل عليه. وعن ربيعة الرأي قال: إذا عرف الله فالصلاة عليه حق]، أي: إذا كان موحداً فالصلاة عليه حق واجب له. قال: [وعن مالك قال: إن أفضل ذلك وأعدله عندي إذا قال: لا إله إلا الله ثم هلك -أي: ثم مات- أن يغسل وأن يصلى عليه. وعن أبي إسحاق الفزاري قال: سألت الأوزاعي والثوري: هل تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة وإن عمل أي عمل؟ قال: لا. وعن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد مثله]. والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قُرب إليه أحد أصحابه ليصلي عليه قال: (أعليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترك ما يؤدي عنه؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم). وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كصلاة غيره، والله تعالى قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، أي: ادع لهم، وصلاة الجنازة دعاء، {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]. فصلاته مخصوصة بهذا، والرجاء معقود في أن تكون صلاة الشفعاء جميعاً رحمة وسكينة للميت، وهذا مقطوع به في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من أئمة الإسلام. والنبي عليه الصلاة والسلام ما ترك الصلاة على هذا الرجل تكفيراً له، أو إخراجاً له عن الملة، أو لأنه ليس من أهل القبلة، والدليل على ذلك قوله لهم: (صلوا على صاحبكم). ولو كان كافراً بهذا الذنب لما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصلوا عليه. والذي دفع النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك هو أنه مشرع، وقوله دين يُتعبد به إلى قيام الساعة، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين خطورة الدين، وأن يزجر الأحياء أن يقعوا في مثل ما وقع فيه الميت، وليس من باب أنه كافر أو أنه ليس من أهل القبلة، ولكن لزجر الأحياء أن يفعلوا مثله، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام ذلك في صاحب دين عليه ديناران، فإنه لما قال: (صلوا على صاحبكم، قام إليه أبو قتادة وقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، ثم لما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي قتادة: هل أديت عن صاحبك؟ قال: يا رسول الله! ما هو إلا اليوم -أي: أنك لم تأمرني إلا اليوم والرجل ما مات إلا اليوم- فقال: اذهب فأد عن صاحبك، فذهب فأدى عن صاحبه في الليل وأتى في الغداة -أي: في صلاة الفجر- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبو قتادة؟ فقال: ها أنا يا رسول الله! قال: هل أديت عن صاحبك؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: الآن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده). وقال عليه الصلاة والسلام: (الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدين). وقد قيل: إن هذه الأحاديث منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وله مال فلعياله، ومن مات وعليه دين فلي وعلي)، وفي رواية: (فإلي وعلي)، أي: يعطى من بيت مال المسلمين إذا لم يكن قادراً.

فضل التوحيد وخطورة الشرك

فضل التوحيد وخطورة الشرك قال: [قال عبد الله بن مسعود: حينما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يخرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما هُبط من فوقها فيقبض منها، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] قال: فراش من ذهب، فأُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات]، أي: الكبائر، التي يُقحم صاحبها في النار بسببها، فتسمى المقحمات، وتسمى الكبائر، وفظائع الأعمال والأمور. والشاهد هنا قوله: وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات، أي: الكبائر، وهذا محمول على أنه قد تاب منها، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي أسامة. قال: [وعن المعرور بن سويد قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، رغم أنف أبي ذر)]. وقد أجمع العلماء على أن هذا الحديث محمول على من تاب من زناه ومن سرقته. قال: [وعن الزهري قال: قال لي عبد الملك بن مروان هذا الحديث الذي جاء فيه: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة وإن زنى وإن سرق)، فقلت: أين تذهب يا أمير المؤمنين؟! هذا قبل الأمر والنهي وقبل الفرائض. وعن المعرور بن سويد عن أبي ذر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: من عمل حسنة فله عشر أمثالها، ومن عمل سيئة فجزاء مثلها وأغفر)]، والكبائر سيئة كما أن الصغائر سيئة. والشاهد من الحديث: (وأغفر)، فمن عمل سيئة فهو في مشيئة الله، إن شاء عاقبه بها وإن شاء غفرها له. قال: [(ومن عمل قراب الأرض خطيئة -أي: ما يوازي ويقارب ملء الأرض خطايا- ثم لقيني لا يُشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة). والحديث عند مسلم. وفي لفظ: (يقول ربكم عز وجل: ابن آدم! إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد ألا تشرك بي شيئاً جعلت قرابها مغفرة لك ولا أبالي)]. وعن جابر قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ما الموجبتان؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: من مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يُشرك بالله شيئاً دخل النار). فالموجب لدخول الجنة هو التوحيد، والموجب لدخول النار هو الشرك، وما دون ذلك فهو في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ودليل ذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. ومن الأمور القطعية أن الشرك لا يُغفر قط، والكفر لا يُغفر قط، وكل شيء غيرهما داخل في مشيئة الله عز وجل، وبعض الناس يقول: إن الله قادر على أن يغفر للمشرك، وهو قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، ومن قدرته وبقدرته قضى وأمر وأخبر أنه لا يغفر للمشرك، ولو أراد أن يغفر له لأخبرنا، ولكن الله أخبرنا خبراً يقينياً قطعياً أن المشرك أو الكافر لا يُغفر له قط، وأما ما دون الشرك من الكبائر والصغائر فإن الله تبارك وتعالى إذا شاء عذب بها وإذا شاء غفر؛ لأنه قال: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)). فعلق مغفرة الذنوب التي هي دون الشرك بالله ابتداء على مشيئة الله، فإن شاء آخذ الناس بها وإن شاء عفا عنها.

بيان أن من ستر في الدنيا من أصحاب الكبائر فهو في مشيئة الله تعالى يوم القيامة

بيان أن من ستر في الدنيا من أصحاب الكبائر فهو في مشيئة الله تعالى يوم القيامة قال: [عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف)]. فبايع الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام على هذا، فجمع بين الكبائر وبين الشرك في هذا، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن وفى منكم فأجره على الله)]، أي: فمن وفى منكم بأصل البيعة فأجره على الله عز وجل، أي: أنه يثيبه على ما أطاع فيه ولم يعصه. قال: [(ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له، قال: فبايعناه على ذلك)]. والشاهد من هذا الحديث قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا). فلو أن رجلاً زنى أو سرق أو قتل فستره الله فإن تاب من هذا تاب الله عز وجل عليه، وإن مات ولم يتب فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له. وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصاب في الدنيا ذنباً فعوقب به فالله عز وجل أعدل من أن يثني عقوبته في الآخرة)، أي إذا أُقيم عليه الحد في الدنيا فإنه لا يطالب قط بهذا الذنب يوم القيامة، أي: لا يُعاقب على ذنب واحد مرتين، وإذا عوقب بإقامة الحد عليه فقد برئت ساحته من هذا الذنب، والله تعالى لا يذكره ولا يطلعه على هذا الذنب؛ لأنه محي تماماً. قال: (ومن أذنب ذنباً وعفا عنه فالله تعالى أعدل من أن يعود في شيء عفا عنه). أي: إذا تاب المذنب من ذنبه فالله عز وجل يتوب عليه؛ لأنه وعد بذلك في قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] بشرط أن يكون صادقاً في توبته كما ذكرنا آنفاً.

إشكال حول حديث جعل ذنوب ناس من هذه الأمة على اليهود والنصارى والجواب عليه

إشكال حول حديث جعل ذنوب ناس من هذه الأمة على اليهود والنصارى والجواب عليه قال: [عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى). قال أبو بردة: فحدثت به عمر بن عبد العزيز -وهذا يقوله لـ غيلان بن جرير - فقال: آلله سمعته من أبيك يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. فـ عمر يستوثق من أبي بردة أنه سمعه من أبي موسى الأشعري، أي: من أبيه؟ قال: نعم. وقوله: (ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال، يغفرها الله عز وجل)، أي: يغفرها بسبب توبتهم، أو لعل لهم من الأعمال الصالحة ما يكافئ مغفرة ذنوبهم، ولهم من الأعمال والرصيد في الطاعة الشيء الكثير الذي يؤدي إلى مغفرة هذه الذنوب، ويبدو أن هذه الذنوب كثيرة جداً؛ لأنها أمثال الجبال، ولكن الله تعالى يغفرها لهم ويضع هذه الذنوب على اليهود والنصارى. وهذا الحديث عند مسلم في صحيحه في كتاب التوبة. وربما يقول قائل: قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فما بال هذا اليهودي والنصراني يتحمل ذنوب المسلم، والأصل أن يتحمل كل إنسان ذنبه الذي اقترفه؟ وأقول: هذا حق، وليس هذا معنى الحديث، وإن كان هذا باد في ظاهره إلا أنه ليس مراداً على الحقيقة، والمراد هو أن الله عز وجل جعل لكل مخلوق مكانه في النار ومكانه في الجنة، فإذا مات الكافر اطلع على مكانه في الجنة ثم قيل له: هذا مكانك لو أنك آمنت، ثم يطلع على مكانه في النار ويخلد فيها أبد الآبدين، فيبدل الله عز وجل المسلم مكان الكافر في الجنة مع مكانه الأصلي، فهذا المسلم إنما دخل الجنة رغم ذنوبه لكن الله تعالى غفرها، وأدخل هذا اليهودي أو النصراني المكان الذي أُعد للمسلم في النار بسبب كفره ويهوديته ونصرانيته، لا بسبب ذنوب المسلم التي وضعت على هذا الكافر. فهو تبديل مكان في الجنة أو النار، فالمسلم يغفر الله تعالى له ويدخله الجنة، وأما الكافر فإن الله لا يغفر له ويدخله النار، وهذا معنى الحديث.

فضل استمرار العبد في التوبة والاستغفار من الذنوب

فضل استمرار العبد في التوبة والاستغفار من الذنوب قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله تعالى: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي)]. أي: بمجرد أن رجع العبد بعد أن أذنب إلى الله تعالى وتاب، وطلب منه العفو والمغفرة، ففرح الله تعالى بتوبة عبده إليه وقال: (قد غفرت لعبدي). قال: [(ثم عاد هذا المذنب فعمل ذنباً آخر أو قال: أذنب ذنباً آخر فقال: رب! إني عملت ذنباً فاغفر لي، فقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)]، وهذا محمول على أنه إذا وقع في الذنب أحدث توبة، وإلا فالخطر كل الخطر أن يذنب العبد الذنب ولا يتوب منه ولا يستغفر الله تعالى عما بدر منه، فيكون في مشيئة الله تعالى. ولا بد من الاحتياط والحرص ألا يكون الشخص تحت المشيئة، فربما يئول الأمر به إلى العذاب وإلى دخول النار لأول وهلة، فالأمر ليس هيناً؛ لأن بعض الناس قد يقول: ما دمت في مشيئة الله فرحمته واسعة. وهذا صحيح، ولكن عذابه كذلك شديد أليم، والله تبارك وتعالى لم يعدك على الخصوص بالمغفرة، فأنت في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبك وإن شاء غفر لك. قال: [عن عبد الله بن مسعود قال: (لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] فزع الصحابة واشتد ذلك عليهم وقالوا: أينا لم يتلبس بظلم؟ وفهموا هذه الآية على عموم الظلم الكبير منه والصغير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟)]، فبين لهم أن الظلم في هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] بمعنى الشرك، أي: ولم يشركوا بعد إيمانهم، فأولئك يغفر الله تعالى لهم، والحديث أخرجه الشيخان. قال: [وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً مات فدخل الجنة، فقيل له: ما كنت تعمل؟ فإما ذكر وإما ذكر فقال: كنت أبايع الناس -أي: أبيع وأبتاع- وكنت أنظر المعسر وأتجوز في السكة أو النقد فغُفر له. قال ابن مسعود: أنا سمعت من النبي عليه الصلاة والسلام). وعن حميد بن عبد الرحمن الحميري أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره قال: سمعت رسول الله يقول: (أسرف رجل على نفسه، حتى إذا حضرته الوفاة قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الرياح، فوالله لئن قدر الله عز وجل علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، قال: ففعل ذلك به -أي: حينما مات أحرقوه ثم سحقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر- ثم قال الله عز وجل لكل شيء أخذ منه شيئاً: رد ما أخذت منه -فأتى البحر بما عنده، وأتى البر بما عنده- فإذا هو قائم بين يدي الله عز وجل، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ -أي: ما الذي جعلك توصي بهذه الوصية الجائرة؟ -قال: خشيتك)]، أي: الذي حملني على هذا خشيتك، والمعلوم أن الكافر لا يخشى الله تعالى وإنما يخشاه المؤمن، ولكن هذا الرجل كان جاهلاً. والقدرة صفة من صفات الله تعالى، وأهل السنة مجمعون على أن من جهل صفة من صفات الله عز وجل فإنه لا يكفر بذلك، والإمام ابن الجوزي عليه رحمه الله تكلف تأويل هذا الحديث، فقال في قول هذا الرجل: (فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين): أي: لئن ضيق الله علي كما في قوله تعالى: ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ))، أي: ضيق عليه رزقه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16]. وليس الأمر كذلك، وأقوى الأقوال في هذا هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله وهو: الأمر الأول: أن هذا الرجل كان جاهلاً، فقد كان من أهل الإيمان ولكنه جهل صفة من الصفات، والدليل على أنه مؤمن قوله: (يا رب! خشيتك)، أي: هي التي حملتني على هذا. والأمر الثاني: إيمان هذا الرجل بأن الله تعالى يبعث الخلائق، وتصور جهلاً منه أنه لو أُحرق وذُري هنا وهناك فإنه لن يُجمع ولن يُبعث بعد ذلك، وهذا لا ينفي أنه يؤمن بحقيقة البعث، ولكنه تصور أنه لو ذر في التراب والبحر فلن يبعث ولن يجمع، وهذا جهل.

معنى الاستقامة في قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)

معنى الاستقامة في قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال: [عن أبي بكر الصديق في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال لهم أبو بكر: ما تقولون في هذه الآية؟ فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا، فقال أبو بكر: حملتم الأمر على أشده، ثم قال: استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان]. فلما قالوا: استقاموا فلم يذنبوا، قال: لقد شددتم على أنفسكم جداً، وأينا لا يذنب؟ وإنما تفسير هذه الآية وتأويلها: استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان مرة أخرى، أي: لم يشركوا بالله. والذنب لا يخلو أحد منه إما كبيراً وإما صغيراً. فأما صغائر الذنوب فتغفرها الطاعات، وهذا أمر معلوم، فتغفرها الصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الكفارات. وأما كبائر الذنوب فتحتاج إلى توبة أو إقامة حد أو عمل أعظم منها من الطاعات كالحج مثلاً، أو الجهاد في سبيل الله حتى يكفر كبائر الذنوب. وأما الأوثان وعبادتها فإنها أمر لا يُغفر قط إذا مات صاحبه على ذلك.

آيات الرجاء في سورة النساء

آيات الرجاء في سورة النساء قال: [قال عبد الله بن مسعود: آيات في كتاب الله في سورة النساء خير للمسلمين من الدنيا وما فيها، وهي قول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]] والآية محل نزاع في تأويلها عند أهل العلم. فقال بعض العلماء: شرط مغفرة الصغائر عدم الوقوع في الكبائر، فمثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: (الوضوء إلى الوضوء، والجمعة إلى الجمعة، والصلاة إلى الصلاة)، وغير ذلك من المكفرات مثل (ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر)، أي: إذا اجتنبت الكبائر، فهذه الأعمال والطاعات وغيرها كفيلة بمغفرة الصغائر ومحوها إذا اجتنبت الكبائر، هذا تأويل. أي: هذه الأعمال لا تكفر الصغائر إلا إذا اجتنبت الكبائر. وبعضهم يقول وهو مذهب جماهير أهل العلم: هذه الأعمال -أي: الصغائر- تكفرها هذه الطاعات وقعت الكبائر أو لم تقع، أي: أنهم يقولون: هذه الطاعات تكفر الصغائر دون الكبائر. قال: [وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]. قال الحسين: وأنا أقول آية خامسة خير للمسلمين من الدنيا وما فيها هي في سورة النساء كذلك، وهي قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147]. وعن ابن عمر قال: ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: ({إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإني ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة). وعن معبد الجهني قال: قلت لـ عبد الله بن عمر: رجل لم يدع شيئاً من الخير إلا عمله، إلا أنه كان شاكاً؟ قال: هلك ألبتة]. فلو أن رجلاً لم يعمل سوءاً قط، بل كانت كل أعماله خيراً وصلاحاً وبراً وتقوى؛ غير أنه كان يشك في الله عز وجل فقد هلك ألبتة، أي: لا ينفعه عمله قط. قال: [قلت: رجل لم يدع من الشر شيئاً إلا عمله، غير أنه يشهد أن لا إله إلا الله، قال: عش ولا تغتر]. وهذا مثل سائر بين العرب: عش ولا تغتر. وهذا المثل قيل لبدوي كان يريد أن يسافر بإبله ليلاً في الصحراء ويقطع المسافات، فظن أن الصحراء لا تخلو من طعام وشراب ليطعم وتطعم دابته ويشرب وتشرب دابته، وظن أن هذا من باب التوكل على الله، فلما سأل الناس عن ذلك، قالوا: عش ولا تغتر، أي: لا تركن إلا إلى أمر يقيني موثوق منه، وأما ظنك أن الصحراء بها طعام وشراب فهذا مجرد ظن وليس يقيناً، ولكن اليقين أن طعام الدبة وشرابها بين يديك الآن، فعشها وأطعمها وأسقها، ولا تغتر، أي: لا تقع في أمر مظنون، فإن وجدت في الصحراء طعاماً وشراباً فيكون ما قد فعلته في حضرك زيادة في الخير، وإذا انقطع بك السبيل في الصحراء فتكون قد عشيت ولم تغتر. وهكذا قال عبد الله بن عمر وابن عباس وغير واحد لمن تكلم في هذه القضية، والمثل كان معلوم المعنى لدى السامع والمتكلم، أي: افعل الخير وتب من الذنب ولا تغتر برحمة الله تعالى، فإن رحمك كان بها، وكانت طاعتك زيادة في البر والتقوى، وإن حاسبك الله عز وجل كان عندك من الطاعة ما يؤهل لمغفرة الذنب.

عدم تكفير الصحابة لأصحاب الكبائر

عدم تكفير الصحابة لأصحاب الكبائر قال: [وعن أبي سفيان قال: قلت لـ جابر: كنتم تقولون لأهل القبلة أنتم كفار؟ قال: لا، قلت: فكنتم تقولون لأهل القبلة: أنتم مسلمون؟ قال: نعم]. وهذا بيان أنه لا يلزم من كون الرجل من أهل القبلة أن يكون من أهل السنة، فأهل السنة أهل الاستقامة وأهل الحسنى، وأهل القبلة كذلك، ومن خالف طريق السنة فلا يلزم منه أن يكون كافراً بل يكون من أهل القبلة فحسب. وأتى رجل ابن مسعود فقال: إني ألممت بذنب، فأعرض عنه ابن مسعود، فأقبل على القوم يحدثهم، فأقبل المذنب على ابن مسعود قد نزف الدمع من عينيه، فقال ابن مسعود: ما جئت تسأل عنه؟ إن للجنة ثمانية أبواب تفتح وتغلق، غير باب التوبة عليه ملك موكل، فاعمل ولا تيئس. والشاهد: لا تيئس، وأعظم منه قوله: اعمل؛ لأن بعض الناس يتكل تماماً على رحمة الله عز وجل، وكأن الله تعالى وعده أن يرحمه وأن يغفر له، فهو يترك العمل دائماً اتكالاً على رحمة الله، وأخشى أن يفاجأ يوم القيامة بأنه من أهل النار لأول وهلة، والمعلوم أنه إن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، والله تعالى يفعل ما يشاء، ولا يخاف عاقبة الأمور، ولذلك قال: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:15]. فهو يعذب من يشاء بعدله ويغفر لمن يشاء بفضله سبحانه وتعالى. فإذا كنت في مشيئة الله عز وجل فلا بد أن تقدم بين يديك وبين يدي الله عز وجل عملاً صالحاً ترجو به ثواب الله تعالى ومغفرته، وأما اتكالك على مغفرته وأنت مستمر في المعاصي والذنوب فإن هذا ليس من عقيدة أهل السنة أبداً.

الصلاة على أصحاب المعاصي

الصلاة على أصحاب المعاصي قال: [قال أبو العالية: قلت: يا أبا أمامة! الرجل يكون فينا رجل سوء فيشرب الشراب فيموت أنصلي عليه؟ قال: فإلى من تكلون جنائزكم؟ أي: إذا لم تصلوا على أصحاب الذنوب والمعاصي والكبائر فمن يصلي عليهم؟ وما يدريك لعله استلقى على فراشه فقال: لا إله إلا الله فغفر الله عز وجل له]. ونحن في الحقيقة نعامل أصحاب الصغائر معاملة فيها فظاظة وجلافة، مع أن الأصل أن نتلطف ونرحم أصحاب الكبائر، ونأخذ بنواصيهم إلى الله عز وجل. قال: [وعن عقبة بن علقمة اليشكري قال: رأيت علياً وقد شهدت معه صفين، فأُتي بخمسة عشر أسيراً من أصحاب معاوية، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه]. واليوم لو كان هناك خمسة إخوة فقتل أحدهم وبينه وبينهم عداء فإن الجميع سيمتنع من الصلاة عليه وعن تغسيله والدعاء له، مع أنه مجرد خلاف لم يصل إلى حد ما حدث في صفين أو الجمل أو غيرها. قال: فأُتي بخمسة عشر أسيراً من أصحاب معاوية، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه، أي: علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قال: [وعن محمد بن المنكدر قال: كان رجل بالمدينة يقال له: عمران بقرة، وكان مسرفاً على نفسه، فحينما مات أُتي بجنازته فتفرق الناس عنه، أي: ما صلوا عليه، قال: وثبت مكاني -أي: صليت عليه- فكرهت أن يعلم الله عز وجل مني أني أيست له من رحمته]. وهذا موقف محمد بن المنكدر من أصحاب الكبائر. قال: [وقال محمد بن القاسم: سمعت أعرابياً خرج من خيمته فوقف على بابها، ثم رفع يديه فقال: إلهي إن استغفاري لك مع إصراري للؤم، وإن تركي الاستغفار مع سعة رحمتك لعجز، إلهي كم تحببت إلي وأنت عني غني! وكم تبغضت إليك وأنا إليك فقير! فسبحان من إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا. قال: وخرج أعرابي فقال: اللهم إني أخافك لعدلك، وأرجوك لعفوك، خلصني ممن يخاصمني إليك، فإنه لا يخاصمني إليك إلا كل مظلوم، وأنت حكم عدل لا تجور، عوضهم بكرمك، وخلصني بعفوك يا كريم!].

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحاب الكبائر

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحاب الكبائر والنبي عليه الصلاة والسلام كان رحيماً جداً بأصحاب الكبائر إذا تابوا منها، ولو نظرنا إلى المرأة الغامدية مثلاً فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى عليها وهي زانية، ولكنها تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وفي رواية: لو تابها صاحب مكس لتاب الله عز وجل عليه. وكذلك ماعز الأسلمي حينما أُقيم عليه الحد فمات سبه أحد ممن رجمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، فإني أراه الآن يسبح في أنهار الجنة). وغير ذلك. بل كان الأعرابي البدوي الجلف يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيأخذه من ثوبه ويجبذه إليه حتى يؤثر ذلك في رقبته ويقول: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك). والمعلوم أن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام بالقول أو الفعل من عظائم الذنوب، ومع هذا ما كان يزيد على أن يبتسم ثم يأمر له بالعطاء. فصاحب الكبيرة إما أن تقول هو كافر فلا تصلي عليه، وإما أن تقول هو من أهل القبلة فتصلي عليه، وهو من أهل القبلة، إلا أن يشرك بالله. وأما أن نذكر كلاماً عاماً فهذا ينبغي أن نتوقف فيه، إلا أن تُبحث كل حالة معروضة على ذلك، فلا يصح أن تقول: ما حكم من فعل كذا وكذا؟ ثم تأخذ مني الجواب فتطبقه على فلان بعينه، ثم تقول: فلان أفتاني أو فلان قال كذا. هذا كلام لا يصح.

الأسئلة

الأسئلة

كفارة الكبيرة

كفارة الكبيرة Q هل يكون السجن كفارة لمقترف الكبيرة؟ A السجن ليس كفارة؛ لأن السجن والحبس ليس من العقوبات الشرعية ابتداء، وإنما الحدود كفارات لأهلها كما جاء عن عمر وغيره من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام؛ وهذا الحديث مرفوع، وليس له سند يصح، والأمة مجمعة على أن من أُقيم عليه الحد فالحد كفارته، ويستندون إلى أقوال مأثورة عن الصحابة رضي الله عنهم بأن الحدود كفارات لأهلها.

الدعاء للشخص باسمه في السجود

الدعاء للشخص باسمه في السجود Q هل يجوز الدعاء في السجود لأحد الإخوة بالاسم؟ A نعم يجوز، بل وفي القنوت كذلك يجوز.

حكم مرتكب الكبيرة

حكم مرتكب الكبيرة Q الذي يأتي كبيرة وهو عالم بها وبقبحها ما حكمه؟ A حكمه حكم مرتكب الكبيرة.

حكم اختلاف العلماء، وحكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء

حكم اختلاف العلماء، وحكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء Q هناك اختلافات في بعض الأمور الفقهية بين الأئمة الأربعة، فهل يجوز أن نأخذ برأي إمام واحد دون الأئمة الآخرين، وهل هذا الاختلاف رحمة؟ A اختلاف العلماء اختلف فيه الناس إلى قسمين: قسم يرى أن الاختلاف منه خطأ وصواب. وقسم يرى أن الاختلاف رحمة، وأنه يجوز للعامي الذي ليس له نظر في الأدلة أن يقلد أي المذهبين. والأدلة التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام تشهد لهذين الرأيين، فمثلاً الاختلاف في العقائد وفي أصول الدين وكليات الشريعة عبارة عن خطأ وصواب، وقول بعض فرق الإباضية مثلاً بإنكار الصلوات الخمس، وأنها صلاتان، صلاة في أول النهار وصلاة في آخر النهار هذا الخلاف في الأصول، والخلاف فيه خطأ وصواب. والشيعة ينكرون المسح على الخفين، وجماهير المسلمين يقولون بسنية وجواز المسح على الخفين. فخلاف الشيعة لجماهير علماء المسلمين خلاف غير معتبر، وهو خطأ. فالخلاف منه ما هو خطأ وصواب، ومنه ما هو رحمة وسعة. ومثال اختلاف الرحمة: قوله قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فلما كادت الشمس أن تغرب قبل أن يصلوا العصر ولم يدخلوا بني قريظة انقسم الصحابة فريقين، فقال أحدهما: ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر لفظه، ولكنه أراد أن يبشرنا بأننا سندخل في بني قريظة قبل غروب الشمس، فحملوا كلامه على أنه خبر بشارة بدخول بني قريظة قبل غروب الشمس، ولكن الواقع أننا لم ندخل، فلن نترك الصلاة وقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، والله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. وهذا وقت العصر، فكيف نتركه متعمدين حتى تغرب الشمس؟ والله لنصلين، فصلوا. وقال الفريق الثاني: إنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر نصه، وأننا لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى وإن غربت الشمس. فهؤلاء قالوا: النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد منا ترك الصلاة، والفريق الثاني قالوا: نأخذ بظاهر كلامه عليه الصلاة والسلام وعليه المسئولية صلى الله عليه وسلم. والحجة ليست في فعل هذين الفريقين، وإنما الحجة في أنهم لما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قصوا عليه الخبر فلم ينكر على أحد الفريقين، فلم يقل للذين صلوا: لِم صليتم وقد أمرتكم ألا تصلوا إلا في بني قريظة؟ ولا للذين لم يصلوا: أنا ما أردت ذلك، ولم لم تصلوا لما كادت الشمس أن تغرب وقد علمتكم مواقيت الصلاة؟ لم يثبت عنه ذلك. بل الثابت أنه أقر هؤلاء وهؤلاء، مع اختلافهم في الاجتهاد؛ لأن الأصل واحد. فأصل هؤلاء أنهم حرصوا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصل هؤلاء كذلك أنهم حرصوا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف من حرص على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا شيء آخر. وغسل الوجه في الوضوء لم يختلف أحد من أهل العلم أنه واجب؛ لأن الأصل واحد، ومرده إلى الكتاب والسنة. ولكن أهل العلم من أهل السنة اختلفوا في المضمضة والاستنشاق، فمنهم من قال بالوجوب، ومنهم من قال بالاستحباب، وترك الاستحباب لا يؤثر في صحة العمل، وخلافهم لم يقع عن هوى، والظن بعلمائنا أن مرد أمرهم كله إلى الله عز وجل ورسوله. فقال الفريق الأول: إذا كان الله تعالى أمر بغسل الوجه فالفم والأنف من الوجه، فهما داخلان في الأمر، وقد بين ذلك بسنته العملية صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحافظ على المضمضة والاستنشاق، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبتان لعموم الأمر بغسل الوجه والسنة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام وجيه. وقال الفريق الثاني: نحن متفقون مع الفريق الأول على وجوب غسل الوجه، وهذا أصل لا نختلف فيه، وإنما نختلف معهم أن الفم والأنف من الوجه، فظاهر الأنف وظاهر الفم من الوجه، وأما باطن الأنف الذي هو محل الاستنشاق وباطن الفم الذي هو محل المضمضة فليسا من الوجه. فلما سألهم الفريق الأول: لِم كان يتمضمض ويستنشق عليه الصلاة والسلام وعمل بهذا الخلفاء من بعده، وعملهم حجة؟ قالوا: إن فعلهم ومواظبتهم محمولة على الاستحباب والندب لا على الوجوب، ونحن لا نختلف معكم في جواز ومشروعية المضمضة والاستنشاق، وإنما نختلف معكم في حكم المضمضة والاستنشاق، فأنتم تقولون: واجب، ونحن نقول: مستحب، والفرق بيننا وبينكم أن ترك الواجب يأثم به التارك، وأما ترك المستحب فلا يأثم به التارك. وهذا الخلاف مقبول ومعتبر. فإن كنت ممن لا نظر لهم ولا فقه في أدلة أهل العلم والترجيح بينها فإمامك هو مفتيك، وأما إذا كنت من أهل العلم أو من طلاب العلم الذين لهم نظر وبصر في الأدلة، وتستطيع أن ترجح بين أقوال العلماء من واقع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع فإن التقليد لا يسعك، ولا يسعك إلا أن ترجح في كل مسألة من مسائل دينك فتلتزمها. والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور Q هل الصلاة في المساجد التي فيها قبور صحيحة أم غير صحيحة؟ A الذي يترجح لدي أن الصلاة في المساجد التي فيها قبور غير صحيحة.

حكم تعليق الصور

حكم تعليق الصور Q هل يجوز تعليق الصور في المنزل، وهل يوجد خلاف في هذه المسألة؟ A لا أعلم بين أهل العلم خلافاً في حرمة تعليق التصاوير، وإنما الخلاف وقع في جواز التصوير، وأما التعليق فلم يختلف على حرمته أحد.

حكم إقامة جماعتين في مسجد واحد في وقت واحد

حكم إقامة جماعتين في مسجد واحد في وقت واحد Q ما حكم إقامة جماعتين في مسجد واحد في آن واحد؟ A الجماعة الثانية باطلة؛ لأنها انعقدت في غير وقت الجواز، وبطلانها متوقف على بلوغها العلم بإقامة جماعة أولى، والجماعة الثانية جماعة باطلة، ويلزم أصحابها الإعادة إما جماعة أو فرادى؛ لأنهم علموا بقيام الجماعة الأولى، حتى وإن كانت هذه الجماعة الأولى جماعة أفسق الخلق، وكان إمامها لا يحسن البسملة، فتنتظر الجماعة الثانية حتى تفرغ الأولى من صلاتها، وإلا يجب عليهم أن يدخلوا معهم في الصلاة. فلا تقام جماعتان مطلقاً سواء في فرض أو في فرضين أو أكثر في مسجد واحد، وإذا كان هناك جماعتان في آن واحد فالذي يدخل المسجد مع من يصلي وبمن يلتحق في الصلاة؟ فهذا لا يجوز، وهذه المسألة من مسائل الإجماع. ويمكن أن يكون هناك سعة في الأمر إذا جهلنا، كأن يكون المسجد كبيراً جداً، فتكون الجماعة الأولى مثلاً في أول المسجد، وهم وإن صلوا بميكرفون أيضاً فالناس الذين في آخر المسجد لا يسمعونهم ولا يعلمون بقيام الجماعة الأولى، فلا بأس بتعدد الجماعات على هذا النحو، بشرط ألا تعلم الجماعة الثانية بقيام الجماعة الأولى، وإذا علموا في أثناء الصلاة وجب عليهم الانصراف، وإذا علموا في أثناء الصلاة ولم تعرف الأولى منها وجب على الجماعتين حينئذ الانصراف وإنشاء جماعة واحدة. وإذا صلت الجماعتان ولا يعلم أحدهما بقيام الجماعة الأخرى، فصلاتهما صحيحة.

حال طارق السويدان وأشرطته

حال طارق السويدان وأشرطته Q الأخ يسأل عن أشرطة طارق السويدان؟ A طارق السويدان فتنة في هذا الزمان، وهو له ميول شيعية، وليس شيعياً صريحاً، وقد أساء غاية الإساءة فيما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقد علق على الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بكلام يخالف تماماً عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذه مسألة ليست هينة، وإنما هي مسألة من أصول اعتقاد المسلمين، والدكتور طارق السويدان في الحقيقة جريء جداً في انتقاد أهل السنة، وجبان جداً في انتقاد الشيعة، وقد قلت له في الكويت في شهر (8) في العام الماضي: لقد أثنيت على الشيعة ولم نرك تثني على أهل السنة كما أثنيت على الشيعة، والشيعة في الكويت لهم نواب في مجلس الأمة وغير ذلك، فقال: وماذا أنقم على الشيعة، فلو جمعت أخطاء أهل السنة لفاقت أخطاء الشيعة؟ وهذا الكلام لا يقوله أحد قط عنده بصيرة ولا علم ونور في قلبه. قلت: وما هي أخطاء أهل السنة الظاهرة أو الأخطاء الأصلية الكلية في الاعتقادات، والشيعة يخالفوننا فيما يتعلق بأصول الاعتقاد، وفي النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الإمامة، وفي اتخاذ التقية مذهباً لهم، وفي كلام الله عز وجل في القرآن الكريم، وفي أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهم يتقربون إلى الله بزعمهم بسبهم وتكفيرهم، ونحن نتقرب إليه بحبهم والترضي عنهم. وهذه كلها أصول وغيرها كثير. قال: دعنا من هذا، فإن أهل السنة عندهم أكثر مما عند الشيعة مما يُنقم عليهم. والكلام هذا مسجل، وكنت أود ألا ينتشر أمره، فلما انتشر وجب التحذير منه، وخاصة الأشرطة قد انتشرت بين العامة، والعامة لا يعرفون أصول الاعتقاد ولا فروع الاعتقاد من باب أولى. وأنا لا أرى غضاضة قط بسماع أشرطته دون أشرطة التاريخ الإسلامي، فله عشرة أشرطة في التاريخ الإسلامي جمع فيها البلاء، وتكلم عن الصحابة بكلام ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن شئت أن تسمع له غير هذه الأشرطة فبها ونعمت، وإن تركته كله فهو أحسن. والله تعالى أعلم.

صيغة إرجاع الزوجة المطلقة طلاقا رجعيا

صيغة إرجاع الزوجة المطلقة طلاقاً رجعياً Q حدثت مشادة بيني وبين زوجتي وأخطأت فضربتها، ثم أخطأت مرة أخرى فقلت لها: أنتِ طالق، وهذه المرة الأولى، فما الحكم في ردها، مع العلم بأنها لم تكن في المنزل؟ A إذا كانت الصيغة كما قلت تماماً: أنتِ طالق، فهذا لفظ صريح يقع به الطلاق، والطلاق يقع وإن كانت المرأة حائضاً مع الإثم، ويلزمك أن ترد هذه المرأة إذا أردت ردها بقولك أمام شاهدي عدل: أرجعت امرأتي فلانة إلى عصمتي. وتحسب هذه طلقة أولى، ويبقى لك طلقتان، وربما تتلفظ بهما هذه الليلة، فلا تقل مثلاً: إن لي عشر سنين لم أطلق إلا مرة، فربما تغضب غضبة شديدة فينتهي الزواج كله في هذه الليلة. وبإمكانك أن تعالج كل خطأ حتى إن أنت ضربتها، ومع أن هذا أمر بشع، إلا أنه يمكن علاجه بكلمة بسيطة جداً لها، أو هدية منك تقدمها لها، وبهذا ينتهي كل شيء. فالضرب له علاج، ولكن الطلاق ليس له علاج، (وهل يكب الناس على مناخيرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم؟) فكما يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن هنته هانك. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشفاعة لأهل الكبائر يوم القيامة

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الشفاعة لأهل الكبائر يوم القيامة من ضرورات الإيمان: التصديق بالشفاعة الثابتة يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، واختصاص الشفاعة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين يبعثه الله المقام المحمود، والشفاعة أنواع منها شفاعة المؤمنين لإخوانهم، وشفاعة الأطفال لآبائهم، وشفاعة الملائكة، وشفاعة رب العالمين، التي يعتق بها أقواماً برحمته ويخرجهم من النار.

باب الشفاعة لأهل الكبائر

باب الشفاعة لأهل الكبائر بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [(باب الشفاعة لأهل الكبائر)]. أي: باب إثبات أن الشفاعة ينتفع بها أصحاب الكبائر. هذا الباب معقود للرد على المعتزلة الذين يقولون بأن من دخل النار لا يخرج منها، ونحن نعلم أن صاحب الكبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه فمآله الخروج من النار ودخول الجنة. والخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة كما عرفنا مراراً، والمعتزلة يقولون: لو دخل النار لا يخرج منها قط، ثم يأتون بالآيات والأحاديث التي تدل على دخول النار والأبدية والخلود فيها الواردة في حق الكفار فيحملونها على من دخل النار عموماً أو مطلقاً، وأنتم تعلمون أن أصحاب الكبائر أو أصحاب الذنوب والمعاصي إذا أراد الله عز وجل أن يعذبهم أدخلهم النار ثم يخرجون منها، والأدلة على ذلك كثيرة ومتواترة، وستأتي معنا بإذن الله تعالى. قال: [سياق ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة لأمته، وأن أهل الكبائر إذا ماتوا عن غير توبة يدخلهم الله عز وجل إن شاء النار، ثم يخرجهم منها بفضل رحمته ويدخلهم الجنة، وقد مضى في حديث جابر وغيره في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) وذكر منها الشفاعة]. قال: (وأوتيت الشفاعة).

رواية أبي هريرة في الشفاعة

رواية أبي هريرة في الشفاعة قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني أحب أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ولفظ الحديث لـ عبد الرزاق أخرجه مسلم]. قال ابن حزم: اختلف الناس في الشفاعة، فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج. إذاً: الذي ينكر الشفاعة يركب مركب الخوارج ومركب المعتزلة، أما أهل السنة فيثبتون الشفاعة الواردة بقيودها، وشروطها في الكتاب والسنة، وذهب معهم الأشعرية والكرامية وبعض الرافضة. واحتج المانعون بقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]. ولعلكم تذكرون أن هذه الآيات كانت حجة ذلك الغبي الذي أنكر الشفاعة منذ أشهر قلائل، احتج بقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وبقوله عز وجل: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]. قال الآجري: قال محمد بن الحسين رحمه الله اعلموا رحمكم الله أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها. وهذا مذهب المعتزلة، يكذبون بها -أي: بالشفاعة- وبأشياء سنذكرها إن شاء الله مما لها أصل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وسنن الصحابة رضي الله عنهم، وقول فقهاء المسلمين. ويعتقد أهل السنة والجماعة بأن عصاة الموحدين الذين استحقوا دخول النار -بسبب معاصيهم وجزاء ذنوبهم التي ارتكبوها- أنهم يخرجون منها ولا يخلدون فيها، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]]. وقد تواترت الأحاديث بوقوع الشفاعة يوم القيامة، وسيذكر المؤلف معنا شيئاً منها، ومنها هذا الحديث [عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي دعوة مستجابة)]. أي: لا محالة؛ لأن هذا وعد من الله عز وجل، ووعده سبحانه لا يتخلف بخلاف الوعيد [(فتعجل كل نبي دعوته)]. يعني: كل نبي تعجل دعوته العظمى. أنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دائماً في ليله ونهاره، ودعوته هذه ليست الدعوات المقصودة في هذه الروايات، فلكل نبي دعوة عظمى عامة تنفع الأمة بأسرها، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه اختبأ دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة: [(وإني اختبأت دعوتي لأمتي يوم القيامة)]. [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني عن ذلك أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث إن أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه)]. أي: من كان موحداً لله عز وجل، وذكر شرطاً من شروط (لا إله إلا الله) وهو الإخلاص. قال: (مخلصاً من قلبه)؛ لأن لا إله إلا الله مجردة بغير شروطها ومقتضياتها لا تنفع صاحبها، فقول الإنسان: (لا إله إلا الله) وهو يبغض هذه الكلمة ولا يعلم حقيقتها وغير ذلك من شروطها لا تنفعه، فقال: (إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه).

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه في الشفاعة

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه في الشفاعة قال: [عن سفيان بن عيينة قال: قلت لـ عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدخل قوماً النار ثم يخرجهم منها)]. يعني: هل سمعته يقول ذلك وينقله عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ [قال -أي: عمرو - نعم] والحديث في الصحيحين. [عن حماد بن زيد قال: قلت لـ عمرو بن دينار: يا أبا محمد! سمعت جابر بن عبد الله يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة؟ فقال: نعم)]. (إن الله يخرج قوماً من النار) أي: بعد أن استحقوا دخول النار ودخلوها حقاً، فإنهم يخرجون بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام. والحديث في الصحيحين. [عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الله قوماً من النار بعدما امتحشوا فيدخلون الجنة)] أي: بعدما احترقوا في النار، فالله تعالى يخرجهم ويدخلهم الجنة. [قال عمرو بن دينار: قال عبيد بن عمير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة). قال: فقال رجل: يا أبا عاصم! ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فقال عبيد بن عمير: إليك عني يا علج -أي: يا قبيح- فلولا سمعه من يتبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثته. قال سفيان: وقدم علينا عمرو بن عبيد ومعه رجل تابع له على هواه فدخل عمرو بن عبيد الحجر فصلى فيه وخرج صاحبه، وقام على عمرو بن دينار وهو يحدث هذا عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]. يعني: هذا الذي أتى إلى مكة مع عمرو بن عبيد صاحب هوى من أهل الاعتزال، سمع عمرو بن دينار يحدث عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أن الله عز وجل يخرج قوماً من النار بعد ما امتحشوا فيدخلهم الجنة)، فلما سمع هذا من عمرو بن دينار قال: ما هذا الذي تحدث به يا عمرو؟! قال: سمعت جابر بن عبد الله يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان السند قوياً ما استطاع هذا المبتدع أن يرد هذا الكلام، قال: إن لهذا الكلام معنى آخر؛ لأنه لم يستطع أن يرد أصل الكلام، فتكلم في معناه. قال: هذا الكلام ليس على ظاهره، بل له معنى آخر لا يعرفه كثير من الناس. قال: فقال الرجل لـ عمرو بن عبيد: وأي معنى لهذا الكلام، وفك ثوبه من يديه وفارقه. [عن يزيد الفقير قال: كان قد شغفني رأي الخوارج -ومعنى شغفني: شغلني- ودخلت فيه، وكنت أعتقد صحة ما عليه الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار. قال: فكنت رجلاً شاباً، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إلى سارية وإذا هو يذكر الجهنميين]. قصة الجهنميين أنهم يدخلون جهنم ويخرجون منها بشفاعة الشفاعين، ويدخلون في نهر يقال له: نهر الحياة، ينبتهم الله عز وجل فيه، ثم يسكنهم الجنة، فأهل الجنة يدعون هؤلاء بالجهنميين، أي: لمن استحقوا العذاب في جهنم، وقد خرجوا منها بشفاعة الشافعين. قال: [فلما سمعت جابراً يحدث عن الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما هذا الذي تحدثون وقال الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192]؟] يعني: أنت تقول يا جابر! أن من دخل النار يخرج منها من أصحاب الكبائر، والله تعالى قد حكم عليه بالخلود في قوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192]. قال: [ولم يذكر بعد الخزي شيء آخر] أي: من النجاة. [قال: فقال جابر: أي بني! أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بالمقام المحمود الذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثم نعت وضع الصراط وممر الناس عليه. قال: فأخاف ألا أكون حفظت، غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد إذ كانوا فيها. قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهراً من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، ويخرجون كأنهم القراطيس البيض. قال: فرجعنا، وما خرج منا غير واحد]. أي: رجعنا كلنا عن رأي الخوارج، لم يبق مع الخوارج منا إلا واحد فقط. هذا هو الإشعاع النوراني الذي يصلح الله عز وجل به العباد على يد رجل واحد من أهل العلم، كما وقع من جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهذا الحديث [أخرجه مسلم].

الخلود نوعان في كتاب الله أبدي ومؤقت

الخلود نوعان في كتاب الله أبدي ومؤقت وقال طلق بن حبيب: [كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله الأنصاري، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها فيها ذكر خلود أهل النار]. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها) حديث كهذا عند الخوارج يقولون: هاهو الحديث يقول: (خالداً مخلداً فيها)، ونحن نعلم أن من قتل نفسه ارتكب معصية، والمعصية ليست كفراً، فإن كان الذي قتل نفسه كافراً فإنه يحمل الخلود في هذا الحديث على الأبدية، وإن كان عاصياً صاحب كبيرة فلابد أن تصيبه الشفاعة، ويحمل الخلود هنا على المكث الطويل، وهذا معروف في كلام العرب، أن الخلود بمعنى: المكث الطويل. قال: [فقرأت عليه كل آية أقدر عليها فيها ذكر الخلود في النار، فقال لي: أتراك يا طلق بن حبيب! أقرأ لكتاب الله، وأعلم بسنة نبيه مني؟] يعني: أنت يا طلق بن حبيب! ترى أنك أقرأ لكتاب الله مني، وأعلم بسنة الرسول مني؟ قال: [قلت: لا. قال: فإن الذي قرأت إنما نزلت في المشركين]. وهذه بلية الخوارج في هذا الزمان التي يطلق عليها جماعة التكفير والهجرة، إذ يأتون بأحاديث الوعيد كلها التي وردت في حق الكفار والمشركين فينزلونها على أصحاب المعاصي من الموحدين، وهذا بلاء عظيم جداً. قال: [ولكن هؤلاء -أي أصحاب الكبائر- أصابوا ذنباً فعذبوا ثم أخرجوا من النار، وأومأ بيده إلى أذنيه -يعني: أشار بيده إلى أذنيه- فقال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ الذي تقرأ]. يعني: ونحن نقرأ القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام كان يفسر لنا بأن الخلود الوارد في هذه الآيات إنما ذلك في حق المشركين والكفار، أما في حق عصاة الموحدين فلا؛ لأنهم إن دخلوا النار ولم يعصوا الله ابتداء فمآلهم الخروج من النار ودخول الجنة.

رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة

رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة قال: [عن أبي سعيد قال: (تخرج ضبارة من النار حتى كانوا فحماً -يعني: بعد أن كانوا فحماً يخرجون من النار- فيقال: بثوهم في الجنة -أي: أدخلوهم الجنة- وصبوا عليهم من الماء -أي: من نهر الحياة- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل -أي: فيما يحمله السيل وما يتجمع على سطح الماء، لو أنك ألقيت حبة فيها نبتت- قال: قال رجل من القوم: كأنما كنت من أهل البادية يا رسول الله!)]. أي: رجلاً تفهم كأهل البوادي. ثم قال عليه الصلاة والسلام: [(إن للنار أهلاً لا يموتون فيها ولا يحيون)] لا يموتون فيها؛ لأنهم يعذبون فيها أبد الآبدين، ولا يحيون فيها يعني: حياة كريمة. قال: [(فأما ناس يريد الله بهم الرحمة فإن النار تصيبهم، فتدخل عليهم الشفعاء، فتحمل الشفيع للشفعاء منهم الضبار، فيبثهم الله على نهر في الجنة، فينبتون نبات الحبة في حمالة السيل. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترون إلى الشجرة تكون خضراء تكون حمراء؟ فقال بعض الناس: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية)]. ثم قال عليه الصلاة والسلام: [(ثم يدخلون الجنة فيمكثون فيها فيسمون الجهنميين، ثم يطلبون إلى الرحمن، فيذهب ذلك الاسم عنهم فيلحقون بأهل الجنة) أي: يسمون عتقاء الرحمن، فالله عز وجل أعتقهم من النار بشفاعته. [عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار)] أي إذا خرج المؤمنون من النار. والمعاصي لا تنفي اسم الإيمان؛ وذلك لأن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ليس كافراً بكبيرته، ولا يحمل فسقه على نفي الإيمان عنه، بل يبقى فيه شعب إيمان كما عنده شعب فسق. [قال: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا نقوا وهذبوا أمر بهم إلى الجنة -نقوا وهذبوا، أي: أدخلوا نهراً على باب الجنة يسمى نهر الحياة- فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمنزله في الجنة أدل منه في الدنيا)]. يعني: هؤلاء إذا دخلوا الجنة كل واحد منهم ينطلق إلى مكانه في الجنة؛ لأنه أعرف به من منزله الذي كان يسكنه في الدنيا.

رواية أنس بن مالك رضي الله عنه في الشفاعة

رواية أنس بن مالك رضي الله عنه في الشفاعة قال: [عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قوم من النار بعد ما تصيبهم فيها -أي: بعدما تحرقهم النار- فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين)]. [عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة يلهمون لذلك)] أي: الله عز وجل يلهم أهل الإيمان أن يتعرف كل منهم على صاحبه، فيجتمعون ويقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا. يعني: أن المؤمنين في هذا الموطن يعلمون أن لهم شفاعة عند الله عز وجل. قال: [(فيأتون لآدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم -يعني: لست أهلاً لهذه الشفاعة- وذكر لهم خطيئته التي أصاب -أي: أكله من الشجرة- ولكن ائتوا نوحاً. فيقول: لست هناكم، وذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا خليل الرحمن إبراهيم. فيأتون فيقول: لست هناكم، ويذكر خطايا أصابها، ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلمه تكليماً، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول لهم: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا عيسى رسول الله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى عليه السلام فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: فيأتوني، فأنطلق إلى ربي -يعني: المؤمنون لهم شفاعة، ورب العزة له شفاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث له شفاعة- فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني عز وجل ما شاء الله أن يدعني -يعني: يتركني ساجداً على هذه الحال، فألهم دعاء لم أدع به من قبل- ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. قال: فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة -الله عز وجل يجعل له قسماً ممن دخل النار، ويقول: هؤلاء نصيب شفاعتك خذهم وأدخلهم الجنة- ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً -للمرة الثالثة- قال ثم أرجع فإذا رأيت ربي -للمرة الرابعة- قال: ثم أشفع فيحد لي خمس مرات، قال: ثم أرجع فأقول: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن)]. أي: إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي في النار. يعني: لم يبق في النار إلا الكفار. وهذا الحديث [أخرجه البخاري ومسلم من حديث هشام]. [عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله)]. انظر إلى هذا الترتيب الذي نستفيد منه كذلك أن الإيمان يزيد وينقص. قال: [(يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ثم من كان في قلبه من الخير ما يزن برة -أي: من الإيمان والدين- ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ثم من كان في قلبه ما يزن ذرة)]. والمعلوم أن الذرة أقل من حبة القمح، فهذا يدل على أن الإيمان في القلب نفسه يتجزأ ويتبعض ويزيد وينقص. [عن أنس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)]. وقال أنس مرفوعاً: [(يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من وحدني -أي: من كان موحداً، وأصحاب المعاصي موحدون- ومن خافني في مقامي)]. لأنه لا يخاف الله عز وجل إلا المؤمن وإن وقع في المعاصي.

رواية ابن مسعود رضي الله عنه في الشفاعة

رواية ابن مسعود رضي الله عنه في الشفاعة قال: [عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار)] يحكي لنا عن رجل هو آخر أهل النار خروجاً منها، فيكون آخر واحد يدخل الجنة. قال: [(إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، رجل يخرج منها زحفاً يقال له: انطلق. ادخل الجنة. فيذهب يدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل -يعني: كل واحد جلس في مكان في الجنة- فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت؟ فيقول: نعم)]. فالرجل لما رأى كل واحد من الناس قد جلس في مكانه أيس أن يكون له مكان. قال: كل واحد أخذ نصيبه، ولم يبق لي مكان في الجنة، فلما وجد الله عز وجل منه ذلك قال له: (أتذكر الزمن الذي كنت؟ فيقول: نعم. فيقال له: تمن قال: فيتمنى. فيقال له: إن لك الذي تمنيت. وعشرة أضعاف الدنيا. فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟! -أي: لك ما تمنيت في الزمان الذي كنت تعيش فيه وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول: يا رب أتسخر بي وأنت الملك- فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه)]. هذا الرجل أقل حظاً في الجنة، فالجنة بطولها وعرضها لا يمكن لأحد أن يتصورها. هذا الحديث [أخرجه مسلم من حديث الأعمش والبخاري من حديث منصور].

رواية أبي ذر الغفاري في الشفاعة

رواية أبي ذر الغفاري في الشفاعة قال: [عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد علمت آخر الناس خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يؤتى فتعرض عليه سيئاته وتخبأ عنه كبائره فيقال: أتذكر يوم عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. وهو يشفق من الكبائر أن تعرض عليه -يعني: يخاف من أن تعرض الكبائر فيستوجب النار- فإذا فرغ من عرض السيئات قيل له: اذهب. فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: قد كانت لي ذنوباً لا أراها -سترها الله عليه في الدنيا وغفرها له في الآخرة- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر هذا الحديث ضحك حتى بدت نواجذه). أخرجه مسلم].

رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الشفاعة

رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الشفاعة قال: [وعن ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة. قال: لأنها أعم وأكفى)]. فالشفاعة مضمونة؛ لأنها دعوة مستجابة قد خبأها النبي عليه الصلاة والسلام لأمته يوم القيامة. [(أترونها للمؤمنين المتقين؟)]، يقول لهم: أنا خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، ولما خيرت بين أن يدخل نصف الأمة الجنة والشفاعة اخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وسيدخل بها أكثر من نصف أهل الجنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا. ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين)].

رواية أبي موسى الأشعري في الشفاعة

رواية أبي موسى الأشعري في الشفاعة قال: [عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة فإنها أعم وأكفى، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين والخطائين والمتلوثين)].

رواية عوف بن مالك في الشفاعة

رواية عوف بن مالك في الشفاعة الحديث كذلك جاء من رواية عوف بن مالك رضي الله عنه. وفي رواية: أن عوف بن مالك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعدما ذكر ما أعطاه الله من الشفاعة يوم القيامة: [قلت له: (ناشدتك الله يا رسول الله! لما سألت الله أن يجعلني من أهلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عوف! إن شفاعتي يوم القيامة للكل)].

رواية حذيفة بن اليمان في الشفاعة

رواية حذيفة بن اليمان في الشفاعة [عن حذيفة بن اليمان قال: سمع رجلاً يقول: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد]. وقال حذيفة: [(إذا كان يوم القيامة جمع الناس في صعيد واحد، فيقال: يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك، والخير بين يديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، والمهدي من هديت، منك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت. قال: عند ذلك يشفعني)]. أي: يشفعه بهذه الدعوات والمحامد التي يفتح عليه بها في ذلك الوقت. قوله: (والشر ليس إليك). أي: والشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل.

حكم المكذب بالشفاعة

حكم المكذب بالشفاعة عن أيوب قال: [(من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها)]. وكذلك من قول أيوب بن أبي تميمة السختياني: [(من كذب الشفاعة فلا ينالها)]. أي: لا تصيبه، ولا يدخل تحتها.

وجوب الإيمان بأحاديث الشفاعة وإمرارها كما جاءت

وجوب الإيمان بأحاديث الشفاعة وإمرارها كما جاءت قال: [قال حنبل: قلت لـ أبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل -: ما يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشفاعة؟ قال أحمد بن حنبل: هذه أحاديث صحاح، نؤمن بها ونقر -لأنه إذا صح الحديث لابد من الإيمان به والعمل- قال: وكل ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام بأسانيد جيدة -يعني: حسنة- نؤمن بها ونقر -أي: ليس الشفاعة فحسب، بل كل ما ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام- قال حنبل: قلت له: وقوم يخرجون من النار؟ -يعني: حتى من دخل النار يخرج منها؟ - قال: نعم. إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه -أي: ورددناه- رددنا على الله أمره، والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. قلت: والشفاعة؟ قال: كم حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة والحوض -يريد أن يقول له: هذه أحاديث كثيرة ليست واردة في أسانيد جيدة فحسب، بل صحيحة قد بلغت حد التواتر والزيادة في الشفاعة والحوض- فهؤلاء يكذبون بها ويتكلون -أي: على رحمة الله عز وجل- وهي قول صنف من الخوارج، وإن الله تعالى لا يخرج أحداً من النار بعد إذ أدخله، والحمد لله الذي عدل عنا ما ابتلاهم به]. يعني: قول الخوارج: أن من دخل النار لا يخرج منها، أما قولنا نحن فإننا نقول: بأن من دخل النار من عصاة الموحدين لا محالة سيخرج منها، إما بتوحيده، وإما بإيمانه، وإما بشفاعة الملائكة، أو بشفاعة النبيين، أو بشفاعة المؤمنين أو بشفاعة الأطفال البرآء قبل البلوغ، وقبل أن يجري عليهم القلم ويبلغوا الحلم، فإذا انتهى هؤلاء من شفاعتهم لم يبق إلا شفاعة أرحم الراحمين، وهؤلاء الذين يسمون بعتقاء الرحمن أو بالجهنميين. وشفاعة الله عز وجل تفضل على عباده الموحدين العصاة بأن يخرجهم من النار. والشفاعة تستلزم مشفوعاً ومشفوعاً عنده ومشفوعاً فيه. هذه أركان الشفاعة، فأما شفاعة الملائكة فالشافع هو الملك، والمشفوع عنده هو الله عز وجل، والمشفوع فيه هو المذنب. أما شفاعة رب العالمين فهي من أفعال الله عز وجل، وليس لأفعال الله مثيل ولا شبيه، فهذا الذي تعودناه وعرفناه يقيناً من خلال توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فالله تعالى يشفع عند نفسه بأن يخرج من بقي من عباده الموحدين بشفاعته سبحانه وتعالى. أي: يتمنن على عباده الموحدين بأنه يخرجهم من النار، فيقال: هؤلاء عتقاء الرحمن. وقال علي بن المديني: [الإيمان والتصديق بالشفاعة وبأقوام يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً نقول به كما جاء الأثر والتصديق به والتسليم].

سياق ما روي في أن المقام المحمود هو الشفاعة

سياق ما روي في أن المقام المحمود هو الشفاعة قال: قال ابن عمر: [إن الناس يوم القيامة يصيرون جُثىً، كل أمة تتبع نبيها]. (جثىً) أي: يجثون على ركبهم، كل أمة تأتي إلى نبيها، فيخرون على أقدامهم وأيديهم، يجلسون كما يجلس الطفل الرضيع ويلهث خلف أمه، فهؤلاء يلهثون خلف أنبيائهم. قال: [(يقولون: يا فلان! اشفع لنا حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود)]. إذاً: المقام المحمود: هو مقام الشفاعة، والحديث عند البخاري. [عن كعب بن مالك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل -أي: على مكان مرتفع- ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن -أي: يؤذن لي- فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود)]. [عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي فيقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، تباركت وتعاليت. قال: فهذا هو المقام المحمود)]. وقد ورد موقوفاً عن حذيفة: [يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر حفاة عراة سكوتاً كما خلقهم، لا تكلم نفس إلا بإذنه -أي: لا يشفع أحد إلا بإذن الله تعالى- قال: فينادى: يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والمهدي من هديت، عبدك بين يديك، ولك وإليك، لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت. وذلك المقام المحمود الذي ذكر الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]]. و [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ({عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. قال: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي)] والحديث ضعيف، لكن يشهد له ما قبله. وعند البخاري وكذا مسلم من حديث عبد الله بن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(لا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة من لحم)] لا يزال العبد يتسول ويسأل الناس في الشوارع والطرقات حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم. أي: قطعة لحم. وقال: [(إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن)]. وفي رواية: (قدر ميل). قيل: هو ميل المسافة. وقيل: هو المرود التي تكتحل به المرأة. يسمى ميلاً. قال: [(وإن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما كذلك -أي: بينما الناس كذلك- استغاثوا: يا نوح! فيقول: لست صاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام فيشفع، يقفز بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً)]. وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم:36]، وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:118]، فرفع يديه فقال: اللهم! أمتي، أمتي، أمتي وبكى عليه الصلاة والسلام، وقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال -وهو أعلم- فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)]. فمقام الشفاعة مقام عظيم جداً، وهذا الحديث [أخرجه مسلم]. وبعد أن عرفنا أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، نتوقف عند الحوض؛ لأن الحوض فيه كلام كثير واختلاف لأهل العلم، فيفضل أن يكون له بإذن الله تعالى درس خاص.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صيام التسعة الأيام الأول من ذي الحجة

حكم صيام التسعة الأيام الأول من ذي الحجة Q هل صيام التسعة الأيام الأول من ذي الحجة سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ A في الحقيقة هناك حديث في سنن أبي داود من طريق هنيدة بن خالد محل نزاع بين أهل العلم، والراجح أنه حديث ضعيف. هذا الحديث يقضي باستحباب الصيام، لكن على أية حال لو صام المرء من باب مطلق الطاعة والعمل الصالح فلا ينكر عليه، وأفضل ألا يصوم التسع كلها، بل يصوم بعضها ويترك بعضها، ويترك صوم يوم السبت، وأفتى شيخنا الألباني عليه رحمة الله فيما يتعلق بحرمة يوم السبت إلا الفريضة وهو رمضان، وهذا المذهب خالف إجماع الأمة؛ لأن الحديث محمول على كراهة الإفراد كما أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن إفراد الجمعة، وأمرنا ألا نصومه إلا أن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. فأقول: لسنا مخيرين في رمضان أن نصوم الجمعة ونصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، ولم يرد في تخصيص هذه التسع بالصيام شيء صحيح، لكن إن صامها المرء من باب مطلق العمل الصالح فلا بأس، فالذي ورد في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء) فإذا كنت تصوم من باب مطلق العمل الصالح في هذه الأيام فهو حسن، والذي أتحرج منه أن يداوم المرء على صيامها أو يصومها كلها، فلا بأس أن تصوم بعضها وتترك البعض الآخر، أو أن تصوم عاماً وتترك آخر؛ حتى لا يتصور الناظر أو من سمع هذا أن ذلك أمر مسنون على جهة الخصوص، ثم ليست الطاعة الوحيدة التي يتقرب بها المرء في هذه الأيام هي الصيام بل مطلق العمل الصالح، وتكثر من الذكر والاستغفار وقراءة القرآن وغير ذلك.

كيفية صلاة الفجر لمن نام عنها

كيفية صلاة الفجر لمن نام عنها Q شخص نام عن صلاة الفجر، فهل عندما يصليها ينوي صلاتها قضاء أم أداء، وهل يصلي لها سنة؟ A النية بالأداء والقضاء ليست مطلوبة منك، إنما أنت تصليها، فإذا كانت أداءً وقعت أداء، وإذا كانت قضاء وقعت قضاء، أما أنك تقول: نويت أصلي الصبح ركعتين خلف الإمام الفلاني جماعة في الساعة الفلانية في المسجد الفلاني يوم كذا قضاءً وأداءً على طهر مني مثلاً. هذا كله ليس من السنة، بل هذا من البدع، والمطلوب قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فذلك وقتها سواء كان أداء أو قضاء.

منزلة الخوارج والمعتزلة في الدين واعتقادهم في عصاة الموحدين

منزلة الخوارج والمعتزلة في الدين واعتقادهم في عصاة الموحدين Q الخوارج والمعتزلة مسلمون، فما قولهم في كل هذه الأحاديث الصحيحة التي تثبت الشفاعة؟ وهل يفسرونها بطريقة أخرى؟ A هم في الحقيقة يفسرونها بطريقة أخرى، والآيات التي وردت في الخلود أو في الأبدية حملوها على عصاة المسلمين وليس هذا بصواب، أما قولك: الخوارج والمعتزلة مسلمون فهذا السؤال يحتاج إلى تفصيل طويل جداً، والراجح: أن غلاة الفرق كفار، بخلاف عامة الفرق جميعاً.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار) Q قال عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). هل معنى هذا الحديث: أنه إذا باع البائع سلعة ما فإن المشتري لا يردها، وإذا ردها المشتري ولم يأخذها البائع هل في ذلك شيء، نريد تبيين ذلك الحديث والمقصود منه؟ A قول عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). والحديث في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وغيره، وهذا الكلام يجرنا إلى عدة خيارات عند الفقهاء، فهناك شيء يسمى: خيار المجلس، وخيار المجلس هو أني دخلت عليك في متجرك، فاشتريت منك سلعة ما، وأعطيتك ثمنها، ولا زلت أصوب بصري إلى بقية أنواع السلع، ثم قبل أن أغادر المكان - أي: المتجر- رجعت عن هذه البيعة، فليس من حق البائع أن يمتنع عن أخذ هذه السلعة ورد الثمن إليه مرة أخرى؛ وذلك لتمام الحديث: (فإذا تفرقا فقد وجب البيع). وجب بمعنى: تم. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -وأنتم تعلمون أنه من أفقه الصحابة- إذا اشترى شيئاً انصرف بعيداً ثم رجع، وانصرافه هذا لإتمام البيع، فإذا أراد البائع أن يرجع في بيعه اعتذر عبد الله بن عمر. وهناك خيار الشرط: كأن أكون اشتريت منك كتاباً، وأنا رجل ليس لي خبرة في الكتب، ولا أعرف أن هذا الكتاب جيد أم لا، وهل هو كتاب سليم من جهة المعتقد أم غير سليم، فاشترطت أن آخذ هذا الكتاب وأعرضه على أهل الخبرة وفي خلال ثلاثة أيام أعطيك الخبر، فأنا سأحتفظ بهذا الكتاب، وإذا لم أرد الكتاب بعد ثلاثة أيام أعتبر البيع قد تم، ولو خرجت بالكتاب ووقفت بالشارع أنتظر سيارة مواصلات فإن البيع لم يتم، ولا يتم البيع إلا بتمام الشرط. هذا اسمه خيار الشرط. واختلفوا في الشرط، والراجح: أن ذلك راجع إلى البائع والمشتري حسبما اتفقا. وهناك خيار العيب. والعيب نوعان: عيب ظاهر، وعيب خفي، فلو أن واحداً ذهب يشتري طماطم من السوق، وهذه الطماطم يراها أمامه رديئة لا تخفى على أحد، لكنه ذهب بها إلى البيت، فطلبت منه زوجته إرجاعها، فعاد بها إلى السوق، ففي هذه الحالة ليس واجباً على البائع أن يرد البيعة؛ وذلك لأنه كان يرى العيب، وعيبها ظاهر للناس. مثال آخر: شخص ذهب ليشتري سيارة منمقة وجميلة، فيها عيب خفي، وهذا العيب ربما يخفى في أول وهلة على أصحاب الفن، فاشتراها هذا الشخص، وبعد أن بدأ باستخدامها حصل لها أعطال داخلية، ولا يعرف الأعطال الداخلية إلا صاحب الميزان الذي يكشف بالكمبيوتر فيعرف عطلها الداخلي، فالبائع سكت وهذا اشترى، ولم يظهر البائع عيبها الخفي فمن حق المشتري بعد ما ركب السيارة ستة شهور أن يرجعها؛ لأن فيها عيباً يخفى على المشتري، ولو أنه عرف العيب لكن لم يذهب لمراجعة البائع واستمرت معه السيارة شهرين فليس من حقه أن يرجعها. والعلماء حددوا ثلاثة أيام للرجوع؛ قياساً على حديث المصراة. والمصراة: بقرة أو جاموس أو شاة أو أنثى الجمل، يجوعها صاحبها عدة أيام ويعطشها، وفي اليوم الذي يريد أن يبيعها فيه يطعمها، فيكون ضرع البقرة كبيراً، وبطنها منتفخ جداً، فالذي سيشتري هذه البقرة لابد أنه سيقع في نوع عظيم من أنواع الغرر، حيث يظن أنها سمينة بانتفاخ بطنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من اشترى مصراة فليمسكها ثلاثاً فإن رضي وإلا ردها ومعها صاع من تمر). يعني: يجعلها عنده ثلاثة أيام ويحلبها، وينتفع بلبنها ويطعمها، فإن رضيها ولم يسخطها كانت له، وإن كرهها ردها ومعها صاع من تمر مقابل اللبن الذي أخذه. فالعلماء قالوا: إن خيار العيب بعد معرفة العيب قياساً على المصراة تكون ثلاثة أيام، فلو رضي المشتري بهذا العيب، ومر على ذلك ثلاثة أيام فليس من حقه إرجاع الشيء المعيب.

وجوب ستر المذنب على نفسه مع التوبة إلى الله

وجوب ستر المذنب على نفسه مع التوبة إلى الله Q شخص يريد أن يخبر عن نفسه أنه أذنب ذنوباً عظيمة، ويريد أن يتوب إلى الله عز وجل؟ A باب التوبة مفتوح، أما كونك تريد مقابلتي فنصيحتي لك أن تستر على نفسك وتتوب إلى الله عز وجل.

حكم صلاة السنة القبلية للظهر أربعا مجتمعة

حكم صلاة السنة القبلية للظهر أربعاً مجتمعة Q هل صلاة السنة القبلية في الظهر تصلى أربعاً مجتمعة؟ A هذا أو ذاك، تصلى اثنتين اثنتين أو تصلي أربعاً، ولا بأس في ذلك، والتشهد الأوسط يكون كاملاً إلى قوله: إنك حميد مجيد.

حكم الإفرازات الخارجة من قبل المرأة

حكم الإفرازات الخارجة من قبل المرأة Q هل الإفرازات التي تنزل من المرأة بصورة مستمرة توجب الوضوء لكل صلاة، أم أن هذا مستحب؟ A لا توجب الوضوء لكل صلاة.

حكم صلاة التسبيح

حكم صلاة التسبيح Q هل صلاة التسبيح سنة وما صحة حديث العباس الوارد فيها؟ A صلاة التسبيح سنة، والذي أعتقده أن هذا الحديث حديث حسن.

حكم ذبح المعز مكان الخروف في الأضحية

حكم ذبح المعز مكان الخروف في الأضحية Q هل يجوز في العقيقة والأضحية ذبح المعز مكان الخروف؟ A نعم؛ لأن لفظ الشاة يطلق على المعز ويطلق على البقر كذلك.

معنى (شرع من قبلنا هو شرع لنا)

معنى (شرع من قبلنا هو شرع لنا) Q ما معنى (شرع من قبلنا هو شرع لنا)، وقد نال شرع من قبلنا التبديل والتحريف؟ A يقصد به الذي لم يبدل ولم يحرف، أو الذي يوافق في شرعهم ما عندنا، فهذا دليل على أنه غير محرف. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الإيمان بعذاب القبر ونعيمه

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الإيمان بعذاب القبر ونعيمه عذاب القبر ونعيمه حق، وإثباته أصل أصيل في معتقد أهل السنة والجماعة، كما أنه معتقد أكثر أهل الإسلام حتى من المبتدعة، ولم ينكره غير الخوارج والمعتزلة، والإيمان بعذاب القبر ونعيمه يلزم منه الإيمان بأن العذاب شامل للروح والجسد، وكذلك النعيم، وسواء كان الجسد في بطون السباع أو أعماق البحر فإنه يلحقه ما قدر عليه من عذاب وما كتب له من نعيم.

سياق ما روي في أن المسلمين إذا دلوا في القبر سألهم منكر ونكير وأن عذاب القبر حق

سياق ما روي في أن المسلمين إذا دلوا في القبر سألهم منكر ونكير وأن عذاب القبر حق إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم -أي: إذا أنزلوا في المقابر- يسألهم منكر ونكير، وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب]. قوله: (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم). معنى ذلك: أنه يتناول عذاب القبر فيما ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بسنده. قوله: (في أن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير). في الحقيقة أن منكراً ونكيراً إنما يسألان كل من أدخل القبر سواء كان مسلماً أو كافراً، وكأن المصنف رحمه الله قاس هنا قياساً أولوياً مع وجود النص أن المسلم إذا نزل في قبره يسأل سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية، فإذا كان قد تقرر في الأذهان أنه سيسأل في قبره عن عمله وعن إيمانه بالله وبالرسول وبالشريعة وغيرها، فمن باب أولى أن يسأل الكافر. قوله: (وأن عذاب القبر حق، وأن الإيمان به واجب). يعني: عذاب القبر حق بل هو أصل أصيل من معتقد أهل السنة والجماعة، ونقول: من معتقد أهل السنة والجماعة؛ لأن الخوارج والمعتزلة نازعوا في ذلك، كما قال أبو الحسن الأشعري: اختلفوا في عذاب القبر، فمنهم من نفاه وهم المعتزلة والخوارج. أي: قالوا: ليس هناك شيء اسمه عذاب القبر. ومنهم من أثبته، وهم أكثر أهل الإسلام. أي: أهل السنة قاطبة يثبتون عذاب القبر، وبعض أهل البدع أثبت عذاب القبر، ومنهم من زعم أن عذاب القبر وإن كان حقاً إلا أنه ينزل على الروح دون البدن، كما قالت طائفة: إن المعراج إلى السماوات السبع كان بالروح دون الجسد، وهذا كلام في غاية البطلان والسقوط سواء من جهة النص الشرعي أو من جهة النص اللغوي، فالآيات والأحاديث التي وردت والوقائع والأحداث التي تمت في أثناء رحلته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ومنها إلى السماء السابعة ثم العودة، كل هذه لا يمكن أبداً أن تدل على أن المعراج كان رؤية منامية، أو كان بالروح فقط دون الجسد، فكما اختلفوا في هذه المسألة كذلك اختلفوا في عذاب القبر. أما أهل السنة والجماعة فعلى مذهب واحد دون خلاف فيه: أن عذاب القبر حق، وأن الإيمان به واجب، وأن عذاب القبر إنما يكون على الروح والجسد. وظن هؤلاء الذين يقولون بأن العذاب إنما هو على الروح فقط دون الجسد بما عندهم من شبه أنهم قادرون على أن يردوا على أهل السنة والجماعة قولهم، فقالوا: إذا كان العذاب يلحق الجسد فما بال المرء لو أنه غرق في بحر فأكله السمك؟ أو أن سيارة دهسته فمسح بالأرض تماماً وانتهت آثار بدنه؟ وما بالكم بمن يموت حرقاً؟ فكيف تقولون: إن العذاب يقع على جسده مع أن السمك أكله ومع أن النار أحرقته؟ A إن الله على كل شيء قدير، هذا لمن آمن بالله عز وجل؛ فالله تعالى قادر على أن يجري العذاب على البدن حتى وإن لم يوجد البدن. والسبب في هذا الانحراف العقدي الذي جعل الخوارج والمعتزلة ينكرون عذاب القبر سواء الذين أنكروه منهم على الروح أو البدن، أو من قال بإثبات عذاب القبر على الروح فقط، فسبب هذا الانحراف أنهم حكموا عقولهم في الأمور الغيبية؛ لأن ما بعد حياة الإنسان غيب، كما أن ما قبل حياة الإنسان غيب، فحياة الجنين في بطن أمه لها قوانين تحكمها حيث لا طعام ولا شراب ولا نفس ولا هواء ولا غذاء ولا شيء من هذا، إلا ما قدره الله عز وجل والذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، فإذا كان القانون الذي يحكم حياة الجنين غيباً عن المرحلة التي تأتي بعد ذلك -أي: بعد الولادة- فكذلك الحياة التي تكون بعد الموت غيب، وتحكيم العقل في الغيب لابد أن يذهب بصاحبه إلى التيه والحيرة والضلال؛ لأن الإنسان لا يعرف من علمه ومن حياته إلا ما يعلمه من نفسه وممن يعيش معه على هذا الكون، ولا يمكن قياس الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة، وإذا كان الله عز وجل إنما جعل الأمر أمران: غيب وشهادة؛ فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، فإنما سمى الغيب غيباً لأنه غيب عنا، أما الله عز وجل فهو عالم الغيب والشهادة، فإذا أخبر الله تعالى أنه يعذب بعد الموت في القبر وقبل الحساب وقبل البعث آمنا بذلك وسلمنا، ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذب الجنين في بطن أمه لصدقنا وآمنا؛ لأننا لا نعلم عن هذا الغيب شيء، فيجب أن نسلم وأن نؤمن بهذه النصوص ولا نرد شيئاً من ذلك. قال شارح الطحاوية: قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد

حديث البراء في معنى قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)

حديث البراء في معنى قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا) قال: [عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27])]. فثبات المرء حين يسأله الملكان في القبر عن شهادته بالله: أن الله إله واحد، وأن محمداً هو رسول الله. وهذا أول سؤال يوجه للمرء في قبره أأنت مسلم أم لا؟ فإذا كان جوابه مصيباً وموافقاً للسؤال فهذا هو التثبيت الذي قص الله تعالى علينا في كتابه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27]، وهذا يعني أن الكفار لا يثبتون عند السؤال. وهذا كذلك يشير إلى أن عذاب القبر وسؤال القبر يوجه للمسلم والكافر، وكل ما في الأمر: أن السؤال إذا وجه للمؤمن ثبته الله تعالى بالجواب الثابت حين توجيه السؤال إليه، وأن الكافر لا يثبت حين يوجه السؤال إليه، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] أي: بشهادة التوحيد والإقرار بها. وهذا الحديث في الصحيحين.

حديث عثمان: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل)

حديث عثمان: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل) وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه)] أي: وقف على القبر. وفي هذا إشارة إلى استحباب الجلوس عند القبر، وقد وردت نصوص كثيرة جداً بأن من شيع جنازة جلس عندها قدر ما ينحر جزوراً ويوزع لحمه حتى لا ينصرف الناس بسرعة، وإنما هذا الوقت حق لهذا المقبور على من شيعه؛ أن يقفوا عنده مدة من الزمان تقرب ساعة يدعون له بالتثبيت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله لأخيكم الآن فإنه الآن يسأل). [(كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه -أي: وقف إليه. أي: بقبالة قبره- وقال: استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل). فقوله: (استغفروا لأخيكم) يعني: قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تجاوز عنه وغير ذلك مما يفتح الله عز وجل به على الواقف عليه. قوله: (ثم سلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل). أي: بمجرد مواراته وإهالة التراب عليه يبدأ الملكان يسألانه. نسأل الله السلامة لنا ولكم! أما الموعظة على القبر فإنها أمر مشروع، فقد وعظ النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على القبر وقال: (لمثل هذا فليعمل) يعني: فليعمل العاملون، من أراد أن يعمل وأن يستعد فلابد أن يستعد لمثل هذا اليوم فإنه لابد وارد، وهو آت إلى هذا المكان، وربما ذهبت تشيع ميتاً فلا ترجع بل تدفن بجواره في مقبرة واحدة، فالموت ليس منك ببعيد؛ سواء كنت شاباً أو هرماً أو عجوزاً أو حتى طفلاً رضيعاً فالموت يلحق الجميع ولا سن له، فليس هناك وعد بأن لا يموت المرء إلا في شيخوخته أو في كبره.

حديث ابن عمر: (إن أحدكم يعرض على مقعده بالغداة والعشي)

حديث ابن عمر: (إن أحدكم يعرض على مقعده بالغداة والعشي) قال: [عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يعرض على مقعده بالغداة والعشي -يعني: في الصباح وفي المساء- إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار يقال له: هذا مكانك إلى يوم القيامة)] وهذا الحديث مراده: أن الميت إنما يعرض في قبره على مقعده من الجنة ومقعده من النار، فإذا كان من أهل الجنة فتح له باب في قبره ينظر إلى مقعده في الجنة، أي: بعد مبعثه وحسابه وجزائه فإنه يدخل هذا المكان الذي يتنعم به في قبره. وهذا الحديث فيه: إثبات العذاب والنعيم للمقبور، والله تعالى علم أن هذا العبد من أهل الجنة فقد أعد له مكاناً في الجنة، فيفتح له في كل يوم صباحاً ومساءً، وصاحب القبر لا يعرف الصباح والمساء، إنما الذي يعرفه هو الله عز وجل، (فيفتح له في كل غداة وعشي) أي: في كل صباح ومساء، باباً وهو في مقبرته ينظر منه إذا كان من أهل الجنة إلى مكانه في الجنة، وإذا كان من أهل النار ينظر وهو في قبره إلى النار، (ويقال: هذا مقعدك إلى قيام الساعة). أي: هذا مقعدك إلى يوم القيامة.

حديث ابن عمر: (ما من عبد يموت إلا وعرضت عليه روحه)

حديث ابن عمر: (ما من عبد يموت إلا وعرضت عليه روحه) [عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يموت إلا وعرضت روحه، إن كان من أهل الجنة على الجنة، وإن كان من أهل النار على النار)] وهو بمعنى الحديث السابق.

حديث ابن عباس: (ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه)

حديث ابن عباس: (ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه) [عن مجاهد -تلميذ ابن عباس - قال: ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه -أي: أخلاؤه وأحبابه وأصحابه وغير ذلك- إن كانوا من أهل لهو فأهل لهو، وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر]. يعني: المرء يعذب بأصحابه، لكن هذا الخبر غير صحيح عن مجاهد، وإن صح ففي النفس منه شيء، على اعتبار أن مجاهداً إنما أخبر بشيء من أمور الغيب، وهل يعذب المرء بصحبته في قبره؟ أمر يحتاج إلى نص مرفوع لا إلى نص موقوف أو مقطوع كمثل نص مجاهد.

حديث أبي أيوب: (هذه يهود يعذبون في قبورهم)

حديث أبي أيوب: (هذه يهود يعذبون في قبورهم) [عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوات يهود حين غربت الشمس، قال: هذه يهود يعذبون في قبورهم)] واليهود كفار كما أن النصارى كفار، فهذا الحديث أثبت أن عذاب القبر على غير المسلمين، وهذا ما يمكن أن يضاف إلى تصنيف هذا الباب في قوله: وأن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير، بل كذلك يسألهم منكر ونكير إذا كانوا غير مسلمين.

شرح حديث زيد: (إن هذه الآمة لتبتلى في قبورها)

شرح حديث زيد: (إن هذه الآمة لتبتلى في قبورها) وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: [(بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له -الحائط هو البستان أو المزرعة أو الجنينة- فحادت به فكادت تقلبه)] حادت أي: ماجت به وأسرعت تعدو هنا وهناك بغير هدف كأنها نفرت نفرة عظيمة جداً كادت أن تقلب النبي صلى الله عليه وسلم من على ظهرها. [(وإذا قبر ستة أو خمسة أو أربعة -يعني: كان في هذا البستان أو في هذا الحائط قبر فيه أربعة أو خمسة أو ستة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذه الأمة -أي: الأمة الإسلامية- لتبتلى في قبورها -والابتلاء هو الاختبار والامتحان. يعني: هذه الأمة تبتلى وتختبر في قبرها- فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)]. يعني: يريد أن يقول: هذه القبور التي تنظرون إليها ملئت نعيماً وعذاباً، أما من تنعم فيها فإنه لا يصيح أو يبكي أو غير ذلك، وأما من يعذب فشأنه أن يصيح وأن يبكي وأن يندم ويتحسر على ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسمع هذه الأصوات بدليل: أنه سمع أصوات اليهود وهم يعذبون في قبورهم. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر في الصحيحين: (لما مر على قبرين قال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) وسيأتي الحديث معنا بإذن الله. فالنبي عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى من القدرة والثبات ما يمكن أن يسمع به العذاب في القبر، والنبي أخبر أن الخلق لا يقدرون على سماع هذا العذاب، ولو أنهم سمعوا العذاب لا يتدافنون قط، لو أن واحداً منهم مات ألقوه على المزابل لا يدفنونه، فلما كان الدفن حق واجب على الأحياء -وهو فرض كفاية وكذلك الصلاة على الميت وغير ذلك من أعمال الميت -حجب الله عز وجل عنهم عذاب المعذبين؛ لأنك لو دخلت قبراً أو مقبرة فسمعت العذاب والبكاء والصياح والعويل والصراخ فلا يمكن قط أن تذهب إلى المقابر ولو أن أباك هو الذي مات أو أمك أو ولدك؛ لأن الهول شديد والعذاب أليم، ولا يمكن للمرء أن يتحمل سماع هذا العذاب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [(فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمعه منه)] يعني: لولا مخافة النبي عليه الصلاة والسلام أننا نهمل في دفن الأموات مخافة أن نسمع أصوات المعذبين لدعا الله تعالى أن يسمعنا أصوات المعذبين. [ثم قال: (تعوذوا بالله من عذاب القبر. قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن. قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من الدجال. قلنا: نعوذ بالله من الدجال) أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة]. فحينئذ يجب على المرء أن يتعوذ بالله من كل شر خاصة عذاب القبر والفتن ما ظهر منها وما بطن، والمسيح الدجال، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ من هذه في دبر كل صلاة قبل أن يسلم، فإذا فرغ من التشهد قال: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) أو قال: (ومن شر فتنة المسيح الدجال). وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا حذر أمته الدجال)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وما بين يدي الساعة فتنة شر من فتنة الدجال)، والدجال تكلمنا عنه مراراً.

حديث أنس: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)

حديث أنس: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر) [عن أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتاً من قبر من حيطان بني النجار -أي: من بساتين بني النجار- فسأل عنه، فقيل له: دفن في الجاهلية، فأعجبه)]. لما سمع صوتاً يخرج من قبر في بعض حوائط بني النجار سأل عن المقبور من هو؟ قالوا: يا رسول الله! هذا دفن في الجاهلية، فأعجبه وإعجاب النبي بذلك أن المعذب لم يكن من أمته، بل كان من أهل الجاهلية الذين يستحقون كل عذاب. وهذا يدل على مزيد شفقته على أمته عليه الصلاة والسلام. ثم قال: [(لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)].

حديث أنس في سماع الميت خفق النعال وسؤال منكر ونكير له

حديث أنس في سماع الميت خفق النعال وسؤال منكر ونكير له [عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه -يعني: ذهبوا عنه- حتى إنه ليسمع خفق نعالهم)] يعني: أصوات نعالهم وهم يمشون، فالميت في هذه اللحظة يسمع حركات وكلام الأحياء حتى يسمع خفق النعال الذي بمثابة الهمس، فإن الميت حينئذ يسمع، ولذلك لما وضعت الحرب في غزوة بدر أوزارها ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى قليب بدر -أي: الحفرة التي وضع فيها المشركون وهم قتلى- فوقف على رءوسهم وقال: (يا أهل القليب -وفي رواية- يا أهل بدر) أي: يا من قتلتم في بدر من صناديد الشرك والكفر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فقام إليه عمر وقال: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد ماتوا؟ فقال: والله ما أنتم بأسمع لما أقوله منهم)، يعني: هم يسمعونني كما أنكم تسمعونني تماماً بتمام وسواء بسواء. والجمع بين حديث: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع خفق نعالهم) والحديث الآخر: (رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يلبس نعلين سبتيتين ويمشي بين القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: يا صاحب السبتيتين ألق عنك سبتيتيك) قال العلماء: السنة ألا يدخل المسلم المقابر وهو منتعل. وبعضهم قال: بل هذا خاص بصاحب النعلين. ومنهم من قال: بل هذا خاص بالنعال السبتية دون غيرها. والصواب: أن المرء يستحب له أن يدخل المقابر وهو حاف غير منتعل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (ألق عنك سبتيتيك). وألق فعل أمر، والأمر للوجوب، لكننا لا نقول: إن الأمر هنا للوجوب، وإنما هو للاستحباب؛ لأن الحديث الثاني قال: (وإن الميت ليسمع خفق نعالهم) والمعلوم أن هذا كان في المقابر. فنقول: هذا الحديث الذي جوز المشي بين المقابر بالنعال ينسخ الوجوب الوارد في قوله: (ألق عنك سبتيتيك)، والمعلوم أن نفي الوجوب لا ينفي الاستحباب. هذه قاعدة أصولية، فإذا نفينا الوجوب في قوله: (ألق عنك سبتيتيك) يبقى استحباب ألا ينتعل الذي يمر بين المقابر. قال: [(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له)]. أول شيء يصنعونه: أنهما يقعدانه، مع أننا ندفن الميت ونهيل عليه التراب حتى نقول: ليس هناك مكان يجلس فيه؛ لأن التراب يحيط به من كل مكان، خاصة لو أننا التزمنا السنة في الدفن، قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا). واللحد هو أن تشق شقاً في الأرض رأسياً ثم تشق جانبه الأيمن باتجاه القبلة شقاً يسيراً بحيث يسمح بأن ينام الميت على جنبه الأيمن متوجهاً إلى القبلة، ولا يلزم من ذلك أن يكون هذا الشق الثاني أو هذا اللحد عالياً بحيث يتمكن الملكان من إجلاس هذا الميت؛ لأننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى إنما يهيئ لهذين الملكين مكاناً عظيماً جداً يجلسان فيه الميت، هذا أمر لا يعجز الله تعالى، ولذلك -يا إخواني- النصوص الشرعية ينبغي أن نتعامل معها بقلوب مؤمنة. شخص يقول مثلاً: إذا كانت السنة أثبتت أن الأرض بالليل تطوى، وقال عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) فالذي يخاف على نفسه إنما يبدأ السير من أول الليل. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن الأرض تطوى) فكيف تطوى مع أن المسافة من القاهرة إلى المنصورة مائة وعشرين كيلو متر، هل ستصير مائة كيلو مثلاً؟ أو ثمانين؟ فالله أعلم، يمكن تكون أقل من ذلك، يمكن يكون الطي في البركة. أنت الآن إذا نظرت إلى يومك هذا ويوم ابن تيمية أو الذهبي أو ابن حجر أو غيرهم من أهل العلم هو نفس اليوم، فالشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، يدخل الليل فإذا انتهى الليل بدأ النهار وهكذا، لكن هل يومك كيوم ابن حجر أو ابن تيمية؟ A أن يومك ليس كيومهما أبداً ولا يمكن، وهذه مسألة ينبغي أن تقرر. إذا نظرت إلى تراث ابن تيمية أو الحافظ ابن حجر تجده مذهلاً جداً، ومن حكم عقله لا يكاد يصدق أن هؤلاء الناس مع صغر سنهم قد ألفوا هذه المؤلفات الكثيرة، فالإمام الشافعي مات عن أربع وخمسين سنة، وعلمه أطبق الأرض شرقاً وغرباً، فمتى تعلم ثم متى صنف ومتى انتشر علمه؟ أمر عجيب جداً. نحن الآن نبلغ من العمر خمسين سنة ولا نعرف ماذا كتب الشافعي فضلاً أن نكون قد تعلمنا علمه وصنفنا فوق علمه علماً آخر. فإذا أخبر الله تعالى أو أخبر رسوله بأمر يتعلق بالغيب فإنه لا مجال للعقل فيه ألبتة، ويجب على العقل أن يقول: سلمنا وآمنا، سمعنا وأطعنا أما غير ذلك فلابد أن يئول أمره إلى الحيرة والتيه والضلال. قال: [(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له)] أول شيء: يرد إليه الروح التي نزعت منه وقت الغرغرة، فإنها ترد إليه مرة أخرى. ثم يقعد فيقولان له: [(ما كنت تقول

حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)

حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) قال: [عن ابن عباس قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان -واللام هنا للتوكيد وليست للنفي- ما يعذبان في كبير) يعني: المسائل التي يعذب بسببها أصحاب هذه القبور ليس أمراً عسيراً ولا شاقاً، كان بإمكانهما أن يتحرزا منها وأن يجتنبا سبب هذا العذاب. [(أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) وفي رواية: (كان لا يستتر من البول). أما قوله: (لا يستنزه من البول) أي: يتبول ولا يتطهر ثم ينطلق. وآلاف من الناس تتنجس ملابسهم وأبدانهم بالبول، فكم من شخص يبول ثم ينصرف، وأعجب من ذلك -والله- أني رأيت منذ شهرين تقريباً أن واحداً بال واقفاً -وكنت في زيارة للإسكندرية- والبول قائماً مخالفة، ثم لم يستنج من بوله، وإنما مسح ذكره بكفه اليمنى -وهذه مخالفة أخرى- ثم مسح كفيه مع بعضهما البعض وأجراهما على وجهه. فلم أدر من أين أبدأ معه. ولابد أن تعلم أن الشرع لم يترك لأحد قط أن يتصرف في نفسه أدنى تصرف دون هداية وإرشاد حتى في البول كما في قول اليهود: (لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة). أي علمنا كل شيء حتى علمنا إذا دخل الواحد منا الحمام ماذا يصنع وكيف يتطهر وبأي شيء يتطهر، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وبين لنا فيها أحسن بيان، فأي دين أعظم من هذا الدين؟ وأي رسول أعظم من هذا الرسول؟ لا أحد ولا شيء قط، فهذا دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده. وبعض الناس يقول لك: يا أخي! أنا رجل مثلي مثل هذا، فلم أستر نفسي عنه؟ ولعلكم تذكرون أني قلت لكم مرة أني كنت في المدينة المنورة، فرآني أحد الناس في المسجد فألح علي أن أفطر عنده فذهبت تلبية للدعوة، فلما ذهبت لأغسل يدي وجدت أن الحوض خارج الحمام في الصالة، وقد سبقني إلى الحمام والحمام مفتوح على مصراعيه وهو جالس فيه يقضي حاجته، فلما وقع نظري على عورته قلت: أعوذ بالله، ما هذا يا أخي؟ وغضبت غضباً شديداً جداً، فخرج من الحمام وهو غضبان. قال: ولم نغضب؟ قلت له: غضبان! وهل أنت محتاج أن أقول أنك مخطئ أو ماذا؟ فقال لي: هذا ليس خطأ. قلت: بل إنك مخطئ. فقال: ألست أنت رجل؟ قلت: أنا رجل ونصف. قال: وأنا كذلك رجل فلم تضغب؟ فذهبت إلى الذي سينصرني فقلت له: انظر يا حاج فلان أو يا دكتور فلان، أرأيت فلاناً ماذا قال؟ وهو جالس ينظر إلي باستغراب ويقول: ومم تغضب؟! قلت له: سبحان الله! أهذه المسألة إجماع وأنا المخالف فيها أم ماذا؟! قلت: أهذا صحيح؟ قال: يا أخي! المعذرة وهل بيننا امرأة؟ قلت له: نعم هو امرأة، إنما أنا لا، ألم يكن من المفترض عليها أنها لا تكشف عورتها بهذا الشكل؟ فغضب مني جداً، كيف أنني أقول على الدكتور في الجامعة أنه امرأة! تصور إلى هذا الحد! فانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله) يعني: عند أن يأتي للبول يبول أمام الماشي والآتي. قال: [(وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)] والمعلوم أن النميمة إنما هي النم والنقل على وجه الإفساد، وهي من الكبائر، فمن علامات الكبائر الوعيد الشديد؛ لأن الناس يتصورون أن الكبيرة معناها أنه لابد أن يقام عليها الحد، وهذا ليس بلازم، كما أن بعض الناس أن علامات الساعة كطلوع الشمس من مغربها من الأمور المحرمة، وهذه أمور كونية ليس لها علاقة بهذا، بل هذه علامات وأمارات للساعة لا يلزم أن تكون حراماً. فهنا قال: (وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، يأتي ويقول لك: إن فلاناً قال عليك كذا، ويذهب إلى فلان ويقول: إن فلاناً قال عليك كذا، فتقع الشحناء والبغضاء بين المسلمين، ولا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الكبائر. قال: [(ثم أخرج جريدة فشقها بنصفين فغرز في كل قبر واحدة. فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)]. السؤال الذي أريد أن أطرحه: لو أن شخصاً وضع جريدة الآن أمام القبر أيخفف عن صاحب القبر من عذاب القبر؟ A لا. لأنه ابتداء لا يدري أهو يعذب أم لا يعذب؟ ولكن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه علم أن هذان يعذبان، بل علم سبب التعذيب، ثم أطلعه الله تعالى على بعض النجاة لمدة محدودة وهو إشفاق على أصحاب القبور أنه أخذ جريدة وشقها نصفين ثم وضع كل نصف في قبر وهي خضراء. قال: (لعله أن يخفف عنهما -أي: من عذاب القبر بهذا السبب- ما لم ييبسا) أي: ما لم تيبس هاتان الجريدتان. فهل لأحد الناس أن يضع جريدة نخل رطبة على القبر؟ لا. ولكن للأسف نحن نراه اليوم على القبور، فعند أن تدخل القبور تجدها بساتين وعمارات وقصور وفلل! وهذا بلاء عظيم جداً.

حديث عائشة في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم للعجوز اليهودية في إثبات عذاب القبر

حديث عائشة في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم للعجوز اليهودية في إثبات عذاب القبر [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة)] يعني: امرأة يهودية كبيرة في السن دخلت على عائشة في المدينة. [فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم)] هذا قول العجوز اليهودية، والعجيب أن اليهودية معتقدها في عذاب القبر أحسن من معتقد الخوارج والمعتزلة! فعقائد المعتزلة والخوارج أفسد من عقائد اليهود في هذا الباب [فقالت عائشة: كذبت، ولم أنعم أن أصدقها)] p=1000043> عائشة تقول لها: أنتِ كذابة، الذي يموت لا يعذب، ولكن عائشة كان عمرها صغيراً، فكان عمرها: تسع سنين، أو عشر سنين، أما بعد ذلك فهي من كبار المحدثات ومن المكثرات في الرواية، وعاشت حتى احتاجت الأمة إلى علمها وفقهها. [قالت: (فخرجت -أي: خرجت هذه اليهودية من عندها- فلما خرجت دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة، فقالت له: يا رسول الله إن عجوزاً من عجائز اليهود دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم؟ فقال: صدقت)]. فلم يقل لها: هذه يهودية بنت كلب، إياك أن تصدقيها! فلم يقل لها ذلك، انظر إلى الحق! وأعظم من هذه اليهودية: الشيطان، فإنه أعظم منها ضلالاً وشيطنة، قال عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب) أرأيت إلى العدل! وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، مع أنهم الكفار، لكن منهم الأمناء، ولا يصح أن يلف الكافر بخرقة ويلقى ولا ينتفع به، بل ينتفع به فيما يمكن الانتفاع به. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75]، أي: إذا كنت واقفاً على رأسه: هات الدينار الذي عندك، وترفعه إلى المحاكم، ومن أهل الكتاب من لو وضعت عنده قنطار ذهب يؤده إليك. والنبي عليه الصلاة والسلام صدَّق هذه اليهودية، وعائشة معذورة في تكذيبها لها، لأنها طفلة صغيرة في ذاك الوقت. قالت: [(فقال لي: صدقت. إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم كلها. قالت: فما رأيته في صلاة قط إلا يتعوذ من عذاب القبر)]. يقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر) والحديث في الصحيحين.

حديث عائشة في تعوذه صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر

حديث عائشة في تعوذه صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر [عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في دعائه، فيقول: اللهم أعوذ بك من فتنة النار، ومن فتنة القبر، ومن عذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى والفقر، ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم -الهرم: كبر السن- والمأثم)] والمأثم أي: الإثم. والحديث كذلك في الصحيحين.

حديث: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة)

حديث: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة) [عن البراء بن عازب قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار -يعني: مسلم وهو من الأنصار- فانتهينا إلى القبر ولم يلحد له -يعني: ذهبنا به إلى المقبرة، ولم يوضع هذا الأنصاري في قبره بعد- فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير)] يعني: تشبيه بالحجارة أو بالشيء الثابت الذي لا يتحرك حتى ظن الطير أنهم ليسوا بشراً! أما اليوم تنظر وتجد الناس يمشون في الجنازة يغمز بعضهم البعض، ويضحكون مع بعض، ويحكون حكايات وروايات وقصصاً، ومنهم الذي يبكي من الضحك جبراً لخاطر أهل الميت فهذه مناظر مخزية كلها، لا يفكر صاحبها أنه يمكن أن يكون في آخر النهار في هذا النعش. وسئل بعض الناس ممن يمشي مع الجنازة: هل الذي يمشي أمام الجنازة أفضل أم الذي يمشي وراءها؟ قال: يمشي وراءها أو يمشي أمامها لا مشكلة، المهم ألا يكون في النعش! ويمشي وهو يضحك وكأن الأمر يستحق الضحك! [(فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، في يده عود ينكت به في الأرض)]، وهذا تصرف الإنسان الذي امتلأ فكراً وعبرة، الذي يفكر في أمر عظيم وخطير [(فرفع رأسه عليه الصلاة والسلام فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً. ثم قال: إن العبد المؤمن)] هو يعقد مقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، وماذا يقدم كل منهما؟ وكيف يقدم العبد على ربه؟ فبدأ بالمؤمن. قال: [(إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا)] يعني: إذا انتهت حياته وبدأ حياة أخرى، والقبر هو أول منازل الآخرة، وآخر منازل الدنيا، ولذلك قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] أي: في القبر، كما مر بنا آنفاً. قال: [(نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه)] فهو أمر يناسب العبد المؤمن، فالملائكة عند ذلك يأتونه في صورة حسنة بهية، في ثياب بيض. [(كأن وجوههم الشمس -من البياض- معهم كفن من كفن الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه)] وهذا في لحظة الاحتضار، كما قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا) يعني: لحظة الاحتضار، التي يكره المرء فيها لقاء الله أو يحب لقاءه، إذا نظر إلى مكانه من النار كره لقاء الله، وإذا نظر إلى مكانه من الجنة أحب لقاء الله، فتأتي الملائكة بيض الوجوه يجلسون منه مد البصر. أي: بعيداً عنه قليلاً. [(ثم يأتي ملك الموت ويقف عند رأسه فينزع منه الروح نزعاً رفيقاً ليناً)] هذا النزع ربما يكون فيه بعض الإيلام، لكنه إذا قورن بنزع روح الكافر كان في منتهى اليسر والسهولة، وشيء هين لين. قال: [(ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين)] قوله: لم يدعوها، الضمير عائد على الملائكة الذين جلسوا منه مد البصر، فالذي يتولى نزع الروح هو ملك الموت، ثم الذي يصعد بها: الملائكة الآخرون، والذي يتوفى الأنفس هو الله عز وجل. إذاً: المميت على الحقيقة هو سبحانه وتعالى، والذي يتولى إخراج الروح هو ملك الموت، والذي يتولى الصعود بهذه الروح ملائكة آخرون. قال: [(لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلونها في ذلك الكفن وذلك الحنوط -الذي هو من أكفان الجنة ومن حنوط الجنة- فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض -أي: لها رائحة طيبة جداً، وهي رائحة الإيمان والعمل الصالح- فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا -أي: هؤلاء الملائكة- ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه الذي كان يدعى بها في الدنيا -أي: في أثناء حياته- حتى ينتهون بها إلى سماء الدنيا -أي: السماء الأولى- فيستغفرون له -وفي رواية-: فيستفتحون له)] يعني: يستغفر للمؤمن أهل السماوات الدنيا، أو يستفتح الملائكة الذين معهم هذه الروح أهل السماء الدنيا من الملائكة فيفتحون لها ولهم. قال: [(فيشيعه من كل سماء مقربوها -أي: الملائكة المقربون في كل سماء هم الذين يشيعون هذه الروح الطيبة- إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض)] أي: تذهب الروح إلى جسد صاحبها. قال: [(فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده)]. إذاً: عند أن قلنا: تعاد إلى الأرض في جسده لم يكن هذا اجتهاداً وإنما هو نص، كما في قوله: [(فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسل

إثبات الصحابة والتابعين لعذاب القبر وإيمانهم بذلك

إثبات الصحابة والتابعين لعذاب القبر وإيمانهم بذلك [عن ميمون بن أبي ميسرة قال: كان لـ أبي هريرة رضي الله عنه صيحتان في كل يوم، أول النهار فيقول: ذهب الليل وجاء النهار، وعرض آل فرعون على النار]. فيصيح أبو هريرة لهذا ويفزع. [وإذا كان العشي قال: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار]. يعني: كان يستعيذ بالله من النار في كل صباح وعشي؛ لأنه يعلم ويوقن أن العذاب قائم وكائن لآل فرعون في هذا التوقيت، كما في قول الله تعالى: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]. قد يقول قائل: هذا العذاب في حق الكافر؛ لأن فرعون وقومه كفار، وعذاب القبر لا يثبت إلا للكفار، ف A أين حديث الجريد؟ وأين حديث صاحب الغيبة وصاحب البول والذي غل من الغنيمة وغير ذلك؟ وهناك من يقول: لا يوجد عذاب قبر بالمرة ولا حتى آل فرعون، فإن آل فرعون سيعذبون يوم القيامة. و A أن يوم القيامة شيء، وعذاب القبر شيء آخر، والدليل على ذلك قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]. يعني: بعد الموت. قول الله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] معناه: أن هناك عذاباً بعد البعث، وعذاباً قبل البعث، وهو أنهم يعرضون على النار وهم في قبورهم في الصباح وفي المساء، وأما يوم القيامة فشيء آخر، فعذابهم في الآخرة أشد من عذابهم في القبور، مع أنهم كانوا في قبورهم يعرضون صباحاً وعشياً على النار، لكن النار التي أعدت لهم في الآخرة أعظم، بل لا يقاس عليها عذاب القبر ولا عذاب الدنيا من باب أولى. وقال عبد الله الداناج: [شهدت أنس بن مالك وقال له رجل: إن قوماً يكذبون بالشفاعة، قال: لا تجالسوهم، فسأله آخر فقال: إن قوماً يكذبون بعذاب القبر، قال: لا تجالسوهم] وهذا كلام عظيم لأهل العلم، فهم ينهون عامة الأمة عن مجالسة أهل البدع والزيغ والضلال. [عن مجاهد قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] قال: يحرقون عليها ويعذبون]. وعن حوثرة بن محمد المنقري البصري قال: [رأيت يزيد بن هارون الواسطي في المنام بعد موته بأربع ليال، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: تقبل مني الحسنات، وتجاوز عن السيئات، ووهب لي التبعل، قلت: وما كان بعد ذلك؟ قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم؟ غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة، قلت له: بم نلت الذي نلت -يعني: كيف أخذت هذا؟ - قال: بمجالس الذكر -أي: مجالس العلم- وتولي الحق، وصدقي في الحديث، وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الفقر، قلت: ومنكر ونكير حق؟ -بمعنى: أنت فعلاً رأيت منكراً ونكيراً؟ - قال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وقالا لي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب، فقلت: مثلي يسأل؟ أنا يزيد بن هارون الواسطي، وكنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس. فقال أحدهما لصاحبه: صدق، هو يزيد بن هارون نم نومة العروس: فلا روعة عليك بعد اليوم]، يعني: لا حزن ولا هم عليك بعد اليوم، نم إلى نعيم ورغد لا منتهى له سواء كان في قبرك أو بعد مبعثك ودخولك الجنة. وهذا المنام وغيره من المنامات إنما هي من البشارات لأهل الإيمان، وإن كان لا يتوقف عليها حسن اعتقاد ولا سوء اعتقاد ولا تحليل ولا تحريم ولا شيء من هذا، إنما هو عاجل بشرى المؤمن في الدنيا.

سياق ما روي بما أرى الله أو أسمع من عذاب القبر في الصحابة والتابعين ومن بعدهم

سياق ما روي بما أرى الله أو أسمع من عذاب القبر في الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال حنبل: [سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: إذا صير العبد إلى لحده، وانصرف عنه أهله أعيد إليه روحه في جسده]. ولذلك فإن عقيدة أهل السنة سهلة، وأنا سأقول لك: هات أي كتاب من كتب المعتزلة أو الشيعة أو الخوارج أو أي فرقة من الفرق الضالة في المعتقد واقرأه أو اقرأ باباً منه ثم اقرأ ما يواجه هذا الباب في كتب أهل السنة والجماعة، فلن تحتاج أبداً إلى شخص يشرح لك، فعندما نقرأ في عقيدة أهل السنة فيما يتعلق بالقبر ستجد الكلام سلساً، وعند أن نأتي ونقرأ العقيدة الطحاوية مثلاً أو في كتاب السفاريني أو في كتاب اللالكائي أو ابن أبي عاصم أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من أهل العلم الذين صنفوا في المعتقد والسنة تجد أن الكلام سهلاً وحلواً ومقبولاً وجميلاً، ولا تحتاج أبداً أن أبا الأشبال يقول لك: هذه معناها كذا، وهذه معناها كذا، أو أن المحشي سيضع لك تحت هذه الكلمة الصعبة أن معناها كذا، فبمفردك ستفهم هذا الموضوع وتقول: سهل جداً، لكن عند أن تأتي إلى كتب المبتدعة؛ تجدها فلسفة وكلاماً معقداً ومنطقيات ومقدمات ومؤخرات ونتائج، شيء صعب إلى أقصى حد، وربما قرأت الموضوع وخرجت منه وأنت لم تفهم ما هو الموضوع الذي يتكلم فيه؛ لأنه طلاسم، والذي يترك كلام أهل السنة لابد أنه يقع في الحيرة والتيه والضلال، ويكون كلامه كله عبارة عن فلسفات كلامية ومقدمات ومؤخرات منطقية لا يمكن أبداً أن يستقيم في الأمور الغيبية مع كلام أهل السنة والجماعة أبداً، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) لم يقل الصحابة: من هؤلاء الفرق يا رسول الله؟ وإنما قالوا له: من هذه الفرقة الواحدة؟ قال: (هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). فهذه إشارة إلى وجوب تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم اعلم أن ما عدا هذه العقيدة عقائد فاسدة وباطلة، وأصحابها من أهل النار، أما أن يأتي شخص ويتفلسف ويقول لك: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه فيقول: أنا قبل أن أدرس عقيدة أهل السنة لابد أن أدرس عقائد الفرق الثلاثة والسبعين أو الاثنتين والسبعين لا أعرف الفرق الباطلة؛ من أجل أن تحلو لي عقيدة أهل السنة والجماعة! إذا كنت تظل تدرس في عقيدة أهل السنة والجماعة سنوات وسنوات فكيف يتسنى لك أن تدرس عقيدة هذه الفرق كلها؟ أتضمن الحياة؟ وبعد ذلك أأنت مكلف بمعرفة هذه العقائد؟ هل سيقول الله عز وجل لك يوم القيامة: ماذا قالت المعتزلة في رؤية الله عز وجل؟ أم أنه سيسألك عن معتقدك أنت، فيما يتعلق بجواز أو استحالة رؤية المولى عز وجل، سيسألك عن عقيدتك، عقيدة أهل السنة، بل هو سيسأل سبحانه وتعالى هؤلاء الضلال الحيارى عن سر وسبب انحرافهم عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وعملهم يأتي يوم القيامة كله هباء منثوراً؛ لأنه لا يستند إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما استند إلى فلسفات غربية، ولذلك فإنه كلما ازدادت رقعة الإسلام في الأرض ازداد الفساد في الأمة. فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند أن كان تفتح عليه البلدان كان يظل يبكي؛ لأنه عمر رضي الله عنه الرجل الثالث في الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام وبعد أبي بكر فليس هذا من فراغ أيها الإخوة! ولذلك قيل: إن أبا بكر لم يسبق الأمة بكثير صلاة ولا صيام، وإنما بإيمان استقر في قلبه، فنور الوحي استقر في قلبه فصارت الأمور بالنسبة له كما لو كان يشاهدها عياناً، وهذا نور الإيمان جزاءً وفاقاً للعمل الصالح، وهو فضل الله عز وجل أولاً وآخراً، بعث عمر الجيش، فلما سمع أن مصر فتحت وأن الأمر استقر لـ عمرو بن العاص بكى عمر بن الخطاب لأنه يذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أخشى عليكم الفقر، ولكني أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)، ونحن ننظر إلى الوجه الآخر للفتح، الفتح جيد، وشيء جميل، ودخول الناس في دين الله عز وجل أجمل ما يمكن، لكن الوجه الآخر لهذا الفتح هو الأمر العصيب جداً الذي كان يعصر قلب عمر، وأن كل زيادة في الأرض زيادة في فساد أبناء الأرض. ولا شك أن عالم الترجمة أمر يسعد كل مسلم، فلما أمرت الدولة العباسية بترجمة كتب الفلاسفة والمتكلمين، كان هذا مبدأ وأساس الشر في الأمة، بأن تُرجمت كتب فلاسفة اليونان وأثينا للغة العربية، فدخل الشر منها. وأنت عندما تجلس مع أستاذ أو طالب في كلية الآداب أو التربية قسم الفلسفة لا يمكن أن تقول: هذا الإنسان مسلم، أو هذا قلبه أو عقله يفكر في الإسلام، لأنه لا يتكلم أبداً بقال الله ولا قال الرسول، فكلامه كله ظلمة إلا من رحم الله عز وجل؛ لأن بضاعته هي قال أرسطو طاليس قال

أرواح المؤمنين أين تكون بعد الموت

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أرواح المؤمنين أين تكون بعد الموت مما يجب الإيمان به إيماناً جازماً أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر معلقة تأكل من ثمار الجنة حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادهم، كما يجب الإيمان بأن أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة تتفاوت مراتبها ودرجاتها بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم في الإيمان.

سياق ما روي في أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر

سياق ما روي في أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر تعلق في شجر الجنة، حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادهم]. كأن الإمام اللالكائي رحمه الله يقطع أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة، وأن الله تعالى يردها إلى أجسادهم حين بعثهم، كأنه بهذا قد رجح هذا الرأي؛ لأن مسألة أين تكون الأرواح إذا ماتت الأجساد مسألة محل نزاع عظيم جداً بين أهل العلم، فاختياره لهذا التبويب إنما هو بمثابة الترجيح لهذا الرأي. وحقيقة هو الرأي الراجح، فالمؤمن إذا مات كانت روحه في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وأشجارها، حتى يردها الله عز وجل إلى أجساد أصحابها. والإمام هنا قد ذكر بعض النصوص التي تشهد لصحة قوله، وفاته كذلك أن يورد نصوصاً صحيحة بل هي أصح مما أورده في هذا الباب، وأظن أن النصوص الأخرى لم تقع إليه بسنده؛ ولذلك ما استطاع أن يوردها هنا. قال: [عن عبد الرحمن بن كعب -وهو ابن كعب بن مالك - عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نسمة المؤمن -أي: روح المؤمن- طير)، وفي حديث مالك: (طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يُرجعه الله في جسده يوم يبعثه)، وفي حديث مالك: (إلى جسده). قوله: (إنما نسمة المؤمن) أي: روح المؤمن كالطائر، أو هي نفسها الطائر، على خلاف بين أهل العلم في تأويل هذا الحديث. قال: (طائر يعلق في شجر الجنة) ومعنى يعلق: يأكل، فقال: (طائر أو كالطائر) فإما أن تكون روح المؤمن هي الطائر أو أنها كالطائر الذي يحلق في السماء، ولكنها تحلق في الجنة، فتأكل من أشجارها حتى يردها الله عز وجل في جسد صاحبها يوم يبعثه. ومن نفس الطريق قال كعب بن مالك: [لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم مبشر بنت البراء بن معرور فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت ابني فلاناً فأقرئه مني السلام]. وهذا تفريع عن الأصل الذي نحن بصدده وهو: هل تتلاقى أرواح المؤمنين إذا ماتت أجسادهم؟ يعني: إذا مات المؤمن ثم مات المؤمن هل تلتقي أرواحهما؟ بلا شك أن كلام أم مبشر هنا يوحي بذلك. [فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت ابني فلاناً فأقرئه مني السلام، فقال: غفر الله لك يا أم مبشر! نحن أشغل من ذلك]. أي: أنا في شغل عظيم وكرب كبير، لا يفيق أحدنا لصاحبه حتى يبلغه السلام من فلان أو فلانة. [فقالت: يا أبا عبد الرحمن! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق في شجر الجنة)؟ قال: بلى. قالت: فهو ذاك]. أي: التقاء أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة. [عن أبي موسى قال: (تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك، فتعرج به الملائكة الذين يتوفونه، فتلقاهم ملائكة دون السماء -قبل السماء الأولى- فيقولون: من هذا الذي جئتم به؟ فتقول الملائكة: توجوه هذا فلان ابن فلان، كان يعمل كيت وكيت لأحسن عمل له. قال: فيقولون: حياكم الله وحيا ما جئتم به. فتقول الملائكة الذي يصعد فيه قوله وعمله، فيصعد به إلى ربه حتى يأتي ربه عز وجل وله برهان مثل الشمس)]. وهذه روح المؤمن. [(وروح الكافر أنتن من الجيفة، وهو بوادي حضرموت)]، وهذا أحد الأقوال. أين توجد أرواح الكفار؟ إذا اتفقنا أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة تأكل من ثمارها وأشجارها حتى يبعث الله أجسادها، فأين أرواح الكافرين؟ أحد الآراء أنها بواد في حضرموت، [(ثم أسفل الثرى من سبع أرضين)]، وهذا رأي ثان. أي: أن بعضهم قال: إن أرواح الكافرين في واد بحضرموت -أي: باليمن- والرأي الثاني يقول: أنها في أسفل سافلين، ويستشهد على ذلك بآيات وأحاديث ضعيفة. وعن ابن عباس قال: [(إن أرواح الشهداء تجول في أجواف طير تعلق في ثمار الجنة)]، لكن بعض أهل العلم ينازع في أرواح الشهداء وفي أرواح عامة المؤمنين، فيقول: الشهداء لهم خاصية تزيد على خواص عامة المسلمين. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [(أرواح آل فرعون -أي: أرواح الكافرين- في أجواف طير سود يُعرضون على النار كل يوم مرتين، يقال لهم: هذه داركم. وهذا قول الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا

أقوال العلماء في مسائل الروح

أقوال العلماء في مسائل الروح شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله صنف رسالة اسمها (الروح)، والكتاب مشهور جداً، ولكن هذا الكتاب فيه أغلاط وأخلاط كثيرة جداً؛ ولذلك يشكك كثير من أهل العلم في نسبة هذا الكتاب إلى شيخ الإسلام ابن القيم ويقولون: ليس من كلامه ولا بقلمه، ولا يتناسب مع علم المدقق المحقق شيخ الإسلام ابن القيم. وبعضهم اعتذر اعتذاراً لطيفاً فقال: هو من كلامه وهو كتابه، وصحح نسبته إليه، لكن شيخ الإسلام إنما صنف هذا الكتاب في مقتبل عمره العلمي -أي: أيام كان صغيراً في السن- ولما كانت هذه المسألة من المسائل الدقيقة جداً التي يصعب على أهل العلم المبتدئين تحقيق مسائلها أخطأ فيها شيخ الإسلام ابن القيم. لكن على أية حال هذا الكتاب وهو كتاب (الروح) نحن لا نحبه قط، ولا ننصح أن يقرأه طالب العلم المبتدئ، وإنما يقرأه أهل العلم الذين لهم دراية بمسائل الخلاف حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وهناك كتاب (الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات) للإمام الآلوسي، وحققه شيخنا العلامة الألباني رحم الله الجميع. قال الإمام الآلوسي في الخاتمة: (الخاتمة -ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى- في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث)، فأين تكون الروح إذا خرجت من المؤمن ومات البدن؟ قال ابن القيم في كتاب الروح: (هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس، واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط). أي: هذه المسألة لا يحل فيها الاجتهاد، وإنما الذي يجب فيها الوقوف عند حد السمع. ويعني: بالسمع: القرآن والسنة، ولذلك لا يمكن أن تجد قولاً لأهل العمل يأمر بالوقوف عند حد السمع فحسب إلا إذا كانت المسألة من مسائل الغيب، ومسائل الغيب يجب وجوباً حتمياً ضرورياً أن يتوقف المسلم عند حد قال الله قال رسوله أبداً، ولا يحل له أن يتجاوز النص. قال ابن القيم: (وإنما تتلقى من السمع -أي: لا يحل لأحد أن يخوض فيها- واختلف في ذلك). فحينما أرادوا الخوض فيها قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: لا علاقة لكم بها.

أقوال العلماء في مستقر الأرواح إذا فارقت الأجساد

أقوال العلماء في مستقر الأرواح إذا فارقت الأجساد قال ابن القيم: (فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة)، ونحن من قبل رجحنا هذا الرأي وقلنا هو الرأي الراجح، فأرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة، شهداء كانوا أم غير شهداء. أي: جميع المؤمنين. (إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين). وهذا يدل على أن المرتكب للكبيرة لا ينفى عنه الإيمان، كما أن صاحب الدين محبوس بدينه إلا أن يعفو الله عز وجل عنه، وأن يكافئ الدائن له، وأنتم تعلمون أن صاحب الكبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فكونه محبوساً حتى يشاء الله تعالى له العذاب أو المغفرة، يدل هذا على أن روحه كذلك في داخل هذه المشيئة. قال: (ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم)، أي: صاحب الدين وصاحب الكبيرة (وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما). قال الشيخ الألباني: وهو الصحيح من الأقوال -أي: أن هذا أصح الأقوال في المسألة؛ لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة أو في أثر صحيح- قال: ومع ذلك ستتصل بالبدن متى شاء الله عز وجل. أي: أن الروح ترجع إلى البدن، والأصل عدم رجوعها، لكن إذا شاء الله تعالى أن ترجع الروح إلى البدن رجعت، فالأصل عدم نزول الروح مرة أخرى في البدن، لكن إذا شاء الله تعالى إنزالها نزلت، وإذا شاء الله تعالى تركيب الروح في البدن ركبت، وذلك في اللحظة. أي: في أقل من اللحظة؛ وذلك لأنه كان السائل يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله؟ فينزل جبريل بالخبر في أقل من لمح البصر، وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم، أي: أن المقصود: أن مسألة إتيان الروح من الجنة أو من السماء السابعة أو من السماء عموماً فتكون في بدن الميت ليست مسألة عسيرة ولا متأخرة، بل هي تتم كما لو كنت نائماً فانتبهت، وهي لحظة واحدة بين النوم واليقظة، فكذلك نزول الروح ودخولها في البدن. الرأي الثاني: (وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها -يعني: هم على أبواب الجنة- يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها -أي: في الأفنية والشوارع والساحات التي أمام القبور معسكرة هناك- وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت -أي: تذهب في أي مكان، وكل هذا في أرواح المؤمنين- وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة). وهذا الرأي يوافق المذهب الأول الذي رجحناه وصححناه. (وقال أبو عبد الله ابن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند الله عز وجل ولم يزيدوا على ذلك. قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين بالجابية -والجابية: اسم قرية بالشام- وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت. وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟) عبر عن الروح هنا بالنفس، وهذه مسألة محل نزاع: هل النفس هي الروح أم أن النفس شيء والروح شيء آخر؟ محل نزاع، والراجح: أن النفس هي الروح. قال: (هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟) يعني: هل لهم مكان يجتمعون فيه؟ (فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] قال: هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث). أي: أنه قال: نعم. هناك مكان في الأرض سيجتمع فيه أرواح المؤمنين، وهذا أحد المذاهب، والمسألة فيها أكثر من اثني عشر مذهباً. مذهب منهم يقول: هي في بقعة من بقاع الأرض تجتمع أرواح المؤمنين فيها حتى يكون البعث. (وقالوا: هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا. وقال كعب الأحبار: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس). على أية حال يغلب على الظن أن كعب الأحبار إنما أخذ الكلام من كتب بني إسرائيل؛ لأنه كان حبراً من أحبارهم، ويروي من كتب الإسرائيليين بعد إسلامه. (وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت. وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجين. وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن -أي: روحه- تذهب في الأرض حيث شاءت. وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله). وتأولوا في ذلك أحاديث ربما ذكرناها في هذا المكان من قبل، لكنها لا تشهد لهذا المعتقد. (وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم -الإمام ابن حزم الظاهري أبو محمد - قال: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها). يعني: لو قيل: أين كانت الروح قبل خلق الجسد؟ A لا أحد يعلم، فكذلك إذا مات البدن رجعت الروح إلى مكانها قبل أن توضع في هذا

مسألة في تلاقي أرواح الموتى وتزاورها وتذاكرها

مسألة في تلاقي أرواح الموتى وتزاورها وتذاكرها قال ابن القيم: (المسألة الثانية: وهي أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟) وهذه المسألة هي فرع عن هذا الأصل الذي نحن بصدده. قال ابن القيم: (وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة). أما أرواح الكفار فهي معذبة، وأما أرواح المؤمنين فهي منعمة. قال: (فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي). أي: أنهم إذا التقوا التقوا على اللوم والتقريع والتوبيخ، كما جاءت بذلك النصوص. والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان بينها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها). فإن قيل: هل تتلاقى الأرواح؟ A نعم. أرواح المؤمنين فقط، أما أرواح الكافرين فهي في شغل عما نزل بها من بلاء وعذاب وعقاب.

مسألة في تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات

مسألة في تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات قال: (المسألة الثالثة: وهي هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا؟) نحن قلنا في المسألة الأولى: إن أرواح الموتى تتلاقى وتتذاكر وتتزاور، ويذكرون ما كان من أمرهم في شأن الدنيا، بل ما كان من أهل الدنيا. لكن المسألة الثانية: هل تلتقي روح الحي من المؤمنين مع روح الميت من المؤمنين؟ A نعم. تلتقي، وما رؤيتك لميت ومحادثته وسؤاله أو سؤالك -أي: أنه يسألك عن حالك وحال أبنائك وحال دينك وغير ذلك- إلا مجرد لقاء بين روح الميت من أهل الإيمان وروح الكافر. وفي الحديث قال: (وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين، فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض) أي: يسألونه عن أخبار المؤمنين من أهل الأرض الذين لم يموتوا بعد. وهذا فيه جواب عن المسألة التي ذكرناها. الحديث يقول: (وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين، فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض) فهي روح مع أرواح، لكنهم يذكرون أشخاص المؤمنين الذين لم يموتوا بعد، فهو قد مات، فلما صعد إلى السماء التقى بأرواح المؤمنين الذين ماتوا مثله، فهم يسألونه عن الأحياء. فـ ابن القيم يقول: وأعظم دليل على التقاء روح الحي بروح الميت هو الرؤى والمنامات التي يراها.

مسألة في كون الروح التي تموت أم البدن

مسألة في كون الروح التي تموت أم البدن قال: (المسألة الرابعة: وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده؟) جوابها: (اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: تموت الروح وتذوق الموت؛ لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت. قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. يعني: إذا كانت الروح هي النفس، فلا بد أن تذوق الموت بنص القرآن. (قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت) لأن مسألة موت الملائكة مسألة بعيدة عن الأذهان، ولكن المستقر عند عقيدة المسلمين أن الملائكة تموت، وأن آخر الملائكة موتاً من أصحاب التكليف هو ملك الموت. والمسألة هذه في الحقيقة لم يرد فيها نص، والكلام فيها أنا أكرهه جداً كما أكره الكلام في القدر، فإذا كان الشرع قد عافانا من الخوض في هذه القضية فالأولى بنا أننا نتوقف. (وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان. قالوا: وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة). وإذا كنا قد أيقنا أن روح المؤمن منعمة، وأن روح الكافر معذبة حتى يبعث الله المؤمن والكافر فيرد إليه روحه، إذاً: الروح لا تموت مع الجسد، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم. فمن مِن الناس يعتقد أن الشهيد بعد أن يموت تموت روحه معه؟ لا أحد يعتقد ذلك. أما حياتهم فإنهم يرزقون النعيم الأبدي السرمدي في القبر وفي يوم القيامة وإذا دخلوا الجنة، فحياتهم في قبورهم حياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، كحياة الأنبياء تماماً بتمام، وشبهت هذا بذاك من جهة أنها علم غيب لا يعلمه إلا الله، لكن لا بد أن يكون هناك فارق؛ لأن الأنبياء أفضل من الشهداء بلا شك، وأنتم تعلمون أن أرواح المؤمنين متفاوتة، فإذا كان الأمر كذلك فأرواح المؤمنين في أعلى عليين. كما أننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن القبر حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، فإذا كنا نعتقد أن المؤمن إذا مات صعدت روحه إلى السماء، أو دخلت الجنة فتنعمت فيها فالذي يبقى في القبر الجسد، فنحن لا نعتقد أن القبر روضة من رياض الجنة إلا إذا كنا نعتقد أن الجسد يتنعم ويُعذب، وليس بلازم أن يكون الجسد باقياً، وإلا لقلنا: إن الذي تأكله الأسماك في البحار أو تأكله حوادث الدهر، أو يُحرق أو غير ذلك، وقد انتهى بدنه لا يقع على بدنه العذاب، أو لا يقع لبدنه النعيم! وهذا مخالف لعقيدة المسلمين، فالله عز وجل على كل شيء قدير.

مسائل في حقيقة الروح

مسائل في حقيقة الروح يقول الألوسي: (الخامسة: اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف، وكذا اختلفوا في أنها هل هي النفس أم غيرها؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل النفس الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم أنفس متعددة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها؟). وهناك مسائل كثيرة جداً أجاب عنها العلماء، الأولى السكوت عنها. قال: (وأما الكلام على بقية المسائل فقد قال: ابن القيم عليه رحمة الله: والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة: أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس). يريد أن يقول: أن الروح جسم، لكن يحكمها قوانين أخرى، وهي القوانين التي تحكم المشاهد أو الأجسام المرئية. قال: (وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء -يعني: يتخلل البدن- ويسري فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة، وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح، كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]). ثم يحيلنا الإمام الآلوسي إلى كتاب الروح لمعرفة المزيد من هذه المعلومات. وهذا الكلام كله هو خلاصة البحث: أنني أؤمن إيماناً جازماً أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر معلقة تأكل من ثمار الجنة حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادها، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين إذا كانت تفاوتت مراتبهم في الإيمان فكذلك تتفاوت مراتبهم في النعيم، لكن كلها في الجنة تسرح حيث شاءت، تأكل وتلتذ بنعيم الجنة على درجات متفاوتة؛ ولذلك الجنة مراتب ودرجات، فكل مرتبة هي أفضل ممن هي دونها، وكل مرتبة دونية هي أقل في النعيم ممن هي فوقها وكذلك أرواح المؤمنين.

سياق ما روي في استحباب الصدقة وقراءة القرآن والاستغفار والترحم والدعاء للميت

سياق ما روي في استحباب الصدقة وقراءة القرآن والاستغفار والترحم والدعاء للميت هذا عنوان عريض يحتاج إلى تقريب؛ لأن هذا التبويب يدل بظاهره على أن الميت ينتفع بكل شيء، ولكل أحد أن يقدم خدمة للميت من عبادة أو طاعة. قال: [عن ابن عباس: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! توفيت أمي ولم توص، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم)] لكن السائل بالنسبة للمسئول عنه هو ابنها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خير مال المرء من كسب يده، وولده من كسبه) فالولد امتداد لأبيه، وأثر من آثاره، وسواء نوى الولد نفع الوالدين بعمله أو لم ينو فهما منتفعان بعمله، لا ينقص ذلك من أجره شيء، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). إن الذي يأخذ ولده إلى معلم القرآن أو معلم السنة حباً في الله وفي كلامه ودينه وشرعه، ويحرص كل الحرص على أن يتعلم ولده الأخلاق الفاضلة، وأن يتأسى بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يتعلم كلام الله تلاوة وحفظاً وعلماً وعملاً وعبادة وغير ذلك، ويتمنى لو أن ولده بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً جداً، لا شك أن هذا الأب إذا مات فإن عمل ولده ينفعه، ويسري أجر الولد في عمله الصالح إلى الوالد، فإذا بدر من الولد عملاً سيئاً فلا حظ لأبيه فيه؛ لأنه كان معلوماً من حياته أنه يحرص على أن يعلمه الخير، بخلاف رجل كان يحض ولده على الشر، وعلى معاداة شرع الله، وعلى معاداة السنة واتهامها وانتهاك حرمتها وخدش حشمتها وغير ذلك فإن الولد إذا عمل بهذا الأصل التربوي السيء فإن الوالد يلحقه من كل عمل يعمله الولد حظ وكفل ونصيب؛ لأنه رباه على ذلك واستحبه، بل حمله على ذلك حتى صارت معاداة الشرع ديدناً لهذا الولد. هب أن الولد تاب من ذلك. هل ينفع الوالد توبة ولده؟ لا ينفعه؛ لأنه لو كان ينفعه لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه)، وقد قال العلماء وهو أرجح الأقوال في المسألة: هذا إذا كان معلوماً من حياته: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]. إذاً: ينظر هل كتب وصية وقال: لو أني مت استأجروا فلانة وفلانة ينحن علي ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو عشرة أيام فهذا من سعيه، أو أنه لم يفعل ذلك لكن كان أستاذاً كبيراً، فكان إذا مات أحد من الناس ذهب وأدى واجباً وظل يلطم ويشق الجيوب، فإذا عُلم من حياته أنه يحب ذلك ويفعله، حتى لو لم يوص به فإنه يُعذب ببكاء من ناح عليه؛ لأن هذا كان ديدنه في حياته، من خلال ذلك نقول: لو أن شخصاً قال: يا إخواني! لا يبكي علي أحد ولا ينوح، والذي يريد أن يبكي يبكي بالدمع فقط، أما بكاء وولولة ودعاء جاهلية فأنا بريء من ذلك، فلو أن الناس كلهم ناحوا عليه هل يلحقه شيء من ذلك؟ A لا يلحقه؛ لأنه قد تبرأ منهم، وأوصى بخلافه. ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث). فـ عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين ابنه رجل صالح، فهل ينتفع الأب بعمل الولد الصالح؟ A لا. فإذا كنا نحن نقطع الآن بغير رجوع إلى كلام أهل العلم أن الكافر لا ينتفع بعمل ولده المسلم الصالح، فلا بد أن تتفرع على هذا تفريعة أخرى، وهو أن الأب الفاسق العاصي الذي كان يكره الخير ويقبل على الشر لا ينتفع بالخير، وهذا كلام الإمام ابن أبي جمرة وكلام الحافظ ابن حجر والإمام النووي والإمام أحمد بن حنبل وغير واحد من السلف. [عن ابن عباس: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! توفيت أمي ولم توص. أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)] الولد يسأل عن مدى انتفاع الأم بالصدقة، فالولد ينفع أمه في باب الصدقات، وسيأتي معنا خلاف في عبادات أخر؛ لأن الصدقة عبادة، فإذا فعلها المرء تقرباً عن أبيه أو عن أمه انتفع الأب والأم بذلك. قال ابن عباس: [(إن رجلاً قال: يا رسول الله! توفيت أمي ولم توص. أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها)] والمخرف: هي الأرض المثمرة. أي: أن لي بستاناً ونحن في وقت جني ثماره، فأشهدك يا رسول الله! أني قد تصدقت بثمار هذه الأرض عن روحها. هذا الحديث أخرجه البخاري. [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت)] أي: ماتت فجأة، أي أنها لم تكن متوقعة أنها تموت، فإذا كان الشخص مريضاً بمرض خبيث وهو نائم على الفراش، وكل يوم يزداد سوءاً، فلا بد أنه سيتوقع في هذا المرض الموت، بخلاف شاب قوي، فهذا في الغالب لا يتوقع الموت في هذه اللحظات، ولا مانع أن يصح المريض وأن يموت الصحيح، لك

كلام الألباني في تلقين الميت وتجهيزه وقضاء دينه

كلام الألباني في تلقين الميت وتجهيزه وقضاء دينه الشيخ الألباني رحمه الله في باب تلقين المحتضر من كتاب أحكام الجنائز. يقول: إذا حضره الموت فعلى من عنده أمور، وذكر منها: أن من حضر محتضراً فعليه أن يدعو له، ولا يقول في حضوره إلا خيراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون). وليس التلقين ذكر الشهادة بحضرة المحتضر؛ لأن الشخص يستحيي أن يقول له: قل: لا إله إلا الله أو تشهد أو غير ذلك فهذا من أعظم الواجبات عليك إذا حضرت، حتى يكون آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، وأما قراءة سورة يس عند الاحتضار أو عند الميت أو على القبر، أو شيء ورد في فضل يس فلم يكن شيء من ذلك صحيحاً قط في سنة النبي عليه الصلاة والسلام. أي: أنه لم يرد في فضل يس قط حديث صحيح يذكر فضلها، وليس معنى ذلك: أن يس ليس لها فضل، يكفي أنها كلام الله عز وجل، لكن الذي اعتاده الناس على أنها تقرأ (70) مرة و (75) مرة و (3000) مرة كل هذا غير صحيح، فإنه لم يصح في فضلها ولا في كيفيتها وعدد قراءتها شيء من السنة. وكذلك توجيه الميت نحو القبلة لا يصح فيه حديث، بل كره سعيد بن المسيب توجيهه إليها، وقال: أليس الميت امرءاً مسلماً؟ أي: لماذا توجهوه؟ ما دام الميت مسلماً فيموت على أي جهة، فإنه لا يلزم أن توجهوه إلى القبلة. وكذلك أن يبادر بعضهم لقضاء دينه ولو من ماله، وأنتم تعلمون أن الميت إذا مات فعليه حقوق لله عز وجل في ماله، وعليه حقوق في ماله لعباد الله، واختلف العلماء: هل يُقضى من ماله الدين أولاً أم تجهيزه؟ فهب أن الدين أكل المال كله ولم يجهز بعد. قالوا: يجب تجهيزه على أوليائه، فإن عجز الأولياء ففي بيت المال، فهنا يجب عليهم أن يبادروا بقضاء دينه ولو أتى عليه كله، فإن لم يكن له مال فعلى الدولة أن تؤدي عنه إن كان جهد في قضائه، فإن لم تفعل الدولة وتطوع بذلك بعضهم جاز، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً.

كلام الألباني فيما ينتفع به الميت

كلام الألباني فيما ينتفع به الميت ويقول الشيخ الألباني رحمه الله في باب ما ينتفع به الميت: ينتفع الميت من عمل غيره بأمور، والأصل أن الميت لا ينتفع إلا بعمله هو: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] والاستثناء أنه ينتفع بعمل الغير، وهذا هو التخريج على هذا الأصل. أولاً: دعاء المسلم له ينتفع به، ولا تزال الأمة تدعو لبعضها البعض، إذا توفر في هذا الدعاء شروط القبول؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، فنذكر منها شيئاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين. ولك بمثل). بل إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك؛ لأنها دعاء للميت واستغفار له. ثانياً: ينتفع الميت من عمل الغير بقضاء ولي الميت صوم النذر عنه. أي: أن الدعاء يُقبل من كل أحد للميت، أما الصوم فلا يُقبل إلا من الولي، فلا أقول في شأن شخص أجنبي مات ولا تربطني به علاقة نسب: أنا سأصوم عنه أيام نذره التي نذرها! فهذا كلام مرفوض، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). والولاية: اثنتا عشرة مرتبة، كل مرتبة يمكن أن يكون فيها خمسة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرين حسب توسع هذه الأسرة. والعلماء يفرقون بين هذا والصيام: (من مات وعليه صيام). فبعضهم قال: لا يصوم عنه قط؛ لأن الصوم عبادة خاصة. والبعض قال: يصوم عنه جميع أنواع الصيام: صيام النفل، وصيام النذر، وصيام الواجب، وصيام الفرض. والرأي الراجح: أنه لا يصوم عنه إلا صيام النذر؛ لأنه هو المتعلق بالذمة، أما صيام الفرض فيدور بين أمرين: أن يتركه صاحبه معذوراً أو غير معذور، فإن تركه وهو غير معذور في تركه يأثم بذلك ويستحق العقاب، وإن تركه بعذر فالكفارة فيه إطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، والإطعام واجب على الأولياء. ثبت عن ابن عباس: أن امرأة ركبت البحر فنذرت إذا أنجاها الله تبارك وتعالى أن تصوم شهراً، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: (أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى. اقضِ عن أمكِ). وهذا يدل على أن السائلة كانت بنتاً، وبين البنت وأمها ولاية، ولكن إن لم تستطع تكفر، فإن كانت فقيرة لا تستطيع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فانظر إلى رحمة الإسلام! وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه: أنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: اقضه عنها). ثالثاً: قضاء الدين عنه من أي شخص ولياً كان أو غير ولي، وفيه أدلة كثيرة جداً. رابعاً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره، دون أن ينقص من أجرهما شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله عز وجل يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه) وهو على شرط الشيخين. فالصلاة عبادة متعلقة بالشخص؛ ولذلك أرجح الأقوال في الصيام -أي: صيام الفرض- أنه لا يؤدى عنه. أي: أن قوله: (من مات وعليه الصيام فليصم عنه وليه) هذا كلام عام، خصصه حديث سعد بن عبادة: أنه سأل عن نذر أمه التي توفيت، فالعلماء حملوا هذا على ذلك، وفرقوا بين صيام الفرض وصيام النذر. والزكاة عبادة متعلقة بالمال، وما دام المال موجوداً يؤدى، وهذا من الحقوق التي هي محل اتفاق بين أهل العلم: إذا مات الميت ولم يخرج زكاة ماله وجب إخراج زكاة المال أولاً قبل توزيع الميراث، وإخراجها عنه تنفعه؛ لأنه كان معتاداً على إخراجها، لكنه إذا تأخر عن إخراجها فأرجح الأقوال عندي: أنه يعذب بذلك، وينتفع الأبناء بهذا الواجب. الخامس: ما خلفه من بعده من آثار صالحة ينتفع بها وصدقات جارية؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: وكل شيء تركوه خلفهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء) إلى آخر الحديث. وعن أبي قتادة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يُعمل به من بعده). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النب

الأسئلة

الأسئلة

المدين يعذب حتى يؤدى عنه الدين

المدين يعذب حتى يؤدى عنه الدين Q ما الدليل على أن الميت الذي عليه دين يعذب بسبب دينه؟ A حديث أبي قتادة الذي تحمل الدين عن الأنصاري، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أقضيت عن صاحبك؟ قال: يا رسول الله! إنما مات بالأمس قال: اقض عنه، فقضى عنه إلا دينارين، فلما قضاهما قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت عليه جلده) وهذا يدل على أن العذاب لا يرفع عن المدين حتى يؤدى عنه الدين لا بمجرد الحمالة.

الفائدة من دراسة الروح ونزولها في البدن من عدمه

الفائدة من دراسة الروح ونزولها في البدن من عدمه Q ما الفائدة المترتبة من دراسة الروح ونزولها في البدن من عدمه؟ A نحن نهينا أن نخوض في كيفية الروح نفسها، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] والآية عن ذات الروح، وقلنا: إن الذي يعنينا: أين توجد الروح بعد مفارقتها البدن؟ وهذه من مسائل الاعتقاد، ولو كان الكلام في الروح وأين توجد إذا خرجت من البدن؟ لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر معلقة أو تعلق في ثمار الجنة حتى يردها الله إلى أجسادها) مجال للتكلم عنه، فالمنهي عنه: الكلام في كيفية الروح وفي أصل الروح فقط، ولذلك حينما تكلمت عن بقية المسائل المتعلقة بالروح قلت: إنما يعنينا الأول الذي ورد به النص، وبقية الفروع نتغاضى عنها؛ لأننا لسنا محاسبون عليها، كما أن المسألة التي اهتممنا بها في هذا المبحث إنما هي مسألة اعتقادية تماماً كما لو قلت: وماذا ينفعنا إذا كان القرآن كلام الله أو غير كلام الله؟ أو أحد يقول عن أي مسألة من مسائل الاعتقاد: ما قيمة الدراسة في هذه المسألة؟ ولو أنك ذهبت إلى ساحر ليخدعك فإنهم لا يتكلمون إلا في الأرواح، ولذلك إذا ذهبت إلى الساحر وليس عندك علم بهذه المحاضرة لاغتررت بكلامه فوقعت في شراكه وحباله، وهذا الكلام معلوم، وكثير من الناس يذهب إلى السحرة فيدجل عليه كلاماً يتعلق بالروح والنفس وغير ذلك فيصدقه، وهذه المسألة تكلم فيها علماء المسلمين، وفوق علماء المسلمين الصحابة والخلفاء الراشدون، وقبلهم النبي عليه الصلاة والسلام، والذي أوحى بهذا الحديث هو جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل، فلا يقال لمسألة فيها نص شرعي صحيح: ما قيمة دراستها؟ قيمة دراستها: أن تكون شخصيتك شخصية علمية اعتقادية، وهذا هو قيمتها.

سماع الموتى للأحياء

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - سماع الموتى للأحياء اختلف أهل العلم في مسألة سماع الموتى، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الموتى يسمعون، وذهبت طائفة أخرى إلى أنهم لا يسمعون، لصريح الأدلة من الكتاب والسنة، وقالوا بأن ما ورد من النصوص في سماع الموتى مخصص بمن ورد النص فيهم، في أوقات خاصة وأشخاص معينين، وحادثة معينة، وبينوا مخاطر القول بسماع الموتى على عقيدة المسلم، وأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادة غيره تعالى.

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء إن الحمد لله تعالى. نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء إلا إذا رد الله عليهم الأرواح. قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]]. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: [(وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول. قال: فذكرت ذلك لـ عائشة فقالت: وهل أبو عبد الرحمن، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال: إنهم الآن يعلمون)]. يعني: رواية ابن عمر فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنهم الآن يسمعون)، عائشة اعترضت على هذا الكلام وذكرت أنه قال: (إنهم الآن يعلمون)، لم يقل: يسمعون، أي: يعلمون أن ما كنت أقول لهم حقاً [(وإنهم لفي النار. ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80])]. قال: [عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر)] وقليب بدر: الحفرة العظيمة التي ألقي فيها صناديد الشرك بعد أن وضعت الحرب أوزارها. قال: [(وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم يسمعون ما أقول، فذكرت ذلك)]، والذاكر هو عروة، فهو الراوي عن ابن عمر ذكر ذلك لـ عائشة [فقالت: (وهل ابن عمر)] وهل بمعنى نسي وأخطأ أن يأتي بالرواية على وجهها. [(إنما قال صلى الله عليه وسلم: ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)]، وهذا الحديث أخرجه البخاري. هذه المسألة يا إخواني! من مسائل التوحيد العظيمة جداً، والبعض يذكرها في مسائل الفقه، لكن تعلقها بالاعتقاد والتوحيد أعظم بكثير جداً من تعلقها بالفقه، بل لا أرى لها وجه شبه أو تعلق بالفقه، إنما هذه المسألة من مسائل الاعتقاد، خاصة وأنها تتعلق بأمر من أمور الغيب، وأمور الغيب كلها أمور توقيفية، لا مكان للعقل ولا للاجتهاد فيها، فكونهم يسمعون أو لا يسمعون، ينعمون أو يعذبون، يردون السلام أو لا يردون السلام، يشعرون بالزائرين أو لا يشعرون بالزائرين كل هذا من مسائل الغيب، فلا يحل لأحد أن يثبت شيئاً من مسائل الغيب أو يأتيه إلا بنص؛ ولذلك العلماء -خاصة الأشاعرة- يسمون هذه المسائل مسائل السمعيات، سميت بهذا لأنها من مسائل الغيب التي لا يصح فيها الكلام بالاجتهاد؛ وإنما الكلام فيها متوقف على ثبوت السمع، ومعنى السمع: النقل كتاباً وسنة. وهم يعنون بالسمعيات الغيبيات؛ لأنها لا تثبت إلا عن طريق السمع أي: عن طريق النقل، قال الله، قال رسوله، ولا مجال لاجتهاد العقل فيها ألبتة. هذه المسألة مسألة سماع الأموات: هل الموتى يسمعون أو لا يسمعون؟ محل نزاع قديم جداً بين العلماء، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية أن الموتى لا يسمعون، وذهب بعض أهل العلم إلى أنهم يسمعون ونافحوا عن رأيهم وأتوا بأدلة عظيمة جداً وكثيرة، ومعظمها لا يثبت من جهة النقل، والثابت منها فهموه على غير مراده.

أدلة القائلين بعدم سماع الموتى

أدلة القائلين بعدم سماع الموتى أدلة القائلين بعدم السماع وهم جمهور أهل السنة: قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وهذا القول موجه لنبينا عليه الصلاة والسلام، ومن باب أولى لعامة الأمة إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يسمع من في القبور، وقال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، فهاتان آيتان من كتاب الله عز وجل، وهناك تأويل لهاتين الآيتين بأنهما تعنيان بالكافرين وهم أحياء وتشبيههم بالموتى؛ لأن الحياة الحقيقية إنما هي حياة القلب وحياة الإيمان، لكن لا بأس بجريان هذا على الموتى من باب أولى. والدليل الثاني: قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، وهذا هو الدليل الثاني. أما من السنة: فحديث قليب بدر الذي نحن بصدده، وله روايات منها حديث ابن عمر الذي ذكرناه وأخرجه البخاري ومسلم، والطريق الثاني: حديث أبي طلحة: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي) وهو القليب، يعني: أمر بأربعة وعشرين رجلاً فألقوا كما تلقى الزبالات على المزابل. قال: (فقذفوا في طوي من أطواء بدر) أي: في قليب من أحفارها (خبيث مخبث)، يعني: منتن جداً، وهذا الذي يليق بأمثال هؤلاء. قال: (وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث بعد أن وضعت الحرب أوزارها أمر النبي عليه الصلاة والسلام براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى النبي عليه الصلاة والسلام واتبعه أصحابه)، ومن أصحابه الذين اتبعوه: عبد الله بن عمر الذي روى هذا الحديث، إذ إن البعض يقول: هذا الحديث مطعون فيه؛ لأن عبد الله بن عمر لم يشهد غزوة بدر، فالنبي عليه الصلاة والسلام أرجعه من غزوة بدر. نقول: نعم. هذه حقيقة، ولكن عبد الله بن عمر شهد الواقعة في ثالث أيام بدر، وذلك لما وضعت الحرب أوزارها رجع المشركون إلى بلادهم إلى مكة، ورجع النبي بأصحابه بعد أن وضعت الحرب أوزارها إلى المدينة، وكان منهم ابن عمر، فهذا لا علاقة له بالحرب، وإنما هذا كان بعد الحرب بثلاثة أيام. قال: (واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم -يعني: يقول:- يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! ثم يقول: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟)، يعني: أما ندمتم وتحسرتم على هذه المعاصي وعلى عنادكم وكفركم، وأنكم متم وقتلتم على الكفر والإلحاد. قال: (فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاًّ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاًّ؟) الله تعالى وعد الطائعين الجنة ووعد العصاة النار، (فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال -أي: وائل بن عبد الله - يا رسول الله! ما تكلم من أجساداً لا أرواح فيها؟) يعني: ما قيمة هذا الكلام وما قيمة هذا النداء، وأنت يا رسول الله! تعلم أنهم أموات لا يسمعون؟ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، يعني: هم يسمعونني كما تسمعونني أنتم الآن وزيادة، وانظروا إلى لفظة (الآن) التي وردت في حديث عبد الله بن عمر: (وقف النبي عليه الصلاة والسلام على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول) ولفظة (الآن) لها اهتمام عظيم جداً في هذه الرواية. قال: (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم). قال قتادة وهو ابن دعامة السدوسي من كبار التابعين: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً. انظروا إلى فهم هذا الراوي قتادة، يقول: (أحياهم الله) أي: في لحظة نداء النبي عليه الصلاة والسلام لهم الله تعالى أحياهم حياة برزخية؛ ليسمعوا تقريع وتصغير النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛ لما فاتهم من الإيمان به. ووجه الاستدلال بحديث أبي طلحة وحديث عبد الله بن عمر ما في الرواية الأولى منه من تقييده صلى الله عليه وسلم سماع موتى القليب بقوله: (إنهم الآن يسمعونني)، وهذا يدل على تخصيص السماع بوقت النداء، وأن الأصل أنهم لا يسمعون، ولكنهم يسمعون الآن؛ مع

أدلة القائلين بأن الموتى يسمعون

أدلة القائلين بأن الموتى يسمعون من أدلة القائلين بالسماع: حديث القليب -نفس الحديث الذي معنا- لكن جمهور أهل السنة فهموا منه كما فهم عمر وغيره أن هذا ربما يكون وهماً للنبي عليه الصلاة والسلام، حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا خصوصية، وأن هذا الكلام يخصص الآية في حق أصحاب القليب، وبين لهم أن هذه حادثة عين لا يجوز القياس عليها. أما القائلون بسماع الموتى وأنهم يسمعون مطلقاً دون تقييد بوقت معين أو بأشخاص معينين فقالوا: حديث القليب يدل على سماع الموتى في القبر. وقد عرفنا فيما سبق أنه خاص بأهل القليب من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقاً للعادة، ولا داعي للإعادة. هذا هو الدليل الأول. الدليل الثاني: حديث: (إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا) وفي رواية: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: من ربك) إلى آخر الحديث. الشاهد: أن الميت يسمع قرع نعال من شيعه، وهذا الحديث -كما طرأ- خاص بوقت وضع الميت في القبر، ومجيء الملكين إليه بسؤاله، فلا عموم فيه، كذلك هذا الحديث حادثة عين لا يقاس عليه، وعلى ذلك حمله العلماء ك ابن الهمام وغيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى. وخلاصة البحث كما قال شيخنا الشيخ الألباني رحمه الله، يقول: إن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الحنفية وغيرهم على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلاً فيقال: إن الموتى يسمعون كما قال بعضهم. واستدلوا بقضايا جزئية لا تشكل قاعدة سنية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه. يعني: هذه الأحوال التي وردت أن الموتى فيها يسمعون إنما هي بمثابة استثناء من الأصل، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه. ولذلك قال العلامة الألوسي في روح المعاني بعد بحث مستفيض في هذه المسألة: والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه. انظر الكلام الجميل! والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، يعني: الأصل العام أن الموتى لا يسمعون، فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه، ما ورد السمع -أي: القرآن والسنة- بسماعه على أهل القليب، وأن الميت إذا وضع في قبره سمع خفق نعال من شيعوه. هذه حوادث عين لا يقاس عليها.

مسألة في سماع الموتى للسلام

مسألة في سماع الموتى للسلام مسألة: السلام على الموتى: هل يسمعونه أو لا يسمعونه؟ الراجح: أنهم لا يسمعونه، والدليل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف النبي عليه الصلاة والسلام، والمعلوم أن المصلي يقول في تشهده أو في صلاته: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وكانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله، كان يقول هذا القريب منه عليه الصلاة والسلام والبعيد عنه عليه الصلاة والسلام، فهل كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمع كلام من يسلم عليه ويصلي عليه في صلاته وهو خلفه أو وهو بعيد عنه، هل كان يسمعه؟ إنما هذا عبادة مجردة. النبي عليه الصلاة والسلام كان يزور المقابر فيسلم عليهم ويأمر بذلك، لكن لم يثبت لنا في الشرع أن الموتى إذا سلمنا عليهم سمعوا كلامنا وردوا عليهم، ولو كان الرد واجباً عليهم لكان من رحمة الله عز وجل أن نسمع ردودهم على سلامنا، فلما لم نكن نسمع دل هذا كذلك على أنهم لا يسمعون كلامنا، ولو سمعوا ما استجابوا لنا؛ لأن ذلك في غير مقدورهم وغير ذلك من الأدلة. وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت في الحج) ركز على كلمة (يزور)، وأنه كان -وهو في المدينة- يزور قباء راكباً وماشياً، ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته، فهذه زيارة كذلك، وهذه حجة عقلية للرد على من يزعم أن زائر القبور إذا سلم عليهم سمعوا سلامه وردوه، وليس بذلك، بل لا يسمعه ولا يدركه ولا يستمع له؛ لأنه في عالم الموتى. ولذلك الحجة العقلية: أن اللازم من الزيارة: السلام، لكن لا يلزم من إلقاء السلام سماعه والرد عليه؛ بدليل أن زيارة البيت تسمى زيارة، وزيارة قباء تسمى زيارة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من زار مسجد قباء وصلى فيه ركعتين كان كمن اعتمر). يعني: صلاة ركعتين في مسجد قباء كعمرة، وهذا ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهل من زار مسجد قباء وصلى ركعتين فيه يشعر به المسجد؟ وكذلك زيارة البقيع، فهل يشعر أهل البقيع بزائريهم؟ A أنهم لا يشعرون ولا يسمعون السلام فضلاً عن أن يردوا عليه.

مسألة في سماع الميت للأحياء عند الدفن

مسألة في سماع الميت للأحياء عند الدفن مسألة: هل يسمع الميت عند دفنه؟ لا. والثابت عند الدفن أننا إذا أدخلناه القبر قلنا: (بسم الله وعلى ملة رسول الله) هذا هو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن تأمره بالتوحيد فهذا عند الاحتضار، وهذا ما يسمى بالتلقين، أما التلقين الذي بعد الموت فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة آراء: منهم من قال به مطلقاً، ومنهم من منعه مطلقاً، والثالث: قالوا: يلقن حين النزول لا بعد النزول، والراجح: عدم تلقين الشهادتين وغير ذلك، والصواب في هذه القضية: أن التلقين حين نزول الميت القبر لا يكون إلا بقولك: (بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم). أما الدعاء له بالتثبيت فهو الدعاء الذي ينفعه، لكن ليس فيه أنه يسمعه، إنما الذي فيه أنه يستفيد من ذلك، وبعض أهل العلم افترى على الإمام أبي حنيفة وأصحاب المذهب أنهم قالوا بسماع الأموات مطلقاً، فالإمام الألوسي صنف كتاباً عظيماً جداً في الرد على من قال ذلك وسماه: الآيات البينات في إثبات عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، وحققه شيخنا العلامة الألباني رحمه الله. فقال بعد أن ذكر كلام الأحناف بعدم سماع الأموات قال: وممن قال بقولهم -أي: بقول الحنفية- أصحاب المذاهب الأخرى. وقال الإمام النووي -وهو شافعي- في شرح مسلم في باب عرض مقعد الميت من الجنة في الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام في قتلى بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال المازري: قال بعض الناس: الميت يسمع؛ عملاً بظاهر هذا الحديث. هكذا قال المازري. ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء. يعني: المازري أول من خالف فقال بأن الموتى يسمعون، ثم أنكرها وأثبت أن هذا خاص بأهل القليب خاصة، وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين. أما إنكار عائشة رضي الله عنها سماع الموتى وقالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسمعون، إنما قال: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق، ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، وقرأت: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]). قال الحافظ ابن رجب: وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء، ورجح القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير، واحتج بما احتجت به، وأجابوا عن حديث قليب بدر يما أجابت فيه عائشة رضي الله تعالى عنها، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهو سماع الموتى لكلامه. وفي صحيح البخاري قال قتادة: أحياهم الله تعالى -يعني: أهل القليب- حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً.

الرد على من قال بسماع الموتى للأحياء

الرد على من قال بسماع الموتى للأحياء ذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة، فبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله عنها على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر علماء الحنبلية، كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله. وفي كتاب روح المعاني احتج من أجاز السماع بالجملة بما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال: أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى، فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة)، هذا يدل في ظاهره أن الموتى يسمعون إلى يوم القيامة، ولكن هذا الحديث حديث باطل منكر. كما في الحديث الآخر: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه) هذا الحديث يحفظه عامة الناس، وهو حديث أشد نكارة من الذي قبله. وقال البخاري في بابه: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، وهلاكهم يوم بدر، ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله) فقالت: (ذهل ابن عمر، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن). قال: وذلك مثل قولها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فما قال لهم: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون) ولم يقل: يسمعون. قال الحافظ ابن حجر في شرحه: قال السهيلي: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول الصحابة له: (أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟) يعني: صاروا جيفاً فأجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذانهم في رءوسهم على القول الأكثر، أو بآذان قلوبهم. قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن، ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط؛ لأن الأسماع يحتمل أن يكون بأذن الرأس، ويحتمل أن يكون بأذن الرأس وبأذن القلب، فلم يبق فيه حجة. وإذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي عليه الصلاة والسلام لم يحسن التمسك به في مسألة سؤاله أصلاً.

أوجه خطورة القول بأن الموتى يسمعون

أوجه خطورة القول بأن الموتى يسمعون

الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون يؤدي إلى الشرك

الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون يؤدي إلى الشرك الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون كلام في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي إلى الشرك، وهو ذريعة إلى الشرك، فهذه مسألة متعلقة كما قلنا بتوحيد الله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده، ودعائه سبحانه وتعالى دون سواه، ومن المعلوم أن اعتقاد سماع الموتى هو الدافع والسبب الأقوى في وقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأصغر وهو دعاء الأولياء والصالحين، وعبادتهم من دون الله عز وجل، واعتقاد أنهم يسمعون فيستجيبون لهم، بل ويدفعون عنهم الضر ويجلبون لهم النفع. وهناك الآن من ينادي الحسين أو البدوي أو غير ولي من هؤلاء الأولياء، ولولا أن الداعي لهذا الوثن يعتقد أن المقبور يسمعه ويستجيب له ما دعاه، ويقع في الفلاحين الطوام من هذه الأحوال، وإذا خرج صاحب الاعتقاد السليم ينكر على أهل القرية كل منهم تنصل وتبرأ منه، حتى الوالد يتبرأ من ولده مخافة أن يؤذيه ذلك الميت، ولا يكون ذلك المعتقد إلا لإثبات أنه يعتقد أنه يسمع، وأنه بيده الضر والنفع، ويشاركهم في ذلك كثير ممن ينتسبون إلى العلم قولاً وعملاً، فالطرابيش الحمراء معظمها أصحاب منفعة، فهم صناديق النذور، فلو أن أصحاب الطرابيش تركوا تقديم البراهين وقرابين الطاعة لأهل القبور واعترفوا اعترافاً جازماً بأن هؤلاء لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون وغير ذلك فإنه لا حظ لهم في صندوق النذر. وهكذا كل إنسان على قدر منزلته، وعلى قدر مكانه، وإن شئت فقل: على ضعف الإيمان في القلب، مع أن الله تعالى جعل على لسان كل نبي ورسول أرسله: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فإذا تبين أن الموتى لا يسمعون لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله عز وجل، إذ لا يدعى ولا يستغاث بغير الحي سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الذي بيده النفع والضر. قال بعض القائلين: نظرة من الشيخ تقلب الشقي سعيداً، فيصرخ: نظرة يا بدوي! نظرة يا حسين! نقول: النظرة هذه ماذا ستجلب؟ يقول: هذه النظرة تجعل الشقي سعيداً، تجعل من إذا كان قد كتب من أهل الشقاء وأهل النار من أهل السعادة ومن أهل الجنة، ومعلوم أن هذا الشيء لا يجوز إلا لله عز وجل، وهل هناك أحد يملك الشقاء والسعادة إلا الله عز وجل، فالذي يملك ذلك هو الله، وصرف ذلك إلى غير الله شرك أكبر، وإنهم ليعتقدون أن الكون إنما يتصرف فيه المشائخ والأقطاب والأوتاد والمدرسون وغيرهم، والله تعالى يقول لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] ومعنى (إلا) هنا: لكن. أي: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً لكن الله يملك ذلك، فمعنى الآية: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً لكن ما شاء الله أن ينفعني نفعني وما شاء أن يضرني ضرني، فـ (إلا) هنا بمعنى: لكن. وهناك كتاب باطل جداً، كله خرافات وخزعبلات اسمه: (شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق) لـ يوسف النبهاني، ويوسف النبهاني رجل قديم ومعروف بسلوكه وتصوفه وغير ذلك، وفي هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله تعالى، وكذلك من صار يطلب من الرسول ما لا يقدر على تحصيله إلا الله، فإن هذا مقام رب العالمين، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم وهو الذي يميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه بنفسه؟ يعني: كيف أطلب أنا من ميت لا يملك -وهو حي- النفع والضر بنفسه، فضلاً أن أطلبه أنا منه وهو ميت؟ هذا أمر محال! كيف يفعل ذلك ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شيء، الخالق الرزاق، المعطي المانع؟ وحسبك ما في الآية من موعظة، فإن سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [يونس:49] فكيف يملكه لغيره؟ أو كيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلته لا تبلغ منزلته فضلاً أن يملكه غيره؟ فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ولمعنى: قل هو الله أحد؟ وأعجب من هذا: اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء دون النكير عليهم، بل وأعجب من ذلك وأشد إعجاباً: أن يشارك أهل العلم في هذا البلاء وهذا الشرك، وأنهم يدعون إلى ذلك، وهؤلاء الذين وقعوا في هذا الشرك الأكبر البين إنما تضم صحائفهم إلى صحائف سيئات هؤلاء أصحاب العمائم الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فإنا لله وإنا إليه راجعون. يقول الله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِ

الوجه الثاني: أن ذلك يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في العبادة

الوجه الثاني: أن ذلك يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في العبادة الوجه الثاني: أن اعتقاد أن الموتى يسمعون يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في دعائه وعبادته وحده، وفي ذلك آيات كثيرة صريحة في النهي عن دعاء غير الله تعالى من الأولياء والصالحين، ومنها قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]. قال ابن تيمية عليه رحمة الله: ومثل هذا في القرآن كثير، ينهى أن يدعى غير الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة، فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك. وابن تيمية يقصد أن هناك فارقاً كبيراً جداً، فمن الناس من يطلب الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام، أو يطلب الشفاعة أو الوساطة في قضاء مصلحة ما من النبي عليه الصلاة والسلام، كمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! استغفر لي)، فهذا ليس شركاً، لكن لو أن واحداً أتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! استغفر لي فإن هذا شرك. إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يشفع للأمة، والأنبياء يشفعون، والصالحون يشفعون، والملائكة يشفعون بغير أن يطلب أحد منهم الشفاعة، فهل هذه الشفاعة شرك؟ A لا؛ لأنهم إما أن يشفعوا في حياتهم الدنيا، أو يشفعوا في حياتهم الأخروية، المهم أنهم يشفعون في حال الحياة. فلا شك أن هناك فارقاً كبيراً جداً بين من يدعو الميت ويطلب منه جلب النفع ودفع الضر وبين من يطلب شفاعة الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين. ثم هو يحتج كذلك بأن الصحابة إنما كانوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، ولم يثبت أن واحداً من أصحابه سأله بعد موته، فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: ادع لي، لم يفض ذلك إلى الشرك، بخلاف من دعاه في مغيبه فإن ذلك يفضي إلى الشرك؛ فالغائب والميت لا ينهيان من يشرك، فإذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك، فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون، ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين. ومعلوم أن الملائكة تدعو للمسلمين وتستغفر لهم، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] فالذين آمنوا لم يطلبوا من الملائكة أن يستغفروا لهم، وإنما استغفروا لهم ابتداءً: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]. فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد. وكذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام -أو غيره من الأنبياء والصالحين- يدعو ويشفع للأخيار من أمته، وهذا من جنس العمل، فهم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد من الناس. وقال ابن تيمية: وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يُفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون هو بالأمر الكوني لا بالأمر الشرعي، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وأما بعد الموت فقد انقطع التكليف عنهم. فالخلاصة: أن طلب الدعاء والشفاعة ونحو ذلك من الأنبياء والصالحين بعد موتهم لا يجوز؛ لأنه شرك أو ذريعة إلى الشرك. وهذا هو الوجه الثاني.

الوجه الثالث: أن ذلك يقتضي الاعتقاد بأن الموتى قادرون على إجابة مسائلهم وقضاء حوائجهم

الوجه الثالث: أن ذلك يقتضي الاعتقاد بأن الموتى قادرون على إجابة مسائلهم وقضاء حوائجهم الوجه الثالث في خطورة اعتقاد أن الموتى يسمعون: اعتقاد أن الأنبياء والصالحين قادرون على إجابتهم وإلا كان دعاؤهم ومناداتهم بذلك سخفاً جلياً، وضلالاً بيناً، وهذا مما يترفع عنه العاقل، بل المؤمن؛ لأنه باطل بداءة وفطرة؛ ولذلك احتج الله على المشركين في مواطن كثيرة من القرآن، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} [الأعراف:194]، فهذا ليس فعل أمر يدل على الوجوب، بل توبيخ وتقريع. قال: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:194 - 195] إنكار؛ ولذلك كانت حجة إبراهيم على أبيه وقومه كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]. فإن قيل إن أبا إبراهيم كان يعبد صنماً وهذه الآية في الأصنام لا في الأموات. نقول: لا فارق بين الميت والصنم بجامع أن كلاً منهما لا يسمع، وأنه لا يجوز دعاء أحد إلا من يسمع. وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، وقول إبراهيم: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73]، هذا يدل على أن هذه مؤهلات من يجوز دعاؤه. يعني: لا بد أنه يسمع ويبصر ويرى ويملك النفع والضر وغير ذلك، أما كون هؤلاء الموتى أو هؤلاء الأصنام لا يملكون شيئاً من ذلك فهذا يدل على تحريم دعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم وغير ذلك من سائر العبادات. إذا عرفت هذا فتنبه أيها المسلم المبتلى بدعاء الأولياء والصالحين من دون الله تعالى، هل أنت تعتقد أنهم حين تناديهم لا يسمعونك؟ إذاً: فأنت مع مخالفتك للعقل والفطرة مثل أولئك المشركين من قوم إبراهيم وغيرهم ولا فرق، فلا ينفعك والحالة هذه ما تدعيه من إسلام أو إيمان؛ لأنك حينئذ مشرك؛ لأنك قد صرفت ما يجب لله إلى غير الله؛ ولأن الله تعالى يقول في القرآن: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. وإن كنت تزعم أنهم يسمعونك ولذلك تناديهم وتستغيث بهم وتطلب منهم فهي ضلالة أخرى فقت بها المشركين، وإني لأعيذك بالله أن تكون منهم في شيء. فاعلم أخي المسلم! أن كل ما أعطاه الله تعالى للبشر وفيهم الأنبياء والأولياء من قدرات وصفات يذهب بالموت، كالسمع والبصر والبطش والمشي ونحو ذلك، فما يبقى منها شيء كما هو مشاهد، اللهم إلا الروح باتفاق المسلمين. فالذي أريد أن أجمله في هذه اللحظات أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل أنهم يسمعون في لحظات وأوقات معينة وأشخاص معينين، أما الأشخاص فهم أهل القليب من باب إثبات المعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، والتقريع والتصغير لهؤلاء على جهة الخصوص، وفي هذا التوقيت بالذات. أما ما دون هؤلاء فإنهم يسمعون خفق النعال فقط، ولا بد أن تعتقد أن الميت إنما ينتفع بعمل الحي من الدعاء له والاستغفار والسلام والصدقة والحج والصيام عنه وغير ذلك، ينتفعون بذلك انتفاعاً لا يستلزم سماعهم له، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك ينتفع بسلام الناس عليه وصلاتهم عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يسمعهم، أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام) فهذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من لم يصل الظهر ودخل المسجد والإمام يصلي بالناس العصر

حكم من لم يصل الظهر ودخل المسجد والإمام يصلي بالناس العصر Q أنا لم أصل الظهر، ودخلت المسجد والإمام يصلي بالناس صلاة العصر، فماذا علي؟ A هذه المسألة تنازع فيها أهل العلم نزاعاً كبيراً، فمنهم من قال: تخالف الإمام في النية فتصلي الظهر خلف الإمام الذي يصلي العصر، ثم تصلي العصر وحدك. ومنهم من قال: بل تصلي مع الإمام وتوافقه في النية -تصلي العصر معهم- ثم ترجع فتصلي الظهر، ثم ترجع فتصلي العصر حفاظاً على الترتيب. والمذهب الثالث: أن الترتيب ليس بلازم، أي: تصلي معه العصر، ثم تصلي الظهر ولا إعادة عليك، هذا هو المذهب الثالث في القضية. والذي يترجح لدي أنه إذا اتفقت عدد الركعات جاز مخالفة الإمام بالنية، يعني: لو أنك صليت معه الظهر وهو يصلي العصر فلا بأس أن تفارقه في النية، فتنوي الظهر ثم تنوي بعد ذلك العصر في صلاتك وحدك. أما إذا اختلفت عدد الركعات كمن فاته المغرب ودخل والإمام يصلي العشاء، فالذي يترجح لدي موافقة الإمام في النية وصلاة العشاء معه، ثم يصلي المغرب بدون إعادة العشاء؛ لأن الفرض لا يصلى في يوم مرتين، والله أعلم.

حكم دفن أكثر من ميت في قبر واحد

حكم دفن أكثر من ميت في قبر واحد Q هل يجوز دفن أكثر من ميت في قبر واحد؟ A نعم. كما هو واقع في قتلى أحد، فالنبي عليه الصلاة والسلام دفن الجماعة في قبر واحد، ومسألة أن كل ميت له قبر مسألة مستقرة، لكن إذا تعذر الأمر وكثر الموتى وقلت القبور جاز للضرورة دفن أكثر من واحد في قبر واحد، ويقدم أكثرهم قرآناً أو علماً بالسنة. والإمام الشافعي عليه رحمة الله قال: وإن ضاقت المسألة ولا بد من دفن الرجل مع المرأة أو المرأة مع الرجل فلا بأس بذلك للضرورة على أن يكون بينهما ساتر، ساتر من رمال أو تراب أو غير ذلك، مع أنه لا يخاف الفتنة والحالة هذه، لكن هذا والله يا إخواني! من تمام رحمة الإسلام بالمرأة، فقد اهتم الإسلام بصيانة المرأة وعفتها حتى في نعشها وفي قبرها، فالمرأة في النعش تستر خلافاً للرجل.

حكم من ترك صلوات وأراد قضاءها وتعويضها

حكم من ترك صلوات وأراد قضاءها وتعويضها Q إذا أراد أحد قضاء ما ترك من صلوات كأن يصلي الظهر مثلاً مرتين أو ثلاثاً هل هذا يصح؟ A هذا مذهب الجمهور، لكن ليس عليه دليل، والذي يترجح لدي أن تارك الصلاة بالكلية كافر خارج عن الملة، وإنما يكفيه إذا صلى أن يتوب إلى الله عز وجل مما بدر منه ومما كان منه من أمر الكفر أو الشرك، ويكثر من النوافل والصدقات وغير ذلك.

حكم العمل في كوافير النساء وكوافير الرجال، وحكم الاختلاط في الوظائف

حكم العمل في كوافير النساء وكوافير الرجال، وحكم الاختلاط في الوظائف Q هناك أشرطة للشيخ وجدي غنيم حرم فيه عمل الكوافير للحريم؛ لأنه يساعد على خروج النساء متبرجات، فما حكم الإسلام في كوافير الرجال الذي يحلق الذقن، وحكم الاختلاط في الوظائف؟ A كوافير الحريم الذي يستقر عندي أنه حرام إلا أن تفعل المرأة ذلك تزيناً لزوجها، أو يكون ذلك في بيتها أو في بيت آمن، فلا بأس أن تأتي امرأتك عند امرأتي أو امرأتي عند امرأتك في غيبة الرجال عن البيت، وتساعد كل أخت أختها في حسن زينتها، أو أن هذه المرأة التي تسأل إذا كانت تعمل في الكوافير فلا بأس أن تتفق مع مجموعة من الأخوات على أن تذهب إلى بيوتهن لأجل التزين وغير ذلك مما تصنعه النساء لأزواجهن في البيوت. أما حلق اللحية للرجال فهو حرام بالإجماع، كذلك حكم الاختلاط في الوظائف حرام بالإجماع، إلا إذا اضطرت امرأة إلى العمل، والضرورة تقدر بقدرها، ولا تعرف حالة الاضطرار إلا من قبل الشرع، فإذا اضطرت امرأة لظروف ما أن تعمل فعملها حلال بشرط أن يكون قصد العمل حلالاً لا حراماً، وأن تخرج ملتزمة الصيانة والأدب، وألا تخالط الرجال إلا على قدر المصلحة، بغير هذا فالعمل حرام، والله تعالى أعلم.

حكم قول العامي لأحد من المشايخ يا مولانا!

حكم قول العامي لأحد من المشايخ يا مولانا! Q ما رأيكم في قول أحد العوام لأحد المشايخ: يا مولانا؟! A الله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، فلا بأس بذلك، يا مولانا! وشيخنا! وسيدنا! لا بأس بذلك.

حكم اللحوم المستوردة

حكم اللحوم المستوردة Q هل أكل سندوتشات الكبدة المستوردة وبيعها وشراؤها حرام، وما حكم العمل في اللحوم المستوردة عموماً؟ A نعم. الذي لا أتوقف فيه حرمة اللحوم المستوردة، سواء الأكل منها أو الاتجار فيها أو العمل، فكل هذا حرام، وهؤلاء القوم وإن كانوا أهل كتاب إلا أنهم لا يذبحون، ولا يحل أكلهم وهم أهل كتاب إلا إذا ذبحوا، وفي الغالب أنهم يصعقون ويقتلون ويميتون، فاللحوم المستوردة قامت وحامت حولها شبهات عظيمة جداً، أما اللحوم البلدية التي تذبح في بلادنا فأنا لا أحرمها على الناس وإن كنت أتحرى ذلك في نفسي وأهل بيتي، فاللحوم التي تذبح في بلاد المسلمين الأصل فيها الحل، لكن يعكر على هذا الحل ويجعل الأمر محل اشتباه عظيم أن معظم من يقومون بالذبح في المجازر يتركون الصلاة ويسبون الدين، بل يسبون الله سبحانه، وهذه كلها أعمال ردة وكفر وخروج عن ملة الإسلام؛ ولذلك لما عكر على الأصل فعل القائمين على الأمر احتطت لنفسي، لكني لا أحرم ذلك على الناس.

وجوب غض البصر عن المرأة في مكان العمل

وجوب غض البصر عن المرأة في مكان العمل Q يقول: هل يجوز غض البصر عن الحريم حتى ولو كانت في العمل؟ A لا. هذا يجب، والله تعالى يقول: {وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30].

اهتمام الإسلام بحسن الجوار

اهتمام الإسلام بحسن الجوار Q جيراني يؤذونني بالأفعال السيئة والألفاظ القبيحة، ويسكبون على شقتي الماء، وأفتح الشقة فأجدها مليئة بالماء، وتقول صاحبة البيت: اخرج من المنزل إن كنت لا تحبه! فما حكم هذا، وكيف أتصرف معهم؟ أرجو الإفادة. A حسن الجوار شعبة من شعب الإيمان، ومن لم يقم بهذه الشعبة نقص إيمانه على قدر نقصان هذه الشعبة، وجبريل عليه الصلاة والسلام وصى بالجار حتى ظن النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيجعل الجار وارثاً لجاره من كثرة ما أوصى جبريل عليه الصلاة والسلام نبينا صلى الله عليه وسلم بحسن الجوار. وحسن الجوار قد وردت فيه آيات وأحاديث لا حصر لها، وسلفنا رضي الله عنهم كان من أحوالهم أنهم يتحملون أذى الجار مخافة أن يردوا عليهم الأذى بأذى، فكانوا يحتملون أذى الجار في سبيل الله عز وجل، فهذا يخسر إيمانه بسبب إساءته للجار وذاك يزداد إيمانه بسبب احتماله لهذا الجار. وفي الحقيقة سوء الجوار هذا سمة عامة على المجتمع، فلا تكاد تدخل في مكان إلا وتفكر في الرحيل عنه إلى مكان آخر، وذلك بسبب الكلمات القبيحة جداً التي لا يمكن أن تصلح لتربية الأبناء، وبسبب الأفعال والاتهامات، والنبي عليه الصلاة والسلام أقام الحد على امرأة مخزومية؛ لأنها سرقت، لكن ورد عند مسلم أنها كانت تستعير العارية وتجحده وكانت جارة، ووقع الخلاف عند أهل العلم: هل جاحد العارية سارق تقطع يده لجحد العارية أم ليست سرقة؟ والراجح: أن جحد العارية ليس بسرقة؛ لأن السرقة لها شروط، منها أن يسرق من حرز مغلق، وجحد العارية ليس حرزاً، لكن الرواية ذكرت أن هذه المرأة كانت تجحد العارية من باب ذكر صفتها، وقد كان بنو مخزوم يستحيون من هذه المرأة؛ لأنها قد جلبت لهم العار وهم من أشراف القوم. وأتى رجل النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أخرج متاعك على الطريق، فأخرج الرجل متاعه على الطريق ومكث بجواره، وكلما مر عليه أحد قال: ما شأنك؟ قال: يؤذيني جاري ويأمرني النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج متاعي، فكان كلما مر عليه أحد وسمع بهذا قال: لعنة الله على جار السوء).

وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث الإيمان بيوم القيامة واجب، لا يتم إيمان المؤمن إلا به، فإن الله سبحانه قدر المعاد ليحاسب كل إنسان على ما عمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإثبات أوصاف يوم القيامة، وما فيه من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وجنة ونار.

باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت والميزان والحساب والصراط

باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت والميزان والحساب والصراط إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، والميزان، والحساب والصراط يوم القيامة]. ذكر الإمام اللالكائي في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أحد طرقه، قال: [(بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، إذ جاء رجل ليس عليه عناء سفر -يعني: لا يبدو عليه مشقة السفر- وليس من أهل البلد -أي: ليس من أهل المدينة- يتخطى حتى برك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدنا للصلاة -أي: على هيئة التشهد- ووضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. وهذا فيه بيان لما أبهم في الرواية الأخرى، قال: (حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه) فقوله: إلى ركبتيه الضمير يعود على من؟ اختلف بعض أهل العلم فقالوا: إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام. والبعض يقول: بل وضع يديه على ركبتي نفسه. وقالوا: لأن وضع التلميذ يده على ركبتي أستاذه يتنافى مع الأدب. لكن في حقيقة الأمر يعلم أنه جبريل، ويعلم أنه ليس تلميذاً لمحمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك ليس من حرج أن يضع جبريل عليه السلام يده على ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: [(ثم وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان -هذا هو الإسلام- قال: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار، والميزان، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم. قال: صدقت)]. الشاهد من هذا الحديث كله: قوله: (ما الإيمان يا محمد؟! قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالبعث بعد الموت، وأن تؤمن بالجنة والنار) وغير ذلك مما ذكر، فهذا جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت، والميزان والحساب والصراط.

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور والحشر والنشر

سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور والحشر والنشر قال: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور، والحشر، والنشر]. عن أبي هريرة وأبي سعيد: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور)] وفي رواية: (كيف أنتم؟) أي: ما حالكم لو أن صاحب الصور -وهو إسرافيل عليه السلام- قد التقم الصور بفيه، أي: قد وضع فمه على البوق لينفخ فيه. قال: [(وأصغى سمعه، وأحنى جبهته ينتظر متى يؤمر أن ينفخ)] أي: ينتظر الأمر الموجه إليه. (وأحنى جبهته). أي: لينظر إلى جهة العلو متى يؤمر أن ينفخ، ينتظر الأمر الموجه إليه، فإذا كان هذا قد أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً وزيادة فهذا يدل على تمام قرب الساعة. قال: [(قالوا: يا رسول الله! كيف نقول -أي: والحالة هذه؟ - قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)]. [عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الصور؟ -أي: ما كنه الصور وما حقيقته؟ - قال: قرن ينفخ فيه)]. والقرن كالبوق ينفخ فيه، لكنه بوق عظيم لا مثيل له في حياة الناس. وقد جاء من حديث ابن عباس: (ما طرف صاحب الصور مذ وكل، مستعداً ينظر حول العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان)]. أي: ما غمضت عين إسرافيل وهو صاحب الصور منذ أن أوكله الله عز وجل بالنفخ في الصور، مستعداً لهذه المهمة التي أوكل بها. قال: (ينظر حول العرش) وبين النبي عليه الصلاة والسلام علة أنه أحنى جبهته تحت العرش ونظر إلى جهته. قال: (مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه) يعني: هو لم يطرف مخافة أن يصدر إليه الأمر في وقت طرفة عينه، يقول: (كأن عينيه كوكبان دريان). [عن عبد الله بن عمرو قال: إن الملكين النافخين في السماء الدنيا مستعدان ينظران متى يؤمران ينفخان في الصور. قال: ورأس أحدهما بالمشرق ورجلاه في المغرب، ورأس الآخر بالمغرب ورجلاه بالمشرق]. وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص، وأغلب الظن أنه أخذه من كتب الإسرائيليات، فهذا النص في غاية النكارة خاصة وأن النصوص أثبتت أن النافخ في الصور واحد لا اثنان. [عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]]، وهذه نفخة الصعق. وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في عدد النفخ، والصواب الذي عليه جماهير أهل السنة: أن النفخ ثلاث نفخات: النفخة الأولى: تسمى نفخة الفزع. والنفخة الثانية: تسمى نفخة الصعق. والثالثة: تسمى نفخة البعث. لما سئل ابن عباس في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] قال: [نفخ فيه أول مرة فصاروا عظاماً ورفاتاً، ثم نفخ فيه الثانية فإذا هم قيام ينظرون]. وفي حقيقة الأمر: أن هذه هي النفخة الثانية والثالثة، وليست الأولى والثانية، وابن عباس لم يتكلم عن نفخة الفزع. وعن أبي هريرة مرفوعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة! أربعون سنة؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت)] يعني: أبيت أن أجزم بشيء من ذلك، وليس عندي فيه نص، وهذا من أمور الغيب، هذا فيما يتعلق بـ أبي هريرة، وقد ورد في غير الصحيح بإسناد صحيح من غير طريق أبي هريرة أن هذه الأربعين إنما هي أربعون سنة، فما بين النفختين -نفخة الصعق ونفخة البعث- أربعون سنة. قال: [(ثم ينزل الله تبارك وتعالى ماءً)]، أي: في خلال هذه الأربعون سنة، أو في نهاية هذه الأربعين. قال: [(فينبتون كما ينبت البقل)] يعني: ينبت الخلق من هذا الماء كما ينبت البقل، منه ما هو أحمر، ومنه ما هو أبيض، ومنه ما هو أصفر. قال: [(وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظماً واحداً -كل شيء في الإنسان يبلى إلا عظمة واحدة وهي عجب الذنب- ومنه يركب الخلق يوم القيامة)] يعني: من عجب الذنب تبدأ إعادة الإنسان في الحياة والبعث مرة أخرى، فنقطة الانطلاق والتكوين والبعث والإعادة والإحياء تبدأ من عجب الذنب، وعجب الذنب: هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب وهي كحبة الذرة في نهاية العمود الفقري، وهي التي يسميها العامة: رأس العصعص، وهو أول ما يخلق من الآدمي، كما أنه هو الذي يبقى منه؛ ليعاد تركيب الخلق عليه مرة أخرى. يعني: هذه القطعة الصغيرة جداً هي التي تتكون ابتداءً في رحم الأم، فإذا مات الإنسان أكل منه كل شيء وبلي من

تحريم الله لأجساد الأنبياء على الأرض

تحريم الله لأجساد الأنبياء على الأرض هذه الأحاديث بلا شك يستثنى منها أجساد الأنبياء، فهذه الأحاديث عامة في كل إنسان دون الأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر مناقب موسى عليه السلام، قال: (مررت ليلة أسري بي إلى بيت المقدس بقبر موسى عليه السلام، فرأيته قائماً في قبره يصلي عند الكثيب الأحمر، ولو أني وإياكم ثم لأريتكم قبره هناك) يعني: لو أنا وأنتم هناك في هذا الموطن الآن لأريتكم قبر موسى. فأخبر عليه الصلاة والسلام أن موسى قائماً في قبره يصلي، بمعنى: يدعو، أو صلاة لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، فهذه الأحاديث تبين عقيدة الإعادة والبعث بعد الموت. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق). وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) هذا في نفخة البعث، فأول من يبعث هو النبي عليه الصلاة والسلام. وفي رواية: (فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري: أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل). وفي رواية: (أم أنه لم يصعق اكتفاءً بصعقة الطور)؛ لقول الله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] يعني: هل جعل الله عز وجل صعقة الطور فيها كفاية وغنية لموسى عليه السلام، فاستثناه من صعقة يوم القيامة، فكان في الأحياء قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، أو أنه أفاق قبل نبينا عليه الصلاة والسلام؟

النفخ في الصور من أهوال يوم القيامة

النفخ في الصور من أهوال يوم القيامة قول الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] فيه استثناء. يعني: هناك من الخلق من يستثنى من هذا الصعق، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. والنفخة الأولى في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] وهي نفخة الإماتة. قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] هي نفخة البعث، {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ} [الزمر:69] أي: حينئذ {بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:69 - 70]. قال الله تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، وهذه هي النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت فيها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، كما هو مصرح به، مفسر في حديث الصور المشهور الطويل، وسيأتي معنا بإذن الله، ثم يقبض الله أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم -الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً- بالديمومة والبقاء، فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ثلاث مرات، فلما لم يجبه أحد يجيب المولى عليه الصلاة والسلام وجل نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]. أي: واحدٌ قهر كل شيء، وحكم بالفناء على كل شيء، ثم يحيي الله عز وجل أول من يحيي إسرافيل. إذاً: إسرافيل لا يدخل تحت الصعقة الثالثة؛ لأن الله تعالى يحييه لينفخ في الصور، فالله عز وجل يحييه ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث. إذاً: النفخة الثالثة: هي نفخة البعث. والثانية: نفخة الصعق. والأولى: نفخة الفزع. قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: أحياء بعد أن كانوا عظاماً ورفاتاً ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14]. والساهرة: هي الأرض المنبسطة التي لا نتوء فيها ولا جبال ولا مرتفعات ولا منخفضات، أرض غير الأرض التي يعرفها الناس، كما قال العلماء: أرض لم يقع بها خطيئة ولم يرق فيها دم، أرض بغير خطيئة وبغير معصية، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14]. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]، وهذه هي دعوة البعث.

حديث عبد الله بن عمرو في أمارات الساعة

حديث عبد الله بن عمرو في أمارات الساعة روى الإمام أحمد بسنده: عن عبد الله بن عمرو. قيل له: إنك تقول: الساعة تقوم إلى كذا وكذا. كأنه يريد أن يحدد قيام الساعة؛ ولذلك عبد الله بن عمرو تبرأ من هذا وقال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئاً، لأنني ما حدثتكم بهذا فكيف تفترون علي، إنما حدثتكم عن قيام الساعة بعلاماتها وأماراتها. قال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئاً، إنما قلت: سترون بعد قليل أمراً عظيماً، ومهما طال الليل والنهار فإن الساعة قريب. ثم قال عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال في أمته فيمكث فيهم أربعين -لا أدري أربعين يوماً أو عاماً أو شهراً أو ليلة- فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيظهر فيهلكه الله عز وجل، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة) هذه السنوات السبع بعد هلاك المسيح الدجال يكون الناس على الود والتحاب والإخاء والألفة، ليس بين اثنين عداوة. قال: (ثم يرسل الله تعالى ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته) هذا الريح الباردة من علامات الساعة الكبرى، وأنها تقبض روح كل عبد مؤمن فقط، (حتى لو أن أحدهم -أي من المؤمنين- كان في كبد جبل لدخلت عليه). هذه الريح تدخل عليه وإن كان في جبل لتأخذ روحه. قال: (سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) يبين علامات القوم الأشرار الذين تقوم عليهم الساعة. بلا شك أن هذه الريح الشامية إذا جاءت وقبضت روح كل عبد مؤمن لا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (فيتمثل لهم الشيطان -أي: لهؤلاء الأشرار- فيقول: ألا تستجيبون؟ -أي: ألا تستجيبون لي إذا أمرتكم؟ - فيأمرهم بالأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم). ولذلك اغتر شرار الخلق بما هم عليه من شر، يظنون أنهم على شيء وليسوا على شيء، يقولون: علامة ذلك أن الله تعالى وسع علينا في أرزاقنا، ومتعنا في عيشنا، تماماً كما يقول الكفار اليوم، وبعض المسلمين يظن أن السعة في الرزق هي علامة رضا الرب، وليس الأمر كذلك. قال: (وإذ هم على ذلك إذ ينفخ في الصور) وبينما هم يتنعمون في أرزاقهم ومعاشهم ينفخ إسرافيل في الصور (فلا يسمعه أحد إلا أصغى له) أي: لا يسمع هذه النفخة أحد إلا أصغى لهذا الصوت. وهذه نفخة الفزع النفخة الأولى. قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق). نفخة الصعق، أول من يسمعه رجل يلوط حوضه. يعني: يصلح شأن دابته، وهو كذلك إذ تأتيه الصعقة فيموت، ثم لا يبقى أحد إلا صعق؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه النفخة (يسمعها الرجل وهو يلوط حوضه فلا يلوطه حتى يموت) يعني: يموت قبل أن يلوط الحوض. قال: (وإن المتبايعين يتبايعان الثوب فيسمعان الصعقة فلا يتمان بيعهما). يموتان. (وإن الرجل ليحلب اللقحة فيسمع الصعقة فلا يدرك لقحته) يعني: لا يتم حلب شاة أو حلب ناقة. قال: (ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم ينزل الله عز وجل مطراً كأنه الطل أو الظل فتنبت منه أجساد الناس، فهذا قول الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) ينادي مناد: أيها الناس! -بعد الصعقة الثالثة- هلموا إلى ربكم، فهذا قول الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]. قال: (ثم يقال: أخرجوا بعث النار) إذا اجتمعوا في موقف الحشر والنشر والحساب قال: (فيقال: يا رب! كم بعث النار؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) يعني: لا ينجو إلا واحد من الألف، و (999) كلهم هلكى في النار. قال: (فيومئذ تبعث الولدان شيباً) أي: من هول يوم القيامة تبعث الولدان الصغار شيباً. قال: (ويومئذ يكشف عن ساق). أي: هذا يوم يكشف الله تعالى للخلائق عن ساقه. وهذا الحديث أخرجه مسلم. أما قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69]. أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق تبارك وتعالى للخلائق لفصل القضاء، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69] أي: يوضع الكتاب، كتاب الأعمال {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} [الزمر:69] ليشهدوا على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله تعالى، وجيء بالشهداء كذلك -أي: من الملائكة الحفظة- على أعمال العباد من خير وشر، وقضي بينهم بالحق والعدل، وهم لا يظلمون، كما قال الله تعالى، {

تفسير آيات سورة النازعات التي تتحدث عن يوم القيامة

تفسير آيات سورة النازعات التي تتحدث عن يوم القيامة قال سبحانه وتعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:1 - 10] أي: في القبر، {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات:11] أي: في هذا القبر عظاماً بالية، {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات:12] يعني: يا ويلها! لو أننا عدنا بعد هذه الموتة إلى البعث مرة أخرى، فإنما هذا عود وكرة خاسرة، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات:13]. قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وابن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي: النازعات غرقاً. أي: الملائكة، حين تنزع أرواح بني آدم، فمنها من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهوله وكأنما حلته من نشاط، وهي قوله تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:2]. قال ابن عباس في النازعات: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشر ثم تغرق في النار. وأما قوله: والسابحات سبحاً قال ابن مسعود: هم الملائكة. وقيل غير ذلك. وعن مجاهد قال: السابحات: هي الموت. وقال قتادة: هي النجوم. وقال عطاء: هي السفن. {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} روي عن غير واحد: أنهم قالوا: هي الملائكة. وقال الحسن: لأنها سبقت إلى الإيمان والتصديق به، وعن مجاهد قال: هي الموت، وعن عطاء قال: هي الخيل التي تسبق في سبيل الله عز وجل في الجهاد. أما (المدبرات أمراً) فقال غير واحد: هي الملائكة. زاد الحسن: سميت بذلك؛ لأنها تدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يعني: بأمر ربها عز وجل، ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جرير بالمراد من ذلك، إلا أنه حكى أن المدبرات هي الملائكة. أما قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:6 - 7] قال: هما النفختان: الأولى والثانية. {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6] هي نفخة الفزع، {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:7] هي نفخة الصعق. وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد والحسن وقتادة والنحاس وغير واحد: هما النفختان الأوليان. وعن مجاهد قال: أما الأولى فهي قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6]، فكقوله جلت عظمته: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14]. مجرد إرجاف، مثل الزلزال، وهو فزع شديد جداً. ولذلك إذا حصل زلزال تجد أن كل الناس في غاية الذعر والرعب، فهذا هو الفزع؛ ولذلك سميت النفخة الأولى بنفخة الفزع؛ لما يصيب الناس من ذعر ورعب وفزع. قال: أما الثانية: وهي الرادفة التي تتبعها، فهي كقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14]. هذه نفخة الصعق. وعند الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جاءت الراجفة) أي: النفخة الأولى. (تتبعها الرادفة) أي: النفخة الثانية (جاء الموت بما فيه) أي: من أهوال، (فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟) أي: أهذا أمر ينجيني من هول هذا الموقف؟ قال: (إذاً: يكفيك الله ما أهمك من شأن دينك ودنياك). لو كنت صادقاً مخلصاً في أنك وجهت كل دعائك للنبي عليه الصلاة والسلام فإن الله يكفيك هول هذا الموقف. اللهم صل على نبينا محمد! وعند الترمذي: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه). والصلاة هنا بمعناها اللغوي: الدعاء؛ لأنه لا يجوز صرف الصلاة الشرعية للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا شرك بالله؛ ولذلك كثير من العوام يعتقد أن الفرض حق الله، وأن السنة للنبي صلى الله عليه وسلم. يعني: يصلي الفرائض لله، ويصلي السنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وه

تقسيم القيامة إلى قيامتين وبيان عودة الأرواح إلى أجسادها

تقسيم القيامة إلى قيامتين وبيان عودة الأرواح إلى أجسادها

إعادة الأرواح إلى الأجساد في القيامة الكبرى

إعادة الأرواح إلى الأجساد في القيامة الكبرى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن القيامة قيامتان، وتكلم عن القيامة الكبرى فقال: الأمر الأول في هذه القيامة إعادة الأرواح إلى الأجساد. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويكون -أي: إعادة الأرواح إلى الأجساد- بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذا غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الملكين للميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى، فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها وتحل بها. يعني: أن الأرواح في الصور لا تتعداه ولا تتخطاه، فإذا نفخ في الصور ذهبت الأرواح إلى الأجساد فتركبت فيها. وفي الحديث القدسي: يقول الله عز وجل: (ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16]، وقال تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. يسوق رحمه الله هذه الآيات وهذا الحديث لإثبات أن هذه الإعادة ليست من باب تجديد الأجساد، وإنما هي من باب إعادتها وخلقها خلقاً جديداً كما خلقها الله عز وجل أول مرة؛ ولذلك جاء في الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الناس يحشرون فيها حفاةً عراة غرلاً) فالناس هم الذين يحشرون وليس سواهم. قال ابن تيمية: وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون. يعني: مبدأ البعث بعد الموت قد جاءت أدلته في الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون، وهذا يدل على أن من أنكر البعث فقد نقض إيمانه وإسلامه من الأساس. قال: فأما كتاب الله تعالى فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيم، وذكرها بأوصاف عظيمة توجب الخوف والاستعداد لها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]-اسم من أسماء القيامة- وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:1 - 5]. والأوصاف ليوم القيامة في القرآن كثيرة جداً، كلها مروعة ومخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها فلن نعمل لها، إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به، وحتى يذكر له أوصاف هذا اليوم التي توجب العمل لهذا اليوم. وأما السنة: فالأحاديث فيها كثيرة جداً في إثبات الحوض والصراط والثواب والعقاب والجنة والنار، وقد انعقد إجماع المسلمين إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة؛ ولهذا كان من أنكره كافراً بالله عز وجل، إلا إذا كان غريباً عن الإسلام أو جاهلاً فإنه يعلم، فإن أصر على موقفه من إنكار البعث بعد الموت فهو كافر. كما أثبتت الكتب السماوية هذا الأمر، فما من نبي إلا حذر أمته البعث والقيامة، والعقل يوجب ذلك كذلك، إذ لا يتصور عاقل أن يستوي الناس أو أن يستوي الطيبون والأشرار، الصالحون والطالحون، العاملون صالحاً والعاملون سوءاً، لا يستويان قط، بل لا بد أن يجازى هذا وأن يعاقب ذاك؛ ولهذا قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، وإن كان الخطاب لشخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه عام لجميع الخلائق.

قيام الناس لرب العالمين في القيامة الكبرى

قيام الناس لرب العالمين في القيامة الكبرى الأمر الثاني مما يكون يوم القيامة: يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً. حفاة أي: لا يلبسون في أقدامهم شيئاً. عراة: لا يلبسون على أجسادهم شيئاً. غرلاً: وهي القلفة التي أخذت من المرأة والرجل في أثناء الختان. هذه القطعة التي أخذت من ذكرك وأنت صغير ترد إليك وتبعث بها، ويعيدك الله تعالى كما بدأك، فإذا كنت تؤمن بالله عز وجل فلابد أن تعلم أن هذه القلفة منذ ستين أو أربعين أو خمسين أو عشرين سنة أو أكثر من ذلك أو أقل قد دفنت أو ألقيت على المزابل، فذابت وانتهى أمرها منذ عشرات السنين، وبعد ذلك تموت ثم تبعث وتبعث معك هذه القطعة من اللحم، أفلا يدل هذا على أن الله تعالى قادر على الإحياء بعد الإماتة؟ بلى. فإذا كان الله تعالى قادراً على إنشائك من العدم فإعادتك أهون عليه! أما قوله: (فيقوم الناس من قبورهم) إن مات إنسان ولكنه لم يدفن في القبر، كأن مات في البحر وأكلته الأسماك والحيتان، أو مات وأكلته الوحوش في البرية، أو سقط عليهم سقف البيت فماتوا تحت السقف ولم يقبروا، أليس الله تعالى قادراً على أن يعيد هذه الأبدان ويحييها ويحاسبها، فيقذف الكافر في النار، ويدخل المؤمن الجنة؟ بلى، سبحان الله! {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، لأن الله عز وجل يناديهم، كما قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42]، والصيحة هذه صيحة البعث، فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]. قال: أما قوله: (حفاة عراة غرلاً) فقد ذكرناها، كما قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، فيعاد كاملاً لا ينقص منه شيء. يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساءً، (حفاة عراة غرلاً). ولذلك استغربت عائشة رضي الله عنها هذا فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! يا ابنة الصديق! الأمر أشد من ذلك) وفي رواية: (الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) يعني: من أن ينظر بعضهم إلى بعض، فكل إنسان له شأن يغنيه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل ولا الرجل إلى المرأة، فالأمر أشد وأعظم من ذلك بكثير. ومع هذا فإن الناس يكسون بعد ذلك، وأول من يكسى بعد عري هو إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس عن نبينا صلى الله عليه وسلم. أما دليل القيامة الصغرى فهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لما سألوه عن الساعة فنظر إلى أصغر طفل معهم وقال: إن يعش هذا حتى يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم)، أي: قامت عليكم قيامتكم الصغرى، والحديث أخرجه الإمام مسلم. قال شاعرهم: خرجت من الدنيا وقامت قيامتي غداة أقل الحاملون جنازتي وعجل أهلي حفر قبري وصيروا خروجي وتعجيلي إليه كرامتي كأنهم لم يعرفوا قط صورتي غداة أتى يومي علي وليلتي وأما القيامة الكبرى فتعاد فيها الأرواح إلى الأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا، وهذه القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وأخبر بها رسوله في سنته، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] إلى قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] وقال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]، وقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].

كلام ابن أبي العز في الإيمان بالمعاد

كلام ابن أبي العز في الإيمان بالمعاد قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: والإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن، وذلك أن الأنبياء كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم. يعني: توحيد الربوبية هذا أمر كان المشركون يقرون به، أما الإلهية فلا، فكلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وأشار إلى السبابة والوسطى لقربهما، وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي ولا رسول، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130]. يعني: هل ما جاء أحد من الرسل والأنبياء وحذروكم من هذا اليوم وأخبروكم بيوم القيامة؟ فماذا قالوا حينئذ؟ قالوا: بلى. الرسل أخبرونا وأنذرونا، قامت علينا الحجج والبراهين ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. وأمر الله تعالى نبيه أن يقسم على المعاد، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]. يعني: اقسم لهم يا محمد! أنها آتية لا ريب فيها. وقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53]؟ يستخبرونك يا محمد! هذا المعاد وهذا البعث حق كما تزعم؟ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53]. جاء أبي بن خلف إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يده عظم قد أرم وقال: (يا محمد! أتزعم أن الله تعالى يحيي هذه العظام بعد أن رمت وبليت؟) ثم فت العظام بيده فصارت رماداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده يحييها الله عز وجل، ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار). وقال الله عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، وأخبر الله تعالى عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1 - 2] إلى قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7]. وذم الله تعالى المكذبين بالمعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل:38] أنه يبعث من يموت. إلى أن قال الله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39]، وقال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59]، وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:97 - 99]. {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]. {قُلْ كُونُوا حِجَا

الأسئلة

الأسئلة

نصائح للمبتلى بالعادة السرية

نصائح للمبتلى بالعادة السرية Q لقد من الله عز وجل علي بالهداية منذ حوالي (10) سنوات، ولكن منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع أن أتوب عن العادة السرية، فما العلاج؟ A العلاج يا أخي الكريم! أن تستحضر مراقبة الله عز وجل، وأنك حين تفعل هذه المعصية أو غيرها من المعاصي توقن أن الله تعالى ينظر إليك وأنت تفعل هذا، فأول علاج لجميع المعاصي هو استحضار عظمة الله عز وجل وجلاله، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في معنى الحديث: (وإن أحدكم لو خاف من ربه كما يخاف من رجلين عظيمين في قومه) يعني: لو أن واحداً من البشر ينظر إليك وأنت تصنع بنفسك هذا فهل تتم هذا الفعل؟ A لا. فستنصرف عنك فوراً بمجرد أن تظن أو تتيقن أن أحداً من الخلق ينظر إليك، فنظر الله تبارك وتعالى أسرع وأعظم، فلا تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك. الأمر الثاني: أن تعتقد أن هذا حرام، وأما من رخص في الاستمناء فرخص فيه في وقت الضرورة الملحة جداً، وذكروا لذلك أمثلة: الأول: الغزو والبعد عن الأهل والنسوة وغير ذلك، وأن ذلك يوقعه في مشقة وعنت شديدين جداً. الثاني: أن يخير العبد بين الوقوع في الزنا الذي يقام به الحد وبين الاستمناء. يعني: أن تعرض عليك الفتنة عرضاً فلا يكون أمامك إلا واحد من اثنين: إما أن تهرب من هذه الفتنة فتستمني فتنطفئ شهوتك، فمهما عرضت عليك الفتنة فأنت لا تقبلها؛ لأن الشهوة قد انطفأت وزالت. فهذه أمثلة ذكرها بعض أهل العلم لجواز الاستمناء. أما حرمته فدليل ذلك: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]. أي: الظالمون المتعدون لحدود الله عز وجل، والذي يبتغي كما قال عبد الله بن عمر جلد عميرة فهو معتد؛ لأن الصحابة كانوا يسمون الاستمناء: جلد عميرة، والجلد نوع من أنواع العقوبات والتعزيرات، فتسمية السلف للاستمناء بالجلد فيه نوع عقوبة، وأنا أنصح السائل وغيره ممن ابتلي بهذا أن يحافظ على الأذكار، وأن يداوم على قراءة القرآن الكريم، والنظر في سنة النبي الأمين، والانشغال ببحث المسائل العلمية في ليل ونهار وفي وقت فراغه، وألا يصاحب إلا الأخيار، وأن يهجر مجلات الجنس -وما أكثرها في هذه البلاد وغيرها- كمجلات الكواكب وغيرها، وأن يهجر الصحف القومية؛ لأنها صارت مجلات جنسية وصحفاً جنسية بالدرجة الأولى، فضلاً عن أنها صحف نفاق وصحف عري وفجور ودعوة إلى الانحلال والوقوع في الجنس المحرم. ثم أنصح هذا السائل وإخوانه ممن ابتلي بهذا ألا ينفرد بنفسه، لا في نومه ولا في يقظته؛ لأنه إذا انفرد بنفسه لعب الشيطان برأسه، وليكن معه من يعينه من إخوانه وأصدقائه على تقوى الله عز وجل ويبتعد عن صحبة السوء؛ فإنهم يعينونه على طاعة الله، ويذكرونه دائماً بالله عز وجل، وهكذا علاج كل معصية.

الأموات لا يحسون بنفخة الفزع

الأموات لا يحسون بنفخة الفزع Q هل الميتون في القبور يحسون بالنفخة الأولى وهي نفخة الفزع وأيضاً نفخة الصعق؟ الشيخ: الذي ينقدح في ذهني -والله تعالى أعلم- أنهم لا يشعرون بشيء من ذلك؛ لأن النفخة الأولى متعلقة بالأحياء لا بالأموات، وأما النفخة الثالثة فإنها ستكون لجميع الخلق؛ لأنهم يكونون في عداد الموتى، وإذا ثبت أن هذا الكلام غير صحيح فأنا أرجع عنه.

استغفار الملائكة يكون للمؤمنين دون الكافرين

استغفار الملائكة يكون للمؤمنين دون الكافرين Q يقول الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]. هل استغفار الملائكة هنا للمؤمنين والعاصين وللكافرين سواء؟ A للكافرين لا.

حكم كون الأذان من شخص وإقامة الصلاة من شخص آخر

حكم كون الأذان من شخص وإقامة الصلاة من شخص آخر Q هل يجوز للإنسان أن يؤذن لصلاة ولا يصليها مع الجماعة الأولى، ويقوم بإقامة الصلاة رجل آخر؟ A نعم. ليس بلازم أن من أذن هو الذي يقيم، ولكن عمل أهل العلم جرى على ذلك، فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (من أذن فهو يقيم)، وهذا حديث ضعيف باتفاق. يقول الإمام الترمذي: ولكن عليه العمل، عمل به الشافعية ومالك وابن حنبل وسفيان والليث. فإن قيل: كيف يكون الدليل ضعيفاً وعليه العمل؟ A يعني: يقول لك: لك أن تفترض أن هذا الدليل لم يأت أصلاً، ولم يرد إلينا حديث بهذا المعنى ولا بهذا اللفظ، لكن ورد إلينا مشروعية الأذان، فإننا سنقول: إن الذي يؤذن هو الذي يقيم. ولذلك هذا الحديث من باب الضعيف، ولكن الأمة عملت بمقتضاه، وهذا العمل ليس بواجب في كل الأحايين، بدليل أنه يجوز أن يجتمع عدة مؤذنين في مسجد واحد، كما هو حاصل في مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد القدس الكبير، ومسجد الشام، ومسجد عمرو بن العاص قبل أن يوجد مكبرات للصوت، تجد كل مؤذن في ركن من الأركان أو في ناحية من النواحي، لكن الذي يقيم واحد منهم فقط، ولو أن واحداً من غير المؤذنين أقام الصلاة صح ذلك منه.

حكم من لم يدرك صلاة الجماعة بسبب النوم

حكم من لم يدرك صلاة الجماعة بسبب النوم Q يقول: أخذتني نومة بعد الأذان بخمسة وأربعين دقيقة، فأيقنت أن الناس قد انصرفوا من الصلاة في المسجد فصليت في البيت فهل علي من حرج؟ A لا حرج عليك، بل أنت مأجور أجر الجماعة.

ما روي أن الجنة والنار مخلوقتان الآن

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما روي أن الجنة والنار مخلوقتان الآن لقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الصراط حق يمر عليه المؤمنون والكافرون، وهو مضروب على متن جهنم، وعلى أن رؤية الله تعالى يوم القيامة حق، كما أثبتت الأدلة أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، والجنة رحمة الله يرحم بها من يشاء، والنار عذابه يعذب بها من يشاء، فيجب الإيمان بذلك، ومن اعتقد خلافه فهو على شفا هلكة والعياذ بالله.

ما روي في أن الإيمان بالصراط واجب

ما روي في أن الإيمان بالصراط واجب بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في أن الإيمان بالصراط واجب]. ذكرنا من قبل: أن بعض علماء الأزهر للأسف الشديد قال: الصراط شيء معنوي لا حقيقة له، وإنما خوف الله عز وجل بذكره عباده حتى يستقيموا على الطاعة. وهذا كلام في غاية الفساد، فالصراط حق والإيمان به واجب، والصراط كما ذكر سلفنا رضي الله عنهم من أمور الغيب التي لا يمكن أن يقع لآحاد الناس الإخبار بها إلا الصادق المصدوق. فنقول: إن هذه النصوص التي وردت عن سلفنا رضي الله عنهم وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع، لأن هذا من أمور الغيب التي لا يعلم خبرها إلا الله عز وجل وأخبر بذلك أنبياءه ورسله.

شرح حديث: (يضرب الصراط بين ظهري جهنم)

شرح حديث: (يضرب الصراط بين ظهري جهنم) قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يضرب الصراط بين ظهري جهنم -أي: ينصب ويقام- فأكون أنا وأمتي في أول من يجوز -أي: من يتعداه ويعبره- ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعاؤهم يومئذ: اللهم سلم سلم -أي: دعاء الرسل من الوجل والخوف والشفقة على أممهم أنهم يقولون: اللهم سلم سلم- وفي جهنم كلاليب - والكلاليب: هي كالخطاطيف، أي: كالعصا المعكوفة إما من خشب أو حديد- كشوك السعدان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتم شوك السعدان؟ -والسعدان ينبت في بلاد نجد، وشوكة السعدان معكوفة من أعلاها- قالوا: نعم. قال: فإنه مثل شوك السعدان، غير أنه ما يدري ما قدر عظمها إلا الله تعالى، تخطف الناس بأعمالهم)]. إذاً: وقوع الناس في جهنم وهم يعبرون الصراط على قدر أعمالهم تخطفهم هذه الكلاليب، والحديث في الصحيحين.

شرح حديث أبي سعيد في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وإثبات ضرب الصراط على متن جهنم

شرح حديث أبي سعيد في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وإثبات ضرب الصراط على متن جهنم قال: [وعن أبي سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه- قال: (قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)]؛ لأنهم يوقنون أنهم لا يرونه في حياتهم الدنيا لا يقظة ولا مناماً، ولم ير الله تبارك وتعالى مناماً إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون الحديث الطويل حديث أنس المعروف باختصام الملأ الأعلى، قال: (بينما أنا نائم إذ رأيت ربي في أحسن صورة) والحديث عند أحمد بسند طويل وقد شرحناه. قال: [(قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعلموا أنكم لن تروا ربكم إلا أن تموتوا فتبعثوا)]، وهذا للتحذير من اتباع الدجال الذي إذا ظهر زعم أنه الله، أو أنه الرب. قال: [(اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا فتبعثوا، فلما سألوه عليه الصلاة والسلام: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب -أي: هل يحصل لكم ضير أو ضيم أو شك؟ - وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قال: قلنا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)]، أي: في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب. النبي عليه الصلاة والسلام لم يمثل الله تعالى بمخلوقاته الشمس والقمر، وإنما مثل الرؤية بالرؤية، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فكما أنكم ترون الشمس في رابعة النهار صحواً ليس دونها سحاب لا تضامون ولا تشكون أن هذه هي الشمس؛ فإنكم سترون الله عز وجل يوم القيامة لا تشكون أن هذا هو الله عز وجل، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي. قال: [(إذا كان يوم القيامة نادى مناد: لتلحق كل أمة بما كانت تعبد -أي: لتذهب كل أمة إلى معبودها فتكون تبعاً له- فلا يبقى أحد كان يعبد صنماً ولا وثناً ولا صورة إلا ذهبوا -أي: ذهبوا إلى متبوعيهم- فأخذوهم بأيديهم ثم يتساقطون في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر)]، أي: ما دام موحداً، وبعضهم قال: الفاجر هو المنافق، فلما كان في مجموع المؤمنين في الدنيا فيكون في مجموعهم في الآخرة، لكنهم إذا كانوا في وسط الصراط ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويذهب عنهم نور المؤمنين فيكونون في ظلمة ثم يسقطون في جهنم. قال: [(ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات أهل الكتاب)]، أي: القلة من أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى والذين آمنوا بعيسى قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن من آمن بموسى ولم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر، وكذلك من آمن بعيسى. قال: [(ثم تعرض جهنم -أي: تنصب- كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، ثم يضرب الجسر -أي: الصراط- قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، له كلاليب وخطاطيف وحسك كشوك السعدان، فيمر المؤمنون كلمح البرق وكالطرف وكالريح وكالطير وكأجود الخيل والراكب -أي: المسرع- فناج مسلم -أي: هؤلاء المؤمنون في عبورهم على الجسر منهم من ينجو ويسلم من العذاب- ومخدوش مرسل -أي: مخدوش منهوش في بدنه بكلاليب السعدان، ولكنه في نهاية أمره يعبر هذا الجسر- ومنهم المكدوس أو المكردس في نار جهنم، فوالذي نفسي بيده! ما أحد بأشد مناشدة في الحق من المؤمنين إخوانهم)]، يعني: حينئذ تكون شفاعة المؤمنين في إخوانهم الذين سقطوا في النار من الموحدين. والشاهد من هذا الحديث: (ثم يضرب الجسر) والجسر هو الصراط، وهذا فيه إثبات أن الصراط أو الجسر شيء حقيقي لا معنوي، ولا أنه من آيات الله التي يخوف بها عباده.

شرح حديث أبي هريرة في إيقاف الموت على الصراط

شرح حديث أبي هريرة في إيقاف الموت على الصراط قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت فيوقف على الصراط)،فلا يوقف الموت على شيء معنوي لا حقيقة له. قال: [(فيقال: يا أهل الجنة! فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه)]، أي: خائفون أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه؛ لأنه لا يأمن أحد مكر الله عز وجل، مع أن العقيدة قد استقرت في قلوبهم أن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً، بخلاف النار فإن من دخلها من الموحدين فلا بد ولا محالة أنه خارج منها يوماً ما. قال: [(فيشار إلى الموت ويقال لأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم ربنا، هو الموت -أي: نعم يا ربنا نعرفه، إنه الموت- فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقول للفريقين: خلوداً خلوداً)]، فهذا النداء وجه مرة لأهل الجنة ومرة لأهل النار. ومعنى (خلوداً خلوداً) أي: فيها تخلدون فلا موت في النار ولا موت في الجنة. والموت الذي يلحق الناس في النار إنما يعادون من بعده ليذوقوا العذاب. وقال الإمام أحمد: نؤمن بالصراط والميزان والجنة والنار والحساب لا ندفع ذلك ولا نرتاب. أي: ولا نشك فيه.

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة القيامة

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة القيامة وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة القيامة فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام يوم القيامة: يا آدم! قم ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ قال: فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فعند ذلك يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذب الله شديد. قال: فشق ذلك على الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج، ثم رجع، فقال: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحد)]، ويأجوج ومأجوج هم من ولد يافث بن نوح. وقيل: هم جيل من الترك. ولعل هذه الآراء مقبولة، ولكن الذي ليس مقبولاً هو الرأي القائل بأن بعث النار هم من أثر احتلام لآدم عليه السلام خالط منيه التراب فنبتت الذرية من هذا الخليط بين المني وبين التراب. وهذا كلام بعيد جداً، خاصة أن هؤلاء لا يسمون ولا حتى في اللغة أبناء، والحديث يقول: (يا آدم! قم فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار) وهؤلاء لا يمكن أن يصدق عليهم أنهم ذرية. قال: [(والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبروا وحمدوا -أي: فرح الصحابة بذلك- ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبروا وحمدوا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، قال: ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)]، يعني: ما أنتم في الأمم قبلكم إلا شيئاً يسيراً نزراً، كأنه يبشرهم أنهم أكثر أهل الجنة، كما ثبت أيضاً في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أنتم منهم ثمانون) أي: أن هذه الأمة المحمدية ثلث أهل الجنة. قال: [وقال ابن عمر: (قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قال: يقومون في رشحهم -أي: في عرقهم- إلى أنصاف آذانهم)]، والحديث في الصحيحين. قال: [وقال المقداد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد قدر ميل. قال الراوي: لا أدري هذا الميل أهو ميل الأرض -يعني: المساحة المعروفة بالميل- أو أنه ذاك المرود الذي تكتحل به المرأة؟)]، فالعرب تسميه ميلاً، فتصور أن الشمس تدنو من رأسك قدر ميل، ولنعتبره على أحسن الأقوال ميل مساحة الأرض، وانظر إلى هذه الملايين من الأميال بين الشمس وبين رءوس العباد ومع هذا إذا اقتربنا من خط الاستواء قتل الناس حراً وزهقاً من شدة الحر، فما بالك والشمس فوق رأسك مباشرة؟ نسأل الله السلامة والعافية. قال: [(فتصهرهم الشمس -يعني: تذيبهم أو تكاد- فيكون العرق على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبه، ومنهم من يأخذه إلى ركبته، ومنهم من يأخذه إلى حقوه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)]. بعض الملاحدة لا يعجبه هذا الحديث، ويقول: الناس في موقف واحد ومحشر واحد وأرض واحدة فكيف يختلفون في عرقهم على قدر أعمالهم مع أن الماء سيال؟ والرد عليه: أن الله تعالى على كل شيء قدير، كما أن الله تعالى قادر على أن يبعث هذا الملحد ويلجمه إلجاماً، أو يلقيه في النار ولا يبالي، فكما أننا نؤمن بهذا نؤمن بذاك، وليس هذا ببعيد، فإننا نعتقد أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مع أن القبر الواحد يدفن فيه البر والفاجر، الصالح والطالح، ومثال ذلك في حياة الناس: الرجل مع امرأته ينامان في موضع واحد وفي سرير واحد، فهذا يرى رؤيا طيبة وذاك يحلم حلماً سيئاً مفجعاً، فهذا يعذب بما رأى في حلمه، وذاك ينعم بما رأى في رؤياه، وكلاهما في موطن واحد. والنبي عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي في الليلة الباردة حتى يتصبب عرقاً وبجواره أصحابه لا يشعرون بشيء من ذلك، لا يشعرون بآلام الوحي وشدته التي كانت تنزل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو معهم في موطن واحد، فإذا كان هذا في حياة الناس فكيف لا نؤمن به في يوم القيامة؟ فالله تعالى على كل شيء قدير. قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)]، أي: التي نطحتها.

ما روي عن النبي في أن الجنة والنار مخلوقتان الآن

ما روي عن النبي في أن الجنة والنار مخلوقتان الآن قال: [باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الجنة والنار مخلوقتان الآن]، وهما موجودتان مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان, وهذا معتقد أهل السنة والجماعة لا خلاف في ذلك، خلافاً لما ذهبت إليه المعتزلة والجهمية وبعض المرجئة، من أن الجنة والنار غير مخلوقتين الآن. والأدلة متظاهرة متضافرة على أنهما مخلوقتان الآن، وقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام الجنة فرأى فيها بعض النعيم، كما أنه اطلع على النار ورأى فيها بعض أهلها. أما مكان وجود الجنة والنار فقد كثرت فيه الأقوال، وأعظم الأقوال هو الإيمان به والسكوت وعدم الخوض. ومنهم من يقول: هي في الأرضين السبع، ومنهم من يقول: هي مكة وما حولها، ومنهم من يقول: بل هي في السماوات. وهذه أقوال تحتاج إلى أدلة خاصة وأن هذا من أمور الغيب، وليس عندنا نص صريح في أن بقعة من الأرض هي من بقاع الجنة إلا ما بين بيت النبي عليه الصلاة والسلام ومنبره؛ لحديث: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة).

شرح الأحاديث في إثبات وجود الجنة والنار الآن

شرح الأحاديث في إثبات وجود الجنة والنار الآن قال: [وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)]، يعني: لا يدخل الجنة من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إلا أن يعمل بمقتضى هذا الإيمان، وإلا كان لزاماً علينا أن نقول: إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا مذهب المرجئة كما هو مذهب الجهمية من باب أولى؛ لأن المرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق بالقول. أما الجهمية فيقولون: الإيمان هو المعرفة القلبية بغير قول، وعلى مذهبهم ففرعون وإبليس مؤمنان، وإذا كان إبليس مؤمناً عند الجهمية فما بالك بمن دونه؟ فليس عندهم أحد يكفر بالله إلا من أنكر الله تعالى بقلبه ولم يعرفه. أما أهل السنة والجماعة فإن الإيمان عندهم قول باللسان وعمل بالقلب والجوارح، ومن الأعمال ما هو شرط في صحة الإيمان، وهو الإيمان الواجب كما سماه ابن تيمية كما في الجزء السابع من مجموع الفتاوى فقال: الإيمان الواجب المتعلق بالواجبات والحلال والحرام، ومنه الإيمان المستحب، وهذا الذي ينفى في كثير من النصوص، نحو: (لا يؤمن أحدكم)، (ليس منا)، (أنا بريء)، (غضب الله)، (لعن الله) وكل هذه النصوص ظاهرها تدل على ترك الملة، ولكن معنى هذه النصوص -إن لم يستحل صاحبها مع قيام الحجة عليه- أنه نفي الإيمان المستحب الذي هو الإيمان الكامل. فالنفي في هذه النصوص كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، والخوارج يحملون هذا النص على ظاهره وكذلك المعتزلة أن الزاني حين يزني كافر؛ لأن الأمر عندهم إيمان وكفر، وهذا الكلام قد شرحناه مراراً. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أي: أدخله من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء. قال: [وعن ابن عباس قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء)]، عندما تسمع هذا الحديث وأنت فقير لا تملك ما تتبلغ به إلى درس العلم فإنك لا تحزن حينئذ، لو أنك أتيت على قدميك إلى هذه المجالس المباركة الطيبة التي تتنزل فيها الرحمات، وتنزل فيها السكينة، وتغشاكم الرحمة من كل جانب، وتحضرها الملائكة، إذا كنت فقيراً لا تملك شيئاً وتعلم أن أكثر أهل الجنة الفقراء، وأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم أي: بخمسائة عام، فلن تحزن أبداً. قال: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)، والحديث في الصحيحين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب)]، والقصب: الأمعاء، أي: يجر أمعاءه في النار، وهو أول من أشار على أهل مكة بعبادة الأصنام، فهو السبب الأول في عبادة الأصنام في مكة. قال: [وعن ابن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي)]. فقوله: إذا مات، أي: سواء دخل القبر أو لم يدخله. (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده من الجنة والنار) ومن قبل ذكرنا حديث: (ما من آدمي مؤمن أو كافر إلا جعل الله تعالى له مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، فيفتح له أولاً باب في قبره إلى مقعده من النار، فإذا فزع قيل له: هذا مقعدك من النار لولا أنك آمنت بالله ورسوله، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويفرش قبره بفرش من فرش الجنة) كما في حديث البراء رضي الله عنه. قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) الغداة أي: الصبح. والعشي أي: المساء. قال: [(إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، حتى يبعثه الله يوم القيامة، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة). وعن ابن عمر أيضاً قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي)]، وهذا فيه إثبات عذاب القبر ونعيمه. قال: [(إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)،

شرح الأحاديث في وصف الجنة والنار واختصامهما إلى ربهما

شرح الأحاديث في وصف الجنة والنار واختصامهما إلى ربهما قال: [وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اختصمت الجنة والنار -أي: تحاجت الجنة والنار- فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله عز وجل للنار: أنتِ عذابي أصيب بكِ من أشاء، وقال للجنة: أنتِ رحمتي أصيب بكِ من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها -يعني: علي أن أملأ كل واحدة منكما- فإذا كان يوم القيامة لم يظلم الله عز وجل أحداً من خلقه شيئاً، ويلقي في النار فتقول: هل من مزيد، حتى يضع الله عز وجل قدمه فهناك تملأ وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط)] أي: كفى، كفى. وفي هذا إثبات أن لله تبارك وتعالى قدماً، وقد بينا قبل ذلك إثبات الساق لله عز وجل، وأن الساق أو القدم لله عز وجل ثابتة حقيقة بغير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، فهي ثابتة لله عز وجل كصفة من صفات ذاته، ولا تنفك عنه على المعنى اللائق بالله عز وجل، ليست كأقدام المخلوقين ولا كسوق المخلوقين. قال: [وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم. قال: فقضى بينهما، إنكِ الجنة رحمتي أرحم بكِ من أشاء، وإنكِ النار عذابي أعذب بكِ من أشاء، ولكليكما علي ملؤها). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، وهو أشد ما تجدون من الزمهرير)]، يعني: إذا رأينا حراً شديداً جداً لا يطاق فلنعرف أن هذا هو نفس النار في الصيف، وإذا رأينا برداً شديداً لا يكاد يحتمل فلنعلم أن هذا هو النفس الثاني للنار في الشتاء. قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالصلاة -أي: انتظروا بصلاة الظهر حتى يبرد الجو- فإن شدة الحر من فيح جهنم)] أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإبراد بالصلاة في شدة الحر؛ لأن شدة الحر من فيح جهنم، فلا يخرج أحدنا للصلاة فيصيبه لفح فيح جهنم ونارها وحرها وسمومها، فمن رحمة الله عز وجل ومن إشفاق النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الأمة أن أذن لنا في الإبراد. وفي كتاب الطب النبوي: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء). قال: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوها بالماء)]. والشاهد من هذه الأحاديث كلها: إثبات أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما موجودتان الآن، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوها بالماء) لا يمكن أن يكون هذا الحر الشديد من فيح جهنم وهي لم تخلق بعد.

شرح حديث كسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان دلالته على أن الجنة والنار مخلوقتان

شرح حديث كسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان دلالته على أن الجنة والنار مخلوقتان قال: [وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كسفت الشمس على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قياماً طويلاً فقرأ نحواً من سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً ثم رفع، فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول يقرأ فيه أيضاً، ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الركوع الأول، ثم سجد)]، أي: أن الركعة الأولى من صلاة كسوف الشمس عبارة عن قيامين وركوعين، وهي ركعتان، كل ركعة بقيامين يقرأ فيهما الفاتحة وما تيسر له من القرآن، والتطويل مستحب، ثم يركع ثم يقوم فيفعل في القيام الثاني كما فعل في القيام الأول أو أقل قليلاً، يقرأ بعد الفاتحة أربع مرات، وتكون القراءة جهراً، لأن صلاة الكسوف تؤدى نهاراً. قال: [(ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً -يعني الركعة الثانية- ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس -يعني: ذهب كسوفها- ثم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا تعدون هذا فيكم؟ -أي: ماذا تعدون كسوف الشمس في الجاهلية؟ - قالوا: يا رسول الله! لا يكون ذلك إلا لموت عظيم أو ميلاد عظيم -أي: الشمس لا تنكسف والقمر لا ينخسف إلا لميلاد عظيم أو لوفاة عظيم، وكانوا يتطيرون بذلك في الجاهلية- فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله. قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت -أي: رجعت- قال: إني رأيت الجنة -أي: المخلوقة- أو أريت الجنة فتناولت منها عنقوداً، لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: يكفرن. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير)] يعني: تكفر المرأة عشرة زوجها، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام كيفية هذا الكفر فقال: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً -أي: ولو يسيراً- لقالت: ما رأيت منك خيراً قط) فهذا هو كفران العشير، وهو كبيرة من الكبائر، لا يخلد صاحبه في النار، وصاحب الكبيرة لا يكفر إلا عند الخوارج، وهو عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين، أما عند أهل السنة والجماعة فإنه إن أقيم عليه الحد فالحد يدرأ عنه العذاب في الآخرة، والحدود كفارات لأهلها. وإذا تاب إلى الله عز وجل من ذلك حتى قبل قيام الحد فالتوبة كفارة لأصحابها، وإذا مات مصراً على كبيرته فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. فهذه هي التي تكفر الإحسان، وما أكثرهن في هذا الباب وهذا الضرب! قال: [وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قياماً يصلون، فإذا هي قائمة -أي: تصلي- فقلت: ما للناس؟]. أسماء تسأل عائشة رضي الله عنها وهي في داخل الصلاة، تقول: لماذا يصلي الناس؟ لأن هذه صلاة ليست في العادة، لأن أسماء دخلت في غير وقت صلاة الفرض فرأت الناس يصلون، وأيضاً لأنها صلاة نهارية جهرية، فسألت عائشة تقول لها: ما للناس؟ ماذا يعمل الناس؟ وهذا كما حدث من معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، حين كان الكلام في داخل الصلاة في أول الأمر مباحاً، لما جاء من السفر ونظر إلى الناس سأل من بجواره، قال: (فضرب الناس أفخاذهم بأيديهم كأنهم يصمتونني). وفي الرواية الأخرى أنه عطس فحمد الله، قال: (فنظر الناس إلي أو رماني الناس بأبصارهم، فقلت: ما لكم؟ كأنهم يسكتونني فسكت، فلما فرغت من الصلاة دعاني النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا معاوية! إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس -يعني: الكلام الذي ليس في مصلحة الصلاة- إنما هي لذكر الله ولقراءة القرآن). قالت أسماء: [(أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قياماً يصلون فإذا هي قائمة، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله)] يعني: انظري للشمس وستعرفين السبب. وقول عائشة رضي الله عنها: سبحان الله، هذا نوع من أنواع الذكر. قالت: (فقلت: آية؟) أسماء لا تزال تجادل عائشة، وعائشة تستجيب لها، مرة تشير بيدها ومرة تسبح الله. قالت: [(فقلت: آية؟ فأشارت إلي أن نعم -أي: آية من آيات الله- قالت: فقمت حتى تجلاني الغشي -أي: فقمت حتى علاني الإرهاق الشديد حتى كاد يغشى علي من طول ما قام النبي عليه الصلاة والسلام- فجعلت أصب فوق رأسي الماء -أي: وهي في الصلاة- فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار)]، وهذا الشاهد، أنه عليه الصلاة والسلام رأى ال

ما روي في أن الرحمة مخلوقة وكذلك الموت والحياة

ما روي في أن الرحمة مخلوقة وكذلك الموت والحياة سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الرحمة التي يتراحم بها الخلق فيما بينهم وإن كانت شيئاً معنوياً إلا أنها مخلوقة، والموت كذلك شيء معنوي وهو مخلوق، والحياة شيء معنوي وهي مخلوقة، فالله تبارك وتعالى خلق الأعراض والأجسام وخلق المعنويات وخلق كل شيء. قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)]، هذا الحديث هو من أعظم أحاديث الرجاء، والتي تدل على سعة رحمة رب العالمين تبارك وتعالى، وأنه اختزن تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها الخلائق في عرصات القيامة، فإذا كانت هذه الرحمات التي يراها المرء على هذه البسيطة من جراء رحمة واحدة من رحمة الله عز وجل فما بالك بتسع وتسعين رحمة؟! وقد ذكرنا من قبل في الموازنة بين الخوف والرجاء: أن الخوف والرجاء هما بمثابة جناحي الطائر، ولا يمكن لأحد أن ينجو قط بين يدي الله عز وجل يوم القيامة إلا إذا حقق الخوف والرجاء، ولا بأس في حال الصحة أن يغلب شيئاً يسيراً من الخوف ليدفعه إلى العمل الصالح، وإذا كان في مرض أو كبر سن أو غير ذلك فليغلب جانب الرجاء حتى لا يقنط من رحمة ربه، وأن يحسن الظن بربه قبل أن يغادر هذه الحياة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله). وهذا لا يكون إلا بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف، فإذا قرأت آية في الخوف فاقرأ مقابلاً لها في الرجاء، والعكس بالعكس. وكذلك أحاديث الرجاء لا بد أن تضمها إلى أحاديث الخوف والعكس بالعكس، لأن الأمة -الآن- فرطت اتكالاً على رحمة الله عز وجل، ولو أنها علمت عذاب الله كما علمه السلف رضي الله عنهم لقل كلامهم وكثر عملهم، ولكن الأمة فرطت فكثر كلامها وقل عملها، فهذا نهج مخالف لما كان عليه من سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم. وبهذا الدرس ينتهي هذا المجلد وهو المجلد السادس من كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي، وموعدنا إن شاء الله تعالى مع المجلد السابع.

السحر، الكرامة، المعجزة، الحسد

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - السحر، الكرامة، المعجزة، الحسد السحر من الأمور المحرمة التي قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر؛ لأنه يشتمل على ممارسة بعض الأمور الكفرية كالسجود للشيطان ونحو ذلك، والسحر له حقيقة وله تأثير على المسحور، وهو يختلف عن المعجزة والكرامة، فالسحر من لدن الشيطان، والمعجزة والكرامة من لدن الرحمن، مع وجود فوارق أخرى بين المعجزة والكرامة.

تعريف السحر لغة

تعريف السحر لغة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الكلام عن السحر في باب واحد موجود في أصول الاعتقاد، وقد فرغنا منه، وإن كنت قد وعدت بشيء من التعريج على بعض المسائل المتعلقة بالسحر، وعلقت هناك على الواقع المر الأليم الذي تمر به الصحوة من تصدي كثير من الجهال لما يتعلق بهذا العالم الغيبي، كنت قد وعدت من قبل الكلام عن ذلك، فلما تكلمت كأني خرجت من وعدي في الكلام، ولكني فوجئت برجل يسلم لي في مسجد العزيز بالله ورقة فيها إعلان عن السحر، قال فيه: الشيخ أبو الأشبال أرسل إلي بهذه الورقة لتعلن عنها. قلت: أنت تعرف أبو الأشبال؟ قال: نعم. أنا أعرفه وهو الذي سلمني هذه الورقة، وهو يرجوك أن تعلن عنها. قلت له: يا أخي أنا أبو الأشبال. وأنا والله! لأول مرة آخذ خبراً بهذه الورقة، فضلاً أني سلمتك إياها. وسأذكر لك قصة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، فإنه يروى عن أحد الوضاعين -أي: الكذابين في الحديث- أنه ظل يحدث الناس ليلة كاملة، وهو يقول في حديثه: حدثني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وكان أحمد ويحيى في المسجد، فلما فرغ الرجل القاص من قصصه، استدعاه أحمد ويحيى فقالا له: أتعرف أحمد ويحيى؟ قال: نعم. أعرفهما، ومن لا يعرفهما؟! قال ابن معين: أما أنا فـ يحيى بن معين وأما هذا فـ أحمد بن حنبل، وأما أنا فلم أحدثك بهذا، أحدثته بهذا يا أحمد؟ قال: لا. فقال الرجل متعجباً ومندهشاً من كلامهما: ما رأيت أحمق منكما، أتظنان أنه ليس في الدنيا إلا أنتما أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟! لقد حدثت عن مائة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. فهذا يزعم أني سلمته الورقة، فاستوثقت منه، وهو الذي سلمني الورقة، وأنا لم أسلمه الورقة، لكني أجد نفسي مضطراً للرجوع إلى وعدي الأول للتعليق على بعض المسائل المتعلقة بالسحر: فنبدأ بتعريف السحر لغة، واللغة إنما وضعت تعريفاً محدداً، إما في لغة العرب، وإما معنى لمعنى السحر، هذا التعريف يدور حول أن السحر في لغة العرب يطلق على كل شيء خفي سببه، ولطف، ودق. يعني: شيء خفي، غامض، لكنه قائم على السبب، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر، وتصف ملاحة العينين بالسحر، يقال: فلان عيناه كالسحر، أو لما نظر إلي سحرني، أبهرني ببريق عينيه، أو بنظرته إلي؛ لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء، كما يوصف البيان بالسحر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً)، وإنما كان بعض البيان سحراً؛ لأنه يروق للسامعين، ويحلو لهم، ويستميل قلوبهم، ويغلب على نفوسهم، ويحول الشيء عن حقيقته، ويصرفه عن وجهته. والسحور وهو الطعام آخر الليل، سمي سحوراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، بعيداً عن أعين الناس. والرئة وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن. وتطلق العرب السحر على الخديعة، والمكر، والتمويه؛ لأنه يخفى سببها ويدق، ومنه قول لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير في هذا الأنام المسحر فمعنى السحر في لغة العرب: هو الشيء الذي دق سببه وخفي ولطف، بحيث لا يدرك. امرأة نظرت إليك فسحرتك، بحيث إن قلبك يكاد أن ينخلع من مكانه؛ لمجرد أنها نظرت إليك. فتقول: هذه المرأة سحرتني، في حين أنها ليست ساحرة ولكن نظرتها إليك فيها معان خفية جعلت قلبك ينخلع من مكانه، فأنت تعبر عن هذا الشيء الخفي بالسحر في حين أنها ليست ساحرة على الحقيقة. وكذلك الأداء أو البيان، البيان في أصل الكلمة، أو في كيفية إخراج الألفاظ والجمل، فالذي يسمع الشيخ محمد صديق المنشاوي ليس كالذي يسمع غيره، وأظن أن من ألف وأدمن سماع الشيخ المنشاوي لا يمكن أبداً أن يستغني عنه، ولا يمكن كذلك أن يشبع منه، فالقرآن كذلك له سحر في القلوب، ولذلك الأمر يختلف تماماً بين أن تسمع آية من كلام الله وأن تسمع معنى هذه الآية، فمعنى الآية ربما يمر عليك بغير تأثير، بخلاف أن تسمع كلام الله عز وجل فله تأثير خفي في القلب ربما جاز لك أن تعبر عن هذا المعنى بالسحر، وليس سحراً لكنك لا تملك إلا أن تعبر أن القرآن له تأثير عظيم في القلب، هذا التأثير تعبر عنه مرة بالتأثير، ومرة بالسحر (إن من البيان لسحراً)، وكلام الله عز وجل في قمة البيان وا

تعريف السحر اصطلاحا

تعريف السحر اصطلاحاً أما تعريف السحر في اصطلاح العلماء: فقد عرفنا من قبل أن لكل مصطلح تعريفاً لغوياً، وتعريفاً اصطلاحياً، فإذا أردنا مثلاً أن نعرف السنة قلنا: السنة في اللغة هي الطريقة سواء كانت هذه الطريقة محمودة أو مذمومة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، فالسنة في اللغة تختلف عن السنة في الاصطلاح؛ لأن السنة عند الأصوليين لها معنى، وعند الفقهاء لها معنى، وعند المحدثين لها معنى، وغير ذلك. فإذا قلنا: السحر في لغة العرب: هو كل شيء خفي سببه، ودق، ولطف، فلا بد أن يشترك المعنى اللغوي مع المعنى الاصطلاحي الذي وضعه العلماء، وهو الذي يعرف عند أهل الاصطلاح بالحد، والحد هو التعريف، وربما يكون بين كلمة الحد والتعريف فروق لكن اصطلح أهل العلم على أن حد الشيء هو تعريفه، والعلماء يشترطون في كل حد شرطين: الأول: أن يكون جامعاً، والشرط الثاني: أن يكون مانعاً، أما الجامع فهو: الجامع لأوصاف، وأركان، وشروط التعريف، وسمي جامعاً لأنه جمع جميع الأوصاف والشروط والأركان المتعلقة بهذا المصطلح، واشترط أن يكون مانعاً حتى لا يدخل غير المعرف أو المحدود في هذا الحد، فمثلاً: الصاحب في اللغة: هو من طالت ملازمته لصاحبه، وفلان صاحبي يختلف عن فلان رفيقي، والرفيق يطلق على رفيق الطريق، أما الصاحب ففيه معنى الملازمة وطول الصحبة، لكن لشرف النبي صلى الله عليه وسلم فإن من نظر إليه ورآه ولو للحظة تثبت له الصحبة، هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك إثبات الصحبة لـ أبي بكر كإثباتها لرجل أتى من البادية فنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى وإن لم يكلمه، أو لرجل عمي أو كان أعمى فحضر مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق أو مات عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فتثبت له الصحبة. فحينئذ إذا أردت أن أضع تعريفاً جامعاً مانعاً -أي: جامعاً للأوصاف، مانعاً من دخول الغير فيه- لمعنى كلمة صاحب، فأقول: الصاحب هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وهذا لا يصح أن يكون هو معنى الصاحب، لأنني قلت: الصاحب هو من رأى، وهذا مصطلح لا يطلق إلا على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أننا سنخرج من الصحبة من كان أعمى؛ لأننا قلنا: الصاحب هو من رأى، والأعمى لا يرى، ولو أني قلت: الصاحب هو من لقي فاللقاء يثبت للأعمى والمبصر، فحينئذ يكون هذا التعريف من التعاريف الجامعة المانعة. ولذلك إذا نظرنا إلى أقوال أهل العلم في تحديد معنى دقيق للسحر نجد أنهم يختلفون اختلافاً بيناً في تحديد معنى السحر، وكل تعريف لا يخلو من نقص؛ إما أنه جامع غير مانع، أو مانع غير جامع، ولن يستقر الأمر على تعريف محدد دقيق مانع جامع لأوصاف السحر وأركانه وشروطه، ومرد ذلك إلى خفاء السحر، وتعلقه بالغيب، وقوة التأثير النفسية له، فلما كان هذا من الأمور الغيبية الدقيقة اختلفت أقوال أهل العلم في وضع تعريف جامع مانع لمعنى السحر، لكنهم على أية حال ذكروا أوصافاً وشروطاً، هذه الأوصاف والشروط، وتلك العلامات والأمارات لو عرفناها لكان ذلك مغنياً لنا عن هذه الطاحونة في التعاريف التي ذكرها العلماء. فمثلاً: الجصاص رحمه الله يقول: السحر اسم لكل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، وجرى مجرى التمويه والخداع. وبلا شك أن هذا التعريف يحتاج إلى نقد؛ لأننا لو أنزلنا هذا التعريف على قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) فلن يستقيم هذا، وغير ذلك من التعاريف، كـ الفخر الرازي، وكذلك ابن خلدون، وغير واحد ممن عرف السحر. ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: سحر الأدوية والتدخين ونحوه ليس بسحر، إن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز، كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً، ولكنه حرام لمضرته، يعزر من يفعله تعزيراً بليغاً. وهذا أيضاً لا يستقيم أن يكون تعريفاً لمعنى السحر. وكذلك يقول سيد قطب رحمه الله في تعريفه للسحر: إن السحر خداع الحواس، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، أي: لما نظر موسى عليه السلام إلى عصي السحرة لما ألقوها فخيل إليه أنها حيات تسعى، وهذا بلا شك تخيل، وتمويه، وخداع للعين، والعين حاسة، فقال: إن السحر خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والمشاعر، وهو لا يغير من طبيعة الأشياء، وقد قلنا في الدرس الماضي: من السحر ما يغير طبيعة الأشياء، ومنه ما لا يغير طبيعة الأشياء. قال: ولا ينشأ حقيقة جديدة لها، ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. أما الذين ذهبوا إلى أن للسحر حقيقة فقد عرفوه بمثل ما عرفه به ابن خلدون، فقال: السحر علوم بكيفية

الفروق بين السحر والمعجزة والكرامة

الفروق بين السحر والمعجزة والكرامة

السحر مكتسب والمعجزة والكرامة هبة ومنحة من الله لأوليائه

السحر مكتسب والمعجزة والكرامة هبة ومنحة من الله لأوليائه ومن الفروق الدقيقة بين السحر، والمعجزة، والكرامة: أن السحر علم مكتسب يحصل بالتعلم والصناعة، والعلوم منها ما هو مكتسب، ومنها ما هو جبلي، كما أن من الحسد ما يكون جبلياً ومن الحسد ما يكون علماً، شخص يعرف أصول الحسد، ويحرص عليه، ويتابع أخبار الحساد أولاً بأول، وآخر ما وصل إليه الحاسد أو الحسود، ولذلك سنتعرض للحسد عند الكلام عن السحر، وسنذكر التفريق بينه وبين السحر لما بينهما من مفارقات واشتراكات، فالسحر علم مكتسب تماماً، كما أنك تتعلم العلم الشرعي، تجلس لتتعلم العلم الشرعي هذا اكتساب، فالعلم الشرعي لم يأتك من السماء وإنما أنت سعيت له لتتعلمه فهذا كسب منك في طلب العلم، وكذلك السحر، والدليل على ذلك حديث صهيب عند الإمام مسلم في كتاب الفتن أو كتاب القدر: (أنه كان ملك ممن كان قبلكم له ساحر يسحر له، فلما كبر الساحر قال للملك: لقد رق عظمي، وحضر أجلي، وكبر سني، فأرسل إلي بغلام أعلمه السحر) أي: حتى يكون خليفة له، والشاهد من الحديث: (أعلمه السحر)، فالسحر علم مكتسب. وقال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، يعني: يتعلمون من هاروت وماروت علم السحر الذي به يستطيعون أن يفرقوا بين المرء وزوجه. وقال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه:69]، وقال موسى لسحرة فرعون: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، فهذه الآيات وهذا الحديث تدل دلالة واضحة على أن السحر علم ويأتي عن طريق التعلم، وهو يتم بمعاناة أقوال وأفعال، وتعلم السحر حرام، وسيأتي معنا هذا الحكم بأدلته، لكن لا بد لمن تعلم السحر أن يتعلمه عن طريق القول والفعل. أما الكرامة فلا تحتاج إلى شيء من المعاناة؛ لأنها هبة ومنحة من الله تعالى لولي من أوليائه، وعبد من عباده الصالحين، كالغلام الذي جاءت قصته في حديث صهيب: (لما كان يذهب إلى الساحر كان يمر براهب في الطريق فيقعد إليه ويسمع منه حتى إن كلامه أعجبه، فذات يوم وهو ذاهب إلى الساحر وجد دابة عظيمة قد حبست الناس، ومنعتهم من السير، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم ألقى بالحجر فقتله). قال العلماء في شرح هذا الحديث: وفي هذا إثبات كرامات الأولياء، كما أنه في نهاية الأمر قال للملك الجبار الطاغية: (إنك لا تستطيع أن تقتلني إلا إذا فعلت ما آمرك به، قال: وما هو؟ -أي: وماذا تأمرني به؟ - قال: أن تأخذ سهماً من كنانتي، فتضعه في كبد القوس، وتصلبني على جذع نخلة وتجمع الناس في صعيد واحد ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإذا فعلت قتلتني وإلا فلا، فلما فعل الملك قتله، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام). والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله لما كان يقال له: فلان مصروع أو فيه مس أو شيء من هذا، كان يرسل نعله، وكان أحمد بن حنبل يرسل نعله، فإذا رأى الجن نعل أحمد قال: والله لو أمرني أحمد بن حنبل أن أخرج من بغداد لخرجت، وليس من بدن المصروع فحسب، فهذه المسألة متعلقة بتقوى الله عز وجل، وبقوة الإيمان، ورسوخ اليقين في قلب العبد، فما بالنا نجد الشاب في هذه الأيام لا يحفظ شيئاً من القرآن، ولا يحسن الصلاة ولا الصيام، ولا شيئاً من العبادة ثم هو يذهب بنفسه إلى المصروع فيضربه، ويحرقه بالنار أحياناً، ويشتمه، ويبصق في وجهه ويفعل الأفاعيل، ولا زال الجني يتلاعب به، وهذه المسألة ليست صناعة بل هي من كرامات الأولياء، وهبة من هبات الله عز وجل، ومنحة من منحه لعباده الصالحين. وهذا بخلاف المعجزة، فالمعجزة تعطى لأنبياء الله ورسله، كما أن الكرامة لعباد الله الصالحين من أوليائه دون الأنبياء والمرسلين، أما المعجزة فهي للأنبياء والمرسلين، فلا يقال لأمر خارق للعادة على يد ولي من أولياء الله: هذه معجزة؛ لأن المعجزة لا تكون إلا مع نبي خلافاً للكرامة فإنها مع الولي. يقول ابن خلدون: المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك، والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه، وبقوته النفسانية الشريرة، وبإمداد من الشياطين في بعض الأحيان. إذاً: السحر علم مكتسب، والكرامة هبة ومنحة من الله تعالى، وكذلك المعجزة، لكن المعجزة تكون على يد أنبياء الله ورسله، هذا هو الفارق الأول بين السحر والكرامة والمعجزة.

المعجزة والكرامة من خصائص الأنبياء الصالحين

المعجزة والكرامة من خصائص الأنبياء الصالحين الفارق الثاني: المعجزة والكرامة لا تظهر على فاسق قط، والفسق هو الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خارج عن طاعة الله عز وجل، منتهك لحرمات الله تعالى، غير منقاد للأمر، مرتكب للنهي، والكرامة والمعجزة لا يمكن أن تكونا على يد فاسق، وأعدل الخلق هم الأنبياء والمرسلون، ولذلك خصهم الله تعالى بالمعجزات التي هي كرامات وزيادة، فالمعجزة والكرامة يستحيل أن تظهر على يد فاسق، والسحر لا يظهر إلا من فاسق، هذا فارق جوهري بين الكرامة والمعجزة من ناحية وبين السحر من ناحية، فالسحر لا يتعاطاه إلا الفساق، وربما الكفار، أما المعجزة والكرامة فيختلفان عن ذلك تماماً، فلا يظهران على فاسق، فالنبي الذي تظهر المعجزات على يديه أفضل الناس نشأةً، ومولداً، ومزية، وخلقاً، وخلقاً، وصدقاً، وأدباً، وأمانة، وإشفاقاً، ورفقاً، وبعداً عن الدناءات، والكذب، والتمويه، أما الساحر فعلى العكس من ذلك كله لا تجده في موضع إلا ممقوتاً، حقيراً بين الناس، وأصحابه وأتباعه ومن كانوا على شاكلته لا تجدهم أبداً إلا مبطلين، ملعونين، مشتومين على ألسنة الخلق، ولذلك فإن الحافظ ابن حجر يبين كما بين شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله أنه هناك أمارات وعلامات يعرف بها الأمر الخارق للعادة؛ لأنه يلتبس على العامة، فإذا مشى رجل على الماء قلنا لأول وهله: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، هذا رجل من أولياء الله الصالحين، وإذا طار رجل في الهواء قلنا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله هذا رجل من الأولياء، ولا يلزم من ذلك أن يكون من أولياء الله، بل ربما يكون الذي طار في الهواء من أفسق الناس وأكفرهم، وربما يكون الذي مشى على الماء من أفجر الناس وأفسقهم، إذاً فما هو الضابط الذي يعرف به ما إذا كان هذا الأمر الخارق للعادة كرامة أو سحراً؟ يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: إذا رأيت الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تغتر بذلك حتى تنظر إلى موقعه من الشرع، فإذا كان من أهل الطاعة والانقياد والاستسلام لله رب العالمين فإن الذي يجري على يديه كرامة، وإذا كان غير ذلك فاعلم أنه من أعمال السحر. فالأول من أولياء الرحمن والثاني من أولياء الشيطان، وإن كان الفعل واحداً، ولا يزال أهل ريف مصر وبالذات في هذه القرى والنجوع البعيدة عن حضارة العلم، وعن انتشار العلم وذيوعه، وانتشار عقيدة التوحيد إذا دفنوا ماجناً، أو فاسقاً، ممن يسمى بشيخ التصوف، أو القطبي، أو الغوثي، نجد في جنائزهم صيحات وويلات، وتهليلات، كما أننا لا نسمع شيئاً، وإنما هي حكايات يلبسون بها، ويفسدون بها عقائد العامة، يقولون: القطب الفلاني أثر في حامليه حتى دكهم في الأرض دكاً، ونسمع أنه طار بنعشه في الهواء وما رأينا شيئاً من ذلك، وهذا كله كذب، هب أنه صدق وهب أن هذا حدث بالفعل لا يلزم منه أن الفاعل لذلك ولي، ولمَ لا نقول: إن الشيطان هو الذي فعل ذلك، حمل النعش وطار به في الهواء؟ كذلك يمتنع إساءة الظن حتى ننظر في عمل هذا الميت، أو في عمل الحي، فإذا كان صالحاً من أهل الصلاح والتقوى والالتزام الشرعي فهذه كرامة أجريت له بعد موته على يد ملائكة صالحين، وإذا كان عكس ذلك فهذه خارقة من خوارق العادة ومن باب السحر والشعوذة جرت على يد إبليس وأعوانه، فلا يجوز لنا أن نحكم لفلان أو على فلان حتى ننظر أين موقعه من الشرع، هذا ما نبه عليه الحافظ ابن حجر وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. قال ابن حجر رحمه الله: ينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه؛ فإن كان متمسكاً بالشريعة متجنباً للموبقات المهلكات، والمعاصي الكبائر، فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر؛ لأنه ينشأ عن أحد أعوان الشياطين. ويقول ابن تيمية عليه رحمة الله في السحرة والعرافين والكهان والمجتهدين في العلم والزهد والعبادة، أنهم لا علاقة لهم بالعلم، ولذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يدخل صوامع العباد ويضربهم على ذلك حتى يتعلموا كيف يعبدون الله تعالى، أما أن يدخل رجل لا علاقة له بالعلم الشرعي، ولا يدري متى تصح الصلاة ومتى لا تصح؟ متى يصح الصيام ومتى يفسد؟ وإذا سها في الصلاة ماذا يفعل؟ وهو لا يعرف شيئاً من ذلك، كان علي بن أبي طالب يضربه ويقول: تعلم أولاً ثم تزهد، ولذلك كثير من الزهاد والعباد بينهم وبين العلم بون شاسع. وقد ذكر ابن الجوزي عليه رحمة الله في كتاب تلبيس إبليس في باب التلبيس على العباد والزهاد مخازي وفضائح، أذكر منها: أن عالماً زار عابداً وفي حين زيارته أتى العابد سائل -ولا علم للسائل بهذا العالم، فالناس اعتادوا أن يتوجهوا في قضاياهم إلى ذاك العابد- فقال: أيها العابد! إن الدجاجة وقعت في البئر، فماذا أصنع؟ هل هو باق على طهوريته أم قد تنجس؟ فقال العابد: ولم وقعت؟ قال: لأن البئر لم يكن مغطى. قال: هلا غطيته، وقام العابد إلى السائل يضربه. تصور أن يكون هذا جو

المعجزات حقيقية وليست تخيلية

المعجزات حقيقية وليست تخيلية الفارق الثالث: أن معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على حقائقها، يعني: لا يمكن أن يقال في المعجزة أنها من باب التخيل والتمويه والخداع، فلا يقول أحد: إن هذا القرآن ليس قرآناً حقيقياً، وليس كلام الله تعالى حقيقة، بل هو تمويه وخداع، ولو قال ذلك أحد لكفر. إذاً: المعجزات حقيقية وليست من باب التخيل ولا الأوهام، وبواطنها كظواهرها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، والذي يقرأ كلام الله تبارك وتعالى مرة يستفيد فائدة، فإذا أعاد قراءة نفس الآيات ازداد فائدة ثانية، وثالثة، ورابعة، ولا يزال هذا القرآن كنوزه وفوائده دائمة إلى قيام الساعة، حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها ظهر عجزهم عنها. والمعجزة فيها نوع التحدي، ولذلك فإن الله تعالى تحدى العرب وهم أبلغ الخلق على الإطلاق أن يأتوا بعشر سور، أو بسورة، أو بعشر آيات، فعجزوا مع بلاغتهم وفصاحتهم، والنبي صاحب معجزات كثيرة لكن أعظم معجزة أتى بها النبي عليه الصلاة والسلام هي معجزة القرآن الكريم، الذي هو كلام الله تعالى، ومخاريق السحرة وتخيلاتهم إنما هي ضرب من الحيل والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، يلقي العصا على الأرض فيراها الناظر إليها حية تسعى، فهذا تخيل وأوهام.

السحر ليس فيه شيء خارق للعادة

السحر ليس فيه شيء خارق للعادة وما يظهر منها على غير حقيقتها يعرف ذلك بالتأمل والبحث ومتى شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ولذلك قال الراهب للغلام لما قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتلها، فلما رماها بحجر قتلها، ولما ذهب إلى الراهب وقص عليه ما كان منه قال الراهب: إنك اليوم أفضل مني، أي: بلغت مبلغي وزيادة، ولو أن شخصاً لا علاقة له بالسحر يذهب ليتعلم السحر على يد فلان من الناس قد يتفوق عليه، أما الكرامة فلا يمكن أن نتعلمها؛ لأن الكرامة والمعجزة منحة من الله، الأولى على يد ولي، والثانية على يد نبي أو رسول، بخلاف السحر فإنه علم يتعلمه صاحبه، ومصدره الشيطان، وإذا أراد أحد أن يتعلم السحر ربما فاق المعلم، أو ضاهاه، أو قاربه، حتى ولو بذكائه، لكن المعجزة ليست من هذا الباب، لا تخضع لتعليم، وكذا الكرامة لا تخضع لتعليم. وقد تناول الإمام القرافي هذا المعنى في الفرق بين السحر والمعجزة، حيث قال: الفرق بينهما أن السحر والطلسمات والسيمياء ليس فيها شيء خارق للعادة؛ بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس بل للقليل، ولذلك ليس كل الناس سحرة، وهناك بقاع من الأرض يغلب عليها السحر، فمثلاً: بلاد المغرب العربي وبالذات دولة المغرب فإن السحر فيها مثل (السلام عليكم)، وضع طبيعي جداً، وأنا يحزنني جداً أن أقول: إن العلماء السلفيين وطلاب العلم السلفيين متأثرون بالسحر، وهم منتشرون في أمريكا بالذات؛ لأن بلاد المغرب أقرب البلاد العربية لأمريكا، فبينهما المحيط، ومع هذا لا يزال عندهم لوث السحر، وإذا راجعتهم غضبوا غضباً شديداً جداً، مع صحة اعتقادهم في العموم، فهذا الباب كأنهم مسحورون فيه أيضاً، حتى إن أحد الإخوة الطيارين من بلاد السعودية كان استنصحني ذات مرة أن يغير طريقه من القاهرة جدة إلى جدة المغرب، فقلت له: احذر السحر، وما سمع الكلام حتى ذهب إلى هناك فسحرته امرأة في مطار المغرب؛ لأن السحر عندهم في وضع طبيعي جداً، حتى إن الساحر يسحر الساحر، فالسحر في المغرب أعظم انتشاراً من أمريكا وأوروبا، مع اشتهار السحر في تلك البلاد، لكنه في المغرب أكثر من ذلك بكثير. قال: بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بل للقليل منهم كالعقاقير التي تعمل منها الكيمياء، والحشائش التي يعمل منها النفط الذي يحرق الحصون والصخور، والدهن الذي من ادهن به لم يقطع فيه الحديد. وقد جرت مناظرة بين ابن تيمية وبين الرفاعية، فقالوا له: ندخل النار وأنت معنا؛ والذي يحرق منا دليل على فساده، والذي لا يحرق دليل على صلاحه، فوافق ابن تيمية على ذلك نصراً للدين، وتوكلاً على الله، ويقيناً في الله، وقال: ولكن لي شرط، أن يغتسل الجميع قبل دخول النار، لأنه يعرف أنهم سوف يتدهنون بنوع من الدهن لا يتأثر بالنار، ولا تؤثر فيه النار، فرفضوا على الفور، فعلم أنه صاحب الحق. وكذلك إذا وجدت أسباب السحر الذي أجرى الله به العادة حصل، فالسحر مترتب على درجات وأسباب، إذا أتى الساحر بهذه الدرجات وتلك الأسباب حصل السحر، وكذلك السيمياء، وغيرها. فالمعجزة في نهاية الأمر لا يمكن مضاهاتها، ولا يعلم البشر لها سبباً، أما السحر فله أسباب خفية، هذا فارق بين المعجزة وبين السحر، لا يمكن لشخص أن يأتي بمعجزة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أتى بهذه المعجزة تحداه بلغاء العرب الذين لم يؤمنوا بالله، وقالوا: نحن باستطاعتنا أن نأتي بقرآن مثل قرآنك وأحسن منه، فأتوا بفضائح ومخازي حتى إن بعضهم قال لبعض: إنكم لتعلمون أننا نعلم أنكم كاذبون، يعني: نحن كتبناه مع بعض وفهمنا أن هذا سحر، ودجل، وشعوذة، وكلام فارغ، لا يصلح أن يكون من عند العقلاء فضلاً أن يكون من رب العالمين. وقد استطاع البشر في هذا العصر أن يصلوا إلى هذا الذي وصل إليه الجن، فقد دار الحوار بين سليمان عليه السلام وبين الطير والدواب والهوام والحشرات وغير ذلك، قال تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38]، فقال له أحدهم: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، فالعالم كله مسخر لسليمان عليه السلام، وهذا ملك خاص به عليه الصلاة والسلام، هذا ليس معجزة للطير، ولا للهدهد، وإنما معجزة لسليمان عليه السلام؛ لأنه صاحب السلطان في هذا البلد، ولا أدل على حصول ذلك للأنبياء ما قد وقع وتم في هذا الزمان من الاتصالات الهاتفية، واللاسلكية، وسرعة الضوء، وسرعة الكهرباء، فإن ملايين الأميال في الثانية الواحدة لسريان التيار الكهربائي في الأسلاك. فكذلك الشياطين يضلون بهذا العباد ولا يمكنون العباد من الاستفادة منها إلا إذا عبدوهم من دون الله، والانتقال من مكان إلى مكان بسرعة فائقة أصبح اليوم يتم في وقت قصير، والمسافر من المدينة إلى الشام أو من المدينة إلى مصر كان يستغرق عشرين يوماً وأحياناً ش

المعجزة لا يمكن إبطالها ولا يجوز

المعجزة لا يمكن إبطالها ولا يجوز الفارق الرابع: أن المعجزة لا يمكن إبطالها، ويحرم تعرضها للبطلان، أي: يحرم علينا أن نقول: نحن جربنا القانون الفرنسي، والإيطالي، والإنجليزي، والأمريكي، ولم تنفع هذه القوانين، ما رأيك في أن نجرب الشرع؟ الشرع لا يخضع للتجربة؛ لأن الذي يخضع للتجربة إما أن تثبت صحته أو بطلانه، أما الشرع فصحيح كله، لا يرد منه شيء، ولا يتبدل ولا يتغير، هذه قوانين أرضية لا يمر عليك عام إلا وتسمع أن القول الفلاني تغير، وتبدل، وزودوا فيه، ونقصوا منه، وثبت فشله، أما القرآن الكريم والسنة النبوية فهما وحي الله، كلام اللطيف الخبير، الذي خلق الخلق وهو أعلم بما ينفعهم ويضرهم، فشرع لهم أمراً ما ينفعهم، وشرع لهم نهياً ما يضرهم، وأمرهم بائتمار الأمر واجتناب النهي، وهذا هو دين الله، فالمعجزة لا يمكن إبطالها. ولذلك تكلم بعض أهل العلم من المعاصرين فقالوا: هذه النظريات العلمية الحديثة التي يأتي بها علماء الطبيعة والفيزياء أو الكيمياء أو علماء الأرض والبيولوجيا والسيلوجيا، هذه نظريات صحيحة لتعلقها بالآية الفلانية، أو الآية الفلانية تشهد لها، ثم يأتي من بعدهم أقوام يثبتون بطلان النظرية، فاللازم لبطلان النظرية يستلزم بطلان الآية؛ لأنه لما أثبت صحة النظرية ربطها بالآية، فهذا باب خطير جداً ومزلق شر عظيم، هذه النظريات العلمية كثر الله خيرهم الذين بذلوا جهدهم المضني المشكور في إثبات ما قد اعتقدوا أنه صحيح، لكن لا يلزم من ذلك ربطه بالكتاب والسنة؛ لأنه يلزم في بطلان النظرية عند هؤلاء بطلان الدليل. فالمعجزة لا يمكن إبطالها، أما السحر فإنه يمكن إبطاله، ولذلك من الطبيعي جداً فك السحر، وإبطال مفعوله، وتأثيره، لكن لم نسمع شخصاً يقول: نريد إبطال هذا القرآن، فهذا مستحيل! المعجزة لا يمكن إبطالها بينما السحر يمكن إبطاله، إما أن يبطله ساحر مثله أو أعلم منه، ولذلك تقوم صراعات وحروب بين السحرة وشياطينهم، وإما أن يبطله أهل التقى والإيمان بما أعطاهم الله من اليقين، وبما يتلونه من آيات الكتاب، والأدعية، والأذكار، وقد حدث أن حضر بعض الأتقياء عند بعض هؤلاء المنحرفين فقرأ آية الكرسي في أثناء إتيانه بأسباب السحر، وهذا يتم كثيراً وكثيراً بين إخواننا أصحاب العقيدة السليمة وبين السحرة بالذات في القرى، وهذا قد حدث من قبل، وأذكر أن حداداً في قريتي ما ترك عريساً في عرسه إلا وربطه، كان بالنهار يعمل حداداً وفي الليل يسحر، فلما تقابلنا في الشارع قال: يا شيخ حسن أنت لا تريد أن تتزوج أم ماذا؟ قلت: والله ما دامت الكلمة أتت منك فأنا إن شاء الله زواجي في الخميس القادم، قال: إن شاء الله في الصبيحة تأتي إلينا ومعك المعلوم، قلت: لن يكون بإذن الله، وأتحداك، والله لن تقدر على ذلك، وأعطاني الله تعالى في ذلك الوقت من اليقين ما تحديت به هذا الأفاك الفاسق، مع كبر سنه فإنه قد بلغ من العمر ثمانين عاماً، وفي الحديث: (شر الناس من طال عمره وساء عمله)، فلما أتيت بزوجتي من بلدها والله ما قدر أن يفعل شيئاً، وهذا من فضل الله عز وجل، ونعمته، وهبته، ولست ولياً من أوليائه، فعندي من المعاصي أكثر من الطاعات، لكن الله تعالى نصرني في هذا الموقف تثبيتاً لإيمان الموحدين في هذه القرية، حتى يعلم هذا المبطل أنه لا يصدر إلا عن أمر الشيطان، وأنه والشيطان في قبضة الله عز وجل، فما استطاع أن يفعل شيئاً، وما كنت أريد أن أذكر ذلك لكني ذكرته لتثبيت اليقين والإيمان في قلوب كثير من السامعين. قال: وقد حدث أن حضر بعض الأتقياء عند بعض هؤلاء المنحرفين فقرأ آية الكرسي فلم يستطع أن يفعل الساحر شيئاً، وطار بعض هؤلاء في الهواء فلما هلل الموحدون سقط المحمول ووقع، أي: فر الشيطان وتركه، وهذا في الحقيقة حاصل في قرى كثيرة جداً، وهناك أخ وصديق من قريتي ذهب إلى ساحر في القرية المجاورة، فلما استدعاه المسحور وقال له: أنا ذاهب إلى فلان، قال: هو لا ينفعك، والذهاب إليه معصية وكبيرة من الكبائر، ورد للأعمال الصالحة وغير ذلك، فقال له: لقد كشف الضر عن فلان، وفلان، وفلان، وشيء من هذا، قال: فإنه إن شاء الله لا يكشف عنك شيئاً إنما يكشفه الله، وذهب معه إلى الساحر، ووضع رأسه بين يديه عند الساحر وظل يتلو كتاب الله عز وجل حتى جن جنون الساحر وغضب واحمر وجهه ثم اسود، وقال: أخرجوا هذا من عندي، أنت ماذا تصنع؟ قال: أنا لا أصنع شيئاً غير أني أقرأ الإخلاص والمعوذتين، فهذا القرآن أبطل سحره. ولذلك العصمة دائماً في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أما اعتقاد أن هذا الساحر ينفع ويضر فهذا ضرب عظيم من ضروب الشرك بالله عز وجل، وكثير من الناس العامة وبعض الإخوة الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم إذا أصيب بمس، أو صرع، أو جن، أو شيء من هذا، أو سحر، ذهب فوراً إلى الساحر، وربما ذهب إلى الكنيسة ليعالجه ويدفع عنه الضر قسيس مجرم من المجرمين، هو يعتقد أن العلاج في الكنيسة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا باب عظيم جداً من أبواب الشر. ويذكر

السحر يحصل من الساحر وغيره بخلاف المعجزة

السحر يحصل من الساحر وغيره بخلاف المعجزة الفارق الخامس: السحر يوجد من الساحر وغيره، أخت من أخواتنا تريد أن تتعلم إخراج السحر من البدن، وتعالج المصروع، فحدث أنها ذهبت إلى أخت لتعالجها من الصرع، فشعرت بشيء يدخل في دبرها ولم تتمكن من طرده، فخرجت وهي امرأة منتقبة عارية الرأس حافية القدمين تبكي وتولول في الشارع، ثم أصابها من الذعر والخوف ما الله به عليم، حتى إن زوجها إذا أتى من صلاة الفجر كانت تنتظره خلف باب العمارة من جهة الشارع، تنزل من شقتها وتنتظر خلف باب العمارة في الشارع، فقد أصابها من الرعب والذعر الشيء العظيم؛ لأنها دخلت في باب لا تحسنه، فالسحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يوجد جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد، والمعجزة لا يمكن أن يأتي أحد بمثلها، أي: السحر قد يأتي به واحد أو اثنان، أو جماعة، لكن المعجزة لا يأتي بها إلا واحد.

المعجزة فيها تحد بخلاف الكرامة

المعجزة فيها تحد بخلاف الكرامة الفارق السادس: أن المعجزة فيها شيء من التحدي، خلافاً للكرامة، فالولي لا يتحدى لأنه لا يزكي نفسه، والنبي تحدى قومه بالمعجزة دلالة على صدق نبوته ورسالته، وهذا للمصلحة العامة، ولمصلحة الخلق، كما أنه مأمور بأن يتحدى ولم يصدر عن نفسه أو هواه؛ لأن الأنبياء أبعد الناس عن الهوى، وألزم الناس للشرع، خلافاً للكرامة فإنه لا ينفع فيها التحدي، لأنها هبة من الله، قد يسلبها منك، ومنحة قد يأخذها، فهي حقه سبحانه وتعالى، فالمعجزة فيها نوع تحدي وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه الرسول، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال للأعرابي لما كذبه في نبوته ورسالته: (أرأيت لو أني قلت لهذه الشجرة وأمرتها أن تأتي أمامي هنا، ثم أمرتها أن تذهب إلى مكانها أكنت تؤمن أني نبي؟ قال: نعم) ففعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك. ومرة قال لأصحابه: (أجمعوا خبزكم وطعامكم) وهو يسير وقليل لو جمعوه ربما لا يكفي واحداً منهم أو اثنين، (فلما جمعوه برك عليه النبي عليه الصلاة والسلام -أي: دعا فيه بالبركة- فأكلوا جميعاً، وشبعوا وملئوا مزاداتهم). (ولما جيء بإناء فيه ماء، وضع النبي يده في الماء فصار الماء يفور من بين أصابعه) فلا أحد يستطيع أن يعملها، ولو تحدى بها النبي لكان محقاً في تحديه؛ لأنها معجزة مادية أتى بها عليه الصلاة والسلام، والمعجزات المادية للنبي عليه الصلاة والسلام لا نهاية لها، فقد جمعها بعض العلماء في مجلدات، ولا تزال هذه المجلدات تفتقر إلى بعض المعجزات. هذه بعض الفروق بين السحر، والكرامة، والمعجزة.

الفروق بين السحر والحسد

الفروق بين السحر والحسد وهناك فروق يسيرة بين السحر والحسد: فالحاسد تتكيف نفسه بالخبث؛ أي: تتصف نفسه بالخبث فتصبح نفساً غضبية خبيثة حاسدة تؤثر في المحسود بطريقين: الطريقة الأولى: قوة النفس الذاتية، بحيث يتمكن الخبث من النفس، فلا تكاد تجد في نفس الحاسد طيباً، وهي في هذه الحال تؤثر في المحسود غاب أم حضر، يعني: هو جالس في مصر يحسد واحداً في قطر، فهي نفس خبيثة امتلأت شراً. أما الطريقة الثانية: فهي طريقة العائن، والعائن هو الذي ينظر بعينه، لا يستطيع أن يحسد شخصاً بعيداً عنه، لا بد أن يراه، وقد كان في بلادي رجل عائن يحسد، وكان ساكناً في آخر الشارع، وكان يحسد رجلاً، فذهب المحسود وأتى بشخص حاسد آخر من أجل أن يحسد له الحاسد، فلما رأى الحاسد قد خرج من البيت قال له: هذا هو في آخر الشارع فاحسده إذاً، فقال له: أنا لا أرى شيئاً وأنت تراه؟ قال له: نعم، قال له: أنت نظرك حاد، وغير ذلك من هذه البلايا، فوقع المحسود في الحسد، فالعائن لا يستطيع أن يحسد من غاب عنه، فإن نفسه خبيثة لكن لم تبلغ في الخبث مبلغ الأول، والعائن الذي يمرض ويؤذي غيره بسبب تلك النظرة الخبيثة المنبعثة من أعماق نفسه يضر غيره لأمرين: أولاً: لشدة العداوة والحسد، فإذا قابل العائن عدوه ورآه بعينه وتوجهت نفسه الخبيثة إلى المنظور إليه أضر به، وكل ذلك لا يقع إلا بإذن الله وقدره. الثاني: الإعجاب، فهو يضره عن طريق الإعجاب، كأن يقول: يا سلام! أنت تراه وأنا لا أراه، فهذا إعجاب بحدة النظر، ولذلك فإن الحسد يقع من الحاسد قصده أو لم يقصده، والصحابة الذين هم أشرف مني ومنك وقع بينهم الحسد ولم يقصدوه، وهذا اسمه حسد الإعجاب، ففي السنة: (أن رجلاً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كان يغتسل، وكان بدنه أبيض، فلما نظر إليه صاحبه سر ببدنه فقال: ما أبيض بدنه! وأجمل لحمه! -أو شيء من هذا- فأصابته هذه العين فوراً، فاحمر بدنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الحاسد أن يغتسل من الماء ويؤتى بهذا الماء ليغتسل منه المحسود، فشفى الله تعالى المحسود). فالحسد يقع من الرجل بالإعجاب قصده أو لم يقصده، فإذا قصد الحسد فهو خبيث النفس، وإذا لم يقصده فهو ما يسمى عند العلماء بحسد الإعجاب، وحسد الإعجاب هو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في ذلك المتعجب منه. والشياطين تعين الحاسد والساحر، ولكن الحاسد تعينه بلا استدعاء منه لهم، وهذا فارق بين الحسد والسحر، والساحر يستدعي الشياطين، ويطلب منهم أن يعينوه، وربما طلب الشيطان من الساحر أن يعبده أولاً قبل أن يقضي له حاجته، وينفذ الساحر للشيطان طلبته، وقد قرن الحق تبارك وتعالى في سورة الفلق بين الاستعاذة من شر الحسد وشر الساحر في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5]، والاستعاذة من هذين الشرين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن، فالحسد يكون من شياطين الإنس والجن وكذلك السحر. وقد دل قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، على أن للحاسد شراً يؤذي المحسود، فلا يجوز أن يدعي مدع أن الحاسد لا يؤثر في المحسود ولا يضره، وقد رأينا في هذا العصر حيوانات برية وبحرية تقتل غيرها عن طريق أشعة تنبعث من عينها أو جسدها، فلم لا يكون في بعض الناس قوة خاصة تؤذي الآخرين وتضر بهم؟

حكم الشرع في السحر والسحرة

حكم الشرع في السحر والسحرة والشرع له موقف ثابت لا يتزعزع من السحر والسحرة، ومن الحسد والحاسدين، وقد جاء الإسلام وشن حرباً لا هوادة فيها على السحرة، والكهان، والعرافين، وعد الرسول صلى الله عليه وسلم السحر واحداً من الجرائم المهلكات، وفي حديث آخر قال عن مصدق الكهان: (فقد كفر بما أنزل على محمد) وعد الذي يقتبس شعبة من النجوم أنه قد اقتبس شعبة من السحر، وذهب كثير من العلماء إلى وجوب قتل الساحر، وعدم صحة توبته، وصح عن عمر بن الخطاب أنه أمر ولاته في شتى أنحاء الدولة الإسلامية بقتل كل ساحر وساحرة، وفعلاً نفذ بعض الولاة أوامر الخليفة الراشد، ولذا فإن السحرة لم توجد لهم سوق رائجة في ديار الإسلام، وكان المسلمون المستقيمون ينظرون إلى السحرة نظرة ازدراء واحتقار، ومع ذلك فإن ديار الإسلام لم تخل على مر التاريخ من السحر والسحرة، ولكن المسلمين كانوا ينظرون إليهم نظرة مقت، وكانت سيوف الحكام تلاحقهم بالقتل، والطرد، والإيذاء، وألسنة العلماء تبين خبثهم ودجلهم، وضلالهم. يذكر ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة أربع وثمانين ومائتين: أن الخليفة المعتضد أمر بأن ينادى في جميع أنحاء البلاد بألا يجتمع العامة على قاص، ولا منجم، ولا جدلي، والقاص هو الذي يقص الإسرائيليات والخرافات وغير ذلك، والمنجم هو ساحر عن طريق استعمال النجوم، والجدلي هو الذي يجادل في الدين بغير علم. وقد تحدث ابن خلدون عن تاريخ السحر عند المسلمين فقال: علوم السحر والطلسمات مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر، ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من الكواكب والنجوم وغير ذلك، ولذلك فإن كتبها -أي: الكتب المؤلفة في السحر- كالمفقودة بين الناس، إلا ما وجد من كتب الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام، ولم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل، مثل كتاب الفلاحة النبطية لـ ابن وحشية من أوضاع أهل بابل، فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه، ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة، وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرها. ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة، فتصفح كتب القوم، واستخرج الصناعة، وغاص في زبدتها، واستخرجها ووضع فيها عدة من التآليف، وأكثر من الكلام فيها، وفي صناعة السيمياء؛ لأنها من توابعها؛ ولأن إحالة الأجسام النوعية وتبدلها من صورة إلى صورة ومن هيئة إلى هيئة، إنما تكون بالقوة النفسية الخبيثة لا بالصناعة العملية، فهو من قبيل السحر، وسيأتي معنا ذلك بإذن الله تعالى. وغير ذلك من الكتب المصنفة في هذا ككتاب غاية الحكيم الذي صنفه مسلمة بن محمد المجريطي إمام أهل الأندلس في السحر، وكتاب آخر اسمه: الغاية لنفس المؤلف، وهو مدونة وموسوعة في هذه الصناعة، وكتاب لـ صخر بن الخطيب اسمه: السر المكتوم، وذكر ابن خلدون أن بالمغرب صنفاً من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين، يشير الواحد منهم إلى الكساء أو الجلد فيتخرق، ويشير بإصبعه إلى الجدار فينخرم الجدار، ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج -يعني: بالخرم- فتنخرم بطن النعجة، ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج؛ لأن أكثر من ينتحله من السحر متخصصون في البهائم، ويرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها، خوفاً على أنفسهم من الحكام، فإن الحكام في المغرب كانوا يتعلمون السحر ويعانونه كذلك. وقال ابن خلدون: سألت بعضهم فأخبرني فقال: وأما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفت على الكثير منها، وعاينتها من غير ريبة في ذلك.

موقف الشرع من علم أسرار الحروف

موقف الشرع من علم أسرار الحروف ذكر ابن خلدون: أن بعض المتصوفة خاضوا في نوع من السحر هو علم أسرار الحروف، وهذا نوع من أنواع السحر، يظل الشخص يفسر لك (بسم الله الرحمن الرحيم) في شهر، يقول لك: الباء تعني كذا وتفيد كذا، والباء من كذا، وأصلها كذا، ومردها إلى كذا، والمحاضرة التي بعدها عن السين وهي تفيد كذا، وأصلها كذا، وذاهبة إلى أين، وأتت من أين، وهذا ما يعرف بالتفسير العددي للقرآن الكريم، وعبد الرزاق نوفل هو إمام أئمة هؤلاء الدجالين السحرة. وفي أحداث سبتمبر رأينا أناساً يستشهدون بالآية رقم مائة وعشرة من سورة التوبة على أن البرج مائة وعشرة، مع أن البرجين كانا مائتين وعشرين، وهذا ما يدل على كذبهم، فيستخدمون أسرار الحروف، وهذا النوع هو المسمى بالسيمياء، نقل وضعه من الطلسمات في اصطلاح أهل التصوف من المتصوفة استعمل هذا الاستعمال الخاص. ويذكر ابن خلدون: أن هذا العلم حدث في الملة بعد صدر منها، يعني: خلف الأمة لم يكونوا يعرفون علم السيمياء هذا، ولا علم تفسير القرآن بالأعداد، ولا علم التفسير بالحروف، وعند ظهور غلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحفظ، وظهور الخوارق على أيديهم، والتصرفات على عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود على الواحد وترتيبه، وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي سارية في الأكوان على هذا النظام، والأكوان من لدن الإبداع الأول تنتقل في طوره، وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوع، ولا تحاط بالعدد مسائله، وتعددت فيه تآليف البوني وابن عربي وغيرهما ممن اتبع آثارهما، وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة في الأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان. وفي الشهر الماضي رأينا بعض الأوراق التي فيها معالجة بعض الأمراض بالأسماء الحسنى، وهذا الباب من أبواب السحر، يقولون: الذي عنده جذام يكون علاجه في اسم الله كذا، يقرؤه ألف مرة، أو مائة مرة، أو ثلاثمائة وسبعين مرة، أو مائة واثنين وخمسين مرة، فمن أتيتم بهذه الأعداد؟ وما يدريكم بأن هذا الاسم هو الذي يوافق هذا المرض؟ ألستم تعرفون أن الدواء إذا وافق الداء كماً، وقدراً وكيفاً أصابه بإذن الله تعالى، وممكن أن شخصاً يأخذ علاجاً لكن لا يبرأ؛ لأن العلاج هذا لا يناسب الداء، أو أنه مناسب للداء لكن الجرعة التي يأخذها ليست كافية، ومما يدل على ذلك: (أن رجلاً أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إن أخي استطلق بطنه، - يعني: بطنه توجعه - فقال: مره فليشرب عسلاً، فشرب عسلاً فلم يبرأ، فأتى أليه مرة أخرى وقال: يا رسول الله! لم يحصل أي شيء إنه مريض، قال: مره فليشرب عسلاً، ثم مره فليشرب عسلاً، حتى برأ). يقول ابن القيم عليه رحمة الله: لم يبرأ أولاً لأنه لم يأخذ القدر الكافي من الدواء، فلو قال لك: أنت علاجك بإذن الله تعالى في هذا الدواء، فتقول: من أجل أن أخلص نفسي أشربه كاملاً من أجل أن أرى صدق هذا الطبيب من كذبه، ثم تفاجأ بأن الطبيب صار كذاباً؛ لأنك تصاب بتسمم، وفي الحقيقة الطبيب ليس كاذباً، الطبيب محق في صرف هذا الدواء وهو المناسب للداء، لكن المناسب له بالكيفية المعينة، وأنت خالفت الكيفية، فربما تصاب بداء أعظم من دائك الذي تريد التطبب والعلاج منه. نتوقف عند هذا الحد، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.

السحر بين الحقيقة والخيال

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - السحر بين الحقيقة والخيال السحر له حقيقة، وهو حرام في شريعة الإسلام، تعلمه وتعليمه وممارسته، ومذهب جماهير العلماء أن الساحر كافر، وحده القتل، وقد أرشدنا القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام إلى كيفية العلاج من السحر، فقد سُحر النبي عليه الصلاة والسلام فأنزلت عليه سورة الفلق، ورقى نفسه حتى شفي.

سياق ما روي في أن السحر له حقيقة

سياق ما روي في أن السحر له حقيقة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. هل السحر حقيقة أم خيال؟ والخيال: بمعنى التخييل، والوهم: أن يتوهم الإنسان أن التراب صار ذهباً، أو أن الذهب صار تراباً، أم أنه بالفعل قد صار الأبيض أسود، أو صار الأسود أبيض؟ اختلف العلماء: هل للسحر حقيقة في قلب طبائع الأشياء وأصولها، أم أنه ما هو إلا تخييل؟ يقول الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فهل هذا تخييل أم أنها بالفعل كانت تسعى، فانقلبت وتحولت من عصا إلى حية؟ أم أنه خيل إليه فقط أنها تسعى، وهي في حقيقة الأمر لا تسعى؟ اختلف أهل العلم في هذه القضية: هل للسحر حقيقة أم أنه خيالات وأوهام؟ وهذه مسألة محل بحث، وسوف نسرد الأدلة فيها فيما يلي: أولاً: قال الله عز وجل: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]. فتبين بهذا أن السحر علم، وباتفاق أهل العلم أنه من العلوم الضارة. والعلوم: إما نافعة، وإما ضارة. فالعلوم النافعة: هي التي تخدم دين الله عز وجل، أو أنها هي من دين الله، كعلم التفسير، وعلم التوحيد والعقيدة، وعلم الحديث وعلم الفقه، والعلوم التي تخدم هذه العلوم وهي علوم الآلة: كعلم اللغة العربية والأدب وغير ذلك، وأصول الفقه وأصول الحديث، كل هذه العلوم تسمى علوم الآلة، وهي التي نتوصل من خلالها إلى فهم كتاب الله تعالى، وفهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفهم الفقه الصحيح على هذه الأصول الشرعية. فالعلوم هذه هي العلوم النافعة، ومن العلوم النافعة كذلك: العلوم التي تخدم عمارة الكون بما لا يتعارض مع دين الله عز وجل، كعلوم الطب والفيزياء والهندسة وغير ذلك. أما العلوم الضارة فهي العلوم المحرمة، كعلم النجوم، أن تتعلم من النجوم ما يعارض الشرع، وعلم السحر وعلم التنجيم، وعلم السيمة الذي يعرف عند السلف بعلم السيمياء، وهو الذي عبر عنه بعض المفسرين: بمعرفة طبائع وأصول الأحرف، فهذا علم قد تبنته البهائية يقولون: بسم الله الرحمن الرحيم، الباء تعني كذا والسين تعني كذا، والميم تعني كذا، وهذا في الحقيقة لا علاقة له أبداً بالمنهجية السلفية في تفسير كتاب الله عز وجل. فهذا من العلوم الضارة كذلك، وقد تبنته بعض الفرق الضالة، وغير ذلك من العلوم التي تتعارض مع دين الله عز وجل حلاً وحرمة. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} [يونس:80]؛ أي: الذين يسحرون غيرهم. وقال تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]. فهذه الآيات كلها تدل على أن للسحر حقيقة، وهذا مذهب جماهير العلماء أن السحر له حقيقة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عمر، وعثمان، وجندب، وعائشة، وحفصة أنهم أمروا بقتل الساحر وقالوا: حد الساحر ضربة بالسيف].

شرح حديث عائشة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث عائشة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وعن عائشة قالت: (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله)]، بسبب السحر الذي سحر به عليه الصلاة والسلام. قال: [وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه شيء - أي: من السحر - حتى كان يرى أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن)]. وهو في حقيقة الأمر لم يأتهن، لكنه كان يخيل إليه أنه قد أتاهن، فانتبه من نومه فقال: [(يا عائشة، إن الله تعالى أفتاني فيما استفتيته)]، يعني: إن الله تعالى أراني حقيقة رؤيا قد رأيتها، (أتاني آتيان -أي: رجلان- فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب)، يعني: مسحور، من الطب، وسموا المرض علاجاً أو صحة كما سموا السحر طباً من باب التفاؤل، كما سموا الشقاء سعادة من باب التفاؤل. [(قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم)]، ولبيد بن الأعصم رجل من اليهود سحر النبي صلى الله عليه وسلم، [(قال الملك لصاحبه: فيم؟ قال: في مشط ومشاطة)]، المشط هو الذي يرجل به الشعر، والمشاطة: هي الشعر الذي يخرج في أثناء التمشيط وتسريح الشعر. قال: [(وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان)]، أي: في طلعة نخل، وأنتم تعلمون أن قشر النخل يسمى الطلعة، فقد وضعه لبيد بن الأعصم في هذه الطلعة في بئر يسمى: بئر ذروان. قال: [(فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر فاستخرجه)]. وفي رواية عند البخاري كذلك: (أنه أرسل بعض أصحابه فاستخرجه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذه البئر التي رأيتها كأن ماءها نقاعة الحناء). أي: هذه البئر هي التي قد رأيتها في المنام، وكأن ماءه كماء الحناء المنقوع، قال: (وكأن نخلها رءوس الشياطين)، يعني النخل الذي خرج من هذا البئر كأنه رءوس الشياطين. قال: [(قالت عائشة: فقلت له: ألا تنتصر يا رسول الله!)]. وفي رواية: (ألا تنتشر)، أي: ألا تعالج نفسك بالنشرة، والنشرة عند المسلمين الأوائل وعند العرب معروفة، وهي: ضرب من ضروب العلاج كان الصحابة رضي الله عنهم يتعاطونه، ولا يزال إلى يومنا هذا من يتعاطى النشرة ويعالج بها من بعض الأمراض.

علاج السحر وشروط الانتفاع به

علاج السحر وشروط الانتفاع به كثير من الشباب في مقتبل عمرهم الزوجي أو بعد زواجهم، يشكون أنهم لا يقدرون على وصل نسائهم، فيشكو ذلك ولا علة فيه في الحقيقة، فهو يرى أنه كان قبل أن يقترب من امرأته طبيعياً، فإذا اقترب منها لا يقوى على وصالها. فلاشك أن العلاج الشرعي في هذه القضايا هو ما أسماه العلماء: بالنشرة، وهي عبارة عن سبع ورقات خضر من ورق السدر، أو ورق النبق، والسدر والنبق هما شجرة واحدة تسمى السدر، وتسمى النبق في بعض النصوص، فتؤخذ الورقات السبع وتدق بين حجرين دقاً، ويطحنهما طحناً، حتى يصيرا كالعجينة، ثم يضعها في ماء كثير يسع للاغتسال، ثم يقرأ على هذا الماء آية الكرسي، والفاتحة، ويقرأ المعوذتين والإخلاص، يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يشرب من هذا الماء ويتظلع، فإذا شبع من هذا الماء اغتسل بالباقي. ويعتقد أن العلاج من عند الله عز وجل، وأن الشفاء من عند الله؛ لأن اعتقادك أن الدواء شفاء بذاته هذا باب من أبواب الشرك، وإنما الدواء سبيل وسبب للشفاء، أما الشافي على الحقيقة فهو الله عز وجل. وترك الأسباب -كما يقول أهل العلم- قدح في التوحيد، والاعتماد على الأسباب شرك بالله تعالى. قدح في التوحيد أن تترك السبب، وشرك بالله أن تعتمد على السبب، تقول: أنا مريض بكذا، وعلاج هذا المرض هو الدواء الفلاني، فكوني قد أخذت هذا الدواء فلابد أن يتم العلاج، وأن يذهب الداء وأن تذهب العلة؛ لأن هذا الداء يناسبه الدواء، فإما أن يتعاطى الرجل الدواء بنسبة معينة، فتوافق هذه الجرعات ما عندك من مرض. أما تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أتاه رجل وقال: (يا رسول الله! إن أخي يشتكي بطنه، فقال: أسقه عسلاً، فذهب فأمر أخاه أن يشرب العسل، ثم أتاه مرة أخرى فقال: (يا رسول الله، إن أخي لا يزال يشتكي بطنه، قال: أسقه عسلاً، فعل ذلك ثلاث مرات، وفي الثالثة قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدق الله وكذبت بطن أخيك)؛ لأن الله تعالى صادق فيما أخبر سبحانه وتعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. يقول ابن القيم في شرح هذا الحديث: العلاج لا يؤثر في الداء إلا إذا ساواه في العطية. فربما لا يذهب الداء إلا إذا أخذت جرعة بمقدار معين، أما إذا أخذت أكثر منها أو أقل فلا. ألا ترون أن رجلاً يذهب إلى الصيدلية فيأتي بزجاجة من الأدوية فيتعجل الشفاء زعماً وظناً منه أنه لو تناولها كلها لكان ذلك أعجل في ذهاب المرض، فإذا به يموت أو يسم أو يمرض مرضاً خطيراً أعظم مما كان عنده، فيقول: كيف ذلك وقد أخذت العلاج أخذاً ربما لم يأخذه أحد مثلي؟! نعم لم يأخذه أحد مثلك، لكنك أخطأت الطريق، وربما وصفها لك الطبيب أن تشرب ملعقتين، فأنت شربت ملعقة واحدة، فقد أخذت جرعة أقل من الجرعة المطلوبة التي توازي مقاومة الداء، وهكذا في كل علاج. هب أنك أخذت العلاج المناسب للداء، ولكن الله تعالى ما أذن لهذا الدواء أن يقوم بدور الطعام في البدن، وأن تكون في هذه الحالة قد قمت بأخذ السبب، كما لو أنك أردت أن تتزوج، وأن يكون لك ولد، فالسبب الموصل لحصول الولد أن تتزوج، ولا يتصور أن إنساناً عاصياً يقول: الله تعالى قادر أن يرزقني الولد بغير زوجة، فأنا أطلب من الله أن يرزقني الولد، ولكني أعزم ألا أتزوج، هذا لا يقوله إلا إنسان مجنون قد ذهب عقله. أو يقول: الله تعالى قادر على أن يطعمني ويسقيني، نعم هو قادر على ذلك، ولكن القادر على ذلك هو الذي أمرك أن تأكل وأن تشرب؛ لأن الطعام والشراب سبب، وربما أكلت وشربت قدر ما يأكل عشرة وزيادة، ولكنك لا تشعر بالشبع ولا بالري؛ لأن الله أفقد من هذا الطعام خاصية الشبع، أراد لك أن تكون جائعاً مهما أكلت، فالذي يشبع في الحقيقة هو الله، والذي يروي من الضمأ في الحقيقة هو الله. وربما تشرب، أو يشرب الإنسان الماء، ثم يشرب بعد الماء ماءً، وبعد الماء ماءً، وهكذا، ومع هذا يشعر دائماً بأنه عطشان، وإذا أراد الله تعالى لآخر أن يروى ولو بجرعة أو شربة ماء لكان ذلك، والله تعالى على كل شيء قدير. إذاً: فلابد من اتخاذ الأسباب وعدم الركون إليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم)، يعني: من شرب ماء زمزم بنية أنه طعام طعم كفاه هذا الماء، وأنتم تعلمون أن أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه ظل في أول العهد المكي في بئر زمزم أربعين يوماً ليس له من طعام إلا التمر، ولا من شراب إلا ماء زمزم، وخرج وقد صارت بطنه تجاعيد لحم من غذاء الماء، ومن غذاء التمر. رجل لا طعام له إلا التمر والماء، مع أن الواحد منا الآن توضع أمامه المشنة من التمر والقلال من ماء زمزم، فإذا فرغ منها قال: أين الطعام؟ كأنه لا يعتمد على هذا، ولو لمجرد أنه سبب. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ماء زمزم لما شرب له). تذهب إلى الحرم، وتشرب ماء زمزم بنية طلب العلم والجد فيه، وأن تبلغ فيه مبلغ السيوطي وابن حجر وفلان وفلان، وأنت في قمة الكسل لا

الرد على من أنكر أن النبي سحر

الرد على من أنكر أن النبي سحر قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على أحد شيئاً) -يعني: أنا أكره أن أثير على أحد ولو كان يهودياً شيئاً تقوم به الفتنة- ونزلت: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] إلى آخر السورة]. وهذا الحديث في صحيح البخاري، ومسلم. والعجيب أن هذا الحديث أثار جدلاً لدى الأوساط العلمية، لكن في الحقيقة: لم يقل بتأويل هذا الحديث وصرفه عن ظاهره إلا كل إنسان فقد عقله، أو على الأقل لم تنضبط عنده الأصول العلمية السلفية. فالكثير يستنكر هذا الحديث ويقول: هو حديث في غاية النكارة. وليس في الحديث نكارة، ونحن قد علمنا أن الحديث في الصحيحين، اتفق عليه البخاري ومسلم، فكيف يحكم عليه بالنكارة، وإذا كان الحديث متفقاً عليه فهو في أعلى درجات الصحة؟ فكيف يحكم عليه بالنكارة لمجرد أن عقول هؤلاء لم تقبله؟ ولم يقل بإنكار هذا الحديث إلا المعتزلة والجهمية. المعتزلة الذين اعتمدوا العقل أصلاً في قبول الأخبار أو ردها، فما وافق العقل من الأخبار قبلوه، وما رده العقل من الأخبار ردوه ولم يعتمدوه. واعتبروا أن العقل حاكم على النص، والحقيقة عند أهل السنة: أن النص حاكم على العقل، وإلا لو كان العقل حاكماً على النص، فالعقول مختلفة ومتباينة، فما يقبل هذا لا يقبله ذاك والعكس بالعكس، وبالتالي: لا تنضبط الأمور العلمية، ولا تستقر الأحكام الشرعية، فيحصل اضطراب وخلل في المسائل الشرعية، بل في دين الله عز وجل كله. ولذلك قبل العلماء هذا الحديث؛ لأنه قد توفرت فيه شروط الثبوت كلها، ومعلوم أن شروط القبول أو الثبوت كثيرة جداً اتفق العلماء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر. أما ما اتفقوا عليه بغير منازع فهو: شرط اتصال الرواية، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، وانتفاء الشذوذ والعلة، هذه خمسة شروط اتفق عليها العلماء. فهذا الحديث قد توفرت فيه هذه الشروط الخمسة. واتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث، وكما يقول العلماء: الأحاديث المتفق عليها عند البخاري ومسلم في أعلى درجات الصحة، ليس صحيحاً فحسب، بل في قمة درجات الصحة، فكيف ترد هذه الأخبار لمجرد التوهم العقلي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسحر؟ ثم يثيرون شبهة أخرى فيقولون: سحر النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي إلى إبطال الشرع بعدم الوثوق في كلام النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وأنه يأتي نساءه ولم يأتهن، لكن يخيل إليه ذلك. فما المانع أن يخيل إليه أن الله تعالى أوحى إليه وفي الحقيقة لم يوح إليه؟ فيتكلم بكلام يظن أنه وحي وليس الأمر كذلك. هكذا أثاروا هذه الشبهة، والرد عليها: أن التخييل في السحر: هو من باب الأمراض التي تلحق الأنبياء، فإن الأنبياء يبتلون ويمرضون، ويعذبون، كما فعلت بنو إسرائيل في أنبيائها، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمرض بالحمى وبالسخونة، وكان يوعك في فراشه وعك اثنين منكم، كما قال: (إني أوعك كما يوعك الاثنين منكم)، يعني: يتألم، وقال في سكرة الموت: (إن للموت لسكرات)، وكان يعاني منها عليه الصلاة والسلام. والنبي صلى الله عليه وسلم جلس مدة من الزمان قبل أن يموت بساعات وهو مريض أصابته الحمى، وغير ذلك من الأمراض التي يشترك فيها الأنبياء مع غير الأنبياء. وهذا أمر لا يؤثر على الوحي مطلقاً، ودليل ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينس شيئاً مما أوحى الله تعالى به إليه، وكلفه أن يبلغ ذلك إلى الأمة.

عصمة النبي في باب البلاغ

عصمة النبي في باب البلاغ أما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في باب التلقي والبلاغ فثابتة بالقرآن والسنة، وإجماع الأمة. فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم فيما تلقى عن ربه وفيما بلغه إلى الناس، لم يخف عنه شيئاً، ولم يزد في الشرع شيئاً، هذا أمر محل إجماع، ودليل الإجماع: نصوص الكتاب والسنة، ولذلك النسيان عرض من الأعراض، وقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيان، ولو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسى أو أن نسيان الأنبياء يطعن في الشرع؛ لأنه ربما نسي حكماً شرعياً، فأبدل مكانه كلاماً من عنده ظناً منه أنه وحي وليس كذلك، فلابد أن نقول حينئذ: إن نسيان الأنبياء أمر قد يقدح في الشرع، وليس كذلك باتفاق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نسي ولكن نسيانه لم يكن له أدنى تأثير على الوحي، لا من قريب ولا من بعيد؛ بدليل أنه عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً من أصحابه يقرأ في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فقال: (يرحم الله فلاناً قد ذكرني آية كنت قد نسيتها). وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر مرة ركعتين، ثم سلم، فتهمهم الصحابة فيما بينهم، ولم يجرؤ أحد أن يراجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا رجلاً طويلة يداه يلقب: بذي اليدين، فقام إليه وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أم نسيت، ولو كان النسيان ممتنعاً في حق الأنبياء لقال له: كيف تعتقد في النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينسى؟ أما علمت أن النسيان يؤثر في الوحي، ويؤثر في البلاغ؟ فلما لم يقل له ذلك؛ فدل هذا على إقرار هذا الصاحب أن الأنبياء ينسون، وأنه لا حرج عليهم في ذلك، وأنهم ما نسوا شيئاً إلا بعد البلاغ. ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما كان يتعجل أن يحفظ ما يلقى إليه عن طريق جبريل ويحاول قبل أن ينصرف جبريل عنه أن يحفظ الآيات التي نزلت، فأنزل الله تعالى قرآناً يضمن له أنه لا ينسى ذلك قبل البلاغ، فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. يعني: لا تتعجل أن تحفظ ما يلقيه عليك جبريل ولا تهتم لذلك، فسيعيده لك مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً حتى تحفظه حفظاً جيداً، وتفهم معناه وتأويله وتفسيره، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19]، أي: شرحه وتوضيحه وتفسيره، فلا تحمل الهم يا محمد، إنك لن تنسى أمراً قبل أن تبلغه للناس، مستحيل أن يكون ذلك؛ لأن هذا باب من أبواب العصمة. فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يتلقى الوحي عن الله ثم ينساه، وقد لا يبلغه للأمة، هذا مستحيل! ومن قال بذلك كفر بالله تعالى، لأنه يلزمه أن يقول: إن الشريعة لم تتم، وإن الدين لم يكمل، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]. فالنبي عليه الصلاة والسلام ما مات حتى بلغ دين الله تعالى كاملاً، وأقره الله تعالى على ذلك قبيل موته، فأنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فالذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نسي أن يبلغ شيئاً يلزمه أن يقول: إن الدين لم يكمل، وإن الشريعة لم تتم، وبالتالي: يلزمه أن يكذب الله تعالى فيما أخبر وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فإذا كان النبي نسي شيئاً فالدين لم يكمل، فتكون هذه الآية كذب عياذاً بالله تعالى. فهذا باب من أبواب الضلال العظيم. والنبي عليه الصلاة والسلام لما قام إليه ذو اليدين وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة؟ أي: أنزل عليك جبريل يأمرك بقصر الصلاة، فصليت الظهر ركعتين بدل الأربع، أم أنك نسيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قصرت وما نسيت)، يعني: لم ينزل علي الوحي بأنها قصرت، وما أظن أني نسيت، فقال: يا رسول الله! بل قد صليت ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحيح ما يقوله صاحبكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فقام وكبر وصلى ركعتين ثم سلم، ثم سجد للسهو). فالنبي صلى الله عليه وسلم نسي بعد البلاغ، إذ إن ذا اليدين ما قال له ذلك إلا لشرع قد استقر عنده آنفاً أن الظهر أربع ركعات. إذاً: النسيان الطارئ على الأنبياء لا يطرأ إلا بعد البلاغ، أما قبل البلاغ فمستحيل؛ لأن هذا يناقض عصمة التلقي والبلاغ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، بل كل الأنبياء معصومون في هذا الباب. فقالت له عائشة: (يا رسول

شرح حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)

شرح حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات) قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)]، أي: إياكم أن تقربوا هذه الموبقات المهلكات التي إذا اجتمعت على صاحبها، أو انفردت به واحدة منهن أهلكته ودمرته، والسبع الموبقات، أي: المهلكات. قال: [(قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله)]؛ لأن الشرك بالله أعظم ذنب، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. والذي دون الشرك هو الكبائر والصغائر من الذنوب، أما الشرك فهو أكبر الكبائر على الإطلاق، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، ومغفرة ما دون الشرك متعلق بالمشيئة، ولذلك قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وأصحاب الكبائر في مشيئة الله إن شاء عذبهم غير ظالم لهم، وإن شاء عفا عنهم متفضلاً عليهم سبحانه وتعالى. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، وغير ذلك من آيات الوعيد والتهديد فيمن أشرك بالله تعالى. قال: [(اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله! ما هن؟ قال: الإشراك بالله، والسحر)]. فتبين أن السحر له حقيقة، وله واقع، والعجيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر السحر بعد الشرك بالله، فكأنه من أخطر الذنوب والمعاصي. ومن أهل العلم من ذهب إلى كفر الساحر، بل ذهب جماهير العلماء إلى أن الساحر كافر. قال: [(وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)]، فكل نفس معصومة إلا ما أحل الله تعالى إزهاقها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة). (النفس بالنفس) يعني: لا تقتل نفس إلا إذا قتلت، فتقتل حداً وقصاصاً بمن قتلتها. (والتارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين) هو المرتد. و (الثيب الزاني) ولم يقل: الزاني؛ لأن مطلق الزنا قبل الإحصان لا يستوجب إلا الجلد مائة وتغريب عام على خلاف في التغريب، فإن بلاد الكفر لا يأمن المرء فيها على دينه، فكأنه في سياحة لا منفى. أنت كنت تشعر بشيء مما يسميه الغرب: الحرية، فهذه كذبة، ولا تزال معلومة لأهل العلم وأهل الإيمان أنها كذبة وخدعة، والله ليست حرية مطلقة، ما قيمة الحرية إذا أعطتني هذه البلاد حرية الزنا، والقتل، والخمر، وأكل الخنزير، والتعامل بالربا؟ هذا هو السجن الحقيقي الذي يؤدي بصاحبه إلى نار جهنم عياذاً بالله. فمهما عومل المرء في بلاد الإسلام بعنف وقوة وقسوة فهو خير له ألف مرة من بلاد يرى فيها في الظاهر الحرية، وهي ليست كذلك، أي حرية من يحكي لك الكبائر، ويقصها لك، ومستعد أن يقبل منك أي حل إلا أن تقول له: اذهب إلى بلادك وارجع إلى بلادك، فلا يقبل هذا الحل؛ لأنه ألف حياة المعاصي، وأنتم تعلمون أن المعصية الأولى تؤدي إلى الثانية، والثانية تؤدي إلى الثالثة وهكذا، ولا يزال المرء إذا عصى الله تعالى في أمر من الأمور يستعظم المعصية في أول الأمر، فالذي يزني مثلاً أو يشرب الخمر، كان مثلك تماماً قبل أن يزني أو يشرب، كان لا يستسيغه، لكن مرة مع الثانية مع الثالثة استساغه، وصار أمراً مألوفاً له، وكذلك الزاني إذا زنى أول مرة ارتعدت فرائصه، وظن أن الله تعالى لا يغفر له، ثم يمنيه الشيطان ويزين له المعصية مرة ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة حتى يدمن الزنا، ولا يستغني عنه إلا من رحم الله. ثم بعد ذلك هذا الشعور الإيماني الذي ارتجف منه في أول مرة لا يشعر به بعد ذلك، فيموت قلبه تماماً ولا يفكر في الله تعالى، ولا يفكر لا في جنة ولا في نار، إنما جنته هي فعله سائر المحرمات، نسأل الله العافية لنا ولكم. فهذه الحرية التي يتمتع بها بلاد الغرب ما هي بالنسبة للمؤمن إلا نار جهنم، ولذلك أهل الإيمان لا يطيقون أبداً المكث في بلاد الكفر، وهم مأمورون أن يتركوا هذه البلاد، وأن يذهبوا إلى بلاد المسلمين، خاصة في هذه الأيام التي صارت فيها أوروبا وأمريكا بلاد حرب على الإسلام والمسلمين، ويجب على المسلمين والموحدين في كل بلاد أوروبا وأمريكا أن يتركوها وأن يعودوا إلى بلادهم شاءوا أم أبوا، فهذا حكم الله عز وجل. قال: [(الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا)]، فالربا من أعظم الكبائر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أكل ديناراً من الربا وهو يعلم أنه ربا فهو أشد عند الله من ست وثلاثين زنية)، مَن مِن الناس يستشعر أنه وهو يأكل مال الربا أنه يقع في ذنب أعظم من ست وثلاثين م

النهي عن تعلم السحر وممارسته

النهي عن تعلم السحر وممارسته قال: [وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم باباً من النجوم تعلم باباً من السحر زاد ما زاد)]، أي: فمن تعلم باباً من النجوم فقد تعلم باباً من السحر، والله تعالى يقول: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، فبين أن للنجم منفعة كما بين أن للنجم مضرة ومفسدة، فمنفعة النجم: أن تهتدي به إلى الطرق، وإلى الأوطان، ومعرفة الأشهر بدايتها ونهايتها وغير ذلك، وهذا من العلم النافع بالنجوم، والعلم المضر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بفضل الله فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فقد أصبح كافراً بي مؤمناً بالكوكب). قال: [وعن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لـ جزء بن معاوية ثم الأحنف بن قيس، وأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة، قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة]. هذا الكتاب كتبه أمير المؤمنين عمر لولاته: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. يعني: إذا رأيتم الرجل تزوج أمه أو أخته، أو ابنته أو عمته أو خالته أو جدته ففرقوا بينهما، وانهوهم عن الزمزمة، والزمزمة نوع من أنواع السحر. قال: [فقتلنا ثلاث سواحر، وفرقنا بين الرجل ومحارمه كما نص على ذلك كتاب الله تعالى. وصنع طعاماً كثيراً، وألقوا وقر بغل أو بغلين من ورق، وعرض السيف على فخذه فأكلوا بغير زمزمة]، والحديث يطول شرحه جداً وهو عند البخاري في الصحيح. قال: [وعن رجل من ولد عروة بن مسعود أنه دخل على عائشة وسمع أمه وجدته، سمع امرأة تسأل عائشة: هل علي جناح أن أزم جملي؟ أي: هل علي وزر وذنب وإثم أن أسحر جملي؟]، وبلا شك أن الجمل في الظاهر هو الجمل البعير، ولكنها أرادت هنا بالجمل البعل والزوج. قال: [فقالت عائشة: لا. قالت: يا أم المؤمنين! إنها تعني زوجها -أي: هذه المرأة لا تقصد الجمل، وإنما تقصد البعل أو الزوج- قالت عائشة: ردوها علي، فقالت وهي راجعة: ملحة ملحة في النار، ملحة ملحة في النار، وهذا كلام يستخدمه السحرة ويفهمون معناه، فقالت عائشة: اغسلوا على أثرها بالماء والسدر]، يعني: اغسلوا أثر خطواتها التي مشتها في الطريق بماء وسدر. فتبين أن هذا أحد العلاجات لذهاب السحر، وهو غسل الأماكن بالماء والسدر.

ما ينبغي أن يتمتع به المعالج بالقرآن من خصال

ما ينبغي أن يتمتع به المعالج بالقرآن من خصال والعلاج بالقرآن الكريم لا ننكره، وإنما نقول بمشروعيته، ونعتقد صحته في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هؤلاء الإخوة المعالجون بالقرآن في الغالب أنهم يتصدرون بغير علم فيفسدون أكثر مما يصلحون، قد يكون كثير منهم في الغالب ما عنده شغل، وليس له مصدر دخل فيتخذ هذا مصدراً للدخل، وعدته قليلة، فتصور أن هذا أخف عمل يحتاج إلى عدة، فيستقبل المريض على قفاه وعلى وجهه وعلى صدره ويلاقيه وهو كامل البدن فيخرج بغير ذراع، أو بغير رجل، أو بغير ضلع. ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب أحداً، ولم يثبت عن شيخ الإسلام ولا عن الإمام أحمد، والإمام أحمد بن حنبل لم يكن متخصصاً بشأن العفاريت، فلم يكن عالم متخصصاً من الأئمة لهذا الكلام. فهذا الأمر يريد جبالاً من التقوى، لأن الجني وهو في بدن المصروع يراك قادماً عليه فيفر ويهرب. أحمد بن حنبل ثبت عنه رضي الله تعالى عنه ورحمه أنه كان يرسل نعله، كان يبعثه مع ابن هاني، أو مع عبد الله ولده، فيأتي إلى المصروع، فينطق الجني من غير أن يكلمه عبد الله ولا ابن هاني، ويقول: قل لـ أحمد: لو أمرتنا أن نخرج من بغداد لخرجنا، ليس من هذا المصروع فقط، فـ أحمد بن حنبل كان بغدادياً، فهو من بلد صدام، فأين الثرى من الثريا؟ أما بعض أهل العلم الموثوق بدينهم وأمانتهم وورعهم، فإن الله تعالى يجري على أيديهم الطيبة الطاهرة كثيراً من الشفاء من حالات المرض، وهذا الذي يقدره الإنسان ويحترمه أشد الاحترام. الجن يحتاجون إلى علم راسخ أصيل حتى لا يزل المؤمن مع الجن، فقد يضحك عليه هؤلاء الجن، كما رأيت بعين رأسي منذ سنوات عديدة سنة خمس وثمانين في الجمعية الشرعية بالمنصورة، واحداً من كبار القوم بل أقول: إنه صاحب مدرسة الجن في هذا العصر، أتته امرأة مصروعة على باب المسجد وقال له وليها: هذه امرأة مصروعة، وأريد أن تعالجها، وأن تقرأ عليها، فقرأ عليها إلى أن حضر الجني، فقال له الشيخ: اخرج، قال: لن أخرج إلا إذا أعطيتني سيجارة، ثم قال له الجني: أنا أشربها لكن لابد أن تولعها، فقال له: أولعها لك، ثم قال له الجني: اشرب منها نفسين، فشرب الشيخ منها نفسين ووضع السجارة في فم المصروع، وهكذا أصبح الشيخ بالنسبة للجني لا قيمة له، فالجني عرفه من أول جولة، وانتهى أمره مهما فعل لا يمكن أن يحترمه الجني. فتصور أن إنساناً لا يحترم أحداً من الإنس ولا من الجن، هذا لخوائه وفراغه مع الله عز وجل، ولو كان صاحب علم لأخبره بحرمة الدخان فوراً، وأتى له بالآيات والأحاديث التي تذيبه ويجعله يهرب من بدن المصروع. إنما هذا الإنسان هو الذي يسيره الجن، فكيف يستقيم هذا؟! وهذا رجل أتى إلى هذا المسجد سنة ست وثمانين وسبع وثمانين، وكان له مجلس عظيم جداً يشهده أناس كثيرون، وكان صاحب دعوة زواج الإنسي من جنية، وقال: قال بذلك ابن تيمية، والإمام مالك. وفي الحقيقة الإمامان قالا بإمكانية وقوع ذلك مع حرمتها، وهناك فرق بين إمكانية الوقوع ومشروعية الوقوع، بدليل أن الناس تسرق وتقتل وتزني وتشرب الخمر وغير ذلك، فهذا ممكن الوقوع لكنه ليس مشروعاً، فكذلك زواج الإنس والجن ممكن الوقوع، لكنه ليس مشروعاً. وضحك على هذه التفاهة الآلاف من الناس التي كانت تحضر له في هذا المكان، ومن ضمن ما قال: يوم الأحد الآتي سنزوج فلاناً من خشخاشة من الجن، فكلما يقول لها تظهر من أجل أن تنظر تلاقي العدد يزيد أربعة أضعاف، فإذا خشخاشة مشغولة وما قدرت تأتي، واعتذرت لي بالتلفون. وقد التقيت به في مؤسسة الريان، وكان قد تقدم باثني عشر كتاباً لكي نطبعها، وكل هذه الكتب عن الجن، قال لي: أنا عندي موسوعة من خمسة وعشرين كتاباً، قلت: لم هذا كله؟ والآيات والأحاديث المتعلقة بهذا العالم لا تتعدى عشر صفحات في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه السلام، لم هذا الكم الهائل تشغل الناس بالكلام الفارغ؟ قال لي: هذا كلام فارغ؟ قلت: نعم، وأنا قد أعددت لك رسالة وأسميتها: إرشاد المحتار في الرد على الشيخ العطار. فقرأ الرسالة ثم قلت له: سأشرح هذه الرسالة في يوم الأحد القادم في مسجد الرحمة، أنا سأجلس بجانبك وأنت تقول الذي عندك وأنا أقول الذي عندي، فقال لي: لأجل هذا لا تحرجني، قلت له: إذاً: تقسم لي على كتاب الله تعالى أن خشخاشة هذه اتصلت عليك، وأنك تعلم امرأة من الجن معروفة لديك، وأنها على وعد معك أنها ستتزوج محمداً هذا؟ قال: لا والله، ولكن أحببنا أن نجمع الناس؛ لكي نقول لهم أي شيء. فقلت: ما دام أنت جمعت الناس فلم لم تقل شيئاً، وقد ظللت شهر أو شهرين في وسط عمان تعد الناس بإيقاع الزواج، لم لم تنفذه؟! فاقتنع الرجل أن هذا غير مشروع، ولا يجوز وقوعه وغير ذلك. وحكيت له أن رجلاً كان معنا قبل سنة خمس وسبعين في الأردن، وفعلاً كانت تظهر

قصة عائشة رضي الله عنها والمرأة الساحرة

قصة عائشة رضي الله عنها والمرأة الساحرة قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك -أي: بعد موته عليه الصلاة والسلام مباشرة، فلازال موته حديثاً- تسأل عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعلم]. أي: أن هذه المرأة كانت تتعلم السحر، وأتت بعض أعمال السحر وهي لم تعلم أن هذا سحر، لكنها أرادت أن تتوب إلى الله عز وجل، فأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تسأله عن صحة توبتها. قال: [قالت عائشة لـ عروة: يا ابن أخي! فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، تقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت، ثم تقص القصة، قالت: كان لي زوج فغاب عني، فدخلت عليَّ عجوز فشكوت إليها ذلك، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فسأجعله يأتي. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين -والكلب الأسود شيطان بنص الحديث- فركبت أحدهما وركبت الآخر -والكلب لا يركب- فلم يكن كشيء حتى وصلنا إلى بابل -وهي المدينة المعروفة- فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر. فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم أفعل، فرجعت إليهما فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم. فقالا: هل رأيت شيئاً؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ما بلت في التنور -والتنور هو الفرن- فارجعي إلى بلادك ولا تكفري، وأبيت -أي: فأرادت أن تتعلم السحر وأبت أن ترجع- فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعر جلدي، ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت لم تفعلي فارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك]، يعني: أنت الآن لا زلت بخير. قال: [قالت: فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد قد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني]. يعني: لما بالت في التنور رأت فارساً مقنعاً مربوطاً في الحديد قد خرج من بدنها وصار يحلق في السماء حتى غاب عنها. قال: [قالت: حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك]. وهذا يؤيد مذهب من ذهب إلى كفر الساحر. قال: [ثم قالا: اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاًَ، قالت: بلى. إن تريدي شيئاً إلا كان]. المرأة العجوز تقول لهذه المرأة بعد هذا الذي خرج منها ورأته بعيني رأسها: لا تطلبي شيئاً إلا كان. قال: [ثم قالت: خذي هذه الحنطة فابذري، فبذرت، فقلت: اطلعي فطلعت، فقلت: احقلي -أي: املئي الحقل بهذا البذر- فأحقلت، ثم قلت: افركي ففركت، ثم قلت: أيبسي -يعني: صيري جامدة- فيبست، ثم قلت: اطحني فطحنت، ثم قلت: اخبزي فخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي وندمت. والله يا أم المؤمنين! ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً، قالت عائشة: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون -أي: كثيرون لما سألتهم عن ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم- فما عرفوا ما يقولون لها]. وكان أمرهم مبنياً على الورع، فما عرفوا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، قال: [إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا اليوم أفتيناها بالضمان]. كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان). يعني: الذي فعلته قبل ذلك أنت ضامنة له، فما أفسدتي شيئاً إلا وقد وجب عليك أن تصلحي ما قد أفسدت.

ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس خلق من خلق الله

ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس خلق من خلق الله قال: [ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس خلق من خلق الله]. إبليس مصدر الشر، ومع هذا فالله هو الذي خلقه، والله تعالى أذن في وقوع الشر كما أذن في وقوع الخير، وهو الخالق الموجد للشر كما أنه الخالق والموجد للخير. أما العبد فهو المكتسب للخير والشر، العبد هو الذي مارس بجوارحه صورة الخير وصورة الشر. أما الذي أذن في وجود الخير والشر فهو الله عز وجل. قال: [ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس والجن خلق من خلق الله يرون من يريهم الله لا كما زعمت المبتدعة أن الجن لا حقيقة لهم، وأن إبليس كل رجل سوء]، وهذا قول الفلاسفة وقال بقولهم الجهمية. قالوا: ما هناك شيء اسمه المسيح الدجال، والمهدي المنتظر. والمستقر في عقيدة أهل السنة والجماعة: أن عيسى بن مريم لم يمت، ولم يقتل، ولم يصلب، وإنما رفعه الله عز وجل إليه، فهو عنده حي، وسينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ويضع يده في يدي المهدي المنتظر، وهو الذي يقتل المسيح الدجال عند باب لد في فلسطين. وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة وليس فيها خلاف. أما أهل البدع فقالوا: لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه المسيح الدجال، إنما هو رمز للشر. وكذلك المسيح عيسى بن مريم إنما هو رمز للخير، وما ورد أن المسيح عيسى بن مريم يقتل المسيح الدجال، فهو كناية عن انتصار الخير على الشر في آخر الزمان، وهذا ضلال مبين قال به كثير من المعاصرين فضلاً عن المتقدمين. فالجهمية أو المبتدعة عموماً أتباع الفلاسفة يقولون: بأن إبليس ليس له حقيقة، ولا كنه، إنما هو رمز الشر، أراد الله عز وجل أن يعبر به على عادة العرب، كالأم لما تريد أن تخوف ابنها تقول: اسكت وإلا سآتي لك بالعفريت، فانبطع في ذهن هذا الغلام الصغير أن العفريت شيء مخيف، فيخرج الولد بهذا الانطباع ويتربى على أن العفريت عبارة عن رمز الشر وليس جسماً، ولا كنهاً. وقالوا أيضاً: لا يوجد شيء اسمه إبليس أو شياطين أو جن، إنما هي أسماء للشر. كما يقولون أيضاً: السحر مجاز عن الشر، ومعلوم أن السحر له حقيقة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من أهل السنة والجماعة أن السحر له حقيقة. وبعضهم يقول: السحر ليس له حقيقة، وإنما هو خيالات وتوهمات، وهذا بلا شك رأي فاسد باطل ترد عليه أدلة الرأي الأول. قال: [قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجن على ثلاثة أصناف: ثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون)]، يعني: يروحون ويجيئون مسافرين قاعدين وغير ذلك. قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أحتفظ بزكاة رمضان، وأتاني آت من الليل، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وحالي شديدة -يعني: أنه محتاج وله عيال- قال: فرحمته فخليت سبيله، فلما أصبح أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا نبي الله! زعم أنه محتاج وحاله شديدة فرحمته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان في الليلة الثانية رصده أبو هريرة فجاءه فأخذه فقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعمت أنك لا تعود فقد عدت، قال: دعني فإني محتاج وحالي شديدة، فخلى سبيله، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك الليلة؟ قال: يا رسول الله! شكا حاجة وعيالاً وإني رحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان في الليلة الثالثة راقبه أبو هريرة فتخبأ له فأخذه فقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها)]، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا حريصين على الخير. قال: [(إذا أخذت مضجعك -يعني إذا أردت أن تنام- فاقرأ آية الكرسي): {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى آخر الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأصبح فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما فعل أسيرك الليلة؟ قال: يا نبي الله! علمني كلمات زعم أن الله ينفعني بها، قال: وما هي؟ قال: أمرني أن أقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لن يزال علي من الله حافظ، ولا يقربني شيطان حتى أصبح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد صدقك وهو كذوب)]. أي: فيما أخبرك به إنه لصادق وإن كان الأصل فيه أنه كذوب، قال: [(أتدري من يخاطبك يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: فذاك شيطان)]، وهذا الحديث في البخاري. وعليه فلا ي

معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم لقد اختص الله عز وجل الأنبياء والرسل بالمعجزات، واختص الأولياء بالكرامات، وكل ذلك من خوارق العادات، ولكن معجزات الرسل مصحوبة بالتحدي لأقوامهم، وإقامة الحجة عليهم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أكثر الرسل معجزات، منها ما حصل وشهد عليه أصحابه، كنبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى والطعام بين يديه، ومنها ما حصل بعد وفاته من بشارات ودلائل على نبوته، أما أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم فهو القرآن والذي سيبقى ما بقيت السماوات والأرض.

الفرق بين المعجزة والكرامة

الفرق بين المعجزة والكرامة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. لقد اختص الله عز وجل الأنبياء والرسل بالمعجزات، واختص الأولياء بالكرامات، وجعل الجميع يشتركون في صفة وهي: أن ما يحدث لهم هو من خوارق العادات، فالمعجزة خارقة للعادة، والكرامة خارقة للعادة، بل حتى السحر كذلك، لكن المعجزة تختلف عن الكرامة بأنها خاصة بالنبي، ولذلك سميت معجزة؛ لأنها مصحوبة بالتحدي، فالنبي يتحدى قومه أن يأتوا بمثلها، ولذلك تحدى الله تعالى في كتابه أبلغ العرب وأفصحهم أن يأتوا بمثل هذه القرآن، أو بعشر آيات، أو بسورة، أو بآية، فما أفلح أبلغهم وأفصحهم وأبينهم وأعذبهم لساناً أن يأتي بآية واحدة تشبه آية من كتاب الله عز وجل، مع أن الله تعالى تحداهم في مجال مشهود لهم فيه بالكفاءة. كان الأعرابي في باديته يعلم لحن القارئ؛ لأن الآية عنده لا تستقيم على ذلك النحو، فإذا صححها التالي وافقه على هذا التصحيح، وهو أعرابي ربما لم يسمع أهل العلم من قبل، لكن القوم كانوا أبلغ الخلق، ومع هذا فقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا ولو بآية واحدة مما أوحاه الله وأنزله على محمد عليه الصلاة والسلام فعجزوا عن ذلك، ولذلك المعجزات لا تكون إلا للأنبياء، بخلاف الكرامة فإنها تكون للنبي ولغيره، لأن المعجزة ما هي إلا كرامة لهذا النبي، وإظهار لنبوته. كما أن المعجزة مصحوبة بالتحدي، وإلا فلن تكون معجزة، أما الكرامة فغير مصحوبة بالتحدي، وإلا كانت معجزة، ولذلك إذا أجرى الله تعالى كرامة على يد رجل صالح فلا يحل له أن يتحدى بها، وإلا كانت باباً عظيماً من أبواب فساد القلب لمن جرت على يديه هذه الكرامة، ويوشك أن تؤخذ منه، وأن يحرمها بقية حياته؛ لأنه لا يحل له أن يتحدى بها، بل الكرامة للأولياء والصالحين إنما هي محض فضل من الله عز وجل. وإذا أردنا أن نفرق بين الكرامة وبين السحر، ونميز بين ما إذا كانت هذه الخارقة للعادة هي كرامة أم دجل، فلابد من النظر إلى من جرت على يديه هذه الخوارق، وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله وكلام من سبقه وأتى بعده، يقول: لا تحكم على فعل الرجل إلا إذا نظرت إلى دينه واستقامته، فإذا جرت على يديه أمور خارقة للعادة فلا تحكم بأنها كرامة أو دجل إلا بعد النظر إلى استقامة الرجل وإلى دينه، فإذا كان مستقيماً فهذه كرامة، وإذا كان غير مستقيم فهذا دجل، ويقول في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان): إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تحكم له حتى ترى أمن أهل الاستقامة هو أم لا؟ فإذا كان من أهل الاستقامة فاعلم أن ما هو عليه كرامة من الله عز وجل وإلا فلا. هذه مقدمة سريعة في بيان الفرق بين المعجزة وبين الكرامة، وبين السحر أو الدجل.

حديث قصة أبي سفيان مع هرقل وما فيها من المعجزات

حديث قصة أبي سفيان مع هرقل وما فيها من المعجزات لم يأت النبي عليه الصلاة والسلام بمعجزة واحدة فحسب بل أتى بمعجزات عدة، بل هو أكثر الأنبياء معجزة، وإذا كان قد جرى على يد موسى أو عيسى أو إبراهيم عليهم السلام بعض الأمور الخارقة للعادة، وهي معجزات في حق الأنبياء، فلابد أن تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد جرت على يديه المئات من المعجزات الخارقة للعادة، والتي لا تكون إلا على يد نبي، نذكر بعضاً منها: قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في -أي: من فمه إلى مسمعه مباشرة- قال: انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم، جاء به دحية الكلبي رضي الله عنه، فدفعه إلى عظيم بصرى -أي: إلى أمير بصرى، وهي إحدى القرى بالشام، وهي غير البصرة التي هي إحدى مدن العراق- قال: فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل] وهو سيد مملكة الشام، وكانت الشام تحت حكم الرومان في ذلك الوقت، وأبو سفيان لما ترك مكة وذهب إلى الشام كان هذا في مدة عهد صلح الحديبية بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين مشركي مكة.

أسئلة هرقل لأبي سفيان

أسئلة هرقل لأبي سفيان وكان أبو سفيان أثناء حديثه مع هرقل يتمنى لو أنه يكذب كذبة واحدة، ولكن لما كان الكذب صفة مذمومة حتى في الجاهلية، وخاف أبو سفيان أن يؤثر عنه الكذب في قومه ترك ذلك، وكان يريد أن يكذب إظهاراً لعوار يلحق محمداً عليه الصلاة والسلام. [قال هرقل لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ أهو من أوضع القوم، أو من أعلى القوم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب]، وهذا صحيح، أما من جهة الحسب فهو خيار من خيار من خيار. [قال: فهل كان من آبائه ملك؟ -يعني: من عائلته: أبوه، جده، جد أبيه، جد جده- قال أبو سفيان: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي، وأنه يأتيه الوحي والخبر من السماء؟ - قال: قلت: لا]. وأنتم تعلمون أن أهل الجاهلية كانوا يدعونه الصادق الأمين قبل أن يوحى إليه، ولو أنه قال: نعم، لطولب بالبينة، ولكن أبا سفيان صدق في الجواب. [قال هرقل: من تبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: لا، بل ضعفاؤهم هم الذين اتبعوه، قال: فهل يزيدون أم ينقصون؟ -أتباعه عليه الصلاة والسلام في زيادة مستمرة أم ينقصون؟ - فقال: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة لدينه؟] بيت القصيد هنا: هل يرتد سخطة لدينه؟ أما الذين ارتدوا فهم كثير، لكن هل فعلاً يرتد أحد سخطة لدينه؟ الآن كثير من المسلمين إذا ذهب إلى بلاد الكفر، وضاق به الحال هناك ذهب إلى الكنائس وإلى أديرة اليهود يأخذ مالاً مقابل أن يغير اسمه وبطاقته وينطق بشهادة الكفر، أن ينخلع من إسلامه ويدخل في دين اليهود أو النصارى، لكن الذي دفعه إلى ذلك هو حاجته، لكنه في الحقيقة وفي قرارة نفسه لا يرتد سخطة لدينه، بل حبه لدينه سيظهر وقتاً ما، فهو يسأله هنا: هل يرتد منهم أحد بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ [فقال أبو سفيان: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، يصيب منا ونصيب منه]. أي: يأخذ منا تارة ونأخذ منه تارة، يغلبنا تارة، ونغلبه أخرى. [فقال هرقل: هل يغدر؟ قلت: لا، ونحن في مدة لا ندري ما هو صانع فيها]، هذه هي الفرصة الوحيدة لـ أبي سفيان التي استطاع أن يدخل منها ويطعن في النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: إذا كان الغدر ليس من شيمته، وليس معروفاً عنه حتى قبل البعثة، فكيف يغدر؟ الإجابة سليمة إلى الآن، لكنه أراد أن يغمز النبي من خلال هذه الإجابة، ثم يقول: [فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ -هل زعم أحد قبله أنه نبي؟ - قال أبو سفيان: لا].

رد هرقل على إجابات أبي سفيان واستنتاجاته منها

رد هرقل على إجابات أبي سفيان واستنتاجاته منها [قال هرقل لترجمانه: قل له -أي: قل لـ أبي سفيان - إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها]. إذاً ليس هناك نبي عنده منقصة في قومه، ولا في حسبه، فقد أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وهم أشراف أقوامهم، وأحساب أقوامهم. قال: [وسألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لكان رجلاً يطلب ملك آبائه]، أي: له حق مسلوب مغصوب يطالب به الآن، بعد أن اشتد ساعده يطالب بثأر آبائه وأجداده. [وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال هرقل: وهم أتباع الرسل]. ولذلك الإسلام ينتشر بحمد الله عز وجل في طبقة الفقراء أكثر من انتشاره في طبقة الأغنياء، والالتزام والإقبال على دين الله عز وجل، والتمسك بالسنة إنما يكون بين الفقراء أكثر، فالإسلام ينتشر، والالتزام يظهر، وتظهر السنن في وسط هؤلاء الأقوام على علة فيهم على أية حال، لكن يبقى أن الإسلام يجد طريقه سهلاً ميسوراً إلى قلوب الفقراء والمساكين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وهو حديث حسن على الراجح، وغير ذلك من الآيات التي وردت في كتاب الله تحث على صحبة المساكين، وعدم ازدرائهم، وكذلك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والناظر إلى أتباعه يجد أن من أوائل أتباعه صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وغير ذلك من الموالي والعبيد. قال: [وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويذهب يكذب على الله عز وجل]، يعني: لا يتصور أنه يدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله! لأن الذي يكذب على الله من باب أولى أن يكذب على الناس، والذي اعتاد الكذب في حديث الناس ربما يكذب على الله عز وجل، فإذا كان النبي عليه السلام لا يعلم عنه الكذب قط في حديثه مع الناس فمن باب أولى ألا يفتري الكذب على الله عز وجل بأن الله أرسله، وأن الله أوحى إليه، وأن الله تعالى كلفه بالرسالة والنبوة كل هذا ممتنع في حقه؛ لأنه لم يعلم عنه الكذب في حديث الناس؛ فمن باب أولى أن يكون كذلك مع الله. قال: [وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة لدينه؟ فزعمت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب]. يعني: إذا تمكن نور الإيمان من القلب لا يمكن أن ينخلع منه، ولذلك الذي يرتد عن دينه، أو منهجه، أو مسلكه لابد أن تعلم أن أصل تربيته على هذا النهج كان فيها خلل، فالذي يتحول عن تمسكه بالكتاب والسنة ويترك مذهب ومنهج السلف وسبيلهم فلابد أن تعلم مهما طال التزامه وانخرط في سلك السلف لابد أن تعلم أن تربيته إنما كانت تربية سطحية ليس فيها تأصيل، ولذلك لما عرض عليه منهج الغير تحول إليه، ولذلك لا يمكن لأحد قط أن يتعرف على منهج الخلفاء الراشدين، والأئمة المتبوعين وكلامهم في المنهج، والمسلك، والمشرب، والأخلاق، والسلوك، ثم يتعرف على أئمة الرواية كـ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد بن حنبل وغيرهم ثم يرضى أن يكون بعد هؤلاء العظماء الشرفاء تبعاً لواحد من الناس خطؤه أكثر من صوابه، لابد أن يكون في تربيته خلل. قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت. أنهم يزيدون، قال: وكذلك الإيمان حتى يتم]. يعني: كذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ المنتهى، وتصوروا أن الرجل الكافر يعلم أن الإيمان يزيد وينقص! لماذا؟ لأن الإيمان هو دين الأنبياء جميعاً، وهرقل كان نصرانياً يعلم من دين عيسى عليه السلام أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد حتى يبلغ درجة التمام، وينقص بالمعاصي حتى لا يبقى منه شيء. ولذلك قال سفيان: واعلم أن أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: لا تقل: وينقص، قال: اسكت يا صبي -وفي راوية: اسكت يا غبي- إنما ينقص حتى لا يبقى منه شيء. وأظن أن رواية: (اسكت يا غبي) إنما هي تصحيف صبي؛ لأن إبراهيم أصغر من سفيان، وسفيان كان إماماً منذ كان عمره عشرين عاماً، وهكذا أئمة الدين السابقين، كما ثبت عن مالك رحمه الله أنه قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: في مجلس التدريس والإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون من أهل المدينة، قيل: كم كان عمرك وقتئذ قال: لقد بلغت خمسة عشر عاماً! وكذلك ثبت عن الشافعي عليه رحمة الله أنه بلغ الإمامة في صباه، قيل له: متى؟ قال: قبل أن تنبت لحيتي، وفي رواية: قبل أن يسود وجهي، أي: تنبت لحيتي. قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم]، يعني: الإيمان ي

تصديق هرقل لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام

تصديق هرقل لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام [قال هرقل: إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم -أي: من العرب- ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين]. وهذه بشرى النبي عليه الصلاة والسلام لنا، أن الإسلام سيدخل كل بيت من حجر أو مدر، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله تعالى الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله.

قراءة هرقل لكتاب النبي وما يستفاد منه

قراءة هرقل لكتاب النبي وما يستفاد منه [دعا هرقل بكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي حمله إليه دحية الكلبي فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم. إلى هرقل عظيم الروم)]، وليس هذا تفخيماً لـ هرقل وهو كافر؛ حتى لا يعترض عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا للمنافق يا سيد)، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما خاطبه بما اتصف به على الحقيقة؛ لأنه كان فعلاً عظيم الروم وسيدهم في ذلك الوقت، وأخبره أنه رسول الله، قال: [(من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى)]، لم يقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا سلام من الله له، ولا بركة من الله على هرقل؛ لأنه كافر. ومن أراد أن يسلم على الكفار يقول: سلام على من اتبع الهدى، ومعناها: لو اتبعت الهدى يا هرقل فسلام عليك من الله ومنا. [أما بعد]، وفي هذا سنية أن يقول الرجل بعد المقدمة: (أما بعد)، وهي كلمة للفصل بين المقدمة وبين ما بعدها، وهي تقال في الخطب، والرسائل، والرسالة المكتوبة ما هي إلا خطبة موجهة إلى القارئ، بخلاف الخطبة والكلمة المسموعة فهي رسالة موجهة إلى مستمع، ويستحب أن يكون بين المقدمة وبين غرض الرسالة كلمة أما بعد؛ ليعلم أن ما بعد هذه الكلمة هو أصل الرسالة، وكل رسالة وخطبة إنما تتكون من مقدمة، وغرض، ونهاية. ثم قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: أدعوك للإسلام- أسلم تسلم)] تسلم من القتال، تسلم من الآفات، تسلم من العاهات، تسلم من المصائب، تسلم من لقاء عدوك؛ لأن أهل الإيمان هم أعداء هرقل في ذلك الوقت، ويمكن أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (تسلم) أي: من عذاب الله في الآخرة إذا أسلمت في الدنيا. قال: [(يؤتك الله أجرك مرتين)] لماذا مرتين وليس مرة واحدة؟ لأن العظيم في الغالب إذا أسلم أسلم من بعده، فيأخذ أجر إسلامه هو، ثم يأخذ أجر إسلام من تبعه على الإسلام، [(فإن توليت -أي: فإن أعرضت وكذبت ولم تسلم- فإن عليك إثم الأريسيين)]، والأريس: هو الفلاح، وهذا يدل على أن ولاية الشام إنما كان عملها الفلاحة والزراعة، يعني: بامتناعك عن الإسلام فيمتنع من بعدك في مملكتك وولايتك، فكما أنك إذا أسلمت تأخذ أجرين، أجر إسلامك وإسلام من تبعك، فإذا جحدت وكذبت ولم تسلم فإن عليك إثمك وإثم من تبعك، وهم الأريسيون، وهم أصحاب مملكة الشام. ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [({يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64] إلى قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64])]، هذه الآية وجهت إلى هرقل، والكافر نجس العقيدة، ويستشهد بها ابن حزم وغيره كالشيخ الألباني عليه رحمة الله وكثير من أتباع مدرسته إن لم تكن كل المدرسة، وكذلك بعض علماء الحجاز يستشهدون بأن مس القرآن للجنب والحائض جائز من باب أولى، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أرسل بهذا الكتاب وفيه آية من كتاب الله عز وجل إلى رجل كافر، وهو يعلم أنه لا محالة سوف يأخذه بيده، فمن باب أولى أن يأخذه المسلم الذي لا ينجس؛ فإن الجنابة ليست بنجاسة، وقد ورد في الحديث: (أن أبا هريرة رضي الله عنه أجنب، فتنحى من طريق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم دعاه النبي عليه السلام فلم يأته، فقال: ما منعك؟ قال: يا رسول الله إني نجس، قال: إن المؤمن لا ينجس) فإذا كان الأمر كذلك، وأن الجنب والحائض ليسوا بنجس؛ فمن باب أولى أن يقرأ كتاب الله عز وجل. [فلما فرغ هرقل من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر هرقل بـ أبي سفيان ومن معه فأخرجوهم، فقال: أبو سفيان لأصحابه حينها: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة -أي: لقد ظهر أمر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة هو من أجداد النبي عليه الصلاة والسلام-[إنه ليخافه ملك بني الأصفر]، أي: الروم، قال لهم: إذا كان هرقل نفسه يخشاه فكيف بنا؟ ويقول: إن ملك محمد سيبلغ ما تحت قدمي هنا. قال: [فما زلت موقناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام] والحديث أخرجه البخاري ومسلم.

معجزة انشقاق القمر

معجزة انشقاق القمر قال: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهدوا)] أي: انظروا وعاينوا انشقاق القمر فإنه لم ينشق إلا بعد أن أمرته، أو لم ينشق إلا بعد أن طلبت انشقاقه من ربي، فهي معجزة ساقها الله تعالى إليه لم تكن لنبي قبله، وهذا الحديث كذلك أخرجه الشيخان. [وعن عبد الله قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام شقة فوق الجبل، وشقة يسترها الجبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهد)]، أي: اشهد يا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. [وعنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال القوم: هذا سحر سحركموه ابن أبي كبشة فسلوا السفار)] يعني: المسافرين الذين يأتون من خارج مكة؛ لأن أهل مكة المعاندين أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا محمد! إذا كنت صادقاً فيما تقول فأرنا آية مثلما صنع الأنبياء من قبلك، فقد كانوا يأتون بآيات يعجز عنها الخلق، قال: بأي آية؟ قالوا: اطلب من ربك أن يشق القمر فلقتين، وهذا ليس أمامه على الأرض ليتصرف فيه كما يريد، هذا شيء في السماء لا يمكن له أن يبلغه، وكأنهم اختاروا ذلك تعجيزاً له، فقال: إذا نشق آمنتم؟ قالوا: نعم، فلما طلب من ربه أن يفلق له القمر فلقتين وفعل، قالوا: هذا سحر مبين! ثم قال أنصفهم: اسألوا المسافرين إن كانوا رأوا ذلك، واختاروا المسافرين؛ لأن القمر واحد لأهل الحضر وأهل السفر، فإذا كان القمر انشق، ففعلاً سيراه المسافرون، فسلوهم إذا قدموا، فإن كان مثل ما رأيتم فقد صدق، وإلا فهو سحر سحركموه ابن أبي كبشة، فلما قدموا السفار وسألوهم، قالوا: نعم. قد رأيناه انشق. [وعن أنس قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) أخرجه البخاري ومسلم. ولفظ أبي داود: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فلقتين أو فرقتين). أما رواية ابن عباس فقال: (إن القمر انشق على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنه بلغني أنه كانت فلقة على البيت، وفلقة على أبي قبيس)] فلقة من القمر على البيت يراها من كان في البيت فوق البيت، والبيت هو البيت الحرام، وأبو قبيس اسم جبل في منى. [وعن جبير بن محمد بن الزبير عن أبيه عن جده أنه قال: في قول الله عز وجل: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] قال: انشق ونحن بمكة]، وهذا كان في أول بعثته عليه الصلاة والسلام. بعض الناس يزعم أن القمر انشق مرتين، والصواب أن القمر انشق مرة واحدة، وهي هذه الذي نذكرها، وقد كانت على يد النبي عليه الصلاة والسلام، وهي معجزة من معجزاته التي أتى بها، ومن قال: إنه انشق مرتين إنما تصحف عليه لفظ فلقتين، أو فرقتين، فقرأها مرتين، والصواب أن القمر لم ينشق إلا مرة واحدة، فلقة فوق البيت، والأخرى فوق جبل أبي قبيس.

معجزة حنين الجذع

معجزة حنين الجذع لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد أرضاً لأخواله من بني النجار فيها قبور مشركين قديمة فنبشها ونقلها، ثم بنى النبي عليه الصلاة والسلام المسجد النبوي في هذه الأرض، وكان بين المقابر نخيل، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام أعمدة المسجد عبارة عن هذه النخيل، وكان يسقف المسجد بالجريد. فالجذع هو أحد أصول النخل التي كانت في قبلة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه قطعها حتى يقف عليها مرتفعاً ليخطب في الناس، وهذا من السنن الثابتة: أنه يسن للمتكلم أن يجلس في مكان مرتفع حتى يراه الناس، عمل بهذه السنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأمر بها، وعمل بها خلفاؤه، وكل من تكلم على مشروعية ذلك وسنيته. قال: [عن ابن عمر: (أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع -إما مستنداً عليه، وإما واقفاً فوقه- فلما اتخذ المنبر تحول إليه -أي: تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى الوقوف على هذا المنبر وترك الجذع- فحن الجذع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه)] يعني: هذا الجذع حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واحتضنه ومسحه حتى سكن وهدأ. [وعن ابن عمر: (أن تميم الداري لما ثقل النبي عليه الصلاة والسلام. قال: يا رسول الله! ألا أتخذ لك منبراً؟ -يعني: ألا أصنع لك منبراً- يحمل عظامك أو يجمعك)] والخطيب غالباً يريد شيئاً يجمعه، ولذلك إذا جلس في مكان على قدر بدنه فإن ذلك يفيده أفضل من أن يجلس في العراء، ولعله إذا أراد أن يجلس وقع أو زلت مقعدته، أو قدمه، بخلاف ما لو كان له مكان محكم يجلس فيه إذا مال يمنة أو يسرة فإنه لا يخشى عليه الوقوع والسقوط؛ لأن المنبر يحوطه من جميع الجوانب، ولذلك قال تميم: [(ألا أتخذ لك منبراً يحمل عظامك أو يجمعك، فاتخذ له مرقاتين، وكانت سواري المسجد جذوعاً وسقايفها جذوعاً)]، يعني: الأعمدة التي هي السواري كانت جذوع نخل، وكذلك سقف المسجد كانت عليه جذوع أخرى وأعمدة من النخيل، ثم بعد ذلك كان عريشه من الأوراق والقش وغير ذلك. [وعن ابن عباس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، فحن الجذع فاحتضنه فسكن). وقال أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد، فجاء رومي -في اسمه اختلاف كثير، والراجح أن اسمه: ميمون - فقال: ألا نصنع لك شيئاً تقعد عليه فكأنك قائم؟ فصنع له منبراً درجتين، ويقعد على الثالثة)]، وهذا يدل على أن المنبر ثلاث درجات اثنتان يرقاهما الخطيب، والثالثة يجلس عليها، قال: [(فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خار الجذع كخوار الثور -يعني: أخرج صوتاً يشبه خوار الثور- حتى ارتج المسجد لخواره؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن، ثم قال: والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة) حزناً على رسول الله عليه الصلاة والسلام]. كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة حتى للجمادات، أما عن كونه جماداً ويعقل فدليل هذا قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] كل هذا من خوارق العادات التي جرت على يديه عليه الصلاة والسلام. [وعن أنس قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبراً، قال: فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -أي: تئن وتحن حنين الحزين الواله الشفيق- فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام فاحتضنها فسكتت)، وكان الحسن بن أبي الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول عليه الصلاة والسلام شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. وعن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع، إذ كان في المسجد عريشاً، وكان يخطب إليه، فقال له رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك عريشاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس ويسمعوا خطبتك؟ قال: نعم، فصنعوا له ثلاث درجات هي التي على المنبر -أي: هي التي عليها المنابر إلى يومنا هذا- فلما صنع المنبر ووضع في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه حن الجذع حتى سقط، فرجع رسول ا

معجزة جريان الماء من بين أصابع النبي عليه الصلاة والسلام

معجزة جريان الماء من بين أصابع النبي عليه الصلاة والسلام [عن عبد الله بن مسعود قال: (كنا نعد الآيات بركة -أي: المعجزات- وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعز الماء -أي: قل- فقال: اطلبوا فضلة من ماء)] النبي عليه الصلاة والسلام لما قل الماء معهم وهم في سفر أشرفوا على الهلاك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: اطلبوا لي الماء ولو كان فضلاً يسيراً، [قال: (فأتي بها في إناء قليل، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله عز وجل -أي: تعالوا إلى الماء الطاهر المبارك من عند الله عز وجل- قال ابن مسعود: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتوينا، وقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)]، فهاتان معجزتان: نبع الماء، وتسبيح الطعام. [وعن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بإناء فيه ماء فأغمر أصابعه -يعني: أدخلها في الماء- ولا يكاد يغمرها، فجعلوا يتوضئون، وجعل الماء ينبع من بين أصابعه، قال: قلت لـ أنس: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة)] تصور أن فضلة من ماء يضع النبي عليه الصلاة والسلام أصابعه فيها ولا يكاد يغمرها، لأن أصابعه هذه تصل إلى قعر الإناء، وهذا يدل على قلة الماء وندرته مع الصحابة في ذلك الوقت، ومع هذا توضئوا منه وشربوا حتى ارتووا وهم زهاء ثلاثمائة! هذا يدل فعلاً على أن البركة من عند الله عز وجل، وأن هذا لا يكون ولا يجرى إلا على يد نبي صلى الله عليه وسلم. [وعن جابر قال: (أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام)] يعني: فزعنا إلى رسول الله، نحن سنموت في الصحراء، ونحن في سفر ولا ملاذ لنا ولا ملجأ إلا إليك بعد الله عز وجل، فاطلب من ربك أن يغيثنا، وأن يروي ظمأنا، قال: [(أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فدعا بتور فيه ماء)] والتور: إناء صغير يسع مداً وثلثاً بالرطل العراقي أو كما قال أهل العلم، قال: [(فوضع كفه فيه حتى توضأنا وشربنا)]. انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم، لم يقولوا: حتى شربنا وتوضأنا، وإنما قالوا: حتى توضأنا أولاً، وهذا يدل على حرصهم البالغ على العبادة، ثم على أنفسهم بعد ذلك، [(فقال: خذوا باسم الله حتى توضأنا وكفانا)، قال الراوي عن جابر: قلت لـ جابر: (كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، ولكنا كنا ألفاً وخمسمائة)، رواه البخاري]، ألف وخمسمائة شخص يتوضئون من تور لا يأخذ إلا مداً أو مدين! [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لـ أم سليم -وهي زوجة أبي طلحة وأم أنس بن مالك - (لقد سمعت صوت رسول الله عليه الصلاة والسلام ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟)] وهذا يدل على كمال شفقة أصحابه عليه الصلاة والسلام، وحرصهم ومتابعتهم لأحوله أولاً بأول رضي الله عنهم أجمعين وصلى الله على نبينا محمد. [قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام] قرص الشعير هذا لو وضع أمامك لن تأكله حتى لو مت من الجوع، ثم وضعته في طرف خمارها، ووضعت بقية الخمار على أنس حتى لا يراه أحد وهو ذاهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ من أجل أن يعطيه أقراص الشعير، وكأنه سر كبير، لا يوجد أحد ضعيف من الصحابة، فالخبر هذا كله عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو الضعيف، ومصدر هذا الضعف هو الجوع، قال: [(فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، وقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ قال: قلت: نعم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بطعام؟ قال: قلت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا، قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئنا أبا طلحة فأخبرته -لم يأخذ منه الطعام وإنما أمر أنساً أن يرجع إلى البيت في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام وصحبة من معه- قال: فقال أبو طلحة: يا أم سليم! قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، قالت أم سليم: الله ورسوله أعلم)] يعني: إذا كان النبي أتى معهم فهو من سيتولى الأمر بنفسه، قال: [(فانطلق أبو طلحة حتى تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك -يعني: هاتي الذي عندك- فأتت بذلك ا

تسبيح الحصى في يد النبي عليه الصلاة والسلام

تسبيح الحصى في يد النبي عليه الصلاة والسلام [قال: سويد بن يزيد السلمي: (مررت بمسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا أبو ذر فسلمت وجلست إليه، فذكر عثمان فقال: لا أقول أبداً إلا خيراً لشيء رأيته من رسول الله عليه الصلاة والسلام في خلواته، فمر به فاتبعته حتى انتهى إلى موضع قد سماه، فجلس فقال: يا أبا ذر! ما جاء بك؟ قلت: الله ورسوله؛ إذ جاء أبو بكر فسلم وجلس عن يمين رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر، وجاء عثمان فسلم وجلس عن يمين عمر، فتناول النبي عليه الصلاة والسلام سبع أو تسع حصيات فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل)]، وهذه الرواية فيها ضعف. والصحيحة [عن ابن عباس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني عامر قال: أرني هذا) أنتم تعرفون أن من علامات نبوته على بدنه الخاتم الذي بين كتفيه في ظهره، فجاء رجل من بني عامر يقول: [(أرني هذا الخاتم الذي بين كتفيك، فإن يك بك طب داويتك فإني أطب العرب)]، يعني: إذا كان هذا الختم عبارة عن عيب في بدنك فأنا أعالجك منه، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني أريك آية)] هذا الخاتم ليس داء وإنما هو علامة على النبوة، وإذا كنت تريد آية على إثبات نبوتي أريتك، [(قال: نعم، قال: ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة فدعاه فجاء ينقز حتى قام بين يديه، فقال: قل له يرجع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعذق: ارجع إلى مكانك، فرجع إلى مكانه، فقال: يا بني عامر! ما رأيت كاليوم أسحر)]، أي: ما رأيت ساحراً كما رأيت هذا الرجل اليوم. [وعن عبد الله بن مسعود قال: (كنت غلاماً يافعاً في غنم لـ عقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، فقال: يا غلام هل عندك من لبن؟ قال: فقلت: نعم، ولكن مؤتمن)] أنا صحيح أرعى الغنم وفي الغنم من هي والدة ولها ضرع يدر اللبن، لكن أنا مؤتمن لا أستطيع أن أعطيك لبناً، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل، قال: فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها رسول الله عليه الصلاة والسلام -يعني: أنامها، وأراحها على الأرض- ثم جعل يمسح ضرعها ويدعو حتى حلبت -وهذا يوافق حديث أم معبد - قال: وأتاه أبو بكر بصحن فاحتلب فيه، ثم قال لـ أبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر، ثم شرب النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام للضرع: اقلص -يعني: ارجع إلى ما كنت عليه آنفاً- فقلص فعاد كما كان، قال: ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن، قال: فمسح رأسي ثم قال: إنك غلام معلم، فأخذت منه سبعين سورة)]. هذه بعض معجزاته عليه الصلاة والسلام، وقد أوتي من المعجزات ما لم يؤته نبي قبله، وهذه المعجزات إنما كانت مصحوبة بالتحدي، ولم يحدث مثلها أو قريب منها لأحد ولا حتى من الصالحين، بل ولا من الخلفاء الراشدين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم لقد اختص الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل بخصائص على سائر البشر، وخص نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص تميزه عن سائر الأنبياء والرسل، فهو سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع، وقد أوتي جوامع الكلم، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وأحلت له ولأمته الغنائم، وغير ذلك من الخصائص والمميزات التي امتن الله بها على نبيه وعلى أمته، أما صفاته الخَلْقية والخُلُقية فقد زخرت بها كتب السير، فهو أكمل الخلق على الإطلاق خلقاً وخُلُقاً صلى الله عليه وسلم.

ذكر رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه لبعض الأنبياء ليلة أسري به

ذكر رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه لبعض الأنبياء ليلة أسري به الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. لا زال الكلام عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وشمائله ومناقبه موصولاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو العالية: حدثني ابن عم نبيكم -وهو ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي موسى آدم طوالاً جعداً)] هنا يذكر أوصاف موسى عليه السلام، وكانت هذه الرؤية رؤية حقيقة، وهي رؤية في اليقظة، فأحد أوصاف موسى أنه كان طويلاً، وقوله: (آدم) يعني: فيه شيء من السمرة. [(كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض -يعني: يميل إلى البياض المشرب بحمرة- سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النار، ورأيت الدجال، في آيات أراهن الله عز وجل إياه، فلا تكن في مرية من لقائه -أي: أنه لقي موسى ليلة أسري به- {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2])]، أي: جعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، وهذا الحديث عند البخاري ومسلم. [وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رأيت موسى وعيسى وإبراهيم -أي: ليلة أسري به رأى موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام- فأما عيسى فأحمر جعد -والجعد بخلاف السبط- عريض البدن، وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال أزد شنوءة، وأما إبراهيم فإذا أردتم أن تعرفوا شبهه ومثله فانظروا إلى صاحبكم، يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام)]. فكان عليه الصلاة والسلام أشبه الناس بإبراهيم عليه السلام، والحديث أخرجه البخاري.

حديث عائشة في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها إلى المدينة

حديث عائشة في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها إلى المدينة قال: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أريت دار هجرتكم -يعني: المدينة- أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وبهما حرتان)]، يعني: قبل أن أدخل المدينة قد رأيتها، قيل: رآها على قطعة من قماش، وقيل: أنه رآها في المنام وغير ذلك من تأويلات هذا الحديث. والراجح من أقوال أهل العلم: أنه يتكلم هنا عن رؤيته للمدينة في المنام، ولا مانع أن يكون رآها مصورة على قطعة من قماش أو زجاج أو صخر أو غير ذلك، المهم أنه رأى المدينة ورأى أنها في واد بين لابتين -أي: بين جبلين عظيمين- وفي سفح هذين الجبلين حرتان عظيمان، والحرة: هي الكومة أو الجبل الصغير من حجارة سوداء. [قالت: (فهاجر من هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: لما ذكر لهم هذا الكلام هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة- ورجع إلى المدينة بعض من هاجر إلى أرض الحبشة -كما فعل جعفر رضي الله عنه- وتجهز أبو بكر مهاجراً إلى المدينة)]، يعني: أراد أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة لما سمع أن النبي عليه الصلاة والسلام أريها في المنام، فأراد أن يحوز قصب السبق في الهجرة إلى المدينة قبل أن يأذن عليه الصلاة والسلام، [فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك -أي: تمهل يا أبا بكر! - فإني أرجو أن يؤذن لي) أي: بالهجرة من مكة إلى المدينة، فإذا كان الأمر كذلك، فأنت صاحبي في هذه الهجرة، [(فقال أبو بكر: أوترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)، فحبس أبو بكر الصديق رضي الله عنه نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر]، وهكذا أعد أبو بكر راحلتين لهذه الرحلة العظيمة التي هي أعظم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق، كما أنه حبس نفسه على صحبة النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفكر بالهجرة وحده قط. [قالت عائشة: (فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يزور أبا بكر غدوة وعشياً، ولم يكن معتاداً أن يزوره في وقت القيلولة أو في وقت الظهيرة، ففي وقت الظهيرة وأبو بكر رضي الله عنه قائل في بيته ناداه مناد: [هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها]، وهذا قول عائشة. [قال أبو بكر: (فداه أبي وأمي إن جاء به هذه الساعة إلا لأمر)] يعني: ما جاء به في هذه الساعة على غير عادته في زيارتنا إلا أمر عظيم دفعه إلى ذلك. [قالت: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام حين دخل لـ أبي بكر: أخرج مَن عِندَك؛ لأن الأمر يستدعي السرية التامة- قالت: فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله!)]، وهو يتكلم عن أبيه وعن بنيه وعن زوجه، وهؤلاء هم أهل النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى: أنهم يحفظون السر كـ أبي بكر تماماً بتمام وسواء بسواء، [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنه قد أذن لي في الخروج -أي: في الهجرة من مكة إلى المدينة -فقال أبو بكر: فالصحبة يا رسول الله! -يعني: ائذن لي أن أصحبك في هذه الرحلة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم. فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! أحد راحلتي هاتين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بالثمن آخذها، قالت: فجهزناهما أحث الجهاز -يعني: أحسن الجهاز- فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء ابنة أبي بكر من نطاقها -أي: من خمارها- فأوكت به الجراب -أي: فربطت به الجراب- فلذلك كانت تسمى ذات النطاق -وفي رواية: ذات النطاقين- لأنها قطعت خمارها نصفين وأوكت به الجراب فسميت ذات النطاقين -ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل يقال له: ثور، فمكث فيه ثلاث ليال)]، وهذا الحديث عند البخاري ومسلم.

حديث حزام بن هشام عن أبيه عن جده في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

حديث حزام بن هشام عن أبيه عن جده في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال: [وعن حزام بن هشام عن أبيه عن جده حبيش -وهو صاحب للنبي عليه الصلاة والسلام- قال: (إن النبي حين خرج من مكة خرج منها مهاجراً إلى المدينة)]، والنبي عليه الصلاة والسلام ما خرج من مكة قط بعد البعثة إلا مهاجراً، لم يخرج منها إلا إلى الطائف، أما قبل البعثة فقد خرج في رحلات تجارية إلى الشام وغيرها، أما خروجه بعد البعثة وقبل الهجرة فلم يكن إلا مرة واحدة إلى الطائف. قال: [حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه، ومولى لـ أبي بكر وهو عامر بن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد الله بن الأريقط].

اختلاف العلماء في حكم الاستعانة بالمشرك

اختلاف العلماء في حكم الاستعانة بالمشرك وعبد الله بن الأريقط كان كافراً في ذلك الوقت، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام استعمله واستخدمه في الاستعانة به في الدلالة على الطريق، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الاستعانة بالكافر أو المشرك في قضاء بعض الأعمال والمصالح، كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم في حال غزو العراق للكويت، واستخدموا بلاد الكفر بأسرها، ونزلوا أرض الجزيرة، ويحتجون في ذلك باستعانة النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الرجل وهو عبد الله بن الأريقط في الدلالة على الطريق. وعلى أية حال هذا كلام سبق به أهل العلم، وقضية الاستعانة بالكافرين هي محل نزاع طويل بين أهل العلم، وقد ذكر هذا الخلاف غير واحد من أهل العلم، وتوسع فيه جداً الإمام الشوكاني، وكذلك الصنعاني وابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله عز وجل. أما القائلون بجواز الاستعانة فإنهم يحتجون بهذا الحديث وبغيره من الأدلة التي يفهم منها فهماً بعيداً جواز الاستعانة، وبعضهم يمنع مطلقاً، والبعض يقول: يجوز الاستعانة بالمشرك إذا كان في موطن الذل والصغار، وأنه لا تأثير له على المسلم بعد ذلك، وأن دوره ينتهي بمجرد أداء مهمته، وقيدوا ذلك بشروط طويلة كثيرة، وأظن أن هذا أرجح الأقوال. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما استعان بهذا الرجل استعان به فقط في الدلالة على الطريق، في حين أن جانبه مأمون ولا خوف منه، وأن مهمته تنتهي بانتهاء هجرة النبي عليه السلام أو معرفته للطريق. فقد أتى النبي عليه الصلاة والسلام رجل مشرك يريد أن يحارب معه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع. فإنا لا نستعين بمشرك)؛ لأن الدلالة على الطريق بخلاف المشاركة في الغزو والجهاد، فقد أراد هذا المشرك أن يشارك في الغزو والقتال، فرده عليه الصلاة والسلام، فكيف يؤذن لهؤلاء القوم بدخول أرض الجزيرة التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يجتمع بالمدينة -أي: بالجزيرة- أهل دينين ولا يجتمع فيها أهل ملتين سواء، فهؤلاء إنما حرصوا كل الحرص من أول الأمر على أن يكون لهم وجود بعد أن فشلوا سنوات طويلة في عهد سعود ومن بعده فيصل ومن بعد فيصل خالد، ولكنهم نجحوا في هذا العهد، وهذه قصة معلومة وأمر مدروس بين هؤلاء القوم وبين العميل الكبير صدام حسين، فهؤلاء القوم دخلوا هذه البلاد للسيطرة الكاملة على حقول البترول أولاً، ثم لاعتقادهم أن أرض الجزيرة تئول إليهم في آخر الزمان وقبل نزول المسيح عليه السلام. هكذا معتقدهم. ولذلك تنبه لذلك كثير من أهل العلم، فقال الشيخ الألباني عليه رحمة الله: إن هؤلاء إنما أتوا لاسترداد خيبر، والعجيب أن هذا الكلام يردده هؤلاء الآن في أرض الجزيرة، يقولون: لا نخرج منها وقد دخلناها إلا بعد أن نسترد خيبر كما سلبت منا، وهذا كلام تنبه له الشيخ الألباني وغيره من أهل العلم، وكان هذا فيضاً من فيوضات الرحمن تبارك وتعالى على أهل العلم، فهؤلاء لهم مطامع عظيمة جداً، وهم اليهود والنصارى، فقد كانت مطامعهم من قبل من النيل إلى الفرات، ولكن الآن مطامعهم أن يكون العالم كله تحت سيطرتهم وتحت أمرهم. الأمر الثاني: أن غالب البترول في أمريكا الذي كانوا يحتضنونه منذ خمسين عاماً تحت الأرض أوشك على النفاد، فلابد من بترول وإلا ستضيع أمريكا وستضيع سيطرة أمريكا والنظام العالمي الموحد، فإنها من جهة أرادت أن تحقق مكسباً اعتقادياً بسيطرتها على الأرض، والأمر الثاني: أرادت أن تبقى السيطرة والزعامة هناك، ولا تبقى هذه السيطرة ولا تلك الزعامة إلا ببقاء مسوغات الحياة بوجود البترول فيها.

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في حلبه شاة أم معبد

معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في حلبه شاة أم معبد قال: [(خرج النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى المدينة ومعه مولى لـ أبي بكر وهو عامر بن فهيرة، ومعهم عبد الله بن الأريقط، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في تلك الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟! فقالت: خلفها الجهد عن الغنم)]، هذه الشاة من فرط إعيائها ما استطاعت أن تلحق ببقية الشياه، فتخلفت في الخيمة، [(فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك)] أي: هي ليس فيها لبن، ولو كانت مما تُحلب فإن جهدها وتعبها يمنعها من ذلك. [قال: (أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: نعم. إن رأيت فيها حليباً فاحلبها)]، هذه الشاة ليس فيها حليب، وهي لم تلد ولم يقربها فحل، ولكن أنت وشأنك إذا أردت أن تحلبها وتستجيب لك فافعل، [(فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه -أي: فتدفق اللبن عليه- ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط -أي: يروي القوم والفئة من الناس- فحلب فيه ثجاً -يعني: نزولاً سريعاً- حتى علاه البهاء -يعني: علاه الرغوة اللبنية وهذا للدلالة على أنه قد امتلأ- ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب صلى الله عليه وسلم)]، آخر من شرب الرسول عليه الصلاة والسلام امتثالاً لأمره: (إن ساقي القوم آخرهم شرباً). [قال: (ثم أراضوا -يعني: استراحوا شيئاً من الزمان يسيراً- ثم حلب حلبة ثانية ثم غادره عندها، ثم بايعها وارتحلوا عنها)] (ثم بايعها) أي: أسلمت على يديه عليه الصلاة والسلام لما رأت من معجزاته في شاتها، ومن مزيد رحمته عليه الصلاة والسلام أنه حلب حلبة ثانية وجعلها خاصة بصاحبة الشاة، وهي أم معبد رضي الله عنها، قال: [(فقلما لبثت -أي: لبثت هذه المرأة وقتاً يسيراً- حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلىً وضحى، مخهن قليل)] والمخ بمعنى: سوق الشياه والأعنز التي ساقها أبو معبد كادت تكون عظاماً، يعني: غدت خماصاً وعادت خماصاً، لم تعد بطاناً. قال: [(فلما رأى أبو معبد اللبن عجب)] وأنتم تعلمون أن هذا في طريق الرحلة إلى المدينة، فهذا الكلام تم في الصحراء، فمن أين لـ أم معبد اللبن؟ لكن انظر إلى تقدير الله عز وجل في هذا اليوم بالذات تتخلف هذه الشاة دون بقية الشياه، حتى تتم المعجزة أمام عين أم معبد صاحبة الشاة، والأمور تجري بمقادير.

وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم

وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم [قال: (فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلى -يعني: يتمايلن من فرط الهزال والضعف- مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد! والشاء عازب حيال؟ -يعني: لها حول لم يقربها الفحل- قالت: لا والله؛ إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا)] أي: قصت له القصة التي رأتها بعينيها، [قال: (صفيه لي يا أم معبد! قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة)] يعني: حسن المنظر، هذه أوصاف نبينا عليه الصلاة والسلام، [(أبلج الوجه)] يعني: نير الوجه، [(حسن الخلق لم تعبه علة)] يعني: بلغ في الكمال البشري منتهاه صلى الله عليه وسلم، [(ولم يزربه صقلة -أي: ولم يعبه أدنى شيء- وسيم قسيم)] وسيم من الوسامة، وقسيم أي: جميل، [(في عينيه دعج -أي: في عينيه سواد شديد- وفي أشفاره غطف، وفي صوته صهل -يعني: بحة- وفي عنقه سطع -أي: طول- وفي لحيته كثافة)] يعني: كث اللحية وكثيفها [أزج أقرن، إن صمت فعليه وقار) يعني: لو سكت يعلوه الوقار، [(وإن تكلم سما به)]، يعني: إن تكلم ازداد وقاراً وسما به وعلا، [(أكمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأعلاهم من قريب، حلو المنطق، كلامه جميل لا يمله السامع، فضل لا نزر به ولا هزر) أي: لا يتكلم بكلام لا قيمة له، [(ولا يهذر في كلامه)] أي: لا يقول كلاماً مستقبحاً، [(كأن منطقه خرزات)]، أرأيتم عقد اللؤلؤ؟ كأن كلامه عقد يتساقط حبة بعد الأخرى. قالت: [(نظم يتحدرن، ربعه يأسن من طول، وتقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً)]. إن وصفه عليه الصلاة والسلام عجيب جداً، ومن أراد أن يتعرف على شمائله ومناقبه وخلقته عليه الصلاة والسلام وخُلُقه فلينظر في كتاب الشمائل للإمام الترمذي، فموضوع الكتاب من أوله إلى آخره هو بيان حاله ووصفه عليه الصلاة والسلام. قالت المرأة: [(وله رفقاء -يعني: أصحاب- يحفون به -أي: يحوطونه من كل جانب-، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر بادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند)] محفود أي: مسارع في خدمته، محشود عنده حشد من الناس يحفون به من كل جانب لخدمته، (لا عابس ولا مفند)، يعني: لا يتكلم بكلام فيه عبس، ولا أصابه الخرف ولا أصابه شيء في عقله. [قال أبو معبد: (هذا والله صاحب قريش) هذا الرجل الذي كنا نسمع عنه، وإنه نبي آخر الزمان وإنه من قريش؛ الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، قال: (ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، فأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه. يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد قالا بمعنى: أنهما بقيا في خيمة أم معبد وقت القيلولة: هما نزلاها في هدى واهتدت به فقد ساد من أمسى رفيق محمد فيا آل قصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا يجازى وسؤدد ليهن بني كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حايل فتحلبت عليه بصريح ضرة الشاة مزبد فغادره رهناً لديها لحالب يرددها في مصدر ثم مورد] أي: ترك لها الحلوب الثاني لديها رهناً [ليهن أبا بكر سعادة جده بصحبته من يسعد الله يسعد] إلى آخر هذه الأبيات.

سياق ما روي من فضائل النبي عليه الصلاة والسلام التي خصه الله بها من بين سائر الأنبياء

سياق ما روي من فضائل النبي عليه الصلاة والسلام التي خصه الله بها من بين سائر الأنبياء إن المعجزات التي مضت معجزات عامة، ربما وقعت لبعض الأنبياء والمرسلين، ولكن الله تبارك وتعالى خص نبيه محمداً ببعض المعجزات والخصائص التي منعها حتى من الأنبياء من قبله.

أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم

أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم قال: [فمنها: أنه أوتي جوامع الكلم]، وأرجح الأقوال في معنى جوامع الكلم: أنه القرآن الكريم، لكن لا يمنع أن يكون جوامع الكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، فهو من أحسن الناس منطقاً، ومن أبينهم وأفصحهم في لغة العرب، ولذلك كان الواحد منهم إذا عجز أن يأتي بكلام يشبه كلام الله عز وجل إنما يأتي بكلام يظن أنه يشبه كلام النبوة، ولا يفلح في ذلك كذلك. ومعنى جوامع الكلم: الكلام القليل المبنى الكثير المعنى، آية تتكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، أو حديث يتكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، فإذا به قاعدة عظيمة تصلح لفض المنازعات والخصومات إلى قيام الساعة. فمثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) إلى آخر حديث عمر رضي الله عنه، هذا كلام عظيم يضبط مسائل النيات الصالحة وغير الصالحة، ويرتب الثواب والعقاب عليها، ويرتب الصلاح والفساد عليها، وغير ذلك إلى قيام الساعة في أعمال العباد، فإذا أردت أن تحتج على صحة العمل أو فساده أو على الثواب والعقاب فإنما حجتك هذا الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، حتى صار هذا الحديث مثلاً دارجاً على ألسنة العوام. مثال آخر: قوله عليه الصلاة والسلام في عالم القضاء: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، هذه قاعدة في القضاء تصلح لفض النزاع إلى قيام الساعة، فالقاضي لا يأمر المدعى عليه باليمين إلا إذا عجز المدعي عن إتيانه بالبينة، والمطلوب من المدعي أن يبرز البينة ولا يمين عليه. هذه قاعدة عامة، وأنتم تعلمون أن بعض أهل العلم كـ ابن رجب الحنبلي والإمام النووي وغيرهم من أهل العلم اعتنوا عناية فائقة بكلامه عليه الصلاة والسلام، فكل كلامه يصلح أن يكون قاعدة تضبط أمراً من الأمور إلى قيام الساعة. فجمع الإمام النووي عليه رحمة الله ما ظن أنه من جوامع الكلم، فبلغ أربعين أو أربعين ونيفاً، ثم جاء من بعده ابن رجب الحنبلي وزاد عليه عشرة من الأحاديث وهي المعروفة بجامع العلوم والحكم، فهذه الأحاديث كلها من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، كلام قليل المبنى كثير المعنى يصلح أن يكون قواعد ثابتة راسخة إلى قيام الساعة.

بعثه إلى الناس عامة

بعثه إلى الناس عامة قال: [وبعث إلى الناس عامة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة]. فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة، إلى الأحمر والأسود والأبيض، إلى العجم وإلى العرب، إلى الإنس وإلى الجن كذلك، فالجن مكلفون كتكليف البشر سواء بسواء، بالإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام، والعمل بأوامره على مقتضى أصل خلقتهم وما يتفق مع خلقتهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام من مناقبه وشمائله أنه بعث إلى الناس عامة، وكان النبي من قبله يبعث إلى الناس خاصة.

نصره بالرعب مسيرة شهر

نصره بالرعب مسيرة شهر قال: [ونصر بأنه يرعب عدوه على مسيرة شهر]؛ لقوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، يعني: يسمع العدو أن محمداً وجيشه قد انطلقوا من المدينة -وبين محمد عليه الصلاة والسلام وبين العدو مسيرة شهر على الأقدام أو ركوباً- فينهزم العدو في عقر داره، وأنتم تعلمون أن الهزيمة النفسية أعظم من الهزيمة المادية، إذا انهزم الإنسان في نفسه سهل أن ينهزم في بدنه، يعني: يتملك العدو الرعب؛ فإذا سمع العدو بمخرج النبي عليه الصلاة والسلام ارتعدت فرائصه، وخاف خوفاً لا يؤهله للمقابلة واللقاء بجيش النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يكون على مسيرة شهر، وأنتم تعلمون أن بين المدينة ومكة قرابة عشرين يوماً وزيادة، فتصور لو أن العدو بمكة والنبي عليه الصلاة والسلام خارج من المدينة هو وأصحابه، فإن القوم ينهزمون في عقر دارهم قبل أن يخرج النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة النبوية.

كونه خاتم الأنبياء

كونه خاتم الأنبياء قال: [وختم به النبيون فلا نبي بعده]؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي)، هذا الكلام صريح للغبي والأعمى، فالغبي يفهم هذا الكلام فضلاً عن طلاب العلم والناس الطيبين أمثالكم، لكن بعض الملاحدة لم يهدأ له بال، وأنتم تعلمون أن المجرم رشاد خليفة الذي هلك سنة (88) بأمريكا وادعى النبوة هناك، سمى نفسه: (لا) ولما احتج عليه بأن النبوة انقطعت بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال: ومن قال هذا، النبي عليه الصلاة والسلام بشر بي. قال: أنا خاتم النبيين، والخاتم يوضع في الأصبع، يعني: أنا زينة النبيين وحلية الأنبياء، و (لا) الذي هو أنا نبي بعدي! والله العظيم قال هذا، وسمى نفسه (لا) حتى إنه لما نزل مطار القاهرة ومعه الجنسية الأمريكية قال أحدهم: إن اسم رشاد خليفة هذا قد غيره ولم يعد هذا الاسم له. قال: والقرآن شهد بنبوته، قيل: كيف ذلك؟ قال: لفظ الرشاد عندما تأتي بمادة رشد في القرآن الكريم ستجدها وردت في القرآن الكريم (19) مرة، وأنتم تعلمون أن العدد عندنا مقدس، فكيف يكون اسمه (لا) وكيف يكون اسمه (رشاد)؟ هذا تخبط وضرب في الظلمات.

إعطاؤه الشفاعة في أمته ومفاتيح خزائن الأرض

إعطاؤه الشفاعة في أمته ومفاتيح خزائن الأرض قال: [وأعطي الشفاعة في أمته -أي: لأمته- وأعطي مفاتيح خزائن الأرض؛ لكرامته على الله عز وجل فأبى أن يأخذها]. عرض الله عليه خزائن الأرض، وخيره بين أن يكون ملكاً نبياً، فقد كان سليمان عليه السلام ملكاً نبياً، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ماذا يختار، فأشار عليه جبريل بما هو خير، قال: (بل عبد نبي)، يعني: اختر يا محمد! أن تكون عبداً نبياً، ولا داعي للملك، وأنتم تعلمون أن الله تعالى خيره أن يجعل له الجبال ذهباً، فأبى ذلك وهذا هو الزهد الحقيقي، أن تكون الدنيا فعلاً تعرض عليك وأنت ترفضها، أما الآن فالناس يزهدون رغماً عن أنوفهم بقرار وزاري!

تسميته بأحمد، وأحلت له الغنائم ولم تحل لنبي قبله

تسميته بأحمد، وأحلت له الغنائم ولم تحل لنبي قبله قال: [فأبى أن يأخذها واختار الدار الآخرة، وسمي أحمد صلى الله عليه وسلم -كما جاء في سورة الصف- فجعل معاني نبوته وأفعاله في اسمه، فكانت أموره كلها محمودة وأقواله مرضية، وأحلت له الغنائم ولم تحل لنبي قبله]، وهذا كنا قد ذكرناه من قبل في أثناء شرح صحيح مسلم، وذكرنا الأدلة من الصحيحين وغيرهما؛ أن الغنائم من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وشرحنا حديث: (فضلت على الأنبياء بخمس)، وذكرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام أحلت له ولأمته الغنائم، ولم تكن حلالاً للأمم السابقة كلها، فأول نبي أحلت له الغنائم هو نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، فالأنبياء من قبله كانوا إذا غنموا مغنماً وقفوا عندها في الحرب لا ينفكون عنها حتى يعرفوا: هل قبل الله تبارك وتعالى منهم ذلك أم لا؟ وعلامة ما بينهم وبين ربهم أن تنزل نار من السماء تأكل هذه الغنائم، والحديث في البخاري. وأما الغنائم في شرع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فهي حلال له ولنا، لقوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي).

جعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا

جعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً قال: [وجعلت له الأرض ولأمته مسجداً]، معناه: أن الأرض طاهرة إلا ما تيقنا نجاسته، كالمقبرة والحمام ومرابض الإبل؛ وذكر مرابض الإبل لأنها من الشيطان، والحمام لأنه مظنة النجاسة، والمقبرة لاختلاطها بالدماء وصديد الموتى، وما إذا تيقنا نجاسته بوقوع البول فيه دون جفاف الأرض أو تطهيرها بالماء، فهذه الأماكن نجسة وما عداها طاهرة، فأينما أدركتك الصلاة فعندك المسجد -وهو الأرض- وعندك الطهور -وهو صعيد الأرض- تتيمم وتصلي. أما اليهود والنصارى فإن جميع الأرض عندهم نجسة إلا ما تيقنوا طهارته، وهي البيع والكنائس. فانظروا إلى الفرق بين هذه الأمة والأمم السابقة، إنه لفرق عجيب جداً، ولذلك وضع الله تبارك وتعالى الإصر والأغلال التي افترضها على الأمم السابقة عنا ورحمنا فيها، فجعل لنا الأرض كلها طاهرة إلا ما تيقنا نجاسته، وجعل لأهل الكتاب الأرض كلها نجسة إلا البيع والكنائس، فصلاة الواحد منهم لا تصح إلا في البيع والكنائس، وهذا الشيء بكامله كان قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، أما بعد البعثة فلا صلاة له؛ لأنه بمجرد البعثة إن لم يؤمن فهو كافر، فلا صلاة له ولا طاعة له مقبولة.

جعلت صفوف أمته في الصلاة كصفوف الملائكة عند ربها

جعلت صفوف أمته في الصلاة كصفوف الملائكة عند ربها قال: [وجعلت له الأرض ولأمته مسجداً، وكان غيره من الأنبياء لا تجزئ صلاته إلا في كنائسهم وبيعهم، وجعلت صفوف أمته -أي: في الصلاة- كصفوف الملائكة عند ربها]. يعني: وأنتم تقوم في الصلاة اعلم أن هذا فيه وجه شبه بصفة الملائكة في صفها عند ربها.

أحاديث واردة في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته

أحاديث واردة في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست)]، يعني: خص من دون الأنبياء بستة أشياء، مع أنه خص بأشياء كثيرة جداً، قال: [(أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون). قال: (ومثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى قصراً فأجمله -يعني: زينه وأحسنه- إلا موضع لبنة، فطاف الناس بالقصر فعجبوا لبنيانه وقالوا: ما أحسن هذا القصر لو تمت هذه اللبنة، قال: فأنا تلك اللبنة)]، يعني: هو المتمم لرسالة الأنبياء من قبله والخاتم لها، بل هو الناسخ لما تقدمه من رسالات ونبوات. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت بخصال ست لا أقولهن فخراً)]؛ لأننا مطالبون أن نؤمن بجميع الأنبياء وألا نفضل بين الأنبياء؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا أنا خير من يونس بن متى)، ويونس بن متى نبي من الأنبياء، والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق قاطبة، وهذا أمر قد أجمعت عليه الأمة وقد وردت به الأدلة، والنبي عليه الصلاة والسلام نفسه قال: (أنا خير ولد آدم ولا فخر)، والمعلوم أن يونس بن متى من ولد آدم، والله تعالى يقول في أمره لنا بالإيمان بالرسل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، أي: لا نفرق بين أحد من رسله في مبدأ الإيمان، فنحن كما نؤمن بمحمد نؤمن بعيسى وموسى وجميع الأنبياء المذكورين في القرآن والسنة وغير المذكورين إجمالاً، نؤمن بأن الله تعالى أرسل قبل نبينا أنبياء ورسلاً وأنزل معهم الكتب، وكانوا هداة مهديين بهداية ربهم تبارك وتعالى، نؤمن بهم جميعاً إجمالاً، ونؤمن بنبينا إجمالاً وتفصيلاً، فإيماننا بالنبي عليه الصلاة والسلام كنفس إيماننا بموسى وعيسى من جهة أنه نبي أرسله الله عز وجل، وأنزل معه الكتب، وأمره أن ينزل في بني إسرائيل أو في قوم كذا وكذا. فالأمر الذي ورد في النصوص في عدم التفريق بين الأنبياء هو أمر بعدم التفرقة في مبدأ الإيمان بالأنبياء، أما النصوص الواردة بأن النبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق وهو خير الأنبياء وفضل على الأنبياء فهذا أمر معلوم، وإنما هي خصائص خصه الله تبارك وتعالى بها. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فضلت بخصال ست لا أقولهن فخراً)]؛ لأنه من أشد الناس تواضعاً عليه الصلاة والسلام. قال: [(لم يعطهن أحد كان قبلي، قال: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر)]، وأنتم تعلمون حديث الشفاعة الطويل الذي فيه: أن الناس هرعوا في الموقف إلى آدم فذكر خطيئته، ثم إلى إبراهيم فذكر خطيئته، ثم إلى موسى فذكر خطيئته، ثم إلى عيسى حتى أتوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: (أنا لها أنا لها، فذهب فخر تحت العرش ساجداً حتى دعاه ربه بقوله: اشفع تشفع وسل تعطه) صلى الله على نبينا محمد. قال: [(وجعلت لي الأرض مساجد وطهوراً، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم -أي: أنا- لصاحب لواء الحمد يوم القيامة غير فخر، تحته آدم ومن دونه)]، يعني: لواء الحمد يحمله النبي عليه الصلاة والسلام، وتحت لواء الحمد جميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم آدم، والمعلوم أن آدم هو أول نبي، وأما أول رسول فهو نوح عليه السلام. [وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث -أي: نحن المؤمنين المسلمين- جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت ترابها لنا طهوراً، وجعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتينا الآيات الأخر من سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط أحد قبلي، ولا يعطى أحد منه بعدي)] أي: من أول قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى آخر سورة البقرة. فهذه الآيات من سورة البقرة نزل بها جبريل مرة، وأعطيها النبي عليه الصلاة والسلام من كنز تحت العرش في رحلة معراجه إلى السماء. [وكان علي بن أبي طالب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، قلنا: ما هو يا رسول الله؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت لي الأرض طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم)]. فالأمة لها خصائص تخصها دون بقية الأمم، ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم له خصائص تخصه دون بقية الأنبياء. [وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يؤتهن نبي قبلي: أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر، -وهذا يد

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث (عبدي لا تخف) وحديث صلاة الحاجة

الحكم على حديث (عبدي لا تخف) وحديث صلاة الحاجة س Q ما قولكم في الأحاديث الآتية: الحديث القدسي: (عبدي لا تخف من ذي سلطان مادام سلطاني لا يزول) إلى آخر الحديث؟ A هذا حديث غير صحيح. Q حديث صلاة الحاجة؟ A حديث صلاة الحاجة قد أنكره بعض أهل العلم، ولكنه حديث صحيح، والراجح من أقوال المحدثين: أن من كان في حاجة أو عرضت له حاجة فليركع ركعتين، ثم ليدع الله عز وجل. السؤال: وحديث: (من تعار من الليل- أي: من قام واستيقظ من نومه في الليل- فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) إلى آخر الحديث: (ثم توضأ فصلى ركعتين ودعا الله ما رد الله دعاءه)، يعني: الذي يفعل هذا وله حاجة فإنها مقضية بإذن الله تعالى؟ الجواب: هناك شواهد كثيرة جداً للحديث الأول التي تدل على ما يسمى في الشرع بصلاة الحاجة.

حكم النداء في المساجد عن الأولاد الضائعين

حكم النداء في المساجد عن الأولاد الضائعين Q هل النداء عن الأولاد التائهين في مكبر صوت المسجد من إنشاد الضالة المنهي عنه؟ A لا، ليس منه، يدل على ذلك سبب ورود الحديث، كما يدل عليه لغة العرب، فسبب ورود الحديث أن بعيراً ضل، فناداه صاحبه في المسجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الرجل ينشد الضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك)، يقول أهل العلم والشراح من المحدثين وأهل اللغة: الضالة تطلق على ذوات الأربع فقط، وما دون ذلك يجوز النداء عنه في المسجد وفي غيره.

حكم الإعلان عن المتوفى في المساجد بالمكبر

حكم الإعلان عن المتوفى في المساجد بالمكبر Q ما حكم الإعلام عن المتوفى بواسطة مكبر الصوت في المسجد؟ A النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن العزاء ابتداء، ويقول سعيد بن المسيب: كنا نعد الاجتماع للعزاء من النياحة، فالأفضل عندما يموت شخص أن نخبر الأهل والجيران والخلان والأصحاب؛ وكل واحد يخبر الآخر بالهاتف، وكل واحد يخبر الآخر عن طريق الزيارة أو المسارعة في نشر الخبر أو غير ذلك، أو بدعوة الناس في المسجد إلى أن يحضروا الجنازة غداً في المكان الفلاني، وقد مات كثير من أهل العلم في الأيام الأخيرة، وهذه من علامات الساعة، وكان آخر من مات من الفضلاء الشيخ سيد سابق رحمه الله، فذهبنا وصلينا في الشارع وانسدت الطرق بواسطة الهواتف التي اتصل بها طوال الليل فقط، ولم يحصل أكثر من ذلك، لا عزاء ولا نداء ولا شيء من هذا القبيل، فليس بلازم أن تستخدم ميكرفون المسجد أو تدور بطبلة في البلد، أو بميكرفون سيارة نقل وغير ذلك، فلا يجوز هذا.

الحكم فيما إذا نزف الدم من الرجل وهو يصلي

الحكم فيما إذا نزف الدم من الرجل وهو يصلي Q إذا نزف الرجل وهو يصلي فهل يقطع صلاته أم يتمها؟ A على أية حال النزيف لا يفسد الوضوء، وجاء عن غير واحد من السلف أن النزيف منه الغسل، يعني: الذي يلزمه غسل موضع الدم فقط، كما جاء عن ابن عمر وجابر وابن سيرين والحسن البصري وغيرهم: النزيف منه الغسل، أما الحديث الوارد عند ابن ماجة: (أن الرعاف يفسد الوضوء)، فهو حديث ضعيف.

معنى البيع والكنائس

معنى البيع والكنائس Q ما هي البيع؟ A البيع: اسم معابد اليهود، كما أن الكنائس اسم معابد النصارى، كما أن المساجد اسم معابد المسلمين.

بيان متى يكون الدعاء في الوتر وغيره

بيان متى يكون الدعاء في الوتر وغيره Q إذا صلى الرجل وقنت بالليل فهل يدعو في آخر وتره أم قبل الوتر؟ A الدعاء يكون في آخر ركعة بعد القيام من الركوع، والدعاء في غير الوتر يكون قبل الركوع من آخر ركعة.

ما يفعله من عصى الله ثم أراد التوبة وطلب العلم

ما يفعله من عصى الله ثم أراد التوبة وطلب العلم Q ماذا يفعل من كان في أول سن البلوغ والمراهقة ومارس مع الصبية والفتيات الأقارب الفحشاء في نهار رمضان، علماً بأنهم كانوا ممسكين، ولكنهم مارسوا الفحشاء، حيث لم يكونوا يعلمون بمدى حرمة ذلك، ولا عقوبته، وإن كانوا يعلمون بفطرتهم أن ذلك حرام، فهل يفسد صيامهم، وعليهم إعادة؟ مع العلم أن ذلك تكرر خلال رمضانين، وقام أحدهم -عندما نوى التوبة- بحصر الأيام التي فعل فيها ذلك وصام أغلبها، ولضعف بدنه وفتور صحته فدى عن الباقي، وأقلع عن تلك الأفعال ومصاحبة هؤلاء الأقارب، وكان ذلك منذ أربع سنين تقريباً، ولكن لا زال ألم المعصية يقلقه ويريد القول الفصل في ذلك، فهل يكفيه ما فعل، وإن لم يكن فأين السبيل يرحمكم الله، وماذا يفعل من يريد التخلص من مظلمة عرض مع العلم أن صاحبها ذو قرابة، وإن صارحه بذلك قد تنقطع صلة الرحم ولا يعفو إلا قليلاً، وأن الحكمة في سؤالهم العفو وابتغاء وجه الله ويحدث ما يحدث أم ماذا؟ والذي يريد طلب العلم مع العلم بفقره الواضح، وأن أهله وأبويه يضطرونه لجلب المال، هل عليه أن يستجيب لهم وينعزل في المنزل بعد ذلك للقراءة حتى يتيسر الحال، أم يضرب بهم عرض الحائط، ويتفرغ لطلب العلم، خاصة وأن جهله قد أورده الموارد؟ أسألك بالله أن تكون بي رفيقاً في الجواب، فإني لا أهنأ بعيش ولا بنوم وأشعر أنني من كثرة ذنوبي أن توبتي لن تقبل، وأنني سأصير بعد حياتي هذه والعياذ بالله حطباً لجهنم، فأرجو مراعاة إقبالي على ربي وحالتي النفسية، وبم تنصحني لأجتنب حياة الفساد وأحيا حياة كريمة؟ A على أية حال هذه الرسالة تشير إلى توبة صاحبها، فهنيئاً له أنه يتقلب بالليل والنهار ألماً، فهذا يدل على صدق التوبة والأوبة والرجوع إلى الله عز وجل، ولكن سؤال السائل ينقسم إلى عدة أمور: الأمر الأول: أنه وقع في الفحشاء، والواضح من قراءة الرسالة بتمامها أنه وقع في الزنا، فإن تكرر منه هذا فإجماع أهل العلم أن كل زنا يحتاج إلى كفارة، ولا تجزئ كل كفارة واحدة لمجموعة من الوقائع أو الفحشاء، فعلى الأخ أن يتقرب إلى الله عز وجل في صدق توبته بأن يصوم شهرين متتابعين ومعها يوم إذا كان ذلك في رمضان لكل وقعة فاحشة وقع فيها بغير اتصال، وإذا كنت تتلذذ بهذه المعصية فاعلم أنك لو داومت على الصيام فإنك تستمرئ صوم الدهر كله. وكثير من السلف كانوا يقولون: لقد عانينا قيام الليل عاماً حتى صار سجية، وقد سأل غير واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يقدرون على سرد الصوم، فأذن لبعضهم ولم يأذن للبعض الآخر، فكل هذه النصوص هي بشرى لك بأنك إذا ألفت أن تصوم هذه الكفارات فستكون في نهاية الأمر سجية لك، وما الذي يمنعك أن تصوم عاماً أو عامين أو ثلاثة، كفارات لهذه الفواحش التي وقعت فيها؟ الأمر الثاني: أن صحبة هذا الرجل كلها صحبة فساد كما هو واضح من سؤاله، وأنتم تعلمون أن من عوامل نجاح التوبة التخلص من أصحاب السوء، ولا أدل على ذلك من هذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم ختمها بالراهب فأتم المائة؛ فأمر به أن يرحل عن بلده؛ لأن بها قوماً سوءاً، إلى أرض أناس صالحين يعينونه على طاعة الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل). ويقول الحسن البصري: صديقك من صادقك -أي: من نصحك- لا من صدقك، صديقك من صادقك، أي: من نصحك وأخذ على يديك وأرجعك إلى الصواب، لا من صدقك في كل ما تقول من خير وشر، فإن هذا ليس بصاحب. وأنصح هذا الأخ السائل أن يحرص على طلب العلم فإنه النجاة كل النجاة، وما أوقعه فيما وقع فيه إلا الجهل كما يقول، وهو صادق إن شاء الله في زعمه أنه لم يكن يعرف أن هذا حرام أو لا يعرف عقوبة هذا الفعل، غير أنه يعلم بفطرته أن هذا الفعل قبيح، بل إن لفظة قبيح تعتبر قولاً رقيقاً بالنسبة لهذه المسائل، فهذا وقوع في الفاحشة. فعلى أية حال لو فرضنا صدقه -والأصل فيه الصدق- فيجب عليه أن يتخلص من صحبته تماماً، وأن يقبل على الله تبارك وتعالى، ولا يجد أحسن من طلب العلم؛ ففيه النجاة كل النجاة، ويتخلص من الصحبة السيئة، ولا ينام وحده حتى لا يفكر في مقدمات هذه المعصية مرة أخرى، وألا يغلبه الشيطان في وحدته، ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يسافر الرجل وحده ولا يبيتن وحده)؛ وذلك لتسلط الشيطان وغلبته على هذا الوحيد الشريف، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، فربما حدثتك نفسك بالوقوع في المعصية، ولكنك لعلمك أن فلاناً أو فلاناً ينظر إليك تكف عن هذه المعصية؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (استحيوا من الله على قدر حيائكم من رجلين صالحين من قومكم)، فتصور لو أنك أردت أن تنظر إلى امرأة أجنبية جميلة تمر في الشارع، ولكن معك رجل من صالحي قومك، هل تجرؤ أن تنظر إليها؟! فاستحي من الله عز وجل استحياءك من هذا الرجل الصالح. أما ما ذكره من صلة

بيان ما يفعله من وقع في عرض أخيه

بيان ما يفعله من وقع في عرض أخيه Q ماذا يفعل من وقع في عرض فلان؟ A إذا كنت وقعت في عرضه بالغيبة والنميمة فلا بأس أن تذهب إليه وتستسمحه، وإذا كان يحدث من ذلك مفسدة عظيمة فقم الليل دعاء له واستغفاراً له، وإن كنت ذا مال فتصدق عنه، يعني: ابذل له كما بذلت عليه.

حكم تحريك الأصبع عند التشهد في الصلاة

حكم تحريك الأصبع عند التشهد في الصلاة Q عند التشهد في الصلاة الأولى تحريك الإصبع، أم الإشارة به فقط؟ A المسألة محل نزاع، لكن الذي يترجح لدي أن التحريك زيادة من زائدة بن قدامة، وإن كانت هذه اللفظة قد جاءت في صحيح مسلم، فالحافظ ابن حجر غمزها في تلخيص الحبير، والإمام البيهقي في كتابه السنن غمزها وقال: هذه اللفظة إما أنها شاذة، وإما أن يحمل التحريك على الإشارة، وسئل أحمد بن حنبل: ماذا نعمل في التشهد؟ قال: تنصب السبابة بشدة. قيل له: أنحركها؟ قال: لا، فمن أقوال أهل العلم الذي يترجح لدي: أنك تشير بالسبابة دون أن تحركها خفضاً ورفعاً، والله تعالى أعلم، وعلى أية حال، هذه من المسائل المختلف فيها، والخلاف فيها أمره هين.

حكم الاستمناء

حكم الاستمناء Q رجل أصيب بمرض في شيء من عضوه التناسلي، ولا يستريح إلا بالاستمناء مرة كل شهر أو شهرين فما حكم الشرع في ذلك؟ A على أية حال يا أخي! لابد أن تعلم أن النار حفت بالشهوات، وأن الجنة حفت بالمكاره، فمن الشهوات الاستمناء، والاستمناء حرام، وهذا الراجح من أقوال أهل العلم، وأقوال أهل العلم في الاستمناء ثلاثة: منهم من قال بالجواز، ومنهم من قال: بالحرمة مطلقاً، ومنهم من فصل فقال: لا يكون الاستمناء مأذوناً فيه أو مباحاً إلا في حال حرب أو سفر أو غياب الرجل عن امرأته، وخوفه أن يقع في الفتنة، يعني: لو أن امرأة جميلة عرضت عليك، فإما أن تزني وإما أن تستمني، ولا خيار ثالث في هذه القضية، فأيهما أولى؟ الاستمناء بغير تردد، فكلاهما ضرر، وكلاهما حرام، لكن ليست حرمة الاستمناء كحرمة الزنا الصريح، فارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب الضرر الأكبر. والإمام الشافعي عليه رحمة الله احتج على حرمة الاستمناء بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فأنت لست مأذوناً إلا مع امرأتك الحرة أو مع إمائك، فمن ابتغى بعد ذلك استمتاعاً مع غير الأمة والمرأة الحرة فإنه يكون متعدياً، حده: ((فَمَنِ ابْتَغَى)) أي: فمن أراد بعد الحرة والأمة ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)) والعدوان هنا يفيد الحرمة في مقابلة حل الزوجة والأمة، فعلى جهة المقابلة يكون حراماً.

حكم الذهاب إلى أمريكا للعمل

حكم الذهاب إلى أمريكا للعمل Q عرض علي السفر إلى أمريكا للعمل أكثر من مرة ورفضت ذلك، فما قولكم في السفر هناك للعمل، خاصة وأن من يذهبون يعملون في مجالات تخدم القوم، وتعينهم على التفوق في مجالات الكمبيوتر والتكنولوجيا؟ A على أية حال أظن أن بلادنا -والحمد لله- فيها من التقدم التكنولوجي وفي عالم الكمبيوتر وغيره الشيء الذي يغنينا ويسد الحاجة، لكن إذا أردت أن تذهب هناك كرحلة علمية فأهلاً وسهلاً بشرط أن تصحب معك امرأتك، أو ألا تغيب عنها أكثر من أربعة أشهر لحاجتك إليها وحاجتها إليك، فإن عمر وابنته حفصة رضي الله عنهما قد حددا أقصى مدة يمكن أن تحتملها المرأة في غياب زوجها، وهي أربعة أشهر؛ ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقسم الجيش أقساماً فلا يزيد قسم عن أربعة أشهر حتى يأذن لهم بالرجوع إلى زوجاتهم في المدينة، لكن لابد أن تعلم أن الذهاب إلى بلاد الكفر عموماً أمر منكر في الشرع، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في سنن أبي داود قال: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين)، فهذا الحديث فيه ترهيب ووعيد شديد لمن يذهب إلى هناك بغير حاجة ولا ضرورة ولا مصلحة شرعية، إن الدعاة يذهبون هناك من أجل الدعوة، وهذا أمر قد كلفنا الله عز وجل به، أما أن تذهب إلى هناك لترى المومسات فهذا هو الإجرام، كما أنك حين تذهب إلى هناك، يحصل لك تمييع لعقيدتك، فالأرض غالباً تلعب مع أصحابها، فالأرض هناك تلعب مع الكفر، وإنك إذا نظرت فوق وتحت وفي جميع الجوانب لا تجد إلا كفراً بواحاً، وعندما تذهب إلى هناك ستجد صعوبة في كل شيء، ولو أردت أن تكون متمسكاً بدينك فإنك تجد صعوبة في ذلك. وأذكر أنني لما ذهبت إلى هناك قلت لهم: إنني مقاطع للحم الذي في هذا البلد نهائياً، فمعذرة أريد سمكاً، فقالوا لي: إنهم يشوونه بشحم الخنزير، وما قيل لي هذا الكلام إلا بعد أن أكلت سمكاً حتى شبعت، وعندما سافرت إلى منطقة اسمها (بورتلاند) في غرب أمريكا أحضروا لي لحماً، فقلت لهم: الأصل في لحوم هذه البلاد التحري، فقالوا: يا شيخ! إننا ذبحنا هذا في إحدى رحلات الصيد، فقلت: إذن لا مشكلة نأكله، فلابد في كل مرة أن تسأل وتتحرى، فقلت: ألا تخلصوننا من هذا القلق وتعطونا سمكاً ويكفي، فقالوا: من أين نأتي لك بسمك، فإنه من الممنوع أن نشوي في البيوت. وفي المقابل المركز الذي نزلت فيه قلت للطباخ: بالله عليك أتقلي السمك في شحم خنزير أو في زيت؟ قال لي: الذي يريد في زيت أقلي له في زيت، والذي يريد في شحم أقلي له في شحم. فقلت: السمك الذي وصلني وأنا في المركب أستحلفك بالله بماذا قليته؟ قال لي: والله مرة هكذا ومرة هكذا! فدعوت عليه، لأنه من المفروض حتى وإن قيل له: أنا أريد سمكاً بشحم خنزير أن يقول: لا، وينكر عليه، فضلاً عن أنه لا يحل لك أن تستخدم شحم الخنزير في محلك أبداً، وغضبت غضباً شديداً، ونهرت هذا الأخ، مع أن كان يصلي معنا كل فرض، وكان أحياناً يذهب بعد صلاة الفجر ويأتينا إلينا بالحليب وغير ذلك من وجبات الإفطار، فلما سألته عن سبب فعله لهذا الشيء قال: يا شيخ! هذه طبيعة الحياة هنا، هذه طبيعة الحياة هنا!! وعندما رجعت إلى مصر وسألت الإخوة في السويس عن هذا الرجل وقصصت عليهم قصته، فقالوا: هذا كان من الدعاة هنا، وإيرادي لهذه القصة من أجل أن أثبت لك أنك إذا ذهبت إلى هناك تتأثر، فهو مطلوب منه هناك أن يسدد ألفي دولار شهرياً للمحل، وألف دولار للسكن، وألفي دولار آخرين للطعام والشراب، يعني: خمسة آلاف دولار شهرياً من أين يأتي بها؟ فلابد أن يتجاوز دائرة الحل إلى الحرمة، وأنت يا أخي! من الذي أكرهك على ذلك؟ لماذا يا أخي! لا تأتي إلى بلادك وتأكل من تحت رجليك، وفي بلدك اليوم الذي لا تجد فيه فولاً وطعمية خذ تراباً من تحت رجليك، وما أظن أن أحداً في هذا الزمان يبيت جائعاً لا في بلاد المسلمين ولا في بلاد الكفار. فالشاهد: أنني أنصح دائماً بعدم الذهاب إلى بلاد الكفار عامة وبخاصة أمريكا، وأنا قد تكلمت وشتمت ولعنت أمريكا والذي يريد أمريكا في هذا المسجد وفي غيره مرات ومرات، وقلت: إن الذين يذهبون إلى هناك يصعب عليهم جداً أن يتمسكوا بدينهم، فضلاً عن أنهم ضعفاء أصلاً قبل ذهابهم، فأنت لن تسافر من هنا وأنت ابن تيمية أو أحمد بن حنبل، إنك ستسافر من هنا بضعف إيمانك وهزالته، فتذهب إلى هناك، فيكون ضعفاً على ضعف على كفر على فجور على مجون، وستلقى نفسك بعد سنة ضائعاً تائهاً. وقد أساء بي الظن بعض المستمعين، وظنوا أني أرد على بعض إخواني كالشيخ محمد حسان والشيخ عمر بن عبد العزيز القرشي وغيرهم من الإخوة الأفاضل الطيبين، والله ما قصدت الرد على هؤلاء، بل قبل أن أذكر هذا وقبل أن أنقم على أمريكا وعلى من يريد أن يذهب إلى أمريكا، تحدثت مع أخي محمد حسان ومع الشيخ عمر بن عبد العزيز، وقلت: يا إخواني! الذي ذكرتموه على سبيل المدح

§1/1